المعتمد

أبو الحسين البَصْري المعتزلي

الجزء 1

ـ[المعتمد في أصول الفقه]ـ المؤلف: محمد بن علي الطيب أبو الحسين البَصْري المعتزلي (المتوفى: 436هـ) المحقق: خليل الميس الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى، 1403 عدد الأجزاء: 2 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ الشَّيْخ الْجَلِيل الامام أَبُو الْحُسَيْن مُحَمَّد بن عَليّ بن الطّيب الْبَصْرِيّ رَحمَه الله أَحْمَده على آلائه وأشكره على نعمائه وأستعين بِهِ وَأَتَوَكَّل عَلَيْهِ وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله الْأَبْرَار وَسلم ثمَّ الَّذِي دَعَاني إِلَى تأليف هَذَا الْكتاب فِي أصُول الْفِقْه بعد شرحي كتاب الْعمد واستقصاء القَوْل فِيهِ أَنِّي سلكت فِي الشَّرْح مَسْلَك الْكتاب فِي تَرْتِيب أبوابه وتكرار كثير من مسَائِله وَشرح أَبْوَاب لَا تلِيق بأصول الْفِقْه من دَقِيق الْكَلَام نَحْو القَوْل فِي أَقسَام الْعُلُوم وحد الضَّرُورِيّ مِنْهَا والمكتسب وتولد النّظر الْعلم وَنفي توليده النّظر إِلَى غير ذَلِك فطال الْكتاب بذلك وبذكر أَلْفَاظ الْعمد على وَجههَا وَتَأْويل كثير مِنْهَا فَأَحْبَبْت أَن أؤلف كتابا مرتبَة ابوابه غير مكررة وَأَعْدل فِيهِ عَن ذكر مَا لَا يَلِيق بأصول الْفِقْه من دَقِيق الْكَلَام إِذْ كَانَ ذَلِك من علم آخر لَا يجوز خلطه بِهَذَا الْعلم وَإِن يعلق بِهِ من وَجه بعيد فَإِنَّهُ إِذا لم يجز أَن يذكر فِي كتب الْفِقْه التَّوْحِيد وَالْعدْل وأصول الْفِقْه مَعَ كَون الْفِقْه مَبْنِيا على ذَلِك مَعَ شدَّة اتِّصَاله بِهِ فبأن لَا يجوز ذكر هَذِه الْأَبْوَاب فِي أصُول الْفِقْه على بعد تعلقهَا بهَا وَمَعَ أَنه لَا يقف عَلَيْهَا فهم الْغَرَض بِالْكتاب أولى وَأَيْضًا فَإِن القارىء لهَذِهِ الْأَبْوَاب فِي أصُول الْفِقْه إِن كَانَ عَارِفًا بالْكلَام فقد عرفهَا على أتم استقصاء وَلَيْسَ يَسْتَفِيد من هَذِه الْأَبْوَاب شَيْئا وَإِن كَانَ غير عَارِف بالْكلَام صَعب عَلَيْهِ فهمها وَإِن شرحت لَهُ فيعظم ضجره وملله إِذْ كَانَ قد صرف عنايته وشغل زَمَانه بِمَا يصعب عَلَيْهِ فهمه وَلَيْسَ بمدرك مِنْهُ غَرَضه فَكَانَ الأولى حذف هَذِه الْأَبْوَاب من أصُول الْفِقْه

فحذاني إِلَى تأليف هَذَا الْكتاب مَا ذكرته وَأَن يقدم هَذَا الْكتاب أَيْضا زيادات لَا تُوجد فِي الشَّرْح وَأَنا إِن شَاءَ الله أذكر الْغَرَض بِهَذَا الْكتاب ثمَّ أذكر أقسامه وَعدد أبوابه وترتيبها ثمَّ أشرع فِي الْكَلَام فِيهَا بمعونة الله وَحسن توفيقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب ذكر الْغَرَض من هَذَا الْكتاب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعلم أَن الْغَرَض بِهَذَا هُوَ النّظر فِي أصُول الْفِقْه فَإِن قيل قَوْلكُم أصُول الْفِقْه يشْتَمل على الْأُصُول وعَلى الْفِقْه فَمَا الْفِقْه وَمَا الْأُصُول ثمَّ مَا أصُول الْفِقْه فيل أما قَوْلنَا فقه فَإِنَّهُ يسْتَعْمل فِي اللُّغَة وَفِي عرف الْفُقَهَاء أما فِي اللُّغَة فَهُوَ الْمعرفَة بِقصد الْمُتَكَلّم يَقُول فقهت كلامك أَي عرفت قصدك بِهِ وَأما فِي عرف الْفُقَهَاء فَهُوَ جملَة من الْعُلُوم بِأَحْكَام شَرْعِيَّة فَإِن قيل فَمَا الْأَحْكَام هَا هُنَا قيل هِيَ المنقسمة إِلَى كَون الْفِعْل حسنا مُبَاحا ومندوبا إِلَيْهِ وواجبا وقبيحا محرما مَحْظُورًا ومكروها وَلَيْسَت الْأَحْكَام هِيَ الْأَفْعَال لِأَن الْأَحْكَام مُضَافَة إِلَى الْأَفْعَال لقَوْل أَحْكَام الْأَفْعَال وَالشَّيْء لَا يُضَاف إِلَى نَفسه فَإِن قيل مَا الْحسن وَمَا الْمَنْدُوب إِلَيْهِ وَالْوَاجِب وَالْمحرم والمحظور والقبيح وَالْمَكْرُوه لأنكم إِن لم تبينوا ذَلِك لم تَكُونُوا قد بينتم الْأَحْكَام فَلَا تَكُونُوا قد بينتم الْفِقْه وَلَا يُمكن أَيْضا أَن تستدلوا على ان الْأَمر على الْوُجُوب أَو النّدب إِلَّا بعد أَن تعقلوا ذَلِك قيل لَهُ أما الْحسن فَهُوَ فعل إِذا فعله الْقَادِر عَلَيْهِ لم يسْتَحق الذَّم على وَجه وَأما الْمَنْدُوب إِلَيْهِ فِي عرف الْفُقَهَاء فَهُوَ فعل بعث الْمُكَلف من غير إِيجَاب وَإِذا أطلق أَفَادَ لِأَن الله عز وَجل ندب إِلَيْهِ وَأما الْوَاجِب فَهُوَ فعل للإخلال بِهِ مدْخل فِي اسْتِحْقَاق الذَّم أَو للإخلال بِهِ تَأْثِير فِي اسْتِحْقَاق الذَّم وَأما الْقَبِيح فَهُوَ فعل لَهُ تَأْثِير فِي اسْتِحْقَاق الذَّم واما الْمحرم والمحظور فَهُوَ مَا منع من فعله بالزجر وَإِذا أطلق أَفَادَ أَن الله سُبْحَانَهُ حرمه وحظره وَلَك أَن تَقول إِنَّه مَا حرم فعله وحظر وَمعنى تَحْرِيم الله إِيَّاه

وحظره أَنه دلّ الْمُكَلف على قبحه أَو أعلمهُ ذَلِك واما الْمَكْرُوه فِي عرف الْفُقَهَاء مَا الأولى أَن لَا يفعل وَسَيَجِيءُ شرح ذَلِك فِي مَوضِع آخر وَإِنَّمَا ذكرنَا من الْآن مَا تمس الْحَاجة إِلَيْهِ فَإِن قيل فَمَا معنى قَوْلكُم فِي الْأَحْكَام إِنَّهَا شَرْعِيَّة قيل معنى ذَلِك أَنَّهَا مستفادة إِمَّا بِنَقْل الشَّرِيعَة لَهَا عَن حكم الأَصْل وَإِمَّا بامساك الشَّرِيعَة عَن نقلهَا عَن حكم الأَصْل وَهَذَا الْأَخير إِنَّمَا يتم لنا بِأَن يعرف الْحَظْر والاباحة فِي الأَصْل وَيعرف إمْسَاك الشَّرِيعَة عَن نقلهما وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يذكر الْحَظْر والاباحة فِي طرق الْفِقْه لِأَنَّهُ لَا بُد مِنْهُمَا وَإِن شرطنا فيهمَا إمْسَاك الشَّرِيعَة عَن نقلهما فَأَما قَوْلنَا أصُول فَإِنَّهُ يُفِيد فِي اللُّغَة مَا يبتني عَلَيْهِ غَيره وَيتَفَرَّع عَلَيْهِ وَأما قَوْلنَا أصُول الْفِقْه فَإِنَّهُ يُفِيد على مُوجب اللُّغَة مَا يتَفَرَّع عَلَيْهِ الْفِقْه كالتوحيد وَالْعدْل وأدلة الْفِقْه ويفيد فِي عرف الْفُقَهَاء النّظر فِي طرق الْفِقْه على طَرِيق الاجمال وَكَيْفِيَّة الِاسْتِدْلَال بهَا وَمَا يتبع كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بهَا فَإِن قيل وَلم قُلْتُمْ إِنَّه يُفِيد فِي عرفهم مَا ذكرتموه فَقَط دون غَيره مِمَّا يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْفِقْه قيل أما أَنه يُفِيد فِي عرفهم مَا ذَكرْنَاهُ من الطّرق المجملة وَكَيْفِيَّة الِاسْتِدْلَال بهَا فَلَا شكّ فِيهِ وَأما أَنه لَا يُفِيد غَيره مِمَّا يبتني الْفِقْه عَلَيْهِ فلأنهم لَا يسمون غَيره أصولا للفقه وَإِن يفرع عَلَيْهِ كالتوحيد وَالْعدْل والنبوات وأدلة الْفِقْه المفصلة أَلا ترى أَنهم لَا يسمون الْكتب المصنفة فِي هَذِه الْأَدِلَّة كتبا فِي أصُول الْفِقْه فَإِن قيل فَمَا طرق الْفِقْه قيل هِيَ مَا النّظر الصَّحِيح فِيهَا يُفْضِي إِلَى الْفِقْه فَإِن قيل وَإِلَى كم يَنْقَسِم قيل إِلَى قسمَيْنِ دلَالَة وأمارة وَالدّلَالَة هِيَ مَا النّظر الصَّحِيح فِيهَا يُفْضِي إِلَى الْعلم والإمارة هِيَ مَا النّظر الصَّحِيح فِيهَا يُفْضِي إِلَى غَالب الظَّن فَإِن قيل بينوا مَا الْعلم وَمَا الظَّن الصَّحِيح كَمَا بينتم مَا الدّلَالَة وَمَا الأمارة لِأَن جَمِيع ذَلِك قد دخل فِي تَفْسِير طرق الْفِقْه وَلِأَن معرفَة الْفرق بَين الدّلَالَة والأمارة مفتقر إِلَيْهَا فِي أصُول الْفِقْه لِأَن بَعْضهَا أَدِلَّة وَبَعضهَا أَمارَة قيل أما الْعلم فَهُوَ الِاعْتِقَاد الْمُقْتَضِي لسكون النَّفس إِلَى أَن معتقده على مَا اعتقده عَلَيْهِ

وَأما الظَّن فَهُوَ تَغْلِيب بِالْقَلْبِ لأحد مجوزين ظاهري التجويز وَأما النّظر فَهُوَ الْفِكر وَلَك أَن تَقول هُوَ الِاسْتِدْلَال وَالِاسْتِدْلَال هُوَ تَرْتِيب اعتقادات أَو ظنون ليتوصل بهَا إِلَى الْوُقُوف على الشَّيْء باعتقاد أَو ظن واما النّظر الصَّحِيح فَهُوَ تَرْتِيب للعلوم أَو للظنون بِحَسب الْعقل ليتوصل بهَا إِلَى علم أَو ظن وَالْفرق بَين كَامِل الْعقل وَمن لَيْسَ بكامل الْعقل ظَاهر فِي الْجُمْلَة وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع تَفْصِيله فَإِن قيل فَمَا معنى وصفكم أصُول الْفِقْه بِأَنَّهَا طرق الْفِقْه على جِهَة الاجمال قيل معنى ذَلِك أَنَّهَا غير مُعينَة أَلا ترى أَنا إِذا تكلمنا فِي أَن الْأَمر على الْوُجُوب لم نشر إِلَى أَمر معِين وَكَذَلِكَ النَّهْي والاجماع وَالْقِيَاس وَلَيْسَ كَذَلِك أَدِلَّة الْفِقْه لِأَنَّهَا مُعينَة نَحْو قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَلِهَذَا كَانَ القَوْل بِأَن أصُول الْفِقْه كَلَام فِي أَدِلَّة الْفِقْه يلْزم عَلَيْهِ أَن يكون كَلَام الْفُقَهَاء فِي أَدِلَّة الْفِقْه الْمعينَة كلَاما فِي أصُول الْفِقْه فَإِن قيل فَمَاذَا عنيتم بقولكم كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال هَا هُنَا قيل الشُّرُوط والمقدمات وترتيبها الَّذِي مَعَه يسْتَدلّ بالطرق على الْفِقْه فَإِن قيل فَمَا مرادكم بقولكم وَمَا يتبع كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال هَا هُنَا قيل هُوَ القَوْل فِي إِصَابَة الْمُجْتَهدين لِأَنَّهُ يتبع كَيْفيَّة استدلالهم أَن يُقَال هَل أَصَابُوا أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي قسْمَة أصُول الْفِقْه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعلم أَنه لما كَانَت أصُول الْفِقْه طرقا إِلَى الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَكَيْفِيَّة الِاسْتِدْلَال بهَا وَمَا يتبع ذَلِك وَكَانَت الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة تلْزم الْمُجْتَهد وَغير الْمُجْتَهد وَجب أَن يكون لهَذَا طَرِيق ولذاك طَرِيق وَطَرِيق الَّذِي لَيْسَ بمجتهد فَتْوَى الْمُجْتَهد وَطَرِيق الْمُجْتَهد ضَرْبَان احدهما الْبَقَاء على حكم الْعقل إِذا لم ينْقل عَنهُ شرع وَذَلِكَ يَقْتَضِي ذكر الْحَظْر والاباحة ليعلم مَا يجوز أَن ينْتَقل بِالشَّرْعِ عَن حكم الْعقل وَمَا لَا يجوز أَن ينْتَقل

وَالْآخر مَا يرد من حَكِيم أَو مَا هُوَ طَرِيق إِلَى وُرُود ذَلِك من حَكِيم كالاجتهاد وَمَا يرد من حَكِيم ضَرْبَان أَحدهمَا مستنبط كالقياس وَالْآخر غير مستنبط وَمَا لَيْسَ بمستنبط ضَرْبَان أَحدهمَا أَقْوَال وَالْآخر أَفعَال والحكيم الصَّادِر عَنهُ الْأَقْوَال إِمَّا أَن يكون حكيما لذاته وَهُوَ الله سُبْحَانَهُ وَإِمَّا أَن يكون حكيما لِأَنَّهُ مَعْصُوم من الْخَطَأ وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا آحَاد الْأَنْبِيَاء وَالْآخر جمَاعَة الْأمة والأقوال إِمَّا أَن تكون أصلا فِي الافادة وَإِمَّا أَن تكون تَابِعَة لغَيْرهَا فِي الافادة كالحروف الَّتِي إِنَّمَا تغير فَوَائِد الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال فَتحصل فوائدها متراخية أَو متعقبة وَمَا يكون أصلا فِي الافادة إِمَّا أَن يُفِيد معنى مقترنا بِزَمَان وَهُوَ الْأَفْعَال وَإِمَّا أَن يُفِيد معنى غير مقترن بِزَمَان وَهُوَ الْأَسْمَاء وَيدخل فِي الْأَفْعَال الْأَمر وَالنَّهْي والأسماء إِمَّا أَن تكون شَامِلَة وَإِمَّا أَن تكون خَاصَّة وَإِمَّا أَن تدل على طَرِيق الْإِجْمَال أَو لَا على طَرِيق الْإِجْمَال وَهُوَ الْمُجْمل والمبين وَلَا يَخْلُو الْكَلَام إِمَّا أَن لَا يُفِيد رفع حكم دَلِيل شَرْعِي أَو يُفِيد ذَلِك وَهُوَ النَّاسِخ وَهَذِه الْأَفْعَال والأقوال نتكلم فِيهَا على وَجْهَيْن أَحدهمَا كَلَام فِي غَايَة الاجمال من غير تعْيين أصلا نَحْو أَن نبين فوائدها وَمَا ضعت لَهُ وَالْآخر كَلَام أقل إِجْمَالا من ذَلِك نَحْو أَن نَنْظُر هَل الْأَقْوَال الَّتِي عرفنَا فوائدها هِيَ الَّتِي فِي الْقُرْآن وَالسّنة فَقَط أَو يضم إِلَى ذَلِك مَا فِي كتب الْمُتَقَدِّمين من الْأَنْبِيَاء وَيدخل فِي ذَلِك أَبْوَاب سنذكرها وَأما كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بالأدلة على الْأَحْكَام فالمرجع بِهِ إِلَى كَيْفيَّة تَرْتِيب الشُّرُوط والمقدمات الَّتِي مَعهَا يسْتَدلّ بالأدلة على الاحكام الشَّرْعِيَّة وَيصِح أَن يحمل مَعهَا خطاب الْحَكِيم إِذا تجرد على حَقِيقَته دون مجازه وعَلى مجازه مَعَ الْقَرِينَة وَذَلِكَ يُوجب أَن نتكلم فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز ليَصِح أَن نعلم مَا حَقِيقَة الْأَمر وَالنَّهْي والعموم فَيصح حمل ذَلِك على حقائقه وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن نقسم الْكَلَام قسْمَة تَنْتَهِي إِلَى الْحَقِيقَة وَالْمجَاز ونتكلم فِي إثباتهما وَحدهمَا وَنَذْكُر مَا يفصل بِهِ بَينهمَا وَنَذْكُر أحكامهما وَنَتبع الْكَلَام فِي كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال على الْأَحْكَام النّظر فِي المستدلين على الْأَحْكَام هَل هم مصيبون على اخْتلَافهمْ أم

لَا فحصلت أَبْوَاب أصُول الْفِقْه هَذِه أَقسَام الْكَلَام وَذكر الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وفوائد الْحُرُوف وَالْأَمر وَالنَّهْي والعموم وَالْخُصُوص والمجمل والمبين وَالْأَفْعَال والناسخ والمنسوخ وَالْإِجْمَاع وَالْأَخْبَار وَالْقِيَاس والحظر وَالْإِبَاحَة وطرق الْأَحْكَام وَكَيْفِيَّة الِاسْتِدْلَال بالأدلة وَصفَة الْمُفْتِي والمستفتي وإصابة الْمُجْتَهدين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب تَرْتِيب أَبْوَاب أصُول الْفِقْه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعلم أَنه لما كَانَت أصُول الْفِقْه هِيَ طرق الْفِقْه وَكَيْفِيَّة الِاسْتِدْلَال بهَا وَمَا يتبع كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بهَا وَكَانَ الْأَمر وَالنَّهْي والعموم من طرق الْفِقْه وَكَانَ الْفَصْل بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز تفْتَقر إِلَيْهِ معرفتنا بِأَن الْأَمر وَالنَّهْي والعموم مَا الَّذِي يُفِيد على الْحَقِيقَة وعَلى الْمجَاز وَجب تَقْدِيم أَقسَام الْكَلَام وَذكر الْحَقِيقَة مِنْهُ وَالْمجَاز وأحكامهما وَمَا يفصل بِهِ بَينهمَا على الْأَوَامِر والنواهي ليَصِح أَن نتكلم فِي أَن الْأَمر إِذا اسْتعْمل فِي الْوُجُوب كَانَ حَقِيقَة ثمَّ الْحُرُوف لِأَنَّهُ قد يجْرِي ذكر بَعْضهَا فِي أَبْوَاب الْأَمر فَلذَلِك قدمت عَلَيْهَا ثمَّ نقدم الْأَوَامِر والنواهي على بَاقِي الْخطاب لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَن يعرف فَائِدَة الْخطاب فِي نَفسه ثمَّ نتكلم فِي شُمُول تِلْكَ الْفَائِدَة وخصوصها وَفِي إجمالها وتفصيلها ونقدم الْأَمر على النَّهْي لتقديم الْإِثْبَات على النَّفْي ثمَّ نقدم الْخُصُوص والعموم على الْمُجْمل والمبين لِأَن الْكَلَام فِي الظَّاهِر اولى بالتقديم من الْخَفي ثمَّ نقدم الْمُجْمل والمبين على الْأَفْعَال لِأَنَّهُمَا من قبيل الْخطاب وَلِأَن الْمُجْمل كالعموم فِي أَنه يدل على ضرب من الْإِجْمَال فَجعل مَعَه وَتقدم الْأَفْعَال على النَّاسِخ والمنسوخ لِأَن النّسخ يدْخل الْأَفْعَال وَيَقَع بهَا كَمَا يدْخل الْخطاب ونقدم النّسخ على الْإِجْمَاع لِأَن النّسخ يدْخل فِي خطاب الله سُبْحَانَهُ وخطاب رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ دون الاجماع ونقدم الْأَفْعَال على الاجماع لِأَنَّهَا مُتَقَدّمَة على النّسخ والنسخ مُتَقَدم على الاجماع وَلِأَن الْأَفْعَال كالأقوال فِي انها صادرة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا

قدمنَا جملَة أَبْوَاب الْخطاب على الاجماع لِأَن الْخطاب طريقنا الى صِحَّته وَلِأَن تَقْدِيم كَلَام الله سُبْحَانَهُ وَكَلَام نبيه أولى ثمَّ نقدم الْإِجْمَاع على الْأَخْبَار لِأَن الْأَخْبَار مِنْهَا آحَاد وَمِنْهَا تَوَاتر أما الْآحَاد فالإجماع أحد مَا يعلم بِهِ وجوب قبُولهَا وَهِي أَيْضا أَمَارَات فجاورنا بَينهَا وَبَين الْقيَاس وَأما الْمُتَوَاتر فَإِنَّهَا وَإِن كَانَت طَرِيقا إِلَى معرفَة الْإِجْمَاع فانه يجب تَأْخِيرهَا عَنهُ كَمَا أخرناها عَن الْخطاب لما وَجب أَن نَعْرِف الْأَدِلَّة ثمَّ نتكلم فِي طَرِيق ثُبُوتهَا وَإِنَّمَا اخرنا الْقيَاس عَن الْإِجْمَاع لِأَن الْإِجْمَاع طَرِيق إِلَى صِحَة الْقيَاس وَأما الْحَظْر والاباحة فلتقدمه على الْخطاب وَجه غير أَنه لما كَانَ أَكثر الْغَرَض بِهَذَا الْكتاب الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة الْمَحْضَة قدمت على الْحَظْر والاباحة على الْكَلَام فِي طَرِيق الْأَحْكَام الَّذِي هُوَ أقل إِجْمَالا لأَنا تكلمنا قي الْحَظْر والاباحة على ضرب من الاجمال كَمَا تكلمنا فِي الْأَمر وَالنَّهْي فَجعلنَا الْحَظْر والاباحة فِي هَذِه الْجُمْلَة ثمَّ انتقلنا إِلَى الْكَلَام فِي الطّرق الَّتِي هِيَ اقل إِجْمَالا وقدمناه على كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بهَا لِأَن كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بهَا فرع عَلَيْهَا ثمَّ تكلمنا فِي كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بطرق الْأَحْكَام وَقدمنَا جملَة هَذِه الْأَبْوَاب على صفة الْمُفْتِي والمستفتي لِأَن الْمُفْتِي إِنَّمَا يجوز لَهُ أَن يُفْتِي إِذا عرف جَمِيع مَا ذَكرْنَاهُ من الْأَدِلَّة وَكَيْفِيَّة الِاسْتِدْلَال بهَا والمستفتي إِنَّمَا يجوز لَهُ أَن يستفتي إِذا لم يعرف ذَلِك فَصَارَ الْكَلَام فِي الْمُفْتِي والمستفتي فرعا عى الْمعرفَة بجملة مَا تقدم وَبعد ذَلِك نَنْظُر فِي إِصَابَة الْمُجْتَهد إِذا اجْتهد لنَفسِهِ أَو ليفتي غَيره فقد أَتَيْنَا على ذكر الْغَرَض بِالْكتاب وَقِسْمَة أبوابه وترتيبها وَنحن نشرع فِي أَبْوَاب الْكتاب وَنَذْكُر كل بَاب فِي مَوْضِعه الَّذِي يَلِيق بِهِ إِن شَاءَ الله عز وَجل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي حَقِيقَة الْكَلَام وقسمته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْكَلَام هُوَ مَا انتظم من الْحُرُوف المسموعة المتميزة وَقد دخل فِي

ذَلِك كل مَا هُوَ كَلَام كالحرفين فَصَاعِدا لِأَن الحرفين موصوفان بِأَنَّهُمَا من الْحُرُوف وَبِهَذَا الْحَد ينْفَصل الْكَلَام مِمَّا لَيْسَ بِكَلَام لِأَنَّهُ ينْفَصل مِمَّا لَيْسَ بحروف وَمن حُرُوف الْكِتَابَة لِأَنَّهَا غير مسموعة وَمن أصوات كَثِيرَة من الْبَهَائِم لِأَنَّهَا لَيست بحروف متميزة وَمن الْحُرُوف الْوَاحِد نَحْو الزَّاي من زيد لِأَنَّهُ لَيْسَ يُوجد فِي الْحَرْف الْوَاحِد انتظام وَمن حد الْكَلَام بانه الْمُفِيد يلْزمه أَن تكون الاشارة وَالْعقد كلامين وَمن شَرط فِي كَونه كلَاما وُقُوع الْمُوَاضَعَة عَلَيْهِ يلْزمه أَن لَا يكون الْحُرُوف الْمُؤَلّفَة كلَاما إِذا لم يَقع عَلَيْهَا الِاصْطِلَاح مَعَ أَن أهل اللُّغَة قسموا الْكَلَام إِلَى المهمل والمستعمل فوصفوا المهمل بِأَنَّهُ كَلَام وَإِن لم يوضع لشَيْء وَلَيْسَ يبعد أَن يشْتَرط فِي كَون الْحُرُوف كلَاما وُقُوع الِاصْطِلَاح عَلَيْهَا وَأَن يُوصف المهمل بِأَنَّهُ كَلَام على سَبِيل الْمجَاز لِأَن مَا سمعناه يصل بَين حرفين نَحْو التَّاء مَعَ التَّاء وَالْألف مَعَ الْألف لَا يُوصف بِأَنَّهُ مُتَكَلم فَإِن علم أَن ذَلِك مصطلح عَلَيْهِ وصف بِأَنَّهُ مُتَكَلم فَإِذا ثَبت ذَلِك قُلْنَا الْكَلَام هُوَ مَا انتظم من الْحُرُوف المسموعة المتميزة المتواضع على اسْتِعْمَالهَا فِي الْمعَانِي وَإِذا حددنا الْكَلَام بِهَذَا كَانَ الْكَلَام كُله مُسْتَعْملا وقسمناه هَكَذَا الْكَلَام مِنْهُ مَا يُفِيد صفة فِيمَا اسْتعْمل فِيهِ وَمِنْه مَا لَا يُفِيد صفة فِيمَا اسْتعْمل فِيهِ وَإِن حددناه بِالْحَدِّ الأول قُلْنَا فِي قسمته الْكَلَام ضَرْبَان مهمل ومستعمل فالمهمل لم يوضع فِي اللُّغَة لشَيْء والمستعمل هُوَ مَا وضع ليستعمل فِي الْمعَانِي وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا يُفِيد صفة فِيمَا اسْتعْمل فِيهِ والاخر لَا يُفِيد صفة فِيمَا اسْتعْمل فَالْأول كَقَوْلِنَا أسود وطويل وَالثَّانِي ضَرْبَان أَحدهمَا فِيهِ معنى الشُّمُول وَالْآخر لَيْسَ فِيهِ معنى الشُّمُول أما الأول فكقولنا شَيْء فَإِنَّهُ وضع لكل مَا يَصح أَن يعلم وَالْآخر أَسمَاء الْأَعْلَام كَقَوْلِنَا زيد وَذَلِكَ أَن من سمى ابْنه زيدا فَإِنَّهُ لَا يجب أَن يُشَارك بَينه وَبَين غَيره فِي الِاسْم والألقاب تجْرِي مجْرى الاشارة لِأَن اللقب لَا يُفِيد فِيهِ صفة مَخْصُوصَة وَلَا مَجْمُوع صِفَاته أَلا ترى أَنه ينقص بعض صِفَاته وأعضائه وَيزِيد لَهُ صفة أُخْرَى من طول وَسمن وَلَا يتَغَيَّر اسْمه وَيجوز أَن تَتَغَيَّر الألقاب على الشَّخْص مَعَ أَن

اللُّغَة بَاقِيَة وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِك لِأَن تَسْمِيَة هَذَا الشَّخْص زيدا لم تكن تُوضَع من واضعي اللُّغَة حَتَّى إِذا سلبناه عَنهُ كُنَّا قد خَالَفنَا لغتهم وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا سلبنا اسْم الطَّوِيل عَن الطَّوِيل وعوضناه مِنْهُ اسْم الْقصير لِأَن ذَلِك تَغْيِير لوضعهم فَلم يجز ذَلِك مَعَ أننا متكلمون بلغتهم فَصَارَ الْكَلَام على ضَرْبَيْنِ أَحدهمَا مُسْتَعْمل بِوَضْع اهل اللُّغَة وَلَيْسَ بلقب وَالْآخر لقب فاللقب لَا يدْخلهُ الْحَقِيقَة والمجازعلى مَا سَنذكرُهُ وَمَا لَيْسَ بلقب يدْخلهُ الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فقد أَتَيْنَا على حد الْكَلَام وقسمته حَتَّى انتهينا إِلَى ذكر الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَنحن نذْكر معنى الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وتقسيمهما وَنَذْكُر احكامهما وَمَا ينْفَصل بِهِ أَحدهمَا من الآخر إِن شَاءَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي إِثْبَات الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَفِي حَدهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما إثباتهما فِي اللُّغَة فَظَاهر فِي الْجُمْلَة لقَوْل أهل اللُّغَة هَذَا الِاسْم حَقِيقَة وَهَذَا الِاسْم مجَاز وَإِذا عرفنَا ماهيتهما تكلمنا فِي إثباتهما على التَّفْصِيل فَأَما حدهما فَهُوَ أَن الْحَقِيقَة مَا أفيد بهَا مَا وضعت لَهُ فِي أصل الِاصْطِلَاح الَّذِي وَقع التخاطب بِهِ وَقد دخل فِي هَذَا الْحَد الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة والعرفية والشرعية وَالْمجَاز هُوَ مَا أفيد بِهِ معنى مصطلحا عَلَيْهِ غير مَا اصْطلحَ عَلَيْهِ فِي أصل تِلْكَ الْمُوَاضَعَة الَّتِي وَقع التخاطب فِيهَا فان قيل فَيجب إِذا قَالَ الْوَاضِع سموا هَذَا حَائِطا أَو قَالَ قد سميت هَذَا حَائِطا أَن لَا يكون قَوْله حَائِط فِي تِلْكَ الْحَال حَقِيقَة للحائط قيل كَذَلِك نقُول لِأَنَّهُ لم يتَقَدَّم ذَلِك مواضعة فَيكون قد أَفَادَ بقوله حَائِط مَا اقتضته تِلْكَ الْمُوَاضَعَة وَلَا يكون أَيْضا مجَازًا لِأَنَّهُ لم يتقدمه

مواضعة بِخِلَاف مَا أَفَادَ بِهِ الْآن فَيكون مجَازًا فا قيل فَيجب إِذا أَفَادَ الْمُتَكَلّم بِكَلَامِهِ مَعْنَاهُ الْعرفِيّ أَو الشَّرْعِيّ أَن يكون مجَازًا لِأَنَّهُ غير الْمُوَاضَعَة الْأَصْلِيَّة قيل هُوَ مجَاز بالاضافة إِلَى الْمُوَاضَعَة ألأصلية وَلَيْسَ بمجاز بالاضافة إِلَى الْمُوَاضَعَة الْعُرْفِيَّة لِأَنَّهُ لم يفد بِهِ فِي الِاصْطِلَاح معنى غير مَا وضع لَهُ وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الِاسْم الشَّرْعِيّ وَقد حد الشَّيْخ أَبُو عبد الله أخيرا الْحَقِيقَة بِأَنَّهَا مَا أفيد بهَا مَا وضعت لَهُ وحد الْمجَاز بأ نه مَا أفيد بِهِ غير مَا وضع لَهُ وَهَذَا يلْزم عَلَيْهِ أَن يكون من اسْتعْمل اسْم السَّمَاء فِي الأَرْض قد يجوز بِهِ لِأَنَّهُ قد أَفَادَ بِهِ غير مَا وضع لَهُ فان قيل من اسْتعْمل اسْم السَّمَاء فِي الأَرْض لَا يكون قد أَفَادَ بِهِ الأَرْض لِأَنَّهَا لَا تعقل مِنْهُ قيل وَكَذَلِكَ من اسْتعْمل اسْم الْأسد فِي الشجاع لَا يفهم مِنْهُ الرجل الشجاع فان قُلْتُمْ يفهم ذَلِك إِذا دلنا على أَنه أَرَادَ بِهِ الرجل الشجاع قيل لَهُم وَكَذَلِكَ يفهم من قَوْله السَّمَاء الأَرْض إِذا دلنا على أَنه أَرَادَ ذَلِك فان قَالَ إِنَّمَا أردنَا بقولنَا مَا أفيد بِهِ غير مَا وضع لَهُ أَنه إِذا أطلق الْمُتَكَلّم الِاسْم جوز السَّامع أَن يكون الْمُتَكَلّم قد اسْتَعْملهُ فِي الْمجَاز وَهَذَا غير قَائِم فِيمَن اسْتعْمل السَّمَاء فِي الأَرْض قيل هَذَا يلزمكم عَلَيْهِ أَن يكون الِاسْم مجَازًا وَإِن اسْتَعْملهُ الْمُتَكَلّم فِي حَقِيقَته لِأَن السَّامع لَهُ يجوز أَن يكون عني بِهِ مجَازًا وَفِي ذَلِك كَون الْأَسْمَاء كلهَا مجَازًا وَأَيْضًا فَمَا يجوز من قصد الْمُتَكَلّم باللفظة لَا يُقَال إِنَّه مُسْتَفَاد مِنْهَا فان قيل أردنَا بقولنَا مَا أفيد بِهِ غير مَا وضع لَهُ أَنه إِذا دلّ الْمُتَكَلّم على أَنه مَا أَرَادَ بِكَلَامِهِ الْحَقِيقَة علم أَنه أَرَادَ الْمجَاز وَلَا يلْزم على ذَلِك أَن يكون اسْم السَّمَاء مجَازًا فِي الأَرْض وَإِن عناها الْمُتَكَلّم بقوله سَمَاء لِأَن الْمُتَكَلّم إِذا دلّ على أَنه لم يرد الْحَقِيقَة وَلم يستفد مِنْهُ أَنه أَرَادَ الأَرْض قيل أَلَيْسَ لَو دلّ على أَنه أَرَادَ الأَرْض عقل مِنْهُ الأَرْض كَمَا لَو دلّ على أَنه أَرَادَ بِهِ الْمجَاز عقل مِنْهُ الْمجَاز وَإِنَّمَا لم يعقل الأَرْض من كَلَامه إِذا قرن بِكَلَامِهِ دلَالَة مَخْصُوصَة وَأَنْتُم

لم تَذكرُوا فِي حد الْمجَاز مَا أفيد بِهِ غير مَا وضع لَهُ بِدلَالَة مَخْصُوصَة حَتَّى لَا يبطل بِمَا ذَكرْنَاهُ وَقد حد الشَّيْخ أَبُو عبد الله رَحمَه الله أَولا الْحَقِيقَة بِأَنَّهُ مَا انتظم لَفظهَا مَعْنَاهَا من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان وَلَا نقل وحد الْمجَاز بِأَنَّهُ مَا لَا يَنْتَظِم لَفظه مَعْنَاهُ إِمَّا لزِيَادَة أَو لنُقْصَان أَو لنقل عَن مَوْضِعه فَالَّذِي لَا يَنْتَظِم لَفظه مناه لأجل زِيَادَة هُوَ الَّذِي يَنْتَظِم الْمَعْنى إِذا أسقطت الزِّيَادَة نَحْو قَوْله سُبْحَانَهُ {لَيْسَ كمثله شَيْء} فان الْكَاف زَائِدَة فَمَتَى أسقطناها صَار لَيْسَ مثله شَيْء وَأما الَّذِي لَا يَنْتَظِم الْمَعْنى لأجل النُّقْصَان فَهُوَ الَّذِي ينتظمه إِذا زِدْنَا فِي الْكَلَام مَا نقص مِنْهُ نَحْو قَوْله عز وَجل {واسأل الْقرْيَة} لِأَنَّهُ قد اسقط من الْكَلَام أهل الْقرْيَة وَمِثَال نقل من مَوْضِعه قَول الْقَائِل رَأَيْت الْأسد وَهُوَ يَعْنِي الرجل الشجاع وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الْمجَاز لأجل الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان قد نقل عَن مَوْضِعه إِلَى مَوضِع آخر فَلَا معنى لجعله قسمَيْنِ آخَرين لِأَن الْمجَاز لأجل الزِّيَادَة لَيْسَ يَنْتَظِم لَفظه وَمَعْنَاهُ لأجل النَّقْل أَيْضا لِأَن قَوْله {لَيْسَ كمثله شَيْء} يُفِيد أَن لَا شَيْء مثل مثله وَقد نقل عَن هَذَا الْمَعْنى إِلَى نفي الْمثل عَن الله سُبْحَانَهُ وَكَذَلِكَ قَوْله الله سُبْحَانَهُ {واسأل الْقرْيَة} مَوضِع لسؤال الْقرْيَة وَقد نقل إِلَى أَهلهَا وقاضي الْقُضَاة رَحمَه الله يذهب إِلَى تَصْحِيح الْحَد الَّذِي ذكره أَبُو عبد الله أخيرا وَيَقُول إِن مَا ذكره أَولا هُوَ صفة الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَلَيْسَ بِحَدّ قَالَ لِأَن الِاسْم إِذا كَانَ تَارَة حَقِيقَة أَو أفيد بِهِ غير مَا وضع لَهُ فَيكون مجَازًا وَلقَائِل أَن يَقُول بل الْغَيْر الَّذِي بِهِ يكون حَقِيقَة هُوَ أَن يَنْتَظِم لَفظه مَعْنَاهُ من

غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان وَلَا نقل وَالَّذِي بِهِ يكون مجَازًا ضد ذَلِك وَالَّذِي ينصر بِهِ الْحَد هُوَ أَن الْمجَاز مُقَابل للْحَقِيقَة فحد أَحدهمَا يجب كَونه مُقَابلا لَو الآخر وَالْمَفْهُوم من قَوْلنَا مجَاز هُوَ أَنه قد يجوز بِهِ وَنقل عَن مَوْضِعه الَّذِي هُوَ ألحق بِهِ وَهَذَا هُوَ معنى مَا حددنا بِهِ الْمجَاز فَيجب أَن يكون حد الْحَقِيقَة مَا لم ينْقل عَن مَوْضِعه وَهَذَا معنى مَا حددنا بِهِ الْحَقِيقَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب قسْمَة الْحَقِيقَة وَالْمجَاز - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْحَقِيقَة تَنْقَسِم بِحَسب الْمَوَاضِع الَّتِي تكون حَقِيقَة فِيهَا وبحسب إِطْلَاق فائدتها وَكَونهَا مَشْرُوطَة وبحسب كَيْفيَّة دلالتها فَأَما الأول فَهُوَ أَن الْحَقِيقَة إِمَّا أَن تكون لغوية وَإِمَّا عرفية وَإِمَّا شَرْعِيَّة لِأَن اللَّفْظ إِذا أَفَادَ الْمَعْنى على سَبِيل الْحَقِيقَة فإمَّا أَن يفِيدهُ بمواضعة شَرْعِيَّة أَو غير شَرْعِيَّة بل لغوية واللغوية ضَرْبَان إِمَّا اصلية أَو طارئة وَهِي الْعُرْفِيَّة وَالْمجَاز أَيْضا قد يكون مجَازًا فِي اللُّغَة أَو فِي الْعرف أَو فِي الشَّرْع وَأما الْقِسْمَة الثَّانِيَة فَهِيَ أَن اللَّفْظَة إِذا أفادت فَائِدَة على الْحَقِيقَة فإمَّا أَن تفيدها على الْإِطْلَاق وَإِمَّا بِشَرْط فَالْأول كَقَوْلِنَا طَوِيل يُفِيد مَا اخْتصَّ بالطول فِي أَي جسم كَانَ وَهَذَا ضَرْبَان أَحدهمَا يُفِيد فَائِدَة وَاحِدَة وَالْآخر يُفِيد أَكثر من فَائِدَة وَاحِدَة وَالثَّانِي نَحْو قَوْلنَا أبلق يُفِيد اجْتِمَاع الْبيَاض والسواد بِشَرْط أَن يكون فِي الْخَيل وَأما الْقِسْمَة الثَّالِثَة فَهِيَ أَن الْحَقِيقَة إِمَّا أَن تكون اسْما أَو فعلا أَو حرفا وَذَلِكَ أَنَّهَا إِمَّا أَن تستقل إفادتها بِنَفسِهَا وَلَا تفِيد على طَرِيق التبع وَإِمَّا أَن تفِيد على طَرِيق التبع وَلَا تستقل بِنَفسِهَا كالحرف فانه يُفِيد فَائِدَة مَا دخل عَلَيْهِ نَحْو الْفَاء المفيدة للتعقيب بَين شَيْئَيْنِ وَالْوَاو المفيدة للْجمع وَالْأول ضَرْبَان أَحدهمَا يُفِيد مَا يفِيدهُ مَعَ زمَان وَهُوَ الْفِعْل وَالْآخر يُفِيد بِلَا زمَان

وَهُوَ الِاسْم وَاعْلَم أَنا قد نصف الْكَلَام بِأَنَّهُ مُفِيد ونعني أَنه مَوْضُوع لفائدة وانه مُسْتَعْمل فِيهَا وَهَذَا حَاصِل فِي اللَّفْظ الْمُفْرد وَقد نعني بذلك أَنه يُفِيد اتِّصَال الْمعَانِي بَعْضهَا بِبَعْض وَهَذَا لَا يكون فِي اللَّفْظ الْمُفْرد لِأَنَّهُ لَا يُفِيد اتِّصَال بعض الْمعَانِي بِبَعْض وَلَا يُفِيد تصَوره مَعْنَاهُ لِأَن مَعْنَاهُ مُتَصَوّر لنا قبل اللَّفْظ وَالْكَلَام الْمُفِيد إِيصَال بعض الْمعَانِي بِبَعْض وَتعلق بَعْضهَا بِبَعْض إِمَّا أَن يكون اسْما مَعَ اسْم وَإِمَّا أَن يكون إسما مَعَ فعل أما الْأَسْمَاء فانه لَا يمْتَنع أَن يكون فَوَائِد بَعْضهَا صفاتا لبَعض فيفهم من اتصالها فوائدها بَعْضهَا بِبَعْض كَقَوْلِنَا زيد أَحول وَزيد طَوِيل وَأما الْفِعْل مَعَ الِاسْم فانه لَا يمْتَنع أَن يكون فَائِدَة الْفِعْل مستندة إِلَى فَائِدَة الِاسْم فيستفاد من اتِّصَال الْفِعْل الِاسْم إِسْنَاد الْفِعْل الْمُسَمّى بذلك الِاسْم تقدم الِاسْم أم تَأَخّر كَقَوْلِك زيد يضْرب أَو يضْرب زيد وَلَيْسَ الْفِعْل يلتئم مَعَ الْحَرْف بفائدة وَلَا بِهِ بِالِاسْمِ لِأَن الْحَرْف إِنَّمَا ينبىء عَن كَيْفيَّة إِيصَال فَائِدَة بفائدة نَحْو الْوَاو المفيدة للاشراك وَالْفَاء المفيدة للتعقيب وَلَيْسَ يدْخل تَحت الِاسْم الْوَاحِد وَلَا تَحت الْفِعْل الْوَاحِد فَائِدَتَانِ فَيكون الْحَرْف مُفِيدا لكيفية إِيصَال أَحدهمَا بِالْأُخْرَى فَأَما قَوْلنَا يَا زيد فَفِيهِ إِضْمَار أمره بِشَيْء أَو نَهْيه عَن شَيْء أَو إخْبَاره عَن شَيْء مَعْنَاهُ يَا زيد أقبل اَوْ لَا تفعل أَو هَل فِي الدَّار عَمْرو والمنادى يجد من نَفسه أَنه يضمر ذَلِك وَرُبمَا أظهره وَلِهَذَا إِذا سَمعه الْمُنَادِي قَالَ مَا الَّذِي تُرِيدُ فَدلَّ على أَنه قد عقل مِنْهُ إِضْمَار مَا ذَكرْنَاهُ وَقد قيل إِن قَول الْقَائِل يَا زيد مَعْنَاهُ انادي زيدا وَلَو كَانَ هَذَا كَمَا قَالُوا لَكَانَ قد أَفَادَ الِاسْم مَعَ الْحَرْف هَذِه الْفَائِدَة وَفِي ذَلِك نقض قَوْلهم وَأما الْفِعْل فانه لما كَانَ حَدثا لم يَصح أَن يسند إِلَيْهِ حدث آخر وَلَا أَن ينعَت وَإِنَّمَا يجوز أَن ينعَت من حَيْثُ كَانَ صُورَة وَلِهَذَا كَانَ قَوْلنَا لزيد انْظُر حسنا مَعْنَاهُ انْظُر نظرا حسنا وَالِاسْم إِذا نعت بِالِاسْمِ فانعقدت بِهِ الْفَائِدَة كَانَ خَبرا وَالْفِعْل إِذا قرن بِالِاسْمِ فإمَّا أَن يقرن بِهِ على سَبِيل النَّعْت فَيكون خَبرا وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَقَوْلِك زيد يضْرب وَإِمَّا أَن يقرن بِهِ على سَبِيل الْحَدث إِمَّا على الْفِعْل فَيكون أمرا وَإِمَّا

على تَركه فَيكون نهيا فَبَان أَن الْخطاب الْمُفِيد إِمَّا أَن يكون أمرا وَمَا فِي مَعْنَاهُ أَو خَبرا أَو مَا فِي مَعْنَاهُ وَأَيْضًا فان من خَاطب غَيره فإمَّا أَن يكون فِي حكم من يُعْطِيهِ شَيْئا أَو يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا فَالْأول هُوَ الْبَاعِث إِمَّا على الْفِعْل أَو على التّرْك وَأما الْمُعْطِي فَهُوَ الْمخبر وَمَا فِي مَعْنَاهُ كالمتمني فَأَما الِاسْتِفْهَام والاستخبار فهما طلب الْفَهم وَالْخَبَر فهما فِي معنى الْأَمر والباعث على الْفِعْل أَو على التّرْك إِمَّا أَن يكون أَعلَى رُتْبَة من الْمَبْعُوث فَيكون بَعثه أمرا وَإِمَّا أَن يكون دونه فَيكون سؤالا وَإِمَّا أَن يكون مُسَاوِيا فَيكون طلبا وَيبعد أَن يكون سؤالا لما فِي السُّؤَال من انخفاض الرُّتْبَة وَيبعد أَن يكون أمرا لما فِي الْأَمر من علو الرُّتْبَة وَقد ذكر أَكثر هَذِه الْقِسْمَة الْأَخِيرَة من تقدم فَأَما قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله فانه قسم الْكَلَام الْمُفِيد إِلَى الْأَمر وَالنَّهْي وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا وَإِلَى الْخَبَر فَقَالَ الْمُخَاطب لغيره إِمَّا أَن يُفِيد حَال نَفسه فَيدْخل فِيهِ الْأَمر وَالنَّهْي لِأَن الْأَمر ينبىءعن إِرَادَة الْآمِر وَالنَّهْي ينبىء عَن كَرَاهَته واما أَن ينبىء عَن حَال غَيره فَيكون الْخَبَر وَإِذا علم أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا قد يدْخل فِي الآخر لِأَن الانسان قد ينبىء عَن حَال نَفسه بالْخبر وينبىء عَن حَال غَيره بِالْأَمر وَالنَّهْي لِأَنَّهُمَا يدلان على وجوب الْفِعْل وقبحه وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يكن مَا ذكره قسْمَة متقابلة لِأَن الْأَقْسَام المتقابلة يجب أَن يكون بَعْضهَا غير بعض وَذَلِكَ يمْنَع من دُخُول بَعْضهَا فِي بعض فقد أَتَيْنَا على أَقسَام الْحَقِيقَة وَنحن نبين أَن فِي اللُّغَة الْحَقِيقَة المفردة والمشتركة ليَصِح أَن نَنْظُر هَل الْأَمر من الْأَلْفَاظ الْمُشْتَركَة كَمَا قَالَه قوم أم لَا ونبين أَن فِي اللُّغَة الْمجَاز ليَصِح أَن نَنْظُر فِي الْأَمر هَل هُوَ حَقِيقَة فِي الْوُجُوب أَو مجَاز ونبين أَنه يحسن أَن يكون فِي الْقُرْآن مجَاز ليَصِح أَن نحمل كثيرا من الْآيَات الَّتِي يسْتَدلّ بهَا خصومنا فِي كثير من مسَائِل هَذَا الْكتاب على الْمجَاز ونبين ثُبُوت الْحَقَائِق الشَّرْعِيَّة والعرفية لدخولهما فِي الْقِسْمَة الَّتِي ذَكرنَاهَا وليصح أَن نَنْظُر هَل الْأَمر وَغَيره منقولان إِلَى الْوَاجِب بِالشَّرْعِ أم لَا ثمَّ نذْكر مَا ينْفَصل بِهِ

الْحَقِيقَة من الْمجَاز وَنَذْكُر أَحْكَام الْحَقِيقَة وَأَحْكَام الْمجَاز ونؤخر الْكَلَام فِي هَل يَصح أَن يُرَاد بالعبارة الْوَاحِدَة الحقيقتان إِلَى الْمُجْمل لِأَن ذَلِك لم يَصح فاللفظ الْمُفِيد لَهما مُجمل مُحْتَاج إِلَى بَيَان وَلَو صَحَّ أَن يُرَاد بهَا كَانَ ذَلِك من قبيل الْعُمُوم فَأَما مَا يُريدهُ الْحَكِيم بخطابه إِذا أَفَادَ فِي اللُّغَة وَالْعرْف وَالشَّرْع فَوَائِد مُخْتَلفَة فنذكره عِنْد كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بخطاب الْحَكِيم لِأَن هُنَاكَ نذْكر الشُّرُوط الَّتِي مَعهَا يجب أَن يُرِيد الْمُتَكَلّم مَا يُرِيد الْحَكِيم وَهُنَاكَ نذْكر مَا يُرِيد الْحَكِيم من هَذِه الْوُجُوه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب إِثْبَات الْحَقَائِق المفردة والمشتركه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن فِي اللُّغَة الفاظا مفيدة للشَّيْء الْوَاحِد على الْحَقِيقَة وألفاظا مفيدة للشَّيْء ولخلافه وضده حَقِيقَة على طَرِيق الِاشْتِرَاك أما الأول فَلَا شُبْهَة فِيهِ وَلَو لم يكن فِي اللُّغَة حَقِيقَة لم يكن فِيهَا مجَاز لِأَن الْمجَاز هُوَ مَا أفيد بِهِ غير مَا وضع لَهُ وَفِي ذَلِك كَونه مَوْضُوعا لشَيْء لَو عبر بِهِ عَنهُ لَكَانَ حَقِيقَة فِيهِ وَلَو لم يكن فِي اللُّغَة حَقِيقَة وَلَا مجَاز لَكَانَ الْكَلَام قد خلا مِنْهُمَا وَذَلِكَ محَال وَأما الثَّانِي فقد ذهب إِلَيْهِ أَكثر النَّاس وَمنع مِنْهُ قوم قَالُوا لِأَن الْغَرَض بالمواضعة تَمْيِيز الْمعَانِي بالأسماء ليَقَع بِهِ الإفهام فَلَو وضعُوا لَفْظَة وَاحِدَة لشَيْء ولخلافه على الْبَدَل لم يفهم بهَا أَحدهمَا وَفِي ذَلِك نقض الْغَرَض بالمواضعة وَدَلِيل جَوَاز ذَلِك أَنه لَا يمْتَنع أَن تضع قَبيلَة اسْم الْقُرْء للْحيض وتضعه أُخْرَى للطهر ويشيع ذَلِك ويخفي كَون الِاسْم مَوْضُوعا لَهما من جِهَة قبيلتين فيفهم من إِطْلَاقه الْحيض وَالطُّهْر على الْبَدَل وَأَيْضًا فَإِن الْمُوَاضَعَة تَابِعَة للأغراض وَقد يكون للانسان غَرَض فِي تَعْرِيف غَيره شَيْئا مفصلا وَقد يكون غَرَضه بِأَنَّهُ يعرفهُ مُجملا مِثَال الاول أَن يُشَاهد زيدا سوادا وَيُرِيد أَن يعرف عمرا أَنه شَاهد

سوادا وَمِثَال الثَّانِي أَنه يُرِيد تَعْرِيفه أَنه شَاهد لونا وَلَا يفصله لَهُ فَجَاز أَن يضعوا اسْما تطابق كل وَاحِد من الغرضين وَهَذَا الْوَجْه وَالَّذِي قبله جَوَاب عَمَّا تعلق بِهِ الْمُخَالف وَقَول أهل اللُّغَة شفق وقرء من أَسمَاء الأضداد وَأَنه مُشْتَرك يدل على ثُبُوت الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة فِي اللُّغَة وَلَيْسَ لأحد أَن يتعسف التَّأْوِيل فَيجْعَل قَوْلنَا قرء مُفِيدا للطهر وَالْحيض فَائِدَة وَاحِدَة لِأَن ذَلِك إِنَّمَا يسوغ لَو امْتنع كَون ذَلِك فِي اللُّغَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْحَقَائِق الشَّرْعِيَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهب شُيُوخنَا وَالْفُقَهَاء إِلَى أَن الِاسْم اللّغَوِيّ يجوز أَن يَنْقُلهُ الشَّرْع إِلَى معنى آخر وَنفى قوم من المرجئة ذَلِك وَبَعض عللهم تدل على أَنهم أحالوا ذَلِك وَبَعضهَا تدل على أَنهم قبحوه وَنحن نذْكر مَا الِاسْم الشَّرْعِيّ ثمَّ نبين إِمْكَان نقل الِاسْم بِالشَّرْعِ عَن مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ ثمَّ نبين حسن ذَلِك ثمَّ نبين أَن من الْأَسْمَاء مَا قد انْتقل بِالشَّرْعِ أما الِاسْم الشَّرْعِيّ فَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَنه يَنْبَغِي أَن يجمع شرطين أَحدهمَا أَن يكون مَعْنَاهُ ثَابتا بِالشَّرْعِ وَالْآخر أَن يكون الِاسْم مَوْضُوعا لَهُ بِالشَّرْعِ وَيَنْبَغِي أَن يُقَال الِاسْم الشَّرْعِيّ هُوَ مَا اسْتُفِيدَ بِالشَّرْعِ وَضعه للمعنى وَقد دخل تَحت ذَلِك أَن يكون الْمَعْنى وَالِاسْم لَا يعرفهما أهل اللُّغَة وَأَن يَكُونُوا يعرفونهما غير أَنهم لم يضعوا الِاسْم لذَلِك الْمَعْنى وَأَن يَكُونُوا عرفُوا الْمَعْنى وَلم يعرفوا الِاسْم كل هَذِه الْأَقْسَام دَاخل فِيمَا ذَكرْنَاهُ فَأَما الدّلَالَة على إِمْكَان نقل الْأَسْمَاء فَهِيَ أَن كَون الِاسْم اسْما للمعنى غير وَاجِب لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ تَابع للاختيار بِدلَالَة انْتِفَاء الِاسْم عَن الْمَعْنى قبل الْمُوَاضَعَة وَأَنه كَانَ يجوز أَن يُسمى الْمَعْنى بِغَيْر مَا سمي بِهِ نَحْو أَن يُسمى الْبيَاض سوادا إِلَى غير ذَلِك فاذا كَانَ كَذَلِك جَازَ أَن يخْتَار مُخْتَار سلب الِاسْم عَن مَعْنَاهُ

وَنَقله إِلَى غَيره إِذْ كَانَ ذَلِك تَابعا للاختيار فان قَالُوا لَو سلب الِاسْم عَن الْمَعْنى وَعوض غَيره انقلبت الْحَقَائِق قيل إِنَّمَا يلْزم ذَلِك لَو اسْتَحَالَ انفكاك الِاسْم عَن الْمَعْنى وَقد بَينا أَن الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك فَأَما الدّلَالَة على حسن نقل الِاسْم عَن مَعْنَاهُ إِلَى معنى آخر بِالشَّرْعِ فَهِيَ أَنه لَا يمْتَنع تعلق مصلحَة بذلك كَمَا لَا يمْتَنع ثُبُوتهَا فِي جَمِيع الْعِبَادَات وَلَا يكون فِيهِ وَجه قبح وَإِذا لم يمْتَنع ذَلِك لم يمْتَنع حسنه إِذْ الْمصلحَة وَجه حسن وَأَيْضًا فقد جَاءَت الشَّرِيعَة بعبادات لم تكن مَعْرُوفَة فِي اللُّغَة فَلم يكن بُد من وضع اسْم لَهَا لتتميز بِهِ من غَيرهَا كَمَا يجب ذَلِك فِي مَوْلُود يُولد للْإنْسَان وَفِي آله يستحدثها بعض الصناع وَلَا فرق بَين أَن يوضع لتِلْك الْعِبَادَة اسْما مبتدأوبين أَن ينْقل إِلَيْهِمَا اسْم من أَسمَاء اللُّغَة مُسْتَعْمل فِي معنى لَهُ شبه بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيّ بل نقل اسْم لغَوِيّ إِلَيْهِ أولى لِأَنَّهُ أَدخل فِي أَن يكون الْخطاب لغويا فان قَالُوا إِنَّمَا قبح نقل الِاسْم عَن مَعْنَاهُ إِلَى معنى آخر لِأَنَّهُ يَقْتَضِي بِغَيْر الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بِهِ نَحْو أَن يَأْمُرنَا الله سُبْحَانَهُ بِالصَّلَاةِ ونعني بِهِ الدُّعَاء فَإِذا نقل الِاسْم إِلَى هَذِه الْأَركان بِغَيْر الْغَرَض قيل هَذَا يمْنَع من نقل اسْم عَن مَعْنَاهُ إِذا كَانَ قد تعلق بِهِ فرض وَلَا يمْنَع من نقل اسْم لم يتَعَلَّق بِهِ فرض وَأَيْضًا فَلَو نقل الله سُبْحَانَهُ اسْم الصَّلَاة عَن الدُّعَاء لم يسْقط فرض الدُّعَاء عَن الْمُكَلّفين وَلَو أوجب ذَلِك سُقُوط الدُّعَاء عَنْهُم لأمكن أَن يدلنا الله على بَقَاء الْفَرْض بِأَن يَقُول مَا كنت أوجبته عَلَيْكُم فوجوبه بَاقٍ عَلَيْكُم فَأَما الدّلَالَة على أَن الشَّرْع قد نقل بعض الْأَسْمَاء فَهِيَ أَن قَوْلنَا صَلَاة لم يكن مُسْتَعْملا فِي اللفة لمجموع هَذِه الْأَفْعَال الشَّرْعِيَّة ثمَّ صَار اسْما لمجموعها حَتَّى لَا يعقل من إِطْلَاقه سواهَا إِن قيل قَوْلنَا صَلَاة مَوْضُوع فِي اللُّغَة لِلِاتِّبَاعِ أَلا تراهم يسمون الطَّائِر مصلياإذا اتبع السَّابِق وَهُوَ وَاقع على الصَّلَاة لِأَنَّهَا اتِّبَاع للْإِمَام فقد افاد فِي اللُّغَة مَا أَفَادَهُ فِي الشَّرْع قيل هَذَا يَقْتَضِي أَن لَا تسمى صَلَاة الإِمَام وَالْمُنْفَرد صَلَاة وَأَن يكون من أطلق اسْم

الصَّلَاة فِي الشَّرِيعَة فَإِنَّمَا نعني بِهِ ونفهم مِنْهُ الِاتِّبَاع وَمَعْلُوم أَنه لَا يخْطر ببال السَّامع والمتكلم إِلَّا جملَة هَذِه الْأَفْعَال دون الِاتِّبَاع فان قَالُوا اسْم الصَّلَاة كَانَ فِي اللُّغَة للدُّعَاء وَسميت الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة بذلك لِأَن فِيهَا دُعَاء فَلم تخْتَلف فَائِدَته قيل إِن عنيتم أَن اسْم الصَّلَاة وَاقع على جملَة هَذِه الْأَفْعَال لِأَن فِيهَا دُعَاء فقد سلمتم مَا نريده من إفاده الِاسْم لما لم يكن يفِيدهُ فِي اللُّغَة وَلَا يضرنا أَن تعللوا وُقُوع الِاسْم على هَذِه الْأَفْعَال بِمَا ذكرْتُمْ وَإِن أردتم أَن اسْم الصَّلَاة وَاقع على الدُّعَاء من جملَة هَذِه الْأَفْعَال دون مجموعها فَذَلِك بَاطِل لِأَن الْمَفْهُوم من قَوْلنَا صَلَاة جملَة الْأَفْعَال وَالْمَفْهُوم من قَوْلنَا فلَان فِي الصَّلَاة أَنه فِي جُزْء من هَذِه الْأَفْعَال دُعَاء كَانَ أَو غَيره وَالْمَفْهُوم من قَوْلنَا فلَان قد خرج من الصَّلَاة أَنه قد فَارق جملَة الْأَفْعَال وَلَو كَانَ الْأَمر كَمَا ذَكرُوهُ لوَجَبَ إِذا قُلْنَا إِنَّه قد خرج من الصَّلَاة أَفَادَ أَنه قد خرج من الدُّعَاء وَإِذا عَاد إِلَى الدُّعَاء جَازَ أَن يُقَال قد عَاد الْآن إِلَى الصَّلَاة دَلِيل آخر هُوَ أَن قَوْلنَا صَوْم كَانَ يُفِيد فِي اللُّغَة الامساك وَهُوَ مُفِيد فِي الشَّرِيعَة إمساكا مَخْصُوصًا وَقَوْلنَا زَكَاة يُفِيد الطهرة والنماء ويفيد فِي الشَّرْع طهرة مَخْصُوصَة وَمَا يُؤَدِّي إِلَى النَّمَاء إِن قَالُوا لَو كَانَ قَوْلنَا صَلَاة مَنْقُولًا إِلَى معنى شَرْعِي لوَجَبَ كَونه محصلا مفهوما وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك وَلَيْسَ لكم أَن تَقولُوا إِنَّه يُفِيد التَّحْرِيم وَالْقِرَاءَة وَالرُّكُوع وَالسُّجُود لِأَن صَلَاة الْأَخْرَس لَا قِرَاءَة فِيهَا وَصَلَاة الْجِنَازَة وَصَلَاة الْمَرِيض المومىء لَا رُكُوع فِيهَا وَلَا سُجُود وَإِذا لم يكن ذَلِك معقولا علمنَا أَن الِاسْم مَا انْتقل وَالْجَوَاب أَنه يبطل بِمَا ذَكرُوهُ أَن يكون قَوْلنَا صَلَاة نقل إِلَى معَان مُخْتَلفَة وَلَيْسَ يمْتَنع ذَلِك كَمَا لَا يمْتَنع كَون الِاسْم اللّغَوِيّ مُشْتَركا بَين اشياء مُخْتَلفَة وَإِنَّمَا يتخصص مَا وضع لَهُ قَوْلنَا صَلَاة بالاضافة إِمَّا إِلَى الْوَقْت وَإِمَّا إِلَى أَحْوَال الْمُصَلِّي وأحواله إِمَّا إغراضه وَإِمَّا غير ذَلِك أما الْوَقْت فنحو قَوْلنَا صَلَاة عيد وَصَلَاة جُمُعَة وَصَلَاة كسوف وَصَلَاة ظهر وعصر وَغير ذَلِك فَإِن كل وَاحِد من ذَلِك يُفِيد غير مَا يفِيدهُ الآخر إِمَّا بِزِيَادَة وَإِمَّا بِنُقْصَان وَأما أغراض الْمُصَلِّي

فنحو صَلَاة الْجِنَازَة فان غَرَض الْمُصَلِّي أَن يَفْعَلهَا لأجل الْمَيِّت وَأما أَحْوَاله الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاض فضربان أَحدهمَا حَال عذر وَالْآخر حَال سَلامَة أما حَال السَّلامَة فَصَلَاة الصَّحِيح الْمُقِيم الآمن وَأما حَال الْعذر فضربان أَحدهمَا حَال تعذر كَصَلَاة الْأَخْرَس وَالْمَرِيض والمومىء وَالْآخر حَال مشقة كَصَلَاة الْمُسَافِر والخائف وَالله أعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْحَقَائِق الْعُرْفِيَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَنْبَغِي أَن نذْكر مَا الِاسْم الْعرفِيّ ثمَّ نبين إِمْكَان نقل الِاسْم بِالْعرْفِ ثمَّ نبين حسنه ثمَّ نبين ثوبته ثمَّ كَيْفيَّة الِانْتِقَال ثمَّ أَمارَة الِانْتِقَال ثمَّ نقسم الْأَسْمَاء الْعُرْفِيَّة أما الِاسْم الْعرفِيّ فَهُوَ مَا انْتقل عَن بَابه بعرف الِاسْتِعْمَال وغلبته عَلَيْهِ لَا من جِهَة الشَّرْع أَو نقُول مَا أَفَادَ ظَاهره لاستعمال طارىء من أهل اللُّغَة مَا لم يكن يفِيدهُ من قبل إِن قيل أَلَيْسَ قَوْلنَا دَابَّة يُفِيد فِي الْعرف الْفرس وَهُوَ يُفِيد فِي اللُّغَة أَيْضا لِأَنَّهُ يُفِيد فِي اللُّغَة مَا يدب وَالْفرس مِمَّا يدب فَلم يفد فِي الْعرف مَا لم يكن يفِيدهُ فِي اللُّغَة وَهُوَ من الْأَسْمَاء الْعُرْفِيَّة وَالْجَوَاب أَنه إِن كَانَ يُفِيد فِي اللُّغَة الِاشْتِقَاق من الدبيب وَكَانَ يَقع على كل شخص يدب على الْبَدَل وَهُوَ مُفِيد فِي الْعرف شخصا مَخْصُوصًا من الْحَيَوَان فَلم يفد مَا كَانَ يفِيدهُ فِي اللُّغَة من الِاشْتِقَاق من الدبيب والوقوع على الْفرس وعَلى غَيره وَأما إِمْكَان نقل الِاسْم بِالْعرْفِ فقد بَان بِمَا بَان بِهِ إِمْكَان نَقله بِالشَّرْعِ وَأما حسن ذَلِك فَالَّذِي يُبينهُ أَنه قد يحصل فِي انْتِقَال الِاسْم غَرَض صَحِيح وَمَا يحصل فِيهِ ذَلِك فَهُوَ حسن لِأَنَّهُ لَو قبح مَا قبح إِلَّا لِأَنَّهُ لَا غَرَض فِيهِ وَمَعْلُوم أَنه قد تنفر الطباع عَن بعض الْمعَانِي وتتجافى النس التَّصْرِيح بذلك

فيكنون عَنهُ باسم مَا انْتقل عَنهُ وَذَلِكَ كقضاء الْحَاجة المكنى عَنهُ باسم الْمَكَان المطمئن من الأَرْض الَّذِي تقضى فِيهِ الْحَاجة وَقد سموا مَا يدب دَابَّة فَلَمَّا كَانَ الدبيب فِي بعض الْحَيَوَان أَشد واسرع أَو كَانُوا لَهُ أَكثر مُشَاهدَة وَكَانَ اهتمامهم بِهِ لشرفه عِنْدهم أَشد كثر اسْتِعْمَال قَوْلهم دَابَّة فِيهِ فَيصير هُوَ الْمَفْهُوم عندإطلاقه لِكَثْرَة استعمالهم الِاسْم فِيهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفرس وَأما انْتِقَال الِاسْم بِالْعرْفِ فبيانه هُوَ أَن قَوْلنَا دَابَّة كَانَ يُفِيد كل مَا دب ثمَّ خص بِالْعرْفِ بالفرس وَقَوْلنَا راوية كَانَ للجمل ثمَّ صَار بِالْعرْفِ للمزادة وَقَوْلنَا غَائِط كَانَ للمكان المطمئن من الأَرْض ثمَّ صَار لقَضَاء الْحَاجة وَأما كَيْفيَّة انْتِقَال الِاسْم بِالْعرْفِ فَهُوَ أَنه يتَعَذَّر مَعَ كَثْرَة أهل اللُّغَة أَن بتواطئوا على ذَلِك وَلكنه لَا يمْتَنع أَن ينْقل الِاسْم طَائِفَة من الطوائف ويستفيض فِيهَا وَيَتَعَدَّى إِلَى غَيرهَا فيشيع فِي الْكل على طول الزَّمَان ثمَّ ينشأ الْقرن الثَّانِي فَلَا يعْرفُونَ من إِطْلَاق ذَلِك الِاسْم إِلَّا ذَلِك الْمَعْنى الَّذِي نقل إِلَيْهِ فَأَما أَمارَة انْتِقَال الِاسْم فَهُوَ أَن يسْبق إِلَى الأفهام عِنْد سَمَاعه معنى غير مَا وضع لَهُ فِي الأَصْل فَإِن كَانَ السَّامع للاسم يتَرَدَّد فِي فهمه الْمَعْنى الْعرفِيّ واللغوي مَعًا كَانَ الِاسْم مُشْتَركا فيهمَا على سَبِيل الْحَقِيقَة فَأَما قسْمَة الْأَسْمَاء الْعُرْفِيَّة فَهِيَ أَن الْعرف إِمَّا أَن يَجْعَل الِاسْم مُسْتَعْملا فِي غير مَا كَانَ مُسْتَعْملا فِيهِ فِي اللُّغَة وَإِمَّا أَن لَا يَجعله مُسْتَعْملا فِي غَيره وَهَذَا الْأَخير لَا يكون إِلَّا بِأَن يَسْتَعْمِلهُ فِي بعض مَا كَانَ يفِيدهُ فِي اللُّغَة كَقَوْلِنَا دَابَّة وَأما مَا اسْتعْمل فِي غير مَا كَانَ يفِيدهُ فِي اللُّغَة فضربان أَحدهمَا أَن يكون الِاسْم قد صَار مجَازًا فِيمَا كَانَ حَقِيقَة فِيهِ فِي اللُّغَة وَالْآخر أَن تبقى حَقِيقَته فِيهِ حَتَّى يكون مُشْتَركا بَين الْمَعْنى اللّغَوِيّ والعرفي فَالْأول كاسم الْغَائِط وَالثَّانِي كَقَوْلِنَا كَلَام زيد فانه حَقِيقَة فِي كَلَامه الَّذِي هُوَ فعله وَفِيمَا هُوَ حِكَايَة عَن كَلَامه وَالله أعلم

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب إِثْبَات الْمجَاز فِي اللُّغَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَذهب أَكثر النَّاس إِلَى ذَلِك وَحكي عَن قوم الْمَنْع مِنْهُ وَلَيْسَ يَخْلُو خلافهم فِي ذَلِك إِمَّا أَن يكون خلافًا فِي معنى أَو فِي عبارَة وَالْخلاف فِي الْمَعْنى ضَرْبَان احدهما أَن يَقُولُوا إِن اهل اللُّغَة لم يستعملوا الْأَسْمَاء فِيمَا تَقول إِنَّهَا مجَاز فِيهِ نَحْو اسْم الْحمار فِي البليد وَهَذَا مُكَابَرَة لَا يرتكبها أحد وَالْآخر أَن يَقُولُوا إِن أهل اللُّغَة وضعُوا فِي الأَصْل اسْم الْحمار للرجل البليد كَمَا وضعوه للبهيمة وَهَذَا بَاطِل لأ نَا كَمَا نعلم باضطرار أَنهم يستعملون ذَلِك فِي البليد فَإنَّا نعلم أَنهم استعملوا ذَلِك على طَرِيق التبع والتشبيه للبهيمة وَأَن اسْتِحْقَاق البليد لذَلِك لَيْسَ كاستحقاق الْبَهِيمَة وَلذَلِك يسْبق إِلَى الأفهام من قَول الْقَائِل رَأَيْت الْحمار الْبَهِيمَة دون البليد وَلَو كَانَ مَوْضُوعا لَهما على سَوَاء لم يسْبق إِلَى الأفهام أَحدهمَا فَإِن قيل فَإِذا كَانَ الْحَقَائِق تعم المسميات فلماذا تجوز بالأسماء عَن مَا وضعت لَهُ قيل لِأَن فِي الْمجَاز من الْمُبَالغَة والحذف مَا لَيْسَ فِي الْحَقِيقَة وَلِهَذَا إِذا وَصفنَا البليد بانه حمَار كَانَ أبلغ فِي الْإِبَانَة عَن بلادته من قَوْلنَا بليد وَقد يحصل الْكَلَام مجَازًا بِضَرْب من الْحَذف فيستعمل ذَلِك طلبا للتَّخْفِيف وَأما الْخلاف فِي الِاسْم فبأن يسلم الْمُخَالف أَن اسْتِعْمَال اسْم الْحمار فِي البليد لَيْسَ بموضوع لَهُ فِي الأَصْل وَأَنه بالبهيمة أخص لكنه يَقُول لَا أُسَمِّيهِ مجَازًا إِذا عني بِهِ البليد لِأَن أهل اللُّغَة لم يسموه بذلك بل أُسَمِّيهِ مَعَ قرينته حَقِيقَة فَيُقَال لَهُ إِن أردْت أَن الْعَرَب لم تسمه بذلك فصحيحي وَإِن أردْت أَن الناقلين عَنْهُم لم يسموه بذلك فَبَاطِل بتلقيبهم كتبهمْ بالمجاز وبأنهم يَقُولُونَ فِي كتبهمْ هَذَا الِاسْم مجَاز وَهَذَا الِاسْم حَقِيقَة وَلَيْسَ إِذا لم تسمه الْعَرَب بذلك يمْتَنع أَن يضع الناقلون عَنْهُم لَهُ هَذَا الِاسْم ليَكُون آلَة وأداة فِي صنائعهم لِأَن أهل الصَّنَائِع يَفْعَلُونَ ذَلِك وَلِهَذَا سمى النُّحَاة الضمة الْمَخْصُوصَة

رفعا والفتحة نصبا وَلم يلحقهم بذلك عيب وَأما تَسْمِيَة الْخصم مَجْمُوع الِاسْم والقرينة حَقِيقَة فانه لَو صَحَّ ذَلِك لم يقْدَح فِي تَسْمِيَة أهل اللُّغَة الِاسْم بانفراد مجَازًا على مَا حكيناه عَنْهُم على أَن الْوَصْف بالمجاز وبالحقيقة يرجح إِلَى اللفاظ لِأَنَّهَا هِيَ المستعملة فِي الْمعَانِي دون الْقَرَائِن لِأَن الْقَرَائِن قد تكون شَاهد حَال وَغير ذَلِك مِمَّا لَيْسَ من فعل الْمُتَكَلّم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي حسن دُخُول الْمجَاز فِي خطاب الله وَفِي أَنه قد خَاطب بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهب الْجُمْهُور إِلَى أَن الله سُبْحَانَهُ فد خاطبنا فِي الْقُرْآن بالمجاز وَنفى بعض أهل الظَّاهِر ذَلِك وَالدَّلِيل على حسن ذَلِك أَن إِنْزَال الله عز وَجل الْقُرْآن بلغَة الْعَرَب يَقْتَضِي حسن خطابة إِيَّاهَا فِيهِ بلغتهَا مَا لم يكن فِيهِ تنفير كَالْكَلَامِ السخيف الْمَنْسُوب قَائِله إِلَى العي وَلَيْسَ هَذِه سَبِيل الْمجَاز لِأَن أَكثر الفصاحة إِنَّمَا تظهر بالمجاز والاستعارة وَأما الدّلَالَة على ان فِي الْقُرْآن مجَازًا فَقَوْل الله عز وَجل {جدارا يُرِيد أَن ينْقض فأقامه} وَقَوله {وَجَاء رَبك} وَقَوله {إِلَى رَبهَا ناظرة} وَلَيْسَ يَخْلُو الْمُخَالف إِمَّا أَن يَقُول إِن هَذِه الْأَلْفَاظ وضعت فِي الأَصْل للمعاني الَّتِي أرادها الله وَهَذَا قد أفسدناه من قبل وَإِمَّا أَن يَقُول إِن هَذَا الْكَلَام كَانَ مجَازًا فِي اللُّغَة لهَذِهِ الْمعَانِي ثمَّ نقل إِلَيْهَا بِالشَّرْعِ فَصَارَ من الْحَقَائِق الشَّرْعِيَّة وَهَذَا بَاطِل لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لسبق إِلَى أفهام أهل الشَّرْع مَعَانِيهَا الَّتِي أرادها الله كَمَا سبق إِلَى أفهامهم الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة عِنْد سماعهم اسْم الصَّلَاة وَمَعْلُوم أَنه لَا يسْبق إِلَى الأفهام عِنْد سَماع قَول الله عز وَجل {إِلَى رَبهَا ناظرة} إِلَى ثَوَاب رَبهَا ناظرة احْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء

مِنْهَا أَن الْمجَاز لَا ينبىء عَن مَعْنَاهُ بِنَفسِهِ فورود الْقُرْآن بِهِ يَقْتَضِي الإلباس وَالْجَوَاب أَنه لَا إلباس مَعَ الْقَرِينَة الدَّالَّة على المُرَاد وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْعُدُول إِلَى الْمجَاز يَقْتَضِي الْعَجز عَن الْحَقِيقَة وَذَلِكَ مُسْتَحِيل على الله وَالْجَوَاب أَن ذَلِك إِنَّمَا يَقْتَضِي الْعَجز عَن الْحَقِيقَة لَو لم يحسن الْعُدُول إِلَى الْمجَاز مَعَ التَّمَكُّن من الْحَقِيقَة وَمَعْلُوم أَن الْعُدُول إِلَى الْمجَاز يحسن لما فِيهِ من زِيَادَة فصاحة واختصار ومبالغة فِي التَّشْبِيه وَلَو لم تكن فِي الْمجَاز هَذِه الْوُجُوه لجَاز ان يكون فِيهِ مصلحَة لَا نعلمها ولجاز أَن يكون الْمجَاز مَعَ قرينته يُسَاوِي فِي الطول كَثْرَة أَلْفَاظ فَيجْرِي الْعُدُول إِلَيْهِ مجْرى الْعُدُول من حَقِيقَة إِلَى حَقِيقَة وَمِنْهَا قَوْلهم لَو خَاطب الله بالمجاز والاستعارة لصَحَّ وَصفه بِأَنَّهُ متجوز فِي خطابه وَبِأَنَّهُ مستعيرا وَالْجَوَاب أَن إِطْلَاق وَصفه بالتجويز يُوهم التسمح بالقبيح وَلِهَذَا إِذا قيل فلَان متجوز فِي أَفعاله أَفَادَ أَنه متسمح بالقبيح فِيهَا وَأما قَوْلنَا مستعير فَإِنَّهُ يفهم من إِطْلَاقه أَنه اسْتَأْذن غَيره فِي التَّصَرُّف فِي ملكه لينْتَفع بِهِ وكل ذَلِك يَسْتَحِيل على الله عز وَجل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب ذكر مَا يفصل بِهِ بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْفَصْل بَينهمَا إِنَّمَا يكون من جِهَة اللُّغَة إِمَّا بِنَصّ من اهل اللُّغَة وَإِمَّا باستدلال بعاداتهم والأسبق إِلَى أفهامهم وَبِمَا يجب للْحَقِيقَة وَالْمجَاز أما الأول فنحو أَن يَقُولُوا هَذِه حَقِيقَة وَهَذَا مجَاز أَو يَقُولُوا هَذَا الْكَلَام إِذا عني بِهِ كَذَا فقد عني بِهِ مَا وضع لَهُ وَإِذا عني بِهِ كَذَا لم يكن قد عني بِهِ مَا وضع لَهُ أَو يَقُولُوا إِذا عني بِهِ كَذَا لم يَنْتَظِم لَفظه مَعْنَاهُ إِمَّا بِزِيَادَة اَوْ نُقْصَان أَو بِنَقْل وَإِذا عني بِهِ كَذَا يَنْتَظِم لَفظه مَعْنَاهُ من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان وَلَا نقل

وَأما الِاسْتِدْلَال فبأن يسْبق إِلَى إفهام أهل اللُّغَة عِنْد سَماع اللَّفْظَة من دون قرينَة معنى من الْمعَانِي دون آخر فيعلموا أَنَّهَا حَقِيقَة فِيمَا سبق إِلَى الْفَهم لِأَنَّهُ لَوْلَا أَنه قد اضْطر السَّامع من قصد الواضعين إِلَى أَنهم وضعُوا اللَّفْظَة لذَلِك الْمَعْنى مَا سبق إِلَى فهمه ذَلِك الْمَعْنى دون غَيره وَوجه آخر أَن يكون أهل اللُّغَة إِذا أَرَادوا إفهام غَيرهم معنى من الْمعَانِي اقتصروا على عبارَة مَخْصُوصَة وَإِذا عبروا عَنهُ بغَيْرهَا لم يقتصروا عَلَيْهَا فيعلموا أَن الْعبارَة الَّتِي اقتصروا عَلَيْهَا هِيَ حَقِيقَة فِي ذَلِك الْمَعْنى لِأَنَّهُ لَوْلَا مَا اسْتَقر فِي أنفسهم من اسْتِحْقَاق ذَلِك الْمَعْنى لتِلْك اللَّفْظَة وانها تفيده وَحده مَا اقتصروا عَلَيْهَا وَقد فرق بَينهمَا بالاطراد ونفيه فَمَتَى اطرد الِاسْم فِي معنى على الْحَد الَّذِي اسْتعْمل فِيهِ من غير منع شَرْعِي كَانَ حَقِيقَة فِيهِ وَمَتى لم يطرد فِيهِ من غير منع كَانَ مجَازًا لِأَن الْمجَاز لَا يطرد أَلا ترى أَن وَصفنَا للرجل الطَّوِيل بِأَنَّهُ نَخْلَة لما كَانَ مجَازًا لم يطرد فِي كل طَوِيل وَالصَّحِيح أَن نفي الاطراد من غير منع دَلِيل على أَن الِاسْم مجَاز لِأَنَّهُ قد ثَبت وجوب اطراد الِاسْم فِي حَقِيقَته واطراده لِأَنَّهُ يدل على أَنه حَقِيقَة لِأَن الْمجَاز وَإِن لم يجب اطراده فَلَا مَانع يمْنَع من اطراد بعضه وَمَا ذَكرُوهُ من التَّمْثِيل بالنخلة فَهُوَ مِثَال وَاحِد وَلَا يُمكن أَن يدعى انه قد استقرئت الْأَلْفَاظ كلهَا فَلم يُوجد فِيهَا مجَاز مطرد وَلَو كَانَ ذَلِك قد علم لَكَانَ قد علمت أَلْفَاظ الْمجَاز وَعلم أَن مَا عَداهَا حَقِيقَة قبل الْعلم بِنَفْي اطرادها وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يكون الْفَصْل بَينهمَا قد علم قبله وَقد فرق بَينهمَا بِأَن اللَّفْظَة إِذا افادت الشَّيْء على الْحَقِيقَة يصرف فِيهَا بِجمع وتثنية واشتقاق وَتعلق بِالْغَيْر نَحْو اسْم الْأَمر إِذا وَقع على القَوْل فَإِنَّهُ يتَعَلَّق بالمأمور بِهِ فَيُقَال هُوَ أَمر بِكَذَا وَإِذا لم يجمع الِاسْم وَلم يثن وَلم يشتق مِنْهُ لم يكن حَقِيقَة وَلِهَذَا لم يكن اسْتِعْمَال اسْم الْأَمر فِي الْفِعْل حَقِيقَة لِأَنَّهُ لَا يُقَال فِيهِ إِنَّه أَمر بِكَذَا وَذَلِكَ أَنه إِذا تصرف فِي اللَّفْظَة علم أَنَّهَا متمكنة فِي مَعْنَاهَا وَهَذَا تقريب لِأَن اسْم الْحمار إِذا وَقع على البليد ثني وَجمع فَقيل فِي جمَاعَة

الْبَلَد حمير وَقَوْلنَا رَائِحَة تقع على الرَّائِحَة حَقِيقَة وَلَا يشتق مِنْهُ وَقيل أَيْضا إِذا علمنَا اسْتِعْمَال أهل اللُّغَة اللَّفْظَة فِي شَيْء وَلم يدل دلَالَة على أَنَّهَا مجَاز فِيهِ كَانَت حَقِيقَة فِيهِ وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا علمنَا أَنَّهَا حَقِيقَة لعلمنا أَنَّهَا غير مجَاز وَإِنَّمَا علمنَا أَنَّهَا غير مجَاز لنفي ادلة الْمجَاز عَنْهَا وَعَن تِلْكَ الْأَدِلَّة يسئلون فَمَا هِيَ وَقيل أَيْضا إِن الشَّيْء إِذا سمي باسم مَا هُوَ جَزَاء عَنهُ كَقَوْل الله عز وَجل {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} أَو باسم مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ كَالنِّكَاحِ أَو باسم مَا يُشبههُ كتسمية البليد حمارا كَانَ مجَازًا وَلقَائِل أَن يَقُول إِن للتشبيه وَالْجَزَاء وَغير ذَلِك وُجُوهًا لأَجلهَا تجوزوا وَلَيْسَت أَمَارَات للمجاز لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يستعملوا الِاسْم فِي الشَّيْء وَفِيمَا يُشبههُ وَفِيمَا هُوَ جَزَاء عَنهُ وَفِيمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ أصل الْوَضع فَيَنْبَغِي أَن يعلم أَن الِاسْم مجَاز فِيهَا هُوَ جَزَاء عَنهُ ثمَّ يعلم أَنهم إِنَّمَا تجوزوا فِيهِ لأجل ذَلِك وَقيل إِذا علقت الْكَلِمَة بِمَا يَسْتَحِيل تعلقهَا بِهِ علم أَنَّهَا مجَاز فِيهِ نَحْو قَول الله عز وَجل {واسأل الْقرْيَة} وَهَذَا الْوَجْه لَا يَصح لأَنا إِنَّمَا علمنَا بالعقول أَن الْقرْيَة لم ترد فَأَما أَن اسْم الْقرْيَة مجَاز فِي أَهلهَا فَيحْتَاج إِلَى دلَالَة لِأَنَّهُ لَا يجب إِذا لم يرد الْمُتَكَلّم معنى من الْمعَانِي بِكَلَامِهِ وَأَرَادَ غَيره أَن يكون الْكَلَام مجَازًا فِي ذَلِك الْغَيْر أَلا ترى أَن الْكَلِمَة لَو كَانَت مُشْتَركَة بَين حقيقتين وَعلمنَا اسْتِحَالَة إِرَادَة الْحَكِيم لأَحَدهمَا وَأَنه قد أَرَادَ الْأُخْرَى لم تكن الْكَلِمَة مجَازًا فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب ذكر أَحْكَام الْحَقِيقَة وَالْمجَاز - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن من أَحْكَام الْحَقِيقَة وَالْمجَاز أَنَّهُمَا لَا يدخلَانِ أَسمَاء الألقاب لِأَن الْحَقِيقَة هِيَ مَا أفيد بهَا مَا وضعت لَهُ وَالْمجَاز هُوَ مَا أفيد بِهِ معنى غير مَا وضع لَهُ على مَا تقدم ونعني بقولنَا مَا وضعت لَهُ وضع أهل اللُّغَة وَكَون اللَّفْظ

حَقِيقَة ومجازا تبعا لكَونهَا مَوْضُوعَة لشَيْء قبل اسْتِعْمَال الْمُسْتَعْمل حَتَّى إِن استعملها الْمُسْتَعْمل فِيمَا وضعت لَهُ كَانَت حَقِيقَة وَإِن استعملها فِي معنى آخر كَانَت مجَازًا وَأَسْمَاء الألقاب لم تقع على مسمياتها الْمعينَة بِوَضْع من اهل اللُّغَة وَلَا من الشَّرْع حَتَّى يكون من اتبعهم فِيهَا فِي اصل موضوعهم كَانَ قد استعملها على الْحَقِيقَة وَمن استعملها فِيهِ على طَرِيق التبع كَانَ متجوزا بهَا وَمن احكام الْحَقِيقَة وَالْمجَاز أَن لَا يَخْلُو مِنْهُمَا كَلَام وَضعه أهل اللُّغَة لشَيْء وَاسْتَعْملهُ الْمُسْتَعْمل فِيمَا استعملوه لِأَن الْمُتَكَلّم بِهِ إِذا عني بِهِ مَا عناه اهل اللُّغَة فإمَّا أَن يَعْنِي بِهِ مَا عنوه فِي الأَصْل فَيكون حَقِيقَة أَو على سَبِيل التبع فَيكون مجَازًا وَمن احكام الْحَقِيقَة وَالْمجَاز أَنه لَا يجوز أَن يكون اللَّفْظ مجَازًا فِي شَيْء وَلَا يكون حَقِيقَة فِي غَيره وَيجوز أَن يكون حَقِيقَة فِي شَيْء وَلَا يكون مجَازًا فِي غَيره أما الأول فَلِأَن الْمجَاز هُوَ مَا أفيد بِهِ معنى فِي الْمُوَاضَعَة غير مَا وضع فِي أَصْلهَا وَهَذَا تَصْرِيح بِأَنَّهُ قد وضع فِي الأَصْل لشَيْء آهر فاللفظة مَتى اسْتعْملت فِيهِ كَانَت حَقِيقَة وَأما الثَّانِي فَلِأَن الْحَقِيقَة هِيَ مَا افيد بهَا مَا وضعت لَهُ وَلَيْسَ يُوجب كَونهَا مَوْضُوعَة لشَيْء أَن تكون مستعملة فِي غَيره على طَرِيق التبع وَمن حكم اللَّفْظ أَن يحمل على حقيقتة إِذا تجرد وَلَا يحمل على مجازه إِلَّا لدلَالَة لِأَن وَاضع الْكَلَام للمعنى إِنَّمَا يَضَعهُ ليكتفي بِهِ فِي الدّلَالَة عَلَيْهِ وليستعمله فِيهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إِذا سمعمتوني أَتكَلّم بِهَذَا الْكَلَام فاعلموا أنني أَعنِي بِهِ هَذَا الْمَعْنى وَإِذا تكلم بِهِ مُتَكَلم بلغتي فليعن بِهِ هَذَا فَكل من تكلم بلغته فَيجب أَن يَعْنِي بِهِ ذَلِك الْمَعْنى وَلِهَذَا يسْبق إِلَى أفهام السامعين ذَلِك الْمَعْنى دون مَا هُوَ مجَاز فِيهِ وَلَو قَالُوا لنا فِي الْمجَاز مثل ذَلِك لَكَانَ حَقِيقَة وَلم يكن مجَازًا والحقيقة قد يجوز أَن تصير بِالشَّرْعِ اَوْ بِالْعرْفِ مجَازًا فِيمَا كَانَت حَقِيقَة فِيهِ وَيجوز أَن يصير بهما الْمجَاز حَقِيقَة فِيمَا كَانَ مجَازًا فِيهِ

وَمن حكم الْحَقِيقَة أَن تطرد فِي فائدتها على الْحَد الَّذِي يفيدها إِمَّا مَشْرُوطَة أَو مُطلقَة إِلَّا أَن يمْنَع من ذَلِك مَانع مِثَال الْمُطلقَة قَوْلنَا طَوِيل يُفِيد مَا اخْتصَّ بالطول فَإِذا علمنَا أَن أهل اللُّغَة سموا الْجِسْم طَويلا عِنْد اخْتِصَاصه بالطول وَلَوْلَا ذَلِك مَا سموهُ طَويلا علمنَا أَنهم سموهُ بذلك لأجل طوله فسمينا كَا جسم فِيهِ طول بِأَنَّهُ طَوِيل وَمِثَال الْمَشْرُوطَة تسميتهم مَا وجد فِيهِ السوَاد وَالْبَيَاض من الْخَيل بانه ابلق فانا نطرد ذَلِك فِي كل فرس وجدا فِيهِ دون سَائِر الْأَجْسَام وَهَذَا هُوَ معنى قَوْلنَا إِن الْقيَاس مُسْتَعْمل فِي الْحَقَائِق والمخالف فِي ذَلِك إِمَّا أَن يُخَالف فِي الِاسْم أَو فِي الْمَعْنى فَإِن وَافق فِي الْمَعْنى وَخَالف فِي الِاسْم فَقَوله من جِهَة الْعبارَة بَاطِل لِأَنَّهُ قد أعْطى معنى الْقيَاس وَهُوَ إِثْبَات حكم الشَّيْء فِي غَيره بِالرَّدِّ إِلَيْهِ لعِلَّة من الْعِلَل وَإِن خَالف فِي الْمَعْنى فَمن وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يمْنَع من تعدى الِاسْم إِلَى غير مَا شَاهده أهل اللُّغَة وَإِن وَقعت الْمُسَاوَاة فِي فَائِدَة الِاسْم وَهَذَا إِن قَالَه فَفِيهِ انْقِطَاع اللُّغَة وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا لم يطرد الْمجَاز لِأَن الْحَقَائِق مستوعبة للمسميات وَلَيْسَ يمْنَع من اطراد الْحَقَائِق قَول الله سُبْحَانَهُ {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} لِأَن ذَلِك إِنَّمَا يَقْتَضِي تَعْلِيمه أَسمَاء مَا حَضَره دون مَا يحدث وَلِأَن نَص الله سُبْحَانَهُ لَهُ على الْأَسْمَاء لَا يمْنَع من لم ينص لَهُ أَن يقيس على أَنه إِذا لم يجز أَن تكون الْأَسْمَاء كلهَا توقيفا وَجب تَخْصِيص قَول الله عز وَجل {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} وَالْوَجْه الآخر أَن يطرد الْمُخَالف الِاسْم فِي مَعْنَاهُ إِلَّا أَن يَقُول إِنَّمَا فعلت ذَلِك لعلمي باضطرار من قصد واضعي اللُّغَة أَنهم سموا بقَوْلهمْ طَوِيل كل مَا اخْتصَّ بالطول مِمَّا حدث وَمِمَّا سيحدث وَيُمكن أَن يُقَال اه فِي ذَلِك إِنَّمَا علمت ذَلِك لعلمك أَنهم سموا الطَّوِيل طَويلا لاختصاصه بالطول وَأَنه إِذا

كَانَ هَذَا غرضهم وَجب طرده وَيُقَال لَهُ فَهَب أَنَّك علمت ذَلِك ضَرُورَة أَلَيْسَ لَو لم تعلم ذَلِك ضَرُورَة وَعلمت أَنهم سموا الطَّوِيل طَويلا لاختصاصه بالطول لَا غير لَكُنْت تعلم أَن كل مَا حصل ذَلِك فِيهِ فَيجب أَن يُسمى طَويلا فَلَا بُد من يَلِي فَيُقَال لَهُ فقد تمّ غرضنا من وجوب اطراد الْحَقَائِق فَأَما الْمَانِع من اطراد الْحَقِيقَة فضربان أَحدهمَا أَن يكثر اسْتِعْمَالهَا فِي الْمجَاز كَثْرَة توهم الْمجَاز وَلَا يجوز إِطْلَاقهَا فِي مَوضِع لَا يحسن إِيهَام ذَلِك الْمجَاز فِيهِ نَحْو وصف الله عز وَجل بِأَنَّهُ دَلِيل عِنْد من يَقُول إِن قَوْلنَا الدَّلِيل حَقِيقَة فِي فَاعل الدّلَالَة لِأَنَّهُ قد كثر اسْتِعْمَاله فِي الدّلَالَة فَصَارَ إِطْلَاق ذَلِك يُوهم وَالضَّرْب الاخر السّمع فَإِنَّهُ منع من تَسْمِيَة الله بِأَنَّهُ فَاضل وَإِن أَفَادَ الْمَدْح وَأما الْمجَاز فَيَنْبَغِي أَن يقر فِي كل نوع مَا اسْتعْمل فِيهِ وَلَا يعدى عَنهُ إِلَى غَيره نَحْو تسميتهم الرجل الطَّوِيل بِأَنَّهُ نَخْلَة فَإِنَّهُ يجوز أَن يُسمى كل رجل طَوِيل بذلك وَلَا يجب أَن يُسمى غير الرِّجَال بذلك والحقيقة تتعدى النَّوْع وَلِهَذَا لما سموا الرجل الْأسود بِأَنَّهُ أسود جرى ذَلِك على غَيره من الْأَجْسَام السود وَلَو اطرد الْمجَاز كاطراد الْحَقِيقَة لما كَانَ بَينهمَا فصل فَإِن قيل الْفَصْل بَينهمَا أَن الْحَقِيقَة أَصْلِيَّة وَالْمجَاز طارىء قيل قد أُجِيب عَن ذَلِك بِأَن الْحَقِيقَة قد تطرأ أَيْضا على الْحَقِيقَة فَإِن قيل الْفَصْل بَينهمَا أَن الْمجَاز يحْتَاج فِي حمله على مَا هُوَ مجَاز فِيهِ إِلَى دلَالَة وَلَيْسَ كَذَلِك الْحَقِيقَة قيل بل قد تحْتَاج الْحَقِيقَة إِلَى دَلِيل إِذا كَانَ اللَّفْظ مُشْتَركا بَين حقيقتين وَلقَائِل أَن يَقُول الْفَصْل بَينهمَا أَن الْمجَاز لَا يسْبق إِلَى الْفَهم مَا هُوَ مجَاز فِيهِ ويسبق إِلَى الْفَهم مَا اللَّفْظ حَقِيقَة فِيهِ سَوَاء كَانَ حَقِيقَة فِي معنى وَاحِد أَو اكثر وَيُمكن أَن يحْتَج لنفي اطراد الْمجَاز بِأَن المتجوز بِالِاسْمِ فِي غير مَا وضع لَهُ إِنَّمَا يرخص فِيهِ لغَرَض لَا يجب أَن يُوجد فِي غَيره نَحْو أَن يكون قد اهتم بذلك

الشَّيْء فَدَعَاهُ بِشدَّة اهتمامه بِهِ إِلَى أَن يُبَالغ فِي وَصفه فيشبهه بِغَيْرِهِ نَحْو تسميتهم الرجل الطَّوِيل بِأَنَّهُ نَخْلَة وَلَا يجب حُصُول هَذَا الْغَرَض فِي غير النَّاس وَلكنه قَائِم فِي كل رجل وَقع الاهتمام بِهِ فَإِن قيل فقد طردتم الْمجَاز فِي نَوعه قيل إِن أُرِيد باطراده هَذَا فَذَلِك لَا نأباه فَإِن قيل فلعلهم تجوزوا بالنخلة فِي الطَّوِيل بِشَرْط كَونه من الرِّجَال فيطرد الِاسْم فِيمَا وجد فِيهِ شَرطه دون مَا عدم فِيهِ شَرطه فيتساوى الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي ذَلِك قيل هَذَا تَسْلِيم لما نريده من أَن الْمجَاز لَا يتَعَدَّى نَوعه وَإِن عللتموه بِمَا ذكرْتُمْ وَلقَائِل أَن يَقُول إِذا كَانُوا قد تجوزوا باسم النَّخْلَة فِي الرجل الطَّوِيل على طَرِيق الْمُبَالغَة فِي وَصفه بالطول لاهتمامهم فَيجب إِذا حصل هَذَا الْغَرَض فِي غَيره من الْأَجْسَام أَن يتجوزوا بِهَذَا الِاسْم فِيهِ وَفِي ذَلِك اطراد الِاسْم وَالْجَوَاب أَنه إِذا كَانَ الْغَرَض قد لَا يحصل فِي كل مَوضِع فقد تمّ مَا أردناه من نفي وجوب اطراد الْمجَاز - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب القَوْل فِي الْحُرُوف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْكَلَام لما انقسم إِلَى الِاسْم وَالْفِعْل والحرف وَكَانَ الْخطاب تَتَغَيَّر فَوَائده بالحروف الدَّاخِلَة عَلَيْهِ وَكَانَ أَكثر الْغَرَض بِهَذَا الْكتاب ذكر الْخطاب الَّذِي يسْتَدلّ بِهِ على الْأَحْكَام وَجب أَن نذْكر فِيهِ الْحُرُوف أَيْضا فَنَقُول إِن من الْكَلم مَا يدْخل فِي الْكَلَام فيغير فَائِدَته وينبىء عَن حَال بعضه عِنْد بعض وَقد يكون ذَلِك اسْما وَقد يكون حرفا وَذَلِكَ ينبىء عَن تعلق بعض مَعَاني الْكَلَام بِبَعْض إِمَّا على سَبِيل الْمُشَاركَة أَو لَا على سَبِيل الْمُشَاركَة فالاول إِمَّا أَن ينبىء عَن مُشَاركَة على الْبَدَل أَو على الْجمع فَالْأول لفظ أَو تَقول جَالس زيدا أَو عمرا فَتكون قد شركت بَينهمَا فِي الْجُلُوس على الْبَدَل وَقد يكون أَو بِمَعْنى الشَّك تَقول سلمت على زيد أَو عَمْرو

وَأما الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي ينبىء عَن الْمُشَاركَة على الْجمع فَإِنَّهُ إِمَّا أَن ينبىء عَن الْمُشَاركَة فَقَط وغما أَن ينبىء عَن وَقت الْمُشَاركَة فالمنبىء عَن الْمُشَاركَة فَقَط هُوَ الْوَاو كَقَوْلِك رَأَيْت زيدا وعمرا فَيُفِيد أَنَّهُمَا اشْتَركَا فِي الرُّؤْيَة وَقد تكون الْوَاو بِمَعْنى الِاسْتِئْنَاف كَقَوْل الله سُبْحَانَهُ {وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله والراسخون فِي الْعلم} إِذا وَقع الِابْتِدَاء بقوله والراسخون فِي الْعلم وَقيل إِنَّهَا بِمَعْنى أَو كَقَوْل الله سُبْحَانَهُ {أولي أَجْنِحَة مثنى وَثَلَاث وَربَاع} قيل إِن المُرَاد بِهِ أَو ثَلَاث أَو رباع وَيُمكن أَن يُقَال إِنَّمَا وضعت جملَة الْمَلَائِكَة بذلك فَاقْتضى أَن بَعضهم على الصّفة الأولى وَبَعْضهمْ على الصّفة الثَّانِيَة وَبَعْضهمْ على الصّفة الثَّالِثَة فَيكون المُرَاد بِالْوَاو الْجمع أَي أَن ذَلِك اجْتمع لجملة الْمَلَائِكَة وَأما المنبىء عَن وَقت الْمُشَاركَة فإمَّا أَن يُفِيد أَن الْمُشَاركَة حصلت فِي وَقت وَاحِد كَقَوْلِك رَأَيْت زيدا مَعَ عَمْرو وَإِمَّا أَن يُفِيد التَّقْدِيم كَقَوْلِك قبل أَو التاخر وَهَذَا إِمَّا أَن لَا يُفِيد تَقْدِير التَّأْخِير بِزَمَان أَو يُفِيد ذَلِك فَالْأول نَحْو بعد وَالثَّانِي إِمَّا أَن لَا يُفِيد تَقْدِير التَّأَخُّر بِزَمَان طَوِيل وَإِمَّا بِزَمَان قصير فَالْأول ثمَّ فَإِنَّهَا تفِيد التَّرْتِيب والتراخي وَقيل إِنَّهَا يتجوز بهَا فيستعمل بِمَعْنى الْوَاو كَقَوْل الله سُبْحَانَهُ {فإلينا مرجعهم ثمَّ الله شَهِيد} لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون شَاهدا بعد أَن لم يكن شَاهدا وَالثَّانِي الْفَاء وَذَلِكَ انها تفِيد التعقيب الْمُمكن بَين الْفِعْلَيْنِ كَقَوْلِك دخلت الْبَصْرَة فالكوفة يُفِيد أَن دخولك الْكُوفَة كَانَ بعد دخولك الْبَصْرَة بِزَمَان يسير جرت الْعَادة بِمثلِهِ وَلَيْسَ يجب أَن يكون بَينهمَا من الزَّمَان الْيَسِير مثل مَا يكون بَين لِقَاء زيد وَعَمْرو إِذا قلت لقِيت زيدا فعمرا لِأَنَّهُ يُمكن فِي هَذَا من الزَّمَان الْيَسِير مَا لَا يُمكن فِي ذَلِك وَأما مَا ينبيء عَن تعلق بعض الْمعَانِي بِبَعْض لَا من جِهَة الْمُشَاركَة فَإِنَّهُ إِمَّا أَن

يكون ظرفا أَو ابْتِدَاء من الظّرْف أَو انْتِهَاء إِلَيْهِ فَالْأول ضَرْبَان أَحدهمَا أَن يُفِيد ذَلِك بِلَفْظ الْبَاء وَالْآخر بِلَفْظ فِي أما الأول فَقَوْل الله سُبْحَانَهُ {وامسحوا برؤوسكم} قَالَ قَاضِي الْقُضَاة إِن اللُّغَة تفِيد تَعْمِيم الرَّأْس لِأَن الْمسْح مُعَلّق بِمَا يُسمى رَأْسا وَجُمْلَة الرَّأْس تسمى رَأْسا دون أَبْعَاضه وَالْعرْف يَقْتَضِي إِلْحَاق الْمسْح بِالرَّأْسِ إِمَّا جَمِيعه وَإِمَّا بعضه لِأَن الْمَعْقُول من قَوْلنَا مسحت يَدي بالمنديل فِي الْعرف مَا ذَكرْنَاهُ وَعند الشَّيْخ أبي عبد الله أَن قَول الله {برؤوسكم} مُجمل يحْتَاج إِلَى بَيَان لِأَنَّهُ قد ترد هَذِه اللَّفْظَة وَيُرَاد بهَا الْكل وَقد ترد وَيُرَاد بهَا الْبَعْض وَالْأول مَا ذكره قَاضِي الْقُضَاة وَأما لَفظه فِي فقولنا زيد فِي الدارفيكون الدَّار ظرفا لَهُ وَقد يُقَال زيد فِي الصَّلَاة تَشْبِيها بالظرف لِأَنَّهُ لما انْقَطع إِلَى الصَّلَاة عَن غَيرهَا جرى مجْرى من انْقَطع إِلَى مَكَان دون غَيره وَأما الِابْتِدَاء فلفظه من تَقول خرجت من الْبَصْرَة إِلَى الْكُوفَة وَقد تكون صلَة فِي الْكَلَام كَقَوْل الله سُبْحَانَهُ {يغْفر لكم من ذنوبكم} المُرَاد يغْفر لكم ذنوبكم وَقيل إِنَّهَا تكون للتَّبْعِيض كَقَوْل الْقَائِل أكلت من هَذَا الْخبز وَقَوْلنَا بَاب من حَدِيد وَالصَّحِيح أَن قَوْلنَا بَاب من حَدِيد يُفِيد الْجِنْس دون التَّبْعِيض لِأَنَّهُ لَو لم يكن فِي الْوُجُود حَدِيد إِلَّا ذَلِك الْبَاب لقيل بَاب من حَدِيد وَأما الِانْتِهَاء فلفظه إِلَى تَقول سرت من الْبَصْرَة إِلَى بَغْدَاد والغاية وَالْحَد قد يدخلَانِ فِي الْخطاب وَقد لَا يدخلَانِ فِيهِ وَقَالَ أَبُو عبد الله إِن الْغَايَة لما دخلت مرّة وَلم تدخل أُخْرَى كَانَت مجملة وَالصَّحِيح أَنَّهَا لَا تفِيد الدُّخُول فِي الْخطاب لِأَن قَول الله سُبْحَانَهُ {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} يُفِيد إِيجَاب غسل الْيَد بِكَوْن نهايته الْمرَافِق وَمن غسل يَده إِلَى أول

الْمرَافِق صدق عَلَيْهِ القَوْل بِأَن غسله ليديه كَانَ نهايته الْمرَافِق فَيكون بذلك فَاعِلا لما اقْتَضَاهُ الظَّاهِر فَسقط عَنهُ الْأَمر وَإِنَّمَا يعلم وجوب غسل الْمرَافِق بِدَلِيل زَائِد كَمَا أَن من قيل لَهُ ادخل الدَّار فَفعل مَا يَقع عَلَيْهِ اسْم دُخُول إِلَى الدَّار يسْقط عَنهُ الْأَمر إِذْ الْأَمر يسْقط بِوُجُود أول الِاسْم وَكَذَلِكَ من خرج من الْبَصْرَة إِلَى بَغْدَاد يُقَال قد انْتهى إِلَى بَغْدَاد فَبَان أَنه لَيْسَ من شَرط الْغَايَة أَن يدْخل فِي الْخطاب فَأَما الْوَاو العاطفة فَإِنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة إِنَّهَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب وَدَلِيلنَا أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ رَأَيْت زيدا وعمرا لم يسْبق إِلَى الْفَهم أَنه رأى زيدا قبل عَمْرو وَلِهَذَا لَو قَالَ رَأَيْت زيدا وعمرا بعده أَفَادَ فَائِدَة محددة وَأَيْضًا فانها لَو أفادت التَّرْتِيب لَكَانَ قَول الْقَائِل رَأَيْت زيدا وعمرا مَعًا أَو قبله إِمَّا مناقضة أَو مجازاكما أَن قَول الْقَائِل رَأَيْت زيدا ثمَّ عمرا مَعًا أَو قَالَ ثمَّ عمرا قبله مناقضة وَأهل اللُّغَة لم يجْعَلُوا مَا ذكرنَا مناقضة وَلَا مجَازًا فان قيل أَلَيْسَ لَفْظَة ثمَّ تفِيد التَّرَاخِي وَيجوز أَن يَقُول الْقَائِل جَاءَنِي زيد ثمَّ جَاءَنِي عَمْرو عَقِيبه وَلَا يجوز أَن يُقَال ترَاخى مَجِيء عَمْرو عَن مَجِيء زيد غير أَنه جَاءَ عَقِيبه فَهَلا كَانَت الْوَاو تجْرِي مجْرى ثمَّ فِي التَّرْتِيب ويتجوز بهَا فِي الْجمع وَلَا يتجوز بِلَفْظَة ثمَّ فِي ذَلِك قيل إِنَّا لَا نمْنَع أَن تقوم لَفْظَة مقَام لَفْظَة فيتجوز باحداهما فِي شَيْء وَلَا يتجوز بِالْأُخْرَى فِيهِ وَإِنَّمَا الَّذِي احتججنا بِهِ هُوَ أَن أهل اللُّغَة لم يجْعَلُوا هَذَا الْكَلَام مناقضة وَلَا مجَازًا على أَنه لَا يحسن أَن يُقَال جَاءَنِي زيد ثمَّ عَمْرو عَقِيبه دَلِيل قَالَ أهل اللُّغَة إِن وَاو الْعَطف فِي الْأَسْمَاء الْمُخْتَلفَة تجْرِي مجْرى وَاو الْجمع وياء التَّثْنِيَة فِي الْأَسْمَاء المتماثلة وَإِنَّهُم لم يتمكنوا من جمع الْأَسْمَاء الْمُخْتَلفَة بواو الْجمع استعملوا فِيهَا وَاو الْعَطف وَلما كَانَ قَول الْقَائِل رَأَيْت الزيدين وَجَاءَنِي الزيدون يُفِيد اشتراكهم فِي الْمَجِيء والرؤية وَلَا يُفِيد التَّرْتِيب فَكَذَلِك إِذا قَالَ جَاءَنِي زيد وَعَمْرو وخَالِد فان قيل لَا يمْتَنع أَن تكون

وَاو الْعَطف تقوم مقَام وَاو الْجمع فِي إِفَادَة الِاشْتِرَاك وتختص بافادة التَّرْتِيب كَمَا أَن ثمَّ وَالْفَاء تجمعان بَين الشَّيْئَيْنِ فِي الْعَطف وتجريان فِي ذَلِك مجْرى وَاو الْجمع وتختصان بافادة التَّرْتِيب وَالْجَوَاب أَن أهل اللُّغَة لَو أَرَادوا أَن وَاو الْعَطف تجْرِي مجْرى وَاو الْجمع فِي إِفَادَة الِاشْتِرَاك فَقَط وأفادت التَّرْتِيب لقالوا أَيْضا إِن لَفْظَة ثمَّ وَالْفَاء قد أجريتا مجْرى وَاو الْجمع وياء التَّثْنِيَة أَيْضا فَلَمَّا لم يَقُولُوا ذَلِك فِي ثمَّ وَالْفَاء وَقَالُوا ذَلِك فِي الْوَاو علمنَا أَن وَاو الْعَطف تقوم مقَام وَاو الْجمع فِي إِفَادَة الْجمع فَقَط دَلِيل قَالَ أهل اللُّغَة إِن الْوَاو لَا تفِيد التَّرْتِيب وَقَوْلهمْ بأجمعهم حجَّة فِي اللُّغَة فان قَالُوا قد حدكي عَن الْفراء أَنه قَالَ الْوَاو لَا تفِيد التَّرْتِيب إِلَّا حَيْثُ يَسْتَحِيل الْجمع نَحْو قَول الله سُبْحَانَهُ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ارْكَعُوا واسجدوا} قيل هَذَا يدل على أَنه جعلهَا للتَّرْتِيب لأجل دلَالَة وَهُوَ تعذر الْجمع وَفِي هَذَا مُوَافقَة أهل اللُّغَة وَإِذا ثَبت أَن ظَاهرهَا لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيب لم يكن تعذر الْجمع دَلِيلا على وجوب التَّرْتِيب لِأَنَّهُ يُمكن أَن يتَقَدَّم السُّجُود على الرُّكُوع وَلَو أفادت التَّرْتِيب بظاهرها إِذا تعذر الْجمع لأفادته إِذا صَحَّ الْجمع وَصَحَّ التَّرْتِيب وَقد اسْتدلَّ على أَن الْوَاو لَا تفِيد التَّرْتِيب بِأَنَّهَا لَو افادته لدخلت فِي جَوَاب الشَّرْط كالفاء وَمَعْلُوم أَنه لَا يحسن أَن يَقُول الْقَائِل إِذا دخل زيد الدَّار وأعطه درهما وَلقَائِل أَن ينْقض ذَلِك بِلَفْظَة ثمَّ وَلَفْظَة بعد وَأَيْضًا فَإِن الْوَاو وَإِن اقْتَضَت عِنْدهم التَّرْتِيب فانها تفِيد الْعَطف وَلَا يُمكن الْعَطف فِيمَا ذَكرُوهُ لِأَنَّهُ لم يتَقَدَّم مَا تكون الْوَاو عاطفة عَلَيْهِ وَاسْتدلَّ على ذَلِك أَيْضا بِأَن الْجمع من غير تَرْتِيب مَعْقُول فَلم يكن بُد من لَفْظَة تفيده فِي اللُّغَة وَلَيْسَ فِي الْأَلْفَاظ مَا تفيده إِلَّا الْوَاو وَلَيْسَ يجوز أَن

تكون لَفْظَة مَعَ هِيَ الَّتِي تفِيد ذَلِك لِأَن لَفْظَة مَعَ تفِيد الاشراك فِي زمَان وَاحِد وَالَّذِي يجب أَن يكون فِي اللُّغَة هُوَ لَفْظَة لَا تفِيد إِلَّا الاشراك فَقَط وَلقَائِل أَن يَقُول فِي اللُّغَة مَا يُفِيد ذَلِك غير الْوَاو وَهُوَ قَول الْقَائِل رَأَيْت زيدا رَأَيْت عمرا وَإِن احْتج الذاهبون إِلَى التَّرْتِيب بِأَن الانسان إِذا قَالَ رَأَيْت زيدا وعمرا علمنَا أَنه لَوْلَا أَنه راى زيدا قبله لما بَدَأَ بِهِ قيل لَهُ فاذا التَّرْتِيب اسْتُفِيدَ من الْبِدَايَة بزيد لَا من أجل الْوَاو وَيلْزم على ذَلِك أَن يُسْتَفَاد التنرتيب من قَول الْقَائِل رايت زيدا رَأَيْت عمرا وعَلى أَنه يجوز أَن يكون إِنَّمَا بَدَأَ بزيد لِأَنَّهُ أَرَادَ الْإِخْبَار عَنهُ فَقَط ثمَّ بدا لَهُ فِي الْإِخْبَار عَن عَمْرو وَيجوز أَن يكون بَدَأَ بِهِ بمحبته لَهُ أَو لِأَن اهتمامه بالإخبار عَنهُ أَشد من الاهتمام بالاخبار عَن عَمْرو أَو لِأَن غَرَضه فِي الْإِخْبَار عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا على السوَاء فَكَانَ الْبِدَايَة بِأَحَدِهِمَا كالبداية بِالْآخرِ فَبَدَأَ بِمَا اتّفق مِنْهُمَا

الكلام في الأوامر

الْكَلَام فِي الْأَوَامِر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فُصُول الْأَمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن صِيغَة الْأَمر لما وضع لَهَا اسْم يفيدها وَوضعت هِيَ لفائدة وَيجوز أَن تكون مُطلقَة وَيجوز أَن تكون مُقَيّدَة بِشَرْط أَو صفة وَلها أَمْثَال يجوز أَن تَتَكَرَّر وَهِي أَيْضا من جملَة الْأَفْعَال يجوز أَن تحسن وتقبح وَجب لذَلِك أَن يَقع الْكَلَام فِي الْأَمر من هَذِه الْوُجُوه أما الأول فبأن نَنْظُر هَل اسْم الْأَمر يُفِيد على طَرِيق الْحَقِيقَة صِيغَة الْأَمر فَقَط أَو يُفِيد غَيرهَا أَيْضا على طَرِيق الْحَقِيقَة ونبين أَن اسْم الْأَمر إِذا وَقع على الصِّيغَة مَا الَّذِي يُفِيد فيهمَا وَأما الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ فَائِدَة الْأَمر فانه لما كَانَ الْأَمر هُوَ بعث من آمُر لمأمور على إِيقَاع فعل فِي زمَان وَجب أَن نَنْظُر فِي فَائِدَته فِي هَذِه الْأَشْيَاء كلهَا فَنَنْظُر فِي فَائِدَته فِي الْفِعْل الَّذِي هُوَ بعث عَلَيْهِ وَفِيمَا يتبع ذَلِك الْفِعْل أما نَظرنَا فِي فَائِدَته من الْفِعْل فَمن وُجُوه مِنْهَا أَن نَنْظُر هَل فَائِدَته فِي الْفِعْل وَاحِدَة أَو أَكثر وَإِن كَانَت وَاحِدَة فَهَل هِيَ وجوب الْفِعْل أم لَا وَإِن أَفَادَ وجوب الْفِعْل فَهَل يُفِيد وُجُوبه وَإِن تقدمه حظر الْفِعْل ام لَا وَلما كَانَ الْأَمر قد يتَعَلَّق بِالْفِعْلِ وبالأفعال الْكَثِيرَة على التَّخْيِير نَظرنَا هَل إِذا تعلق بِأَفْعَال على الْبَدَل أَفَادَ الْوُجُوب فِيهَا على الْبَدَل أم لَا وَلَيْسَ يَلِيق هَذَا

الْبَاب بِأَبْوَاب الْعُمُوم لِأَن أحدا لَا يَقُول إِن الْأَمر يَقْتَضِي وجوب جَمِيع تِلْكَ الْأَفْعَال على الْجمع وَنَنْظُر أَيْضا هَل يَقْتَضِي الْأَمر إِجْرَاء الْفِعْل أم لَا وَأما النّظر فِي فَائِدَته فِيمَا يتبع الْفِعْل فبأن نَنْظُر هَل يَقْتَضِي وجوب مَا لَا يتم الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا مَعَه أم لَا وَهل يَقْتَضِي قبح أضداد الْمَأْمُور بِهِ أم لَا وَأما النّظر فِي فَائِدَته فِي الْوَقْت فان الْأَمر إِمَّا أَن يكون مُقَيّدا بِوَقْت مَحْدُود وَإِمَّا أَن لَا يكون مُقَيّدا بِوَقْت فَيجب أَن نَنْظُر فييما لَيْسَ بمقيد هَل يَقْتَضِي التّكْرَار أم لَا وَفِيمَا هُوَ مَشْرُوط بِشَرْط يتَكَرَّر هَل يَقْتَضِي التّكْرَار بتكرار الشَّرْط أم لَا وَإِن لم يفد مُطلقَة التّكْرَار هَل يجب تَقْدِيم فعل الْمرة أم لَا وَهل إِذا لم يقدمهَا الْمُكَلف اقْتضى الْأَمر فعلهَا فِيمَا بعد أم لَا وَإِن كَانَ الْأَمر مُقَيّدا بِوَقْت مَحْدُود لَهُ أول وَآخر نَظرنَا هَل يُوجب الْأَمر الْفِعْل فِي جَمِيعه على الْبَدَل أَو يُوجب تَقْدِيمه فِي أَوله أَو يُوجب تَأْخِيره إِلَى آخِره وَهل إِذا عصى الْمُكَلف الْمَأْمُور بِهِ اقْتضى الْأَمر فعله بعده أم لَا وَأما النّظر فِي فَائِدَته الملتحقة بالآمر فبأن نَنْظُر هَل يدْخل فَاعل الْأَمر فِي الْأَمر أم لَا وَأما النّظر فِي فَائِدَته فِيمَا يرجع إِلَى الْمَأْمُور فبأن نَنْظُر هَل يدْخل الْكَافِر وَالْمَرْأَة وَالْعَبْد وَالصَّبِيّ فِي مطلقه أم لَا وَإِذا تنَاول جمَاعَة وَكَانَ بَعضهم يقوم مقَام بعض فِي ذَلِك الْفِعْل هَل يُفِيد الْإِيجَاب على جَمِيعهم على الْبَدَل أم لَا غير أَن الْكَلَام فِي دُخُول الْكَافِر وَالْمَرْأَة وَالْعَبْد وَالصَّبِيّ يَلِيق بِأَبْوَاب الْعُمُوم وَالْخُصُوص لِأَنَّهُ كَلَام فِي شُمُول الْخطاب لَهُم وَنفي شُمُوله لَهُم وَمن يَقُول إِنَّهُم يدْخلُونَ تَحت الْخطاب يَقُول ذَلِك لِأَن لفظ الْعُمُوم يشملهم وَمن قَالَ لَا يدْخلُونَ فِيهِ أَو بَعضهم يَقُول إِن فقد تمكنهم من الْفِعْل يخرجهم عَن الْخطاب وَأما الْكَلَام فِي الْوَجْه الثَّالِث وَهُوَ الْأَمر الْمُفِيد بِشَرْط وَصفَة فَنَنْظُر فِيهِ هَل

يجوز أَن يُؤمر الانسان بِشَرْط زَوَال الْمَنْع وَنَنْظُر أَيْضا هَل إِذا كَانَ الايجاب مُعَلّقا بِشَرْط أَو صفة أَو غَايَة فَمَا عدا ذَلِك ينتفى عَنهُ الايجاب أم لَا يلْزم ذَلِك وَأما الْكَلَام فِي الْوَجْه الرَّابِع وَهُوَ تكْرَار الْأَمر فبأن نَنْظُر إِذا تكَرر بِحرف عطف أَو بِغَيْر حرف عطف هَل تَتَكَرَّر فَائِدَته أم لَا وَأما الْوَجْه الْخَامِس فَإنَّا نَنْظُر فِي شَرَائِط حسن الْأَمر وَنحن بمعونة الله نأتي على الْكَلَام فِي هَذِه الْأَبْوَاب على النسق إِن شَاءَ الله عز وَجل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يَقع عَلَيْهِ قَوْلنَا أَمر على سَبِيل الْحَقِيقَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه لَا شُبْهَة فِي أَن قَوْلنَا أَمر يَقع على جِهَة الْحَقِيقَة على القَوْل الْمَخْصُوص وَذَلِكَ غير مفتقر إِلَى دلَالَة وَاخْتلفُوا فِي وُقُوعه على الْفِعْل فَقَالَ أَكثر النَّاس إِنَّه يَقع عَلَيْهِ على سَبِيل الْمجَاز وَقَالَت طَائِفَة من أَصْحَاب الشَّافِعِي إِنَّه يَقع عَلَيْهِ على سَبِيل الْحَقِيقَة وَقَالَت لذَلِك إِن أَفعَال النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام على الْوُجُوب لِأَنَّهَا دَاخِلَة تَحت قَول الله سُبْحَانَهُ {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} وَأَنا أذهب إِلَى أَن قَول الْقَائِل أَمر مُشْتَرك بَين الشَّيْء وَالصّفة وَبَين جملَة الشَّأْن والطرائق وَبَين القَوْل الْمَخْصُوص يبين ذَلِك أَن الانسان إِذا قَالَ هَذَا أَمر لم يدر السَّامع أَي هَذِه الْأُمُور أَرَادَ كَمَا أَنه إِذا قَالَ إِدْرَاك لم يدر مَا الَّذِي أَرَادَ من الرُّؤْيَة واللحوق فاذا قَالَ هَذَا أَمر بِالْفِعْلِ أَو قَالَ أَمر فلَان مُسْتَقِيم أَو قَالَ قد تحرّك هَذَا الْجِسْم لأمر من الْأُمُور وجاءنا زيد لأمر من الامور عقل السَّامع من الأول القَوْل

الْمَخْصُوص وَمن الثَّانِي الشَّأْن وَمن الثَّالِث أَن الْجِسْم تحرّك لصفة من الصِّفَات وَشَيْء من الْأَشْيَاء وَأَن زيدا جَاءَنَا لشَيْء من الْأَشْيَاء أَو غَرَض من الْأَغْرَاض فَبَان أَن قبولنا أَمر مُشْتَرك بَين هَذِه الْأَشْيَاء وَأَنه يتخصص بِوَاحِد وَاحِد مِنْهَا بِحَسب مَا يقْتَرن بِهِ وَالدّلَالَة على أَن قَوْلنَا أَمر لَيْسَ بِحَقِيقَة فِي الْفِعْل أَنه لَو كَانَ حَقِيقَة فِيهِ وَالدّلَالَة على أَن قَوْلنَا أَمر لَيْسَ بِحَقِيقَة فِي الْفِعْل أَنه لَو كَانَ حَقِيقَة فِيهِ لاطرد فَكَانَ يُسمى الْأكل أمرا وَالشرب أمرا كَمَا تقدم فو قَوْلنَا أسود فان قَالُوا أَلَيْسَ قد يُقَال فِي الْأكل الْكثير هَذَا أَمر عَظِيم قيل إِنَّمَا يُقَال فِيهِ ذَلِك من حَيْثُ هُوَ شَيْء أَلا ترى أَنه لَا يُقَال فِي الْفِعْل الْقَلِيل إِنَّه أَمر ونعني بِهِ الْفِعْل وَإِنَّمَا نعني بِهِ أَنه لَا شَيْء من الْأَشْيَاء أَلا ترى أَنه يُقَال فِيهِ أَمر من الامور على حد مَا يُقَال ذَلِك فِيمَا لَيْسَ بِفعل فان قَالُوا إِن اسْم الامر يَقع على جملَة مَا وجد من الْأَفْعَال وَلَا يلْزمنَا أَن يطرد فِي آحادها لأَنا لم نجعله عبارَة عَن آحادها وَالْجَوَاب إِنَّا وَإِنَّمَا تكلمنا على من جعل اسْم الْأَمر عبارَة عَن آحَاد الْأَفْعَال وَهُوَ مذهبكم وَلِهَذَا استدللتم بقول الله سُبْحَانَهُ {وَمَا أمرنَا إِلَّا وَاحِدَة كلمح بالبصر} وَالْمرَاد بذلك عنْدكُمْ كل فعل من أَفعاله فَأَما من قَالَ هُوَ عبارَة عَن جملَة الْأَفْعَال فقد أبعد أَن اسْم الْأَمر يتَنَاوَل جملَة شَأْن الانسان أَفعاله وَغير أَفعاله وَلَا طَرِيق إِلَى الْعلم بَان جملَة الافعال وَحدهَا يَقع عَلَيْهَا هَذَا الِاسْم أَلا ترى أَن قَول الْقَائِل أَمر فلَان مُسْتَقِيم وَهَذَا يدْخل فِيهِ شَأْنه وطرائقه أَفعاله وَغير أَفعاله وَمِمَّا احْتج بِهِ على أَن اسْم الْأَمر لَا يتَنَاوَل الْفِعْل حَقِيقَة هُوَ أَنه لَو تنَاوله على الْحَقِيقَة لوَجَبَ أَن يشتق لفَاعِله مِنْهُ اسْم آمُر وَهَذَا لَا يَصح لِأَنَّهُ قد

بَينا أَنه لَا يجب الِاشْتِقَاق من الْحَقَائِق أَلا ترى أَن قَوْلنَا رَائِحَة يَقع على الرَّائِحَة حَقِيقَة وَلَا يشتق مِنْهُ وَكَذَلِكَ قَوْلنَا لون وَكَذَلِكَ طعم فانه لَيْسَ من أَمارَة الْحَقِيقَة التَّثْنِيَة وَالْجمع لِأَن اسْم الْحمار إِذا وَقع على البليد ثني وَجمع مَعَ أَنه مجَاز فِيهِ وَلَا يلْزمنَا نَحن من وَجه آخر لأَنا إِذا جَعَلْنَاهُ عبارَة عَن شَأْن الانسان وَذَلِكَ يدْخل فِيهِ فعله وَغير فعله لم يجز أَن يشتق مِنْهُ اسْم آمُر لِأَن ذَلِك ينبىء عَن الفعلية يَعْنِي الِاشْتِقَاق وَمِنْهَا أَنه كَانَ يجب أَن يُقَال فِي فَاعل الْفِعْل أَمر بِكَذَا وَأَن يلْزم الْفِعْل الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة كالقول وَهَذَا لَا يَصح لَان للْقَوْم أَن يَقُولُوا نَحن نجعله مُشْتَركا بَين القَوْل الَّذِي يتَعَدَّى فَيُقَال فِيهِ إِنَّه أَمر بِكَذَا وَبَين الْفِعْل الَّذِي لَا يتَعَلَّق بِغَيْرِهِ وَيَتَعَدَّى إِلَيْهِ وَلَا يُقَال فِيهِ أَمر بِكَذَا وَلَا يلْزمه الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة وَهَكَذَا الْجَواب إِن اسْتدلَّ بِهِ علينا فِي وُقُوعه على الشَّأْن وَاحْتج من جعله وَاقعا على الْفِعْل حَقِيقَة بِوُجُوه مِنْهَا قَول الله سُبْحَانَهُ {وَمَا أَمر فِرْعَوْن برشيد} وَالْجَوَاب أَنه لَا يمْتَنع أَن يكون أَرَادَ قَوْله وَلِهَذَا قَالَ {فاتبعوا أَمر فِرْعَوْن} والاتباع إِنَّمَا يكون فِي القَوْل وَمِنْهَا قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَمَا أمرنَا إِلَّا وَاحِدَة كلمح بالبصر} وَالْجَوَاب أَنه لَيْسَ المُرَاد بذلك أَن فعله كلمح بالبصر وَإِنَّمَا المُرَاد بذلك أَن من صَنعته وشأنه أَنه إِذا أَرَادَ شَيْئا وَقع كلمح الْبَصَر فِي السرعة وَمِنْهَا قَوْلهم قد خُولِفَ بَين جمع الْأَمر إِذا أَفَادَ القَوْل وَبَين جمعه إِذا أَفَادَ الْفِعْل فَقيل فِي الأول أوَامِر وَفِي الثَّانِي امور فَدلَّ على أَنه حَقِيقَة فيهمَا وَالْجَوَاب أَنه قد حُكيَ عَن أهل اللُّغَة أَن الْأَمر لَا يجمع

أوَامِر لَا فِي القَوْل وَلَا فِي الْفِعْل وَأَن أوَامِر جمع آمرة وَأَيْضًا فان أَمر وامور يَقع كل وَاحِد مِنْهُمَا موقع الآخر إِن اسْتعْمل فِي الْفِعْل على مَا ذَكرُوهُ وَلَيْسَ أَحدهمَا جمعا للْآخر أَلا ترى أَنه يُقَال أَمر مُسْتَقِيم فيفهم مِنْهُ مَا يفهم من قَوْلنَا اموره مُسْتَقِيمَة وعَلى أَن اخْتِلَاف جمعيهما لَيْسَ بِأَن يدل على أَنه حَقِيقَة فيهمَا بِأولى من أَن يدل على أَنه مجَاز فِي أَحدهمَا وَحَقِيقَة فِي الآخر فان قيل الْجمع أحد أَدِلَّة الْحَقِيقَة وَقد جمع الْأَمر أمورا إِذا اسْتعْمل فِي الْفِعْل كَانَ لمن يسلم لَهُم اسْتِعْمَال اسْم الْأَمر فِي الْفِعْل أَن يُجيب بِالْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلين فَأَما نَحن فَلَا نسلم ذَلِك وَإِنَّمَا نقُول إِنَّه مُسْتَعْمل فِي جملَة شَأْن الانسان وأحواله أَفعاله وَغير أَفعاله وَمِنْهَا قَوْلهم لَو وَقع قَوْلنَا أَمر على الْفِعْل على سَبِيل الْمجَاز لَكَانَ لَهَا مجَازًا إِمَّا بِالزِّيَادَةِ وَإِمَّا بِالنُّقْصَانِ وَإِمَّا بِالنَّقْلِ والتشبيه وَلَيْسَ بَين القَوْل وَالْفِعْل شبه فَعلمنَا أَنه لَيْسَ بمجاز فِيهِ وجوابنا أَن اسْم الْأَمر لَيْسَ يَقع على الْفِعْل من حَيْثُ هُوَ فعل لَا على سَبِيل الْمجَاز وَلَا على سَبِيل الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا يَقع على جملَة الشَّأْن حَقِيقَة وَهُوَ المُرَاد بقول النَّاس امور فلَان مُسْتَقِيمَة فَأَما أَصْحَابنَا فانهم سلمُوا وُقُوع ذَلِك على الْفِعْل وَقَالُوا إِنَّه مجَاز فِيهِ بِزِيَادَة معنوية لِأَن جملَة أَفعَال الانسان لما دخل فِيهَا القَوْل سميت الْجُمْلَة باسم جزئها وَهَذَا لَا يَصح لِأَن الانسان قد يَقُول أَمر فلَان فِي تِجَارَته أَو صِحَّته مُسْتَقِيم وَلَا يدْخل فِي ذَلِك أمره الَّذِي هُوَ القَوْل وَقيل ايضا إِن الْأَفْعَال تشبه الْأَوَامِر فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يدل على سداد أغراض الانسان وَلَا يلْزم أَن يسموا النَّهْي وَالْخَبَر أَمريْن لِأَن الْمجَاز لَا يجب اطراده وَهَذَا لَا يَصح لِأَن القَوْل الْمَخْصُوص إِنَّمَا وَقع عَلَيْهِ اسْم من حَيْثُ كَانَ نعتا مَخْصُوصًا على الْفِعْل فَكَانَ يجب أَن يَقع الشّبَه بَينه وَبَين الْفِعْل من هَذِه الْجِهَة وَإِن لم يشتبها فِي فَائِدَة الِاسْم من كل وَجه يجب أَن يكون المتلفظ باسم الْأَمر إِذا عَنى بِهِ الْفِعْل أَن يَعْنِي بِهِ مَا ذَكرُوهُ من الشّبَه وَمَعْلُوم أَن ذَلِك لَا يخْطر بِبَالِهِ أَلا ترى أَن الرجل إِنَّمَا يجوز اسْم الْأسد فِيهِ من حَيْثُ أشبهه فِي الشجَاعَة الَّتِي هِيَ

مُعظم فَائِدَة قَوْلنَا أَسد وَمن يُسَمِّي الشجاع أسدا فانه يَعْنِي شجاعته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن قَوْلنَا أَمر إِذا وَقع على القَوْل مَا الَّذِي يُفِيد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه يُفِيد امورا ثَلَاثَة أَحدهَا يرجع إِلَى القَوْل فَقَط وَهُوَ أَن يكون على صِيغَة الاستدعاء والطلب للْفِعْل نَحْو قَوْلك لغيرك افْعَل وليفعل والآخران يتعلقان بفاعل الْأَمر أَحدهمَا أَن يكون قَائِلا لغيره افْعَل على طَرِيق الْعُلُوّ لَا على طَرِيق التذلل والخضوع وَالْآخر أَن يكون غَرَضه بقوله افْعَل أَن يفعل الْمَقُول لَهُ ذَلِك الْفِعْل وَذَلِكَ بِأَنَّهُ يُرِيد مِنْهُ الْفِعْل أَو بِأَن يكون الدَّاعِي لَهُ إِلَى قَوْله افْعَل أَن يفعل الْمَقُول لَهُ الْفِعْل وَلَيْسَ يَلِيق الْفَصْل بَين الْمَوْضِعَيْنِ باصول الْفِقْه أما الشَّرْط الأول فَلَا شُبْهَة فِي أَن اسْم الْأَمر يَقع حَقِيقَة على مَا هُوَ من القَوْل بِصِيغَة افْعَل أَو ليفعل فانه لَا يَقع على سَبِيل الْحَقِيقَة على الْخَبَر وَالنَّهْي وَالتَّمَنِّي وَلذَلِك لَا يُقَال لفاعل ذَلِك آمُر وَأما الشَّرْط الثَّانِي فَبين أَيْضا وَهُوَ أولى من ذكر علو الرُّتْبَة لِأَن من قَالَ لغيره افْعَل على سَبِيل التضرع إِلَيْهِ والتذلل لَا يُقَال إِنَّه يَأْمُرهُ وَإِن كَانَ أَعلَى رُتْبَة من الْمَقُول لَهُ وَمن قَالَ لغيره افْعَل على سَبِيل الاستعلاء عَلَيْهِ لَا على سَبِيل التذلل لَهُ يُقَال إِنَّه أَمر لَهُ وَإِن كَانَ أدنى رُتْبَة مِنْهُ وَلِهَذَا يصفونَ من هَذِه سَبيله بِالْجَهْلِ والحمق من حَيْثُ أَمر من هُوَ أَعلَى رُتْبَة مِنْهُ وَأما الشَّرْط الثَّالِث وَهُوَ الارادة فمختلف فِيهِ بالْخبر بِهِ لَا بِشَرْطِهِ لقولها إِن الله يَأْمر بِالطَّاعَةِ وَلَا يريدها وَمن الْفُقَهَاء من يَقُول إِن الْأَمر أَمر لصيغته وَذَلِكَ يُوهم أَنهم يَقُولُونَ إِنَّه اسْتحق الْوَصْف بانه أَمر لصيغته والبغداديون من أَصْحَابنَا يَقُولُونَ إِن الْأَمر أَمر لعَينه وَالْكَلَام فِي هَذِه المسئلة يكون من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن نفرض أَن لِلْأَمْرِ حكما لاختصاصه بِهِ

يكون امرا ونبين أَن الْوَجْه فِي اخْتِصَاصه بذلك الْوَجْه هُوَ الارادة على طَرِيق التَّعْلِيل وَالْوَجْه الآخر أَن لَا يثبت للصيغة حكما يرجع إِلَيْهَا وَنَنْظُر هَل الْمَعْقُول من قَوْلنَا أَمر هُوَ الصِّيغَة وَحدهَا أَو الصِّيغَة مَعَ شَرط آخر هُوَ الارادة وَإِنَّمَا فصلنا بَين الْوَجْهَيْنِ لِأَن كثيرا من النَّاس رُبمَا أَدخل الْكَلَام فِي أَحدهمَا فِي الآخر وَنحن نجري الْكَلَام على الْوَجْه الثَّانِي لفساد الْوَجْه الأول فَنَقُول إِن الْمَعْقُول من قَوْلنَا إِن اللَّفْظَة أَمر هُوَ أَنَّهَا على صِيغَة مَخْصُوصَة مفعولة على وَجه الْعُلُوّ وَأَنَّهَا طلب للْفِعْل وَبعث عَلَيْهِ ولسنا نعقل من هَذِه اللَّفْظَة شَيْئا آخر وَقد تقدم بَيَان القَوْل فِي الرُّتْبَة والصيغة فَأَما كَون الصِّيغَة طلبا فَنحْن نشرع فِي تَفْصِيله فَنَقُول لَيْسَ يَخْلُو إِمَّا أَن تَكْفِي صِيغَة الْأَمر فِي أَن تكون طلبا للْفِعْل من غير أَن يشرط مَعهَا إِثْبَات شَيْء وَلَا نفي شَيْء أَو لَا تَكْفِي فِي ذَلِك فان كفت فِي ذَلِك حَتَّى تكون أمرا على أَي وَجه وجدت عَلَيْهِ لزم أَن يكون التهديد أمرا وَكَلَام الساهي أمرا إِذا كَانَ على صِيغَة افْعَل وَإِن وَجب أَن يشرط فِي كَونهَا طلبا شَرط زَائِدا على صيغتها ووجودها لم يخل إِمَّا إِن يرجع إِلَى الْمَأْمُور أَو الْمَأْمُور بِهِ أَو إِلَى الْأَمر أَو إِلَى مَحل الصِّيغَة وَلَا تعلق لمن عداهم بهَا فيذكر وَلَا يجوز رُجُوعه إِلَى الْمَأْمُور من كَونه مُحدثا وموجودا وقادرا وَغير ذَلِك وَلَا إِلَى الْمَأْمُور بِهِ من كَونه حسنا وواجبا وندبا لِأَن كل ذَلِك يحصل مَعَ التهديد أَلا ترى أَن الانسان يهدد على فعل الْوَاجِب وَالْحسن وَإِن رَجَعَ ذَلِك الشَّرْط إِلَى الْآمِر لم يخل إِمَّا أَن يكون من قبيل النَّفْي أَو من قبيل الْإِثْبَات وَمَا هُوَ من قبيل النَّفْي أَن يُقَال إِن الصّفة كَانَت أمرا لِأَنَّهُ لم يدلنا على أَنه غير أَمر أَو أَنه لم يدلنا على أَنه تهديد أَو إِبَاحَة وَلَا ذمّ كَقَوْل الله سُبْحَانَهُ {قَالَ اخسؤوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} أَو أَنَّهَا وجدت مِنْهُ وَلَيْسَ بكاره للْفِعْل أَو أَنه غير كَارِه للْفِعْل وَلَا ساه عَنهُ وَأكْثر هَذِه الْأَقْسَام يَقُولهَا الْفُقَهَاء

وَأما قَوْلهم إِنَّه لم يدلنا على أَنَّهَا غير أَمر فانه يُقَال لَهُم مَا معنى قَوْلكُم أَمر حَتَّى نعقل الدّلَالَة على إثْبَاته أَو على نَفْيه وَهل مطلوبنا إِلَّا أَن نعقل معنى الْأَمر مَا هُوَ وَأما قَوْلهم إِذا لم يدلنا على أَنَّهَا تهديد أَو إِبَاحَة أَو إرشاد فانه يُقَال لَهُم قد يهدد من لَيْسَ بِحَكِيم غَيره وَلَا يدل على أَن مَا فعله تهديد لضرب من ضروب السَّفه وَلَا تكون الصِّيغَة الَّتِي فعلهَا أمرا وَيُقَال لَهُم أَيْضا إِذا لم يدلنا على ذَلِك فانما نقضي بِأَنَّهَا أَمر لَو كَانَ الْأَمر هُوَ كلما كَانَ على هَذِه الصِّيغَة وَلم يكن إِبَاحَة وَلَا تهديدا وَلَا ذما وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك لِأَن كَلَام الساهي قد خلا من هَذِه الْأَقْسَام وَلَيْسَ بِأَمْر وَلَا طلب للْفِعْل وَلِهَذَا لَا يُسمى أمرا وَلَا طلبا وعَلى أَنه إِنَّمَا يتم مَا ذَكرُوهُ إِذا أعقلونا معنى التهديد حَتَّى يعلم فِي الصِّيغَة إِذا لم يكن تهديدا وَلَا إِبَاحَة أَنَّهَا أَمر فَمَا التهديد فان قَالُوا هُوَ مَا كَانَ على صِيغَة افْعَل مَعَ الْكَرَاهَة للْفِعْل قيل لَهُم وَلم كَانَت الْكَرَاهَة شرطا فِي كَون الصِّيغَة تهديدا ونفيها شرطا فِي كَونهَا أمرا بِأولى من أَن تكون الارادة شرطا فِي كَون الصِّيغَة طلبا ونفيها أَو ضدها شرطا فِي كَونهَا تهديدا فان قَالُوا معنى التهديد هُوَ الصِّيغَة بِشَرْط انْتِفَاء الدّلَالَة على كَونهَا أمرا كَانُوا قد عَلقُوا كَونهَا أمرا بفقد الدّلَالَة على أَنَّهَا تهديد وعلقوا كَونهَا تهديدا بفقد الدّلَالَة على كَونهَا أمرا وَهَذَا محَال فَأَما الْكَلَام بِأَن الصِّيغَة إِنَّمَا كَانَت طلبا وأمرا لِأَن الْمُتَكَلّم بهَا مَا كره الْفِعْل فَإِنَّهُ يلْزم عَلَيْهِ أَن يكون كَلَام الساهي والعابث أمرا وطلبا لِأَنَّهُ غير كَارِه للْفِعْل فَأَما القَوْل بِأَنَّهَا إِنَّمَا يكون طلبا للْفِعْل إِذا كَانَ الْمُتَكَلّم بهَا غير ساه وَلَا كَارِه للْفِعْل وَلم يقْصد بهَا الاباحة والذم والتحدي وَغير ذَلِك فانه يُقَال لَهُم إِذا كَانَ الْمُتَكَلّم غير ساه فَلَا بُد من أَن يكون غَرَضه بإيرادها شَيْئا من الْأَشْيَاء فاذا لم يكن غَرَضه مَا ذكرْتُمْ فَلَا بُد من أَن يكون غَرَضه إِيقَاع الْمَأْمُور بِهِ وَفِي ذَلِك الرُّجُوع إِلَى أَنه لَا بُد من غَرَض وَإِرَادَة فقد تمّ مَا ذَكرْنَاهُ من إِثْبَات غَرَض أَو إِرَادَة وَيجب أَن تكون الصِّيغَة إِنَّمَا كَانَت طلبا من حَيْثُ طابقت هَذَا الْغَرَض لَا من حَيْثُ أَن الْمُتَكَلّم بهَا لَيْسَ بساه لِأَن فقد السَّهْو لَيْسَ باثبات للْفِعْل فَيكون القَوْل بِهِ

طلبا فان قَالُوا إِنَّمَا نعني بقولنَا إِن الامر كَانَ أمرا لصيغته إِذا تجردت أَي أَنَّهَا إِذا جَاءَت متجردة من حَكِيم اكتفينا بذلك فِي الحكم عَلَيْهَا بِأَنَّهَا أَمر وَإِنَّمَا يحْتَاج فِي أَن الْمُتَكَلّم استعملها فِي غير الْأَمر إِلَى دلَالَة قيل لَهُم فَهَذَا مَوضِع وفَاق وَلَيْسَ هُوَ مطلوبنا وَإِنَّمَا مطلوبنا مَا الَّذِي يفِيدهُ قَوْلنَا أَمر فِيهَا فأحدها مفارق للْآخر فَأَما مَا يرجع إِلَى الْآمِر فَمَا هُوَ إِثْبَات فَالَّذِي يجوز أَن يكون شرطا فِي ذَلِك علوه وَقدرته وإرادته وكراهاته وَلَيْسَ يجوز أَن تكون الشُّرُوط فِي كَون الصِّيغَة طلبا للْفِعْل قدرَة فاعلها عَلَيْهَا أَو علمه بهَا وبحسنها أم بِحسن الْفِعْل أَو وُجُوبه لِأَنَّهُ مَعَ ذَلِك قد تكون الصِّيغَة تهديدا وَلَا يجوز أَن تكون إِنَّمَا كَانَت الصِّيغَة أمرا وطلبا لِأَن الْفَاعِل لَهَا جعلهَا بقدرته أمرا وطلبا لِأَنَّهُ تكلمنا مَعَ بطلَان القَوْل بِأَن لِلْأَمْرِ حكما وَصفَة فَلَا يُمكن أَن يُقَال إِن الْقَادِر جعل الْأَمر على ذَلِك الحكم وَلِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَن يعرفنا مَا معنى كَونهَا أمرا فانا عَنهُ نبحث وَبِهَذَا يبطل القَوْل بِأَنَّهَا صَارَت أمرا لِأَنَّهُ علمهَا أمرا وَلِأَن الشَّيْء لَا يكون على مَا هُوَ عَلَيْهِ بِالْعلمِ بل يَنْبَغِي أَن يكون على مَا هُوَ عَلَيْهِ حَتَّى يَصح أَن يتَنَاوَلهُ الْعلم على أَن المهدد قد علم كَون الْأَمر أمرا وَلَا يكون مَا يَفْعَله من صِيغَة التهديد أمرا وَلَيْسَ يجوز أَن تكون الصِّيغَة طلبا وأمرا لِأَن فاعلها كره الْفِعْل لِأَنَّهُ كَانَ يجب كَون المهدد آمرا وَلَا يجوز أَن يكون شَرط كَونهَا أمرا مَا يرجع إِلَى الْمحل لأَنا نعلقها طلبا وأمرا من غير أَن يخْطر ببالنا لون الْمحل وطعمه وَغير ذَلِك لِأَن مَا يرجع إِلَى الْمحل قد يثبت والصيغة تَارَة أمرا وَتارَة تهديدا فَيثبت أَنه إِنَّمَا كَانَ طلبا وأمرا لإرادته وَلَا تَخْلُو إِرَادَته إِمَّا أَن تتَعَلَّق بالمأمور بِهِ وَهُوَ قَول اصحابنا وَلَا يجوز أَن يكون شَرط كَونهَا طلبا إِرَادَة إحداثها لِأَن هَذَا حَاصِل فِي التهديد وَلَا يُمكن أَن يُقَال إِرَادَة إحداثها أمرا لأَنا عَن مَاهِيَّة كَونهَا أمرا نبحث فَيجب أَن نعقله حَتَّى نعقل تعلق الْإِرَادَة بِهِ فان قَالُوا أَلَيْسَ يَقُول شيوخكم إِن الْخَبَر إِنَّمَا يكون خَبرا لارادة كَونه خَبرا فَمَا أنكرتم من مثله فِي الْأَمر قيل إِن إِرَادَة كَونه خَبرا معقولة وَهُوَ أَن يُرِيد

الْمُتَكَلّم بِهِ إِخْبَار زيد وإعلامه مَا تضمنه الْخَبَر فقد أعقلنا معنى إِرَادَته لكَونه خَبرا فَيَنْبَغِي أَن يعقلوا بالارادة لكَون الصِّيغَة أمرا وَقد أفسد ذَلِك أَيْضا بِأَنَّهُ كَانَ يجب أَن تكون الصِّيغَة أمرا إِذا أَرَادَ فاعلها أَن يكون أمرا وَإِن كره الْمَأْمُور بِهِ وَذَلِكَ بَاطِل بالتهديد وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا لم يكن التهديد أمرا لِأَن الْمُتَكَلّم بِهِ مَا أَرَادَ كَونه أمرا أَو يَسْتَحِيل من جِهَة الدَّاعِي أَن يُرِيد كَونه أمرا وَيكرهُ الْمَأْمُور بِهِ وَقيل أَيْضا كَانَ يَنْبَغِي جَوَاز تعلق الْأَمر بالماضي كالخبر إِذا كَانَ إِرَادَة إِحْدَاث الْمَأْمُور بِهِ لَيْسَ من شَرطه وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الْأَمر تَكْلِيف وَلَا يجوز تَكْلِيف الْمَاضِي وَالْجَوَاب أَنه إِن لم يجب أَن يكون الْغَرَض بِهِ إِيقَاع الْفِعْل فَلَيْسَ بِوَاجِب أَن يكون تكليفا وَكَانَ يَنْبَغِي صِحَة تعلقه بالإحداث وَبِغير الإحداث كالخبر وَيكون مَا تعلق مِنْهُ بِغَيْر الاحداث قبيحا فصح أَن صِيغَة الْأَمر إِنَّمَا تكون طلبا بِشَرْط أَن يكون الْغَرَض بهَا وُقُوع الْمَأْمُور بِهِ وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء مِنْهَا أَنه لَو كَانَ الْأَمر إِنَّمَا يكون أمرا إِذا أَرَادَ الْآمِر الْفِعْل لما جَازَ أَن يسْتَدلّ بِالْأَمر على الارادة لِأَنَّهُ لَا يعلم أمرا قبل الارادة وَالْجَوَاب أَنا لَا نستدل على الارادة بِالْأَمر من حَيْثُ كَانَ أمرا بل من حَيْثُ إِنَّه على صِيغَة افْعَل وَقد تجرد لِأَن عِنْد أَصْحَابنَا أَن هَذِه الصِّيغَة مَوْضُوعَة للإرادة وَكَلَام الْحَكِيم يجب حمله على مَوْضُوعه إِذا تجرد وَعِنْدنَا أَن هَذِه الصِّيغَة جعلت فِي اللُّغَة طلبا للْفِعْل فَإِذا بَان لنا أَنه لَا معنى لكَونهَا طلبا للْفِعْل إِلَّا أَن الْمُتَكَلّم بهَا قد أَرَادَ الْفِعْل وَأَنه هُوَ غَرَضه علمنَا بذلك الارادة عِنْد علمنَا بالصيغة وَمِنْهَا قَوْلهم إِن اهل اللُّغَة قَالُوا إِن الْأَمر هُوَ قَول الْقَائِل افْعَل مَعَ الرُّتْبَة وَلم يشرطوا الارادة مَعَ انهم شرطُوا الرُّتْبَة فَلَو كَانَت الارادة شرطا لذكروها أَيْضا فَجرى ذَلِك مجْرى كَون الْأسد مُسَمّى بِأَنَّهُ أَسد فِي أَنه لَا يشرط فِيهِ الارادة وَالْجَوَاب أَنه يجوز أَن يَكُونُوا لم يشرطوا الارادة لظهورها

وَأَيْضًا فانهم لم يشرطوا انْتِفَاء الْقَرَائِن والمخالف يشرط انتفائها وَأَيْضًا فانهم لم يشرطوا انْتِفَاء الْقَرَائِن والمخالف يشرط انتفائها وَأَيْضًا فانهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن الْأَمر هُوَ طلب الْفِعْل وَالْقَوْل من بعد فِي أَن الطّلب لَا يكون إِلَّا مَعَ الارادة وَهُوَ تَفْصِيل بِحمْلِهِ وَطَرِيقَة الْعقل لِأَنَّهُ كَلَام فِي الْمَعْقُول من معنى الطّلب وَلَيْسَ يرجع إِلَى اللُّغَة فِي الْمَعْقُول من الْأُمُور وَأما قَوْلهم إِن اسْم الْأسد لَا يعْتَبر فِي كَونه اسْما للإرادة فان أَرَادوا بِهِ أَن الْوَاضِع لهَذَا الِاسْم وَضعه للاسد فَصَارَ اسْما لَهُ من دون أَن يُرِيد أَن نُسَمِّيه بذلك فَذَلِك بَاطِل بل نعلم انه قد أَرَادَ ذَلِك وَإِن أَرَادوا أَنا نَحن نَكُون مستعملين لاسم الْأسد فِي الْأسد من دون أَن نُرِيد ذَلِك فَبَاطِل أَيْضا لِأَنَّهُ لَا بُد من أَن نُرِيد ذَلِك وَإِن أَرَادوا أَنه لَا يكون اسْما لَهُ فِي أصل الْوَضع بِأَن نُرِيد نَحن بِأَن يكون مَوْضُوعا لَهُ فَصَحِيح لِأَن وضع الْوَاضِع الْأَسْمَاء للمعاني لَا يقف على إرادتنا وَلذَلِك لَا يكون الْأَمر وَاقعا على الصِّيغَة فِي أصل الْوَضع بارادتنا على ان ذَلِك خَارج عَمَّا نَحن بسبيله لِأَن الَّذِي نَحن بسبيله هُوَ هَل صِيغَة الْأَمر تسْتَحقّ الْوَصْف بِأَنَّهَا أَمر وَإِن لم يكن قد أَرَادَ بهَا الْفِعْل أم لَا فبوزن هَذَا أَن يُقَال إِن جسم الْأسد يسْتَحق أَن يُوصف بِأَنَّهُ أَسد وَإِن لم تقصد بجسمه كثيرا من الْأَشْيَاء وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الانسان قد يَأْمر عَبده بِالْفِعْلِ وَهُوَ يكرههُ مِنْهُ إِذا كَانَ قَصده أَن يعرف أصدقاءه عصيانه فَبَان أَن الصِّيغَة تكون امرا من دون إِرَادَة وَالْجَوَاب أَنا لَا نسلم أَنه أَمر كَمَا لَا نسلم أَنه طَالب مِنْهُ الْفِعْل فِي نَفسه وَإِنَّمَا يُقَال إِنَّه موهم للغلام أَنه طَالب مِنْهُ الْفِعْل وآمر لَهُ بِهِ وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الله سُبْحَانَهُ قد أَمر أهل الْجنَّة بقوله {كلوا وَاشْرَبُوا} وَلم يرد ذَلِك مِنْهُم وَالْجَوَاب أَن أَصْحَابنَا يَقُولُونَ قد أَرَادَ ذَلِك مِنْهُم لِأَن فِي علمهمْ بارادته ذَلِك مِنْهُم زِيَادَة مَسَرَّة وَلَا يمْتَنع أَن يكون ذَلِك

إطلاقا وَلَيْسَ بِأَمْر كَمَا أَن قَوْله لأهل النَّار {اخسؤوا} وَلَيْسَ بِأَمْر كَمَا نقُول لمن نذمه اخْسَأْ وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الله أَمر إِبْرَاهِيم بِذبح إِسْمَاعِيل وَمَا أَرَادَ من الذّبْح فقد وصفت صِيغَة الْأَمر بِأَنَّهَا أَمر مَعَ أَن فاعلها لم يرد الْفِعْل وَالْجَوَاب أَن مَا أَمر بِهِ قد أَرَادَهُ وَالَّذِي أَمر بِهِ هُوَ مُقَدمَات الذّبْح كالاضجاع وَأخذ المدية أَو أمره بِالذبْحِ نَفسه وَقد فعله إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لَكِن الله سُبْحَانَهُ كَانَ يلحم مَا يفريه إِبْرَاهِيم شَيْئا فَشَيْئًا هَذَا إِن ثَبت أَن إِبْرَاهِيم كَانَ قد رأى فِي الْمَنَام صِيغَة الْأَمر وَقَول إِسْمَاعِيل {افْعَل مَا تُؤمر} يحْتَمل مَا يُؤمر فِي الْمُسْتَقْبل فإد ثَبت ذَلِك حددنا الْأَمر بِأَنَّهُ قَول يَقْتَضِي استدعاء الْفِعْل بِنَفسِهِ لَا على حجَّة التذلل وَقد دخل فِي ذَلِك قَوْلنَا افْعَل وَقَوْلنَا ليفعل وَلَا يلْزم عَلَيْهِ أَن يكون الْخَبَر عَن الْوُجُوب أمرا لِأَنَّهُ لَيْسَ يَسْتَدْعِي الْفِعْل بِنَفسِهِ لَكِن بِوَاسِطَة تصريحه بالايجاب وَكَذَلِكَ قَول الْقَائِل أُرِيد مِنْك أَن تفعل هُوَ يَقْتَضِي بِنَفسِهِ إِثْبَات إِرَادَته للْفِعْل وبتوسطها يَقْتَضِي الْبَعْث على الْفِعْل وَكَذَلِكَ النَّهْي عَن جَمِيع أضداد الشَّيْء لَيْسَ يَسْتَدْعِي فعل ذَلِك الشَّيْء بِنَفسِهِ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي ذَلِك بتوسط اقتضائه قبح تِلْكَ الأضداد واستحالة انفكاك الْمُكَلف مِنْهَا إِلَّا إِلَى ذَلِك الشَّيْء وَقد دخل فِي قَوْلنَا يَقْتَضِي استدعاء الْفِعْل الارادة وَالْغَرَض لأَنا قد بَينا أَنَّهُمَا داخلان فِي الاستدعاء والطلب وَالله أعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن قَوْلنَا افْعَل لَيْسَ بمشترك على سَبِيل الْحَقِيقَة بَين فائدتين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن من الذاهبين إِلَى أَن لفظ الْعُمُوم مُشْتَرك بَين الِاسْتِغْرَاق وَالْبَعْض من جعل لَفْظَة افْعَل مُشْتَركَة بَين استدعاء الْفِعْل وَبَين التهديد الَّذِي هُوَ

استدعاء لترك الْفِعْل وَبَين الاباحة وَبَين اقْتِضَاء الايجاب وَبَين اقْتِضَاء النّدب جعلوها حَقِيقَة فِي كل ذَلِك وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قَول الْقَائِل لَا تفعل إِنَّه مُشْتَرك بَين النَّهْي وَبَين التهديد على التّرْك وَعند جُمْهُور النَّاس أَن لَفْظَة افْعَل حَقِيقَتهَا فِي الطّلب وَالْأَمر ومجازها فِي غَيره وَأَن لَفْظَة لَا تفعل حَقِيقَة فِي النَّهْي مجَاز فِي غَيره وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنه لَو كَانَ قَول الْقَائِل لغيره افْعَل حَقِيقَة فِي أَن يفعل وَحَقِيقَة فِي التهديد الْمُقْتَضِي أَن لَا يفعل لَكَانَ اقتضاؤه لكل وَاحِد من هذَيْن على سَوَاء لَا تَرْجِيح لأَحَدهمَا على الآخر وَلَو كَانَ كَذَلِك لما سبق إِلَى أفها منا عِنْد سماعهَا من دون قرينَة أَن الْمُتَكَلّم بهَا يطْلب الْفِعْل وَيَدْعُو إِلَيْهِ كَمَا أَنه لما كَانَ اسْم اللَّوْن مُشْتَركا بَين السوَاد وَالْبَيَاض لم يسْبق عِنْد سَماع هَذِه اللَّفْظَة من دون قرينَة السوَاد دون الْبيَاض وَمَعْلُوم أَنا إِذا سمعنَا قَائِلا يَقُول لغيره افْعَل وَعلمنَا تجرد هَذَا القَوْل عَن كل قرينَة فان الأسبق إِلَى أفهامنا أَنه طَالب للْفِعْل لَا مَانع مِنْهُ كَمَا أَنا إِذا سمعناه يَقُول رَأَيْت حمارا فانه يسْبق إِلَى أفهامنا الْبَهِيمَة دون الأبله وَأَيْضًا فان قَوْلنَا افْعَل فِي أَنه فِي معنى الاثبات جَار مجْرى قَوْلنَا زيد فَاعل فَكَمَا أَن قَوْلنَا زيد فَاعل حَقِيقَة فِي كَونه فَاعِلا وَإِن جَازَ ان يسْتَعْمل على انه غير فَاعل لِأَن الانسان قد يَقُول زيد فَاعل على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء أَي أَنه على الضِّدّ من هَذِه الْحَال فَكَذَلِك قَوْلنَا افْعَل يجب كَونه حَقِيقَة إِذا طلب بِهِ الْفِعْل وَلَا يكون حَقِيقَة فِي نفي الْفِعْل كَمَا لم يكن قَوْلنَا زيد فَاعل حَقِيقَة فِي نفي كَونه فَاعِلا إِذْ كل وَاحِد مِنْهُمَا إِثْبَات وَنحن نستوفي الْكَلَام فِي شبههم عِنْد الْكَلَام فِي الْعُمُوم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن لَفْظَة افْعَل تَقْتَضِي الْوُجُوب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَذهب الْفُقَهَاء وَجَمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين وَأحد قولي أبي عَليّ إِلَى أَنَّهَا حَقِيقَة فِي الْوُجُوب وَقَالَ قوم إِنَّهَا حَقِيقَة فِي النّدب وَقَالَ

آخَرُونَ إِنَّهَا حَقِيقَة فِي الاباحة وَقَالَ أَبُو هَاشم إِنَّهَا تَقْتَضِي الارادة فَإِذا قَالَ الْقَائِل لغيره افْعَل أَفَادَ ذَلِك أَنه مُرِيد مِنْهُ الْفِعْل فان كَانَ الْقَائِل لغيره افْعَل حكيما وَجب كَون الْفِعْل على صفة زَائِدَة على حَسَنَة يسْتَحق لأَجلهَا الْمَدْح إِذا كَانَ الْمَقُول لَهُ فِي دَار التَّكْلِيف وَجَاز أَن يكون وَاجِبا وَجَاز أَن لَا يكون وَاجِبا بل يكون ندبا فَإِذا لم يدل الدّلَالَة على وجوب الْفِعْل وَجب نَفْيه والاقتصار على المتحقق وَهُوَ كَون الْفِعْل ندبا يسْتَحق فَاعله الْمَدْح وَالدَّلِيل على أَن لَفْظَة افْعَل حَقِيقَة فِي الْوُجُوب أَنَّهَا تَقْتَضِي أَن يفعل الْمَأْمُور الْفِعْل لَا محَالة وَهَذَا هُوَ معنى الْوُجُوب فان قيل لم زعمتم أَولا ان قَول الْقَائِل افْعَل يَقْتَضِي أَن يفعل وَمَا أنكرتم أَنه يَقْتَضِي الارادة قيل لَيْسَ يَخْلُو من قَالَ إِنَّه يُفِيد الارادة إِمَّا أَن يُرِيد بذلك أَنه يَقْتَضِي أَن يفعل الْمَأْمُور الْفِعْل وَمن حَيْثُ كَانَ طلبا لَهُ وبعثا عَلَيْهِ يدل على الارادة من حَيْثُ كَانَ الْحَكِيم لَا يبْعَث على مَا لَا يُريدهُ بل يكرههُ وَإِمَّا أَن يُرِيد أَنه مَوْضُوع للإرادة كَمَا أَن قَول الْقَائِل لغيره أُرِيد مِنْك أَن تفعل مَوْضُوع للارادة ابْتِدَاء فان قَالَ بِالْأولِ فَهُوَ قَوْلنَا لِأَنَّهُ قد سلم أَنه مَوْضُوع لِأَن يفعل الْمَأْمُور الْفِعْل وَقَالَ إِنَّه يَقْتَضِي الارادة تبعا لذَلِك وَهَذَا مَذْهَبنَا وَإِن أَرَادَ الثَّانِي بَطل من وُجُوه مِنْهَا أَن فِي صَرِيح قَوْلنَا افْعَل ذكر للفعلية وَلَيْسَ فِي صَرِيحه ذكر للارادة فَلم يجز كَونه مَوْضُوعا للارادة غير مَوْضُوع لِأَن يفعل كَمَا أَن قَوْلنَا زيد فَاعل مَوْضُوع لكَونه فَاعِلا وَلَيْسَ بموضوع لإِرَادَة الاخبار عَن ذَلِك وَقد قيل إِنَّه مَوْضُوع لارادة الاخبار عَن ذَلِك وَهَذَا بَاطِل لِأَنَّهُ إِن كَانَ مَوْضُوعا لارادة الاخبار عَنهُ فَمَا الاخبار عَن ذَلِك إِن لم يكن قَوْلنَا زيد فَاعل إِخْبَارًا عَنهُ وَمِنْهَا أَنه إِن كَانَ قَوْلنَا افْعَل مَوْضُوعا ابْتِدَاء للإرادة وَجب أَن يكون خَبرا عَنْهَا وَفِي ذَلِك دُخُول الصدْق وَالْكذب فِيهِ حَتَّى يحسن أَن يصدق من قَالَ

ذَلِك أَو يكذبهُ كَمَا يحسن أَن يُقَال ذَلِك لمن قَالَ لغيره أُرِيد أَن تفعل إِذا كَانَت اللَّفْظَة قد وضعت ابْتِدَاء لحُصُول هَذِه الصّفة وَلَا يلْزمنَا دُخُول الصدْق وَالْكذب على التَّمَنِّي والنداء أما التَّمَنِّي فُلَانُهُ لَيْسَ بِخَبَر على الْحَقِيقَة لِأَنَّهُ غير مَوْضُوع لكَون التَّمَنِّي متحسرا كَمَا وضع لَهُ قَول الْقَائِل أَنا متحسر ومتأسف على كَذَا وَكَذَا وَإِنَّمَا يُفِيد ذَلِك من حَيْثُ علمنَا أَن الدَّاعِي للانسان إِلَى ان يَقُول لَيْت كَانَ زيد عندنَا هُوَ كَونه متأسفا على فَوَات كَونه عِنْده وَأما النداء فَهُوَ أَن قَوْلنَا يَا زيد إِنَّمَا يُفِيد إِذا أضمر فِيهِ معنى الْأَمر على مَا تقدم والصدق وَالْكذب لَا يدخلَانِ الْأَمر ول كَانَ مَعْنَاهُ انادي زيدا لما دخله الصدْق وَالْكذب لِأَن ذَلِك مُضْمر غير مظهر ومنهاأنه لَو كَانَ قَوْلنَا إفعل مَوْضُوعا للارادة لاحتجنا إِلَى أَن نُرِيد تَعْلِيق ذَلِك بالارادة كَمَا أَن قَوْلنَا أُرِيد مِنْك أَن تفعل لَا يتَعَلَّق عِنْد أَصْحَابنَا بِكَوْنِهِ مرِيدا إِلَّا أَن نُرِيد ذَلِك فان قَالُوا إِن قَوْلكُم إِن لَفْظَة افْعَل تَقْتَضِي أَن يفعل لَا يتَصَوَّر إِلَّا على ان يكون إِخْبَارًا عَن أَنه سيفعل أَو يُفِيد إِرَادَة الْفِعْل قيل لَهُم هَذَا كَلَام من لَا يتَصَوَّر فِي أَقسَام الْكَلَام إِلَّا الْخَبَر وَنحن قد بَينا أَن الْأَمر قسم من أَقسَام الْكَلَام غير الْخَبَر لَا يدْخلهُ الصدْق وَالْكذب وَقد بَين أهل اللُّغَة ذَلِك وَإِذا رَجعْنَا إِلَى أَنْفُسنَا عقلنا فرق مَا بَين طلب الشَّيْء والإعلام عَنهُ والإخبار وَأَنه قد يكون لنا غَرَض فِي طلب الشَّيْء من الْغَيْر وَيكون لنا غَرَض فِي أَن نعلم الْغَيْر بِهِ فَلم يمْتَنع أَن يضع أهل اللُّغَة لفظتين بِحَسب هذَيْن الغرضين وَيكون كل وَاحِدَة من اللفظتين وصلَة إِلَى ذَلِك الْغَرَض وَلَا يكون إِخْبَارًا عَنهُ أَلا ترى أَن الْخَبَر وَهُوَ قَوْلنَا زيد فِي الدَّار لَيْسَ هُوَ إِخْبَارًا عَن إرادتنا الْإِخْبَار عَن كَونه فِي الدَّار بل هُوَ وصلَة إِلَى بُلُوغ غرضنا من إِعْلَام غَيرنَا كَون زيد فِي الدَّار فَكَذَلِك قَوْلنَا افْعَل هُوَ وصلَة إِلَى غرضنا من طلب الْفِعْل من غَيرنَا وَلَيْسَ هُوَ إِخْبَار عَن غرضنا وَأَيْضًا فَكيف عقلتم تعلق الارادة بِالْفِعْلِ أَن

يحدث فقلتم إِن لَفْظَة افْعَل مَوْضُوعَة لارادة أَن يفعل وَلم يعقلوا قَوْلنَا إِنَّهَا مَوْضُوعَة لِأَن نَفْعل اعقلوا عَنَّا فِي الصِّيغَة مَا عقلتموه عَن أَنفسكُم فِي الارادة فان قَالُوا إِرَادَة أَن يفعل مَعْنَاهُ أَنَّهَا إِرَادَة للحدوث فَقولُوا إِن الْأَمر مُتَعَلق بالحدوث قيل كَذَلِك نقُول إِن الْأَمر طلب للحدوث وَلَيْسَ من مذهبكم أَن الارادة مُتَعَلقَة بالحدوث كَمَا لَيْسَ من مذهبكم أَن الْعلم مُتَعَلق بالحدوث وَإِنَّمَا تَقولُونَ إِن الارادة مُتَعَلقَة بِالْفِعْلِ على وَجه الْحُدُوث وَهُوَ معنى قَوْلكُم إِرَادَة للْفِعْل أَن يحدث فان قَالُوا فَلم إِذا كَانَت لَفْظَة افْعَل تَقْتَضِي أَن يفعل الْمَأْمُور الْفِعْل كَانَت تَقْتَضِي أَن يَفْعَله لَا محَالة قيل لِأَن لَا يفعل الْمَأْمُور الْفِعْل هُوَ نقيض أَن يفعل واللفظة إِذا وضعت لشَيْء فانها تمنع من نقيضه أَلا ترى أَن قَول الْقَائِل زيد فِي الدَّار لما أَفَادَ حُصُوله فِيهَا منع من نقيضه وَهُوَ أَن لَا يكون فِيهَا وَلم يجز أَن يكون قَوْله زيد فِي الدَّار وَمَعْنَاهُ الأولى أَن يكون فِيهَا فَكَذَلِك لَفْظَة افْعَل وَهَذَا هُوَ الْوُجُوب وَيدل على أَن لَفْظَة افْعَل تمنع من الْإِخْلَال بِالْفِعْلِ أَن اهل اللُّغَة يَقُولُونَ أَمرتك فعصيتني وَقلت لَك افْعَل فعصيتني وَقَالَ الله عز وَجل {أفعصيت أَمْرِي} وَقَالَ الشَّاعِر ... أَمرتك امرا حازما فعصيتني ... فَأَصْبَحت مسلوب الْإِمَارَة نَادِما فعقب الْمعْصِيَة ... على الْأَمر بِلَفْظ الْفَاء فَدلَّ على أَن الْمعْصِيَة إِنَّمَا لَزِمت المامور لأجل إخلاله بِمَا أَمر بِهِ وَأَن لتقدم الْأَمر فِي اسْتِحْقَاق هَذَا الِاسْم تَأْثِيرا كَمَا أَن قَوْلهم إِذا دخل زيد الدَّار فأعطه درهما يُفِيد أَن لتقدم الدُّخُول تَأْثِيرا فِي اسْتِحْقَاق الْعَطِيَّة وَمَعْلُوم أَن الانسان إِنَّمَا يكون عَاصِيا للْآمِر وَالْأَمر إِذا أقدم على مَا يحظره الْآمِر وَيمْنَع مِنْهُ أَلا ترى أَن الله لَو أوجب علينا فعلا فَلم نفعله لَكنا عصاة وَلَو ندبنا إِلَيْهِ فَقَالَ الأولى أَن تفعلوه وَلكم أَن لَا

تفعلوه فَلم نفعله لم نَكُنْ عصاة وَلِهَذَا يُوصف تَارِك الْوَاجِب بِأَنَّهُ عاصي لله وَلَا يُوصف تَارِك النَّوَافِل بذلك وَلَا فصل بَينهمَا إِلَّا لِأَن إِيجَابه الْفِعْل علينا يحظر الاخلال بِهِ وترغيبه إيانا فِيهِ من غير إِيجَاب لَا يحظر علينا تَركه فَلذَلِك لم نَكُنْ بِتَرْكِهِ عاصين وَأَيْضًا فان العَاصِي لِلْقَوْلِ مقدم على مُخَالفَته وَترك مُوَافَقَته وَلَيْسَ تَخْلُو مُخَالفَته إِمَّا أَن تكون بالاقدام على مَا يمْنَع مِنْهُ الْآمِر فَقَط أَو قد يثبت بالاقدام على مَا لَا يتَعَرَّض لَهُ الْآمِر بِمَنْع وَلَا إِيجَاب وَلَيْسَ يجوز هَذَا الْأَخير لأَنا لَو كُنَّا عصاة للامر بِفعل مَا لم يمْنَع مِنْهُ لوَجَبَ إِذا أمرنَا الله سُبْحَانَهُ بِالصَّلَاةِ غَدا فتصدقنا الْيَوْم أَن نَكُون عصاة لذَلِك الْأَمر بصدقتنا الْيَوْم فَبَان أَن مُخَالفَة الْآمِر إِنَّمَا تثبت بالاقدام على مَا يمْنَع مِنْهُ فاذا كَانَ تَارِك مَا أَمر بِهِ عَاصِيا للامر والعاصي للامر هُوَ الْمُقدم على مُخَالفَة مُقْتَضَاهُ والمقدم على مُخَالفَة مُقْتَضَاهُ مقدم على مَا يحظره الْآمِر وَيمْنَع مِنْهُ ثَبت أَن ترك الْمَأْمُور بِهِ يمْنَع مِنْهُ الْآمِر ويحظره وَهَذَا هُوَ معنى الْوُجُوب إِن قيل أَلَيْسَ المشير قد يَقُول لمن أَشَارَ عَلَيْهِ قد أَشرت عَلَيْك فعصيتني وَلم يدل ذَلِك على الْإِيجَاب قيل إِنَّا نقُول فِي لَفْظَة افْعَل إِنَّهَا دُعَاء إِلَى الْفِعْل وَمنع من الاخلال بِهِ وَأَن ظَاهرهَا يَقْتَضِي أَن الْمُسْتَعْمل لَهَا استعملها فِي هَذَا الْمَعْنى وَهَذِه حَالَة المشير إِذا قَالَ لغيره افْعَل كَيْت وَكَيْت فَهُوَ الرَّأْي والحزم لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَدعُوهُ الى فعل الحزم وَترك الْإِخْلَال بِهِ والمستشير ايضا إِنَّمَا يطْلب مِنْهُ أَن يُشِير عَلَيْهِ بِالرَّأْيِ الَّذِي لَا معدل عَنهُ يبين مَا قُلْنَاهُ أَن المشير لَو قَالَ لَهُ الأولى أَن تفعل كَذَا وَإِن تركته لم يكن بِهِ بَأْس فَتَركه لَا يُقَال إِنَّه قد عَصَاهُ كَيفَ يكون قد عَصَاهُ وَقد رخص لَهُ فِي التّرْك وَإِنَّمَا يكون عَاصِيا لَهُ إِذا قَالَ لَهُ الرَّأْي أَن تفعل كَذَا وَهُوَ الأولى وَافْعل لِأَن الأولى فِي الرَّأْي هُوَ الأحزم والأحوط وَمَا هَذِه سَبيله فالمشير يُوجِبهُ وَلَا يرخص فِي تَركه وان لم يلْزم المستشير قبُول إِيجَابه ويلزمنا قبُول إِيجَاب الله وَرَسُوله ص =

فان قيل إِن الَّذِي ذكرتموه يدل على أَن الْأَمر يمْنَع من الْإِخْلَال بالمأمور بِهِ وَلَيْسَ هَذَا من قَوْلكُم لِأَن الْأَمر هُوَ قَول الْقَائِل لغيره مَعَ الْإِرَادَة والإرادة لَا تَقْتَضِي الْوُجُوب وَالْجَوَاب أَنا فَرضنَا الْكَلَام فِي لَفْظَة افْعَل لأَنهم قد يَقُولُونَ قلت لَك أقسم فِي هَذَا الْبَلَد فعصيتني وَظَاهر لَفْظَة افْعَل للْوُجُوب عندنَا وَلَو فَرضنَا الْكَلَام فِي قَوْلهم أَمرتك لم يضرنا لِأَن الْأَمر هُوَ قَول الْقَائِل افْعَل مَعَ الارادة والرتبة وَلَيْسَ يجب إِذا كَانَت الارادة لَا تَقْتَضِي الْوُجُوب أَن لَا تَقْتَضِيه الصِّيغَة الَّتِي هِيَ افْعَل وَمِمَّا يدل على أَن الْأَمر على الْوُجُوب أَن العَبْد إِذا لم يفعل مَا أمره بِهِ سَيّده اقْتصر الْعُقَلَاء من أهل اللُّغَة فِي تَعْلِيل حسن ذمه على أَن يَقُولُوا أمره سَيّده بِكَذَا فَلم يَفْعَله فَدلَّ كَون ذَلِك عِلّة فِي حسن ذمه على أَن تَركه لما أمره بِهِ ترك لواجب إِن قيل إِنَّمَا ذموه لأَنهم علمُوا من سَيّده أَنه كَارِه من عَبده ترك مَا أمره بِهِ قيل اقتصارهم على التَّعْلِيل الَّذِي ذَكرْنَاهُ دَلِيل على أَنه اسْتحق الذَّم لما ذَكرُوهُ من الْعلَّة لَا غير فان قيل إِن هَذَا التَّعْلِيل مَشْرُوط بِأَن يكون السَّيِّد كَارِهًا للترك كَمَا يشرطونه بِكَوْن مَا أَمر بِهِ سَيّده حسنا غير قَبِيح قيل لَيْسَ يجب إِذا شرطنا هَذَا التَّعْلِيل حسن الْمَأْمُور بِهِ إِن شَرط شرطا آخر لم يدل على اشْتِرَاطه دلَالَة على أَن الْعُقَلَاء يفضلون مَا أمره بِهِ فَيَقُولُونَ أمره بِكَذَا فَلم يفعل وَلَو كَانَ مَا فضلوه قبيحا لما ذموه وَلَو أَنهم قَالُوا أمره فَلم يفعل لقَالَ الْعُقَلَاء بِمَاذَا أمره لَعَلَّه أمره بظُلْم غَيره وَإِنَّا يمسكون عَن ذَلِك إِذا فضلوا مَا أمره بِهِ فان قيل أَلَيْسَ لَو قَالَ لَهُ أُرِيد مِنْك أَن تفعل كَذَا فَلم يَفْعَله لامه الْعُقَلَاء قيل لَا نسلم ذَلِك وَلَو ثَبت لَكَانَ عندنَا وعندكم مَشْرُوطًا بكراهية السَّيِّد التّرْك وعلمهم بذلك من حَاله وَلَيْسَ يجب إِذا شرطنا ذَلِك أَن يشرط غَيره إِلَّا لدلَالَة إِن قيل إِنَّمَا ذموه لأجل إخلاله بِمَا أمره بِهِ سَيّده لِأَن الشَّرِيعَة جَاءَت بِوُجُوب طَاعَة العَبْد لسَيِّده وامتثال أوامره أَو لِأَنَّهُ لَا يَأْمُرهُ إِلَّا بِمَا فِيهِ منفعَته وَدفع مضرَّة عَنهُ وَالْعَبْد يلْزمه إِيصَال الْمَنَافِع إِلَى سَيّده وَدفع المضار عَنهُ وَلِأَن ذَلِك دلَالَة على أَن السَّيِّد قد كره مِنْهُ ترك مَا

أمره بِهِ وَلِهَذَا لَو أمره السَّيِّد بِفعل يخص العَبْد لما وَجب عَلَيْهِ وَالْجَوَاب أَن الشَّرِيعَة إِنَّمَا ألزمت العَبْد طَاعَة سَيّده إِذا أوجب السَّيِّد عَلَيْهِ طَاعَته وَلم تلْزمهُ لأجل سَيّده فعلا لم يلْزمه إِيَّاه سَيّده أَلا ترى أَن سَيّده لَو قَالَ لَهُ الأولى أَن تفعل كَذَا وَلَك أَن لَا تَفْعَلهُ لما ألزمته الشَّرِيعَة فعله وَالْأَمر عِنْد الْمُخَالف يجْرِي مجْرى هَذَا القَوْل فَيَنْبَغِي أَن لَا يجب بِهِ على العَبْد شَيْء وَلَا يجب على العَبْد إِيصَال النَّفْع إِلَى سَيّده وَلَا دفع المضار عَنهُ إِلَّا إِذا أوجبه عَلَيْهِ سَيّده وَلم يرخص لَهُ فِي تَركه أَلا ترى أَنه لَو قَالَ لَهُ الأولى أَن تفعل ذَلِك وَيجوز أَن لَا تَفْعَلهُ لجَاز لَهُ أَن لَا يَفْعَله وَكَذَلِكَ لَو علم أَن غَيره يقوم مقَامه فِي دفع الْمضرَّة عَنهُ وَأما قَول السَّائِل إِن كَون السَّيِّد مُنْتَفعا بِمَا أمره بِهِ دلَالَة على أَنه قد كره تَركه فَلَا يَصح لِأَنَّهُ لَيْسَ يجب إِذا انْتفع بِشَيْء أَن يكره من عَبده تَركه لجَوَاز أَن يكون إِنَّمَا يكره من غير ذَلِك العَبْد تَركه وَإِنَّمَا يعلم أَنه قد كره من ذَلِك العَبْد تَركه إِذا دله على ذَلِك وَالْأَمر عِنْد السَّائِل لَيْسَ بِدَلِيل على الْإِيجَاب وَلَا على هَذِه الْكَرَاهَة فَلم يلْزم العَبْد ذَلِك الْفِعْل فَأَما قَول السَّائِل إِن السَّيِّد لَو أَمر العَبْد بِفعل يخص العَبْد لم يجب عَلَيْهِ لما لم ينْتَفع السَّيِّد بِهِ فَغير مُسلم أَنه لَا يجب عَلَيْهِ وَغير مُسلم أَنه لَا ينْتَفع السَّيِّد بذلك لِأَنَّهُ إِذا أَمر العَبْد بِمَنْفَعَة أَو بِدفع مضرَّة عَن نَفسه فان ذَلِك يعود بصلاح مَاله فَمن هَذِه الْجِهَة يكون للسَّيِّد فِيهِ مَنْفَعَة أَو دفع مضرَّة دَلِيل آخر قَول الْقَائِل افْعَل يَقْتَضِي إِيقَاع الْفِعْل وَلَيْسَ لجَوَاز تَركه لَفْظَة فَيجب الْمَنْع من تَركه وَإِذا لم يجز تَركه فقد وَجب ولمعترض أَن يعْتَرض ذَلِك فَيَقُول إِن لَفْظَة افْعَل تَقْتَضِي إِيقَاع الْفِعْل غير أَنا لَا نسلم أَنه يَقْتَضِيهِ على سَبِيل الْإِيجَاب وَإِذا لم نسلم لكم ذَلِك لم يثبت الْوُجُوب إِذا لم يدل دَلِيل على جَوَاز الْإِخْلَال بِالْفِعْلِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يثبت الْوُجُود إِذا فَقدنَا دَلِيل جَوَاز التّرْك إِذْ أَثْبَتَت أَن لَفْظَة افْعَل تَقْتَضِي وجوب الْفِعْل وَفِي هَذَا وَقع الْخلاف وَلَو ثَبت ذَلِك مَا احْتَاجَ الْمُسْتَدلّ أَن يَقُول إِنَّه لَيْسَ لجَوَاز التّرْك لفظ أَلا ترى أَن فقد دَلِيل التَّخْصِيص لَا يَكْفِي فِي الْعلم شُمُول الْعُمُوم إِلَّا بعد

أَن يبين أَن لفظ الْعُمُوم يَقْتَضِي الشُّمُول دَلِيل آخر لَفْظَة افْعَل تَقْتَضِي قصر الْمَأْمُور على الْفِعْل وحصره عَلَيْهِ وَذَلِكَ يمْنَع من جَوَاز الْإِخْلَال بِهِ وَلقَائِل أَن يَقُول إِن أردتم بقولكم إِنَّه يَقْتَضِي قصر الْمَأْمُور على الْفِعْل أَنه يَقْتَضِي إِيجَابه فَفِيهِ النزاع وَإِن أردتم أَنه بعث عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِيهِ إِبَاحَة الْإِخْلَال بِهِ فَهُوَ الدَّلِيل الْمُتَقَدّم دَلِيل آخر لَو اقْتضى الْأَمر النّدب كَانَ مَعْنَاهُ افْعَل إِن شِئْت وَلَيْسَ فِي الْأَمر ذكر هَذَا الشَّرْط وَلقَائِل أَن يَقُول والإيجاب غير مَذْكُور فِي اللَّفْظ فَلَا يجوز أَن يَقْتَضِيهِ فان قيل إِن معنى الْإِيجَاب فِي لفظ الْأَمر قيل لكم سوى ذَلِك وَقد تمّ غرضكم وَأَيْضًا فالقائلون بالندب لَا يَقُولُونَ إِن الْمُكَلف قد قيل لَهُ افْعَل إِن شِئْت لِأَن هَذَا يَقْتَضِي التخير وَلَيْسَت هَذِه حَالَة النّدب لِأَن النّدب الأولى أَن يفعل فالمكلف قد ندب إِلَى الْفِعْل وَندب إِلَى أَن يشاءه ويريده دَلِيل آخر قَول الْقَائِل افْعَل إِمَّا أَن يَقْتَضِي إِرَادَة الْفِعْل وَإِمَّا أَن يَقْتَضِي الْمَنْع من الْفِعْل أَو التَّوَقُّف عَنهُ أَو التَّخْيِير بَينه وَبَين الْإِخْلَال بِهِ على سَوَاء أَو على أَن يكون الأولى أَن يفعل فان خير بَينه وَبَين الْإِخْلَال بِهِ أَو يَقْتَضِي أَن يفعل لَا محَالة وَقد تقدم بطلَان القَوْل بِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْإِرَادَة وَمن الْمحَال أَن يكون قَوْله افْعَل مَعْنَاهُ لَا تفعل لِأَنَّهُ نقيض فَائِدَة اللَّفْظ أَو أَن يكون مَعْنَاهُ توقف لِأَن قَوْله افْعَل بعث على الْفِعْل فَهُوَ نقيض التَّوَقُّف وَلَا يجوز أَن يَقْتَضِي التَّخْيِير بَين الْفِعْل وَتَركه على سَوَاء وعَلى أَن يكون الأولى أَن يفعل لِأَنَّهُ لَيْسَ للتَّخْيِير ذكر فِي اللَّفْظ وَلَا للإخلال بِالْفِعْلِ ذكر وَإِنَّمَا اللَّفْظ يتَعَلَّق بِالْفِعْلِ دون تَركه وَلقَائِل أَن يَقُول قد أخللتم بقسم آخر وَهُوَ أَن يكون قَوْلنَا افْعَل يُفِيد استدعاء الْفِعْل والبعث عَلَيْهِ وَلَا يتَعَرَّض للإخلال بِهِ بِمَنْع وَلَا إِبَاحَة وَلَيْسَ لكم أَن تَقولُوا لما لم يكن فِي اللَّفْظ ذكر للتَّخْيِير وَلَا للترك وَجب نفي التَّخْيِير وَإِثْبَات الْوُجُوب بِأولى من أَن تَقولُوا إِنَّه لما لم

يكن فِي اللَّفْظ ذكر للْمَنْع من الْإِخْلَال بِالْفِعْلِ وَجب نفي الْوُجُوب وَفِي نَفْيه إِثْبَات النّدب فان قُلْتُمْ لَفْظَة افْعَل يمْنَع من الْإِخْلَال بِالْفِعْلِ قيل لكم بينوا ذَلِك وَقد تمّ غرضكم من غيرحاجة مِنْكُم إِلَى هَذِه الْقِسْمَة دَلِيل آخر أجمع الْمُسلمُونَ على أَن الله عز وَجل أوجب علينا الصَّلَاة بقوله {أقِيمُوا الصَّلَاة} وَأَجْمعُوا على أَن ذَلِك لَيْسَ بمجاز فَلَو لم يكن الْأَمر للْوُجُوب بل كَانَ للإدارة أَو النّدب لَكَانَ الْمُسْتَعْمل لَهُ فِي الْوُجُوب قد أَرَادَ بِهِ الْفِعْل وَكره بِهِ تَركه وَفِي ذَلِك اسْتِعْمَاله فِيمَا لم يوضع لَهُ لِأَن معنى اسْتِعْمَال الْأَمر فِي الْوُجُوب هُوَ أَنه كره تَركه وَلَو أَن أهل اللُّغَة اضطروا من الْقَائِل لغيره افْعَل إِلَى أَنه قد كره مِنْهُ ترك الْفِعْل لما سبق إِلَى أَنه يجوز بِالْأَمر وَلقَائِل أَن يَقُول أَنا من الْمُسلمين وَلَا أَقُول إِن الله أوجب الصَّلَاة بقوله أقِيمُوا الصَّلَاة وَإِنَّمَا اسْتعْمل ذَلِك فِيمَا وضع لَهُ وَهُوَ إِرَادَة الصَّلَاة وَإِنَّمَا كره تَركهَا بِدَلِيل الْوُجُوب من وَعِيد وَغَيره فَكيف يمكنكم ادِّعَاء الاجماع مَعَ خلافي لكم مَعَ طائفتي فِي ذَلِك وَلَا أسلم قَوْلكُم إِن أهل اللُّغَة لَو علمُوا أَن الْقَائِل لغيره افْعَل قد كره مِنْهُ ترك الْفِعْل بِالْأَمر مَا نسبوه إِلَى أَنه مُسْتَعْمل فِي غير مَا وضعت لَهُ دَلِيل آخر قَول الْقَائِل لَا تفعل يَقْتَضِي الِامْتِنَاع من الْفِعْل لَا محَالة وَيمْنَع من فعله فَكَانَ قَوْله افْعَل يَقْتَضِي أَن يفعل وَلَا يرخص لَهُ فِي تَركه والمخالف يَقُول إِنِّي لَا أستفيد تَحْرِيم الْمنْهِي عَنهُ من لفظ النَّهْي إِلَّا بتوسط الْكَرَاهَة إِمَّا لِأَن لفظ النَّهْي مَوْضُوع لَهَا وَإِمَّا لِأَن الناهي لَا يُنْهِي إِلَّا عَمَّا يكره والحكيم لَا يكره من غَيره إِلَّا الْقَبِيح فان ثَبت أَن الناهي يُنْهِي عَمَّا لَا يكره لم يدل مُجَرّد النَّهْي على تَحْرِيم الْمنْهِي عَنهُ دَلِيل آخر الْإِيجَاب مَعْقُول لأهل اللُّغَة وتمسهم الْحَاجة إِلَى الْعبارَة عَنهُ فَلَو

لم يفده الْأَمر لم يكن لَهُ لفظ وَلقَائِل أَن يَقُول وَكَون الْفِعْل على صفة زَائِدَة على حسنه أَو كَون الْفِعْل مرَارًا مَعْقُول لَهُم وَالْحَاجة تمس إِلَى الْعبارَة عَنهُ فَلَو لم يكن الْأَمر مَوْضُوعا لَهُ لم يكن لَهُ لفظ فان قَالُوا الْأَمر مَوْضُوع لذَلِك قيل وَغير الْأَمر مَوْضُوع للْإِيجَاب وَهُوَ قَول الْقَائِل ألزمت وأوجبت وحتمت دَلِيل آخر الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن صده والإخلال بِهِ وَالنَّهْي يَقْتَضِي حظر الْمنْهِي عَنهُ فَوَجَبَ حظر الْإِخْلَال بالمأمور بِهِ وَفِي ذَلِك وجوب الْمَأْمُور بِهِ وَلقَائِل أَن يَقُول مَا تُرِيدُونَ بقولكم إِن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن الْإِخْلَال بِهِ فان قَالُوا إِن صورته صُورَة الْمنْهِي كَانَ الْحس يشْهد بِخِلَاف ذَلِك وَإِن قَالُوا إِنَّه نهي فِي الْمَعْنى قيل لَهُم مَا ذَلِك الْمَعْنى فان قَالُوا هُوَ أَن الْأَمر يَقْتَضِي أَن يفعل الْمَأْمُور بِهِ لَا محَالة قيل لَهُم بينوا ذَلِك وَهُوَ الدَّلِيل الأول وَإِن قَالُوا هُوَ أَن الْأَمر بالشَّيْء يَقْتَضِي الْإِرَادَة والإرادة للشَّيْء كَرَاهَة ضِدّه أَو لَا بُد من أَن تقترن بهَا كَرَاهَة الضِّدّ إِمَّا من جِهَة الصِّحَّة أَو من جِهَة الْحِكْمَة وَمن كره أضداد الشَّيْء فقد ألزم ذَلِك الشَّيْء قيل لكم هَذَا بَاطِل بالنوافل لِأَن الله سُبْحَانَهُ قد أرادها منا وَلذَلِك نَكُون مُطِيعِينَ لَهُ بِفِعْلِهَا وَلَيْسَ بكاره لتركها واضدادها فان قَالُوا معنى ذَلِك أَن الْأَمر يَقْتَضِي إِرَادَة فعل الْمَأْمُور بِهِ على جِهَة الْإِيجَاب قيل لَا معنى لكَون الْحَيّ مرِيدا للْفِعْل على جِهَة الْإِيجَاب إِلَّا أَنه أَرَادَهُ وَكره تَركه وَقد تقدم إبِْطَال ذَلِك وَلَو كَانَت الْإِرَادَة تتَنَاوَل الشَّيْء على جِهَة الْإِيجَاب لوَجَبَ عَلَيْكُم أَن تدلوا على أَن الْأَمر يَقْتَضِي هَذِه الْإِرَادَة حَتَّى يتم دليلكم وَمَتى دللتم على ذَلِك تمّ غرضكم قيل القَوْل إِن النَّهْي إِذا اقْتضى قبح أضداد الشَّيْء فقد وَجب ذَلِك الشَّيْء وَإِن قَالُوا معنى ذَلِك أَن لَفْظَة الْأَمر تَدْعُو إِلَى فعل الْمَأْمُور بِهِ وتحظر الْإِخْلَال بِهِ قيل لَهُم بينوا ذَلِك وَقد تمّ غرضكم وَنحن قد بَينا ذَلِك من قبل دَلِيل آخر الْأَمر إِذا حمل على الْوُجُوب كَانَ أحوط وَالْأَخْذ بالأحوط

وَاجِب أَلا ترى أَنا إِذا حملناه على الْوُجُوب لم يخل الْمَأْمُور بِهِ إِمَّا أَن يكون وَاجِبا أَو ندبا فان كَانَ ندبا لم يضرنا فعله بل ينفعنا وَإِن كَانَ وَاجِبا أمنا الضَّرَر بِفِعْلِهِ وَإِذا حملناه على النّدب لم نَأْمَن أَن يكون وَاجِبا فنستضر تَركه وَلقَائِل أَن يَقُول أَنا قد علمت بِدلَالَة لغوية أَن الْأَمر مَا وضع للْوُجُوب وَعلمت أَن الْحَكِيم لَا يجوز أَن يجرده عَن قرينَة إِلَّا والمأمور بِهِ غير وَاجِب فَأَنا إِذا حَملته على النّدب أمنت الضَّرَر وَيَقُول أَيْضا لَيْسَ يَخْلُو الْمُسْتَدلّ إِمَّا أَن يكون عَالما بِأَن الْأَمر وضع للْوُجُوب أَو عَالما بِأَنَّهُ وضع للنَّدْب والإرادة أَو عَالما بِأَنَّهُ مُشْتَرك بَينهمَا أَو شاكا فِي مَوْضُوعه فان كَانَ عَالما بِالْوُجُوب فقد وَجب عَلَيْهِ حمله على الْوُجُوب لعلمه بِأَنَّهُ مَوْضُوع لَهُ لَا لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن أَن يكون قد عني بِهِ الْوُجُوب وَيَنْبَغِي أَن يدلنا على أَنه مَوْضُوع للْوُجُوب وَإِن كَانَ عَالما بانه للنَّدْب فَهُوَ آمن إِذا تجرد أَن يكون الْحَكِيم قد عني بِهِ الْوُجُوب وَإِن كَانَ عَالما بِأَنَّهُ مُشْتَرك بَين الْوُجُوب وَالنَّدْب فَلَيْسَ ذَلِك من قَوْلهم ويلزمهم إِن كَانَ كَذَلِك أَن يجْعَلُوا الْمُكَلف مُخَيّرا بَين حمله إِيَّاه على الْوُجُوب أَو على النّدب كَمَا يَقُوله بعض النَّاس فِي الِاسْم الْمُشْتَرك أَو يَقُول إِن الْحَكِيم للخلية من قرينَة كَمَا يَقُوله آخَرُونَ فِي الِاسْم الْمُشْتَرك وَأَن كَانَ شاكا فِي مَوْضُوع الْأَمر فالاحتياط يَقْتَضِيهِ أَن يفحص عَن مَوْضُوعه حَتَّى إِذا عرفه حمل خطاب الْحَكِيم عَلَيْهِ وَيكون آمنا من الضَّرَر على أَن كلا منا إِنَّمَا هُوَ فِي مَوْضُوع الْأَمر مَا هُوَ فِي اللُّغَة وَإِيجَاب حمله على الْوُجُوب لأجل الِاحْتِيَاط لَا يدل على أَنه مَوْضُوع لَهُ فِي اللُّغَة على أَن من حمل الْمَأْمُور بِهِ على الْوُجُوب عُدُولًا عَن الِاحْتِيَاط من وُجُوه لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن إِذا اعْتقد وُجُوبه أَن يكون ندبا فَيكون اعْتِقَاد وُجُوبه جهلا وَتَكون نِيَّة الْوُجُوب قبيحة وكراهته لأضداده قبيحة وَأما وجوب إِعَادَة الصَّلَوَات الْخمس إِذا ترك الْإِنْسَان وَاحِدَة مِنْهَا لَا يدْرِي مَا هِيَ فلَان الْوَاجِب غير متميز من غَيره وَلَيْسَ كَذَلِك مَوْضُوع الْأَمر لِأَنَّهُ يُمكن أَن يعرف مَا مَوْضُوعه وَيعلم أَن الْحَكِيم يجب فِي حكمته أَن يُعينهُ دون غَيره وعَلى أَن الْعلم على الْيَقِين غير مُسْتَمر وُجُوبه أَلا

ترى أَن من يعْتَاد السَّهْو فِي صلَاته إِذا سَهَا فاليقين أَن يُعِيد صلَاته وَلَيْسَ الْيَقِين أَن يَبْنِي على الْأَقَل وَلَا أَن يتحَرَّى وَمَعَ ذَلِك لم تجب عَلَيْهِ الْإِعَادَة وَرُبمَا حققوا شبهتهم بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك وَالْجَوَاب أَن الْمُخَالف يَقُول إِذا حملت الْأَمر على النّدب فقد عدلت عَمَّا يريبني إِلَى الثِّقَة وَالْيَقِين وَلَا ريب فِي ذَلِك دَلِيل آخر الْوُجُوب أَعم فَوَائِد الْأَمر لِأَنَّهُ يدْخل تَحْتَهُ الْحسن وَالْمَنْدُوب إِلَيْهِ وَاللَّفْظ يجب حمله على أتم فَوَائده وَلقَائِل أَن يَقُول وَلم يجب حمله على أتم فَوَائده فان قَالُوا لمَكَان الِاحْتِيَاط كَانَ الْكَلَام عَلَيْهِم مَا تقدم وَإِن قَالُوا ذَلِك قِيَاسا على الْعُمُوم قيل لَهُم وَمَا الْعلَّة الجامعة بَينهمَا وَيُقَال لَهُم إِن الْعُمُوم إِنَّمَا حمل على الِاسْتِغْرَاق لَيْسَ لِأَنَّهُ أَعم فَوَائده لَكِن لعلمنا بِأَنَّهُ مَوْضُوع للاستغراق فَقَط فَيَنْبَغِي أَن تبينوا أَن مَوْضُوع الْأَمر للْوُجُوب حَتَّى يتم لكم غرضكم على أَن النّدب على التَّحْقِيق لَيْسَ بداخل تَحت الْوُجُوب لِأَن الْمَنْدُوب إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي يسْتَحق الْمَدْح بِفِعْلِهِ وَلَا يسْتَحق الذَّم بالاخلال بِهِ وَلَيْسَ يجمع كلا الْأَمريْنِ للْوَاجِب وَقد اسْتدلَّ من جِهَة الشَّرْع على أَن أوَامِر الله سُبْحَانَهُ وأوامر نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْوُجُوب بِوُجُوه مِنْهَا قَول الله سُبْحَانَهُ {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} الأية فحذر من مُخَالفَة أَمر نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتوعد عَلَيْهِ وَمُخَالفَة أمره هُوَ الْإِخْلَال بِمَا أَمر بِهِ فَوَجَبَ كَون الْإِخْلَال بِمَا أَمر بِهِ مَحْظُورًا وَهَذَا هُوَ وجوب فعل مَا أَمر بِهِ فاذا ثَبت ذَلِك فِي أوَامِر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجب مثله فِي أوَامِر الله سُبْحَانَهُ لِأَن كل من قَالَ إِن الشَّرْع قد دلّ على أَن أوَامِر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ على الْوُجُوب قَالَ إِن أوَامِر الله سُبْحَانَهُ على الْوُجُوب وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه عز وَجل حذر من مُخَالفَة أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ قَالَ {لَا تجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُم كدعاء بَعْضكُم بَعْضًا} فَحَث

بذلك على الرُّجُوع إِلَى أَقْوَاله ثمَّ عقب ذَلِك بقوله {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} فَعلمنَا أَنه بعث بذلك على الْتِزَام مَا كَانَ دَعَا إِلَيْهِ من الرُّجُوع إِلَى أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَو ثَبت أَن الْهَاء فِي أمره رَاجِعَة إِلَى اسْم الله لدل على وجوب الرُّجُوع إِلَى أوَامِر الله سُبْحَانَهُ وَفِي ذَلِك وجوب مأمورها وَثَبت مثله فِي أوَامِر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن أحدا مَا فرق بَينهمَا وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن مُخَالفَة أمره هُوَ الْإِخْلَال بمأموره لِأَن الْمُخَالفَة ضد الْمُوَافقَة وموافقة القَوْل هُوَ فعل مَا يطابقه وَمَعْلُوم أَن مُوَافقَة قَول الْقَائِل لغيره افْعَل هُوَ أَن يفعل فَيجب أَن تكون مُخَالفَته هُوَ أَن لَا يفعل إِن قيل مُخَالفَة القَوْل هُوَ الْإِقْدَام على مَا يحظره القَوْل وَيمْنَع مِنْهُ فَيجب أَن تبينوا أَن الْإِخْلَال بالمأمور بِهِ يحظره القَوْل حَتَّى يدْخل فِي الاية وَإِذا بينتم ذَلِك فقد تمّ غرضكم من أَن الْأَمر يَقْتَضِي الْوُجُوب قيل لَيْسَ نحتاج فِي أَن نعلم أَن الْإِخْلَال بالمأمور بِهِ مُخَالفَة الْأَمر إِلَى مَا ذكرْتُمْ بل يمكننا أَن نعلم ذَلِك بِمَا قُلْنَاهُ من أَن الْمُخَالفَة ضد الْمُوَافقَة وموافقة الْأَمر هُوَ فعل الْمَأْمُور بِهِ وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم نَكُنْ قد بَينا الدّلَالَة على مَوضِع الْخلاف إِن قيل مُخَالفَة الْأَمر هُوَ الرَّد على فَاعله واتهامه فِي القَوْل وموافقته هُوَ الثِّقَة بِهِ وَترك الرَّد عَلَيْهِ قيل مُوَافقَة القَوْل هُوَ الْإِقْدَام على مطابقته ومخالفته هُوَ ترك مطابقته وَالرَّدّ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأله وَترك الثِّقَة بِهِ هُوَ مُخَالفَة للدليل الْمُوجب لاعتقاد الثِّقَة بِهِ وَلَيْسَ هُوَ مُخَالفَة لِلْأَمْرِ لِأَن الْأَمر لَا يدل على أَنه غير مُتَّهم فِي أَقْوَاله بل الْعلم بذلك يسْبق الِاسْتِدْلَال بأَمْره وَكَذَلِكَ الثِّقَة بِهِ هُوَ مُوَافقَة دَلِيل الثِّقَة بِهِ لَا الْأَمر بِالْفِعْلِ إِن قيل لَو كَانَ الْإِخْلَال بالمأمور بِهِ مُخَالفَة لِلْأَمْرِ لَكنا إِذا لم نَفْعل النَّوَافِل الْمَأْمُور بهَا مخالفين لأمر الله وَفِي ذَلِك كوننا مخالفين لله سُبْحَانَهُ إِذا أخللنا بالنافلة قيل إِنَّمَا لم نَكُنْ مخالفين للامر بالنافلة لِأَن الْأَمر بالنافلة فِي تعذر قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الأولى أَن تَفعلُوا كَذَا وَكَذَا

وَيجوز أَن لَا تفعلوه وَهَذِه زيادات لَا ينبيء عَنْهَا قَوْله افْعَل وَهُوَ صَرِيح الْأَمر وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم نَكُنْ مخالفين للامر بالنوافل لِأَن فِي مضمونها جَوَاز التّرْك فان قيل فَيجب أَن تعلمُوا أَن أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ فِي هَذَا التَّقْدِير حَتَّى تعلمُوا أَن الْإِخْلَال بالمأمور بِهِ مُخَالفَة لَهُ وَإِذا علمْتُم ذَلِك فقد علمْتُم أَن صِيغَة الْأَمر تَقْتَضِي الْوُجُوب قبل الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْآيَة قيل نَحن نعلم ذَلِك لعلمنا أَن قَول الْقَائِل افْعَل يَقْتَضِي إِيقَاع الْفِعْل وَأَنه لَا دَلِيل فِي صَرِيحه يدل على أَنه فِي تَقْدِير قَول الْقَائِل الأولى أَن تفعل وَيجوز أَن لَا تفعل وَلَيْسَ يجب إِذا علمنَا ذَلِك أَن نعلم أَنه على الْوُجُوب لِأَنَّهُ لَا يجب أَن يكون على الْوُجُوب إِذا لم يكن فِي صَرِيحه مَا يدل على التَّخْيِير وَنفي الْوُجُوب إِلَّا بعد أَن يثبت أَن صَرِيحه يدل على الْوُجُوب على مَا ذَكرْنَاهُ من قبل فان قيل قد علمنَا أَن من قَالَ إِن ظَاهر الْأَمر للنَّدْب لَا يلْزمه الْوَعيد فَعلمنَا أَن قَوْله {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} المُرَاد بِهِ الرَّد على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْجَوَاب أَن الله سُبْحَانَهُ إِنَّمَا حذر من لُحُوق الْعَذَاب مِمَّن خَالف أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ فِي ذَلِك تحقق لنزول الْعَذَاب وَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ من حمل أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على النّدب مخطئا بلأن ذَلِك لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد وكل مَا كَانَ خطأ فانه يجوز أَن يكون كثيرا وَكلما جَازَ أَن يكون كثيرا لم يُؤمن لُحُوق الْعَذَاب بفاعله فَثَبت التحذير فِي ترك الْمَأْمُور بِهِ وَلَو كَانَ ذَلِك من مسَائِل الِاجْتِهَاد للحق ذَلِك الْوَعيد من خَالف أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا لم يعْتَقد أَنه على النّدب وَفِي ذَلِك بِوَجْه الْوَعيد دَلِيل آخر وَهُوَ قَول الله عز وَجل {وَإِذا قيل لَهُم ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} فذمهم على أَنهم تركُوا مَا قيل لَهُم افعلوه وَلَو كَانَ الْأَمر يُفِيد النّدب لم يذمهم على ترك الْمَأْمُور بِهِ كَمَا أَنه لَا يجوز أَن نقُول إِذا قيل لَهُم الأولى أَن تفعلوه ومرخص لكم فِي تَركه لم تذمهم على التّرْك وَقَوله عز

وَجل {ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين} كَلَام مُبْتَدأ لَا يمْنَع من كَونه عز وَجل ذاما لَهُم لأجل تَركهم فعل مَا قَالَ لَهُم افعلوه دَلِيل آخر قَول الله سُبْحَانَهُ لإبليس {مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أَمرتك} لَيْسَ باستفهام لكنه خَارج مخرج الذَّم والاستبطاء لإبليس وَأَنه لَا عذر لَهُ وَلَا رخصَة فِي إخلاله بِالسُّجُود مَعَ أمره بِهِ هَذَا هُوَ الْمَفْهُوم من قَول السَّيِّد لعَبْدِهِ مَا مَنعك من دُخُول الدَّار إِذا أَمرتك مَتى لم يكن السَّيِّد مستفهما فَلَو لم يكن الْأَمر على الْوُجُوب لم يذمه وَلَا اسْتَبْطَأَهُ ولكان لإبليس أَن يَقُول الَّذِي سوغ لي ترك السُّجُود إِنَّك لم تلزمينه بل رخصت لي فِي تَركه إِن قيل لَعَلَّه أمره بلغَة أُخْرَى وَالْأَمر فِيهَا مَوْضُوع للْوُجُوب لَا فِي لُغَة الْعَرَب قيل الظَّاهِر يَقْتَضِي أَنه ذمه لِأَنَّهُ أمره أمرا مُطلقًا فَلم يفعل لَا لِأَنَّهُ أمره أمرا مَخْصُوصًا فِي لُغَة مَخْصُوصَة على أَن طَريقَة من قَالَ أَن الْأَمر على النّدب هُوَ أَنه يُفِيد الْإِرَادَة لَا غير والإرادة لَا تفِيد الْوُجُوب وَهَذِه الطَّرِيقَة لَا تخْتَلف فِيهَا اللُّغَات دَلِيل آخر وَهُوَ قَوْله سُبْحَانَهُ {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن وَلَا مُؤمنَة إِذا قضى الله وَرَسُوله أمرا أَن يكون لَهُم الْخيرَة من أَمرهم} وَالْقَضَاء قد يكون بِمَعْنى الْفِعْل وَحَقِيقَة الْأَمر لِلْقَوْلِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إِذا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرا فَلَيْسَ لأحد أَن يتَخَيَّر فِيهِ وَفِي ذَلِك وجوب الْمصير إِلَيْهِ وَقد قيل إِن سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر قوما أَن يزوجوا زيد بن حَارِثَة فَأَبَوا فَأنْزل الله سُبْحَانَهُ هَذِه الْآيَة وَلقَائِل أَن يَقُول إِن حَقِيقَة الْأَمر وَإِن كَانَ فِي القَوْل فَإِنَّهُ إِذا قرن بِالْقضَاءِ فَقيل قضى فلَان أمرا جرى مجْرى أَن يَقُول فعل فلَان شَيْئا سِيمَا وَقد قُلْنَا فِيمَا تقدم إِن الْأَمر إِذا أطلق كَانَ حَقِيقَة فِي الشَّيْء وَفِي القَوْل وَفِي الشَّأْن وَإِنَّمَا يتخصص بِحَسب الْقَرَائِن وَهَذِه

الْقَرِينَة تدل على أَن المُرَاد بِهِ الشَّيْء فَيكون المُرَاد بذلك إِذا الزم شَيْئا لِأَن الْقَضَاء يكون بِمَعْنى الْإِلْزَام وَلَا يمْتَنع أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد كَانَ ألزم أَن يُزَوّج زيد بن حَارِثَة بِلَفْظ من أَلْفَاظ الْإِلْزَام إِن ثَبت أَن قصَّة زيد هِيَ سَبَب نزُول الْآيَة دَلِيل آخر قَوْله تَعَالَى {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت} الْآيَة فَأوجب التَّسْلِيم لما قَضَاهُ وَالْقَضَاء هُوَ الْأَمر وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الْقَضَاء هُوَ الْإِلْزَام هَا هُنَا وعَلى أَن المُرَاد بقوله ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت المُرَاد بِهِ السخط وَترك الرِّضَا وَلِهَذَا قَالَ {ويسلموا تَسْلِيمًا} فان قَالُوا لَو كَانَ الْقَضَاء بِمَعْنى الْإِلْزَام لما قيل إِن الله سُبْحَانَهُ قد قضى الطَّاعَات كلهَا لِأَن النَّوَافِل مَا ألزمها قيل وَلَو كَانَ الْقَضَاء بِمَعْنى الْأَمر وَالْأَمر على الْوُجُوب لما قيل إِن الله قد قضى الطَّاعَات كلهَا على أَن المُرَاد بقولنَا إِن الله قضى النَّوَافِل أَنه أخبر عَنْهَا وَذَلِكَ يعم الطَّاعَات كلهَا النَّوَافِل وَغَيرهَا دَلِيل آخر وَهُوَ قَوْله سُبْحَانَهُ {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول} وَهَذَا لَا يدل لِأَنَّهُ أَمر وَفِيه الْخلاف وادعاؤهم الْإِجْمَاع بِأَن طَاعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاجِبَة لَا يُسَلِّمهَا الْخصم لِأَن النَّوَافِل طَاعَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَت بواجبة وَقَوله تَعَالَى {فَإِن توَلّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حمل وَعَلَيْكُم مَا حملتم} لَو رَجَعَ إِلَى صدر الْكَلَام لم يَصح التَّعَلُّق بِهِ لِأَن التولي لَيْسَ هُوَ ترك الْمَأْمُور بِهِ لِأَنَّهُ لَا يُوصف بذلك تَارِك النَّوَافِل وَقَوله من بعد {وَإِن تطيعوه تهتدوا} لَا يدل على وجوب الطَّاعَة لِأَن الاهتداء قد

يكون بِفعل النَّافِلَة إِذْ فاعلها مهتد إِلَى رشده وصلاحه وَقَوله {وَمن يعْص الله وَرَسُوله فقد ضل ضلالا مُبينًا} إِنَّمَا يَصح التَّعَلُّق بِهِ فِي وجوب أوَامِر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو ثَبت أَن من لم يفعل مأمورها عَاص للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَوله تَعَالَى {قل للمخلفين من الْأَعْرَاب ستدعون إِلَى قوم أولي بَأْس شَدِيد تقاتلونهم أَو يسلمُونَ} الْآيَة لَا يدل لِأَن وجوب الاستجابة إِلَى الْجِهَاد مَعْلُوم بِمَا تقدم وَقَوله تَعَالَى {وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا توليتم من قبل يعذبكم} يدل على أَن المُرَاد بالتوالي هَا هُنَا الْعُدُول عَن الطَّاعَة على وَجه العناد لأَنهم هَكَذَا توَلّوا من قبل دَلِيل آخر وَهُوَ مَا رُوِيَ أَن رجلا قَالَ يَا رَسُول الله أحجتنا هَذِه لِعَامِنَا أم لِلْأَبَد فَقَالَ بل لعامكم فَقَط وَلَو قلت نعم لَوَجَبَتْ فَأَخْبرهَا أَن وُجُوبهَا مُتَعَلق بقوله وَلقَائِل أَن يَقُول إِن قَوْله نعم لَيْسَ بِأَمْر فَيدل على مَا ذكرْتُمْ وَالْمرَاد بذلك لَو قلت نعم هِيَ لِلْأَبَد لَوَجَبَتْ عَلَيْكُم فِي كل عَام وَيكون الْمُوجب لذَلِك إِخْبَار الله تَعَالَى عَن وُجُوبهَا لقَوْله تَعَالَى {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} وَذَلِكَ أَن وجوب الْحَج قد كَانَ اسْتَقر وَلم يعلم السَّائِل أَن تِلْكَ الْحجَّة مسقطة للْوُجُوب الثَّابِت بِالْآيَةِ بل جوز أَن لَا يسْقطهُ إِلَّا فِي تِلْكَ السّنة فَقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو قلت نعم مَعْنَاهُ لَو قلت انه يسْقط الْفَرْض فِي تِلْكَ السّنة فَقَط لَوَجَبَتْ لِأَنَّهُ كَانَ يكون ذَلِك بَيَانا لكَون الْوَاجِب الثَّابِت بِالْآيَةِ ثَابتا فِي كل سنة دَلِيل آخر وَهُوَ مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة وَلَو كَانَ الْأَمر بالشَّيْء لَا

يَقْتَضِي إِلَّا كَونه ندبا لم يكن فِي هَذَا الْكَلَام فَائِدَة لِأَن السِّوَاك قد كَانَ ندبا قبل هَذَا الْكَلَام وَلقَائِل أَن يَقُول إِن هَذَا الْوَجْه أَمارَة على انه أَرَادَ لأمرتهم على وَجه يَقْتَضِي الْوُجُوب وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يَقْتَضِي الْأَمر الْوُجُوب بِدلَالَة دَلِيل آخر رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ فَلم يجبهُ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الصَّلَاة فَقَالَ مَا مَنعك ان تَسْتَجِيب وَقد سَمِعت قَول الله سُبْحَانَهُ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ} الْآيَة فلامه على ترك الاستجابة مَعَ أَن الله سُبْحَانَهُ أَمر بهَا فَدلَّ على أَن الْأَمر على الْوُجُوب فان قيل إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يلمه وَلكنه أَرَادَ أَن يبين أَنه لَا يقبح الاستجابة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا دَعَاهُ وَهُوَ يُصَلِّي وَأَن دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُخَالف لدعاء غَيره وَالْجَوَاب أَن ظَاهر الْكَلَام يَقْتَضِي اللوم وَهُوَ فِي معنى الْإِخْبَار عَن نفي الْعذر وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا وَالْأَمر على الْوُجُوب دَلِيل آخر وَقد اسْتدلَّ على ذَلِك بِالْإِجْمَاع من وُجُوه مِنْهَا أَن الْأمة اتّفقت على وجوب طَاعَة الله وَرَسُوله وامتثال أوامرهما طَاعَة لَهما فَكَانَ وَاجِبا وَلقَائِل أَن يَقُول المُرَاد بِطَاعَة الله وَطَاعَة رَسُوله التَّصْدِيق لَهما وامتثال مَا أوجبا دون مَا لم يوجباه من النَّوَافِل وَمَا ثَبت من كَون النَّوَافِل مَأْمُور بهَا وفاعلها يكون مُطيعًا وَلَا يجب عَلَيْهِ لَا يدل على أَن المُرَاد بِوُجُوب طَاعَة الله وَرَسُوله مَا ذَكرْنَاهُ وَمِنْهَا أَن الْمُسلمين كَانُوا يرجعُونَ إِلَى كتاب الله وَسنة رَسُوله فِي الْأَحْكَام وَلم يسئلوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بعض أوامره مَا الَّذِي عناه بِهِ وَقد أُجِيب عَن ذَلِك بِأَنَّهُم إِنَّمَا رجعُوا إِلَيْهِمَا لِأَن الْأَحْكَام تثبت بِالْإِيجَابِ وبالندب وَالْوُجُوب يثبت بِغَيْر الْأَمر مِمَّا هُوَ فِي الْكتاب وَالسّنة نَحْو الزّجر والتهديد

والوعيد وَالْخَبَر عَن الْوُجُوب وَلِهَذَا فَهموا وجوب الصَّلَاة من قَول الله سُبْحَانَهُ {إِن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا} فلفظة على تَقْتَضِي الْوُجُوب وَقَوله {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} يدل على وجوب الْحَج وَقَوله {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا} الْآيَة يدل على وجوب الزَّكَاة وَمِنْهَا أَن أَبَا بكر الصّديق رضوَان الله عَلَيْهِ اسْتدلَّ على وجوب الزَّكَاة على أهل الرِّدَّة بقوله {وَآتوا الزَّكَاة} وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد فِي هَذَا الِاسْتِدْلَال وَقد أُجِيب عَن ذَلِك بِأَن الْقَوْم لم ينكروا وُجُوبهَا وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا اسْتِدَامَة وُجُوبهَا عَلَيْهِم وَالْأَمر بِالزَّكَاةِ لَا يدل على الِاسْتِمْرَار فَعلمنَا أَنه لم يتَعَلَّق بِالْأَمر وَإنَّهُ إِنَّمَا احْتج باقتران الزَّكَاة إِلَى الصَّلَاة وَكَون الصَّلَاة مستمرا وُجُوبهَا وَمِنْهَا أَن الصَّحَابَة كَانَت حِين تسمع الْأَمر من الْكتاب وَالسّنة تحمله على الْوُجُوب فَدلَّ على أَنَّهَا كَانَت تحمل الْأَوَامِر على الْوُجُوب كَمَا دلّ رُجُوعهَا إِلَى أَخْبَار الْآحَاد فِي الْأَحْكَام على أَنَّهَا اعتقدت كَونهَا حجَّة أَلا ترى إِلَى إِيجَابهَا أَخذ الْجِزْيَة من الْمَجُوس بِرِوَايَة عبد الرحمان سنوا بهم سنة أهل الْكتاب وإيجابهم غسل الْإِنَاء من ولوغ الْكَلْب بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فليغسله سبعا وأوجبوا إِعَادَة الصَّلَاة عِنْد ذكرهَا لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فليصلها إِذا ذكرهَا إِلَى غير ذَلِك وَقد أجِيبُوا عَن ذَلِك بِأَنَّهُم إِنَّمَا صَارُوا إِلَى شَيْء سوى الْأَمر فِي وجوب هَذِه الْعِبَادَات لأَنهم كَمَا اعتقدوا الْوُجُوب عِنْد هَذِه الْأَوَامِر فَإِنَّهُم لم يعتقدوه عِنْد غَيرهَا نَحْو قَول الله سُبْحَانَهُ {وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم} {فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا}

{فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء} {وَإِذا حللتم فاصطادوا} إِلَى غير ذَلِك وَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول إِنَّمَا لم يعتقدوا الْوُجُوب عِنْد هَذِه الْأَوَامِر لدَلِيل بِأولى من أَن تَقولُوا إِنَّمَا قَالُوا بِالْوُجُوب عِنْد تِلْكَ الْأَوَامِر لدَلِيل لَا لظَاهِر الْأَمر وَاحْتج أَصْحَابنَا الْقَائِلُونَ بِأَن الْأَمر لَا يَقْتَضِي الْوُجُوب بِمَا هَذَا مَعْنَاهُ لَو اقتضي الْأَمر الْوُجُوب لاقْتِضَائه إِمَّا بِلَفْظِهِ أَو بفائدته الَّتِي هِيَ الْإِرَادَة أَو بِشَرْطِهِ الَّذِي هُوَ الرُّتْبَة وَلَيْسَ شَيْء من ذَلِك يَقْتَضِي الْوُجُوب فَالْأَمْر إِذا لَا يَقْتَضِي الْوُجُوب لَكِن الْإِرَادَة تَقْتَضِي النّدب على بعض الْوُجُوه فصح أَن الْأَمر يَقْتَضِي النّدب وَاسْتَدَلُّوا على أَن صِيغَة الْأَمر لَا تَقْتَضِي الْوُجُوب بِأَن الْوُجُوب لَيْسَ فِي لَفظهَا وَبِأَن صيغتها إِنَّمَا تفِيد الْإِرَادَة فَقَط وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بِوُجُوه مِنْهَا أَنه لَا فرق بَين قَول الْقَائِل افْعَل وَبَين قَوْله أُرِيد مِنْك أَن تفعل يفهم أهل اللُّغَة من أَحدهمَا مَا يفهمونه من الآخر وَيسْتَعْمل أَحدهمَا مَكَان الآخر فَجرى مجْرى إِدْرَاك الْبَصَر ورؤية الْبَصَر فِي أَن الْمَفْهُوم من أَحدهمَا هُوَ الْمَفْهُوم الآخر فَلَمَّا أَفَادَ قَوْلنَا أُرِيد مِنْك أَن تفعل الْإِرَادَة فَقَط دون كَرَاهَة ضد الْفِعْل وَدون إِيجَاب الْفِعْل وَجب مثله فِي قَوْلنَا أفعل وَمِنْهَا أَن أهل اللُّغَة قَالُوا إِن قَول الْقَائِل لغيره افْعَل يكون أمرا إِذا كَانَ فَوق الْمَقُول لَهُ فِي الرُّتْبَة وسؤالا إِذا كَانَ دونه فِي الرُّتْبَة فَلم يفرقُوا بَينهمَا إِلَّا بالرتبة وَمَعْلُوم أَن السُّؤَال لَا يَقْتَضِي إِيجَاب الْفِعْل على المسؤول وَلَا كَرَاهَة ضد مَا سَأَلَهُ فعله وَإِنَّمَا يَقْتَضِي الْإِرَادَة فَقَط فَوَجَبَ فِي الْأَمر مثل

ذَلِك إِذْ لَو اقْتضى الْوُجُوب أَو كَرَاهَة ضد الْمَأْمُور لَا نفصل من السُّؤَال بِشَيْء زَائِد على الرُّتْبَة وَمِنْهَا أَن الْأَمر ضد النَّهْي وَلَا معنى لكَونه ضدا لَهُ إِلَّا أَن فَائِدَته ضد فَائِدَته وَفَائِدَة النَّهْي كَرَاهَة الناهي الْمنْهِي عَنهُ لَا غير فَكَانَ فَائِدَة الْأَمر إِرَادَة الْمَأْمُور بِهِ لَا غير لِأَنَّهَا ضد الْكَرَاهَة وَمِنْهَا أَن الْأَمر يُفِيد أَن الْآمِر مُرِيد للْفِعْل وَمَا زَاد على الْإِرَادَة لَا دَلِيل يدل على اقْتِضَاء الْأَمر لَهُ فَلم يجز أَن يَقْتَضِيهِ فصح أَنه يَقْتَضِي الْإِرَادَة فَقَط وَمِنْهَا أَن صِيغَة الْأَمر يجوز اسْتِعْمَالهَا فِي التهديد وَالْإِبَاحَة وَإِنَّمَا يتَمَيَّز مِنْهُمَا بالإرادة فَهِيَ كَافِيَة فِي ثُبُوت حَقِيقَة الْأَمر فَلَا افتقار بهَا إِلَى شَيْء من كَرَاهَة ضد الْمَأْمُور بِهِ وَمن غَيرهَا وَلَو لم يتَمَيَّز الْأَمر من غَيره إِلَّا بِالْكَرَاهَةِ لضد الْمَأْمُور بِهِ لَكَانَ الْأَمر بالنوافل لَيْسَ بِأَمْر على الْحَقِيقَة لِأَن الله تَعَالَى مَا كره أضدادها وَقد أجمع الْمُسلمُونَ على أَن الله سُبْحَانَهُ قد أَمر بالنوافل وَإِنَّمَا مطيعون لَهُ بِفِعْلِهَا وَمِنْهَا أَن قَول الْقَائِل لغيره افْعَل هُوَ طلب للْفِعْل واستدعاء لَهُ فَيجب أَن يثبت مَعَه من أَحْوَال الْقَائِل مَا يطابقه ليَكُون مُسْتَعْملا فِي مَوْضُوعه وَالَّذِي يُطَابق طلب الْفِعْل بالْقَوْل إِرَادَته وَمَا عدا ذَلِك لَا حَاجَة بالمأمور إِلَيْهِ من كَرَاهَة وَغَيرهَا قَالُوا فَثَبت أَن صِيغَة الْأَمر لَا تفِيد إِلَّا الْإِرَادَة وَلَيْسَ يَخْلُو إِمَّا أَن تفِيد إِرَادَة مُطلقَة مُتَعَلقَة بحدوث الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ أَو إِرَادَة على طَرِيق الْوُجُوب أَو إِرَادَة فعله لَا محَالة وَلَيْسَ يجوز أَن تفِيد إِرَادَة فعله لَا محَالة لِأَن الْمَعْقُول من قَوْلنَا إِن الْإِنْسَان يُرِيد أَن يفعل غَيره الْفِعْل لَا محَالة هُوَ أَنه يُرِيد فعله وَيكرهُ تَركه وَقد بَينا أَن الْأَمر لَا يَقْتَضِي كَرَاهَة التّرْك وَلَو عقل من إِرَادَة الْفِعْل لَا محَالة غير مَا ذَكرْنَاهُ لم يكن الْأَمر يقتضيها لما ذَكرْنَاهُ من الْأَدِلَّة

وَأما إِرَادَة الْفِعْل على طَرِيق الْوُجُوب فَإِن عني بهَا أَنَّهَا إِرَادَة الْفِعْل لَا محَالة فقد أفسدناه وَإِن عني بهَا إِرَادَة فعل الْمَأْمُور بِهِ وَإِرَادَة أَن يَنْوِي الْمَأْمُور الْوُجُوب فَذَلِك بَاطِل لِأَنَّهُ لَا دَلِيل فِي الْأَمر على فعل هَذِه الْبَتَّةَ وَاسْتَدَلُّوا على أَن الْإِرَادَة الْمُطلقَة لَا تَقْتَضِي الْوُجُوب بِأَن الْإِنْسَان قد يُرِيد الْوَاجِب وَالنَّدْب والمباح والقبيح وَالله عز وَجل إِنَّمَا يُرِيد من الْمُكَلّفين فِي دَار التَّكْلِيف مَا كَانَ لَهُ صفة زَائِدَة على حسنه لِأَن إِرَادَة الْقَبِيح يَسْتَحِيل عَلَيْهِ لِأَنَّهَا قبيحة وَإِرَادَة الْمُبَاح من الْمُكَلّفين لَا فَائِدَة فِيهَا لِأَنَّهُ لَا يتَرَجَّح وجود الْمُبَاح على عَدمه فِي اسْتِحْقَاق ثَوَاب ومدح فَلم يكن فِي إِرَادَته فَائِدَة فِي دَار التَّكْلِيف وَأما إِرَادَة مَا لَهُ صفة زَائِدَة على حسنه فَيحسن من الْحَكِيم لِأَن مَاله صفة زائده على حسنه إِمَّا أَن يكون ندبا أَو وَاجِبا وَإِرَادَة كل وَاحِد مِنْهُمَا يحسن من الْحَكِيم فاذا حسن ذَلِك كَانَ الْوَاجِب ينْفَصل من النّدب بِاسْتِحْقَاق الذَّم على الْإِخْلَال بِهِ وَهَذِه زِيَادَة لَا يقتضيها حكم الأَصْل فِي كثير من الْأَفْعَال لم يجز إِثْبَاتهَا إِلَّا لدَلِيل زَائِد فَمَتَى لم يحصل دَلِيل زَائِد وَجب نَفيهَا كَمَا أَنه لما يثبت دَلِيل يَقْتَضِي وجوب صَلَاة زَائِدَة وَجب نَفيهَا قَالُوا والرتبة أَيْضا لَا تَقْتَضِي الْوُجُوب لِأَن العالي الرُّتْبَة قد يَأْمر بالندب كَمَا أَنه قد يَأْمر بِالْوَاجِبِ فَلم تكن الرُّتْبَة مقتضية للْوُجُوب وَالْجَوَاب أما قَوْلهم أَولا إِنَّه لَيْسَ فِي صِيغَة الْأَمر ذكر للْوُجُوب فانه يُقَال لَهُم وَلَيْسَ فِي صِيغَة الْأَمر ذكر للإرادة وَلَا لكَون الْفِعْل مَنْدُوبًا وَأَيْضًا فانه لَا يمْتَنع أَن لَا يكون ذكر الْوُجُوب الَّذِي هُوَ قَوْلك أوجبت فِي صَرِيحَة وَيكون هُوَ لفظ آخر من أَلْفَاظ الْوُجُوب وَذَلِكَ أَنه يَقْتَضِي إِيجَاب الْفِعْل لَا محَالة على مَا بَيناهُ كَمَا أَن قَول الْقَائِل لغيره افْعَل لَا محَالة وَقَوله ألزمتك الْفِعْل يَقْتَضِي الْوُجُوب وَإِن لم يكن ذكر الْوُجُوب فِي صريحها وَأما قَوْلهم إِنَّه لَا فرق بَين قَول الْقَائِل لغيره افْعَل وَبَين قَوْله لغيره أُرِيد مِنْك أَن تفعل فانه يُقَال لَهُم أتعنون أَنه لَا فرق بَينهمَا فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مَوْضُوع للإرادة كَمَا وضع قَوْلنَا سَواد للسواد أَو تعنون أَنه وضع لشَيْء آخر والإرادة تفهم تبعا لَهُ

فان قَالُوا بِهَذَا الثَّانِي وَرُبمَا فسروا كَلَامهم بِهِ قيل لَهُم فقد أقررتم أَن قَوْلنَا افْعَل مَوْضُوع لشَيْء غير الْإِرَادَة فبينوا انه غير الْوَاجِب حَتَّى يتم دليلكم وَإِن أردتم الأول لم نسلمه لكم فان استدللتم عَلَيْهِ بِمَا ذكرتموه قيل لكم لَا نسلم أَنه لَا فرق بَين قَول الْقَائِل لغيره افْعَل وَبَين قَوْله أُرِيد مِنْك أَن تفعل بل بَينهمَا فرق وَهُوَ أَن قَوْله افْعَل يُفِيد أَن يفعل لَا محَالة ويفيد الْإِرَادَة من حَيْثُ كَانَ الْمُتَكَلّم بِهَذَا الْكَلَام باعثا على الْفِعْل وَلَا يجوز أَن يبْعَث إِلَّا على فعل مَا لَهُ فِيهِ غَرَض وَلَو عزلنا هَذَا عَن أَنْفُسنَا لم نعلم أَنه مُرِيد للْفِعْل وَلَيْسَ كَذَلِك قَوْله أُرِيد مِنْك أَن تفعل لِأَن ذَلِك صَرِيح فِي الْإِخْبَار عَن كَونه مرِيدا وَلَيْسَ بِصَرِيح فِي استدعاء الْفِعْل فضلا عَن أَن يكون مستدعيا لَا محَالة وَأما قَوْلهم إِنَّه لافرق بَين السُّؤَال وَبَين الْأَمر إِلَّا بالرتبة فَالْجَوَاب عَنهُ أَنه لَا فرق بَين الْأَمر وَالسُّؤَال فِي اقتضائهما للْفِعْل لَا محَالة أَلا ترى أَن الْوَاحِد منا إِذا قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر لي أَو قَالَ للامير اخلع عَليّ فَإِنَّهُ يجد من نَفسه أَن يطْلب وُقُوع ذَلِك لَا محَالة وَأَن لَا يَقع الْإِخْلَال بِهِ وَإِن أورد ذَلِك على طَرِيق التضرع وَعلم أَن إِيصَال الخلعة إِلَيْهِ تفضل لَا يسْتَحق بالاخلال بِهِ الذَّم فَكَأَنَّهُ يَقُول أَنا أعلم أَن ذَلِك تفضل وَلَكِنِّي أطلب أَن يفعل بِي لَا محَالة أَلا ترى أَن السَّائِل قد يُصَرح بذلك فَيَقُول اخلع عَليّ أَيهَا الْأَمِير وَلَا تخل بالتفضل عَليّ بالخلعة فان قيل فاذا كَانَ قَول السَّائِل للمسؤول افْعَل هُوَ طلب للْفِعْل لَا محَالة وَكَانَ السَّائِل بذلك طَالبا للْفِعْل لَا محَالة فقد أَرَادَ الْفِعْل لَا محَالة وَإِلَّا لم يكن مُسْتَعْملا للفظة فِيمَا وضعت لَهُ وَقَوْلنَا أَرَادَ الْفِعْل لَا محَالة يُفِيد أَنه أَرَادَهُ وَكره ضِدّه وَتَركه وَفِي ذَلِك كَونه كَارِهًا لِلْحسنِ لِأَنَّهُ قد يكون ضد مَا سَأَلَهُ حسنا وَكَرَاهَة الْحسن قبيحة قيل قد بَينا أَن الْإِنْسَان إِذا سَأَلَ غَيره شَيْئا فقد طلب أَن يَفْعَله لَا محَالة وَيجْرِي مجْرى أَن يَقُول أَعْطِنِي مَالا وَلَا تخل بذلك وَقد يُصَرح السَّائِل بذلك وَلَا شُبْهَة فِي أَن ذَلِك طلب للْفِعْل لَا محَالة والسائل بِهَذَا الْكَلَام طَالب للْفِعْل لَا محَالة أفتقولون إِن من قَالَ ذَلِك يكره ضد

مَا سَأَلَ فان قَالُوا لَا مَعَ أَنه طَالب أَن يفعل المسؤول الْفِعْل لَا محَالة قُلْنَا مثله فِي السُّؤَال إِذا تجرد عَن نهي وَإِن قَالُوا هُوَ كَارِه لضد مَا سَأَلَهُ وَكَرَاهَة الْحسن قبيحة كَانُوا قد التزموا مَا عابوه وَإِن قَالُوا لَا يمْتَنع حسن كَرَاهَة الْحسن قُلْنَا مثله فِي السُّؤَال وَيُقَال لَهُم كَرَاهَة الْحسن قبيحة إِذا كَانَت كَرَاهَة لَهُ لِأَنَّهُ حسن فَأَما إِذا كَانَت كَرَاهَة لَهُ لِأَن فِيهِ مضرَّة أَو فَوت مَنْفَعَة فَلَا أَلا ترى أَن الْإِنْسَان يَقُول خرج زيد من عِنْدِي آخر النَّهَار وَإِنِّي لكاره لذَلِك لما لي فِي كَونه عِنْدِي من الْأنس وَلَا يلومه أحد على ذَلِك وَلَو قَالَ أردْت أَن يقتل زيد عمرا لأنني أحسده واستضر بجسدي إِيَّاه لامه الْعُقَلَاء فَلَيْسَ يلْزم حسن إِرَادَة الْقَبِيح على حسن كَرَاهَة الْحسن لَا لحسنه وَمَا نذكرهُ فِي الْكتاب من إِطْلَاق قبح كَرَاهَة الْحسن إِنَّمَا جرينا فِيهِ على طَريقَة أَصْحَابنَا فان قَالُوا لَو كَانَ السَّائِل قد طلب الْفِعْل لَا محَالة لَكَانَ قد أوجب على المسؤول فعل مَا لَيْسَ بِلَازِم قيل الملزم غَيره الْفِعْل والموجب عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يلْحقهُ الذَّم واللوم بالإخلال بِهِ إِمَّا بِحَق وَإِمَّا بِغَيْر حق وَذَلِكَ مُرْتَفع عَن السَّائِل فَلم يكن مُوجبا وَلَا ملزما للْفِعْل فان قَالُوا فَإِذا كَانَ السُّؤَال يَقْتَضِي الْفِعْل لَا محَالة وَلَا يُوجِبهُ فَمَا أنكرتم أَن يكون الْأَمر يَقْتَضِي الْفِعْل لَا محَالة وَلَا يُوجِبهُ قيل إِنَّا نقُول إِن لَفْظَة افْعَل تَقْتَضِي استدعاء الْفِعْل لَا محَالة وَقد يَسْتَدْعِي بهَا الْإِنْسَان الْقَبِيح والمباح لمنافعه وَإِنَّمَا نعلم أَنَّهَا استدعاء وَطلب لما لَيْسَ بقبيح وَلَا مُبَاح إِذا صدرت من حَكِيم وَلَا تجوز عَلَيْهِ الْمَنَافِع والمضار أَو ناقل عَمَّن لَا يجوز عَلَيْهِ الْمَنَافِع والمضار وَذَلِكَ يمْنَع أَيْضا أَن يكون استدعاء أَن يفعل الْمَأْمُور الْفِعْل لَا محَالة وَلَيْسَ هُوَ بِوَاجِب فعله لِأَنَّهُ لَا يحسن أَن يُقَال للمكلف افْعَل هَذَا الْفِعْل لَا محَالة وَهُوَ بِصفة النّدب إِلَّا وَبَين لَهُ أَنه بِصفة النّدب الَّذِي يجوز لَهُ الْإِخْلَال بِهِ لِأَن الله إِنَّمَا يَأْمُرنَا بمصالحنا ويستحيل عَلَيْهِ الْمَنَافِع والمضار وَلَا

يجوز أَن يَقُول الْحَكِيم لغيره افْعَل هَذَا الْفِعْل لَا محَالة وَهُوَ يعلم أَنه ينْتَفع بِهِ وَلَا يستضر بِتَرْكِهِ بل لَا بُد أَن يبين لَهُ جَوَاز تَركه فاذا لم يُبينهُ ثَبت الْوُجُوب لِأَن تَقْدِير الْأَمر بالنوافل الأولى أَن تفعل وَلَك أَن لَا تفعل وَهَذِه زِيَادَة فافتقر إِثْبَاتهَا إِلَى دَلِيل فَمَتَى فقد الدَّلِيل فَلَا بُد من الْوُجُوب وَأما الْجَواب عَن قَوْلهم إِن النَّهْي لَا يَقْتَضِي إِلَّا كَرَاهَة الناهي للمنهي عَنهُ فَهُوَ أَنا لَا نسلم ذَلِك فِي النَّهْي بل قَول الْقَائِل لَا تفعل هُوَ طلب للإخلال بِالْفِعْلِ لَا محَالة كَمَا أَن قَوْله افْعَل هُوَ طلب للْفِعْل لَا محَالة وَإِنَّمَا تعقل الْكَرَاهَة على طَرِيق التبع من حَيْثُ لم يجز أَن يمْنَع الْمُتَكَلّم إِلَّا مِمَّا هُوَ كَارِه لَهُ وَأَيْضًا إِن قَوْلنَا لَا تفعل كالنفي لقولنا افْعَل فان اقْتضى النَّهْي الْكَرَاهَة فَيجب أَن يَقْتَضِي الْأَمر نفي الْكَرَاهَة فَقَط وَأما الْجَواب عَن قَوْلهم إِن لَفْظَة افْعَل تدخل فِي أَن يكون أمرا بالإرادة لَا غير والإرادة لَا تَقْتَضِي الْوُجُوب فَهُوَ أَن هَذَا إِنَّمَا يدل على أَن مَا بِهِ يكون الْأَمر أمرا وَهُوَ الْإِرَادَة لَا يُفِيد الْوُجُوب وَلَا يدل على أَن الصِّيغَة مَا وضعت للْوُجُوب وَأحد الْأَمريْنِ مباين للْآخر أَلا ترى أَنه لَا يمْتَنع أَن يَقُول أهل اللُّغَة قد وَضعنَا قَوْلنَا افْعَل للْوُجُوب وسمينا قَوْلنَا افْعَل أمرا إِذا أَرَادَ الْمُتَكَلّم بهَا الْفِعْل سَوَاء اسْتعْملت فِي الْوُجُوب أَو فِي النّدب أَلا ترى أَن الْمُخَالف يَقُول قد وضعت لَفْظَة افْعَل للإرادة وَوضعت بِأَنَّهَا صِيغَة افْعَل سَوَاء اسْتعْملت فِي الْإِرَادَة أَو فِي الْكَرَاهَة وَأما الْجَواب عَن قَوْلهم إِن لَفْظَة افْعَل تفِيد الْإِرَادَة وَمَا زَاد عَلَيْهَا لَا دَلِيل على إفادتها لَهُ فَهُوَ أَنهم إِن أَرَادوا أَنَّهَا مَوْضُوعَة للإرادة فَغير مُسلم وَقد أفسدناه من قبل وَإِن أَرَادوا أَنَّهَا مَوْضُوعَة لغير الْإِرَادَة والإرادة مفهومة مِنْهَا على طَرِيق التبع قيل لَهُم فقد بَطل قَوْلكُم لَا دَلِيل يدل على اقتضائها على مَا زَاد على الْإِرَادَة وَأما الْجَواب عَن قَوْلهم إِنَّه يَنْبَغِي أَن يثبت من أَحْوَال الْآمِر مَا يُطَابق

قَوْله افْعَل فَهُوَ أَن ذَلِك صَوَاب غير أَن قَوْله افْعَل يَقْتَضِي ظَاهره أَن يفعل لَا محَالة وَالَّذِي يُطَابق ذَلِك هُوَ الْإِرَادَة وَالْكَرَاهَة لضد الْفِعْل فَعَلَيْهِم إِفْسَاد ذَلِك حَتَّى يتم دليلهم وَرُبمَا استدلوا على أَن الْأَمر لَيْسَ على الْوُجُوب بِأَن السُّلْطَان قد يَأْمر بالْحسنِ وبالقبيح ويوصفان بِأَنَّهُمَا مَأْمُور بهما على الْحَقِيقَة ويوصف السُّلْطَان بِأَنَّهُ أَمر على الْحَقِيقَة فَلَو كَانَ الْأَمر يُفِيد الْوُجُوب لما وصف هذَيْن بِأَنَّهُمَا مَأْمُور بهما وَالْجَوَاب أَن هَذَا إِنَّمَا يدل على أَن لَفْظَة افْعَل مَتى صدرت من مُرِيد للْفِعْل كَانَت أمرا على الْحَقِيقَة وَلَا تدل على أَن صيغها الَّتِي هِيَ قَول الْقَائِل افْعَل مَا وضعت للْوُجُوب وَقد بَينا فرق مَا بَين الْمَوْضِعَيْنِ وَرُبمَا قَالُوا لَو اقْتَضَت الْوُجُوب لكَانَتْ إِذا تناولت الْقَبِيح جعلته وَاجِبا وَهَذَا إِنَّمَا يفْسد بِكَوْنِهَا جاعلة للْفِعْل وَاجِبا ولسنا نقُول ذَلِك بل نقُول إِنَّهَا مَوْضُوعَة لاقْتِضَاء الْفِعْل لَا محَالة والمتكلم بهما قد طلب الْفِعْل لَا محَالة فاذا كَانَ حكيما يَسْتَحِيل عَلَيْهِ الْمَنَافِع والمضار علمنَا أَن الْفِعْل مِمَّا يجب أَن يفعل لَا محَالة وَلَا يلْزم إِذا اسْتعْملت فِي غير الْإِيجَاب أَن لَا تكون مَوْضُوعَة لَهُ لِأَنَّهَا مستعملة فِي غير الْإِرَادَة وَلَا يمْنَع ذَلِك عِنْدهم من وَضعهَا لَهَا وَصِيغَة الْعُمُوم قد تسْتَعْمل فِيمَا دون الِاسْتِغْرَاق وَلَا تدل على أَنَّهَا مَا وضعت للاستغراق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي صِيغَة الْأَمر الْوَارِدَة بعد حظر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنَّهَا إِذا وَردت بعد حظر عَقْلِي أَو شَرْعِي أفادت مَا تفيده لَو لم يتقدمها حظر من وجوب أَو ندب وَقَالَ جلّ الْفُقَهَاء إِنَّهَا تفِيد بعد الْحَظْر الشَّرْعِيّ الْإِبَاحَة وَالْإِطْلَاق وَدَلِيلنَا أَن صِيغَة الْأَمر إِنَّمَا وَجب أَن تحمل على الْوُجُوب لِأَنَّهَا مَوْضُوعَة لَهُ وَقد صدرت من حَكِيم وتجردت عَن دلَالَة تدل على أَنَّهَا مستعملة فِي غَيره

وَهَذِه الْأُمُور قَائِمَة بعد الْحَظْر فدلت على الْوُجُوب وَيُمكن الْمُخَالف أَن يَقُول إِنَّهَا بعد النَّهْي مَوْضُوعَة للْإِبَاحَة فِي أصل اللُّغَة أَو فِي الْعرف وَأَن يَقُول إِنَّهَا مَوْضُوعَة للْإِيجَاب فِي الْأَحْوَال كلهَا غير أَن تقدم النَّهْي من الْآمِر دلَالَة على أَنه استعملها فِي الْإِبَاحَة وَالْأول بَاطِل لِأَن الْمَعْقُول من لَفْظَة افْعَل الْبَعْث على الْفِعْل واستدعاؤه دون التَّخْيِير بَين الْفِعْل وَتَركه وَالْإِبَاحَة هِيَ تَخْيِير بَين الْفِعْل وَتَركه فَلم تكن مستفادة من صِيغَة الْأَمر وَلِأَن هَذَا القَوْل لَا يشْهد لَهُ أهل اللُّغَة فَهُوَ جَار مجْرى أَن يُقَال إِن الْأَمر يَقْتَضِي الْوُجُوب فِي مَكَان دون مَكَان ولأنا لَو عزلنا عَن أوهامنا أَن الشَّيْء الْمَأْمُور بِهِ مِمَّا تجب إِبَاحَته لَوْلَا النَّهْي لما سبق إِلَى أفهامنا من الْأَمر الْإِبَاحَة وَلِهَذَا إِذا قَالَ الْأَب لِابْنِهِ اخْرُج من الْحَبْس إِلَى الْمكتب لَا يسْبق إِلَى الأفهام إِبَاحَة الْخُرُوج فان قَالُوا لَو لم يفد الْإِبَاحَة لم يكن لَهَا لفظ بعد الْحَظْر قيل بلَى لَهَا أَلْفَاظ وَهُوَ قَوْله أبحت وأطلقت وَافْعل إِن شِئْت وَأَنت مُخَيّر بَين الْفِعْل وَتَركه فَأَما إِن قيل إِن تقدم الْحَظْر دلَالَة على أَن الْمُتَكَلّم اسْتعْمل صِيغَة الْأَمر فِي الْإِبَاحَة كَمَا أَن الْعَجز دلَالَة على أَن الْمُتَكَلّم لم يعن بِالْأَمر الْعَجز فَالَّذِي يُبطلهُ هُوَ أَن ذَلِك إِنَّمَا يكون دلَالَة على مَا ذَكرُوهُ لَو لم يجز انْتِقَال الْمَحْظُور من كَونه مَحْظُور إِلَى كَونه وَاجِبا فَأَما وَذَلِكَ جَائِز فَلَا دلَالَة فِيهِ على الْعُدُول عَن ظَاهر الْأَمر وَلِهَذَا كَانَ الْأَمر الْوَارِد بعد حظر عَقْلِي يُفِيد الْوُجُوب فان قيل الظَّاهِر من الشَّيْء الْمَحْظُور بِالنَّهْي أَن لَا ينْتَقل إِلَى الْوُجُوب قيل لَا نسلم ذَلِك وَلَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ معنى قَوْلكُم أَن الظَّاهِر مَا ذكرْتُمْ أَنه الْأَكْثَر والأغلب وَذَلِكَ يَقْتَضِي غَالب الظَّن فان الْمَحْظُور بِالنَّهْي لَا ينْتَقل إِلَى الْوُجُوب والأمارة الدَّالَّة على الظَّن لَا تنْتَقل عَن مُوجب الدّلَالَة الدَّالَّة على الْعلم وَالْأَمر الصَّادِر عَن الله سُبْحَانَهُ دلَالَة على الْعلم وَلَيْسَ وجداننا أوَامِر وَارِدَة بعد الْحَظْر وَهِي مستعملة فِي الْإِبَاحَة مِمَّا يَقْتَضِي أَن ذَلِك هُوَ ظَاهرهَا كَمَا أَن

وجداننا أَلْفَاظ عُمُوم لم يرد بهَا الإستغراق لَا تدل على أَنَّهَا مَا وضعت لذَلِك وَقد قَالَ قَاضِي الْقُضَاة إِن الْأمة إِنَّمَا حملت قَول الله سُبْحَانَهُ {وَإِذا حللتم فاصطادوا} وَقَوله سُبْحَانَهُ {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض} على الْإِبَاحَة لِأَنَّهَا علمت من قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضَرُورَة أَن هَذِه الْأَشْيَاء مُبَاحَة لَوْلَا مَا عرض فِيهَا من إِحْرَام أَو تشاغل بِالصَّلَاةِ وَمَا أشبه ذَلِك وَقد يعلم الْإِنْسَان أَن زيدا لَا يُوجب على عَبده الْخُرُوج من الْحَبْس بل يبيحه لَهُ إِلَّا عِنْدَمَا يُرِيد حَبسه فِيهِ فَلهَذَا نعلم أَنه إِذا قَالَ لَهُ اخْرُج من الْحَبْس أَنه قد أَبَاحَهُ الْخُرُوج وَرُبمَا كَانَ مُوجبا بذلك عَلَيْهِ الْخُرُوج وَهُوَ الْأَكْثَر فِي العبيد لما يعرض من كَونهم فِي الْحَبْس من مضرَّة الْمولى بانقطاعهم عَن خدمته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْأَمر بالأشياء على طَرِيق التَّخْيِير هَل يُفِيد وجوب جَمِيعهَا على الْبَدَل أم يُفِيد وجوب وَاحِد مِنْهَا لَا بِعَيْنِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه يَنْبَغِي أَن نبين معنى قَوْلنَا إِن الْأَشْيَاء وَاجِبَة على الْبَدَل وَمعنى إِيجَاب الله سُبْحَانَهُ إِيَّاهَا على الْبَدَل ونبين الشَّرْط فِي إِيجَابهَا على الْبَدَل ونبين جَوَاز وُرُود التَّعَبُّد بهَا على الْبَدَل ونبين الطَّرِيق إِلَى ثُبُوت التَّعَبُّد بالأشياء على الْبَدَل وَأَن الله سُبْحَانَهُ قد تعبدنا بالأشياء على الْبَدَل ونبين كَيْفيَّة التَّعَبُّد بهَا فَأَما معنى قَوْلنَا إِن الْأَشْيَاء وَاجِبَة على الْبَدَل فَهُوَ أَنه لَا يجوز للمكلف الْإِخْلَال بجميعها وَلَا يلْزمه الْجمع بَينهَا وَيكون فعل كل وَاحِد مِنْهَا موكولا إِلَى اخْتِيَاره لتساويها فِي وَجه الْوُجُوب وَمعنى إِيجَاب الله سُبْحَانَهُ لَهَا هُوَ أَنه كره ترك جَمِيعهَا وَأَرَادَ كل وَاحِد مِنْهَا وَلم يكره ترك كل وَاحِد مِنْهَا إِذا فعل الْمُكَلف الآخر وفوض إِلَى الْمُكَلف فعل أَيهَا شَاءَ وعرفه جَمِيع ذَلِك وَقد

يجوز أَن يُرِيد جَمِيعهَا على الْبَدَل وعَلى الْجمع وَيُفَارق ذَلِك الْوَاجِبَات الْمرتبَة نَحْو التَّيَمُّم مَعَ تعذر الْوضُوء لِأَن فعل التَّيَمُّم وَالْوُضُوء لَيْسَ بموكول إِلَى اخْتِيَار الْمُكَلف وَقد دخل فِي ذَلِك تَخْيِير اللابس للخفين بَين أَن يمسح عَلَيْهِمَا أَن يغسل رجلَيْهِ وَإِن تعين عَلَيْهِ غسلهمَا عِنْد ظهورهما لِأَن تبقية الْخُف ونزعه موكول إِلَى اخْتِيَاره فَأَما شُرُوط إِيجَاب الْأَشْيَاء على التَّخْيِير فضربان أَحدهمَا أَن يتَمَكَّن الْمُكَلف من الْفِعْلَيْنِ بِأَن يقدر عَلَيْهِمَا ويتميزان لَهُ وَالْآخر أَن يتساوى الفعلان فِي الصّفة الَّتِي تنَاولهَا التَّعَبُّد نَحْو أَن يَكُونَا واجبين أَو ندبين لِأَنَّهُ لَو خير الله سُبْحَانَهُ بَين قَبِيح ومباح لَكَانَ قد فسح فِي فعل الْقَبِيح تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَلَو خير بَين ندب ومباح لَكَانَ قد جعل للمكلف أَن يَفْعَله وَأَن لَا يَفْعَله من غير أَن يتَرَجَّح فعله على تَركه وَذَلِكَ يدْخلهُ فِي كَونه مُبَاحا وَلَو خير بَين وَاجِب وَندب لَكَانَ قد فسح فِي ترك الْوَاجِب لِأَنَّهُ قد اباحه تَركه إِلَى غَيره وَقد قيل إِن الله سُبْحَانَهُ لما خير بَين تَقْدِيم الزَّكَاة وتأخيرها لم يُخَيّر بَين وَاجِب وَنفل وَإِنَّمَا خير الْإِنْسَان بَين أَن يَجْعَل نَفسه عِنْد حؤول الْحول على الصّفة الَّتِي تلْزم مَعهَا الزَّكَاة بِأَن لَا يقدم الزَّكَاة وَبَين أَن يخرج نَفسه عَن هَذِه الصّفة بِأَن يقدمهَا وَعِنْدنَا أَنه إِنَّمَا خير بَين التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يسد مسد صَاحبه فِي الْمصلحَة وَلَا يجوز أَن يُخَيّر الْإِنْسَان بَين أَن يفعل الْفِعْل وَلَا يَفْعَله إِلَّا إِذا كَانَ مُبَاحا لهَذَا قَالَ شُيُوخنَا إِن الْإِنْسَان إِنَّمَا خير بَين الصَّوْم فِي السّفر وَبَين الْعَزْم عَلَيْهِ فِي الْحَضَر وَعند قوم أَنه خير بَين الصَّوْم فِي السّفر وَبَين الصَّوْم فِي الْحَضَر فَلم يحصل التَّخْيِير بَين الْفِعْل وَتَركه فَأَما الدّلَالَة على جَوَاز التَّعَبُّد بالأشياء على التَّخْيِير فَهِيَ أَنه لَا يمْتَنع فِي الْعقل أَن يصلح زيد عِنْد كل وَاحِد من فعلين كَمَا لَا يمْتَنع ان يصلح عِنْد فعل وَاحِد معِين وكما جَازَ أَن يكون الْفِعْل صلاحا لشخص وَاحِد جَازَ أَن يكون الفعلان صلاحا فِي وَاجِب وَاحِد أَلا ترى أَن الْإِنْسَان قد يظنّ أَن وَلَده لَا يمْضِي إِلَى

الْمكتب إِلَّا إِذا أَمر يَده على رَأسه وَقد يظنّ أَن يمْضِي عِنْد ذَلِك وعندما يهب لَهُ درهما وَإِذا لم يمْتَنع ذَلِك فِي الْأَفْعَال لم يحسن أَن لَا يُكَلف وَلَا وَاحِدًا مِنْهَا لِأَن فِيهِ تَفْوِيت مصلحتنا وَلَا ان يُوجب مجموعهما لِأَن الْمصلحَة تحصل من دون مجموعهما فَلَا وَجه لوجوبهما على الْجمع وَلَا أَن يُوجب أَحدهمَا بِعَيْنِه لِأَنَّهُ يكون الْمُكَلف قد فصل بَينهمَا فِي الْوُجُوب مَعَ اشتراكهما فِي وَجه الْوُجُوب وَأما الْكَلَام فِي طَرِيق وُرُود التَّعَبُّد بالأشياء على الْبَدَل فضربان أَحدهمَا عَقْلِي وَالْآخر سَمْعِي أما الْعقلِيّ فَيجوز أَن يعلم بِالْعقلِ تَسَاوِي شَيْئَيْنِ أَو أَكثر فِي وَجه الْوُجُوب كرد الْوَدِيعَة بِكُل وَاحِدَة من الْيَدَيْنِ وَأما الشَّرْعِيّ فضربان أَحدهمَا مَشْرُوط بطريقة عقلية وَالْآخر غير مَشْرُوط بطريقة عقلية أما ألأول فنحو أَن يَأْمُرنَا الله سُبْحَانَهُ بأَشْيَاء فِي وَقت وَاحِد ويستحيل الْجمع بَينهمَا فنعلم أَنَّهَا على التَّخْيِير وَأما الثَّانِي فضربان أَحدهمَا أَن يرد السّمع بتساوي أَشْيَاء فِي وَجه الْوُجُوب وَالْآخر أَن يرد بايجاب أَشْيَاء على طَرِيق التَّخْيِير وَذَلِكَ نَحْو الْكَفَّارَات الثَّلَاث وَقد ذهب الْفُقَهَاء إِلَى أَن الْوَاجِب مِنْهَا وَاحِد لَا بِعَيْنِه وَقَالَ بَعضهم إِن الْوَاجِب مِنْهَا وَاحِدَة وَأَنَّهَا تتَعَيَّن بِالْفِعْلِ وَذهب شيخانا أَبُو عَليّ وَأَبُو هَاشم إِلَى إِن الْكل وَاجِبَة على التَّخْيِير وَمعنى ذَلِك أَنه لَا يجوز الْإِخْلَال بأجمعها وَلَا يجب الْجمع بَين اثْنَيْنِ مِنْهُمَا لتساويهما فِي وَجه الْوُجُوب وَمعنى إِيجَاب الله إِيَّاهَا هُوَ أَنه أَرَادَ كل وَاحِدَة مِنْهَا وَكره ترك أجمعها وَلم يكره ترك وَاحِدَة مِنْهَا إِلَى الْأُخْرَى وعرفنا ذَلِك فان كَانَ الْفُقَهَاء هَذَا أَرَادوا وَهُوَ الْأَشْبَه بكلامهم فَالْمَسْأَلَة وفَاق وكل سُؤال يتَوَجَّه علينا فَهُوَ يتَوَجَّه عَلَيْهِم يلْزمنَا وإياهم الِانْفِصَال عَنهُ وَإِن قَالُوا بل الْوَاجِب وَاحِد معِين عِنْد الله غير معِين عندنَا إِلَّا أَن الله سُبْحَانَهُ قد علم أَن الْمُكَلف لَا يخْتَار إِلَّا مَا هُوَ الْوَاجِب عَلَيْهِ فَالْخِلَاف بَيْننَا وَبينهمْ فِي الْمَعْنى وَالدَّلِيل على مَا قُلْنَاهُ قَوْله تَعَالَى {فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم أَو كسوتهم أَو تَحْرِير رَقَبَة}

الْآيَة وَقَوله {فكفارته إطْعَام} إِيجَاب للإطعام وَقَوله {أَو كسوتهم} عطف على الاطعام تَقْدِيره أَو كَفَّارَته كسوتهم فشرك بَينهمَا فِي الْإِيجَاب لَا على الْجمع فَكَانَا واجبين على التَّخْيِير فصح أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يقوم مقَام الآخر فِي الْوُجُوب فان قيل قَوْله {فكفارته إطْعَام} يجوز أَن يكون إِخْبَارًا عَمَّا يحصل من الْكَفَّارَة فَكَأَنَّهُ قَالَ فَمَا يُوجد من الْكَفَّارَة هُوَ إطْعَام أَو كسْوَة من حانث آخر أَو عتق قيل هَذَا الْكَلَام من الله هُوَ إِيجَاب لرجوع الْأمة إِلَى الْآيَة فِي إِيجَاب الْكَفَّارَة وايضا لَو كَانَ كَمَا ذكرْتُمْ لما كَانَ الْخطاب رَاجعا إِلَى كل من حلف وَإِنَّمَا كَانَ يرجع أَوله إِلَى بعض من حلف وثانيه إِلَى بعض آخر وثالثه إِلَى بعض ثَالِث لِأَنَّهُ لَيْسَ كل من حلف فقد كفر وَلَا كل من كفر فقد كفر بِالْإِطْعَامِ فان قيل إِنَّمَا قَالَ عز وَجل {فكفارته إطْعَام} ثمَّ قَالَ {أَو كسوتهم أَو تَحْرِير رَقَبَة} لِأَن بعض الْمُكَلّفين يلْزمه الْإِطْعَام وَبَعْضهمْ يلْزمه الْكسْوَة وَبَعْضهمْ يلْزمه الْعتْق فَكَأَنَّهُ قَالَ فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين لبَعْضهِم أَو الْكسْوَة لبَعض آخر قيل إِن قَوْله {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم} خطاب للكافة وَالْمرَاد بِهِ كل وَاحِد مِنْهُم لِاتِّفَاق الْمُسلمين على أَن كل حانث قد قيل لَهُ كفر بِالْإِطْعَامِ أَو الْكسْوَة أَو بِالْعِتْقِ وَلم يقل أحد إِن الله سُبْحَانَهُ قَالَ لوَاحِد كفر بِالْإِطْعَامِ وَقَالَ لآخر كفر بالكسوة يبين ذَلِك أَن حمل الْآيَة على ذَلِك يحوج إِلَى إِضْمَار حَتَّى يكون تَقْدِيره فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين لبعضكم أَو كسوتهم لبعضكم وَلَيْسَ يجوز إِضْمَار لَا دَلِيل عَلَيْهِ وَأَيْضًا فَلَو كَانَ قَوْله فكفارته خطابا للكافة لَا لكل وَاحِد مِنْهُم لقَالَ فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين وكسوتهم وتحرير رَقَبَة لِأَن الثَّلَاثَة وَاجِبَة على الْجمع عَلَيْهِم أَلا ترى أَنه يجب على

بَعضهم الْكسْوَة فَقَط فِي حَال مَا يجب الْإِطْعَام فَقَط على آخَرين فِي حَال مَا يجب الْعتْق فَقَط على أخرين دَلِيل آخر لَو كَانَت الْوَاحِدَة من الْكَفَّارَات وَاجِبَة بِعَينهَا على الْمُكَلف لعينها الله عز وَجل لَهُ وَإِلَّا كَانَ قد كلفه مَا لَا طَرِيق لَهُ إِلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يجوز وَلَيْسَ فِي شَيْء من الْأَدِلَّة تعْيين لكفارة من الْكَفَّارَات دَلِيل آخر قد خير الله سُبْحَانَهُ والمسلمون كل مُكَلّف بَين الْكَفَّارَات الثَّلَاث فَلَو وَجب وَاحِدَة مِنْهَا على الْمُكَلف لَا غير لَكَانَ الله سُبْحَانَهُ قد خَيره بَين الْوَاجِب وَبَين مَا لَيْسَ بِوَاجِب وَفِي ذَلِك إِبَاحَة الْإِخْلَال بِالْوَاجِبِ إِن قيل إِنَّمَا خير الله بَين الْكَفَّارَات وَإِن كَانَ الْوَاجِب مِنْهَا وَاحِدًا لِأَنَّهُ قد علم أَن الْمُكَلف لَا يخْتَار إِلَّا الْوَاجِب قيل لَهُ لَيْسَ يَخْلُو اخْتِيَاره للواحدة مِنْهَا إِمَّا أَن يكون لَهُ تَأْثِير فِي كَونهَا مصلحَة وَاقعَة على وَجه الْوُجُوب أَو لَيْسَ لَهُ تَأْثِير فِي ذَلِك فان لم يكن لَهُ تَأْثِير فِي ذَلِك أدّى إِلَى أَن يتَّفق وُقُوع الْمُكَلّفين مَعَ كثرتهم وَطول أزمانهم على الْمصلحَة دون الْمفْسدَة وَذَلِكَ فِي التَّعَذُّر كتعذر اتِّفَاق الْفِعْل الْمُحكم مِمَّن لَيْسَ بعالم بِهِ وَفِي ذَلِك جَوَاز اتِّفَاق تَصْدِيق أَنْبيَاء من جملَة كَذَّابين مِمَّن لَا يعلم الْفرق بَينهم وَأَيْضًا فَلَو صَحَّ وُقُوع الْوَاجِب اتِّفَاقًا لم يخرج الْبَارِي سُبْحَانَهُ من كَونه مُخَيّرا لنا بَين الْوَاجِب وَبَين مَا لَيْسَ بِوَاجِب ومبيحا لنا الْإِخْلَال بِالْوَاجِبِ وَإِن علم أَنا لَا نخل بِهِ وَأَيْضًا فالأمة مجمعة على أَن من كفر بِوَاحِدَة من الْكَفَّارَات لَو كفر بغَيْرهَا أَجزَأَهُ وَكَانَ مكفرا بِمَا تعبد بِهِ فَلَو لم يكن مَا كفر بِهِ وَاجِبا لم يكن مجزئا فان قَالُوا لاختيار الْمُكَلف تَأْثِير فِي كَون الْفِعْل الْمُخْتَار مصلحَة قيل لَهُم لَيْسَ يَخْلُو إِمَّا أَن تكون مصادفة الِاخْتِيَار لأي فعل أُشير إِلَيْهِ تَجْعَلهُ مصلحَة حَتَّى يكون الِاخْتِيَار وَحده هُوَ الْمُؤثر فِي كَون الْفِعْل الْمُخْتَار صلاحا أَو تكون مصادفته لوَاحِدَة من الْكَفَّارَات الثَّلَاث هُوَ الْمصلحَة فان قَالُوا بِالْأولِ لَزِمَهُم أَن يكون للمكلف أَن يخْتَار أَن يكفر بِغَيْر الْإِطْعَام وَالْكِسْوَة وَالْعِتْق وَإِن قَالُوا بِالثَّانِي قيل لَهُم اشْترك الْكَفَّارَات الثَّلَاث فِي الْوَجْه الَّذِي بِهِ فَارَقت مَا لَيْسَ مِنْهَا وَهُوَ الَّذِي

صَار لَهُ الْفِعْل مصلحَة إِذا قارنه الاختيارأو لَا تشترك فِي ذَلِك بل الْوَاحِد مِنْهَا هُوَ مُخْتَصّ بِهَذَا الْوَجْه فَقَط فان قَالُوا بِالثَّانِي قيل لَهُم فاذا الَّذِي يكون مصلحَة إِذا اخترناه هُوَ وَاحِد مِنْهَا فَقَط وَهَذَا يمْنَع مِنْهُ تَخْيِير الله سُبْحَانَهُ الْمُكَلف بَين أَن يَفْعَله وَبَين أَن يتْركهُ وَيفْعل غَيره وَيجب أَن لَو فعلنَا غَيره أَن لَا يجزئنا وَالْأمة مجمعة على أَنه يجزئنا فان قَالُوا لَا يمْتَنع أَن يكون مَا عدا تِلْكَ الْكَفَّارَة مُبَاحا وَيسْقط بِهِ الْفَرْض كَا تَقولُونَ إِن الْقَبِيح يسْقط بِهِ الْفَرْض قيل إِن الْأمة كَمَا اجْتمعت على أَن الْمُكَفّر بِوَاحِدَة من الْكَفَّارَات لَو كفر بغَيْرهَا اجزأه فقد أَجمعت أَيْضا على أَنه لَو كفر بغَيْرهَا لَكَانَ قد فعل الْوَاجِب وَمَا تعبد بِهِ وَأَيْضًا فَانِي إِنَّمَا أجوز فِي الْقَبِيح أَن يسْقط بِهِ الْفَرْض إِذا كَانَ سَادًّا لمسد الْوَاجِب فِي وَجه الْمصلحَة وَإِنَّمَا قبح وَلم يدْخل تَحت التَّكْلِيف لِأَن فِيهِ وَجها من وُجُوه الْقبْح أَو لِأَنَّهُ إِذا فعله الْمُكَلف صَار لَو فعل ذَلِك الْوَاجِب لم يكن على صفة المصلجة فَيسْقط وُجُوبه لهَذَا وَأما الْمُبَاح فَلَو سقط بِهِ الْوَاجِب لَكَانَ إِمَّا أَن يسْقط بِهِ لِأَنَّهُ إِمَّا قد ساواه فِي وَجه الْوُجُوب وَفِي ذَلِك كَونه وَاجِبا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ وَجه قبح يمْنَع من وُجُوبه وَإِمَّا أَن يسْقط الْوَاجِب لِأَنَّهُ يصير مَعَه غير مصلحَة فَذَلِك يَجعله مفْسدَة لِأَن عِنْده يبطل لطف الْمُكَلف وَيصير فَاعِلا لقبيح ولولاه لَكَانَ لَهُ لطف يصرفهُ عَن ذَلِك الْقَبِيح وَإِن قَالُوا الْكَفَّارَات الثَّلَاث تشترك فِي الْوَجْه الَّذِي تتَمَيَّز بِهِ مِمَّا لَيْسَ بكفارة وَهُوَ الَّذِي لمكانه صَار كل وَاحِد مِنْهَا إِذا ضامه الِاخْتِيَار مصلحَة قيل لَهُم فقد وَجب أَن تكون كل وَاحِدَة مِنْهَا لَو فعلت سدت مسد الْأُخْرَى فِي الْمصلحَة وَهَذَا هُوَ قَوْلنَا وَالَّذِي يبْقى بَيْننَا وَبَيْنكُم مَا قلتموه من أَن يكون للآختيار تَأْثِير فِي كَون الْفِعْل مصلحَة مَعَ مَا عَلَيْهِ الْفِعْل من الْوَجْه وَهَذَا لَا معنى لَهُ لِأَن الْمُكَفّر عَالم بِمَا يَفْعَله وَمن هَذِه سَبيله منا لَا بُد من أَن يقْصد وَيُرِيد مَا يَفْعَله وَمَا لَا بُد مِنْهُ فِي الْفِعْل لَا معنى لاشتراطه فِي الْمصلحَة لِأَنَّهُ لَو جَازَ ذَلِك لجَاز أَن يَجْعَل اخْتِيَار كل فعل وَاجِب شرطا فِي كَونه وَاجِبا فَأَما من ذهب إِلَى أَن الْوَاجِب من الْكَفَّارَات وَاحِدَة وَأَنَّهَا تتَعَيَّن بِالْفِعْلِ

فَيُقَال لَهُم مَا معنى قَوْلكُم إِنَّهَا تتَعَيَّن بِالْفِعْلِ فان قَالُوا إِذا فعلت لزم فعلهَا مرّة ثَانِيَة قيل لَهُم إِن أردتم تَكْرِير مثلهَا فَذَلِك غير وَاجِب بِاتِّفَاق وَإِن أردتم فعل نفس مَا فعله فَذَلِك غير مُمكن وَلَو أمكن لم يجب فان قَالُوا نُرِيد بذلك أَنه إِذا فعلهَا علمنَا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي كَانَت وَاجِبَة عَلَيْهِ دون غَيرهَا قيل فَكَانَ يجب أَن يدلنا الله عز وَجل على وُجُوبهَا بِعَينهَا وَلَا يخيرنا بَينهَا وَبَين غَيرهَا وَلَا تجمع الْأمة على أَنه لَو كرر بغَيْرهَا أَجزَأَهُ فَإِن قَالُوا معنى ذَلِك أَنه إِذا فعلهَا أَجزَأَهُ فِي إِسْقَاط الْفَرْض قيل وَكَذَلِكَ مَا لم يَفْعَله لَو فعله أَجزَأَهُ وَالَّذِي وَالَّذِي ذَكرُوهُ نسلمه وَلَيْسَ هُوَ مَوضِع الْخلاف فَهَذِهِ الْقِسْمَة تبطل قَول الْمُخَالف وَيَزُول مَعهَا اعتراضات وَقد أفسد أَصْحَابنَا قَول الْمُخَالف بِهَذِهِ على الْوُجُوه غير هَذِه الْقِسْمَة فَقَالُوا لَو كَانَ الْوَاجِب وَاحِدَة من الْكَفَّارَات لعينها الله سُبْحَانَهُ بِالْوُجُوب وَلما وكل فعلهَا إِلَى اختيارنا لِأَن الْإِنْسَان قد يخْتَار الْمصلحَة والمفسدة كَمَا لم يجز أَن يكل إِلَيْنَا اخْتِيَار نَبِي من غير أَن يدلنا عَلَيْهِ بمعجزة وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا يتم هَذَا الْكَلَام لَو كَانَت الْكَفَّارَة مصلحَة من دون الِاخْتِيَار فَيُقَال يجوز أَن يخْتَار الْمُكَلف الْمصلحَة وَيجوز أَن يخْتَار مَا لَيْسَ بمصلحة كَمَا أَن النَّبِي يكون نَبيا من دون اختيارنا اعْتِقَاد نبوته فَأَما إِذا قُلْنَا إِن تأخيرنا مكمل كَون مَا يَفْعَله مصلحَة فَإنَّا نعلم أَن مَا نختاره هُوَ الْمصلحَة لأجل اختيارنا لَا لِأَنَّهُ صَادف اختيارنا مَا هُوَ مصلحَة فَيُقَال فاذا جَازَ أَن يُصَادف اختياركم الْمصلحَة جَازَ أَيْضا أَن يُصَادف أَيْضا مَا لَيْسَ بمصلحة وَقَالُوا أَيْضا لَو كَانَت الْوَاحِدَة من الثَّلَاث وَاجِبَة فَقَط وَهُوَ الَّذِي يختاره الْمُكَلف لَكَانَ لَو كفر بغَيْرهَا لم تُجزئه وَالْإِجْمَاع وَاقع على انه يُجزئهُ وَلقَائِل أَن يَقُول إِذا جعلت الْمصلحَة أَن أفعل الْكَفَّارَة وَأَنا مختارها وَجب لَو لم يفعل الْمُكَلف مَا فعله وَفعل غَيره أَن تكون مصلحَة أَيْضا لنه قد فعله وَهُوَ مُخْتَار لَهُ

وَقَالُوا أَيْضا كَانَ يجب لَو اخل بِالثلَاثِ أجمع أَن لَا يسْتَحق ذما لِأَنَّهُ إِنَّمَا يجب عَلَيْهِ وَاحِدَة مِنْهَا إِذا اخْتَارَهُ فاذا لم يختره لم يحصل الشَّرْط وَلقَائِل أَن يَقُول الْمصلحَة إِنَّمَا تحصل باحدى الْكَفَّارَات مَعَ الِاخْتِيَار فان لم تُوجد فَاتَت الْمصلحَة فَجرى مجْرى لطف يحصل بِمَجْمُوع فعلين وَجرى مجْرى قَوْلكُم إِن بيع الْأرز مُتَفَاضلا إِنَّمَا يكون مفْسدَة إِذا غلب على ظن الْمُجْتَهد شبه بِالْبرِّ وَلَا يجوز مَعَ ذَلِك إقدام الْمُجْتَهد على بَيْعه مُتَفَاضلا إِذا لم يجْتَهد فِي تَحْرِيمه بل يلْزمه أَن يجْتَهد حَتَّى إِذا أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى تَحْرِيمه اجتنبه وَقَالُوا أَيْضا لَو كَانَت الْوَاحِدَة من الْكَفَّارَات وَاجِبَة فَقَط لَكَانَ قد خير الله سُبْحَانَهُ بَين الْوَاجِب وَبَين مَا لَيْسَ بِوَاجِب وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا تصير مصلحَة بِاخْتِيَار الْمُكَلف وأيها فعل وَهُوَ مُخْتَار لَهُ فقد فعل الْمصلحَة فَلم يُخَيّر بَين الْمصلحَة وَبَين مَا لَيْسَ بمصلحة وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء مِنْهَا أَنه لَو كَانَ كل وَاحِدَة من الْكَفَّارَات وَاجِبَة لوَجَبَ الْجمع بَينهَا إِذْ كل وَاحِدَة مِنْهَا على وَجه الْوُجُوب وَإِذا وجدت وَاحِدَة مِنْهَا لم تخرج الْأُخْرَى من أَن تكون لَو فعلت لوقعت على وَجه الْوُجُوب وَالْجَوَاب أَن كل وَاحِدَة مِنْهَا تخْتَص بِوَجْه وجوب يقوم فِيهِ مقَام الْأُخْرَى فَتسقط الْمصلحَة الاولى فَلم يجز أَن تجب الْأُخْرَى مَعَ أَن الحانث قد استوفى الْمصلحَة بالاولى يبين ذَلِك أَن الْإِطْعَام إِذا كَانَ مصلحَة فِي رد وَدِيعَة وَكَانَت الْكسْوَة تسد مسده فِي ذَلِك فانه إِذا أطْعم الحانث فَرد الْوَدِيعَة قَامَ الْإِطْعَام مقَام الْكسْوَة وَلم يبْق شَيْء تكون الْكسْوَة مصلحَة فِيهِ فَلم يجز أَن يجب وَمِنْهَا قَوْلهم كَانَ يجب لَو كفر الحانث بهَا مَعًا أَن تكون كلهَا وَاجِبَة إِذْ لَيْسَ بَعْضهَا بذلك أولى من بعض وَأجَاب قَاضِي الْقُضَاة بِأَنا لَا نقُول بهد إيجادها بِأَنَّهَا وَاجِبَة عَلَيْهِ لِأَن ذَلِك يُفِيد لُزُوم فعلهَا وَذَلِكَ مُسْتَحِيل بعد

إيجادها وَإِنَّمَا يُقَال فِي الْمَوْجُود إِنَّه وَاجِب وَلَا يُقَال إِنَّه وَاجِب على أحد وَلَا يُقَال فِي الْكَفَّارَات الْمَوْجُودَة مَعًا إِنَّهَا وَاجِبَة لَا على الْجمع وَلَا على الْبَدَل والتخيير لِأَن التَّخْيِير وَالْبدل إِنَّمَا يصحان على الْمَعْدُوم دون الْمَوْجُود قَالَ فَلَو قُلْنَا إِنَّهَا وَاجِبَة لكَانَتْ وَاجِبَة على الْجمع وَذَلِكَ بَاطِل وَلقَائِل أَن يَقُول إِذا لم تكن بعد إيجادها مَوْصُوفَة بِالْوُجُوب لَا على التَّخْيِير وَلَا على الْجمع وَلَا كل وَاحِد مِنْهَا على وَجه وجوب لأنكم لَا تصفون كل وَاحِدَة بِأَنَّهَا وَاجِبَة فانه يلزمكم أَن تَقولُوا إِن وَاحِد مِنْهَا وَاجِب لَا يتَعَيَّن عندنَا وَإِذا قُلْتُمْ ذَلِك لزمكم أَن يكون ذَلِك الْوَاحِد هُوَ الْوَاجِب قبل وجوده لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ كل وَاحِد مِنْهَا وَاجِبا قبل وجوده على الْبَدَل لِأَن كل وَاحِد مِنْهَا لَو وجد لَكَانَ على وَجه الْوُجُوب فان كَانَت إِذا وجدت فواحد مِنْهَا فَقَط على وَجه الْوُجُوب فَذَاك إِذا هُوَ الْوَاجِب على الْمُكَلف قبل وجوده مَا لم يُوجد الآخر فَأَما إِذا وجد الآخر فَلَا قيل لَهُ فاذا وجدت مَعًا لم يكن بَعْضهَا بِأَن يخرج من أَن يكون على وَجه الْوُجُوب لأجل وجود الآخر بِأولى من الْعَكْس فَيلْزم أَن يخرج كلهَا عَن صفة الْوُجُوب وَنحن نجيب عَن الشُّبْهَة فَنَقُول للسَّائِل إِن أردْت بِقَوْلِك هَل هِيَ وَاجِبَة كلهَا انه يلْزم فعلهَا مَعَ أَنَّهَا مفعولة فَذَلِك مُسْتَحِيل وَلَا يبْقى بعد ذَلِك إِلَّا أَن تَقول هَل هِيَ على صِفَات كَانَ يلْزم لمكانها إيجادها إِمَّا على الْجمع وَإِمَّا على الْبَدَل فجوابنا أما أَن تكون وَاجِبَة على الْجمع فَلَا وَأما على الْبَدَل فَنعم هِيَ بعد وجودهَا وَاجِبَة على معنى أَن كل وَاحِد مِنْهَا على صفة مُتَسَاوِيَة للصفة الْأُخْرَى ولمكان تِلْكَ الصّفة يلْزم إيجادها على التَّخْيِير وَهُوَ قَوْلنَا وَمِنْهَا وَمِنْهَا قَوْلهم لَو كَانَت وَاجِبَة على الْبَدَل لم يخل إِذا أطْعم الْمُكَفّر فِي حَال مَا كسا إِمَّا أَن يسْقط الْغَرَض بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا وَإِمَّا أَن يسْقط لمجموعهما أَو بِوَاحِد مِنْهُمَا فَلَو سقط لمجموعهما لكانا واجبين على الْجمع وَلَو سقط بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا لَكَانَ قد حصل حكم وَاحِد عَن مؤثرين وَإِن سقط بِوَاحِد مِنْهُمَا فَذَلِك هُوَ الْفَرْض دون غَيره وَالْجَوَاب أَن الْفَرْض يسْقط بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا

لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا سَاد مسد الآخر فِي وَجه الْوُجُوب فَلَيْسَ بِأَن يسْقط بِأَحَدِهِمَا أولى من أَن يسْقط بِالْآخرِ وَذَلِكَ غير مُمْتَنع أَلا ترى أَن الْمُكَلف لَو قتل أحدا فِي حَال مَا ارْتَدَّ لَا يسْتَحق قَتله وَهُوَ حكم وَاحِد بِكُل وَاحِد من الرِّدَّة وَالْقَتْل وَلَو انكشفت عَورَة الْمُصَلِّي فِي حَال مَا وطيء على نَجَاسَة وَفِي حَال مَا أحدث يخرج من الصَّلَاة بِكُل وَاحِد مِنْهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضهَا بِأَن يُؤثر فِي ذَلِك أولى من بعض وعَلى أَن هَذِه الشُّبْهَة الَّتِي قبلهَا تلْزم الْمُخَالف إِذا قَالَ إِن الْوَاجِب هُوَ مَا يختاره الْمُكَلف لِأَنَّهُ إِذا كفر بالكسوة وَالْعِتْق وَالْإِطْعَام مَعًا فقد اخْتَار كل وَاحِد مِنْهَا فَوَجَبَ أَن يكون كل وَاحِد مِنْهَا هُوَ الْوَاجِب وَبِكُل وَاحِد مِنْهَا يسْقط الْفَرْض وَكَذَلِكَ من قَالَ يتَعَيَّن الْوَاجِب بِالْفِعْلِ وَمِنْهَا وَمِنْهَا قَوْلهم لَو قَالَ الحانث للْفَقِير مَلكتك هَذِه الْكسْوَة وَهَذَا الطَّعَام وَقَالَ مثل ذَلِك لباقي الْفُقَرَاء يكون ذَلِك وَاجِبا أَو ندبا فان قُلْتُمْ وَاجِب لزمكم أَن يكون الْجمع بَين الْإِطْعَام وَالْكِسْوَة وَاجِبا وَإِن قُلْتُمْ ندب لزمكم أَن يكون هَذَا الْمُكَفّر مَا فعل الْوَاجِب وَإِن قُلْتُمْ هُوَ وَاجِب وَندب لم يكن بعضه بِالْوُجُوب أولى من بعض وكنتم قد صرتم إِلَى قَول مخالفكم من أَن الْوَاجِب أَحدهمَا وَالْجَوَاب أَنا نقُول إِنَّه وَاجِب على معنى أَنه يتَضَمَّن إفعالا لَو انْفَرد كل وَاحِد مِنْهَا لأسقط الْفَرْض ونقول إِنَّه ندب على معنى أَنه لَا يلْزمه أَن يجمع بَينهمَا وَلَا تنَاقض بَين ذَلِك على هَذَا التَّفْسِير وَمِنْهَا قَوْلهم لَو كَانَت وَاجِبَة كلهَا لوَجَبَ إِذا أطْعم وكسا مَعًا أَن يَنْوِي بِكُل وَاحِد مِنْهَا الْوُجُوب لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَن يكون أَحدهمَا هُوَ الْوَاجِب أولى من الآخر وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم إِن أردتم بذلك أَنه يَنْوِي أَنه يفعل مَا يقوم مقَام غَيره فِي وَجه الْمصلحَة وَإِسْقَاط الْفَرْض فَنعم وَهُوَ مُطَابق لما فسرناه وَإِن أردتم بِهِ أَنه يَنْوِي بِكُل وَاحِدَة مِنْهُمَا أَنه يلْزمه فعله وَإِن فعل الآخر فَلَا ثمَّ إِن الشُّبْهَة لَازِمَة لَهُم إِذا قَالُوا إِن بِالِاخْتِيَارِ أَو بِالْفِعْلِ يتَمَيَّز الْوُجُوب لِأَن الِاخْتِيَار قد حصل فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا

وَمِنْهَا قَوْلهم كَانَ يجب لَو أخل بِكُل وَاحِدَة من الْكَفَّارَات أَن يسْتَحق الذَّم على الْإِخْلَال بِكُل وَاحِدَة مِنْهَا لِأَن كلهَا وَاجِبَة فَلَيْسَ بِأَن يذم على ترك الْبَعْض أولى من الْبَعْض وَالْجَوَاب أَنا لم نقل إِنَّه يلْزمه الْجمع بَينهمَا حَتَّى يُعَاقب على كل وَاحِدَة مِنْهَا ونقول يسْتَحق قدرا من الْعقَاب على الْإِخْلَال بِالْكُلِّ كَمَا يذم على الْإِخْلَال بِالْكُلِّ وَلَا بِقدر الْعقَاب وَيسْقط كل شُبْهَة وَقد أجَاب شُيُوخنَا عَنهُ بِأَنَّهُ يسْتَحق الذَّم وَالْعِقَاب على أدونها عقَابا لِأَنَّهُ لَو فعله مَا اسْتحق شَيْئا من الْعقَاب فان قيل لَو فعل أعظمها عقَابا لما اسْتحق الذَّم فَيجب إِذا أخل بِالْكُلِّ أَن يسْتَحق ذَلِك الْعقَاب وَالْجَوَاب أَنه إِذا كَانَ لَو فعل أقلهَا عقَابا سقط عَنهُ الْعقَاب فَيجب إِذا أخل بأجمعها ثمَّ عُوقِبَ فِي كل وَقت عِقَاب أقلهَا عقَابا ان يجْرِي بعد اسْتِيفَاء هَذَا الْعقَاب مجْرى من فعل الْكَفَّارَة الَّتِي هَذَا الْعقَاب يسْتَحق على تَركهَا وَلَو فعلهَا لم يسْتَحق عقَابا فَكَذَلِك إِذا استوفى عقابها وَالْأولَى أَن يُقَال يسْتَحق عِقَاب أدونها عقَابا لما ذَكرْنَاهُ الْآن لكنه يسْتَحق ذَلِك على الْإِخْلَال بأجمعها لَا بِوَاحِدَة مِنْهَا لِأَنَّهَا إِذا كَانَت وَاجِبَة على الْبَدَل لم يجز أَن يُعَاقب على الْإِخْلَال بِوَاحِد مِنْهَا لِأَن فِي ذَلِك كَونهَا هِيَ الْوَاجِبَة وَإِنَّمَا يُعَاقب كَمَا يذم وَمَعْلُوم أَنا لَا نذمه لم أخل بِوَاحِدَة وَإِنَّمَا نذمه لم أخل بالكفارات الثَّلَاث فَكَذَلِك يُعَاقب أَلا ترى أَنا نلومه ونعنفه فَنَقُول لم أخللت بجميعها وَلَا نقُول لم أخللت بِوَاحِدَة مِنْهَا فان قَالُوا فاذا كَانَ يسْتَحق الْعقَاب على الْإِخْلَال بأجمعها فَكيف يتَصَوَّر أَن بَعْضهَا أقل عقَابا وَبَعضهَا أَزِيد قيل بِأَن يكون بَعْضهَا أشق من بعض نَحْو الْعتْق وَيتَصَوَّر أَن لَو وَجب وَحده لَكَانَ عِقَاب الْإِخْلَال بِهِ أقل من عِقَاب ترك الْكسْوَة لَو وَجَبت وَحدهَا وَمِنْهَا قَوْلهم لَو كَانَت كلهَا وَاجِبَة لَا يسْتَحق فاعلها مَعًا على كل وَاحِد مِنْهَا ثَوَاب الْوَاجِب وَأجَاب أَصْحَابنَا عَن ذَلِك بِأَنَّهُ إِنَّمَا يسْتَحق عَلَيْهِ ذَلِك الثَّوَاب وَلقَائِل أَن يَقُول وَلَو أفرد فعل أدونها ثَوابًا لَكَانَ وَاجِبا وَلَا يسْتَحق عَلَيْهِ ثَوَابه فيلزمكم على تعليلكم أَن يسْتَحق على ذَلِك ثَوَاب الْوَاجِب وَيسْتَحق

ثَوَاب الْأَعْظَم لَا على أَنه ثَوَاب الْوَاجِب ثمَّ يُقَال لَهُم أبزيادة الثَّوَاب صَار وَاجِبا أم لَا فان قَالُوا نعم قيل فَيجب أَن يكون هَذَا الْوَاجِب قبل ايجاده وَإِن قَالُوا لَا قيل لَهُم فَمَا بِهِ صَارَت وَاجِبَة قد اشتركت فِيهِ فَلم صَار الثَّوَاب الأزيد هُوَ ثَوَاب الْوَاجِب دون غَيره ثمَّ يُقَال لَهُم إِنَّكُم بقولكم أزيدها ثَوابًا هُوَ الَّذِي يسْتَحق عَلَيْهِ ثَوَاب الْوَاجِب دون غَيره تَسْلِيم مِنْكُم أَن ذَلِك هُوَ الْوَاجِب دون غَيره لِأَن مَا لم يُوجد إِنَّمَا يُوصف بِالْوُجُوب وَحده لِأَنَّهُ إِذا وجد اخْتصَّ بِوَجْه الْوُجُوب دون غَيره وَهَذَا قد قلتموه فِي هَذِه الْكَفَّارَة وَنحن نجيب عَن الشُّبْهَة فَنَقُول للمستدلين قَوْلكُم على أَنَّهَا تسْتَحقّ ثوب الْوَاجِب تَسْلِيم مِنْكُم أَن فِيهَا وَاحِد وَاجِب يسْتَحق عَلَيْهِ الثَّوَاب وأنكم تطلبون أَيهَا هُوَ وَنحن قد بَينا أَن كل وَاحِد مِنْهَا وَاجِب إِذا وجدت مَعًا على التَّفْسِير الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَكل وَاحِد مِنْهَا يسْتَحق عَلَيْهِ ثَوَاب الْوَاجِب على معنى أَنه يسْتَحق عَلَيْهِ ثَوَاب مَا هُوَ على صفة لَو فعل وَحده لأسقط الْفَرْض ونقول إِن كل وَاحِد مِنْهَا لَا يسْتَحق عَلَيْهِ ثَوَاب الْوَاجِب إِذا أُرِيد بِالْوَاجِبِ لُزُومه بِعَيْنِه لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَا يلْزم بِعَيْنِه وَاسْتَدَلُّوا على جَوَاز وُرُود التَّعَبُّد بِوَاحِد من الْأَشْيَاء لَا بِعَيْنِه وَيجْعَل ذَلِك موكولا إِلَى اختيارنا بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يَقُول الله سُبْحَانَهُ أوجبت عَلَيْكُم وَاحِدَة من الْكَفَّارَات لَا بِعَينهَا فافعلوا أَيهَا شِئْتُم وَلَو قَالَ ذَلِك لَوَجَبَتْ وَاحِدَة مِنْهَا لَا بِعَينهَا وَالْجَوَاب أَنه إِن عني بقوله أوجبت عَلَيْكُم وَاحِدَة مِنْهَا لَا بِعَينهَا أَنه لَا يلْزمنَا ضم وَاحِدَة إِلَى وَاحِدَة وَأَنه يلْزمنَا أَيهَا شِئْنَا لِأَن كل وَاحِدَة تقوم مقَام الْأُخْرَى فَصَحِيح وَهُوَ مَذْهَبنَا وَإِن عني أَن الْوَاجِب والمصلحة وَاحِد لم يُعينهُ لنا وَهُوَ فِي نَفسه مُتَعَيّن عِنْد الله فَذَلِك لَا يجوز أَن يَقُوله وَهُوَ مَوضِع الْخلاف وَاسْتَدَلُّوا على أَن التَّعَبُّد بذلك قد ورد بأَشْيَاء مِنْهَا أَن الحانث لَا يلْزمه عتق كل رِقَاب الدُّنْيَا وَإِنَّمَا يلْزمه عتق وَاحِدَة

مِنْهَا لَا بِعَينهَا وَذَلِكَ موكول إِلَى اخْتِيَاره وَكَذَلِكَ الْعمي إِذا أفتاه فقيهان بفتويين مُخْتَلفين أَنه يلْزمه أَحدهمَا لَا بِعَيْنِه وَكَذَلِكَ إِذا اعتدلت عِنْد الْمُجْتَهد أمارتان أَنه يلْزمه الْمصير إِلَى أحداهما لَا بِعَينهَا وَقد أجَاب قَاضِي الْقُضَاة بِأَنَّهُ يلْزمه عتق كل رَقَبَة تمكن من عتقهَا على الْبَدَل وَهَذَا هُوَ مَذْهَبنَا وَلَيْسَ ذَلِك بمستحيل على التَّفْسِير الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَكَذَلِكَ يلْزم الْعَاميّ الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الفتويين على الْبَدَل وَكَذَلِكَ الْمُجْتَهد إِذا اعتدلت عِنْده الأمارتان وَمِنْهَا أَن الْإِنْسَان لَو عقد على قفيز من صبرَة لَكَانَ الْمَعْقُود عَلَيْهِ قَفِيزا مِنْهَا لَا بِعَيْنِه وَإِنَّمَا يتَعَيَّن بِاخْتِيَار وَالْجَوَاب أَنه إِذا عقد على قفيز من صبره فَلَيْسَ العقد بِأَن يتَنَاوَل قَفِيزا مِنْهَا أولى من قفيز لعقد الإختصاص فَوَجَبَ أَن يكون كل قفيز مِنْهَا قد يتَنَاوَلهُ العقد على سَبِيل الْبَدَل على معنى أَن كل وَاحِد مِنْهَا لَا اخْتِصَاص للْعقد بِهِ دون صَاحبه وَللْمُشْتَرِي أَن يختاره وَإِذا اخْتَارَهُ تعين ملكه فِيهِ فَتعين الْملك فِي القفيز كسقوط الْفَرْض بِالْكَفَّارَةِ وَكَذَلِكَ إِذا طلق زَوْجَة من زَوْجَاته لَا بِعَينهَا أَو أعتق عبدا من عبيده لَا بِعَيْنِه أَن كل وَاحِد مِنْهُم مُعتق على الْبَدَل وكل وَاحِدَة مِنْهُنَّ طَالِق على الْبَدَل على معنى أَنه لَا اخْتِصَاص للطَّلَاق وَالْعِتْق بِوَاحِد دون صَاحبه وَأَنه أَي نِسَائِهِ اخْتَار مفارقتها حلت لَهُ الْأُخْرَى وتعينت الْفرْقَة عَلَيْهَا وَأي عبيده اخْتَار عتقه تعيّنت فِيهِ الْحُرِّيَّة وَكَانَ لَهُ اسْتِخْدَام البَاقِينَ وَقد أجَاب الشَّيْخ أَبُو عبد الله وقاضي الْقُضَاة عَن الشُّبْهَة فَقَالَا إِنَّه لما جَازَ أَن يقف العقد على القفيز على الِاخْتِيَار جَازَ أَن يقف فرع من فروعه على الِاخْتِيَار وَظَاهر ذَلِك يَقْتَضِي تَسْلِيم مَا قَالَه الْمُخَالف من أَن الْمَبِيع من الصُّبْرَة والمعقود مِنْهَا قفيز يعلم الله عينه وَلَا نعلمهُ نَحن وَمَا عداهُ غير مَعْقُود عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْمُطلقَة من النِّسَاء وَاحِدَة يعلم الله عينهَا وَلَو كَانَ كَذَلِك لوَجَبَ أَن يعين الله سُبْحَانَهُ لنا الْمُطلقَة والقفيز الْمَبِيع وَإِلَّا كَانَ قد خيرنا بَين أَن نقبض مَا نملكه وَمَا لَا نملكه وَبَين الْمقَام على الْمُطلقَة وَالَّتِي لَيست بمطلقة وَبَين ملك الْحر وَالْعَبْد فَهَذَا هُوَ الْكَلَام فِي إِيجَاب الْأَشْيَاء على جِهَة التَّخْيِير

فَأَما كَيْفيَّة إِرَادَة الله الْأَشْيَاء الَّتِي أوجبهَا فَنحْن آخذون فِيهَا فَنَقُول إِن الْأَشْيَاء الَّتِي أوجبهَا الله سُبْحَانَهُ لَا على الْجمع ضَرْبَان أَحدهمَا أوجبهَا على التَّرْتِيب وَالْآخر أوجبهَا على الْبَدَل أما الأول فَهِيَ الَّتِي تعبد بِبَعْضِهَا عِنْد تعذر الْبَعْض كالتيمم عِنْد عدم المَاء وَأكل الْميتَة عِنْد تعذر الطَّعَام وَالْخَوْف على النَّفس أَو عِنْد وجود الْمَشَقَّة نَحْو التَّيَمُّم عِنْد وجود مَاء بِأَكْثَرَ من ثمن مثله وَمَا تعبد الله سُبْحَانَهُ بِهِ على التَّرْتِيب مِنْهُ مَا قد أَرَادَ جَمِيعه وَإِن لم يجب جَمِيعه نَحْو الصّيام وَالْعِتْق فِي كَفَّارَة الْيَمين وَإِن كَانَ إِذا فعل الصّيام لَا تكون كَفَّارَة مِنْهُ وَمِنْه مَا لم يرد الْجمع نَحْو أكل الْميتَة وَأكل الْمُبَاح من الطَّعَام والأشياء الْمرتبَة قد يكون مِنْهَا مَا يُوصف بِأَنَّهُ رخصَة وَهُوَ أَن يكون أسهل وَالْأَصْل غَيره وَلذَلِك الْمسْح على الْخُفَّيْنِ رخصَة وَأكل الْميتَة رخصَة وَأما الْأَشْيَاء المتعبد بهَا على الْبَدَل فضربان أَحدهمَا أرادها الله بأجمعها وَإِن لم يجب الْجمع وَالْآخر لم يرد الْجمع فَالْأول نَحْو الْكَفَّارَات الثَّلَاث وَأما الَّذِي لم يردهُ أجمع فضربان أَحدهمَا كره الْجمع بَينه نَحْو تَزْوِيج الْمَرْأَتَيْنِ كفوين وَالْآخر لم يرد الْجمع وَلَا كرهه نَحْو ستر الْعَوْرَة وكل مَا يسْتَحبّ ستره فِي الصَّلَاة بِثَوْب بعد ثوب لِأَن الثَّوْب الثَّانِي مُبَاح مَا أَرَادَهُ الله وَلَا كرهه وَقد أَرَادَ السّتْر بِكُل وَاحِد مِنْهَا على الْبَدَل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْأَمر هَل يدل على إِجْزَاء الْمَأْمُور بِهِ أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهب الْفُقَهَاء بأسرهم إِلَى أَنه يدل على ذَلِك وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة إِنَّه لَا يدل عَلَيْهِ وَيَنْبَغِي أَن نذْكر معنى وَصفنَا لِلْعِبَادَةِ بِأَنَّهَا مجزئة وَغير مجزئة ثمَّ نَبْنِي الْكَلَام عَلَيْهِ فَنَقُول إِن وصف الْعِبَادَة بِأَنَّهَا مجزئة مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَكْفِي وتجزيء فِي إِسْقَاط التَّعَبُّد بهَا وَإِنَّمَا يكون كَذَلِك إِذا اسْتَوْفَيْنَا شُرُوطهَا الَّتِي تعبدنا أَن

نفعلها عَلَيْهَا وَذَلِكَ أَنه لَا فرق بَين قَوْلنَا هَذَا الشَّيْء يجزئني وَبَين قَوْلنَا إِنَّه يَكْفِينِي والمعقول من قَوْلنَا إِنَّه يَكْفِينِي أَنه يَكْفِي فِي غَرَض من الْأَغْرَاض وَكَذَلِكَ الْمَعْقُول من قَوْلنَا فِي الْعِبَادَة إِنَّهَا تجزيء هُوَ أَنَّهَا تَكْفِي وتجزيء فِي إِسْقَاط التَّعَبُّد وَإِذا قُلْنَا إِن الْعِبَادَة لَا تجزيء فالمعقول مِنْهُ أَنَّهَا لَا تجزىء فِي إِسْقَاط التَّعَبُّد بهَا وَإِنَّمَا لَا تجزيء فِي ذَلِك لِأَنَّهَا لم تستوف شرايطها الَّتِي أَخذ علينا إيقاعها عَلَيْهَا وَتبع ذَلِك أَن يجب قَضَاؤُهَا بذلك التَّعَبُّد إِن لم تكن موقتة أَو كَانَ وَقتهَا بَاقِيا وَأَن يجوز أَن يجب قَضَاؤُهَا إِن كَانَ قد خرج وَقتهَا وَقد دخل تَحت هَذَا الْكَلَام الْعِبَادَات الْوَاجِبَة وَغير الْوَاجِبَة وَلَيْسَ معنى قَوْلنَا إِن الْعِبَادَة تجزىء أَنَّهَا حَسَنَة لِأَن الْمُبَاح حسن وَلَا يُوصف بِأَنَّهُ يجزىء وَإِنَّمَا يُوصف الْمُبَاح بِأَنَّهُ جَائِز على معنى أَنه حسن غير قَبِيح وَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن معنى وصف الْعِبَادَة بِأَنَّهَا مجزئة هُوَ أَنه لَا يجب قَضَاؤُهَا وَمعنى وصفهَا بِأَنَّهَا لَا تجزيء هُوَ أَنه يلْزم قَضَاؤُهَا وَهَذَا غير مُسْتَمر لِأَن الله سُبْحَانَهُ لَو أمرنَا بِالصَّلَاةِ على طَهَارَة فصلى الْإِنْسَان على غير طَهَارَة وَمَات عقيب الصَّلَاة أَو بَقِي حَتَّى خرج وَقت الصَّلَاة وَلم يرد التَّعَبُّد بِالْقضَاءِ لوَجَبَ أَن تكون الصَّلَاة مجزئة إِذْ كَانَ الْقَضَاء لم يجب وَهُوَ معنى كَونهَا مجزئة عِنْده فَإِن قَالَ الْعِبَادَة الَّتِي هِيَ غير المجزئة هِيَ الَّتِي يجوز أَن يجب قَضَاؤُهَا أَو كَانَ يجوز أَن يجب قَضَاؤُهَا وَمَا فرضتموه كَانَ يجوز أَن يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء قيل فقد صَارَت الْعِبَادَة المجزئة هِيَ الَّتِي تكون على صفة لأَجلهَا لَا يجوز أَن يجب قَضَاؤُهَا وَالَّتِي لَا تجزيء تكون على صفة يجوز مَعهَا أَن يجب قَضَاؤُهَا فَمَا تِلْكَ الصّفة إِذْ هِيَ معنى الْإِجْزَاء فَلَا بُد عِنْد ذَلِك من الرُّجُوع إِلَى مَا قُلْنَاهُ فَيظْهر أَن الْمَأْمُور بِهِ إِذا فعل على حد مَا أَمر بِهِ لم يجز أَن يجب قَضَاؤُهُ فاذا ثَبت ذَلِك فلنتكلم فِي الْمَسْأَلَة على كلا الْقَوْلَيْنِ فَنَقُول إِن كَانَ معنى وصف الْعِبَادَة بِأَنَّهَا مجزئة أَنه قد سقط بهَا التَّعَبُّد فمعلوم أَن الْأَمر يدل على أَن مَا تنَاوله إِذا فعل على حد مَا تنَاوله مَعَ تَكَامل الشَّرَائِط فَهُوَ يجزيء لِأَن

الْمُكَلف بِهَذَا الْفِعْل ممتثل للامر فَلَو قُلْنَا إِن التَّعَبُّد بذلك الْفِعْل بَاقٍ عَلَيْهِ انْتقض القَوْل بِأَنَّهُ ممتثل لِلْأَمْرِ لِأَن الْأَمر تعبد وَلِهَذَا نقُول إِن الْمُضِيّ فِي الْحجَّة الْفَاسِدَة يجزيء فِي إِسْقَاط التَّعَبُّد بالمضي فِيهَا وَإِنَّمَا لَا يجزيء فِيهَا إِسْقَاط التَّعَبُّد بِحجَّة صَحِيحَة لِأَن ذَلِك التَّعَبُّد مَا امتثل وَكَذَلِكَ الصَّلَاة فِي آخر الْوَقْت على ظن الطَّهَارَة تجزيء فِي إِسْقَاط التَّعَبُّد المتوجه إِلَى الظَّان فِي ذَلِك الْوَقْت وَإِذا ذكر من بعد أَنه كَانَ مُحدثا توجه إِلَيْهِ أَمر آخر لِأَنَّهُ إِنَّمَا كلف الصَّلَاة على طَهَارَة إِذا ذكر أمه كَانَ مُحدثا حِين صلى فَأَما كَون الْعباد جَائِزَة على معنى أَنَّهَا حَسَنَة فَلَا شُبْهَة فِي أَن الْأَمر يدل عَلَيْهِ لِأَن الْأَمر يدل على الْوُجُوب أَو على النّدب وَالْحسن دَاخل تَحت كل وَاحِد مِنْهُمَا فَأَما القَوْل بِأَن الْأَمر يدل على إِجْزَاء الْمَأْمُور بِهِ على معنى أَنه يمْنَع من لزم الْقَضَاء فَصَحِيح أَيْضا لِأَن قَضَاء الْعِبَادَة الموقتة هُوَ فعل وَاقع بعد خُرُوج وَقتهَا بَدَلا من فعلهَا فِي وَقتهَا على الْوَجْه الْمَأْمُور بِهِ وَذَلِكَ يكون إِمَّا لِأَن الْعِبَادَة مَا فعلت أصلا أَو فعلت على وَجه الْفساد وَذَلِكَ غير حَاصِل إِذا فعلهَا الْإِنْسَان على وَجه الصِّحَّة فَلم يتَصَوَّر الْقَضَاء اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال يجب عَلَيْهِ بعد خُرُوج الْوَقْت فعل مثل مَا فعله فِي الْوَقْت وَلَا يكون قَضَاء لما فعله فَذَلِك غير مُنكر وَالْأَمر لَا يدل على نفي وجوب ذَلِك أَلا ترى أَن الْأَمر بِصَلَاة الظّهْر لَا يمْنَع من وجوب مثلهَا فِي الْعَصْر غير أَنه لَا يكون قَضَاء لَهَا فان قيل أَلَيْسَ الْمَاضِي فِي الْحجَّة الْفَاسِدَة قد امتثل الْأَمر فِي الْمُضِيّ فِيهَا وَيلْزمهُ الْقَضَاء وَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي فِي آخر الْوَقْت على ظن الطَّهَارَة قيل الْحجَّة الصَّحِيحَة لَا تكون قَضَاء لمقْتَضى الْأَمر بالمضي فِي الْحجَّة الْفَاسِدَة وَإِنَّمَا هِيَ مفعولة لأجل أَن الْأَمر بِالْحَجِّ الصَّحِيح بَاقٍ وَالصَّلَاة المفعولة بعد خُرُوج الْوَقْت إِذا ذكر الْمُكَلف أَنه كَانَ صلى على غير طَهَارَة لَيْسَ بِقَضَاء لمقْتَضى الْأَمر بِالصَّلَاةِ مَعَ ظن الطَّهَارَة وَإِنَّمَا هُوَ قَضَاء لمقْتَضى الْأَمر بِصَلَاة على طَهَارَة

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْأَمر بالشَّيْء هَل يدل على وجوب مَا لَا يتم الشَّيْء إِلَّا بِهِ أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه يَنْبَغِي أَن نذْكر الْأَشْيَاء الَّتِي لَا تتمّ الْعِبَادَة إِلَّا مَعهَا ثمَّ نذْكر مَتى يدل الْأَمر على وجوب مَا لَا يتم الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا مَعَه وَمَتى لَا يدل وَيدل على كلا الْقسمَيْنِ ونبدأ بِالْأولِ فَنَقُول إِن مَا لَا تتمّ الْعِبَادَة إِلَّا بِهِ ضَرْبَان أَحدهمَا هُوَ كالوصلة وَالطَّرِيق الْمُتَقَدّم على الْعِبَادَة وَالْآخر لَيْسَ كالوصلة الْمُتَقَدّمَة فَالْأول ضَرْبَان أَحدهمَا يجب بحصوله حُصُول مَا هُوَ طَرِيق إِلَيْهِ وَالْآخر لَا يجب ذَلِك فِيهِ فَالْأول ضَرْبَان أَحدهمَا يجب بحصوله حُصُول مَا هُوَ طَرِيق إِلَيْهِ وَالْآخر لَا يجب ذَلِك فِيهِ فَالْأول نَحْو أَن يَأْمُرنَا الله سُبْحَانَهُ بإيلام زيد فَإِن وصلتنا إِلَى ذَلِك هُوَ ضَرْبَة ومحال وجود الضَّرْب الشَّديد فِي بدنه مَعَ احْتِمَاله الْأَلَم وَلَا يألم وَالثَّانِي ضَرْبَان أَحدهمَا تحْتَاج إِلَيْهِ الْعِبَادَة بِالشَّرْعِ وَالْآخر تحْتَاج إِلَيْهِ فِي نَفسهَا لَا بِالشَّرْعِ أما الأول فكحاجة الصَّلَاة إِلَى تَقْدِيم الطَّهَارَة وَأما الثَّانِي فكالتمكن على اخْتِلَاف أقسامه كالقدرة والآلات وَقطع الْمسَافَة إِلَى أقرب الْأَمَاكِن من عَرَفَة والتمكن مِنْهُ مَا يَصح من الْمُكَلف تَحْصِيله كَقطع الْمسَافَة وإحضار بعض الْآلَات وَمِنْه مَا لَا يَصح من الْمُكَلف كالقدرة فَأَما مَا لَيْسَ كالوصلة مِمَّا تحْتَاج إِلَيْهِ الْعِبَادَة فان الْعِبَادَة المفتقرة إِلَيْهِ ضَرْبَان أَحدهمَا إقدام على الْفِعْل وَالْآخر إخلال بِفعل أما الأول فضربان أَحدهمَا أَن يكون إِنَّمَا لم يتم من دون غَيره لأجل الالتباس نَحْو أَن يتْرك الْإِنْسَان صَلَاة من جملَة الْخمس لَا يعرفهَا بِعَينهَا فَيلْزمهُ فعل الْخمس لِأَنَّهُ لَا يتَمَكَّن مَعَ الالتباس أَن يتَيَقَّن إِتْيَانه بالمنسية إِلَّا بِفِعْلِهِ الْكل والآخران أَن لَا يُمكن اسْتِيفَاء الْعِبَادَة إِلَّا بِفعل آخر لأجل التقارب نَحْو ستر جَمِيع الْفَخْذ لِأَنَّهُ لَا يُمكن إِلَّا مَعَ ستر بعض الرّكْبَة وَغسل جَمِيع الْوَجْه لَا يُمكن إِلَّا مَعَ غسل يسير من الرَّأْس وَأما إِذا كَانَت الْعِبَادَة إخلالا بِفعل وَلَا يُمكن إِلَّا بِغَيْرِهِ فَهُوَ أَن يكون مَا يلْزم

الْإِخْلَال بِهِ ملتبسا بِغَيْرِهِ وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا أَن يكون قد تغير فِي نَفسه وَالْآخر لَا يكون قد تغير فِي نَفسه فَالْأول نَحْو اخْتِلَاط النَّجَاسَة بِالْمَاءِ الطَّاهِر وَقد اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَمنهمْ من حرم اسْتِعْمَال المَاء الْمُتَيَقن حُصُول النَّجَاسَة فِيهِ على كل حَال وَلم يَجْعَلهَا مستهلكة وَمِنْهُم من جعلهَا مستهلكة وَاخْتلفُوا فِي الأمارة الدَّالَّة على استهلاكها فَمنهمْ من قَالَ هِيَ تغير المَاء وَمِنْهُم من قَالَ هِيَ كَثْرَة المَاء وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فَمنهمْ من قدر الْكَثْرَة بالقلتين وَمِنْهُم من قدرهَا بكر وَغير ذَلِك فَأَما مَا لَا يتَغَيَّر مَعَ الالتباس فَإِنَّهُ يشْتَمل على مسَائِل مِنْهَا أَن يلتبس الْإِنَاء النَّجس بِالْإِنَاءِ الطَّاهِر وَقد اخْتلف فِي ذَلِك فَمنع قوم من اسْتِعْمَالهَا تَغْلِيبًا للحظر لأجل مُسَاوَاة الطَّاهِر النَّجس فِي الْعدَد وَقَالَ قوم بِالتَّحَرِّي وَالْعَمَل على غَلَبَة الظَّن فَإِذا غلب على الظَّن نَجَاسَة أَحدهمَا جرى ذَلِك مجْرى الْعلم فِي أَن أَحدهمَا قد أمكن اسْتِعْمَاله من دون الْمحرم وَمِنْهَا أَن يُوقع الْإِنْسَان الطَّلَاق على امْرَأَة من نِسَائِهِ بِعَينهَا ثمَّ تذْهب عَلَيْهِ عينهَا قَالَ قَاضِي الْقُضَاة الْأَقْوَى عِنْدِي أَن تحرم الْكل لِأَن التَّحْرِيم قد كَانَ تعين فَلَا يُؤمن إِذا استمتع بِوَاحِدَة مِنْهُنَّ أَن تكون هِيَ الْمُطلقَة فَهَذِهِ جملَة الْأَقْسَام وَقد ذكرت فِي الشَّرْح الْأَشْيَاء الَّتِي يتبع بَعْضهَا أَحْكَام بعض وَقد ذكرهَا قَاضِي الْقُضَاة فِي شَرحه وَعدلت عَن ذكرهَا هَا هُنَا لِأَنَّهَا بالْكلَام أشبه فَأَما الْكَلَام فِي الْفَصْل الثَّانِي فَهُوَ أَن مَا لَا يتم الْعِبَادَة إِلَّا مَعَه ضَرْبَان أَحدهمَا لَا يُمكن الْمُكَلف تَحْصِيله كالقدرة وَالْآخر يُمكن تَحْصِيله فَالْأول لَا يدل الْأَمر بِالْعبَادَة على وُجُوبه لِأَنَّهُ غير مُمكن فعله وَالْأَمر من الْحَكِيم لَا يتَوَجَّه بِمَا لَا يُمكن وَلَا يتَوَجَّه إِلَى الْعِبَادَة إِلَّا بِشَرْط حُصُول الْقُدْرَة لِأَنَّهُ إِن كَانَ يُوجد مَعَ فقدها كَانَ أمرا بِمَا لَا يُطَاق وَالثَّانِي على ضَرْبَيْنِ أَحدهمَا أَن يكون الْأَمر بِالْعبَادَة ورد مَشْرُوطًا بِحُصُول مَا يفْتَقر إِلَيْهِ الْعِبَادَة نَحْو أَن يُقَال

للمكلف اصْعَدْ السَّطْح إِن كَانَ السّلم مَنْصُوبًا وَهَذَا يَقْتَضِي وجوب الصعُود إِن كَانَ السّلم مَنْصُوبًا لِأَن الْأَمر تنَاول الْمُكَلف بِهَذَا الشَّرْط وَقد حصل الشَّرْط وَلَا يتَنَاوَل الْمُكَلف مَعَ فقد الشَّرْط فَلم يُوجب عَلَيْهِ صعُودًا كساير مَا لَا يتَنَاوَلهُ الْأَمر وَإِذا لم يُوجب عَلَيْهِ الصعُود لم يُوجب عَلَيْهِ نصب السّلم وَالضَّرْب الآخر أَن يرد الْأَمر مُطلقًا نَحْو أَن يُقَال للمكلف اصْعَدْ السَّطْح فان هَذَا الْأَمر يُوجب عَلَيْهِ الصعُود وَتَقْدِيم نصب السّلم يدل على ذَلِك أَن الْأَمر الْمُطلق يَقْتَضِي إِيقَاع الْفِعْل لَا محَالة مَتى أمكن إِيقَاعه وَإِذا اقْتضى ذَلِك اقْتضى إِيقَاع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْفِعْل وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن الْمُطلق يَقْتَضِي إِيقَاع الْفِعْل على كل حَال لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُقَيّدا بِوَقْت نَحْو أَن يُقَال اصْعَدْ السَّطْح فِي هَذَا الْوَقْت فانه يجْرِي مجْرى أَن نقُول لَهُ لَا يخرج هَذَا الْوَقْت إِلَّا وَقد صعدت السَّطْح على كل حَال مَتى تمكنت الصعُود إِذْ لَيْسَ فِي لفظ الْأَمر ذكر الشَّرْط وَلَو قيل لَهُ ذَلِك لزمَه الصعُود على كل حَال وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن هَذَا يَقْتَضِي وجوب نصب السّلم لِأَنَّهُ لَو لم يجب نصب السّلم بل كَانَ مُبَاحا أَن لَا ينصبه لَكَانَ الْأَمر كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ مُبَاح أَن لَا تنصب السّلم وواجب عَلَيْك مَعَ فقد السّلم وَغَيره أَن تصعد وَذَلِكَ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق فَإِن قيل لَيْسَ يَخْلُو الْأَمر بالصعود إِمَّا أَن يكون مَشْرُوطًا بِنصب السّلم أَو غير مَشْرُوط بِهِ فَإِن كَانَ مَشْرُوطًا بِهِ فَهُوَ قَوْلنَا وَيجب إِذا لم يكن السّلم مَنْصُوبًا أَن لَا يكون مُتَوَجها إِلَى الْمُكَلف وَلَا يلْزمه نَصبه وَإِن كَانَ غير مَشْرُوط بِوُجُود السّلم فَذَلِك تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَالْجَوَاب أَنا لَا نعقل من قَوْلهم إِن الْأَمر بالصعود مَشْرُوط بِنصب السّلم إِلَّا أَنه يتَنَاوَل الْمَأْمُور عِنْد نصب السّلم وَلَا يتَنَاوَلهُ إِذا لم يكن السّلم مَنْصُوبًا وَهَذَا مَوضِع الْخلاف لأَنا نقُول إِن الْأَمر يتَنَاوَل الْمَأْمُور سَوَاء كَانَ السّلم مَنْصُوبًا أَو غير مَنْصُوب وَلَيْسَ فِي ذَلِك تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق لأَنا نقُول إِن الْأَمر اقْتضى وجوب نصب السّلم وَهُوَ مُمكن للمكلف وَلَوْلَا صِحَة مَا ذَكرْنَاهُ لَكَانَ كل من أَمر غُلَامه بحاجة فِي السُّوق وَهُوَ فِي الْبَيْت أَن يكون إِنَّمَا أمره بذلك إِن حصل فِي أقرب

الْأَمَاكِن من مَكَان تِلْكَ الْحَاجة إِن كَانَت الْقِسْمَة لَا تَخْلُو مِمَّا ذَكرُوهُ فَإِن قَالُوا لَيْسَ فِي لفظ الْأَمر ذكر الْإِيجَاب غير الْمَأْمُور بِهِ فَلم أوجبتموه قيل لِأَن وجوب الْمَأْمُور بِهِ اقْتضى وُجُوبه كَمَا أَوجَبْنَا التَّسَبُّب وَإِن كَانَ الْأَمر بالمسبب لَا ذكر للسبب فِيهِ وكما أَوجَبْنَا ستر بعض الرّكْبَة وَإِن لم يكن لَهُ ذكر فِي الْأَمر بستر الْفَخْذ فَإِن قيل هلا شرطتم الْأَمر بِحُصُول الصّفة الَّتِي يحْتَاج إِلَيْهَا الْفِعْل حَتَّى لَا يلْزم وجوب تَحْصِيل تِلْكَ الصّفة قيل لِأَن اشْتِرَاط مَا ذكرْتُمْ يمْنَع من ثُبُوت وجوب الْمَأْمُور بِهِ فِي بعض الْحَالَات وعَلى بعض الْوُجُوه بِأَن لَا تكون الصّفة حَاصِلَة ول يلْزم تَحْصِيلهَا وَنحن قد بَينا أَن ظَاهر الْأَمر يَقْتَضِي وجوب الْمَأْمُور على كل حَال فاشتراط مَا ذكرْتُمْ فِيهِ ترك للظَّاهِر فَإِن قَالُوا لَسْتُم بِأَن تتمسكوا بِظَاهِر الْأَمر فِي إِيجَاب الْمَأْمُور بِهِ على كل حَال وتتركوا ظَاهره فِي إِيجَاب مَا لَا ذكر لَهُ فِي الْأَمر بِأولى من أَن تتمسكوا بِظَاهِرِهِ فِي نفي وجوب مَا لَا ذكر لإيجابه فِيهِ وَهُوَ ترك ظَاهر الْأَمر فِي نفي اشْتِرَاط شَرط يمْنَع من وجوب الْمَأْمُور بِهِ فِي بعض الْحَالَات قيل قد سلمتم وَبينا نَحن أَن مَا تفعلونه أَنْتُم ترك لظَاهِر الْأَمر فَأَما إيجابنا لما لَا ذكر لَهُ فِي الْأَمر فَلَيْسَ بترك لظَاهِر الْأَمر فَيَقَع بَيْننَا وَبَيْنكُم الْمُسَاوَاة فِي ترك إِحْدَى الظاهرين وَاسْتِعْمَال الآخر لِأَن مَا لَا يتم الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا مَعَه كَمَا أَنه لَا ذكر لإيجابه فِي الْأَمر فَإِنَّهُ لَا ذكر لنفي وُجُوبه فِيهِ وَمن أوجب مَا لَا يمْنَع اللَّفْظ من وُجُوبه وَلَا يَقْتَضِي صَرِيحه وُجُوبه لم يكن تَارِكًا لظَاهِر اللَّفْظ أَلا ترى أَن إِثْبَات الرِّبَا لَيْسَ بترك لآيَة الدّين لما لم ينفه وَلم يتَعَرَّض لَهُ أصلا فَأَما ظَاهر قَوْله افْعَل فِي هَذَا الْوَقْت فانه يَقْتَضِي أَن يفعل فِيهِ على كل حَال مَتى أمكنه فعله فِيهِ على كل حَال فَالْقَوْل بِأَنَّهُ مَشْرُوط شرطا إِن لم يكن حَاصِلا فَإِنَّهُ لَا يلْزمه الْفِعْل إِسْقَاط الْوُجُوب فِي كل حَال مَعَ أَن ظَاهر القَوْل اقْتَضَاهُ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْأَمر بالشَّيْء هَل هُوَ نهي عَن ضِدّه دَال على قبحه أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهب قوم إِلَى أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه وَخَالفهُم أخرون على ذَلِك وَإِلَيْهِ ذهب قَاضِي القاضة واصحابنا وَالْخلاف فِي ذَلِك إِمَّا فِي الِاسْم وَإِمَّا فِي الْمَعْنى فَالْخِلَاف فِي الِاسْم أَن يسموا الْأَمر نهيا على الْحَقِيقَة وَهَذَا بَاطِل لِأَن أهل اللُّغَة فصلوا بَين الْأَمر وَالنَّهْي فِي الِاسْم وَسموا هَذَا أمرا وَسموا هَذَا نهيا وَلم يستعملوا اسْم النَّهْي فِي الْأَمر فَإِن استعملوه فِيهِ فقليل نَادِر وَالْخلاف فِي الْمَعْنى من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يُقَال إِن صِيغَة لَا تفعل وَهُوَ النَّهْي مَوْجُودَة فِي الْأَمر وَهَذَا لَا يَقُولُونَهُ لِأَن الْحس يَدْفَعهُ وَالْآخر أَن يُقَال إِن الْأَمر نهي عَن ضِدّه فِي الْمَعْنى من جِهَة أَن يحرم ضِدّه وَهَذَا يكون من وُجُوه مِنْهَا أَن يُقَال إِن صِيغَة الْأَمر تَقْتَضِي إِيقَاع الْفِعْل ونمنع من الْإِخْلَال بِهِ وَمن كل فعل يمْنَع من فعل الْمَأْمُور بِهِ فَمن هَذِه الْجِهَة يكون محرما لضد الْمَأْمُور بِهِ وَهَذَا قد بَينا صِحَّته من قبل وَمِنْهَا أَن يُقَال إِن الْأَمر يَقْتَضِي الْوُجُوب لدَلِيل سوى هَذَا الدَّلِيل فاذا تجرد الْأَمر عَن دلَالَة تدل على أَن أحد أضداد الْمَأْمُور بِهِ يقوم مقَامه فِي الْوُجُوب اقْتضى قبح أضداده إِذْ كل وَاحِد مِنْهَا يمْنَع من فعل الْمَأْمُور بِهِ وَمَا منع من فعل الْوَاجِب فَهُوَ قَبِيح وَهَذَا الْوَجْه أَيْضا فَهُوَ صَحِيح إِذا ثَبت أَن الْأَمر يدل على الْوُجُوب وَمِنْهَا أَن يُقَال إِن الْأَمر يدل على كَون الْمَأْمُور بِهِ ندبا فَيَقْتَضِي أَن الأولى أَن لَا يفعل ضِدّه كَمَا أَن النَّهْي على طَرِيق التَّنْزِيه يَقْتَضِي أَن الأولى أَن لَا يفعل

الْمنْهِي عَنهُ وَهَذَا لَا يأباه الْقَائِلُونَ بِأَن الْأَمر على النّدب غير أَنه لَو سمي الْأَمر بالندب نهيا عَن ضد الْمَأْمُور بِهِ لَكنا منهيين عَن البيع وَسَائِر الْمُبَاحَات لأَنا مأمورون بأضدادها من النّدب وَمِنْهَا أَن يُقَال إِن الْأَمر بالشَّيْء يَقْتَضِي حسنه أَو كَونه ندبا وَحسن الشَّيْء يَقْتَضِي قبح ضِدّه وَأَن الْأَمر يدل على إِرَادَة الْآمِر للْمَأْمُور بِهِ وَإِرَادَة الشَّيْء كَرَاهَة ضِدّه أَو تتبعها لَا محَالة كَرَاهَة ضِدّه إِمَّا من جِهَة الْحِكْمَة أَو الصِّحَّة والحكيم لَا يكره إِلَّا الْقَبِيح وَهَذَا كُله بَاطِل بالنوافل لِأَنَّهَا حَسَنَة وَمرَاده لَيست اضدادها قبيحة وَلَا مَكْرُوهَة فَإِن قَالُوا صِيغَة افْعَل إِذا تعلّقت بالنوافل لم تكن أمرا على الْحَقِيقَة فَلهَذَا لم تكن نهيا عَن أضدادها قيل إِنَّمَا كلامنا على قَوْلكُم إِن حسن الشَّيْء وَتعلق الْإِرَادَة بِهِ يَقْتَضِي قبح ضِدّه وَكَونه مَكْرُوها وَهَذَا منتقض بالنوافل سَوَاء سميتم مَا تعلق بِهِ أمرا أم لَا ثمَّ يُقَال لَهُم فاذا كَانَ مَا تعلق بالنوافل لَيْسَ بِالْأَمر فَمَا الْأَمر فان قَالُوا مَا دلّ على الْوُجُوب كَانُوا قد تركُوا هَذَا الْقسم وَعدلُوا إِلَى مَا تقدم فَأَما النَّهْي عَن الشَّيْء فانه دُعَاء إِلَى الْإِخْلَال بِهِ فَيجب كَونه فِي معنى الْأَمر بِمَا لَا يَصح الْإِخْلَال بالمنهي عَنهُ إِلَّا مَعَه فَإِن كَانَ للمنهي عَنهُ ضد وَاحِد وَلَا يُمكن الِانْصِرَاف عَنهُ إِلَّا إِلَيْهِ كَانَ النَّهْي دَلِيلا على وُجُوبه بِعَيْنِه وَإِن كَانَ لَهُ اضداد كَثِيرَة وَلَا يُمكن الِانْصِرَاف عَنهُ إِلَّا إِلَى وَاحِد مِنْهَا كَانَ النَّهْي فِي حكم الْأَمر بهَا أجمع على الْبَدَل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْأَمر الْمُطلق هَل يَقْتَضِي الْفِعْل مرّة وَاحِدَة أَو يَقْتَضِي التّكْرَار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهب بعض النَّاس إِلَى أَن ظَاهره يُفِيد التّكْرَار وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّه لَا يفِيدهُ وَإِنَّمَا يُفِيد إِيقَاع الْفِعْل فَقَط وبالمرة الْوَاحِدَة يحصل ذَلِك وَالدَّلِيل على

ذَلِك أَن السَّيِّد إِذا أَمر غُلَامه بِالدُّخُولِ إِلَى الدَّار أَو يشترى اللَّحْم لم يعقل مِنْهُ التّكْرَار وَلَو ذمه على تَركه تكْرَار الدُّخُول لامه الْعُقَلَاء وَلَو كرر الدُّخُول اليها جَازَ أَن يلومه وَيَقُول لَهُ إِنِّي لم آمُرك بتكرار الدُّخُول إِلَيْهَا فان قيل أَلَيْسَ الرجل إِذا قَالَ لغيره أكْرم فلَانا أَو أحسن عشرته عقل مِنْهُ التّكْرَار قيل لَهُ الْمَعْقُول من قَول الْقَائِل لغيره أحسن عشرَة فلَان لَا تسيء عشرته وَلِهَذَا يُقَال لمن لَا يسيء عشرته على غَيره إِنَّه يحسن عشرته وَالنَّهْي يُفِيد الاستدامة وَأَيْضًا فَإِن هَذَا الْكَلَام يعقل مِنْهُ فعل الْإِكْرَام والتعظيم وَمَعْلُوم أَنه لم يَأْمُرهُ باكرامه وتعظيمه إِلَّا لِأَنَّهُ عِنْده يسْتَحق ذَلِك فَمَتَى لم يعلم زَوَال الْعلَّة الْمُوجبَة لاستحقاقه وَجب دوَام ذَلِك فبهذه الْقَرِينَة يعلم دوَام الْإِكْرَام لَا لمُجَرّد الْأَمر وايضا فان قَوْلنَا عشرَة يُفِيد جملَة من الْأَفْعَال لَا فعلا وَاحِدًا أَلا ترى أَن من رَأَيْنَاهُ يُعَامل غَيره بِعَمَل وَاحِد جميل لَا يُوصف بِأَنَّهُ حسن الْعشْرَة وَإِنَّمَا يُوصف بذلك إِذا عرفنَا أَن ذَلِك من عَادَته وَأَنه يُكَرر هَذَا الْفِعْل وَإِذا كَانَ اسْم الْعشْرَة يُفِيد جملَة من الْأَفْعَال وَالْأَمر بِحسن الْعشْرَة أَمر بجملة من الْأَفْعَال حَسَنَة وَلَيْسَ أسم الْعشْرَة يتَنَاوَل فعلا وَاحِدًا حَتَّى إِذا اسْتُفِيدَ من قَوْلنَا أحسن عشرَة فلَان أَفعَال كَثِيرَة وَجب أَن يكون قد دلّ على تكْرَار فَائِدَته دَلِيل آخر قَول الْقَائِل لغيره ادخل الدَّار مَعْنَاهُ كن دَاخِلا لِأَن من دخل الدَّار يُوصف بِأَنَّهُ دَاخل وبدخلة وَاحِدَة يُوصف بانه دَاخل فَكَانَ ممتثلا للامر وَكَانَ الْأَمر عَنهُ سَاقِطا كَمَا أَن قَوْله اضْرِب رجلا يسْقط عَنهُ إِذا ضرب رجلا وَاحِدًا لِأَنَّهُ بذلك يُوصف بِأَنَّهُ ضَارب لرجل فَإِن قيل وَهُوَ بالدخلة الثَّانِيَة يُوصف بِأَنَّهُ دَاخل أَيْضا فَهَلا دخلت تَحت الْأَمر أَو توقفتم فِي دُخُولهَا فِيهِ قيل بالدخلة الأولى يكون دَاخِلا على الْكَمَال لِأَنَّهُ يكون دَاخِلا على الْإِطْلَاق فكمل بهَا فَائِدَة الْأَمر وَإِنَّمَا الدخلة الثَّانِيَة تكْرَار لفائدة الْأَمر بعد استكمالها وَإِن وَقع عَلَيْهِ اسْم دُخُول فَلم يدْخل تَحت الْأَمر إِلَّا بِلَفْظ

تكْرَار أَو عُمُوم كَمَا أَنه إِذا قَالَ لَهُ اضْرِب رجلا فَضرب فَإِنَّهُ بِضَرْب وَاحِد يكون مستكملا لفائدة الْأَمر وَإِنَّمَا ضرب رجل آخر تكْرَار لفائدة الْأَمر بعد استكماله فَلم يلْزم بِالْأَمر الْمُطلق وَإِنَّمَا يلْزم بِلَفْظ عُمُوم وَلَا لفظ للْعُمُوم هَا هُنَا فان قيل مَا أنكرتم أَن يكون قَوْله اضْرِب مَعْنَاهُ افْعَل الضَّرْب وَلَو قَالَ ذَلِك لوَجَبَ أَن يفعل جنس الضَّرْب لِأَن لَام الْجِنْس تَقْتَضِي استغراق الْجِنْس قيل إِنَّمَا أَنْكَرْنَا ذَلِك لِأَن قَوْله اضْرِب تصريف من ضرب لَا من الضَّرْب لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذكر الْألف وَاللَّام يبين ذَلِك أَنه لَو كَانَ قَوْله اضْرِب مَعْنَاهُ افْعَل الضَّرْب لَكَانَ قَوْله زيد ضرب مَعْنَاهُ افْعَل الضَّرْب فَكَانَ يجب أَن يفهم مِنْهُ تكْرَار الضَّرْب واستغراق الْجِنْس وَمَعْلُوم أَن الْمَفْهُوم من ذَلِك ضرب مرّة وَلَا نعلم بِهِ مَاذَا عَلَيْهَا فَيجب أَن نعلم بِالْأَمر وجوب الْمرة وَلَا نعلم بِهِ وجوب مَا زَاد عَلَيْهَا فَإِن قيل فَيجب أَن يشكوا فِيمَا زَاد عَلَيْهَا قيل لَا يجب ذَلِك لِأَن الْأَمر إِن لم يفده كفى فِي نَفْيه أَن لَا يدل دَلِيل آخر عَلَيْهِ وَلَو دلّ دَلِيل آخر عَلَيْهِ لَكنا إِنَّمَا استفدناه بِغَيْر الْأَمر احْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء مِنْهَا وجود أوَامِر فِي الْقُرْآن على التّكْرَار وَالْجَوَاب أَن ذَلِك لَا يدل على أَنه عقل التّكْرَار من ظَاهرهَا كَمَا لم يدل وجود الفاظ عَامَّة فِي الْقُرْآن لم يرد بهَا الْعُمُوم على أَنَّهَا مَا وضعت لَهُ على أَن فِي الْقُرْآن إِيجَاب الْحَج وَلَيْسَ وُجُوبه متكررا وَمِنْهَا قَوْلهم لَو لم يفد الْأَمر التّكْرَار لما اشْتبهَ على سراقَة ذَلِك مَعَ أَنه عَرَبِيّ حِين قَالَ للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أحجتنا هَذِه لِعَامِنَا أَو لِلْأَبَد وَالْجَوَاب أَنه لَيْسَ فِي الْخَبَر دَلِيل على أَن سَبَب سُؤَاله اشْتِبَاه ذَلِك عَلَيْهِ وَأَيْضًا فَلَو كَانَ الْإِيجَاب يُفِيد التّكْرَار لما اشْتبهَ على سراقَة فَكَانَ لَا يسْأَل عَن ذَلِك وَلَيْسَ

يمْتَنع أَن يكون إِنَّمَا سَأَلَ لِأَن الْأَمر فِي اقتضائه الْمرة والتكرار مشتبه بل لِأَنَّهُ ظن أَن الْحَج مقيس على الصَّلَوَات وَالصِّيَام وَالزَّكَاة فَأَرَادَ إِزَالَة هَذَا الِاشْتِبَاه وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو قلت نعم لَوَجَبَتْ دَلِيل على أَن وجوب التّكْرَار لم يستفد من الْإِيجَاب بل من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَوَابه وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْأَمر لَا اخْتِصَاص لَهُ بِزَمَان دون زمَان فَاقْتضى إِيقَاع الْفِعْل فِي جَمِيعه وَالْجَوَاب أَن الْقَائِلين بالفور يجْعَلُونَ الْأَمر بأقرب الْأَوْقَات إِلَيْهِ أخص فَمنهمْ من يَقُول إِذا لم يفعل الْمُكَلف فِي أقرب الْأَوْقَات إِلَيْهِ لم يلْزمه الْفِعْل إِلَّا بِدَلِيل آخر وَمِنْهُم من يَقُول يلْزمه الْفِعْل بِالْأَمر لَا لِأَن الْأَمر نعقله بالأوقات على سَوَاء بل لِأَنَّهُ يجْرِي مجْرى قَول الْقَائِل افْعَل فِي الْوَقْت الأول فان لم تفعل فَفِي الثَّانِي فان لم تفعل فَفِي الثَّالِث وَالْأَمر عِنْدهم يتَعَلَّق بالأوقات على سَوَاء بل لِأَنَّهُ يجرى مجْرى قَول الْقَائِل افْعَل فِي الْوَقْت الأول فَأن لم تفعل فَفِي الثَّانِي فَأن لم تفعل فَفِي الثَّالِث وَالْأَمر عِنْدهم يتَعَلَّق بالأوقات كلهَا على هَذَا التَّرْتِيب وَأما النافون للفور فانهم يَقُولُونَ لَا اخْتِصَاص للامر بالأوقات وَإِذا لم يكن لَهُ بهَا اخْتِصَاص صَحَّ إِيجَاب الْفِعْل فِي جَمِيعهَا على الْبَدَل وعَلى الْجمع لِأَن الِاخْتِصَاص زائل فِي الْحَالين فَلم يكن فقد الِاخْتِصَاص طَرِيقا إِلَى أَحدهمَا وَمِنْهَا قَوْلهم لَو لم يفد الْأَمر التّكْرَار لما صَحَّ وُرُود النّسخ عَلَيْهِ وَلَا الِاسْتِثْنَاء لِأَن وُرُود النّسخ على الْمرة الْوَاحِدَة يدل على البداء وورود الِاسْتِثْنَاء عَلَيْهَا يكون نقضا وَالْجَوَاب أَن النّسخ لَا يجوز وُرُوده عَلَيْهِ إِلَّا أَن يدل الدَّلِيل على أَن المُرَاد بِالْأَمر التّكْرَار فيبين النّسخ أَن بعض المرات لم يرد وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاء لَا يجوز وُرُوده على الْأَمر على قَول من قَالَ بالفور وَأما من لم يقل بالفور فانه يجوز أَن يرفع الِاسْتِثْنَاء الْفِعْل فِي بعض الْأَوْقَات الَّتِي الْمَأْمُور مُخَيّر بَين إِيقَاع الْمرة فِيهَا وَقد قَالَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله رَحمَه الله إِن وُرُود النّسخ وَالِاسْتِثْنَاء على الْأَمر يدلان على أَنه قد أُرِيد بِهِ التّكْرَار

وَمِنْهَا قَوْلهم لَو لم يفد الْأَمر إِلَّا مرّة وَاحِدَة لم يكن لقَوْل الْقَائِل لغيره افْعَل مرّة معنى إِذْ ذَلِك مَعْقُول من الْأَمر من غير تَقْيِيد وَالْجَوَاب أَن الْمُقْتَضى لذَلِك هُوَ الْمُقْتَضى لحسن التَّأْكِيد فِي الْكَلَام وَهُوَ مَا يُفِيد من قُوَّة الْعلم أَو الظَّن وَأَيْضًا لَو اقْتضى التّكْرَار لم يحسن أَن يَقُول افْعَل متكررا وَمِنْهَا قَوْلهم لَو أَفَادَ الْأَمر فعل مرّة لما حسن اسْتِفْهَام الْآمِر فَيُقَال لَهُ اردت بِأَمْرك فعل مرّة أَو أَكثر لِأَن الْأَمر قد دلّ على الْمرة بِالْأَمر وَالْجَوَاب أَنه يحسن ذَلِك طلبا لتأكيد الْعلم أَو الظَّن أَو لِأَن الْمَأْمُور عَارضه شُبْهَة جوز لأَجلهَا التّكْرَار وسنشبع الْكَلَام فِي ذَلِك عِنْد الْكَلَام فِي الْعُمُوم إِن شَاءَ الله وَمِنْهَا قَوْلهم لَو أَفَادَ الْأَمر مرّة فَلم يفعل الْمُكَلف الْفِعْل فِي الأول لاحتاج فِي فعله فِي الثَّانِي إِلَى دَلِيل وَالْجَوَاب أَن ذَلِك إِنَّمَا يلْزم من قَالَ إِن الْأَمر يَقْتَضِي فعل مرّة وَاحِدَة على الْفَوْر وَهَذَا كَلَام على الْقَائِلين بالفور وَسَيَجِيءُ فِي مَوْضِعه وَمن لم يقل بالفور لَا يلْزمه ذَلِك وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الِاحْتِيَاط يَقْتَضِي تكْرَار الْمَأْمُور بِهِ لِأَنَّهُ لَا ضَرَر على الْمُكَلف فِيهِ وَلَا نَأْمَن الضَّرَر فِي ترك التّكْرَار لتجويزه أَن يكون الْأَمر على التّكْرَار وَالْجَوَاب أَن الْمُتَكَلّم إِذا علم أَن الْأَمر لَيْسَ على التّكْرَار أَمن الضَّرَر لفقد التّكْرَار وَمَتى أهمل النّظر فِي ذَلِك لم يَأْمَن الضَّرَر فِي اعْتِقَاد وجوب التّكْرَار وإيقاع التّكْرَار بنية الْوُجُوب وَمِنْهَا أَن الْأَمر ضد النَّهْي وكالنقيض لَهُ فَلَو كَانَ الْأَمر يُفِيد إِيقَاع الْفِعْل مرّة وَاحِدَة لَكَانَ النَّهْي يُفِيد الْإِخْلَال بِالْفِعْلِ مرّة وَاحِدَة وَلما كَانَ النَّهْي يُفِيد الِانْتِهَاء عَن الْفِعْل ابدا كَانَ الْأَمر يُفِيد إِيقَاع الْفِعْل ابدا وَالْجَوَاب أَن النَّهْي كالنقيض للامر على مَا ذَكرُوهُ لِأَن قَول الْقَائِل لغيره كن فَاعِلا مَوْجُود فِي قَوْله لَا تكن فَاعِلا وَإِنَّمَا زَاد عَلَيْهِ لَفْظَة النَّفْي وَهُوَ لَا وَزَاد عَلَيْهِ

التَّاء فَجرى مجْرى قَوْله زيد فِي الدَّار وَلَيْسَ زيد فِي الدَّار وَكَون النَّهْي كالنقيض للامر يُوجب أَن يُفِيد فِي الْفِعْل نقيض فَائِدَة الْأَمر فِي الْفِعْل فاذا كَانَ قَوْلنَا افْعَل يَقْتَضِي أَن نَفْعل فِي زمَان مَا أَي زمَان كَانَ فنفي هَذَا ونقيضه هُوَ أَن لَا نَفْعل فِي شَيْء من الْأَزْمَان لِأَنَّهُ إِن لم يفعل الْيَوْم وَفعل غَدا كَانَ ممتثلا للامر وَلَا يجوز أَن يكون ممتثلا للامر وَالنَّهْي مَعًا مَعَ أَنَّهُمَا نقيضان فصح أَن كَون الْأَمر مُفِيدا لمرة غير مُعينَة يَقْتَضِي أَن يكون نقيضه يرفع الْمرة فِي كل الْأَزْمَان أَلا ترى أَن قَول الْقَائِل فِي الدَّار رجل يَقْتَضِي أَن فِيهَا رجل غير معِين فاذا قَالَ لَيْسَ فِي الدَّار رجل كَانَ نقيضا لَهُ وَلَا يكون نقيضا لَهُ إِلَّا بِأَن يرفع كل الرِّجَال لِأَنَّهُ إِن رفع بعض الرِّجَال دون بعض كَانَ مُقْتَضى قَوْله فِي الدَّار رجل أَلا ترى أَنه يصدق الْقَائِل فِي الدَّار رجل إِذا كَانَ فِيهَا هَذَا الرجل فَكَذَلِك النَّهْي مَعَ الْأَمر وَأما كَون النَّهْي مُفِيدا لإخلال بِالْفِعْلِ أبدا فَهُوَ حجتنا فِي اقْتِضَاء الْأَمر للْفِعْل مرّة وَاحِدَة لِأَن النَّهْي إِذا أَفَادَ الِانْتِهَاء على الْعُمُوم فنقيضه من الْإِثْبَات يَقْتَضِي مرّة وَاحِدَة غير مُعينَة كَمَا إِن قَوْلنَا لَيْسَ فِي الدَّار رجل لما أَفَادَ نفي كل الرِّجَال كَانَ قَوْلنَا فِي الدَّار رجل يُفِيد إِثْبَات رجل غير معِين لِأَنَّهُ بذلك يكون مناقضا للنَّفْي فَكَذَلِك إِذا كَانَ قَوْلنَا لَا تدخل الدَّار يُفِيد لَا تدْخلهَا أبدا فنقيض ذَلِك أَن يدخلهَا وَلَو مرّة وَاحِدَة لِأَنَّهُ بذلك يخرج من كَونه غير دَاخل إِلَيْهَا أبدا وَإِذا كَانَ كَذَلِك وَكَانَ الْأَمر يَقْتَضِي النَّهْي اقْتضى الْفِعْل مرّة وَاحِدَة وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة الْعَادة فرقت بَينهمَا لِأَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ لعَبْدِهِ ادخل الدَّار عقل من ذَلِك مرّة وَاحِدَة وَإِذا قَالَ لَهُ لَا تدخل الدَّار عقل مِنْهُ التَّأْبِيد وَهَذَا فرق لَيْسَ فِيهِ ذكر الْعلَّة المفرقة بَينهمَا وَقَالَ أَيْضا إِن الْأَمر بِالضَّرْبِ يُفِيد أَن يكون الْمَأْمُور ضَارِبًا بالمرة الْوَاحِدَة يتم ذَلِك وَالنَّهْي عَن الضَّرْب يُفِيد أَن لَا يكون ضَارِبًا وَلَا يتم ذَلِك إِلَّا مَعَ التأييد

وَلقَائِل أَن يَقُول ثبتوا أَن الْمرة الْوَاحِدَة تتمّ فَائِدَة الْأَمر وَلَا تتمّ فَائِدَة النَّهْي حَتَّى يَصح مَا ذكرْتُمْ وعَلى أَن هَذَا الْكَلَام هُوَ ابْتِدَاء دلَالَة وَلَيْسَ فِيهِ بَيَان أَن مَا ذَكرُوهُ من أَن النَّهْي يَقْتَضِي الْأَمر وَلَا يَقْتَضِي تكْرَار الْمَأْمُور بِهِ وَفرق بَينهمَا أَيْضا بِأَن النَّهْي يَقْتَضِي قبح الْمنْهِي عَنهُ والقبيح يجب الِانْتِهَاء عَنهُ أبدا وَالْأَمر يَقْتَضِي الْمَأْمُور بِهِ والحس يجوز تَركه وَأجَاب عَن ذَلِك بِأَن الْقَبِيح فِي وَقت لَا يجب كَونه قبيحا فِي غَيره فَإِن كَانَ ظَاهر النَّهْي لَا يَقْتَضِي الِانْتِهَاء أبدا وَإِنَّمَا يَقْتَضِي الِانْتِهَاء فِي وَقت مَا فَإنَّا لَا نعلم قبحه فِي كل وَقت وَلَو كَانَ مَا قبح فِي وَقت قبح فِي كل الْأَوْقَات لزم أَن يكون النَّهْي على التَّأْبِيد بِهَذِهِ الدّلَالَة لَا بِظَاهِرِهِ وَأَيْضًا فان الْأَمر إِذا اقْترن بِهِ الْوَعيد كَانَ على الْوُجُوب فان كَانَ الْقَبِيح يلْزم الِامْتِنَاع مِنْهُ أبدا فَالْوَاجِب لَا يجوز الْإِخْلَال بِهِ أبدا وَقد فرق بَينهمَا بِأَن الْأَمر يَقْتَضِي الْإِقْدَام على الْفِعْل وتكرار الْإِقْدَام عَلَيْهِ أبدا لَا يُمكن لِأَنَّهُ يقطع عَن الْأَغْرَاض وَالنَّهْي يَقْتَضِي الْكَفّ عَن الْفِعْل والكف أبدا عَنهُ مُمكن وَهَذَا لَيْسَ بفرق من جِهَة الْمُوَاضَعَة وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يضعوا لما لَا يُمكن لَفظه أَلا ترى أَن قَوْلهم افْعَل أبدا وَلَا تخل بِهِ وَلَا تتشاغل بغَيْرهَا أَمر يكر بِهِ مَوْضُوع للتأبيد الَّذِي لَا يُمكن وعَلى أَنه لَا يمْتَنع أَن يكون الْأَمر يُفِيد من التّكْرَار مَا يُمكن وَقد فصل بَينهمَا بِأَنَّهُ يَكْفِي فِي مُخَالفَة النَّهْي فعل مرّة وَاحِدَة وَلَا يَكْفِي فِي امتثاله إِلَّا الْكَفّ أبدا وَيَكْفِي فِي امْتِثَال الْأَمر فعل مرّة وَلِهَذَا يُوصف الْمَأْمُور بِأَنَّهُ ممتثل الْأَمر إِذا فعل الْمَأْمُور بِهِ مرّة وَاحِدَة وَالْجَوَاب أَنه إِن أمكن أَن يبين ذَلِك قبل الْعلم بِأَن الْأَمر لَيْسَ على التّكْرَار وَالنَّهْي على التّكْرَار فَالْكَلَام صَحِيح وَيجب بَيَان ذَلِك ليَصِح الْفرق وَإِلَّا فللسائل أَن يُنَازع فِي وصف الْمُكَلف بِأَنَّهُ ممتثل لِلْأَمْرِ إِذا فعل مرّة وَاحِدَة وَفرق بَينهمَا بِأَن الْمَأْمُور لَا يُقَال لَهُ ائتمر بالمرة الثَّانِيَة وَيُقَال للمنهي وَقد انْتهى بالانتهاء عَن الْفِعْل مرّة وثانية فَعلمنَا أَن الْأَمر لَيْسَ على

التّكْرَار وَأَن النَّهْي يفِيدهُ وللمخالف أَن يَقُول إِنِّي أصف الْمَأْمُور بالائتمار كلما كرر الْفِعْل كَمَا قلتموه فِي النَّهْي وَفرق بَينهمَا بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا نَهَيْتُكُمْ عَن شَيْء فَانْتَهوا وَإِذا أَمرتكُم بِشَيْء فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم قَالُوا وَذَلِكَ يدل على أَن الْأَمر لَيْسَ على التّكْرَار وَالْجَوَاب أَن هَذَا يدل على ان الْأَمر خلاف النَّهْي فِي شَرط الِاسْتِطَاعَة وَلَيْسَ بِدَلِيل على ان ظَاهر أَحدهمَا التّكْرَار دون الآخر بل لَو قيل إِنَّه يدل على أَن ظاهرهما التّكْرَار وَأَن التّكْرَار يسْقط عَن الْمَأْمُور لفقد الِاسْتِطَاعَة وَلَا يسْقط عَن الْمنْهِي لَكَانَ أولى وَالصَّحِيح أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عني بالاستطاعة الْمَشَقَّة دون الْقُدْرَة لِأَن الْقُدْرَة شَرط فِي امْتِثَال الْأَمر وَالنَّهْي وَإِنَّمَا خص الْأَمر بِاشْتِرَاط هَذِه الِاسْتِطَاعَة لِأَن الْأَفْعَال يظْهر فِيهَا من الْمَشَقَّة مَا لَا يظْهر فِي كثير من التروك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن الْأَمر الْمُعَلق بِصفة أَو بِشَرْط هَل يَقْتَضِي تكْرَار الْمَأْمُور بِهِ بتكرار كل وَاحِد مِنْهُمَا أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعلم أَنه يَنْبَغِي أَن نذْكر أَولا الشَّرْط وَالصّفة وأحكامهما ثمَّ نذْكر مَا فَائِدَة الْأَمر الْمُعَلق بهما فَنَقُول إِنَّا قد نصف الشَّيْء بِأَنَّهُ شَرط ونعني أَن عَلَيْهِ يقف تَأْثِير الْمُؤثر سَوَاء ورد بِلَفْظ الشَّرْط أَو لم يرد بِلَفْظ الشَّرْط وَذَلِكَ نَحْو الْإِحْصَان الَّذِي يقف عَلَيْهِ تَأْثِير الزِّنَا فِي وجوب الرَّجْم وَقد نعني أَنه وَارِد بِلَفْظ الشَّرْط سَوَاء كَانَ شرطا فِي الْحَقِيقَة أَو عِلّة مُؤثرَة فَالْأول نَحْو أَن يَقُول سُبْحَانَهُ ارجموا الزَّانِي إِن كَانَ مُحصنا وَالثَّانِي أَن يَقُول ارجموا زيدا إِن كَانَ زَانيا وَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن الشَّرْط هُوَ الْمَعْقُول الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ الْمَشْرُوط وَإِذا لم يكن يتَعَلَّق بِهِ الْمَشْرُوط وَهَذَا يلْزم عَلَيْهِ أَن تكون الْعلَّة شرطا وَأَيْضًا إِن من لَا يعرف الشَّرْط لَا يعرف الْمَشْرُوط

فَأَما الصّفة الَّتِي يتَعَلَّق الحكم بهَا فَهِيَ فِي هَذَا الْموضع مَا علق بِهِ الحكم من غير أَن يتَنَاوَلهُ لفظ تَعْلِيل وَلَا لفظ شَرط نَحْو قَول الله سُبْحَانَهُ {فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} وَنَحْو قَوْله سُبْحَانَهُ {وَالسَّارِق والسارقة} وَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن الشَّرْط يجب اخْتِصَاصه بِأُمُور ثَلَاثَة أَحدهَا أَن يكون متميزا من غَيره وَهَذَا لَا بُد مِنْهُ ليتَمَكَّن الْمُكَلف من إِيقَاع الْفِعْل عِنْده وَالثَّانِي أَن يكون مُسْتَقْبلا لِأَن الْعِبَادَة الْمُعَلقَة بِالشّرطِ مُسْتَقْبلَة فان قيل أَلَيْسَ قد يَقُول الْإِنْسَان لغيره ادخل الدَّار إِن كَانَ زيد قد دَخلهَا بالْأَمْس قيل إِذا قَالَ ذَلِك كَانَ شَرط دُخُوله علمه بعد الْأَمر بِأَن زيدا قد كَانَ دَخلهَا وأحدها أَن يكون الشَّرْط مُمكنا وَهَذَا لَا بُد مِنْهُ لِأَنَّهُ إِن لم يكن مُمكنا وكلف الْمَأْمُور الْفِعْل الْمَشْرُوط على كل حَال كَانَ قد كلف مَا لَا يطيقه وَبَطل فَائِدَة الشَّرْط وَإِن كلف عِنْد الشَّرْط وَلم يُكَلف عِنْد فَقده كَانَ قد علق الْمَأْمُور بِهِ على شَرط يعلم الْآمِر أَنه لَا يحصل وَهَذَا عَبث وَأما الْكَلَام فِي الْمَسْأَلَة فَنَقُول قد اخْتلف النَّاس فِيهَا فَكل من جعل الْأَمر الْمُطلق مُفِيدا للتكرار قَالَ إِن الْأَمر الْمُقَيد بِصفة أَو شَرط يفِيدهُ أَيْضا إِذا تكَرر الشَّرْط وَالصّفة وَمن نفي اقْتِضَاء مُطلق الْأَمر لذَلِك اخْتلفُوا فَمنهمْ من جعله مُفِيدا للتكرار إِذا تكَرر الشَّرْط وَالصّفة وَعند أَكثر الْفُقَهَاء أَنه لَا يُفِيد ذَلِك وَعِنْدنَا ان الشَّرْط الَّذِي يقف عَلَيْهِ تَأْثِير الْمُؤثر لَا يجب بتكراره تكْرَار الْمَشْرُوط فَأَما مَا جَاءَ على لفظ الشَّرْط فانه لَا يتَكَرَّر الْمَأْمُور بِهِ بتكراره أَيْضا إِلَّا أَن يكون عِلّة وَكَذَلِكَ الْمُعَلق بِصفة

وَدَلِيلنَا أَنه لَو وَجب التّكْرَار لم يخل إِمَّا أَن يكون الْمُفِيد لوُجُوبه هُوَ الْأَمر أَو الشَّرْط وَالصّفة وَقد بَان فِي الْبَاب الْمُتَقَدّم أَن الْأَمر لَا يُفِيد ذَلِك وَلَو أَفَادَهُ الشَّرْط لم يخل إِمَّا أَن يفِيدهُ لفظا أَو معنى وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ فِي قَوْلنَا إِن وَإِذا لفظ التّكْرَار وَلَو أَفَادَهُ من جِهَة الْمَعْنى لَكَانَ إِنَّمَا يفِيدهُ من حَيْثُ كَانَ الشَّرْط عِلّة وَهَذَا بَاطِل لِأَن الشَّرْط عَلَيْهِ يقف تَأْثِير الْمُؤثر فَلَا يمْتَنع أَن يتَكَرَّر الشَّرْط وَلَا يتَكَرَّر الْمُؤثر فَلَا يتَكَرَّر الحكم وَإِذا ثَبت أَن الْأَمر لَا يَقْتَضِي إِلَّا مرّة وَاحِدَة وَالشّرط لَا يَقْتَضِي تكرارها لم يستفد من مجموعهما إِلَّا تَخْصِيص تِلْكَ الْمرة بِالشّرطِ وَيُمكن أَن نبتدىء الدّلَالَة فَنَقُول إِن الشَّرْط عَلَيْهِ يقف تَأْثِير الْمُؤثر وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يتَكَرَّر الشَّرْط وَلَا يتَكَرَّر الْمُؤثر فَلَا يتَكَرَّر الحكم فان قيل فَإِذا جوزتم أَن يكون مَا ذكر بِلَفْظ الشَّرْط مؤثرا فِي الحكم فجوزوا التّكْرَار وقفُوا فِيهِ وَلَا تقطعوا على نَفْيه قيل إِن لفظ الشَّرْط لَا يدل على أَن مَا دخل عَلَيْهِ عِلّة فَلَو كَانَ عِلّة لدل الله عَلَيْهَا فاذا لم يدل عَلَيْهَا قَطعنَا على أَنه لَيْسَ بعلة دَلِيل آخر الْخَبَر الْمُعَلق بِالشّرطِ لَا يَقْتَضِي تكْرَار الْمخبر عَنهُ بتكرار الشَّرْط فَكَذَلِك الْأَمر الْمُعَلق بِشَرْط وَقد بَينا الْجمع بَينهمَا فِي الْبَاب الأول وَمَعْلُوم أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ زيد سيدخل الدَّار إِن دَخلهَا عَمْرو وَقد دَخلهَا عَمْرو فَدَخلَهَا زيد يعد صَادِقا وَإِن تكَرر دُخُول عَمْرو وَلم يتَكَرَّر دُخُول زيد دَلِيل آخر الْمَعْقُول فِي الشَّاهِد من تعلق الْأَمر بِالشّرطِ فعل مرّة وَإِن تكَرر الشَّرْط أَلا ترى أَن الْإِنْسَان لَو قَالَ لعَبْدِهِ اشْتَرِ لَحْمًا إِن دخلت السُّوق لم يعقل مِنْهُ التّكْرَار وَإِن تكَرر مِنْهُ الدُّخُول وَلذَلِك قَالَ الْفُقَهَاء إِن الرجل إِذا طلق امْرَأَته بقوله إِن دخلت الدَّار أَو أَمر وَكيله أَن يطلقهَا إِن دخلت الدَّار لم يتَكَرَّر الطَّلَاق بتكرار الدُّخُول احْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء

مِنْهَا أَنه وجد فِي كتاب الله سُبْحَانَهُ أوَامِر مُتَعَلقَة بِشُرُوط وصفات وتكرر مأمورها بِتَكَرُّر الصِّفَات نَحْو قَول الله {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} وَنَحْو قَوْله {وَالسَّارِق والسارقة} {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} وَالْجَوَاب أَنه إِنَّمَا عقل التّكْرَار بِدَلِيل لَا بِهَذِهِ الْآيَات وَأَيْضًا فَإِنَّمَا علم تكْرَار الْحَد بتكرار الزِّنَى لِأَن الزِّنَى وَالسَّرِقَة عِلَّتَانِ فِي الْحَد وَالْعلَّة يتبعهَا حكمهمَا كلما حصلت وَأَيْضًا فمعلوم باضطرار من الدّين تكَرر الْحَد بتكرار ذَلِك وَمِنْهَا تشبيههم الشَّرْط بِالْعِلَّةِ فِي وجوب تكْرَار الحكم بتكرارها ويقوون ذَلِك بِأَن الشَّرْط آكِد من الْعلَّة لِأَن الشَّرْط يَنْتَفِي الحكم بانتفائه وَلَا يَنْتَفِي مَعْلُول الْعلَّة بانتفائها وَالْجَوَاب أَن الشَّرْط عَلَيْهِ يقف تَأْثِير الْمُؤثر وَلَيْسَ يلْزم أَن يتَكَرَّر مَعَه الْمُؤثر حَتَّى يتَكَرَّر الْمَشْرُوط بتكراره فَأَما إِذا قَالَ الله سُبْحَانَهُ هَذَا وَاجِب لعِلَّة كَذَا أَو لأجل كَذَا فَإِن الظَّاهِر أَن ذَلِك هُوَ الْمُؤثر فِي الْوُجُوب لَا غير وَلَا يجوز أَن يشرط فِيهِ شرطا إِلَّا بِدلَالَة فَإِذا لم تدل دلَالَة على اشْتِرَاطه لم يشرطه فَوَجَبَ تكْرَار الحكم بتكرار الْعلَّة لِأَنَّهَا تحصل بَيَانا على الْحَد الَّذِي حصل اولا وَإِنَّمَا جَازَ وجود الحكم مَعَ فقدها لِأَنَّهُ يجوز أَن يخلفها عِلّة أُخْرَى وَالشّرط أَيْضا يجوز أَن يخلفه شَرط آخر فاستويا فِي هَذِه الْجِهَة وَقد فصل قَاضِي الْقُضَاة بَين الشَّرْط وَالْعلَّة بِأَن الْعلَّة دلَالَة على الحكم وَالدَّلِيل يتبعهُ الحكم مَتى وجد وَأما الشَّرْط فقد يجوز وجود مثله وَلَيْسَ بِشَرْط أَلا ترى أَن من طلق امْرَأَته بِشَرْط دُخُول الدَّار لم تكن دَخَلتهَا الثَّانِيَة شرطا فِي الطَّلَاق وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْأَمر الْمُعَلق بِالشّرطِ لَا اخْتِصَاص لَهُ بِالشّرطِ الأول من دون أَمْثَاله من الشُّرُوط فَلَزِمَ الْفِعْل عِنْدهَا كلهَا لفقد الِاخْتِصَاص وَفِي ذَلِك تكْرَار الْمَأْمُور بِهِ وَالْجَوَاب أَن من قَالَ بالفور يَجْعَل الْأَمر بِالشّرطِ الأول من

الِاخْتِصَاص مَا لَيْسَ لَهُ بِغَيْرِهِ فَلَا يلْزمه الْكَلَام وَأما من لم يقل بالفور فِيهِ فَيَنْبَغِي أَن يرتب الْجَواب على مذْهبه هَكَذَا لَيْسَ يَخْلُو الشَّرْط إِمَّا أَن لَا يغلب على الظَّن تجدّد أَمْثَاله والمأمور مُتَمَكن أَو يغلب على الظَّن تجدده والمأمور مُتَمَكن فَالْأول نَحْو أَن يَقُول الْقَائِل لغيره أعْط زيدا درهما إِذا دخل الدَّار وَلَا يغلب على الظَّن إِذا دخل الدَّار أَنه يدخلهَا مرّة ثَانِيَة فَمَتَى كَانَ كَذَلِك لزمَه دفع الدِّرْهَم إِلَيْهِ عِنْد الدخلة الأولى لِأَنَّهَا متحققة حُصُولهَا وَيجوز أَن لَا تحصل الدخلة الْأُخْرَى وَمِثَال الثَّانِي أَن يَقُول لَهُ أعْط زيدا درهما إِذا طلعت الشَّمْس وَمَعْلُوم أَنه إِذا كَانَ الْمَأْمُور سالما فان الظَّن يقوم بسلامته مَعَ طُلُوع الشَّمْس فِي غَد وَفِي بعد غَد وَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ مَأْمُورا بِالْعَطِيَّةِ عِنْد طُلُوع الشَّمْس فِي غَد وَفِي بعد غَد وَفِي كل يَوْم يغلب على الظَّن تمكنه فِيهِ من الْعَطِيَّة على الْبَدَل وَيكون فقد الِاخْتِصَاص قد اقْتضى تعلق الْمَأْمُور بِهِ بِالشُّرُوطِ كلهَا على الْبَدَل وَيُمكن أَيْضا أَن يُقَال إِن الْعَطِيَّة تجب بِالشّرطِ الأول فَقَط لِأَن قَوْلنَا أعْط زيدا درهما إِذا طلعت الشَّمْس المُرَاد بِهِ تَعْلِيق الْعَطِيَّة بِطُلُوع يَزُول مَعَه غُرُوبهَا وَمَعْلُوم أَن غُرُوبهَا عِنْد هَذَا الْكَلَام لَيْسَ هُوَ غُرُوبهَا من اللَّيْلَة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة وَإِذا كَانَ كَذَلِك فطلوعها الَّذِي يَزُول مَعَه غُرُوبهَا عَنَّا فِي هَذِه اللَّيْلَة هُوَ طُلُوعهَا من الْغَد فَقَط وَهَذَا هُوَ الَّذِي يفقده النَّاس فَوَجَبَ انصراف ذَلِك إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ القَوْل فِي جمع الشُّرُوط المتجددة وعَلى هَذَا يَسْتَوِي الْجَواب على قَول أَصْحَاب الْفَوْر والتراخي وَمِنْهَا قَوْلهم لَو لم يقتض الْأَمر تَعْلِيق الْوُجُوب بِجَمِيعِ الشُّرُوط لاقتضى تَعْلِيقه بأولها وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن تكون الْعِبَادَة إِذا فعلت مَعَ الشَّرْط الثَّانِي دون الأول قَضَاء لَا أَدَاء وَذَلِكَ يحوجها إِلَى دَلِيل آخر وَالْجَوَاب أَن الْقَائِلين بِأَن الْأَمر يُفِيد تَعْلِيق الْمَأْمُور بِهِ على الشُّرُوط كلهَا على الْبَدَل لَا يلْزمهُم ذَلِك وَأما الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يتَعَلَّق بِالشّرطِ الأول سَيَجِيءُ القَوْل فِيهِ إِن شَاءَ الله وَأما قَاضِي الْقُضَاة فانه الْتزم حَاجَة الْعِبَادَة إِلَى دَلِيل ناتيء فِي إيقاعها عِنْد الشَّرْط الثَّانِي إِذا لم يفعل فِي الأول وَامْتنع من تَسْمِيَتهَا قَضَاء وَذكر فِي الشَّرْح أَن

الْأَمر يتَعَلَّق بِأول الشَّرْط على قَول أَصْحَاب الْفَوْر وَيتَعَلَّق بجميعها على قَول أَصْحَاب التَّرَاخِي وَمِنْهَا قَوْلهم لَو لم يفد الْأَمر الْمُعَلق بِالشّرطِ تكْرَار الْمَأْمُور إِذا تكَرر الشَّرْط لما أَفَادَ النَّهْي الْمُعَلق بِالشّرطِ التّكْرَار يُقَال لَهُم وَلم زعمتم ذَلِك فَإِن قَالُوا لِأَن النَّهْي كالنقيض للامر فَاقْتضى نقيض مَا اقْتَضَاهُ نقيض الْأَمر فِي الْحَال الَّذِي اقْتَضَاهُ قيل لَيْسَ يجب ذَلِك لِأَن كَونه كالنقيض لَهُ يَقْتَضِي أَن يَنْفِي مَا أثْبته الْأَمر فِي جَمِيع الْأَحْوَال كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي النَّهْي الْمُطلق ثمَّ يُقَال لَهُم أما الْقَائِلُونَ بالفور فقد قُلْنَا إِنَّهُم يجهلون الْأَمر الْمُعَلق بِشَرْط يُفِيد إِيقَاع الْمَأْمُور بِهِ مَعَ الشَّرْط الأول وَيُمكن أَن يَجِيء ذَلِك أَيْضا على قَول أَصْحَاب التَّرَاخِي على مَا ذَكرْنَاهُ فالنهي يَقْتَضِي الْمَنْع من إِيقَاعه مَعَ الشَّرْط الأول على التَّأْبِيد سَوَاء تجدّد شَرط ناتيء أَو لم يَتَجَدَّد مِثَال ذَلِك أَن يَقُول الْقَائِل لَا تعط زيدا درهما إِن دخل الدَّار أَو إِن دخل الدَّار فَلَا تعطه درهما فَإِنَّهُ يُفِيد نفي الْعَطِيَّة عِنْد أول دخلة إِلَى الْأَبَد لِأَن من نهي غَيره عَن أَن يُعْطي زيدا درهما إِن دخل الدَّار فَلَيْسَ غَرَضه الْمَنْع من أَن يعقب الْعَطِيَّة الدُّخُول فَقَط بل غَرَضه اسْتِدَامَة نفي الْعَطِيَّة إِلَّا أَن يتداوله فِي ذَلِك فَأَما من قَالَ بالتراخي فَإِن الْأَمر الْمُعَلق بِالشّرطِ يتَعَلَّق بِجَمِيعِ الشُّرُوط على الْبَدَل على التَّفْصِيل الْمُتَقَدّم فان الْأَمر على قَوْلهم فِي تَقْدِير أَن يَقُول الْقَائِل اعط زيدا درهما إِذا طلعت الشَّمْس أما الْيَوْم أَو غَدا أَو بعد غَد فَيجب أَن يُفِيد النَّهْي الْمَنْع من الْعَطِيَّة عِنْد هَذِه الشُّرُوط كلهَا لِأَنَّهُ لما كَانَ نقيض الْأَمر وَجب أَن يمْنَع من الْعَطِيَّة عِنْد جَمِيعهَا لِأَنَّهُ لَو لَو يمْنَع من الْعَطِيَّة عِنْد الشَّرْط الأول وَمنع مِنْهَا عِنْد الشَّرْط الثَّانِي مَا كَانَ مَانِعا من فَائِدَة الْأَمر لِأَن الْمَأْمُور قد يجوز أَن يمتثل الْأَمر بِفعل الْعَطِيَّة عِنْد الشَّرْط الأول وَفِي ذَلِك اجْتِمَاع فَائِدَة الْأَمر وَالنَّهْي مَعَ كَونهمَا كالنقيضين وَهَذَا محَال وَحكي قَاضِي الْقُضَاة عَن الشَّيْخ أبي عبد الله أَنه أجَاب عَن شبهتهم فِي النَّهْي

بِأَن الْعَادة تَقْتَضِي فِي النَّهْي الْمُقَيد بِالشّرطِ أَنه يُفِيد شرطا وَاحِدًا وَإِذا كَانَ مُطلقًا اقْتضى التّكْرَار فَسَوَاء بَين النَّهْي الْمُقَيد بِالشّرطِ وَبَين الْأَمر قَالَ لِأَن السَّيِّد إِذا قَالَ لعَبْدِهِ لَا تخرج من بَغْدَاد إِذا جَاءَ زيد أَفَادَ مرّة وَاحِدَة وَإِذا قَالَ لَا تخرج من بَغْدَاد وَأطلق القَوْل أَفَادَ الْمَنْع من الْخُرُوج على التَّأْبِيد فَإِن قَالُوا فَإِذا كَانَ مُطلق النَّهْي يُفِيد التَّأْبِيد فَيجب أَن يكون تَقْيِيده بِالشّرطِ يُفِيد قصر الْمنْهِي عَنهُ عَلَيْهِ كَمَا قلتموه فِي الْأَمر الْمُقَيد بِالشّرطِ أَنه يُفِيد قصر مُقْتَضى الْأَمر من الْمرة عَلَيْهِ وَأجَاب بِأَن الْمُطلق من النَّهْي أَفَادَ التّكْرَار فِي الْعرف لَا فِي اللُّغَة فَلَا يمْتَنع أَن يبْقى الْمُقَيد بِالشّرطِ على مُقْتَضى اللُّغَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْأَمر هَل يَقْتَضِي تَعْجِيل الْمَأْمُور بِهِ أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهب الشَّيْخَانِ أَبُو عَليّ وَأَبُو هَاشم إِلَى أَنه لَا يَقْتَضِي وجوب تَعْجِيل الْمَأْمُور بِهِ فِي أقرب الْأَوْقَات وجوزا تَأْخِير الْمَأْمُور بِهِ عَن أول اوقات الْإِمْكَان وَإِلَى ذَلِك ذهب أَصْحَاب الشَّافِعِي وَذهب أَصْحَاب أبي حنيفَة إِلَى أَنه يَقْتَضِي تَعْجِيل الْمَأْمُور بِهِ وَيحرم تَأْخِيره عَن أول أَوْقَات الْإِمْكَان وَحجَّة الْأَوَّلين هِيَ أَن الْأَمر لَو اقْتضى التَّعْجِيل لَكَانَ إِمَّا أَن يَقْتَضِيهِ بِلَفْظَة أَو بفائدته وَمَعْنَاهُ وَلَيْسَ يَقْتَضِيهِ لَا بِلَفْظَة وَلَا بفائدته فَلم يَقْتَضِي الْفَوْر أما الدّلَالَة على أَنه لَا يَقْتَضِيهِ بِلَفْظِهِ فَهِيَ أَن قَول الْقَائِل افْعَل لَيْسَ فِيهِ ذكر وَقت مُتَقَدم وَلَا مُتَأَخّر وَإِنَّمَا يُفِيد إِيقَاع الْفِعْل فَقَط وَالْفِعْل إِذا وجد فِي الْوَقْت الأول أَو الثَّانِي أَو الثَّالِث كَانَ موقعا وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَون الْمَأْمُور ممتثلا للامر وَلَيْسَ يجوز أَن يكون ممتثلا للامر بِفعل مَا يمْنَع الْآمِر مِنْهُ فَجرى مجْرى أَن يَقُول الْإِنْسَان لغيره افْعَل فِي أَي وَقت شِئْت فِي أَنه لَا يُوجب إِيقَاع الْفِعْل فِي وَقت مُتَقَدم وَأَيْضًا فَإِن الْإِنْسَان إِذا قَالَ لغيره ادْفَعْ درهما إِلَى رجل جَازَ لذَلِك الْغَيْر أَن يدْفع أَي دِرْهَم شَاءَ إِلَى أَي رجل شَاءَ لما لم

يخْتَص الْأَمر بِرَجُل دون رجل وَلَا بدرهم دون دِرْهَم وَكَذَلِكَ يجب أَن لَا يلْزم إِيقَاعه فِي وَقت معِين لِأَنَّهُ لَا يخْتَص بِوَقْت دون وَقت وَأَيْضًا فَإِن قَول الْقَائِل لغيره افْعَل هُوَ طلب للْفِعْل فِي الْمُسْتَقْبل كَمَا ان قَوْله زيد سيفعل إِخْبَار عَن إِيقَاع الْفِعْل فِي الْمُسْتَقْبل فَكَمَا لَا يمْتَنع هَذَا الْخَبَر من وجود الدُّخُول بعد مُدَّة من الْخَبَر فَكَذَلِك الْأَمر وَأما الدّلَالَة على أَنه لَا يَقْتَضِيهِ بفائدة فَهِيَ أَنه لَا يُمكن أَن يُقَال إِنَّه يَقْتَضِيهِ بفائدته إِلَّا أَن يُقَال إِن الْأَمر يُفِيد الْوُجُوب وَلَا يتم الْوُجُوب مَعَ جَوَاز التَّأْخِير وَهَذَا لَا يَصح لِأَن الْفِعْل قد يجب وَإِن كَانَ الْمُكَلف مُخَيّرا بَين إِيقَاعه فِي أول الْأَوْقَات وَفِيمَا بعده مَا لم يغلب على ظَنّه فَوَاته إِن لم يَفْعَله فَمَتَى غلب على ظَنّه ذَلِك لم يجز لَهُ الْإِخْلَال وَبِذَلِك يُفَارق النَّوَافِل دَلِيل آخر السَّيِّد أذا أَمر عَبده بِشَيْء وَلم يعلم حَاجته إِلَيْهِ فِي الْحَال وَلم يعلم إِلَّا الْأَمر فَقَط فانه لَا يفهم مِنْهُ التَّعْجِيل وَهَذِه الْحجَّة لَا يُسَلِّمهَا الْخصم لِأَنَّهُ يَقُول مَتى لم يعلم العَبْد من قصد السَّيِّد أَنه يبيحه التَّأْخِير فانه يعقل من الْأَمر التَّعْجِيل وَيسْتَحق العَبْد الذَّم إِذا لم يعجل الْمَأْمُور بِهِ وَاسْتدلَّ الْقَائِلُونَ بالفور بأَشْيَاء مِنْهَا مَا يدل على اقْتِضَاء لفظ الْأَمر لذَلِك وَمِنْهَا مَا يدل على أَن الْوُجُوب الْمُسْتَفَاد من لفظ الْأَمر يَقْتَضِي ذَلِك وَمِنْهَا أَدِلَّة سمعية أما مَا يدل على أَن لفظ الْأَمر يَقْتَضِي ذَلِك فَوَجْهَانِ أَحدهمَا أَن السَّيِّد إِذا أَمر عَبده أَن يسْقِيه المَاء فهم مِنْهُ تَعْجِيل سقيه المَاء وَاسْتحْسن الْعُقَلَاء ذمه على تَأْخِير ذَلِك من غير عذر فَعلمنَا أَن الْأَمر يُفِيد ذَلِك والمخالف يَقُول إِنَّمَا عقل بِقَرِينَة وَهُوَ علم العَبْد بِأَن السَّيِّد لَا يَسْتَدْعِي مَاء ليشْرب إِلَّا وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْحَال هَذَا هُوَ الْأَغْلَب وَلَو لم يعلم إِلَّا نفس الْأَمر لم يفهم ذَلِك كَمَا أَن أَصْحَاب التَّرَاخِي إِذا رجعُوا إِلَى الشَّاهِد فِي أَن

الْأَمر لَا يُفِيد وجوب التَّعْجِيل لم يسلم لَهُم خصمهم مَا يذكرُونَهُ من الشَّاهِد وكل مِنْهُم يَدعِي أَن مَا يَقُوله خَصمه إِنَّمَا يفهم بِقَرِينَة لَا بِمُجَرَّد الْأَمر فان قَالَ أَصْحَاب الْفَوْر إِن السَّيِّد يُعلل ذمه لعَبْدِهِ بِأَن يَقُول أَمرته بِشَيْء فَأَخَّرَهُ فَلَو لم يفد الْأَمر التَّعْجِيل لم يَجْعَل ذَلِك عِلّة قيل لَهُم وَقد يتَعَذَّر الْبعد أَيْضا فَيَقُول أَمرتنِي بِأَن أفعل فَفعلت وَلم تَأْمُرنِي بالتعجيل وَلَا علمت أَن عَلَيْهِ فِي التَّأْخِير مضرَّة وَأما الْوَجْه الآخر فَقَوْلهم إِن الْوَقْت وَإِن لم يكن مَذْكُورا فِي لفظ الْأَمر فان الْفِعْل لما كَانَ إِنَّمَا يَقع فِي وَقت وَجب أَن يُفِيد إِيقَاعه فِي أقرب الْأَوْقَات إِلَيْهِ كَمَا أَن الفاظ الْعتاق وَالطَّلَاق وَالْبيع تفِيد وُقُوع أَحْكَامهَا فِي أقرب الْأَوْقَات إِلَيْهَا وَالْجَوَاب أَنه لَيْسَ الْعلَّة فِي البيع والإيقاعات مَا ذَكرُوهُ بل الْعلَّة فِي ذَلِك أَن قَول الْقَائِل بِعْت وَقَول المُشْتَرِي اشْتريت إِخْبَار عَن الْحَال برضاهما بانتقال ملك كل وَاحِد مِنْهُمَا عَن صَاحبه إِلَى الآخر فَجرى مجْرى قَول الْقَائِل تحركت فِي أَنه إِخْبَار عَن الْحَال فَوَجَبَ أَن يحكم فِي ثَانِي الْقبُول بانتقال الْملك لِأَن علمنَا برضاهما لَا يتكامل إِلَّا عِنْد انْقِطَاع الْقبُول وَيُمكن ان يُقَال إِن الْملك ينْتَقل عِنْد آخر جُزْء من أَجزَاء الْقبُول غير أَنا لَا نضبطه فاذا صَحَّ ذَلِك صَار محصول كَلَامهم انه لما كَانَ الْخَبَر عَن الْحَال يَقْتَضِي الْمَأْمُور بِهِ فِي الثَّانِي فِي أَنه جمع بَين شَيْئَيْنِ لَا يشتبهان وَلَيْسوا بذلك أولى مِمَّن حمل الْأَمر على الْخَبَر عَن الْمُسْتَقْبل وَهُوَ أولى لِأَن الْأَمر هُوَ استدعاء الْفِعْل فِي الْمُسْتَقْبل وَمَعْلُوم أَن الْخَبَر عَن الْمُسْتَقْبل لَا يخْتَص بِالثَّانِي فَكَذَلِك الْأَمر فَأَما قَول الْقَائِل لامْرَأَته أَنْت طَالِق وَقَوله لعَبْدِهِ أَنْت حر فَهُوَ جَار مجْرى قَوْله للْمَرْأَة أَنْت بَيْضَاء أَو طَوِيلَة فِي أَنه خبر عَن الْحَال وَمَعَ أَنَّهُمَا خبران عَن الْحَال فأحكامهما تثبت بِالشَّرْعِ فالواحب اتِّبَاع الشَّرْع فِي كَيْفيَّة ثبوتهما وَقد أثبتهما الشَّرْع من غير تراخ وَلَيْسَ إِذا جَاءَ الشَّرْع بذلك وَجب أَن يكون مَوْضُوع الْأَمر فِي اللُّغَة الْفَوْر وَلَيْسَ يَصح الْجَواب بِأَن يُقَال إِن حمل الْأَمر على الْإِطْلَاق قِيَاس وَلَو صَحَّ لَكَانَ الدَّال على وجوب التَّعْجِيل غير

الْأَمر لِأَن الْمُسْتَدلّ بِهَذِهِ الدّلَالَة إِنَّمَا يبين بهَا أَن لفظ الْأَمر مَوْضُوع للتعجيل كَمَا أَن الإ يقاع مَوْضُوع لإِفَادَة ذَلِك كَمَا بَين اصحاب التَّرَاخِي قَوْلهم بِقِيَاس الْأَمر على الْخَبَر عَن الْمُسْتَقْبل وَلَا يَصح أَن يفرق أَيْضا بَين الْأَمر والإيقاعات بِأَن يُقَال إِن الْأَمر هُوَ طلب للْفِعْل وَالْفِعْل إِنَّمَا يَقع فِي وَقت فَوَجَبَ أَن يطْلب وقته مَا هُوَ وَأما الطَّلَاق وَالْعتاق فانهما يفيدان أحكاما لَا أفعالا وَذَلِكَ لِأَن الْأَمر كاطلاق فِي إِفَادَة الألحكام لِأَن الْأَمر يُفِيد وجوب الْفِعْل فصح أَن ينظر فِي وَقت الْوُجُوب مَا هُوَ وَالطَّلَاق يُفِيد تَحْرِيم الِاسْتِمْتَاع فصح أَن ينظر فِي وقته هَذَا التَّحْرِيم مَا هُوَ وَكَذَلِكَ الْعتاق وَقد قيل أَيْضا لَو لم تفد الإيقاعات أَحْكَامهَا فِي الثَّانِي لَكَانَ وجودهَا كعدمها وَلَيْسَ كَذَلِك الْأَمر إِذا جعل على التَّرَاخِي وَلقَائِل أَن يَقُول وَالْأَمر لَو لم يفد الْفَوْر لَكَانَ وجوده كَعَدَمِهِ فان قُلْتُمْ إِن وجوده ينْفَصل من عَدمه وَإِن أَفَادَ التَّرَاخِي لِأَنَّهُ يُفِيد وجوب إِيقَاع الْفِعْل وَيكون إِيقَاعه وإيقاع بدله وَهُوَ الْعَزْم مَوْقُوفا على اخْتِيَاره قيل لكم فَكَذَلِك يُفِيد نقل الْملك فِي وَقت مَا وَيكون نَقله فِي الثَّانِي أَو الْعَزْم على نَقله وَتَسْلِيم البيع فِي الثَّانِي مَوْقُوفا على اخْتِيَاره فان قُلْتُمْ فبماذا ينقلانه إِن كَانَ لفظ البيع نَقله فِي الْحَال قيل لكم ينقلانه بِالتَّسْلِيمِ أَو بِأَن يَقُول كل وَاحِد مِنْهُمَا لصَاحبه قد انْتقل ملكي إِلَيْك فِي هَذِه السَّاعَة فَإِن قُلْتُمْ أَجمعت الْأمة على بطلَان ذَلِك فِي البيع قيل لكم ثُبُوت هَذَا الْإِجْمَاع يَقْتَضِي صِحَة الأَصْل الَّذِي قسنا عَلَيْهِ وَذَلِكَ يُؤَكد صِحَة الْقيَاس وَقد قيل أَيْضا إِن الْأَمر دلَالَة على وجوب إِيقَاع الْفِعْل وَلَيْسَ يجب تَعْجِيل مَدْلُول الدّلَالَة وَلَيْسَ كَذَلِك الطَّلَاق وَالْعتاق لِأَنَّهُمَا سببان لأحكامهما وَالسَّبَب إِذا تكاملت شَرَائِطه وَجب حُصُول سَببه فِي الْحَال وَالْجَوَاب أَنَّهُمَا سَوَاء لِأَن الدّلَالَة قد تدل على حُصُول مدلولها فِي الْحَال وَقد تدل على حُصُوله فِي الْمُسْتَقْبل وَالسَّبَب قد يكون سَببا للْحكم فِي الْحَال وَقد يكون سَببا لثُبُوت الحكم فِي الْمُسْتَقْبل أَلا ترى أَن البيع الْمُؤَجل يكون سَببا لانتقال الْملك فِي الثّمن فِي الْمُسْتَقْبل فَإِن قُلْتُمْ إِنَّمَا كَانَ البيع الْمُؤَجل كَذَلِك لِأَنَّهُ قد ذكر فِيهِ التَّأْجِيل وَلَيْسَ كَذَلِك البيع

الْمُطلق قيل لَهُم فَقولُوا إِن الْأَمر الْمُقَيد بِوَقْت مُؤَجل يُفِيد التَّرَاخِي وَالْمُطلق يُفِيد الْحَال وعَلى أَن البيع أَيْضا دلَالَة على الرِّضَا وَالرِّضَا هُوَ السَّبَب فِي انْتِقَال الْملك فَقولُوا إِن الرِّضَا لَا يجب أَن يتعقب عقد البيع وَأَيْضًا فان تَكَامل شَرَائِط وجوب الْحَج سَبَب لوُجُوبه وَهُوَ عنْدكُمْ على التَّرَاخِي فان قُلْتُمْ الْوُجُوب حَاصِل وَإِن لم يتضيق قيل لكم فقد بَطل قَوْلكُم إِن الْمُسَبّب لَا يتراخى عَن السَّبَب وَقد قيل ايضا إِن الْبَدَل يجب أَن يكون بازاء الْمُبدل فاذا وَجب انْتِقَال الْملك فِي الْبَدَل وَجب انْتِقَال الْملك فِي الْمُبدل وَلقَائِل أَن يَقُول وَمن أَيْن لكم أَن الْملك قد انْتقل فِي الْمُبدل حَتَّى تبنوا عَلَيْهِ انْتِقَال الْبَدَل وَقد قيل إِن البيع والإيقاعات تَقْتَضِي أَحْكَامهَا على وَجه التَّأْبِيد فَجرى مجْرى النَّهْي فِي اقْتِضَاء الْمَنْع من الْفِعْل على التَّأْبِيد وَأما الْأَمر فانه يَقْتَضِي فعلا وَاحِدًا وَالْجَوَاب أَن كَون الحكم مِمَّا إِذا وَقع دَامَ لَا يمْنَع من أَن نَنْظُر فِي ابْتِدَاء وُقُوعه هَل هُوَ معجل أَو مُتَأَخّر أَلا ترى أَن البيع الْمُؤَجل يَقْتَضِي نقل الْملك فِي الثّمن فِي الْمُسْتَقْبل وَإِذا انْتقل فِيهِ دَامَ وَلَا يَقْتَضِي البيع انْتِقَال الْملك فِيهِ إِلَى حد وَغَايَة وَكَون الْفِعْل الْمُسْتَفَاد بِالْأَمر وَاحِدًا لَا يمْنَع من أَن نَنْظُر فِي وَقت لُزُومه وَأَن يكون وَقت لُزُومه هُوَ أول الْأَوْقَات واما استدلالهم على الْفَوْر بفائدة الْأَمر فَمن وُجُوه وَمِنْهَا أَن الْأَمر قد اقْتضى وجوب الْفِعْل فِي أول أَوْقَات الْإِمْكَان بِدلَالَة أَنه لَو أوقعه الْمُكَلف فِيهِ لأسقط الْفَرْض بذلك على نَفسه فجواز تَأْخِيره عَنهُ نقض لوُجُوبه فِيهِ وَإِيجَاب لُحُوقه بالنافلة فِيهِ وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم مَا معنى قَوْلكُم إِن الْأَمر اقْتضى وجوب الْفِعْل فِي أول أَوْقَات الْإِمْكَان فان قَالُوا مَعْنَاهُ أَنه ألزم فعله فِيهِ وَمنع من تَأْخِيره عَنهُ قيل وَهل نوزعتم إِلَّا فِي ذَلِك وَإِن قَالُوا مَعْنَاهُ أَن الْمُكَلف لَو فعل الْمَأْمُور بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت كَانَ قد اسقط الْفَرْض عَن نَفسه قيل وَلم إِذا كَانَ كَذَلِك لَا يجوز تَأْخِير الْفِعْل عَنهُ فان قَالُوا لَو جَازَ تَأْخِيره عَنهُ نقض القَوْل بِسُقُوط الْفَرْض بِالْفِعْلِ فِي ذَلِك الْوَقْت

قيل لَهُم وَلم زعمتم ذَلِك وَمَا انكرتم أَن الْفَرْض إِنَّمَا سقط بايقاع الْفِعْل فِي الأول لِأَن الْأَمر اقْتضى إِيقَاع الْفِعْل فَقَط وَهَذَا حَاصِل إِذا فعله فِي الأول وَإِذا فعله فِي الثَّانِي فَالْأَمْر اقْتضى إِسْقَاط الْفَرْض بِالْفِعْلِ فِي الثَّانِي وَالثَّالِث من حَيْثُ اقْتضى إِسْقَاطه بإيقاع الْفِعْل فِي الأول وَيبْطل بالكفارات الثَّلَاث لِأَنَّهُ إِذا فعل كل وَاحِدَة مِنْهَا سقط الْفَرْض وَمَعَ هَذَا يجوز تَأْخِيرهَا عَنهُ وَقد أُجِيب عَن ذَلِك بِأَن جَوَاز تَأْخِير الْفِعْل عَن ألأول لَا ينْقض وجوب الْفِعْل وَلَا يلْحقهُ بالنافلة لِأَنَّهُ ينْفَصل عَن النَّافِلَة بِأَن النَّافِلَة يجوز الْإِخْلَال بهَا اصلا وَلَيْسَ كَذَلِك الْفَرْض لِأَنَّهُ لَا يجوز الْإِخْلَال بِهِ أصلا وَهَذَا غير صَحِيح لِأَن الْمُسْتَدلّ ألزم على جَوَاز التَّأْخِير عَن الأول بِأَن يلْحق بِمَا هُوَ فعل فِي ذَلِك الْوَقْت وَلم يلْزم أَن يلْحق بالنوافل على الْإِطْلَاق فيفصل بَينه وَبَين النَّافِلَة الْمُطلقَة وَأجَاب شُيُوخنَا فَقَالُوا إِن الْوَاجِب إِذا أخر إِلَى بدل لَام ينتقص وُجُوبه وَلم يلْحق بالنوافل وَالْفِعْل إِنَّمَا يجوز تَأْخِيره عَن ثَانِي الْأَمر إِلَى بدل هُوَ الْعَزْم على أَدَائِهِ وَاسْتَدَلُّوا على كَون الْعَزْم بَدَلا بِأَن الْأَمر اقْتضى إِيجَاب الْفِعْل وَلم يعين الْوَقْت فاذا وَجب الْفِعْل فِي الثَّانِي وَجَاز مَعَ ذَلِك تَأْخِيره عَنهُ لم يُمكن ذَلِك إِلَّا مَعَ الْبَدَل وَقد أَجمعُوا على أَن الْمَأْمُور يلْزمه إِذا لم يفعل الْمَأْمُور بِهِ فِي الثَّانِي أَن يعزم على ادائه فِيمَا بعد فقد دلّ الدَّلِيل على وجوب الْعَزْم وَلم يدل الدَّلِيل على وجوب غَيره فأثبتناه دون غَيره وسنتكلم على هَذَا الْجَواب فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْأمة قد أَجمعت على أَن الْفَرْض يسْقط عَن الْمَأْمُور بايقاع الْفِعْل فِي ثَانِي حَال الْأَمر وَلم تجمع على إِسْقَاطه إِذا فعله بعده فَلم يجز تَأْخِيره وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم وَلم إِذا لم تجمع على ذَلِك لم يجز التَّأْخِير وَمَا أنكرتم أَنه لَيْسَ كل مَا لم تجمع الْأمة عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِل لِأَنَّهُ لَا يمْنَع على وجوب صِحَّته دَلِيل غير الْإِجْمَاع كَمَا أَن تَحْرِيم التَّأْخِير لم تجمع الْأمة عَلَيْهِ وَلم يمْنَع من ذَلِك صِحَة القَوْل بِهِ

وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْمُكَلف إِذا فعل الْمَأْمُور بِهِ فِي الثَّانِي سقط عَنهُ الْفَرْض وَفعل مَا وَجب عَلَيْهِ فَعلمنَا أَن الْأَمر قد تنَاول ذَلِك وَهَذَا يمْنَع من الْإِخْلَال بِهِ لِأَنَّهُ بالإخلال بِهِ يفوت إِذْ كَانَ مَا يَقع فِيمَا بعد لَيْسَ هُوَ ذَلِك الْمَأْمُور بِهِ بِعَيْنِه وَإِنَّمَا هُوَ مثله لِأَن أَفعَال الْعباد تحتص بالأوقات فَمَا يَصح أَن يوجدوه فِي وَقت لَا يَصح إيجاده فِي غَيره فَلم يجز أَن يفوت الْمُكَلف مَا علم أَن التَّكْلِيف قد تنَاوله وَالْجَوَاب أَن الْآمِر إِنَّمَا أوجب مَا لَهُ صُورَة مَخْصُوصَة من الْأَفْعَال وَلم يُوجب فعلا معينا لِأَن الْمُكَلف لَا يُمَيّز ذَلِك فاذا كَانَ كَذَلِك وَكَانَ مَا يَفْعَله فِي الْوَقْت الأول وَفِيمَا بعده قد اخْتصَّ بِتِلْكَ الصُّورَة كَانَ فَاعل كل وَاحِد مِنْهُمَا ممتثلا للامر وأيصا فان الْمُخَالف يَقُول لَو تنَاول الْأَمر الْأَفْعَال المختصة بالأوقات لم يمْتَنع أَن يتَنَاوَل أَعْيَان مَا يخْتَص بِكُل وَقت فَيجوز ترك مَا اخْتصَّ بِالْوَقْتِ الأول إِلَى مَا يخْتَص بِالثَّانِي وَالثَّالِث لِأَن كل وَاحِد من ذَلِك بدل من صاحيه وَالْكَلَام فِي أَن أَفعَال الْمُكَلف تخْتَص بالأوقات لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْأَمر قد اقْتضى الْوُجُوب فَحَمله على وجوب الْفِعْل فِي ثَانِي الْأَوْقَات أحوط وَالْجَوَاب أَن النافين للفور يقطعون على نفي وُجُوبه فهم آمنون من الْمضرَّة إِن أخروا الْفِعْل غير خَائِفين من ذَلِك وَيَقُولُونَ طَرِيق الِاحْتِيَاط أَن نَنْظُر هَل يَقْتَضِي الْفَوْر أم لَا فان علمنَا أَنه يَقْتَضِيهِ حملناه عَلَيْهِ وَإِن لم يقتضه لم نحمله عَلَيْهِ وَالِاحْتِيَاط ثَابت فِي كلا الْقسمَيْنِ وَلَيْسَ الِاحْتِيَاط أَن نعتقد وجوب التَّعْجِيل وَنحن لَا نَأْمَن أَن لَا يكون وَاجِبا فنكون قد فعلنَا اعتقادا لَا نَأْمَن كَونه جهلا وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْأَمر يتَنَاوَل الْفِعْل فَيَقْتَضِي وُجُوبه وَلَا يتَنَاوَل اعْتِقَاد وجوب الْمَأْمُور بِهِ فاذا وَجب تَعْجِيل اعْتِقَاد وجوب الْمَأْمُور بِهِ مَعَ أَن الْأَمر مَا تنَاوله فبأن يقْضِي وجوب تَعْجِيل الْمَأْمُور بِهِ أولى وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم لم زعمتم أَنه إِن وَجب تَعْجِيل اعْتِقَاد وجوب الْمَأْمُور بِهِ وَجب تَعْجِيل الْمَأْمُور بِهِ وَمَا

أنكرتم أَن تَعْجِيل الِاعْتِقَاد يجب لدَلِيل يَخُصُّهُ لَا لِلْأَمْرِ وَإِنَّمَا كَانَ يلْزم مَا ذكرتموه لَو وَجب ذَلِك لأجل الْأَمر فان قَالُوا الِاعْتِقَاد تَابع للمعتقد فاذا تعجل الِاعْتِقَاد تعجل المعتقد قيل لَهُم أتعنون أَن وجوب تَعْجِيل الِاعْتِقَاد تَابع لوُجُوب تَعْجِيل المعتقد فان قَالُوا نعم قيل لَهُم لَا نسلم ذَلِك وَإِن قَالُوا نعني أَن وجوب الِاعْتِقَاد تَابع لوُجُوب المعتقد قيل لَهُم وَلم إِذا كَانَ كَذَلِك وَجب إِذا الزم تَعْجِيل الِاعْتِقَاد أَن يلْزم تَعْجِيل المعتقد ثمَّ يُقَال لَهُم إِن الْمُكَلف إِذا سمع الْأَمر بِالْفِعْلِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون قد سبق لَهُ الْعلم بِأَن الْأَمر على الْوُجُوب وَأَن خطاب الْحَكِيم يجب حمله على مَوْضِعه أَو لم يسْبق لَهُ ذَلِك فَإِن كَانَ قد سبق لَهُ ذَلِك فَهُوَ يعلم وجوب الْمَأْمُور بِهِ فِي ثَانِي سَمَاعه الْأَمر الَّذِي يُعلمهُ صادرا من حَكِيم وَلَا يُمكنهُ أَن لَا يعلم ذَلِك فَلَا يَصح أَن يجب وَالْحَال هَذِه وَإِن لم يعلم أَن الْأَمر على الْوُجُوب فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون قد علم أَن أَلْفَاظ الْوُجُوب الْمُطلقَة لَا تفِيد الْفَوْر أَو لَا يعلم ذَلِك فان علم ذَلِك فان لم يثبت الْعَزْم بَدَلا يَقُول إِنَّه لَا يلْزمه أَن يعجل اعْتِقَاد الْمَأْمُور بِهِ وَلَا النّظر فِيهِ لِأَنَّهُ يَقُول إِن لم يكن الْأَمر على الْوُجُوب فَلَيْسَ يلْزَمنِي فِي الثَّانِي وَلَا فِيمَا بعده أَن أفعل شَيْئا فَلَا يلْزَمنِي اعْتِقَاد وجوب ذَلِك الشَّيْء وَإِن كَانَ الْأَمر على الْوُجُوب فَلَيْسَ يلْزَمنِي أَيْضا فعل الْوَاجِب فِي الثَّالِث وَلَا فِي الرَّابِع فَلم يلْزَمنِي اعْتِقَاد الْوُجُوب فِي الثَّانِي لِأَن فعل الْمَأْمُور بِهِ فِي الثَّالِث غير مُتَعَيّن وُجُوبه وَإِنَّمَا يلْزَمنِي أَن انْظُر فِي الْأَمر هَل يُفِيد الْوُجُوب إِذا غلب على ظَنِّي أنني إِن لم أنظر فِي ذَلِك فَأعْلم الْوُجُوب وأفعل عقيبة فَاتَنِي الْفِعْل فيلزمني حِينَئِذٍ أَن أنظر لأنني لَا آمن كَون الْأَمر على الْوُجُوب فان قيل إِن من لَا يثبت الْعَزْم بَدَلا يُوجِبهُ وَيَقُول إِنَّه لَيْسَ بِبَدَل فَهَذَا لزمَه النّظر ليعلم وجوب الْمَأْمُور بِهِ لِأَنَّهُ إِن كَانَ الْمَأْمُور بِهِ وَاجِبا لزمَه أَن يَفْعَله أَو يعزم على أَدَائِهِ قيل إِن كثيرا مِنْهُم لَا يَقُول بِوُجُوب الْعَزْم وَمن يَقُول مِنْهُم بِوُجُوبِهِ يَقُول إِنَّمَا يجب إِذا علم الْمُكَلف وجوب الْفِعْل وَقبل أَن يعلم ذَلِك لَا يلْزمه الْعَزْم وَأما من أثبت الْعَزْم بَدَلا فانه يَقُول يلْزم هَذَا الْمُكَلف فِي الثَّانِي أَن

ينظر فِي الْأَمر هَل يَقْتَضِي الْوُجُوب لِأَنَّهُ يلْزمه معجلا أَن يفعل إِمَّا المامور بِهِ أَو الْعَزْم على أَدَائِهِ وَإِنَّمَا يلْزمه الْعَزْم إِذا كَانَ المعزوم عَلَيْهِ وَاجِبا فَلَا يَأْمَن الْمُكَلف أَن يكون الْأَمر على الْوُجُوب وَإِن لم ينظر فِي ذَلِك معجلا فَاتَهُ أحد الواجبين وَأما إِن كَانَ لَا يعلم أَن أَلْفَاظ الْإِيجَاب الْمُطلقَة لَيست على الْفَوْر وَلم يعلم أَن الْأَمر على الْوُجُوب فان لَهُ أَن يقدم النّظر فِي أَن الْأَمر لَو كَانَ على الْوُجُوب لما اقْتضى الْفَوْر فاذا علم ذَلِك سقط عَنهُ تَقْدِيم النّظر فِي وجوب الْفِعْل إِلَّا على قَول من يثبت الْعَزْم بَدَلا على مَا بَينا وَمِنْهَا أَن يُقَال لَو جَازَ تَأْخِير الْمَأْمُور بِهِ عَن الْوَقْت الثَّانِي أدّى إِلَى أَقسَام كلهَا بَاطِلَة وَمَا أدّى إِلَى الْبَاطِل بَاطِل وَبَيَان ذَلِك أَنه لَو جَازَ تاخيره عَن الثَّانِي لم يخل من أَن يجوز تَأْخِيره لَا إِلَى غَايَة أَو إِلَى غَايَة لَا يجوز أَن يُؤَخر عَنْهَا فَإِن جَازَ لَا إِلَى غَايَة لم يخل من أَن يجوز ذَلِك لَا إِلَى بدل أَو إِلَى بدل وَهَذَا الثَّانِي يَنْقَسِم إِلَى أَن يكون الْبَدَل هُوَ الْعَزْم على ادائه فِي الْمُسْتَقْبل أَو الْوَصِيَّة كَالْحَجِّ وَإِن جَازَ تَأْخِيره إِلَى غَايَة لم تخل تِلْكَ الْغَايَة إِمَّا أَن تكون مَوْصُوفَة أَو مُعينَة أما الْمعينَة فَيجوز أَن يُقَال لَهُ أَخّرهُ إِلَى الْوَقْت الْعَاشِر أَو الْيَوْم الْفُلَانِيّ وَلَا تؤخره عَنهُ وَأما الموصوفة فنحو أَن يُقَال إِذا غلب على ظَنّه أَنه إِن لم يشرع فِي أَدَاء الْمَأْمُور بِهِ فَاتَهُ وَهَذَا ضَرْبَان أَحدهمَا أَن يغلب على ظَنّه ذَلِك بأمارة أَو لَا بأمارة والأمارة نَحْو الْمَرَض وعلو السن وكل هَذِه الْأَقْسَام بَاطِلَة أما القَوْل بِجَوَاز تَأْخِير الْمَأْمُور بِهِ لَا إِلَى غَايَة من غير بدل فانه ينْقض وُجُوبه ويلحقه بالنوافل وَأما القَوْل بِأَنَّهُ يجوز تَأْخِيره إِلَى بدل هُوَ الْوَصِيَّة فَبَاطِل أَيْضا لِأَن ذَلِك لَيْسَ بعام فِي كل الْعِبَادَات لِأَنَّهُ لَيْسَ كل الْعِبَادَات تثبت بِالْوَصِيَّةِ وعَلى أَنه إِن جَازَ أَن يكون أَمر الله سُبْحَانَهُ لنا أَن نَفْعل الْعِبَادَة لَا يمْنَع من أَن نعزم على الْإِخْلَال بهَا ونوصي غَيرنَا بهَا لم يمْنَع أمرنَا للْوَصِيّ من أَن يُوصي بِمَا وصينا بِهِ وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْوَصِيّ الثَّانِي وَالثَّالِث الى غير غَايَة

وَأما كَون الْعَزْم بَدَلا فقد أفسدنا بَدَلا لَا دَلِيل على كَونه بَدَلا وَلَيْسَ يجوز إِثْبَات بدل لَا دَلِيل عَلَيْهِ وَإِذا لم يجز كَونه بَدَلا لم يجز تاخير الْعِبَادَة لِأَن تَأْخِيرهَا مَوْقُوف على إِثْبَات بدل لَا دَلِيل عَلَيْهِ وَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول قد أَجمعت الْأمة على وجوب الْعَزْم لِأَن قيام الدّلَالَة على وجوب الشَّيْء لَا يَقْتَضِي كَونه بَدَلا من غَيره وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم لم زعمتم أَنه لَا دَلِيل يدل على كَون الْعَزْم بَدَلا فان قَالُوا لِأَنَّهُ لَا ذكر للعزم فِي الْأَمر قيل لَهُم وَلَا ذكر للْوَقْت الثَّانِي فِي الْأَمر ولستم بِأَن تنفوا كَون الْعَزْم بَدَلا لِأَنَّهُ غير مَذْكُور فِي الْأَمر وتتوصلون بذلك إِلَى تعْيين الْوَقْت الثَّانِي بِأولى من أَن ننفي تعْيين الْوُجُوب بِالْوَقْتِ الثَّانِي ونتوصل بذلك إِلَى اثبات بدل لِأَنَّهُ لَا يُمكن بعد ذَلِك إِلَّا إِثْبَات بدله وَقد أفسد كَون الْعَزْم بَدَلا فَقيل إِن الْعَزْم على أَدَاء الْعِبَادَة وَاجِب لَا على سَبِيل الْبَدَل عَنْهَا لِأَنَّهُ يجب على الْمُكَلف أَن يعزم على أَدَائِهَا قبل دُخُول وَقتهَا مَعَ علمنَا بِأَن الْوُجُوب لم يحصل قبل وَقتهَا وَأجِيب عَن ذَلِك بِأَنَّهُ لَا يلْزم الْعَزْم على فعلهَا قبل أَن يجب وَإِنَّمَا يقبح كَرَاهَة فعلهَا فَأَما أَن يعزم الْإِنْسَان وَيُرِيد فعلهَا فَلَا يجب وَيُمكن أَن يعْتَرض هَذَا الْجَواب فَيُقَال لَهُ إِنَّه إِذا وَجَبت الْعِبَادَة وَجَاز تَأْخِيرهَا فَلَيْسَ يجب عَلَيْهِ إِلَّا مَا يجب عَلَيْهِ قبل دُخُول وَقتهَا فان كَانَ يجب عَلَيْهِ فِي أَحدهمَا الْعَزْم وَجب أَيْضا فِي الآخر وَإِن وَجب عَلَيْهِ أَلا يكره الْعِبَادَة وَجب عَلَيْهِ ذَلِك هَا هُنَا وَلَيْسَ يُمكن أَن يَدعِي أَن الْأمة فصلت بَين الْعَزْم على الْأَدَاء وَبَين نفي الْكَرَاهَة فأوجبت أَحدهمَا قبل الْوُجُوب وأوجبت الآخر بعد توجه الْوُجُوب وَيُمكن أَن يُجَاب عَن ذَلِك بِأَن نسلم أَن الْوَاجِب قبل دُخُول الْوَقْت وَتوجه الْوُجُوب مثل مَا يجب بعد توجه الْوُجُوب إِمَّا عزم أَو فقد كَرَاهَة ثمَّ يُقَال إِنَّه لَا يمْتَنع أَن لَا يكون ذَلِك بَدَلا قبل توجه الْوُجُوب وَيكون بَدَلا وَقَائِمًا مقَام الْمُبدل فِي الْمصلحَة كلهَا أَو بَعْضهَا بعد توجه الْوُجُوب لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون الْفِعْل أَو الْإِخْلَال بِالْفِعْلِ فِي بعض الْأَوْقَات بَدَلا من شَيْء وَفِي وَقت آخر لَا يكون بَدَلا مِنْهُ فَلَا يجوز أَن يمْنَع من كَون الْعَزْم بعد دُخُول الْوَقْت بَدَلا من الْعِبَادَة لأجل أَنه يجب فعله قبل الْوَقْت وَلَا يكون بَدَلا

طَريقَة أُخْرَى فِي الْعَزْم لَو كَانَ الْعَزْم بَدَلا من الْعِبَادَة لم يخل إِمَّا أَن يجب فِي الْوَقْت الثَّانِي بَدَلا من الْعِبَادَة أَو يجوز تَأْخِيره وَتَأْخِير الْعِبَادَة عَن الثَّانِي فان جَازَ تأخيرهما كَانَ القَوْل فِي الْعَزْم كالقول فِي الْعِبَادَة الْمَأْمُور بهَا وَلم يقف ذَلِك على غَايَة ولحقا جَمِيعًا بالنوافل وَإِن وَجب الْعَزْم فِي الثَّانِي إِن لم يفعل الْمَأْمُور بِهِ فِيهِ لم يجز ذَلِك لِأَن بدل الْعِبَادَة إِنَّمَا يجب على حد وُجُوبهَا ليَكُون فعله جَارِيا مجْرى فعلهَا وَمَعْلُوم أَن الْآمِر عِنْدهم إِنَّمَا أوجب أَن نَفْعل الْعِبَادَة فِي وَقت غير معِين وَلم يعين وُجُوبهَا فِي الثَّانِي فَيَنْبَغِي أَن يكون بدلهَا يجب فِي وَقت غير معِين وَفِي ذَلِك بطلَان تَعْيِينه بِالثَّانِي فان قَالُوا إِن الْأَمر قد اقْتضى وجوب الْفِعْل فِي الثَّانِي قيل لَهُم إِن أردتم بذلك أَنه عين وُجُوبهَا فِيهِ وَلم يرخص فِي تَأْخِيرهَا عَنهُ فَذَلِك هُوَ القَوْل بالفور وَذَلِكَ يمْنَع من تَأْخِيرهَا ويغني عَن الْبَدَل إِلَّا أَن يدل دلَالَة مُبتَدأَة عَلَيْهِ وَإِن أردتم أَن الْأَمر قد اقْتضى كَون الْفِعْل فِي الثَّانِي مرَادا وَمُسْقِطًا للْفَرض قيل لكم وَقد اقْتضى أَن يكون فِي فعله فِي الثَّانِي وَالثَّالِث كَذَلِك فقد صَار مُوجبا لَهُ فِي وَقت غير معِين فَيجب أَن يكون بدله الساد مسده هَذِه حَالَة وَيُقَال لَهُم إِذا كَانَ الْأَمر قد اقْتضى أَن فعل الْعِبَادَة فِي الثَّانِي كفعلها فِي الثَّالِث وَالرَّابِع فَلم منعتم الْمُكَلف من تَأْخِيرهَا عَن الثَّانِي إِلَّا بِبَدَل وَهُوَ يَقُول إِنِّي إِنَّمَا أؤخرها لِأَن الْمصلحَة تحصل لي فِي الثَّالِث كَمَا تحصل لي فِي الثَّانِي فَأن قَالُوا لِأَن الْأَمر اقْتضى الْوُجُوب فِي الثَّانِي وَالثَّالِث على وَجه لَا يمْنَع من التَّأْخِير وَلَا يتم ذَلِك إِلَّا مَعَ الْبَدَل فَجرى مجْرى أَن يَقُول الْمُكَلف هَذَا الْفِعْل وَاجِب فِي الثَّانِي وَيجوز تَأْخِيره إِلَى الثَّالِث فِي أَنه لَا يجوز تَأْخِيره إِلَّا بِبَدَل إِلَّا انْتقض وُجُوبه فِيهِ قيل إِن كَانَ الْمُكَلف قد قَالَ إِنَّه وَاجِب فِي الثَّانِي لَا يجوز تَأْخِيره عَنهُ وَيجوز مَعَ ذَلِك تَأْخِيره الى الثَّالِث فَذَلِك متناقض وَإِن قَالَ إِنَّه وَاجِب فِي الثَّانِي وَالثَّالِث على معنى أَن الْفَرْض يسْقط بِالْفِعْلِ فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا فَلَو صرح بذلك لما احتجنا إِلَى بدل فِي الثَّانِي طَريقَة أُخْرَى لَو كَانَ الْعَزْم فِي الثَّانِي بَدَلا من أَدَاء الْعِبَادَة فِيهِ لم تخل

الْعِبَادَة من أَن يتضيق أَدَاؤُهَا فِي وَقت من الْأَوْقَات أَو لَا يتضيق فان لم يتضيق فَحكم الْعِبَادَة فِي كل الْأَوْقَات حكم الثَّانِي فَكَمَا جَازَ للمكلف تَأْخِيرهَا عَن الثَّانِي جَازَ لَهُ تَأْخِيرهَا عَن سَائِر الْأَوْقَات وَإِذا جَازَ لَهُ تَركهَا فِي جَمِيع الْأَوْقَات لم يجز أَن يجب عَلَيْهِ الْعَزْم على أَدَائِهَا لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يجب على الْإِنْسَان أَن يعزم ويقصد أَن يفعل مَا يجوز لَهُ تَركه لِأَن فِي ضمن قَوْلنَا يجب عَلَيْك أَن تعزم على الْفِعْل فِي الثَّانِي إِيجَابا للْفِعْل فِي الثَّانِي فكون الْعَزْم بَدَلا من وَاجِب يَقْتَضِي وُجُوبه وَكَونه عزما على مَا يجوز تَركه يَقْتَضِي جَوَاز تَركه فان قَالُوا إِن الْمَأْمُور بِهِ يتضيق أَدَاؤُهُ فِي بعض الْأَوْقَات وَهُوَ الْوَقْت الَّذِي يغلب على ظن الْمُكَلف أَنه إِن لم يَفْعَله فِيهِ فَاتَهُ فعله قيل لَهُم فَكَأَن الْمُكَلف خير فِي فعله وَتَركه قبل هَذَا الْوَقْت وضيق وُجُوبه عَلَيْهِ فِيهِ فَجرى مجْرى أَن يَقُول الْمُكَلف صَرِيحًا للمكلف أَنْت مُخَيّر فِي فعل هَذِه الْعِبَادَة إِلَى أَن يغلب على ظَنك أَنَّهَا تفوت إِن لم تؤدها فَحِينَئِذٍ يتضيق وُجُوبهَا وَلَو قَالَ ذَلِك لما كَانَ للْمَنْع من تَأْخِيرهَا قبل هَذَا الْوَقْت لَا إِلَى بدل وَجه مَعَ أَن الْمُكَلف قد رخص فِي تَأْخِيرهَا وَلم يذكر بَدَلا لِأَن الْبَدَل إِنَّمَا يجب بعد أَن يكون الْمُبدل قد تضيق وُجُوبه فِي نَفسه فيستحيل أَن يجوز تَركه لَا إِلَى بدل فان قَالُوا لَو لم يثبت الْبَدَل انْتقض وُجُوبهَا فِيمَا قبل قيل إِنَّه لَا ينْتَقض الْوُجُوب الَّذِي هُوَ بِمَعْنى أَن الفوض يسْقط بِالْفِعْلِ لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون الْفِعْل مصلحَة فِي هَذَا الْوَقْت وَفِيمَا قبله على سَوَاء فَيُخَير الله سُبْحَانَهُ بَينهمَا وَلَا وَجه لإِيجَاب الْبَدَل وَالْحَال هَذِه فان قَالُوا إِنَّمَا ألزمناه الْعَزْم وجعلناه بَدَلا لأننا لَا نَأْمَن أَن يَمُوت من غير أَن يغلب على ظَنّه أَنه يَمُوت فتفوته الْعِبَادَة فألزمناه مَا يقوم مقَامهَا فِي الْوَقْت الثَّانِي وَالثَّالِث قيل لَهُم إِن الْمُكَلف إِذا مَاتَ فِي زمَان التَّخْيِير وَقبل زمَان التَّضْيِيق وَلم يفعل الْفِعْل لم يكن عَلَيْهِ تبعة وَإِذا لم تكن عَلَيْهِ تبعة لم يلْزمه الْبَدَل طَريقَة أُخْرَى فِي الْعَزْم لَو كَانَ الْعَزْم فِي الثَّانِي بَدَلا من فعل الْعِبَادَة فِيهِ لم يخل إِمَّا أَن يقوم مقَام فعلهَا فِي ثُبُوت الْمصلحَة فِيهِ أَو لَا يقوم مقَامهَا فِيهِ فان

لم يقم مقَامهَا فِيهِ لم يكن بَدَلا مِنْهَا وَلم يجز الْعُدُول عَنْهَا إِلَيْهِ إِذْ فِي ذَلِك تَفْوِيت بعض الْمصلحَة وَإِن قَامَ مقَامهَا فِيهِ فقد استوفيت الْمصلحَة بِفِعْلِهِ فَلَا وَجه لوُجُوب الْعِبَادَة بعد ذَلِك وَفِي ذَلِك سُقُوط الْفَرْض بالعزم فان قَالُوا إِنَّه يقوم مقَام الْعِبَادَة فِي ذَلِك الْوَقْت وَيبقى فعلهَا وَاجِبا فِي الْأَوْقَات الْأُخَر قيل إِن الْأَمر لم يفد وجوب الْعِبَادَة فِي الْأَوْقَات على الْجمع حَتَّى إِذا سقط الْفَرْض فِي الْوَقْت الثَّانِي بَقِي مَا بعده وَإِنَّمَا أوجب فعلا وَاحِدًا وَلِهَذَا لَو فعله فِي الثَّانِي لم يلْزمه فعله فِيمَا بعد ذَلِك الْأَمر فاذا فعل مَا يجْرِي مجْرى فعله الْعِبَادَة فِي الثَّانِي وَجب أَن يسْقط الْفَرْض الثَّابِت بذلك الْأَمر كَمَا يسْقط لَو فعل الْعِبَادَة الْمَأْمُور بهَا وَإِنَّمَا يجوز أَن يثبت مثله فِي الثَّالِث وَالرَّابِع بِأَمْر آخر كَمَا يجوز ذَلِك لَو فعل نفس الْمَأْمُور بِهِ فان قَالُوا مَا تنكرون أَن تكون الْعِبَادَة لَو فعلت فِي الثَّانِي لكَانَتْ مصلحَة فِي الثَّالِث وَالرَّابِع وَسَائِر الْأَوْقَات إِلَى حَال الْمَوْت فاذا فعل بدلهَا وَهُوَ الْعَزْم سد مسدها فِي حُصُول الْمصلحَة فِي الثَّالِث وَتبقى الْمصلحَة فِي الْأَوْقَات الْأُخَر لَا تحصل إِلَّا بالمعزوم عَلَيْهِ أَو بعزم يحصل فِي كل وَقت فَيقوم مقَام المعزوم عَلَيْهِ فِي ثُبُوت الْمصلحَة فِي الْوَقْت الَّذِي يَلِيهِ قيل هَذَا يَقْتَضِي أَن يكون الْمُكَلف إِذا مَاتَ وَهُوَ موَالٍ للعزم فانه يكون قد استوفى مصلحَة الْحَج وَفِي ذَلِك سُقُوط فَرْضه وَفرض الْعَزْم لَو عَاشَ وَقد أَجمعت الْأمة فِي كل من مَاتَ وَلم يحجّ أَنه لَو بَقِي وَهُوَ صَحِيح مُوسر للزمه الْحَج فان قَالُوا إِن الْحَج هُوَ مصلحَة فِي أَفعَال تقع فِي كل الْأَوْقَات إِلَى أبعد عمر يجوز أَن يحيي فِيهِ الْمُكَلف فِي الْعَادة فاذا مَاتَ الْمُكَلف قبل ذَلِك وَلم يحجّ وَجب أَن يُقَال لَو عَاشَ لزمَه الْحَج لِأَنَّهُ لَو عَاشَ لَكَانَ الْحَج أَو الْعَزْم على أَدَائِهِ مصلحَة فِي أَفعَال تحصل فِي تِلْكَ الْأَوْقَات فاما مَا بعد أطول الْأَعْمَار بِزَمَان طَوِيل فَلَا يمكنكم أَن تدعوا فِيهِ إِجْمَاعًا قيل هَذَا يَقْتَضِي أَن الْإِنْسَان لَو حج عِنْد بُلُوغه فانه يكون ذَلِك مصلحَة فِي فعل يَقع مِنْهُ بعد مائَة سنة وَأكْثر وَهَذَا يبعد لِأَن اللطف إِذا ترَاخى صَار فِي حكم المنسي فَأَما القَوْل بِأَن الْعِبَادَة تتضيق فِي وَقت معِين فَلم يقل بِهِ أحد وَلَا دَلِيل يدل

عَلَيْهِ وَلَيْسَ بعض الْأَوْقَات الْمعينَة بذلك أولى من وَقت فَالْقَوْل بِأَنَّهَا تتضيق عِنْد مَا يغلب على الظَّن أَنَّهَا تفوت إِن لم تفعل وَلَا يحصل ذَلِك الظَّن عَن أَمارَة لَا يَصح لِأَنَّهُ لَا ينْفَصل من ظن السوداوي وَالْقَوْل بِأَنَّهَا تتضيق عِنْد ظن يحصل على أَمارَة كَمَرَض وعلو سنّ بَاطِل لِأَن كثيرا من النَّاس يَمُوت فَجْأَة وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنه مَا كَانَ يجب عَلَيْهِم أَن يَفْعَلُوا الْعِبَادَة لَا محَالة مَعَ أَن ظَاهر الْأَمر اقْتضى أَن يفعلوها لَا محَالة لِأَن صِيغَة افْعَل تَقْتَضِي أَن يفعل الْمَقُول لَهُ لَا محَالة وَالْجَوَاب أَن قَول الْقَائِل لغيره افْعَل وَإِن اقْتضى أَن يفعل لَا محَالة فانه يَقْتَضِي أَن يفعل لَا محَالة فِي غير وَقت معِين لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنه مَتى فعل فقد قضي عُهْدَة الْأَمر فَصَارَ مُفِيدا لِأَن يفعل لَا محَالة فِي غير وَقت معِين وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يخيره فِي الْأَوْقَات وَلَا يدْخل فِي كَونه وَاجِبا إِلَّا بِأَن يضيقه فِي بعض الْأَوْقَات وَلَا وَقت يُمكن ذَلِك فِيهِ إِلَّا إِذا خشِي الْفَوات إِن أَخّرهُ عَنهُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن من لم يغلب على ظَنّه أَن الْفِعْل يفوتهُ إِن لم يَفْعَله فِي الْوَقْت الَّذِي قه انْتهى إِلَيْهِ لم يجب عَلَيْهِ أَن يفعل لَا محَالة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب القَوْل فِي الامر إِذا كَانَ مؤقتا بِوَقْت مَحْدُود بِأول وَآخر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْوَقْت الْمَضْرُوب للْفِعْل إِمَّا أَن يَتَّسِع للْفِعْل أَو لَا يَتَّسِع لَهُ فان لم يَتَّسِع لَهُ لم يجب أَن يُكَلف الْإِنْسَان إِيقَاع الْفِعْل فِيهِ لِأَنَّهُ تَكْلِيف لما يُطَاق وَيجوز أَن يكون وجود ذَلِك الْوَقْت على بعض الْوُجُوه سَببا لوُجُوب الْقَضَاء نَحْو أَن تطهر الْحَائِض أَو يبلغ الْغُلَام وَقد بَقِي من الصَّلَاة مِقْدَار رَكْعَة وَنَحْو أَن يحرم الْإِنْسَان بحجتين لِأَن ذَلِك سَببا لقَضَاء إِحْدَاهمَا عِنْد أَصْحَابنَا وَنَحْو أَن ينذر الْإِنْسَان أَن يَصُوم فِي يَوْم يقدم فِيهِ فلَان فَيقدم وَقد مضى من النَّهَار بعضه وَأما إِن اتَّسع الْوَقْت للْفِعْل فَذَلِك ضَرْبَان أَحدهمَا أَلا يزِيد الْوَقْت على

مِقْدَار الْفِعْل نَحْو صَوْم يَوْم وَلَا إِشْكَال فِي أَن جَمِيعه وَقت للْوُجُوب وَالْآخر أَن يزِيد الْوَقْت على مِقْدَار الْفِعْل كوقت صَلَاة الظّهْر وَقد اخْتلف النَّاس فِي وَقت الْوُجُوب من ذَلِك فَقَالَ مُحَمَّد بن شُجَاع الثَّلْجِي وَأَصْحَاب الشَّافِعِي وشيخانا أَبُو عَليّ وَأَبُو هَاشم وأصحابهما إِن أول الْوَقْت ووسطه وَآخره وَمَا بَين ذَلِك من حالاته وَقت للْوُجُوب وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فَمنهمْ من لم يثبت للصَّلَاة فِي أول الْوَقْت ووسطه بَدَلا فِيهِ وَمِنْهُم من أثبت للصَّلَاة فِي كل وَقت من هذَيْن الْوَقْتَيْنِ بَدَلا وَاخْتلفُوا فَقَالَ أَبُو عَليّ وَأَبُو هَاشم إِن بدل الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت ووسطه هُوَ الْعَزْم على أَدَائِهَا فِي الْمُسْتَقْبل وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا إِن لَهَا فِي أول الْوَقْت ووسطه بَدَلا يَفْعَله الله سُبْحَانَهُ وَقَالَ قوم إِن أول الْوَقْت هُوَ وَقت الْوُجُوب وَإِنَّمَا ضرب آخِره للْقَضَاء وَقَالَ أَكثر اصحابنا إِن آخر الْوَقْت هُوَ وَقت الْوُجُوب وَاخْتلفُوا فِي إِيقَاع الْفِعْل فِيمَا قبل ذَلِك فَقَالَ بَعضهم هُوَ نفل يسْقط بِهِ الْفَرْض وَحكي عَن الشَّيْخ ابي الْحسن أَن الْفِعْل يَقع فِي أول الْوَقْت مراعى فَإِن أدْرك الْمُصَلِّي آخر الْوَقْت وَلَيْسَ هُوَ على صفة الْمُكَلّفين كَانَ مَا فعله نفلا وَإِن أدْركهُ على صفة الْمُكَلّفين كَانَ مَا فعله وَاجِبا وَحكي عَنهُ الشَّيْخ أَبُو عبد الله أَنه قَالَ إِن أدْرك الْمُصَلِّي آخر الْوَقْت وَهُوَ على صفة الْمُكَلّفين كَانَ مَا فعله مسْقطًا المفرض وَهَذَا أشبه من الْحِكَايَة الأولى وَحكي أَبُو بكر الرَّازِيّ عَن أبي الْحسن أَن الصَّلَاة يتَعَيَّن وُجُوبهَا بِأحد شَيْئَيْنِ إِمَّا بِأَن تفعل وَإِمَّا بِأَن يضيق وَقتهَا وَيُمكن أَن يُفَسر أَكثر هَذِه الْأَقَاوِيل تَفْسِيرا صَحِيحا لَا يَقع فِيهِ نزاع وَيُمكن أَن يُفَسر تَفْسِيرا يَقع فِيهِ النزاع على مَا نبينه عِنْد الْكَلَام فِيهَا وَيَنْبَغِي أَن نبين معنى قَوْلنَا إِن الصَّلَاة وَاجِبَة فِي أول الْوَقْت ووسطه وَآخره ثمَّ نبين جَوَاز كَونهَا وَاجِبا فِيهَا ثمَّ نبين وُرُود التَّعَبُّد بِهِ أما معنى قَوْلنَا إِن الصَّلَاة وَاجِبَة فِي جَمِيع الْوَقْت فَهُوَ أَنه إِذا فعلهَا فِي أَوله كَانَت كَمَا لَو فعلهَا فِي وَسطه وَآخره فِي سُقُوط الْفَرْض وَحُصُول الْمصلحَة الْمُقْتَضِيَة للْوُجُوب

فَأَما جَوَاز وُرُود التَّعَبُّد بذلك فَهُوَ أَنه لَا يمْتَنع فِي الْعقل أَن تكون الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت ووسطه وَآخره تتساوى فِي كَونهَا لطفا دَاعيا إِلَى طَاعَة وَاجِبَة بعد خُرُوج الْوَقْت وداعيا إِلَى طَاعَة مَنْدُوب إِلَيْهَا قبل خُرُوج الْوَقْت وَلَا يمْتَنع أَن يكون دَاعيا إِلَى طَاعَة وَاجِبَة بعد خُرُوج الْوَقْت فَقَط وَلَا يكون فعلهَا بعد خُرُوج الْوَقْت مصلحَة فِيمَا كَانَت مصلحَة فِيهِ قبل خُرُوج الْوَقْت لَكِن إِذا فرط الْمُكَلف فِي فعلهَا لزمَه قَضَاؤُهَا لِأَن قضاءها يكون مصلحَة فِي دون مَا كَانَ الْأَدَاء مصلحَة فِيهِ فاذا كَانَ كَذَلِك لم يجز أَن يضيق الله سُبْحَانَهُ فعلهَا فِي أول الْوَقْت مَعَ أَن الْغَرَض بايجابها وَهُوَ الْمصلحَة يحصل بِفِعْلِهَا فِي آخر الْوَقْت وَلَا يجوز أَن لَا يضيق الله سُبْحَانَهُ فعلهَا فِي آخِره مَعَ أَن الْمصلحَة لَا تحصل إِذا أخرت عَنهُ وَلَا يمْتَنع أَيْضا أَن تكون الصَّلَاة فِي كل وَقت قبل آخر الْوَقْت مصلحَة فِي طَاعَة تَلِيهَا وَفِي طَاعَة بعد خُرُوج الْوَقْت فَإِن لم يَفْعَلهَا فِيهِ فعل الله سُبْحَانَهُ مَا يقوم مقَامهَا فِي الطَّاعَة الَّتِي تَلِيهَا وَبَقِي على الْمُكَلف فَرضهَا لما يَدْعُو إِلَيْهِ من الطَّاعَة بعد خُرُوج الْوَقْت وَلَا يمْتَنع أَيْضا أَن يكون الْعَزْم فِي كل وَقت على أَدَائِهَا فِي الثَّانِي أَو فِي غَيره من أَفعَال الْمُكَلف يقوم مقَامهَا فِي الْمصلحَة الَّتِي تَلِيهَا دون الْمصلحَة الَّتِي تَدْعُو إِلَيْهَا بعد خُرُوج الْوَقْت وَإِذا لم تمْتَنع كل هَذِه الْوُجُوه لم يمْتَنع وُرُود التَّعَبُّد عَلَيْهَا وَالَّذِي نَذْهَب إِلَيْهِ أَن الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت ووسطه مصلحَة فِي طَاعَة وَاجِبَة بعد خُرُوج الْوَقْت وَفِي طَاعَة مَنْدُوب إِلَيْهَا قبل خُرُوج الْوَقْت إِذا كَانَ الْمَعْلُوم من حَال الْمُكَلف انه لَا يدْرك مَا بعد الْوَقْت وَهُوَ حَيّ فاما الْكَلَام فِي وُرُود التَّعَبُّد بذلك فَيَقَع فِي وُجُوه مِنْهَا الْكَلَام على من خص الْوُجُوب بِأول الْوَقْت وَمِنْهَا الْكَلَام على من خصّه بِآخِرهِ وَمِنْهَا الْكَلَام على من جعل الْفِعْل فِي أول الْوَقْت مرَاعِي وَمِنْهَا الْكَلَام على من عين الْوُجُوب بِأحد شَيْئَيْنِ ثمَّ يَقع الْكَلَام بعد ذَلِك فِي إِثْبَات الْبَدَل هَل هُوَ من فعل الله سُبْحَانَهُ أَو من فعلنَا

أما الْكَلَام على من خص الْوُجُوب بأوله فَهُوَ أَن يُقَال لَهُ أتزعم أَن تَأْخِير الصَّلَاة عَن أول الْوَقْت لَا يجوز كَمَا لَا يجوز تَأْخِيرهَا عَن آخِره وَيسْتَحق الذَّم على أَحدهمَا كَمَا يسْتَحق على الآخر فان قَالَ نعم دفع قَوْله الْإِجْمَاع وَإِن قَالَ لَا قيل لَهُ فقد نقضت قَوْلك باختصاص الْوُجُوب بِأول الْوَقْت وَيُقَال لَهُ لماذا ضرب الْوَقْت فان قَالَ ليَكُون مَا يفعل بعد أول الْوَقْت قَضَاء قيل لَهُ الْأمة مجمعة على أَنه لَيْسَ بِقَضَاء وَلَا يجوز أَن تُؤدِّي الصَّلَاة بعد أول الْوَقْت بنية الْقَضَاء وَأَيْضًا فَلَا فَائِدَة لضرب الْوَقْت فِي ذَلِك لِأَن مَا يفعل بعده يكو قَضَاء أَيْضا وايضا فالوجوب مُسْتَفَاد من الْأَمر وَهُوَ مُتَعَلق بِأول الْوَقْت وَآخره ووسطه فَيجب أَن يُفِيد الْوُجُوب فِي الْكل ويتضيق بِآخِرهِ لِأَنَّهُ جعل غَايَة وَقت الْوُجُوب فَأَما من خص الْوُجُوب بِآخِرهِ فانا نفرض عَلَيْهِ مَا يعنيه بقولنَا إِن الْوُجُوب شَائِع فِي جَمِيع الْوَقْت فان أقرّ بِهِ وَإِلَّا دللنا عَلَيْهِ فَنَقُول إِنَّا نعني بذلك أَن الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت كهي فِي وَسطه وَآخره فِي حُصُول الْمصلحَة بهَا الْمُقْتَضِيَة للْوُجُوب وَفِي سُقُوط الْفَرْض فان أجَاب إِلَى ذَلِك فقد وَافق فِي الْمَعْنى وَإِن منع عَن ذَلِك قيل لَهُ إِن لم تكن الصَّلَاة قَائِمَة مقَام فعلهَا فِي آخِره فِي حُصُول الْمصلحَة وَجب أحد أَمريْن إِمَّا أَن تكون الْمصلحَة بَاقِيَة فَيلْزم فعل الصَّلَاة فِي آخر الْوَقْت مَعَ أَنَّهَا مفعولة فِي أَوله وَإِمَّا أَن تكون الْمصلحَة قد فَاتَت فان كَانَت قد فَاتَت فقد صَارَت الصَّلَاة فِي اول الْوَقْت مفْسدَة وَفِي ذَلِك قبحها وَالْإِجْمَاع يمْنَع من قبحها وَيَقْتَضِي الْإِجْمَاع ايضا أَن فعل بعض الصَّلَوَات فِي أول وَقتهَا افضل يبين كَونهَا مفْسدَة أَنه إِذا كَانَ الْمُكَلف لَو صلى فِي آخر الْوَقْت حصلت لَهُ الْمصلحَة واللطف وَإِذا صلى فِي أَوله وَلم تحصل لَهُ تِلْكَ الْمصلحَة وَخرجت الصَّلَاة فِي آخر الْوَقْت من أَن تكون مصلحَة وحصلت الْمعْصِيَة الَّتِي كَانَت الصَّلَاة فِي آخر الْوَقْت لطفا فِي الْإِخْلَال بهَا فقد حصلت الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت دَاعِيَة إِلَى هَذِه الْمعْصِيَة ومفوتا لما يَدْعُو إِلَى الطَّاعَة فان قيل أَلَيْسَ تَقْدِيم الزَّكَاة على الْحول يسْقط الْفَرْض وَلَيْسَ بمفسدة قيل إِنَّمَا

يسْقط الْفَرْض لِأَنَّهُ يقوم مقَامه فِي الْمصلحَة وَلِهَذَا لم يُطلق أحد من الْأمة القَوْل بانه صَدَقَة تطوع ونافلة مَعَ أَنَّهَا مسقطة للْفَرض فان قيل وَإِذا كَانَت قَائِمَة مقَام الزَّكَاة بعد الْحول فِي الْمصلحَة فَمَا معنى تَعْلِيق الْوُجُوب بحؤول الْحول قيل الْفَائِدَة فِي ذَلِك أَن يكون للْإِمَام إِلْزَام رب المَال الزَّكَاة بعد حؤول الْحول وَلَا يكون لَهُ إِلْزَامه اخراج الزَّكَاة قبله لِأَن الْوُجُوب موسع عَلَيْهِ وَيدل على شُمُول الْوُجُوب لأوقات الصَّلَوَات أَن الْوُجُوب مُسْتَفَاد من الْأَمر وَالْأَمر نتعلق بِأول الْوَقْت وَآخره وَمَا بَينهمَا فَشَمَلَ الْوُجُوب هَذِه الْأَوْقَات وَقد اسْتدلَّ فِي الْمَسْأَلَة بأَشْيَاء مِنْهَا أَنه لَو كَانَت الصَّلَاة نَافِلَة فِي أول الْوَقْت لصَحَّ إيقاعها بنية النَّفْل لمطابقتها لما عَلَيْهِ الصَّلَاة فِي نَفسهَا وَقد اعْترض ذَلِك بِأَنَّهُ يجوز إيقاعها بنية كَونهَا ظهرا نفلا وَأجِيب عَن ذَلِك بِأَن كَونهَا ظهرا نفلا يتناقض وَهَذَا إِنَّمَا يتناقض إِذا ثَبت أَن صَلَاة الظّهْر لَا تكون إِلَّا وَاجِبَة وَفِيه النزاع وَقد أُجِيب عَن الدَّلِيل فَقيل أَلَيْسَ تَقْدِيم الزَّكَاة يكون نفلا وَلَا يجوز إيقاعها بنية النَّفْل فان قُلْتُمْ يجوز إيقاعها بنية كَونهَا زَكَاة نفلا قيل يجوز إِيقَاع صَلَاة الظّهْر فِي أول الْوَقْت بنية كَونهَا ظهرا نفلا وَلَيْسَت الشناعة فِي ذَلِك إِلَّا كالشناعة فِي كَون الزَّكَاة نفلا وَيُمكن أَيْضا أَن يُجَاب عَن الدَّلِيل فَيُقَال إِن أردتم بنية النَّفْل أَن يَنْوِي أَن يفعل مَا يجوز تَركه فِي أول الْوَقْت لَا إِلَى بدل فِيهِ فَهُوَ قَوْلنَا وَإِن أردتم أَن يَنْوِي أَن يفعل مَا يجوز تَركه وَترك أَمْثَاله فِي كل الْأَوْقَات مَعَ السَّلامَة فَلَيْسَ هَذَا قَوْلنَا فَلم يلْزمنَا حوار أَن ينويه وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت يُرَاعِي فِيهَا أَذَان وَإِقَامَة وَعدد مَخْصُوص وَلَيْسَ هَذَا حَال النَّوَافِل وللمخالف أَن يَقُول إِن النَّوَافِل الَّتِي تسْقط الْفَرْض وَتفعل فِي الْوَقْت الْمَضْرُوب هَذِه سَبِيلهَا وَمِنْهَا أَنه كَانَ يجب أَن يكون من لم يؤد الصَّلَاة إِلَّا فِي وَقتهَا الأول غير مؤد للْفَرض من الصَّلَوَات وَلَا قَائِما بِالْوَاجِبِ مِنْهَا وللمخالف أَن يَقُول إِن

إِطْلَاق ذَلِك يُوهم أَن الصَّلَاة وَجَبت عَلَيْهِ فَلم يقم بهَا وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك وَلِهَذَا لَا يُقَال فِيمَن يقدم زَكَاته فِي كل عَام إِنَّه لم يقم بِالْوَاجِبِ من الزَّكَاة لِأَن ذَلِك صفة ذمّ والذم لَا يلْحق من قدم الْوَاجِب قبل وَقت وُجُوبه إِذا أذن فِي ذَلِك وَمِنْهَا قَوْلهم إِن تَقْدِيم صَلَاة الْمغرب أفضل من تَأْخِيرهَا وَالنَّفْل لَا يكون أفضل من الْوَاجِب وللمخالف أَن يَقُول بل يجوز أَن يكون أفضل مِنْهُ إِذا كَانَ مُتَقَدما على الْوَاجِب وَمُسْقِطًا لَهُ وَلِهَذَا يُقَال إِن تَقْدِيم الزَّكَاة على الْحول مَعَ شدَّة حَاجَة الْفُقَرَاء أفضل من تَأْخِيرهَا إِلَى حؤول الْحول وَاحْتج الْقَائِلُونَ إِن الصَّلَاة نَافِلَة فِي أول الْوَقْت بِأَن الْوَاجِب فِي الْوَقْت هُوَ مَا لَا يجوز تَأْخِيره عَن الْوَقْت إِلَّا إِلَى بدل فِيهِ وَالصَّلَاة فِي أول الْوَقْت يجوز تَأْخِيرهَا عَنهُ لَا إِلَى بدل فِيهِ لِأَنَّهُ لَا دَلِيل عَلَيْهِ وَلم تكن وَاجِبَة فِيهِ وَإِذا لم تكن وَاجِبَة فِيهِ وَكَانَت مَأْمُورا بهَا ثَبت كَونهَا نفلا فِيهِ وَقَالُوا وَلَيْسَ لكم أَن تَقولُوا إِنَّهَا تفارق النَّافِلَة وَتدْخل فِي جملَة الْوَاجِبَات من حَيْثُ لم يجز تَركهَا أصلا لأَنا إِنَّمَا استدللنا على كَونهَا نَافِلَة فِي الأول من حَيْثُ جَازَ تَأْخِيرهَا عَنهُ وَلم نستدل على أَن أَمْثَالهَا نَافِلَة فِي كل الْأَوْقَات وَالْجَوَاب أَن وَصفنَا للْفِعْل بِأَنَّهُ وَاجِب فِي الْوَقْت يسْتَعْمل على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه لَا يجوز الْإِخْلَال بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت إِلَّا إِلَى بدل فِيهِ وَهَذَا لَا نعينه فِي الصَّلَاة فِي الْوَقْت الأول وَالْآخر أَنه يقوم مقَام غَيره من الْوَاجِبَات المضيقة فِي وَجه الْوُجُوب وَهَذَا هُوَ الَّذِي نعنيه بقولنَا إِن الصَّلَاة وَاجِبَة فِي أول الْوَقْت وَقد بَينا أَنه لَا بُد للمخالف من أَن يَقُوله فَمَا يلْزمنَا عَلَيْهِ فَهُوَ لَازم لَهُ ايضا وَلَيْسَ يلْزمنَا على هَذَا القَوْل أَن لَا نجيز تَأْخِير الصَّلَاة عَن أول الْوَقْت لَا إِلَى بدل لِأَنَّهُ إِذا كَانَت الصَّلَاة فِي الْوَقْت الثَّانِي تسد مسد وُقُوعهَا فِي الْوَقْت الأول فِي الْفَرْض والمصلحة لم يجز أَن يلْزم فِي الْوَقْت بدلهَا هُوَ إِذا تَركهَا فِيهِ صَار إِلَى مَا يجْرِي مجْراهَا فاذا كَانَ كَذَلِك فَأَي فَائِدَة فِي إِلْزَام الْبَدَل

فَأَما القَوْل بِأَن الْفَرْض يتَعَيَّن بإيقاع الْفِعْل فان أُرِيد بذلك أَنه إِذا فعل الْفِعْل يجب أَن يفعل مرّة ثَانِيَة وجوبا معينا مضيقا فَبَاطِل لِأَن فعل الْمَفْعُول غير مُمكن فايجابه قَبِيح وَإِن أُرِيد أَنه يلْزم بِالشُّرُوعِ فِيهِ إِتْمَامه فَهَذِهِ حَالَة النَّوَافِل عِنْد أَصْحَابنَا وَقد تكلمنا على من قَالَ إِن الْفِعْل نَافِلَة فِي أول الْوَقْت وَإِن أُرِيد أَنه إِذا فعل الْفِعْل علمنَا أَنه قد تعين سُقُوط الْفَرْض بِهِ وَأَنه لَا فرض بعده فِي ذَلِك الْوَقْت إِلَى آخِره فَذَلِك صَحِيح وَقد كُنَّا نحكم قبل الْفِعْل أَيْضا بِأَنَّهُ إِن وجد فَهَذِهِ سَبيله فَأَما القَوْل بِأَن الْمُكَلف إِذا صلى فِي أول الْوَقْت وَأدْركَ آخِره على صفة الْمُكَلّفين كَانَ مَا يَفْعَله وَاجِبا فان أُرِيد بِهِ أَنه يبين لنا أَنه قد كَانَ ألزم الْفِعْل فِي الأول وَمنع من تَأْخِيره عَنهُ فَذَلِك يُؤَدِّي إِلَى أَنه حظر عَلَيْهِ فِي الأول التاخير وَلم يعرف فِي ذَلِك الْوَقْت أَنه قد منع من التَّأْخِير وَذَلِكَ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَإِن أُرِيد بِهِ أَنه يبين لنا أَن ذَلِك الْفِعْل قد أسقط عَن الْمُكَلف أَن يفعل فِي آخر الْوَقْت مثله وَأَنه قَائِم مقَام الْفِعْل فِي آخر الْوَقْت فِي الْمصلحَة الَّتِي تحصل بعده فَصَحِيح وَإِن أَرَادَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن بقوله إِن الْمُكَلف إِذا لم يدْرك آخر الْوَقْت على صفة الْمُكَلّفين كَانَ مَا فعله فِي أول الْوَقْت نَافِلَة أَنه يبين لنا فِي آخر الْوَقْت أَنه مَا كَانَ قد ألزم الْمُكَلف الْفِعْل فِي أَوله فَلَيْسَ بِصَحِيح لِأَنَّهُ يجب أَن يعرف ذَلِك قبل أول الْوَقْت وَإِن أَرَادَ أَنه يبين لنا أَن مَا فعله لم يكن لطفا فِي وَاجِب وَأَنه لطف فِي نَافِلَة فَصَحِيح وَهُوَ الَّذِي ينصره لِأَنَّهُ لَو كَانَ لطفا فِي وَاجِب يوقعه قبل حَال مَوته لَكَانَ الله سُبْحَانَهُ قد ضيق عَلَيْهِ الْوُجُوب فِي أول الْوَقْت وَالدّلَالَة على أَن الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت مصلحَة فِي طَاعَة نَافِلَة قبل خُرُوج الْوَقْت إِذا كَانَ الْمُصَلِّي يَمُوت قبل خُرُوج الْوَقْت فَهِيَ أَنَّهَا لَو لم تكن كَذَلِك لما حسن تكليفها لمن الْمَعْلُوم أَنه يَمُوت قبل خُرُوج الْوَقْت لِأَن وَجه وُجُوبهَا غير حَاصِل فِيهِ وَهُوَ كَونهَا دَاعِيَة إِلَى طَاعَة وَاجِبَة بعد الْوَقْت إِذْ الْمُكَلف لَيْسَ يدْرك هَذَا الْوَقْت حَيا وَفِي إِجْمَاع الْأمة على أَن من مَاتَ قبل

خُرُوج الْوَقْت لَا يكون مَا فعله من الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت مُبَاحا بل طَاعَة مَأْمُور بهَا دَلِيل على مَا قُلْنَاهُ لِأَنَّهَا لَا تكون طَاعَة إِلَّا وَهِي مصلحَة فِي طَاعَة قبل مَوته وَلَيْسَ يجوز أَن تكون تِلْكَ الطَّاعَة واجبه لِأَنَّهَا لَو كَانَت وَاجِبَة لضيق الله سُبْحَانَهُ وجوب الصَّلَاة عَلَيْهِ فَثَبت أَنَّهَا مصلحَة فِي طَاعَة مَنْدُوب إِلَيْهَا فان قَالُوا فَيجب أَن تكون صَلَاة هَذَا الْمُكَلف نَافِلَة قيل إِن أردتم بِكَوْنِهَا نَافِلَة مَا ذكرْتُمْ وَأَنه لَو لم يَفْعَلهَا حَتَّى مَاتَ لم يسْتَحق الذَّم فَصَحِيح وَهُوَ الَّذِي نصرناه وَإِن أردتم أَنه لَو بَقِي الْمُصَلِّي إِلَى بعد الْوَقْت لم تكن صلَاته لطفا فِي وَاجِب فَلَا فَأَما القَوْل بِأَن الْعَزْم بدل من الصَّلَاة فِي الْوَقْت الأول فانه إِن جعل هَذَا الْقَائِل الْعَزْم جَارِيا مجْرى الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت من كل وَجه لزم أَن يكون مَا فعله مسْقطًا لفرض الصَّلَاة كَمَا أَن الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت مسقطة للْفَرض إِذْ قد سد الْعَزْم مسد فعل الصَّلَاة وَإِن أُرِيد أَن الْعَزْم يقوم مقَام فعلهَا من وَجه دون وَجه نَحْو أَن تكون الصَّلَاة مصلحَة فِي طَاعَة تَلِيهَا وَفِي طَاعَة بعد خُرُوج الْوَقْت فَيقوم الْعَزْم مقَام فعلهَا فِي أول الْوَقْت فِي حُصُول الْمصلحَة الَّتِي تَلِيهَا وَتبقى الْمصلحَة الْأُخْرَى بِكَوْن الصَّلَاة فِي الْوَقْت الثَّانِي مصلحَة فِيهَا ومصلحة فِي الْوَقْت الثَّالِث هَكَذَا فِي كل الْأَوْقَات إِلَى أَن يتضيق الْوَقْت فَلَا يكون الْعَزْم قَائِما مقَام الصَّلَاة فِي الْمصلحَة الَّتِي تكون بعد الْوَقْت وَالَّذِي يُبطلهُ هُوَ أَنهم إِذا توصلوا إِلَى إِثْبَات الْبَدَل فَيجب أَن يثبتوه على حد ثُبُوت الْمُبدل وَمَعْلُوم أَن ظَاهر الْأَمر اقْتضى إِيجَاب الْفِعْل فِي الْأَوْقَات من زَوَال الشَّمْس إِلَى آخر الْوَقْت على الْبَدَل فَكَانَ الْوَاجِب أَن يفعل الْمُكَلف الصَّلَاة فِي وَقت من هَذِه الْأَوْقَات أَي وَقت شَاءَ هَكَذَا ظَاهر الْأَمر فَيجب أَن يكون بدل ذَلِك يلْزم فعله فِي وَقت غير معِين من هَذِه الْأَوْقَات وَلَا يتَعَيَّن فِي الأول كَمَا لم يتَعَيَّن الْمُبدل وَيجب إِذا فعل الْبَدَل فِي وَقت من هَذِه الْأَوْقَات أَن يسْقط الْفَرْض كالمبدل وَأَيْضًا فَلَو لزم الْمُكَلف ان يفعل الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت أَو الْعَزْم لَكَانَ قد أَخذ عَلَيْهِ أَن يتحفظ من السَّهْو وَأَن يجب علينا أَن نوقظه من نَومه فِي

هَذَا الْوَقْت لِأَنَّهُ قد أَخذ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْت فعل يمْنَع مِنْهُ النّوم كَمَا يلْزم أَن نوقظه عَن نَومه فِي آخر الْوَقْت وَأَيْضًا فان الْأَمر اقْتضى إِيجَاب الصَّلَاة علينا فِي الْأَوْقَات كلهَا على الْبَدَل وَلَا دَلِيل يدل على إِثْبَات بدل للصَّلَاة لأَنا قد بَينا حسن تكليفها من غير بدل وَلَا يجوز إِثْبَات مَا لَا دَلِيل عَلَيْهِ وبأكثر هَذِه الْوَجْه يبطل قَول من قَالَ إِن بدل الصَّلَاة هُوَ فعل يَفْعَله الله سُبْحَانَهُ يقوم مقَام الصَّلَاة كَونهَا مصلحَة فِي طَاعَة تخْتَص بِالْوَقْتِ الثَّانِي على مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْعَزْم وتختص ذَلِك بِوَجْه آخر وَهُوَ أَنه كَانَ يجب أَن لَا يحسن تَكْلِيف الصَّلَاة من يعلم الله أَنه يخترم فِي الْوَقْت لِأَنَّهُ يقوم فعل الله سُبْحَانَهُ مقَام فعله فِي الْمصلحَة الْحَاصِلَة قبل خُرُوج الْوَقْت فَلَو كلفه الله تَعَالَى الصَّلَاة لَكَانَ إِنَّمَا كلفه لمُجَرّد الثَّوَاب فَقَط وَقد اسْتدلَّ أَصْحَاب الْعَزْم على إِثْبَات الْبَدَل فَقَالُوا الصَّلَاة وَاجِبَة فِي أول الْوَقْت فَلَا يجوز كَونهَا وَاجِبَة فِيهِ مَعَ جَوَاز تَأْخِيرهَا عَنهُ إِلَّا إِلَى بدل وَلَا بدل إِلَّا الْعَزْم وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم أتعنون بِوُجُوبِهَا فِي الأول أَنه مَحْظُور تَأْخِيرهَا عَنهُ فان قَالُوا نعم قيل لَهُم من سلم لكم ذَلِك أَو لَيْسَ الْأَمر دلّ على إيقاعها فِي الأول وَالثَّانِي وَالثَّالِث على الْبَدَل فَكيف حظر تَأْخِيرهَا حَتَّى يطْلب لجوازه فعل بدل وعَلى أَن حظر تَأْخِيرهَا مَعَ إِبَاحَة تَأْخِيرهَا متناقض وَلم يَصح ثُبُوته حَتَّى يتبعهُ إِثْبَات بدل فان قَالُوا نعني بِوُجُوبِهَا فِي الأول أَنَّهَا على صفة الْمصلحَة الْحَاصِلَة بِالصَّلَاةِ فِي آخر الْوَقْت قيل لَهُم وَلم إِذا كَانَ كَذَلِك لَا يجوز تَأْخِيرهَا إِلَّا إِلَى بدل مَعَ أَنه يؤخرها إِلَى مَا يساويها فِي وَجه الْوُجُوب ثمَّ يُقَال لَهُم وَلم زعمتم أَنه لَا بدل إِلَّا الْعَزْم فان قَالُوا لإِجْمَاع الْأمة على وُجُوبه على من أخر الصَّلَاة عَن الأول قيل إِجْمَاع الْأمة على ذَلِك كإجماعها على وُجُوبه قبل دُخُول الْوَقْت وَلَيْسَ يظْهر أَن الْأمة فصلت بَين الْأَمريْنِ فأوجبت بعد دُخُول الْوَقْت فعل الْعَزْم وَلم توجبه قبل الْوَقْت وَإِنَّمَا حضرت قبل الْوَقْت كَرَاهَة فعل الصَّلَاة وَقد تقدم ذَلِك فِي الْبَاب الأول فَمَا يؤمنهم أَن يكون الْبَدَل هُوَ الْإِخْلَال بِالْكَرَاهَةِ وَيكون ذَلِك سَادًّا فِي هَذَا الْوَقْت مسد الصَّلَاة فِي

الْمصلحَة وَيُمكن أَن يستدلوا على إِثْبَات بدل فيقولوا إِن الصَّلَاة لطف فِي وَاجِب بعد خُرُوج الْوَقْت ولطف فِي وَاجِب قبل خُرُوج الْوَقْت أما كَونهَا لطفا بعد خُرُوج الْوَقْت فالدلالة عَلَيْهِ أَنه قد أتيح لَهُ تَأْخِيرهَا إِلَى آخر الْوَقْت فَلَو لم يكن إِلَّا لطفا فِي طَاعَة فِي الْوَقْت لما أتيح تَأْخِيرهَا عَن وَقت تِلْكَ الطَّاعَة فَأَما الدّلَالَة على أَنَّهَا لطف فِي وَاجِب فِي الْوَقْت ايضا فَهِيَ أَنَّهَا لَو لم تكن لطفا إِلَّا فِي وَاجِب بعد الْوَقْت لما حسن تكليفها من الْمَعْلُوم أَنه يَمُوت قبل خُرُوج الْوَقْت وَإِذا كَانَت لطفا فِي وَاجِب قبل خُرُوج الْوَقْت لم يجز تَأْخِيرهَا عَن ذَلِك الْوَقْت إِلَّا إِلَى بدل وَلَا بدل إِلَّا الْعَزْم لِأَن الْأمة أَجمعت على وُجُوبه دون وجوب غَيره وَالْجَوَاب أَنه يَكْفِي فِي حسن تَكْلِيف الصَّلَاة من الْمَعْلُوم أَنه يكون قبل خُرُوج الْوَقْت أَن يكون فِيهَا لطفا فِي طَاعَة مَنْدُوب إِلَيْهَا بِفعل عقيب فعل الصَّلَاة أَو أَن يكون كل جُزْء من الصَّلَاة لطفا فِي مَنْدُوب وَإِذا جَازَ ذَلِك لم يجب أَن يكون لَهَا بدل من حَيْثُ هِيَ لطف فِي ندب فان قيل فَلم كَانَ قَوْلكُم أولى من قَوْلنَا مَعَ جَوَاز وُرُود التَّعَبُّد عَلَيْهِمَا جَمِيعًا قيل أَنْتُم الَّذِي يلزمكم التَّرْجِيح لأنكم المستدلون وَأَيْضًا فان قَوْلنَا أولى من قَوْلكُم لِأَن التَّعَبُّد بِالصَّلَاةِ فِي الْوَقْت كُله ورد مُطلقًا من غير بدل وَإِنَّمَا يثبت الْبَدَل للضَّرُورَة فاذا بَينا إِمْكَان قَوْلنَا وَحسن وُرُود التَّعَبُّد بِهِ لم يكن إِلَى الْبَدَل ضَرُورَة فان قيل فَيجب على مَا قُلْتُمْ أَن يكون تَقْدِيم الصَّلَاة فِي أول أَوْقَاتهَا أولى لِأَنَّهَا تكون مصلحَة فِي مَنْدُوب إِلَيْهِ وَفِي وَاجِب وَالصَّلَاة فِي آخر الْوَقْت لَا تكون مصلحَة إِلَّا فِي وَاجِب فَقَط وَالْجَوَاب أَنه لَا يمْتَنع أَن تكون الصَّلَاة الَّتِي يسْتَحبّ تَأْخِيرهَا إِذا فعلت فِي أول الْوَقْت كَانَت لطفا فِي مَنْدُوب إِلَيْهِ يَليهَا وَفِي طَاعَة وَاجِبَة بعد خُرُوج الْوَقْت وَإِذا فعلت فِي آخر الْوَقْت كَانَت لطفا فِي طَاعَة وَاجِبَة وَفِي طاعات مَنْدُوب إِلَيْهَا بعد خُرُوج الْوَقْت ايضا أَكثر مِمَّا تكون الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت لطفا فِيهِ من الطَّاعَات الْمَنْدُوب إِلَيْهَا فَلذَلِك كَانَ تَأْخِير الصَّلَاة أفضل

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الامر الْمُؤَقت هَل يَقْتَضِي الْفِعْل فِيمَا بعد الْوَقْت إِذا عصى الْمُكَلف فِي الْوَقْت أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه لَا يَقْتَضِي الْفِعْل فِيمَا بعد الْوَقْت أطَاع الْمُكَلف فِي الْوَقْت أم عصى فِيهِ وَيحْتَاج فعله فِيمَا بعد الْوَقْت إِلَى دلَالَة أُخْرَى لِأَن قَول الْقَائِل لغيره افْعَل هَذَا الْفِعْل فِي يَوْم الْجُمُعَة لَا يتَنَاوَل مَا عدا الْجُمُعَة وَمَا لم يتَنَاوَلهُ الْأَمر لَا يدل فِيهِ على إِثْبَات وَلَا نفي وَلِهَذَا لم يدل الْأَمر على استدعاء الْفِعْل قبل الْوَقْت وَلَو كَانَ الْأَمر مُقَيّدا بِصفة لم يدل على وجوب مَا لم يخْتَص بهَا لما لم يتَنَاوَل مَا عدا تِلْكَ الصّفة وَلذَلِك لَو قَالَ الْإِنْسَان لغيره اضْرِب من كَانَ فِي الدَّار لم يتَنَاوَل من لم يكن فِيهَا وَلَو أمرنَا الله سُبْحَانَهُ أَن نتصدق بأيماننا ثمَّ تعذر ذَلِك علينا لما علمنَا بذلك الْأَمر وجوب الصَّدَقَة باليسرى لَكِن علمنَا أَن الصَّدَقَة باليمنى الْغَرَض مِنْهَا إِيصَال النَّفْع إِلَى الْفَقِير فَقَط فانا نعلم وجوب الصَّدَقَة باليسرى لهَذَا الِاعْتِبَار وَالْوَقْت وَإِن لم يكن فِي مقدورنا وَلَا هُوَ وَجه يُوقع الْفِعْل عَلَيْهِ فانه لَا يمْتَنع أَن يكون الْفِعْل فِيهِ مصلحَة دون غَيره وَلِهَذَا كَانَت الصَّلَوَات وَاجِبَة فِي أَوْقَات مَخْصُوصَة وَكَانَ الصَّوْم وَاجِبا فِي شهر مَخْصُوص وَدفع الضَّرَر عَن النَّفس وَاجِب فِي الْوَقْت الَّذِي يخْتَص فِيهِ الضَّرَر دون غَيره وَإِذا صَحَّ مَا ذَكرْنَاهُ لم يجز وُرُود النّسخ على الْأَمر الْمُفِيد للْفِعْل الْوَاحِد الْمُؤَقت وَإِنَّمَا يرد على الْأَمر الْمُفِيد ظَاهره أفعالا كَثِيرَة فيدلنا النّسخ على أَنه مَا أُرِيد بعض تِلْكَ المرات فان قيل فاذادل الدَّلِيل على أَن من عصى فِي الْوَقْت يلْزمه مثله أَكَانَ يكون ذَلِك قَضَاء قيل نعم إِذا اخْتصَّ بِشُرُوط الْقَضَاء وَهِي أَشْيَاء مِنْهَا أَن يكون مثل الْمقْضِي وَلِهَذَا لم تكن الصَّلَاة قَضَاء للصَّوْم وَمِنْهَا أَن يكون الْمقْضِي متعبد بِهِ فِي وَقت مَخْصُوص إِمَّا على الْوُجُوب أَو

على النّدب وَلِهَذَا لَو لم نتعبد بِالْفِعْلِ ثمَّ أمرنَا بِمثلِهِ لم يكن قَضَاء وَمِنْهَا أَن يكون سَبَب الْقَضَاء غير سَبَب الْمقْضِي وَلِهَذَا لَو لم يقْض الْإِنْسَان يَوْمًا فَاتَ من شهر رَمَضَان ثمَّ قَضَاهُ بعد ذَلِك لم يكن ذَلِك قَضَاء للْقَضَاء لِأَن سببهما غير مُخْتَلف وَمِنْهَا أَن يرد التَّعَبُّد بِالْقضَاءِ لِأَنَّهُ لَو لم يتعبد بِهِ لم يُسهم إِذا فعل قَضَاء وَالله أعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الامر الْمُطلق إِذا لم يفعل الْمُكَلف مأموره فِي أول أَوْقَات الْإِمْكَان هَل يَقْتَضِي فعله فِيمَا بعد أم يحْتَاج إِلَى دَلِيل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما الْقَائِلُونَ بِنَفْي الْفَوْر فانهم يَقُولُونَ إِن الْأَمر يَقْتَضِي الْفِعْل فِيمَا بعد وَلَا يحْتَاج الْمُكَلف إِلَى دَلِيل وَأما الْقَائِلُونَ بالفور فيختلفون فَمنهمْ من قَالَ إِنَّه يَقْتَضِي الْفِعْل فِيمَا بعد وَمِنْهُم من قَالَ لَا يَقْتَضِيهِ بل يحْتَاج الْمُكَلف إِلَى دَلِيل وَهُوَ مَذْهَب أبي عبد الله وَحَكَاهُ عَن الشَّيْخ أبي الْحسن وَلم يفصل الْمُؤَقت من غَيره وَيَقُول قَاضِي الْقُضَاة بذلك لَو ثَبت القَوْل بالفور وَاحْتج الْأَولونَ بِأَن قَالُوا قَول الْقَائِل لغيره افْعَل مَعْنَاهُ افْعَل فِي الثَّانِي فان عصيت فَفِي الثَّالِث فان عصيت فَفِي الرَّابِع هَكَذَا ابدا فان قَالَ قَائِل وَلم زَعَمُوا أَن الْأَمر يتنزل هَذِه الْمنزلَة قيل لِأَن ظَاهر قَوْله افْعَل لَا يتخصص بِالْوَقْتِ الثَّانِي دون الثَّالِث وَالرَّابِع وَإِنَّمَا قَالُوا إِنَّه يجب فعله فِي الثَّانِي لِأَنَّهُ لَو مل يجب فِيهِ انْتقض الْوُجُوب الْمُسْتَفَاد بِالْأَمر فَاجْتمع فِي الْأَمر شَيْئَانِ أَحدهمَا الْوُجُوب الْمُقْتَضِي للفور وَالثَّانِي نفي تَخْصِيص الْأَمر بالأوقات الْمُقْتَضِي لشياع الْفِعْل فِي الْأَوْقَات فَوَجَبَ الْفَوْر مَعَ نفي تَخْصِيص الْأَمر بالأوقات وشياع الْفِعْل فِيهَا وَلَا يُمكن ذَلِك إِلَّا إِذا عصى الْمُكَلف فِي الْوَقْت

الأول فصح أَن مُطلق الْأَمر من حَيْثُ اجْتمع فِيهِ مَا يدل على مَا ذَكرْنَاهُ يجْرِي مجْرى قَول الْقَائِل افْعَل فِي الأول فان عصيت فافعل فِي الثَّانِي فان قَالُوا الْأَمر وَإِن لم يخْتَص بِوَقْت معِين فان الْوُجُوب الْمُسْتَفَاد من الْأَمر لما دلّ على الْفَوْر جعل الْأَمر مُخْتَصًّا بِالْوَقْتِ الأول قيل لَهُم إِنَّمَا جعله مُخْتَصًّا بِالْأولِ مَا لم تقع الْمعْصِيَة فاذا وَقع بَقِي مُطلق الْأَمر فان قَالُوا قد ثَبت أَن مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي وجوب الْفِعْل فِي الثَّانِي فَجرى مجْرى أَن يكون الْأَمر مُقَيّدا بِالثَّانِي قيل الْفرق بَينهمَا أَنه إِذا كَانَ مُقَيّدا بِالثَّانِي لم يكن غير مُخْتَصّ بالأوقات بل يكون مُخْتَصًّا بِالْوَقْتِ الثَّانِي فَلَا يتنزل منزلَة قَول الْقَائِل افْعَل فِي الثَّانِي فان عصيت فافعل فِي الثَّالِث لِأَنَّهُ يتَنَاوَل فعلا وَاحِدًا وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا كَانَ الْأَمر مُطلقًا وَاحْتج أَبُو عبد الله فَقَالَ قد ثَبت أَن مُطلق الْأَمر يُفِيد إِيقَاع الْفِعْل فِي الثَّانِي فَلم يتَنَاوَل إِيقَاعه فِي الثَّالِث لِأَنَّهُ يتَنَاوَل فعلا وَاحِدًا وَالْفِعْل الْمُخْتَص بِالثَّانِي غير الْمُخْتَص بالثالث لِأَن أَفعَال الْعباد لَا يجوز عَلَيْهَا التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير وَالْجَوَاب أَنه إِن ثَبت أَن أَفعَال الْعباد هَذِه سَبِيلهَا فان الْأَمر لم يتَنَاوَل تِلْكَ الْأَعْيَان وَإِنَّمَا يتَنَاوَل مَا لَهُ صُورَة يميزها الْمُكَلف فاذا أمرنَا الله سُبْحَانَهُ بِالْحَجِّ فانما أمرنَا بِأَفْعَال لَهَا صفة مَخْصُوصَة سَوَاء كَانَت وَاقعَة فِي هَذَا الْوَقْت أَو فِي هَذَا الْوَقْت واذا كَانَ كَذَلِك وَكَانَ الْأَمر لَا يتخصص بالأوقات علمنَا أَنه يتَنَاوَل مَا اخْتصَّ بِتِلْكَ الصُّورَة من الْأَفْعَال المختصة بِتِلْكَ الْأَوْقَات فاذا بَان أَن الْوُجُوب يُفِيد التَّعْجِيل بَان أَنه قد اخْتصَّ بِالْأَمر مَا يَقْتَضِي التَّعْجِيل وَمَا يَقْتَضِي التَّأْخِير وَلَا يُمكن الْجمع بَينهمَا إِلَّا على شَرط الْمعْصِيَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْآمِر هَل يدْخل تَحت الْأَمر ام لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن هَذَا الْبَاب يتَضَمَّن مسَائِل مِنْهَا أَن يُقَال هَل يُمكن أَن يامر الْإِنْسَان نَفسه فِي الْمَعْنى أم لَا وَلَيْسَ فِي

إِمْكَان ذَلِك شُبْهَة لِأَنَّهُ يُمكن الْإِنْسَان أَن يَقُول لنَفسِهِ افْعَل وَيُرِيد مِنْهَا الْفِعْل وَمِنْهَا أَن يُقَال هَل يكون هَذَا القَوْل مُسَمّى بِأَنَّهُ أَمر على الْحَقِيقَة أم لَا وَالْجَوَاب أَنه لَا يكون أمرا على الْحَقِيقَة لِأَن من شَرط كَونه أمرا الرُّتْبَة وَمَا يجْرِي مجْراهَا وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بَين ذاتي لتَكون إِحْدَاهمَا مستعلية ومرتبة على الْأُخْرَى وَمِنْهَا أَن يُقَال هَل يحسن أَن يَأْمر الْإِنْسَان نَفسه أم لَا وَالْجَوَاب أَنه لَا يحسن ذَلِك لِأَن الْفَائِدَة بِالْأَمر أَن يكون دَلِيلا على حَال الْمَأْمُور بِهِ أَو يُؤَكد الدّلَالَة أَو يدل على إِرَادَة فَاعله الْفِعْل وَيكون مِمَّن يتَقرَّب إِلَيْهِ بالمصير إِلَى إِرَادَته فيدعو علم الْمَأْمُور بإرادته إِلَى أَن يُوقع مرادها وَهَذِه الْأُمُور منتفية فِي أَمر الْإِنْسَان نَفسه لِأَن الانسان يعلم إِرَادَته وَكَون الْمَأْمُور بِهِ طَاعَة قبل أمره من غير أَن يُرَاد علما من جِهَة الْآمِر إِذْ كَانَ إِنَّمَا يَأْمر لتقدم علمه بِمَا لَهُ فِي الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ من الْغَرَض وَمِنْهَا أَن يُقَال هَل إِذا خَاطب الْإِنْسَان غَيره بِالْأَمر يكون دَاخِلا فِي جملَة المأمورين وَهَذِه الْمَسْأَلَة وَإِن دخلت فِي مسَائِل الْعُمُوم فَذكرهَا هَا هُنَا يجوز لتعلقها بِهَذِهِ الْمسَائِل وَالْجَوَاب أَنه إِن كَانَ الْمُخَاطب نالا لِلْأَمْرِ من غَيره نظر فِي خطابه فان كَانَ يتَنَاوَلهُ دخل فيهم والا لم يدْخل فيهم مِثَال الأول أَن يَقُول الْإِنْسَان لجَماعَة إِن فلَانا يَأْمُرنَا بِكَذَا وَكَذَا وَمِثَال الثَّانِي أَن يَقُول إِن فلَانا يَأْمُركُمْ بِكَذَا وَكَذَا وَإِن نقل كَلَامهم غَيره وَلم يذكر عَن نَفسه شَيْئا نَحْو قَوْله سُبْحَانَهُ {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} فان هَذَا يتَنَاوَل الْكل لِأَن الْخطاب من الله سُبْحَانَهُ يرد إِلَى كل

مُكَلّف وَإِلَّا من اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيل وَإِن كَانَ الْمُخَاطب بِالْأَمر هُوَ الْآمِر فانه لَا يدْخل تَحت الْأَمر لما بَيناهُ أَنه لَا فَائِدَة فِيهِ وَذَلِكَ نَحْو أَن يَقُول افعلوا كَذَا وَكَذَا فان قيل فَهَل يدْخل الْمخبر تَحت الْخَبَر قيل إِن أردْت أَنه يدْخل فِي أَن يكون مخبرا لنَفسِهِ فَلَا لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي أَن يخبر نَفسه إِذْ لَيْسَ يخفى عَلَيْهِ حَال الْمخبر عَنهُ فيستدل عَلَيْهِ بِخَبَرِهِ وَإِن أردْت أَنه يدْخل فِي أَنه يكون مخبرا عَن نَفسه فَذَلِك جائزلأن الْإِنْسَان لَهُ غَرَض فِي أَن يخبر عَن حَال نَفسه كَمَا أَن لَهُ غَرضا فِي أَن يخبر عَن غَيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي كَيْفيَّة إِيجَاب الامر لفروض الكفايات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْأَمر بِالْفِعْلِ إِذا تنَاول جمَاعَة على الْجمع فَذَلِك من فروض الْأَعْيَان وَالْكَلَام فِي ذَلِك من بَاب الْعُمُوم وَقد يكون فعل بَعضهم شرطا فِي فعل بعض كَصَلَاة الْجُمُعَة وَقد لَا يكون فعل بَعضهم شرطا فِي فعل بعض وَإِذا تنَاول جَمَاعَتهمْ لَا على الْجمع فَذَلِك من فروض الكفايات نَحْو أَن يكون الْغَرَض بِتِلْكَ الْعِبَادَة يحصل بِفعل الْبَعْض كالجهاد الَّذِي الْغَرَض بِهِ حراسة الْمُسلمين وإذلال الْعَدو وقهره فَمَتَى حصل ذَلِك بِالْبَعْضِ لم يلْزم البَاقِينَ وَالْفَرْض فِي ذَلِك مَوْقُوف على غَالب الظَّن فان غلب على ظن الْجَمَاعَة أَن غَيرهَا يقوم بذلك سقط عَنْهَا وحد الْوَاجِب لَا يحصل فِي فعلهَا وَإِن غلب على ظَنّهَا أَن غَيرهَا لَا يقوم بِهِ وَجب عَلَيْهَا وحد الْوَاجِب حَاصِل فِي فعلهَا وَإِن غلب على ظن كل طَائِفَة أَن غَيرهَا لَا يقوم بِهِ وَجب على كل وَاحِدَة مِنْهَا الْقيام بِهِ وَكَانَ حد الْوَاجِب قَائِما فِي فعل كل وَاحِدَة مِنْهَا وَإِن غلب على ظن كل طَائِفَة أَن غَيرهَا يقوم بِهِ سقط الْفَرْض عَن كل وَاحِدَة مِنْهَا وَإِن أدّى إِلَى أَن لَا يقوم بِهِ أحد وَلم يكن حد الْوَاجِب حَاصِلا فِي فعل كل وَاحِدَة مِنْهَا فَبَان بِمَا ذكرنَا أَن مَا تقدم من حد الْوَاجِب لَيْسَ ينتقص بِشَيْء من هَذِه الْأَقْسَام

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الامر الْوَارِد بالشَّيْء على شَرط زَوَال الْمَنْع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهب شُيُوخنَا رَحِمهم الله إِلَى أَن الله عز وَجل لم يعن بِالْأَمر من يعلم أَنه يمْنَع من الْفِعْل وَقَالَ قوم إِذا أَمر الله قوما بِالْفِعْلِ وَعلم أَن فيهم من يمْنَع مِنْهُ فانه قد عناه بِالْأَمر بِشَرْط زَوَال الْمَنْع وَلم يَخْتَلِفُوا فِي جَوَاز أَمر الْوَاحِد منا غَيره بِالْفِعْلِ بِشَرْط قدرته على الْفِعْل وَانْتِفَاء الْمَنْع مِنْهُ وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة لم يَخْتَلِفُوا فِي أَنه لَا يجوز أَن يفرد الله سُبْحَانَهُ الْمُكَلف الْوَاحِد بِالْأَمر بِالْفِعْلِ وَهُوَ يعلم أَنه يمْنَع مِنْهُ قَالَ وَلم يَخْتَلِفُوا فِي أَنه لَا يجوز أَن يَأْمر من يعلم أَنه يَمُوت أَو يعجز أَو لَا يكون الْمَأْمُور بِهِ مصلحَة بِشَرْط أَن يبْقى وَيقدر وَيكون الْفِعْل مصلحَة دليلنا هُوَ أَن معنى قَوْلنَا إِن الله سُبْحَانَهُ قد أَمر بِالْفِعْلِ بِشَرْط زَوَال الْمَنْع هُوَ أَنه قَالَ لنا افعلوه وأراده منا أَو كَانَ لنا فِيهِ غَرَض مَعَ فقد الْمَنْع وَلم يردهُ مَعَ وجوده لِأَنَّهُ لَو أَرَادَهُ فِي الْحَالين لَكَانَ قد كلف إِيقَاع الْفِعْل مَعَ وجود الْمَنْع وَلما كَانَ قد أَرَادَهُ بِشَرْط زَوَال الْمَنْع فاذا علم الله سُبْحَانَهُ أَن الْمَنْع يحصل لَا محَالة فقد علم الْحَالة الَّتِي لَا غَرَض لَهُ فِي إِيقَاع الْفِعْل فِيهَا فَلم يجز أَن يُريدهُ فِيهَا يبين ذَلِك أَن الْوَاحِد منا لَو أَرَادَ دُخُول زيد الدَّار إِن دَخلهَا عَمْرو وَلم يرد دَخَلُوهُ فِيهَا إِن لم يدخلهَا عَمْرو ثمَّ علم بِخَبَر نَبِي أَن عمرا لَا يدخلهَا فان هَذَا الْعلم يصرفهُ عَن إِرَادَة دُخُول زيد إِلَيْهَا وَإِنَّمَا يُرِيد دُخُوله إِلَيْهَا لَو دَخلهَا عَمْرو وَهَذِه إِرَادَة مقدرَة غير حَاصِلَة وَأَيْضًا فَلَو أَرَادَ الله سُبْحَانَهُ الْفِعْل بِشَرْط زَوَال الْمَنْع لَكَانَ قد اراد من الْمُكَلف إِيقَاعه إِن لم يحصل الْمَنْع وَالْمَفْهُوم من هَذِه اللَّفْظَة الشَّك أَلا ترى أَن من علم بِالْمُشَاهَدَةِ أَن الشَّمْس قد طلعت لَا يَقُول إِن كَانَت الشَّمْس قد طلعت دخلت الدَّار وَإِنَّمَا يحسن أَن يَقُول ذَلِك إِذا كَانَ شاكا فِي طُلُوعهَا والبارىء

سُبْحَانَهُ عَالم بِأَن الْمَنْع سيوجد فَلم يجز أَن يُرِيد الْفِعْل إِن لم يحصل الْمَنْع وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ يمْنَع من تَكْلِيف الله سُبْحَانَهُ من يعلم أَنه يتَعَذَّر عَلَيْهِ الْفِعْل بِجَمِيعِ ضروب التَّعَذُّر وَحجَّة الْمُخَالف أَشْيَاء مِنْهَا أَن يَقُول قد أجمعنا على أَن الله عز وَجل قد كلف الْمَعْدُوم وَالْعَاجِز بِشَرْط أَن يقدر فِي حَال الْحَاجة إِلَى الْقُدْرَة وَالْجَوَاب أَنا نقُول إِن الله سُبْحَانَهُ كلف بِشَرْط أَن يقدر وَمعنى ذَلِك أَن حكمنَا بِأَن الله تَعَالَى قد كلف الْفِعْل مَشْرُوط بِأَن يكون مِمَّن يقدر فِي وَقت الْحَاجة فَالشَّرْط دَاخل على حكمنَا لَا على تَكْلِيف الله سُبْحَانَهُ وَيُشبه أَن يكون الْمُخَالف هَذَا يَعْنِي بقوله إِن الله سُبْحَانَهُ يُكَلف بِشَرْط زَوَال الْمَنْع فان عني ذَلِك فَلَا حَاجَة فِيهِ وَجَوَاب آخر وَهُوَ أَن الَّذِي ذَكرُوهُ لَيْسَ يشبه مَوضِع الْخلاف وَذَلِكَ أَن كلامنا فِي أَن يَأْمر الله تَعَالَى بِشَرْط يعلم أَنه لَا يُوجد فأوردوا أَن يَأْمر الله تَعَالَى بِشَرْط يعلم وجوده على أَنا نقُول إِن الله يَأْمر الْمَعْدُوم بِشَرْط أَن يُوجد ونعني بِهِ أَن الْأَمر الَّذِي صدر من الله تَعَالَى أَمر لَهُ عِنْد وجوده أَو إِذا وجد هَذَا لَيْسَ بمحال فَيبْطل مَا قَالُوا وَمِنْهَا أَن يَقُول إِن الله سُبْحَانَهُ قد كلف الْكَافِر بِالصَّلَاةِ بِشَرْط أَن يُؤمن مَعَ أَنه علم بِأَنَّهُ لَا يُؤمن وَلِهَذَا يُعَاقِبهُ على ترك الصَّلَاة كَمَا يُعَاقِبهُ على الْكفْر وَالْجَوَاب أَنا نقُول كلف الْإِيمَان وَالصَّلَاة جَمِيعًا وَلم يكلفه فعل الصَّلَاة مضامة للكفر فَلم يدْخل الشَّرْط فِي التَّكْلِيف وَإِنَّمَا دخل الشَّرْط فِي فعله لِأَنَّهُ قيل لَهُ افعلهما فاذا لم يفعلهما فقد أخل بمصلحتين فَاسْتحقَّ الْعقَاب على الْإِخْلَال بهَا وَمِنْهَا قياسهم تَكْلِيف الله سُبْحَانَهُ الْفِعْل بِشَرْط زَوَال الْمَنْع على تَكْلِيف الْوَاحِد منا غَيره بِشَرْط زَوَال الْمَنْع وَهُوَ قِيَاس بِغَيْر عِلّة وَالْفرق بَينهمَا أَن

الْوَاحِد منا غير عَالم بِأَن للمكلف حَالَة منع لَا غَرَض لَهُ فِي إِيقَاع الْفِعْل فِيهَا والباريء عز وَجل عَالم بذلك يبين مَا ذَكرْنَاهُ أَنه يجوز أَن يُكَلف الْوَاحِد منا غَيره بِشَرْط أَن يبْقى وَأَن يكون الْفِعْل مصلحَة وَلَا يجوز ذَلِك من الله سُبْحَانَهُ وَمِنْهَا قَوْلهم لَو رفع منع التَّكْلِيف لَكَانَ من منع غَيره من الصَّلَاة فقد أحسن إِلَيْهِ لِأَنَّهُ قد أسقط عَنهُ كلفة من غير توجه ذمّ إِلَيْهِ الْجَواب يُقَال لَهُم أَلَيْسَ عنْدكُمْ أَنه لَا يلْزمه الْفِعْل مُضَافا للْمَنْع وَأَنه يسْقط الْفِعْل عَنهُ من غير لوم فالسؤال يلزمكم كَمَا يلْزمنَا وعَلى أَنه لَا يكون محسنا إِلَيْهِ بِالْمَنْعِ مِمَّا يسْتَحق بِهِ الثَّوَاب الجزيل وَمِنْهَا قَوْلهم لَو أسقط الْمَنْع التَّكْلِيف على كل حَال لما علم الْوَاحِد منا أَنه مُكَلّف للصَّلَاة قبل تَشَاغُله بهَا وَذَلِكَ يسْقط عَنهُ وجوب أَخذ الأهبة لَهَا الْجَواب يُقَال لَهُم هَذَا يلزمكم أَيْضا لِأَن عنْدكُمْ أَن مَعَ الْمَنْع لَا تلْزم الصَّلَاة وَلَا أريدت من الْمُكَلف فِي تِلْكَ الْحَال وَإِنَّمَا أريدت مِنْهُ بِشَرْط زَوَال الْمَنْع وَهُوَ لَا يعلم أَن الْمَنْع يَزُول فاذا لَا يعلم الْوُجُوب فان لزمنا سُقُوط أَخذ الأهبة فقد لزمكم وَقد قَالَ أَصْحَابنَا إِنَّمَا يجب أَخذ الأهبة للصَّلَاة لثُبُوت أَمارَة بَقَائِهِ سالما إِلَى وَقتهَا فَوَجَبَ عَلَيْهِ لهَذِهِ الأمارة التَّحَرُّز من ترك مَا لَا يَأْمَن وُجُوبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الامر الْمُقَيد بِشَرْط هَل يعلم أَن الحكم فِيمَا عدا الشَّرْط بِخِلَاف الشَّرْط أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن حكم الْأَمر وَغَيره إِذا علق بِشَرْط فَإِن الشَّرْط يدل على أَن الحكم لَا يثبت فِيمَا عداهُ على كل حَال وَلَا يمْنَع الشَّرْط من قيام الدّلَالَة على شَرط آخر يقوم مقَامه وَمَتى فَقدنَا دلَالَة تدل على شَرط ثَان قضينا بِأَنَّهُ لَا شَرط إِلَّا

الأول فنعلم أَنه إِذا انْتَفَى الشَّرْط انْتَفَى الحكم على كل حَال وَإِن دلّ دَلِيل على شَرط آخر علمنَا انْتِفَاء الحكم إِذا انْتَفَى الشرطان وَإِن علمنَا ثُبُوت الحكم مَعَ انْتِفَاء الشَّرْط على كل حَال علمنَا أَن ذَلِك لَيْسَ بِشَرْط وَأَنه قد يجوز بِهِ وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة إِن تَعْلِيق الحكم بِالشّرطِ لَا يدل على أَن مَا عداهُ بِخِلَافِهِ وَأَنه يجوز أَن يقوم شَرط آخر مقَام ذَلِك الشَّرْط وَحَكَاهُ عَن أبي عبد الله وَحكى عَن الشَّيْخ أبي الْحسن أَنه يدل على أَن مَا عداهُ بِخِلَافِهِ وَمنع لذَلِك من الحكم بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين لِأَن الله سُبْحَانَهُ شَرط فِي الحكم الشَّاهِد الثَّانِي لِأَنَّهُ قصر الحكم على الشَّاهِدين فَلَو لم يكن الثَّانِي شرطا لم يكن لذكره معنى قَالَ وَإِذا كَانَ شرطا لم يجز الحكم مَعَ فَقده وَالدَّلِيل على أَن الشَّرْط يمْنَع من ثُبُوت الحكم مَعَ عَدمه على كل حَال أَن قَول الْقَائِل لغيره ادخل الدَّار إِن دَخلهَا عَمْرو مَعْنَاهُ أَن الشَّرْط فِي دخولك هُوَ دُخُول عَمْرو لِأَن لَفْظَة إِن مَوْضُوعَة للشّرط وَلَو قَالَ لَهُ شَرط دخولك الدَّار دُخُول عَمْرو علمنَا أَنه لم يُوجب عَلَيْهِ دُخُول الدَّار مَعَ فقد دُخُول عَمْرو على كل حَال فَكَذَلِك فِي مسالتنا يبين مَا قُلْنَاهُ أَن الشَّرْط هُوَ الَّذِي يقف عَلَيْهِ الحكم وعَلى مَا يقوم مقَامه فَلَو ثَبت الحكم مَعَ عَدمه على كل حَال لَكَانَ كل شَيْء شرطا فِي كل شَيْء حَتَّى يكون دُخُول زيد الدَّار شرطا فِي كَون السَّمَاء فَوق الإرض وَإِن وجد ذَلِك مَعَ عدم الدُّخُول وَيدل على أَن الْمَعْقُول من الشَّرْط مَا ذَكرْنَاهُ مَا روى أَن يعلى بن منية سَأَلَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ مَا بالنا نقصر وَقد أمنا فَقَالَ عجبت مِمَّا عجبت مِنْهُ فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته 6 فَلَو لم يعقل من الشَّرْط نفى الحكم عَمَّا عداهُ لم يكن لتعجبهما معنى وَأجَاب عَن ذَلِك قَاضِي الْقُضَاة فَقَالَ لَا يمْتَنع أَن يَكُونَا إِنَّمَا تَعَجبا من ذَلِك لِأَنَّهَا عقلا من الْآيَات الْوَارِدَة فِي وجوب الصَّلَاة وجوب الْإِتْمَام وَأَن حَال

الْخَوْف مُسْتَثْنَاة من ذَلِك وَالْبَاقِي ثَابت على أَصله فِي الْإِتْمَام فَلذَلِك تَعَجبا من ثُبُوت الْقصر مَعَ الْأَمْن وَلقَائِل أَن يَقُول الْآيَات لَا تنطق بالإتمام وَلَا كَانَ الأَصْل فِي الصَّلَاة الْإِتْمَام فنتم مَا ذكر بل الْمَرْوِيّ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت كَانَت صَلَاة السّفر والحضر رَكْعَتَيْنِ فأقرت صَلَاة السّفر وَزيد فِي صَلَاة الْحَضَر وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يكن لتعجب عمر ويعلى بن منية سَبَب إِلَّا الشَّرْط وَبَطل القَوْل بِأَن الأَصْل كَانَ الْإِتْمَام فان قيل لَو منع الشَّرْط من ثُبُوت الحكم مَعَ عَدمه لما ثَبت الْقصر مَعَ عدم الْخَوْف قيل إِن ظَاهر الشَّرْط يمْنَع من ذَلِك وَلَيْسَ يمْتَنع أَن تدل دلَالَة على خلاف الظَّاهِر كَمَا تدل دلَالَة على خلاف ظَاهر الْعُمُوم وَلَا يمْتَنع أَن يكون الشَّرْط قد ورد ليؤكد حَال الْمَشْرُوط وَلِأَن السَّبَب فِي نزُول إِبَاحَة الْقصر هُوَ حَال الْخَوْف فَشرط لِأَن الْحَال اقتضته فان قيل لَيْسَ يمْتَنع أَن تكون الْفَائِدَة فِي وُرُود الشَّرْط تَأْكِيد حَال الْمَشْرُوط بِأَن يكون الحكم لَو ورد مُطلقًا لظن الْمُكَلف أَن الْمَشْرُوط لم يرد فيشرط لإِزَالَة هَذَا الظَّن لَا لِأَن الحكم لَا يثبت مَعَ فَقده نَحْو أَن يَقُول الله تَعَالَى ضحوا بِالشَّاة إِن كَانَت عوراء لِأَنَّهُ لَو قَالَ ضحوا بِالشَّاة لجَاز أَن يتَوَهَّم متوهم أَنه لم يرد العوراء قيل إِنَّا لم نقل إِن الشَّرْط يمْنَع من ثُبُوت الحكم مَعَ فَقده لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِيهِ إِلَّا ذَلِك فَيبْطل قَوْلنَا بإيراد فَائِدَة سواهُ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك من جِهَة أَن لَفْظَة إِن وضعت مَوضِع قَوْلنَا الشَّرْط فِي هَذَا الحكم كَذَا وَكَذَا وَهَذَا اللَّفْظ يُفِيد مَا ذَكرْنَاهُ لِأَن معنى الشَّرْط الحكم أَن يقف عَلَيْهِ على مَا يقوم مقَامه وعَلى أَن الْعَادة جرت أَن يَقُول الْإِنْسَان لغيره ضح بِالشَّاة وَإِن كَانَت عوراء وَلَا يَقُول إِن كَانَت عوراء وَإِذا قَالَ وَإِن كَانَت عوراء فهم من ذَلِك عطفها على الصَّحِيحَة كَأَنَّهُ أضمر جَوَاز الْأُضْحِية بالصحيحة ثمَّ عطف عَلَيْهَا العوراء إِن قيل لَو منع الشَّرْط من ثُبُوت الحكم مَعَ فَقده لَكَانَ قَول الله

سُبْحَانَهُ {وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء إِن أردن تَحَصُّنًا} يدل على أَنه حظر الْإِكْرَاه على الْبغاء إِذا لم يردن التحصن قيل لَيْسَ كَذَلِك لِأَنَّهُ إِنَّمَا شَرط إِرَادَة التحصن لِأَن الْإِكْرَاه على الْبغاء لَا يحصل إِلَّا وَهن مريدات للتحصن فَلهَذَا شَرط لَا لِأَن الحكم لَا يثبت إِلَّا مَعَ إِرَادَة التحصن وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن الشَّرْط لَا يمْنَع من قيام دلَالَة على ثُبُوت شَرط آخر لِأَن قَول الْقَائِل لغيره أعْط زيدا درهما إِن دخل الدَّار لَيْسَ يتَعَرَّض لشرط آخر بِنَفْي وَلَا إِثْبَات أَلا ترى أَنه لَيْسَ فِيهِ ذكر لَهُ فَلم يمْنَع مِنْهُ وَلم يُوجِبهُ إِن قيل قَوْله إِن دخل الدَّار مَعْنَاهُ الشَّرْط فِي عطيتك دُخُوله الدَّار وَهَذَا يَقْتَضِي أَن كَمَال الشَّرْط هُوَ دُخُول الدَّار لِأَن لَام الْجِنْس تَقْتَضِي الشُّمُول قيل بل قَوْله إِن دخل الدَّار يُفِيد أَن دُخُوله الدَّار شَرط وَذَلِكَ لَا يمْنَع من ثُبُوت شَرط آخر وَلَيْسَ لَهُ أَن يقدر ذَلِك بِزِيَادَة ألف وَلَام لِأَن ذَلِك زِيَادَة لَا دَلِيل عَلَيْهَا إِن قيل ألستم قد قُلْتُمْ إِن قَوْله أعْط زيدا درهما إِن دخل الدَّار يمْنَع من الْعَطِيَّة مَعَ فقد الدُّخُول أفليس إِذا حصل شَرط آخر فقد أعطَاهُ مَعَ عدم الدُّخُول فَهَلا قُلْتُمْ إِن ظَاهر الشَّرْط يمْنَع من ثُبُوت شَرط آخر وَأَنه لَا يجوز إثْبَاته إِلَّا لدَلِيل يدل عَلَيْهِ خلاف ظَاهر الشَّرْط الأول قيل إِنَّا نقُول إِن قَوْله أعْطه إِن دخل الدَّار يُفِيد أَن الْعَطِيَّة مَعَ فقد هَذَا الدُّخُول على كل حَال غير مُبَاحَة بل لَا بُد من حَالَة من الْحَالَات تكون فِيهَا الْعَطِيَّة غير مُبَاحَة إِذا فقد الدُّخُول وَلَيْسَ يدْخل تَحت ذَلِك إِذا قَامَ شَرط آخر مقَام هَذَا الشَّرْط لِأَنَّهُ إِذا قَامَ مقَامه شَرط لم تجز الْعَطِيَّة إِلَّا مَعَ كل وَاحِد مِنْهُمَا فَلَا تكون الْعَطِيَّة مُبَاحَة مَعَ فقد الشَّرْط الأول على كل حَال وَقُلْنَا إِن الشَّرْط لَا يمْنَع ظَاهِرَة من ثُبُوت شَرط آخر لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذكر لنفي شَرط آخر وَلَا إثْبَاته فَلَا تنَاقض بَينهمَا وَأما الدّلَالَة على أَنه إِذا لم تدل دلَالَة على شَرط ثَان لم نثبته فَهِيَ أَنه لَو كَانَ

للْحكم شَرط آخر لدل الله سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ فاذا لم يدل عَلَيْهِ علمنَا نَفْيه كَمَا نقُول فِي صَلَاة سادسة وَأما قَول الشَّيْخ ابي الْحسن إِن الشَّاهِد الثَّانِي شَرط فِي الحكم فان أَرَادَ بِهِ أَنه ذكر بِلَفْظ الشَّرْط فمعلوم أَنه لَيْسَ فِي الْآيَة لفظ شَرط وَإِن أَرَادَ أَن الحكم لَا يجوز مَعَ فَقده على كل حَال فَذَلِك صَحِيح وَإِن اراد أَنه لَا يجوز فِي حَال وَيجوز فِي حَال فَهَكَذَا يَقُول من يذهب إِلَى الشَّاهِد وَالْيَمِين فانه لَا يجوز الحكم بِالشَّاهِدِ الْوَاحِد وَيجوز الحكم بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين كَمَا يجوز بِرَجُل وَامْرَأَتَيْنِ وَإِن منع من الحكم بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين لِأَنَّهُ زِيَادَة على النَّص وَالزِّيَادَة على النَّص نسخ فَلم يجز نسخ الْقُرْآن بِخَبَر الْوَاحِد فَذَلِك كَلَام فِي الزِّيَادَة على النَّص وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْأَمر إِذا قيد بغاية وحد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الحكم إِذا علق بغاية وحد منع ظاهرهما من ثُبُوت الحكم بعدهمَا لِأَن قَوْله سُبْحَانَهُ {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} يجْرِي مجْرى أَن يَقُول صُومُوا صوما غَايَته ونهايته وَآخره وطرفه اللَّيْل لِأَن إِلَى مَوْضُوع للغاية وَالْحَد وَلَو قَالَ ذَلِك لمنع من وجوب الصَّوْم بعد مَجِيء اللَّيْل لِأَنَّهُ لَو وَجب أَن يَصُوم بعد ذَلِك خرج اللَّيْل من أَن يكون آخرا للصَّوْم وَدخل فِي أَن يكون وسطا للصَّوْم وَلَا يمْتَنع مَعَ ذَلِك أَن تدل دلَالَة على خلاف ظَاهر الْغَايَة فتوجب علينا صِيَام قِطْعَة من اللَّيْل وتدل على أَنه إِنَّمَا سمي أول النَّهَار طرفا للصَّوْم مجَازًا من حَيْثُ كَانَ قَرِيبا من آخِره فَأَما قَاضِي الْقُضَاة فانه قَالَ إِن الْغَايَة تدل على أَن مَا بعْدهَا بِخِلَافِهَا قَالَ لِأَن الْفَائِدَة فِي ضرب الْغَايَة زَوَال الحكم بعْدهَا وَهَذَا دَعْوَى لَا فرق بَينه وَبَين قَول الْقَائِل الْفَائِدَة فِي

ذكر الصّفة انْتِفَاء الحكم مَعَ انتفائها فَأَما نَحن فقد بَينا أَن لَفْظَة الْغَايَة تفِيد مَا ذَكرْنَاهُ لَا الْفَائِدَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الامر إِذا قيد بِعَدَد كَيفَ القَوْل فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن من النَّاس من قَالَ إِن الحكم إِذا علق بِعَدَد دلّ على أَن مَا عداهُ بِخِلَافِهِ وَمِنْهُم من قَالَ لَا يدل على ذَلِك كتعليق الْحَد بالثمانين وَنحن نقُول إِنَّه يَنْبَغِي أَن ينظر هَل يدل تَعْلِيق الحكم بِالْعدَدِ على حكم مَا زَاد عَلَيْهِ أم لَا وَهل يدل على حكم مَا نقص مِنْهُ أم لَا فَنَقُول إِنَّه لَا يدل على نفي الحكم عَمَّا زَاد على الْعدَد لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون فِي تَعْلِيقه بذلك الْعدَد فَائِدَة سوى نَفْيه عَن الزِّيَادَة على مَا سَنذكرُهُ فِي دَلِيل الْخطاب وَقد يدل على ثُبُوت الحكم فِي الزِّيَادَة من جِهَة الأولى فان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ لم يحمل خبثا نعلم مِنْهُ أَن مَا زَاد عَلَيْهَا أولى بِأَن لَا يحمل الْخبث لِأَن الْقلَّتَيْنِ موجودتان فِي الثَّلَاث وَزِيَادَة وَلَو حظر الله علينا جلد الزَّانِي مائَة لَكَانَ حظر مَا زَاد على الْمِائَة أولى لِأَن الْمِائَة مَوْجُودَة فِي الْمِائَتَيْنِ وَزِيَادَة فَأَما إِذا أباحنا جلد الزَّانِي مائَة أَو أوجبه علينا فانه لَا يدل على حكم مَا زَاد على ذَلِك لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظ ذكر للزِّيَادَة وَلَا يَقْتَضِيهِ من جِهَة الأولى والفائدة فَأَما تَعْلِيق الحكم بِالْعدَدِ هَل يدل على حكم مَا نقص مِنْهُ فانه ينظر فِيهِ فان كَانَ الحكم إِيجَابا فانه يدل على وجوب مَا نقص عَنهُ لِأَنَّهُ دَاخل تَحْتَهُ وَيمْنَع من الِاقْتِصَار على مَا دونه لِأَن الْأَمر قد أوجب استكمال الْعدَد نَحْو أَن يُوجب الله سُبْحَانَهُ علينا جلد الزَّانِي مائَة فنعلم وجوب جلد خمسين وحظر

الِاقْتِصَار على ذَلِك وَإِن كَانَ الحكم الْمُعَلق على الْعدَد إِبَاحَة فانه يدل على إِبَاحَة مَا دونه مِمَّا دخل تَحْتَهُ وَلَا يدل على إِبَاحَة مَا دونه مِمَّا لم يدْخل تَحْتَهُ مِثَال الأول يبيحنا جلد الزَّانِي مائَة فنعلم إِبَاحَة جلده خمسين وَإِذا علمنَا أَن الْإِبَاحَة غير مَقْصُورَة على الْخمسين لِأَن الْخمسين دَاخِلَة تَحت الْمِائَة وَإِذا أباحنا اسْتِعْمَال الْقلَّتَيْنِ إِذا وَقعت فِيهَا نَجَاسَة علمنَا إِبَاحَة اسْتِعْمَال قلَّة مِنْهَا وَمِثَال الثَّانِي أَن يبيحنا اسْتِعْمَال الْقلَّتَيْنِ فَلَا يدل ذَلِك على اسْتِعْمَال قلَّة وَاحِدَة وَقعت فِيهَا نَجَاسَة لَيست من جملَة الْقلَّتَيْنِ وَكَذَلِكَ إِذا أباحنا الحكم بِشَهَادَة شَاهِدين فانه لَا يدل على الحكم بِشَهَادَة شَاهد وَاحِد فَأَما تَعْلِيق الْحَظْر بِالْعدَدِ فانه لَا يدل على حكم مَا دونه إِلَّا من جِهَة الأولى فان الله سُبْحَانَهُ لَو حظر علينا اسْتِعْمَال قُلَّتَيْنِ وَقعت فيهمَا نَجَاسَة لَكَانَ حظر قلَّة وَاحِدَة وَقعت فِيهَا نَجَاسَة أولى وَلَو حظر علينا جلد الزَّانِي مائَة لم يدل على حظر مَا دونه وَلَا على إِبَاحَته بل ذَلِك مَوْقُوف على الدَّلِيل لما سَنذكرُهُ فِي دَلِيل الْخطاب فَبَان أَن تَعْلِيق الحكم على الْعدَد لَا يدل على نفي مَا زَاد عَلَيْهِ أَو نقص عَنهُ وَلَا على إِثْبَات مَا زَاد عَلَيْهِ أَو نقص إِلَّا بِاعْتِبَار زَائِد وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن الحكم لَو ثَبت فِيمَا زَاد على الْعدَد الْمَذْكُور لم يكن لذكر الْعدَد فَائِدَة وَالْجَوَاب عَن ذَلِك مَا سَنذكرُهُ فِي دَلِيل الْخطاب وَقَالُوا قد عقل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَول الله سُبْحَانَهُ {إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة فَلَنْ يغْفر الله لَهُم} أَن مَا زَاد السّبْعين بِخِلَاف السّبْعين فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأزيدن على السّبْعين وعقلت الْأمة من جعل الْجلد ثَمَانِينَ حظر مَا زَاد عَلَيْهِ وَالْجَوَاب أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا علم ذَلِك بِالْبَقَاءِ على حكم الأَصْل لِأَن الأَصْل جَوَاز الْعَفو فَلَمَّا علق الله سُبْحَانَهُ الْمَنْع من ذَلِك على السّبْعين بَقِي مَا زَاد على السّبْعين على حكم الأَصْل وَالْأَصْل أَيْضا حظر الْجلد فَلَمَّا أوجب

الله سُبْحَانَهُ جلد الْقَاذِف ثَمَانِينَ بَقِي مَا زَاد عَلَيْهِ على حكم الأَصْل فَلهَذَا حظرت الْأمة مَا زَاد على الثَّمَانِينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الامر الْمُقَيد بِالِاسْمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهب الْجُمْهُور إِلَى أَن الْإِيجَاب وَالْأَخْبَار الْمقيدَة بالأسامي لَا تدل على حكم مَا عَداهَا نَحْو قَول الْقَائِل زيد فِي الدَّار لَا يدل على أَن عمرا فِي الدَّار وَلَا على أَنه لَيْسَ فِي الدَّار وَكَذَلِكَ إِذا أَمر بِشَيْء فانه لَا يدل على ان غَيره لَيْسَ بِوَاجِب وَقَالَ بَعضهم إِن تَعْلِيق الحكم بِالِاسْمِ يدل على أَن مَا عداهُ بِخِلَافِهِ ودلينا أَن قَول الْقَائِل زيد آكل لَا يفهم مِنْهُ أَن عمرا لَيْسَ بآكل وَأَيْضًا لَو دلّ على ذَلِك لما حسن من الْإِنْسَان أَن يخبر بِهِ إِلَّا بعد أَن يعلم أَن غير زيد لَيْسَ بآكل لِأَنَّهُ إِن لم يعلم ذَلِك كَانَ قد أخبر بِمَا يعلم أَنه كَاذِب فِيهِ أَو بِمَا لَا يَأْمَن أَن يكون فِيهِ كَاذِبًا وَفِي علمنَا باستحسان الْعُقَلَاء الْإِخْبَار بِأَن زيدا آكل مَعَ شكّ الْمخبر فِي كَون غَيره آكلا بل مَعَ علمه بِأَن غير زيد آكل دَلِيل على مَا قُلْنَاهُ وَأَيْضًا فَلَو دلّ قَوْلنَا زيد آكل على أَن غَيره لَيْسَ بآكل لم يخل إِمَّا أَن يدل عَلَيْهِ لفظا أَو من حَيْثُ خصّه بِالذكر فَالْأول بَاطِل لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظَة ذكر لعَمْرو وَلَا لغيره وَالثَّانِي أَيْضا بَاطِل لِأَن الْإِنْسَان قد يعلم أَن زيدا وعمرا قد اشْتَركَا فِي فعل وَيكون لَهُ غَرَض فِي الْإِخْبَار عَن أَحدهمَا وَلَا يكون لَهُ غَرَض فِي الْإِخْبَار عَن الآخر وَقد يعلم أَن الْفِعْل يجب عَلَيْهِمَا فيخص أَحدهمَا بِالْأَمر بِهِ وَيدل الْأُخَر على وجوب الْفِعْل بِلَفْظ آخر وبدليل آخر فَإِذا أمكن ذَلِك لم يدل الِاخْتِصَاص على مَا ذَكرُوهُ فان قَالُوا إِذا أَمر احدهما وَلم يدل الاخر على وجوب الْفِعْل علمنَا أَنه

غير وَاجِب عَلَيْهِ إِذْ لَو كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ لدل على وُجُوبه قيل فاذا الدَّال على سُقُوط الْوُجُوب فقد دلَالَة الْوُجُوب لَا تعلق الْأَمر بزيد أَلا ترى أَن الْأَمر لَو لم يتَوَجَّه إِلَى زيد لعلمنا نفي الْوُجُوب عَن عَمْرو بفقد دلَالَة الْوُجُوب فَعلمنَا أَن هَذَا هُوَ الدَّلِيل لَا مَا ذكرْتُمْ فَإِن قَالُوا إِذا علق الله سُبْحَانَهُ الحكم على الِاسْم الْخَاص وَلم يعلقه على الِاسْم الْعَام علمنَا أَنه غير مُتَعَلق عَلَيْهِ إِذْ لَو تعلق عَلَيْهِ لعلقه الله سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ نَحْو أَن يَقُول فِي الْغنم الزَّكَاة فنعلم أَنه لَو كَانَت الزَّكَاة فِي النعم لعلق الزَّكَاة عَلَيْهَا وَالْجَوَاب أَن هَذَا يَقْتَضِي أَن نعلم نفي الزَّكَاة عَمَّا سوى الْغنم لفقد دلَالَة تدل على وجوب الزَّكَاة فِيهَا لَا لتَعلق الحكم على الْغنم وعَلى أَنه لَا يمْتَنع أَن تكون الْمصلحَة أَن يبين لنا حكم الْغنم فِي ذَلِك الْوَقْت بذلك الْكَلَام وَيبين لنا حكم غَيرهَا بِكَلَام آخر فِي وَقت آخر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الامر الْمُقَيد بِصفة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَقَالَ مُعظم أَصْحَاب الشَّافِعِي لَو قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زكوا عَن الْغنم السَّائِمَة لدل على أَنه لَا زَكَاة فِي غير السَّائِمَة وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فِي الْخطاب الْمُعَلق بِالِاسْمِ نَحْو قَوْله زكوا عَن الْغنم فَقَالَ معظمهم لَا يدل على أَن لَا زَكَاة فِي غَيرهَا وَقَالَ الأقلون يدل على ذَلِك وَقَالَ قوم إِن الْأَمر وَغَيره إِذا قيد بِصفة لَا يدل على أَن مَا عداهُ بِخِلَافِهِ وَهُوَ مُعظم الْمُتَكَلِّمين ومعظم أَصْحَاب أبي حنيفَة وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فِي الْخطاب الْمُقَيد بِلَفْظَة إِنَّمَا فَقَالَ قوم لَا يدل على أَن مَا عداهُ بخلافة وَقَالَ قوم مِنْهُم بل يدل على ذَلِك نَحْو قَول الله سُبْحَانَهُ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم}

وَاخْتلفُوا أَيْضا فِي الْخطاب الْمُعَلق بِشَرْط وَالْخطاب الْمُعَلق بِعَدَد فَمنهمْ من أجراه مجْرى الْخطاب الْمُعَلق بِصفة فِي أَنه لَا يدل على أَن مَا عداهُ بخلافة وَمِنْهُم من قَالَ يدل على حكم مَا عداهُ وَخَالف بَينه وَبَين الْمُعَلق بِصفة وَأما الْخطاب الْمُعَلق بغاية فَإِنَّهُم اتَّفقُوا على أَنه يعلم أَن مَا عدا الْغَايَة بِخِلَافِهَا وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله إِن الْخطاب الْمُعَلق بِالصّفةِ يدل على نفي الحكم عَمَّا عَداهَا فِي حَال وَلَا يدل عَلَيْهِ فِي حَال فالحالة الَّتِي يدل فِيهَا على ذَلِك أحد أُمُور ثَلَاثَة إِمَّا أَن يكون الْخطاب واردا مورد الْبَيَان نَحْو قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَائِمَة الْغنم الزَّكَاة وَإِمَّا أَن يكون واردا مورد التَّعْلِيم نَحْو خبر التَّحَالُف والسلعة قَائِمَة وَإِمَّا ان يكون مَا عدا الصّفة دَاخِلا تَحت الصّفة نَحْو الحكم بالشاهدين يدل على نَفْيه عَن الشَّاهِد الْوَاحِد لِأَنَّهُ دَاخل تَحت الشَّاهِدين وَالدَّلِيل على أَن الْخطاب الْمُقَيد بِالصّفةِ لَا يدل على أَن مَا عداهُ بِخِلَافِهِ هُوَ أَنه لَو دلّ عَلَيْهِ لدل عَلَيْهِ إِمَّا بصريحه وَلَفظه وَإِمَّا بفائدته وَمَعْنَاهُ وَلَيْسَ يدل عَلَيْهِ من كلا الْوَجْهَيْنِ فأذا لَيْسَ يدل عَلَيْهِ فَأَما صَرِيحه فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذكر لما عدا الصّفة أَلا ترى أَن قَول الْقَائِل أَدّوا الزَّكَاة عَن الْغنم السَّائِمَة لَيْسَ فِيهِ ذكر المعلوفة فَإِن قيل أَلَيْسَ قَول الله سُبْحَانَهُ {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} يدل بصريحه على الْمَنْع من ضربهما وَلَيْسَ فِي لَفظه ذكر الضَّرْب قيل الصَّحِيح أَنه إِنَّمَا يدل من جِهَة الفحوى وَالْأولَى لِأَنَّهُ لما نهى عَن الْقَلِيل من الْأَذَى كَانَ بِأَن يمْنَع من الْكثير من الْأَذَى أولى على مَا سنبينه فَأَما أَن الْخطاب الْمُعَلق بِالصّفةِ لَا يدل على أَن الحكم مَعَ نَفيهَا من جِهَة الْمَعْنى فَهُوَ أَنه لَو دلّ على ذَلِك لَكَانَ إِنَّمَا يدل عَلَيْهِ بِأَن يُقَال إِذا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة علمنَا أَنه لَو

كَانَت الزَّكَاة فِي غير السَّائِمَة كَمَا هِيَ فِي السَّائِمَة لما تكلّف ذكر السّوم ولعلق الزَّكَاة باسم الْغنم لِأَن تكلّف ذكر السّوم مَعَ تعلق الزَّكَاة على مُطلق اسْم الْغنم تكلّف لما لَا فَائِدَة فِيهِ وَهَذَا بَاطِل لِأَن فِي تكلّف ذكر السّوم فَوَائِد أخر سوى نفي الزَّكَاة عَن المعلوفة وَإِذا أمكن ذَلِك بَطل القَوْل بِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي ذكر السّوم إِلَّا انْتِفَاء الزَّكَاة عَن المعلوفة يبين مَا قُلْنَاهُ أَنه قد يكون اللَّفْظ لَو أطلق فِي بعض الْمَوَاضِع لتوهم متوهم أَن الصّفة خَارِجَة مِنْهُ فيذكر الصّفة لإِزَالَة هَذَا الْإِيهَام ويستدل من الْجِهَة الأولى على ثُبُوت الحكم مَعَ فقدها نَحْو أَن يعلم الله سُبْحَانَهُ أَنه لَو قَالَ ضحوا بِشَاة لتوهم متوهم أَنه لم يرد العوراء فَيَقُول ضحوا بِشَاة عوراء فَيعلم جَوَاز الْأُضْحِية بهَا وينبه بذلك على أَن جَوَاز الْأُضْحِية بالصحيحة أولى وَلَو قَالَ الله سُبْحَانَهُ {وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم} لتوهم متوهم أَنه لم يرد قَتلهمْ بخشية الإملاق فَيَقُول الله سُبْحَانَهُ {وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم خشيَة إملاق} لهَذَا الْغَرَض وَمِنْهَا أَن تكون الْبلوى قد وَقعت بِالصّفةِ الْمَذْكُورَة وَمَا عَداهَا لم يشْتَبه على النَّاس فيقيد الله سُبْحَانَهُ الْخطاب بِالصّفةِ نَحْو قَوْله سُبْحَانَهُ {وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم خشيَة إملاق} وَمِنْهَا أَن تكون الْمصلحَة أَن نعلم حكم الصّفة بِالنَّصِّ ونعلم حكم مَا عَداهَا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا وَلَيْسَ يمْتَنع ذَلِك كَمَا لم يمْتَنع أَن تكون الْمصلحَة أَن نَعْرِف حكم السِّتَّة أَجنَاس بِالنَّصِّ ونعرف حكم مَا عَداهَا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا وَإِذا لم يمْتَنع ذَلِك جَازَ أَن يدلنا الله سُبْحَانَهُ على حكم الصّفة نصا وينبهنا على ثُبُوت الحكم مَعَ نَفيهَا من جِهَة الْقيَاس وَمِنْهَا أَن تكون الْمصلحَة أَن نَعْرِف حكم الصّفة بِنَصّ ونعرف ثُبُوت ذَلِك الحكم فِيمَا عَداهَا بِنَصّ آخر أَلا ترى أَنه قد تكون الْمصلحَة أَن نَعْرِف الحكم

تَارَة بخطاب وجيز وَتارَة بخطاب طَوِيل وَتارَة بِأَن يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْغنم زَكَاة وَتارَة بِأَن يَقُول فِي الْغنم السَّائِمَة وَفِي المعلوفة زَكَاة وَإِذا جَازَ أَن يقرن ذَلِك إِلَى قَوْله فِي الْغنم السَّائِمَة فَلم لَا يجوز أَن يفصل بَينهمَا بِأَن يقدم ذكر المعلوفة على ذكر السَّائِمَة وَمِنْهَا أَن تكون الْمصلحَة أَن نَعْرِف حُصُول الحكم فِيمَا عدا الصّفة بِحكم الْعقل نَحْو أَن يكون الحكم الْمُعَلق بِصفة حكم الْعقل مِثَاله أَن يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ لَا تذبحوا الْغنم السَّائِمَة أَو لَا زَكَاة فِيهَا فَيبقى على نفي الزَّكَاة عَن المعلوفة وعَلى تَحْرِيم ذَبحهَا لِأَن ذَلِك هُوَ حكم الْعقل وَمِنْهَا أَن تكون الْمصلحَة أَن يبْقى الحكم مَعَ نفي الصّفة بَقَاء على حكم الْعقل لَا لثُبُوت الحكم مَعَ الصّفة نَحْو أَن يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة وَلَا نجد دَلِيلا شَرْعِيًّا يدلنا على ثُبُوتهَا فِي المعلوفة فتنفي الزَّكَاة عَن المعلوفة بَقَاء على حكم الْعقل وَتَكون مصلحتنا أَن نعلم ذَلِك بِالْعقلِ فَأن قيل فاذا عَرَفْتُمْ بطلَان هَذِه الْأَقْسَام كلهَا لم تَجدوا دَلِيلا يدل على ثُبُوت الزَّكَاة فِي المعلوفة فنفيتم الزَّكَاة فقد صرتم إِلَى مَذْهَبنَا قيل لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك لأنكم أَنْتُم تنفون الزَّكَاة عَن المعلوفة لأجل تَعْلِيقهَا على السَّائِمَة وَنحن ننفيها عَن المعلوفة لِأَنَّهُ حكم الْعقل وَلم ينقلنا عَنهُ دَلِيل شَرْعِي وَبَين الْأَمريْنِ فرقان يبين ذَلِك أَن استدلالنا نَحن لَا يقف على تَعْلِيق الزَّكَاة على السّوم بل سَوَاء علقت عَلَيْهِ أَو لم تعلق واستدلالكم يقف على تَعْلِيق الزَّكَاة على السّوم وَنحن إِنَّمَا نطلب هَل فِي الشَّرْع مَا يدل على ثُبُوت الزَّكَاة فِي المعلوفة أم لَا لنعلم هَل فِي الشَّرْع مَا يمْنَع من حكم الْعقل وإطلاقه أم لَا وَأَنْتُم تطلبون هَل فِي الشَّرْع مَا يدل على ثُبُوت الزَّكَاة فِي المعلوفة لتنظروا هَل فِي الشَّرْع مَا يمْنَع من دلَالَة تعلق الحكم على الصّفة على نَفْيه عَمَّا عَداهَا أم لَا وَيبين الْفرق بَيْننَا أَنه لَو كَانَ الْمُعَلق بِالصّفةِ هُوَ حكم الْعقل بِأَن يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تذبحوا السَّائِمَة لحرمنا ذبح المعلوفة بَقَاء على حكم الأَصْل إِذا لم ينقلنا على

ذَلِك دَلِيل شَرْعِي وَأَنْتُم تبيحون ذبح المعلوفة لأجل حظر ذبح السَّائِمَة فقد بَان الْفرق بَين الطريقتين فان قيل أَيجوزُ ان يكون الحكم إِنَّمَا علق بالسوم لِأَنَّهُ مُنْتَفٍ عَمَّا عداهُ قيل يجوز ذَلِك وَيجوز مَا ذَكرْنَاهُ فَلذَلِك توقفنا فِيهِ فان قَالُوا إِنَّه وَإِن جَازَ مَا ذكرتموه من الْفَوَائِد فَالظَّاهِر أَنه إِنَّمَا علق الحكم بالسوم لأجل انتفائه عَمَّا عداهُ لَا لما ذكرْتُمْ قيل لَيْسَ هَا هُنَا لفظ متناول للفوائد فَيُقَال إِن الظَّاهِر مِنْهُ وُقُوعه على بَعْضهَا دون بعض فان قَالُوا معنى قَوْلنَا الظَّاهِر يَقْتَضِي مَا قُلْنَاهُ أَن الْأَكْثَر من الحكم إِذا علق على صفة أَنه لَا فَائِدَة فِيهِ إِلَّا لأجل انتفائه عَمَّا عداهُ قيل لَهُم لم زعمتم أَن الْأَكْثَر والأغلب مَا قُلْتُمْ وعَلى أَنه لَو كَانَ الْأَكْثَر من الْفَائِدَة والأغلب مَا قُلْتُمْ لَأَدَّى ذَلِك إِلَى غَالب الظَّن بِأَنَّهُ إِنَّمَا علق الحكم بِالصّفةِ لانتفائها عَمَّا عَداهَا وَلَا يُؤَدِّي إِلَى الْقطع أَلا ترى أَنه يجوز مَا قُلْنَاهُ من الْفَوَائِد وَإِن كَانَ قَلِيلا نَادرا دَلِيل قد اسْتدلَّ بَعضهم على أَن تَعْلِيق الحكم بِالصّفةِ لَا يدل على نَفْيه عَمَّا عدا الصّفة من جِهَة الْفَائِدَة فَقَالَ لَو لم يكن فِي ذَلِك فَائِدَة إِلَّا إِذا كَانَ الحكم منتفيا عَمَّا عدا الصّفة لما جَازَ أَن يدل دلَالَة مُنْفَصِلَة على ثُبُوت الحكم فِيمَا عَداهَا لِأَن الدّلَالَة إِذا دلّت على ذَلِك فقد دلّت على إبِْطَال فَائِدَة الْخطاب وَذَلِكَ لَا يجوز فِي خطاب الْحَكِيم فان قَالُوا إِنَّمَا نقُول إِن الحكم لَو ثَبت فِيمَا عدا الصّفة لما كَانَ لذكر الصّفة فَائِدَة إِذا كَانَ الْمُتَكَلّم قد خص الصّفة بالحكم وَإِنَّمَا يكون قد خصها بالحكم إِذا لم يدل دلَالَة على ثُبُوت الحكم مَعَ عدمهَا قيل لَهُم فَيجب استدلالكم على انْتِفَاء الحكم فِيمَا عدا الصّفة على أَن تفحصوا عَن الْأَدِلَّة فَلَا يَجدوا دَلِيلا عقليا وَلَا سمعيا يدل على ثُبُوت الحكم مَعَ انْتِفَاء الصّفة وَلَيْسَ هَذَا من مذهبكم بل من مذهبكم أَن نفس تعلق الحكم بِالصّفةِ يدل على انتفائه عَمَّا عَداهَا وَإِنَّمَا تفتشون عَن الْأَدِلَّة لِتَعْلَمُوا هَل فِيهَا مَا يُعَارض هَذَا الدَّلِيل أم لَا فَلَا تفتشون عَنْهَا لِأَن استدلالكم بِدَلِيل الْخطاب مَوْقُوف على ذَلِك كَمَا يفتش أَصْحَاب الْعُمُوم عَن الْأَدِلَّة ليعلموا هَل فِيهَا مَا يخص الْعُمُوم أم لَا وَلَا يفتشون عَنْهَا لِأَن استدلالهم بِالْعُمُومِ مَوْقُوف عَلَيْهِ فان

قَالُوا إِنَّمَا يجوز قيام الدّلَالَة على ثُبُوت الحكم فِيمَا عدا الصّفة وَلَا يكون ذَلِك مُبْطلًا لفائدة تَعْلِيق الحكم بِالصّفةِ لِأَن الظَّاهِر من تَعْلِيق الحكم بِالصّفةِ انتفاؤه عَمَّا عَداهَا وَلَيْسَ يمْتَنع قيام الدّلَالَة على خلاف الظَّاهِر كَمَا نقُوله فِي تَخْصِيص الْعُمُوم قيل قد بَينا أَنه لَا يُمكن أَن يُقَال فِيمَا لَيْسَ بِلَفْظ أَن الظَّاهِر مِنْهُ كَيْت وَكَيْت إِلَّا على معنى الْأَكْثَر والأغلب وَإِن ذَلِك إِنَّمَا يُفِيد غَالب الظَّن لَا الْعلم دَلِيل آخر فِي الْمَسْأَلَة لَو دلّ الْخطاب الْمُتَعَلّق بِالصّفةِ على حكم مَا عَداهَا لدل الْخَبَر على ذَلِك وَمَعْلُوم أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ زيد الطَّوِيل فِي الدَّار لم يدل على أَن الْقصير لَيْسَ فِي الدَّار وَلَا على أَنه فِيهَا فَكَذَلِك الْخطاب إِذا كَانَ أمرا فان قيل الْفرق بَين الْأَمر وَالْخَبَر أَن الْمخبر قد يكون لَهُ غَرَض فِي الْإِخْبَار عَن زيد وَلَا يكون لَهُ غَرَض فِي الْإِخْبَار عَن عَمْرو وَأما الْمُكَلف فان غَرَضه أَن يبين جَمِيع مَا يجب على الْمُكَلف فاذا قَالَ زكوا عَن الْغنم السَّائِمَة علمنَا أَنه لَو كَانَت الزَّكَاة فِي جَمِيع الْغنم لعلق الزَّكَاة بِمُطلق الِاسْم قيل إِنَّه كَمَا يجوز أَن يكون غَرَض الْمخبر مَا ذكرْتُمْ فقد يكون غَرَض الْمُكَلف أَن يعرفنا حكم السّوم بِلَفْظ ويعرفنا حكم مَا عدا السّوم بِلَفْظ آخر وبدليل لَيْسَ بِلَفْظ وَإِذا جَازَ ذَلِك لم يفترقا دَلِيل آخر اسْتدلَّ الشَّيْخ أَبُو عبد الله وقاضي الْقُضَاة فَقَالَا إِن تَعْلِيق الحكم بِالصّفةِ يجْرِي مجْرى تَعْلِيقه بِالِاسْمِ وتعليقه بِالِاسْمِ لَا يدل على انتفائه عَمَّا عداهُ وَأما تَعْلِيق الحكم بِالِاسْمِ فقد بَينا أَنه لَا يدل على انتفائه عَمَّا عداهُ وَأما تَعْلِيق الحكم بِالِاسْمِ فقد بَينا أَنه لَا يدل على انتفائه عَمَّا عداهُ وَأما أَن تَعْلِيقه بِالصّفةِ يجْرِي مجْرى تَعْلِيقه بِالِاسْمِ فبيان ذَلِك أَن الِاسْم وضع ليتميز بِهِ بَين الْمُسَمّى من غَيره وَكَذَلِكَ الصّفة أضيفت إِلَى الِاسْم عِنْد وُقُوع الِاشْتِرَاك فِيهِ ليتميز أحد المسمين من الآخر مِثَال ذَلِك وُقُوع اسْم زيد على الْبَصْرِيّ والكوفي فنضيف الْبَصْرِيّ إِلَى زيد ليتميز بِهِ كَمَا يتَمَيَّز مِنْهُ باسم يَخُصُّهُ لَا

يُشَارِكهُ فِيهِ الْكُوفِي وكما أَن تَعْلِيق الحكم بذلك لَا يدل على انتفائه عَن الْكُوفِي فَكَذَلِك تَعْلِيقه بِالصّفةِ ولمعترض أَن ينْقض ذَلِك بالغاية لِأَنَّهَا تخص الزِّمَام وتجري مجْرى اسْم يخْتَص بذلك الزَّمَان وَمَعَ ذَلِك فان تَعْلِيق الحكم بهَا يدل على انتفائه عَمَّا عَداهَا بِخِلَاف الْأَسْمَاء وينتقص بِالشّرطِ عِنْد من قَالَ إِنَّه يدل على انتفائه عَمَّا عداهُ لِأَنَّهُ قد خص مَا دخل عَلَيْهِ أَلا ترى أَنَّك إِذا قلت اعط زيدا درهما إِن دخل الدَّار فقد خصصت هَذِه الْحَالة بِالْعَطِيَّةِ وميزتها كَمَا تميزها باسم لَو كَانَ لَهَا وَقد دلّ على انْتِفَاء الحكم عَمَّا عدا الشَّرْط وَلقَائِل أَن يَقُول وَلم إِذا جرت الصّفة مجْرى الِاسْم فِي التَّمْيِيز كَانَ حكمهَا فِي كل شَيْء حكمه وَمَا أنكرتم أَنه لَيْسَ الْعلَّة فِي أَن تَعْلِيق الحكم بِالِاسْمِ لَا يدل على نَفْيه عَمَّا عداهُ كَمَا ذكرْتُمْ فان قيل إِنَّمَا لم يدل على ذَلِك لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظ ذكر لما عدا الِاسْم وَذَلِكَ قَائِم فِي الصّفة قيل هَذَا عدُول إِلَى دَلِيل آخر يُمكن الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ بِنَفسِهِ وللمخالف أَن يَقُول هَذَا إِنَّمَا يدل على أَن تَعْلِيق الحكم بِالصّفةِ لَا يدل من جِهَة اللَّفْظ على نَفْيه عَمَّا عدا الصّفة وَلَا يدل على انه لَا يَقْتَضِي ذَلِك من جِهَة الْفَائِدَة دَلِيل آخر وَقد اسْتدلَّ على ذَلِك فَقيل قد فرق أهل اللُّغَة بَين المعطف وَبَين النَّقْض فَقَالُوا إِن قَول الْقَائِل اضْرِب الرِّجَال الطوَال والقصار عطف وَلَيْسَ بِنَقْض فَلَو كَانَ قَوْله اضْرِب الرِّجَال الطوَال يدل على نفي ضرب الْقصار لَكَانَ قَوْله والقصار نقضا لَا عطفا وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا يدل على نفي ضرب الْقصار تَخْصِيص الطوَال بِالذكر فِي الْحَال وَإِذا عطف عَلَيْهِم الْقصار لم يكن قد خصهم فِي الْخطاب بِالذكر فَلم يُوجد الدّلَالَة على نفي ضرب الْقصار على الْحَد الَّذِي يدل مَعَه وأتى بعْدهَا مَا ينقضها فَيكون نقضا وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا قَالَ الْقَائِل لغيره ضربت زيدا الْآن فِي هَذَا الْمَكَان لم أضربه الْآن فِي هَذَا الْمَكَان لِأَن الْكَلَام الأول يدل تصريحه على ضربه وَالْآخر يدل تصريحه على نفي ضربه فَكل وَاحِد مِنْهُمَا قد وجد على الْوَجْه الَّذِي لكَونه عَلَيْهِ يكون دَلِيلا على مَا يدل عَلَيْهِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون الْمُتَكَلّم مَا عني بهما شَيْئا

أَو لم يعن بِأَحَدِهِمَا شَيْئا فَيكون قد لَغَا بهما أَو بِأَحَدِهِمَا وعَلى أَنه بَاطِل بالغاية وَالشّرط لِأَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ لغيره صم إِلَى غرُوب الشَّمْس أَفَادَ ذَلِك نفي الصَّوْم بعد غُرُوبهَا وَلَو قَالَ صم إِلَى غرُوب الشَّمْس وَإِلَى طُلُوع الْقَمَر لم يكن ذَلِك نقضا وَلَو قَالَ أعْط زيدا درهما إِن دخل الدَّار وَلم يدل دَلِيل على ثُبُوت شَرط آخر لم تثبت الْعَطِيَّة إِذا لم يدْخل الدَّار وَلَو قَالَ لَهُ أعْطه درهما إِن دخل الدَّار وَإِن دخل السُّوق أَفَادَ وجوب الْعَطِيَّة إِن دخل السُّوق وَلم يكن ذَلِك نقضا وَأما القَوْل بِأَن تَعْلِيق الحكم بِالصّفةِ إِذا خرج مخرج الْبَيَان دلّ على أَن مَا عَداهَا بِخِلَافِهِ فَلَا يَصح لِأَن اللَّفْظ إِنَّمَا يكون بَيَانا لمجمل إِذا كَانَ دَالا إِمَّا بموضوعه أَو بِمَعْنَاهُ على المُرَاد بالمجمل وَمَعْلُوم أَن تَعْلِيق الحكم بِالصّفةِ لَيْسَ فِيهِ ذكر مَا عدا الصّفة وَلَا يدل من جِهَة الْمَعْنى على مَا عدا الصّفة فَلم يجز أَن يقْصد بِهِ الْبَيَان كَمَا عدا الصّفة إِذا كَانَ هُنَاكَ آيَة مجملة فان قيل إِذا كَانَ هُنَاكَ آيَة مجملة وَورد بَيَان لَهُ يعلق بِالصّفةِ علمنَا انْتِفَاء الحكم عَمَّا عدا الصّفة لعلمنا أَن مَا عدا الصّفة لَو أُرِيد بالمجمل لبين لِأَن الْبَيَان لَا يتَأَخَّر قيل إِذا الدَّال على انْتِفَاء الحكم عَمَّا عدا الصّفة هُوَ فقد الْبَيَان لَا تَعْلِيق الحكم بِالصّفةِ أَلا ترى أَن الحكم لَو لم يتَعَلَّق بِالصّفةِ لعلمنا انتفاؤه عَمَّا عَداهَا إِذا لم يجد بَيَان حكمهمَا لعلمنا أَن الْبَيَان لَا يتَأَخَّر وَأما القَوْل بِأَن تَعْلِيق الحكم بِالصّفةِ يدل على حكم مَا عَداهَا إِذا خرج مخرج التَّعْلِيم فلقائل أَن يَقُول إِن كل خطاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَضَمَّن حكما فَهُوَ خَارج مخرج التَّعْلِيم فَلَا معنى لهَذِهِ الْقِسْمَة إِلَّا أَن يُرَاد بذلك أَن يعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قصد بِذكر الصّفة أَن يعلق عَلَيْهَا جَمِيع الحكم وَمَتى أُرِيد ذَلِك فان الدَّال على انْتِفَاء الحكم مَعَ عدم الصّفة هُوَ علمنَا من قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قصر الحكم كُله على الصّفة وَأما القَوْل بِأَن الحكم الْمُعَلق بِالصّفةِ يدل على أَن مَا عَداهَا بِخِلَافِهِ إِذا دخل

مَا عَداهَا تحتهَا نَحْو الشَّاهِد الْوَاحِد لِأَنَّهُ دَاخل فِي جملَة الشَّاهِدين فقد تقدم القَوْل فِيهِ فِي تَعْلِيق الحكم بِالْعدَدِ فَأَما الصّفة إِذا علق عَلَيْهَا لَفْظَة إِنَّمَا وعلق عَلَيْهَا الحكم نَحْو قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ فقد ذهب بعض النَّاس إِلَى أَن لَفْظَة إِنَّمَا تقطع الحكم عَمَّا عدا الْمَذْكُور قَالُوا لِأَن الْمَفْهُوم من قَول الْقَائِل إِنَّمَا فِي الدَّار زيد أَنه لَيْسَ فِيهَا سواهُ أَلا ترى أَنَّك إِذا قلت هَل فِي الدَّار غير زيد فَقيل لَك فِي الْجَواب إِنَّمَا فِي الدَّار زيد عقلت من ذَلِك أَنه لَيْسَ فِيهَا سواهُ وَقَالَ قوم إِن ذَلِك لَا يدل على نفي الحكم عَمَّا عدا الصّفة لِأَن لَفْظَة إِنَّمَا مركبة من إِن وَمَا وَلَو أَن قَائِلا قَالَ إِن زيدا فِي الدَّار لم يدل ذَلِك على أَن غَيره لَيْسَ فِي الدَّار فَكَذَلِك إِذا قَالَ إِنَّمَا فِي الدَّار زيد لِأَن لَفْظَة مَا دخلت فِي الْكَلَام للتَّأْكِيد لَا غير هَذَا هُوَ المحكي عَن أهل اللُّغَة وَاحْتج الْقَائِلُونَ بِدَلِيل الْخطاب بأَشْيَاء مِنْهَا أَن أهل اللُّغَة فرقوا بَين الْخطاب الْمُطلق والمقيد بِصفة كَمَا فرقوا بَين الْخطاب الْمُرْسل وَبَين الْخطاب الْمُقَيد بالإستثناء فَكَمَا دلّ الِاسْتِثْنَاء على أَن حكم الْمُسْتَثْنى غير حكم الْمُسْتَثْنى مِنْهُ كَذَلِك تدل الصّفة على أَن حكم مَا عَداهَا بِخِلَاف حكمهَا وَالْجَوَاب أَنا نَحن نفرق بَين مُطلق الْخطاب وَبَين الْمُقَيد بِالصّفةِ فنقطع على ثُبُوت الحكم فِي مُطلق الْخطاب اخْتصَّ بِصِفَات أَو لم يخْتَص بهَا وَلَا نقطع على ثُبُوت الحكم فِي الْخطاب الْمُقَيد بِالصّفةِ إِلَّا مَعَ وجود الصّفة ونشك فِي ثُبُوته مَعَ فقدها وَفِي مُطلق الْخطاب لَا نشك فِي ثُبُوته مَعَ فقدها وَقَوْلهمْ كَمَا فرقوا بَين الْخطاب الْمُرْسل والمقيد بِالِاسْتِثْنَاءِ إِن عنوا بِهِ أَنهم فرقوا بَين الْمُطلق والمقيد اَوْ بَين الْمُرْسل والمستثنى مِنْهُ من كل وَجه فَلَا نسلمه وَإِن أَرَادوا أَنهم فرقوا بَين الْمُطلق والمقيد كَمَا فرقوا بَين الْمُرْسل والمستثنى مِنْهُ من وَجه دون وَجه فَذَلِك مُسلم وَلَا يَجِيء مِنْهُ مَا يريدونه لِأَن

الْخطاب الْمُقَيد بِالصّفةِ يَقْتَضِي ثُبُوت الحكم مَعَ الصّفة وَلَا يَقْتَضِي عَمَّا عَداهَا وَالْخطاب الْمُسْتَثْنى مِنْهُ يَقْتَضِي ثُبُوت الحكم فِيمَا لم يتَنَاوَلهُ الِاسْتِثْنَاء فقد اشْتَركَا من هَذِه الْجِهَة وَإِن اخْتصَّ الْخطاب الْمُسْتَثْنى مِنْهُ بِوَجْه زَائِد وَهُوَ الدّلَالَة على انْتِفَاء الحكم عَن الْمُسْتَثْنى وَإِنَّمَا انْفَرد بذلك لِأَن الِاسْتِثْنَاء يخرج من الْكَلَام شَيْئا وَيَقْتَضِي نفي جكم الْكَلَام عَنهُ وَالصّفة لَا تَنْفِي شَيْئا وَمِنْهَا قَوْلهم يجب أَن تدل الصّفة على انْتِفَاء الحكم عَمَّا عَداهَا لتَكون أَعم لدلالتها وَالْجَوَاب أَنه لَيْسَ يجب أَن يَجْعَل الحكم من مَدْلُول اللَّفْظَة لتكثر فوائدها وتعم وَإِنَّمَا يَجْعَل من مدلولنا إِذا وضعت لَهُ أَو وضعت لما يدل عَلَيْهِ مثل فحوى القَوْل أَلا ترى أَنه لَا يجوز أَن يَجْعَل قَول الله سُبْحَانَهُ {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} دَلِيلا على قتل غَيرهم لتكثر فَوَائده لما لم يكن ذَلِك مَوْضُوعا لغير الْمُشْركين وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْحَكِيم إِذا أَتَى بِكَلَام عَام لأنواع فَلم يعلق بِهِ الحكم إِلَّا بعد أَن قَيده بِصفة تتَنَاوَل بعض تِلْكَ الْأَنْوَاع علمنَا أَن ذَلِك الحكم لَا يعم تِلْكَ الْأَنْوَاع إِذا لَو عَمها لم يكن لتكلف ذكر الصّفة فَائِدَة وَالْجَوَاب أَنه قد يكون فِي ذكرهَا فَائِدَة غير انْتِفَاء الحكم مَعَ عدمهَا لما ذَكرْنَاهُ فِيمَا تقدم وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْمُقَيد بِالصّفةِ يجْرِي مجْرى فحوى القَوْل فِي الدّلَالَة على غير مَا تنَاوله اللَّفْظ فَكَمَا دلّ قَوْله {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} على الْمَنْع من ضربهما إِن لم يتَنَاوَلهُ فَكَذَلِك يدل التَّقْيِيد بِالصّفةِ على نفي الحكم مَعَ عدمهَا وَالْجَوَاب أَن هَذَا قِيَاس بِغَيْر عِلّة وأصحابنا يَقُولُونَ إِن قَول الله سُبْحَانَهُ {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} مَوْضُوع للْمَنْع من ضربهما وَلَا يسلمُونَ أَن الْخطاب الْمُقَيد بِالصّفةِ مَوْضُوع لنفي الحكم عَمَّا عَداهَا وَمن قَالَ إِن قَوْله

وَلَا تقل لَهما اف يمْنَع من ضربهما من جِهَة قِيَاس الأولى يَقُول إِنَّه إِذا منع من الْيَسِير فَالْأولى أَن يمْنَع من الْكثير وَهَذَا غير قَائِم فِي دَلِيل الْخطاب لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ اسْتِدْلَال باليسير على الْكثير وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْأمة قد فهمت الْأَحْكَام من دَلِيل الْخطاب لِأَنَّهَا عقلت من قَول الله سُبْحَانَهُ {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} إِيجَاب إكرامهما وَقَالَت الصَّحَابَة إِن قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَاء من المَاء مَنْسُوخ بقوله إِذا التقى الختانان وَجب الْغسْل فَلَو لم يدل عِنْدهَا قَوْله المَاء من المَاء على نفي الْغسْل مِمَّا سوى المَاء لم يَجْعَل ذَلِك نَاسِخا لهَذَا لِأَنَّهُ لَا تنَافِي بَينهمَا وَكَذَلِكَ اسْتِدْلَال أبي بكر رَضِي الله عَنهُ عَن اخْتِصَاص قُرَيْش بِالْإِمَامَةِ لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَئِمَّة من قُرَيْش واستدلال ابْن عَبَّاس على أَنه لَا رَبًّا فِي النَّقْد لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة وَالْجَوَاب إِن وجوب إكرام الْأَبَوَيْنِ إِنَّمَا فهم من قَول الله سُبْحَانَهُ {وَقل لَهما قولا كَرِيمًا} وَلَو فهم من قَوْله {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} لم يكن ذَلِك من قبيل دَلِيل الْخطاب لكنه من قبيل دلَالَة النَّهْي عَن الشَّيْء على وجوب ضِدّه وَأما قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَاء من المَاء فانه يَقْتَضِي ثُبُوت حسن الْغسْل وَجمعه فِي الْإِنْزَال لِأَن لَام الْجِنْس تستغرق فَلَا يبْقى غسل لغير الْإِنْزَال فاذا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا التقى الختانان وَجب الْغسْل كَانَ قد أثبت الْغسْل فِيمَا نَفَاهُ الْخطاب الأول وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله الْأَئِمَّة من قُرَيْش يَقْتَضِي جعل جملَة الْأَئِمَّة وجميعهم من قُرَيْش فَلَا يبْقى إِمَام من غَيرهم فَلهَذَا اسْتدلَّ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ على نفي الْإِمَامَة عَن الْأَنْصَار وَكَذَلِكَ اسْتدلَّ ابْن عَبَّاس بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة على أَنه قد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا مَاء إِلَّا من المَاء وَهَذَا يُنَافِيهِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا التقى الختانان وَجب الْغسْل فَلذَلِك كَانَ نَاسِخا

لَهُ وَرُوِيَ أَيْضا لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة فَلَعَلَّهُ إِنَّمَا نفي الرِّبَا فِي النَّقْد لهَذَا الْخَبَر وَمِنْهَا قَوْلهم إِن أَبَا عبيد الْقَاسِم بن سَلام قَالَ إِن قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لي الْوَاجِد يحل عرضه وعقوبته يدل على أَن لي غير الْوَاجِد لَا يحل عرضه وَلَا عُقُوبَته وَهَذَا دَلِيل الْخطاب وَالْجَوَاب أَن قَوْله وَحده لَيْسَ بِحجَّة وَلَعَلَّه إِنَّمَا أَرَادَ أَنا نعلم أَن غير الْوَاجِد لَا يحل عرضه وَهَذَا صَحِيح لِأَن غير الْوَاجِد مَعْذُور وَلَا يحل عُقُوبَة من لَا يجد وَلِأَن الأَصْل حظر الْعرض والعقوبة فَلَا تحل إِلَّا لدلَالَة قَالُوا وَقد رُوِيَ عَن أبي عبيد أَنه قَالَ إِن قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن يمتليء جَوف أحدكُم قَيْحا خير لَهُ من أَن يمتلىء شعرًا يدل على أَنه إِذا لم يمتلىء بالشعر وَكَانَ فِيهِ الْقَلِيل كَانَ مُبَاحا قَالَ وَلَا ينْصَرف ذَلِك إِلَى هجاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن قَلِيل ذَلِك وَكَثِيره مَحْظُور وَالْجَوَاب أَن قَوْله وَحده لَيْسَ بِحجَّة كَمَا أَن قَول مُحَمَّد بن الْحسن وَالشَّافِعِيّ لَيْسَ بِحجَّة وَإِنَّمَا عَنى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بامتلاء الْقلب من الشّعْر أَن يُوجد فِيهِ وَحده كَمَا يمتلىء الْإِنَاء بِالْمَاءِ إِذا وجد المَاء وَحده فِي جَمِيعه فيشغله الشّعْر عَن قِرَاءَة الْقُرْآن وَالْعِبَادَة وَهَذَا تنَاول هجاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيره فَأَما إِذا لم يمتلىء من الشّعْر فَأمره مَوْقُوف يجوز أَن يكون فِيهِ وَجه آخر يَقْتَضِي حظره وَيجوز أَن يَقْتَضِي إِبَاحَته فهجاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نعلم حظر قَلِيله وَكَثِيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْأَمر الْوَارِد عقيب الامر بِحرف عطف وَبِغير حرف عطف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْقَائِل إِذا قَالَ لغيره افْعَل ثمَّ قَالَ لَهُ افْعَل لم يخل الْأَمر الثَّانِي إِمَّا أَن يتَنَاوَل مثل مَا تنَاوله الْأَمر الأول أَو يتَنَاوَل مَا يُخَالف مَا تنَاوله الْأَمر الأول فان تنَاول مَا يُخَالِفهُ لم يكن شُبْهَة فِي اقتضائه مَأْمُورا بِهِ آخر وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا يَصح اجتماعه مَعَه يجب على الْمَأْمُور فعلهمَا إِمَّا مُجْتَمعين وَإِمَّا

مُتَفَرّقين إِلَّا أَن يدل دلَالَة على وجوب الْجمع أَو وجوب التَّفْرِيق مِثَال ذَلِك قَول الْقَائِل لغيره صل صم أَو صل وصم وَأما مَا لايصح أَن يجْتَمع مَعَ الأول فضربان أَحدهمَا لَا يَصح أَن يجْتَمع مَعَه فِي نَفسه نَحْو الصَّلَاة فِي مكانين وَالْآخر لَا يَصح ذَلِك فيهمَا من جِهَة الشَّرِيعَة نَحْو الصَّلَاة وَالصَّدَََقَة وكلا الضربين لَا يَصح الْأَمر بفعلهما مُجْتَمعين وَيصِح مفترقين فَأَما إِن تنَاول الْأَمر الثَّانِي مثل مَا تنَاول الأول فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون ذَلِك الْمَأْمُور يَصح التزايد فِيهِ أَو لَا يَصح التزايد فِيهِ فان صَحَّ التزايد فِيهِ فَلَا يَخْلُو الْأَمر الثَّانِي إِمَّا أَن يكون غير مَعْطُوف على الأول أَو مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فان لم يكن مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فَعِنْدَ قَاضِي الْقُضَاة أَنه يُفِيد غير مَا يفِيدهُ الأول إِلَّا أَن تمنع الْعَادة من ذَلِك أَو يرد الْأَمر الثَّانِي مُعَرفا مِثَال مَا تمنع مِنْهُ الْعَادة قَول الْقَائِل لغيره اسْقِنِي مَاء اسْقِنِي مَاء فالعادة تمنع من تكْرَار سقيه فِي حَالَة وَاحِدَة فِي الْأَكْثَر وَمِثَال مَا يمْنَع مِنْهُ التَّعْرِيف الْحَاصِل بِالْأَمر الثَّانِي قَول الْقَائِل لغيره صل رَكْعَتَيْنِ فَإِنَّهُ إِذا قَالَ لَهُ صل الرَّكْعَتَيْنِ انْصَرف إِلَى تِلْكَ الرَّكْعَتَيْنِ لِأَن لَام الْجِنْس تَنْصَرِف إِلَى الْعَهْد الْمَذْكُور وَلِهَذَا حمل ابْن عَبَّاس قَول الله سُبْحَانَهُ {فَإِن مَعَ الْعسر يسرا إِن مَعَ الْعسر يسرا} على أَن الْعسر الثَّانِي هُوَ الأول لما ورد مُعَرفا وَمِثَال مَا يجْرِي من كلا الْقسمَيْنِ قَول الْقَائِل لغيره صل غَدا رَكْعَتَيْنِ صل غَدا رَكْعَتَيْنِ ادْفَعْ إِلَى زيد درهما ادْفَعْ إِلَى زيد درهما فاستدل قَاضِي الْقُضَاة على أَن الْأَمر الثَّانِي يُفِيد غير مَا يفِيدهُ الأول بِأَن الْأَمر يُفِيد الْوُجُوب أَو النّدب فَيجب أَن يفِيدهُ وَإِن تقدمه أَمر آخر لِأَنَّهُ لَيْسَ يتَغَيَّر صِيغَة بتقدم أَمر آخر وَلقَائِل أَن يَقُول يُفِيد وجوب الْفِعْل أَو كَونه ندبا وخلافنا فِي هَل يُفِيد وجوب فعل آخر أم لَا وَلَيْسَ فِي ظَاهره أَنه يُفِيد غير مَا افاده الأول فان قيل الْأَمر الثَّانِي لَو انْفَرد لوَجَبَ الْفِعْل لأَجله فَيجب ذَلِك وَإِن تقدمه أَمر

آخر وَإِذا وَجب الْفِعْل لأَجله لم يكن ذَلِك الْفِعْل هُوَ الَّذِي تنَاوله الْأَمر الأول لِأَنَّهُ لَو تنَاوله الأول لوَجَبَ لأجل الأول وَلقَائِل أَن يَقُول إِذا أردتم بقولكم يجب الْفِعْل لأَجله أَنه دَلِيل على وجوب الْفِعْل فَكَذَلِك نقُول وَذَلِكَ لَا يمْنَع من أَن يجب لأجل دَلِيل آخر وَإِن أردتم أَنه لَو انْفَرد الْأَمر لوَجَبَ الْفِعْل لأَجله لَا لأجل الْأَمر الأول فَصَحِيح غير أَن يكون الْفِعْل وَاجِبا لَا لأجل أَمر آخر لَيْسَ هُوَ من فَائِدَة الْأَمر حَتَّى يلْزم أَن يَقْتَضِيهِ وَإِن تقدمه أَمر آخر لَكِن إِنَّمَا يلْزم ذَلِك لفقد أَمر سواهُ وَهَذَا قَائِم فِي مَسْأَلَتنَا وَاسْتدلَّ أَيْضا بِأَن الْمَعْقُول من الْأَمر الثَّانِي فِي الشَّاهِد مَأْمُور ثَان وَهَذِه دَعْوَى لَا يُسَلِّمهَا الْخصم وَاسْتدلَّ أَيْضا بِأَن الظَّاهِر من تغاير الْأَلْفَاظ تغاير الْمَعْنى وللخصم أَن يمْنَع من ذَلِك فان قَالُوا إِنَّمَا كَانَ هَذَا هُوَ الظَّاهِر ليَكُون للْكَلَام الثَّانِي فَائِدَة قيل فَذَلِك رُجُوع إِلَى دَلِيل آخر سَنذكرُهُ وَيُمكن أَن يسْتَدلّ فِي الْمَسْأَلَة فَيُقَال إِن الْغَرَض بِالْأَمر هُوَ استدعاء الْفِعْل لِأَنَّهُ هُوَ المطابق لصيغته فَلَا يَخْلُو الْأَمر الثَّانِي إِمَّا أَن يكون فعل لاستدعاء الْفِعْل الأول أَو لغيره فان فعل للاستدعاء الأول فقد فعل الْغَرَض مَا قد حصل بِالْأولِ وَذَلِكَ عَبث فَوَجَبَ حمله على فعل آخر فان قيل مَا أنكرتم أَن يكون الْغَرَض تَأْكِيد الْحَث على الْفِعْل واستدعائه قيل لَيْسَ فِي ظَاهره التَّأْكِيد وَإِنَّمَا فِي ظَاهره الْفِعْل فَحَمله على التَّأْكِيد حمل على غير ظَاهره فان قَالُوا وَلَيْسَ فِي ظَاهره فعل ثَان كَمَا لَيْسَ فِي ظَاهره التَّأْكِيد قيل نَحن إِذا حملناه على فعل ثَان فقد حملناه على الْفِعْل وَذَلِكَ فِي ظَاهره وَلقَائِل أَن يَقُول وَنحن إِذا حملناه على التَّأْكِيد فانا نحمله على فعل ايضا وَبِالْجُمْلَةِ كل منا يحملهُ على فعل فَأنْتم تُرِيدُونَ فِيهِ أَن يكون الْفِعْل ثَانِيًا وَنحن نُرِيد فِيهِ التَّأْكِيد وَلَيْسَ وَاحِد مِنْهُمَا فِي ظَاهر الْأَمر وَالْأَشْبَه أَن يُقَال فِي ذَلِك بِالْوَقْفِ وَأما إِن كَانَ الْأَمر الثَّانِي مَعْطُوفًا على الأول فَأَنَّهُ إِن لم يكن مُعَرفا فانه

يُفِيد غير مَا يفِيدهُ الأول لِأَن الشَّيْء لَا يعْطف على نَفسه وَلَا يجمع بَينه وَبَين نَفسه مِثَاله أَن يَقُول الْقَائِل لغيره صل رَكْعَتَيْنِ صل رَكْعَتَيْنِ وَقَوله اسْقِنِي مَاء واسقني مَاء لِأَن الْإِنْسَان قد يَقُول ذَلِك إِذا كَانَ الْإِنَاء الَّذِي يشرب فِيهِ لَا يَكْفِيهِ دفْعَة وَاحِدَة وَيُخَالف ذَلِك إِذا لم يعْطف الْأَمر الثَّانِي على الأول لما ذَكرْنَاهُ من حرف الْعَطف فَأَما إِن كَانَ الْأَمر الثَّانِي مَعْطُوفًا على الأول ومعرفا نَحْو قَول الْقَائِل لغيره صل رَكْعَتَيْنِ وصل الصَّلَاة فلقائل أَن يَقُول يجب حمله على تِلْكَ الصَّلَاة لأجل لَام التَّعْرِيف وَلقَائِل أَن يَقُول يجب حمله على صَلَاة أُخْرَى لأجل الْعَطف لأَنا إِن حملناه على التَّأْكِيد أخرجناه من كَونه عطفا أصلا وَإِذا نَفينَا حكم الْعَطف فانا لَا نخرج اللَّام من أَن يكون للتعريف وَإِن جعلناها لتعريف الْجِنْس وَالْأَشْبَه أَن يكون ذَلِك على الْوَقْف لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَن يتْرك ظَاهر الْعَطف وَيسْتَعْمل اللَّام على حَقِيقَتهَا فِي تَعْرِيف الْعَهْد بِأولى من أَن يتَمَسَّك بِظَاهِر الْعَطف وَيتْرك ظَاهر اللَّام فَأَما إِذا كَانَ الْأَمر الثَّانِي أمرا بِمثل مَا تنَاوله الْأَمر الأول وَكَانَ ذَلِك مِمَّا لَا يَصح فِيهِ التزايد فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن لَا يَصح ذَلِك فِيهِ فِي نَفسه نَحْو قتل زيد أَو صَوْم يَوْم وَإِمَّا أَن لَا يَصح فِيهِ من جِهَة الحكم نَحْو عتق زيد فانه قد كَانَ يجوز أَن يتزايد عتقه وَيقف تَمام حُرِّيَّته على عدد كَالطَّلَاقِ وَإِذا لم يَصح التزايد فِي الْمَأْمُور بِهِ لم يخل الْأَمر إِمَّا أَن يَكُونَا عَاميْنِ أَو خاصين أَو أَحدهمَا عَاما وَالْآخر خَاصّا فان كَانَا عَاميْنِ أَو خاصين وَجب كَون مأمورهما وَاحِدًا وَيكون الْأَمر الثَّانِي تَأْكِيدًا للْأولِ سَوَاء ورد بِحرف عطف أَو بِغَيْر حرف عطف مِثَال العامين بِحرف عطف قَول الْقَائِل لغيره اقْتُل كل إِنْسَان واقتل كل إِنْسَان ومثاله بِلَا حرف عطف أَن يسْقط من الْأَمر الثَّانِي حرف الْعَطف وَمِثَال الخاصين بِحرف عطف وَبِغير حرف عطف قَوْله اقْتُل زيدا اقْتُل زيدا أَو واقتل زيدا وَأما إِذا كَانَ أَحدهمَا عَاما وَالْآخر خَاصّا سَوَاء تقدم الْعَام أَو الْخَاص فَلَا يَخْلُو الْأَمر الثَّانِي إِمَّا أَن يكون مَعْطُوفًا على الأول أَو غير مَعْطُوف عَلَيْهِ فان كَانَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فمثاله قَول الْقَائِل صم كل يَوْم وصم يَوْم

الْجُمُعَة قَالَ قَاضِي الْقُضَاة إِن يَوْم الْجُمُعَة لَا يكون دَاخِلا تَحت الْكَلَام الأول ليَصِح حكم الْعَطف وَالْأَشْبَه أَن يكون الْوَقْف لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَن يتْرك ظَاهر الْعُمُوم بِأولى من أَن يتْرك ظَاهر الْعَطف وَيحمل على التاكيد فَأَما إِذا كَانَ الْأَمر الثَّانِي غير مَعْطُوف فمثاله قَول الْقَائِل لغيره صم كل يَوْم صم يَوْم الْجُمُعَة فانا إِذا قُلْنَا فِي الْأَمريْنِ بشيئين يَصح فيهمَا التزايد أَنَّهُمَا على الْوَقْف فِي اقْتِضَاء الثَّانِي للزِّيَادَة فانا لَا نقف هَا هُنَا لِأَن عُمُوم أحد الْأَمريْنِ دلَالَة على أَن الآخر ورد تَأْكِيدًا لِأَنَّهُ لم يبْق من ذَلِك الْجِنْس شَيْء لم يدْخل تَحت الْعَام وَمن لم يقف فِيمَا يَصح الزَّائِد فِيهِ فانه يُمكنهُ أَن يقف هَا هُنَا لِأَن ظَاهر الْأَمر الثَّانِي يُفِيد غير مَا يفِيدهُ الأول على قَوْله وَظَاهر الْعُمُوم فِي الْأَمر الأول يُفِيد الِاسْتِغْرَاق فَلَيْسَ اسْتِعْمَال اُحْدُ الظاهرين أولى من اسْتِعْمَال الآخر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي فِي شُرُوط حسن الامر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْأَمر لما كَانَ صادرا من آمُر إِلَى مَأْمُور بمأمور بِهِ فِي زمَان لم يمْنَع أَن يرجع شُرُوط حسنه إِلَيْهِ وَإِلَى الْآمِر والمأمور والمأمور بِهِ وَالزَّمَان فالشروط الراجعة إِلَى الْمَأْمُور بِهِ ضَرْبَان أَحدهمَا أَن يكون صَحِيحا غير مُسْتَحِيل فِي نَفسه كالجمع بَين الضدين وكنحو فعل الشَّيْء فِي زمَان مُتَقَدم أَو فعله فِي حَال هُوَ فِيهَا مَعْدُوم أَو إِيجَاد الْمَوْجُود أَو فعل الْأَفْعَال الْكَثِيرَة فِي زمَان لَا يَتَّسِع لَهَا وَهَذِه الْأَقْسَام أَيْضا الدَّاخِلَة فِي الشَّرَائِط الراجعة إِلَى الزَّمَان وَأما الضَّرْب الآخر فان يكون للْفِعْل صفة زَائِدَة على حسنه إِمَّا أَن يكون على صفة النّدب أَو الْوُجُوب اَوْ يتَعَلَّق بِهِ نفع وَدفع الضَّرَر فِي الدُّنْيَا

وَأما الشُّرُوط الراجعة إِلَى الْمَأْمُور فضربان أَحدهمَا يرجع إِلَى تمكنه وَالْآخر يرجع إِلَى دواعيه أما الرَّاجِع إِلَى تمكنه فَأن يكون مُتَمَكنًا من الْفِعْل بِحُصُول جَمِيع مَا يحْتَاج الْفِعْل إِلَيْهِ فِي الْوَقْت الَّذِي يحْتَاج الْفِعْل أَن يُوجد فِيهِ كَانَ الشَّيْء يجتاج الْفِعْل إِلَيْهِ فِي وَقت وجوده وَجب وجوده فِي ذَلِك الْوَقْت وَإِن احْتَاجَ إِلَيْهِ قبل وجوده أَو فِي حَال وجوده وَقبل وجوده مَعًا وَجب وجوده كَذَلِك وَهَذِه الْأَشْيَاء ضَرْبَان أَحدهمَا يحْتَاج إِلَيْهَا جَمِيع الْأَفْعَال كالقدر وفقد الْمَنْع وَالْآخر يحْتَاج إِلَيْهِ فعل دون فعل فالفعل الْمُحكم يحْتَاج إِلَى الْعلم فقد يحْتَاج وُقُوعه منا إِلَى إِلَه وَالْفِعْل الْوَاقِع على وَجه دون وَجه يجتاج عِنْد أَصْحَابنَا إِلَى إِرَادَة والمسبب يحْتَاج إِلَى السَّبَب وَالْعلم يحْتَاج فِي إِيقَاعه إِلَى دلَالَة وَيحْتَاج الظَّن إِلَى أَمارَة وَيجب أَن يتَقَدَّم الدّلَالَة قدرا من التَّمَكُّن يُمكن مَعَه أَن ينظر فِيهَا الانسان فَيعلم وجوب الْفِعْل أَو كَونه ندبا اَوْ معربا لما وَجب بِالْفِعْلِ ثمَّ يفعل الْفِعْل فِي الْوَقْت الَّذِي وَجب إِيقَاعه فِيهِ وَلَا فرق بَين أَن تكون الدّلَالَة على ذَلِك أمرا أَو غَيره وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الأمارة فَأَما الْكَلَام فِي تقدم الْعلم وَالْقُدْرَة والإرادة وأقسام الْآلَات الْمُتَقَدّمَة والمقارنة فَلَيْسَ مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي أصُول الْفِقْه وَهَذِه الْأَشْيَاء ضَرْبَان أَحدهمَا لَا يُمكن الْإِنْسَان تَحْصِيله لنَفسِهِ كالقدرة وَكثير من الْآلَات فَلَا يجوز أَن يُفَوض إِلَى الْإِنْسَان تَحْصِيله وَالْآخر يُمكن الْإِنْسَان تَحْصِيله كَالْعلمِ وَكثير من الْآلَات فَيجوز تَكْلِيف تَحْصِيله إِذا كَانَ فِي ذَلِك مصلحَة وَأما الرَّاجِع إِلَى دواعيه فَأن يكون مُتَرَدّد الدَّاعِي بالألطاف وَغَيرهَا غير ملْجأ وَلَا مُسْتَغْنى وَأما الشَّرَائِط الراجعة إِلَى الْأَمر فأشياء أَحدهَا أَن لَا يكون ابْتِدَاء وجوده مُقَارنًا لحَال الْفِعْل وَذَلِكَ قد دخل فِيمَا تقدم من الْفِعْل الَّذِي لَا يُمكن فِي نَفسه

وأحدها أَن يكون مُتَقَدما قدرا من التَّقَدُّم وَيحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْفِعْل وَذَلِكَ دَاخل فِي تَمْكِين الْمُكَلف وأحدها أَن لَا يكون واردا على وَجه يكون مفْسدَة وَأما الشَّرَائِط الراجعة إِلَى الْآمِر فتختلف بِحَسب الآمرين فان كَانَ الْآمِر هُوَ الله عز وَجل وَجب أَن يعلم من حَال الْمُكَلف والمأمور بِهِ وَالْأَمر مَا ذَكرْنَاهُ وَأَن يكون غَرَضه تَعْرِيض الْمُكَلف للثَّواب وَأَن يكون عَالما بِأَنَّهُ سيشيبه إِن أطَاع وَلم تحبط طَاعَته وَإِن كَانَ الْآمِر لَا يعلم الْغَيْب وَجب أَن يعلم حسن مَا أَمر بِهِ وَثُبُوت غَرَض فِيهِ إِمَّا لَهُ أَو لغيره وَأَن يظنّ أَن الْمُكَلف سيتمكن من فعل التَّمَكُّن الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَالدّلَالَة على اشْتِرَاط مَا ذَكرْنَاهُ هُوَ أَن الله سُبْحَانَهُ مَعَ حكمته لَا يجوز أَن يلْزمنَا المشاق مَعَ إِمْكَان إِلْزَامه إيانا غير شاق إِلَّا ليجعل فِي مُقَابلَته الثَّوَاب وَإِلَّا جرى إِلْزَامه الشاق مجْرى ابْتِدَاء المضار من غير نفع وَلَا يكون غَرَضه مَا ذَكرْنَاهُ إِلَّا وَهُوَ سيثيب الْمُطِيع فاذا كَانَ عَالما بِمَا يكون فَهُوَ عَالم أَنه يفعل ذَلِك وَلَا يكون غَرَضه مَا ذَكرْنَاهُ إِلَّا وَقد أزاح علل الْمُكَلف بالتمكن وَتردد الدَّوَاعِي الَّتِي يَزُول مَعهَا الإلجاء وَيدخل فِي ذَلِك الألطاف وَرفع الْمَفَاسِد فَلذَلِك لم يرد الْأَمر مِنْهُ تَعَالَى على وَجه الْمفْسدَة وَلِأَنَّهُ إِن لم يكن الْمُكَلف مُتَمَكنًا من الْأُمُور الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي الْوَقْت الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ الْفِعْل كَانَ قد كلفه مَا لَا يطيقه وَقد دخل فِي ذَلِك مَا يجب أَن يتَقَدَّم من التَّمْكِين والأدلة والأمارات وَقد دخل تَحت تمكن الْمُكَلف من الْفِعْل أَن يكون الْفِعْل غير مُسْتَحِيل فِي نَفسه لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يتَمَكَّن الْقَادِر من فعل مَا يَسْتَحِيل فِي نَفسه فقد دخلت الشَّرَائِط الْمَذْكُورَة تَحت مَا ذَكرْنَاهُ وَقد ذهب قوم إِلَى أَن الْأَمر بِالْفِعْلِ مُقَارن لحَال الْفِعْل وَأَن مَا تقدمه يكون إعلاما وَعِنْدنَا أَن الْأَمر لَا يجوز أَن يبتدىء بِهِ فِي حَال الْفِعْل بل لَا بُد من تقدمه قدرا من الزَّمن يُمكن من الِاسْتِدْلَال بِهِ على وجوب الْمَأْمُور بِهِ أَو كَونه مرعيا فِيهِ وَيفْعل الْفِعْل فِي حَال وُجُوبه فِيهِ وَلَا يجوز تقدمه على ذَلِك إِلَّا

لغَرَض وَيجوز أَن يتَقَدَّم على ذَلِك الْغَرَض مصلحَة وَلَا فرق بَين أَن يكون الْمَأْمُور مُتَمَكنًا من الْفِعْل من حِين الْأَمر إِلَى وَقت الْفِعْل أَو غير مُتَمَكن من حِين الْأَمر وَالدَّلِيل على وجوب تقدمه الْقدر الَّذِي ذَكرْنَاهُ أَنه لَو لم يتقدمه هَذَا الْقدر لم يتَمَكَّن الْمُكَلف أَن يعلم وجوب الْفِعْل قبل وقته فيدعوه إِلَى فعله على نِيَّة الْوُجُوب فِي الْوَقْت الَّذِي وَجب عَلَيْهِ إِيقَاعه فِيهِ وَذَلِكَ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَقَوْلهمْ إِن مَا تقدم الْفِعْل يكون إعلاما إِن أَرَادوا أَنه إِعْلَام بِحَال الْفِعْل فَكَذَلِك نقُول وَذَلِكَ لَا يمْنَع من كَونه أمرا أَلا ترى أَن أَمر الْقُرْآن مُتَقَدم لأفعالنا وَهُوَ أَمر لنا بِاتِّفَاق وَالْوَاحد منا يَأْمر غَيره قبل حَال الْفِعْل فيسمى ذَلِك أمرا وَإِن أَرَادوا أَنه إِعْلَام بورود أَمر آخر فِي حَال الْفِعْل فَلَيْسَ فِي ظَاهر الْأَمر ذَلِك على أَن وُرُود الْأَمر فِي حَال الْفِعْل عَبث لِأَنَّهُ لَا يتَمَكَّن أَن يسْتَدلّ بِهِ على وجوب الْفِعْل وَلَا على أَنه مرغب فِيهِ وَيُشبه أَن يَكُونُوا أَرَادوا أَن الْأَمر إِذا تقدم حَال الْفِعْل لم يسم أمرا فاذا حضر زمَان الْفِعْل فَحِينَئِذٍ يُسمى مَا تقدم من الْأَمر أمرا وَهَذَا بَاطِل لإِجْمَاع الْمُسلمين على أَن الْوَاحِد منا مَأْمُور بِالصَّلَاةِ قبل وجود وَقتهَا وَالدّلَالَة على قبح تقدم الْأَمر على الْقدر الَّذِي ذَكرْنَاهُ لَا لغَرَض وَفَائِدَة أَن مَا لَا غَرَض فِيهِ عَبث والعبث قَبِيح لَا يَفْعَله الْحَكِيم وَالدّلَالَة على جَوَاز تقدمه على هَذَا الْقدر الْغَرَض أَنه بذلك يخرج عَن كَونه عَبَثا وَلِهَذَا حسن تَقْدِيم الله سُبْحَانَهُ أمره إيانا بِالصَّلَاةِ وَالدّلَالَة على حسن تقدمه وَإِن كَانَ الْمُكَلف عَاجِزا فِي الْحَال إِذا كَانَ يتَمَكَّن وَقت الْحَاجة أَن تمكن الْمُكَلف فِي ذَلِك الْوَقْت لَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْفِعْل وَكَانَ وجوده وَعَدَمه فِيمَا يرجع إِلَى الْفِعْل بِمَنْزِلَة فَحسن الْأَمر مَعَ فقد التَّمَكُّن كَمَا يسحن مَعَ وجوده إِذا كَانَ فِي ذَلِك مصلحَة من وَجه من الْوُجُوه

الكلام في النواهي

الْكَلَام فِي النواهي اعْلَم أَن النَّهْي لما كَانَ بعثا على الْإِخْلَال بِالْفِعْلِ كَمَا كَانَ الْأَمر بعثا على الْفِعْل كَانَ أَكثر الْكَلَام فِي الْأَمر يَلِيق بِالنَّهْي غير أَنا نفرد فِي النَّهْي أبوابا مِنْهَا مَاهِيَّة النَّهْي وَمَا يُشَارك الْأَمر فِيهِ النَّهْي وَمَا يُخَالِفهُ فِيهِ وَمِنْهَا النَّهْي عَن الْأَشْيَاء على وَجه التَّخْيِير وَمِنْهَا هَل النَّهْي يَقْتَضِي فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ أم لَا وَمَا يتبع ذَلِك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي مَاهِيَّة النَّهْي وَمَا يُشَارك الامر فِيهِ وَمَا يُخَالِفهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما النَّهْي فَهُوَ قَول الْقَائِل لغيره لَا تفعل على جِهَة الاستعلاء إِذا كَانَ كَارِهًا للْفِعْل وغرضه أَن لَا يفعل وَالدّلَالَة على ذَلِك مَا تقدم فِي الْأَمر وَأما مَا يُشَارك الْأَمر فِيهِ النَّهْي فأمور مِنْهَا أَنه يجوز اسْتِعْمَال كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي خلاف مَا تَقْتَضِيه صيغته فصيغة الْأَمر يجوز وجودهَا غير أَمر وَصِيغَة النَّهْي يجوز وجودهَا غير نهي وَمِنْهَا أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا إِنَّمَا يُوصف بِمَا يُوصف بِهِ بِحَال فَاعله وَمِنْهَا اعْتِبَار الاستعلاء فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا وَمِنْهَا أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا إِذا كَانَ مُقَيّدا بِشَرْط وَصفَة كَانَ مَقْصُورا عَلَيْهَا وَمِنْهَا اعْتِبَار كثير من الشَّرَائِط فِي جنسهما نَحْو أَن يكون غَرَض الْمُكَلف التَّعْرِيض للثَّواب وَيكون عَالما باثابة الْمُطِيع وَغير ذَلِك فَأَما مَا يفترقان فِيهِ فأمور مِنْهَا الصِّيغَة وَمِنْهَا مَا يكون بِهِ كل وَاحِد

مِنْهُمَا مَوْصُوفا بِمَا يُوصف بِهِ وَمِنْهَا أَن مُطلق الْأَمر لَا يَقْتَضِي التَّأْبِيد وَمُطلق النَّهْي يَقْتَضِي ذَلِك وَلِهَذَا صَحَّ النّظر فِي الْأَمر هَل يَقْتَضِي التَّعْجِيل وَلم يَصح ذَلِك فِي النَّهْي وَمِنْهَا أَن من شَرط حسن النَّهْي أَن يكون الْمنْهِي عَنهُ قبيحا وَمن شَرط حسن الْأَمر أَن لَا يكون الْمَأْمُور بِهِ قبيحا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي النَّهْي عَن اشياء على جِهَة التَّخْيِير - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن النَّهْي عَن الْأَشْيَاء إِمَّا أَن يكون نهيا عَنْهَا على الْجمع أَو عَن الْجمع بَينهَا أَو نهيا عَنْهَا على الْبَدَل أَو نهيا عَن الْبَدَل أما النَّهْي عَنْهَا على الْجمع فَهُوَ أَن يعمد الناهي إِلَى اشياء فينهي عَن جَمِيعهَا فَيَقُول الْإِنْسَان لَا تفعل هَذَا وَلَا هَذَا وَلَا هَذَا فَيكون مُوجبا للخلو مِنْهَا أجمع والأشياء الَّتِي نهي عَن جَمِيعهَا ضَرْبَان أَحدهمَا يُمكن الْإِنْسَان الْخُلُو مِنْهَا وَالْآخر لَا يُمكنهُ الْخُلُو مِنْهَا فَالَّذِي لَا يُمكنهُ الْخُلُو مِنْهَا لَا يحسن النَّهْي عَن جَمِيعهَا إِيجَاب للخلو مِنْهَا وَإِيجَاب مَا لَا يُمكن قَبِيح وَلَا فرق بَين أَن يكون النَّهْي إِيجَابا للخلو من الشَّيْء ونفيه أَو إِيجَابا للخلو من الشَّيْء وضده مِثَال الأول أَن يَقُول الْإِنْسَان لغيره لَا تكن قَائِما وَلَا غير قَائِم وَمِثَال الثَّانِي أَن يَقُول للقائم لَا تفعل قيَاما وَلَا قعُودا وَلَا حَالَة من حالات الْإِنْسَان وَمَا يُمكن الْخُلُو مِنْهُ ضَرْبَان أَحدهمَا يُمَيّز كَونه فَاعِلا وَالثَّانِي لَا يُمَيّز كَونه فَاعِلا فَالَّذِي لَا يميزه نَحْو المضطجع لَا يُمَيّز كَونه فَاعِلا للسكون من نَفسه وَيجوز أَن يَخْلُو من فعله وَمن فعل الْحَرَكَة وَلَا يجوز أَن يُنْهِي عَن الْخُلُو مِنْهُمَا مَعًا لفقد التَّمْيِيز هَذَا على قَول من جوز أَن يفعل هَذَا المضطجع فِي جِسْمه سكونا فَأَما إِذا ميز كَونه

فَاعِلا فانه يجوز أَن يُنْهِي عَنْهُمَا مَعًا نَحْو ضرب زيد وَعَمْرو وَأما مَا هُوَ ملْجأ إِلَى الْجمع بَينهمَا فانه لَا يجوز النَّهْي عَن جَمِيعه لِأَن فِي ذَلِك إِيجَاب الْخُلُو مِنْهُ مَعَ أَنه ملْجأ إِلَى خِلَافه وَأما النَّهْي عَن الْجمع بَين أَشْيَاء فَهُوَ أَن يُقَال للْإنْسَان لَا تجمع بَين كَذَا وَكَذَا وهما ضَرْبَان أَحدهمَا يُمكن الْجمع بَينهمَا وَالْآخر لَا يُمكن الْجمع بَينهمَا فَمَا لَا يُمكن الْجمع بَينهمَا فالنهي عَن الْجمع بَينهمَا قَبِيح لِأَنَّهُ عَبث يجْرِي مجْرى نهي الهاوي من شَاهِق عَن الِاسْتِقْرَار فِي الْهَوَاء وَذَلِكَ أَن يُنْهِي الْإِنْسَان عَن الْقيام والإخلال بِهِ أَو أَن يجمع بَين الْقيام وَالْقعُود وَإِن أمكن الْجمع بَينهمَا فإمَّا أَن يُمكن أَن لَا يجمع بَينهمَا نَحْو الْأكل وَالصَّلَاة وَإِمَّا أَن لَا يُمكن ذَلِك بِأَن يكون ملْجأ إِلَى الْجمع بَينهمَا فَالْأول يحسن النَّهْي عَن الْجمع بَينهمَا وَالثَّانِي لَا يحسن النَّهْي عَنْهُمَا لِأَنَّهُ كالنهي عَمَّا لَا يُطَاق فَأَما النَّهْي عَن الْأَشْيَاء على الْبَدَل فَهُوَ أَن يُقَال للْإنْسَان لَا تفعل هَذَا إِن فعلت ذَلِك أَو لَا تفعل ذَلِك إِن فعلت هَذَا وَذَلِكَ بِأَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا مفْسدَة عِنْد الآخر وَهَذَا يرجع إِلَى النَّهْي عَن الْجمع بَينهمَا وَأما النَّهْي عَن الْبَدَل فانه يفهم مِنْهُ شَيْئَانِ أَحدهمَا أَن يُنْهِي الْإِنْسَان عَن أَن لَا يفعل شَيْئا ويجعله بَدَلا من غَيره وَذَلِكَ يرجع إِلَى النَّهْي عَن أَن يقْصد بِهِ الْبَدَل وَذَلِكَ غير مُمْتَنع وَالْآخر أَن يُنْهِي عَن أَن يفعل أَحدهمَا دون الآخر لَكِن يجمع بَينهمَا وَهَذَا قَبِيح إِن تعذر الْجمع وَيجوز أَن يحسن مَعَ إِمْكَانه وَإِمْكَان الْإِخْلَال بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي النَّهْي هَل يَقْتَضِي فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَذهب بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة وَبَعض أَصْحَاب

الشَّافِعِي إِلَى أَنه يَقْتَضِي فَسَاده وَقَالَ غَيرهم من الْفُقَهَاء لَا يَقْتَضِيهِ وَهُوَ مَذْهَب الشَّيْخ ابي الْحسن وابي عبد الله وقاضي الْقُضَاة وَذكر أَن ظَاهر مَذْهَب شُيُوخنَا الْمُتَكَلِّمين وَأَنا أذهب إِلَى أَنه يَقْتَضِي فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ فِي الْعِبَادَات دون الْعُقُود والإيقاعات وَيَنْبَغِي أَن نذْكر معنى وَصفنَا للشَّيْء بِأَنَّهُ صَحِيح وَجَائِز وفاسد وباطل وَغير جَائِز فَنَقُول إِن معنى قَوْلنَا إِن الْفِعْل صَحِيح هُوَ أَنه قد حصل بِهِ الْغَرَض الْمَقْصُود بِهِ وَإِنَّمَا يكون كَذَلِك إِذا استوفيت شَرَائِطه الَّتِي مَعهَا يحصل الْغَرَض الْمَقْصُود بِالْفِعْلِ وَقَوْلنَا فَاسد وباطل يُفِيد نفي ذَلِك وَهُوَ أَنه لم يسْتَوْف شَرَائِطه الَّتِي عَلَيْهَا يقف حُصُول الْغَرَض بِالْفِعْلِ وَقَوْلنَا إِن الْفِعْل مجزىء مَعْنَاهُ أَنه يَكْفِي فِي تَحْصِيل الْغَرَض بِالْفِعْلِ وَلَا يكون كَذَلِك إِلَّا وَقد استوفيت الشَّرَائِط الَّتِي يقف عَلَيْهَا حُصُول هَذَا الْغَرَض وَقَوْلنَا جَائِز فِي هَذَا الْموضع يُفِيد ذَلِك أَيْضا وَقَوله إِنَّه غير جَائِز وَلَا مجزىء يُفِيد نفي ذَلِك والأغراض الْحَاصِلَة بِالْفِعْلِ تخْتَلف بِحَسب اخْتِلَاف الْأَفْعَال فالعبادات الْغَرَض بِفِعْلِهَا إِسْقَاط التَّكْلِيف وَتَحْصِيل الثَّوَاب وَإِذا قُلْنَا فِي الْعِبَادَات إِن الْفِعْل غير مجزىء فَمَعْنَاه أَنه لم يسْقط التَّكْلِيف الْمُتَعَلّق بِهِ لِأَنَّهُ لم يسْتَوْف شَرَائِطه الَّتِي مَعهَا يسْقط التَّكْلِيف فان كَانَت الْعِبَادَة غير مؤقته لزم فعلهَا على الصِّحَّة وَإِن كَانَت موقتة وَالْوَقْت بَاقِيا لزم فعلهَا فِيهِ وَإِن خرج الْوَقْت جَازَ أَن تدل دلَالَة على لُزُوم قَضَائهَا وَأما البيع فالغرض بِهِ تَحْصِيل الْملك وَكَمَال التَّصَرُّف وَالْغَرَض بِالشَّهَادَةِ وجوب الْقَضَاء على الْحَاكِم وَالْغَرَض بِالطَّلَاق إِيقَاع الْفرْقَة وتشعيث الوصلة وَالْغَرَض بِالْعِتْقِ إِيقَاع الْحُرِّيَّة فجواز هَذِه الْأَفْعَال وصحتها يُفِيد حُصُول هَذِه الْأَحْكَام وفسادها يُفِيد نفي هَذِه الْأَحْكَام وَذهب قَاضِي الْقُضَاة إِلَى أَن معنى قَوْلنَا إِن الصَّلَاة فَاسِدَة أَنه يلْزم قَضَاؤُهَا وَمعنى أَنَّهَا صَحِيحَة أَنه لَا يلْزم قَضَاؤُهَا وَلقَائِل أَن يَقُول وَإِن أَرَادَ لُزُوم الْقَضَاء فِي وَقتهَا فَذَلِك تَابع لكَون الصَّلَاة فَاسِدَة وَأَنه مَا سقط عَن

الْمُكَلف التَّعَبُّد بهَا وَنفي سُقُوط التَّعَبُّد بهَا تَابع لكَون الشَّرَائِط غير مستوفاه أَلا ترى أَنا نقُول إِنَّمَا يجب على الْمُصَلِّي إِعَادَة الصَّلَاة فِي وَقتهَا لِأَن مَا فعله فَاسد لم يسْتَوْف شَرَائِطه فَكَانَ تَفْسِير الْفساد بِمَا ذَكرْنَاهُ أولى وَإِن أَرَادَ لُزُوم الْقَضَاء ونفيه بعد خُرُوج الْوَقْت لزم إِذا أَمر الله سُبْحَانَهُ بِصَلَاة بِطَهَارَة فصليناها بِغَيْر طَهَارَة وَخرج الْوَقْت وَلم تدل دلَالَة على وجوب قَضَائهَا فَلم يلْزمنَا الْقَضَاء إِذْ الْقَضَاء فرض ثَان أَن تكون الصَّلَاة صَحِيحَة لِأَنَّهُ لم يلْزم قَضَاؤُهَا فَلَمَّا ثَبت الْفساد مَعَ نفي الْقَضَاء علمنَا أَن أَحدهمَا لَيْسَ هُوَ الآخر فاذا ثَبت مَا ذَكرْنَاهُ فَمَتَى اردنا أَن ندل على أَن النَّهْي يدل على فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ إِذا كَانَ من الْعِبَادَات فانما نُرِيد أَن ندل على النَّهْي إِذا تجرد فالتكليف لَا يسْقط بِفعل الْمنْهِي عَنهُ وَالدّلَالَة على ذَلِك هِيَ أَن الْمنْهِي عَنهُ لم يتَنَاوَلهُ التَّعَبُّد وَمَا لم يتَنَاوَلهُ التَّعَبُّد لَا يسْقط التَّعَبُّد أما أَن الْمنْهِي عَنهُ لَا يتَنَاوَلهُ التَّعَبُّد فَلِأَن التَّعَبُّد يتَنَاوَل مَا لَهُ صفة زَائِدَة على حسنه وَالنَّهْي يتَنَاوَل مَا لَيْسَ بِحسن يبين ذَلِك أَن الله سُبْحَانَهُ إِذا قَالَ لنا صلوا الظّهْر ثمَّ قَالَ لَا تصلوها بِغَيْر طَهَارَة فان هَذَا النَّهْي يدل على أَن الصَّلَاة بِغَيْر طَهَارَة قبيحة غير حَسَنَة وَغير مُرَادة وَالْأَمر يدل على أَن الصَّلَاة الْمَأْمُور بهَا حَسَنَة مُرَادة فأحدهما غير الآخر فصح أَن الْمنْهِي عَنهُ لم يتَنَاوَلهُ التَّعَبُّد وَأما أَن مَا لم يتَنَاوَلهُ التَّعَبُّد فالتكليف لم يسْقط بِهِ إِذا تجرد النَّهْي عَن دلَالَة فَلِأَن فَاعله لم يفعل مَا تعبد بِهِ فَجرى مجْرى أَن يَقُول الله سُبْحَانَهُ لنا صلوا بِطَهَارَة فِي أَنا إِذا صلينَا بِغَيْر طَهَارَة لم يسْقط التَّعَبُّد عَنَّا ويلزمنا أَن نصلي مَا بَقِي الْوَقْت وَجرى مجْرى أَن يَأْمر الله سُبْحَانَهُ بِالصَّلَاةِ فنتصدق فِي أَن التَّعَبُّد يكون بَاقِيا لما كُنَّا فاعلين لما لم يتَنَاوَلهُ التَّعَبُّد فان قيل أَلَيْسَ يجوز أَن يكون الْفِعْل الْمنْهِي عَنهُ مَعَ قبحه يقوم مقَام الْوَاجِب فِي وَجه الْمصلحَة وَإِنَّمَا لم يتَنَاوَلهُ الْإِيجَاب لاختصاصه بِوَجْه من وُجُوه الْقبْح وَيجوز أَن يخرج الْوَاجِب من كَونه مصلحَة عِنْد فعل الْمنْهِي عَنهُ نَحْو أَن

تكون الصَّلَاة مصلحَة فِي رد وَدِيعَة فاذا فعلهَا فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة خرجت الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَمْلُوكَة من أَن تكون لطفا فِي رد الْوَدِيعَة وَلِهَذَا جَازَ أَن يَقُول الله سُبْحَانَهُ لَا تصلوا فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة فان صليتم فِيهَا فالفرض قد سقط عَنْكُم قيل الَّذِي ذكرته إِن جَازَ فانا لَا نتنبه إِلَّا بِدلَالَة زَائِدَة وَمَتى لم يدل عَلَيْهِ دَلِيل زَائِد وَجب نَفْيه لِأَن الْأُمُور الثَّابِتَة مَتى لم يدل عَلَيْهَا دَلِيل وَجب نَفيهَا أَلا ترى أَن الصَّلَاة السَّادِسَة يجب نَفيهَا لما لم يدل على إِثْبَاتهَا دَلِيل زَائِد فَلَو قَالَ الله عز وَجل إِن صليتم فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة أجزأتكم كَانَ ذَلِك دَلِيلا على سُقُوط الْفَرْض وَلَا يجب لأجل ذَلِك تَجْوِيز سُقُوط الْفَرْض بِهَذِهِ الصَّلَاة إِذا لم يدلنا الله سُبْحَانَهُ على ذَلِك أَلا ترى أَنه كَانَ يجوز أَن يَقُول صلوا بِطَهَارَة فان صليتم بِغَيْر طَهَارَة أجزأتكم وَلَا يدل ذَلِك على أَنه لَو لم يقل فان صليتم بِغَيْر طَهَارَة أجزأتكم على أَنَّهَا إِن صلى الْإِنْسَان بِغَيْر طَهَارَة أَجزَأَهُ أَو لَا ترى أَنه كَانَ يجوز أَن يَقُول صلوا فان تصدقتم قَامَ ذَلِك مقَام الصَّلَاة وَلم يلْزم من ذَلِك تَجْوِيز قيام الصَّدَقَة مقَام الصَّلَاة إِذا لم يقل الله ذَلِك فَكَذَلِك فِي مَسْأَلَتنَا فان قيل فَيجب على مَا ذكرْتُمْ أَن يكون الدَّال على فَسَاد الْعِبَادَة هُوَ فقد دَلِيل يدل على أَن الْمنْهِي عَنهُ مقَام الْعِبَادَة الْمَأْمُور بهَا قيل إِنَّه لَا يصحل الْعلم بِفساد الْفِعْل إِلَّا مَعَ الْعلم بورود التَّعَبُّد بِالْفِعْلِ وبالنهي عَن إِيقَاعه على بعض الْوُجُوه وبفقده دلَالَة تدل على أَن الْمنْهِي عَنهُ يقوم مقَام الْعِبَادَة أَلا ترى أَنه مَتى اخْتَلَّ وَاحِد من ذَلِك اخْتَلَّ علمنَا بِالْفَسَادِ وَأما أَن الدَّلِيل هُوَ فقد دلَالَة تدل على أَن الْمنْهِي عَنهُ لَا يقوم مقَام الْعِبَادَة أَو أَن الدَّلِيل على ذَلِك هُوَ النَّهْي فَذَلِك كَلَام فِي عبارَة ومرادنا بقولنَا إِن النَّهْي يدل على فَسَاد هُوَ مَا ذَكرْنَاهُ لَا غير فَأَما إِن فسر فَسَاد الْفِعْل بِوُجُوب قَضَائِهِ وَأُرِيد بذلك وجوب الْقَضَاء قبل انْقِضَاء وَقت الْعِبَادَة فقد بَينا أَنا نعلم ذَلِك تبعا لعلمنا بِفساد الْعِبَادَة وَإِن أُرِيد بذلك وجوب الْقَضَاء بعد خُرُوج الْوَقْت فالنهي لَا يدل على ذَلِك لِأَن الْقَضَاء فرض ثَان فَلَيْسَ فَاعل الْعِبَادَة على الْوَجْه الْمنْهِي عَنهُ بِأَسْوَأ حَالا من

تاركها أصلا فاذا كَانَ تاركها لَا يلْزمه إِلَّا بِدَلِيل مُسْتَأْنف ففاعلها على الْوَجْه الْمنْهِي عَنهُ أولى بذلك وَلِأَن الْمنْهِي عَنهُ كَمَا أَنه لم يدْخل تَحت الْإِيجَاب فالقضاء أَيْضا لم يدْخل تَحت الْإِيجَاب فَلم يدل عَلَيْهِ وَمِمَّا احْتج بِهِ فِي أَن النَّهْي يدل على فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ أَن النَّهْي ضد الْأَمر ونقيضه وَالْأَمر يدل على إِجْزَاء الْمَأْمُور بِهِ فَيجب أَن يدل النَّهْي على نفي إجزائه وَإِلَّا لم يكن ضِدّه ونقيضه وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الْأَمر إِذا دلّ على إِجْزَاء الْمَأْمُور بِهِ فَيجب أَن لَا يدل النَّهْي على إِجْزَاء الْمنْهِي عَنهُ فَكَذَلِك نقُول لأَنا وَإِن حكمنَا بإجزائه فلسنا نحكم بإجزائه لمَكَان النَّهْي وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن الْمنْهِي عَنهُ لَو كَانَ مجزئا لَكَانَ طَرِيق إجزائه الشَّرْع إِمَّا أَمر أَو إِيجَاب أَو إِبَاحَة وكل ذَلِك يمْنَع مِنْهُ النَّهْي وَالْجَوَاب أَنه قد يدل على الْإِجْزَاء غير ذَلِك نَحْو أَن نقُول إِذا فَعلْتُمْ مَا نَهَيْتُكُمْ عَنهُ أجزأكم عَن الْفَرْض أَو نقُول إِذا بعتم هَذَا على هَذَا الْوَجْه فقد ملكتم بِهِ أَو يكون إِجْزَاء ذَلِك الْفِعْل مَعْلُوما بِالْعقلِ وَذَلِكَ كُله لَا يمْنَع مِنْهُ النَّهْي وَاحْتَجُّوا بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من أَدخل فِي ديننَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد قَالُوا والمنهي عَنهُ لَيْسَ من الدّين فَيجب كَونه مردودا وَلَو كَانَ مجزئا ثبتَتْ أَحْكَامه لما كَانَ مردودا وَالْجَوَاب أَن الْإِنْسَان إِنَّمَا يكون مدخلًا للْفِعْل فِي الدّين إِذا اعْتقد أَنه من الدّين أَلا ترى أَن الزَّانِي وفاعل الْمُبَاح لَا يكون مدخلًا للزِّنَا وَالْفِعْل الْمُبَاح فِي الدّين فَلَيْسَ يَخْلُو إِمَّا أَن يعنوا أَن الْفَاعِل لما نهي عَنهُ مدْخل للْفِعْل فِي الدّين أَو مدْخل لأحكامه فِي الدّين فان أَرَادوا الأول لم يثبت لِأَن الْمُصَلِّي فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة لَا يعْتَقد أَن ذَلِك فِي الدّين وَإِنَّمَا يَقُول إِنَّه يسْقط بِهِ الْفَرْض وَكَذَلِكَ الْمُطلق فِي حَال الْحيض لَا يعْتَقد أَن ذَلِك من الدّين إِذا اعْتقد أَن ذَلِك بِدعَة وَإِن أَرَادوا الْوَجْه الثَّانِي لم يسلم الْخصم أَن ذَلِك من الدّين فان قَالُوا فَيجب إِذا فعل ذَلِك الْإِنْسَان مُعْتَقدًا بِأَنَّهُ من الدّين أَن يكون

مردودا عَلَيْهِ فَلَا يثبت أَحْكَامه قيل إِنَّمَا يجب أَن يكون ردا من الدّين لَا غير وَإِنَّمَا يكون كَذَلِك إِذا جَعَلْنَاهُ بِخِلَاف مَا اعتقده أَلا ترى أَن من قَالَ من رام الدُّخُول إِلَى دَاري فَهُوَ مَرْدُود أَفَادَ أَنه مَرْدُود من الدَّار وَأجَاب قَاضِي الْقُضَاة بِأَن لفظ الرَّد يُفِيد نفي اسْتِحْقَاق الثَّوَاب لِأَن الرَّد ضد الْقبُول وَالْقَبُول يُفِيد اسْتِحْقَاق الثَّوَاب قَالَ فلفظه الرَّد كالنهي فِي اقتضائه الْقبْح وَنفي اسْتِحْقَاق الثَّوَاب قَالَ وَنحن نقُول إِن الْمنْهِي عَنهُ لَا يسْتَحق عَلَيْهِ الثَّوَاب وَأجَاب أَيْضا بِأَن قَالَ يجب أَن نبين أَن الحكم باجزاء الْفِعْل لَيْسَ من الدّين ثمَّ نحكم برده وَهَذَا إِنَّمَا يتَوَجَّه إِلَى من قَالَ فِي استدلاله إِن الْإِجْزَاء لَيْسَ من الدّين لَا إِلَى من قَالَ إِن الْفِعْل نَفسه لَيْسَ من الدّين ثمَّ اسْتدلَّ بذلك على انْتِفَاء حكمه وَقَالَ ايضا إِن النَّهْي أبلغ من لفظ الرَّد لِأَن طاعات الْكَافِر مَرْدُودَة وَلَيْسَت بمنهي عَنْهَا فاذا لم تظهر دلَالَة النَّهْي على الْفساد فَلفظ الرَّد أولى بذلك وعَلى أَن هَذَا الْخَبَر من أَخْبَار الْآحَاد فَلَا يَصح التَّعَلُّق بِهِ فِي ذَلِك وَاحْتج الذاهبون إِلَى أَن النَّهْي لَا يدل على فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ بأَشْيَاء مِنْهَا أَن فَسَاد الْعِبَادَة هُوَ وجوب قَضَائهَا وَالنَّهْي إِنَّمَا يدل على قبحها وعَلى كَرَاهَة الناهي لَهَا وقبحها لَا يَقْتَضِي وجوب قَضَائهَا لعلمنا بقبح أَفعَال كَثِيرَة لَا يلْزم قَضَاؤُهَا وَالْجَوَاب مَا تقدم من أَنه إِن أَرَادوا وجوب الْقَضَاء مَعَ بَقَاء الْوَقْت أَو وجوب الْقَضَاء إِن لم تكن الْعِبَادَة موقتة فقبح الْفِعْل مَعَ تقدم الْأَمر بِالْعبَادَة وفقد دَلِيل يدل على أَن الْفِعْل الْمنْهِي عَنهُ قَائِم مقَام الْوَاجِب يدل على وجوب الْقَضَاء بعد خُرُوج الْوَقْت فلعمري لَا يدل النَّهْي عَلَيْهِ غير أَنه لَيْسَ هُوَ معنى الْفساد وَمِنْهَا قَوْلهم لَو أَفَادَ النَّهْي الْفساد لَكَانَ مَا لم يفْسد من الْأَفْعَال القبيحة نَحْو الْوضُوء بالمساء الْمَغْصُوب غير مَنْهِيّ عَنهُ على التَّحْقِيق لِأَنَّهُ لم يتَعَلَّق بِهِ مَا هُوَ نهي على التَّحْقِيق فيوصف بِأَنَّهُ مَنْهِيّ مِنْهُ وَالْجَوَاب إِنَّا لَا نقُول إِن النَّهْي مَوْضُوع فِي اللُّغَة للْفَسَاد كَمَا وضع لفظ الْعُمُوم للاستغرق فَيلْزم مَا ذَكرُوهُ وَإِنَّمَا وضع عندنَا لإِيجَاب الِامْتِنَاع من الْفِعْل والإخلال بِهِ أَو على الْكَرَاهَة لَهُ

وَإِنَّمَا يعلم فَسَاد الْعِبَادَة بالتدريج الَّذِي ذَكرْنَاهُ أَلا ترى أَن اصحابنا لما قَالُوا ان الْأَمر وضع للإرادة وَأَنه يُفِيد النّدب على ضرب من التدريج لم يالزمهم أَن يكون الْوَاحِد منا إِذا قَالَ لغيره أظلم وَأَرَادَ ذَلِك مِنْهُ أَن يكون الظُّلم لَيْسَ بمأمور بِهِ على الْحَقِيقَة وَلَا أَن يكون قَوْله اظلم لَيْسَ بِأَمْر على الْحَقِيقَة لأجل أَن الظُّلم قَبِيح لَيْسَ بِحسن وَمِنْهَا أَن لفظ النَّهْي لغَوِيّ وَفَسَاد الْعِبَادَة شَرْعِي فَلَا يجوز أَن يكون مَوْضُوعا لَهُ وَالْجَوَاب انا لَا نقُول إِنَّه وضع للْفَسَاد فَيلْزم مَا ذَكرُوهُ وَإِن علمنَا عِنْده على التدريج الْمَذْكُور كَمَا يَقُولُونَ إِن الْأَمر وضع للنَّدْب على التدريج وَلَو قُلْنَا إِنَّه مَوْضُوع للْفَسَاد لم يبطل بِمَا ذَكرُوهُ لِأَن فَسَاد الْفِعْل هُوَ انْتِفَاء الْأَغْرَاض الْمَقْصُودَة بِالْفِعْلِ عَن الْفِعْل أَو وجوب إِعَادَته على قَول قَاضِي الْقُضَاة وَذَلِكَ مَعْقُول قبل الشَّرْع فَلَا يمْتَنع أَن يوضع النَّهْي لَهُ كَمَا وضعُوا لَهُ أَن هَذَا الْفِعْل يجب إِعَادَته فان الْأَغْرَاض لَا تتَعَلَّق بِهِ مَعَ أَن هَذِه أَلْفَاظ لغوية فَأَما الْأَفْعَال الَّتِي يرجع فَسَادهَا إِلَى نفي أَحْكَامهَا نَحْو البيع وَالطَّلَاق وَالْعتاق وَالشَّهَادَة فالنهي عَنْهَا لَا يدل على فَسَادهَا لَا بِنَفسِهِ وَلَا بِوَاسِطَة أما بِنَفسِهِ فانه إِنَّمَا يدل إِذا صدر من حَكِيم فَيدل على قبح الْفِعْل وَوُجُوب الْإِخْلَال بِهِ أَو على كَرَاهَته لَهُ فَقَط وَأما أَنه لَا يدل على ذَلِك بِوَاسِطَة فَهُوَ أَن الْوَاسِطَة هِيَ قبح وَكَونه مَكْرُوها وَالْفِعْل قد يكون مَكْرُوها وَحكمه ثَابت نَحْو البيع فِي حَال صَلَاة الْجُمُعَة وَالطَّلَاق فِي حَال الْحيض وَلِأَن قبح البيع لَا يُنَافِي ثُبُوت الْملك بِهِ لَا محَالة لِأَنَّهُ قد يُنْهِي الْحَكِيم عَن البيع لِأَن الْملك لَا يَقع بِهِ وَلِأَنَّهُ مفْسدَة فِي نَفسه وَإِن وَقع الْملك بِهِ وَلِأَنَّهُ يتشاغل بِهِ عَن وَاجِب نَحْو البيع مَعَ تعين وجوب التَّحْرِيمَة وَإِذا أمكن كل ذَلِك لم نَأْمَن أَن يكون النَّهْي عَن البيع أَو عَن الطَّلَاق وَغَيرهمَا كَانَ لغَرَض سوى أَن أَحْكَامهَا لَا تثبت وَيُفَارق ذَلِك النَّهْي عَن الْعِبَادَات لأَنا قد بَينا أَن فَسَادهَا مفارق لفساد هَذِه الْأَفْعَال وَإِذا اخْتلف مَعْنَاهُمَا لم يجب أَن يكون مَا دلّ على أَحدهمَا يدل على الآخر فاذا اثْبتْ ذَلِك وَنهي الله سُبْحَانَهُ عَن أَمْثَال هَذِه الْأَفْعَال فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون الأَصْل

فِي الْعقل يُفِيد تعلق حكمه بِهِ كَالْبيع الَّذِي يَقْتَضِي انْتِقَال الْملك بِهِ فِي الْعقل أَو يكون الْعقل يمْنَع من تعلق الحكم بِهِ فَالْأول يحكم فِيهِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْعقل لِأَن النَّهْي عَنهُ لَا يمْنَع من ذَلِك وَأما الثَّانِي فمثاله الْحَد إِذا شهد بِمَا يُوجِبهُ الشَّاهِدَانِ على وَجه نهي الشَّاهِدَانِ عَنهُ فانه ينظر فِيهِ فان كَانَ فِي الشَّرْع دَلِيل يدل فِي الْجُمْلَة على تعلق الْأَحْكَام بِتِلْكَ الْأَفْعَال حكم بِهِ والا لم يحكم بِهِ لِأَن الأَصْل نَفيهَا وَلَيْسَ فِي الشَّرْع مَا يدل على ثُبُوتهَا إِلَّا لأجل النَّهْي وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهَا كَانَت إِذا سَمِعت نهيا عَن شَيْء قَضَت بفساده عِنْد سماعهَا النَّهْي فَدلَّ على أَنَّهَا حكمت بِالْفَسَادِ لأجل النَّهْي كَمَا أَنَّهَا لما حكمت بِالْأَحْكَامِ عِنْد خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس دلّ ذَلِك على أَنَّهَا حكمت بِهِ لأجل خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس من ذَلِك حكمهَا بِفساد بيع دِرْهَم بِدِرْهَمَيْنِ وَنِكَاح الْمحرم والشغار والمتعة والربا وَالْجَوَاب أَنهم لما حكمُوا بذلك فانهم لم يحكموا بِالْفَسَادِ عِنْد سماعهم أَخْبَارًا كَثِيرَة فِي النَّهْي كالنهي عَن بيع حَاضر لباد وتلقى الركْبَان وَغير ذَلِك وَلَيْسَ لقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا لم يحكموا بِالْفَسَادِ لقَرِينَة بِأولى من أَن نقُول بل إِنَّمَا حكمُوا بِالْفَسَادِ لقَرِينَة فان قَالُوا لَو حكمُوا بِالْفَسَادِ لقَرِينَة لطلبها بَعضهم من بعض ولاحتج بهَا بَعضهم قيل لَهُم وَلَو كَانُوا إِنَّمَا لم يحكموا بِالْفَسَادِ لأجل قرينَة لاحتج بهَا بَعضهم على بعض وَأما فَسَاد عقد الرِّبَا فَيجوز أَن يكون إِنَّمَا عرفوه من قَول الله سُبْحَانَهُ {وَحرم الرِّبَا} وَمن إِيجَابه الِاقْتِصَار على رَأس المَال لِأَنَّهُ لَو كَانَ العقد صَحِيحا لما سَاغَ ذَلِك وَأما خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس فان الصَّحَابَة عملت بهَا لمكانها على مَا سنبينه فِي مَوْضِعه وَيُمكن الْمُخَالف أَن يحْتَج فَيَقُول إِنَّكُم بفصلكم بَين الْعِبَادَات وَبَين الْعُقُود والإيقاعات قد قُلْتُمْ مَا لم يقلهُ اُحْدُ لِأَن الْأمة مجمعة على التَّسْوِيَة بَين الْمَوْضِعَيْنِ فَمنهمْ من سوى بَينهمَا فِي دلَالَة النَّهْي على فسادهما وَمِنْهُم من جمع بَينهمَا فِي دلَالَة النَّهْي على نفي فسادهما وَالْجَوَاب أَن الَّذين جمعُوا بَينهمَا فِي نفي دلَالَة النَّهْي على فسادهما لم يعنوا بِالْفَسَادِ مَا عنيناه وَإِنَّمَا أَرَادوا بِالْفَسَادِ وجوب

الْقَضَاء بعد خُرُوج الْوَقْت وَلَو فصل لَهُم مَا فصلناه لما اخْتلفُوا فِيهِ وَلَو خالفوا لم يكن مَا قُلْنَاهُ مُخَالفا للْإِجْمَاع لِأَنَّهُ إِنَّمَا يكون تفرقنا بَين الْمَوْضِعَيْنِ مُخَالفَة للْإِجْمَاع إِذا نظمت الْمَوْضِعَيْنِ طَريقَة وَاحِدَة وَقد بَينا أَن لَيْسَ ينظمهما طَريقَة وَاحِدَة فَأَما مَا يدل على صِحَة مَا أخبرناه هُوَ أَن الشَّرْع اقْتضى حمل مَا تنَاوله النَّهْي على الْفساد مَا لم تكن هُنَاكَ دلَالَة تصرف عَنهُ وَهُوَ حُصُول الْإِجْمَاع الْمُتَقَدّم عَلَيْهِ لِأَن الْمَعْلُوم من حَال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ أَنهم كَانُوا يحكمون بِفساد الْعُقُود وَغَيرهَا لتناول النَّهْي لَهَا ويرجحون فِي الدّلَالَة على فَسَادهَا إِلَى مُجَرّد النَّهْي الْوَارِد عَن الله تَعَالَى وَعَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كرجوعهم إِلَى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وَلَا على خَالَتهَا وَلَا الْخَالَة والعمة عَلَيْهَا لَا الصُّغْرَى على الْكُبْرَى وَلَا الْكُبْرَى على الصُّغْرَى فِي فَسَاد هَذَا العقد من غير اعْتِبَار أَمر سواهُ وكرجوعهم إِلَى نَهْيه عَن بيع الْغرَر وَبيع مَا لم يقبض وَبيع مَا لَيْسَ عِنْده فِي فَسَاد هَذِه الْعُقُود من غير اعْتِبَار معنى سوى ذَلِك وكرجوعهم عِنْد الِاخْتِلَاف فِي حكم الرِّبَا نَقْدا ونسيئة إِلَى خبر أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَعبادَة بن الصَّامِت فِي النَّهْي عَنهُ نَقْدا وَلما رُوِيَ من رُجُوع ابْن عَبَّاس عَن مذْهبه فِي ذَلِك حِين روى لَهُ هَذَا النَّهْي وَهَكَذَا رَجَعَ كثير مِنْهُم إِلَى نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن نِكَاح الْمُحرمَة وَنِكَاح الشّغَار فِي فَسَاد هذَيْن الْعقْدَيْنِ وَلم يحك عَمَّن خَالف فِي هَاتين الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنهم أَنْكَرُوا على مخالفيهم الرُّجُوع إِلَى النَّهْي فِي ذَلِك وَالِاسْتِدْلَال بِهِ وَإِنَّمَا نازعوهم فِي ذَلِك واعترضوا استدلالهم بِالنَّهْي من وُجُوه أخر فَصَارَ هَذَا إِجْمَاعًا مِنْهُم على أَن النَّهْي المتناول للافعال الشَّرْعِيَّة من حَقه أَن يكون مقتضيا لفسادها مَا لم تدل دلَالَة على خلاف ذَلِك وَفِيه فان قيل إِذا وجدناهم قد حكمُوا بِفساد مَا تنَاوله النَّهْي فِي بعض الْمَوَاضِع وحكموا بِصِحَّتِهِ فِي مَوضِع آخر فَلم صَار حكمهم بِالْفَسَادِ دلَالَة على أَن من حق النَّهْي أَن يَقْتَضِيهِ أَن يحمل عَلَيْهِ أولى من أَن يحكم بِأَن النَّهْي بِمُجَرَّدِهِ لَا يَقْتَضِي الْفساد اسْتِدْلَالا بفعلهم فِي الْمَوَاضِع الْأُخَر الْجَواب أَنه إِذا ثَبت أَن الحكم بِفساد الْمنْهِي عَنهُ علقوه بِالنَّهْي فَقَط فِي الْموضع الَّذِي حكمُوا

بِهِ من دون اعْتِبَار أَمر آخر على مَا بَيناهُ وأوضحنا الْحَال فِيهِ صَار هَذَا أصلا فِيمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ وَدلَالَة عَلَيْهِ فاذا وجدناهم فِي مَوَاضِع لم يحكموا بِفساد الْمنْهِي عَنهُ وَجب أَن يحمل ذَلِك على أَنهم عدلوا عَن هَذَا الأَصْل وَلم يحكموا فِيهِ بِالْفَسَادِ لدلَالَة دلّت عَلَيْهِ كَمَا يعدل عَن مُقْتَضى صِيغَة الْعُمُوم إِلَى الحكم بالخصوص وَعَما تَقْتَضِيه حَقِيقَة اللَّفْظ إِلَى مجازها إِذا دلّت الدّلَالَة عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي مَا يفْسد من الْأَشْيَاء الْمنْهِي عَنْهَا وَمَا لَا يفْسد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه ذكر فِي ذَلِك أَشْيَاء مِنْهَا قَول الشَّيْخ أبي عبد الله أَن الْمنْهِي عَنهُ إِذا كَانَ مَتى فعل على الْوَجْه الْمنْهِي عَنهُ انْتَفَى عَنهُ شَرط من شَرَائِطه الشَّرْعِيَّة فانه يجب أَن يفْسد كَبيع الْغرَر وَمَتى لم ينتف عَنهُ شَرط من شَرَائِطه الشَّرْعِيَّة لم يُفْسِدهُ وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا يجب أَن يفْسد مَا انْتَفَى عَنهُ شَرط شَرْعِي مَتى كَانَ ذَلِك شرطا فِي صِحَّته لِأَنَّهُ لَو لم يكن شرطا فِي صِحَّته لم يجب أَن يفْسد وَمَا هُوَ شَرط تقف عَلَيْهِ صِحَة الشَّيْء فانه يجب بانتفائه فَسَاد الشَّيْء إِذا لم يخلفه شَرط آخر سَوَاء كَانَ ذَلِك الشَّرْط شَرْعِيًّا أَو غير شَرْعِي وَلَا معنى للتَّقْيِيد بِكَوْنِهِ شَرْعِيًّا وايضا فاذا فسد لانتفائه شَرطه الشَّرْعِيّ فأخبرونا أبالنهي علمْتُم أَن ذَلِك الشَّرْط الشَّرْعِيّ شَرط فِي الصِّحَّة أم لَا فان قُلْتُمْ بِالنَّهْي قيل لكم ابظاهره علمْتُم ذَلِك أم بِقَرِينَة فان قُلْتُمْ بِظَاهِرِهِ فقد سلمتم أَن ظَاهر النَّهْي يدل على ذَلِك الْفساد وَإِن قُلْتُمْ بل بنهي اقترفت بِهِ قرينَة قيل لكم أخبرونا عَن تِلْكَ الْقَرِينَة حَتَّى تَكُونُوا قد أشرتم إِلَى الْفرق بَين مَا يدل على الْفساد من النَّهْي وَبَين مَا لَا يدل على الْفساد وَإِن قَالُوا علمنَا أَن ذَلِك شَرط فِي الصِّحَّة بِدَلِيل غير النَّهْي نَحْو أَن نعلم أَن الْوضُوء شَرط فِي الصَّلَاة ثمَّ نهي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الصَّلَاة بِغَيْر وضوء فتعلم أَنَّهَا فَاسِدَة بِغَيْر وضوء وَقد أَشَارَ قَاضِي الْقُضَاة إِلَى ذَلِك فِي الشَّرْح قيل لَهُم فَنحْن إِنَّمَا نعلم الْفساد بِمَا دلّ على أَن الْوضُوء شَرط فِي صِحَة الصَّلَاة أَلا ترى أَنا إِذا علمنَا ذَلِك علمنَا فَسَاد الصَّلَاة إِذا لم يكن

الْوضُوء سَوَاء نهينَا عَن الصَّلَاة بِغَيْر وضوء أَو لم ننه عَن ذَلِك فَإِن قَالُوا إِنَّه لم يكن غرضنا أَن نبين الْفرق بَين النَّهْي الدَّال على الْفساد وَبَين النَّهْي الَّذِي لَا يدل على الْفساد حَتَّى يلْزم مَا ذكرْتُمْ وَإِنَّمَا غرضنا أَن نفرق بَين الْمنْهِي عَنهُ الْفَاسِد والمنهي عَنهُ الَّذِي لَيْسَ بفاسد قيل لَهُم فكأنكم قُلْتُمْ الْمنْهِي عَنهُ مِنْهُ فَاسد وَمِنْه غير فَاسد وَأَن الْفَاسِد هُوَ مَا دلّ دَلِيل على فَسَاده نَحْو أَن يدل دلَالَة على أَنه قد أخل فِيهِ بِشَرْط من شَرَائِط صِحَّته وَهَذَا قَلِيل الْفَائِدَة لَا يجوز أَن يَجْعَل أصلا فِي هَذَا الْموضع وَمِنْهَا أَن الْمنْهِي عَنهُ الْفَاسِد هُوَ مَا يُوصل بِهِ إِلَى تَحْلِيل محرم فِي الأَصْل نَحْو أكل الْميتَة وَاسْتِحْلَال الْفروج وَالَّذِي لَيْسَ فَاسد هُوَ مَا لم يكن وصلَة إِلَى محرم فِي الأَصْل وَهَذَا بَاطِل لأَنهم إِن أَرَادوا بقَوْلهمْ إِنَّه يُوصل بِهِ إِلَى تَحْلِيل محرم أَي صَار الْحَرَام بِهِ حَلَالا على التَّحْقِيق فَذَلِك مناقضة لِأَنَّهُ إِذا صَار بِهِ حَلَالا فَهُوَ صَحِيح غير فَاسد لِأَنَّهُ لَيْسَ معنى كَون الوصلة صَحِيحَة إِلَّا أَنَّهَا وصلَة إِلَى تَحْلِيل هَذَا الْمحرم من الْفروج وعَلى أَنا نريهم أمورا نهي عَنْهَا وَهِي وصلَة إِلَى تَحْلِيل مَا كَانَ حَرَامًا وَهِي غير فَاسِدَة نَحْو بيع حَاضر لباد هُوَ مَنْهِيّ عَنهُ وَقد صَار بِهِ ملك الْغَيْر حَلَالا للْمُشْتَرِي وَإِن ارادوا بذلك أَنه إِذا توصل بالمنهي عَنهُ إِلَى تَحْلِيل مَا هُوَ حرَام فِي نَفسه لَا يجوز أَن يصير حَلَالا كَانُوا قد عللوا للشَّيْء بِنَفسِهِ لِأَن معنى كَون هَذِه الوصلة الْمنْهِي عَنْهَا فَاسِدَة هُوَ أَنَّهَا لَا توصل إِلَى تَحْلِيل هَذَا الْمحرم فكأنهم قَالُوا إِنَّمَا لم يُوصل إِلَى إِبَاحَة هَذَا الْمحرم لِأَنَّهُ لَا يُوصل إِلَى إِبَاحَته ثمَّ يُقَال لَهُم بِمَاذَا علمْتُم أَن ذَلِك الْحَرَام لَا يصير حَلَالا أبالنهي علمْتُم ذَلِك أم بِغَيْرِهِ وَيعود الْكَلَام عَلَيْهِم وَمِنْهَا أَن النَّهْي عَن الْفِعْل إِذا كَانَ لِمَعْنى يختصه اقْتضى فَسَاده وَإِذا لم يكن لِمَعْنى يحتصه لم يقتض فَسَاده وَالْأول بيع الْغرَر وَالثَّانِي البيع فِي حَال صَلَاة الْجُمُعَة وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الْمُقْتَضِي للْفَسَاد هُوَ فقد شَرط من شَرَائِط الصِّحَّة وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يرجع ذَلِك تَارَة إِلَى الشَّيْء الْمنْهِي عَنهُ كَمَا لَا يمْتَنع أَن يرجع إِلَى غَيره أَلا ترى أَن بيع الْمَحْجُور عَلَيْهِ مَنْهِيّ عَنهُ لِمَعْنى فِي الْعَاقِد لَا فِي العقد وَهُوَ مَعَ ذَلِك فَاسد فان قَالُوا مَا يخْتَص بالعاقد والمعقود عَلَيْهِ يتَعَلَّق بِالْعقدِ

وَيرجع عَلَيْهِ قيل فَيجب أَن يفْسد بيع حَاضر لباد لِأَن النَّهْي عَن ذَلِك إِنَّمَا كَانَ لِمَعْنى فِي الْمُتَعَاقدين وَمِنْهَا قَول بَعضهم مَا نهي عَنهُ لحق الْغَيْر فانه لَا يفْسد وَمَا نهي عَنهُ لشرط شَرْعِي فانه يفْسد وَهَذَا بَاطِل لِأَن الْإِنْسَان قد نهي عَن بيع ملك غَيره لحق ذَلِك الْغَيْر أَلا ترى أَنه لَو أذن لَهُ فِي بَيْعه جَازَ وَمَعَ ذَلِك يفْسد العقد إِذا لم يَأْذَن فِي الْمَالِك وَيدخل فِي هَذَا العقد اخْتِلَاف النَّاس فِي الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة فَقَالَ جلّ الْفُقَهَاء وَأَبُو إِسْحَاق النظام إِن الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة مجزئة مسقطة للْفَرض وَقَالَ أَبُو عَليّ وَأَبُو هَاشم وَأَبُو شمر وَأهل الظَّاهِر والزيدية إِنَّهَا غير مجزئة وَاسْتدلَّ شُيُوخنَا على أَنَّهَا غير مجزئة بَان الصَّلَاة من حَقّهَا أَن تكون طَاعَة لإِجْمَاع الْمُسلمين على ذَلِك وَالصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة غير طَاعَة بل مَعْصِيّة لِأَن الصَّلَاة تشْتَمل على الْقيام وَالرُّكُوع وَالسُّجُود وَالْجُلُوس وَهَذِه الْأَشْيَاء تصرف فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وشغل لأماكنها وأهويتها وَمنع لرب الدَّار لَو حضر من التَّصَرُّف فِيهَا فَجرى مجْرى وضع مَتَاع فِي ذَلِك الْمَكَان فِي أَنه قَبِيح وَأَيْضًا فَأَجْمعُوا على أَن من شَرط الصَّلَوَات الْخمس أَن يَنْوِي بهَا الْمُصَلِّي أَدَاء الْوَاجِب أَو مَا يدْخل فِيهِ أَدَاء الْوَاجِب نَحْو أَن يَنْوِي كَونهَا ظهرا أَو عصرا وَالصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة لَا يَتَأَتَّى فِيهَا ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يَصح أَن يَنْوِي الْإِنْسَان أَدَاء الْوَاجِب بِمَا يعلم أَنه لَيْسَ بِوَاجِب وَذَلِكَ محَال فِي الدَّاعِي إِن قيل إِن أَفعَال الصَّلَاة هُوَ مَا يَفْعَله الْمُصَلِّي فِي نَفسه من الْقيام وَالرُّكُوع وَالْجُلُوس وَلَيْسَ هَذَا شغل للدَّار وَإِنَّمَا هُوَ شغل للهواء وَإِنَّمَا يشغل الأَرْض باستقرار قَدَمَيْهِ فِي الدَّار وَلَيْسَ ذَلِك من الصَّلَاة لِأَنَّهُ لَو أمكنه أَن يُصَلِّي من غير أَن تَسْتَقِر قدماه فِي الدَّار جَازَت صلَاته قيل إِن السّكُون الَّذِي يَفْعَله فِي قَدَمَيْهِ من جملَة صلَاته لِأَن الْقيام من جملَة الصَّلَاة وَقَوله لَو أمكنه أَن يُصَلِّي فِي الْهَوَاء جَازَت صلَاته لَا يمْنَع من كَون ذَلِك الْآن من الصَّلَاة وعَلى أَن شغله لهواء الدَّار هُوَ غصب لِأَن مَالك الدَّار أَحَق بِهِ أَلا ترى انه لَيْسَ للْإنْسَان أَن يشرع جنَاحا من دَاره إِلَى دَار غَيره لما كَانَ شاغلا لهواء دَار غَيره

فان فَأن قَالُوا إِن قِرَاءَة الْإِنْسَان واعتقاده هما من جملَة صلَاته وَلَا تعلق لَهما بِالْغَصْبِ فالنية تَنْصَرِف إِلَيْهِمَا قيل كَون الْقِرَاءَة من جملَة الصَّلَاة لَا يمْنَع من كَون الرُّكُوع وَالسُّجُود وَالْقِيَام من جملَة الصَّلَاة لِأَن اسْم الصَّلَاة يُفِيد محموع ذَلِك وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يكن أَن يكون من جملَة الصَّلَاة طَاعَة حَتَّى ينْصَرف إِلَيْهِ النَّهْي إِن قَالُوا إِنَّمَا منع الْغَاصِب من الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة لحق الْغَيْر والا فقد استوفى شرائطها الشَّرْعِيَّة فَوَجَبَ إجزاؤها لِأَن النِّيَّة تَنْصَرِف إِلَى مَا استوفى شُرُوطه الشَّرْعِيَّة وَيجْرِي مَا عدا ذَلِك مجْرى فعل مُنْفَصِل قيل إِن من شُرُوطهَا الشَّرْعِيَّة أَن تكون طَاعَة وَأَن يَنْوِي بهَا أَدَاء الْوَاجِب وَلَيْسَ هَذَانِ بحاصلين وَأَيْضًا فاذا كَانَ من جملَة الصَّلَاة مَا هُوَ مَعْصِيّة لم يجز أَن يكون وَاجِبا من جِهَة أُخْرَى فان قَالُوا إِذا غصبهَا الْمُصَلِّي بأعوانه لَا تكون صلَاته فِيهَا غصبا فَيجب جَوَازهَا قيل فَيجب لَو غصبهَا هُوَ بِنَفسِهِ أَن لَا تجزيه صلَاته على مُوجب دليلنا وعَلى أَن استعانته بأعوانه فِي غصبهَا لَا يخرج تصرفه فِيهَا من أَن يكون قبيحا غير طَاعَة وَلما ذكرنَا لم يجز أَصْحَابنَا صَلَاة من ستر عَوْرَته بِثَوْب مَغْصُوب وَاخْتلفُوا فِيمَن سترهَا بِثَوْب مَمْلُوك وَلبس فَوْقه ثوبا مَغْصُوبًا فأجازوها قوم قَالُوا إِن فعله فِي الثَّوْب الْأَعْلَى لَيْسَ من الصَّلَاة وَلم يجزها آخَرُونَ لِأَن قِيَامه وقعوده تصرف فِي كلا الثَّوْبَيْنِ وَقَالُوا ايضا إِن الْمُودع أَو الْغَاصِب إِذا طُولِبَ برد الْوَدِيعَة وَالْمَغْصُوب فتشاغل بِالصَّلَاةِ مَعَ اتساع الْوَقْت لم تُجزئه صلَاته وَإِن كَانَ الْوَقْت ضيقا يخْشَى إِن تشاغل بِالرَّدِّ فَاتَتْهُ الصَّلَاة لم تبطل إِن لم يستضر صَاحبهَا بِالتَّأْخِيرِ ضَرَرا شَدِيدا وَتبطل إِن استضر بِالتَّأْخِيرِ ضَرَرا شَدِيدا وَقَالُوا إِن صلى وَهُوَ يرى من يغرق أَو يهْلك بِنَار وَهُوَ يَرْجُو أَن يخلصه فَسدتْ صلَاته وَالْوَجْه فِي ذَلِك أجمع أَن صلَاته تكون فِي هَذِه الْمَوَاضِع قبيحة وَلَا يلْزم على مَا ذَكرْنَاهُ أَن لَا يَجْزِي الْغَاصِب اعْتِقَاده الْإِيمَان فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة لِأَن ذَلِك لَيْسَ بِتَصَرُّف فِيهَا فَيكون غصبا لَهَا فَلم يلْزم أَن يكون قَبِيح غير طَاعَة وَلَا يلْزم أَن تبطل صَلَاة الْغَاصِب للدَّار إِذا منع من الْخُرُوج

مِنْهَا لِأَنَّهُ إِذا منع من ذَلِك لم يحرم عَلَيْهِ الْقعُود فِيهَا وَمن جَازَ لَهُ الْقعُود فِيهَا جَازَ لَهُ أَن يُصَلِّي فِيهَا فَجَاز أَن يكون فعله طَاعَة وَلَا يلْزم عَلَيْهِ إِذا صلى فِي ملكه وَقبض بِيَدِهِ على رجل فَمَنعه من التَّصَرُّف لِأَن ذَلِك وَإِن كَانَ قبيحا فَلَيْسَ من الصَّلَاة وَلَا يلْزم عَلَيْهِ إِذا صلى فِي براح غَيره بِغَيْر إِذْنه لِأَن الْعَادة جَارِيَة بِأَن مَالك البراح لَا يكره أَن يُصَلِّي الْمَارَّة فِيهِ وَالْعَادَة جَارِيَة أَيْضا بِأَن من أذن لغيره فِي دُخُول دَاره لَا يكره مِنْهُ الصَّلَاة فِيهَا فَصَارَ ذَلِك كَالصَّرِيحِ بِالْإِذْنِ بِالصَّلَاةِ قَالَ اصحابنا وَلَا يلْزم على مَا ذَكرْنَاهُ أَن لَا تجزيء إِزَالَة النَّجَاسَة بِمَاء مَغْصُوب وَالذّبْح والختان بسكين مَغْصُوب أجابوا عَن الذّبْح بسكين مَغْصُوب أَنه إِنَّمَا جَازَ لِأَنَّهُ من شَرطه النِّيَّة وَلَا من حَقه أَن يكون قربَة وَلَيْسَ كَذَلِك الصَّلَاة وَسَيَأْتِي الْكَلَام على مثل هَذَا الْجَواب وَالْجَوَاب الصَّحِيح أَن يُقَال إِن الذّبْح بسكين مَغْصُوبَة مَنْهِيّ عَنهُ وقبيح إِلَّا أَنه لما كَانَ وصلَة إِلَى إِبَاحَة اللَّحْم كَانَ كَالْبيع الَّذِي هُوَ وصلَة إِلَى إِبَاحَة التَّصَرُّف وَالنَّهْي لَا يدل على فَسَاد مَا هَذِه سَبيله لِأَنَّهُ إِنَّمَا نهي عَنهُ لقبحه فِي نَفسه لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بوصلة إِلَى إِبَاحَة اللَّحْم وَكَذَلِكَ البيع فِي وَقت صَلَاة الْجُمُعَة إِنَّمَا نهي عَنهُ لِأَنَّهُ قَبِيح أَن يتشاغل بِهِ عَن الْغَرَض لَا لِأَنَّهُ غير موصل إِلَى نقل الْملك يبين ذَلِك أَن مَا دلّ على الْبياعَات تنْتَقل بهَا الْأَمْلَاك يدْخل تَحْتَهُ هَذَا البيع وَغَيره فان قيل فان كَانَ الذّبْح مِمَّا يتعبد بِهِ الأنسان هَل يكون فعله بسكين مَغْصُوبَة غير مَجْزِي قيل إِذا علمنَا أَن الْغَرَض بِالذبْحِ التَّصَدُّق بِاللَّحْمِ وَعلمنَا أَن اللَّحْم يصير مُبَاحا بِالذبْحِ بسكين مَغْصُوبَة جَازَ التَّصَدُّق بِهِ وَإِن كَانَت السكين مَغْصُوبَة وَأما السكين الْمَغْصُوبَة إِذا وَقع الْخِتَان بهَا فَهِيَ كالمملوكة فِي إِزَالَة ذَلِك الْقدر من اللَّحْم وَالْمَاء الْمَغْصُوب كالمملوك فِي إِزَالَة النَّجَاسَة فَلم يبْق بعد إِزَالَتهَا وَبعد قطع مَا يجب قطعه فِي الْخِتَان شَيْء كَانَ الْأَمر مُتَوَجها إِلَيْهِ فيمتثل فان قيل أما كَانَ يجوز أَن يجب على الْإِنْسَان أَن يغسل مَوضِع النَّجَاسَة وَأَن يقطع جُزْءا آخر قيل يجوز أَن يجب ذَلِك بِأَمْر مستأنق فَأَما إِذا لم

يَتَجَدَّد أَمر آخر فَلَا لِأَن الْأَمر الأول إِذا كَانَ أمرا بازالة تِلْكَ النَّجَاسَة وبقطع ذَلِك الْجُزْء من الذّكر فانه لَا يُمكن بعد إزالتهما إِن زَالا لِأَن إِزَالَة الزائل مستحيلة قَالَ أَصْحَابنَا وَلَا يلْزم عَلَيْهِ أَن يكون الصَّوْم فِي شهر رَمَضَان مَعَ الْخَوْف على النَّفس لَا يسْقط بِهِ الْفَرْض لِأَنَّهُ لم يُوجد عَلَيْهِ فِي الصَّوْم أَفعَال وَإِنَّمَا أَخذ عَلَيْهِ الْكَفّ عَن الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع وَلقَائِل أَن يَقُول وَقد أَخذ عَلَيْهِ فعل نِيَّة الصَّوْم وَمن حَقّهَا أَن تكون طَاعَة وَأخذ عَلَيْهِ الْكَفّ عَن هَذِه الْأَفْعَال وَمن حق الْكَفّ عَنْهَا أَن يكون طَاعَة حَتَّى يكون صوما والكف عَنْهَا مَعَ الْخَوْف على النَّفس مَعْصِيّة وَأخذ عَلَيْهِ أَن يَنْوِي الصَّوْم وَفِي ضمن كَونه صوما كَونه طَاعَة فاذا كَانَ الصَّوْم مَعْصِيّة لم يكن أَن يَنْوِي بِهِ الطَّاعَة وَإِن قُلْتُمْ إِن نِيَّة الصَّوْم لَا يدْخل فِي ضمنهَا نِيَّة الطَّاعَة وَلَا من حق الصَّوْم أَن يكون طَاعَة قيل لكم مثله فِي الصَّلَاة وادعاء الْإِجْمَاع فِي أَحدهمَا كادعائه فِي الآخر وَيسْأل أَيْضا على ذَلِك الْوُقُوف على جمل مَغْصُوب وَالطّواف عَلَيْهِ وَالْوُضُوء بِمَاء مَغْصُوب وَقد أُجِيب عَن ذَلِك بِأَنَّهُ مَا أَخذ على الْإِنْسَان فِي ذَلِك فعل فَيُقَال من شَرطه أَن يكون طَاعَة أَو وَاجِبا لِأَن الْإِنْسَان لَا يكون مُطيعًا بِفعل غَيره أَلا ترى أَن الْإِنْسَان لَو طَاف بِهِ غَيره وَهُوَ نَائِم أَو وضأه غَيره أَجزَأَهُ وشبيه بذلك يُقَال فِي الصَّائِم لِأَنَّهُ لَو نَام طول نَهَاره وَقد قدم النِّيَّة أَجزَأَهُ وَلقَائِل أَن يَقُول إِن ذَلِك لَا يمْنَع من أَن يكون لَو صَامَ وَهُوَ عَالم بصومه أَو وضأ نَفسه كَانَ لَا بُد من أَن يكون قربَة وَطَاعَة كَمَا قلتموه فِي الصَّلَاة فَمن هَذِه الْجِهَة ينْتَقض دليلكم فان قُلْتُمْ إِذا أَجزَأَهُ الصَّوْم وَالْوُضُوء مَعَ أَنه لم يفعل شَيْئا فبأن يُجزئهُ إِذا فعل أولى قيل هَذَا لَا ينجيكم من انْتِقَاض دليلكم لأَنا أوجدناكم مَا من حَقه أَن يكون طَاعَة وَقد وَقع قبيحا وَمَعَ ذَلِك قد أَجزَأَهُ وَقيل فِي الْوضُوء إِنَّه لَا يجب فِيهِ النِّيَّة فَلم يجز أَن يُقَال من حَقه أَن يَنْوِي

بِهِ أَدَاء الْوَاجِب وَالْجَوَاب أَن هَذَا لَا يتم على قَول من جعل النِّيَّة من شَرطه وَمن قَالَ لَيْسَ النِّيَّة من شَرطه يَقُول الأولى أَن يَنْوِي الْإِنْسَان فِي الْوضُوء فَصَارَ من حق الْوضُوء أَن يكون طَاعَة وَأَن يَصح أَن يَنْوِي بِهِ الْقرْبَة أَو الطَّهَارَة الَّتِي يدْخل فِي ضمنهَا الْقرْبَة كَمَا قلتموه فِي الصَّلَاة وَمَعْلُوم أَن الْوضُوء بِالْمَاءِ الْمَغْصُوب لَيْسَ بقربة بل هُوَ مَعْصِيّة فَلم يتأت فِيهِ هَذِه النِّيَّة فَانْتقضَ بِهِ كلا الدَّلِيلَيْنِ وَقد أُجِيب عَن الْوضُوء أَيْضا بِأَن نفله يقوم مقَام فَرْضه وَذَلِكَ لَا يمْنَع من انْتِقَاض الدَّلِيل من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَقد سَأَلَ أَصْحَابنَا أنفسهم هلا قَامَت الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وَإِن كَانَت قبيحة مقَام الصَّلَاة الْوَاجِبَة فِي الْمصلحَة فَلم يبْق بعْدهَا مصلحَة كَمَا قُلْتُمْ لم يبْق بعد إِزَالَة النَّجَاسَة بِالْمَاءِ الْمَغْصُوب نَجَاسَة تزَال وَلم يبْق بعد الْوضُوء بِالْمَاءِ الْمَغْصُوب مصلحَة ستدرك بِالْمَاءِ الْمَمْلُوك وَأجَاب قَاضِي الْقُضَاة عَن ذَلِك بِأَن الْأمة أَجمعت بِأَن الَّذِي يسْقط فرض الصَّلَاة هُوَ مَا دخل تَحت التَّكْلِيف أَلا ترى أَن الصَّلَاة بِغَيْر طَهَارَة لما لم تدخل تَحت التَّكْلِيف لم تقم مقَام الْوَاجِب وَالصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة لم تدخل تَحت التَّكْلِيف وَلقَائِل أَن يَقُول ان ادِّعَاء الْإِجْمَاع فِي ذَلِك هُوَ كدعائه فِي أَن الْوضُوء لَا يقوم مقَام الْوَاجِب إِلَّا أَن يكون دَاخِلا تَحت التَّكْلِيف لِأَنَّهُ لوقع بِمَاء نجس لم يسْقط الْفَرْض لما لم يدْخل تَحت التَّكْلِيف فَهَذَا هُوَ الْكَلَام فِيمَا اسْتدلَّ بِهِ شُيُوخنَا وَمَا يرد عَلَيْهِ من الاعتراضات وَنحن نستدل على الْمَسْأَلَة فَنَقُول إِن صِحَة الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة إِمَّا أَن يُرَاد بهَا أَنَّهَا دَاخِلَة تَحت التَّعَبُّد أَو يُرَاد بهَا أَنَّهَا تقوم مقَام مَا دخل تَحت التَّعَبُّد الأول بَاطِل لِأَن التَّعَبُّد لَا يتَنَاوَل الْقَبِيح الْمَكْرُوه وَالثَّانِي يَكْفِي فِي نَفْيه أَن لَا يدل دَلِيل على أَنَّهَا تقوم مقَام مَا دخل تَحت التَّكْلِيف وَإِذا لم يدل دَلِيل على ذَلِك وَلَا هِيَ دَاخِلَة تَحت التَّكْلِيف وَكَانَ الْوَقْت بَاقِيا لزم إِعَادَتهَا لبَقَاء التَّعَبُّد وَلزِمَ إِعَادَتهَا إِن خرج الْوَقْت لِأَن كل من أوجب إِعَادَتهَا مَعَ بَقَاء الْوَقْت أوجبهَا

مَعَ خُرُوجه وَأما الْمسَائِل الْمُتَقَدّم ذكرهَا فجميعها غير دَاخل تَحت التَّعَبُّد وَيجب تأملها فان دلّ دَلِيل على أَنَّهَا تقوم مقَام الْوَاجِب قيل بِهِ وَإِلَّا قيل بِبَقَاء الْوَاجِب وَلُزُوم التَّعَبُّد

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبْوَاب الْعُمُوم وَالْخُصُوص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما الْكَلَام فِي الْعُمُوم فانه يَقع فِي الْأَلْفَاظ الْعَامَّة الَّتِي هِيَ عَامَّة على الْحَقِيقَة وَالَّتِي يظنّ قوم أَنَّهَا عَامَّة فَأَما الْأَلْفَاظ الْعَامَّة على الْحَقِيقَة فنتكلم فيهامن وُجُوه مِنْهَا اسْم الْعُمُوم هَل يتَنَاوَل الْمعَانِي على الْحَقِيقَة أم لَا وَمِنْهَا اسْم الْعُمُوم إِذا وَقع على القَوْل مَا الَّذِي يُفِيد فِيهِ وَمِنْهَا قسْمَة الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة قسْمَة الْأَلْفَاظ الْعَامَّة والفصل بَينهَا وَبَين الَّتِي لَيست عَامَّة وَمِنْهَا إِقَامَة الدّلَالَة على إِثْبَات الْعُمُوم فِي اللُّغَة وَمِنْهَا إِدْخَال مَا خرج من الْعُمُوم كالجمع الْمُعَرّف فَأَما مَا ظن أَنه من جملَة الْعُمُوم وَلَيْسَ مِنْهُ فيشتمل أَيْضا على ابواب مِنْهَا الِاسْم الْمُفْرد الْمُعَرّف وَمِنْهَا الْجمع الْمُنكر وَيتبع ذَلِك أقل الْجمع وَمِنْهَا نفي مُسَاوَاة الشَّيْء للشَّيْء هَل يُفِيد نفي اشتراكهما فِي كل صفاتهما أم لَا وَمِنْهَا اسْم الْمُذكر لَا يشْتَمل الْمُؤَنَّث وَإِنَّمَا لم نذْكر العمومين إِذا تَعَارضا لِأَن ذَلِك يشْتَمل على أَقسَام أَكْثَرهَا يكون بَعْضهَا نَاسِخا للْبَعْض فأرجئنا ذَلِك إِلَى النَّاسِخ والمنسوخ وَأما الْكَلَام فِي الْخُصُوص فَمن وُجُوه مِنْهَا مَا الْخُصُوص وَمَا الْعُمُوم الْمَخْصُوص وَمَا الْخَاص وَمَا التَّخْصِيص وَمِنْهَا مَا الَّذِي يجوز تَخْصِيصه وَمَا الَّذِي لَا يجوز تَخْصِيصه وَمِنْهَا أَن مَا يجوز تَخْصِيصه إِلَى أَي غَايَة يجوز تَخْصِيصه وَمِنْهَا جَوَاز اسْتِعْمَال الله سُبْحَانَهُ الْعَام فِي الْخَاص وَمِنْهَا مَا بِهِ يصير الْعَام خَاصّا وَمِنْهَا ذكر الْأَدِلَّة الدَّالَّة على التَّخْصِيص أَو مَا يَظُنّهُ قوم دَلِيلا أما الأول فضربان أَدِلَّة مُتَّصِلَة وأدلة مُنْفَصِلَة أما الْمُتَّصِلَة فالصفة والغاية وَالِاسْتِثْنَاء وَالشّرط وَيدخل فِي الِاسْتِثْنَاء أَبْوَاب سنذكرها وَأما الْمُنْفَصِلَة

فالعقل وَالْكتاب وَالسّنة وَيدخل فِي التَّخْصِيص بِالْعقلِ خُرُوج الصَّبِي من الْخطاب وَإِذا بَينا جَوَاز التَّخْصِيص بِالْكتاب وَالسّنة ذكرنَا فِي أَي حَال يَقع التَّخْصِيص وَفِي أَي حَال لَا يَقع وَيدخل فِي ذَلِك بِنَاء الْعَام على الْخَاص وَيتبع الْكَلَام فِي التَّخْصِيص أَن نتكلم فِي الْعُمُوم هَل يصير مجَازًا بالتخصيص أم لَا وَهل تَخْصِيصه يمْنَع من التَّعَلُّق بِهِ أم لَا وَلم نذْكر تَخْصِيص قَول النَّبِي بِفِعْلِهِ لِأَنَّهُ من بَاب الْأَفْعَال إِذْ ذَلِك مَبْنِيّ على أَن فعله حجَّة وَتَخْصِيص قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأقاويل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم مَبْنِيّ على أَن أقاويلهم حجَّة وَذَلِكَ إِمَّا أَن يرجع إِلَى الْإِجْمَاع أَو إِلَى التَّقْلِيد وَلم نذْكر تَخْصِيص الْإِجْمَاع لِأَنَّهُ مَبْنِيّ على كَونه حجَّة وَذَلِكَ دَاخل فِي أَبْوَاب الْإِجْمَاع وَلم نذْكر التَّخْصِيص بأخبار الْآحَاد وَلَا بِالْقِيَاسِ لِأَن ذَلِك مَبْنِيّ على كَونهمَا حجَّتَيْنِ فَذَكرنَا ذَلِك فِي الْأَخْبَار وَهَذَا فِي ابواب الْقيَاس فَأَما مَا يظنّ كَونه مُخَصّصا فضربان أَحدهمَا معنوي وَالْآخر لَفْظِي أما الأول فكقول بَعضهم إِن كَون الْمُكَلف كَافِرًا أَو عبدا يُخرجهُ من الْخطاب بالعبادات وَإِن كَانَ لفظ الْخطاب يتناولهم وكتخصيص بَعضهم الْعُمُوم بالعادات وكالتخصيص بِقصد الْمُتَكَلّم بِالْعُمُومِ إِلَى الذَّم وَأما الثَّانِي فيشتمل على أَبْوَاب مِنْهَا الْخطاب الْوَارِد على سَبَب وسؤال وَمِنْهَا الْعُمُوم إِذا تعقبه شَرط أَو اسْتثِْنَاء أَو صفة وَحكم لَا يَتَأَتَّى إِلَّا فِي بعض مَا يتَنَاوَلهُ الْعُمُوم هَل يجب أَن يكون المُرَاد بذلك ذَلِك الْبَعْض فَقَط أم لَا وَمِنْهَا هَل يجب أَن يضمر فِي الْمَعْطُوف جَمِيع مَا يظْهر فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ وَإِذا كَانَ أَحدهمَا خَاصّا كَانَ الآخر خَاصّا أم لَا وَمِنْهَا تَخْصِيص الْعُمُوم بِذكر بعض مَا شَمله وَمِنْهَا تَقْيِيد الْمُطلق وتخصيصه لأجل الْمُقَيد فَأَما تَخْصِيص الْعُمُوم بِمذهب الرَّاوِي فَهُوَ أَن يَجْعَل مذْهبه كالرواية لنَصّ سَمعه وَالْكَلَام فِي ذَلِك يخْتَص بالأخبار

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن قَوْلنَا عَام وَعُمُوم لَا يتَنَاوَل على سَبِيل الْحَقِيقَة إِلَّا القَوْل دون غَيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه لَا شُبْهَة فِي وصف الْكَلَام الشَّامِل بِأَنَّهُ عَام وَعُمُوم على الْحَقِيقَة لِأَنَّهُ لَا وَجه نعلم بِهِ كَون الِاسْم حَقِيقَة من اطراد وَغَيره إِلَّا وَهُوَ حَاصِل فِيهِ فَأَما وصف مَا لَيْسَ بِلَفْظ بِأَنَّهُ عَام نَحْو قَوْلهم عمهم الْمَطَر وَالْخصب فمجاز لِأَن حَقِيقَة عُمُوم الْمَطَر للنَّاس أَن يكون بجملته حَاصِلا لكل وَاحِد مِنْهُم وَذَلِكَ مُسْتَحِيل لِأَن جملَة الْمَطَر تحصل لجملة النَّاس وأجزاؤه لأجزائهم فَأَما أَلْفَاظ الْعَام نَحْو قَوْلنَا الْمُشْركين فان تنَاوله لهَذَا الشَّخْص وَلِهَذَا الشَّخْص على حد سَوَاء وَلَيْسَ يتَنَاوَل جُزْء مِنْهُ لشخص وجزء مِنْهُ لشخص آخر كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي الْمَطَر وَقد قيل إِن وصف الْمعَانِي بِأَنَّهَا عَامَّة لَا يطرد أَلا ترى أَنه لَا يُوصف الْأكل بِأَنَّهُ عُمُوم فان وصف بذلك فبتقييد لَا على طَرِيق الْإِطْلَاق نَحْو أَن نقولة الْأكل عُمُوم فِي النَّاس فَأَما أَن نطلق القَوْل بِأَن الْأكل عُمُوم كَمَا نقُول هَذَا اللَّفْظ عُمُوم فَلَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي حَقِيقَة الْكَلَام الْعَام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْكَلَام الْعَام هُوَ كَلَام مُسْتَغْرق لجَمِيع مَا يصلح لَهُ هَذَا هُوَ الْمَعْقُول من كَون الْكَلَام عَاما أَلا ترى أَن قَوْلنَا الرِّجَال مُسْتَغْرق لجَمِيع مَا يصلح لَهُ لِأَنَّهُ استغرق الرِّجَال دون غَيرهم إِذْ كَانَ لَا يصلح لغَيرهم وَكَذَلِكَ لفظ من فِي الِاسْتِفْهَام نَحْو قَوْلك من عنْدك لِأَنَّهَا تستغرق كل عَاقل عِنْده وَلَا تتعرض لغير الْعُقَلَاء وَلَا لعقلاء لَيْسُوا عِنْده لِأَنَّهَا لَا تصلح فِي هَذَا الْموضع لَهُم وَقَوْلنَا كل يسْتَغْرق كل جنس يدْخل عَلَيْهِ دون مَا لَا يدْخل عَلَيْهِ وَلَا يلْزم عَلَيْهِ لفظ التَّثْنِيَة كَقَوْلِك رجلَانِ وَلَفظ الْعدَد كَقَوْلِك ثَلَاثَة

رجال وَعشرَة لِأَن ذَلِك لَا يسْتَغْرق كل مَا يصلح لَهُ أَلا ترَاهُ يصلح لهذين الرجلَيْن ولهذين ولهذين وَلَيْسَ يسْتَغْرق كل ذَلِك وَقَوْلنَا عشرَة يصلح لكل عشرَة من الرِّجَال وَلَيْسَ يستغرقها كلهَا فَأَما أَلْفَاظ النكرات نَحْو قَوْلك رجل فانه عَام على الْبَدَل غير عَام على الْجمع وَالْحَد لَا يتَنَاوَلهُ من حَيْثُ الْجمع لِأَنَّهُ لَا يصلح لهَذَا الرجل وَلِهَذَا وَلِهَذَا وَلَا يستغرقهم وَهُوَ دَاخل فِي الْحَد من حَيْثُ الْبَدَل لِأَنَّهُ يتَنَاوَل كل رجل على الْبَدَل وَلَا يجوز أَن يقف على بعض الرِّجَال وَلَا يتعداهم إِلَى غَيرهم على الْبَدَل وَقد زَاد قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح زِيَادَة احْتَرز بهَا من التَّثْنِيَة وَالْجمع فَقَالَ الْعُمُوم لفظ مُسْتَغْرق لجَمِيع مَا يصلح لَهُ فِي أهل اللُّغَة من غير زِيَادَة وَذَلِكَ لِأَن التَّثْنِيَة وَالْجمع إِنَّمَا يكونَانِ بِزِيَادَة تدخل على الْوَاحِد وَلَا يمْنَع من إنتقاصه بِلَفْظ الْعدَد لِأَنَّهُ لَيْسَ يسْتَغْرق قَوْلنَا عشرَة لآحاد الْعشْرَة بِزِيَادَة دخلت على الِاسْم لِأَن الِاسْم الْوَاحِد لَيْسَ هُوَ حَاصِل لَهما مَعَ الزِّيَادَة وَيلْزم أَن لَا يكون اسْم الْجِنْس إِذا دخله لَام الْجِنْس عَاما نَحْو قَوْلك الرجل وَالرِّجَال لِأَن لَام الْجِنْس زِيَادَة دخلت على الإسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي ذكر الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة ضَرْبَان دَلِيل مستنبط وَلَيْسَ هُوَ غرضنا هَا هُنَا وَدَلِيل غير مستنبط وَهُوَ إِمَّا قَول وَإِمَّا فعل فالفعل لَا يُمكن ادِّعَاء الْعُمُوم على الْوُجُوه الَّتِي يَقع عَلَيْهَا لِأَنَّهَا إِن كَانَت متنافية لم يَصح أَن يجْتَمع للْفِعْل نَحْو جمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين الصَّلَاتَيْنِ يَسْتَحِيل أَن يجمع بَين صَلَاتَيْنِ فِي وَقت إِحْدَاهمَا وَفِي وقتيهما بِأَن يُصَلِّي الأولى فِي آخر وَقتهَا وَالثَّانيَِة فِي أول وَقتهَا وَإِن لم يكن الْوُجُوه متنافية نَحْو أَن يقتل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا فانه يحْتَمل أَن يكون قَتله لِأَنَّهُ ارْتَدَّ وَلِأَنَّهُ قتل غير أَنه لَا يُمكن أَن يعلم بِمُجَرَّد الْفِعْل أَنه قَتله لِكِلَا

الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ كَمَا يجوز أَن يجتمعا للْفِعْل فانه يجوز أَن ينْفَرد أَحدهمَا وَلَيْسَ الْفِعْل لفظا فَيُقَال إِنَّه وضع ليشملهما وَأما القَوْل فَمِنْهُ مَا لَفظه يُفِيد الْعُمُوم وَمِنْه مَا لَفظه لَا يُفِيد الْعُمُوم وَالَّذِي يُفِيد لَفظه الْعُمُوم مِنْهُ مَا يفِيدهُ فِي اللُّغَة وَمِنْه مَا يفِيدهُ فِي الْعرف وَيقسم مَا يُفِيد لَفْظَة الْعُمُوم من وَجه آخر فَيُقَال مِنْهُ مَا يُفِيد الْعُمُوم من جِهَة اللَّفْظ فَقَط وَمِنْه مَا يفِيدهُ من جِهَة الْمَعْنى وَاللَّفْظ وَأما مَا لَا يُفِيد لَفْظَة الْعُمُوم فَمِنْهُ مَا يُفِيد عَن جِهَة الْمَعْنى وَمِنْه مَا لَا يفِيدهُ لَا من جِهَة اللَّفْظ وَلَا من جِهَة الْمَعْنى وَنحن نذْكر ابواب ذَلِك إِن شَاءَ الله عز وَجل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يُفِيد لَفْظَة الْعُمُوم فِي اللُّغَة وَفِي الْعرف وَفِيمَا يفِيدهُ من جِهَة اللَّفْظ وَمن جِهَة الْمَعْنى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن مَا لَفظه عَام فِي اللُّغَة ضَرْبَان أَحدهمَا عَام على الْجمع وَالْآخر عَام على الْبَدَل وَالْأول ضَرْبَان أَحدهمَا يكون عَاما لِأَن فِيهِ اسْما مَوْضُوعا للْعُمُوم وَالْآخر يكون عَاما لِأَنَّهُ اقْترن بِالِاسْمِ مَا أوجب عُمُومه وَالِاسْم الْعَام ضَرْبَان أَحدهمَا لَا يخْتَص مَا يعقل وَلَا مَا لَا يعقل بل يَقع عَلَيْهِمَا على الْجمع وعَلى الِانْفِرَاد وَالْآخر يخْتَص أَحدهمَا فَالْأول لفظ أَي يَقُول أَي إِنْسَان لَقيته فَسلم عَلَيْهِ فَيعم الْكل وَيَقُول أَي نَبَات رَأَيْته فَخذه وَأي جسم رَأَيْته فَخذه فَيعم مَا يعقل من الْأَجْسَام وَمَا لَا يعقل وَكَذَلِكَ لَفْظَة كل وَجَمِيع فانهما اسمان يدخلَانِ على مَا يعقل وعَلى مَا لَا يعقل وَأما الَّذِي يخْتَص أَحدهمَا فضربان أَحدهمَا يخْتَص مَا يعقل وَمَا يجْرِي مجْرَاه وَهِي لَفْظَة من فِي الاسفهام والمجازاة يَقُول من عنْدك وَمن دخل دَاري أكرمته وَالْآخر يخْتَص مَا لَا يعقل وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا لَا يخْتَص جِنْسا مِمَّا لَا يعقل دون جنس كَقَوْلِك مَا فِي المجازاة والاستفهام وَالْآخر يخْتَص جِنْسا مِمَّا لَا يعقل نَحْو مَتى فِي الزَّمَان واين فِي الْمَكَان وَغير ذَلِك أما مَتى فانها قد تكون استفهاما عَن كل زمَان دخلت عَلَيْهِ يَقُول مَتى جَاءَك بَنو تَمِيم

فَيكون مستفهما عَن كل الزَّمَان الَّذِي جاؤوك فِيهِ حَتَّى لَو جاؤوك فِي كل الزَّمَان لَكَانَ استفهاما عَنهُ وَإِذا قلت مَتى جَاءَك زيد أَفَادَ أَيْضا استفهاما عَن زمَان مَجِيئه وَلَفْظَة مَتى لَا بُد أَن يقرن بهَا شَيْء وَقع فِي الزَّمَان فَيكون استفهاما عَن كل الزَّمَان الَّذِي وَقع فِيهِ وَكَذَلِكَ قَوْلك أَيْن زيد وَأَيْنَ النَّاس وَأما الْخطاب الشَّامِل لِأَن فِيهِ اسْما قد دخل عَلَيْهِ مَا أوجب استغراقه فضربان أَحدهمَا يكون الْمُوجب لشُمُوله مُتَّصِلا بِهِ وَالْآخر مُنْفَصِلا عَنهُ أما الْمُتَّصِل بِهِ فنحو لَام الْجِنْس الدَّاخِل على الِاسْم الْمُنْفَرد كَقَوْلِك أهلك النَّاس الدِّينَار وَالدِّرْهَم أَو الدَّاخِل على الْجمع كَقَوْلِك الرِّجَال هَذَا على قَول الشَّيْخ ابي على رَحمَه الله وَأما الْمُنْفَصِل فضربان أَحدهمَا الْإِضَافَة وَالْآخر حرف النَّفْي الدَّاخِل على النكرَة أما الْإِضَافَة فكقولك ضربت عَبِيدِي وَأما حرف النَّفْي الدَّاخِل على النكرَة كَقَوْلِك مَا جَاءَنِي من أحد وَأما الْأَلْفَاظ الْعَامَّة على الْبَدَل فأسماء النكرات وَهِي ضَرْبَان أَحدهمَا فِي غَايَة التنكير نَحْو قَوْلك شَيْء وَمَعْلُوم وَالْآخر دون ذَلِك فِي التنكير وَذَلِكَ ضَرْبَان أَحدهمَا نِهَايَة فِي نُقْصَان التنكير نَحْو قَوْلك رجل وَغير ذَلِك مِمَّا يخْتَص نوعا وَاحِدًا وَالْآخر متوسط فِي التنكير نَحْو قَوْلك حَيَوَان وجسم وَمَا اشبه ذَلِك فَهَذَا مَا هُوَ عَام فِي اللُّغَة فَأَما مَا يُفِيد الْعُمُوم فِي الْعرف فكقول الله سُبْحَانَهُ {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} وَقَوله سُبْحَانَهُ {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} هما من جِهَة الْعرف عامان فِي تَحْرِيم سَائِر وُجُوه الِاسْتِمْتَاع بالأمهات وَسَائِر وُجُوه الِانْتِفَاع بالميتة وَمن ذَلِك قَول الرَّاوِي كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي السّفر ذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن ذَلِك لَا يُفِيد فِي اللُّغَة أَنه كرر

الْجمع وَإِنَّمَا يُفِيد أَنه فعل ذَلِك فِيمَا مضى لِأَن لَفْظَة كَانَ تفِيد تقدم الْفِعْل وَقَالَ فِي الدَّرْس إِن ذَلِك يُفِيد تكْرَار الْجمع من جِهَة الْعرف لِأَنَّهُ لَا يُقَال فلَان كَانَ يتهجد بِاللَّيْلِ إِذا تهجد مرّة وَاحِدَة فِي عمره وَأما مَا يُفِيد الْعُمُوم من جِهَة اللَّفْظ وَمن جِهَة الْمَعْنى فَقَوْل الله سُبْحَانَهُ {وَالسَّارِق والسارقة} على قَول الشَّيْخ أبي عَليّ رَحمَه الله لِأَن صَرِيح الْآيَة يُفِيد الِاسْتِغْرَاق وَخُرُوجه مخرج الزّجر يُفِيد ذَلِك على مَا ذكره الشَّيْخ ابو هَاشم وَكَذَلِكَ كل لفظ عُمُوم خرج مخرج الزّجر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يُفِيد الْعُمُوم من جِهَة الْمَعْنى دون اللَّفْظ وَفِيمَا لَا يفِيدهُ من جِهَة اللَّفْظ وَلَا من جِهَة الْمَعْنى مِمَّا ظَنّه قوم عَاما - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما الَّذِي يُفِيد الْعُمُوم من جِهَة الْمَعْنى فَهُوَ أَن يدل على الْعُمُوم دَلِيل يقْتَرن بِاللَّفْظِ وَذَلِكَ ضروب فَمِنْهَا أَن يكون اللَّفْظ مُفِيدا للْحكم ومفيدا لعلنه فَيَقْتَضِي شياع الحكم فِي كل مَا شاعت فِيهِ الْعلَّة وَمِنْهَا أَن يكون اللَّفْظ الْمُفِيد لعُمُوم اللَّفْظ مَا يرجع إِلَى سُؤال سَائل وَمِنْهَا دَلِيل خطاب عَام على قَول من جعله حجَّة أما ألأول فضربان أَحدهمَا تَعْلِيل من جِهَة الأولى كفحوى القَوْل على مَا سَيَجِيءُ بَيَانه وَالْآخر تَعْلِيل لَا من جِهَة الأولى والدل على ذَلِك ضروب كَثِيرَة نذْكر فِي بَاب الْقيَاس إِن شَاءَ الله عز وَجل فَمن ذَلِك قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الهر إِنَّهَا لَيست بِنَجس إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات فَاقْتضى عُمُوم طَهَارَة كل مَا كَانَ من الطوافين علينا وَمن ذَلِك قَول الرَّاوِي سَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسجدَ فنعلم أَن الْعلَّة فِي ذَلِك سَهْوه إِلَى غير ذَلِك من ضروب التَّعْلِيل وَأما الْمُقْتَضى للْعُمُوم مِمَّا يرجع إِلَى السُّؤَال فَيجوز أَن يسْأَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّن

أفطر فَيَقُول عَلَيْهِ الْكَفَّارَة فنلعم أَن ذَلِك يعم كل فطر سَوَاء علم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا وَقع الْفطر بِهِ أَو لم يعلم لِأَنَّهُ انما أجَاب عَن السُّؤَال انما كَانَ عَن مُطلق الْفطر فَإِن لم يكن جَوَابه عَن مُطلق الْفطر لم يكن جَوَابا عَن السُّؤَال وَلِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو كَانَ قد أجَاب عَن الْفطر الَّذِي علمه لَكَانَ قد بَين ذَلِك لِئَلَّا يظنّ سامع أَن الْكَفَّارَة تلْحق مُطلق الْفطر وَأما دَلِيل الْخطاب فنحو قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَائِمَة الْغنم زَكَاة دَلِيل ذَلِك أَن لَا زَكَاة فِي كل مَا لَيْسَ بسائمة على قَول بَعضهم فَأَما مَا لَا يُفِيد الْعُمُوم لَا من جِهَة اللَّفْظ وَلَا من جِهَة الْمَعْنى مِمَّا ظَنّه قوم عَاما فنحو الْجمع المنكور وَنَحْو جمع الْمُذكر لَا يدْخل تَحْتَهُ الْمُؤَنَّث وَقد دخل فِي هَذَا الْبَاب وَفِي الَّذِي قبله فُصُول يجب إِقَامَة الدّلَالَة عَلَيْهَا مِنْهَا إِثْبَات الْعُمُوم فِي اللُّغَة وَمِنْهَا الْجمع الَّذِي دخله الْألف وَاللَّام وَمنا اسْم الْمُفْرد إِذا دخله الْألف وَاللَّام وَمِنْهَا الْجمع الْمُنكر وَمِنْهَا لفظ الْمُذكر هَل يدْخل تَحْتَهُ الْمُؤَنَّث أم لَا وَنحن نذْكر جَمِيع ذَلِك إِن شَاءَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الدّلَالَة على أَن فِي اللُّغَة ألفاظا للْعُمُوم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَقَالَ بعض المرجئة إِنَّه لَيْسَ فِي اللُّغَة مَوْضُوع للاستغراق وَحده بل مَا وضع للاستغراق وَهُوَ مَوْضُوع لما دونه من الجموع وَزَعَمُوا أَن قَوْلنَا كل وَجَمِيع حَقِيقَة فِي الِاسْتِغْرَاق وَفِي كل جمع دون الِاسْتِغْرَاق وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي لَفْظَة من فِي المجازاة والاستفهام وَحكي عَن بعض المرجئة أَنه قَالَ لَيْسَ فِي اللُّغَة لفظ الْعُمُوم وَإِنَّمَا يكون اللَّفْظ عَاما بِالْقَصْدِ وَزَعَمُوا أَن الْأَلْفَاظ الَّتِي يَقُول خصومهما إِنَّهَا عَامَّة هِيَ مجَاز فِي الِاسْتِغْرَاق حَقِيقَة فِي الْخُصُوص وَيُشبه أَن يَكُونُوا جعلُوا لَفْظَة من حَقِيقَة فِي الْوَاحِد مجَازًا فِي الْكل أَو يَكُونُوا جعلُوا بَقِيَّة أَلْفَاظ الْعُمُوم حَقِيقَة فِي جمع

غير مُسْتَغْرق لِأَنَّهُ يبعد أَن يجْعَلُوا أَلْفَاظ الْجمع الْمعرفَة بِاللَّامِ كَقَوْلِنَا الْمُسلمُونَ حَقِيقَة فِي الْوَاحِد مجَازًا فِي الْجمع وَلَفظ كل وَجَمِيع فِي ذَلِك أبعد وَذهب شُيُوخنَا المتكلمون وَالْفُقَهَاء إِلَى أَن فِي اللُّغَة ألفاظا وضعت للاستغراق فَقَط فَهِيَ حَقِيقَة فِيهِ مجَاز فِيمَا دونه وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الِاسْتِغْرَاق ظَاهر لكل أحد وَالْحَاجة تمس إِلَى الْعبارَة عَنهُ ليفهم السَّامع أَن الْمُتَكَلّم أَرَادَهُ فَجرى مجْرى السَّمَاء وَالْأَرْض وَغَيرهمَا فِي ظهورهما وَشدَّة الْحَاجة إِلَى الْعبارَة عَنْهُمَا فَكَمَا لم يجز مَعَ هَذَا الدَّاعِي الَّذِي هُوَ دَاعِي الْحَاجة أَن تتوالى الْأَعْصَار بِأَهْل اللُّغَة وَلَا يضعوا للسماء وَالْأَرْض كلَاما يخْتَص كل وَاحِد مِنْهُمَا مَعَ أَنهم قد وضعُوا الْأَسْمَاء للمعاني الغامضة وَوَضَعُوا للمعنى الْوَاحِد أَسمَاء كَثِيرَة كَذَلِك لَا يجوز أَلا يضعوا للاستغراق كلَاما يَخُصُّهُ وَلَيْسَ يجوز من أمة عَظِيمَة فِي أعصار مترادفة أَن يضعوا الْأَسْمَاء الْكَثِيرَة للمعنى الْوَاحِد ويعدلوا عَن وضع كَلَام يحتص بِمَعْنى ظَاهر وَهَذِه الدّلَالَة تفْسد قَول الْفَرِيقَيْنِ فان قَالُوا لَيْسَ يمْتَنع أَن يتَّفق ذَلِك من الْأُمَم الْعَظِيمَة أَلَيْسَ الْعَرَب مَعَ كثرتها لم يضعوا الْفِعْل الْحَال عبارَة تختصه دون الْفِعْل الْمُسْتَقْبل وَلَا وضعُوا عبارَة للاعتماد سفلا وَلَا للاعتماد علوا وَلَا للكون الَّذِي هُوَ يمنة أَو يسرة وَلَا وضعُوا عبارَة لرائحة الكافور يختصها وَالْحَاجة إِلَى ذَلِك شَدِيدَة وَالْأَمر فِيهَا ظَاهر وَقد أجَاب قَاضِي الْقُضَاة فَقَالَ هَذِه الْأَشْيَاء غير ظَاهِرَة فَلذَلِك لم يضعوا لَهَا عِبَارَات وَلقَائِل أَن يَقُول لَا شَيْء أظهر من رَائِحَة الكافور ومفارقتها لرائحة الْمسك والاعتماد والمدافعة للشَّيْء سفلا ومفارقتها للمدافعة علوا وَنحن نجيب عَن السُّؤَال بِأَن الَّذِي أوجبناه لظُهُور الْمُسَمّى وَشدَّة الْحَاجة إِلَى الْعبارَة عَنهُ هُوَ أَن يوضع لَهُ فِي اللُّغَة كَلَام ينبيء عَنهُ سَوَاء كَانَ مُفردا أَو مركبا وَعند خصومنا أَنه لَيْسَ فِي اللُّغَة كَلَام مُنْفَرد وَلَا مركب ينبيء عَن الِاسْتِغْرَاق وَحده فلزمتهم الْحجَّة فَأَما هَذِه الْأَشْيَاء كلهَا فلهَا بأجمعها عِبَارَات تعرف بهَا وَهِي أَسمَاء مُضَافَة لأَنا إِذا قُلْنَا رَائِحَة كافور و

اعْتِمَاد سفلا أَو علوا وَقُلْنَا يضْرب زيدا الْآن تميزت من غَيرهَا بِهَذِهِ الْعبارَات وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ السَّائِل الِاشْتِرَاك بَين الِاسْتِغْرَاق وَبَين الْبَعْض مَعْقُول وَقد تمس الْحَاجة إِلَى أَن يَجْعَل الْمُتَكَلّم غَيره فِي شكّ من استغراق كَلَامه أَو قصره على الْبَعْض فَيَنْبَغِي أَن يكون فِي اللُّغَة خطاب ينبيء عَن الِاشْتِرَاك لأَنا نقُول إِن فِي اللُّغَة خطابا ينبيء عَن الِاشْتِرَاك يُفِيد ذَلِك وَهُوَ أَن يدْخل الْألف وَاللَّام على اسْم الْجمع على قَول أبي هَاشم فَنَقُول جَاءَنِي النَّاس أَو جَاءَنِي الْقَوْم وَلَو قَالَ جَاءَنِي نَاس أَو جَاءَنِي قوم فَأنى بِلَفْظ جمع من غير ألف وَلَام لأفاد ذَلِك التَّرَدُّد بَين الِاسْتِغْرَاق وَمَا دونه من الجموع وَلَو قَالَ ايضا جَاءَنِي إِمَّا كل النَّاس وَإِمَّا بَعضهم يحصل لَهُ هَذَا الْغَرَض فان قَالُوا فَنحْن أَيْضا نقُول إِن فِي اللُّغَة كلَاما يُفِيد الِاسْتِغْرَاق وَهُوَ قَوْلنَا استغراق قيل الَّذِي نعرفه من قَوْلكُم خلاف ذَلِك وَمن مذهبكم أَن حسن الِاسْتِثْنَاء والاستفهام والتأكيد يدل على أَن اللَّفْظَة غير مستغرقة وَمَعْلُوم أَنه يحسن أَن نقُول استغرقت أكل الْخبز إِلَّا هَذَا الرَّغِيف وَيحسن أَن يستفهم الْمُتَكَلّم بذلك وَيحسن أَن يؤكده فَيَقُول استغرقت أكل الْخبز كُله فان قَالُوا لَا حَاجَة بهم إِلَى وضع لَفْظَة الِاسْتِغْرَاق لِأَنَّهُ يُمكن الْمُتَكَلّم أَن يعدد الْأَشْخَاص الَّذين يُرِيد أَن يعمهم بالحكم وَاحِدًا وَاحِدًا وَالْجَوَاب أَنه قد يُرِيد الْإِنْسَان أَن يعبر عَن جَمِيع النَّاس ليدل على حكم يشملهم فَلَا يُمكنهُ أَن يعددهم وَاحِدًا وَاحِدًا وَقد يُمكن ذَلِك فِي بعض الْأَشْخَاص فيضق تعدادهم لكثرتهم فان قيل لَا حَاجَة بهم إِلَى وضع اسْم يخْتَص الِاسْتِغْرَاق لأَنهم قد وضعُوا لَهُ وَلما دونه من الْجمع اسْما إِذا استعملوه مَعَ إِشَارَة أَو شَاهد حَال أنبأ عَن الِاسْتِغْرَاق فَيجْرِي ذَلِك مجْرى اسْم يخْتَص الِاسْتِغْرَاق قيل إِنَّهُم لَا يعلمُونَ أَنه يقْتَرن بِالِاسْمِ إِشَارَة أَو شَاهد حَال يحصل الْعلم عِنْدهمَا بالاستغراق وَلَا يجب أَيْضا وُقُوع الْعلم عِنْد الْإِشَارَة على كل حَال وعَلى أَن عدولهم إِلَى وضع الْأَسْمَاء للمعاني واستكثارهم من الْعبارَات عَن الشَّيْء الْوَاحِد يدل على أَنهم قد

عدلوا عَن الدّلَالَة بِالْإِشَارَةِ إِلَى الْعبارَة لضيق الْإِشَارَة واتساع الْعبارَة ووضوع دلالتها فَلَا يجوز مَعَ هَذَا الْفَرْض أَن يتْركُوا مَا يظْهر فِي نَفسه وتشد الْحَاجة إِلَيْهِ فَلَا يضعوا لَهُ عبارَة فان قَالُوا إِنَّهُم يُمكنهُم أَن يدلوا على الِاسْتِغْرَاق بِالتَّعْلِيلِ فَلَا حَاجَة بهم إِلَى وضع عبارَة لَهُ لأَنهم إِذا قَالُوا من دخل دَاري ضَربته لِأَنَّهُ دخل دَاري علمنَا أَنه يعم بذلك كل من دخل الدَّار الْجَواب أَنه لَيْسَ حكم يعرف علته فيعلل بهَا أَلا ترى أَن الْإِنْسَان إِذا أَرَادَ أَن يخبر بإن كل من فِي الدَّار نَائِم أَو آكل أَو ضَارب إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يحصي كثره لم يعرف لذَلِك عِلّة فيعلل بهَا وَقد تكون عللهم أَيْضا مُخْتَلفَة فواحد أكل لعِلَّة وَآخر لعِلَّة أُخْرَى فَلَا يُمكن تَعْلِيل ذَلِك بعلة تشيع فيهم فان قَالُوا إِنَّمَا كَانَ يلْزم مَا ذكرتموه لَو كَانَ أصل الْمُوَاضَعَة من قبلهم إِذا وضعُوا الْأَسْمَاء لعرض هُوَ قَائِم فِي الِاسْتِغْرَاق وَجب أَن يضعوا لَهُ كلَاما أَيْضا فَأَما والاسماء تَوْقِيف فَلَا يلْزم ذَلِك قيل لَو كَانَت الْأَسْمَاء توقيفا فِي الأَصْل لوَجَبَ إِذا لم يوقفوا على وضع كَلَام لِمَعْنى واشتدت حَاجتهم إِلَى وضع كَلَام لَهُ أَن يضعوه لَهُ كَمَا أَن من استحدث لَهُ من الصناع يلتجيء إِلَى وضع اسْم لَهَا وَإِن كَانَ أصل الْمُوَاضَعَة لَيست لسبق إِلَى الْفَهم الْبَعْض دون الِاسْتِغْرَاق من قبله وَكَذَلِكَ من ولد لَهُ ولد وَإِذا وَجب ذَلِك فِي الشَّخْص الْوَاحِد فللأمم الْكَثِيرَة فِي الْأَزْمَان الْمُتَّصِلَة أولى بِوُجُوب ذَلِك دَلِيل لَو كَانَ لفظ للْعُمُوم مُشْتَركا بَين الِاسْتِغْرَاق وَبَين الجموع الَّتِي دونه لَكَانَ الْإِنْسَان إِذا قَالَ رَأَيْت الْقَوْم كلهم أَجْمَعِينَ قد أكد الِاشْتِرَاك والالتباس وَكلما زَاد فِي التَّأْكِيد زَاد تَأْكِيد الالتباس وَالْإِيهَام وَمَعْلُوم باضطرار من مَقَاصِد أهل اللُّغَة أَنهم لَا يؤكدون بذلك الِاشْتِرَاك بل يقصدون تَأْكِيد الْإِيضَاح وَالْبَيَان وَأَنَّهُمْ إِذا أَرَادوا تَأْكِيد الْإِيهَام لم يعمدوا إِلَى هَذَا التَّأْكِيد وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه يلْزم الْمُخَالف تَأْكِيد الِاشْتِرَاك والالتباس لِأَن لَفْظَة كل مُشْتَركَة على سَبِيل الْحَقِيقَة بَين الِاسْتِغْرَاق وَبَين مَا تَحْتَهُ من الجموع وَكَذَلِكَ لَفْظَة أَجْمَعِينَ وكل من دلّ على شَيْء بِدلَالَة ثمَّ تَابع بَين الْأَدِلَّة عَلَيْهِ فانه يتَأَكَّد ذَلِك الْمَدْلُول وَجرى مجْرى أَن يَقُول الْإِنْسَان رَأَيْت جمعا

إِمَّا كل النَّاس وَإِمَّا بَعضهم ثمَّ كرر هَذَا الْكَلَام مرّة أُخْرَى فِي أَنه يكون مؤكدا للالتباس وَكَذَلِكَ لَو قَالَ رَأَيْت سقفا ثمَّ قَالَ رَأَيْت سقفا أَو قَالَ رَأَيْت إِمَّا الْحمرَة وَإِمَّا الْبيَاض وَلَو جَازَ مَعَ اشْتِرَاك اللفظتين بَين الِاشْتِرَاك وَبَين الْبَعْض أَن تكون لَفْظَة كل مُؤَكدَة للاستغراق لجَاز أَن تكون مُؤَكدَة للْبَعْض إِذْ كل وَاحِدَة من اللفظتين حَقِيقَة فِي الْكل وَحَقِيقَة فِي الْبَعْض فَلَو جَازَ أَن يتَأَكَّد باللفظة الثَّانِيَة الْكل جَازَ أَن يتَأَكَّد بهَا الْبَعْض وَذَلِكَ محَال إِن قيل إِنَّمَا يُؤَكد بِلَفْظَة كل وَلَفْظَة أَجْمَعِينَ لِأَن لَفْظَة كل أَو لَفْظَة أَجْمَعِينَ أَكثر اسْتِعْمَالا فِي الِاسْتِغْرَاق من غَيرهَا من الْأَلْفَاظ وَلَفْظَة أَجْمَعِينَ أَكثر إستعمالا فِي الِاسْتِغْرَاق من لَفْظَة كل قيل أما لَفْظَة أَجْمَعِينَ أَكثر فَأَنَّهُ لَيْسَ يظْهر أَنَّهَا اسْم لَهَا وَإِن كَانَ أصل الْمُوَاضَعَة لَيست إستعمالا فِي الِاسْتِغْرَاق من لَفْظَة كل وَلَو ظهر ذَلِك لَكَانَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن تكون مَعَ ذَلِك مُشْتَركَة بَين الِاسْتِغْرَاق وَبَين مَا دونه أَو لَا تكون مُشْتَركَة بل تكون بالاستغراق أخص فَإِن كَانَت بالاستغراق أخص وَهِي مفيدة لَهُ على سَبِيل الْحَقِيقَة لَا غير فَهُوَ قَوْلنَا دون قَوْلكُم وَإِن كَانَت مُشْتَركَة بَينهمَا واحتمالهما لَهما على سَوَاء فالالتباس قَائِم فان قَالُوا إِنَّمَا وَقع التَّأْكِيد بِلَفْظَة أَجْمَعِينَ لِأَنَّهَا فِي الْعَادة تسْتَعْمل فِي أَكثر الْجِنْس لَا فِي أَقَله وَلَيْسَ كَذَلِك النَّاس وَالْقَوْم قيل هَذَا لَا يمْنَع من أَن يكون بتأكيد الِاشْتِرَاك لِأَن اسْتِعْمَال لَفظه كل وأجمعين فِي الْأَكْثَر لَا يمْنَع من أَن يكون مُشْتَركَة بَين الْبَعْض وَبَين الِاسْتِغْرَاق وَأَن يلتبس على السَّامع مُرَاد الْمُتَكَلّم للْكُلّ وَالْبَعْض وعَلى أَنه إِن كَانَت هَذِه اللَّفْظَة أخص بِالْأَكْثَرِ مِنْهَا بِالْأَقَلِّ فقد خرجت من أَن تكون مُشْتَركَة وَوَجَب كَونهَا حَقِيقَة فِي الْأَكْثَر فَقَط با وَإِن لم تكن بالاكثر أخص مِنْهَا بِالْأَقَلِّ بل احتمالها لَهما على سَوَاء فقد سقط السُّؤَال وعَلى أَن هَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي لَفْظَة كل وَلَفْظَة أَجْمَعِينَ لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يُقَال إِن إِحْدَاهمَا تسْتَعْمل فِي شَيْء أَكثر مِمَّا تسْتَعْمل فِيهِ الْأُخْرَى أَلا ترى أَنا إِذا قُلْنَا رَأينَا الَّذين فِي الدَّار كلهم أَو قُلْنَا رَأينَا الَّذين فِي الدَّار أَجْمَعِينَ لم يجد السَّامع فصلا بَين الْكَلَامَيْنِ فِي كَثْرَة

مَا يفهمهُ وقلته وَأَيْضًا فقد يَقُول الْإِنْسَان ضربت النَّاس الَّذين فِي الدَّار أجمع فَلَو كَانَت إِحْدَى اللفظتين لَا تقع على سَبِيل الْحَقِيقَة إِلَّا على أَكثر مِمَّا تقع عَلَيْهِ الْأُخْرَى لما جَازَ تَأْكِيد الْأَكْثَر بِالْأَقَلِّ إِن قيل الْأَمر وَإِن كَانَ كَمَا ذكرْتُمْ فِي لَفْظَة كل وَلَفْظَة أَجْمَعِينَ إِذا كَانَا مفردين فانهما إِذا اجْتمعَا فَقَالَ الْقَائِل رَأَيْت النَّاس كلهم أَجْمَعِينَ علمنَا أَنه رأى أَكثر مِمَّا رَآهُ لَو قَالَ رَأَيْت النَّاس أَجْمَعِينَ أَو قَالَ رَأَيْت النَّاس كلهم قيل إِذا كَانَت كل وَاحِدَة من اللفظتين لَا تفِيد هَذِه الْكَثْرَة دون مَا نقص عَنْهَا فَيجب مثله عِنْد الِاجْتِمَاع لِأَن الْمركب من الْكَلَام إِنَّمَا يُفِيد تركيب معَان مُفْردَة فَقَط وَلَا يُفِيد فَائِدَة زَائِدَة دَلِيل متقرر أَن أهل اللُّغَة يلجأون فِي الْإِخْبَار عَن الِاسْتِغْرَاق إِلَى لَفْظَة كل وَجَمِيع وَلَا يلجأون إِلَى لفظ الْجمع نَحْو مُسلمين وَإِن كَانَ ذَلِك مُشْتَركا فِي كل جمع فان قَالُوا إِنَّمَا يلجأون إِلَى لفظ كل لما يقْتَرن بهَا من شَاهد الْحَال قيل فَهَلا اقْترن بِلَفْظ الْجمع ذَلِك مَعَ أَنه مُشْتَرك كلفظة كل دَلِيل آخر الْإِنْسَان إِذا سمع غَيره يَقُول ضربت كل من فِي الدَّار وَعلم أَن فِي الدَّار عشرَة وَلم يعرف سوى هَذَا اللَّفْظ أَعنِي أَنه لم يعرف أَن فِي الدَّار أَبَاهُ وَغَيره مِمَّن يغلب على الظَّن أَنه لَا يضْربهُ بل جوز أَن يَضْرِبهُمْ كلهم فان الأسبق إِلَى فهمه الِاسْتِغْرَاق وَلَو كَانَت اللَّفْظَة مجَازًا فِي الِاسْتِغْرَاق لسبق إِلَى الْفَهم الْبَعْض دون الِاسْتِغْرَاق وَلَو كَانَت اللَّفْظَة مُشْتَركَة بَين الِاسْتِغْرَاق وَمَا دونه لتردد فِي الْفَهم أَنه أَرَادَ الْكل أَو الْبَعْض على سَوَاء كَمَا تترد مَعَاني الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة فَلَا تترجح فِي النَّفس وَمن أنصف من نَفسه علم أَن الْأَمر كَمَا قُلْنَاهُ دَلِيل قَول الْقَائِل ضربت كل من فِي الدَّار يناقضه وينافيه قَول لم أضْرب كل من فِي الدَّار لِأَن الْإِنْسَان إِذا أَرَادَ أَن يُنَاقض من قَالَ ضربت

كل من فِي الدَّار قَالَ لَهُ فِي الْحَال لم تضرب كل من فِي الدَّار فَلَو كَانَت لَفْظَة كل مُشْتَركَة بَين الْبَعْض وَالْكل لم تكن مناقضة لقَوْله لم أضْرب كل من فِي الدَّار لِأَن هَذَا القَوْل يصدق إِذا ضرب الْبَعْض دون الْبَعْض وَلَو كَانَت لَفْظَة كل مجَازًا فِي الِاسْتِغْرَاق لَكَانَ مَا ذَكرْنَاهُ من نفي المناقضة أظهر وَأبين وَمَعْلُوم أَيْضا أَن لَفْظَة كل مُقَابلَة للفظة جُزْء وعَلى كل حَال وَذَلِكَ يمْنَع من أَن يكون قَوْلنَا كل مُفِيدا للجزء على الْحَقِيقَة دَلِيل قَول الْقَائِل اضْرِب رجلا يُفِيد ضرب رجل غير معِين وَقَوْلنَا لَا تضرب رجلا كالسلب لَهُ وَلَا يكون كالسلب لَهُ إِلَّا بِأَن يُفِيد نفي ضرب كل الرِّجَال لِأَنَّهُ لَو نفي ضرب بَعضهم لاجتمع مَعَ ضرب رجل وَفِي ذَلِك إبِْطَال تنافيهما وَكَذَلِكَ قَول الْقَائِل ضربت رجلا وَقَوله لم أضْرب رجلا دَلِيل اعْلَم أَن لَفْظَة من عَامَّة إِذا كَانَت نكرَة فِي المجازاة والاستفهام وَإِذا كَانَت معرفَة خصت هَكَذَا ذكره شُيُوخنَا وَنحن نقُول إِن لَفْظَة من لَا يستفهم بهَا إِلَّا أَن يقرن بهَا صفة فاذا قرن بهَا صفة عَمت كل عَاقل لَهُ تِلْكَ الصّفة سَوَاء كَانَت معرفَة أَو نكرَة يَقُول فِي الِاسْتِفْهَام من فِي الدَّار فَيكون استفهاما عَن كل عَاقل فِي الدَّار وَيَقُول فِي المجازاة من دخل دَاري ضَربته فَيعم كل عَاقل دخل دَاره وَيَقُول فِي الْمعرفَة ضربت من ضربت يَا زيد فَيعم كل عَاقل ضربه زيد فَهِيَ كالنكرة فِي هَذَا الْمَعْنى وَإِنَّمَا تفارق النكرَة فِي أَنَّهَا إِذا كَانَت معرفَة دخلت على من قد عَرَفَة الْمُخَاطب والمخاطب وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا كَانَت نكرَة نَحْو قَوْله من دخل دَاري ضَربته وَالدَّلِيل على أَن لَفْظَة من تعم فِي الِاسْتِفْهَام أَنه لَا شُبْهَة فِي أَنَّهَا حَقِيقَة فِي الْعُقَلَاء لِأَنَّهُ لَا وَجه يَقْتَضِي كَونهَا حَقِيقَة فِي غَيرهم إِلَّا وَمَا هُوَ أقوى مِنْهُ يَقْتَضِي كَونهَا حَقِيقَة فيهم فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن تكون حَقِيقَة فِي جَمِيعهم فَقَط أَو حَقِيقَة فِي بَعضهم فَقَط أَو حَقِيقَة فِي الْكل وَفِي الْبَعْض فَلَو كَانَت حَقِيقَة فِي الْبَعْض حَتَّى يكون استفهاما عَن صفة بعض الْعُقَلَاء سَوَاء كَانَ معينا أَو غير معِين

لوَجَبَ إِذا كَانَ عِنْد الْإِنْسَان بَنو تَمِيم كلهم فَقَالَ لَهُ قَائِل من عنْدك من بني تَمِيم فَذكرهمْ لَهُ وَاحِدًا وَاحِدًا أَن يكون قد أَجَابَهُ عَمَّا سَأَلَهُ وَعَما لم يسْأَله وَذَلِكَ فِي الْقبْح جَار مجْرى أَن يجِيبه بِذكر الْعُقَلَاء وبذكر الْحمير وَلَو كَانَت حَقِيقَة فِي بعض معِين لوَجَبَ إِذا كَانَ عِنْد المسؤول غير ذَلِك الْبَعْض من الْعُقَلَاء أَن لَا تكون من استفهاما عَنْهُم فَكَانَ لَا يحسن أَن يذكرهم فِي الْجَواب كَمَا لَو كَانَ عِنْده الْبَهَائِم إِذْ السُّؤَال مَا تناولهم وَأَيْضًا فالمسؤول لَا يعرف الْبَعْض الَّذِي يكون لَفْظَة من سؤالا عَنهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذكر فِي لَفْظَة من وَفِي ذَلِك كَون المسؤول غير عَارِف بِمَا سُئِلَ عَنهُ وَلَا يقْصد السَّائِل بسؤاله بَعْضًا دون بعض وَلَا عددا دون عدد وَأَيْضًا فَلَيْسَ بِأَن تتَنَاوَل لَفْظَة من بَعْضًا من الْعُقَلَاء بأعيانهم بِأولى من أَن تتَنَاوَل بَعْضًا آخر وَلَو كَانَت لَفْظَة من مُشْتَركَة بَين الْكل وَالْبَعْض لَكَانَ العَبْد إِذا قَالَ لَهُ سَيّده من عنْدك وَعِنْده جمَاعَة من النَّاس لَهُ أَن لَا يُجيب بِذكر جَمِيعهم وَمَعْلُوم أَن الْعُقَلَاء يلومونه عى ذَلِك وَيَقُولُونَ لَهُ قد قَالَ لَك من عنْدك فَلم أَجَبْته بِذكر الْبَعْض ولكان لَهُ أَن يَقُول مَا أَدْرِي مَا الَّذِي تعنيه بكلامك إِذْ كلامك مُشْتَرك بَين الْبَعْض وَبَين الْكل ولكان لَهُ أَن يَقُول أعن خَمْسَة تَسْأَلنِي أَو عَن سِتَّة أَو عَن سَبْعَة ولكان لَهُ أَن يَقُول عَن الْعَرَب تَسْأَلنِي أم عَن الْعَجم فاذ قَالَ لَهُ عَن الْعَرَب قَالَ أعن مُضر أم عَن ربيعَة فاذا قَالَ عَن مُضر قَالَ أعن بني سعد أم عَن بني زيد ثمَّ يتَّصل الِاسْتِفْهَام من المسؤول هَكَذَا لِأَنَّهُ لَا وَجه يَقْتَضِي كَون لَفْظَة من مُشْتَركَة بَين الْكل وَالْبَعْض الاوهو قَائِم فِي قَوْلنَا الْعَرَب وَفِي قَوْلنَا بني تَمِيم وَمن مَذْهَب الْمُخَالف أَيْضا أَن هَذِه الْأَلْفَاظ كلهَا مُشْتَركَة وَمَعْلُوم قبح هَذَا الِاسْتِفْهَام بل لَا يتَّفق ذَلِك من الْعُقَلَاء وَلَا مَا هُوَ أقل مِنْهُ فان قَالُوا إِنَّمَا لم يحسن إِيصَال هَذَا الِاسْتِفْهَام لِأَن المسؤول يضْطَر الى قصد السَّائِل عَن بعض هَذِه الاستفهامات قيل فَكيف يضْطَر إِلَى قَصده ابدا مَعَ أَن جَمِيع مَا يَأْتِيهِ من الْأَلْفَاظ مُشْتَرك وَهل هَذَا إِلَّا كالقول بِأَن الْإِنْسَان إِذا سمع غَيره يَقُول

رَأَيْت شفقا علم على طَريقَة وَاحِدَة أَن الْمُتَكَلّم قد أَرَادَ الْحمرَة فِي أَن ذَلِك محَال وَإِنَّمَا يتَّفق ذَلِك فِي بعض الْحَالَات أَن يضْطَر إِلَى أَنه أَرَادَ أحد الْمَعْنيين وَإِلَّا فَالْأَصْل أَن يلتبس عَلَيْهِ وَلَو جَازَ أَن يضْطَر إِلَى قَصده أبدا لَكَانَ الِاسْم الْمُشْتَرك أظهر من الِاسْم الَّذِي حَقِيقَته معنى وَاحِد لِأَن هَذَا الِاسْم لَا يضْطَر السَّامع إِلَى مَعْنَاهُ على طَريقَة وَاحِدَة وَإِنَّمَا يظنّ أَنه قصد ذَلِك الْمَعْنى أَو يعلم علم اسْتِدْلَال إِذا كَانَ الْمُتَكَلّم بِهِ حكيما فان قَالُوا إِنَّمَا يضْطَر السَّامع إِلَى قصد الْمُتَكَلّم لما يقْتَرن بِكَلَامِهِ من الإشارات قيل إِنَّه لَفْظَة من لَيْسَ يقْتَرن بهَا إِشَارَة وَلَو أقترن بهَا إِشَارَة فِي بعض الْحَالَات لجَاز أَن لَا يقْتَرن بهَا فِي حَالَة أُخْرَى وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يحسن هَذَا الِاسْتِفْهَام الَّذِي ذَكرْنَاهُ إِذا لم تقترن الْإِشَارَة بِكَلَامِهِ وَأَيْضًا فَلَيْسَ بِوَاجِب حُصُول الْعلم عِنْد الْإِشَارَة على كل حَال فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يحسن هَذَا الِاسْتِفْهَام فِي حَال دون حَال إِن قيل أَلَيْسَ قد يَقُول الْمُتَكَلّم لمن قَالَه من عنْدك أعن الْعَرَب تَسْأَلنِي أم عَن الْعَجم فَبَطل قَوْلكُم إِن ذَلِك لَا يحسن الْجَواب أَنه مَتى لم يعرف إِلَّا مُجَرّد اللَّفْظَة لم يحسن مِنْهُ هَذَا الإستفهام وَإِنَّمَا يحسن مِنْهُ ذَلِك إِذا علم من ضمير السَّائِل أَن غَرَضه أَن يسْأَله عَن أحد القبيلتين إِمَّا الْعَرَب وَإِمَّا الْعَجم وَلَا يعرف أَن غَرَضه أَحدهمَا بِعَيْنِه فَيَقُول لَهُ أعن الْعَرَب تَسْأَلنِي أم عَن الْعَجم وَلَو كَانَ الأَصْل حسن سُؤَاله عَن أحد القبيلتين لَكَانَ يَنْبَغِي أَن يكون حسن هَذَا الِاسْتِفْهَام هُوَ الْأَكْثَر وقبحه هُوَ القل وَالْأَمر بِخِلَاف ذَلِك وَيحسن أَن يتَّصل الِاسْتِفْهَام على مَا ذَكرْنَاهُ فَعلمنَا أَنه إِن حسن أَن يَقُول المسؤول للسَّائِل أعن الْعَرَب تَسْأَلنِي فَلَمَّا ذَكرْنَاهُ وَقد يكون عِنْد المسؤول عَالم من النَّاس يعجز عَن ذكر آحادهم فَيَقُول عِنْدِي عَالم من النَّاس لَا أَسْتَطِيع ذكر آحادهم فيعتذر بذلك وَيدل اعتذاره على أَن الْمَفْهُوم من لَفْظَة من السُّؤَال عَن كل عَاقل عِنْده إِن قيل إِنَّمَا يجِيبه بِذكر كل عَاقل عِنْده لِأَنَّهُ إِذا أَجَابَهُ بذلك فقد صَار إِلَى غَرَض السَّائِل لِأَنَّهُ إِن كَانَ غَرَضه السُّؤَال عَن الْكل فقد أَجَابَهُ وَإِن كَانَ غَرَضه السُّؤَال عَن الْبَعْض

فقد دخل تَحت جَوَابه عَن الْكل قيل يَقْتَضِي حسن جَوَابه عَن الْكل وَلَا يُوجِبهُ وَفِي ذَلِك حسن اسْتِفْهَام المسؤول عَن الْحَد الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَأَيْضًا فان كَانَت اللَّفْظَة مُشْتَركَة فَلَيْسَ فِي جَوَاب المسؤول بِذكر الْكل وُصُول إِلَى غَرَض السَّائِل على كل حَال لِأَنَّهُ قد يجوز أَن يكون غَرَضه السُّؤَال عَن الْبَعْض وَهُوَ أحد محتملي السُّؤَال وَأَن لَا يفحص عَن الْبَاقِي وَلَا يعرفهُ فان قَالُوا لَو كَانَ هَذَا غَرَضه لما أَتَى بِلَفْظ مُشْتَرك قيل وَلَو كَانَ غَرَضه الْكل لما أَتَى بِلَفْظ مُشْتَرك بَين الْكل وَبَين الْبَعْض وعَلى أَن هَذَا يَقْتَضِي أَن يكون غَرَض المستفهم بِلَفْظَة من السُّؤَال عَن الْكل أبدا وَهَذَا يَقْتَضِي السَّامع ذَلِك من غَرَضه وَذَلِكَ يزِيل كَونهَا مُشْتَركَة فان قَالُوا إِنَّا غير مُشْتَركَة من جِهَة الْعرف قيل إِذا ثَبت لنا أَنَّهَا غير مُشْتَركَة فِي اللُّغَة فِي هَذَا الْوَقْت فقد تمّ غرضنا وَلَا ضَرَر علينا فِي أَن لَا نَعْرِف لماذا وضعت من قبل على أَنه لَا طَرِيق إِلَى أَن نعلم أَن اللَّفْظَة مَوْضُوعَة فِي أصل اللُّغَة للشَّيْء إِلَّا أَن نعلم أَنَّهَا حَقِيقَة فِيهِ فِي هَذَا الْوَقْت وَلَا يدل دَلِيل على أَنَّهَا منقولة فَلَو جَوَّزنَا فِي لَفْظَة من أَن تكون منقولة لم يجوز ذَلِك فِي كل لَفْظَة دَلِيل الْقَائِل إِذا قَالَ من دخل دَاري ضَربته حسن أَن يسْتَثْنى مِنْهُ كل عَاقل وَالِاسْتِثْنَاء يخرج من الْكَلَام مَا لولاه لوَجَبَ دُخُوله تَحْتَهُ فاذا لَوْلَا الِاسْتِثْنَاء لوَجَبَ دُخُول كل عَاقل تَحت لَفْظَة من فَلَو كَانَت لَفْظَة من حَقِيقَة فِي الْخُصُوص مجَازًا فِي الْعُمُوم أَو كَانَت حَقِيقَة فِي الِاسْتِغْرَاق وَفِيمَا دونه من الجموع لما وَجب دُخُول كل عَاقل تَحت الْكَلَام على كل حَال إِن قَالَ أَصْحَاب الِاشْتِرَاك مَا أنكرتم أَن يكون الِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا يخرج من الْكَلَام مَا لولاه لصَحَّ دُخُوله تَحْتَهُ فَجَاز أَن يسْتَثْنى الْإِنْسَان من لَفْظَة من أَي عَاقل شَاءَ لصحه دُخُول كل عَاقل تحتهَا قيل لَو جَازَ مَا ذكرت لجَاز أَن يَقُول الْقَائِل لغيره اضْرِب رجَالًا إِلَّا زيدا وَهَذَا الْكَلَام فِي الْحسن والإستقامة يجْرِي مجْرى قَول قَائِل من دخل دَاري ضَربته إِلَّا زيدا لِأَن أَي رجل أَشرت إِلَيْهِ يجوز أَن يدْخل تَحت قَوْله اضْرِب رجلا على سَبِيل الْجمع

والشمول وَمَعْلُوم أَن أهل اللُّغَة لَا يتناولون قَول الْقَائِل من دخل دَاري ضَربته إِلَّا زيدا بل يجْعَلُونَ ذَلِك اسْتثِْنَاء حَقِيقَة ويتأولون قَوْله اضْرِب رجَالًا إِلَّا زيدا وَيَقُولُونَ إِن إِلَّا هَا هُنَا بِمَنْزِلَة لَيْسَ كَأَنَّهُ قَالَ اضْرِب رجَالًا لَيْسَ زيد مِنْهُم وَقد اسْتدلَّ أَصْحَابنَا على أَن الِاسْتِثْنَاء لَا يخرج من الْكَلَام مَا لولاه لصَحَّ دُخُوله تَحْتَهُ بأَشْيَاء مِنْهَا قَوْلهم لَو حسن ذَلِك لحسن أَن يَقُول الْقَائِل ضربت رجلا إِلَّا زيدا وَرَأَيْت رجلا إِلَّا زيدا لِأَن كل رجل يَصح دُخُوله تَحت قَوْله أضْرب رجلا وَلقَائِل أَن يَقُول أما قَول الْقَائِل اضْرِب رجلا إِلَّا زيدا فحسنه لَازم لكم لِأَن قَوْله اضْرِب رجلا يتَنَاوَل كل رجل على الْبَدَل على سَبِيل الْوُجُوب لَا على سَبِيل الصِّحَّة فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يحسن أَن يسْتَثْنى مِنْهُ زيدا ليخرج من وجوب تنَاول الْخطاب لَهُ على الْبَدَل فان قُلْتُمْ إِنَّمَا لم يحسن ذَلِك لِأَن قَوْله اضْرِب رجلا لَا يتَنَاوَل كل رجل على جِهَة الشُّمُول وَالِاسْتِثْنَاء يخرج مَا لولاه لوَجَبَ دُخُوله تَحْتَهُ على جِهَة الشُّمُول الْجمع قبل لكم مَا أنكرتم أَن يكون الِاسْتِثْنَاء يخرج من الْكَلَام مَا لولاه لصَحَّ دُخُوله تَحْتَهُ على جِهَة الشُّمُول أَيْضا وَأما قَوْله رَأَيْت رجلا إِلَّا زيدا فانه لَا يسْتَعْمل لِأَن قَوْله رَأَيْت رجلا وَإِن لم يفد رجلا بِعَيْنِه فاذا نعلم أَن رُؤْيَته مَا تناولت إِلَّا شخصا معينا وَإِن لم يكن معينا لنا وَالشَّيْء الْوَاحِد الْمعِين لَا يجوز أَن يسْتَثْنى مِنْهُ لِأَنَّهُ لم يدْخل مَعَه غَيره لَا على جِهَة الشُّمُول وَلَا على جِهَة الْبَدَل وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الِاسْتِثْنَاء يدْخل على أَلْفَاظ الْعدَد كَقَوْل الْقَائِل لَهُ على عشرَة إِلَّا وَاحِدًا وَإِنَّمَا حسن دُخُوله على الْعشْرَة لِأَنَّهُ قد أخرج مِنْهَا مَا لولاه لدخل فِيهَا أَلا ترى لَا يحسن استثناؤها كلهَا وَلَا اسْتثِْنَاء مَا لم يدْخل تحتهَا وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا حسن اسْتثِْنَاء الْوَاحِد من الْعشْرَة لِأَنَّهُ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاء لصَحَّ

دُخُوله فِي الْخطاب لَا لوُجُوب دُخُوله فِيهِ لِأَن وجوب دُخُول الْوَاحِد فِي جملَة الْعشْرَة لَا يمْنَع من كَون دُخُوله صَحِيحا إِن قيل كَيفَ يكون دُخُوله صَحِيحا وواجبا قيل إِن صِحَة دُخُوله تَحت لفظ الْعشْرَة نعني بِهِ أَن اسْم الْعشْرَة يتَنَاوَلهُ مَعَ غَيره على سَبِيل الْحَقِيقَة وَوُجُوب دُخُوله تَحْتَهُ نعني بِهِ أَنه لَا يكون الْخطاب حَقِيقَة إِلَّا إِذا دخل تَحْتَهُ وَمَعْلُوم أَن الْقسم الأول دَاخل تَحت الْقسم الثَّانِي وَيبين ذَلِك أَن كلما وَجب لَهُ حكم من الْأَحْكَام فَذَلِك الحكم صَحِيح عَلَيْهِ غير مُسْتَحِيل وَأَيْضًا فَلَو كَانَ يج دُخُوله تَحت الْخطاب مباينا لما يَصح دُخُوله تَحْتَهُ لم يَصح الأستدلال بِدُخُول الِاسْتِثْنَاء على لفظ الْعدَد لِأَن ذَلِك يدل على أَن الِاسْتِثْنَاء يخرج مَا لولاه لوَجَبَ دُخُوله تَحت الْخطاب وَذَلِكَ لَا يمْنَع من إِخْرَاجه مَا يَصح دُخُوله تَحْتَهُ لِأَن حسن أَحدهمَا لَا يمْنَع من حسن الآخر وَمِنْهَا قَوْلهم إِن أهل اللُّغَة قَالُوا إِن الِاسْتِثْنَاء هُوَ إِخْرَاج جُزْء من كل والجزء يجب كَونه جُزْء لكله وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الشَّيْء قد يكون جُزْء للشَّيْء على طَرِيق الصِّحَّة وعَلى طَرِيق الْوُجُوب أما الَّذِي هُوَ جُزْء على طَرِيق الْوُجُوب فالواحد من الْعشْرَة وَأما الَّذِي هُوَ جُزْء على طَرِيق الصِّحَّة فانه يجوز أَن يكون جزءه وَيجوز أَن لَا يكون جزءه نَحْو قَول الْقَائِل اضْرِب رجَالًا فانه يجوز أَن يكون زيد جُزْء مِنْهُم وَيجوز أَن لَا يكون مِنْهُم فاذا كَانَ كَذَلِك فَلَيْسَ فِي قَول أهل اللُّغَة إِن الِاسْتِثْنَاء يخرج جُزْء من كل مَا يدل على أَنه يخرج مَا يجب أَن يكون جُزْء من الْكل وَالْمُعْتَمد فِي الْجَواب على الأول إِن قيل لَو كَانَ الِاسْتِثْنَاء يخرج من الْكَلَام مَا لولاه لوَجَبَ دُخُوله تَحْتَهُ يحسن أَن يَسْتَثْنِي الْإِنْسَان من قَوْله من دخل دَاري ضَربته الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ لِأَنَّهُ يجب دُخُولهمْ تَحت لَفْظَة من قيل وَلَو كَانَ يخرج من الْكَلَام مَا لولاه لصَحَّ دُخُوله تَحْتَهُ لحسن اسْتثِْنَاء الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ من قَول الْقَائِل من دخل دَاري ضَربته لِأَن تنَاول الْخطاب لم يَصح وَأَيْضًا فَإنَّا إِنَّمَا قُلْنَا إِن الِاسْتِثْنَاء لَا يخرج من الْكَلَام إِلَّا مَا يجب دُخُوله تَحْتَهُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَن يكون كل مَا هَذِه سَبيله فَيجب

دُخُول الِاسْتِثْنَاء عَلَيْهِ وَأَيْضًا فالاستثناء إِنَّمَا يخرج من الْكَلَام مَا لولاه لتنَاوله الْكَلَام وَلم يمْنَع مَانع من دُخُوله تَحْتَهُ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ وَالْحَال هَذِه يجب دُخُول الْمُسْتَثْنى مِنْهُ تَحت الْخطاب وَالْمَلَائِكَة وَالْجِنّ قد منع مَانع من دُخُولهمْ تَحت الْخطاب وَعلمنَا أَن الْمُتَكَلّم مَا أَرَادَهُم قبل الِاسْتِثْنَاء فَلم يكن فِي الِاسْتِثْنَاء فَائِدَة وَلما لم يمْتَنع أَن يدخلُوا تَحت خطاب الله سُبْحَانَهُ حسن أَن يتناولهم الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ لَو قَالَ من عَصَانِي عاقبته حسن أَن يَسْتَثْنِي الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ دَلِيل وَقد اسْتدلَّ فِي الْمَسْأَلَة بِأَن أهل اللُّغَة فصلوا بَين الْعُمُوم وَبَين الْخُصُوص وَجعلُوا أَحدهمَا فِي مُقَابلَة الآخر فَقَالُوا مخرج هَذَا اللَّفْظ الْعُمُوم ومخرج هَذَا الْخُصُوص كَمَا فصلوا بَين الْأَمر وَبَين النَّهْي فَكَمَا وَجب أَن يكون لكل وَاحِد مِنْهُمَا لفظ يَخُصُّهُ فَكَذَلِك الْعُمُوم وَالْخُصُوص وَهَذِه الدّلَالَة إِنَّمَا تفْسد القَوْل بِأَن لفظ الْعُمُوم يُفِيد مَا يفِيدهُ لفظ الْخُصُوص فَقَط وانه يُسْتَفَاد مِنْهُ الْعُمُوم بِالْقَصْدِ لِأَن الْقَائِل بِهَذَا القَوْل لَا يَجْعَل أَحدهمَا مُنْفَصِلا من الآخر وَذَلِكَ يمْنَع من أَن يكون أَحدهمَا فِي مُقَابلَة الآخر لِأَن الشَّيْء لَا يكون فِي مُقَابلَة نَفسه غير أَنه يبعد أَن يذهب إِلَى هَذَا القَوْل أحد فَأَما قَول الْخصم بِأَن الْعُمُوم مُشْتَرك بَين أول الْمَجْمُوع وَبَين الِاسْتِغْرَاق وَمَا بَينهمَا من الجموع وَلَا يُفِيد مَا نقص عَن أقل الْجمع على سَبِيل الْحَقِيقَة وَالْخُصُوص يُفِيد عينا وَاحِدَة فان هَذَا الدَّلِيل لَا يُفْسِدهُ وَكَذَلِكَ لَو قَالَ إِن لفظ الْعُمُوم يُفِيد أقل الْجمع دون مَا فَوْقه على سَبِيل الْحَقِيقَة وَالْخُصُوص لَا يفِيدهُ على سَبِيل الْحَقِيقَة إِلَّا عينا وَاحِدَة لِأَنَّهُ بِهَذَا القَوْل قد خَالف بَينهمَا فِي الْفَائِدَة وَذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَن الَّذِي يفْسد قَول الذاهبين إِلَى أَن لفظ الْعُمُوم مُشْتَرك بَين الإستغراق وَبَين مَا دونه أَن أهل اللُّغَة فصلوا بَين لفظ الْعُمُوم وَبَين النكرَة فِي الْإِثْبَات نَحْو رجل وَمَا أشبه ذَلِك وَلنْ يتم ذَلِك إِلَّا مَعَ القَوْل بِأَن فِي الْعُمُوم ضرب من الِاسْتِغْرَاق وَلقَائِل أَن يَقُول إِن ذَلِك يتم من دون مَا ذكره لِأَنِّي أجعَل النكرَة فِي الْإِثْبَات تتَنَاوَل وَاحِدًا غير معِين وَلَفظ الْعُمُوم يُفِيد الْجمع الْمُسْتَغْرق وَغير الْمُسْتَغْرق على الْبَدَل

دَلِيل وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ فِي الْمَسْأَلَة هُوَ أَن أهل اللُّغَة خالفوا بَين تَأْكِيد الْعُمُوم وَبَين تَأْكِيد الْخُصُوص فَجعلُوا تَأْكِيد أَحدهمَا مفارقا لتأكيد الآخر أَلا ترى أَنهم قَالُوا رَأَيْت زيدا نَفسه وَلم يَقُولُوا رَأَيْت زيدا أَجْمَعِينَ وَقَالُوا رَأَيْت الْقَوْم أَجْمَعِينَ وَلم يَقُولُوا رَأَيْت الْقَوْم نَفسه قَالُوا فَكَمَا أَن تأكيديهما مُخْتَلِفَانِ لَا بِالْقَصْدِ فَكَذَلِك هما يجب أَن يختلفا لَا بِالْقَصْدِ لِأَن من حق التَّأْكِيد أَن يُطَابق الْمُؤَكّد وَلَا يلْزم على ذَلِك الْإِشَارَة لِأَنَّهَا تورد للاستعانة بهَا والاستراحة إِلَيْهَا لَا للتَّأْكِيد وَمَعَ ذَلِك فان الاشارة إِلَى جمَاعَة من النَّاس مُخَالفَة للْإِشَارَة إِلَى شخص وَاحِد وَلِهَذَا إِذا قَالَ الْإِنْسَان جَاءَنِي هَؤُلَاءِ الْقَوْم اشار إِلَى جَمَاعَتهمْ وحرك إصبعه فِي جهتهم وَإِذا قَالَ جَاءَنِي زيد وَحده أَشَارَ إِلَيْهِ وَحده وَكَذَلِكَ إِذا أَشَارَ وهم عَنهُ غيب فَقَالَ جَاءَنِي الْقَوْم كلهم وَقَالَ جَاءَنِي زيد وَحده وَهَذِه الدّلَالَة إِنَّمَا يبطل بهَا قَول من قَالَ إِن لفظ الْعُمُوم لَا يُفِيد إِلَّا مَا يفِيدهُ الْخُصُوص لِأَن القَوْل بذلك يلْزم عَلَيْهِ أَن يكون تَأْكِيد الْعُمُوم كتأكيد الْخُصُوص فَأَما إِذا قَالَ إِن لفظ الْخُصُوص يتَنَاوَل الْوَاحِد وَلَفظ الْعُمُوم يُفِيد الْجمع وَهُوَ مُشْتَرك بَين كل الجموع وَلَا يَقع على الْوَاحِد إِلَّا مجَازًا فانه قد خَالف بَين فائدتيهما فَلم يلْزمه أَن يُوَافق بَين تأكيديهما شُبْهَة لَهُم قَالُوا لَو كَانَ لفظ الْعُمُوم مُسْتَغْرقا لَكَانَ ذَلِك مَعْلُوما إِمَّا بالبديهة أَو باخبار الواضعين لذَلِك لنا مشافهة أَو بِنَقْل عَنهُ إِمَّا بالتواتر أَو بالآحاد وَأَن يكون طَرِيق ذَلِك الشَّرْع قَالُوا لَيْسَ خلافنا مَعكُمْ فِي أَن ذَلِك مَعْلُوم بِالشَّرْعِ لأنكم تدعون الْعلم بالاستغراق من جِهَة اللُّغَة قبل الشَّرْع وَمَعْلُوم أَن الْعلم بذلك لَيْسَ من البديهة وَمَا شاهدنا الواضعين فيشافهونا بذلك فَلَو تَوَاتر النَّقْل عَنْهُم باستغراق أَلْفَاظ الْعُمُوم لعلمنا من ذَلِك مَا علمْتُم وأخبار الْآحَاد لَيست طَرِيقا إِلَى الْعلم وَلَو كَانَ الْخَبَر عَن استغراق الْعُمُوم خبر وَاحِد لم

ينفعكم فَبَان أَنه لَا طَرِيق إِلَى الْعلم باستغراق أَلْفَاظ الْعُمُوم وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم أَتَجْعَلُونَ هَذِه الشُّبْهَة دلَالَة على أَن لفظ الْعُمُوم مَا وضع للاستغراق أَو تجعلونها دلَالَة على أَنه وضع للاستغراق وَلما دونه فان قَالُوا بِالْأولِ قيل لَهُم نَحن نعلم ضَرُورَة بِالنَّقْلِ عَنهُ وَعند استعمالهم الْكَلَام أَن لَفْظَة كل وَجَمِيع إِذا اسْتعْملت فِي الإستغراق لم تكن مجَازًا وَلَو لم نعلم ذَلِك ضَرُورَة لجَاز أَن نعلم بِدَلِيل وَهُوَ أَن ينْقل عَنْهُم بالتواتر أَنهم أضافوا إِلَى هَذِه الْأَلْفَاظ أحكاما لَا تصح إِلَّا إِذا كَانَت الْأَلْفَاظ عَامَّة نَحْو الِاسْتِثْنَاء والاستفهام وَغير ذَلِك وعَلى أَن مَا ذَكرُوهُ يَقْتَضِي أَنه لَا طَرِيق لَهُم إِلَى الْعلم بِأَن لفظ الْعُمُوم وضع للاستغراق وَهَذَا يَقْتَضِي أَن يجوزوا كَونه مَوْضُوعا لَهُ وهم يقطعون على أَنه غير مَوْضُوع لَهُ وَلَا يَشكونَ فان قَالُوا مَذْهَبنَا أَن لفظ الْعُمُوم مَوْضُوع للاستغراق وَلما دونه قيل لَهُم فالشبهة عَلَيْكُم لَا لكم لأنكم قد سلمتم أَن لفظ الْعُمُوم مَوْضُوع للاستغراق وَهُوَ حَقِيقَة فِيهِ فكأنكم إِنَّمَا استدللتم على أَنه مَوْضُوع لما دونه وَنحن ننفي ذَلِك فلنا أَن نقُول لَو كَانَ مَوْضُوعا لما دونه لَكَانَ ذَلِك مَعْلُوما بالبديهه أَو بمشافهة الواضعين أَو بالتواتر عَنْهُم أَو بالآحاد وَلَا تَوَاتر فِي ذَلِك وَلَا آحَاد لِأَنَّهُ لَيْسَ أحد من أهل اللُّغَة قَالَ إِن لَفْظَة كل حَقِيقَة فِي الْبَعْض وَلَا نقل ذَلِك ناقل وَاحِد فَالْكَلَام لَازم لِأَنَّهُ لَو وضع لما دون الِاسْتِغْرَاق لما جَازَ أَن يضْرب أهل النَّقْل بأجمعهم عَن نَقله شُبْهَة قَالُوا لَو كَانَ الْعُمُوم مَوْضُوعا للاستغراق لفهم السَّامع لَهُ الِاسْتِغْرَاق عِنْد إِدْرَاكه بِأول وهلة كَمَا علم الْخُصُوص عِنْد إِدْرَاكه الْخُصُوص الْجَواب يُقَال لَهُم لم زعمتم أَنه كَانَ يجب ذَلِك وَأَيْضًا فَلَيْسَ كل مَعْلُوم يعلم عِنْد الْإِدْرَاك بِأول وهلة بل كثير من المعلومات يعلم بتأمل وَنظر وَلَا يمْتَنع أَن الْعُمُوم يعلم بالأدلة الَّتِي ذَكرنَاهَا وعَلى أَن كثيرا من أَلْفَاظ الْعُمُوم نَحْو كل وَجَمِيع إِذا تجردت علم من خالط أهل الْعَرَبيَّة من قصدهم استغراقها حَتَّى إِذا

سَمعهَا متجردة عَن قرينَة سبق إِلَى فهمه الِاسْتِغْرَاق نَحْو أَن يَقُول الْقَائِل ضربت كل من فِي الدَّار فَهِيَ كألفاظ الْخُصُوص وَإِن جَازَ أَن يكون الْعلم بفائدة لفظ الْخُصُوص أظهر وَيُقَال لَهُم وَلَو كَانَ لفظ الْعُمُوم مَوْضُوعا للاستغراق أَو وَلما دونه فَقَط لعرف ذَلِك من سمع الْعُمُوم بِأول وهلة شُبْهَة قَالُوا لفظ الْعُمُوم يسْتَعْمل فِي الِاسْتِغْرَاق وَفِيمَا دونه على سَوَاء فَكَمَا وَجب أَن يكون حَقِيقَة فِي الِاسْتِغْرَاق وَجب كَونه حَقِيقَة فِيمَا دونه الْجَواب يُقَال لَهُم لَو تعنون بقولكم إِنَّهَا مستعملة فِي الِاسْتِغْرَاق وَفِيمَا دونه على حد سَوَاء أَنَّهَا مستعملة فيهمَا على حد الْحَقِيقَة فَهُوَ مَوْضُوع الْخلاف وَفِي ذَلِك استدلالكم بالشَّيْء على نَفسه وَإِن أردتم أَنَّهَا تسْتَعْمل فِي كل وَاحِد مِنْهَا من غير قرينَة بل يَكْتَفِي بهَا فِي الدّلَالَة على الِاسْتِغْرَاق وعَلى مَا دونه لم نسلم لكم ذَلِك وَلم يمكنكم أَن تقولوه مَعَ القَوْل بالاشتراك فان أردتم أَنَّهَا لَا تسْتَعْمل فِي الِاسْتِغْرَاق وَلَا فِيمَا دونه إِلَّا مَعَ قرينَة وَأَنَّهَا لَا تدل على وَاحِد مِنْهَا إِلَّا بِقَرِينَة لم نسلمه لكم وَلَا يمكنكم أَن تعلمُوا أَنَّهَا لَا تدل على الِاسْتِغْرَاق بِنَفسِهَا إِلَّا بعد أَن تصححوا كَونهَا مُشْتَركَة ويلزمون أَن يكون قَوْلنَا حمَار حَقِيقَة البليد فان قَالُوا لَيْسَ مُسْتَعْمل فِيهِ كاستعماله فِي الْبَهِيمَة قُلْنَا لَهُم وَلَيْسَ اسْتِعْمَال لفظ الْعُمُوم وَفِيمَا دون الِاسْتِغْرَاق كاستعماله فِي الِاسْتِغْرَاق وَأي وَجه فصلوا بِهِ بَين اسْتِعْمَال اسْم الْحمار فِي الْبَهِيمَة وَفِي البليد أمكننا ذكره فِي مَسْأَلَتنَا وَاسْتَدَلُّوا بِالِاسْتِعْمَالِ على وَجه آخر فَقَالُوا إِن لفظ الْعُمُوم يسْتَعْمل فِي الِاسْتِغْرَاق وَفِيمَا دونه وَالظَّاهِر من اسْتِعْمَال الِاسْم فِي الشَّيْء أَن يكون حَقِيقَة فِيهِ إِلَّا أَن يمْنَع مَانع من كَونه حَقِيقَة فِيهِ نَحْو أَن يعلم باضطرار من قصد أهل اللُّغَة أَنهم يتجوزون بِالِاسْمِ فِيمَا استعملوه فِيهِ وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم لم زعمتم أَن الظَّاهِر من اسْتِعْمَال الِاسْم فِي الشَّيْء أَنه حَقِيقَة فِيهِ وَمَا أنكرتم أَن اسْتِعْمَاله فِيهِ يدل على

أَنه مُسْتَعْمل فِيهِ فِي اللُّغَة فَأَما أَنه حَقِيقَة فِيهِ أَو مجَاز فَيحْتَاج فِيهِ إِلَى نظر آخر فان قَالُوا لَو لم يكن الِاسْتِعْمَال طَرِيقا إِلَى كَونه الِاسْم حَقِيقَة لم يكن لنا فِي الْفَصْل بَين كَون الِاسْم حَقِيقَة أَو مجَازًا طَرِيق قيل هَذَا دَعْوَى وَنحن قد بَينا وُجُوهًا يفصل بهَا بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز إِلَّا هَذَا وَلَو لم يكن هَذَا فصلا صَحِيحا فقد لزمنا وَإِيَّاكُم أَن لَا يكون لنا طَرِيق للفصل بَينهمَا وَلَيْسَ يصير الشَّيْء دَلِيلا على الشَّيْء لِأَنَّهُ قد فسد أَن يكون غَيره دَلِيلا وَلَيْسَ يجوز أَن يكون مَا ذَكرُوهُ دَلِيلا على الْحَقِيقَة لِأَن غَيره لَا يكون دَلِيلا عَلَيْهَا وَيُقَال لَهُم إِنَّمَا يجب أَن يكون اللَّفْظ حَقِيقَة فِي الشَّيْء إِذا لم يمْنَع مَانع من كَونه حَقِيقَة فِيهِ إِذا كَانَ ظَاهر اسْتِعْمَاله فِيهِ يَقْتَضِي أَن يكون حقيقه فِيهِ حَتَّى إِذا لم يمْنَع مَانع مِمَّا يَقْتَضِيهِ حكم الظَّاهِر حكم بِهِ فَمَا معنى قَوْلكُم إِن ظَاهر اسْتِعْمَال الِاسْم فِي الشَّيْء يَقْتَضِي كَونه حَقِيقَة فِيهِ فان قَالُوا معنى ذَلِك أَنه لَا يسْتَعْمل الِاسْم فِي الشَّيْء إِلَّا وَهُوَ حَقِيقَة فِيهِ انْتقض عَلَيْهِم بأسماء الْمجَاز كلهَا وَقيل لَهُم أَيْضا قَوْلكُم إِلَّا أَن يمْنَع من ذَلِك مَانع يُوجب أَنه قد يكون الِاسْم مجَازًا فِيمَا اسْتعْمل فِيهِ إِذا منع مَانع من كَونه حَقِيقَة فِيهِ فان قَالُوا معنى ذَلِك أَن الِاسْم إِذا اسْتعْمل فِي الشَّيْء فالأكثر والأغلب أَنه حَقِيقَة فِيهِ قيل لَهُم بل الْأَكْثَر اسْتِعْمَال الْمجَاز وَلَو صَحَّ مَا ذكرتموه لَكَانَ ذَلِك يُفِيد غَالب الظَّن فان الِاسْم إِذا اسْتعْمل فِي الشَّيْء كَانَ حَقِيقَة فِيهِ فان قَالُوا معنى قَوْلكُم إِن ظَاهر الْعُمُوم الِاسْتِغْرَاق قيل معنى ذَلِك أَنه مَوْضُوع لَهُ وَحَقِيقَة فِيهِ وَأَن الْمُتَكَلّم يجب أَن يَعْنِي بِهِ مَوْضُوعه إِذا جرده عَن دلَالَة وَلَا يمكنكم ذكر ذَلِك فِي الِاسْتِعْمَال لِأَن الِاسْتِعْمَال لَيْسَ بِلَفْظ فَيكون مَوْضُوعا للشَّيْء فَيُقَال لَهُ إِنَّه ظَاهره والأسبق إِلَى الأفهام فَلم يكن لَهُ معنى إِلَّا الْوَجْهَيْنِ اللَّذين ذكرناهما يلزمون أَن يكون اسْم الْأسد حَقِيقَة فِي الشجاع لِأَنَّهُ مُسْتَعْمل فِيهِ فان قَالُوا قد منع من ذَلِك مَانع وَهُوَ علمنَا باضطرار من قصد أهل اللُّغَة أَنه لَيْسَ

بِحَقِيقَة فِيهِ قيل لَهُم فَكَذَلِك نَحن نعلم باضطرار من قصد أهل اللُّغَة أَن قَول الْقَائِل ضربت كل من فِي الدَّار إِذا اسْتعْمل فِي ثَلَاثَة وفيهَا عشرَة أَنه مجَاز فان قَالُوا كَيفَ نعلم ذَلِك باضطرار وَنحن نخالفكم فِيهِ قيل وَكَيف علمْتُم باضطرار أَن اسْم الْأسد وَاقع على الشجاع مجَازًا والنافون للمجاز فِي اللُّغَة يمْنَعُونَ من كَون هَذَا الِاسْم للشجاع مجَازًا وَيُقَال لَهُم أَلَيْسَ قَوْلنَا أَمر مُسْتَعْمل فِي الشَّأْن وَالْفِعْل وَلَيْسَ بِحَقِيقَة فيهمَا وَلَيْسَ يمكنكم القَوْل بأنكم تعلمُونَ باضطرار كَون ذَلِك مجَازًا فيهمَا لوجدنا خلقا من النَّاس يَقُولُونَ إِن ذَلِك حَقِيقَة فيهمَا وَكَذَلِكَ وُقُوع اسْم الشَّفَاعَة على طلب الْمَنَافِع مجَاز عِنْد المرجئة وَلَيْسَ بِمَعْلُوم كَونه مجَازًا باضطرار لأَنا نَذْهَب إِلَى أَنه حَقِيقَة فِيهِ وَأَيْضًا فَلَيْسَ يجوز أَن يقْتَصر فِي كَون اللَّفْظ مجَازًا على أَنا نعلم باضطرار من قصد أهل اللُّغَة أَنه مجَاز لِأَنَّهُ لَيْسَ كل مَا لم نعلم باضطرار وَجب نَفْيه لِأَن الحكم قد يعلم بِدَلِيل وَقد يعلم باضطرار فَأن قَالُوا إِن الظَّاهِر من اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي الشَّيْء أَن يكون حَقِيقَة فِيهِ إِلَّا أَن يعلم باضطرار أَو بِدَلِيل أَنه مجَاز فِيهِ وَلَفظ الْعُمُوم مُسْتَعْمل فِيمَا دون الِاسْتِغْرَاق وَلَا يعلم أَنه مجَاز فِيهِ فَوَجَبَ كَونه حَقِيقَة فِيهِ وَلَا يلْزم على ذَلِك اسْتِعْمَال اسْم الْأسد فِي الشجاع وَاسم الشَّفَاعَة فِي طلب الْمَنَافِع لأَنا قد علمنَا أَن اسْم الْأسد مجَاز فِي الشجاع وَعلمنَا بِالدَّلِيلِ أَن اسْم الشَّفَاعَة مجَاز فِي طلب الْمَنَافِع قيل قد بَينا أَنه لَا معنى لقولكم إِن ظَاهر اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي الشَّيْء أَن يكون حَقِيقَة فِيهِ وَبينا أَن اسْتِعْمَال الِاسْم فِي الشَّيْء إِنَّمَا يدل على أَنه يُقَيِّدهُ فِي اللُّغَة فَلَا يَخْلُو أَنه إِذا لم نعلم أَنه مجَاز فِيهِ إِمَّا أَن لَا نعلم ذَلِك مَعَ الفحص عَن أَدِلَّة الْمجَاز مَعَ علمنَا بانتفائها ذَلِك عَن اللَّفْظ أَو مَعَ انْتِفَاء الفحص عَن أَدِلَّة الْمجَاز فان كُنَّا لم نفحص عَن أَدِلَّة الْمجَاز فنعلم انتفائها فَلَا مُعْتَبر بفقد علمنَا بِأَنَّهُ مجَاز نَحْو أَن يكون فِي اللُّغَة مَا يدل على أَنه مجَاز وَإِن كُنَّا لم نعلم أَنه مجَاز مَعَ علمنَا بِانْتِفَاء أَدِلَّة الْمجَاز عَن اللَّفْظ فقد صَار الدَّلِيل على أَن اللَّفْظَة حَقِيقَة هُوَ أَنا لما رأيناها مستعملة فِي الشَّيْء علمنَا أَنَّهَا من اللُّغَة ثمَّ قُلْنَا إِمَّا أَن تكون حَقِيقَة فِيهِ أَو مجَازًا وَلَيْسَت

مجَازًا لِأَن للمجاز أَدِلَّة محصورة كلهَا منتفية عَنهُ فصح كَونهَا حَقِيقَة وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم تصح هَذِه الدّلَالَة إِلَّا بِأَن يحضر أَدِلَّة الْمجَاز وَتبين زَوَالهَا عَن اللَّفْظ إِذا اسْتعْمل فِيمَا دون الِاسْتِغْرَاق فَيجب أَن تبينوا ذَلِك حَتَّى يَصح دليلكم فان قَالُوا فَمَا الْفرق بَين هَذَا الِاسْتِدْلَال وَبَين استدلالكم بِظَاهِر الْعُمُوم وقولكم إِنَّه على الِاسْتِغْرَاق إِلَّا أَن يدل دَلِيل على تَخْصِيصه قبل إِن لفظ الْعُمُوم عندنَا مَوضِع للاستغراق فصح أَن نقُول إِنَّه يفِيدهُ إِلَّا أَن يمْنَع مِنْهُ مَانع وَقد بَينا بطلَان القَوْل بِأَن ظَاهر الِاسْتِعْمَال يُفِيد الْحَقِيقَة وَمَعَ ذَلِك فَلَيْسَ يَصح أَن يعلم استغراق الْعُمُوم إِلَّا بِأَن يعلم أَنه مَوْضُوع للاستغراق وَيعلم انْتِفَاء مَا يَخُصُّهُ كَمَا لَا يعلم أَن اللَّفْظ حَقِيقَة فِيمَا اسْتعْمل فِيهِ إِلَّا بعد أَن يعلم انْتِفَاء أَدِلَّة الْمجَاز فهما سيان من هَذِه الْجِهَة غير أَنه يجوز للمستدل بِظَاهِر الْعُمُوم أَن يعول عَلَيْهِ وَيكون على المناظر لَهُ أَن يُورد عَلَيْهِ مَا يخص الْعُمُوم وَلَا يتَكَلَّف الْمُسْتَدلّ بَيَان فقد مَا يخص الْعُمُوم لِأَنَّهُ قد ذكره مَا يدل على الِاسْتِغْرَاق إِذا لم يكن فِي مُعَارضَة مَا يَخُصُّهُ فَهُوَ معول على دلَالَة الْمَشْرُوط فَلَو كلفناه تَصْحِيح الشَّرْط لطال وَلم يَتَّسِع لَهُ الزَّمَان وَلَيْسَ كَذَلِك من قَالَ إِن ظَاهر الِاسْتِعْمَال الْحَقِيقَة إِلَّا أَن يمْنَع مَانع لأَنا قد بَينا أَن محصول كَلَامه أَن اللُّغَة تجوز اسْتِعْمَال الِاسْم فِيمَا دون الِاسْتِغْرَاق وَإِنَّمَا نعلم أَنه حَقِيقَة فِيهِ لفقد دلَالَة الْمجَاز فَقَوله إِنَّنِي قد فقدت أَدِلَّة الْمجَاز اقْتِصَار على دَعْوَى فَقَط فان أمكن تصحيحها وَإِلَّا فَهُوَ مقتصر على دَعْوَى شُبْهَة قَالُوا لَو كَانَ لفظ الْعُمُوم مُسْتَغْرقا لَكَانَ الِاسْتِثْنَاء مِنْهُ نقضا ورجوعا وَيُقَال لَهُم مَا معنى كَونه نقصا فان قَالُوا معنى ذَلِك أَنه يدلنا على أَن لفظ الْعُمُوم قد أَرَادَ بِهِ الْمُتَكَلّم بعض ظَاهره وَاسْتَعْملهُ فِيهِ فَقَط قيل فَهَذَا مَذْهَبنَا فان سميتموه نقضا فَلَا يضرنا ثمَّ يُقَال لَهُم أتريدون أَن ظَاهر الْعُمُوم عندنَا الِاسْتِغْرَاق إِذا تجرد عَن اسثناء وَمَا يجْرِي مجْرَاه أَو وَإِن لم يتجرد فان قَالُوا إِذا تجرد قيل لَهُم فَمَا تجرد فِي مسئلتنا وَإِن قَالُوا وَإِن لم يتجرد قيل لَهُم لَا

يسلم ذَلِك خصوصهم على أَن لفظ الْعُمُوم إِنَّمَا يسْتَغْرق مَا دخل عَلَيْهِ وَإِذا كَانَ مَعَه اسْتثِْنَاء فَهُوَ دَاخل على مَا عدا المستثني وَهُوَ مُسْتَغْرق لَهُ فَلم يكن الِاسْتِثْنَاء نقضا من ذَلِك لَفْظَة كل تَقْتَضِي استغراق مَا دخلت عَلَيْهِ لِأَنَّك إِذا قلت ضربت كل من فِي الدَّار استغرقت لَفْظَة كل جَمِيع من فِي الدَّار لَا غَيرهم وَإِذا قلت ضربت كل رجل طَوِيل كَانَ ذَلِك مُسْتَغْرقا لكل طَوِيل لَا غير فَكَذَلِك قَوْلك كل رجل فِي الدَّار إِلَّا بني تَمِيم مَعْنَاهُ كل من عدا بني تَمِيم فلفظة كل دخلت على من عداهم فاستغرقتهم فاذا اسْتعْملت لَفْظَة كل فِي هَذَا الْموضع فِي غير ظَاهرهَا فَيكون الِاسْتِثْنَاء نقضا لَهَا وعَلى أَنه لَو كَانَ ظَاهر الْعُمُوم الِاسْتِغْرَاق على كل حَال وَالِاسْتِثْنَاء قد صيرها مجَازًا لم يلْزم أَن يكون نقضا لِأَن مَا دلّ على أَن الْكَلِمَة مجَاز لَا يكون نقضا لَهَا كالقرينة الدَّالَّة على أَن قَوْلنَا أَسد مُسْتَعْمل فِي الرجل الشجاع فان قيل لَو لم يكن قَول الْقَائِل ضربت كل من فِي الدَّار إِلَّا بني تَمِيم نقضا وقبيحا لَكَانَ قَوْله ضربت كل من فِي الدَّار لم أضْرب كل من فِي الدَّار غير مناقضة وَلَا قبيحا قيل هَذَا لكم ألزم لأنكم تذهبون إِلَى أَن لَفْظَة كل حَقِيقَة فِي الِاسْتِغْرَاق وَفِي الْبَعْض أَيْضا وَيحسن عنْدكُمْ الِاسْتِثْنَاء مِنْهَا لِأَنَّهُ يدل على أَن لفظ الْعُمُوم مُسْتَعْمل فِي إِحْدَى حقيقتيه فَيلْزم أَن يحسن أَن يَقُول الْإِنْسَان ضربت كل من فِي الدَّار لم أضْرب كل من فِي الدَّار ليدل بذلك على أَنه اسْتعْمل لَفْظَة كل فِي إِحْدَى حقيقتيها وَهِي الْبَعْض وَالْفرق عندنَا بَين الْمَوْضِعَيْنِ أَن الِاسْتِثْنَاء لما لم يسْتَقلّ بِنَفسِهِ وَجب تَعْلِيقه بِمَا تقدم وَذَلِكَ يدل على أَن الْمُتَكَلّم بالمستثنى مِنْهُ مَا استوفى غَرَضه مِنْهُ لِأَنَّهُ مَا عدل عَنهُ أَلا ترى أَنه قد قَيده بِمَا لَا يسْتَقلّ إِلَّا مَعَه وَإِذا لم يكن عادلا عَن الْكَلَام بِالِاسْتِثْنَاءِ صَار الِاسْتِثْنَاء جُزْء من الْجُمْلَة وَصَارَ مَجْمُوع الْمُسْتَثْنى والمستثنى مِنْهُ كالجملة الْوَاحِدَة وَدلّ مجموعها على استغراق مَا عدا الْمُسْتَثْنى وَلَيْسَ كَذَلِك قَول الْقَائِل ضربت كل من فِي الدَّار لم أضْرب كل من فِي الدَّار لِأَن كل وَاحِدَة من الجملتين مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا لَا يجب أَن تعلق الثَّانِيَة بِالْأولَى فعدول الْمُتَكَلّم من

الْجُمْلَة الأولى إِلَى جملَة مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا لَا يجب تَعْلِيقهَا بِالْأولَى يدل على أَنه قد استوفى غَرَضه من الاولى فَلَمَّا أقرّ بِالثَّانِيَةِ كَانَ قد نقض الاولى لِأَنَّهَا تنافيها بعد اسْتِيفَاء الْغَرَض من الاولى وَأَيْضًا فان لفظ الْعُمُوم إِنَّمَا دخل على مَا عدا الْمُسْتَثْنى على مَا بَيناهُ فَهُوَ مُسْتَغْرق لَهُ دون غَيره كَمَا أَن الْعُمُوم الْمَشْرُوط والمقيد بِالصّفةِ إِنَّمَا دخل على مَا عدا الشَّرْط وَالصّفة وَلَيْسَ يجب أَن يقبح الْعُمُوم الْمَشْرُوط وَلَا الْعُمُوم الْمُقَيد بِالصّفةِ كَمَا يقبح قَول الْقَائِل ضربت كل النَّاس لم أضْرب كل النَّاس لِأَن كل وَاحِدَة من اللفظتين قد دخلت على النَّاس يبين مَا ذَكرْنَاهُ أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ ضربت كل من فِي الدَّار عَم جَمِيعهم وَإِذا قَالَ لعبيده أكْرم كل النَّاس عَم الْجَمِيع وَإِذا قَالَ لعبيده أكْرم كل النَّاس إِن كَانُوا مُؤمنين عَم الْمُؤمنِينَ دون غَيرهم وَاقْتضى ذَلِك التَّخْصِيص وَلم يجز قِيَاسا على ذَلِك أَن يَقُول ضربت كل من فِي الدَّار لم أضْرب كل من فِي الدَّار فَكَذَلِك القَوْل فِي الْعُمُوم الْمُسْتَثْنى مِنْهُ فَهَذَا كَلَام فِي قَوْلهم إِن الِاسْتِثْنَاء نقض ثمَّ يُقَال لَهُم مَا معنى قَوْلكُم إِن الِاسْتِثْنَاء رُجُوع فان قَالُوا رُجُوع عَن ظَاهر الْكَلَام لِأَن ظَاهر الْعُمُوم الِاسْتِغْرَاق عنْدكُمْ وَالِاسْتِثْنَاء قد منع مِنْهُ فقد تقدم الْكَلَام على ذَلِك وَقُلْنَا إِن الْعُمُوم اقْتضى استغراق مَا دخل عَلَيْهِ وَهُوَ مَا عدا الْمُسْتَثْنى وَقُلْنَا إِنَّه لَو اقْتضى استغراق الْكل وَالِاسْتِثْنَاء يمْنَع من ذَلِك لَكَانَ قد دلّ على أَنه مجَاز وَذَلِكَ غير مُسْتَحِيل وَإِن قَالُوا اردنا أَنه رُجُوع عَن الْإِرَادَة لِأَن الْمُتَكَلّم أَرَادَ بِلَفْظ الْعُمُوم الِاسْتِغْرَاق ثمَّ عدل عَن هَذِه الْإِرَادَة إِلَى إِرَادَة الْبَعْض فَقَط عِنْد الِاسْتِثْنَاء قيل لَهُم وَلم زعمتم أَنه أَرَادَ عِنْد أول كَلَامه استغراق الْجَمِيع وَمَا أنكرتم أَنه أَرَادَ استغراق مَا دخل عَلَيْهِ لفظ كل وَهُوَ مَا عدا الْمُسْتَثْنى فَلَا يكون قد أَرَادَ شَيْئا ثمَّ عدل عَنهُ فان قَالُوا لَو كَانَ الْمُتَكَلّم قد أَرَادَ الْبَعْض بِلَفْظ الْعُمُوم لَكَانَ قد اسْتثْنى مِمَّا لم يرد وَذَلِكَ محَال قيل إِنَّه أَرَادَ الْكل بِلَفْظ الْعُمُوم لكنه أَرَادَ كل مَا دخل عَلَيْهِ اللَّفْظ وَهُوَ مَا عدا الْمُسْتَثْنى فَلَا نقُول إِنَّه أَرَادَ الْبَعْض ثمَّ اسْتثْنى كَمَا نقُول لَو أَنه إِذا

قَالَ اضْرِب كل الرِّجَال الطوَال دون الْقصار على انه يلْزمهُم مثل مَا ألزمونا لأَنا لَا نقُول لَهُم إِذا كَانَ لفظ الْعُمُوم مُشْتَركا بَين الِاسْتِغْرَاق وَبَين مَا دونه فأخبرونا هَل أَرَادَ الْمُتَكَلّم الِاسْتِغْرَاق ثمَّ اسْتثْنى مِنْهُ أَو أَرَادَ الْبَعْض ثمَّ اسْتثْنى مِنْهُ زيدا فان قَالُوا بِالْأولِ قيل لَهُم فقد رَجَعَ وَإِن قَالُوا بِالثَّانِي قيل لَهُم أفهل اسْتثْنى مِنْهُ زيدا من الْبَعْض الذى أردناه أَو من الْبَعْض الذى لم نرده فان قَالُوا بِالْأولِ قيل لَهُم هَذَا رُجُوع وَإِن قَالُوا بِالثَّانِي قيل لَهُم فقد أخرج بِالِاسْتِثْنَاءِ مَا لم يردهُ وَهَذَا الَّذِي أتيتموه وَرُبمَا تعلقوا بِالِاسْتِثْنَاءِ من وَجه آخر فَقَالُوا لَو كَانَ لفظ الْعُمُوم مُسْتَغْرقا لجرى الِاسْتِثْنَاء مِنْهُ مجْرى أَن يعدد الْإِنْسَان أشخاص الْجِنْس ثمَّ يسْتَثْنى مِنْهُ شخصا نَحْو أَن يَقُول رَأَيْت زيدا رَأَيْت عمرا رَأَيْت خَالِدا هَكَذَا إِلَى آخر النَّاس ثمَّ يَقُول إِلَّا زيدا فَلَمَّا قبح هَذَا قبح ذَاك وَفِي حسن الِاسْتِثْنَاء دَلِيل على ان لفظ الْعُمُوم غير شَامِل يُقَال لَهُم لم زعمتم أَنه إِذا قبح أَحدهمَا قبح الآخر وَمَا أنكرتم أَن الْفرق بَينهمَا أَن الِاسْتِثْنَاء إِخْرَاج جُزْء من كل فَيدل على أَن الْمُتَكَلّم اسْتعْمل لفظ الْكل فِي جَمِيع مَا عدا الِاسْتِثْنَاء فاذا قَالَ الْإِنْسَان رَأَيْت زيدا رَأَيْت عمرا إِلَّا زيدا لم يخل قَوْله إِلَّا زيدا إِمَّا أَن يكون رَاجعا إِلَى زيد اَوْ إِلَى عَمْرو فان رَجَعَ إِلَى زيد كَانَ ذَلِك رُجُوعا ونقضا وإخراجا لجزء من كل واستعمالا للفظ كل فِيمَا عدا الْمُسْتَثْنى وَإِن رَجَعَ إِلَى عَمْرو وَلم يكن قد أخرج زيدا من شَيْء هُوَ كُله لِأَن عمرا لَيْسَ بِكُل زيد وَلَيْسَ يجوز أَن يرجع الِاسْتِثْنَاء إِلَى زيد وَإِلَى عَمْرو مَعًا لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُسْتَقل بِنَفسِهِ وَلَيْسَ يشملهما لفظ وَاحِد هُوَ كل لَهما فَيكون الِاسْتِثْنَاء دَالا على أَن لفظ الْكل مُسْتَعْمل فِيمَا عداهُ وَلَيْسَ كَذَلِك قَول الْقَائِل ضربت كل من فِي الدَّار إِلَّا زيدا لِأَن قَوْلنَا كل لفظ يَشْمَل الْأَشْخَاص فصح أَن يخرج الِاسْتِثْنَاء بَعْضهَا بِأَن يدل على أَن لَفْظَة كل مستعملة فِيمَا عدا الْمُسْتَثْنى وَيجْرِي ذَلِك مجْرى تعديد الْأَشْخَاص كلهم إِلَّا زيدا ثمَّ يُقَال لَهُم أَنْتُم تَقولُونَ إِن لفظ الْعُمُوم حَقِيقَة للاستغراق كَمَا أَنه حَقِيقَة للْبَعْض فقد لزمكم

أَن يكون الْعُمُوم مَعَ الِاسْتِثْنَاء يجْرِي مجْرى أَن يعدد الْمُتَكَلّم أشخاص الْجِنْس ثمَّ يَسْتَثْنِي وَاحِدًا مِنْهَا فان قَالُوا لَا يلْزمنَا ذَلِك لِأَنَّهُ إِذا اسْتثْنى مِنْهَا وَاحِدًا علمنَا أَنه لفظ الْعُمُوم فِيمَا عداهُ واستعماله فِيمَا عداهُ هُوَ حَقِيقَة عندنَا قيل لَهُم اسْتِعْمَاله فِيمَا عدا الْمُسْتَثْنى حَقِيقَة عندنَا لِأَنَّهُ دخل عَلَيْهِ لَا غير على مَا بَيناهُ وَلَو كَانَ اسْتِعْمَاله فِيهِ مجَازًا لَكَانَ الِاسْتِثْنَاء قد دلّ على أَن لفظ الْعُمُوم مُسْتَعْمل على وَجه الْمجَاز وَلَيْسَ اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِيمَا هُوَ مجَاز فِيهِ يجْرِي مجْرى أَن يَقُول الانسان رَأَيْت زيدا وعمرا إِلَّا زيدا وَرُبمَا تعلقوا بِالِاسْتِثْنَاءِ على وَجه آخر فَقَالُوا لَو كَانَ لفظ الْعُمُوم مُسْتَغْرقا لما جَازَ تَخْصِيصه بِدلَالَة مُتَّصِلَة وَلَا مُنْفَصِلَة كَمَا لَا يجوز تَخْصِيص الْعلَّة بل الْعُمُوم أولى بذلك لِأَنَّهُ دلَالَة قَاطِعَة وَالْعلَّة الشَّرْعِيَّة أَمارَة وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم أما التَّخْصِيص بالأدلة الْمُتَّصِلَة بِالشُّرُوطِ وَالِاسْتِثْنَاء وَالتَّقْيِيد بِالصّفةِ فقد قُلْنَا إِن الْعُمُوم يكون دَاخِلا فِيمَا عداهُ وَأما الدّلَالَة الْمُنْفَصِلَة فانما جَازَ أَن تخصص الْعُمُوم لِأَنَّهُ لفظ والألفاظ يجوز اسْتِعْمَالهَا فِي حَقِيقَتهَا وَفِي مجازها وَيجوز أَن تدل الدّلَالَة على اسْتِعْمَالهَا فِي الْمجَاز وَهَذِه الطَّرِيقَة مفقودة فِي الْعِلَل فَكَانَ محصول هَذِه الشُّبْهَة أَن قَالُوا لَو كَانَ حَقِيقَة الْعُمُوم الِاسْتِغْرَاق لما جَازَ اسْتِعْمَاله فِي الْمجَاز وَهَذَا ينْتَقض بِجَمِيعِ الْأَلْفَاظ وَجَمِيع هَذِه الشُّبْهَة تنْتَقض بِالِاسْتِثْنَاءِ من أَلْفَاظ الْعدَد شُبْهَة قَالُوا لَو كَانَ لفظ الْعُمُوم مُسْتَغْرقا لما حسن أَن يستفهم الْمُتَكَلّم بِهِ لِأَن الِاسْتِفْهَام هُوَ طلب الْفَهم وطلبا فهم مَا قد فهم بِالْخِطَابِ عَبث وَمَعْلُوم أَن الْإِنْسَان إِذا سمع غَيره يَقُول ضربت كل من فِي الدَّار فانه يحسن مِنْهُ أَن يَقُول أضربتهم أَجْمَعِينَ وَأَن يَقُول ضربت زيدا فيهم وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم إِن الِاسْتِفْهَام قد يكون طليا لمُطلق الْفَهم وَإِزَالَة الإلباس وَقد يكون طلبا لزِيَادَة الْفَهم وَزِيَادَة الْفَهم فهم وَذَلِكَ أَن الْفَهم للخطاب قد يكون علما

بِمُرَاد الْمُتَكَلّم وَقد يكون ظنا فان كَانَ ظنا فالظن تتزايد قوته إِذا تزايدت أماراته فالمستفهم يطْلب أَن تكْثر الأمارات الدَّالَّة على قصد الْمُتَكَلّم ليقوي ظَنّه فان كَانَ الْفَهم علما فالعلم قد يكون ضَرُورِيًّا وَقد يكون مكتسبا والضروري أجل من المكتسب فالمستفهم قد يطْلب أَن يتَكَرَّر القَوْل من الْمُتَكَلّم أَو أَن يُؤَكد كَلَامه فَرُبمَا اضْطر إِلَى قَصده وَطلب ذَلِك غير عَبث لِأَنَّهُ لَيْسَ بحاصل قبل الِاسْتِفْهَام واما الِاسْتِفْهَام الَّذِي هُوَ طلب لإِزَالَة الإلباس إِذا اقْترن بِالْعُمُومِ مَا يَقْتَضِي اللّبْس فيستفهم السَّامع إِزَالَة ذَلِك اللّبْس وَنحن نذْكر الْوُجُوه الَّتِي يحسن لَهَا الِاسْتِفْهَام فِي كلا الْقسمَيْنِ فَنَقُول إِن مِنْهَا مَا يظنّ السَّامع أَن الْمُتَكَلّم غير متحفظ فِي خطابه أَو هُوَ كالساهي فيستفهمه ويستثبته حَتَّى إِن كَانَ سَاهِيا أَزَال سهوة فَأخْبرهُ عَن تيقظ وَإِن لم يكن سَاهِيا علم ذَلِك من حَاله وَلذَلِك يستفهم الْإِنْسَان بتكرار الْعُمُوم ويجيبه الْمُتَكَلّم بتكراره نَحْو أَن يَقُول ضربت كل من فِي الدَّار فَيَقُول السَّامع أضربتهم كلهم فَيَقُول نعم ضربتهم كلهم وَلَو كَانَ يطْلب زِيَادَة الْفَهم لأجابه بِلَفْظ آخر فَعلم أَنه إِنَّمَا يستثبته وَكَذَلِكَ قد يَقُول الْإِنْسَان جَاءَنِي زيد فَيَقُول نعم وَمِنْهَا أَن يظنّ السَّامع لأمارة أَن الْمُتَكَلّم قد أخبر كَلَامه الْعَام عَن جمَاعَة وَأَنه لَيْسَ يتَحَقَّق دُخُول بَعضهم فِيمَا أخبر بِهِ وَيكون السَّامع شَدِيد الْعِنَايَة بذلك فتدعوه شدَّة عنايته إِلَى الِاسْتِفْهَام عَنهُ لكَي يعلم الْمُتَكَلّم اهتمام السَّامع فَلِأَنَّهُ خص فِي الْأَخْبَار وَلِهَذَا قد يَقُول الْقَائِل رَأَيْت كل من فِي الدَّار فاذا قيل أَرَأَيْت زيدا فيهم فَقَالَ نعم زَالَت الظنة لِأَن اللَّفْظ الْخَاص أقل احْتِمَالا وَرُبمَا لم يتَحَقَّق رُؤْيَته لَهُ فيدعوه مَا رَآهُ من اهتمام المستفهم إِلَى أَن يَقُول لست أتحقق رُؤْيَته وَمِنْهَا أَن تَدعُوهُ شدَّة الاهتمام إِلَى الِاسْتِفْهَام طَمَعا فِي أَن يضْطَر إِلَى قصد الْمُتَكَلّم

وَمِنْهَا أَن يقْتَرن بِكَلَام الْمُتَكَلّم من الأمارات مَا يَقْتَضِي تَخْصِيص كَلَامه نَحْو أَن يَقُول الْقَائِل ضربت كل من فِي الدَّار وَيكون فِيهَا من يعظمه كأخيه فيغلب على الظَّن أَنه لم يضْربهُ وَيكون كَلَامه أَمارَة تدل على ضربه فتتعارض الأمارتان فيستفهمه ليَقَع الْجَواب عَنهُ بِلَفْظ خَاص لَا يحْتَمل التَّخْصِيص فلهذه الْوُجُوه وَمَا اشبهها يحسن الِاسْتِفْهَام لِأَن فِيهَا عدُول عَن الفاظ يقل احتمالها وَمَتى انْتَفَت وَمَا أشبههَا لم يحسن الِاسْتِفْهَام فاما قَول الْقَائِل رَأَيْت نَخْلَة فانه لَا يكَاد يسْتَعْمل إِلَّا فِي النَّخْلَة فَلذَلِك لم يستفهم عَن ذَلِك إِلَّا على طَرِيق الاستثبات لإِزَالَة السَّهْو وَمَتى اسْتعْمل ذَلِك فِي رُؤْيَة الرجل الطَّوِيل حسن الِاسْتِفْهَام فَأَما خطاب الله سُبْحَانَهُ وَأَنه لَا يحسن وُرُود الِاسْتِفْهَام عَلَيْهِ إِلَّا أَن يَأْذَن تَعَالَى فِي ذَلِك ليرد مِنْهُ عز وَجل خطاب يكون أقل احْتِمَالا فَيكون الْعَمَل بمراده أجلى ثمَّ يعارضون بِدُخُول الِاسْتِفْهَام على أَلْفَاظ الْخُصُوص ثمَّ يلزمون من العتب مثل مَا ألزمونا فَنَقُول لَهُم أَلَيْسَ إِذا قَالَ الْقَائِل ضربت كل من فِي الدَّار كَانَ ذَلِك مُشْتَركا بَين الِاسْتِغْرَاق وَبَين مَا دونه وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ أَجْمَعِينَ فالمستفهم إِذا قَالَ أضربنهم أَجْمَعِينَ فقد طلب أَن يفهمهُ مَا لم يفهمهُ بِمَا هُوَ كَالْأولِ فِي أَن الْفَهم لَا يَقع بِهِ فان قَالُوا إِنَّمَا يستفهم طَمَعا فِي حُصُول الْعلم الضَّرُورِيّ أَو فِي قُوَّة الظَّن أجبناهم بِمثلِهِ شُبْهَة قَالُوا لَو كَانَ لفظ الْعُمُوم مُسْتَغْرقا وَكَذَلِكَ تأكيده لَكَانَ تاكيده عَبَثا لِأَنَّهُ يُفِيد مَا أَفَادَ الْمُؤَكّد وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم وَلم إِذا أَفَادَ مَا يفِيدهُ الْمُؤَكّد من الِاسْتِغْرَاق كَانَ عَبَثا وَمَا أنكرتم من حُصُول فَوَائِد فِي التَّأْكِيد لَا تحصل مَعَ فَقده ثمَّ يُقَال لَهُم وَلَو أَفَادَ كل وَاحِد مِنْهُمَا من الِاشْتِرَاك مَا يفِيدهُ الآخر لَكَانَ ذكر التاكيد عقيب الْمُؤَكّد عَبَثا لَا فَائِدَة فِيهِ

وينقض شبهتهم بتأكيد الْخُصُوص كَقَوْل الْقَائِل جَاءَنِي زيد نَفسه وبتأكيد أَلْفَاظ الْعدَد كَقَوْل الله تَعَالَى {تِلْكَ عشرَة كَامِلَة} وكقول الْقَائِل ألف تَامَّة لِأَن قَوْله ألف قد انبأ عَن تَمامهَا وَجب أَن يكون قَوْله تَامَّة عَبَثا وَقَوْلنَا جَاءَنِي زيد يُفِيد مَجِيء نَفسه فَوَجَبَ كَون تأكيده عَبَثا والنقض بتأكيد الْعدَد إِنَّمَا يلْزم من قَالَ إِن قَوْلنَا عشرَة لَيْسَ بِحَقِيقَة فِي التِّسْعَة فَمَا دونهَا فاما من ارْتكب كَونه حَقِيقَة فِي ذَلِك فالنقض لَا يلْزمه وَإِن كَانَ بطلَان قَوْله مَعْلُوما من اللُّغَة باضطرار وَكَانَ يلْزم إِذا قُلْنَا عشرَة تَامَّة أَن يكون قَوْلنَا تَامَّة بَيَانا لَا تَأْكِيدًا بل بَيَانا وَقد رَأَيْت من الْتزم القَوْل بِأَن قَول الْقَائِل جَاءَنِي زيد نَفسه إِنَّمَا حسن لِأَن قَوْله جَاءَنِي زيد حَقِيقَة فِي مَجِيء غُلَامه وجوابنا عَن هَذَا القَوْل السُّكُوت وَنحن ذاكرون وَجه الْفَائِدَة فِي التَّأْكِيد فَنَقُول إِن كَانَ الْمُتَكَلّم بِالْعُمُومِ حكيما اسْتدلَّ على إِرَادَته بخطابه فَأَنَّهُ إِذا أكلا خطابهه كَانَ قد زَاد بالأدلة على دلَالَة فيقوى بذلك علمنَا ويزداد جلاء وبيانا أَو يكون فِي ذَلِك مصلحَة وَإِن لم نعلمها بِعَينهَا وَلِهَذَا كثرت الْأَدِلَّة على الْمَدْلُول وَالْوَاحد وَإِن كَانَ الْمُتَكَلّم غير حَكِيم يجوز أَن يعمي مُرَاده وَإِنَّمَا يعلم إِرَادَته ضَرُورَة أَو يظنّ إِرَادَته اسْتِدْلَالا بخطابه فانه قد يُؤَكد خطابه لِأَنَّهُ يجوز أَن يضْطَر السَّامع عِنْد التاكيد إِلَى إِرَادَته أَو لِأَنَّهُ قد يجوز السَّامع من ابْتِدَاء الْكَلَام كَانَ سَاهِيا فيدله الْمُتَكَلّم بإيصال كَلَامه إِن كَانَ سَاهِيا وَقد يُورد التَّأْكِيد ليزِيد الأمارات الدَّالَّة على الْإِرَادَة فيقوى الظَّن لَهَا وَقد يَقُول لإِنْسَان ضربت من فِي الدَّار وَيكون فيهم من يغلب على الظَّن أَنه لَا يضْربهُ لوكيد صداقة بَينهمَا أَو لقرابة فَيكون ذَلِك أَمارَة مُعَارضَة لظَاهِر الْعُمُوم فيؤكد كَلَامه بِذكر الْكل والجميع ليصف موقع هَذِه الأمارة وَأَيْضًا فَلَا يمْتَنع أَن يكون بعض أَلْفَاظ الْعُمُوم أقل اسْتِعْمَالا فِيمَا دون الِاسْتِغْرَاق من بعض وَالْعلم بِأَنَّهُ تَقْتَضِي

الِاسْتِغْرَاق أجلى وَأبين فيؤكد اللَّفْظَة الَّتِي هِيَ أَكثر اسْتِعْمَالا فِي الْمجَاز فاذا اجْتمع كعها تأكيدها تَأَكد الْعلم بِقصد الْمُتَكَلّم أَو الظَّن وَحصل بهما من الْقُوَّة مَا لَا تحصل بِأَحَدِهِمَا لِأَن الأمارة القوية معما هُوَ دونهَا فِي الْقُوَّة الْقُوَّة تكون مِنْهَا لَو انْفَرَدت فان قيل هلا أكدوا اللَّفْظ بتكراره إِن كَانَ الْأَمر على مَا زعمتم حَتَّى يَقُولُوا جَاءَنِي الْقَوْم جَاءَنِي الْقَوْم قيل هَذَا لَا يلْزم على الْجَواب الْأَخير وَإِنَّمَا يتَوَجَّه على الْأَجْوِبَة الْمُتَقَدّمَة وَالْجَوَاب عَن ذَلِك أَن الْعَرَب لم تقعل ذَلِك فنفعله فان قَالُوا فَكَانَ يجب أَن يفعلوه وَلَيْسَ يجب إِذا كَانَ للْإنْسَان عذر فِي شَيْء أَن يفعل كلما ساواه فِي الْعذر أَلا ترى أَنهم إِنَّمَا سموا الشَّيْء الْوَاحِد بأسماء كَثِيرَة ايتسع نقلتهم فيتمكنون مَعَ ذَلِك من النّظم والنثر لِأَنَّهُ قد يمْتَنع وزن الْبَيْت وقافيته مَعَ بعض اسماء الشَّيْء دون بعض وَلَيْسَ يجب لذَلِك أَن يسموا كل شَيْء بأسماء كَثِيرَة على أَنه لَا يمْتَنع أَن يَكُونُوا لم يؤكدوا اللَّفْظ بتكراره استثقالا لتكرار اللَّفْظ فعدلوا إِلَى لَفْظَة أخرة لينقلوا غرضهم من التَّأْكِيد من دون استثقال فان قَالُوا لَو حسن التَّأْكِيد لما فِيهِ من ترادف الأمارات والأدلة وَجَوَاز حُصُول الْعلم الضَّرُورِيّ بِقصد الْمُتَكَلّم لحسن أَن يَقُول الْإِنْسَان استندت إِلَى الْحَائِط الْمَبْنِيّ من الْآجر والطين لينفي أَن يكون اسْتندَ إِلَى إِنْسَان بليد لِأَن اسْم الْحَائِط قد يتجوز بِهِ إِلَى البليد ويتجوز باسم الْحمار فِيهِ أَيْضا فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يحسن أَن يَقُول ضربت الْحمار النهاق وَالْجَوَاب أَنه إِنَّمَا حسن التَّأْكِيد اتبَاعا لفعل الْعَرَب وَحسن ذَلِك مِنْهُم للأغراض الَّتِي ذَكرنَاهَا وَقد ثَبت أَن تِلْكَ الْأَغْرَاض لَا توجب أَن يؤكدوا كل شَيْء فاذا كَانَ كَذَلِك لم يلْزمنَا أَن نؤكد نَحن مَا ذكره السَّائِل لِأَن الْعَرَب لم يؤكدوا بِهِ وَلَا يلْزم الْعَرَب ذَلِك لما ذَكرْنَاهُ وَأَيْضًا فانما يجوز التَّأْكِيد لإِزَالَة مجَاز وَاحْتِمَال مُسْتَعْمل وَلَيْسَ أحد يَقُول استندت إِلَى الْحَائِط فيخطر ببال السَّامع أَنه اسْتندَ إِلَى إِنْسَان بليد وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ ضربت الْحمار وَإِنَّمَا يسْتَعْمل اسْم الْحَائِط أَو الْحمار فِي البليد عِنْد وَصفه بالبلادة فان كَانَ جمَاعَة فِي وصف رجل

فَقَالُوا هُوَ حَائِط وَهُوَ حمَار ثمَّ قَالَ وَاحِد مِنْهُم ضربت الْحمار واستندت إِلَى الْحَائِط وَجوز أَن يتَوَهَّم على السَّامع أَنه يَعْنِي بذلك البليد جَازَ أَن يُفِيد بِكَلَامِهِ مَا ذَكرُوهُ فَأَما إِن لم تكن الْحَال هَذِه فانه لَا يخْطر ببال السَّامع أَنه اسْتندَ إِلَى بليد فَلم يكن لتقييده بِمَا ذَكرُوهُ معنى وَلَيْسَ كَذَلِك اسْتِعْمَال لفظ الْعُمُوم فِيمَا دون الِاسْتِغْرَاق لِأَن ذَلِك كثير مُسْتَعْمل شُبْهَة لَو كَانَت لَفْظَة من عَامَّة فِي الِاسْتِفْهَام لَكَانَ قَول الْقَائِل لغيره من عنْدك سؤالا عَن كل الْعُقَلَاء وَكَانَت تجْرِي مجْرى قَوْله أكل النَّاس عنْدك وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يكون جوابها لَا أَو نعم أجَاب قَاضِي الْقُضَاة عَن ذَلِك بِأَن لَفْظَة من هِيَ للعامة وَهِي من كَلَام السَّائِل دون الْمَسْئُول لِأَن السَّائِل لَيْسَ يعلم من عِنْد الْمَسْئُول فَلهَذَا أَدخل اللَّفْظَة الْعَامَّة فِي خطابه وَأما الْمَسْئُول فَهُوَ عَالم بِمن عِنْده فَلم يجب أَن يكون جَوَابه عَاما وَلقَائِل أَن يَقُول إِن لَفْظَة من وَإِن كَانَت فِي كَلَام السَّائِل فَهِيَ عنْدكُمْ مَوْضُوعَة للْعُمُوم فَيجب كَونهَا استفهاما عَن الْعُمُوم وَذَلِكَ يَقْتَضِي مُطَابقَة جوابها لَهَا إِمَّا بِلَا أَو بنعم وَنحن لم نلزمكم أَن يكون جَوَاب الْمَسْئُول أبدا عَاما وَإِنَّمَا ألزمناكم أَن يُجيب الْعُمُوم إِمَّا بِأَن يُثبتهُ أَو يَنْفِيه بقوله لَا أَو نعم وَقَالَ أَيْضا إِن لَفْظَة من لَيست بِالْكُلِّ أخص مِنْهَا بِالْبَعْضِ وَلَا بِالْبَعْضِ أخص مِنْهَا بِالْكُلِّ فاذ كَانَت كَذَلِك وَجب حملهَا على الِاسْتِغْرَاق وَلقَائِل أَن يَقُول إِن كَانَت لَيست كَذَلِك فَيجب كَونهَا مُشْتَركَة بَين الْكل وَبَين الِاسْتِغْرَاق إِذا كَانَت لَيست بِأَحَدِهِمَا أخص من الآخر وَإِذا كَانَت مُشْتَركَة بَطل قَوْلكُم إِنَّهَا حَقِيقَة فِي أَحدهمَا فَقَط وَبَطل قَوْلكُم بِوُجُوب حملهَا على الِاسْتِغْرَاق لِأَنَّهُ لَيْسَ الِاسْتِغْرَاق أولى بهَا من الْبَعْض وَأَيْضًا فَلَو كَانَت لَيست بِأحد الْأَمريْنِ أولى مِنْهَا بِالْآخرِ وَكَانَت مَعَ ذَلِك مَحْمُولَة على الشُّمُول عَن الْكل لوَجَبَ أَن يكون جوابها مطابقا لَهَا بِلَا أَو بنعم فالشبهة متوجهة نحوكم

وَالْجَوَاب عَن الشُّبْهَة أَن قَول الْقَائِل لغيره من عنْدك هُوَ اسْتِفْهَام عَن صفة كل عَاقل عِنْده فَهُوَ جَار مجْرى قَوْله أَخْبرنِي عَن صفة كل عَاقل عنْدك وَلَا تبْق عَاقِلا عنْدك إِلَّا ذكرت لي صفته وَلَو قَالَ ذَلِك لم يكن جَوَابه لَا أَو نعم وَإِنَّمَا يكون جَوَابه بِذكر نعوت من عِنْده من الْعُقَلَاء وصفاتهم وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ لَهُ من عنْدك ثمَّ يُقَال للمخالف أتزعم أَن لَفْظَة من حَقِيقَة فِي الْبَعْض أَو مُشْتَركَة بَين الْبَعْض وَبَين الِاسْتِغْرَاق فان قَالَ بِالْأولِ قيل فَيَنْبَغِي أَن يكون جَوَاب السُّؤَال بِلَا أَو نعم كَمَا قَالَ لَهُ أبعض النَّاس عنْدك وَإِن قَالَ إِنَّهَا مُشْتَركَة بَين الْكل وَبَين الْبَعْض قيل فَيجب أَن يكون جوابها بِلَا أَو بنعم أَيْضا لِأَنَّهُ إِن علم الْمَسْئُول من قصد السَّائِل أَنه استفهمه بهَا عَن الْكل فَيجب أَن يكون جوابها بِلَا أَو بنعم وَكَذَلِكَ إِن علم من قَصده أَنه استفهمه بهَا عَن الْبَعْض شُبْهَة لَو كَانَت لَفْظَة من مستغرقة لاستحال جمعهَا لِأَن الْجمع يُفِيد أَكثر مِمَّا يفِيدهُ الْمَجْمُوع وَلَيْسَ يعد لاستغراق كَثْرَة فيفيدها الْجمع قَالَ الشَّاعِر ... أَتَوا نَارِي فَقلت منون أَنْتُم ... فَقَالُوا الْجِنّ قلت عموا ظلاما ... الْجَواب إِن قَوْلهم منون وَإِن كَانَت صباحا لَفظه لفظ الْجمع وَلَيْسَ بِجمع على الْحَقِيقَة لِأَنَّهُ يُسْتَفَاد مِنْهُ مَا اسْتَفَادَ من قَوْلهم من عندنَا وَعند الْمُخَالف أَلا ترى أَنه لَو قَالَ الشَّاعِر من أَنْتُم لَكَانَ استفهاما عَن جَمَاعَتهمْ كَمَا أَن قَوْله منون استفهاما عَن جَمَاعَتهمْ وَعند الْمُخَالف أَن أَلْفَاظ الْعُمُوم كلهَا مُشْتَركَة وَلَيْسَ فِي اللُّغَة لفظ يخْتَص بالاستغراق فلفظة منون مُشْتَركَة بَين الِاسْتِغْرَاق وَبَين الْبَعْض كلفظة من فَلم يفد أَكثر مِمَّا أفادته لَفْظَة من وَأما من قَالَ إِن لفظ الْعُمُوم مُسْتَغْرق فِي الْأَمر وَالنَّهْي وَلَا يقطع على

استغراقه فِي الْخَبَر فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَقُول ذَلِك من جِهَة اللُّغَة أَو من جِهَة أُخْرَى وَالْأول بَاطِل لأَنا قد بَينا أَن لفظ الْعُمُوم مُسْتَغْرق وَإِذا كَانَ مُسْتَغْرقا لم يخْتَلف بِحَسب اخْتِلَاف الْجمل الَّتِي يدْخل عَلَيْهَا وَإِن قَالَ بِالثَّانِي فَهُوَ أَن يَقُول لَو لم يسْتَغْرق لفظ الْعُمُوم فِي الْأَمر وَالنَّهْي لم يكن الْمُكَلف مزاح الْعلَّة وَلَيْسَ كَذَلِك الْوَعيد لِأَن الْغَرَض بهما الزّجر عَن الْقَبِيح والزجر يكون بالخوف وَالْخَوْف يحصل بغالب الظَّن الْجَواب أَن لفظ الْعُمُوم إِن لم يكن مُسْتَغْرقا لم يجب حمله على الِاسْتِغْرَاق لَا فِي الْأَمر وَلَا فِي الْوَعيد وَيجب إِذا أَرَادَ الْحَكِيم أَن يزيح عِلّة الْمُكَلف أَن لَا يدله على استغراق الْأَمر بِلَفْظ عُمُوم لِأَنَّهُ لَا يدل على الِاسْتِغْرَاق بل يجب أَن يدله بِدَلِيل آخر وَإِن كَانَ لفظ الْعُمُوم مُسْتَغْرقا وَجب أَن يسْتَغْرق فِي الْخَبَر لِأَن الْخَبَر خطاب لنا وَالْقَصْد بِهِ إفهامنا فَلَا يجوز أَن يقْصد بِهِ إفهامنا وَله ظَاهر إِلَّا وَقد أُرِيد ظَاهره وَإِلَّا كَانَ الْمُتَكَلّم بِهِ قصد أَن يفهم بخطابه مَا لَا يدل خطابه عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْألف وَاللَّام إِذا دخلا على اسْم الْجمع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتلف النَّاس فِي اسْم الْجمع الْمُشْتَقّ وَغير الْمُشْتَقّ إِذا دخله الْألف وَاللَّام نَحْو قَوْلك الْمُشْركُونَ وَالنَّاس فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو هَاشم رَحمَه الله إِن ذَلِك يُفِيد النَّجس وَلَا يُفِيد الِاسْتِغْرَاق وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَليّ رَحمَه الله وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء إِنَّه مَوْضُوع لاستغراق الْجِنْس وَالْحجّة لذَلِك وُجُوه مِنْهَا أَنه لَو كَانَ قَوْلنَا النَّاس لَا يُفِيد الِاسْتِغْرَاق لَا محَالة لَكِن قد يعبر بِهِ عَنهُ ويعبر بِهِ عَن الْبَعْض حَقِيقَة لَكَانَ قَوْله كلهم بَيَانا لأحد المحتملين لَا تَأْكِيدًا أَلا ترى أَن اسْم الشَّفق لما كَانَ مُشْتَركا على سَبِيل الْحَقِيقَة بَين الْحمرَة وَالْبَيَاض كَانَ الْإِنْسَان إِذا قَالَ رايت الشَّفق ثمَّ قَالَ الَّذِي هُوَ

الْحمرَة كَانَ قَوْله الَّذِي هُوَ الْحمرَة بَيَانا لَا تَأْكِيدًا لِأَن الْمُؤَكّد يبقي الْمُؤَكّد على حَاله وَيزِيد قُوَّة وَلَيْسَت هَذِه حَال الْبَيَان لِأَن الْبَيَان يكْشف عَن أحد المحتملين فان قيل مَا تنكرون من أَن يكون وصف أهل اللُّغَة بِأَن قَوْلنَا كل تَأْكِيد لقولنا النَّاس مذهبا لَهُم بنوه على قَوْلهم إِن قَوْلنَا النَّاس مُسْتَغْرق قيل إِن كَانَ كَذَلِك فَقَوْلهم إِن ذَلِك مُسْتَغْرق حجَّة لأَنهم يَقُولُونَ ذَلِك نقلا بِحَسب مَا فهموه عَن الْعَرَب فان قيل فاستدلوا بقَوْلهمْ إِن لَام الْجِنْس تَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاق واطرحوا دَلِيل التَّأْكِيد قيل لَو علمنَا ذَلِك ابْتِدَاء من اعْتِقَاد جَمِيعهم لاستدللنا وَلَكِن لما علمنَا ذَلِك بوصفهم لَفْظَة كل بِأَنَّهَا تَأْكِيد جعلنَا وَصفهم لذَلِك بِأَنَّهُ تَأْكِيد دَلِيلا على اعْتِقَادهم الِاسْتِغْرَاق اسْم النَّاس إِن قيل فَمن أَيْن إِن وصف ذَلِك بِأَنَّهُ تَأْكِيد قَول لجميعهم قيل لِأَنَّهُ لَو وَصفه بَعضهم بِأَنَّهُ بَيَان وَمنع من وَصفه بِأَنَّهُ تَأْكِيد لنقل ذَلِك وَعرف إِن قيل قَول الْقَائِل النَّاس يصلح للاستغراق وَيصْلح لما دونه فاذا أكده الْمُتَكَلّم فَقَالَ رَأَيْت النَّاس كلهم علمنَا أَنه اسْتعْمل قَوْله النَّاس فِي الِاسْتِغْرَاق وَأَنه أكد اسْتِعْمَاله فِيهِ بقوله كلهم فقد صَحَّ وصف ذَلِك بِأَنَّهُ تَأْكِيد على قَوْلنَا قيل هَذَا يَقْتَضِي أَن يكون مَا دلّ على أَن المُرَاد بِالِاسْمِ الْمُشْتَرك أحد معنييه تَأْكِيدًا لَهُ بِأَن يُقَال إِن الْمُتَكَلّم بِالِاسْمِ أَرَادَ بِهِ أحد معنييه وأكده بِأَن دلّ عَلَيْهِ وَيلْزم أَن يكون من دلّ على الشَّيْء فقد أكده وَمِنْهَا أَنه يحسن أَن يسْتَثْنى من قَوْلك رَأَيْت النَّاس أَي إِنْسَان أَشرت إِلَيْهِ وَالِاسْتِثْنَاء يخرج من الْكَلَام مَا لولاه لوَجَبَ دُخُوله فِيهِ فَإِذن أَي إِنْسَان أَشرت إِلَيْهِ فَهُوَ دَاخل فِي قَوْلك رَأَيْت النَّاس وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْأَدِلَّة على ذَلِك فِي الْبَاب الْمُتَقَدّم وَمِنْهَا أَن قَول الْقَائِل رايت نَاسا يُفِيد أَنه رأى من هَذَا الْجِنْس وَلَا يُفِيد الِاسْتِغْرَاق فَلَا بُد من أَن يُفِيد دُخُول الْألف وَاللَّام فَائِدَة وَلَا يجوز أَن تكون تِلْكَ الْفَائِدَة هِيَ الْجِنْس لِأَن ذَلِك قد كَانَ حَاصِلا من دونهمَا فَعلمنَا أَنَّهُمَا أفادا الِاسْتِغْرَاق

وَمِنْهَا مَا اسْتدلَّ بِهِ من أَن اللَّام إِذا كَانَت تعريفا للْعهد عَمت فَكَذَلِك إِذا كَانَت تعريفا للْجِنْس أَلا ترى أَن الْإِنْسَان إِذا كَانَ مَعَ غَيره فِي ذكر رجال ثمَّ قَالَ جَاءَنِي الرِّجَال عقل مِنْهُ جَمِيعهم لِأَن الذى جرى ذكره هُوَ الْجَمِيع كَذَلِك ايضا الْجِنْس هُوَ الْمُتَعَارف إِذا لم يكن عهد فَلم يكن انصراف الِاسْم إِلَى الْبَعْض أولى من الْبَعْض وَاحْتج الذاهبون إِلَى قَول ابي هَاشم بأَشْيَاء مِنْهَا أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ جمع الْأَمِير الصاغة لم يعقل مِنْهُ أَنه جمع صاغة الدُّنْيَا وَإِنَّمَا يعقل مِنْهُ أَنه جمع هَذَا الْجِنْس وَالْجَوَاب عَنهُ أَن الْمَعْقُول مِنْهُ أَنه جمع صاغة بَلَده وَمن عداهم فانما يعلم أَنه لم يجمعهُمْ لتعذر جمعهم ويلزمهم أَن يجوزوا كَونه جَامعا لصاغة الدُّنْيَا لِأَن الِاسْم يحْتَملهُ فان قَالُوا نعلم أَنه لم يجمعهُمْ وَإِن احتمله اللَّفْظ لقَرِينَة وَهِي تعذر جمعهم قُلْنَا نَحن إِن اللَّفْظ لَا يصلح إِلَّا للاستغراق وَإِنَّمَا علمنَا أَنه لم يرد الْمُتَكَلّم الِاسْتِغْرَاق لتعذره وَمِنْهَا قَوْلهم لَو كَانَت لَام الْجِنْس تَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاق لوَجَبَ إِذا اسْتعْمل فِي الْعَهْد أَن يكون مجَازًا لِأَنَّهُ قد أُرِيد بِهِ بعض الْجِنْس وَالْجَوَاب أَن لَام الْجِنْس تَقْتَضِي التَّعْرِيف فَوَجَبَ انصراف الِاسْم إِلَى مَا الْإِنْسَان بِهِ أعرف فَإِن كَانَ هُنَاكَ عهد انْصَرف إِلَيْهِ لِأَن السَّامع بِهِ أعرف وَلم يكن هُنَاكَ مجَازًا إِذا انْصَرف وَإِن لم يكن بَين الْمُتَكَلّم وَالسَّامِع عهد انْصَرف إِلَى الْجِنْس لِأَنَّهَا بِهِ أعرف فَلم تخْتَلف فائدتها فِي الْحَالين وَجَرت مجْرى قَوْلك من عنْدك فِي أَنه اسْتِفْهَام عَن كل عَاقل عِنْده فان كَانُوا قلَّة فَهِيَ اسْتِفْهَام عَنْهُم وَإِن كَانُوا كَثْرَة فَهِيَ اسْتِفْهَام عَنْهُم وَلَا يكون مجَازًا إِذا كَانُوا قلَّة وَلَو قيل إِن حمل الِاسْم الْمُعَرّف على الْعَهْد يحْتَاج فِيهِ إِلَى قرينَة وَهِي تقدم الْعَهْد وَأَن ذَلِك يَجْعَل الِاسْم مجَازًا لِأَنَّهُ عَام مَخْصُوص لم يكن بَعيدا وَمِنْهَا أَن يَقُولُوا إِن قَوْلنَا رجال يَقْتَضِي جمعا من الرِّجَال غير مُسْتَغْرق وَاللَّام أفادت التَّعْرِيف فَمن أَيْن جَاءَ الِاسْتِغْرَاق وَالْجَوَاب إِن

إفادتها للتعريف لَا تمنع من إفادتها الِاسْتِغْرَاق سِيمَا وَقد بَينا أَنَّهُمَا مَتى حملا على بعض غير معِين نقض ذَلِك التَّعْرِيف لِأَن الْبَعْض الَّذِي لَيْسَ بِمعين مَجْهُول وَأفَاد الْجِنْس قد كَانَ حَاصِلا قبل دُخُول اللَّام وَمِمَّا يُمكن أَن يحتجوا بِهِ هُوَ أَن يَقُولُوا لَو كَانَ قَوْلنَا فلَان يلبس الثِّيَاب حَقِيقَة فِي أَنه يلبس جَمِيعهَا يجْرِي مجْرى قَوْلهم فلَان يلبس كل الثِّيَاب فَكَانَ يجب أَن يكون قَوْلنَا فلَان لَا يلبس الثِّيَاب يُفِيد مَا يفِيدهُ قَوْلنَا فلَان لَا يلبس كل الثِّيَاب وَكَانَ يحسن إِطْلَاقه على كل أحد لَا يلبس كل الثِّيَاب وَمَعْلُوم أَن أهل اللُّغَة لَا يستحسنون إِطْلَاق ذَلِك إِلَّا على من لَا يلبس شَيْئا من الثِّيَاب فَعلمنَا أَن قَوْلنَا فلَان يلبس الثِّيَاب يُفِيد الْجِنْس فنفيه نفي الْجِنْس أصلا فَلذَلِك عَم وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَن يُوصف كل أحد بِأَنَّهُ لَا يُبَاشر النِّسَاء وَلَا يَأْكُل الطَّعَام لِأَنَّهُ لَا يُبَاشر جَمِيع النِّسَاء وَلَا يَأْكُل جَمِيع الطَّعَام الْجَواب أَن ذَلِك بَاطِل بِلَفْظَة من فِي المجازاة لِأَن الانسان إِذا قَالَ من دخل دَاري أكرمته جرى مجْرى قَوْله كل عَاقل دخل دَاري أكرمته وَلَو قَالَ لَا أكْرم من دخل دَاري لم يجر مجْرى قَوْله لَا أكْرم كل عَاقل دخل دَاري لِأَنَّهُ لَو قَالَ ذَلِك لم يلْزم أَن لَا يكرم كل أحد مِنْهُم بل يجوز أَن يكرم الْبَعْض دون الْبَعْض وَلَو قَالَ لَا أكْرم من دخل دَاري فهم مِنْهُ أَنه لَا يكرم وَاحِدًا مِنْهُم وَإِن كَانَ قَوْله من دخل دَاري أكرمته عَاما وَكَذَلِكَ لَا يمْتَنع أَن يكون قَوْلنَا الثِّيَاب وَسِيلَة عَاميْنِ وَلَا يجْرِي سلبه مجْرى كل سلب فَإِن قَالُوا إِنَّمَا وَجب ذَلِك فِي لَفْظَة من لِأَنَّهَا لَيست مَوْضُوعَة للْجَمِيع وَإِنَّمَا تفِيد الْعُقَلَاء فاذا علق عَلَيْهَا الْجَزَاء لم يكن بِأَن يتَنَاوَل بَعضهم بِأولى من بعض فَانْصَرف إِلَى الْجَمِيع ولهذه الْعلَّة وَجب فِي نفي الْجَزَاء ان ينْصَرف إِلَى الْجَمِيع قيل لَهُم وَلَام الْجِنْس أَيْضا مَا وضعت للْجمع كلفظة كل وَإِنَّمَا تفِيد تَعْرِيف الْجِنْس فَلَمَّا لم يكن بعض الْجِنْس بِأَن يعرفهُ أولى من بعض انْصَرف إِلَى جَمِيعه وَهَذِه الْعلَّة قَائِمَة إِذا اسْتعْمل لَام الْجِنْس فِي النَّفْي لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَن ينْصَرف إِلَى بعض الْجِنْس أولى من بعض

فاذ ثَبت أَن اسْم الْجمع إِذا دخله لَام الْجِنْس استغرق فَالْوَاجِب أَن نَنْظُر هَل هُنَاكَ عهد أم لَا فَإِن كَانَ انْصَرف إِلَيْهِ وَإِلَّا انْصَرف إِلَى الْجِنْس لِأَن انْصِرَافه إِلَى الْعَهْد تَخْصِيص وَلَيْسَ أَن تحمل اللَّفْظَة على الِاسْتِغْرَاق إِلَّا بعد أَن يفحص فتفيد مَا يدل على أَن المُرَاد بهَا الْخُصُوص وَأما الشَّيْخ أَبُو هَاشم فانه إِذا لم يَجْعَل الِاسْم مُسْتَغْرقا حمله على الِاسْتِغْرَاق لوجه آخر وَهُوَ مَا ذَكرُوهُ فِي الْوَعيد من أَن قَوْله {وَإِن الْفجار لفي جحيم} يُفِيد أَنهم فِي الْجَحِيم لأجل فُجُورهمْ لِأَنَّهُ خرج مخرج الزّجر عَن الْفُجُور فَوَجَبَ أَن يكون كل من وجد فِيهِ الْفُجُور فِي الْجَحِيم وَجرى مجْرى قَوْله من فجر فَهُوَ فِي الْجَحِيم فَأَما لَفْظَة الْجمع الْمُضَاف مثل قَوْلنَا عبيد زيد فانه يسْتَغْرق لحسن توكيده بِلَفْظَة كل وَحسن اسْتثِْنَاء أَي عبد شِئْت وَيُمكن أَن يذكر فِيهِ من الشّبَه أَكثر مَا تقدم فِي لَام الْجِنْس وَالْجَوَاب عَنْهَا نَحْو مَا تقدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْألف وَاللَّام إِذا دخلا على الِاسْم الْمُفْرد الْمُشْتَقّ وغيرالمشتق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهب الشَّيْخ أَبُو عَليّ رَحمَه الله إِلَى أَن قَول الله تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة} يسْتَغْرق جَمِيع السراق وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو هَاشم رَحمَه الله إِن ذَلِك يُفِيد الْجِنْس دون استغراقه وَالْحجّة لذَلِك أَنه لَو استغرق الْجِنْس لجَاز مَعَ أَنه لفظ وَاحِد أَن يُؤَكد بِكُل وَجَمِيع كلفظة من نَحْو قَوْلك كل من دخل دَاري أكرمته وَلَيْسَ يجوز أَن يُؤَكد بذلك لِأَنَّهُ يقبح أَن يَقُول جَاءَنِي الرجل أَجْمَعُونَ وَرَأَيْت الْإِنْسَان كلهم وَأَيْضًا يقبح أَن يسْتَثْنى من ذَلِك فَيَقُول رَأَيْت الْإِنْسَان إِلَّا الْمُؤمنِينَ وَلَو كَانَ عَاما لحسن ذَلِك

وَهَذَا يدلنا على أَن قَول الله سُبْحَانَهُ {وَالْعصر إِن الْإِنْسَان لفي خسر إِلَّا الَّذين آمنُوا} مجَاز يجْرِي مجْرى الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس لِأَنَّهُ غير مطرد وَلَو كَانَ حَقِيقَة لاطرد وَيحْتَمل أَيْضا أَن تكون الخسارة لما لَزِمت جَمِيع النَّاس إِلَّا الْمُؤمنِينَ جَازَ هَذَا الِاسْتِثْنَاء فان قيل فقد قَالُوا أهلك النَّاس الدِّينَار الصفر وَالدِّرْهَم الْبيض فعنوا كل وَاحِد مِنْهَا بِالْجمعِ فَعلم أَنَّهُمَا يفيدان الِاسْتِغْرَاق قيل هَذَا شَاذ وَلَو كَانَ حَقِيقَة لاطرد حَتَّى يُقَال جَاءَنِي الرجل الْقصار وَالرجل الْمُؤْمِنُونَ على أَنه لَيْسَ المُرَاد بذلك أَن جَمِيع الدَّنَانِير أهلك النَّاس وَإِنَّمَا المُرَاد بِهِ هَذَا الْجِنْس وَلما كَانَ الْهَلَاك بالدينار لأمر مَوْجُود فِي كل وَاحِد من الدَّنَانِير جَازَ أَن ينعتوه بِالْجمعِ لِأَن الْمَعْنى يَقْتَضِي الْجَمِيع فان قَالُوا لَو لم يسْتَغْرق قَوْلنَا الْإِنْسَان لأفاد وَاحِدًا غير معِين وَفِي ذَلِك إِخْرَاجه من كَونه مُعَرفا فَإِن قُلْتُمْ إِن اللَّام تَقْتَضِي تَعْرِيف الْجِنْس لَا تَعْرِيف الْآحَاد قيل لكم هَذَا كَانَ مستفادا من الِاسْم قيل دُخُول اللَّام عَلَيْهِ لِأَنَّك لَو قلت رَأَيْت إنْسَانا أَفَادَ أَنَّك رَأَيْت وَاحِدًا من هَذَا الْجِنْس كَمَا لَو قلت رايت الْإِنْسَان وَالْجَوَاب أَن قَول الْقَائِل رَأَيْت الْإِنْسَان لَا يُطلق إِلَّا على إِنْسَان قد عرفه الْمُتَكَلّم وَالسَّامِع وَتقدم ذكره لَهما فَيُفِيد ذَلِك الشَّخْص بِعَيْنِه وَقد تعلق على لفظ الْإِنْسَان حكم يعلم شياعه فِي جَمِيع النَّاس إِمَّا لأجل لفظ تَعْلِيل أَو لأجل الزّجر أَو غير ذَلِك فَلَا يسْتَعْمل فِي شخص بِعَيْنِه وَلَكِن يُرَاد بِهِ الْجِنْس واستغراقه لأجل مَا اقْترن بِهِ مِمَّا يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاق فان قيل إِنَّكُم قد خالفتم الْإِجْمَاع بفرقكم بَين الِاسْم إِذا دخله الْألف وَاللَّام وَبَين الِاسْم الْمُفْرد لِأَن النَّاس على قَوْلَيْنِ مِنْهُم من جَعلهمَا مستغرقين وَمِنْهُم من جَعلهمَا غير مستغرقين قيل لسنا نعلم هَذَا الْإِجْمَاع وَإِنَّمَا نعلم مَا ذكرته من قَول الشَّيْخَيْنِ رحمهمَا الله وَمن تبعهما فَقَط على أَنه إِنَّمَا لَا يجوز الْفرق بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ إِذا جَمعهمَا طَرِيق وَاحِد وَقد بَينا أَنه لَيْسَ يجمعهما طَرِيق وَاحِد

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي لفظ الْجمع العاري عَن الْألف وَاللَّام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حكى قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله فِي الشَّرْح عَن الشَّيْخ أبي عَليّ رَحمَه الله ان قَول الْقَائِل رَأَيْت رجَالًا يحمل على الِاسْتِغْرَاق من جِهَة الْحِكْمَة وَعند الشَّيْخ أبي هَاشم رَحمَه الله أَنه لَا يحمل على الِاسْتِغْرَاق بل يحمل إِذا تجرد على ثَلَاثَة فَصَاعِدا وَحجَّة ذَلِك أَن قَوْلنَا رجال يُفِيد جمعا من الرِّجَال لِأَنَّك ترتقي من التَّثْنِيَة إِلَيْهِ فَتَقول رجلَانِ وَثَلَاثَة رجال وَأَرْبَعَة رجال ولأنك تنعته بِأَيّ نعت شِئْت فَتَقول رجال ثَلَاثَة وَأَرْبَعَة وَخَمْسَة رجال وَإِذا كَانَ يُفِيد جمعا من الرِّجَال وَكَانَ معنى الْجمع قَائِما فِي الثَّلَاثَة فَمَا زَاد فَمن قيل لَهُ اضْرِب رجَالًا فَضرب ثَلَاثَة رجال كَانَ قد فعل مَا يُوصف بِأَنَّهُ ضرب رجال فَسقط عَنهُ الْغَرَض كَمَا أَنه لوقيل لَهُ ادخل الدَّار فَدخل أَولهَا ولحقه اسْم الدَّاخِل سقط عَنهُ الْأَمر وَقد احْتج لذَلِك بِأَنَّهُ لَو حمل ذَلِك على الِاسْتِغْرَاق لم يسْتَقرّ لِأَنَّهُ لَا عدد من الرِّجَال إِلَّا وَيُمكن أَن يُوجد أَكثر مِنْهُ وَلقَائِل أَن يَقُول يحمل على الِاسْتِغْرَاق لمن هُوَ مَوْجُود من الرِّجَال كلفظة من تحمل على أَنَّهَا اسْتِفْهَام عَن كل عَاقل فِي الدَّار دون من لم يُوجد وَهَذَا يُوجب أَن لَا يكون فِي اللُّغَة لفظ يسْتَغْرق الرِّجَال وَحجَّة أبي عَليّ على وُجُوه مِنْهَا أَن حمل هَذِه اللَّفْظَة على الِاسْتِغْرَاق حمل لَهَا على جَمِيع حقائقها فَكَانَ أولى من حملهَا على الْبَعْض وَيُفَارق ذَلِك الِاسْم الْمُشْتَرك فِي أَنه لَا يحمل على كلا معنييه لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقِيقَة فِي مجموعهما وَقَوْلنَا نَاس وَرِجَال يُفِيد كل جمع على سَبِيل الْحَقِيقَة وَالْجَوَاب أَنه إِن أَرَادَ أَن قَوْلنَا رجال حَقِيقَة فِي الثَّلَاثَة وَفِي الْأَرْبَعَة وَفِي كل عدد ابْتِدَاء فَذَلِك غير مُسلم لِأَنَّهُ لم يوضع للاعداد ابْتِدَاء وَإِن أَرَادَ أَنه حَقِيقَة فِي الْجمع وَالْجمع مَوْجُود فِي الثَّلَاثَة فَصَاعِدا

فَصَحِيح وَذَلِكَ يمنعهُ أَن يَقُول إِذا حَملته على الِاسْتِغْرَاق كنت قد حَملته على جَمِيع حقائقه لِأَن الْحَقِيقَة وَاحِدَة وَهِي الْجمع ثمَّ يُقَال لَهُ وَلم زعمت أَنه يَنْبَغِي أَن يحمل هَذَا الِاسْم على كل مَا وجدت فِيهِ حَقِيقَة وَمَا أنْكرت أَنه يحمل على أقل مَا يُوجد فِيهِ معنى الْجمع لِأَنَّهُ مُتَحَقق وَمِنْهَا قَوْله لَو اراد الْمُتَكَلّم بِلَفْظ الْجمع المنكور الْبَعْض لبينه وَإِذا بَطل حمله على الْبَعْض ثَبت الِاسْتِغْرَاق وَالْجَوَاب يُقَال لَهُ وَلَو أَرَادَ الْكل لبينه على أَن مَا ذَكرْنَاهُ من وجوب حمله على الثَّلَاثَة وَسُقُوط الْأَمر بِهِ بَيَانا بِأَن يكون الْبَعْض مرَادا وَيُقَال لَهُ إِنَّمَا يجب أَن يبين ذَلِك لَو يدل عَلَيْهِ مُطلق الْكَلَام فَبين أَنه لَا يدل على ذَلِك وَقد تمت لَك الْمَسْأَلَة وَمِنْهَا قَوْله لَو حمل على الْبَعْض لم يتَمَيَّز الْبَعْض الَّذِي يحملهُ عَلَيْهِ الْجَواب أَنا إِذا قَصرنَا الحكم على الثَّلَاثَة فقد حملناه على أَمر متميز وَإِن كَانَت الثَّلَاثَة غير متعينة فان قَالَ أفتجوزون لمن أَمر بِضَرْب رجال أَن يضْرب أَكثر من ثَلَاثَة قيل نعم وَلَا يجب عَلَيْهِ أما سُقُوط الْوُجُوب فُلَانُهُ بِضَرْب ثَلَاثَة يُوصف بِأَنَّهُ قد ضرب رجَالًا وَأما جَوَاز الزِّيَادَة فلقيام معنى الْجمع فيهم وَهَذَا كمن قيل لَهُ ادخل الدَّار فِي أَنه إِن دخل أَولهَا سقط عَنهُ الْأَمر وَإِن أمعن فِي الدُّخُول لم يلْزمه فَهَذَا هُوَ الْكَلَام فِي أَسمَاء الْجمع الْمُنكر فَأَما قَول الْقَائِل افعلوا فَذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الدَّرْس أَن أَبَا عَليّ حمل ذَلِك على الِاسْتِغْرَاق قَالَ وَلم يحملهُ قَوْله رايت رجَالًا على الِاسْتِغْرَاق وَذكر فِي الشَّرْح مَا حكيناه وَالْأولَى أَن يُقَال إِن قَول الْقَائِل افعلوا لَا بُد من أَن يتقدمه اسْم فان كَانَ الِاسْم مُسْتَغْرقا نَحْو قَوْله يأيها النَّاس انْصَرف قَوْله افعلوا إِلَى الِاسْتِغْرَاق وَإِن لم يكن مُسْتَغْرقا نَحْو جمع مُنكر لم ينْصَرف ذَلِك إِلَى الِاسْتِغْرَاق لِأَن الْإِنْسَان لَو قَالَ قلت لرجل افعلوا كَذَا وَكَذَا لم يسْتَغْرق جَمِيع الرِّجَال

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أقل الْجمع مَا هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن هَذَا الْبَاب يشْتَمل على مَسْأَلَتَيْنِ إِحْدَاهمَا أَن يُقَال قَوْلنَا جمع مَا الَّذِي يفِيدهُ وَالثَّانِي أَن يُقَال الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة بِأَنَّهَا جمع هَل تفِيد الِاثْنَيْنِ حَقِيقَة أم لَا نَحْو قَوْلنَا جمَاعَة وَرِجَال أما قَوْلنَا جمع فانه يُفِيد من جِهَة الِاشْتِقَاق ضم الشَّيْء إِلَى الشَّيْء ويفيد فِي عرف أهل اللُّغَة الفاظا مَخْصُوصَة نَحْو قَوْلهم هَذَا اللَّفْظ جمع وَهَذَا اللَّفْظ تَثْنِيَة وَأما قَوْلنَا جمَاعَة وَقَوْلنَا رجال فانه يُفِيد ثَلَاثَة فَصَاعِدا وَلَا يُفِيد الِاثْنَيْنِ فَقَط لِأَنَّهُ لَا ينعَت ذَلِك بالاثنين وينعت بِالثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ يُقَال رَأَيْت رجَالًا ثَلَاثَة وَجَمَاعَة رجال وَلَا يُقَال رَأَيْت رجَالًا اثْنَيْنِ وَجَمَاعَة رجلَيْنِ وَذهب قوم إِلَى أَنه يُفِيد الِاثْنَيْنِ حَقِيقَة وَاحْتَجُّوا بأَشْيَاء مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ يحكمان فِي الْحَرْث} إِلَى قَوْله {وَكُنَّا لحكمهم شَاهِدين} وَالْجَوَاب أَن مَا ذَكرْنَاهُ من الدّلَالَة يَقْتَضِي أَن ذَلِك مجَازًا لَا حَقِيقَة وَمِنْهَا قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الِاثْنَان فَمَا فَوْقهَا جمَاعَة وَالْجَوَاب أَنه أَرَادَ أَن حكمهمَا حكم الْجَمَاعَة فِي انْعِقَاد صَلَاة الْجَمَاعَة بهما لما ذكرنَا من الدّلَالَة لِأَن كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحمل على تَعْلِيم الحكم دون الِاسْم اللّغَوِيّ وَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول إِن الِاثْنَيْنِ تفيدهما أَلْفَاظ الْجمع من جِهَة الشَّرْع فَيُقَال إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرفنَا ذَلِك شرعا

وَمِنْهَا أَن اسْم الْجمع يُفِيد ضم الشَّيْء إِلَى الشَّيْء وَهَذَا يَصح فِي الْإِثْنَيْنِ كصجته فِي الثَّلَاثَة وَإِذا كَانَ معنى الْجمع قَائِما فِي الِاثْنَيْنِ صَحَّ أَن يفيدهما أَلْفَاظ الْجمع وَالْجَوَاب أَن قَوْلنَا اسْم الرِّجَال مَوْضُوع للْجمع لَيْسَ يَقْتَضِي أَنه يُفِيد جمع شَيْء إِلَى شَيْء فَيلْزم أَن يَقع مَا حصل فِيهِ هَذَا الْمَعْنى وَإِنَّمَا يُفِيد أَنه مَوْضُوع للاجتماع ثَلَاثَة فَصَاعِدا فَلَا يلْزم أَن يُفِيد اجْتِمَاع اثْنَيْنِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي نفي مُسَاوَاة الشَّيْء للشَّيْء هَل يُفِيد نفي اشتراكهما فِي كل صفاتهما أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن من الشَّافِعِيَّة من اسْتدلَّ بقول الله تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب النَّار وَأَصْحَاب الْجنَّة أَصْحَاب الْجنَّة هم الفائزون} على الْمَنْع من قتل الْمُسلم بالذمي لِأَنَّهُ لَو قتل بِهِ كَمَا يقتل الذِّمِّيّ بِالْمُسلمِ وكما يقتل الْمُسلم بِالْمُسلمِ كُنَّا قد سوينا بَين الْمُسلم وَالذِّمِّيّ مَعَ أَن أَحدهمَا من اصحاب النَّار وَالْآخر من أَصْحَاب الْجنَّة وَالْآيَة تمنع من استوائهما فِي كل الصِّفَات وَهَذَا لَا يَصح لِأَن اسْتِوَاء أهل النَّار وَأهل الْجنَّة هُوَ أَن يشتركا فِي جَمِيع الصِّفَات كَمَا أَن تَسَاوِي الجنسين هُوَ أَن يشتركا فِي جَمِيع الْمِقْدَار فنفي استوائهما هُوَ نفي اشتراكهما فِي جَمِيع الصِّفَات وَمَتى افْتَرقَا فِي بعضهما صدق القَوْل عَلَيْهِمَا بِأَنَّهُمَا لم يستويا وَنحن نوقع بَين الذِّمِّيّ وَالْمُسلم افْتَرقَا فِي كثير من الصِّفَات سوى الْقصاص فَبَان أَن قَوْله {لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب النَّار وَأَصْحَاب الْجنَّة} لَا يعم جَمِيع الصِّفَات إِن قيل هلا كَانَ المُرَاد بذلك لَا يستويان فِي صفة من الصِّفَات قيل إِن نفي الاسْتوَاء علق بأصحاب الْجنَّة وَأَصْحَاب النَّار وَلم يعلق بصفاتهم فَلَا يلْزم مَا قلته وَإِذا علق بالفريقين كفى فِي افتراقهما أَن يتنافيا فِي بعض الصِّفَات

وَقد أجَاب قَاضِي الْقُضَاة عَن الِاحْتِجَاج بِالْآيَةِ بِأَنا قد علمنَا استواءهم فِي صِفَات الذَّات فَعلمنَا أَنه أَرَادَ لَا يستويان فِي بعض الصِّفَات فاذا لم يذكر ذَلِك الْبَعْض صَارَت الْآيَة مجملة وَقد ذكرنَا فِي الْآيَة الِافْتِرَاق فِي الْفَوْز فَيجب حمل الْآيَة عَلَيْهِ وَلقَائِل أَن يَقُول إِن سلم لَهُم أَن الْآيَة تفِيد نفي اشتراكهم فِي كل الصِّفَات أجمع لم يضرهم اشتراكهم فِي كثير من الصِّفَات لِأَن الْعُمُوم إِذا خرج بعضه لم يمْنَع من التَّعَلُّق بباقيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي خطاب الْمُذكر هَل يعم الْمُذكر والمؤنث أم يخْتَص بالمذكر فَقَط - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْخطاب الشَّامِل ضروب أَحدهمَا يخْتَص بالمذكر فَقَط نَحْو قَوْلنَا رجال وَالْآخر يخْتَص بالمؤنث فَقَط كَقَوْلِنَا نسَاء وَالْآخر يسْتَعْمل فيهمَا وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا لَا يبين فِيهِ تذكير وَلَا تَأْنِيث كَقَوْلِك من وَذَلِكَ يدْخل فِيهِ الرِّجَال وَالنِّسَاء إِلَّا لدلَالَة وَالْآخر يبين فِيهِ التَّذْكِير كَقَوْلِك قَامُوا وَاخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَقَالَ بَعضهم لَا يدْخل النِّسَاء فِيهِ إِلَّا بِدَلِيل لِأَن الْمُذكر جمعا ينْفَصل بِهِ من جمع الْمُؤَنَّث وَلِأَن الْجمع هُوَ تَضْعِيف الْوَاحِد وَمَعْلُوم أَن قَوْلنَا قَامَ يُفِيد الْمُذكر فقولنا قَامُوا يُفِيد تَضْعِيف هَذِه الْفَائِدَة وَهُوَ الْمُذكر وَقَالَ قوم ظَاهر ذَلِك يُفِيد الرِّجَال وَالنِّسَاء لِأَن أهل اللُّغَة قَالُوا التَّذْكِير والتأنيث إِذا اجْتمعَا غلب التَّذْكِير وَالْجَوَاب أَن مُرَادهم بذلك أَن الْإِنْسَان إِذا أَرَادَ أَن يعبر عَن الْمُؤَنَّث والمذكر بِلَفْظ وَجب أَن يعبر عَنهُ بِلَفْظ مُذَكّر لَا مؤنث وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يدل على أَن اللَّفْظ يُفِيد ظَاهره الْمُؤَنَّث وَإِذا قد أَتَيْنَا على أَبْوَاب الْعُمُوم فلنذكر ابواب الْخُصُوص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي معنى وَصفنَا للْكَلَام بِأَنَّهُ خَاص وخصوص وبانه مَخْصُوص وَوصف الْمُتَكَلّم بِأَنَّهُ مُخَصص للخطاب والفصل بَين التَّخْصِيص والنسخ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما وصف الْكَلَام بِأَنَّهُ خَاص وَبِأَنَّهُ خُصُوص فَمَعْنَاه أَنه وضع

لشَيْء وَاحِد نَحْو قَوْلنَا الْبَصْرَة وبغداد وَأما الْخطاب الْمَخْصُوص فَهُوَ مَا عرض الْمُتَكَلّم بِهِ بعض مَا وضع لَهُ اللَّفْظ فَقَط وَذَلِكَ أَن الْمَفْهُوم من قَوْلنَا إِن الْكَلَام مَخْصُوص هُوَ أَنه قد قصر على بعض فَائِدَته وَإِنَّمَا يكون مَقْصُورا عَلَيْهَا بِأَن يكون الْمُتَكَلّم قد عني ذَلِك الْبَعْض فَقَط بِكَلَامِهِ وَلَيْسَ قَوْلنَا خُصُوص من قَوْلنَا مَخْصُوص بسبيل لِأَن مَا وضع لعين وَاحِدَة لَا يُوصف بِأَنَّهُ خطاب مَخْصُوص وَإِنَّمَا يُوصف بِأَنَّهُ خَاص وَبِأَنَّهُ مَخْصُوص ويقل اسْتِعْمَال قَوْلهم خُصُوص فِي الْعُمُوم الْمَخْصُوص وَأما قَوْلنَا خَاص فانه يسْتَعْمل فِيمَا وضع لعين وَاحِدَة وَفِي الْعُمُوم الْمَخْصُوص وَأما قَوْلنَا قد خص فلَان الْعُمُوم فقد يسْتَعْمل على الْحَقِيقَة وَيُرَاد بِهِ أَنه جعله خَاصّا وَإِنَّمَا يَجعله خَاصّا إِذا اسْتَعْملهُ فِي بعض مَا تنَاوله وَيسْتَعْمل على الْمجَاز وَيُرَاد بِهِ أَنه دلّ على تَخْصِيصه أَو نبه على الدّلَالَة عَلَيْهِ أَو اعْتقد تَخْصِيصه فَأَما التَّخْصِيص فقد يسْتَعْمل على مُوجب اللُّغَة وعَلى مُوجب الْعرف واستعماله على مُوجب اللُّغَة يُفِيد إِخْرَاج بعض مَا تنَاوله الْخطاب فعلا كَانَ الْمخْرج أَو فَاعِلا أَو زَمَانا على مَا سَيَجِيءُ بَيَانه وعَلى هَذَا يكون النّسخ دَاخِلا تَحت التَّخْصِيص لِأَن النّسخ هُوَ إِخْرَاج لبَعض مَا تنَاوله الْخطاب ايضا وَأما التَّخْصِيص فِي الْعرف فانه لَا يُفَارق على مُوجب مَذْهَب أَصْحَابنَا إِلَّا بالمقارنة والتراخي لِأَن الله عز وَجل لَو قَالَ لنا صلوا كل يَوْم جُمُعَة ثَلَاث صلوَات وَقَالَ عقيب ذَلِك باستثناء أَو بِغَيْرِهِ لَا يصل زيد شَيْئا من هَذِه الصَّلَوَات كَانَ ذَلِك مُخَصّصا وَلم يكن نسخا وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لَا تصلوا يَوْم الْجُمُعَة الْفُلَانِيَّة أَو لَو قَالَ لَا تصلوا الصَّلَاة الثَّالِثَة فِي الْجُمُعَة فَلَو قَالَ هَذِه الْأَقَاوِيل متراخيا عَن قَوْله صلوا كل يَوْم جُمُعَة لَكَانَ نسخا فَبَان أَنه لَيْسَ يَقع الْفرق بَينهمَا فَإِن أَحدهمَا يخرج الْوَقْت أَو الشَّخْص أَو الْفِعْل بل إِنَّمَا يفترقان بالمقارنة والتراخي فاذا ثَبت ذَلِك فالتخصيص على هَذَا هُوَ إِخْرَاج

بعض مَا تنَاوله الْخطاب مَعَ كَونه مُقَارنًا لَهُ وَيدخل فِي ذَلِك إِخْرَاج وَاحِد من النكرات والنسخ هُوَ إِخْرَاج بعض مَا تنَاوله دَلِيل شَرْعِي بِنَفسِهِ أَو بِقَرِينَة بِدَلِيل سَمْعِي متراخ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يجوز تَخْصِيصه وَفِيمَا لَا يجوز - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْكَلَام فِي ذَلِك يَقع فِي موضِعين أَحدهمَا فِيمَا يتَصَوَّر تَخْصِيصه وَيُمكن وَالْآخر فِيمَا يجوز قيام الدّلَالَة على تَخْصِيصه أما الأول فَهُوَ أَن الْأَدِلَّة ضَرْبَان أَحدهمَا فِيهِ معنى الشُّمُول وَالْآخر لَيْسَ فِيهِ ذَلِك فالأخير لَا يتَصَوَّر دُخُول التَّخْصِيص فِيهِ لِأَن تَخْصِيص الشَّيْء هُوَ إِخْرَاج جزئه فَمَا لَا جُزْء لَهُ لَا يتَصَوَّر فِيهِ ذَلِك وَلَا يُمكن وَذَلِكَ نَحْو قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بردة بن نيار يجزئك وَلَا يجزىء أحدا بعْدك لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يخرج من هَذِه الْأَجْزَاء شَيْء وَأما مَا فِيهِ معنى الشُّمُول فضربان أَحدهمَا لفظ عُمُوم وَالْآخر لَيْسَ بِلَفْظ عُمُوم نَحْو قَضِيَّة فِي عين دلّ الدَّلِيل على أَنَّهَا تتعدى عَنْهَا أَو فحوى القَوْل أَو دَلِيل خطاب أَو عِلّة شَامِلَة وكل ذَلِك يتَصَوَّر دُخُول التَّخْصِيص فِيهِ إِذْ كل وَاحِد من ذَلِك لَهُ جُزْء يتَصَوَّر إِخْرَاجه فَأَما مَا يجوز قيام الدّلَالَة على تَخْصِيصه فَنَقُول فِيهِ إِن مَا لَا يتَصَوَّر تَخْصِيصه لَا يجوز قيام الدّلَالَة على تَخْصِيصه وَمَا يتَصَوَّر تَخْصِيصه وَكَانَ لفظ عُمُوم فَجَائِز قيام الدّلَالَة على تَخْصِيصه وَمَا عدا الْأَلْفَاظ فضربان عِلّة وَغير عِلّة وَمَا لَيْسَ بعلة فَهُوَ دَلِيل خطاب على قَول من جعله حجَّة وَالدّلَالَة على تَخْصِيصه يجوز أَن ترد وَأما الْعلَّة فضربان أَحدهمَا تَعْلِيل بطرِيق الأولى وَهُوَ فحوى القَوْل وَالْآخر لَا بطرِيق الأولى فَالْأول لَا يجوز إِخْرَاج بعض الفحوى مَعَ بَقَاء اللَّفْظ فَإِن قَول الله عز وَجل {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} لَو خص

مِنْهُ الضَّرْب فأبيح مَعَ إيمانهما وحظر التأفيف كَانَ قد أُبِيح مَا يُشَارك الْمَحْظُور فِي عِلّة الْحَظْر وَزَاد عَلَيْهِ فَأَما الْعلَّة الَّتِي لَا يثبت فِيهَا معنى الأولى فضربان منصوصة ومستنبطة وَفِي تحصيص كل وَاحِدَة مِنْهُمَا اخْتِلَاف وَإِذ وَقد ذكرنَا مَا لَا يجوز تَخْصِيصه وَمَا يجوز تَخْصِيصه فلنذكر الْغَايَة الَّتِي اليها يَنْتَهِي تَخْصِيص مَا يجوز تَخْصِيصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْغَايَة الَّتِي يجوز أَن يَنْتَهِي التَّخْصِيص إِلَيْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُكيَ عَن أبي بكر الْقفال أَنه أجَاز تَخْصِيص لَفْظَة من إِلَى أَن يبْقى تحتهَا وَاحِد فَقَط وَلم يجز ذَلِك فِي أَلْفَاظ الْجمع الْعَامَّة وَجعل نِهَايَة تخصيصها أَن يبْقى تحتهَا ثَلَاثَة كَقَوْلِك النَّاس وَالرِّجَال وَأَجَازَ غَيره تَخْصِيص جَمِيع الفاظ الْعُمُوم على اختلافها إِلَى أَن يبْقى تحتهَا وَاحِد وَالْأولَى الْمَنْع من ذَلِك فِي جَمِيع أَلْفَاظ الْعُمُوم وَإِيجَاب أَن يُرَاد بهَا كَثْرَة وَإِن لم يعلم قدرهَا إِلَّا أَن تسْتَعْمل فِي الْوَاحِد على سَبِيل التَّعْظِيم والإبانة بِأَن ذَلِك الْوَاحِد يجْرِي مجْرى الْكَبِير فَأَما على غير ذَلِك فَلَيْسَ بمستعمل يبين ذَلِك أَن رجلا لَو قَالَ أكلت كل مَا فِي الدَّار من الرُّمَّان وَكَانَ قد أكل رمانة وَاحِدَة وَفِي الدَّار ألف رمانة عابه أهل اللُّغَة وَكَذَلِكَ لَو أكل ثَلَاثَة فانما يَزُول اللوم عَنهُ إِذا كَانَ قد أكل جَمِيعهَا أَو كثيرا مِنْهَا وَإِن لم يحد ذَلِك بِحَدّ كَذَلِك لَو قَالَ أكلت الرُّمَّان الَّذِي فِي الدَّار وَقد أكل ثَلَاثَة وَكَذَلِكَ لَو قَالَ أكلت الرُّمَّان إِلَّا أَن يُرِيد بقوله أكلت الرُّمَّان الْجِنْس دون الِاسْتِغْرَاق لِأَن الْمَرِيض لَو قَالَ قد أكلت اللَّحْم حسن ذَلِك وَإِن كَانَ أكل الْيَسِير مِنْهُ لما كَانَ مقْصده أَنه قد شرع فِي هَذَا الْجِنْس وَلَو قَالَ قَائِل من دخل دَاري ضَربته أَو قَالَ لغيره من عنْدك وَقَالَ أردْت زيدا وَحده بالاستفهام والمجازاة عابه أهل اللُّغَة

وَحجَّة من أجَاز أَن يَنْتَهِي التَّخْصِيص إِلَى أَن يبْقى من الْعُمُوم وَاحِد هِيَ أَنه لَو لم يجز ذَلِك لَكَانَ إِمَّا أَن لَا يجوز لِأَنَّهُ يصير بِهِ الْخطاب مجَازًا أَو لِأَنَّهُ إِذا اسْتعْمل فِي الْوَاحِد لم يكن مُسْتَعْملا فِي الْجمع فَلَا يكون قد اسْتعْمل الْخطاب فِي مَوْضِعه أصلا وَالْأول يمْنَع من دُخُول التَّخْصِيص فِيهِ على كل حَال وَالثَّانِي يمْنَع أَيْضا من ذَلِك لِأَن الِاسْتِغْرَاق هُوَ مَوْضُوع اللَّفْظ الْعَام لَا غير وَالْجمع تبع لَهُ وَإِن لم يجز أَن يسْتَعْمل اللَّفْظ فِي غير مَوْضُوعه لم يجز اسْتِعْمَاله فِيمَا دون الِاسْتِغْرَاق وَالْجَوَاب أَن الَّذِي يمْنَع من ذَلِك أَنه غير مُسْتَعْمل فِي اللُّغَة من الْوَجْه الَّذِي بَيناهُ وَاحْتَجُّوا بقول الله تَعَالَى {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} ومنزل الذّكر هُوَ الله الْوَاحِد عز وَجل وَبقول الشَّاعِر إِنَّا وَمَا أَعنِي سواي وَيَقُول عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَقد أنفذ إِلَى سعد بن أبي وَقاص الْقَعْقَاع مَعَ ألف فَارس إِنِّي قد أنفذت إِلَيْك ألفي رجل وَصفه بِأَنَّهُ ألف فاذا جَازَ ذَلِك فِي أَلْفَاظ الْعدَد فجوازه فِي أَلْفَاظ الْعُمُوم أولى وَالْجَوَاب أَن ذَلِك خرج على طَرِيق التَّعْظِيم أَو الْإِخْبَار بِقِيَام الْوَاحِد مقَام الْجَمَاعَة وَذَلِكَ سَائِغ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي جَوَاز اسْتِعْمَال الله سُبْحَانَهُ الْكَلَام الْعَام فِي الْخُصُوص أمرا كَانَ أَو خَبرا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُكيَ أَن قوما منعُوا من ذَلِك فِي الْخَبَر دون الْأَمر وَالدَّلِيل على جَوَاز ذَلِك فيهمَا أَن الْقُرْآن قد ورد بخطاب عَام وَالْمرَاد بِهِ الْخُصُوص كَقَوْلِه سُبْحَانَهُ {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} وَقَوله سُبْحَانَهُ {وَأُوتِيت من كل شَيْء}

وَجَاءَت السّنة بذلك لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يدْخل بَيْتا فِيهِ تصاوير وَقَالَ إِن الْمَلَائِكَة لَا تدخل بَيْتا فِيهِ تصاوير ثمَّ دخل بَيْتا فِيهِ تصاوير بوطاء فَكَانَ ذَلِك تَخْصِيصًا وَلِأَن الْمَانِع من ذَلِك إِمَّا أَن يكون من جِهَة الْإِمْكَان أَو من جِهَة اللُّغَة أَو من جِهَة الدَّوَاعِي وَالْحكمَة وَمَعْلُوم أَن ذَلِك مُمكن من كل مُتَكَلم واللغة لَا تمنع من ذَلِك لأَنهم يَتَكَلَّمُونَ بِالْعُمُومِ ويريددون بِهِ الْخُصُوص وَالْحكمَة أَيْضا لَا تمنع من ذَلِك لِأَن أَكثر مَا فِيهِ أَنه يصير الْعُمُوم بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْخُصُوص مجَازًا وَالْحكمَة لَا تمنع من التَّكَلُّم بالمجاز إِن قيل إِن جَازَ ذَلِك لتكلم أهل اللُّغَة بِهِ ليجوزن أَن يامر الله سُبْحَانَهُ بِشَرْط لِأَن أهل اللُّغَة يأمرون بِشُرُوط قيل إِنَّا لم نمْنَع من ذَلِك لأجل اللُّغَة لَكِن لِأَن الْأَمر بِالشّرطِ مَوْقُوف على فقد الْعلم بِحُصُول الشَّرْط أَو زَوَاله إِن قيل فالحكمة تمنع من أَن يُرَاد بالْخبر الْعَام بعضه لِأَنَّهُ يُوهم الْكَذِب قيل لَيْسَ يُوهم ذَلِك إِذا اقْترن بِهِ بَيَان التَّخْصِيص وَيلْزم عَلَيْهِ الْمَنْع من دُخُول التَّخْصِيص فِي الْأَمر لِأَنَّهُ يُوهم البداء فَإِن قَالُوا الْخَبَر لَا يجوز نسخه فَلم يجز تَخْصِيصه وَالْجَوَاب أَنه يجوز نسخه على مَا سنبينه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يصير بِهِ الْعَام خَاصّا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه يفهم من ذَلِك مَا بِهِ يصير خَاصّا عندنَا وَيفهم مِنْهُ مَا بِهِ يصير خَاصّا فِي نَفسه فاذا أُرِيد الْوَجْه الأول فَالْجَوَاب أَنه يصير خَاصّا عندنَا بالأدلة لأَنا بهَا اعتقدنا أَن الْعَام مَخْصُوص وَإِذا أُرِيد الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ الْحَقِيقَة لِأَن الْمَفْهُوم من ذَلِك أَنه صَار مَخْصُوصًا بِهِ فِي نَفسه فَالْجَوَاب أَنه صَار مَخْصُوصًا بأغراض الْمُتَكَلّم وإرادته لَا بالأدلة لِأَن معنى قَوْلنَا إِن الْعُمُوم مَخْصُوص هُوَ أَن الْمُتَكَلّم بِهِ اسْتَعْملهُ فِي بعض مَا تنَاوله وَلَا معنى لذَلِك إِلَّا أَنه قصد بِهِ بعض مَا تنَاوله أَو مَا يجْرِي مجْرى الْقَصْد وَلِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن يرد

الْخطاب خَاصّا وَجَاز أَن يرد عَاما لم يكن بِأَحَدِهِمَا أولى من الآخر إِلَّا لما يرجع إِلَى أغراض الْمُتَكَلّم كَمَا يذكرهُ أَصْحَابنَا فِي الْأَمر وَالْخَبَر وَلِهَذَا كَانَ لفظ الْعُمُوم مُسْتَعْملا فِي الِاسْتِغْرَاق بارادة الْمُتَكَلّم وأغراضه وَلِأَن الدّلَالَة على تَخْصِيص الْعُمُوم الَّذِي تكلم بِهِ الْوَاحِد منا قد يكون مُتَأَخِّرًا والمؤثر فِي الشَّيْء لَا يتَأَخَّر عَنهُ وَلِأَنَّهُ قد يتَكَلَّم الْوَاحِد منا بِالْعُمُومِ وَيدل غَيره على تَخْصِيصه والمخصص للْعُمُوم هُوَ الْمُتَكَلّم دون غَيره وَانْصَرف ذَلِك إِلَى أَقْوَال الْمُتَكَلّم دون الدَّلِيل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يعلم بِهِ تَخْصِيص الْعَام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه يعلم تَخْصِيص الْعم بِمَا يتَّصل بِهِ وَبِمَا ينْفَصل عَنهُ والمتصل بِهِ شَرط وَصفَة وَغَايَة واستثناء والمنفصل ضَرْبَان عَقْلِي وسمعي والسمعي ضَرْبَان دلَالَة وأمارة فالدلالة هِيَ الْكتاب وَالسّنة الْمَقْطُوع بهَا وَالْإِجْمَاع الْمَقْطُوع بِهِ والأمارة خبر وَاحِد وَقِيَاس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب تَخْصِيص الْكَلَام بِالصّفةِ والغاية - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما تَخْصِيصه بِالصّفةِ فكقولك أكْرم النَّاس الطوَال فَلَو لم تقل الطوَال لُزُوم إكرامهم أجمع فَلَمَّا قلت الطوَال لزم إكرام الطوَال فَقَط وَلم يلْزم بِهَذَا الْكَلَام إكرام من عداهم فان تضمن الْكَلَام شَيْئَيْنِ عطف أَحدهمَا على الآخر وَقيد الثَّانِي مِنْهُمَا بِصفة فانه يتَقَيَّد الأول بِالصّفةِ فِي حَال وَلَا يتَقَيَّد فِي حَال على مَا سَنذكرُهُ فِي الِاسْتِثْنَاء إِذا تعقب جملا من الْكَلَام وَأما تَخْصِيصه بالغاية فكقولك أكْرم بني تَمِيم أبدا إِلَى أَن يدخلُوا الدَّار فَلَو لم تقل إِلَى أَن يدخلُوا الدَّار جَازَ أَن يكرمهم بِالْأَمر دخلُوا

الدَّار أَو لم يدخلُوا فَلَمَّا ذكرت الْغَايَة تخصص الْوُجُوب بِمَا قبلهَا لِأَنَّهُ لَو لزم الْإِكْرَام بعد الدُّخُول خرج الدُّخُول من كَونه غَايَة وَنِهَايَة وَدخل فِي أَن يكون وسطا وَذَلِكَ ينْقض فَائِدَة قَوْله إِلَى لِأَن هَذِه اللَّفْظَة تفِيد الْغَايَة وَقد يدْخل على الحكم الْوَاحِد غايتان إِمَّا على الْبَدَل وَإِنَّمَا على الْجمع مِثَال الأول قَوْلك اضْرِب زيدا أبدا تى يدْخل الدَّار أَو حَتَّى تسلم على زيد فَأَيّهمَا فعل سقط وجوب الضَّرْب والغاية الثَّانِيَة قد زَادَت فِي التَّخْصِيص لِأَنَّك لَو اقتصرت على الْغَايَة الأولى مَا ارْتَفع الضَّرْب إِلَّا مَعَ دُخُول الدَّار فَلَمَّا ذكرت الثَّانِيَة ارْتَفع وجوب الضَّرْب مَعَ فقد دُخُول الدَّار إِذا وجد التَّسْلِيم على زيد وَمِثَال الثَّانِي قَوْلك اضْرِب بني تَمِيم أبدا حَتَّى يدخلُوا الدَّار وَحَتَّى يسلمُوا على زيد فَيصير فعل الثَّانِي مِنْهُمَا هُوَ الْغَايَة فِي التَّحْقِيق والغاية الثَّانِيَة قد رفعت بعض التَّخْصِيص لِأَنَّهَا لَو لم تذكر سقط وجوب الضَّرْب بِدُخُول الدَّار فَقَط فَلَمَّا ذكرت لم يسْقط وجوب الضَّرْب إِلَّا بِوُجُود السَّلَام مَعَ دُخُول الدَّار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب التَّخْصِيص بِالشّرطِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الشَّرْط يخص الْكَلَام وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا يخرج من الْكَلَام مَا علمنَا خُرُوجه مِنْهُ بِدَلِيل آخر عَقْلِي أَو سَمْعِي فَيكون مؤكدا نَحْو قَوْلك أكْرم الْقَوْم أبدا إِن أستطعت وَالضَّرْب الآخلار يخرج من الْكَلَام مَا لَا نعلم خُرُوجه مِنْهُ لولاه كَقَوْلِك أكْرم الْقَوْم ابدا إِن دخلُوا الدَّار فَلَو لم تذكر الشَّرْط لزم إكرامهم وَإِن لم يدخلُوا الدَّار وَمَعَ ذكرك للشّرط سقط وجوب الْإِكْرَام إِن لم يدخلُوا الدَّار لِأَن لَفْظَة إِن للشّرط وَالشّرط يقف عَلَيْهِ الْمَشْرُوط وعَلى بدله وَإِلَّا انْتقض كَونه شرطا على مَا تقدم بَيَانه وَقد يشْتَرط الحكم الْوَاحِد بِشُرُوط كَثِيرَة على الْبَدَل وعَلى الْجمع فَالْأول كَقَوْلِك أكْرم الْقَوْم أبدا إِن دخلُوا الدَّار أَو إِن دخلُوا السُّوق فَأَيّهمَا

حصل اسْتحق الْإِكْرَام وَالشّرط الثَّانِي قد رفع بعض التَّخْصِيص لِأَنَّك لما قلت إِن دخلُوا الدَّار أسقطت الْإِكْرَام بفقد الدُّخُول وأخرجت ذَلِك من الْكَلَام فَلَمَّا قلت أَو إِن دخلُوا السُّوق أوجبت إكرامهم بِدُخُول السُّوق وَإِن لم يدخلُوا الدَّار على حد مَا اقْتَضَاهُ مُطلق الْكَلَام وَمِثَال الثَّانِي قَوْلك أكْرم الْقَوْم أبدا إِن دخلُوا الدَّار ودخلوا السُّوق فَلَا يسْتَحق الْإِكْرَام إِلَّا بهما وَالشّرط الثَّانِي قد زَاد فِي التَّخْصِيص لِأَنَّك لَو اقتصرت على الشَّرْط الأول مَا كَانَ يخرج من الْإِكْرَام من دخل الدَّار وَلما ذكرت الشَّرْط الثَّانِي خرج من الْإِكْرَام من دخل الدَّار مَتى لم يدْخل السُّوق وَقد يشرط للْأَحْكَام الْكَثِيرَة شَرط وَاحِد على الْبَدَل وعَلى الْجمع مِثَال الأول قَوْلك أعْط زيدا درهما أَو دِينَار إِن دخل الدَّار وَمِثَال الثَّانِي قَوْلك أعْط زيدا درهما واخلع عَلَيْهِ إِن دخل الدَّار وَالشّرط لَهُ صدر الْكَلَام سَوَاء تقدم أَو تَأَخّر لِأَن من حَقه أَن يتَقَدَّم الْجَزَاء فاذا قلت أعْط زيدا درهما أَن دخل الدَّار مَعْنَاهُ إِن دخل الدَّار فأعطه درهما وَالشّرط كالمشروط إِن كَانَ الْمَشْرُوط قد نقض فشرطه قد نقض وَلَا يكون الشَّرْط مُسْتَقْبلا أَلا ترى أَن دُخُول زيد الدَّار إِذا تقدم وَكَانَ شَرطه دُخُول عَمْرو فَيجب أَن يكون دُخُول عَمْرو قد تقدم وَإِن كَانَ الْمَشْرُوط حَاضرا فشرطه حَاضر وَإِن كَانَ مُسْتَقْبلا فشرطه مُسْتَقْبل وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَن الشَّرْط عَلَيْهِ يقف الحكم فَلَا يجوز أَن يُفَارِقهُ وَلِهَذَا إِذا كَانَ دُخُول زيد الدَّار شرطا فِي اسْتِحْقَاقه درهما وَجب أَن يقارن اسْتِحْقَاق الدِّرْهَم لأوّل فعل سمي دُخُولا إِن قيل أَلَيْسَ لَو علم الله سُبْحَانَهُ أَن زيدا إِن دخل الدَّار يَوْم الْخَمِيس دَخلهَا يَوْم الْجُمُعَة فَيَقُول لنا زيد قد دخل الدَّار يَوْم الْخَمِيس إِن دَخلهَا يَوْم الْجُمُعَة فَيكون الشَّرْط مُتَأَخِّرًا والمشروط مُتَقَدما قيل إِنَّه إِذا كَانَ كَذَلِك لم يكن دُخُوله يَوْم الْجُمُعَة شرطا فِي دُخُوله يَوْم الْخَمِيس وَإِنَّمَا يكون الدُّخُول يَوْم الْجُمُعَة أَو علمنَا بذلك شرطا فِي علمنَا بِدُخُولِهِ يَوْم الْخَمِيس فان قيل

فَلَو كَانَت الْحَال هَذِه ثمَّ قَالَ عز وَجل قبل مَجِيء يَوْم الْجُمُعَة زيد سيدخل الدَّار يَوْم الْجُمُعَة أَلسنا نعلم قبل مَجِيء يَوْم الْجُمُعَة أَنه كَانَ دَخلهَا يَوْم الْخَمِيس قيل إِنَّه إِذا كَانَ كَذَلِك علمنَا قبل يَوْم الْجُمُعَة أَن زيدا سيدخل الدَّار يَوْم الْجُمُعَة وَكَانَ هَذَا الْعلم كالشرط فِي علمنَا أَنه قد دَخلهَا يَوْم الْخَمِيس وَالشّرط فِي هذَيْن العلمين لم يتَأَخَّر عَن الْمَشْرُوط مِنْهُمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تَخْصِيص الْكَلَام بِالِاسْتِثْنَاءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل بالْكلَام يَخُصُّهُ إِذْ قد بَينا أَنه يخرج من الْكَلَام مَا لولاه لدخل تَحْتَهُ وَذَلِكَ نَحْو قَول الْقَائِل لزيد عِنْدِي عشرَة دَرَاهِم إِلَّا درهما وَأكْرم النَّاس إِلَّا الْفَاسِقين وَمن حَقه أَن يكون مُتَّصِلا بِمَا يَخُصُّهُ أَو فِي حكم الْمُتَّصِل بِهِ أما اتِّصَاله بالْكلَام فنحو قَوْلك لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا درهما وكقولك أكْرم الْعَرَب الطوَال الْبيض إِلَّا الْفَاسِقين لِأَن هَذَا الِاسْتِثْنَاء يخرج الْفَاسِقين من الْعَرَب الْبيض الطوَال فَلم يتَأَخَّر عَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ على الْحَقِيقَة وَأما الَّذِي هُوَ حكم الْمُتَّصِل فبأن يكون انْفِصَاله وتأخره على وَجه لَا يدل على أَن الْمُتَكَلّم قد استوفى غَرَضه من الْكَلَام نَحْو أَن يسكت قبل الِاسْتِثْنَاء لانْقِطَاع نفس أَو بلع ريق وَحكي عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ إِن الِاسْتِثْنَاء الْمُنْفَصِل يخص الْكَلَام وَيكون اسْتثِْنَاء وَاعْلَم أَن القَوْل بِأَنَّهُ يكون اسْتثِْنَاء مَعَ انْفِصَاله إِمَّا أَن يُرَاد بِهِ أَنه يكون على صُورَة الِاسْتِثْنَاء وَمَعْلُوم أَنه يكون كَذَلِك أَو يُرَاد بِهِ أَنه يُمكن أَن يقْصد بِهِ الْمُتَكَلّم إِخْرَاج بعض الْمُسْتَثْنى وَهَذَا ايضا مُمكن أَو يُرَاد بِهِ أَن ذَلِك مُسْتَعْمل فِي عَادَة الْعَرَب وَمَعْلُوم أَن ذَلِك غير مُسْتَعْمل لِأَن الْإِنْسَان لَا يَقُول رايت النَّاس وَيَقُول بعد شهر رَأَيْت زيدا وَلذَلِك اسْتَقَرَّتْ الْعُقُود والإيقاعات كالعتاق وَالطَّلَاق وَغير ذَلِك وَإِمَّا أَن يُرَاد بِهِ أَن السَّامع لهَذَا

الِاسْتِثْنَاء يعلم رُجُوعه إِلَى الْكَلَام الْمُتَقَدّم مُنْذُ شهر وَمَعْلُوم أَن السَّامع لَا يعرف ذَلِك لِأَن الِاسْتِثْنَاء غير مُسْتَقل بِنَفسِهِ فَهُوَ كالخبر مَعَ الْمُبْتَدَأ فَكَمَا أَن الْخَبَر إِذا تَأَخّر عَن الْمُبْتَدَأ شهرا لم يستفد بِهِ السَّامع شَيْئا فَكَذَلِك الِاسْتِثْنَاء الْمُتَأَخر أَو يُرَاد بذلك أَنه مُتَعَلق بِهِ حكم شَرْعِي حَتَّى إِذا قَالَ الرجل لامْرَأَته أَنْت طَالِق ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ بِعْ شهر إِلَّا أَن تدخلي الدَّار فَإِنَّهَا لَا تطلق إِن دخلت الدَّار وَمَعْلُوم أَنه كَانَ يجوز وُرُود الشَّرِيعَة بذلك لجَوَاز تعلق الْمصلحَة بِهِ غير أَنَّهَا لم ترد بِهِ وَإِنَّمَا وَردت بتعلق هَذِه الْأَحْكَام على الْمُتَعَارف من خطاب الْعَرَب وَلَو تعلّقت هَذِه الْأَحْكَام بِغَيْر مَا تعارفوه من الْكَلَام لبينته الشَّرِيعَة فاذا ثَبت ذَلِك لم يحسن الِاسْتِثْنَاء الْمُنْفَصِل لِأَنَّهُ إِن تجرد لم يفد وَالْغَرَض بالْكلَام الإفادة فَمَا لم يحصل بِهِ هَذَا الْغَرَض قبح وَإِن اقْترن بِهِ بَيَان نَحْو أَن يَسْتَثْنِي الْمُتَكَلّم من كَلَامه بعد شهر ثمَّ يَقُول هَذَا رَاجع إِلَى كَلَامي الْفُلَانِيّ فانه يقبح لِأَنَّهُ اسْتعْمل مَا لَا يَسْتَعْمِلهُ أهل اللُّغَة فَلم يجز مَعَ أَنه مُتَكَلم بكلامهم كَمَا لَا يحسن أَن يَأْتِي بالْخبر بعد الْمُبْتَدَأ بِشَهْر وَيبين أَنه خبر لذَلِك الْمُبْتَدَأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما اسْتِعْمَال ذَلِك فَظَاهر قَالَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيس} فاستثنى مِنْهُم إِبْلِيس وَلَيْسَ مِنْهُم وَقَالَ الشَّاعِر وَمَا بِالربعِ من أحد إِلَّا أواري وَلَا يُقَال للأواري أحد إِلَّا أَن ذَلِك مجَاز لِأَن من حق الِاسْتِثْنَاء أَن يخرج من الْكَلَام شَيْئا تنَاوله وَاسم الْمَلَائِكَة لم يتَنَاوَلهُ إِبْلِيس فَيكون قَوْله

{إِلَّا إِبْلِيس} أخرجه من الْكَلَام وكل اسْتثِْنَاء من غير الْجِنْس فَإِنَّهُ يخرج من معنى الْكَلَام وَلَا بُد من إِضْمَار إِمَّا فِيهِ أَو فِي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ أما الْإِضْمَار فِي الِاسْتِثْنَاء فنحو قَول الْقَائِل لزيد على عشرَة أَثوَاب إِلَّا دِينَارا أَي مَا قِيمَته قيمَة دِينَار فالاستثناء قد دخل على معنى الْمُسْتَثْنى مِنْهُ وَهُوَ الْقيمَة وَوَقع الْإِضْمَار فِي الِاسْتِثْنَاء وَأما مَا يَقع الْإِضْمَار فِي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ فنحو قَول الله سُبْحَانَهُ {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيس} أَي فَسجدَ الْمَلَائِكَة وَمن أَمر بِالسُّجُود إِلَّا إِبْلِيس فَلَمَّا وَقعت الشّركَة بَين الْمَلَائِكَة وَبَين إِبْلِيس فِي أَنهم مأمورون بِالسُّجُود صَحَّ الِاسْتِثْنَاء وَمِنْه قَول الله تَعَالَى {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن أَن يقتل مُؤمنا} لما دلّ هَذَا الْكَلَام على لُحُوق الْإِثْم من قتل مُؤمنا صَار ذَلِك كالمضمر وَكَانَ قَوْله {إِلَّا خطأ} اسْتثِْنَاء مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر من الْأَقَل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أجَازه قوم وَمنع مِنْهُ قوم آخَرُونَ وَلَيْسَ يَخْلُو المانعون مِنْهُ إِمَّا أَن يمنعوا مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يفهم مِنْهُ المُرَاد أَو لِأَنَّهُ غير مُسْتَعْمل فِي اللُّغَة أَو لِأَن الْحِكْمَة تمنع من ذَلِك وَمَعْلُوم أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ لزيد عَليّ عشرَة دَرَاهِم إِلَّا تِسْعَة فهم السَّامع فِي الْحَال أَنه أقرّ بدرهم وَاحِد وَكَيف لَا يفهم بِهَذَا الْكَلَام ومفرده هُوَ من لُغَة الْعَرَب وَقد اتَّصل الِاسْتِثْنَاء بالْكلَام وَلم ينْفَرد عَنهُ فَبَطل الْمَنْع من ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يفهم بِهِ المُرَاد وَلَا يجوز أَن يُقَال إِنَّه لَيْسَ بمستعمل فِي كَلَامهم لِأَن ذَلِك دَعْوَى بل لَا يمْتَنع أَن يكون لم يكثر فِي كَلَامهم لِأَن الْحَاجة لَا تكَاد تَدْعُو إِلَيْهِ إِلَّا فِي النَّادِر فَلهَذَا ندر فِي كَلَامهم فَلم ينْقل أَو نقل نَادرا

وَأما القَوْل بِأَن الْحِكْمَة تمنع من ذَلِك فبأن يُقَال إِن الِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا يفعل للاستدراك أَو للاختصار فالاستدراك نَحْو أَن يظنّ الْإِنْسَان أَن لزيد عَلَيْهِ عشرَة دَرَاهِم فَيقر بذلك وَيذكر فِي الْحَال أَن لَهُ عَلَيْهِ تِسْعَة فَيَسْتَثْنِي درهما وَأما الِاخْتِصَار فنحو أَن يستطيل الْإِنْسَان أَن يقر بِتِسْعَة دَرَاهِم وَخَمْسَة دوانيق فَيقر بِعشْرَة دَرَاهِم إِلَّا دانقا وَلَيْسَ من الِاخْتِصَار أَن يَقُول الْإِنْسَان لزيد عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا تسع مائَة وَتِسْعَة وَتسْعُونَ وَلم تجر الْعَادة أَن يكون على الْإِنْسَان دِرْهَم فيظن عَلَيْهِ ألف دِرْهَم ثمَّ يذكر فِي الْحَال أَن عَلَيْهِ درهما فيستدرك ذَلِك بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالْجَوَاب أَن الْأَكْثَر مَا ذكرْتُمْ وَقد يتَّفق خِلَافه فنحو أَن يكون على الْإِنْسَان ألف دِرْهَم وَقد قضي مِنْهَا تسع مائَة وَتِسْعَة وَتِسْعين وينسى أَنه قضي ذَلِك فَيقر بِالْألف وَيذكر فِي الْحَال الْقَضَاء ويستدرك بِالِاسْتِثْنَاءِ وَقد يجوز أَن يكون لزيد على عَمْرو دِرْهَم ولخالد على عَمْرو ألف دِرْهَم فيروم عَمْرو أَن يقر لخَالِد بِالْألف فَيَسْبق لِسَانه بِالْإِقْرَارِ بِالْألف لزيد فَلَا يجد سَبِيلا إِلَى دفع ذَلِك عَن نَفسه إِلَّا بالاستدراك وَإِذا جَازَ مَا ذَكرْنَاهُ لم تمنع مِنْهُ الْحِكْمَة وَلِهَذَا لَو صرح الْمُسْتَثْنى للاكثر بِمَا ذَكرْنَاهُ لم يلمه الْعُقَلَاء وَإِذا لم يمْنَع من هَذَا الِاسْتِثْنَاء مَانع صَحَّ حسنه وَلَا يجوز أَن يسْتَدلّ على جَوَازه بِأَن من حق الِاسْتِثْنَاء أَن يخرج من الْكَلَام مَا لولاه لوَجَبَ دُخُوله فِيهِ وَذَلِكَ قَائِم فِي اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر من الْأَقَل لِأَن لقَائِل أَن يَقُول من أَيْن لكم أَنه لَيْسَ حَقه إِلَّا مَا ذكرْتُمْ فاذا ثَبت جَوَاز هَذَا الِاسْتِثْنَاء صَحَّ أَن يتَعَلَّق بِهِ حكم وَأَن يتَعَلَّق بِهِ الْإِقْرَار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الِاسْتِثْنَاء الْوَارِد عقيب كلامين هَل يرجع إِلَيْهِمَا أَو إِلَى الثَّانِي مِنْهُمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي يرجع إِلَيْهِمَا وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة يرجع إِلَى الثَّانِي مِنْهُمَا وَقَالُوا فِي الِاسْتِثْنَاء بِمَشِيئَة الله وَفِي الشَّرْط إنَّهُمَا يرجعان إِلَى كلا الْكَلَامَيْنِ وَحكى الحوري عَن أهل الظَّاهِر مثل مَذْهَب أبي حنيفَة وَسوى بَين

الْمَشِيئَة وَالشّرط وَالِاسْتِثْنَاء وَذكر أَنه مَذْهَبهم وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة إِذا لم يكن الثَّانِي مِنْهُمَا إضرابا عَن الأول وخروجا عَنهُ إِلَى قصَّة أُخْرَى وَصَحَّ رُجُوع الِاسْتِثْنَاء إِلَيْهِمَا وَجب رُجُوعه إِلَيْهِمَا وَإِن كَانَ إضرابا عَن الأول وخروجا عَنهُ إِلَى قصَّة أُخْرَى فانه يرجع إِلَى مَا يَلِيهِ وَيُمكن أَن نعتبر أَيْضا اعْتِبَارا آخر وَهُوَ أَن يضمر فِي الْكَلَام الثَّانِي شَيْء مِمَّا فِي الأول أَو لَا يضمر فِيهِ شَيْء مِمَّا فِي الأول وَيدخل فِيمَا يكون الثَّانِي من الْكَلَام إضرابا عَن الأول مسَائِل مِنْهَا أَن يكون الْكَلَام الثَّانِي نوعا غير نوع الْكَلَام الأول مَعَ أَنه خُرُوج إِلَى قصَّة أُخْرَى كَقَوْلِك اضْرِب بني تَمِيم وَالْفُقَهَاء هم أَصْحَاب أبي حنيفَة إِلَّا أهل الْبَلَد الْفُلَانِيّ فالاستثناء يرجع إِلَى مَا يَلِيهِ لِأَن الْمُتَكَلّم لما عدل عَن قصَّة وَعَن كَلَام مُسْتَقل بِنَفسِهِ إِلَى قصَّة أُخْرَى وَإِلَى كَلَام مُسْتَقل بِنَفسِهِ علم أَنه قد استوفى غَرَضه من الأول لِأَنَّهُ لَا شَيْء أدل على اسْتِيفَاء الْغَرَض بالْكلَام من الْعُدُول عَنهُ إِلَى قصَّة أُخْرَى وَنَوع آخر وَفِي رُجُوع الِاسْتِثْنَاء إِلَيْهِ نقض لِلْقَوْلِ بِأَن الْمُتَكَلّم قد استوفى غَرَضه مِنْهُ وَمِنْهَا أَن يكون الْكَلَام الثَّانِي من نوع الْكَلَام الأول غير أَنه يباينه فِي الِاسْم وَالْحكم كَقَوْلِك اضْرِب بني تَمِيم وَأكْرم ربيعَة إِلَّا الطوَال الِاسْتِثْنَاء فِي ذَلِك يرجع إِلَى مَا يَلِيهِ لاستقلال كل وَاحِد من الْكَلَامَيْنِ بِنَفسِهِ ومباينته لَهُ وعدول الْمُتَكَلّم عَن الْكَلَام الأول إِلَى الثَّانِي وَمِنْهَا أَن يشْتَرك الكلامان فِي حكم ظَاهر فيهمَا فَقَط أَو فِي اسْم ظَاهر فيهمَا فَقَط وَلَا يكون قد أضمر فِي أَحدهمَا شَيْء مَا لَيْسَ فِي الآخر مِثَال الأول قَوْلك سلم على بني تَمِيم وَسلم على ربيعَة إِلَّا الطوَال الْأَشْبَه رُجُوع الِاسْتِثْنَاء إِلَى مَا يَلِيهِ وَإِن لم يكن فِي الظُّهُور كَالَّذي تقدم وَإِنَّمَا رَجَعَ إِلَى مَا يَلِيهِ لعدول الْمُتَكَلّم عَن الْكَلَام الأول ودلالته على اسْتِيفَاء غَرَضه مِنْهُ

وَأما إِذا اشْتَركَا فِي اسْم ظَاهر فَقَط فضربان أَحدهمَا أَن لَا يشْتَرك الحكمان فِي غَرَض من الْأَغْرَاض وَالْآخر أَن يشتركا فر غَرَض مِثَال الأول قَوْلك سلم على بني تَمِيم واستأجر بني تَمِيم إِلَّا الطوَال الْأَشْبَه أَيْضا رُجُوع الِاسْتِثْنَاء إِلَى مَا يَلِيهِ لما ذَكرْنَاهُ فَأَما إِذا اشْتَركَا فِي غَرَض من الْأَغْرَاض فانه يدْخل فِي الْقسم الَّذِي سَنذكرُهُ الْآن وَهُوَ أَن لَا يكون الْكَلَام الثَّانِي إضرابا عَن الأول وَذَلِكَ ضَرْبَان أَحدهمَا أَن لَا يكون إضرابا عَن الأول من حَيْثُ اشْترك الكلامان فِي حكمين يجمعهما غَرَض وَاحِد فَيصير كَالْحكمِ الْوَاحِد فَيرجع الِاسْتِثْنَاء إِلَيْهِمَا كَقَوْلِك سلم على ربيعَة وَأكْرم ربيعَة إِلَّا الطوَال لِأَن الْحكمَيْنِ قد اشْتَركَا فِي الإعظام وَالثَّانِي أَن يكون قد أضمر فِي الْكَلَام الثَّانِي شَيْئا مِمَّا فِي الأول إِمَّا الِاسْم أَو الحكم مِثَال الأول قَوْلك أكْرم ربيعَة واستأجرهم إِلَّا من قَامَ وَمِثَال الثَّانِي قَوْلك أكْرم بني تَمِيم وَرَبِيعَة إِلَّا من قَامَ الِاسْتِثْنَاء يرجع إِلَيْهِمَا فَأَما قَول الله عز وَجل {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا} فانه دَاخل فِي هَذَا الْقسم من حَيْثُ أضمر فِيهِ مَا تقدم فَلم يكن الْكَلَام الثَّانِي عُدُولًا عَن الأول لِأَن الْقِصَّة وَاحِدَة وَهُوَ دَاخل أَيْضا فِي الْقسم الَّذِي قبل هَذَا الْقسم من حَيْثُ كَانَ رد الشَّهَادَة مَعَ الْجلد وَالْحكم بِالْفِسْقِ يجمعهما أَمر وَاحِد وَهُوَ الانتقام والذم وَاعْلَم أَنه لَيْسَ فِي هَذَا الْكَلَام نَص من الْمُتَكَلّم يَقْتَضِي رُجُوع الِاسْتِثْنَاء إِلَى كلا الْكَلَامَيْنِ أَو إِلَى الثَّانِي مِنْهُمَا وَإِنَّمَا الَّذِي يجب أَن يدل عَلَيْهِ وَجْهَان إِمَّا وَجه مُنْفَصِل كآيات فِي الْقُرْآن وَعمل الصَّحَابَة وَإِمَّا وَجه مُتَعَلق بِالِاسْتِثْنَاءِ وراجع إِلَيْهِ وَذَلِكَ ضروب مِنْهَا اعْتِبَار غَرَض الْمُتَكَلّم وَمِنْهَا اعْتِبَار حرف

الْعَطف وَمِنْهَا اعْتِبَار فقد اسْتِقْلَال الِاسْتِثْنَاء بِنَفسِهِ وَمِنْهَا قِيَاس الِاسْتِثْنَاء على غَيره أما اعْتِبَار الْغَرَض وَاعْتِبَار حرف الْعَطف فيحتج بِهِ من قَالَ إِن الِاسْتِثْنَاء يرجع إِلَى جَمِيع مَا تقدم وَأما اعْتِبَار فقد الِاسْتِقْلَال فيحتج بِهِ من قَالَ إِنَّه يرجع إِلَى مَا يَلِيهِ وَإِمَّا قِيَاسه على غَيره فضربان أَحدهمَا يحْتَج بِهِ من قَالَ إِنَّه يرجع إِلَى مَا يَلِيهِ وَالْآخر يحْتَج بِهِ من قَالَ إِنَّه يرجع إِلَى الْكَلَامَيْنِ وَنحن نورد ذَلِك على نسق إِن شَاءَ الله فالدلالة على رُجُوع الِاسْتِثْنَاء إِلَى جَمِيع مَا تقدم إِذا لم يكن بعضه إضرابا عَن الْبَعْض أَن الْقَائِل إِذا قَالَ لغيره سلم على بني تَمِيم واستأجرهم علمنَا أَن غَرَضه من الْكَلَام الأول لم يتم وَأَنه لم يضْرب عَنهُ لِأَنَّهُ قد أعلمهُ فِي الْكَلَام الثَّانِي أَلا ترى أَنه قد أضَاف إِلَى الِاسْم حكما آخر وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ سلم على بني تَمِيم وَرَبِيعَة لِأَنَّهُ قد عدى ذَلِك الحكم إِلَى اسْم آخر فَيصير الكلامان مَعَ حرف الْعَطف كالجملة الْوَاحِدَة فَرجع الِاسْتِثْنَاء إِلَيْهِمَا كرجوعه إِلَى الْجُمْلَة الْوَاحِدَة وَيُفَارق ذَلِك إِذا تميز كل وَاحِد من الْكَلَامَيْنِ من الآخر فصل الِاسْتِثْنَاء كالشرط وكالاستثناء بِمَشِيئَة الله تَعَالَى فِي أَنه لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فَكَمَا وَجب رُجُوع الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء بِمَشِيئَة الله إِلَى جَمِيع مَا تقدم فَكَذَلِك لفظ الِاسْتِثْنَاء وَلَا وَجه لأَجله يُقَال بِوُجُوب رُجُوع لفظ الِاسْتِثْنَاء إِلَى مَا يَلِيهِ إِلَّا وَهُوَ قَائِم فِي الشَّرْط إِن قيل إِنَّمَا رَجَعَ الشَّرْط الى جَمِيع مَا تقدم لِأَنَّهُ وَإِن تَأَخّر فَهُوَ فِي معنى الْمُتَقَدّم لوُجُوب تقدم الشَّرْط على الْجَزَاء فالإنسان إِذا قَالَ اضربوا بني تَمِيم وَرَبِيعَة إِن قَامُوا مَعْنَاهُ إِن قَامَ بَنو تَمِيم وَرَبِيعَة فاضربوهم وَلَيْسَ كَذَلِك الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ لَا يجب تقدمه وَالِاسْتِثْنَاء بِمَشِيئَة الله فلفظة لفظ الشَّرْط وَلقَائِل أَن يَقُول هلا علقتم الشَّرْط بِمَا يَلِيهِ وقدرتموه تَقْدِير الْمُتَقَدّم عَلَيْهِ حَتَّى يكون تَقْدِير الْكَلَام اضربوا بني تَمِيم وَإِن دخل ربيعَة الدَّار فاضربوهم دَلِيل الكلامان يجريان مَعَ حرف الْعَطف مجْرى الْجُمْلَة الْوَاحِدَة لِأَن وَاو

الْعَطف فِي الْأَسْمَاء الْمُخْتَلفَة تقوم مقَام وَاو الْجمع فِي الاسماء المتماثلة وَلَو قَالَ الانسان أكْرم الْعَرَب إِلَّا بني تَمِيم وَرَبِيعَة رَجَعَ ذَلِك إِلَى بني تَمِيم وَرَبِيعَة وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ أكْرم بني تَمِيم وَرَبِيعَة إِلَّا الطوَال وَلقَائِل أَن يَقُول إِن وَاو الْعَطف تجْرِي مجْرى وَاو الْجمع فِي اشْتِرَاك الاسمين فِي الحكم وَلَا تجريان مجْرى وَاحِد فِي رُجُوع الِاسْتِثْنَاء إِلَيْهِمَا يبين ذَلِك أَن الْكَلَامَيْنِ وَإِن عطف أَحدهمَا على الآخر فَلَيْسَ يخرجَانِ من أَن يَكُونَا جملتين وينتقض ذَلِك بالجملتين المتباينتين نَحْو قَوْلك أكْرم ربيعَة وَاضْرِبْ بني تَمِيم فَالْوَجْه أَن يذكر وَاو الْعَطف مَعَ أَن الْمُتَكَلّم لم يعدل عَن الْكَلَام الأول ويحتج بمجموعهما دَلِيل وَهُوَ أَن الْقَائِل لَو قَالَ بَنو تَمِيم وَرَبِيعَة أكرموهم إِلَّا الطوَال رَجَعَ الِاسْتِثْنَاء إِلَيْهِمَا فَكَذَلِك إِذا قَالَ أكْرمُوا بني تَمِيم وَرَبِيعَة إِلَّا الطوَال لِأَنَّهُ لَا فرق بَين تَقْدِيم الْأَمر وتأخيره وَلقَائِل أَن يَقُول إِن فِي قَوْلهم أكرموهم اسْم لِلْفَرِيقَيْنِ ينْصَرف إِلَيْهِمَا مَعًا وَالِاسْتِثْنَاء مُتَّصِل بِهِ فَوَجَبَ أَن يخرج الطوَال من الِاسْم الَّذِي هُوَ اسْم لَهما كَمَا لَو قَالَ أكْرم الْعَرَب إِلَّا الطوَال وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا قَالَ أكْرم بني تَمِيم وَرَبِيعَة إِلَّا الطوَال لِأَنَّهُ لم يصل الِاسْتِثْنَاء باسم يشملهما دَلِيل وَهُوَ قَوْله إِلَّا من قَامَ مَعْنَاهُ إِلَّا من قَامَ مِنْهُمَا فَلَا تضربوه وَلقَائِل أَن يَقُول لَيْسَ ذَلِك فِي لفظ الِاسْتِثْنَاء فلستم بِهَذَا التَّقْدِير أولى من أَن نقدر قَوْله إِلَّا من قَامَ من ربيعَة فَلَا تضربوه دَلِيل لَو رَجَعَ الِاسْتِثْنَاء إِلَى مَا يَلِيهِ فَقَط لَكَانَ الْإِنْسَان إِذا قَالَ لزيد عَليّ خَمْسَة دَرَاهِم وَخَمْسَة وَخَمْسَة إِلَّا سَبْعَة إِن بلغُوا لِأَن السَّبْعَة لَيست بِجُزْء الْخَمْسَة وَلقَائِل أَن يَقُول الِاسْتِثْنَاء يرجع إِلَى مَا يَلِيهِ إِلَّا أَن يمْنَع مِنْهُ مَانع كَمَا تَقولُونَ يرجع إِلَى جَمِيع مَا تقدم مَا لم يمْنَع مِنْهُ مَانع وَالْمَانِع من رُجُوع اسْتثِْنَاء السَّبْعَة إِلَى مَا يَليهَا أَن الِاسْتِثْنَاء يخرج جُزْء من كل والسبعة لَيست بِجُزْء الْخَمْسَة

وَاحْتج من لم يرد الِاسْتِثْنَاء إِلَى جَمِيع مَا تقدم بأَشْيَاء مِنْهَا أَن الِاسْتِثْنَاء لما لم يسْتَقلّ بِنَفسِهِ وَجب تَعْلِيقه بِغَيْرِهِ ليستقل وَلَو اسْتَقل بِنَفسِهِ لم يجب تَعْلِيقه بِغَيْرِهِ وَلَا شُبْهَة فِي وجوب تَعْلِيقه بِمَا يَلِيهِ وَبِهَذَا الْقدر يسْتَقلّ ويفيد فتعليقه بِمَا زَاد على ذَلِك يجْرِي مجْرى تَعْلِيق الْكَلَام المستقل بِغَيْرِهِ لَا من ضَرُورَة وَالْجَوَاب أَن هَذَا الْكَلَام يمْنَع من رُجُوع الِاسْتِثْنَاء إِلَى الْكَلَام الْمُتَقَدّم لكَي يسْتَقلّ بِنَفسِهِ وَلَا يمْنَع من رُجُوعه إِلَيْهِ لسَبَب آخر وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يكون للْحكم الْوَاحِد أَسبَاب فَلَا يمْتَنع أَن يكون لرجوع الِاسْتِثْنَاء إِلَى مَا تقدم سَبَب آخر غير مَا ذكر وينتقض مَا ذَكرُوهُ بِالشّرطِ وَالِاسْتِثْنَاء بِمَشِيئَة الله لِأَن ذَلِك غير مُسْتَقل بِنَفسِهِ وَيدخل فِي الإفادة إِذا علق بِمَا يَلِيهِ وَمَعَ ذَلِك فقد تعلق بِجَمِيعِ مَا تقدم وَقَول بَعضهم إِن الشَّرْط وَإِن تَأَخّر فَهُوَ فِي الحكم مُتَقَدم وَلَا يُخرجهُ من أَن يكون نقضا لما ذَكرُوهُ من الْعلَّة وَقَول بَعضهم إِن الِاسْتِثْنَاء بِمَشِيئَة الله يَقْتَضِي إيقاف الْكَلَام وَلَا يخرج الْبَعْض دون الْبَعْض لَا يمْنَع من أَن تنْتَقض بِهِ هَذِه الشُّبْهَة من حَيْثُ كَانَ غير المستقل بِنَفسِهِ وَقد رَجَعَ إِلَى جَمِيع مَا تقدم وَيُقَال لَهُم هلا رَجَعَ إِلَى مَا يَلِيهِ فأوقفه وَلم يرجع إِلَى جَمِيع مَا تقدم وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الِاسْتِثْنَاء من الْجمل فِي أَنه يسْتَقلّ بِنَفسِهِ كالاستثناء من الِاسْتِثْنَاء وَإِذا كَانَ الِاسْتِثْنَاء من الِاسْتِثْنَاء يرجع إِلَى مَا يَلِيهِ وَلَا يفْتَقر فِي استقلاله إِلَى أَكثر من ذَلِك فَكَذَلِك الِاسْتِثْنَاء من الْجمل وَالْجَوَاب أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ لزيد عَليّ عشرَة دَرَاهِم إِلَّا ثَلَاثَة إِلَّا درهما كَانَ الدِّرْهَم مُسْتَثْنى من الثَّلَاثَة فَقَط لِأَنَّهُ لَو رَجَعَ إِلَى الثَّلَاثَة وَإِلَى الْعشْرَة لَكَانَ اسْتثْنى دِرْهَمَيْنِ درهما من الثَّلَاثَة ودرهما من الْعشْرَة وَأَيْضًا فالعشرة إِثْبَات وَالِاسْتِثْنَاء مِنْهَا نفي وَالثَّلَاثَة نفي وَالِاسْتِثْنَاء مِنْهَا إِثْبَات فَلَو رَجَعَ اسْتثِْنَاء الدِّرْهَم إِلَيْهِمَا لَكَانَ نفيا وإثباتا ولهذه الْعلَّة قُلْنَا إِنَّه لَو قَالَ لَهُ عَليّ عشرَة دَرَاهِم إِلَّا ثَلَاثَة دِرْهَمَيْنِ أَن الدرهمين يرجعان إِلَى الثَّلَاثَة وَلَا يرجع دِرْهَم إِلَيْهِمَا وَدِرْهَم إِلَى الْعشْرَة فان قيل فَلم رَجَعَ الِاسْتِثْنَاء الثَّانِي إِلَى الِاسْتِثْنَاء الأول

دون الْعشْرَة بِأولى من أَن يرجع إِلَى الْعشْرَة فَقَط مَعَ أَنه فِي الْحَالين لَا يكون الِاسْتِثْنَاء نفيا وإثباتا مَعًا قيل لِأَنَّهُ لَو رَجَعَ إِلَى الْعشْرَة فَقَط كَانَ الِاسْتِثْنَاء الأول فِي رُجُوعه إِلَى الْعشْرَة وَفِي ذَلِك عطفه عَلَيْهِ حَتَّى يَقُول لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة درهما وَأَيْضًا فان الِاسْتِثْنَاء الثَّانِي مُتَّصِل بِالِاسْتِثْنَاءِ الأول وَلم يحصل الِاسْتِثْنَاء الأول مَعَ مَا تقدم كجملة وَاحِدَة بِحرف عطف أَو غَيره وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا قَالَ الْقَائِل أكْرم بني تَمِيم وَرَبِيعَة إِلَّا الطوَال وَمِنْهَا قَول بَعضهم إِن الْكَلَام الأول عَام فعلى من ادّعى تحصيصه بِالِاسْتِثْنَاءِ إِقَامَة الدّلَالَة دون من لم يدع تَخْصِيصه وَالْجَوَاب أَن الْقَائِل بِأَن الِاسْتِثْنَاء يرجع إِلَى مَا تقدم فيخصه وَالْقَائِل بِأَنَّهُ لَا يرجع إِلَيْهِ وَلَا يَخُصُّهُ مدعيان إِذْ كل وَاحِد مِنْهُمَا يَدعِي للاستثناء دَعْوَى لَا يُوَافقهُ عَلَيْهَا خَصمه فَكَانَ على كل وَاحِد مِنْهُمَا إِقَامَة الدّلَالَة وَمِنْهَا تعلقهم بآيَات رَجَعَ الِاسْتِثْنَاء فِيهَا إِلَى مَا يَلِيهِ ومخالفهم يَقُول إِن ذَلِك إِنَّمَا علم بِدَلِيل لَا بِالظَّاهِرِ وَمِنْهَا تعلقهم بِأَن الصَّحَابَة لم تخص الْكَلَام الْمُتَقَدّم بِمَا بعده لِأَنَّهَا قَالَت فِي قَول الله تَعَالَى {وَأُمَّهَات نِسَائِكُم وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} إِن ذَلِك رَاجع إِلَى الربيبة دون أُمَّهَات النِّسَاء وَقَالَت فِي أُمَّهَات النِّسَاء أبهموا مَا أبهم الله فَلم تشْتَرط تَحْرِيم أُمَّهَات النِّسَاء بِالدُّخُولِ بِالنسَاء وَالْجَوَاب أَن ذَلِك لَيْسَ باستثناء فَلم يجب فِي الِاسْتِثْنَاء مَا يجب فِيهِ لأَنهم لم يجمعوا بَينهمَا بعلة وعَلى أَن قَوْله {اللَّاتِي فِي حجوركم من نِسَائِكُم} نعت للربائب دون أُمَّهَات النِّسَاء لِأَن أُمَّهَات نسائنا لسن فِي حجورنا وَلَا هن من نسائنا وَقَوله {اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} وَإِن رَجَعَ إِلَى

النِّسَاء فَهُوَ من تَمام نعت الربائب فصح أَن الْكَلَام صَرِيح فِي تَقْيِيد الربائب لَا مَا تقدم فَكَانَ أُمَّهَات النِّسَاء على الْإِبْهَام الَّذِي ابهمه الله عز وَجل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بالأدلة الْمُنْفَصِلَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْأَدِلَّة الْمُنْفَصِلَة هِيَ أَدِلَّة الْعقل وَكتاب الله سُبْحَانَهُ وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْإِجْمَاع فالعقل يخص بِهِ عُمُوم الْكتاب وَالسّنة وَذَلِكَ أَنا نخرج بِالْعقلِ الصَّبِي وَالْمَجْنُون من أَن يَكُونَا مرادين بخطاب الله سُبْحَانَهُ بالعبادات فِي الْحَال وَلَا نخرجهما من أَن يَكُونَا مرادين بِالْخِطَابِ إِذا كملت عقولهما لأجماع الْمُسلمين على أَن الصَّبِي إِذا بلغ فَالصَّلَاة وَاجِبَة عَلَيْهِ لقَوْل الله سُبْحَانَهُ {أقِيمُوا الصَّلَاة} ولإجماعهم على وجوب الصَّلَاة عَلَيْهِ وَلَا دَلِيل يدل على تجدّد أَمر لَهُ وَلِأَنَّهُ لَو لَزِمته الصَّلَاة لأمر مُجَدد لوَجَبَ أَن يسمعهُ ويعلمه أَو يُعلمهُ الْعلمَاء فَأَما أَنه خَارج من الْخطاب فِي الْحَال لمَكَان دَلِيل الْعقل فقد امْتنع قوم من القَوْل بِأَن أَدِلَّة الْعقل تخص الْكتاب وَقَالُوا إِن الْعُمُوم مُرَتّب عَلَيْهَا وقم أطْلقُوا الْمَنْع من ذَلِك إطلاقا فَيُقَال لهَؤُلَاء أتعلمون بِالْعقلِ أَن الله سُبْحَانَهُ لم يرد بقوله {يَا أَيهَا النَّاس اعبدوا ربكُم} المجانين والأطفال أم لَا فان قَالُوا نعلم ذَلِك لَكنا لَا نُسَمِّيه تَخْصِيصًا خالفوا فِي الِاسْم ووافقوا فِي الْمَعْنى وَقيل لَهُم لَيْسَ للتخصيص معنى إِلَّا أَن يخرج من الْخطاب بعض مَا تنَاوله من الْأَشْخَاص وَإِن قَالُوا بِالثَّانِي فَهُوَ فَاسد لِأَن الصَّبِي وَالْمَجْنُون لَا يمكنهما فهم المُرَاد لَا على جملَة وَلَا على تَفْصِيل فارادة الْفَهم مِمَّا لَا يتَمَكَّن مِنْهُ تَكْلِيف لما لَا يُطَاق ويتعالى الله عَن ذَلِك فان قَالُوا دَلِيل الْعقل مُتَقَدم والمخصص لَا

يتَقَدَّم قيل بل يجوز أَن يتَقَدَّم إِن قيل فَلم كُنْتُم بالتمسك بِدَلِيل الْعقل أولى من التَّمَسُّك بِعُمُوم الْكتاب وهلا شرطتم فِي دَلِيل الْعقل أَن لَا يُعَارضهُ عُمُوم الْكتاب قيل إِن دَلِيل الْعقل دلّ على قبح إِرَادَة الْفَهم مِمَّن لَا يتَمَكَّن مِنْهُ دلَالَة مُطلقَة وَلم يدل على قبحها فِي حَال دون حَال أَلا ترى انا نعلم قبحها تناولهم لفظ كتاب أَو لم يتناولهم إِذْ الْعلَّة فِي قبحها كَونهم غير متمكنين فَوَجَبَ التَّمَسُّك بِهِ على الْإِطْلَاق وَعُمُوم الْكتاب لما كَانَ مُحْتملا للتخصيص وَكُنَّا لَا نعلم مَعَه حسن إِرَادَة مَا لَا يُطَاق ثَبت أَنه لَا يدل على حسنها فَوَجَبَ تَخْصِيصه إِن قيل إِذا كَانَ من لَا يتَمَكَّن من فهم المُرَاد بِالْخِطَابِ على جملَة أَو تَفْصِيل لَيْسَ بمخاطب بالعبادات فِي الْحَال فَمَا مُرَاد الْفُقَهَاء بقَوْلهمْ إِن النَّائِم فِي جَمِيع وَقت الصَّلَاة مُخَاطب بِالصَّلَاةِ قيل لَيْسَ هَذَا مُرَادهم بذلك أَنه قد أُرِيد مِنْهُ أَن يُصَلِّي وَهُوَ نَائِم أَو أَن يزِيل النّوم عَن نَفسه لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ كلا الْأَمريْنِ وَلَو فصل لَهُم ذَلِك أَبوهُ فَعلمنَا ان مُرَادهم غير ذَلِك وَقد ذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن مُرَادهم بقَوْلهمْ إِن الْإِنْسَان مُخَاطب وُجُوه مِنْهَا أَنه مُكَلّف لما تضمنه الْخطاب وَمِنْهَا أَن سَبَب الْوُجُوب حَاصِل فِيهِ كالنائم لِأَنَّهُ قد اخْتصَّ بِسَبَب وجوب قَضَاء الصَّلَاة بِخِلَاف الْمَجْنُون وَلِهَذَا يَقُولُونَ إِن الْحَائِض مُخَاطبَة بالصيام دون الصَّلَاة وَمِنْهَا أَن يكون الْمُكَلف إِذا فعل مَا تضمنه الْخطاب صَحَّ مِنْهُ وَإِن لم يُكَلف فعله كَقَوْلِهِم إِن الْفَقِير مُخَاطب بِالْحَجِّ دون الصَّبِي وَمِنْهَا أَن لَا يكون بَينه وَبَين أَن يكون مُخَاطبا بِالْفِعْلِ إِلَّا أَن يَزُول عَنهُ شَيْء قد عرض كالفقير مَتى زَالَ عَنهُ اسْم الْفقر صَار مُخَاطبا بِالْحَجِّ

وَمِنْهَا أَن يلْزمه حكم الْخطاب نَحْو قَوْلهم إِن السَّكْرَان مُخَاطب بِأَحْكَام الطَّلَاق وَمعنى ذَلِك انه يلْزمه الْفرْقَة إِن قيل أَلَيْسَ الصَّبِي قد دخل تَحت الْخطاب فِي أروش الْجِنَايَات قيل إِنَّه لم يدْخل فِي الْخطاب باخراج الْأَرْش وَإِنَّمَا الدَّاخِل تَحت الْخطاب وليه بِأَن يخرج الْأَرْش من مَال الصَّبِي وَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن الْحُقُوق الثَّابِتَة فِي المَال إِن تبِعت عبَادَة كَالنَّفَقَةِ فِي الْحَج لم تجب فِي مَال الصَّبِي وَإِن لم تتبع عبَادَة وَلم تفْتَقر إِلَى نِيَّة كأرش الْجِنَايَات وَجب من مَاله وَإِن احْتَاجَت إِلَى نِيَّة كَالزَّكَاةِ فقد اخْتلف الْفُقَهَاء فِي وجوب ذَلِك فِي مَاله فان قيل وَإِذا لم يدْخل الصَّبِي فِي الْعِبَادَات فَلم فصل بَين صلَاته بِلَا طَهَارَة وبطهارة وحكموا بِصِحَّتِهَا بِطَهَارَة قيل مُرَادهم بذلك أَنَّهَا إِذا كَانَت بِطَهَارَة فَهِيَ على الصّفة الَّتِي تسْقط فرض الْبَالِغ وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا كَانَت بِلَا طَهَارَة أَو لِأَنَّهَا إِذا كَانَت بِطَهَارَة فقد وَقعت الْموقع الَّذِي أمرنَا أَن نَأْخُذهُ بهَا وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا كَانَت بِلَا طَهَارَة وَلَيْسَ مُرَادهم بذلك أَنَّهَا إِذا كَانَت على طَهَارَة أسقطت الْفَرْض عَنهُ لإجماعهم على أَنه لَا فرض عَلَيْهِ إِن قيل أفليس قد اخْتلفُوا فِي صِحَة إِسْلَامه وَكَيف لَا يكون عِنْدهم أهل التَّكْلِيف قيل إِن من يصحح إِسْلَامه إِنَّمَا يُصَحِّحهُ إِذا كَانَ يعقل الْإِسْلَام وَعِنْده أَنه إِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ مُكَلّفا لِلْإِسْلَامِ لصِحَّة الِاسْتِدْلَال مِنْهُ وَأَيْضًا فَلَو لم يكن مُكَلّفا فِي تِلْكَ الْحَال لم يمْتَنع وُرُود الشَّرِيعَة بِأَنَّهُ إِذْ أظهر الْإِسْلَام فِي هَذِه الْحَالة أخذناه إِذا بلغ كَمَا نَأْخُذهُ بِهِ إِذا وَقد أسلم أَبَوَاهُ قبل بُلُوغه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تَخْصِيص الْكتاب وَالسّنة بِالْكتاب وَالسّنة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأما تَخْصِيص الْكتاب بِالْكتاب فانه إِذا جَازَ أَن يبين الله سُبْحَانَهُ بخطابه الْعَام بعض مَا تنَاوله فَقَط جَازَ أَن يدلنا على ذَلِك بِالْكتاب كَمَا جَازَ أَن يدلنا

بِالْكتاب على غير ذَلِك من الْأَحْكَام وَقد خص الله سُبْحَانَهُ قَوْله {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} بقوله {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} وَخص قَوْله {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} بقوله {وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ} وَلَيْسَ يمْتَنع قَول الله سُبْحَانَهُ لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} من أَن يبين عز وَجل بِكَلَامِهِ مَا أنزلهُ إِلَيْنَا مَعَ أَن الله قد وصف كِتَابه بَان فِيهِ {تبيانا لكل شَيْء} فَجَاز كَون بعضه بَيَانا لبَعض وَأما تَخْصِيص الْكتاب بِالسنةِ فَجَائِز كَمَا يجوز أَن تدلنا السّنة على غير ذَلِك من الْأَحْكَام وَقد خص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله لَا يَرث الْقَاتِل وَلَا يتوارث أهل ملتين قَول الله سُبْحَانَهُ {للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} وَأما تَخْصِيص السّنة بِالسنةِ فَأكْثر من أَن يُحْصى وَقد أَبى قوم ذَلِك لِأَنَّهُ نصب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُبينًا فَلم يجز أَن تحْتَاج سنته إِلَى بَيَان وَالْجَوَاب أَن كَونه مُبينًا لَا يمْنَع من أَن يبين سنته وَالْكَلَام فِي تَخْصِيص الْعَام بالخاص يخْتَلف بِحَسب الْمُقَارنَة والتراخي فاذا بَينا جَوَاز وُقُوع تَخْصِيص الْكتاب وَالسّنة بهما على الْجُمْلَة فلنبين مَتى يَقع التَّخْصِيص بهما وَنَذْكُر فِي ذَلِك قسْمَة يدْخل فِيهَا بِنَاء الْخَاص على الْعَام وَيجوز تَخْصِيص قَول الله سُبْحَانَهُ بِفعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ كَقَوْلِه فِي الدّلَالَة وَلِهَذَا خصصنا قَول الله سُبْحَانَهُ {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} يرْجم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ماعزا

وَيجوز تَخْصِيص الْكتاب بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ إِذا ثَبت كَونه حجَّة جَازَ أَن يدل على كَون الْكتاب مَخْصُوصًا وَقد خص إِجْمَاعهم على أَن العَبْد كالأمة فِي تنصيف الْحَد لآيَة الْجلد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي بِنَاء الْعَام على الْخَاص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه إِذا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خبران خَاص وعام وهما كالمتنافيين فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن نعلم بَينهمَا التأريخ أَو لَا نعلم فان علمنَا ذَلِك فإمَّا أَن نعلم اقتران أَحدهمَا بِالْآخرِ وَإِمَّا أَن نعلم تراخي أَحدهمَا عَن الآخر إِمَّا الْخَاص وَإِمَّا الْعَام فان علمنَا اقترانهما نَحْو أَن يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقتلوا الْكفَّار وَيَقُول عقيب ذَلِك لَا تقتلُوا الْيَهُود أَو يَقُول فِي الْخَيل زَكَاة وَيَقُول عَقِيبه لَيْسَ فِي الذُّكُور من الْخَيل زَكَاة فَالْوَاجِب أَن يكون الْخَاص مُخَصّصا للعام لِأَن الْخَاص أقل احْتِمَالا فِيمَا يتَنَاوَلهُ من الْعَام واشد تَصْرِيحًا بِهِ من الْعَام وَلِهَذَا لَو قَالَ الرجل لعَبْدِهِ اشْتَرِ لي كل مَا فِي السُّوق من اللَّحْم ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك لَا تشتر لحم الْبَقر فهم مِنْهُ إِخْرَاج لحم الْبَقر من كَلَامه الأول إِمَّا على سَبِيل البداء وَإِمَّا أَنه لم يردهُ بِالْعُمُومِ وَلِأَن إِجْرَاء الْعَام على عُمُومه يلغي الْخَاص وَاسْتِعْمَال الْخَاص وَإِخْرَاج مَا تنَاوله من الْعَام لَا يلغي وَاحِدًا مِنْهُمَا فَكَانَ هَذَا أولى وَإِن قيل هلا حملتم قَوْله فِي الْخَيل زَكَاة على التَّطَوُّع وحملتم قَوْله لَا زَكَاة فِي الذُّكُور من الْخَيل على نفي الزَّكَاة وَهَذَا وَإِن كَانَ اسْتِعْمَالا للعام على الْمجَاز فان تَخْصِيصه أَيْضا اسْتِعْمَال لَهُ على الْمجَاز فلستم بِأحد الاستعمالين بِأولى من الآخر وَالْجَوَاب إِن قَوْله فِي الْخَيل زَكَاة يَقْتَضِي وُجُوبهَا فِي الْإِنَاث كَمَا يَقْتَضِيهِ خبر لَو اخْتصَّ بالإناث فَلَو حملناه على التَّطَوُّع لَكنا قد عدلنا بِاللَّفْظِ عَن ظَاهره فِي الإ ناث لدَلِيل لَا يتَنَاوَلهُ الْإِنَاث وَهُوَ قَوْله لَا زَكَاة فِي الذُّكُور وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا أخرجنَا الذُّكُور عَن قَوْله فِي الْخَيل زَكَاة

لأَنا نَكُون قد أخرجنَا من الْعَام شَيْئا لدَلِيل قد تنَاوله وَاقْتضى إِخْرَاجه مِنْهُ وَأَيْضًا فَمَا ذكره الْخصم لَا يَتَأَتَّى فِي كل خبر لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو قَالَ اقْتُلُوا الْكفَّار وَقَالَ لَيْسَ ذَلِك باباحة وَلَا إِطْلَاق وَقَالَ أَيْضا عَقِيبه لَا تقتلُوا الْيَهُود فحملنا ذَلِك على نهي التَّحْرِيم أَو التَّنْزِيه لوَجَبَ على كل حَال تَخْصِيص قَوْله اقْتُلُوا الْكفَّار لِأَن هَذَا القَوْل لَو حمل على الْوُجُوب أَو على النّدب لَكَانَ النَّهْي عَن قَتلهمْ وجوبا أَو تَنْزِيها مُخَصّصا لَهُ فَأَما إِن علمنَا تراخي الْخَاص عَن الْعَام فانه إِن كَانَ ورد الْخَاص قبل مَا يحضر وَقت الْعَمَل بِالْعَام فانه يكون بَيَانا للتخصيص وَيجوز ذَلِك عِنْد من يُجِيز تَأْخِير بَيَان الْعَام وَلَا يجوز عِنْد المانعين من تَأْخِير بَيَان الْعَام وَإِن ورد الْخَاص بعد مَا حضر وَقت الْعَمَل بِالْعَام فانه يكون نسخا وبيانا لمراد الْمُتَكَلّم فِيمَا بعد دون مَا قبل لِأَن الْبَيَان لَا يتَأَخَّر عَن وَقت الْحَاجة وَأما إِن كَانَ الْعَام هُوَ المتراخي عَن الْخَاص فَعِنْدَ أَصْحَاب الشَّافِعِي أَن الْعَام يَبْنِي على الْخَاص فَيكون المُرَاد بِالْعَام مَا لم يتَنَاوَلهُ الْخَاص وَيُمكن أَن يحتجوا لذَلِك بِأَن الْخَبَر الْخَاص نَحْو قَول الْقَائِل لَا تقتلُوا الْيَهُود يمْنَع من قَتلهمْ أبدا وَقَوله من بعد أقتلوا الْكفَّار يُفِيد قَتلهمْ فِي حَالَة من الْحَالَات وَالْخَبَر الْخَاص يمْنَع من قَتلهمْ فِي تِلْكَ الْحَالة وَإِذا تمانعا وَالْخَاص أخص باليهود وَأَقل احْتِمَالا وَجب الْقَضَاء بِهِ وَلَو قَالَ اقْتُلُوا الْيَهُود ثمَّ قَالَ لَا تقتلُوا الْكفَّار وَقد بقيت بَقِيَّة من الْيَهُود لم يقتلُوا فَالْأَمْر يَقْتَضِي قَتلهمْ فِي حَال من الْحَالَات وَالنَّهْي يمْنَع من ذَلِك فَإِذا تمانعا فِي تِلْكَ الْحَال قضي بالخاص وَقد احْتَجُّوا لمذهبهم بِأَن الْخَاص مَعْلُوم دُخُول مَا تنَاوله تَحْتَهُ وَدخُول ذَلِك تَحت الْعَام مَشْكُوك فِيهِ وَالْعَام لَا يتْرك للشَّكّ وَهَذَا لَا يَصح لأَنهم إِن أَرَادوا أَن الْعَام لَو انْفَرد لم يعلم دُخُول مَا تنَاوله تَحْتَهُ فَذَلِك غير مُسلم وَإِن ارادوا أَنه لَا يعلم ذَلِك لأجل الْخَبَر الْخَاص فَفِي ذَلِك ينازعزن وَهُوَ ترك قَوْلهم أَيْضا لأَنهم يقطعون على خُرُوج ذَلِك من الْعُلُوم وَلَا يَشكونَ فِيهِ وَقَالُوا

أَيْضا تقدم الْخَاص على الْعَام كالعهد بَين الْمُتَكَلّم والمخاطب فَانْصَرف الْخطاب الْعَام إِلَيْهِ وَالْجَوَاب أَنه لَا معنى لقَولهم إِنَّه كالعهد إِلَّا أَن الْمُتَكَلّم قد دلّ بالخاص الْمُتَقَدّم على أَن مُرَاده بِالْعَام مَا دون الْخَاص وَلِأَنَّهُ لَا يفهم السَّامع إِلَّا ذَلِك وَفِي ذَلِك ينازعون وَذهب أَصْحَاب أبي حنيفَة وقاضي الْقُضَاة إِلَى أَن الْعَام الْمُتَأَخر ينْسَخ الْخَاص الْمُتَقَدّم وَاحْتَجُّوا بأَشْيَاء مِنْهَا أَن اللَّفْظ الْعَام فِي تنَاوله لآحاد مَا وجد تَحْتَهُ يجْرِي مجْرى أَلْفَاظ خَاصَّة كل وَاحِد مِنْهَا يتَنَاوَل وَاحِدًا فَقَط من تِلْكَ الْآحَاد لِأَن قَوْله اقْتُلُوا الْمُشْركين يجْرِي مجْرى قَوْله اقْتُلُوا زيدا الْمُشرك أقتلوا عمرا أقتلوا خَالِدا وَلَو قَالَ ذَلِك بعد مَا قَالَ لَا تقتلُوا زيدا لَكَانَ الثَّانِي نَاسِخا فَكَذَلِك مَا ذَكرْنَاهُ وَالْجَوَاب أَن اللَّفْظ الْعَام يجْرِي مجْرى أَلْفَاظ خَاصَّة بآحاد مَا تنَاوله فِي كَونه متناولا لَهَا فَقَط وَلَا يجْرِي مجْراهَا فِي امْتنَاع دُخُول التَّخْصِيص عَلَيْهِ لِأَن اللَّفْظ الْخَاص لشَيْء وَاحِد لم يدْخل تَحْتَهُ اشياء فَيخرج بَعْضهَا وَالْعَام قد تنَاول أَشْيَاء يُمكن أَن يُرَاد بِهِ بَعْضهَا فصح قيام الدّلَالَة على ذَلِك وَلِهَذَا كَانَ الْخَاص الْمُقَارن للعام مُخَصّصا لَهُ وَمَا ذَكرُوهُ يمْنَع من تَخْصِيصه لَهُ وَمِنْهَا أَن الْخَاص الْمُتَقَدّم يَتَأَتَّى نُسْخَة وَالْعَام يُمكن أَن يرفعهُ فَكَانَ نَاسِخا لَهُ وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم وَلم إِذا أمكن أَن يرفعهُ وَجب ذَلِك فِيهِ وَأَيْضًا فَكَمَا يُمكن أَن يتَصَوَّر فِيهِ كَونه رَافعا للخاص الْمُتَقَدّم فَيمكن أَن يتَصَوَّر فِيهِ كَونه مَخْصُوصًا بالخاص الْمُتَقَدّم فان قَالُوا كَونه مُتَأَخِّرًا يَقْتَضِي كَونه نَاسِخا قيل لَهُم وَهل نوزعتم إِلَّا فِي ذَلِك وَأَيْضًا فَإِنَّمَا يُمكن أَن ينْسَخ الْمُتَقَدّم إِذا لم يثبت كَونه مَخْصُوصًا بالمتقدم فبينوا ذَلِك وَقد تمت لكم الْمَسْأَلَة وَمِنْهَا أَن يُقَال تردد الْخَاص الْمُتَقَدّم بَين كَونه مَنْسُوخا ومخصصا يمْنَع من كَونه مُخَصّصا لِأَن الْبَيَان لَا يكون ملبسا وَالْجَوَاب أَن الْخصم يَقُول لَيْسَ

يتَرَدَّد عِنْدِي بَين هذَيْن بل قد صَحَّ كَونه مُخَصّصا وعَلى أَنه إِن منع هَذَا التَّرَدُّد من كَونه بَيَانا للتخصيص ليمنعن التَّرَدُّد بَين كَون الْعَام نَاسِخا للخاص ومبنيا عَلَيْهِ من كَونه بَيَانا للنسخ فصح أَن الْعَام يَبْنِي على الْخَاص الْمُتَقَدّم لما ذَكرْنَاهُ من الدّلَالَة الأولى فَأَما إِذا لم يعرف التأريخ بَينهمَا فَعِنْدَ أَصْحَاب الشَّافِعِي أَن الْخَاص مِنْهُمَا يخص الْعَام وَهَذَا سديد على أصولهم لِأَنَّهُ لَيْسَ للخاص مَعَ الْعَام إِلَّا أَن يقارنه أَو يتَأَخَّر عَنهُ أَو يتقدمه وَقد بَان وجوب خُرُوج مَا تنَاوله الْخَاص من الْعَام فِي الْأَحْوَال الثَّلَاثَة وَأَيْضًا فان فُقَهَاء الْأَمْصَار فِي هَذِه الْأَعْصَار يخصون أَعم الْخَبَرَيْنِ بأخصهما مَعَ فقد علمهمْ بالتاريخ وَلَيْسَ يعْتَرض ذَلِك بِأَن ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ لَا يخص قَول الله سُبْحَانَهُ {وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم} يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تحرم الرضعة وَلَا الرضعتان لأَنا إِنَّمَا ادعينا إِجْمَاع أهل هَذِه الْأَعْصَار وَيحْتَمل أَن يكون ابْن عمر امْتنع من ذَلِك لدَلِيل وَقد احْتَجُّوا للمسألة بأَشْيَاء لَا تدل مِنْهَا قَوْلهم إِذا لم يعرف التأريخ بَين الْخَبَرَيْنِ وَجب حملهما على أَنَّهُمَا وردا مَعًا كالغريقين اللَّذين لَا يعرف اقتران غرقهما وَلَا يقدم أَحدهمَا على الآخر فَحمل أَمرهمَا على أَنَّهُمَا غرقا مَعًا وَالْجَوَاب أَن الْأمة لم تجمع على ذَلِك بل قد ورث بعض الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كل وَاحِد مِنْهُمَا من الآخر وَمِنْهُم من جعل كل وَاحِد مِنْهُمَا كَأَنَّهُ لم يخلق أبدا وَلم يُورث أَحدهمَا من الآخر وَهَذَا يُمكن أَن يحْتَج بِهِ مخالفهم لِأَنَّهُ لما اشْتبهَ حَالهمَا لم يُورث أَحدهمَا من الاخر فَكَذَلِك إِذا اشْتبهَ حَال الْخَبَرَيْنِ يجب أَن لَا يعْتَرض بِأَحَدِهِمَا على الآخر وَأَن يرجع إِلَى أَمر آخر وَمِنْهَا قَوْلهم وَإِذا وَجب تَخْصِيص الْعُمُوم بِالِاسْتِثْنَاءِ فَكَذَلِك بالْخبر

الْخَاص وَالْجَوَاب أَن هَذَا قِيَاس بِغَيْر عِلّة وَالْفرق بَينهمَا أَن الِاسْتِثْنَاء لما لم يسْتَقلّ بِنَفسِهِ علم أَنه مُقَارن للْعُمُوم غير مُتَقَدم عَلَيْهِ وَلَا متراخ عَنهُ فَلم يُمكن فِيهِ أَن يكون مَنْسُوخا وَلَيْسَ كَذَلِك الْخَاص المستقل بِنَفسِهِ لِأَنَّهُ يُمكن أَن يكون مُتَقَدما وَنَظِير الِاسْتِثْنَاء أَن يقطع على مُقَارنَة اللَّفْظ الْخَاص فَإِن قَالُوا اللَّفْظ الْخَاص إِذا تقدم لم يكون مَنْسُوخا بل يكون مُخَصّصا للعام الْمُتَأَخر رجعُوا الى مَا ذَكرْنَاهُ أَولا من بِنَاء الْمَسْأَلَة على ذَلِك وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْقيَاس يعْتَرض بِهِ على الْعَام فَالْخَبَر الْخَاص أولى بذلك وَالْجَوَاب أَن أصل الْقيَاس إِن كَانَ مُتَقَدما على الْخَبَر الْعَام وَكَانَ منافيا لَهُ فانه لَا يجوز الْقيَاس عَلَيْهِ عِنْد الْخصم لِأَنَّهُ مَنْسُوخ بِالْعَام مِثَاله أَن يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَبِيعُوا الْبر ثمَّ يَقُول بعد مُدَّة أحللت لكم جَمِيع الْبياعَات فان الْمُخَالف ينْسَخ تَحْرِيم الْبر وَلَا يُجِيز قِيَاس الْأرز عَلَيْهِ فِي التَّحْرِيم وَإِن اشْتبهَ تقدمه لم يجز الْقيَاس عَلَيْهِ أَيْضا وَإِن كَانَ اصل الْقيَاس غير مُتَقَدم للعام على وَجه يُنَافِيهِ صَحَّ الْقيَاس عَلَيْهِ وَخص بِهِ الْعَام مِثَاله إِن نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الْبر ثمَّ قَالَ بعد مُدَّة أبحت لكم بيع مَا سوى الْبر فان ذَلِك لَا ينْسَخ النَّهْي عَن بيع الْبر فَيجوز أَن يُقَاس على الْبر المكيلات ويخص من جملَة هَذَا الْعُمُوم وَلَا يشبه هَذَا مَسْأَلَتنَا لِأَن فِي مَسْأَلَتنَا يُمكن أَن يكون الْمُتَقَدّم مَنْسُوخا بِالْعَام وَمِنْهَا أَنه لَو لم يخص الْعَام بالخاص كُنَّا قد ألغيناه وَالْجَوَاب أَن للخصم أَن يَقُول إِن أردتم بالغاء الْخَاص أَن لَا يسْتَعْمل أصلا فالحكمة تمنع مِنْهُ وَنحن لَا نقُول بِهِ وَإِن أردتم أَنا لَا نَسْتَعْمِلهُ الْآن وَإِن كَانَ مُسْتَعْملا فِي وَقت فَذَلِك جَائِز عندنَا وَهَذِه حَالَة الْمَنْسُوخ وَمِنْهَا أَنا لَو لم نخص الْعَام مِنْهُمَا بالخاص لوَجَبَ إِمَّا نسخ الْخَاص بِالْعَام أَو إلغاؤهما والنسخ لَا يجوز مَعَ فقد التأريخ وَكَلَام الْحَكِيم لَا يجوز إلغاءه وَالْجَوَاب أَن الْخصم يحوج التَّخْصِيص أَيْضا إِلَى تأريخ لِأَنَّهُ لَا يخص الْعَام بِخَبَر مُتَقَدم وَأما إلغاؤهما فغن أُرِيد بِهِ الرُّجُوع إِلَى غَيرهمَا أَو إِلَى تَرْجِيح وَترك

استعمالهما بأنفسهما فَذَلِك لَا يأباه الْخصم وَيَقُول إِنَّمَا لَا يجوز ذَلِك إِذا أمكن اسْتِعْمَال الْكَلَامَيْنِ فَأَما مَعَ فقد الْإِمْكَان فَلَا يمْتَنع وَقد علمنَا أَنه لَيْسَ حمل الْحَال فيهمَا على التَّخْصِيص أولى من النّسخ وَلَا حمل الْحَال فيهمَا على النّسخ أولى من التَّخْصِيص فَأَما أَصْحَاب أبي حنيفَة فَإِنَّهُم يَقُولُونَ إِنَّه إِذا لم يعرف التأريخ بَين الْخَبَرَيْنِ الْعَام وَالْخَاص توقف فيهمَا وَرجع إِلَى غَيرهمَا أَو إِلَى مَا يرجح بِهِ أَحدهمَا على الاخر وَهَذَا سديد على أصولهم لِأَن عِنْدهم أَن الْخَبَر الْعَام الْمُتَأَخر ينْسَخ الْخَاص الْمُتَقَدّم ويخص بالخاص الْمُقَارن لَهُ والمتأخر وَإِذا لم يعرفوا التأريخ جوزوا أَن يكون الْخَاص مُتَقَدما فَيكون مَنْسُوخا وجوزوا أَن لَا يكون مُتَقَدما فَيخرج من الْعَام مَا تنَاوله فَوَجَبَ التَّوَقُّف فِيهَا إِذْ لَيْسَ الحكم بِأحد الْأَمريْنِ أولى من الآخر فَكَذَلِك يلْزم لَو قيل بِالْوَقْفِ إِذا علم تَأْخِير الْخَبَر الْعَام لأَنا إِذا لم نَعْرِف التأريخ لم نَأْمَن أَن يكون الْخَاص مُتَقَدما فنكون مترددين بَين أَن يكون مَخْصُوصًا وَبَين أَن يكون مَنْسُوخا وَقد احْتَجُّوا بأَشْيَاء لَا تدل مِنْهَا أَن الْعَام يجْرِي تنَاوله للآحاد مجْرى أَلْفَاظ خَاصَّة بالأعداد وَهَذِه لَا يعترضها الْخَاص فَكَذَلِك الْعَام وَقد تقدم الْجَواب عَن ذَلِك وَمِنْهَا أَنه لَو خص أحد الْخَبَرَيْنِ أعمهما يخص أحد العلتين أعمهما وَالْجَوَاب أَن ذَلِك قِيَاس بِغَيْر عِلّة وَيلْزم أَن لَا يخص الْعَام بالخاص الْمُقَارن لَهُ وعَلى أَن تَخْصِيص الْعلَّة لَا يجوز أصلا وَلَيْسَ كَذَلِك تَخْصِيص الْعَام فَجَاز أَن يَخُصُّهُ الْخَاص وَإِذا لم نَعْرِف بَينهمَا التَّارِيخ قَالُوا فاذا وَجب التَّوَقُّف فِي هذَيْن الْخَبَرَيْنِ فَالْوَاجِب الرُّجُوع إِلَى التَّرْجِيح وَقد ذكر عِيسَى بن أبان وُجُوهًا من التَّرْجِيح مِنْهَا أَن يكون أَحدهمَا مُتَّفقا على اسْتِعْمَاله كَخَبَر الأوساق وَمِنْهَا أَن يعْمل مُعظم الْأمة بِأَحَدِهِمَا ويعيب على

من لم يعْمل بِهِ كعيبهم على ابْن عَبَّاس تَركه الْعَمَل بِخَبَر أبي سعيد فِي الرِّبَا وَمِنْهَا أَن تكون الرِّوَايَة لأَحَدهمَا أشهر وَزَاد الشَّيْخ أَبُو عبد الله أَن يتَضَمَّن أَحدهمَا حكما شَرْعِيًّا وَأَن يكون أَحدهمَا بَيَانا للْآخر بِاتِّفَاق كاتفاقهم على أَن قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا قطع إِلَّا فِي ثمن الْمِجَن بَيَان لآيَة السّرقَة فَوَجَبَ لذَلِك بناؤها عَلَيْهِ وَهَذِه الْأُمُور أَمارَة لتأخر أحد الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْخَبَر مُتَقَدما مَنْسُوخا مَا اتّفقت الْأمة على اسْتِعْمَاله وَلَا عابوا من ترك اسْتِعْمَاله وَلما كَانَ النَّقْل لَهُ أشهر وَلما أَجمعُوا على أَنه بَيَان لَهُ قد نسخه وَكَون الحكم غير شَرْعِي يَقْتَضِي كَون الْخَبَر الَّذِي يضمنهُ مصاحبا لِلْعَقْلِ وَأَن الْخَبَر المتضمن الحكم الشَّرْعِيّ مُتَأَخّر وَهَذَا الْوَجْه يضعف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْعُمُوم إِذا خص هَل يصير مجَازًا أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهبر قوم إِلَى أَنه لَا يصير مجَازًا بالتخصيص مُتَّصِلا كَانَ الْمُخَصّص أَو مُنْفَصِلا لفظا كَانَ أَو غير لفظ وَقَالَ آخَرُونَ يصير مجَازًا فِي كل هَذِه الْحَالَات وَقَالَ آخَرُونَ يصير مجَازًا فِي حَال دون حَال وَاخْتلفُوا فِي تَفْصِيل تِلْكَ الْحَال فَقَالَ بَعضهم إِن خص بِدَلِيل لَفْظِي لم يصر مجَازًا مُتَّصِلا كَانَ الدَّلِيل أَو مُنْفَصِلا وَإِن خص بِدَلِيل غير لَفْظِي كَانَ مجَازًا وَقَالَ آخَرُونَ يكون مجَازًا إِلَّا أَن يخص بِلَفْظ مُتَّصِل وَقَالَ آخَرُونَ يكون مجَازًا إِلَّا أَن يكون مخصصه شرطا أَو اسْتثِْنَاء وقاضي الْقُضَاة يَقُول يكون مجَازًا إِلَّا أَن يكون مخصصه شرطا أَو تقييدا بِصفة وَجعله مجَازًا بِالِاسْتِثْنَاءِ وَاعْلَم أَن الْقَرِينَة المخصصة إِمَّا أَن تستقل بِنَفسِهَا فِي الدّلَالَة أَو لَا تستقل

بِنَفسِهَا فَإِن اسْتَقَلت بِنَفسِهَا فَهِيَ ضَرْبَان عقلية ولفظية أما الْعَقْلِيَّة فنحو الدّلَالَة الدَّالَّة على ان غير الْقَادِر غير مُرَاد بِالْخِطَابِ بالعبادات وَأما اللفظية فنحو أَن يَقُول الْمُتَكَلّم بِالْعَام أردْت بِهِ الْبَعْض الْفُلَانِيّ فَقَط وَفِي هذَيْن الْقسمَيْنِ يكون الْعُمُوم مجَازًا لِأَن الْقَرِينَة دلّت على أَن الْمُتَكَلّم اسْتعْمل الْعَام لَا فِيمَا وضع لَهُ وَهَذَا معنى الْمجَاز إِن قيل هلا قُلْتُمْ إِن الْمُتَكَلّم أَرَادَ الْبَعْض فَقَط بِاللَّفْظِ الْعَام وبالقرينة مَعًا فَلَا يكون اللَّفْظ الْعَام مجَازًا قيل مجَازًا قيل أَن الْقَرِينَة قد تكون سَابِقَة للفظ الْعَام نَحْو خلق الْعلم فِينَا بِأَن الْعَاجِز لَا يُكَلف أَو نصب الدّلَالَة على ذَلِك وَهَذَا أسبق من الْعُمُوم فَلَا يجوز أَن يُرِيد بهما الْبَعْض وَقد تكون الْقَرِينَة إِشَارَة من الْمُتَكَلّم منا مُتَأَخِّرَة عَن كَلَامه بِزَمَان يسير فَلَا يجوز أَن يُرِيد الْبَعْض بهَا وَالْكَلَام الْعَام وَقد تكون الْقَرِينَة من فعل غير الْمُتَكَلّم نَحْو أَن يتَكَلَّم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْعَام فيخصه الله سُبْحَانَهُ وَيلْزم أَن يكون اللَّفْظ الْعَام المقترن بِهِ الْقَرِينَة لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا لِأَنَّهُ مَا أُرِيد بِهِ مَا وضع لَهُ وَلَا غير مَا وضع لَهُ وَإِن جعلُوا الْحَقِيقَة مَجْمُوع اللَّفْظ والقرينة لزم كَون الْمعَانِي من جملَة الْحَقَائِق وَيلْزم أَن لَا يكون فِي الْكَلَام مجَازًا بل يكون الْكَلَام قد قصد بِهِ مَعَ قرينته وَجه الْمجَاز فان قيل هلا قُلْتُمْ وضعُوا الْعُمُوم للاستغراق مَعَ فقد الْقَرِينَة وَوَضَعُوا لما تَقْتَضِيه الْقَرِينَة من التَّخْصِيص مَعَ وجودهَا قيل إِن الْقَرَائِن كَثِيرَة لَا تحصى فَلَا يُمكن أَن تحصروها حَتَّى تضعوا الْعُمُوم مَعَ كل وَاحِدَة مِنْهَا لما تَقْتَضِيه وَأَيْضًا فَيمكن أَن يُقَال إِن الْأَلْفَاظ كلهَا وضعت مَعَ وجود الْقَرَائِن لما يدل عَلَيْهِ الْقَرَائِن وَفِي ذَلِك رفع الْمجَاز من الْكَلَام وَأَيْضًا فان الْقَرِينَة تدل على أَن الْمُتَكَلّم اسْتعْمل لفظ الْعُمُوم فِي الْبَعْض فان كَانَت إِذا دلّت ذَلِك فقد دلّت على أَن الْمُتَكَلّم اسْتعْمل لفظ الْعُمُوم فِي الْبَعْض فان كَانَت إِذا دلّت على ذَلِك فقد دلّت على أَن الْمُتَكَلّم قد اسْتَعْملهُ فِيمَا وضع لَهُ فَذَلِك رُجُوع إِلَى قَول أَصْحَاب الْوَقْف وَكَانَ يجب لَو أَرَادَ الْمُتَكَلّم بِاللَّفْظِ الْعُمُوم مَعَ أَن الْعقل يدل على تَخْصِيصه أَن يكون متجوزا وَغير مُسْتَعْمل لَهُ على حَقِيقَته

فان قَالُوا هلا قُلْتُمْ إِن الْقَرِينَة كالعهد فِي وجوب انصراف الْعُمُوم إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ وَلَا يكون مجَازًا كَمَا لَو انْصَرف إِلَى الْعَهْد وَالْجَوَاب إِن لَام التَّعْرِيف وضعت لتقييد مَا السَّامع بِهِ أعرف فان كَانَ بَينه وَبَين الْمُتَكَلّم عهد فَهُوَ بِهِ أعرف فَانْصَرف أليه الْكَلَام وَإِن لم يكن بَينهمَا عهد فَلَيْسَ يعرف إِلَّا الْجِنْس فَانْصَرف إِلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِك مَا يدل عَلَيْهِ الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة لِأَنَّهُ إِنَّمَا يعرف انصراف الْعُمُوم إِلَيْهِ إِذا علم بِدَلِيل عَقْلِي أَن بعض الْعُمُوم لَا يجوز أَن يُرَاد وَعلم أَن الْمُتَكَلّم حَكِيم وَرُبمَا غمض الدَّلِيل على أَنه لَا يجوز أَن يُرَاد فَجرى مجْرى سَائِر الْأَدِلَّة المخصصة سِيمَا وَمَا يفِيدهُ اللَّفْظ فِي الْمُوَاضَعَة لَا يقف على حِكْمَة الْمُتَكَلّم وَأَيْضًا فاذا ثَبت أَن الْألف وَاللَّام تفِيد الِاسْتِغْرَاق فَالْأولى أَن يُقَال إنَّهُمَا ينصرفان إِلَى الْعَهْد بِقَرِينَة وَهُوَ معرفَة السَّامع بِقصد الْمُتَكَلّم وَيجْرِي ذَلِك مجْرى جَمِيع أَلْفَاظ الْعُمُوم الَّتِي تعلم من قصد الْمُتَكَلّم أَنه استعملها فِي الْخُصُوص وَيكون مجَازًا فَأَما إِن كَانَت الْقَرِينَة لَا تستقل بِنَفسِهَا نَحْو الِاسْتِثْنَاء والشروط وَالتَّقْيِيد بِالصّفةِ كَقَوْل الْقَائِل جَاءَنِي بَنو تَمِيم الطوَال فقد ذهب قَاضِي الْقُضَاة إِلَى أَن الِاسْتِثْنَاء يَجْعَل الْعُمُوم مجَازًا وَلم يقل ذَلِك فِي الشُّرُوط وَالصّفة وَعند الشَّيْخ أبي الْحسن الْكَرْخِي رَحمَه الله أَن الْعُمُوم لَا يصير مجَازًا بِهَذِهِ الْأُمُور الثَّلَاثَة وَلَعَلَّه عني مَا نذكرهُ الْآن وَهُوَ أَن هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة تجْعَل لفظ الْعُمُوم من جملَة كَلَام وَلَا يكون لفظ الْعُمُوم بِانْفِرَادِهِ حَقِيقَة وَلَا مجَازًا وَيكون الْعُمُوم مَعَ الِاسْتِثْنَاء بمجموعها حَقِيقَة وَكَذَلِكَ هُوَ مَعَ الشَّرْط وَمَعَ الصّفة وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الْقَائِل إِذا قَالَ اضْرِب بني تَمِيم الطوَال أَو قَالَ إِن كَانُوا طوَالًا أَو قَالَ إِلَّا من دخل الدَّار فانه يرد بَعضهم بِلَفْظ الْعُمُوم وَحده لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك مَا كَانَ قد أَرَادَ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَو الشَّرْط أَو الصّفة شَيْئا لِأَن هَذِه الْأَشْيَاء تُوضَع لشَيْء يسْتَقلّ فِي دلالتها عَلَيْهِ فَيُقَال إِن الْمُتَكَلّم قد أَرَادَ بهَا ذَلِك الشَّيْء وَأَرَادَ بِالْعُمُومِ وَحده الْبَعْض وَلِأَنَّهُ إِذا أَرَادَ الْبَعْض بِلَفْظ الْعُمُوم لم يبْق شَيْء يُريدهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالشّرط وَالصّفة فَثَبت أَنه إِنَّمَا

عَنى الْبَعْض لمجموع الْأَمريْنِ يبين ذَلِك أَن النافين للْعُمُوم لما قَالُوا لَو كَانَ لفظ الْعُمُوم مُسْتَغْرقا لَكَانَ اسْتِعْمَاله فِي الْبَعْض نقضا قُلْنَا لَهُم إِن الْمُتَكَلّم قد عَنى الْبَعْض لمجموع الْعُمُوم وَالِاسْتِثْنَاء فاذا ثَبت أَن الْمُتَكَلّم لم يعن بِلَفْظ الْعُمُوم وَحده الِاسْتِغْرَاق وَلَا الْبَعْض ثَبت أَنه إِذا كَانَ مَعَ هَذِه الْأُمُور لم يكن بِانْفِرَادِهِ حَقِيقَة وَلَا مجَازًا أَو إِذا ثَبت أَنه قد عني الْبَعْض بِمَجْمُوع الْأَمريْنِ وهما لَا يفيدان إِلَّا ذَلِك الْبَعْض ثَبت أَن مجموعهما حَقِيقَة فِيهِ وَقد فصل قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح بَين التَّخْصِيص بِالِاسْتِثْنَاءِ وبالشرط فَقَالَ إِن الشَّرْط لَا يخرج شيأ من آحَاد الْعُمُوم فَلم يَجعله مجَازًا وَإِنَّمَا يخرج حَالا مِم الْحَالَات لِأَنَّك إِذا قلت أكْرم بني تَمِيم إِن كَانُوا دخلُوا الدَّار لم يتَعَرَّض ذَلِك للاعيان وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا استثنيت الْآحَاد وَالْجَوَاب أَن يُقَال وَلم كَانَ مَا تنَاول الْآحَاد يَجْعَل الْعُمُوم مجَازًا وَمَا تنَاول الْأَحْوَال لَا يَجعله مجَازًا على أَن الشَّرْط إِذا أخرج بعض الْحَالَات فقد أخرج بعض الْأَعْيَان لِأَنَّك إِذا قلت أكْرم بني تَمِيم إِن كَانُوا دخلُوا الدَّار فقد أخرجت الْأَعْيَان الَّذين لم يدخلُوا الدَّار وَقد يتَنَاوَل الشَّرْط الْأَعْيَان لِأَنَّك إِذا قلت أكْرم بني تَمِيم إِن كَانُوا من بني سعد فقد أخرج غَيرهم من الْأَشْخَاص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي صِحَة الِاسْتِدْلَال بِالْعُمُومِ الْمَخْصُوص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتلف النَّاس فِي الْعُمُوم الْمَخْصُوص هَل يَصح الِاسْتِدْلَال بِهِ فِيمَا عدا الْمَخْصُوص أم لَا فَلم يجز عِيسَى بن أبان وَأَبُو ثَوْر الِاسْتِدْلَال بِهِ على ذَلِك على كل حَال وَأَجَازَ ذَلِك آخَرُونَ على كل حَال وَأَجَازَ ذَلِك قوم فِي حَال دون حَال وَاخْتلفُوا فِي تَفْصِيل تِلْكَ الْحَال فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن إِن خص الْعُمُوم بِشَرْط أَو اسْتثِْنَاء صَحَّ التَّعَلُّق بِهِ فِيمَا عدا الْمَخْصُوص وَإِن خص بِدَلِيل مُنْفَصِل لم يَصح ذَلِك وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله إِن كَانَ الْمُخَصّص وَالشّرط قد منعا من تعلق الحكم بِالِاسْمِ الْعَام وأوجبا تعلقه بِشَرْط لَا ينبىء عَنهُ

الظَّاهِر لم يجز التَّعَلُّق بِهِ عَنهُ وَإِن لم يمنعا من تعلقه بِالِاسْمِ الْعَام فانه يَصح التَّعَلُّق بِهِ وَمثل الْقسم الأول بقول الله سُبْحَانَهُ {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} وَذَلِكَ لِأَن قيام الدّلَالَة على اعْتِبَار الْحِرْز مِقْدَار الْمَسْرُوق يمْنَع من تعلق الْقطع بِالسَّرقَةِ وَيَقْتَضِي وُقُوعه على الْحِرْز الَّذِي لَا ينبىء اللَّفْظ عَنهُ فَلم يجز التَّعَلُّق بِهِ وَمثل للقسم الثَّانِي بقول الله سُبْحَانَهُ {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} لِأَن قيام الدّلَالَة على الْمَنْع من قتل معطي الْجِزْيَة لَا يمْنَع من تعلق الْقَتْل بِالشّرطِ فَلم يمْتَنع التَّعَلُّق بِهِ من قتل من لم يُعْط الْجِزْيَة وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة إِن كَانَ الْعُمُوم الْمَخْصُوص والمشروط لَو تركنَا وَظَاهره من دون الشَّرْط والتخصيص كُنَّا نمتثل مَا أُرِيد منا ونضم إِلَيْهِ مَا لم يرد منا احتجنا إِلَى بَيَان مَا لم يرد منا وَلم نحتج إِلَى بَيَان مَا أُرِيد إِذْ كُنَّا نصير إِلَيْهِ من دون الْبَيَان وَيصِح التَّعْلِيق بِالظَّاهِرِ فِيهِ وَإِن كُنَّا لَو تركنَا وَالظَّاهِر من دون الشَّرْط لم يمكننا امْتِثَال مَا أُرِيد احتجنا إِلَى بَيَان مَا أُرِيد منا إِذْ لسنا نكتفي بِالظَّاهِرِ فِيهِ وَهَذَا الَّذِي ذكره عقد مَذْهَب وَدلَالَة وَيَنْبَغِي أَن يُزَاد فِي الْقسم الأول أَن لَا يكون الْعُمُوم قد خصص تَخْصِيصًا مُجملا وَذَلِكَ لِأَن الله سُبْحَانَهُ لَو قَالَ اقْتُلُوا الْمُشْركين ثمَّ قَالَ لنا لم أرد بَعضهم لَكنا لَو تركنَا وَقَوله {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} أمكننا أَن نَفْعل مَا اريد منا وَمَا لم يرد منا وَمَعَ ذَلِك فانه لَا يَصح التَّعَلُّق بِهِ فِيمَا أُرِيد منا وَإِن مَا قُلْنَا إِنَّه يجوز أَن يسْتَدلّ بِالْعُمُومِ فِيمَا عدا الْمَخْصُوص هُوَ أَن معنى ذَلِك أَنه يُمكن التَّوَصُّل بِالْعُمُومِ إِلَى الْعلم بِحكم مَا عدا الْمَخْصُوص وَالدّلَالَة على ذَلِك هُوَ أَن قَول الله سُبْحَانَهُ {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} إِذا دلّ الدَّلِيل على أَنه لَا يقتل من أعطي الْجِزْيَة من أهل الْكتاب فاللفظ يتَنَاوَل مَا عدا هَؤُلَاءِ فِي أصل

الْوَضع مفصلا وَلم يرد عَلَيْهِ تَخْصِيص مَجْهُول فَكل مَا هَذِه حَالَة فَإِن الْمُتَكَلّم بِهِ إِذا كَانَ حكيما فَلَا بُد من أَن يَعْنِي مَا تنَاوله اللَّفْظ إِلَّا أَن يدلنا على أَنه مَا عناه وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن اللَّفْظ يتَنَاوَل مَا عدا الْمَخْصُوص فِي أصل الْوَضع لِأَن اسْم الْعُمُوم يسْتَغْرق كل الْمُشْركين وَلَيْسَ كلهم سَوَاء آحادهم فَهُوَ إِذا عبارَة عَن كل وَاحِد مِنْهُم وَلِهَذَا لَو تركنَا وظاهرة أمكننا قتل من أُرِيد منا قَتله وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه لم يرد عَلَيْهِ تَخْصِيص مَجْهُول لِأَن التَّخْصِيص الْمَجْهُول هُوَ إِخْرَاج بعض غير مفصل وَنحن إِنَّمَا نتكلم فِي عُمُوم قد خص تَخْصِيصًا مفصلا وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن كل لفظ يتَنَاوَل أَشْيَاء فِي أصل الْوَضع وَلم يخصص تَخْصِيصًا مُجملا فَلَا بُد من أَن يريدها الْمُتَكَلّم الْحَكِيم إِلَّا أَن يدل على أَنه مَا أَرَادَ بَعْضهَا لِأَن الْحَكِيم إِذا خَاطب قوما بلغتهم فَلَا بُد من أَن يَعْنِي بخطابه مَا عنوه وَإِلَّا كَانَ ملتبسا عَلَيْهِم وَغير مُتَكَلم بلغتهم وَلِهَذَا وَجب أَن يَعْنِي بِالْعُمُومِ ظَاهِرَة إِذا لم يرد عَلَيْهِ تَخْصِيص وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه لم يدلنا على أَنه مَا عناهم لِأَنَّهُ لَو كَانَ هُنَاكَ دلَالَة لوجدها من استقصى الطّلب وَلِأَن الْمُخَالف يمْنَع من التَّعَلُّق بِالْعُمُومِ الْمَخْصُوص لكَونه مَخْصُوصًا لَا لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون فِي الْأَدِلَّة مَا يَخُصُّهُ تَخْصِيصًا ثَانِيًا يبين مَا قُلْنَاهُ أَن لفظ الْعُمُوم متناول لما عدا الْمَخْصُوص فَلم لم يعلم أَنه قد عني بِالْعُمُومِ لم يخل إِمَّا أَن لَا يعلم ذَلِك بمخصص مفصل أَو مُجمل وَذَلِكَ مَفْقُود فَجرى مجْرى سَائِر الْأَلْفَاظ المتناولة من أهل الْوَضع لمعانيها إِذا لم تدل دلَالَة على أَنَّهَا لم ترد بهَا فقد صَحَّ الِاسْتِدْلَال بِالْعُمُومِ الْمَخْصُوص بِدَلِيل مُنْفَصِل أَو مُتَّصِل سَوَاء سمي الْعُمُوم مُجملا أَو غير مُجمل أَو سمي مجَازًا أَو غير مجَاز وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا إِجْمَاع الصَّحَابَة لِأَن عليا رَضِي الله عَنهُ تعلق فِي معنى الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ بقوله تَعَالَى {أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم} وَبِقَوْلِهِ {وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ}

وَقَالَ أَحَلَّتْهُمَا آيَة وحرمتهما آيَة وَكَذَلِكَ قَالَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَمَعْلُوم أَن قَوْله {أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم} مَخْصُوص مِنْهُ الْبِنْت وَالْأُخْت وَاحْتج ابْن عَبَّاس بقوله تَعَالَى {وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم} وَقَالَ قَضَاء الله أولى من قَضَاء ابْن الزبير وَإِن كَانَ وُقُوع التَّحْرِيم بِالرّضَاعِ يحْتَاج إِلَى شُرُوط وَاحْتج عِيسَى بن أبان بِأَن الْعُمُوم الْمَخْصُوص قد صَار مجَازًا بالتخصيص فَخرج أَن يكون لَهُ ظَاهر فَلم يجز التَّعَلُّق بِظَاهِرِهِ وَلِأَن الْعُمُوم الْمَخْصُوص يجْرِي مجْرى أَن يَقُول الله سُبْحَانَهُ اقْتُلُوا الْمُشْركين ثمَّ يَقُول لَا تقتلُوا بعض الْمُشْركين فَكَمَا يمْنَع ذَلِك من التَّعَلُّق بِالظَّاهِرِ فَكَذَلِك غَيره من التَّخْصِيص وَالْجَوَاب عَن الأول أَنه إِن أَرَادَ الْعُمُوم صَار مجَازًا من حَيْثُ لم يرد بِهِ بعض مَا تنَاوله فَذَلِك صَحِيح وَلَا يمْنَع من التَّعَلُّق بِهِ فِيمَا عدا الْمَخْصُوص لِأَنَّهُ متناول لَهُ على وَجه الْحَقِيقَة وَإِن أَرَادَ بِهِ أَنه مجَاز فِيمَا عدا الْمَخْصُوص فَلَيْسَ بِصَحِيح لِأَنَّهُ متناول لذَلِك فِي أصل الْوَضع على أَنا قد بَينا أَنه يَصح التَّعَلُّق بِهِ سمي مجَازًا أَو لم يسم مجَازًا وَالْجَوَاب عَن الثَّانِي هُوَ أَنهم جمعُوا بَين التَّخْصِيص الْمفصل والتخصيص الْمُجْمل بِغَيْر عِلّة وَالْفرق بَينهمَا هُوَ أَن الله إِذا قَالَ أقتلوا الْمُشْركين ثمَّ قَالَ لَا تقتلُوا بَعضهم أَو قَالَ لم أرد بَعضهم وَلم يبين ذَلِك الْبَعْض كَانَ من يُرِيد قَتله من الْمُشْركين يتَنَاوَلهُ قَوْله اقْتُلُوا الْمُشْركين فَلم بِأَن يدْخل تَحت أحد الظاهرين أولى من أَن يدْخل تَحت الآخر وَلَو قَالَ لَا تقتلُوا الْيَهُود أمكننا أَن نقْتل بِالْآيَةِ من أُرِيد منا لِأَن كل مُشْرك إِن علمنَا يَهُودِيّا أدخلْنَاهُ تَحت الْمُخَصّص وَإِن علمناه غير يَهُودِيّ علمناه خُرُوجه من التَّخْصِيص وَأَنه مُرَاد بِالْآيَةِ

وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَن الْأَشْيَاء الْمَعْلُومَة إِذا أخرج مِنْهَا أَشْيَاء مَعْلُومَة كُنَّا عَالمين بِمَا عَداهَا وَإِذا خرج مِنْهَا أَشْيَاء مَجْهُولَة بَقِي الْبَاقِي مَجْهُولا لَا ينْفَصل مِمَّا عَداهَا فَلَا نَدْرِي مَا الَّذِي خرج مِمَّا لم يخرج أَلا ترى أَن الْعشْرَة مَعْلُومَة فاذا علمنَا أَنه قد خرج مِنْهَا ثَلَاثَة علمنَا أَنه قد بَقِي سَبْعَة وَإِذا علمنَا أَنه قد خرج مِنْهَا عدد لَا نعلمهُ لم ندر مَا بَقِي مِنْهَا وَنحن من بعد ذاكرون أَعْيَان الْأَدِلَّة فَنَقُول أما قَول الله عز وَجل {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} فقد مضى الْكَلَام فِيهِ حِين جَعَلْنَاهُ مِثَالا للجملة الْمُتَقَدّمَة وَأما قَوْله {أقِيمُوا الصَّلَاة} فانه لَا يَصح التَّعَلُّق بِهِ فِي وجوب الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة لِأَن اسْم الصَّلَاة فِي اللُّغَة لَا يتَنَاوَل هَذِه الصَّلَاة وَلِهَذَا لَو خلينا وَهَذِه الْآيَة لم نَعْرِف وُجُوبهَا وَلَا أمكننا فعلهَا بِعَينهَا إِن قيل هلا يَصح التَّعَلُّق بقوله أقِيمُوا الصَّلَاة فِي وجوب الدُّعَاء لِأَن اسْم الصَّلَاة يتَنَاوَلهُ فِي اللُّغَة فاذا دلّت الدّلَالَة على وجوب أَشْيَاء مَعَ الدُّعَاء وَسُقُوط وجوب الدُّعَاء مَعَ فقد تِلْكَ الْأَشْيَاء كَانَ تَخْصِيصًا قيل هَذَا يَقْتَضِي أَن يكون المُرَاد بقوله {أقِيمُوا الصَّلَاة} الدُّعَاء وَهَذَا بَاطِل لأَنا قد بَينا أَن اسْم الصَّلَاة يتَنَاوَل فِي الشَّرِيعَة جملَة هَذِه الْأَفْعَال الشَّرْعِيَّة وَلَيْسَ بِأَن يُقَال إِنَّه يتَنَاوَل الدُّعَاء وَمَا عداهُ شَرط فِي وُقُوع النَّص عَلَيْهِ بِأولى من أَن يُقَال إِنَّه يتَنَاوَل فِي الشَّرِيعَة مَا عدا الدُّعَاء وَالدُّعَاء شَرط فِي وُقُوع الِاسْم عَلَيْهِ وعَلى أَن غرضنا أَنه لَا يَصح الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْآيَة على وجوب جملَة هَذِه الْأَفْعَال والسائل لم يُنَازع فِي ذَلِك وَأما قَول الله عز وَجل {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} فَأَنَّهُ عَام فِي كل سَارِق سرق قَلِيلا أَو كثيرا من حرز أَو من غير حرز فقيام

الدّلَالَة على اشْتِرَاط الْحِرْز وَقدر مَخْصُوص لَا يمنعنا من الْعلم بِوُجُوب قطع من سرق من حرز قدرا مَخْصُوصًا فان منع الْمُخَالف من التَّعَلُّق بِهَذِهِ الْآيَة أصلا بعد قيام الدّلَالَة على هذَيْن الشَّرْطَيْنِ فقد أفسدناه وَإِن منع من أَن يعلم بِهَذِهِ الْآيَة قطع أحد إِلَّا بعد أَن يعلم أَنه سَارِق قدرا مَخْصُوصًا من حرز فَذَلِك صَحِيح وسنتكلم فِيهِ من بعد وَإِن أَرَادَ إِن قطع من اخْتصَّ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فقد احتجنا فِيهِ إِلَى أَن تقوم الدّلَالَة على اشْتِرَاط هذَيْن الشَّرْطَيْنِ فَبَاطِل لِأَنَّهُ لَو لم يدل الدّلَالَة على ذَلِك لعلمنا قطع من اخْتصَّ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ وَإِنَّمَا نفتقر إِلَى هَذِه الدّلَالَة فِي أَن لَا يقطع من لم يخْتَص بهما ونستطيع القَوْل فِي هَذِه الْأَقْسَام عِنْد ذكر أسألتهم إِن قيل أَلَيْسَ بعد قيام الدّلَالَة على اشْتِرَاط الْحِرْز وَمِقْدَار الْمَسْرُوق لَا يُمكن أَن يسْتَدلّ بِالْآيَةِ على قطع من اخْتصَّ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ إِلَّا بعد أَن يضم إِلَيْهِمَا مَا دلّ على اشتراطهما فقد صَحَّ أَنه يجوز التَّعَلُّق بِظَاهِر الْآيَة قيل لَيْسَ كَذَلِك لِأَنَّهُ يمكننا أَن نستدل على قطع من علمناه مُخْتَصًّا بالشرطين بِأَن نقُول إِنَّه سَارِق فتناولته آيَة السّرقَة من غير أَن يمْنَع مَانع من كَونه مرَادا بهَا وَهَذَا كَاف فِي الدّلَالَة على قِطْعَة أَلا ترى أَنا لَو لم نعلم هذَيْن الشَّرْطَيْنِ لعلمنا مِمَّا ذَكرْنَاهُ وجوب قطع من اخْتصَّ بهما وَإِن كُنَّا نقطع من لم يخْتَص بهما فَبَان أَنا نحتاج إِلَى بَيَان الشَّرْطَيْنِ حَتَّى لَا نقطع بعض السراق لَا لنقطع من يجب قطعه إِلَّا أَن الْبَيَان لذَلِك قد يرد بِلَفْظ النَّفْي بِأَن يُقَال لَا تقطعوا من سرق من غير حرز وَقد يرد بالإثبات بِأَن يُقَال الْحِرْز شَرط فِي الْقطع وكلا الْقَوْلَيْنِ إِنَّمَا يَنْفِي الْقطع من غير حرز لِأَن إثْبَاته مَعَ الْحِرْز مَعْلُوم بتناول الْآيَة لَهُ إِن قيل أَلَيْسَ بعد قيام الدّلَالَة على اشْتِرَاط الْمِقْدَار والحرز لَا يجوز لكم أَن تقطعوا سَارِقا معينا وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ أَنه سَارِق من حرز مِقْدَارًا مَخْصُوصًا وَإِذا علمْتُم ذَلِك علمْتُم وجوب قِطْعَة فقد بَان أَنه لَا يَكْتَفِي بِظَاهِر الْآيَة قيل هَذَا صَحِيح غير أَنه لَا يمْنَع من الِاكْتِفَاء بِالْآيَةِ فِي قطع سَارِق اخْتصَّ بكلا الشَّرْطَيْنِ من حَيْثُ تناولته الْآيَة من غير مَانع لأَنا إِنَّمَا نحتج بِالْآيَةِ فِي قِطْعَة لَا بِمَا دلّ على أَنه لَا يقطع من

سرق من غير حرز وَذَلِكَ لِأَن الْآيَة تتَنَاوَل هَذَا السَّارِق وَلَا يتَنَاوَلهُ مَا دلّ على الْمَنْع من قطع السَّارِق من غير حرز وَإِنَّمَا وَجب أَن نعلم أَنه سَارِق قدرا مَخْصُوصًا من حرز لنعلم أَنه لم يدْخل تَحت الدَّلِيل الْمُخَصّص لَا لنعلم أَن الْآيَة تناولته وَالْقَوْل فِي ذَلِك كالقول فِي عُمُوم مَخْصُوص وَلَا وَجه لتخصيص ذَلِك بِأَنَّهُ السّرقَة لِأَن الله عز وَجل لما قَالَ {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} ثمَّ دلّ الدَّلِيل على الْمَنْع من قتل معطي الْجِزْيَة فانا لَا نقدم على قتل شخص مُشْرك إِلَّا إِذا علمنَا أَنه غير معط للجزية وَلَو قَالُوا لَا تقتلُوا زيدا الْمُشرك لم يجز أَن نقْتل مُشْركًا إِلَّا إِذا علمنَا أَنه غير زيد وَمَتى شككنا فِي ذَلِك لم يجز قَتله وَكَذَلِكَ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر لَا يمْنَع تَخْصِيصه بِأَرْض الْخراج من التَّعَلُّق بِهِ إِن قيل إِن آيَة السّرقَة قد شَرط فِيهَا شَرط لَا ينبيء لَفظه عَنهُ فَجرى مجْرى أَن يكون الْقطع الْمَذْكُور غير الْمَعْرُوف وَلَيْسَ كَذَلِك قَول الله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} لِأَن مَا أخرج بَعضهم هُوَ دَلِيل مُخَصص الْجَواب أَن ذَلِك لَو ثَبت لم يمْنَع من الِاسْتِدْلَال بِأَن السّرقَة على قطع من اخْتصَّ بكلا الشَّرْطَيْنِ من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ على أَنه لَا فرق بَين الِاثْنَيْنِ لِأَن اشْتِرَاط الْحِرْز والمقدار قد أخرج من الْآيَة من لم يخْتَص بهما وَهَذَا تَأْثِيره دون قطع من اخْتصَّ بكلا الشَّرْطَيْنِ لِأَن ذَلِك مُسْتَفَاد من الْآيَة على مَا بَيناهُ كَمَا أَن مَا دلّ على الْمَنْع من قتل معطي الْجِزْيَة تاثيره الْمَنْع من قَتله لَا إِيجَاب قتل من لم يُعْط الْجِزْيَة لِأَن من لم يُعْط الْجِزْيَة إِنَّمَا قَتَلْنَاهُ بِالْآيَةِ من حَيْثُ اقْتَضَت قتل كل مُشْرك وَلَا فرق بَين أَن يكون الْمُخَصّص لِلْآيَةِ واردا بِلَفْظ الْإِثْبَات أَو بِلَفْظ النَّفْي فِي أَنه يُفِيد إِخْرَاج بعض مَا اقتضته الْآيَة على مَا بَيناهُ على أَن مَا

خص بِهِ آيَة السّرقَة قد ورد بِلَفْظ النَّفْي كَقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا قطع إِلَّا فِي ثمن الْمِجَن وَقَوله لَا قطع فِي ثَمَر وَلَو كثر وَقَوْلهمْ إِن هَذِه الْأَعْيَان لَا تخرج أَعْيَان السراق وَلَيْسَ كَذَلِك مَا خص آيَة الْمُشْركين لِأَنَّهُ يخرج الْأَعْيَان لَا يمْنَع من الِاسْتِدْلَال على كل وَاحِد مِنْهُمَا من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَأَيْضًا فَإِن مَا دلّ على اشْتِرَاط الْحِرْز والمقدار قد أخرج الْأَعْيَان لِأَنَّهُ قد دلّ على أَن من لم يخْتَص بالشرطين لَا يجوز قطعه وَقَوْلهمْ إِن حد السّرقَة يدل على أَن الْقطع يسْتَحق لأجل السّرقَة وشتراط الْحِرْز يمْنَع من اسْتِحْقَاق الْقطع بِمُجَرَّد السّرقَة فَكَانَ مُجملا لَا يُوجب الْفَصْل بَين الْآيَتَيْنِ لِأَن قَوْله {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} بفيد اسْتِحْقَاق الْقَتْل لأجل الشّرك فَقَط فاشتراط الِامْتِنَاع من إِعْطَاء الْجِزْيَة يمْنَع من اسْتِحْقَاقه بالشرك وعَلى أَنَّهُمَا لَو انفصلا من هَذَا الْوَجْه لم يمْنَع أَن يتَّفقَا فِي صِحَة الِاسْتِدْلَال بهما من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَإِن فصلوا بَينهمَا بِأَن أحد الدَّلِيلَيْنِ إِثْبَات وَالْآخر نفي فَهُوَ فصل غير مُؤثر وَقد تكلمنا فِيهِ وَقد فصل الشَّيْخ أَبُو عبد الله بَين قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر وَبَين آيَة السّرقَة بِأَن مَا دلّ على أَنه لَا عشر فِي أَرض الْخراج هُوَ بَيَان لصفة الْخَارِج لَا لصفة الْعشْر الْمَأْخُوذ وَهَذَا لَا يمْنَع من انْتِقَاض علته وَهِي أَنه قد أَخذ الْعشْر بِشَرْط لَا ينبيء عَنهُ الْخَبَر وَلَا يمْنَع ذَلِك من التَّعَلُّق بِاللَّفْظِ وعَلى أَن اشْتِرَاط الْحِرْز والمقدار لَيْسَ هُوَ بَيَان لصفة الْقطع وَإِنَّمَا هُوَ بَيَان لمقدار الْمَسْرُوق وموضعه فَلَا فرق بَينهمَا وَقَالَ أَيْضا إِنَّمَا صَحَّ التَّعَلُّق بِخَبَر الأوساق لِأَن الْأمة قد تعلّقت بِهِ فَيُقَال لَهُ إِجْمَاع الْأمة على ذَلِك يدلنا على بطلَان القَوْل بِأَنَّهُ مُجمل لَا ينبيء عَن المُرَاد لِأَن الْأمة لَا تجمع على الِاسْتِدْلَال بِمَا لَيْسَ بِدَلِيل

إِذا ؤقد ذكرنَا التخصص وَمَا بِهِ يَقع وَأَحْكَام الْعُمُوم فلنذكر مَا عدَّة قوم مُخَصّصا وَلَيْسَ بمخصص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي دُخُول الْكَافِر فِي الْخطاب فِي الشرعيات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهبت طَائِفَة من الْفُقَهَاء إِلَى أَنه غير مُرَاد بِهِ وَعند الشَّيْخَيْنِ رحمهمَا الله وأصحابهما وَطَائِفَة من الْفُقَهَاء أَنه مُرَاد بِهِ وَمعنى ذَلِك أَنه يلْزمه الْإِقْرَار بِالتَّوْحِيدِ والنبوات وَأَن يفعل بعد ذَلِك الشرعيات وَمَتى فعلهَا كَانَت مصلحَة لَهُ وَمَتى لم يوحد الله سُبْحَانَهُ وَيصدق الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وأخل بالشرعيات كَانَ إخلاله بهَا تفويتا لتِلْك الْمصلحَة فَاسْتحقَّ الْعقَاب على إخلاله بِالتَّوْحِيدِ وبتصديق الْأَنْبِيَاء وبالشرعيات وَالْخلاف إِنَّمَا يظْهر فِي اسْتِحْقَاق الْعقَاب وَفِي ثُبُوته فِي العقليات مَعَ كفره لأجل إخلاله بالشرعيات أم لَا وَالنَّاس متفقون على أَنه لَا يلْزمه أَن يفعل الشرعيات فِي حَال كفره على أَن يكون مضامة لكفره ومتفقون على أَنه لَا يلْزمه الْقَضَاء إِذا أسلم وَدَلِيلنَا على لُزُوم الشرعيات لَهُ هُوَ أَن قَول الله سُبْحَانَهُ {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} يتَنَاوَل الْكَافِر وَالْمُسلم إِذْ كل وَاحِد مِنْهُمَا من النَّاس وَلَا مَانع من دَلِيل سَمْعِي أَو عَقْلِي من دُخُوله تَحْتَهُ فَكَانَ مرَادا بِهِ أما الدَّلِيل السمعي فَإِنَّهُ لَو كَانَ لظفرنا بِهِ عِنْد الطّلب وَأما الْعقلِيّ فَهُوَ فقد التَّمَكُّن وَالْكَافِر يتَمَكَّن من الْحَج بِأَن يقدم عَلَيْهِ قبله الْإِسْلَام وَكَانَ من تمكن من الْفِعْل على بعض الْوُجُوه فَهُوَ لَهُ مستطيع كَمَا أَن الْمُحدث يتَمَكَّن من أَدَاء الصَّلَاة على الْوَجْه الشَّرْعِيّ بِأَن يقدم قبلهَا الْوضُوء والعراقي يتَمَكَّن من الْحَج بِأَن يقدم قبله الْمَشْي وَمِمَّا يدل على الْمَسْأَلَة أَن الْأمة مجمعة على أَن الْكَافِر يحد على زِنَاهُ على وَجه النكال فَلَو لم يكن مُكَلّفا بترك الزِّنَا لم يكن الزِّنَا مَعْصِيّة مِنْهُ وَلَو لم

يكن مَعْصِيّة مِنْهُ لم يُعَاقب على فعله فَإِن قيل إِنَّمَا حد لِأَنَّهُ قد الْتزم أحكامنا قيل فَمن أحكامنا أَن لَا يحد على الْمُبَاح فَلَو كَانَ الزِّنَا مِنْهُ مُبَاحا لما حد عَلَيْهِ إِن قيل قد كلف الْكَافِر بترك الزِّنَا لِأَنَّهُ مَعَ كفره يُمكنهُ تَركه وَلَيْسَ كَذَلِك الصَّلَاة وَالصِّيَام لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ مَعَ كفره فعلهمَا فَلم يُخَاطب بفعلهما قيل إِنَّه لَا يُكَلف بترك الزِّنَا إِلَّا وَقد كلف أَن يعلم قبحه وَلَا سَبِيل إِلَى الْعلم بقبحه إِلَّا بشريعة الْإِسْلَام لِأَن مَا عَداهَا من الشَّرَائِع قد منع المكلفون من الرُّجُوع إِلَيْهِ وَلَا يُمكنهُ مَعَ جحد الْإِسْلَام أَن يعلم قبح شَيْء كَمَا لَا يُمكنهُ فعل الصَّلَاة فِي هَذِه الْحَال فَلَا فرق بَينهمَا قيل لكم مثله فِي الصَّلَاة وَالْحج دَلِيل قَول الله عز وَجل {وويل للْمُشْرِكين الَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة} ذمّ لَهُم على كفرهم واختلالهم بِالزَّكَاةِ كَمَا أَن قَول الْقَائِل ويل للسراق الَّذين لَا يصلونَ ذمّ على السّرقَة وَترك الصَّلَاة دَلِيل قَول الله سُبْحَانَهُ {فَلَا صدق وَلَا صلى وَلَكِن كذب وَتَوَلَّى} ذمّ على كل ذَلِك دَلِيل قَول الله سُبْحَانَهُ {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما يُضَاعف لَهُ الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة} فَإِذا ضوعف عَلَيْهِ الْعَذَاب لمجموع ذَلِك وَقد دخل فِيهِ الزِّنَا فَيثبت كَونه مَحْظُورًا عَلَيْهِ دَلِيل قَول الله سُبْحَانَهُ {قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين وَلم نك نطعم الْمِسْكِين وَكُنَّا نَخُوض مَعَ الخائضين} فذمهم على ذَلِك وإطعام الطَّعَام يتَعَلَّق الذَّم بِتَرْكِهِ هُوَ الزَّكَاة إِن قيل قَوْله {لم نك من الْمُصَلِّين} مَعْنَاهُ لم نك من جملَة الْمُصَلِّين يَعْنِي

الْمُؤمنِينَ وَالْجَوَاب أَن ذَلِك لَا يَتَأَتَّى فِي قَوْله {وَلم نك نطعم الْمِسْكِين} لِأَنَّهُ علق الذَّم على كَونهم غير مطْعمين على أَن قَوْله {لم نك من الْمُصَلِّين} يُفِيد تَعْلِيق الذَّم عَلَيْهِم لأَنهم لم يصلوا كَمَا أَن قَول الْقَائِل إِنَّمَا عاقبني فلَان لأنني لم أك من المطيعين يُفِيد أَنه عاقبه لِأَنَّهُ لم يطعه إِن قيل قَوْله {لم نك من الْمُصَلِّين} يجوز أَن يكون إِخْبَارًا عَن قوم كَانُوا ارْتَدُّوا بعد إسْلَامهمْ وَلم يَكُونُوا قد صلوا فِي حَال إسْلَامهمْ لِأَن قَوْله تَعَالَى {لم نك من الْمُصَلِّين} لَيْسَ يُفِيد أَنهم لم يصلوا فِي جَمِيع الزَّمَان الْمَاضِي أَلا ترى أَن من صلى مرّة وَاحِدَة يُقَال إِنَّه قد صلى فِيمَا مضى وَلَا يُقَال إِنَّه مَا صلى فِيمَا مضى وَالْجَوَاب أَن قَوْله سُبْحَانَهُ {لم نك من الْمُصَلِّين} هُوَ جَوَاب الْمُجْرمين الْمَذْكُورين فِي قَوْله عز وَجل {يتساءلون عَن الْمُجْرمين} وَذَلِكَ عَام فِي الْمُجْرمين الْمُرْتَدين وَغير الْمُرْتَدين على أَن قَوْله {قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين} إِمَّا أَن يُفِيد أَنهم لم يصلوا فِي جَمِيع الزَّمَان الْمَاضِي أَو فِي زمَان غير معِين وَلَا يُفِيد زَمَانا معينا كَمَا أَن قَوْلنَا فلَان عُوقِبَ لِأَنَّهُ لم يحجّ إِنَّمَا يدل على وجوب الْحَج فِي زمَان غير معِين وَمن يحمل الْآيَة على الْمُرْتَد يحملهَا على وجوب الصَّلَاة فِي زمَان معِين دَلِيل لَو لم يلْزم الْكَافِر الشَّرِيعَة لم يلْزمه النّظر فِي معْجزَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ إِنَّمَا يلْزمه ذَلِك خوفًا من أَن يكون شَرعه مصلحَة لَهُ تفوته إِن لم ينظر فِي معجزته وَلَو كَانَ الشَّرْط فِي كَون شَرعه مصلحَة لَهُ أَن يعلم صدقه لما لزمَه بِالْعقلِ أَن يَجْعَل هَذَا الشَّرْط ليلزمه شَرعه إِذْ كَانَ جَمِيع مَا يَفْعَله الْمُسلم من الْوَاجِبَات الْعَقْلِيَّة ويتركه من المقبحات الْعَقْلِيَّة لأجل فعله للشرعيات يَفْعَله الْكَافِر ويتركه وَإِن لم يفعل الشرعيات فَإِن قَالُوا إِن الْكَافِر قد يتْرك

الْوَاجِبَات الْعَقْلِيَّة الَّتِي يَفْعَلهَا الْمُسلم وَلَو أسلم وَفعل الشرعيات فعل تِلْكَ الْوَاجِبَات قيل لَهُم قد سلمتم الْمَسْأَلَة وَقد وَجب اسْتِحْقَاقه الْعقَاب لِأَنَّهُ قد فَوت نَفسه مصلحَة يُمكنهُ التَّوَصُّل إِلَيْهَا وَهَذَا الدَّلِيل إِنَّا يَصح على قَول من قَالَ لَا يجوز أَن يكون علم الْمُكَلف بنبوة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِانْفِرَادِهِ مصلحَة فِي العقليات فَأَما من جوز ذَلِك فَلَا يمْتَنع ان يَقُول يلْزمه ذَلِك لهَذَا الْوَجْه فَإِذا علم نبوته لَزِمته شَرِيعَته وَيدل عَلَيْهِ قَوْله سُبْحَانَهُ {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين} الْآيَة وَهَذَا فِي الْكَافِر وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء وَمِنْهَا أَنه لَو كَانَ الْكَافِر مُكَلّفا للشرعيات لكلف مَا لَا يطيقه لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل أَن يفعل الشرعيات عبَادَة وقربة مَعَ كفره وَالْجَوَاب أَن المستحيل هُوَ أَن يضم الشرعيات إِلَى كفره وَلم يُكَلف ذَلِك وَإِنَّمَا كلف الصَّلَاة بِأَن يقدم الْإِسْلَام فَإِن قَالُوا كَذَلِك نقُول قيل أَنْتُم تَجْعَلُونَ الشَّرْط فِي كَونهَا مُرَادة مِنْهُ تَقْدِيم إِسْلَامه وَإِذا لم يسلم لَا يسْتَحق الْعقَاب على إخلاله بِالصَّلَاةِ وَنحن نلحق بِهِ الْعقَاب ونقول إِن الله سُبْحَانَهُ قد اراد مِنْهُ الصَّلَاة بِأَن يقدم الْإِسْلَام عَلَيْهَا فَإِن وافقتم فِي الْعقَاب فقد زَالَ الْخلاف فِي الْمَسْأَلَة لِأَنَّهُ لَيْسَ للمسألة فَائِدَة إِلَّا فِي الِاسْتِحْقَاق للعقاب وفوات الْمصلحَة وَنَظِير ذَلِك تَكْلِيف الْمُحدث للصَّلَاة بِأَن يزِيل الْحَدث فَإِن لم يفعل اسْتحق الْعقَاب على الْإِخْلَال بِالْوضُوءِ وَالصَّلَاة وَيُفَارق تَكْلِيف الْحَائِض الصَّلَاة بِأَن تزيل الْحيض لِأَن ذَلِك غير مُمكن لَهَا وَإِزَالَة الْحَدث مقدورة وَيُمكن أَن يحتجوا ويقولوا لَو كلف الْكَافِر الشرعيات لم يخل إِمَّا أَن يُكَلف إيقاعها مضامة للكفر وَذَلِكَ غير مُمكن أَو يُكَلف فعلهَا بِشَرْط أَن لَا يكفر فَيجب أَن يكون الله سُبْحَانَهُ قد كلف الشرعيات من يعلم أَنه لَا يُؤمن بِشَرْط يعلم أَنه لَا يحصل وَذَلِكَ مُسْتَحِيل عنْدكُمْ

وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم إِنَّا لَا نقُول إِنَّه كلف بِشَرْط بل نقُول إِنَّه كلف الشرعيات وَالْإِيمَان بالأنبياء مَعًا وَالْإِيمَان بهم وصلَة إِلَى الشرعيات وَله سَبِيل إِلَى كلا الْأَمريْنِ فَحَمله هَذَا التَّكْلِيف غير مَوْقُوف على شَرط يعلم الْمُكَلف أَنه لَا يحصل وَإِنَّمَا ننكر أَن يُكَلف الْعَالم بِالْغَيْبِ من يعلم أَنه لَا يتَمَكَّن من الْفِعْل وَلَا سَبِيل لَهُ إِلَيْهِ بِوَجْه بِشَرْط أَن يتَمَكَّن وَهَذَا غير قَائِم فِي مَسْأَلَتنَا وَمِنْهَا أَنه لَو كلف فعلهمَا وَلم يحمل على أدائهما وَمِنْهَا قَوْلهم لَو كلف الشرعيات لوَجَبَ إِذا أسلم أَن يلْزمه الْقَضَاء وَهَذَا بَاطِل لِأَن الْقَضَاء فرض ثَان فَهُوَ مَوْقُوف على الدّلَالَة أَلا ترى أَن الْجُمُعَة وَاجِبَة وَلَا يجب قَضَاؤُهَا بِعَينهَا وَصَوْم الْحَائِض غير وَاجِب وَيجب قَضَاؤُهُ وَمِنْهَا لَو كلف الْكَافِر أَدَاء الزَّكَاة لوَجَبَ إِذا أسلم قبل حُلُول الْحول بِيَوْم أَن تلْزمهُ الزَّكَاة لِأَنَّهُ قد كَانَ مُكَلّفا بِفِعْلِهَا وَقد حصل عِنْد وجوب الْأَدَاء بِصفة يَصح مَعهَا الْأَدَاء وَالْجَوَاب إِنَّا لَا نقُول إِنَّه إِذا كَانَ كَافِرًا فِي ابْتِدَاء الْحول فَإِنَّهُ خُوطِبَ بِأَن يُزكي إِذا أسلم قبل حُلُول الْحول وَإِنَّمَا نقُول إِنَّه قيل لَهُ قبل ابْتِدَاء الْحول أسلم وَاسْتمرّ إسلامك وَإِذا استمررت إِلَى آخِره فزك فَإِن لم يفعل ذَلِك اسْتحق الْعقَاب على ترك الْإِسْلَام وعَلى ترك الزَّكَاة ومخالفنا يَقُول يسْتَحق الْعقُوبَة على ترك الْإِسْلَام فَقَط فَإِن أسلم فِي تضاعيف الْحول سقط ذمه الْمُسْتَحق على اسْتِدَامَة كفره بِهَذِهِ التَّوْبَة وَلما كَانَ باستدامة كفره إِلَى تضاعيف الْحول فقد فَوت على نَفسه بِالزَّكَاةِ يسْتَحق الذَّم على ذَلِك إِمَّا فِي الْحَال وَإِمَّا عِنْد حُضُور وَقت الْأَدَاء وَجب إِذا سقط ذمّ الْكفْر بِالتَّوْبَةِ أَن يسْقط ذمّ مَا تبعه من تفويته الْمصلحَة لِأَنَّهُ لَيْسَ تفويته الْمصلحَة بِأَكْثَرَ من أَن لَا يَفْعَلهَا إِذا حضر وَقتهَا وَالتَّوْبَة تحبط ذمّ تَركهَا إِذا حضر وَقتهَا فَكَذَلِك النَّدَم على الْكفْر يحبط الذَّم الْمُسْتَحق على تَفْوِيت الْمصلحَة

باستدامة الْكفْر إِلَى بعض الْحول كَمَا يَقُوله فِي التَّقَدُّم على السَّبَب قبل حُدُوث الْمُسَبّب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن العَبْد لَا يخرج من الْخطاب بالعبادات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إعلم أَن الْخطاب الْمُشْتَمل على الْحر وَالْعَبْد يجب كَونهمَا مَعْنيين بِهِ إِلَّا لمنع عَقْلِي أَو سَمْعِي فَمن الْمَوَانِع أَن تكون الْعِبَادَة تترتب على ملك المَال لِأَن ذَلِك لَا يَصح فِي العَبْد على قَول بعض الْفُقَهَاء فَأَما مَا عدا ذَلِك فَلَيْسَ مَانع يمْنَع من كَون العَبْد معنيا بِالْخِطَابِ إِن قيل هلا كَانَ الْمَانِع من كَون العَبْد معنيا بِالْخِطَابِ هُوَ مَا ثَبت من وجوب خدمته لسَيِّده فِي الْأَوْقَات إِذا استخدمه فِيهَا وَذَلِكَ يمنعهُ من الْعِبَادَات فِي هَذِه الْأَوْقَات قيل إِنَّه يلْزمه خدمَة سَيّده إِذا فرغ من الْعِبَادَات إِن قيل لم كَانَ الدَّلِيل الدَّال على وجوب خدمَة سَيّده مَخْصُوصًا بِمَا دلّ على وجوب خدمَة سَيّده قيل لِأَن مَا دلّ على وجوب خدمَة سَيّده فِي حكم الْعَام وَمَا دلّ على وجوب الْعِبَادَات فِي حكم الْخَاص لِأَن كل عبَادَة يَتَنَاوَلهَا لفظ مَخْصُوص كآية الصَّلَاة وَآيَة الصّيام وَغير ذَلِك وَالْخَاص من حَقه أَن يعْتَرض بِهِ على الْعَام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بالعادات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْعَادة الَّتِي هِيَ بِخِلَاف الْعُمُوم ضَرْبَان أَحدهمَا عَادَة فِي الْفِعْل وَالْآخر عَادَة فِي اسْتِعْمَال الْعُمُوم أما الأول فبأن يعْتَاد النَّاس شرب بعض الدِّمَاء ثمَّ يحرم الله سُبْحَانَهُ الدِّمَاء بِكَلَام يعمها فَلَا يجوز تَخْصِيص هَذَا الْعُمُوم بل يجب تَحْرِيم مَا جرت بِهِ الْعَادة لِأَن الْعُمُوم دلَالَة فَلَا يجوز تَخْصِيصه إِلَّا لدلَالَة فَلَو خصصناه عِنْد هَذِه الْعَادة لم يخل إِمَّا أَن يخص بِالْعَادَةِ أَو لِأَن

الأَصْل إِبَاحَة شرب الدِّمَاء وَالْعَادَة لَيست بِحجَّة لِأَن النَّاس يعتادون الْحسن كَمَا يعتادون الْقَبِيح وَالْعقل فِي الأَصْل وَإِن اقْتضى إِبَاحَة شرب الدِّمَاء فانه يقتضيها مَا لم ينقلنا عَنهُ شرع والعموم دَلِيل شَرْعِي فَيجب أَن ينْتَقل بِهِ وَأما الْعَادة فِي اسْتِعْمَال الْعُمُوم فَيجوز أَن يكون الْعُمُوم مُسْتَغْرقا فِي اللُّغَة ويتعارف النَّاس اسْتِعْمَاله فِي بعض تِلْكَ الْأَشْيَاء فَقَط نَحْو اسْم الدَّابَّة فانه فِي اللُّغَة لكل مَا يدب وَقد تعورف اسْتِعْمَاله فِي الْخَيل فَقَط فَمَتَى أمرنَا الله سُبْحَانَهُ فِي الدَّابَّة بِشَيْء حملناه على الْخَيل دون مَا يدب من نَحْو الْإِبِل وَالْبَقر لما بَيناهُ من أَن الِاسْم بِالْعرْفِ أَحَق وَلَيْسَ ذَلِك بتخصيص على الْحَقِيقَة لِأَن اسْم الدَّابَّة لَا يصير مُسْتَعْملا فِي الْعرف إِلَّا فِي الْخَيل فَيصير كَأَنَّهُ مَا اسْتعْمل إِلَّا فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن قصد الْمُتَكَلّم بخطابه إِلَى الذَّم والمدح لَا يمْنَع من كَونه عَاما - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن بعض الشَّافِعِيَّة يمْنَع من عُمُوم قَول الله سُبْحَانَهُ {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة} وأحالوا التَّعَلُّق بِهِ فِي ثُبُوت الزَّكَاة فِي الْحلِيّ قَالُوا لِأَن الْمَقْصد بذلك إِلْحَاق الذَّم بِمن يكنز الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَيْسَ الْقَصْد بِهِ الْعُمُوم وَالْجَوَاب أَن الذَّم إِنَّمَا كَانَ مَقْصُودا بِالْآيَةِ لِأَنَّهُ مَذْكُور فِيهَا وَهَذِه الْعلَّة قَائِمَة فِي الْعُمُوم لِأَن اللَّفْظ عَام فَوَجَبَ كَونه مَقْصُودا وَلَيْسَ يمْنَع الْقَصْد إِلَى ذمّ من كنز الذَّهَب وَالْفِضَّة من الْقَصْد إِلَى عُمُوم ذمّ كل من كنزهما - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْخطاب الْوَارِد على سَبَب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَنْبَغِي أَن نذْكر مَا السَّبَب الَّذِي يرد عَلَيْهِ الْخطاب وَنَذْكُر قسْمَة الْخطاب

الْوَارِد على سَبَب وَنُقِيم الدّلَالَة على كل قسم من ذَلِك فسبب الْخطاب هُوَ مَا يَدْعُو إِلَى الْخطاب وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا سُؤال سَائل وَهُوَ مرادنا فِي هَذَا الْموضع وَالْآخر دنو وَقت الْعِبَادَة فَأَما قسْمَة الْخطاب الْوَارِد على سُؤال فَهِيَ أَن الْخطاب الَّذِي هَذَا سَبيله ضَرْبَان أَحدهمَا إِحَالَة على بَيَان مَا تضمنه السُّؤَال صَرِيح أَو غير صَرِيح نَحْو مَا رُوِيَ أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْكَلَالَة فَقَالَ يَكْفِيك آيَة الصَّيف وَالْآخر هُوَ نَفسه بَيَان لما تضمنه السُّؤَال من غير إِحَالَة إِلَى بَيَان وَذَلِكَ ضَرْبَان أَحدهمَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ وَالْآخر مُسْتَقل بِنَفسِهِ أما الَّذِي لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فَهُوَ الَّذِي لَا يفهم بِهِ شَيْء إِذا انْفَرد على كل حَال نَحْو مَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أينقص الرطب إِذا يبس قَالُوا نعم قَالَ فَلَا إِذا وَنَحْو أَن يَقُول الْإِنْسَان لغيره تغد عِنْدِي فَيَقُول لَا وَالله وَأما الْخطاب المستقل بِنَفسِهِ فضربان أَحدهمَا مسَاوٍ للسؤال وَالْآخر غير مسَاوٍ لَهُ أما الْمسَاوِي لَهُ فَلَا سبهة فِي كَونه مَقْصُورا عَلَيْهِ نَحْو أَن يسْأَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن المجامع فِي شهر رَمَضَان فَيَقُول على المجامع فِي شهر رَمَضَان الْكَفَّارَة فَلَا يجوز خُرُوج شَيْء من السُّؤَال عَن الْجَواب إِلَّا أَن تدل دلَالَة مُقَارنَة أَو مُتَقَدّمَة على خُرُوج بعضه من الْجَواب وَأما الْجَواب الَّذِي لَا يُسَاوِي السُّؤَال فضربان أَحدهمَا أَعم من السُّؤَال وَالْآخر أخص مِنْهُ أما الْأَخَص فَيجوز من الْحَكِيم فِي حَال دون حَال أما الْحَالة الَّتِي يجوز فِيهَا فبأن يكون السَّائِل من أهل الِاجْتِهَاد وَقد بَقِي إِلَى زمَان الْعِبَادَة وَقت يَتَّسِع للِاجْتِهَاد فَيُجِيبهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بعض مَا سَأَلَهُ وينبهه بذلك على جَوَاب

الْبَعْض الآخر أَو يدله بِدلَالَة أُخْرَى مُبتَدأَة على بَيَان الْبَعْض الآخر لِأَنَّهُ قد يكون من الْمصلحَة أَن يعلم بعض الْأَشْيَاء بِالصَّرِيحِ فِي الْحَال وَفِي بَعْضهَا أَن يُعلمهُ بالتنبيه أَو بِالْإِشَارَةِ إِلَى دَلِيل آخر وَأما الْحَالة الَّتِي لَا يجوز أَن يُجيب المسؤول فِيهَا عَن الْبَعْض فَهُوَ أَن لَا يكون السَّائِل من أهل الِاجْتِهَاد أَو يكون من أَهله غير أَن الْحَاجة قد حضرت حضورا لَا يتَمَكَّن من الإجتهاد لِأَنَّهُ لَو اقْتصر على الْجَواب عَن بعض السُّؤَال وَالْحَال هَذِه لَكَانَ قد أخل بِمَا يجب بَيَانه وَأما إِن كَانَ الْخطاب أَعم من السُّؤَال فَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا أَن يكون أَعم مِنْهُ فِي ذَلِك الحكم وَالْآخر أَن يكون أَعم مِنْهُ فِي حكم آخر مِثَال الأول أَن يسْأَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن رجل اشْترى عبدا فَيَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخراج بِالضَّمَانِ فَيكون ذَلِك عَاما فِي كل عبد هَذِه سَبيله وَمِثَال الثَّانِي سُؤال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن التوضىء بِمَاء الْبَحْر وَجَوَابه بقوله هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته وَالْجَوَاب المستقل بِنَفسِهِ لَا يجب قصره على سَببه إِلَّا لوجه يَقْتَضِي ذَلِك وَأحد الْوُجُوه الْعَادَات نَحْو أَن يَقُول الرجل لغيره تغد عِنْدِي فَيَقُول وَالله لَا تغديت وَذكر الشَّيْخ أَبُو عبد الله أَن الْعَادة تَقْتَضِي قصره على الْغَدَاء عِنْده وَإِن كَانَ الْكَلَام فِي نَفسه عَاما ومستقلا وَأما الدّلَالَة على قصر الْخطاب الَّذِي لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ على سَببه فَهِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو سُئِلَ أَيجوزُ بيع الرطب بِالتَّمْرِ فَقَالَ لَا لَكَانَ قَوْله لَا نفي لأمر مَذْكُور وَلم يجز فِي كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَلَام السَّائِل إِلَّا جَوَاز بيع الرطب بِالتَّمْرِ فَيجب كَونه نفيا لَهُ إِن قيل هلا كَانَ قَوْله فِي الْخَبَر الْمَشْهُور فَلَا إِذا مَعْنَاهُ فَلَا يجوز بيع مَا ينقص إِذا جف بِمَا قد جف قيل إِن أردْت أَن ذَلِك مَعْقُول من جِهَة الْقيَاس فَلَا نأبى ذَلِك وَإِن أردْت أَن قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا إِذا نفي لَهُ فَلَا يَصح لِأَن السَّائِل لم يذكر بيع مَا ينقص إِذا

جف بِبيع مَا قد جف وَلَا جرت هَذِه الْأَلْفَاظ بِعَينهَا فِي كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَنْصَرِف النَّفْي إِلَيْهِ وَأما الدّلَالَة على أَن الْجَواب المستقل بِنَفسِهِ وَهُوَ أَعم من السَّبَب يجْرِي على عُمُومه فَهُوَ أَن اللَّفْظ الْعَام الصَّادِر عَن حَكِيم يجب إجراؤه على عُمُومه إِلَّا لمَانع وَلَا مَانع إِلَّا مَا يحْتَج بِهِ الْمُخَالف وَكلهَا بَاطِلَة مِنْهَا أَن الْعَادة تَقْتَضِي قصر على سَببه كَمَا ذَكرْنَاهُ وَهَذَا بَاطِل لِأَن الْعَادة لَا تَقْتَضِي فِي قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخراج بِالضَّمَانِ أَن المُرَاد بِهِ ذَلِك العَبْد الَّذِي وَقع السُّؤَال عَنهُ فَعَلَيْهِم أَن يبينوا أَن الْمَفْهُوم من جَوَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا ذَكرْنَاهُ فاذا ادّعى ذَلِك فَهُوَ مَوضِع الْخلاف وَمِنْهَا أَن يُقَال ثُبُوت الحكم فِيمَا وَقع السُّؤَال عَنهُ يمْنَع من ثُبُوته فِيمَا عداهُ إِمَّا لِأَنَّهُ يُنَافِيهِ أَو من جِهَة دَلِيل الْخطاب وَهَذَانِ باطلان أما الأول فَلِأَنَّهُ لَا تنَافِي بَين ثُبُوت الحكم فِي شَيْء وَبَين ثُبُوته فِي شَيْء آخر وَأما الثَّانِي فمبني على دَلِيل الْخطاب وَلَيْسَ بِحجَّة عندنَا على أَن هَذَا لَيْسَ من دَلِيل الْخطاب فِي شَيْء لِأَن دَلِيل الْخطاب هُوَ أَن يعلق الحكم على صفة الشَّيْء فَيدل على نَفْيه عَمَّا عَداهَا وَلَيْسَ فِي لفظ هَذَا الْجَواب تَعْلِيق الحكم على السَّبَب فَقَط فَيدل على نَفْيه عَمَّا عداهُ وَلَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ فِي حيّز تَعْلِيق الحكم على الإسم على أَن من قصر الْجَواب على السَّبَب فَإِنَّمَا يقصره عَلَيْهِ لأجل السَّبَب لَا لدَلِيل الْخطاب لِأَن دَلِيل الْخطاب لَو كَانَ عَاما لَكَانَ جَوَابا وَابْتِدَاء وَقصد الْجَواب يُنَافِي قصد الِابْتِدَاء وَالْجَوَاب إِن أَرَادوا بقَوْلهمْ جَوَاب وَابْتِدَاء أَنه جَوَاب عَمَّا وَقع السُّؤَال عَنهُ وَبَيَان لحكم مَا لم يسْأَل عَنهُ فَصَحِيح وَالْقَصْد إِلَيْهِ لَا يتنافى وَمِنْهَا أَن يُقَال لَو تعدى الحكم إِلَى غير مَا سُئِلَ عَنهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أخر بَيَانه إِلَى تِلْكَ الْحَال وَالْجَوَاب أَنه لَا يمْتَنع أَن يكون من الْمصلحَة أَن يبين حكمه الْآن كَمَا كَانَ ذَلِك فِيمَا سُئِلَ عَنهُ وَفِيمَا تعدى الْجَواب إِلَيْهِ مِمَّا لَيْسَ من

جنس السُّؤَال نَحْو قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْبَحْر هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته على أَنه لَا يمْتَنع أَن يكون قد بَين حكم مَا زَاد على السُّؤَال قبل ذَلِك وَبَينه الْآن أَيْضا وَدلّ عَلَيْهِ وَمِنْهَا قَوْلهم من حق الْجَواب أَن يكون مطابقا للسؤال وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون بالمساواة قيل إِن أردتم بالمطابقة مُسَاوَاة الْجَواب للسؤال فَغير مُسلم أَنه من شَرط الْجَواب وَإِن أردتم بالمطابقة انتظام الْجَواب بِجَمِيعِ السُّؤَال فَذَلِك يحصل بالمساواة وَحدهَا وبالمساواة مَعَ الْمُجَاورَة وَيلْزم أَن لَا يجوز مجاورة الْخطاب لما وَقع السُّؤَال عَنهُ إِلَى حكم آخر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْعُمُوم إِذا تعقبه تَقْيِيد بِشَرْط أَو اسْتثِْنَاء أَو صفة أَو حكم وَكَانَ ذَلِك لَا يَتَأَتَّى إِلَّا فِي بعض مَا تنَاوله الْعُمُوم هَل يجب أَن يكون المُرَاد بذلك الْعُمُوم ذَلِك الْبَعْض فَقَط أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعلم أَن مَذْهَب قَاضِي الْقُضَاة وَكثير من النَّاس أَنه لَا يجب أَن يكون المُرَاد بِالْعُمُومِ تِلْكَ الْأَشْيَاء فَقَط وَالْأولَى عندنَا التَّوَقُّف فِي ذَلِك مِثَال الِاسْتِثْنَاء قَول الله سُبْحَانَهُ {لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء مَا لم تمَسُّوهُنَّ أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة ومتعوهن على الموسع قدره وعَلى المقتر قدره مَتَاعا بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُحْسِنِينَ وَإِن طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ وَقد فرضتم لَهُنَّ فَرِيضَة فَنصف مَا فرضتم إِلَّا أَن يعفون} فاستثنى الْعَفو وعلقه بكناية رَاجِعَة إِلَى النِّسَاء وَمَعْلُوم أَن الْعَفو لَا يَصح إِلَّا فِي المالكات لأمورهن دون الصَّغِيرَة والمجنونة وَلَا يُوجب ذَلِك عِنْده إِلَّا أَن لَا يكون المُرَاد بِالنسَاء فِي أول الْكَلَام الصَّغِيرَة والمجنونة

وَمِثَال التقيد بِالصّفةِ قَول الله سُبْحَانَهُ {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن لعدتهن} ثمَّ قَالَ {لَا تَدْرِي لَعَلَّ الله يحدث بعد ذَلِك أمرا} يَعْنِي الرَّغْبَة فِي مراجعتهن وَمَعْلُوم أَن ذَلِك يَتَأَتَّى فِي البائنة وَمِثَال التَّقْيِيد بِحكم آخر قَول الله عز وَجل {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} ثمَّ قَالَ {وبعولتهن أَحَق بردهن} وَهَذَا أَيْضا لَا يَتَأَتَّى فِي الْبَائِن وَاحْتج قَاضِي الْقُضَاة لمذهبه بِأَن اللَّفْظ الْعَام يجب إجراؤه على عُمُومه إِلَّا أَن يضْطَر ناشيء إِلَى تَخْصِيصه وَكَون آخر الْكَلَام مَخْصُوصًا لَا يضْطَر إِلَى تَخْصِيص أَوله وَالْجَوَاب أَن هَذَا التَّخْصِيص يَقْتَضِي تَخْصِيص أول الْكَلَام لِأَن الْكِنَايَة رجعت إِلَى جَمِيع مَا تقدم لِأَن قَول الله تَعَالَى {إِلَّا أَن يعفون} مَعْنَاهُ إِلَّا أَن يعْفُو النِّسَاء اللواتي طلقتموهن وَلَو أَن الله سُبْحَانَهُ صرح بذلك لدل ذَلِك على أَن النِّسَاء الْمَذْكُورَات فِي أول الْكَلَام هن اللواتي يَصح مِنْهُنَّ الْعَفو وَالَّذِي يبين أَن الظَّاهِر يُفِيد رُجُوع ذَلِك إِلَى جَمِيع النِّسَاء هُوَ أَن الْعَفو مُعَلّق بكناية وَالْكِنَايَة يجب رُجُوعهَا إِلَى الْمَذْكُور الْمُتَقَدّم وَالْمَذْكُور الْمُتَقَدّم هن المطلقات لَا بَعضهنَّ فَقَط يبين ذَلِك أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ من دخل الدَّار من عَبِيدِي ضَربته إِلَّا أَن يتوبوا انْصَرف ذَلِك إِلَى جَمِيع العبيد وَجرى مجْرى أَن يَقُول إِلَّا أَن يَتُوب عَبِيدِي الداخلون الدَّار وَأما الدّلَالَة على التَّوَقُّف فَهُوَ أَن ظَاهر الْعُمُوم الْمُتَقَدّم يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاق وَظَاهر الْكِنَايَة يَقْتَضِي الرُّجُوع إِلَى كل مَا تقدم وَلَيْسَ التَّمَسُّك بِظَاهِر الْعُمُوم والعدول عَن ظَاهر الْكِنَايَة بِأولى من التَّمَسُّك بِظَاهِر الْكِنَايَة والعدول عَن ظَاهر الْعُمُوم وَإِذا لم يكن أَحدهمَا أولى من الآخر وَجب التَّوَقُّف فان قيل التَّمَسُّك

بِالْعُمُومِ أولى لِأَنَّهُ اسْم ظَاهر قيل لَيْسَ هَذَا القَوْل بِأولى مِمَّن قَالَ بل التَّمَسُّك بِالْكِنَايَةِ أولى لِأَنَّهَا كِنَايَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْمَعْطُوف هَل يجب أَن يضمر فِيهِ جَمِيع مَا يُمكن إضماره فِيمَا فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ أم لَا وَهل إِذا وَجب ذَلِك وَكَانَ الْمُضمر فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ مَخْصُوصًا وَجب أَن يكون الْمَعْطُوف عَلَيْهِ مَخْصُوصًا أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ بذلك كُله وَلم يقل بِهِ الشافعيون ومثاله اسْتِدْلَال الشَّافِعِيَّة بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر على أَن الْمُسلم لَا يقتل بالذمي فَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عطف على ذَلِك قَوْله وَلَا ذُو عهد فِي عَهده وَحكم الْمَعْطُوف حكم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَن يكون مَعْنَاهُ وَلَا يقتل ذُو عهد فِي عَهده بِكَافِر وَمَعْلُوم أَن ذَا الْعَهْد يقتل بالكافر الذِّمِّيّ وَلَا يقتل بالكافر الْحَرْبِيّ فَكَانَ قَوْله لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر مَعْنَاهُ بِكَافِر حَرْبِيّ لِأَن الْمُضمر فِي الْمَعْطُوف هُوَ الْمظهر فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فأضمروا فِي الْمَعْطُوف مَا هُوَ مظهر فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ من الْقَتْل وَالْكَافِر وَلما رَأَوْا أَن ذَلِك إِن أضمر فِي الْمَعْطُوف كَانَ مَخْصُوصًا فِي الْحَرْبِيّ وأوجبوا تَخْصِيص الْمَعْطُوف عَلَيْهِ أَيْضا بالحربي وَقد أجِيبُوا عَن ذَلِك بِأَن الْمَعْطُوف قيد بِصفة لم يجب أَن يضمر فِيهِ من الْمَعْطُوف عَلَيْهِ إِلَّا مَا يصير بِهِ مُسْتقِلّا أَلا ترى أَن الْإِنْسَان لَو قَالَ لَا تقتلُوا الْيَهُود بالحديد وَلَا النَّصَارَى فِي الْأَشْهر الْحرم لم يجب أَن يضمر فِيهِ إِلَّا الْقَتْل حَتَّى يكون مَعْنَاهُ وَلَا تقتلُوا النَّصَارَى فِي الْأَشْهر الْحرم وَلَا يكون مَعْنَاهُ وَلَا تقتلُوا النَّصَارَى بالحديد فِي الْأَشْهر الْحرم وَإِنَّمَا لم يجب ذَلِك لِأَنَّهُ لما قيد الْمَعْطُوف بِزِيَادَة لَيست فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ علمنَا أَنه أَرَادَ أَن يُخَالف بَينهمَا فِي كَيْفيَّة الْقَتْل وَأَن يُشْرك بَينهمَا فِي الْقَتْل فَقَط لَا فِي الزِّيَادَة الَّتِي فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ

فان قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ قَوْله فِي عَهده كالتأكيد لقَوْله وَلَا ذُو عهد وَلَيْسَ يُفِيد حكما آخر يبين ذَلِك أَنه لَو لم يقل فِي عَهده لعلمنا بقوله وَلَا ذُو عهد أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يقتل فِي عَهده لِأَن زَوَال الْعَهْد يُخرجهُ من أَن يكون ذَا عهد وَإِذا أفادت هَذِه الزِّيَادَة فَائِدَة قَوْله وَلَا ذُو عهد فِي عَهده وَكَانَ هَذَا يُفِيد وَلَا ذُو عهد بِكَافِر فَكَذَلِك قَوْله وَلَا ذُو عهد فِي عَهده وَلَيْسَ لكم أَن تَقولُوا إِن قَوْله فِي عَهده يُفِيد فَائِدَة متجددة وَهِي أَن الْمَانِع من قَتله هُوَ الْعَهْد لِأَن ذَلِك لَو اسْتَقل من قَوْله فِي عَهده لاستفيد من قَوْله وَلَا ذُو عهد وَالْجَوَاب أَن هَذَا السُّؤَال يَقْتَضِي أَنه لَو قَالَ لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر وَلَا رجل فِي عَهده لم يضمر فِيهِ الْكَافِر حَتَّى يكون مَعْنَاهُ وَلَا يقتل رجل فِي عَهده بِكَافِر لِأَنَّهُ يكون قَوْله فِي عَهده قد اسْتُفِيدَ مِنْهُ فَائِدَة متجددة فَيجب أَن يكون قَوْله وَلَا عهد يمْنَع من أَن يضمر فِيهِ بِكَافِر لِأَنَّهُ ينزل منزلَة قَوْله وَلَا رجل بِكَافِر فِي إِفَادَة صفة قد منع من الْقَتْل مَعهَا فاذا كَانَ قَوْله فِي عَهده كالتأكيد لم يضمر فِي الْمَنْع من هَذَا الْإِضْمَار فاذا أمتنَا اضمار الْكَافِر فِيهِ امْتنع تَخْصِيص مَا تقدم وَقد أجَاب قَاضِي الْقُضَاة عَن اعْتِرَاض الْحَنَفِيَّة على هَذَا الْخَبَر بجوابين أَحدهمَا أَن الْمَعْطُوف إِنَّمَا يضمر فِيهِ من الْمَعْطُوف عَلَيْهِ مَا يصير بِهِ مُسْتقِلّا لِأَن فقد استقلاله هُوَ الَّذِي أوجب الْإِضْمَار وَمَعْلُوم أَن قَوْله وَلَا ذُو عهد فِي عَهده يصير مُسْتقِلّا باضمار الْقَتْل لِأَنَّهُ لَو قَالَ وَلَا يقتل ذُو عهد فِي عَهده لَكَانَ مُسْتقِلّا وَلقَائِل أَن يَقُول لَيْسَ يقف الْإِضْمَار على مَا يسْتَقلّ بِهِ الْكَلَام لِأَن الْإِنْسَان لَو قَالَ لَا تقتلُوا الْيَهُود بالحديد وَلَا النَّصَارَى لَكَانَ مَعْنَاهُ وَلَا تقتل النَّصَارَى بالحديد وَلَا يقْتَصر فِيهِ على إِضْمَار الْقَتْل فَقَط وَلَو قَالَ الرجل لغيره لَا يشترى اللَّحْم بِالدَّرَاهِمِ الصِّحَاح وَلَا الْخبز لأفاد وَلَا يشترى الْخبز بِالدَّرَاهِمِ الصِّحَاح وَإِنَّمَا وَجب ذَلِك لِأَن الْعَطف يُفِيد اشْتِرَاك الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فِي حكم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ وَحكم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ هَا

هُنَا هُوَ الشرى بِالدَّرَاهِمِ الصِّحَاح دون الْمَنْع من الشرى بِالدَّرَاهِمِ على الْإِطْلَاق لِأَن الْمَنْع من الشرى بِالدَّرَاهِمِ على الْإِطْلَاق لَيْسَ بمذكور وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَو قُلْنَا إِن قَوْله لَا يشترى اللَّحْم بِالدَّرَاهِمِ الصِّحَاح وَلَا الْخبز مَعْنَاهُ وَلَا يشترى الْخبز أصلا لم يكن قد اشْتَركَا بَينهمَا فِي الحكم الْمَذْكُور وَأما الْجَواب الثَّانِي فَهُوَ أَنا لَو أضمرنا الْكَافِر فِي قَوْله وَلَا ذُو عهد حَتَّى يكون مَعْنَاهُ وَلَا يقتل ذُو عهد بِكَافِر ثمَّ وَجب أَن يكون ذَلِك مَخْصُوصًا فِي الْحَرْبِيّ لم يجب أَن يكون قَوْله لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر مَخْصُوصًا فِي الْكَافِر الْحَرْبِيّ أَلا ترى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو قَالَ وَلَا يقتل مُؤمن بِكَافِر وَلَا ذُو عهد فِي عَهده بِكَافِر ثمَّ علمنَا بِدلَالَة أَن ذَلِك مَخْصُوص فِي الحربى لم يجب أَن يكون أول الْكَلَام كَذَلِك وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الْعَطف يُفِيد اشْتِرَاك الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فِي حكمه وَحكمه هُوَ الَّذِي عناه الْمُتَكَلّم وأراده دون مَا لم يعنه فَلَو جعلنَا الْكَافِر الْمَذْكُور فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ عَاما وجعلناه فِي الْمَعْطُوف خَاصّا لم نجْعَل الْعَطف مُفِيدا لاشْتِرَاكهمَا فِيمَا قَصده الْمُتَكَلّم لِأَنَّهُ قصد بِأول الْكَلَام الْعُمُوم وبآخره الْخُصُوص ولوجب أَن يكون الْكَلَام الثَّانِي مَعْطُوفًا على بعض الأول وَظَاهر الْعَطف يمْنَع من ذَلِك وَلَيْسَ لقَائِل أَن يَقُول الْعَطف يُفِيد اشْتِرَاك الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فِي لفظ الْكَافِر وَذَلِكَ لِأَن اللَّفْظ لَيْسَ بموجود فِي الْمَعْطُوف وَإِنَّمَا حكم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ يُوجد فِيهِ يبين ذَلِك أَن الْمُتَكَلّم يقْصد بالْعَطْف اشتراكهما فِي معنى قَصده دون اللَّفْظ فصح أَن ظَاهر الْعَطف يَقْتَضِي أَن لَا يفْتَرق الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فِي خُصُوص مَا اشْتَركَا فِيهِ وعمومه بل يجب إِذا كَانَ الْكَافِر الْمُضمر فِي الْمَعْطُوف مَخْصُوصًا أَن يكون الْكَافِر الْمَذْكُور فِي أول الْكَلَام مَخْصُوصًا وَلقَائِل أَن يَقُول إِن وَجب إِضْمَار الْكَافِر فِي الْمَعْطُوف فَالْأولى القَوْل بِالْوَقْفِ لِأَنَّهُ لَيْسَ التَّمَسُّك بِظَاهِر الْعَطف وَترك ظَاهر عُمُوم أول الْكَلَام وَحمله على الْخُصُوص بِأولى من التَّمَسُّك بِظَاهِر الْعُمُوم

وَترك ظَاهر الْعَطف فِي وجوب اشْتِرَاك الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فِي خُصُوص مَا اتفقَا فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن ذكربعض مَا شَمله الْعُمُوم لَا يخص بِهِ الْعُمُوم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْعُمُوم إِذا علق حكما على أَشْيَاء وَورد لفظ يُفِيد تَعْلِيق ذَلِك الحكم على بَعْضهَا فانه لَا يجب انْتِفَاء الحكم عَمَّا عدا ذَلِك الْبَعْض وَحكى أَن أَبَا ثَوْر أوجب ذَلِك لِأَنَّهُ قَالَ إِن قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شَاة مَيْمُونَة دباغها طهورها يخص قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر وَالَّذِي يبطل ذَلِك أَن التَّخْصِيص مَوْقُوف على التَّنَافِي فَلَو خص قَوْله دباغها طهورها قَوْله أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر لَكَانَ إِنَّمَا يَخُصُّهُ من حَيْثُ كَانَ تَعْلِيق الطَّهَارَة على تِلْكَ الشَّاة يدل على نَفْيه عَمَّا سواهَا من جِهَة دَلِيل الْخطاب وَهَذَا بَاطِل لأَنا قد بَينا أَن تَعْلِيق الحكم بِالِاسْمِ وبالصفة لَا يدل على انتفائه عَمَّا عداهما وَلَو دلّ على ذَلِك لَكَانَ صَرِيح الْعُمُوم أولى مِنْهُ لِأَن الصَّرِيح أولى من دَلِيل الصَّرِيح وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دباغها طهورها من حيّز دَلِيل الِاسْم وَتَعْلِيق الحكم على الِاسْم أَضْعَف فِي الدّلَالَة على نَفْيه عَمَّا عداهُ من تَعْلِيقه بِالصّفةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْمُطلق والمقيد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْكَلَامَيْنِ إِذا قيد الثَّانِي مِنْهُمَا بِصفة فاما أَن يكون أَحدهمَا مُتَعَلقا بِالْآخرِ أَو لَا يكون مُتَعَلقا بِهِ فان كَانَ مُتَعَلقا بِهِ كَانَ الْكَلَام الأول مُقَيّدا بِتِلْكَ الصّفة على حسب مَا ذَكرْنَاهُ فِي رُجُوع الِاسْتِثْنَاء إِلَى جَمِيع الْكَلَام وَإِن لم يكن أحد الْكَلَامَيْنِ مُتَعَلقا بِالْآخرِ سَوَاء كَانَ مِنْهُ قَرِيبا أَو بَعيدا فانه لَا يَخْلُو حكماهما إِمَّا أَن يَكُونَا مُخْتَلفين أَو غير مُخْتَلفين فان كَانَا مُخْتَلفين فمثاله أَن نؤمر بالصلوات مُطلقًا ونؤمر بالصيام مُتَتَابِعًا فَلَا شُبْهَة فِي أَنه لَا يجب لذَلِك

تَقْيِيد الصَّلَوَات بالتتابع وَإِن كَانَ الحكمان غير مُخْتَلفين نَحْو أَن يكون الحكم عتقا أَو صياما فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون سبباهما مُخْتَلفين أَو غير مُخْتَلفين فان كَانَا غير مُخْتَلفين فمثاله الْعتْق فِي كَفَّارَة الْيَمين وَلَا يَخْلُو التَّعَبُّد بهما إِمَّا أَن يَكُونَا أَمريْن أَو نهيين فان كَانَا أَمريْن فمثاله أَن يُقَال إِذا حنثتم فاعتقوا رَقَبَة وَيُقَال فِي مَوضِع آخر إِذا حنثتم فاعتقوا رَقَبَة مُؤمنَة فَمَتَى تركنَا وَظَاهر الْأَمريْنِ وَجب على الحانث عتق رقبتين إِن كَانَ الْأَمر المتكرر يُفِيد تكْرَار الْمَأْمُور بِهِ وَإِن علمنَا ان الْعتْق فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِد غير متكرر وَجب تَقْيِيده بِالْإِيمَان أَن الْعتْق وَاحِد وَالْأَمر الْمُقَيد بِالْإِيمَان قد اقْتضى اشْتِرَاطه إِن قيل لم قيدتم الْمُطلق لأجل الْمُقَيد وَلم تحملوا الْأَمر بِعِتْق المؤمنة على النّدب لأجل الْمُطلق قيل لِأَن الْأَمر الْمُقَيد تَصْرِيح الْإِيمَان وَهُوَ أَشد اختصاصا بِهِ فَكَانَ الِاعْتِرَاض بِهِ على الْمُطلق أولى لِأَن الْخَاص أولى من الْعَام على أَن هَذَا السُّؤَال لَا يُمكن إِذا ورد التَّعَبُّد بالمقيد بِلَفْظ الْإِيجَاب وَإِن كَانَا نهيين مثل أَن يَقُول إِذا حنثتم فَلَا تكفرُوا بِالْعِتْقِ وَيُقَال فِي مَوضِع آخر إِذا حنثتم للا تكفرُوا بِعِتْق كافره فَمَتَى تركنَا وهذين النهيين وَجب إِجْرَاء الْمُطلق على إِطْلَاقه فِي الْمَنْع من الْعتْق أصلا على التَّأْبِيد لِأَن النَّهْي يُفِيد التَّأْبِيد فَلَا يَخُصُّهُ النَّهْي الْمُقَيد بِالْإِيمَان لِأَنَّهُ بعض مَا دخل تَحْتَهُ والعموم لَا يصير مَخْصُوصًا بِذكر بعض مَا دخل تَحْتَهُ وَإِن علمنَا أَن الْمنْهِي عَنهُ بِأحد النهيين هُوَ الْمنْهِي عَنهُ بِالْآخرِ لَا افْتِرَاق بَينهمَا فِي خُصُوص وَلَا عُمُوم وَجب أَن يُقيد بالْكفْر فَيصير الْمُكَلف مَنْهِيّا فِي الْمَوْضِعَيْنِ من الْكَفَّارَة بالكافرة وَإِن كَانَ سَببا التَّكْفِير مُخْتَلفين فمثاله إِطْلَاق العَبْد فِي كَفَّارَة الظِّهَار وتقييده بِالْإِيمَان فِي كَفَّارَة الْقَتْل وَقد ذهب قوم من أَصْحَاب أبي حنيفَة إِلَى أَنه يُقيد الْمُطلق مِنْهُمَا بِالْإِيمَان أصلا وَقَالَ جلّ أَصْحَاب الشَّافِعِي بل يُقيد الْمُطلق مِنْهُمَا وَاخْتلف الْأَولونَ فِي سَبَب الْمَنْع من تَقْيِيد الْمُطلق بالمقيد من جِهَة الْقيَاس فَقَالَ قوم سَبَب ذَلِك أَن تَقْيِيده بِالْإِيمَان زِيَادَة على النَّص وَالزِّيَادَة على النَّص نسخ والنسخ لَا يجوز بِالْقِيَاسِ وَمِنْهُم من قَالَ تَقْيِيده بِالْإِيمَان زِيَادَة على حكم

قد قصد اسْتِيفَاؤهُ وَمِنْهُم من قَالَ تَقْيِيده بِالْإِيمَان هُوَ تَخْصِيص لحكم قد قصد اسْتِيفَاؤهُ وَاخْتلف من قَالَ إِن الْمُطلق يُقيد بالمقيد فَقَالَ قوم يُقيد الْمُطلق لأجل تَقْيِيد الْمُقَيد وَقَالَ قوم بل إِنَّمَا يُقيد بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ وَاخْتلفُوا فِي الحكم الْمُطلق فِي مَوضِع إِذا قيد مثله فِي موضِعين بتقييدين متنافيين نَحْو تَقْيِيد صَوْم الظِّهَار بالتتابع وَتَقْيِيد صَوْم التَّمَتُّع بِالتَّفْرِيقِ وَإِطْلَاق قَضَاء صَوْم رَمَضَان فَمن لَا يرى تَقْيِيد الْمُطلق بالمقيد أصلا فَإِنَّهُ لَا يُقيد هَذَا الْمُطلق بِأحد التقييدين فَلَا يَجْعَل من شَرط قَضَاء شهر رَمَضَان التَّتَابُع وَلَا التَّفْرِيق وَمن يرى تَقْيِيد الْمُطلق بالمقيد لأجل التَّقْيِيد لَا يرى ذَلِك أَيْضا هَا هُنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَن يُقيد بِأحد التقييدين أولى من أَن يُقيد بِالْآخرِ وَأما من يرى تَقْيِيده بِالْقِيَاسِ فانه يُقيد الْمُطلق بِأحد التقييدين إِذا كَانَ الْقيَاس عَلَيْهِ أولى من الْقيَاس على الآخر وَالدَّلِيل على أَن الْمُطلق لَا يُقيد لأجل تَقْيِيد الْمُقَيد أَن ظَاهر الْمُطلق يَقْتَضِي أَن يجْرِي الحكم على إِطْلَاقه فَلَو خص بالمقيد لوَجَبَ أَن يكون بَينهمَا وصلَة وَإِلَّا لم يكن بِأَن يُقيد بِهِ أولى من أَن لَا يُقيد بِهِ والوصلة إِمَّا أَن ترجع إِلَى اللَّفْظ أَو إِلَى الحكم أما اللَّفْظ فبأن يكون بَين الْكَلَامَيْنِ تعلق بِحرف عطف إو إِضْمَار كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي صدر الْبَاب وَهَذَا غير حَاصِل فِي مَسْأَلَتنَا وَأما الرَّاجِع إِلَى الحكم فضربان أَحدهمَا أَن يتَّفق الحكمان فِي عِلّة التَّقْيِيد بِالصّفةِ وَهَذَا تَقْيِيد فِي كَفَّارَة وَغير مُقَيّد بهما فِي كَفَّارَة أُخْرَى وَلَيْسَ هَذَا بممتنع كَمَا يجوز أَن تكون الْمصلحَة فيهمَا التَّقْيِيد يجوز أَن تكون الْمصلحَة فيهمَا أَن يختلفا فِي التَّقْيِيد فاذا ثَبت ذَلِك فَلَو جَازَ مَعَ فقد الوصلة أَن يُقيد أَحدهمَا بِمَا يُقيد بِهِ الآخر جَازَ أَن نثبت لأَحَدهمَا بَدَلا لِأَن للْآخر بَدَلا أَو نخص أحد

العمومين لِأَن الآخر مَخْصُوص وَقَوْلهمْ إِن الشَّهَادَة لما قيدت بِالْعَدَالَةِ فِي مَوضِع قيد بهَا الشَّهَادَة الْمُطلقَة فِي مَوضِع آخر فَالْجَوَاب عَنهُ أَنا لم نستفد تَقْيِيد الْمُطلقَة لِأَن الشَّهَادَة الْأُخْرَى قيدت فِي مَوضِع آخر بل اسْتُفِيدَ ذَلِك بِشَيْء آخر وَقَوله إِن الْقُرْآن كُله كالكلمة الْوَاحِدَة فَيجب أَن يُقيد بعضه لما قيد بِهِ الْبَعْض الآخر وَلِهَذَا كَانَ قَول الله عز وَجل {والذاكرين الله كثيرا وَالذَّاكِرَات} مَعْنَاهُ وَالذَّاكِرَات الله وَالْجَوَاب أَنهم إِن أَرَادوا بقَوْلهمْ إِن الْقُرْآن كالكمة الْوَاحِدَة فِي وجوب تَقْيِيده بِمَا قيد بِهِ الْبَعْض الآخر فَلَا نسلمه وَلِهَذَا لَا يُقيد بعضه بِمَا يُقيد بعض لَهُ فِي الحكم فَإِن أَرَادوا أَنه كالكلمة الْوَاحِدَة فِي أَنه لَا تنَاقض فِيهِ فَصَحِيح وَيُقَال لَهُم وَإِذا لم يكن فِيهِ تنَاقض وَكَانَ كُله صَحِيحا قيد بعضه بِمَا قيد بِهِ الْبَعْض الآخر وَأما قَوْله عز وَجل {والذاكرين الله كثيرا وَالذَّاكِرَات} فانما كَانَ المُرَاد وَالذَّاكِرَات الله لِأَن الْكَلَام خرج مخرج الْمَدْح لَهُنَّ والحث لَهُنَّ على ذكر الله بِمَا ذكره من قَوْله أعد الله لَهُم مغْفرَة وَأَجرا عَظِيما فَلم يجز وَالْحَال هَذِه انْصِرَافه إِلَى جَمِيع أَنْوَاع الذّكر وَانْصَرف إِلَى ذكر الله لِأَنَّهُ مَذْكُور فِيمَا تقدم وَالْكَلَام الثَّانِي مَعْطُوف عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا حَال مسئلتنا فَأَما من أَبى تَقْيِيد الْمُطلق بِالْقِيَاسِ فَأَما أَن أَبى ذَلِك لِأَن الْمُطلق لَا يَتَأَتَّى فِيهِ التَّخْصِيص كَمَا لَا يَتَأَتَّى فِي الْعين الْوَاحِدَة وَهَذَا بَاطِل لِأَن الْمُطلق يشْتَمل على جَمِيع صِفَات الشَّيْء وأحواله أَو لِأَن الْقيَاس غير دَلِيل أَو هُوَ دَلِيل لكنه لَا يخص بِهِ الْعَام وإفساد ذَلِك فِي الْقيَاس وَإِمَّا لِأَن تَقْيِيد الْمُطلق زِيَادَة فِي النَّص وَهُوَ نسخ وسنبين فِي النَّاسِخ والمنسوخ القَوْل فِي ذَلِك وَإِمَّا لِأَن الله عز وَجل استوفى حكم الْمُطلق والخصم مُخَالف فِي ذَلِك وَيَقُول قيام الدّلَالَة على صِحَة عِلّة الْقيَاس يدلني على أَن الله لم يسْتَوْف حكم الْمُطلق بِهَذَا الْكَلَام كَمَا نقُوله فِي الْعُمُوم

الكلام في المجمل والمبين

الْكَلَام فِي الْمُجْمل والمبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي ذكر فُصُول الْمُجْمل والمبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْكَلَام فِي الْمُجْمل والمبين يَقع فِي موضِعين أَحدهمَا الْعبارَة وَالْآخر الْمَعْنى أما الْعبارَة فبأن نذْكر مَا معنى قَوْلنَا مُجمل وَبَيَان ومبين ومفسر وَظَاهر وَنَصّ وَأما الْمَعْنى فَمِنْهُ مَا يرجع إِلَى الْمُجْمل وَمِنْه مَا يرجع إِلَى الْبَيَان أما الرَّاجِع إِلَى الْمُجْمل فَيدْخل فِيهِ ذكر مَا يحْتَاج إِلَى بَيَان وَمَا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَيدخل فِي ذَلِك الْوُجُود الَّتِي يحْتَاج فِيهَا إِلَى بَيَان وَيدخل فِيهِ مَا يحْتَاج من الْأَفْعَال إِلَى بَيَان وَيدخل فِيهِ مَا أخرج من الْمُجْمل وَهُوَ دَاخل فِيهِ كالاسم الْمُشْتَرك وَمَا أَدخل فِيهِ وَهُوَ خَارج عَنهُ وَأما الْكَلَام فِي الْبَيَان فضربان أَحدهمَا مُخْتَصّ بِالْبَيَانِ وَالْآخر يتَعَلَّق بالمبين لَهُ أما الأول فَيدْخل فِيهِ ابواب مِنْهَا الْأُمُور الَّتِي يَقع بهَا الْبَيَان وَيدخل فِي ذَلِك الْبَيَان بالأفعال وَمِنْهَا تَرْجِيح القَوْل على الْفِعْل فِي وُقُوع الْبَيَان وَمِنْهَا هَل يجب أَن يكون الْبَيَان كالمجمل فِي الْقُوَّة أم لَا وَأما مَا يتَعَلَّق بالمبين لَهُ فوجوه مِنْهَا تَأْخِير التَّبْلِيغ وَمِنْهَا تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة وَمِنْهَا تَأْخِيره عَن وَقت الْخطاب وَمِنْهَا من الَّذِي يجب أَن يبين لَهُ الْخطاب وَمِنْهَا هَل يجوز أَن يسمع الْمُكَلف لفهم الْخطاب الْعَام قبل أَن يسمع بَيَانه أم لَا وَأما دَلِيل الْخطاب فَلَيْسَ بداخل فِي أَبْوَاب الْمُجْمل والمبين لِأَن النَّاس لم يَخْتَلِفُوا فِيهِ هَل هُوَ دَلِيل مُجمل أَو مُبين وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِيهِ هَل هُوَ دَلِيل أم لَا

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي ذكر أَلْفَاظ تسْتَعْمل فِي الْكَلَام فِي الْمُجْمل وَالْبَيَان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمن ذَلِك الْمُجْمل وَالْبَيَان والمبين والمفسر والمفصل وَالنَّص وَالظَّاهِر أما قَوْلنَا مُجمل فقد يُرَاد بِهِ مَا أَفَادَ جملَة من الْأَشْيَاء وَمن ذَلِك قَوْلهم أجملت الْحساب وعَلى هَذَا يُوصف الْعُمُوم بِأَنَّهُ مُجمل بِمَعْنى أَن المسميات قد أجملت تَحْتَهُ وَقد يُرَاد بِهِ مَا لَا يُمكن معرفَة المُرَاد بِهِ وَيُمكن أَن يُقَال الْمُجْمل هُوَ مَا أَفَادَ شَيْئا من جملَة أَشْيَاء هُوَ مُتَعَيّن فِي نَفسه وَاللَّفْظ لَا يُعينهُ وَلَا يلْزم عَلَيْهِ قَوْلك اضْرِب رجلا لِأَن هَذَا اللَّفْظ أَفَادَ ضرب رجل وَلَيْسَ هُوَ بمتعين فِي نَفسه بل أَي رجل ضَربته جَازَ وَلَيْسَ كَذَلِك اسْم الْقُرْء لِأَنَّهُ يُفِيد إِمَّا الطُّهْر وَحده أَو الْحيض وَحده وَاللَّفْظ لَا يُعينهُ وَقَول الله سُبْحَانَهُ {أقِيمُوا الصَّلَاة} يُفِيد وجوب فعل يتَعَيَّن فِي نَفسه غير شَائِع وَأما الْبَيَان فانه يكون عَاما وَيكون خَاصّا أما الْعَام فَهُوَ الدّلَالَة تَقول بَين لي فلَان كَذَا وَكَذَا بَيَانا حسنا وبيانا وَاضحا فتوصف دلَالَته وكشفه بِأَنَّهُ بَيَان وَيُقَال دللت فلَانا على الطَّرِيق وبينته لَهُ فَلَمَّا اطرد ذَلِك كَانَ حَقِيقَة وَأما الْخَاص فَهُوَ مَا يتعارفه الْفُقَهَاء وَهُوَ كَلَام أَو فعل دَال على المُرَاد بخطاب لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي الدّلَالَة على المُرَاد وَيدخل فِي ذَلِك بَيَان الْعُمُوم والمحكي عَن شيخينا أبي على وَأبي هَاشم رحمهمَا الله أَن الْبَيَان هُوَ الدّلَالَة وأرادا بذلك الْبَيَان الْعَام وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله إِن الْبَيَان هُوَ الْعلم الْحَادِث

لِأَن الْبَيَان هُوَ مَا بِهِ يتَبَيَّن الشَّيْء وَالَّذِي بِهِ يتَبَيَّن هُوَ الْعلم الْحَادِث كَمَا أَن مَا بِهِ يَتَحَرَّك الشَّيْء هُوَ الْحَرَكَة وَلِهَذَا لَا يُوصف الله سُبْحَانَهُ متبين لما كَانَ عَالما لذاته لَا بِعلم حَادث وَالصَّحِيح هُوَ الأول لِأَن الْبَيَان الْعَام هُوَ الْكَشْف والإيضاح أَلا ترى أَنه يُقَال بَين لي فلَان كَذَا وَكَذَا إِذا دلّ عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ أظهر فِي الْعرف من الْعلم لِأَنَّهُ لَا يُوصف الْعلم بِأَنَّهُ بَيَان وَإِنَّمَا يُوصف بِأَنَّهُ تبين وَقَالَ الشَّافِعِي الْبَيَان اسْم جَامع لمعان مجتمعة الْأُصُول متشعبة الْفُرُوع وَأَقل مَا فِيهِ أَنه بَيَان لمن نزل الْقُرْآن بِلِسَانِهِ وَهَذَا لَيْسَ بِحَدّ وَإِنَّمَا هُوَ وصف للْبَيَان بِأَنَّهُ يجمعه أَمر جَامع وَهُوَ أَنه يتبينه أهل اللُّغَة وَأَنه يتشعب إِلَى أَقسَام كَثِيرَة فَإِن حَده بِأَنَّهُ بَيَان لمن نزل الْقُرْآن بلغته كَانَ قد حد الْبَيَان بِأَنَّهُ بَيَان وَذَلِكَ حد الشَّيْء بِنَفسِهِ وَإِن كَانَ قد حد الْبَيَان الْعَام فانه يخرج مِنْهُ الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة وَإِن حد الْبَيَان الْخَاص الَّذِي يتعارفه الْفُقَهَاء فانه يدْخل فِيهِ الْكَلَام الْمُبْتَدَأ إِذا عرف بِهِ المُرَاد كالعموم وَالْخُصُوص وَغَيرهمَا وَهَذَا لَيْسَ هُوَ الْعَام وَالْخَاص وَقَالَ قوم الْبَيَان هُوَ الْكَلَام والخط وَالْإِشَارَة وَهَذَا لَيْسَ بِحَدّ وَإِنَّمَا هُوَ تعديد وَلَيْسَ هُوَ بمستوف لجَمِيع أعداده لِأَنَّهُ يخرج مِنْهُ الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة وَقَالَ الصَّيْرَفِي الْبَيَان هُوَ إِخْرَاج الشَّيْء من حيّز الْإِشْكَال إِلَى حيّز التجلي والوضوح وَهَذَا قريب إِذا كَانَ حد للْبَيَان الْعَام وَإِن كَانَ حدا لما تعارفه الْفُقَهَاء فَلَيْسَ بِصَحِيح لِأَنَّهُ يدْخل فِيهِ الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة والأدلة السمعية المبتداة على أَن إِخْرَاج الشَّيْء من حيّز الْإِشْكَال إِلَى حيّز التجلي هُوَ حد للتبيين لَا حد للْبَيَان فَأَما الْمُبين فقد يُرَاد بِهِ مَا احْتَاجَ إِلَى بَيَان وَقد ورد عَلَيْهِ بَيَانه وَقد يُرَاد بِهِ الْخطاب الْمُبْتَدَأ المستغني عَن بَيَان وَقَوْلنَا مُفَسّر قد يُرَاد بِهِ مَا احْتَاجَ إِلَى تَفْسِير وَقد ورد تَفْسِيره وَيُرَاد بِهِ الْخطاب الْمُبْتَدَأ المستغني عَن تَفْسِير لوضوحه فِي نَفسه وَأما النَّص فقد حَده الشَّافِعِي بِأَنَّهُ خطاب يعلم مَا أُرِيد بِهِ من الحكم

سَوَاء كَانَ مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ أَو علم المُرَاد بِهِ بِغَيْرِهِ وَكَانَ يُسَمِّي الْمُجْمل نصا وَبِهَذَا حَده الشَّيْخ أَبُو الْحسن وَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن النَّص هُوَ خطاب يُمكن أَن يعرف المُرَاد بِهِ وَاعْلَم أَن النَّص يجب أَن يشْتَمل على ثَلَاث شَرَائِط أَحدهَا أَن يكون كلَاما وَالْآخر أَن لَا يتَنَاوَل إِلَّا مَا هُوَ نَص فِيهِ وَإِن كَانَ نصا فِي عين وَاحِدَة وَجب أَن لَا يتَنَاوَل سواهَا وَإِن كَانَ نصا فِي أَشْيَاء كَثِيرَة وَجب أَن لَا يتَنَاوَل سواهَا وَالْآخر أَن تكون إفادته لما يفِيدهُ ظَاهرا غير مُجمل وَأما اشْتِرَاط كَون النَّص عبارَة فَلِأَن أَدِلَّة الْعُقُول وَالْأَفْعَال لَا تسمي نصوصا وَأما اشْتِرَاط ظُهُور دلَالَته فَلِأَن الْمَفْهُوم من قَوْلنَا إِن الْعبارَة نَص فِي هَذَا الحكم أَنَّهَا تفيده على جِهَة الظُّهُور وَلِأَن النَّص فِي اللُّغَة مَأْخُوذ من الظُّهُور وَمن ذَلِك قَوْلهم منصة الْعَرُوس لما ظَهرت وَارْتَفَعت وَأما اشْتِرَاط إِفَادَة مَا هُوَ نَص فِيهِ فَقَط فَلِأَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ لغيره اضْرِب عَبِيدِي لم يقل أحد إِنَّه قد نَص على ضرب زيد من عبيده لما أَفَادَهُ وَأفَاد غَيره وَيُقَال إِن كَلَامه نَص فِي ضرب جملَة عبيده لما لم يفد سواهُم فاذا ثَبت أَن هَذَا هُوَ الْمَعْقُول من النَّص وَجب بِأَن يحد بِأَنَّهُ كَلَام تظهر إفادته لمعناه لَا يتَنَاوَل أَكثر مِمَّا قيل إِنَّه نَص فِيهِ فَإِن قيل أَلَيْسَ يُقَال إِن الله قد نَص على وجوب الصَّلَاة وَإِن كَانَ قَوْله {أقِيمُوا الصَّلَاة} مُجملا قيل إِنَّه لَيْسَ بمجمل فِي إِفَادَة الْوُجُوب وَإِنَّمَا هُوَ مُجمل فِي إِفَادَة الصَّلَاة وَلَا يجوز أَن يُسمى مَعَ الْبَيَان نصا فِي إِفَادَة الصَّلَاة لِأَن قَوْلنَا نَص عبارَة عَن خطاب وَاحِد دون مَا يقْتَرن بِهِ وَلِأَن الْبَيَان قد يكون غير لفظ وَقَوْلنَا نَص عبارَة عَن الْأَقْوَال وَأما الظَّاهِر فَهُوَ مَا لَا يفْتَقر فِي إِفَادَة مَا هُوَ ظَاهر فِيهِ إِلَى غَيره وَهُوَ مفارق للنَّص من هَذِه الْجِهَة ويشاركه فِي وجوب كَونه كلَاما وَفِي اخْتِصَاصه بالكشف وَنفي الْعُمُوم وَقَالَ قوم إِن الظَّاهِر هُوَ مَا ظهر المُرَاد بِهِ وَظهر فِيهِ غير المُرَاد إِلَّا أَن المُرَاد أظهر وَالْأول أصح لِأَن الْكَلَام مَتى وضح المُرَاد بِهِ فقد ظهر سَوَاء كَانَ مُحْتملا لغيره أَن لم يكن مُحْتملا لغيره

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى بَيَان وَمَا لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى بَيَان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد ذكرنَا أَن الْبَيَان مِنْهُ عَام وَهُوَ الدّلَالَة الْمُطلقَة وَمِنْه خَاص وَهُوَ الدّلَالَة الشَّرْعِيَّة على المُرَاد بأدلة الشَّرْع فان كَانَ فِي الأول فَالَّذِي نحتاج فِي الْعلم بِهِ إِلَى الدّلَالَة وَهُوَ مَا صَحَّ الْعلم بِهِ وَلم نعلمهُ باضطرار لِأَن مَا لَا يعلم باضطرار لَا سَبِيل إِلَى الْعلم بِهِ إِلَّا بِالدَّلِيلِ وَمَا علمناه باضطرار فقد استغنينا عَن الْعلم بِهِ لِأَن الْإِنْسَان مستغن عَن تَحْصِيل مَا هُوَ حَاصِل لَهُ وَإِن كَانَ الْكَلَام فِي النَّوْع الثَّانِي من الْبَيَان فانا نقُول فِيهِ إِن الدّلَالَة الشَّرْعِيَّة فِيهِ ضَرْبَان مستنبطة وَغير مستنبطة أما المستنبطة كالقياس فَلَا إِجْمَال فِيهَا فَيُقَال إِنَّه يحْتَاج إِلَى بَيَان وَأما الدّلَالَة غير المستنبطة فَهِيَ أَقْوَال وأفعال وَالْأَفْعَال كلهَا لَا تنبيء عَن الْوُجُوه الَّتِي وَقعت عَلَيْهَا إِلَّا أَن مِنْهَا مَا يقْتَرن بِهِ دلَالَة تدل على الْوَجْه الَّذِي وَقعت عَلَيْهِ فَلَا تحْتَاج مَعَ ذَلِك إِلَى بَيَان آخر وَمِنْهَا مَا لم يقْتَرن بِهِ دَلِيل فَيحْتَاج إِلَى بَيَان أما الأول فنحو صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَذَان وَإِقَامَة فان ذَلِك قد تقرر فِي الشَّرْع أَنه أَمارَة لوُجُوب الصَّلَاة وَيجوز أَن يتَعَمَّد أفعالا كَثِيرَة فِي الصَّلَاة فيركع ركوعين قبل السَّجْدَة فنعلم أَن ذَلِك من أَفعَال الصَّلَاة لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يتَعَمَّد فِي الصَّلَاة أفعالا كَثِيرَة لَيست مِنْهَا فَأَما الثَّانِي فنحو أَن يقوم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة وَلَا يجلس قدر التَّشَهُّد فَإِنَّهُ يجوز أَن يكون قدسها فِي ذَلِك وَيجوز أَن يكون قد تعمد ذَلِك ليدل على جَوَاز ترك هَذِه الجلسة وَأما الْأَقْوَال فضربان أَحدهمَا يَكْفِي نَفسه وصريحه فِي معرفَة المُرَاد بِهِ فَلَا يحْتَاج إِلَى بَيَان لِأَنَّهُ لَو احْتَاجَ إِلَى بَيَان لنقض قَوْلنَا إِنَّه يَكْفِي نَفسه فِي معرفَة المُرَاد وَذَلِكَ نَحْو قَول الله سُبْحَانَهُ {وَكَانَ الله بِكُل شَيْء عليما}

وَالْآخر لَا يَكْفِي نَفسه وصريحه فِي معرفَة المُرَاد وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا لَا يخْتل بَيَانه على السَّامع وَالثَّانِي قد يخْتل بَيَانه على السَّامع فَالْأول ضَرْبَان أَحدهمَا أَن يكون بَيَانه بِالتَّعْلِيلِ وَالْآخر لَا بِالتَّعْلِيلِ أما التَّعْلِيل فضربان أَحدهمَا بطرِيق الأولى وَالْآخر لَا بطرِيق الأولى أما الأول من هذَيْن فَقَوْل الله عز وَجل {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} فِي دلَالَته على الْمَنْع من ضربهما لِأَن كل عَاقل يعلم أَن ذَلِك يخرج مخرج التَّعْظِيم وَالْإِكْرَام فَعلم أَن الْمَنْع من التأفيف إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ أَذَى وَالضَّرْب قد شَارك التأفيف فِي الْأَذَى وَزَاد عَلَيْهِ ومقرر فِي الْعقل أَن من منع من شَيْء لغَرَض فَإِنَّهُ يمْنَع مِمَّا سواهُ وَزَاد عَلَيْهِ فِي معنى ذَلِك الْغَرَض وَهَذِه الْأُمُور فِي النَّفس لَا تختل على عَاقل وَالْكَلَام يدل مَعهَا على الْمَنْع من الضَّرْب وَإِن كَانَ الْكَلَام مَا وضع لَهُ وَأما الثَّانِي وَهُوَ التَّعْلِيل لَا بطرِيق الأولى فَقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْهِرَّة إِنَّهَا لَيست بِنَجس إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات نعلم بذلك أَنه عِلّة فِي طَهَارَتهَا ونعلم أَن كل مَا هَذِه سَبيله فَظَاهر لِأَن الْعلَّة يتبعهَا حكمهَا وَأما الْبَيَان الَّذِي لَا يخْتل وَلَيْسَ هُوَ بتعليل فضربان أَحدهمَا أَن يكون الْخطاب أمرا بِشَيْء فَيعلم وجوب مَا لَا يتم إِلَّا بِهِ لما تقرر فِي الْعقل أَن وجوب الشَّيْء يتبعهُ وجوب مَا لَا يتم إِلَّا بِهِ وَإِلَّا كَانَ إِيجَابا لما لَا يُطَاق وَلِهَذَا يعلم كل عَاقل أَن أَمر السَّيِّد غُلَامه بشري اللَّحْم من السُّوق يدل على وجوب مَشْيه إِلَى السُّوق وَالْآخر أَن يظْهر فِي الْعقل كَون ظَاهر الْخطاب غير مُرَاد وَيعلم بِالْعَادَةِ أَنه مُسْتَعْمل فِي وَجه من وُجُوه الْمجَاز فَيعلم أَنه مُرَاد الْمُتَكَلّم نَحْو قَول الله سُبْحَانَهُ {واسأل الْقرْيَة} وَلَو قيل إِن ذَلِك حَقِيقَة عرفية لجَاز فَأَما الْخطاب الَّذِي يحْتَاج إِلَى بَيَان وَقد يخْتل بَيَانه على السَّامع فضربان أَحدهمَا يحْتَاج إِلَى بَيَان لوضع اللُّغَة وَالْآخر لَا لوضع اللُّغَة وَالْأول ضَرْبَان

أَحدهمَا أَن يكون الْكَلَام مُفِيدا لشَيْء مَا لَا تفِيد صفته نَحْو قَول الله سُبْحَانَهُ {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} فَإِن اسْم الْحق يُفِيد شَيْئا مَا لَهُ صفة وَلَا يُفِيد تِلْكَ الصّفة بِعَينهَا فاحتجنا إِلَى بَيَانهَا وَالْآخر أَن يكون الْكَلَام مَوْضُوعا لشَيْء على صفة ولشيء آخر على صفة أُخْرَى وَلَيْسَ بموضوع لَهما مَعًا بل يُفِيد كل وَاحِد مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ وَهُوَ الِاسْم الْمُشْتَرك كاسم الْقُرْء وَذَلِكَ أَنه مَوْضُوع للطهر ويفيد فِيهِ صفة وَهُوَ كَونه طهرا وَهُوَ مَوْضُوع للْحيض ويفيد فِيهِ أَنه حيض فقد أَفَادَ كل وَاحِدَة من الصفتين غير أَنه يفيدها على الْبَدَل فاحتجنا فِيهِ إِلَى بَيَان وَلَو كَانَ مَوْضُوعا لَهما مَعًا وَوَجَب إِذا انْفَرد أَن يحمل عَلَيْهِمَا يجْرِي مجْرى الْعُمُوم وَلما احتجنا فِيهِ إِلَى بَيَان فَأَما الَّذِي يحْتَاج إِلَى بَيَان لَا لوضع اللُّغَة فَهُوَ مَا كَانَ غير مُجمل إِلَّا أَنه قد اسْتعْمل لَا لما وضع لَهُ وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا أَن يكون قد اسْتعْمل فِي بعض مَا وضع لَهُ وَالْآخر أَن يكون قد اسْتعْمل فِي غير مَا وضع لَهُ أصلا أما الأول فكالعام الْمَخْصُوص وَالْمُطلق الْمَنْسُوخ وَالْعَام الْمَخْصُوص ضَرْبَان أَحدهمَا أَن يكون قد علمنَا مَا خص مِنْهُ بِعَيْنِه وَالْآخر أَن لَا نعلم ذَلِك بِعَيْنِه فَمَا علمناه بِعَيْنِه فَإنَّا قبل الْعلم بِهِ نحتاج إِلَى بَيَان مَا لم يرد منا دون مَا أُرِيد وَإِذا علمنَا مَا لم يرد منا بِعَيْنِه استغنينا عَن الْبَيَان فَأَما مَا لم نعلم مَا خص بِعَيْنِه فانا قبل بَيَان تَخْصِيصه نحتاج إِلَى بَيَان مَا لم يرد منا فاذا خص هَذَا النَّوْع من التَّخْصِيص احتجنا إِلَى بَيَان مَا أُرِيد منا وَمَا لم يرد أَيْضا وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون باجمال الْمُخَصّص وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا أَن يكون الْمُخَصّص مُتَّصِلا بِالْخِطَابِ وَالتَّقْيِيد بِالصّفةِ المجهولة فالتقييد بِالصّفةِ المجهولة كَقَوْل الله سُبْحَانَهُ {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم أَن تَبْتَغُوا بأموالكم} لَو اقْتصر على ذَلِك لم يحْتَج فِيهِ إِلَى بَيَان فَلَمَّا قَيده بقوله {محصنين} وَلم يدر مَا الْإِحْصَان لم ندر مَا أُبِيح

لنا فَأَما الِاسْتِثْنَاء الْمَجْهُول فَقَوْل الله سُبْحَانَهُ {أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم} لما كَانَ الِاسْتِثْنَاء مَجْهُولا كَانَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ كَذَلِك فاحتجنا فِيهِ إِلَى بَيَان وَأما مَا كَانَ تَخْصِيصه مُنْفَصِلا فنحو أَن يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن قَول الله سُبْحَانَهُ {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} مَخْصُوص لَيْسَ المُرَاد بِهِ بعض الْمُشْركين وَلَا نعلم مَا المُرَاد بِهِ لِأَنَّهُ لَا مُشْرك إِلَّا وَقد تنَاوله قَوْله اقْتُلُوا الْمُشْركين وتناوله قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ المُرَاد بِالْآيَةِ بعض الْمُشْركين فَلَيْسَ بِأَن يدْخل تَحت أَحدهمَا بِأولى من أَن يدْخل تَحت الآخر فافتقرنا فِيهِ إِلَى بَيَان وَأما الْخطاب الْمُسْتَعْمل فِي غير مَا وضع لَهُ أصلا فضربان أَحدهمَا أَن يكون الشَّرْع قد ورد بِاسْتِعْمَالِهِ فِي ذَلِك الشَّيْء وَالْآخر لم يرد الشَّرْع بذلك أما الأول فالأسماء الشَّرْعِيَّة كَقَوْلِنَا صَلَاة فَمَتَى أمرنَا بِالصَّلَاةِ وَنحن لَا نعلم بِالشَّرْعِ انْتِقَال هَذَا الِاسْم إِلَى هَذِه الْأَفْعَال احتجنا فِيهِ إِلَى بَيَان وَأما الثَّانِي فالأسماء المستعملة فِي مجازها وبيانها غير ظَاهر نَحْو كثير من الْآيَات الَّتِي ظَاهرهَا التَّشْبِيه والجبر وَصِيغَة الْأَمر المستعملة فِي التهديد إِلَى غير ذَلِك وَقد ذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الْعمد وَالشَّرْح قسْمَة غير هَذِه الْقِسْمَة وَقد ذَكرنَاهَا فِي شرحنا لكتاب الْعمد وَقد دخل فِي هَذِه الْجُمْلَة أَنه لَا يجوز أَن يُرَاد بِالِاسْمِ الْمُشْتَرك كلا معنييه وَأَنه مُجمل يحْتَاج إِلَى بَيَان فَيجب ذكر ذَلِك إِذْ كَانَ من يَقُول إِنَّه يجوز أَن ينْفَرد فيراد بِهِ كلا الْمَعْنيين قد أخرجه عَن الْمُجْمل وَدخل فِيهَا أَن فحوى القَوْل قِيَاس وَالْكَلَام فِي ذَلِك يَأْتِي فِي بَاب الْقيَاس إِن شَاءَ الله

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا أخرج من الْمُجْمل وَهُوَ مِنْهُ كإرادة الْمَعْنيين الْمُخْتَلِفين بِالِاسْمِ الْمُشْتَرك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الِاسْم الْوَاحِد إِذا كَانَ اسْما لِأَشْيَاء فإمَّا أَن يُفِيد فِيهَا فَائِدَة وَاحِدَة أَو أَكثر من فَائِدَة وَاحِدَة فَالْأول لَا خلاف فِي جَوَازهَا كلهَا فِي حَالَة وَاحِدَة بِالِاسْمِ وَاخْتلف النَّاس فِي الثَّانِي فَقَالَ الشُّيُوخ أَبُو هَاشم وابو الْحسن وَأَبُو عبد الله رَحِمهم الله بِالْمَنْعِ من ذَلِك سَوَاء أفادت الْعبارَة تِلْكَ الْأَشْيَاء كلهَا على الْحَقِيقَة أَو أفادت بَعْضهَا على الْحَقِيقَة وَبَعضهَا على الْمجَاز كَالنِّكَاحِ الْمُفِيد للوطىء حَقِيقَة وللعقد مجَازًا وكناية وَشرط الشَّيْخ أَبُو عبد الله فِي الْمَنْع من ذَلِك شُرُوطًا أَرْبَعَة أَحدهَا أَن يكون الْمُتَكَلّم وَاحِدًا وَالْآخر أَن تكون الْعبارَة وَاحِدَة وَالْآخر أَن يكون الْوَقْت وَاحِدًا وَالْآخر أَن يكون أَرَادَ الْمَعْنيين الْمُخْتَلِفين لَا تنظمهما فَائِدَة وَاحِدَة فَمَتَى انخرم شَرط من هَذِه الشُّرُوط جَازَ أَن يُرَاد وَلأَجل اشْتِرَاط كَون الْمُتَكَلّم وَاحِدًا نَحْو أَن يتَكَلَّم الْإِنْسَان بالقرء وَيُرِيد بِهِ الْحيض وَيتَكَلَّم بِهِ آخر وَيُرِيد بِهِ الطُّهْر وَلأَجل اشْتِرَاط الفائدتين جَازَ أَن يُرِيد الله عز وَجل بقوله {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} المَاء القراح والنبيذ لِأَنَّهُ يحمعهما فَائِدَة وَاحِدَة عِنْده وَهِي المائية وَلِهَذَا الْوَجْه لم يسم مَاء وَلأَجل اشْتِرَاط الْوَقْت جوز أَن يتَكَلَّم الله سُبْحَانَهُ بالقرء فيريد بِهِ الطُّهْر وَيتَكَلَّم بِهِ فِي وَقت آخر فيريد بِهِ الْحيض وَلأَجل اشْتِرَاط كَون مَا يُريدهُ بالمعنيين الْمُخْتَلِفين عبارَة وَاحِدَة جوز أَن يُرِيد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفَخْذ وَبَعض الرّكْبَة عِنْد قَوْله الْفَخْذ عَورَة لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ الْفَخْذ بِهَذِهِ الْكَلِمَة وَأَرَادَ بعض الرّكْبَة لما تعذر عِنْد الْعقل من أَن ستر الْفَخْذ لَا يُمكن إِلَّا بستر بعض الرّكْبَة وَأَن الشَّيْء يجب إِذا لم يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وَقَالَ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكره تَحْرِيم الْأَشْيَاء المقيسة على السِّتَّة بنصه على السِّتَّة بل أَرَادَ السِّتَّة بِالنَّصِّ وَأَرَادَ مَا يُقَاس عَلَيْهَا

بِدَلِيل الْقيَاس وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَليّ وقاضي الْقُضَاة إِن اللَّفْظَة الْوَاحِدَة إِذا كَانَت مَوْضُوعَة لكل وَاحِد من شَيْئَيْنِ حَقِيقَة أَو لأَحَدهمَا حَقِيقَة وَللْآخر مجَازًا وَلم تفد فيهمَا فَائِدَة وَاحِدَة فانه يجوز أَن يُرِيدهُمَا الْمُتَكَلّم بهَا فِي حَالَة وَاحِدَة إِلَّا أَن يتنافى ذَلِك نَحْو اسْتِعْمَال لَفْظَة افْعَل فِي الْأَمر بالشَّيْء والتهديد عَنهُ وَذَلِكَ أَن اسْتِعْمَالهَا فِي التهديد لَا يكون إِلَّا بِكَرَاهَة ذَلِك الْفِعْل واستعمالها فِي الْأَمر بِهِ لَا يكون إِلَّا بارادته وَإِرَادَة الشَّيْء وكراهته تتضادان وَكَذَلِكَ لَا يجوز اسْتِعْمَال اللَّفْظَة الْوَاحِدَة فِي الِاقْتِصَار على الشَّيْء ومجازته إِلَى غَيره نَحْو اسْتِعْمَال قَوْله {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} من الِاقْتِصَار على الْمرَافِق ومجاوزتها لِأَن ذَلِك إِمَّا أَن يُفِيد إِرَادَة مجاوزتها أَو يُفِيد إِرَادَة مجاوزتها وكراهته وَنَحْو الْخَبَر عَن وجوب الشَّيْء وَكَونه ندبا لِأَن الْخَبَر عَن وُجُوبه يُفِيد كَرَاهَة تَركه وَالْخَبَر عَن كَونه ندبا يُفِيد ترك هَذِه الْكَرَاهَة من البارىء عز وَجل وَكَذَلِكَ الْخَبَر عَن إِبَاحَته وَعَن كَونه ندبا يدل أَحدهمَا على إِرَادَة الله سُبْحَانَهُ وَيدل الآخر على نفي هَذِه الْإِرَادَة وَعِنْدنَا أَن الِاسْم الْمُشْتَرك بَين شَيْئَيْنِ حقيقتين أَو مجازين أَو أَحدهمَا حَقِيقَة وَالْآخر مجَازًا يجوز فِي الْإِمْكَان أَن يُرَاد بِهِ وَلَا يجوز فِي اللُّغَة وَالدَّلِيل على إِمْكَان ذَلِك أَنه لَيْسَ بَين إِرَادَة اعْتِدَاد الْمَرْأَة بِالْحيضِ وَبَين إِرَادَة اعتدادها بِالطُّهْرِ مَا يمنه من اجْتِمَاعهمَا لَو لم يكن المريد بذلك متكلما باسم الْقُرْء فَيجب أَن لَا يكون فيهمَا مَا يمْنَع من اجْتِمَاعهمَا إِذا تكلم الْمُتَكَلّم بِهَذَا الِاسْم لِأَن الْكَلَام لَا يَجْعَل مَا لَيْسَ بممتنع مُمْتَنعا إِذا كَانَ لَا يكْسب الإرادات وَغَيرهَا تنافيا وَلَا مَا يجْرِي مجْرَاه وَكَذَلِكَ القَوْل فِي اسْتِعْمَال لفظ النِّكَاح فِي الْوَطْء وَالْعقد وَاحْتج الشَّيْخ أَبُو عبد الله بِأَن الْإِنْسَان يجد من نَفسه تعذر اسْتِعْمَال اللَّفْظَة فِي مجازها وحقيقتها مَعًا قَالَ وَجرى ذَلِك مجْرى تَعْظِيم زيد وَالِاسْتِخْفَاف بِهِ فِي حَالَة وَاحِدَة وَالْجَوَاب أَن مَا ذكره من تعذر ذَلِك دَعْوَى بل الْمَعْلُوم من

أَنْفُسنَا صِحَة ذَلِك وإجراؤه ذَلِك مجْرى تَعْظِيم زيد وَالِاسْتِخْفَاف بِهِ دَعْوَى أَيْضا على أَن تَعْظِيم زيد وَالِاسْتِخْفَاف بِهِ مفارقان لما نَحن بسبيله لِأَنَّهُ يُجِيز أَن يُرِيد الْمُتَكَلّم الْحَقِيقَة وَالْمجَاز بخطابين فِي وَقت وَاحِد وَلَا يُجِيز أَن يعظم عمرا ويستخف بِهِ بفعلين فِي وَقت وَاحِد وعَلى أَن الْفرق بَين الْمَوْضِعَيْنِ أَن الاستخفاف ينبىء عَن إيضَاع حَال الْغَيْر والتعظيم ينبىء عَن ارْتِفَاع حَاله ومحال أَن يكون الْإِنْسَان فِي حَالَة وَاحِدَة مُرْتَفع الْحَال متضع الْحَال فَيمْتَنع أَن يحصل الدَّاعِي إِلَيْهِمَا فِي حَالَة وَاحِدَة مَعَ الْعلم بتنافيهما وَلَيْسَ كَذَلِك إِرَادَة الِاعْتِدَاد بالأطهار وَإِرَادَة الِاعْتِدَاد بِالْحيضِ وَاحْتج أَيْضا بِأَن الْمُتَكَلّم لَو اسْتعْمل الْكَلِمَة الْوَاحِدَة فِي حَقِيقَتهَا ومجازها لَكَانَ قد أَرَادَ اسْتِعْمَالهَا فِيمَا وضعت لَهُ وَأَرَادَ الْعُدُول بهَا عَمَّا وضعت لَهُ وَذَلِكَ يتنافى كَمَا يَسْتَحِيل إِرَادَة الِاقْتِصَار على الشَّيْء والمجاوزة عَنهُ إِلَى غَيره وَالْجَوَاب أَن الْمُتَكَلّم إِذا اسْتعْمل اسْم النِّكَاح فِي العقد وَفِي الوطىء فانه يكون قد أَرَادَ بِهِ الوطىء وَأَرَادَ بِهِ العقد فان عَنى بقوله إِنَّه قد أَرَادَ الْمُتَكَلّم الْعُدُول بِالْكَلِمَةِ عَمَّا وضعت لَهُ أَنه أَرَادَ اسْتِعْمَالهَا فِي غير مَا وضعت لَهُ كَمَا أَرَادَ اسْتِعْمَالهَا فِيمَا وضعت لَهُ فَذَلِك صَحِيح وَإِن أَرَادَ بذلك أَنه قد أَرَادَ أَن لَا يستعملها فِيمَا وضعت لَهُ وَهُوَ الْمَفْهُوم من كَلَامه فَذَلِك لَا نقُول بِهِ فان قَالَ يلزمكم أَن تَقولُوا بِهِ قيل وَمن ايْنَ يلْزمنَا إِذا قُلْنَا قد اراد معنى الْحَقِيقَة وَأَرَادَ معنى الْمجَاز أَن يكون قد أَرَادَ أَن يستعملها فِي الْحَقِيقَة وَهل هَذَا إِلَّا أَنَّك ألزمتنا على قَوْلنَا قد أَرَادَ شَيْئَيْنِ أَنه لم يرد أَحدهمَا وَاحْتَجُّوا بِأَن الْمُسْتَعْمل للكلمة فِيمَا هِيَ مجَاز فِيهِ لَا بُد أَن يضمر فِيهَا كَاف التَّشْبِيه والمستعمل لَهَا فِيمَا هِيَ حَقِيقَة فِيهِ فَلَا يضمر كَاف التَّشْبِيه فِيهَا ومحال أَن يضمر الشَّيْء وَلَا يضمره وَالْجَوَاب أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ رَأَيْت السبَاع وَأَرَادَ بِهِ أَنه رأى أسدا ورجالا شجعانا فانه لَا يمْتَنع أَن يضمر كَاف التَّشْبِيه فِي بَعضهم دون بعض لِأَن معنى إِضْمَار كَاف التَّشْبِيه هُوَ أَن يقْصد بإسم

الْأسد إِلَى مَا هُوَ كالأسد فَأَما الْكَلَام فِي أَنه لَا يجوز من جِهَة اللُّغَة أَن يُرِيد بِالِاسْمِ الْوَاحِد الْمَعْنيين الْمُخْتَلِفين فَهُوَ أَن الِاسْم إِمَّا أَن يكون مُفردا أَو مجموعا فان كَانَ مُفردا فالدلالة على أَن اللُّغَة يحظر أَن يُرَاد بِهِ كلا معنييه أَن أهل اللُّغَة وضعُوا قَوْلهم حمَار للبهيمة الْمَخْصُوصَة وَحدهَا ويجوزنه فِي البليد وَحده وَلم يستعملوه فِيهَا مَعًا أَلا ترى أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ رَأَيْت حمارا لم يفهم مِنْهُ أَنه رأى الْبَهِيمَة والبليد مَعًا وَلَو قَالَ رايت حِمَارَيْنِ لم يعقل مِنْهُ أَنه رأى أَرْبَعَة أشخاص بهيمتين وبليدين وَكَذَلِكَ قَوْلنَا قرء وضعوه للْحيض وَحده وللطهر وَحده وَلم يضعوه لَهما لأَنهم لَو وضعوه لَهما مَعًا لَكَانَ الْمُسْتَعْمل لَهُ فِي أَحدهمَا متجوزا لِأَنَّهُ لم يَسْتَعْمِلهُ على مَا وضع لَهُ على التَّحْقِيق وَكَانَ يجب أَن نفهم من قَول الْقَائِل قرءان أَرْبَعَة طهرين وحيضين وَمن ثَلَاثَة أَقراء سِتَّة وَالْأَمر بِخِلَاف ذَلِك فصح أَن الْمُتَكَلّم إِذا قَالَ للْمَرْأَة اعْتدي بقرء لَا يكون مرِيدا مِنْهَا أَن تَعْتَد بِالطُّهْرِ وَالْحيض مَعًا وَإنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَحدهمَا فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون أَرَادَ مِنْهَا أَن تَعْتَد إِمَّا بِالطُّهْرِ أَو بِالْحيضِ بِحَسب اخْتِيَارهَا وَإِمَّا أَن يكون أَرَادَ الْحيض فَقَط أَو أَرَادَ الطُّهْر فَقَط وَيجْرِي مجْرى أَن يَقُول لَهَا قد أردْت مِنْك الِاعْتِدَاد بِالطُّهْرِ وَأَرَدْت مِنْك الِاعْتِدَاد بِالْحيضِ وَالْأول بَاطِل ثمَّ لِأَن لَفظه الْقُرْء لم تُوضَع للطهر وَالْحيض وَإِنَّمَا وضعت للطهر وَحده وللحيض وَحده وَيُفَارق ذَلِك قَول الْقَائِل لغيره اضْرِب رجلا لِأَنَّهُ إِذا قَالَ ذَلِك كَانَ مرِيدا مِنْهُ أَن يضْرب أَي رجل شَاءَ إِمَّا هَذَا وَإِمَّا هَذَا لِأَن قَوْلنَا رجل لم يوضع لهَذَا الشَّخْص وَحده وَلِهَذَا وَحده وَإِنَّمَا وضع لما اخْتصَّ بِمَعْنى الرجولية وَهُوَ معنى وَاحِد شَائِع فِي كل شخص من أشخاص الرِّجَال فَكَأَنَّهُ قَالَ اضْرِب شخصا مِمَّن اخْتصَّ بِمَعْنى الرجولية وَلَو قَالَ ذَلِك لدل على أَنه قد أَرَادَ مِنْهُ ضرب الرِّجَال على الْبَدَل وَلَيْسَ كَذَلِك اسْم الْقُرْء لِأَنَّهُ لَيْسَ يُفِيد فِي الطُّهْر وَالْحيض فَائِدَة وَاحِدَة فَيكون دَالا على أَن الْمُتَكَلّم بِهِ قد أَرَادَ مَا اخْتصَّ بِتِلْكَ الْفَائِدَة من الطُّهْر وَالْحيض فان قيل أَيجوزُ أَن يَقُول الرجل لغيره اضْرِب

رجلا وَهُوَ يُرِيد ضرب رجل معِين قيل لَا يجوز ذَلِك إِلَّا أَن يدل عَلَيْهِ دَلِيل وَيكون قد عدل بِاللَّفْظِ إِلَى غير مَوْضُوعه فِي الأَصْل لِأَن قَوْلنَا رجل لم يوضع لرجل مَخْصُوص دون غَيره فَإِن قيل أَلَيْسَ يجوز أَن يَقُول الرجل لغيره رَأَيْت رجلا وَإِن كَانَ قد اراد رجلا بِعَيْنِه فَكيف قُلْتُمْ إِن هَذَا الإسم لَا يُفِيد شخصا معينا قيل هَذَا دليلنا على أَنه لَا يُفِيد شخصا معينا أَلا ترى أَنه إِذا قَالَ ذَلِك لم يفهم مِنْهُ الرجل الَّذِي رَآهُ بِعَيْنِه وَإِنَّمَا سَاغَ أَن يَقُول رَأَيْت رجلا وَإِن كَانَ قد رأى رجلا بِعَيْنِه لِأَن اسْم الرجل يُفِيد مَا يخْتَص بِالْمَعْنَى الَّذِي يتَمَيَّز بِهِ الرجل مِمَّا لَيْسَ بِرَجُل وَمن رأى رجلا بِعَيْنِه فقد رأى مَا اخْتصَّ بِمَعْنى الرجولية وَزِيَادَة فصح أَن يخبر عَن ذَلِك الْمَعْنى بقوله رايت رجلا وَلَا يخبر عَن الزِّيَادَة الَّتِي اخْتصَّ بهَا ذَلِك الرجل بِعَيْنِه فَأَما إِذا قَالَ الْمُتَكَلّم للْمَرْأَة لَا تعتدي بقرء فانه يُفِيد أَنه أَرَادَ أَن لَا تَعْتَد بِوَاحِد معِين إِمَّا أَن يكون أَرَادَ الطُّهْر وَإِمَّا أَن يكون أَرَادَ الْحيض لِأَنَّهُ لَو أَرَادَ مجموعهما كَانَ قد أَرَادَ مَا لم يوضع لَهُ اللَّفْظ وَإِن أَرَادَ أَن لَا تَعْتَد بِمَا يَقع عَلَيْهِ اسْم قرء بِمَا فِيهِ معنى من مَعَاني الْقُرْء فان ذَلِك لَيْسَ فِي ظَاهر الْكَلَام لِأَنَّهُ إِنَّمَا علق الحكم بالقرء لَا بِمَا سمي قرء وَلَا بِمَا فِيهِ معنى من مَعَاني الْقُرْء فَأَما الِاسْم الْمُشْتَرك الْمَجْمُوع نَحْو قَوْلنَا أَقراء فاما أَن يكون قد علق عَلَيْهِ إِثْبَات أَو نفي فالإثبات نَحْو قَول الْقَائِل للْمَرْأَة اعْتدي بِالْأَقْرَاءِ وَذَلِكَ يُفِيد أَنه قد اراد مِنْهَا إِمَّا ثَلَاث حيض أَو ثَلَاثَة أطهار أَو أَرَادَ مِنْهَا أَن تَعْتَد بِثَلَاثَة بَعْضهَا أطهار وَبَعضهَا حيض وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن جمع الِاسْم يُفِيد جمع مُقْتَضَاهُ وَإِذا كَانَ قَوْلنَا قرء مَوْضُوعا للْحيض وَحده وللطهر وَحده وَيدل على أَن الْمُتَكَلّم بِهِ إِمَّا أَن يكون قد اراد الْحيض أَو أَرَادَ الطُّهْر فَيجب أَن يكون قَوْلنَا أَقراء يُفِيد أَنه قد أَرَادَ إِمَّا جمعا من الْحيض أَو جمعا من الطُّهْر أَو جمعا مِنْهُمَا وَيجْرِي مجْرى أَن يَقُول اعْتدى بقرء وبقرء وبقرء فِي أَنه يجوز أَن يكون أَرَادَ بِالْكُلِّ الْحيض أَو أَرَادَ بِالْكُلِّ الطُّهْر أَو أَرَادَ بِبَعْضِهَا الطُّهْر وببعضها الْحيض

وَيُفَارق ذَلِك قَول الْقَائِل لغيره اضْرِب رجَالًا فِي أَنه يُفِيد ضرب أَي ثَلَاثَة من الرِّجَال شَاءَ من الْعَرَب أَو من الْعَجم أَو مِنْهُمَا وَلَا يكون مرِيدا لثَلَاثَة من الْعَجم فَقَط أَو ثَلَاثَة من الْعَرَب فَقَط لِأَن قَوْلنَا رجال يُفِيد جمع فَائِدَة قَوْلنَا رجل وَقد قُلْنَا إِن قَوْلنَا اضْرِب رجلا يُفِيد أَن الْمُتَكَلّم بِهِ أَرَادَ ضرب مَا اخْتصَّ بِمَعْنى الرجولية أَي رجل كَانَ فَيجب أَن يكون جمعه يُفِيد جمعا من الْأَشْخَاص يخْتَص كل وَاحِد مِنْهَا بِمَعْنى الرجولية أَي جمع من ذَلِك كَانَ وَلَيْسَ كَذَلِك الاقراء لما بَيناهُ من قبل فان قيل أَلَيْسَ لَو قَالَ الرجل للْمَرْأَة اعْتدي بِمَا يُسمى أَقراء جَازَ أَن تَعْتَد بِالْحيضِ وَجَاز أَن تَعْتَد بِالطُّهْرِ قيل أجل وَيُفَارق مَسْأَلَتنَا لِأَنَّهُ قد علق الِاعْتِدَاد بِمَا يُسمى أَقراء وَالطُّهْر وَالْحيض متفقان فِي فَائِدَة وَصفنَا لَهما بِأَنَّهُمَا يسميان أَقراء وَغير مُخْتَلفين فِي ذَلِك فَجرى مجْرى قَوْله اضْرِب رجلا فِي أَنه أَمر بِضَرْب مَا اخْتصَّ بِمَعْنى الرجولية وَلَيْسَ كَذَلِك قَوْلنَا اعْتدى بِالْأَقْرَاءِ لِأَن معنى الْأَقْرَاء فِي الطُّهْر وَالْحيض مُخْتَلف وَكَذَلِكَ لَو أمكنت الْإِشَارَة إِلَى الطُّهْر وَالْحيض فَقَالَ للْمَرْأَة اعْتدي من هَذَا بِثَلَاثَة لِأَن قَوْله من هَذَا وَاقع عَلَيْهِمَا لَا على سَبِيل الِاشْتِرَاك أَلا ترى أَنه لَا يُفِيد فيهمَا فائدتين مختلفتين وَلَيْسَ كَذَلِك اسْم الْقُرْء فَأَما إِذا علق على الِاسْم الْمُشْتَرك الْمَجْمُوع حكما منفيا نَحْو أَن يَقُول الْقَائِل للْمَرْأَة لَا تعتدي بِالْأَقْرَاءِ فانه يُفِيد أَنه كره أَن تَعْتَد بِجمع من الْأَقْرَاء إِمَّا حيض كُله وَإِمَّا طهر كُله أَو بعضه طهر وَبَعضه حيض لِأَن ذَلِك يجْرِي مجْرى أَن يَقُول لَهَا لَا تعتدي بقرء وَلَا بقرء وَلَا بقرء فَكَمَا أَنه يجوز أَن يَعْنِي بهَا أجمع الْحيض وَيجوز أَن يعْنى بهَا أجمع الطُّهْر وَيجوز أَن يعْنى بِبَعْضِه الْحيض وببعضه الطُّهْر على مَا بَيناهُ فَكَذَلِك جمعه فِي هَذَا الْقسم بعض الِاشْتِبَاه وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ لَهَا لَا تعتدي بقرء لِأَنَّهُ يجوز أَن يُقَال إِن ذَلِك يُفِيد نفي الِاعْتِدَاد بِالْحيضِ وَالطُّهْر مَعًا وَالْأول أشبه وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء

مِنْهَا أَن سِيبَوَيْهٍ قَالَ إِن قَول الْقَائِل لغيره الويل لَك خبر وَدُعَاء فَجعله مُفِيدا لِكِلَا الْأَمريْنِ وَالْجَوَاب أَنه لَيْسَ فِي وضع اللُّغَة ذَلِك فِي كلا الْأَمريْنِ مَا يدل على أَن اسْم الْقُرْء مَوْضُوع للطهر وَالْحيض مَعًا وَأَيْضًا فَلَيْسَ ذَلِك دلَالَة على أَنه مُسْتَعْمل فِي كلا الْأَمريْنِ مَعًا بل لَا يمْتَنع أَن يكون هَذَا الْكَلَام مَوْضُوعا للْخَبَر مُسْتَعْملا على سَبِيل الْمجَاز فِي الدُّعَاء وَلم يقل سِيبَوَيْهٍ أَن يجوز أَن يسْتَعْمل فيهمَا وَمِنْهَا قَوْلهم إِن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ إِن قبْلَة الرجل امْرَأَته تنقض الطُّهْر وَقَالَ إِن الْجنب يلْزمه التَّيَمُّم وَهَذَا يدل على أَنه عقل من قَول الله عز وَجل {أَو لامستم النِّسَاء} الوطىء والمباشرة بِالْيَدِ وَالْجَوَاب أَن هَذَا لَا يمْتَنع أَن يكون علم وجوب التَّيَمُّم على الْجنب من السّنة لَا من الْآيَة وَمِنْهَا أَن قَول الله عز وَجل {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} قد أُرِيد بِهِ الْحيض وَالطُّهْر لِأَن للْمَرْأَة تَقْلِيد من يرى الِاعْتِدَاد بالأطهار وتقليد من يرى الِاعْتِدَاد بِالْحيضِ وَأي ذَلِك فعلت فقد أَرَادَهُ الله مِنْهَا فَإِذن قد أرادهما الله سُبْحَانَهُ على الْبَدَل بِشَرْط أَن تخْتَار أَي الْمُجْتَهدين شَاءَت وَكَذَلِكَ قد أَرَادَ مِنْهَا الِاعْتِدَاد بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا إِذا كَانَت من أهل الِاجْتِهَاد بِشَرْط أَن يُؤَدِّيهَا اجتهادها إِلَى هَذَا وَإِلَى هَذَا وَالْجَوَاب أَن الشَّيْخ أَبَا هَاشم رَحمَه الله يَقُول إِن الله عز وَجل تكلم بِالْآيَةِ مرَّتَيْنِ فَأَرَادَ مرّة الطُّهْر مِمَّن يُؤَدِّيه اجْتِهَاده إِلَى ذَلِك أَو تَقْلِيد من يرى ذَلِك واراد فِي الْأُخْرَى الِاعْتِدَاد بِالْحيضِ مِمَّن يُؤَدِّيه اجْتِهَاده إِلَى ذَلِك أَو يخْتَار تَقْلِيد من يرى ذَلِك وَكره فِي كل وَاحِد من الدفعتين ترك الِاعْتِدَاد بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا وَلَيْسَ يجب إِذا تكلم بهَا مرَّتَيْنِ أَن تثبت فِي الْمُصحف مرَّتَيْنِ على أَنه لَا يمْتَنع أَن يُرِيد كلا الْمَعْنيين فِي وَقت وَاحِد بعبارتين مثلين يفعلهما فِي مكانين على أَنه لَا يمْتَنع أَن

يكون الله قد أَرَادَ بِهِ كلا الِاثْنَيْنِ فِي دفْعَة وَاحِدَة وَيكون قيام الدّلَالَة على ذَلِك دلَالَة على الشَّرِيعَة قد جَاءَت بِنَقْل هَذَا الِاسْم إِلَى مَجْمُوع الْأَمريْنِ كَمَا ينْقل الشَّرْع الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة إِلَى معَان غير مَعَانِيهَا فِي اللُّغَة فاذا صَحَّ أَن الِاسْم الْمُشْتَرك لم يوضع لِكِلَا معنييه لم يجب أَن يُرِيدهُمَا الْمُتَكَلّم بذلك الِاسْم وَاحْتَاجَ إِلَى بَيَان إِذْ كَانَ لَا يدل على المُرَاد وَلَا يجوز أَن يُقَال تجرده عَن دلَالَة يدل على أَنه قد أُرِيد بِهِ كلا الْمَعْنيين على الْبَدَل أَو على الْجمع لِأَن اللَّفْظ إِذا لم يكن مَوْضُوعا للْجمع وَلَا للتَّخْيِير لم يجز تجرده عَن قرينَة وَإِنَّمَا يتجرد عَن قرينَة إِذا كَانَ مَوْضُوعا لأمر يَكْفِي ظَاهره فِي الدّلَالَة عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا الْحق بالمجمل وَلَيْسَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من ذَلِك التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم المتعلقين بالأعيان كَقَوْل الله سُبْحَانَهُ {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} ذكر الشَّيْخ ابو الْحسن رَحمَه الله وَأَبُو عبد الله رَحمَه الله أَن ذَلِك مُجمل لَا يَصح التَّعَلُّق بِظَاهِرِهِ لِأَن التَّحْرِيم مُتَعَلق بِنَفس الْأُمَّهَات وَلَيْسَ ذَلِك فِي مقدورنا لَو كَانَ مَعْدُوما فَكيف وَهُوَ مَوْجُود فَلم يجز أَن تحرم علينا وَوَجَب أَن يكون المُرَاد بِهِ فعل من أفعالنا يتَعَلَّق بالأمهات وَإِذا لم يكن ذَلِك الْفِعْل مَذْكُورا فِي الْآيَة لم يُمكن أَن يسْتَدلّ بهَا على تَحْرِيم فعل دون فعل وَلِأَن الْآيَة لَو اقْتَضَت تَحْرِيم فعل معِين لَكَانَ المُرَاد بتعليق التَّحْرِيم بالأعيان تَحْرِيم ذَلِك الْفِعْل بِعَيْنِه وَلَا يخْتَلف ذَلِك الْفِعْل بِحَسب اخْتِلَاف الْأَعْيَان وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك لِأَن المُرَاد بقوله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} تَحْرِيم الِاسْتِمْتَاع وَالْمرَاد بقوله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} تَحْرِيم الْأكل فأحد الْفِعْلَيْنِ مُخَالف للْآخر وَقَالَ أَبُو عَليّ وابو هَاشم وقاضي الْقُضَاة رَحِمهم الله إِن ذَلِك لَيْسَ

بمجمل بل هُوَ ظَاهر من جِهَة الْعرف فِي تَحْرِيم الِاسْتِمْتَاع بالأمهات وَتَحْرِيم أكل الْميتَة لِأَن قَوْله {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} وَإِن كَانَ التَّحْرِيم فِيهِ مُتَعَلقا بِنَفس الْأُمَّهَات فانه يُفِيد بِالْعرْفِ تَحْرِيم الِاسْتِمْتَاع لأَنا عِنْد سَماع هَذِه اللَّفْظَة نفهم تَحْرِيم الِاسْتِمْتَاع وَعند سَماع قَول الْقَائِل حرمت عَلَيْك طَعَامي وَحرمت الْميتَة نفهم أكلهَا وَهَذِه أَمارَة كَون الِاسْم منتقلا بِالْعرْفِ أَلا ترى أَنا لما فهمنا الْخَيل عِنْد سَمَاعنَا اسْم الدَّوَابّ قُلْنَا إِنَّه يفيدها وَحدهَا من جِهَة الْعرف وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يكون الْعرف قد نقل التَّحْرِيم الْمُتَعَلّق بالأعيان فَجعله حَقِيقَة فِي تَحْرِيم أَفعَال مُخْتَلفَة بِحَسب اخْتِلَاف الْأَسْمَاء فيفهم بِالْعرْفِ من قَول الْقَائِل حرمت عَلَيْك فُلَانَة الِاسْتِمْتَاع بهَا وَيفهم من قَوْله حرمت عَلَيْك طَعَامي أكله وَمن ذَلِك قَول الْعِرَاقِيّين إِن قَول الله سُبْحَانَهُ {وامسحوا برؤوسكم} مُجمل لِأَنَّهُ يحْتَمل مسح جَمِيع الرَّأْس وَيحْتَمل مسح بعضه فاذا احْتمل مسح كل وَاحِد مِنْهُمَا بَدَلا من الآخر افْتقر إِلَى بَيَان فاذا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح بناصيته كَانَ ذَلِك بَيَانا لِلْآيَةِ وَوَجَب مسح ذَلِك الْمِقْدَار من الرَّأْس وَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن ظَاهر الْبَاء فِي اللُّغَة للإلصاق وَقَوله {وامسحوا برؤوسكم} يُفِيد من جِهَة اللُّغَة مسح جَمِيع الرَّأْس لِأَن الْبَاء المفيدة للإلصاق دخلت على الْمسْح وقرنته بِالرَّأْسِ وَالَّذِي يُسمى رَأْسا هُوَ الْجَمِيع لَا الْبَعْض لِأَنَّهُ لَا تُوصَف الناصية رَأْسا فَكَانَت الْآيَة إِيجَابا لمسح جَمِيع الرَّأْس من جِهَة اللُّغَة قَالَ وَالْعرْف قَالَ مسحت يَدي بالمنديل عقل مِنْهُ أَنه ألصق الْمسْح بالمنديل وَيجوز السَّامع أَنه مَسحه بِجَمِيعِهِ وَيجوز أَنه مَسحه بِبَعْضِه وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ الْإِنْسَان الغيره امسح يدك بالمنديل فانه يعقل مِنْهُ أَنه قد أوجب عَلَيْهِ إلصاق يَده بالمنديل إِن شَاءَ بِجَمِيعِهِ وَإِن شَاءَ

بِبَعْضِه وَأيهمَا فعل سقط عَنهُ الْأَمر وَإِذا أفادت هَذِه اللَّفْظَة فِي الْعرف مَا ذَكرْنَاهُ حملت الْآيَة عَلَيْهِ وَمن ذَلِك حرف النَّفْي إِذا دخل على الْفِعْل مَتى لم يكن الْفِعْل على صفة من الصِّفَات وَذَلِكَ ضَرْبَان أَحدهمَا يُمكن انْتِفَاء الْفِعْل مَتى لم تحصل تِلْكَ الصّفة وَالْآخر لَا يُمكن انْتِفَاء ذَلِك الْفِعْل فمثال الأول قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب فحرف النَّفْي دخل على الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة لِأَن كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحمل على مَعَانِيه الشَّرْعِيَّة فَظَاهره إِذا يَقْتَضِي نفي الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة مَعَ انْتِفَاء الْفَاتِحَة وَذَلِكَ مُمكن فَوَجَبَ حمل الْكَلَام عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَون قِرَاءَة الْفَاتِحَة شرطا وَيَقْتَضِي أَن يكون قَوْلنَا صَلَاة فَاسِدَة مجَازًا أَعنِي وَصفنَا لَهَا بِأَنَّهَا صَلَاة وَيكون المُرَاد أَنَّهَا على صُورَة الصَّلَاة وَكَذَلِكَ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا صِيَام لمن لم يبيت الصّيام من اللَّيْل وَقَوله لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله يَجْعَل هَذِه الْأَلْفَاظ مجملة قَالَ لِأَن الْمَنْفِيّ مَوْجُود مَعَ انْتِفَاء الشَّرْط فَعلمنَا أَنه أَرَادَ نفي أَحْكَامه وَلَيْسَ بعض الْأَحْكَام بِأَن يكون هُوَ الْمَنْفِيّ أولى من حكم آخر إِذْ اللَّفْظ لَا يتَنَاوَل الْأَحْكَام على جِهَة الْعُمُوم وَلَا على جِهَة الْخُصُوص وَلِأَنَّهُ يتناقض حمل ذَلِك على نفي الْكَمَال وَنفي الْإِجْزَاء لِأَن فِي ضمن نفي الْكَمَال إِثْبَات الْإِجْزَاء وَالَّذِي ذكره إِنَّمَا يَصح لَو لم يَصح أَن يكون الْمَنْفِيّ هُوَ الَّذِي دخل عَلَيْهِ حرف النَّفْي وَقد بَينا ذَلِك وَأما مِثَال الْقسم الثَّانِي فَقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ أعظم متأول هَذَا الْكَلَام أَن يجْرِي مجْرى قَوْله لَا عمل إِلَّا بِالنِّيَّةِ وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ يخرج الْعَمَل من كَونه عملا إِذا فقدت النِّيَّة فَعلمنَا أَن المُرَاد بِهِ أَحْكَام الْعَمَل من الْإِجْزَاء أَو الْكَمَال وَلَيْسَ بِأَن يحمل على أَحدهمَا أولى من الآخر وَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول إِن قَوْله الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ يُفِيد فِي الْعرف نفي كَونه عملا مجزئا إِذا لم يكن نِيَّة لأَنا لَا نعقل ذَلِك من جِهَة الْعرف أَلا ترى أَنا قد حملنَا كثيرا من هَذَا النَّفْي على نفي الْفضل والكمال وَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول الْمَعْقُول فِي الْعرف من قَول الْقَائِل لَا عمل إِلَّا بنية هُوَ لَا عمل مجزىء وَلَا كَامِل إِلَّا بنية لِأَنَّهُ إِذا لم يجزء لم

يكمل وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يكون قد عقل مِنْهُ نفي الْكَمَال تبعا لنفي الْإِجْزَاء فقد عَاد الْكَلَام إِلَى الأول وَكَذَلِكَ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان لِأَن الْخَطَأ وَاقع مِنْهُم فاذا الْمَرْفُوع هُوَ أَحْكَام الْخَطَأ فَاحْتَاجَ إِلَى بَيَان ذَلِك الحكم وَقد علمنَا أَنه لم يرد الْإِثْم لِأَنَّهُ لَا مزية لأمته فِي ذَلِك على سَائِر الْأُمَم وَمن ذَلِك قَول بَعضهم إِن قَول الله سُبْحَانَهُ {فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} مُجمل لِأَنَّهُ يحْتَمل الْيَد من الْمنْكب إِذْ جُمْلَتهَا تسمى يدا وَيحْتَمل قطعهَا من الْكُوع لِأَنَّهُ يُسمى هَذَا الْقدر يدا وَيحْتَمل قطعهَا من الْمرْفق لِأَن هَذَا يُسمى يدا وَيُمكن أَن يحتجوا لذَلِك ايضا بِأَنَّهُ قد يُقَال قطعت يَد فلَان وَيُرَاد بهَا إبانتها وَقد يُرَاد إِيصَال قطع بهَا وَإِن لم تنفصل من الْبدن كَمَا يُقَال بَرى فلَان الْقَلَم فَقطع يَده وَإِنَّمَا يعلم إبانة الْعُضْو إِذا قيد الْقطع بِالْجُمْلَةِ فَقيل قطعت يَد فلَان من جملَته كَمَا يُقَال قطعت الْغُصْن من الشَّجَرَة وَالْجَوَاب عَن الأول أَن اسْم الْيَد يتَنَاوَل الْجُمْلَة إِلَى الْمنْكب فَيجب حمل الْيَد عَلَيْهِ لَوْلَا قيام الدّلَالَة على خِلَافه فَقبل قيام الدّلَالَة على ذَلِك تكون الْآيَة مجملة إِذْ قد أُرِيد بهَا غير ظَاهرهَا لِأَن اسْم الْيَد لَا يتَنَاوَل الْكَفّ وَحده حَقِيقَة لِأَنَّهُ لَا يُقَال قطعت يَد فلَان كلهَا وجميعها إِذا قطع الْكَفّ فَلَو كَانَ اسْم الْكَفّ يتَنَاوَل هَذَا الْمِقْدَار وَحده حَقِيقَة لصَحَّ أَن يُقَال ذَلِك لِأَن الْكَفّ كل وَجَمِيع وَلَو تنَاول الْكَفّ حَقِيقَة وَجَمِيع الْيَد حَقِيقَة لحمل على أقل مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم كَمَا أَن قَول الْقَائِل لغيره اضْرِب رجلا يُفِيد ضرب مَا يَقع عَلَيْهِ اسْم رجل ولمفرق أَن يفرق بَينهمَا بِأَن معنى الرجولية قَائِم فِي كل شخص من الرِّجَال فالاسم قد تنَاول جَمِيعهم على الْبَدَل وَلَيْسَ كَذَلِك قَوْلنَا يَد لِأَنَّهُ لَو تنَاول الْكَفّ وَتَنَاول من أَطْرَاف الْأَصَابِع إِلَى المفرق لَكَانَ قد أَفَادَ فِي ذَلِك فَوَائِد مُخْتَلفَة ولكان اسْما مُشْتَركا

وَالْجَوَاب عَن الثَّانِي أَن الْقطع هُوَ الْإِبَانَة فاذا علق بِالْيَدِ أَفَادَ إبانة مَا يُسمى يدا والشق إذاحصل فِي الْجلد لم يكن الْمُسَمَّاة يدا قد أبينت فَلم يدْخل تَحت الظَّاهِر وَهَذَا يدلنا على أَن قَول الْقَائِل بريت الْقَلَم فَقطعت يَدي مجَاز وَيكون اقتران ذَلِك ببري الْقَلَم قرينَة تدل على الْمجَاز لِأَن الْعَادة مَا جريت بابانة عِنْد بري الْقَلَم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا تكون للاحكام الشَّرْعِيَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن بَيَانهَا يكون بِكُل مَا يَقع التَّبْيِين بِهِ وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا يكون دلَالَة بالمواضعة وَالْآخر لَا بالمواضعة أما الأول فَالْكَلَام وَالْعقد وَالْكِنَايَة وَالْبَيَان بالْكلَام فَأكْثر من أَن يُحْصى وَقد بَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن كتب إِلَى عماله فِي الصَّدقَات وَبَين الله تَعَالَى لملائكته بِمَا كتبه فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ وَأما الضَّرْب الآخر فضربان أَحدهمَا تتبعه الْمُوَاضَعَة وَالْآخر يتبع الْمُوَاضَعَة فَالْأول هُوَ الْإِشَارَة لِأَن الْمُوَاضَعَة على الْكَلَام إِنَّمَا تكون بِالْإِشَارَةِ وَقد بَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْإِشَارَةِ حِين قَالَ الشَّهْر هَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ بيدَيْهِ وَالثَّانِي ضَرْبَان أَحدهمَا أَمارَة الْقيَاس وَالْآخر الْأَفْعَال وَأما أَمارَة الْقيَاس فَهِيَ كَيْفيَّة ثُبُوت الحكم من نَحْو ثُبُوته عِنْد صفة ونفيه عَن نَفيهَا وَهَذَا إِنَّمَا يثبت بِالْخِطَابِ وَأما الْأَفْعَال فانها تتَعَلَّق بِمَا هِيَ بَيَان لَهُ بالْقَوْل نَحْو أَن يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا الْفِعْل بَيَان لهَذِهِ الْآيَة وَيَقُول صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَقَالَ بعض النَّاس إِن الْأَفْعَال لَا تكون بَيَانا وَلَيْسَ يَخْلُو إِمَّا أَن يُرِيد أَنه لَا يَصح وُقُوع الْبَيَان بهَا أَو أَنه لَا يحسن أَن يبين بهَا الْمُجْمل من جِهَة الْحِكْمَة وَالْأول ضَرْبَان أَحدهمَا أَن يُقَال إِن الْفِعْل لَا يُؤثر فِي وُقُوع الشَّيْء أصلا وَالْآخر أَن يُقَال إِنَّه لَا يُؤثر فِي ذَلِك إِلَّا مَعَ غَيره نَحْو أَن يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا بَيَان لهَذَا الْكَلَام أما إِذا قيل لَا يحسن أَن يَقع الْبَيَان بالأفعال فبأن

يُقَال إِنَّه لَا يَقع عقيب الْكَلَام الْمُجْمل فان وَقع عَقِيبه فانه يطول وَفِي كلا الْحَالَتَيْنِ يتَأَخَّر الْبَيَان فان قَالُوا بِالْأولِ فقد أبطلوا لِأَن فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للصَّلَاة وللحج أدل على صفتهَا من وَصفه لَهَا لما فِي الْمُشَاهدَة للشَّيْء من المزية على الْخَبَر عَن الشَّيْء وَلِهَذَا بَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَج بِفِعْلِهِ وَقَالَ خُذُوا عني مَنَاسِككُم وَقَالَ صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَبَين أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوضُوء بفعلهم وَإِن أَرَادوا أَنه لَا يَقع بِهِ الْبَيَان إِلَّا مَعَ غَيره نَحْو أَن يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن هَذَا بَيَان لِلْآيَةِ أَو يضْطَر من قَصده إِلَى ذَلِك أَو يَتْلُو كلَاما مُجملا ثمَّ يفعل فعلا يجوز أَن يكون بَيَانا لَهُ وَلَا تَجِد بَيَانا غَيره فَذَلِك مِمَّا لَا خلاف فِيهِ إِلَّا أَن الْبَيَان هُوَ الْفِعْل لِأَنَّهُ المتضمن لصفة الْفِعْل دون القَوْل الْمُعَلق للْفِعْل بالمبين وَإِن أَرَادوا الْوَجْه الثَّالِث من أَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى تَأْخِير الْبَيَان فَبَاطِل لِأَنَّهُ يُمكن أَن يتعقب الْفِعْل القَوْل كَمَا يتعقبه القَوْل وَالْفِعْل وَإِن طَال فَالْقَوْل قد يكون طَويلا أَيْضا فصح وُقُوع الْبَيَان بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا وَأما الْمُخَالف فَأَنَّهُ يحْتَج بِهَذِهِ الْأَقْسَام الَّتِي ذَكرنَاهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تَقْدِيم القَوْل على الْفِعْل فِي الْبَيَان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن هَذَا الْبَاب يتَضَمَّن مَسْأَلَتَيْنِ إِحْدَاهمَا أَن يُقَال إِذا كَانَ القَوْل بَيَانا وَالْفِعْل بَيَانا فَأَيّهمَا أكشف وَالْجَوَاب أَن الْفِعْل أكشف لِأَنَّهُ ينبىء عَن صفة الْمُبين مُشَاهدَة وَالْقَوْل إِخْبَار عَن صفته وَلَيْسَ الْخَبَر كالعيان وَالْأُخْرَى أَن يرد بعد الْآيَة المجملة فعل وَقَول يحْتَمل أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا بَيَانا لَهَا فَيُقَال أَيهمَا قصد بِهِ الْبَيَان وَالْجَوَاب أَنه لَيْسَ يَخْلُو إِمَّا أَن يتنافى حكم البيانين أَو لَا يتنافى فان لم يتنافى فضربان أَحدهمَا علم تقدم أَحدهمَا على الآخر فَيكون الْمُتَقَدّم هُوَ الَّذِي قصد بِهِ الْبَيَان الْمُبْتَدَأ لِأَن الْبَيَان لَا يتَأَخَّر وَيكون الْمُتَأَخر تَأْكِيدًا للْبَيَان وَالْآخر لَا يعلم تقدم أَحدهمَا على الآخر

فَيجوز فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن يكون هُوَ الْمُتَقَدّم وَهُوَ الَّذِي قصد بِهِ الْبَيَان ابْتِدَاء وَإِن يتنافى حكمهمَا فمثاله آيَة الْحَج وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قرن حجا إِلَى عمرته فليطف لَهما طَوافا وَاحِدًا وسعيا وَاحِدًا وَرُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قرن فَطَافَ طوافين وسعى سعيين فَإِن كَانَ قَوْله هُوَ الْبَيَان فالطواف الثَّانِي غير وَاجِب وَإِن كَانَ فعله هُوَ الْبَيَان فالطواف الثَّانِي وَاجِب فَمَتَى علمنَا تقدم أَحدهمَا كَانَ هُوَ الْبَيَان لِأَن الْخطاب الْمُجْمل إِذا تعقبه مَا يجوز أَن يكون بَيَانا لَهُ كَانَ بَيَان لَهُ فان لم يجز تَأْخِير الْبَيَان فَالْأَمْر فِي كَون ذَلِك بَيَانا أكشف وَأظْهر وَإِن لم نعلم تقدم أَحدهمَا على الآخر جعلنَا القَوْل هُوَ الْبَيَان لأَنا لَو جعلنَا الْفِعْل هُوَ الْبَيَان لأوجبنا إِثْبَات مَا تعلقه بالمبين من قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن هَذَا بَيَان لهَذَا وَإِن لم يعلم ذَلِك باضطرار من قَصده وَلَا يجوز إِثْبَات ذَلِك إِلَّا عَن ضَرُورَة وَلَا ضَرُورَة إِلَى ذَلِك مَعَ إِثْبَات قَول يُمكن أَن يكون بَيَانا وَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول جوزوا أَن يكون الْفِعْل هُوَ الَّذِي قصد بِهِ الْبَيَان وَإِن لم تقطعوا عَلَيْهِ لأَنا لَا نجوز ذَلِك إِلَّا لضَرُورَة وَلَا ضَرُورَة وَلَيْسَ الْغَرَض بِمَا ذَكرْنَاهُ من الْمِثَال إِلَّا التَّمْثِيل دون تَصْحِيح مَسْأَلَة الطوافين لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد قَالَ خُذُوا عني مَنَاسِككُم فقد علق بِهَذَا القَوْل فعله على الْآيَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن الْبَيَان كالمبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذَا الْبَاب يشْتَمل على شَيْئَيْنِ أَحدهمَا هَل الْبَيَان كالمبين فِي الْقُوَّة وَالْآخر هَل كالمبين فِي حكمه أم لَا أما الأول فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن إِن الْمُبين إِذا كَانَ لفظا مَعْلُوما وَجب كَون بَيَانه مثله وَإِلَّا لم يقبل وَلِهَذَا لم يقبل خبر الأوساق مَعَ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر وَالصَّحِيح أَنه يجوز أَن يكون الْبَيَان والمبين دَلِيلين معلومين وَيجوز أَن يَكُونَا أمارتين وَيجوز أَن يكون

الْمُبين مَعْلُوما وَبَيَانه مظنونا كَمَا جَازَ تَخْصِيص الْقُرْآن بِخَبَر الْوَاحِد لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع تعلق الْمصلحَة بذلك وَأما الآخر وَهُوَ هَل إِذا كَانَ الْمُبين وَاجِبا كَانَ بَيَانه كَذَلِك وَقد قَالَ قوم بذلك فَإِن أَرَادوا بذلك أَنه إِذا كَانَ الْمُبين وَاجِبا فبيانه بَيَان لصفة شَيْء وَاجِب فَصَحِيح وَإِن أَرَادوا أَنه يدل على الْوُجُوب كَمَا يدل الْمُبين فَغير صَحِيح لِأَن الْبَيَان إِنَّمَا يتَضَمَّن صفة الْمُبين وَلَيْسَ يتَضَمَّن لفظا يُفِيد الْوُجُوب وَإِن أَرَادوا بِهِ أَنه إِذا كَانَ الْمُبين وَاجِبا كَانَ بَيَانه وَاجِبا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا لم يكن الْفِعْل الْمُبين وَاجِبا لم يكن بَيَانه وَاجِبا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَاطِل لِأَن بَيَان الْمُجْمل وَاجِب سَوَاء تضمن فعلا وَاجِبا أَو غير وَاجِب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي جَوَاز تَأْخِير التَّبْلِيغ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه يجوز أَن يُؤَخر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَدَاء الْعِبَادَة إِلَى الْوَقْت الَّذِي يحْتَاج الْمُكَلف أَن يعرفهَا فِيهِ وَلَا يجب تَقْدِيم أَدَائِهَا عَلَيْهِ وَأوجب ذَلِك قوم وَلَيْسَ يَخْلُو أَن يوجبوا ذَلِك بِالْعقلِ أَو بِالسَّمْعِ وَلَو وَجب بِالْعقلِ لَكَانَ لَهُ وَجه وجوب يرجع إِلَى التَّكْلِيف إِمَّا لِأَنَّهُ تَمْكِين أَو لِأَنَّهُ لطف فَإِن كَانَ تمكينا لم يخل إِمَّا أَن يكون تمكينا من الْفِعْل أَو من فهم المُرَاد بِالْخِطَابِ وَمَعْلُوم أَنه لم يتَقَدَّم خطاب مُجمل يكون هَذَا بَيَانه وَلَيْسَ يقف إِمْكَان فعل الْعِبَادَة على تَقْدِيم أَدَائِهَا على الْوَقْت الَّذِي إِذا بلغت بِالْعبَادَة فِيهِ أمكن الْمُكَلف أَن يسْتَدلّ بِالْخِطَابِ على وُجُوبهَا فيفعلها فِي وَقتهَا وَأما كَون تقديمهم التَّبْلِيغ لفظا فَلَيْسَ فِي الْعقل طَرِيق إِلَيْهِ كَمَا أَنه لَيْسَ فِي الْعقل طَرِيق إِلَى كَون تَقْدِيم تَعْرِيف الله إيانا الْعِبَادَة الَّتِي يُرِيد أَن يعبدنا بهَا بعد سنة لطفا وَلِهَذَا لم يعرف الله على لِسَان نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَمِيع مَا يُرِيد أَن يتعبد بِهِ الْأمة فِي حَالَة وَاحِدَة فان قَالُوا إِنَّا نعلم وجوب ذَلِك بِالسَّمْعِ فَلَيْسَ فِي السّمع مَا يجوز أَن

يدل على ذَلِك إِلَّا قَول الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته} وَأَن الْأَمر على الْفَوْر وَقد أجَاب قَاضِي الْقُضَاة عَن ذَلِك بِأَن هَذَا الْأَمر إِنَّمَا يُفِيد وجوب تبليغه على الْحَد الَّذِي أَمر أَن يبلغ عَلَيْهِ من تَقْدِيم أَو تَأْخِير وَلقَائِل أَن يَقُول الْوَجْه الَّذِي أَمر أَن يبلغ عَلَيْهِ هُوَ التَّعْجِيل بِدلَالَة هَذَا الْأَمر وَأجَاب أَيْضا بِأَن المُرَاد بذلك هوالقرآن لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُطلق عَلَيْهِ الْوَصْف بِأَنَّهُ منزل من الله تَعَالَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه لَا يجوز تَأْخِير بَيَان الْخطاب عَن الْوَقْت الَّذِي إِن أخر الْبَيَان عَنهُ لم يتَمَكَّن الْمُكَلف من الْمعرفَة بِمَا تضمنه الْخطاب وَلَا يتَمَكَّن من فعل مَا تضمنه فِي الْوَقْت الَّذِي كلف فعله فِيهِ لِأَن فِي تَأْخِير الْبَيَان عَن هَذَا الْوَقْت تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق إِذْ لَا سَبِيل لَهُ وَالْحَال هَذِه إِلَى فعل مَا كلف فِي الْحَال الَّتِي كلف أَن يفعل فِيهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْخطاب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهب بعض الْحَنَفِيَّة وَبَعض الشَّافِعِيَّة إِلَى جَوَاز تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل والعموم عَن وَقت الْخطاب وَمن الْفُقَهَاء من اخْتَار بَيَان الْمُجْمل دون بَيَان الْعُمُوم وَإِلَيْهِ ذهب الشَّيْخ أَبُو الْحسن رَحمَه الله وَمِنْهُم من اخْتَار تَأْخِير بَيَان الْأَمر دون الْخَبَر وَمنع شيخانا أَبُو عَليّ وَأَبُو هَاشم وقاضي الْقُضَاة من تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل والعموم عَن وَقت الْخطاب أمرا كَانَ أَو خَبرا وأجازوا تَأْخِير بَيَان النّسخ

وَاعْلَم أَن تَأْخِير الْبَيَان يَنْقَسِم أقساما تخْتَلف الْأَدِلَّة عَلَيْهَا والشبه الْوَارِدَة فِيهَا بِحَسب اخْتِلَاف أقسامه فَوَجَبَ أَن نقسم ونتكلم على كل قسم على انْفِرَاده فَنَقُول إِن الْخطاب الَّذِي يحْتَاج إِلَى بَيَان ضَرْبَان أَحدهمَا أَنه ظَاهر قد اسْتعْمل فِي خِلَافه وَالثَّانِي لَا ظَاهر لَهُ كالأسماء الْمُشْتَركَة وَالْأول يَنْقَسِم أقساما مِنْهَا تَأْخِير بَيَان التَّخْصِيص وَمِنْهَا تَأْخِير بَيَان النّسخ وَمِنْهَا تَأْخِير بَيَان الْأَسْمَاء المنقولة إِلَى الشَّرْع وَمِنْهَا اسْم النكرَة إِذا أُرِيد بِهِ شَيْء معِين وكل هَذِه الْأَقْسَام لَا يجوز تَأْخِير بَيَانهَا بل لَا بُد من أَن يبين الْخطاب الْوَارِد فِيهَا إِمَّا بَيَانا مفصلا أَو مُجملا وَأما مَا لَا ظَاهر لَهُ فَيجوز تَأْخِير بَيَانه عَن وَقت الْخطاب وَالْكَلَام يَقع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع أَحدهَا تَأْخِير بَيَان مَا لَهُ ظَاهر وَقد اسْتعْمل فِي خِلَافه وَالْآخر فِي جَوَاز كَون بَيَان ذَلِك مُجملا وَالْآخر فِي جَوَاز تَأْخِير بَيَان مَا لَا ظَاهر لَهُ وَالدّلَالَة على الْمَنْع من تَأْخِير بَيَان مَا لَهُ ظَاهر إِذا اسْتعْمل فِي غَيره أَن الْعُمُوم خطاب لنا فِي الْحَال بِالْإِجْمَاع وَلَا يَخْلُو الْمُخَاطب بِهِ إِمَّا أَن يقْصد إفهاما فِي الْحَال أَو لَا يقْصد ذَلِك بِهِ فان لم يقْصد إفهامنا انْتقض كَونه مُخَاطبا لنا لِأَن الْمَعْقُول من قَوْلنَا أَنه مُخَاطب لنا أَنه قد وَجه الْخطاب نحونا وَلَا معنى لذَلِك إِلَّا أَنه قصد إفهامنا وَلِأَنَّهُ لَو لم يقْصد إفهامنا فِي الْحَال مَعَ أَن ظَاهره يَقْتَضِي كَونه خطابا لنا فِي الْحَال لَكَانَ قد أغرانا بِأَن نعتقد أَنه قد قصد إفهامنا فِي الْحَال فَيكون قد قصد أَن نجهل لِأَن من خَاطب قوما بلغتهم فقد أغراهم بِأَن يعتقدوا فِيهِ أَنه قد عَنى بِهِ مَا عنوه بِهِ وَلِأَنَّهُ لَو لم يقْصد إفهامنا لَكَانَ عَبَثا لِأَن الْفَائِدَة فِي الْخطاب إفهام الْمُخَاطب وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ أَن لَا يقْصد إفهامنا بِالْخِطَابِ جَازَ مُخَاطبَة الْعَرَب بالزنجية وَهُوَ لَا يحسنها إِذْ كَانَ غير وَاجِب إفهام الْمُخَاطب بل ذَلِك أولى بِالْجَوَازِ لِأَن الزنجية لَيْسَ لَهَا عِنْد الْعَرَبِيّ ظَاهر يَدعُوهُ إِلَى اعْتِقَاد مَعْنَاهُ وَلَو جَازَت مُخَاطبَة الْعَرَبِيّ بالزنجية وَيبين لَهُ بعد مُدَّة جَازَت مُخَاطبَة النَّائِم وَيبين لَهُ بعد مُدَّة وَأَن يقْصد الْإِنْسَان بالتصويت والتصفيق شَيْئا يُبينهُ بعد مُدَّة فان قيل خطاب الزنج لَا يفهم مِنْهُ الْعَرَبِيّ شَيْئا

فَلم يجز أَن يخاطبوا بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِك خطاب الْعَرَب بالمجمل لِأَن الْعَرَبِيّ يفهم بِهِ شَيْئا مَا لِأَن قَول الله سُبْحَانَهُ {أقِيمُوا الصَّلَاة} قد فهم بِهِ الْأَمر بِشَيْء وَإِن لم يعرف مَا هُوَ قيل إِن جَازَ أَن يكون اسْم الصَّلَاة وَاقعا على الدُّعَاء وَيُرِيد الله سُبْحَانَهُ غَيره وَلَا يبين لنا جَازَ أَن يكون ظَاهره قَوْله {أقِيمُوا} لأمر وَلَا يَسْتَعْمِلهُ فِي الْأَمر وَلَا يبين لنا ذَلِك وَفِي ذَلِك مسَاوٍ إِيَّاه لخطاب الزنج لأَنا لَا نفهم بِهِ شَيْئا أصلا وَإِن كَانَ قد أَرَادَ إفهامنا فِي الْحَال فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يُرِيد أَن نفهم أَن مُرَاده ظَاهره أَو غير ظَاهره فَإِن أَرَادَ الأول فقد أَرَادَ منا الْجَهْل وَإِن أَرَادَ الثَّانِي فقد أَرَادَ مَا لَا سَبِيل لنا إِلَيْهِ وَهَذِه الدّلَالَة تتَنَاوَل الْعَام الْمُسْتَعْمل فِي الْخُصُوص وَالْمُطلق الْمُفِيد للتكرار الْمَنْسُوخ والأسماء المنقولة إِلَى الشَّرِيعَة والنكرة إِذا أُرِيد بهَا شَيْء معِين لِأَن ذَلِك مُسْتَعْمل فِي خلاف ظَاهره وَلَا يلْزمنَا إِذا أشعرهم بالنسخ أَو بالتخصيص أَو بِتَعْيِين النكرَة لِأَن الْخطاب مَعَ هَذَا الْإِشْعَار يصير مُفِيدا للشَّيْء على طَرِيق الْجُمْلَة فَلَا يعزى ذَلِك بِفعل الْجَهْل وَلَا يكون تكليفا لما لَا سَبِيل إِلَيْهِ بل إِنَّمَا يُفِيد أَنه قصد الْمُتَكَلّم إفهامه للجملة إِن قيل أَلَيْسَ مَعَ أَن الْعُمُوم خطاب لنا فِي الْحَال لَا يجوز الْإِقْدَام على اعْتِقَاد استغراقه عِنْد سَمَاعه بل لَا بُد من أَن نقيس الْأَدِلَّة السمعية والعقلية فَنَنْظُر هَل فِيهَا مَا يَخُصُّهُ أم لَا فان لم يُوجد فَلم نجده قضينا باستغراق الْعُمُوم وَلَيْسَ فقد الدَّلِيل هُوَ لفظ فَيُقَال لنا جوزوا أَن يكون المُرَاد غير ظَاهره وَإِن وجدنَا دَلِيلا على التَّخْصِيص وَكَانَ عقليا فَهَذَا يمْتَنع فِيهِ ايضا وَإِن كَانَ سمعيا فاما أَن لَا نجد فِي الْأُصُول مَا يعدل بِنَا عَن ظَاهره أَو ننتهي إِلَى دَلِيل سَمْعِي لَا يكون فِي الْأُصُول مَا يعدل بِنَا عَن ظَاهره فَلم يلْزمنَا مَا ألزمناهم من التَّوَقُّف وقتا بعد وَقت إِلَى غير غَايَة فَهَذَا هُوَ القَوْل فِي الْمَسْأَلَة الأولى فَأَما إِذا أَرَادَ بِالْخِطَابِ غير ظَاهره وأشعر بذلك بِأَن يَقُول الْمُتَكَلّم بِالْعُمُومِ اعلموا أَنه مَخْصُوص وَلَا يبين مَا الْخَارِج مِنْهُ أَو يَقُول جوزوا

خصوصه حَتَّى أبينه وَالدّلَالَة على جَوَاز ذَلِك أَن الْعُمُوم مَعَ هَذَا الْإِشْعَار يصير كَلَفْظِ مَوْضُوع للجملة والتردد بَين الِاسْتِغْرَاق وَغَيره وَاللَّفْظ الْمَوْضُوع للجملة يحسن أَن يُورد ويقصد بِهِ الْجُمْلَة فَقَط على مَا سنبينه فِي الِاسْم الْمُشْتَرك وَلَا يلْزمنَا على ذَلِك أَن نتوقف فِي الْعِبَادَة فِي وَقت الْفِعْل فَيجوز أَن يكون المُرَاد بهَا غير ظَاهرهَا نَحْو أَن يَقُول صلوا غَدا فيريد بِهِ بعد غَد ويتأخر بَيَانه مفصلا لأَنا إِنَّمَا نجيز تَأْخِير بَيَان الْعُمُوم مَعَ الْأَشْعَار وَنَظِير ذَلِك أَن يتَأَخَّر بَيَان الْوَقْت مَعَ الْإِشْعَار وَكَذَلِكَ نقُول وَمَا لَا إِشْعَار مَعَه نقطع على ظَاهره وَيدل على ذَلِك أَن الله عز وَجل لما قَالَ {أقِيمُوا الصَّلَاة} لم يعلم النَّاس فِي ذَلِك الْوَقْت من هُوَ معني بِالْخِطَابِ لتجويز كل وَاحِد من الْمُكَلّفين أَنه يَمُوت قبل وَقت الصَّلَاة وعلمهم أَن الله لَا يَأْمر بِشَرْط فَهَذَا خطاب يعم كل مُكَلّف وَلَيْسَ علم المخاطبون أَنه قد عَنى بِهِ جَمِيعهم وَلِأَنَّهُ لم يعن بِهِ جَمِيعهم بل يجوزون كلا الْأَمريْنِ هَذِه صُورَة مَسْأَلَتنَا فان قَالُوا إِنَّمَا لم يقطعوا على عُمُومه لما أودع الله سُبْحَانَهُ فِي عُقُولهمْ من قبح تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَأَن فِي علمهمْ بحياة كلهم إغراء بِالْمَعَاصِي فَلذَلِك توقفوا قيل وَكَذَلِكَ إِذا أشعروا فِي التَّخْصِيص فقد علمُوا أَنه إِن كَانَ الْعُمُوم مَخْصُوصًا فَلَا يجوز أَن يُرَاد بِالْعُمُومِ من تنَاوله التَّخْصِيص فَفِي الْمَوْضِعَيْنِ يجوز للمكلف التَّخْصِيص وَيجوز خِلَافه وكما لم يبين لَهُم أَنهم يحيون أَو يحيى بَعضهم دون بعض لما فِي ذَلِك من الإغراء فَكَذَلِك يجوز أَن يشعروا بالتخصيص وَلَا يبين لَهُم تَفْصِيله لجَوَاز أَن تكون مصلحتهم أَن يتفقوا على الْجُمْلَة فَقَط فِي تِلْكَ الْحَال وَهَكَذَا القَوْل فِي الْخطاب الْمُفِيد للتكرار إِذا أشعرنا بنسخة وَالْخطاب الْمَنْقُول إِلَى معنى شَرْعِي إِذا أشعرنا بذلك من حَاله إِن قيل إِن جَازَ مَا ذكرْتُمْ فَهَلا جَازَت مُخَاطبَة الْعَرَبِيّ بالزنجية وَيُقَال لَهُ اعْلَم أننا أردنَا بِهَذَا الْكَلَام شَيْئا مَا قيل إِن الزنْجِي إِذا كَانَ حكيما فمعلوم أَنه قد أَرَادَ بخطابه شَيْئا مَا فَلَا معنى

لقَوْله قد أردْت بخطابي شَيْئا مَا وَإِن لم يكن حكيما فان السامح يظنّ أَنه قد اراد بخطابه شَيْئا مَا فان قَالُوا جوزوا أَن يخاطبه بالزنجية وَلَا يَقُول إِنَّه قد أردْت بخطابي شَيْئا قيل سنتكلم على ذَلِك فِيمَا بعد وعَلى أَن كلا الإلزامين مُتَوَجّه إِلَى الْمُخَالف لِأَنَّهُ يَقُول إِن خطاب الله الْعَام لَا يقطع على عُمُومه خبر يرد وَلَا على خصوصه لتجويزنا موت من توجه إِلَيْهِ الْخطاب فَأَما الْخطاب المتكرر إِذا عَنى بِهِ وَاحِدًا معينا وأشعرنا بِهِ فانه يجوز أَن يَقُول لغيره اضْرِب رجلا وَيَقُول أردْت رجلا بِعَيْنِه وسأبينه لكم وَالدَّلِيل على جَوَازه أَن كلا الْكَلَامَيْنِ يجريان مجْرى كَلَام مُشْتَرك بَين ضرب زيد وَعَمْرو وَغَيرهمَا فِي أَنه يُفِيد الْجُمْلَة دون التَّفْصِيل وسنبين ذَلِك فِي الِاسْم الْمُشْتَرك إِن قيل فَإِن كَانَ غَرَضه أَن يعرفنا أَنه أَرَادَ ضرب رجل بِعَيْنِه فَهَلا قَالَ ذَلِك وَلم يقل قبله اضربوا رجلا قيل وَإِذا كَانَ غَرَضه أَن يعرفنا فِي الْحَال أَن الرجل الَّذِي يُرِيد ضربه هُوَ زيد فَهَلا قَالَ ذَلِك وَلم يقدم عَلَيْهِ قَوْله اضربوا رجلا فان قُلْتُمْ لَعَلَّ فِي ذَلِك مصلحَة قُلْنَا نَحن مثله فَأَما الْخطاب الَّذِي لَا ظَاهر لَهُ وَهُوَ الِاسْم الْمُشْتَرك كالقرء الْمُشْتَرك بَين الطُّهْر وَبَين الْحيض فان لَهُ ظَاهرا من وَجه دون وَجه أما الْوَجْه الَّذِي يكون ظَاهرا فِيهِ فَهُوَ أَنه يُفِيد أَن الْمُتَكَلّم بِهِ لم يرد شَيْئا غير الطُّهْر وَغير الْحيض وَأَنه أَرَادَ إِمَّا هَذَا وَإِمَّا هَذَا فَمن هَذَا الْوَجْه لَا يحْتَاج إِلَى بَيَان وَمَتى أَرَادَ الْمُتَكَلّم بالقرء شَيْئا سوى الطُّهْر وَسوى الْحيض فقد أَرَادَ بِهِ غير ظَاهره فَلَا بُد من بَيَان إِمَّا مُجمل وَإِمَّا مفصل على مَا تقدم وَأما الْوَجْه الَّذِي يكون فِيهِ غير ظَاهر وَهُوَ أَنه لَا يُفِيد أَي الْأَمريْنِ أَرَادَهُ الْمُتَكَلّم الطُّهْر أم الْحيض وَلَا يجب أَن يقْتَرن بِهِ بَيَان فِي الْحَال وَالدَّلِيل على جَوَاز ذَلِك أَن اللَّفْظ مَا وضع لوَاحِد مِنْهُمَا بِعَيْنِه دون الآخر وَإنَّهُ وضع لكل وَاحِد مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ فَهُوَ يُفِيد الْإِجْمَال فَلَو لزم الْمُتَكَلّم أَن يبين التَّفْصِيل قبل وَقت الْفِعْل لَكَانَ إِمَّا أَن يلْزمه ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يبين الْحَكِيم مُرَاده لغيره على جِهَة سَبِيل الْإِجْمَال أَو يجوز ذَلِك من الْحَكِيم إِلَّا أَن الِاسْم الْمُشْتَرك لَا يُفِيد الْإِجْمَال وَلذَلِك وَجب أَن يبين

مُرَاده وَهَذَا الثَّانِي بَاطِل لأَنا قد بَينا أَن الِاسْم الْمُشْتَرك يُفِيد الْإِجْمَال وَالْقسم الأول بَاطِل أَيْضا لِأَن الْحَكِيم قد يجوز أَن يُفِيد غير مُرَاده على الْجُمْلَة كَمَا يجوز أَن يفِيدهُ إِيَّاه على التَّفْصِيل أَلا ترى أم زيدا قد يعلم أَن فِي الدَّار عَمْرو بِعَيْنِه فَيكون لَهُ غَرَض فِي أَن يعلم خَالِد أَن فِي الدَّار عَمْرو وَقد يكون لَهُ غَرَض فِي أَن يعرفهُ أَن فِي الدَّار رجل وَلَا يستقبح ذَلِك مِنْهُ أحد وَيحسن ذَلِك حسن أَن يكون فِي اللُّغَة الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة ليتوصل بهَا الْمُتَكَلّم إِلَى غَرَضه فِي إِفَادَة الْجُمْلَة دون التَّفْصِيل كَمَا يحسن أَن يكون فِيهَا أَسمَاء غير مُشْتَركَة ليتوصل بهَا الْمُتَكَلّم إِلَى غَرَضه فِي إِفَادَة التَّفْصِيل إِن قيل الْغَرَض بالتعبد هُوَ الْفِعْل وَالْعلم والاعتقاد تابعان فَيجب مراعاته دونهمَا وَأَنْتُم راعيتموها فِي هَذَا الْموضع الْجَواب أَن الْغَرَض قبل الْوَقْت هُوَ الْعلم وَلِهَذَا أوجبتم التَّمَكُّن مِنْهُ مفصلا وأوجبناه نَحن إِمَّا مفصلا وَإِمَّا مُجملا وَاحْتج من أَبى تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل بِأَن الله تَعَالَى لما قَالَ {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} إِمَّا أَن يكون أَرَادَ مِنْهَا الِاعْتِدَاد بِالطُّهْرِ إِن شَاءَت أَو بِالْحيضِ إِن شَاءَت أَو أَرَادَ مِنْهَا الِاعْتِدَاد بِوَاحِد مِنْهُمَا بِعَيْنِه وَأي الْأَمريْنِ أَرَادَهُ فقد أَرَادَ مِنْهَا مَا لَا سَبِيل للمجتهد إِلَى فهمه لِأَن اللَّفْظ لَا ينبيء عَن التَّخْيِير عنْدكُمْ وَلَا ينبيء عَن وَاحِد مِنْهُمَا بِعَيْنِه الْجَواب أَنه أَرَادَ مِنْهَا وَاحِدَة بِعَيْنِه وَلم يرد من الْمُجْتَهدين أَن يفهموه فِي الْحَال لِأَنَّهُ لم يدلهم عَلَيْهِ فِي الْحَال بِلَفْظ يَخُصُّهُ فيريد مِنْهُم فهمه وَإِنَّمَا دلهم على الْجُمْلَة فَهُوَ يُرِيد مِنْهُم فيهم الْجُمْلَة كَمَا لَو قَالَ اعْتدي بِوَاحِدَة من أحد شَيْئَيْنِ بِعَيْنِه إِمَّا الطُّهْر وَإِمَّا الْحيض وسأبينه لَك وكما لَو قَالَ الْقَائِل لغيره اضْرِب رجلا وَاعْلَم أَنه رجل معِين وسأبينه لَك فِي أَنه لم يرد مِنْهُ أَن يعرفهُ بِعَيْنِه فِي الْحَال إِمَّا أَرَادَ أَن يفهم وكما لَو علم أَن زيدا فِي الدَّار وَأَرَادَ إِعْلَام عَمْرو أَن فِي الدَّار رجل وَلم يرد إِعْلَامه أَن زيد فَقَالَ فِي الدَّار رجل فانه قد عَنى بِهِ زيدا وَلم يرد

أَن يعرفهُ أَنه زيد شُبْهَة لَو حسنت المخاطبة بِالِاسْمِ الْمُشْتَرك من غير بَيَان فِي الْحَال لحسنت مُخَاطبَة الْعَرَبِيّ بالزنجية مَعَ الْقُدْرَة على مخاطبته بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا يبين لَهُ فِي الْحَال وَالْعلَّة الجامعة بَينهمَا أَن السماع لَا يعرف مُرَاد الْمُتَكَلّم بهما على حَقِيقَة فان قُلْتُمْ إِنَّه لم يحسن مخاطبته بالزنجية لِأَن الْعَرَب لَا تعرف بِكَلَام الزنج شَيْئا وتعرف بالْكلَام الْمُجْمل شَيْئا مَا وَهُوَ أَن الْمُتَكَلّم أَرَادَ أحد معنيي الِاسْم الْمُشْتَرك قيل لكم لَيْسَ يخلوا إِمَّا أَن تعتبروا فِي حسن الْخطاب الْمعرفَة بِكَمَال المُرَاد أَو تعتبروا الْمعرفَة بِبَعْض المُرَاد فان اعتبرتم الأول لزمكم أَن لَا يجوز تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل لِأَنَّهُ لَا يُمكن مَعَ فَقده معرفَة كَمَال المُرَاد وَإِن اعتبرتم الثَّانِي لزمكم حسن مُخَاطبَة الْعَرَبِيّ بالزنجية لِأَن الْعَرَبِيّ إِذا عرف حكمه الزنْجِي الْمُخَاطب لَهُ علم أَنه قد اراد بخطابه شَيْئا مَا إِمَّا الْأَمر وَإِمَّا النَّهْي وَإِمَّا غَيرهمَا وَالْجَوَاب أَن الْمُعْتَبر فِي حسن الْخطاب أَن يتَمَكَّن السَّامع من أَن يعرف بِهِ مَا أَفَادَهُ الْخطاب وَهُوَ يتَمَكَّن من معرفَة مَا وضع لَهُ الِاسْم الْمُشْتَرك لِأَنَّهُ إِنَّمَا وضع لكل وَاحِد من معنييه على انْفِرَاده فالسامع لَهُ قد علم أَن مُرَاد الْمُتَكَلّم بِهِ إِمَّا هَذَا وَإِمَّا هَذَا وَهَذَا هُوَ التَّرَدُّد الَّذِي تَقْتَضِيه اللَّفْظَة كَمَا لَو قَالَ الْقَائِل للْمَرْأَة أُرِيد مِنْك أَن تعتدي بِشَيْء معِين من شَيْئَيْنِ إِمَّا الطُّهْر وَإِمَّا الْحيض أَنَّهَا قد فهمت مَا يُفِيد هَذَا الْخطاب من التَّرَدُّد بَين الطُّهْر وَالْحيض وَلَو قَالَ الرجل لغيره فِي الدَّار رجل فهم مِنْهُ السَّامع مَا يَقْتَضِيهِ الْخطاب من أَن شخصا فِيهِ معنى الرجولية فِي الدَّار وَإِن علم أَنه شخص معِين وَأما الْعَرَبِيّ فانه لَا يتَمَكَّن من أَن يعرف مَا وضع لَهُ خطاب الزنج فَلم يحسن أَن يُخَاطب بِهِ مُنْفَردا عَن بَيَان لِأَن ذَلِك الْخطاب إِمَّا أَن يكون أمرا أَو نهيا أَو خَبرا أَو استخبارا أَو غير ذَلِك وَالسَّامِع لَهُ من الْعَرَب لَا يتَمَكَّن من معرفَة ذَلِك فان قيل فَلَو كَانَ فِي كَلَام الزنج مَا هُوَ مُشْتَرك بَين الْأَمر وَالنَّهْي وَجَمِيع أَقسَام

الْكَلَام لَكَانَ يحسن من الزنْجِي أَن يُخَاطب بِهِ الْعَرَبِيّ مُعْتَقد الْعَرَبِيّ أَنه قد أَرَادَ الْمُتَكَلّم وَاحِدًا من ذَلِك قيل لَا يحسن ذَلِك لِأَنَّهُ كَمَا يجوز أَن يكون فِي كَلَام الزنج مَا هُوَ مُشْتَرك من ذَلِك فانه يجوز خِلَافه فَلَا يكون مُعْتَقدًا فِي ذَلِك الْكَلَام مَا يفِيدهُ من التَّرَدُّد من هَذِه الْأَقْسَام فَلَو اعْتقد ذَلِك لاعتقده بِغَيْر الْكَلَام وَإِنَّمَا اعتقده لاعْتِقَاده حِكْمَة الْمُتَكَلّم أَو ظَنّه حكمته وَإِن الْحَكِيم لَا بُد من أَن يُرِيد بخطابه شَيْئا مَا وَاحْتج من أجَاز تَأْخِير الْبَيَان من غير أَن فصل التَّفْصِيل الَّذِي ذَكرْنَاهُ بأَشْيَاء عقلية واشياء سمعية والسمعية مِنْهَا آيَات تدل على جَوَاز ذَلِك وَمِنْهَا آيَات وأخبار تدل على أَن الْبَيَان قد تَأَخّر من الله سُبْحَانَهُ وَمن رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والصدر الأول فَأَما الْأَشْيَاء الْعَقْلِيَّة فأمور مِنْهَا أَن الْبَيَان إِنَّمَا يجب ليتَمَكَّن الْمُكَلف من أَدَاء مَا كلف والتمكين من ذَلِك غير مُحْتَاج إِلَيْهِ عِنْد الْخطاب فانما يحْتَاج إِلَيْهِ قبل الْفِعْل بِلَا فصل فَلم يجب تَقْدِيمه عِنْد الْخطاب كَمَا لم يجب تَقْدِيم الْقُدْرَة عِنْد الْخطاب الْجَواب أَن مخالفهم يَقُول يحْتَاج إِلَى الْبَيَان لما ذَكرُوهُ وليخرج الْخطاب من كَونه عَبَثا أَو معزيا بِالْجَهْلِ وَكَانَ من حق المشتغل بِذكر الدَّلِيل أَن يذكر ذَلِك ويفسده يبين ذَلِك أَنه لَو لم يفْتَقر إِلَيْهِ إِلَّا للتمكن من الْأَدَاء لجَاز أَن يخاطبنا الله بِمَا لَا نفهم بِهِ شَيْئا أصلا كخطاب الزنج والمستدل يَأْبَى ذَلِك وَيَقُول لَا بُد من أَن يعرف السَّامع بِالْخِطَابِ شَيْئا مَا فَإِن قَالُوا لَيْسَ فِي تَأْخِير الْبَيَان إِيجَاب كَون الْخطاب عَبَثا لِأَنَّهُ وَإِن لم يفهم جِهَة المُرَاد فِي الْخطاب فَإِنَّهُ يُفِيد وجوب الْعَزْم والاعتقاد قيل فَيجب أَن يجوز خطاب الْعَرَبِيّ بالزنجية لِأَنَّهُ يُفِيد الْعَزْم والاعتقاد إِذا كَانَ الْمُتَكَلّم سيدا لسامع أَو علم السَّامع أَو ظن حكمته وعَلى أَنه إِنَّمَا يجب الْعَزْم والاعتقاد لَو علم أَن مَا خاطبه بِهِ أَمر وَمن يُجِيز تَأْخِير بَيَان الْعُمُوم وكل مَا لَهُ ظَاهر لَا يَأْمَن أَن تكون صِيغَة الْآمِر لم تسْتَعْمل فِي الْأَمر

وَأَنه يبين لَهُ ذَلِك فِيمَا بعد وَمِنْهَا قَوْلهم لَيْسَ فِي تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل إغراء بِالْجَهْلِ فَفَارَقَ تَأْخِير بَيَان الْعُمُوم ولمخالفهم أَن يَقُول إِنَّه وَإِن فَارقه من هَذِه الْجِهَة فَإِنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يخْتَص بِكَوْنِهِ عَبَثا إِذا تَأَخّر بَيَانه على حسب مَا يذكرُونَهُ وَمِنْهَا قَوْلهم لَو قبح تَأْخِير الْبَيَان لقبح تَأْخِير الزَّمَان الْقصير وَإِن عطف جملَة من الْكَلَام على جملَة أُخْرَى وَيبين الأولى عقيب الثَّانِيَة ولقبح الْبَيَان بالْكلَام الطَّوِيل ولمخالفهم أَن يَقُول إِنَّمَا يحسن تَأْخِير مُدَّة لَا يخرج الْكَلَام مَعهَا من أَن يكون مترقبا يَرْجُو فِيهِ السَّامع زِيَادَة شَرط وَتَقْيِيد بِصفة وَهَذَا غير حَاصِل فِي الزَّمَان الْقصير وَلِهَذَا جَازَ أَن يتَكَلَّم الْإِنْسَان بِمَا لَا يفهم ثمَّ يُبينهُ بعد زمَان قصير وَلَا يجوز قِيَاسا على ذَلِك أَن يُبينهُ بعد زمَان طَوِيل وَالْكَلَام وَإِذا عطف بعضه على بعض جرى مجْرى الْجُمْلَة الْوَاحِدَة فبيان الْجُمْلَة الأولى عِنْد آخر الْكَلَام يجْرِي مجْرى بَيَانهَا عقبيها وَأما الْفِعْل الطَّوِيل وَالْكَلَام الطَّوِيل فانما يجوز وُقُوع الْبَيَان بهما مَعَ إِمْكَان الْبَيَان بالْكلَام الْقصير إِذا كَانَ فِي ذَلِك زِيَادَة مصلحَة وَمَعْلُوم أَنه يحسن بَيَان مَا لَا يفهم بِهِ شَيْء أصلا بِمثل ذَلِك وَلَا يجوز قِيَاسا عَلَيْهِ تَأْخِير بَيَانه الزَّمَان الطَّوِيل وَمِنْهَا قَوْلهم لَو قبح تَأْخِير الْبَيَان لَكَانَ وَجه قبحه فقد تبين الْمُكَلف وَذَلِكَ يَقْتَضِي قبح الْخطاب إِذا لم يتبينه الْمُكَلف وَإِن بَين لَهُ وَسَوَاء أَتَى فِي ذَلِك من قبيل نَفسه أَو من قبيل غَيره أَلا ترى أَن الْإِنْسَان يسْقط تَكْلِيفه إِذا مَاتَ سَوَاء أَمَاتَهُ الله أَو قتل نَفسه ولمخالفهم أَن يَقُول إِنَّمَا قبح تَأْخِير الْبَيَان لِأَن فِيهِ فقد التَّمْكِين من التبين لَا فقد التبين وَهَذَا غير قَائِم إِذا بَين لَهُ فَلم يتَبَيَّن لتقصير مِنْهُ فِي النّظر وَأما الْمَيِّت فَإِنَّمَا سقط عَنهُ التَّكْلِيف لفقد تمكنه من الْفِعْل سَوَاء قتل نَفسه أَو أبطل الله سُبْحَانَهُ حَيَاته وعَلى أَن ذَلِك منتقض بدنو حَال الْفِعْل لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن لَا يبين لَهُ وَإِن كَانَ لَو بَين لَهُ فَلم يتَبَيَّن لم يُوجب ذَلِك قبح التَّكْلِيف وَلَا قبح الْبَيَان وَمِنْهَا قَوْلهم لَو قبح تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل لَكَانَ وَجه قبحه أَنه لَا يُمكن

السَّامع لَهُ أَن يعرف بِهِ كَمَال المُرَاد وَلَو قبح لذَلِك لقبح تَأْخِير بَيَان النّسخ وَبَيَان كَون الْمُكَلف غير مُرَاد بِالْخِطَابِ إِذا كَانَ الْمَعْلُوم أَنه يعجز أَو يَمُوت وَهَذِه الدّلَالَة صَحِيحَة وَقد أجَاب قَاضِي الْقُضَاة عَنْهَا بِأَن تَأْخِير النّسخ وَبَيَان كَون الْمُكَلف غير مُرَاد بِالْخِطَابِ لَا يخل بالمعرفة بِصفة مَا كلفناه فَلَا يخل بالتمكن من الْفِعْل فِي وقته وَلَيْسَ كَذَلِك تَأْخِير بَيَان صفة الْعِبَادَة لِأَن الْجَهْل بصفتها لَا يُمكن مَعَه أَدَاؤُهَا فِي وَقتهَا وَلقَائِل أَن يَقُول وَكَذَلِكَ تَأْخِير بَيَان صفة الْعِبَادَة عَن وَقت الْخطاب إِلَى وَقت الْحَاجة لَا يخل بأَدَاء الْعِبَادَة فِي وَقتهَا وَمِنْهَا قَوْلهم لَو قبح تَأْخِير بَيَان الْعُمُوم لقبح تَأْخِير بَيَان النّسخ وَتَأْخِير بَيَان الْمُكَلف لِلْعِبَادَةِ أَو تَأْخِير بَيَان التَّخْصِيص يخل الْعلم باستغراق الْعُمُوم الْأَشْخَاص كَمَا أَن تَأْخِير بَيَان النّسخ يخل بِالْعلمِ باستغراق الْخطاب والأوقات وَالْجَوَاب أَنه لَا يجوز بَيَان ذَلِك كُله إِلَّا مَعَ الْإِشْعَار بالنسخ وتجويز كَون الْمُكَلف مِمَّن يَمُوت والإشعار بالتخصيص وَقد تقدم بَيَان ذَلِك وَقد فصل قَاضِي الْقُضَاة بَين تَأْخِير بَيَان النّسخ وَبَين بَيَان التَّخْصِيص بِأَن الْخطاب الْمُطلق مَعْلُوم أَن حكمه مُرْتَفع لعلمنا بِانْقِطَاع التَّكْلِيف وَلَيْسَ كَذَلِك التَّخْصِيص وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الله عز وَجل لَو قَالَ صلوا كل يَوْم جُمُعَة لَكِن ظَاهره يَقْتَضِي الدَّوَام ولوجب أَن يخرج مِنْهُ مَا بعد الْمَوْت لدلَالَة وَيبقى الْبَاقِي على ظَاهره فان جَازَ أَن يكون حكم الْخطاب مرتفعا مَعَ الْحَيَاة والتمكن وَلَا يدل الله سُبْحَانَهُ على ذَلِك وَإِن كَانَ ظَاهر الْخطاب يتَنَاوَلهُ جَازَ مثله فِي الْعُمُوم إِن قيل إِنَّمَا جَازَ تَأْخِير بَيَان النّسخ لِأَنَّهُ بَيَان مَا لم يرد بِالْخِطَابِ قيل وَلم إِذا كَانَ كَذَلِك جَازَ تَأْخِيره وعَلى أَن تَأْخِير التَّخْصِيص هُوَ تَأْخِير بَيَان مَا لم يرف بِالْعُمُومِ فَلَا فرق بَينهمَا فَإِن قيل إِن التَّخْصِيص وَإِن كَانَ بَيَان مَا لم يردهُ الْمُتَكَلّم بِالْعبَادَة فان تَأْخِيره يقْدَح فِي الْعلم بِمن أَرَادَهُ الْمُتَكَلّم بِالْخِطَابِ لأَنا إِذا جَوَّزنَا أَن يكون قد أُرِيد بِالْعُمُومِ بعض لم يبين لنا لم نَأْمَن فِي كل شخص أَن يكون مَا أُرِيد بِالْخِطَابِ وَفِي ذَلِك شكنا فِي الْأَشْخَاص الَّذين أَرَادَهُم الْمُتَكَلّم قيل هَذَا قَائِم فِي النّسخ لِأَن الْخطاب إِذا أَفَادَ ظَاهره إِيجَاب الصَّلَاة فِي كل يَوْم جُمُعَة وَجوز تَأْخِير بَيَان النّسخ قطعا على أَن الصَّلَاة فِي الْجُمُعَة الأولى مُرَاده

لِأَن النّسخ لَا يجوز أَن يَتَنَاوَلهَا وَيجوز فِيمَا بعْدهَا أَن يكون غير مُرَاده فِي ذَلِك شكنا فِيمَا أُرِيد منا من الصَّلَاة فِي الْجمع المستانفة وعَلى أَنا نجوز أَن يَأْمر الله سُبْحَانَهُ الْمُكَلّفين بالأفعال مَعَ أَن كل وَاحِد مِنْهُم يجوز أَن يَمُوت قبل وَقت الْفِعْل فَلَا يكون مُرَاده بِالْخِطَابِ وَفِي ذَلِك شكنا فِيمَن أُرِيد بِالْخِطَابِ وَهَذَا هُوَ تَخْصِيص لم يتقدمه بَيَان وَأما مَا استدلوا بِهِ من جِهَة الْكتاب جَوَاز تَأْخِير الْبَيَان فأشياء مِنْهَا قَوْله عز وَجل {إِن علينا جمعه وقرآنه فَإِذا قرأناه فَاتبع قرآنه ثمَّ إِن علينا بَيَانه} وَمعنى قرأناه أَنزَلْنَاهُ عَلَيْك لِأَنَّهُ قَالَ فاذا قرأناه فَاتبع قرآنه وَلَا يُمكن أَن يعقب الإتباع إِلَّا لإنزال الْقُرْآن وَقَالَ بعد ذَلِك {ثمَّ إِن علينا بَيَانه} وَثمّ للتراخي دلّ على أَن الْبَيَان إِنَّمَا يجب متراخيا عَن الْإِنْزَال وَالْجَوَاب أَن قَوْله سُبْحَانَهُ ثمَّ إِن علينا بَيَانه يرجع إِلَى جَمِيع الْمَذْكُور وَهُوَ الْقُرْآن وجميعه لَا يحْتَاج إِلَى بَيَان وَيجب صرف الْبَيَان هَا هُنَا إِلَى غير مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ فَلَيْسَ هم بِأَن يحملوا الْبَيَان هَا هُنَا على بَيَان الْمُجْمل والعموم لِأَن الظَّاهِر من إِطْلَاق اسْم الْبَيَان بِأولى من أَن نتمسك بِالظَّاهِرِ من رُجُوع الْكِنَايَة إِلَى جَمِيع الْقُرْآن وَيكون الْبَيَان هَا هُنَا إِظْهَاره بالتنزيل أَو نحمله على الْبَيَان الْمفصل لأَنا نجيز تَأْخِيره على مَا بَيناهُ وَيجوز أَن يكون قَوْله ثمَّ أَن علينا بَيَانه يتراخى عَن فَائِدَة قَوْله إِن علينا جمعه وقرآنه فَكَأَنَّهُ يجمعه فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ ثمَّ ينزله ويبينه وَذَلِكَ متراخ عَن الْجَمِيع وَمِنْهَا قَوْله عز وَجل {وَلَا تعجل بِالْقُرْآنِ من قبل أَن يقْضى إِلَيْك وحيه} وَالْجَوَاب أَن ظَاهر ذَلِك يمْنَع من تَعْجِيل نفس الْقُرْآن لَا بَيَانه وَمعنى ذَلِك لَا تعجل بأَدَاء الْقُرْآن عقيب سَمَاعه حَتَّى لَا يخْتَلط عَلَيْهِ سَمَاعه بِأَدَائِهِ فَأَما مَا استدلوا بِهِ على أَن الْبَيَان قد تَأَخّر لِأَشْيَاء

مِنْهَا أَن الله سُبْحَانَهُ لما أنزل قَوْله {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم أَنْتُم لَهَا وَارِدُونَ} قَالَ ابْن الزبعري فقد عبدت الْمَلَائِكَة وَعبد الْمَسِيح أفهؤلاء حصب جَهَنَّم فَتَأَخر بَيَان ذَلِك حَتَّى أنزل قَوْله {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى} الْآيَة الْجَواب أَن الْبَيَان قد كَانَ حَاضرا وَلَكِن الْقَوْم لم يتبينوا لعنادهم لِأَن الله سُبْحَانَهُ قَالَ {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ} وَمَا لما لَا يعقل فَلم يدْخل فِيهِ الْمَسِيح وَالْمَلَائِكَة وَمِنْهَا أَن الله سُبْحَانَهُ لما أَمر بني إِسْرَائِيل بِذبح بقرة أَرَادَ بقرة مَوْصُوفَة غير منكورة وَلم يبينها لَهُم حَتَّى سَأَلُوا سؤالا بعد سُؤال وَالدّلَالَة على أَنه لم يرد بقرة مَذْكُورَة أَن قَوْلهم {ادْع لنا رَبك يبين لنا مَا هِيَ} و {مَا لَوْنهَا} وَقَول الله تَعَالَى {إِنَّه يَقُول إِنَّهَا بقرة لَا فارض} و {إِنَّهَا بقرة صفراء} و {إِنَّهَا بقرة لَا ذَلُول} ينْصَرف إِلَى مَا أمروا من قبل وَهَذَا يمْنَع من كَون هَذِه الْأَقَاوِيل تكاليف ممدودة قَالُوا وَلَيْسَ لكم أَن تَقولُوا إِن قَوْله {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} يُفِيد سُقُوط الْفَرْض بِذبح أَي بقرة شاؤوا وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يكون إِيجَاب كَونهَا صفراء إِيجَابا مُجَردا وَكَانَ ذَلِك مصلحَة بِشَرْط تقدم الْأَمر بالمذكور وعصيانهم فِيهَا لِأَن الظَّاهِر وَإِن كَانَ مَا ذكرْتُمْ فَالظَّاهِر من هَذِه الْكِنَايَات رُجُوعهَا إِلَى مَا أمروا من قبل بذَبْحه والتمسك بظواهر هَذِه الْكِنَايَات مَعَ كثرتها وَترك ظَاهر وَاحِد وتأويله أولى من التَّمَسُّك بِظَاهِر وَاحِد وَترك عدَّة ظواهر وَالْجَوَاب أَن سُؤَالهمْ عَنْهَا يدل على أَن مُوسَى كَانَ قد أشعرهم بِأَن الْبَقَرَة غير منكورة وَلَوْلَا ذَلِك مَا خفى عَلَيْهِم أَنَّهَا مُطلقَة ولمخالفهم أَيْضا أَن يَقُول لَا يمْتَنع أَن يكون الْبَيَان قد كَانَ تقدم فَلم يتبينوا وَأَيْضًا فَيمكن أَن يُقَال إِن خُرُوج هَذَا الْكَلَام مخرج الذَّم

لَهُم وَقَول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ بَنو إِسْرَائِيل شَدَّدُوا فَشدد الله عَلَيْهِم يدل على أَن الْبَقَرَة الَّتِي أمروا ابْتِدَاء بذبحها كَانَت مَذْكُورَة وَأَنَّهُمْ كلفوا بعد ذَلِك تكليفا مُجَردا ذبح بقرة صفراء وَمِنْهَا أَن الله سُبْحَانَهُ قَالَ {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن السَّلب للْقَاتِل وَأَن بني أُميَّة لم يدخلُوا فِي ذَوي الْقُرْبَى فَالْجَوَاب أَنه لَا يمْتَنع أَن يكون الْبَيَان الْمُجْمل أَو الْمفصل قد كَانَ تقدم وَمِنْهَا أَن الْمَلَائِكَة قَالَت لإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام {إِنَّا مهلكو أهل هَذِه الْقرْيَة إِن أَهلهَا كَانُوا ظالمين} وَلم يبينوا أَنهم لم يُرِيدُوا لوطا وَالْمُؤمنِينَ حَتَّى سَأَلَهُمْ فَقَالُوا {نَحن أعلم بِمن فِيهَا لننجينه وَأَهله} وَالْجَوَاب أَنهم قد بينوا ذَلِك بقَوْلهمْ {إِن أَهلهَا كَانُوا ظالمين} لِأَن ذَلِك لَا يدْخل فِيهِ من لم يظلم وَلَو لم يكن ذَلِك بَيَانا لم يمْنَع أَن يَكُونُوا أَرَادوا فِي الْحَال بَيَان ذَلِك فبادرهم بالسؤال وَمِنْهَا مَا رُوِيَ أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقْرَأ قَالَ وَمَا أَقرَأ يَقُولهَا ثَلَاث مَرَّات ثمَّ قَالَ {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق} قَالُوا فَأخر بَيَان مَا أمره بِهِ وَالْجَوَاب أَن هَذِه الرِّوَايَة من أَخْبَار الْآحَاد فَلم يَصح التَّعَلُّق بهَا هَا هُنَا وَأَيْضًا فَإِن الْأَمر إِن كَانَ على الْفَوْر فقد اقْتضى الْفِعْل فِي الثَّانِي وَفِي ذَلِك تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْفِعْل وَإِن لم يكن الْأَمر على الْفَوْر فَإِنَّهُ يُفِيد جَوَاز الْفِعْل فِي الثَّانِي وَتَأْخِير الْبَيَان عَنهُ تَأْخِير لَهُ عَن وَقت الْحَاجة فَلَا بُد لنا وَلَهُم من ترك الظَّاهِر

وَمِنْهَا قَوْلهم إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سُئِلَ عَن الصَّلَاة لم يبينها فِي الْحَال وانتظر مَجِيء الْوَقْت حَتَّى يبينها بِالْفِعْلِ وَلم يبين آيَة الْحَج إِلَّا حِين حج وَقَالَ خُذُوا عني مَنَاسِككُم وَالْجَوَاب أَنه لَا يمْتَنع أَن يكون قد أشعر بِأَن المُرَاد بِالصَّلَاةِ لَيْسَ هُوَ الدُّعَاء بل هُوَ شَيْء آخر قد انْتقل اسْم الصَّلَاة إِلَيْهِ وَلَوْلَا هَذَا الْإِشْعَار لما سَأَلَ السَّائِل عَن الصَّلَاة بل كَانَ يحمل الصَّلَاة على الدُّعَاء وَلَا يمْتَنع أَن يكون قد بَينهَا من قبل بالْقَوْل وَأخر بَيَانهَا بِالْفِعْلِ إِلَى وَقتهَا ليتأكد الْبَيَان وَأما الْحَج فقد بَينه قولا قبل أَن يحجّ وَلِهَذَا حج أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ بِالنَّاسِ وَمِنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الْمُزَابَنَة فَلَمَّا شكت الْأَنْصَار إِلَيْهِ أرخص لَهُم فِي الْعَرَايَا ضرب من المزاينة وَهَذَا تَأْخِير بَيَان وَالْجَوَاب أَنه يجوز أَن يكون بَين لَهُم ذَلِك بَيَانا مُجملا أَو مفصلا فَلم يتبينوه على أَن قَوْله أرخص لَهُم فِي الْعَرَايَا اسْتثِْنَاء وَشرع فِي إِبَاحَة الْعَرَايَا وَفِي ذَلِك كَون هَذِه الْإِبَاحَة نسخا مُتَقَدما فمنى أجَاز تَأْخِير بَيَان النّسخ لم يلْزمه هَذَا الْكَلَام وَمن لم يجز ذَلِك إِلَّا بالإشعار يَقُول قد كَانَ أشعرهم بِأَنَّهُ سيعرض للحظر نسخ وَمِنْهَا أَن عمر رَضِي الله عَنهُ سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْكَلَالَة فَقَالَ يَكْفِيك آيَة الصَّيف فَكَانَ عمر يَقُول اللَّهُمَّ مهما شِئْت فان عمر لم يتَبَيَّن وَالْجَوَاب أَنه لَا يمْتَنع أَن يكون الْبَيَان لم يتَأَخَّر وَلكنه لم يتَبَيَّن وَلَا بُد للمستدل من أَن يَقُول ذَلِك لِأَن الْحَاجة قد كَانَت حضرت وَمِنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنفذ معَاذًا إِلَى الْيمن ليعلمهم الزَّكَاة وَغَيرهَا فَسَأَلُوهُ عَن الوقص فَقَالَ مَا سَمِعت فِيهِ شَيْئا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أرجع إِلَيْهِ فأسأله فَعلم أَن بَيَان ذَلِك لم يكن تقدم وَالْجَوَاب أَنه يجوز أَن يكون الْبَيَان قد كَانَ تقدم وَلم يتبينه معَاذ على أَن بَيَان ذَلِك هُوَ بِالْبَقَاءِ على حكم

الْعقل فِي أَن لَا زَكَاة فِي الوقص وَلَا فِي غَيره إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْع وَقَول معَاذ حَتَّى أسأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج على سَبِيل الْإِظْهَار لِأَن الْإِنْسَان قد يستظهر فِي السُّؤَال عَمَّا يعمله سِيمَا وَقد كَانَ يجوز معَاذ أَن يكون قد تجدّد فِي ذَلِك شرع لم يُعلمهُ على أَنه لَو لم يكن الْجَواب فِي ذَلِك مَا ذَكرْنَاهُ لدل على أَن الْبَيَان قد تَأَخّر عَن وَقت الْحَاجة لِأَن معَاذًا بعث إِلَى الْيمن ليَأْخُذ مِنْهُم الزَّكَاة وليعلمهم مَا يجب عَلَيْهِم وَكَانَ يجب عَلَيْهِم أَن يعلمُوا مِنْهُ فالحاجة قد كَانَت حضرت وَمِنْهَا قَوْلهم قد وَردت أَخْبَار مستفيضة فِي بَيَان آيَات من الْقُرْآن وَإِنَّمَا تستفيض بعد مُدَّة وَفِي ذَلِك تَأْخِير بَيَانهَا عَنَّا إِلَى أَن يستفيض الْخَبَر وَالْجَوَاب أَن بَيَان الْقُرْآن مِنْهُ مَا لَا يجوز نَقله إِلَّا مستفيضا وَهُوَ مَا تعبدنا فِيهِ بِالْعلمِ دون الظَّن وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يستفيض ذَلِك فِي حَالَة استفاضة نقل الْقُرْآن وَإِن كَانَ نقل الْقُرْآن امْتَدَّ استفاضة وَمِنْه مَا يجوز نقل بَيَانه بالآحاد وَهُوَ مَا للظن فِيهِ مدْخل وَلَيْسَ يجب أَن يستفيض ذَلِك فَيُقَال إِنَّمَا يستفيض فِي مُدَّة فَيتَأَخَّر فِيهَا الْبَيَان وَمِنْهَا أَن الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم نقلت أَخْبَارًا عِنْد نزُول الْحَاجة إِلَيْهَا وَهِي مخصصة للْعُمُوم كالخبر فِي أَخذ الْجِزْيَة من الْمَجُوس وَغير ذَلِك فَلَو لم يجز تَأْخِير الْبَيَان لما نقلت ذَلِك وَالْجَوَاب أَن من منع من تأخيرالبيان من يجوز أَن لَا يستمع الْمُكَلف بالْخبر الْخَاص وَيَقُول يلْزمه الْبَحْث والطلب إِذا حوفه الخاطر يجوز أَن يكون فِي الْأَدِلَّة مَا يخصص الْعُمُوم فَلَا سُؤال عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَن يجب أَن يبين لَهُ المُرَاد بِالْخِطَابِ وفيمن لَا يجب أَن يبين لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعلم أَن ظَاهر الْأَمر إِذا تنَاول أفعالا من جمَاعَة فَإِنَّهُ يجوز أَن يُرِيد الْمُتَكَلّم جَمِيعهم وَيجوز أَن يُرِيد بَعضهم وَيجوز أَن يُرِيد جَمِيع تِلْكَ الْأَفْعَال وَيجوز أَن يُرِيد بَعْضهَا دون بعض فاذا صدر من الله سُبْحَانَهُ مَا ظَاهره الْأَمر بِأَفْعَال وَلم

يدل الْأَمر على مُرَاده من تِلْكَ الْأَفْعَال كَانَ ذَلِك صربان أَحدهمَا أَن يكون الِاسْم المتناول الْأَفْعَال مُجملا كَقَوْلِه تَعَالَى {أقِيمُوا الصَّلَاة} وَالْآخر يكون الِاسْم ينبىء عَن صفتهَا لكنه عَام أُرِيد بعضه كَقَوْلِه تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} وَهُوَ لَا يُرِيد بَعضهم وَيجب فِي كلا الضربين أَن يبين الله تَعَالَى مُرَاده لمن أَرَادَ أَن يفهم الْخطاب دون من لم يرد أَن يفهمهُ أما من أَرَادَ أَن يفهمهُ فانه لَو لم يبين لَهُ المُرَاد مَعَ أَنه لَا سَبِيل لَهُ إِلَى مَا كلف من الْفَهم إِلَّا بِالْبَيَانِ كَانَ قد كلف مَا لَا سَبِيل لَهُ إِلَيْهِ وَأما من لم يرد أَن يفهم الْخطاب فانما لم يجب أَن يبين لَهُ المُرَاد لِأَنَّهُ لَا وَجه لوُجُوب بَيَان المُرَاد إِلَّا كَونه تمكينا مِمَّا أُرِيد من فهم المُرَاد وَهَذَا غير قَائِم لمن يرد الله سُبْحَانَهُ أَن يفهم مُرَاده بِالْخِطَابِ وَمَا لَيْسَ لَهُ وَجه وجوب فَلَيْسَ بِوَاجِب وَلِهَذَا لما لم يكن للأقدار وَجه وجوب إِلَّا كَونه تمكينا من الْفِعْل لم يلْزم أَن يقدر الله سُبْحَانَهُ على الْفِعْل من لم يكلفه فعله وَلِهَذَا لم يجب فِي حِكْمَة الله أَن يبين لنا مُرَاده بالكتب السالفة فأذا ثَبت ذَلِك فَالَّذِينَ أَرَادَ الله سُبْحَانَهُ مِنْهُم فهم خطابه ضَرْبَان أَحدهمَا أَرَادَ مِنْهُم فعل مَا تضمنه الْخطاب إِن كَانَ مَا تضمنه الْكتاب فعلا وَالْآخر لم يرد مِنْهُم فعل مَا تضمنه والأولون هم الْعلمَاء وَقد أَرَادَ الله سُبْحَانَهُ أَن يفهموا مُرَاده بِآيَة الصَّلَاة وَأَن يفعلوها وَالْآخرُونَ هم الْعلمَاء فِي أَحْكَام الْحيض قد أُرِيد مِنْهُم الْخطاب وَلم يرد مِنْهُم فعل مَا تضمنه الْخطاب وَالَّذين لم يرد الله سُبْحَانَهُ أَن يفهموا مُرَاده وَلم يُوجب ذَلِك عَلَيْهِم ذَلِك ضَرْبَان أَحدهمَا لم يرد مِنْهُم أَن يَفْعَلُوا مَا تضمنه الْخطاب وَالْآخر أَرَادَ مِنْهُم الْفِعْل فالأولون هم أمتنَا مَعَ الْكتب السالفة لِأَن الله سُبْحَانَهُ مَا أَرَادَ أَن يفهموا مُرَاده بهَا وَلَا أَن يَفْعَلُوا مقتضاها وَالْآخرُونَ هم النِّسَاء فِي أَحْكَام

الْحيض لِأَن الله سُبْحَانَهُ أَرَادَ مِنْهُنَّ الْتِزَام أَحْكَام الْحيض بِشَرْط أَن يفتيهن الْمُفْتِي وَجعل لَهُنَّ سَبِيلا إِلَى ذَلِك بِمَا علمنه من دين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من وجوب الرُّجُوع إِلَى الْعلمَاء أَو لم يرد مِنْهُنَّ على سَبِيل الْإِيجَاب فهم المُرَاد بِالْخِطَابِ لِأَنَّهُ لم يُوجب عَلَيْهِنَّ سَماع أَخْبَار الْحيض فضلا عَن الفحص عَن بَيَان مجملها وَتَخْصِيص عامها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب جَوَاز إسماع الْمُكَلف الْعَام دون الْخَاص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - منع أَبُو الْهُذيْل وَأَبُو عَليّ رحمهمَا الله من ان يسمع الْحَكِيم خطابه الْعَام الْمُكَلف من دون أَن يسمعهُ مَا يدل من جِهَة السّمع على تَخْصِيصه وَمَا لَا يشْغلهُ عَن سَماع الْعَام حَتَّى يسمع الْخَاص مَعَه وأجازا أَن يسمعهُ الْعَام الْمَخْصُوص بأدلة الْعقل وَإِن لم يعلم السَّامع أَن فِي أَدَاة الْعقل مَا يدل على تَخْصِيصه وَأَجَازَ أَبُو إِسْحَق النظام وَأَبُو هَاشم رحمهمَا الله أَن يسمعهُ الْعَام من دون أَن يعرف الْخَاص سَوَاء كَانَ مَا يدل على تَخْصِيصه دَلِيلا عقليا أَو سمعيا وَهُوَ ظَاهر مَذْهَب الْفُقَهَاء وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الْعُمُوم الْمَخْصُوص يُمكن الْمُكَلف اعْتِقَاد تَخْصِيصه إِذا سمع بِالدَّلِيلِ الْمُخَصّص كَمَا يُمكنهُ ذَلِك إِذا لم يسمع بِهِ فَجَاز غسماعه الْعَام وَإِن تكلّف اعْتِقَاد تَخْصِيصه فِي الْحَالين لِأَنَّهُ فيهمَا مُتَمَكن مِمَّا كلف إِن قبل وَلم زعمتم أَنه يُمكنهُ اعْتِقَاد التَّخْصِيص إِذا لم يسمع الْمُخَصّص قيل لِأَن الله سُبْحَانَهُ يخْطر بِبَالِهِ جَوَاز كَون الْمُخَصّص فِي الشَّرْع فيشعره بذلك فيجوزه فاذا جوزه وَجب عَلَيْهِ طلبه كَمَا يلْزمه الْمعرفَة عِنْدَمَا يخَاف بالخاطر وَإِذا قلب الْمُخَصّص ظفر بِهِ فاذا نظر فِيهِ اعْتقد التَّخْصِيص وبمثل هَذِه الطَّرِيقَة يعلم التَّخْصِيص إِذا كَانَ الْمُخَصّص دَلِيلا عقليا إِن قيل دلَالَة الْعقل حَاضِرَة عِنْد السَّامع للْعُمُوم فأمكنه الْعلم بالتخصيص وَلَيْسَ كَذَلِك الْمُخَصّص السمعي إِذا لم يسمعهُ قيل لَا فرق بَينهمَا لِأَن كثيرا من الْمذَاهب لَا يشْعر الْإِنْسَان بِأَن عَلَيْهَا دَلِيلا عقليا بل رُبمَا استبعد أَن يكون عَلَيْهَا دَلِيلا عقليا كَمَا لَا يعلم أَن

على كثير من الْمذَاهب دلَالَة شَرْعِيَّة فَكَمَا جَازَ أَن يُكَلف طلب أَحدهمَا بالخاطر جَازَ مثه فِي الآخر وَاحْتج الْأَولونَ بأَشْيَاء مِنْهَا أَنه لَو أسمع الْحَكِيم غَيره الْعَام دون الْخَاص لَكَانَ قد أغراه بِالْجَهْلِ وَهُوَ اعْتِقَاد استغراقه وَإِبَاحَة ذَلِك وَهَذَا قَبِيح وَالْجَوَاب أَنه يلْزم عَلَيْهِ أَن يكون قد أغراه بِالْجَهْلِ إِذا كَانَ الْمُخَصّص عقليا وعَلى أَن لَا يكون مغريا لَهُ بِالْجَهْلِ إِذا أشعره بالمخصص وأخطر ذَلِك بِبَالِهِ وخوفه من ترك طلبه وَمِنْهَا أَنه لَو اسْمَعْهُ من دون الْخَاص لجرى مجْرى خطاب الْعَرَبِيّ بالزنجية وَالْجَوَاب أَن ذَلِك دَعْوَى وَالْفرق بَينهمَا أَن الْعَرَبِيّ لَا يفهم الزنجية وَلَا يتَمَكَّن من فهمها إِذا لم يكن من يُفَسِّرهَا لَهُ وَلَيْسَ كَذَلِك من خُوطِبَ بِالْعَام وَيجوز كَون الْمُخَصّص فِي الشَّرْع وَمَا قَالُوهُ يلْزمهُم مثله إِذا كَانَ الْمُخَصّص عقليا وَمِنْهَا أَنه لَو جَازَ أَن يسمعهُ الْعَام دون الْخَاص لجَاز أَن يسمعهُ الْمَنْسُوخ دون النَّاسِخ والمجمل دون الْبَيَان وَالْجَوَاب أَنه يجوز ذَلِك إِذا أشعره بالناسخ وَالْبَيَان وَكَانَ أَبُو على رُبمَا سوى بَين إسماع الْعُمُوم من دون الْمُخَصّص وَبَين إسماع الْمَنْسُوخ من دون النَّاسِخ وَرُبمَا لم يجز ذَلِك فِي الْعُمُوم وَأَجَازَهُ فِي النَّاسِخ وَالْأولَى التَّسْوِيَة بَينهمَا فِي الْمَنْع وَالْجَوَاز وَمِنْهَا انه لَو اسْمَعْهُ الْعَام دون الْخَاص للَزِمَ الْمُكَلف الْوَقْف حَتَّى يفحص عَن الْمُخَصّص وَفِي ذَلِك دُخُول فِي قَول أَصْحَاب الْوَقْف وَالْجَوَاب أَنه يلْزم مثله فِي الْمُخَصّص الْعقلِيّ وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي ذَلِك دُخُول فِي قَول أَصْحَاب الْوَقْف لِأَن أَصْحَاب الْوَقْف يقفون فِي الْعُمُوم مَعَ علمهمْ بتجرده عَن الْقَرَائِن وَنحن لَا نقف فِيهِ وَالْحَال هَذِه وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْإِنْسَان يلْزمه الْعَمَل بِمَا يُعلمهُ من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة وَلَا يلْزمه طلبَهَا أَلا ترى أَنه يلْزمه أَن يعْمل على مَا فِي عقله وَلَا يلْزمه أَن يتَوَقَّف

ويجوب الْبِلَاد ليعلم هَل بعث نَبِي يَنْقُلهُ عَمَّا فِي عقله أم لَا فَكَذَلِك يَنْبَغِي إِذا سمع أَن يعْتَقد استغراقه وَلَا يلْزمه طلب مَا يخصصه صِيغَة الْعُمُوم فَلَو جَازَ أَن يسمع الْعَام دون الْخَاص لَكَانَ مُبَاحا لَهُ أَن يعْتَقد استغراقه وَفِي ذَلِك إِبَاحَة الْجَهْل وَالْجَوَاب أَنه يلْزمهُم مثله فِي الْعُمُوم إِذا كَانَ الْمُخَصّص عقليا وَأَيْضًا فان هَذَا يدل على جَوَاز أَن يسمع الله تَعَالَى الْمُكَلف الْعَام وَلَا يسمعهُ الْخَاص وَيجوز لَهُ أَن يعْمل على ذَلِك من غير أَن طلب الْخَاص كَمَا يجوز أَن لَا يعرفهُ الله سُبْحَانَهُ أَنه قد بعث نَبيا فَلَا يلْزمه طلبه بل يعْمل على مَا فِي عقله فشبهتهم قد دلّت على مَا نتفق نَحن وهم على فَسَاده وَهُوَ جَوَاز أَلا يسمع الْخَاص وَلَا يلْزمه الطّلب لَهُ وَأَيْضًا فان الَّذِي ذَكرُوهُ هُوَ أَنه لَا يجب على الْإِنْسَان أَن يطوف الْبِلَاد وَيسْأل هَل بعث نَبِي أم لَا بل يفعل بِحَسب مَا فِي عقله وَنَظِير هَذَا إِذا سمع الْمُكَلف الْعَام أَن لَا يلْزمه أَن يطوف الْبِلَاد بِطَلَب الْمُخَصّص وَكَذَلِكَ نقُول فَإنَّا نوجب عَلَيْهِ الْعَمَل على الْعَام فَإِن كَانَ مَخْصُوصًا فَإِنَّمَا يلْزمه تَخْصِيصه بِشَرْط أَن يبلغهُ الْمُخَصّص فَأَما إِذا سمع بِنَبِي فِي بلد فَإِنَّهُ يلْزمه أَن يسْأَل عَنهُ كَمَا يلْزمه أَن يسْأَل عَمَّا يخصص الْعُمُوم فِي بَلَده فَإِن قيل فَإِن كَانَ الْعُمُوم نَاقِلا عَمَّا فِي الْعقل وَكَانَ الْعَمَل بِهِ قد حضر وضاق الْوَقْت عَن طلب الْمُخَصّص مَا الَّذِي يلْزمه قيل الْأَشْبَه أَن يلْزمه الْعَمَل على الْعُمُوم لِأَنَّهُ لَو لم يجز ذَلِك لم يسمعهُ الله سُبْحَانَهُ قبل تَمْكِينه من الْمعرفَة بالمخصص فَيجب عَلَيْهِ الْعَمَل على الْعُمُوم ثمَّ يطْلب الْمُخَصّص فِيمَا بعد وَيحْتَمل أَن يُقَال يعْمل على مَا فِي عقله لِأَن من شَرط الْعَمَل على الْعُمُوم أَن يعلم فقد الْمُخَصّص وَهَذَا غير حَاصِل وَيجوز أَن يكون لَهُ مصلحَة فِي سَماع الْعُمُوم فِي ذَلِك الْوَقْت

الكلام في الأفعال

الْكَلَام فِي الْأَفْعَال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي ذكر فُصُول الْأَفْعَال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْغَرَض بالْكلَام فِي أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نَنْظُر هَل تدل على حكم من الْأَحْكَام وَإِن دلّت فعلى أَي حكم تدل وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن نقسم الْأَفْعَال فِي الْجُمْلَة بِحَسب أَحْكَامهَا من الْحسن والقبح وَمَا يتَفَرَّع عَلَيْهَا ثمَّ نَنْظُر هَل يشْتَرك القادرون فِي إِيقَاع تِلْكَ الْأَقْسَام أم لَا ثمَّ نَنْظُر هَل يدل الْفِعْل أَو السّمع على وجوب أفال مثل أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علينا وَهل إِن دلّ السّمع على ذَلِك فعلى أَي وَجه يدل وَلما افتقرنا فِي ذَلِك إِلَى معرفَة النَّاس والاتباع وَغير ذَلِك وَجب ذكر ذَلِك قبل النّظر فِي الطَّرِيق إِلَى أَن أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْوُجُوب وَبعد ذَلِك كُله نقسم الْوُجُوه الَّتِي تقع عَلَيْهَا أَفعاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنَذْكُر الطَّرِيق إِلَيْهَا ثمَّ نذْكر مَا يدل عَلَيْهِ افعاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُتَعَلّقَة بِغَيْرِهِ ثمَّ نتكلم فِي أَفعاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تَعَارَضَت أَو عارضت خطاب الله سُبْحَانَهُ أَو خطابه مَا حكمهمَا وَهل يَقع بَينهمَا تَخْصِيص وَنسخ أم لَا وَعند ذَلِك يَأْتِي على غرضنا فِي دلَالَة أَفعاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا يدل عَلَيْهِ وعَلى تَوَابِع هَذَا الْغَرَض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي قسْمَة افعال الْمُكَلف إِلَى أَحْكَامهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنا نقسم الْأَفْعَال هَا هُنَا ضروبا من الْقِسْمَة أَحدهَا تقسيمها بِحَسب

أَحْكَامهَا فِي الْحسن والقبح وَالْآخر بِحَسب تعلق أَحْكَامهَا على فاعليها وَغير فاعليها وَالْآخر بِحَسب كَونهَا شَرْعِيَّة وعقلية وَكَونهَا أسبابا فِي أَحْكَام أَفعَال أخر أما الأول فَهُوَ أَن الْإِنْسَان إِمَّا أَن يصدر عَنهُ فعله وَلَيْسَ هُوَ على حَالَة تَكْلِيف وَإِمَّا أَن يكون على حَالَة تَكْلِيف فَالْأول نَحْو فعل الساهي والنائم وَالْمَجْنُون والطفل وَهَذِه الْأَفْعَال لَا يتَوَجَّه نَحْو فاعليها ذمّ وَلَا مدح وَإِن كَانَ قد تعلق بهَا وجوب ضَمَان وَأرش جنايه فِي مَالهم وَيجب إِخْرَاجه على وليهم وَالثَّانِي ضَرْبَان أَحدهمَا أَن يكون مِمَّا لَيْسَ للقادر عَلَيْهِ المتمكن من الْعلم بِهِ أَن يَفْعَله وَإِذا فعله كَانَ فعله لَهُ مؤثرا فِي اسْتِحْقَاق الذَّم فَيكون قبيحا وَالضَّرْب الآخر أَن يكون لمن هَذِه حَاله فعله وَإِذا فعله لم يكن لَهُ تاثير فِي اسْتِحْقَاق الذَّم وَهُوَ الْحسن والقبيح ضَرْبَان أَحدهمَا صَغِير وَالْآخر كَبِير وَالصَّغِير هُوَ الَّذِي لَا يزِيد عِقَابه وذمه على ثَوَاب فَاعله ومدحه وَالْكَبِير هُوَ مَا لَا يكون لفَاعِله ثَوَاب أَكثر من عِقَابه وَلَا مسَاوٍ لَهُ وَالْكَبِير ضَرْبَان أَحدهمَا يسْتَحق عَلَيْهِ عِقَاب عَظِيم وَهُوَ الْكفْر وَالْآخر يسْتَحق عَلَيْهِ دون ذَلِك الْقدر من الْعقَاب وَهُوَ الْفسق وَذكر الشَّيْخ أَبُو عبد الله أَن أهل الْعرَاق يقسمون الْقَبِيح إِلَى الْمحرم وَالْمَكْرُوه وَإِلَى مَا الأولى أَن لَا يفعل وَإِلَى مَا لَا بَأْس بِفِعْلِهِ فَالْأول كَأَكْل الْميتَة وَشرب الدَّم وكل مَا لم يكن طَرِيق قبحه مُجْتَهدا فِيهِ وَالْمَكْرُوه نَحْو كثير من سُؤْر السبَاع وكل مَا كَانَ طَرِيق قبحه مُجْتَهدا فِيهِ وَأما مَا الأولى أَلا يفعل فَهُوَ اسْتِعْمَال سُؤْر الهر عِنْد أبي حنيفَة وَأما الَّذِي لَا بَأْس بِهِ فَهُوَ مَا فِيهِ أدنى شُبْهَة كاستعمال أسآر كثير مِمَّا يُؤْكَل لَحْمه فَأَما مَا لَا شُبْهَة فِيهِ كَالْمَاءِ فانه لَا يُقَال لَا بَأْس بِهِ وَأما الشَّافِعِي فانه يصف الشَّيْء بِأَنَّهُ مَكْرُوه إِذا كَانَ طَرِيق قبحه مَقْطُوعًا بِهِ وَأما الْحسن فضربان أَحدهمَا إِمَّا أَن لَا يكون لَهُ صفة زَائِدَة على حسنه تُؤثر فِي اسْتِحْقَاق الْمَدْح وَالثَّوَاب فَيكون فِي معنى الْمُبَاح وَإِمَّا أَن يكون لَهُ صفة زَائِدَة على حسنه لَهَا مدْخل فِي اسْتِحْقَاق الْمَدْح وَهَذَا الْقسم إِمَّا أَن لَا يكون للإخلال بِهِ مدْخل فِي اسْتِحْقَاق الذَّم وَإِمَّا

أَن يكون لَهُ مدْخل فِي اسْتِحْقَاق الذَّم وَالْأول فِي معنى النّدب الَّذِي لَيْسَ بِوَاجِب وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا أَن يكون نفعا موصلا إِلَى الْغَيْر على طَرِيق الْإِحْسَان إِلَيْهِ فيوصف بِأَنَّهُ فضل وَالْآخر لَا يكون نفعا موصلا إِلَى الْغَيْر على طَرِيق الْإِحْسَان بل يكون مَقْصُورا على فَاعله فيوصف بِأَنَّهُ مَنْدُوب إِلَيْهِ ومرغب فِيهِ وَلَا يُوصف بِأَنَّهُ إِحْسَان إِلَى الْغَيْر وَأما الَّذِي للإخلال بِهِ مدْخل فِي اسْتِحْقَاق الذَّم فضربان أَحدهمَا الْإِخْلَال بِهِ بِعَيْنِه مُؤثر فِي اسْتِحْقَاق الذَّم وَهُوَ الْوَاجِب على التَّخْيِير كالكفارات وَالْقسم الأول ضَرْبَان أَحدهمَا لَا يُرَاعى فِي اسْتِحْقَاق ذمّ المخل بِهِ ظَنّه لإخلال الْغَيْر بِهِ وَالْآخر يُرَاعِي ذَلِك فَالْأول هُوَ الْوَاجِب على الْأَعْيَان وَالثَّانِي الْوَاجِبَات على الْكِفَايَة كالجهاد وَغَيره وَيقسم غير أَصْحَابنَا الْوَاجِب إِلَى الموسع والمضيق فالموسع هُوَ الْوَاجِب الْجَائِز تَأْخِيره عَن الْوَقْت إِلَى وَقت كَالصَّلَاةِ فِي أول وَقتهَا والمضيق هُوَ الَّذِي لَا يجوز تَأْخِيره عَن الْوَقْت الَّذِي هُوَ مضيق فِيهِ كَالصَّلَاةِ فِي آخر وَقتهَا وكل قسم من هَذِه الْأَقْسَام يخْتَص بحدود وأوصاف نَحن نذكرها أما الْقَبِيح فَهُوَ مَا لَيْسَ للمتمكن مِنْهُ وَمن الْعلم بقبحه أَن يَفْعَله وَمعنى قَوْلنَا لَيْسَ لَهُ أَن يَفْعَله مَعْقُول لَا يحْتَاج إِلَى التَّفْسِير وَيتبع ذَلِك أَن يسْتَحق الذَّم بِفِعْلِهِ وَيحد أَيْضا بِأَنَّهُ الَّذِي على صفة لَهَا تَأْثِير فِي اسْتِحْقَاق الذَّم وَإِنَّمَا لم نحد الْقَبِيح بِأَنَّهُ الَّذِي يسْتَحق من فعله الذَّم لِأَن الْقَبِيح لَو وَقع مِمَّن قد اسْتحق فِيمَا تقدم من الْمَدْح أَكثر مِمَّا يسْتَحق على ذَلِك الْقَبِيح من الذَّم لَكَانَ مَا يسْتَحقّهُ من الْمَدْح مَانِعا من اسْتِحْقَاق الذَّم على ذَلِك الْقَبِيح والبهيمة أَيْضا قد يفعل الْقَبِيح عِنْد أَصْحَابنَا وَلَا يسْتَحق الذَّم والقبيح قد يُوصف بأوصاف كَثِيرَة مِنْهَا قَوْلنَا مَعْصِيّة وَإِطْلَاق ذَلِك فِي الْعرف يُفِيد أَنه فعل يكرههُ الله سُبْحَانَهُ ويفيد فِي اصل اللُّغَة فعل يكرههُ كَارِه وَمن أَصْحَابنَا من شَرط فِيهِ كَون الكاره أَعلَى رُتْبَة من العَاصِي

وَمِنْهَا وَصفه بِأَنَّهُ مَحْظُور والحظر يُفِيد الْمَنْع ويفيد فِي الْعرف أَن الله قد منع مِنْهُ بِالنَّهْي والوعيد والزجر وَمِنْهَا وَصفه بِأَنَّهُ محرم وَذَلِكَ يُفِيد فِي الْعرف قبحه وَأَن الله منع مِنْهُ بالوعيد وَالنَّهْي وَمِنْهَا وَصفه بِأَنَّهُ ذَنْب وَمَعْنَاهُ أَن قَبِيح يتَوَقَّع الْمُؤَاخَذَة عَلَيْهِ والعقوبة وَلذَلِك لَا تُوصَف أَفعَال الْبَهِيمَة والطفل بذلك وَرُبمَا وصف فعل الْمُرَاهق بذلك لما لحقه الْأَدَب على فعله وَمِنْهَا وَصفه بِأَنَّهُ مَكْرُوه ويفيد فِي الْعرف أَن الله سُبْحَانَهُ هُوَ الكاره لَهُ وَمِنْهَا وَصفه بِأَنَّهُ مزجور عَنهُ ومتوعد عَلَيْهِ ويفيد فِي الْعرف أَن الله سُبْحَانَهُ هُوَ المتوعد عَلَيْهِ والزاجر عَنهُ وَأما الْحسن فَهُوَ مَا للقادر عَلَيْهِ المتمكن من الْعلم بِحَالهِ أَن يَفْعَله وَأَيْضًا مَا لم يكن على صفة يُؤثر فِي اسْتِحْقَاق فَاعله الذَّم أَو مَا لَيْسَ لَهُ مدْخل فِي اسْتِحْقَاق فَاعله الذَّم وَإِذا لم يكن لِلْحسنِ صفة زَائِدَة على حسنه وصف بِأَنَّهُ مُبَاح ويفيد أَن مبيحا اباحه وَمعنى الْإِبَاحَة هُوَ إِزَالَة الْحَظْر وَالْمَنْع بالزجر والوعد وَغَيرهمَا مِمَّن يتَوَقَّع مِنْهُ الْمَنْع وَإِطْلَاق قَوْلنَا مُبَاح يُفِيد أَن الله تَعَالَى أَبَاحَهُ بِأَن أعلمنَا أَو دلنا على حسنه وَلم يمْنَع مِنْهُ ويوصف بِأَنَّهُ حَلَال وطلق ويفيد مَا يُفِيد وَصفنَا بِأَنَّهُ مُبَاح وَلذَلِك لم يُوصف أَفعَال الله الْحَسَنَة بِأَنَّهَا مُبَاحَة وَإِن كَانَت حَسَنَة نَحْو تَعْذِيب من اسْتحق الْعقَاب وَمن حق الْمُبَاح أَن لَا يسْتَحق على فعله ثَوَاب لِأَنَّهُ لَو اسْتحق عَلَيْهِ ثَوَاب كَانَ فعله أولى من تَركه ولكان على صفة يتَرَجَّح بهَا فعله على تَركه ولرغب الله تَعَالَى فِي فعله وَمَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبرنَا بِالرجلِ يُثَاب على وطيء أَهله أَرَأَيْت لَو وَضعته فِي حرَام فانما يدل على أَنه اسْتحق الثَّوَاب لعدوله

عَن الْحَرَام وقصره نَفسه على الْحَلَال وَأما اسْتِحْقَاق الْإِنْسَان الثَّوَاب على إحسانه إِلَى وَلَده فَلِأَن ذَلِك قد يخْتَص بِضَرْب من الكلفة باخراج بعض مَاله وَلَو أَنه أحسن إِلَيْهِ ليسر نَفسه فَقَط لم يسْتَحق الثَّوَاب إِن قيل أَلَيْسَ قد نهى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام عَن صَوْم الْوِصَال وَذَلِكَ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاق الثَّوَاب على الْأكل مَعَ أَنه مُبَاح الْجَواب أَن الْأكل وَالشرب فِي وَقت الْإِفْطَار واجبان على من رغب نَفسه فِي الْوِصَال وشق عَلَيْهِ أَن لَا يَفْعَله فان قيل كَيفَ يكون وَاجِبا وَهُوَ يدْفع بِالْأَكْلِ مضرَّة الْجُوع قيل لِأَن دفع المضار إِذا قابله صوارف دخل فِي التَّكْلِيف وَالْوُجُوب فَأَما النِّكَاح فَإِنَّمَا صَحَّ أَن يدْخل تَحت التَّكْلِيف مَعَ أَنه وصلَة إِلَى الله سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُ يخْتَص بالانصراف عَن الْمَحْظُور فَكَأَن الْإِنْسَان ندب إِلَى التَّزْوِيج ليَكُون هَذَا غَرَضه وَلَيْسَ هَذَا الْغَرَض لَذَّة بل تقترن بذلك مضرَّة من حَيْثُ يصرف نَفسه عَن الاسترسال فِي الْحَرَام وَالنِّكَاح أَيْضا وصلَة إِلَى مضرَّة هِيَ ثلم المَال بِالْإِنْفَاقِ وَالزِّيَادَة فِي الكد والانتقال عَن خلو الْقلب إِلَى شغل الْقلب وكل هَذِه مشاق فَجَاز دُخُولهَا تَحت التَّعَبُّد وَأما إِذا اخْتصَّ الْحسن بِصفة زَائِدَة على حسنه اسْتحق لمكانها الْمَدْح فَلَا يسْتَحق بالإخلال بِهِ الذَّم فَإِنَّهُ إِذا فعله الْمُكَلف وصف بِأَنَّهُ مَنْدُوب إِلَيْهِ بِمَعْنى أَنه قد بعث عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَعْنى حَاصِل فِي الْوَاجِب أَيْضا إِلَّا أَن قَوْلنَا مَنْدُوب إِلَيْهِ فِي الْعرف أَنه قد بعث عَلَيْهِ من غير إِيجَاب وَقَوْلنَا مرغب فِيهِ أَنه قد بعث الْمُكَلف على فعله بالثواب ويفيد فِي الْعرف مَا هَذِه سَبيله مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِب ويوصف أَنه مُسْتَحبّ وَمَعْنَاهُ فِي الْعرف أَن الله سُبْحَانَهُ قد أحبه وَلَيْسَ بِوَاجِب وَقَوْلنَا نفل يُفِيد أَنه طَاعَة غير وَاجِبَة وَأَن للْإنْسَان فعله من غير لُزُوم وحتم وَكَذَلِكَ وَصفنَا لَهُ بِأَنَّهُ تطوع يُفِيد أَن الْمُكَلف انْقَادَ إِلَيْهِ مَعَ قربَة من غير لُزُوم وحتم ويوصف بِأَنَّهُ سنة ويفيد فِي الْعرف أَنه طَاعَة غير وَاجِبَة وَلذَلِك نجْعَل ذَلِك فِي مُقَابلَة الْوَاجِب لَو قَالَ أَهَذا الْفِعْل سنة أَو وَاجِب وَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن قَوْلنَا سنة لَا يخْتَص بالمندوب إِلَيْهِ دون الْوَاجِب وَإِنَّمَا يتَنَاوَل كل مَا علم وُجُوبه أَو كَونه ندبا بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم =

وبإدامة فعله لِأَن السّنة مَأْخُوذَة من الإدامة وَلذَلِك يُقَال إِن الْخِتَان من السّنة وَلَا يُرَاد أَنه غير وَاجِب وَحكي عَن بعض الْفُقَهَاء أَن قَوْلنَا سنة يخْتَص بالنفل دون الْوَاجِب وَهَذَا أشبهه من جِهَة الْعرف ويوصف بِأَنَّهُ إِحْسَان إِذا كَانَ نفعا موصلا إِلَى الْغَيْر قصدا إِلَى نَفعه ويوصف بِأَنَّهُ مَأْمُور بِهِ لِأَن أَمر الله تَعَالَى قد تنَاوله فَهَذِهِ هِيَ الْأَوْصَاف الَّتِي تخْتَص النّدب وَمن حق النّدب أَن يسْتَحق الثَّوَاب والمدح بِفِعْلِهِ وَلَا يسْتَحق الذَّم بالإخلال بِهِ وَلَا الْعقَاب لِأَنَّهُمَا لَو استحقا على الْإِخْلَال بالمندوب إِلَيْهِ لَكَانَ وَاجِبا وَإِنَّمَا ذمّ الْفُقَهَاء من عدل عَن جَمِيع النَّوَافِل لاستدلالهم بذلك على استهانته بالْخبر وزهده فِيهِ والنفوس تستنقص من هَذِه سَبيله وَأما الْوَاجِب فَهُوَ مَا لَيْسَ لمن قيل لَهُ وَاجِب عَلَيْهِ الْإِخْلَال بِهِ على كل حَال وَدخل فِي ذَلِك الْوَاجِب الْمعِين والمخير فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لنا الْإِخْلَال بِالْوَاجِبِ حَتَّى نخل بِهِ وبجميع مَا يقوم مقَامه وَيحد أَيْضا بِأَنَّهُ الَّذِي للإخلال بِهِ مدْخل فِي اسْتِحْقَاق الذَّم أَو أَنه فعل على صفة تُؤثر فِي اسْتِحْقَاق الذَّم على الْإِخْلَال بِهِ أَو أَنه الَّذِي يسْتَحق الذَّم بالإخلال بِهِ مَا لم يمْنَع من ذمه مَانع وَإِنَّمَا لم نحده بِأَنَّهُ الَّذِي يسْتَحق من لم يَفْعَله الذَّم لِأَن الْفِعْل قد يكون وَاجِبا فيخل بِهِ الْإِنْسَان فَلَا يسْتَحق ذما إِذا فعل بدله أَو إِذا كَانَ مُسْتَحقّا من الْمَدْح أَكثر مِمَّا يسْتَحق على الْإِخْلَال بذلك الْوَاجِب من الذَّم أَنه لما كَانَ للإخلال بِهَذَا الْوَاجِب مدخلًا فِي اسْتِحْقَاق الذَّم وَكَانَ مؤثرا فِي اسْتِحْقَاقه دخل فِي الْحُدُود الَّتِي ذَكرنَاهَا أَلا ترى أَنه لَو لم يكن للمخل بِالْوَاجِبِ ثَوَاب زَائِد أَو أَنه أخل بِهِ وَبِكُل مَا يقوم مقَامه اسْتحق الذَّم إِن قيل أَلَيْسَ لَو كَانَ عِقَاب الْإِخْلَال بِالْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَة الْيَمين أَزِيد من عِقَاب الْعتْق وَالْكِسْوَة لِأَنَّهُ أقل مشقة مِنْهُمَا لَكَانَ لَا يسْتَحق من أخل بجميعها مَعَ التَّمَكُّن عِقَاب ترك الْإِطْعَام وَإِنَّمَا يسْتَحق عِقَاب أقلهَا عقَابا وَلَو فعل وَاحِدًا مِنْهُمَا

لم يسْتَحق عقَابا أصلا فقد صَار ذمّ ترك الْإِطْعَام لَا يسْتَحق أصلا مَعَ أَن الْإِطْعَام وَاجِب قيل لَهُ وَإِن لم يسْتَحق الذَّم على الْإِخْلَال بالطهام فَإِن للإخلال بِهِ مدْخل فِي اسْتِحْقَاق الذَّم وَهُوَ على صفة مُؤثرَة فِيهِ لِأَن هَذَا القَوْل يَقْتَضِي أَنه يجوز على بعض الْوُجُوه أَن يُؤثر الْإِخْلَال بِهِ فِي اسْتِحْقَاق الذَّم وَهَذِه صفة مَا ذكرت لِأَنَّهُ لَو زَاد ذمّ الْإِخْلَال بِالْعِتْقِ أَو بالكسوة على ذمّ الْإِخْلَال بِالْإِطْعَامِ لَا يسْتَحق ذمّ الْإِخْلَال بِالْإِطْعَامِ وَأَيْضًا فقد بَينا فِيمَا تقدم أَن ذمّ أقل الْكَفَّارَات ذما إِذا اسْتَحَقَّه المخل بجميعها فَإِنَّهُ يسْتَحقّهُ على إخلاله بجميعها لِأَنَّهُ مخل بجميعها وَكلهَا مُتَسَاوِيَة فِي الْوُجُوب وَلَيْسَ يجوز أَن يلام على إخلاله بِبَعْضِهَا مَعَ أَنه لَو أخل بِهِ وَفعل غَيره لم يسْتَحق ذمّ فَأَما الْوَاجِب الْمعِين فَهُوَ الَّذِي للإخلال بِهِ بِعَيْنِه مدْخل فِي اسْتِحْقَاق الذَّم كره الْوَدِيعَة وَمَا أشبههَا وَأما الْوَاجِب الْمُخَير فِيهِ فَهُوَ الَّذِي للإخلال بِهِ وَبِمَا يقوم مقَامه مدْخل فِي اسْتِحْقَاق الذَّم أَو الَّذِي لَيْسَ لمن قيل انه وَاجِب عَلَيْهِ أَن يخل بِهِ وَبِمَا يقوم مقَامه أَو الَّذِي الْإِخْلَال بِهِ وَبِمَا يقوم مقَامه مُؤثر فِي اسْتِحْقَاق الذَّم كالكفارات الثَّلَاث وَأما الْوَاجِب على الْأَعْيَان فَهُوَ الَّذِي لَا يقف اسْتِحْقَاق الذَّم على الْإِخْلَال بِهِ على ظن لإخلال الْغَيْر بِهِ وَأما الْوَاجِب على الْكِفَايَة فَهُوَ مَا وقف اسْتِحْقَاق الذَّم على الْإِخْلَال بِهِ على ظن إخلال الْغَيْر بِهِ وَذَلِكَ أَن من يتَمَكَّن من الْجِهَاد إِن أخل بِهِ وَهُوَ يظنّ أَن غَيره يقوم بِهِ لم يسْتَحق الذَّم وَإِن ظن أَن غَيره لَا يقوم بِهِ اسْتحق الذَّم فَأَما الْوَاجِب الموسع والمضيق فقد تقدم ذكرهمَا ويوصف الْوَاجِب بِأَنَّهُ فرض وَمَعْنَاهُ أَنه قد فرض وُجُوبه وَقدر بِأَن أعلم وُجُوبه أَو دلّ عَلَيْهِ وَلذَلِك لَا تُوصَف الْوَاجِبَات من أَفعَال الله تَعَالَى بِأَنَّهَا فرض وَحكى الشَّيْخ أَبُو عبد الله عَن أهل الْعرَاق أَن الْفَرْض هُوَ الْوَاجِب الَّذِي طَرِيق وُجُوبه مَقْطُوع بِهِ وَأَن الْوَاجِب الَّذِي لَيْسَ بِفَرْض هُوَ مَا كَانَ طَرِيق وُجُوبه يدْخلهُ الأمارات والظنون وَلما تقدم من معنى الْوَاجِب وَالنَّفْل لم يجز أَن يكون الشَّيْء الْوَاحِد وَاجِبا على زيد نفلا مِنْهُ لِأَنَّهُ يمْتَنع أَن يسْتَحق

الذَّم على الْإِخْلَال بِهِ وَلَا يسْتَحق وَالْوَقْت وَاحِد وَإِنَّمَا وصف الْفُقَهَاء الْحجَّة بِأَنَّهَا نفل وَيجب الْمُضِيّ فِيهَا لأَنهم عنوا أَن ابتدائها نفل والمضي فِيهَا وَاجِب وَذَلِكَ غير مُمْتَنع وَقد يَنْفِي الْفُقَهَاء الْوُجُوب عَن بعض أَفعَال الْعباد ويعنون بذلك كَونه شرطا فِي الْعِبَادَة وَلذَلِك قَالَ بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة إِن الطُّمَأْنِينَة فِي الرطوع وَالسُّجُود غير وَاجِبَة فِي الصَّلَاة يعنون أَنَّهَا غير شَرط وَإِلَّا فَهِيَ وَاجِبَة عِنْدهم وَلذَلِك يذمون تاركها وَقَالُوا من ترك قِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب مسيء دون من ترك قِرَاءَة سُورَة غَيرهَا وَقد يَقُول بعض الشَّافِعِيَّة إِن الْحلق فِي الْحَج مُبَاح ويعنون أَنه لَيْسَ بِشَرْط فِي التَّحْلِيل وَلَا يعنون أَنه غير مَنْدُوب إِلَيْهِ فَأَما الْقِسْمَة الثَّانِيَة فَهِيَ أَن الْأَفْعَال مِنْهَا مَا لَا حكم لَهُ كالمباحات وَمِنْهَا مَا لَهُ حكم وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا يتَعَلَّق ذَلِك الحكم على فَاعله كجناية الْمُكَلف على مَال غَيره وَالْآخر يتَعَلَّق ذَلِك الحكم على غير فَاعله وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا يتَعَلَّق على غير الْفَاعِل فِي مَاله نَحْو لُزُوم الدِّيَة على الْعَاقِلَة وَالْآخر يتَعَلَّق على غير الْفَاعِل فِي مَال الْفَاعِل نَحْو أَن يلْزم ولي الْيَتِيم إِخْرَاج أرش جِنَايَة الْيَتِيم من مَال الْيَتِيم وَأما الْقِسْمَة الثَّالِثَة فَهِيَ أَن الْأَفْعَال ضَرْبَان عقلية وسمعية فالعقلية هِيَ الْمَعْرُوفَة أَحْكَامهَا بِالْعقلِ وَأما الشَّرْعِيَّة فَهِيَ الَّتِي للشَّرْع فِيهَا مدْخل وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا يكون الشَّرْع وَحده قد أثبت صُورَة ذَلِك الْفِعْل وَأثبت التَّعَبُّد بِهِ كَالصَّلَاةِ وَالْآخر أَن يكون قد غير شرطا من شَرَائِطه إِمَّا بِزِيَادَة أَو نُقْصَان كَالْبيع الَّذِي هُوَ مَعْلُوم حكمه بِالْعقلِ غير أَن الشَّرْع لما أثبت فِيهِ شُرُوطًا نسبت جمله إِلَى أَنه عمل شَرْعِي والأسباب الشَّرْعِيَّة ضَرْبَان أَحدهمَا يكون ثُبُوته وَكَونه سَببا بِالشَّرْعِ نَحْو فَسَاد الصَّلَاة فانه ثَبت بِالشَّرْعِ وَيكون سَببا فِي وجوب الْقَضَاء بِالشَّرْعِ وَالْآخر يكون ثُبُوته مَعْلُوما بِالْعقلِ وَكَونه سَببا لذَلِك الحكم مَعْلُوم بِالشَّرْعِ نَحْو حؤول الْحول

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي ذكر القادرين الَّذين يجوز مِنْهُم الْأَفْعَال الْحَسَنَة والقبيحة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن كل قَادر بِمَا يُعلمهُ الْعَاقِل أَنه قَادر مُمَيّز فانه يقدر على إِيجَاد الْأَفْعَال على كل وَجه من قبح وَحسن وَوُجُوب وَغير ذَلِك وكل قَادر فَإنَّا نجوز مِنْهُ فعل الْحسن إِلَّا من أخبر الله وَرَسُوله بِأَنَّهُ لَا يَفْعَله فَأَما الْقَبِيح فان الله تَعَالَى لَا يَفْعَله لحكمته وَلَا تَفْعَلهُ مَلَائكَته لِأَنَّهَا معصومة مِنْهُ وَقد أخبر الله تَعَالَى ذَلِك بقوله {لَا يعصون الله مَا أَمرهم ويفعلون مَا يؤمرون} وَجَمَاعَة الْأمة أَيْضا لَا يجوز عَلَيْهَا الْخَطَأ وَأما الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم فانه لَا يجوز عَلَيْهِم مَا يُؤثر فِي الْأَدَاء وَلَا مَا يُؤثر فِي التَّعْلِيم وَلَا فِي الْقبُول وَهُوَ التنفير وَيدخل فِي الأول أَن لَا يجوز عَلَيْهِم الْكَذِب فِيمَا يؤدونه وَلَا الكتمان وَلَا السَّهْو فِي حَال الْأَدَاء لِأَن تِلْكَ الْحَال حَال تلقى الْفُرُوض فوقوع السَّهْو فِيهَا يغري باعتقاد كَون الْعِبَادَة على مَا أوردهَا وَيجوز أَن يسهو فِيمَا تقدم بَيَانه وَلَا بُد من إِزَالَة ذَلِك السَّهْو فِي الْحَال وَلِهَذَا لما سهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صلَاته لم يعْتَقد أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم أَن الصَّلَاة تَغَيَّرت بل شكوا فِي ذَلِك حَتَّى سَأَلَهُ ذُو الْيَدَيْنِ وَيدخل فِي الثَّانِي أَن يعرف من أَمر الدّين مَا إِذا سُئِلَ عَنهُ كَانَ عِنْده جَوَابه وَيجوز أَن لَا يعرف مَا غمض من الشّبَه وَلَكِن يجب أَن يكون مِمَّن إِذا سُئِلَ عَن شُبْهَة أمكنه حلهَا وَيدخل فِي الثَّالِث أَن لَا يجوز عَلَيْهِ الكابئر وَلَا الصَّغَائِر المسخفة قبل النُّبُوَّة وَبعدهَا وَالْكذب فِي عير مَا يُؤَدِّيه فَهُوَ إِمَّا كَبِيرَة وَإِمَّا صَغِيرَة وَكِلَاهُمَا ينفران وَيدخل فِي ذَلِك أَن لَا يجوز عَلَيْهِ الفظاظة والغلظة وَكثير من الْمُبَاحَات القادحة فِي التَّعْظِيم الصارفة عَن الْقبُول وَيدخل فِيهِ قَول الشّعْر وَالْكِتَابَة إِذْ كَانَ معْجزَة الفصاحة والإخبار عَن الغيوب

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي معنى التأسي والاتباع والموافقة والمخالفة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه لما تعبد بالتأسي بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وباتباعه وَكَانَت الْمُوَافقَة والمخالفة تذكران فِي الِاحْتِجَاج فِي هَذِه الْمسَائِل الَّتِي نَحن بسبيلها وَجب ذكر مَعَاني هَذِه الْأَلْفَاظ لنعقلها أما التأسي بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد يكون فِي فعله وَفِي تَركه أما التأسي بِهِ فِي الْفِعْل فَهُوَ أَن نَفْعل صُورَة مَا فعل على الْوَجْه الَّذِي فعل لأجل أَنه فعل والتأسي بِهِ فِي التّرْك وَهُوَ أَن نَتْرُك مثل مَا ترك على الْوَجْه الَّذِي ترك لأجل أَنه ترك وَإِنَّمَا شرطنا أَن تكون صُورَة الْفِعْل وَاحِدَة لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو صَامَ وصلينا لم نَكُنْ متأسين بِهِ وَأما الْوَجْه الَّذِي وَقع عَلَيْهِ الْفِعْل فَهُوَ الْأَغْرَاض والنيات فَكل مَا عَرفْنَاهُ أَن غَرَض فِي الْفِعْل اعتبرناه وَيدخل فِي ذَلِك نِيَّة الْوُجُوب وَالنَّفْل أَلا ترى أَنه لَو صَامَ وَاجِبا فتطوعنا بِالصَّوْمِ لم نَكُنْ متأسين بِهِ وَكَذَلِكَ لَو تطوع بِالصَّوْمِ فافترضنا بِهِ وَإِذا لم يكن لَهُ فِي الْفِعْل غَرَض مَخْصُوص لم يجب اعْتِبَاره لِأَنَّهُ لوأزال النَّجَاسَة لَا لأجل الصَّلَاة لم يجب إِذا تأسينا بهَا فِي إِزَالَتهَا أَن ننوي بِهِ ذَلِك وَقد يدْخل الْمَكَان فِي مثل الزَّمَان فِي الْأَغْرَاض وَقد لَا يدخلَانِ فِيهِ فَمَتَى علمنَا كَونهمَا غرضين اعتبرناهما وَإِلَّا لم نعتبر أَمْثَال ذَلِك الْوُقُوف بِعَرَفَة وَصَوْم شهر رَمَضَان وَصَلَاة الْجُمُعَة وَالزَّمَان وَالْمَكَان غرضان فِي هَذَا الْأَفْعَال فاعتبرناهما فِي التأسي وَمِثَال الثَّانِي أَن يتَّفق من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يتَصَدَّق بيمناه فِي زمَان مَخْصُوص وَمَكَان مَخْصُوص فَإنَّا نَكُون متأسين بِهِ إِذا تصدقنا فِي غير ذَلِك الْمَكَان وَالزَّمَان وباليد الْيُسْرَى وَإِنَّمَا شرطنا أَن نَفْعل الْفِعْل لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو صلى فصلى مثل صلَاته رجلَانِ من أمته لأجل أَنه صلى لوصف كل وَاحِد مِنْهُمَا بِأَنَّهُ متأس بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يُوصف كل وَاحِد مِنْهُمَا بِأَنَّهُ متأس بِالْآخرِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن التأسي يكون فِي التّرْك لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو

ترك الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس فتركناها فِي هَذَا الْوَقْت لأجل تَركه كُنَّا متأسين بِهِ وَلَيْسَ من شَرط التأسي أَن يَسْتَفِيد المتأسي صُورَة الْفِعْل وَوَجهه مِمَّن يتأسى بِهِ لأَنا موصوفون بِأَنا نتأسى بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّبْر على الشدائد وَالشُّكْر على النعم إِذا فعلنَا ذَلِك لأجل فعله وَإِن لم نستفد صُورَة ذَلِك مِنْهُ وَلَا وَجهه وَلَيْسَ يمْتَنع أَن نَفْعل ذَلِك لأجل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعله ولعلمنا بِوُجُوبِهِ أَو حسنه من جِهَة الْعقل وَذكر أَبُو عَليّ بن خَلاد رَحمَه الله أَن الْفِعْل الَّذِي وَقع التأسي فِيهِ يجوز كَونه حسنا من الثَّانِي قبيحا من الأول لِأَن نَصْرَانِيّا لَو مَشى إِلَى الْبيعَة ليفعل فِيهَا مَا يَفْعَله النَّصْرَانِي فَتَبِعَهُ مُسلم ليرد وَدِيعَة كَانَت عِنْده فِي الْبيعَة كَانَ متأسيا بِهِ وَالْمَشْي حسن من الْمُسلم قَبِيح من النَّصْرَانِي وَهَذَا لَا يَصح لِأَنَّهُ لَا يكون متأسيا بِهِ مَعَ اخْتِلَاف الغرضين وَذكر الشَّيْخ أَبُو عبد الله رَحمَه الله أَنه يَنْبَغِي أَن يعْتَبر الْمَكَان الَّذِي وَقع الْفِعْل فِيهِ إِلَّا أَن يدل دلَالَة على أَنه لَا اعْتِبَار بِهِ وَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن اعْتِبَار الزَّمَان وَالْمَكَان يمْنَع من التاسي لفَوَات الزَّمَان وَلِأَنَّهُ لَا يُمكن اجْتِمَاع شَخْصَيْنِ فِي مَكَان وَاحِد فِي زمَان وَاحِد وَهَذَا إِنَّمَا يمْنَع من اعْتِبَار زمَان معِين وَلَا يمْنَع من اعْتِبَار مثل الزَّمَان كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي وَقت صَلَاة الْجُمُعَة وَلَا يمْنَع من اعْتِبَار ذَلِك الْمَكَان فِي زمَان آخر وَلَا يمْنَع من اعْتِبَاره إِذا كَانَ الْمَكَان متسعا كعرفة وَالْوَاجِب اعْتِبَار الزَّمَان وَالْمَكَان بِحَسب الْإِمْكَان إِذا علم دخولهما فِي الْأَغْرَاض وَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَنه لَا اعْتِبَار بطول الْفِعْل وقصره لِأَن ذَلِك لَا يُمكن ضَبطه وَلقَائِل أَن يَقُول يجب اعْتِبَار ذَلِك بِحَسب الْإِمْكَان إِذا علم دُخُول ذَلِك فِي الْأَغْرَاض فَأَما اتِّبَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد يكون فِي القَوْل وَقد يكون فِي الْفِعْل وَقد يكون فِي التّرْك فالاتباع فِي القَوْل هُوَ الْمصير إِلَى مُقْتَضَاهُ من وجوب أَو ندب أَو حظر لأَجله والاتباع فِي الْفِعْل أَو فِي التّرْك هُوَ إِيقَاع مثله فِي صورته على وَجهه لأجل أَنه أوقعه وَيُمكن أَن يُقَال اتِّبَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الْمصير إِلَى مَا

تعبدنا بِهِ على الْوَجْه الَّذِي تعبدنا بِهِ لِأَنَّهُ تعبدنا بِهِ وَيدخل فِي ذَلِك القَوْل وَالْفِعْل وَالتّرْك وَإِنَّمَا شرطنا فِي الِاتِّبَاع مَا شرطنا فِي التأسي لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو صَامَ فصلينا أَو صَامَ وَاجِبا فتنفلنا بِالصَّوْمِ أَو صمنا لَا لِأَنَّهُ صَامَ لَو نَكُنْ متبعين لَهُ فِي هَذِه الْأَحْوَال كلهَا فَأَما الْمُوَافقَة فقد تكون فِي الْمَذْهَب وَقد تكون فِي الْفِعْل فالموافقة فِي الْمَذْهَب هِيَ الْمُشَاركَة فِيمَا قيل إِن الْمُوَافقَة حصلت فِيهِ فاذا قيل قد وَافق فلَان فلَانا فِي أَن الله يرى جَازَ أَن يكون أَحدهمَا قَائِلا إِن الله يرى بِهَذِهِ الحاسة وَالْآخر قَائِلا إِنَّه يرى بحاسة سادسة وَإِذا قيل وَافقه فِي أَن الله يرى بِهَذِهِ الحاسة أَفَادَ اشتراكهما فِي القَوْل بِالرُّؤْيَةِ على هَذَا الْحَد وَلَيْسَ من شَرط الْمُوَافقَة فِي الْمَذْهَب أَن يَعْتَقِدهُ أَحدهمَا لاعتقاد الآخر لَهُ لِأَنَّهُ قد يُقَال وَافق زيد عمرا فِي القَوْل بِالْعَدْلِ وَإِن كَانَ إِنَّمَا قَالَ بذلك لأجل الدّلَالَة فَقَط لَا لِأَنَّهُ قَالَ بِهِ عَمْرو فَأَما الْمُوَافقَة فِي الْفِعْل فَهِيَ الْمُشَاركَة فِي صورته وَوَجهه لِأَن من صلى لَا يكون مُوَافقا لمن صَامَ وَمن تنفل بِالصَّلَاةِ لَا يكون مُوَافقا لمن افْترض بهَا فَأَما إِذا قيدت الْمُوَافقَة فَقيل قد وَافق زيد عمرا فِي صُورَة الْفِعْل فانه لَا يُفِيد إيقاعهما على الْوَجْه وَلَيْسَ من شَرط الْمُوَافقَة فِي الْفِعْل أَن يفعل الثَّانِي لِأَن الأول فعله لِأَن الْمُوَافقَة هِيَ المصادفة والمشاركة وَقد يكون ذَلِك إِذا فعل الْفَاعِل الْفِعْل لِأَن الأول فعله وَإِذا لم يَفْعَله لذَلِك فانه قد يُقَال وَافقه فِي الْفِعْل وَإِن كَانَ إِنَّمَا فعله للدليل لَا لِأَنَّهُ فعله فَأَما الْمُخَالفَة فقد تكون فِي القَوْل وَقد تكون فِي الْفِعْل فالمخالفة فِي القَوْل هِيَ الْعُدُول عَمَّا اقْتَضَاهُ الْقَوْم من إقدام أَو إحجام فَأَما مُخَالفَة الْفِعْل فَهِيَ الْعُدُول عَن امْتِثَال مثله إِذا وَجب امْتِثَال مثله وَإِذا لم يجب ذَلِك لَا يُقَال لمن لم يَفْعَله مثله قد خَالفه وَلِهَذَا لم يكن إخلال بِالصَّلَاةِ مُخَالفَة إِن قيل فَيجب أَن يكون ترك ذَلِك الْفِعْل مُخَالفَة للدليل الدَّال على وجوب الْمُشَاركَة لَهُ

فِي الْفِعْل وَلَا يكون مُخَالفَة فِي الْفِعْل قيل لَا يجب ذَلِك لِأَن الدَّلِيل إِذا دلّ على وجوب مُشَاركَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي فعله فَأَي فعل فعله كَانَ دَلِيلا على وجوب مثله علينا فصح أَن يُوصف من لم يَفْعَله بِأَنَّهُ مُخَالف لَهُ فَأَما الائتمام فَهُوَ الِاتِّبَاع فاذا أطلق فَقيل قد ائتم فلَان بفلان فِي الصَّلَاة أَفَادَ اتِّبَاعه فِيهَا على الْوَجْه الَّذِي أوقعهَا عَلَيْهِ من وجوب أَو نفل أَو غير ذَلِك فان اخْتلف النيتان فَنوى أَحدهمَا النَّفْل وَالْآخر الْفَرْض على قَول من أجَاز ذَلِك كَانَ الائتمام وَاقعا فِي صُورَة الصَّلَاة لَا فِي الْوُجُوب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَنه لَا يعلم بِالْعقلِ وجوب مثل مَا فعله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه لَو علم بِالْعقلِ ذَلِك لعلم بِالْعقلِ وَجه وُجُوبه لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يجب مَا لَا يخْتَص بِوَجْه وجوب وَلَا يجوز أَن يعلم بِالْعقلِ وجوب شَيْء دون شَيْء إِلَّا وَقد علم بِالْعقلِ افتراقهما فِيمَا اقتضي وجوب أَحدهمَا وَلَيْسَ يعقل وَجه وجوب اتِّبَاعه فِي أَفعاله إِلَّا أَن يُقَال إِن مَا يجب على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا بُد من كَونه وَاجِبا علينا وَيُقَال إِذا لم يتبعهُ فِي أَفعاله نفر ذَلِك عَنهُ وَالْأول بَاطِل لِأَنَّهُ إِنَّمَا تعبد بِالْفِعْلِ لِأَنَّهُ مصلحَة لَهُ ولسنا نعلم وَجه كَونه مصلحَة فنعلم شياعه فِي جَمِيع النَّاس وَيُفَارق ذَلِك اشْتِرَاك الْمُكَلّفين فِي وجوب الْمعرفَة بِاللَّه لِأَن وَجه وجة وَبهَا يشْتَرك فِيهِ المكلفون لِأَن كل مُكَلّف يكون مَعَ الْمعرفَة بِاسْتِحْقَاق الْعقَاب على الْفِعْل أبعد من مواقعته وَأَيْضًا فانه لَيْسَ يجب اشْتِرَاك الْمُكَلّفين فِي الْمصَالح كلهَا أَلا ترى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أُبِيح لَهُ مَا لم يبح لنا وَأوجب عَلَيْهِ مَا لم يُوجب علينا وَالْقسم الثَّانِي بَاطِل لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يُقَال إِن التنفير هُوَ مفارقتنا لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام فِي جَمِيع أَفعاله أَو فِي بعضهما دون بعض وَالْأول يحصل إِذا فارقناه فِيهِ من المناكح وَوُجُوب صَلَاة اللَّيْل وَغير ذَلِك وَالثَّانِي لَا يَصح أَيْضا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لَو قَالَ لنا اعلموا أَنِّي متعبد بِمَا فِي

الْعقل إِذا مَا أؤديه إِلَيْكُم وَمَا عدا ذَلِك هُوَ مصلحَة لكم دوني لم يكن فِي ذَلِك تنفير فَكَذَلِك مَا ذَكرْنَاهُ وعَلى أَنه لَو ثَبت ذَلِك لم يحصل مِنْهُ كوننا متعبدين بِمثل مَا فعله من جِهَة الْعقل لِأَن الَّذِي يقبح هُوَ مُفَارقَته لَهُ فِي جَمِيع أَفعاله لَا فِي بَعْضهَا دون بعض فَلَا بُد من دَلِيل غير الْعقل يُمَيّز لنا بَين مَا تعبدنا بعض أَفعاله مِمَّا لم نتعبد بِهِ إِن قيل لَو لم يلْزم الرُّجُوع إِلَى أَفعاله من جِهَة الْعقل لم يلْزم الرُّجُوع إِلَى أَقْوَاله قيل قد بَينا أَنا لَو كُنَّا متعبدين بِالرُّجُوعِ إِلَى أَفعاله لَكَانَ الْوَجْه فِي ذَلِك لَا يَخْلُو من الْوَجْهَيْنِ اللَّذين قد أفسدناهما وَلَيْسَ كَذَلِك أَقْوَاله لِأَن الْأَقْوَال مَوْضُوعَة فِي اللُّغَة لمعان فَالْأَمْر مَوْضُوع للْوُجُوب أَو للإرادة وَالنَّهْي يُفِيد تَحْرِيم المنهى عَنهُ وَالْخَبَر مَوْضُوع لما هُوَ خبر عَنهُ وَالْحكمَة تَقْتَضِي أَن من خَاطب قوما بلغتهم يَعْنِي بِالْخِطَابِ مَا عنوه وَهَذِه الطَّرِيقَة غير حَاصِلَة فِي الْأَفْعَال فان قَالُوا لَو لم نتبعه فِي أَفعاله كُنَّا قد خالفناه وَلَا يجوز مُخَالفَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيل إِن مُخَالفَته هِيَ أَن لَا نَفْعل مَا يجب علينا فعله أَو نَفْعل مَا يحرم علينا فعله فَعَلَيْهِم أَن يدلوا على أَن أَفعاله على الْوُجُوب حَتَّى نَكُون مخالفين لَهُ إِذا لم نفعلها أَلا ترى أَنا لَا نوصف بمخالفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا خص بِهِ من الْعِبَادَات والمناكح لما لم يجب علينا اتِّبَاعه فِيهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن السّمع على الْإِطْلَاق لَا يَقْتَضِي وجوب مثل مَا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا خلاف بَين الْأمة غي الِاسْتِدْلَال بِأَفْعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْأَحْكَام وَاخْتلفُوا فَقَالَ قوم هِيَ أَدِلَّة بمجردها وَقَالَ قوم هِيَ أَدِلَّة إِذا عرف الْوَجْه الَّذِي وَقعت عَلَيْهِ وَاخْتلف الْأَولونَ فَقَالَ بَعضهم هِيَ أَدِلَّة بمجردها على الْوُجُوب وَقَالَ آخَرُونَ بل على النّدب وَقَالَ آخَرُونَ بل على الْإِبَاحَة فَأَما من قَالَ إِنَّهَا أَدِلَّة بِاعْتِبَار الْوَجْه فانه إِن علم الطَّرِيقَة الَّتِي اتبعها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك

الْفِعْل عقلية كَانَت أَو سمعية فَهُوَ يرجع إِلَيْهَا فِي الِاسْتِدْلَال وَإِن لم يعرف الطَّرِيقَة فضربان أَحدهمَا أَن يكون فعله بَيَانا لمجمل وَالْآخر لَا يكون بَيَانا لمجمل فان كَانَ بَيَانا لمجمل فَذَلِك الْمُجْمل هُوَ دَال على الْوُجُوب أَو النّدب أَو الْإِبَاحَة وَإِن لم يكن بَيَانا لمجمل فانه لَا يدل على شَيْء حَتَّى يعرف الْوَجْه الَّذِي أوقعه عَلَيْهِ فان أوقعه على الْوُجُوب دلّ على وجوب مثله علينا وَإِن أوقعه على النّدب دلّ على أَن مثله ندب منا فان أوقعه مستبيحا لَهُ كَانَ منا مُبَاحا والذاهبون إِلَى أَن أَفعاله دَالَّة بمجردها على الْوُجُوب يحتجون لذَلِك بِالْعقلِ والسمع أما حجاجهم الْعقلِيّ فأشياء مِنْهَا قَوْلهم إِن كَونه نَبيا يَقْتَضِي ذَلِك وَإِلَّا نفر عَنهُ وَالْجَوَاب أَنا قد بَينا من قبل أَنه لَا تنفير فِي نفي مشاركتنا لَهُ فِي الْفِعْل وَلَو ثَبت فِي ذَلِك تنفير لَكَانَ إِنَّمَا يحصل التنفير إِذا لم يجب علينا مثل مَا وَجب عَلَيْهِ وَإِذا لم نعلم أَن مَا فعله وَاجِب عَلَيْهِ فَلَا تنفير فِي كَونه غير وَاجِب علينا وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْفِعْل آكِد فِي الدّلَالَة من القَوْل وَلِهَذَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُحَقّق أمره بِفِعْلِهِ كَمَا يَفْعَله فِي الْحَج وَالصَّلَاة فاذا أَفَادَ الْأَمر الْوُجُوب كَانَ الْفِعْل أولى بذلك وَالْجَوَاب أَن الْفِعْل آكِد فِي الْإِبَانَة عَن صفة الْفِعْل من القَوْل للمشاهدة من المزية على الْوَصْف وَالْفِعْل كالمشاهدة وَلَيْسَ الْفِعْل وَصفا للْوُجُوب حَتَّى يكون أدل عَلَيْهِ من الْأَمر وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْوُجُوب أَعلَى مَرَاتِب الْفِعْل فَوَجَبَ حمل فعله عَلَيْهِ وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم لم إِذا كَانَ الْوُجُوب أَعلَى مَرَاتِب الْفِعْل وَجب حمله عَلَيْهِ فان قَالُوا لِأَنَّهُ الِاحْتِيَاط قيل بل الِاحْتِيَاط أَن يحمل الْفِعْل على الْوُجُوب إِذا دلّت الدّلَالَة عَلَيْهِ لَا غير وَإِذا لم تدل الدّلَالَة على وُجُوبه فَنحْن من ضَرَر تَركه آمنون والخطر حَاصِل فِي اعْتِقَاد وُجُوبه لأَنا لَا نَأْمَن أَن يكون غير وَاجِب فنكون معتقدين اعتقادا لَا نَأْمَن كَونه جهلا

فَأَما الِاحْتِجَاج السمعي فأشياء مِنْهَا احتجاجهم بقول الله عز وَجل {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} والتحذير يَقْتَضِي وجوب ترك الْمُخَالفَة لأَمره وَالْأَمر اسْم الْفِعْل وَالْقَوْل فَكَانَ عَاما فيهمَا وَالْجَوَاب أَنا قد بَينا أَن قَوْلنَا امْر لَا يَقع على الْفِعْل إِلَّا مجَازًا وَلَو وَقع عَلَيْهِ حَقِيقَة لما تنَاوله هَا هُنَا لتقدم ذكر الدُّعَاء وَلذكر الْمُخَالفَة أَلا ترى أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ لعَبْدِهِ لَا تجْعَل دعائي كدعاء غَيْرِي وَاحْذَرْ مُخَالفَة أَمْرِي فهم مِنْهُ أَنه أَرَادَ بِالْأَمر القَوْل وَأَيْضًا مُخَالفَة الْأَمر هُوَ الْعُدُول عَن مُقْتَضَاهُ فَيجب أَن تثبت أَن الْفِعْل يُسمى أمرا وَأَن تدلوا على أَن الْفِعْل يَقْتَضِي الْوُجُوب حَتَّى يحرم تجنبه وَيلْزم فعله وَأَيْضًا فالمخالفة ضد الْمُوَافقَة وموافقة الْفِعْل إِيقَاع مثله على الْوَجْه الَّذِي أوقع عَلَيْهِ وَيجب أَن يعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوقع الْفِعْل على وَجه الْوُجُوب حَتَّى يلْزم مُوَافَقَته فِيهِ وَقد قيل إِن قَوْله سُبْحَانَهُ {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} قد أُرِيد بِهِ الْأَمر الَّذِي هُوَ القَوْل فَلَا يجوز أَن يُرَاد بِهِ الْفِعْل لِأَن اللَّفْظَة الْوَاحِدَة لَا يُرَاد بهَا مَعْنيانِ مُخْتَلِفَانِ وَقد قيل إِن الْهَاء فِي قَوْله عَن أمره عَائِدَة إِلَى الله تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أقرب الْمَذْكُورين فَيمْتَنع أَن يدْخل تَحت الْفِعْل لِأَنَّهُ لَا يفعل مثل مَا نفعله من الْعِبَادَات وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الْقَصْد هُوَ الْحَث على اتِّبَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله {لَا تجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُم كدعاء بَعْضكُم بَعْضًا} فَقَوله {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} هُوَ من تَمام الْفَرْض فَيجب صرفه إِلَى أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمنا قَول الله عز وَجل {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر} قَالُوا وَقَوله لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم

الآخر تهديد يدل على وجوب التأسيس بِهِ فِي فعله الْجَواب أَن ذَلِك لَيْسَ بتهديد لِأَن الْإِنْسَان قد يَرْجُو الْمَنَافِع كَمَا يَرْجُو دفع المضار وَلَو كَانَ ذَلِك تهديدا لدل على وجوب التأسي وَقد بَينا أَن التأسي فِي الْفِعْل هُوَ إِيقَاعه على الْوَجْه الَّذِي أوقعه عَلَيْهِ فالآية إِذن تدل على مَا نقُوله وَقد قيل إِن قَوْله {لكم} لَيْسَ من الفاظ الْوُجُوب وَلَو دلّ على الْوُجُوب لقَالَ عَلَيْكُم وَالْجَوَاب أَنه لَا يَصح الِاسْتِدْلَال بذلك على نفي الْوُجُوب لِأَن معنى قَوْلنَا لنا أَن نَفْعل كَذَلِك هُوَ أَنه لَا حظر علينا فِي فعله وَالْوَاجِب لَيْسَ بمحظور فعله وَمِنْهَا قَول الله سُبْحَانَهُ {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول} قَالُوا فَدخل فِيهِ طَاعَته فِي قَوْله وَفعله وَالْجَوَاب أَن طَاعَة الرَّسُول هُوَ فعل مَا أَرَادَهُ وَأمر بِهِ فَيجب أَن تدلوا على أَنه قد أَرَادَ بِفِعْلِهِ أَن نَفْعل مثله فِي الصُّورَة وَإِن لم نعلم الْوَجْه الَّذِي دخل تَحت الظَّاهِر وَمِنْهَا قَول الله عز وَجل {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} وَقَوله {مَا آتَاكُم} يدْخل فِيهِ الْفِعْل وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم مَا معنى قَوْله {مَا آتَاكُم} فان قَالُوا مَعْنَاهُ مَا أَعْطَاكُم أَي مَا تعدى إِلَيْكُم بِالْأَمر والإلزام قيل لَهُم فالفعل لَيْسَ بِأَمْر فان قُلْتُمْ هُوَ إِلْزَام لنا أَن نَفْعل مثله قيل دلوا على ذَلِك وَهُوَ مَوضِع الْخلاف على أَن قَوْله عز وَجل {وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} يدل على أَنه عَنى بقوله {مَا آتَاكُم} مَا أَمركُم على أَن الْإِتْيَان إِنَّمَا يَتَأَتَّى فِي القَوْل لأَنا نَحْفَظهُ وامتثاله يصير كأننا أخذناه وكأنما عز وَجل أعطاناه

وَمِنْهَا مَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما خلع نَعله فِي الصَّلَاة خلع من كَانَ خَلفه نَعله وَهَذَا لَا يدل لِأَنَّهُ لَا يعلم أَنهم فعلوا ذَلِك وَاجِبا وَلَا يمْتَنع أَن يَكُونُوا لما رَأَوْهُ قد خلع نَعله مَعَ امْرَهْ بِأخذ الزِّينَة بِالصَّلَاةِ علمُوا أَن خلعها متعبد بِهِ غير مُبَاح لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُبَاحا مَا ترك بِهِ الْمسنون فِي الصَّلَاة على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد قَالَ لَهُم لم خلعتم نعالكم فَقَالُوا لآنك خلعت نعلك فَقَالَ إِن جِبْرِيل أَخْبرنِي أَن فِيهَا أَذَى فَدلَّ بذلك على أَنه يَنْبَغِي أَن يعرفوا الْوَجْه الَّذِي أوقع عَلَيْهِ فعله ثمَّ يتبعوه وَهَذَا هُوَ قَوْلنَا وَاحْتج الْقَائِلُونَ بِأَن أَفعاله لَيست على الْوُجُوب بأَشْيَاء مِنْهَا أَنه لَو وَجب علينا مثل مَا فعله لَكَانَ على وُجُوبه دَلِيل وَقد بَينا أَنه لَا دَلِيل على ذَلِك عَقْلِي أَو سَمْعِي فَلم تكن وَاجِبَة علينا وَمِنْهَا أَن مَا دلّ على اتباعنا لأفعاله هُوَ قَول الله عز وَجل {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} وَقَوله {فَاتَّبعُوهُ} وَقد بَينا أَن التأسي هُوَ إِيقَاع مَا أوقعه على الْوَجْه الَّذِي أوقعه عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ اتِّبَاعه فِيهِ فَمَا دلّ على اتِّبَاعه دلّ على اعْتِبَار الْوَجْه وَلقَائِل أَن يَقُول إِن دَلِيل التأسي والاتباع قد اقْتضى إِيقَاع مَا أوقعه على الْوَجْه الَّذِي أوقعه فَمن ايْنَ أَن مَا لَا يعلم الْوَجْه فِيهِ لَا يجب علينا فعله فان قُلْتُمْ إِنَّه لَا دَلِيل على الِاتِّبَاع والتأسي إِلَّا هَاتين الْآيَتَيْنِ قيل فَإِذن الدَّال على أَنه لَا يجب فعله علينا من غير اعْتِبَار الْوَجْه هُوَ فقد الدَّلِيل وَهَذَا هُوَ رُجُوع إِلَى الدَّلِيل الأول وَمِنْهَا أَنه لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يجب مثل فعله علينا بِاعْتِبَار الْوَجْه الَّذِي أوقعه عَلَيْهِ أَو من غير اعْتِبَار الْوَجْه فان وَجب بِاعْتِبَار الْوَجْه فَهُوَ قَوْلنَا وَإِن وَجب

من غير اعْتِبَار الْوَجْه لزم أَن يجب علينا وَإِن علمنَا أَنه أوقع الْفِعْل على وَجه النّدب وَالْإِجْمَاع وَمَا وَجب على التأسي بِهِ يمنعان من ذَلِك وَلقَائِل أَن يَقُول مَا تنكرون أَن يكون مصلحتنا أَن نَفْعل لَا محَالة مثل مَا فعله إِذا لم نعلم الْوَجْه الَّذِي أوقوع الْفِعْل عَلَيْهِ وَإِذا عرفنَا أَنه أوقعه لَا على وَجه الْوُجُوب كَانَ فعلنَا لَهُ وَاجِبا مفْسدَة أَلا ترى أَن التَّصْرِيح بالتعبد لَو ورد بذلك لشاع وَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول إِذا كُنَّا قد عرفنَا أَنه تنفل بِالْفِعْلِ كَانَ فعلنَا لمثله على وَجه الْوُجُوب مفْسدَة فَيجب إِذا أوقعناه على وَجه الْوُجُوب وَنحن لَا نعلم الْوَجْه الَّذِي أوقعه عَلَيْهِ أَن نَكُون مقدمين على مَا نَأْمَن من كَونه مفْسدَة لتجويزنا كَون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متنفلا بِهِ لِأَن للمخالف أَن يَقُول إيقاعنا الْفِعْل على الْوُجُوب إِذا لم نعلم الْوَجْه الَّذِي أوقع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفِعْل هُوَ الْمصلحَة وَإِن أوقعه على وَجه النّدب وَإِذا علمنَا ذَلِك من حَاله فإيقاعنا لَهُ على وَجه الْوُجُوب مفْسدَة وَمِنْهَا أَنه لودل فعله على وجوب مثله علينا لدل ذَلِك مُطلقًا من غير اعْتِبَار وَقت لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يدل على وجوب مثله فِي ذَلِك الْوَقْت بِعَيْنِه لتعذر فعل مثله علينا فِي ذَلِك الْوَقْت وَلَا يُمكن أَن يدل على وجوب مثله فِي مثل ذَلِك الْوَقْت لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَن يدل على ذَلِك أولى من أَن يدل على وجوب مثله فِي أقرب الْأَوْقَات إِلَيْهِ فصح أَن لَو دلّ على وجوب مثله لدل عَلَيْهِ مُطلقًا فَوَجَبَ إِذا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعلا ثمَّ تَركه وَفعل ضِدّه أَن يدل فعله وَفعل ضِدّه على وجوب الْفِعْل وضده علينا فِي حَالَة وَاحِدَة وَذَلِكَ يَسْتَحِيل وَلَا يلْزم على ذَلِك أَن يجب علينا الْفِعْل وضده إِذا أمرنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ وَأمْسك عَن الْأَمر بِهِ لِأَن إِمْسَاكه عَن الْأَمر بِهِ لَيْسَ بمشارك لِلْأَمْرِ بِهِ فِي صيغته الْمَوْضُوعَة للْوُجُوب وضد الْفِعْل قد شَارك الْفِعْل فِي كَونه فعلا وَقد شَاركهُ فِي دلَالَته على الْوُجُوب وَلقَائِل أَن يَقُول إِن فعله إِمَّا أَن يدل على وجوب مثله فِي مثل وقته فَيلْزم أَن لَا يجب علينا أَن نَفْعل مثل مَا فعل فِي وقته ونفعل ضِدّه فِي مثل وَقت فعل ضِدّه وَلَيْسَ يَسْتَحِيل وجوب الْفِعْل وضده علينا

فِي وَقْتَيْنِ فَأَما أَن يدل على وجوب مثله لَا فِي وَقت معِين فَيلْزم إِذا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشَّيْء وضده أَن يلْزمنَا الْفِعْل وضده فِي وَقْتَيْنِ غير مُعينين حَتَّى نَفْعل كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي وَقت أَي وَقت شِئْنَا وَذَلِكَ غير مُسْتَحِيل وَلقَائِل أَن يَقُول ايضا إِنَّه لزم الْمُسْتَدلّ بِهَذِهِ الدّلَالَة مَا ألزم خصومه إِذا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعلا وَقَالَ إِنَّه وَاجِب ثمَّ فعل ضِدّه وَقَالَ إِنَّه وَاجِب لِأَنَّهُ يلْزم على مَوْضُوع الدّلَالَة أَن يكون الْفِعْل وضده واجبين عى الْإِطْلَاق وَمِنْهَا أَنه لَو دلّ فعله على وجوب مثله علينا لدل على وجوب مثله عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولخصم أَن يَقُول هَذِه دَعْوَى عَارِية عَن دلَالَة وَله أَن يَقُول الدّلَالَة قد دلّت عِنْدِي على مشاركتنا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صُورَة الْفِعْل وَلم تدل على وجوب تكْرَار الْفِعْل علينا وَلَا على وجوب تكْرَار الْفِعْل من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتكرار الْفِعْل مِنْهُ نَظِيره تكْرَار الْوُجُوب علينا وَنحن لَا نوجب ذَلِك وَيلْزم الْمُسْتَدلّ أَن يدل فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على وجوب مثله على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا فعله إِنَّه وَاجِب وَمِنْهَا أَنه لَو دلّ فعله على وجوب مثله علينا لدل على أَنه كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ فَأولى أَن لَا يدل على أَنه يجب علينا مثله وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا يجب أَن تكون دلَالَته على وجوب مثله علينا مَوْقُوفَة على دلَالَته على أَنه كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ لَو ثَبت أَنه لَا يجوز أَن يجب علينا مثل فعله إِلَّا إِذا كَانَ قد أوقعه على وَجه الْوُجُوب وَهَذَا مَوضِع الْخلاف فَلَا يجوز أَن يبتني عَلَيْهِ الدّلَالَة فَإِن قُلْتُمْ إِنَّمَا كَانَ وُجُوبه علينا مَوْقُوفا على وُجُوبه عَلَيْهِ لِأَن قَوْله {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} يدل على ذَلِك كَانَ رُجُوعا إِلَى دلَالَة أُخْرَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي التأسي بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَفعاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنا إِذا علمنَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل فعلا على وَجه الْوُجُوب فقد تعبدنا

أَن نفعله على وَجه الْوُجُوب وَإِن علمنَا أَنه تنفل بِهِ كُنَّا متعبدين بالتنفل بِهِ فان علمنَا أَن فعله على وَجه الْإِبَاحَة كُنَّا متعبدين باعتقاد إِبَاحَته لنا وَجَاز لنا أَن نفعله وَقَالَ أَبُو عَليّ بن خَلاد إِنَّا متعبدون بالتأسي بِهِ فِي أَفعاله الْعِبَادَات دون غَيرهَا كالمناكح وَمَا أشبههَا وَالدَّلِيل على مَا ذَكرْنَاهُ أَولا قَول الله تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} والتأسي بِالْغَيْر فِي أَفعاله هُوَ أَن نَفْعل على الْوَجْه الَّذِي فعلهَا ذَلِك الْغَيْر وَلم يفرق الله عز وَجل بَين أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُبَاحَة وَغَيرهَا إِن قيل الْآيَة تفِيد التأسي بِهِ مرّة وَاحِدَة كَمَا أَن قَول الْقَائِل لغيره لَك فِي الدَّار ثوب حسن يُفِيد ثوبا وَاحِدًا الْجَواب أَن ذَلِك إِن ثَبت تمّ غرضنا من التَّعَبُّد بالتأسيس بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجُمْلَة وَأَيْضًا فالآية تفِيد إِطْلَاق كَون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُسْوَة لنا وَلَا يُطلق وصف الْإِنْسَان بِأَنَّهُ أُسْوَة لزيد إِذا كَانَ إِنَّمَا يَنْبَغِي لزيد أَن يتبعهُ فِي فعل وَاحِد وَإِنَّمَا يُطلق ذَلِك إِذا كَانَ ذَلِك الْإِنْسَان قدوة لزيد يَهْتَدِي فِي بِهِ أُمُوره كلهَا إِلَّا مَا خصّه الدَّلِيل دَلِيل قَوْله سُبْحَانَهُ {فَاتَّبعُوهُ} يتَنَاوَل أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الِاتِّبَاع يَقع فِي الْفِعْل ويتناول القَوْل فَكَانَ على إِطْلَاقه فَإِن قيل الِاتِّبَاع يكون فِي القَوْل وَفِي الْفِعْل وَلَيْسَ فِي قَوْله {فَاتَّبعُوهُ} لفظ عُمُوم فَيتَنَاوَل القَوْل وَالْفِعْل فَمَا الْأمان أَن يكون المُرَاد اتِّبَاعه فِي القَوْل فَقَط الْجَواب أَن إِطْلَاق قَوْله {فَاتَّبعُوهُ} وَإِن لم يفد الْعُمُوم فانه يُفِيد أَن لنا اتِّبَاعه فِي أَفعاله لِأَن ذَلِك اتِّبَاع لَهُ وَالْخطاب مُطلق دَلِيل أَجمعت الْأمة على الرُّجُوع إِلَى أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا ترى أَن السّلف رَضِي الله عَنهُ رجعُوا إِلَى أَزوَاجه فِي قبْلَة الصَّائِم وَفِي أَن من اصبح

جنبا لم يفْسد صَوْمه وَفِي تَزْوِيج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ميمونه وَهُوَ حَلَال أَو حرَام وَغير ذَلِك فاذا ثَبت ذَلِك فأفعاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا بُد من أَن يتَمَثَّل فِيهَا طَريقَة فإمَّا أَن تكون مَعْرُوفَة لنا أَو غير مَعْرُوفَة فان لم تكن مَعْرُوفَة لنا فانا نَكُون متبعين لَهُ فِي أَفعاله ومتاسين بِهِ فِيهَا لَا شُبْهَة فِي ذَلِك وَإِن امتثل فِيهَا طَريقَة مَعْرُوفَة لنا إِمَّا عقلية وَإِمَّا سمعية فَإِن ذَلِك لَا يمْنَع من كَون فعله دلَالَة لنا أَيْضا على أَنا متعبدون بِمثلِهِ وَلَا يمْتَنع من كوننا فاعلين لمثله لأجل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعله وَلأَجل الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة أَو السمعية على حد لَو انْفَرد كل وَاحِد مِنْهُمَا لفعلنَا الْفِعْل لأَجله وَذَلِكَ لَا يمْنَع من وُقُوع التأسي بِهِ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي قسْمَة أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر الطَّرِيق إِلَيْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن مَا يسند إِلَيْهِ مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف وَلَيْسَ بقول ضَرْبَان أَحدهمَا فعل وَالْآخر ترك وَالْفِعْل ضَرْبَان أَحدهمَا يختصه كاصلاة وَالصِّيَام وَالْآخر يتَعَلَّق بِغَيْرِهِ كعقوبة الْغَيْر وَالتّرْك ضَرْبَان أَحدهمَا ترك يختصه كتركه الجلسة فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة وَالْآخر الْقَضَاء عَلَيْهِ والنكير عَلَيْهِ وَلَا يخلوا كل ذَلِك من أَن يكون مُبَاحا أَو ندبا أَو وَاجِبا وكل وَاحِد من ذَلِك إِمَّا أَن يكون قد امتثل فِيهِ طَريقَة مَعْرُوفَة لنا أَو غير مَعْرُوفَة لنا فَإِن كَانَت مَعْرُوفَة لنا فإمَّا أَن تكون عقلية أَو سمعية وَمَا امتثل فِيهِ طَريقَة غير مَعْرُوفَة لنا فإمَّا أَن تكون مُبتَدأَة لَا تتَعَلَّق بِشَيْء من الْأَدِلَّة أَو تتَعَلَّق بِشَيْء مِنْهَا وَهَذَا الْأَخير إِمَّا أَن يتَعَلَّق بهَا على طَرِيق الْمُوَافقَة وَهُوَ بَيَان صفة الْمُجْمل أَو يتَعَلَّق بهَا لَا على طَرِيق الْمُوَافقَة وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا بَيَان التَّخْصِيص وَالْآخر بَيَان النّسخ وَبَيَان التَّخْصِيص إِمَّا أَن يكون بَيَانا لتخصيص قَول أَو لتخصيص فعل وَبَيَان النّسخ أَيْضا إِمَّا أَن يكون بَيَانا لنسخ قَول أَو نسخ فعل وَأما الْفَصْل بَين الْفِعْل وَالتّرْك فَظَاهر وَقد ذكرنَا فِي تضاعيف الْكَلَام الْفَصْل بَين الْفِعْل وَالتّرْك اللَّذين يختصانه وَبَينهمَا إِذا تعلقا بِغَيْرِهِ

فَأَما الطَّرِيق إِلَى أَن مَا فعله مُبَاح فأشياء مِنْهَا أَن يَقُول إِنَّه مُبَاح وَمِنْهَا أَن نضطر من قَصده إِلَى أَنه مُبَاح وَمِنْهَا أَن يدل دلة حَسَنَة على حسنه وَلَا يدل دلَالَة على أَن لَهُ صفة زَائِدَة على حسنه وَمِنْهَا أَن يكون امتثالا لدلَالَة تدل على الْإِبَاحَة وَمِنْهَا أَن يكون بَيَانا لخطاب يدل على الْإِبَاحَة فَأَما الطَّرِيق إِلَى أَن فعله مَنْدُوب إِلَيْهِ فأشياء مِنْهَا أَن يَقُول إِنَّه مَنْدُوب إِلَيْهِ وَمِنْهَا أَن يدل دلَالَة من قَول وَغَيره على أَن لَهُ صفة زَائِدَة على حسنه وَلَا تدل دلَالَة على وُجُوبه وَمِنْهَا أَن يكون بَيَانا لخطاب يَقْتَضِي كَون ذَلِك الْفِعْل مَنْدُوبًا إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَة وَمِنْهَا أَن يكون امتثالا لدلَالَة تدل على كَون الْفِعْل مَنْدُوبًا إِلَيْهِ فَأَما الطَّرِيق إِلَى أَن مَا فعله مُبَاح فأشياء مِنْهَا أَن يَقُول إِنَّه مُبَاح وَمِنْهَا أَن نضطر من قَصده إِلَى أَنه مُبَاح وَمِنْهَا أَن يدل دلَالَة على حسنه وَلَا يدل دلَالَة على أَن لَهُ صفة زَائِدَة على حسنه وَمِنْهَا أَن يكون امتثالا لدلَالَة تدل على الْإِبَاحَة وَمِنْهَا أَن يكون بَيَانا لخطاب يدل على الْإِبَاحَة فَأَما الطَّرِيق إِلَى أَن فعله مَنْدُوب إِلَيْهِ فأشياء مِنْهَا أَن يَقُول إِنَّه مَنْدُوب إِلَيْهِ وَمِنْهَا أَن يدل دلَالَة من قَول وَغَيره على أَن لَهُ صفة زَائِدَة على حسنه وَلَا تدل دلَالَة على وُجُوبه وَمِنْهَا أَن يكون بَيَانا لخطاب يَقْتَضِي كَون ذَلِك الْفِعْل مَنْدُوبًا إِلَيْهِ فِي االجملة وَمِنْهَا أَن يكون امتثالا لدلَالَة تدل على كَون الْفِعْل مَنْدُوبًا إِلَيْهِ وَأما الطَّرِيق إِلَى معرفَة كَون فعله وَاجِبا فأشياء مِنْهَا أَن يَقُول هَذَا الْفِعْل وَاجِب وَمِنْهَا أَن يكون امتثالا لدلَالَة تدل على وجوب ذَلِك الْفِعْل وَمِنْهَا أَن يكون بَيَانا لأمر يدل على الْوُجُوب وَمِنْهَا أَن يضْطَر إِلَى قَصده أَنه أوقعه

وَاجِبا وَمِنْهَا أَن يكون الْفِعْل قبيحا لَو لم يكن وَاجِبا نَحْو أَن يرْكَع ركوعين فِي رَكْعَة وَاحِدَة لِأَنَّهُ قد تقرر فِي الشَّرِيعَة قبح ذَلِك إِلَّا أَن يكون وَاجِبا فَأَما مَا بِهِ يعلم أَن فعله أَو تَركه امْتِثَال لدلَالَة نعرفها فَهُوَ أَن يكون مطابقا لبَعض الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة أَو الشَّرْعِيَّة الَّتِي نعرفها وَأما مَا بِهِ يعلم أَن فعله بَيَان فشيئان أَحدهمَا أَن يَقُول هَذَا بَيَان لهَذَا وَالْآخر أَن يرد عَن الله سُبْحَانَهُ وَعَن رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خطاب مُجمل وَيفْعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعلا يحْتَمل أَن يكون بَيَانا لَهُ وَلَا يُوجد بَيَان غَيره وَتَكون الْحَاجة إِلَى الْبَيَان حَاضِرَة فَعلم أَنه بَيَان لَهُ لِأَنَّهُ لَو لم يكن بَيَانا لَكَانَ الْبَيَان قد تَأَخّر عَن وَقت الْحَاجة وَقد يكون تَركه بَيَانا نَحْو أَن يتْرك الجلسة فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة فَينْسَخ بِهِ وَلَا يرجع فنعلم أَنَّهَا غير ركن فِي الصَّلَاة فَأَما مَا بِهِ يعلم أَن فعله أَو تَركه بَيَان لنسخ القَوْل فَهُوَ أَن يصدر مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَول يَقْتَضِي تكْرَار الْفِعْل مِنْهُ وَمن غَيره وَيدخل هُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ فِي الْخطاب وَيفْعل مُوجبه ثمَّ يفعل ضِدّه أَو يتْركهُ فنعلم أَن حكمه مَنْسُوخ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَما مَا بِهِ يعلم أَن فعله أَو تَركه مُخَصص لقَوْله فَهُوَ أَن يصدر مِنْهُ قَول يدل ظَاهره على وجوب فعل عَلَيْهِ وعَلى غَيره ثمَّ يفعل ضِدّه فِي الْحَال أَو يتْركهُ فنعلم أَنه مَخْصُوص من ذَلِك الدَّلِيل ونعلم أَن فعله أَو تَركه مُخَصص لفعله بِأَن يفعل فعلا يَقْتَضِي الدَّلِيل إدامته عَلَيْهِ وعَلى غَيره لَوْلَا دَلِيل مُخَصص ثمَّ يفعل ضِدّه فِي الْحَال أَو يتْركهُ فنعلم انه مَخْصُوص وَالْأَشْبَه أَن يكون هَذَا الْفِعْل مُخَصّصا لما دلّ على وجوب فعله فِي الْمُسْتَقْبل عَلَيْهِ وعَلى غَيره وَالله أعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يدل عَلَيْهِ أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتروكه الْمُتَعَلّقَة بِغَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما أَفعاله الْمُتَعَلّقَة بِغَيْرِهِ فَهِيَ الْحُدُود والتعزيز وَالْقَضَاء على الْغَيْر فاقامة

الْحَد والتعزيز على وَجه النكال تدل على أَن ذَلِك الْغَيْر قد اقدم على كَبِيرَة وإقامتها عَلَيْهِ على سَبِيل الامتحان لَا تدل على أَنه الْآن مُقيم على كَبِيرَة وقضاؤه على غَيره وَإِن كَانَ من قبيل ألأقوال فانه يَقْتَضِي لُزُوم مَا قضى بِهِ لِأَن الْقَضَاء هُوَ الْإِلْزَام وَذكر قَاضِي الْقَضَاء أَن النَّاس اخْتلفُوا فِي حكمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن زيدا فَاضل أَو أَنه أفضل من غَيره هَل هُوَ على الظَّاهِر أَو على سَبِيل الْقطع فَمنهمْ من قَالَ بِالْأولِ وَمِنْهُم من قَالَ بِالثَّانِي وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا فِي نسبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زيدا إِلَى عَمْرو هَل هُوَ على سَبِيل الْقطع أَو على الظَّاهِر وَذكر أَنهم لم يَخْتَلِفُوا فِي أَنه إِذا حكم على غَيره بِالدّينِ لَا يقطع بِهِ على الْبَاطِن فِي ذَلِك بل يكون حكما بِالظَّاهِرِ قَالَ فاما إِذا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لغيره هَذَا الْحق عَلَيْك فانه يكون على الْخلاف الْمُتَقَدّم وَقَالَ إِنَّه إِذا ملك غَيره شَيْئا فانه يملكهُ فِي الْحَقِيقَة لِأَن التَّمْلِيك يَقْتَضِي إِبَاحَة تصرف مَخْصُوص وَقَالَ إِذا أَبَاحَ الْإِنْسَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكل طَعَامه فاستباح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكله فانه لَا يدل على أَنه ملكه لَا محَالة لِأَنَّهُ يكْتَفى فِي اسْتِبَاحَة الْأكل بِظَاهِر الْيَد وَالتَّصَرُّف فَأَما تَركه النكير على الْفِعْل فضربان أَحدهمَا أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد دلّ من قبل على قبحه وَأقر فَاعله عَلَيْهِ كاختلاف أهل الْكتاب إِلَى كنائسهم وَمَتى كَانَ كَذَلِك فانه لَا يدل ترك النكير عَلَيْهِم على حسنه وَرضَاهُ بِهِ وَالْآخر أَن لَا يكون قد علم من دينه الْإِقْرَار على ذَلِك الْفِعْل وَذَلِكَ يلْزم إِنْكَاره سَوَاء تقدّمت الدّلَالَة على قبحه أَو لم تتقدم لِأَنَّهُ لم تتقدم الدّلَالَة على ذَلِك فَترك إِنْكَاره يَقْتَضِي حسنه إِذْ لَو كَانَ مُنْكرا لبين قبحه وَإِن تقدّمت الدّلَالَة على ذَلِك فَترك إِنْكَاره أَيْضا يَقْتَضِي حسنه لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يُقَال إِنَّه قَبِيح وَإِنَّمَا لم يُنكره لِأَنَّهُ غلب على ظَنّه أَن إِنْكَاره غير مُؤثر لِأَن إِنْكَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا بُد من أَن يُؤثر لِأَنَّهُ لَيْسَ كانكار غَيره هَكَذَا ذكر قَاضِي الْقُضَاة وَهَذَا صَحِيح إِذا كَانَ فَاعل الْقَبِيح يعْتَقد نبوته فَأَما من ينطوي على تَكْذِيبه

وإطراح أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يُمكن أَن يُقَال إِن إِنْكَاره عَلَيْهِ لَا بُد من أَن يُؤثر على كل حَال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَفعاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تَعَارَضَت - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْأَفْعَال المتعارضة يَسْتَحِيل وجودهَا لِأَن التَّعَارُض والتمانع إِنَّمَا يتم مَعَ التَّنَافِي وَالْأَفْعَال إِنَّمَا تتنافى إِذا كَانَت متضادة وَكَانَ محلهَا وَاحِدًا ووقتها وَاحِدًا ويستحيل أَن يُوجد الْفِعْل وضده فِي وَقت وَاحِد فِي مَحل وَاحِد فاذا يَسْتَحِيل وجود أَفعَال متعارضة فَأَما الفعلان الضدان فِي وَقْتَيْنِ فليسا متعارضين بأنفسهما لِأَنَّهُ لَا يتنافى وجودهما وَلَا يمْتَنع الِاقْتِدَاء بهما فنكون متعبدين بِالْفِعْلِ فِي وَقت وبضده فِي وَقت آخر وَقد يَكُونَا متعارضين بِغَيْرِهِمَا نَحْو أَن يفعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعلا ونعلم بِالدَّلِيلِ أَن غَيره متعبد بِهِ ثمَّ نرَاهُ عقيب ذَلِك قد أقرّ بعض النَّاس على فعل ضِدّه فنعلم أَنه خَارج مِنْهُ وَكَذَلِكَ إِذا علمنَا أَن ذَلِك الْفِعْل يلْزم أَمْثَاله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مثل تِلْكَ الْأَوْقَات مَا لم يرد دَلِيل نَاسخ ثمَّ يفعل عَلَيْهِ السَّلَام ضِدّه فِي مثل ذَلِك الْوَقْت فنعلم أَنه قد نسخ عَنهُ غير أَن النّسخ والتخصيص إِنَّمَا لَحقا مَا علمنَا بِهِ أَن ذَلِك الْفِعْل يلْزم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مُسْتَقْبل الْأَوْقَات وَأَنه يلْزم غَيره وَإِنَّمَا يُقَال إِن ذَلِك الْفِعْل قد لحقه النّسخ على معنى أَنه قد زَالَ التَّعَبُّد بِمثلِهِ وَأَن التَّخْصِيص قد لحقه على معنى أَن بعض الْمُكَلّفين لَا يلْزمه مثله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَقْوَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأفعاله إِذا تَعَارَضَت - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن فعله وَقَوله إِذا تَعَارضا لم يخل إِمَّا أَن يتعارضا من كل وَجه اَوْ من وَجه دون وَجه فان تَعَارضا من كل وَجه لم يخل إِمَّا أَن نعلم تقدم أَحدهمَا على

الآخر أَو لَا نعلم ذَلِك فان علمناه لم يخل إِمَّا أَن نعلم تقدم الْفِعْل أَو تقدم القَوْل فَإِن علمنَا تقدم الْفِعْل نَحْو أَن يُصَلِّي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى بَيت الْمُقَدّس ونعلم أَن حكم غَيره حكمه فِي ذَلِك مَا لم يمْنَع مَانع وَيَقُول بعد ذَلِك الصَّلَاة إِلَى بَيت الْمُقَدّس غير جَائِزَة فَإِن ورد القَوْل عقيب الْفِعْل كَانَ هُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَخْصُوصًا من ذَلِك القَوْل وَيجب أَن يكون متناوله لغيره وَإِلَّا لم يكن لِلْقَوْلِ فَائِدَة وَلَا يجوز أَن يكون قَوْله متناولا لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيكون نسخا للْفِعْل عَنهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يكون نسخا للْفِعْل إِذا دلّ على وجوب اسْتِمْرَار مثله فِي الْمُسْتَقْبل عَلَيْهِ وَلَو كَانَ كَذَلِك لم يجز أَن يدلنا عَقِيبه على أَنه مَنْسُوخ عَنهُ لِأَن ذَلِك نسخ الشَّيْء قبل وَقت فعله وَإِن كَانَ القَوْل متراخيا بعد مَا حضر وَقت الْفِعْل مرّة أُخْرَى فَإِنَّهُ إِن كَانَ القَوْل يتناولنا وإياه كَانَ نَاسِخا للْفِعْل عَنَّا وَعنهُ وَإِن كَانَ يتَنَاوَلهُ وَحده كَانَ نسخا عَنهُ وَحده وَإِن كَانَ يتناولنا فقد كَانَ نسخا عَنَّا فَقَط وَإِن كَانَ قَوْله مُتَقَدما على فعله فان كَانَ الْفِعْل عقيب القَوْل وَكَانَ القَوْل يتناولنا وإياه كَانَ فعله مُخَصّصا لَهُ وَحده دُوننَا لأَنا لَو خرجنَا أَيْضا من الْخطاب بطلت فَائِدَته وَإِن كَانَ الْفِعْل متراخيا عَن الول كَانَ نَاسِخا لِلْقَوْلِ عَنهُ فَقَط إِن كَانَ القَوْل يتَعَلَّق بِهِ فَقَط وَإِن كَانَ القَوْل يتَعَلَّق بِنَا فَقَط كَانَ فعله نَاسِخا عَنَّا فَقَط إِذا علمنَا أَن حكمنَا فِي الْفِعْل حكمه وَإِن كَانَ القَوْل يتَعَلَّق بِنَا وَبِه كَانَ الْفِعْل نَاسِخا لِلْقَوْلِ عَنَّا وَعنهُ إِذا علمنَا أَن حكمنَا فِيهِ حكمه فَأَما إِن لم نعلم تقدم أَحدهمَا على الآخر فالتعلق بالْقَوْل أولى لِأَنَّهُ يتَعَدَّى إِلَيْنَا بِنَفسِهِ وَالْفِعْل لَا يتَعَدَّى إِلَيْنَا وَلَا يتناولنا بِنَفسِهِ ولأنا إِذا جَوَّزنَا أَن يكون الْفِعْل قد تقدم جَوَّزنَا أَن لَا يكون قد تعدى إِلَيْنَا بِنَفسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ لِأَن القَوْل حِينَئِذٍ يكون نَاسِخا لَهُ فَنحْن نشك إِذا فِي تنَاوله لنا ونقطع على تنَاول القَوْل لنا من جِهَة صيغته فَكَانَ أولى

فَأَما إِذا تعَارض قَوْله وَفعله من وَجه دون وَجه فمثاله نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن اسْتِقْبَال الْقبْلَة واستدبارها للغائط وَالْبَوْل وجلوسه لقَضَاء الْحَاجة فِي الْبيُوت مُسْتَقْبل بَيت الْمُقَدّس وَذَلِكَ يحْتَمل أَن يكون مُبَاحا فِي الْبيُوت لكل أحد وَيحْتَمل أَن تكون إِبَاحَته خَاصَّة بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيحْتَمل أَن يكون نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن اسْتِقْبَال الْقبْلَة واستدبارها عَاما لأمته فِي الْبيُوت والصحارى وَيحْتَمل أَن يكون خَاصّا فِي الصحارى وَقد اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك من غير تَفْصِيل فَعِنْدَ الشَّافِعِي أَنه مَخْصُوص بِفِعْلِهِ وَعند الشَّيْخ أبي الْحسن أَنه يَنْبَغِي أَن يجرى نَهْيه على إِطْلَاقه ويخص فعله بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقاضي الْقُضَاة يتَوَقَّف فِي الْمَسْأَلَة وَاعْلَم أَن قَوْله عز وَجل {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} وَقَوله {فَاتَّبعُوهُ} مَعَ استقباله بَيت الْمُقَدّس فِي الْبيُوت معَارض لنَهْيه عَن اسْتِقْبَال الْقبْلَة لغائط أَو بَوْل فَلَا يَنْبَغِي أَن يعْتَرض بِأَحَدِهِمَا على الآخر إِلَّا لوجه يتَرَجَّح بِهِ أَحدهمَا على الآخر وَلَيْسَ يجوز أَن يتَرَجَّح نَهْيه على فعله من حَيْثُ كَانَ قَوْله يتَعَدَّى إِلَيْنَا بِنَفسِهِ وَفعله لَا يتَعَدَّى إِلَيْنَا بِنَفسِهِ لِأَن إِن اعْترض بنهيه عَن اسْتِقْبَال الْقبْلَة وَجب أَن يخص بِهِ قَول الله عز وَجل {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} وَهَذَا قَول فيتعدى إِلَيْنَا بِنَفسِهِ وَالْأولَى أَن يُقَال إِن نَهْيه أخص من قَول الله عز وَجل {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} فَكَانَ وُقُوع التَّخْصِيص بِهِ أولى فان قيل فعله أخص من هَذَا النَّهْي لِأَن نَهْيه عَام فِي الْبيُوت والصحارى وَفعله يخْتَص بِالْبُيُوتِ فَكَانَ الِاعْتِرَاض بِهِ أَحَق قيل فعله لَا يتَعَدَّى إِلَيْنَا فَهُوَ وَإِن كَانَ أخص بِالْبُيُوتِ فَلَيْسَ يتَعَدَّى إِلَيْنَا فان قيل فعله مَعَ قَول الله عز وَجل {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} أخص من هَذَا النَّهْي فَوَجَبَ

تَخْصِيص النَّهْي بِهِ وَالْجَوَاب أَنا إِذا جعلنَا النَّهْي هُوَ الْمُخَصّص كُنَّا قد خصصنا بِهِ وَحده قَول الله عز وَجل {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} وَإِن كَانَ الْمَخْصُوص هُوَ هَذِه الْآيَة وَهِي أَعم من النَّهْي كَانَ تخصيصها أولى وَلَهُم أَن يَقُولُوا وَنحن إِذا خصصنا هَذَا النَّهْي فَإنَّا نخصه بِفعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ مَا ثَبت من التأسي بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومجموع هذَيْن أخص من النَّهْي فَيجب أَن يكون ذَلِك أولى أَو يتعادل الْقَوْلَانِ فَيلْزم فيهمَا الْوَقْف وَالرُّجُوع إِلَى دَلِيل آخر

الكلام في الناسخ والمنسوخ

الْكَلَام فِي النَّاسِخ والمنسوخ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي فُصُول النَّاسِخ والمنسوخ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إعلم أَن الْكَلَام فِي ذَلِك يَقع فِي الِاسْم وَفِي الْمَعْنى أما فِي الِاسْم فبأن نتكلم فِي فَائِدَة اسْم النّسخ فِي اللُّغَة وَفِي الشَّرْع وَيتبع ذَلِك الْكَلَام فِي حَده فَأَما فِي الْمَعْنى فَمن وُجُوه مِنْهَا الْفَصْل بَين النّسخ وَبَين البداء وَمِنْهَا ذكر شُرُوطه والفصل بَينهمَا وَبَين مَا لَيْسَ من شُرُوطه وَمِنْهَا الدّلَالَة على حسنه وَلما كَانَ النّسخ لَا يتم إِلَّا بشيئين نَاسخ ومنسوخ وَجب أَن نذكرهما فَنَذْكُر مَا يجوز نسخه وَمَا لَا يجوز وَمَا يجوز وُقُوع النّسخ بِهِ وَمَا لَا يجوز وَمِمَّا يدْخل فِي أَبْوَاب النّسخ ذكر مَا أخرج من النّسخ وَهُوَ مِنْهُ وَمَا أَدخل فِيهِ وَلَيْسَ مِنْهُ وَذكر الطَّرِيق إِلَى معرفَة كَون الشَّيْء نَاسِخا أَو مَنْسُوخا أما الْكَلَام فِي فَائِدَة الِاسْم فَيجب تَقْدِيمهَا وَتَقْدِيم الْحَد ليَصِح أَن نتكلم فِي شُرُوطه وَأَحْكَامه وَيتبع ذكر حَده الْكَلَام فِي الْمفصل بَينه وَبَين غَيره ثمَّ الْكَلَام فِي شُرُوطه وَمَا لَيْسَ من شُرُوطه ثمَّ الدّلَالَة على حسن النّسخ إِذا اخْتصَّ بِشُرُوطِهِ ثمَّ الدّلَالَة على مَا اشترطناه كنسخ الشَّيْء بعد وَقت فعله ثمَّ ذكر مَا قُلْنَاهُ أَنه لَيْسَ بِشَرْط كنسخ عبَادَة لم يُقيد الْأَمر بهَا بالتأييد وكنسخ الْعِبَادَة لَا إِلَى بدل أَو إِلَى بدل أخف ثمَّ نذْكر مَا يجوز نسخه وَيدخل فِيهِ نسخ التِّلَاوَة وَنسخ الحكم وَنسخ الْأَخْبَار ثمَّ نذْكر مَا يَقع النّسخ بِهِ وَمَا لَا يَقع وَذَلِكَ فُصُول مِنْهَا نسخ الْكتاب بِالْكتاب وَالسّنة بِالسنةِ وَمِنْهَا نسخ السّنة بِالْكتاب وَالْكتاب بِالسنةِ وَذكرنَا نُسْخَة بأخبار الْآحَاد وَلم نؤخره إِلَى الْكَلَام فِي الْأَخْبَار لأَنا لَا نمْنَع من نسخه

بأخبار الْآحَاد وَلَيْسَ يقف الْمَنْع من ذَلِك على قيام الدّلَالَة على قبُول خبر الْوَاحِد وَلَيْسَ كَذَلِك وُقُوع التَّخْصِيص بهَا لِأَن ذَلِك مُرَتّب على كَون أَخْبَار الْآحَاد طَريقَة يحْتَج بهَا فَلذَلِك أخرنا القَوْل فِي وُقُوع التَّخْصِيص بهَا إِلَى أَبْوَاب الْأَخْبَار ثمَّ نذْكر مَا لَا يجوز نسخه وَلَا وُقُوع النّسخ بِهِ كالإجماع وَالْقِيَاس وفحوى القَوْل ثمَّ نذْكر مَا ألحق بالنسخ أَو أخرج مِنْهُ كالزيادة فِي النَّص وَالنُّقْصَان مِنْهُ ثمَّ نذْكر الطَّرِيق إِلَى كَون النَّاسِخ نَاسِخا وَلما كَانَ النّسخ مَوْقُوفا على التَّنَافِي وعَلى ذكر التَّارِيخ وَكَانَت الْأَحْكَام تتنافى على الشَّخْص الْوَاحِد وعَلى الْأَشْخَاص الْكَثِيرَة دخل فِي ذَلِك العمومان إِذا تَعَارضا فَوَجَبَ ذكر ذَلِك أجمع على التَّرْتِيب وَنحن نأتي على ذَلِك أجمع إِن شَاءَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي فَائِدَة اسْم النّسخ فِي اللُّغَة وَفِي الشَّرْع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه لما كَانَ اسْم النّسخ مُسْتَعْملا فِي أصُول الْفِقْه وَجب ذكر فَائِدَته لنفهمها عِنْد إِطْلَاقه وَلما كَانَ مُسْتَعْملا فِي اللُّغَة وَفِي الشَّرِيعَة نَظرنَا هَل فَائِدَته فيهمَا وَاحِدَة أَو مُخْتَلفَة فاسم النّسخ مُسْتَعْمل فِي اللُّغَة فِي الْإِزَالَة وَفِي النَّقْل أما فِي الْإِزَالَة فَقَوْلهم نسخت الشَّمْس الظل لِأَنَّهُ قد لَا يحصل الظل فِي مَكَان آخر فيظن أَنه انْتقل إِلَيْهِ وَقَوْلهمْ نسخت الرّيح آثَارهم وَأما فِي النَّقْل فَقَوْلهم نسخت الْكتاب أَي نقلت مَا فِيهِ إِلَى كتاب آخر وَالْأَشْبَه أَن يكون مجَازًا فِي ذَلِك لِأَن مَا فِي الْكتاب لم ينْتَقل على الْحَقِيقَة وَإِذا كَانَ مجَازًا فِيهِ كَانَ حَقِيقَة فِي الْإِزَالَة لِأَنَّهُ غير مُسْتَعْمل فِي سواهُمَا فاذا بَطل كَونه حَقِيقَة فِي أَحدهمَا كَانَ حَقِيقَة فِي الآخر وَإِلَّا بَطل أَن يكون الِاسْم حَقِيقَة فِي اللُّغَة إِن قيل إِذا كَانَ مَا فِي الْكتاب لم ينْتَقل على الْحَقِيقَة علمنَا أَنهم إِنَّمَا وصفوه بِأَنَّهُ مَنْسُوخ لتسبهها بالمنقولة من حَيْثُ حصل مثله فِي كتاب آخر فَجرى حُصُول

مثله فِي مَكَان آخر مجْرى حُصُوله وَذَلِكَ يدلنا على أَن اسْم النّسخ مَوْضُوع للنَّقْل فَلهَذَا تجوزوا بِهِ فِيمَا يشبه النَّقْل وَلَو كَانَ حَقِيقَة للإزالة لم يسموا الْكتاب مَنْسُوخا لِأَنَّهُ غير مزال وَلَا شبه المزال وَالْجَوَاب أَنه لَا يمْتَنع أَن يكون حَقِيقَة للإزالة فَاسْتعْمل فِي النَّقْل من حَيْثُ كَانَ النَّقْل مزيلا للمنقول عَن مَكَانَهُ وَإِن حصل فِي مَكَان آخر ثمَّ اسْتعْمل فِي نسخ الْكتاب من حَيْثُ شكل الْمَنْقُول من الْوَجْه الَّذِي ذكر السَّائِل فَيكون اسْتِعْمَال ذَلِك فِي الْكتاب تَشْبِيها بِوَجْه الْمجَاز واستعماله فِي الْمجَاز تَشْبِيها بِالْحَقِيقَةِ وَهُوَ المزال فان قيل وَصفهم الرّيح بِأَنَّهَا ناسخة للآثار وَالشَّمْس بِأَنَّهَا ناسخة للظل مجَاز أَيْضا لِأَن النَّاسِخ للآثار والظل هُوَ الله سُبْحَانَهُ فَاعل الشَّمْس وَالرِّيح قيل لَا يمْتَنع أَن يكون الله سُبْحَانَهُ هُوَ النَّاسِخ لذَلِك من حَيْثُ فعل سَبَب الْإِزَالَة وَتَكون الشَّمْس وَالرِّيح موصوفان على الْحَقِيقَة بِأَنَّهُمَا ناسخان من حَيْثُ اختصاصهما بِسَبَب الْإِزَالَة على أَن أهل اللُّغَة لَو كَانُوا اعتقدوا أَن الشَّمْس هِيَ الفاعلة للإزالة ثمَّ اضافوا النّسخ إِلَيْهَا لوَجَبَ اتباعهم فِي تَسْمِيَة هَذِه الْإِزَالَة نسخا وَلَا نتبعهم فِي اعْتِقَادهم أَن الشَّمْس وَالرِّيح فاعلان على أَنه لَا يمْتَنع أَن يكون وصف الشَّمْس بِأَنَّهَا ناسخة مجَازًا وَكَون هَذَا الْوَصْف مجَازًا لَا يُوجب كَون وَصفهم الْإِزَالَة نسخا مجَازًا فَأَما اسْتِعْمَال اسْم النّسخ فِي الشَّرْع فَعِنْدَ الشَّيْخ أبي عبد الله أَنه مَنْقُول إِلَى معنى فِي الشَّرْع وَلَا ييجري عَلَيْهِ على سَبِيل التَّشْبِيه بِالْمَعْنَى اللّغَوِيّ لِأَنَّهُ يُفِيد فِي الشَّرْع معنى مُمَيّزا فَجرى مجْرى اسْم الصَّلَاة وَعند الشَّيْخ أبي هَاشم أَنه يُفِيد معنى فِي الشَّرْع على طَرِيق التَّشْبِيه باللغة وَذَلِكَ أَنه يُفِيد إِزَالَة مثل الحكم الْمُتَقَدّم كَمَا يُفِيد فِي اللُّغَة الْإِزَالَة إِلَّا أَن الشَّرْع قصره على إِزَالَة مثل الحكم الثَّابِت بطريقة شَرْعِيَّة على وَجه مَخْصُوص فَجرى مجْرى قَوْلنَا دَابَّة فِي أَنه غير مَنْقُول لكنه مَخْصُوص بِبَعْض مَا يدب

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي حَقِيقَة النَّاسِخ والمنسوخ والنسخ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن غرضنا أَن نحد الطَّرِيق النَّاسِخ وَلما كَانَ قَوْلنَا نَاسخ يَقع على الطَّرِيق وعَلى غَيره وَجب أَن نذْكر مَا يَقع عَلَيْهِ هَذَا الِاسْم ثمَّ نعمد إِلَى الطَّرِيق النَّاسِخ فنحده فَنَقُول إِن الناصب للدلالة الناسخة يُوصف بِأَنَّهُ نَاسخ فَيُقَال إِن الله عز وَجل نسخ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس فَهُوَ نَاسخ ويوصف الحكم بِأَنَّهُ نَاسخ فَيُقَال إِن وجوب صَوْم شهر رَمَضَان نَاسخ صَوْم عَاشُورَاء ويوصف المعتقد لنسخ الحكم أَنه نَاسخ فَيُقَال فلَان ينْسَخ الْكتاب بِالسنةِ يعْتَقد ذَلِك ويوصف الطَّرِيق بِأَنَّهُ نَاسخ فَيُقَال إِن الْقُرْآن نَاسخ للسّنة وَقد حد قَاضِي الْقُضَاة الطَّرِيق النَّاسِخ بِأَنَّهُ مَا دلّ على أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ غير ثَابت على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه عَنهُ وغرضه بِهَذَا الْحَد أَن يتَنَاوَل كل مَا كَانَ طَرِيقا إِلَى النّسخ سَوَاء كَانَ خَبرا متواترا أَو غير متواتر وَهَذَا الْحَد يخرج مِنْهُ خبر الْوَاحِد إِذا نسخ الحكم لِأَنَّهُ لَا يُوصف بِأَنَّهُ دَلِيل على الْحَقِيقَة وَيخرج مِنْهُ مَا دلّ على نسخ الحكم الثَّابِت بِالْعقلِ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو فعل فعلا وَعلمنَا من قَصده أَن وُجُوبه يتَعَدَّى إِلَيْنَا لَوْلَا دَلِيل نَاسخ فَإِن مَا دلّ على إِزَالَته يُوصف بِأَنَّهُ نَاسخ وَإِن لم يرفع مَا ثَبت بِنَصّ وَيلْزم أَن يكون الْعَجز نَاسِخا لِأَنَّهُ يدل على أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ غير ثَابت وَيلْزم أَن تكون الْأمة إِذا اخْتلفت على قَوْلَيْنِ وسوغت للعامي تَقْلِيد كل وَاحِد من الطَّائِفَتَيْنِ ثمَّ أَجمعت على أحد الْقَوْلَيْنِ أَن يكون ذذلك نسخا لِأَنَّهَا كَانَت نصت على إِبَاحَة تَقْلِيد الطَّائِفَة الْأُخْرَى وَيَنْبَغِي أَن نحد الطَّرِيق النَّاسِخ بِأَنَّهُ قَول صادر عَن الله عز وَجل أَو مَنْقُول عَن رَسُول الله أَو فعل مَنْقُول عَن رَسُوله يُفِيد إِزَالَة مثل الحكم الثَّابِت بِنَصّ صادر عَن الله أَو بِنَصّ أَو فعل منقولين عَن رَسُوله مَعَ تراخيه عَنهُ على

وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا وَقد تضمن هَذَا الْحَد أَخْبَار الْآحَاد لِأَنَّهَا وَإِن كَانَت أَمَارَات فانها مَوْصُوفَة بِأَنَّهَا تفِيد إِزَالَة مثل الحكم الثَّابِت وَأَنَّهَا منقولة عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يلْزم عَلَيْهِ اتِّفَاق الْأمة على أحد الْقَوْلَيْنِ لِأَن قَوْلهَا غير صادر عَن الله وَعَن رَسُوله وَلَا يلْزم عَلَيْهِ أَن يكون الشَّرْع نَاسِخا لحك الْعقل لِأَن الْعقل لَيْسَ بقول وَلَا فعل مَنْقُول عَن الرَّسُول وَلِهَذَا لَا يلْزم عَلَيْهِ الْعَجز المزيل للْحكم وَلَا أَيْضا تَقْيِيد الحكم بغاية أَو شَرط أَو اسْتثِْنَاء لِأَن ذَلِك غير متراخ وَلَا يلْزم عَلَيْهِ البداء لأ البداء هُوَ إِزَالَة نفس الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ وَلَا يلْزم إِذا أمرنَا الله سُبْحَانَهُ بِفعل وَاحِد ثمَّ نَهَانَا عَن مثله أَن يكون ذَلِك نسخا وَإِن كَانَ مزيلا لمثل حكم الْأَمر لِأَنَّهُ لَو لم يكن هَذَا النَّهْي لم يكن مثل حكم الْأَمر ثَابتا فَأَما الْمَنْسُوخ فَهُوَ الحكم المزال إِذا اخْتصَّ بالشرائط الَّتِي ذَكرنَاهَا وَقد دخل فِي ذَلِك نسخ خطاب الْقُرْآن لِأَن نسخه هُوَ نسخ كَون تِلَاوَته قربَة وَعبادَة وَذَلِكَ نسخ للْحكم وَأما النّسخ فَهُوَ إِزَالَة مثل الحكم الثَّابِت بقول مَنْقُول عَن الله أَو رَسُوله أَو فعل مَنْقُول عَن رَسُوله وَتَكون الْإِزَالَة بقول مَنْقُول عَن الله أَو عَن رَسُوله أَو بِفعل مَنْقُول عَن رَسُوله مَعَ تراخيه عَنهُ على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا وَقد حد قوم النّسخ بِأَنَّهُ إِزَالَة حكم بعد استقراره وَهَذَا لَا يَصح لِأَن اسْتِقْرَار الحكم هُوَ كَونه مرَادا فازالته بِعَيْنِه بداء وحد أَيْضا بِأَنَّهُ إِزَالَة مثل الحكم بعد استقراره وَهَذَا يلْزم عَلَيْهِ أَن يكون مَتى زَالَ الحكم بِالْعَجزِ أَن يكون زَوَاله نسخا وحد أَيْضا بِأَنَّهُ نقل الحكم إِلَى خِلَافه وَهَذَا يلْزم عَلَيْهِ أَن يكون نقل الحكم إِلَى خِلَافه بِالشّرطِ والغاية أَو بِالْعَجزِ نسخا وحد أَيْضا بِأَنَّهُ بَيَان مُدَّة الحكم الَّذِي فِي التَّقْدِير والتوهم جَوَاز بَقَائِهِ وَهَذَا يلْزم عَلَيْهِ أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو أخبر زيدا أَنه يعجز عَن الْفِعْل وَقت كَذَا أَن يكون ذَلِك نسخا

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْفَصْل بَين البداء والنسخ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن البداء هُوَ الظُّهُور يُقَال بدا لنا سور الْمَدِينَة إِذا ظهر وَإِنَّمَا يكون الشَّيْء ظَاهرا للْإنْسَان إِذا تجلى لَهُ وَصَارَ مَعَه على وَجه يُعلمهُ أَو يَظُنّهُ فَأَما الْأَمر وَالنَّهْي فليسا من البداء بسبيل لكنهما قد يدلان عَلَيْهِ نَحْو أَن يُنْهِي الْآمِر الْمَأْمُور الْوَاحِد أَن يفعل مَا أمره بِفِعْلِهِ فِي الْوَقْت الَّذِي أمره بِفِعْلِهِ فِيهِ على الْوَجْه الَّذِي أمره أَن يوقعه عَلَيْهِ نَحْو أَن يَقُول زيد لعَمْرو صل رَكْعَتَيْنِ عِنْد زَوَال الشَّمْس من هَذَا الْيَوْم عبَادَة لله عز وَجل لَا تصلهما فِي هَذَا الْوَقْت من هَذَا الْيَوْم عبَادَة لله عز وَجل فالنهي تعلق بِمَا تعلق الْأَمر بِهِ على الْحَد الَّذِي تعلق الْأَمر بِهِ من غير تغايربين متعلقيهما فَيصح أَن تثبت الْمصلحَة مَعَ أَحدهمَا دون الآخر وَذَلِكَ يدل إِمَّا على أَن الْآمِر قد خفى عَنهُ من الصّلاح مَا كَانَ ظَاهرا أَو ظهر لَهُ من الْفساد مَا كَانَ خافيا وَهُوَ البداء فَلذَلِك نهى عَمَّا كَانَ أَمر بِهِ على الْحَد الَّذِي أَمر بِهِ وَإِمَّا أَن يكون مَا خفى عَنهُ شَيْء وَلَا ظهر لَهُ شَيْء لكنه قصد أَن يَأْمر بالقبيح أَو يُنْهِي عَن الْحسن وكل ذَلِك لَا يجوز على الله عز وَجل فَأَما إِذا لم يتكامل الشَّرَائِط الَّتِي ذَكرنَاهَا فانه لَا يجب أَن يدل على البداء وَلَا على تعبد قَبِيح لِأَنَّهُ إِن نهى عَن صُورَة الْفِعْل غير ذَلِك الْمَأْمُور أَو نهى الْمَأْمُور عَن غير مَا أَمر بِهِ نَحْو أَن يَأْمر بِالصَّلَاةِ وَيُنْهِي عَن الزِّنَا أَو يُنْهِي عَمَّا أَمر بِهِ على وَجه آخر نَحْو أَن يَأْمر بِالصَّلَاةِ على طَهَارَة وَيُنْهِي عَنْهَا على غير طَهَارَة فهناك تغاير بَين أَمريْن يُمكن أَن تحصل الْمصلحَة فِي أَحدهمَا والمفسدة فِي الآخر وَكَذَلِكَ لَو نَهَاهُ عَن صُورَة الْفِعْل فِي وَقت آخر والنسخ من هَذَا الْقَبِيل وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يعلم الله عز وَجل فِيمَا لم يزل أَن الْفِعْل من زيد مصلحَة فِي وَقت مفْسدَة فِي وَقت آخر فيأمره بِالْمَصْلَحَةِ فِي وَقتهَا وينهاه عَن الْمفْسدَة فِي وَقتهَا فَلَا يكون قد ظهر لَهُ مَا لم يكن ظَاهرا أَو لَا خَفِي عَنهُ مَا كَانَ ظَاهرا وَلَا أَمر بقبيح وَلَا نهى عَن حسن وَإِنَّمَا أمكن

ذَلِك لِأَنَّهُ قد حصل بَين الْمَأْمُور بِهِ والمنهى عَنهُ تغاير وانفصال فصح أَن تثبت الْمصلحَة مَعَ أَحدهمَا دون الآخر وَإِذا أمكن هَذَا الْقسم الَّذِي ذَكرْنَاهُ بَطل القَوْل بِأَنَّهُ لَا بُد من أَن يدل إِمَّا على البداء وَإِمَّا على تعبد قَبِيح وَالله أعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي شَرَائِط النّسخ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن لوصف النّسخ نسخا ولصحته وَحسنه شُرُوط وَقد ألحق بهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا أما شُرُوط الْوَصْف فَأن يكون الحكمان النَّاسِخ والمنسوخ شرعيين لِأَن الْعَجز يزِيل التَّعَبُّد الشَّرْعِيّ وَلَا تُوصَف إِزَالَته بِأَنَّهَا نسخ وَالشَّرْع يزِيل حكم الْعقل وَلَا تُوصَف إِزَالَته بِأَنَّهَا نسخ وَمن شُرُوطه أَن يكون النَّاسِخ مُنْفَصِلا عَن الْمَنْسُوخ إِمَّا فِي الْجُمْلَة أَو فِي التَّفْصِيل وَذَلِكَ أَن الْمُتَّصِل بالمنسوخ ضَرْبَان غَايَة وَغير غَايَة فَمَا لَيْسَ بغاية هُوَ أَن يَقُول الله عز وَجل صلوا أَيَّام الْجُمُعَة لَا تصلوا الْجُمُعَة الْفُلَانِيَّة والغاية ضَرْبَان أَحدهمَا غَايَة مجملة وَالْآخر مفصلة فاسم النّسخ لَا يثبت مَعهَا كَقَوْل الله عز وَجل {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} وَأما المجملة فاسم النّسخ يثبت مَعهَا إِذا فصلت نَحْو قَول الله سُبْحَانَهُ {فأمسكوهن فِي الْبيُوت حَتَّى يتوفاهن الْمَوْت} الْآيَة فَلَمَّا دلّ الدَّلِيل على تَفْصِيل هَذَا السَّبِيل ثَبت اسْم النّسخ وَلَيْسَ من شَرط اسْم النّسخ أَن يكون الْكَلَام الْمَنْسُوخ متناولا بِلَفْظَة للمنسوخ أَلا ترى أَن الْأَمر لَا يُفِيد بِلَفْظِهِ التّكْرَار فَلَو أَمر الله عز وَجل بِالْفِعْلِ ثمَّ دلّ الدَّلِيل على أَن المُرَاد بِهِ التّكْرَار وَدلّ الدَّلِيل على رفع بعض المرات كَانَ رَفعه نسخا وَأما شَرط صِحَة النّسخ فَهُوَ أَن يكون إِزَالَة لحكم الْفِعْل دون نفس الْفِعْل

وَصورته لِأَن صُورَة الصَّلَاة إِلَى بَيت الْمُقَدّس لَا تصح إِزَالَتهَا بالأدلة الشَّرْعِيَّة وَإِنَّمَا الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة دلّت على زَوَال وُجُوبهَا وَلَيْسَ من شَرط الصِّحَّة أَن يكون الْمَنْسُوخ شَائِعا فِي جملَة الْمُكَلّفين بل يَصح أَن يكون الحكم الْمَنْسُوخ لم يتَوَجَّه جنسه إِلَّا إِلَى مُكَلّف وَاحِد وَأما حسن النّسخ فَهُوَ أَن لَا يكون إِزَالَة لنَفس مَا تنَاوله التَّعَبُّد على الْحَد الَّذِي تنَاوله بل لَا بُد من أَن يزِيل التَّعَبُّد مثله فِي وَقت آخر أَو على وَجه آخر وَلذَلِك لم يحسن نسخ الشَّيْء قبل وقته وَلَا نسخ مَا لَا يجوز أَن يتَغَيَّر وَجهه نَحْو نسخ وجوب الْمعرفَة بِاللَّه عز وَجل لِأَن كَون ذَلِك لطفا لَا يتَغَيَّر وَلَا نسخ قبح الْجَهْل لِأَن قبحه لَا يتَغَيَّر وَيحسن نسخ قبح بعض الآلام أَو حسن بعض الْمَنَافِع لِأَنَّهُ يجوز مَعَ كَون الْأَلَم ألما أَن يحسن وَمَعَ كَون النَّفْع نفعا أَن يقبح وَمن شَرَائِطه أَن يكون مَا تنَاوله النَّاسِخ متميزا للمكلف من الْمَنْسُوخ وَأَن يكون مَقْدُورًا فَأَما نسخ الحكم إِلَى بدل هُوَ أخف مِنْهُ أَو مسَاوٍ لَهُ أَو نسخه إِذا لم يُقيد الْأَمر بِهِ بالتأبيد فَلَيْسَ بِشَرْط فِي وُقُوع الِاسْم وَلَا فِي الصِّحَّة وَلَا فِي الْحسن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الدّلَالَة على حسن نسخ الشَّرَائِع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اتّفق الْمُسلمُونَ على حسن نسخ الشَّرَائِع إِلَّا حِكَايَة شَاذَّة عَن بعض الْمُسلمين أَنه لَا يحسن ذَلِك وَالْيَهُود على فرق ثَلَاث ففرقة منعت من ذَلِك عقلا وَفرْقَة منعت مِنْهُ سمعا وإجازته عقلا وَفرْقَة أجازته عقلا وسمعا وَالدَّلِيل على حسنه من جِهَة الْعقل أَن مثل مَا تعبد الله سُبْحَانَهُ بِهِ يجوز أَن يقبح فِي الْمُسْتَقْبل فاذا قبح حسن النَّهْي عَنهُ إِذْ النَّهْي عَن الْقَبِيح حسن وَإِنَّمَا قُلْنَا يجوز أَن يكون مثل مَا تعبدنا الله عز وَجل بِهِ قبيحا فِي الْمُسْتَقْبل لِأَنَّهُ

لَو يجز ذَلِك لم يحسن أَن يَقُول الله عز وَجل تمسكوا بالسبت مَا عشتم إِلَّا السبت الْفُلَانِيّ وَأَيْضًا فانه كَمَا يجوز الْعقل أَن يكون التَّمَسُّك بالسبت مصلحَة فانه يجوز كَونه مصلحَة فِي وَقت مفْسدَة فِي وَقت آخر كَمَا يجوز كَون الرِّفْق بِالصَّبِيِّ مصلحَة فِي وَقت مفْسدَة فِي وَقت آخر وكما يجوز كَونه مصلحَة لزيد دون عَمْرو فِي وَقت وَاحِد يجوز أَن يكون مصلحَة لزيد فِي وَقت دون وَقت وكما يجوز كَون الصِّحَّة وَالْمَرَض والغنى والفقر مصلحَة فِي وَقت دون وَقت يجوز كَون التَّمَسُّك بالسبت مصلحَة فِي وَقت دون وَقت لَا فرق فِي الْعقل بَين هَذِه الْأَقْسَام وللمخالف أَن يحْتَج بِوَجْهَيْنِ أَحدهمَا لَا بِبَيِّنَة على الْأُمُور الْمُقَيد بالتأبيد بل بِبَيِّنَة على النَّهْي عَن مثل مَا تعبدنا بِهِ وَهَذَا أشبه بِأَن يكون وَجها عقليا وَالْآخر بِبَيِّنَة على أَمر قيد بالتأبيد حَتَّى يكون السّمع قد منع من النّسخ أما الأول فَهُوَ أَن يُقَال لَو نهى الله عز وَجل عَن صُورَة مَا تعبد بِهِ لَكَانَ إِمَّا قد خَفِي عَلَيْهِ صَلَاح مَا أَمر بِهِ مَا كَانَ ظَاهرا أَو ظهر لَهُ من فَسَاد مَا كَانَ خافيا فِيهِ وَهُوَ البداء أَو يكون عَالما بِمَا كَانَ عَالما بِهِ إِلَّا أَنه قصد الْأَمر بالقبيح وَالنَّهْي عَن الْحسن وَالْجَوَاب أَنه إِنَّمَا يلْزم ذَلِك لَو لم يجز كَون مثل الْوَاجِب قبيحا فِي وَقت آخر فَأَما إِذا جَازَ ذَلِك فقد أمكن قسم آخر سوى مَا ذكر وَهُوَ أَن يعلم الله سُبْحَانَهُ فِيمَا لم يزل وجوب مَا أَمر بِهِ فِي الْوَقْت الَّذِي أَمر بِهِ وقبحه فِي الْوَقْت الَّذِي نهى عَنهُ وَلَو كَانَ مثل الْفِعْل حكمه فِي جَمِيع الْحَالَات لَكَانَ حكم نِكَاح الْأَخَوَات والختان فِي جَمِيع الْحَالَات حكما وَاحِدًا وَمَعْلُوم أَن نِكَاح الْأَخَوَات قد كَانَ غير مَحْظُور من قبل ومحظور فِي شرع مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أما الْوَجْه الثَّانِي فتحريره أَن يُقَال إِن الْأَمر بِالْفِعْلِ أبدا يُفِيد وجوب فعله فِي جَمِيع الْأَوْقَات بِشَرْط الْإِمْكَان فَلَو أَمر الله سُبْحَانَهُ بِالْعبَادَة أبدا لم يخل إِمَّا أَن يكون قد أَرَادَ بِالْأَمر فعل الْعِبَادَة أبدا مَا بَقِي الْإِمْكَان أَو لم يرد

فعلهَا أبدا فان لم يردهُ أبدا مَعَ اقْتِضَاء الظَّاهِر لَهُ كَانَ ملبسا لِأَنَّهُ لم يدل فِي الْحَال على خلاف الظَّاهِر وَلَو جَازَ تَأْخِير بَيَان ذَلِك جَازَ تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل والعموم وَلما كَانَ فِي الْإِمْكَان تعريفنا تأبيد شَرِيعَة من الشَّرَائِع وَأَن كَانَ قد أَرَادَ فعلهَا أبدا اقْتضى ذَلِك وجوب فعلهَا أبدا وَوُجُوب الْعَزْم على أَدَائِهَا أبدا وَوُجُوب اعْتِقَاد وُجُوبهَا أبدا وَاسْتِحْقَاق الثَّوَاب على فعلهَا أبدا فَلَو نهى الله سُبْحَانَهُ عَنْهَا فِي الْمُسْتَقْبل لدل نَهْيه على أَنه قد خَفِي عَلَيْهِ مَا كَانَ ظَاهرا من وُجُوبهَا أَو ظهر لَهُ مَا كَانَ خافيا من قبحها أَو لِأَنَّهُ قصد النَّهْي عَمَّا يُعلمهُ حسنا وَالْأَمر بِمَا يُعلمهُ قبيحا وكل هَذِه الْأَقْسَام فَاسِدَة وَالْجَوَاب أَن الْأَمر الْمُطلق لَا يُفِيد التّكْرَار وَإِنَّمَا الْمُقَيد بالتأبيد إِذا أَفَادَ التَّأْبِيد بِشَرْط الْإِمْكَان لَا يجوز نسخه إِلَّا أَن يكون الْمُكَلف قد أشعر بالنسخ عِنْد أمره وَقيام الدّلَالَة على نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْتَضِي أَن يكون قد اقْترن بِالْأَمر بالسبت الْإِشْعَار بالنسخ نَحْو أَن يُخْبِرهُمْ لمجيء نَبِي إِلَى غير ذَلِك من وُجُوه الْإِشْعَار فاذا أشعر بالنسخ لم يكن قد أوهمنا الْبَاطِل لأَنا مَعَ الْإِشْعَار لَا نقدم على اعْتِقَاد التَّأْبِيد وَلَا تمْتَنع الْقُدْرَة على تعريفنا بتأبيد الشَّرِيعَة لِأَن طَرِيق إعلامنا ذَلِك أَن يخلى أمره المؤبد من بَيَان النّسخ مفصلا وَمن الْإِشْعَار بِهِ وَقَوْلنَا فِي بَيَان الْمُجْمل الَّذِي لَا يعرف المُرَاد بِهِ أصلا وَفِي بَيَان التَّخْصِيص كَقَوْلِنَا فِي بَيَان النّسخ وَقد تقدم شرح هَذِه الْجُمْلَة عِنْد الْكَلَام فِي تَأْخِير الْبَيَان فاذا أَرَادَ بِالْأَمر المؤبد بعض مَا تنَاوله ونهانا عَمَّا لم يردهُ لم يكن قد أَمر بقبيح وَلَا نهى عَن حسن وَلَا ظهر لَهُ مَا كَانَ خافيا وَلَا خَفِي عَنهُ مَا كَانَ ظَاهرا بل كَانَ عَالما فِيمَا لم يزل بِوُجُوب مَا أَمر بِهِ فِي وقته وقبح مثله فِي وَقت آخر وَلَا يلْزم اسْتِحْقَاق الْعقَاب على مَا اسْتحق بِهِ الثَّوَاب وَإِنَّمَا يلْزم اسْتِحْقَاق الْعقَاب على مثل مَا اسْتحق بِهِ الثَّوَاب وَأجَاب قَاضِي الْقُضَاة عَن قَوْلهم إِن الْأَمر بِالْفِعْلِ أبدا يَقْتَضِي الدَّوَام فَقَالَ إِنَّه لَا يُفِيد الدَّوَام لعلمنا أَن التَّكْلِيف يَنْقَطِع وَلذَلِك لَا يفهم من قَول الْقَائِل لغيره لَازم فلَانا أبدا أَو احبسه أبدا الدَّوَام وَلقَائِل أَن يَقُول

إِن التَّأْبِيد يُفِيد الدَّوَام فِي الْأَوْقَات كلهَا وَإِنَّمَا يخرج مَا بعد الْوَقْت وَالْعجز من الْخطاب لدلَالَة وَمَا عداهما بَاقٍ على الظَّاهِر كَمَا لَو قَالَ لَهُ افْعَل فِي كل وَقت إِلَّا أَن تعجز أَو تَمُوت حسب مَا نقُوله فِي أَلْفَاظ الْعُمُوم كلهَا وَكَذَلِكَ قَول الْقَائِل احْبِسْ فلَانا أبدا حَتَّى يعْطى الْحق ولازمه أبدا إِلَّا أَنا نعلم من قصد الْمُتَكَلّم أَنه يُرِيد حَبسه حَتَّى يخرج من الْحق مَا دَامَ حَيا لعلمنا أَنه لَا غَرَض لَهُ فِي حبس الْمَوْتَى فان قيل فَالْأَمْر الْمُقَيد بالتأبيد يُفِيد دوَام الْفِعْل مَا دَامَ مصلحَة فالنهي يُفِيد زَوَال الْمصلحَة قيل إِنَّا بِالْأَمر نعلم أَنه مصلحَة فاذا كَانَ مُقَيّدا بالتأبيد أَفَادَ كَونه مصلحَة أبدا كَمَا لَو قَالَ هُوَ مصلحَة أبدا وَأجَاب عَن قَوْلهم بِأَن ذَلِك يمْنَع من الْقُدْرَة على تعريفنا دوَام الشَّرِيعَة بِأَن ذَلِك لَا يمْنَع من ذَلِك لِأَنَّهُ يجوز أَن يضْطَر الْأمة من قصد نبيها إِلَى أَن شَرِيعَته لَا تنسخ وَيجوز أَن يعلمُوا ذَلِك بِأَن يَقُول لَهُم شريعتي مصلحَة مَا بَقِي التَّكْلِيف وَبِأَن يَنْقَطِع الْوَحْي وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّه وَإِن جَازَ أَن تعلم الْأمة ذَلِك من قصد نبيها فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا بُد من أَن يعرف أَن شَرِيعَته لَا تنسخ بخطاب أَو تَنْتَهِي إِلَى خطاب فَإِن جَازَ أَن يعْتَرض الْأَمر المؤبد النّسخ جَازَ مثله فِي ذَلِك الْخطاب الَّذِي عرف بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو جِبْرِيل أَن الشَّرِيعَة لَا تنسخ وَإِنَّمَا نعلم أَن الْوَحْي مُنْقَطع إِذا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن شريعتي دائمة أَو لَا نَبِي بعدِي فان جَازَ تَأْخِير بَيَان النّسخ مَعَ تنَاول الْأَمر لجَمِيع الْأَوْقَات جَازَ أَن يكون مُرَاده لَا نَبِي بعدِي إِلَّا فلَان أَو فلَان ويتأخر بَيَان هَذَا التَّخْصِيص وَقَوله شريعتي مصلحَة مَا بَقِي التَّكْلِيف يُفِيد ظَاهره دوَام الْمصلحَة لشرعه كَمَا يفِيدهُ الْأَمر بهَا أبدا لِأَن أَمر الْحَكِيم بِالْفِعْلِ يدل على كَونه مصلحَة كَمَا أَن خَبره عَن كَونه مصلحَة يدل على ذَلِك فَإِن جَازَ تَأْخِير بَيَان نسخ أَحدهمَا جَازَ مثله فِي الآخر وَأجَاب عَن قَوْله إِن فِي تَأْخِير بَيَان النّسخ إلباس بِأَن الإلباس إِنَّمَا يثبت إِذا لم يبين الْحَكِيم مَا يجب بَيَانه مِمَّا يحْتَاج الْمُكَلف إِلَيْهِ فَأَما مَا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ فَلَا يجب بَيَانه وَلَا إلباس فِي فقد بَيَانه وَلَيْسَ يحْتَاج الْمُكَلف فِي حَال الْخطاب إِلَى معرفَة وَقت ارْتِفَاع الْعِبَادَة وَلقَائِل أَن يَقُول وَلَيْسَ يحْتَاج

أَيْضا فِي حَال وُرُود الْعُمُوم وَالْخُصُوص وَالْخطاب الْمُجْمل إِلَى تعرف صفة الْمُجْمل وَمن لم يدْخل تَحت الْعُمُوم وَإِنَّمَا يحْتَاج إِلَى ذَلِك عِنْد الْفِعْل فان قَالَ يحْتَاج فِي تِلْكَ الْحَال إِلَى بَيَان صفة الْعِبَادَة وَتَخْصِيص الْعَام ليعلم أَن من دخل تَحت الْعَام مِمَّن لم يدْخل تَحْتَهُ ليعلم صفة مَا كلف فَعدم بَيَان ذَلِك مخل بِعِلْمِهِ قيل وَكَذَلِكَ تَأْخِير بَيَان النّسخ يخل بِعِلْمِهِ أَن الْعِبَادَة دائمة وَأجَاب بِأَن الْعِبَادَة تَنْقَطِع بِالْعَجزِ وَلَا يعلم مَتى يطْرَأ وَلم يكن فِي ذَلِك إلباس فَكَذَلِك فِي النّسخ فان قَالَ قَائِل إِن الْأَمر بِالْفِعْلِ هُوَ كَونه مَشْرُوطًا بالتمكن قيل وَالْأَمر بِالْعبَادَة مَشْرُوط بِكَوْنِهَا مصلحَة فان قَالَ إِنَّمَا نعلم كَونهَا مصلحَة بِالْأَمر فاذا كَانَ الْأَمر مُؤَبَّدًا كَانَت الْمصلحَة مُؤَبّدَة قيل إِنَّمَا علمنَا كَون الْفِعْل مصلحَة من حَيْثُ علمنَا أَن الْحَكِيم لَا يَأْمر بِمَا لَيْسَ بمصلحة وكما علمنَا ذَلِك فقد علمنَا أَنه لَا يَأْمر عَمَّا لَا يقدر عَلَيْهِ فان دلّ الْأَمر المؤبد على دوَام الْمصلحَة ليدلن أَيْضا على دوَام التَّمْكِين وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الله عز وَجل إِذا أمرنَا بِفعل فقد أشعرنا فِيهِ بِجَوَاز انْقِطَاع التَّعَبُّد بِهِ بِالْمَوْتِ لأَنا قد علمنَا انْقِطَاع التَّكْلِيف فِيهِ بِالْمَوْتِ وَالْعجز وجوزنا من جِهَة الْعَادة وجود الْعَجز وَلَو علمنَا بِالْأَمر ارْتِفَاع الْمَوْت عَنَّا كُنَّا مغرين بِالْمَعَاصِي فاذا جَوَّزنَا ذَلِك فقد حصل الْإِشْعَار بارتفاع الْعِبَادَة فِي كل وَقت وَلَو لزم على ذَلِك جَوَاز تَأْخِير بَيَان النّسخ للَزِمَ جَوَاز تَأْخِير بَيَان الْعُمُوم لِأَن الله سُبْحَانَهُ لَو أَمر جمَاعَة بِصَلَاة الظّهْر جَازَ أَن يعجز بَعضهم قبل الظّهْر فَيعلم بذلك أَنه سُبْحَانَهُ مَا عناه بِالْخِطَابِ وَأَنه عَنى بعض من تنَاوله الْخطاب وَلم يدلنا على ذَلِك عِنْد الْخطاب وَلم يلْزم من ذَلِك أَن يُخَاطب بِالْعَام وَالْفِعْل مصلحَة لبَعض من تنَاوله الْخطاب دون بعض وَلَا يتَبَيَّن ذَلِك عِنْد الْخطاب وَأجَاب أَيْضا بِأَن بَيَان تَأْخِير بَيَان النّسخ هُوَ تَأْخِير بَيَان مَا لم يرد بِالْخِطَابِ مِمَّا لَا يُؤثر فِي تمكن الْمُكَلف من الْأَدَاء وَلَيْسَ كَذَلِك تَأْخِير بَيَان صفة الْعِبَادَة وَقد تقدم الْقَوْم منا فِي ذَلِك

وَأجَاب أَيْضا بِأَن الشَّاهِد قد فرق بَينهمَا لِأَن من أَمر عَبده بِأخذ وَظِيفَة لَهُ فِي كل يَوْم لَا يلْزمه أَن يبين لَهُ فِي الْحَال مَتى انْقِطَاع ذَلِك وَلَا يجوز أَن لَا يبين لَهُ فِي الْحَال صفة الْوَظِيفَة وَلقَائِل أَن يَقُول لَا نسلم حسن ذَلِك إِذا كَانَ يعلم وَقت انْقِطَاع أَخذ الْوَظِيفَة بل لَا بُد من بَيَان ذَلِك إِمَّا على جملَة أَو على تَفْصِيل وَأَيْضًا فان الْإِنْسَان قد يَقُول لوَكِيله خُذ لي وَظِيفَة وسأبين لَك غَدا صفتهَا فالعقلاء لَا يستحسنون ذَلِك فَالْوَجْه فِي ذَلِك عَن الشُّبْهَة مَا قدمنَا من الْإِشْعَار فَأَما من يمْنَع من أهل ملتنا من وُقُوع النّسخ فِي شريعتنا فانه إِن منع من حسن ذَلِك على الْإِطْلَاق فَمَا ذكرنَا على الْيَهُود وَمَا وَجَدْنَاهُ من النّسخ يبطل قَوْله وَإِن منع من النّسخ إِلَّا مَعَ تقدم الْإِشْعَار وَلم يسم مَا تقدم من الْإِشْعَار بنسخة مَنْسُوخا فَهُوَ قَوْلنَا إِلَّا أَنه مُخَالف فِي الِاسْم وَإِن منع من وجود النّسخ فِي شريعتنا أريناه ذَلِك نَحْو نسخ ثبات الْوَاحِد للعشرة وَنسخ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس بالتوجه إِلَى الْكَعْبَة مَعَ أَن التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس كَانَ مَعْلُوما بشرع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن متعبدا بشرع من تقدم وَنسخ صَوْم عَاشُورَاء برمضان فان أقرّ بذلك وَقَالَ لَا أُسَمِّيهِ نسخا لزمَه أَن لَا يُسَمِّي رفع شريعتنا لشرع من تقدم نسخا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي نسخ الشَّيْء قبل فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن نسخ الشَّيْء قبل فعله ضَرْبَان أَحدهمَا نسخ لَهُ بعد أَن يقْضى وقته وَالْآخر نسخ لَهُ قبل أَن يقْضى وقته أما الْقسم الأول فَجَائِز لِأَن مثل الْفِعْل يجوز أَن يصير فِي مُسْتَقْبل الْأَوْقَات

مفْسدَة وَلَا فرق فِي جَوَاز ذَلِك فِي الْعقل بَين أَن يعْصى الْمُكَلف أَو يُطِيع فَالْقَوْل بِأَنَّهُ إِذا عصى لَا يجوز أَن لَا يصير مثل مَا عصى فِيهِ مفْسدَة فِيمَا بعد كالقول بِأَنَّهُ إِذا أطَاع لَا يجوز أَن يصير مثله مفْسدَة فاذا جَازَ أَن يصير مفْسدَة فِيمَا بعد جَازَ النَّهْي عَنهُ وان يبين لنا أَن الْأَمر لم يتَنَاوَلهُ وَأما نسخ الشَّيْء قبل وقته فَغير جَائِز عِنْد شُيُوخنَا الْمُتَكَلِّمين وَبَعض أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحمَه الله وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي رَحمَه الله وَذهب بعض الْفُقَهَاء إِلَى جَوَاز ذَلِك وَدَلِيلنَا أَن الله عز وَجل لَو قَالَ لنا فِي صَبِيحَة يَوْمنَا صلوا عِنْد غرُوب الشَّمْس رَكْعَتَيْنِ بِطَهَارَة ثمَّ قَالَ عِنْد الظّهْر لَا تصلوا عِنْد غرُوب الشَّمْس رَكْعَتَيْنِ بِطَهَارَة لَكَانَ الْأَمر وَالنَّهْي قد تناولا فعلا وَاحِدًا على وَجه وَاحِد فِي وَقت وَاحِد صَدرا من مُكَلّف وَاحِد إِلَى مُكَلّف وَاحِد وَفِي تنَاول النَّهْي لما تنَاوله الْأَمر على الْحَد الَّذِي تنَاوله من غير انْفِصَال دَلِيل إِمَّا على البداء وَإِمَّا على الْقَصْد إِلَى الْأَمر بالقبيح وَالنَّهْي عَن الْحسن إِن قيل لم زعمتم أَن هَذَا الْأَمر وَالنَّهْي تعلقا بِفعل وَاحِد على حد وَاحِد قيل لِأَنَّهُمَا لَو لم يتناولا فعلا وَاحِدًا لم يخل إِمَّا أَن يكون الْأَمر تنَاول الْفِعْل الْمَذْكُور وَالنَّهْي لم يتَنَاوَلهُ أَو تنَاول النَّهْي وَالْفِعْل الْمَذْكُور وَالْأَمر مَا تنَاوله أَو لم يتَنَاوَلهُ وَاحِد مِنْهُمَا فان لم يتَنَاوَلهُ الْأَمر لم يخل إِمَّا أَن يكون قد عني بِالْأَمر شَيْء أَو لم يعن بِهِ شَيْء فان لم يعن بِهِ شَيْء فَهُوَ عَبث وَإِن عني بِهِ شَيْء انقسم إِلَى أَن يكون قد عني بِهِ فعل وَاحِد مثل الْفِعْل الَّذِي تنَاوله النَّهْي أَو مضاد لَهُ أَو مُخَالف لَهُ وَلَا يجوز أَن يتَنَاوَل مثله لِأَن الْمُكَلف لَا يُمَيّز بَين فَعَلَيهِ المثلين فِي وَقت وَاحِد فتكليفه فعل أَحدهمَا بِعَيْنِه وتجنب الآخر المنهى عَنهُ بِعَيْنِه مَعَ أَنَّهُمَا لَا يتميزان لَهُ تَكْلِيف لما لَا يُطَاق وَلَو تميزا لَهُ امْتنع أَن يكون أَحدهمَا مصلحَة وَالْآخر مفْسدَة وَأَيْضًا لَو انْصَرف الْأَمر إِلَى شَيْء وَالنَّهْي إِلَى غَيره لوَجَبَ على الْمُكَلف فعل الْمَأْمُور بِهِ بعد وجود النَّهْي وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمَسْأَلَة الْمَفْرُوضَة الَّتِي وَقع فِيهَا

الْخلاف وَكَذَلِكَ لَو قيل إِن الْأَمر تعلق بضد مَا تعلق بِهِ النَّهْي على أَن الْمَسْأَلَة مَفْرُوضَة فِي نهي تعلق بِالصَّلَاةِ لَا بنهي تعلق بضد الصَّلَاة لِأَن النَّهْي لَو تعلق بضد الصَّلَاة لما كَانَ نَاسِخا للصَّلَاة وَلَا منافيا للتعبيد بهَا وَإِن كَانَ الْأَمر تنَاول فعلا مُخَالفا لما تنَاوله النَّهْي نَحْو أَن يُقَال إِنَّه أَمر بالعزم على الصَّلَاة أَو باعتقاد وجوب الصَّلَاة وَكَونهَا مَأْمُورا بهَا أَو أَن الْمُكَلف سيفعلها لَا محَالة كَانَ الله سُبْحَانَهُ قد اسْتعْمل قَوْله صلوا مَكَان قَوْله اعزموا واعتقدوا وَلَيْسَ ذَلِك بِعِبَارَة عَن هَذَا النَّهْي لَا فِي اللُّغَة وَلَا فِي الشَّرْع لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا وَلَو صَار ذَلِك عبارَة عَنهُ فِي الشَّرْع لما تَأَخّر بَيَانه عَن وَقت الْخطاب وَذَلِكَ يخرج عَن مَسْأَلَة النّسخ إِلَى مَسْأَلَة تَأْخِير الْبَيَان وَأَيْضًا فانه لَا بُد من أَن يكون فِي الْأَمر بالعزم والاعتقاد فَائِدَة وَلَا فَائِدَة فِي ذَلِك إِذا كَانَ المعزوم عَلَيْهِ غير وَاجِب فان قَالُوا الْفَائِدَة فِي ذَلِك أَن يختبر الْمُكَلف قيل حَقِيقَة الاختبار إِنَّمَا تجوز على من لَا يعرف الْعَاقِبَة دون من يعرف الْعَاقِبَة وَأَيْضًا فايجاب الْعَزْم والاعتقاد على الْإِطْلَاق لَا يحسن والمعزوم عَلَيْهِ غير وَاجِب لِأَنَّهُ لَا يحسن اعْتِقَاد وجوب مَا لَيْسَ بِوَاجِب فان قَالُوا إِنَّمَا أَمر الْمُكَلف بالعزم على الْفِعْل بِشَرْط كَونه وَاجِبا قيل قد كَانَ يمكنكم أَن تَقولُوا إِنَّه أَمر بِالْفِعْلِ بِشَرْط كَونه وَاجِبا وَلَا تضمروا فِي الْأَمر الْعَزْم الَّذِي لَيْسَ بمذكور فان قَالُوا ذَلِك فسنتكلم عَلَيْهِ من بعد وَأَيْضًا فليسوا بِأَن يَقُولُوا إِنَّه إِنَّمَا أَمر بالعزم على الصَّلَاة بِشَرْط كَونهَا وَاجِبَة ويتوصلوا إِلَى ذَلِك بِظَاهِر النَّهْي أولى من أَن يَقُولُوا إِنَّه إِنَّمَا نهى عَن إِرَادَة الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ بِشَرْط كَونه قبيحا لَا يَتَجَدَّد بِهِ أَمر آخر ويجوزوا وُرُود أَمر آخر بِهِ ويتوصلوا إِلَى ذَلِك بِظَاهِر الْأَمر وَمِمَّا يفْسد القَوْل بِأَن الْأَمر دَلِيل على وجوب اعْتِقَاد فعل الْمَأْمُور بِهِ أَن إِيجَاب ذَلِك يَقْتَضِي الْقطع على بَقَاء الْمُكَلف وَفِي ذَلِك إغراء بِالْمَعَاصِي

فَأَما القَوْل بِأَن الْأَمر تنَاول الْفِعْل الْمَذْكُور وَهُوَ الصَّلَاة وَأَن النَّهْي تنَاول غير مَا تنَاوله الْأَمر إِمَّا مثله أَو ضِدّه أَو مُخَالفا لَهُ فَيبْطل بِمَا ذَكرْنَاهُ الْآن وَيبْطل أَيْضا أَن يكون النَّهْي تنَاول الْعَزْم على أَدَاء الصَّلَاة أَو الِاعْتِقَاد لوُجُوبهَا لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يقبح منا اعْتِقَاد وجوب الصَّلَاة والعزم عَلَيْهَا إِلَّا وَقد ارْتَفع وُجُوبهَا وَفِي ذَلِك تنَاول النَّهْي لما تنَاوله الْأَمر وَهُوَ الَّذِي أردنَا بَيَانه فاذا فسد أَن يكون الْأَمر وَحده تنَاول الْفِعْل أَو النَّهْي وَحده وَوَجَب أَن يَكُونَا قد تناولاه فأحرى أَن يفْسد القَوْل بِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا لم يتَنَاوَلهُ فان قَالُوا هَذَا الْأَمر وَهَذَا النَّهْي وَإِن تناولاه فعلا فَإِنَّمَا تناولاه على وَجْهَيْن قيل إِن الْمَسْأَلَة مَفْرُوضَة فِي أَن يَأْمر الله سُبْحَانَهُ بِالصَّلَاةِ بِطَهَارَة ثمَّ ينْهَى عَنْهَا بِطَهَارَة على الْوَجْه الَّذِي أَمر بِهِ فَالْوَجْه وَاحِد فان قَالُوا بل الْوَجْه مُخْتَلف لِأَنَّهُ أمرنَا بِالْفِعْلِ بِشَرْط أَلا ينْهَى عَنهُ قيل البارىء سُبْحَانَهُ عَالم بِأَن هَذَا الشَّرْط لَا يحصل وَالْأَمر بِالشّرطِ إِنَّمَا يحصل مِمَّن لَا يعرف العواقب وَأَيْضًا فان النَّهْي لَيْسَ بِوَجْه يَقع عَلَيْهِ الْفِعْل وَأَيْضًا فَلَيْسَ بِأَن يَقُولُوا أمرنَا بِالْفِعْلِ بِشَرْط أَن لَا ينْهَى عَنهُ أَو بِشَرْط كَونه مصلحَة أَو يكون الْغَرَض بِهِ توطين النَّفس على فعله بِأولى من أَن يَقُولُوا بل نَهَانَا عَنهُ بِشَرْط أَن لَا يَتَجَدَّد أَمر آخر قبل فعله وَيكون الْغَرَض كَرَاهَة فعله إِن لم يَتَجَدَّد أَمر آخر بِهِ وَيُمكن أَن تقرر الدّلَالَة فَيُقَال النَّهْي عَن الشَّيْء قبل وَقت فعله هُوَ نهي عَمَّا تنَاوله الْأَمر على الْحَد الَّذِي تنَاوله فِي الْوَقْت وَالْمَكَان وَالْوَجْه على حسب مَا مثلناه وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى الْفساد الْمُتَقَدّم ذكره فَإِن قيل إِن النَّهْي لم يتَنَاوَل مَا تنَاوله الْأَمر قيل إِن الْمَسْأَلَة مَفْرُوضَة فِي أَن يَأْمُرنَا الله سُبْحَانَهُ بِالصَّلَاةِ عِنْد غرُوب الشَّمْس بِطَهَارَة ثمَّ ينْهَى عَنْهَا فِي ذَلِك الْوَقْت بِعَيْنِه بِطَهَارَة فمتعلقهما وَاحِد فان قَالُوا الْأَمر إِنَّمَا تنَاول الْعَزْم على الصَّلَاة أَو اعْتِقَاد وُجُوبهَا وَالنَّهْي تنَاول نفس الصَّلَاة أجبنا عَنهُ بِمَا تقدم وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء

مِنْهَا قَول الله عز وَجل {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت وَعِنْده أم الْكتاب} فَدلَّ على أَنه يمحو كل مَا شَاءَ محوه وَفِي ذَلِك جَوَاز محو الْعِبَادَة قبل وَقتهَا وَالْجَوَاب أَن حَقِيقَة المحو هُوَ محو على كل وَجه الْكِتَابَة وَقد قيل المُرَاد بِهِ مَا يَكْتُبهُ الْملكَانِ من الْمُبَاحَات ويبقيه مَا يَشَاء من الطَّاعَات والمعاصي وَقيل المُرَاد بِهِ محو النكبات والبلايا بِالصَّدَقَةِ على معنى أَنه لولاها لنزل ذَلِك وعَلى أَن الْآيَة تدل على أَنه يمحو مَا يَشَاء وَلَيْسَ فِي الْآيَة أَنه شَاءَ محو الْعِبَادَات قبل أَوْقَاتهَا وَمِنْهَا أَن إِبْرَاهِيم قَالَ لإسماعيل عَلَيْهِمَا السَّلَام {إِنِّي أرى فِي الْمَنَام أَنِّي أذبحك} فَقَالَ لَهُ {افْعَل مَا تُؤمر} فأضجعه وَأخذ المدية ليذبحه وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا وَقد أَمر بِالذبْحِ ثمَّ إِن الله عز وَجل نَهَاهُ عَن ذبحه قبل وَقت الذّبْح وفداه بذَبْحه وَالْجَوَاب أَنه لم يفعل مَا فعله إِلَّا وَقد أَمر بِشَيْء وَمَعْنَاهُ أَنه أَمر بِالذبْحِ وَلَا رُؤْيَة الذّبْح فِي الْمَنَام أَمر لَهُ بِالذبْحِ فَيحْتَمل أَن يكون أَمر بِالذبْحِ وَيحْتَمل أَن يكون أَمر بِمَا فعله وامتثله وَلِهَذَا قَالَ الله عز وَجل {قد صدقت الرُّؤْيَا} وَلَو كَانَ قد فعل بعض مَا أَمر بِهِ لَكَانَ قد صدق بعض الرُّؤْيَا وَقَول إِسْمَاعِيل {افْعَل مَا تُؤمر} إِنَّمَا يُفِيد الْأَمر فِي الْمُسْتَقْبل وَقَوله {إِن هَذَا لَهو الْبلَاء الْمُبين} لَا يمْنَع مِمَّا ذَكرْنَاهُ لِأَن إضجاع ابْنه وَأخذ المدية مَعَ غَلَبَة الظَّن بِأَنَّهُ يُؤمر بالقبح بلَاء عَظِيم وَإِنَّمَا فدى بِالذبْحِ مَا كَانَ يتوقعه من الْأَمر بِالذبْحِ وَقد قيل إِنَّه أَمر بِصُورَة الذّبْح وَهُوَ الْقطع وَأَنه كَانَ كلما قطع موضعا من الْحق وتعداه إِلَى غَيره وصل الله سُبْحَانَهُ مَا تقدم قطعه فَإِن قيل حَقِيقَة الذّبْح هُوَ قطع مَكَان مَخْصُوص تبطل مَعَه الْحَيَاة

قيل لَيْسَ كَذَلِك لِأَن الْإِنْسَان يُقَال إِنَّه مَذْبُوح قبل بطلَان الْحَيَاة وَلِهَذَا يُقَال قد ذبح هَذَا وَلم يمت بعد وَلَو كَانَ حَقِيقَة الذّبْح مَا ذَكرُوهُ لم يمْتَنع حمل الْآيَة على الْمجَاز بدليلنا الْمُتَقَدّم وَقيل إِنَّه أمره بِالذبْحِ وَالله سُبْحَانَهُ جعل على عُنُقه صفيحة من حَدِيد فَكَانَ إِذا أَمر إِبْرَاهِيم السكين لم يقطع شَيْئا من الْحلق وَهَذَا تَأْوِيل سَائِغ إِذا قُلْنَا إِنَّه أَمر بِمَا يجرى مجْرى الذّبْح من إمرار السكين فَأَما إِذا قيل إِنَّه أَمر بِالذبْحِ على الْحَقِيقَة فانه لَا يسوغ لِأَنَّهُ تَكْلِيف مَا لَا يُقَال وَمِنْهَا أَن الله عز وَجل نسخ تَقْدِيم الصَّدَقَة بَين يَدي مُنَاجَاة الرَّسُول قبل أَن فعل ذَلِك وَالْجَوَاب أَنه نسخ ذَلِك إِلَّا بعد أَن حضر وَقت الْفِعْل وَلِهَذَا ناجى عَليّ رَضِي الله عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد أَن قدم الصَّدَقَة فَعلمنَا أَن وَقت الْفِعْل قد كَانَ حضر سَوَاء ناجاه غَيره أَو لم يناجه وَمِنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَالح قُريْشًا يَوْم الْحُدَيْبِيَة على رد من هَاجر إِلَيْهِ ثمَّ نسخ الله سُبْحَانَهُ ذَلِك قبل الرَّد بقوله عز وَجل {فَإِن علمتموهن مؤمنات فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار} وَالْجَوَاب أَنه لَا يمْتَنع أَن تكون الْآيَة نزلت بعد مُضِيّ وَقت كَانَ يجوز أَن يهاجرن إِلَيْهِ فيردهن فَيكون النّسخ وَاقعا بعد وَقت الْفِعْل وروى الْوَاقِدِيّ أَن أَبَا بَصِير لما رده النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قُرَيْش انحاز مَعَ جمَاعَة مِمَّن أسلم من قُرَيْش فَكَانَ يمْنَع من قدوم الْميرَة على أهل مَكَّة فَأرْسلت قُرَيْش إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تقسم عَلَيْهِ بأرحامها إِلَّا رد أَبَا بَصِير والنفر الَّذين مَعَه إِلَيْهِ وَأَن لَا يرد عَلَيْهِم أحداها هَاجر إِلَيْهِ فاذا كَانَ الْعَهْد وَقع على رد الْمُهَاجِرين إِلَيْهِم لأَنهم آثروا ذَلِك وشرطوه فَمَتَى كرهوه زَالَ الشَّرْط فَلم يجب ردهم لم يكن ذَلِك نسخا وَمِنْهَا قَوْلهم إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما عرج بِهِ إِلَى السَّمَاء فرض الله عز وَجل عَلَيْهِ

وعَلى امته خمسين صَلَاة فَأَشَارَ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِالرُّجُوعِ وَأَن يشفع فِي النُّقْصَان وَأَنه قبل مَا أَشَارَ عَلَيْهِ فَردَّتْ الصَّلَاة إِلَى خمس بعد رجعات وَذَلِكَ نسخ قبل الْوَقْت وَالْجَوَاب أَن ذَلِك خبر وَاحِد لَا يجب قبُوله فِيمَا يجب أَن نعلم وَأَيْضًا فان الْخَبَر يتَضَمَّن من أَنْوَاع التَّشْبِيه مَا يدل على أَن أَكْثَره مَوْضُوع وَأَيْضًا فان ذَلِك يَقْتَضِي نسخ الشَّيْء قبل وقته وَقبل تمكن الْمُكَلف من الْعلم وَعلل الْمُخَالف تَقْتَضِي الْمَنْع من ذَلِك لأَنهم يجوزون هَذَا النّسخ على ان يكون الْغَرَض فِي التَّعَبُّد بالمنسوخ الْعَزْم على أَدَائِهِ والاعتقاد لوُجُوبه وَهَذَا لَا يتم إِلَّا مَعَ علم الْمُكَلف بالتعبد بالمنسوخ وَمِنْهَا قَوْلهم لَو أمرنَا الله سُبْحَانَهُ بمواصلة الْفِعْل سنة جَازَ أَن ينسخه عَنَّا بعد أشهر وَذَلِكَ نسخ قبل أوقاته الَّتِي هِيَ بَقِيَّة السّنة وَالْجَوَاب أَن نسخه لَهُ يدلنا على أَنه لم يعن بِالسنةِ جمعهَا وَأَنه لم يكن أَرَادَ إِلَّا الْفِعْل فِي بعض السّنة فَيكون النّسخ بَيَانا للمراد بِالْخِطَابِ على وَجه يكون الْأَمر تنَاول غير مَا تنَاوله النَّهْي وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا ورد النّسخ قبل حُضُور كل شَيْء من أَوْقَات الْفِعْل لِأَنَّهُ يكون قد نسخ جَمِيع مَا تنَاوله الْأَمر فَيكون النَّهْي قد تنَاول نفس مَا تنَاوله الْأَمر وَمِنْهَا أَنه إِذا جَازَ أَن يَأْمر الله تَعَالَى زيدا أَن يفعل غَدا فعلا ثمَّ يمنعهُ مِنْهُ قبل مَجِيء غَد فَيكون مَأْمُورا بِالْفِعْلِ بِشَرْط زَوَال الْمَنْع جَازَ أَن ينهاه عَنهُ قبل الْغَد فَيكون مَأْمُورا بِهِ بِشَرْط زَوَال النَّهْي وَالْجَوَاب أَنه لَا يجوز أَن يَأْمر زيدا أَن يفعل فِي غَد ويمنعه مِنْهُ فِي غَد لِأَنَّهُ أمره بِالْفِعْلِ مُطلقًا وأراده مِنْهُ ثمَّ مَنعه كَانَ قد كلفه مَا لَا يطيقه وَإِن أمره بِشَرْط زَوَال الْمَنْع فَالْأَمْر بِشَرْط لَا يجوز وُقُوعه من الْعَالم بالعواقب فاذا أَمر جمَاعَة أَن يَفْعَلُوا الْفِعْل فِي غَد فانه يجوز أَن يمْنَع بَعضهم من الْفِعْل ويدلنا الْمَنْع على أَن الله عز وَجل مَا عَنى بخطابه من علم أَنه يمْنَع وَلَا يجوز أَن يمْنَع جَمِيعهم بِشَيْء أَو أَمر بِهِ جمَاعَة ثمَّ نهى عَنهُ جَمِيعهم فقد تعلق الْأَمر بِمَا تعلق النَّهْي بِهِ على خد وَاحِد وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى مَا

ذَكرْنَاهُ من الْفساد وَلَيْسَ ذَلِك بموجود فِي منع بعض من أَمر بِالْفِعْلِ وَمِنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي مَكَّة أحلّت لي سَاعَة من نَهَار وَمَعَ ذَلِك منع من الْقِتَال فِيهَا وَهَذَا نسخ قبل وَقت الْفِعْل وَالْجَوَاب أَن إِبَاحَة الْقِتَال فِي تِلْكَ السَّاعَة لَا تَقْتَضِي وُقُوع الْقِتَال فِيهَا لِأَن الْمُبَاح لَا يجب وُقُوعه لَا محَالة فَلَا يمْتَنع أَن يكون نهي عَن الْقِتَال بعد تِلْكَ السَّاعَة وعَلى أَن إِبَاحَة الْقِتَال فِيهَا يُفِيد حسن اخْتِيَاره لَهُ وَحسن كَفه عَنهُ وَمنعه مِنْهُ فَلَا يمْتَنع أَن يحْتَاج الْمَنْع مِنْهُ وَلَا يمْتَنع أَن يكون أُبِيح أَن يقتل فِيهَا قوما مُعينين مثل ابْن خطل وَغَيره وَلم يبح لَهُ الْقِتَال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَنه يحسن نسخ الْعِبَادَة وَإِن كَانَ الْأَمر بهَا مُقَيّدا بِلَفْظ التَّأْبِيد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهب بعض النَّاس إِلَى أَن الله عز وَجل لَو قَالَ لنا افعلوا هَذَا الْفِعْل أبدا لم يجز نسخه وَالَّذِي يفْسد قَوْلهم هُوَ أَن النّسخ إِنَّمَا يرد على عبَادَة قد أمرنَا بهَا بِلَفْظ يُفِيد الِاسْتِمْرَار أَو يدل الدَّلِيل على أَن المُرَاد بِهِ الِاسْتِمْرَار فَلفظ التَّأْبِيد كَغَيْرِهِ من الْأَدِلَّة والألفاظ المفيدة للاستمرار فَكَمَا جَازَ دُخُول النّسخ على هَذِه الْأَلْفَاظ إِمَّا بمقارنة إِشْعَار النّسخ لَهَا أَو من غير مُقَارنَة ذَلِك جَازَ دُخُوله على لفظ التَّأْبِيد فَلَا معنى للفرقة بَينهمَا وَأَيْضًا فقد قَالَ شُيُوخنَا إِن الْعَادة فِي لفظ التَّأْبِيد الْمُسْتَعْمل فِي الْأَمر الْمُبَالغَة لَا الدَّوَام أَلا ترَاهُ هُوَ الْمَفْهُوم من قَول الْقَائِل لغيره لَازم فلَانا أبدا أَو احبسه أبدا أَو امْضِ إِلَى السُّوق أبدا وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء مِنْهَا أَن لفظ التَّأْبِيد يُفِيد اسْتِمْرَار وجوب الْفِعْل فِي كل أَوْقَات الْإِمْكَان فَجرى مجْرى أَن ينص الله سُبْحَانَهُ على وجوب عبَادَة فِي كل وَقت من تِلْكَ الْأَوْقَات فَكَمَا لَا يجوز وُرُود النّسخ على هَذَا فَكَذَلِك ذَاك وَالْجَوَاب أَن

اللَّفْظ إِذا تنَاول جملَة أَشْيَاء جَازَ إِخْرَاج بَعْضهَا مِنْهُ وَإِذا تنَاول شَيْئا وَاحِدًا لم يجز إِخْرَاج شَيْء مِنْهُ وَلِهَذَا كَانَ الْعُمُوم فِي تنَاوله أشخاص الْجِنْس يجْرِي مجْرى أَلْفَاظ تتَنَاوَل كل وَاحِد من تِلْكَ الْأَلْفَاظ فِي امْتنَاع دُخُول التَّخْصِيص فِيهِ على أَن ذَلِك يمْنَع من النّسخ كُله لِأَن الْمَنْسُوخ لَا بُد من كَونه لفظا يُفِيد الاستدامة إِمَّا بِنَفسِهِ وَإِمَّا بِدلَالَة على أَن عِنْد أَصْحَابنَا أَن لفظ التَّأْبِيد فِي التَّعَبُّد لَيْسَ يُفِيد من جِهَة الْعرف كل وَقت من أَوْقَات الْمُسْتَقْبل وَمِنْهَا قَوْلهم إِنَّا لَو أمرنَا بِالْعبَادَة بِلَفْظ يَقْتَضِي الِاسْتِمْرَار لجَاز دُخُول النّسخ عَلَيْهِ فَلَو جَازَ ذَلِك مَعَ التقيد بالتأبيد لم يكن فِي التَّقْيِيد بِهِ فَائِدَة وَالْجَوَاب أَن التَّقْيِيد بذلك يُفِيد تَأْكِيد الِاسْتِمْرَار أَو تَأْكِيد الْمُبَالغَة فِي الِاسْتِمْرَار فاذا ورد النّسخ عَلَيْهِ علمنَا أَن لفظ التَّأْبِيد كَانَ الْغَرَض بِهِ تَأْكِيد الْمُبَالغَة وَلَو منع ذَلِك من النّسخ لمنع تَأْكِيد الْعُمُوم من التَّخْصِيص وَمِنْهَا قَوْلهم لَو جَازَ نسخ مَا ورد بِلَفْظ التَّأْبِيد لم يكن لنا طَرِيق إِلَى الْعلم بدوام الْعِبَادَة فِي أزمان التَّكْلِيف وَالْجَوَاب أَن لنا طرقا إِلَى ذَلِك بِأَن لَا يقْتَرن بِالْأَمر بِالْعبَادَة مَا يدل على ان المُرَاد بِهِ بعض الْأَزْمَان إِمَّا دلَالَة مفصلة أَو مجملة وَعند أَصْحَابنَا أَن طريقنا إِلَى ذَلِك أَن يَقُول الله عز وَجل هَذَا الْعِبَادَة وَاجِبَة عَلَيْكُم إِلَى آخر أَوْقَات التَّكْلِيف وَمِنْهَا قَوْلهم إِن لفظ التَّأْبِيد يُفِيد الدَّوَام إِذا وَقع فِي الْخَبَر فَيجب فِي الْأَمر مثله وَالْجَوَاب أَن إِفَادَة الدَّوَام فيهمَا لَا يمْنَع من قيام الدّلَالَة على أَن المُرَاد بِهِ غير ظَاهر كَمَا نقُوله فِي جَمِيع أَلْفَاظ الْعُمُوم ثمَّ نَنْظُر مَتى يجب أَن يقوم الدّلَالَة على ذَلِك فان حسن أَن يتَأَخَّر الدّلَالَة على ذَلِك من غير إِشْعَار جوزناه وَإِن لم يحسن باشعار مُقَارن شرطناه وأصحابنا يمْنَعُونَ من إِفَادَة لفظ التَّأْبِيد الدَّوَام إِذا وَقع فِي التَّعَبُّد

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن إِثْبَات بدل فِي الْعِبَادَة لَيْسَ بِشَرْط فِي نسخهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه يحسن نسخ الْعِبَادَة إِلَى بدل وَلَا إِلَى بدل وَالْبدل ضَرْبَان أَحدهمَا يُنَافِي الْمُبدل نَحْو نسخ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس بالتوجه إِلَى الْكَعْبَة فالجمع بَينهمَا مُسْتَحِيل فِي صَلَاة وَاحِدَة وَالْآخر لَا يُنَافِي الْمُبدل مثل نسخ صَوْم عَاشُورَاء برمضان وَذهب بعض النَّاس إِلَى الْمَنْع من نسخ الشَّيْء لَا إِلَى بدل وَلَيْسَ يَخْلُو إِمَّا أَن يَكُونُوا منعُوا من تَسْمِيَة دفْعَة لَا إِلَى بدل نسخا أَو يَكُونُوا منعُوا من حسن ذَلِك أَو من وُقُوعه فِي الشَّرِيعَة أَو قَالُوا إِن الشَّرْع ورد بِأَن ذَلِك لم يَقع أما اشْتِرَاطه فِي الِاسْم فَبَاطِل لِأَن النّسخ هُوَ الْإِزَالَة فِي الأَصْل وَلم يدل دلَالَة على اشْتِرَاط الْبَدَل فِي الِاسْم فَلم نشرطه فِيهِ كَمَا لم نشرط غَيره فِيهِ لِأَن الْأمة سمت رفع تَقْدِيم الصَّدَقَة بَين يَدي مُنَاجَاة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا إِلَى بدل نسخا وَأما حسن ذَلِك فُلَانُهُ يجوز فِي الْعقل أَن يكون مثل الْمصلحَة مفْسدَة فِي وَقت آخر من غير أَن يقوم مقَامهَا فعل آخر كَمَا يجوز ذَلِك وَإِن قَامَ مقَامهَا فعل آخر لَا فرق فِي الْعقل بَينهمَا فَجَاز نسخهَا إِلَى بدل وَلَا إِلَى بدل وَأما الدّلَالَة على وُقُوع ذَلِك فِي الشَّرِيعَة فَهِيَ أَن تَقْدِيم الصَّدَقَة بَين يَدي مُنَاجَاة الرَّسُول قد نسخ لَا إِلَى بدل والاعتداد بالحول قد زَالَ إِلَى أَرْبَعَة أشهر وَعشرا فَمَا زَاد على هَذِه الْمدَّة قد ارْتَفع لَا إِلَى بدل وَهَذَا أَيْضا يدل على أَن الشَّرِيعَة لم ترد بِأَن ذَلِك لم يَقع وَأَيْضًا فلسنا نجد فِي الشَّرِيعَة مَا يدل على أَن ذَلِك لم يَقع فان قَالُوا قَول الله عز وَجل {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} يدل على ذَلِك لِأَنَّهُ أخبر أَنه لَا ينْسَخ إِلَّا وَيَأْتِي

بِخَير مَا نسخ أَو مثله وَالْجَوَاب أَن نسخ الْآيَة يُفِيد نسخ لَفظهَا وَلِهَذَا قَالَ {نأت بِخَير مِنْهَا} فَلَيْسَ لنسخ الحكم ذكر فِي الْآيَة وَلَو تناولت الْآيَة الحكم لجَاز أَن يُقَال إِن نفي الحكم وَإِسْقَاط التَّعَبُّد بِهِ خبر مِنْهُ فِي الْوَقْت الَّذِي تصير الْعِبَادَة فِيهِ مفْسدَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن رفع الْعِبَادَة إِلَى مَا هُوَ أخف مِنْهَا لَيْسَ بِشَرْط فِي نسخهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهب قوم من أهل الظَّاهِر إِلَى الْمَنْع من نسخ عبَادَة إِلَى بدل هُوَ أشق مِنْهَا فان كَانُوا منعُوا من وُقُوع اسْم النّسخ إِذا كَانَت الْعِبَادَة الناسخة أشق فَالَّذِي يُفْسِدهُ أَن النّسخ هُوَ الْإِزَالَة وَلَا دَلِيل على اشْتِرَاط مَا ذَكرُوهُ وَقد سمى الْمُسلمُونَ إِزَالَة التَّخْيِير بَين الصَّوْم والفدية بِنَفس الصَّوْم نسخا وَهُوَ أشق وَكَذَلِكَ إِزَالَة الْحَبْس فِي اليوت إِلَى الْجلد وَالرَّجم وَقَوْلهمْ إِن نسخ الْعِبَادَة إِلَى مَا هُوَ أخف مِنْهَا أذهب فِي الْإِزَالَة يَقْتَضِي إِزَالَة نسخهَا لَا إِلَى بدل ليَكُون أذهب فِي الْإِزَالَة على أَن الْعِبَادَة المنسوخة زائل وُجُوبهَا سَوَاء كَانَ بدلهَا أشق أَو أخف وَلَيْسَ يعقل فِي زَوَال الْوُجُوب تزايد وَإِن منعُوا من حسن نسخ الْعِبَادَة إِلَى بدل هُوَ أشق فَالَّذِي يُفْسِدهُ هُوَ أَن مثل الْعِبَادَة إِذا صَار مفْسدَة جَازَ أَن يكون الْمصلحَة مَا هُوَ أشق مِنْهَا وَجَاز أَن يكون مَا هُوَ أخف مِنْهَا هُوَ الصّلاح لَا فرق فِي الْعقل بَينهمَا وَإِن كَانُوا منعُوا من وُقُوع ذَلِك فِي الشَّرِيعَة فَالَّذِي يُبطلهُ نسخ إمْسَاك الزَّانِيَة فِي الْبيُوت إِلَى الْجلد وَالرَّجم

وَنسخ التَّخْيِير بَين الصَّوْم والفدية إِلَى نفس الصَّوْم وَهُوَ أشق وَإِن قَالُوا قد جَاءَت الشَّرِيعَة بِأَن ذَلِك لم يَقع فَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن يُبطلهُ مَعَ أَنا لم نجد فِي ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا وَقَالُوا خير مِنْهَا مَا كَانَ أخف مِنْهَا وَمثلهَا مَا جرى فِي السهولة مجْراهَا قيل إِن ظَاهر الْآيَة يتَنَاوَل نسخ التِّلَاوَة على أَن خيرا من الْعِبَادَة هُوَ مَا كَانَ أَنْفَع مِنْهَا وَأصْلح فِي الدّين وَإِن كَانَ أشق وَإِن احْتَجُّوا بقول الله عز وَجل {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} وَقَالُوا إِرَادَة مَا هُوَ أشق إِرَادَة الْعسر قيل لَهُم هَذَا يمْنَع من التَّعَبُّد بالمشاق وَأَيْضًا فَإِن إِرَادَة مَا هُوَ أشق مِمَّا هُوَ أصلح وأبلغ فِي التحذر من المضار وَأكْثر ثَوابًا إِرَادَة لليسر لَا للعسر وَإِن احْتَجُّوا بقول الله عز وَجل {يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم وَخلق الْإِنْسَان ضَعِيفا} قيل لَيْسَ فِي ذَلِك لفظ عُمُوم حَتَّى يَقْتَضِي أَن يُرِيد التَّخْفِيف فِي كل شَيْء وَمن كل وَجه وعَلى أَن إِرَادَة الأشق الَّذِي يكون مَعَه أبعد من المضار وَأصْلح فِي الدّين إِرَادَة للتَّخْفِيف لِأَنَّهُ يؤول إِلَى التحفيف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب جَوَاز نسخ التِّلَاوَة دون الحكم وَنسخ الحكم دون التِّلَاوَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يدل على جَوَاز ذَلِك أَن التِّلَاوَة وَالْحكم عبادتان وكل عبادتين فانه يجوز أَن يصير مثلاهما مفسدتين فَيجب النَّهْي عَنْهُمَا وَيجوز أَن يصير كل وَاحِدَة مِنْهُمَا بانفرادها مفْسدَة دون الْأُخْرَى فَيلْزم النَّهْي عَنْهَا دون الْأُخْرَى وَقد نسخ الله سُبْحَانَهُ الحكم دون التِّلَاوَة فِي قَوْله تَعَالَى {مَتَاعا إِلَى الْحول غير إِخْرَاج} بقوله سُبْحَانَهُ {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا}

وَنسخت التِّلَاوَة دون الحكم فِيمَا رُوِيَ أَنه كَانَ مِمَّا أنزل الله عز وَجل وَالشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نكالا من الله وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك مِمَّا أنزل وَحيا وَلم يكن ثَابتا فِي الْمُصحف وَقد رُوِيَ عَن عمر أَنه قَالَ لَوْلَا أَن يُقَال زَاد عمر فِي الْمُصحف لأثبت فِي حَاشِيَته الشَّيْخ وَالشَّيْخَة وَقد نسخت التِّلَاوَة وَالْحكم جَمِيعًا فِيمَا رُوِيَ عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت كَانَ مِمَّا أنزل الله سُبْحَانَهُ عشر رَضعَات يحرمن فنسخن بِخمْس وَلَيْسَ يجب إِذا ارْتَفَعت التِّلَاوَة أَن يرْتَفع الحكم لِأَن الدَّلِيل إِذا دلّ على شَيْء فِي أَوْقَات جَازَ عَدمه وَالْحكم ثَابت فان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو قَالَ زيد يعِيش مائَة سنة لم يجز بطلَان حَيَاة زيد عِنْد عدم هَذَا القَوْل من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلِهَذَا جَازَ أَن تتقدم الدّلَالَة على مدلولها وَلَيْسَ يجب إِذا ارْتَفع الحكم أَن ترْتَفع التِّلَاوَة من حَيْثُ كَانَت التِّلَاوَة دلَالَة على الحكم ويستحيل بَقَاء الدّلَالَة مَعَ عدم مدلولها وَذَلِكَ لِأَن التِّلَاوَة دلّت على الحكم فِي عُمُوم الْأَوْقَات بِشَرْط أَن لَا يعارضها مَا يمْنَع من مدلولها كَمَا نقُوله فِي دلَالَة الْعُمُوم على الِاسْتِغْرَاق وَهَذَا الشَّرْط غير قَائِم مَعَ وجود النّسخ إِن قيل لَو بقيت الدّلَالَة مَعَ عدم حكمهَا لَكَانَ الْغَرَض بِالْآيَةِ التَّعَبُّد بالتلاوة فَقَط وَأَنْتُم تأبون ذَلِك قيل إِنَّمَا نأنبى التَّعَبُّد بِتِلَاوَة مَا لَا يفهم فَأَما مَا كَانَ لَهُ حكم ثمَّ زَالَ وَهُوَ مَفْهُوم فِي نَفسه أَو لم يتَضَمَّن حكما أصلا كالأخبار عَن الْأُمَم السالفة فَلَا يمْنَع من التَّعَبُّد بتلاوته فَقَط - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب جَوَاز نسخ الْأَخْبَار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - منع أَكثر النَّاس من نسخ الْأَخْبَار وَأَجَازَهُ الشَّيْخ أَبُو عبد الله وقاضي الْقُضَاة وَالْكَلَام فِي ذَلِك يكون فِي الْأَخْبَار وَفِي فوائدها وَفِي تَوَابِع فوائدها أما فَوَائِد الْأَخْبَار فضربان أَحدهمَا لَا يجوز تَغْيِيره وَالْآخر يجوز تَغْيِيره فَالْأول كالأخبار عَن قبح الظُّلم وكالأخبار عَن صِفَات الله الذاتية وَنسخ هَذِه

الْفَوَائِد لَا يَصح لِأَن الْأَخْبَار عَن زَوَالهَا كذب وَأما الْفَوَائِد الَّتِي يجوز تغييرها فضربان احدهما أَحْكَام وَالْآخر غير أَحْكَام وَالثَّانِي ضَرْبَان أَحدهمَا فَوَائِد مُسْتَقْبلَة وَالْآخر مَاضِيَة كِلَاهُمَا يدخلهَا معنى النّسخ وَإِن لم يسم نسخا أما الْمُسْتَقْبلَة فنحو أَن يخبرنا الله سُبْحَانَهُ أَن يعذب العصاة أبدا فانه يجوز أَن يدلنا فِي الْمُسْتَقْبل بِأَنَّهُ أَرَادَ بالتأبيد ألف سنة وَذَلِكَ إِنَّمَا يجوز بِأَن يشعرنا بِهَذَا الْبَيَان عِنْد الْخطاب وَقد منع شُيُوخنَا رَحِمهم الله من دُخُول النّسخ فِي الْوَعْد والوعيد وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ غير مُمْتَنع وَأما الْمَاضِي فَيجوز أَن يخبر الله عز وَجل أَنه عمر زيدا ألف سنة ويشعرنا أَنه أَرَادَ الْبَعْض ويدلنا فِي الْمُسْتَقْبل أَنه عمره ألفا إِلَّا خمسين وَأما الْفَوَائِد الَّتِي هِيَ الْأَحْكَام وَيجوز تغيرها فكالأخبار عَن وجوب الْحَج ابدا كَانَ يجوز نسخه فِي الْمُسْتَقْبل لِأَن مَا أجَاز نسخه لَو تعلق بِهِ أَمر هُوَ جَوَاز انْتِقَال كَون ذَلِك مصلحَة إِلَى أَن يكون مفْسدَة وَجَوَاز أَن يدلنا على أَن المُرَاد بِالْخِطَابِ الْمُفِيد لاتصال الْعِبَادَة انقطاعها وَهَذَا قَائِم فِي الْخَبَر وَالْقَوْل بِأَن من شَرط حسن النّسخ كَون الْمَنْسُوخ أمرا أَو نهيا مَعَ أَنه لَا تَأْثِير لذَلِك كالقول بِأَن من شَرطه كَون الْمَنْسُوخ خَبرا فان قيل لاشتراطنا كَونه أمرا أَو نهيا تَأْثِير لِأَن دُخُول النّسخ على الْخَبَر يُؤذن بِكَوْنِهِ كذبا قيل ودخوله على الْأَمر يُؤذن بالبداء فان قَالُوا لَا يُؤذن بالبداء لِأَن النَّهْي إِنَّمَا دلّ على أَن الْأَمر مَا تنَاول مَا تنَاوله النَّهْي قيل وَالدَّلِيل النَّاسِخ دلّ على أَن الْخَبَر المنسو مَا تنَاول مَا تنَاوله الدَّلِيل النَّاسِخ وَإِذا تغاير متعلقهما ارْتَفع الْكَذِب كَمَا يرْتَفع البداء فِي الْأَمر وَالنَّهْي فَإِن قيل إِنَّمَا يجوز دُخُول النّسخ على الْخَبَر المتناول للْأَحْكَام لِأَنَّهُ فِي معنى الْأَمر بِالْفِعْلِ قيل هَذَا إِقْرَار بِدُخُول معنى النّسخ فِيهِ وَهُوَ مَا أردناه وقولكم إِنَّمَا دخل النّسخ على الْخَبَر لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي معنى الْأَمر كَقَوْل من قَالَ إِنَّمَا دخل على الْأَمر لِأَنَّهُ فِي معنى الْخَبَر عَن وجوب الْفِعْل على أَنهم إِن أَرَادوا بقَوْلهمْ الْخَبَر فِي معنى الْأَمر أَنه على صيغته كَانَ الْحس يشْهد بِخِلَافِهِ وَإِن أَرَادوا أَنه يُفِيد فَائِدَة الْأَمر من الْوُجُوب فلسنا نأبى ذَلِك

وَاحْتج الشَّيْخَانِ أَبُو عَليّ وَأَبُو هَاشم رحمهمَا الله للْمَنْع من نسخ الْخَبَر بِأَن الْقَائِل لَو قَالَ أهلك الله عادا ثمَّ قَالَ مَا أهلكهم كَانَ كذبا وَالْجَوَاب إِن إملاكهم غير متكرر لأَنهم لَا يهْلكُونَ مرّة بعد مرّة بل إِنَّمَا يهْلك كل وَاحِد مِنْهُم مرّة فاذا قَالَ مَا أهلكهم رفع تِلْكَ الْمرة وَهَذَا كذب وَإِن أَرَادَ بقوله مَا أهلكهم مَا أهلك بَعضهم كَانَ تَخْصِيصًا وَلَيْسَ بنسخ وَذَلِكَ يجوز مَعَ اقتران الْبَيَان وَلَيْسَ كَذَلِك الْخَبَر عَن تكْرَار الْفِعْل وتواليه فِي الْأَزْمَان لِأَن قيام الدّلَالَة على أَنه مَا أُرِيد تكرارها فِي بعض الزَّمَان وَهُوَ النّسخ الَّذِي أجزناه فِي الْأَمر وَالنَّهْي فَهَذَا هُوَ الْكَلَام فِي نسخ فَوَائِد الْأَخْبَار فَأَما مَا يتبع فوائدها فَهُوَ الِاسْتِدْلَال بالْخبر عَن فوائدها وَنسخ ذَلِك جَائِز سَوَاء بقيت الْفَوَائِد أَو نسخت أما إِذا نسخت فَلَا شُبْهَة فِي ارْتِفَاع الِاسْتِدْلَال لِأَنَّهُ لَا يجوز الِاسْتِدْلَال على إِثْبَات مَا لَيْسَ بِثَابِت وَأما إِذا لم تنسخ فوائدها فانه يجوز أَن يكون الِاسْتِدْلَال بالْخبر مفْسدَة كالاستدلال بأخبار التَّوْرَاة على أَحْكَام هِيَ الأن ثَابِتَة وَأما نسخ الْأَخْبَار أَنْفسهَا فضربان أَحدهمَا أَن تنسخ عَنَّا تِلَاوَة الْخَبَر وَالْآخر أَن ينْسَخ عَنَّا الِابْتِدَاء بالْخبر أما نسخ تِلَاوَة الْخَبَر فَجَائِز كنسخ تِلَاوَة أَخْبَار التَّوْرَاة وَغَيرهَا وَأما نسخ الِابْتِدَاء بالْخبر فنحو أَن يَأْمر الله سُبْحَانَهُ أَن نخبر عَن شَيْء فَيجوز أَن ينْسَخ عَنَّا وجوب الْإِخْبَار عَنهُ وَكَونه ندبا ويدلنا على قبحه سَوَاء كَانَ فَائِدَة الْخَبَر مِمَّا يجوز أَن تَتَغَيَّر وَمِمَّا لَا يجوز أَن تَتَغَيَّر كالأخبار عَن صِفَات الله سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون فِي الْإِخْبَار عَن ذَلِك مفْسدَة كَمَا كَانَ فِي تِلَاوَة الْجنب وَالْحَائِض لِلْقُرْآنِ مفْسدَة وَلَا يجوز أَن نؤمر بنقيض مَا كُنَّا نخبر بِهِ إِن كَانَ ذَلِك مِمَّا لَا يجوز تغيره نَحْو الْأَمر بالإخبار

بِأَن الله سُبْحَانَهُ عَالم ثمَّ الْأَمر بالإخبار بِأَنَّهُ غير عَالم لِأَن ذَلِك كذب لَا يحسن الْأَمر بِهِ وَيجوز أَن نؤمر بالإخبار بِنَفْي مَا أمرنَا أَن نخبر بِهِ إِن جَازَ تغيره نَحْو أَن نؤمر بالإخبار عَن كفر زيد ثمَّ نؤمر بالإخبار عَن إيمَانه فِيمَا بعد وَقد ذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَنه يبعد أَن يبْقى وجوب الْفِعْل وَيحرم الْعَزْم على أَدَائِهِ قَالَ إِلَّا أَن يجوز كَون الْعَزْم عَلَيْهِ مفْسدَة ويستحيل أَن يحرم علينا إِرَادَته الْمُقَارنَة لَهُ لِأَن لَا يكون الْفِعْل وَاقعا على مَا أمرنَا أَن نوقعه عَلَيْهِ إِلَّا مَعَ مقارنتها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب نسخ الْكتاب بِالْكتاب وَالسّنة بِالسنةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما الْكتاب فمتساو فِي وُقُوع الْعلم بِهِ وَوُجُوب الْعَمَل وَكَذَلِكَ السّنَن الْمَقْطُوع بهَا واما السّنَن المنقولة بالآحاد فَهِيَ مُتَسَاوِيَة فِي كَونهَا أَمَارَات يلْزم الْعَمَل بِكُل وَاحِد مِنْهَا فَلَو لم يجز مَعَ تَسَاوِي النَّاسِخ والمنسوخ فِي الْقُوَّة وَوُقُوع النّسخ فيهمَا بَطل مَا علمناه من جَوَاز النّسخ فَإِذا ثَبت ذَلِك وَوجدنَا أحد الْخَبَرَيْنِ أَو الْآيَتَيْنِ مُتَأَخِّرًا عَن الآخر وحكمهما متناف لم يُمكن فيهمَا إِلَّا النّسخ وَقد نسخ الله الِاعْتِدَاد بالحول باعتداد أَرْبَعَة أشهر وَنسخ الله سُبْحَانَهُ الصَّدَقَة بَين يَدي مُنَاجَاة الرَّسُول بقوله تَعَالَى {أَأَشْفَقْتُم} الْآيَة وَنسخ ثبات الْوَاحِد للعشرة بقوله {الْآن خفف الله عَنْكُم} الْآيَة وَرُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه نهى عَن زِيَارَة الْقُبُور ثمَّ قَالَ كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور أَلا فزوروها وَقَالَ فِي شَارِب الْخمر فان شربهَا الرَّابِعَة

فَاقْتُلُوهُ فَحمل إِلَيْهِ من شربهَا الرَّابِعَة فَلم يقْتله فَأَما نسخ الْخَبَر الْمُتَوَاتر بأخبار الْآحَاد فَجَائِز فِي الْعقل وَالشَّرْع قد منع مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب نسخ السّنة بِالْكتاب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهب أَكثر النَّاس إِلَى حسن ذَلِك ووقوعه وَمنع الشَّافِعِي مِنْهُ وَدَلِيلنَا أَنه لَو امْتنع ذَلِك لم يخل إِمَّا أَن يكون امْتِنَاعه من حَيْثُ الْقُدْرَة وَالصِّحَّة أَو من حَيْثُ الْحِكْمَة أما من حَيْثُ الْقُدْرَة وَالصِّحَّة فبأن يُقَال إِن الله عز وَجل لَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ على كَلَام نَاسخ لسنة نبيه أَو لَو أَتَى بِكَلَام هَذِه سَبيله لم يكن دَالا على النّسخ وَالْأول وَالثَّانِي باطلان لِأَنَّهُ الله سُبْحَانَهُ قَادر على جَمِيع أَقسَام الْكَلَام وَلَا يجوز خُرُوج كَلَامه من أَن يكون دَلِيلا على مَا هُوَ مَوْضُوع وَأما الْحِكْمَة فبأن يُقَال لَو نسخ الله سُبْحَانَهُ كَلَام نبيه لنفر ذَلِك عَنهُ وأوهم أَنه لم يرض بِمَا سنه وَهَذَا بَاطِل لِأَن النّسخ إِنَّمَا يرفع الحكم بعد اسْتِقْرَار مثله وَذَلِكَ يمْنَع من هَذَا التَّوَهُّم لِأَنَّهُ لَو لم يرض بِمَا سنه لم يقر عَلَيْهِ أصلا على أَنه لَو نفر عَنهُ لنفر عَنهُ أَن ينْسَخ سنته بِسنة أُخْرَى لِأَن السّنة الناسخة إِنَّمَا صدرت عَنهُ لأجل الْوَحْي فَجرى مجْرى كَلَام ينزله الله عز وَجل إِن قيل إِن الله عز وَجل إِذا أنزل آيَة ناسخة أَمر نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يسن سنة تكون هِيَ الناسخة قيل لَا وَجه لوُجُوب مَا ذكرْتُمْ فَلم قطعْتُمْ بِهِ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لم تكن السّنة بِأَن تكون ناسخة أولى من الْآيَة وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء مِنْهَا قَول الله عز وَجل {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} فَدلَّ على أَن كَلَامه بَيَان وَلَو نسخ لارتفع كَونه بَيَانا وَذَلِكَ لَا يجوز قيل إِنَّه لَيْسَ فِي

قَوْله {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} دَلِيل على أَنه لَا يتَكَلَّم إِلَّا بِالْبَيَانِ كَمَا أَنَّك إِذا قلت دخلت الدَّار لأسلم على زيد لَيْسَ فِيهِ أَنَّك لَا تفعل فعلا آخر على أَنه لَيْسَ فِي كَون كَلَامه كُله بَيَانا مَا يمْنَع من نسخه بِالْكتاب كَمَا لَا يمْنَع من نُسْخَة بِالسنةِ وكما لَا يمْنَع كَون بعض الْكتاب بَيَانا من نسخه بِالْكتاب وَمِنْهَا قَوْلهم من شَرط النَّاسِخ أَن يكون من جنس الْمَنْسُوخ وَلِهَذَا لم ينْسَخ الْكتاب الْعقل وَالْجَوَاب أَنه يجوز نسخ حكم الْعقل بِالْكتاب وَإِنَّمَا لَا يُسمى ذَلِك نسخا فَلَيْسَ كلامنا فِي الْأَسْمَاء وإيجابهم كَون النَّاسِخ من قبيل الْمَنْسُوخ دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا وَأما الدّلَالَة على أَنه نسخت السّنة بِالْقُرْآنِ فَهِيَ أَنه كَانَ يجب فِي الِابْتِدَاء التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس بِالسنةِ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن متعبدا بشريعة من قبله ثمَّ نسخ ذَلِك بقول الله عز وَجل {وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} وَلم يكن وجوب التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس مَعْلُوما بقول الله عز وَجل {فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} لِأَن هَذَا يَقْتَضِي التَّخْيِير بَين الْجِهَات وَهَذَا دَلِيل على أَن الْآيَة وَردت بعد إِيجَاب التَّوَجُّه إِلَى الْكَعْبَة فِي الْمُسَافِر إِذا صلى بِاجْتِهَاد إِلَى بعض الْجِهَات ثمَّ بَان لَهُ أَن تِلْكَ الْجِهَة لَيست بِجِهَة الْقبْلَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - السّنة ضَرْبَان أَحدهمَا متواتر وَالْآخر آحَاد أما الْمُتَوَاتر فقد منع الشَّافِعِي

وَطَائِفَة منع بِالْعقلِ من نسخ الْقُرْآن بِهِ وَأَجَازَهُ المتكلمون وَأَصْحَاب أبي حنيفَة من جِهَة الْعقل وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فَمنهمْ من قَالَ قد وَقع وَمِنْهُم من قَالَ لم يَقع وَلم يرد الْمَنْع مِنْهُ وَالدَّلِيل على جَوَازه فِي الْعقل أَنه لَو لم يجز لَكَانَ إِمَّا أَن لَا يجوز فِي الْقُدْرَة وَالصِّحَّة أَو فِي الْحِكْمَة وَمَعْلُوم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقدر على أَنْوَاع الْكَلَام وَلَو أَتَى بِكَلَام مَوْضُوع لرفع حكم من الْأَحْكَام لدل على مَا هُوَ مَوْضُوع لَهُ وَلَو امْتنع ذَلِك فِي الْحِكْمَة لَكَانَ وَجه امْتِنَاعه أَن يكون منفرا عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وموهما أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْتِي بِالْأَحْكَامِ من قبل نَفسه فَهَذَا لَو نفر عَنهُ لنفر عَنهُ من حَيْثُ أَزَال الحكم وَادّعى أَنه أُوحِي إِلَيْهِ بازالته وَهَذَا قَائِم فِي نسخ الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ وَالسّنة بِالسنةِ وَكَانَ يجب لَو لم يكن الْقُرْآن معجزا أَن يكون نسخ بعضه بِبَعْض منفرا وَأَن يكون نسخ الْآيَة بِمَا لَا يظْهر الإعجاز فِيهِ منفرا فَإِن قَالُوا إِنَّمَا جَازَ نسخ الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ لِأَن اللقرآن معجز قيل إِنَّا لَا نفتقر فِي دليلنا إِلَى تَشْبِيه السّنة الناسخة بِالْقُرْآنِ فَتَفَرَّقُوا بَينهمَا بِمَا ذكرْتُمْ على أَن النّسخ هُوَ رفع الحكم وإزالته وَذَلِكَ هُوَ مَوْقُوف على أَن يدل دَلِيل على رَفعه وَلَيْسَ من شَرط الدَّلِيل أَن يكون معجزا فان قيل إِذا لم يكن كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معجزا لم يتَكَلَّم بالنسخ قيل إِنَّمَا لَا يجوز أَن يتَكَلَّم بِهِ لَو كَانَت دلَالَته مَوْقُوفَة على كَونه معجزا وَمَعْلُوم أَن الْقُرْآن ينْسَخ الْقُرْآن وَإِن لم يظْهر فِي النَّاسِخ الإعجاز وتنسخ السّنة بِالسنةِ وَلَا لإعجاز فِيهَا فان قيل إِذا نسخت السّنة الْقُرْآن كَانَ الله قد أنزل آيَة تكون هِيَ الناسخة قيل إِنَّمَا يجب ذَلِك لَو كَانَ لذَلِك وَجه وجوب وَلم تكف السّنة فِي النّسخ وَقد بَينا أَنه لَا وَجه لوُجُوب ذَلِك إِذْ السّنة مُمكنَة وكافية فِي النّسخ من غير تنفير على أَنه إِذا وَردت السّنة وَجب أَن يُضَاف النّسخ إِلَى كل وَاحِد مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ إِحْدَاهمَا أولى بذلك من الْأُخْرَى إِن قيل إِذا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا ينْسَخ الْآيَة عنْدكُمْ إِلَّا بِوَحْي فَيجب إِضَافَة النّسخ إِلَى الْوَحْي وَإِن لم يظْهر لنا كَمَا أَنه إِذا

أَجمعت الْأمة على نسخ الْآيَة لم يضف النّسخ إِلَيْهَا وَلَكِن إِلَى مَا دلها إِلَى النّسخ وَإِن لم يظْهر لنا وَالْجَوَاب أَن فِي ذَلِك تَسْلِيم لما نريده من الْمَعْنى وَهُوَ نسخ آيَة بِسنة من غير أَن يظْهر لنا الْوَحْي وَإِنَّمَا نازعتم فِي وصف السّنة بِأَنَّهَا ناسخة وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يُفَارق السّنة الْإِجْمَاع لِأَن الْأمة إِذا أَجمعت على حكم لم نقل إِنَّه شرعها وَلذَلِك لَا يُقَال إِنَّهَا نسخت الْكتاب بقولِهَا وَالشَّرْع يُضَاف إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجَاز أَن يُضَاف النّسخ إِلَيْهِ وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} فوصفه بِأَنَّهُ يبين وَنسخ الْعِبَادَة هُوَ رَفعهَا ورفعها ضد بَيَانهَا وَالْجَوَاب أَن نسخهَا هُوَ بَيَان ارتفاعها وَذَلِكَ بَيَان للمراد بِالْخِطَابِ كالتخصيص هُوَ بَيَان للْعُمُوم وَإِن أخرج بعض مَا تنَاوله وَلَو لم يكن النّسخ بَيَانا لم يكن فِي وصف الله عز وَجل نبيه بِأَنَّهُ مُبين مَا يمْنَع من كَونه على صفة أُخْرَى غير الْبَيَان وَهُوَ كَونه نَاسِخا وَالشَّيْخ أَبُو هَاشم رَحمَه الله يحمل قَوْله تَعَالَى {لتبين للنَّاس} لتظهر لَهُم ذَلِك وتؤديه وَإِذا حملهَا على ذَلِك استوعب جَمِيع مَا أنزل إِلَيْنَا وَإِذا حمل على بَيَان الْمُجْمل لم يستوعبه فَكَانَ هَذَا التَّأْوِيل أولى لمطابقته الْعُمُوم وَمِنْهَا قَوْله عز وَجل {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة} قَالُوا فَأخْبر أَنه إِنَّمَا يُبدل الْآيَة بِالْآيَةِ وَالْجَوَاب أَنه أخبر بِأَنَّهُ إِذا بدل آيَة مَكَان آيَة قَالَ قَائِلُونَ كَيْت وَكَيْت وَلَيْسَ فِي ذَلِك دَلِيل على أَنه لَا يُبدل الْآيَة إِلَّا بِآيَة كَمَا أَنَّك إِذا قلت إِذا قصدت زيدا رَاكِبًا تكلم فِينَا الْأَعْدَاء لَا يدل على أَنَّك لَا تقصده إِلَّا رَاكِبًا على أَن ظَاهر قَوْله عز وَجل {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة} يتَنَاوَل تَبْدِيل نَص الْآيَة لَا حكمهَا

وَمِنْهَا أَن الله عز وَجل حكى عَن الْمُشْركين أَنهم قَالُوا عِنْد تَبْدِيل الاية بِالْآيَةِ {إِنَّمَا أَنْت مفتر} وَأَنَّهُمْ وهموا عِنْد ذَلِك وَأَنه أَزَال هَذَا الْإِيهَام بقوله {قل نزله روح الْقُدس من رَبك بِالْحَقِّ} وَالْجَوَاب أَن ذَلِك لَا يمْنَع من نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا ينْسَخ الْقُرْآن إِلَّا إِذا أُوحِي إِلَيْهِ بذلك فقد نزله روح الْقُدس وَمِنْهَا قَوْله عز وَجل {قَالَ الَّذين لَا يرجون لقاءنا ائْتِ بقرآن غير هَذَا أَو بدله قل مَا يكون لي أَن أبدله من تِلْقَاء نَفسِي إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ} وَالْجَوَاب أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا ينْسَخ أَحْكَام الْقُرْآن إِلَّا مُتبعا مَا أُوحِي إِلَيْهِ من ذَلِك على أَن قَوْلهم ائْتِ بقرآن غير هَذَا أَو بدله ينْصَرف إِلَى أَلْفَاظ الْقُرْآن دون أَحْكَامهَا وَمِنْهَا قَول الله عز وَجل {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} وَاحْتَجُّوا بِالْآيَةِ من وُجُوه مِنْهَا أَنه أخبر أَن مَا ينسخه من الْآي يَأْتِ بِخَير مِنْهُ وَذَلِكَ يُفِيد أَنه يَأْتِي من جنسه وجنس الْقُرْآن قُرْآن أَلا ترى أَن الْإِنْسَان إِذْ قَالَ مَا آخذ مِنْك من ثوب آتِيك بِخَير مِنْهُ يُفِيد أَنه يَأْتِيهِ بِثَوْب خير مِنْهُ وَالْجَوَاب أَن ذَلِك لَا يُفِيد مَا قَالُوهُ أَلا ترى أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ مَا آخذ مِنْك من ثوب آتِيك بِمَا هُوَ خير مِنْهُ احْتمل أَن يَأْتِيهِ ببستان وَاحْتمل غَيره فَلَا يمْتَنع أَن يكون المُرَاد بذلك نأت بِخَير مِنْهَا أَي أَنْفَع مِنْهَا أَو مثلهَا فِي النَّفْع من جِنْسهَا أَو من غير جِنْسهَا إِن قيل إِذا قَالَ الْإِنْسَان لغيره مَا آخذ مِنْك من ثوب آتِيك

بِمَا هُوَ خير مِنْهُ إِنَّمَا يُفِيد مَا ذكرْتُمْ لِأَنَّهُ قد ذكر لَفظه مَا وَهَذِه اللَّفْظَة تقع على الثَّوْب وعَلى غَيره مِمَّا لَا يعقل وَلَيْسَ كَذَلِك الْآيَة لِأَن الله لم يقل نأت بِمَا هُوَ خير مِنْهَا وَإِنَّمَا قَالَ نأت بِخَير مِنْهَا فنظيره قَول الْقَائِل مَا آخذ مِنْك من ثوب آتِيك خيرا مِنْهُ فِي أَنه يُفِيد ثوبا خيرا مِنْهُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يضمر فِي الْكَلَام اسْم الثَّوْب قيل لَا نسلم أَنه إِذا قَالَ آتِيك بِخَير مِنْهُ كَانَ المُرَاد ثوبا خيرا مِنْهُ بل يجوز أَن يَأْتِيهِ بِشَيْء لَيْسَ بِثَوْب يبين ذَلِك أَنه لَا بُد فِي ذَلِك من إِضْمَار فَلَيْسَ بِأَن يضمر آتِيك بِثَوْب خير بِأولى من أَن يضمر آتِيك بِشَيْء هُوَ خير مِنْهُ وَلَيْسَ يجب إِضْمَار الثَّوْب لِأَنَّهُ قد تقدم ذكره وَلَا يجب إِذا رَجَعَ لَام الْعَهْد إِلَى مَعْهُود قد تقدم ذكره أَن يجب مثله فِي الْإِضْمَار لِأَنَّهُمَا متباينان وَمِنْهَا أَن قَول الله عز وَجل {نأت بِخَير مِنْهَا} يُفِيد أَنه هُوَ الْمُنْفَرد بالإتيان بِخَير من الْآيَة وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا والناسخ قُرْآن وَالْجَوَاب أَن السّنة إِذا دلّت على نسخ الْقُرْآن فَالَّذِي أَتَى بِمَا هُوَ أَنْفَع مِمَّا كَانَ هُوَ الله عز وَجل أَلا ترى أَنه عز وَجل هُوَ النَّاسِخ والموحي إِلَى نبيه بالنسخ وَمِنْهَا قَوْلهم نأت بِخَير مِنْهَا يُفِيد أَن الَّذِي يَأْتِي بِهِ خير من الْآيَة على الْإِطْلَاق وَالسّنة لَا تكون خيرا من الْقُرْآن على الْإِطْلَاق لأجل اخْتِصَاص الْقُرْآن بالإعجاز وَالْجَوَاب أَن مَا تضمنه السنه الناسخة خير وأنفع من الْمَنْسُوخ وَلَيْسَ يجب أَن يكون خيرا من الْآيَة من جَمِيع الْوُجُوه لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي قَوْله نأت بِخَير مِنْهَا لفظ يعم جَمِيع وُجُوه الْخَيْر وَمِنْهَا أَن الله عز وَجل قَالَ {ألم تعلم أَن الله على كل شَيْء قدير} فَدلَّ على أَن الَّذِي يَأْتِي بِهِ هُوَ الْمُخْتَص بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْقُرْآن دون غَيره من الْكَلَام وَالْجَوَاب أَن المتمكن من إِزَالَة الحكم إِلَى مَا هُوَ خير مِنْهُ

وأنفع هُوَ الله عز وَجل وَحده لِأَنَّهُ الْمُخْتَص بِالْعلمِ بالمصالح وَحده وَقد منع الشَّيْخ أَبُو هَاشم رَحمَه الله من التَّعَلُّق بالاية بِمَا هُوَ جَوَاب عَن الْوُجُوه الَّتِي ذكروها وَهُوَ أَن قَوْله نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا لَيْسَ فِيهِ أَنه يَأْتِي بِخَير مِنْهَا نَاسِخا بل لَا يمْتَنع أَن يكون الَّذِي يَأْتِي بِهِ مِمَّا هُوَ خير مِنْهَا أَنه فِي حكم آخر بعد نسخ الْآيَة وَيكون النَّاسِخ غير الْآيَة إِن قيل كل من أوجب عِنْد نسخ الْآيَة الْإِتْيَان بِآيَة أُخْرَى قَالَ إِنَّهَا هِيَ الناسخة وَفِي ذَلِك مَا قُلْنَا قيل إِنَّا لَا نوجب ذَلِك من جِهَة الْحِكْمَة وَإِنَّمَا نحكم بذلك لأجل إِخْبَار الله سُبْحَانَهُ فِي هَذِه الْآيَة وَلم يجر هَذَا القَوْل على هَذَا التَّفْصِيل بَين الْأمة قبل أبي هَاشم فيدعى إجماعها فِيهِ وَقد منع من التَّعَلُّق بِالْآيَةِ بِأَن ظَاهر قَوْله عز وَجل {مَا ننسخ من آيَة} نسخ التِّلَاوَة دون الحكم فَقَط إِلَّا أَنه لَا يُطلق فِيمَا نسخ حكمه وَبقيت تِلَاوَته أَنه قد نسخ أَلا ترى أَنه يُقَال مَا نسخت الْآيَة وَإِنَّمَا نسخ حكمهَا وَلَهُم أَن يَقُولُوا بل قد يُطلق ذَلِك لِأَن النَّاس يَقُولُونَ إِن قَول الله سُبْحَانَهُ {إِذا نَاجَيْتُم الرَّسُول فقدموا بَين يَدي نَجوَاكُمْ صَدَقَة} مَنْسُوخ وَإِن كَانَت التِّلَاوَة بَاقِيَة وَقد قَالُوا أَيْضا أَنْتُم تجيزون نسخ تِلَاوَة الْآيَة بِسنة بِأَن يُنْهِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن تلاوتها فَإِن ثَبت أَنه لَا يجوز نسخ تلاوتها بِسنة وَجب مثله فِي حكمهَا لِأَن أحدا لم يفرق بَينهمَا فان قُلْنَا لَا يمْتَنع أَن لَا تنسخ التِّلَاوَة إِلَّا وَتَأْتِي آيَة أُخْرَى وَإِن لم تكن ناسخة وَيكون الدَّلِيل على ذَلِك هَذِه الْآيَة كَانَ ذَلِك رُجُوعا إِلَى الْوَجْه الْمُتَقَدّم فَأَما الدّلَالَة على أَن نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ قد وَقع فَهِيَ أَنه كَانَ الْوَاجِب على الزَّانِيَة الْحَبْس فِي الْبيُوت بقول الله عز وَجل {فأمسكوهن فِي الْبيُوت حَتَّى يتوفاهن الْمَوْت أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} ثمَّ نسخ الله عز وَجل ذَلِك بقوله {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة}

وَلَيْسَ وَإِن كَانَ الْحَبْس مَوْقُوفا على غَايَة وَكَانَ قَوْله {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} بَيَانا لتِلْك الْغَايَة مَا يمْنَع أَن يكون ذَلِك نسخا لِأَن بَيَان الْغَايَة المجملة يُسمى نسخا وَهَذَا كَلَام فِي الْأَسْمَاء ثمَّ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نسخ ذَلِك بِالرَّجمِ فان قيل بل نسخ ذَلِك بِمَا كَانَ قُرْآنًا وَهُوَ قَوْله الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا قيل إِن ذَلِك لم يكن قُرْآنًا يدل على ذَلِك أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ لَوْلَا أَن يَقُول النَّاس زَاد عمر فِي الْمُصحف لأثبت فِي حَاشِيَته الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَلَو كَانَ ذَلِك قُرْآنًا فِي الْحَال أَو كَانَ قد نسخ لم يكن ليقول ذَلِك فَعلمنَا أَن ذَلِك سنة من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَرَادَ عمر أَن يخبر بتأكيده فَأَما نسخ الْقُرْآن وَالْأَخْبَار المتواترة بأخبار الْآحَاد فَجَائِز فِي الْعُقُول وَقَالَ بعض النَّاس بورود التَّعَبُّد بِالْمَنْعِ مِنْهُ وَذكر عَن بعض أهل الظَّاهِر أَن ذَلِك غير مَمْنُوع مِنْهُ وَدَلِيلنَا أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهَا كَانَت تتْرك أَخْبَار الْآحَاد إِذا رفعت حكم الْكتاب قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لَا نَدع كتاب رَبنَا وَسنة نَبينَا بقول امْرَأَة لَا نَدْرِي اصدقت أم كذبت وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء مِنْهَا أَن الحكم بأخبار الْآحَاد مَعْلُوم بِدَلِيل قَاطع وَالْحكم بِهِ كَالْحكمِ بِالْآيَةِ فَجَاز نسخ الْآيَة بِهِ كَمَا جَازَ نسخ آيَة بِآيَة وَالْجَوَاب أَن مَا ثَبت من الْإِجْمَاع يمْنَع من كَون الحكم بهَا مَعْلُوما إِذا كَانَت رَافِعَة لحكم الْكتاب على أَن الدَّلِيل الْقَاطِع الدَّال على قبُول الْأَخْبَار لم يتَنَاوَل أَخْبَار الْآحَاد إِذا كَانَت ناسخة لدَلِيل الْكتاب فَلَا يُمكن أَن يُقَال إِن الحكم بهَا وَالْحَال هَذِه مَعْلُوم وَمِنْهَا أَنه إِذا جَازَ تَخْصِيص الْقُرْآن بأخبار الْآحَاد مَعَ أَن التَّخْصِيص يُفِيد

أَن مَا تنَاوله مَا كَانَ أُرِيد بِالْعَام فبأن يجوز النّسخ بهَا أولى إِذْ كَانَ النّسخ إِنَّمَا يرفع مثل الحكم بعد كَون الحكم مرَادا بِالْآيَةِ وَالْجَوَاب أَن مَا ذَكرُوهُ يدل على جَوَاز النّسخ بِهِ من جِهَة الْعُقُول وَلَا يدل على أَنه مَا منع مِنْهُ فِي الشَّرِيعَة وَقد بَينا أَن الْإِجْمَاع قد منع مِنْهُ وَمِنْهَا قَوْلهم إِن نسخ الْكتاب قد وَقع بأخبار الْآحَاد من وُجُوه مِنْهَا ان قَوْله {قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما على طاعم يطعمهُ} الْآيَة مَنْسُوخ بِمَا رُوِيَ بالآحاد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن أكل كل ذِي نَاب من السبَاع وَالْجَوَاب أَن قَوْله {قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ} إِنَّمَا يتَنَاوَل مَا اوحي إِلَيْهِ إِلَى تِلْكَ الْغَايَة وَلَا يتَنَاوَل مَا بعد ذَلِك فَلم يكن النَّهْي الْوَارِد بعد ذَلِك نسخا وَأَيْضًا فَإِن الْآيَة تمنع من تَحْرِيم كل مَا عدا الْميتَة من الدَّم وَلحم الْخِنْزِير فَنهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أكل كل ذِي نَاب من السبَاع وَلَا يمْتَنع أَن يكون مُقَارنًا لِلْآيَةِ فَيكون مُخَصّصا لَا نَاسِخا وَمِنْهَا أَن قَول الله عز وَجل {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم أَن تَبْتَغُوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} مَنْسُوخ بِمَا رُوِيَ بالآحاد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تنْكح امْرَأَة على عَمَّتهَا وَلَا على خَالَتهَا وَالْجَوَاب أَن ذَلِك مِمَّا تلقى بِالْقبُولِ فَهُوَ لذَلِك مَعْلُوم يجْرِي مجْرى التَّوَاتُر فِي جَوَاز وُقُوع النّسخ بِهِ وَلَا يمْتَنع أَن يكون هَذَا وَمثله مُقَارنًا لِلْآيَةِ فَيكون مُخَصّصا وَمِنْهَا أَن قَول الله عز وَجل {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين} مَنْسُوخ بِمَا رُوِيَ بالآحاد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا وَصِيَّة لوَارث وَالْجَوَاب أَن هَذَا متلقى بِالْقبُولِ فَجرى مجْرى التَّوَاتُر وَقد روى عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا انهما نسخا

ذَلِك بقول الله عز وَجل {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا وَصِيَّة لوَارث بَيَان لوُقُوع النّسخ بقول الله {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} وَلَا يمْتَنع أَن يكون كَانَ ذَلِك فِي صدر الْإِسْلَام جَائِزا ثمَّ منع من ذَلِك كَمَا قُلْنَاهُ فِي نسخ الْقبْلَة عَن أهل قبَاء بِخَبَر وَاحِد وَذَلِكَ يدلنا على أَن النّسخ بأخبار الْآحَاد كَانَ جَائِزا فِي صدر الْإِسْلَام ثمَّ منع مِنْهُ وَمِنْهَا أَن الْجمع بَين وضع الْحمل والمدة مَنْسُوخ بِأحد الْأَجَليْنِ وَالْجَوَاب أَن من النَّاس من قَالَ ذَلِك غير مَنْسُوخ وَمِنْهُم من جعل آيَة الْوَضع ناسخة فِي الْحَامِل خَاصَّة وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود وَغَيره وَمن النَّاس من جعل ذَلِك مُخَصّصا لِأَنَّهُ يُمكن فِيهِ الْبناء وَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة نظر لِأَن الْمعول فِيهَا على خبر عمر وَهُوَ خبر وَاحِد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي نسخ الْإِجْمَاع وَفِي وُقُوع النّسخ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه لَو نسخ الْإِجْمَاع لَكَانَ ينْسَخ بِدَلِيل شَرْعِي من كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع وَمَعْلُوم أَن الْإِجْمَاع إِنَّمَا انْعَقَد بعد وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يرد كتاب أَو سنة بنسخانه فان قيل هلا جوزتم أَن تظفر الْأمة بعد اتفاقها بِنَصّ كَانَ قد خَفِي عَنْهَا فتنسخ اتفاقها بِهِ قيل لَو كَانَ فِي الشَّرِيعَة نَص لما خفى عَنْهَا بأجمعها لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن تذْهب بأجمعها عَن الْحق سِيمَا وإجماعها الْحق فِي وَاحِد مِنْهُ وَلَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد فَيُقَال قد وَجب عَلَيْهَا الْعَمَل بِالنَّصِّ بِشَرْط أَن تظفر بِهِ كَمَا قيل ذَلِك فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد على أَنَّهَا لَو كلفت الْعَمَل بِالنَّصِّ بِشَرْط أَن تظفر بِهِ فاذا لم تظفر بِهِ كَانَت مكلفة الْعَمَل باجتهادها لما كَانَ

عدولها عَمَّا أَجمعت عَلَيْهِ لأجل النَّص الَّذِي ظَفرت بِهِ نسخا لِأَن الحكم إِذا ثَبت بِشَرْط وَعلم بِالْعقلِ زَوَال ذَلِك الشَّرْط لم يسم رفع الحكم نسخا إِن قيل ايجوز أَن ينْسَخ الله حكما أَجمعت عَلَيْهِ الْأمة على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيل يجوز ذَلِك وَإِنَّمَا منعنَا أَن تجمع الْأمة بعد وَفَاة النَّبِي لله حَتَّى يكون إجماعها هُوَ الْمُعْتَبر ثمَّ ينْسَخ فَأَما اتفاقها فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأجل توقيفه أَو إِقْرَاره فَالْمُعْتَبر فِيهِ بِتَوْقِيفِهِ وَإِقْرَاره والنسخ يتَوَجَّه إِلَى ذَلِك وَلَا يجوز نسخ الْإِجْمَاع باجماع لِأَن الْإِجْمَاع الثَّانِي إِن دلّ على أَن الْإِجْمَاع الأول كَانَ بَاطِلا لم يجز ذَلِك وَإِن كَانَ الْإِجْمَاع الأول حِين وَقع وَقع صَحِيحا لَكِن الْإِجْمَاع الثَّانِي حرم القَوْل بِهِ من بعد لم يجز ذَلِك إِلَّا لدَلِيل شَرْعِي متجدد وَقع لأَجله الْإِجْمَاع الثَّانِي من كتاب أَو سنة أَو لدَلِيل كَانَ مَوْجُودا وخفي عَلَيْهِم من قبل ثمَّ ظهر لَهُم وكل ذَلِك قد أفسدناه إِن قيل أَلَيْسَ إِذا اخْتلفت الْأمة على قَوْلَيْنِ فِي المسئلة فقد سوغت بأجمعها للعامي أَن يَأْخُذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ وسوغت للمجتهد أَن يَأْخُذ بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا إِذا أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَيْهِ فاذا اتّفقت على أحد الْقَوْلَيْنِ كَانَت قد حظرت بأجمعها على الْعَاميّ والمجتهد الْمصير إِلَى القَوْل الآخر فَهَذَا نسخ إِجْمَاع بِإِجْمَاع قيل إنالا نأبى ذَلِك غير أَنا لَا نُسَمِّيه نسخا لِأَن الْأمة حِين اخْتلفت على الْقَوْلَيْنِ إِنَّمَا سوغت للعامي وللمجتهد الْأَخْذ بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا بِشَرْط بَقَاء الْخلاف وَكَون الْمَسْأَلَة من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَهَذَا الشَّرْط مَعْلُوم زَوَاله بِالْعقلِ مَتى اتّفقت الْأمة على أحد الْقَوْلَيْنِ وَمَا هَذِه سَبيله لَا يكون نسخا أَلا ترى أَن الله عز وَجل لما قَالَ {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} فعلق الصَّوْم بغاية يعلم حُصُولهَا بالحس وبالعقل لم يكن ارْتِفَاع الصَّوْم عِنْد ذَلِك نسخا وَلَا يجوز نسخ الْإِجْمَاع بِقِيَاس لِأَن الْقيَاس إِن كَانَ قِيَاسا على أصل مقتدم فذهاب الْأمة عَنهُ وَوُقُوع إجماعها على خِلَافه يدل على فَسَاده لِأَن الْأمة لَا يجوز

ذهابها عَن الْحق وَإِن كَانَ قِيَاسا على اصل متجدد فَلَيْسَ يجوز أَن يَتَجَدَّد الحكم فِيهِ إِلَّا عَن كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع وَلَا يجوز تجدّد كتاب أَو سنة بعد وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن كَانَ قِيَاسا على إِجْمَاع فَهُوَ بَاطِل لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْقيَاس عَلَيْهِ حَقًا لما ذهب عَنهُ الْأمة باجمعها فَأَما وُقُوع النّسخ بِالْإِجْمَاع فَلَو حصل دَلِيلا شَرْعِيًّا من كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع إِجْمَاع أَو قِيَاس وَقد بَينا أَن الْإِجْمَاع لَا ينْسَخ الْإِجْمَاع وَأما نَص الْكتاب وَالسّنة فَلَا يجوز أَن ينسخه الْإِجْمَاع لِأَن الْإِجْمَاع لَا يجوز أَن ينْعَقد على خِلَافه إِذْ الْأمة لَا تجمع على خطأ فَلَو اتَّفقُوا على خلاف النَّص لدل ذَلِك على نَص نَاسخ لم ينقلوه نَحْو إجماعها على أَن لَا غسل على من غسل مَيتا وَيَنْبَغِي أَن يُضَاف النّسخ إِلَى ذَلِك النَّص لِأَن الْأمة كالناقلة لَهُ والمخبر بِالنَّصِّ النَّاسِخ لَا يكون هُوَ النَّاسِخ وَالْقَوْل فِي نسخ الْإِجْمَاع بفحوى القَوْل وَنسخ فحوى القَوْل بِهِ كالقول فِي النَّص مَعَ الْإِجْمَاع وَسَيَجِيءُ نسخ الْقيَاس بِالْإِجْمَاع إِن شَاءَ الله عز وَجل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي نسخ الْقيَاس وَفِي وُقُوع النّسخ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله منع من نسخ الْقيَاس لِأَنَّهُ تبع لِلْأُصُولِ فَلم يجز مَعَ ثُبُوتهَا رَفعه وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يثبت بعد انْقِطَاع الْوَحْي وَقَالَ فِي الدَّرْس إِن الْقيَاس إِن كَانَ مَعْلُوم الْعلَّة جَازَ نسخه قَالَ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو نَص على أَن عِلّة تَحْرِيم الْبر هُوَ الْكَيْل وأمرنا بِالْقِيَاسِ لَكَانَ ذَلِك كالنص فِي تَحْرِيم الْأرز فَكَمَا جَازَ ان يحرم الْأرز ثمَّ ينسخه جَازَ أَن يسنخ عَنَّا تَحْرِيم الْأرز الْمُسْتَفَاد بِهَذِهِ الْعلَّة الْمَنْصُوص عَلَيْهَا وَيمْنَع من قِيَاسه على الْبر وَالْعلم أَنه لَو نسخ الْقيَاس الْمُتَعَلّق بالأمارات لنسخه إِمَّا كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع أَو قِيَاس وَلَا يَخْلُو الْقيَاس الْمَنْسُوخ إِمَّا أَن يكون ثَابتا فِي حَال حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو بعد وَفَاته

فان كَانَ فِي حَال حَيَاته فَلَيْسَ يمْتَنع رَفعه بِالنَّصِّ وبالقياس أما بِالنَّصِّ فنحو أَن ينص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على تَحْرِيم الْبر وينبه على أَن عِلّة تَحْرِيمه الْكَيْل ويتعبد بِالْقِيَاسِ ونعمل بذلك ثمَّ ينص على إِبَاحَة الْأرز وَيمْنَع من قِيَاسه على الْبر وَأما نسخه بِالْقِيَاسِ فبأن تكون الْمَسْأَلَة بِحَالِهَا إِلَّا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص على إِبَاحَة بعض المأكولات وَنبهَ على أَن علته كَونه مَأْكُولا بأمارة هِيَ أقوى من الأمارة الدَّالَّة على أَن عِلّة تَحْرِيم الْبر هِيَ الْكَيْل فَيلْزم من ذَلِك قِيَاس الْأرز على ذَلِك الْمَأْكُول فَأَما الْقيَاس الْمُسْتَفَاد بعد وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ يمْتَنع نسخه بِنَصّ كتاب أَو سنة متجددين لتعذر ذَلِك بعد وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيجوز نسخه فِي الْمَعْنى بِنَصّ مُتَقَدم وباجماع وبقياس أما بِالنَّصِّ فنحو أَن يجْتَهد بعض النَّاس فَيحرم شَيْئا بِقِيَاس بَعْدَمَا اجْتهد فِي طلب النُّصُوص ثمَّ يظفر بِنَصّ بِخِلَاف قِيَاسه أَو يجمع الْأمة على خلاف قِيَاسه أَو يظفر هُوَ بِقِيَاس أولى من قِيَاسه فَيلْزم فِي كل الْأَحْوَال ترك قِيَاسه الأول وَلَا يُسمى ذَلِك نسخا لِأَن الْقيَاس الأول إِنَّمَا عمل بِهِ بِشَرْط أَن لَا يُعَارضهُ قِيَاس أولى مِنْهُ وَلَا نَص وَلَا إِجْمَاع هَذَا إِنَّمَا يتم على القَوْل بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب لِأَن الْقَائِل بذلك يَقُول إِن هَذَا الْقيَاس قد تعبد بِهِ ثمَّ رفع فَأَما من لَا يَقُول كل مُجْتَهد مُصِيب فانه لَا يَقُول قد تعبد بِهِ فَلَا يُمكن نسخ التَّعَبُّد بِهِ فَأَما وُقُوع النّسخ بِالْقِيَاسِ فَلَو حصل لَكَانَ إِمَّا أَن ينْسَخ قِيَاسا آخر وَقد تكلمنا فِي ذَلِك من قبل أَو ينْسَخ إِجْمَاعًا وَذَلِكَ لَا يجوز لِاتِّفَاق الْأمة على أَن الْإِجْمَاع أولى من الْقيَاس إِلَّا أَن يُرَاد بذلك أَن الْقيَاس على أحد الْقَوْلَيْنِ إِذا وَقع الِاتِّفَاق عَلَيْهِ يرفع الْقيَاس على القَوْل الآخر فَيجوز ذَلِك وَلَا يُسمى نسخا وَلَا يجوز نسخ النَّص بِقِيَاس لِأَن الصَّحَابَة كَانَت تتْرك آراءها بالنصوص وَلِهَذَا صوب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معَاذًا فِي رُجُوعه إِلَى الِاجْتِهَاد إِذا لم يجد كتابا وَلَا سنة وَبِهَذَا نجيب عَن قياسهم نسخ النَّص بِالْقِيَاسِ على تَخْصِيص النَّص بِالْقِيَاسِ وقياسهم ذَلِك على نسخ خبر الْوَاحِد بِخَبَر الْوَاحِد إِن قيل أَلَيْسَ لما قَالَ الله عز وَجل {الْآن خفف الله عَنْكُم وَعلم أَن فِيكُم ضعفا فَإِن يكن مِنْكُم مائَة صابرة يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم ألف يغلبوا أَلفَيْنِ}

علمنَا أَن ثبات الْوَاحِد للعشرة مَنْسُوخ وَإِن كَانَ ذَلِك غير مُصَرح بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ نبه عَلَيْهِ فصح أَن الْقيَاس ينْسَخ النَّص وَالْجَوَاب أَنه لَيْسَ فِي الْآيَة المنسوخة ثبات الْوَاحِد للعشرة فَيكون هَذَا التَّنْبِيه قد نسخه فان كَانَ ذَلِك مَعْلُوما من قَوْله {إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ} من حَيْثُ كَانَ ذَلِك يُفِيد أَن يثبت كل وَاحِد بِإِزَاءِ عشرَة حَتَّى يكون الْعشْرُونَ بِإِزَاءِ مِائَتَيْنِ فمفهوم ايضا من قَوْله {فَإِن يكن مِنْكُم مائَة صابرة} ثبات الْوَاحِد للاثنين لِأَنَّهُ لَا يكون مائَة بِإِزَاءِ مِائَتَيْنِ إِلَّا وكل وَاحِد مِنْهُم بِإِزَاءِ اثْنَيْنِ وَيبين ذَلِك أَنه ورد عقيب قَوْله {الْآن خفف الله عَنْكُم} يُفِيد رفع ثبات الْعشْرين للمائتين والا لم يكن التَّخْفِيف حَاصِلا وَقد قيل إِن ثبات الْوَاحِد للعشرة مَفْهُوم من الاية المنسوخة من فحوى القَوْل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب نسخ فحوى القَوْل وَوُقُوع النّسخ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما وُقُوع النّسخ بِهِ فَجَائِز لِأَنَّهُ إِن كَانَ قَول الله عز وَجل {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} يدل من جِهَة اللُّغَة على الْمَنْع من الضَّرْب فاللفظ الْمُفِيد للشَّيْء من جِهَة اللُّغَة يجوز أَن يَقع النّسخ بِهِ وَإِن كَانَ يدل عَلَيْهِ من جِهَة الأولى فَهُوَ آكِد من اللَّفْظ فَجَاز وُقُوع النّسخ بِهِ أَيْضا وَيجوز أَن ينْسَخ الأَصْل والفحوى إِن كَانَا مِمَّا يجوز نسخهما وَأما نسخ الأَصْل فانه يُفِيد نسخ الفحوى لِأَنَّهُ إِنَّمَا يثبت تبعا لَهُ فاذا ارْتَفع الأَصْل ارْتَفع مَا يتبعهُ وَيجوز أَن تدل دلَالَة على ثُبُوت الفحوى فَلَا يحكم بِثُبُوتِهِ إِذا ارْتَفع الأَصْل إِلَّا لدَلِيل مُسْتَأْنف فَأَما

نسخ الفحوى مَعَ ثبات الأَصْل فقد أجَازه قَاضِي الْقُضَاة فِي كتاب الْعمد وَقَالَ فِي شَرحه يجوز ذَلِك إِلَّا أَن يكون فِيهِ نقض الْغَرَض وَمنع مِنْهُ فِي الدَّرْس وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن فحوى القَوْل لَا يرْتَفع مَعَ بَقَاء الأَصْل إِلَّا وَقد انْتقض الْغَرَض لِأَنَّهُ إِذا حرم علينا التأفيف على سَبِيل الإعظام للابوين كَانَ إِبَاحَة ضربهما نقضا للغرض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الزِّيَادَة على النَّص هَل هِيَ نسخ أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهب شيخانا أَبُو عَليّ وَأَبُو هَاشم رحمهمَا الله وَأَصْحَاب الشَّافِعِي إِلَى أَنَّهَا لَيست بنسخ على كل حَال وَقَالَ قوم إِن النَّص إِن أَفَادَ من جِهَة دَلِيل الْخطاب أَو الشَّرْط خلاف مَا أفادته الزِّيَادَة كَانَت الزِّيَادَة نسخا نَحْو قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَائِمَة الْغنم زَكَاة فانه يُفِيد دَلِيله نفي الزَّكَاة عَن المعلوفة فَمَتَى زيدت الزَّكَاة فِي المعلوفة كَانَ ذَلِك نسخا وَقَالَ شيخانا أَبُو الْحسن وَأَبُو عبد الله رحمهمَا الله إِن كَانَت الزِّيَادَة مُغيرَة حكم الْمَزِيد عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبل كَانَت نسخا وَإِن لم تغير حكمه فِي الْمُسْتَقْبل بل كَانَت مُقَارنَة لَهُ لم تكن نسخا فَزِيَادَة التَّغْرِيب فِي الْمُسْتَقْبل على الْحَد يكون نسخا وَكَذَلِكَ لَو زيد فِي حد الْقَاذِف عشرُون وَأما الزِّيَادَة الَّتِي لَا تنفك من الْمَزِيد عَلَيْهِ فنحو أَن يجب علينا ستر الْفَخْذ فَيجب علينا ستر بعض الرّكْبَة وَلَا يكون وجوب ستر بَعْضهَا نسخا وَلم يجْعَلُوا الزِّيَادَة عِنْد التَّعَذُّر نسخا نَحْو قطع رجل السَّارِق بعد قطع يَده وَإِحْدَى رجلَيْهِ وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة إِن كَانَت الزِّيَادَة قد غيرت الْمَزِيد عَلَيْهِ تغييرا شَرْعِيًّا حَتَّى صَار الْمَزِيد عَلَيْهِ لَو فعل الزِّيَادَة على حد مَا كَانَ يَفْعَلهَا قبلهَا كَانَ وجوده كَعَدَمِهِ وَوَجَب استئنافه فَإِنَّهُ يكون نسخا نَحْو زِيَادَة رَكْعَة على رَكْعَتَيْنِ وَإِن كَانَ الْمَزِيد عَلَيْهِ لَو فعل على حد مَا كَانَ يفعل قبل الزِّيَادَة صَحَّ فعله فاعتد بِهِ وَلم يلْزم اسْتِئْنَاف فعله وَإِنَّمَا يلْزم أَن يضم إِلَيْهِ

غَيره لم يكن نسخا نَحْو زِيَادَة التَّغْرِيب على الْحَد وَزِيَادَة عشْرين على حد الْقَاذِف وَعِنْده أَن زِيَادَة شَرط مُنْفَصِل عَن الْعِبَادَة لَا تكون نسخا نَحْو زِيَادَة الْوضُوء فِي شَرَائِط الصَّلَاة قَالَ وَلَو خير الله سُبْحَانَهُ بَين فعلين كَانَ زِيَادَة فعل ثَالِث نَاسِخا لقبح تَركهمَا وَلم يخْتَلف النَّاس فِي أَن زِيَادَة عبَادَة على الْعِبَادَات لَا يكون نسخا للعبادات وَلَا زِيَادَة صَلَاة على صلوَات وَإِنَّمَا جعل أهل الْعرَاق زِيَادَة صَلَاة على الصَّلَوَات الْخمس نسخا لقَوْله عز وَجل {حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى} لِأَنَّهُ يَجْعَل مَا كَانَ وسطى غير وسطى وَقد اعْتَرَضَهُمْ قَاضِي الْقُضَاة فَقَالَ يَنْبَغِي أَن تكون زِيَادَة عبَادَة على آخر الْعِبَادَات نسخا لِأَنَّهُ يَجْعَل الْعِبَادَة الْأَخِيرَة غير أخيرة وَإِن كَانَت الْفُرُوض عشرا خرجت من أَن تكون عشرا وَالْخلاف وَاقع فِي زِيَادَة رَكْعَة على رَكْعَتَيْنِ حَتَّى تصير الصَّلَاة ثَلَاث رَكْعَات وَفِي زِيَادَة التَّغْرِيب على الْحَد فَالْأول يُخَالف فِيهِ أَصْحَاب الشَّافِعِي وَالثَّانِي يُخَالف فِيهِ الشَّيْخَانِ أَبُو الْحسن وَأَبُو عبد الله وَأَنا أَتكَلّم على المذهبين وأذكر مَا ينصر بِهِ كل وَاحِد مِنْهُمَا ثمَّ اذكر مَا أقوله أَنا فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله أما حجَّة من قَالَ زِيَادَة التَّغْرِيب على الْجلد لَيْسَ بنسخ فَهُوَ أَن النّسخ هُوَ الْإِزَالَة للْحكم وَلم يزل بِهَذِهِ الزِّيَادَة حكم عَن الثَّمَانِينَ لِأَنَّهَا وَاجِبَة جَائِزَة كَمَا كَانَت وَإِنَّمَا يلْزم أَن يضم إِلَيْهَا غَيرهَا والمخالف يتَوَصَّل إِلَى ثُبُوت النّسخ فِي ذكر من وُجُوه مِنْهَا أَن الْجلد كَانَ قبل هَذِه الزِّيَادَة كَمَال الْحَد فَصَارَ بعْدهَا بعض الْحَد فقد أزالت الزِّيَادَة كَون الْجلد كَمَال الْحَد الْجَواب أَن قَوْلنَا أَن يجلد جَمِيع الْحَد الْوَاجِب فعله مَعْنَاهُ أَنه لَا يلْزم أَن يضم إِلَيْهِ غَيره وَقَوْلهمْ قد صَار بعض الْحَد الْوَاجِب فعله مَعْنَاهُ أَنه وَجب أَن يضم إِلَيْهِ غَيره فَقَوْلهم إِن هَذِه

الزِّيَادَة نسخ لِأَنَّهَا صيرت الْجلد بعض الْحَد الْوَاجِب فعله مَعْنَاهُ إِنَّمَا كَانَت الزِّيَادَة نسخا لِأَنَّهَا زِيَادَة فَمَعْنَى العبارتين وَاحِد وَقد أجِيبُوا فَقيل بِأَن الْكل وَالْبَعْض من أَحْكَام الْعقل دون الشَّرْع فَلم يفد النّسخ وللمخالف أَن يَقُول إِن الْكل وَالْبَعْض فِي الْجُمْلَة يعلمَانِ بِالْعقلِ فَأَما كَون الشَّيْء كل الحكم الشَّرْعِيّ أَو بعضه فانما يعلم بِالشَّرْعِ وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْجلد قد كَانَ مجزئا وَحده وَالْجَوَاب أَن معنى قَوْلنَا إِنَّه قد صَار غير مَجِيء وَحده هُوَ أَنه يجب ضم شَيْء آخر إِلَيْهِ فَعَاد ذَلِك إِلَى تَعْلِيل الشَّيْء بِنَفسِهِ وَقيل لَهُم أَيْضا إِن زِيَادَة التَّغْرِيب لَو كَانَ نسخا لجَاز أَن يقدر وجوده لَا إِلَى بدل وَهَذَا غير مُمكن هَا هُنَا وَهَذَا لَيْسَ بِجَوَاب عَن كَلَامهم وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِئْنَاف دَلِيل وَهُوَ مَعَ ذَلِك غير صَحِيح لِأَن النّسخ هُوَ الْإِزَالَة ووللخصم أَن يَقُول قد يجوز إِزَالَة أَجزَاء الثَّمَانِينَ لَا إِلَى بدل أصلا وَقد يجوز إِزَالَته إِلَى بدل غير الثَّمَانِينَ وَقد يجوز إِزَالَته بِزِيَادَة على الثَّمَانِينَ وَلَا يجوز إِزَالَته بِالزِّيَادَةِ على الثَّمَانِينَ إِلَى بدل لِأَن قَوْلنَا زِيَادَة على الثَّمَانِينَ إِثْبَات للثمانين فاسقاطها بدل وَالْحَال هَذِه متناقض كَمَا بَينا فِي القَوْل بازالة الْعِبَادَة لَا إِلَى بدل مَعَ ثُبُوت الْمُبدل وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْجلد وَحده كَانَ يتَعَلَّق بِهِ رد الشَّهَادَة فَلَمَّا زيد التَّغْرِيب صَار لَا يتَعَلَّق بِهِ وَحده وَالْجَوَاب أَن مخالفهم لَا يعلق رد الشَّهَادَة بِالْجلدِ وَلَو تعلق بِهِ لَكَانَ الْأَقْرَب أَن يُقَال إِن زِيَادَة بالتغريب قد تنسخ تعلق رد الشَّهَادَة لَا أَنه نسخ للجلد على أَن هَذَا لَا يلْزم أَيْضا لِأَن رد الشَّهَادَة تعلق بِمَا هُوَ حد فَتغير الْحَد إِلَى زِيَادَة أَو نُقْصَان لم يرفع تَعْلِيق رد الشَّهَادَة بِمَا هُوَ حد كَمَا أَن تغير الْعدة بِزِيَادَة أَو نُقْصَان لَا يرفع تعلق أَحْكَامهَا بهَا وَمَعْلُوم أَن الْفُرُوض لَو كَانَت خمْسا لوقف على ادائها قبُول الشَّهَادَة فَلَو زيد فِيهَا

لوقف قبُول الشَّهَادَة على فعل الْفَرْض السَّادِس وَلم يُوجب هَذَا نسخ وقُوف قبُول الشَّهَادَة على أَدَاء الْفُرُوض وللمخالف أَن يَقُول إِنَّه لَو زيد فِي مُدَّة الْعدة لَكَانَ ذَلِك نسخا لتَعلق أَحْكَامهَا بالمدة الْمَزِيد عَلَيْهَا وَلَو زيد فِي الْفَرَائِض فرض آخر نسخ ذَلِك تعلق قبُول الشَّهَادَة بأَدَاء تِلْكَ الْفَرَائِض وَحدهَا لَا أَنه يكون نَاسِخا للفرائض وَله أَن يَقُول إِن كَون الْجلد لَا يجزىء وَحده إِذا زيد عَلَيْهِ التَّغْرِيب لَيْسَ هُوَ معنى قَوْلنَا قد زيد عَلَيْهِ غَيره هُوَ أَنه قد تعبدنا مَعَه بِشَيْء آخر وَذَلِكَ يرجع إِلَى الْأَمر بِالزِّيَادَةِ وَكَون الْجلد وَحده لَا يجزىء مَعْنَاهُ أَنه لَا يسْقط بِهِ الْغَرَض وَهَذَا يتبع نفي التَّعَبُّد بِالزِّيَادَةِ فاذا كَانَت الزِّيَادَة قد أزالت هَذَا الْإِجْزَاء فقد وَقع بهَا النّسخ أَلا ترى أَن الله عز وَجل لَو نَص فَقَالَ الثَّمَانُونَ وَحدهَا مجزئة فِي الْحَد وَهِي كَمَال الْحَد ثمَّ زَاد على الثَّمَانِينَ لَكَانَ ذَلِك نسخا فَكَذَلِك مَا ذَكرْنَاهُ وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الله عز وَجل لَو صرح بذلك لَكَانَ إِجْزَاء الْجلد وَحده حكما شَرْعِيًّا فَكَانَت إِزَالَته نسخا فَأَما إِذا لم ينص على ذَلِك بل أوجب الْجلد فان إِيجَابه لذَلِك لَا يتَعَرَّض للتغريب بِنَفْي وَلَا إِثْبَات وَإِنَّمَا يعلم نَفْيه بَقَاء على حكم الأَصْل وَإِزَالَة حكم الأَصْل لَيْسَ بنسخ وللمخالف أَن يَقُول إِن هَذَا لَا يمْنَع مِمَّا أفسدنا بِهِ قَوْلكُم إِن رفع الْإِجْزَاء مَعَ الْجلد وَحده هُوَ معنى إِثْبَات الزِّيَادَة وَأَن تَعْلِيل كَون الزِّيَادَة نسخا من حَيْثُ رفع تعلق الْإِجْزَاء بِالْجلدِ وَحده هُوَ تَعْلِيل الشَّيْء بِنَفسِهِ وايضا فقد نقضتم هَذَا الِاعْتِبَار بِمَسْأَلَة وَهُوَ أَن قَاضِي الْقُضَاة قَالَ إِن الله عز وَجل لَو خير بَين فعلين ثمَّ زَاد فِي التَّخْيِير ثَالِثا فصرنا مخيرين بَين ثَلَاثَة أَشْيَاء لَكَانَ قد نسخ قبح تَحْرِيم ترك الشَّيْئَيْنِ الْأَوَّلين وَمَعْلُوم أَنه إِذا خير بَين شَيْئَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يتَعَرَّض تخييره بِمَا عداهما بِتَحْرِيم وَلَا إِيجَاب وَإِنَّمَا نعلم أَن الثَّالِث لَيْسَ بِوَاجِب لِأَن الأَصْل أَنه غير وَاجِب وَلم ينقلنا عَنهُ شرع فَصَارَ نفي وُجُوبه مَعْلُوما بِالْعقلِ وَمَعَ ذَلِك قد قَالَ إِن مَا دلّ على وُجُوبه يكون نَاسِخا فَأَما حجَّة من قَالَ إِن زِيَادَة رَكْعَة على رَكْعَتَيْنِ نسخ فَهُوَ أَن هَذِه الزِّيَادَة جعلت وجود الرَّكْعَتَيْنِ وَحدهمَا كعدمهما وأوجبت الِاسْتِئْنَاف وازالت

الْإِجْزَاء وَمن قبل هَذِه الزِّيَادَة لم تكن الركعتان كَذَلِك وَهَذَا معنى النّسخ وَهَذَا منتقض على قَول قَاضِي الْقُضَاة بِالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَة فَإِن زِيَادَة عُضْو فِي الطَّهَارَة أَو زِيَادَة طَهَارَة أُخْرَى لَيْسَ بنسخ للصَّلَاة عِنْده وَمَعَ ذَلِك فوجود الصَّلَاة كعدمها إِذا لم يغسل ذَلِك الْعُضْو وَيجب استئنافها وَهِي غير مجزئة وَكَون هَذِه الزِّيَادَة مُنْفَصِلَة لَيْسَ يمْنَع من انْتِقَاض مَا اعتلوا بِهِ فان شرطُوا ذَلِك فِي الْعلَّة قيل لَهُم أَي تَأْثِير لانفصال الشَّرْط واتصاله فِي ذَلِك فَإِن قَالُوا لِأَن الشَّرْط الْمَزِيد إِذا كَانَ مُتَّصِلا كالركعة نسخ جملَة الْعِبَادَة قيل النّسخ إِنَّمَا هُوَ إِزَالَة الْأَحْكَام لَا الْأَفْعَال والإجزاء زائل سَوَاء كَانَ الشَّرْط مُتَّصِلا أَو مُنْفَصِلا فان قَالُوا إِنَّمَا نعني بقولنَا إِن زِيَادَة الرَّكْعَة نسخ أَن الرَّكْعَة نسخت وجوب الْجُلُوس عقيب الرَّكْعَة الثَّانِيَة قيل الْجُلُوس مَوْضِعه آخر الصَّلَاة وَهَذَا لم يتَغَيَّر وَإِنَّمَا تغير آخر الصَّلَاة فَلم ينْسَخ مَوضِع الْجُلُوس كَمَا قُلْتُمْ إِن الزِّيَادَة فِي الْعدة لَا تنسخ تعلق الْأَحْكَام بهَا فان قَالُوا الصَّلَاة بعد زِيَادَة عُضْو فِي الطَّهَارَة يجب فعلهَا كَمَا يجب من قبل وَإِنَّمَا يجب أَن نقدم عَلَيْهَا فعلا آخر فَجرى مجْرى الْجلد فِي أَنه يلْزم بعد زِيَادَة التَّغْرِيب كَمَا كَانَ يلْزم من قبل وَإِنَّمَا يجب أَن نضم إِلَيْهِ فعلا آخر فالمسألتان سَوَاء وَإِنَّمَا تفترقان فِي الْفِعْل الَّذِي يجب فِي الْمَسْأَلَة الأولى يَنْبَغِي أَن يتَقَدَّم وَفِي الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة يتَأَخَّر وَالْجَوَاب أَن هَذَا لَا يمْنَع من انْتِقَاض علتكم وَهِي أَن وجود الصَّلَاة بعد زِيَادَة رَكْعَة كعدمها على أَن هَذَا يَقْتَضِي أَن لَا تكون زِيَادَة رَكْعَة على رَكْعَتَيْنِ نسخا لِأَن الرَّكْعَتَيْنِ يجب فعلهمَا على مَا كَانَا عَلَيْهِ لكنه يلْزم تَأْخِير التَّشَهُّد وَأَن لَا يتَعَلَّق بالركعتين وَهَذَا إِن كَانَ نسخا فَهُوَ نسخ لموْضِع التَّشَهُّد وَقد بَينا من قبل أَنه يجْرِي مجْرى زِيَادَة الْعدة فِي أَنه لَيْسَ بنسخ كتعلق الْأَحْكَام بالمدة الأولى وَيُمكن من قَالَ إِن زِيَادَة الرَّكْعَة لَيْسَ بنسخ أَن يَقُول لَو كَانَ نسخا لَكَانَ إِمَّا أَن يكون نسخا للركعتين وَمَعْلُوم أَن النّسخ لَا يتَعَلَّق بالأفعال أَو نسخا لموْضِع التَّشَهُّد وَقد بَينا أَنه لَيْسَ بنسخ لذَلِك أَو نسخا لإجزاء الرَّكْعَتَيْنِ وَحدهمَا وَهَذَا يلْزم عَلَيْهِ أَن تكون زِيَادَة غسل عُضْو فِي

الطَّهَارَة نسخا للصَّلَاة وَأَن تكون زِيَادَة التَّغْرِيب نسخا للحد لِأَنَّهُ لَا يجزىء وَحده فَالْكَلَام مترجح على مَا ترى وَأَنا أذكر طَريقَة بَيِّنَة يَزُول مَعهَا كل إِشْكَال فَأَقُول إِن الْكَلَام فِي الزِّيَادَة على النَّص يَقع فِي مَوَاضِع ثَلَاثَة فِي معنى النّسخ وَفِي اسْمه وَفِي حكمه وَلَا رَابِع لذَلِك أما معنى النّسخ فبأن يُقَال هَل الزِّيَادَة على النَّص تفِيد معنى النّسخ أم لَا وَالْجَوَاب أَنَّهَا تفيده لِأَن معنى النّسخ هُوَ الْإِزَالَة وكل زِيَادَة هِيَ مزيلة لحكم من الْأَحْكَام لِأَنَّهَا إِمَّا أَن تكون زِيَادَة فِي الْوُجُوب أَو فِي النّدب أَو فِي الْإِبَاحَة أَو فِي الْحَظْر فَإِن كَانَت زِيَادَة فِي الْوُجُوب فقد رفعت نفي وجوب تِلْكَ الزِّيَادَة وإزالته نَحْو زِيَادَة التَّغْرِيب فِي الْحَد لِأَنَّهُ لم يكن وَاجِبا ثمَّ صَار وَاجِبا وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الزِّيَادَة على النّدب وعَلى الْإِبَاحَة وعَلى الْحَظْر وَأما الْكَلَام فِي الِاسْم فبأن يُقَال هَل الزِّيَادَة على النَّص تسمى نسخا أم لَا وَالْجَوَاب أَن الزِّيَادَة الَّتِي كلامنا فِيهَا هِيَ زِيَادَة شَرْعِيَّة فان كَانَت قد ازالت حكما ثَابتا بِدَلِيل شَرْعِي وَكَانَت متراخية عَنهُ سميت الزِّيَادَة نسخا وَيُسمى الدَّلِيل الْمُثبت للزِّيَادَة نَاسِخا وَإِن كَانَ الحكم الَّذِي رفعته الزِّيَادَة حكما ثَابتا فِي الْعقل لَا فِي الشَّرْع لم تسم الزِّيَادَة نسخا على مَا تقدم بَيَانه وَأما الْكَلَام فِي الحكم فبأن يُقَال هَل يجوز إِثْبَات الزِّيَادَة على النَّص بِخَبَر وَاحِد وَقِيَاس أم لَا وَالْجَوَاب أَنه إِن كَانَ مَا أزالته الزِّيَادَة حكما ثَابتا بِالْعقلِ لَا بِالشَّرْعِ فانه يجوز إثْبَاته بِخَبَر وَاحِد وَقِيَاس إِلَّا أَن يمْنَع من ذَلِك مَانع نَحْو أَن يكون الْبلوى بِمَا أثبتته الزِّيَادَة عَاما فَلَا يقبل فِيهِ خبر وَاحِد على قَول بعض النَّاس أَو يكون حدا أَو كَفَّارَة أَو تَقْديرا فَلَا يثبت بِالْقِيَاسِ على قَول بَعضهم وَلَا يقبل عِنْد هَؤُلَاءِ خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس فِي ذَلِك لَا للنسخ لَكِن لأمور أخر وَإِن كَانَ الحكم الَّذِي أزالت الزِّيَادَة مثله ثَابتا بِالشَّرْعِ وَكَانَ دَلِيل الزِّيَادَة مُتَأَخِّرًا عَن ذَلِك الشَّرْع فَإِنَّهُ لَا يجوز إِن كَانَ دَلِيل الزِّيَادَة قِيَاسا لِأَن الْقيَاس الْمُتَأَخر لَا يرفع حكم النَّص على مَا مضى وَإِن كَانَ دَلِيل الزِّيَادَة خبر

وَاحِد وَكَانَ الحكم الَّذِي رفعته ثَابتا بِخَبَر وَاحِد أَيْضا جَازَ أَن يقبل فِي الزِّيَادَة وَإِن كَانَ ثَابتا بقرآن أَو بِخَبَر متواتر لم تجز إِزَالَته بِخَبَر وَاحِد متراخ لِأَن خبر الْوَاحِد لَا يزِيل الحكم الْمُتَوَاتر بعد اسْتِقْرَار مثله وَيجوز أَن يُزِيلهُ الْخَبَر الْمُتَوَاتر فَإِن أَجمعت الْأمة على قبُول خبر الْوَاحِد فِي ذَلِك علمنَا أَنه كَانَ مُقَارنًا وَأَنه مُخَصص وَعند هَذَا التَّفْصِيل تَزُول كل شُبْهَة وَأَنا أنسق عَلَيْهِ الْمسَائِل لتظهر فَائِدَته إِن شَاءَ الله أما زِيَادَة التَّغْرِيب أَو زِيَادَة عشْرين على جلد ثَمَانِينَ فَلَيْسَ بمزيل لوُجُوب الثَّمَانِينَ وَإِنَّمَا يزِيل نفي وجوب مَا زَاد على الثَّمَانِينَ من الْعشْرين والتغريب فَهُوَ من هَذِه الْجِهَة نسخ فِي الْمَعْنى وَلَا يُسمى نسخا لِأَن نفي وجوب مَا زَاد على الثَّمَانِينَ لم يكن مَعْلُوما بِدَلِيل شَرْعِي فَلم تكن إِزَالَته نسخا وَذَلِكَ أَن إِيجَاب الثَّمَانِينَ لم يتَعَرَّض لما زَاد عَلَيْهَا باثبات وَلَا نفي وَإِنَّمَا علمنَا نفي مَا زَاد عَلَيْهَا لِأَن الْعقل يَقْتَضِي نفي وُجُوبه وَلم ينقلنا عَنهُ دَلِيل شَرْعِي وَإِذا كَانَ ذَلِك حكما عقليا جَازَ قبُول خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس فِيهِ إِلَّا أَن يمْنَع مِنْهُ مَانع سوى النّسخ وَأما كَون الثَّمَانِينَ مجزئة وَحدهَا وَأَنَّهَا وَحدهَا كَمَال الْحَد وَتعلق رد الشَّهَادَة عَلَيْهَا وَحدهَا فَهُوَ تَابع لنفي وجوب الزِّيَادَة أَلا ترى أَنه لَو وَجب مَا زَاد عَلَيْهَا بِدَلِيل مُقَارن لم تكن الثَّمَانُونَ وَحدهَا مجزئة وَلَا تعلق بهَا وَحدهَا رد الشَّهَادَة وَلَا كَانَت كَمَال الْحَد فاذا كَانَ كَانَ ذَلِك تَابعا لنفي وجوب الزِّيَادَة وَكَانَ نفي وُجُوبهَا مَعْلُوما بِالْعقلِ جَازَ قبُول خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس فِي الزِّيَادَة وَفِيمَا يتبعهَا وَلَو أَن الله عز وَجل قَالَ الثَّمَانُونَ كَمَال الْحَد وَعَلَيْهَا وَحدهَا يتَعَلَّق رد الشَّهَادَة لما قبلنَا فِي الزِّيَادَة خبر وَاحِد وَلَا قِيَاسا لِأَن نفي وجوب الزِّيَادَة قد ثَبت بِدَلِيل شَرْعِي متواتر فَلَو كَانَ إِيجَابه الثَّمَانِينَ يَقْتَضِي بِدَلِيل الْخطاب نفي وجوب مَا زَاد عَلَيْهَا لَكَانَ أثبات الزِّيَادَة يُسمى نسخا

وَلما قبلنَا فِيهَا خبر وَاحِد وَلَا قِيَاسا متأخرين فَأَما تَقْيِيد الرَّقَبَة بِالْإِيمَان فَهُوَ فِي معنى التَّخْصِيص لِأَنَّهُ يخرج عتق الْكَافِرَة من الْخطاب فان كَانَ مَا اقْتضى هَذَا التَّقْيِيد خبر وَاحِد أَو قِيَاس وَكَانَ متراخيا لم يقبل لِأَن عُمُوم الْكتاب أجَاز عتق الْكَافِرَة فَتَأَخر حظر عتقهَا فِي الْكَفَّارَة هُوَ النّسخ بِعَيْنِه فَلم يقبل فِيهِ خبر وَاحِد وَلَا قِيَاس وَإِن كَانَ الْقيَاس أَو خبر الْوَاحِد مُقَارنًا فَهُوَ تَخْصِيص والتخصيص يَصح بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس فَأَما إِذا قطعت يَد السَّارِق وَإِحْدَى رجلَيْهِ ثمَّ سرق فَإِن إِبَاحَة قطع رجله الْأُخْرَى رفع حظر قطعهمَا وحظر قطعهَا إِنَّمَا يثبت يالعقل فَجَاز رَفعه بِخَبَر وَاحِد وَقِيَاس وَلم يسم نسخا فَأَما إِذا أمرنَا الله عز وَجل بِفعل أَو قَالَ هُوَ وَاجِب عَلَيْكُم ثمَّ خيرنا بَينه وَبَين فعل آخر فَإِن هَذَا التَّخْيِير يكون مزيلا لحظر ترك أوجبه علينا إِلَّا أَن حظر تَركه كَانَ مَعْلُوما بِالْبَقَاءِ على حكم الْعقل وَذَلِكَ لِأَن قَوْله أوجبت هَذَا الْفِعْل عَلَيْكُم يَقْتَضِي أَن للإخلال بِهِ تَأْثِيرا فِي اسْتِحْقَاق الذَّم وَهَذَا لَا يمْنَع من أَن يقوم مقَامه وَاجِب آخر وَإِنَّمَا علم أَن غَيره لَا يقوم مقَامه لِأَن الأَصْل أَنه غير وَاجِب وَلَو كَانَ وَاجِبا بِالشَّرْعِ لدل عَلَيْهِ دَلِيل شَرْعِي فَصَارَ علمنَا بِنَفْي وُجُوبه مَوْقُوفا على أَن يكون الأَصْل يَقْتَضِي نفي وُجُوبه مَعَ نفي دَلِيل شَرْعِي فالمثبت لوُجُوبه إِنَّمَا رفع حكما عقليا فَجَاز أَن نثبته بِقِيَاس أَو خبر وَاحِد مِثَال ذَلِك أَن يُوجب الله علينا غسل الرجلَيْن ثمَّ يخيرنا بَينه وَبَين الْمسْح على الْخُفَّيْنِ وَكَذَلِكَ إِذا خيرنا الله عز وَجل بَين شَيْئَيْنِ ثمَّ أثبت مَعَهُمَا ثَالِثا فَأَما إِذا قَالَ الله عز وَجل هَذَا الْفِعْل وَاجِب وَحده أَو قَالَ لَيْسَ يقوم غَيره مقَامه فَإِن إِثْبَات بدل لَهُ فِيمَا بعد رَافع لما علمنَا بِدَلِيل شَرْعِي لِأَن قَوْله هَذَا وَاجِب وَحده هُوَ صَرِيح فِي نفي وجوب غَيره فالمثبت لوُجُوب غَيره رَافع لحكم شَرْعِي فَلم يجز كَونه خبر وَاحِد وَلَا قِيَاسا فَأَما قَول الله عز وَجل {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ} فَهُوَ تَخْيِير بَين

استشهاد رجلَيْنِ أَو رجل وَامْرَأَتَيْنِ وَالْحكم بِالشَّهَادَةِ وَالْيَمِين زِيَادَة فِي التَّخْيِير وَقد بَينا أَن الزِّيَادَة فِي التَّخْيِير لَيْسَ بنسخ يمْنَع من قبُول خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس فِيهِ وَمن قَالَ إِن الحكم بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين نسخ لهَذِهِ الْآيَة يلْزمه أَن يكون الْوضُوء بالنبيذ نسخا لقَوْله عز وَجل {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} فَأَما إِذا كَانَت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ فَقَط فزيد فِيهَا رَكْعَة أُخْرَى قبل التَّشَهُّد فان ذَلِك يكون نَاسِخا لوُجُوب التَّشَهُّد عقيب الرَّكْعَتَيْنِ وَذَلِكَ حكم شَرْعِي مَعْلُوم بطريقة مَعْلُومَة فَلم يثبت بِخَبَر وَاحِد وَلَا قِيَاس وَلَيْسَ ذَلِك بنسخ للركعتين لِأَن النّسخ لَا يتَنَاوَل الْأَفْعَال وَلَا هُوَ نسخ لوجوبهما لِأَن وجوبهما ثَابت وَلَا نسخ لإجزائهما لِأَنَّهُمَا مجزئتان وَإِنَّمَا كَانَتَا مجزئتين من دون رَكْعَة أُخْرَى والآن لَا تجزءان إِلَّا مَعَ رَكْعَة أُخْرَى وَذَلِكَ تَابع لوُجُوب ضم رَكْعَة أُخْرَى وَوُجُوب رَكْعَة أُخْرَى لَيْسَ يرفع إِلَّا نفي وُجُوبهَا وَنفي وُجُوبهَا إِنَّمَا حصل بِالْعقلِ فَلم يمْتَنع من هَذِه الْجِهَة أَن يقبل فِي ذَلِك خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس فَأَما إِذا زيدت الرَّكْعَة بعد التَّشَهُّد وَقبل التَّحَلُّل فانه يكون نسخا لوُجُوب التَّحَلُّل بِالتَّسْلِيمِ أَو نَاسِخا لكَونه ندبا وَذَلِكَ حكم شَرْعِي مَعْلُوم فَلم يجز أَن يقبل فِيهِ خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس فَأَما كَونه نَاسِخا للركعتين أَو لوجوبهما أَو لإجزائهما فَالْقَوْل فِيهِ مَا ذَكرْنَاهُ الْآن فَأَما زِيَادَة غسل عُضْو فِي الطَّهَارَة فَلَيْسَ بنسخ لإجزائها وَلَا لوُجُوبهَا وَإِنَّمَا هُوَ رفع لنفي وجوب غسل ذَلِك الْعُضْو الْمَعْلُوم نفي وُجُوبه بِالْعقلِ وَكَذَلِكَ زِيَادَة شَرط آخر فِي الصَّلَاة لَا تَقْتَضِي نسخ وجوب الصَّلَاة فَأَما كَون الصَّلَاة غير مجزئة بعد زِيَادَة الشَّرْط فَهُوَ تَابع لوُجُوب ذَلِك الشَّرْط وإجزاؤها تَابع لنفي وُجُوبه وَنفي وُجُوبه لم يعلم بِالشَّرْعِ وَكَذَلِكَ مَا يتبعهُ فَجَاز قبُول خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس فِيهِ هَذَا إِن لم يكن قد علمنَا نفي وجوب هَذِه الْأَشْيَاء من دين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم باضطرار فَأَما إِن علمناه باضطرار فقد صَار ذَلِك مَعْلُوما بشرع مَقْطُوع بِهِ فَلم يجز رَفعه بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس فَأَما قَول الله عز وَجل {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} فانه يُفِيد كَون

أول اللَّيْل طرفا وَغَايَة للصيام كَمَا يفِيدهُ لَو قَالَ آخر الصّيام وغايته اللَّيْل لِأَن لَفظه إِلَى مَوْضُوعَة للغاية فايجاب صَوْم أول اللَّيْل يخرج أَوله من أَن يكون طرفا مَعَ أَن الْخطاب يفِيدهُ وَفِي ذَلِك كَونه نسخا حَقِيقَة لَا يقبل فِيهِ خبر وَاحِد وَلَا قِيَاس لِأَن نفي وجوب صَوْم أول اللَّيْل مَعْلُوم بِدَلِيل قَاطع فَأَما لَو قَالَ الله عز وَجل صلوا إِن كُنْتُم مطهرين فانه لَا يمْنَع أَن يقبل خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس فِي إِثْبَات شَرط آخر الصَّلَاة لِأَن إِثْبَات بدل للشّرط لَا يُخرجهُ من أَن يكون شرطا إِذْ لَا يمْتَنع أَن يكون للْحكم الْوَاحِد شَرْطَانِ وَلَيْسَ كَذَلِك إِثْبَات صَوْم جُزْء من اللَّيْل لِأَن ذَلِك يخرج أول اللَّيْل من أَن يكون غَايَة وَأما نفي كَون الشَّرْط الآخر شرطا فَلم نعلمهُ بِالسَّمْعِ وَإِنَّمَا علمناه بِالْعقلِ فَلم يكن رَفعه رفعا لحكم شَرْعِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي النُّقْصَان من شُرُوط الْعِبَادَة وأجزائها هَل هُوَ نسخ مَا عداهُ أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه لما كَانَ الْغَرَض بِهَذَا الْبَاب ذكر النُّقْصَان من شُرُوط الْعِبَادَة وأجزائها وَجب أَن نذْكر أَولا مَا شَرط الْعِبَادَة وَمَا جزؤها فَشرط الْعِبَادَة مَا يقف صِحَّتهَا عَلَيْهِ وَهُوَ ضَرْبَان احدهما جُزْء مِنْهَا وَالْآخر لَيْسَ بِجُزْء مِنْهَا فالجزء مِنْهَا هُوَ وَاحِد مِمَّا هُوَ مَفْهُوم من الْعِبَادَة كالركوع وَالسُّجُود وَمَا لَيْسَ بِجُزْء فَهُوَ مَا لم يكن وَاحِدًا مِمَّا هُوَ الْمَفْهُوم من الْعِبَادَة كَالْوضُوءِ مَعَ الصَّلَاة وَلَا خلاف فِي أَن النُّقْصَان من الْعِبَادَة هُوَ نسخ لما أسقط مِنْهَا وَاخْتلفُوا هَل هُوَ نسخ لغيره أم لَا فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن إِن نسخ شَرط من شُرُوط الْعِبَادَة أَو جُزْء من أَجْزَائِهَا لَيْسَ بنسخ الْعِبَادَة وَقَالَ إِن نسخ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس لَيْسَ بنسخ للصَّلَاة وَلَا نسخ صَوْم عَاشُورَاء نسخ للصَّوْم أصلا وَقَالَ عِنْد ذَلِك إِن مَا كَانَ من شُرُوط الصَّوْم وَمَا لم يكن من شُرُوطه لَا يلْحقهُ النّسخ فَلذَلِك لما جَازَ صَوْم عَاشُورَاء بنية غير مبيتة لم يكن ذَلِك مَنْسُوخا وَثَبت مثله فِي شهر رَمَضَان

وَعند قَاضِي الْقُضَاة أَن نسخ شَرط مُنْفَصِل من شَرَائِط الْعِبَادَة لَا يكون نسخا لِلْعِبَادَةِ فنسخ الْوضُوء لَا يكون نسخا للصَّلَاة وَنسخ جُزْء من أَجزَاء الصَّلَاة يكون نسخا للصَّلَاة وَقَالَ إِن نسخ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس هُوَ نسخ للصَّلَاة وَعِنْدنَا أَن نسخ الشَّرْط الْمُنْفَصِل كنسخ الة وضوء لَو كَانَ نسخا للصَّلَاة لم يخل إِمَّا أَن يكون نسخا لصورة الصَّلَاة وَهَذَا محَال لِأَن النّسخ يرفع الْأَحْكَام دون صُورَة الْأَفْعَال وَإِمَّا أَن يكون نسخا لحكم من احكام الصَّلَاة إِمَّا وُجُوبهَا أَو إجزائها وَكَونهَا عبَادَة أَو نفي إجزائها مَعَ فقد الْوضُوء وَمَعْلُوم أَن وجوب الصَّلَاة وَكَونهَا مجزئة وَعبادَة لَا يَزُول وَإِن زَالَ وجوب الْوضُوء وَأما نفي الْإِجْزَاء مَعَ فقد الطَّهَارَة فقد زَالَ وَذَلِكَ لِأَن الصَّلَاة مَا كَانَت تجزىء بِلَا طَهَارَة فَلَو نسخ وجوب الطَّهَارَة لَصَارَتْ تجزىء وارتفع نفي إجزائها وَذَلِكَ تَابع لسُقُوط وجوب الطَّهَارَة فان أَرَادَ الْإِنْسَان بقوله إِن نسخ الْوضُوء يَقْتَضِي نسخ الصَّلَاة هَذَا الْمَعْنى فَصَحِيح لَكِن الْكَلَام موهم لِأَن إِطْلَاق القَوْل بِأَن الصَّلَاة مَنْسُوخَة هُوَ أَنه قد خرجت عَن الْوُجُوب أَو عَن أَن تكون عبَادَة وَاحْتج قَاضِي الْقُضَاة لقَوْله إِن نسخ الشَّرْط الْمُنْفَصِل لَا يكون نسخا لِلْعِبَادَةِ بِأَن الشَّرْط تَابع للمشروط ونسخخه لَا يكون نسخا للمتبوع وَلِهَذَا لم يكن نسخ طَهَارَة بعض الْمِيَاه نسخه للصَّلَاة وَأما نسخ جُزْء من الْعِبَادَة كنسخ رَكْعَة من الصَّلَاة فَإِنَّهُ لَيْسَ بنسخ لباقي الرَّكْعَات لِأَن النّسخ لَا يتَنَاوَل صُورَة الْفِعْل وَلَا هُوَ نسخ لوُجُوب الرَّكْعَات وَلَا لكَونهَا شَرْعِيَّة مجزئة لِأَن ذَلِك بَاقٍ لم يرْتَفع لكنه رفع لوُجُوب تَأْخِير التَّشَهُّد وَرفع لنفي إجزائها من دون الرَّكْعَة لِأَن قبل النّسخ مَا كَانَ يجوز الصَّلَاة من دون هَذِه الرَّكْعَة وَإِن كَانَت الرَّكْعَة لما نسخت وأوجبت علينا أَن تخلى الصَّلَاة مِنْهَا كَانَ قد ارْتَفع إِجْزَاء الصَّلَاة إِذا فعلناها مَعَ الرَّكْعَة المنسوخة وإجزاء الصَّلَاة مَعَ الرَّكْعَة قد كَانَ حكما شَرْعِيًّا فَجَاز أَن يكون رَفعه نسخا فَأَما التَّوَجُّه نَحْو الْقبْلَة فِي الصَّلَاة فَهُوَ هَيْئَة من هيئاتها لِأَن الْوَاجِب مِنْهُ مَا قَارن التَّكْبِيرَة وَمَا بعْدهَا دون مَا قبلهَا فنسخه لَا يكون نسخا للصَّلَاة وصفاتها وشروطها لِأَن الصَّلَاة

وَاجِبَة فِي كل مَكَان على الْبَدَل على مَا كَانَت عَلَيْهِ وَإِنَّمَا حرم التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس فَصَارَ التَّوَجُّه مَنْسُوخا وإجزاء الصَّلَاة إِلَى بَيت الْمُقَدّس ووجوبها مرتفعا دون مَا سوى ذَلِك فَأَما نسخ صَوْم عَاشُورَاء فَهُوَ نسخ للصَّوْم لِأَنَّهُ لم يجب الصَّوْم إِلَّا فِي ذَلِك الْيَوْم نَفسه وَرفع وُجُوبه فِيهِ رفع لوُجُوبه على الْإِطْلَاق لِأَنَّهُ لم يبْق وَقت آخر كَانَ الصَّوْم وَاجِبا فِيهِ فَيبقى وُجُوبه فِيهِ وَيجْرِي مجْرى أَن يجب علينا صَلَاة فِي مَكَان مَخْصُوص ثمَّ يُقَال لنا لَا تصلوا فِيهِ فِي أَنه لَا يبْقى علينا صَلَاة وَاجِبَة وَكَذَلِكَ لَو قيل لنا لَا تصلوا فِي هَذَا الْيَوْم وصلوا فِي يَوْم آخر لكَانَتْ الصَّلَاة الأولى قد نسخت وَإِنَّمَا كوجه إِلَيْنَا إِيجَاب عبَادَة أُخْرَى بِأَمْر آخر فَكَذَلِك نسخ صَوْم عَاشُورَاء برمضان وَإِذا كَانَت جملَة الصَّوْم قد سَقَطت لم تبْق شُرُوطه وَلم يجب أَن تكون شُرُوط الصَّوْم الثَّانِي هِيَ شُرُوط الصَّوْم الْمَنْسُوخ لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع اخْتِلَاف الْعِبَادَات فِي الشُّرُوط واما قَول الشَّيْخ أبي الْحسن إِن النّسخ يتَنَاوَل الْوَقْت فَلَا يَصح ظَاهره لِأَن النّسخ يرفع أَحْكَام الْأَفْعَال دون الْأَوْقَات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الطَّرِيق إِلَى معرفَة كَون الحكم مَنْسُوخا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الطَّرِيق إِلَى ذَلِك شَيْئَانِ احدهما لفظ النّسخ وَالْآخر التأريخ مَعَ التَّنَافِي أما لفظ النّسخ فقد يتَنَاوَل الْمَنْسُوخ وَقد يتَنَاوَل النَّاسِخ أما الأول فنحو أَن يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه الْعِبَادَة مَنْسُوخَة وَأما الثَّانِي فَكَمَا قيل إِن صَوْم شهر رَمَضَان نسخ صَوْم عَاشُورَاء وَأما التَّارِيخ مَعَ التَّنَافِي فَهُوَ أَن يتنافى الحكمان بَان يكون أَحدهمَا نفيا للْآخر أَو بِأَن يتضادا مِثَال التَّنَافِي قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كنت قد نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور أَلا فزوروها وَنَحْو قَوْله لَا وَصِيَّة لوَارث وَقَول الله عز وَجل {الْآن خفف الله عَنْكُم وَعلم أَن فِيكُم ضعفا}

الْآيَة فَأَما قَوْله تَعَالَى {أَأَشْفَقْتُم أَن تقدمُوا بَين يَدي نَجوَاكُمْ صدقَات فَإذْ لم تَفعلُوا وَتَابَ الله عَلَيْكُم فأقيموا الصَّلَاة} فَلَا يدل على نسخ تَقْدِيم الصَّدَقَة على مُنَاجَاة الرَّسُول لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّوْبَة علينا وَلَا فِي الْأَمر بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة مَا يمْنَع من ذَلِك وَإِنَّمَا يعلم النّسخ من قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما الحكمان الضدان فنحو أَن يُوجب الله سُبْحَانَهُ علينا الصَّلَاة فِي أَوْقَات مَخْصُوصَة فِي مَكَان مَخْصُوص ثمَّ يُوجب علينا فِي بعض تِلْكَ الْأَوْقَات صَلَاة فِي مَكَان آخر فَيكون أَحدهمَا نَاسِخا للْآخر وَالْأَحْكَام المتنافية إِمَّا أَن ترجع إِلَى مُكَلّف وَاحِد أَو إِلَى جمَاعَة والراجعة إِلَى جمَاعَة إِنَّمَا أَن ترجع إِلَيْهَا بِأَلْفَاظ الْعُمُوم وَإِنَّمَا يتم ذَلِك بالعمومين إِذا تَعَارضا وَعلم التأريخ فيهمَا فنعلم أَيهمَا هُوَ النَّاسِخ وَأيهمَا هُوَ الْمَنْسُوخ فَيجب بَيَان كلا الْأَمريْنِ أما التأريخ فقد يعلم بقول ينبىء بِنَفسِهِ عَن التَّقَدُّم وَقد يعلم باسناد أَحدهمَا إِلَى شَيْء مُتَقَدم وَهَذَا الثَّانِي ضروب مِنْهَا أَن يسند أَحدهمَا إِلَى زمَان مُتَقَدم فَيُقَال كَانَ فِي السّنة الْفُلَانِيَّة وَالْآخر فِي السّنة الْفُلَانِيَّة وَمِنْهَا أَن يسند كل وَاحِد من الْحَدِيثين إِلَى غزَاة سوى فِي الْغُزَاة الْأُخْرَى وَيعلم تقدم أَحدهمَا على الْأُخْرَى وَمِنْهَا أَن يسند أَحدهمَا إِلَى فعل مُتَقَدم وَمِنْهَا أَن يرْوى أَحدهمَا رجل تقدّمت رُؤْيَته للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على رُؤْيَة رَاوِي الْخَبَر الآخر وانقطعت رُؤْيَته للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما رَوَاهُ الْخَبَر الآخر فَأَما إِذا كَانَت رُؤْيَته قد دَامَت إِلَى رُؤْيَة الرَّاوِي الآخر فَلَيْسَ يجب أَن تكون رِوَايَته مُتَقَدّمَة وَذكر قَاضِي القاضة أَن أحد الْخَبَرَيْنِ إِذا وَافق حكم الْعقل علمنَا أَنه الْمُتَقَدّم وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون ابْتِدَاء الشَّرِيعَة جَاءَت بِخِلَاف مَا فِي الأَصْل ثمَّ نسخ ذَلِك بِمَا يَقْتَضِيهِ الْعقل

وَأما الَّذِي يعلم بِهِ تقدم أَحدهمَا لفظا فضربان أَحدهمَا أَن يصدر من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لفظ يدل على ذَلِك كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور أَلا فزوروها وَالْآخر أَن يصدر ذَلِك من الصَّحَابِيّ وَذَلِكَ ضروب مِنْهَا أَن يَقُول الصَّحَابِيّ كَانَ هَذَا الْخَبَر مُتَقَدما على هَذَا الْخَبَر وَفِي السّنة الْفُلَانِيَّة وَلَا شُبْهَة فِي قبُول ذَلِك إِذا كَانَ الْمَنْسُوخ غير مَنْقُول بالتواتر فان كَانَ مَنْقُولًا بالتواتر قبل ايضا عِنْد قَاضِي الْقُضَاة وَإِن كَانَ خبر الْوَاحِد لَا ينْسَخ بِهِ حكم متواتر كَمَا أَن شَهَادَة الشَّاهِدين لَا يثبت بهَا الزِّنَا وَالْحَد وَيثبت الْإِحْصَان بِشَهَادَتِهِمَا وَإِن كَانَ الْحَد يتَعَلَّق بالإحصان فَلَا يمْتَنع أَن لَا يتَعَلَّق الحكم بالشَّيْء وَيتَعَلَّق بِسَبَب من أَسبَابه وَلقَائِل أَن يَقُول لَيْسَ كل شَيْء لم يمْتَنع فَهُوَ ثَابت لَا محَالة بل يحْتَاج ثُبُوته إِلَى دَلِيل زَائِد على كَونه غير مُمْتَنع فَأَما إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ كَانَ هَذَا الحكم ثمَّ نسخ نَحْو مَا رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ فِي التَّشَهُّد التَّحِيَّات الزاكيات كَانَ ذَلِك مرّة ثمَّ نسخ وَيجوز أَن يَقُول هَذَا نسخ هَذَا كَقَوْلِهِم إِن خبر المَاء نسخ بالتقاء الختانين فانه يجوز أَن يكون قَالَ ذَلِك اجْتِهَادًا فَلَا يلْزمنَا وَحكى الشَّيْخ أَبُو عبد الله عَن الشَّيْخ أبي الْحسن أَن الرَّاوِي إِذا عين النَّاسِخ فَقَالَ هَذَا نسخ هَذَا جَازَ أَن يكون قَالَه اجْتِهَادًا فَلَا يجب الرُّجُوع إِلَيْهِ وَإِن لم يعين النَّاسِخ بل قَالَ هَذَا مَنْسُوخ قبل ذَلِك نَحْو قَول عبد الله فِي التَّشَهُّد كَانَ ذَلِك مرّة ثمَّ نسخ قَالَ لِأَنَّهُ لَوْلَا ظُهُور ذَلِك مَا أطلق النّسخ إطلاقا وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّه يجوز أَن يظْهر ذَلِك عِنْده من جِهَة الِاسْتِدْلَال فَلذَلِك أطلقهُ اطلاقا وَيلْزمهُ أَن يرجع إِلَى قَوْله وَإِن عين النَّاسِخ لِأَنَّهُ لَوْلَا ظُهُور كَون الْخَبَر نَاسِخا مَا أطلق ذَلِك إطلاقا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي العمومين إِذا تَعَارضا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن العمومين إِذا تَعَارضا لم يخل إِمَّا أَن يتعارضا من كل وَجه أَو من

وَجه دون وَجه فان تَعَارضا من كل وَجه فمثاله أَن يكون أَحدهمَا بِنَفْي الحكم عَن كل مَا يثبت الآخر الحكم فِيهِ على ذَلِك الْحَد فِي ذَلِك الْوَقْت أَو يثبت أَحدهمَا ضد مَا يُثبتهُ الآخر من الحكم وَلَا يَخْلُو العمومان المتعارضان من كل وَجه إِمَّا أَن يَكُونَا معلومين أَو مظنونين أَو يكون أَحدهمَا مَعْلُوما وَالْآخر مظنونا فان كَانَا معلومين لم يخل إِمَّا أَن يعلم تقدم أَحدهمَا على الآخر أَو يعلم اقتران أَحدهمَا بِالْآخرِ أَو لَا يعلم شَيْء من ذَلِك فان علم تقدم أَحدهمَا الآخر نسخ الْمُتَأَخر الْمُتَقَدّم وَإِن لم يعلم تقدم أَحدهمَا على الآخر وَلَا أَنَّهُمَا وردا مَعًا فَالْوَجْه أَن يرجع إِلَى غَيرهمَا لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا هُوَ الْمُتَأَخر فَيكون نَاسِخا وَإِن علم أَنَّهُمَا وردا مَعًا وَأمكن التَّعَبُّد بالتخيير فيهمَا كَانَ التَّعَبُّد فيهمَا بالتخيير فَيكون الْمُكَلف مُخَيّرا بَين الْعَمَل وَبِهَذَا الْخَبَر أَو بِهَذَا كالتخيير بَين الْكَفَّارَات لِأَنَّهُ إِذا تعذر الْجمع لم يبْق إِلَّا التَّخْيِير وَسَيَجِيءُ القَوْل فِي جَوَاز التَّعَبُّد بالتخيير عِنْد تعَارض الْأَدِلَّة والأمارات وَلَا يجوز أَن يرجح أَحدهمَا على الآخر بِمَا يرجع إِسْنَاده أَو طَرِيق الْعلم كَشَهَادَة الْأمة لَهُ بِالصِّحَّةِ وَلَا بِمَا يرجع مَا تضمنه أَحدهمَا من كَونه مَحْظُورًا أَو حكما شَرْعِيًّا إِلَى غير ذَلِك لِأَن التَّرْجِيح بِكَثْرَة الروَاة وَغَيرهَا مِمَّا ذَكرْنَاهُ يُؤثر فِي قُوَّة الظَّن فاذا كَانَ كل وَاحِد من الْخَبَرَيْنِ مَعْلُوما غير مظنون لم يكن هُنَاكَ ظن يقويه التَّرْجِيح فان قيل هلا قُلْتُمْ إِن الْمَسْأَلَة من مسَائِل الِاجْتِهَاد عِنْد تعَارض العمومين المعلومين ثمَّ رجحتم الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا لأمر يرجع إِلَى كَون مَا تضمنه مَحْظُورًا أَو حكما شَرْعِيًّا قيل إِنَّا إِن فعلنَا ذَلِك كُنَّا قد أسقطنا الْخَبَر الآخر مَعَ مُسَاوَاة الآخر لَهُ فِي وُقُوع الْعلم بِصِحَّتِهِ وَلَوْلَا مَا ذكرنَا لم يثبت النّسخ بَين كثير من الْأَلْفَاظ لِأَن كل لفظين تضمنا حكمين متنافيين فانه يُمكن أَن يرجح أَحدهمَا على الآخر فِي أَكثر الْأَمر وَإِن تَأَخّر أَحدهمَا عَن صَاحبه فاما إِذا كَانَ أَحدهمَا مَعْلُوما وَالْآخر مظنونا فانه إِمَّا أَن ينْقل تقدم أَحدهمَا على صَاحبه أَو

لَا ينْقل ذَلِك فان نقل ذَلِك وَكَانَ الْمَعْلُوم مِنْهُمَا هُوَ الْمُتَأَخر كَانَ نَاسِخا للْآخر وَإِن كَانَ المظنون مِنْهُمَا هُوَ الْمُتَأَخر لم ينْسَخ الْمَعْلُوم وَوَجَب الْعَمَل بالمعلوم مِنْهُمَا وَإِن لم ينْقل تقدم أَحدهمَا على صَاحبه وَجب الْعَمَل بالمعلوم مِنْهُمَا لإنه إِن كَانَ الْمَعْلُوم هُوَ الْمُتَقَدّم للمظنون لم يجز أَن ينسخه المظنون وَإِن كَانَ الْمَعْلُوم مُتَأَخِّرًا عَن المظنون فالمعلوم هُوَ النَّاسِخ فَفِي كلا الْحَالين يجب الْعَمَل بالمعلوم فان قيل فجوزوا أَن يَكُونَا وردا مَعًا فَيكون التَّعَبُّد فيهمَا التَّخْيِير قيل هَذَا إِن جوزناه فانه لَا يمْنَع من الرُّجُوع إِلَى الْمَعْلُوم وَحده لأَنا نرجحه بِكَوْنِهِ مَعْلُوما وَأما إِن كَانَا مظنونين فَإِنَّهُ إِن نقل تقدم أَحدهمَا فَالْأول مِنْهُمَا مَنْسُوخ بِالثَّانِي وَإِن نقل أَنَّهُمَا وردا مَعًا رجح بَينهمَا وَعمل على الْأَقْوَى مِنْهُمَا فَإِن تَسَاويا فالتعبد فيهمَا بالتخيير وَكَذَلِكَ إِن لم ينْقل تقدم أَحدهمَا على الآخر وَلَا مقارنته لَهُ أَنه يرجح بَينهمَا وَيعْمل على الْأَقْوَى مِنْهُمَا أَو يكون الْإِنْسَان مُخَيّرا إِن تَسَاويا عِنْد الْمُجْتَهد فَأَما إِذا كَانَ كل وَاحِد من العمومين عَاما من وَجه خَاصّا من وَجه فنحو قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا وَنَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الصَّلَاة عِنْد قيام الظهيرة وَبعد صَلَاة الْعَصْر وَعند طُلُوع الشَّمْس لِأَن الْخَبَر الأول عَام فِي الْأَوْقَات خَاص فِي الْقَضَاء وَالْخَبَر الثَّانِي خَاص فِي الْأَوْقَات عَام فِي الْقُضَاة وَفِي غَيره من الصَّلَوَات الَّتِي لَا أَسبَاب لَهَا وكل وَاحِد مِنْهُمَا عَام فِيمَا الآخر خَاص فِيهِ وَلَيْسَ يَخْلُو مثل هذَيْن العمومين إِمَّا أَن يعلم تقدم أَحدهمَا على الآخر أَو لَا يعلم ذَلِك فَإِن لم يعلم ذَلِك لم يخل إِمَّا أَن يَكُونَا معلومين أَو مظنونين أَو أَحدهمَا مَعْلُوما وَالْآخر مظنونا فان كَانَا معلومين لم يجز تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر بِقُوَّة الْإِسْنَاد وَيجوز تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر بذلك إِن كَانَا مظنونين وَإِن كَانَ أَحدهمَا مَعْلُوما وَالْآخر مظنونا جَازَ تَرْجِيح الْمَعْلُوم مِنْهُمَا عِنْد التَّعَارُض بِكَوْنِهِ مَعْلُوما فَأَما التَّرْجِيح بِمَا تضمنه أَحدهمَا من كَونه مَحْظُورًا أَو حكما شَرْعِيًّا فانه يجوز ذَلِك سَوَاء كَانَا معلومين أَو مظنونين أَو أَحدهمَا مَعْلُوما وَالْآخر مظنونا لِأَن الحكم بِأَحَدِهِمَا طَريقَة الِاجْتِهَاد وَلَيْسَ فِي

تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر إطراح الآخر وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا تَعَارضا من كل وَجه فَإِن لم يتَرَجَّح أَحدهمَا على الآخر فالتعبد فيهمَا بالتخيير وَقد رجح بَعضهم التَّعَلُّق بقول الله تَعَالَى {وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قد سلف} على التَّعَلُّق بقوله عز وَجل {أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم} من حَيْثُ كَانَ قَوْله وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ أخص بِموضع الْخلاف وَهُوَ الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ وَلقَائِل أَن يَقُول إِن مَوضِع الْخلاف هُوَ الْجمع بَين أُخْتَيْنِ مملوكتين فان كَانَت الْآيَة الأولى أخص بِالْخِلَافِ لِأَن فِيهَا ذكر الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ فَيجب أَن تكون الْآيَة الثَّانِيَة أخص بِالْخِلَافِ لِأَن فِيهَا ذكر المماليك وَيُمكن أَن يُجَاب عَن ذَلِك فَيُقَال إِن الْآيَة الأولى فِيهَا ذكر مَسْأَلَة الْخلاف أَكثر مِمَّا فِي الْآيَة الثَّانِيَة لِأَن فِيهَا ذكر الْجمع وَذكر الْأُخْتَيْنِ وَفِي الْآيَة الثَّانِيَة ذكر المملوكات فَقَط فَلهَذَا كَانَت الأولى أخص بِموضع الْخلاف وَأَشد تعلقا بِهِ فَأَما إِن علم تقدم أَحدهمَا على صَاحبه وَكَانَا معلومين أَو مظنونين أَو كَانَ الْمُتَقَدّم مِنْهُمَا مظنونا وَالْآخر مَعْلُوما فان الْمُتَأَخر مِنْهُمَا يجب أَن ينْسَخ الْمُتَقَدّم على قَول من قَالَ إِن الْعَام ينْسَخ الْخَاص الْمُتَقَدّم وَهَكَذَا يَجِيء على قَوْلهم لِأَنَّهُ إِذا كَانَ عِنْدهم أَن الْعَام الْمُتَأَخر ينْسَخ الْخَاص الْمُتَقَدّم مَا لم يثبت كَونه أَعم من اللَّفْظ الْمُتَقَدّم أولى بِأَن يكون نَاسِخا وَإِن كَانَ الْمُتَقَدّم مَعْلُوما والمتأخر مظنونا لم يجز عِنْدهم أَن ينْسَخ الثَّانِي الأول وَوَجَب الرُّجُوع فيهمَا إِلَى التَّرْجِيح لِأَن المظنون لَا ينْسَخ الْمَعْلُوم وَإِذا لم يجز أَن يكون الثَّانِي مِنْهُمَا نَاسِخا وَأمكن اسْتِعْمَاله مَعَ التَّرْجِيح وَجب الرُّجُوع إِلَى التَّرْجِيح فَأَما من يَقُول إِن الْعَام الْمُتَأَخر يبْنى على الْخَاص الْمُتَأَخر وَأَن الْخَاص الْمُتَأَخر يخرج بعض مَا دخل تَحت الْعَام الْمُتَقَدّم فَالَّذِي يَجِيء على مذْهبه أَن لَا يفرق بَين أَن يَكُونَا معلومين أَو

مظنونين أَو أَحدهمَا مَعْلُوما وَالْآخر مظنونا فِي اسْتِعْمَال التَّرْجِيح وَترك النّسخ بِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ يتَخَلَّص كَون الْمُتَأَخر أخص من الْمُتَقَدّم فَيخرج من الْمُتَقَدّم مَا دخل تَحت الْمُتَأَخر وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق

الجزء 2

الْكَلَام فِي الْإِجْمَاع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي فُصُول الْإِجْمَاع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْغَرَض بذلك هُوَ القَوْل فِي أَن الْإِجْمَاع حجَّة وَلما كَانَ الْإِجْمَاع هُوَ اتِّفَاق من جمَاعَة على أَمر من الْأُمُور إِمَّا فعل أَو ترك وَجَاز أَن يلْحق اتِّفَاقهم اشْتِبَاه فَيخرج مِنْهُ مَا هُوَ مِنْهُ وَيجْعَل مِنْهُ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَجَاز أَن يكون الِاتِّفَاق حجَّة بِشَرْط وَجَاز أَن يُعَارض قَوْلهم حجَّة أُخْرَى وَوَجَب أَن يكون لَهُم طَرِيق إِلَى مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ أَو يكون لنا طَرِيق إِلَى مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ وَجب أَن نتكلم فِي كل ذَلِك فندل على أَن الْإِجْمَاع حجَّة ثمَّ فِي الِاتِّفَاق بِمَاذَا يَقع هَل هَذَا بالْقَوْل أَو بِالْفِعْلِ أَو بِالرِّضَا والاعتقاد ثمَّ نتكلم فِي المتفقين فنبين من يعْتَبر قَوْله فِي الْإِجْمَاع وَمن لَا يعْتَبر فِيهِ وَيدخل فِي كلا الْقسمَيْنِ أَبْوَاب وَهِي أَنه لَا يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع بِكُل من بعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا بِجَمِيعِ الْمُكَلّفين إِلَى حد التَّكْلِيف وَلَا بالعامة فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد وَيعْتَبر بِأَهْل الْأَعْصَار والامصار وبالمجتهد وَإِن لم يشْتَهر بالفتوى وبالتابعي الْحَدث المعاصر للصحابة وبالواحد من أهل الْعَصْر فَلَا ينْعَقد الْإِجْمَاع دونه ثمَّ نتكلم فِيمَا يتفقون عَلَيْهِ فنبين مَا الَّذِي يكون اتِّفَاقهم فِيهِ حجَّة وَمَا الَّذِي لَا يكون اتِّفَاقهم فِيهِ حجَّة ويشتمل ذَلِك على أَبْوَاب وَهِي أَنه لَا يكون إِجْمَاعهم حجَّة فِيمَا لَا يعلم صِحَة الِاجْتِمَاع إِلَّا بعد الْعلم بِصِحَّتِهِ فَيكون حجَّة فِي إِزَالَة الْخلاف الْمُتَقَدّم وَهل يكون حجَّة فِي أُمُور الدُّنْيَا وَهل يكون حجَّة وَإِن كَانَ سَبَب اجْتِمَاعهم اجْتِهَاد آرائهم فاذا عرفنَا

بِهَذِهِ الْفُصُول الِاتِّفَاق والمتفقين وَمَا يكون الِاتِّفَاق حجَّة فِيهِ تكلمنا فِي شَرط كَونه حجَّة ثمَّ نتكلم فِيمَا أخرج من الْإِجْمَاع وَفِيمَا ألحق بِهِ وَيدخل فِي ذَلِك فُصُول وَهِي هَل اخْتِلَاف الْأمة فِي الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ هُوَ اتِّفَاق على الْمَنْع مِمَّا عداهما وَهل اتِّفَاقهم على الِاسْتِدْلَال بِدَلِيل أَو اعتلال بتعليل أَو تَأْوِيل هُوَ اتِّفَاق على الْمَنْع مِمَّا عدا ذَلِك وَهل اتِّفَاقهم على أَن لَا فرق بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ اتِّفَاق على الْمَنْع بَينهمَا وَهل اخْتلَافهمْ فِي الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ هُوَ اتِّفَاق على جَوَاز الْأَخْذ بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا على كل حَال أم لَا وَبعد ذَلِك نتكلم فِيمَا يُعَارض الْإِجْمَاع ثمَّ فِي طَرِيق المجتمعين إِلَى مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ ويشتمل ذَلِك على أَنه لَا بُد من أَن يتفقوا على طَرِيق وَهل ذَلِك الطَّرِيق الِاجْتِهَاد أم لَا وَكَيف الْحَال فيهم إِذا اتَّفقُوا على مُوجب خبر الْوَاحِد ثمَّ نتكلم فِي طريقنا إِلَى اتِّفَاقهم وَيدخل فِي ذَلِك انْقِرَاض أهل الْعَصْر هَل هُوَ طَرِيق إِلَى اتِّفَاقهم وَهل عدم الْمُخَالف لِلْقَوْلِ الَّذِي لم ينتشر طَرِيق إِلَى الِاتِّفَاق عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الدّلَالَة على أَن الْإِجْمَاع حجَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن إِجْمَاع أهل كل عصر من الْأمة صَوَاب وَحجَّة وَقَالَ النظام لَيْسَ ذَلِك حجَّة وَقَالَت الإمامية ذَلِك صَوَاب لِأَن الإِمَام دَاخل فيهم وَهُوَ الْحجَّة فَقَط وَدَلِيلنَا قَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} وَالْوسط من كل شَيْء خِيَاره والحكيم لَا يخبر بخيرية قوم ليشهدوا وَهُوَ عَالم بِأَنَّهُم كلهم يقدمُونَ على كَبِيرَة فِي تِلْكَ الْحَال فِيمَا يشْهدُونَ بِهِ بل لَا يجوز ذَلِك إِذا علم أَنهم يقدمُونَ فِيمَا يشْهدُونَ بِهِ على قَبِيح صَغِير أَو كَبِير فصح أَن مَا شهدُوا بِهِ أَنه من الدّين فَهُوَ صَوَاب

إِن قيل المُرَاد بذلك أَن يشْهدُوا بذلك فِي الْآخِرَة على الامم السالفة أَن أنبياءهم بلغت إِلَيْهِم الرسَالَة وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَونهم دولا فِي حَال مَا يشْهدُونَ دون حَال الدُّنْيَا وَالْجَوَاب أَنه لَو كَانَ هَذَا هُوَ المُرَاد لقَالَ سنجعلكم أمة وسطا وَأَيْضًا فانهم إِن شهدُوا بتبليغ الرُّسُل إِلَى الامم قبلهم والامم قد شاهدت ذَلِك فعلمهم بذلك أقوى من علم هَذِه الْأمة فَلم يجز أَن يستشهد الْأَنْبِيَاء بِمن علمه أَضْعَف وَأَيْضًا فَجَمِيع الامم عدُول فِي الْآخِرَة على معنى أَنهم لَا يَفْعَلُونَ الْقَبِيح فَلَا معنى لتخصيص هَذِه الْأمة بِالْعَدَالَةِ لَو كَانَ المُرَاد بِهِ الْآخِرَة إِن قيل قَوْله {ليشهدوا} لَيْسَ فِيهِ لفظ عُمُوم فَيَقْضِي أَن يشْهدُوا بِجَمِيعِ أَنْوَاع الشَّهَادَات فَمَا يؤمنكم أَن يكون المُرَاد بذلك ليشهدوا على من بعدهمْ بِإِيجَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعِبَادَات عَلَيْهِم قيل لَو كَانَ المُرَاد ذَلِك لم يُؤثر فِيمَا ذَكرْنَاهُ من أَن وَصفهم بِالْعَدَالَةِ يمْنَع من كَونهم مقدمين على كَبِيرَة وعَلى أَنه إِن أُرِيد بذلك إخبارهم من جِهَة التَّوَاتُر فَلَا معنى لجعلهم عُدُولًا لهَذَا الْغَرَض لِأَن بِخَبَر مثلهم يَقع الْعلم إِذا نقلوا بأجمعهم وَإِن لم يَكُونُوا عُدُولًا وَإِن أُرِيد بذلك أَنه جعلهم عُدُولًا ليخبرونا بالآحاد فَذَلِك غير مَوْجُود فِي كل وَاحِد مِنْهُم لِأَنَّهُ لَيْسَ كل وَاحِد من الْأمة عدلا إِذا انْفَرد فان قيل المُرَاد أَن أَكْثَرهم عدل قيل الظَّاهِر من قَوْله جَعَلْنَاكُمْ من وَجه بِالْخِطَابِ إِلَيْهِم وهم أهل الْعَصْر فَيجب أَن يَكُونُوا بأجمعهم عُدُولًا فِي تِلْكَ الْحَال وَفِي الشَّيْء الَّذِي أَجمعُوا عَلَيْهِ ودانوا بِهِ وَلَو ثَبت أَن أَكْثَرهم لَا يواقعون كَبِيرَة صَحَّ أَن الْإِجْمَاع حجَّة لِأَنَّهُ إِن كَانَ كثير من الْأمة لَا يواقعون كَبِيرَة أصلا فقد تحققنا أَنه إِذا اتّفقت الامة كلهَا أَن مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ لَيْسَ بكبير لدُخُول أُولَئِكَ فِي الْجُمْلَة إِن قيل المُرَاد بذلك أَنه جعل أَكْثَرهم عُدُولًا فِي الظَّاهِر لَا فِي الْحَقِيقَة

ليشهدوا من جِهَة الْخَبَر قيل الظَّاهِر من قَوْله {جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} أَنهم كَذَلِك على الْحَقِيقَة لِأَن الْخَبَر يَقْتَضِي كَون الْمخبر على مَا تنَاوله كَمَا لَو أخبر أَنه جعلهم بيضًا أَو سُودًا فان قيل إِن كَانَ المُرَاد بالأمة جَمِيع من صدق بِالنَّبِيِّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لم يثبت مَعَ ذَلِك كَون الْإِجْمَاع حجَّة فان أُرِيد من كَانَ مَوْجُودا حِين نزلت الْآيَة لم يَصح أَن يتعلقوا بِالْإِجْمَاع فِي شَيْء إِلَّا أَن يعلمُوا أَن جَمِيع من كَانَ حَاضرا حِين نزلت الْآيَة قَالَ بذلك القَوْل قيل أما الْقسم الأول فَلَا يَصح لِأَن جَمِيع من صدق بِالنَّبِيِّ إِلَى قيام السَّاعَة لَا يجوز أَن يشْهدُوا بِلُزُوم الْعِبَادَات على غَيرهم لِأَنَّهُ لَيْسَ غَيرهم مُكَلّف بعد تِلْكَ الْحَال وَلَا يجوز الْقسم الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا سَبِيل لنا إِلَى الْعلم بِهِ وَقد أَمرهم الله تَعَالَى أَن يشْهدُوا وَذَلِكَ يَقْتَضِي وجوب الْقبُول علينا وَلَا يجوز أَن يقف وجوب قبولنا مِنْهُم على مَا لَا سَبِيل لنا إِلَى الْعلم بِهِ وَأَيْضًا فان الشَّهَادَة علينا إِنَّمَا تكون بعد حدوثنا وَمَوْت النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَهَذَا يَقْتَضِي أَن يكون المُرَاد بالأمة عصر الصَّحَابَة بعد وَفَاة النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام دَلِيل آخر قَوْله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر} يدل على أَنهم ينهون عَن كل مُنكر لِأَن لَام الْجِنْس يسْتَغْرق الْجِنْس فَلَو أَجمعُوا على مَذْهَب مُنكر لما نهوا عَنهُ بل كَانُوا أمروا بِهِ إِن قيل قَوْله {كُنْتُم خير أمة} يَقْتَضِي تقدم كَونهم خير أمة وَلَيْسَ فِي الْآيَة دَلِيل على أَنهم يستديمون هَذِه الْحَال وَالْجَوَاب أَنه قد قيل إِنَّه يحْتَمل أَن يكون كَانَ هَا هُنَا هِيَ الزمانية وَيحْتَمل أَن تكون زَائِدَة وَإِن أَفَادَ لَفظهَا نصب قَوْله {كُنْتُم خير أمة} كَقَوْلِه تَعَالَى {كَيفَ نُكَلِّم من كَانَ فِي المهد صَبيا} وَيحْتَمل أَن تكون كَانَ هَا هُنَا تَامَّة بِمَعْنى وجدْتُم وَيكون

قَوْله خير أمة نصب على الْحَال وَأي هَذِه الْوُجُوه ثَبت لم يضرنا لِأَن قَوْله {خير أمة} إِن أَفَادَ تقدم كَونهم كَذَلِك فَقَوله {تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر} يَقْتَضِي كَونهم كَذَلِك فِي كل حَال وَمَا ينهون عَن كل مُنكر لأَنهم لَو كَانُوا ينهون عَن بعض الْمُنْكَرَات ويأمرون بِبَعْض وَينْهَوْنَ عَن ذَلِك فِي بعض حالاتهم دون بعض لما كَانُوا خير أمة أخرجت للنَّاس لِأَن الامم السالفة قد نهوا عَن كثير من الْمُنكر وَأمرُوا بِكَثِير من الْمَعْرُوف فِي بعض الْحَالَات دون بعض أَلا ترى أَنهم أمروا بِالتَّوْحِيدِ ونهوا عَن الْإِلْحَاد وَأمرُوا بنبوة أَنْبِيَائهمْ ونهوا عَن تكذيبهم فَوَجَبَ حمل الْآيَة على الْعُمُوم فِي جَمِيع الْحَالَات فَأَما الْوَجْهَانِ الْآخرَانِ فَالْأَمْر فِي صِحَة الِاسْتِدْلَال مَعَهُمَا ظَاهر دَلِيل قَوْله تَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا} فَجمع بَين مشاقة الرَّسُول وَاتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ فِي الْوَعيد فَلَو كَانَ اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ مُبَاحا لما جمع بَينه وَبَين الْمَحْظُور فِي الْوَعيد أَلا ترى أَنه لَا يجوز أَن يَقُول الْحَكِيم لعَبْدِهِ إِن زَنَيْت وشربت المَاء عاقبتك وَإِذا قبح اتِّبَاع غير سبيلهم وَجب تجنبه وَلم يُمكن تجنبه إِلَّا بِاتِّبَاع سبيلهم لِأَنَّهُ لَا وَاسِط بَين اتِّبَاع سبيلهم وَاتِّبَاع غير سبيلهم إِن قيل إِنَّمَا جمع الله بَين مشاقة الرَّسُول وَبَين اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ فِي الْوَعيد لِأَن اتِّبَاع غير سبيلهم قَبِيح بِشَرْط مشاقة الرَّسُول وَغير قَبِيح إِذا لم يُوجد مشاقة الرَّسُول قيل لَهُ هَذَا يَقْتَضِي أَن يكون من شاق الرَّسُول يجب عَلَيْهِ اتِّبَاع سَبِيل الْمُؤمنِينَ مَعَ مشاقته للرسول ومشاقة الرَّسُول لَيست مَعْصِيّة فَقَط وَإِنَّمَا هِيَ مَعْصِيّة على سَبِيل الرَّد عَلَيْهِ والمعاندة لَهُ لِأَن من صدق بِالنَّبِيِّ وَفعل بعض الْمعاصِي لَا يُقَال إِنَّه مشاق للرسول وَمن كذب بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورد عَلَيْهِ

لَا يَصح أَن يعلم صِحَة الْإِجْمَاع لِأَنَّهُ إِنَّمَا يعلم صِحَّته بِالسَّمْعِ وَمن لَا يَصح أَن يعلم صِحَة الْإِجْمَاع لَا يَصح أَن يُؤمر باتباعه فِي تِلْكَ الْحَال فان قيل إِن الله تَعَالَى شَرط فِي لُحُوق الْوَعيد بِمن اتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ تبين الْهدى وَاللَّام فِي الْهدى للْجِنْس فاقتضت اسْتِيعَاب الْهدى فَكَانَ معنى الْآيَة من تبين جَمِيع الْهدى وَاتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ لحقه الْوَعيد فَيدْخل مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ فِي جملَة الْهدى فَيجب تقدم بَيَانه بِدَلِيل سوى قَول الْأمة ثمَّ يتبعُون فِيهِ كَمَا أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ لغيره إِذا تبين لَك صدق فلَان فَاتبعهُ يَقْتَضِي تبين صدقه بِشَيْء سوى قَوْله وَقد أجيبت عَن ذَلِك بِأَن تبين الْهدى شَرط فِي لُحُوق هَذَا الْوَعيد الْمَذْكُور بمشاقة الرَّسُول فَقَط لَا فِي اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ لِأَن الْإِنْسَان إِنَّمَا يكون مشاقا ومعاندا إِذا تبين لَهُ الْحق وعرفه فَكَانَ هَذَا الشَّرْط مَقْصُورا على المشاقة فَقَط وَيُجَاب عَن السُّؤَال أَيْضا بِأَن الْهدى الَّذِي تبينه شَرط فِي ثُبُوت مشاقة الرَّسُول وَفِي لُحُوق الْوَعيد هُوَ التَّوْحِيد وَالْعدْل وَصدق الرَّسُول دون تبين الْهدى الَّذِي هُوَ الْفُرُوع أَلا ترى أَن من عرف التَّوْحِيد وَالْعدْل وَصدق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحاد عَن نبوته ورد عَلَيْهِ كَانَ مشاقا لَهُ وَإِن لم يعرف أَحْكَام الْفُرُوع وَإِذا أنكر لم تكن الْمعرفَة بِأَحْكَام الْفُرُوع وَغَيرهَا مِمَّا زَاد على التَّوْحِيد وَالْعدْل والنبوات شرطا فِي المشاقة وَفِي لُحُوق الْوَعيد بهَا لم تكن شرطا فِي لُحُوق الْوَعيد بِمن اتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ لِأَن الْوَعيد الْمُعَلق بهما وَاحِد وَأَيْضًا فان تَأْوِيل السَّائِل يبطل فَائِدَة تَمْيِيز الْمُؤمنِينَ بِهَذَا الْكَلَام مَعَ علمنَا أَنه خرج مخرج الإعظام لَهُم أَلا ترى أَن غير الْمُؤمنِينَ إِذا عرفنَا أَن قولا من أقاويلهم هَذَا فانه يلْزمنَا أَن نقُول مثل قَوْلهم كَمَا يلْزمنَا مثل ذَلِك فِي قَول الْمُؤمنِينَ عِنْد السَّائِل على أَن اتِّبَاع الْمُؤمنِينَ هُوَ الرُّجُوع إِلَى قَوْلهم لأَنهم قَالُوهُ

وَلَيْسَ اتباعهم هُوَ مشاركتهم فِي قَوْلهم لِأَن دَلِيلا دلّ عَلَيْهِ أَلا ترى أَنا لَا نَكُون متبعين للْيَهُود فِي إِثْبَات الصَّانِع جلّ ثَنَاؤُهُ وَفِي نبوة مُوسَى وَإِن شاركناهم فِي اعْتِقَادهم ذَلِك لما لم نصر إِلَى ذَلِك لأجل قَوْلهم وَأَيْضًا فَهَذَا السَّائِل إِن جعل سَبِيل الْمُؤمنِينَ على كل حَال هَذَا فقد أوجب اتِّبَاعه فِي كل حَال وَفِي ذَلِك الرُّجُوع إِلَى قَوْلنَا وَإِن لم يَجعله هَذَا على كل حَال لزمَه أَن لَا يكون اتِّبَاعه على كل حَال وَاجِبا وَالْأَمر يُفِيد وجوب اتباعهم على كل حَال فَعلمنَا أَنه لم يرد تبين كل الْهدى فان قيل لَسْتُم بِأَن تتركوا الظَّاهِر فِي استغراق الْهدى بِأولى من أَن نَتْرُك نَحن ظَاهر الْآيَة فِي اتِّبَاع سَبِيل الْمُؤمنِينَ فِي كل حَال ونتمسك بِعُمُوم الْهدى قيل الْفرق بَيْننَا وَبَيْنكُم أَنكُمْ إِذا حملتم الْهدى على الْعُمُوم لزمكم أَن تحملوا الْآيَة على وُجُوه لَا فَائِدَة فِيهَا على مَا بَيناهُ من قبل وَهَذَا الْجَواب لَا يقوم بِنَفسِهِ إِلَّا بِمَا تقدم من الْأَجْوِبَة وفيهَا كِفَايَة إِن قيل قَوْله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} يحْتَمل أَن يكون غير فِي هَذَا الْكَلَام بِمَعْنى إِلَّا فَيكون معنى الْآيَة وَيتبع إِلَّا سَبِيل الْمُؤمنِينَ فَيكون ذَلِك توعدا لمن لم يتبع سبيلهم وَمن شكّ فِيهِ توقف وَلمن اتبع سَبِيلا غير سبيلهم وَيحْتَمل أَن يكون صفة فَيكون معنى الْآيَة وَيتبع سَبِيلا غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ فَلَا يدْخل فِي هَذَا الْوَعيد من لم يتبع سبيلهم وَلَا سَبِيل غَيرهم بل توقف فَمَا يؤمنكم أَن يكون غير هَا هُنَا صفة فَلَا يكون لكم فِي الاية دلَالَة وَالْجَوَاب أَن هَذَا السُّؤَال يَقْتَضِي أَن تكون الْآيَة قد حظرت على الْإِنْسَان إِذا أَجمعت الامة على إِبَاحَة شَيْء أَن يَقُول بحظره أَو بِوُجُوبِهِ والمخالف لَا يحظر ذَلِك وَأَيْضًا فالمتوقف فِي قَوْلهم يتبع سَبِيلا غير سبيلهم فقد دخل فِي الْوَعيد أَلا ترى أَن من شكّ فِي نبوة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوصف أَنه يتبع

غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ وَأَيْضًا فالمفهوم فِي قَول الْقَائِل لَا تتبع غير سَبِيل الصَّالِحين اتبع سبيلهم فان قَالُوا إِنَّمَا فهم ذَلِك لِأَن اسْم الصَّالِحين مدح قيل لَهُم وَكَذَلِكَ اسْم الْمُؤمنِينَ فَيجب أَن يفهم من قَوْله وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ إِيجَاب اتِّبَاع سَبِيل الْمُؤمنِينَ إِن قيل قَوْله وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ مَعْنَاهُ وَيتبع سَبِيلا غير سبيلهم وَهَذَا يَقْتَضِي سَبِيلا وَاحِدَة قيل فَيجب أَن يحرم اتِّبَاع هَذِه السَّبِيل لِأَنَّهَا غير سبيلهم والمخالف لَا يحرم ذَلِك على أَن قَوْله غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ إِن أَفَادَ اتِّبَاع غير سبيلهم فَهُوَ عَام فِي كل سَبِيل كَانَ مَوْصُوفا بِأَنَّهُ غير سبيلهم كَمَا أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ من دخل غير دَاري ضَربته فهم مِنْهُ كل دَار غير دَاره إِن قيل السَّبِيل هُوَ الطَّرِيق دون القَوْل وَالْفَتْوَى فَيجب أَن يدْخل فِي ذَلِك مَا استطرقوه دون الْفَتْوَى قيل الْمَعْلُوم أَنه لم يرد مَا استطرقوه من الطّرق الَّتِي يَمْشُونَ فِيهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ يحرم على الْإِنْسَان أَن يمشي فِي طَرِيق لَا يَمْشُونَ فِيهِ فان كَانَ المُرَاد بذلك مَا استطرقوه فِي الْأَدِلَّة فَيجب مَا اعتقدوه دَلِيلا أَن يكون دَلِيلا والمخالف لَا يُوجب ذَلِك على أَن مَا اجتباه الْإِنْسَان لنَفسِهِ وَتمسك بِهِ يُقَال إِنَّه سَبيله سَوَاء كَانَ دَلِيلا أَو غَيره لِأَنَّهُ يُقَال لمن حرم النَّبِيذ إِنَّه لَيْسَ يسْلك سَبِيل ابي حنيفَة وَيُقَال للْإنْسَان اسلك سَبِيل التُّجَّار فيفهم من ذَلِك افْعَل فعلهم فِي زيهم وأخلاقهم وعاداتهم فصح أَن ذَلِك غير مَقْصُور على الْأَدِلَّة فان قيل المجمعون صَارُوا إِلَى مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ باستدلال واجتهاد فالاجتهاد فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة سبيلهم كَمَا أَن الحكم الَّذِي حكمُوا بِهِ سبيلهم فَلم أوجبتم على من بعدهمْ الْمصير إِلَى مَا حكمُوا بِهِ وأسقطتم عَنهُ الِاجْتِهَاد بِأولى من أَن

توجبوا عَلَيْهِ الِاسْتِدْلَال وَالِاجْتِهَاد وتسقطوا عَنهُ الْمصير إِلَى حكمهم على كل حَال وَالْجَوَاب أَنا إِذا أَوجَبْنَا عَلَيْهِ الْمصير إِلَى حكمهم كُنَّا قد أمرناه بِاتِّبَاع سبيلهم فِي الحكم وَفِي الِاسْتِدْلَال لِأَن من يتبع الْإِجْمَاع فقد اسْتدلَّ على الحكم الَّذِي أَجمعُوا عَلَيْهِ وَإِن كَانَ دَلِيله غير دَلِيل المجمعين وَلَيْسَ يجب على الْإِنْسَان أَن يسْتَدلّ بِنَفس مَا اسْتدلَّ بِهِ غَيره إِذا ظفر بِدَلِيل آخر على أَنه إِن وَجب على الْمُكَلف الِاسْتِدْلَال بِنَفس مَا اسْتدلَّ بِهِ الْأَولونَ على الْحَد الَّذِي استدلوا بِهِ فَذَلِك يُؤَدِّيه إِلَى الحكم الَّذِي اتَّفقُوا عَلَيْهِ لأَنهم إِنَّمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ لأجل الِاسْتِدْلَال وَفِي هَذَا أوجبوا مشاركتهم فِي الحكم فان قيل إِذا اتّفق أهل الْعَصْر على اسْتِبَاحَة شَيْء وفعلوه بأجمعهم أيلزم من بعدهمْ فعله لِأَن فعلهم سبيلهم قيل إِنَّمَا يجب عَلَيْهِ اعْتِقَاد إِبَاحَته فَأَما فعله فَلَو اوجبناه مَعَ أَنهم لم يوجبوه لَكَانَ ذَلِك خلاف سبيلهم إِن قيل قَوْله {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} لَا يمْنَع من اجْتِمَاعهم على الْكفْر وَالرِّدَّة فَمن أَيْن أَنه لَا يجوز ذَلِك عَلَيْهِم قيل الْآيَة إِن لم تمنع من ذَلِك فَهِيَ مَانِعَة من مخالفتهم فِيمَا أَجمعُوا عَلَيْهِ إِذا كَانُوا مُؤمنين وَلَا يمْتَنع أَن تدل على أَنهم لَا يجمعُونَ جَمِيعًا على الرِّدَّة دَلِيل آخر وَأَيْضًا فاذا اجْتمع أهل كل عصر على أَنه لَا يجوز أَن يجتمعوا على الرِّدَّة كَانَ ذَلِك من سبيلهم فَلم يجز مخالفتهم فَمَتَى ثَبت هَذَا الْإِجْمَاع صج الِاسْتِدْلَال بِهِ وَقد أُجِيب عَن السُّؤَال بِأَن إِيجَاب الله علينا اتِّبَاع سَبِيل الْمُؤمنِينَ يَقْتَضِي أَن لَا يَخْلُو عصر من الْأَعْصَار من مُؤمنين حَتَّى يَصح منا امْتِثَال الْأَمر باتبَاعهمْ وَفِي ذَلِك أَنهم لَا يجمعُونَ جَمِيعًا على الرِّدَّة وَهَذَا الْجَواب غير لَازم لِأَن إِيجَابه علينا اتِّبَاع سَبِيل الْمُؤمنِينَ يَقْتَضِي وجوب ذَلِك مَتى وجد مُؤمنُونَ كَمَا يَقْتَضِي وجوب ذَلِك مَتى أَجمعُوا فَكَمَا لَا يلْزم بِهَذَا الْإِيجَاب أَن

يجتمعوا فِي كل عصر حَتَّى يَصح اتباعهم فَكَذَلِك لَا يجب أَن يوجدوا فِي كل عصر إِن قيل قَوْله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} يَقْتَضِي دُخُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيهم لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام سيد الْمُؤمنِينَ فَيجب إِذا حدث حَادِثَة فِي زمَان الصَّحَابَة فَأَجْمعُوا عَلَيْهَا أَن لَا تكون حجَّة لِأَنَّهُ لَيْسَ للنَّبِي فِيهَا قَول وَإِنَّمَا يمكنكم أَن تعلمُوا أَن قَول النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِيهَا هُوَ مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ إِذا ثَبت لكم أَن الْإِجْمَاع حجَّة قيل إِن الله تَعَالَى لم يعن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} وَإِن كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام سيدهم لِأَنَّهُ لَو عناه مَعَ كَافَّة الْمُؤمنِينَ لم يكن لذكر من سواهُ من الْمُؤمنِينَ فَائِدَة إِذْ الْحجَّة ثَابِتَة بقوله والوعيد يتَوَجَّه إِلَى من خَالف قَوْله دون مَا عداهُ من الْمُؤمنِينَ فَعلمنَا أَنه أَرَادَ غَيره من الْمُؤمنِينَ ليدلنا على أَنهم حجَّة كَمَا أَن الرَّسُول حجَّة إِن قيل فَيجب أَن لَا يكون مَا أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة حجَّة فِي زمنهم لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تِلْكَ الْحَادِثَة قَول لمن حضر نزُول هَذِه الْآيَة من الْمُؤمنِينَ الَّذين مَاتُوا قبل وَفَاة النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَالْجَوَاب أَنا لَو اعْتبرنَا قَول من كَانَ مُؤمنا فِي ذَلِك الْوَقْت فَقَط للَزِمَ أَن لَا نعتبر قَوْلهم لِأَن قَول الامة فِي ذَلِك الْوَقْت لَا بُد من أَن يعرفهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيقر عَلَيْهِ فَتكون الْحجَّة هِيَ إِقْرَار النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَترك إِنْكَاره عَلَيْهِ إِن قيل اسْم الْمُؤمنِينَ يُفِيد أشخاصا يسْتَحقُّونَ الثَّوَاب والمدح فَيجب أَن يكون الْحجَّة هُوَ إِجْمَاع هَؤُلَاءِ دون الْفُسَّاق وَإِن خالفهم غَيرهم قيل كَذَلِك نقُول إِلَّا أَنا إِذا اعْتبرنَا إِجْمَاع جَمِيع أهل الْقبْلَة دخل المستحقون للثَّواب فِي جُمْلَتهمْ فان علمنَا فسق كثير من أهل الْقبْلَة فقد ذكر أَبُو عَليّ أَنه يعْتَبر إِجْمَاع من عداهم مِمَّن ظَاهره أَنه مُسْتَحقّ للثَّواب والمدح وَلَا اعْتِبَار بالباطن لِأَن الله

تَعَالَى لَا يكلفنا اتِّبَاع سَبِيل الْمُؤمنِينَ إِلَّا وَلنَا طَرِيق إِلَى معرفَة كَونهم مُؤمنين وَإِذا كَانَ قد جعل لنا سَبِيلا إِلَى معرفَة الظَّاهِر دون الْبَاطِن علمنَا أَنه أَرَادَ اتِّبَاع سَبِيل من ظَاهره اسْتِحْقَاق الثَّوَاب والمدح وَأَنه لم يكلفنا الْبَاطِن إِن قيل لَيْسَ يَصح التَّعْلِيق بِالْآيَةِ على قَول شيوخكم وَلَا على قَول غَيرهم أما قَول شيوخكم فالمؤمنون عِنْدهم المستحقون للثَّواب والمدح فَمَا يؤمنكم إِذا اتّفقت الامة على قَول أَن يكون ذَلِك خطأ يخرجُون بِهِ من اسْتِحْقَاق الثَّوَاب والمدح فاذا لم يأمنوا ذَلِك لم يأمنوا كَونهم مُؤمنين إِلَّا بعد الِاسْتِدْلَال بِغَيْر قَوْلهم على أَن ذَلِك القَوْل حق وصواب وَذَلِكَ يخرج قَوْلهم من أَن يكون دَلِيلا على كَونه صَوَابا وَشرط كَون قَوْلهم دَلِيلا أَن يكون قولا صادرا عَن مُؤمنين وَأَنْتُم إِنَّمَا تعلمُونَ هَذَا الشَّرْط بعد الْعلم بالمدلول وَهُوَ صِحَة قَوْلهم فان قُلْتُمْ إِنَّهُم إِذا اتَّفقُوا على حكم هُوَ من الْفُرُوع لم يسْتَحقُّونَ بِهِ الذَّم لِأَن كل مُجْتَهد فِي الْفُرُوع مُصِيب وَلِأَنَّهُ خطأ مغْفُور قيل لكم الْمعول فِي ذَلِك هُوَ على الْإِجْمَاع فَمَتَى لم يثبت أَن الْإِجْمَاع حجَّة لم يَصح أَن يعلم ذَلِك على أَن ذَلِك يمْنَع من الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْآيَة على حجية الْإِجْمَاع فِي غير مسَائِل الِاجْتِهَاد فان قُلْتُمْ إِن الْآيَة تدل على اتِّبَاع قَول الْمُؤمنِينَ لأجل قَوْلهم لَا لدَلِيل آخر على مَا تقدم بَيَانه وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَونهم مُعينين غير موصوفين فَيجب أَن يكون المُرَاد بقوله {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} على مُوجب اللُّغَة أَو من كَانَ ظَاهره قبل مَا أَجمعُوا على أَنه مُسْتَحقّ للثَّواب لأَنا إِن لم نحمل الْآيَة على ذَلِك لم يَصح اتِّبَاع قَوْلهم لأجل أَنهم قَالُوهُ قيل لكم لَسْتُم بِأَن تعدلوا عَن الظَّاهِر فَتَحملُوا الْآيَة على التَّصْدِيق أَو تحملوا الْمُؤمنِينَ على من كَانَ قبل ذَلِك الْإِجْمَاع يسْتَحق الْمَدْح فِي الظَّاهِر وتمسكوا بِالظَّاهِرِ فِي وجوب اتباعهم لأجل قَوْلهم بِأولى من أَن تتمسكوا علينا اتِّبَاع سَبِيل الْمُؤمنِينَ الموصوفين سَوَاء كَانُوا موجودين

أَو غير موجودين كَمَا نقُول اتبع سَبِيل الصَّالِحين وَأَنت تُرِيدُ صالحين موصوفين أَي وَاتبع سَبِيلا من حَقّهَا أَن تكون سَبِيل الصَّالِحين وَهِي الَّتِي كَانُوا بهَا صالحين أَو يكون المُرَاد اتبع سَبِيل الْمُؤمنِينَ فِي ترك مشاقة الرَّسُول فاذا اعتدل التأويلان سقط احتجاجكم بِالْآيَةِ وَأما غير شيوخكم فانهم وَإِن قَالُوا إِن الْمُؤمن فِي الشَّرِيعَة هُوَ الْمُصدق بِاللَّه وبرسوله فانه إِنَّمَا لم يَصح لَهُم الِاحْتِجَاج بِالْآيَةِ لِأَن ظَاهر قَوْله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} يدل على حظر مُخَالفَة جمَاعَة هم مصدقون بِاللَّه بقلوبهم وَذَلِكَ لَا سَبِيل إِلَيْهِ فان قَالُوا المُرَاد بذلك الْمُؤْمِنُونَ فِي الظَّاهِر دون الْبَاطِن لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يُكَلف اتِّبَاع من لَا سَبِيل لنا إِلَى الْعلم بِهِ قيل لَهُم قد تركْتُم الظَّاهِر لِأَن من يظْهر الْإِيمَان وَلَا يَعْتَقِدهُ لَيْسَ بِمُؤْمِن على التَّحْقِيق وَالْآيَة تفِيد تَعْلِيق الْوَعيد على من خَالف من هُوَ مُؤمن على الْحَقِيقَة فان جَازَ لكم أَن تعدلوا عَن هَذَا الظَّاهِر جَازَ لنا أَن نقُول المُرَاد بِالْآيَةِ سَبِيل الْمُؤمنِينَ الموصوفين على مَا تقدم بَيَانه وَترك الظَّاهِر فِي كَون الْمُؤمنِينَ الْمَذْكُورين فِي الْآيَة مُعينين إِن كَانَ الظَّاهِر يُفِيد كَونهم مُعينين فنترك ظَاهرا فِي الاية ونتمسك بِغَيْرِهِ كَمَا تركْتُم ظَاهرا فِي الاية وتمسكتم بِغَيْرِهِ دَلِيل قَوْله تَعَالَى {واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا} وَقد قيل إِنَّه اسْتدلَّ بذلك بِأَن أَمر بالاعتصام بِحَبل الله على أَنهم قد اعتصموا بِهِ وَهَذَا بَاطِل لِأَن الْأَمر لَا يدل على وُقُوع امتثاله وَيُمكن أَن يسْتَدلّ بِالْآيَةِ من وُجُوه أخر مِنْهَا أَن يُقَال إِذا أجمع أهل الْعَصْر على قَول لم يجز لبَعْضهِم أَن يتْرك هَذَا

القَوْل لأَنهم إِذا فعلوا ذَلِك كَانُوا قد تفَرقُوا وَالله تَعَالَى قد نهى عَن ذَلِك وَالْجَوَاب أَنه إِن كَانَ مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ حَقًا فقد حرم عَلَيْهِم التَّفَرُّق عَنهُ وَإِن كَانَ خطأ وَجب عَلَيْهِم بأجمعهم الْعدْل عَنهُ وَالْإِجْمَاع على الْحق وَأَن لَا يتفرقوا عَنهُ فقد قَالَ الْمُخَالف إِنَّه يحرم عَلَيْهِم التَّفَرُّق وَإِن لم يحصل الْإِجْمَاع حَقًا وَمِنْهَا أَن يُقَال إِذا أجمع أهل الْعَصْر على قَول لم يجز لأهل الْعَصْر الثَّانِي أَن يخالفوهم لِأَنَّهُ إِذا خالفهم أهل الْعَصْر الثَّانِي كَانَ أهل الْعَصْر الثَّانِي قد تفَرقُوا وَالْجَوَاب أَنه لَا يوصفون بِأَنَّهُم متفرقون إِذا أَجمعُوا على مُخَالفَة أهل الْعَصْر الأول فان افْتَرَقُوا هم على قَوْلَيْنِ فقد نهوا عَن ذَلِك لِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِم الِاجْتِمَاع على الْحق وَمِنْهَا أَن يُقَال إِذا خَالف أهل الْعَصْر الثَّانِي لأهل الْعَصْر الأول فقد صَار أهل الْعَصْر الأول مَعَ الثَّانِي مُتَفَرّقين وَالنَّهْي يمْنَع من ذَلِك وَالْجَوَاب أَن أهل الْعَصْر الأول غير موجودين فِي هَذِه الْحَالة فَيُقَال إِنَّهُم مَعَ أهل الْعَصْر الثَّانِي منهيون عَن التَّفَرُّق وَأَيْضًا فان الْمَفْهُوم من قَوْله تَعَالَى {واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا} وَقَوله {وَلَا تفَرقُوا} هُوَ أَن لَا يتفرقوا فِي الِاعْتِصَام بِحَبل الله كَمَا أَن الْمَفْهُوم من قَول الْإِنْسَان لعبيده ادخُلُوا الدَّار أَجْمَعِينَ أَي لَا تتفرقوا فِي دُخُول الدَّار فَيجب على الْمُسْتَدلّ أَن يبين مَا أجمع أهل الْعَصْر عَلَيْهِ اعتصام بِحَبل الله تَعَالَى حَتَّى يعلم من بعدهمْ أَنهم قد نهوا عَن مفارقتهم وَهَذَا غير ظَاهر لِأَن قَوْله وَلَا تفَرقُوا مُطلق فِي النَّهْي عَن التَّفَرُّق فَيتَنَاوَل كل شَيْء دَلِيل قَالَ الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} فَشرط التَّنَازُع فِي وجوب الرَّد إِلَى الْكتاب وَالسّنة فَدلَّ أَنهم إِذا لم يتنازعوا لم يجب الرَّد لِأَن

تَعْلِيق الحكم بِالشّرطِ يدل على أَن مَا عداهُ بِخِلَافِهِ وَلقَائِل أَن يَقُول أيسقط وجوب الرَّد إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَيصير ترك ذَلِك مُبَاحا إِذا اتَّفقُوا على الحكم بِالرَّدِّ إِلَى الْكتاب وَالسّنة أَو إِذا اتَّفقُوا على ذَلِك من غير رد إِلَيْهِمَا فان قُلْتُمْ بِالثَّانِي جوزتم وُقُوع الْإِجْمَاع من غير دَلِيل وَجَوَاز ذَلِك يمْنَع صِحَة الْإِجْمَاع وَإِذا قُلْتُمْ بِالْأولِ نسبتم إِلَى الله تَعَالَى مَا لَا يجوز لِأَن طلب الحكم من الْكتاب وَالسّنة بعد مَا وجد مِنْهُمَا محَال إِذْ طلب مَا هُوَ مَوْجُود عِنْد الطّلب مُسْتَحِيل فإباحة ترك المستحيل عَبث لَا يصدر عَن حَكِيم فان قيل فَمَا المُرَاد بِالْآيَةِ قيل المُرَاد بهَا الْحَث على طَاعَة أولى الْأَمر وهم الْأُمَرَاء فَمَا تدبروا بِهِ من أَمر الدّين وَالدُّنْيَا مِمَّا لَا نعلم أَنه خطأ فان ظننا أَنه خطأ ونازعناهم فِيهِ رددناه إِلَى الله وَرَسُوله وَهَذَا كَمَا لَو قَالَ الْإِنْسَان لعبيده أطِيعُوا من أوليه عَلَيْكُم فان تنازعتم وتخالفتم فَردُّوهُ إِلَيّ لفهم مِنْهُ مَا ذَكرْنَاهُ دَلِيل وَهُوَ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَجْتَمِع أمتِي على خطأ فنفى جَمِيع الْخَطَأ عَن إِجْمَاعهم لِأَن ذَلِك نفي لنكرة تعم وَمِمَّا أَجمعُوا عَلَيْهِ أَنه لَا يجوز مُخَالفَة مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ فَيجب كَون ذَلِك صَوَابا غير خطأ وَيَنْبَغِي أَن يتشاغل بتثبت الْخَبَر ثمَّ بالْكلَام فِي مَتنه وَقد سلك النَّاس فِي تثبيته وُجُوهًا مِنْهَا أَن الْخَبَر وَإِن نقل بالآحاد فان مَعْنَاهُ بالتواتر رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ أمتِي لَا تَجْتَمِع على ضلال وَقَالَ يَد الله مَعَ الْجَمَاعَة وَقَالَ الشَّيْطَان مَعَ الْوَاحِد وَهُوَ من الِاثْنَيْنِ ابعد وَقَالَ مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن وَقَالَ من خَالف الْجَمَاعَة قيد شبر فقد خلع ربقة الْإِسْلَام من عُنُقه قَالُوا فَجرى ذَلِك مجْرى مَا تناقل بالآحاد من تفاصيل سخاء حَاتِم فِي أَنه قد صَار بإجماعه متواترا وَلقَائِل أَن يَقُول إِن هَذِه الْأَخْبَار تبلغ خَمْسَة أَو سِتَّة وَلَو روى خَمْسَة نفر أَو سِتَّة خَبرا لم يجب أَن يكون مَعْلُوما

وَلَو وَجب أَن يكون بعض هَذِه الْأَخْبَار صَحِيحا لم يمْنَع أَن يكون الصَّحِيح مِنْهَا قَوْله الشَّيْطَان مَعَ الْوَاحِد وَهُوَ من الِاثْنَيْنِ ابعد وَذَلِكَ يدل على أَن الْأَغْلَب فِيمَا اجْتمع عَلَيْهِ كَونه صَحِيحا وَلَيْسَ ذَلِك من الْأَخْبَار عَن سخاء حَاتِم بسبيل لِأَنَّهُ لَا يُمكن لأحد أَن يُخَالف فِي سخاء حَاتِم وَيُمكن أَن يُخَالف فِي هَذِه الْأَخْبَار وَمِنْهَا أَن التَّابِعين اعتقدوا بأجمعهم صِحَة الْإِجْمَاع وَلم يظْهر فِيمَا بَينهم شَيْء لأَجله صَارُوا إِلَى هَذَا الرَّأْي إِلَّا هَذَا الْخَبَر فَعلمنَا أَنهم صَارُوا إِلَيْهِ لأَجله وَالْعَادَة فِي أمتنَا أَنَّهَا لَا تَجْتَمِع على مُوجب خبر إِلَّا وَقد قَامَت الْحجَّة بِهِ أَلا ترى أَنه مَا نقل بالآحاد وَلم تقم الْحجَّة بِهِ لم يتفقوا على مُوجبه لما كَانَ حكمهم بِمُوجبِه مَوْقُوفا على الِاجْتِهَاد فِي حَال الرَّاوِي وَلقَائِل أَن يَقُول إِنِّي لَا أعلم أَن جمَاعَة التَّابِعين اعتقدوا كَون الْإِجْمَاع حجَّة كَمَا لَا أعلم ذَلِك فِي أهل هَذَا الْعَصْر سِيمَا وَقد رُوِيَ عَن بَعضهم أَنه قَالَ فِي قَول الْقَائِل لامْرَأَته أَنْت حرَام أَنه لَيْسَ بِشَيْء وَهَذَا بِخِلَاف إِنَّمَا أفتت بِهِ الصَّحَابَة وَلَو ثَبت أَنهم أَجمعُوا على ذَلِك لم نَأْمَن أَن يكون إِنَّمَا اعتقدت صِحَة الْإِجْمَاع لأجل الْآيَات فَقَط لَا للْخَبَر وَلَو علمنَا أَنهم اعتقدوا صِحَة الْإِجْمَاع لأجل الْخَبَر لم نعلم أَنه صَحِيح لأَنهم إِن قَالُوا فَإِنَّهُ لَا يجوز أَن يعتقدوا صِحَة الْإِجْمَاع بِخَبَر لم يقم بِهِ الْحجَّة لِأَن ذَلِك خطأ والامة لَا تَجْتَمِع على خطأ كَانُوا قد سلمُوا صِحَة الْإِجْمَاع وبنوا عَلَيْهِ الدَّلِيل فان أوجبوا ذَلِك لِأَن الحكم بِخَبَر الْوَاحِد مَوْقُوف على الِاجْتِهَاد فِي حَال الرَّاوِي وَذَلِكَ يمْنَع من اتِّفَاق جَمَاعَتهمْ على مُوجبَة قيل لَهُم أَلَيْسَ يجوز أَن يجمعوا على الحكم من جِهَة الْقيَاس وَالِاجْتِهَاد وَيجوز من جِهَة الْعقل أَن يجمعوا من جِهَة الشّبَه وَإِن أوجبوا ذَلِك لأَنهم استقرءوا الْأَخْبَار فوجدوا مَا كَانَ مِنْهَا قد قَامَت الْحجَّة بِهِ قد اتَّفقُوا على مُوجبه وَمَا لم تقم الْحجَّة بِهِ لم يجمعوا عَلَيْهِ أَلا ترى أَن أَخْبَار الْآحَاد فِي الْفِقْه لم يجمعوا على مُوجبهَا قيل لَهُم وَلم زعمتم أَن عَادَتهم مستمرة بذلك فِي كل مَا لم تقم الْحجَّة بِهِ من الْأَخْبَار وَمَا أنكرتم أَن يكون هَذَا الْخَبَر لم تقم الْحجَّة بِهِ وَأَجْمعُوا على

مُوجبَة وَقد تركت الصَّحَابَة آرائهم بِخَبَر حمل بن مَالك وصاروا إِلَى خبر عبد الرَّحْمَن فِي الْمَجُوس وَأَجْمعُوا على أَنه لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا بِخَبَر وَاحِد وَإِن قَالُوا لم يجمعوا على ذَلِك إِلَّا لقِيَام الْحجَّة بِهِ قيل تثبتوا ذَلِك حَتَّى يَصح استدلالكم وَلَو كَانُوا أَجمعُوا على ذَلِك لقِيَام الْحجَّة بِهَذِهِ الْأَخْبَار لم يَصح الِاسْتِدْلَال بذلك على قبُول الْأَخْبَار المظنونة فان قَالُوا أَلَيْسَ بعض أَخْبَار الْآحَاد لم يجمعوا على مُوجبهَا قيل إِنَّا لم نوجب أَن يجمعوا على مُوجب خبر الْوَاحِد وَإِنَّمَا جَوَّزنَا ذَلِك وجوزنا خِلَافه فَلم يلْزمنَا مَا ذكرْتُمْ فان قيل لَا يجوز على التَّابِعين مَعَ شدَّة تدينهم وإعظامهم للدّين أَن يقطعوا على كَون شَيْء حجَّة فِي الشَّرْع بِمَا لَا يُوجب الْقطع وَالْيَقِين كَمَا لَا يجوز وَالْحَال هَذِه أَن يقبلُوا خبر وَاحِد فِي جَوَاز نسخ الشَّرْع بِحَسب شهوات بَعضهم وَالْجَوَاب أَنه يجوز أَنهم اعتقدوا ذَلِك لشُبْهَة كَمَا اعْتقد كثير من أَصْحَاب الحَدِيث فِي الله تَعَالَى مَا يَسْتَحِيل عَلَيْهِ لأخبار آحَاد بالتقليد وَلَا يمْتَنع أَن يَكُونُوا ظنُّوا صدق الرَّاوِي وَلم يقطعوا بِهِ فظنوا أَن الْإِجْمَاع حجَّة واعتقدوا وجوب مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ لأَنهم قد ظنُّوا صِحَّته كَمَا اعتقدوا وجوب قبُول خبر الْوَاحِد فِي الْأَحْكَام إِذا ظنُّوا صدق الرَّاوِي وَمَا ذَكرُوهُ من اعْتِقَادهم النّسخ بِحَسب الشَّهَوَات فانه يجوز عَلَيْهِم أَن يقبلُوا خَبرا مرويا فِي ذَلِك إِلَّا أَن يعلم أَن إِجْمَاعهم حجَّة أَو يعلم أَنهم قد استبعدوا تغير الشَّرْع بِحَسب شهوات النَّاس فَمنع هَذَا الاستبعاد من إِجْمَاعهم على صِحَة الْخَبَر وَلَيْسَ اتِّفَاق الامة على الْحق بمستبعد كاستبعاد تغير الشَّرْع بالشهوات بل الْأَغْلَب عِنْد النَّاس أَن الْحق لَا يخفى على الْجمع الْكثير وَالنَّاس الشَّرِيفَة يعظمون الامة فَالْخَبَر الْوَاحِد يَنْفِي الْخَطَأ عَنْهُم ويطابق هَذَا المستقر فِي أنفسهم وورود الْخَبَر بنسخ الشَّرِيعَة بِحسن الشَّهَوَات يُنَافِي لما تكن فِي نفوس الامة

وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يسْتَدلّ مستدل على وجوب الْمصير إِلَى الْإِجْمَاع بأخبار الْآحَاد لِأَن الْعقل عندنَا يدل على وجوب قبُول خبر الْوَاحِد من حَيْثُ التَّحَرُّز عَن المضار فاذا روى الْوَاحِد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أمته لَا تَجْتَمِع على خطأ ظننا أَنهم كَذَلِك ولزمنا الْعَمَل بِمَا حكمُوا بِهِ كَمَا أَن الْمُسَافِر لَو أخبرهُ من ظَاهره الصدْق عَن بعض من يَثِق بِهِ أَنه يَأْمر بِالرُّجُوعِ فِي سَفَره إِلَى رثد فِي طَرِيقه فانه لَا يغلط أَو أَنه قَلِيل الْغَلَط فِي السّفر لزمَه الرُّجُوع إِلَيْهِ إِذا غلب على ظَنّه صدق الرَّاوِي وإصابته من أمره بِالرُّجُوعِ إِلَى رثد إِلَّا أَن هَذِه الْأَخْبَار لَا تَقْتَضِي الْقطع على إِصَابَة المجتمعين وَإِنَّمَا يسوغ الِاسْتِدْلَال بِالْإِجْمَاع فِي الْأَعْمَال دون الْعُلُوم فَأَما الْكَلَام فِي متن الْخَبَر فقد تقدم طرف مِنْهُ وَهُوَ كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بِهِ وَيرد عَلَيْهِ وُجُوه مِنْهَا أَن يُقَال هلا كَانَ الْخَطَأ الْمَنْفِيّ عَنْهَا هُوَ السَّهْو وَلَيْسَ هُوَ خلاف الْحق وَالْجَوَاب أَن الْجَمَاعَة المعظمة لَا تَجْتَمِع على السَّهْو كَمَا لَا يجوز أَن تَجْتَمِع على مأكل وَاحِد فَلَو كَانَ المُرَاد مَا ذَكرُوهُ لم يكن فِيهِ فَائِدَة كَمَا لَو قَالَ أمتِي لَا تَجْتَمِع على مأكل وَاحِد وَأَيْضًا فَجَمِيع الامم لَا يجوز أَن يجتمعوا على السَّهْو فمدح هَذِه الْأمة بذلك وتخصيصهم بِهِ لَا فَائِدَة فِيهِ وَمِنْهَا أَنه رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لم يكن الله ليجمع أمتِي على الْخَطَأ قَالُوا وَنحن نقُول بذلك لِأَن الله تَعَالَى لَا يحمل الْعباد على الْخَطَأ وَالْجَوَاب أَنا نجمع بَين الْخَبَرَيْنِ فَنَقُول لَا يَجْتَمعُونَ على الْخَطَأ وَلم يكن الله ليجمعهم على الْخَطَأ على أَن الله تَعَالَى لَا يحمل أحدا على الْخَطَأ فَلَو كَانَ المُرَاد بالْخبر هَذَا لم يكن فِي تَخْصِيص الامة بِهِ معنى وَمِنْهَا أَنه رُوِيَ أَنه قَالَ أمتِي لَا تَجْتَمِع على ضلال والضلال هُوَ الْكفْر دون غَيره وَالْجَوَاب أَنا نجمع بَين ذَلِك وَبَين الْخَبَر النَّافِي لأنواع الْخَطَأ عَنْهُم

وَأَيْضًا فَكل مَعْصِيّة ضلال لِأَنَّهُ قد عدل بهَا عَن الْحق وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {قَالَ فعلتها إِذا وَأَنا من الضَّالّين} وَمِنْهَا أَن يُقَال مَا المُرَاد بِأمة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيُقَال اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَقَالَ قوم أمته كل من بعث إِلَيْهِ وَقَالَ آخَرُونَ بل هم كل من صدقه وَهُوَ الصَّحِيح لِأَنَّهُ الْمَفْهُوم من إِطْلَاق قَوْلنَا أمة النَّبِي وَلِأَن الْمُسلمين يدعونَ لأمة مُحَمَّد وَلَا يدعونَ لكل من بعث النَّبِي إِلَيْهِ فان قيل فَيجب أَن يَقع قَوْله أمتِي على من صدقه إِلَى انْقِطَاع التَّكْلِيف لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بعد ذَلِك تَكْلِيف فيحتج فِيهِ بِالْإِجْمَاع وَالْجَوَاب أَن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام أمتِي لَا تَجْتَمِع على خطأ لَا يتَنَاوَل إِلَّا من كَانَ فِي ذَلِك الْعَصْر دون من لم يُوجد لِأَن من لم يُوجد لَا يكون مُصدقا فِي تِلْكَ الْحَال وَلقَائِل أَن يَقُول إِن كَانَ المُرَاد بقوله أمتِي لَا تَجْتَمِع على خطأ كل من صدقه إِلَى انْقِطَاع التَّكْلِيف لم يكن فِي الْخَبَر دلَالَة على أَن الْإِجْمَاع حجَّة وَوَجَب أَن يكون المُرَاد بالْخبر مَا ذَكرْنَاهُ وَإِن كَانَ المُرَاد بالْخبر من هُوَ مَوْجُود بِمن صدقه وَجب أَن لَا يدْخل تَحت الْخَبَر إِلَّا من كَانَ مَوْجُودا من أمة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد قَوْله أمتِي لَا تَجْتَمِع على خطأ فَلَا يُمكن وَالْحَال هَذِه أَن تستدلوا باجماع الصَّحَابَة بعده مَعَ علمهمْ أَن كثيرا مِمَّن كَانَ حَيا عِنْد وُرُود هَذَا الْخَبَر من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد توفّي أَو تجويزكم أَنه توفى وَمَا تنكرون أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا عَنى بِهَذَا الْكَلَام أَن من عاصر هَذَا القَوْل فِيهِ لَا يجْتَمع على خطأ وَلم يكن قَصده أَن يجْتَمع بقَوْلهمْ لأَنهم إِذا أجمعو على شَيْء فأقره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فالحجة هِيَ إِقْرَاره فان قُلْتُمْ إِن المصدقين بِهِ بعد وَفَاته هم أمته فَدَخَلُوا تَحت ظَاهر الْخَبَر قيل لكم إِنَّمَا يدْخلُونَ تَحْتَهُ لَو كَانُوا جَمِيع أمته وَلَيْسوا جَمِيع أمته بل جَمِيع أمته هم مَعَ تقدمهم وَمِنْهَا قَوْلهم وَلم إِذا كَانُوا مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ لَيْسَ بخطأ فَيكون حجَّة فان قُلْتُمْ لِأَن الْأمة أَجمعت على أَنه لَا يجوز مُخَالفَة مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ قيل لكم وَمَتى

أَجمعُوا على ذَلِك وَفِيهِمْ من يَقُول يجوز أَن يجتمعوا على خطأ فان أدعيتم أَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ كلهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَن الامة لَا تَجْتَمِع على خطأ لم يسلم الْخصم لكم ذَلِك قيل قد أجَاب قَاضِي الْقُضَاة عَن السُّؤَال بِأَن الْمُعْتَبر هُوَ بِإِجْمَاع من يَقُول إِن الْأمة لَا تَجْتَمِع على خطأ وَإِن جَازَ مخالفتهم لَكَانَ هَذَا القَوْل الْحق قد أخرج عَن أقاويل الامة لِأَنَّهُ لَيْسَ فيهم من جمع بَين هذَيْن الْقَوْلَيْنِ وَفِي ذَلِك اتِّفَاقهم على الْخَطَأ فِي مَسْأَلَتَيْنِ وَسَيَجِيءُ القَوْل فِي ذَلِك دَلِيل الْجَمَاعَات الْكَثِيرَة على اخْتِلَاف هممهم وأغراضهم لَا يجوز أَن يتفقوا على قَول إِلَّا لداع وَلَا يجوز أَن يكون التَّقْلِيد هُوَ الَّذِي دعاهم لِأَن كثيرا مِنْهُم يبطل التَّقْلِيد وَلَو دعتهم الشُّبْهَة لنقلت وَنقل خوضهم فِيهَا فاذا لم تنقل علمنَا أَنه بِحجَّة قَاطِعَة وَيجْرِي مجْرى اتِّفَاقهم على رِوَايَة مَا شاهدوه فِي أَنه لَا يجوز الْخَطَأ عَلَيْهِم فِيهِ وَالْجَوَاب أَن الْعقل يُجِيز اتِّفَاق الْجَمَاعَات الْكَثِيرَة على الْخَطَأ من جِهَة الرَّأْي ويلزمهم على مَا قَالُوهُ أَن لَا يجوز اتِّفَاق جَمِيع الْأُمَم على خطأ وَكَذَلِكَ كل جمَاعَة من الْأمة يَقع الْعلم بِخَبَر مثلهَا وَيلْزم إِذا نقلوا مَا أَجمعُوا لأَجله أَن يجوز وَأَن كَونه شُبْهَة لأَنهم إِنَّمَا أحالوا أَن يجمعوا عَن شُبْهَة لَا تنقل وعَلى أَنه لَا يمْتَنع أَن يكون بَعضهم صَار إِلَى القَوْل بِشُبْهَة ثمَّ قلدهم الْبَاقُونَ لمحبتهم لَهُم وانصراف أهوائهم إِلَيْهِم أَو لاستثقالهم النّظر وتصويبهم التَّقْلِيد وعَلى أَن كثيرا من النَّاس يظْهر القَوْل بِفساد التَّقْلِيد ثمَّ ينظر فِي الدَّلِيل فاذا شقّ عَلَيْهِ اسْتِعْمَاله قطع النّظر وقلد وَلَا يمْتَنع أَن يَكُونُوا بأجمعهم صَارُوا إِلَى القَوْل بِشُبْهَة فظنوها حجَّة فَأَضْرَبُوا عَن نقلهَا لظنهم أَنَّهَا حجَّة كَمَا يضْربُونَ عَن نقل الْحجَّة إِذا أَجمعُوا على مُوجبهَا وَالْفرق بَين رِوَايَة الْجَمَاعَة الْكَثِيرَة عَمَّا شاهدته وَإِن لم يَقع اللّبْس فِيهِ وَبَين مَا قالته من جِهَة الرَّأْي أَن الرَّأْي يَعْتَرِضهُ الشُّبْهَة والأهواء فَتَصِير الْأَهْوَاء مَعَ التَّقْصِير فِي النّظر الشُّبْهَة بِصُورَة الْحجَج فَلَا يُؤمن أَن يَكُونُوا اتَّفقُوا لذَلِك وَهَذَا صنف عَمَّا شاهدوه وَزَالَ اللّبْس فِيهِ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم عَالم بِمَا

شاهدوه وَلَا يجوز مَعَ كثرتهم أَن يخبروا بِمَا يعلم كل وَاحِد مِنْهُم أَنه كَانَ فِيهِ وَأَن غَيره يعلم أَنه كَاذِب فِيهِ دَلِيل قد ثَبت دوَام شرعنا إِلَى انْقِضَاء التَّكْلِيف فَوَجَبَ أَن يكون قَول الامة حجَّة ليدوم قيام الدّلَالَة على اتِّصَال الشَّرْع وَالْجَوَاب أَن الْحجَّة فِي ذَلِك الْقُرْآن وَالِاجْتِهَاد وَالْأَخْبَار على أَن شرعنا مُنْقَطع بِانْقِطَاع التَّكْلِيف كانقطاع شرع من قبلنَا بالنسخ فدوام كل وَاحِد من الشرعين كدوام الآخر أَو تقارنه فَكَمَا لَا يجب أَن يكون قَول إِحْدَى الامتين حجَّة لم يجب فِي الْأُخْرَى مثله وَأما من خَالف فِي الْإِجْمَاع فانه يسْلك مسالك ثَلَاثَة أَحدهَا أَن يحِيل وُقُوع الْإِجْمَاع وَالْآخر أَن يحِيل ثُبُوت الطَّرِيق إِلَيْهِ وَالْآخر أَن يَقُول لَيْسَ فِي الْعقل وَلَا فِي السّمع دَلِيل عَلَيْهِ أما إِحَالَة الْإِجْمَاع فَمن وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يَقُول يَسْتَحِيل أَن يجوز على كل وَاحِد من الْأمة الْخَطَأ وَلَا يجوز على جَمَاعَتهمْ كَمَا يَسْتَحِيل أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُم مصيبا وجماعتهم غير مصيبين وَأَن يكون كل وَاحِد مِنْهُم أسود وجماعتهم غير سود وَالْجَوَاب أَن المستحيل هُوَ أَن يُقَال إِن كل وَاحِد من الامة يجوز كَونه مخطئا فِي القَوْل الَّذِي اتَّفقُوا عَلَيْهِ وجماعتهم غير مخطئين فِيهِ وَلم نقل ذَلِك وَإِنَّمَا نقُول إِن كل وَاحِد مِنْهُم يجوز أَن يكون قَوْله خطأ إِذا انْفَرد وَإِذا اجْتمع مَعَ جمَاعَة الامة لم يكن قَوْله خطأ وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يُفَارق الْوَاحِد الْجَمَاعَة أَلا ترى أَن كل وَاحِد مِنْهُم يجوز أَن يَأْكُل الْيَوْم مأكلا مَخْصُوصًا وَلَا يجوز أَن يجتمعوا على أكله فِي ذَلِك الْيَوْم وَنَظِير مَا ذَكرُوهُ أَن نقُول كل وَاحِد مِنْهُم مخطىء وَالْكل فِي ذَلِك القَوْل غير مخطىء وَهُوَ نَظِير قَول الْقَائِل الْكل لَيْسُوا بسود وكل وَاحِد مِنْهُم أسود وَنَظِير قَوْلنَا فِي الْإِجْمَاع أَن نقُول كل وَاحِد من النَّاس

يجوز أَن يكون أسود فِي الْبَلَد الْفُلَانِيّ فان اجْتَمعُوا فِي بلد آخر لم يَكُونُوا سُودًا بل بيضًا وَالْوَجْه الآخر فِي إِحَالَة الْإِجْمَاع قَوْلهم لَو انْعَقَد الْإِجْمَاع لَكَانَ إِن انْعَقَد عَن نَص وَجب نَقله والاستغناء بِهِ وَلَا يجوز انْعِقَاده عَن أَمارَة لأَنهم على كثرتهم وَاخْتِلَاف هممهم لَا يجوز اتِّفَاقهم عَن الأمارات المظنونة وَالْجَوَاب أَنه لَا يمْتَنع أَن يتفقوا عَن نَص لَا ينقلوه اكْتِفَاء بِالْإِجْمَاع أَو ينْقل وَيكون مُحْتملا فيستغنى بِالْإِجْمَاع عَن النّظر فِيهِ وَيجوز اتِّفَاقهم عَن أَمارَة كَمَا جَازَ اتِّفَاق الْجَمَاعَات عَن شُبْهَة وَأما من قَالَ لَا طَرِيق إِلَى إِثْبَات الْإِجْمَاع فسيجيء فِي بَاب مُنْفَرد وَمن قَالَ لَا دَلِيل على صِحَة الْإِجْمَاع فَقَوله بَاطِل لما تقدم من الدَّلِيل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الِاتِّفَاق بِمَاذَا يكون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الِاتِّفَاق يكون من الْجَمَاعَة بِالْفِعْلِ نَحْو أَن يَفْعَلُوا بأجمعهم فعلا وَاحِدًا وَيكون بالْقَوْل وَيكون بِالرِّضَا نَحْو أَن يخبروا عَن أنفسهم بِالرِّضَا وَنَحْو أَن يظْهر القَوْل فيهم وَلَا يظهرون كَرَاهِيَة مَعَ زَوَال التقية وَقد يَجْتَمعُونَ على الْفِعْل وعَلى القَوْل وعَلى الْإِخْبَار عَن الرِّضَا فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة وكل هَذِه الْأَشْيَاء أَدِلَّة على الِاعْتِقَاد لحسن مَا رَضوا بِهِ ولوجوبه على أَن اتِّفَاقهم على الْفِعْل يدل على حسنه من حَيْثُ كَانَ الْعقل دَلِيلا على اعْتِقَادهم لحسنه وَمن حَيْثُ كَانُوا قد اتَّفقُوا على فعله لِأَنَّهُ لَو كَانَ خطأ مَا اجْتَمعُوا على فعله كَمَا لَا يَجْتَمعُونَ على اعْتِقَاد حسنه وَقد يَجْتَمعُونَ على ترك القَوْل فِي الشَّيْء وعَلى ترك فعله فَيدل ذَلِك على أَنه غير وَاجِب لِأَنَّهُ لَو كَانَ وَاجِبا لَكَانَ تَركه مَحْظُورًا وَفِي ذَلِك إِجْمَاعهم على الْمَحْظُور وَيجوز أَن يكون مَا تَرَكُوهُ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ

لِأَن تَركه لَيْسَ بمحظور وَذَلِكَ نَحْو أَن يتْركُوا اعْتِقَاد الْأَفْضَل من بعض أهل الْأَعْصَار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَنه لَا اعْتِبَار فِي الاجماع بِجَمِيعِ من بعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن جَمِيع من بعث إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هم المكلفون إِلَى انْقِضَاء التَّكْلِيف من مُؤمن وَكَافِر ومجتهد وَغير مُجْتَهد وَلَا اعْتِبَار بالكافرين فِي الْإِجْمَاع لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُم معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فوقوف الْإِجْمَاع عَلَيْهِم يُؤَدِّي إِلَى تعذر الْإِجْمَاع لوقوفه على مَا هُوَ مُتَعَذر وَلِأَن الْإِجْمَاع لَا تعلم صِحَّته إِلَّا بِالسَّمْعِ وأدلة السّمع لَا تتَنَاوَل الْكَافِر كَقَوْلِه تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} وَقَوله {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} وَقَوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} الْآيَة وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امتي لَا تَجْتَمِع على خطأ وَهَذَا الِاسْم لَا يفهم من إِطْلَاقه الْكَافِر وَلَا اعْتِبَار فِي الْإِجْمَاع بِكُل الْمُؤمنِينَ إِلَى انْقِضَاء التَّكْلِيف لِأَن فِي أَدِلَّة الْإِجْمَاع مَا يَقْتَضِي أَن أهل الْعَصْر الْوَاحِد حجَّة وَلِأَن الْإِجْمَاع حجَّة فَلَو اعْتبرنَا فِي الْإِجْمَاع جَمِيع الْمُكَلّفين إِلَى آخر التَّكْلِيف لم يكن حجَّة لِأَنَّهُ لَيْسَ بعدهمْ تَكْلِيف فَيكون إِجْمَاعهم حجَّة فِيهِ فان قيل يكون حجَّة على من أجمع مَعَهم ثمَّ فارقهم قيل كَيفَ يكون حجَّة عَلَيْهِ وَلَا يُؤمن أَن يحدث بعدهمْ من يخالفهم فَلَا يكون جَمِيع الْمُكَلّفين إِلَى انْقِضَاء التَّكْلِيف متفقين على ذَلِك الحكم وَأما غير الْمُجْتَهدين فَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن الْأَقْوَال المنتشرة فِي الامة ضَرْبَان أَحدهمَا منتشر فِي الْخَاصَّة فَقَط كمسائل الِاجْتِهَاد وَالْآخر منتشر فِي

الْخَاصَّة والعامة وَذَلِكَ ضَرْبَان أَحدهمَا مَعْلُوم باضطرار من دين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالثَّانِي غير مَعْلُوم من دينه باضطرار فالمعلوم من دينه باضطرار كالصلوات الْخمس وَصَوْم شهر رَمَضَان وَتَحْرِيم الْبِنْت وَمَا أشبه ذَلِك وَمَا هَذِه سَبيله يسْتَغْنى فِي الِاحْتِجَاج عَلَيْهِ عَن قَول مَنْقُول عَن النَّبِي أَو إِجْمَاع وَالصَّحِيح أَن ذَلِك مَعْلُوم من الدّين باستدلال لأَنا لَو نعلم تَوَاتر النَّقْل عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بِتَحْرِيم الْبِنْت أَو تَوَاتر نقل الْقُرْآن وَأَنه لَا يجوز أَن يحرم شَيْئا إِلَّا وَهُوَ مُعْتَقد لتحريمه لم نعلم أَنه يعْتَقد تَحْرِيم ذَلِك أَلا ترى أَنه لَو لم ينْقل إِيجَاب صَوْم شهر رَمَضَان عَنهُ لم يعلم دينه فِي ذَلِك وَكَذَلِكَ لَو علمنَا النَّقْل فِي ذَلِك وجوزنا أَن يُوجب مَا لَا نعتقد وُجُوبه علينا لم يعلم ذَلِك وَكَذَلِكَ القَوْل فِي كل مَا يدعى أَنه مَعْلُوم باضطرار أَنه من دين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا اشتبهت الْحَال فِيهِ لِأَن الْعلم بِأَنَّهُ من دينه ظَاهر وَلم يحصل فِيهِ نزاع بَين الامة وَأما الْأَقْوَال المنتشرة فِي الْخَاصَّة والعامة وَهِي مَعْلُومَة من الدّين باستدلال فَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن مِنْهَا تَحْرِيم بنت الْبِنْت وَأَن بنت الْخَالَة مُخَالفَة فِي التَّحْرِيم للخالة وَمَعْرِفَة أَوْقَات الصَّلَوَات وَلقَائِل أَن يَقُول أما معرفَة أَوْقَات الصَّلَوَات على التَّفْصِيل فَمن مسَائِل الِاجْتِهَاد لِأَنَّهُ يدْخل فِي تَفْصِيل ذَلِك معرفَة آخر الْوَقْت وَذَلِكَ مُجْتَهد فِيهِ وَأما معرفَة أَوْقَات الصَّلَوَات على الْجُمْلَة وَتَحْرِيم بنت الْبِنْت فالعامة إِنَّمَا تعرف ذَلِك يالرجوع إِلَى الْعلمَاء لَا بالاستدلال لِأَن الْمُكَلف إِنَّمَا يعرف ذَلِك اسْتِدْلَالا بظواهر تعلم أَنَّهَا قد تجردت عَمَّا يعارضها وَإِنَّمَا يعلم عدم ذَلِك بعد أَن يفتش الشَّرِيعَة والعامة لم تنظر فِي هَذِه الظَّوَاهِر وَلَا فتشت عَمَّا يعارضها فَأَما مسَائِل الِاجْتِهَاد فقد اخْتلف النَّاس فِي اعْتِبَار الْعَامَّة فِيهَا فَقَالَ قوم إِن الْعَامَّة وَإِن وَجب عَلَيْهَا اتِّبَاع الْعلمَاء فان اجماع الْعلمَاء لَا يكون حجَّة على أهل الْعَصْر الثَّانِي حَتَّى لَا تسوغ مخالفتهم إِلَّا بِأَن يتبعهُم الْعَامَّة من أهل عصرهم فان لم يتبعوهم لم يجب على أهل الْعَصْر الثَّانِي من الْعلمَاء اتباعهم وَقَالَ

آخَرُونَ إِجْمَاع الْعلمَاء حجَّة على من بعدهمْ اتبعهم عوام عصرهم أَو لم يتبعوهم وَاحْتج الْأَولونَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ قَول الامة حجَّة لانها بأجمعها معصومة من الْخَطَأ وَلَيْسَ يمْتَنع أَن تكون جَمَاعَتهمْ الْخَاصَّة والعامة معصومة من الْخَطَأ فاذا لم يمْتَنع ذَلِك وَكَانَت ظواهر الْإِجْمَاع تتَنَاوَل الْخَاصَّة والعامة وَجب اشْتِرَاط دُخُول الْعَامَّة وَوَجَب القَوْل بِأَن اللطف إِنَّمَا يثبت للامة بأجمعها وَهَذَا هُوَ الْإِجْمَاع فِي قَوْله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} وَهَذَا يتَنَاوَل الْعلمَاء وَغَيرهم وَقَوله {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} وَقَوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا} الْآيَة كل ذَلِك خطاب مُوَاجهَة يتَنَاوَل جَمِيع من كَانَ فِي ذَلِك الْعَصْر من الامة كالخطاب بالعبادات وَاحْتج الذاهبون إِلَى القَوْل الثَّانِي بِأَن الْعَامَّة يلْزمهَا الْمصير إِلَى قَول الْعلمَاء فَهُوَ كالمنصرف فِيهَا فَلم يكن بقبولها اعْتِبَار وَلقَائِل أَن يَقُول وَلم إِذا وَجب عَلَيْهَا الْمصير إِلَى قَول غَيرهَا لَا يعْتَبر بقولِهَا وَمَا أنكرتم أَنه وَإِن وَجب ذَلِك عَلَيْهَا فانه لَا يكون حجَّة من دونهَا وَيُمكن أَن يحْتَج فِي الْمَسْأَلَة أَيْضا فَيُقَال إِن الْأمة إِنَّمَا يكون قَوْلهَا حجَّة إِذا قالته بالاستدلال لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن تحكم بِغَيْر دَلِيل فَهِيَ إِنَّمَا عصمت من الْخَطَأ فِي استدلالها والعامة لَيست من أهل النّظر وَالِاسْتِدْلَال على الْحَوَادِث فتعصم مِنْهُ فان قَالُوا لَا يمْنَع أَن يكون اللطف ثَابتا لجَماعَة الامة مجتهدها وَغير الْمُجْتَهد مِنْهَا وَلَا يكون لبعضها لطف يَعْصِمهَا من الْخَطَأ قيل إِذا كَانَ اللطف إِنَّمَا يعْصم من الْخَطَأ فِي الِاسْتِدْلَال وَلم يكن من الْعَامَّة اسْتِدْلَال لم يَصح أَن تكون معصومة فِيهِ وَبِهَذَا الْوَجْه يخص ظواهر الْآيَات

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي إِجْمَاع أهل الْأَعْصَار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهب أَكثر النَّاس إِلَى أَن إِجْمَاع أهل كل عصر حجَّة على من بعدهمْ وَقَالَ أهل الظَّاهِر إِجْمَاع الصَّحَابَة وَحده حجَّة دون غَيرهم من إِجْمَاع أهل الْأَعْصَار وَدَلِيل الْأَوَّلين أَن أَدِلَّة الْإِجْمَاع لَا تخص عصرا دون عصر لقَوْله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} والتابعون مُؤمنُونَ وَكَذَلِكَ أهل كل عصر وَقَوله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} وَقَوله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَجْتَمِع أمتِي على الْخَطَأ والمخالف يحْتَج بأَشْيَاء مِنْهَا الْإِجْمَاع إِنَّمَا عرف كَونه حجَّة بِالشَّرْعِ والأدلة السمعية تخْتَص بالصحابة دون غَيرهم لِأَن قَوْله {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} وَقَوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} خطاب مُوَاجهَة يتَنَاوَل ظَاهره الْحَاضِرين وهم الصَّحَابَة دون غَيرهم فَلَا يمْتَنع أَن يكون الله تَعَالَى عناهم بِالْخِطَابِ ليميزهم بِهَذَا الْمَدْح وَقَوله {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} يتَنَاوَل الصحاب فَأَما التابعون فالخطاب لَا يتناولهم وحدهم بل يتناولهم مَعَ مَا تقدم من الصَّحَابَة لِأَن الْمُؤمن هُوَ الْمُسْتَحق للثَّواب سِيمَا وَهَذَا الْخطاب خرج مخرج الْمَدْح وَالصَّحَابَة بعد مَوْتهمْ يسْتَحقُّونَ الْمَدْح وَالثَّوَاب وَإِذا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ هم التابعون مَعَ مَا تقدم من الصَّحَابَة فاستحال أَن يكون لمن تقدم من الصَّحَابَة قَول فِي الْحَادِثَة فِي زمن التَّابِعين واستحال أَن يكون لجَماعَة الْمُؤمنِينَ قَول أَو لم يكن إِذْ الْمُخَالف فِي الْحَالَتَيْنِ مُخَالف لبَعض الْمُؤمنِينَ لَا لجميعهم فان قُلْتُمْ إِذا لم يجز أَن يَعْنِي الله تَعَالَى بقوله {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ}

من تقدم من الصَّحَابَة لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يكون لَهُم قَول فِيمَا حدث بعدهمْ وَجب أَن يَعْنِي الله تَعَالَى بقوله التَّابِعين دون من تقدم فَيدْخل من خالفهم تَحت الْوَعيد قيل إِنَّه لم يعن من تقدم لما ذكرْتُمْ وَلَا عَنى الْحَاضِرين من التَّابِعين لأَنهم بعض الْمُؤمنِينَ وَإِنَّمَا عَنى من يُطلق عَلَيْهِ فِي وقته أَنه جمَاعَة الْمُؤمنِينَ وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا الصَّحَابَة فَقُلْنَا إِن إِجْمَاع الصَّحَابَة وحدهم حجَّة وَكَذَلِكَ قَوْله لَا تَجْتَمِع أمتِي على ضلال لَا يتَنَاوَل التَّابِعين وحدهم لِأَنَّهُ لَا يُطلق عَلَيْهِم فِي عصرهم أَنهم جَمِيع أمة النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بل يُقَال إِنَّهُم بعض أمته وَيُطلق القَوْل فِي عصر الصَّحَابَة بِأَنَّهُم الْآن جَمِيع أمته الْجَواب إِن هَذَا السُّؤَال لَا يتَوَجَّه على من قَالَ إِن اسْم الْمُؤمنِينَ اشتقاق من التَّصْدِيق لِأَن من لم يصدق فِي الْحَال حَتَّى مَاتَ لَا يُطلق عَلَيْهِ اسْم مُؤمن وَلَا يُوصف ايضا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِن لِأَنَّهُ يُوهم أَنه كَانَ مُؤمنا وَلَا يلْزم الشَّيْخ أَبَا هَاشم رَحمَه الله لِأَن لَام الْجِنْس لَا يُوجب الِاسْتِغْرَاق وَيجوز أَن يدْخل تَحْتَهُ ثَلَاثَة فَصَاعِدا فَمَتَى تركنَا وَظَاهر قَطعنَا على أَنه قد أُرِيد بِهِ ثَلَاثَة فَلم يجب أَن يكون أُرِيد بِالْمُؤْمِنِينَ مَجْمُوع الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِلَّا أَن الْإِجْمَاع الَّذِي يعرفهُ الْخصم قد منع أَن يُرَاد بِالْآيَةِ بعض أهل الْعَصْر فأخرجناه فِي الْخطاب وَوَجَب أَن يُرَاد بِهِ جَمِيع أهل الْعَصْر وَأما من يَقُول إِن لَام الْجِنْس استغراق فَلهُ أَن يَقُول لَيْسَ يَخْلُو إِمَّا أَن نُرِيد بِهَذِهِ الْآيَات من حضر عِنْد حُدُوث الْحَادِثَة وَلَا بِغَيْر من تقدم مَوته من الْمُؤمنِينَ وَذَلِكَ قَوْلنَا أَو بِغَيْر من تقدم وَذَلِكَ يمْنَع من كَون إِجْمَاع الصَّحَابَة حجَّة لِأَن من مَاتَ قبل وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ مُؤمن وَلَيْسَ لَهُ فِي الْحَادِثَة قَول فان قيل فَمَا الْجَواب لمن سَأَلَ عَن هَذَا السُّؤَال مِمَّن لَا يَقُول إِن إِجْمَاع الصَّحَابَة وَلَا غَيرهم حجَّة قيل قد تقدم فِي الْبَاب الأول وَاحْتَجُّوا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ قَالُوا فحكمة بِأَن الِاقْتِدَاء بِأَصْحَابِهِ اهتداء الْجَواب أَن ذَلِك لَا يمْنَع من كَون

التَّابِعين مثلهم فِي ذَلِك على أَن قَوْله بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ يتَنَاوَل آحادهم وَلَيْسَ قَول كل وَاحِد مِنْهُم حجَّة على الْمُجْتَهدين فَعلمنَا أَنه إِنَّمَا حث بذلك الْعَامَّة على استفتاء كل وَاحِد مِنْهُم وَاحْتج بِأَن الصَّحَابَة قد اخْتصّت بمشاهدة النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام والحضور عِنْد الْوَحْي فَكَانَ لَهُم مزية بذلك الْجَواب وَلم قُلْتُمْ إِن ذَلِك يُوجب أَن يكون لَهُم مزية فِي كَون قَوْلهم حجَّة دون غَيرهم وَاحْتَجُّوا بِأَن قَول التَّابِعين لَو كَانَ حجَّة لَكَانَ إِنَّمَا صَارُوا إِلَيْهِ عَن نَص متواتر أَو غير متواتر أَو عَن أَمارَة اجتهدوا فِيهَا وَلَو كَانَ كَذَلِك لما ذهب كل ذَلِك على الصَّحَابَة لأَنهم لَا يكونُونَ أدنى رُتْبَة من التَّابِعين الْجَواب أَنه لَا يمْتَنع أَن لَا تحدث الْحَادِثَة فِي الصَّحَابَة فَلَا يفحصوا عَن نَص وَارِد فِيهَا وَلَا عَن أَمارَة مُجْتَهد فِيهَا فَلَا يظفروا بهَا ويظفر التابعون بهَا إِذا اضطروا إِلَى طلبَهَا عِنْد حُدُوث الْحَادِثَة وَلَا يمْتَنع أَن تحدث الْحَادِثَة فِي زمن الصَّحَابَة فيختلفون فِيهَا ويتفق التابعون فِيهَا على أحد أَقْوَالهم فيظفر التابعون فِي ذَلِك القَوْل بِمَا لم يظفر بِهِ أحد الطالبين من الصَّحَابَة لِأَن قَول بعض الصَّحَابَة بِهِ لَيْسَ بِحجَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي وجوب اعْتِبَار الْمُجْتَهدين كلهم من أهل الْعَصْر الْوَاحِد فِي الْإِجْمَاع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يضمن هَذَا الْبَاب فصولا مِنْهَا أَن أَكثر أهل الْعَصْر لَا يكون إِجْمَاعًا وَمِنْهَا اعْتِبَار الْمُجْتَهد من التَّابِعين إِذا عاصر الصَّحَابَة وَمِنْهَا اعْتِبَار الْمُجْتَهد وَإِن لم يشْتَهر بالفتوى وَمِنْهَا اعْتِبَار أهل الْأَمْصَار كلهم أما الْفَصْل الأول فقد بَين أَكثر النَّاس أَن أهل الْعَصْر إِذا اتَّفقُوا على قَول إِلَّا الْوَاحِد والاثنين من الْمُجْتَهدين لَا يكون حجَّة وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن الْخياط إِن ذَلِك حجَّة

وَدَلِيل الْأَوَّلين أَن أَدِلَّة الْإِجْمَاع لَا تتناولهم إِذا خرج عَنْهُم الْوَاحِد لِأَن قَوْله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} لَا يتَنَاوَل إِلَّا جَمِيع أهل الْعَصْر على قَول من قَالَ إِن لَام الْجِنْس تعم وَمن قَالَ لَا تعم فانه لَا يُوجب استغراقها للْأَكْثَر حَتَّى لَا يبْقى إِلَّا الْوَاحِد والاثنان بل يَجْعَلهَا حَقِيقَة فِي الثَّلَاثَة والمخالف لَا يَجْعَل قَول الثَّلَاثَة حجَّة وَقَوله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} وَقَوله {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَجْتَمِع أمتِي على ضلال يتَنَاوَل جَمِيع أهل الْعَصْر لِأَن أَكْثَرهم يُقَال لَهُم بعض الْأمة وَلَا يُطلق وَصفهم بِأَنَّهُم الْأمة وَأَيْضًا فَفِي الصَّحَابَة من تفرد بأقاويل لم توافقه عَلَيْهَا الْجَمَاعَة وَلم تنكر عَلَيْهِ كتفرد ابْن عَبَّاس بمسائل فِي الْفَرَائِض وَكَذَلِكَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} وَقَوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} وَقَوله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تَجْتَمِع أمتِي على ضلال قَالُوا وَهَذِه الْأَسْمَاء تتَنَاوَل حَقِيقَة جَمِيع الْمُؤمنِينَ وَجَمَاعَة الْأمة وَإِن شَذَّ مِنْهُم الْوَاحِد كَمَا أَن الْإِنْسَان يَقُول رايت بقرة سَوْدَاء وَإِن كَانَ فِيهَا شَعرَات بيض وَيَقُول أكلت رمانة وَإِن سقط مِنْهَا حبات لم يأكلها وَالْجَوَاب أَن أَسمَاء الْجمل والعموم لَا تتَنَاوَل الْأَكْثَر إِلَّا مجَازًا أَلا ترى أَنه يجوز أَن يُقَال فِي الْأمة إِلَّا الْوَاحِد لَيْسَ هَؤُلَاءِ كل الْمُؤمنِينَ وَلَا كل الْأمة فَعلمنَا أَن اسْم الْكل لم يتَنَاوَل إِلَّا الْجَمِيع وَقَول الْإِنْسَان أكلت الرمانة وَهُوَ يُرِيد أَكْثَرهَا مجَاز وَكَذَلِكَ الْوَصْف للبقرة بِالسَّوَادِ إِذا كَانَ فِيهَا شَعرَات بيض وَلَا يمْتَنع أَيْضا أَن يكون الْوَصْف للبقرة بِالسَّوَادِ يُفِيد فِي الْعرف كَونهَا سَوْدَاء فِي

رَأْي الْعين فَلَا يمْنَع ذَلِك وجود شَعرَات بيض فِيهَا وَلَا يمْتَنع أَن يكون قَول الْقَائِل أكلت رمانة مَعْنَاهُ فِي الْعرف أكلت مَا جرت الْعَادة بِأَكْلِهِ وَلَيْسَ يكَاد يَنْفَكّ الرمانة من حبات تتساقط مِنْهَا فَذَلِك خَارج من الْكَلَام بِالْعرْفِ وَلَيْسَ يجب إِذا نقل الْعرف ذَلِك أَن ينْقل غَيرهَا من الْأَسْمَاء وَمِنْهَا قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم وَأهل الْعَصْر كلهم إِلَّا الْوَاحِد والاثنان هم السوَاد الاعظم وَيُقَال عَلَيْكُم بملازمة الْجَمَاعَة وَذَلِكَ يتَنَاوَل أهل الْعَصْر إِلَّا الْوَاحِد والاثنين وَالْجَوَاب أَن ذَلِك فِي أَخْبَار الْآحَاد وَيَقْتَضِي أَن يجب اتِّبَاع الثَّلَاثَة وَالْأَرْبَعَة لأَنهم جمَاعَة وَبطلَان ذَلِك يدل على أَنه عَنى بِالْجَمَاعَة جَمِيع أهل الْعَصْر وَأما السوَاد الْأَعْظَم فهم جَمِيع أهل الْعَصْر لِأَنَّهُ لَيْسَ أعظم مِنْهُ وَلَو لم يكن المُرَاد مَا ذَكرْنَاهُ لدخل تَحْتَهُ النّصْف من أهل الْعَصْر إِذا زادوا على النّصْف الآخر بِوَاحِد أَو اثْنَيْنِ أَو ثَلَاثَة فان قيل قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الاعظم يَقْتَضِي أَن يكون حجَّة على غَيرهم مِمَّن لَيْسَ هُوَ من السوَاد الْأَعْظَم وَذَلِكَ لَا يتم إِلَّا بِأَن يكون فِي الْعَصْر غَيرهم مِمَّن لم يجمع مَعَهم وَالْجَوَاب أَنه يجوز أَن يكون حجَّة على من يَأْتِي بعدهمْ مِمَّن هُوَ أقل مِنْهُم عددا وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْوَاحِد من أهل الْعَصْر إِذا خَالف من سواهُ من أهل الْعَصْر يُوصف بالشذوذ وَذَلِكَ اسْم ذمّ وَلذَلِك أنْكرت الصَّحَابَة على ابْن عَبَّاس مقَالَته فِي الرِّبَا وَالْجَوَاب أَنا لَا نسلم أَن الْوَاحِد شَاذ إِلَّا إِذا خَالف بعد مَا وَافق وَابْن عَبَّاس لم يُنكر عَلَيْهِ الصَّحَابَة لِأَن قَول غَيره حجَّة عَلَيْهِ لَكِن لأجل خير ابي سعيد وَمِنْهَا قَوْلهم إِن أهل الْعَصْر إِلَّا الْوَاحِد والاثنان لَو أخبروا بِشَيْء وَقع الْعلم بخبرهم فَيجب مثله فِي إِجْمَاعهم وَالْجَوَاب أَنهم جمعُوا بَين الموضوعين بِغَيْر عِلّة وعَلى أَنه يلْزم أَن يكون أهل بلد وَاحِد حجَّة إِذا أَجمعُوا أَن بروايتهم يَقع الْعلم فان فصلوا بَين إِجْمَاعهم وَبَين خبرهم بِأَن إِجْمَاعهم يَقع عَن رَأْي

واستدلال وخبرهم يَقع عَن إِدْرَاك فَهُوَ فصلنا وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْإِجْمَاع حجَّة فِي الْعَصْر وَفِيمَا بعده وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يكون فيهم من يخالفهم حَتَّى يَكُونُوا حجَّة عَلَيْهِ وَالْجَوَاب أَنه يجوز أَن يَكُونُوا حجَّة على من يَأْتِي من بعد وَحجَّة على آحادهم تمنعهم من الرُّجُوع عَمَّا قَالُوهُ وَلَو وَجب أَن يكون الْإِجْمَاع حجَّة على مُخَالف قد عاصر المجمعين لوَجَبَ إِذا أجمع كلهم على قَول أَن لَا يكون حجَّة فاذا ثَبت أَن خلاف الْوَاحِد والاثنين لَا ينْعَقد مَعَه الْإِجْمَاع فَمَتَى رُوِيَ إِجْمَاع أهل عصر مُتَقَدم على قَول وَرُوِيَ بالتواتر ان وَاحِدًا لم يجْتَمع مَعَهم لم يكن إِجْمَاعًا وَإِن رُوِيَ ذَلِك بالآحاد فان كَانَ قد رُوِيَ عَنهُ بالتواتر الْوِفَاق لم يتْرك التَّوَاتُر لأجل الْآحَاد كَمَا لَا يُعَارض خبر وَاحِد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخَبَر متواتر وَإِن لم يكن قد رُوِيَ مُوَافقَة لَهُم لم يحكم بِأَنَّهُم أَجمعُوا لِأَنَّهُ لَا يَكْفِي أَن يعلم مُوَافقَة ذَلِك الْوَاحِد لَهُم فَكيف إِذا رويت عَنهُ الْمُخَالفَة وَحكى الشَّيْخ أَبُو عبد الله عَن الشَّيْخ ابي الْحسن أَن الْإِجْمَاع إِذا ظهر فِي الْعَصْر وَرُوِيَ عَن وَاحِد مِنْهُم بالآحاد خِلَافه لم يقْدَح ذَلِك فِي الْإِجْمَاع ذكر ذَلِك فِيمَا رُوِيَ بالآحاد عَن أبي طَلْحَة فِي الْبرد وَإِن علمنَا أَن اتِّفَاق أهل الْعَصْر إِلَّا الْوَاحِد وَعلمنَا أَنه كَانَت لَهُ حَالَة مُوَافقَة فان علمنَا أَنه وافقهم ثمَّ خالفهم ثَبت الْإِجْمَاع وَإِن علمنَا أَنه خَالف تِلْكَ الْمقَالة قبل أَن يجتمعوا لم يثبت الْإِجْمَاع وَإِن لم نعلم هَذَا التَّفْصِيل فَالْأولى أَن لَا يثبت الْإِجْمَاع لِأَنَّهُ لم يُؤمن أَن لَا يكون إِنَّمَا قَالَ بذلك القَوْل قبل أَن يَقُولُوا بِهِ ثمَّ خَالفه قبل أَن يتفقوا عَلَيْهِ فان حكى عَن بعض أهل الْعَصْر مَا يحْتَمل أَن يكون مُوَافقَة وَمَا يحْتَمل أَن لَا يكون مُوَافقَة لَهُم فان كَانَ ظَاهره الْمُوَافقَة حمل عَلَيْهَا وَإِن كَانَ ظَاهره الْمُخَالفَة حمل عَلَيْهَا وَإِن لم يكن لَهُ ظَاهر فَذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَنه يحمل على الْمُوَافقَة لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُخَالفا لقويت دواعيه إِلَى إِظْهَار الْخلاف وَلَيْسَ كَذَلِك لَو كَانَ مُوَافقا لِأَنَّهُ يَكْفِي فِي الْمُوَافقَة السُّكُوت وَترك

الْإِنْكَار وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِك القَوْل بَاطِلا لكانوا قد اتَّفقُوا على ترك الْإِنْكَار الصَّرِيح وَذَلِكَ لَا يجوز وَذكر قَاضِي الْقُضَاة عَن ابْن الإخشيد أَن قوما قَالُوا إِن أهل الْعَصْر إِذا حكمُوا بِحكم وَحكى عَن غَيرهم من أهل الْأَعْصَار خِلَافه فان كَانُوا كَثْرَة لَا يجوز أَن يظهروا خلاف مَا يبطنوه قدح ذَلِك فِي الْإِجْمَاع وَإِن جَازَ أَن يظهروا خلاف مَا يبطنونه لم يقْدَح ذَلِك فِي الْإِجْمَاع وَهَذَا بَاطِل لِأَن جَوَاز إظهارهم خلاف مَا يبطنونه لَا يمْنَع جَوَاز كَون باطنهم مُوَافقا لظاهرهم فَيكون ذَلِك خلافًا قادحا فِي الْإِجْمَاع وَأما الْفَصْل الثَّانِي فَهُوَ أَن الْمُجْتَهد من التَّابِعين إِذا حضر مَعَ الصَّحَابَة فِي وَقت الْحَادِثَة فانه لَا يكون قَوْلهم حجَّة إِذا خالفهم وَعم بَعضهم أَنه يكون حجَّة وَإِن خالفهم وَدَلِيل الْأَوَّلين ان أَدِلَّة الْإِجْمَاع لَا تتناولهم إِلَّا مَعَه نَحْو قَوْله {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمتِي لَا تجمع على خطأ وَجرى مجْرى الْحَدث من الصَّحَابَة إِذا كَانَ من أهل الِاجْتِهَاد لِأَن الْإِجْمَاع لَا ينْعَقد من دونه والمخالف يحْتَج بِمَا رُوِيَ أَن عَائِشَة أنْكرت على أبي سَلمَة بن عبد الرحمن بن عَوْف خِلَافه على الصَّحَابَة فِي بعض الْمسَائِل وَالْجَوَاب أَنه يجوز أَن تكون أنْكرت عَلَيْهِ لِأَنَّهُ خالفها بعد مَا اتّفقت وَكَانَ اتفاقها سَابِقًا لكَونه من أهل الِاجْتِهَاد أَو لم تكن المسالة من مسَائِل الِاجْتِهَاد وعَلى أَن قَوْلهَا بانفرادها لَيْسَ بِحجَّة وَأما الْفَصْل الثَّالِث فَهُوَ أَن يُخَالف فِي الْمَسْأَلَة بعض الْمُجْتَهدين مِمَّن لم يشْتَهر بالفتوى كواصل بن عَطاء فانه لَا يكون قَول من عداهُ حجَّة وَقَالَ بعض النَّاس يكون حجَّة لِأَن مسَائِل الِاجْتِهَاد يجب الرُّجُوع فِيهَا إِلَى أهل الِاجْتِهَاد فَقَوْل غَيرهم لَا يُؤثر فِي إِجْمَاعهم كَمَا أَن قَول النُّحَاة لَا يُؤثر فِي إِجْمَاعهم يبين

ذَلِك أَنا إِذا أردنَا تَقْوِيم شَيْء وَجب الرُّجُوع فِيهِ إِلَى أهل الْخِبْرَة بأسعار ذَلِك الشَّيْء وَدَلِيلنَا أَن أَدِلَّة الْإِجْمَاع تتَنَاوَل هَذَا الْإِنْسَان نَحْو قَوْله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} وَقَوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمتِي لَا تَجْتَمِع على ضلال وَإِنَّمَا أخرجنَا الْعَامَّة من ذَلِك لأَنهم لَيْسُوا بِأَهْل الِاجْتِهَاد وَلَيْسَ كَذَلِك هَذَا الْمُجْتَهد وَبِهَذَا فَارق النُّحَاة وَمَا ذَكرُوهُ من الرُّجُوع فِي التَّقْوِيم إِلَى الْخِبْرَة بأسعار ذَلِك الشَّيْء فَهُوَ حجَّة لنا لأَنا نرْجِع إِلَى من يخبر ذَلِك وَإِن لم يكن مشتهرا بالتقويم وَلَا منتدبا لتقويم الْأَشْيَاء فَكَذَلِك يَنْبَغِي أَن يرجع فِي الْحَوَادِث إِلَى أهل الِاجْتِهَاد وَإِن لم ينتدبوا للْفَتْوَى وَأما الْفَصْل الرَّابِع وَهُوَ إِجْمَاع أهل الْأَعْصَار فَعِنْدَ أَكثر النَّاس أَن الْحجَّة هِيَ إِجْمَاع أهل الْأَعْصَار كلهم من الْمُجْتَهدين فِي الْعَصْر الْوَاحِد وَحكي عَن مَالك أَنه قَالَ إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة وحدهم حجَّة وَقَالَ بعض أَصْحَابه إِنَّمَا جعل نقلهم أولى من نقل غَيرهم دليلنا أَن أَدِلَّة الْإِجْمَاع لَا تتناولهم وحدهم نَحْو اسْم الْمُؤمن وَاسم الامة وَلِأَن الْأَمَاكِن لَا تُؤثر فِي كَون الْأَقْوَال حجَّة وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة طيبَة تخرج خبثها كَمَا يخرج الْكِير خبث الْحَدِيد لَا يدل على أَن إِجْمَاع أَهلهَا حجَّة وَإِنَّمَا هُوَ مدح لَهَا وَلَيْسَ المُرَاد بذلك ذمّ كل من خرج مِنْهَا لإِجْمَاع الْأمة على أَن الْخُرُوج مِنْهَا غير مَذْمُوم وَكَون الْمَدِينَة مهبط الْوَحْي لَا يدل على أَن إِجْمَاع أَهلهَا حق وَأما كَون روايتهم أولى من رِوَايَة غَيرهم فقد ذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح والدرس أَن ذَلِك لَا يمْتَنع وَلَا فرق بَين رِوَايَة الْوَاحِد مِنْهُم وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ أَو بغَيْرهَا وَإِنَّمَا المُرَاد بذلك أَن تكون روايتهم بعد عصر الصَّحَابَة أولى من رِوَايَة غَيرهم لِأَن أهل الْبَلَد أعرف بِمَا يجْرِي فِيهِ من غَيرهم وَأَنه يرجع النَّاس فِي مَعْرفَته إِلَى الْبقْعَة الَّتِي حدث فِيهَا ذَلِك لأَنهم إِمَّا أَن يَكُونُوا شاهدوه أَو أخْبرهُم بِهِ جمَاعَة مِمَّن شاهدوه وَيُمكن فيهم من كَثْرَة المخبرين مَا لَا يُمكن فِي غَيرهم بل غَيرهم يرجع إِلَيْهِم

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يكون الْإِجْمَاع حجَّة فِيهِ وَمَا لَا يكون حجَّة فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن مَا تجمع الْأمة عَلَيْهِ ضَرْبَان أَحدهمَا لَا يُمكن معرفَة صِحَة الْإِجْمَاع قبل الْمعرفَة بِصِحَّتِهِ وَالْآخر يُمكن معرفَة صِحَة الْإِجْمَاع قبل الْمعرفَة بِصِحَّتِهِ فَالْأول لَا يَصح الِاحْتِجَاج بِالْإِجْمَاع فِيهِ كالإجماع على أَن الله تَعَالَى حَكِيم عَادل وَأَن مُحَمَّدًا نَبِي لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُمكن أَن تعرف صِحَة الْإِجْمَاع بعد أَن يعرف أَن الله تَعَالَى أَو رَسُوله قد شهد بِأَن الْإِجْمَاع حق وأنهما لَا يَشْهَدَانِ بِشَيْء إِلَّا وَهُوَ على مَا شَهدا بِهِ وَإِنَّمَا يعرف ذَلِك إِذا عرفت حِكْمَة الله تَعَالَى وَأَنه لَا يفعل الْقَبِيح وَأَن مُحَمَّدًا صَادِق ليعلم صدقه فِي إخْبَاره أَن الْقُرْآن كَلَام الله تَعَالَى حَتَّى يعلم أَن مَا فِيهِ من الْآيَات الدَّالَّة على الْإِجْمَاع من قبل الله تَعَالَى فاذا كَانَت الْمعرفَة بِصِحَّة الْإِجْمَاع لَا يُمكن أَن تتقدم على الْمعرفَة بِاللَّه وبحكمته وَصدق رَسُوله لم يَصح الِاسْتِدْلَال بِهِ على ذَلِك إِذْ من حق الدَّلِيل أَن يُعلمهُ الْمُسْتَدلّ على الْوَجْه الَّذِي يدل عَلَيْهِ قبل علمه بالمدلول فَأَما مَا يُمكن أَن يعرف صِحَة الْإِجْمَاع قبل الْمعرفَة بِهِ فَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا من أُمُور الدُّنْيَا وَالْآخر من أُمُور الدّين فَالْأول نَحْو أَن يجتمعوا أَنه لَا يجوز الْحَرْب فِي مَوضِع معِين ذكر قَاضِي الْقُضَاة أَنه يجوز لمن بعدهمْ مخالفتهم فِي ذَلِك لِأَن حَالهم فِي ذَلِك لَيست بأعظم من حَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعْلُوم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو رأى رَأيا فِي الْحَرْب لساغ مُرَاجعَته فِيهِ وَلَيْسَ إِجْمَاعهم على إِمَامَة أبي بكر من هَذَا الْقَبِيل لِأَن ذَلِك من أُمُور الدّين وَذكر فِي كتاب النِّهَايَة أَنه لَا يجوز مخالفتهم لِأَن أَدِلَّة الْإِجْمَاع منعت من الْخلاف عَلَيْهِم وَلم يفصل بَين أَن يكون قد اتَّفقُوا على أَمر ديني أَو دنياوي ويفارقون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الَّذِي منع من جَوَاز الْخَطَأ عَلَيْهِ هُوَ المعجز وَذَلِكَ لَا يتَعَلَّق بِأُمُور الدُّنْيَا وَلَيْسَ كَذَلِك الْأمة فَأَما أُمُور الدّين فانه يكون اتِّفَاقهم حجَّة فِيهِ سَوَاء كَانَ عقليا نَحْو

رُؤْيَة الله تَعَالَى لَا فِي جِهَة وَنفي ثَان مثله أَو كَانَ شرعيان لِأَنَّهُ يُمكن الْعلم بِصِحَّة الْإِجْمَاع قبل الْعلم بذلك إِذْ الشَّك فِي ذَلِك لَا يخل بِالْعلمِ بِاللَّه تَعَالَى وحكمته وَصدق نبيه وَلَا فرق بَين أَن يكون القَوْل صادرا عَن اجْتِهَاد عَن أَمَارَات أَو اسْتِدْلَالا بأدلة وَلَا فرق بَين أَن يكون قد تقدم ذَلِك الْإِجْمَاع اخْتِلَاف أَو لم يتقدمه اخْتِلَاف وسنتكلم فِي كلا الْمَوْضِعَيْنِ إِن شَاءَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن الْإِجْمَاع إِذا انْعَقَد عَن اجْتِهَاد كَانَ حجَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذكر قَاضِي الْقُضَاة عَن الْحَاكِم صَاحب الْمُخْتَصر أَنه قَالَ إِذا انْعَقَد الْإِجْمَاع لأهل الْعَصْر عَن اجْتِهَاد جَازَ لمن بعدهمْ ان يخالفهم فِيهِ وَعِنْدنَا أَنه حجَّة يحرم خِلَافه لقَوْله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} فاذا اجْتَمعُوا على الحكم بِالِاجْتِهَادِ فخلافه لَيْسَ هُوَ سبيلهم فَلم يجز اتِّبَاعه فان قيل إِنَّمَا لم يكن سبيلهم لِأَنَّهُ لم يؤد الِاجْتِهَاد إِلَيْهِ فاذا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد كَانَ سبيلهم وَإِن كَانَ ذَلِك الِاجْتِهَاد اجْتِهَاد غَيرهم وَالْجَوَاب أَن ذَلِك شَرط لَا دَلِيل عَلَيْهِ فَلم يجز إثْبَاته وَلَو جَازَ مَا ذَكرُوهُ لجَاز أَن يُقَال فِيمَا أَجمعُوا عَلَيْهِ عَن دَلِيل إِنَّه سبيلهم بِشَرْط أَن يُؤَدِّي الِاسْتِدْلَال إِلَيْهِ وخلافه لَيْسَ هُوَ سبيلهم إِن لم يؤد الِاسْتِدْلَال إِلَيْهِ فَإِن أدّى الِاسْتِدْلَال إِلَيْهِ كَانَ سبيلهم وَإِن كَانَ ذَلِك الِاسْتِدْلَال اسْتِدْلَال غَيرهم فَيبْطل التَّعَلُّق بِالْإِجْمَاع أصلا فان قيل أَلَيْسَ لَو اتَّفقُوا على الحكم اجْتِهَادًا وَلم يعلم كل وَاحِد مِنْهُم أَن غَيره قد وَافقه جَازَ لكل وَاحِد مِنْهُم مُخَالفَة ذَلِك الحكم وَلَا يَأْثَم من خَالفه فقد صَار جَوَاز مُخَالفَة ذَلِك الحكم سبيلهم بأجمعهم قيل هَذَا لَازم فيهم إِذا أَجمعُوا على الحكم بالأدلة

وَالْجَوَاب فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِد وَهُوَ أَنه إِذا كَانَت الْحَال هَذِه فانه إِنَّمَا جوز كل وَاحِد مِنْهُم مُخَالفَة قَوْلهم بِشَرْط كَونه غير مجمع عَلَيْهِ أَلا ترى أَنه لَو علم أَنه مجمع عَلَيْهِ لم يجز ذَلِك فاذا علمنَا أَن الحكم مُتَّفق عَلَيْهِ لم يجز أَن نخالفهم فَأَما من قَالَ إِن الْحق فِي وَاحِد فانه يمْنَع من مُخَالفَة قَوْله سَوَاء اتّفق عَلَيْهِ أَو لم يتَّفق عَلَيْهِ وَيدل عَلَيْهِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمتِي لَا تَجْتَمِع على خطأ وَمِمَّا اتَّفقُوا عَلَيْهِ أَنه لَا يجوز مخالفتهم وَلقَائِل أَن يَقُول لم زعمتم أَنهم اجْتَمعُوا على ذَلِك وَإِذا كَانَ فِي النَّاس من يجوز مخالفتهم لم يُؤمن أَن يكون فِي المجمعين عَن اجْتِهَاد من يجوز مخالفتهم فَلَا يَصح ادِّعَاء الْإِجْمَاع فالمخالف يقيس القَوْل الْمجمع عَلَيْهِ بِاجْتِهَاد على الْمُخْتَلف فِيهِ بعلة أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا صادر عَن اجْتِهَاد وَالْجَوَاب أَن الْعلَّة فِي الأَصْل أَنه قَول لم يقْتَرن بِهِ دَلِيل مَقْطُوع بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِك مَا اجْتمع عَلَيْهِ ثمَّ تعارضهم فيقيس الْمَسْأَلَة على مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ مِمَّا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد بعلة أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا قَول مُتَّفق عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الِاتِّفَاق بعد الِاخْتِلَاف وَبعد الِاتِّفَاق وَفِي الِاخْتِلَاف بعد الِاتِّفَاق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن أهل الْعَصْر إِذا اتَّفقُوا على حكم من الْأَحْكَام فانه يجوز أَن يتَّفق من بعدهمْ على متابعتهم وَهُوَ الْوَاجِب عَلَيْهِم وَيجوز أَن يخالفهم بعض أهل الْعَصْر الثَّانِي وَلَا يحل ذَلِك لَهُم لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِيل من بعض الامة أَن يعدل عَن الْحق وَلَا يجوز أَن يتَّفق أهل الْعَصْر الثَّانِي على مخالفتهم وَحكى قَاضِي الْقُضَاة عَن الشَّيْخ أبي عبد الله أَنه قَالَ إِنَّمَا لم يجز أَن يتفقوا على مخالفتهم لِأَن أهل الْعَصْر الأول أَجمعُوا على أَنه لَا يجوز أَن يَقع الْإِجْمَاع من بعد على مخالفتهم وَلَو لم يجمعوا على ذَلِك لجَاز أَن يتفقوا على مخالفتهم وَيكون الْإِجْمَاع الثَّانِي فِي حكم النَّاسِخ للْأولِ وَحكي عَن الشَّيْخ أبي عَليّ أَنه قَالَ

لَو جَازَ ذَلِك لجَاز أَن يخالفهم رجل وَاحِد ولجاز أَن يَنْضَم إِلَيْهِ غَيره إِلَى أَن يتَّفق أهل الْعَصْر الثَّانِي على خلاف قَول الْأَوَّلين وَقَوله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} يمْنَع من أَن يتبع أهل الْعَصْر الثَّانِي غير سبيلهم وَلِأَن الْمَسْأَلَة إِن لم تكن من مسَائِل الِاجْتِهَاد فخلاف مَا اجْتمع عَلَيْهِ أهل الْعَصْر الأول فِيهَا ضَلَالَة والامة لَا تَجْتَمِع على ضَلَالَة فَأَما إِذا اخْتلف أهل الْعَصْر فِي الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ فانه يجوز أَن يتَّفق من بعدهمْ على أَحدهمَا فاذا اتَّفقُوا كَانَ صَوَابا وَحجَّة مُحرمَة للأخذ بالْقَوْل الآخر وَفِي كلا الْمَوْضِعَيْنِ اخْتِلَاف أما جَوَاز اتِّفَاق من بعدهمْ على أحد الْقَوْلَيْنِ فقد منع مِنْهُ قوم ظنا مِنْهُم أَن اخْتِلَاف من تقدم فِي ضمنه الْإِجْمَاع على جَوَاز الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ على الاطلاق فأدخلوا فِي الْإِجْمَاع مَا لَيْسَ مِنْهُ وَهَذَا سَنذكرُهُ عِنْد الْكَلَام فِيمَا ألحق بِالْإِجْمَاع وَلَيْسَ هُوَ مِنْهُ وَأما إِذا اتَّفقُوا على أحد الْقَوْلَيْنِ فقد حكى قَاضِي الْقُضَاة فِي الْعمد عَن بعض الْمُتَكَلِّمين وَبَعض أَصْحَاب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ أَنه لَا يكون حجَّة فِي تَحْرِيك القَوْل الآخر وَحكي عَن شَيخنَا أبي عبد الله وَأبي الْحسن وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي أَنه يكون حجَّة فِي تَحْرِيم القَوْل الآخر وَذكر فِي الشَّرْح أَن النَّاس اخْتلفُوا فِي ذَلِك فَمنهمْ من جعل ذَلِك محرما للْخلاف على كل حَال وَمِنْهُم من لم يَجعله محرما للْخلاف على كل حَال وَلم يفصل بَين الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمِنْهُم من جعله محرما للْخلاف فِي حَال دون حَال وَالْحَال الَّتِي يحرم فِيهَا الْخلاف هِيَ أَن يكون المتفقون على أحد الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَة هم الَّذين اخْتلفُوا فِيهَا سَوَاء كَانَ ذَلِك عصر الصَّحَابَة أَو غَيرهم وَالْحَال الَّتِي لَا يكون اتِّفَاقهم مَعهَا حجَّة مزيلة للْخلاف هِيَ أَن يخْتَلف أهل عصر ويتفق من بعدهمْ على أحد قوليهم وَالدَّلِيل على أَن الِاتِّفَاق يحرم الِاخْتِلَاف على جَمِيع الْأَحْوَال قَوْله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} وَقَوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا}

وَقد بَينا أَن ذَلِك يتَنَاوَل كل عصر وَلم يفصل فِي تَحْرِيم اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ بَين أَن يكون قد تقدم اخْتِلَاف أَو لم يتَقَدَّم وَاسْتدلَّ قَاضِي الْقُضَاة بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمتِي لَا تَجْتَمِع على خطأ فَيجب كَون مَا اتّفق عَلَيْهِ أهل الْعَصْر الثَّانِي غير خطأ فان قيل لَيْسَ هُوَ خطأ وَلَيْسَ يحرم بعدهمْ أَن يخالفهم قيل قد أَجمعُوا على أَنه لَا يجوز أَن يخالفهم وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّه لَا يُمكن ادِّعَاء الْإِجْمَاع على ذَلِك لِأَن الْأمة مُخْتَلفَة فِي اتِّفَاق أهل الْعَصْر على أحد الْقَوْلَيْنِ هَل يجوز مُخَالفَته أم لَا وَاسْتدلَّ أَيْضا بِأَن الْإِجْمَاع الْمُبْتَدَأ لَا يجوز خِلَافه وَكَذَلِكَ إِذا اخْتلفت الصَّحَابَة ثمَّ اتّفقت فَيجب مثله فِي التَّابِعين إِذا اتَّفقُوا بعد اخْتِلَاف الصَّحَابَة وَلقَائِل أَن يَقُول إِن أوجبتم ذَلِك لدُخُول اتِّفَاقهم تَحت أَدِلَّة الْإِجْمَاع فَذَلِك رُجُوع إِلَى الْأَدِلَّة الْمُتَقَدّمَة وَإِن أوجبتم ذَلِك بِالْقِيَاسِ فَمَا الْعلَّة الجامعة فان قُلْتُمْ الْعلَّة فِي ذَلِك أَنه إِجْمَاع قيل لكم لَيست هَذِه عِلّة مَعْلُومَة وَالْأَصْل فِي الْجَمَاعَة أَنه يجوز اتفاقها على الْخَطَأ وَإِنَّمَا امتنعنا من ذَلِك للأدلة فَيجب اعْتِبَارهَا دون الْقيَاس لِأَنَّهُ لَا يظفر فِي ذَلِك بعلة مَعْلُومَة وَلَيْسَ لكم أَن تجْعَلُوا الْعلَّة فِي الأَصْل كَونه إِجْمَاعًا بِأولى من أَن نَجْعَلهَا كَونه إِجْمَاعًا مُبْتَدأ على انه قد حكى قَاضِي الْقُضَاة فِي الدَّرْس أَن قوما قَالُوا إِن اتِّفَاق الصَّحَابَة بعد اختلافها لَا يحرم الْخلاف وَاحْتج الْمُخَالف بِأُمُور مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} فَشرط التَّنَازُع فِي وجوب الرَّد والتنازع قد حصل وَلَيْسَ يخرج بالِاتِّفَاقِ الْوَاقِع

من أَن يكون قد تقدم حُصُوله فَوَجَبَ الرَّد وَالْجَوَاب أَن الرَّد إِلَى الْإِجْمَاع والتعلق بِهِ رد إِلَى الله وَالرَّسُول كَمَا أَن الْأَخْذ بِكِتَاب الله بِحكم الْقيَاس رد إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَأَيْضًا فَأهل الْعَصْر الثَّانِي إِذا اتَّفقُوا وَلم يَكُونُوا متنازعين فَلم يجب عَلَيْهِم الرَّد على قَول من يسْتَدلّ بِهَذِهِ الْآيَة على صِحَة الْإِجْمَاع وَمِنْهَا قَوْلهم إِن فِي ضمن اخْتِلَاف أهل الْعَصْر فِي الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ اتِّفَاق مِنْهُم على جَوَاز الْأَخْذ بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا فِي كل حَال لِأَنَّهُ لَا يخْتَص حَالا دون حَال فَلَو كَانَ اتِّفَاق من بعدهمْ على أحد الْقَوْلَيْنِ محرما للأخذ بالْقَوْل الآخر لم يخل إِمَّا أَن يكْشف عَن تَحْرِيمه فِي الْمُسْتَقْبل فَيكون نسخا وَذَلِكَ لَا يكون بعد انْقِطَاع الْوَحْي وَإِمَّا أَن يكْشف عَن تَحْرِيمه فِي الْمَاضِي والمستقبل فَيدل على خطأ من تقدمه وَذَلِكَ لَا يجوز وَهَذَا هُوَ معنى قَوْلهم لَو حرم الْخلاف فِي الْمُسْتَقْبل لحرمه فِي الْمَاضِي وَالْجَوَاب أَن الْقَائِلين بِأَن الْحق فِي وَاحِد لَا يجوز أَن يحتجوا بِهَذَا الْكَلَام لِأَن عِنْدهم أَن الْمُجْتَهد لَا يجوز أَن يَأْخُذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا يجب عَلَيْهِ أَن يَأْخُذ بِالْحَقِّ مِنْهُمَا والعامي إِنَّمَا يجوز لَهُ أَن يُقَلّد من يفتيه فاذا أَجمعُوا على أَحدهمَا لم يجد من يفتيه بِالْآخرِ فَيُقَال قد حرم عَلَيْهِ الْأَخْذ بِهِ بعد أَن كَانَ حَلَالا وَأما الْقَائِلُونَ بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب فجوابنا لَهُم إِن احْتَجُّوا بذلك هُوَ أَن الْمُخْتَلِفين فِي الْمَسْأَلَة إِنَّمَا سوغوا الْأَخْذ بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا لِأَن الْمَسْأَلَة مُخْتَلف فِيهَا وَهِي من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَيبين ذَلِك أَنهم لَو سئلوا عَن جَوَاز الْأَخْذ بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا لعللوا بذلك فعلى هَذَا الْمُسْتَدلّ أَن يبين أَن الْمَسْأَلَة بعد الِاتِّفَاق هِيَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَأما نَحن فاذا بَينا أَنهم إِذا اتَّفقُوا عَلَيْهَا فقد تناولهم أَدِلَّة الْإِجْمَاع وَحرم خلافهم علمنَا أَن الشَّرْط المجوز للأخذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ قد زَالَ فَزَالَ حكمه وَلَا يُسمى ذَلِك نسخا لِأَن الحكم إِذا وقف على شَرط يعلم زَوَاله وثبوته لَا بِالشَّرْعِ فانه لَا يكون زَوَاله بِزَوَال شَرطه نسخا أَلا ترى أَن زَوَال وجوب الصّيام بِدُخُول اللَّيْل لَا يكون نسخا فان قيل لَسْتُم بِأَن تجْعَلُوا اجْتِمَاع الْمُخْتَلِفين على جَوَاز الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ مَشْرُوطًا بِثُبُوت الِاخْتِلَاف بِأولى من أَن نجْعَل نَحن كَون

الِاتِّفَاق حجَّة مَشْرُوطًا بِنَفْي تقدم الْخلاف قيل مَا ذَكرْنَاهُ أولى لأَنا قد بَينا أَن الْمُخْتَلِفين سوغوا الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ بِالشّرطِ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَكَانَ الأولى مَا قُلْنَاهُ على أَن مَا ذَكرُوهُ ينْتَقض عَلَيْهِم باجماع أهل الْعَصْر بعد النّظر والفحص الطَّوِيل لِأَن ذَلِك اتِّفَاق مِنْهُم على جَوَاز التَّوَقُّف فِي الْمَسْأَلَة وَلَا يسوغ بعد اتِّفَاقهم التَّوَقُّف فِيهَا وينتقض على قَول بَعضهم إِن الصَّحَابَة إِذا اتّفقت بعد مَا اخْتلفت حرم الْأَخْذ بالْقَوْل الآخر ثمَّ يُقَال لَهُم إِذا لم تجْعَلُوا اتِّفَاق أهل الْعَصْر الثَّانِي حجَّة مَعَ أَنه اتِّفَاق صَرِيح فَهَلا قُلْتُمْ إِن اتِّفَاق أهل الْعَصْر الأول على جَوَاز الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ بِحجَّة فِي جَوَاز الْأَخْذ بِهِ مَعَ أَنه اتِّفَاق لَيْسَ بِصَرِيح وَهُوَ مَعَ ذَلِك مَبْنِيّ على القَوْل بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب وَمِنْهَا قَوْلهم لَو كَانَ قَوْلهم إِذا اتَّفقُوا بعد الِاخْتِلَاف حجَّة لَكَانَ قَول إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ حجَّة إِذا مَاتَت الطَّائِفَة الْأُخْرَى وَفِي ذَلِك كَون قَوْلهم حجَّة بِالْمَوْتِ وَالْجَوَاب أَنا نتبين لمَوْت إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَن قَول الْأُخْرَى حجَّة لدُخُول تَحت أَدِلَّة الْإِجْمَاع لَا أَن الْمَوْت يُوجب كَون قَوْلهم حجَّة على أَن مَسْأَلَتنَا جَمِيع الْمُخْتَلِفين قَالُوا باخذ الْقَوْلَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا مَاتَت إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَمِنْهَا قَوْلهم لَو كَانَ اتِّفَاق أهل الْعَصْر الثَّانِي حجَّة لكانوا قد صَارُوا إلبه بِدَلِيل وَحجَّة وَلَو كَانَ كَذَلِك لما خَفِي على الصَّحَابَة وَالْجَوَاب أَنه لَا يجوز أَن يخفى هَذَا وَمثله على جَمِيعهم فَأَما أَن يخفى على بَعضهم فَيجوز لِأَن بَعضهم لَيْسَ بِحجَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي انْقِرَاض الْعَصْر هَل هُوَ شَرط فِي كَون الْإِجْمَاع حجَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن كثيرا من النَّاس لم يعتبروا انْقِرَاض الْعَصْر أصلا واعتبره بَعضهم وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فَقَالَ بَعضهم هُوَ طَرِيق إِلَى انْعِقَاد الْإِجْمَاع وَسَيَجِيءُ القَوْل

فِيهِ وَمِنْهُم من جعله شرطا فِي كَون الْإِجْمَاع حجَّة وَجوز لبَعض المجمعين أَن يُخَالف قَوْله وَدَلِيل الْأَوَّلين قَوْله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} وَقَوله {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} وَقَوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء} وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمتِي لَا تَجْتَمِع على ضلال وكل ذَلِك يُوجب الرُّجُوع إِلَى الْإِجْمَاع وَلَا يفرق بَين انْقِرَاض الْعَصْر وَنفي انقراضه دَلِيل لَيْسَ يَخْلُو إِمَّا أَن تكون الْحجَّة هِيَ انْقِرَاض الْعَصْر أَو اتِّفَاقهم بِشَرْط انْقِرَاض الْعَصْر أَو اتِّفَاقهم فَقَط وَالْأول يَقْتَضِي أَن يكون الْعَصْر لَو انقرض من دون اتِّفَاقهم أَن يكون حجَّة وَالثَّانِي يَقْتَضِي أَن يكون لموتهم تَأْثِير فِي كَون قَوْلهم حجَّة وَذَلِكَ لَا يجوز كَمَا لَا يكون لمَوْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَأْثِير فِي كَون قَوْله حجَّة وَلقَائِل أَن يَقُول أَلَيْسَ موت النَّبِي لَا يصير مَعَه قَوْله حجَّة والامة عنْدكُمْ إِذا اخْتلفت فِي الْمَسْأَلَة على فرْقَتَيْن ثمَّ مَاتَت إِحْدَاهمَا كَانَ قَول الْأُخْرَى حجَّة ففارقت الْأمة النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك فَهَلا جَازَ أَن تفترقا فِي الْوَجْه الآخر دَلِيل آخر لَو اعْتبرنَا انْقِرَاض الْعَصْر لم ينْعَقد الْإِجْمَاع لِأَنَّهُ قد حدث من التَّابِعين فِي زمن الصَّحَابَة قوم من أهل الِاجْتِهَاد وَذَلِكَ يجوز مخالفتهم لَهُم لِأَن الْعَصْر مَا انقرض وَيجب اعْتِبَار انْقِرَاض عصر التَّابِعين وَمَعْلُوم أَنه لم ينقرض عصرهم إِلَّا بعد أَن حدث من تابعيهم من هُوَ من أهل الِاجْتِهَاد فَجَاز أَن يخالفوهم وَيعْتَبر انْقِرَاض عصرهم ثمَّ كَذَلِك القَوْل فِي كل عصر وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّه لَا يمْتَنع أَن يكون الْمُعْتَبر هُوَ انْقِرَاض عصر من كَانَ

مُجْتَهدا عِنْد حُدُوث الْحَادِثَة لَا من يَتَجَدَّد بعد ذَلِك فَلَا يلْزم اعْتِبَار عصر التَّابِعين إِذا حدث فيهم مُجْتَهد بعد حُدُوث الْحَادِثَة وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء مِنْهَا أَن عليا عَلَيْهِ السَّلَام سُئِلَ عَن بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد فَقَالَ كَانَ رَأْيِي ورأي عمر أَن لَا يبعن ثمَّ رَأَيْت بيعهنَّ فَقَالَ لَهُ عُبَيْدَة السَّلمَانِي رَأْيك مَعَ الْجَمَاعَة أحب إِلَيّ من رَأْيك وَحدك فَدلَّ على أَنه كَانَ الْإِجْمَاع قد سبق وَالْجَوَاب أَنه قد رُوِيَ أَن جَابر بن عبد الله كَانَ يرى فِي زمن عمر جَوَاز بيعهنَّ فَلم يكن الْإِجْمَاع قد انْعَقَد وَقَول عُبَيْدَة السَّلمَانِي رَأْيك مَعَ الْجَمَاعَة أحب إِلَيّ من رَأْيك وَحدك يدل على أَنه قد كَانَ على قَول عمر جمَاعَة وَلَيْسَ قَول كل جمَاعَة هُوَ إِجْمَاع وَإِنَّمَا اخْتَار أَن يَنْضَم قَول عَليّ إِلَى قَول عمر لِأَنَّهُ رجح قَول الْأَكْثَر على قَول الْأَقَل وَمِنْهَا أَن أَبَا بكر الصّديق كَانَ يرى التَّسْوِيَة فِي الْقِسْمَة وَلم يُخَالِفهُ أحد من الصَّحَابَة ثمَّ خَالفه عمر لما صَار الْأَمر إِلَيْهِ ففضل فِي الْقِسْمَة وَلم يُنكر عَلَيْهِ السّلف وَالْجَوَاب أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قد كَانَ خَالفه فِي زَمَانه وناظره فَقَالَ لَهُ أَتجْعَلُ من جَاهد فِي سَبِيل الله بِمَالِه وَنَفسه كمن دخل فِي الاسلام كرها فَقَالَ إِنَّمَا عمِلُوا لله وَإِنَّمَا أُجُورهم على الله وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغ وَلم يرو أَن عمر رَجَعَ إِلَى قَول أبي بكر فَلَا يمْتَنع أَنه كَانَ يرى التَّفْضِيل فَلَمَّا صَار الْأَمر إِلَيْهِ فضل وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْإِجْمَاع لَا يسْتَقرّ قبل انْقِرَاض الْعَصْر لِأَن النَّاس يكونُونَ فِي حَال تَأمل وفحص فَوَجَبَ وُقُوعه على انْقِرَاض الْعَصْر وَالْجَوَاب إِن أَرَادوا بِنَفْي الِاسْتِقْرَار نفي كَونه حجَّة فَذَلِك نفس الْمَسْأَلَة وَإِن أَرَادوا أَنه لَا ينْعَقد فَهُوَ خَارج عَمَّا نَحن بسبيله لأَنا إِنَّمَا تكلمنا على من قَالَ إِنَّه ينْعَقد وَلَا يكون حجَّة على أَن الْفَصْل بَين حَال التَّأَمُّل وَحَال الْقطع على الشَّيْء لَا يفْتَقر إِلَى

انْقِرَاض الْعَصْر لأَنا نفصل بَين النَّاظر المتأمل المتوقف وَبَين الْقَاطِع المناضل لِأَن الْإِنْسَان إِذا أخبر عَن نَفسه أَنه مُعْتَقد للشَّيْء فَهُوَ بِخِلَاف أَن يخبر عَن نَفسه أَنه متأمل مُتَوَقف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا أخرج من الْإِجْمَاع وَهُوَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعلم أَن أهل الْعَصْر إِذا اخْتلفُوا فِي الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ متنافيين فَإِنَّهُ يتَضَمَّن اتِّفَاقهم على تخطئة مَا سواهُمَا فَلَا يجوز لمن بعدهمْ إِحْدَاث قَول آخر وَحكي عَن بعض أهل الظَّاهِر أَنه لم يَجْعَل ذَلِك اتِّفَاقًا على تخطئة مَا سواهُمَا فَأجَاز لمن بعدهمْ إِحْدَاث قَول آخر ثَالِث وَالْقَوْل فِي ذَلِك فرع على إِمْكَان إِحْدَاث قَول ثَالِث فَيجب بَيَانه أَولا فَنَقُول إِن الْقَوْلَيْنِ المتنافيين فِي الْمَسْأَلَة لَا يُمكن أَن يكون بَينهمَا قَول ثَالِث إِلَّا أَن يكون فِيهِ بعض الْمُوَافقَة لكل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ أَو لأَحَدهمَا مِثَاله أَن يَقُول بعض الْأمة النِّيَّة وَاجِبَة فِي الطهارات كلهَا وَيَقُول الْبَاقُونَ لَيست بواجبة فِي شَيْء من الطهارات فَيمكن أَن يَقُول قَائِل هِيَ وَاجِبَة فِي بعض الطهارات دون بعض ومثاله أَيْضا أَن يَقُول بعض الْأمة النِّيَّة وَاجِبَة فِي كل طَهَارَة وَيَقُول بَعضهم هِيَ وَاجِبَة فِي بعض الطهارات دون بعض فَيمكن أَن يَقُول قَائِل لَيست بواجبة فِي شَيْء من الطهارات ومثاله أَيْضا قَول بعض الْأمة الْجد يَرث جَمِيع المَال مَعَ الْأَخ وَفِي قَول البَاقِينَ يقاسم الْأَخ فَيمكن أَن يَقُول قَائِل لَا يَرث شَيْئا أصلا مَعَ الْأَخ فَيكون قد وَافق من قَالَ يقاسم الْأَخ بعض الْمُوَافقَة لِأَنَّهُمَا قد اشْتَركَا فِي أَن منعا الْجد من بعض المَال وَاحْتج من أجَاز إِحْدَاث قَول ثَالِث بِأَن الْمَمْنُوع مِنْهُ هُوَ مُخَالفَة الْإِجْمَاع وَلَيْسَ مَعَ هَذَا الإختلاف إِجْمَاع وَلِأَنَّهُ رُوِيَ عَن ابْن سِيرِين أَنه قَالَ فِي امْرَأَة وأبوين إِن للْأُم ثلث جَمِيع المَال وَأَن لَهَا ثلث مَا يبْقى فِي زوج وأبوين

ففصل بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ وَلم يُنكر عَلَيْهِ مَعَ أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُمَا لم تفصل بَينهمَا بل قَالَ بَعضهم فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لَهَا ثلث مَا بَقِي وَقَالَ آخَرُونَ لَهَا ثلث جَمِيع المَال وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ إِن الْأكل نَاسِيا لَا يفْطر وَالْجِمَاع نَاسِيا يفْطر وَمن تقدمه مِنْهُم من فطر بهما وَمِنْهُم من لم يفْطر بهما وَهَذَا الِاحْتِجَاج من الْمُخَالف يدل على أَنه أجَاز إِحْدَاث قَول ثَالِث فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لَا فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة وَاحْتج قَاضِي الْقُضَاة للْمَنْع من إِحْدَاث قَول ثَالِث بِأَن الْأمة أَجمعت على الْمَنْع من ذَلِك كَمَا أَجمعت على الْمَنْع من إِحْدَاث قَول يُخَالف الْإِجْمَاع الْمُصَرّح والاتفاق على ذَلِك سَابق أَلا تراهم منعُوا من إِحْدَاث قَول آخر فِي الْجد مَعَ الْأَخ حَتَّى يُقَال المَال كُله للْأَخ قَالَ وَلنَا أَن ندعي الْإِجْمَاع فِي ذَلِك مُطلقًا وَلنَا أَن ندعيه فِي الْجد خَاصَّة ونحمل عَلَيْهِ غَيره فَنَقُول إِنَّمَا منعُوا من ذَلِك فِي الْجد لِأَنَّهُ إِحْدَاث قَول آخر لم يقل بِهِ أحد من الْأمة لِأَنَّهُ لَا وَجه لَهُ يُمكن أَن يُعلل فِيهِ إِلَّا بِمَا ذَكرْنَاهُ إِذْ لَا يُمكن أَن يُقَال إِنَّمَا لم يجز أَن يُقَال المَال كُله للْأَخ لِأَنَّهُ لَا أَمارَة لذَلِك لِأَن الأمارة على ذَلِك إِن لم تكن أقوى من الأمارة الدَّالَّة على أَن المَال كُله للْجدّ لم تكن أَضْعَف مِنْهَا وَلقَائِل أَن يَقُول لَا اسْلَمْ أَن فِي الْمَنْع من إِحْدَاث قَول ثَالِث إِجْمَاعًا سَابِقًا وَلَا سَبِيل لكم إِلَى الْعلم بذلك فَأَما مَسْأَلَة الْجد فَلَا يجوز تَجْدِيد قَول آخر فِيهَا لَيْسَ لأَنهم أَجمعُوا على الْمَنْع من ذَلِك بل لِأَن القَوْل بِأَن المَال كُله للْأَخ يتَضَمَّن مَا أَجمعُوا على خِلَافه وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن الْأمة إِذا اخْتلفت على قَوْلَيْنِ فقد أَجمعت فِي الْمَعْنى على الْمَنْع من إِحْدَاث قَول ثَالِث لِأَن كل طَائِفَة تحرم الْأَخْذ إِلَّا بِمَا قالته أَو قَالَه مخالفها فَقَط فجواز إِحْدَاث قَول ثَالِث يَقْتَضِي جَوَاز الْأَخْذ بِهِ وَقد منعُوا مِنْهُ وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا حظروا الْأَخْذ إِلَّا بِمَا قَالُوهُ بِشَرْط أَن لَا يُؤَدِّي

اجْتِهَاد غَيرهم إِلَى إِحْدَاث قَول ثَالِث كَمَا يَقُولُونَ إِنَّهُم سوغوا الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ بِشَرْط أَن لَا يَقع الإتفاق على أَحدهمَا فَخرج الْمَسْأَلَة من مسَائِل الِاجْتِهَاد فَيَنْبَغِي أَن يُقَال إِن كَانَ اخْتلَافهمْ على قَوْلَيْنِ هُوَ فِي مَسْأَلَتَيْنِ فَالْقَوْل فِي ذَلِك يَأْتِي نَحْو أَن يَقُول بَعضهم كل طَهَارَة تحْتَاج إِلَى نِيَّة وَيَقُول الْبَاقُونَ لَيْسَ شَيْء من الطهارات يحْتَاج إِلَى نِيَّة فَيَقُول قَائِل آخر بَعْضهَا تحْتَاج إِلَى النِّيَّة دون بعض وَإِن كَانَ اخْتلَافهمْ فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة نَحْو مَسْأَلَة الْجد مَعَ الْأَخ لم يجز إِحْدَاث قَول ثَالِث لِأَنَّهُ مُخَالف لصريح إِجْمَاعهم كالقول بِأَن المَال كُله للْأَخ لِأَن فِي ذَلِك سلب المَال كُله عَن الْجد والمختلفون فِي مَسْأَلَة الْجد قد اتَّفقُوا على أَن للْجدّ قسطا من المَال من قَالَ مِنْهُم إِنَّه أَحَق بِجَمِيعِ المَال وَمن قَالَ إِنَّه يقاسم الْإِخْوَة وَهَذَا الْوَجْه يفْسد قَوْلهم إِن الْمَمْنُوع مِنْهُ هُوَ مُخَالفَة الْإِجْمَاع وَلَا إِجْمَاع مَعَ الإختلاف لأَنا قد بَينا أَن إِحْدَاث قَول ثَالِث فِيهِ خلاف لما أَجمعُوا عَلَيْهِ وَأما المحكى عَن ابْن سِيرِين وَالثَّوْري فَلَيْسَ هُوَ من هَذِه الْمَسْأَلَة بل من مَسْأَلَة أُخْرَى وَهِي التَّفْرِقَة بَين مَا أَجمعُوا على أَنه لَا فرق بَينهمَا واحتجاج أهل الظَّاهِر بقول ابْن سِيرِين وَالثَّوْري يدل على أَنهم جوزوا إِحْدَاث قَول ثَالِث فِي هَذِه الْمسَائِل وأشباهها دون مَا ذَكرْنَاهُ من مَسْأَلَة الْجد وأمثالها وَسَنذكر الْآن القَوْل فِي التَّفْرِقَة بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ وَفِي غَيرهمَا مِمَّا ألحق بِالْإِجْمَاع وَلَيْسَ مِنْهُ بعون الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أهل الْعَصْر إِذا لم يفصلوا بَين مَسْأَلَتَيْنِ هَل لمن بعدهمْ أَن يفصل بَينهمَا أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنهم إِذا لم يفصلوا بَينهمَا فَذَلِك ضَرْبَان أَحدهمَا أَن يَقُولُوا لَا فصل بَين هَاتين الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي كل الْأَحْكَام أَو فِي الحكم الْفُلَانِيّ وَالْآخر أَن لَا ينصوا

على ذَلِك لَكِن لَا يكون فيهم من فرق بَينهمَا فِي الحكم فَالْأول لَا يجوز لأحد أَن يفصل بَينهمَا لِأَن الْفَصْل بَينهمَا خلاف لما نصوا عَلَيْهِ واعتقدوه وَلِأَن قَوْلهم لَا فصل بَينهمَا ظَاهره يَقْتَضِي أَنَّهُمَا قد اشْتَركَا فِيمَا يَقْتَضِي الحكم من غير وَجه يفرق بَينهمَا فَمن فصل بَينهمَا فقد خالفهم فِي ذَلِك وَهَذَا الضَّرْب يَنْقَسِم أقساما ثَلَاثَة أَحدهمَا أَن يرْوى اتِّفَاق الْأمة على حكم الْمَسْأَلَتَيْنِ نَحْو أَن يحكموا فيهمَا بِالتَّحْرِيمِ أَو بالتحليل وَالْآخر أَن يرْوى اخْتِلَاف الْأمة فيهمَا فيحكى عَن طَائِفَة أَنَّهَا حكمت فيهمَا بِالتَّحْرِيمِ وَعَن البَاقِينَ أَنهم حكمُوا فيهمَا بِالْإِبَاحَةِ وَالْآخر أَن لَا يرْوى لنا عَنْهُم اخْتِلَاف فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَلَا اتِّفَاق فَمَتَى كَانَ كَذَلِك وَدلّ الدَّلِيل فِي إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ على تَحْرِيم أَو إِبَاحَة وَجب أَن يحكم فِي الْمَسْأَلَة الْأُخْرَى بذلك وَلَا يفرق بَينهمَا فَأَما إِذا لم ينصوا على أَنه لَا فصل بَينهمَا بل لَا يكون فيهم من فرق بَينهمَا نَحْو أَن يحكم بعض الْأمة فِي كلا الْمَسْأَلَتَيْنِ بِحكم وَيحكم الْبَاقُونَ فيهمَا بنقيضه وَذَلِكَ ضَرْبَان أَحدهمَا أَن يشيروا إِلَى حكم وَاحِد فيثبته أحد الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وينفيه الْآخرُونَ عَنْهُمَا نَحْو أَن يحرم شطر الْأمة كلا الْمَسْأَلَتَيْنِ ويبيحهما الْبَاقُونَ وَالضَّرْب الآخر أَن يشيروا فيهمَا إِلَى حكمين مُخْتَلفين نَحْو أَن يُوجب بعض الْأمة النِّيَّة فِي الْوضُوء وَلَا يَجْعَل الصَّوْم من شَرط الِاعْتِكَاف وَلَا يُوجب الْبَاقُونَ النِّيَّة فِي الْوضُوء ويجعلون الصَّوْم من شَرط الِاعْتِكَاف أما الْقسم الأول فَذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الدَّرْس وَالشَّرْح أَنه إِن كَانَ الْمَعْلُوم أَن طَريقَة الحكم فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَاحِدَة لَا يجوز كَونهَا مُتَغَايِرَة فَذَلِك جَار مجْرى أَن يَقُولُوا لَا فصل بَينهمَا لأَنا نعلم أَنهم قد اعتقدوا أَنه لَا يفرق بَينهمَا وَأَنه قد نظمهما طَريقَة وَاحِدَة وَمن فصل بَينهمَا فقد خَالف مَا اعتقدوه من ذَلِك فَأَما إِن جَازَ أَن لَا تكون الطَّرِيقَة فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَاحِدَة وَأَنَّهُمْ سووا بَينهمَا لطريقين فَإِنَّهُ يجوز لمن بعدهمْ أَن يفرق بَينهمَا فَيحرم إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ ويبيح الْأُخْرَى فيوافق فِي كل قَول أحد الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّهُ بذلك لَا يكون مُخَالفا لما

أَجمعُوا عَلَيْهِ لَا فِي حكم وَلَا فِي تَعْلِيل لأَنا قد بَينا أَن الْعلَّة يجوز أَن لَا تكون وَاحِدَة وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ إِذا قَالَ بعض الْأمة بِتَحْرِيم مَسْأَلَتَيْنِ متباينتين فِي الْعلَّة وَقَالَ الْبَاقُونَ بإباحتهما قد أَجمعُوا على أَن لَا فصل بَينهمَا لوَجَبَ إِذا حرم بَعضهم إِحْدَى مَسْأَلَتَيْنِ متباينتين وأباح اخرى وَحرم الْبَاقُونَ مَا أَبَاحَهُ هَؤُلَاءِ وأباحوا مَا حظروه أَن يَكُونُوا قد أَجمعُوا على أَن بَينهمَا فرقا فَلَا يجوز لأحد أَن يحرمهما مَعًا أَو يبيحهما مَعًا وَلَو لم يجز ذَلِك لوَجَبَ على من وَافق الشَّافِعِي فِي مَسْأَلَة أَن يُوَافقهُ فِي جَمِيع مذْهبه وَيسْقط عَنهُ الِاجْتِهَاد وَالْأمة مجمعة على خلاف ذَلِك وَمَا حكى عَن ابْن سِيرِين من أَنه فرق بَين زوج وأبوين وَامْرَأَة وأبوين وَأَن الثَّوْريّ فرق بَين جماع الصَّائِم نَاسِيا وَبَين أكله نَاسِيا فَإِن كَانَت طَريقَة الْمَسْأَلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ فرقا بَينهمَا مُتَغَايِرَة فَمَا فعلاه جَائِز وَإِلَّا لم يجز على أَن ابْن سِيرِين قد عاصر بعض الصَّحَابَة فَلَا يمْتَنع أَن يكون حَاضرا حِين اخْتلفُوا فِي زوج وأبوين وَامْرَأَة وأبوين وَذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الْعمد أَنه لَا يجوز الْفَصْل بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ وَلم يفصل هَذَا التَّفْصِيل ذكر ذَلِك فِي أَن الْأمة لَا يجوز أَن تخطىء فِي مَسْأَلَتَيْنِ وَذكر فِي شرح هَذَا الْبَاب أَمْثِلَة احْتج بهَا فَمِنْهَا أَن يعْقد شطر الْأمة لرجل الْإِمَامَة ويسكت الْبَاقُونَ فَلَو لم يكن ذَلِك الرجل مُسْتَحقّا للْإِمَامَة لَكَانَ العاقدون قد اخطأوا بِالْعقدِ وَالْبَاقُونَ قد أخطأوا بِالسُّكُوتِ وَلقَائِل أَن يَقُول إِن تِلْكَ مَسْأَلَة وَاحِدَة وَهِي إِمَامَة ذَلِك الشَّخْص وَالْكل قد رَضوا بهَا وَأَجْمعُوا على ترك إِنْكَار العقد لَهُ من غير مَانع فَلَو كَانَ خطأ لما أَجمعُوا على ترك إِنْكَاره وَمِنْهَا أَن يتَّفق نصف الْأمة على مَذْهَب المرجئة فِي غفران مَا دون الشّرك من كَبِير وصغير ويتفق الْبَاقُونَ على مَذْهَب الْخَوَارِج فِي الْمَنْع من غفران جَمِيع الْمعاصِي وَهَذَا الِاتِّفَاق على الْخَطَأ فِي مَسْأَلَتَيْنِ وَلقَائِل أَن يَقُول إِن ذَلِك خطأ فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة لِأَن الْقَائِلين بِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ متفقون على أَن الصَّغِيرَة لَا يجب

سُقُوط عقابها لِأَن المرجىء يَقُول إِن غفرانها بِفضل وَجوز عِقَاب فاعلها والخارجي لم يُوجب سُقُوط عقابها فقد اتَّفقُوا على الْبَاطِل وَهُوَ أَن عقابها لَا يجب سُقُوطه وَمِنْهَا أَن يتَّفق نصف الْأمة على أَن العَبْد يَرث وَالْقَاتِل لَا يَرث ويتفق الْبَاقُونَ على عكس ذَلِك على أَن العَبْد لَا يَرث وَالْقَاتِل يَرث فَيَكُونُوا قد اتَّفقُوا على الْخَطَأ فِي إِرْث العَبْد وَالْقَاتِل إِذْ الصَّوَاب أَنَّهُمَا جَمِيعًا لَا يرثان وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منع من اجْتِمَاعهم على الْخَطَأ سَوَاء كَانَ ذَلِك فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة أَو فِي مَسْأَلَتَيْنِ وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّه كَانَ لَا يمْتَنع أَن تخْتَلف الْأمة فِي الْقَاتِل وَالْعَبْد على مَا ذكرتموه لِأَن الْخَطَأ إِمَّا أَن يكون هُوَ القَوْل بِإِرْث العَبْد أَو بِإِرْث الْقَاتِل أَو بإرثهما جَمِيعًا وَلم يَقع الِاتِّفَاق على إِرْث أَحدهمَا على انْفِرَاده وَلَا على إرثهما جَمِيعًا لِأَن كل وَاحِد من الْأمة لم يقل بإرثهما جَمِيعًا فَيثبت أَن اتِّفَاق نصف الْأمة على الْخَطَأ فِي مَسْأَلَة واتفاق النّصْف الآخر على الْخَطَأ فِي مَسْأَلَة أُخْرَى لَا يُفِيد اتِّفَاق جَمِيعهم على الْخَطَأ وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن الْأمة إِذا حرم نصفهَا كلا مَسْأَلَتَيْنِ وأباحهما الْآخرُونَ فقد اتَّفقُوا على أَن لَا فصل بَينهمَا وَإِن لم ينصوا على ذَلِك وَلَيْسَ يقْدَح فِي وُقُوع الِاتِّفَاق على ذَلِك أَن تكون أدلتهم مُخْتَلفَة وَإِذا كَانَ كَذَلِك دخل ذَلِك تَحت أَدِلَّة الْإِجْمَاع وَالْجَوَاب أَن قَول هَذَا المحتج إِن الْأمة قد اعتقدت أَنه لَا فرق بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ يفهم مِنْهُ أُمُور مِنْهَا أَنهم اعتقدوا أَن بَينهمَا تعلقا واشتراكا يَقْتَضِي التَّسْوِيَة فِي الحكم وَأَنه لَيْسَ بَينهمَا مَا يَقْتَضِي التَّفْرِقَة فِي الحكم وَهَذَا بَاطِل لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يتفقوا على ذَلِك فِي مَسْأَلَتَيْنِ قد فَرضنَا أَنه لَا تعلق بَينهمَا وَمِنْهَا أَن يَكُونُوا قد نصوا على أَنه لَا فرق بَينهمَا وَهَذَا بَاطِل لِأَن كلامنا مَفْرُوض فِي أَنهم لم ينصوا على ذَلِك وَمِنْهَا أَن يَكُونُوا قد اتَّفقُوا على اسْتِوَاء الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي الحكم فِي الْجُمْلَة وَإِن

افْتَرَقُوا فِي تَفْصِيله وَلَا يُمكن أَن يُقَال ذَلِك هَا هُنَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَال اتَّفقُوا على اسْتِوَاء حكم الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي الْجُمْلَة إِذا دلّ الدَّلِيل على أَن حكم الْمَسْأَلَتَيْنِ حكم وَاحِد إِمَّا التَّحْرِيم وَإِمَّا التَّحْلِيل ثمَّ يَحْتَاجُونَ إِلَى أَن ينْظرُوا فِي حكمهَا على التَّفْصِيل وَإِنَّمَا يدل الدَّلِيل على ذَلِك من حَال الْمَسْأَلَتَيْنِ إِذا كَانَ بَينهمَا تعلق يَقْتَضِي ذَلِك وكلامنا فِي مَسْأَلَتَيْنِ لَا تعلق بَينهمَا وَمَا هَذَا سَبيله لَا يعْتَقد فيهمَا أَنه لَا فرق بَينهمَا يبين ذَلِك أَن شطر الْأمة إِذا أوجب النِّيَّة فِي الْوضُوء لدَلِيل وَأوجب غسل النَّجَاسَة لدَلِيل آخر فَإِنَّهُ لَا يُقَال إِنَّهُم قد اعتقدوا أَنه لَا يجوز افتراقهما فِي الْوُجُوب بل عِنْدهم أَنه يجوز أَن تدل الدّلَالَة على وجوب أَحدهمَا دون الآخر وَإِنَّمَا اتّفق إِن دلّ على وجوب هَذَا دَلِيل وعَلى وجوب ذَلِك دَلِيل فَكَذَلِك لَو دلّ دَلِيل على وجوب النِّيَّة فِي الْوضُوء وَدلّ دَلِيل آخر على نفي وجوب غسل النَّجَاسَة لم يجز أَن يُقَال قد وَجب افتراقهما وَأَن الْأمة أَجمعت على وجوب افتراقهما لِأَن الْمَعْقُول من ذَلِك ثُبُوت تعلق يَقْتَضِي وجوب افتراقهما لَا أَنه اتّفق إِن دلّ على وجوب أَحدهمَا دَلِيل وعَلى نفي وجوب الآخر دَلِيل آخر وَلَو وَجب أَن يفرق بَينهمَا لوَجَبَ على من أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى قَول الشَّافِعِي فِي مَسْأَلَة أَن يُوَافقهُ فِي جَمِيع مسَائِله وَإِن لم يكن بَينهمَا تعلق وَإِذا لم يكن من الْأمة بأجمعها فِيمَا نَحن بسبيله اتِّفَاق على حكم وَلَا على عِلّة لم يدْخل مَا ذَكرُوهُ تَحت أَدِلَّة الْإِجْمَاع وَلَو دخل تَحت قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمتِي لَا تَجْتَمِع على خطأ لدل ذَلِك على أَن مَا قَالُوهُ لَيْسَ بخطأ وَلَا يدل على أَن الْفرق بَينهمَا خطأ إِذا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاد مُجْتَهد على قَول من قَالَ إِن كل مُجْتَهد مُصِيب وَاحْتج أَيْضا بِأَن الْأمة إِذا اخْتلفت على قَوْلَيْنِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ فقد أوجبت كل طَائِفَة مِنْهَا على غَيرهَا أَن تَقول بقولِهَا أَو بقول الطَّائِفَة الْأُخْرَى وحظرت مَا سوى ذَلِك وَذَلِكَ يمْنَع من إِحْدَاث قَول مفرق بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ وَالْجَوَاب أَنهم إِنَّمَا أوجبوا ذَلِك بِشَرْط أَن لَا يفرق بعض الْمُجْتَهدين بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ فَلَا نسلم أَنهم

حظروا ذَلِك إِلَّا بِهَذَا الشَّرْط كَمَا أَنهم جوزوا الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ بِشَرْط أَن لَا يَقع الِاتِّفَاق على أحد الْقَوْلَيْنِ فَأَما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ إِذا أشارت الْأمة إِلَى حكمين متباينين فِي مَسْأَلَتَيْنِ كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي إِيجَاب النِّيَّة فِي الطَّهَارَة وَجعل الصَّوْم شرطا فِي الِاعْتِكَاف فَإِنَّهُ إِن جَازَ أَن يكون بَينهمَا فرق يذهب إِلَيْهِ مُجْتَهد جَازَت التَّفْرِقَة بَينهمَا وَإِن لم يجز أَن يكون بَينهمَا فرق بل كَانَ ينظمهما طَريقَة وَاحِدَة تَقْتَضِي فيهمَا الْحكمَيْنِ المتباينين على بعد ذَلِك لم يجز أَن يُخَالف بَين حكميهما بل الْوَاجِب أَن يُقَال فيهمَا مَا قَالُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أهل الْعَصْر إِذا تأولوا الْآيَة بِتَأْوِيل أَو استدلوا على الْمَسْأَلَة بِدَلِيل أَو اعتلوا فِيهَا بعلة هَل يجوز لمن بعدهمْ إِحْدَاث تَأْوِيل أَو دَلِيل أَو عِلّة غير مَا ذَكرُوهُ أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إعلم أَن الْإِنْسَان إِذا اسْتدلَّ بطريقة على حكم من الْأَحْكَام أَو على فَسَاد شُبْهَة أَمارَة كَانَت تِلْكَ الطَّرِيقَة أَو دلَالَة فَإِنَّهُ إِمَّا أَن يكون أهل الْعَصْر الأول قد نصوا على فَسَاد تِلْكَ الطَّرِيقَة أَو على صِحَّتهَا أَو لم ينصوا على صِحَّتهَا وَلَا على فَسَادهَا فَإِن نصوا على فَسَادهَا أَو على صِحَّتهَا فَهُوَ على مَا نصوا عَلَيْهِ وَإِن لم ينصوا على ذَلِك لم يمْتَنع صِحَة تِلْكَ الطَّرِيقَة إِلَّا أَن يكون فِي صِحَّتهَا إبِْطَال حكم أَجمعُوا عَلَيْهِ وَالدَّلِيل على مَا قُلْنَاهُ أَن النَّاس فِي كل عصر يستخرجون أَدِلَّة وعللا وَلَا يُنكر عَلَيْهِم فَكَانَ ذَلِك إِجْمَاعًا وَلِأَنَّهُ لَو لم يجز ذَلِك لَكَانَ إِمَّا أَن لَا يجوز لِأَنَّهُ مُخَالف للْإِجْمَاع الْمُتَقَدّم وَمَعْلُوم أَن الْأمة لم تحكم بِفساد الدَّلِيل الثَّانِي نصا وَلَا حكمهَا بِصِحَّة دليلها يَقْتَضِي فَسَاد غَيره إِذْ لَا يمْتَنع أَن يكون على الْمَذْهَب الْوَاحِد أَكثر من دَلِيل وَاحِد وَيُمكن من منع من ذَلِك أَن يسْتَدلّ بأَشْيَاء

مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} وَالدَّلِيل الثَّانِي غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ فالوعيد لَاحق بِمن اتبعهُ وَالْجَوَاب أَن قَوْله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} خرج مخرج الذَّم لمن اتبع غير سبيلهم فالمفهوم مِنْهُ من اتبع مَا نَفَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وحكموا بإبطاله دون مَا لم يحكموا بفساده بل لَو اتّفق لَهُم لجَاز أَن يَقُولُوا بِهِ أَلا ترى أَنه لَو لم تحدث الْمَسْأَلَة فِي الْعَصْر الأول وَحدثت فِي الْعَصْر الثَّانِي جَازَ أَن يَقُول أهل الْعَصْر الثَّانِي فِيهَا قولا وَلَا يُقَال إِن ذَلِك اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ مِمَّن تقدم لما لم يَكُونُوا قد نفوه وحكموا بإبطاله وَمِنْهَا أَن قَوْله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر} يدل على أَنهم يأمرون بِكُل مَعْرُوف لأجل لَام الْجِنْس فَلَو كَانَ الدَّلِيل الثَّانِي مَعْرُوفا لأمروا بِهِ وَالْجَوَاب أَن قَوْله وتنهون عَن الْمُنكر يَقْتَضِي أَيْضا أَن ينهوا عَن كل مُنكر فَلَو كَانَ الدَّلِيل الثَّانِي بَاطِلا لَكَانَ مُنْكرا ولنهوا عَنهُ فلنا فِي الظَّاهِر مثل مَا لَهُم وَمِنْهَا أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمتِي لَا تَجْتَمِع على خطأ يدل على أَن مَا ذَهَبُوا عَنهُ لَيْسَ بخطأ وَقد ذَهَبُوا على الدَّلِيل الثَّانِي فَلم يكن ذهابهم عَنهُ خطأ وَإِذا لم يكن خطأ لم يكن مَا ذَهَبُوا عَنهُ دَلِيلا وَالْجَوَاب إِن أردتم بقولكم ذَهَبُوا عَن الدَّلِيل الثَّانِي أَنهم حكمُوا بفساده لم يُوجد ذَلِك فِي مَسْأَلَتنَا وَإِن أردتم أَنهم لم ينصوا على أَنه دَلِيل أَو لم يستدلوا بِهِ فَذَلِك صَحِيح وتركهم الِاسْتِدْلَال بِهِ وَالنَّص على كَونه دَلِيلا لَيْسَ بخطأ وَلَا يجب من ذَلِك فَسَاد الدَّلِيل لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ تَركهم الِاسْتِدْلَال بِهِ غير خطأ لاستغنائهم بدليلهم عَنهُ وَمِنْهَا قَوْلهم إِنَّه لَو جَازَ أَن يذهب على أهل الْعَصْر الأول الدَّلِيل الثَّانِي جَازَ أَن يوحي الله تَعَالَى إِلَى نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَلِيلين على حكم وَاحِد فَيسنّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك الحكم لأجل أحد الدَّلِيلَيْنِ دون الآخر وَالْجَوَاب أَن يُقَال لَهُم قد

جمعتم بَين الْأَمريْنِ بِغَيْر عِلّة وَأَيْضًا فَإِن أوحى الله تَعَالَى إِلَى نبيه بِأحد الدَّلِيلَيْنِ فَيسنّ الحكم عَقِيبه ثمَّ أوحى إِلَيْهِ بِالدَّلِيلِ الثَّانِي فَإِنَّهُ إِنَّمَا يسن الحكم لمَكَان الدَّلِيل الأول لِأَنَّهُ لم يكن سواهُ حِين سنّ الحكم وَيكون الدَّلِيل الثَّانِي تَأْكِيدًا وَإِن كَانَ قد أوحى إِلَيْهِ بهما مَعًا فَلَا بُد من أَن يكلفه فهم المُرَاد بهما وَلَا بُد من أَن يفهم المُرَاد بهما فَلَا يجوز أَن يَدعُوهُ أَحدهمَا إِلَى أَن يسن الحكم دون الآخر لِأَن فِي ذَلِك رفضا للْآخر وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا بُد من أَن يكلفه أَن يفهم المُرَاد بهما لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يخاطبه بِمَا لَا يفهم المُرَاد مِنْهُ وَلِأَنَّهُ إِن كلفه أَن يبلغ كلا الدَّلِيلَيْنِ إِلَى أمته وَجب أَن يفهم المُرَاد بِهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤمن أَن يسْأَل عَنهُ وَإِذا لم يعرف المُرَاد بِهِ نفر عَنهُ وَمِنْهَا أَنه لَو كَانَ الدَّلِيل الثَّانِي صَحِيحا لما جَازَ أَن يذهب عَن الصَّحَابَة مَعَ تقدمها فِي الْعلم وَالْجَوَاب أَنه يجوز أَن يذهب عَنْهُم إِذا لم يطلبوه اسْتغْنَاء بِمَا ظفروا بِهِ من الدَّلِيل وَأهل الْعَصْر الثَّانِي إِنَّمَا ظفروا بِهِ لأَنهم تنبهوا بِمَا ذكره الْأَولونَ واستغنوا عَن طلب الدَّلِيل الأول فشغلوا أفكارهم وزمانهم فِي طلب غَيره فَإِن قيل أفكلف الْأَولونَ طلب الدَّلِيل الثَّانِي قيل كلفوا ذَلِك على سَبِيل التَّطَوُّع وَترك ذَلِك جَائِز وَالْقَوْل فِي الْعلَّة كالقول فِي الدّلَالَة لِأَن الْعلَّة دلَالَة على الحكم فِي الْفَرْع إِلَّا أَن تعود الْعلَّة بِالنَّقْضِ على مَا اجْتَمعُوا عَلَيْهِ بِأَن يُوجد فِي مَوضِع أَجمعت الْأمة فِيهِ على نقيض حكمهَا نَحْو أَن يُعلل مُعَلل تَحْرِيم الْبر بِأَنَّهُ جسم لِأَن ذَلِك مَوْجُود فِيمَا أَجمعُوا على إِبَاحَته فَمن لم يقل بتخصيص الْعلَّة لَا يُجِيز ذَلِك وَأما إِذا تأولت الْأمة الْآيَة بِتَأْوِيل فَإِنَّهُم إِن نصوا على فَسَاد مَا عداهُ لم يجز إِحْدَاث تَأْوِيل سواهُ وَإِن لم ينصوا على ذَلِك فَمن النَّاس من منع من تاويل زَائِد وأجراه مجْرى الْمَذْهَب الزَّائِد وَمِنْهُم من أجَازه وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن التَّابِعين وَمن بعدهمْ قد أَحْدَثُوا تأويلات لم يكن ذكرهَا السّلف وَلم يُنكر عَلَيْهِم وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إِحْدَاث تَأْوِيل آخر مُخَالفَة لإجماعهم لأَنهم لم ينصوا على إِبْطَاله وَلَيْسَ فِي

إِجْمَاعهم على التَّأْوِيل الأول إبِْطَال الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون الله تَعَالَى قد أَرَادَ كلا التَّأْويلَيْنِ وَأَرَادَ أَن يفهم بِالْخِطَابِ شَيْئا مَا إِمَّا هَذَا وَإِمَّا هَذَا وَإِمَّا كِلَاهُمَا وكل ذَلِك مُخَيّر فِيهِ فَإِذا فهمت الْأمة أَحدهمَا فقد خرجت عَمَّا كلفته لأَنهم كلفوا فهم كلا التَّأْويلَيْنِ بِشَرْط أَن يطلبوه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أهل الْعَصْر إِذا اخْتلفُوا فِي الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ هَل يجوز وُقُوع الِاتِّفَاق على أَحدهمَا أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حكى قَاضِي الْقُضَاة عَن الصَّيْرَفِي أَنه منع من اتِّفَاق أهل الْعَصْر الثَّانِي على أحد قولي أهل الْعَصْر الأول وَأَجَازَهُ أَكثر النَّاس وَلم يجْعَلُوا الِاخْتِلَاف الْمُتَقَدّم متضمنا على جَوَاز الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ على كل حَال وَوَجهه انه إِن أُرِيد بِجَوَاز انْعِقَاد الْإِجْمَاع إِمْكَانه فَلَا شُبْهَة فِي أَن الْجَمَاعَة الْكَثِيرَة يُمكنهَا أَن تتفق على مُوجب الدّلَالَة وَلِهَذَا جَازَ انْعِقَاد الْإِجْمَاع الْمُبْتَدَأ وَإِن أُرِيد بِهِ الْحسن فَلَا شُبْهَة أَيْضا فِي حسن إِجْمَاع الْجَمَاعَة على مُقْتَضى الدّلَالَة وَإِن أُرِيد بِالْجَوَازِ الشَّك فمعلوم أَنه لَا دَلِيل يدل على الْقطع على نفي إِجْمَاعهم على حكم من الْأَحْكَام حَتَّى لَا يشك فِي ذَلِك وَمِمَّا يدل على إِمْكَان ذَلِك وَحسنه أَن الصَّحَابَة توقفت فِي الامامة ثمَّ أطبقت على إِمَامَة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَاتفقَ التابعون على الْمَنْع من بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد بعد اخْتِلَاف الصَّحَابَة فِيهِ والمخالف يحْتَج بِأَن اخْتِلَاف أهل الْعَصْر الأول فِي ضمنه اتِّفَاق مِنْهُم على جَوَاز تَقْلِيد الْعَاميّ لكل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ وَجَوَاز أَخذ الْمُجْتَهد بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا إِذا أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَيْهِ فَلَو أجمع أهل الْعَصْر الثَّانِي على أحد الْقَوْلَيْنِ لَكَانَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَصح الإجماعان أَو يفسدا أَو يَصح احدهما وَيفْسد الآخر وَلَيْسَ يجوز أَن يفْسد أَولا أَحدهمَا لِأَن الْأمة لَا تَجْتَمِع على خطأ وَلَو كَانَا صَحِيحَيْنِ لَكَانَ الثَّانِي مِنْهُمَا نَاسِخا للْأولِ والنسخ بعد ارْتِفَاع الْوَحْي محَال وَلَو جَازَ ذَلِك لجَاز أَن يتَّفق أهل الْعَصْر على قَول ويتفق أهل الْعَصْر الثَّانِي على

خِلَافه وَفَسَاد هَذِه الْأَقْسَام يمْنَع من اتِّفَاقهم على أحد الْقَوْلَيْنِ وَالْجَوَاب أَن الْقَائِلين بِأَن الْحق فِي وَاحِد لَا يجوز لَهُم أَن يحتجوا بِهَذَا الْكَلَام لِأَن عِنْدهم أَن الْمُجْتَهد لَا يجوز أَن يَأْخُذ إِلَّا بِالْحَقِّ من الْقَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا يجوز للعامي أَن يُقَلّد من يفتيه فَإِذا اتَّفقُوا على أَحدهمَا لم يجد الْعَاميّ من يفتيه بِالْآخرِ فَلَا يُمكن أَن يُقَال قد حرم عَلَيْهِ الْأَخْذ بِهِ إِذا أُفْتِي بِهِ بعد أَن كَانَ حَلَالا وَأما الْقَائِلُونَ بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب فجوابهم إِن احْتَجُّوا بذلك هُوَ أَن الْمُخْتَلِفين فِي الْمَسْأَلَة إِنَّمَا سوغوا الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ لِأَن الْمَسْأَلَة مُخْتَلف فِيهَا وَهِي من مسَائِل الإجتهاد لأَنهم لَو سئلوا عَن جَوَاز الْأَخْذ بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا لعللوا بذلك فعلى هَذَا المحتج أَن يبين أَن الْمَسْأَلَة من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَإِن وَقع الِاتِّفَاق عَلَيْهَا حَتَّى يَصح دَلِيله وَقد سلف استقصاء هَذَا الْجَواب من قبل فِي بَاب مُتَقَدم وَأما قَوْلهم لَو جَازَ أَن يجْتَمع أهل الْعَصْر الثَّانِي على خلاف مَا اجْتمع عَلَيْهِ الْأَولونَ من جَوَاز الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ لجَاز اتِّفَاق أهل الْعَصْر الأول على قَول واتفاق أهل الْعَصْر الثَّانِي على قَول خِلَافه فَلَا يسْتَقرّ إِجْمَاع فَبَاطِل لأَنا قد بَينا أَن الْمُخْتَلِفين قد سوغوا الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ بِشَرْط قد زَالَ وَأهل الْعَصْر الثَّانِي قد اجْمَعُوا على الْمَنْع من ذَلِك مَعَ زَوَال الشَّرْط فَلم يجمع الْآخرُونَ على خلاف مَا أجمع عَلَيْهِ الْأَولونَ وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا أجمع الْأَولونَ على قَول وَأجْمع الْآخرُونَ على خِلَافه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْإِجْمَاع إِذا عارضته الْأَدِلَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنهم قد يجمعُونَ على القَوْل وعَلى الْفِعْل وعَلى الرِّضَا واتفاقهم على الْفِعْل لَا يَقْتَضِي أَن غَيرهم مثلهم فِيهِ إِلَّا لدلَالَة وَإِذا رَضوا بِكَوْن القَوْل قولا لَهُم ولغيرهم كَانَ صَوَابا مِنْهُم وَمن غَيرهم فَأَما إِذا قَالُوا قولا وعارضه قَول

النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يجوز أَن نعلم أَن قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكَلَامِهِ هُوَ ظَاهره ونعلم أَن قصدهم بكلامهم ظَاهره مَعَ تعَارض الْكَلَامَيْنِ لِأَن الْأَدِلَّة لَا تتناقض ثمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن نعلم أَن قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ظَاهره أَو نعلم أَن قصد الامة بكلامهم هُوَ ظَاهره أَو لَا نعلم قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا قصد الامة فان علمنَا قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجب تَأْوِيل كَلَام الامة على مُوَافقَة كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن علمنَا قصد الامة بكلامهم وَجب تَأْوِيل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن لم نعلم قصد أَحدهمَا فان كَانَ أَحدهمَا أخص من الآخر خصصنا الْأَعَمّ بالأخص وَإِن لم يكن أَحدهمَا أخص من الآخر فانهما يتعارضان لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن تكون الامة قد عرفت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قصد بِكَلَامِهِ غير ظَاهره وَيحْتَمل أَن تكون عرفت أَنه قصد ظَاهر كَلَامه وأرادت هِيَ بكلامها غير ظَاهره وَيحْتَمل أَو يُقَال لَو علمت أَن النَّبِي أَرَادَ بِكَلَامِهِ ظَاهره لما أطلقت كلَاما يُفِيد ظَاهره مُخَالفَته فَلَا بُد وَالْحَال هَذِه من أَن تكون قد علمت أَنه أَرَادَ بِكَلَامِهِ غير ظَاهره وَأما نسخ أَحدهمَا بِالْآخرِ فَلَا يَصح وَقد تكلمنا فِي ذَلِك فِي بَاب النَّاسِخ والمنسوخ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن الْأمة لَا تَجْتَمِع إِلَّا عَن طَرِيق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْأمة لَا تَجْتَمِع إِلَّا عَن دلَالَة أَو أَمارَة وَلَا تَجْتَمِع عَبَثا ذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَن قوما أَجَازُوا انْعِقَاد الْإِجْمَاع عَن توفيق لَا توفيق بِأَن يوفقهم الله تَعَالَى لاختيار الصَّوَاب وَإِن لم يكن لَهُم دلَالَة وَلَا أَمارَة وَالدَّلِيل على الْمَنْع من ذَلِك أَن مَعَ فقد هَذِه الدّلَالَة والأمارة لَا يجب الْوُصُول إِلَى الْحق وَلِأَنَّهُم لَيْسُوا بآكد حَالا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعْلُوم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَقُول الا عَن وَحي فالامة أولى أَن لَا تَقول إِلَّا أَن عَن دَلِيل وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ لَهُم ذَلِك لَكَانَ قد جَازَ لكل وَاحِد مِنْهُم أَن يَقُول بِغَيْر دلَالَة لأَنهم إِنَّمَا يَجْتَمعُونَ على القَوْل بِأَن

يَقُول كل وَاحِد مِنْهُم بِهِ وَإِذ جَازَ ذَلِك لآحادهم لم يكن للمجمعين مزية فِي ذَلِك فان قيل مزية الْإِجْمَاع فِي ذَلِك أَنه يكون حجَّة وكل وَاحِد مِنْهُم لَهُ أَن يَقُول عَن غير دلَالَة وَلَا يكون قَوْله حجَّة فاذا أجتمعوا كَانَ حجَّة قيل إِنَّمَا أردنَا أَن لَا يكون للْإِجْمَاع مزية فِي جَوَاز القَوْل بِغَيْر دلَالَة وَالْخلاف فِي ذَلِك يرجع إِلَى قَول مويس بن عمرَان من أَنه يجوز للْعَالم أَن يَقُول بِغَيْر دلَالَة بِأَن يعلم الله تَعَالَى أَنه لَا يَقُول إِلَّا بِالصَّوَابِ وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء مِنْهَا أَن الْإِجْمَاع حجَّة فَلَو لم ينْعَقد إِلَّا عَن دلَالَة لكَانَتْ الدّلَالَة هِيَ الْحجَّة وَلم يكن فِي كَون الْإِجْمَاع حجَّة فَائِدَة وَالْجَوَاب أَن هَذَا يبطل بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فانه حجَّة وَلَا يَقُول إِلَّا عَن دلَالَة وَلَا يلْزم إِذا صدر الْإِجْمَاع عَن حجَّة أَن لَا يكون فِي كَونه حجَّة فَائِدَة وعَلى أَنه لَا يمْتَنع أَن يكون قَوْلهَا حجَّة وَمَا صدر قَوْلهَا عَنهُ حجَّة فَيكون فِي الْمَسْأَلَة حجتان وَأَيْضًا فالفائدة فِي ذَلِك أَن يسْقط عَنَّا الْبَحْث عَن الْحجَّة وَيسْقط عَنْهَا نقلهَا وَيحرم علينا الْخلاف الَّذِي كَانَ سائغا فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد على قَول من قَالَ كل مُجْتَهد مُصِيب وَمِنْهَا أَن الْإِجْمَاع قد انْعَقَد من غير دَلِيل نَحْو إِجْمَاعهم على بيع المراضاة من غير عقد والاستصناع واجرة الْحمام وَغير ذَلِك وَأخذ الْخراج وَأخذ الزَّكَاة من الْخَيل وَالْجَوَاب أَن كل ذَلِك مَا وَقع إِلَّا عَن دَلِيل وَإِن جَازَ أَن لَا ينْقل لما ذَكرْنَاهُ من أَن الْإِجْمَاع لَا ينْعَقد إِلَّا عَن دَلِيل وَأما الاستصناع وَعقد المراضاة فقد كَانَا على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يُنكره فَدلَّ على جَوَازه على أَن بيع المراضاة لما جرت الْعَادة بِهِ جرى الْأَخْذ والإعطاء فِي الدّلَالَة على الرِّضَا مجْرى القَوْل وَكَذَلِكَ اجرة الْحمام وَأما قسْمَة أَرض الْعَدو فللإمام أَن يقسمها وَأَن لَا يقسمها وَيعْمل فِيهَا بِحَسب الْمصلحَة وَلِهَذَا لم يقسم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم =

منَازِل مَكَّة وَلَا آبار هوَازن ومياههم وَأما أَخذ الزَّكَاة من الْخَيل فَلَيْسَ باجماع وَلَوْلَا أَنه قد علم من أوجبهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا دلّ على أَخذ الزَّكَاة مِنْهَا إِذا كثرت لَكَانَ إِيجَابه لَهَا نسخا للشريعة وَلما ترك النكير عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْأمة إِذا أَجمعت على مُوجب الْخَيْر هَل يكون الْخَبَر طَرِيقا إِلَى مَا أَجمعت عَلَيْهِ الْأمة أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْأمة إِذا أَجمعت على حكم كَانَ فِي الْأَخْبَار مَا يدل عَلَيْهِ فاما أَن يكون خبر وَاحِد أَو متواترا فان كَانَ متواترا فاما أَن يكون نصا لَا يحْتَاج مَعَه إِلَى اسْتِدْلَال طَوِيل واجتهاد أَو يحْتَاج مَعَه إِلَى ذَلِك فان كَانَ نصا علمنَا أَنهم أَجمعُوا لأَجله لِأَنَّهُ لَا يجوز مَعَ تواتره أَن لَا يقفوا عَلَيْهِ مَعَ طَلَبهمْ لما يدل على الحكم وَلَا يجوز مَعَ ظُهُوره أَن لَا يَدعُوهُم إِلَى الحكم فَيكون طريقهم إِلَيْهِ سَوَاء ظهر فيهم خبر مثله أَو لم يظْهر وَإِن كَانَ يحْتَاج فِي الِاسْتِدْلَال بِهِ إِلَى اجْتِهَاد طَوِيل وَبحث لم يمْتَنع أَن يَكُونُوا اجْمَعُوا لأَجله وَلم يمْتَنع أَجمعُوا لأجل خبر متواتر هُوَ أجلى مِنْهُ لم ينْقل اكْتِفَاء بِالْإِجْمَاع إِذا اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم وَاسْتدلَّ الْبَاقُونَ بِخَبَر آخر أَو بِقِيَاس وَإِن كَانَ الْخَبَر مَنْقُولًا بالآحاد لم يخل إِمَّا أَن يروي لنا أَنه ظهر فيهم أَو لَا يروي ذَلِك فان لم يرو ذَلِك جَوَّزنَا أَن يكون ظهر فيهم فَلم ينْقل إِلَيْنَا ظُهُوره فَأَجْمعُوا لأَجله وجوزنا أَن يكون ظهر فيهم خبر آخر أَجمعُوا أَو بَعضهم لأَجله وَلم ينْقل إِلَيْنَا اكْتِفَاء بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن يكون ذَلِك الْخَبَر كَانَ ظَاهرا فيهم فَلم ينْقل ظُهُوره إِلَيْنَا جَازَ أَن يظْهر فيهم خَبرا آخر فَلَا ينْقل إِلَيْنَا أصلا وَإِن كَانَ قد روى أَن ذَلِك الْخَبَر قد كَانَ ظهر فيهم فإمَّا أَن يروي بالتواتر أَو بالآحاد فان كَانَ قد روى بالآحاد وجوزنا صدق الرَّاوِي وَأَن يَكُونُوا أَجمعُوا لأَجله وجوزنا كذبه فَلَا يقطع على أَنهم أَجمعُوا لأَجله

وَلَكِن يغلب صدقه على الظَّن وَإِن نقل ظُهُور الْخَبَر فيهم بالتواتر جَازَ أَن يَكُونُوا أَجمعُوا لأَجله وَيقطع على ذَلِك من حَاله إِن قَالُوا أجمعنا لأَجله أَو كَانُوا متوقفين عَن الحكم بأجمعهم أَو كَانَ بَعضهم قد حكم بِخِلَافِهِ فَلَمَّا سمعُوا الْخَبَر قَالُوا بِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه يجوز أَن يجمعوا لأجل خبر الْوَاحِد لِأَن خبر الْوَاحِد طَرِيق إِلَى الحكم وَلَيْسَ يمْتَنع فِي الْجَمَاعَة الْكَثِيرَة أَن يجمعا على الحكم طَرِيق من طرقه وَإِن لم يَقُولُوا أجمعنا لأَجله وَلَا نقل رجوعهم إِلَيْهِ بعد توقفهم جَوَّزنَا أَن يَكُونُوا حكمُوا بِغَيْرِهِ وَلم ينْقل اكْتِفَاء بِالْإِجْمَاع وَبِالْجُمْلَةِ مَتى جَوَّزنَا أَن لَا ينْقل الْخَبَر الْمُتَوَاتر اكْتِفَاء بِالْإِجْمَاع على مُوجبه لم يجز الْقطع على أَن السّلف أَجمعُوا لأجل خبر الْوَاحِد وَلَا خبر متواتر مُحْتَمل إِلَّا أَن يَقُولُوا إِنَّا حكمنَا لأَجله أَو يجمعوا على مُوجبه عِنْد سماعهم لَهُ فان قيل فاذا أَجمعُوا على مُقْتَضى خبر الْوَاحِد أيقطعون على صدق الْمخبر قيل لَا لِأَنَّهُ يجوز أَن تكون الْمصلحَة أَن نحكم بِمَا ظننا صدقه من الْأَخْبَار سَوَاء كَانَت صَادِقَة فِي أَنْفسهَا أَو كَاذِبَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي جَوَاز وُقُوع الْإِجْمَاع عَن اجْتِهَاد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْقَائِلين بِأَن الْإِجْمَاع لَا ينْعَقد إِلَّا عَن طَرِيق اتَّفقُوا على جَوَاز انْعِقَاده عَن دلَالَة لِأَنَّهُ لَو لم يجز انْعِقَاده عَن دلَالَة لم يجز عَن أَمارَة وَفِي ذَلِك تعذر انْعِقَاده وَأَن يكون الله تَعَالَى قد أمرنَا بِاتِّبَاع مَا يتَعَذَّر وُقُوعه وَاخْتلفُوا فِي انْعِقَاده عَن أَمارَة فَمنع قوم من أهل الظَّاهِر من ذَلِك خفيت الدّلَالَة أم ظَهرت وَأَجَازَ أَكثر الْفُقَهَاء انْعِقَاده عَن الْجَلِيّ والخفي من الأمارات وَأَجَازَ قوم انْعِقَاده عَن الْجَلِيّ دون الْخَفي

وَدَلِيلنَا أَن الأمارة طَرِيق إِلَى الحكم كَمَا أَن الدّلَالَة طَرِيق إِلَى الحكم وَلَا مَانع من انْعِقَاد الْإِجْمَاع عَنْهَا كَمَا لَا مَانع من انْعِقَاد الْإِجْمَاع عَن الْأَدِلَّة خفيها وجليها فَكَمَا جَازَ مَا أمكن انْعِقَاده عَن جلي الْأَدِلَّة وخفيها جَازَ مثله فِي الأمارات فان قيل لم قُلْتُمْ لَا مَانع من ذَلِك قيل لِأَنَّهُ لَو منع مَانع من ذَلِك كَانَ معقولا وَكَانَ لَهُ تعلق مَعْقُول وَمَا يعقل من ذَلِك إِمَّا أَن يرجع إِلَى الدَّوَاعِي والصوارف وَإِمَّا أَن يرجع إِلَى أَحْكَام متنافية وَمَا يرجع إِلَى الدَّوَاعِي شَيْئَانِ أَحدهمَا أَن يُقَال إِن الْأمة على كثرتها وَاخْتِلَاف همها وأغراضها لَا يجوز أَن يجمعها الأمارة مَعَ خفائها وَلِأَن أَمارَة الحكم الْوَاحِد قد تكون متغائرة فَتكون أَمارَة بَعضهم غير أَمارَة الآخرين فَلَا تكون الأمارة الْوَاحِدَة دَاعِيَة لَهُم إِلَى ذَلِك وَلَو جَازَ مَعَ تعذر كَون الأمارة دَاعِيَة لجميعهم إِلَى الحكم أَن يجمعوا عَلَيْهِ جَازَ أَن يجتمعوا على مأكل وَاحِد وعَلى الْكَذِب فِي شَيْء وَاحِد وَيُفَارق ذَلِك اجْتِمَاعهم عَن دلَالَة أَو شُبْهَة لِأَن الْأَدِلَّة ظَاهِرَة والشبه تتقدر بِتَقْدِير الْأَدِلَّة عِنْد من صَار إِلَيْهَا وَيُفَارق إِجْمَاع الْخلق الْعَظِيم لحضور الأعياد لِأَن الدَّاعِي إِلَى ذَلِك ظَاهر فيهم الْجَواب أَن قَوْلهم إِن كَثْرَة عدد الامة وَاخْتِلَاف اغراضها يمْنَع من اجتماعها على حكم الأمارة مَعَ خفائها دَعْوَى وَلَيْسَ يمْتَنع أَن تجمعهم الأمارة الْوَاحِدَة أَو الأمارات على الحكم الْوَاحِد وَإِن اخْتلفت الْأَغْرَاض وَكثر الْعدَد لأَنهم قد اتَّفقُوا على وجوب الْمصير إِلَى الأمارة فاذا ظَهرت الأمارة لجميعهم دخلت فِي الْجُمْلَة الَّتِي اعتقدوها وَلذَلِك اتّفق اصحاب أبي حنيفَة فِي كثير من الْمسَائِل وهم خلق عَظِيم ويتفق كثير من أهل الحروب فِي كثير من الْحَالَات فِي الآراء وَاتفقَ الْخلق الْعَظِيم على الْمصير إِلَى مَوضِع الأعياد لما تقدم مِنْهُم اعْتِقَاد الْمصير إِلَى ذَلِك وَيُفَارق ذَلِك اتِّفَاقهم على الْكَذِب فِي شَيْء معِين لِأَنَّهُ لَا دَاعِي لَهُم إِلَى ذَلِك

وَقد بَينا أَن لما ذَكرْنَاهُ دَاعيا وَلِأَنَّهُ لَا يخْطر ببالهم كلهم الشَّيْء الَّذِي يكذبُون فِيهِ إِلَّا بِأَن يتراسلوا فَأَما استنباط الحكم بالأمارة فَلَا يحْتَاج إِلَى تراسل لِأَن الأمارات سَائِغَة فِي الْمُجْتَهدين لَا يَحْتَاجُونَ فِيهَا إِلَى تراسل وَأما اتِّفَاق جَمِيعهم على مأكل وَاحِد فانما لم يجز لِأَن ذَلِك تَابع لتساوي شهواتهم وتساوي إمكانهم وَقد علمنَا أَنهم مُخْتَلفُونَ فِي الشَّهَوَات وَإِمْكَان نيل مشتهاها فَمنهمْ من يَشْتَهِي مَا ينفر طبع الآخر عَنهُ وَمِنْهُم من تقوى شَهْوَته لما تنقص شَهْوَة الآخر لَهُ فتدعوه قُوَّة شَهْوَته إِلَى تنَاوله دون الآخر وَقد يتَّفق الِاثْنَان فِي شَهْوَة الشَّيْء ويتعذر على أَحدهمَا تَحْصِيله أَو يشق عَلَيْهِ ذَلِك وَلَا يتَعَذَّر على الآخر وَلَا يشق فلهذه الامور لم يتفقوا على مأكل وَاحِد وَقَوْلهمْ إِن الحكم الْوَاحِد لَا يكون لَهُ إِلَّا أَمارَة بَاطِل لِأَنَّهُ قد يجوز أَن تكون لَهُ أَمارَة وَاحِدَة فَتكون دَاعِيَة لجميعهم إِلَى حكمهَا وَقد تكون لَهُ أمارتان إِحْدَاهمَا أظهر من الْأُخْرَى فتدعو أظهرهمَا جَمِيعهم إِلَى حكمهَا وَقد تتساويان فيستدل بَعضهم باحداهما ويستدل الْبَاقُونَ بالاخرى أَو يسْتَدلّ كل وَاحِد مِنْهُم بكلتيهما فيتفقون فِي الحكم وَإِن تغايرت الأمارات وتفرقتهم بَين الأمارات والشبهة لَا تصح لِأَن الشُّبْهَة لَا تعلق لَهَا والأمارات لَهَا تعلق فاذا جَازَ أَن يجْتَمع الْخلق الْعَظِيم على الْخَطَأ لما لَا تعلق بِهِ فبأن يجوز أَن يجتمعوا لما لَهُ تعلق أولي وَالْوَجْه الآخر من الدَّوَاعِي هُوَ قَوْلهم إِن من الامة من يعْتَقد بطلَان الحكم بالأمارة وَذَلِكَ يصرفهُ عَن الحكم بهَا وَلَيْسَ فِي مُقَابلَة ذَلِك دَاع فيدعوه إِلَى حكمهَا وَذَلِكَ يمْنَع من اجْتِمَاع كل الامة على حكمهَا وَالْجَوَاب أَن هَذَا الْخلاف حَادث عندنَا وَالصَّحَابَة كَانَت مجمعة على صِحَة الِاجْتِهَاد فَهَذِهِ الشُّبْهَة لَا تتَنَاوَل عصر الصَّحَابَة وَقد أُجِيب عَن ذَلِك بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع فِيمَن اعْتقد بطلَان الحكم بالأمارة أَن يصير إِلَى حكمهَا إِذا كَانَت ظَاهِرَة لاعْتِقَاده كَونهَا دلَالَة فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى اتِّفَاق الْكل على حكمهَا وَهَذَا الْجَواب لَا يتَوَجَّه إِلَى من منع

من اجْتِمَاعهم على الأمارة الْخفية لهَذِهِ الشُّبْهَة وَأَيْضًا فان من اعْتقد قبح الحكم بالأمارة ثمَّ حكم بهَا لاعْتِقَاده فِيهَا أَنَّهَا دلَالَة فقد أقدم على اعْتِقَاد لَا يَأْمَن كَونه قبيحا وَذَلِكَ قَبِيح وغذا كَانَ كَذَلِك لم تكن كل الْأمة قد أَصَابُوا فِي ذَلِك الحكم وَلَا يجوز أَن تجمع الامة فَلَا يكون كل وَاحِد مِنْهُم مصيبا فِيمَا أَجمعُوا عَلَيْهِ وَبِهَذَا يُجَاب من انْفَصل عَن الشُّبْهَة بِأَن قَالَ لَا يمْتَنع فِيمَن اعْتقد قبح الحكم بالأمارة أَن يحكم بهَا وَإِن علم أَنَّهَا أَمارَة إِذا لم يجد سواهَا إِذْ لَا يمْتَنع فِي بعض الامة أَن يُنَاقض وَأما الْمَنْع من انْعِقَاد الْإِجْمَاع عَن اجْتِهَاد لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى اجْتِمَاع أَحْكَام متنافية فَهُوَ أَن يُقَال إِن الحكم الصَّادِر عَن اجْتِهَاد لَا يفسق مُخَالفَة وَيجوز مُخَالفَته فَلَا يَجْعَل أصلا وَلَا يقطع عَلَيْهِ وَلَا على تعلقه بالأمارة وَالْحكم الْمجمع عَلَيْهِ لَا يجوز مُخَالفَته ويفسق مخالفه وَيجْعَل أصلا وَيقطع عَلَيْهِ وعَلى تعلقه بطريقه فَلَو صدر الْإِجْمَاع عَن اجْتِهَاد لأجتمعت فِيهِ هَذِه الْأَحْكَام على تنافيها وَالْجَوَاب أما قَوْلهم إِن الحكم الْمُجْتَهد فِيهِ يجوز مُخَالفَته فان الْقَائِلين بِأَن الْحق فِي وَاحِد لَا يجوزون لأحد مُخَالفَة الْحق فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد أَلا تراهم يخطئون من خالفهم وَإِن أسقطوا عَنهُ المأثم وَكثير مِنْهُم يجوز للمقلد أَن يُقَلّد من يفتيه بِخِلَاف الْحق وَلَا يجوز ذَلِك فِيمَا اتّفق عَلَيْهِ وَيَقُول إِن ذَلِك من حق الِاجْتِهَاد إِلَّا أَن يصدر عَنهُ الْإِجْمَاع فان صدر عَنهُ الْإِجْمَاع لم يجز التَّقْلِيد فِي خِلَافه فَأَما الْقَائِلُونَ بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب فانهم يجوزون لغَيرهم من الْمُجْتَهدين أَن يخالفوهم فِي الحكم الَّذِي قَالُوهُ عَن اجْتِهَاد وَلَا يجوزون مثله فِيمَا اتّفق عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ إِن جَوَاز الْمُخَالفَة من حكم الِاجْتِهَاد إِذا لم يقْتَرن بِهِ إِجْمَاع وَلَيْسَ هُوَ من حكمه على الْإِطْلَاق فَيلْزم التَّنَافِي كَمَا أَن ذَلِك من حكم الِاجْتِهَاد إِذا لم يقْتَرن بِهِ تصويب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الْمُجْتَهد لَو اجْتهد مَعَ غيبَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَلغهُ ذَلِك فصوبه وَحكم بِهِ فانه لَا يجوز مُخَالفَته فَبَان أَن جَوَاز

الْمُخَالفَة لَيْسَ بِحكم الِاجْتِهَاد على الْإِطْلَاق فاذا صوب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المجمعين كَانَ كتصويبه الْمُجْتَهد فِي الْمَنْع من مُخَالفَة ذَلِك الحكم والعامي لَا يجوز لَهُ مُخَالفَة الحكم الْمُجْتَهد فِيهِ إِذا لم يجد من يفتيه بِغَيْرِهِ وَلَا يجوز للمجتهد أَن يُخَالف مَا حكم بِهِ عَلَيْهِ القَاضِي وَلَا يخرج مِنْهُ فَبَان أَن جَوَاز الْمُخَالفَة لَيْسَ من حق الِاجْتِهَاد على الْإِطْلَاق وَأَيْضًا فالمخالف يجوز أَن ينْعَقد الْإِجْمَاع عَن خبر الْوَاحِد مَعَ أَن الْإِجْمَاع لَا يجوز مُخَالفَته وَيجوز مُخَالفَة الحكم الَّذِي رَوَاهُ الْوَاحِد إِذا أدّى الِاجْتِهَاد فِي حَالَة إِلَى ترك حَدِيثه وترجيح غَيره عَلَيْهِ وَلم يؤد انْعِقَاد الْإِجْمَاع عَنهُ إِلَى التَّنَافِي فَكَذَلِك انْعِقَاده عَن اجْتِهَاد وَأما قَوْلهم إِنَّه لَا يفسق من خَالف حكم الِاجْتِهَاد ويفسق من خَالف الْإِجْمَاع فجواب الْفَرِيقَيْنِ عَنهُ أَن ذَلِك لَيْسَ من حكم الِاجْتِهَاد على الْإِطْلَاق بل هُوَ من حكمه إِذا لم يقْتَرن بِهِ إِجْمَاع كَمَا أَنه من حكمه إِذا لم يقْتَرن بِهِ تصويب من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما قَوْلهم إِن حكم الِاجْتِهَاد لَا يجوز أَن يَجْعَل أصلا يجوز ذَلِك فِي حكم الْإِجْمَاع فان من قَالَ كل مُجْتَهد مُصِيب لَا يجوز لمن لم يؤده اجْتِهَاده إِلَى الحكم أَن يَجعله اصلا لِأَن الْوَاجِب عَلَيْهِ غير ذَلِك الحكم فَأَما إِذا أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَيْهِ فان مِنْهُم من يَجعله أصلا ويقيس عَلَيْهِ فرعا آخر بعلة سوى الْعلَّة الَّتِي ثَبت بهَا الحكم فِي الْمَسْأَلَة الْمُجْتَهد فِيهَا وَمِنْهُم من لَا يَجعله أصلا لَا لِأَنَّهُ مُجْتَهد فِيهِ لَكِن لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يُقَاس عَلَيْهِ إِلَّا بعلة وَتلك الْعلَّة يُمكن أَن يُقَاس الْفَرْع بهَا على الأَصْل الأول فَلَا يكون لجعل ذَلِك الْفَرْع أصلا معنى فَأَما الحكم الْمجمع عَلَيْهِ من جِهَة الِاجْتِهَاد فانه قد صَار مَقْطُوعًا بِهِ كالمنصوص عَلَيْهِ فَجَاز أَن يُقَاس عَلَيْهِ فرع من الْفُرُوع بِالْعِلَّةِ الَّتِي ثَبت بهَا الحكم فِيهِ وَيكون قِيَاس الْفَرْع عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْعلَّة كقياسه على الأَصْل الأول لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا طَرِيقه مَقْطُوع بِهِ وَأما الْقَائِلُونَ بِأَن الْحق فِي وَاحِد فانهم لَا يجوزون الْقيَاس على مَا هُوَ خطأ وَمَا لَيْسَ بخطأ فان قَوْلهم فِي جعله أصلا يَنْبَغِي أَن

يكون على مَا ذَكرْنَاهُ الْآن وَأما قَوْلهم إِن الحكم الصَّادِر عَن اجْتِهَاد غير مَقْطُوع بِهِ وعَلى تعلقه بالأمارة فجواب أَكثر من يَقُول بِأَن الْحق فِي وَاحِد أَن ذَلِك هُوَ من حق الِاجْتِهَاد إِذا انْفَرد عَن إِجْمَاع أَو تصويب من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاذا اقْترن بِهِ أَحدهمَا قطع بِهِ وعَلى تعلقه بالأمارة وَإِنَّمَا يعلم تعلقه بالأمارة بِمَا اقْترن بِهِ وَيجْرِي مجْرى أَن يكون وقُوف غُلَام زيد على بَاب الْأَمِير أَمارَة على كَون زيد فِي الدَّار فاذا شَاهَدْنَاهُ فِيهَا أَو أخبرنَا نَبِي قَطعنَا على كَونه فِيهَا وَأَن حكم الأمارة مُتَعَلق بهَا وَكَذَلِكَ إِذا علمنَا صِحَة الْإِجْمَاع ثمَّ أَجمعُوا عَن أَمارَة وَأما الْقَائِلُونَ إِن كل مُجْتَهد مُصِيب فانهم يَقُولُونَ إِن الْمُجْتَهدين يقطعون على لُزُوم الحكم لمن أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَيْهِ كَمَا يقطعون على لُزُوم الحكم الْمجمع عَلَيْهِ ويقطعون على أَنه غير لَازم لمن لم يؤده اجْتِهَاده إِلَيْهِ وَيَقُولُونَ هَذَا حكم الِاجْتِهَاد مَا لم يقْتَرن بِهِ إِجْمَاع وَلَا تصويب من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر فِي الشَّرْح أَن الْأمة إِذا أَجمعت على حكم الأمارة لم يقطع على تعلق الحكم بهَا إِلَّا أَن تكون أَمارَة وَاحِدَة وَتجمع الامة على تعلق الحكم بهَا وَمَتى لم يجْتَمع كلا الشَّرْطَيْنِ لم يقطع على ذَلِك وَالْأولَى أَن يُقَال يقطع على تعلق الحكم بهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لذَلِك معنى أَكثر من ثُبُوت حكمهَا كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي علمنَا بِأَن زيدا فِي دَار الْأَمِير إِذا شَاهَدْنَاهُ فِيهَا بعد مشاهدتنا لوقوف غُلَامه على الْبَاب وَيدل على جَوَاز وُقُوع الْإِجْمَاع عَن اجْتِهَاد أَنه قد وَقع ذَلِك وَلم يكن ليَقَع إِلَّا ووقوعه جَائِز وَيدل على وُقُوعه إِجْمَاع الصَّحَابَة من جِهَة الِاجْتِهَاد على مبلغ حد الشّرْب وإجماعهم على قتال أهل الرِّدَّة وإمامة أبي بكر وَذكرهمْ وَجه اجتهادهم فان أَبَا بكر قَالَ لَا أفرق بَين مَا جمع الله تَعَالَى فقاس الزَّكَاة على الصَّلَاة فِي وجوب قتال المخل بهَا وَلَو كَانَ مَعَهم فِي قتال مَا نعي الزَّكَاة نَص لنقلوه وَقد ذكرُوا فِي إِمَامَة أبي بكر تَقْدِيم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه فِي الصَّلَاة وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا احْتج أَبُو بكر بِالْآيَةِ على وجوب الزَّكَاة ثمَّ اسْتَفَادَ

وجوب قِتَالهمْ من أجل أَن إِنْكَار الْمُنكر يكون بالْقَوْل فان نفع وَإِلَّا فبالقتال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الطَّرِيق إِلَى معرفَة الْإِجْمَاع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه إِذا لزمنا الْمصير إِلَى الْإِجْمَاع فَلَا بُد من أَن يكون لنا طَرِيق إِلَى الْعلم بِهِ وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون الْإِجْمَاع مَعْلُوما بِالْعقلِ ضَرُورَة أَو اسْتِدْلَالا وَإِمَّا مَعْلُوما بالإدراك وَمَعْلُوم أَنا لَا نعلم بِأول الْعقل أَن الْأمة مجمعة على حكم من الْأَحْكَام وَلَا باستدلال عَقْلِي فَبَقيَ أَن الْإِدْرَاك هُوَ الطَّرِيق إِلَى ذَلِك إِمَّا أَن ندرك قَوْلهم بِالسَّمَاعِ أَو نشاهدهم يَفْعَلُونَ فعلا وَإِمَّا أَن نسْمع الْخَبَر عَنْهُم وَإِذا لم يجز أَن يكون الْمخبر عَنْهُم هُوَ الله وَرَسُوله لِأَن الْوَحْي مُرْتَفع كَانَ الْمخبر عَن الْأمة غَيرهمَا فَثَبت أَن طَرِيق الْإِجْمَاع هُوَ سَمَاعنَا اقاويلهم ومشاهدهم فاعلين أَو النَّقْل عَنْهُم وَالسَّمَاع إِمَّا أَن يتَنَاوَل قَول كل وَاحِد مِنْهُم أَو يتَنَاوَل قَول بَعضهم فان تنَاول قَول كل وَاحِد مِنْهُم كَانَ طَرِيقا كَافِيا وَإِن تنَاول قَول بَعضهم لم يكن طَرِيقا إِلَى إِجْمَاعهم إِلَّا بِأحد أَمريْن إِمَّا أَن ينْقل لنا ذَلِك القَوْل عَن البَاقِينَ وَإِمَّا أَن ينْقل سكُوت البَاقِينَ عَن النكير مَعَ انتشار القَوْل فيهم وارتفاع التقية وَالنَّقْل عَنْهُم إِمَّا أَن يكون نقلا عَن جَمِيعهم فيكتفى بِهِ وَإِمَّا أَن يكون نقلا عَن بَعضهم فَلَا يكون طَرِيقا إِلَّا بِأَن نسْمع من البَاقِينَ مثل ذَلِك القَوْل وَإِمَّا بِأَن نعلم سكُوت البَاقِينَ عَن النكير مَعَ انتشار القَوْل فيهم وَالْخَبَر عَن المجمعين ضَرْبَان تَوَاتر وآحاد وكل وَاحِد مِنْهُمَا طَرِيق إِلَى الْإِجْمَاع وَنحن نذْكر القَوْل الْمُنْتَشِر فِي الصَّحَابَة لدُخُوله فِي الْجُمْلَة الَّتِي ذَكرنَاهَا ولتعلق شُبْهَة الْمُخَالف بِهِ فَنَقُول إِن قَول بعض أهل الْعَصْر إِذا انْتَشَر فِي جَمِيعهم وَسكت الْبَاقُونَ فَلم يظهروا خلافًا فَأَما أَن يعلم أَن سكوتهم سكُوت رَاض يكون ذَلِك القَوْل قولا لَهُ أَو لَا يعلم ذَلِك من حَالهم فان علم ذَلِك كَانَ إِجْمَاعًا لأَنهم لَو قَالُوا قد رَضِينَا بِهَذَا القَوْل وَنحن معتقدون لَهُ كَانَ

إِجْمَاعًا فاذا علمنَا ذَلِك ضَرُورَة فيهم على قَول من يجوز وُقُوع الْعلم بالمذاهب باضطرار كَانَ آكِد وَإِن لم نعلم باضطرار أَنهم رَضوا بذلك القَوْل قولا لَهُم فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون من مسَائِل الِاجْتِهَاد أَو لَا يكون من مسَائِل الِاجْتِهَاد فان لم يكن من مسَائِل الِاجْتِهَاد فإمَّا أَن يكون على النَّاس فِيهِ تَكْلِيف أَو لَا يكون عَلَيْهِم فِيهِ تَكْلِيف فَإِن لم يكن عَلَيْهِم فِيهِ تَكْلِيف كالقول بِأَن عمارا أفضل من حُذَيْفَة رَضِي الله عَنْهُمَا جَازَ أَن يكون خطأ لَا يلْزم البَاقِينَ إِنْكَاره لِأَنَّهُ إِنَّمَا يلْزمهُم إِنْكَاره إِذا علمُوا أَنه مُنكر فاذا لم يلْزمهُم النّظر فِي كَونه مُنْكرا جَازَ أَن لَا ينْظرُوا فِيهِ فَلَا يعلمُونَ أَنه مُنكر فَلَا يلْزمهُم إِنْكَاره وَلَيْسَ بممتنع أَن يتطابقوا على ترك إِنْكَار مَا لَا يجب إِنْكَاره أَلا ترى أَنهم لَو سمعُوا من يخبر بِأَن زيدا فِي الدَّار لم يلْزمهُم أَن ينْظرُوا هَل أخبر عَن ثِقَة أَو على حسب ظَنّه أَو أخبر قطعا وَهُوَ لَا يَأْمَن كَونه كَاذِبًا وَإِذا لم يلْزمهُم ذَلِك لم يجب الْإِنْكَار عَلَيْهِم وَإِن كَانَ على النَّاس فِي الْمَسْأَلَة تَكْلِيف فانه إِذا لم يُنكر الْبَاقُونَ ذَلِك القَوْل يكون صَوَابا لِأَنَّهُ لَو كَانَ خطأ لكانوا قد تطابقوا على ترك مَا يجب عَلَيْهِم من إِنْكَار الْمُنكر وَإِذا كَانَ ذَلِك القَوْل صَوَابا فخلافه خطأ لِأَن الْمَسْأَلَة مِمَّا ألحق فِي وَاحِد مِنْهُ فَإِن قيل أَيجوزُ مَعَ كَون ذَلِك القَوْل صَوَابا أَن يكون من سكت يتَوَقَّف فِيهِ غير قَائِل بِهِ قيل لَا يجوز ذَلِك لِأَن إطباقهم على ترك الْإِنْكَار يجْرِي مجْرى قَوْلهم إِنَّه لَيْسَ بمنكر فِي الدّلَالَة على أَن ذَلِك القَوْل غير مُنكر وَلَا يجوز أَن يَقُولُوا ذَلِك فَيكون القَوْل غير مُنكر إِلَّا لأَنهم بأجمعهم قَالُوهُ وَأما إِذا كَانَت الْمَسْأَلَة من مسَائِل الِاجْتِهَاد فالقائلون بِأَن الْحق فِي وَاحِد وَمَا عداهُ يجب تَركه يَقُولُونَ فِي ذَلِك مَا قُلْنَاهُ الْآن فِيمَا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد والقائلون بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب اخْتلفُوا فَقَالَ أَبُو عَليّ يكون ذَلِك إِجْمَاعًا إِذا انْتَشَر القَوْل فيهم ثمَّ انقرض الْعَصْر وَقَالَ أَبُو هَاشم لَا يكون إِجْمَاعًا وَلكنه يكون حجَّة وَقَالَ أَبُو عبد الله لَا يكون إِجْمَاعًا وَلَا حجَّة

وَحجَّة أبي عَليّ أَن المتعالم من أهل الِاجْتِهَاد إِذا سمعُوا الْحَادِثَة وَطَالَ بهم الزَّمَان أَن يفكروا فِيهَا فان اعتقدوا خلاف مَا انْتَشَر من القَوْل فِيهَا أظهروه إِذا لم تكن تقية وَلَا بُد إِذا كَانَت تقية أَن يظْهر سَببهَا وَأَيْضًا فانه إِن مَاتَ قبل من يتقيه صَارَت الْمَسْأَلَة إِجْمَاعًا وَإِن مَاتَ من يتقيه قبله وَجب أَن يظْهر قَوْله فَبَان أَنه لَا يجوز أَن ينقرض الْعَصْر من غير ظُهُور خلاف لما انْتَشَر إِلَّا وَهُوَ متفقون عَلَيْهِ وَأَيْضًا فان المتقي قد يظْهر قَوْله عِنْد ثقاته وخاصته فَلَا يلبث القَوْل أَن يظْهر وَحجَّة من قَالَ إِنَّه لَا يكون حجَّة أَنه لَا يمْتَنع أَن يكون من سكت لم يفكر فِي الْمَسْأَلَة لتشاغله بغَيْرهَا من الأشغال كالجهاد وسياسة النَّاس أَو الْفِكر فِي غَيرهَا من الْمسَائِل فَلَا يكون القَوْل الْمُنْتَشِر إِلَّا قَول بَعضهم وَلَيْسَ يُؤَدِّي ذَلِك إِلَّا أَن تذْهب الْأمة كلهَا عَن الْحق لِأَن ذَلِك القَوْل الْمُنْتَشِر هُوَ حق لِأَن الْمَسْأَلَة من مسَائِل الِاجْتِهَاد وكل مُجْتَهد فِيهَا مُصِيب وَحجَّة أبي هَاشم فِي أَن ذَلِك حجَّة هِيَ أَن النَّاس فِي كل عصر يحتجون بالْقَوْل الْمُنْتَشِر فِي الصَّحَابَة إِذا لم يعرف لَهُ مُخَالف وَأَبُو عبد الله لَا يسلم هَذَا الْإِجْمَاع على أَن من يحْتَج بذلك يَجعله إِجْمَاعًا لِأَنَّهُ يَقُول قد انْتَشَر هَذَا القَوْل وَلَا يعرف لَهُ مُخَالف فَكَانَ إِجْمَاعًا وَأما نقل الْإِجْمَاع بِخَبَر الْوَاحِد فَمن النَّاس من لم يعْمل بِهِ وَمِنْهُم من عمل بِهِ وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن قَوْلهم حجَّة كَمَا أَن كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّة فاذا لزمتنا الْأَحْكَام بِنَقْل كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جِهَة الْآحَاد فَكَذَلِك يلْزمنَا أَن ينْقل كَلَام الامة من جِهَة الْآحَاد فَأَما من قَالَ إِنَّه لَا طَرِيق إِلَى معرفَة الْإِجْمَاع فَلهُ أَن يحْتَج فَيَقُول إِن المجمعين إِمَّا أَن يَكُونُوا هم الصَّحَابَة أَو غَيرهم من أهل الْأَعْصَار أما غَيرهم فان كثرتهم وتباعد دِيَارهمْ يمْنَع أَن نَعْرِف فِي الْحَوَادِث قَوْلهم بأجمعهم أَلا ترى أَن أهل بَغْدَاد لَا يعْرفُونَ أهل الْعلم بالمغرب فضلا أَن

يعرفوا أقاويلهم فِي الْحَوَادِث وَأما الصَّحَابَة فانا لم نشاهدهم فيشافهونا بالحكم وَلم ينْقل عَن كل وَاحِد مِنْهُم قَول فِي الْحَوَادِث لَا بالتواتر وَلَا بالآحاد وَلَيْسَ معنى إِلَّا أَن بَعضهم يَقُول وينتشر قَوْله فِي البَاقِينَ وَلَا يظْهر لَهُ مُخَالف وَلَيْسَ هَذَا باجماع على الصَّحِيح من قَول من قَالَ إِن كل مُجْتَهد مُصِيب وَلَيْسَ لكم أَن تَقولُوا إِنَّمَا تحصل الْمَسْأَلَة إِجْمَاعًا عِنْد سكُوت البَاقِينَ إِذا علمنَا أَنهم سكتوا سكُوت من يرضى أَن يكون ذَلِك القَوْل قولا لَهُ لِأَن السَّاكِت قد يسكت لهَذَا الْغَرَض وَلِأَنَّهُ لَا قَول لَهُ فِي الْمَسْأَلَة وَإِذا جَازَ كلا الْأَمريْنِ خرج السُّكُوت من أَن يكون طَرِيقا إِلَى أَن السَّاكِت قد رَضِي أَن يكون القَوْل قولا لَهُ وَلَيْسَ يجوز أَن يعلم باضطرار أَنهم يَعْتَقِدُونَ صِحَة ذَلِك القَوْل لأنكم لَا تضطرون من كل وَاحِد مِنْهُم أَنه مُعْتَقد لما يظهره من الْإِسْلَام فَكيف تَكُونُونَ مضطرين إِلَى أَنهم يَعْتَقِدُونَ فرعا من فروعه وَالْجَوَاب أَن هَذِه الشُّبْهَة لَا تمنع من الْعلم بِالْإِجْمَاع أصلا لِأَن من عاصر الصَّحَابَة يُمكنهُ أَن يلتقي بِكُل وَاحِد من الْمُجْتَهدين أَو ببعضهم ويروى لَهُ عَن البَاقِينَ لِأَن أهل الِاجْتِهَاد كَانُوا فِي ذَلِك الْوَقْت مَحْصُورين وَكَذَلِكَ التابعون وانتشار القَوْل فِي هَذَا الْعَصْر من غير مُخَالف دَلِيل على الْإِجْمَاع فِيمَا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَفِي مسَائِل الِاجْتِهَاد أَيْضا على قَول من قَالَ إِن الْحق فِي وَاحِد مِنْهَا وعَلى قَول أبي عَليّ أَيْضا وَإِن كَانَ يَقُول إِن كل مُجْتَهد مُصِيب فَأَما غَيره فَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن مَا دلّ على الْإِجْمَاع يَقْتَضِي أَن يكون الله تَعَالَى عَنى بِالْإِجْمَاع القَوْل الْمُنْتَشِر لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يُوجب علينا اتِّبَاع مَا لَا سَبِيل لنا إِلَيْهِ فاذا لم يُمكن إِلَّا هَذَا الْقدر علمنَا أَن الله تَعَالَى قد عناه وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا أوجب الله تَعَالَى علينا اتِّبَاع الْإِجْمَاع إِذا تمَكنا مِنْهُ وَذَلِكَ يُمكن لمن عاصر الصَّحَابَة وَأمكن أَن يسألهم وَيُمكن أَيْضا فِي القَوْل الْمُنْتَشِر فِيمَا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَهَذَا يَكْفِي فِي حسن إِيجَاب الله تَعَالَى اتِّبَاع الْإِجْمَاع إِذْ قد أمكن من بعض النَّاس وعَلى بعض الْوُجُوه

وَقد اجيب عَن الشُّبْهَة أَيْضا بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن نعلم باضطرار شَيْئا طَرِيقه الْخَبَر وَإِن لم نعلم طَرِيقه مفصلا أَلا ترى أَنا نعلم باضطرار اعْتِقَاد أهل بِلَاد الرّوم النَّصْرَانِيَّة وَأَن الْغَالِب على كثير من الْبِلَاد الْجَبْر والتشبيه وَإِن لم نعلم طَرِيق ذَلِك مفصلا وَكَذَلِكَ نَحن نعلم ضَرُورَة أَنه لَيْسَ فِي الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم من جعل الْأَخ أولى بِالْمَالِ كُله من الْجد وَلَا يمْتَنع ذَلِك وَإِن لم يعلم طَرِيقه مفصلا وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّا لَا نعلم أَن أهل بِلَاد الرّوم نَصَارَى كلهم لأَنا نجوز أَن يكون فيهم المتظاهر بالاسلام واليهودية بل يقطع على ذَلِك وَأَن يكون فيهم من يظْهر النَّصْرَانِيَّة ويعتقد غَيرهَا وَإِنَّمَا نعلم أَن الْغَالِب عَلَيْهِم إِظْهَار النَّصْرَانِيَّة وَذَلِكَ قد أخبرنَا بِهِ جمَاعَة نعلم صدقهم وَلَو كَانَ الْغَالِب عَلَيْهِم إِظْهَار دين الاسلام لما حاربونا وَلما انكتم ذَلِك وَأما تَشْبِيه مَسْأَلَة الْجد بِمَا نعلمهُ من أَن الْغَالِب على كثير من الْبِلَاد الْجَبْر والتشبيه فانه يَقْتَضِي أَن نعلم أَن الْغَالِب على الصَّحَابَة أَن الْأَخ لَا يَرث جَمِيع المَال مَعَ الْجد على أَنا نعلم أَنه لم يكن فِي الصَّحَابَة من يظْهر ذَلِك لِأَنَّهُ لَو أظهره مظهر لنقل وَلَكِن للمحتج بِهَذِهِ الشُّبْهَة أَن يَقُول لَعَلَّ من سكت عَن القَوْل فِي مَسْأَلَة الْجد وَالْأَخ لم يجْتَهد فِي الْمَسْأَلَة وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا قَول وَقد اجيب عَن الشُّبْهَة بِجَوَاب آخر وَهُوَ انه لَا يمْتَنع أَن يضْطَر إِلَى أَن السَّاكِت عَن الْإِنْكَار رَاض بِكَوْن مَا سكت عَن إِنْكَاره قولا لَهُ فان لم يكن لنا إِلَى ذَلِك طَرِيق معِين كَمَا نعلم قصد الْمُتَكَلّم عِنْد كَلَامه وَإِن لم يكن لنا طَرِيق معِين إِلَى ذَلِك وَلَيْسَ لأحد ان يَقُول قد لَا يكون السَّاكِت رَاضِيا بذلك القَوْل لنَفسِهِ فَلَا يجوز أَن يحصل الْعلم بِأَنَّهُ قد رَضِي بالْقَوْل لنَفسِهِ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَن يَقُول لَا أعلم قصد الْمُتَكَلّم لِأَن مثل كَلَامه قد يُوجد وَلَا أعرف قَصده أَلا ترى أَنه قد تَجْتَمِع الْجَمَاعَة للرأي فيشير بَعضهم ويسكت الْبَاقُونَ ويفترقون فَيعلم أَنه رَأْي جَمِيعهم فاذا علمنَا باضطرار أَن مَذْهَب جَمِيع السّلف أَن الْأَخ لَيْسَ أولى بِجَمِيعِ المَال من الْجد علمنَا أَنه من هَذَا الْقَبِيل

وَلقَائِل أَن يَقُول لَيْسَ يجب إِذا علمنَا قصد بعض الْمُتَكَلِّمين فِي بعض الْأَحْوَال أَن نعلم قصد بعض الساكتين وَلَا يجب وَلَو علمنَا ذَلِك فِي بعض الْأَحْوَال أَن نعلم قصد من سكت فِي مَسْأَلَة الْجد وَغَيرهَا بل لَا يمْتَنع أَن يكون من سكت عَن النكير إِنَّمَا سكت لِأَنَّهُ لم يجْتَهد فِي الْمَسْأَلَة لِأَن الْفَرْض قد قَامَ بِهِ غَيره وَلَا يكون لَهُ فِي ذَلِك قَول فاذا ثَبت أَن النَّقْل طَرِيق إِلَى الْإِجْمَاع وَجب على الامة إِظْهَار قَوْلهَا وَوَجَب على من سَمعه ان يَنْقُلهُ كَمَا يجب إِظْهَار الْفَرَائِض على الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام وَيجب على من سَمعهَا مِنْهُ نقلهَا عَنهُ وَإِذا كَانَ من انْتَشَر من الْأَقَاوِيل فِي الْأمة وَلم يظْهر لَهُ مُخَالف حجَّة جَازَ تَخْصِيص الْعُمُوم بِهِ وَإِن لم يكن حجَّة لم يجز ذَلِك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي انْقِرَاض الْعَصْر هَل هُوَ طَرِيق إِلَى معرفَة الْإِجْمَاع أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد الشَّيْخ أبي عَليّ أَن أنقراض الْعَصْر طَرِيق إِلَى معرفَة الْإِجْمَاع لِأَن الْعَصْر لَا ينقرض إِلَّا وَقد شاع القَوْل فِي جَمِيع أَهله فَلَو كَانَ فيهم مُخَالف لأظهر خِلَافه وَعند غَيره أَنه لَا اعْتِبَار بانقراض الْعَصْر فِي ذَلِك لِأَنَّهُ لَيْسَ يَخْلُو أَبُو عَليّ إِمَّا أَن يَقُول لَا طَرِيق إِلَى الْإِجْمَاع سواهُ أَو يَقُول هُوَ طَرِيق وَغَيره طَرِيق وَالْأول لَا يَصح لِأَن المعاصر للصحابة لَو سمع القَوْل من كل وَاحِد من الْمُجْتَهدين أَو سمع من بَعضهم وَأخْبر عَن البَاقِينَ لعلم إِجْمَاعهم وَالثَّانِي أَيْضا لَا يَصح لِأَن مَا ذَكرُوهُ من انتشار القَوْل وَوُجُوب إِظْهَار الْخلاف مَوْقُوف على تمادي الزَّمَان انقرض الْعَصْر أَو لم ينقرض وَلَو كَانَ انتشار القَوْل فِي جَمِيع أهل الْعَصْر مَوْقُوفا على انْقِرَاض الْعَصْر لَكَانَ فِي كَونه طَرِيقا إِلَى الْإِجْمَاع مَا ذَكرْنَاهُ من الْخلاف فِي الْبَاب الْمُتَقَدّم

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي قَول بعض الصَّحَابَة إِذا لم ينتشر وَلم يعرف لَهُ مُخَالف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن القَوْل إِذا لم ينتشر فيهم فإمَّا أَن يكون الْبلوى بِهِ عَاما أَو غير عَام فان لم يكن عَاما لم يكن إِجْمَاعًا وَلَا حجَّة وَلَا كَانَ مَقْطُوعًا على انه صَوَاب وَعند بعض النَّاس أَنه إِجْمَاع يحْتَج بِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه لَيْسَ بِإِجْمَاع لِأَن القَوْل إِنَّمَا يكون مجمعا عَلَيْهِ إِذا اعتقده كل أهل الْعَصْر وَلَيْسَ يجوز أَن يَعْتَقِدهُ من لم يسمع بِهِ وَلم يخْطر بِبَالِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه لَيْسَ بِحجَّة لِأَنَّهُ لَو كَانَ حجَّة لَكَانَ حجَّة لِأَنَّهُ إِجْمَاع وَقد بَينا إِنَّه لَيْسَ بِإِجْمَاع أَو لِأَنَّهُ قَول بعض السّلف وَسَيَجِيءُ القَوْل فِي ذَلِك أَو لِأَن الامة أَجمعت على الِاحْتِجَاج بِهِ وَلَيْسَ فِي ذَلِك إِجْمَاع لِأَن كثيرا من النَّاس يُنكر على من يحْتَج بذلك وَإِنَّمَا لم يقطع على أَنه صَوَاب لِأَن من يَقُول إِن الْحق فِي وَاحِد يجوز أَن يكون خطأ وَمن يَقُول إِن كل مُجْتَهد مُصِيب يجوز خطأ غَيره إِذا لم تكن الْمَسْأَلَة من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَإِن كَانَت من مسَائِل الِاجْتِهَاد فانما يحكم بِأَنَّهُ مُصِيب إِذا استوفى الِاجْتِهَاد وَلم يقل بِأول خاطر وَلَيْسَ يعلم أحد من غَيره أَنه لم يضجع فِي اجْتِهَاده فَلذَلِك لم يقطع على أَن القَوْل صَوَاب على الْإِطْلَاق فان قيل لَو لم يكن القَوْل صَوَابا لَكَانَ الصَّوَاب قد خرج عَن اقاويل الامة وَالْجَوَاب أَن هَذَا الْكَلَام يُفِيد أَن للْأمة كلهَا فِي الْحَادِثَة أقاويل وَأَن الصَّوَاب سواهَا وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك لِأَن الْمَسْأَلَة مَفْرُوضَة فِي قَول لم يظْهر فِي الْأمة خِلَافه وَأَيْضًا فانه يجوز أَن لَا يكون للْأمة فِي الْمَسْأَلَة قَول هُوَ حق إِذا لم يكن عَلَيْهِم فِي ذَلِك تَكْلِيف أَلا ترى أَنه لَيْسَ لَهُم قَول مِمَّا لم يحدث فِي عصرهم وَجَاز ذَلِك لما لم يكن عَلَيْهِم فِي ذَلِك تَكْلِيف فَكَذَلِك لَا تَكْلِيف عَلَيْهِم فِيمَا لم يبلغهم وَأما إِذا كَانَ الْبلوى بذلك القَوْل عَاما فان لم ينتشر فيهم ذَلِك القَوْل فَلَا بُد من أَن يكون لَهُم فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة قَول إِمَّا مُوَافق لما نقل إِلَيْنَا أَو مُخَالف

وَلَا يجوز مَعَ اهتمام النقلَة بِالنَّقْلِ أَن يستفيض ذَلِك فَلَا ينْقل وَإِذا ثَبت أَن قَول بعض الصَّحَابَة إِذا لم ينتشر لَا يكون حجَّة فَجرى مجْرى قَول الْوَاحِد مِنْهُم إِذا خَالف فِيهِ غَيره فِي أَنه لَا يخص بِهِ الْعُمُوم

الكلام في الأخبار

الْكَلَام فِي الْأَخْبَار أَبْوَاب الْأَخْبَار بَاب فِي اسْم الْخَبَر وَحده وَمَا بِهِ يكون الْخَبَر خَبرا وأقسامه الصدْق وَالْكذب بَاب فِي الاخبار الَّتِي يعلم صدقهَا وَالَّتِي يعلم كذبهَا وَالَّتِي لَا يعلم كلا الْأَمريْنِ من حَالهَا بَاب فِي بَيَان وُقُوع الْعلم بالأخبار وَصفَة الْعلم الْوَاقِع بالتواتر بَاب فِي شَرط وُقُوع الْعلم بالأخبار بَاب فِي أَن خبر الْوَاحِد لَا يَقْتَضِي الْعلم بَاب فِيمَا يقبل فِيهِ مَا لَيْسَ بمتواتر من الْأَخْبَار وَمَا لَا يقبل فِيهِ ذَلِك بَاب فِي جَوَاز التَّعَبُّد بأخبار الْآحَاد بَاب فِي وُرُود التَّعَبُّد بأخبار الْآحَاد بَاب فِيمَا يرد لَهُ الْخَبَر وَمَا لَا يرد لَهُ وَيدخل فِي ذَلِك الْمَرَاسِيل وَغَيرهَا بَاب فِي كَيفَ يَنْبَغِي للراوي أَن يروي وَفِي الْمَفْهُوم من رِوَايَته بَاب فِي الْأَخْبَار المتعارضة بَاب فِيمَا يرجح بِهِ الْخَبَر على غَيره فَالْأول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي اسْم الْخَبَر وَحده وَمَا بِهِ يكون الْخَبَر خَبرا وأقسامه الصدْق وَالْكذب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما قَوْله خبر فواقع على قَول مَخْصُوص وَلَيْسَ بواقع على سَبِيل الْحَقِيقَة على الْإِشَارَة وَالدّلَالَة لِأَن من وصف غَيره بِأَنَّهُ مخبر وَبِأَنَّهُ فَاعل للْخَبَر لم يسْبق إِلَى فهم السَّامع لَهُ إِلَّا أَنه مُتَكَلم بِصِيغَة مَخْصُوصَة فَأَما مَا مَعَه تكون الصِّيغَة خَبرا مستعملة فِي فائدتها فَيَنْبَغِي أَن يشْتَرط فِيهِ الْإِرَادَة والأغراض لِأَن صِيغَة الْخَبَر قد ترد وَلَا تكون خَبرا بل تكون أمرا وَلَا تشْتَرط الْإِرَادَة والأغراض فِي كَون الْخَبَر على صِيغَة الْخَبَر

وَأما حد الْخَبَر فقد قيل إِن أهل اللُّغَة حدوه بِأَنَّهُ كَلَام يدْخلهُ الصدْق وَالْكذب فان قيل أَلَيْسَ قَول الْقَائِل مُحَمَّد ومسيلمة صادقان خبر وَلَيْسَ بِصدق وَلَا كذب قيل قد أجَاب الشَّيْخ أَبُو عَليّ بَان هَذَا الْخطاب يُفِيد صدق أَحدهمَا فِي حَال صدق الآخر فَكَأَنَّهُ قَالَ أَحدهمَا صَادِق فِي حَال صدق الآخر وَلَو قَالَ ذَلِك كَانَ قَوْله كذبا فَكَذَلِك إِذا قَالَ هما صادقان وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّه لَيْسَ ينبىء هَذَا الْكَلَام عَن أَن صدق أَحدهمَا حَاصِل فِي حَال صدق الآخر وَلَا أَنه قبله وَلَا بعده فَلَا يكون ذَلِك معنى الْكَلَام وَأجَاب الشَّيْخ أَبُو هَاشم بِأَن هَذَا الْكَلَام يجْرِي مجْرى خبرين أَحدهمَا خبر بِصدق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْآخر خبر بِصدق مُسَيْلمَة فَكَمَا لَا يجوز أَن يُقَال فِي مَجْمُوع خبرين متميزين إنَّهُمَا صدق أَو كذب فَكَذَلِك فِي هَذَا الْكَلَام وَلقَائِل أَن يَقُول بِأَن هَذَا الْكَلَام لَا يجْرِي مجْرى خبرين إِلَّا من حَيْثُ أَفَادَ حكما لشخصين وَذَلِكَ لَا يمْنَع من وَصفه بِالصّدقِ وَالْكذب أَلا ترى أَن قَول الْقَائِل كل شَيْء قديم كذب وَإِن أَفَادَ حكما لذوات كَثِيرَة وَأجَاب قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله بِأَن مرادنا بقولنَا مَا دخله الصدْق وَالْكذب هُوَ مَا إِذا قيل للمتكلم بِهِ صدقت أَو كذبت لم يحظره اللُّغَة وَهَذِه صُورَة هَذَا الْكَلَام فَكَانَ دَاخِلا فِي حد الْخَبَر وَأجَاب الشَّيْخ أَبُو عبد الله بِأَن هَذَا الْكَلَام كذب فانه يُفِيد الْإِخْبَار عَن شَيْء على خلاف مَا هُوَ بِهِ لِأَنَّهُ يُفِيد إِضَافَة الصدْق إِلَيْهِمَا وَلَيْسَ هُوَ مُضَافا إِلَيْهِمَا وَإِن كَانَ مُضَافا إِلَى أَحدهمَا كَانَ أَن قَول الْقَائِل كل إِنْسَان أسود كذب لِأَنَّهُ يُفِيد إِضَافَة السوَاد إِلَى جَمِيعهم وَلَيْسَ هُوَ مُضَافا إِلَى جَمِيعهم إِن قيل إِذا حددتم الْخَبَر بِأَنَّهُ مَا دخله الصدْق وَالْكذب وحددتم الصدْق بِأَنَّهُ الْإِخْبَار على الشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ وحددتم الْكَذِب بِأَنَّهُ الْإِخْبَار عَن الشَّيْء لَا على مَا هُوَ بِهِ كُنْتُم قد عَرَفْتُمْ الْمَجْهُول بِالْمَجْهُولِ قيل قد أجَاب قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله بِأَن الْخَبَر قد عَرفْنَاهُ ولسنا نُرِيد بتحديده أَن نعرفه

وَإِنَّمَا نُرِيد أَن نفصله عَن غَيره فَلم يكن فِيمَا فعلنَا تَعْرِيف الْمَجْهُول بِالْمَجْهُولِ وَهَذَا لَا يَصح لِأَنَّهُ إِن كَانَ الْغَرَض بِالْحَدِّ التَّمْيِيز فَنحْن إِذا ميزنا وفصلنا الْخَبَر بِالصّدقِ وَالْكذب وميزنا الصدْق وَالْكذب بالْخبر كُنَّا قد ميزنا وفصلنا كل وَاحِد مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ وكأنا قُلْنَا الْخَبَر يتَمَيَّز بِأَنَّهُ خبر فان صَحَّ ذَلِك فَيجب الِاقْتِصَار على القَوْل بِأَن الْخَبَر هُوَ خبر وَلَا يتَكَلَّف هَذَا التَّطْوِيل وعَلى أَنا إِن كُنَّا قد عرفنَا الْخَبَر وعقلناه فَمن سَأَلنَا عَن حَده فانما سَأَلنَا عَن عبارَة تنبىء عَن هَذَا الْمَعْقُول الْمَعْرُوف لنا فَيجب أَن نأتي بهَا والا لم نَكُنْ قد حددناه وَأَيْضًا فان كُنَّا قد عقلنا جَمِيع معنى الْخَبَر فقد تميز لنا أَيْضا فَيجب أَن نستغني عَن حَده جَوَاب آخر وَهُوَ أَن قَوْلنَا مَا دخله الصدْق وَالْكذب أردنَا بِهِ مَا لَا يحظر أهل اللُّغَة أَن يُقَال للمتكلم بِهِ صدقت أَو كذبت وَلَيْسَ يقف حظر ذَلِك على معرفَة الصدْق وَالْكذب بل ذَلِك يرجع فِيهِ إِلَى اللُّغَة وَهَذَا لَا يَصح أَيْضا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يسوغ أهل اللُّغَة أَن يُقَال للمتكلم صدقت أَو كذبت إِذا عرفونا الصِّيغَة وميزوها مِمَّا لَا يَصح أَن يُقَال لمن تكلم بِهِ صدقت أَو كذبت فَالْخَبَر هُوَ مَا اخْتصَّ بِتِلْكَ الصِّيغَة فَيجب أَن يكون حد الْخَبَر هُوَ مَا أنبأ عَنْهَا وَالْأولَى أَن نحد الْخَبَر بِأَنَّهُ كَلَام يُفِيد بِنَفسِهِ إِضَافَة أَمر من الامور إِلَى أَمر من الامور نفيا أَو إِثْبَاتًا وَإِنَّمَا قُلْنَا بِنَفسِهِ لِأَن الْأَمر يُفِيد وجوب الْفِعْل لَا بِنَفسِهِ وَإِن مَا يُفِيد هُوَ استدعاء للْفِعْل لَا محَالة لَا يُفِيد إِلَّا ذَلِك بِنَفسِهِ وَإِن مَا يُفِيد كَون الْفِعْل وَاجِبا تبعا لذَلِك ولصدوره عَن حَكِيم وَكَذَلِكَ دلَالَة النَّهْي على قبح الْفِعْل فَأَما قَول الْقَائِل هَذَا الْفِعْل وَاجِب اَوْ قَبِيح فانه يُفِيد تصريحه تَعْلِيق الْوُجُوب والقبح بِالْفِعْلِ فَأَما أَقسَام الْخَبَر الصدْق وَالْكذب فَعِنْدَ أبي عُثْمَان الجاحظ أَن الْخَبَر المتناول للشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ من شَرط كَونه صدقا أَن يعْتَقد فَاعله أَو يظنّ أَنه كَذَلِك والمتناول للشَّيْء لَا على مَا هُوَ بِهِ من شَرط كَونه كذبا أَن يَعْتَقِدهُ فَاعله أَو

يَظُنّهُ كَذَلِك وَمَتى لم يَعْتَقِدهُ كَذَلِك وَلم يَظُنّهُ لم يكن صدقا وَلَا كذبا وأجراه مجْرى الِاعْتِقَاد فِي خلوه من كَونه علما أَو جهلا إِذا تنَاول الشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ وَلم يقتض سُكُون النَّفس وَحجَّة أبي عُثْمَان هِيَ أَن زيدا إِذا كَانَ فِي الدَّار فَظن ظان أَنه لَيْسَ فِيهَا فَقَالَ زيد فِي الدَّار لم يصفه أحد بِأَنَّهُ صَادِق فَبَطل أَن يكون الْخَبَر إِذا تنَاول الشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ كَانَ صدقا على كل حَال وَلَو قَالَ زيد لَيْسَ فِي الدَّار لم يصفه أحد بِأَنَّهُ كَاذِب فَبَطل ان يكون الْخَبَر مَتى تنَاول الشَّيْء لَا على مَا هُوَ كَانَ كذبا على كل حَال وَلَو أخبر بِأَن زيدا فِي الدَّار وَكَانَ فِيهَا وَهُوَ يَعْتَقِدهُ أَو يَظُنّهُ فِيهَا وصف بِأَنَّهُ صَادِق وَيكون كَاذِبًا إِذا أخبر بانه لَيْسَ فِيهَا وَهُوَ يَظُنّهُ أَو يَعْتَقِدهُ فِيهَا وَعند جمَاعَة شُيُوخنَا أَن الْخَبَر إِمَّا أَن يكون صدقا أَو كذبا لِأَن الْيَهُودِيّ إِذا قَالَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ بِنَبِي لم يمْتَنع أحد من وَصفه بِأَنَّهُ كَاذِب وَوصف خَبره بِأَنَّهُ كذب وَإِن جَازَ أَن لَا يكون مُعْتَقدًا وَلَا ظَانّا لنبوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِذا قَالَ قَائِل إِنَّه نَبِي لم يمْتَنع أحد من وَصفه بِأَنَّهُ صَادِق وَأَن خَبره صدق فَعلم أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يشْتَرط الظَّن والاعتقاد فِي كَون الْخَبَر صدقا أَو كذبا وَقد أفسد قَاضِي الْقُضَاة قَول ابي عُثْمَان بِأَن ظن الْمخبر واعتقاده يرجع إِلَيْهِ لَا إِلَى الْخَبَر فَلم يكن شرطا فِي كَونه كذبا وَهَذَا لَا يَصح لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع ذَلِك كَمَا أَن إِرَادَة الْمخبر رَاجِعَة إِلَيْهِ وَهِي شَرط عِنْده فِي كَون الْخَبَر خَبرا وَالْكَلَام فِي ذَلِك فِي عبارَة وَالْأولَى أَن نفصل القَوْل فِيهِ فَمَتَى سَأَلَ سَائل عَن رجل قَالَ زيد فِي الدَّار وَهُوَ يَظُنّهُ فِيهَا وَلم يكن فِيهَا هَل هُوَ كَاذِب وَكَلَامه كذب أَو لَا فانا نقُول هُوَ كَاذِب وَكَلَامه كذب على معنى أَن مخبره على خلاف مَا تنَاوله ونوصف بِأَنَّهُ لَيْسَ بكاذب وَكَلَامه لَيْسَ بكذب لِمَعْنى أَنه لم يقْصد بِهِ الْإِخْبَار عَن الشَّيْء لَا على مَا هُوَ بِهِ وَإِذا اخْتلف الْقَصْد بوصفنا لهَذَا الْخَبَر بِأَنَّهُ كذب وَجب أَن لَا يُطلق الْوَصْف عَلَيْهِ بذلك وَأَن يُقيد وَكَذَلِكَ القَوْل فِيمَن أخبر بالشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ وَهُوَ يظنّ أَنه كَاذِب أَن خَبره يُوصف بِأَنَّهُ صدق وَأَنه صَادِق على هَذَا التَّقْيِيد فَأَما وصف الْيَهُودِيّ بِأَنَّهُ كَاذِب فِي

قَوْله إِن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ بِنَبِي فَمَعْنَاه أَنه فَاعل لخَبر مخبره على خلاف مَا هُوَ بِهِ وَأَيْضًا فَظَاهر من الْيَهُود العناد وَالتَّقْصِير فِي النّظر فهم مقدمون على هَذَا الْخَبَر مَعَ خوفهم أَن يَكُونُوا كاذبين فوصفوا بِأَنَّهُم كاذبون على طَرِيق الذَّم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْأَخْبَار الَّتِي يعلم صدقهَا وَالَّتِي يعلم كذبهَا وَالَّتِي لَا يعلم كلا الْأَمريْنِ من حَالهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْأَخْبَار مِنْهَا مَا يعلم سامعها صدقهَا وَمِنْهَا مَا لَا يعلم صدقهَا أما الَّتِي لَا يعلم صدقهَا إِمَّا أَن يعلم كذبهَا أَو لَا يعلم كذبهَا وَلَا صدقهَا وَالَّتِي يعلم صدقهَا إِمَّا أَن يُعلمهُ بِأَمْر مُنْفَصِل عَنْهَا أَو غير مُنْفَصِل عَنْهَا فَالْأول إِمَّا أَن يكون إِخْبَارًا عَمَّا يعلم صِحَّته ضَرُورَة بالإدراك أَو غَيره كالإخبار بعلو السَّمَاء على الأَرْض وَبِأَن الْعشْرَة أَكثر من الْخَمْسَة وَإِمَّا أَن يكون إِخْبَارًا عَمَّا يعلم صِحَّته بالاستدلال بِالْعقلِ وبالسمع كالخبر عَن حِكْمَة الله سُبْحَانَهُ وَهُوَ وجوب الصَّلَاة وَغير ذَلِك وَأما الَّتِي يعلم صدقهَا بِمَا يتَّصل بالْخبر وَيتَعَلَّق بِهِ فإمَّا أَن يرجع إِلَى أَحْوَال الْمخبر أَو إِلَى أَحْوَال السَّامع فالاول ضَرْبَان أَحدهمَا أَن يكون الْمخبر لَا يجوز عَلَيْهِ الْكَذِب أصلا وَالْآخر لَا يجوز كَونه كَاذِبًا فِي ذَلِك الْخَبَر وَإِن جَازَ ان يكذب فِي غَيره فَالْأول أَن يكون الْمخبر حكيما إِمَّا لعلمه وغناه وَإِمَّا لِأَنَّهُ عصم من الْكَذِب إِمَّا لدلَالَة المعجزات وَإِمَّا لشهادة الله وَرَسُوله بذلك كالامة وَأما الْمخبر الَّذِي يجوز عَلَيْهِ الْكَذِب فِي غير ذَلِك الْخَبَر فانما نعلم صدقه فِي الْخَبَر إِذا لم يكن لَهُ دَاع إِلَى الْكَذِب وَلَا يجوز أَن يشْتَبه عَلَيْهِ الْمخبر عَنهُ وَإِنَّمَا نعلم أَنه لَا دَاعِي لَهُ إِلَى الْكَذِب إِذا كَانَ المخبرون كَثْرَة يمْتَنع مَعهَا أَن ينظمهم دَاع وَاحِد إِلَى الْكَذِب اتِّفَاقًا أَو تواطؤا وَأما الرَّاجِع إِلَى السَّامع فإمَّا أَن يرجع إِلَى إِمْسَاكه عَن النكير أَو إِلَى مصيره إِلَى الْخَبَر أما الأول فبأن يخبر الْمخبر بِحَضْرَة من يَدعِي عَلَيْهِ الْعلم بصدقه فَلَا

يُنكره مَعَ علمنَا بِأَنَّهُ لَو كَانَ كَاذِبًا لأنكره إِمَّا من جِهَة الْحِكْمَة وَإِمَّا من جِهَة الْعَادة فَالْأول أَن يكون من ادعِي عَلَيْهِ الْعلم بِصدق الْخَبَر نَبيا وَأما الثَّانِي فبأن يكون من ادّعى عَلَيْهِ الْعلم جمَاعَة كثيرين وَلَا دَاعِي لَهُم إِلَى الْإِمْسَاك من رَغْبَة وَلَا رهبة فَأَما الرَّاجِع إِلَى مصيره إِلَى الْخَبَر فَهُوَ أَن لَا يَدعِي على السامعين الْعلم بِهِ لكِنهمْ يصيرون إِلَيْهِ عملا أَو تقبلا أَو تركا لرده على خلاف فِي ذَلِك فاما الْأَخْبَار الَّتِي يعلم السَّامع كذبهَا فَمِنْهَا مَا يعلم ذَلِك من حَالهَا لأمر مُنْفَصِل عَنْهَا كالأخبار عَمَّا يعلم باضطرار كذبهَا أَو بِدَلِيل سَمْعِي أَو عَقْلِي وَمِنْهَا مَا يعلم ذَلِك من حَالهَا بِأَمْر مُتَّصِل بِهِ وَذَلِكَ رَاجع إِلَى كَيْفيَّة نقل الْخَبَر بِأَن ينْقل خفِيا وَمن حَقه أَن ينْقل ظَاهرا وَإِنَّمَا يكون ذَلِك من حَقه إِذا كَانَ الْمخبر عَنهُ ظَاهرا وقويت دواعي الدّين أَو الْعَادة أَو كليهمَا إِلَى نَقله فَالْأول اصول الشَّرِيعَة وَالثَّانِي أَن يثبت النَّاس على رجل بَيِّنَة فِي مَسْجِد الْجَامِع يَوْم الْجُمُعَة فَلَا يَنْقُلهُ إِلَّا وَاحِد أَو اثْنَان وَالثَّالِث المعجزات فانه قد اجْتمع فِيهَا أَنَّهَا غَرِيبَة بديعة وَأَن الدّين يتَعَلَّق بهَا فَأَما النَّص الَّذِي تدعيه الإمامية وتدعي لُزُوم الْمعرفَة بِهِ لأهل كل عصر فانه إِذا لم ينْقل نقلا يحجّ وأجمعت الامة على أَنه لَو كَانَ صَحِيحا للَزِمَ الْعلم بِهِ أهل الْأَعْصَار فانا نعلم بُطْلَانه لِأَن الله عز وَجل لَو كلفهم الْعلم بِهِ لجعل لَهُم إِلَيْهِ سَبِيلا فان لم يجمع الْأمة على ذَلِك لم يعلم بُطْلَانه إِلَى بطرِيق آخر لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون صَحِيحا وَيلْزم الْعلم بِهِ من عاصر الإِمَام وَيكون قَول من قَالَ إِن فرض الْعلم بِهِ لَازم لأهل الْأَعْصَار كلهَا بَاطِلا فَأَما ظُهُور مخبر الْخَبَر فَلَيْسَ بِمُوجب بِانْفِرَادِهِ شياع نَقله لِأَن طُلُوع الشَّمْس ظَاهر وَلم يجب نَقله فَأَما أَن لَا ينْقل الشَّيْء نقل نَظِيره فَلَيْسَ بِمُوجب كذب الْخَبَر إِلَّا أَن تكون الدَّوَاعِي قَوِيَّة إِلَى نَقله فَأَما إِذا لم يكن كَذَلِك فَلَيْسَ بممتنع إِذا لم تقو الدَّوَاعِي إِلَى نَقله أَن يتَّفق نقل نَظِيره نقلا شَائِعا وَلَا

ينْقل هُوَ هَذَا النَّقْل فَأَما جهر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَلَو كَانَ على حد جهره بِالْفَاتِحَةِ كلهَا لنقل كنقل الْفَاتِحَة لِأَن الدَّاعِي إِلَيْهِمَا وَاحِد لكنه لَا يمْتَنع أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يجْهر بِالْفَاتِحَةِ فِي جَمِيع صلوَات الْجَهْر وَكَانَ يجْهر بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم تَارَة دون تَارَة أَو كَانَ يجْهر بهَا جَهرا خفِيا يسْمعهَا من قوى سَمعه مِمَّن قرب مِنْهُ دون من بعد أَو من ضعف سَمعه حسب عَادَة كثير مِمَّن يبتدىء بِالْقِرَاءَةِ يجْهر بهَا جَهرا قَرِيبا ثمَّ يشْتَد صَوته فَلذَلِك اخْتلف النَّقْل للجهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَأَما الْخَبَر الَّذِي إِذا فتش عَنهُ أهل الْعلم وَلم يظفروا بِهِ فِي جملَة الْأَخْبَار بعد اسْتِقْرَار السّنَن فانه يعلم كذبه لعلمنا أَن الْأَخْبَار قد دونت وَرِوَايَة الْخَبَر بَعْدَمَا دونت الْأَخْبَار هِيَ رِوَايَة لما دون وَنَنْظُر فاذا لم يُوجد ذَلِك علمنَا كذبه لأَنا لم نشاهده كَمَا لَو قَالَ الرَّاوِي هَذَا الْخَبَر فِي الْكتاب الْفُلَانِيّ فَلَا نشاهده فِيهِ فَأَما مَا يعم الْبلوى بِهِ إِذا لم يشْتَهر نَقله فان كَانَ متضمنا للْعلم فقد تقدم ذكره وَإِن كَانَ متضمنا للْعَمَل فَسَيَأْتِي الْخلاف فِيهِ إِن شَاءَ الله وَأما الْأَخْبَار الَّتِي لَا يعلم صدقهَا وَلَا كذبهَا فَهِيَ أَخْبَار الْآحَاد الَّتِي لَا يقْتَرن بهَا مَا يمْنَع من صِحَّتهَا وَهِي ضَرْبَان مِنْهَا مَا تَتَضَمَّن عملا وَمِنْهَا مَا تَتَضَمَّن علما أما الأول فإمَّا أَن لَا يجب الْعَمَل بهَا بَان لَا تتكامل فِيهَا الشُّرُوط الَّتِي مَعهَا يجب الْعَمَل بهَا وَإِمَّا أَن يجب الْعَمَل بهَا إِمَّا عقلا كأخبار الْمُعَامَلَات وَإِمَّا أَن يجب سمعا كأخبار الشَّرِيعَة وكالشهادات عِنْد من لم يُوجب الْعَمَل بهَا عقلا وَأما المتضمنة للْعلم فَمِنْهَا مَا يُوَافق مُقْتَضى الْعقل وَمِنْهَا مَا لَا يُوَافقهُ فَالْأول يجوز أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه وَالثَّانِي إِن أمكن تَأْوِيله من غير تعسف يجوز أَن يكون قَالَه وَإِن لم يُمكن تَأْوِيله إِلَّا بتعسف لم يجز أَن يكون قَالَه على ذَلِك الْحَد وَإِنَّمَا يجوز أَن يكون قَالَه مَعَ زِيَادَة أَو نُقْصَان أَو حِكَايَة عَن الْغَيْر وَاعْلَم أَنه لَا يجوز كَون أَخْبَار الْآحَاد المروية عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلهَا كذبا لِأَن

الْعَادة تمنع فِي الْأَخْبَار الْكَثِيرَة أَن يكذب رواتها على كثرتها وَاخْتِلَافهمْ وكثرتهم وَلَيْسَ جَمِيع مَا يروي عَنهُ صلوَات الله عَلَيْهِ صدقا لما رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ سيكذب عَليّ فان كَانَ هَذَا الْخَبَر صدقا فقد كذب عَلَيْهِ وَإِن كَانَ كذبا فقد كذب عَلَيْهِ فِيهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد كَانَ السّلف يُنكرُونَ كَثْرَة الرِّوَايَة وَحكي عَن شُعْبَة أَنه قَالَ ثلث الحَدِيث كذب وَكثير مِمَّا يتَضَمَّن الْجَبْر والتشبيه مَا لَا يُمكن تَأْوِيله إِلَّا بتعسف شَدِيد لَا يتَعَذَّر مثله فِي كل كَلَام متناقض وَذَلِكَ يمْنَع أَن يَقُوله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يمْنَع أَن يكون من روى ذَلِك من الْمُتَأَخِّرين فقد تعمد الْكَذِب وَلَا يمْتَنع أَن يثبت أَن بعض الصَّحَابَة الَّذِي رَوَاهَا أَن يكون لحقه سَهْو وَغلط وَأَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَكَاهُ عَن غَيره وَظن الرَّاوِي أَنه حَكَاهُ عَن نَفسه أوخرج عَن سَبَب بِغَيْر فَائِدَته أَو تقدمه مَا يعين حكمه وَلِهَذَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا دخل عَلَيْهِ دَاخل وَهُوَ فِي حَدِيث ابتدا أَوله لِأَن معنى الحَدِيث يتَغَيَّر بِحَسب أَوله وَلما ذكرنَا قَالَت عَائِشَة فِيمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ ولد الزِّنَا شَرّ الثَّلَاثَة والتاجر فَاجر إِنَّمَا عني صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَاجِرًا دلّس وَولد زنا سبّ أمه وَقَالَت فِيمَا رُوِيَ عَنهُ الشؤم فِي ثَلَاث الْمَرْأَة وَالدَّار وَالْفرس أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَكَاهُ عَن غَيره وَأنْكرت مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الْمَيِّت يتعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ وَيَنْبَغِي أَن يواصل رِوَايَة هَذِه الْأَخْبَار وأمثالها لتَكون مضبوطة فَيمْتَنع الزِّيَادَة فِيهَا وَلَو أهملت رِوَايَتهَا لأمكن أَن يزْدَاد فِيهَا فاذا أنكرها مُنكر قَالَ الرَّاوِي إِنَّمَا لم يعرف مَا رويته لِأَنَّهُ مِمَّا أهملت رِوَايَته وَيَنْبَغِي لراويها أَن يتأولها لمن يَرْوِيهَا لَهُ إِن كَانَ يضعف عَن تَأْوِيلهَا أَو يبين لَهُ بُطْلَانهَا إِن لم يُمكن تَأْوِيلهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي بَيَان وُقُوع الْعلم بالأخبار وَبَيَان صفة الْعلم الْوَاقِع بالتواتر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما خبر الله عز وَجل وَخبر رَسُوله وأخبار الْأمة فانما وَقع الْعلم لمخبرها لِأَن حِكْمَة الله تَقْتَضِي صدقه فِي إخْبَاره وَصدق من أظهر عَلَيْهِ المعجز وَأخْبر

بعدالته وَأما الْأَخْبَار المتواترة كالإخبار عَن وجود مَكَّة وَغَيرهَا فقد حُكيَ عَن قوم أَنه لَا علم إِلَّا بالحواس دون الْإِخْبَار وَالَّذِي يبطل قَوْلهم وجد اننا أَنْفُسنَا معتقدة وجود مصر وخراسان سَاكِنة إِلَى غير ذَلِك عِنْد تَوَاتر الْأَخْبَار علينا بهَا فَجرى مجْرى الْمعرفَة بالمشاهدات وَيُفَارق مَا يرويهِ الْوَاحِد والاثنان وَمن خَالف فِي أَنا معتقدون لذَلِك واثقون بِهِ فقد دفع مَا نجده فَلَا وَجه لمكالمته وَلَيْسَ لَهُم أَن يَقُولُوا لَو وَقع الْعلم بالأخبار المتواترة لوقع عِنْد الْخَبَر الأول وَالثَّانِي لِأَن من يَقُول وَإِن الْعلم لمخبر هَذِه الْأَخْبَار مكتسب يَقُول إِن شَرط اكتسابه حَاصِل فِي التَّوَاتُر دون الْآحَاد وَمن يَقُول إِنَّه ضَرُورِيّ يَقُول إِن الله سُبْحَانَهُ اخْتَار فعله عِنْد التَّوَاتُر دون الْآحَاد وَله أَن يَقُول مَا ذكره السَّائِل يجْرِي مجْرى الشّبَه وَالْعلم الضَّرُورِيّ لَا يَنْتَفِي بِمَا يجْرِي مجْرى الشّبَه أَلا ترى أَن الْعلم بالمدركات لَا يَنْتَفِي باخْتلَاف المناظر وَاخْتلف النَّاس فِي الْعلم الْوَاقِع عِنْد التَّوَاتُر فَقَالَ شيخانا أَبُو عَليّ وَأَبُو هَاشم إِنَّه ضَرُورِيّ غير مكتسب وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الْبَلْخِي إِنَّه مكتسب وَلَيْسَ ذَلِك مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي أصُول الْفِقْه وَنحن نؤمن إِلَى القَوْل فِيهِ لِأَن النَّاس قد ذَكرُوهُ فِي أصُول الْفِقْه ونحيل باستيفائه على مَا ذَكرْنَاهُ فِي شرح الْعمد فَنَقُول إِن الِاسْتِدْلَال هُوَ تَرْتِيب عُلُوم يتَوَصَّل بِهِ إِلَى علم آخر فَكل مَا وقف وجوده على تَرْتِيب عُلُوم فَهُوَ مستدل عَلَيْهِ وَالْعلم الْوَاقِع بالتواتر هَذِه سَبيله لأَنا إِنَّمَا نعلم مَا أخبرنَا بِهِ إِذا علمنَا أَن الْمخبر لم يخبر عَن رَأْيه بل أخبر عَمَّا لَا لبس فِيهِ وَأَنه لَا دَاعِي لَهُ إِلَى الْكَذِب فنعلم أَنه لم يتَعَمَّد الْكَذِب لعلمنا أَنه لَا دَاعِي لَهُ إِلَى الْكَذِب ونعلم أَنه لَا يجوز كَونه كذبا وَإِن لم يتعمده لعلمنا بظهوره وارتفاع اللّبْس فِيهِ فَإِذا فسد كَونه كذبا ثَبت كَونه صدقا وَمَتى اخْتَلَّ شَرط من هَذِه الشُّرُوط لم نعلم صِحَة الْخَبَر وَالْقَوْل بعد هَذَا إِن ذَلِك طَرِيق يُمكن مثله فِي كل الْعُلُوم وَأقوى مَا يذكرهُ الذاهبون إِلَى القَوْل الأول محتجين ومعترضين على مَا ذكرنَا هُوَ أَن الْوَاحِد منا

يعلم وجود الصين وَلَا يعلم أَنه اخبره بذلك كَثْرَة وَذَلِكَ بَاطِل لِأَن الْإِنْسَان يعلم فِي الْجُمْلَة أَنه قد أخبرهُ بذلك من لَا دَاعِي لَهُ إِلَى الْكَذِب وَإِن لم يعلم أعيانهم وَيعلم أَن كل من يسْأَله عَن الصين إِمَّا أَن يُخبرهُ عَن مُشَاهدَة أَو عَن خبر من شَاهده وَيعلم أَنه لَا يجوز أَن لَا يكون لوُجُود الصين أصل ويتصل الْأَخْبَار عَنْهَا للأزمان الطَّوِيلَة وَلَا يظْهر كذبهَا لأحد من النَّاس وَلَا يجوز أَن يظْهر كذبهَا وَلَا يتحدث بِهِ وَيظْهر الْخلاف فِيهِ وَالْإِنْكَار لَهُ فينتشر وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن الْعلم الْوَاقِع بالتواتر لَا يَنْتَفِي بالشبه وَهَذِه عَلامَة الضَّرُورِيّ وَهَذَا غير مُسلم لِأَن الْعُلُوم الْمُجَاورَة للضرورية لَا تَنْتفِي بالشبه وَهِي مكتسبة وَاحْتَجُّوا بَان من لَيْسَ من أهل النّظر كالمراهقين والعوام يعْرفُونَ الْبلدَانِ فَعلم أَن ذَلِك غير وَاقع عَن نظر وَالْجَوَاب أَن النّظر فِي ذَلِك لَيْسَ هُوَ إِلَّا تَرْتِيب الْعُلُوم بأحوال المخبرين وَهَذَا الْقدر يحصل للعامة والمراهقين لِأَن هَؤُلَاءِ لَا يمْتَنع أَن يَتَرَتَّب فِي أنفسهم كثير من الْعُلُوم وَيحصل لَهُم عَن ذَلِك عُلُوم أخر وَاحْتَجُّوا بِأَن اعتقادنا للاستغناء عَن النّظر فِي الْعلم بالبلدان يصرفنا عَن النّظر فِيهِ فَيجب أَن لَا يَقع منا وَذَلِكَ يخْتل كوننا عَالمين بهَا والمعلوم خِلَافه وَالْجَوَاب أَن الِاسْتِدْلَال على ذَلِك لَيْسَ هُوَ أَكثر من تَرْتِيب عُلُوم بأحوال المخبرين على مَا ذكرنَا وَذَلِكَ يحصل عِنْد سَماع الْمخبر الْمُتَوَاتر لأَنا نعلم كثرتهم وَامْتِنَاع تواطئهم واتفاق الْكَذِب مِنْهُم وَيعلم ظُهُور الْمخبر وارتفاع اللّبْس فِيهِ وَالْعلم بِصِحَّة الْمخبر عَنهُ يَقع عِنْد ذَلِك من غير استيناف نظر بعد مَا ذَكرْنَاهُ فَهَذَا هُوَ القَوْل فِي الْخَبَر الْمُتَوَاتر فَأَما إِذا أخبر الْوَاحِد بِشَيْء لَا لبس فِيهِ بِحَضْرَة جمَاعَة لَا يتَعَمَّد مثلهَا الْكَذِب فَادّعى مشاهدتها لذَلِك وَلم يصرفهَا عَن تَكْذِيبه صَارف بدين وَلَا رهبة وَلَا رَغْبَة فَسَكَتَتْ عَن تَكْذِيبه فانه يعلم صدقه لِأَن استشهاده بهَا إِنَّمَا هُوَ طلب

لإخبارها بِمثل مَا أخبر بِهِ أَو طلب لسكوتها عَن تَكْذِيبه فسكوتها عَن تَكْذِيبه كالإخبار عَن تَصْدِيقه فاذا لم يجز أَن يخبر بصدقه وَهِي عَالِمَة أَنه كَاذِب فَكَذَلِك إِذا سكتت وَأَيْضًا فان نفوس النَّاس مُؤثرَة لتكذيب الْكذَّاب سِيمَا إِذا استشهدها وَمَتى كفت عَن ذَلِك وجدت فِي أَنْفسهَا ضَرَرا فاذا لم يكن فِي مُقَابلَة هَذَا صَارف وَجب أَن تكذبه بأجمعها أَو بَعْضهَا إِن كَانَ كَاذِبًا فاما أَن دَعَاهَا التدين أَو رَغْبَة إِلَى السُّكُوت فان ذَلِك لَا يَسْتَوِي للجماعات فِي إيثارهما على الْإِخْبَار بكذب الْمخبر إِذا علموه كذابا وَأما هَيْبَة السُّلْطَان فانها إِن منعت فِي الْحَال عَن تَكْذِيبه فانها لَا تمنع فِي الْمُسْتَقْبل فِي غير ذَلِك الْمجْلس وَلَا تمنع من إِظْهَار ذَلِك إِلَى الإخوان والأصدقاء فَلَا يلبث ذَلِك أَن يشيع وَيظْهر وَلِهَذَا لَا يطْمع السُّلْطَان فِي أهل بَغْدَاد أَن يشْتَهر بهم الْحَال فِي ترك تَكْذِيب الْمُدَّعِي أَن بَين الْبَصْرَة وبغداد بَلَدا أكبر مِنْهُمَا فاما خبر الْمخبر بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فانه إِمَّا أَن يَدعِي عَلَيْهِ مشاهدته أَو لَا يَدعِي ذَلِك فان ادَّعَاهَا فسكوت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الرَّد عَلَيْهِ مَعَ كَونه كَاذِبًا موهم صدقه فاذا سُكُوته دَلِيل على صدقه وَإِن لم يدع مشاهدته فإمَّا أَن يكون مَا أخبر بِهِ من أُمُور الدّين أَو الدُّنْيَا فان كَانَ من الدّين فإمَّا أَن يكون قد علم خلاف ذَلِك من شَرعه أَو لم يعلم ذَلِك فان لم يعلم ذَلِك فسكوته دَلِيل على صدقه لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَاذِبًا لأوهم صدقه وَإِن كَانَ قد علم خلاف ذَلِك من شَرعه فاما أَن يكون ذَلِك مِمَّا يجوز أَن يتَغَيَّر شَرعه فِيهِ أَو لَا يجوز فان جَازَ تغيره كَانَ سُكُوته دَلِيلا على صدقه لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَاذِبًا لأوهم تغيره مَعَ أَنه مَا تغير وَلِأَن بسكوته قد ترك أَن يُنكر عَلَيْهِ فعلا قبيحا وَهُوَ كذبه وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يجوز أَن يتَغَيَّر شَرعه فِيهِ لم يجب إِنْكَاره إِذا لم يُؤثر إِنْكَاره لِأَنَّهُ لَا ايهام فِي سُكُوته وَلَا هُوَ ترك لما يُؤثر فِي إِزَالَة الْمُنكر وَلِهَذَا لَا يجب عَلَيْهِ مُوَاصلَة الْإِنْكَار على الْيَهُود وَالنَّصَارَى الَّذين كَانَ يشاهدهم يتظاهرون بانحرافهم إِلَى الْإِسْلَام وَإِن كَانَ يُؤثر إِنْكَاره فَلَا بُد من إِنْكَاره لوُجُوب إِنْكَار الْمُنكر إِذا أثر وَذَلِكَ نَحْو إِنْكَار الْمعاصِي على بعض أمته لِأَنَّهُ لَا

بُد من أَن يكون لإنكاره على من يعْتَقد نبوته تَأْثِير وَإِن كَانَ مَا أخبر عَنهُ الْمخبر من أُمُور الدُّنْيَا فسكوته عَن تَكْذِيبه يَقْتَضِي كَونه عَالما بصدقه أَو غير عَالم بصدقه وَلَا بكذبه وَلَا يجوز كَونه عَالما بكذبه وَلَا يُنكر ذَلِك عَلَيْهِ فان علمنَا أَنه لَا يخفي عَلَيْهِ صدقه من كذبه فسكوته دَلِيل على صدقه لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَاذِبًا لَكَانَ مَا أَتَاهُ قبيحا يلْزم إِنْكَاره كَسَائِر الْمُنكر فَأَما خبر الْوَاحِد إِذا أَجمعت الامة على مُقْتَضَاهُ وحكمت بِصِحَّتِهِ فانه يقطع على صِحَّته لِأَنَّهَا لَا تجمع على خطأ وَإِن لم تحكم بِصِحَّتِهِ فَعِنْدَ الشَّيْخ أبي هَاشم وَأبي الْحسن وَأبي عبد الله رَحِمهم الله أَن الْأمة لَا تجمع على مُقْتَضى خبر الْوَاحِد إِلَّا وَقد قَامَت بِهِ الْحجَّة وَعند غَيرهم أَنه لَا تكون الْحجَّة قد قَامَت بِهِ وَلَا مَقْطُوعًا على معينه لِأَن الامة إِذا اعتقدت وجوب الْعَمَل بالْخبر المظنون لم يسْتَحل أَن يروي لَهَا خبر وَاحِد قد تكاملت فِيهِ شَرَائِط الْعَمَل فتعمل بِهِ لِأَن الْعَمَل يتبع الاعتقادات وَلِهَذَا جَازَ أَن يجمعوا على الحكم بِالِاجْتِهَادِ لما كَانُوا قد اتَّفقُوا على وجوب الْعَمَل بِهِ وَجَوَاز ذَلِك فِي خبر الْوَاحِد أولى لِأَنَّهُ أظهر فان قَالُوا إِذا أجمعنا على وجوب الِاجْتِهَاد قَطعنَا على الِاجْتِهَاد قيل إِن أردتم أَنكُمْ تقطعون على أَن الأمارة كَانَت مَقْطُوعًا بحكمها قبل الْإِجْمَاع لم يَصح لِأَن الأمارة لم تكن دلَالَة وَإِن أردتم أَن الأمارة بعد الْإِجْمَاع يقطع على تعلق الحكم بهَا فَلَيْسَ لذَلِك معنى إِلَّا أَن الحكم مَقْطُوع بِهِ لَا يجوز خِلَافه وَهَكَذَا نقُول فِي حكم الْخَبَر الْمجمع عَلَيْهِ وَذَلِكَ غير القَوْل بِأَن الْخَبَر قد قَالَه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحجَّة الْأَوَّلين هِيَ أَن الْعَادة جَارِيَة فِي أمتنَا أَنَّهَا لَا تجمع على مُقْتَضى خبر وَاحِد إِلَّا وَقد قَامَت الْحجَّة بِهِ أَلا ترى أَن مَا لم تقم الْحجَّة بِهِ لم يتفقوا على مُقْتَضَاهُ كَحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تطيب لحُرْمَة قبل إِحْرَامه وَحَدِيث بروع بنت واشق وَأما الْأَخْبَار عَن أصُول الصَّلَوَات والزكوات فانه لما قَامَت الْحجَّة بهَا أَجمعُوا على حكمهَا وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم

إِن أردتم أَن أَكثر أَخْبَار الْآحَاد لم يتفقوا على مُوجبهَا قيل لكم قد جوزتم كَون بَعْضهَا لم تقم الْحجَّة بِهِ وَقد وَقع الْإِجْمَاع على حكمه فان قَالُوا نقيس الأول على الْأَكْثَر الَّذِي اختبرناه فَعرفنَا أَن الْإِجْمَاع لم يَقع على حكمه إِلَّا بعد قيام الْحجَّة بِهِ بعلة أَنَّهَا أَخْبَار آحَاد قيل لَهُم لم زعمتم صِحَة هَذِه الْعلَّة وَأَيْضًا فان من يعْتَقد وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد إِذا روى لَهُ خبر وَاحِد وَلم يعْمل بِهِ لَا يَقُول إِنَّمَا لم أعمل بِهِ لِأَنَّهُ خبر وَاحِد بل يَقُول إِنَّمَا لم أعمل بِهِ لِأَنَّهُ لم تتكامل فِيهِ شَرَائِط الْعَمَل أَو يتاوله وَيصير إِلَى غَيره فَبَان أَنه لَيْسَ الْعلَّة فِي أَن لَا يعْمل بِهِ كَونه خبر وَاحِد ثمَّ ينْقض عَلَيْهِم بِخَبَر عبد الرَّحْمَن فِي جِزْيَة الْمَجُوس وَخبر حمل بن مَالك فِي الْجَنِين لِأَن الصَّحَابَة أَجمعت على مُقْتَضى ذَلِك لأجل الْخَيْر من غير ان قَامَت الْحجَّة بِهِ لأَنهم أَجمعُوا عِنْد سَماع الْخَبَر من غير تجدّد شَيْء آخر وَلِهَذَا صَحَّ أَن يسْتَدلّ باجماعهم على ذَلِك على أَنهم أَجمعُوا على الْعَمَل بأخبار غير مَقْطُوع بهَا وَإِن أردتم أَنكُمْ عَرَفْتُمْ أَن كل خبر وَاحِد لم تقم الْحجَّة بِهِ لم يجمعوا على حكمه قيل لم زعمتم ذَلِك وَمَا أنكرتم أَن يكون كثيرا مِمَّا أَجمعُوا على حكمه من أَخْبَار الْآحَاد لم تقم بِهِ الْحجَّة بِهِ وَلَو كَانَ كل مَا اجْمَعُوا على مُقْتَضَاهُ قد قَامَت الْحجَّة بِهِ لم يَصح الِاسْتِدْلَال باجماع الصَّحَابَة على الْعَمَل بأخبار الْآحَاد وَيُمكن أَن يحتجوا فيقولوا إِذا أَجمعُوا على مُوجب الْخَبَر وَجب كَون الْخَبَر حَقًا لأَنهم لَا يجمعُونَ على خطأ وَلَا يجوز أَن يُقَال إِذا أَجمعُوا على حكمه قَطعنَا على أَن الْخَبَر حق وَإِن لم تكن الْحجَّة قد قَامَت بِهِ لِأَن ذَلِك يَقْتَضِي أَنهم لَا يتَّفق مِنْهُم الْإِجْمَاع على خبر إِلَّا وَقد قَالَه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غير حجَّة دلتهم على ذَلِك وَمثل ذَلِك لَا يحصل بالِاتِّفَاقِ كَمَا لَا يجوز أَن يتَّفق مِنْهُم الصَّوَاب من غير دلَالَة وَالْجَوَاب إِنَّهُم لم يجمعوا على صِحَة الْخَبَر فَيكون صَحِيحا وَإِنَّمَا أَجمعُوا على حكمه وَذَلِكَ يدل على أَن حكمه حق وصواب وَلَا يمْتَنع أَن يقطع على صِحَة الحكم وَإِن كَانَ الْخَبَر مظنونا غير مَقْطُوع بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه

فاما خبر الْوَاحِد إِذا عمل عَلَيْهِ أَكثر الصَّحَابَة وعابوا على من لم يعْمل بِهِ فحكي عَن عِيسَى بن أبان أَنه يقطع بِهِ وَالصَّحِيح أَنه لَا يقطع بِهِ لِأَن قَول أَكثر أهل الْعَصْر من الْمُجْتَهدين لَيْسَ بِحجَّة وَالْأولَى أَن يسْتَدلّ فِي تَحْرِيم بيع دِرْهَم بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدا بِحَدِيث أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ لَا بِإِجْمَاع الصَّحَابَة لِأَن ابْن عَبَّاس يخالفهم فَأَما إِذا عمل بعض الصَّحَابَة بِخَبَر وَاحِد وتأوله الْبَاقُونَ فَلَا يجب الْقطع بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِاتِّفَاق مِنْهُم على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه لِأَن الْوَاجِب على الْمُجْتَهد أَن يعْمل بِهِ أَو يتأوله وَأما إِذا تضمن خبر الْوَاحِد علما وَجَاز أَن يَقُوله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فان إمْسَاك الصَّحَابَة عَن إِنْكَاره لَا يدل على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه لجَوَاز أَن يَكُونُوا إِنَّمَا أَمْسكُوا عَن ردة لتجويزهم أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد قَالَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي شُرُوط وُقُوع الْعلم بالْخبر الْمُتَوَاتر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن من جعل الْعلم الْوَاقِع بالتواتر مكتسبا يشرط فِي وُقُوع الْعلم بِهِ أَن يكون المخبرون كَثْرَة يمْتَنع مَعهَا اتِّفَاق الْكَذِب مِنْهُم والتواطؤ عَلَيْهِ وَأَن يَكُونُوا إِنَّمَا أخبروا بِهِ مضطرين وَإِنَّمَا شرطنا ذَلِك لأَنا لَو جَوَّزنَا أَن يشتركوا فِي الْكَذِب اتِّفَاقًا أَو بتواطؤ أَو تراسل لم نَأْمَن أَن يَكُونُوا كذبُوا لهذين الْوَجْهَيْنِ وَلَو جَوَّزنَا أَن يَكُونُوا قد الْتبس عَلَيْهِم مَا أخبروا بِهِ فظنوا أَنهم محقون فِيهِ وهم غير محقين لم نثق بِصِحَّة مَا اخبروا بِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن مَا تكاملت فِيهِ هَذِه الشَّرَائِط من الْأَخْبَار يعلم صِحَّتهَا لِأَن مَا أخبر بِهِ المتواترون لَو كَانَ كذبا لم يخل إِمَّا أَن يَكُونُوا قد اعتقدوا كَونه كذبا وتعمدوه أَو يَكُونُوا لم يعتقدوا ذَلِك بل ظنوه صدقا وَهَذَا الاخير غير حَاصِل فِيمَا هُوَ مَعْلُوم باضطرار لِأَنَّهُ لَا لبس فِي ذَلِك وَلَا اشْتِبَاه وَإِن كَانُوا تعمدوا الْكَذِب فَأَما

أَن يَكُونُوا تعمدوه لغير دَاع أَو لداع والاول بَاطِل لِأَن الْمُمَيز لَا يفعل إِلَّا لداع سِيمَا مَا لَهُ عَنهُ صَارف وَإِن كَانُوا تعمدوه لداع فإمَّا أَن يرجع الدَّاعِي إِلَى الْخَبَر أَو إِلَى غَيره وَالْأول بَاطِل لِأَن الرَّاجِع إِلَى الْخَبَر هُوَ كَونه كذبا وَذَلِكَ يصرف عَن فعله وَيُفَارق إخبارهم بِالصّدقِ عَمَّا فِيهِ فَائِدَة لِأَن الْفَائِدَة تَدْعُو إِلَى ذَلِك وَكَون الْخَبَر صدقا لَا يصرف وَمَا يرجع إِلَى غير الْخَبَر فَهُوَ إِمَّا الدّين أَو الدُّنْيَا من رَغْبَة أَو رهبة وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَفْعَلُوا ذَلِك لداع وَاحِد من هَذِه الدَّوَاعِي وَإِمَّا أَن يَفْعَله بَعضهم لبَعض هَذِه الدَّوَاعِي وَبَعْضهمْ يفعل للْبَعْض الآخر وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن تحصل لَهُم هَذِه الدَّوَاعِي بتراسل أَو تحصل لَهُم من غير تراسل وَلَا تشاعر أما التدين الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِخْبَار بِخِلَاف مَا يعلم باضطرار فتدين ظَاهر الْبطلَان وَلَيْسَ يجوز أَن يشْتَرك الْخلق الْعَظِيم فِي تَرْجِيح مَا قد ظهر فَسَاده من التدين على مَا فِي عُقُولهمْ من تجنب الْكَذِب والنفور مِنْهُ سِيمَا إِذا علم الْكذَّاب أَن غَيره يعلم أَنه كَاذِب بل لَا بُد أَن يخْتَلف أَحْوَال الْجَمَاعَات الْكَثِيرَة فِي ذَلِك إِن لم يتفقوا على تجنب الْكَذِب والعدول عَن ذَلِك التدين الظَّاهِر الْبطلَان وَلَا فرق فِيمَا ذَكرْنَاهُ بَين أَن يكون قد دخلت عَلَيْهِم شُبْهَة فِي ذَلِك التدين أَو لم تكن دخلت عَلَيْهِم شُبْهَة لِأَن الْجَمَاعَة الْكَثِيرَة لَا يتساوون فِي تَرْجِيح الشُّبْهَة على مَا فِي عُقُولهمْ من استقباح الْكَذِب كَمَا لَا يجوز أَن يتساووا فِي مأكل وَاحِد وسلوك طَرِيق وَاحِد وَأما الرَّغْبَة واعتقاد الْمَنْفَعَة فقد تكون رَجَاء عوض عَن الْكَذِب وَقد تكون إِيثَار إطراف النَّاس فكثير من النَّاس يحبونَ أَن يخبروا غَيرهم بِمَا لَا أصل لَهُ ليطرفوهم ويقربوا بذلك من قُلُوبهم وَالْجَمَاعَات لَا يتساوون فِي إِيثَار ذَلِك على إطراح الْكَذِب وَلَا يتساوون فِي الافتقار إِلَى مَا وَقعت الرَّغْبَة بِهِ بل كثير مِنْهُم لَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَكثير مِنْهُم يحْتَاج إِلَيْهِ وَلَا يؤثره على الصدْق فَأَما رَغْبَة السُّلْطَان ورهبته فانهما لَا تجمعان الْجمع الْعَظِيم على الْإِخْبَار بِمَا يعلمونه بَاطِلا أَلا ترى أَن السُّلْطَان لَا يُمكنهُ ذَلِك فِي جَمِيع أهل بَغْدَاد لِأَنَّهُ لَا يُحِيط بهم إحصاؤه حَتَّى يصير كل وَاحِد مِنْهُم مُضْطَرّا إِلَى الْخَبَر وَقد تغري رهبة السُّلْطَان كثيرا من النَّاس بالتحدث بالشَّيْء

على حَقِيقَته عِنْد الإخوان والثقات وَلَا يلبث بذلك أَن يشيع الْخَبَر الصَّحِيح فِي النَّاس وَرُبمَا علمنَا فِي كثير من الْأَشْيَاء أَنه لَا غَرَض للسُّلْطَان فِي أَن نخبر عَنْهَا بِالْكَذِبِ وَأَنه لَا غَرَض للمخبرين فِي ذَلِك وَلَا يجوز إبِْطَال هَذَا الْقسم بِأَنَّهُ لَو كَانَ السُّلْطَان أرهبهم لظهر لِأَنَّهُ يُقَال فِي ذَلِك مَا أنكرتم أَن يكون السُّلْطَان دعاهم بالرهبة إِلَى كتمان الرهبة وَلَا يجوز أَن تكون الْجَمَاعَة الْعَظِيمَة بَعْضهَا يخبر بِمَا يعلم كذبا بالرغبة وَبَعضهَا لرهبة وَبَعضهَا للتدين لِأَن كلامنا فِي جمَاعَة عَظِيمَة أبعاضها جمَاعَة عَظِيمَة يمْتَنع تَسَاوِي أحوالها فِي قُوَّة هَذِه الدَّوَاعِي وإيثارها على استقباح الْكَذِب والنفور عَنهُ مَعَ مَا فِي طباع النَّاس من محبَّة التحدث بِمَا كَانَ وَلَيْسَ يجوز أَن يُقَال إِن الْجَمَاعَة الْعَظِيمَة قد يكون أَن تخبر بِمَا تعلمه كذبا أَو تكْتم ذَلِك إِلَّا الْوَاحِد والإثنين لِأَنَّهُ إِن جَازَ ذَلِك فِي الْجَمَاعَة الْعَظِيمَة إِلَّا الْوَاحِد جَازَ مَعَ ذَلِك الْوَاحِد وَوَجَب لَو لم يكن فِيهَا ذَلِك الْوَاحِد أَن يجوز أَن يجتمعوا على الْكَذِب وَفِي ذَلِك جَوَاز الْكَذِب على المتواترين فَهَذِهِ الشَّرَائِط يَعْتَبِرهَا من يَقُول إِن الْعلم بالتواتر مكتسب وَمن يَقُول إِنَّه ضَرُورِيّ لَا يَعْتَبِرهَا وَيَقُول إِن الْعلم لَا يحصل بتأمل أَحْوَال المخبرين وَإِنَّمَا يحصل من فعل الله سُبْحَانَهُ فان فعله الله سُبْحَانَهُ علمنَا تَكَامل شُرُوط التَّوَاتُر فِي الْخَبَر وَإِن لم يَفْعَله علمنَا أَنه لم تتكامل الشَّرَائِط فِيهِ ونقول إِن الْعلم الضَّرُورِيّ لَو لم يحصل بالتواتر لَكَانَ يسْتَدلّ بِهِ ويشرط فِي صِحَة الِاسْتِدْلَال بِهِ مَا ذَكرْنَاهُ من الشَّرَائِط ونقول أَيْضا يجوز أَن لَا يَقع الْعلم الضَّرُورِيّ بِخَبَر الْعشْرين وَالثَّلَاثِينَ فان لم يَقع الْعلم بخبرهم الضَّرُورِيّ أمكن أَن يسْتَدلّ بِهِ إِن حصلت فِيهِ الشَّرَائِط الَّتِي ذَكرنَاهَا ويشرطون فِي حُصُول الْعلم الضَّرُورِيّ بالتواتر أَشْيَاء مِنْهَا أَن لَا يكون السامعون عَالمين بِمَا أخبروا بِهِ باضطرار وَلَيْسَ يَلِيق الْكَلَام فِي ذَلِك بأصول الْفِقْه وَقد ذَكرْنَاهُ فِي الشَّرْح للعمد

وَمِنْهَا أَن يكون المخبرون أَكثر من أَرْبَعَة وَمِنْهَا أَن يَكُونُوا مضطرين إِلَى مَا أخبروا عَنهُ وَمن حكمه أَنه إِذا وَقع الْعلم بِخَبَر عدد أَن يَقع بِخَبَر من ساواه فِي ذَلِك الْعدَد فاذا وَقع الْعلم لعاقل أَن يَقع لكل عَاقل أما وُقُوع الْعلم بِخَبَر أَرْبَعَة فَمن قَالَ إِن الْعلم بالأخبار مكتسب فانه يَقُول إِنَّمَا يَقع الْعلم بالتواتر لِأَنَّهُ قد علم أَن المخبرين لَا دَاعِي لَهُم إِلَى الْكَذِب وَإِنَّمَا يعلم ذَلِك إِذا علم اسْتِحَالَة اشتراكهم فِي دَاع وَاحِد اتِّفَاقًا أَو تواطؤا وَالْأَرْبَعَة لَا يعلم اسْتِحَالَة كلا الْأَمريْنِ عَلَيْهِم فَلم يَقع الْعلم بخبرهم وَأما من يَقُول الْعلم الْوَاقِع بالتواتر ضَرُورِيّ فانه يَقُول لَو وَقع الْعلم بِخَبَر أَرْبَعَة عَن مُشَاهدَة لوقع بِخَبَر كل أَرْبَعَة اضطروا إِلَى مَا أخبروا عَنهُ فَكَانَ يجب إِذا شهد أَرْبَعَة أَنهم شاهدوا فلَانا يَزْنِي أَن يسْتَغْنى القَاضِي عَن السُّؤَال عَنْهُم لِأَنَّهُ إِن علم صدقهم فَلَا حَاجَة بِهِ إِلَى السُّؤَال عَنْهُم وَإِن لم يعلم صدقهم علم أَنهم كذبة أَو بَعضهم فيستغني أَيْضا عَن السُّؤَال وَلَا يُقيم الْحَد وَفِي الْإِجْمَاع على وجوب إِقَامَة الْحَد وَإِن لم يضْطَر إِلَى صدقهم على أَن الْعلم لَا يَقع بِخَبَر أَرْبَعَة وَلَا يقْدَح فِي ذَلِك كَون الشُّهُود مخبرين بِلَفْظ الشَّهَادَة لَا بِلَفْظ الْخَبَر لِأَن اخْتِلَاف الْأَلْفَاظ لَا يُؤثر فِي ذَلِك أَلا ترى أَن الْأَخْبَار المتواترة بِالْفَارِسِيَّةِ والعربية سَوَاء فِي وُقُوع الْعلم وَلَا يقْدَح فِي ذَلِك أَن يُقَال إِن من شَرط الشَّهَادَة أَن يجتمعوا فِي الشَّهَادَة وَذَلِكَ يجوز وُقُوع التواطؤ مِنْهُم لِأَن اجْتِمَاع الْأَرْبَعَة عِنْد الْخَبَر وافتراقهم سَوَاء فِي تَجْوِيز كَونهم متواطئين فان جَازَ فِي إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ وُقُوع الْعلم بخبرهم جَازَ مثله فِي الْحَالة الْأُخْرَى إِن قيل فَيجب إِذا وَجب على الْحَاكِم أَن يُقيم الْحَد بِشَهَادَة خَمْسَة وَإِن لم يضْطَر إِلَى الْعلم بصدقهم أَن يدل ذَلِك على أَن الْعلم الضَّرُورِيّ لَا يَقع بِخَبَر خَمْسَة قيل لَا يجب ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يَقع الْعلم بِخَبَر خَمْسَة وَأَن يكون

الْحَاكِم إِنَّمَا لم يعلم ضَرُورَة صدق هَؤُلَاءِ الْخَمْسَة وَإِن وَجب عَلَيْهِ إِقَامَة الْحَد لجَوَاز أَن يكون أَرْبَعَة مِنْهُم شهدُوا عَن مُشَاهدَة وَالْخَامِس لم يُشَاهد فَلَزِمَهُ إِقَامَة الْحَد بِشَهَادَة أَرْبَعَة مِنْهُم وَإِن لم يعرفهُمْ بأعيانهم وَلَا يمْتَنع أَن يكون إِنَّمَا لم يعلم صدقهم لِأَن الْخَمْسَة لَا يَقع الْعلم بخبرهم وَإِذا لم يمْتَنع كلا الْأَمريْنِ لم يكن فِي ذَلِك دَلِيل على أَن الْخَمْسَة لَا يجوز وُقُوع الْعلم بخبرهم وَوَجَب كَون ذَلِك مشكوكا فِيهِ وَلَا يلْزم على ذَلِك أَن لَا يَقع الْعلم بِعَدَد القاسمة من حَيْثُ لم يعْتَبر الْحَاكِم وُقُوع الْعلم بخبرهم لِأَن أهل الْعرَاق يَقُولُونَ يحلف خَمْسُونَ من الْمُدعى عَلَيْهِم كل وَاحِد مِنْهُم أَنه مَا قتل وَلَا عرف قَاتلا فَلَيْسَ يخبرون عَن مخبر وَاحِد بل كل وَاحِد مِنْهُم يخبر عَن غير مَا يخبر عَنهُ الآخر وَعند الشَّافِعِي يحلف خَمْسُونَ من المدعين كل وَاحِد مِنْهُم بِحَسب ظَنّه فمخبر كل وَاحِد مِنْهُم غير مخبر الآخر فان قيل وَلَو قَالُوا لَو وَقع الْعلم بِخَبَر أَرْبَعَة لوقع بِخَبَر كل أَرْبَعَة قيل لِأَنَّهُ لَو وَقع الْعلم بِخَبَر قوم وَلم يَقع بِخَبَر مثلهم مَعَ تساويهم فِي الشُّرُوط لم يمْتَنع أَن يخبرنا قافلة الْحَاج عَن مَكَّة فنعرفها وَأَن يخبرنا عَن الْمَدِينَة فَلَا نعرفها وَفِي ذَلِك جَوَاز الشَّك فِي الْبلدَانِ مَعَ تَوَاتر الْأَخْبَار عَنْهَا وَهَذَا لَا يَصح لِأَن الْعلم بمخبر الْأَخْبَار من فعل الله عز وَجل عِنْدهم فَمَا يؤمنهم أَن يفعل الْعلم عِنْد خبر اربعة دون أَرْبَعَة وَلَا يجْرِي الْعَادة فِي ذَلِك على طَريقَة وَاحِدَة وَيجْرِي الْعَادة على طَريقَة وَاحِدَة فِي فعل الْعلم عِنْد إِخْبَار الْجَمَاعَات الْكَثِيرَة فَلَا يلْزم الشَّك إِذا أخبر بهَا الْجَمَاعَات فَأَما اشْتِرَاط كَون المخبرين عَالمين بِمَا أخبروا عَنهُ ضَرُورَة فان من يَقُول إِن الْعلم بالتواتر مكتسب يَجْعَل من شَرط الِاسْتِدْلَال بِهِ أَنه لَا يشْتَبه على المخبرين مَا أخبروا عَنهُ فيظنوه حَقًا فيخبروا عَنهُ وَأَن لم يقصدوا الْكَذِب وَهَذَا يَقْتَضِي أَن لَا يَكُونُوا عَالمين باستدلال لِأَن مَا يعلم باستدلال يجوز دُخُول الشُّبْهَة فِيهِ على الْخلق الْعَظِيم يبين ذَلِك أَن الْمُسلمين على كثرتهم يخبرون

الْيَهُود بنبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يعلم الْيَهُود ذَلِك وَلَو أخْبرهُم بعض الْمُسلمين بِمَا شاهدوه لعلمه الْيَهُود وَلَا فرق بَينهمَا وَهَذَا الْوَجْه يحْتَج بِهِ من قَالَ إِن الْعلم بمخبر الْإِخْبَار ضَرُورِيّ ويحتج أَيْضا بِأَن علم السَّامع فرع على علم الْمخبر وَلم يجز كَونه ضَرُورَة مَعَ كَون الأَصْل مكتسبا وَهَذَا لَا يَصح لِأَن علم السَّامع لَيْسَ بصادر عَن علم الْمخبر وَإِنَّمَا هُوَ فعل الله سُبْحَانَهُ مُبْتَدأ إِخْبَار إيجاده عَن الْخَبَر فَلم يمْتَنع أَن يَفْعَله عِنْد خبر من تعلم مَا أخبر عَنهُ باستدلال فَأَما ان كل عدد وَقع الْعلم بخبرهم لجَماعَة فانه يَقع الْعلم بخبرهم لغير تِلْكَ الْجَمَاعَة وَيَقَع الْعلم بِخَبَر مثل هَؤُلَاءِ المخبرين فالدليل عَلَيْهِ عندنَا هُوَ أَن الْعلم إِنَّمَا يَقع بخبرهم لأَنهم اختصوا بِشُرُوط مَعْلُومَة تُؤدِّي إِلَى الْعلم بصدقهم وَهِي متقررة عِنْد كل من عرف الْعَادَات وَإِن لم يعْتَبر عَنْهَا كثير مِنْهُم فاذا حصلت هَذِه الشُّرُوط فِي عدد آخر وَجب أَن يُؤَدِّي خَبره إِلَى مثل مَا أدّى إِلَيْهِ خبر الْأَوَّلين وَأما من قَالَ إِن الْعلم بالمخبر عَنهُ ضَرُورَة فانه يَقُول لَو جَازَ خلاف ذَلِك لم يمْتَنع أَن يكون فِي الْعُقَلَاء من يُخْبِرهُمْ المتواترون بِمَا شاهدوه فَلَا يعلم صدقهم وَفِي ذَلِك تَجْوِيز كَون بعض الْعُقَلَاء غير عَالمين بِأَن فِي الدُّنْيَا مَكَّة مَعَ سَمَاعه الْأَخْبَار عَنْهَا كسماعنا وَلقَائِل أَن يَقُول إِن هَذَا الْكَلَام يَقْتَضِي إِحَالَة انْتِفَاء الْعلم بِمَكَّة وَأَنْتُم لَا تحيلون ذَلِك لِأَن وُقُوع الْعلم بذلك مُبْتَدأ من فعل الله عز وَجل فان قَالُوا لَيْسَ ذَلِك بمحال وَلَكنَّا قد علمنَا أَنه لن تخْتَلف فِيهِ السامعون قيل لَهُم وَكَيف علمْتُم ذَلِك وَلَعَلَّ الْعَادة قد جرت بِخِلَاف ذَلِك فِي كثير من الْعُقَلَاء وَلَيْسَ من شَرط وُقُوع الْعلم أَن يكون المخبرون أَو بَعضهم مُؤمنين أما على قَوْلنَا فَلِأَن الْخَبَر طَرِيق إِلَى الْعلم من حَيْثُ لم يكن للمخبرين دَاع إِلَى تعمد الْكَذِب وَلَا كَانَ الْحق فِيهِ ملتبسا ومجموع ذَلِك يُمكن حُصُوله مَعَ الْكَافرين وَلِأَن أهل بِلَاد الْكفْر يعْملُونَ بتواتر أهل مقالاتهم من أَحْوَال الْبِلَاد مثل مَا

نعلمهُ نَحن وَهَذَا الْوَجْه يحْتَج بِهِ من قَالَ إِن الْعلم بالتواتر ضَرُورِيّ وَلَيْسَ من شُرُوط وُقُوع الْعلم بالْخبر الْمُتَوَاتر أَن يكون المخبرون عشْرين لِأَنَّهُ لَا دَلِيل على اشْتِرَاط ذَلِك وَالْأَظْهَر أَن شَرط الِاسْتِدْلَال لَا يحصل فيهم وَمن يشرط هَذَا الْعدَد يتَعَلَّق بقول الله سُبْحَانَهُ إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ قَالُوا فَأوجب على الْعشْرين الْجِهَاد وَإِنَّمَا خصهم بِالْوُجُوب لأَنهم إِذا أخبروا علم صدقهم وَهَذَا لَا يدل لِأَنَّهُ الْآيَة إِنَّمَا تَقْتَضِي وجوب صبرهم لمائتين وَلَيْسَ فِيهَا قصر الْوُجُوب عَلَيْهِم وَالْأمة أَيْضا مجمعة على وجوب الْجِهَاد على الْعشْرَة إِذا كَانَ فيهم غنى وَلَو أوجب الله على الْعشْرين الْجِهَاد دون من نقص مِنْهُم لم يكن فِي ذَلِك دلَالَة على أَنه إِنَّمَا خصهم بِالْوُجُوب لما ذَكرُوهُ دون غَيره من وُجُوه الْمصَالح الَّتِي يخْتَص الله تَعَالَى بِالْعلمِ بهَا وَلَا دَلِيل على اشْتِرَاط كَون المخبرين سبعين وَلَا ثَلَاث مائَة على مَا يحْكى عَن بَعضهم فِي السّبْعين تعلقا بِاخْتِيَار مُوسَى سبعين رجلا من قومه ليصيروا مَعَه إِلَى مُنَاجَاة ربه وَلَا فَائِدَة فِي ذَلِك إِلَّا ليخبروا قَومهمْ فَلَو وَقع الْعلم بِخَبَر من دونهم لم يكن لاختيارهم فَائِدَة وَهَذَا لَا يَصح لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَة أَنه اخْتَارَهُمْ لهَذَا الْغَرَض وَيجوز أَن يكون اخْتَارَهُمْ لهَذَا الْغَرَض وَلغيره وَلم يكن مَجْمُوع الغرضين حَاصِلا فِيمَن دونهم وَتعلق من اشْتِرَاط ثَلَاث مائَة بِأَنَّهُم عدَّة أهل بدر فَتعلق بِمَا لَا علقَة لَهُ بِالْمَسْأَلَة فان قَالُوا إِنَّمَا اخْتَارَهُمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليخبر الْمُشْركين بشرعه قيل لَهُم فقد كَانُوا أَكثر من ثَلَاث مائَة وايضا فَمن أَيْن أَنه اخْتَارَهُمْ لهَذَا الْغَرَض وَمَا تنكرون أَنه اتّفق اخْتِيَار ذَلِك الْعدَد لَا لما قَالُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن خبر الْوَاحِد لَا يَقْتَضِي الْعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ أَكثر النَّاس إِنَّه لَا يَقْتَضِي الْعلم وَقَالَ آخَرُونَ يَقْتَضِيهِ وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فَلم يشرط قوم من أهل الظَّاهِر اقتران قرينَة بالْخبر وَشرط أَبُو إِسْحَاق النظام فِي اقْتِضَاء الْخَبَر الْعلم اقتران قَرَائِن بِهِ وَقيل إِنَّه شَرط ذَلِك فِي التَّوَاتُر

أَيْضا وَمثل ذَلِك بِأَن نخبر بِمَوْت زيد ونسمع فِي دَاره الواعية ونرى الْجِنَازَة على بَابه مَعَ علمنَا بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي دَاره مَرِيض سواهُ وَحكي عَن قوم أَن يَقْتَضِي الْعلم الظَّاهِر وعنوا بذلك الظَّن وَاحْتج الْأَولونَ بأَشْيَاء مِنْهَا أَن خبر الْوَاحِد لَو اقْتضى الْعلم لاقتضاه كل خبر وَاحِد كَمَا أَن الْخَبَر الْمُتَوَاتر لما اقْتَضَاهُ اقْتَضَاهُ كل خبر متواتر وَهَذَا اقْتِصَار على الدَّعْوَى فان قَالُوا إِنَّمَا اقْتضى كل خبر متواتر الْعلم لِأَنَّهُ من قبيل مَا يَقع الْعلم عِنْده وَهَذَا قَائِم فِي خبر الْوَاحِد لَو كَانَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْعلم قيل لم زعمتم أَن هَذِه هِيَ الْعلَّة وَمَا انكرتم أَن الْعلم الْوَاقِع بالتواتر إِن كَانَ ضَرُورِيًّا فَهُوَ من فعل الله سُبْحَانَهُ فَمَا يؤمنكم أَن يخْتَار فعله عِنْد كل خبر متواتر لاقْتِضَاء الْمصلحَة لذَلِك وَلم يقتض الْمصلحَة فعله عِنْد كل خبر وَاحِد فَلم يَفْعَله عِنْد كل أَخْبَار الْآحَاد وَإِن كَانَ الْعلم بالتواتر مكتسبا فَمَا يؤمنكم أَن تكون شُرُوط الِاسْتِدْلَال بِهِ تتساوى فِيهَا الْأَخْبَار المتواترة وَلَا يسمع فِيهِ أَخْبَار الْآحَاد وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْعلم لَا يَقع لشَيْء من الْأَخْبَار الَّتِي يَرْوِيهَا أَرْبَعَة فَقَط فَلم يَقع لشَيْء من الْأَخْبَار الَّتِي يَرْوِيهَا وَاحِد لِأَن الْأَرْبَعَة وَاحِد وَزِيَادَة وَهَذَا لَا يَصح لأَنا قد بَينا انه لَا طَرِيق لَهُم إِلَى الْعلم بِأَن الْعلم لَا يَقع لشَيْء من الْأَخْبَار الَّتِي يَرْوِيهَا أَرْبَعَة وَمِنْهَا إبطالهم مَذْهَب النظام لِأَنَّهُ لَو وقف حُصُول الْعلم بالمخبر عَنهُ على قَرَائِن لم يمْتَنع أَن يخبر المتواترون رجلا عَاقِلا بِمَكَّة وَلَا يقْتَرن بخبرهم هَذِه الْقَرَائِن فَلَا نعرفها وَهَذَا إِنَّمَا يُفِيد مَذْهَب أبي إِسْحَاق فِي اشْتِرَاط الْقَرَائِن فِي وُقُوع الْعلم بالأخبار المتواترة وَلَعَلَّ أَبَا إِسْحَاق عَنى بالقرائن بالأخبار المتواترة مَا لَا يَنْفَكّ مِنْهَا الْأَخْبَار المتواترة نَحْو امْتنَاع اتِّفَاق الْكَذِب مِنْهُم وَأَن لَا يَصح فيهم التواطؤ فَلَا يلْزمه أَن لَا يعلم بعض الْعُقَلَاء أَن فِي الدُّنْيَا مَكَّة وَمِنْهَا أَنه لَيْسَ يَخْلُو الْعلم الْوَاقِع عِنْد الْخَبَر إِمَّا أَن يكون سَببه الْقَرِينَة

وَحدهَا أَو الْقَرِينَة بِشَرْط الْخَبَر أَو الْخَبَر وَحده أَو الْخَبَر بِشَرْط الْقَرِينَة والقسمان الْأَوَّلَانِ باطلان لِأَن الْقَرِينَة لَا تتَنَاوَل الْمخبر عَنهُ وَإِنَّمَا المتناول لَهُ هُوَ الْخَبَر فَلم يجز أَن لَا يكون هُوَ سَبَب الْعلم أَو يكون سَببه غَيره وَلَو كَانَ الْخَبَر وَحده يَقْتَضِي الْعلم لاقتضاه إِذا تجرد والمعلوم خِلَافه وَلَا يجوز أَن يَقْتَضِيهِ لشرط الْقَرِينَة كسماع الواعية من دَار الْمَرِيض مَعَ تقدم الْعلم بِأَنَّهُ لَا مَرِيض فِي الدَّار سواهُ لعلمنا أَنه لَو تجردت هَذِه الْقَرِينَة عَن الْخَبَر لَكَانَ اعتقادنا موت ذَلِك الْمَرِيض كاعتقادنا مَوته مَعَ الْخَبَر وَهَذَا لَا يَصح لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون سَبَب الصُّرَاخ فِي دَاره موت غَيره فَجْأَة فاذا سمعنَا الْخَبَر بِمَوْت ذَلِك الْمَرِيض مَعَ الواعية كَانَ اعتقادنا لمَوْته آكِد من اعتقادنا لمَوْته عِنْد سَماع الواعية فَقَط فَلَا يمْتَنع أَن تكون هَذِه الْقُوَّة هِيَ الْعلم على أَن مَا أبطلوا بِهِ أَن تكون الْقَرِينَة وَحدهَا مقتضية للْعلم لَا يَصح لِأَنَّهَا وَإِن لم يكن لفظا متناولا للمخبر عَنهُ فَهِيَ فعل لَا دَاعِي إِلَيْهِ إِلَّا الْمَوْت أَعنِي الصُّرَاخ وَحُضُور الْجِنَازَة وَهَذَا وَجه صَحِيح فِي التَّعَلُّق بالمخبر عَنهُ وَيَنْبَغِي أَن نقسم الْكَلَام على الْمُخَالف فَنَقُول بِهِ أتزعم أَن كل خبر وَاحِد يَقْتَضِي الْعلم فان قَالَ نعم فَنحْن نعلم أَن كثيرا من النَّاس يخبروننا بِمَا لَا نظنه فضلا أَن نعلمهُ وَكَانَ يجب فِيمَا لَا نعلم صدقه من الْأَخْبَار أَن نعلم كذبه وَإِن قَالُوا إِنَّمَا نعلم صدق بعض أَخْبَار الْآحَاد دون بعض قيل أتعلمون ذَلِك ضَرُورَة أَو اكتسابا فان قَالُوا ضَرُورَة قيل هَذَا بَاطِل لِأَنَّهُ لَيْسَ يَكْفِي مُجَرّد الْخَبَر فِي وقوفنا على مخبره من دون أَن نلحظ أمورا أخر فان كُنَّا عَالمين بالمخبر عَنهُ فانما يَقْتَضِي علمنَا بِهِ اكتسابا وَتلك الامور إِمَّا أَن ترجع إِلَى احوال الْمخبر وَإِمَّا أَن ترجع إِلَى غير احواله وَمِثَال الثَّانِي اقتران الواعية وَحُضُور الْجِنَازَة بالْخبر عَن الْمَوْت وَأما أَحْوَال الْمخبر فنحو أَن يكون لَهُ صَارف عَن الْكَذِب فِي ذَلِك الْخَبَر وَلَا يكون لَهُ دَاع إِلَيْهِ نَحْو أَن يكون متحفظا من الْكَذِب نافرا عَنهُ فِي الْجُمْلَة وَنَحْو أَن يكون رَسُولا من سُلْطَان يذكر أَن السطان يَأْمر الْجَيْش بِالْخرُوجِ إِلَيْهِ فعقوبة السُّلْطَان تصرفه عَن

الْكَذِب وَنَحْو أَن يخبر الْإِنْسَان بأسعار بَلَده وَهُوَ ذُو مُرُوءَة تصرفه عَن الْكَذِب وَلَا يكون لَهُ إِلَى الْكَذِب فِي ذَلِك دَاع وَنَحْو أَن يكون الْإِنْسَان مهتما بِأَمْر من الامور متشاغلا بِهِ فَيسْأَل عَن غَيره فيخبر عَنهُ فِي الْحَال فَيعلم أَنه لم يفكر فِيهِ فيدعوه إِلَى الْكَذِب دَاع مَعَ علمنَا بِأَن كَونه كذبا يصرف عَنهُ وَهَذِه الْأُمُور تَقْتَضِي أَن لَا غَرَض للمخبر فِي الْكَذِب فَيبْطل بذلك أَن يتَعَمَّد الْكَذِب فَيعلم أَنه إِنَّمَا تعمد الصدْق وَهَذَا اسْتِدْلَال على الشَّيْء بابطال ضِدّه وَإِن قَالُوا إِنَّمَا نعلم صدق خبر الْوَاحِد اسْتِدْلَالا بِمَا ذكرتموه الْآن قيل لَيْسَ فِيمَا ذكرنَا مَا يُؤَدِّي إِلَى الْعلم لِأَنَّهُ قد يخبرنا الْإِنْسَان بِمَوْت الْمَرِيض وَيكون غَرَض أَهله بالصراخ عَلَيْهِ وإحضار الْجِنَازَة إِيهَام السُّلْطَان مَوته ليسلم مِنْهُ أَو يكون قد أُغمي عَلَيْهِ أَو يكون غَيره قد مَاتَ فَجْأَة وَقد يكون الْإِنْسَان شَدِيد التحفظ من الْكَذِب فِي الظَّاهِر دون الْبَاطِن وَقد يعدل عَنهُ فِي بعض الْأَشْيَاء دون الْبَعْض وَقد يكون الْإِنْسَان مهتما بِمَا يسْأَل عَنهُ وَيظْهر أَنه مهتم لغيره فاذا سُئِلَ عَنهُ أظهر أَنه قد نبه عَلَيْهِ وَقد كَانَ سَاهِيا عَنهُ ثمَّ أجَاب عَنهُ ليوهم أَنه لم يتَعَمَّد الْكَذِب فِيهِ وَقد يسْبق من الْإِنْسَان يَمِين فِي أَن يكذب فِي سعر الْأَشْيَاء أَو يكون غَرَضه أَن يعجب النَّاس بغلاء الأسعار أَو رخصها وَإِن كَانَ كَاذِبًا أَو يكون لَهُ غَرَض فِي نفاق سلْعَته أَو سلْعَة صديقه وَقد يشْتَبه عَلَيْهِ الْحَال فِي ذَلِك فيخبر بِالْكَذِبِ وَإِن لم يتعمده وَقد يرغب رَسُول السُّلْطَان بِالْمَالِ الجزيل فِي أَن يخبر رعية السُّلْطَان وجيشه بِأَمْر السُّلْطَان إيَّاهُم بِالْخرُوجِ إِلَيْهِ وَرُبمَا أمرع السُّلْطَان بِالْكَذِبِ فِي ذَلِك إِمَّا استهزاء وَإِمَّا اختبارا لطاعة جنده وَإِذا أمكنت هَذِه الْوُجُوه لم يعلم أَنه لَا غَرَض للمخبر إِلَّا الصدْق فَلم يعلم صدقه وَإِن غلب الظَّن وَأما خطّ الْإِنْسَان فانه قد يتَمَيَّز من غَيره صُورَة كَمَا يتَمَيَّز صور النَّاس بَعْضهَا من بعض فاشتباه خطّ زيد بِخَط عَمْرو فِي بعض الْحَالَات لَا يقْدَح فِيمَا

قُلْنَاهُ كَمَا لَا يقْدَح فِي تَمْيِيز الصُّور حُصُول الِاشْتِبَاه بَين بعض الصُّور فِي بعض الْحَالَات وَاحْتج أهل الظَّاهِر بِأَن الله عز وَجل منعنَا أَن نقُول عَلَيْهِ مَا لَا نعلم وتعبدنا بِخَبَر الْوَاحِد فَعلمنَا أَن خبر الْوَاحِد يَقْتَضِي الْعلم لَا الظَّن وَالْجَوَاب إِن التَّعَبُّد بِخَبَر الْوَاحِد لَا يَقْتَضِي جَوَاز القَوْل على الله بِمَا لَا يعلم لأَنا وَإِن ظننا صدق الرَّاوِي فانا نعلم بِدَلِيل قَاطع وجوب الْعَمَل بِهِ وَإِذا قُلْنَا إِن الله تعبدنا بذلك الْعَمَل فقد قُلْنَا على الله بِمَا لَا نعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يقبل فِيهِ خبر الْوَاحِد وَمَا لَا يقبل فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الرِّوَايَة إِمَّا تَتَضَمَّن شرعا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو لَا تَتَضَمَّن ذَلِك وَالْأول إِمَّا أَن نَكُون تعبدنا فِيهِ بِالْعلمِ فَلَا نقبل فِيهِ خبر الْوَاحِد أَو لم نتعبد فِيهِ بِالْعلمِ بل بِالْعَمَلِ فنقبل فِيهِ خبر الْوَاحِد إِذا تكاملت شَرَائِطه وَسَوَاء كَانَ عبَادَة مُبتَدأَة أَو ركنا من اركانها أَو حدا أَو ابْتِدَاء نِصَاب أَو تَقْديرا وَحكي قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله عَن الشَّيْخ أبي عبد الله رَحمَه الله أَنه كَانَ يمْنَع من قبُول خبر الْوَاحِد فِيمَا يَنْتَفِي بالشبه وَحكي عَن أبي يُوسُف خلاف ذَلِك من قَالَ ثمَّ سمعته يَقُول بالْقَوْل الثَّانِي وَكَانَ يمْنَع من قبُوله فِي ابْتِدَاء الْحُدُود وَابْتِدَاء النصب وأركان الصَّلَوَات وَيفرق بَين ابْتِدَاء النصب وَبَين توافي النصب فَقبل خبر الْوَاحِد فِي النّصاب الزَّائِد على خَمْسَة أَوَاقٍ لِأَنَّهُ فرع وَلَا يقبله فِي ابْتِدَاء الفصيلات والعجاجيل لِأَنَّهُ أصل عِنْده وَيقبل خبر الْوَاحِد فِي إِسْقَاط الْحُدُود وَلَا يقبله فِي إِثْبَاتهَا وقاضي الْقُضَاة يقبله فِي كل ذَلِك لِأَنَّهُ لَا وَجه يفصل بِهِ بَينهَا وَبَين غَيرهَا وَانْتِفَاء الشَّيْء بالشبه لَا يمْنَع من قبُول الْخَبَر فِيهِ كَمَا لَا يمْنَع من قبُول الشَّهَادَة فِيهِ غير أَنا لَا نقبل خبر الْوَاحِد فِي الْحُدُود على وَجه الْعقُوبَة وَإِنَّمَا

نقبله فِي الْحُدُود على وَجه الامتحان إِلَّا على قَول من أجَاز الْعقُوبَة مَعَ الظَّن وَظَاهر آيَة السّرقَة إِنَّمَا يَقْتَضِي قطع السراق عُقُوبَة وَإِنَّمَا علمنَا بِالسنةِ أَن من قطع امتحانا مُرَاد بِالْآيَةِ وَإِن كَانَ مَا يرويهِ الرَّاوِي لَيْسَ يتَضَمَّن إِضَافَة شرع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فإمَّا أَن يجْرِي مجْرَاه كاضافة الْفَتْوَى إِلَى الْمُفْتِي فَيقبل فِيهِ خبر الْوَاحِد وَإِمَّا أَن لَا يجْرِي مجْرى إِضَافَة الشَّرْع وَهَذَا إِمَّا أَن يتَضَمَّن مَا يفْتَقر إِلَى حكم الْحَاكِم أَو يتَضَمَّن مَا لَا يفْتَقر إِلَى ذَلِك فان تضمن مَا لَا يفْتَقر إِلَى حكم الْحَاكِم فاما أَن يتَعَلَّق بِهِ حكم شَرْعِي أَو لَا يتَعَلَّق بِهِ ذَلِك فان لم يتَعَلَّق بِهِ ذَلِك كالهدايا والمعاملات وَذَلِكَ يقبل فِيهِ خبر الْوَاحِد إِذا غلب على الظَّن صَدَقَة بَالغا كَانَ الْمخبر أَو غير بَالغ فَاسِقًا كَانَ أَو عادلا وَيقبل أَيْضا فِي أُمُور الدُّنْيَا مَا يجْرِي مجْرى الْخَبَر فِي اقْتِضَاء غَالب الظَّن وَلِهَذَا قُلْنَا إِن وضع المَاء فِي الطَّرِيق على بعض الْوُجُوه يُبِيح شربه كَمَا يبيحه الْخَبَر بإباحته وَوضع الصَّدَقَة فِي يَد السَّائِل يبيحه أَخذهَا فَأَما مَا يتَضَمَّن مَا يتَعَلَّق بِهِ حكم شَرْعِي فالإخبار عَن نَجَاسَة المَاء وَكَون الشَّاة ميتَة يقبل خبر الْوَاحِد فِيهِ ولتعلقه بِالشَّرْعِ لَا يقبل فِيهِ خبر الْمُشرك وَاخْتلفُوا فِي قبُول خبر الْفَاسِق لِأَن لَهُ شبها بِأُمُور الدُّنْيَا وبأمور الدّين فَلذَلِك وَقع الْخلاف وَأما مَا يفْتَقر إِلَى حكم الْحَاكِم فَمِنْهُ مَا لَيْسَ هُوَ حكما على معِين وَلَا يتَعَلَّق بِهِ الْمُخَاصمَة وَمِنْه مَا يكون حكما على معِين وَيتَعَلَّق بِهِ الْمُخَاصمَة أما الأول فنحو رُؤْيَة هِلَال شَوَّال ورمضان وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِي هِلَال شَوَّال فَقبل بَعضهم فِيهِ خبر الْوَاحِد وَلم يقبل بَعضهم فِيهِ إِلَّا خبر اثْنَيْنِ وَإِنَّمَا وَقع الْخلاف فِيهِ لِأَن لَهُ شبها بالأمور الدِّينِيَّة وَله شبها بِمَا يتَعَلَّق بالخصومات لِأَنَّهُ قد يحكم بِهِ الْحَاكِم

وَأما الْقسم الثَّانِي فضربان أَحدهمَا لَا يُمكن أَن يقف عَلَيْهِ أَكثر من وَاحِد وَالْآخر يُمكن ذَلِك فِيهِ فَالْأول يقبل فِيهِ خبر الْوَاحِد وَذَلِكَ دَعْوَى الْمَرْأَة انْقِضَاء عدتهَا فِي زمَان يجوز انقضاؤها فِيهِ وَأما الَّذِي يُمكن أَن يقف عَلَيْهِ أَكثر من وَاحِد فَمِنْهُ مَا يشق وَمِنْه مَا لَا يشق فِي الْغَالِب وَالْأول يقبل فِيهِ خبر الْوَاحِد كَشَهَادَة الْقَابِلَة فِي الْولادَة وَالثَّانِي لَا يقبل فِيهِ خبر الْوَاحِد كالحقوق وَالْحُدُود فَصَارَ خبر الْوَاحِد إِنَّمَا يقبل فِي إِثْبَات شرع لَيْسَ لَهُ طَرِيق مَعْلُوم وَلَا يقبل فِي كثير مِمَّا يتَعَلَّق بالحكومات على الآخر وَيقبل خبر الْوَاحِد فِي إِثْبَات شرع ثمَّ يتبع ذَلِك تَعْلِيق الحكم على الْأَعْيَان وَلِهَذَا قبلت الصَّحَابَة وضي الله عَنْهَا خبر الْوَاحِد فِي الْجدّة وَتبع ذَلِك تَعْلِيق حكم على الْعين وَلم يقبلُوا خبر الْوَاحِد فِي رد الحكم لما تعلق بِعَين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي جَوَاز وُرُود التَّعَبُّد بأخبار الْآحَاد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهب أَكثر النَّاس إِلَى جَوَاز التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بِهِ وَمنع آخَرُونَ من ذَلِك وَالدَّلِيل على جَوَازه أَنه يجوز التَّعَبُّد بالأخبار المتواترة فَلَو امْتنع التَّعَبُّد بأخبار الْآحَاد لامتنع ذَلِك لما بِهِ يُفَارق أَخْبَار الْآحَاد أَخْبَار التَّوَاتُر وَالَّذِي يُمكن أَن يُقَال إنَّهُمَا يفترقان فِيهِ شَيْئَانِ أَحدهمَا أَن يُقَال إِن الْعَمَل بأخبار الْآحَاد غير مَعْلُوم وَالْآخر أَن الْعَمَل بهَا وَإِن كَانَ مَعْلُوما فانه مَوْقُوف على ظن صدق الْمخبر وَوُجُوب الْعَمَل وقبحه لَا يقفان على الظَّن وَالَّذِي يفْسد الْوَجْه الأول هُوَ أَنا نجيز الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد بِأَن يدل دَلِيل قَاطع على وجوب الْعَمَل بِهِ إِذا تكاملت شُرُوطه فنكون عِنْد تَكَامل الشُّرُوط عَالمين بِوُجُوب الْعَمَل لمَكَان الدَّلِيل إِذْ لَا فرق بَين أَن يَقُول الله عز وَجل إِذا غلب على ظنكم صدق الرَّاوِي فاعملوا بِخَبَرِهِ وَبَين أَن يَقُول إِذا أخْبركُم فلَان فاعملوا بِخَبَرِهِ وَبَين أَن يَقُول افعلوا كَذَا وَكَذَا فِي أَنا نعلم وجوب

الْفِعْل فِي هَذِه الْأَحْوَال كلهَا وَأما الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ وقُوف الْعَمَل على الظَّن فَلَيْسَ يمْتَنع لِأَن الْفِعْل الشَّرْعِيّ إِنَّمَا يجب لكَونه مصلحَة وَلَا يمْتَنع أَن يكون مصلحَة إِذا فَعَلْنَاهُ وَنحن على صفة مَخْصُوصَة وكوننا ظانين لصدق الرَّاوِي صفة من صفاتنا فَدخلت فِي جملَة أحوالنا الَّتِي يجوز كَون الْفِعْل عِنْدهَا مصلحَة وَاجِبا أَو مَحْظُورًا وَلِهَذَا يلْزم الْمُسَافِر سلوك طَرِيق وتجنب آخر إِذا أخبر بسلامة ذَلِك واختلال هَذَا من يغلب على ظَنّه صدقه وَوَجَب على الإِمَام الْقطع وَالْجَلد وَالْقَتْل إِذا شهد بِالزِّنَا وَالْقَتْل والسرق شَاهِدَانِ أَو أَرْبَعَة ظَاهِرهمْ الْعَدَالَة وَقد فرقوا بَين خبر الْوَاحِد وَبَين الشَّهَادَة بأَشْيَاء مِنْهَا أَن الشَّهَادَة تقبل فِيمَا يجوز فِيهِ الصُّلْح وَفِيمَا يتَعَلَّق بالدنيا وَلَيْسَ كَذَلِك خبر الْوَاحِد الْجَواب إِن الشَّهَادَة مَقْبُولَة فِيمَا لَا يجوز فِيهِ الصُّلْح كالفروج وإراقة الدِّمَاء ويلزمهم جَوَاز التَّعَبُّد بِخَبَر الْوَاحِد فِي احكام الْبياعَات وَغير ذَلِك وهم يأبون ذَلِك وَأما أُمُور الدُّنْيَا فَهِيَ كأمور الدّين فِيمَا نَحن بسبيله لِأَن الْوُجُوب والقبح يدْخل كل وَاحِد مِنْهُمَا فِيهَا والعبادات الشَّرْعِيَّة إِنَّمَا وَجَبت وقبحت لكَونهَا مصَالح فِيمَا يتَعَلَّق بالدنيا من الْقَتْل وَغَيره فاذا جَازَ أَن يجب علينا مَا ذَكرْنَاهُ من أُمُور الدُّنْيَا بِحَسب الظَّن جَازَ ذَلِك فِي الشرعيات على أَنا نقبل الشَّهَادَة فِي أُمُور شَرْعِيَّة كرؤية الْأَهِلّة على ان الْحَد أَمر شَرْعِي وَقد قبلوا فِيهِ شَهَادَة الِاثْنَيْنِ وَمِنْهَا قَوْلهم أَنْتُم تقبلون أَخْبَار الْآحَاد فِي إِثْبَات شرع وَالشَّهَادَة بِأَن زيدا قتل أَو سرق لَيْسَ يثبت بهَا شرع وَالْجَوَاب إِنَّه لَا فرق بَينهمَا لأَنا عِنْد الشَّهَادَة نعلم أَن قتل الْمَشْهُود عَلَيْهِ شرع وَدَلِيلنَا على ذَلِك مَا دلنا على وجوب الْعَمَل بالشهادات وَعند خبر الْوَاحِد نعلم أَن الحكم بِهِ شرع وَدَلِيلنَا على ذَلِك مَا دلنا على وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد فَلَا فصل بَينهمَا إِلَّا أَن الحكم يثبت بالْخبر فِي الْجُمْلَة وبالشهادة يثبت على عين وَهَذَا غير قَادِح فِي تعلق الحكم

الشَّرْعِيّ بِالظَّنِّ على أَن الْغَرَض باثبات الحكم فِي الْجُمْلَة بِخَبَر الْوَاحِد تعلق على الْأَعْيَان فاذا جَازَ إثْبَاته فِي الْأَعْيَان بِخَبَر مظنون جَازَ إثْبَاته فِي الْجُمْلَة لِأَن الْغَرَض بِالْجُمْلَةِ الْأَعْيَان على انا إِذا قبلنَا شَهَادَة شَاهِدين على زيد وَشَهَادَة غَيرهمَا أَو شَهَادَتهمَا على عَمْرو وعَلى خَالِد فقد علقنا الحكم على أَعْيَان كَثِيرَة بِخَبَر مظنون على انه يلْزمهُم أَن يقبلُوا خبر الْوَاحِد فِي إِثْبَات حكم على شخص وَاحِد وهم يابون ذَلِك وَمِنْهَا قَوْلهم إِنَّه إِنَّمَا وَجب الحكم عِنْد الشَّهَادَة بِدَلِيل قَاطع وَالشَّهَادَة شَرط وَأَنْتُم تَجْعَلُونَ الدَّلِيل على الحكم هُوَ خبر الْوَاحِد وَلَا تجعلونه شرطا وَالْجَوَاب أَنه لَا بُد فِي الحكم بِخَبَر الْوَاحِد من خبر الْوَاحِد وَمن الدَّلِيل الدَّال على وجوب الْعَمَل بِهِ وَتَسْمِيَة الْخَبَر دَلِيلا أَو شرطا كَلَام فِي عبارَة فَلَا يضرنا الِامْتِنَاع من تَسْمِيَة الْخَبَر دَلِيلا إِذا كَانَ الْغَرَض مَا ذَكرْنَاهُ وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء مِنْهَا أَنه لَو جَازَ أَن يكون علمنَا بِمَا أخبرنَا بِهِ الْوَاحِد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مصلحَة ونعلم ذَلِك إِذا ظننا صدقه جَازَ أَن يكون الْفِعْل مصلحَة إِذا أخبرنَا بِوُجُوبِهِ على الله سُبْحَانَهُ من يغلب على ظننا صدقه فِي أَن الله تَعَالَى أرْسلهُ ونعلم وجوب ذَلِك علينا وَمَا الْفرق بَين أَن يكون الْمخبر بِالْمَصْلَحَةِ عَن الله عز وَجل بِلَا وَاسِطَة أَو بِوَاسِطَة نَبِي وَالْجَوَاب أَن من يُجِيز وُرُود التَّعَبُّد الشَّرْعِيّ بِالرُّجُوعِ إِلَى خبر الْوَاحِد يقطع على وجوب الْعَمَل بِهِ لِأَن دَلِيلا قَاطعا دلّ على وجوب الْعَمَل بِهِ وَهُوَ قَول الله عز وَجل وَقَول رَسُوله أَو قَول الْأمة وَقَول الْأمة لَا بُد من أَن يسْتَند إِلَى قَول الله وَقَول رَسُوله وَإِنَّمَا تكون الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة قَاطِعَة إِذا علمنَا صدق الرَّسُول بمعجز حَتَّى إِذا أخبرنَا بِوُجُوب الْعَمَل بالْخبر الْوَاحِد علمنَا وجوب الْعَمَل بِهِ وَهَذَا لَا يتم إِذا كَانَ صدق المدعين للنبوة مظنونا غير مَقْطُوع بِهِ فان قَالُوا إِنَّمَا أَنْتُم مَا ذكرْتُمْ إِذا ألزمناكم أَن يكون صدق جَمِيع الْأَنْبِيَاء مظنونا وَنحن إِنَّمَا نلزمكم أَن تعلمُوا صدق بعض الْأَنْبِيَاء بمعجز

ونقول لكم ذَلِك النَّبِي إِذا أخْبركُم إِنْسَان ان الله أرْسلهُ بشرائع وظننتم صدقه فاعملوا بهَا وَاعْمَلُوا أَنَّهَا مصلحَة الْجَواب أَن تَجْوِيز كذب من أكْرمه الله عز وَجل بالرسالة من أقوى مَا ينفر عَنهُ وَلَيْسَ يجوز على الْأَنْبِيَاء مَا ينفر عَنْهُم لِأَن ذَلِك مفْسدَة وَلَيْسَ يجب فِي غَيرهم من التَّنْزِيه عَن التنفير مَا يحب فيهم أَلا ترى أَنه لَا يلْزم على ذَلِك كَون الْأُمَرَاء والقضاة وَالشُّهُود مجنبين مَا ينفر عَنْهُم حَتَّى لَا يجوز عَلَيْهِم الْكَذِب وَإِن كَانُوا ينفذون أحكاما شَرْعِيَّة ويحكمون بهَا وَأَيْضًا فانه إِنَّمَا جَازَ الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد إِذا غلب على ظننا صدق الْمخبر وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يغلب على ظننا صدق من اخبر أَنه شَاهد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَسمع مِنْهُ كلَاما كثيرا إِذا مثل ذَلِك كثير قد جرت بِهِ الْعَادَات وَلم تجر الْعَادَات بِسَمَاع كَلَام الله عز وَجل من غير وَاسِطَة وَمَا يحصل للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام من الرِّئَاسَة الْعَظِيمَة الَّتِي لَا تدانيها رئاسة وَيَدْعُو الْإِنْسَان إِلَى ادعائها فاذا اجْتمع للعاقل تجويزه كذب الْمُدَّعِي للنبوة من غير معْجزَة طلبا للرئاسة الْعَظِيمَة مَعَ أَنه مخبر بِمَا لم تجر بِهِ الْعَادَات لم يجر أَن يغلب على ظَنّه صدقه وَأَيْضًا فَفِي الِاقْتِصَار على ظن صدق الْمُدَّعِي للنبوة أعظم مفْسدَة لما فِي النُّبُوَّة من الرِّئَاسَة الْعَظِيمَة الَّتِي يطْلبهَا كل أحد فَلَو تعبدنا بِالْأَخْذِ فِي ذَلِك بِالظَّنِّ لتعمد أَكثر النَّاس التظاهر بِالصّدقِ والستر لتتم لَهُ هَذِه الرِّئَاسَة فيكثر المدعون للنبوة الواردون بالشرائع الْمُخْتَلفَة وَلَيْسَ للمخبر مثل هَذِه الرِّئَاسَة وَلَا يجب تَصْدِيقه بِغَيْر الشَّرَائِع فِي كل حَال لِأَن السّنَن تَنْحَصِر فِي حَيَاة النَّبِي وَبعد وَفَاته بِزَمَان يسير فَمَا يرد بعد ذَلِك نعلم أَنه كذب وَأَيْضًا فَإِن لزمنا مَا ذَكرُوهُ على قَوْلنَا فِي المخبرين لَزِمَهُم ذَلِك على قَوْلهم وَقَوْلنَا فِي الشُّهُود لأَنهم ينقلون مَا إِذا حكم بِهِ كَانَ الحكم بِهِ شَرْعِيًّا وَمِنْهَا قَوْلهم لَو جَازَ التَّعَبُّد بأخبار الْآحَاد فِي فروع الشَّرِيعَة جَازَ التَّعَبُّد بهَا فِي الْأُصُول وَفِي الْأَدِلَّة وَالْأَخْبَار حَتَّى إِذا روى لنا الْوَاحِد أَن أهل اللُّغَة وضعُوا اللَّفْظ للْعُمُوم قبلناه وَإِذا أخبرنَا الْوَاحِد أَن زيدا فِي الدَّار جَازَ أَن نخبر نَحن أَنه فِي الدَّار قطعا كَمَا نخبر قطعا بِوُجُوب مَا أخبرنَا الْوَاحِد بِوُجُوبِهِ

عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجَواب يُقَال لَهُم مَا تُرِيدُونَ بالاصول فان قَالُوا الصَّلَوَات الْخمس وَصَوْم شهر رَمَضَان قيل قد كَانَ يجوز وُرُود التَّعَبُّد باخبار الْآحَاد فِيهَا وَلَا يكون حِينَئِذٍ من الاصول لِأَن اصول الشَّرِيعَة هِيَ مَا لَا يكون الْعلم بِوُجُوبِهَا مُتَعَلقا بِظَنّ وَإِن قَالُوا نُرِيد بالاصول تَوْحِيد الله وعدله قيل لَو قبلنَا أَخْبَار الْآحَاد فِي ذَلِك لقبلناها فِي الاعتقادات وَذَلِكَ لَا يجوز لِأَن الْوَاحِد إِذا أخبر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان الله لَا يرى لم يعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَلِك فَلَا يعلم أَن الله لَا يرى لأَنا غير عَالمين بدليله وَإِذا لم نَكُنْ عَالمين بِأَنَّهُ لَا يرى واعتقدنا ذَلِك لم نَأْمَن كَون اعتقادنا جهلا وكل اعْتِقَاد لَا يُؤمن كَونه جهلا فَهُوَ قَبِيح وَأما فروع الشَّرِيعَة فَلَيْسَتْ اعتقادات فَيكون الْمُقدم عَلَيْهَا مقدما على اعْتِقَاد لَا يامن كَونه جهلا بل هِيَ أَعمال فان قيل ألستم عِنْد خبر الْوَاحِد تعلمُونَ وجوب الْفِعْل عَلَيْكُم فقد أقدمتم على اعْتِقَاد أَيْضا قيل إِنَّا نَأْمَن كَون ذَلِك الِاعْتِقَاد جهلا لِأَنَّهُ قد دلّ عَلَيْهِ دَلِيل قَاطع وَهُوَ مَا دلّ على وجوب الْمصير إِلَى أَخْبَار الْآحَاد فان قيل فَهَلا جَازَ أَن يدل دَلِيل قَاطع على قبُول خبر الْآحَاد فِي الرُّؤْيَة وَغَيرهَا فتعتقدون ذَلِك وتأمنون كَون اعتقادكم جهلا قيل إِنَّا لَا نجوز ذَلِك لِأَن كَون البارىء تَعَالَى غير مرئي امْر حَاصِل فِي نَفسه لَا يحصل بِحَسب ظننا فَلم يجب إِذا ظننا صدق الرَّاوِي أَن يكون تَعَالَى غير مرئي وَإِذا لم يجب ذَلِك لم يجز أَن يدل دَلِيل قَاطع على كَونه كَذَلِك إِذا ظننا صدق الرَّاوِي أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن الله سُبْحَانَهُ لَا يرى وَكَون الْعَمَل مصلحَة يجوز أَن يقف على أَن نفعله وَنحن على صفة وَهُوَ كوننا ظانين صدق الرَّاوِي وَإِذا جَازَ ان تكون مصلحتنا ان نَفْعل الْفِعْل وَنحن نظن صدق الرَّاوِي لوُجُوب الْفِعْل جَازَ أَن تدل دلَالَة قَاطِعَة على وجوب ذَلِك علينا عِنْد ظننا فاذا دلّت على ذَلِك علمنَا وجوب ذَلِك الْفِعْل علينا واخبرنا قطعا عَن وُجُوبه علينا فان قيل فَيجب إِذا أخْبركُم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن الله لَا يرى من يغلب على ظنكم صدقه أَن تظنوا أَن الله لَا يرى وتقتصروا على ذَلِك قيل لَئِن جَازَ الِاقْتِصَار على الظَّن فِي التَّوْحِيد وَالْعدْل وَالصِّفَات لجوزنا

وُرُود التَّعَبُّد بالاقتصار على الظَّن فِي ذَلِك وَلَكِن لَا نجوز الِاقْتِصَار على الظَّن فِي ذَلِك وَهَذَا السُّؤَال إِنَّمَا يلْزم على القَوْل بِأَن خبر الثِّقَة غير الظَّن وَهَذَا يوافقنا عَلَيْهِ خصومنا فان كَانَ السُّؤَال لَازِما لنا فَهُوَ لَازم لَهُم أَيْضا وَلَا جَوَاب عَنهُ إِلَّا مَا ذَكرْنَاهُ من أَنه لَا يجوز الِاقْتِصَار فِي التَّوْحِيد وَالْعدْل على الظَّن دون الْعلم وَمَا ذَكرْنَاهُ هُوَ الْجَواب عَن الْأَخْبَار لِأَن زيدا إِذا أخبرنَا بِأَن عمرا فِي الدَّار وظننا صدقه لم نَأْمَن أَن لَا يكون فِي الدَّار لِأَنَّهُ كَونه فِي الدَّار لَيْسَ مِمَّا يحصل بِحَسب ظننا بل هُوَ أَمر فِي نَفسه كَذَلِك ظنناه أم لم نظنه فخبرنا قطعا عَن أَنه فِي الدَّار خبر لَا نَأْمَن من كَونه كذبا فقبح فان أخبرنَا بِحَسب ظننا جَازَ لأَنا نَأْمَن كَونه كذبا فان قيل ايجوز أَن يَقُول لكم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا ظننتم صدق من أخْبركُم بِشَيْء فَهُوَ كَمَا أخْبركُم قيل لَا يجوز ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يجوز اتِّفَاق الصدْق فِي خبر كل من ظننا صدقه وَلَا يجوز أَيْضا أَن يَقُول إِذا أخْبركُم زيد بِشَيْء وظننتم صدقه فَهُوَ صَادِق لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يتَّفق الصدْق وَالصَّوَاب فِي كل مَا ظنناه وَيجوز أَن يَقُول إِذا أخْبركُم زيد بِأُمُور يسيرَة وعينها وظننتم صدقه فَهُوَ كَمَا أخْبركُم لِأَنَّهُ يجوز أَن يتَّفق الصدْق وَالصَّوَاب فِيمَا نظنه إِذا كَانَت أَشْيَاء يسيرَة نَحْو أَن يَقُول إِذا أخْبركُم زيد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن الله لَا يرى أَو قَالَ إِذا أخْبركُم مخبر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن الله لَا يرى وظننتم صدقه عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَهُوَ كَمَا أخْبركُم أَو يَقُول إِذا أخْبركُم زيد بِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ إِن الله لَا يرى فَهُوَ صَادِق وَإِذا قَالَ ذَلِك انتقلنا عَن ظننا إِلَى الْقطع وَجَاز أَن نخبر عَن ذَلِك قطعا فَأَما إِذا أخبرنَا الْوَاحِد عَن أهل اللُّغَة أَنهم وضعُوا لفظا للْعُمُوم فانا لَا نقطع على ذَلِك لِأَن كَونهم واضعين لَهُ لَيْسَ مِمَّا يحصل بِحَسب الظَّن فَهُوَ بِخِلَاف كَون الْفِعْل مصلحَة وَيجوز أَن نظن أَنهم وضعُوا ذَلِك للْعُمُوم وَأَن يتعبدنا الله سُبْحَانَهُ بالاستدلال بذلك اللَّفْظ على الشُّمُول فِي الْفُرُوع الشَّرْعِيَّة وَمِنْهَا قَوْلهم لَو جَازَ التَّعَبُّد بِخَبَر الْوَاحِد فِي الْفُرُوع جَازَ التَّعَبُّد بِهِ فِي نقل

الْقُرْآن الْجَواب أَنهم جمعُوا بَين الْمَوْضِعَيْنِ بِغَيْر عِلّة ثمَّ إِن الْقُرْآن الْمَنْقُول بالآحاد إِمَّا أَن يظْهر فِيهِ الإعجاز وَإِمَّا أَن لَا يظْهر فِيهِ الإعجاز فان لم يظْهر فِيهِ الإعجاز جَازَ أَن نعمل بِمَا تضمنه من عمل إِذا نقل إِلَيْنَا بالآحاد وَلِهَذَا نعمل بِمثل مَا ينْقل من قِرَاءَة عبد الله بن مَسْعُود رَحمَه الله وَمَا يظْهر فِيهِ الإعجاز فَهُوَ حجَّة للنبوة وَلَا يكون حجَّة إِلَّا وَقد علم أَنه لم يُعَارض فِي عصر النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ سَماع أهل الْعَصْر لَهُ وَلَا يعلم ذَلِك إِلَّا وَقد تَوَاتر نقل ظُهُوره فِي ذَلِك الْعَصْر وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الشرعيات مصَالح وَالْوَاحد يجوز أَن يكذب فِيمَا يخبر بِهِ من فعل أَو ترك وَلَا نَأْمَن أَن يكون مَا تضمنه خَبره مفْسدَة وَقد أجَاب قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله عَن ذَلِك فِي الشَّرْح والدرس فَقَالَ إِن الَّذِي لَا بُد مِنْهُ فِي الْوَاجِب الشَّرْعِيّ كَونه مصلحَة مدلولا عَلَيْهِ إِمَّا بِعَيْنِه وَإِمَّا بِصفتِهِ فاذا قَامَت الدّلَالَة على وجوب الْعَمَل عِنْد خبر الْوَاحِد وظننا صدقه علمنَا أَن الْعَمَل صَلَاح لنا كَمَا نعلم أَن قطع الْيَد صَلَاح عِنْد الْبَيِّنَة وَهَذَا لَا يعْتَرض قَول الْمُخَالف إِن الرَّاوِي إِذا جَازَ عَلَيْهِ الْكَذِب لم نَأْمَن أَن يخبر بالمفسدة وَمَتى ثَبت للمخالف هَذَا كَانَ لَهُ أَن يَقُول لَا يجوز أَن تدل دلَالَة على مَا ذكرْتُمْ فان قُلْتُمْ قيام الدّلَالَة على الْعَمَل بِمَا ظنناه يدل على صدق الْمخبر قيل لكم فَيجب أَن تقطعوا على صدقه وَلَئِن جَازَ ذَلِك ليجوزن أَن تدل دلَالَة على أَن نحكم مَا نريده فنعلم أَن كل مَا نُرِيد الحكم بِهِ فَهُوَ صَوَاب فان قُلْتُمْ لَا يجوز أَن يتَّفق ذَلِك فِي كل مَا نريده قيل لَك وَلَا يجوز أَن يتَّفق الصَّوَاب فِي كل مَا نظن صدق الرَّاوِي فِيهِ فَأَما مَا ذكره من الحكم عِنْد الْبَيِّنَة فَهُوَ نقض لما اعتلوا بِهِ لِأَنَّهُ يجوز أَن يكذب الشُّهُود فنقطع يدا لَا يسْتَحق قطعهَا وَالْجَوَاب عَن الشُّبْهَة هُوَ أَن الْفِعْل قد يكون صلاحا إِذا فَعَلْنَاهُ وَنحن على حَالَة مَخْصُوصَة وَلَا يمْتَنع أَن يكون مَتى ظننا صدق الرَّاوِي أَو كُنَّا مِمَّن يجوز أَن يظنّ صدقه لأمارة صَحِيحَة فمصلحتنا أَن نَفْعل مَا اقْتَضَاهُ الْخَبَر صدق الرَّاوِي أَو كذب كَمَا نقُوله فِي الحكم عِنْد الْبَيِّنَة وَإِذا لم يمْتَنع ذَلِك لم يجب مَا قَالُوهُ من أَن تَجْوِيز

كذب الرَّاوِي يلْزمه تَجْوِيز كَون الْفِعْل الَّذِي رَوَاهُ مفْسدَة كَمَا لَا يلْزمه مثله فِي الْبَيِّنَة فان قَالُوا لَيْسَ يخلوا ظنكم صدق الرَّاوِي إِمَّا أَن يكون طَرِيقا إِلَى الْمصلحَة أَو شرطا فِي كَون فعلكم مصلحَة فان كَانَ طَرِيقا وقلتم لَا يجوز أَن يخطىء فقد جعلتم الظَّن علما ولزمكم قبُول خبر الْوَاحِد فِي الاعتقادات وَإِن جوزتم أَن يخطىء الظَّن لم يجز كَونه طَرِيقا إِلَى الْقطع على أَن مَا فعلتموه مصلحَة وَلَئِن جَازَ أَن يكون طَرِيقا إِلَى ذَلِك مَعَ جَوَاز كَونه خطأ جَازَ أَن يكون طَرِيقا إِلَى الاعتقادات وَجَاز وُرُود التَّعَبُّد بِهِ فِيهَا وَإِن جعلتموه شرطا يصير الْفِعْل عِنْده مصلحَة فَلم لَا يجوز كَون الْفِعْل مصلحَة إِذا ظننا كذب الرَّاوِي لَهُ وَإِذا اشتهينا فعله وَإِذا اخترناه وَأَن يرد التَّعَبُّد بذلك قيل قد أجَاب قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله فَقَالَ يجوز كَون هَذِه الْأَشْيَاء أسبابا يجب عِنْدهَا الْفِعْل على مَا ذَكرُوهُ وَنحن نجيب عَن ذَلِك بِأَنا إِنَّمَا جَوَّزنَا أَن يكون الْفِعْل مصلحَة عِنْد حَالَة من حالاتنا ثمَّ بَينا إِن ظننا صدق الرَّاوِي مِمَّا يشْهد الْعقل بِجَوَاز كَونه شرطا فِي الْمصلحَة بِمَا ذَكرْنَاهُ من التَّصَرُّف فِي الْأَسْفَار وَالْحكم بِالْبَيِّنَاتِ وكما أَن الْعقل بذلك شَاهد فَهُوَ شَاهد بِأَن مَا ذكرتموه لَا يكون شرطا فِي وجوب الْفِعْل أَلا ترى أَن الْمُسَافِر إِذا خَافَ فِي سَفَره فخبره بعض من يظنّ صدقه بسلامة بعض الطّرق وَفَسَاد غَيره فانه يجب عَلَيْهِ أَن يعْمل على مَا ظَنّه صلاحا دون مَا ظن فِيهِ الْفساد وَلَو ظن كذب الْمخبر بأمارة لم يجز أَن يعْمل على خَبره وَلَا يجوز لَهُ مَعَ اشْتِبَاه الطّرق عَلَيْهِ وخوفه أَن يعْمل على شَهْوَته واختياره من غير أَمارَة على أَن القَوْل بِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَن يعْمل الْإِنْسَان بِمَا يشتهيه ويختاره إِسْقَاط للتكليف لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ قيل لَهُ افْعَل مَا تختاره دون مَا لَا تختاره وَنحن إِنَّمَا نتكلم فِي تَكْلِيف على صفة هَل يحسن أم لَا وَقصد السَّائِل أَن يلْزمنَا على هَذَا التَّكْلِيف تكليفا آخر على صفة أُخْرَى وَلَيْسَ غَرَضه إلزامنا إِسْقَاط التَّكْلِيف فقد بَان أَنه لم يلْزمنَا مَا قصد إلزامنا فان قَالُوا يجوز أَن يُقَال للْإنْسَان إِذا اخْتَرْت الْفِعْل أَو اشتهيته فَلم يصرفك صَارف فقد وَجب عَلَيْك فعله مَا دمت مرِيدا لَهُ وَإِن لم تكن مُخْتَارًا

لَهُ قَاصِدا إِلَيْهِ لم يجب عَلَيْك فعله قيل لَا يجوز ذَلِك لِأَنَّهُ وَالْحَال هَذِه لَا بُد من كَونه فَاعِلا فايجاب ذَلِك لَا يَصح وَمِنْهَا قَوْلهم إِن أَخْبَار الْآحَاد قد تتعارض وَلَا يُمكن الْعَمَل بهَا فَلَو جَازَ التَّعَبُّد بهَا لجَاز التَّعَبُّد بِمَا لَا يُمكن الْعَمَل بِهِ الْجَواب أَنه لَيْسَ كل تعَارض يمْنَع من الْعَمَل بالْخبر بل قد يعْمل مَعَ التَّعَارُض على مَا يتَرَجَّح من أحد الْخَبَرَيْنِ على الآخر كَمَا يعْمل الْمُسَافِر فِي طَرِيقه على مَا يتَرَجَّح من إِحْدَى الأمارتين وَيُمكن أَن يعْمل بالخبرين إِمَّا على الْجمع وَإِمَّا على التَّخْيِير فان لم يُمكن ذَلِك ففقد إِمْكَانه يمْنَع من التَّعَبُّد بهَا فِيهِ هَذَا التَّعَارُض الْمَانِع من الْعَمَل غير مَانع من التَّعَبُّد بِمَا يُمكن الْعَمَل بِهِ مِمَّا لَا تعَارض فِيهِ وَمَا ذَكرُوهُ منتقض بِالْعَمَلِ بِالْبَيِّنَاتِ والأمارات للْمُسَافِر لِأَنَّهَا قد تتعارض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي التَّعَبُّد بِخَبَر الْوَاحِد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتلف مجيزو وُرُود التَّعَبُّد بأخبار الْآحَاد فِي الشرعيات فَمنهمْ من قَالَ قد ورد التَّعَبُّد بهَا وَمِنْهُم من قَالَ لم يرد بهَا وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فَمنهمْ من قرن إِلَى قَوْله لم يرد التَّعَبُّد بهَا أَن قَالَ قد ورد التَّعَبُّد بِأَن لَا يعْمل بهَا وَمِنْهُم من اقْتصر على أَن التَّعَبُّد لم يرد بهَا وَاخْتلف من قَالَ بورود التَّعَبُّد بهَا فَقَالَ قوم الْعقل يدل على التَّعَبُّد بهَا وَمِنْهُم من قَالَ الْعقل لَا يدل على ذَلِك وَالدَّلِيل على وجوب الْعَمَل بأخبار الْآحَاد هُوَ أَن الْعُقَلَاء يعْملُونَ بعقولهم وجوب الْعَمَل على خبر الْوَاحِد فِي العقليات وَلَا يجوز أَن يعلمُوا وجوب ذَلِك أَو حسنه بعقولهم إِلَّا وَقد علمُوا الْعلَّة الَّتِي لَهَا وَجب ذَلِك أَو حسن وَلَا عِلّة لذَلِك إِلَّا أَنهم قد ظنُّوا بِخَبَر الْوَاحِد تَفْصِيل جملَة مَعْلُومَة بِالْعقلِ وَهَذَا مَوْجُود فِي خبر الْوَاحِد الْوَارِد فِي الشرعيات فَوَجَبَ الْعَمَل بِهِ يبين مَا ذَكرْنَاهُ أَنه مَعْلُوم بِالْعقلِ وجوب التَّحَرُّز من المضار وَحسن اجتلاب الْمَنَافِع فاذا ظننا

صدق من أخبرنَا بمضرة إِن لم نفصد أَو لم نشرب الدَّوَاء أَو إِن سلكنا فِي سفرنا طَرِيقا مَخْصُوصًا أَو لم نقم من تَحت الْحَائِط فقد ظننا تَفْصِيلًا لما علمناه فِي الْجُمْلَة من وجوب التَّحَرُّز من المضار وَقد علمنَا فِي الْجُمْلَة وجوب الانقياد للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يخبرنا بِهِ من مصالحنا وَوُجُوب التَّحَرُّز من الْمضرَّة فِي تجنب الْمصَالح فاذا ظننا بِخَبَر الْوَاحِد أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قد دَعَانَا إِلَى الانقياد لَهُ فِي فعل أخبر أَنه مصلحَة وخلافه مفْسدَة مضرَّة فقد ظننا تَفْصِيلًا لما علمناه فِي الْجُمْلَة وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن الْعلَّة مَا ذَكرْنَاهُ لِأَن الحكم يحصل عِنْده وينتفي عِنْد انتفائه لأَنا إِذا علمناه فِي الْجُمْلَة وجوب التَّحَرُّز من الْمضرَّة وظننا بالْخبر أَن علينا فِي الْفِعْل مضرَّة وَلم يُمكن الْعلم وَجب علينا تجنبه وَإِن ازلنا عَن أَنْفُسنَا اعْتِقَاد مَا عدا ذَلِك وَإِذا رَجعْنَا إِلَى عقولنا وجدناها تتبع تجنب هَذَا الْفِعْل لهَذِهِ الْجُمْلَة الَّتِي ذَكرنَاهَا وَلَو لم يحصل لنا الْعلم بِوُجُوب دفع المضار فِي الْجُمْلَة أَو حصل ذَلِك وَلم نظن أَن علينا فِي الْفِعْل مضرَّة لم يجب علينا تجنبه وَكَذَلِكَ لَو ظننا ذَلِك وأمكننا تَحْصِيل الْعلم فَعلمنَا أَن الْعلَّة مَا ذَكرْنَاهُ إِن قيل بل الْعلَّة فِي الأَصْل ظننا الْمضرَّة فِي امور الدُّنْيَا وَلَيْسَ كَذَلِك خبر الْوَاحِد فِي الشرعيات قيل إِن مَا ذكرتموه وَإِن كَانَ من أُمُور الدُّنْيَا فَهُوَ من امور الدّين لِأَن التَّحَرُّز من المضار وَاجِب فِي الْعقل وَمَا وَجب فِي الْعقل فَهُوَ من الدّين فان قَالُوا إِن خبر الْوَاحِد فِي أُمُور الدُّنْيَا وَارِد فِيمَا نعلم جملَته عقلا وَلَيْسَ كَذَلِك خبر الْوَاحِد فِي الشرعيات قيل لَا فرق بَينهمَا لِأَن خبر الْوَاحِد فِي الشرعيات وَارِد بتفصيل الانقياد للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والتزام أمره والتحرز من مضار الْمُخَالفَة وَهَذَا مَعْلُوم بِالْعقلِ وَالشَّرْع كَمَا يعلم التَّحَرُّز من مضار الدُّنْيَا بِالْعقلِ وَالشَّرْع وَأَيْضًا فَلَو ثَبت أَن وجوب التَّحَرُّز من مضار الدُّنْيَا مَعْلُوم بِالْعقلِ فَقَط والتحرز من مضار الشرعيات مَعْلُوم بِالشَّرْعِ فَقَط لَكَانَ ذَلِك اخْتِلَافا فِي طَرِيق الْعلم بِالْوُجُوب وَذَلِكَ غير مُؤثر فِيمَا يقبل من أَخْبَار الْآحَاد وَإِنَّمَا الَّذِي يجوز أَن يُؤثر فِي ذَلِك هُوَ أَن يُقَال إِن الشرعيات مصَالح والمخبر الْوَاحِد يجوز أَن يكون كذابا فَلَا نَأْمَن أَن يكون مَا نَقله

مفْسدَة وسنتكلم فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله إِن قيل إِنَّمَا وَجب قبُول خبر الْوَاحِد فِي العقليات لِأَنَّهُ لَا يغلب على الظَّن وُصُول الْمضرَّة إِذا قبلناه بل يغلب على الظَّن وصولها إِذا لم نقبله وَلَيْسَ كَذَلِك الشرعيات لِأَنَّهُ لَيْسَ يغلب على ظننا وُصُول الْمضرَّة إِذا لم نقبل خبر الْوَاحِد بل لَا نَأْمَن أَن يؤاخذنا المتعبد لنا إِذا قبلنَا خبر الْوَاحِد وَالْجَوَاب ان كلامنا فِي خبر من نظن صدقه لدينِهِ وأمانته وَقد بَينا أَن خبر من هَذِه سَبيله فِي الشرعيات يُسَاوِي خَبره فِي العقليات وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يغلب على ظننا وُصُول الْمضرَّة إِلَيْنَا إِن لم نقبل خَبره ويؤمننا من مُؤَاخذَة المتعبد إِذا قبلناه ويقضينا الْقطع على مؤاخذته إِذا لم نقبله إِن قيل إِنَّمَا قبلنَا خبر الْوَاحِد فِي العقليات لِأَن الْعَادة قد جرت بنزول المضار وَالْمَنَافِع فاذا غلب على الظَّن وُصُول الْمضرَّة لزمنا التَّحَرُّز مِنْهَا قيل وَقد جرت عَادَة الشَّرْع بالزام الْعِبَادَات وَلَا يمْتَنع فِي الْعقل إِيدَاع ذَلِك الْوَاحِد وَأَن تكون الْمصلحَة أَن يرد التَّعَبُّد بِهِ كَمَا لَا يمْتَنع أَن يرد التَّحَرُّز من الْمضرَّة من جِهَة وَاحِد فاذا لم يمْتَنع ذَلِك جرى خبر الْوَاحِد فِي الشرعيات مجْرَاه فِي العقليات فان قيل الْفرق بَين الشرعيات والعقليات أَن الشرعيات يُمكن فِيهَا طَريقَة تَقْتَضِي الْعلم نَحْو الرُّجُوع إِلَى كتاب الله وَسنة نبيه عَلَيْهِ السَّلَام وَالْإِجْمَاع والبقاء على حكم الْعقل فَلم يجز الرُّجُوع إِلَى الظَّن وَلَيْسَ كَذَلِك الامور الْعَقْلِيَّة من أُمُور الدُّنْيَا لِأَنَّهُ يتَعَذَّر فِيهَا طَريقَة مَعْلُومَة فَجَاز الرُّجُوع إِلَى الظَّن قيل إِنَّه إِذا كَانَ فِي الْمَسْأَلَة كتاب أَو سنة مَقْطُوع بهَا أَو إِجْمَاع بِخِلَاف خبر الْوَاحِد وَلم يكن الْخَبَر مُخَصّصا فانا لَا نعدل إِلَيْهِ عَن هَذِه الْأَدِلَّة ومسألتنا مَفْرُوضَة فِي خبر وَاحِد تخَالف مَا ذكرتموه وَأما الْبَقَاء فممكن فِي العقليات وَفِي الشرعيات لِأَن الأَصْل فِي الْعقل أَن لَا يجب علينا إيلام أَنْفُسنَا بفصد وَشرب دَوَاء ومسير فِي طَرِيق مَخْصُوص فاذا لم يجز الْبَقَاء على حكم الْعقل فِي هَذِه

الْأَشْيَاء إِذا أخبرنَا بالمضرة فِي تَركهَا من نظن صدقه علمنَا أَن الْبَقَاء على حكم الْعقل لَيْسَ بِدَلِيل قَاطع مَعَ الظَّن لصدق الْمخبر فَبَطل قَول الْمُخَالف إِن ذَلِك دَلِيل قَاطع مَعَ خبر الْوَاحِد وَقد أجَاب قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله عَن قِيَاس خبر الْوَاحِد فِي الشرعيات على قبُوله فِي العقليات والمعاملات بِأَن الْمُعَامَلَات مَبْنِيَّة على غَالب الظَّن والشرعيات مَبْنِيَّة على الْمصَالح فاذا لم نَأْمَن كذب الْمخبر لم نَأْمَن أَن يكون فعلنَا مَا أخبرنَا بِهِ مفْسدَة وَالْجَوَاب أَن قَوْله إِن الْمُعَامَلَات مَبْنِيَّة على غَالب الظَّن هُوَ الحكم الَّذِي طلبنا علته وقسنا بهَا خبر الْوَاحِد فِي الشرعيات على الْمُعَامَلَات فَلَا يَنْبَغِي أَن يفرق بَينهمَا بذلك لأَنا نَكُون قد فرقنا بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ بِنَفس الحكم والمصالح وَإِن كَانَت مُعْتَبرَة فِي الشرعيات فالمضار وَالْمَنَافِع هما المعتبران فِي العقليات والمعاملات لأَنا إِنَّمَا ننحو بِمَا نفعله نَحْو الْمَنَافِع والخلاص من المضار كَمَا أَنا ننحو بالشرائع تَحْصِيل الْمصَالح ولأجلها وَجَبت فاذا قَامَ غَالب الظَّن فِي الْمَنَافِع والمضار الْعَقْلِيَّة مقَام الْعلم مَعَ تَجْوِيز كذب الْمخبر فَكَذَلِك غَالب الظَّن بِصدق الْمخبر فِي الشرعيات وَلَو جَازَ أَن لَا يقبل خبر الْوَاحِد فِي الشرعيات لجَوَاز كذب الْمخبر فَيكون مَا أخبر بِهِ مفْسدَة جَازَ أَن لَا يقبل خبر الْوَاحِد فِي العقليات لجَوَاز كذب الْمخبر فيلحقنا الْمضرَّة فِي اتِّبَاعه ونخلص مِنْهَا بمخالفته على أَن قَوْله لَا نَأْمَن أَن يكون الْمخبر كَاذِبًا فنكون باتباعه فاعلين للمفسدة يُبِيح الْمَنْع من وُرُود التَّعَبُّد بِقبُول خَبره لِأَن فعل مَا لَا نؤمن من كَونه مفْسدَة قَبِيح فان قَالَ قيام الدّلَالَة على التَّعَبُّد بِهِ دلَالَة على أَن الْمصلحَة هِيَ اتِّبَاع مَا ظنناه من صدقه لَا غير قيل فاذن يجوز أَن تكون الْمصلحَة هِيَ فعلنَا مَا ظنناه من صدق الْمخبر فَلم قطعْتُمْ على أَن الْمصلحَة قد تكون غير مَا فَعَلْنَاهُ فان قَالُوا نَحن وَإِن جَوَّزنَا أَن نَكُون علمنَا بِحَسب مَا ظننا من صدق الرَّاوِي هُوَ الْمصلحَة فانا لَا نعلم ذَلِك إِلَّا بتعبد شَرْعِي قيل فكأنكم فصلتم بَين خبر الْوَاحِد فِي الشرعيات وَبَينه فِي العقليات بِأَن العقليات يعْمل فِيهَا على الظَّن من غير تعبد شَرْعِي والشرعيات لَا يعْمل فِيهَا على الظَّن

إِلَّا بتعبد وَهَذَا هُوَ نفس الْمَسْأَلَة فقد فصلتم بَين المسالتين بِنَفس الحكم لَا بِالْعِلَّةِ المفرقة بَينهمَا على انه جَازَ أَن يُقَال إِن قيام الدّلَالَة الشَّرْعِيَّة على قبُول خبر الْوَاحِد يدلنا على ان الْمصلحَة لَيست إِلَّا الْعَمَل بِمَا ظنناه من صدق الرَّاوِي جَازَ أَن يُقَال قِيَاس الَّذِي ذكرنَا هُوَ دليلنا على أَن الْمصلحَة لَيست إِلَّا الْعَمَل بِمَا ظنناه من صدق الرَّاوِي وَأجَاب أَيْضا بِأَن الْعَمَل على غَالب الظَّن فِي دفع المضار فِي الدُّنْيَا هُوَ الأَصْل للْعَمَل على الْعلم بِدفع المضار لِأَن امور الدُّنْيَا الْمُسْتَقْبلَة غير مَعْلُومَة وَإِنَّمَا هِيَ مظنونة وَلَيْسَ يُمكن أَن يُقَال إِن أُمُور الدّين المظنونة هِيَ الأَصْل لامور الدّين الْمَعْلُومَة وَهَذَا لَا يَصح لِأَنَّهُ فرق لَا يُؤثر فِي وَجه الْجمع الَّذِي ذَكرْنَاهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ يجب إِذا أشبه الظَّن لامور الدّين الظَّن لامور الدُّنْيَا فِي وجوب الْعَمَل عَلَيْهَا أَن يشتبها فِي كل وَجه بل لَا يمْتَنع أَن يجب الْعَمَل عَلَيْهِمَا وَيكون الْعَمَل على غَالب الظَّن أصلا للْعَمَل على الْعلم فِي امور الدُّنْيَا وللعمل على الظَّن فِي أُمُور الدّين أصلا بِنَفسِهِ دَلِيل قَالَ الله سُبْحَانَهُ {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون} فتعبدنا بِقبُول خبر كل طَائِفَة خرجت للتفقه ثمَّ أنذرت قَومهَا وَهَذِه صفة خبر الْوَاحِد يبين ذَلِك أَنه سُبْحَانَهُ أوجب على كل فرقة أَن تخرج مِنْهَا طَائِفَة وَالثَّلَاثَة فرقة فَوَجَبَ أَن تخرج مِنْهَا طَائِفَة والطائفة من الثَّلَاثَة وَاحِد أَو اثْنَان فاذا خرجا لسَمَاع الْأَخْبَار وتدبرها فقد خرجا للتفقه فِي الدّين فاذا رَجَعَ من هَذِه سَبيله فَأخْبر قومه بِوُجُوب عبَادَة وحذرهم من تَركهَا فقد أنذر قومه فاذا كُنَّا متعبدين بِالرُّجُوعِ إِلَى قَوْله كُنَّا متعبدين بذلك وَإِن لم نخرج لهَذَا الْغَرَض لِأَن أحدا لم يفصل بَين الْمَوْضِعَيْنِ

إِن قيل لم قُلْتُمْ إِن الْآيَة تدل على التَّعَبُّد بِالرُّجُوعِ إِلَى قَول الطَّائِفَة قيل إِنَّمَا تعبدها بانذار قَومهَا لكَي يحذر فتعبد قَومهَا بالحذر وَلَيْسَ يَخْلُو إِذا أخبرتم الطَّائِفَة بِوُجُوب فعل أَو تَحْرِيمه إِمَّا أَن يلْزمهَا الْمصير إِلَى قَول الطَّائِفَة أَو يلْزمهَا الْإِمْسَاك عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ من فعل أَو ترك أَو أَن يخرج جماعتها أَو من يقوم بِالْحجَّةِ بنقله إِلَى الْآفَاق لاستبانة الْخَبَر وَالْقسم الأول هُوَ قَوْلنَا وَالثَّانِي يرجع إِلَيْهِ لأَنا إِن كُنَّا نشرب النَّبِيذ فخبرنا الطَّائِفَة بِتَحْرِيمِهِ فإيجاب إمساكنا عَن شربه هُوَ تَحْرِيم شربه وَإِن كُنَّا تاركين لبَعض الصَّلَوَات فأخبرونا بِوُجُوبِهَا فوجوب إمساكنا عَن الْإِخْلَال بهَا هُوَ إِيجَاب فعلنَا فَبَان رُجُوع هَذَا الْقسم إِلَى الْقسم الأول بِخِلَاف مَا ظَنّه بَعضهم وَإِن وَجب على جماعتنا أَو على أكثرنا الْخُرُوج من الأوطان إِلَى الْآفَاق ليعلموا صَحِيح الحَدِيث من باطله لم يَصح بِالْإِجْمَاع لِأَن أحدا من الْأمة لم يُوجب على اهل الْقرى فِي عصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعصر من بعده أَن يخرجُوا أَو أَكْثَرهم إِذا لم تقم الْحجَّة بِنَقْل الطَّائِفَة إِلَيْهِم ويتركوا بِلَادهمْ كلما سمعُوا بِخَبَر يتَضَمَّن فعلا شَرْعِيًّا وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَن لَا يستقروا فِي بِلَادهمْ قبل اسْتِقْرَار السّنَن إِن قيل قَوْلكُم إِن الْمَذْكُور فِي الْآيَة هُوَ خبر الْوَاحِد بَاطِل من وُجُوه مِنْهَا أَنه عز وَجل تعبد من كل فرقة طَائِفَة بالتفقه والإنذار لقومهم وهم مَجْمُوع الْفرق لِأَن مَجْمُوع الطوائف هم قوم الْفرق فَلَا يمْتَنع أَن يكون مَجْمُوع الطوائف من يتواتر الْخَبَر بنقلهم الْجَواب أَنه لَا يجوز أَن يكون أَرَادَ مَجْمُوع الطوائف ينذر كل فرقة لِأَنَّهَا لم يكن عِنْد كل طَائِفَة فرقة فَتكون رَاجِعَة إِلَيْهَا وَقَوله {ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم} يدل على أَنهم كَانُوا عِنْدهم وَهَذَا إِنَّمَا يتم فِي كل فرقة مَعَ طائفتها وَمِنْهَا أَن قَوْله {ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا} يدل على أَنه أَرَادَ

الْإِنْذَار بالفتوى دون الْخَبَر الْجَواب إِن كثيرا مِمَّن يمْنَع من الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد يمْنَع الْعَاميّ من الْأَخْذ بالفتوى وَأَيْضًا فان التفقه يكون بِسَمَاع الْأَخْبَار والتدبر لَهَا وَقد كَانَ التفقه هَكَذَا فِي الزَّمن الأول وَهَذِه الْحَال يتم مَعهَا الْإِنْذَار بالفتوى وبالإخبار فاذا لم يفصل الله سُبْحَانَهُ الإنذارين كَانَ مَحْمُولا على كل وَاحِد مِنْهُمَا كَمَا أَنه لَو قَالَ ولتضربوا كَانَ شَائِعا فِي الضَّرْب بِكُل خَشَبَة وعَلى كل وَجه من الشدَّة واللين على أَنه لم يفصل بَين أَن يكون قَومهمْ مجتهدين أَو غير مجتهدين والإنذار بالفتوى إِنَّمَا يلْزم قبُوله غير الْمُجْتَهد فَوَجَبَ صرف الْكَلَام إِلَى الْإِخْبَار لِأَنَّهُ الَّذِي لَا يخْتَلف فِيهِ الْمُجْتَهد وَغير الْمُجْتَهد إِن قيل قَوْله {ليتفقهوا فِي الدّين} يدل على انه لَيْسَ فِي الطَّائِفَة مُجْتَهد إِذْ لَو كَانَ فِيهَا مُجْتَهد لما كَانَ ليجب على بَعْضهَا أَن ينفر للتفقه الْجَواب إِن الْعِبَادَات فِي عصر النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَت تتجدد حَالا فحالا وَيرد نسخهَا بعد ثُبُوتهَا فحصول الْمُجْتَهد فِي الطَّائِفَة لَا يُغني عَن أَن ينفر مِنْهَا من يسمع مَا يَتَجَدَّد من السّنَن المبتدأة والناسخة وَكَذَلِكَ الْأَعْصَار المقاربة لعصر النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قبل اسْتِقْرَار السّنَن وانتشارها لجَوَاز أَن تكون فِي غَيرهَا من الطوائف من السّنَن مَا لم تبلغها وَمِنْهَا أَن قَوْله {ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ} يحْتَمل التفقه فِي الْأُصُول وإنذار قَومهمْ ليحذروا وَلَيْسَ هَذَا من خبر الْوَاحِد فِي الشرعيات بسبيل الْجَواب إِن الْمُسْتَفَاد من التفقه فِي الْعَادة التفقه فِي الْفُرُوع على أَنه إِن كَانَ المُرَاد بالأصول هَا هُنَا التَّوْحِيد وَالْعدْل فالخاطر يجوز من ترك النّظر فيهمَا وَلَيْسَ يحْتَاج فِي الحذر من تَركهمَا إِلَى السّفر وَإِن كَانَ المُرَاد بهَا أصُول الشَّرِيعَة كالصلوات الْخمس فَذَلِك عندنَا لَازم بالآحاد فِي ابْتِدَاء الشَّرِيعَة لِأَن الْوَاحِد إِذا أخبر أهل الْيمن بِأَن الصَّلَوَات قد أوجبهَا النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لزمتهم

وَتَكون من الْفُرُوع حَتَّى يتواتر نقلهَا وعَلى هَذَا جرى الْأَمر فِي تحول أهل قبا عَن الْقبْلَة إِن قيل لَو كَانَ المُرَاد بِالْآيَةِ خبر الْوَاحِد لما دلّت على وجوب الْعَمَل بِهِ من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه لَا يمْتَنع أَن يجب الْإِنْذَار على من خرج للتفقه وَلَا يجب على الْمُنْذر الْقبُول كَمَا يجب على الشَّاهِد أَن يشْهد وَلَا يجب على الْحَاكِم أَن يحكم بِشَهَادَتِهِ وَيجب على كل وَاحِد من المتواترين أَن يُخبرهُ وَلَا يجب على السَّامع أَن يَقُول على خَبره وَحده فِيمَا طَريقَة الْعلم وَيجب على من خوف بِالْقَتْلِ إِن لم يدْفع مَاله أَن يَدْفَعهُ ويقبح من الْمخوف أَخذه قيل إِنَّا لم نستدل على وجوب الْمصير إِلَى الْإِنْذَار بِوُجُوب الْإِنْذَار وَإِنَّمَا استدللنا يَقُوله عز وَجل {لَعَلَّهُم يحذرون} وَذَلِكَ إِمَّا أَن يكون تعبدا بالحذر أَو إِبَاحَة لَهُ وَأي الْأَمريْنِ كَانَ فقد بَطل مَذْهَب الْخصم إِذْ قد بَينا أَن الحذر لَا يكون إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى مُوجب الْخَبَر وَالْوَجْه الآخر قَوْلهم يجوز أَن يكون أوجب على من نفر الْإِنْذَار لكَي يحذر من سَمعه إِذا انضاف إِلَى الْمُنْذر غَيره حَتَّى يتواتر إِنْذَارهم وإخبارهم قيل فاذن إِنَّمَا يحذرون عِنْد تَوَاتر الْخَبَر لَا عِنْد إنذار من نفر مِنْهُم للتفقه وَالْآيَة تَقْتَضِي أَن يحذروا عِنْد إنذاره ولأجله كَمَا أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ لغيره جَالس الصَّالِحين لَعَلَّك تصلح أَفَادَ ذَلِك كَون مجالستهم سَببا لصلاحه لَا غير لِأَنَّهُ مَا علق صَلَاحه إِلَّا بِهِ فَكَذَلِك قَوْله {ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون} دَلِيل أَجمعت الصَّحَابَة على الْعَمَل بِخَبَر لَا يقطع على مغيبه لِأَنَّهُ لما اشْتبهَ

عَلَيْهِم الْغسْل من التقاء الختانين رجعُوا إِلَى أَزوَاج النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَطلب أَبُو بكر عَلَيْهِ السَّلَام الحكم فِي الْجدّة وَرجع فِي توريثها إِلَى خبر الْمُغيرَة وَنقض قَضِيَّة قَضَاهَا بِخَبَر رَوَاهُ بِلَال وَقَالَ عمر وَمَا أَدْرِي مَا القَوْل فِي أَمر الْمَجُوس وَكَثُرت مَسْأَلته عَن ذَلِك فَلَمَّا روى لَهُ عبد الرحمن بن عَوْف عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام سنوا بهم سنة أهل الْكتاب صَار إِلَى ذَلِك وَكَانَ يرى أَن لَا شَيْء فِي الْجَنِين إِذا خرج مَيتا وَفِيه الدِّيَة إِذا خرج حَيا ثمَّ ترك ذَلِك لخَبر حمل بن مَالك بعد أَن نَاشد الصَّحَابَة وَكَانَ لَا يؤرث الإمرأة من دِيَة زَوجهَا ثمَّ ترك ذَلِك لخَبر الضَّحَّاك بن سُفْيَان وَكَانَ يَجْعَل فِي الْأَصَابِع نصف الدِّيَة ويفصل بَينهَا فَيجْعَل فِي الابهام خمس عشرَة من الْإِبِل وَفِي البنصر تِسْعَة وَفِي الْخِنْصر سِتَّة ثمَّ يَجْعَل فِي الْبَاقِيَة عشرا عشرا فَلَمَّا رُوِيَ لَهُ من كتاب النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى عَمْرو بن حزم أَن فِي كل إِصْبَع عشرا من الْإِبِل رَجَعَ عَن رَأْيه وَترك رَأْيه فِي بِلَاد الطَّاعُون لخَبر عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام كنت إِذا سَمِعت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا نَفَعَنِي الله بِهِ بِمَا شَاءَ أَن يَنْفَعنِي فاذا حَدثنِي بِهِ غَيره اسْتَحْلَفته فاذا حلف صدقته وحَدثني أَبُو بكر وَصدق أَبُو بكر وَرجع فِي خطأ الإِمَام إِلَى مَا رَوَاهُ عمر وَسَأَلَ الْمِقْدَاد أَن يسْأَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن المذى ثمَّ أخبرهُ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بِالْجَوَابِ فَعمل عَلَيْهِ وَرَجَعُوا فِي الرِّبَا إِلَى خبر أبي سعيد الْخُدْرِيّ وكل وَاحِد من هَذِه الْأَخْبَار وَإِن كَانَ خبر وَاحِد فجملتهما متواترة لَا يجوز مَعَ كثرتها أَن تكون كذبا كَمَا أَن الْأَخْبَار عَن سخاء حَاتِم متواترة فِي الْجُمْلَة وَإِن كَانَ كل وَاحِد مِنْهَا خبر وَاحِد وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُم عمِلُوا على هَذِه الْأَخْبَار لأَجلهَا لأَنهم لَو لم يَكُونُوا عمِلُوا لأَجلهَا بل لأمر آخر إِمَّا لاجتهاد تجدّد لَهُم أَو ذكرُوا شَيْئا سَمِعُوهُ من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لوَجَبَ من جِهَة الْعَادة وَالدّين أَن ينقلوا ذَلِك أما الْعَادة فَلِأَن الْجَمَاعَة إِذا اشْتَدَّ اهتمامها بامر قد الْتبس عَلَيْهَا ثمَّ زَالَ اللّبْس عَنْهَا لشَيْء سمعته أَو رَأْي حدث لَهَا فانه لَا بُد من إظهارها الاستبشار وَالسُّرُور بِمَا ظَفرت بِهِ والتعجب من ذهَاب ذَلِك عَلَيْهَا فان جَازَ أَن لَا يظْهر ذَلِك الْوَاحِد

لم يجز فِي كل وَاحِد وَأما الدّين فَلِأَن سكوتهم عَن ذَلِك وعملهم عِنْد الْخَبَر بِمُوجبِه يُوهم أَنهم عمِلُوا لأَجله كَمَا يدل عَمَلهم بِمُوجب آيَة عِنْد سماعهَا على أَنهم عمِلُوا لأَجلهَا وَالْإِيهَام لذَلِك قَبِيح كَمَا أَنه لَو قَالَ لَهُم قَائِل احكموا فِي هَذِه الْحَوَادِث لشهوتي فَذكرُوا عِنْد هَذَا القَوْل شَيْئا سَمِعُوهُ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فانه لَا يحسن من جِهَة الدّين أَن لَا تبين أَنَّهَا حكمت لما ذكرته لَا للشهوة وَأَيْضًا فبعيد فِي الْعَادة مَعَ كَثْرَة هَذِه الْأَخْبَار أَن يتَّفق ذكرهم لشَيْء سَمِعُوهُ من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَآله أَو يَتَجَدَّد لَهُم اجْتِهَاد وَأَيْضًا فَطلب أبي بكر عَلَيْهِ السَّلَام من الْمُغيرَة شَاهدا مَعَه فِي إِرْث الْجدّة دَلِيل على أَنه كَانَ يرى أَن الحكم يتَعَلَّق بهما لِأَنَّهُ لم يكن يعلم أَنه سَيذكرُ عِنْد الشَّاهِد الآخر شَيْئا سَمعه من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَأَيْضًا فقد كَانُوا يتركون آرائهم عِنْد سَماع الْخَبَر كَمَا رُوِيَ عَن عمر أَنه قَالَ فِي الْخَبَر كدنا نقضي فِيهِ بآرائنا فَدلَّ على أَنه لم يعْمل بِرَأْيهِ عِنْد سَماع الْخَبَر إِن قيل وَمن أَيْن أَنهم بأجمعهم عمِلُوا بأخبار الآحادإنهم كَانُوا بَين عَامل بهَا وَسَاكِت عَن النكير فَدلَّ على رضاهم بِالْعَمَلِ بهَا فان قيل فَلَعَلَّ بَعضهم كَانَ نَاظرا متوقفا عَن الْعَمَل فَلَا يكونُونَ متفقين على ذَلِك قيل لَو كَانَ كَذَلِك وَكَانَ الْعَمَل بهَا مُنْكرا لَكَانَ إِنْكَاره وَاجِبا فَيَكُونُوا قد اتَّفقُوا على ترك الْوَاجِب لأَنهم بأجمعهم قد تركُوا إِنْكَاره إِن قيل أَلَيْسَ قد رد أَبُو بكر خبر الْوَاحِد وَلم يعْمل إِلَّا على خبر اثْنَيْنِ قيل هَذَا لَا ينْقض مَا قصدناه من الْعَمَل بِخَبَر من لَا يقطع على مغيبة وَالْكَلَام فِي اشْتِرَاط اثْنَيْنِ سَيَأْتِي إِن قيل فقد ردوا فِي بعض الْحَوَادِث خبر الْوَاحِد كَقَوْل عمر فِي خبر فَاطِمَة بنت قيس لَا نَدع كتاب رَبنَا وَسنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة لَا نَدْرِي أصدقت أم كذبت ولستم بِأَن تَقولُوا إِنَّمَا ردُّوهُ لعِلَّة لَا نعرفها لَا لِأَنَّهُ خبر وَاحِد بِأولى من أَن تَقولُوا بل قبلوا مَا قبلوه لعِلَّة لَا نعرفها لَا لِأَنَّهُ خبر وَاحِد وَالْجَوَاب أَن عمر رد خبر فَاطِمَة بنت قيس فِي نسخ الْآيَة أَو فِي

تخصيصها وَكثير مِمَّن يقبل خبر الْوَاحِد لَا يقبله فِي التَّخْصِيص فَلَيْسَ ينقص ذَلِك الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد فِي الْجُمْلَة على أَن قَوْله لَا نَدع كتاب رَبنَا يَقْتَضِي ترك الْكتاب أصلا وَذَلِكَ نسخ وَنحن نمْنَع نسخ الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد على أَن قَوْله لقَوْل امْرَأَة لَعَلَّهَا صدقت أم كذبت يُفِيد أَنه اعْتقد فِيهَا أَنَّهَا غير ضابطة لما تسمعه وَهَذِه الْعلَّة غير مَوْجُودَة فِيمَن يضْبط وَبِهَذَا يبطل قَول من يَقُول إِن عمر رَضِي الله عَنهُ علل رد حَدِيثهَا لعِلَّة مَوْجُودَة فِي كل مخبر إِن قيل فقد قبلوا خبر الْوَاحِد فِي نسخ حكم مَعْلُوم نَحْو قبُول أهل قبا نسخ الْقبْلَة قيل ذَلِك جَائِز فِي الْعقل وَفِي صدر الْإِسْلَام قَالَ اصحابنا وَلَوْلَا إِجْمَاع الصَّحَابَة على الْمَنْع من ذَلِك لجوزناه وَقد قَالَ أَبُو عَليّ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد كَانَ أخْبرهُم بنسخ الْقبْلَة وَأَنه ينفذ إِلَيْهِم بنسخها فلَانا وأعلمهم صدقه فَكَانُوا قاطعين على صدقه فَلم ينسخوا الْقبْلَة إِلَّا بِخَبَر مَعْلُوم وَقد اسْتدلَّ فِي الْمَسْأَلَة بأَشْيَاء لَا تدل مِنْهَا قَول الله عز وَجل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة فتصبحوا على مَا فَعلْتُمْ نادمين} قَالُوا فعلق وجوب التبين على مَجِيء الْفَاسِق فَكَانَ مَجِيء غير الْفَاسِق بِخِلَافِهِ وَهَذَا لَا يَصح إِلَّا مَعَ القَوْل بِدَلِيل الْخطاب وَقَالُوا أَيْضا قَوْله {إِن جَاءَكُم فَاسق} شَرط فِي إِيجَاب التثبيت فَوَجَبَ إِن لم يَجِيء فَاسق أَن لَا يجب التثبت وَأَن يكون التسرع مُبَاحا سَوَاء جَاءَنَا عدل أَو لم يجئنا أحد لِأَنَّهُ فِي كلا الْحَالين لم يَجِيء الْفَاسِق وَقد وَقع الِاتِّفَاق على الْمَنْع من التسرع إِذا لم يَجِيء أحد أصلا فَبَقيَ الْقسم الآخر وَهُوَ أَن يَجِيء مخبر غير فَاسق وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الشَّرْط فِي هَذِه الْآيَة يَقْتَضِي نفي وجوب التثبت على نفي مَجِيء الْفَاسِق وَأحد لَا يَقُول بذلك والمستدل يَجْعَل نفي وجوب التثبت وَإِبَاحَة التسرع وَاقِفًا على مَجِيء

عدل وَيُمكن أَن يسْتَدلّ بِالْآيَةِ من وَجه آخر وَهُوَ أَن سَبَب نُزُولهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث الْوَلِيد بن عقبَة بن أبي معيط ساعيا فَعَاد فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الَّذين بَعثه إِلَيْهِم أَرَادوا قَتله فأجمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على غزوهم وقتلهم وَهَذَا حكم شَرْعِي قد كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ الْعَمَل فِيهِ على خبر الْوَاحِد فَلَو كَانَ ذَلِك مَحْظُورًا لأنكره الله تَعَالَى وَلما علق حظره بِالْفِسْقِ لِأَن ذَلِك يُوهم أَنه إِنَّمَا لم يجز ذَلِك التسرع لأجل فسق الْمخبر لَا غير يبين ذَلِك أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا عمل على غزوهم لأجل خبر الْوَلِيد مَعَ ظَنّه أَنه عدل ولهذه الْآيَة ولاه الصَّدَقَة وَلقَائِل أَن يَقُول نزُول هَذِه الْآيَة فِي الْوَلِيد بن عقبَة مَنْقُول بالآحاد فَلم يجز بِنَا الِاحْتِجَاج عَلَيْهِ وَقد روى عمر بن شبة فِي كتاب الْكُوفَة فِي أَخْبَار الْوَلِيد باسناده عَن قَتَادَة فِي قَول الله سُبْحَانَهُ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ} قَالَ هُوَ الْوَلِيد بن عقبَة بن أبي معيط بَعثه النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى بني المصطلق مُصدقا فَلَمَّا أبصروه أَقبلُوا نَحوه فهابهم فَرجع إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَأخْبر أَنهم ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام فَبعث نَبِي الله خَالِد بن الْوَلِيد وَأمره أَن يثبت وَلَا يعجل فَانْطَلق حَتَّى أَتَاهُم لَيْلًا فَبعث عيونه فَلَمَّا جَاءُوهُ خبروه أَنهم متمسكون بِالْإِسْلَامِ وسمعوا أذانهم وصلاتهم فَلَمَّا أَصْبحُوا أَتَاهُم خَالِد وَرَأى مَا يُعجبهُ فَرجع إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَأخْبرهُ الْخَبَر وَذكر رِوَايَة أُخْرَى أَنه رَجَعَ الْوَلِيد إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ قد منعُوا فَأنْزل الله سُبْحَانَهُ الْآيَة وَلَيْسَ فِي ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هم بقتالهم من غير تثبت وَتبين وَمِنْهَا قَول الله عز وَجل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} والمخبر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلُزُوم الْعِبَادَة علينا شَاهد على النَّاس وَلَيْسَ يجوز أَن يَجعله الله عدلا ليشهد إِلَّا وَقد تعبد بِالرُّجُوعِ إِلَى خَبره الْجَواب إِن قَوْله وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا خطاب لكافة الْأمة دون آحادها فان أُرِيد بِهِ شَهَادَة جَمِيعهم علينا من جِهَة الْخَبَر فَذَلِك تَوَاتر وَلَا

يكون فِي اشْتِرَاط كَونهم وسطا فَائِدَة لِأَن المتواترين نعلم صدقهم وَإِن لم يَكُونُوا مُؤمنين وَإِن أُرِيد بِهِ شَهَادَتهم علينا من جِهَة الرَّأْي فَذَلِك هُوَ الْإِجْمَاع وعَلى كلا الْقسمَيْنِ يخرج مِنْهُ خبر الْوَاحِد وَلَيْسَ المُرَاد بِالْآيَةِ كل وَاحِد مِنْهُم لِأَنَّهُ لَيْسَ كل وَاحِد مِنْهُم مَقْطُوعًا على عَدَالَته فَلهَذَا لَا يقطع على مُوجب خبر الْوَاحِد وَمِنْهَا قَول الله عز وَجل {إِن الَّذين يكتمون مَا أنزلنَا من الْبَينَات وَالْهدى} الْآيَة فحظر كتمان الْهدى وَأوجب إِظْهَاره وَمَا سَمعه الْإِنْسَان من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَهُوَ من الْهدى فَيجب على سامعه إِظْهَاره وَإِن لم يسمعهُ غَيره مِمَّن يتواتر الْخَبَر بنقله وَلَو لم يجب علينا قبُول خبر الْوَاحِد لم يجب على الْمخبر إِظْهَاره لِأَنَّهُ يكون وجود الْإِظْهَار كَعَدَمِهِ وَالْجَوَاب إِن قَول الله عز وَجل {إِن الَّذين يكتمون مَا أنزلنَا من الْبَينَات وَالْهدى من بعد مَا بَيناهُ للنَّاس فِي الْكتاب} يدل على أَنه أَرَادَ مَا أنزلهُ الله فِي الْكتاب وأخبار الْآحَاد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمعزل عَن ذَلِك وَقد أُجِيب عَن ذَلِك بِأَن الشَّيْء إِنَّمَا يُوصف بِأَنَّهُ مَكْتُوم إِذا لم يظْهر وَكَانَت الْعَادة أَو التَّعَبُّد يدعوان إِلَى إِظْهَاره فَيجب أَن يبين الْمُسْتَدلّ أَن التَّعَبُّد قد ورد بأخبار الْآحَاد حَتَّى يتم لَهُ هَذَا الِاسْتِدْلَال وَإِذا بَين ذَلِك فقد بَين مَا رام أَن يُبينهُ بِهَذِهِ الْآيَة وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الْعَادة تَدْعُو إِلَى إِظْهَار مَا سَمعه الْإِنْسَان من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا يرجع إِلَى الشَّرِيعَة وَمِنْهَا قَول الله عز وَجل {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} وَلم يفرق بَين أَن يكون من هُوَ من أهل الذّكر مُجْتَهدا أَو غير مُجْتَهد وَمَعْلُوم أَن غير الْمُجْتَهد إِنَّمَا يسْأَل ليخبر لَا ليفتي عَن نَفسه وَلَيْسَ يجوز أَن يجب السُّؤَال

وَلَا يجب الْقبُول الْجَواب إِنَّه لَيْسَ فِي الاية أَنه يجب سُؤَالهمْ ليعلم مَا أخبروا بِهِ ليعْمَل مَا أخبروا بِهِ وَإِذا لم يمْتَنع أَن يكون اراد سُؤَالهمْ ليعلم السَّائِل لم يكن المُرَاد إِلَّا سُؤال من يتواتر الْخَبَر بنقله وَقَوله عز وَجل {وَمَا أرسلنَا من قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي إِلَيْهِم فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} يدل على أَنه عز وَجل أَرَادَ سُؤَالهمْ ليعلم مَا يخبرون بِهِ من أَنه أرسل الله عز وَجل إِلَّا رجَالًا يوحي إِلَيْهِم وَهَذَا علم دون عمل وَمِنْهَا قَوْله عز وَجل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا قوامين بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لله} فَأوجب الشَّهَادَة لله وَالْقِيَام بِالْقِسْطِ وَلَا يُوجب ذَلِك إِلَّا وَقد ألزم قبُول شَهَادَتهم وَمن أخبر بِمَا سَمعه من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فقد قَامَ بِالْقِسْطِ وَشهد لله وَالْجَوَاب إِنَّمَا يكون شَاهدا لله تَعَالَى وَقَائِمًا بِالْقِسْطِ إِذا شهد بِمَا يلْزم قبُوله دون مَا لَا يحل قبُوله كَالشَّهَادَةِ بِأُمُور الدُّنْيَا وَيحْتَمل أَن يكون سُبْحَانَهُ أوجب الشَّهَادَة بِمَا سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليرويه غَيره فيتواتر نَقله فان قيل الاية لَا تفرق بَين أَن يكون الْخَبَر قد سمعته جمَاعَة من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَبَين أَن يكون قد سَمعه وَاحِد فِي وجوب الشَّهَادَة بِهِ قيل إِن من يُنكر الْعَمَل بأخبار الْآحَاد يمْتَنع من أَن يخص النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بِالْعبَادَة من لَا يتواتر الْخَبَر بنقله إِلَّا أَن يكون التَّعَبُّد يَخُصُّهُ وَحده وَمِنْهَا قَوْله عز وَجل {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} وَقَوله {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} وَظَاهره يَقْتَضِي بَيَان جَمِيع مَا أنزل إِلَيْهِ لجَمِيع من عاصره وَلمن يَأْتِي بعده فَلَو وَجب عَلَيْهِ أَن يبين كل ذَلِك لمن يتواتر الْخَبَر بنقله لكَانَتْ الْأَخْبَار كلهَا منقولة عَنهُ بالتواتر إِلَّا أَن يُقَال إِن بعض السامعين للْخَبَر نَقله دون بعض وَذَلِكَ يُوجب تُهْمَة السّلف وَجَوَاز

كَون شرائع مَعَهم لم ينقلوها وَلَا يجوز أَن يكون كل مَا نقل بأخبار الْآحَاد لم يقلهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل فِي الْعَادة أَن تكون هَذِه الْأَخْبَار على كثرتها كَاذِبَة وَلَا يجوز أَن تَتَضَمَّن عبادات تخْتَص من عاصر النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لِأَن أَكْثَرهَا خطاب لأهل عصره وَلمن يَأْتِي بعده فَثَبت أَنه إِنَّمَا وَجب عَلَيْهِ أَن يبين بعض شَرعه لمن لَا يتواتر الْخَبَر بنقله وَإِن كَانَ بَيَانا لمن بعده وَفِي ذَلِك وجوب الْعَمَل بِهِ على من بعدهمْ الْجَواب إِن الْمُخَالف يَقُول إِنَّه لَا يمْتَنع أَن يكون بعض أَخْبَار الْآحَاد كذبا وَبَعضهَا عبادات تخْتَص أهل ذَلِك الْعَصْر وَبَعضهَا قد أَدَّاهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى من يتواتر الْخَبَر بنقله لَكِن بَعضهم نَقله دون بعض وَأَخْطَأ بَعضهم وَذَلِكَ غير مُمْتَنع وَيكون لُزُوم ذَلِك لنا مَشْرُوطًا بتواتر الْخَبَر إِلَيْنَا وَقَوْلهمْ إِن جَوَاز ذَلِك يَقْتَضِي جَوَاز كتمانهم شرائع كَثِيرَة فَذَلِك لَا يلْزم من لم يقل بأخبار الْآحَاد لِأَن عِنْدهم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد بَين الْعِبَادَات للْجَمَاعَة الْكَثِيرَة وَالْعَادَة تمنع من كتمان أجمعهم مَعَ مَا علمناه من توفر دواعي الْأمة إِلَى نقل السّنَن وَالْأَخْبَار على أَنه لَا بُد من أَن يبلغ ذَلِك جَمِيع أهل الْعَصْر فاجتماعهم على كِتْمَانه اجْتِمَاع من الْأمة على الْخَطَأ وَذَلِكَ لَا يجوز وَمِنْهَا أَنه قد تَوَاتر النَّقْل بانفاذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سعاته إِلَى الْقَبَائِل والمدن لأخذ الزكوات وَتَعْلِيم الْأَحْكَام كإنقاذه معَاذًا إِلَى الْيمن ليفقههم فِي دينهم وَيقبض زكواتهم وَقد وَجب عَلَيْهِم الْمصير إِلَى رِوَايَته فِي نصب الزَّكَاة وَفِي فروعها وَقد كَانَ يرد على رَسُول الله الْوَاحِد والاثنان يخبران باسلامهما وَإِسْلَام قومهما ويسألان أَن ينفذ من يعلمهُمْ شرائع الْإِسْلَام وَكَانَ ينفذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَهم الرجل الْوَاحِد كانفاذه أَبَا عُبَيْدَة وَغَيره وَالْعلم بذلك ظَاهر لمن قَرَأَ الْأَخْبَار وَالسير وَلَا يُمكن دَفعه وَلم يكن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام ينفذ إِلَيْهِم الْجَمَاعَات الْكَثِيرَة وَلَو فعل ذَلِك لم يكن أهل الْمَدِينَة ليفوا بِمن أسلم من الْقَبَائِل وَلَا أوجب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أهل الْقبْلَة أَن تصير بأجمعها إِلَيْهِ أَو أَكْثَرهَا لتعرف شَرعه بل أوجب عَلَيْهِم الْمصير إِلَى مَا يُؤَدِّيه رَسُوله فان قيل أَلَيْسَ كَانُوا يعْرفُونَ التَّوْحِيد والنبوة وَذَلِكَ لَا يعْمل فِيهِ بأخبار الْآحَاد قيل أما التَّوْحِيد فالمرجع

فِيهِ إِلَى أَدِلَّة الْعُقُول فَمن أظهره وَجب علينا إِحْسَان الظَّن بِهِ وَأَنه قد اعتقده من وَجهه وَمن رام أَن يعرف التَّوْحِيد أمكنه ذَلِك بالاستدلال بأدلته الْعَقْلِيَّة وَلَيْسَ طَريقَة الاخبار فَيُقَال إِنَّهُم اقتصروا فِيهِ على الْآحَاد أَو التَّوَاتُر وَأما النُّبُوَّة فطريقها المعجز والتحدي بِالْقُرْآنِ وَغَيره من المعجزات وَقد كَانَ اشْتهر ذَلِك فِي الْقَبَائِل وَلم يكن نَقله بالآحاد فان قيل أَلَيْسَ لم يجز لَهُم أَن يعملوا بأخبار الْآحَاد إِلَّا وَقد دلّت الدّلَالَة عِنْدهم على ذَلِك فان كَانَ قد تَوَاتر عِنْدهم التَّعَبُّد بذلك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا يؤمنكم أَن شَرعه قد كَانَ تَوَاتر إِلَيْهِم عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ قيل إِن كَانَ وجوب الْعَمَل بأخبار الْآحَاد مَعْلُوما بِالْعقلِ فَلَا يمْتَنع أَن يَكُونُوا عمِلُوا على ذَلِك وَإِلَّا فانهم عمِلُوا على مَا تَوَاتر عِنْدهم من أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ ينفذ آحَاد النَّاس إِلَى الْقَبَائِل يعلمونهم الشَّرْع لِأَنَّهُ إِذا تَوَاتر ذَلِك عندنَا كَانَ تواتره عِنْدهم أولى وَلَيْسَ كَذَلِك جَمِيع شَرعه لأَنهم لَو علمُوا جَمِيعه لما احتاجوا إِلَى إِنْفَاذ من يعلمهُمْ فان قيل فَأول من أنفذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِم من ايْنَ علمُوا أَن ذَلِك من دينهم قيل لَا يمْتَنع أَن يكون أول من أنفذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِم علمُوا ذَلِك باخبار قَومهمْ الَّذين نفذوا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يمْتَنع أَن يكون أُولَئِكَ كَانُوا أَكثر من أَرْبَعَة فَوَقع لقومهم الْعلم باخبارهم ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تعبدهم بِالرُّجُوعِ إِلَى إِخْبَار من أنفذه إِلَيْهِم ليعلمهم شَرعه فان قيل أَلَيْسَ قد كَانَ رسل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلمُونَ النَّاس الْقُرْآن الَّذِي يتلونه فِي الصَّلَاة وأعداد رَكْعَات الصَّلَوَات وَطَرِيق ذَلِك يجب كَونه مَعْلُوما دون أَخْبَار الْآحَاد قيل إِنَّمَا كَانَ يجب أَن يكون طَرِيق ذَلِك مَعْلُوما بعد انتشار الشَّرِيعَة وتواتر نقلهَا فَأَما فِي ابْتِدَاء الشَّرِيعَة فطريق ذَلِك لمن بعد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخْبَار الْآحَاد وَهِي فِي تِلْكَ الْحَال من الْفُرُوع لَا من الاصول وللمخالف أَن يَقُول إِنِّي إِنَّمَا أمنع الْمُجْتَهد من أَن يعدل عَن حكم الْعقل إِلَى خبر الْوَاحِد وَلَا أمنع من رُجُوع الْعَاميّ إِلَى الْمُفْتِي فِي فروع الشَّرْع فَهَل تَوَاتر عنْدكُمْ النَّقْل بِأَن الَّذين ارسل إِلَيْهِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا من أهل الِاجْتِهَاد وَأَن الرُّسُل كَانُوا يخبرونهم عَن رَسُول الله ويكلونهم فِيمَا أخبروهم إِلَى الِاجْتِهَاد

لَيْسَ مَعكُمْ ذَلِك بل الظَّاهِر مِمَّن تجدّد إِسْلَامه أَنه لم يكن من أهل الِاجْتِهَاد وَأَن رسل النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا كَانُوا يعلمونهم كَمَا يعلم الْفَقِيه الْعَاميّ وَالْأَب وَلَده كَيْفيَّة الصَّلَاة فان قُلْتُمْ فبماذا علمُوا وجوب قبُول فَتْوَى ذَلِك الرَّسُول قيل لكم بِمَا تَوَاتر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِنْفَاذ رسله ليعلمهم الْأَحْكَام كَمَا ذكرتموه أَنْتُم حِين قيل لكم بِمَاذَا علمُوا وجوب الْمصير إِلَى أَخْبَار الْآحَاد فان قُلْتُمْ إِذا لزم الْمصير إِلَى قَول الْمُفْتِي لزم الْمصير إِلَى خبر الْوَاحِد إِذْ لَا فرق بَينهمَا كُنْتُم قائسين بِخَبَر الْوَاحِد على الْفَتْوَى وَذَلِكَ انْتِقَال من هَذِه الدّلَالَة إِلَى دلَالَة أُخْرَى لِأَن هَذِه الدّلَالَة غير مَبْنِيَّة على الْقيَاس بل على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أنفذ المخبرين بالآحاد وَأوجب على غير من ذكرْتُمْ فَهَذِهِ الدّلَالَة تلْزم من منع من قبل خبر الْوَاحِد وَمنع الْعَاميّ من قبُول الْفَتْوَى وَمِنْهَا قَوْلهم إِذا وَجب على الْعَاميّ الرُّجُوع إِلَى الْعَالم الْمخبر عَن اجْتِهَاده مَعَ إِمْكَان بَقَاء الْعَاميّ على حكم الْعقل فبأن يجب على الْعَالم أَن يرجع إِلَى الْخَبَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولى وَمِنْهَا قَوْلهم إِذا وَجب على الْعَاميّ الرُّجُوع إِلَى فَتْوَى الْعَالم وَإِن حَكَاهُ عَن أبي حنيفَة لما غلب على الظَّن صدقه فبأن يجب على الْمُجْتَهد الرُّجُوع إِلَى الْحِكَايَة عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أولى وَمِنْهَا قَوْلهم إِذا وَجب على الْعَاميّ الرُّجُوع إِلَى رَسُول الْمُفْتِي فبأن يجب على الْمُجْتَهد الرُّجُوع إِلَى الْحِكَايَة عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أولى وَمِنْهَا قَوْلهم إِذا وَجب على الْعَاميّ الرُّجُوع إِلَى رَسُول الْمُفْتِي فبأن يجب على الْمُجْتَهد الرُّجُوع إِلَى الْمخبر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولى وَمِنْهَا قَوْلهم قد وَجب الحكم بِمَا شهد بِهِ الشَّاهِدَانِ لما كَانَا عَدْلَيْنِ وَكَانَ مَا شَهدا بِهِ مِمَّا لَو علم لوَجَبَ الحكم بِهِ وَهَذَا مَوْجُود فِي الْمخبر الْعدْل عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجَواب انهم إِن حمعوا هَذِه الْمسَائِل وردوها إِلَى الْعَمَل على الْأَخْبَار عَن الْمُعَامَلَات وَالْمَنَافِع والمضار فِي الدُّنْيَا فَهُوَ الدَّلِيل الْمَذْكُور فِي أول الْبَاب وَإِن جعلُوا هَذِه الْأُصُول اصولا شَرْعِيَّة وردوا إِلَيْهَا هَذِه الْفُرُوع وَجب أَن يعللوها بعلل مَعْلُومَة حَتَّى يردوا بهَا هَذِه الْفُرُوع إِلَيْهَا وَلم يَفْعَلُوا ذَلِك وَلَا

يمْتَنع أَن يكون إِنَّمَا وَجب على الْعَاميّ الرُّجُوع إِلَى الْفَتْوَى وَإِلَى من يخبر عَن أبي حنيفَة وَإِلَى رَسُول الْمُفْتِي لكَونه غير مُجْتَهد أَلا ترى أَنه يجب عَلَيْهِ الرُّجُوع إِلَى الْفَتْوَى وَلَا يجب ذَلِك على الْعَالم أَلا ترى أَنه لَا يمْتَنع أَن تكون مصلحَة الْعَاميّ الرُّجُوع إِلَى إِخْبَار الْمُجْتَهد عَن نَفسه وَإِلَى إِخْبَار من يخبر عَنهُ وَيكون رُجُوع الْمُجْتَهد إِلَى الْمخبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا لم يعلم صدقه مفْسدَة وَكثير من النَّاس يمْنَع من الْفَتْوَى على سَبِيل الْحِكَايَة عَن الْغَيْر فَلَا يلْزم قِيَاس الْمَسْأَلَة على هَذَا الأَصْل وَأما الْعَمَل على الشَّهَادَة فانهم إِن جَعَلُوهُ أصلا شَرْعِيًّا فَيجب أَن يعللوا ذَلِك بعلة شَرْعِيَّة مَعْلُومَة وَلم يَفْعَلُوا ذَلِك فَمن أَيْن أَن الْعلَّة مَا ذَكرُوهُ مَعَ أَنه لَيْسَ يمْتَنع أَن تكون مصلحتنا أَن لَا تثبت حكما شَرْعِيًّا فِي الْجُمْلَة بطرِيق غير مَعْلُوم وَيجوز أَن تكون مصلحتنا إِذا ثَبت الحكم فِي جملَة الشَّرِيعَة بطريقة مَعْلُومَة أَن تثبت ذَلِك الحكم فِي الْأَعْيَان بطرِيق مظنونة وَإِذا جَازَ ذَلِك فَمن أَيْن أَن الْعلَّة مَا ذَكرُوهُ أَلا ترى أَن شَهَادَة الْوَاحِد وَخبر الْوَاحِد وَإِن اشْتَركَا فِي الْعلَّة الَّتِي ذكروها فقد افْتَرقَا فِي وجوب الْقبُول فقد بَطل أَن تكون الْعلَّة ماذكروه وَمِنْهَا لَا بُد للاحكام الشَّرْعِيَّة من طَرِيق وَقد يحدث من الْمسَائِل مَا لَيْسَ فِي الْكتاب وَالسّنة المتواترة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس دَلِيل عَلَيْهِ فَلم يبْق إِلَّا خبر الْوَاحِد الْجَواب انه إِن لم يُوجد فِي شَيْء مِمَّا ذَكرُوهُ حكم الْحَادِثَة كَانَ للمخالف أَن يُوجب الْبَقَاء على حكم الْعقل فَلَا تكون الضَّرُورَة دَاعِيَة إِلَى أَخْبَار الْآحَاد وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء مِنْهَا أَن الْعقل يمْنَع من قبُول خبر الْوَاحِد من حَيْثُ لم يُؤمن كَونه كَاذِبًا فنكون عاملين بالمفسدة وَالْجَوَاب أَنه لَا يمْتَنع أَن تكون الْمصلحَة الْعَمَل بِمَا ظننا صدقه من الْأَخْبَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اخْتصَّ بشرائط صدق الرَّاوِي أم كذب على مَا بَيناهُ من قبل وَبينا أَن الْعقل يجوز وَيُوجب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد

وَمَا ذَكرُوهُ منتقض بالشهادات على أَحْكَام الْفروج والدماء لأَنا لَا نَأْمَن كذبهَا ويلزمنا الْعَمَل بهَا وَلَا يلْزم من ذَلِك جَوَاز عَملنَا بالمفسدة وَالظُّلم وَمِنْهَا أَن التَّعَبُّد السمعي لم يرد بِقبُول خبر الْوَاحِد وَالْجَوَاب أَنا قد بَينا أَنه قد ورد بذلك وَلَو لم يرد بِهِ لكفى دَلِيل الْعقل فِي التَّعَبُّد بِهِ وَمِنْهَا قَول الله عز وَجل {وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} وَقَوله {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَقَوله {إِلَّا من شهد بِالْحَقِّ وهم يعلمُونَ} وَالْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد اقتفاء لما لَيْسَ لنا بِهِ علم وَشَهَادَة وَقَول بِمَا لَا نعلم لِأَن الْعَمَل بِهِ مَوْقُوف على الظَّن الْجَواب أَنه لَيْسَ فِي الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد شَيْء مِمَّا ذَكرُوهُ لِأَن عِنْد خبر الْوَاحِد نعمل بِمُوجبِه ونخبر بِوُجُوب ذَلِك علينا ونعلمه ونخبر بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَلِك إِن لم يكن الرَّاوِي تعمد الْكَذِب وَلَا سَهَا وَلَا غلط أما الْعَمَل بِمُوجبِه فَلَيْسَ نقُول فَيُقَال إِنَّه قَول مَا ظنناه أَو بِمَا علمناه وَهُوَ اقتفاء لما كُنَّا بِهِ عَالمين وَهُوَ الدَّلِيل الْقَاطِع الدَّال على وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد وَهَذَا الدَّلِيل هُوَ الَّذِي اتبعناه فِي الْعَمَل وَفِي الْإِخْبَار بِوُجُوب الْعَمَل علينا فَلم نقل على الله عز وَجل مَا لَا نعلمهُ واعتقادنا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَلِك إِن لم يكن الرَّاوِي غلط أَو تعمد الْكَذِب وَهُوَ علم وإخبارنا بذلك شَهَادَة بِمَا نعلمهُ لِأَن كل مخبر إِذا لم يتَعَمَّد الْكَذِب وَلم يَفْعَله سَهوا أَو غَلطا فَهُوَ صَادِق وَمِنْهَا قَول الله عز وَجل {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا} قدم من اتبع الظَّن وَبَين أَنه لَا غناء لَهُ فِي الْحق فَكَانَ على عُمُومه الْجَواب انا بعلمنا على خبر الْوَاحِد متبعون الدَّلِيل الْقَاطِع الدَّال على اتِّبَاع خبر الْوَاحِد إِن قيل أَلَيْسَ لَا بُد أَن تظنوا صدق الرَّاوِي حَتَّى تعلمُوا

بالْخبر قيل بلَى وَلَكِن الِاتِّبَاع هُوَ الدَّلِيل فان قيل فقد جعلتم للظن حظا فِي الِاتِّبَاع لأنكم لَو لم تظنوا صدق الرَّاوِي لم تعلمُوا بالْخبر الْجَواب ان الله تَعَالَى إِنَّمَا ذمّ من لم يتبع إِلَّا الظَّن بقوله {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن} فَلم يدْخل فِي ذَلِك من اتبع الدَّلِيل عِنْد الظَّن وَقَوله عقيب ذَلِك {إِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا} يُفِيد أَن مَا فَعَلُوهُ من أَنهم مَا يتبعُون إِلَّا الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا فَكَأَن الظَّن وَحده لَا يُغني من الْحق شَيْئا ويفيد أَيْضا أَن الظَّن للشَّيْء لَا يُفِيد أَن المظنون حق لَا محَالة وَكَذَلِكَ نقُول لأَنا إِذا ظننا صدق الرَّاوِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كَذَا وَكَذَا لم يجب أَن يكون ذَلِك حَقًا لأَنا ظنناه على أَنا إِذا علمنَا وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد عِنْد ظننا صدقه فَالَّذِي أغْنى فِي الْحق هُوَ إِمَّا الدَّلِيل الدَّال على مُوجب خبر الْوَاحِد وَإِمَّا مَجْمُوع الدَّلِيل مَعَ الظَّن ومجموع الْأَمريْنِ لَيْسَ هُوَ الظَّن وَمِنْهَا قَول الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة فتصبحوا على مَا فَعلْتُمْ نادمين} قَالُوا وَالْحكم بِخَبَر الْعدْل عمل على جَهَالَة لتجويزنا كذبه فقد تساوى من هَذِه الْجِهَة الْعَمَل بِخَبَر الْفَاسِق فَحرم الْعَمَل بِهِ الْجَواب ان الْعَمَل بالجهالة عمل بالشَّيْء من غير طَرِيق يسوغ الْعَمَل بِهِ وَلِهَذَا لم يكن الْمُسَافِر عَاملا بِجَهَالَة إِذا سَافر بعد الفحص والمساءلة وَإِن جوز أَن يكون الْأَمر بِخِلَاف مَا أخبر بِهِ فان ادّعى الْمُسْتَدلّ أَن الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد عمل بِغَيْر طَرِيق يسوغ ذَلِك فقد بني أَحْكَامه على نفس الْمَسْأَلَة وَمِنْهَا قَوْله عز وَجل {ثمَّ يحكم الله آيَاته} فَلَو كَانَ خبر الْوَاحِد دلَالَة وَكَانَ من آيَات الله لَكَانَ الله قد أحكمه وَلَو أحكمه لم يجز كَونه كذبا الْجَواب ان ذَلِك وَارِد عقيب قَول الله عز وَجل {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته فَينْسَخ الله مَا يلقِي الشَّيْطَان ثمَّ يحكم الله آيَاته}

فَبين أَنه يحكم آيَاته بعد نسخ مَا يلقيه الشَّيْطَان لِأَن ثمَّ للتَّرْتِيب وَالَّذِي يقف أَحْكَامه على نسخ مَا القاه الشَّيْطَان هُوَ الْقُرْآن لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَهُ تعلق بِمَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَان وَأَيْضًا فخبر الْوَاحِد امارة وَلَيْسَ بِدلَالَة فَلم يُطلق عَلَيْهِ القَوْل بِأَنَّهُ من آيَات الله عز وَجل وَإِن كَانَ الْعَمَل يجب عِنْده لِأَن الْآيَة دلَالَة كَمَا لَا تكون الشَّهَادَات من آيَات الله عز وَجل حَتَّى يقطع على صدقهَا وَإِن وَجب الْعَمَل عِنْدهَا وَمِنْهَا قَول الله عز وَجل {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس بشيرا وَنَذِيرا} فَأخْبر أَنه مُرْسل إِلَى كَافَّة النَّاس فَوَجَبَ عَلَيْهِ أَن يُخَاطب بشرعه جَمِيعهم وَذَلِكَ يَقْتَضِي نقل جَمِيعهم أَو من يتواتر الْخَبَر بنقله فَمَا رُوِيَ بالآحاد لَيْسَ من شَرعه الْجَواب يُقَال لَهُم وَلم لَا يكون مُرْسلا إِلَى كَافَّة النَّاس وَإِن بَين شَرعه لبعضها بالآحاد فان قَالُوا لجَوَاز أَن لَا يصل إِلَيْهِم شَرعه إِذا أودعهُ آحَاد النَّاس قيل وَلم لَا يجوز أَن يلْزمهُم شَرعه بِشَرْط أَن يبلغهم كَمَا يلْزم شَرعه من بعد عَنهُ من أهل عصره إِذا بَلغهُمْ وَلَا يلْزمهُم قبل أَن يبلغهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يرد لَهُ الْخَبَر وَمَا لَا يرد لَهُ مِمَّا فِيهِ اشْتِبَاه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَو مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ سيكذب عَليّ يدل على أَنه قد كذب عَلَيْهِ أَو سيكذب فِيمَا بعد عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِن كَانَ هَذَا الْخَبَر كذبا عَلَيْهِ فقد كذب عَلَيْهِ وَإِن لم يكن كذبا عَلَيْهِ فقد كذب عَلَيْهِ أَو سيكذب عَلَيْهِ بعد هَذَا الْوَقْت وَإِذا جَوَّزنَا أَن يكون قد تقدم الْكَذِب عَلَيْهِ فَلَا بُد من اعْتِبَار الْأَخْبَار المروية وَلَو لم يرو هَذَا الْخَبَر لَكَانَ تَجْوِيز الْكَذِب عَلَيْهِ يَقْتَضِي اعْتِبَار الْأَخْبَار فَكيف وَقد رُوِيَ هَذَا الْخَبَر

وَالْأَخْبَار المروية عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضَرْبَان أَحدهمَا يعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَهَا وَالْآخر لَا يعلم أَنه قَالَهَا فالمعلوم أَنه قَالَه إِمَّا أَن لَا تتعارض وَإِمَّا أَن تتعارض فان لم تتعارض وَجب الْعَمَل بهَا إِن تَضَمَّنت عملا وَإِن تَعَارَضَت وَأمكن تَأْوِيل بَعْضهَا على مُوَافقَة بعض فعل ذَلِك بِأَن يحمل أَحدهمَا على الْمجَاز إِمَّا بنسخ أَو تَخْصِيص أَو غير ذَلِك وَإِن لم يُمكن تَأْوِيل بَعْضهَا على مُوَافقَة بعض حملا على التَّخْيِير إِذْ لَيْسَ الْعَمَل على أَحدهمَا أولى من الآخر وَوُقُوع الْعلم بالْخبر يمْنَع من رده من غير تَأْوِيل وَأما الْأَخْبَار الَّتِي لَا يعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَهَا فضربان أَحدهمَا يتَضَمَّن عملا وَالْآخر لَا يتَضَمَّن عملا فَمَا لَا يتَضَمَّن عملا لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ وَمَا يتَضَمَّن عملا فقد يجب الْعَمَل بِهِ على شَرَائِط وَقد يرد لفقد تِلْكَ الشَّرَائِط وَقد يحصل فِي بعض ذَلِك اشْتِبَاه وَقد لَا يحصل فِيهِ اشْتِبَاه فَكل ذَلِك يجب رُجُوعه إِمَّا إِلَى الْخَبَر أَو إِلَى مَا للْخَبَر بِهِ تعلق وَهُوَ الرَّاوِي وَكَيْفِيَّة نَقله والمخبر عَنهُ أما الرَّاجِع إِلَى الْخَبَر فبأن يكون فِيهِ زِيَادَة لم تذكر فِي رِوَايَة اخرى فان ذَلِك قد يقْدَح فِي الحَدِيث فِي بعض الْحَالَات وَمِمَّا يشْتَبه الْحَال فِيهِ أَن يُخَالف حفاظ أهل النَّقْل فِي أَلْفَاظ الحَدِيث وَأما مَا يرجع إِلَى الرَّاوِي فضربان أَحدهمَا يرجع إِلَى الْعدَد وَالْآخر يرجع إِلَى الْأَحْوَال أما الرَّاجِع إِلَى الْأَحْوَال فَهُوَ كل مَا قدح فِي الظَّن لصدقه أَن لَا يكون عدلا وَيدخل فِي ذَلِك الْكَذِب والتساهل وقله التحفظ فِيمَا يسمعهُ وَيَرْوِيه ووجوه الْفسق كلهَا وَنَحْو مَا سخف من الْمعاصِي والمباحات وَنَحْو أَن لَا يكون ضابطا وَنَحْو أَن يَعْتَرِيه السَّهْو بعد ضبط الحَدِيث على تَفْصِيل سَنذكرُهُ وَنَحْو أَن يكون مَجْهُولا غير مَعْرُوف الْعَدَالَة وَلَا يرد حَدِيثه إِذا كَانَ لَهُ اسْم يعرف بِهِ وَاسم لَا يعرف بِهِ وَإِذا لم يكثر من رِوَايَة الحَدِيث وَلَا كاثر مجالسة أهل الْعلم أَو رَوَاهُ ثمَّ ذكر بِهِ فَلم يذكرهُ اَوْ كَانَ وَاحِدًا لم يروه مَعَه غَيره وَهَذَا الْقسم يرجع إِلَى الْعدَد واما كَيْفيَّة النَّقْل فأشياء مِنْهَا رِوَايَة الحَدِيث على الْمَعْنى وَمِنْهَا رِوَايَته من كتاب وَهُوَ لَا يذكرهُ وَمِنْهَا التَّدْلِيس وَمِنْهَا الْإِرْسَال وَمِنْهَا إرْسَال الحَدِيث تَارَة

وَإِسْنَاده اخرى وَرِوَايَته تَارَة مَوْقُوفا وَتارَة مَوْصُولا وَأما حَال الْمخبر عَنهُ فبأن يثبت بِالدَّلِيلِ الْقَاطِع خلاف مَا اقْتَضَاهُ الْخَبَر كدليل الْعقل وَالْكتاب وَالسّنة الْمَعْلُومَة وَلَا فرق بَين أَن يكون الْخَبَر دافعا للْكتاب وَالسّنة الْمَعْلُومَة على كل حَال أَو على وَجه النّسخ وَاخْتلفُوا إِذا كَانَ الْخَبَر مُخَصّصا لَهما وَاخْتلفُوا إِذا كَانَ الْمخبر عَنهُ يعم الْبلوى بِهِ هَل يرد لَهُ خبر الْوَاحِد أم لَا وَلَا يرد إِذا عمل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخِلَافِهِ أَو عمل أَكثر الصَّحَابَة بِخِلَافِهِ وَكَذَلِكَ إِذا عَابَ أَكْثَرهم على الرَّاوِي على اخْتِلَاف فِيهِ وَلَا يرد إِذا خَالف قِيَاس الْأُصُول وَنحن نذْكر أَولا مَا يرجع إِلَى الْخَبَر ثمَّ مَا يرجع إِلَى الْمخبر ثمَّ مَا يرجع إِلَى كَيْفيَّة نَقله ثمَّ مَا يرجع إِلَى الْمخبر عَنهُ إِن شَاءَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْخَبَر إِذا تضمن زِيَادَة لم تذكر فِي رِوَايَة أُخْرَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه إِذا رُوِيَ الرَّاوِي زِيَادَة فاما أَن يكون لم يروها غَيره أَو لم يروها هُوَ مرّة أُخْرَى وَالْأول ضَرْبَان احدهما أَن يكون من لم يروها لَا يقبل حَدِيثه وَالْآخر أَن يقبل حَدِيثه فَالْأول لَا يمْنَع من قبُول الزِّيَادَة لِأَن راويها مِمَّن يقبل رِوَايَته وَلم يعارضها رِوَايَة مثلهَا يبين ذَلِك أَن الَّذِي لَا يقبل رِوَايَته لَو روى نفي تِلْكَ الزِّيَادَة لم يمْنَع ذَلِك من قبُول الزِّيَادَة فبأن لَا يمْنَع تَركه لذكرها أولى وَإِن كَانَ الَّذِي لم يروها يقبل رِوَايَته فَأَما أَن يعلم انهما أسندا الْخَبَرَيْنِ إِلَى مجلسين أَو إِلَى مجْلِس وَاحِد أَو لَا يعلم ذَلِك من حَالهمَا فان علمنَا أَنَّهُمَا أسنداه إِلَى مجلسين قبلت الزِّيَادَة لِأَنَّهُ لَا معَارض لَهَا لجَوَاز أَن يُقيد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَلَامه فِي بعض الْحَالَات دون بعض ثمَّ هَل تِلْكَ الزِّيَادَة نسخ أَو تَخْصِيص قد بَين فِيمَا سلف وَإِن علمنَا أَنَّهُمَا أسنداه إِلَى مجْلِس وَاحِد فاما أَن يكون الَّذِي لم يرو الزِّيَادَة عددا لَا يجوز أَن يغفلوا عَن تِلْكَ الزِّيَادَة الَّتِي رَوَاهَا الْوَاحِد وَإِمَّا أَن يكون الرَّاوِي لَهَا عددا لَا يجوز عَلَيْهِم توهم مَا لم يكن وَإِمَّا أَن يجوز على كلا

الْفَرِيقَيْنِ ذَلِك وَيجوز خِلَافه فَالْأول يمْنَع من قبُول الزِّيَادَة لِأَن من لم يروها إِنَّمَا لم يروها لِأَنَّهَا لم تكن وَيكون الرَّاوِي لَهَا قد سَمعهَا من غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَظن أَنه سَمعهَا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن كَانَ الرَّاوِي للزِّيَادَة عددا كثيرا لَا يجوز عَلَيْهِم توهم مَا لم يكن قبلت الزِّيَادَة لأَنهم مَا رووها إِلَّا لِأَنَّهَا كَانَت وَإِن لم يكن الرَّاوِي لَهَا وَلَا التارك لَهَا عددا كثيرا فإمَّا أَن تكون الزِّيَادَة مُغيرَة الْإِعْرَاب وَبِنَاء الْكَلَام أَو غير مُغيرَة لذَلِك بل مُنْفَصِلَة فَالْأول كَقَوْلِه أَو نصف صَاع من بر وَكَقَوْلِه أَو صَاعا من بر فَكل وَاحِد من الراويين قد روى مَا يَنْفِي رِوَايَة الآخر لِأَن أَحدهمَا روى النصب وَالْآخر روى الْجَرّ فروايتهما متناقضة فان تفاضلا فِي الضَّبْط عمل على رِوَايَة الأضبط لِأَن مَعَ تعَارض الرِّوَايَتَيْنِ وَكَون كل وَاحِد من الراويين يقبل حَدِيثه يجب التَّرْجِيح وَقُوَّة الضَّبْط وَالْعَدَالَة مِمَّا يرجح بِهِ الْخَبَر وَإِن تَسَاويا فِي الضَّبْط واشتبه علينا الْأَمر فِي تفاضلهما فِيهِ لم تكن رِوَايَة أَحدهمَا بِالْقبُولِ أولى من الْأُخْرَى فَيجب الرُّجُوع إِلَى تَرْجِيح آخر وَإِن كَانَت الزِّيَادَة لَا تغير بِنَاء لفظ الحَدِيث وَإِعْرَابه كَمَا رُوِيَ من قَوْله أَو صَاعا من بر وَمَا رُوِيَ من قَوْله أَو صَاعا من بر بَين اثْنَيْنِ فَكل وَاحِد مِنْهُمَا قد روى أَو صَاعا من بر على صُورَة وَاحِدَة وَزَاد أَحدهمَا بَين اثْنَيْنِ فَهَذِهِ الزِّيَادَة تقبل فَصَارَت الزِّيَادَة إِنَّمَا تقبل على شُرُوط مِنْهَا أَن لَا يكثر عدد من لم يروها وَمِنْهَا أَن لاتكون مُؤثرَة فِي لفظ الْمَزِيد عَلَيْهِ وَإِعْرَابه أَو اثرت كَانَ راويها أضبط وَالشَّيْخ أَبُو عبد الله يقبل الزِّيَادَة سَوَاء أثرت فِي اللَّفْظ أَو لم تُؤثر إِذا أثرت فِي الْمَعْنى وَقبلهَا قَاضِي الْقُضَاة إِذا أثرت فِي الْمَعْنى دون اللَّفْظ وَلم يقبلهَا إِذا اثرت فِي إِعْرَاب اللغظ وَحكى أَن اصحاب الحَدِيث لَا يقبلُونَ الزِّيَادَة وَالدّلَالَة على قبُولهَا إِذا اخْتصّت بالشرائط الْمَذْكُورَة أَن الرَّاوِي للزِّيَادَة مِمَّن يجب قبُول خَبره وَلَا معَارض لروايته فَوَجَبَ قبُولهَا كَمَا لَو انْفَرد بِرِوَايَة

الحَدِيث وَلم يروه غَيره وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه مِمَّن يقبل لِأَنَّهُ مُخْتَصّ بِالْعَدَالَةِ والضبط وَجَمِيع الصِّفَات الْمَطْلُوبَة وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه لَا معَارض لروايته لِأَن التارك لرِوَايَة الزِّيَادَة لم ينفها لفظا وَلَا معنى أما أَنه لم ينفها لفظا فَبين واما أَنه لم ينفها فِي الْمَعْنى فَلِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يُقَال إِنَّه نفاها فِي الْمَعْنى إِلَّا من حَيْثُ كَانَ الرَّاوِي الآخر لما سَاق الحَدِيث وَكَانَ قصد اسْتِيفَاؤهُ ثمَّ لم يذكر الزِّيَادَة علم أَنه قد نفاها وَجرى مجْرى أَن ينفيها لفظا وَيُمكن أَن يكون هَذَا الْكَلَام دَلِيلا لَهُ مُبْتَدأ وَالْجَوَاب إِنَّه لَيْسَ يجب أَن يكون إِنَّمَا لم يروها التارك لَهَا لِأَنَّهُ نفاها لَكِن يجوز أَن يكون إِنَّمَا لم يروها لِأَنَّهُ لم يسْمعهَا لسهو اعتراه حِين تكلم بهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو لشغل قلب اعتراه أَو تشاغل بعطاس أَو إصغاء إِلَى كَلَام آخر فاذا جَازَ كل ذَلِك بَطل القَوْل بِأَن التارك للزِّيَادَة قد نفاها فِي الْمَعْنى فان قيل فَلم مَا حملتم ترك الرِّوَايَة للزِّيَادَة على أحد هَذِه الْوُجُوه بِأولى من أَن يحملوا رِوَايَة من رَوَاهَا على أَنه تصور أَنه سمع تِلْكَ الزِّيَادَة من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَلم يكن سَمعهَا مِنْهُ قيل لِأَن سَهْو الْإِنْسَان عَمَّا سَمعه وتشاغله عَن سَماع مَا جرى بمشهد مِنْهُ يكثر وَلَا يكثر توهم الْإِنْسَان أَنه سمع مَا لم يسمع وَلِأَنَّهُ لَا سَبَب لذَلِك إِلَّا أَنه سمع الزِّيَادَة من الْغَيْر فَظن أَنه سَمعهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو سمع من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام شَيْئا فَظن أَنه سمع مِنْهُ ايضا مَا لَهُ بِهِ ولترك رِوَايَة مَا جرى اسباب كَثِيرَة قد ذَكرنَاهَا فَلذَلِك كَانَ ترك الْإِنْسَان رِوَايَة مَا جرى أَكثر من رِوَايَته مَا لم يجر إِذا لم يتَعَمَّد الْكَذِب فان قيل فَيجب أَن يكون رِوَايَة من روى أَو نصف صَاع من بر أولى من رِوَايَة من روى أَو صَاعا من بر لِأَن فِيهَا زِيَادَة نصف يجوز أَن يكون التارك لَهَا لم يسْمعهَا قيل لَو لم يكن إِلَّا هَذَا لكَانَتْ الزِّيَادَة أولى لَكِن لما تَعَارضا فِي رِوَايَة إعرابين متنافيين لم تكن إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أولى من الْأُخْرَى يبين ذَلِك أَنه لَا يُمكن أَن يُقَال لَعَلَّ الَّذِي روى أَو صَاع من بر لم يسمع لَفظه نصف وَسمع لفظ صَاع لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لسمعها مجرورة

إِن قيل فَيلْزم على مَا ذكرْتُمْ أَن الَّذِي لم يرو الزِّيَادَة لَو نفاها لم يُعَارض نَفْيه رِوَايَة من رَوَاهَا قيل إِن قَالَ أعلم أَنه لم تكن هَذِه الزِّيَادَة وأنني مَا سَمعتهَا وَلم يقطعني قَاطع عَن سماعهَا فانه يكون نَاقِلا للنَّفْي ولارتفاع الْمَوَانِع كَمَا نقل الآخر الزِّيَادَة فتتعارض الرِّوَايَتَانِ وَإِن قَالَ لم تكن هَذِه الزِّيَادَة فانه يحْتَمل أَن يكون ذَلِك مَوضِع اجْتِهَاد وَيحْتَمل أَن يُقَال رِوَايَة الْمُثبت أولى لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون النَّافِي إِنَّمَا نفى الزِّيَادَة بِحَسب ظَنّه وَيحْتَمل أَن يُقَال يرجع إِلَى رِوَايَة النَّافِي إِذا كَانَ أضبط وَاحْتج الدافعون للزِّيَادَة بأَشْيَاء مِنْهَا أَن ضبط الرَّاوِي إِنَّمَا يعرف بموافقة المعروفين بالضبط فاذا لم يُوَافقهُ فِي الرِّوَايَة لم يعرف ضَبطه وَالْجَوَاب إِنَّه لَو لم يثبت ضبط الْإِنْسَان إِلَّا بموافقة ضَابِط آخر لَهُ أدّى إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ وَلم يعرف ضبط أحد فَعلمنَا قد يعرف ضبط الْإِنْسَان لغير ذَلِك مِمَّا هُوَ مَوْجُود فِيمَن روى الزِّيَادَة وَأَيْضًا فانما يعرف اختلال ضبط الانسان إِذا خَالفه من يضْبط مرَارًا كَثِيرَة فَأَما الْمرة والمرتان فَلَا يمْتَنع أَن يضْبط هُوَ فِيهَا ويسهو من هُوَ أضبط مِنْهُ وَمِنْهَا قَوْلهم إِن جمَاعَة لَو كَانُوا فِي مجْلِس فنقلوا عَن صَاحبه كلَاما وَانْفَرَدَ وَاحِد مِنْهُم بِزِيَادَة غير البَاقِينَ مَعَ كثرتهم وَشدَّة عنايتهم بِمَا سَمِعُوهُ وَرَوَوْهُ لأطرح السامعون تِلْكَ الزِّيَادَة الْجَواب إِن ذَلِك لَيْسَ مِمَّا نَحن بسبيله لأَنا قد قُلْنَا إِن الْجَمَاعَة إِذا تركت الزِّيَادَة كَانَت رِوَايَتهَا أولى وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ التارك للزِّيَادَة أضبط إِذا غيرت الزِّيَادَة اللَّفْظ وَمِنْهَا قَوْلهم إِذا كَانَ الضَّابِط لَو وَافق هَذَا الرَّاوِي للزِّيَادَة لقوي بموافقته خَبره فَيجب إِذا خَالفه أَن يضعف وَالْجَوَاب إِنَّه بامساكه عَن الزِّيَادَة غير مُخَالف لَهُ كَمَا أَنه بامساكه عَن رِوَايَة خبر آخر لَا يكون مُخَالفا لَهُ وَأَيْضًا فانه إِذا وَجب قَول الزِّيَادَة بمشاركة غَيره من الروَاة لَهُ وَجب إِذا لم

يشاركوه أَن تنقص تِلْكَ الْقُوَّة وَلَيْسَ إِذا نقصت يجب أَن تبلغ حدا فِي الضعْف لَا يقبل الْخَبَر مَعَه أَلا ترى أَنه لَو شَارك الرَّاوِي جمَاعَة فِي خبر فقوي الْخَبَر بذلك فانه إِذا لم يشاركوه فِي الرِّوَايَة بل رَوَاهُ وَحده لَا يجب أَن يَنْتَهِي فِي الضعْف إِلَى حد لَا يجوز أَن يقبل مَعَه فَأَما إِذا لم يعلم هَل اسند المخبران الْخَبَرَيْنِ إِلَى مجْلِس وَاحِد أَو مجلسين وَكَانَت الزِّيَادَة تغير إِعْرَاب الْمَزِيد عَلَيْهِ وَلم يكن الرَّاوِي لَهُ وَلَا التارك لَهَا كَثْرَة فانه يَقْتَضِي التَّوَقُّف وَالرُّجُوع إِلَى التَّرْجِيح لأَنا لَا نَأْمَن أَن يَكُونَا قد اسنداه إِلَى مجْلِس وَاحِد فيتمانعا وَالصَّحِيح أَن يُقَال يجب حمل الْخَبَرَيْنِ على أَنَّهُمَا جَريا فِي مجلسين لِأَنَّهُمَا لَو كَانَا فِي مجْلِس وَاحِد لجرى على لفظ وَاحِد وَلَو كَانَ اللَّفْظ وَاحِدًا لَكَانَ الظَّاهِر من عدالتهما وضبطهما أَن لَا يخْتَلف روايتهما فَأَما إِذا روى الرَّاوِي زِيَادَة لم يروها هُوَ مرّة أُخْرَى مُتَقَدّمَة أَو مُتَأَخِّرَة وَأَنه إِن أسْند الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى مجلسين قبل ذَلِك وَكَذَلِكَ إِذا لم يعلم أَنه اسندهما إِلَى مجلسين حمل أَنَّهُمَا كَانَا فِي مجلسين وَإِن علمنَا أَنه لم يسندهما إِلَى مجلسين وَكَانَ قد روى الْخَبَر دفعات كَثِيرَة من غير زِيَادَة وَرَوَاهُ مرّة وَاحِدَة بِالزِّيَادَةِ فالأغلب انه سَهَا فِي إِثْبَات الزِّيَادَة لِأَن سَهْو الْإِنْسَان مرّة وَاحِدَة أغلب وَأكْثر من سَهْوه مرَارًا كَثِيرَة فان قَالَ قد كنت أنسيت هَذِه الزِّيَادَة والآن ذكرتها قبلت الزِّيَادَة وَحمل أمره على الْأَقَل النَّادِر لمَكَان قَوْله وَكَذَلِكَ إِن كَانَ لَهُ كتاب يرجع إِلَيْهِ وَإِن كَانَ إِنَّمَا رَوَاهَا مرّة وأخل بروايتها مرّة وَكَانَت الزِّيَادَة تغير إِعْرَاب الْكَلَام تَعَارَضَت الرِّوَايَتَانِ وَإِن كَانَت الزِّيَادَة لَا تغير اللَّفْظ احْتمل أَن يتعارضا لِأَنَّهُ على كل حَال قد وهم وهما بَاطِلا إِمَّا زِيَادَة لَا اصل لَهَا وَإِمَّا نِسْيَانا لما كَانَ لَهُ اصل فَلَيْسَ بِأَن يُقَال ضَبطه يمْنَع من أَن يكون قد وهم عِنْد سَمَاعه للْحَدِيث زِيَادَة لَا اصل لَهَا وَأَنه نسي فَلم يروها فِي بعض الْحَالَات وَذكرهَا مرّة أُخْرَى بِأولى من ان يُقَال إِن ضَبطه

فصل

يمْنَع من نسيانه لَهَا وَالْأولَى أَن يُقَال أَظُنهُ من رِوَايَته لما لم يسمعهُ توهما مِنْهُ أَنه سَمعه الْأَقْرَب أَن يكون نَسِيَهَا حِين لم يروها لِأَن نِسْيَان الضَّابِط لما سمع عِنْد تطاول الزَّمَان أَكثر وأغلب من ذَهَابه عَن سَماع مَا حَضَره فَوَجَبَ لذَلِك قبُول الزِّيَادَة وَإِذا روى الرَّاوِي الحَدِيث تَارَة مَعَ زِيَادَة وَتارَة بِغَيْر زِيَادَة استهانة وَقلة تحفظ سَقَطت عَدَالَته وَلم يقبل حَدِيثه وَإِذا كَانَ فِي الْخَبَر لفظ لَا يُفِيد إِلَّا التَّأْكِيد لم يجز إِسْقَاطه لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا ذكره إِلَّا لفائدة فَأَما إِذا خَالف فِي لفظ الحَدِيث حفاظ أهل النَّقْل فقد ذكر ذَلِك فِي جملَة مَا يرد لَهُ الحَدِيث وَهُوَ دَاخل فِي الزِّيَادَة وَقد ذَكرْنَاهُ الْآن لِأَن الْخلاف لَيْسَ يَقع بَينهم إِلَّا بِأَن يزِيد أحدهم فِي الحَدِيث مَا لَا يرويهِ الآخر اَوْ يروي أَحدهمَا اللَّفْظ على إِعْرَاب يروي الآخر خِلَافه وَقد تقدم بَيَان ذَلِك كُله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي ذكر فُصُول أَحْوَال الرَّاوِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فصل اعْلَم أَنه لما وَجب رد الْخَبَر إِذا كَانَ الرَّاوِي غير عدل وَجب أَن نذْكر مَا الْعدْل وَمَا الْعَدَالَة ثمَّ نذْكر الدّلَالَة على اشْتِرَاط الْعَدَالَة فِي الْأَخْبَار أما الْعدْل والعدلة فهما فِي اللُّغَة مصدر مُقَابل الْجور وَهُوَ إيضاف الْغَيْر بِفعل مَا يجب لَهُ وَيسْتَحق عَلَيْهِ وَترك مَا لَا يجب عَلَيْهِ وَلِهَذَا وصف الْعقَاب بِأَنَّهُ عدل لما كَانَ مُسْتَحقّا على المعاقب ويوصف ترك الزِّيَادَة عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عدل ويوصف الثَّوَاب بِأَنَّهُ عدل لما كَانَ وَاجِبا للمثاب فان قيل فَيجب إِذا لم يجب على الْإِنْسَان حق لغيره وَكَانَ مَا يسْتَحقّهُ على غَيره لَا يَسْتَوْفِيه أَن يُوصف بِأَنَّهُ غير عدل قيل لَا يجوز ذَلِك لِأَن قَوْلنَا غير عدل يُطلق على الجائر وَإِطْلَاق هَذَا الْوَصْف على مَا ذكره السَّائِل يُوهم أَنه جَائِر

وَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن الْعدْل هُوَ فعل حسن يتَعَدَّى الْفَاعِل إِلَى غَيره بنفعه أَو بضرره وَقد الْتزم على ذَلِك أَن يكون الِابْتِدَاء بالتفضل عدلا قَالَ وَلذَلِك يُقَال إِن الله سُبْحَانَهُ عدل بابتداء الْخلق فِي الدُّنْيَا وَقد تعورف اسْتِعْمَال الْعدْل فِي المستكثر من فعل الْعدْل وَلذَلِك يُوصف الله سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ عدل وتعورف اسْتِعْمَاله أَيْضا فِيمَن أهل لقبُول شَهَادَته وَيدخل فِي ذَلِك الْحُرِّيَّة وَغَيرهَا وتعورف أَيْضا فِيمَا تقبل رِوَايَته عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ من اجْتنب الْكَبَائِر وَالْكذب والمسخفات من الْمعاصِي والمباحات وَلَا خلاف فِي اعْتِبَار هَذِه الْأُمُور فِيمَن يروي الْخَبَر لِأَن خلاف ذَلِك يقْدَح فِي الثِّقَة لقَوْله لِأَن من تقدم على الْكَذِب لَا يُؤمن مِنْهُ الْكَذِب فِي كل مَا يخبر بِهِ وَمن تقدم على الْفسق وَهُوَ يعْتَقد انه فسق لَا يُؤمن مِنْهُ الْإِقْدَام على الْكَذِب فِي حَدِيثه وَمن تقدم على المسخفات كالتطفيف وكالأكل على الطَّرِيق وَإِن اثمر النَّقْص لَا يُؤمن مِنْهُ الْكَذِب وَإِن أثمر عِنْده النَّقْص والمشارطة على أَخذ الاجرة على الحَدِيث فَهُوَ ابلغ فِي الدناءة من الْأكل على الطَّرِيق وَهُوَ جَار مجْرى اشْتِرَاط الاجرة على صَلَاة النَّافِلَة وَأما الْفسق فِي الاعتقادات إِذا كَانَ صَاحبه متحرجا فِي افعاله فَعِنْدَ الشَّيْخَيْنِ ابي على وابي هَاشم أَنه يمْنَع من قبُول الحَدِيث لِأَن الْفسق فِي أَفعَال الْجَوَارِح يمْنَع من قبُول الحَدِيث لكَونه فسقا لَا لِأَنَّهُ من افعال الْجَوَارِح لِأَن الْمُبَاحَات من أَفعَال الْجَوَارِح لَا تمنع من قبُول الحَدِيث وَهَذِه الْعلَّة قَائِمَة فِي الاعتقالات إِذا كَانَت فسقا وَالْجَوَاب إِن الْفسق من أَفعَال الْجَوَارِح إِنَّمَا منع من قبُول الحَدِيث لِأَن فَاعله فعله وَهُوَ يعلم أَنه فسق فقدح ذَلِك فِي الظَّن لصدقه وَلم يُؤمن أَن يقدم على الْكَذِب وَإِن علم أَنه مَحْظُور وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا اعْتقد اعتقادا هُوَ فسق وَقد اشْتبهَ عَلَيْهِ وَهُوَ متحرج فِي أَفعاله إِن قيل أَلَيْسَ لَو فسق وَهُوَ يعلم أَنه فسق لم يقبل حَدِيثه فَكيف يقبل إِذا ضم إِلَى فسقه خَطِيئَة أُخْرَى وَهِي اعْتِقَاده أَن ذَلِك غير فسق قيل إِنَّه إِذا

لم يعْتَقد أَنه فسق لم يقْدَح ذَلِك تحريجه وتنزهه عَن الْكَذِب وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا اعْتقد أَنه فسق وَعند جلّ الْفُقَهَاء أَن الْفسق فِي الِاعْتِقَاد لَا يمْنَع من قبُول الحَدِيث لِأَن من تقدم قد قبل بَعضهم حَدِيث بعض بعد الْفرْقَة وَقبل التابعون رِوَايَة الْفَرِيقَيْنِ من السّلف وَلِأَن الظَّن يقوى بِصدق من هَذِه سَبيله إِذا كَانَ متحرجا فَأَما الْكفْر الَّذِي يخرج بِهِ الْإِسْلَام من جملَة الْإِسْلَام وَأهل الْقبْلَة كاليهودية والنصرانية فانه يمْنَع من قبُول الْخَبَر للاجماع على ذَلِك وَلِأَن الْخَارِج من الْإِسْلَام يَدعُوهُ اعْتِقَاده فِيهِ إِلَى التحريف فِيهِ وَلَا يقوى الظَّن لصدقه وَأما الْكفْر بِتَأْوِيل فَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَنه يمْنَع من قبُول الحَدِيث قَالَ لِاتِّفَاق الْأمة على الْمَنْع من قبُول خبر الْكَافِر قَالَ وَالْفُقَهَاء إِنَّمَا قبلوا أَخْبَار من هُوَ كَافِر عندنَا لأَنهم لم يعتقدوا فِيهِ أَنه كَافِر وَالْأولَى أَن يقبل خبر من فسق أَو كفر بِتَأْوِيل إِذا لم يخرج من أهل الْقبْلَة وَكَانَ متحرجا لِأَن الظَّن لصدقه غير زائل وادعاؤه الْإِجْمَاع على نفي قبُول خبر الْكَافِر على الْإِطْلَاق لَا يَصح لِأَن كثيرا من أَصْحَاب الحَدِيث يقبلُونَ كثيرا من أَخْبَار سلفنا رَحِمهم الله كالحسن وَقَتَادَة وَعَمْرو مَعَ علمهمْ بمذهبهم وإكفارهم من يَقُول بقَوْلهمْ وَقد نصوا على ذَلِك فَأَما من يظْهر مِنْهُ العناد فِي مذْهبه مَعَ ظُهُوره عِنْده فانه لَا يقبل حَدِيثه كَمَا لَا يقبل حَدِيث الْفَاسِق بِأَفْعَال الْجَوَارِح لما كَانَ يعلمهَا فسقا فَأَما من تدين بِالْكَذِبِ لينصر مقَالَته فالظن لَا يحصل بصدقه وَكَذَلِكَ التساهل فِي الحَدِيث وَترك التحفظ من الزِّيَادَة فِيهِ وَالنُّقْصَان مِنْهُ وَأما كَون الرَّاوِي غير ضَابِط لما يسمعهُ أَو يَعْتَرِيه السَّهْو فِيمَا يسمعهُ بعد سَمَاعه لَهُ فَلهُ أَحْوَال ثَلَاثَة أَحدهَا أَن يكون سَهْوه واختلال ضَبطه أَكثر فيقدح ذَلِك فِي الظَّن لما نَقله إِلَّا أَن يكون مَا نَقله مِمَّا يبعد أَن لَا يضبطه الْإِنْسَان وَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول الظَّاهِر من الْعقل الضَّبْط وَقلة السَّهْو لِأَن الْعُقَلَاء يَخْتَلِفُونَ فِي الضَّبْط

وَلَيْسَ لَهُ أَن يَقُول الظَّاهِر من الْعدْل أَنه لَا يروي الحَدِيث وَهُوَ يتهم ضبط نَفسه وَحفظه لِأَن من لَا يضْبط يظنّ أَنه قد ضبط وَمن سَهَا يظنّ أَنه مَا سَهَا فيروي حسب ظَنّه وَالثَّانِي أَن يتساوى ضَبطه واختلاله فَلَا يحصل الظَّن أَيْضا لصِحَّة مَا رَوَاهُ لتعادل الْأَمريْنِ فَلَا يقبل حَدِيثه إِن قيل أَلَيْسَ قد أنْكرت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهَا على أبي هُرَيْرَة رَحمَه الله كَثْرَة الرِّوَايَة ثمَّ قبلت أخباره قيل إِنَّهَا لم تنكر عَلَيْهِ لقلَّة ضَبطه لَكِن لِأَن الْكَثْرَة يعرض فِيهَا الاختلال والسهو فاحتاطت بالإنكار عَلَيْهِ وَإِن كَانَ أَهلا لقبُول أخباره وَذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَنه إِذا تساوى غفلته وَذكره قبل خَبره لِأَن الْخَبَر أَمارَة فَالْأَصْل فِيهِ الصِّحَّة وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الْخَبَر أَمارَة إِذا تكاملت شَرَائِطه وَلَا تتكامل شَرَائِطه إِلَّا أَن يتَرَجَّح ذكر الرَّاوِي على سَهْوه وَالثَّالِث إِن كَانَ الْأَكْثَر مِنْهُ الذّكر وجودة الضَّبْط قوي الظَّن لصِحَّة رِوَايَته فَقبل خَبره فِيمَا لَا يعلم أَنه سَهَا فِيهِ وَاعْلَم أَنه إِذا ثَبت اعْتِبَار الْعَدَالَة وَغَيرهَا من الشَّرَائِط الَّتِي ذَكرنَاهَا وَجب إِن كَانَ لَهَا ظَاهر أَن يعْتَمد عَلَيْهِ وَإِلَّا لزم اخْتِيَارهَا وَلَا شُبْهَة أَن فِي بعض الْأَزْمَان كزمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قد كَانَت الْعَدَالَة منوطة بِالْإِسْلَامِ فَكَانَ الظَّاهِر من الْمُسلم كَونه عدلا وَلِهَذَا اقْتصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قبُول خبر الْأَعرَابِي عَن رُؤْيَة الْهلَال على ظَاهر الاسلام واقتصرت الصَّحَابَة على إِسْلَام من كَانَ يروي الْأَخْبَار من الْأَعْرَاب فَأَما الْأَزْمَان الَّتِي كثرت فِيهَا الْجِنَايَات مِمَّن يعْتَقد الْإِسْلَام فَلَيْسَ الظَّاهِر من إِسْلَام الْإِنْسَان كَونه عدلا فَلَا بُد من اختباره وَقد ذكر الْفُقَهَاء هَذَا التَّفْصِيل وَلَا يرد حَدِيث من لَا يعرف معنى مَا يَنْقُلهُ كالأعجمي لِأَن جَهله بِمَعْنى الْكَلَام لَا يمْنَع من ضَبطه الحَدِيث وَلِهَذَا يُمكن للأعجمي ان يحفظ الْقُرْآن وَإِن لم يعرف مَعْنَاهُ وَقد قبلت الصَّحَابَة أَخْبَار الْأَعْرَاب وَإِن لم يعرفوا كثيرا من مَعَاني

الْكَلَام مِمَّا يفْتَقر إِلَى الِاسْتِدْلَال فَأَما الصَّبِي فالأغلب أَن النَّفس لَا تثق بروايته فان جَازَ فِي بعض الْحَالَات أَن يغلب الظَّن لصدقه فالشرع مِنْهُ من قبُول خَبره إِذا رَوَاهُ وَهُوَ صبي فان سمع الحَدِيث وَهُوَ صبي وَرَوَاهُ وَهُوَ بَالغ قبل خَبره وَقد قبلت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهَا رِوَايَة ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن كَانَ حِين سَمعهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير بَالغ لما كَانَ حِين رَوَاهَا بَالغا وَيقبل رِوَايَة الْمَرْأَة وَالْعَبْد وَالْأَعْمَى من حفظه لِأَنَّهُ قد يظنّ صدقهم فِي روايتهم وَلم تمنع الشَّرِيعَة من قبُولهَا بل قد قبلت الصَّحَابَة رِوَايَة ابْن عَبَّاس وَكَانَ ضريرا وَرِوَايَة النِّسَاء وَيقبل رِوَايَة من لم يرو إِلَّا خَبرا وَاحِدًا وَلم يكاثر أهل الْعلم وَلَا أَطَالَ مجالسة أهل النَّقْل لِأَن كل خصْلَة لَا تقدح فِي غَالب الظَّن لصِحَّة الرِّوَايَة وَلم يرد الشَّرْع بِاعْتِبَار نَفيهَا فانها لَا تمنع من قبُول الحَدِيث وَكَون الرَّاوِي غير مجَالِس لأهل الْعلم لَا يقْدَح فِي ظننا صدقه وَيُفَارق ذَلِك استفتاء من لم يُجَالس أهل الْعلم لِأَن جَوَاز الاستفتاء مَوْقُوف على كَون الْمُفْتِي من أهل الِاجْتِهَاد وَلنْ يكون الْإِنْسَان كَذَلِك إِلَّا بالتعلم ومجالسة الْعلمَاء إِلَّا أَنه إِذا تعَارض خبران أَحدهمَا يرويهِ من لم يُجَالس اهل النَّقْل وَالْآخر يرويهِ من جالسهم كَانَت رِوَايَة من جالسهم أولى لِأَن المكثر من مجالسة أهل الصَّنْعَة أخبر بهَا وَأعرف بتفاصيلها وَيقبل حَدِيث الْإِنْسَان وَإِن اخْتلف فِي اسْمه مَتى عرفت عَدَالَته إِمَّا بِظَاهِر الْإِسْلَام وَإِمَّا بطريقة زَائِدَة وَإِذا روى زيد عَن عَمْرو خَبرا فَقَالَ عَمْرو لَا أذكر أَنِّي رويت هَذَا الحَدِيث فَعِنْدَ أبي الْحسن رَحمَه الله لَا يقبل الحَدِيث لِأَنَّهُ الأَصْل فِي الرِّوَايَة فاذا أنكرها لم يقبل وَكَذَلِكَ رد حَدِيث ربيعَة عَن الزُّهْرِيّ أَيّمَا امراة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل لِأَن الزُّهْرِيّ أنكر أَن يكون رَوَاهُ وَعند الشَّافِعِي وَغَيره أَنه يقبل لِأَن ثِقَة الرَّاوِي تَقْتَضِي قبُول حَدِيثه مَا أمكن وَيُمكن أَن يكون صَادِقا وَإِن لم يذكر الْمَرْوِيّ عَنهُ لِأَنَّهُ يجوز أَن ينسى أَنه رَوَاهُ فقد يحدث الْإِنْسَان بِحَدِيث من أَمر الدُّنْيَا ثمَّ يسهو عَنهُ وَيذكر بِهِ فَلَا

فصل في أن الخبر لا يرد إذا كان راويه واحدا

يذكرهُ إِلَّا بعد زمَان طَوِيل وَرُبمَا لم يذكرهُ أصلا فاذا كَانَ كَذَلِك جَازَ للمروي عَنهُ أَن يرويهِ عَن الرَّاوِي كَمَا قَالَ الزُّهْرِيّ حَدثنِي ربيعَة عني فان قَالَ الْمَرْوِيّ عَنهُ مَا رويت هَذَا الحَدِيث جَازَ أَن يكون قَالَ ذَلِك بِحَسب ظَنّه فَلَا يرد الحَدِيث فان قَالَ أعلم أَنِّي مَا رويته فانه تعَارض ذَلِك رِوَايَة من روى عَنهُ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا ثِقَة فَيحْتَمل أَن يكون الْمَرْوِيّ عَنهُ قد رَوَاهُ ثمَّ نَسيَه وَيحْتَمل أَن يكون الرَّاوِي سَمعه من غَيره مِمَّن لَيْسَ بِثِقَة وأسنده إِلَى من أسْندهُ إِلَيْهِ سَهوا فصل فِي أَن الْخَبَر لَا يرد إِذا كَانَ رَاوِيه وَاحِدًا ذهب جلّ الْقَائِلين بأخبار الْآحَاد إِلَى قبُول الْخَبَر وَإِن رَوَاهُ وَاحِد وَقَالَ أَبُو عَليّ إِذا روى العدلان خَبرا وَجب الْعَمَل بِهِ وَإِن رَوَاهُ وَاحِد فَقَط لم يجز الْعَمَل بِهِ إِلَّا بِأحد شُرُوط مِنْهَا أَن يعضده ظَاهر أَو عمل بعض الصَّحَابَة أَو اجْتِهَاد أَو يكون منتشرا وَحكى عَنهُ قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَنه لم يقبل فِي الزِّنَا إِلَّا خبر اربعة كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَلم تقبل شَهَادَة الْقَابِلَة الْوَاحِدَة وَالدَّلِيل على القَوْل الاول قِيَاسه على أَخْبَار الْمُعَامَلَات على مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْبَاب الْمُتَقَدّم وَيدل عَلَيْهِ إِجْمَاع السّلف عمل أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ على خبر رَوَاهُ بِلَال وَعمل عمر على خبر حمل بن مَالك وعملت الصَّحَابَة على خبر أبي سعيد فِي الرِّبَا وعملت على خبر أبي رَافع فِي المخابرة وَكَانَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام يسْتَحْلف وَيقبل خبر ابي بكر بِغَيْر استحلاف وَلَيْسَ يجوز أَن يُقَال لَعَلَّهُم قبلوا مَا قبلوه لِأَن اجْتِهَادًا عضده لأَنهم كَانُوا يتركون اجتهادهم لبَعض هَذِه الْأَخْبَار وَكَانُوا لَا يرَوْنَ بالمخابرة بَأْسا حَتَّى رُوِيَ لَهُم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّهْي عَنْهَا وَحجَّة أبي عَليّ رَحمَه الله هِيَ الْمرجع فِي قبُول خبر الْوَاحِد إِلَى الشَّرْع وَقد رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يعْمل على خبر ذِي الْيَدَيْنِ حَتَّى سَأَلَ ابا بكر وَعمر وَقد اعْتبرت الصَّحَابَة الْعدَد فِي الْأَخْبَار فان ابا بكر لم يقبل خبر الْمُغيرَة فِي الْجدّة حَتَّى رَوَاهُ مَعَه مُحَمَّد بن مسلمة وَلم يعْمل عمر على خبر أبي مُوسَى فِي الاسْتِئْذَان

حَتَّى رَوَاهُ مَعَه غَيره وَلَا عمل على خبر فَاطِمَة بنت قيس وَلم يقبلا خبر عُثْمَان فِي رد الحكم وَقَالا إِنَّك شَاهد وَاحِد قَالَ فَعلمت أَن ذَلِك إِجْمَاع لِأَنَّهُ لم يُنكر عَلَيْهِم الْجَواب أما رُجُوع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى خبر ابي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي خبر ذِي الْيَدَيْنِ فان دلّ فانما يدل على اعْتِبَار ثَلَاثَة ابي بكر وَعمر وَذي الْيَدَيْنِ على أَن الْإِنْسَان قد يخبر عَن أُمُور الدُّنْيَا بِمَا يظنّ خِلَافه فَيرجع فِي تَحْقِيق ذَلِك إِلَى جمَاعَة استظهارا وطلبا لقُوَّة الظَّن فَلَا يدل على أَنه لَا يعول فِي أُمُور الدُّنْيَا إِلَّا على خبر جمَاعَة وَأما طلب الصَّحَابَة لراو آخر فانه لَا يدل على أَنهم اعتقدوا أَنه لَا يعْمل على الْوَاحِد لَو انْفَرد لِأَن الْحَاكِم قد يطْلب شَاهدا ثَالِثا ليقوي ظَنّه وَإِن كَانَ لَو لم يشْهد الثَّالِث عمل على شَهَادَة الِاثْنَيْنِ وَقد يعْمل الانسان فِي امور الدُّنْيَا على خبر الْوَاحِد وَيطْلب فِي بعض الْأَشْيَاء مخبرا ثَانِيًا ليقوي ظَنّه وَقد يضعف الظَّن لصدق الرَّاوِي مرّة وَلَا يضعف لصدقه أُخْرَى وَقد ينْفَرد الْعدْل بالرواية لأمر مستبعد فِي الْعَادة أَو لأمر تَقْتَضِي الْعَادة أَن لَا ينْفَرد بروايته الْوَاحِد وَلَا يظنّ تَعَمّده بِهِ الْكَذِب لَكِن يظنّ بِهِ السَّهْو والغلط وَلَا يظنّ بِهِ ذَلِك مرّة اخرى إِذا انْتَفَت هَذِه الْأُمُور فاذا كَانَ طَرِيق قبُول خبر الْوَاحِد وَالِاجْتِهَاد فِي عَدَالَة الرَّاوِي وَضَبطه وَاخْتلفت الاحوال فِي ذَلِك وَوجدنَا الَّذين طلبُوا رَاوِيا آخر هم الَّذين لم يطلبوه فِي حَالَة اخرى علمنَا أَنهم إِنَّمَا طلبُوا مخبرا ثَانِيًا لتقوية الظَّن أَو لِأَنَّهُ اعتراضهم بعض مَا ذَكرْنَاهُ لَا لأَنهم اعتقدوا حظر الْعَمَل على خبر الْوَاحِد على أَنه رُوِيَ عَن عمر أَنه قَالَ لأبي مُوسَى مَا اتهمتك وَلَكِنِّي خفت أَن يتقول النَّاس على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد بَينا أَن ردة خبر فَاطِمَة بنت قيس إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ نسخ لكتاب الله عز وَجل وَإِنَّمَا لم يعْمل أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا على خبر عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فِي رد الحكم لِأَن ذَلِك شَهَادَة لِأَنَّهُ إِثْبَات حكم فِي عين لَا يتعداها أَلا ترى أَنَّهُمَا سميا ذَلِك شَهَادَة فَدلَّ ذَلِك على أَنه كَانَ شَهَادَة عِنْدهمَا

فصل في الخبر إذا أسنده من أرسل غيره من الأحاديث هل يقبل أم لا

وقاس أَبُو عَليّ رَحمَه الله الْخَبَر على الشاهدة لعِلَّة أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا إِخْبَار عَن الْغَيْر يجب عِنْده الْعَمَل فَكَانَ من شَرطه الْعدَد وَهَذِه عِلّة غير مَعْلُومَة فَلَا يجوز الِاعْتِمَاد عَلَيْهَا فِيمَا يجب فِيهِ الْعلم وَلَيْسَ يمْتَنع أَن تكون الشَّهَادَة إِنَّمَا شَرط فِيهَا الْعدَد لكَونهَا شَهَادَة وَلِهَذَا قبل فَتْوَى الْفَقِيه الْوَاحِد لما لم يكن شَهَادَة وَلِهَذَا لم يعْتَبر فِي الْمخبر مَا اعْتبر فِي الشَّاهِد من الْحُرِّيَّة فصل فِي الْخَبَر إِذا أسْندهُ من أرسل غَيره من الْأَحَادِيث هَل يقبل أم لَا أما من يقبل الْمَرَاسِيل فَلَا شُبْهَة فِي قبُوله واما من لم يقبل الْمَرَاسِيل فكثير مِنْهُم قبله ايضا قَالَ لِأَن إرْسَاله يخْتَص ذَلِك الْمُرْسل دون هَذَا الْمسند وَلَيْسَ إرْسَاله لذَلِك الْخَبَر بِأَكْثَرَ من تَركه رِوَايَته فَوَجَبَ قبُول مُسْنده إِلَّا أَن يُوهم فِيمَا أرْسلهُ أَنه سَمعه مِمَّن أسْندهُ إِلَيْهِ وأتى بِلَفْظ يُوهم ذَلِك فَجرى ذَلِك مجْرى كذبه فيقدح فِي أَمَانَته فَأَما إِذا قَالَ قَالَ فلَان فان ذَلِك لَا يُوهم أَنه سَمعه مِمَّن أسْندهُ إِلَيْهِ فَلَا يقْدَح فِي امانته وَمِنْهُم من لم يقبل مَا اسنده قَالَ إِن إرْسَاله يدل على أَنه إِنَّمَا لم يذكر الرَّاوِي لضَعْفه فِي نَفسه فستره لَهُ وَالْحَال هَذِه خِيَانَة فَلم يقبل حَدِيثه وَاخْتلف من قبل من حَدِيث الْمُرْسل مَا اسنده كَيفَ يقبله فَقَالَ الشَّافِعِي لَا يقبل من حَدِيثه إِلَّا مَا قَالَ فِيهِ حَدثنِي أَو سَمِعت وَلَا يقبل إِذا أَتَى بِلَفْظ موهم وَقَالَ بعض أَصْحَاب الحَدِيث لَا يقبل حَتَّى يَقُول سَمِعت فلَانا وَأَصْحَاب الحَدِيث يفرقون بَين أَن يَقُول الْإِنْسَان حَدثنِي فلَان أَو أَخْبرنِي فلَان فيجعلون الأول دَالا على أَنه شافهه بِالْحَدِيثِ ويجعلون الثَّانِي مترددا بَين المشافهة بِالْحَدِيثِ وَبَين أَن يكون قد أجَازه أَو كتب بِهِ إِلَيْهِ وَهَذِه عَادَة لَهُم وَإِلَّا فَظَاهر قَوْله أَخْبرنِي يُفِيد أَنه تولى إخْبَاره بِالْحَدِيثِ وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بالمشافهة

فصل في رواية الحديث بغير لفظ النبي صلى الله عليه وسلم هل يرد له الحديث أم لا

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي فُصُول كَيْفيَّة النَّقْل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فصل فِي رِوَايَة الحَدِيث بِغَيْر لفظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل يرد لَهُ الحَدِيث أم لَا إِذا رُوِيَ الحَدِيث بِلَفْظ غير لفظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فان لم يسند مُسْنده بل زَاد أَو نقص أَو كَانَ أوضح مِنْهُ أَو أُخْفِي مِنْهُ فانه لَا يجوز ذَلِك لِأَن مَا زَاد على كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ كذب عَلَيْهِ لَا يجوز قبُوله وَمَا نقص عَنهُ فانه إِمَّا أَن ينبىء عَن أَنه رفع حكما قد اثبته فَلَا يجوز قبُوله أَو يكون فِيهِ كتمان لحكم قد أثْبته وَالْكذب والكتمان محظوران وَلَا يجوز الْعُدُول إِلَى لفظ أظهر من لفظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أخْفى مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع ان يتَعَلَّق الْمصلحَة بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام الْخَفي أَو الظَّاهِر أَلا ترى أَنه قد يجوز أَن يكون من الْمصلحَة أَن يعرف الحكم بِاللَّفْظِ الْجَلِيّ تَارَة وبالخفي أَو بِالْقِيَاسِ تَارَة وَإِن سد اللَّفْظ مسد لفظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فان اشتبهت الْحَال فِيهِ حَتَّى يكون مَوضِع اجْتِهَاد لم يجز ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع ان يكون لَو نقل لفظ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى غَيره أَن يكون اجْتِهَاد غَيره فِيهِ خلاف اجْتِهَاده وَإِن لم تشتبه الْحَال فِيهِ نَحْو قَول الْقَائِل جلس وَقعد فانه يجوز الْعُدُول عَن أَحدهمَا إِلَى الآخر وَيقبل الْخَبَر وَهُوَ مَذْهَب الْحسن الْبَصْرِيّ وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ رَحِمهم الله لِأَنَّهُ إِن وَجب نقل الحَدِيث لأجل اللَّفْظ فَقَط دَفعه الْإِجْمَاع وَإِن وَجب لأجل اللَّفْظ وَالْمعْنَى وَجب تِلَاوَة اللَّفْظ وَلَا دَلِيل فِي الْعقل وَلَا فِي الشَّرْع يَقْتَضِي كوننا متعبدين بِتِلَاوَة لفظ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَبَقيَ أَنه يجب نقل حَدِيثه لأجل الْمَعْنى وَهَذَا الْغَرَض حَاصِل وَإِن عدل الرَّاوِي إِلَى لفظ يقوم مقَام لفظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفَارق الْأَذَان وَالتَّشَهُّد لِأَن الشَّرْع اقْتضى كوننا متعبدين بِتِلَاوَة ألفاظها فان قاسوا خطاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على التَّشَهُّد أعوزتهم على صَحِيحَة تجمع بَينهمَا وَلم يكن ذَلِك بِأولى من قِيَاسه على الشَّهَادَة وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نصر الله امرء سمع مَقَالَتي فأداها كَمَا سَمعهَا فَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ وَرب

فصل في الرواية من كتاب

حَامِل فقه لَيْسَ بفقيه لَا يمْنَع من نقل حَدِيثه على الْمَعْنى لِأَن من نقل الْمَعْنى يُقَال إِنَّه قد أدّى كَمَا سمع لِأَنَّهُ يُقَال للمترجم من لُغَة إِلَى لُغَة قد أدّى كَمَا سمع على أَنه لَو منع الْخَبَر من نقل الحَدِيث على الْمَعْنى لَكَانَ قد منع من ذَلِك فِيمَا يشْتَبه وَيجوز أَن يخْتَلف الِاجْتِهَاد فِيهِ وَلِهَذَا قَالَ وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ وَرب حَامِل فقه لَيْسَ بفقيه وَمَا لَا يشْتَبه من الْأَلْفَاظ وَلَا يخْتَلف اجْتِهَاد النَّاس فِي قيام بعضه مقَام بعض يَسْتَوِي فِيهِ النَّاقِص الْفِقْه والكامل الْفِقْه والفقيه وَغير الْفَقِيه وَلِهَذَا يجب أَن يكون النَّاقِل للْحَدِيث على الْمَعْنى من أهل الْعلم ليعلم مَا يشْتَبه الْحَال فِيهِ مِمَّا لَا يشْتَبه فِيهِ فصل فِي الرِّوَايَة من كتاب إِذا روى الرَّاوِي الحَدِيث من كِتَابه فَلهُ أَحْوَال مِنْهَا أَن يعلم أَنه قَرَأَهُ على شَيْخه أَو حَدثهُ بِهِ وَيذكر أَلْفَاظ قِرَاءَته وَوقت ذَلِك فَلَا شُبْهَة فِي جَوَاز رِوَايَته وَالْأَخْذ بهَا وَكَذَلِكَ إِذا علم الرَّاوِي أَنه قَرَأَ جَمِيع مَا فِي الْكتاب أَو حَدثهُ بِهِ الرَّاوِي وَلم يذكر الفاظ الْقِرَاءَة وَلَا وَقت الْقِرَاءَة لِأَنَّهُ عَالم فِي الْحَال بِأَنَّهُ قَرَأَ جَمِيع مَا فِي الْكتاب أَو سَمعه مِمَّن حَدثهُ وَمِنْهَا أَن يعلم أَنه مَا سمع مَا فِي الْكتاب أَو يظنّ ذَلِك أَو يجوز سَمَاعه وَيجوز نَفْيه على سَوَاء وَفِي ذَلِك كُله لَا يجوز لَهُ أَن يحدث بِهِ وَلَا يُؤْخَذ بروايته لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَن يخبر بِمَا يعلم أَنه كَاذِب فِيهِ أَو ظان أَو شَاك وَمِنْهَا أَن لَا يذكر سَمَاعه لما فِي الْكتاب وَلَا قِرَاءَته لَهُ وَلكنه يغلب على ظَنّه سَمَاعه لَهُ أَو قِرَاءَته لما يرَاهُ من خطه فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَن يكون النَّاس قد اخْتلفُوا فِيهِ فَعِنْدَ أبي حنيفه رَحمَه الله لَا يجوز لَهُ أَن يرويهِ وَلَا يجوز الْعَمَل على رِوَايَته لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يَقُول حَدثنِي فلَان وَهُوَ لَا يعلم أَنه حَدثهُ إِذا كَانَ ذَلِك حكما عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قد حَدثهُ كَمَا لَا يجوز مثله فِي الشَّهَادَة وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ يجوز لَهُ الرِّوَايَة وَيجب الْعَمَل عَلَيْهَا لِأَن الصَّحَابَة

كَانَت تعْمل على كتب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْو عَملهَا على كِتَابه إِلَى عَمْرو بن حزم من غير أَن يرويهِ لَهَا راو بل عمِلُوا لأجل الْخط وَأَنه مَنْسُوب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فان ثَبت أَنَّهَا عملت عَلَيْهِ من غير رِوَايَة جَازَ أَن يروي الْإِنْسَان من كِتَابه إِذا غلب على ظَنّه سَمَاعه وَيكون إخْبَاره إِخْبَارًا عَن ظَنّه وَيجوز الْعَمَل عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب القَوْل فِي الْمَرَاسِيل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْخَبَر الْمُرْسل هُوَ أَن يسمع الرجل الحَدِيث من زيد عَن عَمْرو فاذا رَوَاهُ قَالَ قَالَ عَمْرو وأضرب عَن ذكر زيد وَاخْتلف النَّاس فِي الرَّاوِي إِذا فعل ذَلِك وَكَانَ مِمَّن يقبل مُسْنده يقبل مرسله أَبُو حنيفَة وَمَالك وابو هَاشم على كل حَال وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح عنيت بالمتكلمين الَّذين قبلوا الْمَرَاسِيل ابا هَاشم دون من لم يقبل إِلَّا خبر اثْنَيْنِ وَقَالَ فِي الدَّرْس إِن أَبَا عَليّ يَقُول إِذا روى الحَدِيث اثْنَان رَوَاهُ أَحدهمَا عَن رجل بَصرِي لم يسمه وَرَوَاهُ الآخر عَن كُوفِي لم يسمه فانه يقبل وَلم يقبل أهل الظَّاهِر وَطَائِفَة من أَصْحَاب الحَدِيث الْمَرَاسِيل على كل حَال وَقبل قوم مَرَاسِيل من يقبل مُسْنده فِي حَال دون حَال وَهِي إِذا اخْتصَّ بِشُرُوط وَالشَّافِعِيّ اعْتبر أحد شُرُوط مِنْهَا أَن يكون ذَلِك الْخَبَر قد أسْندهُ غير مرسله قَالَ قَاضِي الْقُضَاة هَذَا إِذا لم تقم الْحجَّة باسناد ذَلِك من الْمسند فَأَما إِن قَامَت الْحجَّة باسناده فَالْمُعْتَبر بِهِ دون الْمُرْسل وَمِنْهَا أَن يكون قد أرْسلهُ راو آخر يروي عَن غير شُيُوخ الأول وَمِنْهَا أَن يعضده قَول صَحَابِيّ وَمِنْهَا أَن يعضده قَول أَكثر أهل الْعلم

وَمِنْهَا أَن يكون الْمُرْسل مِمَّن لَا يُرْسل عَمَّن فِيهِ عِلّة من جَهَالَة وَغَيرهَا ثمَّ قَالَ وَمن هَذِه حَاله أحب أَن يقبل مرسله وَلَا أَسْتَطِيع أَن اقول إِن الْحجَّة تثبت بِهِ كثبوتها بالمتصل وَشرط عِيسَى بن ابان فِي قبُول الْمَرَاسِيل أَن يُرْسِلهُ صَحَابِيّ أَو تَابِعِيّ أَو تَابِعِيّ التَّابِعين أَو من أَئِمَّة أهل النَّقْل دون من سوى هَؤُلَاءِ وَاحْتج من قبل الْمَرَاسِيل باشياء مِنْهَا إرْسَال الْمُرْسل مَعَ عَدَالَته يجْرِي مجْرى ذكره من أرسل عَنهُ وَقَوله هُوَ عدل عِنْدِي فِي الدّلَالَة على أَنه قد عدله وَلَو قَالَ ذَلِك لقبل حَدِيثه فَكَذَلِك إِذا أرسل وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن إرْسَاله يجْرِي مجْرى ذكره وتعديله لِأَنَّهُ مَعَ عَدَالَته لَا يستجيز أَن يخبر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا وَله الْإِخْبَار عَنهُ وَلَا يكون لَهُ الْإِخْبَار بذلك إِلَّا وَهُوَ عَالم أَو ظان لِأَن الْخَبَر بِمَا يجوز كَونه ونفيه على سَوَاء قَبِيح وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلْزَام النَّاس عبَادَة أَو إطراح عبَادَة عَنْهُم من غير أَن يعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوجب ذَلِك أَو يَظُنّهُ فَبَان أَن عَدَالَته تَقْتَضِي مَا ذكرنَا وَأما أَن الرَّاوِي إِذا ذكر من رُوِيَ عَنهُ وَقَالَ هُوَ ثِقَة عِنْدِي لزم قبُول خَبره وَإِن لم يذكر أَسبَاب ثقته فَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ بَين اصحاب أبي حنيفَة والشافهي وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي الْجرْح فَعِنْدَ أَصْحَاب ابي حنيفَة لَا يجب أَن يذكر الْإِنْسَان سَبَب الْجرْح وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يصير الْمَجْرُوح مجروحا إِلَّا بِذكر اسباب الْجرْح وَالْأَمر فِي التَّزْكِيَة ظَاهر فان اصحاب الحَدِيث يزكون الرجل من غير أَن يذكرُوا أَسبَاب عَدَالَته وَلِأَن الْإِنْسَان إِنَّمَا يكون ثِقَة زكيا إِذا اجْتنب الْكَبَائِر وَلم يخل بالواجبات فَلَو وَجب ذكر أَعْيَان ذَلِك فِي طول الزَّمَان مَخَافَة أَن يكون فِيهَا مَا لَا تسلم مَعَه عَدَالَة الْإِنْسَان عِنْد السَّامع وَجب مَا يشق احصاؤه بل يتَعَذَّر إِن قيل إِنَّمَا لم يجب على الْمُزَكي ذكر اسباب الْعَدَالَة لهَذِهِ الْمَشَقَّة الَّتِي ذكرتموها وَذَلِكَ غير قَائِم فِي ذكر الْمخبر قيل هَذِه الْمَشَقَّة إِن ثَبت مَعهَا الظَّن لعدالة من زَكَّاهُ الْمُزَكي فَهُوَ غرضنا وَلَيْسَ سَبَب هَذَا الظَّن هَذِه الْمَشَقَّة وَإِنَّمَا سَببه عَدَالَة الْمُزَكي وَهَذَا هُوَ الَّذِي قُلْنَاهُ وَلَو لم تثبت مَعهَا عَدَالَته لم يجز الحكم بتزكيته لأجل الْمَشَقَّة إِذْ كَانَ الظَّن لعدالته غير حَاصِل فان قيل إِنَّمَا لم يجب على الْمُزَكي ذكر أَسبَاب عَدَالَة من زَكَاة

لِأَنَّهُ يخبر عَن ظَنّه وَأما الْمخبر فانما يخبر عَن غَيره فَوَجَبَ ذكره قيل وَقد يكون الْإِنْسَان عدلا عِنْد الْمُزَكي بِأَن يُخبرهُ غَيره عَن عَدَالَته فَهُوَ كالمخبر وَأَيْضًا فان هَذَا فرق لَا يُؤثر فِي مَوضِع الْجمع وَذَلِكَ أَن الْمخبر إِنَّمَا أخبر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَطَرِيقه إِلَى ذَلِك غَيره كَمَا أَن ظن الْمُزَكي لعدالة من زَكَاة طَريقَة مَعْرفَته بِأَسْبَاب عَدَالَته فَكَمَا لم يجب ذكر ذَلِك لم يجب ذكر الْمخبر فان قيل يلزمكم على مَا ذكرْتُمْ أَن يجْرِي إضراب شُهُود الْفَرْع مَعَ عدالتهم عَن ذكر شُهُود الاصل مجْرى أَن يذكروهم ويعدلوهم وَأَن يلْزم الْحَاكِم الحكم بِشَهَادَتِهِم وَإِن لم يذكرُوا شُهُود الأَصْل كَمَا يلْزمه إِذا ذكروهم وعدلوهم الْجَواب إِن إضرابهم عَن ذكر شُهُود الأَصْل يجْرِي مجْرى مَا ذكرْتُمْ وَلَو تركنَا وَهَذَا الأَصْل لحكمنا بِشَهَادَتِهِم وَإِن لم يذكرُوا شُهُود الأَصْل لَكِن الدّلَالَة منعت من ذَلِك وَلَيْسَ يجب إِذا منعت الدّلَالَة من ذَلِك أَن يمْتَنع أَن يحكم بأخبار الْمَرَاسِيل كَمَا أَن الدّلَالَة قد دلّت على أَن من شَرط الحكم بِشَهَادَة شُهُود الْفَرْع أَن يحملهم شُهُود الأَصْل الشَّهَادَة فاعتبرنا قيام الدّلَالَة على ذَلِك وَلم نعتبره فِي غير هَذَا الْموضع لِأَنَّهُ لَو لم تقم الدّلَالَة على ذَلِك لأجرينا الشَّهَادَة على الشَّهَادَة مجْرى الشَّهَادَة على الْإِقْرَار وَلَا يشرط فِيهِ أَن يحملهم الشُّهُود الشَّهَادَة كَمَا لَا يشرط أَن يحملهم الْمقر الشَّهَادَة على إِقْرَاره إِن قيل أَلَيْسَ لَو ثَبت عَدَالَة الشُّهُود عِنْد الْحَاكِم لم يسْقط النّظر فِي عدالتهم عَن حَاكم آخر فَهَلا كَانَ ثُبُوت عَدَالَة من أرْسلهُ الْمخبر عِنْده لَا يسْقط عَن غَيره النّظر فِي عَدَالَته قيل فَيجب لَو ذكر الْمخبر من أخبر عَنهُ وعدله أَن لَا يسْقط عَن السَّامع للْخَبَر النّظر فِي عَدَالَته كَمَا لم يسْقط عَن القَاضِي الثَّانِي النّظر فِي عَدَالَة الشُّهُود وَإِن ذكرُوا عِنْده فَلَمَّا لم يجز ذَلِك علمنَا مُفَارقَة الشَّهَادَة للْخَبَر وَمِنْهَا إِجْمَاع الصَّحَابَة حُكيَ عَن الْبَراء بن عَازِب أَنه قَالَ لَيْسَ كل مَا حَدَّثْنَاكُمْ بِهِ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمعناه مِنْهُ غير أَنا لَا نكذب وَرُوِيَ أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من أصبح جنبا فَلَا صَوْم لَهُ فَلَمَّا سُئِلَ عَن ذَلِك ذكر أَن الْفضل بن عَبَّاس أخبرهُ بذلك وَرُوِيَ ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم =

أَنه قَالَ لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة ثمَّ أسْندهُ إِلَى أُسَامَة وَرُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا زَالَ يُلَبِّي حَتَّى رمي جَمْرَة الْعقبَة ثمَّ اسند ذَلِك إِلَى الْفضل بن عَبَّاس فَلَو لم يجز الْعَمَل على الْمَرَاسِيل لَكَانَ الْمُرْسل إِذا لم يبين أَنه قد أرسل الحَدِيث جرى مجْرى أَن يروي عَن فَاسق أَو كَافِر على وَجه يُوهم أَنه عدل وَلَا يبين أَنه كَافِر فِي أَن ذَلِك مُنكر وَلَو كَانَ مُنْكرا لأنكروه وَلما اجْتَمعُوا على ترك إِنْكَاره وَمَعْلُوم أَن من أرسل وَمن لم يُرْسل لم يُنكر ذَلِك إِن قيل أَلَيْسَ قد كَانَ عَليّ ابْن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام يسْتَحْلف من يُخبرهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو سَمعه من غَيره عَنهُ وَيجوز أَن يكون حلفه هَل سمع الحَدِيث فِي الْجُمْلَة أم لَا على أَن استحلافه إِنَّمَا كَانَ استظهارا لِأَن أحدا لَا يشرط ذَلِك فِي حَدِيث الثِّقَة وَلِهَذَا لم يسْتَحْلف أَبَا بكر عَلَيْهِ السَّلَام على أَن ذَلِك لَا يعْتَرض دليلنا لِأَن دليلنا هُوَ أَنهم لما عرفُوا أَن بَعضهم أرسل لم ينكروا عَلَيْهِ وَلم يرو أَن عليا عَلَيْهِ السَّلَام أنكر عَلَيْهِم إِن قيل مَا ذكرتموه من الْأَخْبَار الدَّالَّة على أَنهم أرْسلُوا هِيَ أَخْبَار آحَاد غير مؤدية إِلَى الْعلم فَالْجَوَاب ان كل وَاحِد مِنْهَا وَإِن كَانَ خبر وَاحِد فان مجموعها متواتر وَلقَائِل أَن يَقُول إِن مَا ذكرتموه أَخْبَار يسيرَة وَلَا يصير مَعْنَاهَا متواتر بِهَذَا الْقدر أَلا ترى أَن الْخَبَر الْوَاحِد لَو رَوَاهُ ثَلَاثَة أَو أَرْبَعَة لم يكن متواترا فالأخبار الثَّلَاثَة وَالْأَرْبَعَة أولى أَن لَا يكون مَعْنَاهَا متواترا فَلَا يَصح الِاحْتِجَاج بهَا إِلَّا ان يُقَال إِنَّه يجوز أَن يحْتَج بأخبار الْآحَاد فِي إِثْبَات مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْعَمَل دون الْعلم وَمِنْهَا أَنه لَو لم يقبل الْخَبَر الْمُرْسل لما قبل إِذا جَوَّزنَا كَونه مُرْسلا حَتَّى إِذا قَالَ الرَّاوِي عَن فلَان لم يقبل حَدِيثه لجَوَاز أَن يكون مَا سمع مِنْهُ لكنه أخبر عَنهُ وَلقَائِل أَن يَقُول لَا يقبل الحَدِيث إِلَّا أَن يظنّ أَنه غير مُرْسل نَحْو أَن يَقُول حَدثنَا فلَان أَو سَمِعت فلَانا أَو عَن فلَان وَيكون قد أَطَالَ صحبته لِأَن ذَلِك أَمارَة تدل على أَنه قد سَمعه مِنْهُ وَمَتى لم يعلم أَنه صَحبه لم يكن قَوْله عَن فلَان أَمارَة على أَنه سَمعه مِنْهُ فَلَا يقبل حَدِيثه وَاحْتج من لم يقبل أَخْبَار الْمَرَاسِيل بأَشْيَاء

مِنْهَا أَن ترك الرَّاوِي لذكر من حَدثهُ يتَضَمَّن جَهَالَة عينه وَصفته فاذا كَانَ لَو ذكر اسْمه فَعرف السَّامع عينه وَلم يعرف عَدَالَته لم يجز لَهُ الْعَمَل بحَديثه فَأولى أَن لَا يجوز لَهُ قبُوله إِذا لم يعرف عينه وَلَا عَدَالَته وَالدَّلِيل على أَن ترك ذكره للراوي يتَضَمَّن جَهَالَة عَدَالَته أَن عَدَالَته إِن عرفناها بِذكرِهِ فالمرسل مَا ذكره وَإِن عرفناها بِأَن الثِّقَة لَا يُرْسل إِلَّا عَن ثِقَة فَهَذَا لَا يَصح لِأَن كثيرا من الثِّقَات قد أرْسلُوا عَمَّن لَيْسَ بِثِقَة وَلِأَن الْإِنْسَان قد يكون ثِقَة عِنْد إِنْسَان وَلَا يكون ثِقَة عِنْد إِنْسَان آخر فَلَا يمْتَنع لَو عرفنَا من لم يذكرهُ الْمُرْسل لما كَانَ ثِقَة عندنَا وَالْجَوَاب إِن إرْسَال الْمُرْسل لَا يتَضَمَّن جَهَالَة صفة من لم يذكرهُ لِأَن نَفْيه يشْهد بعدالة من أرسل عَنهُ وَقَوْلهمْ إِن الْعدْل قد يُرْسل عَمَّن لَيْسَ بِثِقَة لَا يقْدَح فِيمَا قُلْنَاهُ لِأَن من أرسل عَمَّن لَيْسَ بِثِقَة إِن كَانَ قد عرف أَنه غير ثِقَة فَذَلِك يقْدَح فِي عَدَالَته كَمَا أَنه إِذا ذكره وَقَالَ هُوَ ثِقَة عِنْدِي وَعلمنَا أَنه لم يكن عِنْده ثِقَة فانه يقْدَح فِي عَدَالَته وَلَا يقْدَح ذَلِك فِي أَن الظَّاهِر وَالْغَالِب مِمَّن ظَاهره الْعَدَالَة أَنه لَا يزكّى من يعْتَقد أَنه غير زكي كَذَلِك الْغَالِب مِمَّن هُوَ ثِقَة فِي الظَّاهِر أَنه لَا يُرْسل إِلَّا عَمَّن هُوَ ثِقَة عِنْده وَالْغَالِب لَا يَزُول بالنادر وَإِن كَانَ قد ارسل عَنهُ وَهُوَ ثِقَة عِنْده وَبَان لنا انه لَيْسَ بِثِقَة فَذَلِك لَا يقْدَح أَيْضا فِي أَن الظَّاهِر من كَونه ثِقَة عِنْده أَن يكون ثِقَة فِي نَفسه وَإِن جَازَ خِلَافه لِأَن الْغَالِب لَا يبطل بتجويز خِلَافه كَمَا أَنه لَو قَالَ هُوَ عدل عِنْدِي جَازَ لَو فحصنا نَحن عَنهُ أَن لَا يكون عدلا عندنَا وَلَا يمْتَنع ذَلِك من أَن الظَّاهِر من تزكيته أَنه زكي فِي نَفسه وَأَنه لَا يجب علينا الفحس عَنهُ وَقَوْلهمْ إِذا لم يجز قبُول الْخَبَر إِذا سمى الْمخبر من سمع مِنْهُ مَتى لم يعرف عَدَالَته فبأن لَا يجوز ذَلِك إِذا لم يعرف عينه وَلَا عَدَالَته أولى فَالْجَوَاب عَنهُ أَن مِمَّن يقبل الْمَرَاسِيل من يَقُول إِذا سمى الرَّاوِي من روى عَنهُ وَلم يقل هُوَ عدل عِنْدِي فقد زَكَّاهُ وَيجب قبُول حَدِيثه وَهَذَا يلْزم عَلَيْهِ أَن يسْقط النّظر فِي الْمُحدثين مَعَ كَثْرَة الْفساد فِي النَّاس إِذا ذكر الْمُحدث من روى عَنهُ لِأَن عَدَالَته تَقْتَضِي ثِقَة من سمع مِنْهُ وثقة من سمع مِنْهُ تَقْتَضِي عَدَالَة من سمع

مِنْهُ هَكَذَا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّه إِذا ذكر اسْمه لم يسْقط عَنَّا النّظر فِي عَدَالَته وَإِذا لم يذكر اسْمه سقط النّظر فِي عَدَالَته لِأَنَّهُ إِذا لم يذكر عينه فَقَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد حكم بِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَلِك وألزمنا تِلْكَ الْعِبَادَة وَلَيْسَ لَهُ أَن يحكم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَيْء إِلَّا وَهُوَ عَالم أَو ظان لَهُ وَلَا يظنّ ذَلِك إِلَّا والراوي ثِقَة عِنْده وَلِأَنَّهُ لما لم يذكر الرَّاوِي لم يمكنا من النّظر فِي عَدَالَته وَإِذا ذكر الرَّاوِي الَّذِي سمع مِنْهُ الحَدِيث فانه لم يحكم بِهِ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا منعنَا من النّظر فِي عَدَالَته بل قد مكننا من النّظر فِي ذَلِك إِذْ كَانَ قد ذكره وَمِنْهَا أَن الشَّاهِدين إِذا كَانَا عَدْلَيْنِ لم يجز أَن يشهدَا على شَهَادَة شَاهِدين يخفيان ذكرهمَا وهما غير عَدْلَيْنِ عِنْدهمَا وَمَعَ ذَلِك لم يجر إضرابهما عَن ذكر شُهُود الأَصْل مجْرى ذكرهمَا وتزكيتهما وَالْجَوَاب إِن عَدَالَة الشَّاهِدين تَقْتَضِي غَلَبَة الظَّن بِثِقَة من شَهدا على شَهَادَته إِذا لم يذكراه فقد التزمنا فِي الشَّهَادَة مثل مَا قُلْنَاهُ فِي الْخَبَر وَلَو تركنَا وَهَذَا الأَصْل لحكمنا بِالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَة من غير أَن نذْكر شُهُود الأَصْل على مَا تقدم بَيَانه فان قيل فيلزمكم أَن لَا تحكموا بالْخبر الْمُرْسل وَإِن كَانَ غلب على ظنكم عَدَالَة من أخبر عَنهُ الْمخبر كَمَا لم تحكموا بِشَهَادَة شُهُود فِي الْفَرْع وَإِن غلب على ظنكم عَدَالَة شُهُود الأَصْل وَالْعلَّة الجامعة بَينهمَا أَن كل وَاحِد من الشُّهُود والمخبرين يسندون إِلَى غَيرهم مَا يلزمون بِهِ حكما للْغَيْر فَلم يلْزم الحكم إِلَّا بِذكر من يسندون إِلَيْهِ قيل لسنا نعلم أَن الْعلَّة مَا ذكرْتُمْ وَلَيْسَ يجوز أَن يتَوَصَّل إِلَى الْعلم بعلة غير مَعْلُومَة وَلَا يمْتَنع أَن يكون قد اعْتبر فِي الشَّهَادَة ضرب من الِاحْتِيَاط فَلم يقنع فِيهَا إِلَّا بِذكر شُهُود الأَصْل كَمَا اعْتبر فِيهَا الْحُرِّيَّة وَالْعدَد وَأَن يحمل شُهُود الأَصْل الشَّهَادَة شُهُود الْفَرْع وَقد قَالَ الشَّيْخ ابو عبد الله رَحمَه الله إِن الْقيَاس يمْنَع من الحكم بِالشَّهَادَةِ فَلم يجز قِيَاس الْمَرَاسِيل على ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يجوز الْقيَاس على الْمَخْصُوص من جملَة الْقيَاس والمخالف لَا يسلم قَوْله إِن الحكم بِالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَة بِخِلَاف قِيَاس الاصول وَيسلم أَنه لَا يجوز الْقيَاس على الْمَخْصُوص

من جملَة الْقيَاس على أَن من يقيس الْمَرَاسِيل على الشَّهَادَة على الشَّهَادَة إِنَّمَا يقيس عَلَيْهَا فِي الْمَنْع لَا فِي جَوَاز الحكم فَلم يكن قائسا عَلَيْهَا من الْوَجْه الَّذِي منع مِنْهُ الْقيَاس وَقد فرق بَين الْمَرَاسِيل وَبَين الشَّهَادَة على الشَّهَادَة فَقيل إِن الْحَاكِم إِنَّمَا يحكم بِشَهَادَة شُهُود الأَصْل فَلهَذَا وَجب ذكرهم ولمخالفهم أَن يَقُول وَالْحكم بِلُزُوم الْعِبَادَة إِنَّمَا يَقع بِخَبَر الأول فَيجب ذكره فان قَالُوا كَيفَ نقُول ذَلِك وَعِنْدنَا أَنه لَا يجب ذكر الْمخبر الأول قيل إِنَّكُم تعلقون لُزُوم الْعِبَادَة بالمخبر الأول وَلِهَذَا تعتبرون عَدَالَته وتستدلون عَلَيْهِمَا بارسال الْمخبر الثَّانِي مَعَ عَدَالَته على أَنه إِن كَانَ لُزُوم الْعِبَادَة لَا يتَعَلَّق بالمخبر الأول لِأَنَّهُ لَا يجب ذكره فقد صَار ذَلِك تَابعا لكَونه غير وَاجِب ذكره فقد فرقتم بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ بِمَا هُوَ مَبْنِيّ على مَوضِع الْخلاف لِأَن مَوضِع الْخلاف هُوَ أَنه لَا يجب ذكر الْمخبر الأول وَكَون الْمخبر الأول لَا يتَعَلَّق بِهِ الحكم وَالْعِبَادَة تَابع لذَلِك وَبِه فرقتم بَين الشَّهَادَة وَالْخَبَر وَقد فرق بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ أَيْضا بِأَن شُهُود الْفَرْع وكلاء شُهُود الأَصْل لِأَنَّهُ لَا يجوز لَهُم أَن يشْهدُوا على شَهَادَتهم إِذا سمعوهم يشْهدُونَ حَتَّى يحملوهم الشَّهَادَة كَمَا لَا يجوز للْوَكِيل التَّصَرُّف إِلَّا بعد أَن يؤكله المؤكل وَهَذَا فرق غير مُؤثر لِأَن المحتج جمع بَين الشَّهَادَة وَالْخَبَر بِالْعِلَّةِ الَّتِي ذكرهَا خَصمه فِي الْمَرَاسِيل وَهِي أَن عَدَالَة الرَّاوِي تَقْتَضِي أَنه مَا أرسل الحَدِيث إِلَّا وَهُوَ على غَايَة الثِّقَة بعدالة من أخبر عَنهُ وَهَذِه الْعَدَالَة قَائِمَة فِي الشُّهُود على مَا بَيناهُ وَمِنْهَا أَنه لَو جَازَ الْعَمَل على الْمَرَاسِيل لم يكن لذكر أَسمَاء الروَاة والفحص عَن عدالتهم معنى وَالْجَوَاب أَن لَهُ معنى من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه إِذا ذكرهم الرَّاوِي أمكن السَّامع الفحص عَن عدالتهم فَيكون لظَنّه لعدالتهم آكِد من ظَنّه لعدالتهم لأجل إرْسَال الْمُرْسل لِأَن طمأنينة الْإِنْسَان إِلَى فحصه وخبرته أقوى من طمأنينته إِلَى خبر غَيره وَهَذَا الْجَواب يَقْتَضِي تَرْجِيح الْمسند على الْمُرْسل وَالْآخر أَن الرَّاوِي للْحَدِيث قد يشْتَبه عَلَيْهِ حَال من أخبرهُ فَلَا يقدم على تزكيته وَلَا على جرحه فيذكر ليفحص غَيره عَنهُ

وَمِنْهَا قَوْلهم لَو وَجب الْعَمَل بالمراسيل للزمنا فِي عصرنا هَذَا أَن نعمل على قَول الْإِنْسَان قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَا وَكَذَا وَإِن لم يذكر الروَاة الْجَواب إِن ذكر الْخَبَر إِن كَانَ مَعْرُوفا فِي جملَة الْأَحَادِيث فقد عرفت رُوَاته وَإِن لم يكن مَعْرُوفا لم يقبل لَا لِأَنَّهُ مُرْسل بل لِأَن الْأَحَادِيث قد ضبطت وجمعت فَمَا لَا يعرفهُ أَصْحَاب الحَدِيث مِنْهَا فِي وقتنا هُوَ كذب فان كَانَ الْعَصْر الَّذِي أرسل فِيهِ الرَّاوِي عصرا لم يضْبط فِيهِ السّنَن قبل مرسله فَأَما قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله إِن الْمُرْسل يقبل إِذا أسْندهُ الْمُرْسل أَو أسْندهُ غَيره فان أَرَادَ أَنه يقبل وَالْحجّة هُوَ الْخَبَر الْمسند فَصَحِيح على أَصله وَلَا تَأْثِير للمرسل وَإِن أَرَادَ أَنه يصير الْمُرْسل حجَّة فَلَيْسَ بِصَحِيح لِأَن مَا لَيْسَ بِحجَّة لَا يصير حجَّة إِذا اقترنت بِهِ حجَّة كَمَا أَن خبر الْوَاحِد لَا يصير طَرِيقا إِلَى الْعلم وَإِن عضدته آيَة أَو خبر متواتر وَأما قَوْله إِنَّه يعْمل على خبر الْمُرْسل إِذا أرْسلهُ غَيره مِمَّن يروي عَن غير مشائخه فَغير صَحِيح لِأَنَّهُ لَيْسَ يجوز أَن يَنْضَم مَا لَيْسَ بِحجَّة إِلَى مَا لَيْسَ بِحجَّة فَيصير حجَّة إِذْ كل وَاحِدَة من الرِّوَايَتَيْنِ مُرْسلَة وَكَذَلِكَ قَوْله إِذا عضد الْمُرْسل قَول بعض الصَّحَابَة أَو فَتْوَى أَكثر أهل الْعلم لِأَن ذَلِك غير حجَّة وَلَا يصير الْمُرْسل بِهِ حجَّة فان جعل قَول بعض الصَّحَابَة حجَّة فَالْكَلَام عَلَيْهِ مَا تقدم وَقد حكى بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي عَنهُ أَنه خص مَرَاسِيل الصَّحَابَة بِالْقبُولِ وَحكى قَاضِي الْقُضَاة عَنهُ أَنه قَالَ إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَا وَكَذَا قبلت ذَلِك إِلَّا أَن أعلم أَنه أرْسلهُ وَالدَّلِيل على بطلَان تَخْصِيص الصَّحَابَة بذلك أَن مَا دلّ على قبُول الْمَرَاسِيل يشْتَمل من كَانَ عدلا من الروَاة صحابيا كَانَ أَو غَيره وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ لَا يدل على أَن غَيرهم لَا يقبل مرسله كَمَا لَا يدل على أَن غَيرهم لَا يقبل مُسْنده وَقَوْلهمْ إِن الصَّحَابِيّ لَا يُطلق القَوْل بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كَذَا وَكَذَا إِلَّا وَقد سَمعه أَو حَدثهُ عَنهُ الثِّقَة فانه يُقَال لَهُم وَلم وَجب ذَلِك فيهم

فصل في الحديث إذا أرسل مرة وأسند مرة اخرى أو ألحق بالنبي مرة وجعل موقوفا على صحابي مرة

فان قَالُوا لعدالتهم قيل فَهَذِهِ الْعلَّة حَاصِلَة فِي غَيرهم من الْعُدُول فان قَالَ الظَّاهِر من قَول الصَّحَابِيّ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَا وَكَذَا أَنه سَمعه مِنْهُ قيل فقد قبلتموه على أَنه مُسْند لَا على أَنه مُرْسل على أَنه يُمكن أَن يَقُول الصَّحَابِيّ بَلغنِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كَذَا وَكَذَا أَو سَمِعت أَنه قَالَ كَذَا فيتصور الْمَسْأَلَة فِي هَذَا الْموضع فصل فِي الحَدِيث إِذا أرسل مرّة وَأسْندَ مرّة اخرى أَو ألحق بِالنَّبِيِّ مرّة وَجعل مَوْقُوفا على صَحَابِيّ مرّة إِذا أسْند الرَّاوِي الحَدِيث وأرسله غَيره فَلَا شُبْهَة فِي قبُول من يقبل الْمَرَاسِيل لَهُ وَمن لَا يقبلهَا أَيْضا بجعله مُسْندًا لِأَن عَدَالَة الْمسند تَقْتَضِي ذَلِك إِذا لم يعارضها معَارض وَلَيْسَ فِي إرْسَال الْمُرْسل مَا يُعَارض إِسْنَاده لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون إِنَّمَا أرسل غَيره الْخَبَر لِأَنَّهُ سَمعه مُرْسلا وسَمعه هَذَا مُسْندًا أَو لِأَنَّهُ سَمعه الْمُرْسل مُسْندًا ثمَّ نسي رَاوِيه بِعَيْنِه وَعلم ثقته فِي الْجُمْلَة فَأرْسلهُ لهَذَا الْوَجْه أَو أرْسلهُ لمعرفته بِثِقَة من رَوَاهُ بِعَيْنِه وَأما إِذا أرْسلهُ هُوَ فِي وَقت آخر فان ذَلِك لَا يمْنَع من جعله مُسْندًا أَيْضا لِأَنَّهُ يجوز أَن يُرْسِلهُ فِي وَقت آخر لهَذِهِ الْأُمُور وَأما إِذا وصل الرَّاوِي الحَدِيث بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَوَقفه الآخر على صَحَابِيّ فانه يَجْعَل مُتَّصِلا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لجَوَاز أَن يكون بعض الصَّحَابَة سمع ذَلِك الْخَبَر من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَوَاهُ مرّة عَنهُ وَذكره مرّة اخرى عَن نَفسه على سَبِيل الْفَتْوَى فَسَمعهُ بعض النَّاس يسْندهُ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسَمعه الآخر يُفْتِي بِهِ عَن نَفسه فَرَوَاهُ كل وَاحِد مِنْهُمَا على مَا سمع وَيجوز أَن يكون أحد الراويين سمع الصَّحَابِيّ يسند الْخَبَر إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ نسي أَنه أسْندهُ إِلَيْهِ وتوهم أَنه ذكره عَن نَفسه فَجعله مَوْقُوفا عَلَيْهِ فَأَما إِذا وصل الرَّاوِي الحَدِيث بِالنَّبِيِّ مرّة وَجعله هُوَ مَوْقُوفا على بعض

فصل في التدليس

الصَّحَابَة مرّة فانه يَجْعَل أَيْضا مُتَّصِلا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لجَوَاز أَن يكون سَمعه من الصَّحَابِيّ تَارَة عَن نَفسه وَتارَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيجوز أَن يكون سَمعه مُتَّصِلا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ نسي أَنه سَمعه مُتَّصِلا فَرَوَاهُ مَوْقُوفا فان كَانَ الرَّاوِي وَقفه وأرسله زَمَانا طَويلا ثمَّ أسْندهُ أَو وَصله بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فانه يبعد أَن ينساه هَذَا الزَّمَان الطَّوِيل ثمَّ يذكرهُ إِلَّا أَن يكون عِنْده كتاب يرجع إِلَيْهِ فيذكر بِهِ مَا ينسيه الزَّمَان الطَّوِيل فصل فِي التَّدْلِيس إِذا روى الرَّاوِي الْخَبَر عَن رجل يعرف باسم فَلم يذكرهُ بذلك الِاسْم وَذكره باسم لَا يعرف بِهِ فان كَانَ فعل ذَلِك لضَعْفه وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْل أَن يقبل حَدِيثه فقد غش النَّاس وخانهم وَذَلِكَ قَادِح فِي الظَّن لأمانته فِيمَا يرويهِ وَلَا يقبل حَدِيثه وَإِن كَانَ فعل ذَلِك لصِغَر سنّ من روى عَنهُ لَا لِأَنَّهُ غير ثِقَة فان من يَقُول ظَاهر الْإِسْلَام الْعَدَالَة يقبل هَذَا الحَدِيث وَمن يَقُول لَا بُد من فحص عَن الْعَدَالَة بعد الْمعرفَة باسلام الرَّاوِي فَمن لم يقبل الْمَرَاسِيل من هَؤُلَاءِ يجب أَن لَا يقبل ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يتَمَكَّن من جَهله بِعَيْنِه أَن يفحص عَن عَدَالَته كَمَا لَا يتَمَكَّن ذَلِك فِي الْمُرْسل وَمن يقبل الْمَرَاسِيل يلْزمه قبُوله لِأَن عَدَالَة الرَّاوِي تَقْتَضِي أَنه مَا ترك ذكره بِالِاسْمِ الْمَعْرُوف وَمنع بذلك من الفحص عَن عَدَالَته إِلَّا وَهُوَ عدل ثِقَة فَجرى مجْرى تعديله بالتصريح - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي فُصُول مَا يرجع إِلَى الْمخبر عَنهُ مِمَّا يُؤثر فِي الْخَبَر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فصل فِي الْخَبَر إِذا كَانَ مُقْتَضَاهُ بِخِلَاف مُقْتَضى الْعقل اعْلَم أَن الْعقل إِذا منع من الشَّيْء فإمَّا أَن يمْنَع مِنْهُ بِشَرْط أَو بِغَيْر شَرط فان منع مِنْهُ بِشَرْط نَحْو إيلام الْحَيَوَان إِذا كَانَ مَحْضا لَا نفع فِيهِ فانه يقبل

فصل في خبر الواحد إذا رفع مقتضى الكتاب أو سنة متواترة

خبر الْوَاحِد باباحته وَيعلم أَنه غير مَحْض وَأَنه فِيهِ مَنْفَعَة وَإِن منع الْعقل من الشَّيْء بِغَيْر شَرط نَحْو مَنعه من حسن تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق فَمَتَى ورد خبر بِخِلَاف ذَلِك فَإِن أمكن تَأْوِيله من غير تعسف جَوَّزنَا أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه وعنى التَّأْوِيل الصَّحِيح وَإِن لم يُمكن تَأْوِيله إِلَّا بتعسف لم يجز أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه على ذَلِك الْوَجْه لِأَنَّهُ لَو جَازَ التَّأْوِيل مَعَ التعسف بَطل التَّنَاقُض من الْكَلَام كُله وَيجب فِيمَا لَا يُمكن تَأْوِيله الْقطع على ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقلهُ وَإِن كَانَ قَالَه فَإِنَّمَا قَالَ حِكَايَة عَن الْغَيْر أَو مَعَ زِيَادَة أَو نُقْصَان يخرج بهما من الإحالة وَإِنَّمَا لم يقبل ظَاهر الْخَبَر فِي مُخَالفَة مُقْتَضى الْعقل لأَنا قد علمنَا بِالْعقلِ على الْإِطْلَاق أَن الله عز وَجل لَا يُكَلف مَا لَا يُطَاق وَأَن ذَلِك قَبِيح فَلَو قبلنَا الْخَبَر فِي خِلَافه لم يخل إِمَّا أَن نعتقد صدق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك فيجتمع لنا صدق النقيضين أَو لَا نصدقه فنعدل عَن مَدْلُول المعجز وَذَلِكَ محَال فصل فِي خبر الْوَاحِد إِذا رفع مُقْتَضى الْكتاب أَو سنة متواترة اعْلَم أَن خبر الْوَاحِد إِنَّمَا يكون رَافعا للْكتاب إِذا نفى أَحدهمَا مَا اثبته الآخر على الْحَد الَّذِي أثْبته أَو أثبت أَحدهمَا ضد مَا أثْبته الآخر على الْحَد الَّذِي أثْبته فَالْأول نَحْو أَن يَقُول فِي أَحدهمَا ليصل فلَان فِي الْوَقْت الْفُلَانِيّ فِي الْمَكَان الْفُلَانِيّ على الْوَجْه الْفُلَانِيّ وَينْهى فِي الآخر عَن هَذِه الصَّلَاة على هَذَا الْحَد وَالثَّانِي أَن يامر بِتِلْكَ الصَّلَاة فِي مَكَان آخر فِي ذَلِك الْوَقْت بِعَيْنِه فان كَانَ الْخَبَر يُنَافِي الْكتاب من غير نسخ لم يجز قبُوله لأَنا قد علمنَا أَن الله تَعَالَى قد تكلم بِالْآيَةِ وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد تكلم بِمَا تَوَاتر من نَقله عَنهُ فَلَو أَخذنَا بِخَبَر الْوَاحِد لَكنا قد تركنَا بِالْجُمْلَةِ مَا قد علمنَا أَن الله عز وَجل قَالَه وعدلنا إِلَى مَا لَا نعلم أَنه صدق إِن قيل هلا قُلْتُمْ إِن الله سُبْحَانَهُ أَرَادَ بِالْآيَةِ مقتضاها بِشَرْط أَن لَا يعارضها خبر وَاحِد قيل فَهُوَ عَالم بمعارضة خبر الْوَاحِد لَهُ فَلَا يجوز هَذَا

فصل في الحكم إذا اقتضى عموم الكتاب فيه خلاف ما يقتضيه خبر الواحد

الإشراط لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يَأْمر بِشَرْط وَيجب الْقطع على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقل ذَلِك الْخَبَر أَو قَالَه على سَبِيل الْحِكَايَة عَن الْغَيْر أَو مَعَ زِيَادَة أَو نُقْصَان ينفيان الْمُعَارضَة وَكَذَلِكَ إِذا عَارض الْإِجْمَاع خبر وَاحِد فان أمكن تَأْوِيل الْخَبَر مَعَ الْآيَة على وَجه النّسخ فالعقل يجوز النّسخ كالتخصيص وَعند أَصْحَابنَا أَن الشَّرْع منع من النّسخ بِهِ وَذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَنه يظنّ أَن بَين عِيسَى بن أبان وَبَين الشَّافِعِي رحمهمَا الله خلافًا فِي قبُول أَخْبَار الْآحَاد إِذا خَالَفت ظَاهر الْكتاب وَقَالَ وَيُشبه أَن يكون الْخلاف بَينهمَا فِي عرض خبر الْوَاحِد على الْكتاب إِذا تكاملت شَرَائِطه فَعِنْدَ الشَّافِعِي أَنه لَا يعرض عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يكمل شَرَائِطه إِلَّا وَهُوَ غير مُخَالف للْكتاب وَعند عِيسَى بن أبان أَنه يجب عرضه عَلَيْهِ حَتَّى يعْمل عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمارَة فَيجوز أَن يخطىء وَيجوز أَن يُصِيب فَلَا يمْتَنع أَن يُخَالف الْكتاب فَلَا يعلم إِذن تكامله شَرَائِطه إِلَّا إِذا علم أَنه لَا يُعَارض الْكتاب وَالْكَلَام فِيمَا يكون نسخا وَمَا لَا يكون نسخا وَفِي الزِّيَادَة هَل هِيَ نسخ أم لَا قد مضى فِي النَّاسِخ والمنسوخ وَلَا شُبْهَة فِي أَن النَّاسِخ من حَقه أَن يكون غير مُقَارن فان علم أَن خبر الْوَاحِد الرافع لبَعض حكم الْآيَة إِمَّا بِالزِّيَادَةِ أَو بغَيْرهَا مُقَارن لم يكن نسخا وَإِن علم أَنه غير مُقَارن لم يقبل وَإِن شكّ فِيهِ قبل عِنْد قَاضِي الْقُضَاة لِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهَا رفعت بعض أَحْكَام الْقُرْآن لأخبار الْآحَاد وَلم تسْأَل هَل كَانَت مُقَارنَة أم لَا فَأَما مُعَارضَة أقاويل أَكثر الصَّحَابَة فَلَا يمْنَع من قبُوله لِأَن قَول أَكْثَرهم لَيْسَ بِحجَّة فصل فِي الحكم إِذا اقْتضى عُمُوم الْكتاب فِيهِ خلاف مَا يَقْتَضِيهِ خبر الْوَاحِد اخْتلف مثبتو التَّعَبُّد بِخَبَر الْوَاحِد فِي جَوَاز تَخْصِيص الْقُرْآن وَالسّنة المتواترة فَمنع قوم من ذَلِك على كل حَال وَأَجَازَهُ مُعظم الْفُقَهَاء على كل حَال وَمنع مِنْهُ قوم فِي حَال دون حَال فَقَالَ عِيسَى بن أبان إِذا دخلهما التَّخْصِيص من

وَجه جَازَ تخصيصهما بِخَبَر الْوَاحِد لِأَنَّهُمَا يصيران مجملين ومجازين بالتخصيص الأول وَإِذا لم يدخلهما التَّخْصِيص من وَجه آخر لم يجز تخصيصهما وَشرط قوم فِي جَوَاز تخصيصهما بأخبار الْآحَاد أَن يكون التَّخْصِيص قد دخلهما بِدَلِيل مُنْفَصِل وَالدَّلِيل على تَخْصِيص الْقُرْآن بذلك أَن خبر الْوَاحِد يَقْتَضِي الظَّن وَالْعقل يَقْتَضِي الْعَمَل على الظَّن فِي الْمَنَافِع والمضار فَوَجَبَ الْمصير إِلَيْهِ وَإِن خص الْعُمُوم إِن قيل الظَّن لصدق الرَّاوِي لَا يحصل مَعَ عُمُوم الْكتاب قيل إِذا كَانَ الظَّن لصدقه يحصل إِذا لم يُعَارضهُ عُمُوم الْكتاب وَجب حُصُوله مَعَ عُمُوم الْكتاب لِأَنَّهُ لَا وَجه يحِيل وُقُوع الظَّن لصِحَّة الْخَبَر مَعَ مُعَارضَة عُمُوم الْكتاب فان قيل الْوَجْه الْمُحِيل لذَلِك هُوَ أَن عُمُوم الْكتاب إِذا انْفَرد اقْتضى الْعلم بشموله وَخبر الْوَاحِد إِذا انْفَرد اقْتضى الظَّن لصِحَّته فَلم يجز التَّعَبُّد بِهِ إِذا عَارضه عُمُوم الْكتاب وَإِذا لم يجز ذَلِك لم يحصل الظَّن بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه الْجَواب إِن خبر الْوَاحِد وَإِن اقْتضى الظَّن إِذا انْفَرد فان وجوب الحكم بِهِ مَعْلُوم غير مظنون والتعارض إِنَّمَا وَقع بَين حكمه وَبَين حكم الْعُمُوم فاذا كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا مَعْلُوما لَو انْفَرد لم يجز الْمَنْع من التَّعَبُّد بالْخبر مَعَ عُمُوم الْكتاب فَلم يمْنَع من وُقُوع الظَّن لصِحَّته بل وَجب التَّعَبُّد بِهِ لِأَنَّهُ أخص فان قيل الدَّلِيل الَّذِي دلّ على وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد إِنَّمَا دلّ بِشَرْط أَن يظنّ صدق الرَّاوِي وَمَعَ مُعَارضَة الْعُمُوم لَا يظنّ صدقه فَالشَّرْط لم يُوجد وَالدَّلِيل لم يحصل فَالْجَوَاب عَنهُ أَن عَدَالَة الرَّاوِي لَا ينفيها الْعُمُوم فالظن لصدقه حَاصِل وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيَان فَثَبت بِهِ التَّخْصِيص فِي الأَصْل بَيَاض مِقْدَار أَربع كَلِمَات وَوُجُوب الْعَمَل بِمُقْتَضى الْعُمُوم مَعْلُوم فقد صَار الْمصير إِلَيْهِ أولى لِأَن نَقله مَعْلُوم وَوُجُوب الْعَمَل بِهِ مَعْلُوم هَذَا الدَّلِيل

يُعَارضهُ أَن الْعُمُوم مَعْلُوم يتَنَاوَلهُ الْأَشْخَاص وَالْعقل يَقْتَضِي أَن لَا يتْرك الْعَمَل على مَا يغلب الظَّن فَوَجَبَ الْعَمَل عَلَيْهِ وَإِن عَارضه خبر وَاحِد لِأَنَّهُ من لم يتْرك مَا يعلم لما يظنّ فقد تحرز من المضار وَلِأَن الْعُمُوم لَو أَفَادَ الظَّن لقَائِل خبر الْوَاحِد وتعارضا وَوَجَب الْمصير إِلَى دَلِيل الْعقل أَو دَلِيل غَيرهمَا وَلِأَن خبر الْوَاحِد لَو قدح فِي الْعُمُوم لوَجَبَ اسْتِعْمَاله وَلَو رفع جَمِيع مَا يتَنَاوَلهُ الْعُمُوم وجوزنا فِي كل وَاحِد من الْأَخْبَار المخصصة أَنه صَحِيح وَالْآخر فَاسد فَكَانَ يبْقى من الْعُمُوم ثَلَاثَة أشخاص لَا بِأَعْيَانِهَا أَو شخص وَاحِد لَا بِعَيْنِه لِأَن كل خبر يكْسب الظَّن وَالظَّن يَقْتَضِي الْعقل وَالْعَمَل عَلَيْهِ وَيجوز فِي التناهي إِلَى الْوَاحِد من الْعُمُوم أَن يكون الْخَبَر الْوَارِد بِهِ مَعَ ذَلِك الْوَاحِد صَحِيحا وَغَيره مِمَّا تقدم كذب فَيَجِيء من ذَلِك أَن يرفع جَمِيع مَا تنَاوله الْعُمُوم بِخَبَر الْوَاحِد وَذَلِكَ محَال فان قيل من الْعجب أَن يجْتَمع علم وَظن متعارضين فيقدح الظَّن فِي الْعلم وَلَا يبطل الظَّن بِالْعلمِ قيل قد كُنَّا نجوز أَن يكون هُنَاكَ دَلِيل يَقْتَضِي تَخْصِيص الْعَام قبل الْعلم بِخَبَر الْوَاحِد وَلَو كَانَ الْعُمُوم مَقْطُوعًا أَنه لَا يجوز تَخْصِيصه لم يَخُصُّهُ بِخَبَر الْوَاحِد وَكَانَ الْعلم لَا يرْتَفع بِالظَّنِّ إِن قيل الْعقل يمْنَع من الْعُدُول عَن الْمَعْلُوم إِلَى المظنون وَعُمُوم الْكتاب مَعْلُوم شُمُوله وَخبر الْوَاحِد مظنون صِحَّته فَلم يجز الْعَمَل عَلَيْهِ مَعَ عُمُوم الْكتاب قيل إِن أُرِيد أَن خبر الْوَاحِد مظنون لَو انْفَرد فقد تكلمنا فِي ذَلِك وَإِن أُرِيد أَن مظنون صِحَّته مَعَ مُعَارضَة الْعُمُوم فَذَلِك يمْنَع من الْعلم بشمول الْعُمُوم لأَنا إِذا ظننا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا رَوَاهُ الرَّاوِي فقد جَوَّزنَا ثُبُوت حكم الْخَبَر وَمَعَ تَجْوِيز ذَلِك لَا يحصل الْعلم بِمَا اقْتَضَاهُ الْعُمُوم من الحكم الْمُخَالف لحكم الْخَبَر وَيدل عَلَيْهِ إِجْمَاع الصَّحَابَة لأَنهم خصوا قَول الله عز وَجل {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا نورث مَا تركنَا فَهُوَ صَدَقَة وَلما رُوِيَ أَن الْقَاتِل لَا يَرث وَالصَّحِيح أَن

فَاطِمَة عَلَيْهَا السَّلَام طالبت بعد ذَلِك بالنحلة لَا بِالْمِيرَاثِ وخصوا الْآيَة أَيْضا بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه جعل للجدة السُّدس وَهَذَا يُغير فرض مَا تضمنته الْآيَة فَكَانَت مخصصة لَهَا وخصوا قَول الله عز وَجل {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} بِمَا روى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وَلَا على خَالَتهَا وخصوا قَوْله سُبْحَانَهُ {وَأحل الله البيع} بِخَبَر أبي سعيد فِي الْمَنْع من بيع دِرْهَم بِدِرْهَمَيْنِ وخصوا قَوْله {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} بِمَا رُوِيَ عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ فِي الْمَجُوس سنوا بهم سنة أهل الْكتاب وكل هَذِه أَخْبَار آحَاد وَتَخْصِيص الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهَا ظواهر الْقُرْآن بهَا ظَاهر لَا يُمكن دَفعه وَلَا يُمكن أَن يُقَال خصوها بِغَيْر ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يرْوى مَا خصوها بِهِ ويروى مَا لم يجر لَهُ ذكر وَمَا ذَكرْنَاهُ يَقْتَضِي أَن يحمل قَول عمر رَضِي الله عَنهُ لَا نَدع كتاب رَبنَا وَسنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا نسيت أم كذبت على أَنه لَا يَدعه نسخا ليجمع بَين هَذَا الْخَبَر وَبَين الْأَخْبَار الَّتِي ذَكرنَاهَا وَلِأَن قَوْله لَا نَدع كتاب رَبنَا وَسنة نَبينَا يُفِيد النّسخ دون التَّخْصِيص وَلِهَذَا لَا يُقَال فِيمَن خص آيَة من الْقُرْآن قد ترك الْقُرْآن فان قيل هلا قبلوا خَبَرهَا فِي نَفسهَا خَاصَّة وأخرجوها وَحدهَا من الْآيَة وَهِي قَوْله {أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم من وجدكم} قيل إِن حكمهَا قد كَانَ يقْضِي وَإِنَّمَا رَوَت الْخَبَر ليعْمَل بِهِ فِي غَيرهَا فَلَو قبلوا خَبَرهَا لقبلوه فِي غَيرهَا على أَنهم لَو قبلوا خَبَرهَا فِي نَفسهَا لقبلوه فِيمَن هُوَ بِمثل صفتهَا على مَا جرت بِهِ عَادَتهم فِي إِجْرَاء الْخَبَر فِي كل من كَانَت صفته صفة من ورد فِيهِ الْخَبَر

وَقد قَالَ بَعضهم إِن قَول عمر لَا نَدع كتاب رَبنَا وَسنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا نسيت أم كذبت يدل على أَنه ترك قَوْلهَا لهَذِهِ الْعلَّة لَا لما ذكرتموه فِي أَنه لَو قبل خَبَرهَا فِي نَفسهَا لقبله فِي غَيرهَا الْجَواب أَنهم لَو قبلوا خَبَرهَا لدل على إخْرَاجهَا وَإِخْرَاج غَيرهَا وَكَانُوا تاركين للْكتاب لأَنهم لَا يكونُونَ تاركين للْكتاب إِلَّا باخراجها وَإِخْرَاج غَيرهَا فصح أَنهم إِنَّمَا يتركون الْكتاب لأجل قَوْلهَا وروايتها هُوَ الدَّال على تخصيصها وَتَخْصِيص غَيرهَا إِن قيل قد قبل أهل قبا خبر الْوَاحِد فِي نسخ الْقبْلَة أفيتجوزون نسخ الْقُرْآن بأخبار الْآحَاد قيل ذَلِك جَائِز فِي الْعقل وَقد كَانَ مَعْمُولا فِي صدر الْإِسْلَام بِدلَالَة حَدِيث أهل قبا ثمَّ نسخ ذَلِك وَدلّ على نسخه خبر عمر رَضِي الله عَنهُ وَإِجْمَاع السّلف عَلَيْهِ وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو على رَحمَه الله لَا يمْتَنع أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُم إِنِّي أنفذ اليكم فلَانا بنسخ الْقبْلَة فاقبلوا خَبره فانه صَادِق وَذَلِكَ دلَالَة قَاطِعَة على صدقه وَحكى قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله فِي الشَّرْح عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَنه منع من نسخ الْقُرْآن بأخبار الْآحَاد فِي الْجُمْلَة دون التَّفْصِيل وَمعنى ذَلِك أَنه منع من نسخه بِخَبَر غير مَقْطُوع بِهِ وَجوز أَن يصل نسخه إِلَى بعض الْمُكَلّفين بِخَبَر وَاحِد فَيلْزمهُ الْعَمَل بِهِ دَلِيل الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد وَاجِب إِذا اخْتصَّ بشرائط وَهَذِه الشَّرَائِط حَاصِلَة فِيهِ إِذا عَارضه عُمُوم الْكتاب فَوَجَبَ الْعَمَل بِهِ فان قيل من شَرط الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد أَن لَا يُعَارضهُ عُمُوم الْكتاب قيل قد أُجِيب عَن ذَلِك بِأَن إِجْمَاع الصَّحَابَة على وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد يُوجب الْعَمَل بِهِ وَلَا يجوز أَن يشْتَرط فِي الْعَمَل بِهِ شَرط إِلَّا بِدَلِيل وَلَيْسَ على مَا اشْترط السَّائِل دَلِيل وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا يجب ذَلِك لَو أَجمعُوا على الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد بِلَفْظ عَام يتَنَاوَل حَال مُعَارضَة الْعُمُوم حت لَا يخرج مِنْهُ حَالَة من الْحَالَات إِلَّا لدلَالَة وَمَا اجْمَعُوا كَذَا بل اجْمَعُوا على الْعَمَل بِهِ فِي مَوضِع

فَيَنْبَغِي أَن ينظر فِي الْموضع الَّذِي أَجمعُوا عَلَيْهِ فِيهِ فان تنَاول هَذِه الْمَسْأَلَة قضى بِهِ وَلَا ينْقل مِنْهُ إِلَى مَوضِع آخر إِلَّا لدلَالَة فان قُلْتُمْ قد عمِلُوا بِهِ مَعَ مُعَارضَة عُمُوم الْكتاب كَانَ رُجُوعا إِلَى دَلِيل آخر فان قيل إِجْمَاع الصَّحَابَة على الْعَمَل بِهِ يَكْفِي فِي وجوب الْعَمَل بِهِ فِي كل مَوضِع من الدّلَالَة أَلا ترى أَنهم لَو أَجمعُوا على قبُوله فِي الصَّلَاة لدل ذَلِك على قبُوله فِي فرع من فروع الصّيام قيل إِنَّمَا يدل قبولهم لَهُ فِي فرع من فروع الصَّلَاة على قبُوله فِي غير ذَلِك من الْفُرُوع لِأَنَّهُ لَا فرق بَين الْمَوْضِعَيْنِ وَلَيْسَ يُمكن أَن يُقَال لَا فرق بَين الْعَمَل بِهِ مَعَ مُعَارضَة عُمُوم الْكتاب لَهُ وَمَعَ فقد ذَلِك وَإِن الْحَال فِي خبر الْوَاحِد مَعَ مُعَارضَة دَلِيل شَرْعِي كالحال فِيهِ إِذا لم يُعَارضهُ ذَلِك أَلا ترى أَن كثيرا من الْعلمَاء قد فرق بَينهمَا فان قيل إِنَّا نستدل باجماع الصَّحَابَة على ان الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد مَعْلُوم إِذا انْفَرد كَمَا أَن الْعَمَل باستغراق الْعُمُوم مَعْلُوم إِذا انْفَرد ثمَّ نقُول فاذا اجْتمعَا لم يجز إطراح أَحدهمَا وَالْعَمَل بهما لَا يُمكن إِلَّا مَعَ التَّخْصِيص قيل إِذا كَانَ الْعَمَل بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا مَعْلُوما إِذا انْفَرد جَازَ أَن يكون الْعَمَل بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا مَعْلُوما مَعَ التَّعَارُض وَجَاز أَن يكون الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد مَعْلُوما بِشَرْط أَن لَا يُعَارضهُ الْعُمُوم وَإِذا جَازَ كلا الْأَمريْنِ وَجب التَّوَقُّف فَمن أَيْن قطعْتُمْ على وجوب الْعَمَل بهما وَأَنْتُم المستدلون وَأَيْضًا فان عُمُوم الْكتاب مَعْلُوم وجوب الحكم باستغراقه إِلَّا أَن يُعَارضهُ مَا يكون حكمه مَعْلُوما عِنْد مُعَارضَة الْعُمُوم فاذا لم يثبت لكم ذَلِك فِي خبر الْوَاحِد لأنكم لم تثبتوا أَن الصَّحَابَة أَجمعت على الْعَمَل فِي هَذَا الْموضع وَجب الْقَضَاء باستغراق الْعُمُوم وَاحْتج الْمُخَالف فَقَالَ إِن خبر الْوَاحِد يَقْتَضِي الظَّن وَعُمُوم الْكتاب يَقْتَضِي الْقطع وَلَا يجوز الْعَمَل بِمَا يَقْتَضِي الظَّن والعدول إِلَيْهِ عَمَّا يَقْتَضِي الْقطع الْجَواب يُقَال لَهُ أَتُرِيدُ أَن عُمُوم الْكتاب يَقْتَضِي الْعلم بشمول حكمه وَأَن خبر الْوَاحِد يَقْتَضِي الظَّن بِثُبُوت حكمه أَو تُرِيدُ أَن عُمُوم الْكتاب مَعْلُوم

أَنه كَلَام الله سُبْحَانَهُ وَخبر الْوَاحِد يظنّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه فان قَالَ بِالْأولِ قيل لَهُ أتعني ذَلِك لَو انْفَرد كل وَاحِد مِنْهُمَا عَن صَاحبه أَو إِذا اجْتمعَا فان قَالَ إِذا اجْتمعَا أَو انْفَرد كل وَاحِد مِنْهُمَا عَن صَاحبه قيل لَا نسلم ذَلِك لِأَن عندنَا أَن الْعَمَل على خبر الْوَاحِد مَعْلُوم سَوَاء عَارضه عُمُوم كتاب أَو لم يُعَارضهُ فَمَا ذكرته هُوَ نفس الْمَسْأَلَة وَإِن قَالَ أُرِيد الْوَجْه الثَّانِي قيل وَلم إِذا علمنَا أَن الله سُبْحَانَهُ تكلم بِالْعُمُومِ وَغلب على ظننا أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام تكلم بالْخبر وَلم نعلمهُ لَا يجوز أَن نعلم عِنْده وجوب الْعَمَل فان قَالَ لِأَن الْخَبَر إِذا كَانَ مظنونا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه لم يجز أَن يعلم عِنْده وجوب الْعَمَل قيل فَيجب أَن لَا نعلم عِنْده وجوب الْعَمَل مَعَ فقد الْكتاب لِأَن الظَّن لَا يكون طَرِيقا إِلَى الْعلم على كل حَال وايضا فان طريقنا إِلَى الْعلم بِوُجُوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد هُوَ الْإِجْمَاع وَشرط ذَلِك ظننا صدق الرَّاوِي وَالْإِجْمَاع مَعْلُوم وظننا صدق الرَّاوِي مَعْلُوم فان قَالَ عُمُوم الْكتاب لَيْسَ يقف على شَرط مظنون فَالْخَبَر مظنون صدقه فقد وقف الْعَمَل بِهِ على أَمر مظنون فَلم يجز الْعُدُول إِلَيْهِ عَن عُمُوم الْكتاب قيل إِنَّمَا كَانَ يمْنَع مَا ذكرت لَو كَانَ طريقنا إِلَى الحكم هُوَ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكُنَّا إِذا لم نَأْمَن أَن يكون لم يقل ذَلِك القَوْل لَا يجوز لنا الحكم بِهِ وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْأَمر كَذَلِك لما جَازَ الْعَمَل على خبر الْوَاحِد وَإِن لم يُعَارضهُ عُمُوم الْكتاب وَإِنَّمَا طريقنا إِلَى ذَلِك هُوَ ظننا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَلِك القَوْل مَعَ قيام الدّلَالَة على الْعَمَل بِمَا يغلب على ظننا من ذَلِك وكلا هذَيْن مَعْلُوم لأَنا نعلم أَنا ظانون صدق الرَّاوِي ونعلم الدّلَالَة على وجوب الْعَمَل بِمَا ظنناه فَثَبت مُسَاوَاة طريقنا إِلَى الْعلم بِحكم الْخَبَر لطريقنا إِلَى الْعلم لشمُول الْآيَة فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا طَرِيق مَعْلُوم وَبَطل إحالتهم قيام الدّلَالَة على الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد مَعَ عُمُوم الْكتاب فان قيل الْعُمُوم مَعْلُوم وَمَعْلُوم أَنه قَول الله سُبْحَانَهُ وَقد دلّ على وجوب الْعَمَل بِهِ دَلِيل قَاطع وَهَذَا لَا يتَغَيَّر وَخبر الْوَاحِد قد يَزُول الظَّن فِيهِ بالبحث عَن الرَّاوِي وَالظَّن فِي حَاله فيزول الَّذِي دلّ على وجوب الْعَمَل بِهِ

فَكيف يَزُول مَا لَا يتَغَيَّر بِحَال مَا يتَغَيَّر وَقد نقضت الشُّبْهَة بانتقالنا عَن مُقْتَضى الْعقل بِخَبَر الْوَاحِد وَهَذَا لَا يلْزم لِأَن عُمُوم الْكتاب دلّ لَفظه على شُمُول الحكم على طَرِيق الْقطع لَو انْفَرد أَلا ترى أَنه يتَنَاوَل لَفظه كل وَاحِد من أشخاص النَّوْع وَالْجِنْس فَلَو عدلنا عَن بعضه بِخَبَر الْوَاحِد كُنَّا قد عدلنا عَن مُوجب دَلِيل قَاطع وَأما الْعقل فانه لَا يَقْتَضِي قبح ذبح الْحَيَوَان إِلَّا من حَيْثُ أَنه ألم مَحْض وَلَيْسَ يدل الْعقل على انه مَحْض وَإِنَّمَا يعلم الْعَاقِل أَنه مَحْض لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعقل وَلَا فِي السّمع مَا يدل عَلَيْهِ فاذا ورد الْخَبَر باباحته علمنَا أَن فِيهِ مَنْفَعَة موفية فَزَالَ الشَّرْط الَّذِي مَعَه قضى الْعقل بقبحه وَلم نَكُنْ تاركين لموجب الْعقل بِخَبَر الْوَاحِد لِأَن الْعقل لم يدل على أَنه لَيْسَ فِيهِ نفع موف وَخبر الْوَاحِد دلّ على ذَلِك فَلم نَكُنْ بتاركين لدلَالَة مَعْلُومَة إِلَى شَيْء مظنون واجيب عَن الشُّبْهَة أَيْضا بِأَن خبر الْوَاحِد وَعُمُوم الْكتاب طريقهما الِاجْتِهَاد فهما يتساويان وَهَذَا لَا يَصح لِأَنَّهُ إِن أُرِيد أَن طريقهما الِاجْتِهَاد الَّذِي هُوَ بذل الْجهد فِي الِاسْتِدْلَال فَصَحِيح لِأَن أَحدهمَا مظنون أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه وَالْآخر مَعْلُوم أَن الله عز وَجل قَالَه وَإِن أُرِيد أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مظنون فَلَا يَصح وَقد قَاس الْمُخَالف الْمَنْع من تَخْصِيص الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد على الْمَنْع من نسخه بِخَبَر الْوَاحِد بعلة أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا عدُول إِلَى مظنون عَن مَعْلُوم الْجَواب إِنَّهُم إِن قاسوا أَحدهمَا على الآخر فِي الْمَنْع من التَّعَبُّد بهما من جِهَة الْعُقُول لم نسلم الحكم فِي الأَصْل لأَنا نجوز من جِهَة الْعقل نسخ الْقُرْآن بِخَبَر الْوَاحِد وَإِن قاسوا أَحدهمَا على الآخر فِي الْمَنْع من التَّعَبُّد شرعا فَمَا ذَكرُوهُ من الْعلَّة غير مَعْلُومَة فَلم يجز الْقيَاس بهَا فِي هَذَا الْموضع وَأما من منع تَخْصِيص عُمُوم الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد إِذا لم يتقدمه تَخْصِيص فقد أبطل لِأَن الْعُمُوم الْمَخْصُوص كَالَّذي لَيْسَ بمخصوص فِي أَنه مَعْلُوم صدوره من حَكِيم وتناوله من جِهَة الْحَقِيقَة لما لم يتَنَاوَلهُ التَّخْصِيص فاذا خصت الصَّحَابَة بِخَبَر الْوَاحِد

فصل في الحكم إذا اقتضى قياس الاصول فيه خلاف ما اقتضاه خبر الواحد

الْعُمُوم الْمَخْصُوص دلّ ذَلِك على جَوَاز تَخْصِيصه عُمُوما لم يدْخلهُ التَّخْصِيص إِذْ أَحدهمَا فِي معنى الآخر كَمَا أَن إجماعها على تَخْصِيص بعض الْآيَات بِخَبَر الْوَاحِد دَلِيل على تَخْصِيص آيَة أُخْرَى بِخَبَر الْوَاحِد لِأَن أَحدهمَا فِي معنى الآخر وقلوهم إِن الْعُمُوم الْمَخْصُوص قد صَار مجَازًا أَو مُجملا فَجَاز تَخْصِيصه وَلَيْسَ كَذَلِك الْعُمُوم إِذا لم يخص فَبَاطِل لِأَن الْعُمُوم الْمَخْصُوص لَيْسَ بمجاز من حَيْثُ يتَنَاوَل مَا لم يدْخلهُ التَّخْصِيص فَصَارَ من هَذِه الْجِهَة كَالَّذي لم يتقدمه تَخْصِيص وَإِنَّمَا هُوَ مجَاز من حَيْثُ لم يرد بِهِ بعض مَا يتَنَاوَلهُ وَقَوْلهمْ إِنَّه مُجمل لَا نسلمه وَقَوْلهمْ إِن عمر عَلَيْهِ السَّلَام امْتنع من تَخْصِيص قَوْله عز وَجل {أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم من وجدكم} بِخَبَر فَاطِمَة بنت قيس بقوله لَا نَدع كتاب رَبنَا وَسنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا نسيت أم كذبت لَا يَصح لأَنا قد بَينا أَن ذَلِك ينْصَرف إِلَى النّسخ على أَن هَذِه الْآيَة مَخْصُوصَة بِخُرُوج الْمُرْتَدَّة مِنْهَا وَقَول من فرق بَين الْعُمُوم الْمَخْصُوص بِالِاسْتِثْنَاءِ وَبَين الْمَخْصُوص بِالدّلَالَةِ الْمُنْفَصِلَة بِأَن الْعُمُوم الْمَخْصُوص بِالِاسْتِثْنَاءِ حَقِيقَة فِيمَا عدا الْمُسْتَثْنى لِأَن الْعُمُوم مَعَ الِاسْتِثْنَاء يجْرِي مجْرى لفظ الْعدَد مَعَ الِاسْتِثْنَاء فِي أَنه يتَنَاوَل مَا عدا الْمُسْتَثْنى من الْأَعْدَاد وَأما الْعُمُوم الْمَخْصُوص بِدَلِيل مُنْفَصِل فَهُوَ مجَاز فَبَاطِل بِمَا ذَكرْنَاهُ الْآن فصل فِي الحكم إِذا اقْتضى قِيَاس الاصول فِيهِ خلاف مَا اقْتَضَاهُ خبر الْوَاحِد اعْلَم أَن الْقيَاس على أصل من الاصول إِذا عَارض خبر وَاحِد فانما يُعَارضهُ إِذا اقْتضى الْخَبَر إِيجَاب أَشْيَاء وَاقْتضى الْقيَاس حظر جَمِيعهَا على الْحَد الَّذِي اقْتضى الْخَبَر إِيجَابهَا أَو بَان يكون الْخَبَر مُخَصّصا لعِلَّة الْقيَاس فان اقْتضى تخصيصها فِيمَن يُجِيز تَخْصِيص الْعلَّة يجمع بَينهمَا وَمن لَا يرى تَخْصِيص الْعلَّة

يجرى هَذَا الْقسم مجْرى الْقسم الأول وَلَيْسَ تَخْلُو عِلّة الْقيَاس الَّذِي هَذِه حَاله إِمَّا أَن تكون مَنْصُوصا عَلَيْهَا أَو مستنبطة فان كَانَت منصوصة لم يخل النَّص عَلَيْهَا إِمَّا أَن يكون مَقْطُوعًا بِهِ أَو غير مَقْطُوع بِهِ فان كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ وَكَانَ خبر الْوَاحِد يَنْفِي مُوجبهَا وَلم يكن إِضْمَار زِيَادَة فِيهَا تخرج مَعَه الْعلَّة من ان يعارضها خبر الْوَاحِد فانه يجب الْعُدُول إِلَيْهَا عَن خبر الْوَاحِد لِأَن النَّص على الْعلَّة كالنص على حكمهَا فَكَمَا لَا يجوز قبُول خبر الْوَاحِد إِذا رفع مُوجب النَّص الْمَقْطُوع بِهِ فَكَذَلِك فِي هَذَا الْموضع وَلِأَن خبر الْوَاحِد فِي هَذَا الْمَكَان يخرج الْعلَّة المنصوصة من كَونهَا عِلّة وَالنَّص قد اقْتضى كَونهَا عِلّة فَصَارَ خبر الْوَاحِد رَافعا مُوجب النَّص الْمَقْطُوع بِهِ وَإِن لم يكن النَّص على الْعلَّة مَقْطُوعًا بِهِ وَلَا كَانَ حكمهَا فِي الأَصْل ثَابتا بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ فانه يكون مُعَارضا لخَبر الْوَاحِد لِأَنَّهُمَا خَبرا وَاحِد وَيكون الرُّجُوع إِلَى الْخَبَر فِي إِثْبَات الحكم أولى من الْخَبَر الدَّال على الْعلَّة لِأَن دَال بصريحه على الحكم وَالْخَبَر الدَّال على الْعلَّة لَيْسَ بدال على الحكم بصريحه وَنَفسه بل بِوَاسِطَة وَإِن كَانَ حكمهَا فِي الأَصْل ثَابتا بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ فَهُوَ مَوضِع اجْتِهَاد على مَا سنبينه الْآن فِي الْعلَّة المستنبطة فَأَما إِن كَانَت عِلّة الْقيَاس مستنبطة فَلَا يَخْلُو أصل الْقيَاس إِمَّا أَن يكون حكمه ثَابتا بِخَبَر وَاحِد أَو بِنَصّ مَقْطُوع بِهِ فاذا كَانَ ثَابتا بِخَبَر وَاحِد لم يكن الْقيَاس أولى من الْخَبَر الْمعَارض لَهُ بل الْأَخْذ بالْخبر أولى فَأَما إِذا كَانَ الحكم فِي أصل الْقيَاس ثَابتا بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ وَالْخَبَر الْمعَارض للْقِيَاس خبر وَاحِد فَيَنْبَغِي أَن يكون النَّاس إِنَّمَا اخْتلفُوا فِي هَذَا الْموضع وَإِن كَانَ الاصوليون ذكرُوا الْخلاف فِيهِ مُطلقًا فَعِنْدَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَن الْأَخْذ بالْخبر أولى وَهُوَ قَول أبي الْحسن وَقَالَ عِيسَى بن أبان إِن كَانَ رَاوِي الْخَبَر ضابطا عَالما غير متساهل فِيمَا يرويهِ وَجب قبُول خَبره وَترك الْقيَاس وَإِن كَانَ الرَّاوِي بِخِلَاف ذَلِك كَانَ مَوضِع الِاجْتِهَاد وَذكر أَن فِي الصَّحَابَة عَلَيْهِم السَّلَام من رد حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِالِاجْتِهَادِ وَحكي عَن مَالك أَنه رجح الْقيَاس على الْخَبَر وَمِنْهُم من قَالَ طَرِيقه الِاجْتِهَاد

وَاحْتج المرجحون للْخَبَر بأَشْيَاء مِنْهَا إِجْمَاع الصحاب لِأَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ نقض حكما حكم بِهِ بِرَأْيهِ لحَدِيث سَمعه من بِلَال وَترك عمر رَضِي الله عَنهُ رَأْيه فِي الْجَنِين وَفِي التَّسْوِيَة بَين الْأَصَابِع للْحَدِيث فان قيل إِن ابْن عَبَّاس قد خَالف فِي ذَلِك لِأَنَّهُ لم يقبل خبر أبي هُرَيْرَة إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من نَومه فَلَا يغمس يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا ثَلَاثًا وَقَالَ مَا نصْنَع بمهراسنا والمهراس حجر عَظِيم كَانُوا يجْعَلُونَ فِيهِ المَاء ويتوضؤن مِنْهُ فَأَشَارَ بذلك إِلَى أَنه لَا يُمكن غسل الْيَد مِنْهُ قبل إدخالها فِيهِ فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَة يَا بن أخي إِذا حدثتك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا فَلَا تضرب لَهُ الْأَمْثَال قيل إِن ابْن عَبَّاس ترك هَذَا الحَدِيث لِأَنَّهُ لَا يُمكن الْأَخْذ بِهِ إِذْ كَانَ لَا يُمكن قلب المهراس على الْيَد وَذَلِكَ خَارج عَن قِيَاس علته مظنونة فان قيل لَيْسَ فِي ذك تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق لِأَنَّهُ كَانَ يُمكنهُم غسل أَيْديهم من إِنَاء آخر غير المهراس ثمَّ يدخلُوا أَيْديهم فِي المهراس فَعلمنَا أَنه رد الْخَبَر لِأَنَّهُ مُخَالف لقياس الْأُصُول لَا لِأَنَّهُ لَا يُمكن الْأَخْذ بِهِ قيل فاذا أمكن الْأَخْذ بِهِ فَمن أَيْن أَن قِيَاس الاصول كَانَ يُبِيح غسل الْيَد من ذَلِك الْإِنَاء حَتَّى يكون قد رد الْخَبَر لذَلِك الْقيَاس وَإِذا صَحَّ ذَلِك لم يثبت لَهُم أَن ابْن عَبَّاس رجح قِيَاس الاصول على الْخَبَر حَتَّى يكون قادحا فِي الْإِجْمَاع وَمِنْهَا أَن خبرالواحد أصل للْقِيَاس وَلَا يجوز أَن يتْرك الأَصْل بالفرع وَلقَائِل أَن يَقُول إِن أردتم بقولكم إِن خبر الْوَاحِد أصل للْقِيَاس أَنه هُوَ الدَّلِيل على صِحَة الْعَمَل بِالْقِيَاسِ فَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ لَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ وَإِن أردتم أَن خبر الْوَاحِد هُوَ أصل الْقيَاس الَّذِي وَقعت الْمُعَارضَة بِهِ وَأَن الْقيَاس هُوَ قِيَاس على حكمه فَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن أصل الْقيَاس هُوَ غير هَذَا الْخَبَر فان قَالُوا نُرِيد بذلك أَن خبر الْوَاحِد فِي الْجُمْلَة هُوَ أصل الْقيَاس أَلا ترى أَن أصل الْقيَاس هُوَ خبر وَاحِد مثل هَذَا الْخَبَر الْمعَارض قيل إِنَّمَا يلْزم هَذَا من قَالَ إِن الْقيَاس على حكم خبر الْوَاحِد أولى

من خبر وَاحِد يُعَارض الْقيَاس فَأَما من قَالَ إِن الْقيَاس أولى من خبر الْوَاحِد إِذا كَانَ الْقيَاس قِيَاسا على دَلِيل قَاطع فَلَا يلْزمه هَذَا الْكَلَام وَمِنْهَا قَوْلهم إِن خبر الْوَاحِد يجْرِي مجْرى مَا سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَ أولى من الْقيَاس وَلقَائِل أَن يَقُول إِن خبر الْوَاحِد يجْرِي مجْرى مَا سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وجوب الْعَمَل وَهَكَذَا الْقيَاس وَأَيْضًا فَلَيْسَ يجب إِذا جرى خبر الْوَاحِد مجْرى مَا سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض الْأُمُور أَن يجْرِي مجْرَاه فِي أُمُور أخر أَلا ترى انه لَا يجْرِي مجْرَاه فِي نسخ الْقُرْآن وَمِنْهَا قَوْلهم إِن إِثْبَات الحكم بِخَبَر الْوَاحِد يسْتَند إِلَى قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِغَيْر وَاسِطَة وإثباته بِالْقِيَاسِ يسْتَند إِلَى قَوْله بِوَاسِطَة فَكَانَ إثْبَاته بالْخبر أولى وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّه كَانَ لإِثْبَات الحكم بالْخبر هَذِه المزية فان لإِثْبَات الحكم بِهَذَا الْقيَاس مزية أُخْرَى وَهِي استناده إِلَى أصل مَعْلُوم وَإِن كَانَ بِوَاسِطَة الِاجْتِهَاد فِي الأمارة فَكَمَا أَن الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد يسْتَند إِلَى أصل مَعْلُوم وَهُوَ مَا دلّ على وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد فَكَذَلِك الحكم بِالْقِيَاسِ يسْتَند إِلَى مَا دلّ على الْعَمَل بِالْقِيَاسِ وَهُوَ مَعْلُوم وكما أَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ يفْتَقر إِلَى الِاجْتِهَاد فِي الأمارة فَالْحكم بِخَبَر الْوَاحِد يفْتَقر إِلَى الِاجْتِهَاد فِي أَحْوَال المخبرين فهما يتساويان من هَذِه الْوُجُوه وَهَذَا من أقوى مَا يحْتَج بِهِ من رد الْأَمر فِيهَا إِلَى الِاجْتِهَاد وَمِنْهَا أَن عُمُوم الْكتاب يدل تصريحه على مَا تنَاوله لَفظه وَيدل على حكم الْفُرُوع بِوَاسِطَة الْقيَاس ودلالته على مَا تنَاوله لَفظه أقوى لِأَنَّهُ يتَنَاوَلهُ بِنَفسِهِ من غير وَاسِطَة وَلَيْسَ كَذَلِك دلَالَته على حكم الْفُرُوع فاذا جَازَ أَن يخرج مِنْهُ بعض مَا تنَاوله لَفظه بِخَبَر الْوَاحِد مَعَ قُوَّة دلَالَته عَلَيْهِ كَانَ بِأَن يخرج مِنْهُ مَدْلُوله الأخفى وَهُوَ مَا دلّ عَلَيْهِ بِوَاسِطَة الْقيَاس لأجل خبر الْوَاحِد أولى إِذْ كَانَ إِخْرَاج مَا دلّ عَلَيْهِ بِوَاسِطَة الْقيَاس يجْرِي مجْرى التَّخْصِيص لِأَنَّهُ إِخْرَاج بعض مَا دلّ عَلَيْهِ إِذْ كَانَ يدل على أَشْيَاء بِوَاسِطَة وَبِغير وَاسِطَة

وللخصم أَن يَقُول إِن عُمُوم الْكتاب لَا يدل على حكم الْفُرُوع لِأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلهَا فَلَا يدل على امارة الْقيَاس فَصَارَ حكم الْفُرُوع هُوَ مَدْلُول دَلِيل آخر وَهُوَ الْقيَاس فَلَيْسَ بِأَن يَتْرُكُوهُ بِخَبَر الْوَاحِد لِأَن خبر الْوَاحِد يخص بِهِ عُمُوم الْكتاب مَعَ قُوَّة عُمُوم الْكتاب بِأولى من أَن يتْركُوا الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد لأجل الْقيَاس إِذْ كَانَ الْقيَاس يخص بِهِ عُمُوم الْكتاب وَاحْتج من قدم الْقيَاس على الاصول على خبر الْوَاحِد بِأَن الْقيَاس لَا يحْتَمل وَلَا يجوز تَخْصِيصه وَلَيْسَ كَذَلِك الْخَبَر فَكَانَ الْقيَاس أولى الْجَواب أَن ذَلِك يَقْتَضِي تَقْدِيمه على نَص الْكتاب وَالسّنة المتواترة وَأَيْضًا فانه إِن اخْتصَّ الْقيَاس بِهَذِهِ المزية فَالْخَبَر مُخْتَصّ بمزية اخرى وَهِي أَن دلَالَة الْأَلْفَاظ لَا تستنبط من غَيرهَا وَالْقِيَاس مستنبط من الْأَلْفَاظ فَكَانَت الْأَلْفَاظ أقوى من الدّلَالَة وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن الْقيَاس أثبت من الْخَبَر لتجويز الْخَطَأ وَالْكذب على الْمخبر وَالْجَوَاب أَن جَوَاز ذَلِك كجواز كَون الحكم غير مُتَعَلق بالأمارة فِي الْقيَاس وَإِن كَانَ الْأَغْلَب صدق الرَّاوِي وَتعلق الحكم بالأمارة وَمِنْهَا قَوْلهم إِذا كَانَ الْقيَاس يخص بِهِ عُمُوم الْكتاب فبأن يتْرك لأَجله خبر الْوَاحِد أولى إِذْ هُوَ أَضْعَف من الْعُمُوم الْجَواب أَنا إِذا خصصنا الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ لم نَكُنْ تاركين لَهُ أصلا بِالْقِيَاسِ وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا تركنَا الْخَبَر أصلا بِالْقِيَاسِ وَالْأولَى أَن يكون طَرِيق تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر الِاجْتِهَاد لتساويهما من الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا فان قوي عِنْد الْمُجْتَهد امارة الْقيَاس وَكَانَت تزيد عِنْده فِي الْقُوَّة على عَدَالَة الرَّاوِي وَضَبطه وَجب الْمصير إِلَيْهِ وَإِن كَانَ ضبط الرَّاوِي وثقته يزِيد عِنْد الْمُجْتَهد على أَمارَة الْقيَاس وَجب عَلَيْهِ الْمصير إِلَى الْخَبَر

فصل في فائدة خبر الواحد إذا كان البلوى به عاما هل يرد له خبر الواحد الوارد فيه أم لا

فصل فِي فَائِدَة خبر الْوَاحِد إِذا كَانَ الْبلوى بِهِ عَاما هَل يرد لَهُ خبر الْوَاحِد الْوَارِد فِيهِ أم لَا الْخَبَر الْمَرْوِيّ بالآحاد لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يتَضَمَّن إِيجَاب الْعلم أَو يتَضَمَّن إِيجَاب الْعَمَل فَقَط وَالْأول إِمَّا أَن يكون فِي الْأَدِلَّة القاطعة مَا يدل على ذَلِك الْعلم وَإِمَّا أَن لَا يكون فِيهَا مَا يدل على ذَلِك فان لم يكن فِيهَا مَا يدل على ذَلِك لم يقبل الْخَبَر سَوَاء تضمن مَعَ الْعلم عملا أَو لم يتَضَمَّن عملا لِأَنَّهُ لَو كَانَ صَحِيحا لأشاعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على وَجه يجب فِي الْعَادة التَّوَاتُر بنقله ولأوجب نَقله على وَجه تقوم الْحجَّة بِهِ إِذْ كَانَ لَا يجوز أَن يُوجب علينا الْعلم وَلَا يَجْعَل لنا طَرِيقا إِلَيْهِ وَخبر الْوَاحِد لَيْسَ بطرِيق إِلَى الْعلم إِن قيل هلا قبلتم الْخَبَر وحكمتم بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوجب الْعلم على مَا شافهه بذلك قيل لَيْسَ يَسْتَحِيل ذَلِك إِذا كَانَ الْخَبَر خطابا لمن حضر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا رددنا الْخَبَر إِذا كَانَ إِيجَابا على من شافهه وَمن لم يشافهه إِن قيل جوزوا أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أظهر الْخَبَر وَأمر بتواتر نَقله وألزم كل أحد الْعلم بِشَرْط أَن يبلغهُ الْخَبَر على حد التَّوَاتُر فَيكون من شافهه بِهِ قد وَجب عَلَيْهِ الْعلم وَمن لم يشافهه لم يجب عَلَيْهِ إِذا لم ينْقل بالتواتر قيل لَو كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد اشاع الحَدِيث وأظهره على هَذَا الْحَد وَأوجب تَوَاتر نَقله لقويت دواعي الدّين وَالْعَادَة إِلَى نَقله متواترا وَلما جَازَ أَن يخفى لِأَن جَوَاز خَفَاء ذَلِك يَقْتَضِي تَجْوِيز حُدُوث أُمُور فِي الدّين وَالدُّنْيَا عَظِيمَة لم يبلغنَا خَبَرهَا وَلذَلِك قُلْنَا إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو كَانَ يجْهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم كَمَا كَانَ يجْهر بِالْفَاتِحَةِ لَكَانَ النَّقْل لأَحَدهمَا كالنقل للْآخر فَلَمَّا اخْتلف النَّقْل علمنَا أَنه كَانَ يجْهر مرّة بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ويخفي أُخْرَى فَنقل بعض النَّاس أَنه جهر وَنقل غَيره أَنه أسر فَأَما إِن كَانَ فِي الْأَدِلَّة مَا يدل على الْعلم لم يمْنَع أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد

اقْتصر بذلك الْخَبَر على آحَاد وَاقْتصر بِمن سواهُم على الدَّلِيل الآخر فِي وجوب الْعلم فَأَما إِن كَانَ الْخَبَر يتمضن الْعَمَل دون الْعلم فإمَّا أَن يعم الْبلوى بِمَا تضمنه أَو لَا يعم الْبلوى بِهِ فان لم يعم الْبلوى بِهِ قبل وَإِن عَم الْبلوى فقد اخْتلف الْقَائِلُونَ بأخبار الْآحَاد فِي قبُوله فَلم يقبله الشَّيْخ أَبُو الْحسن رَحمَه الله وَيَقُول إِن فروع الصَّلَاة مُخَالفَة لذَلِك فَلَا يمْتَنع أَن يخْتَص بهَا الْعلمَاء وَيَقُول كل شَرط يفْسد الصَّلَاة وَهُوَ ركن فِيهَا إِنَّه يجب ظُهُور نَقله كالقبلة الَّتِي ظهر نقلهَا ظُهُور نقل الصَّلَاة وَمَا يعرض فِيهَا وَلَيْسَ بِشَرْط نَحْو تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة لَا يجب نَقله عَاما وَيَقُول لَيْسَ يجب شياع نقل صفة الْمَنْقُول كوجوب الْوتر وَلَا يُوجب شياع نقل الْوضُوء من الرعاف وَلَا التوضي من القهقهة لِأَن ذَلِك لَيْسَ يعم بِهِ الْبلوى وَعند الشَّيْخ أبي عَليّ أَن الْأَخْبَار الَّتِي لَا تَتَضَمَّن الْعلم لَا يجب شياع نقلهَا فِي الْخَاصَّة والعامة بل لَا يمْتَنع أَن لَا يكون الْعَامَّة مكلفة لما تضمنته كالحدود أَو مكلفة بِالرُّجُوعِ إِلَى الْعلمَاء وَهُوَ مَذْهَب قَاضِي الْقُضَاة وَالدَّلِيل على قَوْله إِن إِجْمَاع الصَّحَابَة على الْعَمَل بأخبار الْآحَاد يَقْتَضِي الْعَمَل بهَا اجْمَعْ مَا لم يمْنَع مِنْهُ مَانع أَلا ترى أَنه دلّ على جَوَاز الْعَمَل بأخبار لم ترو فيهم لما كَانَت فِي معنى مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ وَرجعت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهَا إِلَى أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التقاء الختانين وَأَيْضًا فَمن لم يقبل خبر الْوَاحِد فِيمَا يعم بِهِ الْبلوى فإمَّا أَن لَا يقبله لِأَن الشَّرِيعَة منعت من قبُوله أَو لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَة مَا يدل على قبُوله أَو لِأَنَّهُ لَو كَانَ صَحِيحا لأشاعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمر بتواتر نَقله ليصل إِلَى من بعد بفائدته فيتمكن مِمَّا كلف من الْعَمَل بِهِ وَلَو كَانَ كَذَلِك لقويت دواعي الدّين وَالْعَادَة إِلَى إِشَاعَة نَقله

فصل في خبر الواحد إذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم خلاف مقتضاه

وَهَذِه الْأَقْسَام كلهَا بَاطِلَة لِأَنَّهُ لَو كَانَ فِي الشَّرْع نَص يمْنَع من قبُوله لعرفناه مَعَ الفحص الشَّديد إِن قيل أَلَيْسَ قد رد عمر خبر أبي مُوسَى فِي الاسْتِئْذَان ورد أَبُو بكر خبر الْمُغيرَة فِي الْجدّة قيل إِنَّمَا يدل هَذَا على مَا ذكرْتُمْ لَو لم يقبلُوا فِي ذَلِك إِلَّا خَبرا قد تَوَاتر نَقله فَأَما وَقد قبلوه إِذا انْضَمَّ إِلَى الرَّاوِي راو آخر فَلَا دَلِيل لكم فِي ذَلِك وَإِجْمَاع الصَّحَابَة على الْعَمَل بأخبار الْآحَاد يتَضَمَّن فِي الْمَعْنى هَذِه الْمَسْأَلَة على مَا سنبينه فَبَطل قَوْلكُم لَيْسَ فِي الشَّرْع مَا دلّ على قبُوله وَقَوْلهمْ إِذا عَم الْبلوى بالحكم وَجب فِي الْحِكْمَة إشاعته فَبَاطِل لِأَنَّهُ إِنَّمَا يجب ذَلِك لَو لزم الْمُكَلّفين الْعلم مَعَ الْعَمَل إو لَزِمَهُم الْعَمَل على كل حَال فَأَما إِذا لزم الْعَمَل بِهِ بِشَرْط أَن يبلغهم الْخَبَر وَإِلَّا لم يلْزمهُم فَلَيْسَ فِي ذَلِك تَكْلِيف مَا لَا طَرِيق إِلَيْهِ وَلَو وَجب مَا ذَكرُوهُ فِيمَا يعم الْبلوى بِهِ لوَجَبَ فِيمَا لَا يعم بِهِ الْبلوى لِأَن مَا لَا يعم بِهِ الْبلوى يعلم وُقُوعه وَإِن كَانَ وُقُوعه نَادرا وَفِي آحَاد النَّاس كالرعاف فِي الصَّلَاة فَيجب فِي الْحِكْمَة إِشَاعَة حكمه خوفًا من أَن لَا يصل إِلَى من ابْتُلِيَ بِهِ فيضيع الْغَرَض فان قَالُوا لَا يلْزم القَوْل بِوُجُوب إشاعته لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُكَلف الْمَرْء ذَلِك الحكم بِشَرْط وُصُوله إِلَيْهِ وَإِن لم يصل إِلَيْهِ لم يكن مُكَلّفا قيل إِن جَازَ ذَلِك فِي آحَاد من النَّاس جَازَ فِي جَمَاعَتهمْ على أَن وجوب الْوتر يعم الْبلوى بِهِ وَلم يتواتر النَّقْل بِوُجُوبِهِ وَقَوْلهمْ قد تَوَاتر النَّقْل بالوتر لَا يعصمهم من التَّنَاقُض لِأَن الْوُجُوب يعم بِهِ الْبلوى وَالنَّقْل لَهُ لم يتواتر فَأَما القي والرعاف فِي الصَّلَاة فالبلوى بهما عَام وَلَيْسَ يبطل عُمُومه كَون مس الذّكر أَعم مِنْهُ فصل فِي خبر الْوَاحِد إِذا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلاف مُقْتَضَاهُ اعْلَم ان الرَّاوِي إِذا روى شَيْئا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خِلَافه فَلَا يَخْلُو الْخَبَر الَّذِي رَوَاهُ إِمَّا أَن يتَنَاوَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِمَّا لَا يتَنَاوَلهُ فان لم يتَنَاوَلهُ نَحْو أَن يكون خَبرا عَن وجوب الْفِعْل على غَيره أَو يكون أمرا أَو نهيا لغيره عَن فعل وَيكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد فعل مَا نهي عَنهُ أَو لم يفعل مَا أَمر بِهِ فانه إِن لم تدل

فصل في الرواية بحسب سماع الراوي

دلَالَة من إِجْمَاع أَو غَيره على أَن حكم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم غَيره فِي ذَلِك الْفِعْل فانه لَا تعَارض بَين ذَلِك الْخَبَر وَبَين فعله وَإِن دلّت على ان حكم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم غَيره فِي ذَلِك فَالْكَلَام فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْقسم الَّذِي سَنذكرُهُ الْآن وَإِن كَانَ الْخَبَر يتَنَاوَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن يكون خَبرا عَن الْوُجُوب عَلَيْهِ وعَلى غَيره أَو حِكَايَة عَن الله تَعَالَى يتَنَاوَلهُ ويتناول غَيره فانه يكون معرضًا لَهُ فان أمكن أَن يخص أَحدهمَا بِالْآخرِ فعل ذَلِك وَإِن لم يُمكن وَكَانَ أحد الْخَبَرَيْنِ متواترا دون الآخر قضي بالتواتر وَإِن كَانَا منقولين بالآحاد رَجَعَ فيهمَا إِلَى التَّرْجِيح وَلَيْسَ يجوز مَعَ هَذَا التَّنَافِي أَن يَكُونَا منقولين بالتواتر فصل فِي الرِّوَايَة بِحَسب سَماع الرَّاوِي إِذا قَالَ الرَّاوِي حَدثنِي فلَان أَو أَخْبرنِي فلَان أَو سَمِعت فلَانا وَقد حدث بذلك من سَمعه يَقُول هَذَا القَوْل فَلِمَنْ سَمعه أَن يَقُول حَدثنِي وَأَخْبرنِي وَسمعت مِنْهُ وَإِذا قريء على الْإِنْسَان الْأَحَادِيث ثمَّ قَالَ عِنْد الْفَرَاغ من الْقِرَاءَة الْأَمر كَمَا قريء عَليّ أَو قَالَ قد سَمِعت مَا قريء عَليّ فانه يكون بِهَذَا القَوْل مُحدثا على الْجُمْلَة فَلِمَنْ سمع الْقِرَاءَة عَلَيْهِ وَسمع الشَّيْخ يَقُول ذَلِك أَن يَقُول حَدثنِي وَأَخْبرنِي وَسمعت من فلَان أَلا ترى أَنه لَا فرق فِي جَوَاز الشَّهَادَة على البيع بَين أَن يلفظ البَائِع عِنْد الشَّاهِد بِلَفْظ البيع وَبَين أَن يقْرَأ عَلَيْهِ كتاب البيع فَيَقُول الْأَمر كَمَا قريء عَليّ فَأَما إِذا قريء عَلَيْهِ فَلم يُنكر وَلم يقل الْأَمر على مَا قريء عَليّ أَو قد سَمِعت مَا قريء فللسامعين أَن يعملوا على تِلْكَ الْأَحَادِيث لِأَن ترك النكير يدل على سَمَاعه الْأَحَادِيث وَلَيْسَ لمن سمع الْقِرَاءَة أَن يَقُول حَدثنِي أَو أَخْبرنِي أَو سَمِعت لِأَن الشَّيْخ لم يلفظ بِشَيْء سَمعه مِنْهُ وَلَا فصل بَين التحدث والإخبار فان قيل إِمْسَاكه عَن النكير يجْرِي مجْرى إِبَاحَته أَن يتحدث عَنهُ قيل لَو أباحهم أَن يتحدثوا عَنهُ لم يجز لَهُم التحدث عَنهُ إِذا لم يُحَدِّثهُمْ لِأَن الْكَذِب لَا

يصير مُبَاحا باباحته إِن قيل الْعَادة قد أجرت سكُوت الشَّيْخ عَن الْإِنْكَار مجْرى قَوْله قد سَمِعت مَا قريء عَليّ فَكَانَ لَهُم أَن يتحدثوا عَنهُ قيل إِمْسَاكه يجْرِي مجْرى قَوْله سَمِعت ذَلِك فِي الدّلَالَة على انه قد سَمعه وَلَيْسَ يخرج من ان يكون الشَّيْخ لم يتَلَفَّظ بالأخبار والتحدث وَله أَن يَقُول قَرَأت على فلَان أَو قريء عَلَيْهِ وَأَنا أسمع وَأما المناولة فَهِيَ أَن يُشِير الْإِنْسَان إِلَى كتاب يعرف مَا فِيهِ من الْأَحَادِيث فَيَقُول لغيره قد سَمِعت مَا فِي هَذَا الْكتاب فَيكون بذلك مُحدثا لِأَنَّهُ سَمعه وَيجوز لذَلِك الْغَيْر أَن يرويهِ عَنهُ فَيَقُول حَدثنِي فلَان أَو أَخْبرنِي فلَان وَسَوَاء قَالَ اروه عني أَو لم يقل فَأَما إِذا قَالَ لَهُ حدث عني بِمَا فِي هَذَا الْجُزْء وَلم يقل سمعته فانه لَا يكون مُحدثا لَهُ بِهِ وَإِنَّمَا أجَاز لَهُ التحدث بِهِ عَنهُ فَلَيْسَ لَهُ أَن يحدث عَنهُ لِأَنَّهُ يكون بالتحدث عَنهُ كَاذِبًا وَلَيْسَ يصير ذَلِك مُبَاحا باباحته لَهُ وَإِذا سمع الشَّيْخ نُسْخَة من كتاب مَشْهُور لم يجز لَهُ أَن يُشِير إِلَى غير تِلْكَ النُّسْخَة من ذَلِك الْكتاب فَيَقُول قد سمعته لِأَن النّسخ من الْكتاب الْوَاحِد قد تخْتَلف إِلَّا أَن يعلم أَن النسختين تتَّفقَانِ وَأما الْكِتَابَة فَهِيَ أَن يكْتب الشَّيْخ إِلَى غَيره أَنه سمع الْكتاب الْفُلَانِيّ أَو النُّسْخَة الْفُلَانِيَّة فان اضْطر الْمَكْتُوب إِلَيْهِ أَنه خطه جَازَ أَن يروي عَنهُ وَإِن لم يضْطَر إِلَى ذَلِك لكنه ظَنّه جَازَ أَن يروي بِحَسب ظَنّه وَأما الْإِجَازَة فَهِيَ أَن يَقُول الْإِنْسَان لغيره قد أجزت لَك أَن تروي عني مَا صَحَّ من أحاديثي وَأَصْحَاب الحَدِيث يجيزون ذَلِك ويسوغون لمن اجيز لَهُ أَن يَقُول أَخْبرنِي فلَان وَلَا يجيزون لَهُ أَن يَقُول حَدثنِي قَالُوا لِأَن قَوْله قد أجزت لَك أَن تروي مَا صَحَّ عني من أحاديثي يجْرِي فِي الْعَادة مجْرى قَوْله مَا صَحَّ عني من أحاديثي قد سمعته فاروه عني وَاعْلَم أَن ظَاهر الْإِجَازَة هِيَ إِبَاحَة الشَّيْخ التحديث عَنهُ والإخبار عَنهُ من غير أَن يُخبرهُ ويحدثه وَهَذَا

إِبَاحَة الْكَذِب وَلَيْسَ لَهُ ذَلِك وَلَا لغيره أَن يستبيح الْكَذِب إِذا أُبِيح فان ثَبت أَن قَوْله قد أجزت لَك أَن تروي عني إِقْرَار من جِهَة الْعَادة أَنه سمع مَا صَحَّ عَنهُ فَحكمه حكم المناولة وَالله أعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي قَول الصَّحَابِيّ أمرنَا بِكَذَا مَا حكمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَنْبَغِي أَن نذْكر من الصَّحَابِيّ وَمَا طَرِيق كَونه صحابيا ثمَّ نتكلم فِي قَول الصَّحَابِيّ أمرنَا أَن نَفْعل كَذَا مَا الَّذِي يفِيدهُ أما الصَّحَابِيّ فَيَنْبَغِي أَن يجْتَمع فِيهِ أَمْرَانِ حَتَّى يكون صحابيا أَحدهمَا أَن يُطِيل مجالسة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن من رَآهُ من الوافدين عَلَيْهِ وَغَيرهم وَلكم يطلّ الْمكْث لَا يُسمى صحابيا وَالْآخر أَن يُطِيل الْمكْث مَعَه على طَرِيق التبع لَهُ وَالْأَخْذ عَنهُ والاتباع لَهُ وَلِهَذَا لَا نصف من أَطَالَ مجالسة الْعَالم وَلم يقْصد الْمُتَابَعَة لَهُ بِأَنَّهُ من أَصْحَابه وَأما طريقنا إِلَى كَون الصَّحَابِيّ صحابيا فطريقان أَحدهمَا يَقْتَضِي الْعلم وَهُوَ الْخَبَر الْمُتَوَاتر بِأَنَّهُ صحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليتبعه وَالْآخر يَقْتَضِي الظَّن وَهُوَ إِخْبَار الثِّقَة بذلك إِمَّا هُوَ وَإِمَّا غَيره فاذا قد عرفنَا من الصَّحَابَة فلنتكلم فِي مسَائِل مِنْهَا قَول الصَّحَابِيّ امرنا بِكَذَا أَو نهينَا عَن كَذَا أَو أوجب علينا كَذَا أَو أُبِيح لنا كَذَا أَو حظر علينا كَذَا أَو من السّنة كَذَا وَمِنْهَا أَن يَقُول الصَّحَابِيّ قلت هَذَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمِنْهَا قَول الصَّحَابِيّ كُنَّا نَفْعل كَذَا وَكَذَا

وَمِنْهَا قَول الصَّحَابِيّ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا وَمِنْهَا أَن يَقُول الصَّحَابِيّ قولا لَا مجَال للِاجْتِهَاد فِيهِ أما قَول الصَّحَابِيّ أمرنَا أَن نَفْعل كَذَا أَو نهينَا عَن كَذَا فَذهب الشَّافِعِي وَالشَّيْخ أَبُو عبد الله وقاضي الْقُضَاة أَنه يُفِيد أَن الْآمِر هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن لَيْسَ ذَلِك هُوَ الظَّاهِر بل يجوز أَن يكون الْآمِر غَيره وَحمل على ذَلِك قَول الرَّاوِي أَمر بِلَال أَن يشفع الْأَذَان ويوتر الْإِقَامَة وَالدَّلِيل على القَوْل الأول أَن من الْتزم طَاعَة رَئِيس فانه إِذا قَالَ أمرنَا بِكَذَا وَكَذَا فانه يفهم مِنْهُ مَا يلْتَزم طَاعَته ويؤثر أمره أَلا ترى أَن الرجل من أَوْلِيَاء السُّلْطَان إِذا قَالَ فِي دَار السُّلْطَان أمرنَا بِكَذَا أَو نهينَا عَن كَذَا فهم مِنْهُ أَن السُّلْطَان الَّذِي يلْتَزم طَاعَته هُوَ الَّذِي أَمر وَأَيْضًا فغرض الصَّحَابِيّ أَن يعلمنَا الشَّرْع ويفيدنا الحكم فَيجب حمل ذَلِك على من يصدر الشَّرْع عَنهُ دون الْأَئِمَّة والولاة لِأَن امرهم لَا يُؤثر فِي الشَّرْع وَلَا هم المتبعون فِيهِ وَلَا يحمل هَذَا القَوْل على أَمر الله عز وَجل لِأَن أَمر الله عز وَجل ظَاهر للْكُلّ لَا نستفيده من كَلَام الصَّحَابِيّ وَلَا نحمله على جمَاعَة الْأمة لِأَن قَول الصَّحَابِيّ أمرنَا إِن أَفَادَ ذَلِك أَفَادَ أَن جَمِيع الامة أمرت بذلك وَهِي لَا تَأمر نَفسهَا فاما قَول الصَّحَابِيّ أوجب علينا كَذَا أَو حظر علينا كَذَا أَو ابيح لنا كَذَا فانه يفهم مِنْهُ أَن الْمُوجب الْمُبِيح الحاظر هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الْإِبَاحَة والحظر والإيجاب على الْحَقِيقَة لَا تحصل من بشر سواهُ وَإِذا قَالَ الْإِنْسَان من السّنة كَذَا لم يعقل مِنْهُ إِلَّا سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا أَن قَوْلنَا هَذَا الْفِعْل طَاعَة يُفِيد أَنه طَاعَة لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ إِن قيل يجوز أَن يكون الصَّحَابِيّ إِنَّمَا قَالَ اوجب علينا كَذَا لِأَنَّهُ سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَمر بذلك الشَّيْء فَحَمله على الْإِيجَاب فَلَا يلْزم ذَلِك من لم يقل إِن الْأَمر لَيْسَ على الْوُجُوب الْجَواب أَن من يَقُول إِن الْأَمر على

الْوُجُوب يلْزمه أَن يَأْخُذ بقول الصَّحَابِيّ أوجب علينا كَذَا وَلَا يسْقط عَنهُ الْوُجُوب لما قَالَه السَّائِل وَمن لم يقل إِن الْأَمر على الْوُجُوب يلْزمه ذَلِك أَيْضا لِأَن الظَّاهِر من الصَّحَابِيّ أَنه لم يقل ذَلِك إِلَّا مَعَ زول الْإِشْكَال وَالْخلاف وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يكون قد سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَفْظَة الْوُجُوب أَو اضْطر إِلَى ذَلِك من قَصده إِن قيل أَلَيْسَ قد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا وعني بذلك سنة غَيره قُلْنَا لسنا نمْنَع من ذَلِك مَعَ التَّقْيِيد وَإِنَّمَا نمْنَع من أَن يفهم من إِطْلَاق السّنة سنة غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما قَول الصَّحَابِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد قَالَ قوم إِنَّه يحْتَمل أَن يكون أخبرهُ غَيره عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يسمعهُ مِنْهُ وَقَالَ قوم الظَّاهِر أَنه سَمعه مِنْهُ وَهَكَذَا ذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح فَأَما إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ كُنَّا نَفْعل كَذَا وَكَذَا فَالظَّاهِر مِنْهُ أَنه قصد أَن يعلمنَا بِهَذَا الْكَلَام حكما ويفيدنا شرعا وَلَا يكون كَذَلِك إِلَّا وَقد كَانُوا يَفْعَلُونَهُ على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على وَجه يظْهر لَهُ فَلَا يُنكره وَلِهَذَا كَانَ الظَّاهِر من قَول الرَّاوِي كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا أَن جمَاعَة الامة كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك أَو يفعل الْبَعْض فَلَا يُنكر أَو يفعل على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيعلم بِهِ وَلَا يُنكره وَذَلِكَ كَقَوْل عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا كَانُوا لَا يقطعون الْيَد فِي الشَّيْء التافه فَأَما إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ قولا لَا مجَال للِاجْتِهَاد فِيهِ فَحسن الظَّن بِهِ يَقْتَضِي أَن يكون قَالَه عَن طَرِيق فاذا لم يكن الِاجْتِهَاد فَلَيْسَ إِلَّا أَنه سَمعه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم =

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي مَذْهَب الرَّاوِي إِذا كَانَ بِخِلَاف رِوَايَته مَا الْمَعْقُول مِنْهُ وَهل يخْتَص بِهِ رِوَايَته أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُكيَ عَن بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة وَغَيرهم أَن الرَّاوِي للْحَدِيث الْعَام إِذا خصّه أَو تَأَوَّلَه وَجب الْمصير إِلَى تَأْوِيله وتخصيصه لِأَن بمشاهدته النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعرف بمقاصده وَلذَلِك حملُوا رِوَايَة أبي هُرَيْرَة فِي غسل الْإِنَاء من ولوغ الْكَلْب سبعا على النّدب لِأَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يقْتَصر على الثَّلَاث وَقَالَ أَبُو الْحسن الْمصير إِلَى ظَاهر الْخَبَر أولى وَمِنْهُم من جعل التَّمَسُّك بِظَاهِر الْخَبَر أولى من تَأْوِيل الرَّاوِي إِذا كَانَ تَأْوِيله بِخِلَاف ظَاهر الْخَبَر قَالَ فان كَانَ تَأْوِيله هُوَ أحد محتملي الظَّاهِر حملت الرِّوَايَة عَلَيْهِ وَهُوَ ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي لِأَنَّهُ حمل مَا رَوَاهُ ابْن عمر من حَدِيث الِافْتِرَاق على افْتِرَاق الْأَبدَان لِأَنَّهُ مَذْهَب ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة إِن لم يكن لمَذْهَب الرَّاوِي وتأويله وَجه إِلَّا أَنه علم قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى ذَلِك التَّأْوِيل ضَرُورَة وَجب الْمصير إِلَى تَأْوِيله وَإِن لم يعلم ذَلِك بل جوز أَن يكون صَار إِلَى ذَلِك التَّأْوِيل لنَصّ أَو قِيَاس وَجب النّظر فِي ذَلِك الْوَجْه فان اقْتضى ذَلِك مَا ذهب إِلَيْهِ الرَّاوِي وَجب الْمصير إِلَيْهِ وَإِلَّا لم يصر إِلَيْهِ وَهَذَا صَحِيح وَكَذَلِكَ إِذا علم انه صَار إِلَى ذَلِك التَّأْوِيل لنَصّ جلي لَا مساغ للِاجْتِهَاد فِي خِلَافه وتأويله فَأَنَّهُ يلْزم الْمصير إِلَى تَأْوِيله كَمَا لَو صرح بالرواية عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لذَلِك التَّأْوِيل قَالَ قَاضِي الْقُضَاة فان كَانَ الْخَبَر الَّذِي رَوَاهُ مُجملا وَبَينه الرَّاوِي فان بَيَانه اولى وَدَلِيل الشَّيْخ ابي الْحسن رَحمَه الله هُوَ أَن مَذْهَب الرَّاوِي لَيْسَ بِحجَّة وَقَول النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام حجَّة فَلم يجز الْعُدُول عَنهُ إِلَى مَا لَيْسَ بِحجَّة وَدَلِيلنَا أَن نخص الْعُمُوم لتخصيص النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَإِنَّمَا نستدل بِمذهب الرَّاوِي على تَخْصِيص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ وَيجْرِي مَذْهَبهم مجْرى روايتهم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَوجه الِاسْتِدْلَال بذلك هُوَ انه إِذا لم يكن فِيمَا يعرفهُ من النُّصُوص ووجوه الِاجْتِهَاد مَا يَقْتَضِي

ذَلِك التَّخْصِيص فَلَا يَخْلُو الرَّاوِي إِمَّا أَن يكون قَالَ مَا قَالَ لشَهْوَة أَو لِأَنَّهُ اضْطر إِلَى قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى التَّخْصِيص أَو لِأَنَّهُ سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك نصا جليا لَا يسوغ الِاجْتِهَاد فِي خِلَافه اَوْ سمع نصا مُحْتملا وَالظَّاهِر من دينه يمْنَع من تَخْصِيص الْعُمُوم بالتشهي وَيمْنَع من أَن لَا ينْقل الحَدِيث الْمُحْتَمل لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن أَن يكون اجْتِهَاد غَيره فِيهِ خلاف اجْتِهَاده فَيثبت القسمان الْآخرَانِ وَأيهمَا كَانَ وَجب التَّخْصِيص كَمَا لَو أظهر الرِّوَايَة بذلك فان قيل لم لم ينْقل قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو النَّص الْجَلِيّ قيل لِأَن تَخْصِيصه الْعُمُوم مَعَ دينه يجْرِي مجْرى نَقله النَّص من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فان قيل أفما تجوزون أَن يكون قد وهم فَظن من قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا لَا أصل لَهُ وتوهم أَنه عَالم بذلك قيل الظَّاهِر من دينه أَنه مَا خص الْعُمُوم إِلَّا وَقد اضْطر إِلَى قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك كَمَا أَن الظَّاهِر من رِوَايَة الضَّابِط المتيقظ أَنه لم يخطيء سَمعه وَإِن جَازَ خلاف ذَلِك بِأَن يتَوَهَّم خلاف مَا قَالَه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الاخبار الْمُعَارضَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْخَبَرَيْنِ المتعارضين إِمَّا أَن يَكُونَا معلومين أَو غير معلومين أَو أَحدهمَا مَعْلُوم وَالْآخر غير مَعْلُوم فان كَانَا معلومين فإمَّا ان يَكُونَا خاصين اَوْ عَاميْنِ اَوْ أَحدهمَا خَاص وَالْآخر عَام فان كَانَا عَاميْنِ فاما أَن يَكُونَا عَاميْنِ من كل وَجه أَو كل وَاحِد مِنْهُمَا عَاما من وَجه خَاصّا من وَجه فان كَانَ احدهما عَاما وَالْآخر خَاصّا قضي بالخاص على الْعَام وَإِن كَانَا خاصين على الْإِطْلَاق أَو عَاميْنِ على الْإِطْلَاق وَعرف التأريخ فيهمَا قضينا بنسخ الْمُتَأَخر مِنْهُمَا للمتقدم فان لم يعرف التأريخ فيهمَا فَإِن أمكن التَّخْيِير فيهمَا فعل ذَلِك وَإِن لم يُمكن التَّخْيِير فيهمَا أَو أمكن ذَلِك لَكِن الْأمة منعت مِنْهُ حكمنَا بَان التَّعَبُّد فيهمَا بالنسخ عِنْد من عرف التأريخ وَأَن التَّعَبُّد علينا هُوَ بِالرُّجُوعِ إِلَى

مُقْتَضى الْعقل لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحدهمَا أولى من الآخر وَلَا يجوز تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر بِمَا يرجع إِلَى إِسْنَاده لِأَن التَّرْجِيح بذلك يَقْتَضِي قُوَّة الظَّن لثُبُوت احدهما وَلَيْسَ وَاحِد مِنْهُمَا مظنونا فيقوى ظننا لَهُ وَيجوز ان يُقَال إِن التَّعَبُّد علينا بِأَحَدِهِمَا يُقَوي بِمَا يرجع إِلَى صفة الحكم نَحْو الْحَظْر وَالْوُجُوب لِأَن ذَلِك لَيْسَ يَقْتَضِي قُوَّة الظَّن لثُبُوت الْخَبَر وَإِنَّمَا يَقْتَضِي التَّعَبُّد والتعبد عِنْد التَّعَارُض قد يدْخل الظَّن فِي شَرَائِطه وَإِن كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا خَاصّا من وَجه عَاما من وَجه فَلَيْسَ تَخْصِيص أَحدهمَا بِالْآخرِ أولى من الْعَكْس فَيجوز أَن يرجح كَون أَحدهمَا مُخَصّصا للْآخر بِمَا يرجع إِلَى الحكم من كَونه مَحْظُورًا أَو غير ذَلِك وَمِثَال ذَلِك من الْقُرْآن قَوْله تَعَالَى {وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قد سلف} وَقَوله {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} وَإِن كَانَ أحد الْخَبَرَيْنِ مَعْلُوما وَالْآخر مظنونا وَكَانَ أَحدهمَا خَاصّا فانه يَقع التَّخْصِيص بِهِ مَعْلُوما كَانَ الْخَاص أَو مظنونا وَإِن لم يكن أَحدهمَا خَاصّا حكم بالمعلوم لِأَنَّهُ لَا يجوز إطراحه إِلَى المظنون وَإِن كَانَا مظنونين قضي بالخاص مِنْهُمَا إِن كَانَ فيهمَا خَاص وَإِن لم يكن رجح أَحدهمَا على الآخر وَعمل على الْأَرْجَح وَيُقَال أَيْضا فِي قسْمَة الْأَخْبَار المتعارضة أَن الْخَبَرَيْنِ إِذا تَعَارضا فإمَّا أَن يُمكن الْجمع بَينهمَا اَوْ لَا يُمكن فان أمكن فإمَّا ان يُمكن الْجمع بَينهمَا فِي وَقت وَاحِد أَو فِي وَقْتَيْنِ أما فِي وَقت وَاحِد فبأن يحمل أَحدهمَا لمَكَان الآخر على مجَاز إِمَّا بالتخصيص وَإِمَّا بِغَيْرِهِ وَأما فِي وَقْتَيْنِ فبأن يعلم تقدم أَحدهمَا بِعَيْنِه على الآخر فَيكون مَنْسُوخا بِمَا تاخر عَنهُ وَأما مَا لَا يُمكن الْجمع بَينهمَا فإمَّا أَن لَا يُمكن لأنفسهما أَو لأمر اقتران بهما فَمَا لَا يُمكن لأمر اقْترن بهما فَهُوَ أَن يُمكن تاويل أَحدهمَا بِالْآخرِ لَكِن الْأمة منعت من ذَلِك كَرِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة يُمكن تَخْصِيصه فِي الجنسين الْمُخْتَلِفين بِخَبَر أبي سعيد لَكِن السّلف على قَوْلَيْنِ أَكْثَرهم تَركه وَصَارَ إِلَى رِوَايَة أبي

سعيد والأقل أَخذ بِهِ وَأما الَّذِي لَا يُمكن ذَلِك فِيهِ لأنفسهما فَلهُ شُرُوط مِنْهَا أَن يكون حكم أَحدهمَا نفيا لحم الآخر أَو حكم أَحدهمَا ضدا لحكم الآخر وَمِنْهَا أَن يتَعَلَّق كل وَاحِد مِنْهُمَا بِمَا تعلق بِهِ الآخر على الْحَد الَّذِي تعلق بِهِ الآخر فِي الْوَقْت الَّذِي تعلق بِهِ الآخر وَلَا يكون أَحدهمَا خَاصّا وَالْآخر عَاما بل يكونَانِ خاصين أَو عَاميْنِ أَو كل وَاحِد مِنْهُمَا خَاصّا من وَجه عَاما من وَجه فَلَا يكون أَحدهمَا بِأَن يكون مَخْصُوصًا بِالْآخرِ بِأولى من الْعَكْس وَمِنْهَا أَن لَا يعلم تقدم أَحدهمَا على الآخر وَمَتى تَعَارضا هَذَا التَّعَارُض رجح بَينهمَا وَعمل على التَّرْجِيح وَإِن تَسَاويا فِي التَّرْجِيح فسنذكر حكمه إِن شَاءَ الله إِن قيل كَيفَ يثبت التَّنَافِي فِي الْأَخْبَار وَلَيْسَ فِي الألفلظ إِلَّا مَا يُمكن تَأْوِيله على مُوَافقَة غَيره قيل قد يكون فِي الْأَلْفَاظ مَا لَا يُمكن ذَلِك فِيهِ إِلَّا بالتعسف الشَّديد فِي التَّأْوِيل وَمثل ذَلِك لَا يُوجد فِي كَلَام حَكِيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يتَرَجَّح بِهِ أحد الْخَبَرَيْنِ على الآخر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْخَبَر يرجح على الْخَبَر بِمَا يرجع إِلَى سَنَده وَبِمَا يرجع إِلَى مَتنه والراجع إِلَى سَنَده ضَرْبَان أَحدهمَا كَثْرَة الروَاة وَالْآخر أَحْوَالهم وَكَثْرَة الروَاة ضَرْبَان أَحدهمَا تكون الْكَثْرَة مُسَمَّاة وَالْآخر لَا تكون مُسَمَّاة فَالْأول أَن يروي أحد الْخَبَرَيْنِ صَحَابِيّ مَذْكُور وَالْآخر يرويهِ صحابيان مذكوران وَالثَّانِي أَن يروي كل وَاحِد من الْخَبَرَيْنِ صَحَابِيّ مَذْكُور ويروي أَيْضا أَحدهمَا تَابِعِيّ ثِقَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمعلوم أَنه مَا أَخذ الْعلم ذَلِك عَن الصَّحَابِيّ الْمَذْكُور الَّذِي رَوَاهُ وَلَا عَمَّن أَخذ الْعلم عَنهُ فَيعلم أَنه قد رَوَاهُ صَحَابِيّ آخر

وَأما التَّرْجِيح بأحوال الروَاة فانه يَقع بِقُوَّة الْأَحْوَال المراعاة فِي قبُول الْخَبَر وَهِي ضَرْبَان أَحدهمَا الدّين والورع والتحري وَالْآخر الْعلم والبصيرة بِمَا يرويهِ أما الأول فبأن يكون رَاوِي أحد الْخَبَرَيْنِ أَشد تحريا وَأكْثر ورعا وَأما الثَّانِي فضربان أَحدهمَا أَن تكون قُوَّة علم الرَّاوِي وَشدَّة بصيرته لَا تخْتَص بذلك الْخَبَر وَمَا يتَعَلَّق بِهِ وَالْآخر يخْتَص بذلك الْخَبَر وَمَا يتَعَلَّق بِهِ أما الأول فبأن يكون أَحدهمَا أضبط وَقد يكون أضبط لِأَنَّهُ أَشد تيقظا وأوفر عقلا وأغزر فقها وَقد يسْتَدلّ على أَنه أضبط بِكَوْنِهِ أَكثر اشتغالا بِالْحَدِيثِ وَأَشد انْقِطَاعًا إِلَيْهِ بقلة مَا يَقع فِي حَدِيثه إِلَيْهِ من الْخلَل فِي الْمَعْنى وَاللَّفْظ وَأما مَا يخْتَص الْخَبَر وَمَا يتَعَلَّق بِهِ فراجع إِلَى قُوَّة طَرِيق الرَّاوِي نَحْو أَن يروي زيد أَنه شَاهد عمرا بِبَغْدَاد فِي الْيَوْم الْفُلَانِيّ فِي وَقت السحر ويروي الآخر أَنه شَاهده فِي ذَلِك الْيَوْم بِالْبَصْرَةِ الظّهْر فان طَرِيق هَذَا أظهر وَدخُول اللّبْس على الرَّاوِي وَالْآخر أَكثر وَنَحْو أَن يُرْسل أَحدهمَا الحَدِيث ويسنده الآخر على قَول بَعضهم لِأَن الثِّقَة لَا يُرْسل الحَدِيث فَيَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا وَقد اشتدت ثقته بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لذَلِك وَنَحْو أَن يكون أحد الراويين أَشد مُلَابسَة بِمَا رَوَاهُ فَيكون طَرِيقه إِلَيْهِ أظهر فَكَذَلِك رجعت الصَّحَابَة إِلَى أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَحْكَام الْجَنَابَة وَرجح الشَّافِعِي رِوَايَة أبي رَافع فِي تَزْوِيج مَيْمُونَة على رِوَايَة ابْن عَبَّاس لأَنا أَبَا رَافع السفير فِي ذَلِك فَكَانَ أعرف بالقصة وَنحن نذْكر الْآن الْأَدِلَّة على ذَلِك إِن شَاءَ الله أما كَثْرَة الروَاة فقد رجح بهَا الشَّافِعِي وَالشَّيْخ أَبُو الْحسن وَلم يرجح بهَا قوم وَالدَّلِيل على التَّرْجِيح بِهِ أَن أحد الْخَبَرَيْنِ إِنَّمَا يرتجح على صَاحبه بِقُوَّة يتَمَيَّز بهَا وَكَثْرَة الْعدَد قُوَّة أما اعْتِبَار الْقُوَّة فِي الْأَخْبَار فقد رَجَعَ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ بأخبار الْآحَاد وَأَجْمعُوا على الِاحْتِيَاط فِي الْإِخْبَار وَأما أَن كَثْرَة الروَاة تحصل بهَا قُوَّة الْخَبَر فَلِأَن الروَاة إِذا بلغُوا حدا من الْكَثْرَة وَقع الْعلم بخبرهم فَكلما قاربوا تِلْكَ الْكَثْرَة قوي الظَّن لصدقهم وَلِأَن السَّهْو والغلط مَعَ الْكَثْرَة أقل وَكَذَلِكَ الْكَذِب لِأَن الْإِنْسَان يستحي أَن يطلع غَيره على كذبه وَلَا يستحي إِذا

لم يشْعر بِهِ غَيره وقاس الْمُخَالف الْخَبَر على الشَّهَادَة بعلة أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا خبر عَمَّا يتَعَلَّق بِهِ حكم فَلم يتَرَجَّح بِكَثْرَة المخبرين الْجَواب إِن قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله حكى فِي الدَّرْس أَن مَالِكًا رَحمَه الله رجح إِحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ بِكَثْرَة الشُّهُود وَغَيره لم يرجحها بِالْكَثْرَةِ قَالَ لِأَن الشَّهَادَة أصل فِي نَفسه أَلا ترى أَنه اعْتبر فِيهَا لفظ مَخْصُوص وَلَيْسَ يجب إِذا لم يجز الشَّهَادَة على مُوجب الْقيَاس فِي ذَلِك من التَّرْجِيح بِقُوَّة الظَّن أَن لَا يجْرِي الْخَبَر على ذَلِك لِأَن الأَصْل هُوَ التَّرْجِيح بِقُوَّة الظَّن إِذْ الظَّن الْقوي مَعَ ظن أَضْعَف مِنْهُ كَالْعلمِ مَعَ الظَّن لِأَن فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا زِيَادَة لَيست فِي الآخر فاذا كَانَ الأَصْل ثُبُوت التَّرْجِيح بذلك فَمَا خرج عَن هَذَا الأَصْل لَا يجوز قِيَاس مَا عداهُ عَلَيْهِ بل يجب تبقيه مَا عداهُ على حكم الأَصْل وقاس الْمُخَالف أَيْضا الْخَبَر على الْفَتْوَى فِي أَنه لَا يتَرَجَّح إِحْدَى الفتويين على الْأُخْرَى بِكَثْرَة الْمُفْتِينَ وَالْجَوَاب مَا ذَكرْنَاهُ من أَن خُرُوج الْبَعْض من هَذِه الْمسَائِل عَن مُوجب الْقيَاس لَا يَقْتَضِي خُرُوج الْبَعْض الآخر مِنْهُ وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح إِنَّه لَو رجح إِحْدَى الفتويين بِكَثْرَة الْمُفْتِينَ جَازَ وَأما التَّرْجِيح بِزِيَادَة الْوَرع والتحري فانما وَجب لِأَن الْكَذِب والتساهل مَعهَا أبعد فالظن لصدق الرَّاوِي أقوى وَالْخَطَأ مَعَ قُوَّة الضَّبْط أبعد فالظن لصدق الْخَبَر مَعَه يكون أقوى وَالْخَطَأ مَعَ كَون الرَّاوِي أفقه ابعد إِذا كَانَ يروي على الْمَعْنى فَأَما رِوَايَة اللَّفْظ فانه يَسْتَوِي فِيهِ الْفَقِيه وَغَيره والغلط مَعَ الْأَشْيَاء الَّتِي لَا تَلْتَبِس الْحَال فِيهَا أبعد وَكَون أحد الراويين أَشد مُلَابسَة لما ورد الْخَبَر فِيهِ يبعد مَعَه الالتباس والاشتباه وَأما تَرْجِيح الْمُرْسل على الْمسند فَلم يذهب إِلَيْهِ أَكثر النَّاس وَذهب عِيسَى ابْن ابان إِلَى التَّرْجِيح بِهِ لِأَن الثِّقَة لَا يُرْسل الحَدِيث وَيَقُول قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا وَقد وثق أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه قَالَ قَاضِي الْقُضَاة هَذَا الْكَلَام يتَوَجَّه إِذا قَالَ الرَّاوِي قَالَ النَّبِي فَأَما إِذا قَالَ عَن النَّبِي فانه لَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ هَذَا

الْكَلَام وَأَيْضًا فان قَول الرَّاوِي قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام يحسن مَعَه الظَّن لكَونه قَائِلا لذَلِك كَمَا يحسن مَعَ الْعلم فَمن ايْنَ أَنه لم يقل قَالَ النَّبِي إِلَّا وظنه آكِد من الظَّن الْحَاصِل بِرِوَايَة الْمسند الْمعَارض لَهُ فان قَالَ الْمُرْسل للْحَدِيث إِذا أرْسلت فقد حدثت عَن جمَاعَة من الثِّقَات فَحِينَئِذٍ يكون مرسله اقوى مِمَّن أسْند حَدِيثه إِلَى وَاحِد لأجل الْكَثْرَة وَقد رجح قوم الْخَبَر بِكَوْن الرَّاوِي من أكَابِر السّلف وَكَونه أقدم هِجْرَة وَهَذَا إِنَّمَا يَقع بِهِ التَّرْجِيح من حَيْثُ كَانَ من هَذِه سَبيله أعرف بأحوال النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام واشد خبْرَة بِهِ وَرجح قوم الْخَبَر بِالْحُرِّيَّةِ والذكورية أما الْحُرِّيَّة فَلَا تَأْثِير لَهَا فِي قُوَّة الظَّن وَأما الذكورية فان كَانَ الضَّبْط مَعهَا أَشد وَقع بهَا التَّرْجِيح وكل ذَلِك قد دخل فِيمَا تقدم وَأما التَّرْجِيح بِمَا يرجع إِلَى متن الْخَبَر فضربان أَحدهمَا رَاجع إِلَى لفظ الْخَبَر وَالْآخر لَا يرجع إِلَى لَفظه اما الرَّاجِع إِلَى لَفظه فبأن يكون فِي أَحدهمَا اختلال فِي اللَّفْظ أَو فِي الْمَعْنى وَالْآخر سليما من ذَلِك فيقوى الظَّن لبعده عَن الْخَطَأ والسهو فان قيل فَمَا كَانَ اضْطِرَاب لَفظه بِغَيْر الْمَعْنى يَنْبَغِي أَن لَا يقبل فَلَا معنى للترجيح عَلَيْهِ قيل قد يقبل إِذا أمكن تَأْوِيل ذَلِك الِاضْطِرَاب على بعض الْوُجُوه وَأما مَا لَا يرجع إِلَى اللَّفْظ فضربان أَحدهمَا صفة حكمه وَالْآخر طَرِيق يشْهد بِحكمِهِ فَأَما مَا يشد بالحكم فضربان أَحدهمَا يَكْفِي نَفسه فِي ثُبُوت الحكم وَالْآخر لَا يَكْفِي وَمَا يَكْفِي نَفسه فِي ذَلِك ضَرْبَان احدهما دَلِيل وَالْآخر أَمارَة فالدليل هُوَ الْكتاب وَالسّنة الْمَقْطُوع بهَا لِأَنَّهُ إِذا وَقع التَّرْجِيح بِمَا لَا يَكْفِي نَفسه فِي ثُبُوت الحكم فالترجيح بِمَا لَا يَكْفِي نَفسه أولى وَهَذَا مَفْرُوض فِي كتاب يدل على الحكم على ضرب من الِاشْتِبَاه وَيكون خبر الْوَاحِد تدل عَلَيْهِ دلَالَة ظَاهِرَة فَحِينَئِذٍ يرجح بِالْكتاب وَإِلَّا فَإِن دلّ الْكتاب دلَالَة ظَاهِرَة فَلَا معنى لِأَن يَقع التَّرْجِيح بِهِ بل هُوَ الأَصْل فِي الدّلَالَة وعَلى هَذَا قد يعضد الْإِجْمَاع الْخَبَر فيرجح بِهِ وَإِن انْعَقَد الْإِجْمَاع عَن غَيره وَمن ذَلِك أَن

يكون من عمل بِأحد الْخَبَرَيْنِ قد عمل بِالْآخرِ وَإِن لم يعلم أَي عمليه هُوَ الْمُتَأَخر فَيكون الْخَبَر الَّذِي عمل بِهِ الْفَرِيقَانِ أولى قَالَ قَاضِي الْقُضَاة لأَنا إِذا لم نعلم أَي العملين هُوَ الْمُتَأَخر كَانَ إِجْمَاعًا وَلَيْسَ لنا أَن ندفعه بالمحتمل وَلقَائِل أَن يَقُول سَوَاء كَانَ الْعَمَل بذلك الْخَبَر مُتَقَدما أَو مُتَأَخِّرًا فانه يكون إِجْمَاعًا لِأَنَّهُ إِن كَانَ مُتَقَدما فقد وافقوا رِوَايَة الْخَبَر الآخر وَكَذَلِكَ إِن كَانَ مُتَأَخِّرًا لِأَن رُوَاة الْخَبَر الآخر عاملون بِهِ على كل حَال وَأما الأمارة المرجحة للْخَبَر فَقِيَاس الْأُصُول إِذا شهد بِمَا دلّ عَلَيْهِ الْخَبَر فَأَما مَا لَا يَكْفِي فِي ثُبُوت الحكم فضربان أَحدهمَا أَن يُوَافق أحد الْخَبَرَيْنِ حكم الْعقل الَّذِي يجوز الِانْتِقَال عَنهُ وَذَلِكَ أَن الْعقل لَيْسَ يَكْفِي فِي قبح الْمضرَّة إِلَّا بِشَرْط أَن لَا يُوجد دَلِيل شَرْعِي يدل على أَن فِيهِ مصلحَة وَمَنْفَعَة موفية فان وَافق حكم الْعقل أحد الْخَبَرَيْنِ لم يرجح بذلك على الْخَبَر الآخر فَلذَلِك أخرنا الْكَلَام فِي هَذَا الْقسم وَالضَّرْب الآخر أَن يعْمل أَكثر السّلف بِأحد الْخَبَرَيْنِ ويعيبوا على من خَالفه كَخَبَر الرِّبَا وَقد رجح بذلك عيس بن أبان لِأَن الْأَغْلَب أَن الصَّوَاب يكون مَعَ الْأَكْثَر وَيمْنَع مِنْهُ قَاضِي الْقُضَاة لِأَن عمل الْأَكْثَر لَيْسَ بِحجَّة وَيجوز الْغَلَط عَلَيْهِم كجوازه على الْأَقَل وَأما التَّرْجِيح بِصفة حكم الْخَبَر فوجوه مِنْهَا أَن يكون جكم أحد الْخَبَرَيْنِ مطابقا للْأَصْل وَيكون الآخر نَاقِلا عَن الأَصْل نفيا كَانَ أَو إِثْبَاتًا وَمِنْهَا أَن يكون لأحد الْخَبَرَيْنِ حكم بَاقٍ بِاتِّفَاق وَلَيْسَ كَذَلِك للْخَبَر الآخر

وَمِنْهَا أَن يكون حكم أَحدهمَا أحوط وَمِنْهَا أَن يكون آكِد وَمِنْهَا أَن يكون حكم أَحدهمَا قد ندبنا إِلَى إِسْقَاطه أما إِذا كَانَ حكم احدهما هُوَ الأَصْل فضربان أَحدهمَا أَن يكون الأَصْل من حَال الْمَرْوِيّ عَنهُ وَالْآخر أَن يكون هُوَ الأَصْل فِي الْعقل فَالْأول نَحْو مَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصل فِي الْكَعْبَة وَأَنه لم يقبل وَهُوَ صَائِم وَأَنه تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ حَلَال لِأَن الأَصْل هُوَ عدم الصَّلَاة فِي الْكَعْبَة وَعدم الْقبْلَة وَعدم التَّزْوِيج فَالْخَبَر الْمَرْوِيّ أَنه صلى فِي الْكَعْبَة أولى لِأَن ثِقَة من روى أَنه صلى فِيهَا تَقْتَضِي أَن تحمل رِوَايَة من روى أَنه لم يصل فِيهَا على حسب اعْتِقَاده وَأَنه خَفِي عَلَيْهِ بعض احوال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما رِوَايَة أم سَلمَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقبلهَا وَهُوَ صَائِم فانما هِيَ رِوَايَة عَن حَالهَا مَعَه لَا تعَارض رِوَايَة عَائِشَة أَنه قبلهَا وَهُوَ صَائِم فَلَا يمْنَع من الْأَخْذ بهَا وعدالة رَاوِي تَزْوِيج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَيْمُونَة وَهُوَ حرَام تَقْتَضِي أَن ينْسب رَاوِي تَزْوِيجه إِيَّاهَا وَهُوَ حَلَال إِلَى أَنه استدام الأَصْل فَكَانَت أولى من هَذِه الرِّوَايَة وَالضَّرْب الثَّانِي كَرِوَايَة من روى حكما يَقْتَضِيهِ الْعقل نَحْو إِسْقَاط عبَادَة ويروي الآخر التَّعَبُّد بهَا فرواية الْإِثْبَات أولى لِأَن الظَّاهِر ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا يعلمنَا مَا لَا نعلمهُ من دونه وَهَذَا الظَّاهِر مُطَابق لرِوَايَة من روى الحكم الشَّرْعِيّ فَكَانَت أولى وَلِأَن الظَّاهِر مِمَّا يُطَابق حكم الْعقل أَنه هُوَ الأَصْل الْمُتَقَدّم وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى متأخره فَكَانَت أشبه بالناسخ وَالْأَخْذ بالناسخ أولى وَالْوَجْه الأول أقوى إِن قيل هلا عملتم بِمَا يُوَافق أصل الْعقل لِأَنَّهُ قد عضده دَلِيل وَلَيْسَ كَذَلِك الحكم النَّاقِل قيل إِن الْعقل إِنَّمَا لَا يُوجب الْعِبَادَة بِشَرْط أَن لَا ينْقل

شرع فاذا روى شرع ناقل صَار كَأَن الْعقل مَا اقْتضى نفي تِلْكَ الْعِبَادَة لِأَن شَرط اقتضائه لنفيها قد زَالَ وَالتَّرْجِيح وَاقع بِهَذَا الْقَبِيل وَإِن كَانَ الخبران معلومين إِذا احتججنا بِمَا ذَكرْنَاهُ أخيرا من أَن الْخَبَر النَّاقِل كالناسخ لِأَن النَّاسِخ يقدم على الْمَنْسُوخ وَإِن كَانَا معلومين وَذكر قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله أَن الْخَبَرَيْنِ إِذا كَانَ أَحدهمَا نفيا وَالْآخر إِثْبَاتًا وَكَانَا شرعيين فانهما سَوَاء وَلقَائِل أَن يَقُول لَا بُد أَن يكون أَحدهمَا مطابقا لحكم الْعقل لِأَنَّهُ لَا فعل من الْأَفْعَال إِلَّا وَله فِي الْعقل حكم إِمَّا الْقبْح أَو الْحسن أَو مَا زَاد على الْحسن وَلَيْسَ يكون أحد الْخَبَرَيْنِ نفيا وَالْآخر إِثْبَاتًا إِلَّا وَالنَّفْي مِنْهُمَا نفي لوَاحِد من هَذِه الْأَحْكَام وَالْإِثْبَات مِنْهُمَا إِثْبَات لبعضها فَإِذن أحد هذَيْن الْخَبَرَيْنِ وَاجِب أَن يكون مطابقا لحكم الْعقل وَقد مثل قَاضِي الْقُضَاة ذَلِك بِمَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي الْكَعْبَة وَمَا رُوِيَ أَنه لم يصل فِيهَا وَبِمَا رَوَت عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبلهَا وَهُوَ صَائِم وَمَا رَوَت أم سَلمَة أَنه مَا كَانَ يقبلهَا وَهُوَ صَائِم وَلَيْسَ هَذَا بمثال الْمَسْأَلَة لِأَن الْقبْلَة ونفيها وَالصَّلَاة ونفيها هِيَ أَفعَال وَلَيْسَت بِأَحْكَام فَيُقَال إِنَّهَا عقلية اَوْ شَرْعِيَّة وَإِنَّمَا الْأَحْكَام جَوَاز الصَّلَاة وَنفي جَوَازهَا وَالْعقل لَو تجرد لَكَانَ مطابقا لنفي جَوَازهَا وَأَنَّهَا غير مصلحَة وَكَون الْقبْلَة غير مفْسدَة للصَّوْم هُوَ مُقْتَضى الْعقل وَكَذَلِكَ تَزْوِيج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَيْمُونَة وَهُوَ حَلَال أَو حرَام هُوَ إِيقَاع فعل فِي أَحْوَال وَلَيْسَ ذَلِك بِحكم وَإِنَّمَا الحكم هُوَ حسن ذَلِك مَعَ الْإِحْرَام أَو قبحه وَمُقْتَضى الْعقل هُوَ حسنه فَبَان أَن أَحْكَام هَذِه الْأَفْعَال لَيْسَ يَخْلُو أَن تطابق الْعقل إِمَّا النَّفْي مِنْهَا وَإِمَّا الْإِثْبَات فان مثل ذَلِك بِأَن يَقْتَضِي الْعقل قبح الْفِعْل ويروي خبر فِي إِبَاحَته وَخبر فِي وُجُوبه فَيُقَال إِن وُجُوبه وإباحته شرعيان وَالْإِبَاحَة نفي الْوُجُوب فَالْجَوَاب إِن مَا تضمن الْإِبَاحَة لَا يتَضَمَّن نفي الْوُجُوب فَقَط وَلَو تضمن ذَلِك كَانَ قد تضمن حكما عقليا لِأَن الْقبْح قد اقْتَضَاهُ الْعقل والقبيح غير وَاجِب فَمَا اقْتضى كَونه غير وَاجِب قد

طابق مُقْتَضى الْعقل لَكِن مَا تضمن الْإِبَاحَة قد تضمن نفيا وإثباتا أما النَّفْي فنفي الْوُجُوب وَأما الْإِثْبَات فَهُوَ كَون الْفِعْل حسنا وَهُوَ زِيَادَة نفي الْوُجُوب وَهُوَ حكم شَرْعِي وَالْخَبَر الدَّال على الْوُجُوب أولى لِأَنَّهُ لَا يُعَارض خبر الْإِبَاحَة فِي اقتضائه نفي الْقبْح لِأَن الْوَاجِب غير قَبِيح وَلَا يُعَارضهُ فِي اقتضائه الْحسن لِأَن الْوَاجِب حسن وَإِنَّمَا يُعَارضهُ فِي نفي الْإِيجَاب وَهَذَا هُوَ حكم الْعقل والإيجاب هُوَ الحكم الْمَنْقُول فَكَانَ أولى فَأَما إِذا كَانَ أحد الْخَبَرَيْنِ يَقْتَضِي إِثْبَات حد وَالْآخر يَقْتَضِي نَفْيه فقوم رجحوا الْخَبَر الْمسْقط للحد لِأَن الْحَد يسْقط بالشبه وبتعارض الْبَيِّنَتَيْنِ فَوَجَبَ إِسْقَاطه بتعارض الْخَبَرَيْنِ وَيكون ذَلِك كالشبه فِي إِسْقَاطه وقاضي الْقُضَاة يَقُول هما سَوَاء لِأَن الْحَد إِنَّمَا يسْقط عَن الْأَعْيَان بالشبه فَأَما إثْبَاته فِي الْجُمْلَة فِي الشَّرِيعَة فمفارق لإثباته وإسقاطه فِي أَعْيَان الْأَشْخَاص وَلقَائِل أَن يَقُول إِن تعَارض الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الْحَد إِذا كَانَ شبهه فِي إِسْقَاطه الْأَعْيَان مَعَ ثُبُوته فِي أصل الشَّرِيعَة فبأن يجب إِسْقَاطه فِي الْجُمْلَة إِذا تعَارض خبران وَلم يقدم لَهُ حَالَة ثُبُوت أولى وَأما إِذا تضمن أحد الْخَبَرَيْنِ الْحُرِّيَّة وتضمن الآخر الرّقّ فَذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَنَّهُمَا سيان وَقَالَ غَيره الْمُثبت للحرية أولى لِأَن الْحُرِّيَّة لَا يعترضها من الْأَسْبَاب المبطلة لَهَا مَا يعْتَرض الرّقّ وَلَا يبطل الْحُرِّيَّة بعد ثُبُوتهَا كَمَا يبطل الرّقّ بعد ثُبُوته فَكَانَت الْحُرِّيَّة آكِد فَأَما إِذا اقْتضى أحد الْخَبَرَيْنِ الْحَظْر وَاقْتضى الآخر الْإِبَاحَة فان أَحدهمَا لَا بُد من كَونه مطابقا لمقْتَضى الْعقل فَيكون النَّاقِل عَنهُ أولى وَلَكِن لَا يمْتَنع أَن ينظر هَل للحظر وَجه تَرْجِيح كَمَا أَن النَّقْل عَن أصل الْعقل وَجه تَرْجِيح فان قيل قد يكون الْحَظْر وَالْإِبَاحَة شرعيين إِذا كَانَ حكم الْعقل الْوُجُوب قيل لَيْسَ كَذَلِك لِأَن الْخَبَر الحاظر هُوَ النَّاقِل عَن مُوجب الْعقل الَّذِي هُوَ الْوُجُوب وَالْخَبَر الْمُبِيح لَا يُعَارض حكم الْعقل من حَيْثُ اقْتضى الْحسن وَإِنَّمَا يُعَارضهُ من

حَيْثُ يَنْفِي الْوُجُوب وَلَا مُعَارضَة بَينه وَبَين الْخَبَر الحاظر من هَذِه الْجِهَة وَالْقَوْل فِي الْحَظْر هَل هُوَ وَجه تَرْجِيح يجْرِي هَكَذَا لَا يخلوا الخبران اللَّذَان أَحدهمَا حاظر وَالْآخر مُبِيح إِمَّا أَن يكون لأَحَدهمَا حكم بَاقٍ أَو لَا يكون لأَحَدهمَا حكم بَاقٍ فان كَانَ لَهُ ذَلِك فإمَّا أَن يكون ذَلِك الحكم يعلم بَقَاؤُهُ بذلك الْخَبَر أَو بِغَيْرِهِ فان لم يعلم إِلَّا بذلك الْخَبَر نَحْو أَن يكون حكما شَرْعِيًّا أجمع الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ لأجل ذَلِك الْخَبَر فانه يدل ذَلِك على ثُبُوت الْخَبَر وبقائه لِأَنَّهُ لَو لم يكن كَذَلِك لم يثبت حكمه وَإِن كَانَ ذَلِك الحكم الْبَاقِي يعلم بِغَيْر ذَلِك الْخَبَر لم يثبت حكمه وَإِن كَانَ ذَلِك الحكم الْبَاقِي يعلم بِغَيْر ذَلِك الْخَبَر فانه لَا يدل على ثُبُوت الحكم وَصِحَّته فَلَا يكون ذَلِك الْخَبَر أولى من غَيره نَحْو مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه سُئِلَ عَن مس الذّكر هَل فِيهِ وضوء فَقَالَ لَا هَل هُوَ إِلَّا بضعَة مِنْك فان كَون الذّكر بضعَة من الْإِنْسَان وَإِن كَانَ بَاقِيا فَلَيْسَ بَقَاؤُهُ لأجل هَذَا الْخَبَر فَيدل على بَقَاء الْخَبَر فَأَما إِن لم يكن لأحد الْخَبَرَيْنِ حكم بَاقٍ فان الشَّيْخ ابا الْحسن قَالَ الحاظر أولى وَقَالَ الشَّيْخ ابو هَاشم وَعِيسَى ابْن أبان رحمهمَا الله يطرحان وَيرجع الْمُجْتَهد إِلَى غَيرهمَا من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة أَو الْبَقَاء على حكم الْعقل وَوجه قَوْلهمَا هُوَ أَنا إِذا علمنَا تقدم أحد هذَيْن الْخَبَرَيْنِ وَلم يعلم ايهما هُوَ الْمُتَقَدّم جَازَ كَون كل وَاحِد مِنْهُمَا هُوَ الْمُتَأَخر الَّذِي يجب الْعَمَل بِهِ بَدَلا من صَاحبه وَلَيْسَ يجوز استعمالهما لأَنا فَرضنَا الْكَلَام فِي خبرين متنافيين وَلذَلِك احتجنا إِلَى التَّرْجِيح وَلَا يجوز الْعَمَل على أَحدهمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ الْعَمَل على أَحدهمَا أولى من الْعَمَل على الآخر فَلم يبْق إِلَّا إطراحهما وجريا مجْرى عقدتي وليين على امْرَأَة وَلَا يعلم تقدم أَحدهمَا على الآخر فانهما تبطلان لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحدهمَا أولى من الآخر وَجرى مجْرى الغرقى فِي أَنه إِذا لم يعلم تقدم أَحدهمَا على الآخر بَطل حكم الْإِرْث بَينهم فان قيل فَيجب أَن لَا يعملوا على حكم الْعقل لجَوَاز أَن يكون هُوَ الْمفْسدَة قيل إِنَّمَا يلْزم ذَلِك بِدَلِيل شَرْعِي ناقل وَلَا دَلِيل فِي الشَّرْع مَعَ التَّعَارُض لِأَن التَّعَارُض والتمانع يصير الشَّرْع كَأَنَّهُ لم يكن فينفرد حكم الْعقل

وَالْجَوَاب عَن الشهبة هُوَ أَن قَوْلهم إِذا جَازَ أَن يكون كل وَاحِد من الْخَبَرَيْنِ هُوَ الْمُتَأَخر فَلم يكن الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا أولى من الآخر هُوَ نفس الْخلاف لِأَن الْمُخَالف يَقُول بل الْعَمَل على الحاظر أولى وَإِن جَوَّزنَا تقدمه وَلَا يشبه ذَلِك عقدتي الوليين على المراة لِأَنَّهُ لَيْسَ أحد الْعقْدَيْنِ حاظرا وَالْآخر مبيحا وَكَذَلِكَ الغرقى لما ترافع مَوْتهمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فيهم جِهَة مُخْتَصَّة للحظر وجهة مُخْتَصَّة للاباحة وَقد نصر القَوْل الأول بِوُجُوه مِنْهَا أَن الْحَظْر أَدخل فِي التَّعَبُّد من الْإِبَاحَة لِأَنَّهُ أشق فَكَانَ أولى وَالْجَوَاب إِن الْفِعْل قد يتعبدنا الله بحظره وَقد يتعبدنا الله باعتقاد إِبَاحَته وَقد يرد الشَّرْع باباحته مَا لم يكن فِي الْفِعْل مُبَاحا كَمَا يرد بحظر مَا لم يكن مَحْظُورًا فَلَيْسَ أَحدهمَا أَدخل فِي التَّعَبُّد من الآخر وَمِنْهَا أَنه إِذا تعَارض خَبرا حظر وَإِبَاحَة فقد حصلت جِهَة حظر وجهة إِبَاحَة وَهَاتَانِ الجهتان مَتى اجتمعتا كَانَ الْحَظْر أولى أَلا ترى أَن الْأمة بَين شَرِيكَيْنِ لما اجْتمع فِيهَا ملك هَذَا الشَّرِيك فَهُوَ مُبِيح لَهُ الوطيء وَملك الآخر وَهُوَ حاظر كَانَ الْحَظْر أولى الْجَواب إِن ملك أحد الشَّرِيكَيْنِ لبَعض الْأمة لَيْسَ بِجِهَة مبيحة للوطيء با الْجِهَة المبيحة للوطيء ملك جَمِيعهَا فَلم يحصل فِي هَذِه الْأمة جهتان إِحْدَاهمَا لَو انْفَرَدت أَبَاحَتْ وَالْأُخْرَى لَو انْفَرَدت حظرت والخبران كل وَاحِد مِنْهُمَا لَو انْفَرد لثبت حكمه وَمِنْهَا لَو غرق جمَاعَة من الْأَقَارِب وخفي علينا تقدم بَعضهم على بعض جعلناهم كَأَنَّهُمْ غرقوا مَعًا وَلم نؤرث بَعضهم من بعض وغلبنا حظر التَّوَارُث بَينهم الْجَواب إِن ذَلِك حجَّة لمخالفهم لأَنهم قد نزلُوا منزلَة من لم يموتوا وَفرق بَينهمَا قَاضِي الْقُضَاة بِأَن الغرقى يجوز أَن يَكُونُوا غرقوا مَعًا فَجَاز أَن نجريهم هَذَا المجرى أما الْخَبَر الحاظر والمبيح فَلَا يجوز كَونهمَا واردين مَعًا فَلم

يَصح تقديرهما هَذَا التَّقْدِير وَمِنْهَا أَن الْعَمَل على الْحَظْر أحوط لِأَنَّهُ إِن كَانَ الْفِعْل مَحْظُورًا فقد تجنبه الْمُكَلف وَإِن كَانَ مُبَاحا لم يضرّهُ تَركه وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا استباحه وَفعله لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون مَحْظُورًا فَيكون بِفِعْلِهِ لَهُ فَاعِلا لمحظور إِن قيل وَهُوَ معذر إِذا عمله على الْحَظْر لِأَنَّهُ قد اعْتقد قبحه وَلَا يَأْمَن كَونه مسنا فَيكون مقدما على اعْتِقَاد لَا يَأْمَن كَونه جهلا فَالْجَوَاب إِن الْفِعْل إِذا كَانَ مَحْظُورًا فاستباحه الْإِنْسَان كَانَ بِفِعْلِهِ وباعتقاد إِبَاحَته مقدما على قبيحين وَإِذا كَانَ مُبَاحا فتجنبه مُعْتَقدًا لحظره كَانَ مقبحا باعتقاد حظره فَصَارَ التَّعْزِير فِي ذَلِك أَكثر وَكَانَ الْعُدُول إِلَى تجنبه أولى لِأَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَض إِلَّا التَّرْجِيح بِوَجْه لَهُ ضرب من الْقُوَّة وَأَيْضًا فانه إِذا ثَبت أَن تجنب الْفِعْل أولى من الْإِقْدَام عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي تعَارض فِيهِ الخبران قَطعنَا على أَن اعْتِقَاد تجنبه وحظره لَيْسَ بِجَهْل وَلَا قَبِيح وَلَا نَكُون مقدمين على اعْتِقَاد لَا يُؤمن كَونه جهلا فَهَذَا الْوَجْه أولى فِي الِاحْتِجَاج من كل مَا سلف فان قيل أَلَيْسَ إِذا تَعَارَضَت الْبَيِّنَتَانِ فِي الْملك لم تسقطا وَعَملا عَلَيْهِمَا فَهَلا وَجب مثله فِي الْخَبَرَيْنِ قيل أحد لم يقل فِي الْخَبَرَيْنِ المتنافيين كَذَلِك فان قيل فَهَلا اطرحتم الْبَيِّنَتَيْنِ جَمِيعًا كَمَا اطرحتم الْخَبَرَيْنِ قيل لِأَنَّهُ يُمكن الْعَمَل عَلَيْهِمَا بِأَن يَجْعَل الدَّار ملكا بَين المتداعيين وَأجَاب قَاضِي الْقُضَاة بِأَن الْبَيِّنَتَيْنِ يجوز صدقهما بِأَن يشْهد كل وَاحِد مِنْهُمَا بِمَا شهد بِهِ لمَكَان الْيَد وَالتَّصَرُّف وَيجوز أَن يكون المتداعيان متصرفين فِي الْملك فَيثبت لكل وَاحِد مِنْهُمَا الْملك بِحكم الْيَد وَلَيْسَ يجوز وُرُود الْإِبَاحَة والحظر مَعًا فينقلا مَعًا

الكلام في القياس والاجتهاد

الْكَلَام فِي الْقيَاس وَالِاجْتِهَاد فصل فِي ذكر أَبْوَاب الْقيَاس اعْلَم أَن الْغَرَض بالْكلَام فِي الْقيَاس أَن نبين أَنه متعبد بِهِ ونبين شُرُوطه وَالْكَلَام فِي وُرُود التَّعَبُّد بِهِ يَنْبَغِي أَن يتقدمه جَوَاز التَّعَبُّد بِهِ وكلا الْأَمريْنِ يبتنى على الْكَلَام فِي مَاهِيَّة الْقيَاس وَلما كَانَ الْقيَاس الشَّرْعِيّ أَمارَة وَجب أَن نبين أول مَا الأمارات وَمَا أقسامها ثمَّ نذْكر مَا الْقيَاس وَمَا يتَّصل بِهِ ثمَّ نذْكر جَوَاز التَّعَبُّد بِهِ وَنفي جَوَاز ذَلِك وَذَلِكَ يتَضَمَّن أبوابا مِنْهَا جَوَاز التَّعَبُّد بِهِ فِي الْجُمْلَة وَمِنْهَا جَوَاز تعبد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ وَمِنْهَا جَوَاز تعبد من عاصره بِهِ وَمِنْهَا أَنه لَا يجوز التَّعَبُّد بِهِ فِي جَمِيع الشرعيات وَأما وُرُود التَّعَبُّد فيتضمن أَيْضا أبوابا مِنْهَا وُرُود التَّعَبُّد بِهِ فِي الْجُمْلَة وَمِنْهَا هَل النَّص على عِلّة الحكم يَكْفِي فِي التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ أم لَا وَمِنْهَا هَل يفقتر التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ إِلَى أَن ينص لنا على الأَصْل الْمَقِيس عَلَيْهِ وَإِلَى إِجْمَاع الامة على تَعْلِيل الأَصْل أم لَا وَمِنْهَا هَل تعبد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بِالْقِيَاسِ وَمِنْهَا هَل تعبد بِهِ من عاصره وَمِنْهَا هَل يُوصف الْقيَاس المتعبد بِهِ بِأَنَّهُ دين ومأمور بِهِ وَبعد ذَلِك نتكلم فِي شُرُوط الْقيَاس وَذَلِكَ يشْتَمل على أَبْوَاب سنذكرها إِن شَاءَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الأمارات وأحكامها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الأمارة هِيَ الَّتِي النّظر الصَّحِيح فِيهَا يُؤَدِّي إِلَى الظَّن وَبِذَلِك نتميز من الدّلَالَة والمتكلمون يسمون كل مَا هَذِه سَبيله أَمارَة عقليا كَانَ أَو

شَرْعِيًّا وَالْفُقَهَاء يسمون الأمارات الشَّرْعِيَّة كالقياس وَخبر الْوَاحِد أَدِلَّة وَلَا يسمون الأمارات الْعَقْلِيَّة أَدِلَّة كالأمارة على الْقبْلَة وعَلى قيم الْمُتْلفَات وَالْكَلَام فِي ذَلِك كَلَام فِي عبارَة لَا طائل فِي الْإِكْثَار مِنْهُ وَأما قسْمَة الأمارات فقد ذكر فِيهَا عدَّة وُجُوه مِنْهَا المحكى عَن الشَّيْخ أبي الْحسن رَحمَه الله وَهِي أَن أَدِلَّة الشَّرْع الَّتِي لَيست بِنَصّ وَلَا ظَاهر مِنْهَا مَا يُسمى قِيَاسا وَمِنْهَا مَا يُسمى دَلِيلا على صِحَة الْعلَّة وَمِنْهَا مَا يُسمى دَلِيلا على مَوضِع الحكم وَمِنْهَا مَا يُسمى دَلِيلا على المُرَاد بالعبارة الْمُشْتَركَة هَذَا مَا لَهُ اصل معِين فَأَما مَا لَا أصل لَهُ معِين فنحو مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى قيم الْمُتْلفَات وَلَيْسَ يَعْنِي بِالْأَصْلِ هَا هُنَا مَا يَقع الرَّد إِلَيْهِ لِأَن كثيرا من هَذِه الْأَقْسَام لَا يَقع الرَّد إِلَيْهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْأَصْلِ هَا هُنَا طَريقَة يشار إِلَيْهَا وَنحن نقسم مَا ذكره فَنَقُول ادلة الشَّرْع إِمَّا ظَاهر وَنَصّ وَإِمَّا غير ظَاهر وَغير نَص وَمَا لَيْسَ بِظَاهِر مِنْهُ مَا لَا يحصل فِيهِ طَريقَة مُعينَة مثل مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى قيم الْمُتْلفَات وَمِنْه مَا لَهُ طَريقَة مُعينَة يشار إِلَيْهَا وَلما كَانَ كل دَلِيل فَلهُ مَدْلُول وَجب فِيمَا لَهُ طَريقَة مُعينَة أَن يدل على مَدْلُول وَلَا يَخْلُو مَدْلُوله إِمَّا أَن يكون حكما وَإِمَّا دَلِيلا على حكم فَمَا يدل على حكم مِمَّا لَهُ طَريقَة يشار إِلَيْهَا فَهُوَ الْقيَاس وَمَا يدل على دَلِيل حكم فَمِنْهُ مَا يدل على عِلّة حكم لِأَن عِلّة الحكم دَلِيل على الحكم وَذَلِكَ نَحْو مَا كَانَ يسْتَدلّ بِهِ على أَن الْكَيْل أولى من الطّعْم فِي كَونه عِلّة الرِّبَا وَمِنْه مَا يدل على مُرَاد الله سُبْحَانَهُ بخطابه الْمُشْتَرك نَحْو مَا يدل على أَن المُرَاد بِآيَة الْأَقْرَاء الْحيض وَمِنْه مَا يدل على أَن الله سُبْحَانَهُ أَرَادَ بِالْكَفَّارَةِ الْمُعَلقَة بِالْجِمَاعِ فِي الصَّوْم هُوَ أَن يعلقها بهتك صَوْم شهر رَمَضَان مَعَ ضرب من المأثم وَهَذَا هُوَ الِاسْتِدْلَال على مَوضِع الحكم قَالَ قَاضِي الْقُضَاة كَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر فِيهَا الِاسْتِحْسَان وَأجَاب عَن

ذَلِك بِأَن الِاسْتِحْسَان إِمَّا أَن يكون عُدُولًا إِلَى قِيَاس أولى من قِيَاس فقد ذكر الشَّيْخ أَبُو الْحسن الْقيَاس فِي جملَة أقسامه وَإِمَّا أَن يكون عُدُولًا إِلَى نَص وَلَيْسَ غَرَضه قسْمَة النُّصُوص فيدخله فِي جملَته وَقَالَ أَيْضا كَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر مَا يحْتَج بِهِ أَصْحَاب أبي حنيفَة من قَوْلهم إِن الْعِبَادَة إِذا لم تفْسد لعدم صفة من صفاتها فبأن لَا تفْسد بِوُقُوع تِلْكَ الصّفة على وَجه الْفساد أولى وللشيخ أبي الْحسن أَن يُجيب على ذَلِك بِأَن هَذَا دَاخل فِي جملَة الْقيَاس وَذَلِكَ أَن الْعِبَادَة الَّتِي قد انْتَفَت عَنْهَا الصّفة وَالَّتِي قد حصلت فِيهَا الصّفة على وَجه الْفساد قد اشْتَركَا فِي أَنَّهُمَا لم يختصا بِالصّفةِ على وَجه الصِّحَّة وَقَالَ أَيْضا كَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر فِي ذَلِك استدلالهم على أَن انكشاف ربع السَّاق فِي الصَّلَاة يُفْسِدهَا وَهُوَ قَوْلهم إِن انكشاف جَمِيعه يُفْسِدهَا لِأَن المواجه لَهُ يرى ربعه وَلأبي الْحسن ان يَقُول إِن هَذَا دَاخل فِي جملَة الْقيَاس لِأَنِّي قد علمت أَن الْعلَّة الْمفْسدَة للصَّلَاة إِذا انْكَشَفَ جَمِيعه هُوَ إِمْكَان رُؤْيَة ربعه وَهَذِه الْعلَّة قَائِمَة فِي انكشاف ربعه فالجمع بَينهمَا قِيَاس وَقِسْمَة أُخْرَى محكية عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله وَهِي أَن أَدِلَّة الشَّرْع مستنبطة وَغير مستنبطة وَالَّتِي لَيست مستنبطة يدْخل فِيهَا خطاب الله عز وَجل وخطاب رَسُوله وأفعاله وخطاب الامة وافعالها والمستنبطة ضَرْبَان احدهما تحقق فِيهِ الْعلَّة وَالْآخر لَا تحقق فِيهِ الْعلَّة أما الَّذِي تحقق فِيهِ الْعلَّة فضربان أَحدهمَا لَا يقوى شبه الْفَرْع فِيهِ إِلَّا بِأَصْل وَاحِد ويسميه قِيَاس عِلّة وَقِيَاس معنى كرد العَبْد إِلَّا الْأمة فِي تنصيف الْحَد وَالْآخر يُقَوي شُبْهَة باصول مُخْتَلفَة وَأَن يرجح شبهه بِأَحَدِهِمَا نَحْو شبه العَبْد الْمُتْلف بالمملوكات وبالحر الَّذِي دِيَته مقدرَة وَيُسمى ذَلِك قِيَاس غَلَبَة الْأَشْبَاه وَمَا لَا تحقق فِيهِ الْعلَّة هُوَ إِيجَابه على من هُوَ خَارج الْمصر حُضُور الْجُمُعَة وَنَحْو اشْتِرَاك الْأَخ وَالْجد فِي الْمِيرَاث وَهَذَا الْمِثَال خَارج من هَذَا الْقسم لِأَن الْعلَّة فِيهِ مُحَققَة وَهُوَ الإدلاء بِالْمَيتِ وَيبعد أَن يسْتَدلّ على الْأَحْكَام بطريقة مستنبطة لَا تحقق فِيهَا الْعلَّة لِأَن الْعلَّة هِيَ الطَّرِيق إِلَى الحكم فَمَا لم تحقق لم يُمكن التَّوَصُّل إِلَى الحكم

وَكَانَ الشَّافِعِي يُسَمِّي الْقيَاس اسْتِدْلَالا لِأَنَّهُ فحص وَنظر ويسمي الِاسْتِدْلَال قِيَاسا لوُجُود التَّعْلِيل فِيهِ وَقسم قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله فِي الْعمد الأمارات قسْمَة هَذَا مَعْنَاهَا الأمارات الَّتِي لَيست بأخبار آحَاد إِمَّا أَن يكون لَهَا أصل يَقع الرَّد إِلَيْهِ وَهُوَ الْقيَاس وَإِمَّا أَن لَا يكون لَهَا أصل يَقع إِلَيْهِ الرَّد وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا لَا يتلخص الامارة فِيهِ كالأمارة الَّتِي يفصل بهَا بَين الْعَمَل الْقَلِيل وَالْكثير فِي الصَّلَاة إِذْ الْمرجع بذلك إِلَى مَا يغلب فِي الظَّن من غير أَمارَة يُمكن تَعْيِينهَا وَلَا يُمكن أَن يَجْعَل أَمارَة الْعَمَل الْقَلِيل فِي الصَّلَاة أَن لَا يغلب على ظن الْمشَاهد لفَاعِله أَنه لَيْسَ فِي الصَّلَاة لِأَن من يُشَاهد غَيره يقتل الْحَيَّة وَالْعَقْرَب يظنّ أَنه لَيْسَ فِي الصَّلَاة وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ من الْعَمَل الْقَلِيل وَالضَّرْب الآخر يُمكن تَلْخِيص الأمارة فِيهِ وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا أَمارَة عقلية وَالْآخر أَمارَة سمعية والأمارة الْعَقْلِيَّة هِيَ الَّتِي لَا يحْتَاج فِي كَونهَا أَمارَة إِلَى سمع وَهِي ضَرْبَان احدهما الحكم الْمُتَعَلّق بهَا عَقْلِي وَالْآخر سَمْعِي أما الأول فقيم الْمُتْلفَات الحكم فِيهِ عَقْلِي وَهُوَ قدر الْقيمَة والأمارة عقلية وَهِي اختبار عادات النَّاس فِي البيع وَيُمكن تَلْخِيص الأمارة فِي ذَلِك لِأَن من قوم الثَّوْب بِعشْرَة دَرَاهِم لَو قيل لَهُ لم قومته لقَالَ إِن عَادَة النَّاس أَن يبيعوا مثله بِعشْرَة دَرَاهِم إِن قيل هلا أوجبتم من جِهَة الْعقل إِذا خرق زيد ثوب عَمْرو أَن يخرق عَمْرو ثوب زيد قيل إِن زيدا لَو أمكنه أَن لَا يخرق مَا خرقه من ثوب عَمْرو وَجب عَلَيْهِ أَن لَا يخرقه وَلم يُوجد معنى لذَلِك فاذا لم يُمكنهُ ذَلِك وَجب عَلَيْهِ مَا يجْرِي هَذَا المجرى وَهُوَ سد الثلمة الَّتِي أحدثها بِدفع الْمثل أَو الْقيمَة حَتَّى يصير كَأَنَّهُ لم يحدث مَا أحدث فان قيل إِنَّه إِذا خرج من الْقيمَة فقد نفى شِفَاء الغيظ قيل إِن غيظ

الْمَجْنِي عَلَيْهِ يَزُول بِخُرُوج الْجَانِي من الْقيمَة أَو الْمثل مَعَ الِاعْتِذَار أَو مَعَ إِلْزَام الْحَاكِم إِيَّاه ذَلِك وَأجَاب قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله عَن السُّؤَال بِأَن زيدا إِذا خرق ثوب من خرق ثَوْبه فقد أضرّ بِنَفسِهِ حِين لم يتعوض من مَاله التَّالِف بِمَال غَيره والإضرار بِالنَّفسِ من غير فَائِدَة قَبِيح وَسَأَلَ نَفسه فَقَالَ هلا كَانَت الْفَائِدَة فِي ذَلِك التشفي فَقَالَ التشفي إِنَّمَا يحسن تبعا لحسن تخريق ثوب الْجَانِي فاذا لم يحسن ذَلِك لم يحسن التشفي وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا يقبح تخريق ثوب الْجَانِي إِذا بينتم أَنه لَا يحسن التشفي فقبحه تَابع لبُطْلَان كَون التشفي وَجها فِي حسنه بِخِلَاف قَوْلكُم إِن التشفي تَابع لحسن التخريق وَأما الأمارة الْعَقْلِيَّة الَّتِي حكمهَا سَمْعِي فنحو الأمارات الْعَقْلِيَّة الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى جِهَة الْقبْلَة وَحكمهَا السمعي وجوب التَّوَجُّه فِي تِلْكَ الْجِهَة وعَلى التَّحْقِيق حكمهَا هُوَ كَون الْقبْلَة فِي تِلْكَ الْجِهَة وَوُجُوب التَّوَجُّه إِلَى تِلْكَ الْجِهَة هُوَ تَابع لحكمها إِلَّا أَن ذَلِك لَا يخرج وجوب التَّوَجُّه إِلَى تِلْكَ الْجِهَة من أَن يكون من أَحْكَام هَذِه الأمارة على بعض الْوُجُوه وَأما الأمارة السمعية فَهِيَ الَّتِي يفْتَقر فِي كَونهَا أَمارَة إِلَى سمع وَلَا يَخْلُو حكمهَا إِمَّا أَن يكون سمعيا أَو عقليا إِلَّا أَنه لَا يجوز أَن يكون حكمهَا عقليا لِأَن الْعقل أسبق من السّمع وَطَرِيق الشَّيْء لَا يجوز أَن يتَأَخَّر عَنهُ وَأما الَّتِي حكمهَا سَمْعِي فنحو جعل الْمَسْجِد أَمارَة فاصلة بَين الْحَالة الَّتِي يجوز للامام إِذا أحدث أَن يسْتَخْلف فِيهَا وَبَين الْحَالة الَّتِي لَا يجوز لَهُ ذَلِك من حَيْثُ بني الْمَسْجِد للصَّلَاة الْوَاحِدَة فَكَانَ كالصف الْوَاحِد فَهَذَا الِاعْتِبَار بِالشَّرْعِ علم كَونه أَمارَة وَالْحكم الْمُتَعَلّق بِهِ سَمْعِي وَكَذَلِكَ وجوب مصير أهل الْقرى إِلَى صَلَاة الْجُمُعَة إِذا سمعو الْأَذَان هُوَ حكم سَمْعِي وَكَون سَماع الْأَذَان أَمارَة لذَلِك مَعْلُوم بِالسَّمْعِ

فان قيل وَلم قُلْتُمْ إِن مَا لَا يتلخص فِيهِ طَريقَة مُعينَة لَا بُد فِيهِ من أَمارَة قيل لِأَن الله سُبْحَانَهُ كلفنا فِي ذَلِك الِاجْتِهَاد وَالنَّظَر وَلَا بُد من أَن نجتهد فِي طَرِيق إِمَّا دلَالَة وَإِمَّا أَمارَة فَإِذا لم يكن دلَالَة فَلَا بُد من أَمارَة وَإِن لم يتلخص الْعبارَة عَنْهَا وَلِهَذَا يجد الْإِنْسَان فِي نَفسه أمرا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الظَّن فان مَا عمله فِي الصَّلَاة عمل قَلِيل وَإِن لم يتلخص الْعبارَة عَنهُ وَاعْلَم أَن الأمارة لَا بُد من أَن يكون بَينهَا وَبَين مَا هِيَ أَمارَة فِيهِ تعلق لَوْلَا ذَلِك لم يكن بِأَن يكون أَمارَة عَلَيْهِ أولى من أَن لَا يكون أَمارَة عَلَيْهِ أَو أَمارَة على غَيره وَذَلِكَ التَّعَلُّق ضَرْبَان أَحدهمَا أَن تكون الأمارة كالمؤثرة فِي مدلولها على الْأَكْثَر والأغلب وَالْآخر أَن تكون لَوْلَا مدلولها لما كَانَت الأمارة على الْأَمر الْأَكْثَر وَيكون مدلولها كالمؤثر فِيهَا وَيجوز حُصُول الأمارة على الندرة من دون مدلولها مِثَال الأول من العقليات الْغَيْم الرطب فِي زمن الشتَاء لِأَنَّهُ كالمؤثر فِي نزُول الْمَطَر وَهُوَ أَمارَة عَلَيْهِ ومثاله أَيْضا دين الْإِنْسَان فانه مُؤثر فِي تجنبه الْكَذِب وَهُوَ أَمارَة عَلَيْهِ ومثاله فِي الشرعيات وجود عِلّة الأَصْل فِي الْفَرْع فانها أَمارَة لثُبُوت حكمه وَهِي طريقنا إِلَى ثُبُوت الحكم فِيهِ إِذا دلّ الدَّلِيل على وجوب الْقيَاس وَمِثَال الْقسم الثَّانِي من العقليات أَن نعلم أَن فِي بعض الْمنَازل مَرِيضا قد شفي ثمَّ يسمع الصُّرَاخ من دَاره فَذَلِك أَمارَة على مَوته وَمَوته هُوَ الْمُؤثر فِي الصُّرَاخ ولولاه لم يكن الصُّرَاخ فِي الْأَكْثَر وَإِن جَازَ أَن يكون سَبَب حُدُوثه غير مَوته ومثاله من الشرعيات ثُبُوت الحكم فِي الأَصْل مَعَ وصف وانتفاؤه فِي الأَصْل عِنْد انتفائه فَذَلِك أَمارَة لكَون ذَلِك الْوَصْف عِلّة للْحكم فِي الأَصْل لِأَن حُصُول الحكم بِحُصُول الْوَصْف وانتفاؤه بانتفائه طَرِيق إِلَى كَون ذَلِك عِلّة فاذا لم يكن دلَالَة فَهُوَ إِذا أَمارَة على ذَلِك وَلَوْلَا أَن ذَلِك الْوَصْف هُوَ عِلّة الحكم لم تحصل هَذِه الأمارة أَعنِي ثُبُوت الحكم بِثُبُوت الْوَصْف وانتفاؤه بانتفائه وَإِذا ثَبت أَن ذَلِك الْوَصْف هُوَ عِلّة الحكم فِي الأَصْل ثَبت كَونه أَمارَة على وجوب الحكم فِي الْفَرْع وَلَيْسَ يمْتَنع كَون الحكم على كَيْفيَّة مَخْصُوصَة أَمارَة على أَن بعض أَوْصَاف الأَصْل هُوَ عِلّة حكمه

وَتَكون الْعلَّة أَمارَة على وجوب الحكم فِي الْفَرْع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْقيَاس مَا هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتلف النَّاس فِي حد الْقيَاس فحده بَعضهم بِأَنَّهُ اسْتِخْرَاج الْحق وَهَذَا يلْزم عَلَيْهِ أَن يكون اسْتِخْرَاج الْحق بالاستدلال بالنصوص والظواهر قِيَاسا وَيلْزم ذَلِك أَيْضا من حَده بِأَنَّهُ اسْتِدْلَال وَحده بَعضهم بِأَنَّهُ التَّشْبِيه وَهَذَا يلْزم عَلَيْهِ أَن يكون من قَالَ إِن الارز يشبه الْبر فِي الصلابة قائسا وَأَن يُوصف الله سُبْحَانَهُ بانه قائس إِذا شبه بَين الشَّيْئَيْنِ وَحده الشَّيْخ أَبُو هَاشم بِأَنَّهُ حمل الشَّيْء على غَيره وإجراء حكمه عَلَيْهِ فان أَرَادَ إِجْرَاء حكمه عَلَيْهِ لأجل الشّبَه فَصَحِيح وَكَانَ يجب التَّصْرِيح بذلك وَإِن لم يرد ذَلِك لم يَصح لِأَن إِثْبَات الحكم فِي الشَّيْء من غير تَشْبِيه بَينه وَبَين غَيره يكون مُبْتَدأ وَمن ابْتَدَأَ فَأثْبت فِي الشَّيْء حكما لَا يكون قائسا وَإِن اتّفق أَن يكون ذَلِك الحكم ثَابتا فِي غَيره وَحده قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله بِأَنَّهُ حمل الشَّيْء على الشَّيْء فِي بعض أَحْكَامه لضرب من الشّبَه وَأبين من هَذَا أَن يحد بِأَنَّهُ تَحْصِيل حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لاشتباههما فِي عِلّة الحكم عِنْد الْمُجْتَهد وَقد دخل فِي ذَلِك الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ فِي الْإِثْبَات وَفِي النَّفْي وَإِنَّمَا قُلْنَا الشّبَه عِنْد الْمُجْتَهد لِأَن الْمُجْتَهد قد يظنّ أَن بَين الشَّيْئَيْنِ شبها وَإِن لم يكن بَينهمَا شبه فَيكون رده إِلَيْهِ قِيَاسا وَإِنَّمَا حددنا الْقيَاس بِمَا ذكرنَا لِأَن الْمَعْقُول من الْقيَاس أَن يكون قِيَاس شَيْء على شَيْء أَلا ترى أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ قست هَذَا الشَّيْء قيل لَهُ على مَاذَا قسته وَلَو أثبت الْإِنْسَان حكم الشَّيْء فِي غَيره لَا لشبه بَينهمَا لَكَانَ مبتدئا بالحكم فِيهِ غير مراع لحكم الأَصْل وَلم يشرط اعْتِبَار الشّبَه فِي الْحَد لِأَنَّهُ دَاخل فِي الْمَعْقُول من الْقيَاس لَا لِأَن الْقيَاس لَا يَصح من دونه

إِن قيل أَلَيْسَ الْفُقَهَاء يسمون قِيَاس الْعَكْس قِيَاسا وَلَيْسَ هُوَ تَحْصِيل حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لاشتباههما فِي عِلّة الحكم بل هُوَ تَحْصِيل نقيض حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لافتراقهما فِي عِلّة الحكم مِثَاله قَول الْقَائِل لَو لم يكن الصَّوْم من شَرط الِاعْتِكَاف لما كَانَ من شَرطه وَإِن نذر أَن يعْتَكف بِالصَّوْمِ كَالصَّلَاةِ لما لم تكن من شَرط الِاعْتِكَاف لم تكن من شَرطه وَإِن نذر أَن يعْتَكف بِالصَّلَاةِ فَالْأَصْل هُوَ الصَّلَاة وَالْحكم هُوَ نفي كَونهَا شرطا فِي الِاعْتِكَاف وَلَيْسَ يثبت هَذَا الحكم فِي الْفَرْع الَّذِي هُوَ الصَّوْم فَإِنَّمَا يثبت نقيضه وَلم يجتمعا فِي الْعلَّة بل افْتَرقَا فِيهَا لِأَن الْعلَّة الَّتِي لَهَا لم تكن الصَّلَاة شرطا فِي الِاعْتِكَاف هِيَ كَونهَا غير شَرط فِيهِ مَعَ النّذر وَهَذَا الْمَعْنى غير مَوْجُود فِي الصَّوْم لِأَنَّهُ شَرط مَعَ النّذر الْجَواب انه إِذا كَانَ الْمَعْقُول من الْقيَاس أَن يكون قِيَاس شَيْء على شَيْء وَلَا يكون قِيَاسا عَلَيْهِ إِلَّا وَقد اعْتبر حكمه وَلَا يكون الْقيَاس مُعْتَبرا بِحكمِهِ إِلَّا وَقد اعْتبر الشّبَه بَينهمَا إِذا كَانَ ذَلِك لَا يتم فِي قِيَاس الْعَكْس وَجب تَسْمِيَته قِيَاسا مجَازًا من حَيْثُ كَانَ الْفَرْع مُعْتَبرا بِغَيْرِهِ على بعض الْوُجُوه فَلَا يجب إِذن دُخُوله فِي الْحَد وَيجوز أَن نحد الْقيَاس بِحَدّ يشْتَمل قِيَاس الطَّرْد وَالْعَكْس فَنَقُول الْقيَاس هُوَ تَحْصِيل الحكم فِي الشَّيْء بِاعْتِبَار تَعْلِيل غَيره وَهَذَا الْحَد يشْتَمل على كلا القياسين أما قِيَاس الطَّرْد فقد حصل الحكم فِي فَرعه بِاعْتِبَار تَعْلِيل الأَصْل وَأما قِيَاس الْعَكْس فانه قد اعْتبر تَعْلِيل الأَصْل لنفي حكمه من الْفَرْع لافتراقهما فِي الْعلَّة وَإِذا حددنا الْقيَاس بذلك قسمناه إِلَى قِيَاس الطَّرْد وَالْعَكْس وَقِيَاس الطَّرْد هُوَ مَا ذَكرْنَاهُ أَولا وَقِيَاس الْعَكْس هُوَ تَحْصِيل نقيض حكم الشَّيْء فِي غَيره لافتراقهما فِي عِلّة الحكم فَأَما حكم الْقيَاس الشَّرْعِيّ فَهُوَ المنقسم إِلَى كَون الْفِعْل قبيحا وحسنا وَيكون فعله أولى من تَركه أَو يكون تَركه أولى من فعله وَكَونه وَاجِبا وَأما الأَصْل فقد ذكر قَاضِي الْقُضَاة أَنه مُسْتَعْمل فِي أَرْبَعَة أَشْيَاء أَحدهَا

الطَّرِيق إِلَى الشَّيْء كالكتاب هُوَ أصل الْأَحْكَام وأحدها الحكم الْمَقِيس عَلَيْهِ وَهُوَ أصل الْقيَاس وَاحِدهَا الشَّيْء الَّذِي لَا يَصح الْعلم بِغَيْرِهِ إِلَّا مَعَ الْعلم بِهِ كالموصوف وَالصّفة وأحدها الحكم الَّذِي لَا يُقَاس عَلَيْهِ غَيره كدخول الْحمام بِغَيْر عوض مُقَدّر فَإِنَّهُ يُقَال إِن هَذَا أصل فِي نَفسه وَيُمكن أَن يُقَال إِن قَوْلنَا أصل يسْتَعْمل على الْحَقِيقَة وعَلى الْمجَاز فالمستعمل على الْحَقِيقَة هُوَ مَا يتَفَرَّع عَلَيْهِ غَيره ويستند إِلَيْهِ وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا يتَفَرَّع عَلَيْهِ صِحَّته كَالْعلمِ بِصفة الشَّيْء يتَفَرَّع على الْعلم بالشَّيْء وَقد يُوصف الشَّيْء أَيْضا بِأَنَّهُ أصل الصّفة وَالضَّرْب الآخر يتَفَرَّع عَلَيْهِ الْعلم بالشَّيْء بِأَن يكون طَرِيقا إِلَيْهِ وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا يكون طَرِيقا إِلَيْهِ بطرِيق التَّشْبِيه وَهُوَ أصل الْقيَاس وَالْآخر بِغَيْر طَرِيق التشبية وَهُوَ النُّصُوص وَغَيرهَا وَأما الْمُسَمّى اصلا على الْمجَاز فَهُوَ دُخُول الْحمام باجرة غير مقدرَة وَإِنَّمَا تجوزنا بتسميته ذَلِك اصلا لِأَنَّهُ أشبه الْأُصُول الْمُتَقَدّم ذكرهَا من حَيْثُ لم يستفد حكمه من غَيره فاما أصل الْقيَاس فقد اخْتلف النَّاس فِيهِ فَقَالَ المتكلمون الأَصْل الَّذِي يُقَاس عَلَيْهِ الارز هُوَ الْخَبَر الدَّال على ثُبُوت الرِّبَا فِي الْبر وَقَالَ الْفُقَهَاء بل هُوَ الشَّيْء يثبت حكم الْقيَاس فِيهِ بِالنَّصِّ كالبر أَو يَقُول هُوَ الشَّيْء الَّذِي يسْبق الْعلم بِحُصُول حكم الْقيَاس فِيهِ وَقَالَ بَعضهم بل هُوَ حكم الْقيَاس من حَيْثُ هُوَ ثَابت بِالنَّصِّ نَحْو كَون الْبر حَرَامًا وَالْكَلَام فِي ذَلِك من وَجْهَيْن أَحدهمَا مَا الَّذِي يَقع النّظر فِيهِ حَتَّى يعلم حُصُول الحكم فِي الارز وَالْآخر قَوْلنَا هَل فَائِدَة قَوْلنَا أصل ثَابِتَة فِي كل وَاحِد من هَذِه الْأَشْيَاء أم لَا وَأَنه أَحْرَى أَن يُوصف بِأَنَّهُ أصل أما الْكَلَام فِي الأول فَهُوَ أَن القائس ينظر أَي الْأَوْصَاف يُؤثر فِي قبح بيع الْبر مُتَفَاضلا فنظره يتَعَلَّق بالحكم وبالعلة ثمَّ ينظر هَل الْعلَّة مَوْجُودَة فِي الْأرز أم لَا فان كَانَت مَوْجُودَة تبعها الحكم وَلَو علم قبح بيع الْبر مُتَفَاضلا ضَرُورَة أمكنه قِيَاس الارز عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يحْتَج الارز إِلَى الِاسْتِدْلَال بالْخبر على ثُبُوت الرِّبَا فِي الْبر لِأَنَّهُ لَيْسَ يعلم ذَلِك ضَرُورَة وَلَا

بِدَلِيل عقل وَهَذِه الْجُمْلَة لَا بُد مِنْهَا وَلَا خلاف فِيهَا فان خَالف فِيهَا أحد فِيمَا ذَكرْنَاهُ يفْسد قَوْله وَالْكَلَام فِي الْوَجْه الثَّانِي هُوَ أَن وصف الْخَبَر الثَّانِي على قبح بيع الْبر مُتَفَاضلا بِأَنَّهُ أصل لقبح بيع الْأرز صَحِيح لِأَنَّهُ عَلَيْهِ يتَفَرَّع قبح بيع الارز مُتَفَاضلا من حَيْثُ كَانَ الْخَبَر دَالا على مَا إِذا نَظرنَا فِيهِ فَعلمنَا عِلّة الْقبْح أَو ظنناها أثبتنا الْقبْح فِي الارز وَأما وصف الْبر بِأَنَّهُ أصل ففائدته أَن الْعلم بِحكمِهِ بسبق الْعلم بِحكم الارز وَأَن حكم الارز يتَفَرَّع على حكم الْبر وَالْبر نَفسه أصل لحكمه لِأَن الشَّيْء اصل لصفته يبين أَن حكم الارز يتَفَرَّع على حكم الْبر هُوَ أَنا إِذا نَظرنَا فِي حكم الْبر وظننا علته أمكننا قِيَاس الارز عَلَيْهِ فَصَارَ حكم الارز متفرعا على حكم الْبر من هَذِه الْجِهَة وَلَيْسَ يلْزم على هَذَا أَن يُوصف الْبر قبل الشَّرْع بِأَنَّهُ اصل لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ اصلا إِذا ثَبت فِيهِ الحكم الَّذِي إِذا نَظرنَا فِيهِ وَفِي صِفَاته يوصلنا إِلَى حكم غَيره وَمَعْلُوم أَن الرِّبَا لم يكن ثَابتا فِي الْبر قبل الشَّرْع فَلم يكن إِذْ ذَاك اصلا وَإِذا كَانَ لوصف الْبر بِأَنَّهُ أصل وَجه صَحِيح لم نلم الْفُقَهَاء على الِاصْطِلَاح على وصف ذَلِك بِأَنَّهُ اصل فَأَما وصف حكم الْبر بِأَنَّهُ أصل لحكم الارز فَلهُ وَجه صَحِيح ايضا لِأَن حكم الارز يتَفَرَّع على حكم الْبر من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ إِن قيل لَيْسَ يَخْلُو كَون الْبر حَرَامًا إِمَّا أَن يكون فعلنَا أَو اعتقادنا قبح بيع بعضه بِبَعْض مُتَفَاضلا وَإِن كَانَ هُوَ فعلنَا فَكَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يَصح الْقيَاس لَو لم يُوجد فعلنَا لبيعه مُتَفَاضلا وَإِن كَانَ هُوَ اعتقادنا كَون ذَلِك حَرَامًا فاعتقادنا لذَلِك لَيْسَ بِحرَام فيقاس عَلَيْهِ بيع الارز فَإِذن الأَصْل هُوَ الْخَبَر الْجَواب ان من جعل حكم الْبر هُوَ الأَصْل يَقُول إِن الحكم هُوَ قبح بَيْعه مُتَفَاضلا وَلَيْسَ هُوَ مُجَرّد الْفِعْل وَلَا اعتقادنا كَمَا أَنا نقيس الْكَذِب الَّذِي فِيهِ نفع على الْكَذِب العاري عَن نفع وَدفع ضَرَر وَلَا نقيسه على مُجَرّد كَونه فعلا وَلَا على علمنَا بقبحه لِأَن علمنَا لَيْسَ بقبح وَلَيْسَ قبحه مَعْلُوما بِدَلِيل فَيُقَال إِن الْقيَاس يَقع على دَلِيله وَلَيْسَ يقف صِحَة الْقيَاس على وجود بيع الْبر مُتَفَاضلا لانه لَو لم يُوجد ذَلِك أمكننا أَن نقُول لَو وجد لَكَانَ قبيحا لِأَنَّهُ

مَكِيل جنس وَهَذَا قَائِم فِي الارز فَوَجَبَ قبح بَيْعه مَعَه مُتَفَاضلا كَمَا أَنه لَو لم يُوجد كذب أمكننا أَن نقُول لَو وجد الْكَذِب العاري من دفع مضرَّة ونفع لَكَانَ قبيحا لِأَنَّهُ كذب وَهَذَا حَاصِل فِي الْكَذِب الَّذِي فِيهِ نفع على أَن الْقَائِل إِن كَون بيع الْبر مُتَفَاضلا حَرَامًا إِمَّا أَن يكون بيعنا لَهُ مُتَفَاضلا وَإِمَّا أَن يكون اعتقادنا كَونه حَرَامًا قد جعل كَونه حَرَامًا مُعْتَقدًا لاعتقاد ومعتقد الِاعْتِقَاد غير الِاعْتِقَاد وَهُوَ أَيْضا أَمر زَائِد على كَون الْفِعْل فعلا لِأَن كَون الْفِعْل حَرَامًا أَمر زَائِد على كَونه فعلا وَلِهَذَا كَانَ اعْتِقَاد أَحدهمَا مفارقا لاعتقاد الآخر وَالْفُقَهَاء يَقُولُونَ تَحْرِيم الْفِعْل ويعنون بذلك كَونه حَرَامًا فصح أَن لكل وَاحِد من الْأَقَاوِيل الْمَذْكُورَة فِي معنى الأَصْل وَجها صَحِيحا وَإِن كَانَ الأول أَن يكون الحكم هُوَ الأَصْل وَأما الْفَرْع فِي الْقيَاس فَهُوَ عِنْد الْمُتَكَلِّمين الحكم الْمَطْلُوب إثْبَاته بِالتَّعْلِيلِ كقبح بيع الارز مُتَفَاضلا لِأَنَّهُ هُوَ المتفرع على غَيره دون نفس الارز وَعند الْفُقَهَاء ان الْفَرْع هُوَ الَّذِي يطْلب حكمه بِالْقِيَاسِ وَهُوَ أَيْضا الَّذِي يتَعَدَّى إِلَيْهِ حكم غَيره أَو الَّذِي يتَأَخَّر الْعلم بِحكمِهِ كالارز وَإِنَّمَا سموا ذَلِك فرعا لِأَن حكمه يتَفَرَّع على غَيره وَمَا ذكره المتكلمون أولى لِأَن نفس الارز لَيْسَ يتَفَرَّع على غَيره وَإِنَّمَا المتفرع حكمه وَأما الشّبَه فَهُوَ مَا يشْتَرك فِيهِ الشيئان من الصِّفَات سَوَاء كَانَت صفة ذاتية أَو غير ذاتية كاشتراك الجسمين فِي السوَاد وَقد يكون صفة تفِيد حكما عقليا أَو سمعيا وغرض الْفُقَهَاء من ذَلِك مَا اقْتضى الحكم السمعي وَأما التَّشْبِيه فقد قيل هُوَ فِي الأَصْل مَا بِهِ يكون الشَّيْء مشبها لغيره كالتحريك هُوَ مَا بِهِ يكون الشَّيْء محركا لغيره فقد اسْتعْمل فِي الِاعْتِقَاد وَالظَّن وَالْخَبَر فَيُقَال لمن أخبر أَو اعْتقد أَن الله عز وَجل يشبه الْأَشْيَاء إِنَّه مشبه وان خَبره تَشْبِيه فَأَما قَوْلنَا عِلّة فمستعمل فِي عرف اللُّغَة وَفِي عرف الْفُقَهَاء وَفِي عرف

الْمُتَكَلِّمين أما فِي عرف اللُّغَة فمستعمل فِيمَا أثر فِي أَمر من الامور سَوَاء كَانَ صفة أَو كَانَ ذاتا وَسَوَاء آثر فِي الْفِعْل أَو فِي التّرْك فَيُقَال مَجِيء زيد عِلّة فِي خُرُوج عَمْرو وَفِي أَن لَا يخرج عَمْرو ويسمون الْمَرَض عِلّة لِأَنَّهُ يُؤثر فِي فقد التَّصَرُّف وَأما الْعلَّة فِي عرف الْفُقَهَاء فَهِيَ مَا أثرث حكما شَرْعِيًّا وَإِنَّمَا يكون الحكم شَرْعِيًّا إِذا كَانَ مستفادا من الشَّرْع وَأما فِي عرف الْمُتَكَلِّمين فتستعمل على الْمجَاز وعَلى الْحَقِيقَة أما على الْحَقِيقَة فتستعمل فِي كل ذَات أوجبت حَالا لغَيْرهَا كَقَوْل بَعضهم إِن الْحَرَكَة عِلّة مُوجبَة كَون المتحرك متحركا وَأما اسْتِعْمَاله على الْمجَاز فَمِنْهُ أَن تكون الْعلَّة مُؤثرَة فِي الِاسْم كَقَوْلِنَا السوَاد عِلّة فِي كَون الْأسود أسود أَي هُوَ عِلّة فِي تَسْمِيَته أسود وَمِنْه مَا يُؤثر فِي الْمَعْنى وَهَذَا مِنْهُ مَا يُؤثر فِي النَّفْي كتأثير الْبيَاض فِي انْتِفَاء السوَاد وَمِنْه مَا يُؤثر فِي الْإِثْبَات وَهَذَا مِنْهُ ذَات كتأثير السَّبَب فِي الْمُسَبّب وَمِنْه صفة تَقْتَضِي صفة كاقتضاء صفة الْجَوْهَر كَونه متحيزا هَذَا على قَول شُيُوخنَا وَإِنَّمَا سموا كل وَاحِد من ذَلِك عِلّة لِأَن لَهَا تَأْثِيرا فِي الْإِيجَاب إِلَّا أَنهم لَا يسمون هَذِه الْأَقْسَام عللا إِلَّا نَادرا وَسموا الْقسم الأول عِلّة على الْحَقِيقَة لِأَنَّهَا مُوجبَة على كل حَال من غير شَرط وَلَيْسَ كَذَلِك الْأَقْسَام الْأُخَر وَأما الْمُعَلل فَهُوَ مَا طلبت علته فعلل بهَا وَهَذَا هُوَ الحكم الثَّابِت فِي الأَصْل لِأَنَّهُ الَّذِي يعلم أَولا ثمَّ يطْلب علته فيعلل بهَا وَأما الْمَعْلُول فَهُوَ الَّذِي أثرته الْعلَّة وأنتجته وَهَذَا هُوَ الحكم من حَيْثُ هُوَ ثَابت فِي الْفَرْع لَا من حَيْثُ هُوَ ثَابت فِي الأَصْل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن الْعقل لَا يقبح التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن من نفاة الْقيَاس من قَالَ إِن الْعقل يقبح التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ على الْقيَاس الشَّرْعِيّ وَمِنْهُم من قَالَ إِن الْعقل لَا يقبح ذَلِك وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الْعقل

يجوز تَكَامل شُرُوط حسن التَّعَبُّد بذلك وَلَا يجوز أَن يقبحه مَعَ تجويزه اخْتِصَاصه بِمَا يُوجب حسنه وشرائط حسن التَّعَبُّد بِالْفِعْلِ إِمَّا أَن ترجع إِلَى الْفِعْل نَحْو كَونه ندبا وواجبا وَإِمَّا أَن ترجع إِلَى الْفَاعِل نَحْو كَونه مزاح الْعلَّة بالأقدار والآلات وإعلام وجوب الْفِعْل وَكَونه ندبا أَو التَّمَكُّن من علم ذَلِك بِنصب الدّلَالَة وَإِمَّا أَن ترجع إِلَى التَّعَبُّد نَحْو أَن يكون الْأَمر مفْسدَة وَإِمَّا أَن ترجع إِلَى الْمُكَلف نَحْو علمه من حَال الْفِعْل وَالْفَاعِل بِمَا ذَكرْنَاهُ وَأَنه سيثيب الْمُكَلف إِن أطَاع وكل ذَلِك يجوز الْعقل حُصُوله فِي هَذَا التَّعَبُّد وَأما مَا يرجع إِلَى الْعَمَل بِالْقِيَاسِ فَهُوَ أَن الْعقل يجوز أَن يكون فعلنَا بِحَسب مَا ظنناه من الأمارة لطفا وَإِذا لم نعمل بحسبها فاتنا اللطف وَذَلِكَ إِن ظننا الأمارة حَالَة نَحن عَلَيْهَا وَقد تخْتَلف الْمصَالح بِحَسب أحوالنا أَلا ترى أَن مصلحَة الْمُسَافِر فِي صلَاته خلاف مصلحَة الْمُقِيم وَكَذَلِكَ الطَّاهِر وَالْحَائِض وَيخْتَلف الْوَاجِب على الْإِنْسَان بِحَسب ظَنّه الْمُخَالفَة فِي سَفَره وَأما أَن الْإِنْسَان قَادر على الْفِعْل حَاضر الْآلَات فَبين وَأما أَنه يجوز كَون الْمُكَلف مُتَمَكنًا من الْعلم بِوُجُوب الْعَمَل على الْقيَاس فَهُوَ لِأَنَّهُ إِذا قَالَ الله عز وَجل للمكلف إِذا ظَنَنْت بأمارة أَن عِلّة تَحْرِيم الْخمر هِيَ الشدَّة فقد وَجب عَلَيْك قِيَاس النَّبِيذ عَلَيْهِ ولزمك اجْتِنَاب شربه فقد تمكن من الْعلم بقبح شرب النَّبِيذ لِأَنَّهُ قد وقف علمه بقبحه على ظَنّه الأمارة وَهُوَ يعرف هَذَا الظَّن من نَفسه كَمَا أَنه يكون مُمكنا لَهُ من الْعلم إِذا قَالَ لَهُ الْخمر حرَام لِأَنَّهَا شَدِيدَة وَقس عَلَيْهَا النَّبِيذ وكما لَو قَالَ لَهُ النَّبِيذ حرَام وَإِذا كَانَ الْمُكَلف مُتَمَكنًا من الْعلم فَلَو قَالَ الله سُبْحَانَهُ لَهُ ذَلِك وَجَاز فِي الْعقل ان يَقُول لَهُ هَذَا القَوْل فقد جَازَ فِي الْعقل أَن يكون مُتَمَكنًا من الْعلم بِوُجُوب الْعَمَل على الْقيَاس وَأما أَن الْعقل يجوز أَن لَا يكون التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ مفْسدَة فُلَانُهُ إِن جوز كَونه مفْسدَة فانه يجوز غير مفْسدَة إِذْ لَيْسَ فِي الْعقل مَا يُوجب كَونه مفْسدَة

وَأَيْضًا فاذا جَازَ أَن يكون الْعَمَل بِالْقِيَاسِ مصلحَة جَازَ أَن يكون التَّعَبُّد بذلك مصلحَة لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون الْعَمَل بالشَّيْء مصلحَة وَيكون التَّعَبُّد بِهِ مفْسدَة وَأما أَن الْمُكَلف عَالم من حَال الْفِعْل وَالْفَاعِل بِمَا ذَكرْنَاهُ وَأَنه سيثيب الْمُكَلف إِن أطَاع فَلِأَنَّهُ عَالم بِكُل مَا يَصح أَن يعلم وَهَذِه الْأَشْيَاء يَصح أَن تعلم فِي نَفسهَا فقد جَازَ تَكَامل الشَّرَائِط لحسن هَذَا التَّكْلِيف وَيُمكن اخْتِصَار هَذِه الدّلَالَة ويقتصر على مَا يُخَالف فِيهِ الْخصم فَنَقُول إِنَّه قد حسن فِي الْعقل تَكْلِيف الْعَمَل بِمُوجب الْقيَاس الْمَعْلُومَة علته وَلَو قبح تَكْلِيف الْعَمَل إِذا كَانَ الْقيَاس مظنون الْعلَّة لَكَانَ إِنَّمَا يقبح لأجل مَا بِهِ افترق التكليفان وَالَّذِي افْتَرقَا فِيهِ هُوَ بَيَان هَذَا التَّكْلِيف للْعَمَل بِحَسب الظَّن دون التَّكْلِيف الآخر وَلَو كَانَ هَذَا وَجها بقبح التَّكْلِيف لما ورد بِهِ التَّعَبُّد الْعقلِيّ والسمعي أما الْعقلِيّ فوجوب الْقيام من تَحت حَائِط مائل يخْشَى سُقُوطه لفرط ميله وَإِن جوز السَّلامَة فِي الْقعُود والهلاك فِي النهوض وقبح السّفر للريح مَعَ ظن الخسران وقبح سلوك طَرِيق بِظَنّ الأمارة وجود اللُّصُوص فِيهِ وَإِن جَوَّزنَا خلاف مَا ظننا وَأما السمعي فَالْحكم بِشَهَادَة من يظنّ صدقه وتولية الْقُضَاة والأمراء عِنْد ظن سدادهم والتوجه إِلَى جِهَة عِنْد ظن كَون الْقبْلَة فِيهَا وَالْحكم بِقدر من النَّفَقَة بِحَسب الظَّن إِلَى غير ذَلِك وَأَيْضًا فَالْحكم بِحَسب الظَّن لَا يمْتَنع أَن يكون مصلحَة من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَلم يمْتَنع وُرُود التَّعَبُّد بِهِ وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء مِنْهَا قَوْله لَو جَازَ التَّعَبُّد فِي الْفُرُوع بِالْقِيَاسِ مَعَ أَنَّهَا مصَالح جَازَ مثله فِي الْأُصُول الشَّرْعِيَّة مَعَ أَنَّهَا مصَالح الْجَواب ان الْمُسْتَدلّ إِن ألزمنا جَوَاز التَّعَبُّد بِقِيَاس الْبر فِي الرِّبَا على أصل قد نَص على ثُبُوت الرِّبَا فِيهِ فانا نلتزم ذَلِك وَيكون قبح بيع الْبر مُتَفَاضلا فرعا وَالْحَال هَذِه لِأَنَّهُ لم ينص على ثُبُوت الرِّبَا

فِيهِ وَإِنَّمَا أثبت الرِّبَا فِيهِ بِالرَّدِّ إِلَى غَيره وَإِن ألزمنا أَن نقيس الرِّبَا فِي الْبر لَا على شَيْء فقد ألزم مَا لَا يعقل لِأَن الْمَعْقُول من الْقيَاس أَن يكون قِيَاسا على شَيْء وَيُقَال لَهُم إِذا جَازَ قِيَاس شَيْء على شَيْء جَازَ مَا لَا يتَصَوَّر من قِيَاس شَيْء لَا على شَيْء وعَلى أَن الْمُخَالف لم يقْصد إلزامنا مَا لَا يعقل وَإِنَّمَا قصد إلزامنا مَا يعقل مِمَّا تحظره الْحِكْمَة لِأَنَّهُ قَالَ لَا يجوز أَن يتعبد بِالظَّنِّ فِي الْمصَالح وَهَذَا إِن امْتنع فانما يمْتَنع من جِهَة الْحِكْمَة لَا لِأَنَّهُ لَا يعقل وَمِنْهَا قَوْلهم الشرعيات مصَالح فَلَو جَوَّزنَا إِثْبَاتهَا بالأمارات مَعَ أَنَّهَا قد تخطىء جَازَ أَن يخبر بِأَن زيدا فِي الدَّار إِذا دلّت الأمارات على كَونه فِيهَا وَإِن كَانَت الأمارات قد تخطىء وتصيب وَالْجَوَاب حكى قَاضِي الْقُضَاة عَن الشَّيْخ ابي عبد الله رحمهمَا الله التَّسْوِيَة بَين الْأَمريْنِ قَالَ لِأَنَّهُ كَمَا نجوز أَن بِنصب الله تَعَالَى أَمارَة على شبه الْفَرْع بِالْأَصْلِ فاذا غلب على ظننا شبهه بِهِ تعبدنا بِالْعلمِ بِوُجُوب إِلْحَاقه بِهِ فِي حكمه وبالعمل بِهِ فَكَذَلِك نجوز أَن ينصب على كَون زيد فِي الدَّار أَمارَة فاذا ظنناه فِي الدَّار جَازَ أَن يتعبدنا بِأَن ننتقل عَن ظن كَونه فِيهَا إِلَى الْعلم لكَونه فِيهَا ويتعبدنا بالْخبر عَن كَونه فِيهَا فَلم يفرق بَينهمَا وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّه لم يسو بَينهمَا لِأَن الأمارة الدَّالَّة على كَون زيد فِي الدَّار نظيرها الأمارة الدَّالَّة على شبه الْفَرْع بِالْأَصْلِ فِيمَا هُوَ عِلّة الحكم وَنحن لَا ننتقل عَن الظَّن لشبه الْفَرْع بِالْأَصْلِ إِلَى الْقطع على ذَلِك فَكيف قَالَ إِنَّه يجوز أَن يتعبدنا أَن ننتقل عَن الظَّن لكَون زيد فِي الدَّار إِلَى الْعلم بِأَنَّهُ فِيهَا كَمَا فعلنَا فِي الْقيَاس وَهُوَ لم يفعل مثل ذَلِك فِي الْقيَاس وَأَيْضًا فان جَازَ مَعَ كَون الأمارة قد تخطىء وتصيب أَن يسْتَمر الْحَال فِي إصابتها فِي دلالتها على كَون زيد فِي الدَّار جَازَ مَعَ أَن الِاخْتِيَار قد يخطىء ويصيب أَن تستمر إِصَابَته للحق وَإِن جَازَ أَن يتَّفق إِصَابَة الأمارة فِي شَيْء من الْأَشْيَاء فتتعبد بهَا فِي ذَلِك الشَّيْء بِالْقطعِ على حكمهَا جَازَ مثله فِي الِاخْتِيَار إِذا اتّفق إِصَابَته الْحق فِي مَوضِع وَاحِد وَفِي ذَلِك مُوَافقَة مويس بن عمرَان

وَحكي عَن الشَّيْخ أبي هَاشم أَنه منع من التَّعَبُّد بالأخبار عَن كَون زيد فِي الدَّار وَيُمكن نصْرَة ذَلِك فَنَقُول إِن أَرَادَ السَّائِل إلزامنا جَوَاز الْخَبَر عَن ظننا كَون زيد فِي الدَّار فَذَلِك جَائِز وَهُوَ خبر صدق وَإِن أَرَادَ إلزامنا الْإِخْبَار عَن كَون زيد فِي الدَّار على الْإِطْلَاق لَا بِحَسب الظَّن فَذَلِك غير لَازم لِأَن من شَرط حسن الْخَبَر أَن يكون صدقا وَالْخَبَر عَن أَن زيدا فِي الدَّار لَا يكون حسنا إِلَّا وَهُوَ صدق وَلَيْسَ معنى كَونه مُصدقا أَن نفعله وَنحن ظانون أَن زيدا فِي الدَّار بل معنى كَونه صدقا أَن يكون متناولا لكَون زيد فِي الدَّار وَيكون زيد فِيهَا وَقد يظنّ الْمخبر أَنه فِيهَا وَلَا يكون فِيهَا فَمَتَى أخبر وَالْحَال هَذِه عَن كَونه فِيهَا على سَبِيل الْقطع كَانَ مقدما على خبر لَا يَأْمَن كَونه كذبا وَذَلِكَ قَبِيح وَأما الْعِبَادَات الشَّرْعِيَّة فَهِيَ مصَالح وَقد يكون الْفِعْل يصلح إِذا فَعَلْنَاهُ وَنحن على صفة مَا وَمَتى لم يكن مصلحَة فَلَا يمْتَنع أَن يكون فعلنَا الْفِعْل وَنحن نظن شبه الْفَرْع بِالْأَصْلِ هُوَ الْمصلحَة وَإِذا لم نَنْظُر حَتَّى نظن شبهه بِهِ أَو بِغَيْرِهِ فاتتنا الْمصلحَة فاذا تعبدنا الله عز وَجل بذلك علمنَا بتعبده أَن الْمصلحَة هُوَ أَن نَفْعل بِحَسب ظننا وَهَكَذَا الْجَواب إِذا قيل لنا جوزوا أَن تدل أَمارَة على أَن الْعُمُوم مُسْتَغْرق وتخبرون بذلك على سَبِيل الْقطع لِأَن معنى كَونه مُسْتَغْرقا هُوَ أَن الْعَرَب وَضعته للاستغراق وَكَذَلِكَ الْخَبَر عَن أَن الله عز وَجل لَا يرى لأجل أَمارَة وَلَيْسَ يخْتَلف ذَلِك بِحَسب ظننا كَمَا يجوز أَن تخْتَلف الْمصَالح بِحَسب ظننا فان قيل أتجوزون أَن يدلكم أَمارَة على أَن الْعَرَب وضعت أَلْفَاظ الْعُمُوم للاستغراق فيلزمكم أَن تستدلوا بِهِ على الْأَحْكَام قيل لَا يمْتَنع ذَلِك وَلَا أعرف فِيهِ نصا عَن شُيُوخنَا لِأَنَّهُ إِن جَازَ أَن نستدل بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا ظننا أَنه قَالَه جَازَ أَن نستدل إِذا ظننا أَن الْعَرَب وَضعته للاستغراق فان قيل أفتجوزون أَن يجب عَلَيْكُم عبَادَة الله إِذا ظننتم وجوده بأمارة وَأَن تقتصروا على الظَّن فِي ذَلِك قيل لَا يجوز ذَلِك لِأَنَّهُ إِنَّمَا تجب مَعْرفَته

لِأَنَّهَا لطف وَنحن مَعَ الْمعرفَة وَالْعلم بِهِ ابعد من الْقَبِيح وَمَتى أمعن الْإِنْسَان فِي النّظر وصل إِلَى الْعلم بِهِ فَلَزِمَ الْإِنْسَان ذَلِك لِأَنَّهُ يلْزمه كل مَا مَعَه يكون أبعد من الْقَبِيح وَمن المضار ويمكنه ذَلِك بالإمعان فِي النّظر فان قيل أَيجوزُ أَن لَا يُمكنهُ ذَلِك بِأَن لَا تنصب لَهُ دلَالَة عَلَيْهِ وتنصب لَهُ أَمارَة قيل هَذَا محَال لِأَن جسم الْإِنْسَان دلَالَة على الله تَعَالَى فَكيف يجوز وَالْحَال هَذِه أَن لَا يكون الْإِنْسَان دلَالَة على ربه وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْمصَالح لَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا بالاستدلال وَلَكِن بالنصوص فَكيف يتعبد فِيهَا بِالْقِيَاسِ الْجَواب أَنهم إِن أَرَادوا أَن الْمصَالح لَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا بالاستدلال أصلا فَذَلِك بَاطِل بالاستدلال بالنصوص وَإِن أَرَادوا الِاسْتِدْلَال بالأمارات قيل أتريدون الأمارات الَّتِي لَا تستند إِلَى اصول منصوصة فان قَالُوا نعم فَكَذَلِك نقُول وَإِن قَالُوا نُرِيد الأمارات المستندة إِلَى اصول منصوصة فَهُوَ نفس الْمَسْأَلَة فقد استدلوا على صِحَة قَوْلهم بقَوْلهمْ وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الأمارة وَالظَّن قد يخطئان وَلَا يجوز أَن يتعبد الْحَكِيم فِي الْمصَالح بِمَا يجوز أَن يخطىء الْمصَالح الْجَواب أَنا لَا نقُول إِنَّا نظن الْمصلحَة فَيلْزم مَا ذكرْتُمْ وَإِنَّمَا نقُول إِن عَملنَا بِحَسب الظَّن هُوَ الْمصلحَة وَذَلِكَ مَعْلُوم بِدَلِيل قَاطع وَهُوَ دَلِيل التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ على أَن مَا ذَكرُوهُ منتقض بِمَا تعبدنا فِيهِ بِالظَّنِّ فِي الشَّرْع وَالْعقل كالشهادات وَالتَّصَرُّف فِي الْمَنَافِع والمضار لأَنا قد نتصرف وَنحن نظن الْمَنْفَعَة فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى الْمضرَّة وَيحسن ذَلِك وَإِن أمكن أَن يدلنا الله عز وَجل على مَا فِيهِ منافعنا بِدَلِيل قَاطع أَو يعلمنَا الله عز وَجل ذَلِك ضَرُورَة وَقد أجَاب قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله عَن الشُّبْهَة بِأَن الْمصَالح إِنَّمَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا بالنصوص لَا غير لَكِن بَعْضهَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ بِنَصّ ظَاهر وَبَعضهَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ بِنَصّ خَفِي يفْتَقر إِلَى الِاسْتِدْلَال حَتَّى يعلم أَن الحكم مُرَاد بِهِ وَمَا علم بِالْقِيَاسِ من هَذَا الْقَبِيل وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّه لَا معنى لقولكم إِن النَّص دلّ على حكم الْفَرْع وأنكم احتجتم إِلَى اسْتِدْلَال لِتَعْلَمُوا أَنه مُرَاد بِالنَّصِّ إِلَّا

أَن النَّص دلّ على حكم الأَصْل ثمَّ استخرجتم عِلّة الحكم وقستم بهَا بعض الْفُرُوع وَهَذَا الَّذِي أنكرناه وَمِنْهَا قَوْلهم الْقيَاس فعلنَا وَلَا يجوز التَّوَصُّل إِلَى الْمصَالح بفعلنا الْجَواب أَن الْقيَاس هُوَ إِثْبَات حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لاشْتِرَاكهمَا فِي عِلّة الحكم وَلَا بُد فِي ذَلِك من أَمارَة يسْتَدلّ بهَا على عِلّة الأَصْل وَمن دَلِيل يدلنا على وجوب إِلْحَاق حكم الأَصْل بالفرع الَّذِي وجدت فِيهِ عِلّة الحكم وَلَا بُد من نظر فِي هَذِه الدّلَالَة وَفِي الامارة فان أَرَادوا بقَوْلهمْ إِن الْقيَاس فعلنَا إثباتنا حكم الأَصْل فِي الْفَرْع فَذَلِك هُوَ اعتقادنا وَلَيْسَ هُوَ الَّذِي توصلنا بِهِ إِلَى الْمصَالح بل إِنَّمَا توصلنا إِلَى هَذَا الِاعْتِقَاد بِغَيْرِهِ وَإِن أَرَادوا الدَّلِيل الدَّال على وجوب إِلْحَاق الْفَرْع بِالْأَصْلِ أَو الأمارة الدَّالَّة على صِحَة الْعلَّة فَذَلِك لَيْسَ بفعلنا وَإِن أَرَادوا النّظر فِي الدَّلِيل والأمارة فلعمري إِنَّه فعلنَا وَلَيْسَ يمْتَنع أَن نتوصل بِهِ إِلَى الْمصَالح إِذا وَقع فِي دَلِيل كَمَا أَن النُّصُوص تُؤدِّي إِلَى الْمصَالح بِشَرْط وُقُوع النّظر فِيهَا وَبِالْجُمْلَةِ فَكل ظن وكل علم مكتسب فانما يتَوَصَّل إِلَيْهِ بِالنّظرِ وَهُوَ فعلنَا وَمِنْهَا قَوْلهم جلى الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة لَا تعرف إِلَّا بالنصوص فَلم يجز إِثْبَات خفيها إِلَّا بِالنَّصِّ أَيْضا لِأَن مَا علم جليه بطرِيق فخفيه لَا يعلم إِلَّا بذلك فِي الطَّرِيق كالمدركات لَا يعلم جليها وخفيها إِلَّا بالإدراك الْجَواب يُقَال لَهُم وَلم إِذا كَانَت المدركات كَذَلِك كَانَت غَيرهَا مثلهَا أَلَيْسَ مَا عدا الشرعيات يعلم جليه بالإدراك والضرورة وَيعلم خفيه بالاستدلال دون الْإِدْرَاك وجلى الشرعيات تعلم بالنصوص الظَّاهِرَة وخفيها تعلم بِنَصّ خَفِي وَكثير من الزَّعْفَرَان الْوَاقِع فِي المَاء يعلم بالإدراك وخفيه يعلم بِخَبَر من شَاهد وُقُوعه فِيهِ فان قَالُوا أَلَيْسَ قد اسْتندَ ذَلِك إِلَى الْمُشَاهدَة قيل فَكَذَلِك أَحْكَام الْفُرُوع تستند إِلَى الْأَحْكَام الثَّابِتَة بالنصوص وَأجَاب قَاضِي الْقُضَاة عَن الشُّبْهَة بِمَا ذَكرْنَاهُ من وُقُوع الزَّعْفَرَان فِي المَاء وَبِأَن جَمِيع الشرعيات تعلم

بِالنَّصِّ لَكِن بَعْضهَا تعلم بِظَاهِر النَّص وَبَعضهَا تعلم اسْتِدْلَالا بِالنَّصِّ وَمَا علم بِالْقِيَاسِ هُوَ من الْقسم الثَّانِي وَلَهُم أَن يَقُولُوا إِن النَّص لَا يتَنَاوَل إِلَّا حكم الأَصْل وَلَيْسَ فِيهِ ذكر لحكم الْفَرْع وَلَو كَانَت الْفُرُوع مَعْلُومَة بالنصوص لِأَنَّهُ لَا بُد مِنْهَا لكَانَتْ العقليات المكتسبة مَعْلُومَة بالإدراك لِأَنَّهُ لَا بُد مِنْهُ فِي الْعلم بهَا وَمِنْهَا قَوْلهم لَو كَانَت للشرعيات علل لكَانَتْ كالعلل الْعَقْلِيَّة فِي الاستحالة انفكاكها من أَحْكَامهَا فِي كل حَال أَلا ترى أَن الْحَرَكَة يَسْتَحِيل وجودهَا وَلَيْسَ الْجِسْم متحركا وَفِي ذَلِك ثُبُوت الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة قبل الشَّرْع الْجَواب أَنهم جمعُوا بَين الْعِلَل الْعَقْلِيَّة والشرعية من غير جَامع وَأَيْضًا فان عنوا بالحركة تحرّك الْجِسْم فَذَلِك إِنَّمَا وَجب كَون الْجِسْم مَعَه متحركا لِأَن كَون الْجِسْم إِذا تحرّك هُوَ معنى كَونه متحركا فَالْقَوْل بِأَن فِيهِ حَرَكَة وَلَيْسَ هُوَ متحرك مناقضة وَإِن عنوا بالحركة معنى يُوجب كَون الْجِسْم متحركا كَمَا يَقُوله أَصْحَابنَا فَذَلِك ذَات مُوجبَة كَون الْجِسْم متحركا وَلَا يجوز وقُوف ايجابها على شَرط لِأَنَّهَا لَو وجدت من دون إِيجَاب لنا انْفَصل وجودهَا من عدمهَا وَأما الْعِلَل الشَّرْعِيَّة فانها إِمَّا أَن تكون وَجه الْمصلحَة وَإِمَّا أَن تكون أَمارَة يصحبها وَجه الْمصلحَة فان كَانَت وَجه الْمصلحَة فمعلوم أَن وَجه الْمصلحَة يجوز أَن يَقْتَضِي الْمصلحَة بِشَرْط يخْتَص بعض الْأَزْمَان دون بعض أَلا ترى أَن مصلحَة الصَّبِي فِي وَقت الرِّفْق ومصلحته فِي وَقت العنف وَلِهَذَا اخْتلف شرائع الْأَنْبِيَاء وَصَحَّ نسخ الْعِبَادَات فَلم يمْتَنع أَن يكون الشَّرْط فِي كَون الْعِلَل الشَّرْعِيَّة مُوجبَة للْمصْلحَة لَا يحصل قبل الشَّرِيعَة فَلَا تثبت الْمصلحَة قبل الشَّرِيعَة وَإِن كَانَت الْعِلَل الشَّرْعِيَّة امارات تصْحَب وَجه الْمصلحَة وَكَانَ وَجه الْمصلحَة قد يقف على شَرط يرجع إِلَى أَحْوَال الْمُكَلف وَيخْتَص بِبَعْض الْأَزْمَان كَانَت الأمارة الَّتِي تصْحَب وَجه الْمصلحَة تخْتَص كَونهَا أَمارَة أَيْضا بِبَعْض الْأَزْمَان دون بعض فان قيل بِمَاذَا تعلمُونَ تعلق الحكم بِالْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّة قيل بتعليق النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام الحكم عَلَيْهَا إِمَّا نصا وَإِمَّا تَنْبِيها كَمَا نعلم تعلق

الحكم بِالِاسْمِ بتعليق النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام الحكم عَلَيْهِ وَذَلِكَ غير حَاصِل قبل الشَّرِيعَة فَلم يثبت قبل الشَّرْع وَمِنْهَا قَوْلهم الْعقل كالنص فِي أَنه يدل على حكم الْحَادِثَة فَكَمَا لَا يجوز أَن يتعبدنا الله تَعَالَى بِالْقِيَاسِ الْمُخَالف لنَصّ معِين فَكَذَلِك لَا يجوز أَن يتعبدنا بِقِيَاس يُخَالف حكم الْعقل وكل حَادِثَة فلهَا حكم فِي الْعقل فاذن لَا يجوز أَن يتعبد فِيهَا بِالْقِيَاسِ الْجَواب أَن هَذَا منتقض بِخَبَر الْوَاحِد لِأَنَّهُ لَا يجوز اسْتِعْمَاله فِي خلاف نَص الْقُرْآن وَيجوز أَن ينْتَقل بِهِ عَن حكم الْعقل على أَن مَا ذَكرُوهُ لَا يمْنَع من التَّعَبُّد بِقِيَاس مُطَابق لما فِي الْعقل على أَن النَّص الْمعِين لَو تَرَكْنَاهُ بِالْقِيَاسِ كُنَّا قد ألغينا كَلَام الْحَكِيم لِأَنَّهُ اقْتضى الحكم مُطلقًا وَالْعقل فانما اقْتضى الحكم مَا لم ينقلنا عَن دَلِيل شَرْعِي فَمن أَيْن لَهُم أَن الْقيَاس لَيْسَ بِدَلِيل شَرْعِي وَهل نوزعوا إِلَّا فِي ذَلِك وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْحَكِيم لَا يقْتَصر بالمكلف على أدون البيانين مَعَ قدرته على أعلاهما وَالْقِيَاس أدون بَيَانا من النَّص الْجَواب أَن فِي هَذَا الْكَلَام تَسْلِيم أَن الْقيَاس بَيَان فَلَا يمْتَنع أَن تكون فِيهِ مصلحَة زَائِدَة وَإِن كَانَ أدون بَيَانا من غَيره وَلَو وَجب التَّعَبُّد بِأَعْلَى الباينات لوَجَبَ تعريفنا الْأَحْكَام ضَرُورَة أَو الِاقْتِصَار بِنَا على النُّصُوص الجلية المتواترة دون الْآحَاد لِأَنَّهَا أَعلَى بَيَانا من الْخفية وَمِنْهَا قَوْلهم نظر القائس لَا بُد من أَن يَقع فِي مَنْظُور فِيهِ وَلَيْسَ إِلَّا النَّص أَو الحكم وَلَيْسَ يجوز أَن يَقع فِي النَّص لِأَن النَّص لَا يتَنَاوَل الْفَرْع وَلَا يجوز وُقُوعه فِي الحكم لِأَن الحكم هُوَ فعل الْمُكَلف فَكَانَ يَنْبَغِي لَو لم يُوجد فعل من الْمُكَلف أَن لَا يَصح مِنْهُ الَّذِي يحصل من القائس هُوَ نظر فِي الأمارات الدَّالَّة على الْعِلَل وَقد تكون الأمارة كَيْفيَّة فِي الحكم نَحْو ان يحصل الحكم بِحَسب حُصُول صفة وينتفي عِنْد انتفائها فِي الأَصْل أَو يكون لصفة من الصِّفَات تَأْثِير فِي الاصول فالنظر فِي ذَلِك يَقْتَضِي كَون تِلْكَ الصّفة عِلّة وَالنَّظَر فِي حُصُولهَا فِي

الْفَرْع يُؤَدِّي إِلَى إِلْحَاقه بِالْأَصْلِ وَلَيْسَ الحكم هُوَ فعلنَا بل كَون الْفِعْل وَاجِبا وقبيحا وَذَلِكَ مُتَصَوّر متوهم يُمكن النّظر فِي حُصُوله بِحَسب صفة من الصِّفَات وجد الْفِعْل أَو لم يُوجد وَمِنْهَا قَوْلهم لَو جَازَ أَن يكون الْقيَاس صَحِيحا لَكَانَ حجَّة مَعَ النَّص الْجَواب أَن ذَلِك دَعْوَى وَمَعَ ذَلِك فَإِن أَرَادوا أَنه يكون حجَّة مَعَ النَّص على حكم الأَصْل فَكَذَلِك نقُول وَإِن أَرَادوا مَعَ النَّص على خلاف حكمه فِي الْفَرْع فقد بَينا القَوْل فِي ذَلِك فِي الْخَبَر الْوَارِد بِخِلَاف قِيَاس الاصول على انه لَا يمْتَنع أَن يكون حجَّة إِذا انْفَرد وَإِذا عَارضه النَّص كَانَ النَّص أولى مِنْهُ كَمَا أَن خبر الْوَاحِد حجَّة إِذا انْفَرد وَإِذا اجْتمع مَعَ الْخَبَر الْمُتَوَاتر وَمَعَ نَص الْقُرْآن كَانَا أولى وَإِن أَرَادوا النَّص على مثل حكمه فِي الْفَرْع فانا نجوز ذَلِك لِأَنَّهُ إِن كَانَ النَّص خبر وَاحِد فَهُوَ أَمارَة وَكَذَلِكَ الْقيَاس المطابق لَهُ وَإِن كَانَ النَّص خَبرا متواترا فَالْقِيَاس حجَّة فِي الْفَرْع بِمَعْنى أَنه لَو فَقدنَا النَّص الْمُتَوَاتر لوَجَبَ الحكم لمَكَان الْقيَاس وَمِنْهَا أَنه لَو جَازَ التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ لجَاز أَن يتعبد بِهِ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَمن حَضَره ولصح بِهِ النّسخ الْجَواب أَن كل ذَلِك مجوز فِي الْعقل وَمِنْهَا لَو جَازَ التَّعَبُّد بِتَحْرِيم شَيْء لظننا شُبْهَة بِأَصْل محرم جَازَ أَن نتعبد بِتَحْرِيمِهِ إِذا ظننا شُبْهَة بِالْأَصْلِ من غير أَمارَة أَو اعتقدنا شُبْهَة تنحيتا وَإِذا اشتهينا تَحْرِيمه وَإِذا اخترنا ذَلِك أَو شككنا فِي كَونه مشبها لَهُ لِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن تكون مصلحتنا أَن نَفْعل بِحَسب شهوتنا وشكنا واختبارنا الْجَواب أَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ مَبْنِيّ على مَا تقرر فِي الْعقل من حسن التَّصَرُّف فِي الدُّنْيَا بِحَسب ظن النَّفْع وانفاع الضَّرَر إِذا كَانَ الظَّن صادرا عَن امارة كَمَا تقرر حسن ذَلِك فِي الْعقل فقد تقرر فِيهِ قبح تحمل المشاق لأجل الشَّهَوَات والهوى وَالِاخْتِيَار وَلأَجل ظن لَا أَمارَة لَهُ وتقرر فِي الْعقل أَن الْإِقْدَام على الْفِعْل مَعَ الشَّك فِي مضرته لَا يحسن إِلَّا بعد الْبَحْث وَمَتى أقدم الْإِنْسَان من غير بحث ذمه

الْعُقَلَاء وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا ظن اندفاع مضرَّة لأجل أَمارَة صَحِيحَة وَأما إِذا شكّ فِي حُصُوله وَجه الْقبْح فِي الشَّيْء كشكه فِي كَون الْخَبَر كذبا فانه يقبح مِنْهُ فقد عمل فِي هَذَا الْموضع على الشَّك وَإِذا شكّ فِي الْحَدث بعد تَيَقّن الطَّهَارَة فمالك عمل على الشَّك فَأوجب الطَّهَارَة وَغَيره من الْفُقَهَاء عمل على الأَصْل وَلكُل وَجه فِي التَّعَبُّد فقد جَازَ الْعَمَل على الشَّك على بعض الْوُجُوه وَمِنْهَا قَوْلهم لَو جَازَ التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيّ لَكَانَ على علته أَمارَة وَلَا يجوز أَن تكون عَلَيْهَا أَمارَة فاذا لَا يجوز التَّعَبُّد بِهِ وَإِنَّمَا لم تكن على علته أَمارَة لِأَن الأمارة إِمَّا أَن تدل عَلَيْهَا الْعَادَات أَو النُّصُوص وكلامنا فِي قِيَاس لَيست علته وَلَا أمارتها مَنْصُوص عَلَيْهَا فَلم يجز أَن يكون النَّص طَرِيقا إِلَى أَمارَة الْقيَاس المستنبطة علته وَلما لم تكن الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة ثَابِتَة بالعادات لم تكن عللها وأماراتها ثَابِتَة بالعادات يُقَال لَهُم وَلم لَا يجوز أَن يكون الطَّرِيق إِلَى ذَلِك تَنْبِيه الشَّرْع وعاداته لِأَن الشَّرْع يدل تصريحه وَقد يدل تنبيهه فاذا علمنَا أَن الحكم يثبت فِي الأَصْل عِنْد وصف وينتفي عِنْد انتفائه غلب على ظننا أَنه لأَجله ثَبت وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الْوَصْف مؤثرا فِي جنس ذَلِك نَحْو الْبلُوغ الْمُؤثر فِي رفع الْحجر فِي المَال كَانَ اولى بِأَن يرفع الْحجر فِي النِّكَاح وَلَا شُبْهَة فِي حُصُول الظَّن عِنْد هَذِه الأمارات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَنه كَانَ يجوز من جِهَة الْعقل أَن يتعبد الله الْأَنْبِيَاء بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَاد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن اجْتِهَاد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِن أُرِيد بِهِ الِاسْتِدْلَال بالنصوص على مُرَاد الله عز وَجل فَذَلِك جَائِز لَا شُبْهَة فِيهِ وَإِن أُرِيد بِهِ الِاسْتِدْلَال بالأمارات الشَّرْعِيَّة فالأمارات الشَّرْعِيَّة ضَرْبَان أَخْبَار آحَاد وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِي النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَالْآخر الأمارات المستنبطة الَّتِي يجمع بهَا بَين الْفُرُوع والاصول وَهَذَا هُوَ الَّذِي يشْتَبه الْحَال فِيهِ هَل كَانَ يجوز تعبد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَالصَّحِيح جَوَازه لِأَنَّهُ كَمَا يجوز فِي الْعقل أَن تكون مصلحتنا أَن نعمل باجتهادنا تَارَة

وبالنص أُخْرَى جَازَ مثله فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ يحِيل الْعقل ذَلِك فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويصححه فِينَا كَمَا لَا يُصَحِّحهُ فِي زيد وَيمْنَع مِنْهُ فِي عَمْرو وَلِهَذَا جَازَ أَن يجب علينا وَعَلِيهِ الْعَمَل على اجتهادنا فِي مضار الدُّنْيَا ومنافعها فان قيل إِن اجْتِهَاد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْتَص بِوَجْه قبح لِأَنَّهُ ينفر عَنهُ من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه إِذا علم أَنه يثبت الْأَحْكَام بِاجْتِهَادِهِ نفر عَنهُ وَالثَّانِي أَنه إِذا ثَبت الحكم بِاجْتِهَادِهِ كَانَ للْعَالم أَن يُخَالِفهُ وَوَجَب إِذا أفتى الْعَاميّ أَن يُخبرهُ وَذَلِكَ أبلغ مَا ينفر عَنهُ الْجَواب انه لَا تنفير فِي إثْبَاته الحكم بِاجْتِهَادِهِ لِأَن الْمُجْتَهد لَيْسَ يجْتَهد من قبل نَفسه لكنه يعْتَقد أَن الله عز وَجل حكم بذلك الحكم وَأَنه اسْتدلَّ بتنبيه الله عز وَجل إِيَّاه فَأَي تنفير فِي الِاسْتِدْلَال على مُرَاد الله عز وَجل وَأما مُخَالفَة الْعَالم والعامي لَهُ فَلَا يجوز كَمَا لَا يجوز مخالفتهما الْإِجْمَاع إِن قيل لَو وَجب على غَيره الْأَخْذ بقوله وَالْقطع عَلَيْهِ لوَجَبَ ذَلِك لكَونه نَبيا وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يقطع هُوَ على قَول نَفسه لعلمه أَنه نَبِي وقطعه على قَول نَفسه يُخرجهُ عَن ان يكون من جملَة الِاجْتِهَاد المفضي إِلَى الظَّن قيل قد أجَاب قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله بِأَن كَونه نَبيا يكون دلَالَة لغيره على الْقطع وَلَا يكون دلَالَة لنَفسِهِ قَالَ وَلَا يتنافى ذَلِك وَهَذَا لَا يَصح لِأَن الدَّلِيل لَا يجوز ان يدل مُكَلّفا دون مُكَلّف مَعَ اشتراكهما فِي الْعلم بشرائطه وَلَيْسَ يعلم غير النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام من شَرَائِط الِاسْتِدْلَال على أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام مُصِيب قطعا مَا لَا يعلم النَّبِي فَكيف يكون كَونه نَبيا دلَالَة قَاطِعَة لغيره وَلَا يكون دلَالَة لَهُ وَنحن نقُول فِي ذَلِك إِنَّه إِذا كَانَ الله عز وَجل إِنَّمَا كلف الْمُجْتَهد الحكم بأشبه الأمارتين ومكنه من الْوُصُول إِلَى ذَلِك بِأَن ينظر النّظر الصَّحِيح فالنبي عَلَيْهِ السَّلَام يعلم من نَفسه الْوُصُول إِلَى ذَلِك لعلمه بِأَنَّهُ قد نظر النّظر الصَّحِيح كَمَا يعلم ذَلِك من غَيره من الْمُجْتَهدين وَغير النَّبِي يعلم ذَلِك من حَال النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لعلمه بِأَنَّهُ مَعْصُوم من الْخَطَأ فِي الْأَحْكَام كَمَا أَنه مَعْصُوم فِيمَا يُؤَدِّيه إِذْ خلاف

ذَلِك ينفر عَنهُ وَلَا يجوز ان يرجع عَن ذَلِك الحكم لِأَن الرُّجُوع عَنهُ خطأ فَأَما إِذا قيل كل مُجْتَهد مُصِيب فانه إِذا كَانَ غَيره من الْمُجْتَهدين يقطع على أَنه مُصِيب فالنبي بِالْقطعِ على ذَلِك من نَفسه أولى وَلَا يجوز لغيره أَن يُخَالِفهُ فِيمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَاده لِأَنَّهُ ينفر عَنهُ وَإِن كَانَ رُجُوعه إِلَى قَول آخر ينفر عَنهُ لم نجوزه وَإِن لم ينفر جوزناه فان قيل لَو جَوَّزنَا أَن يجْتَهد لوَجَبَ الْقطع على ان الْعلَّة الَّتِي استخرجها هِيَ عِلّة الحكم لوُجُوب حكمنَا بهَا وَلَا يقطع هُوَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ مُجْتَهد ومحال أَن نقطع نَحن على ذَلِك دونه مَعَ كوننا متبعين لَهُ وَمَعَ انا إِنَّمَا قَطعنَا على ذَلِك لكَونه نَبيا وَهُوَ يعلم مَعَ كَونه نَبيا مَا علمناه الْجَواب أَنه لَا يقطع هُوَ وَلَا نَحن على عِلّة حكم الأَصْل وَنحن وَهُوَ نقطع على عِلّة حكم الْفَرْع على مَا سَنذكرُهُ عِنْد الْكَلَام فِي أَن الْحق فِي وَاحِد وَأجَاب قَاضِي الْقُضَاة عَن ذَلِك رَحمَه الله فِي الشَّرْح بجوابين أَحدهمَا أَنا نَحن نقطع على الْعلَّة الَّتِي استخرجها لِأَنَّهُ يجب علينا اتِّبَاعه وَلَا يقطع هُوَ على ذَلِك لِأَنَّهُ مُجْتَهد وَهَذَا لَا يَصح لما ذَكرْنَاهُ وَالْآخر أَنه بعد تَكَامل اجْتِهَاده يعلم أَنَّهَا عِلّة الحكم كَمَا أَنا نظن صدق الْمخبر إِذا أخبر وَحده فاذا تَوَاتر المخبرون حصل لنا الْعلم بصدقه فان قيل أفتجوزون أَن يتعبد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بِاجْتِهَادِهِ فِي تَأْوِيل آيَة قيل يجوز ذَلِك بل ذَلِك أولى مِمَّا تقدم لِأَن الِاسْتِدْلَال على ذَلِك اسْتِدْلَال بِدلَالَة لَا بأمارة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي هَل كَانَ يجوز ان يتعبد الله عز وَجل من عاصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّن حَضَره أَو غَابَ عَنهُ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاس أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اما من غَابَ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام فَحكى قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله فِي الشَّرْح

أَن أَكثر الذاهبين إِلَى الِاجْتِهَاد أَجَازُوا ذَلِك والأقلون منعُوا مِنْهُ وَحكي أَن أَبَا عَليّ رَحمَه الله قَالَ فِي كتاب الِاجْتِهَاد لَا أَدْرِي هَل كَانَ يجوز لمن غَابَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عصره أَن يجْتَهد أم لَا قَالَ لِأَن خبر معَاذ من اخبار الْآحَاد وَالصَّحِيح أَن لَهُم أَن يجتهدوا إِذا ضَاقَ زمَان الْحَادِثَة عَن استفتاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ لَا يُمكنهُم سوى ذَلِك وَلِأَنَّهُ لَا فرق فِي الْعُقُول بَينهم وَبَين من لَا يعاصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله أَن خبر معَاذ وَإِن كَانَ من اخبار الْآحَاد فقد تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ فهم بَين مُحْتَج بِهِ ومتأول لَهُ فصح التَّعَلُّق بِهِ فِي أَن للمجتهد أَن يجْتَهد مَعَ غيبته عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَما إِذا أمكن الْمُجْتَهد مراسلة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَالْقَوْل فِيهِ كالقول فِي الْحَاضِر إِذا أمكنه سُؤَاله وَقد أجَاز اجْتِهَاده قوم من القائسين إِلَّا أَن يمْنَع من اجْتِهَاده مَانع وَمنع مِنْهُ آخَرُونَ مِنْهُم الشَّيْخَانِ أَبُو عَليّ وَأَبُو هَاشم وَأَجَازَ قوم لمن بِحَضْرَتِهِ أَن يجْتَهد إِذا أذن لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك وَأَجَازَ قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله من جِهَة الْعقل وُرُود التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ لمن حضر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلمن غَابَ عَنهُ قَالَ لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن تكون الْمصلحَة أَن يعْمل بِاجْتِهَادِهِ إِذا لم يسْأَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يمْتَنع إِذا سَأَلَهُ أَن يكون مصْلحَته أَن ينص لَهُ على الحكم وَلَا يمْتَنع أَن تكون مصْلحَته أَن يكله إِلَى اجْتِهَاده وَالْأولَى أَن يُقَال إِنَّه لَا يجوز لمن حضر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يجْتَهد من جِهَة الْعقل قبل سُؤال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا لَا يجوز للسالك فِي بَريَّة مخوفة أَن يعْمل على رَأْيه مَعَ تمكنه من سُؤال من بِخَبَر الطَّرِيق أَسد من خبرته وكما لَا يجوز أَن يجْتَهد من غير أَن يطْلب للنصوص ويفقدها وَيجوز إِن سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكله إِلَى اجْتِهَاده بِأَن يعلم الله تَعَالَى أَن مصْلحَته أَن يعْمل على اجْتِهَاده

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَنه لَا يجوز التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي جَمِيع الشرعيات وَيجوز التَّعَبُّد فِي جَمِيعهَا بالنصوص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما جَوَاز ذَلِك بالنصوص لِأَنَّهُ مُمكن أَن ينص الله عز وَجل على صِفَات الْمسَائِل فِي الْجُمْلَة فَيدْخل تفصيلها فِيهَا وَيجوز أَن يكون فِي ذَلِك مصلحَة نَحْو أَن ينص الله تَعَالَى على الرِّبَا فِي كل مَوْزُون فَيدْخل فِي ذَلِك أَنْوَاع الموزونات أما التَّعَبُّد فِي جَمِيعهَا بِالْقِيَاسِ فَلَا يَصح لِأَنَّهُ إِمَّا أَن تقاس جَمِيع الشرعيات أَو لَا تقاس فان لم تقس انْتقض كَونهَا مقيسة وَإِن قيست فاما أَن يُقَاس على غَيرهَا وَإِمَّا ان يُقَاس بَعْضهَا على بعض بِأَن يُقَاس الْفَرْع على الأَصْل وَيُقَاس الأَصْل على فَرعه وَفِي ذَلِك تبين الشَّيْء بِنَفسِهِ وَإِن قيست على غَيرهَا فَذَلِك الْغَيْر إِمَّا شَرْعِي وَإِمَّا عَقْلِي وقياسها على أصُول غَيرهَا شرعيه لَا يُمكن لأَنا قد فَرضنَا الْكَلَام فِي أَن يكون جَمِيع الشرعيات مقيسة وَلم يبْق مِنْهَا شَيْء يُقَاس عَلَيْهِ وَإِن قيست على أصُول عقلية بِاعْتِبَار وُجُوه قبحها وحسنها أَو بِاعْتِبَار أَمَارَات عقلية مستندة إِلَى عادات لم يَصح لأَنا لم نجد فِي الْعقل أصلا لوُجُوب الصَّلَاة وأعداد ركعاتها وشروطها واوقاتها وَلَا نعلم أَيْضا وَجه وجوب ذَلِك فِي الصَّلَاة من جِهَة الْعقل فَيَقَع الْقيَاس بهَا على غَيرهَا وَأما الأمارات المستخرجة بالعادات فَلَيْسَتْ دَالَّة على وجوب شَيْء وَلَا على حظره وَإِنَّمَا تدل على حُدُوث حَادث كأمارة الْمَطَر أَو تدل على مِقْدَار شَيْء كأمارة قيمَة الْمُتْلف وَلَيْسَ وجوب الصَّلَاة وأعداد ركعاتها من هذَيْن وَلَا تَجِد من جِهَة الْعَادَات أَمَارَات على وجوب الصَّلَاة وشروطها وَلَو دلّت أَمَارَات الْعَادَات على ذَلِك لما كَانَ وجوب الصَّلَاة شَرْعِيًّا بل كَانَ مَعْرُوفا بِالْعَادَةِ فصح أَن التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي جَمِيع الشرعيات لَا يجوز

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَنا متعبدون بِالْقِيَاسِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن من النَّاس من قَالَ قد تعبدنا الله تَعَالَى فِي الْحَوَادِث الشَّرْعِيَّة بِالْقِيَاسِ وَمِنْهُم من قَالَ لم يتعبد بِهِ وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فَمنهمْ من قَالَ قد وَردت الشَّرِيعَة بِالْمَنْعِ مِنْهُ وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّمَا لم يُثبتهُ فِي الشَّرِيعَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَا يدل على التَّعَبُّد بِهِ وَاخْتلف من أثبت التَّعَبُّد بِهِ فَقَالَ قوم الْعقل يدل على ذَلِك والسمع وَقَالَ آخَرُونَ السّمع فَقَط يدل عَلَيْهِ وَالَّذِي يبين أَن الْعقل بدل على التَّعَبُّد بِهِ أَن مرادنا بقولنَا إِن الْعقل يدل على ذَلِك هُوَ أَنا إِذا ظننا بأمارة شَرْعِيَّة عِلّة حكم الأَصْل ثمَّ علمنَا بِالْعقلِ أَو بالحس ثُبُوتهَا فِي شَيْء آخر فان الْعقل يُوجب قِيَاس ذَلِك الشَّيْء على ذَلِك الأَصْل بِتِلْكَ الْعلَّة أما جَوَاز قيام امارة شَرْعِيَّة على عِلّة حكم الأَصْل فَهُوَ أَنا إِذا علمنَا أَن قبح شرب الْخمر يحصل عِنْد شدتها وينتفي عِنْد انْتِفَاء شدتها كَانَ ذَلِك أَمارَة تَقْتَضِي الظَّن لكَون شدتها عِلّة تَحْرِيمهَا وَمَعْلُوم أَن الشدَّة مَعْلُوم ثُبُوتهَا فِي النَّبِيذ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن الْعقل يُوجب قِيَاس النَّبِيذ على الْخمر لِأَن الْعقل يَقْتَضِي قبح مَا ظننا فِيهِ أَمارَة الْمضرَّة وأمارة التَّحْرِيم هِيَ أَمارَة الْمضرَّة أَلا ترى أَن الْعقل يَقْتَضِي قبح الْجُلُوس تَحت حَائِط مائل لعلمنا بِثُبُوت امارة الْمضرَّة فان قيل كَيفَ يجوز الْقطع على قبح مَا وجدت فِيهِ امارة التَّحْرِيم والمضرة مَعَ ان الأمارة قد تخطىء وَقد تصيب قيل كَمَا يجوز مثله فِي امارة المضار الْحَاصِلَة فِي الْقيام تَحت حَائِط مائل فان قَالُوا الْعقل إِذا انْفَرد يَقْتَضِي إِبَاحَة شرب النَّبِيذ فَلم يجز الِانْصِرَاف عَنهُ لأمارة قيل لَهُم مثله فِي الْجُلُوس تَحت الْحَائِط لِأَن الْعقل يَقْتَضِي إِبَاحَة الْجُلُوس فِي الأَصْل فَيجب أَن لَا ننتقل عَن هَذِه الْإِبَاحَة لأمارة يجوز أَن تخطيء وتصيب فان قَالُوا إِنَّمَا حسن الْجُلُوس بِشَرْط أَن لَا يكون فِيهِ امارة الْمضرَّة قيل

وَإِنَّمَا حسن بِالْعقلِ شرب النَّبِيذ بِشَرْط أَن لَا يكون فِيهِ أَمارَة التَّحْرِيم والمضرة وَلَا فرق بَينهمَا وَيدل عَلَيْهِ إِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنهُ لأَنهم قَالُوا فِي مسَائِل اخْتلف فِيهَا بِالْقِيَاسِ من غير نَكِير ظهر من بَعضهم وَمَا قَالُوهُ من غير نَكِير فَهُوَ حق فَمن ذَلِك قَول الرجل لزوجته أَنْت عَليّ حرَام قَالَ أَبُو بكر وَعمر عَلَيْهِمَا السَّلَام هُوَ يَمِين وَقَالَ عَليّ وَزيد عَلَيْهِمَا السَّلَام هُوَ طَلَاق ثَالِث وَقَالَ ابْن مَسْعُود عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ طَلْقَة وَاحِدَة وَقَالَ ابْن عَبَّاس عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ ظِهَار وَقَالَ بَعضهم هُوَ إِيلَاء وَاخْتِلَافهمْ فِي ذَلِك ظَاهر وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُم قَالُوا ذَلِك قِيَاسا لأَنهم إِمَّا أَن يَكُونُوا قَالُوا ذَلِك عَن طَرِيق أَو لَا عَن طَرِيق وَلَو كَانُوا قَالُوا ذَلِك لَا عَن طَرِيق لكانوا قد اتَّفقُوا على الْخَطَأ لِأَن من أعظم الْخَطَأ أَن يُقَال فِي دين الله عز وَجل لَا عَن طَرِيق فان قَالُوا ذَلِك عَن طَرِيق فَأَما أَن يكون نصا جليا أَو غير جلي أَو قِيَاسا أَو استنابطا وَلَو كَانَ فِي ذَلِك نَص لاحتج بِهِ بَعضهم ليقيم عذر نَفسه وليرد غَيره عَن خطئه هَذِه عَادَة من قَالَ قولا خَالفه فِيهِ من يقْصد مباحثته وَطلب الْحق مِنْهُ وَلِأَنَّهُم كَانُوا يعظمون مُخَالفَة نُصُوص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جليها وخفيها فَلَو كَانَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك نَص مُخَالف لبَعض هَذِه الْأَقَاوِيل لكَانَتْ كراهتهم لمُخَالفَته تَدْعُو إِلَى إِظْهَاره سِيمَا إِن كَانَ جليا وَأَيْضًا محَال من جِهَة الْعَادَات فِي عدد كثير يهتمون بِنَقْل كَلَام من يعظمونه حَتَّى ينقلوا مَا لَا يتَعَلَّق بِهِ حكم شَرْعِي أَن يهملوا إِظْهَار مَا اشتدت الْحَاجة إِلَيْهِ مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ حكم شَرْعِي وَوَقع فِي الِاخْتِلَاف وَيُفَارق ذَلِك ترك نقل مَا أَجمعُوا لأَجله لِأَن الْإِجْمَاع حجَّة وَقد أغْنى عَن الْخَبَر وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا وَقع الِاخْتِلَاف وَلَو أظهرُوا النَّص لاحتجوا بِهِ ولكان خوضهم فِيهِ يمْنَع من أَن ينكتم وَلَا ينْقل وَلَو نقل لعرفه الْفُقَهَاء مَعَ فحصهم عَن السّنَن ولسنا نجد فِي الشَّرِيعَة نصا فِي ذَلِك فان قَول الله عز وَجل {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك} إِنَّمَا هُوَ منع من

التَّحْرِيم وَلَيْسَ فِيهِ مَا حكمه فان قَالُوا وَلَو كَانُوا قاسوا هَذِه الْمَسْأَلَة على غَيرهَا لصرحوا بِالْعِلَّةِ قيل لَا يجب ذَلِك بل يَكْفِي التَّنْبِيه على الْعلَّة وَقد نبه كل مِنْهُم على الْقيَاس وَالْعلَّة لِأَن من قَالَ إِنَّه طَلَاق ثَلَاث جعل مُطلق التَّحْرِيم يَقْتَضِي غَايَة التَّحْرِيم ثمَّ ألزمهُ هَذَا الحكم قِيَاسا على طَلَاق الثَّلَاث من حَيْثُ كَانَ كل وَاحِد مِنْهَا يُفِيد غَايَة التَّحْرِيم وَمن جعله طَلْقَة وَاحِدَة اعْتبر أقل مَا يثبت مَعَه التَّحْرِيم وقاسه على الطَّلقَة الْوَاحِدَة بعلة ان كل وَاحِد مِنْهَا يتَنَاوَل أقل التَّحْرِيم وَمن جعله إِيلَاء اعْتبر أَن الزَّوْج قد منع نَفسه بِهَذَا القَوْل عَن وَطئهَا وَمن جعله ظِهَارًا أجراه مجْرى الظِّهَار من قبل أَنه يُفِيد التَّحْرِيم بِلَفْظ لَيْسَ بِلَفْظ طَلَاق وَلَا إِيلَاء وَإِذا كَانَ هَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ مُمكنا وَلم يُمكن ذكر نَص وَلَا أَنهم قَالُوا بِغَيْر طَرِيق وَجب الْقطع على أَنهم أَرَادوا مَا ذَكرْنَاهُ أَو مَا يجْرِي مجْرَاه من التَّشْبِيه وَأَيْضًا فان النَّاس قد يقتصرون على الْفَتْوَى فِي كَلَامهم وَيعلم السَّامع الْوَجْه الدَّال على الْفَتْوَى من نفس الْفَتْوَى أَلا ترى أَن النَّاس قد يشيرون فِي الْحَرْب بآراء ويجرون الشَّيْء مجْرى غَيره وَلَا يصرحون بِذكر الشّبَه فَيعلم وَجه التَّشْبِيه بَيَان ذَلِك أَن رَئِيس الْجَيْش لَو امْر مرّة بِضَرْب رِقَاب من يتحسس عَلَيْهِ لعَدوه قصدا مِنْهُ إِلَى زجر من يتحسس عَلَيْهِ ثمَّ أحسن مرّة إِلَى من يتحسس عَلَيْهِ استمالة مِنْهُ لَهُم ليدلوه على عَورَة عدوه ثمَّ ظهر مرّة ثَالِثَة على آخَرين ينقلون اخباره على عدوه فَقَالَ بَعضهم اقتلهم كَالَّذِين قَتلهمْ وَقَالَ آخَرُونَ أحسن إِلَيْهِم كَالَّذِين أَحْسَنت إِلَيْهِم لعلم أَن هَؤُلَاءِ لحظوا استمالتهم ليدلوه على عَورَة عدوه واولئك قصدُوا زجر غَيرهم عَن التحسس عَلَيْهِ فَكَذَلِك مَا ذكرنَا عَن السّلف رَضِي الله عَنْهُم فان قيل هلا وَجب أَن يصرحوا وَلَا يقتصروا فِيهَا على التَّنْبِيه كَمَا وَجب

أَن ينقلوا النَّص قيل قد ثَبت أَن الْعَادة والديانة قد أوجبتها نقل النَّص وَأَن الْعَادة فِي التَّعْلِيل والتشبيه أَن يُصَرح بهَا تَارَة وينبه عَلَيْهَا أُخْرَى فان قيل هلا صَرَّحُوا بذلك ليقيموا عذرهمْ ويمكنوا غَيرهم من الِاحْتِجَاج بِهِ قيل قد بلغُوا هَذِه الْغَرَض بالتنبيه وَلِهَذَا قد يُنَبه الْفُقَهَاء من كَلَامهم على تَلْخِيص الْعلَّة وَالْقِيَاس وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه لم يكن مِنْهُم نَكِير لِأَنَّهُ لَو كَانَ مِنْهُم نَكِير لظهر وَلَا منع مَعَ ظُهُوره أَن ينكتم وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُم إِذا لم ينكروه لم يكن بَاطِلا لِأَنَّهُ لَو كَانَ بَاطِلا لَكَانَ إِنْكَاره وَاجِبا وَكَانُوا قد اتَّفقُوا على ترك الْوَاجِب وَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول إِنَّمَا لم ينكروه لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي معاصي غير الْأَنْبِيَاء مَا يقطع على أَنه صَغِير وَلِأَن الصَّغِير يجب إِنْكَاره كالكبير وَمِمَّا اخْتلفُوا فِيهِ وشبهوه بِغَيْرِهِ مَسْأَلَة الْجد وَقَول ابْن عَبَّاس أما يَتَّقِي الله زيد بن ثَابت يَجْعَل ابْن الابْن ابْنا وَلَا يَجْعَل أَب الْأَب ابا وَلم يذهب إِلَى تَسْمِيَة الْجد ابا لِأَن ابْن عَبَّاس لَا يذهب عَلَيْهِ مَعَ تقدمه فِي اللُّغَة أَن الْجد لَا يُسمى أَبَا حَقِيقَة أَلا ترى أَنه يَنْفِي عَنهُ الِاسْم فَيُقَال لَيْسَ هُوَ بِأبي الْمَيِّت وَلكنه جده وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنه بِمَنْزِلَة الْأَب كَمَا أَن ابْن الابْن بِمَنْزِلَة الابْن لما كَانَ يُدْلِي إِلَى الْمَيِّت من جِهَة الْأَوْلَاد بِوَاسِطَة وَأَنه لَا فرق فِي الْولادَة والقرب بهَا بَين الْعُلُوّ السّفل هَذَا يدل عَلَيْهِ كَلَامه لِأَنَّهُ إِذا لم يرد أَنه أَب فِي الْحَقِيقَة فَلَا بُد مِمَّا ذَكرْنَاهُ وَعَن عَليّ وَزيد بن ثَابت رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا شبهاه بغصني شَجَرَة وبجدولي نهر ليعرفا قربهما من الْمَيِّت ثمَّ شركا بَينهمَا فِي الْمِيرَاث قان قيل وَمن أَيْن صِحَة هَذَا التَّشْبِيه عَنْهُم قيل من نقل فتاويهم نقل هَذَا التَّشْبِيه فاذا كَانَ أَحدهمَا مَعْلُوما كَانَ الآخر مثله وَيبين ذَلِك أَن الْمُتَقَدِّمين من الْمُخَالفين كَانُوا بَين متناول لهَذِهِ التشبيهات وَبَين محط لَهَا فَلم يكن فيهم من يجحدها وَإِنَّمَا تجاسر على جَحدهَا بعض أهل هَذَا الْعَصْر وَلَو علمُوا أَن الإقراربفتاويهم يضرهم لجحدوها على أَنهم لَو لَو يشبهوا بِمَا ذَكرْنَاهُ لكانوا

قد قَالُوا غير ذَلِك من الِاحْتِجَاج إِمَّا نَص أَو غَيره مُجملا أَو مفصلا وَلَا يجوز مَعَ اهتمام النقلَة بأحوالهم على كثرتهم أَن يتْركُوا نقل مَا كَانَ بَينهم ويطبقوا على نقل مَا لم يجز لَهُ ذكر فيهم وَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول إِن تشبيههم الْجد وَالْأَخ بغصني شَجَرَة وبجدولي نهر تَشْبِيه عَقْلِي يعْرفُونَ بِهِ قربهما من الْمَيِّت ثمَّ يورثونهما أَو أَحدهمَا لما تقرر فِي الشَّرْع من أَن المشتركين فِي الْقرب يرثان وَأَن أقربهما أَحَق بِالْمِيرَاثِ وَذَلِكَ أَنه قد يَرث الْأَبْعَد مَعَ الْأَقْرَب فان ابْن الابْن إِلَى أَربع منَازِل هُوَ أولى بِالْمَالِ من بنت الْبِنْت وَابْن ابْن الْعم أول من بنت الْعم وَهُوَ أبعد مِنْهُمَا وَأَيْضًا فانهم لم يورثوهما على سَوَاء بل بَعضهم قَاسم بالجد مَا كَانَت الْمُقَاسَمَة خيرا لَهُ من الثُّلُث وَشبهه فِي ذَلِك بَالَام لما كَانَ لَهُ أَوْلَاد وَلم ينقصهُ من الثُّلُث مَعَ مَا لَهُ من الْأَوْلَاد والتعصيب وَبَعْضهمْ قَاسم بِهِ مَا كَانَت الْمُقَاسَمَة خيرا لَهُ من السُّدس فَلم ينقصهُ من السُّدس تَشْبِيها بالجدة أم الْأُم من حَيْثُ اشْتَركَا فِي الْأَوْلَاد بِوَاسِطَة إِن قيل إِنَّمَا اعْتبر بالسدس لِأَن رجلا روى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل للْجدّ السُّدس فَقَالَ لَهُ عمر مَعَ من قَالَ الرجل لَا ادري وَالْجَوَاب أَن قَوْله لَا أَدْرِي دَلِيل على أَنه جعل لَهُ السُّدس فِي حَال دون حَال وَأَنه نسي الرجل تِلْكَ الْحَالة فَلَا يُمكن أَن يُقَال لَهُ السُّدس فِي كل حَال فَلهَذَا لم ينقصوه مِنْهُ وعَلى أَنه لَو كَانَ ذَلِك عَاما فِي جَمِيع الْحَالَات لتعلقوا بِهِ وَتعلق بِهِ بَعضهم وَكَانُوا لَا يعطونه إِلَّا السُّدس إِذْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أعطَاهُ السُّدس فِي كل حَال وَلَيْسَ لأحدأن يَقُول إِنَّهُم قَالُوا فِي هَذِه الْمسَائِل بِالصُّلْحِ لِأَن مَسْأَلَة الْحَرَام لَا يجوز فِيهَا الصُّلْح وَلِأَن كل مِنْهُم أفتى المستفتى وَحكم بِمَا يَقُوله وَلم يردهُ إِلَى الصُّلْح وَلَيْسَ لأحد ان يَقُول إِنَّهُم قَالُوا فِيهَا بِأَقَلّ مَا قيل لِأَنَّهُ لم يتَقَدَّم اخْتلَافهمْ أَقْوَال فَقَالُوا هم بِأَقَلِّهَا وَلَا اتَّفقُوا على قَول فَيُقَال إِنَّه أقل مَا قيل بل قَالُوا بأقاويل متباينة بَعْضهَا اقل من بعض وَمِمَّا قَالَه السّلف اعْتِبَارا أَن عمر رَضِي الله عَنهُ لم يُعْط الْإِخْوَة للْأَب وَالأُم شَيْئا فِي الْمَسْأَلَة الحمارية فَقَالُوا هَب أَن ابانا كَانَ حمارا فورثهم وَهَذَا اعْتِبَار لأَنهم قَالُوا إِذا

أَعْطَيْت الْإِخْوَة للْأُم وَنحن قد شاركناهم فِي ولادَة الْأُم وزدنا عَلَيْهِم بِالْأَبِ فان لم ينفعنا ذَلِك لم يجز أَن يضرنا وَلَيْسَ يجوز أَن يكون أَعْطَاهُم لدخولهم تَحت الظَّاهِر وَهُوَ قَوْله {فَإِن كَانُوا أَكثر من ذَلِك فهم شُرَكَاء فِي الثُّلُث} لِأَن الْخطاب انْصَرف إِلَى الاخوة للْأُم فَقَط أَلا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى {فَلِكُل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس فَإِن كَانُوا أَكثر من ذَلِك فهم شُرَكَاء فِي الثُّلُث} دَلِيل آخر ظَاهر عَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَنهم قَالُوا بِالرَّأْيِ وَذَلِكَ لَا يُمكن دَفعه كَقَوْل أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَقُول فِيهَا برأيي وَقَول عمر اقضي برأيي فِيهِ وَقَالَ هَذَا مَا رأى عمر وَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فِي أم الْوَلَد كَانَ رَأْيِي ورأي عمر أَن لَا يبعن ثمَّ رَأَيْت ببيعهن وَقَالَ ابْن مَسْعُود فِي قصَّة بروع بنت واشق أَقُول فِيهَا برأيي وَقَوْلنَا رَأْي عبارَة عَن اعْتِقَاد أَو ظن فان توصل إِلَيْهِمَا بِاعْتِبَار واستنباط إِمَّا بِدلَالَة عقلية أَو امارة فَلَا شُبْهَة فِي وُقُوع اسْم الرَّأْي عَلَيْهِمَا فانه يُقَال فلَان رَأْيه الْعدْل وَفُلَان من رَأْيه الْقدر وَإِن توصل إِلَيْهِمَا بِنَصّ جلي أَو خَفِي فوقوع اسْم الرَّأْي عَلَيْهِمَا مشتبه وَالْأَقْرَب أَنه يجوز أَن يَقع عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أحد من أَن يَقُول إِن تَحْرِيم الْميتَة يرَاهُ الْمُسلمُونَ وَهُوَ رَأْيهمْ وَيمْتَنع أَن يَقُول هُوَ من رَأْيهمْ لِأَنَّهُ يُوهم أَنهم حرموها برأيهم فَأَما قَول الْقَائِل قلت هَذَا برأيي فَلَا يعقل مِنْهُ أَنه قَالَه بِنَصّ لَا جلي وَلَا خَفِي وَإِنَّمَا يفهم مِنْهُ أَنه قَالَه استنباطا واستخراجا بِمَا يرَاهُ من الأمارات والأدلة الَّتِي لَيست بِنَصّ جلي وَلَا خَفِي وَلِهَذَا لَا يُقَال إِن الْمُسلمين حرمُوا الْميتَة برأيهم وَلَا يُقَال إِن ابا حنيفَة اثْبتْ الرِّبَا فِي السِّتَّة الْأَجْنَاس بِرَأْيهِ وَيُقَال إِنَّه أثبت الرِّبَا فِيمَا عَداهَا بِرَأْيهِ وَلَا يُقَال فِي الْجَيْش إِذا اطاعوا الإِمَام فِي رَأْي إِنَّهُم فاعلون ذَلِك بأرائهم وَلذَلِك لَا تُوصَف آراؤهم بالسداد إِذا كَانَ رَأْي الإِمَام سديدا واتبعوه فِيهِ من غير فحص وَيُقَال

للْإنْسَان أقلت هَذَا بِرَأْيِك أم بِكِتَاب الله فَيجْعَل أَحدهمَا فِي مُقَابلَة الآخر ومخالفونا يذمون القَوْل بِالرَّأْيِ ويذمون أَصْحَاب الرَّأْي وهم الْقَائِلُونَ بآرائهم وَلَيْسَ يجوز أَن يذموا الْقَائِلين بالنصوص فاذا ثَبت ذَلِك وَلم تكن على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة أَدِلَّة عقلية علمنَا أَن قَول من قَالَ من السّلف أَقُول فِيهَا برأيي إِنَّمَا اراد بِهِ الأمارات المظنونة وَأما قَول عمر رَضِي الله عَنهُ فِي رسَالَته الْمَشْهُورَة إِلَى ابي مُوسَى قس الْأُمُور فَهُوَ صَرِيح فِي الْقيَاس إِن قيل قد رُوِيَ عَنْهُم ذمّ الرَّأْي كَقَوْل أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَي أَرض تُقِلني أَو سَمَاء تُظِلنِي إِذا قلت فِي كتاب الله برأيي وَقَول عمر رَضِي الله عَنهُ أجرأكم على الْجد أجرأكم على النَّار وَقَوله أعيتهم الْأَحَادِيث أَن يحفظوها فَقَالُوا بِالرَّأْيِ وَقَول عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام من أَرَادَ أَن يقتحم جراثيم جَهَنَّم فَلْيقل فِي الْجد بِرَأْيهِ وَقَوله لَو كَانَ الدّين بِالرَّأْيِ لَكَانَ مسح بَاطِن الْخُف أولى من ظَاهره وَقَول ابْن مَسْعُود يذهب قراؤكم وصلحاؤكم ويتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا يقيسون الامور بآرائهم الْجَواب إِنَّه إِذا كَانَ الَّذين ذموا الرَّأْي هم الَّذين قَالُوا بِهِ وَجب صرف ذمهم إِلَى الرَّأْي مَعَ وجود النَّص أَو مَعَ ترك الطّلب للنَّص كَمَا يجب مثله لَو حُكيَ الرَّأْي وذمه عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَن قَول أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَي أَرض تُقِلني إِذا قلت فِي كتاب الله برأيي إِنَّمَا عَنى بِهِ تَفْسِير الْقُرْآن ولعمري إِنَّه إِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يُفَسر على عرف اللُّغَة وَبِمَا سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَول عمر أجرأكم على الْجد أجرأكم على النَّار إِنَّمَا هُوَ ذمّ الجرأة وَترك التثبت وَلَيْسَ بذم للرأي وَقَوله أعيتهم الأحالديث أَن يحفظوها إِنَّمَا هُوَ ذمّ لمن عدل إِلَى الرَّأْي وَلم يطْلب الْأَحَادِيث وَلم يحفظ مَا وجد مِنْهَا وَقَول عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام من اراد أَن يقتحم جراثيم جَهَنَّم فَلْيقل فِي الْجد بِرَأْيهِ مَعْنَاهُ الرَّأْي الَّذِي لَا يسْتَند إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَالْقَوْل بِمَا سنح من غير استقصاء النّظر فِي الأمارات الصَّحِيحَة وَقَول ابْن مَسْعُود يذهب قراؤكم وصلحاؤكم ويتخذ النَّاس عُلَمَاء جُهَّالًا

يقيسون الامور بآرائهم فانما ذمّ بذلك الرَّأْي قبل طلب السّنَن وَالنَّظَر فِيهَا وَقَول عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام لَو كَانَ الدّين بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِن الْخُف أولى بِالْمَسْحِ من ظَاهره مَعْنَاهُ لَو كَانَ الدّين جمعه بِالرَّأْيِ فَكَانهُ أَرَادَ أَن يبين ان لَيْسَ جَمِيع مَا أَتَت بِهِ السّنَن على مَا يَقْتَضِيهِ راي الْإِنْسَان وَبَين ذَلِك بمسح الْخُف دَلِيل آخر رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِمعَاذ حِين أنفذه إِلَى الْيمن بِمَ تحكم قَالَ بِكِتَاب الله قَالَ فان لم تَجِد قَالَ بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فان لم تَجِد قَالَ أجتهد رَأْيِي وَعنهُ أَنه قَالَ لِمعَاذ وَأبي مُوسَى وَقد أنفذهما إِلَى الْيمن بِمَ تقضيان قَالَا إِن لم نجد الحكم فِي السّنة قسنا الْأَمر بِالْأَمر فَمَا كَانَ اقْربْ إِلَى الْحق عَملنَا بِهِ وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِابْنِ مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ اقْضِ بِالْكتاب وَالسّنة إِذا وجدتهما فان لم تَجِد الحكم فيهمَا اجْتهد رايك وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر وَقد سَأَلَهُ عَن قبْلَة الصَّائِم أرايت لَو تمضمضت بِمَاء ثمَّ مججته وَقَالَ للخثعمية وَقد سَأَلته الْحَج عَن ابيها أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين أَكنت تقضينه قَالَت نعم قَالَ فدين الله أَحَق أَن يقْضى وَخبر معَاذ وَإِن قيل إِنَّه مُرْسل رَوَاهُ جمَاعَة من أهل حمص مذكورون عَن معَاذ وَقد تلقى بِالْقبُولِ لِأَن النَّاس فِيهِ فريقان احدهما يحْتَج بِهِ وَالْآخر يتأوله وَوجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَوبه فِي قَوْله أجتهد رَأْيِي عِنْد الِانْتِقَال من الْكتاب وَالسّنة فَعلمنَا أَن قَوْله أجتهد رَأْيِي لم ينْصَرف إِلَى الحكم بِالْكتاب وَالسّنة فان قيل إِنَّمَا عَنى معَاذ أَن يجْتَهد رَأْيه فِي الِاسْتِدْلَال بخفي النُّصُوص من الْكتاب وَالسّنة قيل قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فان لم تَجِد مُطلق فِي نفي وجدان نَص جلي وخفي فِي الْكتاب وَالسّنة على أَن من اسْتدلَّ بالنصوص الْخفية لَا يُقَال إِنَّه قد اجْتهد رَأْيه فان قيل إِنَّمَا أَرَادَ أجتهد رَأْيِي فِي طلب الحكم فِي الْكتاب وَالسّنة قيل الطَّالِب لَا يُقَال إِنَّه اجْتهد رَأْيه وَإِنَّمَا يُقَال اجْتهد فِي الطّلب وَأَيْضًا فان معَاذ لما قَالَ أحكم بِكِتَاب الله وَقَالَ لَهُ ص =

فان لم تَجِد انْصَرف إِلَى نفي الوجدان الَّذِي يجوز مَعَه الِانْتِقَال من الْكتاب وَكَذَلِكَ قَوْله فِي السّنة فان لم تَجِد يُرِيد نفي الوجدان المسوغ للانتقال من السّنة وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا وَقد استوفى الطّلب فان قيل أفتقطعون على ثُبُوت خبر معَاذ قيل لَا وَمَا اسْتدلَّ بِهِ على صِحَّته من احتجاج بعض الْأمة بِهِ وتاول بَعْضهَا لَهُ لَا يدل على أَن مُتَّفق على صِحَّته لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن تكون الْأمة إِنَّمَا لم ترده لِأَنَّهَا لم تعلم بُطْلَانه وَلما أمكن الْمُخَالف تَأْوِيله وَلم يعلم بطلَان تاويله لم يردهُ كأخبار الْفِقْه إِن قيل أفصحيح الِاحْتِجَاج بِهَذِهِ الْأَخْبَار وَإِن كَانَت من أَخْبَار الْآحَاد قيل يَصح ذَلِك لِأَن اسْتِعْمَال الْقيَاس من الْأَعْمَال فَجَاز ان يقبل فِيهِ أَخْبَار الْآحَاد وَيقطع على وُجُوبه علينا لأجل الدَّلِيل الدَّال على وجوب قبُول أَخْبَار الْآحَاد كَمَا يقطع بذلك على وجوب مَا تضمنته اخبار الْآحَاد من فروع الشَّرِيعَة وَلَا فرق بَين أَن نظن أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِالنِّيَّةِ فِي الطَّهَارَة وَبَين أَن نظن أَنه أَمر بِاسْتِعْمَال مَا يُفْضِي إِلَى وجوب النِّيَّة فِي انه يجب أَلا ترى أَنه لَا فرق بَين أَن يخبرنا مخبر بِوُجُود سبع فِي الطَّرِيق فِي لُزُوم تجنبه إِذا ظننا صدقه وَبَين أَن يَأْمُرنَا من ظَاهره السداد والنصح سُؤال رجل عَن الطَّرِيق وَيَقُول لنا إِنَّه خَبِير بِالطَّرِيقِ فِي أَنه يلْزمنَا سُؤَاله إِذا خفنا الطَّرِيق وَإِذا أخبرنَا بِشَيْء وظننا صدقه عَملنَا بِحَسبِهِ وَأما وَجه الِاسْتِدْلَال يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر أَرَأَيْت لَو تمضمضت بِمَاء فَهُوَ أَنه شبه قبْلَة الصَّائِم من غير إيلاج بمضمضة من غير ازدراد واجرى حكم أَحدهمَا على الآخر وَهُوَ نفي إِفْسَاد الصَّوْم وَهَذَا قِيَاس وَقَوله أَرَأَيْت لَو تمضمضت يدل على أَنه كَانَ تمهد أَمر الْقيَاس وَأَنه قد دلّ عَلَيْهِ الدَّلِيل وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام للخثعمية أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين وتشبيهه حَجهَا عَنهُ بذلك يدل على تمهد الْقيَاس فِي الشَّرِيعَة دَلِيل آخر قَالَ الله تَعَالَى {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} وَالِاعْتِبَار هُوَ

اعْتِبَار الشَّيْء بِغَيْرِهِ وإجراء حكمه عَلَيْهِ قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ فِي الْأَسْنَان اعْتبر حكمهَا بالأصابع فِي ان دِيَتهَا مُتَسَاوِيَة وَقَالَ اعْتبر هَذَا بِهَذَا وَقَوْلهمْ إِن فِي هَذَا عِبْرَة مَعْنَاهُ أَن فِيهِ مَا يَقْتَضِي حمل غَيره عَلَيْهِ نَحْو أَن يعاجل من ظلم بِالْهَلَاكِ فَيُقَال فِي هَذَا عِبْرَة أَي فِيهِ مَا يَقْتَضِي حمل غَيره عَلَيْهِ وَلَيْسَ الِاعْتِبَار هُوَ الانزجار والاتعاظ لِأَن الاتعاظ والانزجار غَايَة الِاعْتِبَار فَعلمنَا تباينهما إِن قيل لَو كَانَ الِاعْتِبَار مَا ذكرْتُمْ لوصف قائس الْفُرُوع على الاصول بِأَنَّهُ مُعْتَبر وَإِن أقدم على الْمعاصِي وَلم يعْمل لآخرته قيل لَا يُوصف بِهَذَا لِأَن إِطْلَاق ذَلِك يُفِيد أَنه مُعْتَبر بِجَمِيعِ مَا يَنْبَغِي أَن يعْتَبر بِهِ لِأَنَّهُ يخرج مخرج الْمَدْح لكنه يُقَال إِنَّه يعْتَبر الْفُرُوع بالاصول إِن قيل لَو كَانَ المُرَاد بِالْآيَةِ مَا ذكرْتُمْ لحسن التَّصْرِيح بِهِ وَمَعْلُوم أَنه لَا يحسن أَن نقُول يخرجُون بُيُوتهم بِأَيْدِيهِم وأيدي الْمُؤمنِينَ فقيسوا الارز على الْبر قيل إِنَّمَا لم يحسن ذَلِك لِأَنَّهُ اقْتِصَار على مَا لَا تعلق لَهُ بالْكلَام وعدول عَمَّا يتَعَلَّق بِهِ وَيُفَارق ذَلِك أَن يَأْتِي بِكَلَام يشْتَمل على مَا يتَعَلَّق بالْكلَام الْمُتَقَدّم وعَلى مَا لَا يتَعَلَّق بِهِ أَلا ترى أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لَو سُئِلَ عَمَّن بلع حَصَاة فِي شهر رَمَضَان لم يحسن أَن يَقُول من جَامع فِي رَمَضَان فَعَلَيهِ الْكَفَّارَة إِذا لم يكن فِي ذَلِك تَنْبِيه على حكم من بلغ حَصَاة وَيحسن أَن يَقُول من أفطر فَعَلَيهِ الْكَفَّارَة وَلَو كَانَ ذَلِك دخل فِيهِ لُزُوم الْكَفَّارَة لمن بلع حَصَاة ولمعترض أَن يَقُول إِن قَوْله سُبْحَانَهُ {فاعتبروا} لَيْسَ بِعُمُوم فَلم يفد جَمِيع ضروب الِاعْتِبَار فِي كل شَيْء كَمَا أَن قَول الْقَائِل اقْتُلُوا لَا يُفِيد جَمِيع ضروب الْقَتْل وَلَا قتل كل إِنْسَان واعترضت الدّلَالَة أَيْضا بِأَن للمخالف أَن يَقُول إِنَّا اعْتبرنَا بالاصول الَّتِي وَردت فِيهَا النُّصُوص فَكَمَا لَا

أثبت فِي الاصول الَّتِي لَا ينفرع على غَيرهَا الحكم إِلَّا بِالنَّصِّ أَو الْبَقَاء على حكم الْعقل كَذَا لَا اثْبتْ فِي غَيرهَا حكما إِلَّا بِالنَّصِّ أَو بِالْبَقَاءِ على حكم الْعقل دَلِيل آخر وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} فَظَاهر الرَّد يُفِيد الْقيَاس وَلِأَنَّهُ لَو أَرَادَ بِالرَّدِّ إِلَى الله الِاسْتِدْلَال بِظَاهِر كتاب الله تَعَالَى لَكَانَ الْكَلَام متكررا لِأَن ذَلِك مُسْتَفَاد من قَول الله تَعَالَى {وَأَطيعُوا الله} إِذا ذَلِك أَمر بامتثال خطاب الله سُبْحَانَهُ كُله وَالْجَوَاب أَن الرَّد إِلَى الله يُفِيد الرُّجُوع إِلَى ظَاهر كتاب الله جليه وخفيه لِأَنَّهُ يُقَال لمن يسْتَدلّ بِهِ وَيعْمل بِمَا فِيهِ إِنَّه يرد امْرَهْ إِلَى الله وَالْغَرَض بِالْآيَةِ أَمر بِطَاعَة الله سُبْحَانَهُ فِيمَا نعلم أَنه امرنا بِهِ وأمرنا بِمَا لَا نعلم أَنه أمرنَا بِهِ مِمَّا اخْتَلَفْنَا فِيهِ أَن نرده إِلَى كتاب الله عز وَجل وَسنة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن نفحص عَنهُ فيهمَا حَتَّى إِذا علمنَا أَنه مِمَّا أمرنَا الله تَعَالَى بِهِ دخل ذَلِك فَمَا قد أوجبه علينا فِي اول الْآيَة من طَاعَته وَطَاعَة رَسُوله فَلَا تكْرَار فِي ذَلِك وَيحْتَمل أَن يكون الله تَعَالَى عَنى بِالْخِطَابِ المعاصرين للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن خطاب المواجهة هَذَا ظَاهره فَقَالَ لَهُم أطِيعُوا الله فِيمَا امركم بِهِ وَأَطيعُوا الرَّسُول فان تنازعتم فِي شَيْء لم يظْهر فِيهِ من الله وَرَسُوله أَمر فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول بِأَن تسألوا عَنهُ الرَّسُول فان قيل هَذَا قصر للخطاب على المعاصرين للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام دون غَيرهم وذل تَخْصِيص بِغَيْر دلَالَة قيل ظَاهر المواجهة يَقْتَضِي الْحَاضِرين وَأَيْضًا فانا إِن تركنَا الظَّاهِر من هَذَا الْوَجْه فَنحْن متمسكون بِهِ من حَيْثُ جَعَلْنَاهُ عَاما فِي أهل الِاجْتِهَاد وَغَيرهم وَأَنْتُم تخصون بِالرَّدِّ أهل الِاجْتِهَاد فَكل منا تَأَول الظَّاهِر وَأَنْتُم المستدلون دَلِيل آخر قَوْله تَعَالَى {وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} والاستنباط هُوَ الْقيَاس وَكَذَلِكَ الرَّد

وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الرَّد إِلَى اولي الْأَمر يكون بالاستفتاء والاستشارة والاستنباط هُوَ إِخْرَاج الشَّيْء من كَونه بَاطِنا إِلَى أَن يظْهر وَقد يكون ذَلِك بِالْقِيَاسِ وَقد يكون بِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُقَال لمن اسْتدلَّ على الشَّيْء بخفي النُّصُوص قد استنبط هَذَا الحكم من هَذِه النُّصُوص على أَن هَذَا وَارِد فِي الْأَمْن وَالْخَوْف قَالَ الله تَعَالَى {وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن أَو الْخَوْف أذاعوا بِهِ وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول} الْآيَة دَلِيل قَول الله عز وَجل {إِن أَنْتُم إِلَّا بشر مثلنَا} وَلم يُنكر عَلَيْهِم هَذَا التَّشَبُّه وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الْكَلَام خرج مخرج النكير عَلَيْهِم لأَنهم أوجبوا إِذا كَانُوا بشرا مثلهم أَن لَا يصدوهم عَمَّا كَانَ يعبد آباؤهم وَقد ردوا عَلَيْهِم بِمَا حَكَاهُ الله عز وَجل من قَوْله {إِن نَحن إِلَّا بشر مثلكُمْ وَلَكِن الله يمن على من يَشَاء من عباده} وعَلى ان هَذَا تَشْبِيه فِي غير حكم شَرْعِي فَهُوَ بِخِلَاف مَا نَحن فِيهِ وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لمن ذكر أَنه ولد لَهُ ابْن أسود أَلَك إبل فَقَالَ نعم فَقَالَ أفيهما جمل أَوْرَق قَالَ نعم قَالَ وَأَنِّي ذَلِك قَالَ الرجل لَعَلَّ عرقا نزع قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَعَلَّ عرقا نزع وَذَلِكَ أَن هَذَا تَنْبِيه على أَمارَة عقلية فِي حكم عَقْلِي دَلِيل عقلت الْأمة من قَول الله سُبْحَانَهُ {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} الْمَنْع من ضربهما وَلم تعقل ذَلِك إِلَّا قِيَاسا وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الْأمة عقلت ذَلِك لفظا كَمَا أَن قَول الْقَائِل مَا لفُلَان عِنْدِي حَبَّة يُفِيد فِي عرف اللُّغَة أَنه مَا لَهُ عِنْده قَلِيل وَلَا كثير لَا حَبَّة وَلَا أقل مِنْهَا وَله أَن يَقُول إِن الْمَنْع من ضربهما علم قِيَاسا على الْمَنْع من التأفيف بعلة أَنه أَذَى وَكَون الْأَذَى عِلّة فِي ذَلِك مَعْلُوم غير مظنون

دَلِيل أَجمعت الْأمة على قِيَاس الزناة على مَاعِز فِي الرَّجْم وَلقَائِل أَن يَقُول بل عقلت الْأمة أَن حكم الزناة حكم مَاعِز من قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضَرُورَة أَو أَنَّهَا عقلت ذَلِك من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكمي فِي الْوَاحِد حكمي فِي الْجَمَاعَة على أَن كَون الزِّنَا بِشَرْط الْإِحْصَان عِلّة فِي الرَّجْم مَعْلُوم غير مظنون دَلِيل قد تعبدنا الله عز وَجل بالاستدلال بالأمارات على جِهَة الْقبْلَة إِذا اشْتبهَ علينا أمرهَا وَأَن نصلي إِلَى الْجِهَة الَّتِي ظننا أَن الْقبْلَة فِيهَا وَهَذَا تعبد بالاستدلال بالأمارات وبالعمل بحسبها الْجَواب ان من الْمُخَالفين من لَا يجوز الِاجْتِهَاد فِي الْقبْلَة وَيُوجب على من اشتبهت عَلَيْهِ الْقبْلَة الصَّلَاة إِلَى جَمِيع الْجِهَات فَلَا يسلم هذاالموضع وَمِنْهُم من يُوجب الِاجْتِهَاد فِي الْقبْلَة وَله أَن يَقُول إِن الأمارات الدَّالَّة على الْقبْلَة أَمَارَات عقلية لَا سمعية وَلست امْنَعْ من كوننا متعبدين بِمَا ذكرْتُمْ فِي الْقبْلَة وَلَكِنِّي أمنع من كوننا متعبدين فِي الْحَوَادِث الشَّرْعِيَّة بالاستدلال بالأمارات المظنونة الشَّرْعِيَّة وبالعمل بحسبها وَلَيْسَ يلْزم إِذا تعبدنا بالأمارات فِي مَوضِع أَن نَكُون متعبدين بهَا فِي مَوضِع آخر إِلَّا لجامع يجمع بَين الْمَوْضِعَيْنِ فان قَالُوا إِذا جَازَ التَّعَبُّد بالأمارات المظنونة فِي مَوضِع جَازَ التَّعَبُّد بهَا فِي مَوضِع آخر إِذا مَا سوغ احدهما سوغ الآخر وَإِن منع من احدهما مَانع فَهُوَ مَانع من الآخر قيل هَذَا يدل على جَوَاز التَّعَبُّد بالأمارات فِي الْحَوَادِث الشَّرْعِيَّة وَلَيْسَ ذَلِك مَسْأَلَتنَا فان قَالُوا إِنَّا تعبدنا بذلك فِي الْقبْلَة لِأَنَّهُ لما لم نعاينها لم يبْق إِلَّا التَّعَبُّد فِيهَا بالأمارات وَكَذَلِكَ مَعَ فقد النَّص على الْحَوَادِث لَا يبْقى إِلَّا التَّعَبُّد بالأمارات قيل لم زعمتم ذَلِك وَمَا أنكرتم أَنه يبْقى من التَّعَبُّد فِي الْمَوْضِعَيْنِ وُجُوه أخر مِنْهَا ان نتعبد فِيهَا بِحكم الْعقل فَيبقى فِي الْحَوَادِث الشَّرْعِيَّة على مُقْتَضى الْعقل وَلَا يلْزم عِنْد اشْتِبَاه الْقبْلَة الصَّلَاة إِلَى جِهَة من الْجِهَات وَيُمكن أَن نتعبد بِالصَّلَاةِ إِلَى جَمِيع الْجِهَات أَو إِلَى أَي جِهَة اخترنا فان قَالُوا إِنَّمَا تعبدنا بِالِاجْتِهَادِ فِي الْقبْلَة وَالْعَمَل بِحَسبِهِ لفقد الْعلم بهَا فَيجب إِذا فَقدنَا الْعلم بِحكم الْحَادِثَة أَن نَكُون متعبدين بالاستدلال عَلَيْهِ بالأمارات وَالْعَمَل بحسبها قيل لَهُم إِن مخالفكم

لَا يسلم أَنا قد فَقدنَا طَرِيقا إِلَى الْعلم بِحكم الْحَادِثَة لِأَنَّهُ يَجْعَل الطَّرِيق إِلَى ذَلِك الْعقل فان قَالُوا إِنَّمَا تعبدنا بالأمارات فِي الْقبْلَة لفقد معاينتها فَيجب مثله فِي حكم الْحَادِثَة عِنْد فقد النَّص لِأَن فقد النَّص يجْرِي فقد مُعَاينَة الْقبْلَة قيل لَهُم أَتَجْعَلُونَ فقد مُعَاينَة الْقبْلَة عِنْد فقد مُعَاينَة الْقبْلَة عِلّة مظنونة أَو مَعْلُومَة فان قَالُوا هِيَ مظنونة قيل لَهُم وَهل نوزعتم إِلَّا فِي صِحَة الْقيَاس بعلة مظنونة وَإِن قَالُوا هِيَ مَعْلُومَة قيل لَهُم دلوا على ذَلِك وَلَا سَبِيل إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون إِنَّمَا يجب الْعَمَل فِي الأمارات فِي الْقبْلَة لمصْلحَة لَا يعلمهَا إِلَّا الله أَلا ترى أَنه كَانَ لَا يمْتَنع أَن يتعبدنا بالأمارات فِي الْقبْلَة إِذا لم نعاينها ويتعبدنا بِالْبَقَاءِ على حكم مُوجب الْعقل فِي الْفُرُوع الَّتِي لَا نَص فِيهَا فان قَالُوا إِنَّمَا تعبدنا بالأمارات فِي الْقبْلَة لِأَن ذَلِك من قبيل دفع المضار وَهَذَا مَوْجُود فِي الْفُرُوع الشَّرْعِيَّة قيل هَذَا رُجُوع إِلَى دليلنا الأول وَيجب الرُّجُوع فِيهِ إِلَى أصل عَقْلِي لِأَن مَا ذكرتموه عِلّة عقلية دَلِيل آخر كل حَادِثَة فَلَا بُد فِيهَا من حكم وَلَا بُد من أَن يكون إِلَيْهِ طَرِيق وَكثير من الْحَوَادِث لَا نَص فِيهَا وَلَا إِجْمَاع وَلَيْسَ بعدهمَا إِلَّا الْقيَاس فَلَو لم يكن الْقيَاس حجَّة خلت كثير من الْحَوَادِث من أَن يكون إِلَى حكمه طَرِيق فان قيل جَمِيع الْحَوَادِث عَلَيْهَا نُصُوص تشملها إِمَّا ظَاهِرَة وَإِمَّا خُفْيَة وَلَيْسَ يبعد ذَلِك وَإِن كثرت الْحَوَادِث إِذا كَانَت النُّصُوص عَامَّة لِأَن قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا سقت السَّمَاء الْعشْر شَامِل لكل مَا سقته السَّمَاء وَإِن كثر عدده قيل لَو كَانَ جَمِيع الْحَوَادِث يشملها النُّصُوص لما افْتقر أهل الظَّاهِر فِي كثير مِنْهَا إِلَى اسْتِصْحَاب الْحَال وَهَذِه الدّلَالَة مُعْتَرضَة لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ الْمُسْتَدلّ أَنه لَا بُد فِي كل حَادِثَة من حكم أَي من قَضِيَّة إِمَّا نفيا وغما إِثْبَاتًا فَصَحِيح لَكِن لَا يلْزم أَن يكون طَرِيق ذَلِك الشَّرْع بل قد يجوز أَن يكون طَرِيقه الشَّرْع وَيجوز أَن يكون طَرِيقه الْعقل فيلزمنا التَّمَسُّك بِحكمِهِ إِذا لم ينقلنا عَنهُ نَص وَإِن اراد بالحكم حكما شَرْعِيًّا فانه يجوز خلو كثير من الْحَوَادِث مِنْهُ

وَقد اسْتدلَّ بِهَذِهِ الدّلَالَة من وَجه آخر وَهُوَ أَن السّلف رجعُوا فِي أَحْكَام الْحَوَادِث إِلَى الشَّرْع فَعلمنَا أَن طريقها الشَّرْع دون الْعقل فاذا لم يكن فِيهَا نَص وَلَا إِجْمَاع فطريقها إِذا الْقيَاس وَلقَائِل أَن يَقُول إِن أردتم بِهَذَا الْكَلَام الْمسَائِل الَّتِي دارت بَين الصَّحَابَة وبينتم أَنهم لم يستدلوا فِيهَا بِالْعقلِ وَلَا بِالْكتاب وَالسّنة وَأَنه لَيْسَ بعد ذَلِك إِلَّا أَنهم استدلوا عَلَيْهَا بِالْقِيَاسِ فَهَذَا اسْتِدْلَال بِإِجْمَاع السّلف وَقد تقدم وَإِن أردتم أَن السّلف لما طلبُوا حكم بعض الْمسَائِل من الشَّرْع وَجب أَن نطلب حكم جَمِيع الْحَوَادِث من الشَّرْع فَقَط قيل لكم وَلم يجب ذَلِك أَو لَسْتُم وغيركم من مخالفيكم تستدلون فِي كثير من الْمسَائِل بِالْبَقَاءِ على حكم الْعقل فان قُلْتُمْ لَو لم يكن الْقيَاس صَحِيحا لعدلوا فِي الْحَوَادِث الْحَادِثَة فِيمَا بَينهم الَّتِي لَا نَص فِيهَا إِلَى حكم الْعقل فَلَمَّا لم يَفْعَلُوا ذَلِك علمنَا أَنهم عدلوا إِلَى الْقيَاس قيل لكم هَذَا رُجُوع إِلَى استدلالكم الأول وَهُوَ قَوْلكُم إِنَّمَا حكمُوا فِي الْمسَائِل بِأَحْكَام لَا وَجه لما حكمُوا بِهِ إِلَّا الْقيَاس وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} وَبِقَوْلِهِ {وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} وَبِقَوْلِهِ {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَبِقَوْلِهِ {وَلَا تَقولُوا لما تصف أَلْسِنَتكُم الْكَذِب هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام} قَالُوا وَالْحكم بِالْقِيَاسِ تقدم بَين يَدي الله وَرَسُوله لِأَنَّهُ حكم بِغَيْر قَوْلهمَا وَقَول على الله بِمَا لَا نعلم وَوصف الشَّيْء بِأَنَّهُ حَلَال وَحرَام وَلَا نَأْمَن كَونه كذبا وَبِقَوْلِهِ {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله}

وَبِقَوْلِهِ {وَمَا اختلفتم فِيهِ من شَيْء فَحكمه إِلَى الله} وَبِقَوْلِهِ {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} وَبِقَوْلِهِ {تبيانا لكل شَيْء} وَبِقَوْلِهِ {مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} وَبِقَوْلِهِ {أَو لم يَكفهمْ أَنا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب يُتْلَى عَلَيْهِم} الْجَواب يُقَال لَهُم لم زعمتم أَن الحكم بِالْقِيَاسِ هَذَا سَبيله وَمَا أنكرتم أَنا لَا نَكُون بالحكم بِهِ متعبدين بَين يَدي الله وَرَسُوله إِذْ كُنَّا حاكمين بِمَا أمرنَا الله أَن نحكم بِهِ وَلم نقف مَا لَيْسَ لنا بِهِ علم وَلم نقل على الله مَا لَا نعلم وَلَا واصفين بِالْكَذِبِ لِأَن الدّلَالَة القاطعة على صِحَة الْقيَاس قد أمنتنا من كل ذَلِك وأوجبت أَن الحكم بِهِ حكم بِمَا انْزِلْ عز وَجل ورد إِلَى الله وَالرَّسُول وَأَنه مِمَّا بَينه الله عز وَجل فِي كِتَابه لِأَنَّهُ دلّ على صِحَة الْقيَاس وَمَعْلُوم أَن المُرَاد بقوله {تبيانا لكل شَيْء} إِمَّا على جملَة أَو على تَفْصِيل لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَان لكل شَيْء على التَّفْصِيل أَلا ترى أَن كثيرا مِنْهُ مُبين بسنته عَلَيْهِ السَّلَام وَمِنْهَا مَا احْتج بِهِ النظام من أَن الله عز وَجل قد دلّ بِوَضْع الشَّرِيعَة على أَنه منعنَا من الْقيَاس لِأَنَّهُ فرق بَين المتفقين وَجمع بَين المفرقين فأباح النّظر الى شعر الْأمة الْحَسْنَاء وحظر النّظر إِلَى شعر الْحرَّة وَإِن كَانَت شوهاء وَأوجب الْغسْل من الْمَنِيّ دون الْبَوْل وَأوجب على الطَّاهِر من الْحيض قَضَاء الصّيام دون الصَّلَاة وَأجَاب قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله عَن ذَلِك بأَشْيَاء مِنْهَا أَن الْقيَاس يَقْتَضِي الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ فِي الحكم واختلافهما فِيهِ إِذا اشْتَركَا أَو افْتَرقَا فِي علته لَا فِي الصُّورَة وَلم يبين النظام أَن شعر الْحرَّة وَالْأمة قد اشْتَركَا فِي عِلّة التَّحْرِيم أَو الْإِبَاحَة حَتَّى يكون وُرُود الشَّرْع بالتفرقة بَينهمَا ورودا بِمَا يمْنَع من الْقيَاس

وللنظام أَن يَقُول غرضي بِمَا ذكرته الْإِبَانَة عَن أَن الشَّرِيعَة قد شهِدت بابطال أماراتكم لِأَن الشَّرِيعَة لَو حظرت النّظر إِلَى شعر الْحرَّة وَلم تذكر الْأمة لقلتم إِنَّمَا حظرت ذَلِك خوف الْفِتْنَة وَذَلِكَ قَائِم فِي شعر الْأمة الْحَسْنَاء فَيحرم النّظر إِلَيْهِ ولكان ذَلِك من اقوى مَا تذكرونه من أماراتكم فِي الْقيَاس فاذا شهِدت الشَّرِيعَة بابطاله فقد صَحَّ قولي إِن وَضعهَا يمْنَع من الْقيَاس وَمِنْهَا أَن ذَلِك لَو منع من الْقيَاس الشَّرْعِيّ لمنع من الْقيَاس الْعقلِيّ لِأَن الْأَحْكَام الْعَقْلِيَّة قد تخْتَلف فِيهَا الْأَشْيَاء المتفقة وتشترك فِيهَا الْأَشْيَاء المتباينة وللنظام أَن يَقُول الاحكام الْعَقْلِيَّة لَا تشترك فِيهَا الْأَشْيَاء المتباينة فِي علل تِلْكَ الْأَحْكَام وَلَا تفترق فِيهَا الْأَشْيَاء المتفقة فِي عللها وَأَنا قد أريتكم أَشْيَاء متفقة فِي أَمْثَال عللكم وأماراتكم وَهِي متباينة فِي أَحْكَام تِلْكَ الامارات فَكَانَ فِي ذَلِك بطلَان قَوْلكُم وَلم توجدوني مثله فِي العقليات وَمِنْهَا أَن قَالَ أَكثر مَا يَقْتَضِيهِ وضع الشَّرِيعَة أَن تخْتَلف أَحْكَام الْأَشْيَاء فَيكون الْقيَاس عَلَيْهَا يثبت أحكاما متضادة فِي الْفُرُوع وَلَيْسَ ذَلِك يمْتَنع عندنَا إِذا كَانَ الْمُكَلف مُخَيّرا فِيهَا وللنظام أَن يَقُول مَا التزمتموه خَارج عَمَّا رمته لِأَن الَّذِي رمته هُوَ وُرُود الشَّرِيعَة بِمَا يُخَالف مفايستكم فِي التَّسْوِيَة والتفرقة ليَصِح أَن وَضعهَا يمْنَع من الْقيَاس وَلَيْسَ غرضي أَن أبين أَن الْقيَاس يَقْتَضِي أحكاما متضادة فِي الْفَرْع فتجيبوني بِالْتِزَام ذَلِك وَنحن نجيب النظام فَنَقُول إِنَّه أرانا مثل أمارتنا فقد نفت الشَّرِيعَة أَحْكَامهَا وَذَلِكَ إِنَّمَا نمْنَع من كَونهَا أَدِلَّة وَلَا نمْنَع من كَونهَا أَمارَة لِأَنَّهُ لَيْسَ من شَرط الأمارة أَن تدل هِيَ وأمثالها على حكمهَا على كل حَال بل قد تتخرم دلالتها وَلَا تخرج من كَونهَا أَمارَة أَلا ترى أَن الْغَيْم الرطب أَمارَة فِي الشتَاء على الْمَطَر وَلَيْسَ ينْقض كَونه أَمارَة على ذَلِك وجودنا غيما أرطب من ذَلِك فِي صميم الشتَاء وَلَا يكون الْمَطَر وامثال ذَلِك كثير وَكَذَلِكَ لَا تخرج أمارتنا من كَونهَا أَمَارَات بِوَجْه لوجودنا أَمْثَالهَا وأحكامها متخلفة عَنْهَا فان قَالَ قد وجدت الْأَكْثَر من أَمْثَال أماراتكم لَا يتَعَلَّق بهَا فِي الشَّرِيعَة حكم فَخرجت بذلك عَن أَن تكون أَمَارَات إِذْ الْأَكْثَر من الأمارات يتَعَلَّق بهَا

الْأَحْكَام قيل لَهُ بَين ذَلِك وَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى بَيَانه وَمِمَّا احْتج بِهِ الْمُخَالف قَوْلهم لَو كَانَ الله عز وَجل وَرَسُوله قد تعبدنا بِالْقِيَاسِ لَكَانَ القائسون مُطِيعِينَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي ذَلِك كَونه عَالما بهم وَبِمَا يؤديهم اجتهادهم إِلَيْهِ وَأجَاب قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله عَن ذَلِك بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون الله عز وَجل قد أعلم نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالقائسين مفصلا وَأَرَادَ الْقيَاس مِنْهُم وَكَانُوا مُطِيعِينَ لَهُ وَلَا يمْتَنع أَن يكون قد أَرَادَ فِي الْجُمْلَة من الْمُجْتَهدين أَن يجتهدوا الِاجْتِهَاد الصَّحِيح ويفعلوا بِحَسبِهِ وكل من فعل ذَلِك يكون مُطيعًا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فان قيل فَمَتَى أَرَادَ الله عز وَجل حكم الْفُرُوع من الْمُكَلف قيل ذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَن من يَقُول إِن الْحق فِي وَاحِد وَعَلِيهِ دَلِيل يَقُول إِن الله عز وَجل أَرَادَ حكم الْفَرْع بِنصب الدّلَالَة على ذَلِك وَمن يَقُول كل مُجْتَهد مُصِيب مِنْهُم من يَقُول أَرَادَ أَحْكَام الْفُرُوع عِنْد نصب الأمارات وَمِنْهُم من يَقُول أرادها عِنْد نصب الدّلَالَة على الْعَمَل بِالْقِيَاسِ وَقد اخْتَارَهُ قَاضِي الْقُضَاة فِي الْعمد وَقَالَ وَمِنْهُم من يَقُول أرادذلك عِنْد النَّص الدَّال على حكم الأَصْل وَقد اخْتَارَهُ فِي الشَّرْح وَفِي كتاب النِّهَايَة وَمِنْهُم من يَقُول أَرَادَ بعض الْأَحْكَام بالنصوص وَيقف على الْبَاقِي وَلَا يدْرِي بِمَاذَا أُرِيد وابطل فِي الشَّرْح أَن تكون الْأَحْكَام مُرَادة بِدَلِيل الْقيَاس لِأَن دَلِيل الْقيَاس مُجمل وَأوجب أَن تكون مُرَادة بِالنَّصِّ الدَّال على حكم الأَصْل قَالَ لِأَن عِنْد الْقيَاس نقُول لَا يَخْلُو مُرَاده بِتَحْرِيم الرِّبَا إِمَّا أَن يكون نفس الْعين أَو بعض صفاتها ثمَّ نتوصل بالأمارات إِلَى إِثْبَات الْمَعْنى وَلقَائِل أَن يَقُول لَا أقسم هَذِه الْقِسْمَة لِأَنِّي قد علمت أَنه مَا أُرِيد بِتَحْرِيم التَّفَاضُل فِي الْأَشْيَاء السِّتَّة إِلَّا مَا اقْتَضَاهُ اللَّفْظ دون غَيره وَإِنَّمَا أعرف حكم الْفَرْع لاختصاصه بِمَا ظَنَنْت أَنه عِلّة الحكم مَعَ قيام الدّلَالَة على الْعَمَل بِالْقِيَاسِ وَالْأولَى أَن يُقَال إِن الله عز وَجل إِنَّمَا أَرَادَ الحكم عِنْد نصب الدّلَالَة على صِحَة الْقيَاس مَعَ نصب الأمارة الدَّالَّة على عِلّة الحكم ووجودها فِي الْفَرْع لِأَنَّهُ لَا بُد من مَجْمُوع ذَلِك فِي الْعلم لحكم الْفَرْع وَلَيْسَ بعض ذَلِك مُرَتبا على بعض بل لمجموعة تشافه

الحكم وَمعنى ذَلِك انه فعل كل وَاحِد من ذَلِك لأجل الحكم وَمِنْهَا قَوْلهم إِن التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ وَإِن جَازَ فان مقايستكم لم يرد التَّعَبُّد بهَا لِأَنَّهُ مَا من فرع إِلَّا وَيُشبه أصلين متضادي الحكم وَذَلِكَ يَقْتَضِي ثبوتهما فِيهِ وَذَلِكَ محَال فَعلمنَا أَن الله سُبْحَانَهُ لم يتعبدنا بذلك الْجَواب يُقَال لَهُم إِن كل فرع يشبه أصلين متضادي الحكم ثمَّ لَو كَانَ الْأَمر كَذَلِك لم يؤد إِلَى محَال لِأَن من لَا يُجِيز الحكم فِي الْفَرْع بالتخيير يَقُول إِن الله سُبْحَانَهُ قد جعل لنا طَرِيقا إِلَى قُوَّة شبهه باحد الْأَصْلَيْنِ فَيَنْبَغِي أَن يُرَاجع الْمُجْتَهد النّظر حَتَّى يظفر بذلك وَمن يجوز الحكم بالتخيير يَقُول يجوز ان يعتدل الشبهان عِنْد الْمُجْتَهد فَيكون مُخَيّرا بَين إِلْحَاقه بِأَيّ الْأَصْلَيْنِ شَاءَ فَلَا يُنَافِي فِي ذَلِك وَالْقَوْل فِي ذَلِك كالقول فِي أَخْبَار الْآحَاد المتعارضة وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْقيَاس وَإِن جَازَ التَّعَبُّد بِهِ مَوْقُوف على ثُبُوت الْحَاجة إِلَيْهِ وَتَنَاول النُّصُوص الْخَاصَّة والعامة للحوادث كلهَا يرفع الْحَاجة إِلَيْهِ فاذا لسنا متعبدين بِهِ الْجَواب أَن قَوْلهم إِن النُّصُوص متناولة لجَمِيع الْحَوَادِث دَعْوَى وَلَو كَانَت النُّصُوص متناولة لجَمِيع الْحَوَادِث لتناولت الْحَوَادِث الَّتِي اخْتلف الصَّحَابَة فِيهَا وَكَانُوا يحتجون بهَا وَلما لم يحتجوا بهَا علمنَا أَنه لم يكن فِيهَا نُصُوص وَلَو تناولت النُّصُوص جَمِيع الْحَوَادِث لما افْتقر نفاة الْقيَاس إِلَى الِاسْتِدْلَال بِالْبَقَاءِ على حكم الْعقل فِي كثير من الْحَوَادِث وَمِنْهَا أَن يزِيدُوا فِي هَذِه الدّلَالَة فيقولوا تنَاول خَاص النُّصُوص وعامها أَو دَلِيل الْعقل لكل حَادِثَة تغني عَن الْقيَاس فِيهَا فَلم نَكُنْ متعبدين بِهِ إِذْ التَّعَبُّد بِهِ مَوْقُوف على الْحَاجة ولسنا مُحْتَاجين إِلَيْهِ مَعَ هَذِه الامور الْجَواب أَن تنَاول النُّصُوص للحادثة لَا يمْنَع من قياسها على غَيرهَا إِذا كَانَ حكم الْقيَاس هُوَ حكم النَّص لِأَنَّهُ إِن تنَاولهَا خبر وَاحِد كَانَ عَلَيْهَا أمارتان خبر وَاحِد وَقِيَاس وَإِن تنَاولهَا خبر متواتر قسناها على غَيرهَا لِأَنَّهُ لَو لم يكن الْخَبَر الْمُتَوَاتر لدل الْقيَاس على حكمهَا وَإِن تنَاول الْحَادِثَة عُمُوم جَازَ إِثْبَات حكم الْعُمُوم فِيهَا

بقياسها على غَيرهَا وَجَاز إخْرَاجهَا من الْعُمُوم بقياسها أَيْضا على غَيرهَا فَتَنَاول النُّصُوص للحادثة لَا يَقْتَضِي كوننا غير متعبدين فِيهَا بِالْقِيَاسِ وَأما تنَاول الْعقل للحادثة فانه إِنَّمَا يَقْتَضِي إِثْبَات حكمه فِيهَا ويغني عَمَّا سواهُ مَا لم ينْقل عَنهُ دَلِيل شَرْعِي فَعَلَيْهِم أَن يبينوا أَن الْقيَاس لَيْسَ بِدَلِيل شَرْعِي حَتَّى يمْتَنع أَن ينقلنا عَن حكم الْعقل هَذَا إِذا كَانَ الْقيَاس غير مُطَابق لحكم الْعقل فان كَانَ مطابقا لَهُ فَمَا الْمَانِع من ان يدل هُوَ على الْحَادِثَة مَعَ الْعقل كَمَا يدل الْعقل على الْحَادِثَة مَعَ خبر وَاحِد وَمِنْهَا قَوْلهم لَو نَص الله عز وَجل على عِلّة حكم الْحَادِثَة مَا جَازَ أَن نقيس عَلَيْهَا غَيرهَا بِتِلْكَ الْعلَّة فأحرى أَن لَا يجوز أَن نقيس على مَا لم ينص على علته وَإِذا لم يجز لنا الْقيَاس ثَبت أَن الله عز وَجل مَا تعبدنا بِهِ وَاسْتَدَلُّوا على أَن الْقيَاس على مَا نَص على علته لَا يجوز بِأَن الْإِنْسَان لَو قَالَ لوَكِيله أعتق زيدا عَبدِي لِأَنَّهُ اسود مَا جَازَ أَن يعْتق كل عبد لَهُ أسود الْجَواب يُقَال لَهُم أتمنعون الْقيَاس على مَا نَص على عِلّة حكمه وَإِن تعبدنا بِالْقِيَاسِ أَو إِن لم نتعبد بِالْقِيَاسِ فان قَالُوا بِالْأولِ كَانُوا قد منعُوا من فعل مَا تعبد الله عز وَجل بِهِ لِأَن الله عز وَجل إِذا تعبدنا بِالْقِيَاسِ فَأولى المقاييس مَا نَص على علته وَإِن قَالُوا بِالثَّانِي قيل لَهُم من النَّاس من يَقُول لَا يجوز الْقيَاس على مَا نَص على علته إِلَّا بعد أَن نتعبد بِالْقِيَاسِ وَلَا يَكْفِي النَّص على عِلّة الحكم فِي إِبَاحَة الْقيَاس ويحوج إِلَى ذَلِك من النَّص على الْعلَّة وَمَعَ فقد النَّص عَلَيْهَا ويسوى بَين الْمَوْضِعَيْنِ وَمن النَّاس من يَقُول يَكْفِي النَّص على الْعلَّة فِي جَوَاز الْقيَاس بهَا لما سَنذكرُهُ فِي بَاب ياتي وَلَا بُد من تعبد بِالْقِيَاسِ إِذا لم ينص على الْعلَّة وَإِن اخْتلفُوا فَمنهمْ من يَقُول إِن التَّعَبُّد بذلك يثبت عقلا وَشرعا وَمِنْهُم من يَقُول يثبت شرعا فَقَط فَمَا بني عَلَيْهِ الْمُسْتَدلّ دَلِيله من أَن الْقيَاس على مَا نَص على علته لَا يجوز لَا يُسلمهُ هَؤُلَاءِ وَمَا احْتج بِهِ من الْعتْق سَيَجِيءُ الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب مُفْرد أَن شَاءَ الله تَعَالَى

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي النَّص على عِلّة الحكم هَل هُوَ تعبد بِالْقِيَاسِ بهَا أَو لَا بُد من تعبد زَائِد على النَّص على الْعلَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَقَالَ الجعفران وَبَعض أهل الظَّاهِر لَيْسَ النَّص على الْعلَّة تعبدا بِالْقِيَاسِ بهَا وَقَالَ أَبُو اسحاق النظام وَهُوَ ظَاهر مَذْهَب الْفُقَهَاء وَقَول بعض أهل الظَّاهِر إِن النَّص عَلَيْهَا يَكْفِي فِي التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ بهَا وَالشَّيْخ أَبُو هَاشم أَبُو عبد الله رَحمَه الله إِن كَانَت الْعلَّة المنصوصة عِلّة فِي التَّحْرِيم كَانَ النَّص عَلَيْهَا تعبدا بِالْقِيَاسِ بهَا وَإِن كَانَت عِلّة فِي إِيجَاب الْفِعْل أَو كَونه ندبا لم يكن النَّص عَلَيْهَا تعبدا بِالْقِيَاسِ بهَا وَاحْتج المانعون من الْقيَاس بهَا من غير هَذَا التَّفْصِيل فَقَالُوا إِن الْعِلَل الشَّرْعِيَّة إِمَّا أَن تكون وَجه الْمصلحَة وَإِمَّا أَن تكون أَمارَة فان كَانَت وَجه الْمصلحَة وَجب أَن يُوقع الْمُكَلف الْفِعْل لأَجلهَا وَلَيْسَ يجب إِذا فعل الْإِنْسَان فعلا لغَرَض من الْأَغْرَاض وَوجه من الْوُجُوه ان يفعل مَا ساواه فِي ذَلِك الْغَرَض لِأَن من اكل رمانة لِأَنَّهَا حامضة لَا يجب أَن يَأْكُل كل رمانة حامضة وَمن تصدق على فَقير بدرهم لِأَنَّهُ فَقير لَا يجب أَن يتَصَدَّق على كل فَقير فَلَو أوجب الله علينا أكل السكر لِأَنَّهُ حُلْو وَكَانَت حلاوته دَاعِيَة إِلَى اكله لم يجب أَن تَدعُوهُ حلاوة الْعَسَل إِلَى أكله فَلم يجب علينا أكله وَأكل كل حُلْو وَإِن كَانَت الْعلَّة أَمارَة فَمَعْنَى ذَلِك هُوَ أَن وَجه الْمصلحَة يقارنها وَلَا يَنْفَكّ مِنْهَا فاذا ثَبت بهَا ذكرنَا أَن وَجه الْمصلحَة لَا تتبعها الْمصلحَة فِي كل مَوضِع فَكَذَلِك مَا لَا يَنْفَكّ من وَجه الْمصلحَة فعلى هَذَا الْوَجْه ذكر قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله هَذَا الدَّلِيل وَالْجَوَاب إِن السكر لَو وَجب أكله لِأَنَّهُ حُلْو وَقُلْنَا إِن حلاوته وَجه الْمصلحَة وَالْوُجُوب لم يلْزم أَن يَأْكُل الْمُكَلف السكر لِأَنَّهُ حُلْو فيوقع الْفِعْل لهَذَا الْوَجْه بل يَكْفِي أَن يَأْكُلهُ لِأَنَّهُ وَاجِب وَلَيْسَ من شَرط كَون

حلاوة السكر وَجه الْمصلحَة أَن يكون دَاعِيَة إِلَى اكل السكر بل من شَرط كَونهَا وَجه الْمصلحَة أَن يكون أكل السكر يَدْعُو لأَجلهَا إِلَى فعل وَاجِب آخر أَو يصرف عَن قَبِيح وَهَذَا الْقدر كَاف فِي كَون الْحَلَاوَة وَجه الْمصلحَة وَلَو لزم الْمُكَلف أكل السكر لنه حُلْو لم يسْقط عَنهُ وجوب أكل كل حُلْو من حَيْثُ أمكنه أَن يَأْكُل السكر من حَيْثُ أَنه حُلْو وَلَا يَأْكُل مَا ساواه فِي الْحَلَاوَة على مَا ذكره الْمُسْتَدلّ فِي الرمانة لِأَن وجوب الْوَاجِب لَا يقف على كَونه لَا بُد من وُقُوعه من الْمُكَلف بل من شَرط وُجُوبه إِمْكَان وُقُوعه وَإِمْكَان تَركه وَيُمكن أَصْحَاب هَذِه الْمقَالة أَن يحتجوا بِهَذِهِ الدّلَالَة على وَجه آخر فيقولوا إِن علل الشرعيات هِيَ وُجُوه الْمصَالح والمصلحة إِمَّا أَن تكون دَاعِيَة إِلَى فعل وَاجِب ومسهلة لَهُ أَو صارفة عَن قَبِيح أَو دَاعِيَة إِلَى تَركه ومسهلة لَهُ وَمَا دَعَا إِلَى فعل وسهلة لَا يجب أَن يكون هُوَ وَلَا مثله دَاعيا إِلَى جنس ذَلِك الْفِعْل وَلَا مسهلا لَهُ وَمَا يصرف عَن الْفِعْل يجب أَن يصرف هُوَ وَمثله عَن جنس ذَلِك الْفِعْل أَلا ترى أَن من أكل رمانة لِأَنَّهَا حامضة فان حموضتها قد دَعَتْهُ إِلَى أكلهَا وسهلت عَلَيْهِ وَلَا يجب أَن يَأْكُل غَيرهَا من الرُّمَّان وَمن لم يَأْكُل رمانة لِأَنَّهَا حامضة فان حموضتها قد صرفته عَن أكلهَا وسهلت عَلَيْهِ الْإِخْلَال بأكلها وَيلْزم أَن لَا يَأْكُل كل رمانه حامضة فاذا ثَبت ذَلِك فَلَو نَص الله عز وَجل على أَن عِلّة وجوب أكل السكر كَونه حلوا يجوزنا أَن تكون حلاوته لطفا وداعيا إِلَى الْإِخْلَال بِالْكَذِبِ فَيلْزم أَن تكون حلاوة الْعَسَل إِذا أكله الْإِنْسَان دَاعيا لَهُ إِلَى الْإِخْلَال بِالْكَذِبِ وجوزنا أَن تكون حلاوته دَاعِيَة إِلَى فعل وَاجِب كرد الْوَدِيعَة ومسهلا لَهُ كَمَا ان حموضة الرمانة دَاعِيَة إِلَى أكلهَا وَلَا يلْزم أَن تَدْعُو حلاوة الْعَسَل إِلَى رد الودائع كَمَا لم يلْزم أَن تَدْعُو حموضة رمانة أُخْرَى أَو حموضة الْخلّ إِلَى أكله وَإِذا جَوَّزنَا كلا الْأَمريْنِ لم يجز لنا إِيجَاب أكل الْعَسَل لتجويزنا أَن تكون حلاوة السكر وَجه مصلحَة فِي فعل وَاجِب فَلَا يجب أَن تكون حلاوة الْعَسَل بِمثلِهِ بل يلْزمنَا أَن نقطع على أَن حلاوة السكر

لَيْسَ بِوَجْه مصلحَة فِي التّرْك لِأَنَّهَا لَو كَانَت كَذَلِك لأخبرنا الله عز وَجل بذلك أَو لتعبدنا بِالْقِيَاسِ وَالْجَوَاب إِن من يفعل الْفِعْل لداع ومسهل فانه يفعل مَا ساواه فِي ذَلِك الدَّاعِي إِلَّا أَن يُقَابل ذَلِك الدَّاعِي صَارف أَو يُؤَدِّي إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ وآكل الرمانة إِنَّمَا لم يَأْكُل رمانة أُخْرَى لِأَن شَهْوَته للحموضة قد زَالَت أَو تناقصت فَلم يحصل دَاعِيَة إِلَى أكل رمانة أُخْرَى أَو لم يحصل على حد مَا حصل إِلَى الأولى وَإِذا نَص الله سُبْحَانَهُ على أَن عِلّة أكل السكر كَونه حلوا فَظَاهر أَن حلاوته هِيَ وَجه الْمصلحَة من غير شَرط فَلم يجز حُصُول الْحَلَاوَة إِلَّا وَهِي دَاعِيَة إِلَى مَا دعت إِلَيْهِ حلاوة السكر وَاحْتَجُّوا بِأَن الْإِنْسَان لَو قَالَ أعتقت عَبدِي زيدا لِأَنَّهُ اسود لم يعْتَقد السامعون أَنه قد أعتق كل عبيده السود وَلَو قَالَ لوَكِيله أعتق عَبدِي زيدا لِأَنَّهُ أسود لم يجز للْوَكِيل عتق كل عبيده السود الْجَواب إِن الْإِنْسَان إِذا قَالَ أعتقت عَبدِي زيدا لِأَنَّهُ أسود فان كل عَاقل يناقضه إِذا لم يعْتق غَيره من عبيده السود إِلَّا أَن يكون قد عرف من قَصده أَنه اعتقده لِأَنَّهُ أسود مَعَ شَرط آخر لَا يُوجد فِي غَيره وَإِذا قَالَ لوَكِيله أعتق زيدا عَبدِي لِأَنَّهُ أسود قَالَ لَهُ الْعُقَلَاء فعندك الآخر أسود فَلم خصصت هَذَا بِالْعِتْقِ وَإِنَّمَا لم يجز للْوَكِيل الْإِقْدَام على عتق عبد لَهُ لِأَن الشَّرْع منع من ذَلِك إِلَّا بِصَرِيح القَوْل وَلِأَن المؤكل لما جَازَت عَلَيْهِ البدوات والمناقضات لم يجز من جِهَة الْعقل الْإِقْدَام على إِتْلَاف مَاله إِلَّا بِصَرِيح القَوْل أَلا ترى أَن المؤكل لَو أَمر وَكيله بِالْقِيَاسِ لم يكن للْوَكِيل عتق كل عبيده السود وَلِهَذَا ثَبت الْقيَاس فِيمَا عدا الْإِتْلَاف لِأَن الْإِنْسَان لَو قَالَ لعَبْدِهِ لَا تدخل دَار فلَان لِأَنَّهُ عدوي فَدخل دَار غَيره من أعدائه لامه الْعُقَلَاء وَلَو قَالَ أوجبت أَو أبحت لَك دُخُول دَار فلَان لِأَنَّهُ صديقي كَانَ لَهُ دُخُول دَار غَيره من أصدقائه وَلَو لامه لائم على ذَلِك لعنفه الْعُقَلَاء وَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن الشَّيْخ عبد الله رحمهمَا الله احْتج لمذهبه بِأَن من فعل

فعلا لغَرَض من الْأَغْرَاض فانه لَا يجب أَن يفعل مَا ساواه فِي ذَلِك الْغَرَض وَمن ترك فعلا لغَرَض فانه لَا يجب أَن يفعل مَا ساواه فِي ذَلِك الْغَرَض وَمن ترك فعلا لغَرَض فانه يتْرك مَا ساواه فِي ذَلِك الْغَرَض فاذا حرم الله تَعَالَى الْخمر لشدتها فان الشدَّة تكون وَجه الْمصلحَة وَلَا يكون كَذَلِك إِلَّا وَلها يتْرك الْفِعْل وَإِذا كَانَت وَجها فِي التّرْك وَجب أَن يشيع فِي تَحْرِيم كل شدَّة فاذا وَجب أكل السكر لِأَنَّهُ حُلْو لم يجب أَن يشيع فِي كل حُلْو وَالْجَوَاب يُقَال إِن أردْت أَن الشدَّة وَجه لَهَا بترك شرب الْخمر فقد بَينا بطلَان ذَلِك إِن أردْت أَنَّهَا لاخْتِصَاص الْخمر بهَا يَقْتَضِي ترك شربهَا انصرافا عَن قَبِيح آخر فَمن أَيْن ذَلِك وَمَا يُنكر أَنه يجوز ذَلِك وَيجوز أَن يكون تَارِك شربهَا يفعل وَاجِبا وَلَو شربهَا أخل بِهِ وَمَا يُنكر لَو أوجب الله تَعَالَى علينا أكل السكر لِأَنَّهُ حُلْو أَن يكون أكله يصرف عَن قَبِيح وَلَا يَدْعُو إِلَى وَاجِب فَلَا يَنْبَغِي أَن يفرق بَين الْمَوْضِعَيْنِ بل يَنْبَغِي أَن يجوز فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن يكون دَاعيا إِلَى التّرْك وداعيا إِلَى الْفِعْل على أَن قَوْله إِن وَجه الْمصلحَة لَهَا يفعل الْفِعْل إِن أَرَادَ بِهِ لَهَا يفعل الملطوف فِيهِ على معنى أَن الْمُكَلف يفعل الملطوف فِيهِ لأجل اللطف فَهُوَ صَحِيح وَإِن أَرَادَ أَن وَجه الْمصلحَة هُوَ غَرَضه ومقصوده بِفعل الملطوف فِيهِ كَمَا يَقُول خرجت من الدَّار لاسلم على زيد فَبَاطِل لِأَن اللطف مُتَقَدم فَلَا يجوز أَن يكون هُوَ غَرَض الْمُكَلف أَلا ترى أَن الْإِنْسَان إِذا اسْتغنى أَو رزقه الله ولدا فَدَعَاهُ ذَلِك إِلَى الصَّلَاة لَا يكون غَرَضه وقصده بِالصَّلَاةِ الِاسْتِغْنَاء وَالْولد وَأما أَبُو إِسْحَاق النظام فَلهُ أَن يحْتَج فَيَقُول لَو قَالَ الله عز وَجل اوجبت أكل السكر فِي كل يَوْم لِأَنَّهُ حُلْو لَكَانَ ذَلِك تعليلا لوُجُوبه فِي كل يَوْم ولكانت الْحَلَاوَة فَقَط وَجه الْمصلحَة فِي وُجُوبه فِي كل يَوْم لِأَنَّهُ قصر التَّعْلِيل عَلَيْهَا مَعَ اخْتِلَاف أحوالنا وَلَا يجوز حُصُول وَجه الْوُجُوب أَو الْحسن أَو الْقبْح فَلَا يُؤثر أَلا ترى أَنه لَا يجوز حُصُول الْفِعْل ظلما وَلَا يكون قبيحا وَأَيْضًا فان قدرا من الرِّفْق لَا يجوز أَن يصلح الصَّبِي وَهُوَ على صفة مَخْصُوصَة

وَلَا يصلحه مثله مَتى كَانَ الصَّبِي على تِلْكَ الصّفة وَإِذا ثَبت ذَلِك كَانَت الْحَلَاوَة مُؤثرَة فِي الْمصلحَة فِي كل مَوضِع فَوَجَبَ أكل الْعَسَل وَقد احْتج لهَذِهِ الْمقَالة أَيْضا بِأَنَّهُ لَو لم يجز الْقيَاس بِالْعِلَّةِ المنصوصة لم تكن للنَّص عَلَيْهَا فَائِدَة وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الْفَائِدَة فِيهَا أَن يعلم كَونهَا عِلّة لِأَن الْعلم نَفسه فَائِدَة وَقَالَ أَيْضا لَو لم يتعبد بِالْقِيَاسِ لعلم كل عَاقل تَحْرِيم ضرب الْوَالِدين من قَول الله تَعَالَى {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} لما نبه الله تَعَالَى على الْعلَّة فاذا نَص عَلَيْهَا فَالْقِيَاس بهَا أولى فَالْجَوَاب إِن كثيرا من النَّاس يَقُول إِن الْمَنْع من ضربهما مَعْلُوم بِاللَّفْظِ لَا من جِهَة الْقيَاس وَمن لم يقل إِن ذَلِك مَعْلُوم بِاللَّفْظِ يَقُول لَو لم يتعبد الله عز وَجل بِالْقِيَاسِ لم أعرف ذَلِك بِالْقِيَاسِ على التأفيف لَكِن أعرفهُ بِالْعقلِ من حَيْثُ أَن ضربهما كفر نعْمَة وَإِنَّمَا يثبت أَن الْمَنْع من التأفيف دَال على تَحْرِيم الضَّرْب إِذا ثَبت أَن الْعلم بِالْعِلَّةِ يَكْفِي فِي التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فَأَما مَعَ الشَّك فِي ذَلِك فَلَا يُمكن الْمَنْع من ضربهما بِالْقِيَاسِ على التأفيف فأمأ إِذا نَص الله عز وَجل على الْعلَّة وَتعبد بِالْقِيَاسِ فَلَا شُبْهَة فِي جَوَاز الْقيَاس بهَا لأَنا قد بَينا أَن النَّص على الْعلَّة هُوَ تعبد بِالْقِيَاسِ فانضمام تعبد زَائِد يزِيد التَّعَبُّد تَأْكِيدًا وَلِأَنَّهُ لَو لم يجز الْقيَاس بهَا لم يجز الْقيَاس بالمستنبطة فَكَانَ لَا يجوز الْقيَاس أصلا وَفِي ذَلِك وُرُود التَّعَبُّد بِمَا لَا يجوز فعله شُبْهَة إِن قيل إِذا أوجب الله تَعَالَى أكل السكر لِأَنَّهُ حُلْو فَيجب إِذا شَاركهُ الْعَسَل فِي الْحَلَاوَة أَن يكون قد قَامَ مقَامه فِي وَجه الْمصلحَة وَفِي ذَلِك كَونهمَا واجبين على الْبَدَل وَالْجَوَاب إِن الْفِعْل إِذا وَجب التَّعْيِين لوجه ثمَّ شَاركهُ

فِيهِ فعل آخر وَجب أَن يُشَارِكهُ فِي الْوُجُوب على التَّعْيِين لِأَن هَذَا هُوَ حكم الأَصْل شُبْهَة إِن قَالُوا لَو قَالَ الرجل لوَكِيله أعتق عَبدِي زيدا لِأَنَّهُ أسود وَيَنْبَغِي أَن يقيس لم يجز لَهُ أَن يعْتق جَمِيع عبيده السود وَالْجَوَاب عَن ذَلِك مَا تقدم من أَن الشَّرْع وَالِاحْتِيَاط من جِهَة الْعقل يمْنَع من الْإِتْلَاف على المؤكل إِلَّا بِصَرِيح اللَّفْظ لما يجوز عَلَيْهِ من المناقضات والبدوات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَنا متعبدون بِالْقِيَاسِ على الأَصْل وَإِن لم ينص لنا على الْقيَاس عَلَيْهِ بِعَيْنِه وَلَا أَجمعت الامة على تَعْلِيله وَوُجُوب الْقيَاس عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُكيَ عَن بشر المريسي الْمَنْع من الْقيَاس على الأَصْل إِلَّا بعد أَن تجمع الامة على تَعْلِيله وَعَن قوم أَنه يجب أَن ينص لنا على وجوب الْقيَاس عَلَيْهِ وَالدَّلِيل على أَنه لَا اعْتِبَار بذلك أَن الصَّحَابَة قد قاست على أصُول لم يتقدمها إِجْمَاع على قِيَاس تِلْكَ الْمسَائِل عَلَيْهَا وَقد قَاس كل مِنْهُم على غير الأَصْل الَّذِي قَاس عَلَيْهِ غَيره وَلَا نَص لَهُم على الْقيَاس على أصل من تِلْكَ الْأُصُول لِأَنَّهُ لَو نَص لَهُم على ذَلِك لاحتج بِهِ بَعضهم على بعض فِي وجوب الْقيَاس على ذَلِك الأَصْل وَلِأَنَّهُ إِن كَانَ الأَصْل قد نَص على علته فقد بَينا أَن ذَلِك تعبد بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ وَأَنه لَا يحْتَاج إِلَى زِيَادَة تعبد وَبينا مثل ذَلِك فِي الْعِلَل المستنبطة وَقُلْنَا إِن الْعقل يَقْتَضِي الْقيَاس بهَا على الأَصْل كالأمارات الْعَقْلِيَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل كَانَ متعبدا بِالِاجْتِهَادِ أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ أَبُو عَليّ وَأَبُو هَاشم رحمهمَا الله إِنَّه لم يكن متعبدا بِالِاجْتِهَادِ فِي شَيْء من الشرعيات وَحكي عَن أبي يُوسُف رَحمَه الله أَنه كَانَ متعبدا بذلك

وَجوز الشَّافِعِي فِي رسَالَته أَن يكون فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَا قَالَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْتِهَادًا وَجوز قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله ذَلِك وَلم يقطع عَلَيْهِ وَاسْتدلَّ بِأَن الْعقل يجوز أَن يتعبده الله بِالِاجْتِهَادِ وَلَيْسَ فِي الْعقل وَلَا فِي السّمع مَا يدل على أَنه تعبد بذلك وَلَا أَنه لم يتعبد بِهِ وَذَلِكَ يَصح إِذا أفسدنا أَدِلَّة القاطعين على أَنه تعبد بذلك والقاطعين على أَنه لم يتعبد بِهِ فمما احْتج بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ تعبد بِالِاجْتِهَادِ قَوْلهم إِن فِي الِاجْتِهَاد مزِيد ثَوَاب فَلَا يجوز أَن يحرمه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْجَوَاب إِنَّه لَيْسَ يثبت أَن ثَوَاب الْمُجْتَهد فِي الأمارات أَكثر من ثَوَاب الْمُسْتَدلّ بالأدلة لِأَن الْمَشَقَّة مَوْجُودَة فيهمَا وَلَا يعلم التَّفَاضُل بَينهمَا فِيمَا يَقْتَضِي مزِيد الثَّوَاب على أَن الْوَاجِب أَن يكون ثَوَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر وَلَيْسَ فِي كل فعل فَعَلْنَاهُ يجب أَن يفعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله ليستحق مثل ثوابنا على أَن هَذَا يَقْتَضِي أَن يكون متعبدا بِالِاجْتِهَادِ فِي جَمِيع مَا تعبدنا بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ وَمِنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قَالَ فِي مَكَّة لَا يختلي خَلاهَا قَالَ الْعَبَّاس إِلَّا الْإِذْخر فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا الْإِذْخر وَمَعْلُوم أَن الْوَحْي لم ينزل عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَال وَلكنه تنبه من اسْتثِْنَاء الْعَبَّاس على مَوضِع الِاجْتِهَاد وَالْجَوَاب إِنَّه لَا يمْتَنع ان يكون أَرَادَ اسْتثِْنَاء الْإِذْخر فسبقه الْعَبَّاس إِلَيْهِ فَلَا يجب الْقطع على مَا قَالُوهُ وَمِنْهَا أَن الْعَمَل على الْقيَاس مَعْلُوم بِالْعقلِ وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيره فِي ذَلِك سَوَاء وَالْجَوَاب إِن الْعقل يُوجب عندنَا إِذا لم يكن فِي الْحَادِثَة نَص وَإِذا لم يدل الشَّرْع على أَن الْقيَاس مفْسدَة فَمَا يؤمننا أَن يكون اسْتِعْمَال الْقيَاس للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مفْسدَة وَأَن مصْلحَته أَن يعْمل على النَّص فدله الله عز وَجل على ذَلِك وَنَصّ لَهُ على الْأَحْكَام

وَاحْتج المانعون من كَونه متعبدا بِالِاجْتِهَادِ بأَشْيَاء مِنْهَا قَول الله عز وَجل {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} فَأخْبر أَن مَا ينْطق بِهِ هُوَ عَن وَحي وَلَا يُقَال لما يصدر عَن اجْتِهَاد إِنَّه عَن وَحي أَلا ترى أَنه لَا يُقَال إِن قَول الْمُجْتَهد منا هُوَ عَن وَحي وَأجَاب قَاضِي الْقُضَاة عَن ذَلِك بِأَن الْآيَة تَنْصَرِف إِلَى مَا ينْطق بِهِ دون مَا يظْهر مِنْهُ فعلا فَمن أَيْن أَن كل مَا فعله كَانَ وَحيا وَأما قَوْله وَمَا ينْطق عَن الْهوى فَلَا يمْتَنع من كَونه مُجْتَهدا لِأَن الحكم بِالِاجْتِهَادِ لَيْسَ هُوَ عَن هوى وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْأمة اتّفقت على أَن مَا يَقُوله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ عَن اجْتِهَاد وَالْجَوَاب إِن أَبَا يُوسُف وَالشَّافِعِيّ يخالفان فِي ذَلِك وَلَا يعلم سبق الْإِجْمَاع لَهما وَمِنْهَا أَنه لَو كَانَ فِي الْأَحْكَام مَا صدر عَن اجْتِهَاد فَيجب أَن لَا يَجْعَل أصلا وَأَن يُخَالف فِيهِ وَلَا يكفر مخالفه لِأَن كل ذَلِك من حق الِاجْتِهَاد الْجَواب إِنَّه لَيْسَ ذَلِك من حق الِاجْتِهَاد على الْإِطْلَاق أَلا ترى أَن الْأمة إِذا أَجمعت عَن اجْتِهَاد فانه لَا يجوز مُخَالفَته وَيجب أَن يَجْعَل أصلا وَرُبمَا فسق من خَالفه وَإِن كَانَ من خَالف الِاجْتِهَاد الَّذِي لم يجمع عَلَيْهِ لَا يفسق وَإِذا جَازَ أَن يفسق إِذا قارنه إِجْمَاع جَازَ أَن يكفر إِذا قارنه قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمِنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نزل منزلا فَقيل لَهُ إِن كَانَ ذَلِك عَن وَحي فالسمع وَالطَّاعَة وَإِن كَانَ إِنَّمَا هُوَ الرَّأْي فَلَيْسَ بمنزل مكيدة فَقَالَ بل هُوَ الرَّأْي فَدلَّ على أَنه يجوز مُرَاجعَته فِي الرَّأْي وَمَعْلُوم أَنه لَا يجوز مُرَاجعَته فِي الْأَحْكَام فَعلم أَنَّهَا لَيست بِرَأْي وَالْجَوَاب أَن ذَلِك إِنَّمَا يدل على مُرَاجعَته فِي الآراء الَّتِي لَيست من الْأَحْكَام كالرأي فِي الْحَرْب وَالْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة خَارِجَة عَن ذَلِك

وَمِنْهَا أَنه لَو كَانَ متعبدا بِالِاجْتِهَادِ لاظهره الْجَواب إِنَّه لَا يمْتَنع ان يكون من الْمصلحَة إِظْهَاره وَمِنْهَا أَنه لَو تعبد بِالِاجْتِهَادِ لما توقف على الْوَحْي الْجَواب إِنَّه لَيْسَ معنى أَن توقف فِي كل الْأَحْكَام على الْوَحْي فاذا ثَبت ذَلِك فَكل مَا تعبدنا فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ الشَّرْعِيّ فَيجوز أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تعبد بِهِ وَيجوز أَن يكون قد نصب لَهُ دَلِيل يَخُصُّهُ وَأما الِاجْتِهَاد فِي أَخْبَار الْآحَاد فيتأتى فِينَا دونه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَن عاصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل كَانَ متعبدا بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَاد أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما من عاصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله فِي الشَّرْح أَن أَكثر الذاهبين إِلَى الِاجْتِهَاد قَالُوا كَانَ متعبدا بذلك والأقلون منعُوا وَحكى أَن أَبَا عَليّ رَحمَه الله قَالَ لَا أَدْرِي هَل كَانَ من عاصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متعبدا بِأَن يجْتَهد أم لَا لِأَن خبر معَاذ من أَخْبَار الْآحَاد وَلم يقطع قَاضِي الْقُضَاة على وُرُود التَّعَبُّد بذلك لمن حضر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن مَا يروي فِي ذَلِك أَخْبَار آحَاد وَقطع على أَن من غَابَ عَنهُ مِمَّن عاصره متعبد بذلك لِأَن خبر معَاذ عِنْده ثَابت لتلقي الامة لَهُ بِالْقبُولِ وَظَاهر أَنه لم يكن عَادَة الْحَاضِرين عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الِاجْتِهَاد لِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِك عَادَة لَهُم لظهر لَهُم ذَلِك عَنْهُم كَمَا أَنه لم يكن عَادَتهم طلب الحكم من التَّوْرَاة وَيجوز أَن يكون الْوَاحِد والاثنان قد أذن لَهما النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يجتهدا بِحَضْرَتِهِ لِأَن خبر عَمْرو بن الْعَاصِ يجوز صِحَّته فَأَما من غَابَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيجوز أَن يكون متعبدا بِالِاجْتِهَادِ أَيْضا إِلَّا أَن الْأَمر فِيهِ أظهر مِمَّن حَضَره لِأَن خبر معَاذ أظهر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْقيَاس هَل هُوَ مَأْمُور بِهِ وَدين أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما كَونه مَأْمُورا بِهِ بِمَعْنى أَن الله عز وَجل بعثنَا على فعله بالأدلة

فَصَحِيح وَأما كَونه مَأْمُورا بِهِ بِصِيغَة افْعَل فَصَحِيح أَيْضا عِنْد من يحْتَج بقول الله تَعَالَى {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} وَمَا جرى مجْرَاه من أَلْفَاظ الْأَمر وَأما من يحْتَج بِالْإِجْمَاع أَو بِالْعقلِ فَلَا يُمكنهُ علم ذَلِك لجَوَاز أَن يكون مَا دلّ الْأمة على صِحَة الْقيَاس هُوَ إِخْبَار من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصِحَّتِهِ وَثُبُوت التَّعَبُّد بِهِ وَأما وَصفه بانه دين الله عز وَجل فَلَا شُبْهَة فِيهِ إِذا عني بذلك أَنه لَيْسَ ببدعة وَإِن عني غير ذَلِك فَعِنْدَ الشَّيْخ ابي الْهُذيْل رَحمَه الله انه لَا يُطلق عَلَيْهِ ذَلِك لِأَن اسْم الدّين يَقع على مَا هُوَ ثَابت مُسْتَمر وَأَبُو عَليّ رَحمَه الله يصف مَا كَانَ مِنْهُ وَاجِبا بذلك وَبِأَنَّهُ إِيمَان دون مَا كَانَ مِنْهُ ندبا وقاضي الْقُضَاة رَحمَه الله يصف بذلك واجبه وندبه وَالْقِيَاس الشَّرْعِيّ ضَرْبَان وَاجِب وَندب وَالْوَاجِب ضَرْبَان أَحدهمَا وَاجِب على الْأَعْيَان والتضييق وَالْآخر على الْكِفَايَة فَالَّذِي على الْأَعْيَان والتضييق هُوَ قِيَاس من نزلت بِهِ حَادِثَة من الْمُجْتَهدين أَو كَانَ قَاضِيا فِيهَا أَو مفتيا وَلم يقم غَيره مقَامه وضاق الْوَقْت وَالْوَاجِب على الْكِفَايَة أَن يقوم غَيره مقَامه فِي الْفَتْوَى وَالنَّدْب فَهُوَ الْقيَاس فِيمَا لم يحدث من الْمسَائِل مِمَّا يجوز حُدُوثه فقد ندب الْإِنْسَان إِلَى إبلاء الِاجْتِهَاد فِيهِ ليَكُون الْجَواب فِيهِ معدا لوقت الْحَاجة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْكَلَام فِي شُرُوط الْقيَاس وَمَا يُصَحِّحهُ وَمَا يُفْسِدهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْقيَاس لما كَانَ هُوَ إِثْبَات حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لاشتباههما فِي عِلّة الحكم كَانَ الْكَلَام فِيهِ إِمَّا كلَاما فِي الْعلَّة الَّتِي هِيَ دَلِيل الحكم أَو كلَاما فِي

الحكم الَّذِي هُوَ مدلولها وَالْكَلَام فِي الحكم يجب أَن يتَعَلَّق بالحكم وَبِمَا يُوجد الحكم فِيهِ وَلما كَانَ الحكم مَوْجُودا فِي الأَصْل وَفِي الْفَرْع أمكن أَن نَنْظُر فِيهِ نظرا مُتَعَلقا بِالْأَصْلِ أَو بالفرع أَو بِالْأَصْلِ وبالفرع مَعًا وَالْكَلَام فِي الْعلَّة إِمَّا كَلَام فِي وجودهَا أَو فِي غير وجودهَا وَالْكَلَام فِي وجودهَا إِمَّا أَن يتَعَلَّق بوجودها فِي الأَصْل أَو فِي الْفَرْع لِأَن الْعلَّة يجب أَن تُوجد فِي الأَصْل وَفِي الْفَرْع وَالْكَلَام فِي غير وجودهَا إِمَّا أَن يكون كلَاما فِي طَرِيق صِحَّتهَا أَو فِيمَا يعترضها ويفسدها وَيدخل فِي كل قسم من ذَلِك عدَّة فُصُول سنذكرها إِن شَاءَ الله وَقد أجرينا الْكَلَام فِي الْقيَاس فِي كتاب مُفْرد فِي الْقيَاس الشَّرْعِيّ وَذكرنَا جَمِيع فصوله فِي هَذِه الْأَقْسَام وَذكرنَا هَذِه الْقِسْمَة وشرحناها فِي شرحنا للعمد وَنحن نجري الْكَلَام فِي الْقيَاس فِي هَذَا الْكتاب على قسْمَة اخرى فَنَقُول إِن الْكَلَام فِي الْقيَاس يجب أَن يتَعَلَّق بعلته لِأَنَّهَا عِلّة حكم أَصله وَدَلِيل حكم فَرعه وَلما كَانَت عِلّة الْقيَاس هِيَ عِلّة حكم الأَصْل وَدلَالَة حكم الْفَرْع إِذا اخْتصّت بهما وَوجدت فيهمَا وَجب أَن نتكلم فِي وجود الْعلَّة فِي الأَصْل وَفِي الْفَرْع وَفِي طَرِيق وجودهَا فيهمَا ثمَّ نتكلم فِي كَونهَا عِلّة حكم الأَصْل وَفِي طَرِيق كَونهَا عِلّة فِيهِ ثمَّ نتكلم فِي كَونهَا دلَالَة على حكم الْفَرْع وكلامنا فِي كَونهَا عِلّة حكم الأَصْل هُوَ كَلَام فِي شُرُوطهَا المختصة بِكَوْنِهَا عِلّة حكم الأَصْل وكلامنا فِي كَونهَا دلَالَة حكم الْفَرْع هُوَ كَلَام شُرُوطهَا المختصة بِكَوْنِهَا دلَالَة على حكم الْفَرْع وَإِن كَانَ هَذَانِ الكلامان جَمِيعًا كلَاما يقف عَلَيْهِ فَسَاد الْعلَّة وَنفي فَسَادهَا وَأما الْكَلَام فِي طَرِيق كَونهَا عِلّة حكم الأَصْل فانه يتبعهُ القَوْل بِأَنَّهُ لَا بُد فِي الْقيَاس من عِلّة لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن نقُول لَا بُد من طَرِيق إِلَى كَون الْعلَّة عِلّة إِلَّا وَقد أَوجَبْنَا انه لَا بُد فِي الْقيَاس من عِلّة وَالْكَلَام فِي طَرِيق الْعلَّة يَقع فِي فُصُول مِنْهَا أَنه لَا يجوز إِثْبَات الْوَصْف عِلّة إِلَّا بِدلَالَة وَمِنْهَا أَنه يجب أَن تكون الدّلَالَة شَرْعِيَّة وَمِنْهَا أَنه يجوز أَن يكون

الدَّلِيل على كَونهَا عِلّة نصا وَغَيره وَمِنْهَا أَنْوَاع أَدِلَّة صِحَة الْعلَّة وَأما الْكَلَام فِي الشُّرُوط الراجعة إِلَى كَونهَا عِلّة حكم الأَصْل فَيَقَع فِي مَوَاضِع مِنْهَا الْكَلَام فِي وجود الحكم فِي الأَصْل لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل كَون الْوَصْف عِلّة فِي حكم وَالْحكم غير حَاصِل وَمِنْهَا تَعْلِيل الحكم بِالِاسْمِ وبحكم شَرْعِي وبالأوصاف الْكَثِيرَة وَمِنْهَا التَّعْلِيل بأوصاف فِيهَا وصف لَا يُؤثر وَمِنْهَا تَعْلِيل الحكم الْمَخْصُوص من جِهَة الْقيَاس وَمِنْهَا تَعْلِيل الْكَفَّارَات وَالْحُدُود والتقديرات وَمِنْهَا هَل يُوجد فِي الاستنباط طَريقَة غير الْقيَاس يجوز الِاسْتِدْلَال بهَا على مَوضِع الحكم أم لَا وَمِنْهَا تَعْلِيل الحكم بعلتين وَذَلِكَ ضَرْبَان أَحدهمَا أَن تكون إِحْدَى العلتين دلَالَة حكم الأَصْل وَالْآخر لَا تكون دلَالَة حكمه وَمِنْهَا تَعْلِيل الحكم بِمَا لَا يتَعَدَّى عَن الأَصْل وَمِنْهَا هَل يجوز أَن تخَالف الْعلَّة مَوْضُوع حكم أَصْلهَا أم لَا وَأما الْكَلَام فِي الْعلَّة من حَيْثُ هِيَ دلَالَة على حكم الْفَرْع فضربان احدهما يتَعَلَّق بِحكم الأَصْل وَالْآخر لَا يتَعَلَّق بِهِ والمتعلق بِحكم الأَصْل ضَرْبَان أَحدهمَا هَل تدل الْعلَّة على حكم الْفَرْع وَإِن اخْتلف مَوْضُوع الأَصْل وَالْفرع وَالْآخر هَل تدل على حكمه وَإِن كَانَ حكم الأَصْل مُتَأَخِّرًا عَن حكم الْفَرْع وَأما مَا لَا يتَعَلَّق بِحكم الأَصْل فأشياء مِنْهَا هَل الْعلَّة دَالَّة على اسْم الْفَرْع ثمَّ يعلق بِهِ حكم شَرْعِي أَو يدل ابْتِدَاء على حكم شَرْعِي وَمِنْهَا هَل تدل على حكمه وَإِن لم يثبت ذَلِك الحكم فِي ذَلِك الْفَرْع فِي الْجُمْلَة أم لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا الشَّرْط وَمِنْهَا هَل تدل على حكم الْفَرْع مَعَ مُعَارضَة نَص خَاص أَو عَام فيخصه أَو ينسخه وَمِنْهَا هَل تدل على الحكم وعَلى ضِدّه وَهَذَا هُوَ الْقلب وَمِنْهَا هَل يُمكن الْخصم أَن يَقُول بموجبها ليعلم أَن الْمُسْتَدلّ مَا اسْتدلَّ بهَا على مَوضِع الْخلاف وَمِنْهَا هَل يجوز وجودهَا لفظا أَو معنى فِي فرع وَلَا تدل على حكمهَا أم لَا وَيتبع ذَلِك ذكر النَّقْض وَمَا يحترس بِهِ من النَّقْض وَذكر الِاسْتِحْسَان وَمِنْهَا القَوْل فِي دلالتها على حكم الْفَرْع مَعَ مُعَارضَة على أُخْرَى

وَهُوَ ضَرْبَان احدهما مُعَارضَة عِلّة الأَصْل بعلة أُخْرَى وَقد دخل ذَلِك فِي القَوْل بالعلتين وَالْآخر مُعَارضَة قِيَاس بِقِيَاس وَلما كَانَت الْمُعَارضَة إِنَّمَا تتمّ مَعَ التَّنَافِي وَمَعَ الِاشْتِبَاه وَقد يجب مَتى حصلت الْمُعَارضَة أَن يَقع التَّرْجِيح وَجب ذكر الْعِلَل المتنافية والفصل بَينهمَا وَبَين الْعِلَل الَّتِي لَيست متنافية وَذكر قِيَاس غَلَبَة الْأَشْبَاه والفصل بَينهمَا وَبَين الْعِلَل الَّتِي لَيست متنافية وَذكر قِيَاس غَلَبَة الْأَشْبَاه والفصل بَينه وَبَين قِيَاس الْمَعْنى وَذكر مَا يَقع بِهِ التَّرْجِيح وَهل يجوز اسْتِوَاء الأمارتين فِي وُجُوه التَّرْجِيح وَمَا القَوْل فيهمَا إِذا اسْتَويَا وَهل يجوز إِذا اسْتَويَا عِنْد الْمُجْتَهد أَن يكون لَهُ اقاويل مُخْتَلفَة فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة وَهل يجوز أَن ينْسب إِلَى الْمُجْتَهد أقاويل على طَرِيق التَّرْجِيح وَنحن نذْكر هَذِه الْأَبْوَاب على هَذَا النسق إِن شَاءَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب القَوْل فِي وجود الْعلَّة فِي الأَصْل وَفِي الْفَرْع وَفِي طَرِيق وجودهما فيهمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن القائس قد يُعلل الْفَرْع بأوصاف لَا يسلم خَصمه وجودهَا فِي الْفَرْع فَيكون لَهُ أَن ينازعه فِي ذَلِك وَقد لَا يسلم وجودهَا فِي بعض الْفَرْع فَيمْتَنع القائس من قِيَاس جَمِيع الْفَرْع بِتِلْكَ الْعلَّة وَإِن رام القائس أَن يقيس مَا وجدت فِيهِ الْعلَّة دون مَا لم تُوجد فِيهِ الْعلَّة جَازَ ذَلِك إِذا أمكن أَن يكون بعض ذَلِك الْفَرْع مُعَللا دون بعض وَقد يُعلل القائس الأَصْل بعلة لَا تُوجد فِي الأَصْل عِنْد خَصمه وَلَا تُوجد فِي بعضه فَلهُ أَن يمنعهُ من رد الْفَرْع إِلَى جَمِيع ذَلِك الأَصْل فان رده إِلَى الْموضع الَّذِي وجدت فِيهِ تِلْكَ الْعلَّة جَازَ ذَلِك إِلَّا أَن يمْنَع مَانع من تَعْلِيل بعض الأَصْل دون بعض وَذَلِكَ كمنع أَصْحَاب الشَّافِعِي من قِيَاس الجص على الْبر بعلة أَنه مَكِيل لقَولهم إِن عِلّة تَحْرِيم الْبر هِيَ عِلّة وَاحِدَة شائعة فِي جَمِيع الْبر والكيل غير شَائِع فِي جَمِيع الْبر لِأَن الْحبَّة أَو الحبتين لَا يَتَأَتَّى فيهمَا الْكَيْل

وأصحابنا ينفصلون عَن ذَلِك بِأَن الْمحرم من الْبر علته وَاحِدَة وَهِي الْكَيْل إِلَّا أَن الْمحرم هُوَ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَيْل دون مَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَيْل لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهي عَن بيع الْبر بِالْبرِّ إِلَّا كَيْلا بكيل فَأجَاز بِالْكَيْلِ مَا منع مِنْهُ بِغَيْر كيل وَالَّذِي يجوز بَيْعه إِذا تساوى فِي الْكَيْل هُوَ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَيْل فَيجب أَن يكون مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَيْل هُوَ مَا يحرم بَيْعه إِذا تفاضل فِي الْكَيْل فَهَذَا هُوَ الْكَلَام فِي وجود الْعلَّة فِي الأَصْل وَالْفرع فَأَما طَرِيق وجودهَا فيهمَا فقد يجوز أَن تكون أَمارَة تُفْضِي إِلَى الظَّن وَقد تكون دلَالَة تَقْتَضِي وجودهَا فيهمَا ضَرُورَة وَلَا فرق بَين هَذِه الْأَقْسَام فِي صِحَة الْقيَاس لِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن يعلق الحكم بِمَا يَظُنّهُ عِلّة الحكم جَازَ أَن يعلق الحكم بِمَا ظن وجوده من عِلّة الحكم أَلا ترى أَنا يظنّ مَجِيء الْمَطَر إِذا ظننا بِخَبَر من ظَاهره الصدْق وجود الْغَيْم كَمَا يظنّ ذَلِك وَإِن علمنَا وجود الْغَيْم فاذا جَازَ لنا التَّسْوِيَة بَين الأَصْل وَالْفرع إِذا ظننا اشتراكهما فِي الاوصاف جَازَ ذَلِك مَعَ الْعلم المكتسب لاشْتِرَاكهمَا فِي الْأَوْصَاف وَكَانَ جَوَاز ذَلِك فِي الْعلم الضَّرُورِيّ باشتراكهما فِي الْأَوْصَاف أَحَق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَنه لَا بُد فِي الْقيَاس من عِلّة وَأَنه لَا بُد أَن يكون إِلَيْهِمَا طَرِيق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْقيَاس الشَّرْعِيّ لَا بُد فِيهِ من أصل وَفرع يثبت فِيهِ حكم الأَصْل وَلَيْسَ يَخْلُو القائس إِمَّا أَن يثبت الحكم فِي الْفَرْع تبعا لثُبُوته فِي الأَصْل أَولا يثبت تبعا لَهُ فان لم يُثبتهُ تبعا للْأَصْل كَانَ مبتدئا بالحكم غير قائس وَإِن أثبت الحكم فِي الْفَرْع تبعا لثُبُوته فِي الأَصْل وَلم يعْتَبر شبها بَين الْفَرْع وَالْأَصْل لم يكن بِأَن يتبع الْفَرْع هَذَا الأَصْل بِأولى من أَن لَا يتبعهُ إِيَّاه ويتبعه أصلا وَيجب أَن يكون لذَلِك الشّبَه تعلق بالحكم وتأثير فِيهِ وَإِلَّا لم يكن القائس بِأَن يعْتَبر ذَلِك الشّبَه بِأولى من أَن لَا يعتبره وَيعْتَبر شبها آخر بَين الْفَرْع وَبَين أصل

أخر أَولا يعْتَبر شبها أصلا فان قيل ألستم تقيسون الْفَرْع على أصل لم تدل دلَالَة على وجوب الْقيَاس عَلَيْهِ فَهَلا جَازَ أَن تقيس لأجل شبه لم تدل دلَالَة على كَونه عِلّة الْجَواب أَنا لَا نقيس الْفَرْع على اصل إِلَّا وَقد دلّت الدّلَالَة على وجوب الْقيَاس عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِذا دلّت الدّلَالَة على عِلّة حكم الأَصْل وَعلمنَا وجودهَا فِي الْفَرْع فقيام الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة أَو السمعية على أَنا متعبدون بِالْقِيَاسِ يدل على وجوب قِيَاس ذَلِك الْفَرْع على ذَلِك الأَصْل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن طَرِيق الْعلَّة الشَّرْعِيَّة الشَّرْع فَقَط - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن طَرِيق الْعلَّة الشَّرْعِيَّة هُوَ كَيْفيَّة ثُبُوت حكمهَا وتأثيرها فِيهِ نَحْو أَن يثبت حكمهَا مَعهَا فِي الأَصْل وينتفي بانتفائها وَمَعْلُوم أَن ذَلِك مَوْقُوف على الشَّرْع لِأَن حكمهَا وَكَيْفِيَّة ثُبُوتهَا بِحَسب الْعلَّة حاصلان بِالشَّرْعِ فَقَط فان قيل هلا توصلتم إِلَيْهَا بأمارة من جِهَة الْعَادَات كَمَا تتوصلون إِلَى قيم الْمُتْلفَات وجهة الْقبْلَة بأمارات من جِهَة الْعَادَات قيل إِنَّمَا سَاغَ ذَلِك فِي الْقيم لِأَن الْعَادَات قد جرت بِبيع الْأَشْيَاء الَّتِي من جنس الْمُتْلف وَأمكن أَن يعرف قيمَة الْمُتْلف بِاعْتِبَار ثمن نَظِيره فَأَما الْعِلَل الشَّرْعِيَّة فأحكامها شَرْعِيَّة لم تثبت بالعادات فتعلم علتها بكيفية ثُبُوتهَا فِي الْعَادة وَأما الْقبْلَة فقد عرف كَونهَا فِي بعض الْجِهَات وَعرف كَون الشَّمْس فِي بعض الْجِهَات وَكَذَلِكَ الرِّيَاح فَأمكن أَن نستدل بِبَعْض مَا هُوَ فِي جِهَة على شَيْء آخر هُوَ فِي جِهَة وَلَيْسَ كَذَلِك الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَعَ أَمَارَات الْعَادَات إِن قيل أَلَيْسَ نستدل بعقولنا على أَن الحكم الشَّرْعِيّ إِذا حصل عِنْد صفة وارتفع عِنْد ارتفاعها فَهُوَ مُؤثر فِيهِ قيل إِنَّا لَا ندفع أَن الِاسْتِدْلَال

بالأمارات والأدلة إِنَّمَا يتَمَكَّن مِنْهُ بالعقول وَلَكنَّا انكرنا أَن تكون الأمارة عَلَيْهَا أَمارَة عقلية وَمَا ذكرْتُمْ من الأمارة شَرْعِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن الطَّرِيق إِلَى صِحَة الْعِلَل الشَّرْعِيَّة يجوز أَن يكون نصا وَغير نَص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة قد يجوز كَونهَا مَعْلُومَة فَيكون طريقها نصا من الله أَو من رَسُوله أَو من الامة متواترا وَيجوز أَن يكون مظنونا كَونهَا عِلّة وَأكْثر الْعِلَل الشَّرْعِيَّة مظنونة فَيجب أَن يكون طريقها أمارت مظنونة وَلَا فرق بَين أَن يكون نصا مَنْقُولًا بالآحاد أَو تَنْبِيه نَص هَذِه سَبيله أَو استنباطا لِأَن كل ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى الظَّن الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوب فِي الْعِلَل وَنحن نشرح أَدِلَّة النُّصُوص والاستنباط على صِحَة الْعِلَل فِي بَاب يَلِي هَذَا الْبَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب أَقسَام طرق الْعِلَل الشَّرْعِيَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه لما كَانَت طرق الْعِلَل الشَّرْعِيَّة الشَّرْع وَكَانَت الطّرق الشَّرْعِيَّة إِمَّا لفظا وَإِمَّا استنباطا كَانَت طرق الْعِلَل الشَّرْعِيَّة إِمَّا لفظا وَإِمَّا استنباطا والألفاظ الدَّالَّة على ذَلِك إِمَّا صَرِيحَة وَإِمَّا منبهة أما الصَّرِيحَة فَمِنْهَا أَن يكون لَفظهَا لفظ الْعلَّة وَمِنْهَا مَا يقوم مقَام لفظ الْعلَّة فَالْأول كَقَوْل الْقَائِل لغيره أوجبت عَلَيْك كَذَا لعِلَّة كَذَا وَالثَّانِي قَول الْقَائِل لغيره أوجبت عَلَيْك كَذَا لِأَنَّهُ كَذَا أَو لأجل كَذَا أَو كَيْلا يكون كَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لأجل الرأفة وَقَالَ الله عز وَجل {كي لَا يكون دولة بَين الْأَغْنِيَاء مِنْكُم}

إِن قيل قد يَقُول الْإِنْسَان لغيره صل للتقرب إِلَى الله عز وَجل وَلَا يُفِيد ذَلِك كَون التَّقَرُّب عِلّة فِي وجوب الْفِعْل قيل لِأَنَّهُ لم يُعلل الْوُجُوب بالتقرب وَإِنَّمَا علل فعله للصَّلَاة وَهَذَا يَقْتَضِي كَون التَّقَرُّب عِلّة وغرضا باعثا على الْفِعْل وَأما الْأَلْفَاظ المنبهة على الْعلَّة فضروب مِنْهَا أَن يكون فِي الْكَلَام لفظ غير صَحِيح فِي التَّعْلِيل يعلق الحكم بعلته وَمِنْهَا أَن يصدر الحكم من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد علمه بِصفة الْمَحْكُوم فِيهِ فَيعلم أَنَّهَا عِلّة الحكم وَمِنْهَا أَن تكون الصّفة مَذْكُورَة على حد لَو لم تكن عِلّة لم يكن لذكرها فَائِدَة وَمِنْهَا أَن يَقع النَّهْي عَن فعل بِمَنْع مَا تقدم إِيجَابه علينا فنعلم أَن الْعلَّة فِي كَونه محرما كَونه مَانِعا من الْوَاجِب وَإِن لم يُصَرح بذلك أما الْقسم الأول فكتعليق الحكم على علته بِلَفْظ الْفَاء وَلَا بُد من تَأْخِير لفظ الْفَاء وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا أَن تدخل الْفَاء على السَّبَب وَالْعلَّة وَيكون الحكم مُتَقَدما كَقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمحرم الَّذِي وَقعت بِهِ رَاحِلَته لَا تخمروا رَأسه وَلَا تقربوه طيبا فانه يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبيا وَالْآخر أَن تدخل الْفَاء على الحكم وَتَكون الْعلَّة مُتَقَدّمَة وَذَلِكَ ضَرْبَان أَحدهمَا أَن تكون الْفَاء دخلت على كَلَام الله عز وَجل أَو كَلَام رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْآخر أَن تدخل فِي رِوَايَة الرَّاوِي فَالْأول قَول الله عز وَجل {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} وَقَوله {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم} وَقَوله {فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق سَفِيها أَو ضَعِيفا أَو لَا يَسْتَطِيع أَن يمل هُوَ فليملل وليه بِالْعَدْلِ}

يدل على أَن الْعلَّة فِي قيام وليه وبالإملاء هُوَ أَنه لَا يَسْتَطِيع أَن يمل هُوَ وَالثَّانِي قَول الرَّاوِي سَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسجدَ وزنى مَاعِز فرجمه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ أَن يصدر القَوْل من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد علمه بِصفة الْمَحْكُوم فِيهِ فنحو أَن يسْأَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن حكم شَيْء وَيذكر السَّائِل صفة لذَلِك الشَّيْء مِمَّا يجوز كَونهَا عِلّة مُؤثرَة فِي ذَلِك الحكم فيجيب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد سَماع تِلْكَ الصّفة فَيعلم أَنه لَو لم تكن مُؤثرَة فِي ذَلِك الحكم لم يجب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد سماعهَا نَحْو أَن يَقُول قَائِل يَا رَسُول الله أفطرت فَيَقُول عَلَيْك الْكَفَّارَة فَيعلم أَن الْكَفَّارَة وَجَبت لأجل الْإِفْطَار إِذْ لَو لم يكن الْإِفْطَار مؤثرا فِي ذَلِك لما أوجب الحكم عِنْد سَمَاعه لَهُ كَمَا لَا يجوز أَن يُوجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة لَو سمع أَنه مَشى وتحدث وَأما الثَّالِث وَهُوَ أَن لَا يكون لذَلِك الْوَصْف فَائِدَة لَو لم يكن عِلّة فضروب مِنْهَا أَن يكون الْوَصْف مَذْكُورا بِلَفْظ أَن كَمَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امْتنع من الدُّخُول عِنْد قوم عِنْدهم كلب فَقيل إِنَّك تدخل على آل فلَان وَعِنْدهم هر فَقَالَ إِنَّهَا لَيست بِنَجس إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات فَلَو لم يكن لكَونهَا من الطوافين تَأْثِير فِي طَهَارَتهَا لم يكن لذكره عقيب حكمه بطهارتها فَائِدَة وَمِنْهَا أَن يُوصف الْمَحْكُوم فِيهِ بِصفة قد كَانَ يُمكن الْإِخْلَال بذكرها وَذكر مَا جرى مجْراهَا فنعلم أَنَّهَا مَا ذكرت إِلَّا لِأَنَّهَا مُؤثرَة فِي الحكم كَمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي النَّبِيذ تَمْرَة طيبَة وَمَاء طهُور وَمِنْهَا التَّقْرِير على وصف الشَّيْء وَهُوَ على ضَرْبَيْنِ أَحدهمَا أَن يُقرر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على وصف الشَّيْء الْمَسْئُول عَنهُ كَقَوْلِه أينقص الرطب إِذا جف

فَقَالُوا نعم قَالَ فَلَا إِذن فَلَو لم يكن نقصانه باليبس عِلّة فِي الْمَنْع من البيع لم يكن للتقرير عَلَيْهِ فَائِدَة وَهَذَا يدل على الْعلَّة أَيْضا من حَيْثُ الْجَواب بِالْفَاءِ وَمِنْهَا أَن يُقرر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على حكم مَا يشبه الْمَسْئُول عَنهُ وينبه على وَجه الشّبَه فَيعلم أَن وَجه الشّبَه هُوَ الْعلَّة فِي ذَلِك الحكم كَقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر رَضِي الله عَنهُ وَقد سَأَلَهُ عَن قبْلَة الصَّائِم أَرَأَيْت لَو تمضمضت بِمَاء ثمَّ محجته فَعلم أَنه لم يفْسد الصَّوْم بالمضمضة والقبلة لِأَنَّهُ لم يحصل مَا يتبعهما من الْإِنْزَال والازدراء وَمِنْهَا أَن يفرق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين شَيْئَيْنِ فِي الحكم بِذكر صفة فَيعلم أَنه لَو لم تكن تِلْكَ الصّفة عِلّة لم يكن لذكرها معنى وَهَذَا ضَرْبَان أَحدهمَا أَن لَا يكون حكم أَحدهمَا مَذْكُورا فِي الْخطاب وَالْآخر أَن يكون حكمهمَا مَذْكُورا فِيهِ أما الأول فَقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقَاتِل لَا يَرث وَذَلِكَ أَنه قد تقدم بِبَيَان إِرْث الْوَرَثَة فَلَمَّا قَالَ الْقَاتِل لَا يَرث وَفرق بَينه وَبَين جَمِيع الْوَرَثَة بِذكر الْقَتْل الَّذِي يجوز كَونه مؤثرا فِي نفي الْإِرْث علمنَا أَنه الْعلَّة فِي نفي الْإِرْث وَكَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان لِأَنَّهُ قد تقدم أَمر القَاضِي بِأَن يقْضِي فاذا منع من ان يقْضِي وَهُوَ غَضْبَان علمنَا أَن الْغَضَب عِلّة فِي الْمَنْع سِيمَا وَقد علمنَا أَن الْغَضَب بِمَنْع من الْوُقُوف على الْحجَّة وَيمْنَع من الِاسْتِيفَاء وَأما إِذا كَانَ حكم الشَّيْئَيْنِ مَذْكُورا فِي الْخطاب فضروب مِنْهَا أَن يفرق بَينهمَا بِلَفْظ يجْرِي مجْرى الشَّرْط كَقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاذا اخْتلف الجنسان فبيعوا كَيفَ شِئْتُم يدا بيد بعد نَهْيه عَن بيع الْبر مُتَفَاضلا فَدلَّ على أَن اخْتِلَاف الجنسين عِلّة فِي جَوَاز البيع وَمِنْهَا أَن تقع التَّفْرِقَة بَينهمَا بالغاية كَقَوْلِه عز وَجل {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} فَلَو اقْتصر على ذَلِك لدل على تعلق الْإِبَاحَة بِالطُّهْرِ وَإِلَّا لم

يكن لذكره فَائِدَة مَعَ جَوَاز كَونه عِلّة وَمِنْهَا وُقُوع التَّفْرِقَة بَينهمَا بِالِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْل الله عز وَجل {إِلَّا أَن يعفون} وَمِنْهَا أَن تكون التَّفْرِقَة وَقعت بِلَفْظ يجْرِي مجْرى الِاسْتِدْرَاك كَقَوْل الله تَعَالَى {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} فَدلَّ على أَن التعقيد مُؤثر فِي الْمُؤَاخَذَة وَمِنْهَا أَن يسْتَأْنف أحد الشَّيْئَيْنِ بِذكر صفة من الصِّفَات بعد ذكر الآخر وَتَكون تِلْكَ الصّفة مِمَّا يجوز أَن تُؤثر فِي ذَلِك الحكم كَقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للراجل سهم وللفارس سَهْمَان وَهَذِه الْأَقْسَام وَإِن كَانَت مُؤثرَة فِي الحكم فانه لَا يمْتَنع أَن تكون مُؤثرَة فِيهِ لعلل لِأَنَّهُ يجوز أَن يُعلل كَون الْغَضَب مَانِعا من الحكم بَين الْخَصْمَيْنِ بِأَنَّهُ يشغل الذِّهْن وَيجوز أَن تدل الدّلَالَة على أَن هَذِه الْعِلَل لَهَا شُرُوط وَيجوز أَن تدل على أَنَّهَا غير مَشْرُوطَة فاذا فقدت الدّلَالَة حكم بأَشْيَاء مُخْتَلفَة غير مَشْرُوطَة وَأما الرَّابِع وَهُوَ النَّهْي عَن شَيْء يمْنَع من الْوَاجِب فَهُوَ كَقَوْل الله عز وَجل {فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله وذروا البيع} وَذَلِكَ أَنه لما أوجب علينا السَّعْي ثمَّ نَهَانَا عَن البيع الْمَانِع من السَّعْي علمنَا أَنه إِنَّمَا نَهَانَا عَنهُ لِأَنَّهُ مَانع من الْوَاجِب وَكَقَوْلِه تَعَالَى {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} وَذَلِكَ أَنه نهى عَن ذَلِك لِأَنَّهُ منَاف للإعظام الْوَاجِب لَهما من حَيْثُ كَانَ أَذَى واستخفافا فَدلَّ من طَرِيق الأولى على الْمَنْع من ضربهما لِأَن مَا منع مِنْهُ لعِلَّة فَمَا فِيهِ تِلْكَ الْعلَّة وَزِيَادَة أولى بِالْمَنْعِ وَذكر قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله أَن الْمَنْع من ضربهما مَعْقُول من جِهَة اللَّفْظ لَا من جِهَة الْقيَاس قَالَ وَلَا بُد من اعْتِبَار عَادَة أهل اللُّغَة فِي ذَلِك

وَالدَّلِيل على أَن ذَلِك مَعْقُول من قِيَاس الأولى لَا بِاللَّفْظِ هُوَ أَنه لَو عقل بِاللَّفْظِ لَكَانَ اللَّفْظ مَوْضُوعا للْمَنْع من ضربهما إِمَّا فِي اللُّغَة اَوْ فِي الْعرف وَمن الْبَين أَنه غير مَوْضُوع للْمَنْع من الضَّرْب فِي اللُّغَة وَلَا يجوز أَن يكون مَوْضُوعا لذَلِك فِي الْعرف لِأَن الْعلم بِالْمَنْعِ من ضربهما مَوْقُوف على قِيَاس الأولى بَيَان ذَلِك إِن الْإِنْسَان إِذا سمع قَول الله عز وَجل {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} إِلَى قَوْله {وَقل لَهما قولا كَرِيمًا} علم أَن هَذَا القَوْل خرج مخرج الإعظام لَهما سِيمَا مَعَ مَا تقرر فِي الْعُقُول من وجوب تعظيمهما إِذا كَانَا مُؤمنين وَإِذا علم ذَلِك علم أَنه نهى عَن التأفيف لِأَنَّهُ يُنَافِي التَّعْظِيم فانه يُنَافِيهِ من حَيْثُ كَانَ أَذَى قصد بِهِ الاستخفاف فنعلم أَنه نهى عَن ذَلِك لكَونه أَذَى ونعلم أَن الْحَكِيم لَا ينْهَى عَن الشَّيْء لعِلَّة ويرخص فِيمَا فِيهِ تِلْكَ الْعلَّة وَزِيَادَة بل يكون يحظر ذَلِك أولى وَالضَّرْب هَذِه سَبيله فَكَانَ أولى بِالْمَنْعِ يبين ذَلِك أَنه لَو لم يحصل للْإنْسَان هَذِه الْجُمْلَة لم يعلم الْمَنْع من ضربهما لِأَنَّهُ لَو جوز أَن يكون إِنَّمَا نهى عَن التأفيف لِأَنَّهُ أَذَى قَلِيل لَا للإعظام لجوزنا أَن نؤمر بضربهما فان الْإِنْسَان قد يَقُول لغيره لَا تحبس اللص لَكِن اقْطَعْ يَده وَلَا تقطع يَد فلَان بل اقتله وَلَو علم أَنه نهى عَن التأفيف لِأَنَّهُ أَذَى وَجوز أَن يمْنَع الْحَكِيم من الشَّيْء لعِلَّة ويرخص فِيمَا فِيهِ تِلْكَ الْعلَّة وَزِيَادَة لما علم الْمَنْع من ضربهما فَعلمنَا أَن الْعلم بذلك مَوْقُوف على الْجُمْلَة الَّتِي ذَكرنَاهَا لَا غير دون مَا يدعى من الْعرف وَأَيْضًا فَلَيْسَ يجوز الحكم بِنَقْل الْكَلَام إِلَى الْعرف إِلَّا إِذا لم يُمكن سواهُ وَقد بَينا أَنه قد أمكن سواهُ إِن قيل لَو عقل ذَلِك بِالْقِيَاسِ لجَاز أَن لَا يعلم الْمَنْع من ضربهما كثير من النَّاس بِأَن لَا يقيسوا قيل إِنَّمَا كَانَ يجب ذَلِك لَو كَانَ مَا ذَكرْنَاهُ من مُقَدمَات هَذَا الْقيَاس مستانفا تحْتَاج إِلَى غامض فحص فَأَما وَكثير مِنْهَا يُعلمهُ الْمُكَلف قبل الْخطاب كالقول بِأَن الْحَكِيم لَا يرخص فِي فعل مَا فِيهِ عِلّة الْمَنْع وَزِيَادَة

وكالقول بمنافاة الْأَذَى وَالِاسْتِخْفَاف للتعظيم وَمِنْهَا مَا الْعلم بِهِ مُقَارن للخطاب كالقول بِأَن هَذَا الْخطاب خرج مخرج التَّعْظِيم فاذا كَانَ كَذَلِك كَانَت هَذِه الْمُقدمَات متكالمة للعاقل عِنْد سَماع الْخطاب وَبهَا يكمل قِيَاس الأولى فان قيل لَو علم ذَلِك بِالْقِيَاسِ لصَحَّ أَن لَا يعلم الْعَاقِل الْمَنْع من ضربهما لَو مَنعه الله عز وَجل من الْقيَاس الشَّرْعِيّ قيل لَا يحسن الْمَنْع من هَذَا الْقيَاس مَعَ الْإِيضَاح لعلته لِأَنَّهُ لَا يحسن أَن يَقُول الْحَكِيم لَا تمنعوا مِمَّا وجد فِيهِ عِلّة الْمَنْع وَزِيَادَة أَلا ترى لَو قَالَ إِنَّمَا منعت من ضرب الْأَبَوَيْنِ لكَونه أَذَى وَلَا تقيسوا على ذَلِك مَا هُوَ اشد مِنْهُ كَانَ مناقضة للتَّعْلِيل وَلَا يكون مناقضة فِي اللَّفْظ وَلَو حسن الْمَنْع من هَذَا الْقيَاس لَكَانَ إِذا منع الله من الْقيَاس لَا يعلم الْمَنْع من ضربهما وَإِن منع من التأفيف فَأَما قَول الْقَائِل لَيْسَ لفُلَان عِنْدِي حَبَّة فانه يمْنَع من أَن يكون لَهُ عَلَيْهِ أَكثر من ذَلِك لِأَنَّهُ لَو كَانَ لَهُ عَلَيْهِ أَكثر من ذَلِك لَكَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَبَّة وَزِيَادَة فَأَما مَا نقص عَن الْحبَّة فَلَيْسَ ينبىء القَوْل عَنهُ لكنه لَا يثبت فِي الذِّمَّة على وَجه يُطَالب بِهِ الْإِنْسَان فان جرت الْعَادة بالمطالبة بِهِ لم يفد قَوْله لَيْسَ لَهُ عِنْدِي حَبَّة نفى مَا نقص عَنْهَا وَقَول الْقَائِل فلَان لَا يملك حَبَّة ينفى كَونه مَالِكًا لأكْثر مِنْهَا هُوَ حَبَّة وَزِيَادَة وَمَا نقص عَنْهَا لَا يتَعَرَّض لَهُ خطابه وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يُوصف الْإِنْسَان بِأَنَّهُ مَالِكه وَقَول الْقَائِل فلَان لَا يملك نقيرا وَلَا قطميرا فانه يدل من جِهَة الْعرف على أَنه لَا يملك شَيْئا لَا من جِهَة اللُّغَة وَلَا جِهَة التَّعْلِيل أما اللُّغَة فلَان قَوْلنَا قطمير مَوْضُوع لما يغشى النواة وَقَوْلنَا نقير مَوْضُوع للنقرة الَّتِي على ظهرهَا وَلَيْسَ هُوَ مَوْضُوعا لقَلِيل المَال وَكَثِيره وَأما أَنه غير مَفْهُوم بِالتَّعْلِيلِ فَلِأَن الْإِنْسَان لَا يقْصد أَن يَنْفِي كَون غير مَالِكًا لنقير النواة وللفتيل وَإِذا لم يقْصد نفي ذَلِك وَلَا يحظر ذَلِك على مَاله لم يُمكن أَن يُقَال إِذا لم يكن الْإِنْسَان مَالِكًا لَهما فبأن لَا يملك مَا فَوْقهمَا أولى وَلَا يقْصد الْإِنْسَان أَن يصف

غَيره بالخيانة بالنقير والقطمير حَتَّى يُقَال إِذا خَان فيهمَا فَمَا فَوْقهمَا أولى بذلك فاذا بَطل أَن يكون ذَلِك مفهوما باللغة وَالتَّعْلِيل علمنَا أَنه فِي الْعرف مَوْضُوع لنفي ملك الْقَلِيل وَالْكثير لَا أَنه يُفِيد نفي ملكه لأَقل الْقَلِيل ثمَّ يُقَال مَا زَاد على أقل لغيره قد حصل فِيهِ الْقَلِيل وَزِيَادَة فَأَما قَول الْقَائِل لغيره لَا تقل لأَبِيك أُفٍّ فانه يقْصد بِهِ الْمَنْع من التأفيف على الْحَقِيقَة فَيمكن أَن يُقَال إِذا مَنعه من ذَلِك لِأَنَّهُ أَذَى فبأن يمنعهُ مِمَّا هُوَ أعظم مِنْهُ أولى وَأما قَول الْقَائِل فلَان مؤتمن على قِنْطَار فانه لَا يدل على انه أَمِين فِيمَا زَاد على ذَلِك لِأَن الْإِنْسَان قد يصرفهُ نَفسه عَن الْخِيَانَة فِي قدر من المَال وَلَا يصرفهُ عَن الْخِيَانَة فِيمَا هُوَ اكثر مِنْهُ وَأما مَا نقص عَن قِنْطَار فانه قد دخل فِي القنطار فالخطاب يتَنَاوَلهُ فان علمنَا أَن قَوْله فلَان مؤتمن على قِنْطَار يَقْتَضِي أَمَانَته على كل حَال كَانَ ذَلِك مَعْرُوفا بِالْعرْفِ لِأَنَّهُ لَا تَقْتَضِيه اللُّغَة وَلَا التَّعْلِيل فَأَما طَرِيق الْعلَّة المستنبطة فأشياء مِنْهَا أَن يكون الْوَصْف مؤثرا فِي قبيل ذَلِك الحكم ونوعه فِي الاصول فَيكون أولى بِأَن يكون عِلّة من وصف لَا تُؤثر فِي نوع ذَلِك الحكم وَلَا تُؤثر فِيهِ بِعَيْنِه لِأَن الْعلَّة تُؤثر فِي الحكم فَمَا لَا يُؤثر فِي الحكم لَا يكون عِلّة وَذَلِكَ كالبلوغ مُؤثر فِي رفع الْحجر عَن المَال فَكَانَ أولى بَان يكون عِلّة فِي رفع الْحجر فِي النِّكَاح من الثيوبة لِأَن الثيوبة لَا تُؤثر فِي جنس هَذَا الحكم الَّذِي هُوَ رفع الْحجر وَمِنْهَا أَن يُوجد الحكم فِي الأَصْل عِنْد حُصُوله صفة وينتفي عِنْد انتفائها وَذَلِكَ يَقْتَضِي ان لذَلِك الْوَصْف من التَّأْثِير فِي ذَلِك الحكم مَا لَيْسَ لغيره وَهَذِه طَريقَة تعتمد فِي المؤثرات الْعَقْلِيَّة وَقد حكى قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله عَن الشَّيْخ

أبي عبد الله رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ لَا يعتمدها وَيَقُول يجب أَن يقوى بغَيْرهَا وَالْأولَى كَونهَا مُعْتَمدَة بِنَفسِهَا فان قيل إِن كَانَ للْأَصْل وصف آخر يُوجد الحكم بِوُجُودِهِ وينتفي بانتفائه مَا قَوْلكُم فِيهِ قيل إِنَّه إِذا كَانَ الحكم يُوجد مَعَ وجود كل وَاحِد من الوصفين لم يكن الحكم يَنْتَفِي عِنْد انْتِفَاء كل وَاحِد مِنْهَا على كل حَال إِلَّا أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُؤثر فِيهِ لِأَنَّهُ قد كفى كل وَاحِد من الوصفين فِي وجود الحكم وَأثر عَدمه فِي عَدمه على بعض الْوُجُوه وَهُوَ إِذا لم يخلفه الْوَصْف الآخر وَمِنْهَا أَن يجمع الْأمة أَو القائسون مِنْهَا على تَعْلِيل أصل ويختلفوا فِي علته فَيبْطل إِلَّا عِلّة وَاحِدَة فَيعلم صِحَّتهَا لِأَنَّهَا لَو فَسدتْ لخرج الْحق عَن أَيدي الْأمة فَأَما إِذا لم يجمعوا على تَعْلِيل الأَصْل بل علله فَمنهمْ من علله بعلة وَمِنْهُم من علله بِأُخْرَى وفسدت إِحْدَاهمَا فانه لَا يجب صِحَة الْأُخْرَى لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إفسادها ذهَاب جَمِيع الْأمة عَن الْحق وَلَا فِي سلامتها من وُجُوه الْفساد مَا يُوجب صِحَّتهَا على أَن من أقوى وُجُوه الْفساد أَن لَا يدل دَلِيل على صِحَّتهَا وَقد ذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الدَّرْس أَن قيام الدّلَالَة على التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ يُوجب الْقيَاس على كل حَال إِلَّا أَن يمْنَع من ذَلِك مَانع وَلقَائِل أَن يَقُول إِن أقوى الْمَوَانِع أَن لَا يظفر بعلة قد دلّ الدَّلِيل على صِحَّتهَا وَمِمَّا ذكر من الطّرق أَن يكون الحكم مجاورا لأحد الوصفين دون الآخر فَيكون مَا جاوره الحكم عِلّة دون مَا لم يجاوره ولمعترض أَن يَقُول إِن كَانَ الحكم المجاور للوصف حَاصِلا عِنْده وَإِن عدم الْوَصْف الآخر ومرتفعا عِنْد ارتفاعه وَإِن وجد الْوَصْف الآخر فَهَذَا رُجُوع إِلَى أَن الحكم قد وجد بِوُجُود الْوَصْف وانتفى بانتفائه وَلم يُوجد بِوُجُود وصف آخر وَلَا انْتَفَى بانتفائه وَإِن أُرِيد أَن الحكم قد يَتَجَدَّد عِنْد تجدّد أحد الوصفين وَلَا بُد من تقدم وجود الْوَصْف الآخر فانه لَا يدل ذَلِك على أَن أحد الوصفين هُوَ الْعلَّة وَحده لِأَنَّهُ لَيْسَ يَكْفِي حُصُوله وَحده كالرجم المتجدد اسْتِحْقَاقه عِنْد تجدّد الزِّنَا لَيْسَ يَكْفِي فِيهِ الزِّنَا إِلَّا بعد تقدم الْإِحْصَان فَوَجَبَ اعتبارهما وَإِن كَانَ الْإِحْصَان شرطا

لَا عِلّة لِأَنَّهُ لَا يجوز ان يسْتَحق بِهِ الْعقُوبَة وَمِنْهَا قَوْلهم إِن جَرَيَان الْعلَّة فِي معلولها دَلِيل على أَنَّهَا عِلّة وَمعنى جريانها فِي معلولها هُوَ أَن الحكم يتبعهَا فِي كل مَوضِع وجدت فِيهِ وَالْجَوَاب إِن أَرَادَ الْمُسْتَدلّ أَن الحكم يتبعهَا فِي كل مَوضِع بِاتِّفَاق مِنْهُ وَمن خَصمه لم يسلم لَهُ الْخصم ذَلِك لِأَن الْعِرَاقِيّ لَا يسلم للحجازي أَن تَحْرِيم التَّفَاضُل يحصل فِي كل مَأْكُول وَإِن اراد أَنه هُوَ الَّذِي يتبعهَا حكمهَا فِي كل مَوضِع وجدت فِيهِ قيل لَهُ أفيسوغ لَك أَن يتبعهَا الحكم فِي مَوضِع وجدت فِيهِ فان قَالَ لَا قيل لَهُ فَلم سَاغَ لَك ذَلِك فان قَالَ لِأَنَّهَا عِلّة الحكم فِي الأَصْل قيل فَأَنت مستدل على أَنَّهَا عِلّة حكم الأَصْل بِصِحَّة الجريان ونستدل على صِحَة الجريان بِأَنَّهَا عِلّة الحكم فِي الأَصْل وَذَلِكَ فَاسد فان قَالَ إِنَّمَا سَاغَ لي ذَلِك لِأَنَّهَا لَا تنْتَقض قيل معنى كَونهَا غير منتقضة أَنَّك علقت الحكم بهَا فِي كل مَوضِع وجدت فِيهِ فكأنك قلت إِنَّمَا سَاغَ لي تَعْلِيق الحكم بهَا أَيْنَمَا وجدت لِأَنِّي علقت الحكم بهَا أَيْنَمَا وجدت فان قَالَ إِنَّمَا سَاغَ لي تَعْلِيق الحكم بهَا أَيْنَمَا وجدت لِأَنَّهُ لم يَمْنعنِي من ذَلِك نَص وَلَا عِلّة أولى مِنْهَا قيل لَهُ وَلم إِذا لم يمْنَع من ذَلِك نَص أَو عِلّة وَجب تَعْلِيق الحكم بهَا وَمَا أنْكرت أَنه إِذا لم يمْنَع النَّص من ذَلِك منع غَيره من وُجُوه الْفساد لِأَن وُجُوه الْفساد كَثِيرَة فان قَالَ لَيْسَ يمْنَع من ذَلِك وَجه من وُجُوه الْفساد قيل لَهُ أتعد فِي وُجُوه الْفساد فقد الدّلَالَة على صِحَّتهَا فان قَالَ نعم قيل فَدلَّ على صِحَّتهَا واترك جريانها وَعدم انتقاضها وَإِن قَالَ لَا أعد ذَلِك من وُجُوه الْفساد بل يجوز لي أَن أعلق الحكم بهَا إِذا سلمت من نَص يَدْفَعهَا وَغَيره ذَلِك قيل لَهُ لم زعمت أَنَّهَا إِذا سلمت من ذَلِك صحت فان قَالَ لِأَنَّهَا تفْسد بمعارضة النَّص وَغَيره من وُجُوه الْفساد فَيجب صِحَّتهَا بسلامتها من ذَلِك قيل إِن قَوْلنَا إِن مَا حصل فِيهِ وَجه من وُجُوه الْفساد فَهُوَ فَاسد إِنَّمَا يلْزمه القَوْل بِأَن مَا لَيْسَ بفاسد فَلَيْسَ فِيهِ وَجه من وُجُوه الْفساد وَلَا يلْزم مِنْهُ أَن مَا لم يحصل فِيهِ وَجه فَسَاد فَلَيْسَ بفاسد

كَمَا أَن قَوْلنَا الْإِنْسَان حَيَوَان يلْزمه أَن مَا لَيْسَ بحيوان فَلَيْسَ بانسان وَلَا يلْزمه مِنْهُ أَن مَا لَيْسَ بانسان فَلَيْسَ بحيوان وَيبين ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو قَالَ زيد لَيْسَ فِي الدَّار لبطل القَوْل بِأَن زيدا فِي الدَّار وَلَا يجب إِذا لم يخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك أَن يَصح القَوْل بِأَنَّهُ فِي الدَّار فان قَالَ ألستم تنفون وجوب صَلَاة سادسة لعدم الدّلَالَة فَيجوز مثله فِي الْعلَّة قيل إِنَّمَا نفي ذَلِك شُيُوخنَا لعلمهم باضطرار أَن ذَلِك لَيْسَ من الدّين وَلَو لم يعلم ذَلِك باضطرار لنفيناه لدلَالَة وَهِي أَنه لَو وَجَبت لدلنا الله سُبْحَانَهُ على ذَلِك فان قَالُوا قُولُوا لَو لم يكن الْعلَّة صَحِيحَة لأعلمنا الله تَعَالَى ذَلِك قيل يَكْفِي فِي النَّفْي فقد دلَالَة الْإِثْبَات وَلَا يَكْفِي فِي الْإِثْبَات فقد دلَالَة النَّفْي أَلا ترى أَنا ننفي صَلَاة سادسة لفقد الدَّلِيل على وُجُوبهَا وَلَا نوجبها لفقد الدَّلِيل على نَفيهَا وَذَلِكَ أَن الأَصْل نفي وُجُوبهَا فَلَا ننتقل عَنهُ إِلَّا بِدَلِيل وَالْأَصْل أَنا غير معتقدين لصِحَّة الْعلَّة فَلَا ننتقل عَن ذَلِكُم إِلَّا بِدَلِيل فان قَالُوا عجز الْخصم عَن إفسادها يدل على صِحَّتهَا قيل الْخصم قد يعجز عَن إِفْسَاد الْفَاسِد وَأكْثر مَا فِي عَجزه أَن يكون قد سلمت الْعلَّة من وُجُوه الْفساد وَقد تقدم الْكَلَام فِي ذَلِك وَهَذَا هُوَ الْكَلَام فِي طَرِيق الْعلَّة وَنحن نتكلم الْآن فِي الْعلَّة من حَيْثُ هِيَ عِلّة حكم الأَصْل وَمَا يتَّصل بذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْكَلَام فِي حكم الأَصْل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْوَصْف لَا يَصح كَونه عِلّة حكم الأَصْل إِلَّا وَالْحكم مَوْجُود فِي الأَصْل فَيَنْبَغِي أَن ينظر الْإِنْسَان هَل الحكم مَوْجُود فِي الأَصْل ام لَا فانه قد يقيس الْإِنْسَان على أصل لَا يسلم خَصمه وجود الحكم فِيهِ وَقد يكون الحكم مَوْجُودا فِي بعض الأَصْل دون بعض وَيكون القائس قد رام رد الْفَرْع إِلَى جَمِيع الأَصْل فَلَا يُمكنهُ ذَلِك فان رام رده إِلَى الْموضع الَّذِي وجد فِيهِ وَلم يمْنَع من ذَلِك مَانع من إِجْمَاع أَو غَيره جَازَ ذَلِك

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تَعْلِيل حكم الأَصْل بِالِاسْمِ وبأحكام شَرْعِيَّة وبجميع أَوْصَاف الأَصْل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما تَعْلِيله بِالِاسْمِ نَحْو تَحْرِيم الْخمر بَان الْعَرَب سمته خمرًا فَلَا يَصح لِأَنَّهُ لَا تَأْثِير لذَلِك فِي التَّحْرِيم وَيجوز تَعْلِيل التَّحْرِيم بِكَوْنِهِ خمرًا وَيُرَاد بذلك فَائِدَة قَوْلنَا خمر لِأَن الْمرجع بذلك إِلَى صِفَات علتها الْخمر وَيجوز تَعْلِيل الحكم بِحكم شَرْعِي لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون لبَعض الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة تَأْثِير فِي حكم آخر نَحْو قَوْلنَا طَهَارَة مزيلة للْحَدَث وَأَشْبَاه ذَلِك كَثِيرَة وَلَا يمْتَنع أَن يكون الْمُؤثر فِي الحكم مَجْمُوع صِفَات كَثِيرَة كَمَا لَا يمْتَنع أَن يكون الْمُؤثر فِيهِ صِفَات قَليلَة فاما تَعْلِيل الحكم بِجَمِيعِ صِفَات الأَصْل حَتَّى يدْخل فِيهِ كَونه فِي مَكَان كَذَا وَأَن كَونه كَذَا فَلَا يَصح لِأَنَّهُ لَا تَأْثِير لكثير من هَذِه الْأَوْصَاف فِي الحكم وَمن يمْنَع من الْعلَّة القاصرة يَقُول إِن تَعْلِيل الشَّيْء بِجَمِيعِ أَوْصَافه تَعْلِيل بِمَا لَا يتَعَدَّى لِأَن جَمِيع صِفَات الشَّيْء لَا تُوجد فِي غَيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب القَوْل فِي عدم التَّأْثِير - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه إِذا كَانَ فِي أَوْصَاف الْعلَّة وصف لَا تَأْثِير لَهُ لَو عدم عَن الأَصْل لم يعْدم الحكم عَنهُ فانه يعلم بذلك أَنه لَا يجوز أَن تكون الْعلَّة مَجْمُوع تِلْكَ الْأَوْصَاف بل يَنْبَغِي أَن يرفض مِنْهَا ذَلِك الْوَصْف لِأَنَّهُ لَو أثبت فِي الْعلَّة مَا لَا يضر عَدمه وَجب إشبات مَا لَا نِهَايَة لَهُ من الْأَوْصَاف فان انتقضت الْعلَّة بفرع من الْفُرُوع مَتى أزلنا ذَلِك الْوَصْف عَن الْعلَّة فَسدتْ الْعلَّة وَلَا يجوز ضم الْوَصْف إِلَيْهَا لتسلم الْعلَّة من النَّقْض لِأَن الْعلَّة يجب أَن تعلم أَولا أَن حكم الأَصْل مُتَعَلق بهَا وانها مُؤثرَة فِيهِ ثمَّ تجْرِي فِي الْفُرُوع فاذا كَانَ وصف مِنْهَا غير مُؤثر فِي حكمه لم يجز كَونه فِي جملَة علته فَيجب إِسْقَاطه وَإِذا سقط

وانتقض مَا عداهُ لم يجز كَون مَجْمُوع الْأَوْصَاف عِلّة وَلَا مَا عدا ذَلِك الْوَصْف وَيُفَارق عدم التَّأْثِير عكس الْعلَّة لِأَن عكسها هُوَ أَن يُوجد حكمهَا مَعَ عدمهَا فِي بعض الْمَوَاضِع وَلَيْسَ ذَلِك يمْتَنع لِأَن الْعلَّة إِذا كَانَت أَمارَة فقد يجوز أَن تدل على الحكم الْوَاحِد أمارتان أَيهمَا وجدت دلّت عَلَيْهِ وَإِن كَانَت وَجه الْمصلحَة فقد شبت الْمصلحَة لوجه وَقد ثَبت لوجه آخر كَمَا يقبح الشَّيْء لوجه ويقبح لوجه آخر فَأَما عدم التَّأْثِير فَهُوَ أَن لَا يُؤثر وصف من الْأَوْصَاف فِي الحكم وَيكون التَّأْثِير لغيره فَلَا يجوز ضم مَا لَا تَأْثِير إِلَى مَا لَهُ تَأْثِير - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تَعْلِيل الأَصْل الْوَارِد بِخِلَاف قِيَاس الاصول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم انه إِذا تقررت فِي الاصول أَحْكَام مَعْلُومَة وَيثبت بِخَبَر من الْأَخْبَار فِي شَيْء من الْأَشْيَاء حكم مُخَالف لما يَقْتَضِيهِ قِيَاس ذَلِك الشَّيْء على تِلْكَ الاصول فمعلوم أَن الْقيَاس على ذَلِك الشَّيْء يُوجب خلاف مَا يُوجِبهُ الْقيَاس على تِلْكَ الاصول وَقد اجاز أَصْحَاب الشَّافِعِي وَطَائِفَة من أَصْحَاب أبي حنيفَة الْقيَاس على ذَلِك الشَّيْء الْمَخْصُوص من جملَة الْقيَاس وَلم يجوز الشَّيْخ أَبُو الْحسن الْقيَاس عَلَيْهِ إِلَّا لإحدى خلال ثَلَاث أَحدهَا أَن يكون مَا ورد خلاف قِيَاس الاصول قد نَص على علته نَحْو مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه علل طَهَارَة الهر بِأَنَّهَا من الطوافين علينا والطوافات قَالَ لِأَن النَّص على الْعلَّة كالتصريح بِوُجُوب الْقيَاس على ذَلِك الشَّيْء وأحدها أَن تكون الامة مجمعة على تَعْلِيل مَا ورد بِهِ الْخَبَر وَإِن اخْتلفُوا فِي علته وأحدها أَن يكون الحكم الَّذِي ورد بِهِ الْخَبَر مُوَافقا للْقِيَاس على بعض الاصول وَإِن كَانَ مُخَالفا للْقِيَاس على أصُول أخر كالخبر بالتحالف فِي الْمُتَبَايعين إِذا اخْتلفَا فانه بِخِلَاف قِيَاس الاصول وَيُقَاس عَلَيْهِ الْإِجَارَات لِأَن قياسها مُوَافق لقياس آخر من قِيَاس الاصول وَهُوَ أَنه تملك على الْغَيْر فَالْقَوْل قَوْله فِيهِ وَذَلِكَ أَنه إِذا كَانَ فِي الشَّرْع أصل يُبِيح هَذَا الْقيَاس وأصل يحظره وَكَانَ الأَصْل جَوَاز الْقيَاس وَجب الْقيَاس

وَقد أجَاز الشَّيْخ أَبُو الْحسن رَضِي الله عَنهُ الْقيَاس على خبر الْوَاحِد الْمُخَصّص للْعُمُوم وَقَالَ مُحَمَّد بن شُجَاع الثَّلْجِي رَحمَه الله إِذا كَانَ الْخَبَر الْوَارِد بِخِلَاف قِيَاس الاصول غير مَقْطُوع بِهِ لم يجز الْقيَاس عَلَيْهِ فَاقْتضى قَوْله هَذَا أَنه يجوز أَن يكون مذْهبه أَنه إِذا كَانَ الْخَبَر مَقْطُوعًا بِهِ جَازَ الْقيَاس عَلَيْهِ وَاعْلَم أَن مَا ورد بِخِلَاف قِيَاس الاصول إِمَّا أَن يكون دَلِيلا مَقْطُوعًا بِهِ أَو غير مَقْطُوع بِهِ فان كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ فَهُوَ أصل فِي نَفسه لِأَن هَذَا معنى قَوْلنَا أصل فِي هَذَا الْموضع فَالْقِيَاس عَلَيْهِ كالقياس على تِلْكَ الاصول وَيجب أَن يقْصد الْمُجْتَهد مقصد التَّرْجِيح بَين القياسين وَيبين ذَلِك أَنه إِذا كَانَ عُمُوم الْكتاب لَا يمْنَع من قِيَاس يخصصه فبأن يكون الْقيَاس على الْعُمُوم لَا يمْنَع من الْقيَاس على أصل آخر يُخَالف الْعُمُوم اولى لِأَن الْعُمُوم أقوى من الْقيَاس عَلَيْهِ وَإِن كَانَ الْخَبَر الْوَارِد بِخِلَاف قِيَاس الاصول غير مَقْطُوع بِهِ فانه لَا تَخْلُو عِلّة حكمه إِمَّا تكون منصوصة أَو غير منصوصة فان لم تكن منصوصة وَلَو كَانَت اقوى من الْعلَّة الَّتِي يُقَاس بهَا الْفُرُوع على تِلْكَ الاصول فَلَا شُبْهَة فِي أَن الْقيَاس على الاصول أولى لِأَن الْقيَاس على مَا طَرِيقه مَعْلُوم أولى من الْقيَاس على مَا طَرِيقه غير مَعْلُوم وَإِن كَانَت الْعلَّة منصوصة فقد ذكر قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله فِي الدَّرْس أَنه يَسْتَوِي القياسان من هَذَا الْوَجْه لِأَن الْقيَاس على الاصول يخْتَص بِأَن طَرِيق حكم أَصله مَعْلُوم وَإِن كَانَت طرق علته غير مَعْلُومَة وَالْقِيَاس على مَا ورد بِخِلَاف قِيَاس الاصول علته منصوصة وَلقَائِل أَن يَقُول إِن هَذِه الْعلَّة وَإِن كَانَت منصوصة فَهِيَ غير مَعْلُومَة إِذْ هِيَ منقولة بالآحاد فَلم يساو الْقيَاس بهَا على تِلْكَ الاصول فِي الْقُوَّة وَالْأولَى أَن يُقَال إِن الْقيَاس على الاصول الْمَعْلُومَة لَهُ حَظّ من الْقُوَّة من حَيْثُ كَانَ حكم أَصله مَعْلُوما وَلَا يمْتَنع أَن تعَارض هَذِه الْقُوَّة قُوَّة أُخْرَى وَهِي طَرِيق الْعلَّة بِأَن يكون طَرِيق عِلّة الْقيَاس الآخر أقوى من طَرِيق عِلّة الْقيَاس على الاصول أما بِأَن تكون الْعلَّة منصوصة أَو مدلولا عَلَيْهَا بتنبيه فالموضع مَوضِع اجْتِهَاد فَلَا يَنْبَغِي إِطْلَاق الْمَنْع من ذَلِك

يبين ذَلِك أَن خبر الْوَاحِد إِذا خص عُمُوم الْكتاب جَازَ أَن يكون الْقيَاس على الْخَبَر الْخَاص أولى من الْقيَاس على الْعُمُوم وَإِن كَانَ الْعُمُوم مَعْلُوما وَخبر الْوَاحِد غير مَعْلُوم إِن قيل إِن مَا ورد بِخِلَاف قِيَاس الاصول وَإِن كَانَ مَعْلُوما فانه لَا يجوز الْقيَاس عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن تدل أَمارَة على عِلّة حكمه قيل هَذَا دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا فان قَالُوا الدَّلِيل على ذَلِك أَن الْقيَاس على الْأُصُول يمانع الْقيَاس على مَا ورد بِخِلَاف الاصول قيل هلا كَانَ الْقيَاس على مَا ورد بِخِلَاف قِيَاس الاصول يمانع الْقيَاس على الاصول وَيمْنَع أَن تدل على علته أَمارَة وَإِذا جَازَ أَن يدل على عِلّة هَذَا الْقيَاس النَّص جَازَ أَن يدل عَلَيْهِ دلَالَة غير النَّص فان قيل مَا ورد بِخِلَاف قِيَاس الاصول وَإِن كَانَ مَعْلُوما فانه لَا يجوز أَن يُسَاوِي أَمارَة عِلّة الْقيَاس على الاصول فِي الْقُوَّة فَلَا يجوز الْقيَاس عَلَيْهِ قيل هَذَا دَعْوَى وَمَا أنكرتم أَن يكون الْخَبَر الْوَارِد بخلاق قِيَاس الاصول قد غير الحكم عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ من قبل لِأَنَّهُ لما كَانَ مَعْلُوما صَار أصلا فِي نَفسه فَلَا يمْتَنع أَن يَقع التَّنْبِيه على علته وَيكون التَّنْبِيه عَلَيْهِ أقوى وَأظْهر من التَّنْبِيه على عِلّة الاصول ثمَّ يُقَال لَهُم أَلَيْسَ قد جَازَ أَن يدل عَلَيْهَا النَّص وَهُوَ أقوى وَأظْهر من عِلّة الاصول فَلَا يجوز أَن يدل عَلَيْهَا تَنْبِيه النَّص وَيكون أقوى من دلَالَة عِلّة الاصول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تَعْلِيل أصُول الْعِبَادَات والتقديرات وَغير ذَلِك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن أَبَا عَليّ رَضِي الله عَنهُ لَا يجوز تَعْلِيل الاصول وَلَا يجوز إِثْبَات صَلَاة سادسة بِالْقِيَاسِ وَلَا بتعليل الْحُدُود وَهُوَ قَول أبي الْحسن وَلِهَذَا منع من قطع المختلس بِالْقِيَاسِ وَمنع من إِثْبَات صَلَاة بإيماء الْحَاجِب بِالْقِيَاسِ وَمنع من تَعْلِيل الْكَفَّارَات وَإِثْبَات كَفَّارَة بِقِيَاس وَسوى بَين الْكَفَّارَات الْجَارِيَة مجْرى الْعُقُوبَات وَبَين مَا لَا تجْرِي مجْرى الْعُقُوبَات وأعمل الِاسْتِدْلَال فِي موضعهَا وَفِي مَوضِع الْحَد وَحكي عَن أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ شَبِيها بذلك

لِأَنَّهُ لم يثبت الصَّوْم بَدَلا من هدى الْمحصر لِأَن ذَلِك إِثْبَات عبَادَة مُبتَدأَة وَمنع الشَّيْخ أَبُو الْحسن رَضِي الله عَنهُ من إِثْبَات النصب ابْتِدَاء بِالْقِيَاسِ أَو بِخَبَر الْوَاحِد وَكَذَلِكَ لم يثبت الزَّكَاة فِي الفصلان وَاسْتعْمل الْقيَاس فِي نصب مَا ثَبت فِيهِ الزَّكَاة كَمَا يعْمل الْقيَاس فِي صِفَات الصَّلَاة وَإِن لم يَسْتَعْمِلهُ فِي نفس الصَّلَاة وَقبل خبر الْوَاحِد فِي إِثْبَات نِصَاب زَائِد على الْمِائَتَيْنِ على مَذْهَب أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ وَمنع من الْقيَاس فِي الْمَقَادِير وَلم يُعلل مَا رخص فِيهِ للتساهل وَلم يقس عَلَيْهِ كاجرة الْحمام والاستصناع وَقبل أَبُو يُوسُف خبر الْوَاحِد فِي إِثْبَات الْحُدُود كَمَا يقبل الشَّهَادَة فِيهِ وَإِن كَانَ مِمَّا يدْرَأ بِالشُّبْهَةِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنه يثبت الْحَد بِالْقِيَاسِ أَيْضا لِأَن الْقيَاس كَخَبَر الْوَاحِد فِي إِفَادَة الظَّن فان لم يمْتَنع إثْبَاته بِأَحَدِهِمَا وَإِن كَانَ يدْرَأ بِالشُّبْهَةِ فَكَذَلِك الآخر أما الشَّافِعِي رَحمَه الله وَأَصْحَابه فانهم يعللون كل ذَلِك ويستعملون الْقيَاس فِيهِ مَا لم يمْنَع مِنْهُ مَانع إِلَّا أَنهم يَقُولُونَ إِن الْأُصُول وَالْحُدُود لَا مجَال للْقِيَاس فيهمَا وَلَو دلّ الدَّلِيل على الْعلَّة فيهمَا لقيس عَلَيْهِمَا وَقد حد بَعضهم واطىء الْبَهِيمَة قِيَاسا على الزَّانِي وَإِن كَانَ بَعضهم يَقُول إِن ذَلِك زنا وَالْخلاف بَين النَّاس هَل فِي الشَّرِيعَة جملَة من الْمسَائِل يعلم أَنه لَا يجوز أَن تدل دلَالَة على عِلّة أَحْكَامهَا فَيمْتَنع اسْتِعْمَال الْقيَاس فِيهَا فِي الْجُمْلَة أَو لَيْسَ ذَلِك بل يَنْبَغِي أَن يستقرىء مَسْأَلَة مَسْأَلَة فأصحاب أبي حنيفَة يَقُولُونَ إِنَّا قد علمنَا ذَلِك فِي جملَة من الْمسَائِل وَهِي الَّتِي ذكروها وَغَيرهم لَا يحكم بذلك فِي أَكثر هَذِه الْمسَائِل على سَبِيل الْجُمْلَة بل يستقرءون مَسْأَلَة مَسْأَلَة وَالْأَظْهَر فِي كثير مِمَّا ذَكرُوهُ أَنه لَا يظْهر علته كالتقديرات واصول الْعِبَادَات وَالْأولَى مَعَ ذَلِك استقراء مَسْأَلَة مَسْأَلَة فَمَا لَا يدل على علته دلَالَة لم يسْتَعْمل فِيهِ الْقيَاس لجَوَاز أَن يكون فِيهَا مَا دلّ دلَالَة على عِلّة حكمه غير أَن مَا أَخذ علينا التطرق إِلَيْهِ بالأدلة الْمَعْلُومَة فانه لَا يجوز اسْتِعْمَال الْقيَاس فِيهِ كَصَلَاة سادسة ولإجماع الامة على أَنه لَا مجَال للْقِيَاس فِيهِ وَلِأَنَّهُ لَا تظهر فِيهِ دلَالَة تدل على علته وَمَا رخص فِيهِ للتساهل فَلَا عِلّة فِيهِ إِلَّا شذة الْبلوى بِهِ وكل مَا هَذِه حَاله قد رخصوه وَمَا لم يرخصوه من ذَلِك فالإجماع على حظره يمْنَع من قِيَاسه على مَا

رخصوه وَيبعد أَن تظهر فِي التقديرات والأعداد عِلّة فاما الْكَفَّارَات فَلَا يبعد أَن تظهر علتها فيقاس عَلَيْهَا غَيرهَا بِتِلْكَ الْعلَّة وَلَيْسَ لمن منع من ذَلِك أَن يجْرِي بِهِ مجْرى الْحُدُود من حَيْثُ كَانَت عقوبات لِأَنَّهُ يُسَوِّي فِي الْمَنْع من إِثْبَاتهَا قِيَاسا بَين مَا يجْرِي مِنْهَا مجْرى الْعُقُوبَات وَبَين مَا لَا يجْرِي مِنْهَا مجْرى الْعُقُوبَات وَأَيْضًا فقد أثبتوا على الْآكِل فِي شهر رَمَضَان كَفَّارَة وَهِي جَارِيَة مجْرى الْعُقُوبَات اعْتِبَارا بالمجامع وسلكوا فِي ذَلِك مَسْلَك التَّعْلِيل وَلَا يعصمهم من ذَلِك أَن يمتنعوا من تَسْمِيَة ذَلِك قِيَاسا وَسَيَجِيءُ القَوْل فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الِاسْتِدْلَال على مَوضِع الحكم هَل هُوَ قِيَاس أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الشَّيْخ أَبَا الْحسن رَحمَه الله لم يكن يثبت الْكَفَّارَات بِالْقِيَاسِ وَكَانَ يثبتها بالاستدلال على مَوضِع الحكم فَيثبت الْكَفَّارَة على الْأكل فِي شهر رَمَضَان اعْتِبَارا بالمجاميع فِيهِ فَيَقُول قد علمت أَن الْكَفَّارَة لم تجب فِي الْجِمَاع لعَينه بل لِأَنَّهُ مُفسد لعين صَوْم شهر رَمَضَان مَعَ ضرب مَخْصُوص من المأثم وَهَذَا مَوْجُود فِي الْأكل وَذكر قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله أَنه كَانَ يفصل بَين الْقيَاس وَبَين ذَلِك بِأَنا نحتاج إِلَى الِاسْتِدْلَال لنعلم بِأَن الْجِمَاع يخْتَص بمأثم مَخْصُوص وَلَا يحْتَاج إِلَى الِاسْتِدْلَال لنعلم أَن الْبر مَكِيل فَيُقَال لَهُ حَاجَتك إِلَى هَذَا الِاسْتِدْلَال لَا يخْرجك من أَن تكون قد سلكت مَسْلَك التَّعْلِيل بِهَذِهِ الْأَوْصَاف وأجريت حكمهَا مَعهَا وَهَذِه صُورَة الْقيَاس على أَن المقائيس مَا يعلم ثُبُوت علته فِي أَصله بِدَلِيل وَذَلِكَ بِأَن تكون الْعلَّة حكما شَرْعِيًّا لِأَن الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَعْلُومَة بِالدَّلِيلِ على أَن مَا افْتقر فِيهِ إِلَى الِاسْتِدْلَال هُوَ أخْفى مِمَّا علم ضَرُورَة فان لم تثبت الْكَفَّارَة بالأجلى فَالْأولى أَن لَا تثبت بالأخفى وَيُمكن أَن نقيس الِاسْتِدْلَال على مَوضِع الحكم بِوَجْه آخر وَهُوَ أَن يكون الحكم ثَابتا فِي مَوضِع مُجمل ثمَّ نستدل لنعلم ذَلِك الْموضع فاذا ثَبت بِالدَّلِيلِ أَن

شَيْئا من الْأَشْيَاء من ذَلِك الْموضع ألحق بِهِ حكمه لَا على سَبِيل الْقيَاس بل على سَبِيل إِدْخَال التَّفْصِيل فِي الْجُمْلَة فان قيس الِاسْتِدْلَال على مَوضِع الحكم بِهَذَا قيل لَهُ أموضع الْكَفَّارَة هُوَ الْجِمَاع أم بعض أَوْصَافه فان قَالَ هُوَ الْجِمَاع قيل هَذَا لَا يحْتَاج إِلَى اسْتِدْلَال زَائِد على الْخَبَر وَيَنْبَغِي أَن لَا يلْحق بِهِ إِلَّا مَا كَانَ جماعا وَإِن قَالَ موضعهَا هُوَ بعض أَوْصَافه وَهُوَ إِفْسَاد عين صَوْم الشَّهْر مَعَ مأثم مَخْصُوص قيل ابالنص علمت أَن هَذَا مَوضِع الْكَفَّارَة أم بِدَلِيل وَلَيْسَ يُمكنهُ القَوْل بِأَنَّهُ علم ذَلِك بِالنَّصِّ لِأَن النَّص يتَنَاوَل الْجِمَاع لَا هَذِه الْأَوْصَاف وَإِن قَالَ علمت ذَلِك لَا بِالنَّصِّ وَلَكِن بِاعْتِبَار أفسدت بِهِ تَعْلِيق الْكَفَّارَة بِالْجِمَاعِ وَبِغَيْرِهِ من أَوْصَافه سوى مَا ذكرته قيل هَذَا تَعْلِيل مِنْك لِأَنَّك علقت هَذِه الْكَفَّارَة بِهَذِهِ الْأَوْصَاف وَقلت لَهَا مَا ثَبت الْكَفَّارَة وتوصلت إِلَى ذَلِك بِأَن أفسدت تعلق الْكَفَّارَة بِمَا عَداهَا فاذا حكمت على الْأكل بِالْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ مُفسد لعين صَوْم رَمَضَان مَعَ مأثم مَخْصُوص فقد قست وَجرى ذَلِك مجْرى أَن تفْسد تَعْلِيق الرِّبَا بِعَين الْبر وبصفاته سوى الْكَيْل ثمَّ تحرم الارز لِأَنَّهُ مَكِيل وكل من أثبت الْكَفَّارَة بِالْقِيَاسِ أَن يسْلك هَذَا المسلك ونسميه اسْتِدْلَالا على مَوضِع الحكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب تَعْلِيل حكم الأَصْل بعلتين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن حكم الأَصْل إِذا علل بعلتين فإمَّا أَن تكون إِحْدَاهمَا هِيَ الدَّلِيل على حكم الأَصْل أَو لَا تكون وَاحِدَة مِنْهُمَا هِيَ الدَّلِيل على حكم الأَصْل بل الدَّلِيل عَلَيْهِ نَص أَو إِجْمَاع فان لم تكن وَاحِدَة مِنْهُمَا دَلِيلا على حكم الأَصْل جَازَ أَن تصحا جَمِيعًا لِأَن الْعلَّة إِن كَانَت أَمارَة فَجَائِز أَن تدل على الحكم الْوَاحِد امارتان وَإِن كَانَت مُوجبَة وَجه مصلحَة فَجَائِز أَن يكون الشَّيْء صلاحا من وَجْهَيْن يبين ذَلِك أَنه قد يسْتَحق الْإِنْسَان الْقَتْل لردته وَلِأَنَّهُ قتل غَيره وَقد تفْسد صَلَاة الْإِنْسَان بِالْحَدَثِ وبالكلام إِذا وجدا مَعًا وأمثال ذَلِك كَثِيرَة وَإِن كَانَ إِحْدَى العلتين دَلِيلا على حكم الأَصْل فإمَّا أَن تكون دَلِيل حكمه من غير أَن يُقَاس بهَا على اصل آخر أَو أَن تكون دَلِيله بَان يُقَاس بهَا

على أصل آخر مِثَال ردنا التطاول فِي الشَّهَادَة على السّرقَة إِلَى التطاول فِي الشَّهَادَة على الزِّنَا فِي أَن الْحَاكِم لَا يحكم بهما بعلة أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا حق من حُقُوق الله تَعَالَى وَلَيْسَت هَذِه الْعلَّة هِيَ الَّتِي لَهَا لم يحكم الْحَاكِم بِالشَّهَادَةِ على الزِّنَا إِذا تطاول عهدها لَكِن الْعلَّة فِي ذَلِك أَن الشُّهُود على الزِّنَا مخيرون بَين إِقَامَة الشَّهَادَة بِحَق الله سُبْحَانَهُ وَبَين السّتْر على الْمَشْهُود عَلَيْهِ فاذا أخروا الشَّهَادَة علمنَا أَنهم آثروا فاذا شهدُوا من بعد تَبينا ان عَدَاوَة تَجَدَّدَتْ لَهُم والعدوان تتهم الشُّهُود وَقد منع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قبُول شَهَادَة ذَوي الأضغان وَظهر لنا أَنهم من ذَوي الأضغان لَا أَنا نقيسهم على ذَوي الأضغان وَهَذِه الْعلَّة لَا يُمكن ذكرهَا فِي الشَّهَادَة على السّرقَة لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون الشُّهُود إِنَّمَا أخروا الشَّهَادَة لِأَن الْمَسْرُوق مِنْهُ أخر الْمُطَالبَة فقد بَان عِلّة حكم الأَصْل غير الْعلَّة الَّتِي بهَا رددنا الْفَرْع إِلَى الأَصْل وَقد اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَمنهمْ من أجَاز تَعْلِيل الحكم بِالْعِلَّةِ الَّتِي لم يثبت الحكم بهَا قَالَ لِأَن الْعلَّة الَّتِي بهَا يثبت حكم الأَصْل هِيَ طَرِيق الحكم فِي الأَصْل فجرت مجْرى النَّص الدَّال على حكم الأَصْل فَكَمَا يجوز أَن تدل دلَالَة على أَن لبَعض اوصاف الأَصْل الْمَنْصُوص على حكمه تَأْثِيرا فِي ذَلِك الحكم فتجعل علته وَيُقَاس بهَا فرع من الْفُرُوع عَلَيْهِ جَازَ أَيْضا فِي بعض مَا ثَبت حكمه لعِلَّة من الْعِلَل أَن تدل دلَالَة على أَن لبَعض أَوْصَافه تَأْثِيرا فِي ذَلِك الحكم فتجعل عِلّة فِيهِ وَيُقَاس بهَا على الْفُرُوع وَمِنْهُم من لم يصحح الْعلَّة الَّتِي لَا يثبت بهَا حكم الأَصْل لِأَن هَذِه الْعلَّة لَا يُمكن أَن تدل على صِحَّتهَا وَأَنَّهَا لمكانها ثَبت حكم الأَصْل لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يسْتَدلّ على ذَلِك بِفساد مَا عَداهَا لِأَن الْعلَّة الْأُخْرَى صَحِيحَة وَلَا يُمكن أَن نستدل عَلَيْهَا بِأَن الحكم يُوجد بوجودها فِي الأَصْل وينتفي بانتفائها عَن الأَصْل وَانْتِفَاء مَا يقوم مقَامهَا لعلمنا أَنَّهَا لَو وجدت وَحدهَا فِي الأَصْل من دون الْعلَّة الْأُخْرَى لم يثبت الحكم فاذا لم يُمكن أَن تدل دلَالَة على صِحَّتهَا لم تثبت صِحَّتهَا وَأما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ إِذا كَانَت الْعلَّة الَّتِي هِيَ دَلِيل الحكم فِي الأَصْل يُقَاس بهَا ذَلِك الأَصْل على أصل آخر فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يُمكن أَن يُقَاس الْفَرْع الآخر بِتِلْكَ الْعلَّة على الأَصْل الأول أَو لَا يُمكن فَإِن لم يُمكن فَالْخِلَاف فِيهِ

كالخلاف فِيمَا تقدم الْآن وَإِن أمكن ذَلِك فمثاله أَن يرد الذّرة إِلَى الارز بعلة أَنه مَكِيل وَيرد الارز إِلَى الْبر بِهَذِهِ الْعلَّة وَهَذَا تَطْوِيل لَا فَائِدَة فِيهِ لِأَنَّهُ يُمكن رد الذّرة إِلَى الْبر بِهَذِهِ الْعلَّة وَلِأَن رد الذّرة إِلَى الارز يُوهم أَن حكمه مِنْهُ مُسْتَفَاد وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن الذّرة كالارز فِي أَن الْعلم بِحكم أَحدهمَا لَا يسْبق الْعلم بِحكم الآخر فَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ بل حكمهَا يَتَرَتَّب على الْبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تَعْلِيل الأَصْل بعلة لَا تتعدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما الشَّيْخ أَبُو عبد الله رَحمَه الله فانه أفسدها إِلَّا أَن يدل عَلَيْهَا نَص أَو إِجْمَاع وَحكى عَنهُ قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله أَنَّهَا صححها فِي بعض مسَائِله وَالشَّيْخ أَبُو الْحسن رَضِي الله عَنهُ أفسدها إِلَّا أَن يدل عَلَيْهَا نَص وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وقاضي الْقُضَاة يصححونها وَالدَّلِيل على صِحَّتهَا هُوَ أَن من أفسدها إِمَّا أَن يُفْسِدهَا لِأَنَّهَا لم تتعد إِلَى فرع مُخْتَلف فِيهِ أَو أَنَّهَا لم تتعد إِلَى فرع أصلا اخْتلف فِيهِ أَو لم يخْتَلف فِيهِ فان قَالَ بِالْأولِ كَانَ قد جعل صِحَّتهَا وفسادها موقوفين على أَن يخْتَار النَّاس الْخلاف فِي الْفَرْع أَو الِاتِّفَاق فِيهِ وَهَذَا شنيع وَأَيْضًا فَإِن كَانَت الْعلَّة هِيَ وَجه الْمصلحَة فوجوه الْمصَالح إِذا حصلت فِي الشَّيْء اقْتَضَت كَونه مصلحَة وَقع الِاتِّفَاق عَلَيْهِ أَو لم يَقع وَإِن كَانَت أَمارَة على الحكم وعَلى وَجه الْمصلحَة فالأدلة والأمارات لَا تفْسد بالِاتِّفَاقِ على مدلولها وَإِن قَالُوا بِالثَّانِي فَالَّذِي يُفْسِدهُ أَيْضا هُوَ أَن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة إِذا دلّت عَلَيْهَا الأمارة غلب على ظننا أَنَّهَا وَجه الْمصلحَة وَإِن لم تتعد لِأَن وُجُوه الْمصَالح قد تخْتَص نوعا وَاحِدًا وَقد تتعداه كَمَا نقُوله فِي وُجُوه الْقبْح وَالْحسن كلهَا وَأَيْضًا فالعلة لَو فَسدتْ إِذا لم تتعد لَكَانَ فَسَادهَا وَجه مَعْقُول فان قَالُوا الْوَجْه فِي ذَلِك هُوَ أَن الْعلَّة المستنبطة إِذا لم تتعد لم يكن فِي استنباطها فَائِدَة لِأَن حكم الأَصْل ثَابت بِالنَّصِّ لِأَنَّهَا بِالنَّصِّ قد أُغني غنها فِي الأَصْل وَلَيْسَت مَوْجُودَة فِي فرع فَيكون طَرِيقا إِلَى حكمه وَإِذا لم يكن فِي

استنباطها فَائِدَة كَانَت عَبَثا وَلَيْسَ كَذَلِك الْعلَّة المنصوصة لِأَنَّهَا لم تثبت عِلّة بالاستنباط قيل إِن المستنبط لِلْعِلَّةِ طَالب لَهَا وَهُوَ فِي حَال طلبه لَا يعلم مَا عِلّة الحكم وَهل هِيَ متعدية أم لَا فَيُقَال لَهُ لَا تتكلف هَذَا الْبَحْث والطلب وَإِنَّمَا يعلم أَن الْعلَّة الَّتِي تبحث عَنْهَا لَا تتعدى بعد اسْتِيفَاء الطّلب وَأَيْضًا يكون الطّلب لَهَا عَبَثا لَا يفْسد الْعلَّة لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع كَونهَا عِلّة وَيكون الطَّالِب لَهَا عابثا حِين يتشاغل بِطَلَب مَا هُوَ مستغن عَنهُ وَأَيْضًا فَلَو جَازَ أَن يكون الطّلب لَهَا عَبَثا لِأَنَّهَا لَيست بطرِيق إِلَى الحكم لَا فِي الحكم وَلَا فِي الْفَرْع لَكَانَ النَّص عَلَيْهَا عَبَثا لِأَنَّهَا لَيست بطرِيق إِلَى حكم فِي أصل وَلَا فرع وَأَيْضًا وُقُوع الْغنى عَن الشَّيْء لَا يُفْسِدهُ أَلا ترى أَنا نستغني بِالْقُرْآنِ فِي بعض الْأَحْكَام عَن أَخْبَار الْآحَاد وَعَن الْقيَاس وَلَا يُوجب ذَلِك فسادهما فان قيل خبر الْوَاحِد يُمكن أَن يكون طَرِيقا إِلَى الحكم الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن وَلَا يُمكن أَن تكون الْعلَّة القاصرة طَرِيقا إِلَى حكم أصلا قيل إِنَّمَا تكلمنا على قَوْلكُم طلبَهَا عَبث إِذْ النَّص قد أغْنى عَنْهَا وَلَيْسَ لَهَا وجود فِي بعض الْفُرُوع وَلم نتكلم على مَا ذكرتموه الْآن وَهُوَ قَوْلكُم الْعلَّة القاصرة لَا يُمكن أَن تكون طَرِيقا إِلَى حكم فَلم يكن فِي طلبَهَا فَائِدَة فان قُلْتُمْ ذَلِك أجبناكم بِمَا تقدم دون هَذَا الْوَجْه وَإِن قَالُوا إِذا لم تكن الْعلَّة طَرِيقا إِلَى حكم لم تكن فِيهَا نَفسهَا فَائِدَة وَمَا لَا فَائِدَة فِيهِ لَا يجوز أَن ينصب الله عز وَجل عَلَيْهِ أَمارَة فَكل عِلّة قَاصِرَة فَإنَّا نعلم أَن الله عز وَجل لم ينصب عَلَيْهَا أَمارَة قيل وَمَا لَا فَائِدَة فِيهِ لَا يجوز أَن ينص الله عز وَجل وَلَا رَسُوله عَلَيْهِ فان جعلتم للنَّص عَلَيْهَا فَائِدَة فقد بَطل قَوْلكُم إِن مَا لَا يُفِيد حكما فَهُوَ فَاسد وَأَيْضًا فَلَا فَائِدَة أَكثر من الْعلم بعلة الحكم فانا إِذا علمنَا كم الشَّيْء ووقفنا على علنه صرنا عَالمين أَو ظانين بِمَا لم نَكُنْ عَالمين بِهِ وَذَلِكَ مَا تتشوق النَّفس إِلَى مَعْرفَته وَلَا يمْتَنع أَن يكون لنا فِي ظن ذَاك مصلحَة وَفَائِدَة أُخْرَى وَهِي أَن نمتنع من قِيَاس فرع على أصل علته قَاصِرَة فان قَالُوا فَهَذَا يُمكن إِذا لم تنصب أَمارَة على أَن ذَلِك الْوَصْف عِلّة قيل

هَذَا الْقدر لَا يمْنَع من الْقيَاس على ذَلِك الأَصْل لِأَنَّهُ يجوز أَن يظنّ أَن علته وصف آخر فيقاس بِهِ فرع من الْفُرُوع وَإِذا ظننا أَن مَا لَا يتَعَدَّى هُوَ الْعلَّة لِأَن أَمارَة كَونه عِلّة أقوى من كل الأمارات رفضنا مَا عدا ذَلِك الْوَصْف فَلم نقس على ذَلِك الْوَصْف شَيْئا وَلَهُم أَن يَقُولُوا وَكَانَ يُمكن أَن لَا يُقَاس على ذَلِك الأَصْل بِأَن لَا ينصب الله عز وَجل أَمارَة على شَيْء من أَوْصَافه وَإِذا أمكن ذَلِك لم يكن فِي نصب أَمارَة على الْوَصْف الَّذِي لَا يتَعَدَّى فَائِدَة واقوى مَا يُمكن أَن يحتجوا بِهِ هُوَ أَن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة أَمارَة والأمارة كالدلالة فِي أَنَّهَا كاشفة عَن شَيْء وَلَا يتَصَوَّر دلَالَة وامارة لَا تكشف عَن شَيْء وَالْعلَّة القاصرة لَا تكشف عَن حكم أصل وَلَا فرع فَلم تكن أَمارَة وَإِذا لم تكن أَمارَة لم تكن عِلّة وَالْجَوَاب إِنَّه إِذا دلّت أَمارَة صَحِيحَة على كَون الْوَصْف عِلّة قضينا بِأَنَّهَا وَجه الْمصلحَة وَقُلْنَا بِأَن الْعلَّة أَمارَة على معنى أَنَّهَا مظنون كَونهَا عِلّة وَيُمكن أَن نقُول إِنَّهَا أَمارَة على وَجه الْمصلحَة بِمَعْنى أَنَّهَا مُقَارنَة فَيدل على أَن وَجه الْمصلحَة يُوجد حَيْثُ تُوجد الْعلَّة ثمَّ يُقَال لَهُم إِذا نَص على الْعلَّة الَّتِي لَا تتعدى أَلَيْسَ تكون الْعلَّة أَمارَة أَو دلَالَة فان قَالُوا بلَى قيل لَهُم فعلى مَا تدل فان قَالُوا إِنَّهَا تكون وَجه الْمصلحَة أَو تكون أَمارَة على وَجه الْمصلحَة وَلَا تكون أَمارَة وَلَا دلَالَة على حكم قيل لَهُم مثله فِي الْعلَّة المستنبطة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي اخْتِلَاف مَوْضُوع الْعلَّة وَالْحكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْعلَّة قد تكون حكما مَا شَرْعِيًّا وَيكون حكمهَا شَرْعِيًّا وَإِذا كَانَ أَحدهمَا مَبْنِيا على التَّخْفِيف وَالْآخر على التَّغْلِيظ جَازَ أَن يَجْعَل ذَلِك أَمارَة تَقْتَضِي أَن لَا يعْتَبر أَحدهمَا بِالْآخرِ وَيُمكن أَن يُجَاب عَن ذَلِك فَيُقَال لَا يمْتَنع اعْتِبَار أَحدهمَا بِالْآخرِ إِذا دلّت الدّلَالَة على صِحَة الْعلَّة فان قيل إِنَّه لَا يجوز أَن تدل الدّلَالَة على صِحَة مثل هَذِه الْعلَّة انْتقل الْكَلَام إِلَى إِقَامَة الدّلَالَة على صِحَة الْعلَّة وَنحن من بعد نذْكر الْكَلَام فِي الْعلَّة من حَيْثُ هِيَ دَلِيل على حكم الْفَرْع إِن شَاءَ الله

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي اخْتِلَاف مَوْضُوع الْفَرْع وَالْأَصْل وَفِي حكم الْفَرْع إِذا تقدم حكم الأَصْل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما اخْتِلَاف مَوْضُوع الأَصْل وَالْفرع فنحو أَن يكون الأَصْل مَبْنِيا على التَّخْفِيف كالتيمم وَالْمسح على الْخُفَّيْنِ وَيكون الْفَرْع مَبْنِيا على التَّغْلِيظ كَالْوضُوءِ وَغسل الرجلَيْن ويروم القائس أَن يثبت فِي الْفَرْع حكما مخففا وَيكون الأَصْل مَبْنِيا على التَّغْلِيظ كَالْوضُوءِ وَغسل الرجلَيْن وَيكون الْفَرْع مَبْنِيا على التَّخْفِيف كالتيمم وَالْمسح على الْخُفَّيْنِ ويروم القائس أَن يثبت فِي الْفَرْع حكما مغلظا فاختلاف الْفَرْع وَالْأَصْل كالأمارة على أَنه لَا يَنْبَغِي رد أَحدهمَا إِلَى الآخر فان دلّت دلَالَة على صِحَة الْعلَّة الجامعة بَينهمَا أوجبت الدّلَالَة التَّسْوِيَة بَين الْفَرْع وَالْأَصْل فِي ذَلِك الحكم وَإِن اخْتلفَا فِي التَّغْلِيظ وَالتَّخْفِيف من وُجُوه أخر وَأما الْفَرْع إِذا تقدم حكمه على حكم الأَصْل فمثاله الْوضُوء إِذا قيس على التَّيَمُّم فِي اشْتِرَاط النِّيَّة فِيهِ وَذَلِكَ أَن الْوضُوء وَجب بِمَكَّة وَالتَّيَمُّم وَجب بعد الْهِجْرَة وَقد منع من ذَلِك قوم لِأَن شَرط مَا تقدم وُجُوبه لَا يجوز كَونه مستفادا مِمَّا تَأَخّر وُجُوبه لِأَن الدَّلِيل لَا يجوز تَأَخره عَن الْمَدْلُول عَلَيْهِ وَالْأولَى أَن يُقَال إِن الْفَرْع إِذا تقدم حكمه فانه إِن لم يدل على ثُبُوت حكمه إِلَّا الْقيَاس على ذَلِك الأَصْل فانه لَا يَصح ذَلِك الْقيَاس لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون لنا على الحكم الَّذِي تعبدنا بِهِ دَلِيل فِي الْحَال وَإِن دلّ على حكم الْفَرْع دَلِيل مُتَقَدم لم يبطل ذَلِك الْقيَاس لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يدلنا الله عز وَجل على الحكم بأدلة مترادفة أَلا ترى أَن المعجزات تتواتر بعد المعجزة الْمُقَارنَة لابتداء الدعْوَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْعلَّة هَل هِيَ دَلِيل على رسم الْفَرْع ثمَّ يعلق بِهِ حكم شَرْعِي أَو تدل ابْتِدَاء على حكم شَرْعِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُكيَ عَن أبي الْعَبَّاس بن سُرَيج أَنه قَالَ إِنَّمَا يثبت بِالْقِيَاسِ الْأَسْمَاء فِي الْفَرْع ثمَّ تعلق عَلَيْهَا الْأَحْكَام وَكَانَ يتَوَصَّل بِالْقِيَاسِ إِلَى أَن الشُّفْعَة تَرِكَة ثمَّ

يَجْعَلهَا موروثة وَإِن وطىء الْبَهِيمَة زنا ثمَّ يتَعَلَّق بِهِ الْحَد وَبَعض الشَّافِعِيَّة كَانَ يقيس النَّبِيذ على الْخمر فِي تَسْمِيَته خمرًا لاشْتِرَاكهمَا فِي الشدَّة ثمَّ يحرمه بِالْآيَةِ وَأكْثر الْفُقَهَاء متفقون على أَن الْعِلَل تثبت بهَا الْأَحْكَام فان كَانَ أَبُو الْعَبَّاس بن سُرَيج منع من إِثْبَات الْأَحْكَام فِي الْفَرْع بالعلل فَذَلِك بَاطِل لِأَن أَكثر الْمسَائِل إِنَّمَا تعلل فِيهَا أَحْكَامهَا دون أسمائها والأمارات إِنَّمَا تدل على أَن بعض صِفَات الأَصْل لَهُ تَأْثِير فِي الحكم لَا فِي الِاسْم أَلا ترى أَنا نعلل تَحْرِيم الْبر بِكَوْنِهِ مَكِيلًا لَا بِكَوْنِهِ مُسَمّى بِأَنَّهُ بر والأمارة إِنَّمَا تدل على أَن للكيل أَو الطّعْم تَأْثِيرا فِي تَحْرِيم بعضه بِبَعْض مُتَفَاضلا لَا فِي كَونه مُسَمّى بِأَنَّهُ بر ثمَّ إِنَّا نرد الارز إِلَيْهِ لنثبت فِيهِ حكمه ابْتِدَاء لَا تبعا للاسم لأَنا لَا نروم بقياسه عَلَيْهِ أَن نُسَمِّيه برا وَإِن أَرَادَ أَن الْعِلَل قد يتَوَصَّل بهَا إِلَى الْأَسْمَاء فِي بعض الْمَوَاضِع وَلم يمْنَع من أَن يتَوَصَّل بهَا إِلَى الْأَحْكَام أَيْضا فان أَرَادَ بالعلل الْعِلَل الشَّرْعِيَّة وبالأسماء الْأَسْمَاء اللُّغَوِيَّة فَذَلِك بَاطِل لِأَن اللُّغَة أسبق من الشَّرْع ولتقدم اللُّغَة خاطبنا الله تَعَالَى بهَا فَلَا يجوز إِثْبَات أسمائها بِأُمُور طارئة وَلِأَن أَمَارَات جَمِيع الْعِلَل الشَّرْعِيَّة تتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ وَلَا تتَعَلَّق بالأسماء اللُّغَوِيَّة وَإِن أَرَادَ أَن الْأَسْمَاء قد تثبت فِي اللُّغَة بِقِيَاس غير شَرْعِي نَحْو أَن نعلم أَنهم سموا الْجِسْم الْأَبْيَض الَّذِي حضرهم بِأَنَّهُ أَبيض لوُجُود الْبيَاض فِيهِ لعلمنا أَنه إِذا انْتَفَى عَنهُ الْبيَاض لم يسموه بذلك فاذا وجد فِيهِ سموهُ بذلك ثمَّ نقيس عَلَيْهِ مَا غَابَ عَنْهُم من الْأَجْسَام الْبيض فقد تقدم القَوْل فِي ذَلِك وَلَيْسَ هُوَ بِبَعِيد وَإِن أَرَادَ أَن من الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة مَا تثبت بالعلل فَغير بعيد ايضا لأَنا نعلم أَن الشَّرِيعَة إِنَّمَا سمت الصَّلَاة صَلَاة لصفة من الصِّفَات مَتى انْتَفَت عَنْهَا لم تسم فِي الشَّرِيعَة صَلَاة فنعلم أَن مَا شاركها فِي تِلْكَ الصّفة يُسمى صَلَاة وَأما قَول بعض الشَّافِعِيَّة أَن النَّبِيذ يُسمى خمرًا فَلَيْسَ هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي

وَقد قَالَ فِي كثير من كتبه إِن الْخمر هُوَ عصير الْعِنَب الني المشتد وَأما قِيَاسه النَّبِيذ على الْخمر بعلة الشدَّة وإيجابهم بذلك أَن يُسمى خمرًا فَبَاطِل لِأَن الْخمر لم تسم خمرًا للشدة فَقَط وَإِن كَانَ لَو لم تُوجد الشدَّة لم تسم خمرًا كَمَا أَن الْخلّ لم يسم خلا للحموضة وَإِن كَانَ لولاها لم يسم خلا لكنه إِنَّمَا سمى خمرًا لِأَنَّهُ عصير الْعِنَب الني المشتد وَلَو كَانَ قَوْلنَا خمر يشْتَمل التمري والعنبي لشمُول اسْم الْخمر لخمر الْعرَاق وخمر فَارس لَكَانَ قَول الْقَائِل لغيره أَمَعَك نَبِيذ أم خمر كَقَوْلِه أَمَعَك خمر أَو خمر الْعرَاق فَلَمَّا افْتَرقَا فِي الْجِنْس علمنَا أَن اسْم الْخمر لَا يتَنَاوَل النَّبِيذ وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخمر من هَاتين مَحْمُول على أَنه إِنَّمَا سمى مَا يكون من النَّخْلَة خمرًا مجَازًا لما ذَكرْنَاهُ الْآن فان قيل هلا قُلْتُمْ إِنَّه يَقع عَلَيْهِ اسْم الْخمر يعرف الشَّرْع قيل لَيْسَ هَذَا قولا لأحد وَلَو اقْتَضَاهُ عرف الشَّرْع لسبق إِلَى إفهام أهل الشَّرْع من قَوْلنَا خمر التمري والعنبي مَعًا على سَوَاء كَمَا يسْبق إِلَى إفهامهم من اسْم الصَّلَاة هَذِه الْأَفْعَال الشَّرْعِيَّة فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يقبح أَن يَقُول الْقَائِل أَمَعَك نَبِيذ أم خمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن الْعلَّة هَل يتَوَصَّل بهَا إِلَى إِثْبَات الحكم فِي الْفَرْع وَإِن لم ينص عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَة أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهب الشَّيْخ أَبُو هَاشم رَحمَه الله إِلَى أَنه لَا يجوز إِثْبَات الحكم فِي شَيْء بِالْقِيَاسِ إِلَّا وَقد ورد النَّص باثباته فِيهِ على الْجُمْلَة فَيكون الْقيَاس دَالا على تَفْصِيل الحكم قَالَ فَلَو لم يكن إِرْث الْأَخ ثَابتا فِي الْجُمْلَة لم يجز إِثْبَات إِرْثه مَعَ الْجد بِالْقِيَاسِ وَأَجَازَ غَيره من القائسين إِثْبَات الحكم بِالْقِيَاسِ وَإِن لم يتَقَدَّم إثْبَاته فِي الْجُمْلَة وَالدَّلِيل على ذَلِك هُوَ أَن الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة على جَوَاز اسْتِعْمَال الْقيَاس لَا تخص التَّفْصِيل من الْجُمْلَة بل تجوز اسْتِعْمَال الْقيَاس فِيهَا وَلِأَن الْأمة قاست مَسْأَلَة الْحَرَام وَلم يتقدمه فِيهَا حكم شَرْعِي على الْجُمْلَة راموا

تَفْصِيله بل كَانُوا لمقايستهم يثبتون أصل الحكم وَقَول الله عز وَجل {لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم} لَيْسَ يدل على إِثْبَات الحكم فِي الْجُمْلَة فِي مَسْأَلَة الْحَرَام لِأَن ذَلِك إِنَّمَا يدل على الْمَنْع من التَّحْرِيم وَلَا يدل على حكم التَّحْرِيم إِذا وجد وَقد قَاس مثبتو الْقيَاس الارز على الْبر وَلَا يتقدمه تَحْرِيم بِبيعِهِ مُتَفَاضلا على الْجُمْلَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تَخْصِيص النُّصُوص بِالْقِيَاسِ ونسخها بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما نسخ النُّصُوص بِالْقِيَاسِ فسنبينه فِي تضاعيف هَذَا الْفَصْل وَأما إِذا كَانَ الْقيَاس رَافعا للنصوص من غير نسخ فقد تقدم ذَلِك فِي الْأَخْبَار وَإِنَّمَا ذكرنَا هَذَا الْفَصْل هُنَاكَ وَلم نذكرهُ فِي أَبْوَاب الْقيَاس لأَنا نقدم النَّص على الْقيَاس وَذَلِكَ لَا يقف على كَون الْقيَاس حجَّة فِي الْجُمْلَة وَأما إِذا كَانَت النُّصُوص عَامَّة فانما ذكرنَا القَوْل فِي مُعَارضَة الْقيَاس لَهَا فِي ابواب الْقيَاس لأَنا نخصص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ وَذَلِكَ لَا يتم إِلَّا وَالْقِيَاس حجَّة فِي الْجُمْلَة وَقد اخْتلف النَّاس فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَليّ رَحمَه الله وَبَعض الْفُقَهَاء لَا يخص بِهِ أصلا وَهُوَ قَول أبي هَاشم أَولا وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو الْحسن وَكثير من الْفُقَهَاء أَنه يخص بِهِ الْعُمُوم على كل حَال وَهُوَ قَول أبي هَاشم أخيرا وَمن النَّاس من خص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ فِي حَال دون حَال وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فِي تِلْكَ الْحَال فَمن أَصْحَاب الشَّافِعِي من خص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ الْجَلِيّ وَلم يَخُصُّهُ بالخفي وَمن النَّاس من خصّه بِالْقِيَاسِ إِذا دخله التَّخْصِيص وَلم يَخُصُّهُ بِهِ إِذا لم يدْخلهُ التَّخْصِيص وَالدَّلِيل على تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ هُوَ أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهَا اخْتلفت فِي الْجد فبعضهم جعله أولى من الْأَخ والاخت بِجَمِيعِ المَال وَذهب فِي

ذَلِك إِلَى قِيَاس وَخص بِهِ قَول الله عز وَجل {إِن امْرُؤ هلك لَيْسَ لَهُ ولد وَله أُخْت فلهَا نصف مَا ترك وَهُوَ يَرِثهَا إِن لم يكن لَهَا ولد} وَبَعْضهمْ قَاسم بَين الْجد وَالْأَخ وَاسْتدلَّ بِالْقِيَاسِ على أَنه يقاسم وَلم يَجْعَل للاخ إِرْث جَمِيع مَال اخته وَلم يَجْعَل لاخته مَعَ الْجد النّصْف بل خص الْآيَة وَهَذَا يبطل قَول من لم يخص الْعُمُوم إِلَّا بِقِيَاس معنى لِأَن الْقيَاس فِي مَسْأَلَة الْجد هُوَ قِيَاس غَلَبَة الْأَشْبَاه فان قَالُوا خصو الْآيَة بِكَوْن الْجد وَارِثا بِمِقْدَار مَا يَرِثهُ وَإِثْبَات إِرْثه فِي الْجُمْلَة مَعْلُوم بِقِيَاس جلي قيل إِنَّهُم لم يذكرُوا فِي ذَلِك قِيَاسا مُفردا بل لم يستعملوا فِي إِثْبَات إِرْثه إِلَّا مَا استعملوه فِي مِقْدَار إِرْثه لأَنهم استعملوا الْقيَاس فِي هَل يَرث الْكل أَو الْبَعْض ثمَّ تبع ذَلِك ثُبُوت إِرْثه وَهَذِه الدّلَالَة تفْسد قَول من شَرط فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ أَن يكون الْعُمُوم قد خص من وَجه آخر لأَنا قد بَينا فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بأخبار الْآحَاد أَن الْعُمُوم الْمَخْصُوص هُوَ كالعموم الَّذِي لم يخص وَإِذا لم يكن بَينهمَا فرق كَانَ إِجْمَاع السّلف رَضِي الله عَنْهُم على أَحدهمَا كاجماعهم على الآخر كَمَا إِن إِجْمَاعهم على الْقيَاس فِي مَسْأَلَة الْجد دَلِيل على صِحَة الْقيَاس فِي مَسْأَلَة تجْرِي مجْراهَا إِن قيل الْيَسْ التَّخْصِيص فِي معنى النّسخ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا هُوَ إِخْرَاج بعض مَا تضمنه الطاب ثمَّ لم يدل عنْدكُمْ إِجْمَاع الصَّحَابَة على تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ وبأخبار الْآحَاد على جَوَاز نسخه بهما وَلَا دلّ إِجْمَاعهم على الْمَنْع من نسخ الْعُمُوم بهما على الْمَنْع من تَخْصِيصه بهما فَهَلا قُلْتُمْ إِن إِجْمَاعهم على تَخْصِيص عُمُوم الْكتاب بِالْقِيَاسِ إِذا دخله التَّخْصِيص لَا يدل على جَوَاز تَخْصِيصه إِذا لم يدْخلهُ التَّخْصِيص وَإِن كَانَ أَحدهمَا فِي معنى الآخر قيل إِن الْحكمَيْنِ إِذا كَانَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا فان الدّلَالَة على جَوَاز أَحدهمَا هِيَ دلَالَة على جَوَاز الآخر إِلَّا أَن يمْنَع من ذَلِك مَانع أَلا ترى أَن الصَّحَابَة لَو أَجمعت على قبُول خبر

الْوَاحِد فِي وجوب النِّيَّة فِي الْوضُوء لدل ذَلِك على قبُوله فِي النِّيَّة فِي التَّيَمُّم فاذا ثَبت ذَلِك فاجماعهم على تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ هُوَ دَلِيل على جَوَاز نسخه بِالْقِيَاسِ لَوْلَا مَانع من ذَلِك وَهُوَ الْإِجْمَاع وإجماعهم على الْمَنْع من نسخه بِالْقِيَاسِ هُوَ دَلِيل على الْمَنْع من تَخْصِيصه بِالْقِيَاسِ لَوْلَا مَانع منع من ذَلِك وَهُوَ إِجْمَاعهم على تَخْصِيصه بِهِ دَلِيل آخر وجوب الْعَمَل بِالْقِيَاسِ مَقْطُوع بِهِ لِأَن دَلِيله مَقْطُوع بِهِ وَهُوَ إِجْمَاع الصَّحَابَة كَمَا أَن الْعَمَل بِالْعُمُومِ مَقْطُوع بِهِ فهما متساويان فِي هَذِه الْجِهَة وَمِنْهَا يَقع التَّخْصِيص فَيجب إذذ كَانَ أَحدهمَا أخص من الآخر أَن يخص بِهِ الْأَعَمّ كَمَا يخص الْعُمُوم بِدَلِيل خَاص مَقْطُوع بِهِ يبين ذَلِك أَنا نعدل عَن مُقْتَضى الْعقل فِي تَحْلِيل الأنبذة وَغير ذَلِك إِلَى الْقيَاس مَعَ أَن مُقْتَضى الْعقل مَقْطُوع بِهِ فَيجب مثله فِي الْعُمُوم فان قيل إِنَّمَا نعدل إِلَى الْقيَاس عَن مجوزات الْعُقُول لَا عَن واجباتها وَإِبَاحَة النَّبِيذ من مجوزات الْعُقُول قيل مَا معنى وصفكم لإباحة النَّبِيذ أَنه من مجوزات الْعُقُول فان قَالُوا معنى ذَلِك أَن الْعقل وَإِن أَبَاحَهُ فانه يجوز أَن يخْتَص بِوَجْه مفْسدَة فِي الْمُسْتَقْبل فَيرد الشَّرْع بِتَحْرِيمِهِ قيل لَهُم وكل مَا يعدل إِلَيْهِ بِالْقِيَاسِ عَن مُقْتَضى الْعُقُول هَذِه سَبيله وَهُوَ مَوضِع استدلالنا عَلَيْكُم فان قَالُوا إِنَّمَا جَوَّزنَا اسْتِعْمَال الْقيَاس فِي مُقْتَضى الْعقل لِأَن الْعقل اقْتضى حكمه بِشَرْط أَن لَا ينقلنا عَنهُ دَلِيل سَمْعِي وَالْقِيَاس دَلِيل سَمْعِي فاذا نقلنا عَن مُقْتَضى الْعقل وَجب الِانْتِقَال عَنهُ قيل والعموم أَيْضا إِنَّمَا يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاق مَا لم يمنعنا دَلِيل سَمْعِي وَالْقِيَاس فِي الْجُمْلَة دَلِيل سَمْعِي عندنَا وعندكم وَاعْلَم أَنا قد بَينا فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بأخبار الْآحَاد انه لَا يَصح الِاحْتِجَاج باجماع الصَّحَابَة على قبُول أَخْبَار الْآحَاد فِي الْجُمْلَة على قبُولهَا فِي التَّخْصِيص وَأَنه إِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يحْتَج بقبولهم لَهَا فِي التَّخْصِيص لِأَن إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ مُفَارقَة للاخرى وَمَا ذَكرْنَاهُ هُنَاكَ يتَوَجَّه هَا هُنَا فَلَا معنى لإعادته

دَلِيل قد خصت الصَّحَابَة الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهَا خصت آيَة الْجلد واخرجت مِنْهَا العَبْد لأَنهم لم يجلدوه مائَة وَإِنَّمَا خصوه بِالْقِيَاسِ وَلقَائِل أَن يَقُول مَا يؤمنكم أَن يَكُونُوا خصوه من الْآيَة بِدَلِيل غير الْقيَاس وَاسْتغْنى بِالْإِجْمَاع عَن نَقله دَلِيل قد خصت الصَّحَابَة قَول الله عز وَجل {وَأحل الله البيع} بِقِيَاس الارز على الْبر وَلقَائِل أَن يَقُول لَا سَبِيل لكم إِلَى بَيَان ذَلِك لِأَن كثيرا من الْفُقَهَاء لَا يسلمُونَ أَن الصَّحَابَة اعتقدت تَحْرِيم التَّفَاضُل فِيمَا عدا السِّتَّة فضلا عَن أَن يَكُونُوا محرمين لَهُ قِيَاسا دَلِيل قد عدلت الصَّحَابَة عَن ظَاهر الْقُرْآن لقياس فَيجب مثله فِي التَّخْصِيص لِأَن التَّخْصِيص عدُول عَن الظَّاهِر وَلقَائِل أَن يَقُول إِن من يُخَالف فِي تَخْصِيص عُمُوم الْكتاب بِالْقِيَاسِ لَا يسلم أَن الصَّحَابَة أَجمعت على ترك الظَّاهِر بِالْقِيَاسِ وَاحْتج الْمُخَالف باشياء مِنْهَا أَن عُمُوم الْكتاب دَلِيل مَقْطُوع بِهِ وَالْقِيَاس أَمارَة مظنونة وَلَا يجوز الِاعْتِرَاض بالمظنون على الْمَعْلُوم وَالْجَوَاب عَن ذَلِك قد تقدم فِي بَاب تَخْصِيص الْعُمُوم بأخبار الْآحَاد وَرُبمَا تعلق بِهَذِهِ الشُّبْهَة من لَا يُجِيز تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ إِذا لم يدْخلهُ التَّخْصِيص ويجيز تَخْصِيصه إِذا دخله التَّخْصِيص فاذا نوقض بتخصيصه بِالْقِيَاسِ إِذا دخله التَّخْصِيص يَقُول إِن دُخُول التَّخْصِيص يدل على أَن صَاحب الشَّرِيعَة قَالَ مَعَ الْعُمُوم احملوه على عُمُومه مَا لم يمنعكم مَانع وَيدل على أَن صَاحب الشَّرِيعَة قد أشعرنا بِأَنَّهُ معرض للتخصيص فَيُقَال لَهُ لم زعمت أَن تَخْصِيصه يَقْتَضِي حمله على عُمُومه مَا لم يمْنَع مِنْهُ مَانع فان قَالَ لِأَن الْعُمُوم من حَقه أَن يجْرِي على عُمُومه إِلَّا لدَلِيل قيل فَهَذَا حكم الْعُمُوم

سَوَاء علمنَا دُخُول التَّخْصِيص عَلَيْهِ أَو لم نعلم ذَلِك وَلَيْسَ يقف ذَلِك على دُخُول التَّخْصِيص وَيُقَال لَهُ وَدلَالَة الأمارة على تَخْصِيص الْعُمُوم تدل على أَن صَاحب الشَّرِيعَة قَالَ فِي الْعُمُوم إحملوه على عُمُومه إِلَّا أَن يمْنَع من ذَلِك مَانع وَيُقَال لَهُم لم زعمتم أَن دُخُول التَّخْصِيص فِي الْعُمُوم إِشْعَار بتخصيص زَائِد وَرُبمَا قَالُوا لَو خص الْعُمُوم الَّذِي لم يدْخلهُ التَّخْصِيص لاقترن بِهِ مَا يَخُصُّهُ لِأَن الْبَيَان لَا يتَأَخَّر قيل كَذَلِك يَقُول من لم يجوز تاخير الْبَيَان لِأَنَّهُ يذهب إِلَى أَن مَا دلّ على عِلّة الْقيَاس لم يكن مُتَأَخِّرًا عَن الْعُمُوم ثمَّ يُقَال لَهُ يلزمك مَا ألزمتنا فِي الْعُمُوم إِذا دخله التَّخْصِيص وَقَالُوا أَيْضا إِن مَا دخله التَّخْصِيص يدل على أَن صَاحب الشَّرِيعَة قد قَالَ فِيهِ إِنَّه لَيْسَ المُرَاد بِهِ جَمِيعه فَيكون مُجملا فَجَاز إِعْمَال الْقيَاس فِيهِ وَالْجَوَاب أَن الْعُمُوم إِذا خص تَخْصِيصًا معينا فانه يبْقى الْبَاقِي وَمَعْلُوم دُخُوله تَحت الْعُمُوم وَلَا يكون مُجملا وَإِنَّمَا يكون مُجملا إِذا خص تَخْصِيصًا غير معِين وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْقيَاس إِنَّمَا يَصح بِالضَّرُورَةِ الداعية إِلَيْهِ وَمَعَ وجود الْعُمُوم فَلَا ضَرُورَة تَدْعُو إِلَيْهِ الْجَواب يُقَال لَهُم اتريدون أَن الضَّرُورَة الداعية إِلَى الْقيَاس زائلة إِذا دخل الحكم تَحت لفظ الْعُمُوم أَو اذا كَانَ الحكم مرَادا بِالْعُمُومِ فان قَالُوا بِالْأولِ كَانَ مَوضِع الْخلاف وَإِن قَالُوا بِالثَّانِي لم يُمكنهُم أَن يبينوا أَن الحكم مُرَاد بِالْعُمُومِ إِلَّا إِذا اثبتوا أَن الْقيَاس لَيْسَ بِحجَّة مَعَ الْعُمُوم فَيصير دليلهم مَبْنِيا على نفس الْمَسْأَلَة فان قَالُوا تنَاول لفظ الْعُمُوم للمسألة يدل على أَنَّهَا مُرَادة بِهِ وَذَلِكَ نعني عَن الْقيَاس قيل إِنَّمَا تعلمُونَ أَن تنَاول لفظ الْعُمُوم لَهَا يدل على انها مُرَادة بِهِ إِذا علمْتُم أَنه لَيْسَ من شَرط دلَالَة الْعُمُوم على ذَلِك أَن لَا يُعَارضهُ قِيَاس وَإِنَّمَا تعلمُونَ ذَلِك إِذا علمْتُم أَن الْقيَاس الْمُخَصّص للْعُمُوم لَيْسَ بِدلَالَة وَهَذَا مَوضِع الْخلاف وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْقيَاس فرع على النَّص فَلَو خص الْقيَاس الْعُمُوم لَكَانَ قد اعْترض بالفرع على الأَصْل الْجَواب إِن قِيَاس الارز على الْبر إِنَّمَا يخص

قَول الله عز وَجل {وَأحل الله البيع} وَلَيْسَ هَذِه الْآيَة أصلا لهَذَا الْقيَاس لِأَن أصل الْقيَاس هُوَ إِمَّا مَا يَقع الرَّد إِلَيْهِ كالبر أَو تَحْرِيمه أَو مَا يدل على تَحْرِيمه أَو مَا يدل على صِحَة الْقيَاس كاجماع الصَّحَابَة وَغَيره فاما قَول الله عز وَجل {وَأحل الله البيع} فَلَيْسَ هُوَ الَّذِي رددنا إِلَيْهِ الارز وَلَا هُوَ الدَّال على صِحَة الْقيَاس فَلم يعْتَرض بالفرع على أَصله وَمِنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِمعَاذ بِمَاذَا تحكم قَالَ بِكِتَاب الله قَالَ فان لم تَجِد قَالَ بِسنة نبيه قَالَ فان لم تَجِد قَالَ أجتهد رَأْيِي فَجعل اجْتِهَاده مَشْرُوطًا بَان لَا يجد الحكم فِي الْكتاب وَالسّنة وَمَا يتَنَاوَلهُ عُمُوم الْكتاب وَالسّنة فَهُوَ مَوْجُود إِمَّا فِي الْكتاب وَإِمَّا فِي السّنة وَقد صَوبه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجَواب أَن المُرَاد بذلك إِن لم يجد فِي نَص الْكتاب وَالسّنة الَّذِي يعلم بدليلنا يدل على ذَلِك أَنه قَالَ أحكم بِكِتَاب الله عز وَجل قَالَ فان لم تَجِد قَالَ أحكم بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعْلُوم أَن ذَلِك لَا يمْنَع من تَخْصِيص الْكتاب بِالسنةِ الْمَعْلُومَة وَلَيْسَ يجوز الْجَواب عَن هَذَا الْخَبَر بَان يُقَال إِن حكم الْقيَاس غير مَوْجُود وَإِن تنَاوله الْعُمُوم وَأَن ذَلِك قد دخل تَحت قَوْله أجتهد رَأْيِي لِأَنَّهُ إِنَّمَا يعلم معَاذ أَن ذَلِك الحكم غير مَوْجُود فِي الْكتاب وان تنَاوله عُمُومه بعد أَن يجْتَهد فَيعلم أَن الْقيَاس قد دلّ على أَن ذَلِك الحكم لم يرد بِالْعُمُومِ وَعند ذَلِك يسْقط عَنهُ الِاجْتِهَاد وَمَعْلُوم أَنه قد جعل اجْتِهَاد رَأْيه مَشْرُوطًا بِنَفْي وجدانه الحكم وَهَذَا التَّأْوِيل يَقْتَضِي أَن نفي وجدانه الحكم فِي الْكتاب مَشْرُوط بتقدم اجْتِهَاد رَأْيه وَمِنْهَا أَن النّسخ كاتخصيص فِي ان كل وَاحِد مِنْهُمَا يدل على أَن الْمُخَاطب بِالْخِطَابِ لم يرد بِهِ بعض مَا تنَاوله فاذا لم يجز النّسخ بِالْقِيَاسِ فَكَذَلِك التَّخْصِيص وَالْجَوَاب أَن شَيخنَا أَبَا عبد الله يَقُول إِن الْأمة أَجمعت على أَن الْقُرْآن لَا ينْسَخ بِقِيَاس كَمَا أَجمعت الصَّحَابَة على أَنه يخص بِهِ وَلَوْلَا ذَلِك لجوزت نسخ الْقُرْآن بِهِ فالشبهة زائلة عَنهُ فان قيل كَيفَ يجوز أَن نجمع على

الْمَنْع مَا اجمعت الصَّحَابَة على جَوَازه قيل إِن الصَّحَابَة لم تنص على جَوَاز نسخ الْقُرْآن بِالْقِيَاسِ وَإِنَّمَا أَجمعت على تَخْصِيصه بِالْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يرد التَّعَبُّد بِأَحَدِهِمَا دون الآخر لوجه الْمصلحَة يفترقان فِيهِ لَا يُعلمهُ إِلَّا الله عز وَجل أَلا ترى أَنه كَانَ يجوز وُرُود النَّص بِالْفرقِ بَين التَّخْصِيص والنسخ بِالْقِيَاسِ وَأجَاب الشَّيْخ أَبُو هَاشم رَحمَه الله بِأَنَّهُ إِنَّمَا لم يجز النّسخ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن ينزل الله عز وَجل نصا وَيجْعَل الْعَمَل بِهِ مَوْقُوفا على اجتهادنا وَإِنَّمَا الْجَائِز صرفه من وَجه إِلَى وَجه بِالِاجْتِهَادِ وَلقَائِل أَن يَقُول إِن كَون الْعَمَل بِالنَّصِّ مَوْقُوفا على اجتهادنا مَعْنَاهُ أَنا نجوز أَن لَا يعْمل بِهِ أصلا إِذا أدّى الِاجْتِهَاد إِلَى ذَلِك وَلَيْسَ هَذَا سَبِيل النّسخ من الْمَنْسُوخ قد عمل بِهِ فِي حَال مُتَقَدّمَة فان كَانَ إِخْرَاج بعض الْأَشْخَاص من كَونهم مرادين بِالْخِطَابِ هُوَ صرف للخطاب من جِهَة إِلَى جِهَة وَلَيْسَ هُوَ إيقاف الْخطاب على اجتهادنا فَكَذَلِك إِخْرَاج حكم الْخطاب فِي بعض الْأَزْمَان دون بعض هُوَ صرف الْخطاب من جِهَة إِلَى جِهَة وَأجَاب أَصْحَاب الشَّافِعِي عَن الشُّبْهَة بِأَن النّسخ إِنَّمَا لم يَصح بِالْقِيَاسِ لِأَن كَونه نَاسِخا للنَّص بِخِلَافِهِ وَالْقِيَاس لَا يَصح إِذا دَفعه النَّص فوقوع النّسخ بِهِ وُقُوع بِدَلِيل فَاسد وَهَذَا لَا يَصح لِأَن الْقيَاس إِذا نسخ الْكتاب لم يكن الْكتاب بِخِلَافِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ يبطل حكمه وَإِنَّمَا يقصر حكمه على بعض الْأَزْمَان كَمَا أَن الْقيَاس إِذا خصّه لم يكن النَّص بِخِلَافِهِ لِأَنَّهُ لم يرفعهُ بِالْقِيَاسِ وَإِنَّمَا قصره على بعض الْأَشْخَاص وَمِنْهَا قَوْلهم من شَرط الْقيَاس أَن لَا يردهُ النَّص لِأَن الامة أَجمعت على هَذَا الشَّرْط وَإِذا كَانَ الْعُمُوم بِخِلَاف الْقيَاس فقد رده النَّص الْجَواب يُقَال لَهُم إِن أردتم برد النَّص أَن يكون الْقيَاس دافعا لَهُ أصلا فَكَذَلِك نقُول وَلَيْسَ ذَلِك مَوْجُودا فِي مَسْأَلَتنَا وَإِن أردتم أَن يكون الْقيَاس يُنَافِي بعض مَا اقْتَضَاهُ الْعُمُوم فَلَيْسَ فَسَاد مَا هَذِه سَبيله يجمع بل هُوَ مَوضِع الْخلاف

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي قلب الْعلَّة وَالْقَوْل بموجبها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما قلب الْعلَّة فَهُوَ أَن يعلق الْخصم عَلَيْهَا ضد مَا علقه الْمُعَلل من الحكم فَلَا يكون تَعْلِيق أحد الْحكمَيْنِ أولى من الآخر فَيبْطل تعلقهَا بهما وَذَلِكَ على أضْرب أَحدهمَا أَن يكون الحكمان مفصلين وَالْآخر أَن يَكُونَا مجملين وَالْآخر أَن يكون أَحدهمَا مُجملا وَالْآخر مفصلا أما المفصلان فضربان أَحدهمَا أَن يتناقضا بأنفسهما حَتَّى يَقُول الْمُعَلل فَوَجَبَ أَن يجوز وَيَقُول الاخر فَوَجَبَ أَن لَا يجوز وَالْآخر لَا يتناقضان بأنفسهما بل بِوَاسِطَة مِثَاله أَن يُعلل الْمُعَلل اسْتِحْقَاق من قتل بِغَيْر السَّيْف للْقصَاص بِأَنَّهُ قتل لَا على وَجه الْقصاص فَأشبه مَا إِذا قتل الْقَاتِل بِالسَّيْفِ فَيَقُول الْخصم فَوَجَبَ أَن لَا يقْتَصّ مِنْهُ بِغَيْر السَّيْف كَمَا إِذا قتل الْقَاتِل بِالسَّيْفِ أما الْقسم الأول فَلَا وجود لَهُ لِأَن الْحكمَيْنِ إِذا تناقضا كذب احدهما واستحال اجْتِمَاعهمَا فِي الأَصْل وَمن حق من قلب الْقيَاس أَن يصدق هُوَ والمعلل فِيمَا يحكمان بِهِ فِي الأَصْل واما الثَّانِي فَلهُ وجود وَهُوَ دَلِيل على فَسَاد الْعلَّة لِأَنَّهُ لَيْسَ بَان تدل الْعلَّة على أحد الْحكمَيْنِ وَلَا تدل على الآخر لِأَن الْإِجْمَاع وَاقع على أحد الْحكمَيْنِ إِذا ثَبت انْتَفَى الآخر بِأولى من الْعَكْس واما إِذا كَانَا مجملين فنحو أَن يَقُول أَحدهمَا فَوَجَبَ أَن يكون من شَرط هَذِه الْعِبَادَة معنى مَا وَيَقُول الآخر فَوَجَبَ أَن لَا يكون من شَرطهَا معنى من الْمعَانِي وَهَذَا كالقسم الأول فِي التَّنَاقُض لِأَن الْحكمَيْنِ وَإِن كَانَا مجملين فهما مفصلان فِي إِثْبَات الشَّرْط ونفيه وَأما إِذا كَانَ أَحدهمَا مُجملا وَالْآخر مفصلا فضربان أَحدهمَا أَن يكون الْمُجْمل هُوَ حكم التَّسْوِيَة نَحْو أَن يَقُول الْقَائِل فَوَجَبَ أَن يَسْتَوِي كَذَا مَعَ كَذَا وَتَكون الامة مجمعة على أَن أَحدهمَا على الْحَظْر فَيجب مثله فِي الآخر وَالْآخر لَيْسَ هُوَ قِيَاس التَّسْوِيَة ومثاله تَعْلِيل الِاعْتِكَاف

بِأَنَّهُ لبث فِي مَكَان مَخْصُوص فَكَانَ من شَرطه اقتران معنى من الْمعَانِي كالوقوف بِعَرَفَة وَيَقُول الْخصم فَلم يكن من شَرطه الصَّوْم كالوقوف وَهَذَا هُوَ الَّذِي قلبه يفْسد الْعلَّة لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَن يدل الْعلَّة على أَحدهمَا فَيَنْتَفِي الآخر لمَكَان الْإِجْمَاع بِأولى من الْعَكْس وَهَذَا أولى مِمَّا ذَكرْنَاهُ فِي كتاب أفردناه فِي الْقيَاس الشَّرْعِيّ فان اعْترض قلب الْعلَّة نقض أَو غَيره من وُجُوه الْفساد بَطل الْقلب وَصَحَّ قِيَاس الْمُعَلل لِأَنَّهُ قد صَار حكمه أولى بِأَن يعلق على الْعلَّة فَأَما القَوْل بِمُوجب الْعلَّة فَهُوَ أَن يُمكن الْخصم أَن يَقُول بالحكم الَّذِي علقه القائس فَيعلم أَن الْعلَّة مَا دلّت على مَوضِع الْخلاف مِثَاله تَعْلِيل الِاعْتِكَاف بِأَنَّهُ لبث فِي مَكَان مَخْصُوص فَكَانَ من شَرطه معنى مَا كالوقوف بِعَرَفَة فَيَقُول الْخصم أَنا أَقُول من شَرط الِاعْتِكَاف اقتران معنى مَا وَهُوَ النِّيَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تَخْصِيص الْعلَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْعلَّة قد يُوجد مَعْنَاهَا فِي فرع من دون حكمهَا وَقد يُوجد لَفظهَا وَمَعْنَاهَا فِي فرع من دون حكمهَا فَالْأول هُوَ الْكسر وَذَلِكَ بِأَن ترفع وَصفا من أَوْصَاف الْعلَّة ظنا مِنْك أَنه لَا تَأْثِير لَهُ وَأَن الَّذِي يجوز أَن يُؤثر فِي الحكم هُوَ مَا عداهُ ثمَّ ينْقض مَا عداهُ مِثَاله أَن يُعلل مُعَلل وجوب صَلَاة الْخَوْف بِأَنَّهَا صَلَاة يجب قَضَاؤُهَا كَصَلَاة الْأَمْن فيظن الْمُعْتَرض انه لَا تَأْثِير لكَون الْعِبَادَة صَلَاة فِي هَذَا الحكم وَأَن الَّذِي يظنّ أَنه مُؤثر فِي الْوُجُوب هُوَ وجوب الْقَضَاء ثمَّ ينْقض ذَلِك بِصَوْم الْحَائِض فِي شهر رَمَضَان يجب قَضَاؤُهُ وَلَيْسَ بِوَاجِب وَيَنْبَغِي للمعلل إِذا أَرَادَ أَن يُجيب عَن ذَلِك أَن يبين أَن لكَون الْعِبَادَة صَلَاة تَأْثِيرا فِي الحكم الْمُعَلل وَأَن الصَّلَاة تخَالف الصّيام فِي هَذَا الْبَاب

وَأما الْقسم الثَّانِي فَهُوَ النَّقْض وَقد اخْتلف النَّاس هَل يجوز تَخْصِيص الْعلَّة المستنبطة وَلَا يمْنَع ذَلِك من كَونهَا أَمارَة على الحكم وَلَا يجوز تخصيصها وَيكون تخصيصها مَانِعا من كَونهَا أَمارَة فَأكْثر أَصْحَاب أبي حنيفَة يجيزون تخصيصها وَهُوَ محكي عَن مَالك وَأَصْحَاب الشَّافِعِي يمْنَعُونَ وَرُبمَا مر فِي كَلَام الشَّافِعِي جَوَازه وَذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَن الشَّافِعِي يُجِيز ذَلِك وَإِنَّمَا يعدل عَن حكم عِلّة إِلَى حكم عِلّة أُخْرَى والمعلوم من مذْهبه أَنه يشْتَرط نفي الْعلَّة الثَّابِتَة فِي الْعلَّة الاولى حَتَّى لَا ينْتَقض غير أَنه لَا يُصَرح بِاشْتِرَاط ذَلِك لِأَنَّهُ مَعْلُوم من مذْهبه الِاشْتِرَاط أما الْعلَّة الشَّرْعِيَّة المنصوصة فقد اتّفق على جَوَاز تخصيصها من أجَاز تَخْصِيص الشَّرْعِيَّة المستنبطة وَاخْتلف مانعو تَخْصِيص المستنبطة فِي جَوَاز تَخْصِيص المنصوصة الشَّرْعِيَّة فَأَجَازَهُ بَعضهم وَهُوَ ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي وَمنع مِنْهُ آخَرُونَ وَأقوى مَا يحْتَج بِهِ المانعون من تخيص الْعلَّة المستنبطة هُوَ أَن يُقَال معنى قَوْلنَا إِنَّه لَا يجوز تَخْصِيص الْعلَّة هُوَ أَن تخصيصها يمْنَع من كَونهَا أَمارَة وطريقا إِلَى الْوُقُوف على الحكم فِي شَيْء من الْفُرُوع سَوَاء ظن بهَا أَنه وَجه الْمصلحَة أَو لم يظنّ بهَا ذَلِك فاذا بَينا ان تخصيصها يمْنَع من كَونهَا طَرِيقا إِلَى الحكم فقد تمّ مَا اردناه وَبَيَان ذَلِك أَنا إِذا علمنَا أَن عِلّة تَحْرِيم بيع الذَّهَب بِالذَّهَب مُتَفَاضلا هِيَ كَونه مَوْزُونا ثمَّ علمنَا إِبَاحَة بيع الرصاص مُتَفَاضلا مَعَ أَنه مَوْزُون لم يخل إِمَّا أَن نعلم ذَلِك بعلة أُخْرَى تَقْتَضِي إِبَاحَته هِيَ أقوى من عِلّة تَحْرِيم الذَّهَب وَإِمَّا أَن نعلم ذَلِك بِنَصّ فَإِن دلّ على إِبَاحَته عِلّة يُقَاس بهَا الرصاص على أصل مُبَاح نَحْو كَونه أَبيض أَو غير ذَلِك من أَوْصَافه فانا حِينَئِذٍ إِنَّمَا نعلم تَحْرِيم بيع الْحَدِيد مُتَفَاضلا لِأَنَّهُ مَوْزُون غير أَبيض لأَنا لَو شككنا فِي كَونه أَبيض لم نعلم قبح بَيْعه مُتَفَاضلا كَمَا لَا نعلم ذَلِك لَو شككنا فِي كَونه مَوْزُونا فَبَان أَنا لَا نعلم بعد التَّخْصِيص تَحْرِيم شَيْء بِكَوْنِهِ مَوْزُونا فَقَط وَبَطل أَن يكون هَذَا فَقَط عِلّة وَثَبت أَن الْعلَّة كَونه مَوْزُونا مَعَ أَنه غير أَبيض

فان قَالَ أَنا أشترطه غير أَنِّي لَا أُسَمِّيهِ جُزْءا من الْعلَّة وَإِن كَانَ التَّحْرِيم لَا يحصل من دونه قيل قد ناقضت فِي هَذَا الْكَلَام لِأَنَّك قد اشترطته فِي التَّحْرِيم وَلم تفصل بَينه وَبَين غَيره من الْأَوْصَاف ثمَّ نقضت ذَلِك بِقَوْلِك لَا أُسَمِّيهِ جُزْءا من الْعلَّة مَعَ أَنَّك قد وَافَقت فِي الْمَعْنى وخالفت فِي الِاسْم وَإِن دلّ على إِبَاحَة بيع الرصاص نَص وَكُنَّا قد علمنَا إِبَاحَته فَالْقَوْل فِي ذَلِك قد تقدم من أَن نشترط نفي عِلّة الْإِبَاحَة فِي عِلّة الْحَظْر وَإِن لم نعلم عِلّة إِبَاحَته فمعلوم أَن عِلّة ذَلِك مَقْصُورَة على الرصاص لَا يتخطأه لِأَنَّهَا لَو تخطئه لوَجَبَ فِي الْحِكْمَة أَن ينصب الله عَلَيْهَا دلَالَة ليعلم ثُبُوت حكمهَا فِيمَا عدا الرصاص وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم نعلم قبح بيع الْحَدِيد مُتَفَاضلا وَلَا غَيره إِلَّا إِذا علمناه مَوْزُونا لَيْسَ بِرَصَاصٍ لِأَنَّهُ لَو شككنا فِي كَونه رصاصا لم نعلم قبح بَيْعه مُتَفَاضلا وَكَذَا القَوْل فِي الِاسْتِدْلَال بِالْعُمُومِ لأَنا إِنَّمَا نعلم حسن قتل زيد الْمُشرك بقول الله عز وَجل {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} وَإِن ذَلِك تنَاوله اللَّفْظ مَعَ أَنه لَا دَلِيل يخصصه وَهَذَا لَا يُمكن تَخْصِيصه وَالَّذِي يبين مَا قُلْنَاهُ من اشْتِرَاط نفي الْمُخَصّص أَن الْإِنْسَان لَو اسْتدلَّ على طَرِيقه فِي بَريَّة بأميال مَنْصُوبَة ثمَّ رأى ميلًا لَا يدل على طَرِيقه وَعلم أَنه لَا يدل على طَرِيقه لِأَنَّهُ أسود فانه لَا يسْتَدلّ فِيمَا بعد على طَرِيقه بِوُجُود ميل دون أَن يعلم أَنه غير أسود لِأَنَّهُ لَو شكّ فِي سوَاده لم يسْتَدلّ بِهِ على طَرِيقه فقد صَحَّ مَا اردناه وَالْعلَّة المنصوصة فِي ذَلِك كالمستنبطة وَقد احْتج فِي الْمَسْأَلَة بأَشْيَاء أخر مِنْهَا أَنه لَا طَرِيق إِلَى صِحَة الْعلَّة الشَّرْعِيَّة المستنبطة إِلَّا جريانها فِي معلولاتها فاذا لم تجر فِيهَا لم يكن إِلَى صِحَّتهَا طَرِيق وَلَو كَانَت صَحِيحَة لوَجَبَ فِي الْحِكْمَة نصب طَرِيق إِلَيْهَا وَهَذَا بَاطِل لما بَيناهُ من أَن جَرَيَان الْعلَّة فِي معلولها لَيْسَ بطرِيق إِلَى صِحَّتهَا فضلا أَن يُقَال إِنَّه لَيْسَ إِلَيْهَا طَرِيق سواهُ

فَلم يجب بطلَان الْعلَّة إِذا لم تجر فِي معلولها وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة قد دلّ الدَّلِيل على تعلق الحكم بهَا فَلم يجز تخصيصها كالعلة الْعَقْلِيَّة وَلقَائِل أَن يَقُول وَلم زعمتم أَن الْعَقْلِيَّة إِنَّمَا لم يجز تخصيصها لِأَن الدّلَالَة دلّت على تعلق الحكم بهَا وَمَا أنكرتم أَن الَّذِي لَهُ لم يجز تخصيصها هُوَ كَونهَا مُوجبَة وَالْعلَّة الشَّرْعِيَّة أَمارَة فالأمارات قد يتبعهَا حكمهَا وَقد لَا يتبعهَا فان قَالُوا ألستم تجوزون كَون بعض الْعِلَل الشَّرْعِيَّة وَجه الْمصلحَة ووجوه الْمصَالح مُوجبَات ايضا فَلم يجز إِذا تخصيصها قيل إِن ثَبت ذَلِك فِي بعض الْعِلَل الشَّرْعِيَّة فَأَنا نظن كَونهَا وَجه مصلحَة فَهِيَ من هَذِه الْجِهَة أَمارَة أَيْضا والأمارات المظنونة لَا يجب أَن لَا تخطيء أبدا فان قَالُوا الْعلَّة الْمَانِعَة من تَخْصِيص الْعَقْلِيَّة هُوَ وجوب تبع حكمهَا لَهَا اينما حصلت مَا لم يمْنَع من ذَلِك مَانع فَلذَلِك لم يجز ان يمْنَع مَانع من حكمهَا وَكَانَ وجوب تبع الحكم لَهَا من غير مَانع هُوَ الَّذِي لأَجله لم يجز أَن يمْنَع مَانع من حكمهَا قيل لم زعمتم أَن الْعلَّة مَا ذكرْتُمْ وَلم إِذا وَجب تبع الحكم لَهَا مَا لم يمْنَع مَانع لم يجز أَن يمْنَع مَانع من تَعْلِيق الحكم بهَا فِي بعض الْمَوَاضِع ثمَّ يبطل ذَلِك عَلَيْهِم بِالْعِلَّةِ المنصوصة على قَول من أجَاز تخصيصها وَيبْطل بِالْعُمُومِ لِأَنَّهُ يجب شُمُوله مَا لم يمْنَع مِنْهُ مَانع وَلَا يَسْتَحِيل أَن يمْنَع مَانع من شُمُوله وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة مَعَ الشَّرْع كالعقلية مَعَ الْعقل فَكَمَا لم يجز تَخْصِيص هَذِه الْعلَّة لم يجز تَخْصِيص تِلْكَ وَلقَائِل أَن يَقُول إِن عنيتم أَنَّهَا مَعَ الشَّرْع كالعقلية مَعَ الْعقل من حَيْثُ دلّ الدَّلِيل على تعلق الحكم بهَا فَهُوَ الدَّلِيل الْمُتَقَدّم وَإِن عنيتم أَنَّهَا مَعَ الشَّرْع كالعقلية مَعَ الْعقل فِي الْمَنْع من تخصيصها فقد جمعتم بَينهمَا بِغَيْر عِلّة وَمِنْهَا أَن الأمارة الدَّالَّة على الْعلَّة هِيَ طريقها وَالطَّرِيق إِلَى الاعتقادات والظنون لَا يخْتَلف فِي الشَّخْص الْوَاحِد بل إِذا كَانَ طَرِيقا إِلَى الظَّن شَيْء أَو اعْتِقَاده وَوجد فِي شَيْء آخر كَانَ طَرِيقا إِلَى اعْتِقَاده أَو ظَنّه فَيجب أَن يكون

الأمارة طَرِيقا إِلَى ظن الْوَصْف عِلّة فِي كل مَوضِع وجدت فِيهِ وَلقَائِل أَن يَقُول الأمارة لَيست دَالَّة على أَن الْعلَّة فِي الْفُرُوع فَيلْزم الْإِنْسَان أَن يعْتَقد كَونهَا عِلّة فِي كل تِلْكَ الْفُرُوع وَإِنَّمَا هِيَ دَالَّة على أَنَّهَا عِلّة الأَصْل وَإِنَّمَا يعلم أَنه لَا يجوز تخصيصها بِنَظَر آخر وَهُوَ مَوضِع الْخلاف وَمِنْهَا أَن الْعلَّة طَرِيق إِلَى إِثْبَات الحكم فِي الْفَرْع لأَنا إِذا علمنَا أَن الْوَصْف عِلّة الأَصْل وَدلّ الدَّلِيل على التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فان الْوَصْف يكون طَرِيقا إِلَى إِثْبَات الحكم فِي الْفَرْع فاذا اخْتصَّ هَذَا الطَّرِيق بفرعين لم يجز كَونه طَرِيقا إِلَى الْعلم بِحكم أَحدهمَا وَلَا يكون طَرِيقا إِلَى الْعلم بِحكم الآخر لِأَن طَرِيق الْعلم بالشَّيْء أَو الظَّن لَهُ لَا يجوز حُصُوله فِي اشياء فَيكون طَرِيقا إِلَى الْعلم أَو الظَّن بِأَحَدِهِمَا وَلَا يكون طَرِيقا إِلَى ذَلِك فِي الآخر سِيمَا وَمَا ذَكرْنَاهُ طَرِيق إِلَى الْعلم بِحكم الْفَرْع وَلَيْسَ بطرِيق إِلَى الظَّن وَإِنَّمَا الطَّرِيق إِلَى الظَّن مَا ذَكرْنَاهُ من الأمارة لِأَنَّهُ طَرِيق إِلَى كَون الْوَصْف عِلّة للْحكم وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن الحكم فِي الطّرق لَا يخْتَلف لِأَن هَذِه سَبِيل الْأَدِلَّة والإدراك فِي كَونهمَا طَرِيقين إِلَى الْعلم فان قيل إِنَّمَا وَجب ذَلِك فِيمَا ذكرْتُمْ لِأَنَّهُ طرف مُوجب قيل الْإِدْرَاك لَيْسَ بِمُوجب للْعلم فقد استمرت هَذِه الْقَضِيَّة فِيهِ فان قيل الْعلَّة فِي اسْتِمْرَار الْأَدِلَّة والإدراك فِيمَا ذكرْتُمْ أَنه لَيْسَ للأمارات فِيهَا مدْخل وَلَيْسَ كَذَلِك الحكم بِالْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّة قيل إِن مَا ذَكرْنَاهُ لَا يخْتَلف بِحَسب الأمارات لِأَن من ظن أَن زيدا فِي الدَّار بِخَبَر رجل بعيد من الْكَذِب فانه لَا يجوز أَن يُخبرهُ عَن كَون عَمْرو فِي الدَّار فَلَا يَظُنّهُ صَادِقا فاذا وَجب ذَلِك فِي الأمارات المفردة فَالَّذِي يقْتَرن بهَا أَدِلَّة قَاطِعَة أولى بذلك وَلقَائِل أَن يَقُول لَيْسَ الْعلَّة فِي الْعلَّة والإدراك أَنَّهُمَا طَرِيقَانِ بل لِأَن الْأَدِلَّة إِمَّا أَن كَون مُوجبَة كدلالة كَون الْحَيّ حَيا على كَونه مدْركا وَإِمَّا أَن تكون لَوْلَا الْمَدْلُول مَا كَانَت الدّلَالَة على كل حَال كدلالة صِحَة الْفِعْل على كَون فَاعله قَادِرًا وَلَيْسَ كَذَلِك الأمارة لِأَنَّهَا غير مُوجبَة وَلَيْسَت لَوْلَا الْمَدْلُول مَا كَانَت الأمارة على كل حَال وَأما كَون الْمدْرك مدْركا فَعِنْدَ اصحابنا يجب عِنْده الْعلم بالمدرك فَهُوَ كالموجب وَالصَّحِيح أَن كَون الْمدْرك مدْركا يُوجب

كَونه عَالما بالمدرك وَله أَن يَقُول إِذا جَازَ أَن تخْتَلف الْأَدِلَّة والأمارات فِي الشخصين فَهَلا جَازَ اخْتِلَافهمَا فِي الشَّخْص الْوَاحِد فانكم لَا تجيزون أَن يسْتَدلّ الِاثْنَان بِالدّلَالَةِ اسْتِدْلَالا صَحِيحا فَيعلم أَحدهمَا مدلولها دون الاخر وَلَا أَن يسْتَدلّ الْوَاحِد بِالدّلَالَةِ على مَدْلُول فِي موضِعين فَيعلم ثُبُوته فِي أَحدهمَا دون الآخر وتجيزون أَن ينظر الِاثْنَان فِي الأمارة نظرا وَاحِدًا فيظن أَحدهمَا حكمهَا دون الآخر فَيعلم حكمهَا فِي أحد الشَّيْئَيْنِ دون الآخر وَيُفَارق الْأَدِلَّة فِي ذَلِك كَمَا فَارقهَا فِي الناظرين وَيَقُول ايضا على استدلالهم بالْخبر إِن من أخبرهُ زيد بِأَن عمرا فِي الدَّار فانه لَو قيل لَهُ لم ظَنَنْت أَن عمرا فِي الدَّار لقَالَ إِن زيدا أخبر بذلك وَهُوَ بعيد من الْكَذِب وَمَعَ ذَلِك قد يُخبرهُ بِأَن خَالِدا فِي الدَّار فَلَا يظنّ ذَلِك إِذا أخبرهُ من هُوَ أبعد من الْكَذِب مِنْهُ أَنه فِي ذَلِك الْوَقْت فِي السُّوق أَو ظن كَونه فِي السُّوق بأمارة أُخْرَى وَلَا يخرج إِخْبَار زيد على كَونه أَمارَة على أَن عمرا فِي الدَّار لِأَن الأمارة لَا تخرج عَن كَونهَا أَمارَة إِذا أَخْطَأت فِي مَوضِع آخر فَكَذَلِك لَا تخرج الْعلَّة من كَونهَا أَمارَة وَإِن تخلف عَنْهَا حكمهَا وَمِنْهَا لَو جَازَ وجود الْعلَّة فِي فرع وَلَا يتبعهَا فِيهَا حكمهَا لم يكن بعض الْفُرُوع بذلك أولى من بعض فَكَانَ يجب أَن نحتاج فِي تعلق الحكم عَلَيْهَا فِي كل فرع إِلَى دلَالَة لِأَن كَونهَا عِلّة لَيْسَ يَقْتَضِي تَعْلِيق الحكم بهَا فِي كل مَوضِع إِن قيل أَلَيْسَ يجوز تَخْصِيص الْعُمُوم وَلم يُخرجهُ ذَلِك من كَونه دلَالَة قيل إِن التَّخْصِيص لَيْسَ يدْخل الْعُمُوم من الْوَجْه الَّذِي كَانَ مِنْهُ دلَالَة لِأَنَّهُ إِنَّمَا يدل لأجل صيغته بِشَرْط انْتِفَاء الْقَرَائِن وصدره عَن حَكِيم وَلَيْسَ يجوز اجْتِمَاع ذَلِك كُله وَلَا يدل فَلم توجودنا دلَالَة حصلت فِي مَوضِع وَلم تدل وَلم ينْقض ذَلِك كَونهَا دلَالَة وَلَيْسَ كَذَلِك الْعلَّة عنْدكُمْ لأنكم جعلتموها أَمارَة وخصصتموها مَعَ ذَلِك وَلقَائِل أَن يَقُول قَوْلكُم لَيْسَ بعض الْفُرُوع بِأَن لَا يُوجد فِيهِ حكمهَا اولى من بعض بَاطِل لِأَن بَعْضهَا أولى من بعض لِأَن

الْفَرْع الْمُخْتَص بِمَا يمْنَع من حكم الْعلَّة أولى بِأَن لَا يُوجد فِيهِ حكم الْعلَّة من فرع لم يُوجد فِيهِ مَا يمْنَع من حكم الْعلَّة وَذَلِكَ أَن الْعلَّة أَمارَة والأمارة يتبعهَا حكمهَا على الْأَكْثَر وَلذَلِك كَانَت طَرِيقا إِلَى الظَّن وَالْأَصْل فِيهَا أَن يتبعهَا حكمهَا إِلَّا لمَانع فان وجدت فِي مَوضِع وَكَانَ حكمهَا لَا يتبعهَا وَالْحكمَة تَقْتَضِي أَن يدل الله عز وَجل على ذَلِك فاذا لم يدلنا عَلَيْهِ فَلَا مَانع من تَعْلِيق الحكم بهَا وَمِنْهَا قَوْلهم وجود الْعلَّة مَعَ عدم حكمهَا يدل على أَن الْمُعَلل مَا استوفى شُرُوط الْعلَّة وَالْعلَّة إِذا لم تستوف شُرُوطهَا كَانَت بَاطِلَة الْجَواب يُقَال لَهُم وَلم زعمتم أَن تخلف حكمهَا عَنْهَا يدل على أَن الْمُعَلل مَا استوفى شُرُوط الْعلَّة وَلَا بُد من أَن يَقُولُوا لَو استوفى شُرُوطهَا لم يتَخَلَّف عَنْهَا حكمهَا فَيُقَال لَهُم هَذَا مَوضِع الْخلاف وَيبْطل ذَلِك بِالْعِلَّةِ المنصوصة إِذا لم يُقرر بهَا التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ وَيبْطل على بَعضهم بتخصيص الْعلَّة المنصوصة مَعَ وُرُود التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ وَمِنْهَا قَوْلهم إِن وجود الْعلَّة مَعَ عدم حكمهَا مناقضة وَهُوَ من آكِد مَا يفْسد بِهِ الْعلَّة وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم مَا معنى قَوْلكُم مناقضة فان قَالُوا المناقضة هِيَ الْإِقْرَار بِوُجُود الْعلَّة من دون حكمهَا من غير دَلِيل منع من حكمهَا قيل هَذَا لَا يدل على فَسَاد الْعلَّة وَإِنَّمَا يدل على أَن الْمُعَلل قد أَخطَأ حِين لم يتبعهَا حكمهَا فان قَالُوا المناقضة هِيَ الْإِقْرَار بِوُجُود الْعلَّة من دون حكمهَا وَإِن دلّ الدَّلِيل على انْتِفَاء حكمهَا قيل لَهُم مخالفكم لَا يسلم أَن ذَلِك مناقضة وَيَقُول إِن سميتم أَن ذَلِك مناقضة فَلم زعمتم أَنه يفْسد الْعلَّة فان قَالُوا إِنَّمَا قُلْنَا إِن ذَلِك مناقضة تفْسد الْعلَّة لِأَن الْعُقَلَاء يعدونه مناقضة مفْسدَة حَتَّى الْعَوام مِنْهُم لِأَن قَائِلا لَو قَالَ سامحت فلَانا لِأَنَّهُ بَصرِي ثمَّ لم يسامح غَيره من الْبَصرِيين لقَالَ لَهُ الْعَوام والخواص زعمت أَنَّك سامحت فلَانا لِأَنَّهُ بَصرِي فَهَذَا بَصرِي قيل إِن هَذَا الْإِنْسَان لَو اعتذر بِأَنَّهُ لم يسامح فلَانا وَإِن

كَانَ بصريا لِأَنَّهُ عدوه لم يُمكن أَن يدعى على جَمِيع النَّاس أَنهم يذمونه ويلزمونه اشْتِرَاط نفي الْعَدَاوَة فِي علته الأولى وَإِن ادعوا ذَلِك على جَمِيع الْعُقَلَاء فمخالفوهم من الْعُقَلَاء وَلَا يلزمون الْمُعَلل ذَلِك فان قَالُوا لَو لم تفْسد الْعلَّة بتخصيصها لم تفْسد بمعارضة نَص لَهَا قيل لَهُم إِن أردتم أَن النَّص عارضها فِي بعض فروعها فَهَذَا هُوَ التَّخْصِيص الَّذِي لَا تفْسد الْعلَّة بِهِ عِنْد خصومكم وَإِن اردتم أَن النَّص يمْنَع من حكمهَا فِي جَمِيع فروعها فَمن أجَاز الْعلَّة القاصرة لَا يمْنَع من كَونهَا عِلّة فِي الأَصْل فَقَط وَمن لم يجز ذَلِك يفْسد الْعلَّة من حَيْثُ كَانَت قَاصِرَة خَارِجَة عَن كَونهَا أَمارَة فِي كل الْمَوَاضِع وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا تخلف عَنْهَا حكمهَا فِي بعض فروعها لمَانع لِأَن ذَلِك لَا يمْنَع من كَونهَا أَمارَة على أَن هَذِه الشُّبْهَة تبطل بِالنَّصِّ على الْعلَّة إِذا لم يرد مَعَه التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ على قَول من لم يجز الْقيَاس بهَا لِأَن حكمهَا يَنْتَفِي عَنْهَا فِي الْفُرُوع كلهَا وَلَيْسَ ذَلِك مناقضة وَلَا يجْرِي مجْرى مُعَارضَة النَّص بعلة وَيبْطل الْعلَّة المنصوصة مَعَ وُرُود التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْعلَّة مَعَ كل فرع تجْرِي مجْرى النَّص على فرع وَاحِد فَكَمَا لم يجز تَخْصِيص النَّص على فرع وَاحِد فَكَذَلِك الْعلَّة الْجَواب إِن النَّص المتناول لعين وَاحِدَة لَا يُمكن تَخْصِيصه لِأَنَّهُ غير متناول الْأَشْيَاء فَيخرج بَعْضهَا وَلَيْسَ كَذَلِك الْعلَّة الشائعة فِي فروع كَثِيرَة لِأَنَّهَا تتَنَاوَل أَشْيَاء فَهِيَ كالعموم فَجَاز أَن تدل دلَالَة على إِخْرَاج بعض تِلْكَ الْأَشْيَاء من حكمهَا وَيبْطل ذَلِك بِالْعِلَّةِ المنصوصة على قَول من أجَاز تخصيصها وَاحْتج من أجَاز تَخْصِيص الْعلَّة بأَشْيَاء مِنْهَا أَن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة أَمارَة فَجَاز وجودهَا فِي مَوضِع وَلَا حكم كَمَا جَازَ وجودهَا قبل الشَّرْع وَلَيْسَ مَعهَا ذَلِك الحكم وَلقَائِل أَن يَقُول وَلم إِذا جَازَ قبل كَونهَا أَمارَة أَن يُوجد من دون حكمهَا جَازَ تخصيصها بعد كَونهَا أَمارَة وَمَا تنكرون أَن تكون لما صَارَت أَمارَة صَارَت طَرِيقا إِلَى الحكم وَلَيْسَ

كَذَلِك قبل كَونهَا أَمارَة أَلا ترى أَنَّهَا قبل الشَّرِيعَة لم يتَعَلَّق بهَا حكم وَلَا يجوز أَن يتَعَلَّق بهَا حكم أصلا بعد كَونهَا أَمارَة على أَن ذَلِك يبطل على قَول الشَّيْخ أبي عبد الله رَحمَه الله بِالْعِلَّةِ فِي التّرْك لِأَنَّهُ قد أجَاز وجودهَا قبل الشَّرِيعَة من دون حكمهَا وَلم يجز تخصيصها بعد كَونهَا أَمارَة وَمِنْهَا أَن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة أَمارَة على الحكم بِجعْل جَاعل فَجَاز أَن نَجْعَلهَا أَمارَة فِي مَكَان دون مَكَان كَمَا أَن خبر الْوَاحِد لما كَانَ أَمارَة جَازَ أَن يَجْعَل أَمارَة مَعَ عدم نَص الْقُرْآن وَلَا يَجْعَل أَمارَة مَعَ أَن نَص الْقُرْآن بِخِلَافِهِ الْجَواب إِن الْعلَّة لَا تكون أَمارَة على الحكم بِجعْل جَاعل لأننا إِن جعلناها وَجه الْمصلحَة فوجوه الْمصَالح لَا تكون كَذَلِك بِجعْل جَاعل وَكَذَلِكَ جَمِيع وُجُوه الْقبْح وَالْحسن أَلا ترى أَن كَون الْفِعْل ردا للوديعة لَا يكون وَجها فِي حسنه بِجعْل جَاعل وَإِن جعلناها أَمارَة تُوجد مَعَ وَجه الْمصلحَة فكونها كَذَلِك لَيْسَ بِجعْل جَاعل بل هِيَ كَذَلِك شَاءَ الْجَاعِل ذَلِك أَو لم يشأه فَإِن وجدت الأمارة مَعَ وَجه الْمصلحَة فِي مَوضِع دون مَوضِع وعرفنا ذَلِك فَلَا بُد من أَن نشترط انْتِفَاء الْموضع الَّذِي يُوجد الْعلَّة فِيهِ من دون وَجه الْمصلحَة حَتَّى يَصح أَن تكون طَرِيقا وَلِهَذَا نقُول إِن خبر الْوَاحِد أَمارَة وَطَرِيق إِلَى حكم بِشَرْط أَن لَا يُعَارض كتابا وَلَا خَبرا متواترا أَو إِجْمَاعًا وَمِنْهَا قَوْلهم إِنَّه إِذا كَانَ الْمَانِع عِنْد خصومنا من تَخْصِيص الْعلَّة المستنبطة أَن ذَلِك يمْنَع من جريانها فِي معلولها وَهُوَ طَرِيق صِحَّتهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ طَرِيق صِحَّتهَا فالعلة الْمَنْصُوص عَلَيْهَا إِذا لَا يمْتَنع تخصيصها لِأَن ذَلِك لَا ينْقض طَرِيق صِحَّتهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ طَرِيق صِحَّتهَا هُوَ الجريان فِي معلولها وَإِذا صَحَّ تَخْصِيص الْعلَّة المنصوصة علمنَا أَن ذَلِك إِنَّمَا لم يمْنَع مِنْهَا لكَونهَا عِلّة شَرْعِيَّة وأمارة فَجَاز مثله فِي المستنبطة لِأَن مَا يجوز ويستحيل على الشَّيْء لَا يخْتَلف بِحَسب اخْتِلَاف طَرِيقه الْجَواب إِن من منع من تَخْصِيص الْعلَّة المنصوصة لَهُ أَن يَقُول إِنَّمَا أمنع من تَخْصِيص المستنبطة بِغَيْر الجريان بل بِمَا ذكرته من كَون

ذَلِك طَرِيقا إِلَى الحكم إِلَى غير ذَلِك من الْوُجُوه لَا أستدل بالجريان أصلا وَاسْتدلَّ بِهِ على الْمَنْع من تَخْصِيص الْعلَّة المستنبطة فَقَط وَأما المنصوصة فاذا كَانَ طَرِيق صِحَّتهَا غير الجريان جَازَ أَن يمْنَع من تخصيصها بِوَجْه آخر وَمن يُجِيز تَخْصِيص الْعلَّة المنصوصة لَهُ أَن يفرق بَينهَا وَبَين المستنبطة بِمَا قد بني عَلَيْهِ الْمُسْتَدلّ دَلِيله وَهُوَ أَن طَرِيق صِحَة المستنبطة الجريان والتحصيص يبطل ذَلِك وَلَيْسَ طَرِيق صِحَة المنصوصة الجريان فيبطله التَّخْصِيص وَقَوْلهمْ إِن مَا يَسْتَحِيل وَيجوز على الشَّيْء لَا يخْتَلف بِحَسب اخْتِلَاف طَرِيقه فَبَاطِل لِأَنَّهُ إِذا كَانَ مَا يَسْتَحِيل على الشَّيْء إِنَّمَا يَسْتَحِيل عَلَيْهِ لما يرجع إِلَى طرْقَة جَازَ أَن تخْتَلف استحالته إِذا اخْتلفت الطّرق واستحالة تَخْصِيص الْعلَّة إِنَّمَا كَانَ لأجل بطلَان طريقها فالعلة الَّتِي طريقها نَص لَا يُفْسِدهَا نَص تخصيصها فَلَا يَسْتَحِيل التَّخْصِيص عَلَيْهَا وَمِنْهَا وَهُوَ وَجه قوي يُمكن أَن يحتجوا بِهِ فيقولوا إِن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة أَمارَة فوجودها فِي بعض الْمَوَاضِع من دون حكمهَا لَا يُخرجهَا من كَونهَا امارة لِأَن الأمارة لَيْسَ يجب وجود حكمهَا مَعهَا على كل حَال وَإِنَّمَا الْوَاجِب أَن يكون الْغَالِب مُوَاصلَة حكمهَا لَهَا وَلَيْسَ يبطل هَذَا الْغَالِب بتخلف حكمهَا عَنْهَا فِي بعض الْمَوَاضِع فَبَطل قَول من قَالَ إِن تخصيصها يُخرجهَا من كَونهَا أَمارَة وَعلة يبين ذَلِك ان وقُوف مركوب القَاضِي على بَاب الْأَمِير أَمارَة لكَونه فِي دَار الْأَمِير وَلَا يُخرجهُ عَن كَونه أَمارَة على ذَلِك أَن لَا نشاهد القَاضِي فِي بعض الْحَالَات فِي دَار الْأَمِير أَو نرى مركوبه عَليّ بَاب الْأَمِير مَعَ غُلَام غَيره فنظن أَنه قد استعاره غَيره أَلا ترى أَنا إِذا رَأينَا مركوبه على بَاب الْأَمِير مرّة أُخْرَى ظننا كَون القَاضِي فِي دَار الْأَمِير إِذا كَانَ الْأَغْلَب أَنه هُوَ الَّذِي يركب ذَلِك المركوب وَكَذَلِكَ وجود الْغَيْم الرطب فِي الشتَاء من دون مطر لَا يخرج الْغَيْم من كَونه أَمارَة على نزُول الْمَطَر الْجَواب إِنَّا لَا نمْنَع أَن تُوجد الأمارة فِي بعض الْمَوَاضِع لَعَلَّه من الْعِلَل شرطنا فِي كَونهَا أَمارَة انْتِفَاء تِلْكَ الْعلَّة أَو انْتِفَاء الْموضع الَّذِي لم يُوجد فِيهِ حكمهَا وَلَا يكون طَرِيقا إِلَى الحكم

إِلَّا إِذا علمنَا انْتِفَاء مَا شرطنا انتفاؤه يبين ذَلِك أَنه إِذا لم يكن القَاضِي فِي دَار الْأَمِير وَإِن كَانَ مركوبه بِبَابِهِ إِذا كَانَ مَعَ غُلَام غَيره فانا لَا يمكننا أَن نظن كَون القَاضِي فِي دَار الْأَمِير إِذا شاهدنا مركوبه على بَابه إِلَّا بِأَن نعلم أَو نظن أَنه لَيْسَ غُلَام غَيره مَعَه أَلا ترى أَنا لَو ظننا غُلَام غَيره مَعَه لم نظن كَون القَاضِي فِي الدَّار وَلَو رَأينَا مركوبه على بَاب الْأَمِير ونظرنا فِي الدَّار وَلم نشاهده فِيهَا فانا نظن فِيمَا بعد أَنه فِي الدَّار إِذا شاهدنا مركوبه على الْبَاب وَعلمنَا أننا لم نشاهد دَاخل الدَّار فَلم نشاهده فِيهَا وَالله أعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب مناقضة الْعلَّة وَمَا يحترس بِهِ من النَّقْض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن نقض الْعلَّة هُوَ أَن تُوجد فِي مَوضِع من دون حكمهَا وَحكمهَا ضَرْبَان مُجمل ومفصل والمجمل ضَرْبَان إِثْبَات وَنفي فالإثبات الْمُجْمل لَا ينْقض بِنَفْي مفصل وَالنَّفْي الْمُجْمل ينْقض باثبات مفصل مِثَال الأول أَن يُعلل مُعَلل قتل الْمُسلم بالذمي فَيَقُول لِأَنَّهُمَا حران مكلفان محقونا الدَّم فَثَبت بَينهمَا قصاص كالمسلمين فينقض بِهِ إِذا قَتله خطأ وَذَلِكَ ان نفي الْقصاص بَينهمَا فِي الْخَطَأ لَا يمْنَع من صدق القَوْل بِأَن بَينهمَا قصاصا وَإِذا صدق القَوْل بذلك علم أَن ثُبُوت الْقصاص بَينهمَا لم يرْتَفع فَلم ينتف حكم الْعلَّة وَمِثَال الثَّانِي أَن يَقُول الْمُعَلل لِأَنَّهُمَا مكلفان فَلم يثبت بَينهمَا قصاص فاذا نوقض بِالْمُسْلِمين ثَبت بَينهمَا قصاص فِي قتل الْعمد انتقضت الْعلَّة لِأَن ثُبُوت الْقصاص بَين الشخصين فِي مَوضِع من الْمَوَاضِع لَا يصدق مَعَه القَوْل بانه لَا قصاص بَينهمَا على الْإِطْلَاق وَأما الحكم الْمفصل فإمَّا أَن يكون إِثْبَاتًا وَإِمَّا نفيا فالإثبات ينْقض بِالنَّفْيِ الْمُجْمل مِثَاله أَن يَقُول الْمُعَلل فَوَجَبَ أَن يثبت بَينهمَا جَمِيعًا قصاص فِي قتل الْعمد وَذَلِكَ ينْتَقض بِالْحرِّ وَالْعَبْد إِذا قتل العَبْد لِأَنَّهُ لَا يثبت بَينهمَا قصاص لِأَن انْتِفَاء الْقصاص على الْإِطْلَاق يزِيل ثُبُوت الْقصاص فِي بعض

الْمَوَاضِع واما النَّفْي الْمفصل فانه لَا ينْقض باثبات مُجمل لِأَن قَول الْمُعَلل فَلم يثبت بَينهمَا قصاص فِي قتل الْخَطَأ لَا ينْتَقض بِثُبُوت الْقصاص بَين الْمُسلمين لِأَن ثُبُوت الْقصاص ينهما فِي الْجُمْلَة لَا يمْنَع من انتفائه عَنْهُمَا فِي بعض الْمَوَاضِع وَقد يحترس من النَّقْض بِوُجُوه مِنْهَا الاحتراس بِالْأَصْلِ وَمِنْهَا الاحتراس بِشَرْط يذكر فِي حكم الْعلَّة وَمِنْهَا الاحتراس بِحَذْف الحكم والاقتصار على الشّبَه بِالْأَصْلِ مِثَال الاحتراس بِالْأَصْلِ أَن يُعلل مُعَلل قتل الْمُسلم بالذمي بِأَنَّهُمَا حران مكلفان محقونا الدَّم فَقتل احدهما بِالْآخرِ قِيَاسا على الْمُسلمين فاذا نوقض بقتل الْخَطَأ قَالَ أَنا رددت الْفَرْع إِلَى الْمُسلم وانا أَقُول فِي الْفَرْع مثل مَا قلته فِي الأَصْل وَأَنا اوجب الْقصاص فِي الأَصْل فِي الْعمد دون الْخَطَأ وَهَذَا الاحتراس غير صَحِيح لِأَن الحكم هُوَ مَا يلفظ بِهِ الْمُعَلل دون مَا أضمره وَهُوَ إِنَّمَا صرح باشتباه الشخصين فِي الْقَتْل لَا غير وَلم يشْتَرط فِيهِ شرطا آخر وَلَيْسَ رد الْفَرْع إِلَى الأَصْل بِمُوجب استوائهما فِي كل حكم على كل وَجه لِأَنَّهُ لم يُصَرح بذلك وَأما الاحتراس بِشَرْط مَذْكُور فِي الحكم فمثاله أَن يَقُول الْمُعَلل لِأَنَّهُمَا حران مكلفان محقونا الدَّم فَوَجَبَ أَن يثبت بَينهمَا قصاص إِذا قتل أَحدهمَا صَاحبه عمدا وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الاحتراس فِي الحكم هُوَ إِقْرَار بانتقاض الْعلَّة وَذَلِكَ أَن الْمُعَلل قد حكم بِأَن الْعلَّة هِيَ كَونهمَا حُرَّيْنِ مكلفين محقوني الدَّم فَقَط وَأَنه لَا يدْخل فِي الْعلَّة غير ذَلِك فاذا قَالَ إِن هَذَا يُوجب الْقصاص فِي قتل الْعمد دون الْخَطَأ مَعَ وجود هَذِه الْأَوْصَاف فقد أقرّ بِأَن الْعلَّة تُوجد فِي موضِعين ويتبعهما حكمهَا فِي أَحدهمَا دون الآخر فان قيل لَا يمْنَع أَن تكون الْحُرِّيَّة وَالْعقل وحقن الدَّم إِنَّمَا تُؤثر فِي إِيجَاب الْقصاص فِي قتل الْعمد دون الْخَطَأ قيل إِن كَانَ ذَلِك يُؤثر فِي اُحْدُ الْمَوْضِعَيْنِ دون الآخر لِمَعْنى اخْتصَّ بِهِ أَحدهمَا فَيَنْبَغِي أَن يذكر ذَلِك الْمَعْنى فِي جملَة الْعلَّة لِأَن لَهُ تَأْثِيرا فِي إِيجَاب الْقصاص وَإِن كَانَت الْأَوْصَاف تُؤثر فِي الحكم فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ دون الآخر

لَا لأمر افترق فِيهِ الموضعان فقد أقررتم أَن الْعلَّة تَقْتَضِي الحكم فِي مَوضِع دون مَوضِع وَإِن كَانَت مَوْجُودَة فيهمَا على سَوَاء وَلنَا أَن نجيب عَن هَذَا الْكَلَام ونقول إِن الشَّرْط الْمَذْكُور فِي الحكم هُوَ مُتَأَخّر فِي اللَّفْظ مُتَقَدم فِي الْمَعْنى لِأَن معنى الْقيَاس لِأَنَّهُمَا حران مكلفان محقونا الدَّم قتل أَحدهمَا صَاحبه عمدا فَثَبت بَينهمَا الْقصاص وَذَلِكَ أَن قتل الْعمد لَهُ تَأْثِير فِي الْقصاص وَهَذَا يَقْتَضِي أَنه وَإِن كَانَ ذكر فِي الحكم فَهُوَ مَذْكُور على أَنه من جملَة الْعلَّة وَأما الإحتراس بِحَذْف الحكم فَهُوَ أَن يذكر الْمُعَلل الْعلَّة وَلَا يذكر الحكم لكنه يَقُول عقيب الْعلَّة فَأشبه الْفَرْع كَيْت وَكَيْت وَقد يفعل ذَلِك إِذا لم يُمكن التَّصْرِيح بالحكم وَقد قيل إِن هَذَا لَا يَصح لِأَن قَوْلنَا فَأشبه كَيْت وَكَيْت هُوَ حكم بِأَن الْفَرْع يشبه كَيْت وَكَيْت وَإِذا كَانَ ذَلِك حكما احْتَاجَ الْفَرْع إِلَى أصل يرد إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب القَوْل فِي الِاسْتِحْسَان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن المحكي عَن أَصْحَاب ابي حنيفَة القَوْل بالاستحسان وَقد ظن كثير مِمَّن رد عَلَيْهِم أَنهم عنوا بذلك الحكم بِغَيْر دلَالَة وَالَّذِي حصله متأخرو أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحمَه الله هُوَ أَن الِاسْتِحْسَان عدُول فِي الحكم عَن طَريقَة إِلَى طَريقَة هِيَ أقوى مِنْهَا وَهَذَا اولى مِمَّن ظَنّه مخالفوهم لِأَنَّهُ الْأَلْيَق بِأَهْل الْعلم وَلِأَن أَصْحَاب الْمقَالة أعرف بمقاصد أسلافهم وَلِأَنَّهُم قد نصوا فِي كثير من الْمسَائِل فَقَالُوا استحسنا هَذَا الْأَثر ولوجه كَذَا فَعلمنَا أَنهم لم يستحسنوا بِغَيْر طَرِيق وَالَّذِي يمْنَع من الحكم بِغَيْر طَرِيق أَن الحكم بِغَيْر طَريقَة إِمَّا أَن يكون حكما بالشهوة أَو بِأول خاطر أَو بِظَنّ الأمارة لَهُ وَذَلِكَ يَتَأَتَّى من الصَّبِي والعامي كَمَا يَتَأَتَّى من الْعَالم فَكَانَ يَنْبَغِي جَوَاز ذَلِك من هَؤُلَاءِ أَجْمَعِينَ وَكَانَ يَنْبَغِي ان

لَا يلام من حكم بذلك وَلِأَن هَذِه الْأَشْيَاء قد تتَنَاوَل الْحق كَمَا تتَنَاوَل الْبَاطِل وَلِأَن الظَّن لَا عَن أَمارَة لَا يتَمَيَّز من ظن السوداوي وَالْكَلَام فِي الِاسْتِحْسَان على مَا فسره أَصْحَاب أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يَقع فِي الْمَعْنى وَيَقَع فِي الْعبارَة أما فِي الْمَعْنى فَهُوَ أَن بعض الأمارات قد يكون أقوى من بعض وَيجوز الْعُدُول من أَمارَة إِلَى أُخْرَى من غير أَن تفْسد الاخرى وَذَلِكَ رَاجع إِلَى تَخْصِيص الْعلَّة وَقد تقدم القَوْل فِي ذَلِك وَمن الْكَلَام فِي الْمَعْنى الْكَلَام فِي حد الِاسْتِحْسَان وَأما الْكَلَام فِي الْعبارَة فَهُوَ أَن لتسميتهم ذَلِك اسْتِحْسَانًا وَجه صَحِيح وَأما حد الِاسْتِحْسَان فقد اخْتلف فِيهِ فحده بَعضهم بانه الْعُدُول عَن مُوجب قِيَاس إِلَى قِيَاس أقوى مِنْهُ وَهَذَا بَاطِل لأَنهم يستحسنون إِذا عدلوا إِلَى نَص كَمَا لَا يستحسنون أَن لَا قَضَاء على الْآكِل نَاسِيا فِي صَوْمه وتركهم الْقيَاس فِي ذَلِك للْخَبَر وَحده بَعضهم بِأَنَّهُ تَخْصِيص قِيَاس بِدَلِيل هُوَ أقوى مِنْهُ وَهَذَا بَاطِل لأَنهم قد يعدلُونَ فِي الِاسْتِحْسَان عَن قِيَاس وَعَن غير قِيَاس وَحده بَعضهم بِأَنَّهُ ترك طَريقَة للْحكم إِلَى أُخْرَى أولى مِنْهَا لولاها لوَجَبَ الثَّبَات على الأولى ويقرن هَذَا من وَجه أبي الْحسن رَحمَه الله وَهُوَ قَوْله الِاسْتِحْسَان هُوَ ان يعدل الْإِنْسَان عَن أَن يحكم فِي الْمَسْأَلَة بِمثل مَا حكم بِهِ فِي نظائرها إِلَى خِلَافه لوجه هُوَ أقوى من الأول يَقْتَضِي الْعُدُول عَن الأول وَهَذَا يلْزم عَلَيْهِ أَن يكون الْعُدُول عَن الْعُمُوم إِلَى التَّخْصِيص اسْتِحْسَانًا وَيلْزم عَلَيْهِ أَن يكون الْقيَاس الَّذِي يعدل إِلَيْهِ عَن الِاسْتِحْسَان اسْتِحْسَانًا وَيَنْبَغِي أَن يُقَال الِاسْتِحْسَان هُوَ ترك وَجه من وُجُوه الِاجْتِهَاد غير شَامِل شُمُول الْأَلْفَاظ لوجه هُوَ أقوى مِنْهُ وَهُوَ فِي حكم الطارىء على الأول وَلَا يلْزم على ذَلِك قَوْلهم تركنَا الِاسْتِحْسَان باقياس لِأَن الْقيَاس الَّذِي تركُوا لَهُ الِاسْتِحْسَان لَيْسَ فِي حكم الطارىء بل هُوَ الأَصْل وَلذَلِك لم يصفوه بِأَنَّهُ اسْتِحْسَان وَإِن كَانَ أقوى فِي ذَلِك الْموضع مِمَّا تَرَكُوهُ

واما الْوَجْه فِي تسميتهم ذَلِك اسْتِحْسَانًا فَهُوَ أَن الِاسْتِحْسَان وَإِن كَانَ وَقع على الشَّهْوَة والاستحلاء فقد يَقع على الْعلم بِحسن الشَّيْء فَيُقَال فلَان يستحسن القَوْل بِالتَّوْحِيدِ وَالْعدْل وَقد يَقع على الِاعْتِقَاد وَالظَّن بِحسن الشَّيْء فاذا ظن الْمُجْتَهد الأمارة واقتضاء ذَلِك أَن يعْتَقد حسن مدلولها جَازَ أَن يَقُول قد استحسنت هَذَا الحكم فصح فَائِدَة هَذِه التَّسْمِيَة وَجَاز الِاصْطِلَاح مِنْهُم على التَّسْمِيَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تعَارض الْعِلَل وَالْقَوْل فِي تنافيها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن وَصفنَا الْعِلَل بانها متناقضة متنافية قد يفهم مِنْهُ أَنَّهَا متضادة لَا يَصح اجتماعها وَهَذَا غير مَوْجُود فِي هَذَا الْموضع لِأَن الْأكل والكيل والاقتيات لَا تتضاد وَقد يفهم مِنْهُ أَنَّهَا لَا تَجْتَمِع كَونهَا عللا وَذَلِكَ ضَرْبَان أَحدهمَا لَا تَجْتَمِع كَونهَا عللا لتنافي أَحْكَامهَا وَالْآخر لَا تَجْتَمِع كَونهَا عللا لَا لتنافي أَحْكَامهَا والمتنافي أَحْكَامهَا لَا بُد أَن يكون أَصْلهَا أَكثر من وَاحِد ويستحيل أَن يكون أَصْلهَا وَاحِدًا لِأَنَّهُ لَو كَانَ أَصْلهَا وَاحِدًا على وَجه وَاحِد لَكَانَ قد اجْتمع فِي الأَصْل حكمان متنافيان وَذَلِكَ محَال فان قيل هلا تنافت الْعِلَل وَإِن كَانَ اصلها وَاحِدًا وخكمه وَاحِدًا إِذا تنافت الْأَحْكَام فِي الْفُرُوع بَان تُوجد إِحْدَى العلتين فِي فرع وَلَا تُوجد الْأُخْرَى فِيهِ فَيلْزم أَن يُوجد فِيهِ حكم الْعلَّة لوُجُود إِحْدَى العلتين وَإِن يَنْتَفِي لانْتِفَاء الْعلَّة الْأُخْرَى قيل إِذا وجدت إِحْدَى العلتين فِي الْفَرْع دون الاخرى وَجب وجود حكمهَا فِيهِ وَلَا يلْزم انتفاؤها لانْتِفَاء الْعلَّة الاخرى لِأَن انْتِفَاء الْعلَّة لَا يَقْتَضِي انْتِفَاء حكمهَا إِذا خلفتها عِلّة أُخْرَى فاذا ثَبت أَن أصل العلتين المتنافيتي الحكم اثْنَان فَصَاعِدا فمثاله وجوب النِّيَّة فِي التَّيَمُّم وَنفي وُجُوبهَا فِي إِزَالَة النَّجَاسَة ورد الْوضُوء إِلَى إِزَالَة النَّجَاسَة

بعلة انها طَهَارَة بِالْمَاءِ وَيرد إِلَى التَّيَمُّم بعلة أَنَّهَا طَهَارَة عَن حدث وَإِن امْتنع كَونهَا عللا لوجوه سوى تنَافِي الْحكمَيْنِ فَبَان لَا يكون فِي الامة من علل ذَلِك الأَصْل بعلتين بل كل مِنْهُم علله بعلة وَاحِدَة كتعليلهم تَحْرِيم التَّفَاضُل فِي الْبر بِكَوْنِهِ مَكِيلًا أَو مَأْكُولا أَو مقتاتا وَلَيْسَ مِنْهُم أحد علله بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا وَمَتى تنافت الْعِلَل واشتبه القَوْل فِي فروعها وَجب التَّرْجِيح وَيَنْبَغِي قبل ذَلِك أَن نتكلم فِي غَلَبَة الْأَشْبَاه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْكَلَام فِي غَلَبَة الْأَشْبَاه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه يَنْبَغِي أَن نذْكر مَا الشّبَه وبماذا يَقع وَمَا الشّبَه الْغَالِب وَمَا قِيَاس الْمَعْنى وَمَا قِيَاس غَلَبَة الْأَشْبَاه وَقِسْمَة قِيَاس غَلَبَة الْأَشْبَاه والشبه هُوَ مَا لَهُ يحصل الِاشْتِبَاه والاشتباه هُوَ اشْتِرَاك الشَّيْئَيْنِ فِي صفة من الصِّفَات وَوجه من الْوُجُوه وَهَذِه الصّفة وَهَذَا الْوَجْه هُوَ الشّبَه وَأما مَا يَقع بِهِ الْأَشْبَاه فَابْن علية يعْتَبر الصُّورَة كردة الجلسة الثَّانِيَة فِي الصَّلَاة إِلَى الجلسة الأولى فِي إِسْقَاط وُجُوبهَا لِأَن كل وَاحِدَة مِنْهَا جلْسَة وَالشَّافِعِيّ يعْتَبر الشّبَه بِالْأَحْكَامِ كردة العَبْد الْمَقْتُول إِلَى المملوكات فِي اعْتِبَار قِيمَته بَالِغَة مَا بلغت من حَيْثُ أشبه المملوكات فِي احكام كَثِيرَة وَالصَّحِيح أَن الشّبَه يكون بِكُل مَا كَانَ لَهُ تَأْثِير فِي الحكم سَوَاء كَانَ حكما اَوْ لم يكن حكما لِأَن كَون الْبر مَكِيلًا أَو مَأْكُولا لَيْسَ بِحكم وَأما غَلَبَة الشّبَه فَهُوَ أَن يكون الشّبَه أقوى من شبه آخر فَهُوَ أولى بِأَن يتَعَلَّق الحكم بِهِ لقُوَّة امارته وَقُوَّة الأمارات امْر ظَاهر لَا إِشْكَال فِيهِ وَأما قِيَاس الْمَعْنى فَهُوَ أَن يكون شبه فَرعه بِأَصْلِهِ لَا يُعَارضهُ شبه آخر فان عَارضه كَانَ خفِيا جدا كرد العَبْد إِلَى الْأمة فِي تنصيف حد الزِّنَا

وَأما قِيَاس غَلَبَة الْأَشْبَاه فَهُوَ أَن يُعَارض الشّبَه الْحَاصِل فِيهِ شبه آخر يُسَاوِيه فِي الْقُوَّة ويخفي فضل قُوَّة أَحدهمَا على الآخر وَلَا يَخْلُو هَذَانِ الشبهان إِمَّا أَن يرجعا إِلَى أصل وَاحِد أَو إِلَى أصلين فان رجعا إِلَى أصلين جَازَ أَن يكون الْفَرْع وَاحِدًا وَيُشبه بِأحد الشبهين أحد الْأَصْلَيْنِ وَيُشبه بالشبه الآخر الأَصْل الآخر كَالْعَبْدِ الْمَقْتُول يشبه الْحر فِي تَحْدِيد بدله من حَيْثُ كَانَ مُكَلّفا وَيُشبه المملوكات فِي نفي تَحْدِيد بدله من حَيْثُ كَانَ مَمْلُوكا وَأما أَن يرجع إِلَى اصل وَاحِد فقد يكون الْفَرْع اثْنَيْنِ وَقد يكون وَاحِدًا فان كَانَا اثْنَيْنِ فانه يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا يشبه الأَصْل بِأحد الشبهين دون الآخر كالارز والجص أَحدهمَا يشبه الْبر من حَيْثُ كَانَ مَكِيلًا وَالْآخر يُشبههُ من حَيْثُ كَانَ مَأْكُولا وَأما إِذا كَانَ الْفَرْع وَاحِدًا فكالارز الْمُشبه للبر من حَيْثُ كَانَ مَأْكُولا وَمن حَيْثُ كَانَ مَكِيلًا وَمن حَيْثُ كَانَ مقتاتا فَيَقَع النّظر فِي أَي هَذِه الْوُجُوه هِيَ عِلّة الحكم فَمَا لم تدل عَلَيْهِ أَمارَة قضي بفساده وَمَا تساوى فِي دلَالَة الأمارات عَلَيْهِ عدل فِيهِ إِلَى التَّرْجِيح وَنحن نذْكر الْآن الْوُجُوه الَّتِي يَقع بهَا تَرْجِيح الْعِلَل إِن شَاءَ الله تَعَالَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يرجح بِهِ عِلّة على عِلّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه يَنْبَغِي أَن نذْكر أَولا مَا التَّرْجِيح وَمَا الْفَائِدَة فِيهِ ثمَّ نقسم التَّرْجِيح للعلل أما التَّرْجِيح فَهُوَ الشُّرُوع فِي تَقْوِيَة أحد الطَّرِيقَيْنِ على الآخر وَلذَلِك لَا يَصح التَّرْجِيح إِلَّا بعد تَكَامل كَونهمَا طَرِيقين لَو انْفَرد كل وَاحِد مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا يَصح تَرْجِيح طَرِيق على مَا لَيْسَ بطرِيق واما الْفَائِدَة فِي التَّرْجِيح فَهِيَ أَن يُقَوي الظَّن الصَّادِر عَن إِحْدَى الأمارتين

عِنْد تعارضهما وَلذَلِك لَا يَصح التَّرْجِيح بَين الْأَدِلَّة لِأَنَّهَا لَا تتعارض لِأَن تعارضها مَوْقُوف على تنَافِي مدلولاتها وَفِي تعارضها ثُبُوت مدلولاتها على تنافيها وَلِأَن الْأَدِلَّة لَا تَقْتَضِي الظَّن فَلَا يُمكن القَوْل بِأَن أحد الظنين يقوى وَلِأَن التَّرْجِيح يَقْتَضِي التَّمَسُّك بِمَا ثَبت فِيهِ التَّرْجِيح واطراح مَا لم يثبت فِيهِ وَالدَّلِيل لَا يجوز اطراحه فَأَما قسْمَة تَرْجِيح الْعِلَل فَهِيَ أَن العة يَنْبَغِي أَن ترجح بِمَا يرجع إِلَى طريقها وَبِمَا يرجع إِلَى الحكم الَّذِي هِيَ طَرِيقه وَبِمَا يرجع إِلَى مَكَانهَا وَهُوَ الأَصْل أَو الْفَرْع أَو هما بمجموعهما أما الرَّاجِع إِلَى طريقها فَمِنْهُ مَا يرجع إِلَى طريقها فِي الأَصْل وَمِنْه مَا يرجع إِلَى طريقها فِي الْفَرْع أما الرَّاجِع إِلَى طريقها فِي الأَصْل فضربان أَحدهمَا أَن يكون طَرِيق وجودهَا فِي الأَصْل أقوى من طَرِيق وجود عِلّة أُخْرَى فِي أَصْلهَا وَالْآخر أَن يكون طَرِيق صِحَة إِحْدَى العلتين فِي الأَصْل أقوى من طَرِيق صِحَة الْأُخْرَى وَأما الرَّاجِع إِلَى طريقها فِي الْفَرْع فَأن يكون طَرِيق وجودهَا فِي الْفَرْع أقوى من طَرِيق وجود الاخرى فِي فرعها وَأما التَّرْجِيح الرَّاجِع إِلَى حكمهَا فضربان أَحدهمَا يتَعَلَّق بحكمها فِي الأَصْل وَالْآخر يتَعَلَّق بحكمها فِي الْفَرْع أما الْمُتَعَلّق بِالْأَصْلِ فضربان أَحدهمَا أَن يكون طَرِيق ثُبُوت أحد الْحكمَيْنِ فِي الأَصْل أقوى من طَرِيق ثُبُوت الحكم الآخر فِي أَصله وَالْآخر أَن يكون طَرِيق ثُبُوت أَحدهمَا فِي الأَصْل الشَّرْع وَطَرِيق ثُبُوت الآخر فِي أَصله الْعقل وَأما الْمُتَعَلّق بحكمها فِي الْفَرْع فضروب مِنْهَا أَن يكون أَحدهمَا حظرا وَالْآخر إِبَاحَة وَمِنْهَا أَن يكون فِي أَحدهمَا زِيَادَة على الآخر كالندب والمباح وَمِنْهَا أَن يكون قد شهِدت الاصول بِأحد الْحكمَيْنِ كعموم خطاب أَو قَول صَحَابِيّ وَمِنْهَا أَن يكون حكم إِحْدَى

العلتين يتبعهَا فِي جَمِيع فروعها وَحكم الْعلَّة الْأُخْرَى لَا يتبعهَا فِي جَمِيع فروعها فَيكون أولى على قَول من أجَاز تَخْصِيص الْعلَّة وَأما التَّرْجِيح الرَّاجِع إِلَى الأَصْل وَحده فبأن تكون إِحْدَى العلتين منتزعة من عدَّة أصُول وَالْأُخْرَى منتزعة من أصل وَاحِد وَأما التَّرْجِيح الرَّاجِع إِلَى الْفَرْع وَحده فبأن يكون فروع إِحْدَى العلتين أَكثر من الْأُخْرَى وَأما الرَّاجِع إِلَى الأَصْل وَالْفرع جَمِيعًا فبأن يكون الْفَرْع باحد الْأَصْلَيْنِ أشبه مِنْهُ بِالْآخرِ بِأَن يكون من جنسه كرد كَفَّارَة إِلَى كَفَّارَة ورد الْمِقْدَار الْمُفْسد للصَّلَاة من كشف الْعَوْرَة إِلَى مِقْدَار مَا يُفْسِدهَا من النَّجَاسَة لِأَن بَين هذَيْن تجانسا من بعض الْوُجُوه وَفِي بعض هَذِه الْوُجُوه اخْتِلَاف وَسَنذكر عِنْد الْأَمْثِلَة إِن شَاءَ الله أما الَّتِي طَرِيق وجودهَا فِي الأَصْل أقوى فبأن تكون إِحْدَاهمَا يعلم وجودهَا فِي الأَصْل بالحس وَالصُّورَة نَحْو كَون الْبر مَكِيلًا أَو مطعوما وَتَكون الْأُخْرَى مَعْلُوم وجودهَا فِيهِ باستدلال أَو إِحْدَاهمَا مَعْلُوم وجودهَا فِي الأَصْل بِدَلِيل وَالْأُخْرَى مظنون وجودهَا فِيهِ بأمارة أَو يكون جَمِيعًا مظنونين بأمارتين غير أَن أَمارَة وجود إِحْدَاهمَا أقوى وَذَلِكَ وَجه تَرْجِيح لِأَن الْوَصْف لَا يكون عِلّة فِي الأَصْل إِلَّا وَهُوَ مَوْجُود فِيهِ فاذا كَانَ علمنَا أَو ظننا لوُجُوده فِيهِ أقوى من علمنَا أَو ظننا لوُجُود الآخرى فِيهِ فقد صَار ظننا لكَونهَا عِلّة حكم الأَصْل أقوى من ظننا لكَون الْأُخْرَى عِلّة حكم الأَصْل وَأما الَّتِي طَرِيق كَونهَا عِلّة حكم الأَصْل أقوى فبأن يكون عِلّة كَونهَا حكم الأَصْل صَرِيح نَص وَطَرِيق الْأُخْرَى تَنْبِيه نَص أَو طَرِيق إِحْدَاهمَا تَنْبِيه نَص وَطَرِيق الْأُخْرَى الاستنباط أَو أَمارَة إِحْدَاهمَا أقوى من أَمارَة الْأُخْرَى وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك تَرْجِيحا لِأَن مَا قوى طَرِيقه قوى الظَّن لَهُ أَو الِاعْتِقَاد لَهُ وَكَذَلِكَ الَّتِي طَرِيق وجودهَا فِي الْفَرْع أقوى من طَرِيق وجود الْأُخْرَى فِي الْفَرْع لِأَن ثُبُوت الحكم فِي الْفَرْع تبع

لوُجُود علته فاذا قوي علمنَا أَو ظننا لوجودها فِي الْفَرْع قوي علمنَا لقُوَّة أصل الْعلم وَإِذا كَانَ حكمهَا فِي الْفَرْع أولى صَار كَونهَا عِلّة أولى وَأما التَّرْجِيح بِقُوَّة ثُبُوت الحكم فِي الأَصْل فنحو أَن يدل على الأَصْل دَلِيل قَاطع وَيدل على حكم الأَصْل الآخر أَمارَة وَإِنَّمَا كَانَ من قوي حكم أَصله أولى لِأَن الْوَصْف لَا يكون عِلّة حكم الأَصْل إِلَّا وَحكمه ثَابت فاذا كَانَ حكم أحد الْأَصْلَيْنِ أقوى ثبوتا كَانَ مَا يقعه من الْعلَّة وَمن حكم الْفَرْع أقوى ثبوتا وَأما التَّرْجِيح بِكَوْن أحد الْحكمَيْنِ شَرْعِيًّا وَالْآخر عقليا فَصَحِيح لِأَن الْقيَاس الشَّرْعِيّ دلَالَة شَرْعِيَّة وَالْأولَى فِي الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة أَن تكون أَحْكَامهَا شَرْعِيَّة وَالْقِيَاس الَّذِي حكمه شَرْعِي هُوَ أَشد مُطَابقَة للأدلة الشَّرْعِيَّة فان قيل كَيفَ يجوز أَن يسْتَخْرج من أصل عَقْلِي عِلّة شَرْعِيَّة قيل يجوز ذَلِك إِذا لم ينقلنا عَنهُ الشَّرْع فنستخرج الْعلَّة الَّتِي لَهَا لم ينقلنا عَنهُ الشَّرْع فَأَما إِذا كَانَ أحد الْحكمَيْنِ نفيا وَالْآخر إِثْبَاتًا وَكَانَا شرعيين فقد ذطر قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله أَنه لَا يكون أَحدهمَا أولى من الآخر وَقد ذكرنَا فِي تَرْجِيح الْأَخْبَار أَنه لَا بُد فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات من أَن يكون أَحدهمَا عقليا وَالْآخر سمعيا وَأما التَّرْجِيح بِكَوْن اُحْدُ الْحكمَيْنِ فِي الْفَرْع حظرا وَالْآخر إِبَاحَة فانه إِن كَانَ الْحَظ شَرْعِيًّا كَانَ أولى فَكَانَت علته لِأَن الحكم الشَّرْعِيّ أولى وَلِأَن الْأَخْذ بالحظر أحوط وَإِن كَانَ الْحَظْر عقليا فكونه حظرا جِهَة تَرْجِيح وَكَون الْإِبَاحَة شَرْعِيَّة جِهَة لترجيح الْإِبَاحَة فَالْوَاجِب الرُّجُوع إِلَى تَرْجِيح آخر وَلَا بُد فِي الْحَظْر وَالْإِبَاحَة من أَن يكون أَحدهمَا عقليا وَالْآخر شَرْعِيًّا على مَا بَيناهُ فِي الْأَخْبَار وَأما إِذا كَانَ حكم إِحْدَى العلتين الْعتْق وَحكم الْأُخْرَى الرّقّ فالمثبتة لِلْعِتْقِ أولى لِأَن تعلق الْحُرِّيَّة بالْقَوْل ثَابت بِالشَّرْعِ لَا بِالْعقلِ

فَهُوَ من هَذِه الْجِهَة حكم شَرْعِي وَلِأَن الْعتْق فِي الشَّرِيعَة فَوْقه من حَيْثُ لَا يلْحقهُ الْفَسْخ فَكَانَت علته أولى فَأَما إِذا كَانَ حكم أَحدهمَا فِي الْفَرْع إِسْقَاط الْحَد وَحكم الْأُخْرَى إثْبَاته فالشيخ أَبُو عبد الله رَحمَه الله يرجح الْمسْقط للحد لِأَنَّهُ قد أَخذ علينا إِسْقَاط الْحَد وَلِأَن الْعلَّة تَقْتَضِي حظره والحظر أولى وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله لَا تَرْجِيح بذلك بل يرجح المثبتة للحد لِأَنَّهُ حكم شَرْعِي وَيَقُول إِنَّمَا أَخذ علينا إِسْقَاط الْحَد من الْأَعْيَان وَلم يُؤْخَذ علينا إِسْقَاطه عَن جملَة الشَّرِيعَة فَأَما التَّرْجِيح بِكَوْن اُحْدُ حكمي الْعلَّة أَزِيد من حكم الْأُخْرَى فَمثل أَن يكون حكم أَحدهمَا الْإِبَاحَة وَحكم الآخر النّدب فالتي حكمهَا النّدب أولى لِأَن النّدب يتَضَمَّن شَيْئا من معنى الإباجة الَّذِي هُوَ الْحسن وَيزِيد عَلَيْهِ فَكَانَ أولى إِذا كَانَت الزِّيَادَة شَرْعِيَّة وَأما التَّرْجِيح بِشَهَادَة الْأُصُول فقد يُرَاد بِشَهَادَة الْأُصُول أَن يكون جنس ذَلِك الحكم ثَابتا فِي الْأُصُول مثل تَحْرِيم الْمثلَة فِي الْجُمْلَة فالعلة الْمُحرمَة لمثلة مَخْصُوصَة أولى لِأَن الشَّرِيعَة فِي الْجُمْلَة تشهد بهَا وَقد يُرَاد بِشَهَادَة الْأُصُول الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَهَذِه إِن كَانَت صَرِيحَة فَهِيَ الأَصْل فِي الدّلَالَة لَا يجوز وُقُوع التَّرْجِيح بهَا وَإِن مَسهَا احْتِمَال شَدِيد جَازَ تَرْجِيح الْقيَاس بهَا لوضوح دلَالَة الْقيَاس على دلالتها وَيَقَع التَّرْجِيح بقول الصَّحَابِيّ لِأَنَّهُ أعرف بمقاصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَكَذَلِكَ إِذا عضدت الْعلَّة عِلّة كَمَا ترجح أَخْبَار الْآحَاد بَعْضهَا بِبَعْض وكما يرجح الْخَبَر على خبر آخر بِكَثْرَة الروَاة وَلما تقدم كَانَت الْعلَّة الَّتِي لَا تخصص الْعُمُوم أولى من الَّتِي تخصه لِأَن لفظ الْعُمُوم قد شهد لَهَا وَذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَن هَذَا مُخَالف لما ذَكرْنَاهُ من شَهَادَة الْأُصُول لِأَن كلا المعللين قد اتفقَا على مُطَابقَة ذَلِك الأَصْل لإحدى العلتين وَلم يَقع الِاتِّفَاق مِنْهُمَا على ذَلِك فِي هَذَا الْموضع لِأَن أحد المعللين يَقُول مَا

أَرَادَ الله عز وَجل بِالْعُمُومِ مَا تناولته الْعلَّة المخصصة وَلقَائِل أَن يَقُول إنَّهُمَا سَوَاء لِأَن أحد المعللين وَإِن لم يقل ذَلِك فان الْعُمُوم يشْهد لمطابقة إِحْدَى العلتين فَكَانَت أولى وَإِذا اقْترن بِالْقِيَاسِ خبر وَاحِد مُحْتَمل فقد قَالَ إِنَّه يرجح بِهِ مَعَ أَن الْخصم يُمكنهُ أَن يَقُول فِي الْمُحْتَمل إِنَّه مَا أُرِيد بِهِ مَا يُخَالف علتي وَقَوله فِي الْمُحْتَمل أمكن من قَوْله فِي الْعُمُوم وَأما التَّرْجِيح بِلُزُوم الحكم لِلْعِلَّةِ فِي الْفُرُوع كلهَا دون الْأُخْرَى فبعض من أجَاز تَخْصِيص الْعلَّة لَا يرجح بذلك وَبَعْضهمْ يرجح بِهِ وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن لُزُوم الحكم لَهَا يكسبها شبها بالعقليات وَيُؤذن بلزومه لَهَا فِي الأَصْل فَأَما التَّرْجِيح بِمَا يرجع إِلَى الأَصْل فبأن تكون إِحْدَى العلتين منتزعة من أصُول كَثِيرَة وَالْأُخْرَى منتزعة من أقل من تِلْكَ الْأُصُول فقد اخْتلف فِي ذَلِك فَمن النَّاس من رجح بذلك وَمِنْهُم من لم يرجح بِهِ وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله لَا يرجح بِهِ إِذا كَانَت طَريقَة التَّعْلِيل وَاحِدَة وَإِن كَانَت طَرِيقَته غير وَاحِدَة رجح بِهِ أما أَنه إِذا كَانَت علل تِلْكَ الْأُصُول كَثِيرَة وأماراتها مُخْتَلفَة فالترجيح يَقع بذلك لشهادة الْعِلَل وأماراتها بَعْضهَا لبَعض وَيكون التَّرْجِيح وَاقعا حِينَئِذٍ بِشَهَادَة الْعِلَل بَعْضهَا لبَعض وَأما إِذا كَانَت الْعلَّة وَاحِدَة وأماراتها وَاحِدَة فانه إِن كَانَ الأَصْل نوعا وَإِنَّمَا أشخاصه كَثِيرَة فانه لَا يرجح فِي ذَلِك لِأَن النَّوْع وَاحِد وعَلى أَنا لَا نعلم أَن آحَاد بعض النَّوْع أَكثر من آحَاد النَّوْع الآخر وَإِن كَانَت الاصول أنواعا كَثِيرَة وَقع التَّرْجِيح بهَا وَإِن كَانَت علتها وَاحِدَة لِأَنَّهُ تكون الْأُصُول الْكَثِيرَة شاهدة لإحدى العلتين وَيكون حكمهَا أَكثر ثبوتا فِي الْأُصُول من حكم الْأُخْرَى وَذَلِكَ مقو للظن وَأما تَرْجِيح الْعلَّة الرَّاجِع إِلَى فروعها فَأن تكون فروع إِحْدَى العلتين أَكثر من فروع الْأُخْرَى وَقد رجح بذلك قوم وَكَذَلِكَ الْعلَّة المتعدية وَلم يرجح بِهِ آخَرُونَ

والأولون قَالُوا إِنَّهَا إِذا كثرت فروعها كثرت فائدتها فَكَانَت أولى وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا يجب أَن يكون أولى إِذا كثرت فوائدها الشَّرْعِيَّة وَكَثْرَة فروعها ترجع إِلَى اخْتِيَار الله تَعَالَى خلق الْأَنْوَاع الَّتِي تخْتَص تِلْكَ الْعلَّة وَلَيْسَ ذَلِك بِأَمْر شَرْعِي وَاحْتج من لم يرجح بذلك بِأَن قَالَ لَو كَانَ أَعم العلتين بِالْأَخْذِ أولى لَكَانَ أَعم الخطابين أولى بِالْعَمَلِ وَالْجَوَاب إِنَّه إِنَّمَا لم يكن أَعم الخطابين أولى بل كَانَ أخصهما أولى لِأَن الْأَخْذ بأخصهما لَيْسَ فِيهِ إطراح لأعمهما وَالْأَخْذ بأعمهما فِيهِ إطراح لأخصهما وَأما العلتان فانهما إِذا انتهتا إِلَى التَّرْجِيح لم يُمكن الْجمع بَينهمَا وَأيهمَا اسْتعْملت اطرحت الْأُخْرَى فَكَانَ اطراح مَا قل حكمه لقلَّة فروعه أولى وَقَالُوا أَيْضا يَنْبَغِي أَن تصح الْعلَّة فِي الأَصْل وَإِذا صحت أجريت فِي الْقُوَّة قلت أَو كثرت وَالْجَوَاب إِنَّه إِنَّمَا ترجح الْعلَّة على الْعلَّة إِذا شهد لثُبُوت كل وَاحِدَة مِنْهُمَا أَمارَة وَلَا معنى لقولكم يَنْبَغِي أَن تثبت الْعلَّة فِي الأَصْل وَقَالُوا ايضا كَثْرَة الْفُرُوع ترجع إِلَى كَثْرَة مَا خلق الله مِمَّا يُوجد فِيهِ الْعلَّة وَلَيْسَ ذَلِك بِأَمْر شَرْعِي فَيَقَع بِهِ التَّرْجِيح وَلَيْسَ كَذَلِك كَثْرَة أَنْوَاع الاصول لِأَن الأَصْل شَاهد لِلْعِلَّةِ فكثرة مَا يشْهد لَهَا تقويها وَالْفرع لَا يشْهد لِلْعِلَّةِ بل حكمه تَابع لَهَا وَأما تَرْجِيح الْعلَّة بِمَا يرجع إِلَى الأَصْل وَالْفرع فَهُوَ أَن تكون إِحْدَى العلتين يرد بهَا الْفَرْع إِلَى مَا هُوَ من جنسه كرد كَفَّارَة إِلَى كَفَّارَة وَالْأُخْرَى يرد بهَا الْفَرْع إِلَى مَا لَيْسَ من جنسه كرد كَفَّارَة إِلَى غير كَفَّارَة فَتكون الأولى أولى وَهُوَ مَذْهَب أبي الْحسن وَأكْثر الشَّافِعِيَّة لِأَن الشَّيْء أَكثر شبها بِجِنْسِهِ مِنْهُ بِغَيْر جنسه وَالْقِيَاس يتبع الشّبَه فكثرته تقَوِّي الظَّن وَإِن لم تكن تِلْكَ الْوُجُوه عِلّة وَبِالْجُمْلَةِ رد الشَّيْء إِلَى مَا هُوَ أشبه بِهِ أولى وَلذَلِك كَانَ رد كشف الْعَوْرَة إِلَى

إِزَالَة النَّجَاسَة فِي أَن انكشاف قدر الدِّرْهَم من الْعَوْرَة الْمُغَلَّظَة يفْسد الصَّلَاة أولى من الرَّد إِلَى غير ذَلِك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن الْمُجْتَهد هَل يجوز أَن يعتدل عِنْده الأمارات فِي الْمَسْأَلَة أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أجَاز شيخانا أَبُو عَليّ وَأَبُو هَاشم ذَلِك وَقَالا يكون الْمُجْتَهد عِنْد تَسَاوِي الأمارتين مُخَيّرا بَين حكميهما وَمِنْه شَيخنَا أَبُو الْحسن من ذَلِك وَقَالَ لَا بُد من تَرْجِيح وَحجَّة من أجَاز ذَلِك هِيَ أَن من منع من ذَلِك إِمَّا أَن يمْنَع مِنْهُ من جِهَة الْعقل بِأَن يَجْعَل اسْتِحَالَة ذَلِك كاستحالة لَا تعادل الدّلَالَة والشبهة حَتَّى تَكُونَا جَمِيعًا صحيحتين أَو يمْنَع من ذَلِك لدَلِيل سَمْعِي وَالْوَجْه الأول بَاطِل لأَنا لَا نجد فِي الْعقل مَا يحِيل تَسَاوِي الأمارتين فِي الْقُوَّة فَكَانَ ذَلِك من مجوزات الْعُقُول أَلا ترى أَنه لَا يمْتَنع عندنَا أَن يخبر اثْنَان باثبات الشَّيْء ونفيه وَيَسْتَوِي عندنَا عدالتهما وَصدق لهجتهما وتتعارض الأمارات الدَّالَّة على جِهَة الْقبْلَة ثمَّ لَيْسَ يُؤثر سُقُوط فرض التَّوَجُّه فِي بعض الْمَوَاضِع فِيمَا ذَكرْنَاهُ من جَوَاز كَون الأمارات مُتَسَاوِيَة فِي الْقُوَّة فَالْفرق بَين الأمارات فِي ذَلِك وَبَين الْأَدِلَّة أَن الْأَدِلَّة يجب أَن يكون مدلولها على مَا دلّت عَلَيْهِ فَلَو كَانَ مَا يدل على الشَّيْء وَمَا يدل على نَفْيه متساويين فِي أَنفسهمَا لَكَانَ الدليلان صَحِيحَيْنِ وَفِي ذَلِك حُصُول مدلوليهما جَمِيعًا النَّفْي النَّفْي والاثبات كالدليل الدَّال على أَن الله سُبْحَانَهُ يَسْتَحِيل أَن يرى والشبهة الْمُوجبَة أَن يرى وَأما الأمارة فَلَيْسَ يجب أَن يتبعهَا مدلولها بل قد تُوجد الأمارة الْأَقْوَى وَلَا يتبعهَا مدلولها كالغيم الكثيف الرطب فِي زمَان الشتَاء فَلَا يتبعهُ الْمَطَر وَيتبع الأمارة الضعيفة مدلولها كالغيم الْخَفِيف وَقد يخبر الرجل الْمَعْرُوف بِالصّدقِ فيكذب وَقد يخبر الرجل الْمَعْرُوف بِالْكَذِبِ فَيصدق فِي ذَلِك الْخَبَر وَلَيْسَ فِي تَسَاوِي الأمارتين فِي

الْقُوَّة مَا يُوجب حُصُول مدلولهما وَلَو وَجب حُصُول مدلولهما وَهُوَ صِحَة عِلّة التَّحْرِيم وَصِحَّة عِلّة الْإِبَاحَة لم يلْزم مِنْهُ حُصُول التَّحْرِيم وَالْإِبَاحَة على شخص وَاحِد بل كَانَ يلْزمه التَّخْيِير لَيْسَ فِي ذَلِك ثُبُوت النقيضين وَأما إِن منع من تعادل الأمارتين لدَلِيل سَمْعِي وَهُوَ أَنَّهُمَا للو تعادلا فِي الْقُوَّة لم يكن الحكم باحداهما أولى من الْأُخْرَى وَفِي ذَلِك إِثْبَات حكميهما إِمَّا على الْجمع وَذَلِكَ غير مُمكن وَإِمَّا على التَّخْيِير وَالْأمة مجمعة على أَن الْمُكَلّفين غير مخيرين فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد بَاطِل لِأَن تعادل الأمارتين كَلَفْظِ التَّخْيِير فِي الدّلَالَة على التَّخْيِير لِأَنَّهُ إِذا لم يكن حكم إِحْدَاهمَا أولى من حكم الْأُخْرَى وَلم يُمكن الْجمع فَلَيْسَ إِلَّا التَّخْيِير وَقد يثبت التَّخْيِير من غير لفظ لِأَن من مَعَه مِائَتَان من الْإِبِل فَهُوَ مُخَيّر بَين اداء أَربع حقاق أَو خمس بَنَات لبون وَلَيْسَ فِي ذَلِك لفظ التَّخْيِير وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل أَرْبَعِينَ ابْنة لبون وَفِي كل خمسين حقة إِن قيل هَذَا يقوم مقَام لفظ التَّخْيِير قيل فَكَذَلِك تعادل الأمارتين وَأما قَوْله إِن الْأمة مجمعة على أَن الْمُكَلّفين غير مخيرين فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد فان عنوا جَمِيع الْمسَائِل الْمَاضِيَة من مسَائِل الِاجْتِهَاد والمستقبلة لم نسلم ذَلِك وَإِن ارادوا الْمسَائِل الْمَاضِيَة دون الْمُسْتَقْبلَة لم نسلم أَيْضا لِأَن عبيد الله بن الْحسن الْعَنْبَري خير بَين غسل الرجلَيْن ومسحهما وَهُوَ مَذْهَب الْحسن الْبَصْرِيّ وَالشَّافِعِيّ يَقُول بقولين فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة وَيَقُول بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا وَجه قَالُوا وَلَو تتبعنا مَا ذَكرُوهُ من الْإِجْمَاع فِي الْمَسْأَلَة الْمَاضِيَة لم يمْنَع ذَلِك من صِحَة التَّخْيِير فِي الْحَوَادِث الْمُسْتَقْبلَة قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن يحْتَج بِأَن تعادل الأمارتين يَقْتَضِي التَّخْيِير بَين الْحكمَيْنِ وَلَا لفظ للتَّخْيِير وَالْأمة مجمعة على بُطْلَانه وَقد أُجِيب عَنهُ مَا ذَكرْنَاهُ وَله أَن يحْتَج بِمَا هُوَ جَوَاب عَن دلَالَة مَخْصُوصَة فَيَقُول لَو تعادلت الأمارتان لَأَدَّى إِلَى الشَّك فِي الحكم وَذَلِكَ لَا يجوز وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه يُؤَدِّي إِلَى الشَّك لِأَن الرجلَيْن المتساويين فِي الصدْق لَو

أخبرنَا أَحدهمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي الْكَعْبَة مَعَ أَنه لم يدخلهَا إِلَّا مرّة وَاحِدَة وَأَنه لم يَنْفَكّ الرَّاوِي من مشاهدته لَهُ مُنْذُ دَخلهَا إِلَى أَن خرج مِنْهَا وَأخْبرنَا آخر أَنه رَآهُ يُصَلِّي فِيهَا فانا نشك هَل صلى فِيهَا أَو لم يصل فِيهَا وَلَا نظن أَحدهمَا وَلَا كل وَاحِد مِنْهُمَا أما أَنا لَا نظن وَاحِدًا مِنْهُمَا فَقَط فَلِأَن الظَّن هُوَ تَغْلِيب أحد المجوزين على الآخر وَإِنَّمَا يغلب أَحدهمَا ويترجح بأمارة ترجحه فاذا كَانَ فِي أحد المجوزين من الأمارة مثل مَا فِي الآخر لم يتَرَجَّح أَحدهمَا على الآخر وَكَيف يتَرَجَّح أَحدهمَا على الآخر وَنحن نجوز من خطأ أحد المخبرين مثل مَا نجوز من خطأ الْمخبر الآخر فَأَما أَنا لَا نظن كل وَاحِد مِنْهُمَا فَلِأَن الظَّن هُوَ تَغْلِيب أحد المجوزين على نقيضه فاذا قُلْنَا هَذَا التجويز أغلب وَأظْهر من الآخر أَفَادَ زِيَادَته على الآخر وَإِذا قُلْنَا كل وَاحِد مِنْهُمَا ظن غَالب للْآخر أَفَادَ أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا زَائِد على الآخر وكل وَاحِد مِنْهُمَا نَاقص عَن الآخر وَهَذَا محَال وَإِذا لم يحصل عِنْد ذَلِك ظن وَكَانَ الحكم مَوْقُوفا على الظَّن لم يجز الحكم وَهَكَذَا لقَوْل فِي الأمارات المستنبطة وَأما أَنه لَا يجوز أَن لَا نحكم فِي الْمسَائِل إِلَّا بِحكم شَرْعِي بِالْإِجْمَاع لِأَن النَّاس على قَوْلَيْنِ أَحدهمَا أَنه يجب أَن نحكم فِيهَا بِحكم شَرْعِي معِين غير التَّخْيِير وَالْآخر أَنه يجب أَن نحكم فِيهَا إِمَّا بِحكم معِين وَإِمَّا بالتخيير فان قيل هلا قُلْتُمْ إِنَّه يجوز أَن يحكم فِي الْمَسْأَلَة بالأحوط أَو بِحكم الْعقل أَو بالحكم الشَّرْعِيّ لِأَنَّهُ ناقل قيل هَذَا رُجُوع إِلَى أَن الأمارتين لَا تتساويان لِأَنَّهُ لَيْسَ يَخْلُو حكم أَحدهمَا من أَن يكون هُوَ الحكم الْعقلِيّ وَمَا عداهُ شَرْعِي وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون أَحدهمَا حظرا وَالْآخر مُبَاحا أَو وَإِذا أقررتم أَنه يلْزم الْمصير إِلَيْهَا فقد اقررتم بِأَن الأمارتين لَا تتعادلان عِنْد الْمُجْتَهد إِذا استوفى الِاجْتِهَاد فان قيل فَهَلا قُلْتُمْ بالتخيير إِذا تعادلت الأمارتان قيل لَا يجوز ذَلِك لِأَن التَّخْيِير هُوَ يُفِيد لحكم كل وَاحِد من الأمارتين وَذَلِكَ لَا يجوز مَعَ تجويزنا ان يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا غير أَمارَة وَانْتِفَاء ظننا يبين ذَلِك أَنه إِذا تعادلت

الأمارات الدَّالَّة على أَن الْكَيْل عِلّة للأمارات الدَّالَّة على أَن الطّعْم علته لم يَجْعَل لنا الظَّن بِأَن أَحدهمَا عِلّة وَلَا الظَّن بِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة وَمَعَ انْتِفَاء الظَّن لكَون الْوَصْف عِلّة لَا يجوز أَن يعلق الحكم بِهِ وَأَيْضًا فالتخيير بَين النَّفْي وَالْإِثْبَات لَا يَصح إِلَّا على معنى الْإِبَاحَة وَذَلِكَ كالتخيير بَين أَن يكون الْفِعْل مَحْظُورًا أَو مُبَاحا أَو وَاجِبا أَو غير وَاجِب لِأَنَّهُ إِذا خير الْإِنْسَان بَين الْحَظْر وَالْإِبَاحَة وَقيل إِن شِئْت فافعله وَإِن شِئْت فَلَا تَفْعَلهُ فقد ابيح الْفِعْل إِذْ لَيْسَ للْإِبَاحَة معنى سوى ذَلِك فان قيل الْفرق بَين ذَلِك وَبَين الْإِبَاحَة معنى سوى ذَلِك وَهُوَ أَن الْإِبَاحَة هِيَ تَخْيِير بَين الْفِعْل والكف عَنهُ على الْإِطْلَاق وَفِي هَذَا الْموضع إِنَّمَا قيل للمكلف افْعَل إِن اعتقدت كَون الْفِعْل مُبَاحا وَلَا تفعل إِن اعتقدت حظره قيل أَلَيْسَ الِاعْتِقَاد لحظره وإباحته علما فَمن قَوْلهم نعم فَيُقَال لَهُم فَمَا الطَّرِيق إِلَى كَون ذَلِك علما فان قَالُوا ثُبُوت الأمارة مَعَ الدّلَالَة الدَّالَّة على وجوب الحكم بالأمارة قيل وَفِي القَوْل الآخر مثل هَذِه الدّلَالَة وَكَيف يجوز أَن تَقولُوا إِن الطَّرِيق إِلَى الْعلم بِالْإِبَاحَةِ مَا ذكرْتُمْ وَأَنْتُم تجوزون لَهُ أَن لَا يعْتَقد الْإِبَاحَة ويعتقد الْحَظْر فان قَالُوا الطَّرِيق إِلَى الْعلم بِالْإِبَاحَةِ أَو إِلَى الْعلم بالحظر أَن يخْتَار الْمُكَلف اعْتِقَاد أَحدهمَا قيل اخْتِيَار الْإِنْسَان أَن يعْتَقد شَيْئا لَيْسَ يدل على صِحَة معتقده فَيكون اعْتِقَاده علما إِذْ لَيْسَ لَهُ تعلق بالأدلة وَلَو جَازَ ذَلِك لجَاز أَن تخْتَار الاعتقادات فَتَصِير باختيارنا علوما وَكَيف يجوز ذَلِك مَعَ أَن الْإِنْسَان قد يخْتَار الصَّحِيح كَمَا يخْتَار الْفَاسِد وَلَيْسَ مَعَ الِاخْتِيَار من الدّلَالَة مَا يخْتَص أحد الاعتقادين دون الاخر فان قَالُوا إِنَّمَا دلّت على حسن الْفِعْل بِالشّرطِ أَن يخْتَار الْمُكَلف اعْتِقَاده قيل الدّلَالَة الدَّالَّة على الْحسن والقبح لَا تعلق لَهَا بِالِاخْتِيَارِ فَفَارَقَ ذَلِك جَمِيع شُرُوط الْأَدِلَّة وَأَيْضًا فَحسن الِاخْتِيَار للاعتقاد تَابع لحسن الِاعْتِقَاد لِأَنَّهُ إِنَّمَا يحسن أَن نعتقد مَا هُوَ صَحِيح فِي نَفسه فالاختيار تَابع لما هُوَ تَابع للمعتقد وهم عكسوا الْقَضِيَّة فَجعلُوا الِاعْتِقَاد تَابعا للاختيار وَجعلُوا صِحَة المعتقد تَابعا للاعتقاد وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ يَقْتَضِي أَن

الْعَاميّ إِذا أفتاه مفت بالحظر وَأَفْتَاهُ آخر بِالْإِبَاحَةِ وَقُلْنَا إِنَّه يجب عَلَيْهِ الِاجْتِهَاد فِيهَا فانه إِذا اجْتهد فيهمَا فَلَا بُد من أَن يتَرَجَّح عِنْده أَحدهمَا على الآخر فان قيل هلا قُلْتُمْ أَنه يصير الْفِعْل مُبَاحا إِذا تَسَاويا عِنْد الْإِنْسَان قيل لَو جَعَلْنَاهُ مُبَاحا لَكنا قد علمنَا على أَمارَة الْإِبَاحَة مَعَ مُسَاوَاة أَمارَة الْحَظْر لَهَا وَلَيْسَ يجوز ذَلِك لِأَنَّهُمَا إِذا تَسَاويا عِنْده وَجب الشَّك على مَا ذَكرْنَاهُ وَالْعَمَل فِي هَذِه الْمسَائِل يتبع الظَّن لَا الشَّك وَأما إِن لم يلْزم المستفتي الِاجْتِهَاد فيهمَا فَلَا بُد من القَوْل بِأَنَّهُ يصير الْفِعْل مُبَاحا وَلَيْسَ هُنَاكَ اجْتِهَاد فِي أمارتين فَيمْتَنع مَعَ تساويهما عِنْد الْمُجْتَهد أَن يحكم بِحكم أَحدهمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يَصح أَن يَقُوله الْمُجْتَهد من الْأَقَاوِيل وَمَا لَا يَصح وَهل يَصح أَن يُقَال لَهُ فِي الْمَسْأَلَة قَولَانِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْأَقَاوِيل المتناقضة لَا يَصح أَن يعتقدها أحد من النَّاس نَحْو أَن يعْتَقد أَن العفل حرَام عَلَيْهِ فِي وَقت مَخْصُوص فِي مَكَان مَخْصُوص على وَجه مَخْصُوص ويعتقد مَعَ هَذَا الِاعْتِقَاد أَن ذَلِك الْفِعْل حَلَال لَهُ على هَذِه الشُّرُوط فَأَما اعْتِقَاد وجوب فعلين ضدين على الْبَدَل والتخيير فَغير مُمْتَنع نَحْو أَن يعْتَقد أَن الْخُرُوج من الدَّار يجب من كلا بابيها على التَّخْيِير وَنَحْو الصَّلَاة فِي أَمَاكِن متضادة وَيجوز أَن يعْتَقد مُعْتَقد الِاعْتِدَاد بالأطهار وَالْحيض على الْبَدَل لِأَنَّهُ لَا تنَافِي فِي ذَلِك وَذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الْعمد أَنه يَصح أَن يعْتَقد الْإِنْسَان إِثْبَات الحكم ونفيه وَكَون الْعِبَادَة وَاجِبَة ومستحبة وَكَون الْفِعْل حسنا وقبيحا كل ذَلِك على الْبَدَل وَمنع فِي الشَّرْح من دُخُول التَّخْيِير بَين الْمُسْتَحبّ والمباح قَالَ لِأَن لأَحَدهمَا مدخلًا فِي التَّعَبُّد دون الآخر فان قَالَ أُرِيد لَهُ أَن يفعل الْمُسْتَحبّ وَلَا يَفْعَله فَهُوَ صَحِيح كَانَ التَّخْيِير أَو لم يكن قَالَ وَأما التَّخْيِير

بَين الْوَاجِب وَالْمُسْتَحب فبعيد لِأَن ذَلِك يقْدَح فِي كَون الْوَاجِب وَاجِبا وَأما نَحن فقد بَينا فِي الْبَاب الْمُتَقَدّم القَوْل فِي ذَلِك فَأَما مَا يعزى إِلَى الشَّافِعِي من الْقَوْلَيْنِ فَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن ذَلِك يَصح من وُجُوه ثَلَاثَة أَحدهَا أَنه يتكافى عِنْده أمارتا الْقَوْلَيْنِ فَيَقُول بهما على التَّخْيِير وَالْآخر أَن يكون قد فسد عِنْده مَا عداهما وَلَا يدْرِي ايهما الْحق من غير أَن يقويا وَالْآخر أَن يَكُونَا قد قَوِيا عِنْده قُوَّة مَا وَله فيهمَا نظر وَفَسَد مَا عداهما فَيُقَال لَهُ فِيهَا قَولَانِ على معنى أَنَّهُمَا قولاه اللَّذَان قواهما على مَا عداهما وَلقَائِل أَن يَقُول أما تكافي الأمارتين فِي قَوْلَيْنِ نفي وَإِثْبَات وَالْقَوْل بِأَن الْمُكَلف يكون مُخَيّرا فيهمَا فقد بَينا أَنه لَا يَصح نَحْو مَا يَقُوله فِيمَا سقط من شعر اللِّحْيَة عَن الْوَجْه أَن فِيهِ قَوْلَيْنِ أَحدهمَا يجب غسله فِي الْوضُوء وَالْآخر لَا يجب وَأما تكافي الأمارتين فِي فعلين غير متنافيين نَحْو الِاعْتِدَاد بالأطهار وبالحيض فقد كَانَ يَصح التَّخْيِير بَين ذَلِك كَمَا يَصح التَّخْيِير بَين الْكَفَّارَات الثَّلَاث إِلَّا أَنه لَا يُقَال لمن اعْتقد التَّخْيِير فِي ذَلِك إِن لَهُ فِي الْمَسْأَلَة قَوْلَيْنِ بل قَول وَاحِد وَهُوَ القَوْل بالتخيير فانه مَا من أحد يَقُول إِن للْمُسلمين فِي كَفَّارَة الْيَمين ثَلَاثَة أقاويل أَحدهمَا أَن يكفر بِالْعِتْقِ وَالْآخر بالكسوة وَالْآخر بِالْإِطْعَامِ وَإِن لَهُم فِي الصَّلَاة فِي الْبِقَاع أقاويل كَثِيرَة وَفِي الْخُرُوج من دَار مَغْصُوبَة ذَات بَابَيْنِ قَولَانِ وَأما الْوَجْهَانِ الْآخرَانِ فالمرجع بهما إِلَى أَنه شَاك فِي قَوْلنَا وَمن شكّ فِي شَيْئَيْنِ وَجوز كل وَاحِد مِنْهُمَا بَدَلا من الآخر لَا يكون لَهُ قَول فِي الْمَسْأَلَة أصلا فضلا أَن يُقَال لَهُ فِيهَا قَولَانِ فان من شكّ فِي أَن الْعَالم مُحدث أَو قديم لَا يُقَال لَهُ فِي الْعَالم قَولَانِ على أَنه قد قَالَ قولا نفيا وإثباتا لَا متوسط بَينهمَا فَلَا يُمكن أَن يُقَال قد فسد مَا عداهما وَتوقف فِي الصَّحِيح مِنْهُمَا نَحْو غسل مَا سقط عَن الْوَجْه من اللِّحْيَة فَأَما مَا يحْكى عَن الشَّافِعِي من الْقَوْلَيْنِ فَيَنْبَغِي أَن يُقَال إِن الشَّافِعِي إِذا

قَالَ فِي الْمَسْأَلَة قَولَانِ فَلهُ ثَلَاثَة أَحْوَال أَحدهَا أَن لَا يكون لَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة وَلَا فِيمَا يجْرِي مجْراهَا غير ذَلِك القَوْل وَظَاهر فِيمَا هَذِه حَاله أَن لَا ينْسب إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة غير ذَلِك القَوْل وَالْآخر أَن يكون لَهُ قَول آخر فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة أَو فِيمَا يجْرِي مجْراهَا وَالْآخر أَن يكون لَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة أَو فِيمَا يجْرِي مجْراهَا قَولَانِ أَو أَكثر فان كَانَ لَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة قَول آخر ذكره فِي مَوضِع آخر فَلَا بُد من أَن يكون قد اثبتهما فِي زمَان بعد زمَان فان علمنَا الْمُتَأَخر مِنْهُمَا كَانَ ذَلِك القَوْل رُجُوعا إِلَى القَوْل الآخر لِأَنَّهُ لَا شَيْء أبلغ فِي رُجُوع الْعَالم عَن القَوْل من أَن يَقُول بضده وعَلى هَذَا يكون أَمر الله عز وَجل بضد مَا أَمر من قبل نَاسِخا لأَمره الأول فان لم يعلم الْمُتَأَخر مِنْهُمَا فَالْوَاجِب إسنادهما إِلَيْهِ وَيُقَال لَا يعلم الْمُتَقَدّم مِنْهُمَا وَلَا يجوز أَن يُقَال إنَّهُمَا قولاه فِي حَالَة وَاحِدَة لأَنا غير عَالمين بذلك فَأَما إِن نَص على خلاف ذَلِك القَوْل فِي مَسْأَلَة تجْرِي مجْرى تِلْكَ الْمَسْأَلَة فان أمكن أَن يفرق بَينهمَا بعض الْمُجْتَهدين فانه لَا يَنْبَغِي أَن ينْقل قَوْله من إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى لجَوَاز أَن يكون قد فرق بَينهمَا وَإِن لم يُمكن أَن يذهب بعض الْمُجْتَهدين إِلَى الْفرق بَينهمَا فانه يجْرِي نَصه فِيهَا مجْرى أَن ينص فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة على قَوْلَيْنِ مُخْتَلفين وَأما إِن وجد لَهُ فِي مَوضِع آخر قَولَانِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة بِعَينهَا فانه لَا يجوز أَن يحملا على اخْتِلَاف حَالين وَلَا يحمل على أَنَّهُمَا حِكَايَة عَن غَيره لِأَن الظَّاهِر خلاف ذَلِك فان أَشَارَ إِلَى أحد الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ وَهَذَا مِمَّا أستخير الله فِيهِ أَو قواه ضربا من التقوية فانه يدل على أَنه قد اخْتَارَهُ على القَوْل الآخر لِأَنَّهُ إِنَّمَا يخْتَار الْمُجْتَهد أحد الْقَوْلَيْنِ على ألاخر إِذا قوي عِنْده وَيجوز أَن يكون إِنَّمَا بَانَتْ لَهُ قُوَّة أَحدهمَا عِنْد فَرَاغه من إثباتهما فِي الْكتاب وَكَانَا متكافئين عِنْده لما ابْتَدَأَ باثباتهما وَإِن لم يقو أحد الْقَوْلَيْنِ فانه إِن كَانَ حِين نَص على أحد الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَة لم تكن الْمَسْأَلَة مَقْصُودَة فِي كَلَامه فانه لَا يدل ذكره على أَنه فِي تِلْكَ الْحَال مَا كَانَ يَعْتَقِدهُ سواهُ لِأَن مَا لَيْسَ بمقصود لَا يَسْتَوْفِي القَوْل فِيهِ وَسَوَاء علمنَا تقدم بعضه على ذَلِك القَوْل أَو علمنَا تَأَخره أَو لم نعلم تقدمه وَلَا تَأَخره

وَإِن كَانَت الْمَسْأَلَة مَقْصُودَة فِي كَلَامه فَذكره لذَلِك القَوْل يدل على أَنه لم يكن يعْتَقد فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة سواهُ فان علمنَا تَأَخره أَعنِي القَوْل الْمُنْفَرد كَانَ ذَلِك رُجُوعا عَن مَا عداهُ فان كَانَ هُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ الآخرين فَهُوَ رُجُوع عَن القَوْل الآخر وَإِن كَانَ غَيرهمَا فَهُوَ رُجُوع عَنْهُمَا إِلَيْهِ وَإِن علمنَا تَأَخّر الْقَوْلَيْنِ فقد صَار لَهُ فِي الْمَسْأَلَة قَولَانِ فان كَانَا سوى القَوْل الْمُنْفَرد فقد رَجَعَ عَن القَوْل النفرد وَإِن كَانَ القَوْل الْمُنْفَرد هُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ فقد صَار لَهُ فِي الْمَسْأَلَة قَول آخر مَعَ ذَلِك القَوْل وَإِن لم نعلم تَأَخّر أحد النصين عَن الآخر وَجب حِكَايَة الْحَال وَيُقَال لَا نَدْرِي أَي النصين تقدم الآخر فان كَانَ نَصه على الْقَوْلَيْنِ فِي مَسْأَلَة يجْرِي مجْرى الْمَسْأَلَة الَّتِي نَص فِيهَا على القَوْل الْمُنْفَرد وَأمكن أَن يكون بَينهمَا فرق يذهب إِلَيْهِ الْمُجْتَهد فَيَنْبَغِي أَن يُقَال لَهُ فِي الْمَسْأَلَة قَول وَاحِد وَفِي الْمَسْأَلَة الْأُخْرَى قَولَانِ وَإِن لم يُمكن أَن يفرق بَينهمَا مُجْتَهد فَالْقَوْل فيهمَا كالقول فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة وَقد دخل فِي جملَة هَذِه الْقِسْمَة أَن ينص على قَوْلَيْنِ مَعًا فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة فَنَقُول فِيهَا قَولَانِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْوَجْه الَّذِي يجوز مَعَه تَخْرِيج الْمَذْهَب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن مَذْهَب الْإِنْسَان هُوَ اعْتِقَاده فَمَتَى ظننا اعْتِقَاد الْإِنْسَان أَو عَرفْنَاهُ ضَرُورَة أَو بِدَلِيل مُجمل أَو مفصل قُلْنَا إِنَّه مذْهبه وَمَتى لم نظن ذَلِك وَلم نعلمهُ لم نقل إِنَّه مذْهبه وَقد يدل الْإِنْسَان على مذْهبه فِي الْمَسْأَلَة بِوُجُوه مِنْهَا أَن يحكم فِي الْمَسْأَلَة بِعَينهَا بِحكم معِين وَمِنْهَا أَن يَأْتِي بِلَفْظ عَام يَشْمَل تِلْكَ الْمَسْأَلَة وَغَيرهَا فَيَقُول الشُّفْعَة لكل جَار وَمِنْهَا أَن يعلم أَنه لَا فرق بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ وينص على حكم احدهما فَيعلم أَن حكم الاخرى عِنْد ذَلِك الحكم نَحْو أَن يَقُول الشُّفْعَة لِجَار الدّكان فَيعلم أَن الشُّفْعَة عِنْده لِجَار الدَّار إِذْ قد علمنَا أَنه لَا يفرق بَين الدَّار

والدكان وَمِنْهَا أَن يُعلل الحكم بعلة تُوجد فِي عدَّة مسَائِل فَيعلم أَن مذْهبه شُمُول ذَلِك الحكم لتِلْك الْمسَائِل سَوَاء قَالَ بتخصيص لعِلَّة أَو لم يقل أما إِذا لم يقل بتخصيص الْعلَّة وَقَالَ النِّيَّة وَاجِبَة فِي التَّيَمُّم لِأَنَّهُ طَهَارَة عَن حدث فقد اعْتقد وجوب النِّيَّة لأجل هَذِه الْعلَّة فاذا علم أَن الْعلَّة شَامِلَة علم شُمُول حكمهَا فَأَما من يجوز تَخْصِيص الْعلَّة فانه يجوز تخصيصها إِذا دلّ على تخصيصهما دلَالَة كالعموم فَكَمَا أَن كَلَام الْعَالم الْعَام يدل على مذْهبه فَكَذَلِك تَعْلِيله فَأَما إِذا نَص الْعَالم فِي مَسْأَلَة على حكم وَكَانَت الْمَسْأَلَة تشبه مَسْأَلَة أُخْرَى شبها يجوز أَن يذهب على بعض الْمُجْتَهدين فانه لَا يجوز أَن يُقَال قَوْله فِي هَذِه الْمَسْأَلَة هُوَ قَوْله فِي الْمَسْأَلَة الْأُخْرَى لِأَنَّهُ قد لَا تخطر الْمَسْأَلَة بِبَالِهِ وَلم يُنَبه على حكمهَا لفظا وَلَا معنى وَلَا يمْتَنع لَو خطرت بِبَالِهِ لصار فِيهَا إِلَى الِاجْتِهَاد الآخر فان قيل أَلَيْسَ إِذا نَص الله تَعَالَى على حكم مَسْأَلَة ثمَّ نبه على علته وَرَأى بعض الْمُجْتَهدين أَن عِلّة ذَلِك الحكم مَوْجُودَة فِي فرع فانكم تَقولُونَ من دين الله وَدين رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحكم فِي الْفَرْع بِحكم الأَصْل فَهَلا قُلْتُمْ فِي نَص الْمُجْتَهد مثل ذَلِك قيل لَهُ إِنَّمَا قُلْنَا إِن ذَلِك دين الله تَعَالَى لِأَنَّهُ قد دلنا على الْعلَّة بتنبيه عَلَيْهَا ودلنا على أَنه قد تعبدنا باجراء حكمهَا بتبعها والعالم لم يدلنا على مذْهبه فِي غير مَا نَص عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون مِمَّن يفرق بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ ويخطىء فِي الْفرق بَينهمَا وَلَا يجوز مثل ذَلِك على الله سُبْحَانَهُ

الكلام في الحظر والإباحة

الْكَلَام فِي الْحَظْر وَالْإِبَاحَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْأَشْيَاء هَل هِيَ قبل الشَّرْع على الْحَظْر أَو على الْإِبَاحَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن أَفعَال الْمُكَلف فِي الْعقل ضَرْبَان قَبِيح وَحسن فالقبيح كالظلم وَالْجهل وَالْكذب وَكفر النِّعْمَة وَغير ذَلِك وَالْحسن ضَرْبَان أَحدهمَا يتَرَجَّح فعله على تَركه وَالْآخر لَا يتَرَجَّح فعله على تَركه فَالْأول مِنْهُ مَا الأولى أَن نَفْعل كالإحسان والتفضل وَمِنْه مَا لَا بُد من فعله وَهُوَ الْوَاجِب كالإنصاف وشكر الْمُنعم وَأما الَّذِي لَا يتَرَجَّح فعله على تَركه فَهُوَ الْمُبَاح وَذَلِكَ كالانتفاع بالمآكل والمشارب وَهَذَا مَذْهَب الشَّيْخَيْنِ أبي عَليّ وَأبي هَاشم وَالشَّيْخ ابي الْحسن وَذهب بعض شُيُوخنَا البغداديين وَقوم من الْفُقَهَاء إِلَى أَن ذَلِك مَحْظُور وَتوقف آخَرُونَ فِي حظر ذَلِك وإباحته وَقد تقدم معنى الْمُبَاح والمحظور فَلَا معنى لإعادته غير أَنه قد يُوصف الْفِعْل بِأَن الْإِقْدَام عَلَيْهِ فَقَط مُبَاح وَإِن كَانَ مَحْظُورًا تَركه كوصفنا الْمُرْتَد بِأَنَّهُ مُبَاح الدَّم وَمَعْنَاهُ أَنه لَا ضَرَر على من اراق دَمه وَلَا تبعة وَإِن كَانَ الإِمَام ملوما بترك إراقته وَدَلِيلنَا على أَن الِانْتِفَاع بالمآكل مُبَاح فِي الْعقل هُوَ أَن الِانْتِفَاع بهَا مَنْفَعَة لَيْسَ فِيهِ وَجه من وُجُوه الْقبْح وكل مَا هَذِه سَبيله فحسنه مَعْلُوم وَالْعلَّة فِي حسن مَا هَذِه سَبيله هِيَ أَن الْمَنْفَعَة تَدْعُو إِلَى الْفِعْل وتسوغه إِذْ هِيَ غَرَض من الْأَغْرَاض فاذا انْتَفَى وُجُوه عَنْهَا تجرد مَا يَقْتَضِي الْحسن أما أَن أكل الْفَاكِهَة مَنْفَعَة فَلَا شُبْهَة فِيهِ وَلَا شُبْهَة فِي انْتِفَاء وُجُوه الْقبْح عَنهُ نَحْو الْكَذِب وَالْجهل وَكفر النِّعْمَة أَو مضرَّة على النَّفس أَو على الْغَيْر لأَنا إِنَّمَا تكلمنا فِي أكل مَا لَا مضرَّة فِيهِ وَلَو كَانَ فِيهِ مفْسدَة لدلنا الله عَلَيْهَا

وَلَيْسَ فِي الْعقل دَلِيل عَلَيْهَا وَلَا فِي السّمع إِن قيل جَوَاز كَونه مفْسدَة يُغني فِي قبحه كَمَا يُغني جَوَاز كَون الْخَبَر كذبا فِي قبحه وَإِذا قبح مَعَ الْجَوَاز لم يجب فِي الْحِكْمَة تَعْرِيف كَونه مفْسدَة قيل قد أُجِيب عَن السُّؤَال بأَشْيَاء مِنْهَا أَنا كَمَا نعلم قبح خبر لَا نَأْمَن كَونه كذبا فانا نعلم حسن مَنْفَعَة لَا نعلم فِيهَا وَجها من وُجُوه الْقبْح أَلا ترى أَنا نعلم حسن التنفس فِي الْهَوَاء أَو التَّصَرُّف فِيهِ وَلَيْسَ يضرنا أَن لَا نَعْرِف الْفرق بَين ذَلِك وَبَين الْخَبَر الَّذِي يقبح إِذا جَوَّزنَا كَونه كذبا وَهَذَا الْجَواب لَا يَصح لِأَن الْمُسْتَدلّ رام أَن يثبت حسن هَذَا التَّصَرُّف بِانْتِفَاء وُجُوه الْقبْح عَنهُ وَاسْتدلَّ على انْتِفَاء كَونه مفْسدَة بِأَنَّهُ لَو كَانَ مفْسدَة للَزِمَ فِي الْجُمْلَة تعريفنا كَونه مفْسدَة وَهَذَا الْجَواب يَنْفِي وُجُوه الْقبْح عَنهُ تبعا للْعلم بِأَنَّهُ حسن فَهُوَ مُخَالف لموضوع الدّلَالَة وَهُوَ انْتِقَال إِلَى دلَالَة أُخْرَى وَهِي قِيَاس سَائِر الْمَنَافِع على التنفس فِي الْهَوَاء وَسَيَجِيءُ الْكَلَام على هَذَا الْقيَاس وَمِنْهَا أَن الْكَذِب يقبح على كل وَجه وَإِن اخْتصَّ بنفع وَدفع ضَرَر وَلَيْسَ كَذَلِك الْمَنَافِع والمضار وَلقَائِل أَن يَقُول وَلم إِذا افْتَرقَا من هَذِه الْجِهَة وَجب إِذا قبح أَحدهمَا لتجويز كَونه كذبا لَا يقبح الآخر لتجويز كَونه مفْسدَة وَأَيْضًا فان الْمفْسدَة لَا تحسن على وَجه وَإِن اخْتصّت بنفع أَو دفع ضَرَر كَمَا أَن الْكَذِب لَا يحسن مَعَ النَّفْع وَرفع الضَّرَر فَهَلا كَانَ تَجْوِيز الْمفْسدَة كتجويز كَون الْخَبَر كذبا فِي تقبيح الْفِعْل وَمِنْهَا أَن الأَصْل فِي النَّفْع أَن يكون حسنا وَأَن يكون خَالِصا إِذا لم يعلم فِيهِ مضرَّة وَوجه قبح فاذا كَانَ كَذَلِك وَجب مَتى لم يخبرنا الله أَن الْفِعْل مفْسدَة أَن نقطع على أَنه لَيْسَ بمفسدة وَلَيْسَ كَذَلِك الْخَبَر لِأَنَّهُ لَيْسَ الأَصْل فِيهِ كَونه صدقا وَلقَائِل أَن يَقُول إِن أردتم بِهَذَا الْكَلَام أَن النَّفْع الَّذِي لَا يعلم

فِيهِ وَجه قبح يجب الْقطع على أَنه لَيْسَ فِيهِ وَجه قبح فَفِي ذَلِك تخالفون لِأَن مخالفكم يَقُول مَتى لم نعلم فِيهِ وَجه قبح فَنحْن نجوزه وَإِن أردتم ان الْغَالِب فِيمَا هَذِه سَبيله أَنه لَيْسَ فِيهِ وَجه قبح قيل لكم لم زعمتم أَن الْغَالِب مَا ذكرْتُمْ وَلم إِذا كَانَ الْغَالِب ذَلِك لم يكن تَجْوِيز وَجه الْقبْح كَافِيا فِي الْقبْح وَيُمكن الِاسْتِدْلَال بالنفع على وَجه آخر فَيُقَال إِن النَّفْع يَدْعُو إِلَى الْفِعْل وَيَقْتَضِي حسنه إِذا خلا من وُجُوه الْقبْح وخلا من أَمارَة الضَّرَر والمفسدة وَالِانْتِفَاع بالمآكل هَذِه سَبيله فِي الْعقل فَكَانَ حسنا وَالدّلَالَة على أَن الْمُعْتَبر هُوَ بأمارة الضَّرَر والمفسدة هِيَ أَن الْعُقَلَاء يلومون من امْتنع عَن الْفِعْل لتجويز الضَّرَر بِلَا أَمارَة ويعذرونه إِذا كَانَت فِيهِ أَمارَة أَلا تراهم يلومون من قَامَ من تَحت حَائِط لَا ميل فِيهِ لجَوَاز سُقُوطه لفساد فِي اساسه وَفِي بَاطِنه وَلَا يلومونه إِذا كَانَ مائلا وَلَا يلومون من امْتنع من أكل طَعَام شهي لأمارة دلّت على أَنه مَسْمُوم ويلومونه من جِهَة الْعقل إِذا امْتنع مِنْهُ لتجويز كَونه مسموما وَلَيْسَ يلومونه على ذَلِك لِأَنَّهُ خَالف الشَّرْع فِي امْتِنَاعه من ذَلِك بل رُبمَا لَا يخْطر الشَّرْع ببالهم فِي ذَلِك الْوَقْت وَلِأَن لومهم على ذَلِك لَيْسَ كلومهم من امْتنع من أكل لحم الْحَيَوَان وَلِأَن البراهمة يلومونه على ذَلِك وَلَا يعْرفُونَ الشَّرْع وَأما أَن الِانْتِفَاع بالمأكل هَذِه سَبيله فُلَانُهُ ظَاهر خلوه من كَونه كذبا وجهلا وَكفر نعْمَة وَكَونه تَصرفا فِي ملك الْغَيْر إِنَّمَا يقبح الْفِعْل إِذا استضر بِهِ الْغَيْر على مَا سنشرحه وَأما كَونه مفْسدَة ومضرة فاستبعاد الْعُقَلَاء لَهُ كاستبعادهم أَن يكون الطَّعَام مسموما وَأَن الْحَائِط الَّذِي لَا ميل فِيهِ يسْقط وَأما الْأَخْبَار إِذا لم يُؤمن كذبهَا فقد علمنَا قبحها وَإِن لم نشْهد أَمارَة بكذبها كَمَا نعلم حسن نفع لَا أَمارَة فِيهِ بِكَوْنِهِ مفْسدَة ومضرة وَلَا يضرنا أَن لَا نَعْرِف الْعلَّة فِي ذَلِك وَأَيْضًا فالنفع وَجه يحسن وَلَيْسَ كَون الْخَبَر خَبرا وَجه حسن وَلَا الْأَظْهر أَن يكون صدقا جَوَاب آخر لَو قبح الْإِقْدَام على الْمَنَافِع لتجويز كَونهَا مفْسدَة لقبح

الإحجام عَنْهَا لتجويز كَونه مفْسدَة وَفِي ذَلِك وجوب الانفكاك مِنْهُمَا وَذَلِكَ وجوب مَا لَا يُطَاق فَبَطل أَن يكون تَجْوِيز كَون الْفِعْل مفْسدَة وَجه قبح وَلَا يلْزم إِذا قبح الْخَبَر لجَوَاز كَونه كذبا أَن يقبح تَركه لِأَن تَركه لَيْسَ بِخَبَر فَيجوز كَونه كذبا وَلَا يلْزمنَا وجوب فعل الْخَبَر لجَوَاز كَونه صدقا لِأَن الْقطع على كَونه صدقا لَا يُوجب فعله فضلا عَن جَوَاز كَونه صدقا فان قيل لَيْسَ بِأَن يقبح لجَوَاز كَونه كذبا بِأولى من أَن يحسن لجَوَاز كَونه صدقا قيل اعْتِبَار وَجه الْقبْح أولى لأَنا إِذا فعلنَا الْخَبَر لم نَأْمَن كَونه كذبا قبيحا فاذا تَرَكْنَاهُ لم نَكُنْ خَائِفين من الْوُقُوع فِي الْقبْح فان قيل لَيْسَ بِأَن يقبح الْخَبَر لجَوَاز كَونه كذبا باولى من أَن يجب لجَوَاز كَون الْإِخْلَال بِهِ مفْسدَة قيل كَيفَ يلْزمنَا ذَلِك وَنحن نقُول إِن تَجْوِيز كَون الْفِعْل مفْسدَة من غير أَمارَة لَا يَقْتَضِي قبح الْفِعْل وَلَو لم يدل على ذَلِك إِلَّا هَذَا الْوَجْه لكفى فان قيل إِن تَجْوِيز الْمفْسدَة وَجه الْقبْح وَهُوَ إِن حصل فِي الْإِقْدَام على الْمَنْفَعَة وَفِي الإحجام عَنْهَا فانا نتخلص من هَذَا الْفساد بِالتّرْكِ لِأَن الشَّرْع لَا يَنْفَكّ مِنْهُ الْعقل فيبين هَل فِي ذَلِك مفْسدَة أم لَا قيل إِنَّا لم نتكلم فِي الْعقل لَا يَنْفَكّ من الشَّرْع وَإِنَّمَا تكلمنا على أَنه لَو انْفَرد الْعقل هَل كَانَ يقبح هَذَا الْإِقْدَام على الْمَنَافِع أم لَا وَقد بَان أَنه لَا وَجه يُوجب قبحه ثمَّ يُقَال لَهُم كَيفَ تستدلون بذلك على وجوب اقتران الْعقل بِالشَّرْعِ فان قَالُوا بِأَن نقُول لَو انْفَرد الْعقل عَن الشَّرْع لم يحسن الْإِقْدَام على الْمَنَافِع والإحجام عَنْهَا لجَوَاز كَون كل وَاحِد مِنْهُمَا مفْسدَة وَلم يقبح الْإِقْدَام والإحجام تبعا لِاسْتِحَالَة الانفكاك مِنْهُمَا ومحال إنفكاك الْمَنَافِع من هَذِه الْأَقْسَام فانفكاك الْعقل عَن سمع قد أدّى إِلَى هَذَا الْفساد فَلم يجز أَن يَنْفَكّ من سمع قيل لَهُم أَرَأَيْتُم لَو انْفَكَّ الْعقل عَن سمع أَكَانَ يجب الانفكاك من الْإِقْدَام على الْمَنَافِع وَمن الإحجام فان قَالُوا لَيْسَ بِأَن لَا يجب ذَلِك لِاسْتِحَالَة بِأولى من أَن يجب

لقبح الْإِقْدَام والإخلال قيل لَهُم ارأيتم لَو أقدم الْمُكَلف على الْمَنَافِع أَو أخل بهَا كَانَ يحسن ذمه فان قَالُوا لَا نَدْرِي كَانُوا قد جوزوا حسن الذَّم على مَا لَا يُمكن انفكاك مِنْهُ وَمَعْلُوم بطلَان ذَلِك وَإِن قَالُوا كَانَ لَا يحسن الذَّم قيل لَهُم فاذا لم يَنْفَكّ الشَّرْع عَن عقل حسن من الْمُكَلف الْإِقْدَام وَحسن الإحجام وَأَيْضًا فَكَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يَقُولُوا إِن الْمُكَلف يلْزمه الْإِخْلَال بالمنافع قبل الشَّرْع لأَنهم قد أقرُّوا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَن يقبح الْإِقْدَام بِأولى من أَن يقبح الإحجام وَأَيْضًا فان الانفكاك من شرع لَا يُؤَدِّي إِلَى الْفساد الَّذِي ذَكرُوهُ لِأَن الْمُكَلف يَقُول إِن لي إِلَهًا حكيما وَلَيْسَ يجوز أَن يجب عَليّ الانفكاك من الْإِقْدَام على الْمَنَافِع وَمن الإحجام عَنْهَا لِأَن ذَلِك يَسْتَحِيل فاذا لَيْسَ يجْتَمع الْإِقْدَام والإخلال بهَا فِي الْقبْح وَلَو انْفَرد أَحدهمَا بالْحسنِ دون الآخر لوَجَبَ فِي حِكْمَة الْمُكَلف أَن يفرق لي بَينهمَا بِدَلِيل عَقْلِي أَو سَمْعِي إِذْ كنت لَا أعرف ذَلِك ضَرُورَة وَلَيْسَ فِي الْعقل تَجْوِيز كَون أَحدهمَا مفْسدَة دون الآخر وَإِذا لم يفرق لي بَينهمَا فَلَيْسَ ينْفَرد أَحدهمَا بالْحسنِ دون الْقبْح وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْقبْح فاذن يَجْتَمِعَانِ فِي الْحسن وَأَيْضًا فان كَانَ انفكاك الْعقل من سمع يُؤَدِّي إِلَى هَذَا الْمحَال فَمَا يصنع النَّاظر عِنْد ابْتِدَائه بِالنّظرِ قبل وُصُوله إِلَى النّظر فِي النبوات فإمَّا القَوْل بِأَن الْإِقْدَام على الْمَنَافِع قَبِيح لِأَنَّهُ تصرف فِي ملك الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه فان قاسوه على تصرف بَعْضنَا على ملك بَعْص بِغَيْر إِذْنه فَبَاطِل لِأَن فِي الِامْتِنَاع عَنْهَا إِضْرَار بِالنَّفسِ وَهُوَ تصرف فِي ملك الله بِغَيْر إِذْنه فَيجب قبح الْإِقْدَام وَذَلِكَ محَال وَأَيْضًا فَمَعْنَى الْملك فِينَا وَفِي ملك الله تَعَالَى يخْتَلف وَالْجمع بِهِ بَين ملك الله تَعَالَى وملكنا جمع بِغَيْر عِلّة وَاحِدَة وَذَلِكَ أَن معنى كوننا مالكين للشَّيْء هُوَ أَنا أَحَق بِالِانْتِفَاعِ بِهِ من غَيرنَا على الْإِطْلَاق وَذَلِكَ مُسْتَحِيل على الله تَعَالَى وَمعنى كَونه مَالِكًا للشَّيْء هُوَ أَنه قَادر على إيجاده وإفنائه فان قَالُوا بل معنى كَونه مَالِكًا للمنافع هُوَ أَنه لَيْسَ لغيره التَّصَرُّف فِيهَا إِلَّا بلإذنه وَله الْمَنْع مِنْهَا قيل هَذَا تَعْلِيل الحكم بِنَفسِهِ وَمَعَ ذَلِك فَلم نسلم

مَا ذكرتموه وَأَيْضًا فان الْإِنْسَان إِنَّمَا يكون مَالِكًا للشَّيْء وأحق بِهِ من غَيره بِالشَّرْعِ لِأَن عنْدكُمْ أَن الْعقل لَا يَقْتَضِي جَوَاز تصرف الْإِنْسَان فِي الشَّيْء فاذا لم يكن هَذَا الأَصْل ثَابتا فِي الْعقل عنْدكُمْ وَكَانَ كلامنا فِيمَا يَقْتَضِيهِ مَا يثبت فِي الْعقل سقط مَا قُلْتُمْ وَأَيْضًا فانه إِنَّمَا يقبح تصرفنا فِي ملك غَيرنَا لِأَنَّهُ يضرّهُ لَا لِأَنَّهُ مَالِكه فَقَط أَلا ترى أَنه يحسن منا الاستظلال بحائط غَيرنَا وَالنَّظَر فِي مرآته والتقاط مَا تناثر من حب غَلَّته بِغَيْر إِذْنه مَا لم يضرّهُ ذَلِك وَالْمَنَافِع والمضار يستحيلان على الله تَعَالَى وَقد أُجِيب عَن ذَلِك بِأَن إِبَاحَة ذَلِك فِي الْعقل تجْرِي مجْرى إِذن سَمْعِي وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا نعلم أَن الله تَعَالَى قد أَبَاحَهُ فِي الْعقل إِذا أفسدتم أَن يكون كَون التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر وَجه قبح وَمَتى جوز ذَلِك لم نعلم إِبَاحَة الله تَعَالَى لذَلِك دَلِيل خلق الله تَعَالَى الطعوم فِي الْأَجْسَام مَعَ إِمْكَان أَن لَا يخلقها فِيهَا يَقْتَضِي أَن يكون لَهُ فِيهَا غَرَض يَخُصهَا وَإِلَّا كَانَت عَبَثا ويستحيل أَن يعود إِلَيْهِ ذَلِك الْغَرَض بنفع أَو دفع ضَرَر لاستحالتهما عَلَيْهِ وَلَا يجوز أَن يعود على غَيره بِضَرَر لِأَنَّهُ قد لَا يكون فِيهَا ضَرَر وَلِأَنَّهَا إِنَّمَا تضر بادراكها وَفِي ذَلِك إِبَاحَة إِدْرَاكهَا وَلِأَنَّهُ لَا يحسن أَن يكون غَرَضه الْإِضْرَار الْخَالِص بِمن لَا يسْتَحق الْإِضْرَار فَوَجَبَ أَن يكون الْغَرَض بادراكها نفعا يعود إِلَى غَيره إِمَّا بِأَن يُدْرِكهَا أَو بِأَن يجتنبها لكَون تنَاولهَا مفْسدَة فَيسْتَحق الثَّوَاب بادراكها وَإِمَّا بِأَن يسْتَدلّ بهَا وَفِي ذَلِك إِبَاحَة إِدْرَاكهَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يسْتَحق الثَّوَاب بتجنبها إِذا دعت النَّفس إِلَى إِدْرَاكهَا وَفِي ذَلِك تقدم إِدْرَاكهَا وَإِنَّمَا يسْتَدلّ بهَا إِذا عرفت والمعرفة بهَا مَوْقُوفَة على إِدْرَاكهَا لِأَن الله تَعَالَى لم يخلق فِينَا الْمعرفَة بهَا من دون الْإِدْرَاك فصح أَنه لَا فَائِدَة فِيهَا إِلَّا الْإِبَاحَة للِانْتِفَاع بهَا وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يركب الله فِي الْعُقُول إِبَاحَة الِانْتِفَاع بِتِلْكَ الْأَجْسَام ليعلم حُصُول الطعوم فِيهَا فينتفع بهَا بِأحد هَذِه الْوُجُوه

وَقد قيل لَو خلقهَا ليستدل بهَا لَا لينْتَفع بهَا بِالْأَكْلِ لَكَانَ قد خلق مَا يُمكن أَن ينْتَفع بِهِ من وَجْهَيْن وَقصد الِانْتِفَاع بِأَحَدِهِمَا فَقَط مَعَ إِمْكَان الِانْتِفَاع بِالْوَجْهِ الآخر وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَونهَا عَبَثا من الْوَجْه الَّذِي لم يَقْصِدهُ لِأَن كلا الْوَجْهَيْنِ يجريان مجْرى فعلين متميزين فَكَمَا أَنه لَو فعل أَحدهمَا لغَرَض وَفعل الآخر لَا لغَرَض لَكَانَ عَبَثا فَكَذَلِك الْوَجْهَانِ وَلَا يلْزم على ذَلِك أَن يقْصد الِانْتِفَاع للْمَلَائكَة بِأَكْل المأكولات وَأَن يقْصد اسْتِدْلَال اهل الْجنَّة بِمَا يخلقه لَهُم لِأَن استدلالهم بذلك على الله لَا يُمكن مَعَ علمهمْ بِهِ ضَرُورَة وَكَذَلِكَ انْتِفَاع الْمَلَائِكَة من جِهَة الْعقل وَلقَائِل أَن يَقُول وَلَا يجوز أَن يقْصد انتفاعنا بالطعوم من جِهَة الْأكل لِأَن ذَلِك مفْسدَة وَلَو حسن أَن يقْصد لم يمْتَنع أَن يقْصد الِانْتِفَاع بالطعوم من أحد الْوَجْهَيْنِ دون الآخر لِأَن الْأَصْلَح فِي الدُّنْيَا غير وَاجِب على قَول الشَّيْخ وَقَوْلهمْ إِن الْوَجْهَيْنِ يجريان مجْرى الْفِعْلَيْنِ إِن أَرَادوا بِهِ أَنَّهُمَا كالفعلين فِي وجوب حُصُول غَرَض فيهمَا لم نسلمه وَلنَا أَن نقُول إِن الْفِعْلَيْنِ المتميزين إِذا فعل الْفَاعِل أَحدهمَا لَا لغَرَض فقد أوجد فعلا لَا غَرَض فِيهِ وَكَانَ عَبَثا فَأَما الْفِعْل الْوَاحِد إِذا أمكن الِانْتِفَاع بِهِ من وَجْهَيْن فقصد أَحدهمَا فانه قد فعل الْفِعْل لغَرَض فَلم يكن عَبَثا دَلِيل وَقد اسْتدلَّ على ذَلِك بِأَنَّهُ يحسن من الْعُقَلَاء التنفس فِي الْهَوَاء وَأَن يدخلُوا مِنْهُ أَكثر مِمَّا تحْتَاج إِلَيْهِ الْحَيَاة وَمن رام أَن يقدر على نَفسه ذَلِك وَلَا يزِيد على قدر مَا تحْتَاج إِلَيْهِ الْحَيَاة عده الْعُقَلَاء من المجانين وَالْعلَّة فِي حسن ذَلِك أَنه انْتِفَاع لَا يعلم فِي مفْسدَة وَلَا مضرَّة وَهَذَا قَائِم فِي غير ذَلِك وَلَيْسَ لأحد أَن يَجْعَل عِلّة حسن ذَلِك أَن فِيهِ بَقَاء الْحَيَاة وَفِي تَركه هلاكها مَعَ أَنَّهَا ملك الْغَيْر وَأَن الْإِنْسَان ملْجأ إِلَى ذَلِك لأَنا فَرضنَا الْمَسْأَلَة فِي قدر يَنْفِي الْحَيَاة من دونه على أَن الْكَفّ عَن التنفس إِن أتلف الْحَيَاة فَلَيْسَ يجب أَن يقبح من الْإِنْسَان على قَوْلكُم لِأَنَّهُ لَيْسَ يجب على الْإِنْسَان أَن يصلح ملك غَيره وَإِنَّمَا يجب عَلَيْهِ أَن لَا يتلفه

فان قيل إِنَّمَا يحسن من الْإِنْسَان أَن يتنفس ليندفع عَن قلبه الْحَرَارَة وَذَلِكَ مُحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْحَيَاة وَمَا زَاد عَلَيْهِ يضر وَلَا يحسن قيل لَيْسَ يجب أَن يكون مَا زَاد على مَا تحْتَاج إِلَيْهِ الْحَيَاة مضرا بل لَا يمْتَنع أَن يكون نَافِعًا ملذا كَمَا لَا يمْتَنع أَن لَا يكون مَا زَاد على مَا يثبت مَعَه الْحَيَاة من المأكل مضرا بل يكون نَافِعًا ملذا يَقْتَضِي خصب الْبدن فَلم يلْزم مَا ذكره السَّائِل من قبح هَذِه الزِّيَادَة وَهَذِه الدّلَالَة ترجع إِلَى الدّلَالَة الْمُتَقَدّمَة وَهِي أَن الْمَنَافِع لَا يقْدَح فِي حسنها تَجْوِيز الْمفْسدَة والمضرة وَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن من استنشاق الْهَوَاء هُوَ مِثَال لما ذَكرْنَاهُ أَن من الْعُقَلَاء يستحسنون أَمْثَال هَذِه الْمَنَافِع فَأَما من توقف فَقَالَ لَا أَدْرِي هَل الْأَشْيَاء على الْحَظْر أَو على الْإِبَاحَة فَقَوله بَاطِل بِمَا ذَكرْنَاهُ لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يَقُول لَو انْفَرد الْعقل لَاسْتَحَقَّ من أقدم على الْمَنَافِع الذَّم فنجعلها محظورة أَو يَقُول لَا يسْتَحق الذَّم فنجعلها مُبَاحَة فاذا صَحَّ أَن من الْأَشْيَاء مَا هُوَ على الْحَظْر وَمِنْهَا مَا هُوَ على الْإِبَاحَة كَانَ ذَلِك أصلا فِي الدّلَالَة على إِبَاحَة الْمُبَاح مِنْهَا وحظر الْمَحْظُور إِذا لم تنقلنا عَنهُ الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي فُصُول طرق الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه لَا يَنْبَغِي أَن نتكلم فِي شُرُوط الِاسْتِدْلَال على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِلَّا بعد أَن نبين أَنه لَا بُد فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من طرق عقلية أَو شَرْعِيَّة نفيا كَانَ الحكم أَو إِثْبَاتًا ونبين الْفَصْل بَين مَا هُوَ طَرِيق فِي ذَلِك وَمَا لَيْسَ بطرِيق ليعمد الْمُسْتَدلّ إِلَى مَا هُوَ طَرِيق فيستدل بِهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن نبين أَنه لَا بُد فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من طَرِيق إِمَّا عَقْلِي وَإِمَّا شَرْعِي وَيدخل فِي الطَّرِيق الْعقلِيّ فصلان أَحدهمَا أَن يبين الْفَصْل بَين الِاسْتِدْلَال بِالْبَقَاءِ على حكم الْعقل وَبَين مَا يلتبس بذلك من اسْتِصْحَاب الْحَال وَالْآخر أَن يبين الْفَصْل بَين مَا يَصح أَن يسْتَدلّ عَلَيْهِ بِالْعقلِ وَمَا لَا يَصح وَيدخل فِي الطَّرِيق السمعي فصلان أَحدهمَا

أَن يبين أَن السّمع الدَّال على الحكم يجب أَن يتَنَاوَلهُ إِمَّا صَرِيحًا وَإِمَّا غير صَرِيح وَلَا يجوز أَن يُقَال للمكلف احكم فانك لَا تحكم إِلَّا بِالصَّوَابِ وَالْآخر أَن ذَلِك السّمع فِي شرعنا هُوَ الْقُرْآن دون غَيره من الْكتب الْمُتَقَدّمَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة لَا يجوز إِثْبَاتهَا إِلَّا بطرِيق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الحكم الشَّرْعِيّ يجب كَونه مَعْلُوما وَإِلَّا لم يُؤمن كَونه خطأ وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون الْعلم بِهِ فِي البديهة أَو لَا يكون فِيهَا فَلَو كَانَ فِيهَا لاشترك الْعُقَلَاء فِيهِ ولأنا نعلم أَنه لَيْسَ فِي البديهة الْعلم بِوُجُوب صَوْم أول يَوْم من شهر رَمَضَان وَسُقُوط وجوب مَا قبله وَإِذا لم يكن الْعلم بِهِ فِي البديهة لم يجز حُصُوله لنا إِلَّا بِأَمْر يوصلنا إِلَيْهِ إِمَّا إِدْرَاك أَو خبر متواتر أَو دَلِيل يجوز كَونهَا مدركة وَالْخَبَر الْمُتَوَاتر إِنَّمَا يُفْضِي إِلَى الْعلم إِذا كَانَ الْمخبر مدْركا لما أخبر بِهِ فَبَقيَ أَن يكون الْموصل إِلَى الْعلم بِهِ هُوَ الدَّلِيل فَأَما من لَا يثبت الحكم فِي الشَّيْء فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون شاكا فِي إثْبَاته أَو مُعْتَقدًا أَو ظَانّا لنفيه فان اعْتقد أَو ظن نَفْيه وَأقر أَنه لم يصر إِلَى اعْتِقَاده أَو ظَنّه بطريقة فقد أقرّ أَنه منحت وَأَن ظَنّه جَار مجْرى ظن السوداوي وَإِن ادّعى أَنه صَار إِلَى ذَلِك بطريقة ودعا إِلَى اعْتِقَاده وظنه فَلَا بُد من أَن يذكر طَرِيقَته الَّتِي أدته إِلَى ذَلِك الِاعْتِقَاد أَو الظَّن لِأَنَّهُ إِن ألزم غَيره الْمصير إِلَيْهِ من غير أَنه يُمكنهُ من طَرِيقَته الَّتِي أوصلت إِلَى الْمَذْهَب فقد ألزمهُ مَا لَا يطيقه والطريقة إِلَى الْمَذْهَب ضَرْبَان إِثْبَات وَنفي أما الْإِثْبَات فبأن ينص الله تَعَالَى أَو النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك الحكم أَو تجمع الْأمة عَلَيْهِ أَو يدل الْقيَاس عَلَيْهِ وَأما النَّفْي فبأن يفقد النَّاظر بعد الفحص الشَّديد دَلِيلا على ذَلِك الحكم مَعَ أَنه لَو كَانَ ثَابتا لَكَانَ عَلَيْهِ دَلِيل وَهَذِه الطَّرِيقَة لَا بُد من الْبَيِّنَة عَلَيْهَا غير أَنه لَا يُمكن النَّافِي للْحكم أَو يُوقف المناظر لَهُ على دَلِيل من أَدِلَّة

الْعقل أَو الشَّرْع ويعرفه أَنه لَا دَلِيل فِيهِ على ذَلِك الحكم وَالْوَاجِب على مخالفه أَن يرِيه دَلِيلا على إِثْبَات مَا نَفَاهُ ليَقَع الْكَلَام فِيهِ فان كَانَ الدَّلِيل إِثْبَاتًا وَجب أَن يُعينهُ وَإِن كَانَ مِمَّن لَا يثبت الحكم فِي الشَّيْء شاكا فِيهِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون شاكا فِيهِ لطريقة أفضت بِهِ إِلَى الشَّك أَو لَا لطريقة فان شكّ لَا لطريقة بل لِأَنَّهُ لم يكن اسْتدلَّ عَلَيْهِ فَهَذَا لَيْسَ لَهُ مَذْهَب فَيُقَال أَنه صَار إِلَيْهِ لطريقة يجب عَلَيْهِ ذكرهَا إِذا استدعى غَيره إِلَى مذْهبه وَإِن كَانَ صَار إِلَى الشَّك لطريقة فاما أَن يكون فقد دلَالَة على الْمَذْهَب بعد الفحص الشَّديد مَعَ أَن ذَلِك الشَّيْء لَا يجوز أَن يكون ثَابتا وَلَا يدل عَلَيْهِ دَلِيل وَإِمَّا أَن يكون قد دلّ على فقد الدّلَالَة على ذَلِك الْمَذْهَب دَلِيل مُبْتَدأ نَحْو أَن يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا دَلِيل على هَذَا الشَّيْء وَفِي كلا الْقسمَيْنِ يكون الشاك مُعْتَقدًا أَنه لَا دَلِيل على ذَلِك الْمَذْهَب فيعتقد وجوب الشَّك فِيهِ وَله فِي الْحَالين مَذْهَب قد صَار إِلَيْهِ بطريقة فَمَتَى دَعَا إِلَيْهِ غَيره فَالْوَاجِب أَن يذكر لَهُ طَريقَة لتؤديه إِلَى مثل مَا أدته إِلَيْهِ وَإِن كَانَت طَرِيقَته الْإِثْبَات عَنْهَا وَإِن كَانَت طَرِيقَته فقد الدّلَالَة بعد شدَّة الفحص أخبرهُ بذلك وَوَقفه على طرق الدّلَالَة على الْجُمْلَة ونبهه على التَّفْصِيل بافساد كل مَا يَدعِي أَنه دَلِيل على ذَلِك الْمَذْهَب إِذا استرشده المسترشد فاذا ثَبت ذَلِك فَمن قَالَ لَيْسَ على النَّافِي دَلِيل إِن أَرَادَ بِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيل هُوَ إِثْبَات فقد بَينا أَنه لَيْسَ عِلّة ذَلِك إِلَّا أَن يكون دَلِيل إثْبَاته وَإِن أَرَادَ أَنه لَا يجب عَلَيْهِ ذكر طَرِيقه أصلا فقد بَينا وجوب ذَلِك وَلما تقدم علمنَا كذب الْمُدَّعِي للنبوة إِذا لم يدل على صدقه دلَالَة من معجز أَو غَيره لِأَنَّهُ لَو كَانَ صَادِقا لما أخلاه الله من دلَالَة وَإِلَّا كَانَ قد كلفنا مَا لَا نطيقه وَكَذَلِكَ مَا لم يدل على إثْبَاته دَلِيل من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَجب نَفْيه وَاحْتج الْقَائِلُونَ بِأَن النَّافِي لنبوة مدعي النُّبُوَّة لَا دَلِيل عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الدَّلِيل

على من اثْبتْ نبوته وَالْجَوَاب عَنهُ مَا تقدم وَقَالَ أَيْضا الْمُدَّعِي لدار فِي يَد غَيره عَلَيْهِ الْبَيِّنَة وَلَا بَيِّنَة على الْمُنكر فَذا لم يكن على الْمُنكر بَيِّنَة فَلَيْسَ عَلَيْهِ دلَالَة لِأَن الْبَيِّنَة دلَالَة يُقَال لَهُم لم أردتم بِهَذَا الْكَلَام أَنه يجوز لمن الدَّار بِيَدِهِ أَن يعْتَقد كَونه مَالِكًا لَهَا من غير طَريقَة كإرث أَو غَيره فَلَيْسَ كَذَلِك بل لَيْسَ لَهُ اعْتِقَاد ذَلِك إِلَّا بطريقة من الطّرق وَإِن أردتم أَنه لَيْسَ عَلَيْهِ أَن يذكر طَرِيقه فَصَحِيح لِأَنَّهُ لَيْسَ يَدْعُو النَّاس إِلَى أَن يعتقدوا كَونه مَالِكًا لَهَا فَيلْزمهُ أَن يذكر لَهُم حجَّته كَمَا يلْزم صَاحب الْمَذْهَب إِذا دَعَا النَّاس إِلَى مذْهبه أَن يذكر لَهُم حجَّته وَإِن أردتم أَن الَّذِي الدَّار فِي يَده يَدْعُو الْحَاكِم إِلَى أَن يحكم لَهُ بهَا من غير طَرِيقه يذكرهَا فَبَاطِل بل إِنَّمَا يَدعُوهُ إِلَى ذَلِك لطريقة وَهِي الْيَد وَلَيْسَ للْحَاكِم أَن يحكم لَهُ بذلك إِلَّا لدلَالَة فقد بَان أَنه لَا بُد من طَريقَة فِي كل هَذِه الْوُجُوه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب القَوْل فِي اسْتِصْحَاب الْحَال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن اسْتِصْحَاب الْحَال هُوَ أَن يكون حكم ثَابت فِي حَالَة من الْحَالَات ثمَّ تَتَغَيَّر الْحَالة فيستصحب الْإِنْسَان ذَلِك الحكم بِعَيْنِه مَعَ الْحَالة المتغيرة وَيَقُول من ادّعى تغير الحكم فَعَلَيهِ إِقَامَة الدَّلِيل وَقد ذهب قوم من أهل الظَّاهِر وَغَيرهم إِلَى الِاحْتِجَاج بذلك وَقد يكون الحكم المستصحب عقليا وَقد يكون شَرْعِيًّا فالشرعي أَن يَقُول الْإِنْسَان الْمُتَيَمم إِذا رأى المَاء قبل صلَاته وَجب عَلَيْهِ التوضوء بِهِ وَكَذَلِكَ إِذا رَآهُ بعد دُخُوله فِي الصَّلَاة وَمن زعم أَن فرض الْوضُوء يتَغَيَّر بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاة فَعَلَيهِ الدَّلِيل وَهَذَا بَاطِل لِأَنَّهُ إِن شرك بَين الْحَالَتَيْنِ فِي وجوب الْوضُوء لاشْتِرَاكهمَا فِيمَا دلّ على وجوب الْوضُوء فَلَيْسَ باستصحاب حَال الَّذِي ننكره ويذهبون إِلَيْهِ وَإِن شرك بَينهمَا فِي الحكم لاشْتِرَاكهمَا فِي علته فَهَذَا

قِيَاس وَإِن شرك بَينهمَا بِغَيْر دلَالَة وَلَا عِلّة فَلَيْسَ هُوَ بِأَن يجمع بَينهمَا بِأولى من أَن لَا يجمع بَينهمَا أَو بِأَن يجمع بَين الْمَسْأَلَة وَغَيرهَا وَلِأَن ذَلِك قِيَاس بِغَيْر عِلّة وَأهل الظَّاهِر المانعون من الْقيَاس بعلة أولى أَن يمنعوا من ذَلِك فان قيل حُدُوث الْحَادِث لَا يُغير الْأَحْكَام فحدوث الصَّلَاة إِذن لَا يُغير وجوب الْوضُوء قيل لَيْسَ يمْتَنع أَن تخْتَلف الْمصَالح بحدوث الْحَوَادِث وَلِهَذَا جَازَ وُرُود النَّص باسقاط الْوضُوء عَن الرَّائِي للْمَاء فِي الصَّلَاة مَعَ وُجُوبه على من رَآهُ قبل الصَّلَاة فان قيل لَو لم يَتَعَدَّ الحكم من حَالَة إِلَى حَالَة لوَجَبَ قصره على الزَّمَان الْوَاحِد قيل كَذَلِك يجب إِلَّا أَن يكون دَلِيل الحكم وعلته قد عَم الْأَزْمِنَة فان قيل فقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الشَّيْطَان يَأْتِي أحدكُم فيخيل أَنه أحدث فَلَا ينصرفن حَتَّى يجد ريحًا أَو يسمع صَوتا فَأوجب اسْتِدَامَة الحكم قيل إِنَّا لَا نمْنَع من تعدى الحكم من حَالَة إِلَى حَالَة لدلَالَة وَإِنَّمَا نمْنَع من ذَلِك لَا لدلَالَة وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ دلَالَة فان قيل أَلَيْسَ بعض الْفُقَهَاء قد جعل حكم الشاك فِي الْحَدث بعد تَيَقّن الطَّهَارَة كحكمه قبل الشَّك فِيهَا فِي إِسْقَاط الْوضُوء قيل إِن هَؤُلَاءِ إِن جمعُوا بَينهمَا لدلَالَة أَو عِلّة وَإِلَّا فَهُوَ مَوضِع الْخلاف على أَن ذَلِك خَارج عَمَّا نَحن بسبيله لِأَن الأَصْل فِي الْعقل أَن لَا وضوء فاذا لم يدل على وُجُوبه على الشاك فِي الْحَدث دَلِيل شَرْعِي فَالْوَاجِب الْبَقَاء على حكم الأَصْل لِأَنَّهُ لَو كَانَ وَاجِبا لدل الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِك وجوب الْوضُوء على من رأى المَاء لِأَن الْوضُوء لَيْسَ هُوَ حكم الْعقل حَتَّى يلْزم الْبَقَاء عَلَيْهِ مَا لم تدل على خِلَافه دلَالَة فان قيل الْيَسْ إِذا اخْتلفُوا فِي الْمَسْأَلَة على اقاويل يجوز الْأَخْذ بِأَقَلّ مَا قيل إِذا لم تدل على الزِّيَادَة دلَالَة قيل لِأَن أقل مَا قيل مُتَّفق عَلَيْهِ وَالزِّيَادَة إِذا كَانَت حكما شَرْعِيًّا فَيجب نَفيهَا إِذا لم يدل عَلَيْهَا دَلِيل وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الِاسْتِدْلَال بِبَرَاءَة الذِّمَّة

فَأَما إِذا كَانَ المستدام عقليا فمثاله أَن يَقُول الْقَائِل الْمُتَيَمم الْمُصَلِّي إِذا لم ير المَاء لم يلْزمه الطَّهَارَة الْأُخْرَى وَوَجَب أَن يمْضِي فِي صلَاته فَكَذَلِك إِذا رأى المَاء وَهَذَا يَصح من وَجه دون وَجه أما الْوَجْه الَّذِي لَا يَصح مِنْهُ فَهُوَ أَن يسْقط عَنهُ طَهَارَة أُخْرَى لأجل سُقُوطهَا إِذا لم ير المَاء لِأَن هَذَا جمع بَين حالتين بِغَيْر دلَالَة وَلَا عِلّة وَأما إِذا أسقط عَنهُ الْوضُوء بعد رُؤْيَة المَاء لِأَن إِيجَابه شَرْعِي فَلَو كَانَ ثَابتا لَكَانَ عَلَيْهِ دَلِيل شَرْعِي وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيل شَرْعِي على مَا بَينا فِي الِاسْتِدْلَال بِالنَّفْيِ فَصَحِيح وَإِن عورض هَذَا فَقيل الأَصْل فِي الشَّرْع وجوب الطَّهَارَة فَلَو سَقَطت عَن الرَّائِي للْمَاء فِي الصَّلَاة وَهُوَ متيمم لَكَانَ عَلَيْهِ دَلِيل شَرْعِي لم يسلم الْخصم أَن الطَّهَارَة وَاجِبَة فِي كل حَال وَإِن رأى الْمُتَيَمم المَاء فان اسْتدلَّ على وجوب ذَلِك لعُمُوم الْخطاب كَانَ اسْتِدْلَالا بِالْعُمُومِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يعلم بأدلة الْعقل وَمَا يعلم بأدلة الشَّرْع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْأَشْيَاء الْمَعْلُومَة بِالدَّلِيلِ إِمَّا أَن يَصح أَن تعلم بِالْعقلِ فَقَط وَإِمَّا بِالشَّرْعِ فَقَط وَإِمَّا بِالشَّرْعِ وبالعقل وَأما الْمَعْلُومَة بِالْعقلِ فَقَط فَكل مَا كَانَ فِي الْعقل دَلِيل عَلَيْهِ وَكَانَ الْعلم بِصِحَّة الشَّرْع مَوْقُوفا على الْعلم بِهِ كالمعرفة بِاللَّه وبصفاته وَأَنه غَنِي لَا يفعل الْقَبِيح وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن الْعلم بِصِحَّة الشَّرْع مَوْقُوف على الْعلم بذلك لأَنا إِنَّمَا نعلم صِحَة الشَّرْع إِذا علمنَا صدق الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَإِنَّمَا نعلم صدقهم بالمعجزات إِذا علمنَا أَنه لَا يجوز أَن يظهرها الله على يَد كَذَّاب وَإِنَّمَا يعلم ذَلِك إِذا علمنَا أَن إظهارها عَلَيْهِ قَبِيح وَأَنه لَا يفعل الْقَبِيح وَإِنَّمَا نعلم أَنه لَا يفعل الْقَبِيح إِذا علمنَا أَنه عَالم بقبح الْقَبِيح عَالم باستغنائه عَنهُ وَالْعلم بذلك فرع على الْمعرفَة بِهِ فَيجب تقدم هَذِه المعارف للشَّرْع فَلم يجز كَون الشَّرْع طَرِيقا إِلَيْهَا

فَأَما مَا يَصح أَن يعرف بِالشَّرْعِ وبالعقل فَهُوَ كل مَا كَانَ فِي الْعقل دَلِيل عَلَيْهِ وَلم تكن الْمعرفَة بِصِحَّة الشَّرْع مَوْقُوفَة على الْمعرفَة بِهِ كَالْعلمِ بِأَن الله وَاحِد لَا ثَانِي لَهُ فِي حكمته لِأَنَّهُ إِذا ثبتَتْ حكمته فَلَو كَانَ مَعَه حَكِيم آخر لم يجز أَن يرسلا أَو يُرْسل أحد مِنْهُمَا من يكذب فاذا أخبر الرَّسُول أَن الْإِلَه وَاحِد لَا قديم سواهُ علمنَا صدقه وَكَذَلِكَ وجوب رد الْوَدِيعَة وَالِانْتِفَاع بِمَا لَا مضرَّة فِيهِ على أحد فَأَما مَا يعلم بِالشَّرْعِ وَحده فَهُوَ مَا فِي السّمع دَلِيل عَلَيْهِ دون الْعقل كالمصالح والمفاسد الشَّرْعِيَّة وَمَا لَهُ تعلق بهما أما الْمصَالح والمفاسد الشَّرْعِيَّة فَهِيَ كالأفعال الَّتِي تعبدنا بِفِعْلِهَا أَو تَركهَا بالشريعة نَحْو كَون الصَّلَاة وَاجِبَة وَشرب الْخمر حَرَامًا وَغير ذَلِك وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه لَيْسَ فِي الْعقل دَلِيل على ذَلِك لِأَنَّهُ لَو كَانَ فِي الْعقل دَلِيل على ذَلِك لَكَانَ ذَلِك الدَّلِيل إِمَّا حكما مُوجبا عَن وُجُوبهَا أَو وَجها مُوجبا لَهَا وَالْحكم الْمُوجب عَن وُجُوبهَا هُوَ الذَّم والمدح وَمَعْلُوم أَنا لَا نعلم بِالْعقلِ اسْتِحْقَاق من أخر الصَّوْم عَن أول يَوْم من رَمَضَان للذم دون الَّذِي قبله وَلَا نعلم بالعقول مباينة أول يَوْم من رَمَضَان لليوم الَّذِي قبله فِي وَجه يَقْتَضِي تباينهما فِي الْوُجُوب سَوَاء وقف ذَلِك على أَمارَة مظنونة أَو لم يقف على ذَلِك وَقد دخل فِي ذَلِك القَوْل بِأَن الْعِبَادَات يعرف وُجُوبهَا بأمارات من جِهَة الْعَادَات تتَعَلَّق بالمنافع والمضار لِأَن وجوب مَا هَذِه سَبيله مَعْلُوم وَإِن تعلق بِشَرْط مظنون وَمَعْلُوم أَيْضا أَنا لَا نعلم بالعقول فِي هَذِه الْعِبَادَات مَنَافِع وَدفع مضار عاجله فَيُقَال إِنَّهَا تجب لأجل ذَلِك وَأما مَا لَهُ تعلق بالمصالح والمفاسد الشَّرْعِيَّة فَهِيَ طرق الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة كالأدلة والأمارات وَأَسْبَاب هَذِه الْأَحْكَام وعللها وشروطها أما ألأدلة فكون الْإِجْمَاع حجَّة وَأما الأمارات فكون الْقيَاس وَخبر الْوَاحِد حجَّتَيْنِ على قَول من قَالَ لَا نعلم ذَلِك بِالْعقلِ وَأما الْأَسْبَاب فكون زَوَال الشَّمْس سَببا للصَّلَاة وَأما الْعِلَل فالكيل الَّذِي هُوَ عِلّة الرِّبَا وَأما الشُّرُوط فضربان أَحدهمَا شُرُوط فِي أَحْكَام مَعْلُومَة بِالْعقلِ كالشروط الَّتِي شرطتها الشَّرِيعَة فِي

الْبياعَات لِأَن وُقُوع التَّمْلِيك بِالْبيعِ مَعْلُوم بِالْعقلِ وَالْآخر شُرُوط فِي أَحْكَام شَرْعِيَّة كستر الْعَوْرَة فِي الصَّلَاة وَالطَّهَارَة وَغير ذَلِك وَقد فرق بَين الْعلَّة وَالسَّبَب بأَشْيَاء مِنْهَا أَن الْعلَّة لَا يجب تكررها وَالسَّبَب قد يجب تكرره وَلِهَذَا كَانَ الْإِقْرَار سَببا للحد لِأَنَّهُ يتَكَرَّر وَمِنْهَا أَن الْعلَّة تخْتَص الْمُعَلل وَالسَّبَب لَا يختصه كزوال الشَّمْس الَّذِي هُوَ سَبَب الصَّلَاة وَمِنْهَا أَن السَّبَب يشْتَرك فِي جمَاعَة وَلَا يشتركون فِي حكمه كزوال الشَّمْس يشْتَرك فِيهِ الْحَائِض والطاهر وَلَا يشتركون فِي وجوب الصَّلَاة وَلَيْسَ يشتركون فِي الْعلَّة إِلَّا ويشتركون فِي حكمهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَنه لَا يجوز أَن يُقَال للرسول أَو الْعَالم احكم فانك لَا تحكم إِلَّا بِالصَّوَابِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن النَّاس اخْتلفُوا فِي جَوَاز ان يُفَوض الله تَعَالَى إِلَى الْمُكَلف أَن يحرم وَيُوجب ويبيح بِاخْتِيَارِهِ فَمنع أَكثر النَّاس من ذَلِك على كل حَال وَأَجَازَهُ آخَرُونَ فالشيخ أَبُو عَليّ أجَاز ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة وَذكر ذَلِك فِي قَول الله تَعَالَى {كل الطَّعَام كَانَ حلا لبني إِسْرَائِيل إِلَّا مَا حرم إِسْرَائِيل على نَفسه} ثمَّ رَجَعَ عَن هَذَا القَوْل وَأَجَازَ مويس بن عمرَان أَن يُقَال ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلغيره من الْعلمَاء وَذكر الشَّافِعِي فِي كتاب الرسَالَة مَا يدل على أَن الله تَعَالَى لما علم أَن الصَّوَاب يتَّفق من نبيه جعل ذَلِك لَهُ وَلم يقطع عَلَيْهِ بل جوزه وَجوز خِلَافه وَاحْتج قَاضِي الْقُضَاة للْمَنْع من ذَلِك بَان الشَّرَائِع إِنَّمَا يتعبد الله بهَا لكَونهَا مصَالح وَالْإِنْسَان قد يخْتَار الصّلاح وَقد يخْتَار الْفساد فَلَو اباح الله تَعَالَى للْإنْسَان الحكم بِمَا يختاره لَكَانَ فِيهِ إِبَاحَة الحكم بِمَا لَا يَأْمَن من كَونه فَسَادًا

إِن قيل إِنَّه يَأْمَن ذَلِك لقَوْل الله لَهُ إِنَّك لَا تحكم إِلَّا بِالْحَقِّ وَالصَّوَاب قيل لَا يجوز أَن يَقُول لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يسْتَمر بالمكلف اخْتِيَار الصّلاح دون الْفساد من غير علم بأعيان الصّلاح وَالْفساد كَمَا لَا يجوز اتِّفَاق الْأَفْعَال الْكَثِيرَة المحكمة من غير علم وكما لَا يجوز أَن يتَّفق من الْإِنْسَان الصدْق فِي الْأَخْبَار الْكَثِيرَة من غير أَن يتخللها كذب من غير علم وَلَو جَازَ ذَلِك لَخَرَجت الْأَخْبَار عَن الغيوب من أَن تكون دلَالَة على نبوتهم ولجاز أَن يُكَلف تَصْدِيق نَبِي دون من لَيْسَ بِنَبِي من غير علم وَلَو جَازَ اتِّفَاق اخْتِيَار الصَّوَاب من الْعَالم جَازَ اتفاقه من الْعَاميّ فيتعبده الله بالحكم بِاخْتِيَارِهِ وَلَيْسَ للمخالف أَن يَقُول إِن الْأَنْبِيَاء وَالْعُلَمَاء قد أكْرمهم الله وخصهم بذلك لِأَن إِمْكَان اتِّفَاق ذَلِك لَا يفْتَرق فِيهِ الْعَاميّ والعالم فان قيل إِنَّمَا يمْتَنع اتِّفَاق اخْتِيَار الصَّوَاب الْكثير من غير دلَالَة فَأَما الْقَلِيل فَلَا يمْتَنع اتِّفَاق الصَّوَاب فِيهِ فَيجوز أَن يُفَوض الله تَعَالَى إِلَى بعض الْمُكَلّفين الحكم بِاخْتِيَارِهِ فِي الْفِعْل والفعلين وَالثَّلَاثَة قيل قد أُجِيب عَن ذَلِك بِأَن الْوَاجِب فِي التَّكْلِيف أَن يكون الْمُكَلف عَالما بِحسن مَا يقدم عَلَيْهِ من الْأَفْعَال قبل إقدامه وَهُوَ لَا يعلم ذَلِك إِذا علق الْفِعْل بِاخْتِيَارِهِ لِأَنَّهُ كَمَا يجوز أَن يخْتَار الصّلاح يجوز أَن يخْتَار الْفساد وَلِأَن حسن اخْتِيَاره للْفِعْل تَابع لحسن الْفِعْل فَلم يجز أَن يعلم حسنه لعلمه بِحسن اخْتِيَاره لَهُ وَلقَائِل أَن يَقُول إِن مَا ذكره من أَنه لَا يجوز اسْتِمْرَار اخْتِيَار الْمصلحَة دون الْمفْسدَة من غير علم بِالْمَصْلَحَةِ صَحِيح إِذا كَانَ الْفِعْل مصلحَة من دون الِاخْتِيَار فَيمْتَنع أَن يتَّفق اختيارنا للْمصْلحَة دون الْمفْسدَة فَأَما إِذا كَانَ كَونه مصلحَة هُوَ فعلنَا لَهُ وَنحن مختارون لَهُ فَلَيْسَ يبطل بِمَا ذكره لِأَنَّهُ وَالْحَال هَذِه لم يتَّفق تنَاول الِاخْتِيَار لما هُوَ مصلحَة فِي نَفسه من دون الِاخْتِيَار بل الْمصلحَة هُوَ مَجْمُوع الْفِعْل وَالِاخْتِيَار فَلَو صَحَّ مَا ذكره لصَحَّ أَن يَقُول من نفى الْقيَاس إِن الأمارات قد تخطىء وتصيب وَلَيْسَ يتَّفق فِيهَا الصَّوَاب أبدا

فالعامل بحسبها عَامل بِمَا لَا يَأْمَن كَونه مفْسدَة فان قُلْتُمْ إِن الْمصلحَة هِيَ علمنَا بِحَسب مَا ظنناه من الأمارة وَلَيْسَ كَونهَا مصلحَة ينْفَصل من ذَلِك إِن الأمارة الدَّالَّة عَلَيْهِ لَا يجب ان تصيب ابدا قيل وَلَيْسَ يَقُول الله للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احكم فانك لَا تحكم إِلَّا بِالصَّوَابِ إِلَّا وَقد علم أَن مصْلحَته أَن يفعل مَا يختاره وَأما قَوْله إِن الْمُكَلف يجب أَن يعلم حسن مَا يقدم عَلَيْهِ وَهَذَا الْمُكَلف لَا يعلم ذَلِك فَالْجَوَاب عَنهُ أَنه يعلم ذَلِك لقَوْل الله لَهُ إِنَّك لَا تحكم بِغَيْر الصَّوَاب كَمَا يعلم الْأَنْبِيَاء أَن مَا يقدمُونَ عَلَيْهِ من الْمعاصِي غير كَبَائِر وَأما قَوْله إِن حسن الِاخْتِيَار تَابع لحسن الْفِعْل فَلَا يجوز أَن يتبع حسن الْفِعْل الِاخْتِيَار فَالْجَوَاب عَنهُ أَن حسن الْفِعْل هَا هُنَا غير تَابع للاختيار بل هُوَ مصلحَة فِي نَفسه بِالِاخْتِيَارِ وَهَذَا جَوَاب من يُجِيز أَن يُفَوض الله تَعَالَى إِلَى الْمُكَلف بِاخْتِيَارِهِ فِي الشَّيْء الْوَاحِد والشيئين وَالثَّلَاثَة دون الْأَشْيَاء الْكَثِيرَة وللخصم أَيْضا أَن يَقُول لَيْسَ يمْتَنع أَن تكون مصلحَة الْإِنْسَان أَن يفعل بِاخْتِيَارِهِ كَمَا أَن مصْلحَته فِي وَقت التَّشْدِيد وَفِي وَقت التسهيل وَله ان لَا يسلم أَن الِاخْتِيَار لَا يحسن إِلَّا أَن يكون الْفِعْل حسنا من دونه بل يكون حسنا إِذا كَانَ الْفِعْل مَعَه مصلحَة وَنحن نرتب الدّلَالَة فَنَقُول إِن من أجَاز هَذَا التَّكْلِيف إِمَّا أَن يَقُول إِن الِاخْتِيَار بِهِ يتم كَون الْفِعْل مصلحَة حَتَّى تكون مصلحَة الْإِنْسَان مَا يختاره فِي الْحَادِثَة من فعل أَو ترك أَو يَجْعَل الْمصلحَة مُنْفَصِلَة عَن ذَلِك وَيَقُول إِن الله تَعَالَى قد علم أَن الْمُكَلف لَا يخْتَار إِلَّا مَا هُوَ مصلحَة فان قَالَ بِالْأولِ اسقط التَّكْلِيف لِأَن قَول الْمُكَلف للمكلف إِن شِئْت أَن تفعل فافعل وَإِن شِئْت أَن لَا تفعل فَلَا تفعل هُوَ مَحْض الاباحة فان قيل بل هُوَ إِيجَاب أَن لَا يَخْلُو من الْفِعْل والإخلال بِهِ قيل لَا يُمكن الْخُلُو من ذَلِك وَلَا يحسن إِيجَاب مَا لَا يُمكن

خِلَافه وَلِهَذَا إِذا كَانَ الْعَاميّ مُخَيّرا بَين فَتْوَى من أفتاه بِالْإِيجَابِ وَمن أفتاه بِالْإِبَاحَةِ فقد سقط عَنهُ التَّكْلِيف وَصَارَ الْفِعْل مُبَاحا لِأَنَّهُ إِن اخْتَار أَن لَا يَفْعَله جَازَ لَهُ ذَلِك وَإِن قَالَ إِن الْفِعْل يكون مصلحَة من دون الِاخْتِيَار فإمَّا أَن يُخَيّر تَكْلِيف الله الْإِنْسَان أَن يفعل بِحَسب اخْتِيَاره أفعالا كَثِيرَة أَو أفعالا قَليلَة فَالْأول بَاطِل لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يتَّفق اخْتِيَار الصّلاح فِي الْأَفْعَال الْكَثِيرَة كَمَا لَا يجوز أَن يتَّفق الصدْق فِي الْأَخْبَار الْكَثِيرَة وَالْأَحْكَام فِي الْأَفْعَال الْكَثِيرَة من غير علم فان قيل أَلَيْسَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يخْتَار من الْمعاصِي إِلَّا مَا يكون صَغِيرا قيل فَمن أَيْن أَنه يكثر ذَلِك مِنْهُ وَمَا أنكرتم ان الْوَاجِب أَن يُقَال إِن مَا يَقع مِنْهُ قَلِيل وَأَيْضًا فَلَو صَادف اخْتِيَار الْعَالم الْمصلحَة لم يكن لتكليفه الِاجْتِهَاد معنى فان قيل الْفَائِدَة فِيهِ أَن يكثر ثَوَابه قيل التَّكْلِيف لَا يحسن لمُجَرّد الثَّوَاب فان قيل إِذا اجْتهد تَغَيَّرت الْمصلحَة قيل إِن كَانَت هَذِه الْمصلحَة مُسَاوِيَة لمصلحته إِذا لم ينظر فَلَا فَائِدَة لتكليف النّظر وَإِن كَانَت زَائِدَة وَجب تَكْلِيفه الِاجْتِهَاد وَأما الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ القَوْل بِأَنَّهُ إِنَّمَا يحسن أَن يُفَوض الله تَعَالَى إِلَى الْمُكَلف الحكم بِاخْتِيَارِهِ فِي الْأَفْعَال الْيَسِيرَة فَالَّذِي يُفْسِدهُ وَيفْسد الْوَجْه الأول أَيْضا هُوَ أَنه إِمَّا أَن يكون الله تَعَالَى قد أوجب عَلَيْهِ الْمصلحَة من الْفِعْل أَو تَركه من غير أَن يُعينهُ لَهُ فَيكون قد كلفه مَا لَا يطيقه وَإِمَّا أَن يكون قد خَيره بَينه وَبَين غَيره مِمَّا لَيْسَ بمصلحة فَيكون قد خَيره بَين الْمصلحَة والمفسدة لِأَنَّهُ قد قَالَ لَهُ افْعَل أَيهمَا شِئْت من الاختيارين والفعلين وَهَذَا تَخْيِير بَين الْمصلحَة والمفسدة وَذَلِكَ بَاطِل وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء مِنْهَا مَا احْتَجُّوا بِهِ على جَوَاز اسْتِمْرَار اخْتِيَار الصَّوَاب دون الْخَطَأ وَمِنْهَا مَا احْتَجُّوا بِهِ على جَوَاز وُرُود التَّعَبُّد بِمَا ذَكرُوهُ وَمِنْهَا مَا احْتَجُّوا بِهِ على وُرُود التَّعَبُّد بذلك أما الأول فَقَوْلهم إِذا جَازَ أَن يتَّفق اخْتِيَار الْأَنْبِيَاء للصغائر دون الْكَبَائِر

وَإِن لم يكن لَهُم على عينهَا دَلِيل جَازَ اتِّفَاق اختيارهم الصَّوَاب دون الْخَطَأ وَإِن لم يكن لَهُم على عينه دَلِيل فَالْجَوَاب مَا تقدم وَأما مَا استدلوا بِهِ على الثَّانِي فَمن وُجُوه مِنْهَا قَوْلهم إِذا جَازَ أَن يُفَوض الله إِلَى الْمُكَلف أَن يخْتَار وَاحِدَة من الْكَفَّارَات جَازَ أَن يُفَوض إِلَيْهِ الحكم بِوَاحِد من الْأَحْكَام بِحَسب اخْتِيَاره وَالْجَوَاب إِن ذَلِك يلْزم من قَالَ إِن الْمصلحَة وَالْوَاجِب من الْكَفَّارَات وَاحِدَة فَقَط وَقد جعل إِلَى الْمُكَلف اخْتِيَارهَا لعلم الله سُبْحَانَهُ أَنه لَا يخْتَار سواهَا واما من قَالَ إِن الْكَفَّارَات الثَّلَاث تتساوى فِي الْوُجُوب والمصلحة فَلم يقل إِنَّه إِذا اخْتَار وَاحِدَة مِنْهَا فقد وَقع اخْتِيَاره على الْوَاجِب دون مَا لَيْسَ بِوَاجِب فَيلْزمهُ مثله فِي جَمِيع الْأَحْكَام على أَن الْعَاميّ يجوز لَهُ ان يخْتَار وَاحِدَة من الْكَفَّارَات فَيجب أَن يجوز أَن يُفَوض إِلَيْهِ الحكم بِمَا شَاءَ وَمِنْهَا قَوْلهم إِذا جَازَ أَن يتعبد الْعَاميّ أَن يخْتَار الْعَمَل على فَتْوَى أحد الفقيهين وَيتَعَيَّن ذَلِك بِاخْتِيَارِهِ جَازَ مثله فِي أصل التَّعَبُّد فَالْجَوَاب يُقَال لَهُم فَيَنْبَغِي أَن يجوز تَفْوِيض الحكم بِالِاخْتِيَارِ إِلَى الْعَاميّ وَأَيْضًا فان وجوب أَخذ الْعَاميّ بفتوى الْفَقِيه مَعْلُوم لَهُ لِأَنَّهُ يعلم من دين الْإِسْلَام وجوب رُجُوع من لَا معرفَة لَهُ إِلَى الْعلمَاء فِيمَا ينويه من الشرعيات فاذا اخْتلف فِيهِ فقيهان وافتاه أَحدهمَا بِخِلَاف مَا أفتاه الآخر كَانَا واجبين عَلَيْهِ على التَّخْيِير وَالْقَوْل فِي ذَلِك كالقول فِي الْكَفَّارَات فَإِن حرم أَحدهمَا عَلَيْهِ الْفِعْل وأوجبه الآخر كَانَ مُخَيّرا بَين فعله وَتَركه إِن تَسَاويا عِنْده وَقد قُلْنَا إِن ذَلِك يرجح إِلَى الْإِبَاحَة وَإِسْقَاط التَّكْلِيف إِذْ لَو اخْتَار ترك الْفِعْل جَازَ لَهُ ذَلِك وَمِنْهَا أَنه إِذا جَازَ أَن يُكَلف الْإِنْسَان الْعَمَل على الأمارات مَعَ أَنَّهَا قد تخطر جَازَ أَن يُكَلف الْإِنْسَان الْعَمَل على اخْتِيَاره وَإِن كَانَ الْإِنْسَان قد يخْتَار الصَّوَاب كَمَا يخْتَار الْفساد الْجَواب إِن الْمصلحَة أَن نعمل بِحَسب مَا ظنناه من الأمارة فالأمارة كالوجه فِي الْمصلحَة على مَا بَيناهُ إِلَّا أَنَّهَا مُمَيزَة للْمصْلحَة من

غَيرهَا فَيلْزم مَا ذكرْتُمْ وَلَيْسَ كَذَلِك الِاخْتِيَار لأَنا قد أفسدنا أَن يكون وَجه الْمصلحَة وأفسدنا أَن يكون مُمَيّزا لَهَا من الْمفْسدَة وَمِنْهَا ان الْوَاجِب فِي التَّكْلِيف أَن يَجْعَل للمكلف طَرِيق إِلَى مَا كلف إِمَّا على جملَة وَإِمَّا على تَفْصِيل لنا من الْخَطَأ فِيمَا نَفْعل وَإِذا قَالَ الله للمكلف احكم فانك لَا تحكم إِلَّا بِالصَّوَابِ فقد جعل لَهُ طَرِيق مَقْطُوع بِهِ على صِحَة مَا يحكم بِهِ وَالْجَوَاب أَنا قد بَينا أَنه لَا يجوز ان يَجْعَل الله تَعَالَى إِلَيْهِ ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون اخْتِيَار الْمُكَلف هُوَ وَجه الْمصلحَة وَلَا يجوز اسْتِمْرَار وُقُوع اخْتِيَاره على الصَّوَاب والمصلحة وَبينا أَن الله عز وَجل لَو قَالَ ذَلِك لَكَانَ قد خَيره بَين الْمصلحَة والمفسدة وَأما مَا استدلوا بِهِ على وُرُود التَّعَبُّد بذلك فوجوه مِنْهَا قَول الله عز وَجل {كل الطَّعَام كَانَ حلا لبني إِسْرَائِيل إِلَّا مَا حرم إِسْرَائِيل على نَفسه} فَالْجَوَاب إِن الْآيَة تشهد بِأَن الطَّعَام كَانَ حلا لِبَنِيهِ وَإِسْرَائِيل لَيْسَ بداخل فِي بنيه وَيجوز أَن يكون حرم على نَفسه بِالِاجْتِهَادِ أَو بِالنذرِ وَأَن يكون فِي شريعتهم إِثْبَات التَّحْرِيم بِالنذرِ كَمَا ثَبت الْإِيجَاب فِي شريعتنا بِالنذرِ وَمِنْهَا أَن السّنة مُضَافَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحَقِيقَة الاضافة تَقْتَضِي أَنه من قبله وَالْجَوَاب إِنَّه إِنَّمَا اضيفت إِلَيْهِ لِأَنَّهَا بقوله وَجَبت وَهُوَ السفير فِيهَا وَلِهَذَا يُضَاف إِلَيْهِ جَمِيع السّنَن وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ جَمِيعهَا بِاخْتِيَارِهِ وَمِنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قَالَ فِي مَكَّة لَا يختلي خَلاهَا قَالَ الْعَبَّاس إِلَّا الْإِذْخر فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا الْإِذْخر وَمَعْلُوم أَن الْوَحْي لم يرد فِي تِلْكَ الْحَال وَالْجَوَاب أَنه قد قيل إِن الْإِذْخر لَيْسَ من الخلا وَإِنَّمَا اسْتثِْنَاء الْعَبَّاس

تَأْكِيدًا وَلَا يمْتَنع أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ استثناءه فَسبق الْعَبَّاس إِلَى سُؤال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك وَمِنْهَا قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو قلت نعم لَوَجَبَتْ يَعْنِي الْحَج فعلق وُجُوبه بقوله فَالْجَوَاب أَنه لَو قَالَ نعم لَوَجَبَتْ من حَيْثُ كَانَ قَوْله دَلِيلا على وُجُوبه وَلَيْسَ فِي الْكَلَام مَا يدل على أَن قَوْله صادر عَن اخْتِيَاره أَو عَن وَحي وَمِنْهَا قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْلَا أَن أشق على امتي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة وَقَوله لَوْلَا أخْشَى أَن يفْرض السِّوَاك لاستكت قَالُوا فَبين ان أمره بِالسِّوَاكِ مَوْقُوف على اخْتِيَاره فَالْجَوَاب إِنَّه لَا يمْتَنع أَن يكون عَنى أَنه لَوْلَا أَن أشق على امتي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ على طَرِيق التَّكْلِيف وَلَا يمْتَنع أَن يكون الله قد أعلمهُ أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يَأْمُرهُم بِهِ لأجل الْمَشَقَّة وَأَنه أَن يكون الله قد اعلمه أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يَأْمُرهُم بِهِ لأجل الْمَشَقَّة وَأَنه لَا يحصل على صفة الْمصلحَة لأمته إِلَّا إِذا فعله عِنْد كل صَلَاة وَإِذا لم يَفْعَله عِنْد كل صَلَاة لم يكن مصلحَة وَمِنْهَا قَوْلهم إِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام اثْبتْ الْأَحْكَام من جِهَته إِلَّا تسع آيَات أنزلهَا الله تَعَالَى عَلَيْهِ فَالْجَوَاب أَنا لَا نعلم ذَلِك وَلَو علمنَا ذَلِك لم نعلم أَن مَا عدا التسع الايات لم يُوح إِلَيْهِ وَمِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَفَوْت لكم عَن صدقه الْخَيل وَالرَّقِيق فَالْجَوَاب أَنه إِنَّمَا أضَاف الْعَفو إِلَى نَفسه لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يتَوَلَّى اخذها وَهُوَ الَّذِي لم يَأْخُذهَا الْآن وَإِن كَانَ ذَلِك بِوَحْي على أَن كل هَذَا أَخْبَار آحَاد لَا يحْتَج بهَا فِي مثل هَذَا الْموضع وَمِنْهَا أَن الصَّحَابَة لَو حكمت فِي الْحَوَادِث عَن دلَالَة لما اضيفت إِلَى رأيها فَالْجَوَاب إِن الرَّأْي هُوَ القَوْل الصَّادِر عَن اجْتِهَاد وَنظر فِي أَمارَة أَو دلَالَة

مستنبطة وَلَيْسَ هُوَ القَوْل من غير نظر لِأَن ذَلِك لَيْسَ هُوَ بِرَأْي بل هُوَ تنحيت وتشهي وَمِنْهَا انهم لَو حكمُوا بِدَلِيل لما تَرَكُوهُ لِأَن الْحق لَا يتْرك وَالْجَوَاب إِن الْأَدِلَّة إِذا دَخَلتهَا الشُّبْهَة تركت والأمارات بِجَوَاز ذَلِك اولى على انهم إِنَّمَا يتركون اقوالهم إِذا تغير اجتهادهم لِأَن الْوَاجِب يتَغَيَّر بِحَسب تغير اجتهادهم عِنْد من يَقُول وغن كل مُجْتَهد مُصِيب فَيكون الْحق هُوَ القَوْل الثَّانِي دون القَوْل الأول وَمِنْهَا أَنهم قَالُوا فِي حكمهم إِن كَانَ صَوَابا فَمن الله وَإِن كَانَ خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان فَلَو كَانَ ذَلِك عَن دَلِيل لم يَقُولُوا بذلك فَالْجَوَاب إِنَّه لَو كَانَ ذَلِك عَن اخْتِيَار قد ابيح لَهُم الْعَمَل بِهِ لما شكوا فِي كَونه صَوَابا على أَن من يَقُول إِن الْحق فِي وَاحِد يجوز ان يخطئوا فَلَا سُؤال عَلَيْهِ وَمن قَالَ إِن الْمُجْتَهد مُصِيب يَقُول إِنَّمَا قَالُوا وَإِن كَانَ خطأ فَمن الشَّيْطَان لخوفهم أَن يكون عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص خلاف حكمهم لم يَقع إِلَيْهِم وَمِنْهَا قَوْلهم إِنَّهُم لَو قَالُوا عَن نظر وَقِيَاس لنقلت عَنْهُم التعليلات والاصول وَالْجَوَاب إِنَّه قد نقل عَنْهُم ذَلِك على ضرب من التَّنْبِيه على مَا بَيناهُ فِي الْقيَاس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي جَوَاز تعبد النَّبِي الثَّانِي بشريعة الأول وَفِي أَن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن متعبدا قبل النُّبُوَّة وَلَا بعْدهَا بشريعة من تقدم لَا هُوَ وَلَا امته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه لَو امْتنع أَن يتعبد النَّبِي الثَّانِي بشريعة الأول لَكَانَ إِنَّمَا امْتنع لوجه مَعْقُول وَلَا وَجه لذَلِك إِلَّا ان يُقَال إِنَّه يمْتَنع أَن تكون مصلحَة النَّبِي الثَّانِي ومصلحة امته مصلحَة النَّبِي الأول أَو يُقَال إِن مَجِيء النَّبِي الثَّانِي بشريعة الأول

عَبث وَالْأول بَاطِل لِأَنَّهُ كَمَا لَا يمْتَنع فِي الْعقل أَن تكون مصلحَة النَّبِي الثَّانِي مَعَ امته مُخَالفَة الأول كَذَلِك لَا يمْتَنع أَن تكون مُوَافقَة لمصْلحَة الأول لَا فرق فِي الْعُقُول بَين الْأَمريْنِ واما الثَّانِي فَبَاطِل أَيْضا لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يتعبد النَّبِي الثَّانِي بِالرُّجُوعِ إِلَى دُعَاء النَّبِي الأول ويوحى إِلَيْهِ بعبادات زَائِدَة اَوْ بِشُرُوط زَائِدَة على الْعِبَادَات الَّتِي علمهَا من النَّبِي الأول أَو يُوحى إِلَيْهِ بشريعة الأول لِأَنَّهَا قد درست أَو يُوحى إِلَيْهِ بهَا وَيبْعَث إِلَى غير من بعث إِلَيْهِ النَّبِي الأول وَمَعَ كل هَذِه الْوُجُوه لَا يحصل الْعَبَث فَأَما كَون نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متعبدا قبل الْبعْثَة بشريعة من تقدمه فقد منع قوم مِنْهُ وَقَالَ بِهِ قوم وَتوقف فِيهِ آخَرُونَ وَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن الشَّيْخ أَبَا هِشَام توقف فِيهِ فِي بعض الْمَوَاضِع وَاخْتلفُوا بعد النُّبُوَّة فَقَالَ قوم كَانَ متعبدا بشريعة من قبله إِلَّا مَا اسْتثِْنَاء الدَّلِيل وَقَالَ آخَرُونَ مَا كَانَ متعبدا بذلك وَاخْتلف من قَالَ كَانَ متعبدا بذلك قبل النُّبُوَّة وَبعدهَا فَقَالَ قوم كَانَ متعبدا بشريعة إِبْرَاهِيم وَقَالَ آخَرُونَ بل بشريعة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَالدّلَالَة على انه لم يكن متعبدا قبل النُّبُوَّة بذلك أَنه لَو كَانَ متعبدا بذلك لَكَانَ يفعل مَا تعبد بِهِ وَلَو فعل ذَلِك لَكَانَ يخالط من ينْقل ذَلِك الشَّرْع من النَّصَارَى وَغَيرهم فيفعل فعلهم وَقد نقلت أَفعاله قبل الشَّرِيعَة والبعثة وَعرفت أَحْوَاله وَلم ينْقل أَنه كَانَ يفعل مَا كَانَت النَّصَارَى تَفْعَلهُ وَلَا يخالطهم أَو يخالط غَيرهم ويسألهم عَن شرعهم وَاحْتج الْمُخَالف بِأَنَّهُ قد كَانَ قبل الْبعْثَة يحجّ ويعتمر وَيَطوف بِالْبَيْتِ ويعظمه ويزكي وَيَأْكُل اللَّحْم ويركب الْبَهَائِم وَيحمل عَلَيْهَا وكل ذَلِك لَا يحسن إِلَّا شرعا فَالْجَوَاب إِنَّه لَو يثبت أَنه حج وَاعْتمر قبل الْبعْثَة وَتَوَلَّى التَّزْكِيَة بِنَفسِهِ وَلَا أَمر بهَا واما اكل اللَّحْم المزكى فَحسن فِي الْعقل لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ضَرَر على اُحْدُ وَفِيه مَنْفَعَة للآكل وَأما ركُوب الْبَهَائِم وَالْحمل عَلَيْهَا فَحسن فِي الْعقل عِنْد الشَّيْخ أبي هَاشم لِأَنَّهُ ضَرَر يُؤَدِّي إِلَى نفع أعظم

مِنْهُ وَهُوَ الْقيام بمصالحها وإيصال النَّفْع إِلَيْهَا واما الطّواف بِالْبَيْتِ فَيحْتَمل أَن يكون إِنَّمَا فعله ليتشاغل كَمَا يتشاغل الْإِنْسَان بِالْمَشْيِ ويستروح إِلَيْهِ إِذا كَانَ مفكرا وعَلى أَنه لَيْسَ يجب أَن يكون فعله لذَلِك كثيرا حَتَّى يمْتَنع عَلَيْهِ واما تَعْظِيمه للبيت فَيحْتَمل أَن يكون عظمه لِأَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام عظمه وَالْعقل يَقْتَضِي حسن تَعْظِيم أَمَاكِن الْأَنْبِيَاء وتمييزها وتعظيم مَا عظموه مَا لم يثبت نسخه وَأما الدّلَالَة على انه مَا كَانَ متعبدا من قبله بعد الْبعْثَة هِيَ أَن الْقَائِل كَانَ متعبدا بذلك لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يُرِيد أَن الله تَعَالَى أوحى إِلَيْهِ بِلُزُوم الْعِبَادَات الَّتِي تعبد بهَا من قبله وَأوحى إِلَيْهَا بصفاتها فَلَا يرجع فِي كلا الْأَمريْنِ إِلَى النَّقْل عَمَّن تقدم أَو يَقُول إِنَّه يرجع فِي وجوب شرع من تقدم وَفِي صِفَاته إِلَى النَّقْل كَمَا نفعله نَحن فِي شَرعه أَو يَقُول إِنَّه أوحى إِلَيْهِ بِوُجُوب الْعِبَادَات الَّتِي هِيَ شرع من تقدم وَأمر بِالرُّجُوعِ إِلَى النَّقْل عَمَّن تقدم فِي معرفَة صفاتها فَهُوَ يرجع فِي وُجُوبهَا إِلَى الْوَحْي فِي صفاتها إِلَى النَّقْل أَو يَقُول إِنَّه يرجع فِي وُجُوبهَا إِلَى النَّقْل الْمُتَوَاتر وَفِي معرفَة صفاتها إِلَى الْوَحْي الْمنزل عَلَيْهِ فان أَرَادَ الأول فَلَا يَخْلُو أَن يَقُول إِن جَمِيع مَا أُوحِي إِلَيْهِ هُوَ شرع نَبِي تقدم إِمَّا مُوسَى وَإِمَّا غَيره أَو يَقُول إِن بعض مَا أوحى إِلَيْهِ هُوَ شرع نَبِي تقدم وَالْأول بَاطِل لِأَن كثيرا من شَرعه لَا يُوَافق شرع مُوسَى والمسيح وَغَيرهمَا وَإِن اراد الثَّانِي لم نأباه وَلَا يجوز أَن يُقَال لأجل مَا وَقع الِاتِّفَاق فِيهِ إِنَّه متعبد فِيهِ بشرع من تقدمه لِأَنَّهُ إِنَّمَا علمه بِالْوَحْي فاضافة ذَلِك إِلَى الْوَحْي الْمنزل عَلَيْهِ أولى وَأما الْوُجُوه الثَّلَاثَة فباطلة من وُجُوه مِنْهَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينْتَظر الْوَحْي عِنْد الْحَوَادِث كالظهار وَاللّعان والإفك وَغير ذَلِك وَلَا يسْأَل عَن التَّوْرَاة فَلَو كَانَ متعبدا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا أَو إِلَى غَيرهَا فِي معرفَة الْعِبَادَات وَفِي معرفَة صفاتها لرجع إِلَيْهَا فان قيل إِنَّمَا لم يرجع إِلَيْهَا فِي معرفَة هَذِه الْأَحْكَام وَغَيرهَا لِأَنَّهَا مُسْتَثْنَاة مِمَّا تعبد فِيهِ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا فَكَأَنَّهُ تعبد بِالرُّجُوعِ إِلَى التَّوْرَاة إِلَّا فِي هَذِه الْأَحْكَام قيل إِنَّه لم يرجع

إِلَيْهَا إِلَّا فِي الرَّجْم فَكَانهُ مَا تعبد بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا إِلَّا فِي ذَلِك فَقَط وَهَذَا رُجُوع إِلَى مَا قُلْنَاهُ من أَنه لم يكن متعبدا بِالتَّوْرَاةِ فِي الأَصْل وَيبقى الْخلاف فِي الرَّجْم وسنبين أَنه لم يرجع إِلَيْهَا ليستفيد الحكم مِنْهَا وَلَو ثَبت أَنه أَرَادَ الاستفادة للْحكم مِنْهَا لوَجَبَ أَن لَا يكون متعبدا بِالرُّجُوعِ إِلَى التَّوْرَاة إِلَّا فِي الرَّجْم فَقَط وَأَيْضًا فان السّلف لم يرجِعوا فِي شَيْء من الْحَوَادِث إِلَى نقل أهل الْملَل وَلم يسألوهم عَن شرعهم فِيهَا وَلَو كَانُوا متعبدين بذلك لجرت كتب الْأَنْبِيَاء الْمُتَقَدِّمين مجْرى الْقُرْآن وَالسّنة فِي وجوب الرُّجُوع إِلَيْهَا فان قيل إِنَّمَا كَانُوا متعبدين بِمَا تَوَاتر من شرع من تقدم دون مَا نقل بالآحاد لِأَن نقل الْوَاحِد والاثنين من الْكفَّار لَا يجوز الْعَمَل بِهِ وَلم يفحصوا عَن شرعهم لِأَن مَا تَوَاتر نَقله يبلغهم من غير فحص قيل لَيْسَ كَذَلِك لِأَن كثيرا مِمَّا تَوَاتر نَقله لَا يعرفهُ إِلَّا من خالط النقلَة وفحص عَن نقلهم أَلا ترى أَن كثيرا من فَتَاوَى السّلف وَمَا شجر بَينهم يعرف بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر وَلَا يعرفهُ من لم يخالط النقلَة وَأَيْضًا فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قَالَ لَهُ معَاذ أحكم بِكِتَاب الله وَسنة رَسُول الله وَقَالَ من بعد أجتهد رَأْيِي صَوبه وَلم يعرفهُ أَنه يجب عَلَيْهِ الحكم بِمَا فِي التوارة وَالْإِنْجِيل فان قيل فقد دخلت التَّوْرَاة فِي قَوْله أحكم بِكِتَاب الله قيل إِن إِطْلَاق قَوْله كتاب الله لَا يعقل مِنْهُ فِي الشَّرِيعَة إِلَّا الْقُرْآن أَلا ترى أَنه الْمَفْهُوم من قَوْله قَرَأت كتاب الله ورأينا كتاب الله وحكمنا بِكِتَاب الله دَلِيل وَأَيْضًا لَو كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُخَاطبا بشرع من سلف لم يخل إِمَّا أَن يكون مُخَاطبا بشرع مُوسَى أَو الْمَسِيح أَو شرع من تقدمهما وَلَا يجوز كَونه مُخَاطبا بشرع مُوسَى لِأَنَّهُ كَانَ مَنْسُوخا بشرع الْمَسِيح وَلَا يجوز أَن يكون مُسْتَعْملا لشرع الْمَسِيح لِأَنَّهُ لَيْسَ اُحْدُ من الْأمة قَالَ بذلك لِأَن الْأمة على ثَلَاثَة أقاويل مِنْهُم من قَالَ لم يكن متعبدا بشرائع من سلف وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّمَا تعبد بشرع مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَلِهَذَا يرجع إِلَى التَّوْرَاة وَمِنْهُم قَالَ إِنَّه تعبد بشرائع من سلف إِلَّا مَا منع مِنْهُ الدَّلِيل دَلِيل آخر لَو كَانَ متعبدا بشرع من سلف لم ينْسب جَمِيع شَرعه إِلَيْهِ كَمَا لَا ينْسب شَرعه إِلَى بعض أمته لما كَانَت أمته

استفادت مِنْهُ شَرعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء مِنْهَا قَول الله عز وَجل {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده} قَالُوا وشرعه من هدَاهُم فَوَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعه فَالْجَوَاب إِن الله عز وَجل أمره بِاتِّبَاع هدى مُضَاف إِلَى جَمَاعَتهمْ وَالْهدى الْمُضَاف إِلَى جَمَاعَتهمْ هُوَ الْعدْل والتوحيد دون الشَّرَائِع الَّتِي لم يجتمعوا عَلَيْهَا وَمِنْهَا قَول الله عز وَجل {إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النَّبِيُّونَ} الْآيَة قَالُوا فَبين أَنَّهَا منزلَة ليحكم بهَا نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا هُوَ من جملَة النَّبِيين عَلَيْهِم السَّلَام فَالْجَوَاب أَن ظَاهر ذَلِك يَقْتَضِي أَن يحكم بهَا كل النَّبِيين وَذَلِكَ يُوجب حمله على الحكم بِالتَّوْحِيدِ وَالْعدْل ليدْخل جَمِيع النَّبِيين فِيهِ فَنحْن إِذا حملنَا الْآيَة على ذَلِك أمكننا أَن يكون المُرَاد جَمِيع النَّبِيين وَإِذا حملوه على الحكم بالشرائع لم يُمكن دُخُول جَمِيع النَّبِيين فِيهِ لِأَن بَعضهم قد نسخ بعض مَا فِي التَّوْرَاة فاذا كُنَّا تاركين لأحد ظاهري الْآيَة وَهُوَ الحكم بجميعها ومتمسكين بِالظَّاهِرِ الآخر وَهُوَ حكم جَمِيع النَّبِيين والمستدل بِالْآيَةِ كَذَلِك يفعل ساويناه وَسقط استدلاله وَمِنْهَا قَول الله تَعَالَى {إِنَّا أَوْحَينَا إِلَيْك كَمَا أَوْحَينَا إِلَى نوح والنبيين من بعده} الْآيَة وَالْجَوَاب إِنَّه عز وَجل لم يقل إِنَّه أُوحِي إِلَيْهِ بِمَا اوحى إِلَى نوح والنبيين من بعده وَإِنَّمَا قَالَ إِنَّه أُوحِي إِلَيْهِ كَمَا أوحى إِلَى غَيره ليزيل تعجب من تعجب بِأَن يوحي الله عز وَجل إِلَيْهِ كَمَا أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ لغيره كَيفَ راسلني بك فَقَالَ كَمَا راسلك بفلان وَفُلَان لم يفد ذَلِك أَنه راسله بِمَا راسله على لِسَان فلَان وَفُلَان يبين ذَلِك أَنه قَالَ فِي آخر الْكَلَام

{وكلم الله مُوسَى تكليما} فَبين أَن إرْسَاله الرُّسُل غير مُنكر وَلَا مستطرف على أَنه لَو دلّت الْآيَة على أَنه أوحى إِلَيْهِ بِمَا أوحى إِلَى غَيره لدل ذَلِك على أَنه تعبد بشرائع من قبله بِأَمْر مُبْتَدأ وَمِنْهَا قَول الله تَعَالَى {ثمَّ أَوْحَينَا إِلَيْك أَن اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا} فَالْجَوَاب إِن اسْم الْملَّة لَا يَقع إِلَّا على الاصول من التَّوْحِيد وَالْعدْل وَالْإِخْلَاص لله بِالْعبَادَة دون الْفُرُوع لِأَنَّهُ لَا يُقَال مِلَّة أبي حنيفَة وملة الشَّافِعِي وَيُرَاد مَذْهَبهمَا وَلَا يُقَال ملتهما مُخْتَلفَة وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ من الْمُشْركين} فَعلمنَا أَنه أَرَادَ بالملة أصل الدّين وَلِأَن شَرِيعَة إِبْرَاهِيم قد كَانَ انْقَطع نقلهَا وَلَا يجوز أَن يحثه الله عز وَجل على اتِّبَاع مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى} الْآيَة فَالْجَوَاب إِن اسْم الدّين يَقع على الاصول دون الْفُرُوع وَلِهَذَا لَا يُقَال دين الشَّافِعِي وَيُرَاد بِهِ مذْهبه وَلَا يُقَال دينه وَدين أبي حنيفَة مُخْتَلف على أَن قَوْله {أَن أقِيمُوا الدّين وَلَا تتفرقوا} دلَالَة على أَن الَّذِي شَرعه لنا مِمَّا وصّى بِهِ نوحًا هُوَ ترك التَّفَرُّق وَأَن نتمسك بِمَا شرع وَلَو دلّت الْآيَة على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تعبد بشرع من قبله لدلت على أَنه تعبد بذلك بِأَمْر مُبْتَدأ وَمِنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَجَعَ إِلَى التَّوْرَاة فِي رجم الْيَهُودِيين يُقَال لَهُم وَلم قُلْتُمْ إِنَّه رَجَعَ إِلَيْهَا ليستفيد الحكم مِنْهَا وهلا قُلْتُمْ إِنَّه رَجَعَ إِلَيْهَا ليقررهم على صدقه فِي حكايته أَن الرَّجْم مَذْكُور فِيهَا وَلَو رَجَعَ ليستفيد الحكم مِنْهَا لرجع إِلَيْهَا فِي غير ذَلِك من الْأَحْكَام ولرجع إِلَيْهَا فِي شَرَائِط الرَّجْم كالإحصان وَغَيره وَلما اعْتمد على من أخبرهُ فِي تِلْكَ الْحَال لأَنهم لم يَكُونُوا

بِصُورَة المتواترين وأخبار آحَاد الْكفَّار غير مَعْلُوم بهَا وَأَيْضًا فكون التَّوْرَاة محرفة يمْنَع من الرُّجُوع إِلَيْهَا وَمن استفادة الحكم مِنْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي ذكر فُصُول كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال على الْأَحْكَام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الِاسْتِدْلَال على الْأَحْكَام ضَرْبَان اسْتِدْلَال بِدَلِيل شَرْعِي كالخطاب وَالْأَفْعَال وَالْقِيَاس واستدلال بِالْبَقَاءِ على حكم الْعقل وَكِلَاهُمَا يفتقران إِلَى الْمعرفَة بحكمة الْمُكَلف ويفتقر الِاسْتِدْلَال بِالْخِطَابِ إِلَى معرفَة مَا يفِيدهُ الْخطاب وَقد تقدم بَيَان فَوَائِد الْخطاب فالاستدلال بالأدلة يخْتَلف بِحَسب تجردها عَن قرينَة وبحسب اقتران الْقَرَائِن بهَا وَالْخطاب من الْأَدِلَّة مِنْهُ مُشْتَرك بَين حقيقتين وَمِنْه غير مُشْتَرك وَحَقِيقَة الْخطاب قد تكون لغوية وَقد تكون شَرْعِيَّة وَقد تكون عرفية والقرائن قد تعدل بِالْخِطَابِ عَن ظَاهره وَقد تكون مكملة لظاهره وَيَنْبَغِي أَن نذْكر صفة الْمُكَلف الَّتِي يُمكن مَعهَا الِاسْتِدْلَال على الْأَحْكَام وَنَذْكُر كَيْفيَّة التَّوَصُّل إِلَى الْأَحْكَام فِي الْجُمْلَة وَنَذْكُر الْخطاب الَّذِي لَيْسَ بمشترك وَهُوَ متجرد وَكَيف يسْتَدلّ بِهِ على حقائقه اللُّغَوِيَّة والعرفية والشرعية وَنَذْكُر كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال مَعَ الْقيَاس المكمل وَنَذْكُر كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بِالْخِطَابِ الَّذِي لَيْسَ بمشترك على مجازه إِذا اقترنت بِهِ الْقَرَائِن وَنَذْكُر كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بِالْخِطَابِ الْمُشْتَرك إِذا اقترنت بهَا الْقَرَائِن وَإِذا لم تقترن بِهِ وَنَذْكُر مَا يشبه بالقرائن مِمَّا لَيْسَ بِقَرِينَة على الْحَقِيقَة وَنَذْكُر من الَّذِي يجب أَن يبين لَهُ مَدْلُول الْخطاب حَتَّى نحمله على ظَاهره

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي صفة الْمُكَلف الَّتِي مَعهَا يُمكن الِاسْتِدْلَال على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَفِي كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن صفة الْمُكَلف الَّتِي مَعهَا يُمكن الِاسْتِدْلَال على الْأَحْكَام هِيَ كَونه عَالما بقبح الْقَبِيح وبوجوب الْوَاجِب وَبِأَنَّهُ عَالم غَنِي عَن فعل الْقَبِيح وَعَن الْإِخْلَال بِالْوَاجِبِ فَمَتَى علم الْمُسْتَدلّ ذَلِك علم أَنه لَا يجوز أَن لَا يعرفنا البارىء عز وَجل مصالحنا ومفاسدنا لِأَن تَعْرِيف الألطاف وَاجِب والحكيم لَا يخل بِوَاجِب وَيعلم أَيْضا انه لَا يجوز ان يدلنا ويخاطبنا بِمَا يُفِيد فِي الْمُوَاضَعَة شَيْئا مَا إِلَّا وَهُوَ عَالم بَان مَا يفِيدهُ الْخطاب على مَا يفِيدهُ إِمَّا أَن يفِيدهُ بِمُجَرَّدِهِ أَو بِقَرِينَة لِأَنَّهُ لَو لم يعلم ذَلِك لَكَانَ قد لبس علينا ودلنا على خلاف الْحق وَذَلِكَ قَبِيح أما التَّوَصُّل إِلَى الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَهُوَ أَن الْمُجْتَهد إِذا أَرَادَ معرفَة حكم الْحَادِثَة فَيجب أَن ينظر مَا حكمهَا فِي الْعقل ثمَّ ينظر هَل يجوز أَن يتَغَيَّر حكم الْعقل فِيهَا وَهل فِي أَدِلَّة الشَّرْع مَا يَقْتَضِي تقدم ذَلِك الحكم أم لَا فَإِن لم يجد مَا يَنْقُلهُ عَن الْعقل قضي بِهِ وَالشّرط فِي ذَلِك هُوَ علمه بانه لَو كَانَت الْمصلحَة قد تَغَيَّرت عَمَّا يَقْتَضِيهِ الْعقل لما جَازَ أَن لَا يدلنا الله تَعَالَى على ذَلِك فَإِن وجد فِي الشَّرْع مَا يدل على نَقله قضي بانتقاله لِأَن الْعُقُول إِنَّمَا دلّت على تِلْكَ الْأَحْكَام بِشَرْط أَن لَا ينقلنا عَنهُ دَلِيل شَرْعِي وَالدّلَالَة الشَّرْعِيَّة ضَرْبَان خطاب وَغير خطاب وَهُوَ الْأَفْعَال وَالْقِيَاس والاستنباط وَالشّرط فِي الِاسْتِدْلَال بِأَفْعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ علمنَا بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يفعل على وَجه الْعِبَادَة مَا لَيْسَ بِطَاعَة وان نعلم أَن مَا هُوَ وَاجِب عَلَيْهِ أَو ندب مِنْهُ فَهُوَ وَاجِب علينا أَو ندب منا إِلَّا أَن يدل دَلِيل على خِلَافه وَالشّرط فِي الِاسْتِدْلَال بِالْقِيَاسِ هُوَ أَن نعلم أَنا متعبدون بِهِ وَأَن حِكْمَة الله

تَقْتَضِي أَنا مَا تعبدنا بِهِ إِلَّا وَذَلِكَ مصلحتنا وَأما الْأَدِلَّة الَّتِي هِيَ الْخطاب فَهُوَ خطاب الله وخطاب رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخطاب الْأمة وَقد يسْتَدلّ على الحكم بِالْخِطَابِ وبالإمساك عَن الْخطاب وَعَن غَيره من الْأَدِلَّة وَالشّرط فِي الإستدلال بخطاب الله أَن نعلم مَا يفِيدهُ الْخطاب بِمُجَرَّدِهِ وَمَا يفِيدهُ مَعَ قرينَة وَأَن الله تَعَالَى لَا يجرد خطابا يُفِيد فِي الْمُوَاضَعَة شَيْئا مَا إِلَّا وَقد علم أَن فَائِدَته على مَا أَفَادَهُ الْخطاب إِمَّا بِمُجَرَّدِهِ وَإِمَّا مَعَ قرينَة وَالشّرط فِي الِاسْتِدْلَال بإمساكه عَن أَن يدلنا على الحكم أَن نعلم أَنه لَو كَانَ الحكم حَاصِلا لدلنا على حُصُوله وَالشّرط فِي الِاسْتِدْلَال بخطاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ أَن نعلم فَائِدَة الْخطاب ونعلم أَن الله سُبْحَانَهُ لَا يبْعَث من يخبر بِالْكَذِبِ وَلَا يُنْهِي عَن حسن وَلَا يَأْمر بقبيح وَالشّرط فِي الِاسْتِدْلَال بِتَرْكِهِ أَن يُؤَدِّي إِلَيْنَا الْعِبَادَة هُوَ علمنَا أَنه مَعَ حكمته لَا يجوز أَن يبْعَث من يعلم أَنه يخفي عَنَّا مصالحنا وَالشّرط فِي الِاسْتِدْلَال بِالْإِجْمَاع هُوَ أَن نعلم أَن الله عز وَجل أَو رَسُوله قد شهد أَنهم لَا يجمعُونَ على خطأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بِالْخِطَابِ الْمُجَرّد على حقائقه اللُّغَوِيَّة والعرفية والشرعية - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْخطاب إِذا كَانَ يسْتَعْمل فِي شَيْء على سَبِيل الْحَقِيقَة وَيسْتَعْمل فِي شَيْء آخر على سَبِيل الْمجَاز وتجرد عَن قرينَة فَالْوَاجِب حمله على حَقِيقَته دون الْمجَاز لِأَن الْغَرَض بِهِ الإفهام والمخاطب إِنَّمَا يفهم من الْخطاب حَقِيقَته وَيحْتَاج إِلَى قرينَة لفهم مجازه فَلَو كلفه الله تَعَالَى أَن يفهم مِنْهُ الْمجَاز من غير قرينَة لم يكن قد جعل لَهُ السَّبِيل إِلَى مَا كلفه وَحَقِيقَة الْخطاب ضَرْبَان أَحدهمَا حَقِيقَة أَصْلِيَّة وَهِي اللُّغَوِيَّة وَالْأُخْرَى طارئة وَهِي ضَرْبَان إِحْدَاهمَا طارئة بمواضعة عرفية وَالْأُخْرَى بمواضعة

شَرْعِيَّة فَمَتَى كَانَ الْخطاب مُسْتَعْملا فِي شَيْء من جِهَة اللُّغَة ومستعملا فِي غَيره من جِهَة الْعرف وَلم يخرج بِالْعرْفِ من أَن يكون حَقِيقَة فِيمَا كَانَ مُسْتَعْملا فِيهِ من جِهَة اللُّغَة بل كَانَ حَقِيقَة فِي الْمَعْنى اللّغَوِيّ وَفِي الْمَعْنى الْعرفِيّ فَلَا يكون أَحدهمَا إِلَى الْفَهم أسبق عِنْد سَماع الْخطاب فَهُوَ مُشْتَرك بَينهمَا وَسَيَجِيءُ القَوْل فِي الِاسْم الْمُشْتَرك لِأَنَّهُ هُوَ الْمَفْهُوم من الْخطاب فَجرى مجْرى الْمجَاز والحقيقة اللُّغَوِيَّة وَنَظِير ذَلِك اسْم الْغَائِط كَانَ حَقِيقَة فِي الْمَكَان المطمئن من الأَرْض ثمَّ صَار فِي الْعرف حَقِيقَة فِي قَضَاء الْحَاجة ومجازا فِي الْمَكَان المطمئن وَإِذا اسْتعْمل الْخطاب فِي الْعرف أَو اللُّغَة فِي شَيْء وَاسْتعْمل فِي الشَّرْع فِي شَيْء آخر وَكَانَ حَقِيقَة فِي الشَّرْعِيّ واللغوي أَو الْعرفِيّ فَهُوَ مُشْتَرك بَينهمَا وَإِن كَانَ مجَازًا فِي الْعرفِيّ أَو فِي اللّغَوِيّ وَجب حمله على الشَّرْعِيّ لِأَنَّهُ الْمَفْهُوم عِنْد سَماع الْخطاب وَذَلِكَ اسْم الصَّلَاة كَانَ حَقِيقَة فِي الدُّعَاء ثمَّ صَار مجَازًا فِيهِ حَقِيقَة فِي الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة لَا يفهم من إِطْلَاقه سواهَا فَصَارَ حمل الْخطاب على مَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ أولى من حمله على الْعرفِيّ ثمَّ على الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة وَحمله على الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة أولى من حمله على مجازها فَإِذا تعذر ذَلِك حمل على مجازها فَإِن خطاب الله طائفتين بخطاب هُوَ حَقِيقَة عِنْد إِحْدَاهمَا فِي شَيْء وَعند الْأُخْرَى فِي شَيْء آخر فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَن يحملهُ كل وَاحِدَة من الطَّائِفَتَيْنِ على مَا تتعارفه لِأَنَّهُ السَّابِق إِلَى إفهامنا فَلَو أَرَادَ أحد الْمَعْنيين من كلا الطَّائِفَتَيْنِ لدل الطَّائِفَة الَّتِي لَا تعرف ذَلِك الْمَعْنى على أَنه قد أَرَادَهُ فَإِن قيل فَمَا قَوْلكُم لَو حرم الله علينا أَن نسمي الدُّعَاء صَلَاة وَأوجب أَن نسمي الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة بذلك وعصينا فِي ذَلِك وَلم نتعارف من اسْم الصَّلَاة إِلَّا الدُّعَاء ثمَّ قَالَ لنا أقِيمُوا الصَّلَاة على مَاذَا كَانَ يَنْبَغِي لنا أَن نحمله عَلَيْهِ قيل إِن كَانَ قد أخبرنَا أَنه لَا يسْتَعْمل هَذَا الِاسْم إِلَّا فِي الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة فَإِنَّهُ يُرِيد بِهِ الشَّرْعِيَّة وَإِن لم يخبرنا بذلك فَإِنَّهُ لَا يُرِيد بِهِ إِلَّا الدُّعَاء لِأَنَّهُ الْمَفْهُوم عندنَا وَلَيْسَ يجب إِذا قبح منا اسْتِعْمَال هَذَا الِاسْم فِي الدُّعَاء أَن يقبح من الله تَعَالَى ذَلِك

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بِالْخِطَابِ مَعَ الْقَرَائِن المكملة لظاهره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن هَذِه الْقَرَائِن مِنْهَا مَا ترجع إِلَى حَال الْمُخَاطب وَمِنْهَا مَا لَا ترجع إِلَى حَاله فَالْأول كاستدلالنا بِكَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبكونه منتصبا لتعليم الشَّرْع على انه عَنى بخطابه حكما شَرْعِيًّا وَهَذَا إِذا كَانَ خطابه مترددا بَين حكم شَرْعِي وعقلي لِأَنَّهُ منتصب لتعليم الشَّرْع فَأَما إِذا كَانَ ظَاهر خطابه يُفِيد حكما عقليا ومجازه يُفِيد الشَّرْعِيّ فَالْوَاجِب حمله على ظَاهره لأَنا إِنَّمَا نرجح حمله على الشَّرْعِيّ بِكَوْن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منتصبا لتعليم الشَّرْع وَذَلِكَ إِنَّمَا يتم مَعَ تردد خطابه بَين الشَّرْعِيّ والعقلي على سَوَاء فَأَما إِذا كَانَ ظَاهره مَعَ احدهما فَلَا تَرْجِيح وَكَذَلِكَ إِذا تردد خطابه بَين تَعْلِيم اسْم لغَوِيّ وشرعي فَإِنَّهُ يجب حمله على تَعْلِيم الِاسْم الشَّرْعِيّ لِأَن اللّغَوِيّ يعرف من دونه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاعْلَم أَن كل خطاب فَإِنَّهُ لَا بُد فِي الِاسْتِدْلَال بِهِ من اعْتِبَار حَال الْمُتَكَلّم بِهِ أَلا ترى أَنا نعتبر حكمته وَإِنَّمَا أردنَا الْأَحْوَال الَّتِي لَهَا نعدل بِالْخِطَابِ من معنى إِلَى معنى مَعَ كَونه مترددا بَينهمَا وَأما الْقَرِينَة الَّتِي لَيست بِحَال الْمُتَكَلّم فضربان أَحدهمَا أَن تكون الْقَرِينَة خطابا آخر وَالْآخر أَن تكون الْقَرِينَة تعلقا بَين مَا تنَاوله الْخطاب وَبَين مَا لم يتَنَاوَلهُ أما الضَّرْب الأول فأشياء مِنْهَا أَن يكون أحد الخطابين يدل على أَن الشَّيْء صفة وَالْآخر يدل على اخْتِصَاص تِلْكَ الصّفة بِحكم من الْأَحْكَام فنعلم أَن ذَلِك الشَّيْء يخْتَص بذلك الحكم وَذَلِكَ مثل قَوْله سُبْحَانَهُ {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} وَذَلِكَ يدل على أَن الْقُرْآن ذكر وَقَوله تَعَالَى {مَا يَأْتِيهم من ذكر من رَبهم مُحدث إِلَّا استمعوه وهم يَلْعَبُونَ}

يدل على حدث الذّكر فَوَجَبَ من كلا الِاثْنَيْنِ كَون الْقُرْآن مُحدثا وَمِنْهَا مَا يدل الْخطاب على اخْتِصَاص حكم بشيئين وَيدل خطاب آخر على أَن أحد الشَّيْئَيْنِ يخْتَص بِبَعْض ذَلِك الحكم فنعلم أَن الشَّيْء الآخر يخْتَص بِبَقِيَّة ذَلِك الحكم كَقَوْل الله سُبْحَانَهُ {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} يدل على أَن مُدَّة الْحمل وَمُدَّة الرَّضَاع ثَلَاثُونَ شهرا وَدلّ قَوْله {وفصاله فِي عَاميْنِ} على أَن الْحمل يكون سِتَّة أشهر لِأَن الفصال يكون فِي عَاميْنِ وَمِنْهَا أَن يكون أحد الخطابين طَرِيقا إِلَى أَن لشَيْء من الْأَشْيَاء حكما وَأَنه لَيْسَ لغيره وَيدل خطاب على أَن ذَلِك الحكم الْمَذْكُور لبَعض الْأَشْيَاء فنعلم أَنه هُوَ الأول أَو جُزْء مِنْهُ نَحْو قَوْله سُبْحَانَهُ {شهر رَمَضَان الَّذِي أنزل فِيهِ الْقُرْآن} يدل على أَن ابْتِدَاء نزُول الْقُرْآن فِي شهر رَمَضَان لعلمنا أَن كثيرا مِنْهُ قد نزل فِي غير شهر رَمَضَان وَقَوله {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر} يدل على أَن ابْتِدَاء نُزُوله فِي لَيْلَة الْقدر وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا وَلَيْلَة الْقدر هِيَ جُزْء من هر رَمَضَان وَهَذَا إِنَّمَا يَصح مَتى ثَبت بِالْإِجْمَاع أَن قَوْله {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر} يُفِيد أَن ابْتِدَاء نُزُوله فِي لَيْلَة الْقدر فَأَما إِذا كَانَت الْقَرِينَة تعلقا بَين فَائِدَة الْخطاب وَبَين غَيره فضربان أَحدهمَا أَن يكون بَينهمَا تعلق التَّعْلِيل وَهَذَا هُوَ الْقيَاس وَقد تقدم القَوْل فِيهِ وَالْآخر لَا يكون تعلق التَّعْلِيل إِلَّا أَنه لَا يثبت أَحدهمَا إِلَّا مَعَ الآخر وَهُوَ ضَرْبَان احدهما هَذَا حكمه لمَكَان الْإِجْمَاع وَإِن لم يعلم التَّعَلُّق بَينهمَا وَالْآخر هَذَا حكمه لِأَنَّهُ لَا يُمكن انفكاك كل وَاحِد مِنْهُمَا من صَاحبه أما الأول فمثاله أَن

يدل الظَّاهِر على ان الْخَال يَرث وَتجمع الْأمة على أَن الْخَالَة بمثابته فِي إِثْبَات الْإِرْث ونفيه فنحكم بذلك وَإِن لم نَعْرِف وَجه التَّعَلُّق بَينهمَا وَأما الثَّانِي فضربان أَحدهمَا ان يكون ذَلِك الْمَعْنى وصلَة إِلَى فَائِدَة الْآيَة كالأمر بِالطَّهَارَةِ يَقْتَضِي وجوب اسْتِيفَاء المَاء وَالْآخر أَن لَا يكون وصلَة إِلَيْهِ وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا أَن يكون الحكم إِبَاحَة فَيعلم إِبَاحَة مَا لَا يتم الْفِعْل الْمُبَاح إِلَّا مَعَه وَالْآخر أَن يكون الحكم وجوبا فَيعلم وجوب مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا مَعَه فَالْأول قَول الله تَعَالَى {فَالْآن باشروهن وابتغوا مَا كتب الله لكم وكلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود من الْفجْر} فأباح الله الْأكل وَالْجِمَاع إِلَى الْفجْر وَلَيْسَ يُمكن إِبَاحَة الوطيء إِلَى الْفجْر إِلَّا وَالْغسْل وَاقع بعد الْفجْر فَدلَّ على إِبَاحَة تَأَخره عَن الْفجْر وَأما إِذا كَانَ الحكم إِيجَابا فمثاله ايجاب ستر جَمِيع الْفَخْذ لَا يُمكن إِلَّا بستر جُزْء من الرّكْبَة فَدلَّ على وجوب ستر جُزْء من الرّكْبَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي كَيْفيَّة حمل خطاب الْحَكِيم على غير ظَاهره إِذا اقترنت بِهِ الْقَرَائِن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم ان خطاب الله وخطاب رَسُوله لَا بُد من أَن يُفِيد أَشْيَاء وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون مُحْتملا لأكْثر من حَقِيقَة وَاحِدَة فَيكون مُشْتَركا بَينهمَا وَإِمَّا أَن لَا يحْتَمل أَكثر من حَقِيقَة وَاحِدَة وَهَذَا الْقسم إِمَّا أَن يكون عَاما أَو خَاصّا فان كَانَ خَاصّا فاما أَن يتجرد عَن قرينَة أَو لَا يتجرد عَن قرينَة فان تجرد عَن قرينَة حمل الْخطاب على ظَاهره وَإِن لم يتجرد عَنْهَا فإمَّا أَن تدل الْقَرِينَة على أَن المُرَاد لَيْسَ هُوَ ظَاهره أَو تدل على ان المُرَاد هُوَ ظَاهره أَو تدل على ان المُرَاد ظَاهر الْخطاب وَغير ظَاهره فَإِن دلّت على أَن المُرَاد لَيْسَ هُوَ ظَاهره خرج ظَاهره من أَن يكون مرَادا وَلَا يَخْلُو ذَلِك الْخطاب إِمَّا أَن يكون متجوزا

بِهِ فِي غير ظَاهره أَو غير متجوز بِهِ فِي غير ظَاهره فان لم يكن متجوزا بِهِ فِي غير ظَاهره على تعذر ذَلِك وَجب أَن يقْتَرن بِهِ قرينَة تدل على المُرَاد لِأَن الْخطاب لَيْسَ يتَنَاوَل غير ظَاهره فَيحمل عَلَيْهِ وَإِن كَانَ قد تجوز بِهِ فِي غير ظَاهره لم يخل وَجه الْمجَاز الَّذِي يسْتَعْمل الْخطاب فِيهِ إِمَّا أَن يكون وَاحِدًا أَو أَكثر من وَاحِد فان كَانَ وَاحِدًا حمل اللَّفْظ عَلَيْهِ من غير افتقار إِلَى دلَالَة زَائِدَة لِأَن الْحَكِيم إِذا خلا خطابه من قرينَة تدل على أَنه أَرَادَ غير فَائِدَته اللُّغَوِيَّة فَلَا بُد من أَن يُرِيد مَا يعنيه بِهِ أهل اللُّغَة فان لم يعن بِهِ الْحَقِيقَة فَلَيْسَ إِلَّا الْمجَاز وَإِن كَانَ وَجه الْمجَاز الَّذِي يسْتَعْمل فِيهِ الْخطاب أَكثر من وَاحِد لم يخل من أَن تدل دلَالَة مُبتَدأَة على المُرَاد بِعَيْنِه أَو لَا تدل دلَالَة على ذَلِك فان دلّت دلَالَة مُبتَدأَة على المُرَاد بِعَيْنِه لم تخل وُجُوه الْمجَاز إِمَّا أَن تكون محصورة أَو غير محصورة فان لم تكن محصورة فَلَا بُد من أَن تدل دلَالَة على مَا أُرِيد مِنْهَا هَكَذَا ذكر قَاضِي الْقُضَاة قَالَ لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يريدها الْمُخَاطب كلهَا مَعَ تعذر حصرها علينا وَيُمكن أَن يُقَال إِنَّه أرادها كلهَا على الْبَدَل لِأَن ذَلِك يُمكن مَعَ فقد الْحصْر وَمَعَ فقد دلَالَة على التَّعْيِين وَلَا يُمكن سواهُ يبين ذَلِك أَنه يحسن أَن نؤمر بِذبح بقرة فنكون مخيرين فِي ذبح أَي بقرة شِئْنَا وَإِن لم يمكنا حصر الْبَقر فَبَان أَن التَّخْيِير يُمكن مَعَ فقد الْحصْر فَأَما من لم يجز أَن يُرَاد بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَة المعنيان المختلفان فانه يَجِيء على مذْهبه أَنه لَا بُد من دلَالَة تدل على المُرَاد بِعَيْنِه لِأَن اللَّفْظَة مَا وضعت للتَّخْيِير فان كَانَت وُجُوه الْمجَاز محصورة فانه لَا يَخْلُو إِمَّا أَن تكون مُتَسَاوِيَة فِي الْقرب من الْحَقِيقَة وَقُوَّة الشّبَه بهَا أَو لَا تكون مُتَسَاوِيَة فِي ذَلِك فان كَانَ بَعْضهَا أشبه بِالْحَقِيقَةِ من بعض حمل اللَّفْظ عَلَيْهِ لِأَن أسبق إِلَى الإفهام لقُوَّة شبهه وَيخرج الْبَاقِي من أَن يكون مرَادا كَمَا أَن الْخطاب إِذا حمل على حَقِيقَته لم يحمل على مجازه إِلَّا بِدَلِيل وَهَذَا يتم على قَول الْفَرِيقَيْنِ وَإِن كَانَت وُجُوه الْمجَاز مُتَسَاوِيَة

لم يخل إِمَّا أَن تدل دلَالَة على أَن بَعْضهَا غير مُرَاد أَو لَا تدل دلَالَة على ذَلِك فان لم تدل دلَالَة على ذَلِك حمل اللَّفْظ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضهَا لحمل الْخطاب عَلَيْهِ أولى من بعض فَلَو أَرَادَ الْحَكِيم بَعْضهَا لدل عَلَيْهِ فاذا حمل الْخطاب عَلَيْهِ فان كَانَت غير متنافية وَأمكن أَن يُرَاد بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَة حمل الْخطاب عَلَيْهَا أجمع وَإِن لم يُمكن أَن يُرَاد بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَة مَعًا حمل عَلَيْهَا على الْبَدَل وَالْأولَى أَن يُقَال على مَذْهَب هَؤُلَاءِ إِنَّه يَنْبَغِي أَن الْخطاب عَلَيْهَا على الْبَدَل وَإِن أمكن الْجَمِيع بَينهمَا لِأَن الْخطاب لَيْسَ بعام فَيتَنَاوَل الْجَمِيع وَمِثَال الْمعَانِي الَّتِي تتنافى أَن ترَاد بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَة قَول الْقَائِل لغيره افْعَل إِذا دلّت الدّلَالَة على أَنه غير امْر فانه يَصح أَن يكون إِبَاحَة وَيصِح أَن يكون تهديدا واستعماله فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا مجَاز وَلَا يجوز أَن يسْتَعْمل فيهمَا على الْجمع مَعَ أَنه متناول لفعل وَاحِد فَأَما من يمْنَع أَن يُرَاد المعنيان بالعبارة الْوَاحِدَة فانه يَقُول لَا بُد فِي تَسَاوِي وُجُوه الْمجَاز من أَن يكون مُرَاد الْمُتَكَلّم وَاحِدًا مِنْهُمَا وَلَا بُد من أَن يدل على مُرَاده مِنْهَا فَأَما إِن دلّت الدّلَالَة على أَن بعض وُجُوه الْمجَاز لم يرد فانه يجب حمل الْخطاب على الْوَجْه الآخر إِن لم يبْق إِلَّا وَجه وَاحِد وَإِن بَقِي أَكثر من وَجه وَاحِد حمل عَلَيْهَا إِمَّا على الْجمع وَإِمَّا على الْبَدَل على قَول من أجَاز ذَلِك وَمن لم يجز ذَلِك يَقُول لَا بُد من قرينَة فان دلّت الدّلَالَة على أَن غير الظَّاهِر مُرَاد فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن تعينه أَو لَا تعينه فان لم تعينه فَالْقَوْل فِيهِ كالقول فِي الْقَرِينَة الدَّالَّة على أَن المُرَاد لَيْسَ هُوَ الظَّاهِر وَإِن عينته وَجب حمله على ذَلِك الْمعِين وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة فِي الدَّرْس إِنَّه لَا تخرج الْحَقِيقَة من أَن تكون مُرَادة لِأَنَّهُ لَا يتنافى أَن تكون مُرَادة مَعَ أَن غَيرهَا مُرَاد إِلَّا أَن تدل دلَالَة على أَن المُرَاد شَيْء غير الظَّاهِر فَيخرج الظَّاهِر من كَونه مرَادا لِأَن قَوْلنَا إِن المُرَاد هُوَ غير الظَّاهِر أوجب أَن جَمِيع المُرَاد هُوَ غير الظَّاهِر فَأَما إِن دلّت الدّلَالَة على أَن ظَاهر الْخطاب مُرَاد وَغير ظَاهره أَيْضا مُرَاد فان عينت ذَلِك الْغَيْر

وَجب حمله عَلَيْهِمَا فَيكون الْخطاب مُسْتَعْملا فيهمَا من جِهَة اللُّغَة على قَول من اجاز ذَلِك فِي اللُّغَة وَمن منع ذَلِك فِي اللُّغَة يَقُول إِن الشَّرِيعَة قد وضعت تِلْكَ الْملَّة لَهما أَو يَقُول إِن الْمُتَكَلّم تكلم بِتِلْكَ الْكَلِمَة مرَّتَيْنِ اراد فِي إِحْدَاهمَا ظَاهر الْخطاب وَأَرَادَ فِي الْمرة الْأُخْرَى غير ظَاهره وَإِن لم تعين الْقَرِينَة ذَلِك الْغَيْر فَالْكَلَام فِي ذَلِك الْغَيْر كَالْكَلَامِ إِذا دلّت الدّلَالَة على أَن المُرَاد لَيْسَ هُوَ الظَّاهِر وَلم تعينه فَهَذَا هُوَ الْكَلَام فِي الْخطاب الْخَاص فَأَما إِن كَانَ الْخطاب عَاما فانه إِن تجرد عَن قرينَة حمل على عُمُومه وَإِن لم يتجرد فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن تدل الْقَرِينَة على أَن المُرَاد هُوَ ظَاهره وَغير ظَاهره أَو تدل على أَن المُرَاد غير ظَاهره أَو لَيْسَ هُوَ ظَاهره أَو تدل على أَنه قد أُرِيد بعضه أَو تدل على أَن بعضه لَيْسَ بِمُرَاد فان دلّت على أَن المُرَاد ظَاهره وَغير ظَاهره حمل على ظَاهره وعَلى غير ظَاهره إِن كَانَت الدّلَالَة قد عينته على مَا تقدم تَفْصِيله على قَول الْفَرِيقَيْنِ وَإِن لم تعينه فَالْقَوْل فِيهِ كالقول فِي الْخَاص إِذا دلّت الدّلَالَة على أَن المُرَاد غير ظَاهره وَلم تعينه وَإِن دلّت الدّلَالَة على أَن المُرَاد بِهِ لَيْسَ هُوَ ظَاهره أَو أَن المُرَاد غير ظَاهره وَلم تعينه لم يجز تجرد هَذِه الْقَرِينَة لِأَنَّهُ إِذا لم يكن المُرَاد ظَاهره جَازَ أَن يكون المُرَاد هُوَ بعض مَا تنَاوله الْخطاب وَجَاز أَن يكون المُرَاد شَيْئا لم يتَنَاوَلهُ الْخطاب فاذا انقسم إِلَيْهِمَا وَلم يَصح اجْتِمَاعهمَا احتجنا إِلَى دلَالَة تعين المُرَاد وَيُمكن أَن تدل الدّلَالَة فِي الْعَام على أَن بعضه مُرَاد وَمَتى دلّت الدّلَالَة على ذَلِك لم يخرج الْبَعْض الآخر أَن يكون مرَادا لِأَنَّهُ لَا يتنافى ذَلِك فان دلّت الدّلَالَة على أَن المُرَاد هُوَ الْبَعْض خرج الْبَعْض الآخر من كَونه مرَادا لِأَن ذَلِك إِخْبَار بِأَن كَمَال المُرَاد هُوَ الْبَعْض فان دلّت الدّلَالَة على أَن بعض الْعُمُوم لَيْسَ بِمُرَاد خرج ذَلِك من كَونه مرَادا وَبَقِي مَا عداهُ تَحت الْخطاب وَالله أعلم

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بِالْخِطَابِ الْمُشْتَرك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْخطاب إِذا كَانَ مُشْتَركا بَين حقيقتين فان من يمْنَع من إرادتهما يمْنَع من تجرد هَذَا الْخطاب عَن دلَالَة تدل على المُرَاد وَيَقُول إِن دلّت الدّلَالَة على أَنه قد أُرِيد بِهِ وَجب القَوْل بِأَنَّهُ قد تكلم بِهِ مرَّتَيْنِ أَو يَقُول إِن الشَّرْع قد وضع الِاسْم لمجموعهما وَمن لَا يمْنَع من ذَلِك يُجِيز أَن يتجرد عَن قرينَة وَيَقُول إِذا تجرد عَن قرينَة وَجب أَن يحمل الْخطاب على الْمَعْنيين على الْبَدَل إِن كَانَ اللَّفْظ وَاحِدًا نَحْو أَن يَقُول الْقَائِل للْمَرْأَة اعْتدي بقرء وَإِن كَانَ اللَّفْظ لفظ جمع وَجب أَن يحمل عَلَيْهِمَا على الْجمع إِن لم يتنافيا وعَلى الْبَدَل إِن تنافيا وَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَنه لَو تجرد قَول الله {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} لأوجبنا على الْمُعْتَدَّة أَن تَعْتَد بِثَلَاثَة قُرُوء بَعْضهَا طهر وَبَعضهَا حيض لِأَن اللَّفْظ يفيدهما فَلَيْسَ بِأَن يحمل على أَحدهمَا أولى من الآخر وَلقَائِل أَن يَقُول هلا أوجب عَلَيْهَا الاعتداء بِثَلَاثَة يَقع عَلَيْهَا اسْم أَقراء سَوَاء كَانَ بَعْضهَا طهرا وَبَعضهَا حيضا أَو كلهَا طهرا أَو كلهَا حيضا لِأَن ذَلِك يجْرِي مجْرى قَوْلنَا رجال يُفِيد جمعا من الرِّجَال أَي جمع كَانَ فَأَما إِذا اقْترن بِهَذَا الْخطاب قرينَة دلّت على أَن أحد الْمَعْنيين غير مُرَاد تعين بِأَن الآخر مُرَاد وَإِن دلّت على أَن أَحدهمَا مُرَاد قضي بِهِ وَذكر فِي الْعمد أَن يخرج الآخر من أَن يكون مرَادا وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن الِاسْم الْمُشْتَرك الأَصْل فِيهِ أَن يحمل على أحد معنييه لِأَنَّهُ لَا يفِيدهُ على الْجمع وَإِنَّمَا يحمل عَلَيْهِمَا إِذا لم تقترن قرينَة تخص أَحدهمَا وَبِهَذَا فَارق لفظ الْعُمُوم

وَذكر فِي الدَّرْس أَن قيام الدّلَالَة على أَن أَحدهمَا مُرَاد لَا يمْنَع من كَون الآخر مرَادا فان دلّت الدّلَالَة على أَن لَيْسَ وَاحِد مِنْهُمَا مرَادا كَانَ القَوْل فِيهِ كالقول فِيمَا لَا يحْتَمل إِلَّا حَقِيقَة وَاحِدَة إِذا دلّت الدّلَالَة على أَنه لَيْسَ بِمُرَاد ظَاهره وَكَذَلِكَ إِذا دلّت الدّلَالَة على أَن المُرَاد غَيرهَا وَلم تعينه أَو دلّت على أَن المُرَاد كلا الحقيقتين وَغَيرهمَا فَلم تعين ذَلِك الْغَيْر أَو عينته وَالْقَوْل فِي الْخطاب الْعرفِيّ والشرعي كالقول فِيمَا ذَكرْنَاهُ من الْقِسْمَة فِيمَا يتجرد وَلَا يتجرد وَأكْثر هَذِه الْأَقْسَام إِنَّمَا تتفرع على قَول من قَالَ إِنَّه يُرَاد بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَة الْحَقِيقَة وَالْمجَاز والحقيقتان فَأَما من أَبى ذَلِك فانه يَقُول إِن كَانَ الْخطاب لَا يحْتَمل وَكَانَ خَاصّا ودلت الدّلَالَة على أَن المُرَاد لَيْسَ ظَاهره أَو هُوَ غير ظَاهره وَكَانَ لَا يسْتَعْمل إِلَّا فِي وَجه وَاحِد من وُجُوه الْمجَاز فانه يحمل عَلَيْهِ وَيخرج الْحَقِيقَة من أَن تكون مُرَادة وَإِن كَانَ يسْتَعْمل فِي أَكثر من وَجه وَاحِد من وُجُوه الْمجَاز وَجب أَن يكون المُرَاد وَاحِدًا مِنْهُمَا وَلَا بُد من أَن تدل دلَالَة عَلَيْهِ بِعَيْنِه وَكَذَلِكَ إِن كَانَ اللَّفْظ عَاما ودلت الدّلَالَة على أَن المُرَاد لَيْسَ شَيْئا مِمَّا تنَاوله اللَّفْظ فانه لَا بُد من أَن تدل عَلَيْهِ بِعَيْنِه وَلَا يجوز أَن تدل دلَالَة على أَن المُرَاد هُوَ ظَاهره وَغير ظَاهره لِأَن الْكَلِمَة الْوَاحِدَة لَا يُرَاد بهَا الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَإِن كَانَت اللَّفْظَة مُحْتَملَة لحقيقتين فَلَا بُد من أَن يُرَاد إِحْدَاهمَا أَو وَاحِدَة مِمَّا هِيَ مجَاز فِيهِ وَأي ذَلِك أُرِيد فَلَا بُد فِيهِ من دلَالَة وَإِن دلّت الدّلَالَة على أَنَّهُمَا قد أريدا أَو أَحدهمَا معما هِيَ مجَاز فِيهِ وَجب أَن يكون الْمُتَكَلّم قد تكلم بهَا مرَّتَيْنِ أَو يكون الِاسْم قد وضع لَهما فِي الشَّرْع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن ثُبُوت حكم الْخطاب فِيمَا تنَاوله على وَجه الْمجَاز لَا يدل على أَنه قد أُرِيد الْمجَاز بِالْخِطَابِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله وَحَكَاهُ عَن أبي الْحسن إِنَّه يحكم بذلك قَالَاه فِي قَول الله تَعَالَى {أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء}

إِن قيام الدّلَالَة على وجوب التَّيَمُّم على المجامع وَهُوَ الَّذِي يتَنَاوَلهُ اسْم الْمُلَامسَة على طَرِيق الْكِنَايَة يدل على أَنه مُرَاد بِالْآيَةِ وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله إِن الْخطاب إِذا علق على حكم من الْأَحْكَام على صفة من الصِّفَات وَدلّ الدَّلِيل على ثُبُوت ذَلِك الحكم مَعَ فقد تِلْكَ الصّفة فانه يعلم بذلك أَنه مُرَاد بِالْخِطَابِ نَحْو قَول الله تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا جَزَاء بِمَا كسبا نكالا من الله} فَلَمَّا أجمع الْمُسلمُونَ على أَن السَّارِق إِذا تَابَ يقطع لَا على جِهَة النكال علمنَا أَنه مُرَاد بِالْآيَةِ وَعند قَاضِي الْقُضَاة أَنه لَا يعلم ذَلِك فِي كلا المثالين إِلَّا بِدَلِيل زَائِد وَدَلِيله هُوَ أَن الْخطاب وَاجِب حمله على ظَاهره دون مجازه إِلَّا بِدلَالَة وَلَيْسَ فِي ثُبُوت حكم الْخطاب فِي مجازه دلَالَة على أَنه قد أُرِيد ذَلِك الْمجَاز بذلك الْخطاب لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون قد أَرَادَ ذَلِك بِدَلِيل آخر فان قَالُوا إِنَّا علمنَا ذَلِك لِأَن الْأمة إِذا أَجمعت على ثُبُوت حكم الْآيَة فِي الْمجَاز وَكَانَت لَا تجمع إِلَّا عَن دلَالَة وَلم يكن فِي الشَّرْع مَا يجوز أَن يدل على ذَلِك الحكم إِلَّا ذَلِك الْخطاب علمنَا أَنَّهَا مَا أَجمعت على ذَلِك إِلَّا بِالْآيَةِ وَإِلَّا كَانَت قد أَجمعت لغير دلَالَة قيل هَذَا حجَّة عَلَيْكُم لِأَن الْخطاب لَا يكون حجَّة فِيمَا هُوَ مجَاز فِيهِ إِذا تجرد فَلَو أَجمعُوا على ثُبُوت الحكم فِي الْمجَاز لأجل الْخطاب لكانوا قد أَجمعُوا لَا لدلَالَة فان قَالُوا الْمجَاز يدل على مَا هُوَ مجَاز فِيهِ مَعَ الْقَرِينَة فاذا أَجمعُوا على الحكم لأجل دلَالَة الْخطاب مَعَ الْقَرِينَة كَانُوا قد أَجمعُوا على الحكم لدلَالَة قيل فَإِذن لَا بُد لكم من إِثْبَات أَمر زَائِد على الْخطاب ليَصِح الْإِجْمَاع على ثُبُوت الحكم فِي الْمجَاز فلستم بِأَن تَقولُوا بِأَن ذَلِك الْأَمر الزَّائِد هُوَ قرينَة اقترنت بِالْخِطَابِ بِأولى من أَن تَقولُوا بل هُوَ دلَالَة مُبتَدأَة على الحكم فان قَالُوا لَو أَجمعُوا لدلَالَة مُبتَدأَة لنقلوها قيل

وَلَو أَجمعُوا لقَرِينَة لنقلوها فان قَالُوا لم ينقلوها اكْتِفَاء بِالْإِجْمَاع على ثُبُوت الحكم قيل وَلم ينقلوا الدَّلِيل الْمُبْتَدَأ اكْتِفَاء بِالْإِجْمَاع فان قَالُوا إِنَّمَا لم ينقلوا قرينَة لجَوَاز أَن يَكُونُوا اضطروا من قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَن المُرَاد بِالْخِطَابِ الْمجَاز وَلم تكن هُنَاكَ قرينَة تنقل قيل إِن جَازَ أَن يضطروا من قَصده إِلَى أَن المُرَاد بِالْآيَةِ هُوَ الْمجَاز جَازَ أَن يضطروا من قَصده إِلَى هَذَا الحكم من غير أَن يكون مرَادا بِالْآيَةِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَن ينقلوا إِلَيْنَا أَنهم علمُوا ذَلِك من قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ كَانَ هَذَا هُوَ دليلهم على المُرَاد بِالْآيَةِ على أَن هَذَا لَا يَتَأَتَّى فِيمَا يثبت الحكم فِيهِ بِنَصّ نَحْو وجوب التَّيَمُّم على المجامع لِأَن فِي ذَلِك خبر عمار رَضِي الله عَنهُ وَغَيره فَلَا يُمكن أَن يُقَال فِي ذَلِك إِنَّه لَا وَجه لإجماعهم سوى الْآيَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَن يجوز لَهُ أَن يقْضِي بِظَاهِر الْخطاب وعمومه وَمَتى يجوز لَهُ ذَلِك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن قَول الله تَعَالَى إِذا تنَاول أَشْيَاء كَقَوْلِه تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} وطرق سمع الْمُكَلف فانه لَا يجوز أَن يحملهُ على عُمُومه وَلَا يحكم بِثُبُوت التَّعَبُّد بفائدته إِلَّا بعد أَن ينظر فِيمَا يَخُصُّهُ أَو ينسخه فانه يجوز أَن يكون فِي الْأَدِلَّة مَا ينسخه ويخصه فاذا فحص وَوجد فِي ذَلِك مَا ينسخه أَو يَخُصُّهُ قضى بِمَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيل وَإِن لم يصب ذَلِك لم يخل ظَاهر الْخطاب إِمَّا أَن يتَنَاوَل ذَلِك الْمُكَلف أَو لَا يتَنَاوَلهُ فان تنَاوله قضى بشمول الْخطاب لَهُ وَقضى بِلُزُوم تِلْكَ الْأَفْعَال لَهُ لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يسمعهُ الله عز وَجل خطابا عَاما لأفعال وَيُرِيد مِنْهُم فهم مُرَاده وَلَا يُمكنهُ من الْعلم بمراده وَينصب دلَالَة يتَمَكَّن من الظفر بهَا فاذا فحص وَلم يصب الدّلَالَة قطع على أَن الله لم يرد الْخُصُوص وَإِن كَانَ ظَاهر الْخطاب لَا يتَنَاوَل ذَلِك الْمُكَلف لم يخل السّنَن إِمَّا أَن تكون انتشرت انتشارا لَا يخفي مَعَه مَا فِيهَا على من طلبَهَا من الْعلمَاء أَو

لم تَنْتَشِر فان كَانَت قد انتشرت كعصرنا هَذَا فَالْوَاجِب أَن يقْضِي بِعُمُوم الْخطاب وَثُبُوت حكمه لِأَن السّنَن قد ظَهرت ظهورا لَا تخفي مَعَه على من التمسها وَإِن لم تكن السّنَن قد انتشرت فانه لَا يجوز أَن يقْضى بِعُمُوم الْخطاب لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن أَن يكون فِي الشَّرْع مَا يَخُصُّهُ لكنه لَا يجب فِي الْحِكْمَة ان يُمكن مِنْهُ وَلَا اتّفق بانتشار الشَّرِيعَة أَن يتَمَكَّن مِنْهُ وَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَنه إِذا لم يجز لَهُ الْقطع على بَقَاء حكمه وَلَا عُمُومه لم يجز أَن يَجعله اصلا يقيس عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَثِق بِثُبُوتِهِ وَهَذَا لَا يتم لِأَن من كَانَ من أهل الِاجْتِهَاد ففرضه فهم الْخطاب لأجل غَيره إِمَّا فرضا معينا أَو على طَرِيق الْكِفَايَة فَيجب إِذا أمكن من فهم الْخطاب فاذا لم يجد دَلِيلا نَاسِخا أَو مُخَصّصا وَجب أَن يقْضِي بِظَاهِرِهِ ويقيس عَلَيْهِ وَالْوَاجِب أَن يُقَال إِن من كَانَ أهل الِاجْتِهَاد إِذا لم يجد مَا يعدل بالحكم عَن ظَاهره فَالْوَاجِب أَن يحمل على ظَاهره فِي تِلْكَ الْحَال لِأَنَّهُ قد كلف الِاسْتِدْلَال بِهِ إِمَّا ليفتي غَيره أَو ليفتي نَفسه ويفتي غَيره وَلَا يجوز أَن لَا يَجْعَل لَهُ طَرِيقا إِلَى مَا كلف سَوَاء انتشرت السّنَن أَو لم تَنْتَشِر إِلَّا أَنه إِن لم تَنْتَشِر السّنَن قطع الْمُكَلف أَن فَرْضه فِي الْحَال وَفرض من يستفتيه الْعَمَل بِظَاهِر ذَلِك الْخطاب وَجوز أَن يكون فِي السّنَن مَا يعدل بِالْخِطَابِ عَن ظَاهره إِذا بلغه تِلْكَ السّنة يُغير فَرْضه وَلِهَذَا يجب أَن يكون من عاصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّن غَابَ عَنهُ يجوز أَن يكون مَا يلْزمه من الْعِبَادَات قد نسخه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن لم يبلغهُ النّسخ بعد وَأَنه إِذا بلغه النّسخ بِغَيْر فَرْضه وَيعْتَبر فرض قِيَاسه عَلَيْهِ فَأَما من لم يكن من أهل الِاجْتِهَاد فَلَا يجوز أَن يقْضِي بِظَاهِر الْخطاب إِذا سَمعه فِي كل هَذِه الْأَحْوَال لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن أَن يكون فِي الْأَدِلَّة مَا يعدل بِالْخِطَابِ عَن ظَاهره وَلَا يجب فِي الْحِكْمَة أَن يبلغهُ وَلَا بُد مَعَ انتشار السّنَن أَن يبلغهُ

الكلام في المفتي والمستفتي

الْكَلَام فِي الْمُفْتِي والمستفتي اعْلَم أَن الْكَلَام فِي ذَلِك إِمَّا أَن يرجع إِلَى الْمُفْتِي أَو إِلَى المستفتي أَو إِلَى المستفتي فِيهِ أما الرَّاجِع إِلَيّ الْمُفْتِي ففصلان أَحدهمَا ان نذْكر الصّفة الَّتِي مَعهَا يجوز للمفتي أَن يُفْتِي وَالْآخر أَن نذْكر كَيْفيَّة فَتْوَى الْمُفْتِي أما الرَّاجِع إِلَى المستفتي ففصول مِنْهَا من الَّذِي يجوز لَهُ أَن أَن يستفتي وَمِنْهَا شَرط استفتائه وَمِنْهَا مَا يَنْبَغِي أَن يَفْعَله إِذا أفتاه الْمُفْتِي وَأما الرَّاجِع إِلَى مَا يستفتى فِيهِ فَهُوَ الَّذِي يجوز لَهُ أَن يَقع الاستفتاء فِيهِ هَل هُوَ الْفُرُوع فَقَط أم الْفُرُوع والاصول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الصّفة الَّتِي مَعهَا يجوز للْإنْسَان ان يُفْتِي نَفسه ويفتي غَيره وَيحكم عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن هَذِه الصّفة هِيَ أَن يكون الانسان من أهل الِاجْتِهَاد وَإِنَّمَا يكون من أَهله إِذا عرف الْأَدِلَّة السمعية وَأمكنهُ الِاسْتِدْلَال بهَا وَالدّلَالَة السمعية ظَاهر واستنباط وَالظَّاهِر مِنْهُ خطاب وَمِنْه أَفعَال وَهِي أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والاستنباط ضَرْبَان قِيَاس واستدلال وَالِاسْتِدْلَال بِالْقِيَاسِ يفْتَقر إِلَى الِاسْتِدْلَال بالظواهر فاذا ذكرنَا الِاسْتِدْلَال بِالْقِيَاسِ دخل فِيهِ الِاسْتِدْلَال بالظواهر وَنحن نبتدىء بِذكر ذَلِك فَنَقُول يجب أَن يكون الْمُسْتَدلّ بِالْقِيَاسِ غير عَارِف بِحكم الْفُرُوع وَيكون عَارِفًا بِالْأَصْلِ وبحكمه وظانا بعلته وعالما بثبوتها فِي الْفَرْع أَو ظَانّا لذَلِك عَالما بِأَنَّهُ قد تعبد بِالْقِيَاسِ عَارِفًا بِشُرُوط الْقيَاس وَإِنَّمَا وَجب اشْتِرَاط جَمِيع ذَلِك لِأَن الْقيَاس هُوَ إثات حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لاجتماعهما فِي عِلّة الحكم فَيجب أَن

يكون الْمُسْتَدلّ غير عَالم بِحكم الْفَرْع ليَصِح أَن يَطْلُبهُ بقياسه وَيجب أَن يكون عَارِفًا بِالْأَصْلِ ليَصِح أَن يعرف حكمه وَعلة حكمه وَيعرف أَن يظنّ أَنَّهَا مَوْجُودَة فِي الْفَرْع وَأَنه قد تعبد بتعليق الحكم بهَا فِي الْفَرْع ليجوز لَهُ أَن يعدى الحكم من الأَصْل إِلَى الْفَرْع لأجل وجود الْعلَّة فِي الْفَرْع وَيجب أَن يعرف الْفَرْع بِعَيْنِه ليَصِح أَن يعرف ثُبُوت الْعلَّة وَحكمهَا فِيهِ وَيجب أَن يعرف شُرُوط الْقيَاس ليستعمل من الْقيَاس مَا اخْتصَّ بِتِلْكَ الشُّرُوط ويتوقى مَا لم يخْتَص بهَا وَقد علمنَا أَن الْمُسْتَدلّ إِنَّمَا يعلم حكم الأَصْل اسْتِدْلَالا بخطاب الله تَعَالَى وبخطاب نبيه وافعاله وَمَا علم من قَصده وخطاب الْأمة وَإِنَّمَا يَصح أَن يسْتَدلّ بِالْخِطَابِ إِذا علم أَن الْمُتَكَلّم بِهِ يجب إِذا تكلم بِكَلَام وَقد وضع لإِفَادَة شَيْء فقد علم أَن ذَلِك الشَّيْء على مَا أَفَادَهُ الْخطاب وَإِذا اقترنت بِهِ قرينَة فقد علم أَن ذَلِك الشَّيْء على مَا يدل عَلَيْهِ الْخطاب مَعَ الْقَرِينَة وَهَذِه الْجُمْلَة تَقْتَضِي أَن يعلم الْمُسْتَدلّ مَا وضع لَهُ الْخطاب فِي اللُّغَة وَفِي الْعرف وَفِي الشَّرْع ليحمله عَلَيْهِ وَيعرف مجازه فيعدل بالقرائن إِلَيْهِ وَيعرف من حَال الْمُتَكَلّم مَا يَثِق بِهِ من حُصُول مَدْلُول خطابه وَيعرف الْقَرَائِن وَهِي ضَرْبَان عقلية وشرعية والشرعية هِيَ بَيَان نسخ أَو بَيَان تَخْصِيص أَو غَيرهمَا من وُجُوه الْمجَاز وَأما الْقَرَائِن الْعَقْلِيَّة فَهِيَ الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة إِذا دلّت على خلاف ظَاهر الْكَلَام وَأما حَال الْمُتَكَلّم فَهِيَ حكمته وَالْحكمَة إِمَّا أَن تثبت لِأَن الْحَكِيم عَالم غَنِي وَإِمَّا لِأَنَّهُ مَعْصُوم من الْخَطَأ كالنبي وَالْأمة وَيجب أَن نَعْرِف حكمه الْمُتَكَلّم ليَصِح أَن نعلم مَا يجوز أَن يَقُوله ويريده وَمَا لَا يجوز أَن يُريدهُ ويقوله وَلَا يَصح الْمعرفَة بحكمة الله إِلَّا مَعَ الْمعرفَة بِذَاتِهِ وَصِفَاته وَلَا يَصح الْمعرفَة بحكمة النَّبِي إِلَّا مَعَ الْمعرفَة بِكَوْنِهِ نَبيا وَإِنَّمَا يعلم عصمَة الْأمة إِذا عرف أَن الله وَرَسُوله قد شهد بعصمتها والقرائن الناسخة والمخصصة يفْتَقر الْعلم بهَا إِلَى الْعلم بجملة النَّاسِخ والمنسوخ وَالْخَاص وَالْعَام وشروط ذَلِك وَأما الْأَفْعَال فان الِاسْتِدْلَال بهَا يفْتَقر إِلَى الْعلم بِأَنَّهَا حجَّة وَإِلَى الْعلم بِالْوَجْهِ الَّذِي وَقع الْفِعْل عَلَيْهِ وَالْخطاب الْمَنْقُول إِمَّا مَنْقُول بالتواتر وَلَا حَاجَة عَن عَدَالَة الروَاة وضبطهم وَإِمَّا ظن

الْمُسْتَدلّ لعِلَّة حكم الأَصْل فانه لَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ إِلَّا اسْتِدْلَالا بالأمارات وَيجب أَن يعلم أَن الْغَرَض أَن يَظُنهَا عِلّة لِأَن يعلمهَا حَتَّى يطْلب الْعلم وَلَا يُدْرِكهُ وَأما الِاسْتِدْلَال الَّذِي لَيْسَ بِقِيَاس فانه إِن كَانَ اسْتِدْلَالا بعلة وأمارة فَلَا بُد من الِاسْتِدْلَال عَلَيْهَا وَإِن كَانَ اسْتِدْلَالا بِشَهَادَة الْأُصُول من غير اعْتِبَار عِلّة وَصَحَّ ذَلِك فانه يفْتَقر فِيهِ إِلَى مثل مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْقيَاس إِلَّا الِاسْتِدْلَال على الْعلَّة فاذا اخْتصَّ الْإِنْسَان بِمَا ذَكرْنَاهُ جَازَ لَهُ أَن يجْتَهد فِي الْمسَائِل فيفتي نَفسه وَغَيره وَيحكم على غَيره وَيجوز أَن يجْتَهد فِي مَسْأَلَة من الْفَرَائِض إِذا كَانَ عَالما بالفرائض وَإِن لم يعلم مَا عداهُ من ابواب الْفِقْه لِأَن الظَّاهِر من أَحْكَام الْفَرَائِض أَنَّهَا لَا تستنبط من غَيرهَا إِلَّا نَادرا والذهاب عَن النَّادِر لَا يقْدَح فِي الِاجْتِهَاد أَلا ترى أَن الْمُجْتَهد قد يخفي عَلَيْهِ من النُّصُوص الْيَسِير وَلَا يقْدَح ذَلِك فِي كَونه من أهل الِاجْتِهَاد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي كَيْفيَّة فَتْوَى الْمُفْتِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه لَا يجوز للمفتي أَن يُفْتِي بالحكاية عَن غَيره بل إِنَّمَا يُفْتِي بِاجْتِهَادِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يسْأَل عَمَّا عِنْده وَلَا يسْأَل عَن قَول غَيره وَإِن سُئِلَ أَن يَحْكِي قَول غَيره جَازَ لَهُ حكايته وَلَو جَازَ أَن يُفْتِي بالحكاية جَازَ للعامي أَن يُفْتِي بِمَا يجده فِي كتب الْفُقَهَاء وَمَتى لم يتَقَدَّم من الْمُفْتِي اجْتِهَاد فِي الْمَسْأَلَة وَجب عَلَيْهِ الِاجْتِهَاد فِيهَا قبل الْفَتْوَى فان تقدم مِنْهُ اجْتِهَاد وَقَول فِي الْمَسْأَلَة وَكَانَ ذَاكِرًا لذَلِك القَوْل وَطَرِيقَة الِاجْتِهَاد لم يجب عَلَيْهِ تَجْدِيد الِاجْتِهَاد لِأَنَّهُ كالمجتهد فِي الْحَال وَإِن لم يذكر طَريقَة الِاجْتِهَاد فَهُوَ فِي حكم من لَا اجْتِهَاد لَهُ فَالْوَاجِب عَلَيْهِ تَجْدِيد الِاجْتِهَاد

وَإِذا لم يجز لَهُ أَن يُفْتِي وَيُؤْخَذ بفتواه فأحرى أَن لَا يجوز أَن يَأْخُذ الْإِنْسَان بفتوى من مَاتَ لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أَنه لَو كَانَ حَيا لَكَانَ ذَاكِرًا لطريقة الِاجْتِهَاد وراضيا بذلك القَوْل وَيُمكن أَن يُقَال إِن الظَّاهِر من ذَلِك القَوْل أَنه قَول ذَلِك الْفَقِيه إِلَى أَن مَاتَ وَمَوته قد أَزَال عَنهُ التَّكْلِيف وَلَا يُمكن أَن يُقَال إِنَّه يلْزمه إِعَادَة اجْتِهَاده فاذا أفتى الْمُجْتَهد بِاجْتِهَادِهِ ثمَّ تغير اجْتِهَاده لم يلْزم تَعْرِيف المستفتي تغير اجْتِهَاده إِذا كَانَ قد عمل بِهِ وَإِن لم يكن قد عمل بِهِ فَيَنْبَغِي أَن يعرفهُ إِن تمكن مِنْهُ لِأَن الْعَاميّ إِنَّمَا يعْمل بِهِ لِأَنَّهُ قَول الْمُفْتِي وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ هُوَ قَوْله فِي تِلْكَ الْحَال وَإِذا أفتاه بقول مجمع عَلَيْهِ لم يخيره فِي الْقبُول مِنْهُ وَإِن كَانَ مُخْتَلفا فِيهِ خَيره بَين أَن يقبل مِنْهُ وَمن غَيره لَا شُبْهَة فِي ذَلِك على قَول من قَالَ كل مُجْتَهد مُصِيب وعَلى قَول من قَالَ إِن الْحق فِي وَاحِد أَيْضا هَكَذَا يَجِيء لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَن يجب عَلَيْهِ الْأَخْذ بقول أحد المفتيين بِغَيْر حجَّة أولى من الآخر فان كَانَ هَذَا التَّخْيِير مَعْلُوما من قصد الْمُفْتِي لم يجب عَلَيْهِ أَن يخيره لفظا بل يذكر قَوْله فَقَط وَلَيْسَ كَذَلِك الحكم لِأَن الْحَاكِم وضع لرفع الْخُصُومَات فَلَو كَانَ الْخصم مُخَيّرا بَين الدُّخُول تَحت حكمه وَترك الدُّخُول لم تَنْقَطِع الْخُصُومَة وَإِذا اعتدل الْقَوْلَانِ عِنْد الْمُفْتِي فقد ذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَن لَهُ أَن يُفْتِي بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَقَالَ أَيْضا لَهُ أَن يُخَيّر المستفتي بَين الْقَوْلَيْنِ وَالْوَجْه أَن يُقَال يَنْبَغِي أَن يُخَيّر المستفتي أَنه إِنَّمَا يفتيه بِمَا يرَاهُ وَالَّذِي يرَاهُ هُوَ التَّخْيِير على قَول من قَالَ بالتخيير فِي الْأَحْكَام وَوجه القَوْل الآخر هُوَ أَنه كَمَا يجوز أَن يعْمل الْمُفْتِي باي الْقَوْلَيْنِ شَاءَ كَذَلِك يجوز لَهُ أَن يُفْتِي بِأَيِّهِمَا شَاءَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي جَوَاز استفتاء الْعَاميّ للْعُلَمَاء فِي فروع الشَّرِيعَة وتقليده إيَّاهُم فِيهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - منع قوم من شُيُوخنَا البغداديين من تَقْلِيد الْعَاميّ للْعَالم فِي فروع الشَّرِيعَة وَقَالُوا لَا يجوز أَن يَأْخُذ بقوله إِلَّا بعد أَن يبين لَهُ حجَّته وَأَجَازَ تَقْلِيده إِيَّاه

فِي ذَلِك أَكثر الْمُتَكَلِّمين وَالْفُقَهَاء وَحكى قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح عَن أبي عَليّ أَنه أَبَاحَ للعامي تَقْلِيد الْعَالم فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد من الْفُرُوع دون مَا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَالصَّحِيح جَوَاز تَقْلِيده فيهمَا وَالدَّلِيل على ذَلِك إِجْمَاع الْأمة قبل حُدُوث الْمُخَالف فان الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ كَانُوا يفتون الْعَامَّة فِي غامض الْفِقْه وَلَا يعرفونهم أدلتهم وَلَا ينبهونهم على ذَلِك ويلزمونهم سُؤَالهمْ إيَّاهُم وَلَا يُنكرُونَ عَلَيْهِم اقتصارهم على مُجَرّد أقاويلهم وَأَيْضًا فَلَيْسَ يَخْلُو الْعَاميّ إِذا حدثت بِهِ حَادِثَة من الْفُرُوع إِمَّا أَن يكون متعبدا فِيهَا بِشَيْء أَو لَا يكون متعبدا فِيهَا بِشَيْء وَالْإِجْمَاع يمْنَع من أَن لَا يكون متعبدا فِيهَا بِشَيْء لِأَن الْأمة مجمعة على أَنه يلْزمه الرُّجُوع إِلَى الْعلمَاء فبعضهم يَقُول يقلدهم والمخالف يَقُول يسألهم عَن الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة ليعْمَل عَلَيْهَا وَلِأَنَّهُ إِذا طلق طَلَاقا مُخْتَلفا فِيهِ فإمَّا أَن يكون مُبَاحا لَهُ الْمقَام على الزَّوْجَة أَو مَحْظُورًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ بَينهمَا وَاسِطَة وَأيهمَا كَانَ فَهُوَ تعبد وَإِن كَانَ متعبدا فاما أَن يكون حكم الْعقل أَو حكم الشَّرْع وَالْإِجْمَاع يمْنَع من الأول لِأَن الْمُخَالف يلْزمه سُؤال الْعَالم عَن الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة ليعلمه إِيَّاهَا وَلِأَن كثيرا من الْعَامَّة لَا يعرف حكم الْعقل فِي كثير من الْمسَائِل وَإِنَّمَا يعلم ذَلِك أهل الِاجْتِهَاد وَإِن لزمَه حكم شَرْعِي فإمَّا أَن يلْزمه الْوُصُول إِلَيْهِ بالتقليد أَو بالاستدلال فان لزمَه بالاستدلال فإمَّا أَن يلْزمه ذَلِك بِأَن يتعلمه عِنْد كَمَال الْعقل ليصير من أهل الِاجْتِهَاد وَإِمَّا أَن يسْأَل الْعَالم عَن أَدِلَّة الْمَسْأَلَة فيجتهد فِيهَا فان لزمَه التَّعْلِيم عِنْد كَمَال الْعقل فالإجماع يمْنَع من وجوب التَّعَلُّم على كل أحد عِنْد كَمَال عقله وَلِأَن انصراف النَّاس إِلَى التَّعَلُّم المفضي إِلَى أَن يكون الْإِنْسَان من أهل الِاجْتِهَاد إهمال لأمر الدُّنْيَا وإفساد حَالهَا وَمَا أحد أوجب على النَّاس إهمال الدُّنْيَا وَأَيْضًا فَمَا الْجَواب الَّذِي يثبت بِهِ الْحَادِثَة فِي حَال تعلمه قبل أَن يَنْتَهِي إِلَى حَال الِاجْتِهَاد وَمَا الْجَواب إِن فرط فَلم يتَعَلَّم ثمَّ نزلت بِهِ حَادِثَة فِي صلَاته وصيامه أَو طَلَاقه وَإِن ابْتَدَأَ فِي الْحَال بالتفقه فَاتَتْهُ الْحَادِثَة وايضا فَلَيْسَ كل من تفقه صَار من أهل الِاجْتِهَاد حَسْبَمَا نجد عَلَيْهِ كثيرا مِمَّن تفقه وَإِن لزمَه أَن يسْأَل الْعَالم عَن الْأَدِلَّة اسْتدلَّ بهَا

فمعلوم أَنه لايمكنه أَن يسْتَدلّ بِالدَّلِيلِ الَّذِي يذكرهُ لَهُ إِلَّا بعد أَن يعرف طرفا من اللُّغَة وَكَيْفِيَّة الِاسْتِدْلَال بِالْخِطَابِ وَأَنه لَيْسَ فِي الْأَدِلَّة مَا يعدل بِهِ عَن ظَاهِرَة من نسخ أَو تَخْصِيص أَو غير ذَلِك فان رَجَعَ إِلَى قَول الْعَالم فِي ذَلِك فقد قَلّدهُ وَإِن فحص عَن الْأَخْبَار وَوجه المقاييس لم يتَمَكَّن من ذَلِك إِلَّا فِي الزَّمَان الطَّوِيل وزمان الْحَادِثَة يضيق عَن ذَلِك وَقد لَا يُمكنهُ إِذا عرف وفحص عَن ذَلِك أَن يجْتَهد فكثير من أَصْحَاب الحَدِيث يعْرفُونَ مَا رُوِيَ من الحَدِيث وَلَيْسوا من أهل الِاجْتِهَاد فاذا أبطلنا هَذِه الْأَقْسَام لم يبْق للعامي طَرِيق إِلَّا التَّقْلِيد وَقد اسْتدلَّ على تَقْلِيد الْعَاميّ الْعَالم بِأَن قيس على رُجُوع الْعَالم إِلَى رِوَايَة الْمخبر الْوَاحِد وَاحْتج من منع من تَقْلِيد الْعَاميّ فِي الْفُرُوع بِأَن الْعَاميّ لَا يَأْمَن أَن يكون من قَلّدهُ لم ينصح فِي الِاجْتِهَاد فَيكون فَاعِلا لمفسدة وَهَذَا منتقض بِرُجُوع الْعَالم إِلَى الْمخبر الْوَاحِد لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن أَن يكون قد كذبه فِي خَبره فَيكون بامتثاله للْخَبَر فَاعِلا للمفسدة فان قَالُوا مصلحَة الْعَالم أَن يعْمل بِخَبَر من ظن صدقه من الْعَامَّة وَإِن كَانَ كَاذِبًا قُلْنَا وَكَذَلِكَ مصلحَة الْعَاميّ أَن يعْمل بِحَسب فَتْوَى الْمُفْتِي وَإِن كَانَ غاشا وقاسوا التَّقْلِيد فِي الْفُرُوع على التَّقْلِيد فِي التَّوْحِيد وَالْعدْل بِغَيْر عِلّة وكل قِيَاس لَا عِلّة فِيهِ فَبَاطِل ويعارضون بِالرُّجُوعِ إِلَى خبر الْوَاحِد وَالْفرق بَينهمَا أَن الْحق فِي التَّوْحِيد وَالْعدْل وَغَيرهمَا يحصل لَا بِحَسب حَال الْإِنْسَان وظنه بل الْحق فِيهِ وَاحِد فاذا قلد فِيهِ الْمُقَلّد لم يَأْمَن أَن يكون من قَلّدهُ لم يصب ذَلِك الْحق وَأما الشرعيات فَالْحق فِيهَا كَونهَا مصلحَة وَفعل الْإِنْسَان قد يكون مصلحَة لَهُ إِذا كَانَ على حَال مَخْصُوصَة فَلَا يمْتَنع أَن يكون مصْلحَته مَعَ أَنه لَيْسَ من أهل الِاجْتِهَاد أَن يعْمل بِحَسب فَتْوَى الْمُفْتِي فَيَأْمَن أَن يكون مقدما على جهل وَخطأ كَمَا أَن مصلحَة الْعَالم أَن يعْمل بِحَسب مَا أخبر بِهِ الْوَاحِد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وايضا فالعامي إِنَّمَا يلْزمه النّظر فِي مسَائِل مَخْصُوصَة فِي الْعدْل

والتوحيد وأدلتها عقلية يحْتَاج الْإِنْسَان إِلَى تَنْبِيه يسير لَا يقطع عمره والحوادث الطارئة فِي الْفُرُوع كَثِيرَة بِغَيْر إحصاء وَالِاجْتِهَاد فِيهَا لَا يتم إِلَّا بِأُمُور شَرْعِيَّة لَا يُمكن ضَبطهَا وَالِاسْتِدْلَال بهَا فِي الزَّمَان الطَّوِيل على مَا قدمْنَاهُ فان قيل قد يجوز أَن يطْرَأ على صَاحب الْجُمْلَة شُبْهَة لَا يُمكنهُ حلهَا إِلَّا بِأَن يكون من المبرزين فِي الْعلم فأوجبوا عَلَيْهِ إِذن أَن يكون من المتناهين فِي الْعلم قيل إِن النّظر على سَبِيل الْجُمْلَة لَا يحدث مَعَه مثل هَذِه الشُّبْهَة إِلَّا نَادرا وَمثل ذَلِك إِذا رَجَعَ فِيهِ إِلَى تَنْبِيه الْعَالم على مَا فِي الْعقل من الْجَواب لم يسْتَغْرق الزَّمَان أما حُدُوث الْفُرُوع بالإنسان فَلَيْسَ بموقوف على أَن يكون من أهل الِاجْتِهَاد وَلَا الِاسْتِدْلَال عَلَيْهَا مَرْكَز فِي الْعُقُول وَالدَّلِيل على أَن للعامي أَن يُقَلّد فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد من الْفُرُوع وَفِيمَا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد من الْفُرُوع هُوَ أَنا لَو ألزمناه تَمْيِيز مسَائِل الِاجْتِهَاد مِمَّا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد لَكنا قد ألزمناه أَن يكون من أهل الِاجْتِهَاد لِأَنَّهُ لَا يُمَيّز ذَلِك إِلَّا أهل الِاجْتِهَاد وَفِي ذَلِك من الْفساد مَا تقدم وَاحْتَجُّوا بِأَن مَا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد الْحق فِي وَاحِد مِنْهُ فَلَا يَأْمَن الْعَاميّ إِذا قَلّدهُ فِيهِ أَن يُقَلّد فِي خلاف الْحق وَلَيْسَ كَذَلِك مسَائِل الِاجْتِهَاد لِأَن الْحق فِيهَا فِي جَمِيع الْأَقَاوِيل فأيها قَدمته فَهُوَ الْحق وَالْجَوَاب إِن تَقْلِيده فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد أَيْضا لَا يَأْمَن مَعَه أَن يُقَلّد من لم ينصحه فِي الِاجْتِهَاد وَأَفْتَاهُ بِخِلَاف مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَاده فان قَالُوا مصلحَة الْعَاميّ أَن يعْمل بِمَا يُفْتِي بِهِ الْمُفْتِي وَإِن غشه قيل ومصلحته أَن يعْمل بِمَا يفتيه بِهِ الْعَالم وَإِن كَانَ الْعَالم غير مُصِيب فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي شَرَائِط الاستفتاء وَمَا يجب على المستفتي إِذا أفتاه أهل الِاجْتِهَاد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما شَرط الاستفتاء فَهُوَ أَن يغلب على ظن المستفتي أَن من يستفتيه من أهل الِاجْتِهَاد بِمَا يرَاهُ من انتصابه للْفَتْوَى بمشهد من أَعْيَان النَّاس وَأخذ النَّاس عَنهُ

وَأَن يَظُنّهُ من أهل الدّين بِمَا يرَاهُ من اجْتِمَاع الْجَمَاعَات على سُؤَاله واستفتائه وَبِمَا يرَاهُ من سمات السّتْر وَالدّين وَلَا شُبْهَة فِي أَنه لَيْسَ للعامي أَن يستفتي من يَظُنّهُ غير عَالم وَلَا متدين بل يجوز لَهُ أَن يستفتي كل من يرى مِمَّن لَا يَظُنّهُ عَالما وَإِنَّمَا أَخذ عَلَيْهِ هَذَا الْقدر من الظَّن لِأَنَّهُ مُمكن لَهُ كَمَا أَن الِاجْتِهَاد فِي الْأَدِلَّة مُمكن للْعَالم فَأَما مَا يجب على الْعَاميّ إِذا أفتاه أهل الِاجْتِهَاد فَهُوَ أَنهم إِن اتَّفقُوا وَجب على المستفتي الْمصير إِلَى الْفَتْوَى الَّتِي اتَّفقُوا عَلَيْهَا وَإِن اخْتلفُوا وَجب عَلَيْهِ الِاجْتِهَاد فِي أعلمهم وأدينهم لِأَن ذَلِك طَرِيق قُوَّة ظَنّه وهم مُمكن لَهُ فَجرى مجْرى قُوَّة ظن الْمُجْتَهد فِي الْمسَائِل وَقد حُكيَ عَن قوم أَنهم أسقطوا عَنهُ الِاجْتِهَاد وَهُوَ ظَاهر لِأَن الْعلمَاء فِي كل عصر لَا يُنكرُونَ على الْعَامَّة ترك النّظر فِي أَحْوَال الْعلمَاء فان اجْتهد فِي أحدهم فَاسْتَوَى عِنْده علمهمْ وَدينهمْ كَانَ مُخَيّرا فِي الْأَخْذ بِأَيّ أقاويلهم شَاءَ فأيها اخْتَارَهُ وَجب عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعضهم بِقبُول قَوْله أولى من بعض وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّه إِذا جَازَ لَهُ أَن يخْتَار الْإِبَاحَة مَتى شَاءَ وَأَنه إِن اخْتَار الْأَخْذ بالحظر كَانَ لَهُ الْعُدُول عَنهُ إِلَى الْإِبَاحَة فقد صَار الْفِعْل مُبَاحا لِأَنَّهُ لَو تَركه مَتى شَاءَ وَلَيْسَ لَهُ وَالْحَال هَذِه أَن يعْتَقد حظره وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة إنَّهُمَا إِذا تَسَاويا لم يكن لَهُ الْأَخْذ بالأخف من الْأَقَاوِيل طلبا مِنْهُ للتَّخْفِيف وَلقَائِل أَن يَقُول لَهُ ذَلِك لِأَن المفتيين إِذا اسْتَويَا صَار الأخف رخصَة وَاحْتج من أوجب الْأَخْذ بأثقل الْقَوْلَيْنِ بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الْحق ثقيل مريء وَالْبَاطِل خَفِيف وبيء وَالْجَوَاب إِن هَذَا الْخَبَر من أَخْبَار الْآحَاد وَلَيْسَ فِيهِ ايضا إِن الْحق أثقل من كل ثقيل وَإِنَّمَا يدل على أَن الْحق ثقيل ولأنا نَحن نقُول بذلك لِأَنَّهُ مُخَالف للشهوة على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا عَنى أَن الْبَاطِل فِي الْغَالِب خَفِيف لِأَن الْعِبَادَات من النَّصَارَى والهند بَاطِلَة

أَكْثَرهَا وَهِي ثَقيلَة جدا فان غلب على ظَنّه أَنَّهُمَا وَإِن كَانَا من أهل الدّين متساويان فِي الْعلم وَأَحَدهمَا أدين فَالْوَاجِب عَلَيْهِ اتِّبَاع الأدين لِأَن الثِّقَة بِهِ اقوى وَإِن تَسَاويا فِي الدّين وتفاضلا فِي الْعلم فَذكر فِي الْعمد أَن قوما جوزوا لَهُ تَقْلِيد الأنقص فِي الْعلم وَهَذَا القَوْل يسْقط عَنهُ الِاجْتِهَاد فِي أعلمهما إِذْ كَانَ لَو تبين لَهُ أعلمهما كَانَ لَهُ الْعُدُول عَنهُ وَقَالَ فِي شَرحه لَيْسَ لَهُ الْأَخْذ إِلَّا بقول الأعلم لِأَن النَّفس إِلَيْهِ أسكن وَجرى التَّفَاضُل فِي الْعلم مجْرى التَّفَاضُل فِي الدّين فَأَما إِن كَانَا عَالمين دينين وَكَانَ أدينهما أنقصهما علما يحْتَمل أَن يُقَال إنَّهُمَا سَوَاء وَالْأولَى أَن يرجح قَول الأعلم لزيادته فِيمَا يعين على الِاجْتِهَاد وَالْوُقُوف على الصَّوَاب وَمثل هَذَا النَّصْر لَا يخفى على الْعَوام لِأَنَّهُ كتدبير الدُّنْيَا فَلم يسْقط عَنْهُم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَنه لَيْسَ للعامي أَن يُقَلّد فِي أصُول الدّين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - منع أَكثر الْمُتَكَلِّمين وَالْفُقَهَاء من التَّقْلِيد فِي التَّوْحِيد وَالْعدْل والنبوات واباح قوم من اصحاب الشَّافِعِي أَن يُقَلّد فِي ذَلِك وَلم يَخْتَلِفُوا فِي انه لَيْسَ لَهُ أَن يُقَلّد فِي أصُول الشَّرِيعَة كوجوب الصَّلَاة وأعداد ركعاتها وَالدّلَالَة على الْمَنْع من ذَلِك هِيَ أَن الْمُكَلف مَأْخُوذ عَلَيْهِ الْعلم بِهَذِهِ الْأُمُور والمقلد لَيْسَ بعالم لِأَنَّهُ يجوز خطأ من يقلده وَلِأَن من أَبَاحَهُ ذَلِك وَأوجب عَلَيْهِ الْمعرفَة بأصول الدّين والشريعة فقد نَاقض لِأَن الْمعرفَة بِوُجُوب الصَّلَاة وَالصِّيَام لَا تصح إِلَّا مَعَ الْمعرفَة بِصدق من جَاءَ بهما فان قلد فِي صدقه فقد قلد فِي وجوب كل مَا أخبر بِوُجُوبِهِ وَإِن جَازَ أَن يعلم صدقه بالتقليد جَازَ أَن يعلم أصُول الشَّرِيعَة بالتقليد

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْمُجْتَهد هَل لَهُ أَن يُقَلّد غَيره من الْمُجْتَهدين كالصحابي وَغَيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ أَبُو عَليّ لَهُ أَن يَأْخُذ بقول الْوَاحِد من الصَّحَابَة وَإِن كَانَ فِي الصَّحَابَة من يُخَالِفهُ فان حصل لقَوْل بَعضهم مزية أَخذ بِهِ وَإِن تساووا كَانَ الْمُجْتَهد مُخَيّرا وَحكى قَاضِي الْقُضَاة أَن الأولى أَن يجْتَهد الْمُجْتَهد وَيعْمل على اجْتِهَاده فان خَالف الصَّحَابِيّ جَازَ وَحكي عَن مُحَمَّد بن الْحسن أَنه جعل الْأُصُول أَرْبَعَة ذكر مِنْهَا إِجْمَاع الصَّحَابَة واختلافها فَجعل الِاخْتِلَاف من الْأُصُول تَقْتَضِي جَوَاز الْأَخْذ بالْقَوْل الْمُخْتَلف فِيهِ وَذكر الشَّافِعِي فِي رسَالَته الْقَدِيمَة جَوَاز تَقْلِيد الصَّحَابَة وَرجح قَول الْأَئِمَّة مِنْهُم وَمنع أَكثر الْفُقَهَاء الْمُجْتَهدين من ذَلِك وَاخْتلفُوا فِي جَوَاز تَقْلِيد الْعَالم من هُوَ أعلم مِنْهُ من الصَّحَابَة وَغَيرهم فجوز ذَلِك مُحَمَّد بن الْحسن وَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ إِحْدَاهمَا جَوَازه وَالْأُخْرَى الْمَنْع مِنْهُ وَأَجَازَ ابْن سُرَيج تَقْلِيد الْعَالم من هُوَ أعلم مِنْهُ إِذا تعذر عَلَيْهِ وَجه الِاجْتِهَاد وَأكْثر الْفُقَهَاء يمْنَعُونَ من تَقْلِيد الْعَالم من هُوَ أعلم مِنْهُ وَقد احْتج للْمَنْع من ذَلِك بأَشْيَاء مِنْهَا أَنه لَو جَازَ لغير الصَّحَابَة من الْمُجْتَهدين تَقْلِيد الصَّحَابَة جَازَ لبَعْضهِم تَقْلِيد بعض وَلَو جَازَ ذَلِك لم يكن لمناظرتهم فِي الْمسَائِل فَائِدَة وَالْجَوَاب إِن من النَّاس من يجوز لغير الصَّحَابَة من الْمُجْتَهدين أَن يُقَلّد بَعضهم بَعْضًا وَيَقُول الْفَائِدَة فِي اجتهادهم فِي الْمَسْأَلَة أَن الِاجْتِهَاد وَالْعَمَل بِحَسبِهِ أولى من التَّقْلِيد وَلَا يمْتَنع أَيْضا أَن يجوز لغَيرهم تقليدهم وَيجب عَلَيْهِم الفحص وَالنَّظَر مَعَ ذَلِك وَمِنْهَا أَن الصَّحَابَة كَانَت تتْرك آراءها لخَبر تسمعه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبأن يجب على غَيرهم الْعَمَل بالْخبر وبترك رَأْي الصَّحَابِيّ أولى وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الصَّحَابَة كَانَت تتْرك آراءها للْخَبَر إِذا كَانَ صَرِيحه بِخِلَاف رأيها وَإِذا تغير اجتهادها بسماعها وَالنَّظَر فِيهِ وَهَكَذَا يلْزم غَيرهَا لِأَنَّهُ لَا يجوز مَعَ أَن رَأْي

الْمُجْتَهدين بِخِلَاف قَول الْوَاحِد من الصَّحَابَة أَن يتْرك اجْتِهَاده وَيصير إِلَى قَول الْوَاحِد وَإِنَّمَا يجوز لَهُ الْأَخْذ بقول الْوَاحِد من الصَّحَابَة مَعَ الْخَبَر إِذا احْتمل الْخَبَر الِاجْتِهَاد وَلم يجْتَهد فِيهِ فَلَا يمْتَنع أَن يصير إِلَى قَول الْوَاحِد من الصَّحَابَة وَيجب على ذَلِك الْوَاحِد أَن يجْتَهد كَمَا نقُوله فِي التَّابِعين مَعَ إِجْمَاع الصَّحَابَة وَمِنْهَا أَن الْمُجْتَهد مُتَمَكن من الِاجْتِهَاد لتكامل الْآيَة فَلم يجز مَعَ تمكنه من الْعَمَل بِاجْتِهَادِهِ أَن يصير إِلَى قَول غَيره كَمَا لم يجز أَن يصير إِلَى قَول غَيره فِي العقليات لما تمكن من النّظر وَالِاسْتِدْلَال عَلَيْهَا وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا لم يجز التَّقْلِيد فِي العقليات لِأَن الْمَطْلُوب مِنْهَا الْعلم وَالْعلم لَا يحصل بالتقليد لتجويزنا خطأ من يقلده وَالْغَرَض بمسائل الِاجْتِهَاد الْعَمَل التَّابِع للظن وَقد يحصل الظَّن بتقليد الْعَالم فَلَا يمْتَنع أَن يرد التَّعَبُّد بِهِ وعَلى أَن إحالتهم ذَلِك إِمَّا أَن يكون بِالسَّمْعِ وَلَيْسَ فِي السّمع مَا يحِيل ذَلِك وَإِن كَانَ فِيهِ مَا يحِيل ذَلِك فَهُوَ الدَّلِيل لَا مَا ذَكرُوهُ الْآن أَو بِالْعقلِ وَمَعْلُوم أَن الْعقل لَا يجوز التَّعَبُّد بذلك لِأَن الْعَمَل بِحَسب الِاجْتِهَاد مصلحَة لغيره من الْمُجْتَهدين كَمَا هُوَ مصلحَة للعامي وكما أَن تَقْلِيد الْمُجْتَهدين مصلحَة لغَيرهم وَمِنْهَا أَن الْمُجْتَهد لَو أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى خلاف قَول من هُوَ أعلم مِنْهُ صَحَابِيّ أَو غَيره لما جَازَ ترك رَأْيه وَالْأَخْذ بِرَأْي الأعلم فَيجب أَن لَا يجوز لَهُ ذَلِك وَإِن لم يجْتَهد لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن لَو اجْتهد أَن يُؤَدِّيه اجْتِهَاده إِلَى خلاف ذَلِك القَوْل وَلقَائِل أَن يَقُول لَا يمتنه أَن تكون مصْلحَته إِذا اجْتهد الْعَمَل على مَا يُؤَدِّيه إِلَيْهِ اجْتِهَاده وَإِن لم يجْتَهد كَانَ الْأَخْذ بِمَا يختاره من أقاويل السّلف مصلحَة أَلا ترى أَنه يجوز وُرُود التَّعَبُّد بذلك وعَلى أَن هَذَا يمْنَع من تَقْلِيد الْعَاميّ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن لَو فعل مَا يتَمَكَّن بِهِ من التفقه ثمَّ اجْتهد أَن يُؤَدِّيه اجْتِهَاده إِلَى خلاف قَول من قَلّدهُ وَمِنْهَا أَن الْمُجْتَهد يتَمَكَّن من الْوُقُوف على الحكم بِاجْتِهَادِهِ فَلم يجز لَهُ الْعُدُول عَن ذَلِك إِلَى مَا هُوَ أنقص مِنْهُ كَمَا لَا يجوز للمتمكن من الْعلم الْعُدُول

عَنهُ إِلَى الظَّن وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الْعقل لَا يمْنَع من أَن تكون مصلحَة المتمكن من الْعلم الْعَمَل على ظَنّه فَالْأَصْل غير مُسلم وَيبْطل مَا ذَكرُوهُ بالعامي إِذا تمكن من التفقه حَتَّى يصير من أهل الِاجْتِهَاد وكل هَذِه الْوُجُوه يحِيل وُرُود التَّعَبُّد بتقليد الْمُجْتَهدين وَقد بَينا أَن الْعقل لَا يحِيل ذَلِك وَالْوَجْه الصَّحِيح فِي الْمَسْأَلَة هُوَ أَن يُقَال إِن اجْتِهَاد الْمُجْتَهد وَعَمله بِحَسب اجْتِهَاده متعبد بِهِ لِأَنَّهُ بذلك يكون مُطيعًا لله تَعَالَى لِأَن الله تَعَالَى مَا نصب الأمارة إِلَّا وَقد أَرَادَ من الْمُجْتَهد أَن يجْتَهد فِيهَا وَلَيْسَ بعض الْمُجْتَهدين بذلك أولى من بعض وَلَيْسَ يجوز إِثْبَات بدل لهَذَا المُرَاد المتعبد بِهِ إِلَّا لدلَالَة عقليه أَو سمعية وَلَا دَلِيل يدل عَلَيْهِ فَوَجَبَ نَفْيه وَهَذَا إِنَّمَا يَصح إِذا أُجِيب عَن شبه الْمُخَالفين وَقد احْتَجُّوا بِوُجُوه مِنْهَا قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَقَوله عَلَيْك بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين بعدِي وَقَوله اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر وَقَوله ضرب الله بِالْحَقِّ على لِسَان عمر وَقَلبه وَقَوله الْحق بعدِي مَعَ عمر وَقَوله اللَّهُمَّ أدر الْحق مَعَ عَليّ حَيْثُ مَا دَار فَالْجَوَاب إِن هَذِه أَخْبَار آحَاد لَا يسْتَدلّ بهَا على الْعلم على أَن قَوْله بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَقَوله عَلَيْكُم بِسنتي وَقَوله اقتدوا باللذين من بعدِي خطاب مُوَاجهَة لمن فِي ذَلِك الْعَصْر مِمَّن لَيْسَ بصحابي أَن يتبع الصَّحَابَة وَمن لم يكن صحابيا فِي ذَلِك الْعَصْر فَلَيْسَ من أهل الِاجْتِهَاد فَجَاز لَهُ أَن يُقَلّد وَقد نبه بذلك على أَن غَيرهم من أهل الْأَعْصَار من الْعَامَّة يجوز أَن يُقَلّد علماءه على أَن قَوْله بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ وَقَوله اقتدوا باللذين لَيْسَ بِعُمُوم فِي وُجُوه الِاقْتِدَاء فَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ الِاقْتِدَاء بهم فِي روايتهم لِأَنَّهُ يُقَال لمن اتبع رِوَايَة غَيره إِنَّه قد اقْتدى بِهِ إِي اقْتدى بروايته وَصدق حَدِيثه على أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْك بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء يُفِيد

وجوب الْأَخْذ بِسنة الْخُلَفَاء وَلَيْسَ أحد يُوجب ذَلِك إِلَّا على الْعَاميّ إِذا لم يجد غَيرهم مِمَّن يفتيه فَعلمنَا أَن لَيْسَ المُرَاد بِهِ الْفَتْوَى وَقَوله الْحق بعدِي مَعَ عمر وَقَوله اللَّهُمَّ أدر الْحق مَعَ عَليّ يدل على أَن قَوْلهمَا حق وصواب والقائلون بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب لَا يأبون ذَلِك وَكثير مِنْهُم يمْنَع الْعَالم من تقليدهما وَمِنْهَا أَن بعض الصَّحَابَة كَانَ يرجع إِلَى قَول بعض عِنْد سَمَاعه من غير أَن يسْأَله عَن دَلِيله نَحْو مَا رُوِيَ أَن عمر رَجَعَ إِلَى قَول عَليّ ومعاذ وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد من السّلف وَبَايع عبد الرَّحْمَن عُثْمَان على اتِّبَاع سنة ابي بكر وَعمر وَالْجَوَاب أَنه يجوز أَن يكون تنبه عمر على وَجه قَول عَليّ ومعاذ عِنْد سَمَاعه أَو خطر بِهِ وَجه قَوْلهمَا من غير أَن ينبهه قَوْلهمَا على ذَلِك وَقد يفهم الْحَاضِرُونَ ذَلِك فلحسن ظن الصَّحَابَة بعمر صرفُوا أمره إِلَى ذَلِك فَلم ينكروا عَلَيْهِ يبين ذَلِك أَن الْإِنْسَان إِذا تردد بَين رأيين فِي الْحَرْب ثمَّ صمم على أَحدهمَا فَقَالَ لَهُ قَائِل لَيْسَ هَذَا بصواب بل الصَّوَاب كَذَا وَكَذَا فَقَالَ لَهُ صدقت فهم الْحَاضِرُونَ أَنه إِنَّمَا صدقه لِأَنَّهُ إِنَّمَا تنبه على وَجه الرَّأْي إِمَّا من ذَلِك الْكَلَام أَو من غَيره وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا عملت الصَّحَابَة بِخَبَر مَرْوِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الْعَادة تَقْتَضِي أَنهم إِنَّمَا عمِلُوا لأجل الْخَبَر لَا أَنهم تنبهوا على وَجه الِاجْتِهَاد لأَنهم إِنَّمَا يسْأَلُون عَن الْأَخْبَار ليعملوا بهَا وَالْعَادَة فِي الْعلمَاء أَن يسْأَل بَعضهم بَعْضًا لَا ليعْمَل على قَوْله لَكِن ليتنبه على وَجه القَوْل يبين ذَلِك أَن وَكيلا فِي ضَيْعَة إِذا اشتبهت عَلَيْهِ أمورها فَقَالَ أَيّكُم سمع من موكلي فِي هَذَا شَيْئا فَقَالَ قَائِل سَمعه يَقُول كَذَا وَكَذَا فَعمل الْوَكِيل على ذَلِك علم الْحَاضِرُونَ أَنه إِنَّمَا عمل على مَا حُكيَ لَهُ لَا على الِاجْتِهَاد وَلَيْسَ كَذَلِك لَو ترك بِرَأْيهِ وَصوب رَأْي غَيره مَعَ أَنه من أهل الرَّأْي والحزم وَمِنْهَا أَن قَول الْمُجْتَهد صَوَاب وكل صَوَاب جَائِز اتِّبَاعه وَالْجَوَاب إِن الْقَائِلين بِأَن الْحق فِي وَاحِد لَا يسلمُونَ أَن كل مُجْتَهد محق والقائلون بِأَن

كل مُجْتَهد مُصِيب يَقُولُونَ كل قَول كَانَ حَقًا وصوابا من قَائِل فَلَيْسَ يجب أَن يكون حَقًا وصوابا من غَيره أَلا ترى أَنه لَيْسَ بصواب مِمَّن أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى خِلَافه فاذا ثَبت ذَلِك فَمن قَالَ أَنه لَا يجوز للمجتهد أَن يُقَلّد الصَّحَابِيّ فانه لَا يجوز تَخْصِيص عُمُوم الْقُرْآن وَالسّنة بذلك إِذْ لَيْسَ هُوَ حجَّة وَمن أجَاز للمجتهد تَقْلِيده فَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَنه يلْزمه جَوَاز تَخْصِيص الْعُمُوم بِهِ لِأَنَّهُ قد جعله حجَّة وَلَيْسَ يظْهر ذَلِك لِأَن لَهُم أَن يَقُولُوا إِنَّمَا نجوز للمجتهد تَقْلِيد الْوَاحِد من السّلف إِذا لم يظْهر عُمُوم بِخِلَافِهِ فان ظهر ذَلِك لم يجز تَخْصِيصه بقول وَاحِد من السّلف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب القَوْل فِي إِصَابَة الْمُجْتَهدين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنا لما تكلمنا فِي حمل الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة وَفِي كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بهَا واجتهاد الْمُجْتَهدين فِيهَا وَجب أَن نتكلم فِي إصابتهم واجتهادهم وَذَلِكَ يتَضَمَّن أبوابا مِنْهَا ذكر اخْتِلَاف النَّاس فِي أَن كل مُجْتَهد مُصِيب وَمَا الَّذِي كلف الله الْمُجْتَهد وَمِنْهَا هَل دلّ الدَّلِيل على ذَلِك أم لَا وَمِنْهَا الْأَشْبَه وَالْقَوْل فِيهِ وَمِنْهَا الْفرق بَين مسَائِل الِاجْتِهَاد وَمَا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَمِنْهَا أَنه لَا يجوز أَن يكون المجتهدون فِي الْأُصُول على اخْتلَافهمْ مصيبين وَنحن نأتي على هَذِه الْأَبْوَاب على هَذَا التَّرْتِيب بعون الله وَحسن توفيقه إِن شَاءَ الله تَعَالَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي ذكر اخْتِلَاف النَّاس فِي أَن كل مُجْتَهد فِي الْفُرُوع مُصِيب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَقَالَ أَبُو الْهُذيْل وابو عَليّ وابو هَاشم إِن كل مُجْتَهد فِي الْفُرُوع مُصِيب فِي اجْتِهَاده وَفِي حكمه الَّذِي اداه إِلَيْهِ اجْتِهَاده وَقد

حُكيَ ذَلِك عَن أبي حنيفَة وَحَكَاهُ عَن الشَّافِعِي بعض أَصْحَابه وَهُوَ ظَاهر قَوْله فِي بعض الْمَوَاضِع لِأَنَّهُ قَالَ إِن كل مُجْتَهد قد أدّى مَا كلف وَقَالَ الْأَصَم وَابْن عَلَيْهِ وَبشر المريسي إِن المحق من الْمُجْتَهدين وَاحِد وَمن عداهُ مخطىءفي اجْتِهَاده وَفِيمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَاده وَقَالُوا إِن على الْحق دَلِيلا يعلم بِهِ الْمُسْتَدلّ أَنه قد وصل إِلَى الْحق وَيجب نقض الحكم بِمَا خَالف الْحق وَقَالَ غَيرهم مِمَّن قَالَ بِهَذِهِ الْمقَالة على الْحق دَلِيل وَإِن الْمُجْتَهد يعْتَقد أَنه قد أَصَابَهُ فِي الظَّاهِر دون الْبَاطِن وَقد حكى بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي ذَلِك عَن الشَّافِعِي وَحكى بَعضهم عَن أبي حنيفَة أَيْضا أَنه قَالَ الْحق فِي الْوَاحِد وَمن النَّاس من قَالَ إِن مَا عدا المحق من الْمُجْتَهدين مُصِيب فِي اجْتِهَاده مخطىء فِي الحكم وهم الْقَائِلُونَ بالأشبه لأَنهم جعلُوا أشبه عِنْد الله قَالُوا وَهُوَ مَطْلُوب الْمُجْتَهد قَالُوا وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَو نَص الله على الحكم لنَصّ عَلَيْهِ وَلَا شُبْهَة فِي أَن ذَلِك الْأَشْبَه هُوَ وَاحِد مَا عداهُ خطأ وَقَالُوا مَا كلف الْإِنْسَان أَصَابَهُ الْأَشْبَه وَحكي عَن مُحَمَّد القَوْل بالأشبه وَحَكَاهُ سُفْيَان بن سحبان عَن ابي حنيفَة وَحكى قوم عَنهُ أَن الْمُجْتَهد مخطىء خطأ مَوْضُوعا عَنهُ وَقد حُكيَ القَوْل بالأشبه عَن ابي عَليّ لِأَنَّهُ قَالَ لَا يمْتَنع أَن يكون الْفَرْع بِبَعْض الْأُصُول اشبه عَنهُ الله ويمر فِي كَلَامه مثل قَول ابي هَاشم وَعَن الشَّافِعِي أَن فِي كل مَسْأَلَة ظَاهرا وإحاطة وكلف الْمُجْتَهد الظَّاهِر وَلم يُكَلف الْإِحَاطَة وَعنهُ إِن فِي كل حَادِثَة مَطْلُوبا معينا وَلم يُكَلف الْمَرْء إِصَابَته وَلم يخْتَلف الْقَائِلُونَ بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب مِمَّن قَالَ بالأشبه أَنه مَا كلف الْمَرْء إِصَابَة الْأَشْبَه وَإِنَّمَا كلف الِاجْتِهَاد وَالْعَمَل عَلَيْهِ وَلم يقل أحد أَن الْمُجْتَهد مخطىء فِي اجْتِهَاده مُصِيب فِي الحكم لِأَن من أَخطَأ فِي الِاجْتِهَاد وَقصر فِيهِ لَو قَالَ بِالْحَقِّ اتِّفَاقًا من غير طَريقَة كَانَ قَوْله خطأ لِأَنَّهُ كمن قَالَ تنحيتا من غير نظر أصلا

فَصَارَ محصول هَذَا الِاخْتِلَاف هُوَ أَن من النَّاس من قَالَ كل اجْتِهَاد الْمُجْتَهدين صَوَاب وَمِنْهُم من قَالَ إِن الصَّوَاب مِنْهُ وَاحِد وَمَا عداهُ خطأ وَاخْتلف من قَالَ كل وَاحِد صَوَاب فَمنهمْ من قَالَ احكام تِلْكَ الاجتهادات كلهَا صَوَاب أَيْضا وَمِنْهُم من قَالَ إِن الْوَاحِد مِنْهُ صَوَاب وَهُوَ الْأَشْبَه وَالْبَاقِي خطأ وَاخْتلف من قَالَ إِن الْوَاحِد مِنْهَا صَوَاب هَل على ذَلِك الْحق دَلِيل أم لَا فَقَالَ قوم عَلَيْهِ دَلِيل يعلم أَنه وصل إِلَيْهِ فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن وَقَالَ قوم عَلَيْهِ دَلِيل يعلم أَنه موصل إِلَيْهِ فِي الظَّاهِر دون الْبَاطِن وَلَك أَيْضا أَن تَقول اخْتلف النَّاس فِي أَحْكَام الْمُجْتَهدين فِي الْفُرُوع فَقَالَ قوم جَمِيع مَا حكم بِهِ على اختلافه صَوَاب وَقَالَ آخَرُونَ الْوَاحِد مِمَّا يحكم بِهِ صَوَاب دون مَا عداهُ وَلم يخْتَلف من قَالَ كل أحكامهم صَوَاب فِي أَن اجتهادهم كُله صَوَاب وَاخْتلف من قَالَ إِن الْوَاحِد من أحكامهم صَوَاب فِي أَن اجتهادهم كُله صَوَاب وَاخْتلف من قَالَ إِن الْوَاحِد من أحكامهم صَوَاب وَالْبَاقِي خطأ هَل اجتهادهم كُله صَوَاب أَو الْوَاحِد مِنْهُ صَوَاب فَقَط فَهَذِهِ جملَة اخْتِلَاف النَّاس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَاعْلَم أَنه يَنْبَغِي أَن يعلم مَا الَّذِي كلف الْمُجْتَهد حَتَّى يَصح أَن ينظر هَل جَمِيع الْمُجْتَهدين قد أَصَابُوا أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا كلف الْمُجْتَهد فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن النَّاس اخْتلفُوا فِي ذَلِك فَقَالَت طَائِفَة كلف الْمُجْتَهد فِي الْفُرُوع إِصَابَة دَلِيل قَاطع وَأَن يعْمل بِحَسبِهِ وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّمَا كلف الْعَمَل بِحَسب الأمارة لَا بِحَسب الدّلَالَة وَلَيْسَ على أَعْيَان الْفُرُوع أَدِلَّة وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فَقَالَ بَعضهم كل اقاويل الْمُجْتَهدين فِي الْفُرُوع صَوَاب وَقَالَ آخَرُونَ لَيْسَ كل اقاويلهم صَوَابا وَاخْتلف من قَالَ كل أقاويلهم صَوَاب فَقَالَ بَعضهم فِي

الْمَسْأَلَة أشبه مَطْلُوب وَهُوَ حكم لَو نَص الله تَعَالَى فِي الْمَسْأَلَة لنَصّ عَلَيْهِ وَنفى الْبَاقُونَ هَذَا الْأَشْبَه وَقَالُوا لَيْسَ مَطْلُوب الْمُجْتَهد إِلَّا الظَّن للأمارة ليعْمَل على حسب ظَنّه وَنحن نبين أَنه يلْزم الْمُجْتَهد أَن يجْتَهد لظن أقوى الأمارات أَو لظن تعَارض الأمارات إِن جَازَ أَن تتعارض ثمَّ نبين أَنه إِذا ظن قُوَّة إِحْدَى الأمارات لَا يجوز لَهُ فِي تِلْكَ الْحَال أَن يعْمل على أَضْعَف الأمارات فِي نَفسه فالدلالة على أَنه يلْزمه الِاجْتِهَاد ليظن الأمارة الْأَقْوَى أَو يظنّ تعَارض الأمارات هِيَ أَن الْمُجْتَهد طَالب فإمَّا أَن يطْلب بِاجْتِهَادِهِ الظفر بِدَلِيل أَو أَمارَة فَلَيْسَ يجوز أَن يكون طلبه الظفر بِدَلِيل لِأَن من يَقُول على الْفُرُوع أَدِلَّة لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَعْنِي بذلك أَن أَعْيَان الْفُرُوع تتناولها أَدِلَّة وَإِمَّا أَن يَعْنِي بِهِ أَن الأمارات وَإِن تناولت الْفُرُوع فالأدلة دَالَّة على وجوب الْعَمَل على تِلْكَ الأمارات فان عَنى الثَّانِي فَهُوَ قَوْلنَا وَإِن عَنى الأول فَهُوَ فَاسد لِأَن أَكثر الْفُرُوع لَيْسَ عَلَيْهَا نُصُوص قُرْآن وَلَا أَخْبَار متواترة وَلَا إِجْمَاع وَإِنَّمَا تتناولها أَخْبَار آحَاد ومقاييس مظنونة الْعِلَل وَكثير من الْفُرُوع وَإِن تناولتها الايات فانه لما كَانَت تِلْكَ الْآيَات تعارضها أَخْبَار آحَاد ومقاييس تخصصها صَارَت تِلْكَ الْفُرُوع من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَصَارَ طريقها الظَّن فصح أَنه لَيْسَ يطْلب الْمُجْتَهد فِي الْفُرُوع الظفر بالأدلة وَلَيْسَ بعد ذَلِك إِلَّا أَنه يطْلب الظفر بالأمارة وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يجب عَلَيْهِ أَن يجْتَهد ويبذل مجهوده ليغلب على ظَنّه الأمارة الْأَقْوَى أَو لَا يجب عَلَيْهِ ذَلِك بل يجوز لَهُ أَن يقْتَصر على أول خاطر وَقد أجمع أهل الِاجْتِهَاد أَنه لَيْسَ لَهُ ذَلِك بل يَنْبَغِي أَن يستفرغ جهده ليغلب على ظَنّه أَن الأمارة أقوى من غَيرهَا أَو أَن الأمارات متعارضة إِن جَازَ ذَلِك وَأَجْمعُوا على أَنه لَا يجوز إِذا غلب على ظَنّه أَن الأمارة أقوى من غَيرهَا أَن لَا يعْمل عَلَيْهَا وَأَن يعْمل على الأمارات الأضعف فِي ظَنّه وَلِأَن أَضْعَف الأمارتين تجْرِي مَعَ أقواهما مجْرى الأمارة مَعَ الدّلَالَة وَإِن غلب على ظَنّه تعَارض الأمارات وَجَاز ذَلِك كَانَ مُخَيّرا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَن يحكم باحداهما أولى من الْأُخْرَى

فان قيل فَمَا معنى قَوْلكُم إِن الأمارة اقوى من غَيرهَا وأشبه بِأَن يعلق الحكم عَلَيْهَا قيل قَوْلنَا أشبه قد يُرَاد بِهِ كَثْرَة الشّبَه وَيُرَاد بِهِ معنى الأولى مِثَال الأول قَوْلنَا زيد أشبه بِعَمْرو مِنْهُ بِخَالِد وَمِثَال الثَّانِي قَوْلنَا هَذَا الحكم أشبه ان يكون مرَادا لله تَعَالَى أَي هُوَ الأولى والأقوى ومثاله فِي الأمارات قَوْلنَا هَذِه الْعلَّة اشبه أَن يعلق بهَا الحكم وَأَن تكون عِلّة الحكم أَي كَونهَا عِلّة أولى من كَون غَيرهَا عِلّة لقوتها فِي نَفسهَا فان قيل لم قُلْتُمْ فِي الأمارات مَا هُوَ أشبه بِأَن يتَعَلَّق بِهِ الحكم من غَيره قيل لَهُم لِأَن فِي الْعِلَل مَا يخْتَص بِنَوْع من التَّرْجِيح لَا يخْتَص بِهِ غَيره من الْعِلَل وَمَا يتَرَجَّح على غَيره فانه يكون أولى وأشبه بِأَن يكون عِلّة الحكم فان قيل كَون الْعلَّة أشبه يرجع إِلَى ظننا أَنَّهَا أولى بِأَن يتَعَلَّق الحكم بهَا أَو إِلَى قُوَّة الأمارة الدَّالَّة على أَن الحكم يتَعَلَّق بهَا قيل إِن أُرِيد أَن الْمُجْتَهد يظنّ أَن الأمارة فِي نَفسهَا أقوى فَكَذَلِك نقُول وَإِن أُرِيد أَن كَون الأمارة أولى هُوَ ظننا فَذَلِك بَاطِل لِأَن كَونهَا أولى رَاجع إِلَيْهَا وَهُوَ مظنون الظَّن ومدلول الأمارة أَلا ترى أَنهم يَقُولُونَ ظننا الْعلَّة أولى والأمارة دلّت على أَن الْعلَّة أولى وَلَا يجوز أَن يكون مظنون الظَّن هُوَ الظَّن وَلَا مَدْلُول الأمارة هُوَ الأمارة وَأَيْضًا فان الظَّن لكَون الْوَصْف عِلّة إِنَّمَا يقوى لقُوَّة أمارته وَقد أقرّ السَّائِل أَن الأمارة الدَّالَّة على صِحَة الْعلَّة تكون أقوى والأمارة إِذا كَانَت أقوى اقْتَضَت كَون مدلولها أقوى وَأولى بالثبوت فَإِن قَالُوا قُوَّة الأمارة للأمارة الاخرى ترجع إِلَى قُوَّة أَمارَة أُخْرَى يُقَال لَهُم لَو دلّت على هَذِه الأمارة أَمارَة أُخْرَى أدّى ذَلِك إِلَى أَمَارَات لَا نِهَايَة لَهَا وَأَيْضًا فان الأمارة الدَّالَّة على صِحَة الْعلَّة رَاجع إِلَيْهَا نَحْو وجود الحكم عِنْد وجودهَا وارتفاعه عِنْد ارتفاعها وَنَحْو كَون الْوَصْف مؤثرا فِي جنس ذَلِك الحكم فِي الاصول كالبلوغ الْمُؤثر فِي رفع الْحجر عَن المَال وَجَمِيع مَا يرجح بِهِ الْعلَّة يرجع إِلَيْهَا وَيتَعَلَّق بهَا من نَحْو كَونهَا مستنبطة من أصل مَعْلُوم الحكم أَو كَونهَا ثَابِتَة بتنبيه

النَّص إِلَى غير ذَلِك وَكَذَلِكَ تَرْجِيح خبر ثِقَة على خبر ثِقَة بِكَوْنِهِ أضبط وَأعرف بِالْقَصْدِ وَأَشد تدينا وتوقيا تَرْجِيح لَا يرجع إِلَى الظَّن بل يرجع إِلَى الأمارة وَيتَعَلَّق بهَا فان قيل أَلَيْسَ قد تتساوى العلتان فِي وُجُوه التَّرْجِيح فَلَا تفضل إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى قيل إِن صَحَّ ذَلِك كَانَ العَبْد فِيهَا مُخَيّرا وَلم يمْنَع ذَلِك كَون بعض الْعِلَل أوضح وَأقوى من غَيرهَا وَإِذ قد بَينا أَن الْمُجْتَهد قد كلف أَن يظنّ الأمارة الْأَقْوَى وَيعْمل عَلَيْهَا فلننظر هَل يجوز أَن يكون الظَّن الَّذِي كلفه المجتهدون أَكثر من وَاحِد فَيجوز أَن يكون الْحق أَكثر من وَاحِد وكل مُجْتَهد مُصِيب أم لَا يجوز أَن يكون الظَّن الَّذِي كلفوه إِلَّا وَاحِدًا فَيمْتَنع أَن يكون كل مُجْتَهد مصيبا بل يكون الْحق وَاحِدًا فَقَط - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن إِصَابَة الْمُجْتَهدين فِي الْفُرُوع على اخْتلَافهمْ جَائِز غير مُمْتَنع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الْمُجْتَهدين إِذا اخْتلفُوا فِي الْأَحْكَام التابعة للأمارات كَانَ يجوز أَن تدل دلَالَة على أَن جَمِيعهم مصيبون لما كلفوه عِنْد كثير من النَّاس وَمنع آخَرُونَ من جَوَاز ذَلِك وَاسْتدلَّ مانعو ذَلِك بأَشْيَاء مِنْهَا أَنه لَو جَازَ أَن يكون المجتهدون فِي الْفُرُوع مصيبين جَازَ مثله فِي الْمُجْتَهدين فِي الْأُصُول على اخْتلَافهمْ وَهَذَا بَاطِل لأَنهم جمعُوا بَينهمَا بِغَيْر عِلّة وَالْفرق بَينهمَا هُوَ أَن معنى الْإِصَابَة يُمكن فِي الْفُرُوع وَلَا يُمكن فِي الْأُصُول لِأَن اعتقادي النَّفْي وَالْإِثْبَات المتنافيين لَا يكونَانِ علمين بل يكون أَحدهمَا جهل وَذَلِكَ يمْنَع من اجْتِمَاعهمَا فِي الْحسن والتكليف وَأما الْأَفْعَال المتضادة فَيصح أَن يجب على شَخْصَيْنِ أَو على شخص وَاحِد فِي وَقْتَيْنِ أَو على

شرطين فِي وَقت وَاحِد فاذا صَحَّ ذَلِك صَحَّ أَن يكون الاعتقادان لوُجُوبهَا علمين وحسنين داخلين تَحت التَّكْلِيف لِأَن متعلقهما غير متناف وَمِنْهَا قَوْلهم لَو جَازَ أَن يكون كل مُجْتَهد مصيبا لجَاز أَن يكون الْفِعْل الْوَاحِد حَلَالا حَرَامًا وَالْمَرْأَة محللة مُحرمَة بِأَن يُؤَدِّي اجْتِهَاد أَحدهمَا إِلَى هَذَا واجتهاد الآخر إِلَى ذَلِك فَالْجَوَاب أَن الِاجْتِهَاد إِنَّمَا يُؤَدِّي الْمُجْتَهد إِلَى أَن الْفِعْل حرَام عَلَيْهِ لَا على غَيره مِمَّن لم يؤده اجْتِهَاده إِلَى ذَلِك وَلَا اخْتَار تَقْلِيده وَيُؤَدِّي اجْتِهَاد الآخر إِلَى أَن الْفِعْل حَلَال لَهُ دون من لم يؤده اجْتِهَاده إِلَيْهِ وَلَا اخْتَار تَقْلِيده وَلَيْسَ ذَلِك بمتناف وَلَا يتنافى كَون الِاسْتِمْتَاع بِالْمَرْأَةِ حَلَالا لأحد الْمُجْتَهدين وَلمن أَرَادَ تَقْلِيده حَرَامًا على الْمُجْتَهد الآخر وَلمن أَرَادَ تَقْلِيده كَمَا أَن الْمَرْأَة حرَام على من طَلقهَا حَلَال لمن تزَوجهَا فَمَا الْمَانِع من أَن يكون الِاجْتِهَاد يحرم عِنْده الْفِعْل وَيحل كَمَا يحرم وَيحل عِنْد العقد وَالطَّلَاق وَمِنْهَا قَوْلهم إِن القَوْل باصابة الْمُجْتَهدين على اخْتلَافهمْ يُؤَدِّي إِلَى التهارج بِأَن يُؤَدِّي اجْتِهَاد أحدهم إِلَى ضد مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاد الآخر فَلَا يكون الْأَخْذ بِأَحَدِهِمَا أولى من الآخر وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا كَانَ الْحق فِي وَاحِد لِأَن الْأَخْذ بِهِ أولى وَيُمكن الْأَخْذ بِهِ لأجل مَا نَصبه الله من الدَّلِيل عَلَيْهِ فَالْجَوَاب انه لَيْسَ يجب فَسَاد مَا حصل فِيهِ ضرب من التَّعَارُض إِذا أمكن تَأْوِيله على وَجه صَحِيح أَلا ترى أَن الواجدين للميتة مَا لَا يمسك إِلَّا رَمق أَحدهمَا لَيْسَ بِأَن يَأْخُذهُ أَحدهمَا أولى من الآخر وَلَا يكفيهما جَمِيعًا فَيُقَال يمسك كل وَاحِد مِنْهُمَا رَمق نَفسه بِبَعْضِه وَمَعَ هَذَا لم يؤد إِلَى التهارج لِأَنَّهُ يُمكن تَخْرِيجه على وَجه صَحِيح بِأَن يُقَال يكون لمن سبق أَو يَأْكُل كل وَاحِد مِنْهُمَا بعضه فَيمسك بِهِ رمقه وَيبقى بعض الْمدَّة رَجَاء أَن يَأْتِي كل وَاحِد مِنْهُمَا الْفرج فِي تِلْكَ الْمدَّة الْيَسِيرَة فان مَاتَا أَو أَحدهمَا فَالله المعوض لَهما وَكَذَلِكَ المجتهدان إِذا اخْتلفَا يُمكن أَن لَا يتهارجا ثمَّ إِنَّا نقسم الْحَوَادِث النَّازِلَة بالمكلفين لنرى أَنه لَا تهارج فَمَا ذَكرُوهُ فَنَقُول

الْحَوَادِث إِمَّا أَن تنزل بمقلد أَو مُجْتَهد فان نزلت بمقلد فإمَّا أَن تخصه أَو تتَعَلَّق بِغَيْرِهِ فان خصته رَجَعَ فِيهَا إِلَى الْفُقَهَاء فقلدهم فان اخْتلفُوا عَلَيْهِ قلد أعلمهم وأدينهم عِنْده وَإِن تكافئوا عِنْده كَانَ مُخَيّرا وَلَا بُد للمخالف أَن يَقُول بذلك إِذا كَانَ مِمَّن يسوغ للعامي التَّقْلِيد وَإِن تعلّقت الْحَادِثَة بِهِ وَبِغَيْرِهِ نَحْو أَن تكون مخاصمة فِي مَال جَازَ أَن يصطلحا فِيهِ فان لم يصطلحا أَو كَانَت الْمُنَازعَة فِي غير مَال فصل القَاضِي بَينهمَا إِن كَانَ أَو رَضِيا بِمن يقْضِي بَينهمَا وَلَا بُد لخصمنا من أَن يُجيب بذلك ايضا وَإِن كَانَت الْحَادِثَة نازلة بمجتهد فإمَّا أَن تخصه وَإِمَّا أَن تتَعَلَّق بِغَيْرِهِ فان خصته عمل على اجْتِهَاده وَإِن تكافأ عِنْده الاجتهادان كَانَ مُخَيّرا عِنْد الشَّيْخَيْنِ وَعند أبي الْحسن يُرَاجع اجْتِهَاده إِلَى أَن يتَرَجَّح عِنْده أَحدهمَا فان تعلّقت الْحَادِثَة بِهِ وَبِغَيْرِهِ بِأَن تكون مُنَازعَة فِي مَال أَو فِي استمتاع كمنازعة الرجل مَعَ زَوجته فِي استباحتها وهما من أهل الِاجْتِهَاد فانهما إِن لم يصطلحا فِي الْحَال رجعا فِيهِ وَفِيمَا لَا يجوز الصُّلْح فِيهِ إِلَى قَاض إِن كَانَ أَو رَضِيا بِمن يقْضِي بَينهمَا وَسَوَاء كَانَ صَاحب الْحَادِثَة حَاكما أَو غير حَاكم لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يقْضِي لنَفسِهِ على خَصمه لِأَنَّهُ مُتَّهم لخصمه فان اشْتبهَ الحكم على القَاضِي كَانَ مُخَيّرا بَين الْحكمَيْنِ إِذا تكافأت عِنْده الأمارات أَو رَاجع الِاجْتِهَاد أَو نصب من يقْضِي بَين الْخَصْمَيْنِ وَهَذِه الْمَسْأَلَة تلْزم ايضا خصومنا لأَنهم يوجبون الرُّجُوع إِلَى الحكم عِنْد التَّنَازُع سَوَاء قَالُوا بالأمارات أَو بالأدلة لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا قد تشتبهان فان حكم القَاضِي بِالتَّحْرِيمِ أَو بالتحليل على مَا يُؤَدِّيه اجْتِهَاده إِلَى مَا حكم بِهِ كَانَ لَهُ الْأَخْذ بِهِ وَإِن حكم بِتَحْرِيم الزَّوْجَة على الزَّوْج وَهُوَ يرى إباحتها أَو بِالْإِبَاحَةِ وَهُوَ يرى تَحْرِيمهَا فقد قيل يجب عَلَيْهِ الْمصير إِلَى ذَلِك وَتصير الزَّوْجَة مُبَاحَة لَهُ إِذا حكم الْحَاكِم بإباحتها وَإِن كَانَ قد رأى هُوَ حظرها لِأَن اجْتِهَاده شَرط فِي إباحتها مَا لم يحكم بِخِلَافِهِ عَلَيْهِ حَاكم وَقيل إِذا حكم عَلَيْهِ باباحة الْمَرْأَة حَاكم وَهِي عِنْده حرَام اسْتَأْنف طَلاقهَا وازال الْإِشْكَال وَإِن كَانَ أحد الْخَصْمَيْنِ جدا وَهُوَ يرى الْمُقَاسَمَة وَالْآخر أَخا وَهُوَ يرى أَن المَال

كُله للْجدّ أمكن أَن يصطلحا أَو يحتكما إِلَى من يقْضِي بَينهمَا وَيُمكن إيقاف مَا فِيهِ الِاخْتِلَاف حَتَّى يسْبق اجْتِهَاد أَحدهمَا إِلَيْهِ فان أدّى اجْتِهَاد الْجد إِلَى أَن المَال لَهُ فِي حَال مَا أدّى اجْتِهَاد الْأَخ إِلَى الْمُقَاسَمَة فصل الْحَاكِم بَينهمَا وَلَا تهارج فِي ذَلِك فَأَما الدّلَالَة على أَنه لَا يمْتَنع الْعقل أَن يكون المجتهدون فِي الْفُرُوع على اخْتلَافهمْ مصيبين فَهِيَ أَنا قد بَينا أَن الْمُجْتَهد إِنَّمَا كلف أَن يعْمل بِحَسب ظَنّه للأمارة الْأَقْوَى وَلَيْسَ بممتنع فِي الْعقل أَن يظنّ الْمُجْتَهد قُوَّة بعض الأمارات ويظن غَيره قُوَّة من غَيرهَا من الأمارات فَيلْزم كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن يعْمل بِحَسب مَا ظَنّه وَإِن اخْتلف الفعلان فَيكون كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي فعله لما يَفْعَله مصيبا لما كلف وَلَيْسَ بممتنع فِي الْعقل أَن يكون الْفِعْل وَاجِبا على زيد وضده ونقيضه على غَيره فِي ذَلِك الْوَقْت وَيجوز أَن يجب عَلَيْهِ ضِدّه أَو نَفْيه فِي ذَلِك الْوَقْت على غير ذَلِك الشَّرْط فَيكون الْفِعْل مصلحَة على شَرط وضده ونفيه مصلحَة على شَرط آخر وَقد جَاءَ التَّعَبُّد الْعقلِيّ بذلك والشرعي أَلا ترى أَنه يجب على زيد الْأكل إِذا خَافَ التّلف فِي تَركه وَيجب عَلَيْهِ وعَلى غَيره تَركه إِذا خَافَ التف فِي فعله ومباح للزَّوْج الِاسْتِمْتَاع بِزَوْجَتِهِ ومحرم ذَلِك على غَيره وَعَلِيهِ أَيْضا إِذا طَلقهَا وَتجب على الطَّاهِر الصَّلَاة وَتحرم على الْحَائِض فاذا جَازَ تنَاول التَّكْلِيف للامور المتنافية على هَذِه الْوُجُوه لم يمْتَنع أَن يكون الْفِعْل مصلحَة إِذا أدّى الِاجْتِهَاد إِلَيْهِ ومفسدة إِذا أدّى الِاجْتِهَاد إِلَى غَيره فَيكون التَّكْلِيف تنَاوله وَتَنَاول ضِدّه بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فَمن أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى وجوب الْفِعْل كَانَ مُكَلّفا فعله وَمن أَدَّاهُ إِلَى تَحْرِيمه كَانَ مُكَلّفا تَركه فيكونان بفعلهما مصيبين لما كلفا وَيكون اعْتِقَاد وُجُوبه على من أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى وُجُوبه عَلَيْهِ علما وَالْخَبَر عَن وُجُوبه عَلَيْهِ صدقا وَكَذَلِكَ اعْتِقَاد نفي وُجُوبه وَالْخَبَر عَن نفي وُجُوبه على من أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى نفي وُجُوبه كَمَا أَن اعْتِقَاد الطَّاهِر وجوب الصَّلَاة عَلَيْهَا علم وخبرها عَن ذَلِك صدق وَكَذَلِكَ اعْتِقَاد الْحَائِض نفي

وجوب الصَّلَاة عَلَيْهَا علم وإخبارها عَن ذَلِك صدق وَكَذَلِكَ القَوْل فِي المقلدين إِذا اخْتَار أَحدهمَا تَقْلِيد مُثبت الْوُجُوب وَاخْتَارَ الآخر تَقْلِيد نافي الْوُجُوب فان قيل إِنَّا لَا نمْنَع أَن يجب الضدان على شَخْصَيْنِ وعَلى شخص وَاحِد وعَلى شرطين وَلَكِن لَيْسَ يحصل هَذَانِ الشرطان فِي الِاجْتِهَاد لِأَن الْمُجْتَهد إِنَّمَا يجوز لَهُ الْعَمَل على اجْتِهَاده إِذا استقصى الِاجْتِهَاد فِي الأمارات وَمَتى استقصاها وَكَانَت الأمارات متكافئة فانه يقف على ذَلِك وَيكون فَرْضه التَّخْيِير وَإِن كَانَ فِيهَا مَا هُوَ أقوى من غَيره فانه يقف على ذَلِك وَيلْزمهُ الْعَمَل عَلَيْهِ فَقَط وَلَا يجوز أَن لَا يقف عَلَيْهِ إِلَّا إِذا قصر فِي الِاجْتِهَاد وَمَتى قصر فِيهِ لم يجز لَهُ الْعَمَل عَلَيْهِ وَلَيْسَ يجوز أَن يمْنَع بطء فهم بعض الْمُجْتَهدين من الْوُصُول إِلَى أقوى الأمارات لِأَن الْإِنْسَان لَا يجوز أَن يكون من أهل الِاجْتِهَاد إِلَّا وَهُوَ من ذَوي الْفَهم وَيكون عَارِفًا بِوُجُوه التَّرْجِيح وطرق الِاجْتِهَاد وَإِن جَازَ أَن ينْحَصر فهم غَيره وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يكون ظفره بِالْحَقِّ ابطأ من ظفر غَيره وَلَا يَقْتَضِي امْتنَاع وُصُوله إِلَيْهِ وَلَو جَازَ أَن يُقَال إِن من الْمُجْتَهدين من يمْتَنع عَلَيْهِ مَا ذكرنَا جَازَ أَن يُقَال إِن من المستدلين بالأدلة من يمْتَنع عَلَيْهِ الْوُصُول إِلَى الْحق مَعَ كَونه مُكَلّفا لَهُ غزير الْعلم الْجَواب أَنه لَا يمْتَنع أَن تكون الْمصلحَة لبَعض الْمُكَلّفين الْعَمَل على اقوى الأمارات ومصلحة الآخرين الْعَمَل على الأمارة الَّتِي هِيَ دونهَا فِي الْقُوَّة كَمَا لَا يمْتَنع أَن تكون مصلحَة بَعضهم الْعَمَل على النَّص وَالْعلم ومصلحة الْبَعْض الآخر الْعَمَل على الظَّن والأمارة وَإِذا جَازَ ذَلِك أخطر الله سُبْحَانَهُ مَا بِهِ تقوى الأمارة الَّتِي هِيَ أقوى على قلب من مصْلحَته الْعَمَل على اقوى الأمارات وأخطر الأمارة الأضعف على قلب من مصْلحَته الْعَمَل عَلَيْهَا وَلم يخْطر بِبَالِهِ مَا يُقَوي بِهِ الأمارة الْأُخْرَى بل يشْغلهُ عَن ذَلِك أَو عَن فهمه وَلَا يلْزم مثل ذَلِك فِي الْأَدِلَّة والشبه لِأَن الله تَعَالَى لَو أخطر ببال الْمُكَلف الشُّبْهَة وشغله عَن الْجَواب عَنْهَا كَانَ قد أغراه بِالْجَهْلِ وأباحه لَهُ وَذَلِكَ قَبِيح وَلَيْسَ كَذَلِك الْعَمَل على اضعف

الأمارات وَالظَّن لكَونهَا أقوى الأمارات لِأَن الظَّن لأضعف الأمارات أَنَّهَا أقواها غير قَبِيح لِأَنَّهُ إِنَّمَا يظنّ الْمُجْتَهد ذك بِشَرْط أَن لَا يكون فِي وُجُوه التَّرْجِيح إِلَّا مَا خطر لَهُ كَمَا أَن الظَّن لكَون زيد فِي الدَّار غير قَبِيح وَإِن لم يكن زيد فِيهَا وَإِذ قد بَينا أَنه مَا كَانَ يمْتَنع أَن يكون المجتهدون فِي الْفُرُوع على اخْتلَافهمْ مصيبين فلننظر هَل دلّ الدَّلِيل على أَنهم مصيبون أَو على أَن الْمُصِيب مِنْهُم وَاحِد فَقَط وَإِن دلّ الدَّلِيل على أَنهم مصيبون فَذَلِك لَا يكون إِلَّا بِأَن يكون الله عز وَجل لَا يخْطر ببال بَعضهم الأمارة الْأَقْوَى وَلَا مَا ترجح بِهِ ويتعبده بِمَا يخْطر بِبَالِهِ من الأمارة الضعيفة وَإِن دلّ الدَّلِيل على أَن المحق وَاحِد فَقَط فَذَلِك لَا يكون إِلَّا مَعَ القَوْل بِأَن الأمارة الْأَقْوَى وَمَا ترجح بِهِ لم يذهل عَنْهَا وَعَن النّظر فِيهَا أحد من الْمُجْتَهدين بل جوزها وأضرب المخطئون عَن النّظر فِيهَا مَعَ تجويزهم أَنهم لَو نظرُوا زِيَادَة نظر لظفروا بِمَا يَقْتَضِي غَالب الظَّن بِأَن الأمارة الْأَقْوَى غير مَا عِنْدهم فيكونون بذلك مخطئين فِي ترك النّظر الزَّائِد وَفِي الحكم بِمَا اختاروه من الأمارات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي ذكر مَا يحْتَج بِهِ لِلْقَوْلِ بِأَن الْحق فِي وَاحِد وَمَا يحْتَج بِهِ القَوْل بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما من قَالَ إِن الْحق فِي وَاحِد فَلهُ أَن يَقُول إِن الله عز وَجل إِنَّمَا كلف الظَّن لأقوى الأمارات وَالْعَمَل على ذَلِك فَمَتَى عدل عَن ذَلِك فقد أَخطَأ ويحتج لقَوْله إِن الْحق فِي وَاحِد بأَشْيَاء مِنْهَا قَول الله عز وَجل {وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ يحكمان فِي الْحَرْث إِذْ نفشت فِيهِ غنم الْقَوْم وَكُنَّا لحكمهم شَاهِدين ففهمناها سُلَيْمَان} قَالُوا فَلَو كَانَا

مصيبين لما خص سُلَيْمَان بِأَنَّهُ قد فهمه الحكم إِذْ كَانَ دَاوُد قد فهمه من الصَّوَاب مثل مَا فهم سُلَيْمَان وَلقَائِل أَن يَقُول مَا قَالَ الله عز وَجل أَنه قد فهمه الصَّوَاب فَيحْتَمل أَنه فهمه النَّاسِخ وَلم يفهم ذَلِك دَاوُد لِأَنَّهُ لم يبلغهُ وكل وَاحِد مِنْهُمَا مُصِيب فِيمَا حكم بِهِ على أَن أَكثر مَا فِي الْآيَة أَنَّهَا دَالَّة على أَن دَاوُد وَسليمَان كَانَ مصيبين وَلَيْسَ ذَلِك بِمُوجب كَون الْمُجْتَهدين فِي مَسْأَلَتنَا مصيبين وَمِنْهَا إِجْمَاع السّلف فَروِيَ عَن أبي بكر الصّديق أَنه قَالَ فِي الْكَلَالَة أَقُول فِيهَا برأيي فان يكن صَوَابا فَمن الله وَإِن يكن خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان وَالله وَرَسُوله مِنْهُ بريئان وَقَالَ عبد الله وَإِن يكن خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان وَالله وَرَسُوله مِنْهُ بريئان وَقَالَ عمر بن الْخطاب لكَاتبه اكْتُبْ هَذَا مَا رَآهُ عمر فان يكن صَوَابا فَمن الله وَإِن يكن خطأ فَمن عمر وَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فِي مَسْأَلَتنَا أُفْتِي جمَاعَة من الصَّحَابَة بِحَضْرَة عمر إِن كَانُوا قد اجتهدوا فقد أخطأوا وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أما يَتَّقِي الله زيد يَجْعَل ابْن الابْن ابْنا وَلَا يَجْعَل أَب الْأَب أَبَا وَهَذَا مَحْمُول على الْمُبَالغَة فِي التخطئة وَلَيْسَ يعرف لَهُم مُخَالف فِي السّلف وَلَا يجوز تأويلكم ذَلِك وَحمله على الْمجَاز لغير دلَالَة وَلَيْسَ للمخالف أَن يَقُول إِن الْحق فِي هَذِه الْمسَائِل فِي وَاحِد لِأَن من يَقُول كل مُجْتَهد مُصِيب يَجْعَل هَذِه الْمسَائِل من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَلَيْسَ لَهُم أَن يَقُولُوا إِن الصَّحَابَة جوزت أَن تكون قصرت فِي النّظر وَلم تبالغ فِيهِ وَلِهَذَا جوزوا على الْوَاحِد مِنْهُم أَن يكون مخطئا لِأَن الْمُخَالف يَقُول فِي هَذِه الْمسَائِل إِن الْمُخَالفين فِيهَا مصيبون وَلَا فصل بَينهَا وَبَين غَيرهَا من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَلَا يجوز أَن يُقَال فِي مثل هَذِه الْمَسْأَلَة إِنَّهُم لم ينْظرُوا فِي هَذِه الْمسَائِل وَأَنَّهُمْ حكمُوا فِيهَا بالتنحيت لأَنهم كَانُوا يؤمُّونَ إِلَى أماراتهم وَلِأَنَّهُم كَانُوا يجوزون التخطئة فِي هَذِه الْمسَائِل مَعَ علمهمْ أَنَّهَا متقولة بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَاد فَدلَّ إِطْلَاق ذَلِك على أَن مَا قيل من جِهَة الرَّأْي قد يدْخلهُ الْخَطَأ لأَنهم لم يفصلوا بَين أَن يكون قد قيل بِأول خاطر أَو قيل

بِاجْتِهَاد وَبحث طَوِيل وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِذا اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ اجْرِ فَحكم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على بعض الْمُجْتَهدين بالْخَطَأ فان قيل المُرَاد بِهَذِهِ الْأَخْبَار خطأ الْأَشْبَه قيل لَا معنى للأشبه إِلَّا مَا ذكرنَا فِي الأمارة الْأَقْوَى وَمَا عداهُ سنبطله فان قَالُوا المُرَاد بِهِ أَخطَأ نصا لَو ظفر بِهِ لوَجَبَ عَلَيْهِ نقض حكمه قيل إِن كَانَ الْمُجْتَهد قد استقصى طلب النَّص فَلم يُمكنهُ الظفر فَهُوَ مُصِيب عنْدكُمْ وَعند غَيْركُمْ فِي الحكم وَفِي الِاجْتِهَاد لِأَنَّهُ لَا يلْزمه أَن يحكم بِمَا لم يبلغهُ من النُّصُوص وَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى الْوُصُول إِلَيْهِ وَإِن لم يستقص النّظر فَهُوَ مخطيء فِي الحكم وَفِي الِاجْتِهَاد وَلَا يسْتَحق عنْدكُمْ الْأجر بل يسْتَحق الذَّم وَلَا يُسمى من لم يبلغهُ النَّص وَلم يتَمَكَّن مِنْهُ بِأَنَّهُ مخطيء للنَّص كَمَا لَا يُوصف من لم تبلغه شَرِيعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنَّهُ قد أخطأها فان قَالُوا مَعْنَاهُ أَخطَأ حكما لَو حكم بِهِ كَانَ ثَوَابه أَكثر قيل لَا يجوز أَن يكون عدوله عَمَّا ثَوَابه أَكثر إِلَى مَا ثَوَابه أقل من الشَّيْطَان وَقد أضَاف الصَّحَابَة الْخَطَأ فِي ذَلِك إِلَى الشَّيْطَان وَأَيْضًا فان إِطْلَاق قَوْلنَا أَخطَأ فلَان يَقْتَضِي الْعُدُول عَمَّا كلف وَمَتى لم يرد ذَلِك فانه يسْتَعْمل مُقَيّدا فَيُقَال أَخطَأ كَذَا وَكَذَا فان قَالُوا كَيفَ يسْتَحق الْأجر وَقد أَخطَأ عنْدكُمْ فِي الِاجْتِهَاد وَفِي الحكم قيل إِنَّه مُصِيب فِيمَا فعله من الِاجْتِهَاد مخطىء فِي تَركه الزِّيَادَة على مَا فعله فَهُوَ مأجور على مَا فعله مغْفُور لَهُ تَركه مَا ترك من الِاجْتِهَاد فان قيل قد أغري إِذا بِالتّرْكِ لِأَنَّهُ قد أعلم أَنه لَا مضرَّة عَلَيْهِ قيل إِنَّا نَذْهَب إِلَى أَن كل من علم أَنه لَا مضرَّة عَلَيْهِ فِي الْفِعْل فقد أغري بِهِ أَلا ترى أَن من بشره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْجنَّةِ لَا يخْشَى ضَرَر النَّار فِيمَا يَفْعَله لِأَنَّهُ أعلم أَنه إِمَّا أَن يسْقط عَنهُ الْعقَاب بِالتَّوْبَةِ وَإِمَّا بالمغفرة وَمَعَ ذَلِك لَيْسَ هُوَ مغرى على أَن الْمُجْتَهد لَا يكون مغرى لِأَنَّهُ لَا يعرف الْمرتبَة الَّتِي إِذا انْتهى إِلَيْهَا من النّظر غفر لَهُ

تَركه للنَّظَر فِيمَا بعد وَإِنَّمَا ذَلِك شَيْء يعرفهُ الله تَعَالَى وَحده فَجرى ذَلِك مجْرى صغائرنا الَّتِي لَا يعرفهَا إِلَّا الله وَحده وَلقَائِل أَن يَقُول إِن كل وَاحِد من هَذِه الْأَخْبَار خبر وَاحِد وَلم تبلغ من الْكَثْرَة إِلَى حد تصير مَعَه متواترة فِي الْمَعْنى فَلم يَصح التَّوَصُّل بهَا إِلَى الْعلم وَمِمَّا يُمكن أَن يحْتَج بِهِ فِي الْمَسْأَلَة هُوَ أَن كل مَسْأَلَة من مسَائِل الِاجْتِهَاد إِمَّا أَن تكون فِيهَا أَمارَة هِيَ أقوى من غَيرهَا وَإِمَّا أَن تكون فِيهَا أمارتان متكافئتان فان كَانَ فِيهَا أَمارَة هِيَ أقوى من غَيرهَا فقد كلف الْمُجْتَهد الظَّن لَهَا وَالْحكم بهَا فَمَتَى عدل عَنْهَا فقد أَخطَأ وَإِن كَانَ فِيهَا أمارتان متكافئتان فقد كلف الظَّن لتكافئهما وَالْحكم بالتخيير بَين حكميهما فَمَتَى عدل عَنْهُمَا فقد أَخطَأ وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنه قد كلف الظَّن لقُوَّة الأمارة القوية أَو الظَّن لتساوي الأمارتين إِن جَازَ تساويهما لِأَن الْمُجْتَهد طَالب وَقد بَطل أَن يكون طَالبا لدلَالَة فَثَبت أَنه طَالب لأمارة إِمَّا الْأَقْوَى وَإِمَّا الأضعف وَمَعْلُوم أَن الْمُجْتَهد لَيْسَ يقْصد بِاجْتِهَادِهِ الظفر بأضعف الأمارات وَلَا كلف ذَلِك فصح أَنه كلف الظفر بأقواها وَهُوَ الَّذِي يَقْصِدهُ وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّه يقْصد الأمارة الْأَقْوَى فِي ظَنّه وَلَا يمْتَنع أَن يظنّ أَن هَذِه الأمارة أقوى من غَيرهَا ليرجحها على غَيرهَا بِكَثْرَة وُجُوه التَّرْجِيح وَيكون غَيرهَا أرجح من هَذِه الأمارة بِوُجُوه من التَّرْجِيح لم يخطرها الله بِبَالِهِ بل شغله عَنْهَا أَو شغله عَن فهمها إِذا سَمعهَا من خَصمه فكلف الْعَمَل بِمَا ظَنّه لِأَنَّهُ مصْلحَته فَكَانَ مصيبا فِي ذَلِك وأخطر ببال غَيره تِلْكَ الْوُجُوه وفهمه إِيَّاهَا لِأَن الْمصلحَة الْعَمَل بذلك فَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا مصيبا فِيمَا صَار إِلَيْهِ وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ قَوْلهم لَو كَانَ المجتهدون على اخْتلَافهمْ مصيبين لم يكن فِي مناظرة بَعضهم لبَعض معنى لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم يعْتَقد أَن الآخر قد أدّى مَا كلف وَأصَاب فِي فعله فَمَا وَجه مناظرته لَهُ وَنحن نعلم أَن كل وَاحِد مِنْهُم

يناظر صَاحبه ليَرُدهُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ فَلَو كَانَ مصيبا لما كَانَ لَهُ أَن يقْصد رده عَن الصَّوَاب يُقَال لَهُم إِن الْمُجْتَهدين لَا يخلوان إِذا تناظرا إِمَّا أَن يكون أَحدهمَا لم يغلب على ظَنّه الأمارة الْأَقْوَى فَهُوَ يُرِيد بمناظرته أَن يحصل لَهُ بذلك لِأَنَّهُ لم يحكم بِشَيْء فَيُقَال إِنَّه مُصِيب فِيهِ أَو مخطىء وَإِمَّا أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا يظنّ أَن أمارته هِيَ أقوى من أَمارَة غَيره فَهُوَ يناظر غَيره ليريه ذَلِك لِأَنَّهُ إِن كَانَ فَرْضه غير مَا هُوَ عَلَيْهِ فانه إِذا بَان لَهُ أَن أَمارَة من ناظره أقوى من أمارته تغير فَرْضه وَصَارَت مصْلحَته بِأَن يحكم بالأمارة الَّتِي بَان لَهُ قوتها فان قيل وَمَا فَائِدَة من ناظره فِي أَن يُغير فَرْضه قيل الْفَائِدَة أَن لَا يمْتَنع أَن يكون إِذا تغير فَرْضه وَلَزِمَه أَن يحكم بالأمارة الَّتِي بَان لَهُ قوتها كَانَ ثَوَابه على ذكر أَكثر فلهذه الْفَائِدَة مَا تناظر المجتهدان وَلأَجل أَن هَذِه الْفَائِدَة رَاجِعَة إِلَى زِيَادَة الْمَنَافِع لم يجب على هذَيْن الْمُجْتَهدين المناظرة وَإِنَّمَا هما مندوبان إِلَيْهَا وَيُمكن أَن يحْتَج فِي الْمَسْأَلَة أَيْضا فَيُقَال إِنَّه إِذا كَانَ فِي الْمَسْأَلَة أَمارَة هِيَ اقوى من غَيرهَا جرت مَعَ غَيرهَا مجْرى الدّلَالَة مَعَ الأمارة فَكَانَ الْعَادِل عَن الأمارة غالطا وَالْجَوَاب إِن الْعُدُول عَن الأمارة القوية خطأ إِذا ظفر بهَا كَمَا أَن الْعُدُول عَن الدّلَالَة إِلَى الأمارة خطأ إِذا ظفر بِالدّلَالَةِ فَأَما إِذا لم يظفر بهَا وَلَا بالأمارة القوية فانه لَا يكون الْعُدُول عَنْهَا خطأ وَاحْتج الذاهبون إِلَى أَن كل مُجْتَهد مُصِيب بأَشْيَاء مِنْهَا قَول الله تَعَالَى {وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ يحكمان فِي الْحَرْث إِذْ نفشت فِيهِ غنم الْقَوْم وَكُنَّا لحكمهم شَاهِدين ففهمناها سُلَيْمَان وكلا آتَيْنَا حكما وعلما} فَلَو كَانَ أَحدهمَا مخطئا لم يكن الَّذِي قَالَه عَن علم الْجَواب إِنَّه

سُبْحَانَهُ لم يقل إِن كلا آتيناه حكما وعلما بِمَا حكم بِهِ وَيجوز أَن يكون آتَاهُ حكما وعلما لوجوه الِاجْتِهَاد بطرق الاحكام على أَنه لَيْسَ يجب إِذا كَانَا قد أصابا أَن يكون كل مُجْتَهد مصيبا فِي هَذِه الشَّرِيعَة وَمِنْهَا أَن الصَّحَابَة تصوب بَعْضهَا بَعْضًا فِيمَا اخْتلفت فِيهِ فَلَو كَانَ بَعضهم مخطئا لَكَانَ تصويبه كذبا وَالْأمة لَا تَجْتَمِع على الْكَذِب قَالُوا تصويب بَعضهم بَعْضًا ظَاهر كظهور تصويب بَعضهم بَعْضًا فِي الآراء والحروب وَكثير من القراآت وَالْجَوَاب إِنَّا لَا نسلم لَهُم ادعاءهم تصويب بَعضهم بَعْضًا لَا فِي الْفُرُوع وَلَا فِي الآراء والحروب وَأما القراآت المروية عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَيْسَ يجب من تصويب بَعضهم بَعْضًا فِيهَا أَن يكون بَعضهم قد صوب بَعْضًا فِي غَيرهَا وَلَيْسَ مَعكُمْ أَن كل وَاحِد مِنْهُم قَالَ لصَاحبه اصبت فِي قَوْلك وَقَالُوا أَيْضا قد كَانَ بَعضهم يعظم بَعْضًا وَلَو لم يصوبه لما عظمه فَيُقَال لَهُم لم زعمتم ان ذَلِك دَلِيل على التصويب مَعَ جَوَاز أَن يَكُونُوا إِنَّمَا عظم بَعضهم بَعْضًا لِأَن الْخَطَأ فِي ذَلِك مغْفُور أَو صَغِير أَو جوزوا كَونه صَغِيرا فَلم يتْركُوا التَّعْظِيم مَعَ التجويز فَلَيْسَ يجب إِذا تعلق كثير من الْفُرُوع بالفروج والدماء أَن يكون كثيرا مَتى كَانَ خطأ لِأَنَّهُ إِذا لم يمْتَنع أَن يكون صَوَابا مَعَ تعلقه بالفروج فأحرى أَن يكون تَجْوِيز كَونه خطأ مغفورا وَلَيْسَ أَن يكون خطأ ولتعلقه بالأمارات يُخَفف عِقَابه فَيكون صَغِيرا وَإِن صدر عَن صَاحب كَبِيرَة كَانَ مُتَفَاضلا بغفرانه فان قيل فان لم يقدموا على التبرىء لتجويزهم كَونه صَغِيرا فقد جوزوا كَونه كَبِيرا وَفِي ذَلِك تَجْوِيز بَعضهم كَون بعض صَاحب كَبِيرَة قيل مَا الْمَانِع من تجويزهم ذَلِك فِي غير مَعْصُوم أَلَيْسَ كَانَ بَعضهم يجوز فِي بَاطِن بعض أَن يكون بِخِلَاف ظَاهره مَا لَا يضْطَر أَنه متدين بِهِ وَلَيْسَ إِذا أَجمعت الْأمة على أَن قتل الْخَوَارِج مخالفيهم إِمَّا طَاعَة أَو كَبِيرَة يجب أَن يجمعوا على أَن مسَائِل الِاجْتِهَاد إِمَّا طَاعَة وَإِمَّا كَبِيرَة وَمِنْهَا قَوْلهم لَو لم يصوب الصَّحَابَة كل الْمُجْتَهدين لأنكروا قَول المخطىء

لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يتْركُوا إِنْكَار الْمُنكر وَالْجَوَاب إِنَّه إِن أُرِيد بالإنكار الذَّم والتبريء فقد تقدم القَوْل فِيهِ وَإِن أُرِيد بِهِ الْمَنْع والتخطئة والمناظرة فَكل ذَلِك قد جرى لِأَن الْمَنْع من الاعتقادات إِنَّمَا يكون بالمناظرة وَقد تنَاظرُوا وشهدوا بالتخطئة على مَا ذكرنَا وَقَالَ ابْن عَبَّاس أما يَتَّقِي الله زيد بن ثَابت وَقَالَ من شَاءَ باهلته وَهَذَا إِمَّا أَن يكون ذما أَو مُبَالغَة فِي الْإِنْكَار وَعلمنَا باعظامه لزيد يصرف ذَلِك عَن الذَّم إِلَى الْمُبَالغَة فِي الْإِنْكَار وَلَيْسَ لَهُم حمل ذَلِك على خطأ نَص إِن كَانَ أَو على تَقْصِير فِي الِاجْتِهَاد لما ذَكرْنَاهُ وَلِأَن أَكثر مَا فِي هَذَا التَّأْوِيل أَن يحْتَملهُ الْكَلَام وَيحْتَمل مَا قُلْنَاهُ فَلَيْسَ لَهُم صرفه إِلَى مَا ذَكرُوهُ إِلَّا لدلَالَة حَتَّى يتم أَنه لم يُنكر بَعضهم على بعض وَقَوْلهمْ إِن ابْن عَبَّاس إِنَّمَا قَالَ لزيد مَا قَالَ لِأَن تَسْمِيَة الْجد أَبَا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد فَبَاطِل لِأَن ابْن عَبَّاس لم يخف عَلَيْهِ أَن الْجد لَا يُسمى ابا فِي حَقِيقَة اللُّغَة وَلَا خَفِي على زيد أَن تَسْمِيَته ابا مجَاز وَإِنَّمَا ألحقهُ ابْن عَبَّاس بِابْن الابْن قِيَاسا وَذَلِكَ فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد وَقد أنكرهُ على مخالفه وَمِنْهَا قَوْلهم لَو كَانَ الْحق وَاحِدًا من الْأَقَاوِيل وَمَا عداهُ خطأ لَكَانَ الله قد كلفنا الْعُدُول عَن الْخَطَأ إِلَى ذَلِك القَوْل الصَّوَاب ولوجب أَن ينصب لنا دَلِيلا قَاطعا عَلَيْهِ لنثق بعدولنا عَن الْخَطَأ إِلَى الصَّوَاب وَلَو كَانَ على الْحق دَلِيل قَاطع لفسق مخالفه وَمنع من أَن يُفْتِي بِهِ وَيحكم بِهِ ولمنع الْعَاميّ من استفتائه ولنقض حكمه بِهِ وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم قد دلنا الله على الحكم الَّذِي كلفناه بِدلَالَة قَاطِعَة وَإِن لم يدلنا بِدلَالَة قَاطِعَة على أَن الْعلَّة هِيَ عِلّة الأَصْل وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عز وَجل إِنَّمَا كلفنا الْعَمَل على أولى الْعِلَل وأقواها وَقد جعل لنا طَرِيقا نقطع مَعَه بِأَن إِحْدَى العلتين أولى أَن يتَعَلَّق الحكم بهَا وَأَنَّهَا مَوْجُودَة فِي الأَصْل وَالْفرع وَأَنه يلْزم الْعَمَل بهَا فِي الْفَرْع فان قيل مَا طريقكم إِلَى أَن الْوَصْف أولى بِأَن يكون عِلّة من وصف آخر قيل الطَّرِيق إِلَى ذَلِك هُوَ وُجُوه التَّرْجِيح وَذَلِكَ أَن وُجُوه التَّرْجِيح معقولة محصورة فاذا وجدناها أَو أَكْثَرهَا تخْتَص إِحْدَى العلتين قَطعنَا على أَنَّهَا أولى بِأَن تكون عِلّة الحكم فِي الأَصْل من غَيرهَا

كَمَا إِذا رَأينَا أمارت الْغَيْم الممطر فِي بعض الغيوم نَحْو كَونه فِي الشتَاء وَكَونه كثيفا أغبر قَطعنَا على أَنه أولى بِأَن يكون ممطرا من غيم لَيْسَ هَذِه سَبيله وظننا أَن الْمَطَر يحصل عَنهُ وَلَيْسَ يبعد أَن يكون ظننا بِأَنَّهُ ممطر هُوَ علم بِأَنَّهُ أولى أَن يكون ممطرا وَكَذَلِكَ ظننا أَن الْوَصْف عِلّة الحكم فِي الأَصْل هُوَ علم بِأَنَّهُ أولى أَن يكون عِلّة الأَصْل وَلِهَذَا صَحَّ أَن تدل عَلَيْهِ دلَالَة قَاطِعَة فان قيل فَمَا مِثَال ذَلِك فِي الْعِلَل ووجوه التَّرْجِيح الَّتِي تقطعون بهَا على أَن الْوَصْف أولى بِأَن يكون عِلّة قيل مِثَال ذَلِك أَن يعلم أَن أحد الوصفين يثبت الحكم بِثُبُوتِهِ فِي الأَصْل وينتفي بانتفائه فِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِك الآخر أَو أَن أَحدهمَا لَهُ تَأْثِير فِي الْأُصُول دون الآخر نَحْو كَون الْبلُوغ مؤثرا فِي رفع الْحجر عَن المَال وَيعلم أَن أحد الوصفين مستنبط من أصل مجمع على حكمه وَالْآخر مستنبط من أصل غير مجمع على حكمه وَالْآخر مستنبط من أصل غير مجمع على حكمه أَو أَن أَحدهمَا طَريقَة تَنْبِيه النَّص وَالْآخر مستنبط كل هَذِه الْأَشْيَاء مَعْلُوم أَنَّهَا وُجُوه مقوية وَمَعْلُوم ثُبُوتهَا فِي إِحْدَى العلتين فصح أَن يكون طَرِيقا إِلَى الْقطع بِأَن الْوَصْف أولى بِأَن يكون عِلّة وَقد يظنّ حُصُول بعض وُجُوه التَّرْجِيح فِي الأمارة فَيعلم أَنَّهَا أولى من غَيرهَا نَحْو أَن نظن أَن بعض المخبرين أدين واشد تحرجا بِأَن يخبرنا غَيره بذلك فنظن أَنه أَحَق بِأَن يكون صَادِقا مِمَّن لَا نظن أَنه دين ونظن أَن بعض الغيوم على صفة تَقْتَضِي الْمَطَر كالغبرة والكثافة بِخَبَر رجل ظَاهره الصدْق فنعلم أَنه أولى بِأَن يكون ممطرا من غيم لَا نظن فِيهِ هَذِه الصّفة وَهَذِه الصِّفَات المظنونة لَا بُد من أَن تكون طرقها مَعْلُومَة أَو تستند إِلَى طرق مَعْلُومَة وَإِلَّا أدّى إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ أَلا ترى أَن الطَّرِيق إِلَى حُصُول صفة الْغَيْم إِذا كَانَ الْخَبَر فَالْخَبَر مَعْلُوم لنا بالادراك فان قيل فاذا علمْتُم أَن الْوَصْف أولى بِأَن يكون عِلّة الحكم فِي الأَصْل من غَيره من الْأَوْصَاف فقد علمْتُم أَنه عِلّة لحكم الأَصْل قيل لَا يجب ذَلِك كَمَا لَا يجب ذَلِك إِذا علمنَا أَن هَذَا الْغَيْم الكثيف الأغبر أولى بالمطر من غيم رَقِيق غير أغبر أَن نقطع على أَنه ممطر بل قد يجوز أَن يكون ذَلِك هُوَ الممطر وَهَذَا غير ممطر فَلَو قَطعنَا على أَن الْغَيْم الكثيف هُوَ الممطر لنقض

ذَلِك قَوْلنَا إِنَّا نعلم أَن الأولى أَن يكون ممطرا وكما أَن الرجل المتين الدّين الشَّديد التحرج أولى بِالصّدقِ فِيمَا يخبر بِهِ رجل هُوَ دونه فِي الدّين والتحرج وَلَا يجب من ذَلِك أَن يكون الَّذِي هُوَ أَشد تحرجا أصدق لَا محَالة بل قد يتَّفق أَن يكذب فِي بعض أخباره وَيصدق الَّذِي هُوَ دونه فِي التحرج وَكَذَلِكَ القَوْل فِي جَمِيع الأمارات فان قيل أفتقطعون على أَن تِلْكَ الْعلَّة هِيَ عِلّة الحكم فِي الْفَرْع قيل نعم لِأَن معنى قَوْلنَا إِنَّهَا عِلّة حكم الْفَرْع هُوَ أَن عِنْد علمنَا بوجودها فِي الْفَرْع يجب علينا أَن نحرم الْفَرْع إِن كَانَت عِلّة التَّحْرِيم أَو نبيحه إِن كَانَت عِلّة الْإِبَاحَة وَلَيْسَ يلْزم على هَذَا أَن نعلم أَنَّهَا عِلّة حكم الأَصْل لِأَن عِنْد علمنَا بوجودها فِي الأَصْل لَيْسَ يصير الأَصْل محرما علينا وَلَا مُبَاحا لنا بل تَحْرِيمه وإباحته يسبقان الْعلم بوجودها فِي الأَصْل وَلَا يتبعان علمنَا بوجودها فِيهِ وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يكون علمنَا بِكَوْنِهَا عِلّة حكم الْفَرْع يسْتَند إِلَى ظننا أَنَّهَا عِلّة حكم الأَصْل لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يقف الْعلم على شَرط مظنون كَمَا يقف علمنَا بِوُجُوب التَّحَرُّز من مضرَّة مخصومة على الظَّن لنزولها بِنَا وَيلْزم الْمُسْتَدلّ بِهَذِهِ الشُّبْهَة مثل الَّذِي ألزمنا لِأَنَّهُ يَقُول إِن الْأمة إِذا اخْتلفت على قَوْلَيْنِ فَكل فرقة مِنْهَا مُصِيبَة من حَيْثُ نظرت فِي أَمارَة صَحِيحَة وَلَو نظرت فِي غير أَمارَة لم تكن مُصِيبَة وَلَا كَانَ لظنها حكم وَلم يدل الله قبل اجتهادها على صِحَة كل وَاحِدَة من الأمارتين وَفَسَاد مَا عداهما بل لَيْسَ على ذَلِك إِلَّا أَمَارَات فقد اقروا بِصِحَّة علتين وَفَسَاد مَا عداهما وَلم تدل دلَالَة قَاطِعَة على أَن كل وَاحِدَة مِنْهَا عِلّة وَأَن مَا عداهما لَيْسَ بعلة فان جَازَ ذَلِك مَعَ أَنه مَعَ فقد الدّلَالَة لَا يَثِق الْمُكَلف بالوصول إِلَى الْعلَّة الصَّحِيحَة دون الْفَاسِدَة فَلم لَا يجوز ذَلِك فِي الأمارة الْوَاحِدَة فان قَالُوا قد دلنا الله تَعَالَى على صِحَة الأمارتين وعَلى صِحَة الحكم بِمَا دلنا بِهِ على أَن كل مُجْتَهد مُصِيب قيل الدَّلِيل يَنْبَغِي أَن يتَقَدَّم الْعلم بالمدلول عَلَيْهِ والمجتهدون إِنَّمَا يعلمُونَ صِحَة كل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ بعد أَن يَقُول بَعضهم بِأحد الْقَوْلَيْنِ وَيَقُول الْبَعْض الآخر بالْقَوْل الآخر وعَلى أَنه يلْزم أَن يعلمُوا صِحَة العلتين بعد اسْتِقْرَار الْخلاف

وَفِي ذَلِك كَونهمَا دَلِيلين وخروجهما من كَونهمَا أمارتين فان قَالُوا مَا عدا الأمارتين لَو قَالَ بِهِ قَائِل لَكَانَ حَقًا أَيْضا وَلَيْسَ يجب نصب دلَالَة على فَسَاده قيل كَلَامه فِيهِ وَلَيْسَ بِحَق أَلَيْسَ لم ينصب الله دلَالَة على إِبْطَاله ليفصل بَينه وَبَين مَا هُوَ أَمارَة وايضا فقولكم إِن مَا عدا الأمارتين لَو قَالَ بِهِ قَائِل لَكَانَ حَقًا يَقْتَضِي أَن يقف كَونه حَقًا على قَول الْمُجْتَهد وَمَعْلُوم أَن قَول الْمُجْتَهد يتبع صِحَة الْعِلَل والأمارات وَهِي كالطرق إِلَى كَون أقاويلهم حَقًا ولأجلها حكمُوا بِمَا حكمُوا بِهِ وَقَوْلهمْ كَانَ على الصَّوَاب دلَالَة قَاطِعَة من الْقَوْلَيْنِ لنقض الحكم بِمَا عداهُ فَلم يسوغ الْفَتْوَى وَالْحكم بِهِ بل كَانَ الإِمَام لَا يولي من يُخَالِفهُ فِي الحكم ولمنع الْعَاميّ من استفتاء من يُخَالِفهُ ولفسق قَائِله لَا يَصح لأَنا قد بَينا أَنه لَيْسَ يجب أَن يكون هُنَاكَ دلَالَة قَاطِعَة إِلَّا على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا وَلَو لزم أَن تكون على نفس الحكم دلَالَة قَاطِعَة تتناوله لما لزم مَا ذَكرُوهُ وَأَيْضًا أَلا ترى أَن كثيرا من الْمسَائِل يسْتَدلّ عَلَيْهَا بِالْقُرْآنِ نَحْو التَّرْتِيب فِي الْوضُوء وَنفي وُجُوبه لِأَن كل فريق يسْتَدلّ بِالْآيَةِ ففريق يَقُول إِن الْفَاء للتعقيب وفريق يَقُول إِن الْوَاو لَا توجب التَّرْتِيب وَذَلِكَ طَريقَة الْعلم وَلم يفسق قَائِله وَقد سَاغَ الْفَتْوَى بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ على أَنه لَيْسَ كل خطأ دلّ الدَّلِيل عَلَيْهِ فَهُوَ فسق بل قد يكون فسقا وَقد لَا يكون فسقا وَلَا يمْتَنع أَن يكون القَوْل خطأ من الْمُجْتَهد صَوَابا من الْمُقَلّد بِأَن يكون مصْلحَته الْأَخْذ عَن الْمُجْتَهد مخطئا كَانَ أَو مصيبا أَلا ترى أَن الْمُجْتَهد لَو لم يستقص الِاجْتِهَاد وَأَفْتَاهُ بِأول خاطر أَو استقصى الِاجْتِهَاد وَأَفْتَاهُ بِخِلَاف مَا أدّى اجْتِهَاده إِلَيْهِ لَكَانَ الْمُجْتَهد مخطئا والمقلد مصيبا وَلم يجب على الله أَن يظْهر خِيَانَة الْمُجْتَهد حَتَّى لَا يَقع الْمُقَلّد فِي الْمفْسدَة بل قُلْنَا بأجمعنا إِن ذَلِك مفْسدَة من الْمُفْتِي وَأخذ الْعَاميّ بِمَا أفتاه غير مفْسدَة لَهُ وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتنَا إِذا لم يمْتَنع أَن يكون القَوْل خطأ من الْمُفْتِي وَالْعَمَل بِهِ غير خطأ من المستفتي لم يجب أَن يمْنَع الْمُفْتِي من الْفَتْوَى لِأَنَّهُ لَو وَجب أَن يمْنَع

مِنْهُ لم يخل إِمَّا أَن يجب ذَلِك لِأَن قبُول المستفتي لَهُ مفْسدَة أَو لِأَن فَتْوَى الْمُفْتِي لَهُ خطأ وَالْأول بَاطِل لأَنا قد بَينا أَن قبُول المستفتي لَهُ غير مُمْتَنع أَن يكون مصلحَة مِنْهُ وَالثَّانِي لَا يُوجب أَن يمْنَع من الْفَتْوَى إِلَّا بالمناظرة والإيضاح وَأهل الِاجْتِهَاد يناظر بَعضهم بَعْضًا على أَن أحد الْمُجْتَهدين لَو منع الْعَاميّ من أَن يستفتي خَصمه لَكَانَ خَصمه يمْنَع الْعَاميّ أَن يستفتي غَيره وَلَا يكون الْعَاميّ بِأَن يقبل من أَحدهمَا أولى من الآخر فَيمْتَنع عَلَيْهِ أَن يستفتي أحدا فان قيل أجمع الْمُسلمُونَ على أَن المخطىء لَا يُمكن من الدُّعَاء إِلَى خطابه قيل لَيْسَ فِي هَذَا إِجْمَاع لِأَن من يَقُول إِن الْحق فِي وَاحِد من الْأَقَاوِيل لَا يمْنَع مُخَالفَة من الْفَتْوَى فان قيل فَمَاذَا تعلمُونَ أَن الْعَاميّ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يمْتَنع من تَقْلِيد كل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ قيل نعم ذَلِك بِالْإِجْمَاع لِأَن الصَّحَابَة وَأهل الْأَعْصَار لَا يمْنَعُونَ الْعَامَّة من ذَلِك وَأما تَوْلِيَة الإِمَام مخالفيه فَلَيْسَ فِيهَا إِبَاحَة لَهُ الحكم بالْخَطَأ لِأَنَّهُ إِنَّمَا ولاه ليحكم بِالْحَقِّ لِأَن الطَّرِيق إِلَى الْحق مُمكن وَلَيْسَ الظَّاهِر من مُخَالفَة أَن يحكم بِمَا يُخَالِفهُ لِأَنَّهُ يجب على الْحَاكِم والمفتي أَن يجدد الِاجْتِهَاد فِي كل وَقت إِذا لم يذكر طَريقَة الِاجْتِهَاد فَكيف يظنّ بِمن يجدد الِاجْتِهَاد عِنْد حكمه وفتواه أَن لَا يظفر بِالْحَقِّ مَعَ إِمْكَان طَريقَة وَلَا يجب إِذا حكم الْحَاكِم بِخِلَاف رَأْي الإِمَام أَن ينْقضه عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون الْتِزَام الْخُصُوم لذَلِك الحكم لَيْسَ بخطأ كَمَا قُلْنَاهُ فِي الْتِزَام الْعَاميّ لفتوى الْمُفْتِي وَأَن يكون نَقصه بعد إمضائه مفْسدَة وَلَا يجب نقضه كَمَا لَا يجب إِذا علم الله أَن الْحَاكِم حكم بِغَيْر اجْتِهَاد أَو حكم بِخِلَاف اجْتِهَاده أَن يطلعنا الله على ذَلِك حَتَّى ننقضه أَو يبْعَث الله عز وَجل لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون إمضاؤه وإمضاء الْفَتْوَى بِهِ للعامي مصلحَة وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتنَا والداخل فِي زرع غَيره يقبح مِنْهُ الدُّخُول فِيهِ وَيحسن مِنْهُ التَّصَرُّف فِيهِ بِالْخرُوجِ مِنْهُ فَلَا يمْتَنع أَن يكون القَوْل خطأ من الْمُجْتَهد وَنقض الحكم بِهِ خطأ وَإِذا لم يمْتَنع أَن يكون الْتِزَام الْخُصُوم للْحكم مصلحَة لَهُم وَإِن كَانَ القَوْل بِهِ خطأ لم يجب على الإِمَام أَن يمْنَع الْحَاكِم من ذَلِك

الحكم لِأَنَّهُ مفْسدَة للخصوم لأَنا قد بَينا أَن لَا يمْتَنع أَن لَا يكون مفْسدَة لَهُم وَإِنَّمَا يمْنَع من ذَلِك الحكم لما يرجع إِلَى الْحَاكِم وَذَلِكَ يكون بالمناظرة والتبين فان قيل وَمن أَيْن قُلْتُمْ أَن القَوْل خطأ من الْمُجْتَهد وَالْعَمَل بِهِ غير خطأ من الْخُصُوم والمستفتي قيل يكفينا أَن نعلم أَنه لَا يجب إِذا كَانَ خطأ من الْمُجْتَهد أَن يكون خطأ من الْخُصُوم والمستفتي وَأَن كَونه خطأ من هَؤُلَاءِ يحْتَاج إِلَى دلَالَة فَلَا نبينه خطأ مِنْهُم إِلَّا لدلَالَة وعَلى الْمُسْتَدلّ أَن يبين أَنه خطأ من هَؤُلَاءِ حَتَّى يتم دلَالَته وَإِلَّا فَالَّذِي مَعَه هُوَ أَن الصَّحَابَة سوغت الْفَتْوَى وَالْحكم وَلم يمْنَع بَعْضهَا الْعَاميّ قبُول فَتْوَى الْبَعْض الآخر وَيحْتَمل أَن تكون فعلت ذَلِك لِأَنَّهَا اعتقدت أَن كل مُجْتَهد مُصِيب وَيحْتَمل أَن تكون فعلت ذَلِك لِأَن كَون القَوْل خطأ من قَائِله لَا يَقْتَضِي أَن يكون الْعَمَل بِهِ خطأ مِمَّن قَلّدهُ فِيهِ فقد سقط أَن يكون للخصم فِيهِ دلَالَة على أَنهم اعتقدوا أَن كل مُجْتَهد مُصِيب فان قَالُوا فَلَو كَانُوا اعتقدوا مَا ذكرْتُمْ لكانوا قد اعتقدوه عَن دلَالَة فَأَي دلَالَة دلّت على أَن القَوْل خطأ من قَائِله دون من قلد فِيهِ قيل لَيْسَ يجب مطالبتهم بِالدّلَالَةِ وعَلى أَن ذَلِك لَازم للسَّائِل لِأَنَّهُ يُقَال لَهُم وإي دلَالَة دلتهم على أَن كل مُجْتَهد مُصِيب على أَنا نَحن قد بَينا أَنه يحْتَاج فِي كَون الْعَمَل بالْقَوْل خطأ من جِهَة الْمُقَلّد إِلَى دلَالَة وَأَنه مَتى لم يجد دلَالَة على ذَلِك وَجب نَفْيه كَمَا أَنا إِذا لم نجد دلَالَة على قَضَاء الْعِبَادَة الْفَاسِدَة وَجب نفي وُجُوبه وَيُمكن أَن يسْتَدلّ فِي الْمَسْأَلَة فَيُقَال لَو كَانَ الْمُجْتَهد فِي الْفُرُوع مخطئا لَأَدَّى إِلَى أَقسَام كلهَا فَاسِدَة وَذَلِكَ أَنه مَا كَانَ يَخْلُو إِمَّا أَن يقطعوا فِي الْجُمْلَة على أَن المخطىء من الْمُجْتَهدين مغْفُور لَهُ تَقْصِيره فِي النّظر وَإِمَّا أَن لَا يقطعوا على ذَلِك فان لم يقطعوا على ذَلِك فإجماع الْمُجْتَهدين الْقَائِلين بِأَن على الْفُرُوع أَمَارَات يمْنَع من ذَلِك لأَنهم مجمعون على أَن المخطىء من الْمُجْتَهدين مغْفُور لَهُ وَلِأَن الصَّحَابَة مَا كَانَ يُنكر بَعضهم على بعض أقاويلهم فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد

إِنْكَار من يجوز أَنه من اهل النَّار وَإِن كَانَ غفرانه فِي الْجُمْلَة مَقْطُوعًا لم يخل إِمَّا أَن يكون الْمُجْتَهد إِذا أَخطَأ يجوز كَونه مخطئا ومخلا بِنَظَر يلْزمه فعله أَو لَا يجوز ذَلِك فان لم يجوز ذَلِك لم يَصح تَكْلِيفه النّظر الَّذِي فرط فِيهِ لِأَنَّهُ قَاطع على أَنه مَا فرط فِي النّظر فَهُوَ كالعالم وَلِأَنَّهُ فِي حكم الذاهل والذاهل والساهي لَا يُكَلف فِي حَال سَهْوه وذهوله وَلَا يسْتَحق عقَابا فَيُقَال أَنه قد غفر لَهُ وَإِن كَانَ يجوز كَونه مخطئا ومخلا النّظر فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يعلم أَنه فِي تِلْكَ الْحَال مغْفُور إخلاله بِمَا أخل بِهِ من النّظر أَو لَا يعلم ذَلِك ومحال أَن يعلم ذَلِك لِأَن الْمُجْتَهد لَا يُمَيّز الْمرتبَة الَّتِي إِذا انْتهى إِلَيْهَا غفر لَهُ إخلاله بِمَا بعْدهَا من النّظر من الْمرتبَة الَّتِي إِذا انْتهى إِلَيْهَا لم يغْفر لَهُ إخلاله بِمَا بعْدهَا من النّظر وَذَلِكَ أَنه يعلم أَنه إِن اقْتصر على أول النّظر لم يغْفر لَهُ مَا بعده وَلَيْسَ مرتبَة أولى بذلك من مرتبَة وَلَا يُمكن الاشارة إِلَى مَا يتَمَيَّز بِهِ بعض الْمَرَاتِب من بعض مَعَ كَونه مجوزا فِي جَمِيعهَا كَونه مخلا بِنَظَر يلْزمه فعله وَبعد فَلَو علم الْمُجْتَهد أَنه مغْفُور لَهُ إخلاله بِالنّظرِ لَكَانَ ذَلِك إغراء لَهُ بالمعصية لِأَنَّهُ قد أعلم أَنه لَا ضَرَر عَلَيْهِ فِي تَركه النّظر الزَّائِد مَعَ كَونه شاقا عَلَيْهِ فاذا كَانَ تَعْرِيف الصَّغَائِر عِنْد شيوخكم إغراء بهَا فَكَذَلِك تَعْرِيف هَذَا الْمُجْتَهد أَنه مغْفُور لَهُ وَإِن كَانَ الْمُجْتَهد المخطىء إِنَّمَا يعلم فِي الْجُمْلَة ان المخطىء من الْمُجْتَهدين مغْفُور لَهُ إِذا انْتهى إِلَى مرتبَة مَا من مَرَاتِب النّظر وأخل بِمَا بعْدهَا وَلم يتَعَيَّن لَهُ تِلْكَ الْمرتبَة وَجوز أَن يكون حِين أخل بِالنّظرِ الزَّائِد مَا انْتهى إِلَى الْمرتبَة الَّتِي يغْفر لَهُ إخلاله بِمَا بعْدهَا من النّظر لزم أَن يجوزوا كَون الْمُجْتَهدين المخطئين مَا انْتَهوا إِلَى هَذِه الْمرتبَة وَفِي ذَلِك تَجْوِيز كَونهم غير مغْفُور لَهُم وَأَنَّهُمْ من اهل الْعقَاب وَإِجْمَاع الْمُجْتَهدين بِخِلَاف ذَلِك لأَنهم يقضون بِأَن الْخَطَأ فِي الْمسَائِل الْوَاقِعَة من لدن الصَّحَابَة إِلَى يَوْمنَا هَذَا مغْفُور عِنْد من قَالَ إِن فِيهَا أقاويل خطأ مَعَ معرفَة كل فريق مَا انْتهى إِلَيْهِ مُخَالفَة من الْمرتبَة فِي النّظر وكل مُجْتَهد يعلم من نَفسه أَنه إِن كَانَ مخطئا فَهَذِهِ حَاله وَكَذَلِكَ قَوْلكُم فِيمَا يحدث من

مسَائِل الِاجْتِهَاد فقد بَان أَن القَوْل بخطأ الْمُجْتَهدين يُؤَدِّي إِلَى أَقسَام كلهَا فَاسِدَة وَفِي القَوْل باصابتهم أَجْمَعِينَ خلاص من هَذِه الْوُجُوه أجمع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب القَوْل فِي الْأَشْبَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن مِمَّن قَالَ إِن كل مُجْتَهد مُصِيب لما كلف من قَالَ إِن فِي كل مَسْأَلَة أشبه مَطْلُوبا لَو نَص الله سُبْحَانَهُ على حكم الْمَسْأَلَة لنَصّ عَلَيْهِ فَيُقَال لَهُم أتريدون بالأشبه الحكم بأقوى الأمارات أَو تُرِيدُونَ حكما معينا يجوز أَن يكون غير الحكم بالأقوى من الأمارات فان قَالُوا بِالثَّانِي قيل لَهُم أتقولون إِن ذَلِك الحكم هُوَ مصلحَة الْمُجْتَهد وَمَا عداهُ مفسدته أَو تَقولُونَ لَيْسَ هُوَ مصْلحَته أَو تَقولُونَ هُوَ وَغَيره مصْلحَته على الْبَدَل فان قَالُوا لَيْسَ هُوَ مصْلحَته قيل لَهُم فَمَا وَجه طلبه لما لَيْسَ هُوَ مصْلحَته وَأَيْضًا فاذا لم يكن مصْلحَته فَكيف قُلْتُمْ لَو نَص الله تَعَالَى على الحكم فِي هَذِه الْحَال لنَصّ عَلَيْهِ أَيجوزُ أَن ينص على مَا لَيْسَ بمصلحة وَأَيْضًا إِذا لم يكن ذَلِك مصلحَة فَمَا مصْلحَته فان قَالُوا هُوَ الحكم بأشبه الأمارات صَارُوا إِلَى أَن الْحق هُوَ وَإِن أَرَادوا الْإِشَارَة إِلَى حكم آخر لم يُمكنهُم فان قَالُوا هُوَ مصْلحَته قيل لَهُم أكلفه الله الْوُصُول إِلَيْهِ أَو لم يكلفه ذَلِك فان قَالُوا مَا كلفه الْوُصُول إِلَيْهِ قيل لَهُم فَإِذن قد أَبَاحَهُ الْعُدُول عَن مصْلحَته إِلَى الْمفْسدَة وَذَلِكَ لَا يجوز فِي حكمته وَإِن قَالُوا قد كلفه الله إِصَابَته قيل لَهُم فَمن لم يصبهُ إِذن فقد أَخطَأ مَا كلف فَكيف تَقولُونَ إِنَّه مُصِيب مَا كلف وَيجب إِذا كلفه الله الْوُصُول إِلَى ذَلِك أَن يَجْعَل لَهُ إِلَيْهِ طَرِيقا إِمَّا دلَالَة وَإِمَّا أَمارَة وَقد قُلْنَا إِنَّه لَيْسَ على اعيان الْفُرُوع أَدِلَّة لِأَنَّهَا تستند إِلَى ظنون فَبَقيَ أَن يكون طَرِيق ذَلِك هُوَ الأمارة والأمارة ضَرْبَان قَوِيَّة وضعيفة وَلَيْسَ يجوز أَن الطَّرِيق إِلَى ذَلِك هُوَ الأمارة الأضعف لِأَن الْمُكَلف لَا يجوز لَهُ إِذا عرضت لَهُ أمارتان إِحْدَاهمَا أقوى من الْأُخْرَى أَن يعدل عَن الأفوى إِلَى الأضعف فَثَبت

أَنه كلف الْمُجْتَهد الحكم بأقوى الأمارات وَجعل الله لنا طَرِيقا إِلَى أَن الأمارة أقوى الأمارات بِمَا نَصبه من وُجُوه التَّرْجِيح وَلَا بُد من استناد ذَلِك إِلَى علم على مَا بَينا من قبل فان قَالُوا مصلحَة الْمُجْتَهد فِي كل مَسْأَلَة من مسَائِل الِاجْتِهَاد هُوَ ذَلِك الحكم وَغَيره على الْبَدَل قيل لَهُم فاذن الحكم الْمَطْلُوب فِي كل مَسْأَلَة هُوَ التَّخْيِير وَيجب أَن يكون هُوَ المتعبد بِهِ وَأحد لم يقل بذلك وَيجب أَن يكون على الْحكمَيْنِ أمارتان مُخْتَلِفَتَانِ وَأحد لم يقل بذلك فِي كل الْمسَائِل فان قَالُوا نُرِيد بالأشبه الحكم بأشبه الأمارات وأقواها فقد قَالُوا بِالْحَقِّ ثمَّ يُقَال لَهُم فَهَل كلف الله سُبْحَانَهُ كل مُجْتَهد إِصَابَة ذَلِك الْأَشْبَه أم لم يكلفه ذَلِك فان قَالُوا لم يكلفه قيل لَهُم فَلَا وَجه لطلبه لما لم يكلفه الله إِصَابَته وَإِن قَالُوا قد كلفه الله عز وَجل ذَلِك قيل لَهُم فَمن لم يصل إِلَيْهِ فقد أَخطَأ مَا كلف فَكيف قُلْتُمْ كل مُجْتَهد مُصِيب لما كلف فان قَالُوا كل أَمَارَات الْمُجْتَهدين تتساوى فِي الْقُوَّة قيل فَالْحكم فِيهَا إِذن هُوَ التَّخْيِير فَمن قَالَ لَيْسَ الحكم هُوَ التَّخْيِير فقد أَخطَأ وَأَيْضًا فالأمة مجمعة على انه لَيْسَ كل الأمارات مُتَسَاوِيَة فِي الْقُوَّة وَذَلِكَ أَن مِنْهُم من يمْنَع من تَسَاوِي الأمارات وَمِنْهُم من يُجِيز ذَلِك وَيَقُول إِن الْيَسِير مِنْهَا مُتَسَاوِيَة وباقيها غير مُتَسَاوِيَة ويدعى أَن الأمارات الَّتِي صَار إِلَيْهَا أقوى من أَمَارَات خَصمه وخصمه يَقُول بل اماراتي أقوى من أَمَارَات من خالفني وَلم يقل أحد من الْمُجْتَهدين أَن كل الْمسَائِل فأماراتها متكافئة وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء مِنْهَا قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِن اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر قَالُوا فَتبين أَن فِي الْمسَائِل حكما يجوز أَن يُصِيبهُ ويخطئه فَالْجَوَاب إِن من الْحَوَادِث مَا هَذِه سَبيله وَهُوَ الحكم بأشبه الأمارات وأقواها فان احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْأَشْبَه فَصَحِيح وَإِن احْتَجُّوا بِغَيْرِهِ

قيل لَهُم مَا تنكرون أَن يكون مَا يجوز أَن يُصِيبهُ الْمُجْتَهد ويخطئه هُوَ مَا ذَكرْنَاهُ وَيُقَال لَهُم إِن كَانَ الْأَشْبَه حكما معينا عِنْد الله سوى الحكم بأشبه الأمارات فَذَلِك لم يُكَلف الْإِنْسَان إِصَابَته عنْدكُمْ فَكيف يكون مخطئا بالعدول عَنهُ وَلم ينقص ثَوَابه إِذا لم يظفر بِمَا لم يُكَلف الظفر بِهِ وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْمُجْتَهد طَالب والطالب لَا بُد لَهُ من مَطْلُوب وَالْجَوَاب أَن مَطْلُوبه هُوَ الحكم بأقوى الأمارات فَلَا يجوز أَن يطْلب الْأَشْبَه الَّذِي لم يَجْعَل لَهُ إِلَيْهِ طَرِيق وسبيل على قَوْلكُم وَمِنْهَا قَوْلهم لَو نَص الله تَعَالَى على الحكم فِي الْمَسْأَلَة لنَصّ على حكم معِين وَذَلِكَ دَلِيل على ان ذَلِك الحكم هُوَ الصَّوَاب عِنْد الله تَعَالَى وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم لَو نَص الله تَعَالَى على الحكم لنَصّ على حكم أشبه الأمارات فَيجب أَن يكون هُوَ الْأَشْبَه فان قَالُوا لَو كَانَت مصلحتنا حكما معينا لَيْسَ هُوَ حكم أشبه الأمارات ثمَّ أَرَادَ النَّص فِي الْمَسْأَلَة أَلَيْسَ ينص عَلَيْهِ قيل بلَى فان قَالُوا فَيجب أَن يكون الحكم الْمَطْلُوب الْآن هُوَ ذَلِك الحكم قيل لَهُم لَو كَانَت مصلحتنا حكما آخر لكلفناه الله وَنَصّ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي إِذا لم ينص عَلَيْهِ وَلم يكلفنا إِيَّاه أَن لَا يكون هُوَ مصلحتنا وَإِذا لم يكن الْآن مصلحتنا لم يجب أَن نطلبه وَأَيْضًا كَيفَ تَقولُونَ إِنَّه الْآن مصلحتنا وَأَنْتُم تَقولُونَ مَا كلفنا إِصَابَته وَمِنْهَا قَوْلهم إِذا كَانَ الْمُجْتَهد فِي الْقبْلَة مَطْلُوبَة الْقبْلَة بِعَينهَا وَكَذَلِكَ الطَّالِب لعَبْدِهِ الْآبِق مَطْلُوبَة العَبْد بِعَيْنِه فَكَذَلِك يجب أَن يكون مَطْلُوب الْمُجْتَهد فِي الْحَوَادِث حكما معينا عِنْد الله وَالْجَوَاب أَن لَيْسَ مَطْلُوب الْمُجْتَهد فِي الْقبْلَة الْقبْلَة بِعَينهَا وَلَا الْجِهَة الَّتِي الْقبْلَة فِيهَا قطعا وَكَيف يطْلب الْقطع على ذَلِك من يعلم أَنه لَا طَرِيق لَهُ إِلَى الْقطع وَإِنَّمَا مَطْلُوبه الأول أَن يظنّ جِهَة الْقبْلَة بأقوى الأمارات وأشبهها وَيتبع هَذَا الْمَطْلُوب مَطْلُوب آخر وَهُوَ الْعلم بِوُجُوب الصَّلَاة إِلَى تِلْكَ الْجِهَة وَيتبع ذَلِك فعل الصَّلَاة إِلَى تِلْكَ الْجِهَة وَكَذَلِكَ

نقُول فِي الْحَوَادِث إِن مَطْلُوب الْمُجْتَهد أَن يظنّ عِلّة الأَصْل بأقوى الأمارات وَيتبع ذَلِك أَن يعلم وجوب إِلْحَاق الْفَرْع بِالْأَصْلِ وَيتبع هَذَا الْعلم أَن يعْمل بذلك فان قَالُوا أَلَيْسَ الْمُجْتَهد فِي الْقبْلَة يعلم أَن الْقبْلَة عين من الْأَعْيَان يجوز أَن تكون فِي الْجِهَة الَّتِي يظنّ باقوى الأمارات أَن الْقبْلَة فِيهَا وَيجوز أَن لَا يكون فِيهَا فَقولُوا إِن حكم الْمَسْأَلَة هُوَ حكم معِين عِنْد الله يجوز أَن يكون هُوَ حكم أقوى الأمارات وَيجوز أَن يكون غَيره قيل لَهُم وَلم إِذا جَازَ أَن تكون الْقبْلَة فِي غير الْجِهَة الَّتِي يطْلبهَا الْمُجْتَهد فِيهَا جَازَ أَن يكون حكم الْمَسْأَلَة غير حكم أشبه الأمارات وَيُقَال لَهُم الْفرق بَينهمَا أَن الْقبْلَة نَفسهَا لَيْسَ هِيَ مَطْلُوب الْمُجْتَهد الَّذِي كلف الصَّلَاة إِلَيْهِ بِعَيْنِه فَلم يمْتَنع أَن تكون فِي غير الْجِهَة الَّتِي يطْلبهَا فِيهَا بل مَطْلُوبَة الَّذِي كلف هُوَ الصَّلَاة إِلَى الْجِهَة الَّتِي يظنّ الْقبْلَة فِيهَا لَا إِلَى الْقبْلَة بِنَفسِهَا ولسنا نمْنَع أَن يكون مَا لم يُكَلف الْمَرْء إِصَابَته غير مَوْجُود بِحَيْثُ نظنه وَأما حكم الْحَادِثَة الَّذِي هُوَ مصلحَة الْمُكَلف فقد كلف الْوُصُول إِلَيْهِ فَلَا بُد أَن يكون ذَلِك الحكم إِمَّا مُقْتَضى دلَالَة أَو مُقْتَضى امارة قَوِيَّة أَو ضَعِيفَة فاذا لم يكن دلَالَة وَلَا أَمارَة ضَعِيفَة مَعَ تمكن الْمُجْتَهد من القوية فَلَا بُد من كَونه مُقْتَضى أَمارَة قَوِيَّة وَالْقَوْل بعد ذَلِك بانه يجوز أَن لَا يكون ذَلِك الحكم مُقْتَضى الأمارة القوية مناقضة ظَاهِرَة فان قَالُوا ذَلِك الحكم أَيْضا مَا كلف الْمَرْء إِصَابَته كَمَا لم يُكَلف إِصَابَة الْقبْلَة قيل قد أفسد ذَلِك فِيمَا تقدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْفرق بَين مسَائِل الِاجْتِهَاد وَمَا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن قَاضِي الْقُضَاة ذكر فِي الْعمد أَن مَا عَلَيْهِ دلَالَة قَاطِعَة فَلَيْسَ هُوَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَالْحق فِي وَاحِد مِنْهُ لَا يحل خِلَافه سَوَاء كَانَت تِلْكَ الدّلَالَة خُفْيَة اَوْ جلية وَلم يفصل بَين الْإِجْمَاع الْمُبْتَدَأ وَبَين الْإِجْمَاع بعد

الْخلاف وَالْإِجْمَاع الصَّادِر عَن اجْتِهَاد وَحكي عَن مُحَمَّد بن الْحسن أَنه نقض حكم الْحَاكِم فِي بيع امهات الْأَوْلَاد لوُقُوع الْإِجْمَاع على ذَلِك وَإِن كَانَ بعد الْخلاف وَعَن أبي حنيفَة أَنه لَا ينْقض بِهِ حكم الْحَاكِم وَحكي عَن أبي الْحسن أَن أَبَا حنيفَة لم يخرج هَذَا الْإِجْمَاع من كَونه حجَّة وَلكنه لَا ينْقض بِهِ حكم الْحَاكِم وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْعُمُوم إِذا خص بعضه أَن مَا دخل تَحت الْعُمُوم بعد التَّخْصِيص لَا يسوغ خِلَافه وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة إِن مَا لَيْسَ عَلَيْهِ دلَالَة قَاطِعَة بل عَلَيْهِ أَمارَة فَقَط كَخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس فَالْوَاجِب على الْمُجْتَهد أَن يعْمل بِمَا يُؤَدِّيه إِلَيْهِ اجْتِهَاده فَكل مُجْتَهد فِيهِ مُصِيب وَيحل خلاف بعض الْمُجْتَهدين لبَعض وَسَوَاء كَانَ خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس مخصصين لعُمُوم الْكتاب أَو لم يَكُونَا مخصصين لَهُ وَاعْلَم أَن الْفُقَهَاء يعدون من مسَائِل الِاجْتِهَاد مَا يسْتَدلّ عَلَيْهِ بِالْكتاب كالنية فِي الْوضُوء وَالتَّرْتِيب وَأَن الْوَاو للتَّرْتِيب أَو للْجمع وَأَن الْفَاء للتعقيب وَهَذِه أَدِلَّة مَعْلُومَة وَلَيْسَ فيهم من يسلم أَن ظَاهر الْآيَة مَعَ مُخَالفَة وَأَنه عدل عَن ذَلِك لخَبر وَاحِد أَو قِيَاس فَيكون طَرِيق الْمَسْأَلَة الأمارات فَقَط بل كل مِنْهُم يَقُول إِن الْآيَة تفِيد مَا أقوله اللَّهُمَّ إِلَّا ان يُقَال إِن كَون الْوَاو للْجَمِيع أَن للتَّرْتِيب وَأَن الْفَاء للتعقيب فِي اللُّغَة طَريقَة الأمارات دون الْأَدِلَّة وَهَذَا بعيد وَإِذا ثَبت ذَلِك لم يكن الْفرق بَين مسَائِل الِاجْتِهَاد وَمَا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد مَا ذكره وَيَنْبَغِي أَن يُقَال إِن مسَائِل الِاجْتِهَاد الَّتِي لَا لوم على المخطىء فِيهَا هِيَ مَا اخْتلف فِيهِ أهل الِاجْتِهَاد من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَلَا يدْخل فِي ذَلِك مَا لَيْسَ من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَلَا مَا اتّفق عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ وَلَا مَا خَالف فِيهِ من لَيْسَ من أهل الِاجْتِهَاد وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يكون الْخَطَأ فِي الْفُرُوع الَّتِي عَلَيْهَا أَمَارَات إِن كَانَ لَهُ ثَوَاب أَو يتفضل الله بغفرانه وَهَذَا الْفَصْل يَصح على قَول من قَالَ إِن الْحق فِي وَاحِد فَأَما من قَالَ كل

مُجْتَهد مُصِيب فأنما يفصل بَين مسَائِل الِاجْتِهَاد وَبَين غَيرهَا فِي إِصَابَة الْمُجْتَهدين وَلَيْسَ يجوز ان يُصِيبُوا عِنْده كلهم إِذا كَانَ فِي الْمَسْأَلَة دلَالَة لِأَن خلاف الدّلَالَة خطأ وَيجوز لمن قَالَ إِن الْحق فِي وَاحِد أَن يَقُول خلاف الدّلَالَة خطأ وَأَنه مغْفُور وَإِذ قد ذكرنَا أَحْكَام الْمُجْتَهدين فِي الْفُرُوع فلنذكر أَحْكَام الْمُجْتَهدين فِي الاصول وَعند الْفَرَاغ مِنْهُ يَقع الْفَرَاغ من الْكتاب إِن شَاءَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن الْمُجْتَهدين فِي الْأُصُول لَا يجوز أَن يَكُونُوا على تباينهم مصيبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن المعتقدين للشَّيْء باعتقادات متنافية لَا يجوز كَونهم بأجمعهم مصيبين كالمعتقدين أَن الله سُبْحَانَهُ يرى فِي بعض الْحَالَات والمعتقدين أَنه لَا يرى بِحَال وَقَالَ عبيد الله بن الْحسن الْعَنْبَري إِن الْمُجْتَهدين فِي الاصول من أهل الْقبْلَة كالموحدة والمشبهة وَأهل الْعدْل والقدرية مصيبون وَيَنْبَغِي أَن نبين معنى قَوْلنَا صَوَاب ثمَّ نبين أَنه لَا يُمكن اجْتِمَاع الاعتقادات المتنافية فِيهِ فَنَقُول إِن كَانَ الْفِعْل الْمَوْصُوف بِأَنَّهُ صوب خَارِجا عَن الاعتقادات والظنون وَالْأَخْبَار وَكَانَ من أَفعَال الْجَوَارِح وَغَيرهَا كالارادات والكراهات فَالْمُرَاد بذلك أَن فاعلة قد أصَاب بِهِ مَا كلف مَأْخُوذ من إِصَابَة الرَّامِي بسهمه الْغَرَض وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة المُرَاد بذلك أَنه أصَاب بِهِ فَاعله الْحسن وَإِن كَانَ الْفِعْل من حيّز الاعتقالات فقد يُوصف بِأَنَّهُ صَوَاب وَيُرَاد بِهِ هَذَا الْمَعْنى وَيُرَاد بِهِ أَيْضا أَنه أُصِيب بِهِ الْحق وَأَنَّهَا تعلّقت بالمعتقد والمخبر عَنهُ على مَا هما بِهِ وَإِن كَانَ الْفِعْل ظنا فقد يُوصف بِأَنَّهُ صَوَاب وَيُرَاد بِهِ الْوَجْه الأول وَقد يُرَاد بِهِ أَن مظنونه على مَا ظَنّه أَي أَن الْأَقْرَب فِي مظنونه أَنه يكون على مَا تنَاوله

الظَّن سَوَاء وجد مظنونه أَو لم يُوجد وَقد يُقَال أَيْضا أَخطَأ ظن فلَان إِذا ظن وجود الشَّيْء فَلم يُوجد وَيُقَال أصَاب ظَنّه إِذا وجد مظنونه على حد مَا ظَنّه فالظن يُوصف بِأَنَّهُ صَوَاب على أحد هَذِه الْوُجُوه الثَّلَاثَة فاذا ثَبت ذَلِك لم يجز كَون اعْتِقَاد الرُّؤْيَة واعتقاد نَفيهَا صوابين على كل هَذِه الْوُجُوه لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ الْمُخَالف بكونهما صوابين أَنَّهُمَا يتناولان الشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ فَذَلِك يَقْتَضِي أَن يكون البارىء سُبْحَانَهُ يرى فِي الْحَالَات وَلَا يرى فِي شَيْء من الْحَالَات وَذَلِكَ يتنافى وَكَذَلِكَ القَوْل فِي كل اعتقادين ضدين لِأَنَّهُمَا إِنَّمَا يكونَانِ ضدين إِذا تعلقا باثبات وَنفي يَسْتَحِيل اجْتِمَاعهمَا وَكَذَلِكَ الخبران عَن نفي وَإِثْبَات يَسْتَحِيل اجْتِمَاعهمَا لَا يجوز كَونهمَا متناولين للشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ لِاسْتِحَالَة اجْتِمَاع الْإِثْبَات وَالنَّفْي المتنافيين وَكَذَلِكَ الْخَبَر بِأَن الْعَالم قديم وَالْخَبَر بِأَنَّهُ مُحدث وغن أَرَادَ أَن هذَيْن الاعتقادين صوابان على معنى أَنَّهُمَا حسنان أَو قد اصيب بهما التَّكْلِيف لم يجز لِأَنَّهُ إِذا كَانَ أَحدهمَا متناولا للشَّيْء لَا على مَا هُوَ بِهِ فَهُوَ جهل وَالْجهل قَبِيح لَا يتَنَاوَلهُ التَّكْلِيف وَالْخَبَر المتناول للشَّيْء لَا على مَا هُوَ بِهِ كذب وقبيح لَا يتَنَاوَلهُ التَّكْلِيف واما الظَّن الصَّادِر عَن أَمارَة مُجْتَهد فَهُوَ أبدا صَوَاب لِأَنَّهُ متناول لما الْأَغْلَب كَونه فَهُوَ كَذَلِك كَانَ مظنونه أَو لم يكن وَأما أَنه صَوَاب بِمَعْنى أَن فَاعله قد أصَاب مَا كلف فانه إِن كَانَ مَا قد كلف فعله فَهُوَ صَوَاب على هَذَا الْمَعْنى وَإِن لم يُكَلف فعله فَلَيْسَ بصواب على هَذَا الْمَعْنى فان قَالَ الْمُخَالف إِن الله تَعَالَى كلف أهل الْقبْلَة الظَّن لكَونه يرى أَو لَا يرى واماراتهم هَذِه الْآيَات المتشابهة فالظانون لِكِلَا الْأَمريْنِ مصيبون لما كلفوه من الظَّن قيل إِن الْمَرْء إِنَّمَا كلف الظَّن إِذا تعذر عَلَيْهِ الْعلم وَالْعلم هَا هُنَا غير مُتَعَذر وَأَيْضًا فالمخالفون فِي الرُّؤْيَة وَفِي الْجَبْر وَفِي الْعدْل يَدعِي كل فريق مِنْهُم أَنه عَالم غير ظان فَالْقَوْل بِأَنَّهُم كلفوا الظَّن خَارج عَن الْإِجْمَاع

وَيلْزم السَّائِل تَكْلِيف الْيَهُود وَالنَّصَارَى والملحدة الظَّن وأماراتهم الشّبَه الَّتِي يتعلقون بهَا ويكونوا مصيبين فِي ظن النَّفْي وَالْإِثْبَات وَهَذَا محَال

زيادات المعتمد لأبي الحسين البصري أيضا عن النسخة الوحيدة في مكتبة لاله لي بإستانبول

زيادات الْمُعْتَمد لأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ أَيْضا عَن النُّسْخَة الوحيدة فِي مكتبة لاله لي بإستانبول

فصل

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فصل إِن قيل إِذا قُلْتُمْ إِن الْأَحْكَام الْمَعْلُومَة بِنَصّ الشَّرِيعَة أَو بالاستنباط أَحْكَام شَرْعِيَّة وقلتم أَيْضا إِن الْأَحْكَام الْعَقْلِيَّة إِذا لم تنقلها الشَّرْعِيَّة هِيَ شَرْعِيَّة ايضا فقد قُلْتُمْ إِن الْأَحْكَام كلهَا شَرْعِيَّة وَإِذا قُلْتُمْ ذَلِك فَكيف تَقولُونَ إِن الْأَحْكَام مِنْهَا عقلية وَمِنْهَا شَرْعِيَّة الْجَواب إِن وصف الحكم بِأَنَّهُ شَرْعِي يكون على وَجْهَيْن أَحدهمَا يُرَاد بِهِ أَنه حصل بِنَصّ الشَّرِيعَة أَو بِأَفْعَال حَاصِلَة فِيهَا أَو باستنباط من ذَلِك فَقَط وَالْآخر أَنه حصل بذلك أَو بإمساك الشَّرِيعَة عَن نَقله عَن مُقْتَضى الْعقل فاذا قُلْنَا الْأَحْكَام مِنْهَا عقلية وَمِنْهَا شَرْعِيَّة فَإنَّا نُرِيد الْوَجْه الأول أَي أَن مِنْهَا عَقْلِي وَإِمَّا مركوز فِي الْعقل أَو حَاصِل بِدَلِيل عَقْلِي وَمِنْهَا مَا حصل بِنَصّ الشَّرِيعَة أَو بِفعل أَو باستنباط وكل وَاحِد من هذَيْن الْقسمَيْنِ مُقَابل للْآخر وَإِذا قُلْنَا إِن أصُول الْفِقْه هِيَ طرق الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَإنَّا نُرِيد الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهَا طرق إِلَى الْأَحْكَام الْحَاصِلَة بِنَصّ الشَّرِيعَة أَو بِأَفْعَال أَو باستنباط مِنْهَا أَو بإمساك الشَّرِيعَة عَن نَقله عَن مُقْتَضى الْعقل فَلذَلِك يَجْعَل الْحَظْر وَالْإِبَاحَة إِذا لم ينقلنا عَنْهُمَا الشَّرِيعَة من أَبْوَاب أصُول الْفِقْه وطرقه وَلَوْلَا أَن ذَلِك مَوْصُوف بِأَنَّهُ من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَا جَازَ أَن يَجْعَل الطَّرِيق إِلَيْهِ من طرق الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَالَّذِي يبين مَا ذَكرْنَاهُ أَن أحدا من الْفُقَهَاء لَا يمْنَع من ان نصف أَحْكَام الْفُرُوع الَّتِي يسْتَدلّ عَلَيْهَا بِالْبَقَاءِ على حكم الْعقل بِأَنَّهَا من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَقد يُوصف أَيْضا بِأَنَّهَا عقلية على معنى أَنَّهَا ثَابِتَة بِالْعقلِ فَبَان أَن وصف الحكم بِأَنَّهُ شَرْعِي جَازَ على الْوَجْهَيْنِ اللَّذين ذكرناهما

فصل

فصل إِن قيل إِذا قُلْتُمْ إِن الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة هِيَ الْمَعْلُومَة بأدلة شَرْعِيَّة من خطاب أَو فعل أَو استنباط أَو الْمَعْلُومَة بإمساك الشَّرِيعَة عَن نقلهَا عَن حكم الأَصْل فَيجب أَن يكون وجوب الْمعرفَة شَرْعِيًّا وَطَرِيقَة إمْسَاك الشَّرِيعَة عَن نقل وُجُوبهَا الثَّابِت بِالْعقلِ قيل لَا يلْزم ذَلِك لأَنا إِذا قُلْنَا الحكم الشَّرْعِيّ هُوَ الْمَعْلُوم بإمساك الشَّرِيعَة عَن نقل حكم الْعقل لم يلْزم عَلَيْهِ وجوب الْمعرفَة لِأَنَّهُ غير مَعْلُوم وُجُوبهَا بالشريعة بل لَا يَصح أَن يعلم ذَلِك بِالشَّرْعِ لِأَن صِحَة الشَّرْع مَبْنِيَّة على الْمعرفَة فاذا لم يَصح أَن نَعْرِف وُجُوبهَا بِدَلِيل مُبْتَدأ شَرْعِي فأحرى أَن لَا نَعْرِف ذَلِك بإمساك الشَّرِيعَة عَن نَقله وَأَيْضًا فانا لم نذْكر ذَلِك على أَنه حد للْحكم الشَّرْعِيّ وَإِنَّمَا ذَكرْنَاهُ لنبين أَنا أَشَرنَا بقولنَا حكم شَرْعِي إِلَى ذَلِك وَمَتى أردنَا أَن نحد ذَلِك قُلْنَا الحكم الشَّرْعِيّ هُوَ مَا رَجَعَ أهل الشَّرِيعَة فِي الْعلم بِهِ إِلَى الشَّرِيعَة إِمَّا بِأَن يستدلوا عَلَيْهِ بأدلة شَرْعِيَّة مُبتَدأَة أَو بإمساك الشَّرِيعَة عَن نَقله فَكل مَا سلك الْفُقَهَاء فِيهِ هَذَا المسلك فَهُوَ حكم شَرْعِي وَمَا لم يسلكوا فِيهِ هَذَا المسلك لَا يُسمى حكما شَرْعِيًّا وَإِن صَحَّ أَن يسْتَدلّ بإمساك الشَّرِيعَة عَن نَقله وَأما وجوب الْمعرفَة فَغير لَازم لما قُلْنَاهُ أَولا فصل إِن قيل إِذا حددتم الظَّن بِأَنَّهُ تَغْلِيب بِالْقَلْبِ لأحد مجوزين ظاهري التجويز والتجويز هُوَ الشَّك وَالشَّكّ هُوَ خلو الْحَيّ من اعْتِقَاد النقيضين وَالظَّن لَهما مَعَ خطورة بالبال فَيجب أَن يكون الظَّان شاكا والشاك غير ظان فالظان إِذا غير ظان فان أجبتم عَن ذَلِك فقلتم نُرِيد بالتجويز هَهُنَا اعْتِقَاد إِمْكَان كل وَاحِد من النقيضين قيل لكم فَمَا قَوْلكُم فِيمَن غلب على ظَنّه أَن أحد النقيضين مُمكن يجوز أَن يغلب على ظَنّه أَن الله لَا يَسْتَحِيل أَن يرى أَلَيْسَ

هَذَا ظان وَلَيْسَ هُوَ مُعْتَقدًا صِحَة رُؤْيَته وَلَا أَنَّهَا غير صَحِيحَة الْجَواب إِن قَوْلنَا فلَان شَاك فِي النقيضين أَو مجوز لكل وَاحِد مِنْهُمَا قد يُرَاد بِهِ أَنه غير مُعْتَقد وَلَا لوَاحِد مِنْهُمَا وَلَا ظان وَقد يُرَاد بذلك أَنه غير قَاطع على وَاحِد مِنْهُمَا وَلَا فِي حكم الْقَاطِع كالجاهل فعلى هَذَا نصف الظَّان بِأَنَّهُ شَاك وَبِأَنَّهُ مجوز لما ظَنّه وَلغيره بِمَعْنى أَنه مجوز لكل وَاحِد مِنْهُمَا غير قَاطع فصح أَن نقُول إِنَّه قد غلب بِقَلْبِه أحد المجوزين إِذْ هُوَ مجوز لكل وَاحِد مِنْهُمَا غير قَاطع وَلَا فِي حكم الْقَاطِع وَلَا فرق بَين أَن نقُول تَغْلِيب بِالْقَلْبِ لأحد المجوزين ظاهري التجويز وَبَين أَن نقُول تَغْلِيب الْحَيّ بِالْقَلْبِ لأحد أَمريْن غير قَاطع على وَاحِد مِنْهُمَا وَلَا فِي حكم الْقَاطِع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب إِثْبَات الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَحدهمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الأولى أَن نقسم الْحَقِيقَة إِلَى اللُّغَوِيَّة والعرفية والشرعية ثمَّ نحد كل وَاحِدَة مِنْهَا وَهُوَ أولى من أَن نحد الْكل بِحَدّ عَام لِأَنَّهُ يَقْتَضِي اضطرابا فِي الْحَد فَنَقُول الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة هِيَ مَا أفيد بِهِ مَا وضع لَهُ فِي أصل اللُّغَة والحقيقة الْعُرْفِيَّة مَا أفيد بِهِ مَا وضع لَهُ فِي أصل الْعرف والحقيقة الشَّرْعِيَّة هِيَ مَا أفيد بِهِ مَا وضع لَهُ فِي أصل الشَّرْع وَاعْلَم أَنه إِذا حد الْمجَاز بِأَنَّهُ مَا أفيد بِهِ معنى مصطلحا عَلَيْهِ غير الْمَعْنى المصطلح عَلَيْهِ فِي الأَصْل بَطل إِذا وضع أهل اللُّغَة إسما لشَيْء ثمَّ تواضعوا على أَن يَجْعَلُوهُ إسما لشَيْء آخر وَلم ينقلوه عَن الأول لِأَنَّهُ قد أفيد بِهِ غير مَا وضع لَهُ فِي الأَصْل وَهُوَ مَعَ ذَلِك حَقِيقَة فِيهِ من جِهَة اللُّغَة كَمَا أَنه حَقِيقَة فِي الأول وَإِنَّمَا ينْفَصل من الْمجَاز بِالسَّبقِ إِلَى الأفهام فَيَنْبَغِي أَن نحد الْحَقِيقَة بذلك وَمَتى حددناها بذلك على الْإِطْلَاق لم يَصح أَيْضا لأجل الْحَقِيقَة الْمُشْتَركَة لِأَنَّهُ إِذا أفيد بِاللَّفْظِ أحد حقيقتيه لم يسْبق إِلَى الْفَهم دون

فصل

الْحَقِيقَة الْأُخْرَى فَيَنْبَغِي أَن نقسم الْحَقِيقَة إِلَى المفردة والمشتركة فالمفردة هِيَ مَا أفيد بهَا مَا هُوَ الأسبق إِلَى فهم العارفين بالاصطلاح عِنْد سماعهَا وَلَا يبطل ذَلِك باللفظة إِذا علم أَنه مَا عني بِهِ الْحَقِيقَة وَكَانَ لَهَا وَجْهَان فِي الْمجَاز أَحدهمَا أسبق إِلَى الْفَهم من الآخر وأشبه بِالْحَقِيقَةِ مِنْهُ لِأَنَّهُ وَجه الْمجَاز الأسبق لَيْسَ يسْبق إِلَى الْفَهم عِنْد سَماع اللَّفْظَة إِلَّا بعد أَن يخرج الْحَقِيقَة من ان تكون مُرَادة فَلذَلِك لم يكن اللَّفْظ حَقِيقَة فِيهِ وَأما الْحَقِيقَة الْمُشْتَركَة فَهِيَ مَا أفيد بهَا معنى يُسَاوِيه غَيره فِي السَّبق إِلَى الْفَهم عِنْد سَماع أهل الِاصْطِلَاح لَهَا وَقد دخل فِي ذَلِك الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة والعرفية والشرعية وَلَا يَنْبَغِي أَن نحد الْحَقِيقَة الْمُشْتَركَة بِأَنَّهَا مَا سبق إِلَى الْفَهم مَعْنَاهَا أَو مَا يقوم مقَامه لِأَن للسَّائِل أَن يَقُول يقوم مقَامهَا فِي مَاذَا فان قُلْنَا فِي كَونهَا حَقِيقَة كُنَّا قد فسرنا اللَّفْظَة بِنَفسِهَا وَأما الْمجَاز فَهُوَ مَا أفيد بِهِ معنى مصطلحا عَلَيْهِ والأسبق إِلَى الْفَهم فِي تِلْكَ الْمُوَاضَعَة غَيره فصل إِن قيل إِذا كَانَت الْحَقِيقَة المفردة هِيَ مَا أفيد بهَا معنى لَا يسْبق إِلَى الْفَهم غَيره لم يدْخل فِيهِ الْأَمر لِأَنَّهُ لم يوضع ليُفِيد غَيره عنْدكُمْ كَمَا يَقُوله أصحابكم بل هُوَ نَفسه الطّلب قيل بل يدْخل فِيهِ الْأَمر لِأَن صيغته جعلهَا أهل اللُّغَة طلبا ووضعوها لَهُ لَا على أَن يكون إسما لَهُ بل على أَن يكون نَفسهَا طلبا وَإِنَّمَا يكون الصِّيغَة قد أفيد بهَا الطّلب إِذا قارنها من النَّفس مَا يطابقها وَهُوَ الارادة وَمَا يجْرِي مجْراهَا كَمَا يكون اللَّفْظَة مفادا بهَا مَا وضعت لَهُ إِذا قارنها من الْمُتَكَلّم بهَا إِرَادَة مَا وضعت لَهُ وَمَا يجْرِي مجْراهَا نَحْو الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر فقد أمكن ذَلِك فِي الْأَمر كَمَا أمكن فِي الْخَبَر

فصل

فصل إِن قيل إِذا قُلْتُمْ إِن مُوَافقَة الْأَمر هِيَ فعل مأموره ومخالفته هِيَ الْإِخْلَال بمأموره لزمكم إِذا كَانَت مُوَافقَة الْأَمر بالنوافل هِيَ فعل مأمورة أَن تكون مُخَالفَته هِيَ الْإِخْلَال بمامورة فَيكون التارك للنافلة مُخَالفا لأمر الله بهَا فَيكون دَاخِلا تَحت الْوَعيد فِي قَوْله {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} فَالْجَوَاب إِن الْأَمر بالنوافل هُوَ فِي تَقْدِير قَول الْقَائِل لغيره الأولى أَن تفعل وَلَك أَن لَا تفعل وَهَذَا يتَضَمَّن مَعْنيين فموافقته هِيَ شَيْئَانِ لَا شَيْء وَاحِد فاذا لَيْسَ مُوَافَقَته هِيَ أَن تفعل فَقَط بل مُوَافَقَته هِيَ أَن تفعل وَيجوز أَن تفعل فَيَنْبَغِي أَن يكون مُخَالفَته هِيَ أَن لَا تفعل مَعَ أَنه لَا يجوز أَن تفعل أَو أَن تفعل مَعَ أَنه لَا يجوز أَن لَا تفعل وَأما قَول الْقَائِل افْعَل إِذا لم تدل دلَالَة على جَوَاز ترك الْفِعْل فَلَيْسَ فِي ظَاهره إِلَّا أَن تفعل وَإِذا كَانَ ظَاهره استدعاء الْفِعْل فَقَط وَلَا يتَضَمَّن لَفظه شَيْئا آخر فموافقته هُوَ أَن تفعل لَا غير فَكَانَت مُخَالفَته نقيض أَن تفعل وَهُوَ الْإِخْلَال بِالْفِعْلِ فصل لَيْسَ يمْتَنع أَن يُقَال إِن المخل بالكفارات الثَّلَاث إِذا اسْتحق الْعقَاب على الْإِخْلَال بأجمعها فانه لَا يكون ذَلِك الْعقَاب هُوَ عِقَاب وَاحِد مِنْهَا بل عِقَاب يعلم الله قدره لَا ينْسب إِلَى وَاحِد مِنْهَا وَلَا يمْتَنع أَن يُقَال هُوَ عِقَاب أقلهَا عقَابا بِأَن يكون بَعْضهَا أَكثر مشقة فَيسْتَحق على الْإِخْلَال بِهِ عقَابا لَو انْفَرد وُجُوبه على مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْمُعْتَمد فصل إِذا نَاب أحد الْفِعْلَيْنِ منا الآخر فِي الْمصلحَة لم يجز أَن يُوجب الْحَكِيم

فصل في الفور

أَحدهمَا بِعَيْنِه لِأَنَّهُ يكون قد فصل بَينهمَا فِي الْوُجُوب مَعَ اشتراكهما فِي وَجهه وَلَا أَن يوجبهما على الْجمع لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجمع وَجه وجوب لَا يحصل بِأَحَدِهِمَا وَلَا أَن لَا يُوجب وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمَا لِأَن فِي ذَلِك تَفْوِيت الْمصلحَة فَلم يبْق إِلَّا أَن يُوجِبهَا على الْبَدَل فصل فِي الْفَوْر إِذا اسْتدلَّ أَصْحَاب الْفَوْر بِالْقِسْمَةِ فَقَالُوا إِن جَازَ تَأْخِير الْمَأْمُور بِهِ عَن الزَّمَان الثَّانِي لم يخل إِمَّا أَن يجوز تَأْخِيره إِلَى غَايَة أَو لَا إِلَى غَايَة وَجَوَاز ذَلِك لَا إِلَى غَايَة بِلَا بدل يلحفه بالنوافل وَجَوَاز ذَلِك إِلَى بدل لَا يَصح لِأَنَّهُ لَا دَلِيل على إِثْبَات بدل وَنفي الْبَدَل يَقْتَضِي وجوب الْفَوْر وَتَعْيِين الْوُجُوب بِالثَّانِي قيل لَهُم وَلَا دَلِيل على تعْيين الْوُجُوب بِالثَّانِي وَنفي ذَلِك يَقْتَضِي إِثْبَات بدل على مَا قد ذكر فِي ذَلِك فان قَالُوا تعْيين الْوُجُوب بِالثَّانِي لَازم لنفي الْبَدَل قيل لَهُم وَإِثْبَات الْبَدَل لَازم لنفي تعْيين الْوُجُوب بِالثَّانِي فلستم بِأَن تنفوا الْبَدَل لفقد الدَّلِيل عَلَيْهِ وتعينوا الْوُجُوب بِالثَّانِي تبعا لذَلِك بِأولى من أَن ننفي تعْيين الْوُجُوب بِالثَّانِي لفقد الدَّلِيل على ذَلِك وَنثْبت الْبَدَل تبعا لذَلِك فان قَالُوا تعْيين الْوُجُوب بِالثَّانِي وَاجِب لِأَن صِيغَة الْأَمر تَقْتَضِيه كَمَا يَقْتَضِي الإيقاعات الْحُكَّام فِي الثَّانِي قيل لَهُم هَذَا عدُول عَن دَلِيل الْقِسْمَة إِلَى دَلِيل آخر وَأَنْتُم فِي دَلِيل الْقِسْمَة إِنَّمَا عنيتم الْوُجُوب بِالثَّانِي بعد إبِْطَال الْبَدَل واقتصرتم فِي إبِْطَال الْبَدَل على انه لَا دَلِيل عَلَيْهِ فعارضناكم بِمَا ذَكرْنَاهُ فان قَالُوا إِنَّمَا نَفينَا الْبَدَل لِأَنَّهُ لَا ذكر لَهُ فِي لفظ الْأَمر قيل لَهُم وَلَا ذكر لتعيين الْوَقْت فِي لفظ الْأَمر فلستم بِنَفْي أَحدهمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لفظ الْأَمر ذكر لَهُ بِأولى من أَن ننفي مَا أبيتموه من تعْيين الْوُجُوب بِالثَّانِي لِأَنَّهُ لَا ذكر لَهُ فِي لفظ الْأَمر لنثبت مَا نفيتموه من الْبَدَل

فصل في الفور ايضا

فصل فِي الْفَوْر ايضا إِن قيل هلا جَازَ أَن يقوم الْعَزْم مقَام المعزوم عَلَيْهِ فِي إِسْقَاط الْفَرْض فِي وَقت دون وَقت كَمَا قَامَ الْمسْح على الْخُفَّيْنِ مقَام غسل الرجلَيْن فِي الْمصلحَة وَفِي اسْتِبَاحَة الصَّلَاة يَوْمًا وَلَيْلَة دون مَا زَاد على ذَلِك للمقيم قيل إِن مسح الْخُفَّيْنِ عبَادَة مُبتَدأَة وَلَيْسَ بَدَلا من غسل الرجلَيْن كَمَا يكون أحد الواجبين بَدَلا من الْوَاجِب الآخر لِأَن اللابس للخفين لَا يلْزمه غسل الرجلَيْن فِي تِلْكَ الْحَال وَإِنَّمَا يلْزم ذَلِك إِذا تَغَيَّرت الْحَال بقلع الْخُف وَإِذا لم يمْتَنع ذَلِك فَمَا يُنكر السَّائِل أَن يكون الْمسْح على الْخُفَّيْنِ عبَادَة مُبتَدأَة يستباح بهَا الصَّلَاة وَمن الْمصلحَة أَن يستباح بهَا يَوْمًا وَلَيْلَة فَقَط فَلم يقل إِن كل وَاحِد مِنْهُمَا قد قَامَ مقَام الآخر فِي الْوُجُوب وَوجه الْمصلحَة وَمَعَ ذَلِك لم يجز الْمسْح على الْخُفَّيْنِ مجْرى غسل الرجلَيْن فِي اسْتِبَاحَة الصَّلَاة بِهِ اسْتِبَاحَة غير مقدرَة فصل فِي النَّهْي إِذا أمكن الْمنْهِي أَن لَا يفعل المنهى عَنهُ من غير أَن يفعل ضدا من أضداده لم يكن النَّهْي إِيجَابا لشَيْء من أضداد المنهى عَنهُ نَحْو أَن ينْهَى المستلقي على ظَهره عَن الْقيام فانه يُمكنهُ أَن لَا يفعل الْقيام وَلَا يفعل ضدا من أضداده فصل فِي النَّهْي عَن الْبَدَل إِذا أمكن الْمُكَلف الانفكاك من فعلين وَتوجه النَّهْي إِلَيْهِمَا وَكَانَ نهيا عَن الْبَدَل فَذَلِك بِأَن يُقَال لَهُ لَا تفعل هَذَا بَدَلا من ذَلِك وَلَا ذَاك بَدَلا من هَذَا أَي لَا تكون فَاعِلا لأَحَدهمَا تَارِكًا للْآخر وَقد قُلْنَا فِي الْمُعْتَمد إِن هَذَا هُوَ إِيجَاب للْجمع بَينهمَا فَيحسن ذَلِك إِذا أمكن الْجمع وَلم يكن الْإِنْسَان ملْجأ إِلَيْهِ وَيَنْبَغِي أَن يُقَال إِنَّه قد يَقْتَضِي ذَلِك وَيَقْتَضِي أَن لَا يفعل وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمَا لِأَنَّهُ إِذا تَركهمَا فَمَا فعل أَحدهمَا وَترك الآخر كَمَا لَو فعلهمَا جَمِيعًا

فصل في دلالة النهي على الفساد

فصل فِي دلَالَة النَّهْي على الْفساد قَالُوا النَّهْي نقيض الْأَمر وَالْأَمر يدل على إِجْزَاء الْمَأْمُور بِعْ فَيجب أَن يدل النَّهْي على نفي إِجْزَاء المنهى عَنهُ وَنفي إِجْزَاء الْفِعْل هُوَ فَسَاده أجَاب قَاضِي الْقُضَاة بِأَن الْأَمر لَا يدل على الْإِجْزَاء لِأَنَّهُ يُفَسر الْإِجْزَاء بِنَفْي وجوب الْقَضَاء وَقد تقدم القَوْل فِي ذَلِك وَنحن نفسر الْإِجْزَاء بِغَيْر ذَلِك ونقول إِن الْأَمر يدل على إِجْزَاء الْمَأْمُور بِهِ على التَّفْسِير الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَقد أجبنا فِي الْمُعْتَمد عَن الدّلَالَة فَقُلْنَا إِذا كَانَ النَّهْي هُوَ نقيض الْأَمر فَيجب أَن لَا يدل على مَا يدل عَلَيْهِ الْأَمر من الْإِجْزَاء والمخالف لَا يَقُول إِن النَّهْي يدل على إِجْزَاء المنهى عَنهُ وَإِن قَالَ إِن المجزىء عَنهُ قد يكون مجزئا ولمعترض أَن يعْتَرض ذَلِك فَيَقُول لَيْسَ يَكْفِي أَن لَا يدل نقيض الشَّيْء على مَا يدل عَلَيْهِ الشَّيْء بل يجب أَن يدل على نقيض مَا دلّ عَلَيْهِ الشَّيْء أَلا ترى أَن قَوْلنَا زيد لَيْسَ بأبيض لما كَانَ نقيض قَوْلنَا زيد أَبيض دلّ على نقيض مَا يدل عَلَيْهِ قَوْلنَا زيد ابيض فقد دلّ على نفي مَدْلُول قَوْلنَا زيد أَبيض وَالْجَوَاب عَن الدّلَالَة أَن الْأَمر هُوَ استدعاء إِلَى الْفِعْل وَيَقْتَضِي أَن يفعل لَا محَالة فاذا كَانَ النَّهْي نقيضه فَيجب أَن يكون استدعاء إِلَى الْإِخْلَال بِالْفِعْلِ وَيَقْتَضِي أَن لَا يفعل لَا محَالة فقد قُلْنَا إِن مَدْلُول أَحدهمَا هُوَ نقيض مَدْلُول آخر وَأما إِجْزَاء الْمَأْمُور بِهِ فانه يعلم بِنَظَر آخر على مَا ذكر فان قيل فاذا تبع مَدْلُول الْأَمر الْإِجْزَاء فَيجب أَن يتبع مَدْلُول نقيض الْأَمر نقيض مَا يتبع مَدْلُول الْأَمر وَهُوَ نفي الْإِجْزَاء وَهَذَا هُوَ الْفساد قيل لَا يجب ذَلِك لِأَن التَّابِع لاقْتِضَاء الْأَمر لإيقاع الْفِعْل لَا محَالة وَهُوَ إجزاؤه وَهُوَ سُقُوط التَّعَبُّد بِهِ وَهَذَا بِعَيْنِه هُوَ تَابع لاقْتِضَاء النَّهْي للإخلال بِالْفِعْلِ لَا نقيضه وَذَلِكَ لِأَن النَّهْي إِمَّا أَن يكون نهيا عَن مُجَرّد الْفِعْل أَو يكون نهيا عَن إِيقَاع عبَادَة على وَجه فَالْأول هُوَ أَن يُقَال للمكلف لَا تدخل الدَّار فَمَتَى لم يدخلهَا فقد أَجزَأَهُ ذَلِك فِي سُقُوط التَّعَبُّد بالإخلال بذلك فِي ذَلِك الْوَقْت

فصل في العموم

وَفعل الدُّخُول يكون فَاسِدا وَلَا معنى لفساده إِلَّا أَنه قَبِيح محرم وَأما الثَّانِي فَهُوَ أَن يُقَال للمكلف لَا تصل عُريَانا فاذا لم يصل عُريَانا أَجزَأَهُ فِي إِسْقَاط التَّعَبُّد بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت كَمَا قيل لَهُ صل على طَهَارَة فصلى على طَهَارَة فانه يُجزئهُ مَا فعله فِي إِسْقَاط التَّعَبُّد بِهِ فقد تبع مَدْلُول كل وَاحِد مِنْهُمَا مَا تبع مَدْلُول الآخر قيل أَلَيْسَ إِذا قيل للمكلف صل بِطَهَارَة مَعَ أَن الْأَمر على الْوُجُوب فانه يتبع مَدْلُول هَذَا الْأَمر أَنه إِذا خَالف فصلى على غير طَهَارَة كَانَ مَا فعله فَاسِدا غير مجزىء فَيجب إِذا قيل لَهُ لَا تصل عُريَانا فَخَالف وَصلى عُريَانا أَن يكون ذَلِك فَاسِدا غير مجزىء قيل فقد أوجبتم أَن يتبع مَدْلُول النَّهْي مَا يتبع مَدْلُول الآخر وَهُوَ الْفساد وَنفي الْإِجْزَاء وَأَنْتُم أوجبتم أَن يكون التَّابِع لأَحَدهمَا نقيض مَا تبع الآخر وَلم توجبوا أَن يكون أحد التَّابِعين هُوَ التَّابِع للْآخر فَمَا ذكرتموه الْآن غير دَاخل فِي العقد الَّذِي ذكرتموه بل هُوَ ضِدّه فَإِن تركُوا مَا قَالُوهُ وَقَالُوا إِذا كَانَ النَّهْي نقيض الْأَمر فَيجب أَن يكون مَا يتبع مَدْلُول أَحدهمَا هُوَ مَا يتبع مَدْلُول الآخر قيل لَهُم هَذِه دَعْوَى مِنْكُم تخالفون فِيهَا وَنحن وَإِن لم نوجب أَن يكون التَّابِع لأَحَدهمَا هُوَ نقيض مَا يتبع الاخر فَإنَّا لَا نوجب أَن يكون مثله بل ذَلِك مَوْقُوف على الدّلَالَة وَلَيْسَ يجوز أَن يكون كَون النَّهْي وَالْأَمر نقيضين يَقْتَضِي تَسَاوِي مَا يتبع مدلولهما فصل فِي الْعُمُوم إِن قيل مَا تنكرون أَن يكون قَبيلَة من الْعَرَب وضعُوا للاستغراق وَحده لفظ كل أَو غَيره ثمَّ وَضعته قَبيلَة أُخْرَى للْبَعْض فَلم تتْرك الْعَرَب أَن تضع للاستغراق لفظا يَخُصُّهُ وَمَعَ ذَلِك فالإشراك حَاصِل قيل لَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ حَقِيقَة قَوْلنَا كل عِنْد تِلْكَ الْقَبِيلَة للْبَعْض لَا غير وَأَن يسْبق إِلَى إفهامنا عِنْد سَماع قَوْلنَا كل الْبَعْض وَمَعْلُوم أَن ذَلِك لَا يحصل فِي قَبيلَة من الْقَبَائِل كَمَا لَا يسْبق إِلَى فهم أحد عِنْد سَماع اسْم الْأسد الرجل الشجاع إِذا

فصل في الاستثناء من الاستثناء

تجرد اللَّفْظ وَأَيْضًا فَكيف اتّفق فِي أَلْفَاظ الْعُمُوم كلهَا على كثرتها أَن يحصل فِي كل وَاحِد مِنْهَا الْإِشْرَاك وَلَا يخلص وَاحِد مِنْهَا للاستغراق ويضعون لكل معنى اسْما يَخُصُّهُ وَلَا يضعون إسما للاستغراق إِلَّا ويضعونه لنقيض الِاسْتِغْرَاق وَأَيْضًا فَكَانَ يجب فِي الْقَبِيلَة الَّتِي وضعت قَوْلهَا كل للْبَعْض أَن يضعوا للاستغراق لفظا آخر ليعبروا بِهِ عَن الِاسْتِغْرَاق فان قَالُوا قد وضعُوا لَهُ لَفْظَة جَمِيع وَوَضَعته الْقَبِيلَة الْأُخْرَى للْبَعْض قيل كَيفَ اتّفق فِي جَمِيع أَلْفَاظ الْعُمُوم أَن بَعضهم وَضعهَا للْعُمُوم وَبَعضهَا للخصوص وَلم يخلص للاستغراق وَاحِد مِنْهَا وايضا فَمَا ذَكرْنَاهُ من شدَّة الْحَاجة إِلَى وضع اسْم للاستغراق يَقْتَضِي إِذا وَقع الِاشْتِرَاك فِي أَلْفَاظ الْعُمُوم لأجل وضع قبيلتين أَن يضعوا للاستغراق لفظا آخر يَخُصُّهُ لشدَّة حَاجتهم إِلَى ذَلِك فصل فِي الِاسْتِثْنَاء من الِاسْتِثْنَاء قد قيل لَو رَجَعَ الِاسْتِثْنَاء الثَّانِي إِلَى الِاسْتِثْنَاء الأول وَإِلَى الْمُسْتَثْنى مِنْهُ لَكَانَ إِيجَابا وسلبا وَاعْترض ذَلِك بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع ذَلِك إِذا تعلق بكلامين وَإِنَّمَا يمْتَنع إِذا تعلق بِكَلَام وَاحِد وَالْجَوَاب إِنَّه لَو رَجَعَ الِاسْتِثْنَاء الثَّانِي إِلَيْهِمَا لَكَانَ إِيجَابا وسلبا من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ لِأَنَّهُ إِذا قَالَ الْقَائِل لزيد عِنْدِي عشرَة دَرَاهِم إِلَّا دِرْهَمَيْنِ إِلَّا دِرْهَم وَرجع قَوْله إِلَّا دِرْهَم إِلَى الْعشْرَة وَهِي إِيجَاب لنفى مِنْهَا درهما آخر وَرجع مَعَ ذَلِك إِلَى الدرهمين وَهِي نفي لَكَانَ قد أوجب الدِّرْهَم كَأَنَّهُ قَالَ إِلَّا دِرْهَمَيْنِ إِلَّا دِرْهَم من الدرهمين فانه عَليّ فَيكون قد أثبت الدِّرْهَم فِي الْعشْرَة وَقد نَفَاهُ حِين رَجَعَ إِلَى الْعشْرَة فَيكون قد نفى عَن الْعشْرَة درهما سوى الدرهمين واثبته فِيهَا مَعًا فقد بَان أَنه يلْزم أَن يكون الِاسْتِثْنَاء الثَّانِي نفيا وإثباتا من الْعشْرَة فَهُوَ إِذا نفي وَإِثْبَات من كَلَام وَاحِد

الأفعال من باب قسمة الأفعال

الْأَفْعَال من بَاب قسْمَة الْأَفْعَال قد حد الْقَبِيح بِأَنَّهُ فعل على صفة لَهَا تَأْثِير فِي اسْتِحْقَاق الذَّم فان قيل الصَّغِيرَة قبيحة وَلَيْسَت على صفة لَهَا تَأْثِير فِي اسْتِحْقَاق الذَّم قيل بل لَهَا صفة لَهَا تَأْثِير فِي اسْتِحْقَاق الذَّم أَلا ترى أَنه لَو لم يكن فاعلها يسْتَحق من الْمَدْح أَكثر من ذمها لأثرت الصّفة فِي اسْتِحْقَاق الذَّم فان قيل أَلَيْسَ مَعَ اسْتِحْقَاقه لمدح أَكثر من ذمها لَا يُؤثر فِي اسْتِحْقَاق الذَّم فقد انْتقض الْحَد قيل قَوْلنَا لَهَا تَأْثِير فِي اسْتِحْقَاق الذَّم لَا يَقْتَضِي أَن يُؤثر فِي ذَلِك فِي كل حَال وعَلى كل وَجه وسيما فِي عرف الْفُقَهَاء والمتكلمين فِي أصُول الْفِقْه لأَنهم يتعارضون من قَوْلهم لكذا تَأْثِير فِي كَذَا أَنه يُؤثر فِيهِ وَإِن كَانَ يُؤثر فِي بعض الْحَالَات وَإِذا قُلْنَا لليسار تَأْثِير فِي إِزَالَة الْهم لم ينْتَقض ذَلِك فِي عرف كل النَّاس بِأَن يُؤْخَذ الْيَسَار فِي بعض الْحَالَات وَلَا يَزُول الْهم لما كَانَ فِي بعض الْحَالَات مؤثرا فِي إِزَالَة الْهم فَمَا ذَكرْنَاهُ جَار فِي عرف الْفُقَهَاء وَغَيرهم وَإِذا أردنَا حسم هَذَا السُّؤَال قُلْنَا فِي الْحَد الْقَبِيح فعل على صفة لكَونه عَلَيْهَا تَأْثِير فِي اسْتِحْقَاق الذَّم على بعض الْوُجُوه أَو مَا لم يمْنَع من ذمه مَانع أَو قُلْنَا فعل لَهُ تَأْثِير فِي اسْتِحْقَاق الذَّم على بعض الْوُجُوه أَو مَا لم يمْنَع من ذمه مَانع وَلَا نذْكر الصّفة وَإِذا قيدنَا الْحَد بذلك قُلْنَا فِي حد الْحسن إِنَّه فعل لَا تَأْثِير لَهُ فِي اسْتِحْقَاق فَاعله الذَّم على وَجه من الْوُجُوه أَو من غير مَانع وَكَذَلِكَ نُرِيد فِي حد الْوَاجِب إِذا حددناه بِاسْتِحْقَاق الذَّم على الْإِخْلَال بِهِ فَنَقُول هُوَ الْفِعْل الَّذِي للإخلال بِهِ تَأْثِير فِي اسْتِحْقَاق الذَّم على بعض الْوُجُوه أَو مَا لم يمْنَع من ذمه مَانع فصل الأولى فِي قسْمَة الْأَسْبَاب ان يُقَال الْأَسْبَاب الشَّرْعِيَّة ضَرْبَان احدهما يعلم ثُبُوته وَكَونه سَببا بِالشَّرْعِ وَذَلِكَ كفساد الصَّلَاة فانا بِالشَّرْعِ نعلم ثُبُوته ونعلم

بِالشَّرْعِ كَونه سَببا لوُجُوب الْقَضَاء وَالْآخر يعلم ثُبُوته لَا بِالشَّرْعِ وَيعلم بِالشَّرْعِ كَونه سَببا وَذَلِكَ حؤول الْحول فانا نعلم بِغَيْر الشَّرْع وجوده ونعلم بِالشَّرْعِ كَونه سَببا لوُجُوب إِخْرَاج الزَّكَاة وغذا ذكرنَا الْقِسْمَة كَذَلِك كُنَّا قد جعلنَا الْعلم فِي مُقَابلَة الْعلم وَهَذَا مرادنا فِي الْكتاب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من بَاب التأسي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اتِّبَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي فعله يُسْتَفَاد من مُطلق الْمُشَاركَة فِي صُورَة الْفِعْل على الْوَجْه الَّذِي فعله وان التبع لَهُ فعله لِأَنَّهُ فعله فان قيدت الْمُتَابَعَة بِصُورَة الْفِعْل فَقيل اتبع زيد عمرا فِي صُورَة الْفِعْل لم يفد إِلَّا الْمُشَاركَة فِي الصُّورَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن السّمع لَا يَقْتَضِي على الْإِطْلَاق وجوب مثل فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنا ذكرنَا فِي الْبَاب فَقُلْنَا أما من قَالَ بِأَن أَفعاله أَدِلَّة بِاعْتِبَار الْوَجْه فانه إِن علم الطَّرِيقَة الَّتِي اتبعها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْفِعْل عقلية كَانَت أَو سمعية فَهُوَ يرجع إِلَيْهَا فِي الِاسْتِدْلَال وَإِن لم يعرف الطَّرِيقَة فضربان أَحدهمَا يكون فعله بَيَانا لمجمل وَالْآخر لَا يكون بَيَانا لمجمل فان كَانَ بَيَانا لمجمل فَذَلِك الْمُجْمل هُوَ دَال على الْوُجُوب أَو النّدب أَو الْإِبَاحَة ولمعترض أَن يعْتَرض هَذِه الْقِسْمَة فَيَقُول إِذا علم الْمُكَلف أَن فعل النَّبِي بَيَان لمجمل وَاسْتدلَّ بالمجمل على الْوُجُوب فقد عرف الطَّرِيقَة الَّتِي رَجَعَ إِلَيْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْوُجُوب فَهُوَ دَاخل فِي الْقسم الأول وَالْجَوَاب أَنا لم نقل فان علم الْمُكَلف أَن فعل النَّبِي بَيَان لمجمل وَإِنَّمَا قُلْنَا فان كَانَ فعله بَيَانا لمجمل وَقد يكون فعله بَيَانا لمجمل وَلَا يكون الْعلم بذلك قد تقدم للمكلف فَيحْتَاج أَن ينظر ويتأمل ليعرف الْوَجْه الَّذِي أوقع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفِعْل عَلَيْهِ وَمن جملَة مَا يتأمله أَن ينظر هَل فِي الشَّرْع مُجمل هَذَا بَيَانه ليعرف

بالمجمل الْوَجْه الَّذِي أوقع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفِعْل عَلَيْهِ فاذا عرف ذَلِك اكْتفي بالمجمل فِي الِاسْتِدْلَال على الْوُجُوب فِي الْجُمْلَة وَعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوقع الْفِعْل عَلَيْهِ وَإِذا أردنَا حسم هَذَا السُّؤَال فَالْأولى أَن نقُول فِي الْقِسْمَة إِمَّا أَن يعلم الْمُكَلف قبل أَن فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفِعْل أَو مَعَه أَو بعده الطَّرِيقَة الَّتِي صَار إِلَيْهَا فِي الْعلم بالحكم عقلية كَانَت أَو سمعية مجملة كَانَت أَو مفصلة فَرجع إِلَيْهَا فِي الْعلم بالحكم وَإِمَّا أَن لَا يعلم الْمُكَلف ذَلِك فَيجب أَن يسْتَدلّ بِوَجْه آخر على الْوَجْه الَّذِي أوقع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفِعْل عَلَيْهِ فان علم أَنه أوقعه على الْوُجُوب دلّ ذَلِك على وجوب مثله عَلَيْهِ وَإِن علم أَنه أوقعه على النّدب دلّ على أَنه مَنْدُوب إِلَى مثله وَإِن علم أَنه أوقعه مستبيحا لَهُ دلّ على أَنه مُبَاح مِنْهُ اسْتدلَّ على أَن فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْوُجُوب بقول الله عز وَجل {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر} قَالُوا وَقَوله {يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر} تهديدا واجيب عَن ذَلِك بِأَن قَوْله عز وَجل {لكم} لَيْسَ من أَلْفَاظ الْوُجُوب وَلَو أَرَادَ الْوُجُوب لقَالَ {عَلَيْكُم} واعترضنا ذَلِك بانه لَا يَصح الِاسْتِدْلَال بذلك على نفي الْوُجُوب لِأَن معنى قَول الْقَائِل لنا أَن نَفْعل كَذَا هُوَ أَنه لَا حظر علينا فِي فعله وَالْوَاجِب لَا حظر علينا فِي فعله فان قيل إِن الْمُجيب لم يسْتَدلّ بِالْآيَةِ على نفي وجوب أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله إِن لَفْظَة لكم لَيْسَ من أَلْفَاظ الْوُجُوب وَإِنَّمَا دفع الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ على وجوب أَفعاله فَقَالَ لَفْظَة لكم لَيست من أَلْفَاظ الْوُجُوب فَلَا يجوز أَن يُقَال لَهُ إِن الْوَاجِب لنا فعله لِأَنَّهُ لم يقل إِن

الْوَاجِب لَا يكون لنا فعله وَإِنَّمَا قَالَ إِن لَفْظَة لكم لَا يخْتَص الْوُجُوب بل يسْتَعْمل فِي الْوَاجِب وَفِي غَيره فَلَيْسَ فِي ذكرهَا إِثْبَات للْوُجُوب قيل بل إِنَّمَا أورد الْمُجيب هَذَا الْكَلَام على جِهَة الِاسْتِدْلَال مِنْهُ على نفي الْوُجُوب لَا على أَن يدْفع اسْتِدْلَال خَصمه لِأَن خَصمه لم يسْتَدلّ على وجوب أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقول الله عز وَجل {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} فَيُقَال لَهُ لَفْظَة لكك لَا يخْتَص الْوُجُوب وَإِنَّمَا اسْتدلَّ بقوله {لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر} قَالَ وَهَذَا تهديد فَمَا أوردهُ الْمُجيب إِن لم يكن ابْتِدَاء اسْتِدْلَال مِنْهُ بِالْآيَةِ من حَيْثُ أَنه لَا يُقَال لكم فِيمَا هُوَ وَاجِب فَلَيْسَ هُوَ يدْفع لاستدلال الْمُسْتَدلّ بِالْآيَةِ وَيَنْبَغِي أَن يَقُول لمن تكلم على الْآيَة بقوله إِن لَفْظَة لكم لَيْسَ من أَلْفَاظ الْوُجُوب إِن أوردت ذَلِك دفعا لاستدلال الْمُسْتَدلّ بِالْآيَةِ فالمستدل بِالْآيَةِ لم يقل إِن قَول الله عز وَجل {لكم} من أَلْفَاظ الْوُجُوب وَإِن أوردت ذَلِك اسْتِدْلَالا مِنْك على أَن أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيست على الْوُجُوب لم يَصح ذَلِك لما بَيناهُ فِي الْكتاب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا تدل عَلَيْهِ أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتروكه الْمُتَعَلّقَة بِغَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد قُلْنَا أما أَفعاله الْمُتَعَلّقَة بِغَيْرِهِ فَهِيَ الْحُدُود وَالْقَضَاء على الْغَيْر ثمَّ قُلْنَا وقضاؤه على الْغَيْر وَإِن كَانَ من قبيل الْأَقْوَال فانه يَقْتَضِي لُزُوم مَا قضي بِهِ وَلقَائِل أَن يَقُول لم أدخلتم الْقَضَاء فِي جملَة الْأَفْعَال مَعَ أَنه قَول وَأَنْتُم إِنَّمَا تتكلمون فِي أَبْوَاب الْأَفْعَال فِي الْأَفْعَال الَّتِي هِيَ أَفعَال الْجَوَارِح وَالْجَوَاب إِنَّمَا تكلمنا فِي الْقَضَاء هَهُنَا لِأَنَّهُ كأفعال الْجَوَارِح بِالْغَيْر وَلم يجز ذكره فِيمَا قبل فذكرناه هَهُنَا لمشابهته للأفعال الْمُتَعَلّقَة بِالْغَيْر

وَإِذا أردنَا حسم هَذَا الِاعْتِرَاض قُلْنَا فِي الْقِسْمَة إِن مَا يسند إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا يتَعَلَّق بِغَيْرِهِ أَفعَال وتروك وَالْأَفْعَال ضَرْبَان أَفعَال هِيَ أَقْوَال وأفعال لَيست أقوالا وَالْأَفْعَال المتعدية إِلَى الْغَيْر مِنْهَا قَضَاء على غير وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِقَضَاء على غير وَالْأَفْعَال الَّتِي لَيست أقوالا هِيَ الْحُدُود والتعزيز وَإِنَّمَا قسمنا الْأَفْعَال إِلَى أَقْوَال وَإِلَى غير أَقْوَال لِأَن الْفِعْل إِذا أطلق أَو جعل فِي مُقَابلَة التّرْك أَفَادَ كل مَا يَفْعَله الْفَاعِل من قَول وَغير قَول وَإِذا جعل فِي مُقَابلَة الْفِعْل قَول لم يدْخل القَوْل تَحت الْفِعْل

الكلام في الناسخ والمنسوخ

الْكَلَام فِي النَّاسِخ والمنسوخ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي حَقِيقَة النَّاسِخ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد حد أَصْحَابنَا الطَّرِيق النَّاسِخ بِأَنَّهُ مَا دلّ على أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ غير ثَابت على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه عَنهُ وَقُلْنَا يلْزم على هَذَا أَن يكون الْعَجز المزيل لمثل الحكم الَّذِي كَانَ ثَابتا على الْمُكَلف نَاسِخا لِأَنَّهُ قد دلّ على أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ غير ثَابت على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه عَنهُ فان قيل إِن الدَّال على أَن مثل الحكم غير ثَابت هُوَ دَلِيل الْعقل الدَّال على أَنه لَا تَكْلِيف مَعَ الْعَجز وَهَذَا الدَّلِيل مُتَقَدم على الدَّلِيل الدَّال على وجوب الْعِبَادَة غير متراخ عَنهُ قُلْنَا هَذَا يُوجب أَن لَا يُوصف فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بضد مَا أمرنَا بِهِ بِأَنَّهُ دَلِيل مَا نسخ عَنَّا الْعِبَادَة الْمَأْمُور بهَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يكون نَاسِخا عَنَّا لأجل مَا تقدم من الدَّلِيل على أَنا إِذا علمنَا الْوَجْه الَّذِي أوقع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعله عَلَيْهِ كَانَ حكمنَا فِيهِ حكمه من وجوب أَو نفل أَو إِبَاحَة وَقد قَالَ أَصْحَابنَا بِأَن فعله يكون دَلِيلا نَاسِخا عَنَّا الْعِبَادَة وَإِن كَانَ دَلِيل اتباعنا أَيَّاهُ فِيهِ مُتَقَدما فَكَذَلِك يلْزم أَن يُقَال فِي الْعَجز الطاريء على الْمُكَلف وعَلى أَن الدَّلِيل الْعقلِيّ الدَّال على أَن الْعِبَادَة ترْتَفع بِالْعَجزِ وَهُوَ كالدليل الْعقلِيّ الدَّال على وجوب الْمصير إِلَى قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَمَا لم يمْنَع أَن يكون قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ النَّاسِخ إِذا ورد بِرَفْع الْعِبَادَة فَكَذَلِك لَا يمْتَنع أَن يكون الْعَجز هُوَ النَّاسِخ وَإِن كُنَّا علمنَا بِالْعقلِ أَن الْعَجز ترْتَفع مَعَه الْعِبَادَة

فان قيل قَول الله عز وَجل {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} وَقَوله {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} يجْرِي مجْرى أَن يَأْمُرنَا بِعبَادة عبَادَة ويشرطها بالاستطاعة وَلَو فعل ذَلِك لم يكن وجود الْعَجز نسخا لِأَنَّهُ قد علق الْعِبَادَة بِشَرْط مَعْلُوم مفصل وَالْخطاب الْمُقَيد بِهَذَا الشَّرْط غير مُتَأَخّر فَلم يكن نسخا كتعليق الْعِبَادَة بغاية مفصلة مثل قَوْله {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} انه لَا يكون وجود اللَّيْل نَاسِخا وَلَا قَوْله {إِلَى اللَّيْل} نَاسِخا للصَّوْم فِي اللَّيْل قيل أَلَيْسَ لَو لم يقل الله عز وَجل {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} وَلَا قَالَ {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} لَكَانَ وجود الْعَجز دَالا على أَن مثل حكم الْعِبَادَة غير ثَابت فِي ذَلِك الْوَقْت وَلَا يكون ذَلِك نَاسِخا لِأَن النّسخ لَا يثبت بعد انْقِطَاع الْوَحْي وَالْعجز قد يطْرَأ على الْمُكَلّفين بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد وجد الْحَد فِي هَذَا الْموضع والمحدود لَيْسَ بحاصل وَلَا شُبْهَة فِي أَن الْعَجز وَالْمَوْت قد طرءا على بعض الْمُكَلّفين قبل نزُول هَاتين الْآيَتَيْنِ فَزَالَ مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ وَلم يكن ذَلِك نَاسِخا وَقد قُلْنَا فِي الْكتاب إِنَّه يلْزم على الْحَد الْمَذْكُور أَن تكون الْأمة إِذا اخْتلفت فِي الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ وسوغت للعامي الْأَخْذ بايهما شَاءَ وأجازت للمجتهد أَن يَقُول بِأَيِّهِمَا شَاءَ إِذا أدّى اجْتِهَاده إِلَيْهِ أَو قَالَت إِن أَخذ بالْخَطَأ مِنْهُمَا لم يكن ملوما على قَول من قَالَ إِن الْحق فِي وَاحِد ثمَّ اجمعت على أحد الْقَوْلَيْنِ فَلم يسع للعامي الْأَخْذ بِمَا كَانَ يسوغ لَهُ الْأَخْذ بِهِ وَهُوَ القَوْل الآخر وَلَا كَانَ للمجتهد أَن يصير إِلَيْهِ ان يكون إِجْمَاعهم نَاسِخا لِأَنَّهُ دَال على أَن مثل الثَّابِت بنصهم غير ثَابت على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه عَنهُ إِن قيل أهل الِاجْتِهَاد من الْأمة إِذا اخْتلفت على قَوْلَيْنِ فانها لم تنص على جَوَاز الْأَخْذ بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا للعامي وللمجتهد قيل كَيفَ لم تنص على ذَلِك

وَقد صرحت بِهِ فِي كتبهَا واستدلت عَلَيْهِ فان قيل لَيْسَ مَعكُمْ أَن كل وَاحِد من أهل الِاجْتِهَاد قد قَالَ بذلك نصا وَأَنه لم ينص عَلَيْهِ بَعضهم وَلم يُنكره الْبَاقُونَ قيل قد صَار الحكم ثَابتا بِالنَّصِّ من بَعضهم مَعَ علم البَاقِينَ وَذَلِكَ لَا يمْنَع من كَونه ثَابتا بِالنَّصِّ وَإِن كَانَ ثَابتا مَعَ غَيره ثمَّ يُقَال للسَّائِل الْيَسْ لَو نَص كل وَاحِد من الْأمة على جَوَاز تَقْلِيد الْعَاميّ لكل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ ثمَّ أَجمعُوا على أَحدهمَا فَحرم الْأَخْذ بالْقَوْل الآخر لم يكن ذَاك نسخا لِأَن النّسخ لَا يكون بعد انْقِطَاع الْوَحْي فَبَطل أَن يقْتَصر فِي الْحَد على مَا ذكر لِأَنَّهُ لَو اقْتصر عَلَيْهِ لوَجَبَ لَو وجد أَن يكون الْمَحْدُود قد وجد كَمَا أَن من حد الْجَهْل بِأَنَّهُ اعْتِقَاد الشَّيْء لَا على مَا هُوَ بِهِ وفرضنا أَنه لَا وجود للْجَهْل فانه يلْزمه لَو وجد مَا هُوَ اعْتِقَاد الشَّيْء لَا على مَا هُوَ بِهِ أَن يكون قد وجد الْجَهْل وَلَو قَالَ لَا يكون الْجَهْل مَوْجُودا وَإِن وجد الِاعْتِقَاد للشَّيْء لَا على مَا هُوَ بِهِ لزمَه أَن لَا يكون هَذَا حد للْجَهْل فَكَذَلِك إِذا قَالَ الدَّلِيل النَّاسِخ هُوَ مَا دلّ على أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ غير ثَابت على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه عَنهُ فانه وَإِن لم تنص الامة على جَوَاز تَقْلِيد الْعَاميّ لكل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ يلْزمه لَو نصت على ذَلِك ثمَّ أَجمعت على أحد الْقَوْلَيْنِ فَحرم الْأَخْذ بالْقَوْل الآخر أَن يكون إجماعها نَاسِخا فان لم يكن نَاسِخا فقد فسد الْحَد فان قيل أَنْتُم اعترضتم الْحَد باعتراض غير مُقَدّر وَمَا تذكرونه الْآن هُوَ مُقَدّر فَهُوَ غير مَا ذكرتموه فِي الْكتاب قيل إِنَّمَا اعترضنا باخْتلَاف الامة على قَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَة وتسويغهم بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا وَلم نقل إِن ذَلِك مُحَقّق أَو مُقَدّر فَإِن قيل المجتهدون من الامة وَإِن قَالُوا يجوز للعامي الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ فان قَوْلهم لَا يُسمى نصا فِي الْعرف بل قَوْلنَا نَص فِي عرف الْفُقَهَاء يَقع على نَص الله عز وَجل وَنَصّ رَسُوله فقولنا فِي الْحَد إِن الدَّلِيل النَّاسِخ هُوَ مَا دلّ على أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ لَا يتَنَاوَل نَص الامة لِأَنَّهُ لَا

يُسمى نصا فِي الْعرف قيل لَيْسَ كَذَلِك لِأَن الْفُقَهَاء يَقُولُونَ قد نصت الْأمة على كَذَا وَكَذَا كَمَا يَقُولُونَ نَص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على كَذَا وَكَذَا وَإِن كَانُوا لَا يَتَعَارَفُونَ من إِطْلَاق اسْم النَّص على نَص الْأمة فَأولى أَن لَا يتعارفوا من إِطْلَاقه نَص مُوسَى وَعِيسَى فَيجب أَن لَا يتَنَاوَل الْحَد الْمَذْكُور مَا دلّ على نسخ الشَّرَائِع لِأَن الْأمة إِذا أطلقت اسْم النَّص لَا تَعْنِي بِهِ نَص غير النَّبِي من الْأَنْبِيَاء وَمَعْلُوم ان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا رفع عبَادَة لبَعض الْأَنْبِيَاء الْمُتَقَدِّمين يكون نسخا وَلَا يلْزمنَا مثل ذَلِك على مَا حددنا النَّاسِخ بقولنَا إِنَّه قَول صادر عَن الله أَو عَن رَسُوله لأَنا لم نقصر النَّص على كَلَام نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون كَلَام غَيره فان قَالُوا الامة إِنَّمَا سوغت للعامي أَن يقبل مِمَّن يفتيه بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ فاذا أَجمعُوا على أحد الْقَوْلَيْنِ لم يجد الْعَاميّ من يفتيه بالْقَوْل الآخر فَيُقَال قد حرم عَلَيْهِ الْأَخْذ بِهِ قيل لَهُم قد يجد من يفتيه بِأَن يصير بعض الْمُجْتَهدين إِلَى القَوْل الآخر بعد إِجْمَاعهم وَمن حد الدَّلِيل النَّاسِخ بِمَا ذَكرْنَاهُ يحرم الْأَخْذ بالْقَوْل الآخر وَلَا يُجِيز التَّقْلِيد فِيهِ وَأَيْضًا فانه يحرم على الْمُجْتَهد بعد الْإِجْمَاع على أحد الْقَوْلَيْنِ أَن يصير إِلَى القَوْل الآخر وَيكون مأثوما بَعْدَمَا كَانَ من أهل الِاجْتِهَاد سوغوا لَهُ ذَلِك أَو قَالُوا لَا تكون مأثوما فقد حصل معنى النّسخ فِي الْمُجْتَهد وَأَيْضًا فَلَو أَجمعُوا على أحد الْقَوْلَيْنِ إِلَّا مُجْتَهد وَاحِد وَأفْتى الْعَاميّ بقوله ثمَّ وَافق من عداهُ على قَوْلهم قبل أَن يعْمل الْعَاميّ بذلك ثمَّ عرف مُوَافَقَته لَهُم فانه لَا يجوز لَهُ الْعَمَل على ذَلِك بعد مَا جَازَ لَهُ الْعَمَل عَلَيْهِ فقد صَار اتِّفَاقهم دَالا على أَن مثل الحكم الثَّابِت بنصهم غير ثَابت فان قيل الامة إِذا اخْتلفت على قَوْلَيْنِ فانما سوغت للعامي وللمجتهد الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ بِشَرْط أَن لَا يتَّفق على أَحدهمَا وَهَذَا شَرط مفصل فوجوده لَا يكون نَاسِخا وَلَيْسَ كَذَلِك قَول الله سُبْحَانَهُ {أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا}

لِأَن السَّبِيل هَهُنَا مُجمل غير مفصل فَمَا ورد بتفصيله يكون نَاسِخا لإمساك فِي الْبيُوت وَهُوَ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخذوا عني قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا قيل يَنْبَغِي أَن يَقع الِانْفِصَال بِمَا هُوَ مَذْكُور فِي الْحَد وَهَذَا الَّذِي ذكرتموه من تَفْصِيل الشَّرْط لَيْسَ بمذكور فِي حد الدَّلِيل النَّاسِخ على أَن مَا ذكرتموه من الْحَد يَقْتَضِي أَن الْأمة لَو اخْتلفت فسوغت للعامي الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ وَلم يشرط مَا ذكرتموه فِي الْحَال فَلَمَّا اجمعت على أحد الْقَوْلَيْنِ حرمت الْأَخْذ بِالْآخرِ أَن يكون نَاسِخا على أَنه لَيْسَ مَعكُمْ أَن الْأمة لما اخْتلفت فِي الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ سوغت الْأَخْذ بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا على هَذَا الشَّرْط وَكَيف يمكنكم ادِّعَاء ذَلِك والمخالف يَقُول إِن الْأمة مَا منعت من الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ وَإِن اتّفقت على أَحدهمَا وَكَيف يمكنكم على أصولكم أَن تَقولُوا إِن الْأمة قد قَالَت ذَلِك حِين اخْتلفت وَأَنْتُم تجوزون أَن يَأْمر الله بتكرار الْعِبَادَة وَهُوَ يُرِيد نسخهَا فَلَا يبين ذَلِك فِي الْحَال لَا مُجملا وَلَا مفصلا ويبينه عِنْد وَقت النّسخ فَمَا تنكرون ان تكون الْأمة لم تبين تَحْرِيم الْأَخْذ بالْقَوْل الَّذِي أَجمعت على خِلَافه إِلَّا حِين أَجمعت على خِلَافه فَلم تكن إباحتها الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ مَشْرُوطَة فان قَالُوا نَحن وَإِن جَوَّزنَا ذَلِك فانا نجوز أَن تكون شَرْطِيَّة عِنْد اختلافها قيل إِذا جوزتم كلا الْأَمريْنِ فجوزوا كَون اتِّفَاقهمَا نَاسِخا لجَوَاز الْأَخْذ بالْقَوْل الآخر لأنكم لَا تأمنون أَن يَكُونُوا مَا شرطُوا إِبَاحَة الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ عِنْد اخْتلَافهمْ بِالشّرطِ الَّذِي ذكرتموه وَقد حددنا نَحن الطَّرِيق النَّاسِخ بِأَنَّهُ قَول صادر عَن الله أَو قَول أَو فعل أَو ترك منقولين عَن رَسُوله يُفِيد إِزَالَة مثل الحكم الثَّابِت بِنَصّ من الله أَو بِنَصّ أَو فعل منقولين عَن رَسُوله مَعَ تراخيه عَنهُ على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا وَلقَائِل أَن يَقُول قَوْلكُم يُفِيد إِزَالَة مثل الحكم يَقْتَضِي أَن مثل الحكم

كَانَ ثَابتا فأزيل لِأَنَّهُ لَا يُقَال أزلت هَذَا الشَّيْء إِلَّا وَقد كَانَ ذَلِك الشَّيْء ثَابتا وَإِزَالَة الحكم بعد ثُبُوته هُوَ بداء وَلَيْسَ هُوَ نسخا قيل قد يُقَال فِي الشَّيْء إِنَّه أزيل إِذا كَانَ ثَابتا فازيل وَقد يُقَال قد أزيل الشَّيْء بِكَذَا إِذا كَانَ فلولا ذَلِك المزيل لثبت ذَلِك الشَّيْء سِيمَا إِذا كَانَ ذَلِك الشَّيْء يتَوَهَّم ثُبُوته ويتوقع فانه لَا يمْتَنع اُحْدُ إِذا كَانَ يتَوَقَّع اسْتِمْرَار توجهه إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ نهي عَن ذَلِك أَن يَقُول قد أزيل عَنَّا التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَإِنَّمَا يُرَاد إِزَالَة مَا يسْتَأْنف وَيصِح إِطْلَاق ذَلِك فِيهِ لما بَيناهُ وَقد دللنا فِي الْحَد على أَنا أردنَا هَذَا الْوَجْه بقولنَا مُفِيد لإِزَالَة مثل الحكم الثَّابِت بِنَصّ أَو فعل لِأَنَّهُ لَو كَانَ الحكم المزال قد كَانَ ثَبت ثمَّ أزيل لَكَانَ هُوَ حكم النَّص لَا مثله ودللنا على أَنه إِنَّمَا أزاله بِأَن دلّ على أَنه غير ثَابت وَبِأَنَّهُ منع من ثُبُوته بقولنَا على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا فَبَان بذلك أَنه مُفِيد لإِزَالَة الحكم على هَذَا الْوَجْه وَلنَا أَن نعتاض من قَوْلنَا مُفِيد لإِزَالَة مثل الحكم بقولنَا يُفِيد أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ أَو بِالْفِعْلِ غير ثَابت على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا وكل وَاحِد من هذَيْن الْكَلَامَيْنِ يتَرَجَّح على الآخر من وَجه أما قَوْلنَا يُفِيد أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ أَو بِالْفِعْلِ غير ثَابت فانه يتَرَجَّح على الْعبارَة الثَّانِيَة لِأَن فِيهَا تَصْرِيح بالإزالة وَهِي معنى النّسخ فِي الأَصْل وَالْحَد الْمُفِيد من جِهَة الصَّرِيح لِمَعْنى الْمَحْدُود وَفَائِدَته أولى وَاعْلَم أَن الْغَرَض بِهَذَا الْحَد هُوَ حصر مَا وَقع الِاصْطِلَاح على تَسْمِيَته طَرِيقا نَاسِخا وَهُوَ بتفسير الِاسْم أشبه مِنْهُ بِالْحَدِّ فقولنا قَول أَو فعل منقولين عَن رَسُول الله قد حصرنا بِهِ مَا نقل عَنهُ من قَول أَو فعل وتناولهما قبل أَن ينقلا وَبَعْدَمَا نقلا فأشرنا بِهَذَا القَوْل إِلَى كل مَا وَقع الِاصْطِلَاح بعد وَفَاته على أَنه طَرِيق نَاسخ وَلَك أَن تعتاض من ذَلِك فَنَقُول قَول أَو فعل مَعْلُوم ورودهما من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو مظنون وَلَيْسَ يلْزم على ذَلِك أَن يُقَال النّسخ يَقع بِالتّرْكِ ايضا وَذَلِكَ لِأَن الله أَو رَسُوله إِذا أوجبا صَلَاة متكررة فان نسخهَا

بعد أَن فعلهَا فَلَا بُد من أَن يفعل فعلا يدل بِهِ عَن الصَّلَاة إِمَّا بِفِعْلِهِ فِي وَقت الصَّلَاة أَو بِفِعْلِهِ قبل الْوَقْت ويستديمه إِلَى دُخُول الْوَقْت وَخُرُوجه نَحْو أَن يستلقي وَإِذا فعل ذَلِك كَانَ النَّاسِخ هُوَ مَا فعله أَو مَا تجدّد فعله فِي الْوَقْت فالناسخ هُوَ الْفِعْل فِي الْحَالين وايضا فالترك يُسمى فعلا فانك تَقول بئس مَا فعل فلَان فَيُقَال لَك مَا فعل فَنَقُول لم يخرج من دَار غَيره بَعْدَمَا نَهَاهُ مَالِكهَا عَن الْكَوْن فِيهَا وَاسم الْفِعْل يَقع على التّرْك فِي الْعرف وَلَك أَن تزيد فِي الْحَد التّرْك فَتَقول قَول أَو فعل أَو ترك وَمَعْلُوم وُرُوده عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو مظنون يُفِيد أَن مثل الحكم الثَّابِت بِمثل هَذِه الامور غير ثَابت فِي الْمُسْتَقْبل على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه عَنهُ وَأما الْمَنْسُوخ فَهُوَ الحكم المزال إِذا اخْتصَّ بالشرائط الَّتِي ذَكرنَاهَا وَلَك أَن تَقول هُوَ الحكم الَّذِي تنَاول الطَّرِيق النَّاسِخ وَالطَّرِيق النَّاسِخ هُوَ الْمُخْتَص بالشرائط الَّتِي ذَكرنَاهَا أَو تَقول هُوَ الحكم الَّذِي اقْتضى الطَّرِيق النَّاسِخ أَنه غير ثَابت مَعَ أَنه مثل الحكم الَّذِي كَانَ ثَابتا وَأما حد النّسخ فَهُوَ إِزَالَة مثل الحكم الْمُخْتَص بالشرائط الَّتِي ذَكرنَاهَا أَو تَقول هُوَ تَبْيِين كَون مثل الحكم الثَّابِت غير ثَابت إِذا اخْتصَّ الحكم وَمثله بالشرائط الَّتِي ذَكرنَاهَا وَمن حد النّسخ بِأَنَّهُ إِزَالَة الحكم بعد استقراره فانه إِن أَرَادَ بذلك اسْتِقْرَار نفس الحكم فَذَلِك بداء وَإِن أَرَادَ اسْتِقْرَار جنس الحكم فَذَلِك يَقْتَضِي كَون إِزَالَة الْعِبَادَة بِالْعَجزِ أَو إِزَالَة حكم الْعقل بِحكم الشَّرْع نسخا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الدّلَالَة على جَوَاز نسخ الشَّرَائِع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَنه لَا يجوز أَن يحمل جَوَاز بَيَان انْقِطَاع الْعِبَادَة بالنسخ على جَوَاز تَأْخِير بَيَان وَقت انقطاعهما بِالْمَوْتِ وَالْعجز لأَنا قد أشعرنا بِجَوَاز انقطاعها بِالْمَوْتِ وَالْعجز فِي كل وَقت الا ترى أَن الْإِنْسَان قبل التَّكْلِيف يجوز أَن يعجز وَيَمُوت

فِي كل وَقت ويمنعه الْمَوَانِع وَإِذا ورد عَلَيْهِ الْأَمر يفعل الْعِبَادَة على التّكْرَار لم يجوز دوَام حَيَاته وَقدرته بل يجوز ارتفاعها فِي كل وَقت للْعَادَة الَّتِي جرت فِي النَّاس وَإِذا اقْترن بذلك أَن يعْتَقد أَنه لَا يجوز أَن يعرف وَقت مَوته لِأَن ذَلِك إغراء بِالْمَعَاصِي تَأَكد تجويزه للْمَوْت وَالْعجز فِي كل وَقت وَإِذا اقْترن بذلك قَول الله عز وَجل {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} يُؤَكد هَذَا التجويز فَبَان أَن الْمُكَلف قد أشعر إشعارا يجوز مَعَه أَن يتَعَذَّر عَلَيْهِ الْفِعْل فِي كل وَقت إِمَّا بِمَوْت أَو بِغَيْرِهِ فنظير ذَلِك أَن يُؤمر بِالْعبَادَة وَيُقَال لَهُ جوز وُرُود النّسخ عَلَيْهَا فِي الْمُسْتَقْبل أَو يُقَال لَهُ جوز فِي كل مَا يتعبدك بِهِ أَن يتَغَيَّر كَونه مصلحَة فِي وَقت من الْأَوْقَات الْمُسْتَقْبلَة فان قيل فَيجب إِذا جرت الْعَادة بنسخ الْعِبَادَة الْمقيدَة بالتأييد أَو بالتكرار أَن يكون ذَلِك إشعارا بِجَوَاز النّسخ فَيجوز مَعَه أَن تنسخ الْعِبَادَة وَإِن لم يتَبَيَّن ذَلِك عِنْد وُرُود الْأَمر بهَا قيل الْعَادة إِنَّمَا تجْرِي عَن أول الْأَمر فَأول مَا يرد بالعبادات مُقَيّدا بالتكرار يَنْبَغِي أَن لَا يحسن نسخهَا إِلَّا أَن يشْعر بذلك عِنْد الْأَمر لِأَنَّهُ مَا تقدم هَذَا الْأَمر عَادَة فِي نسخ عبَادَة من دون إِشْعَار وَكَذَلِكَ فِي أَمر آخر بِعبَادة أُخْرَى وَفِي أَمر آخر وَإِذا توالى التَّعَبُّد مَعَ الْإِشْعَار صَارَت الْعَادة جَارِيَة بتأخر بَيَان النّسخ إِذا تقدمه الْإِشْعَار فَلَا يجوز من دون إِشْعَار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الدّلَالَة على جَوَاز نسخ الْكتاب بِالسنةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا كَانَ قَول الْقَائِل مَا آخذ مِنْك ثوبا آتِيك بِمَا هُوَ خير مِنْهُ أَو قَالَ بِشَيْء هُوَ خير مِنْهُ لَا يَقْتَضِي أَنه يَأْتِيهِ بِثَوْب آخر بل يجوز أَن يَأْتِيهِ بِثَوْب آخر وَيجوز أَن يَأْتِيهِ بِغَيْر ثوب وَهُوَ خير من الثَّوْب الَّذِي أَخذه لِأَن

قَوْله مَا هَهُنَا بِمَعْنى شَيْء وَقَوْلنَا شَيْء يَقع على ثوب وعَلى غَيره فَكَذَلِك إِذا قَالَ أَتَيْتُك بِخَير مِنْهُ وَلَا يَقْتَضِي أَن يَأْتِيهِ بِثَوْب لَا محَالة لِأَن قَوْلنَا خير يَقع على كل خير ثوبا كَانَ أَو غير ثوب فَهُوَ عَام فيهمَا كَمَا أَن قَوْلنَا شَيْء وَقَوْلنَا مَا يعم الثَّوْب وَغَيره فَكَمَا لَا يقتض الْكَلَام الأول أَنه يَأْتِيهِ بِثَوْب لَا محَالة فَكَذَلِك فِي الْكَلَام الثَّانِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الزِّيَادَة على النَّص هَل هِيَ نسخ أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد قُلْنَا فِي هَذَا الْبَاب أَن قَاضِي الْقُضَاة قَالَ لَو خير الله بَين شَيْئَيْنِ واجبين ثمَّ أثبت لَهما ثَالِثا لَكَانَ ذَلِك نسخا لقبح تَركهمَا جَمِيعًا وَقُلْنَا نَحن إِن هَذَا رَافع لحكم عَقْلِي فَلَا يجوز أَن يُسمى نسخا وَلقَائِل أَن يَقُول قبح الْإِخْلَال بهما لَيْسَ بِحكم عَقْلِي وَإِنَّمَا علم بِالشَّرْعِ وَهُوَ إِيجَابه عز وَجل فعل الشَّيْئَيْنِ على الْبَدَل فَوَجَبَ أَن يكون إِيجَاب الثَّالِث نَاسِخا لقبح تَركهمَا وَالْجَوَاب أَن قبح تَركهمَا والإخلال بهما يتبع إِيجَاب الله الْفِعْلَيْنِ على الْبَدَل وَيتبع أَنه مَا كَانَ يجب فعل ثَالِث مَعَهُمَا أَلا ترى أَنا لَو لم نعلم إِلَّا وجوب الشَّيْئَيْنِ على الْبَدَل وَلم نعلم أَن الثَّالِث لَا يجب بل جَوَّزنَا وُجُوبه لم نعلم قبح تَركهمَا لتجويزنا وجوب ثَالِث إِذا تركناهما إِلَيْهِ لم يقبح منا تَركهمَا كَمَا أَنا لَو علمنَا أَن الثَّالِث لَا يجب وَلم نعلم وجوب الْفِعْلَيْنِ لم نعلم قبح تَركهمَا وَمَعْلُوم أَن إِيجَاب الْفِعْلَيْنِ على الْبَدَل يَقْتَضِي أَن للإخلال بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا تَأْثِيرا فِي اسْتِحْقَاق الذَّم وَلَا يتَعَرَّض للثَّالِث بايجاب وَلَا بِنَفْي إِيجَاب وَإِنَّمَا نعلم أَنه غير وَاجِب بَقَاء على حكم الْعقل فاذا كَانَ قبح تَركهمَا يتَفَرَّع على أَمر شَرْعِي وعَلى أَمر عَقْلِي لم يتَخَلَّص كَونه مَعْلُوما بِالشَّرْعِ فَلم يَصح القَوْل بِأَن رَفعه نسخ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب النُّقْصَان من الْعِبَادَة هَل هُوَ نسخ لغير مَا نقص مِنْهَا أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن الصَّلَاة لما كَانَت وَاجِبَة إِلَى بَيت الْمُقَدّس كَانَت وَاجِبَة فِي كل مَكَان على الْبَدَل وَكَانَ يجب على الْمُصَلِّي أَن يتَوَجَّه فِي الْمَكَان الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس فالتوجه فِي الْمَكَان إِلَى بَيت الْمُقَدّس هُوَ هَيْئَة من هيآت الصَّلَاة فِي الْمَكَان فنسخ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس إِنَّمَا يتَنَاوَل هَذِه الْهَيْئَة فَلم يكن نسخا للصَّلَاة فِي الْمَكَان كَمَا أَنا لَو أمرنَا بِصَوْم يَوْم عَاشُورَاء على صفة وَهِي أَن نَكُون فِي ذَلِك الْيَوْم متوجهين إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ نسخ عَنَّا التَّوَجُّه فَقيل لَا تتوجهوا إِلَى بَيت الْمُقَدّس فَإِن ذَلِك لَا يكون نسخا للصَّوْم فِي ذَلِك الْيَوْم على أَن النّسخ للتوجه ورد على وَجه فِيهِ تثبيت لجملة الصَّلَاة لِأَن الْمَرْوِيّ فِي ذَلِك هُوَ أَلا إِن الْقبْلَة قد حولت وَفِي ذَلِك تثبيت للصَّلَاة وَكَذَلِكَ مَا فِي القرأن من ذَلِك وَهُوَ قَوْله {فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} وَهَذَا هُوَ النّسخ للتوجه إِلَى بَيت الْمُقَدّس لِأَن ذَلِك يَقْتَضِي وجوب التَّوَجُّه إِلَى الْكَعْبَة وَلَا يَصح الْجمع بَين التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَإِلَى الْكَعْبَة مَعًا فوجوب أَحدهمَا فِي كل صَلَاة يُصليهَا يَنْفِي وجوب الآخر فَأَما صَوْم عَاشُورَاء فانه مَا وَجب إِلَّا فِي ذَلِك الْيَوْم فنظيره أَن لَا تجب الصَّلَاة إِلَّا فِي مَكَان مَخْصُوص فَلَو قيل لَا تصلوا فِي ذَلِك الْمَكَان لَكَانَ قد انْتَفَت جملَة الصَّلَاة لِأَنَّهَا لم تجب إِلَّا فِي ذَلِك الْمَكَان أَلا ترى أَنا نحتاج فِي وُجُوبهَا فِي مَكَان آخر إِلَى دَلِيل آخر وَكَذَلِكَ إِذا قيل لنا صُومُوا يَوْم عَاشُورَاء ثمَّ قيل لنا بعد حِين لَا تَصُومُوا فِي يَوْم عَاشُورَاء فان ذَلِك يَنْفِي جملَة الصَّوْم لِأَنَّهُ لم يجب فِي زمَان آخر وَإِنَّمَا وَجب فِي هَذَا الزَّمَان فَقَط فنفيه فِيهِ نفي لجملته فان قيل كَون ذَلِك نسخا لجملة الصَّلَاة لَا يمْنَع مِمَّا نريده وَهُوَ أَنه إِذا كَانَ يجوز صَوْم عَاشُورَاء بنية بعد الْفجْر جَازَ فِي الصَّوْم الْوَاجِب فِيمَا بعد وَهُوَ صَوْم شهر رَمَضَان أَن يجب بنية بعد الْفجْر لِأَنَّهُ قد ثَبت أَن الشَّرْع قد صحّح

الصَّوْم بنية بعد الْفجْر فاذا لم تغير الشَّرِيعَة ذَلِك وَجب أَن يبْقى على مَا كَانَ عَلَيْهِ قيل إِنَّمَا كَانَ يجب ذَلِك لَو ورد فِي ذَلِك لفظ عُمُوم نَحْو أَن يُقَال كل صَوْم شَرْعِي فانه يَصح بنية بعد الْفجْر وَقبل الزَّوَال فَأَما إِذا قيل هَذَا الصَّوْم الْوَاقِع فِي صَوْم عَاشُورَاء يَصح بنية بعد الْفجْر فانه لَا يجب مثله فِي صَوْم زمَان آخر لِأَن ذَلِك عبَادَة أُخْرَى وَلَا يجب أَن تتفق الْعِبَادَات فِي شَرَائِط صِحَّتهَا بل ذَلِك مَوْقُوف على دَلِيل زَائِد على مَا دلّ على أَن النِّيَّة بعد الْفجْر لَا تمنع من صِحَة صَوْم عَاشُورَاء فان قَالُوا فَمَا يؤمنكم أَن يكون مَا دلّ على صِحَة صَوْم عَاشُورَاء بنية بعد الْفجْر هُوَ لفظ عُمُوم يَشْمَل كل صَوْم شَرْعِي فِي الْحَال وَفِيمَا يتعبد بِهِ فِيمَا بعد قيل إِذا كَانَ ذَلِك غير مَأْمُون وَكَذَلِكَ خِلَافه وَجب على من أثبت أَحدهمَا ليدل بِهِ على أَن النِّيَّة بعد الْفجْر يَصح بهَا صَوْم شهر رَمَضَان أَن يدل على مَا يبْنى ذَلِك عَلَيْهِ وَمَتى لم يبين ذَلِك لم يَصح دَلِيله وَيَكْفِي من قصد الطعْن عِلّة أَن يشكله فِيمَا بنى عَلَيْهِ دَلِيله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي العمومين إِذا تَعَارضا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا تعَارض العمومان من وَجه دون وَجه بِأَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا عَاما فِيمَا الآخر خَاص فِيهِ فقد ذكرنَا فِي الْكتاب أَنه إِن علم تقدم أَحدهمَا على صَاحبه وَكَانَا معلومين أَو مظنونين أَو كَانَ الْمُتَقَدّم مِنْهُم مظنونا والمتأخر مَعْلُوما فانه يَجِيء على قَول من جعل الْعَام الْمُتَأَخر نَاسِخا للخاص الْمُتَقَدّم أَن يكون الْمُتَأَخر من هذَيْن العمومين نَاسِخا للمتقدم لِأَنَّهُ إِذا كَانَ عِنْدهم أَن الْعَام مُتَأَخّر ينْسَخ الْخَاص الْمُتَقَدّم فِيمَا لم يثبت كَونه أَعم من اللَّفْظ الْمُتَقَدّم أولى بِأَن يكون نَاسِخا وَهَذَا صَحِيح لِأَن هَذَا الْعُمُوم الْمُتَأَخر إِن كَانَ أَعم من الْمُتَقَدّم فقد أطْلقُوا القَوْل بِأَن الْعَام الْمُتَأَخر ينْسَخ الْخَاص الْمُتَقَدّم وَلم يبنوا الْعَام الْمُتَأَخر على الْخَاص الْمُتَقَدّم وَإِن كَانَ هَذَا الْعُمُوم الْمُتَأَخر هُوَ أخص من الْعَام الْمُتَقَدّم فَمن قَوْلهم إِنَّه يخرج ماتناوله من الْعُمُوم الْمُتَقَدّم على جِهَة النّسخ لَا على جِهَة التَّخْصِيص لِأَن بَيَان التَّخْصِيص لَا يتَأَخَّر عِنْدهم أَو عِنْد

أَكْثَرهم وَلَيْسَ هَهُنَا مَا يَقْتَضِي أَن يحكم بِأَنَّهُ قد كَانَ قَارن الْعَام مَا دلّ على تَخْصِيصه فَلذَلِك جعلُوا الْمُتَأَخر نَاسِخا للمتقدم ثمَّ قُلْنَا وَإِن كَانَ الْمُتَقَدّم مَعْلُوما والمتأخر مظنونا لم يجز عِنْدهم أَن ينْسَخ الثَّانِي الأول وَوَجَب الرُّجُوع فيهمَا إِلَى التَّرْجِيح لِأَن المظنون لَا ينْسَخ الْمَعْلُوم وَإِذا لم يكن الثَّانِي مِنْهُمَا نَاسِخا وَأمكن اسْتِعْمَاله مَعَ التَّرْجِيح وَجب الرُّجُوع إِلَى التَّرْجِيح وَهَذَا صَحِيح وَذَلِكَ أَنه لَا يُمكن بِمُجَرَّد هَذَا التَّعَارُض النّسخ لِأَن النّسخ إِنَّمَا يكون بالشَّيْء الْمُتَأَخر والمتأخر من هذَيْن العمومين مظنون والمتقدم مِنْهَا مَعْلُوم والمظنون لَا ينْسَخ الْمَعْلُوم وَلَا يُمكن أَيْضا لمُجَرّد هَذَا التَّعَارُض أَن نخرج من أَحدهمَا مَا تنَاوله الآخر لأجل أَن الآخر أخص لِأَنَّهُ لَيْسَ يتَخَلَّص كَون أَحدهمَا أخص من الآخر فقد بَان أَنه لَا يُمكن بِمُجَرَّد هَذَا التَّعَارُض لَا نسخ وَلَا تَخْصِيص فَوَجَبَ التَّرْجِيح فان رجحنا الْمَعْلُوم مِنْهُمَا بِكَوْنِهِ مَعْلُوما وَلم يثبت فِي المظنون وَجه تَرْجِيح استعملنا الْمَعْلُوم وأخرجنا مَا تنَاوله من المظنون لَا لمُجَرّد التَّعَارُض وَأَن لمعلوم أخص بل لأجل التَّرْجِيح وَإِن رجحنا المظنون مِنْهُمَا بِكَوْنِهِ مَعْلُوما وَلم يثبت فِي المظنون وَجه تَرْجِيح استعملنا الْمَعْلُوم وأخرجنا مَا تنَاوله من المظنون لَا لمُجَرّد التَّعَارُض وَأَن الْمَعْلُوم أخص بل لأجل التَّرْجِيح وَإِن رجحنا المظنون لِأَن حكمه حظر أَو إِيجَاب أخرجنَا مَا تنَاوله من الْمَعْلُوم لأجل التَّرْجِيح أَيْضا واستدللنا بذلك على أَنه قد كَانَ قَارب الْعُمُوم الْمُتَقَدّم مَا دلّ على تَخْصِيصه وَإِخْرَاج ذَلِك الْقدر مِنْهُ لِأَنَّهُ إِن لم يُمكن كَذَلِك كَانَ الثَّانِي نَاسِخا وَلَا يجوز نسخ الْمَعْلُوم بالمظنون ثمَّ قُلْنَا فَأَما من يَقُول إِن الْعَام الْمُتَأَخر يبْنى على الْخَاص الْمُتَقَدّم وَأَن الْخَاص الْمُتَأَخر يخرج بعض مَا دخل تَحت الْعَام الْمُتَقَدّم فَالَّذِي يَجِيء على مذْهبه أَن لَا يفرق بَين أَن يَكُونَا معلومين أَو مظنونين أَو أَحدهمَا مَعْلُوما وَالْآخر مظنونا فِي اسْتِعْمَال التَّرْجِيح وَترك النّسخ بِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ يتَخَلَّص كَون الْمُتَأَخر أخص من الْمُتَقَدّم فَيخرج من الْمُتَقَدّم مَا دخل تَحت الْمُتَأَخر وَهَذَا صَحِيح لأَنا اردنا أَنه لَا يثبت عِنْدهم بِمُجَرَّد هَذَا التَّعَارُض إِخْرَاج مَا تنَاوله أَحدهمَا من الآخر لَا على جِهَة النّسخ وَلَا على جِهَة التَّخْصِيص وَالْبناء اما النّسخ فَلِأَن عِنْدهم أَن الْعَام الْمُتَأَخر لَا ينْسَخ الْخَاص الْمُتَقَدّم بل يبْنى على

الْخَاص الْمُتَقَدّم فَلَو كَانَ الْمُتَأَخر أَعم لم يجب فِيهِ النّسخ وَلَيْسَ يتَخَلَّص أَن أحد هذَيْن العمومين أخص من الآخر فَيُقَال إِن الْمُتَأَخر مِنْهَا أخص من الْمُتَقَدّم فَيخرج مَا تنَاوله من الْمُتَقَدّم إِمَّا بنسخ أَو بِأَن يدل على مُقَارنَة الْمُخَصّص لَهُ فَبَان أَن مُجَرّد هَذَا التَّعَارُض لَا يَقْتَضِي على قَوْلهم لَا نسخا وَلَا تَخْصِيصًا وَأَنه يجب الرُّجُوع إِلَى التَّرْجِيح فان رجحنا الْمَعْلُوم مِنْهُمَا بِكَوْنِهِ مَعْلُوما أَو المظنون بِمَا يرجع إِلَى حكمه فَلَا بُد من أَن يخرج مَا تنَاوله من الآخر إِمَّا على جِهَة نسخ أَو تَخْصِيص وَلَيْسَ ينْقض ذَلِك قَوْلنَا إِنَّه يَجِيء على مَذْهَبهم أَن لَا ينسخوا وَلَا يخرجُوا من أَحدهمَا بعضه على جِهَة التَّخْصِيص لأَنا قُلْنَا لَا يجب ذَلِك لمُجَرّد التَّعَارُض قبل التَّرْجِيح وَلم نقل إِنَّهُم بعد التَّرْجِيح لَا يخرجُون من أحد العمومين بعض مَا تنَاوله بل قد دللنا بقوله إِنَّه يرجع إِلَى التراجيح على أَنه إِذا ترجح أَحدهمَا على الآخر فَحكم بِظَاهِرِهِ أَنه يخرج مَا تنَاوله من الْعُمُوم الآخر أَلا ترى أَنا إِذا رجحنا قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا وَقُلْنَا لَا يُصليهَا عِنْد قيام الظهيرة فقد أخرجنَا الصَّلَاة الْمُقْتَضِيَة من مُطلق نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الصَّلَاة فِي هَذَا الْوَقْت وَلَكِن لم نَفْعل ذَلِك لمُطلق التَّعَارُض فقد بَان أَن مَا حكمنَا بِهِ إِنَّمَا حكمنَا بِهِ على مُطلق التَّعَارُض قبل التَّرْجِيح لِأَن الْكَلَام إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوض على مُجَرّد التَّعَارُض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الدّلَالَة على صِحَة القَوْل بِالْإِجْمَاع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَول الله عز وَجل {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر} خرج مخرج الْمَدْح وتمييز هَذِه الْأمة من سَائِر الامم فَلَا يجوز أَن يُرَاد بذلك أَنهم يأمرون بِبَعْض الْمَعْرُوف وَينْهَوْنَ عَن بعض الْمُنكر لِأَن كل أمة قد نهم عَن بعض الْمُنكر وَأمرت بِبَعْض الْمَعْرُوف وَلَا يجوز أَن يكون المُرَاد أَكثر مَا ينهون عَنهُ مُنكر لِأَن الْخِيَار من الْأُمَم السالفة الْأَكْثَر مِمَّا نهوا عَنهُ مُنكر وَلِأَن قَوْلنَا الْمُنكر إِمَّا أَن يكون لاستغراق

الْمُنكر أَو للْجِنْس دون الِاسْتِغْرَاق وَلَيْسَ لَام الْجِنْس مَوْضُوعَة للْأَكْثَر وَلَا يجوز أَن يُرَاد بذلك الْوَصْف لَهُم بِأَنَّهُم فِيمَا مضى كَانُوا يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر لِأَن الْكَلَام مدح لَهُم فِي الْحَال فَلَا يجوز أَن يُفِيد تقدم كَونهم على خِصَال الْمَدْح وَلَا يُفِيد حصولهم الْآن على خِصَال الْمَدْح لِأَن الْإِنْسَان لَا يكون مُسْتَحقّا للمدح بِمَا فعله من قبل إِذا عدل عَنهُ إِلَى ضِدّه وخلافه حَتَّى يكون ناهيا عَن الْمُنكر ثمَّ يصير آمرا بالمنكرات فاذا ثَبت أَنهم ينهون عَن كل مُنكر فِي كل حَال إِلَّا مَا خرج بِدَلِيل فَلَو أَجمعُوا على خطأ لكانوا قد أَجمعُوا على مُنكر وَلَو أَجمعُوا عَلَيْهِ لكانوا غير ناهين عَنهُ دَلِيل آخر قَول الله عز وَجل {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى} يَقْتَضِي اتِّبَاع سبيلهم على مَا بَيناهُ فِي الْكتاب فان قيل الاية تَقْتَضِي اتِّبَاع سبيلهم فِي الِاسْتِدْلَال على الحكم الَّذِي قَالُوا بِهِ بِدَلِيل وَلَا يَأْخُذُوا بِهِ بِغَيْر دَلِيل قيل كَذَلِك نقُول لأَنا إِذا أَخذنَا بذلك القَوْل كُنَّا قد أخذناه بِدَلِيل وَهُوَ إِجْمَاعهم وَقد دلّ الدَّلِيل على صِحَّته فَلَيْسَ فِي قَوْلنَا إِنَّه يجب علينا الرُّجُوع إِلَى قَوْلهم تَسْلِيم للخصم أَنا أَخذنَا بقَوْلهمْ بِلَا دَلِيل فَتكون الْآيَة حجَّة علينا فان قيل يجب أَن يسْتَدلّ بِمَا استدلوا بِهِ يُعينهُ قيل لَا يجب ذَلِك لِأَن أهل كل عصر لَا يوجبون على الْمُكَلف الِاسْتِدْلَال على الحكم بِدَلِيل معِين إِذا أمكنه أَن يسْتَدلّ عَلَيْهِ بِدَلِيل آخر فَلم يكن وجوب الِاسْتِدْلَال بدليلهم الْمعِين سَبِيلا لَهُم فَلم يدْخل تَحت الظَّاهِر إِن قيل قَول الله عز وَجل {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} يَقْتَضِي ظَاهره مُؤمنين مُعينين وَأَن نصير إِلَيْهِم لأَنهم قَالُوا على مَا قدرتموه فِي الْكتاب وَيَقْتَضِي ظَاهر الْآيَة ايضا أَن يَكُونُوا مُؤمنين على الْحَقِيقَة بِحَسب ظننا إِمَّا الْإِيمَان اللّغَوِيّ أَو الْعرفِيّ أَو الديني وَلَا سَبِيل لنا إِلَى الْعلم بذلك فَلَيْسَ لكم أَن تتركوا هَذَا الظَّاهِر بِأولى من أَن نَتْرُك الظَّاهِر الأول ونقول المُرَاد بذلك مُؤمنين موصوفين كَأَنَّهُ قَالَ وَيتبع غير سَبِيل من حَقّهَا أَن تكون سَبِيل

الْمُؤمنِينَ قيل إِذا فَعلْتُمْ ذَلِك تركْتُم الظَّاهِر من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنكُمْ تحملون الْكَلَام على التّكْرَار وَنحن نحمله على فَائِدَة محدودة وَذَلِكَ أَن سَبِيل الْمُؤمنِينَ فِي الْجُمْلَة قد دخل فِي ترك مشاقة الرَّسُول فزجره عز وَجل عَن مشاقة الرَّسُول هُوَ زجر عَن اتِّبَاع سَبِيل الْمُؤمنِينَ لأَنا قد علمنَا أَن مشاقته لَيست سَبِيل الْمُؤمنِينَ وَالْآخر انكم إِذا حملتم الاية على مُؤمنين موصوفين احتجتم إِلَى إِضْمَار حَتَّى يكون تَقْدِير الْكَلَام وَيتبع سَبِيلا من حَقّهَا أَن تكون غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ أَو من حق الْمُؤمنِينَ أَن لَا يسلكوها وَإِذا حملنَا نَحن الْإِيمَان على الْإِيمَان اللّغَوِيّ كُنَّا تاركين للظَّاهِر من وَجه وَاحِد وَقَول الْخصم إِنَّكُم لَا تحملون الْآيَة على مُؤمنين على الْحَقِيقَة بل على مُؤمنين بِحَسب ظنكم لَا يَصح لأَنا إِذا حملنَا ذَلِك على التَّصْدِيق فَنحْن نعلم أَنه لَا يجوز أَن يكون أهل كل عصر على كثرتهم يخبرون أَنهم يُؤمنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَام وَلَيْسَ فيهم من يصدق بذلك أصلا أَو لَيْسَ فيهم من يصدق بذلك إِلَّا الْوَاحِد والاثنان بل نعلم أَن الْكثير مِنْهُم كَذَلِك ونظن أَن الْكل كَذَلِك دَلِيل آخر قَول الله عز وَجل {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} فَاقْتضى هَذَا الشَّرْط أَنهم إِن لم يتنازعوا لَا يجب الرَّد إِلَى كتاب الله وَسنة نبيه وَلقَائِل أَن يَقُول إِن اراد الله بقوله {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء} أهل عصر وَاحِد فَلَيْسَ يَخْلُو إِذا لم يتنازعوا إِمَّا أَن يَكُونُوا لم يردوا إِلَى الله وَالرَّسُول فَلَا يجب اتباعهم وَلَا يكون قَوْلهم صَحِيحا وَإِمَّا أَن يَكُونُوا ردوا إِلَى الله وَالرَّسُول فَلَا يَصح أَن يبيحهم ترك الرَّد إِلَى كتاب الله وَسنة نبيه لِأَن ردهم الشَّيْء إِلَى الله وَرَسُوله هُوَ طلب حكمه فِي الْكتاب وَالسّنة فاذا طلبوه فيهمَا فوجدوه فيهمَا لم يَصح طلبه من بعد لِأَن طلب الْإِنْسَان لما هُوَ وَاجِد لَهُ محَال وَإِبَاحَة ترك الْمحَال عَبث وَإِن كَانَ المُرَاد بِالْآيَةِ أهل الْعَصْر الثَّانِي مَعَ أهل الْعَصْر الأول لم يَصح القَوْل بذلك لِأَن قَوْله فَإِن تنازعتم مُوَاجهَة لمن ترك الْقُرْآن وَهُوَ حَاضر فَعلمنَا أَن المُرَاد بذلك تنَازع

بَعضهم مَعَ بعض وَأَيْضًا فقد بخالف أهل الْعَصْر الثَّانِي بعد انْقِرَاض الأول فَلَا يكون أهل العصرين متنازعين لِأَن التَّنَازُع بَين اثْنَيْنِ هُوَ أَن يُنَازع كل وَاحِد مِنْهُمَا الآخر وَلَيْسَ يُمكن أَن يُنَازع أهل الْعَصْر الأول لأهل الْعَصْر الثَّانِي إِن نازعوا أهل الْعَصْر الأول وَجب عَلَيْهِم الرُّجُوع إِلَى قَوْلهم إِلَى طلب الحكم فِي الْكتاب وَالسّنة وَالرُّجُوع إِلَى الْإِجْمَاع عِنْد الْمُسْتَدلّ لَيْسَ هُوَ رد إِلَى الْكتاب وَالسّنة لِأَنَّهُ لَو كَانَ ردا إِلَيْهِمَا بَطل قَوْلهم إِذا لم يتنازعوا لم يجب الرَّد إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَلَا يجب عِنْد الْمُسْتَدلّ ايضا إِذا تنَازع أهل العصرين أَن يطْلب أهل الْعَصْر الأول الحكم فِي الْكتاب وَالسّنة لأَنهم قد طلبُوا قَوْلهم من قبل فِي الْكتاب وَالسّنة فوجدوه وَطلب مَا هم واجدين لَهُ محَال فَعِنْدَ التَّنَازُع لَا يجب على قَوْلهم الطّلب فِي الْكتاب وَالسّنة لَا على أهل الْعَصْر الأول وَلَا على أهل الْعَصْر الثَّانِي على قَول الْمُسْتَدلّ فَأَما إِذا لم يُنَازع أهل الثَّانِي أهل الْعَصْر الأول فعلى مَوْضُوع الِاسْتِدْلَال مُبَاح أَن لَا يردوا بأجمعهم إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَلَا يَصح هَذِه الْإِبَاحَة لجميعهم لِأَن بَعضهم وهم أهل الْعَصْر الأول قد رد ذَلِك القَوْل إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَإِبَاحَة ترك طلب مَا قد طلب وَوجد عَبث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْإِجْمَاع بعد الْخلاف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا اخْتلفت الْأمة فِي الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ فقد سوغوا الْأَخْذ بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا على قَول من قَالَ كل مُجْتَهد مُصِيب بِشَرْط بَقَاء الْخلاف وَكَون الْمَسْأَلَة من مسَائِل الِاجْتِهَاد لأَنهم لَو سئلوا عَن عِلّة جَوَاز الْأَخْذ بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا لعللوا بِمَا ذكرنَا فاذا أَجمعُوا على أحد الْقَوْلَيْنِ فقد زَالَ الشَّرْط وتناولتهم أَدِلَّة الْإِجْمَاع وَلَا دَلِيل يدل على اشْتِرَاط هَذَا الْإِجْمَاع بِشَرْط فَلم يجز خِلَافه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الطَّرِيق إِلَى معرفَة الْإِجْمَاع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا لم تكن الْمَسْأَلَة من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَقَالَ فِيهَا بعض أهل الْعلم قولا

وانتشر فِي أهل الْعَصْر وَكَانَ على أهل الْعلم فِيهَا تَكْلِيف فان سكوتهم على النكير يدل على أَنه صَوَاب وَأَن خِلَافه خطأ لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُنْكرا لكانوا قد تطابقوا على ترك إِنْكَار الْمُنكر مَعَ وجوب ذَلِك عَلَيْهِم هَذَا إِذا مر من الزَّمَان مَا يَنْقَضِي مَعَه زمَان المهلة لِأَنَّهُ مَعَ ذَلِك يلْزمهُم أَن يعتقدوا فِي الْمَسْأَلَة حكما من الْأَحْكَام فيلزمهم إِظْهَار الْخلاف إِذا كَانُوا مخالفين فَأَما أول مَا ينتشر الْمَسْأَلَة فِي أهل الْعَصْر قبل اسْتِيفَاء النّظر فانه لَا يدل سكوتهم على رضاهم بذلك القَوْل الْمُنْتَشِر وَالْقسم الأول هُوَ الَّذِي اردناه فِي الْكتاب وَالتَّعْلِيل الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْكتاب يدل عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي قَول الصَّحَابَة إِذا لم ينتشر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا لم ينتشر القَوْل فِي جَمِيع أهل الْعَصْر وَكَانَت الْبلوى بِتِلْكَ الْمَسْأَلَة عَامَّة فقد ذكرنَا فِي الْكتاب أَنه لَا بُد من أَن يكون لغير من قَالَ بالْقَوْل الَّذِي لم ينتشر قَول لِأَنَّهُ مُكَلّف للنَّظَر فِيهَا فاذا كَانَ لَهُ فِيهَا قَول وَجب أَن يكون مُوَافقا لهَذَا القَوْل لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُخَالفا لَهُ لنقلته النقلَة لعلمنا باهتمامهم بِالنَّقْلِ وَلقَائِل أَن يَقُول لَا يتم ذَلِك فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد على قَول من قَالَ كل مُجْتَهد مُصِيب لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون بعض الْمُجْتَهدين لم يجْتَهد فِي الْحَادِثَة وَإِن لَزِمَهُم أَن يجتهدوا فِيهَا ليعلموا بهَا فِي أنفسهم ويكونوا قد أخطأوا فِي ذَلِك فَإِن قُلْتُمْ لَو كَانَ كَذَلِك لأنكر عَلَيْهِم الْبَاقُونَ فاذا لم ينكروا عَلَيْهِم وَلَا هم أَنْكَرُوا على أنفسهم فقد تطابقوا على أَن لم ينكروا تَركهم الِاجْتِهَاد قيل لكم لم يلْزمهُم أَن ينكروا عَلَيْهِم ذَلِك لأَنهم لَا يعلمُونَ أَنهم قد تركُوا الِاجْتِهَاد فِي الْمَسْأَلَة بل يجوزون أَنهم إِنَّمَا سكتوا لأَنهم قد اجتهدوا فان قُلْتُمْ إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فقد تطابقوا على الْعُدُول عَن الصَّوَاب قيل لَا يَصح ذَلِك على قَول من قَالَ كل مُجْتَهد مُصِيب لِأَن القَوْل الَّذِي قَالَه من لم ينتشر قَوْله فَهُوَ صَوَاب فَمَا عدلوا بأجمعهم عَن الصَّوَاب وَإِنَّمَا يتم ذَلِك على قَول من قَالَ إِن الْحق وَاحِد بل يُقَال إِن الصَّوَاب هُوَ قَول وَاحِد فان لم يكن

ذَلِك القَوْل الَّذِي لم ينتشر هُوَ الصَّوَاب كَانُوا قد عدلوا بأجمعهم عَن الصَّوَاب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي اسْم الْخَبَر وَحده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد حد الْخَبَر بِأَنَّهُ الَّذِي يدْخلهُ الصدْق وَالْكذب وَاعْترض ذَلِك بِأَن قَول الْقَائِل مُحَمَّد ومسيلمة صادقان خبر وَلَيْسَ بِصدق وَلَا كذب واجاب قَاضِي الْقُضَاة عَن ذَلِك بِأَنا أردنَا بِدُخُول الصدْق وَالْكذب أَن الْإِنْسَان إِذا صدق الْمخبر أَو كذبه لم يحظر اللُّغَة ذَلِك وَهَذِه صُورَة هَذَا الْخَبَر وَهَذَا يَقْتَضِي أَنه قد سلم أَن هَذَا الْخَبَر لَيْسَ بِصدق وَلَا كذب وَهَذَا يعْتَرض مَا يَقُوله من أَن كل خبر فانه لَا يَخْلُو من أَن يكون إِمَّا صَادِقا وَإِمَّا كَاذِبًا لِأَن هَذَا الْخَبَر قد خلا مِنْهُمَا وَإِذا حددنا الْخَبَر بِأَنَّهُ كَلَام يُفِيد بِنَفسِهِ إِضَافَة أَمر من الْأُمُور إِلَى أَمر من الامور نفيا أَو إِثْبَاتًا لم يلْزم إِذا قُلْنَا زيد الظريف فِي الدَّار أَن يكون قَوْلنَا زيد الظريف من جملَة هَذَا الْكَلَام خَبرا لِأَن ذَلِك لَا يُفِيد أَنه ظريف كَمَا أَنا إِذا قُلْنَا الظريف فِي الدَّار لَا يُفِيد أَنا حكمنَا بِأَن من أَشَرنَا إِلَيْهِ بِهَذَا الْكَلَام هُوَ ظريف وَإِنَّمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ بقولنَا هُوَ ظريف ثمَّ أفدنا أَنه فِي الدَّار كَمَا نشِير بقولنَا زيد فِي الدَّار إِلَى أَنه فِي الدَّار وَلم نفد أَنه يُسمى زيدا وَلنَا أَن نحترس من ذَلِك ونقول الْخَبَر كَلَام تَامّ يُفِيد بِنَفسِهِ إِضَافَة أَمر من الْأُمُور إِلَى أَمر من الْأُمُور نفيا أَو إِثْبَاتًا ونعني بقولنَا كَلَام تَامّ أَنه لَا يَقْتَضِي بِوَقع كَلَام آخر بل تقع بِهِ الْفَائِدَة بِنَفسِهِ وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا قُلْنَا زيد الظريف لِأَن ذَلِك لَيْسَ بِكَلَام تَامّ فان قيل قَول الْقَائِل لَا ثَانِي لله عز وَجل هُوَ خبر وَلَيْسَ يُفِيد إِضَافَة أَمر إِلَى أَمر لِأَن الْوُجُود لَيْسَ بِصفة عنْدكُمْ وَلَا الثَّانِي ذاتا فتكونوا قد أضفتم نفي الصّفة إِلَى الذَّات الْجَواب إِنَّا نعني بقولنَا إِنَّه لَا ثَانِي للقديم هُوَ أَن مَا نعقله من ذَات لَهَا صفة الْقَدِيم لَيْسَ لَهَا وجود من خَارج عقلنا سوى الْقَدِيم عز وَجل فقد نَفينَا عَن عقلنا لما عَقَلْنَاهُ من ذَلِك أَن يتَعَلَّق بِذَات من خَارج لَيست بِذَات الْقَدِيم عز وَجل

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي بَيَان وُقُوع الْعلم بالأخبار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد قُلْنَا فِيهِ إِنَّه لَو كَانَ كل مَا أَجمعُوا على مُقْتَضَاهُ من أَخْبَار الْآحَاد قد قَامَت الْحجَّة بِهِ لم يَصح الِاسْتِدْلَال باجماع الصَّحَابَة على الْعلم بأخبار الْآحَاد على جَوَاز الْعَمَل على خبر مظنون غير مَقْطُوع بِهِ إِن قيل يَصح الِاسْتِدْلَال على ذَلِك بأخبار آحَاد لم يجمع الصَّحَابَة على الْعَمَل بهَا لَكِن عمل بَعضهم بهَا وَلم يعْمل الْبَاقُونَ بهَا وَلم ينكروا على الْعَامِل بهَا قيل أَنْتُم استدللتم على الْعلم بِخَبَر الْوَاحِد باجماعهم على الْعَمَل بِخَبَر عبد الرَّحْمَن فِي الْمَجُوس وَخبر حمل بن مَالك فِي الْجَنِين وَالْخَبَر الْمَرْوِيّ فِي دِيَة الْأَصَابِع كل ذَلِك قد أَجمعُوا على الْعَمَل بِهِ وَلَعَلَّه لَا يُوجد خبر عمل بِهِ بَعضهم وَلم يُنكر من لم يعْمل بِهِ على الْعَامِل بِهِ إِلَّا خبر أَو خبران أَو ثَلَاثَة مِمَّا لم يبلغ كَثْرَة فَيكون قد علم فِي الْجُمْلَة أَن الصَّحَابَة لم يُنكر بَعْضهَا على بعض الْعَمَل بهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي شُرُوط وُقُوع الْعلم بالْخبر الْمُتَوَاتر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا قَالَ قَائِل جوزوا أَن يخبر المتواترون بِالْكَذِبِ لِأَن السُّلْطَان حملهمْ على ذَلِك بالرهبة لم يجز إبِْطَال ذَلِك بِأَنَّهُ كَانَ يجب أَن يظْهر رهبة السُّلْطَان لِأَن للسَّائِل أَن يَقُول حملهمْ على الْكَذِب وعَلى كتمان الرهبة وَإِنَّمَا كَانَ للسَّائِل أَن يَقُول ذَلِك لِأَن الْمُجيب لما تعاطى الْجَواب عَن السُّؤَال سلم صِحَة الشَّك فِي الِاجْتِمَاع على الْكَذِب للرهبة وَإنَّهُ إِنَّمَا يَزُول هَذَا الشَّك بِالْجَوَابِ فَلَزِمَهُ كَمَا سوغ الشَّك فِي ذَلِك قبل النّظر أَن يسوغ الشَّك فِي الْحمل على كتمان الرهبة قبل النّظر وَيَنْبَغِي أَن يُقَال إِنَّه لَا يُمكن أَن يضْبط السُّلْطَان الْكَثْرَة الْعَظِيمَة حَتَّى يرهبها فَلَا تَتَحَدَّث بِالْكَذِبِ عَن كل إِنْسَان وَفِي كل حَال بل كثير مِنْهُم لَا يتحدث بِهِ وَكثير مِنْهُم يظْهر خلاف الْكَذِب عِنْد خاصته وثقاته ثمَّ لَا يلبث الصدْق أَن يشيع

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب التَّعَبُّد بالْخبر الْوَاحِد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِن قيل لَا يمْتَنع أَن يكون بعض الصَّحَابَة عمل على الْخَبَر الْوَاحِد وَلم يُنكر عَلَيْهِ غَيره لِأَن غَيره كَانَ نَاظرا متوقفا فِي وجوب الْعَمَل بِهِ فَلذَلِك لم يُنكره وَلَيْسَ فِي ذَلِك اتِّفَاق مِنْهُم على ترك الْوَاجِب لأَنهم وَإِن اتَّفقُوا على ترك إِنْكَار الْعَمَل بذلك مَعَ أَن الْعَمَل بِهِ مُنكر فِي نَفسه فانهم لم يتفقوا على ترك الْوَاجِب لِأَن هَؤُلَاءِ الناظرين لَا يجب عَلَيْهِم الْإِنْكَار لأَنهم ناظرون الْجَواب إِن الله عز وَجل إِذا كلف الْمُجْتَهدين أَن يعرفوا هَل تعبدهم بِالْعَمَلِ بأخبار الْآحَاد أم لَا فَلَا بُد من أَن يمْضِي عَلَيْهِم من الزَّمَان مَا يتمكنون فِيهِ من الْوُصُول إِلَى مَا كلفهم فاذا مضى هَذَا الزَّمَان وَلم ينكروا الْعَمَل بأخبار الْآحَاد فَلَو كَانَ الْعَمَل بهَا مُنْكرا لكانوا قد أَجمعُوا على ترك الْوَاجِب إِذْ الْإِنْكَار وَاجِب دَلِيل وُرُود التَّعَبُّد بِخَبَر الْوَاحِد هُوَ أَنه لَا يجوز أَن يكون مَا رُوِيَ من أَخْبَار الْآحَاد على كثرتها لم يقل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا مِنْهَا بل يَنْبَغِي أَن يكون جَمِيعهَا أَو كثير مِنْهَا قد قَالَه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ يجوز أَن يكون مَا قَالَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذَلِك تعبدا لمن شافهه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون من لم يشافهه لِأَن الْإِجْمَاع بِخِلَاف ذَلِك وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لبين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن التَّعَبُّد بذلك مَقْصُور على من شافهه دون من لم يشافهه وَلم بَين ذَلِك فِي هَذِه الْأَخْبَار مَعَ كثرتها وَمَعَ إشاعته لهَذَا الْبَيَان لما جَازَ أَن ينكتم ذَلِك وَلَا ينْقل فَثَبت أَن التَّعَبُّد بذلك يتَوَجَّه إِلَى من شافهه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن لم يشافهه مِمَّن يَأْتِي بعده وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد شافه بهَا من يكون نَقله متواترا وَإِمَّا أَن يكون شافه بذلك الْآحَاد وَالْأول يَقْتَضِي أَن ينْقل عَنهُ متواترا لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يشيع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكما عَاما فَلَا ينْقل متواترا فَثَبت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شافه بِهَذِهِ الْأَخْبَار الْآحَاد فَلَو كَانَ الْعَمَل بهَا لَا يلْزمنَا إِلَّا بِنَقْل متواتر لَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد تعبدنا بِمَا لم يَجْعَل لنا طَرِيقا إِلَى أَن تعبدنا بِهِ فان قيل لَيْسَ يجب إِذا أشاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخَبَر بِحَضْرَة من يكون نَقله

متواترا أَن ينقلوه متواترا لِأَن الْإِنْسَان قد يتَكَلَّم بأنواع كَثِيرَة من الْكَلَام بِحَضْرَة الْجَمَاعَات الْكَثِيرَة فَلَا تنقل جَمَاعَتهمْ عَنهُ كل مَا تكلم بِهِ بل قد يروي الْوَاحِد عَنهُ شَيْئا وَالْآخر عَنهُ شَيْئا آخر فَلم زعمتم أَنه يجب مَا ذكرْتُمْ قيل لَو لم ينقلوه متواترا مَعَ وجوب ذَلِك عَلَيْهِم لكانوا قد أَجمعُوا على ترك النكير مَعَ وجوب النكير عَلَيْهِم لِأَن النَّاقِل لم يُنكر على من لم ينْقل وَمن لم ينْقل فمعلوم أَنه لم يُنكر ترك النَّقْل وَلقَائِل أَن يَقُول جوزوا أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد شافه بالحكم من يحجّ نَقله وهم بعض الامة وَلَيْسَ خطأهم هُوَ خطأ جَمِيع الْأمة جَوَاب آخر عَن السُّؤَال وَهُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو كَانَ شافه بِهَذِهِ الْأَخْبَار من يتواتر الْخَبَر بنقله وَكَانَ من دينه الْعَمَل بالمتواتر من الْأَخْبَار دون الْآحَاد لَكَانَ قد أوجب عَلَيْهِم التَّوَاتُر وأعلمهم بذلك وَلَا يجوز فِي الْعَادة أَن يتدين الْجَمَاعَة الْعَظِيمَة بِوُجُوب نقل كَلَام رجل ويكونوا على غَايَة الْحِرْص على نقل كَلَامه وأحواله وَيُوجب عَلَيْهِم ذَلِك وَلَا ينْقل الْجَمَاعَة كَلَامه الَّذِي شاع فيهم واعتقدوا وجوب نَقله عَلَيْهِم لِأَن مَا هم عَلَيْهِ من شدَّة الْحِرْص على نقل كَلَامه يمْنَع من ذَلِك وَيُفَارق ذَلِك سَماع الْجَمَاعَات الْكَثِيرَة أَنْوَاع الْكَلَام من الْوَاحِد منا لِأَنَّهَا غير حريصة على نقل كَلَام الْوَاحِد منا فان كَانَ لَهَا فِي ذَلِك غَرَض وَاشْتَدَّ حرصها عَلَيْهِ وَجب أَن تنقله فَأَما كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأحواله فقد علمنَا من حَال الصَّدْر الأول شدَّة الْحِرْص على نَقله حَتَّى نقلوا مِنْهُ مَا لَا يتَعَلَّق بِهِ حكم فان قيل أَلَيْسَ قد رُوِيَ عَنهُ بالآحاد أَخْبَار كَثِيرَة فِي التَّوْحِيد وَالْعدْل والوعيد والشفاعة وَغير ذَلِك مِمَّا يتَضَمَّن علما لَا عملا وَلَا يجوز أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قَالَ شَيْئا من ذَلِك لكثرته فَيجب أَن يكون قد قَالَه أَو بعضه فان كَانَ قد قَالَه عَن الْجَمَاعَة الْعَظِيمَة وَلم تنقله متواترا فقد انْتقض قَوْلكُم إِن مَا يشيعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجب أَن ينْقل عَنهُ متواترا وَإِن لم يشعه كَانَ قد اقْتصر على الْوَاحِد فِيمَا لَا يكون خبر الْوَاحِد حجَّة فِيهِ قيل إِن مَا رُوِيَ عَنهُ من ذَلِك لَا يداني مَا رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَأَيْضًا فَمَا

رُوِيَ عَنهُ من ذَلِك إِن كَانَ مُوَافقا لدَلِيل الْعقل فَلَيْسَ يمْتَنع أَن يشافه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ بعض النَّاس وَلَا يَجْعَل نقل ذَلِك الْبَعْض حجَّة على من يَنْقُلهُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يلْزم من ذَلِك أَن لَا يكون لنا طَرِيق إِلَى الْعلم بِمَا كلفنا لِأَن الْعقل طريقنا إِلَى الْعلم بِمَا تضمنه الْخَبَر وَإِن كَانَ ظَاهر الْخَبَر بِخِلَاف مُقْتَضى الْعقل فمراد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ خلاف ظَاهره فاذا شافه بِهِ الْوَاحِد فقد تعبده أَن يناوله ويحمله على الْمجَاز حَتَّى يُوَافق دَلِيل الْعقل وَلَيْسَ يجب أَن يتعبد غَيره بذلك الْخَبَر إِلَّا أَن يرْوى لَهُ فَيلْزمهُ أَن يعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن كَانَ قَالَه فمراده الْمجَاز الْمُوَافق لدَلِيل الْعقل وَأَنه لم يرد ظَاهره وَهَذَا لَيْسَ بموقوف على أَن يعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه فَيلْزم أَن يَجْعَل لَهُ طَرِيق إِلَى الْعلم بَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه تمت الزِّيَادَات بِحَمْد الله واهب العطيات

= كتاب الْقيَاس الشَّرْعِيّ لأبي الْحُسَيْن مُحَمَّد بن عَليّ بن الطّيب الْبَصْرِيّ رَحمَه الله وَقد صنفه قبل كتاب الْمُعْتَمد كَمَا يظْهر من الإشارات العديدة إِلَيْهِ فِي كتاب الْمُعْتَمد من المخطوطة الوحيدة فِي لاله لي باستانبول=

فصل في حد القياس

بِسم الله البرحمن الرَّحِيم = كتاب الْقيَاس الشَّرْعِيّ = اعْلَم أَن الْغَرَض بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة أَن نورد الْوُجُوه الَّتِي يتَكَلَّم بهَا فِي الْقيَاس الشَّرْعِيّ على قسْمَة ملخصة وَنَذْكُر مَا يَدُور بَين الْفُقَهَاء فِي مناظرة الْفِقْه دون مَا يخْتَص أصُول الْفِقْه نَحْو الدّلَالَة على الْمَنْع من تَخْصِيص الْعلَّة وَمَا أشبه ذَلِك وَنحن أَولا نجد الْقيَاس لنستخرج من حَده الْقِسْمَة الَّتِي يَتَرَتَّب الْكَلَام فِي الْقيَاس عَلَيْهَا فصل فِي حد الْقيَاس الْقيَاس هُوَ إِثْبَات حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لاجتماعهما فِي عِلّة الحكم وَهَذَا الْحَد لَا يَشْمَل أَنْوَاع الْقيَاس كلهَا وَإِنَّمَا يَشْمَل قِيَاس الطَّرْد فَقَط وَالْفُقَهَاء يسمون قِيَاس الْعَكْس قِيَاسا وَلَيْسَ هُوَ إِثْبَات حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لاجتماعهما فِي عِلّة الحكم وَإِنَّمَا هُوَ إِثْبَات يَقْتَضِي حكم الشَّيْء فِي غَيره فَيَنْبَغِي إِذا أردنَا أَن نحد الْقيَاس بِحَدّ يَشْمَل قِيَاس الْعَكْس وَقِيَاس الطَّرْد أَن نقُول الْقيَاس هُوَ إِثْبَات الحكم فِي الشَّيْء بِالرَّدِّ إِلَى غَيره لأجل عِلّة وَذَلِكَ أَن قِيَاس الْعَكْس هُوَ رد الْفَرْع إِلَى أصل لكنه رد إِلَيْهِ ليثبت فِي الْفَرْع نقيض حكمه وَلَا بُد من اعْتِبَار عِلّة فِي الأَصْل أَيْضا وَاعْتِبَار نقيضها فِي الْفَرْع مِثَال ذَلِك أَن نستدل على أَن الصَّوْم من شَرط الِاعْتِكَاف بِأَن نقُول لَو لم يكن من شَرطه لم يلْزم أَن يعتكلف بِالصَّوْمِ إِذا نذر أَن يعْتَكف بِالصَّوْمِ كَمَا أَن الصَّلَاة لما لم تكن من شَرط الِاعْتِكَاف لم تكن من شَرطه وَإِن نذر أَن يعْتَكف بِالصَّلَاةِ فَالْأَصْل هَهُنَا هُوَ الصَّلَاة وَحكمه أَنه لَيْسَ من شَرط الِاعْتِكَاف وَنحن نُرِيد أَن نثبت نقيض هَذَا الحكم فِي الصَّوْم وَالْعلَّة فِي الصَّلَاة هِيَ أَنه لَا يلْزمه بِالنذرِ

ونقيضها ثَابت فِي الصَّوْم فاذا قد حددنا الْقيَاس فَيَنْبَغِي أَن نقسمهُ فَنَقُول الْقيَاس الشَّرْعِيّ ضَرْبَان قِيَاس طرد وَقِيَاس عكس أما قِيَاس الْعَكْس فَهُوَ إِثْبَات نقيض حكم الأَصْل فِي الْفَرْع بِاعْتِبَار عِلّة وَإِن شِئْت قلت لتباينهما فِي الْعلَّة وَأما قِيَاس الطَّرْد فَهُوَ إِثْبَات حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لاجتماعهما فِي عِلّة الحكم فقد ظهر من هَذَا الْحَد أَن قِيَاس الطَّرْد لَا يَخْلُو من أصل وَفرع وَعلة وَحكم فَالْحكم هُوَ المنقسم إِلَى الْوُجُوب وَالنَّدْب والمباح وَكَون الْفِعْل مَكْرُوها ومحظورا وَالْأَصْل مَا سبق الْعلم بِحكمِهِ وَإِن شِئْت قلت هُوَ الَّذِي يتَعَدَّى حكمه إِلَى غَيره وَالْفرع هُوَ الَّذِي يتَأَخَّر الْعلم بِحكمِهِ وَإِن شِئْت قلت هُوَ الَّذِي يتَعَدَّى إِلَيْهِ حكم غَيره والمتكلمون يذهبون فِي الأَصْل إِلَى أَنه دَلِيل الحكم نَحْو الْخَبَر الدَّال على إِثْبَات الرِّبَا فِي الْبر ويذهبون فِي الْفَرْع إِلَى أَنه الحكم الْمُسْتَفَاد بِالْقِيَاسِ نَحْو تَحْرِيم الارز وَعرف الْفُقَهَاء جَازَ على خلاف ذَلِك وَالْعلَّة هِيَ الَّتِي لأَجلهَا يثبت الحكم وَلما كَانَ قِيَاس الطَّرْد لَا يشْتَمل إِلَّا على هَذِه الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة الأَصْل وَالْفرع وَالْحكم وَالْعلَّة وَجب أَن يكون الْكَلَام فِي الْقيَاس لَا يتعداها وَأَن يكون إِمَّا كلَاما مُتَعَلقا بِالْأَصْلِ أَو الْفَرْع أَو بالحكم أَو بِالْعِلَّةِ ولتعلق الْفَرْع وَالْأَصْل وَالْحكم وَالْعلَّة بَعْضهَا بِبَعْض مَا يتَعَلَّق الْكَلَام فِي بَعْضهَا بالْكلَام فِي بعض وَإِذا أمعنا النّظر فِي ذَلِك علمنَا أَن الْكَلَام فِي الْقيَاس إِمَّا أَن يكون كلَاما فِي الْعلَّة أَو فِي الحكم وَالْكَلَام فِي الحكم إِمَّا أَن يكون كلَاما فِيهِ نَفسه أَو يكون كلَاما فِيهِ بِحَسب تعلقه بِالْأَصْلِ أَو بِحَسب تعلقه بالفرع أَو بِحَسب تعلقه بالفرع وَالْأَصْل جَمِيعًا وَالْكَلَام فِي الْعلَّة إِمَّا أَن يكون كلَاما فِي وجودهَا وَإِمَّا أَن يكون كلَاما فِي غير وجودهَا وَالْعلَّة يجب أَن تكون مَوْجُودَة فِي الأَصْل وَفِي الْفَرْع فَيجب أَن تنظر فِي كلا الْأَمريْنِ أَعنِي أَنَّك تنظر فِي وجودهَا فِي الأَصْل وَفِي وجودهَا فِي الْفَرْع وَأما نظرك فِي الْعلَّة لَا من قبل

فصل في الكلام في الحكم

وجودهَا فضربان أَحدهمَا أَن تنظر فِي تصحيحها وَالثَّانِي أَن تنظر فِي إفسادها وَنحن نفصل ذَلِك فصولا إِن شَاءَ الله فصل فِي الْكَلَام فِي الحكم أعلم أَن الحكم لما وَجب أَن يكون مَوْجُودا فِي أصل الْقيَاس وفرعه جَازَ أَن يكون نظرك فِيهِ لَهُ تعلق بِالْأَصْلِ وَحده أَو بالفرع وَحده أَو بِالْأَصْلِ وَالْفرع مَعًا وَجَاز أَن يكون نظرك فِي الحكم يختصه وَلَا يتَعَلَّق بِالْأَصْلِ وَلَا بالفرع فَأول مَا يرد عَلَيْك الْقيَاس فَيَنْبَغِي أَن تعمد إِلَى أَصله فتنظر هَل الحكم مَوْجُود فِيهِ أم لَا فانه ريما قَاس على أصل اجْتمعت الْأمة على أَن حكم الْقيَاس مُنْتَفٍ عَنهُ وَرُبمَا كنت أَنْت تخَالفه فِي وجود الحكم فِي الأَصْل فتمنع القائس من الْقيَاس إِن كنت سَائِلًا أَو تنقل الْكَلَام إِلَى الأَصْل إِن كنت مسئولا وَإِذا وجدت الحكم فِي الأَصْل فَانْظُر هَل هُوَ مَوْجُود فِي جَمِيع الأَصْل أم لَيْسَ بموجود فِي جَمِيعه فانه إِن كَانَ مَوْجُودا فِي بعضه وَكَانَ القائس قد ظهر فِي كَلَامه أَنه قصد أَن يرد الْفَرْع إِلَى جَمِيع الأَصْل أعلمته أَنه لم يَأْتِ بِمَا قصد إِلَى إِيرَاده وَكَانَ لَك أَن تَأْخُذهُ بذلك وَأَيْضًا فَانْظُر هَل الحكم ثَابت فِي الأَصْل بِقِيَاس على أصل آخر أم لَا فانه رُبمَا رد القائس فرعا إِلَى أصل بعلة من الْعِلَل وَيكون الحكم إِنَّمَا يثبت فِي ذَلِك الأَصْل بعلة أُخْرَى مِثَال ذَلِك أَن يرد من طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس وَهُوَ يتَشَهَّد فِي صَلَاة الصُّبْح إِلَى من خرج وَقت الْمسْح على خفيه وَهُوَ جَالس فِي التَّشَهُّد الَّذِي بعلة أَنه خَارج من الصَّلَاة بِغَيْر فعله فَيجب أَن تبطل صلَاته وَيرد هَذَا الأَصْل إِلَى الْمُسَافِر إِذا نوى الْإِقَامَة وَهُوَ جَالس للتَّشَهُّد بعلة أَنه معني لَو طرى فِي أول الصَّلَاة لغير الْفَرْض فَوَجَبَ إِذا طرى فِي آخرهَا أَن يكون كطرئه فِي أَولهَا وَمَعْلُوم أَن عِلّة الْفَرْع الثَّانِي وَهِي الْخُرُوج من الصَّلَاة بِغَيْر فعله وَلَا يُوجد فِي الأَصْل الأول وَاخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَمنع مِنْهُ قوم قَالُوا لِأَن الْفَرْع إِنَّمَا يرد إِلَى الأَصْل إِذا شَاركهُ فِي عِلّة حكمه قَالُوا وَعلة هَذَا الأَصْل هِيَ عِلّة أُخْرَى لَا

يُوجد فِي الْفَرْع الثَّانِي وَقد أجَاز ذَلِك قوم وَقَالُوا الْعلَّة الَّتِي يثبت الحكم بهَا فِي الأَصْل هِيَ كالنص فِي أَنَّهَا طَرِيق الحكم وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يعلم بِالدَّلِيلِ أَن يكون لعِلَّة أُخْرَى تَأْثِير فِي ذَلِك الحكم فَترد بهَا بعض الْفُرُوع إِلَيْهِ فَهَذَا هُوَ نظرك فِي الحكم بِحَسب تعلقه بِالْأَصْلِ وَأما إِذا نظرت فِيهِ بِحَسب تعلقه بالفرع فَقَط فَهُوَ أَن تنظر هَل الحكم يُمكن وجوده فِي الْفَرْع أم لَا فانه رُبمَا منع نَص أَو إِجْمَاع من وجوده فِي الْفَرْع فان لم يمْنَع نَص أَو إِجْمَاع من ذَلِك فَانْظُر هَل يُمكن أَن تثبت الحكم فِي الْفَرْع بِقِيَاس أم لَا فانه رُبمَا كَانَ الحكم كَفَّارَة أَو حدا أَو تَقْديرا أَو حكما مَخْصُوصًا من جملَة الْقيَاس وَهَذَا لَا يجوز إثْبَاته بِالْقِيَاسِ عِنْد بعض الْفُقَهَاء فان كنت مِمَّن يَأْبَى ذللك وَكنت سَائِلًا أمكنك إيقاف وَإِن كَانَ الحكم يُمكن وجوده فِي الْفَرْع بِقِيَاس فَانْظُر هَل هُوَ مَوْجُود فِي جَمِيع الْفَرْع أَو فِي بعضه فان كَانَ مَوْجُودا فِي بعضه وَكَانَ القائس قد شَرط على نَفسه أَن يرد الْفَرْع كُله إِلَى الأَصْل ثمَّ لم يفعل كَانَ لَك أَن تَأْخُذهُ بِمَا شَرط على نَفسه وَمَا قَصده بِالْقِيَاسِ فَهَذَا هُوَ نظرك فِي الحكم بِحَسب تعلقه بالفرع وَأما نظرك فِي الحكم بِحَسب تعلقه بِالْأَصْلِ وَالْفرع جَمِيعًا فَهُوَ أَن تنظر هَل يُمكن أَن يُسْتَفَاد حكم ذَلِك الْفَرْع من ذَلِك الأَصْل أم لَا فانه قد يكون مَوْضُوع الأَصْل على التَّغْلِيظ وموضوع الْفَرْع على التَّخْفِيف وَيكون الحكم تَخْفِيفًا وَهَذَا هُوَ اخْتِلَاف مَوْضُوع الأَصْل وَالْفرع فلك أَن تمنع من هَذَا الْقيَاس وَتقول إِن اخْتِلَاف مَوْضُوع الأَصْل وَالْفرع كالأمارة على أَن حكم أَحدهمَا مباين لحكم الآخر وللقائس أَن يَقُول إِنَّه لَا يمْتَنع أَن يكون الأَصْل وَالْفرع متباينين فِي بعض الْأَحْكَام ومتفقين فِي بعض آخر فاذا دللت على صِحَة الْعلَّة وَجب أَن يشركا فِي الحكم الَّذِي تَقْتَضِيه تِلْكَ الْعلَّة وَأما نظرك فِي الحكم من غير أَن يكون لَهُ تعلق بِالْأَصْلِ وَالْفرع فَهُوَ أَن تنظر هَل يمكنك أَن تَقول بالحكم الَّذِي علقه القائس على الْعلَّة فانه رُبمَا علق

فصل في الكلام في العلة

القائس على علته حكما مُجملا يمكنك أَن تَقول بِهِ وَهَذَا هُوَ القَوْل بِمُوجب الْعلَّة وَإِذا أمكنك ذَلِك بَان أَن القائس لم يدل على مَوضِع الْخلاف مِثَال ذَلِك أَن يُعلل مُعَلل كَون الصَّوْم شرطا فِي الِاعْتِكَاف بِأَنَّهُ لبث فِي مَكَان مَخْصُوص فَوَجَبَ أَن يكون من شَرطه معنى يقارنه قِيَاسا على الْوُقُوف بِعَرَفَة فان لَك أَن تلتزم هَذَا الحكم وَهُوَ إشراط معنى إِذا كَانَ القائس لم يفصل الْمَعْنى فَهَذَا هُوَ الْكَلَام فِي حكم الْعلَّة لَا بِحَسب تعلقه بِغَيْرِهِ وَلَك أَن تَقول إِن القَوْل بِمُوجب الْعلَّة هُوَ الْكَلَام فِي الحكم بِحَسب تعلقه بالفرع فصل فِي الْكَلَام فِي الْعلَّة اعْلَم أَنا قد قُلْنَا إِن الْكَلَام فِي الْعلَّة إِمَّا أَن يكون كلَاما فِي وجودهَا أَو فِي غير وجودهَا وَإِن الْكَلَام فِي غير وجودهَا يَنْقَسِم إِلَى الْكَلَام فِي تصحيحها وَإِلَى الْكَلَام فِي إفسادها فاذا نظرت فِي وجودهَا فَانْظُر هَل هِيَ مَوْجُودَة فِي جَمِيع الأَصْل أَو فِي بعضه فانه قد يجوز أَن تكون الْعلَّة مَوْجُودَة فِي بعض الأَصْل وَيكون الْمُعَلل قد رام أَن يرد الْفَرْع إِلَى جَمِيع الأَصْل فاذا لم تكن الْعلَّة شائعة فِي جَمِيع الأَصْل بَطل مَا رامه فان رد الْفَرْع إِلَى الْمَوْضُوع الَّذِي وجدت فِيهِ الْعلَّة من الأَصْل نظرت فان جَازَ أَن يكون بعض الأَصْل مُعَللا دون بعض أجزت للقائس مَا فعله وَإِن لم تجز أَن يكون بعض الأَصْل مُعَللا دون بعض وَلم تجز مَعَ ذَلِك أَن يكون عِلّة جَمِيع الأَصْل إِلَّا عِلّة وَاحِدَة بَطل قِيَاسه وَمِثَال ذَلِك منع أَصْحَاب الشَّافِعِي من قِيَاس الجص على الْبر بعلة أَنه مَكِيل بقَوْلهمْ إِن عِلّة تَحْرِيم الْبر هِيَ عِلّة وَاحِدَة شائعة فِي جَمِيع الْبر والكيل لَيْسَ بشائع فِي جَمِيع الْبر لِأَن الْحبَّة والحبتين لَا يَتَأَتَّى فيهمَا الْكَيْل وأصحابنا يجيبون عَن ذَلِك بِأَن الْمحرم من الْبر لَيْسَ لَهُ عِلّة وَاحِدَة وَهِي الْكَيْل لِأَن الْمحرم لَيْسَ هُوَ إِلَّا مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَيْل من الْبر لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع الْبر بِالْبرِّ إِلَّا كَيْلا بكيل فَأجَاز بِالْكَيْلِ مَا منع مِنْهُ بِغَيْر كيل وَالَّذِي يجوز بَيْعه إِذا تساوى فِي الْكَيْل هُوَ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَيْل فَيجب أَن يكون مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَيْل هُوَ مَا

فصل فيما يدل على صحة العلة

يحرم بَيْعه إِذا تفاضل فَهَذَا هُوَ الْكَلَام فِي وجود الْعلَّة فِي الأَصْل فَأَما نظرك فِي وجود الْعلَّة فِي الْفَرْع فَهُوَ أَن تنظر هَل الْعلَّة مَوْجُودَة فِي الْفَرْع عنْدك وَإِن كَانَت مَوْجُودَة فِيهِ فَهَل هِيَ مَوْجُودَة فِي جَمِيعه أَو فِي بعضه فانه رُبمَا وصف القائس الْفَرْع بِصفة لَا يجوز عِنْد خَصمه أَن يكون مَوْصُوفا بهَا وَقد يجمع الْمُسلمُونَ فِي ذَلِك الْفَرْع على أَنه لَا يجوز أَن يثبت حكمه إِلَّا بعلة وَاحِدَة فَيكون ذَلِك مُبْطلًا لتعليل من علله بعلة وَاحِدَة لَا تُوجد فِي جَمِيعه فصل فِيمَا يدل على صِحَة الْعلَّة يدل على صِحَّتهَا النَّص والاستنباط أما النَّص فإمَّا أَن يدل على صِحَّتهَا بصريحه وَإِمَّا أَن يدل على صِحَّتهَا بِضَرْب من التَّنْبِيه أما صَرِيح النَّص فَهُوَ أَن يَقُول الله عز وَجل أَو نبيه أَو الْأمة أَو القائسون من الْأمة إِن هَذَا محرم لعِلَّة كَذَا أَو لأجل كَذَا أَو لِأَنَّهُ كَذَا أَو لكيلا يكون كَذَا وَأما تَنْبِيه النَّص فنحو أَن يفرق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين شَيْئَيْنِ وَيذكر عِلّة أَحدهمَا فنعلم أَن عكس تِلْكَ الْعلَّة قَائِم فِي الشَّيْء الآخر وَأَنه عِلّة فِي نقيض حكم الشَّيْء الأول مِثَاله امْتنَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الدُّخُول على قوم عِنْدهم كلب ودخوله على قوم عِنْدهم هر وَقَوله إِنَّهَا لَيست بِنَجس فَدلَّ ذَلِك على نَجَاسَة الْكَلْب وَأَنه هُوَ الْعلَّة فِي امْتنَاع دُخُوله على أربابه وَدلّ قَوْله فِي الهر إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات على أَن ذَلِك هُوَ عِلّة طَهَارَة الهر وَأَن كَون الْكَلْب لَيْسَ من الطوافين علينا مِمَّا يجوز أَن يُؤثر فِي نَجَاسَته وَمَا يجْرِي مجْرى التَّنْبِيه الْجَواب بالفا نَحْو قَول الله سُبْحَانَهُ {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} فان ذَلِك يدل على أَن سَبَب الْقطع وعلته هُوَ السّرقَة فَأَما مَا يدل على صِحَة الْعلَّة من جِهَة الاستنباط فانه يكون من وُجُوه

مِنْهَا أَن يجمع القائسون على أَن الأَصْل مُعَلل بعلل محصورة لَا يجوز الزِّيَادَة عَلَيْهَا وتفسد جَمِيعهَا إِلَّا وَاحِدَة مِنْهَا فنعلم أَنَّهَا هِيَ الْعلَّة لِأَنَّهَا لَو لم تكن هِيَ الْعلَّة انْتقض القَوْل بِأَن الْعلَّة لَا تخرج عَن تِلْكَ الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة وَمِنْهَا أَن يكون الحكم يُوجد بوجودها فِي الأَصْل ويرتفع بارتفاعها إِلَّا أَن يخلفها على أُخْرَى وَقد شَرط فِي ذَلِك أَن لَا يكون هُنَاكَ وصف آخر لَهُ تَأْثِير فِي الأَصْل هُوَ مِنْهَا بِأَن يكون عِلّة وَالَّذِي يبين أَن هَذَا الْوَجْه يدل على صِحَة الْعلَّة أَن الحكم إِذا وجد بِوُجُود الْعلَّة فِي الأَصْل وارتفع بارتفاعها غلب على الظَّن أَنَّهَا مُؤثرَة فِيهَا وَلم يجز أَن يكون تجويزها تأثيرها فِيهِ وتجويز كَونهَا غير مُؤثرَة فِيهِ على سَوَاء لَا مزية لأَحَدهمَا على الآخر لِأَن وجود الحكم بوجودها وارتفاعه بارتفاعها يَقْتَضِي لَا محَالة أَن يكون الحكم بِتِلْكَ الْعلَّة أخص وَمِنْهَا أَن يكون الْعلَّة لَهَا تاثير فِي قبيل ذَلِك الحكم وجنسه فيغلب على الظَّن أَن كَونهَا عِلّة فِيهِ أولى من غَيرهَا مِثَال ذَلِك كَون الْبلُوغ عِلّة فِي رفع الْحجر فِي النِّكَاح لِأَن للبلوغ تَأْثِيرا فِي رفع جنس الْحجر وقبيله فَكَانَ أولى من الثيوبة فِي رفع حجر النِّكَاح يبين مَا ذكرنَا أَن الْحجر إِنَّمَا يثبت لغَرَض قد علمناه وَهُوَ نُقْصَان الْعقل المخل بِمَعْرِِفَة مصَالح الْإِنْسَان فِي تصرفه الْمُقْتَضِي لقلَّة الْخِبْرَة بالامور فاذا كَانَ هَذَا هُوَ الْمُثبت للحجر وَكَانَ هَذَا الْمَعْنى منفيا بِالْبُلُوغِ ظهر أَن الْبلُوغ يجب أَن يكون عِلّة زَوَال ذَلِك إِلَّا أَن يثبت أَن النِّكَاح يخْتَص بِمَعْنى آخر يحصل بِهِ الْخِبْرَة نَحْو الثيوبة الَّتِي يذكرهَا الشَّافِعِي فَينْظر فِي ذَلِك فَكل حكم يثبت لغَرَض من الْأَغْرَاض فَإنَّا نعلم أَن زَوَال ذَلِك الْغَرَض إِلَى خِلَافه يَقْتَضِي زَوَال ذَلِك الحكم إِلَّا أَن يخلف ذَلِك الْغَرَض غَرَض آخر سِيمَا إِن شهِدت الاصول بذلك كَمَا ذَكرْنَاهُ من زَوَال الْحجر عَن المَال بِالْبُلُوغِ وَقد اسْتدلَّ قوم على صِحَة الْعلَّة بِوُجُوه أخر مِنْهَا قَوْلهم إِنَّهَا قد سلمت من وُجُوه الْفساد وَيُقَال على ذَلِك إِن عددتم

فِي وُجُوه الْفساد الَّتِي قد سلمت الْعلَّة مِنْهَا عدم الدّلَالَة على صِحَّتهَا فأقيموا الدّلَالَة على صِحَّتهَا لنسلم قَوْلكُم إِنَّهَا قد سلمت من عدم الدّلَالَة على صِحَّتهَا وَإِن لم تعدوا عدم الدّلَالَة على صِحَة الْعلَّة من وُجُوه الْفساد وقلتم إِن الْعلَّة إِذا سلمت من النَّقْض وَالْقلب وَالْعَكْس وَمَا جرى مجْراهَا فَهِيَ صَحِيحَة لم نسلم لكم أَن مَا سلم من هَذِه الْوُجُوه فَهِيَ عِلّة صَحِيحَة وَمِنْهَا قَوْلهم إِن عجز الْخصم عَن إفسادها يدل على صِحَّتهَا وَهَذَا لَا يدل لِأَن الْخصم قد يعجز عَن إِفْسَاد الْفَاسِد لِأَن أَكثر مَا فِي عجز الْخصم عَن إفسادها كَونهَا سليمَة من وُجُوه الْفساد وَهَذَا هُوَ الرُّجُوع إِلَى الْوَجْه الأول وَقد تكلمنا عَلَيْهِ فان قيل أَلَيْسَ عجز الْعَرَب عَن مُعَارضَة الْقُرْآن دَلِيلا على إعجازه فَهَلا عجز الْخصم عَن إِفْسَاد الْعلَّة ومعارضتها على صِحَّتهَا الْجَواب إِن الْقُرْآن إِنَّمَا كَانَ معجزا لنقضه لعادة الفصحاء ومباينته لما تقدرون علته فاذا عجزوا عَن الْإِتْيَان بِمثلِهِ وَبِمَا يقارنه علم أَنه مباين لما تقدرون علته فَثَبت أَنه نَاقض للْعَادَة وَأما الْعلَّة فَلَيْسَ وَجه صِحَّتهَا كَونهَا ناقضة للْعَادَة حَتَّى يدل عجز الْخصم عَن الْإِتْيَان بِمِثْلِهَا على إعجازها وَلَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ عجز النَّاس عَن معارضتها يدل على نقضهَا للْعَادَة وَلَيْسَ هَذَا من الْكَلَام فِي صِحَة الْعلَّة بسبيل وَمِنْهَا قَوْلهم إِن جَرَيَان الْعلَّة فِي معلولها دَلِيل على صِحَّتهَا وَهَذَا لَا يَصح لِأَن جَرَيَان الْعلَّة فِي معلولها مَعْنَاهُ هُوَ أَن الْمُعَلل علق بهَا الحكم فِي كل مَوضِع وجدت فِيهِ وَهَذَا هُوَ فعله وَلَيْسَ يدل فعله على صِحَّتهَا وَلِأَنَّهُ قد كَانَ يَنْبَغِي أَن يدل الْمُعَلل على صِحَّتهَا فِي الأَصْل أَولا حتي يحسن مِنْهُ أَن يعلق الحكم بهَا فِي الْفُرُوع فقد علم أَن جَرَيَان الْعلَّة فِي معلولها فرع على إِقَامَة الدّلَالَة على صِحَّتهَا فَلَا يجوز أَن يَجْعَل دَلِيلا على صِحَّتهَا يبين ذَلِك أَن محصول هَذَا الدَّلِيل هُوَ انا لما منعنَا الْمُعَلل من تَعْلِيق الحكم بِالْعِلَّةِ وذممناه على ذَلِك اعتذر من ذَلِك بِأَن قَالَ إِنِّي اعلق الحكم بهَا فِي مَوَاضِع أخر وَنحن إِذا منعناه من الأول وَخَالَفنَا فِيهِ فَأولى أَن نخالفه ونمنعه مِمَّا جعله عذرا لنَفسِهِ

فصل فيما يختص العلة من الوجوه المفسدة لها

فصل فِيمَا يخْتَص الْعلَّة من الْوُجُوه الْمفْسدَة لَهَا اعْلَم أَن الْعلَّة قد يدل على فَسَادهَا قَول الْأمة وَقد يدل على فَسَادهَا الاستنباط مِثَال الأول أَن يقيس الْإِنْسَان قَلِيل الْبر فِي ثُبُوت الرِّبَا فِيهِ على قَلِيل الذَّهَب وَالْفِضَّة بعلة أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يثبت الرِّبَا فِي كَثِيره وَذَلِكَ أَن القائسين أَجمعُوا على أَن الْمحرم من الْبر محرم لعِلَّة وَاحِدَة وَهِي إِمَّا كيل أَو غَيره وَلم يقل أحد إِن الْمحرم من الْبر لَهُ عِلَّتَانِ وَلَا قَالَ إِن الْبر فرع على غَيره فتعليل قَلِيل الْبر بِأَنَّهُ يثبت الرِّبَا فِي كَثِيره مجمع على فَسَاده وَأما مَا يدل على فَسَادهَا من جِهَة الاستنباط فوجوه مِنْهَا أَن يكون تعليلا بِالِاسْمِ وَمِنْهَا اخْتِلَاف موضوعها مَعَ الحكم وَمِنْهَا عدم التَّأْثِير وَمِنْهَا الْقلب وَمِنْهَا النَّقْض وَمِنْهَا الْكسر وَمِنْهَا أَن تعَارض الْعلَّة بعلة فِي الأَصْل أَو تعَارض جملَة الْقيَاس بِقِيَاس أما التَّعْلِيل بِالِاسْمِ فضربان احدهما أَن يُعلل مُعَلل تَحْرِيم الْخمر لِأَن الْعَرَب تَسْمِيَة خمرًا وَهَذَا تَعْلِيل فَاسد لِأَنَّهُ يبعد أَن يكون لتسمية الْعَرَب إِيَّاه بذلك تَأْثِير فِي تَحْرِيمه وَالْآخر أَن يُعلل تَحْرِيمه بِجِنْسِهِ نَحْو أَن يُعلل تَحْرِيمه بِكَوْنِهِ خمرًا وَهَذَا غير فَاسد لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون لكَونه خمرًا تَأْثِير فِي التَّحْرِيم وكما يجوز التَّعْلِيل بذلك كَذَلِك يجوز التَّعْلِيل بِصفة من الصِّفَات أَو بِحكم من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَيجْعَل الحكم الشَّرْعِيّ عِلّة فِي ثُبُوت حكم آخر شَرْعِي لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون بعض الاحكام أَمارَة فِي ثُبُوت بعض آخر بِأَن يكون بَينهم تعلق يَقْتَضِي ذَلِك وَأما اخْتِلَاف الْوَضع فنحو أَن يُعلل الْإِنْسَان حكما من الْأَحْكَام بِحكم آخر شَرْعِي وَيكون أحد الْحكمَيْنِ مُبينًا على التَّخْفِيف وَالْآخر مَبْنِيا على التَّغْلِيظ فَيجوز أَن يَجْعَل ذَلِك أَمارَة تَقْتَضِي أَن لَا يعْتَبر أَحدهمَا بالاخر وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّه لَا يمْتَنع أَن يكون أَحدهمَا مُعْتَبرا بِالْآخرِ إِذا دلّ الدَّلِيل على ذَلِك وَكَذَلِكَ لَا يمْتَنع أَن يُقَاس الْفَرْع على الأَصْل

وَإِن أَحدهمَا مَبْنِيا على التَّخْفِيف وَالْآخر على التَّغْلِيظ إِذا كَانَ الْجَامِع بَينهمَا عِلّة مدلولا على صِحَّتهَا فان قيل إِنَّه لَا يجوز أَن تدل الدّلَالَة على صِحَة عِلّة مثل هَذِه الْعِلَل انْتقل الْكَلَام مَعَ الْخصم إِلَى إِقَامَة الدّلَالَة على صِحَة الْعلَّة فاما عدم التَّأْثِير فَهُوَ أَن يذكر الْمُعَلل فِي جملَة أَوْصَاف الْعلَّة وَصفا لَو عدم من الأَصْل لم يعْدم الحكم عَنهُ فنعلم بذلك أَنه لَا يجوز أَن تكون الْعلَّة مَجْمُوع تِلْكَ الْأَوْصَاف بل يَنْبَغِي أَن نرفض مِنْهَا ذَلِك الْوَصْف لِأَنَّهُ لَو جَازَ أَن يَجْعَل فِي جملَة الْعلَّة مَا يضر فَقده فِي ثُبُوت الحكم فِي الأَصْل وَجب إِثْبَات مَا لَا نِهَايَة لَهُ من الْأَوْصَاف الَّتِي لَا يضر فقدها فِي ثُبُوت الحكم فِي الأَصْل فان كُنَّا مَتى رفضنا ذَلِك الْوَصْف عَن تِلْكَ الْعلَّة الَّتِي انتقضت بفرع من الْفُرُوع وَجب أَن يدل انتقاضها على فَسَادهَا وَلَا يجوز ضم الْوَصْف إِلَيْهَا لتسلم الْعلَّة من النَّقْض لِأَن الْعلَّة يجب أَن نعلم أَولا أَن حكم الأَصْل يعلق بهَا ثمَّ يجْرِي فِي الْفُرُوع فاذا لم يُؤثر وصف مِنْهَا فِي حكمه لم يجز أَن يكون من جملَة علته وَإِذا وَجب إِسْقَاطه من الْعلَّة وَكَانَ مَا عداهُ من الْأَوْصَاف منتقضا علم فَسَاد الْعلَّة وَأما قلب الْقيَاس فَهُوَ أَن يعلق بِالْعِلَّةِ نقيض الحكم الْمَذْكُور فِي الْقيَاس وَيرد الْفَرْع بِتِلْكَ الْعلَّة إِلَى الأَصْل الَّذِي يرد إِلَيْهِ فرع الْقيَاس مِثَاله أَن يُعلل مُعَلل كَون الصَّوْم شرطا فِي الِاعْتِكَاف فَيَقُول لِأَنَّهُ لبث فِي مَكَان مَخْصُوص فَوَجَبَ أَن يكون من شَرطه اقتران معنى آخر إِلَيْهِ أَصله الْوُقُوف بِعَرَفَة وللخصم أَن يقلب الْقيَاس فَيَقُول لِأَنَّهُ لبث فِي مَكَان مَخْصُوص فَوَجَبَ أَن يكون لَا من شَرطه الصَّوْم قِيَاسا على الْوُقُوف بِعَرَفَة فاذا كَانَت الْعلَّة تتَعَلَّق بهَا الحكم ونقيضه لم يكن بِأَن يكون عِلّة فِي أحد الْحكمَيْنِ أولى من ان يكون عِلّة فِي الآخر وَالْقلب يكون على ضَرْبَيْنِ أَحدهمَا أَن يكون أحد الْحكمَيْنِ اللَّذين علقا بِالْعِلَّةِ مُجملا والاخر مفصلا مِثَاله مَا ذكرنَا من الْقيَاس فِي الِاعْتِكَاف وَذَلِكَ أَن من قَالَ فَوَجَبَ أَن يكون من شَرطه معنى آخر قد أجمل الحكم وَمن قَالَ فَوَجَبَ أَن لَا يكون الصَّوْم من شَرطه قد فصل وَالصَّحِيح أَن تكون مثل هَذِه الْعلَّة يدل على الحكم الْمفصل وَلَا يبطل إِذا أمكن أَن يعلق بهَا الحكم

الْمُجْمل لِأَن الْمُجْمل لَيْسَ يُنَافِي الْمفصل وَذَلِكَ لِأَن النِّيَّة هِيَ معنى مَا وَلَا يمْتَنع أَن لَا يكون الصّيام شرطا فِي الْعِبَادَة وَإِن كَانَ من شَرطهَا معنى هُوَ النِّيَّة وَإِنَّمَا يجب أَن تبطل الْعلَّة إِذا تعلق بهَا حكمان يمْتَنع اجْتِمَاعهمَا لِأَنَّهُ لَا يكون ثُبُوت أَحدهمَا لأَجلهَا أولى من ثُبُوت الآخر وَلَيْسَ يُمكن أَن يتَعَلَّق بِالْعِلَّةِ الْوَاحِدَة حكمان مفصلان يتناقضان لِأَن الْحكمَيْنِ مَتى تناقضا وَجب أَن يكون أَحدهمَا كذبا وَالْآخر صدقا وَمن حق الْقيَاس إِذا قلب أَن يكون الَّذِي يقلبه وَالَّذِي قلب عَلَيْهِ صَادِقين فِي الحكم وَالضَّرْب الآخر فِي الْقلب هُوَ قلب التَّسْوِيَة وَهُوَ أَن يَقُول القالب فَوَجَبَ أَن يَسْتَوِي كَذَا مَعَ كَذَا فاذا ثَبت وجوب استوائهما فِي الحكم وَكَانَ أَحدهمَا مَحْظُورًا وَجب أَن يكون الآخر مثله فان كَانَ الْقلب ينْتَقض أَو يلْحقهُ وَجه آخر من وُجُوه الْفساد لم تبطل الْعلَّة لِأَن الْعلَّة إِنَّمَا تبطل إِذا أمكن أَن يعلق بهَا حكمان نقيضان وَلَا يكون تعلق أَحدهمَا اولى من الآخر فاذا انتقضت الْعلَّة مَعَ اُحْدُ الْحكمَيْنِ كَانَ تَعْلِيق الحكم الآخر بهَا أولى وَأما النَّقْض فَهُوَ وجود الْعلَّة فِي مَوضِع قد عدم حكمهَا عَنهُ وَلِهَذَا مَتى علل الْمُعَلل للجملة ثمَّ نوقض بالتفضيل لم يكن ذَلِك نقضا لِأَن حكم الْعلَّة هُوَ الْجُمْلَة وَلم يعْدم هَذَا عَن الْموضع الَّذِي وجدت فِيهِ الْعلَّة وَإِنَّمَا عدم الحكم الْمفصل وَالْحكم الْمفصل لم يكن حكمهَا الَّذِي علق بهَا فَأَما إِن علل مُعَلل للتفصيل فنوقض بِالْجُمْلَةِ فانه يكون نقضا صَحِيحا لِأَن الْجُمْلَة يدْخل فِيهَا التَّفْصِيل أَلا ترى أَن من علل وجوب الْقيَاس فِي قتل الذِّمِّيّ عمدا بانه حر مُكَلّف فنوقض بالحربي لِأَنَّهُ حر مُكَلّف وَلَا يثبت بَيْننَا وَبَينه قصاص أصلا لَا عمدا وَلَا خطأ فقد نوقض بِنَفْي الْحكمَيْنِ فِي الْجُمْلَة وَالتَّفْصِيل دَاخل فِيهِ وَهُوَ وجوب الْقصاص فِي قتل الْعمد وَمِثَال النَّقْض بالتفصيل إِذا ورد على الْجُمْلَة أَن يُعلل مُعَلل قتل الْمُسلم بالذمي لِأَنَّهُمَا حران مكلفان محقونا الدَّم فَوَجَبَ أَن يثبت بَينهمَا قصاص فتناقض بِالْمُسلمِ إِذا قتل ذِمِّيا خطأ وَهَذَا لَيْسَ بِنَقْض صَحِيح لِأَن الْمُعَلل إِنَّمَا أثبت بَينهمَا قصاصا على بعض الْوُجُوه وَلَيْسَ ينْتَقض هَذَا إِلَّا بِأَن يُؤْخَذ حران مكلفان

محقونا الدَّم وَلَا يثبت بَينهمَا قصاص بِوَجْه وَقد يحترس من النَّقْض بِوُجُوه مِنْهَا الاحتراس بِالْأَصْلِ وَمِنْهَا الاحتراس بِشَرْط يذكر فِي حكم الْعلَّة وَمِنْهَا الاحتراس بِحَذْف الحكم والاقتصار على التَّشْبِيه بِالْأَصْلِ مِثَال الاحتراس بِالْأَصْلِ أَن يُعلل مُعَلل قتل الْمُسلم بالذمي بِأَنَّهُمَا حران مكلفان محقونا الدَّم كالمسلمين فاذا نوقض بقتل الْخَطَأ قَالَ إِنِّي إِنَّمَا رددت الْفَرْع إِلَى الْمُسلم وَأَنا أَقُول فِي الْفَرْع مثل مَا قلته فِي الأَصْل فَأَنا أوجب الْقصاص فِي الْعمد دون الْخَطَأ وَهَذَا الاحتراس لَا يَصح لِأَن النَّقْض هُوَ عدم الحكم عَن الْمَوْضُوع الَّذِي وجدت فِيهِ الْعلَّة الملفوظ بهَا لِأَن الْعلَّة الملفوظ بهَا هِيَ المؤثرة فِي الحكم لَا غَيره وَالْحكم هُوَ الْمَنْطُوق بِهِ لَا غير فاذا فعل ذَلِك تمّ النَّقْض وَقَول الْمُعَلل إِنِّي أوجب فِي الْفَرْع مثل مَا يجب فِي الأَصْل لَا يَصح لِأَنَّهُ إِنَّمَا اقْتضى لَفظه أَن يُسَوِّي بَين الْفَرْع وَالْأَصْل فِيمَا صرح بِهِ من ثُبُوت الْقيَاس وَمَا عدا ذَلِك لم يدل عَلَيْهِ لَفْظَة وَإِنَّمَا أضمره والنقض إِنَّمَا يتَوَجَّه نَحْو الْمظهر دون الْمُضمر وَأما الاحتراس بِحَذْف الحكم فَهُوَ أَن يذكر الْمُعَلل الْعلَّة وَلَا يذكر الحكم وَلكنه يَقُول عقيب الْعلَّة فَأشبه الْفَرْع كَيْت وَكَيْت وَقد يفعل ذَلِك إِذا لم يُمكن التَّصْرِيح بالحكم وَهَذَا الْحَذف لَا يَصح لِأَنَّهُ قَوْله فَأشبه كَيْت وَكَيْت هُوَ حكم بَان الْفَرْع يشبه كَيْت وَكَيْت وَإِذا كَانَ ذَلِك حكما احْتَاجَ إِلَى أصل يرد إِلَيْهِ الْفَرْع وَأما الاحتراس بِشَرْط مَذْكُور فِي الحكم فمثاله إِن يَقُول الْمُعَلل لِأَنَّهُمَا حران مكلفان محقونا الدَّم فَوَجَبَ أَن يكون بَينهمَا قصاص إِذا قتل أَحدهمَا صَاحبه عمدا فاذا نوقض بقتل الْخَطَأ قَالَ قد احترست فِي الحكم بِقَوْلِي قَتله عمدا وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الاحتراس فِي الحكم هُوَ إِقْرَار بانتقاض الْعلَّة وَذَلِكَ أَن الْمُعَلل قد حكم بِأَن الْعلَّة هِيَ كَونهمَا حُرَّيْنِ مكلفين محقوني الدَّم فَقَط وَأَنه لَا يدْخل فِي الْعلَّة غير ذَلِك فاذا قَالَ إِن هَذَا يُوجب الْقصاص فِي قتل الْعمد دون الْخَطَأ مَعَ وجود هَذِه الْأَوْصَاف فقد أقرّ بَان الْعلَّة تُوجد فِي موضِعين ويتبعها حكمهَا فِي أَحدهمَا دون الآخر فان قيل لإنه لَا يمْتَنع أَن تكون هَذِه

الْأَوْصَاف أَعنِي الْحُرِّيَّة والتكليف وحقن الدَّم إِنَّمَا تُؤثر فِي إِيجَاب الْقصاص فِي قتل الْعمد دون الْخَطَأ قيل إِن كَانَت هَذِه الْأَوْصَاف تُؤثر فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ دون الآخر لِمَعْنى اخْتصَّ يه أَحدهمَا أَعنِي قتل الْعمد فَيَنْبَغِي أَن يذكر ذَلِك فِي جملَة الْعلَّة إِذا كَانَ لَهُ تَأْثِير فِي إِيجَاب الْقصاص وَإِن كَانَت الْأَوْصَاف تُؤثر فِي الْحكمَيْنِ وَيَقْتَضِي أَحدهمَا فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ دون الآخر لَا لأمر افترق فِيهِ الموضعان فكأنكم قُلْتُمْ إِن الْعلَّة تَقْتَضِي الحكم فِي مَوضِع وَلَا تَقْتَضِيه فِي مَوضِع آخر وَإِن كَانَ وجودهَا فيهمَا على حد سَوَاء وَهَذَا هُوَ حَقِيقَة النَّقْض ولمجيب أَن يُجيب عَن هَذَا فَيَقُول إِن الشَّرْط الْمَذْكُور فِي الحكم هُوَ مُتَأَخّر فِي اللَّفْظ ومتقدم فِي الْمَعْنى لِأَن قَوْلنَا إنَّهُمَا حران مكلفان فَوَجَبَ أَن يجب الْقصاص بَينهمَا على الْقَاتِل عمدا مَعْنَاهُ لِأَنَّهُمَا حران مكلفان محقونا الدَّم قتل أَحدهمَا صَاحبه عمدا وَذَلِكَ لأَنا قد علمنَا أَن قتل الْعمد مِمَّا لَهُ تَأْثِير فِي الْقصاص وَهَذَا يَقْتَضِي أَنه وَإِن ذكر فِي الحكم فَهُوَ مَذْكُور على أَنه من جملَة الْعلَّة وَأما الْكسر فَهُوَ نقض الْعلَّة على مَعْنَاهَا دون لَفظهَا وَذَلِكَ بِأَن يرفض وَصفا من أَوْصَاف الْعلَّة ظنا مِنْهُ أَنه غير مُؤثر وَأَن الَّذِي يجوز أَن يتَعَلَّق بِهِ الحكم هُوَ مَا عدا ذَلِك الْوَصْف وتبدل من الْوَصْف الَّذِي رفضته وَصفا هُوَ أَعم مِنْهُ ثمَّ تنقض مَا عدا ذَلِك الْوَصْف وَمَتى رام الْمُعَلل أَن يُجيب عَن الْكسر وَجب عَلَيْهِ أَن يبين أَن للوصف الَّذِي رفضه خَصمه تَأْثِيرا فِي الحكم حَتَّى يجب إِضَافَته إِلَى غَيره من الْأَوْصَاف فَيمْتَنع فِي الْبَعْض مِثَال ذَلِك أَن يُعلل مُعَلل وجوب صَلَاة الْخَوْف بِأَنَّهَا صَلَاة يجب قَضَاؤُهَا كَصَلَاة الْأَمْن فيظن المعرض أَنه لَا تَأْثِير لكَون الْعِبَادَة صَلَاة فِي هَذَا الحكم وَأَن الَّذِي يظنّ أَنه مُؤثر فِي الْوُجُوب هُوَ وجوب الْقَضَاء ثمَّ ينْقض ذَلِك بِصَوْم الْحَائِض فِي شهر رَمَضَان أَنه لَيْسَ بِوَاجِب مَعَ أَن قَضَاؤُهُ وَاجِب وَمَتى رام الْمُعَلل أَن يُجيب عَن ذَلِك وَجب عَلَيْهِ أَن يبين أَن لكَون الْعِبَادَة صَلَاة تَأْثِيرا فِي كَون وجوب الْقَضَاء مؤثرا فِي وجوب الْعِبَادَة وَأَن الصَّلَاة تخَالف الصّيام فِي هَذَا الْبَاب وَقد سمي الْكسر عكسا وَهَذَا الْعَكْس هُوَ مُخَالف لعكس الْعلَّة الْمُقَابل للطرد لِأَن

ذَلِك الْعَكْس هُوَ عدم الحكم فِي كل الْمسَائِل مَعَ عدم الْعلَّة وَهَذَا لَيْسَ بِشَرْط فِي صِحَة الْعلَّة لِأَن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة دلَالَة وأمارة على الحكم وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يُوجد الْمَدْلُول عَلَيْهِ فِي بعض الْمَوَاضِع مَعَ فقد بعض أدلته إِذا دلّ عَلَيْهِ دَلِيل آخر وَهَذَا الْعَكْس مفارق لعدم التَّأْثِير لِأَن عدم التَّأْثِير هُوَ أَن يكون الْعلَّة ذَات وصفين أَو أَكثر فيوجد الحكم فِي الأَصْل بِوُجُود وصف من الْأَوْصَاف وَإِن عدم الْوَصْف الآخر وبعدم الحكم إِذا عدم الْوَصْف الَّذِي قُلْنَا إِن الحكم يُوجد بِوُجُودِهِ وَإِن وجد الْوَصْف الآخر فَيعلم بذلك أَن الْوَصْف الَّذِي يُوجد الحكم مَعَ عَدمه ويعدم مَعَ وجوده لَيْسَ من الْعلَّة فَلَا يجوز أَن يضم إِلَيْهَا وَأما عكس الْعلَّة فَهُوَ أَن يعْدم الحكم فِي غير الأَصْل وَالْعلَّة منتفية وَأما الْمُعَارضَة بعلة فضربان أَحدهمَا أَن تقع الْمُعَارضَة فِي عِلّة الأَصْل بِأَن يُعلل الْمُعْتَرض الأَصْل بعلة أُخْرَى وَالثَّانِي أَن يُعَارض الْقيَاس بِقِيَاس آخر فان عَارض الْقيَاس بِقِيَاس آخر فَالْكَلَام عَلَيْهِ مَا تقدم وَإِن عَارض عِلّة الأَصْل وَلم يكن القائس مِمَّن يَقُول بالعلتين لم يكن لَهُ أَن يَقُول بهما وَإِن كَانَ من مذْهبه القَوْل بالعلتين لم يكن لَهُ أَن يَقُول بهما فِي هَذَا الْموضع إِلَّا بعد أَن يصحح علته لِأَن الْمعَارض لم يسلم عَلَيْهِ وَإِنَّمَا نازعه فِيهَا وَقَالَ لَهُ لَيْسَ الْعلَّة فِي الأَصْل مَا ذكرت وَإِنَّمَا الْعلَّة مَا أذكرهُ أَنا وَلَيْسَ يُمكن القائس إِذا عورض فِي عِلّة الأَصْل إِلَّا وُجُوه ثَلَاثَة أَحدهَا أَن يصحح علته وَيبين أَنَّهَا أولى من عِلّة خَصمه أَو يصحح علته وَيَقُول بهَا وبعلة خَصمه إِن كَانَت عِلّة خَصمه عِنْده صَحِيحَة أَو يفْسد عِلّة خَصمه بالوجوه الَّتِي ذَكرنَاهَا وَيخْتَص هَذَا الْموضع بِوَجْه آخر من وُجُوه الْفساد وَهُوَ أَن تكون الْعلَّة الَّتِي وَقعت الْمُعَارضَة بهَا غير متعدية وَهَذَا الْوَجْه يفْسد الْعلَّة على قَول بعض النَّاس وَأحد الْوُجُوه الَّتِي تقدم ذكرهَا مِمَّا يفْسد الْعلَّة النَّقْض فان نقض القائس الْعلَّة الَّتِي عورض بهَا فِي الأَصْل فقد أفسدها وَإِن نقض عكسها الْمَوْجُود فِي الْفَرْع جَازَ لَهُ ذَلِك إِن كَانَ المنازع لَهُ فِي عِلّة الأَصْل قد علل بعلة الأَصْل وَعلل الْفَرْع بعكسها وَإِن كَانَ إِنَّمَا علل الأَصْل بعلة وَلم يُعلل الْفَرْع أصلا وَإِنَّمَا ادعِي أَنه لَا عِلّة

فصل في ترجيح علة الأصل على علة أخرى وفي ترجيح قياس على قياس

للْأَصْل سوى مَا ذكره ليمنع من أَن يُقَاس ذَلِك الْفَرْع على ذَلِك الأَصْل لم يكن للقائس وَالْحَال هَذِه أَن ينْقض عكس علته مِثَال ذَلِك أَن يقيس قائس الْكَلْب على الهر فِي الطَّهَارَة فَيَقُول خَصمه الْمَعْنى فِي الأَصْل وَهُوَ الهر أَنَّهَا من الطوافين علينا والطوافات فَلهَذَا كَانَت طَاهِرَة وَهَذِه الْعلَّة لَيست فِي الْكَلْب فَلَا يَنْبَغِي أَن يُقَاس على الهر فَمَتَى قَالَ ذَلِك لم يكن للقائس أَن ينْقض علته إِلَّا تَعْلِيله الهر أَنَّهَا من الطوافين علينا فَقَط فَأَما إِن قَالَ الهر من الطوافين علينا فَكَانَت طَاهِرَة وَالْكَلب لَيْسَ من الطوافين علينا فَلهَذَا كَانَ نجسا جَازَ أَن ينْقض علته فِي الْكَلْب وَإِذا نقضهَا بَطل تَعْلِيله الهر بانها من الطوافين لِأَنَّهُ لما علل الأَصْل وَعكس علته فِي الْفَرْع أعلمنَا بذلك أَنه لَيْسَ يفرق بَينهمَا فِي النَّجَاسَة وَالطَّهَارَة إِلَّا من هَذِه الْجِهَة وَأَن طَهَارَة الْحَيَوَان مَوْقُوفَة على أَن يكون من الطوافين علينا فَقَط وَأَن مَا وجد هَذَا فِيهِ يكون طَاهِرا فَقَط فاذا رَأَيْنَاهُ شَيْئا طَاهِرا وَإِن لم يكن من الطوافين فقد بَطل قَوْله إِن طَهَارَة الْحَيَوَان مَوْقُوفَة على هَذَا الْمَعْنى إِلَّا أَن هَذَا لَيْسَ ينْقض لعِلَّة الأَصْل وَإِنَّمَا هُوَ إبِْطَال لقَوْله إِنَّه لَا عِلّة لطهارة الْحَيَوَان إِلَّا مَا ذَكرُوهُ فان ادعِي الْمُعَلل أَو أجمع الْمُسلمُونَ على أَن الْعلَّة فِي طَهَارَة السنور هِيَ المفرقة بَين مَا طهر من الْحَيَوَان وَبَين مَا لَا يطهر وَأَن طَهَارَة الْحَيَوَان مَوْقُوفَة عَلَيْهَا ثمَّ علمنَا أَن طَهَارَة الْحَيَوَان غير مَوْقُوفَة على مَا ذكره الْمُعَلل علمنَا أَن مَا ذكره الْمُعَلل لَيْسَ بعلة وَالْوَجْه الثَّالِث من الْكَلَام على الْعلَّة الَّتِي وَقعت الْمُعَارضَة بهَا هُوَ التَّرْجِيح وَنحن نفرد لذَلِك بَاب ولترجيح الْقيَاس على الْقيَاس فصلا فصل فِي تَرْجِيح عِلّة الأَصْل على عِلّة أُخْرَى وَفِي تَرْجِيح قِيَاس على قِيَاس اعْلَم أَنه إِذا وَقعت الْمُعَارضَة فِي عِلّة الأَصْل واستوى العلتان فَلَا بُد من تَرْجِيح أَحدهمَا على الْأُخْرَى وَذَلِكَ يكون بِوَجْهَيْنِ أَحدهمَا يرجع إِلَى قُوَّة طَرِيق صِحَة الْعلَّة وَالثَّانِي إِلَى تعدِي الْعلَّة أما قُوَّة طَرِيق صِحَة الْعلَّة فبأن تكون إِحْدَى العلتين مجمع عَلَيْهَا دون الْأُخْرَى أَو تكون إِحْدَاهمَا مَنْصُوصا

عَلَيْهَا والاخرى مَعْلُومَة بِمَفْهُوم النَّص أَو إِحْدَاهمَا طريقها مَفْهُوم النَّص وَطَرِيق الاخرى الاستنباط أما التَّرْجِيح بِالتَّعَدِّي فبأن تكون إِحْدَاهمَا متعدية دون الاخرى أَو بِأَن تكون إِحْدَاهمَا أَكثر فروعا من الاخرى هَذَا على قَول الْأَكْثَر لَا يفْسد الْعلَّة إِذا لم تكن متعدية وَأما إِذا عورض الْقيَاس بِقِيَاس فانه يتَّجه علته من الْكَلَام فِي إفساده وَتَصْحِيح علته مَا قد سلف فاذا اسْتَويَا رجح أَحدهمَا على الآخر وترجيح الْقيَاس يكون بِمَا يرجع إِلَى أَصله أَو إِلَى حكمه أَو إِلَى علته أما التَّرْجِيح بِمَا يرجع إِلَى الْعلَّة فقد سلف القَوْل فِيهِ إِلَّا أَن التَّرْجِيح بِالتَّعَدِّي لَا يُمكن هَهُنَا لِأَن هَذِه الْعلَّة متعدية إِذْ كَانَ قد جمع بهَا بَين أصل وَفرع وَأما التَّرْجِيح بِمَا يرجع إِلَى الأَصْل فبأن يكون طَرِيق ثُبُوت الحكم فِي أَحدهمَا أقوى من طَرِيق ثُبُوته فِي الآخر بِأَن يكون طَرِيق تَعْلِيل أحد الْأَصْلَيْنِ أقوى من طَرِيق تَعْلِيل الآخر فاذا كَانَ حكم الأَصْل مِنْهُ يُسْتَفَاد حكم الْفَرْع وَكَانَ فِي أَحدهمَا أقوى وَجب أَن يكون أحد القياسين أقوى وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ طَرِيق صِحَة عِلّة أَحدهمَا أقوى وَأما التَّرْجِيح بِمَا يرجع إِلَى الحكم فبأن يكون أحد الْحكمَيْنِ أحوط نَحْو أَن يكون احدهما وجوبا وَالْآخر ندبا أَو بِأَن يكون أَحدهمَا حظرا وَالْآخر مُبَاحا فَيكون الْحَظْر أولى لِأَنَّهُ أحوط أَو بِأَن يكون أحد الْحكمَيْنِ قد ندبنا إِلَى إِسْقَاطه بِالشُّبْهَةِ كالحدود وَقد ذهب إِلَى التَّرْجِيح بذلك بعض النَّاس دون بعض وَقد ترجح الْعلَّة بِأَن يعضدها ظَاهر لِأَن ذَلِك يَقْتَضِي أَنَّهَا أولى من عِلّة لم يعضدها ظَاهر قد أَتَيْنَا على الْكَلَام فِي تَصْحِيح الْعلَّة وَفِي إفسادها وترجيحها وإفسادها لَا يخرج عَن الْأَقْسَام الَّتِي ذَكرنَاهَا وَذَلِكَ لِأَن الطعْن على الْعلَّة نَفسهَا إِمَّا أَن يكون بِوَجْه مُنْفَصِل عَنْهَا أَو بِوَجْه يرجع إِلَيْهَا أما الْوَجْه الْمُنْفَصِل عَنْهَا فَهُوَ مُعَارضَة الْعلَّة بعلة وَأما الْمُتَّصِل بهَا فضربان أَحدهمَا أَن يكون لَهُ تعلق

فصل في ترجيح القياس على القياس

بغَيْرهَا وَالثَّانِي أَن لَا يكون لَهُ تعلق بغَيْرهَا وَالَّذِي لَيْسَ لَهُ تعلق بغَيْرهَا هُوَ التَّعْلِيل بِالِاسْمِ وَأما مَا يكون لَهُ تعلق بغَيْرهَا فضربان احدهما أَن يكون ذَلِك الْغَيْر هُوَ مَكَان وجودهَا وَهَذَا بِأَن لَا يكون لَهُ فرع يتَعَدَّى غليه وَالثَّانِي أَن يكون ذَلِك الْغَيْر هُوَ حكمهَا فصل فِي تَرْجِيح الْقيَاس على الْقيَاس أَحدهمَا أَن يكون الْوَجْه الطاعن عَلَيْهَا الْمُتَعَلّق بحكمها يرجع إِلَى جملَة الْعلَّة وَالثَّانِي يرجع إِلَى جُزْء من أَجْزَائِهَا أما الرَّاجِع إِلَى جُزْء من أَجْزَائِهَا فَهُوَ أَن يكون وصف من أوصافها لَا يُؤثر فِي الحكم وَأما الرَّاجِع إِلَى جُمْلَتهَا فَهُوَ مَا يعلق بدلالتها على الحكم وَهَذَا بِأَن تكون الْعلَّة لَا تلِيق بِأَن تدل على الحكم وَهَذَا هُوَ اخْتِلَاف الْوَضع أَو بِأَن لَا يشافه الحكم فِي الدّلَالَة وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُمكن مَعَه القَوْل بِمُوجب الْعلَّة وَأما بِأَن تكون الْعلَّة تدل على الحكم وعَلى نقيضه فَيكون الْقلب وَأما إِن تدل علته فِي مَوضِع وَلَا تدل عَلَيْهِ فِي مَوضِع آخر وَقد وجدت فِيهِ وَهَذَا هُوَ النَّقْض وَأما الْكسر فَلَيْسَ هُوَ بقسم آخر لِأَن الْكسر هُوَ مؤلف من عدم وتأثر وَنقض على مَا تقدم بَيَانه ضميمة فِي الْقلب وَاعْلَم أنني نظرت فِي هَذَا الْكتاب بعد سِنِين مُنْذُ ألفته فَأَرَدْت أَن أضم إِلَيْهِ كلَاما فِي الْقلب أَكثر مِمَّا ذكرته فِي الْكتاب أَولا اعْلَم أَن قلب الْقيَاس هُوَ أَن يعلق القالب للْقِيَاس على الْعلَّة نقيض الحكم الْمَذْكُور فِي الْقيَاس وَيرد الْفَرْع إِلَى ذَلِك الأَصْل بِعَيْنِه فَلَا يكون أحد الْحكمَيْنِ بِأَن يعلق بِالْعِلَّةِ أولى من أَن يعلق بِهِ الآخر وَلَا يَصح أَن يعلقا جَمِيعًا بهَا لتنافيهما وَلقَائِل أَن يَقُول إِن وجود الْقلب لَا يَصح لِأَن القالب إِمَّا أَن يعلق على الْعلَّة مثل الحكم الَّذِي علقه القائس أَو خِلَافه أَو نقيضه فان

علق عَلَيْهَا مثل الحكم فَلَيْسَ ذَلِك بقلب بل هُوَ تَكْرِير الْقيَاس مِثَال ذَلِك أَن يَقُول القائس الِاعْتِكَاف لبث فِي مَكَان مَخْصُوص فَكَانَ من شَرطه اقتران معنى إِلَيْهِ اصله الْوُقُوف بِعَرَفَة فيقلبه القالب فَيَقُول فَوَجَبَ أَن يكون من شَرطه اقتران معنى إِلَيْهِ وَلَا يكون ذَلِك قلبا وَلكنه كرر الْقيَاس وَإِن علق على الْعلَّة حكما مُخَالفا لحكم الْقيَاس لم يكن ايضا قالبا وَلم يُمكن أَن يُقَال لَيْسَ بِأَن تعلق بهَا هَذَا الحكم أولى من الآخر لِأَن الْحكمَيْنِ الْمُخْتَلِفين غير الضدين يَصح اجْتِمَاعهمَا مِثَال ذَلِك أَن يَقُول الْقَائِل فِي الِاعْتِكَاف إِنَّه لبث فِي كَانَ مَخْصُوص فَكَانَ من شَرطه اقتران معنى آخر إِلَيْهِ اصله الْوُقُوف بِعَرَفَة فَيَقُول القالب لِأَنَّهُ لبث فِي مَكَان مَخْصُوص فَجَاز أَن يكون طَاعَة وَعبادَة أَصله الْوُقُوف بِعَرَفَة فَلَا يكون قد قلب الْقيَاس لِأَنَّهُ يَصح اجْتِمَاع الْحكمَيْنِ أَعنِي أَن يكون اللّّبْث طَاعَة وَأَن يكون من شَرطه اقتران معنى آخر إِلَيْهِ إِذْ هَذَانِ الحكمان لَا يتنافيان فَلم يجز أَن يكون الْقلب بِذكر حكم مُخَالف لحكم الْقيَاس غير مضاد لَهُ وَلَا متناقض وَإِن كَانَ الحكم فِي الْقلب نقيض حكم الْقيَاس لم يَصح ايضا لِأَن من شَرط الْقلب أَن يرد الْفَرْع إِلَى أصل الْقيَاس وَيكون القائس والقالب قد صدقا فِي إِثْبَات حكميهما فِي الأَصْل والنقيضان لَا يجوز أَن يجتمعا فِي شَيْء وَاحِد على حد وَاحِد مِثَال ذَلِك أَن يَقُول قَائِل فِي الِاعْتِكَاف إِنَّه لبث فِي مَكَان مَخْصُوص فَكَانَ من شَرطه اقتران معنى إِلَيْهِ فَيَقُول القالب فَلم يكن من شَرطه اقتران معنى لِأَن هذَيْن الْقَوْلَيْنِ لَا يصدقان فِي الْوُقُوف بِعَرَفَة وَهُوَ الأَصْل لِأَنَّهُمَا نقيضان الا ترى أَنه لَا يجوز أَن يكون من شَرط الْوُقُوف اقتران معنى إِلَيْهِ وَلَيْسَ من شَرطه اقتران معنى إِلَيْهِ أصلا فَلم يَصح الْقلب بِذكر نقيض حكم الْقيَاس فَبَان أَنه لَا وجوب للقلب وَالْجَوَاب أَنه قد يجوز أَن يعلق القالب على الْعلَّة حكما غير حكم الْقيَاس مِمَّا يجوز أَن يجْتَمع مَعَه فِي الأَصْل وَلَا يجوز أَن يجْتَمع فِي الْفَرْع لأجل إِجْمَاع من الامة أَو من القائس والقالب فيتنافى الحكمان فِي الْفَرْع بِوَاسِطَة الْإِجْمَاع مِثَال ذَلِك أَن يَقُول قَائِل فِي الِاعْتِكَاف لِأَنَّهُ لبث فِي مَكَان

مَخْصُوص فَكَانَ من شَرطه اقتران معنى إِلَيْهِ اصله الْوُقُوف ونفرض أَن الْأمة أَجمعت على أَنه لَيْسَ من شَرط الِاعْتِكَاف النِّيَّة وَأَنه لَو ثَبت أَن من شَرطه اقتران معنى إِلَيْهِ لم يكن إِلَّا الصَّوْم فثبوت هَذَا الْقيَاس مَعَ هَذَا الْإِجْمَاع يَقْتَضِي كَون الصَّوْم من شَرط الِاعْتِكَاف فاذا قَالَ القالب لِأَنَّهُ لبث فِي مَكَان مَخْصُوص فَلم يكن من شَرطه الصَّوْم اقتضي نفي كَون الصَّوْم شرطا فِي الِاعْتِكَاف وَالْقِيَاس الأول فِي الْإِجْمَاع اقْتضى كَون الصَّوْم شرطا فِي الِاعْتِكَاف فيتنافى الحكمان فِي الْفَرْع لأجل هَذَا الْإِجْمَاع وَلم يتناف الحكمان بأنفسهما فِي الأَصْل أَعنِي أَن يكون من شَرطه اقتران معنى إِلَيْهِ وَأَن لَا يكون الصَّوْم من شَرطه وَلم نفرض أَن الْأمة أَجمعت على أَنه لَو كَانَ من شَرط الْوُقُوف اقتران معنى إِلَيْهِ لما كَانَ إِلَّا الصَّوْم فصح أَن للقلب وجودا وَقد يكون الحكم فِي الْفَرْع ذَا جِهَتَيْنِ لَا تتنافيان فِي الأَصْل بل توجدان فِيهِ وتتنافيان فِي الْفَرْع لأجل إِجْمَاع من الامة أَو من الْخصم مِثَال ذَلِك أَن يَقُول قَائِل الرَّأْس عُضْو من أَعْضَاء الطَّهَارَة فَلم يتَقَدَّر الْغَرَض فِيهِ بِأَقَلّ مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم أَصله الْوَجْه فيقلب الْخصم ذَلِك فَيَقُول فَوَجَبَ أَن لَا يتَقَدَّر فِيهِ بِالربعِ أَصله الْوَجْه وَهَذَانِ الحكمان لَا يتنافيان فِي الْوَجْه ويتنافيان فِي الْفَرْع على قَول الْخَصْمَيْنِ لِأَنَّهُمَا قد اتفقَا على أَنه إِذا لم يتَقَدَّر الْفَرْض فِي الرَّأْس بِالربعِ فَالْوَاجِب تَعْلِيقه بِأول مَا يَقع عَلَيْهِ اسْم الْمسْح لبُطْلَان وجوب مسح جَمِيعه عِنْد الْخَصْمَيْنِ فَمَتَى ثَبت ان الْفَرْض لَا يتَعَلَّق بِأول الِاسْم صَحَّ قَول الْحَنَفِيّ لِاتِّفَاق مِنْهُ وَمن الشَّافِعِي وَمَتى ثَبت أَن الْفَرْض لَا يتَقَدَّر بِالربعِ ثَبت أَنه يتَعَلَّق بِأول مَا يَقع الِاسْم عَلَيْهِ لأجل اتِّفَاقهمَا على ذَلِك فتنافى الحكمان فِي الْفَرْع فَلم يكن بِأَن يعلق أَحدهمَا بِالْعِلَّةِ أولى من أَن يعلق بهَا الآخر وَهَذَا الحكمان هما منفصلان وَإِن لم يتنافيا بأنفسهما وَيدخل فِي الْقلب قلب التَّسْوِيَة مِثَاله أَن يَقُول قَائِل فِي طَلَاق الْمُكْره لِأَنَّهُ مُكَلّف مَالك للطَّلَاق فَوَقع طَلَاقه أَصله الْمُخْتَار فَيَقُول القالب فَوَجَبَ

أَن يَسْتَوِي حكم إِيقَاعه للطَّلَاق وَحكم إِقْرَاره بِهِ كالمختار وَهَذَا الحكمان لَا يتنافيان فِي الأَصْل لِأَن طَلَاق الْمُخْتَار يَقع وَمَعَ ذَلِك فَحكم إِيقَاعه للطَّلَاق كَحكم إِقْرَاره بِهِ فِي اللُّزُوم والثبوت ويتنافى هَذَانِ الحكمان فِي الْفَرْع لِأَنَّهُ إِذا كَانَ طَلَاق الْمُكْره كاقراره بِالطَّلَاق وَكَانَ إِقْرَاره بِالطَّلَاق لَا يثبت حكمه وَجب أَن يكون طَلَاقه لَا يثبت حكمه وَذَلِكَ منَاف لِلْقَوْلِ بِأَن طَلَاقه يثبت حكمه فَهَذَا وَجه من وُجُوه الْقلب صَحِيح لِأَن الْحكمَيْنِ قد تنافيا فِي الْفَرْع لأجل الْإِجْمَاع فَلم يكن بِأَن يعلق أَحدهمَا بِالْعِلَّةِ أولى من الآخر فَبَان أَن للقلب وجودا من وُجُوه ثَلَاثَة أَحدهمَا أَن يكون أحد الْحكمَيْنِ مُجملا من غير ذكر تَسْوِيَة وَالْآخر مفصلا كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي الِاعْتِكَاف وَالْآخر أَن يكون الحكمان مفصلين غير متنافيين بِأَن يكون الحكم فِي الْفَرْع ذَا جِهَتَيْنِ فيقصد كل وَاحِد من القائس والقالب إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ وَلَا تتنافيان فِي الأَصْل وتتنافيان فِي الْفَرْع لأجل الْإِجْمَاع وَالْآخر أَن يكون أحد الْحكمَيْنِ مفصلا وَالْآخر مُجملا وإجماله من جِهَة التَّسْوِيَة كَمَا ذَكرْنَاهُ آخرا تمّ وَالْحَمْد لله على ذَلِك

§1/1