المعاملات المالية أصالة ومعاصرة
دبيان الدبيان
المقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الطبعة الثانية الحمد لله رب العالمين، أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإِسلام دينا، قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، فرض الله علينا طاعته، والتسليم لحكمه. قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. من تحاكم إلى شريعة غير شريعته فقد تحاكم إلى شريعة الطاغوت، وإلى حكم الجاهلية. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 60]. {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]. أما بعد، فهذه هي الطبعة الثانية من كتاب المعاملات المالية أصالة ومعاصرة، وكان الكتاب بطبعته الأولى قد أتم عقود المعاوضات، وهي خمسة عشر عقدًا، وقد طبعت منه الهيئة العامة للأوقاف مشكورة ألفي نسخة للتوزيع. وقد أضيف إلى هذه الطبعة عقود التبرع، وهي ثمانية عقود: الوقف، والوصية، والقرض، والهبة، والوديعة، واللقطة، واللقيط، والعارية.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل العمل خالصًا لوجهه مقربا إليه، وأن يعينني على إتمام هذا المشروع، وألا يكلني إلى نفسي. إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده والحمد لله أولاً وآخرًا، وصلى الله على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين. كتبه أبو عمر دبيان بن محمَّد الدبيان السعودية - بريدة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله نحمده ونشكره، ونقر له ولا نجحده ولا نكفره، هو أهل الحمد والثناء، والمنع والعطاء، نبوء له بتقصيرنا، ونبوء له بنعمته علينا، مستحق الحمد رغبةً ورهبةً، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ونصلي على نبيه وعبده ومن سار على نهجه من صحابته الأخيار وأتباعهم الأبرار وسلم تسليمًا كثيراً. أما بعد: إن اتساع دلالات الكتاب والسُّنة، لتشمل النوازل مهما تتابعت، والحوادت مهما تكاثرت، من أعظم وجوه إعجاز الوحي، وأظهر وجوه الرحمة لهذه الأمة، والنوازل في الفقه الإِسلامي تظلنا كل حين، بل لا يخلو يوم تشرق فيه شمسهُ من نازلة دقيقة أو جليلة، تحتاج فيه الأمة إلى النظر في الوحيين، لتأخذ منها ما يُجَلِّي الغشاوة، ويُزيل الإشكال، ويحل ما التبس على الأمة من تلك النازلة، والناس في ذلك بين موفق إلى الحق والصوابَ أو محروم منه، والمجتهدون المتأهلون بين الأجر والأجرين، وهذا من الرحمة بالأمة والرفق بها أن فتح باب الاجتهاد في الدين ولم يُغلق. إن المتتبّعَ للنوازل الفقهية يكاد يقطع أنها باتت تقارب المسائل المنصوص عليها في السُّنة والكتاب، وربما تزيد في بعض الأبواب دون بعض، ومن أكثر أبواب الفقه الإِسلامي وروداً للنوازل أبواب
المعاملات، وهذا يقتضي يقظةً بحثية، تليق بهذه الوفرة النازلة، حفظاً للدين، وصيانةً لذمم المسلمين. وهذا الكتاب (المعاملات المالية أصالة ومعاصرة) لمؤلفه الباحث المتمرس الشيخ دبيان بن محمَّد الدبيان، من الدراسات الموسوعية في هذا الباب، ومن المشاركات المحمودة في بحر النوازل المتلاطم، اجتهد فيه، فَوُفِّق في اختيار المضمون، وأحسن في الترتيب والتنسيق، وعرض المسائل والقائلين بها، وأجاد في اعتماده على الدليل، وفّقه الله وأعانه وجزاه خيراً. وهذا الكتاب هو أول منشورات (الهيئة العامة للأوقاف) مؤملين أن يكون فاتحة خيرٍ في مباحث الاقتصاد الإِسلامي، وخير معين وزاد لطلاب العلم، ورجالات المال والأعمال. والله هو المثبت وحده، والموفق والمسدد لكل خير. 15/ 6/ 1432 هـ كتبه صالح بن عبد العزيز بن محمَّد آل الشيخ وزير الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد الأول
(ح) دبيان بن محمَّد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمَّد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة / دبيان محمَّد الدبيان - الرياض، 1432 هـ 548 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجموعة) ج 1 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ. العنوان ديوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (1)
تقريظ معالي فضيلة شيخنا د. عبد الله بن عبد المحسن التركي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي
تقريظ معالي فضيلة شيخنا د. عبد الله بن عبد المحسن التركي الأمين العام لرابطة العالم الإِسلامي الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين،،، أما بعد: فقد اطلعت على المشروع الفقهي الذي أعده الأخ الأستاذ دبيان بن محمَّد الدبيان، وسماه (المنظومة في عقود المعاوضات المالية) (¬1)، فألفيته موسوعة فقهية قيمة في مبناها ومعناها، فقد نظم فيها المسائل الفقهية في سلك من الأبواب والفصول والمباحث والفروع والمطالب، وسلك في عرض تفاصيلها مسلك الاستيفاء والاستقصاء لأقوال الفقهاء وفاقًا وخلافًا، وناقشها مناقشة منصفة لم يتعصب فيها لمذهب بعينه، ولا قدم فيها قولًا على قول إلا بحجة اقتضت لديه التقديم، فهو يدور مع الدليل حيث دار، ويرجح ما يؤيده الكتاب والسنة من ظاهر نصوصهما؛ ولا يتكلف تأويلها إلا حيث يكون التأويل سائغًا متعينًا. وقاده هذا الانعتاق من ربقة التقليد، وسلوك مسلك الاجتهاد في البحث والموازنة والترجيح إلى مناقشة بعض الاختيارات الفقهية في أدب جم، ومخالفة قرارات بعض المجامع الفقهية في بعض المسائل مع العناية بفقه التابعين، وأهل الحديث والمدرسة الظاهرية، وكان مراعيًا شروط البحث العلمي الأكاديمي في ¬
تحرير أقوال المذاهب، فينسبها لأصحابها من مصادرهم، لا من مصادر مخالفيهم، ولا يذكر قولًا إلا مقرونًا بدليله الذي استدل به قائله إذا وقف عليه ما أمكن مع بيان وجه دلالته على المطلوب، وتوظيف القواعد الفقهية في سياق التعليل ومثاني الاحتجاج والتقوية والترجيح، وربما استدل للقول من عنده متى لم يقف على دليل لقائله، وكان يمكنه الاستدلال له دون تكلف ولا تعسف. ولم يقتصر على المسائل المنصوص عليها في كتب الفقهاء الأقدمين، بل تعرض للقضايا المعاصرة التي طرأت على المعاملات المالية، وأصبح الناس محتاجين فيها لبيان حكمها من الحل والحرمة والصحة والفساد حتى يكونوا على بينة من أمرهم، وفقه من دينهم، وتجري معاملاتهم على مقتضى الشرع الحنيف. واقتضاه التتبع للقضايا المعاصرة تتبعًا للبحوث العلمية المتخصصة المتصلة بموضوعاتها كالرسائل الجامعية والبحوث المنشورة في المجلات الفقهية، والأعمال العلمية للمجامع الفقهية، وفتاوى اللجان الشرعية في المصارف الإِسلامية، وغير ذلك. فظهرت في أبحاثه تسميات جديدة في الأبواب زائدة على ما في كتب المتقدمين، كالمعاملات المصرفية، وأحكام سوق المال، وتسميات جديدة في العقود، كعقد المقاولة، وعقد التوريد، وعقد المناقصة، وعقد التأمين، وتسميات جديدة في الحقوق، كالاسم التجاري، وحق المؤلف، وبراءة الاختراع، وتسميات جديدة في القبض، كقبض الأسهم، والقبض عن طريق القيد المصرفي، وقبض الشيك، وقبض الأوراق التجارية. لقد جاءت هذه المعلمة حافلة بالفقه وما يتصل به من آيات الأحكام وأحاديثها، واستثمار القواعد الفقهية، وتمهيد مسالك الاستدلال وطرق
الترجيح، كما اشتملت على تقديم بدائل شرعية للمشكلات الناشئة عن النظام الرأسمالي القائم على النظام الربوي في التمويل والتعامل. والنظام المالي الإِسلامي الذي تملكه الأمة الإِسلامية وأمامها اليوم فرصة سانحة لعرضه على العالم يقوم على أساس أخلاقية من إقرار العدل، ومنع الظلم والاحتكار والغش والخلابة والاستغلال، وإقامة التوازن بين حاجات السوق وحق التاجر، وبين حماية المستهلك. فأسأل الله تعالى أن يعمم النفع بهذا العمل العلمي المتميز، ويبسط له القبول، ويكتب لصاحبه الأجر الجزيل على ما بذل فيه من جهد تنوء بمثله العصبة من الباحثين، ويزيده توفيقًا وتسديدًا حتى يتم ما شرع فيه، ويوفي به على الغاية. والله الموفق. د. عبد الله بن عبد المحسن التركي الأمين العام لرابطة العالم الإِسلامي
تقريظ معالي فضليلة الشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى في المملكة العربية السعودية وإمام وخطيب الحرم المكي الشريف ورئيس مجلس الشورى السعودي سابقًا الحمد لله رب العالمين، خلق فقدر، وشرع فيسر، والصلاة والسلام على نبينا محمَّد بشَّر وأنذر، وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان إلى يوم المحشر. أما بعد: فإن شريعة الإِسلام غاية في الوفاء بحاجات الناس في ضبط عقودهم، وسائر شؤون حياتهم بأحكامها الصالحة لكل زمان ومكان، فهي خاتمة الشرائع الإلهية المستوعبة أمور الحياة المتجددة وتطورها، هادية مرشدة، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89]. ولعل وقائع المعاملات المالية وصورها في الحياة هي الأوسع انتشارًا بين الناس عامة، فلكل منهم وسيلته وسبيله نحو هدفه، إلا الإنسان المسلم خاصة فلا وسيلة له، ولا سبيل، ولا هدف إلا ما تأخذه به هذه الشريعة المطهرة من أحكام تطلق طاقاته وإمكاناته، وتضبط ميوله وشهواته بغير مصادمة لفطرة، ولا إجحاف بحقوق، بل تدفعه نحو صلاحه وسعادته ليس وحده، وإنما الأمة كلها في الحياتين الدنيا والآخرة.
لقد قررت الشريعة الإِسلامية في الإنسان غريزته نحو المال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات: 8]، وأسندت إليه تملكه بالحيازة، ودعت إلى المحافظة عليه، وصانت حق ملكيته باعتباره ضرورة من ضرورياته كنفسه وعرضه، وحرمت الاعتداء عليه، ولكنها في ذات الأمر ضبطت فيه غريزته، فهذبت هذه النفس المسلمة بفرائض ونوافل وأحكام وحدود تربط هذا المال بأصول العقيدة والأخلاق، ودوره في الحياة لتحرر الإنسان من عبودية المال، وتسمو بغريزة حبه فتضعه وسيلة في يده تدور بينه وبين الآخرين {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} في تداول مشروع متوازن يحقق أهداف الجميع {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)} [الطلاق: 7]. ولهذا كان لنظام الإِسلام المالي وفقهه الاقتصادي أكبر الأثر في إعمار الحياة لإصلاح النفوس البشرية التي التزمت به دينًا، فأعطت ما عليها وأخذت ما لها بوجه الحق، ثم عاملت بالفضل وتطوعت بالبذل، وسارعت بالإنفاق في وجوه الخير، ولبت حاجة الإنسان بسد خلة المعوز أيًّا كان، فلم تعق الحاجة مقصده وهدفه المشروع في الحياة. إن فقه المعاملات المالية في الإِسلام يعتبر المال -كسائر ما في الحياة- مملوكًا لله الخالق وحده تعالى ملكية حقيقية، ثم هو بيد الإنسان مستخلف فيه، يلتزم أمره ونهيه أنى يتوجه، بلا إهمال أو تجاوز؛ لإيمانه بخالقه ومالكه ورازقه القائل: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)} [الحديد: 7]. ومن جهة أخرى فإن أحكام الفقه الإِسلامي جميعها تتغيا تحقيق المصالح
العامة والخاصة، ودفع المفاسد كذلك، فينتشر العدل ويمتنع الظلم، قال تعالى: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)} [الشعراء:181 - 183]. ومما يتأكد في عصرنا الحاضر حاجته إلى أن تسود أحكام هذه الشريعة الإِسلامية، خاصة في أبواب المعاملات المالية ونوازلها المستجدة، والتي تقتضيها بحثًا متخصصًّا عميقًا يفي دائمًا بالحاجات، ويواكبها بمرونة في الأحكام والقواعد الكلية، تعطي الفقيه صلاحية بحثها، والاجتهاد لإقرارها شرعاً أو المنع منها. فعلى العلماء الفقهاء تقع مسؤولية تقديم نظام الشريعة الإِسلامية إلى أهل العصر الباحثين عن قيم حضارية يشترك عقلاء الناس -بله المسلمون- في طلبها، ويتوقون إلى التزامها من العدل والمساواة والتعاون على العمران، فالشريعة المطهرة بأنظمتها كافة صالحة لكل زمان ومكان، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]. وها هو المؤلف فضيلة الشيخ دبيان بن محمَّد الدبيان. وفقه الله. يقوم ببعض هذا في موسوعاته التي بين يديك من تكييف للمسألة من الناحية الفقهية وتحريرها، وتخريجها على المسائل التي ذكرها المتقدمون، ثم عرضها على القواعد الفقهية، إلى أن تم ترجيح ما يراه، كما أنه يقوم بربط ما يراه بالمسائل القديمة لاعتبارات رأى وجاهتها، فوحد الأبواب الفقهية، وذكر تحت كل باب ما يدخل فيه من المعاملات القديمة، ثم النوازل المعاصرة باعتبار أن الاتصاف بالمعاصرة أمر نسبي، وأن المعاملات المالية من طبيعتها التجدد، فعند الكلام على قبض المبيع -مثلاً- ذكر المعاملات القديمة، ثم ألحق بها قبض المسائل
المعاصرة، مثل قبض الأسهم، وقبض الشيك، والأوراق التجارية، والقبض عن طريق القيد المصرفي، وهكذا الشأن في جميع الأنواع المالية، وكل مسائل البحث. كما بين أن فهم المعاملات المعاصرة لا يمكن أن يكون سليمًا دون فهم المعاملات القديمة؛ لأن الحكم فيها قائم على دواع من المحاذير والمناهي، والقواعد والضوابط التي منها المتفق عليه والمختلف فيه، ومن العسير أن يستوعب باحث معاملة معاصرة دون الاستعانة بتلك القواعد والضوابط، لذا حرص المؤلف على عدم الخروج عليها تحت أي ضغط أو اسم. وتطرق في بحثه لآراء كبار الأئمة واختياراتهم الفقهية كشيخ الإِسلام ابن تيمية -يرحمه الله- ولم يتفق معه في مسألة جواز بيع الحلي بالذهب متفاضلًا ونسيئة، كما لم يتفق معه في أن الكيل جزء من علة الربا في الأصناف الأربعة المذكورة في الحديث الشريف، وفي مسائل أخرى. كذلك لم يتفق مع قرارات المجامع الفقهية في بعض المسائل، كمنع شراء الذهب أو الفضة بالبطاقة غير المغطاة، واختلف معها في تكييف بعض العقود، وجواز أخذ المصارف عمولات؛ وغيرها. ولم يتعمد الباحث اختيار القول الأيسر ليسره فحسب، كما أنه لم يحرص على الأشد؛ لأنه أحوط، فالاحتياط ليس ملازمًا للشدة، بل إنه -كما يقول- حرص على تعظيم النص الشرعي، وعدم تأويله إلا أن يكون التأويل سائغًا حرصه على عدم إحداث قول جديد في مسألة فقهية سابقة، التزامًا بالضوابط والقواعد الفقهية الثابتة. وثمت جهد علمي آخر للمؤلف يتعلق بتمحيص أدلة الأحكام من نصوصها في السنة النبوية والآثار التي جمعها، وأفردها باسم الموسوعة الحديثية ضمن
مشروعه الظخم، فقد عني بدراسة الحديث النبوي، وتلقيه -خلال الطلب في المسجد- على أهل الاختصاص، فتوجه للممارسة والنظر في أحكام المتقدمين، وسبر منهجهم في تعليل الأحاديث وتصحيحها، واعتنى بالمتون والعلل خاصة؛ ليبني حكمه عليها تضعيفًا وتصحيحًا، ثم أدلة. وأخيرًا يقدم المؤلف الموسوعة الرابعة، موسوعة القواعد والضوابط الفقهية، التي أودعها قواعد وضوابط فقهية كثيرة مما يتداولها الفقهاء استدلالًا أو ردًّا، وقد انتخب من هذه القواعد والضوابط ما جعله في مدخل أمهات المسائل الفقهية؛ لتعين القارئ على فهم المسألة قبل الولوج فيها، وتكون كالترجمة لها، وقد بذلك جهدًا كبيرًا، واستغرق فترة من الزمن ليجز له ما أمَّل، ويفوز بأجر أو أجرين إن شاء الله تعالى، قاصدًا وجه الله الكريم، فتقبل الله منا ومنه الجهد، ونفع به، وأجزل الثواب ذخرًا عنده سبحانه، وذكرًا بين العلماء العاملين، ودعاء من القراء والمطالعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه، وسلم. حرره د. صالح بن عبد الله بن حميد
عرض معالي فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن ناصر العبودي الأمين العام المساعد لرابطة العالم الإسلامي والرحاله المشهور والنسابة والداعية المعروف
عرض معالي فضيلة الشيخ الدكتور محمَّد بن ناصر العبودي الأمين العام المساعد لرابطة العالم الإِسلامي والرحاله المشهور والنسابة والداعية المعروف عرض معالي الشيخ هذه الموسوعة في جريدة الجزيرة في مقال طويل، قدم قراءته وتقويمه للمشروع في عددها الصادر في يوم الأحد: 16/ 8/ 1429 هـ الموافق 17/ 8/ 2008 م وقد اخترت من عرض معاليه للقارئ الكريم هذه السطور: قال معاليه: عمل عظيم: إن القارئ للموسوعة الفقهية هذه سيقول بلسان حاله أو مقاله: (إن في الزوايا خبايا، وإنه بقي من فحول الفقهاء بقايا). وإن مؤلفها العالم الفقيه الفذ الشيخ دبيان بن محمَّد الدبيان هو من بقايا الفحول من أولئك العلماء الذين نذروا أنفسهم وأوقاتهم وما يملكون من غير ذلك للبحث العلمي الخالص ..... والمؤلف ليس جماعًا لأقوال العلماء بحشد آرائهم، ونقل أفكارهم حول النصوص فقط، وإنما هو نقادة بالدليل والتعليل لأقوال الفقهاء من المتقدمين والمتأخرين ممن له قول جدير بالانتباه. ومع أن المؤلف نشأ حنبليًّا كما تدل عليه طبيعة نشأته في مدينة بريدة مركز القصيم، وكبرى مدنها، حيث المذهب الحنبلي هو السائد، وحسبما هو معروف فإنه كان موسوعي النظرة، يورد أقوال العلماء والفقهاء من سائر المذاهب ويناقشها، وينصر ما كان منها أسعد بالدليل من غيره ...
والحقيقة أن هذا العمل عظيم فريد في بابه، لا يكاد المرء يجد له مثيلًا بل إنه يعجب كيف لانت هذه المباحث الفقهية العويصة لفكر المؤلف وفقهه، وسهلت على قلمه حتى استطاع أن يجلوها كاملة أو قريبة من أن تكون كاملة، ومفصلة وموضحة بما ليس عليه من مزيد. فجزاه الله خيرًا. ثم إن الواحد منا يكبر في هذا الرجل ما عرفه عنه، وأشار إليه في مقدمة كتابه، وهو أنه تفرغ لهذا العمل تفرغًا كاملاً، وقطع علاقته من غيره من أسباب الدنيا. ونحن نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيبه، وأن يؤيده بالصحة والعافية, ويزيد فهمه استنارة، وقلمه قوة ونشاطًا حتى يكمل هذه الموسوعة الفقهية الفريدة (¬1). اهـ ¬
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، والصلاة السلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمَّد، وعلى آل بيته، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فإن العالم اليوم أحوج ما يكون إلى نظام مالي يبشر الناس بإقامة العدل فيما بينهم، ويحفظ لهم أموالهم، ويحصنهم من الكوارث والهزات التي تصيب أسواقهم وتجارتهم، ويمنع الاحتكار والاستغلال، ويردع المتلاعبين، ويعمل بتوازن بين المحافظة على أسواق المسلمين من جهة، وبين حماية حق المستهلك، وحاجته إلى السلع من جهة أخرى. إن على الفقهاء اليوم مسئولية كبيرة بتقديم النظام الإِسلامي إلى البشرية باعتبار أن العدل قيمة إنسانية ضرورية يطلبها كافة الناس وعقلاؤهم، وهذا النظام الإِسلامي يتمتع بمرونة عالية جداً، من ذلك: (1) أن النظام المالي الإِسلامي قائم على الأخلاق، ومراقبة الخالق، قال - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا". رواه مسلم (¬1). والمسلم يعلم أنه سوف يحاسب على هذا المال من جهتين: جهة الكسب، وجهة الإنفاق، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع"، وذكر منها: عن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه (¬2). ¬
وقدم مفهومًا للمفلس كما في حديث أبي هريرة عند مسلم: أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا .... فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار (¬1). (2) أن الإِسلام لم يحد المعاملات المالية بحد معين، وإنما ترك للناس حق التطوير والتجديد وإحداث المعاملات والعقود والشروط الجديدة بشرط أن تكون تلك المعاملات وفق القواعد والضوابط الشرعية التي تعمل على إقامة العدل بين الناس، فالأصل في المعاملات في النظام الإِسلامي الحل والصحة، فالحلال محدود، وليس معدودًا، والحرام دائرته ضيقة جداً , ولا يحرم شيء منه إلا لأمر ظاهر معقول المعنى. وهو بهذه المرونة يعطي الفقيه صلاحية غير محدودة للاستفادة من المعاملات المالية المستجدة والمعاصرة، والقبول بكل ما يمكن أن يكون مقبولاً منها شرعا، والترحيب به باعتبار أن المعاملات المالية هي حاجة إنسانية تحقق الرفاه والنمو الاقتصادي للإنسان وأن التدخل الشرير فيها إنما جاء ليحقق العدل، ويمنع الظلم، والاحتكار، والاستغلال، وهذه قيم إنسانية، يشترك فيها العقلاء فضلاً عن المسلمين. فعلى الفقيه أن يبذل كل ما في وسعه، وأن يستفرغ كل جهده للوصول إلى بديل إسلامي لما هو محرم منها، بعد التوصل إلى تصور صحيح نقطع من خلاله، أو يغلب على ظننا بأنه محرم. (3) أن النظام المالي الإِسلامي ليس من شرط قبوله التعبد، بل هو صالح ¬
للبشرية كافة على اختلاف مللهم ونحلهم، وصدق الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]، فالمسلم كما هو مطالب أن يتعامل بهذا النظام مع أخيه المسلم، هو محكوم بهذا النظام إذا تعامل به مع باقي الطوائف الأخرى. (4) النظام المالي الإِسلامي نظام وسطي قائم على التوازن: ففي الوقت الذي يعطي السوق الحرية المشروعة، وينهى عن التدخل في السوق إذا كان هذا التدخل قائمًا على الإكراه والظلم، كما امتنع الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن التسعير، وقال: إن الله هو المسعر القابض الباسط .... وهو حديث صحيح (¬1). خاصة إذا كان ارتفاع السلع راجعًا إلى قلة العرض، أو كثرة الطلب، ولم يكن ناجمًا عن الاحتكار والجشع. وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". رواه مسلم (¬2). وكما حرم الإكراه على البيع، قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وقال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما البيع عن تراض" (¬3). وهو حديث حسن. ¬
في الوقت نفسه لا يسمح بالاحتكار، ويجبر المحتكر على بيع ماله عند حاجة الناس إليه. وقدم الشارع منفعة السوق على منفعة الجالب، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحاضر للبادي، والحديث متفق عليه. قال المازري: "لما كان البادي إذا باع بنفسه انتفع جميع أهل السوق، واشتروا رخيصًا، فانتفع به جميع سكان البلد، نظر الشارع لأهل البلد على البادي" (¬1). وفي ذلك فائدتان للسوق وللتجار. أما الفائدة للتجار: فإن أهل البادية يستعجلون الذهاب إلى أماكنهم، فيبيعون برخص، فينتفع الباعة منهم، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". وأما الفائدة للسوق: فإن التاجر إذا اشترى برخص باع برخص، وإذا باع برخص استفاد عامة الناس، وكثر الطلب على السلع، بخلاف ما إذا كانت قيم السلع مرتفعة، فإن كثيراً من الناس قد لا يستطيع الشراء حينئذ. قال الشافعي: "أهل البادية يقدمون جاهلين بالأسواق، وبحاجة الناس إلى ما قدموا به، ومستثقلين المقام، فيكون أدنى من أن يرتخص المشترون سلعهم، فإذا تولى أهل القرية لهم البيع، ذهب هذا المعنى ... " (¬2). ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تلقي الجلب حتى يهبط إلى السوق، رواه مسلم (¬3). ¬
(5) مما يميز النظام الإِسلامي أنه جعل هناك تلازمًا بين الربح وبين الضمان. فمنع من الربح في المعاملات المالية التي لم تدخل ضمان العاقد. وبهذا أغلق أكثر المعاملات الآجلة التي يتعامل بها النظام الرأس مالي في أسواق البورصة. (6) منع النظام الإِسلامي من التعامل بالديون، فمنع من بيع الدين بالدين. وأكثر المعاملات المالية الآجلة في سوق البورصة العالمية هي من هذا القبيل. (7) اشترط الإِسلام في المعاملات المالية أن يكون محل التعاقد معلومًا لكل من المتعاقدين، فلا يجوز أن يكون الثمن أو المثمن مجهولاً، فأغلق باب القمار والميسر، ومنع المضاربات على هبوط الأسعار وارتفاعها. (8) يشترط في النظام المالي الإِسلامي أن يكون المبيع إذا كان معينًا أن يكون مملوكًا للبائع أو مأذونًا له في البيع، وبهذا الشرط حد من التلاعب والمضاربات على جني الأرباح دون أن يكون هناك سلع حقيقية. (9) نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر، كما نهى الإنسان عن بيع ما ليس عنده، وما لا يقدر على تسليمه، ومنع الجهالة في المبيع أو في الثمن، ونهى عن بيع المبيع قبل قبضه، وحرم القمار والربا وارتكاب المخاطر العالية وتعريض أموال الناس للضياع. (10) حرم الإِسلام كل أوجه الكسب غير المشروع، كتحريم الرشوة، وأكل أموال الناس بالباطل، واستغلال أصحاب النفوذ نفوذهم لأكل أموال الناس بغير حق. (11) لئن كانت المعاملات بالأمس في عصر الوحي بسيطة، وليست بالتعقيد التي هي عليه اليوم إلا أن الفقه الإِسلامي وضع من الضوابط والقواعد التي استنبطها الفقهاء من عمومات النصوص ما تستقيم لها أي سوق يقام في العالم بصرف النظر عن الزمان والمكان.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا ضرر ولا ضرار، وهو حديث حسن بشواهده، واعتبر بعض الفقهاء أن هذا الحديث نصف الفقه؛ لأن الأحكام إما لجلب مصلحة، أو لدفع مضرة (¬1). ومن أجل دفع الضرر شرع الشارع أمورًا ومنع من أخرى من باب الوقاية من الوقوع في الضرر، ورفعه، أو تخفيفه إذا وقع، وقطع كل ما يؤدي إلى العداوة والبغضاء. ففي ميدان الحقوق الخاصة جعل الشارع حرمة المال كحرمة النفس والعرض: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام". وشرع الرد بالعيب لإزالة الضرر الواقع على المشتري. وشرع جميع أنواع الخيارات لإزالة الأضرار الواقعة على أحد المتعاقدين، كخيار المجلس، والعيب، والغبن، والتدليس. وشرع الحجر بسائر أنواعه منعًا للضرر الحاصل من سوء التصرف، أو الضرر اللاحق للدائنين. وشرع الشفعة لدفع ضرر الشريك. وحرم التبذير والإسراف كما حرم التقتير والشح. وهذه أمثلة لما شرعه الشارع في سبيل منع الضرر ودفعه وتخفيفه، وهي أمثلة تدل على غيرها. وأما ما منعه الشارع في سبيل الوقاية من الوقوع في الضرر. فيدخل فيه كل ما يضر الإنسان نفسه: سواء كان الضرر في دينه كبيع وشراء ¬
الأفلام الخليعة التي تخدش الحياء، ومثله بيع كتب أهل البدع، والروايات الماجنة، والمجلات الخليعة. أو يضر المشتري في بدنه، أو في ماله، مثل بيع وشراء الخمر، والحشيش والمخدرات، والدخان، وسائر المحرمات. أو يلحق ضررًا بالسوق. مثل الاحتكار - والتسعير - وتلقي الجلب - وبيع الحاضر للبادي. أو يلحق ضررًا بأخيه المسلم: كالبيع على بيعه - وبيع المضطر - وأخذ الربا - وغبن المسترسل - والنجش، وحرم الغش، والتدليس (كالتصرية)، وحرم القمار والميسر، وأكل أموال الناس بالباطل. أو يعين على باطل، مثل بيع السلاح في زمن الفتنة، وبيع العنب لمن يعصره خمرًا. وهذه إشارات مختصرة لملامح النظام المالي الإِسلامي. وقد كان مشروع عقود المعاوضات المالية محاولة مني لتقديم هذا النظام الإِسلامي للمشتغلين بالفقه والمال على طريقة البحوث المعاصرة، وقد اشتملت الموسوعة على العقود التالية:
العقد الأول: عقد البيع: وهو أوسع عقود المعاوضات، وترجع إليه غالب عقود المعاوضات، فكأن عقد البيع جنس، وغيره من عقود المعاوضات أنواع له، كالسلم، والاستصناع، والإجارة، ونحوها. العقد الثاني: عقد السلم. العقد الثالث: عقد الاستصناع. العقد الرابع: عقد المقاولة. العقد الخامس: عقد المناقصة. العقد السادس: عقد التوريد. العقد السابع: عقد الإجارة. العقد الثامن: عقد الجعالة. العقد التاسع: عقد الشفعة. العقد العاشر: عقد الحوالة. وقد ألحقت عقد الحوالة بعقود المعاوضات؛ لأن فيه شوب معاوضة؛ ولأن هناك من الفقهاء من اعتبر الحوالة من قبيل بيع الدين بالدين، وإن كان عقد الحوالة صالحًا لأن يكون من عقود الإرفاق. العقد الحادي عشر: عقد الربا. وقد أخرت عقد الربا عن العقود السابقة خلافًا لتنظيم كتب الحنابلة؛ لأن الله لم يجعل الربا بيعًا، وأنكر على الذين قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]. وقال سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
منهج البحث
العقد الثاني عشر: عقد الصرف. وهذا العقد لا ينفك عن عقد الربا لتداخل أحكامهما، وإن كان عقد الصرف قد يكون عقدًا ربويًّا، وقد يكون عقد مباحًا إذا توفرت فيه شروط الصحة. العقد الثالث عشر: أهم المعاملات المصرفية. وقد رأيت أن ألحق المعاملات المصرفية بعقد الصرف للشبه بينهما؛ ولكون الصرف من أهم المعاملات المصرفية اليوم. العقد الرابع عشر: دراسة المعاملات التي تجري في سوق المال (البورصة). وقد رأيت أن ألحقه بالمعاملات المصرفية باعتبار أن حركة البيع والشراء تديره المصارف السعودية، وإن كان هذا ليس لازمًا كما في الأسواق العالمية الكبيرة. العقد الخامس عشر: عقد الشركات. وقد أتبعت عقد الشركات بسوق المال؛ لأن سوق المال مرتبط بشركات المساهمة، وهي نوع من الشركات الحديثة. وعقود الشركات من العقود المختلف فيها، هل هي من عقود المعاوضات، أو هي عقود قائمة بذاتها تختلف عن عقود المعاوضات، وقد ألحقتها بعقود المعاوضات اتباعًا لمذهب المالكية، والله أعلم. وكان منهج البحث كالتالي:
الموضع الأول: المسائل الفقهية
* الموضع الأول: المسائل الفقهية: هذا هو موضوع المشروع، ومادته العلمية. وقد اعتنيت قدر الإمكان بالمسائل الفقهية، وتقديمها على شكل أبواب وفصول ومباحث، وفروع، ومسائل ومطالب ... الخ على طريقة الفقه المعاصر. وكانت عناية البحث بالمسائل الفقهية: من خلال: (1) قمت بترقيم المسائل الفقهية في البحث ورمزت للمسألة الفقهية بحرف (م) اختصارًا على الشكل التالي: [م - (رقم)] فالميم اختصار لكلمة (مسألة فقهية) والرقم يدل على رقم المسألة الفقهية في البحث، ولم أضع ترقيمًا إلا للمسألة الفقهية، أما التعاريف والتقاسيم والفروق والشروط إذا لم يكن لها أثر فقهي فقد تركتها دون ترقيم من أجل الوقوف على عدد المسائل الفقهية في البحث. (2) قمت بعرض الأقوال الفقهية الواردة في المسألة وحصرها ما أمكن. وإذا كانت المسألة من المسائل التي تعرض لها فقهاؤنا المتقدمون فإنني أكتفي بهم عن الرجوع إلى أقوال المعاصرين. وتكون مادة هذا البحث مستمدة من كتب التراث، والرجوع إلى أمهات كتب الفقه المعتمدة في كل مذهب مع العناية بفقه التابعين وأهل الحديث والمدرسة الظاهرية وغيرهم، وأراعي في ذلك شروط البحث العلمي في تحرير أقوال كل مذهب، فلا أنسب قولًا للحنفية اعتمالًا على ما ذكرته كتب المذاهب الأخرى، بل يكون الرجوع إلى مصادر الحنفية المعتمدة، وهكذا المنهج في تحرير أقوال المذاهب الأخرى. (3) أقوم بذكر أدلة كل قول إذا أمكن الوقوف على أدلتهم، وربما استدللت
الموضوع الثاني: المسائل النازلة (المعاصرة)
للقول من عندي إذا لم يوقف على أدلة القول، وكان بالإمكان الاستدلال للقول بدون تكلف. (4) بيان ذكر وجه الاستدلال من الدليل إذا لم يكن ظاهرًا ليتبين للقارئ وجه الاستدلال من الدليل. (5) إن كان وجه الاستدلال قد اعترض عليه أوردت هذا الاعتراض، فإن كان الاعتراض مسلمًا جعلت هذا الاعتراض كالطعن في وجه الاستدلال، وإن كان الاعتراض غير مسلم أجبت عنه، وقد أترك مناقشة بعض الأدلة وإن كان القول غير مسلم؛ لأنه لا يلزم أن تكون الأدلة جميعها ضعيفة، فقد تكون للقول الضعيف أدلة قوية ولكني تركتها لما هو أقوى منها، وقد رغبت بهذا الفعل عن الإجابة على دليل قد لا تكون الإجابة عنه مقنعة للقارئ، وقد يملك غيري جوابا عنها لم أقف عليه، والله أعلم. (6) الاهتمام بالقول الراجح من خلال مناقشة الأقوال الفقهية، وبيان القول الراجح، وسبب الترجيح، وقدمت القول الأقوى على القوي، والقوي على الضعيف بلا تحيز. * الموضوع الثاني: المسائل النازلة (المعاصرة) لم يكتف البحث بمسائل الفقه القديمة، بل تعرض البحث لكل ما يمكن عرضه من المسائل المعاصرة وقام بدراسة كل ما يمكن دراسته والوقوف عليه فيما كتب في هذه المسائل النازلة كالرجوع إلى الرسائل العلمية المطبوع منها وغير المطبوع، ومتابعة البحوث المنشورة في المجلات المتخصصة، والرجوع إلى بحوث المجامع الفقهية الإِسلامية، ومتابعة فتاوى اللجان الشرعية في
المصارف الإِسلامية، وقرارات ندوة البركة الخ. والاستفادة مما قرروه في هذه المسائل، لأتوصل بذلك إلى أمور منها: * قمت بترقيم المسائل المعاصرة، ورمزت لها كالتالي (ن - رقم) فالنون اختصار لكلمة نازلة، يعقبها رقمها التسلسلي. * توصيف المسألة من الناحية الفقهية وذلك بتحرير: هل المسألة معاملة مستحدثة، أو يمكن تخريجها على العقود المسماة في الفقه الإِسلامي. * حصر الأقوال الواردة في المسألة. * عرض أدلة كل قول بعبارة واضحة مختصرة ما أمكن. * إذا كان القول قد ورد عليه اعتراض أوردت ذلك الاعتراض، فإن كان الاعتراض قويًا قبلته، وإن كنت أرى أن الاعتراض غير وجيه قمت بالإجابة عنه، ومناقشته مناقشة علمية مع اتباع الأدب الواجب مع أهل العلم والفضل. * تقديم القول الأقوى على القوي، والقوي على الضعيف. * عرض النازلة على القواعد الفقهية المسلمة، وعدم الخروج على تلك القواعد أو كسر المسلمات الفقهية تحت أي ضغط من الضغوط. * الاعتدال في الترجيح بين هذه الأقوال، فلا التشدد محمود، ولا التساهل وعدم الانضباط وكسر المسلمات مقبول كذلك. * عرض هذه النازلة في مظانها في البحث وعدم إبرازها كمسألة مستقلة، وذلك يحقق فوائد منها: أولاً: أن اتصاف المعاملة بالمعاصرة اتصاف نسبي، فالمعاملات المالية من طبيعتها التجدد، وقد تكون المعاملة معاصرة اليوم، وغدًا تكون قديمة بالنسبة إلى غيرها.
ثانيًا: اختلاف العلماء في بعض المعاملات، هل هي من العقود المسماة (العقود القديمة) أو من العقود المستحدثة، وفي أحيان كثيرة يكون اعتبارها من العقود المعاصرة ناتجا عن إحداث اصطلاح لها لم يكن معروفًا، وذلك مثل عقد التوريد، أو عقد المقاولة ونحوهما، فكوننا نذكر المسألة مع نظائرها أضبط وأفضل من جعلها في مباحث مستقلة من غير ربط بينها وبين مسائل الفقه الأخرى. ثالثًا: ربط هذه المسألة النازلة بالمسائل القديمة يجعل القارئ يعرف دواعي الإباحة من التحريم في هذه النازلة، فمثلاً عقد التأمين، أوردته في مباحث الغرر، والغرر منه ما هو سائغ ومنه ما هو ممنوع ولم أذكره في عقود الربا. وعقد الحوافز التجارية، أوردته في مباحث القمار، وإن كان الأصل في الحوافز الحل والإباحة. والاسم التجاري وحق المؤلف وبراءة الاختراع أوردته في مالية المنافع. وعند الكلام على قبض المبيع أذكر المعاملات القديمة، ثم ألحق بها بعدها قبض المسائل المعاصرة، وذلك مثل: قبض الأسهم، والقبض عن طريق القيد المصرفي، وقبض الشيك، وقبض الأوراق التجارية، والشراء بالبطاقات الائتمانية فيما يشترط لصحته القبض، وهكذا الشأن في جميع المعاملات المالية المعاصرة. وهكذا في كل مسائل البحث. رابعًا: المعاملة الواحدة قد أتعرض لها في أكثر من مناسبة فقهية، فإما أن تكرر الأبواب الفقهية تارة مع المسائل الفقهية القديمة، وتارة مع المسائل المعاصرة، أو توحد الأبواب وتذكر تحت كل باب ما يدخل فيه من المعاملات القديمة والمعاصرة، وقد رأيت أن توحيد الأبواب أفضل، وإن تكررت المسألة المعاصرة في أكثر من مناسبة مختلفة، فعند الكلام على قبض المبيع أورد كل ما
الموضوع الثالث: العناية بالأحاديث
يتعلق بقبض المبيع من عقار ومنقول، وقديم ومعاصر، فأتكلم مثلًا عن قبض الأوراق التجارية عند الكلام على قبض المبيع، وعند الكلام على بيع الديون أورد مثلًا حكم خصم الأوراق التجارية، وهكذا. خامسًا: أن فهم المعاملات المعاصرة لا يمكن أن يكون سليمًا دون فهم المعاملات القديمة؛ لأن المنع والإباحة في المعاملات المالية قائمان على دواع من المحاذير والمناهي والقواعد والضوابط منها المتفق عليه، ومنها المختلف فيه، ولا يمكن أن يستوعب باحث معاملة معاصرة دون الاستعانة بتلك القواعد والضوابط، وما جاء الخلل في بعض البحوث المعاصرة إلا لعدم استيعاب مثل تلك القواعد. النظر في قرارات المجامع الفقهية، والاستفادة منها، وهي قرارات فيها خير كثير، وبحوث لأهل العلم والفضل إلا أن الصواب فيها أغلبي، وليس بلازم، وهذه القرارات يحتج لها؛ ولا يحتج بها. * الموضوع الثالث: العناية بالأحاديث الأحاديث التي احتج بها الفقهاء على المسائل الفقهية أوليتها عناية خاصة، من ذلك: * نقلت الأحاديث والآثار بالأسانيد من أمهات كتب السنة، ولم أنقلها من الكتب الفقهية طلبًا لعلو الإسناد، وما لم أجده في كتب السنة نقلته من الكتب الفقهية وأشرت إلى أن هذا الحديث لا يوجد في كتب السنة، وحاولت تعزيز النتيجة بالنقل عن بعض الفقهاء الذين لهم عناية بالسنة كالزيلعي وابن حجر، وغيرهما. * قمت بترقيم الأحاديث والآثار, ورمزت للحديث بحرف (ح) وللأثر بحرف (ث).
* لم يقتصر البحث على دراسة الأسانيد، بل وجه عناية خاصة بالعلل، وتتبع أقوال الأئمة المتقدمين في الحكم على الحديث، وأبرزت في البحث علة التفرد، وبينت منه ما كان محسوبًا على زيادة الثقة، وما كان شذوذًا يوجب رد الحديث، وإذا ظهر لي علة في الحديث أوردتها بحسب ما يقتضيه المنهج العلمي بحسب الاجتهاد. وهذه أمثلة تكشف لك عن نظائرها في هذه الموسوعة فيما يتعلق بهذا الجانب: * تضعيف زيادة (فله أوكسهما أو الربا) بتفرد يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ومخالفته لسبعة من الأئمة على رأسهم يحيى القطان، ويزيد بن هارون، وعبدة بن سليمان. * تضعيف زيادة (من باع نخلاً فيها ثمرة قد أبرت) بتفرد عبد الرزاق عن معمر فيها، والمحفوظ (من باع نخلاً قد أبرت). فقد رواه محمَّد بن جعفر ووهيب كلاهما عن معمر مخالفين رواية عبد الرزاق. كما رواه أخص أصحاب الزهري، ولم يذكروا ما ذكره عبد الرزاق، فرواه سفيان بن عيينة، والليث، ويونس، وابن جريج وابن أبي ذئب، وعبد الرحمن ابن نمر، وغيرهم. * تضعيف زيادة (ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله) بتفرد عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده. قال ابن عبد البر في التمهيد (14/ 18): "قوله: (لا يحل له أن يفارقه) لفظة منكرة، فإن صحت فليست على ظاهرها؛ لإجماع المسلمين أنه جائز له أن يفارقه لينفذ بيعه، ولا يقيله إلا أن يشاء، وفيما أجمعوا عليه من ذلك رد لرواية
من روى: (ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله) فإن لم يكن وجه هذا الخبر الندب، وإلا فهو باطل بإجماع". وقال أيضاً (14/ 16): "حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله، فإن هذا معناه إن صح على الندب .... وقد كان ابن عمر - رضي الله عنه -، وهو الذي روى حديث: البيعان بالخيار ما لم يفترقا إذا بايع أحدا، وأحب أن ينفذ البيع مشى قليلاً، ثم رجع. ولو منع أحد العاقدين من التفرق حتى يقوم الآخر لكان في ذلك إضرار به ومفسدة راجحة". قلت: لست أرد ما زاده عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده في هذا الحديث من جهة نكارة المتن، كما فعل ابن عبد البر رحمه الله تعالى، فإن المتن قد يستقيم، فإنه قد يحمل على أنه من باب تحريم الحيل لاسقاط حقوق الآخرين، فلو فارقه ليس خوفا من الإقالة، وإنما فارقه لحاجة، لم يكن حرامًا عليه، ولكني أرده من جهة الإسناد، فلست ممن يرى الاحتجاج بما يتفرد به عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وأين أحاديث الصحيحين وغيرها من الأحاديث الصحيحة التي حفظت لنا خيار المتبايعين (خيار المجلس) عن هذه الزيادة التي لو كانت محفوظة لجاءت بأسانيد صحيحة، وليست صحة المعنى في الحديث كافية لتصحيحه, وهذا من المعلوم. * التدقيق بصيغ الحديث والكشف عما يوجد في هذه الصيغ من علل. مثاله: روى البيهقي في السنن (5/ 271) من طريق أحمد بن عبد الرحمن ابن وهب، حدثني عمي، قال: حدثني مخرمة بن بكير، عن أبيه، قال: سمعت عمرو بن شعيب يقول: سمعت شعيبًا يقول: سمعت عبد الله بن عمرو يقول، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول، وذكر الحديث ..
وهذه الصيغة من التصريح بالسماع من عمرو بن شعيب، عن أبيه، ومن سماع أبيه من عبد الله بن عمرو تفرد بها أحمد بن عبد الرحمن بن وهب عن عمه عبد الله بن وهب، وهو متكلم فيه، وقد تغير بآخرة، وقال فيه ابن عدي: رأيت شيوخ مصر مجمعين على ضعفه، ومن كتب عنه من الغرباء لا يمتنعون من الرواية عنه، وسألت عبدان عنه، فقال: كان مستقيم الأمر في أيامنا، ومن لم يلق حرملة اعتمد عليه في نسخ حديث ابن وهب، وقال ابن عدي: ومن ضعفه أنكر عليه أحاديث، وكثرة روايته عن عمه، وكل ما أنكروا عليه محتمل، وإن لم يروه غيره عن عمه، ولعله خصه به (¬1). * تضعيف اشتراط الخيار ثلاثة أيام في حديث الرجل الذي يخدع في البيوع، وذلك للاختلاف على ابن إسحاق، ومخالفته لعبد الله بن دينار عن ابن عمر في الصحيحين، ولم يذكر فيه (الخيار ثلاثة أيام) كما أن الحديث جاء من مسند أنس في المسند وغيره وليس فيه ذكر الخيار ثلاثة أيام. * تعليل الحديث للاختلاف في وصله وإرساله. مثاله: ما رواه أبو داود من طريق إسمعيل -يعني ابن عياش- عن الزبيدي عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيما رجل باع سلعة، فأدرك سلعته بعينها عند رجل قد أفلس، ولم يُقْبَض من ثمنها شيء فهي له، فإن كان قضاه من ثمنها شيئاً فما بقي فهو أسوة الغرماء، وأيما امرئ هلك، وعنده متاع امرئ بعينه، اقتضى منه شيئاً أو لم يقتض، فهو أسوة الغرماء (¬2). ¬
الموضع الرابع: العناية بالقواعد
وصله إسماعيل بن عياش، وأرسله غيره، وهو المحفوظ. * تعليل زيادة لفظة (وكذلك الميزان) في حديث أبي سعيد وأبي هريرة في الصحيحين بعلة التفرد. وهذه أمثلة يسيرة جداً، وهي تدل على غيرها في سائر الموسوعة. * الموضع الرابع: العناية بالقواعد أودعت الموسوعة قواعد وضوابط فقهية كثيرة استدل بها الفقهاء على ما ذهبوا إليه، أو في رد أقوال مخالفيهم، وجاءت منثورة ضمن الأدلة الفقهية، وقد رأيت أن أنتخب من هذه القواعد والضوابط أجودها لأجعلها في مدخل أمهات المسائل الفقهية تعين القارئ على فهم المسألة قبل الولوج فيها، وربما ذكرت في مدخل المسألة الفقهية أكثر من قاعدة، وربما كانت المسألة الفقهية يتجاذبها قاعدتان مختلفتان، فأذكرهما لتنبيه القارئ. فمثلًا عند الكلام على توصيف الودائع الجارية نقلت في مدخل المسألة الضابط التالي: إعطاء الشخص ماله للغير: إن كان على سبيل التمليك، فإن كان عن معاوضة، فهو بيع، وإن كان بلا عوض، فهو هبة، وإن كان ليملكه ويرد مثله، فهو قرض. وإن كان دفع المال للغير ليس على سبيل التمليك، فإن كان للحفظ فقط، فهو وديعة، وإن كان للانتفاع مع بقاء العين، فهو عارية، وإن كان للانتفاع مع استهلاك العين فهو قرض. وبعد ذكر هذا الضابط أدخل إلى المسألة الفقهية، وأعرض أقوال الباحثين في
توصيفها، وأذكر حجة كل قول مع بيان الراجح إن أمكن الوصول إليه، وإلا أبقيت الخلاف مطلقًا حتى يشرح الله الصدر لأحدها، والله أعلم. كتبه أبو عمر دبيان بن محمَّد الدبيان المملكة العربية السعودية القصيم - بريدة [email protected]
عقد البيع
* خطة البحث في عقد البيع: قسمت عقد البيع إلى تمهيد وأبواب، وكتب: فالباب الأول: في دراسة المال وبيان أنواعه. الباب الثاني: في دراسة صيغة التعاقد (أحكام الإيجاب والقبول). الباب الثالث: في الشروط المتعلقة بالعاقدين. الباب الرابع: في الشروط المتعلقة بالمعقود عليه (المبيع والثمن). الباب الخامس: في موانع البيع (البيوع المنهي عنها). الباب السادس: في شروط العاقدين الجعلية. أما الخيار في عقد البيع فلما كان كثير التفريعات فقد قسمته إلى أبواب وفصول. وكذا فسخ العقد وانفساخه. ولما كانت دراسة هذه الأبواب قد انتظمت في سبعة مجلدات رأيت أن أعرض في كل مجلد ما يخصه من خطة البحث حتى لا تطول على القارئ الكريم. فالخطة المتعلقة بهذا المجلد سوف تنتظم على النحو التالي: خطة البحث في المجلد الأول: التمهيد: ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: في تعريف العقد. المبحث الثاني: في أقسام العقود.
* العقد الأول: عقد البيع * ويتكون من تمهيد وسبعة أبواب: التمهيد: ويبحث في تعريف البيع. الباب الأول: في دراسة المال وبيان أنواعه. الفصل الأول: في حقيقة المال. المبحث الأول: في تعريف المال. المبحث الثاني: في اشتراط إباحة الانتفاع. المبحث الثالث: في اشتراط الادخار للمال. المبحث الرابع: في اشتراط الطهارة في المال. المبحث الخامس: في عناصر المال. الفصل الثاني: في مالية المنافع: المبحث الأول: في تعريف المنفعة. المبحث الثاني: في خلاف العلماء في مالية المنافع. الفصل الثالث: في مالية الديون. المبحث الأول: في تعريف الدين. المبحث الثاني: في خلاف العلماء في مالية الديون. الفصل الرابع: في مالية الحقوق. المبحث الأول: في تعريف الحق. المبحث الثاني: في مالية الحقوق المعنوية (الابتكار).
الفرع الأول: مالية العلامة والاسم التجاري. الفرع الثاني: في مالية حق المؤلف. الفرع الثالث: في مالية براءة الاختراع. المسألة الأولى: في تعريف براءة الاختراع. المسألة الثانية: في خلاف العلماء في مالية براءة الاختراع. المبحث الثالث: في مالية حقوق الارتفاق. الفرع الأول: في تعريف الارتفاق. الفرع الثاني: أنواع حقوق الارتفاق. الفرع الثالث: خلاف العلماء في إحداث حقوق ارتفاق جديدة. الفرع الرابع: اختلاف الفقهاء في مالية حقوق الارتفاق. المسألة الأولى: في بيع حق الشرب. المسألة الثانية: في حق المجري. المسألة الثالثة: في المعارضة على حق المسيل. المسألة الرابعة: في بيع حق المرور. المسألة الخامسة: في بيع حق التعلى. المسألة السادسة: في حق الجوار. الفصل الخامس: في تقسيم الأموال وأثره الفقهي. المبحث الأول: في تقسيم المال إلى مثلي وقيمي. فرع: الأثر الفقهي في تقسيم المال إلى مثلي وقيمي.
المبحث الثاني: تقسيم المال إلى متقوم وغير متقوم. المبحث الثالث: تقسيم المال باعتبار ثبوته واستقراره أو نقله وتحويله. فرع: الأثر الفقهي في تقسيم المال إلى عقار ومنقول. المبحث الرابع: تقسيم المال إلى عام وخاص. المبحث الخامس: تقسيم المال إلى أصول وثمار. الباب الثاني: في حكم البيع وبيان أركانه. الفصل الأول: في حكم البيع. الفصل الثاني: في أركان البيع. الباب الثالث: في دراسة صيغة التعاقد (أحكام الإيجاب والقبول) تمهيد: في تعريف الإيجاب والقبول. الفصل الأول: في أقسام الإيجاب والقبول. المبحث الأول: في انقسام ولإيجاب والقبول إلى صريح وكناية. الفرع الأول: اللفظ الصريح هل هو لفظي أو شرعي. الفرع الثاني: الفرق بين الصريح والكناية. الفرع الثالث: تقسيم الإشارة إلى صريح وكناية. الفرع الرابع: هو قول البائع هو لك بكذا. الفرع الخامس: عرض البضائع مع بيان أثمانها إيجاب بمنزلة الصريح. الفرع السادس: صلاحية الكتابيات لإنشاء العقود المالية وغيرها. المبحث الثاني: في انقسام الصيغة إلى قولية وفعلية.
المبحث الثالث: في بيان الصيغ القولية. الفرع الأول: الإيجاب والقبول بصيغة الماضي. المسألة الأولى: في صيغة الماضي المجرد من الاستفهام. المسألة الثانية: في صيغة الماضي المقرون بالاستفهام. الفرع الثاني: في الإيجاب والقبول بصيغة المضارع. الفرع الثالث: في الإيجاب والقبول بفعل الأمر. الفرع الرابع: في الإيجاب والقبول بالجملة الأسمية. الفرع الخامس: في الإيجاب والقبول بكلمة (نعم). المبحث الرابع: في بيان الصيغ الفعلية. الفرع الأول: في بيع المعاطاة. المسألة الأولى: تعريف بيع المعاطاة وصوره. المسألة الثانية: خلاف العلماء في صحة البيع بالمعاطاة. مطلب: على القول بأن بيع المعاطاة لا يصح فما حكم المقبوض فيها. المسألة الثالثة: في الإيجاب والقبول عن طريق الإشارة. الفرع الثاني: في الإيجاب والقبول عن طريق الكتابة. مسألة: زمان العقد ومكانه في بيع المكاتبة والمراسلة. المبحث الخامس: الإيجاب والقبول بالوسائل الحديثة. الفصل الثاني: صدور الإيجاب والقبول من طرف واحد. المبحث الأول: في بيع الوكيل لنفسه وشرائه منها:
المبحث الثاني: تولى الوكيل طرفي العقد نيابة عن العاقدين. الفصل الثالث: الإيجاب والقبول الصوري. المبحث الأول: في بيع التلجئة. الفرع الأول: في تعريف بيع التلجئة. الفرع الثاني: خلاف العلماء في بيع التلجئة. مسألة: في اختلاف لفظ الصيغة عن معناها. الفرع الثالث: في الهزل في البيع. خاتمة: القول المختار في صيغة العقود. الفصل الرابع: شروط الإيجاب والقبول. الشرط الأول: توافق الإيجاب والقبول. المبحث الأول: في مخالفة القبول للإيجاب. المبحث الثاني: في قبول بعض الإيجاب. المبحث الثالث: إذا خالف القبول الإيجاب وكان في مصلحة الموجب. الشرط الثاني: اتحاد مجلس العقد. المبحث الأول: تحديد مجلس العقد. المبحث الثاني: الآثار المترتبة على تحديد مجلس العقد. الفرع الأول: في تراخي القبول عن الإيجاب. الفرع الثاني: في رجوع الموجب. الشرط الثالث: هل يشترط تقدم الإيجاب على القبول؟
المبحث الأول: في تقدم القبول على الإيجاب في بيع المزايدة. المبحث الثاني: سقوط الإيجاب في المزايدة. الفصل الخامس: مبطلات الإيجاب. المبحث الأول: رجوع الموجب قبل صدور القبول. المبحث الثاني: رفض الإيجاب من الطرف الآخر. المبحث الثالث: يبطل الإيجاب بانتهاء المجلس قبل القبول. المبحث الرابع: بطول الإيجاب بهلاك المعقود عليه أو تغيره قبل القبول. المبحث الخامس: تغيير الإيجاب قبل القبول بما يخالف الإيجاب الأول. المبحث السادس: موت العاقد أو فقد أهليته قبل صدور القبول. الباب الرابع: في الشروط المتعلقة بالعاقدين. الشرط الأول: في توفر الأهلية في العاقد. المبحث الأول: في تعريف الأهلية. المبحث الثاني: في تصرفات الصبي. الفرع الأول: في تصرفات الصبي غير المميز. مسألة: في تعريف الصبا والتمييز. الفرع الثاني: خلاف العلماء في بيع الصبي غير المميز. الفرع الثالث: في بيع الصبي المميز. المسألة الأولى: في الحكم على تصرفات الصبي المميز. المسألة الثانية: في بيع الصبي وشرائه إذا كان مأذونًا له في ذلك.
المسألة الثالثة: في تصرف الصبي المميز من غير إذن وليه. المبحث الثالث: في تصرفات المجنون. المبحث الرابع: في بيع المعتوه. هذا ما استوعبه المجلد الأول من خطة البحث المتعلقة بعقد البيع، وستجد بقية خطة البحث في سائر المجلدات الباقية، وسوف نذكر في كل مجلد ما يخصه منها، والحمد لله على توفيقه وتسديده.
تمهيد
تمهيد ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: في تعريف العقد. المبحث الثاني: في أنواع العقود. وذلك لأن البيع لما كان عقدًا من سائر عقود كثيرة، وكانت علاقة البيع بالعقد كعلاقة النوع بالجنس، فالعقد جنس يشمل البيع وغيره، كان من المناسب أن نتكلم عن تعريف العقد، وأنواعه قبل الكلام على البيع وأحكامه.
المبحث الأول في تعريف العقد
المبحث الأول في تعريف العقد * تعريف العقد لدى الفقهاء: العقد لدى الفقهاء له معنيان عام وخاص (¬1): ¬
الأول المعنى العام للعقد
* الأول المعنى العام للعقد العقد بمعناه العام يطلق ويراد به كل عهد والتزام ألزم به الإنسان نفسه، سواء كان في مقابل التزام آخر كالبيع، والإجارة، أو كان بإرادة منفردة لإنشاء حق، أو إنهائه، أو إسقاطه، كالوقف، والطلاق، والإبراء (¬1). ¬
الثاني: المعنى الخاص للعقد
* الثاني: المعنى الخاص للعقد العقد بمعناه الخاص يطلق، ويراد به معنى الربط فقط، أي ربط الإيجاب بالقبول، كعقد البيع، والإجارة، ونحوهما، وهذا هو الغالب عند الإطلاق، وهذا يعني: أن العقد لا يقع إلا بين طرفين فأكثر. قال ابن عابدين: "العقد اسم لمجموع الإيجاب والقبول" (¬1). وقال ابن نجيم: "المراد بالعقد مطلقاً نكاحًا كان أو غيره: مجموع إيجاب أحد المتكلمين مع قبول الآخر" (¬2). وقال الدردير المالكي في الشرح الصغير: "ولا يكون العقد إلا بين اثنين" (¬3). وفرق الدسوقي بين الطلاق، والعتق، والحدود، وبين العقود، فجعل العقود: كل ما يتوقف على إيجاب وقبول. وأما الطلاق والعتق فهي إخراجات، ولا تتوقف على إيجاب، وقبول (¬4). وقد يقال: إن المعنيين العام، والخاص، كليهما أخذا من إطلاق الربط على العقد. إلا أن الربط تارة يكون حسيًّا، فيكون بمعنى الشد، والربط بين شيئين، وتارة يكون معنويًا، مثل العهد، والتأكيد. ¬
الفرق بين التصرف والعقد
قال القرطبي: "العقد على ضربين: حسي، كعقد الحبل، وحكمي، كعقد البيع" (¬1). ويرى بعض الباحثين بأن إطلاق العقد على الربط المعنوي إطلاق حقيقي لا غبار عليه. يقول الدكتور علي قره داغي: "والذي ظهر لي بعد تتبع كتب اللغة أن إطلاق العقد على الربط المعنوي إطلاق حقيقي لا غبار عليه، حيث إنه يبادر إليه الذهن عند الإطلاق، ودون الحاجة إلى قرينة، ودليل، كما أن الأصل في الإطلاق الحقيقة دون المجاز، أضف إلى ذلك أن أهل اللغة ذكروا من بين معانيه الحقيقية: العهد، والحلف، والعزم، والتوكيد ... وهذه كلها أمور معنوية وليست أجرامًا حسية، فقالوا: المعاقدة المعاهدة، ويقال: عقدت الحبل والبيع والعهد فانعقد ... " (¬2). * الفرق بين التصرف والعقد: قبل أن نقارن بين تعريف التصرف، وتعريف العقد، نعرف التصرف، ثم بعد ذلك نذكر الفرق بينهما. * تعريف التصرف اصطلاحًا (¬3): جاء في الموسوعة الكويتية: فلم يذكر الفقهاء في كتبهم تعريفًا للتصرف ... " (¬4). ¬
تعريف الشيخ محمد أبو زهرة
قلت: هذا صحيح، ولكن الفقهاء وإن لم يذكروا تعريفه فقد ذكروا أحكامه مبثوثة في مسائل الفقه، كالتصرف في مال اليتيم، وتصرفات المريض في ماله، وتصرف المحجور عليه، وتصرف الأجنبي في مال غيره، ونحوها من المباحث، ولكنهم لم يذكروا في معرض كلامهم تعريفًا اصطلاحيًا، وقد ذكر المتأخرون من الفقهاء تعريفات اصطلاحية للتصرف، أذكر بعضها: * تعريف الشيخ محمَّد أبو زهرة: قال الشيخ محمَّد أبو زهرة: "التصرف الشرعي: كل ما يكون من تصرفات الشخص القولية، ويرتب عليه الشارع أثرًا شرعيًّا" (¬1). ونلحظ على هذا التعريف أنه لم يدخل التصرف الفعلي في حد التصرف، حيث قصر التصرف على التصرفات القولية. * تعريف آخر للشيخ محمَّد سلام مدكور: عرف التصرف بقوله: "التصرف: ما يصدر عن الشخص المميز بإرادته، ويرتب عليه الشارع نتيجة ما، فهو أعم من العقد، ومن الالتزام بالاتفاق؛ لأن التصرف قد يكون فعليًّا، كالاستيلاء على بعض الأموال المباحة، والغصب، وقبض الدين، والرجعة" (¬2). فهنا أدخل قيد التمييز في التعريف ليخرج تصرفات المجنون وغير المميز، وأدخل قيد الإرادة. * تعريف آخر للشيخ محمَّد شلبي: عرف الأستاذ محمَّد شلبي التصرف بقوله: "التصرف ... ما يصدر عن ¬
تعريف الدكتور نشأت الدريني
الشخص المميز، ويرتب عليه الشارع نتيجة من النتائج، سواء كانت في صالح ذلك الشخص، أو لا" (¬1). فهنا لم ينص على ذكر الإرادة، ولم ينفها. * تعريف الدكتور نشأت الدريني: يقول الدكتور السيد نشأت إبراهيم الدريني: "التصرف: هو ما يصدر عن الشخص بإرادته، أو بغير إرادته، ويرتب عليه الشرع حكمًا، سواء كان في صالحه، أم لا" (¬2). وهذا التعريف قد نص على أن الإرادة (النية) ليست شرطًا ليطلق على القول، أو الفعل بأنه تصرف، ويظهر أن هذا التعريف هو أكملها، والله أعلم. * الفرق بين التصرف والعقد: قدمنا أن العقد له معنيان: معنى عام، ومعنى خاص: فإذا قلنا: إن المقصود بالعقد هو المعنى الخاص: وهو الالتزام الحاصل بين طرفين، فلا شك أن هناك فرقًا كبيرًا بين التصرف، وبين العقد؛ لأن التصرف قد يكون من طرف واحد. وأما إذا عَرَّفت العقد بمعناه العام، وهو أن العقد يطلق على كل عهد، والتزام ألزم به الإنسان نفسه، سواء كان في مقابل التزام آخر، كالبيع، والإجارة، أو كان بإرادة منفردة لإنشاء حق، أو إنهائه، أو إسقاطه كالوقف، والطلاق والإبراء، فهل يوجد بناء على هذا التعريف فرق بين العقد والتصرف؟ ¬
فيرى بعض الباحثين أنه لا فرق بين العقد والتصرف إذا فسرنا العقد بمعناه العام (¬1). ويرى آخرون: أن هناك فرقًا، وأن التصرف أعم من العقد؛ وذلك لأن الإقرار، والإنكار، والحلف، والقتل، وإتلاف مال الغير أشياء تدخل في معنى التصرف الاصطلاحي واللغوي، ولا تدخل في مسمى العقد حتى على معناه العام (¬2). فعليه يكون التصرف أعم من العقد مطلقًا حتى في حالة تفسير العقد بمعناه العام، فكل عقد تصرف، وليس كل تصرف عقدًا، وهذا ما يسمى بالعموم والخصوص المطلق بين الشيئين في علاقة أحدهما بالآخر، ونسبته إليه. وقد قسم الشيخ مصطفى الزرقاء رحمه الله تعالى التصرف إلى نوعين: تصرف فعلي: وهو ما كان قوامه فعلًا غير لساني، كإحراز المباحات. وتصرف قولي: وهو نوعان: عقدي (¬3): وهو الذي يتكون من قولين من جانبين يرتبطان باتفاق، كالبيع، والإجارة، والشركة. وغير عقدي: وهو نوعان: (1) نوع يتضمن عزيمة على إنشاء حق، أو إسقاطه، كالوقف، والتنازل عن الحقوق، كالشفعة، ويسميه بعض الفقهاء عقدًا بالمعنى العام للعقد. ¬
الفرق بين العقد والاتفاق
(2) ونوع لا يتضمن إرادة منصبة على إنشاء الحقوق، أو إسقاطها ,لكنها أقوال من أنواع أخرى، كالإقرار، والإنكار، والحلف (¬1). * الفرق بين العقد والاتفاق: كما قدمنا في الفرق بين التصرف والعقد، فكذلك نقول هنا في الفرق بين الاتفاق والعقد، فالعقد أخص من الاتفاق، فكل عقد اتفاق، وليس كل اتفاق عقدًا، فقد يتفق اثنان على قضاء وقت معين في مذاكرة مسائل. العلم، وليس لهذا الاتفاق أي أثر حكمي، ولا يدخل في مسمى العقد، فالاتفاق أشبه بالجنس، والعقد نوع داخل فيه (¬2). ¬
المبحث الثاني في أقسام العقود
المبحث الثاني في أقسام العقود نقسم العقود إلى أقسام كثيرة بالنظر إلى اعتبارات مختلفة، منها الصحة والبطلان، ومنها اللزوم وعدمه، ومنها اشتراط القبض وعدمه، إلى غير ذلك من التقسيمات التي يمكن أن يلحظها الفقيه، وقد نشير إلى بعضها في هذا المبحث إن شاء الله تعالى. وقد أشار الفقهاء المتقدمون إلى شيء من هذا التقسيم، كتقسيم الحنفية العقد إلى عقد صحيح، وعقد فاسد، وعقد باطل، كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى. وأشار ابن الوكيل في كتابه الأشباه والنظائر (¬1)، وكذا السيوطي في الأشباه والنظائر (¬2) إلى تقسيمات للعقود، ربما نأتي على ذكرها لاحقًا إن شاء الله تعالى في هذا البحث. وأشار ابن رجب إلى مثل ذلك في كتابه العظيم (القواعد) (¬3). واستحدث المعاصرون تقسيمات، وفروعًا كثيرة باعتبارات مختلفة، ويمكن لكل باحث أن يحدث تقسيمات أخرى بحسب ما يظهر له من الفروق المؤثرة، وغير المؤثرة، وسوف نستعرض أهم هذه التقسيمات. ... ¬
التقسيم الأول تقسيمات العقود بالنظر إلى الغاية والهدف من العقد
التقسيم الأول تقسيمات العقود بالنظر إلى الغاية والهدف من العقد قد يكون هذا التقسيم هو أظهر تقسيم للعقود في الفقه الإِسلامي، فمنها: * الأول: عقود التمليك وهي العقود التي يقصد بها تمليك الشيء ذاتًا، أو منفعة، فإن كان التمليك بعوض، فهي عقود المعاوضات، كالبيع، والإجارة، وإن كان التمليك بغير عوض، فهي عقود التبرعات، كالهبة، والإعارة. وقد يكون العقد الواحد معاوضة بالنسبة لأحد المتعاقدين، وتبرعًا بالنسبة للآخر، وذلك مثل الكفالة، فهي معاوضة بالنسبة إلى الدائن؛ لأنه أخذ كفالة في مقابل إعطاء الدين، وهو بالنسبة إلى الكفيل يكون تبرعًا حيث لم يأخذ أجرًا على كفالته. وقد يكون العقد تبرعًا في الابتداء، ومعاوضة في الانتهاء، وذلك مثل القرض؛ فالقرض يشبه التبرع، ويشبه المعاوضة، فأما شبهه بالتبرع؛ فلأنه إخراج بعض المال من ملك المقرض بدون عوض في الحال، وأما شبهه بالمعاوضة؛ فلأنه ينتهي بأداء مثل القرض إلى المقرض، ولهذا قال صاحب الهداية: إنه إعارة في الابتداء، ومعاوضة في الانتهاء (¬1). وأهمية هذا التقسيم ترجع إلى اختلاف الأحكام التي تنطبق على كل منها من حيث صحة العقد، وتحديد المسؤولية، فهبة المجهول جائزة على الصحيح، ¬
الثاني: عقود التوثقة
وبيع المجهول غير جائز، كما أن مسئولية المستعير أشد من مسئولية المستأجر، ومن قبض المال لمصلحته أشد مسئولية ممن قبض المال لمصلحة غيره، فمسؤولية المودع عنده إذا كانت الوديعة بغير أجر أخف منها إذا كانت الوديعة بأجر. * الثاني: عقود التوثقة عقود التوثقة: هي العقود التي يقصد منها ضمان الحقوق لأصحابها. والتوثيق قد يكون بعقد، كالرهن، والكفالة، وهو على نوعين: - توثيق بمال كالرهن، والمبيع في يد البائع. - وتوثيق بذمة، كالكفالة. وقد يكون التوثيق بغير عقد، كالكتابة، والإشهاد. فالرهن وسيلة من وسائل التوثيق ليستوفي الدائن من ثمنه إذا تعذر استيفاؤه ممن هو عليه، والأصل فيه قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. ومثله الضمان، والكفالة: وقد يستعملان بمعنى واحد، وقد يستعمل الضمان للدين، والكفالة للنفس، وهما مشروعان للتوثيق، إذ فيه ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل على وجه التوثيق، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)} [يوسف: 72]. وسوف نتعرض إن شاء الله تعالى لهذه العقود بالبحث والدراسة في كتب مستقلة بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. قال ابن رجب رحمه الله تعالى: "أما الإنشاءات فمنها العقود، وهي أنواع:
الثالث: عقود الإسقاطات
أحدها: عقود التمليكات المحضة كالبيع، والصلح بمعناه، وعقود التوثقات كالرهن، والكفالة، والتبرعات اللازمة بالعقد، أو بالقبض، كالهبة، والصدقة" (¬1). * الثالث: عقود الإسقاطات وهي العقود التي يقصد منها إسقاط حق من الحقوق سواء ببدل، أم بدون بدل، كالإبراء من الدين، والتنازل عن حق الشفعة، والعفو عن القصاص ونحوها. * الرابع: عقود الإطلاقات وهي العقود التي يفوض فيها شخص لآخر أن يقوم بعمل، ويطلق يده في تصرف لم يكن له فيه حق سابق، مثل الوكالة، والإيصاء، والإذن للمحجور عليه، ونحوها. * الخامس: عقود التقييد وهي العقود التي يمنع فيها شخص من تصرف كان مباحًا له، وذلك كالحجر على السفيه، وكعزل الوكلاء، والأوصياء، ونحوها. * السادس: عقود الحفظ وهي العقود التي يقصد منها حفظ المال لصاحبه، كالوديعة، والحراسة، ونحوها. * السابع: عقود الاشتراك وهي العقود التي يقصد بها المشاركة في الأصل، والعمل، والربح. والأصل ¬
والشركة أنواع
فيها قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: آية 24]. والشركة أنواع: شركة أموال: وهي عقد بين شريكين فأكثر، على أن يتجروا في رأس مال لهم، ويكون الربح بينهم بنسبة معلومة. وشركة أعمال: وهي أن يتعاقد اثنان فأكثر، على أن يتقبلوا نوعًا معينًا من العمل، وأن تكون الأجرة بينهم بنسبة معلومة. وشركة وجوه: وهي أن يتعاقد اثنان فأكثر، على أن يشتريا نسيئة، ويبيعا نقدًا، ويقتسما الربح بينهما. ومن عقود المشاركة عقد المضاربة: وهي أن يدفع شخص لآخر مبلغًا من المال ليتجر فيه، على أن يشتركا في الربح، ومنه المزارعة، والمساقاة. وسوف نتعرض إن شاء الله في كتب مستقلة لهذه الأنواع من الشركات، بلغنا الله ذلك بحوله ومنه وكرمه (¬1). ... ¬
التقسيم الثاني تقسيم العقود باعتبار الوصف الشرعي
التقسيم الثاني تقسيم العقود باعتبار الوصف الشرعي الفرع الأول تعريف الفاسد والباطل من العقود قسم الفقهاء العقد باعتبار وصفه الشرير إلى عقد صحيح، وعقد غير صحيح. [م - 1] فالعقد الصحيح: تعريفه عند الحنفية: ما كان مشروعًا بأصله ووصفه (¬1). وعند الجمهور: هو ما استكمل أركانه، وشرائطه (¬2). وفي الفتاوى الكبرى لابن تيمية: "يقول الفقهاء: العقد الصحيح: ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده" (¬3). وقال النووي: "الصحيح من العقود: ما ترتب أثره عليه، ومن العبادات ما أسقط القضاء" (¬4). وهذا التعريف يصلح أن يكون حكمًا للعقد الصحيح، بحيث يقال: حكم العقد الصحيح: بأن يترتب عليه أثره، والتعريف بالحكم ليس تعريفًا له بالبرهان. ¬
وخلاف الصحيح غير الصحيح
وقد نظم شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: وعندهم من جملة المردود ... أن تدخل الأحكام في الحدود * وخلاف الصحيح غير الصحيح: وهو: ما اختل فيه ركن من أركانه، أو شرط من شروطه، أو وصف من أوصافه. أو هو: ما لا يكون مشروعا أصلاً، ووصفًا، ويسمى الباطل. وهل يسمى فاسدًا، اختلف في ذلك على أقوال، وسأفرد له بحثًا مستقلًا إن شاء الله تعالى نظرًا لأهميته، وما يترتب عليه من أحكام.
الفرع الثاني الفرق بين الفاسد والباطل
الفرع الثاني الفرق بين الفاسد والباطل قال الزيلعي: كل باطل فاسد، ولا ينعكس (¬1). [م - 2] اختلف العلماء في الفرق بين الفاسد والباطل. فقيل: الفاسد مرادف للباطل، وهو مذهب الجمهور في الجملة (¬2). وقيل: الفاسد مرادف للباطل في العبادات خاصة (¬3)، وأما في المعاملات: فالباطل: هو البيع الذي في ركنه خلل، كبيع المجنون، وغير المميز، وبيع الميتة. والفاسد: ما كان مشروعًا بأصله دون وصفه (¬4)، كما لو باع شيئًا بثمن مؤجل ¬
وأما حكم البيع الفاسد، والبيع الباطل
إلى مدة غير معلومة، أو كان البيع في حال الإكراه، أو اشتمل البيع على وصف محرم كالربا، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وأما حكم البيع الفاسد، والبيع الباطل: [م - 3] فالبيع الباطل يتفقون جميعًا على أنه لا يفيد الملك، ولا ينقلب إلى عقد صحيح (¬2)؛ لأن الشارع لم يأذن به، فوجوده كعدمه. (ح- 1) ولما رواه مسلم من طريق سعد بن إبراهيم، قال: سألت القاسم ابن محمَّد، عن رجل له ثلاثة مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، قال: يجمع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬3). ومعنى رد: أي مردود عليه. كما يتفقون على أن البيع الفاسد لا أثر له قبل قبضه، وأنه يجب فسخه، ورده ¬
بعد قبضه، ولا يتوقف فسخه على رضا الطرفين، ما دامت عينه قائمة، ولم تتغير، ولم يتصرف فيها قابضها. قال ابن عابدين الحنفي في حاشيته: "الفاسد يجب فسخه على كل منهما بدون رضا الآخر، وكذا للقاضي فسخه بلا رضاهما" (¬1). وقال ابن الجلاب المالكي في كتابه التفريع: "من اشترى شيئاً بيعًا فاسدًا فسخ بيعه، ورد المبيع على بائعه" (¬2). وقال ابن رشد: "اتفق العلماء على أن البيوع الفاسدة إذا وقعت، ولم تفت بإحداث عقد فيها، أو نماء، أو نقصان، أو حوالة سوق، أن حكمها الرد -أعني أن يرد البائع الثمن، والمشتري المثمون" (¬3). واختلفوا في قبضه، هل يفيد الملك إذا قبض؟ فقالت الحنفية: إذا قبض بإذن صاحبه أفاد الملك (¬4). وقالت المالكية: يفيد شبهة الملك (¬5). وذهب الشافعية والحنابلة: إلى أنه لا يفيد الملك أبدًا. قال النووي: "إذا اشترى شيئاً شراء فاسدًا، إما لشرط فاسد، وإما لسبب ¬
آخر، ثم قبضه، لم يملكه بالقبض، ولا ينفذ تصرفه فيه ويلزمه رده وعليه مؤنة رده، كالمغصوب، ولا يجوز حبسه لاسترداد الثمن" (¬1). وقال ابن قدامة: "وكل موضع فسد العقد لم يحصل به ملك، وإن قبض؛ لأنه مقبوض بعقد فاسد، فأشبه ما لو كان الثمن ميتة، ولا ينفذ تصرف المشتري فيه، وعليه رده بنمائه المنفصل والمتصل، وأجرة مثله مدة مقامه في يده، ويضمنه إن تلف أو نقض بما يضمن به المغصوب؛ لأنه ملك غيره، حصل في يده بغير إذن الشرع، أشبه المغصوب" (¬2). [م - 4] واختلفوا في وجوب فسخه إذا تصرف فيه قابضه أو تغير؟ فذهب الحنفية إلى أنه يبطل حق الفسخ إذا هلك المبيع في يد المشتري، أو استهلكه، أو أخرجه من يده ببيع صحيح، أو بهبة، أو زاد فيه المشتري شيئًا من ماله، كما لو كان المبيع دارًا، فعمرها، أو أرضًا، فغرس فيها أشجارًا، أو تغير اسم المبيع، بأن كان حنطة، فطحنها، وجعلها دقيقًا (¬3). وقال مالك: يفسخ ما لم يفت (¬4). وقال الشافعية والحنابلة: يفسخ أبدًا حيثما وقع، وكيفما وجد، فات، أو لم يفت. ¬
قال في منح الجليل: "قال مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنهم: النهي يدل على الفساد. وقال أبو حنيفة: يدل على الصحة. فكل واحد طرد أصله إلا مالكًا -أي لم يطرد حكمه في هذا الباب-. فقال أبو حنيفة: يجوز التصرف في المبيع بيعًا فاسدًا ابتداء، وهذه هي الصحة. وقال الشافعي ومن وافقه: لا يثبت أصلاً، ولو تداولته الأملاك، وهذا هو الفساد ... طرد الحنفي أصله، وقال: إذا اشترى جارية شراء فاسدًا، جاز له وطؤها، وكذا سائر العقود الفاسدة، وطرد الشافعي أصله، وقال: يحرم الانتفاع مطلقاً، وإن باعه ألف بيع، وجب نقضه، ونحن خالفنا أصلنا، وراعينا الخلاف، وقلنا: البيع الفاسد يثبت شبهة الملك فيما يقبله، فإذا لحقه أحد أربعة أشياء تقرر الملك بالقيمة، وهي حوالة السوق -أي تغيره- وتلف العين، ونقصانها، وتعلق حق الغير بها على تفصيل في ذلك في كتب الفروع ... وقال ابن مسلمة: يمضي الفاسد المختلف فيه ... " (¬1). فالفرق بين مذهب الحنفية والمالكية في أثر العقد الفاسد: أن الحنفية يشترطون مجرد القبض. وأما المالكية فيشترطون القبض، وفوات الرجوع في المبيع، كما لو باعه بعد قبضه. والحنفية يعتبرون الملك حقيقة، والمالكية يعدونه شبهة على خلاف في المذهب (¬2). ¬
سبب الخلاف بين الحنفية والجمهور
* سبب الخلاف بين الحنفية والجمهور: يرجع الخلاف بين الحنفية والجمهور في هذه المسألة إلى مسألة أصولية، وهي: هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه، أو لا؟ أو يقتضي ذلك في حال دون حال، وسأفرد هذه المسألة بالبحث إن شاء الله تعالى فيما يلي بالرغم من كونها من المباحث الأصولية ليكون القارئ على اطلاع على أدلة الأقوال، والله أعلم. ... ¬
الفرع الثالث في النهي المطلق هل يقتضي في فساد المنهي عنه
الفرع الثالث في النهي المطلق هل يقتضي في فساد المنهي عنه قال ابن تيمية: الأصل في النهي التحريم والفساد (¬1). وقال الدسوقي: النهي عن الشيء إما لذاته كالدم، والخنزير، أو لوصفه كالخمر، وهو الإسكار، أو لخارج عنه لازم له، كصوم يوم العيد ... فإن كان النهي لواحد مما ذكر كان مقتضيًا للفساد، وإن كان النهي عن الشيء لخارج عنه، غير لازم له، كالصلاة في الدار المغصوبة، فلا يقتضي الفساد (¬2). * تحرير محل الخلاف: محل الخلاف إنما هو في النهي المطلق الخالي من القرائن، أما إذا اقترن بالنهي قرينة تدل على أن النهي للفساد، أو اقترن به ما يدل على أن النهي ليس للفساد، فلا خلاف بينهم في حمل النهي على ما دلت عليه القرينة (¬3). [م - 5]، وقد اختلف أهل العلم في النهي المطلق، هل يدل على فساد المنهي عنه على أقوال: فقيل: النهي المطلق يدل على الفساد مطلقًا، وهو مذهب الجمهور (¬4). ¬
وقيل: لا يدل عليه مطلقًا (¬1). قال في الأحكام: "وهو اختيار المحققين من أصحابنا، كالقفال وإمام الحرمين ... وكثير من الحنفية" (¬2)، واختاره الغزالي (¬3). وقيل: النهي يدل على الفساد في العبادات دون المعاملات (¬4). وقيل: إن عاد النهي لذات المنهي عنه، كالدم، والميتة، والخنزير، أو عاد النهي لوصف ملازم له، كالإسكار في الخمر، فالنهي يقتضي الفساد. وإن عاد النهي إلى غير ذات الشيء، وإلى غير وصف ملازم له، وإنما لأمر خارج عنه، كان مقتضاه الكراهة، كالبيع بعد نداء الجمعة، والصلاة في الدار المغصوبة، والذبح بسكين مسروقة (¬5). ¬
دليل من قال: النهي يقتضي الفساد
والأقوال في هذه المسألة كثيرة، وهذه هي أهم الأقوال، وقد أوصل الزركشي الأقوال في هذه المسألة إلى تسعة أقوال (¬1). وفي كتب الفروع تجد في الكتاب الواحد مسائل كثيرة يحكمون عليها بالبطلان؛ ويعللون الحكم بأن الأصل في النهي الفساد، ثم تأتي مسائل أخرى لا يقولون فيها بالبطلان، مع أنه مقتضى التعليل السابق، وبعضهم يدعي أنها خرجت بدليل، وفي كثير منها نظر (¬2). وهذه المسألة من المباحث الأصولية، وقد أشرف إلى أهم الأقوال، والله أعلم. * دليل من قال: النهي يقتضي الفساد: الدليل الأول: (ح-2) ما رواه مسلم في صحيحة من طريق سعد بن إبراهيم، عن القاسم بن محمَّد، قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬3). وجه الاستدلال: أن معنى رد: أي مردود على صاحبه، والمردود: هو الباطل. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-3) ما رواه البخاري من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". ورواه مسلم (¬1). فأفاد وجوب اجتناب المنهي عنه، وتصحيحه يدل على عدم اجتنابه، وهذا مخالف لنهيه - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثالث: " إذا كان الأمر يقتضي الصحة، فالنهي نقيضه، والنقيضان لا يجتمعان، فيكون النهي مقتضيًا للفساد. وأجيب: بأن الأمر يقتضي الصحة شرعًا، لا لغة، فاقتضاء الأمر للصحة لغة ممنوع، كما أن اقتضاء النهي للفساد لغة ممنوع" (¬2). الدليل الرابع: لا نعرف أن الشيء صحيح، أو باطل إلا بالأمر والنهي، ولم يأت في كلام الشارع أن هذا العقد صحيح، أو فاسد، أو هذا شرط، أو ركن، أو واجب، وإنما هذه عبارات أحدثها الفقهاء، وإنما الشارع دل الناس بالأمر، والنهي، والتحليل والتحريم. ¬
والصحابة، والتابعون، وسائر أئمة المسلمين كانوا يحتجون على فساد العقود بمجرد النهي، كما احتجوا على فساد نكاح ذوات المحارم بالنهي المذكور في القرآن، واستدلوا على فساد نكاح المطلقة ثلاثاً بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وكذلك استدل الصحابة على فساد نكاح الشغار بالنهي عنه، وكذلك عقود الربا، وغيرها. فعلموا أن ما نهى الله عنه فهو من الفساد، وليس من الصلاح؛ فإن الله لا يحب الفساد، فلا ينهى عما يحبه، وإنما ينهى عما لا يحبه، فعلموا أن المنهي عنه فاسد، ليس بصالح، وإن كانت فيه مصلحة، فمصلحته مرجوحة بمفسدته. وقد علموا أن مقصود الشرع رفع الفساد، ومنعه، لا إيقاعه، والإلزام به، فلو ألزموا بموجب العقود المحرمة لكانوا مفسدين، غير مصلحين، والله لا يصلح عمل المفسدين، وكل من عمل بمعصية الله فهو مفسد، والمحرمات معصية لله، فالشارع ينهى عنها ليمنع الفساد ويدفعه. ولا يوجد قط في شيء من صور النهي سورة ثبتت فيها الصحة بنص، ولا إجماع، فالطلاق المحرم، والصلاة في الدار المغصوبة، فيها نزاع، وليس على الصحة نص يجب اتباعه، فلم يبق مع المحتج بهما حجة. لكن من البيوع ما نهي عنها لما فيها من ظلم أحدهما للآخر: كبيع المصراة، والمعيب، وتلقي السلع، والنجش، ونحو ذلك، ولكن هذه البيوع لم يجعلها الشارع لازمة كالبيوع الحلال، بل جعلها غير لازمة، والخيرة فيها إلى المظلوم، إن شاء أبطلها، وإن شاء أجازها؛ فإن الحق في ذلك له، والشارع لم ينه عنها لحق مختص بالله، كما نهى عن الفواحش، بل هذه إذا علم المظلوم بالحال في ابتداء العقد، مثل أن يعلم بالعيب، والتدليس، والتصرية، ويعلم السعر إذا كان قادمًا بالسلعة، ويرضى بأن يغبنه المتلقي جاز ذلك، فكذلك إذا علم بعد العقد، إن رضي أجاز، وإن لم يرض كان له الفسخ،
وهذا يدل على أن العقد يقع غير لازم، بل موقوفاً على الإجازة، إن شاء أجازه صاحب الحق، وإن شاء رده، ولا يقال: إن صحة هذه العقود بعد إجازة من له الحق دليل على أن النهي لا يقتضي الفساد، بل يقتضي الفساد إن أراد صاحب الحق ذلك، وإن تنازل عن حقه فله ذلك. وكذلك الصلاة في الدار المغصوبة، والذبح بآله مغصوبة، وطبخ الطعام بحطب مغصوب، وتسخين الماء بحطب مغصوب، كل هذا إنما حرم لما فيه من ظلم الإنسان، وذلك يزول بإعطاء المظلوم حقه، فإذا أعطاه بدل ما أخذه من منفعة ماله، أو من أعيان ماله، فأعطاه كراء الدار، وثمن الحطب، وتاب هو إلى الله من فعل ما نهاه عنه، فقد برئ من حق الله وحق العبد، وصارت صلاته كالصلاة في مكان مباح، والطعام بوقود مباح، والذبح بسكين مباحة، وإن لم يفعل ذلك كان لصاحب السكين أجرة ذبحه، ولا تحرم الشاة كلها، وكان لصاحب الدار أجرة داره، لا تحبط صلاته كلها لأجل هذه الشبهة، وهكذا إذا أكل الطعام، ولم يوفه ثمنه، كان بمنزلة من أخذ طعامًا لغيره فيه شركة، ليس فعله حرامًا , ولا هو حلالًا محضًا، فإن نضج الطعام فلصاحب الوقود فيه شركة، وكذلك الصلاة يبقى عليه اسم الظلم، ينقص من صلاته بقدره، فلا تبرأ ذمته كبراءة من صلى صلاة تامة، ولا يعاقب كعقوبة من لم يصل، بل يعاقب على قدر ذنبه، وكذلك آكل الطعام، يعاقب على قدر ذنبه، والله تعالى يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7 - 8]، ولا يؤخذ من ذلك مطلقاً بأن النهي لا يقتضي الفساد (¬1). ¬
دليل من قال: النهي يقتضي الفساد في العبادات خاصة.
* دليل من قال: النهي يقتضي الفساد في العبادات خاصة. قالوا: إن العبادة المنهي عنها لو صحت لكانت مأمورًا بها ولو ندبًا؛ لعموم أدلة مشروعية العبادات، فيجتمع النقيضان: لأن الأمر لطلب الفعل، والنهي لطلب الترك، وهو محال، وأما غير العبادات فلو قلنا: يدل النهي على الفساد لاقتضى نجاسة الثوب المغسول بماء مغصوب، والصلاة في الدار المغصوبة ... وهكذا، فاللازم باطل، فالملزوم مثله. * دليل من قال: النهي لا يقتضي الفساد. هناك أشياء نهى عنها الشارع وصححها لوجود قرينة، كالنهي عن تلقي الجلب، ومع ذلك أثبت للبائع الخيار إذا أتى السوق، ونهى عن التصرية، وأثبت للمشتري الخيار إذا وقع البائع في النهي، وثبوت الخيار فرع عن صحة البيع فيهما، فدل ذلك على أن التحريم والصحة قد يجتمعان، ولا تلازم بين النهي والفساد، وإذا كان لا تلازم بين النهي والفساد، لم تكن صيغة النهي وحدها دالة على الفساد، وإنما تدل على التحريم، والممنوع أن يكون الشيء منهيًّا عنه، ومأمورًا به في ذات الوقت، فيمتنع أن يقال: حرِّمت عليك الطلاق في حال الحيض، وأمرتك به، وأبحته لك، وأما إذا قال: حرِّمت عليك الطلاق في الحيض، فإن فعلت فقد وقع الطلاق، وأنت آثم، وحرمت عليك الصلاة في الثوب المغصوب، فإن فعلت صحت الصلاة، وأنت آثم، فشيء من هذا ليس بممتنع (¬1). فدل على أن النهي لا يقتضي الفساد. وأجيب بجوابين: الأول: ما ذكره ابن تيمية من أن الطلاق في حال الحيض قد وقع فيه نزاع في ¬
دليل من فرق بين النهي العائد لذات العبادة والعائد لخارج منها.
وقوعه، وليس في المسألة إجماع على أن الطلاق يقع، وأما تلقي الجلب، وبيع المصراة، ونحوها فلا يقال: البيع صحيح، ولا فاسد حتى يجيزه من له الحق، فإذا أسقط الآدمي حقه، فله ذلك، وقد نقلنا كلام ابن تيمية في الجواب عن هذه المسائل في الدليل الرابع من القول السابق، فانظره. الجواب الثاني: أن يقال: لو لم يوجد قرينة دالة على صحة البيع في تلقي الجلب، وبيع المصراة لم نقل بصحته، ونحن لا نمانع من القول بالصحة إذا وجدت قرينة دالة على ذلك، وإنما الكلام في النهي المطلق الخالي من القرائن، فكما يقال: الأصل في النهي التحريم، فإذا وجدت فيه قرينة على أن النهي للكراهة صرفنا النهي عن أصله، فكذلك الأصل في النهي الفساد، فإذا وجدت قرينة تدل على الصحة صرفناه عن أصله. * دليل من فرق بين النهي العائد لذات العبادة والعائد لخارج منها. ذكر أصحاب هذا القول بأن الأدلة قد قامت على أن النهي إذا لم يتناول معنى في نفس العقد، أو القربة المفعولة، أو ما هو من شروطها التي يخصها لم يمنع جواز ذلك، نحو البيع عند أذان الجمعة، وتلقي الجلب، وبيع حاضر لباد، ومثل الصلاة في الأرض المغصوبة، والطهارة بماء مغصوب، وغسل النجاسة به، والوقوف بعرفات على جمل مغصوب، وكون الفعل فيها منهيًّا عنه في هذه الصفة لا يمنع من القول بصحته؛ لأن النهي عنها لم يتناول معنى في نفس المفعول، وإنما تناول معنى في غيره، وكون الإنسان مرتكبًا للنهي عاصيًا في غير المعقود عليه لا يمنع وقوع فعله موقع الصحة، والدليل على صحة ما ذكرنا: أن الرجل في الصلاة لو رأى رجلاً يغرق، وقد كان يمكنه تخليصه، أنه منهي عن المضي في هذه الصلاة، ومأمور بتخليص الرجل، فإن لم يفعل، ومضى في صلاته، كانت صلاته مجزئة، ولولا أن ذلك كذلك لقلنا: لا يجوز له فعل الصلاة.
الراجح من الخلاف
وفي اتفاق المسلمين على صحة صلاة من هذا وصفه دلالة على أن النهي إذا لم يتعلق بمعنى في نفس العقد، أو في نفس القربة المفعولة، أو بما هو من شروطها التي تختص بها، أنه لا يمنع صحة العقد، ووقوع القربة موقع الجواز، ألا ترى أن تخليص الرجل من الغرق ليس من الصلاة، ولا من شروطها في شيء. ألا ترى أن من عليه تخليص الغريق لو اشتغل بالصلاة أيضاً كان عاصيًا في اشتغاله عن تخليصه، وأن أذان الجمعة ليس من نفس البيع، ولا من شرطه، فلم يفسد البيع من أجله، وإن كان منهيًا عنه؛ لأن المعنى فيه الاشتغال عن صلاة الجمعة لا البيع؛ لأنه لو لم ينعقد البيع في ذلك الوقت، واشتغل بغيره كان النهي قائما في اشتغاله بغير الصلاة، فعلمت أن النهي إنما تناول الاشتغال عن الجمعة، لا البيع نفسه، وكذلك النهي عن تلقي الجلب، وبيع حاضر لباد، إنما هو لأجل حق الغير، لا لأجل البيع، وكذلك في استيام الرجل على سوم أخيه، أنه منهي عنه، ولو عقد البيع على هذا الوجه كان العقد صحيحًا مع كونه منهيا عنه؛ لأن النهي عنه إنما تعلق لحق المساوم، لا بالعقد نفسه. ونظائر ذلك كثيرة، وفيما ذكرنا تنبيه على المعنى في أشباهه، فصار ما ذكرنا أصلاً في هذه المسائل (¬1). * الراجح من الخلاف: الأصل الشرعي في النهي المطلق أنه يقتضي فساد المنهي عنه، فقد أمرنا الله سبحانه وتعالى باجتناب ما نهى عنه، أو نهى عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ووقوعه منا مخالفة لأمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن إذا وجد ما يدل على صحة الفعل بعد وقوعه عمل بذلك، كما أننا نقول: الأصل في الأمر الوجوب، وفي النهي التحريم، وإذا ما ¬
وجد ما يدل على الاستحباب، أو الكراهة عمل به، ومن القرائن الدالة بأن النهي لا يقتضي الفساد أن يكون النهي لحق الآدمي مثلاً، كتلقي الجلب، وعقد المصراة، ونحوها، ويمكن أن نلحق بهذه الصورة: البيع الذي توفرت فيه شروط الصحة، ولم يطابق العقد نهي، وإنما نهينا عن البيع لتعلقه بمحظور آخر، كما لو لم يبق من وقت الصلاة إلا مقدار ما يؤدي فيه العبادة، فانشغل بالبيع حتى خرج وقت الصلاة بالكلية، فالانشغال محرم، ولكن إبطال البيع لن يرفع المفسدة، بل يزيدها مفسدة على مفسدة، وذلك يكون الضرر يتعدى إلى المشتري وهو لم يرتكب محرمًا, ولم يقصر في القيام بالواجب.
الفرع الرابع يجب في الفاسد من العقود نظير ما يجب في الصحيح
الفرع الرابع يجب في الفاسد من العقود نظير ما يجب في الصحيح قال الزيلعي: الفاسد من العقود معتبر بالصحيح منها (¬1) وقال الحطاب: "فاسد العقود في الضمان كصحيحها" (¬2). [م - 6] إذا قبض المبيع بعقد فاسد, فإنه يجب رده ما دامت عينه قائمة، فإن تلفت عينه بيد المشتري، فهل يضمنه المشتري؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم. فقيل: لا يضمنه، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى (¬3). ¬
وقيل: يضمنه كما لو قبضه بعقد صحيح، وهو مذهب الجمهور (¬1)، وقول في مذهب الحنفية (¬2). ¬
تعليل أبي حنيفة لعدم وجوب الضمان
* تعليل أبي حنيفة لعدم وجوب الضمان: قبض المشتري للمبيع إنما تم بإذن المالك، وما كان مأذونًا له فيه فلا ضمان عليه (¬1). * تعليل الجمهور لوجوب الضمان: التعليل الأول: أن المشتري قبضه على جهة التملك، فهو قبضه لحق نفسه، فلم يقبضه على جهة الأمانة، ولم يقبضه باسم التوثقة، كالرهن. التعليل الثاني: إذا كان المقبوض بسوم الشراء لو تلف ضمنه القابض، فهذا أولى. * الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأقوال والأدلة أجد القول بأن العقد الفاسد يوجب الضمان كالعقد الصحيح هو الأقوى، والله أعلم. ... ¬
الفرع الخامس في كيفية ضمان العقد الفاسد
الفرع الخامس في كيفية ضمان العقد الفاسد جاء في موسوعة القواعد والضوابط الفقهية: "الأصل: أن المضمون نوعان: مضمون بالقبض، ومضمون بالعقد، وكل مضمون بالعقد الصحيح فهو مضمون بالمسمى في العقد، وكل مضمون بالعقد الفاسد فهو مضمون بالقبض، وكل مضمون بالقبض فهو مضمون بنفسه، لا بالمسمى في العقد ... وهي القيمة إن كان من ذوات القيم، والمثل إن كان من ذوات الأمثال" (¬1). [م - 7] وإذا رجحنا وجوب الضمان فإن كان التالف مثلياً وجب مثله، وإن كان قيميًّا، فهل يضمن بالقيمة، أو يضمن بالثمن المسمى بين العاقدين؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: * القول الأول: يضمن بالقيمة على خلاف، هل الواجب قيمته يوم تلفه؟ لأن القيمة إنما وجبت بتلف المبيع، فاعتبرت القيمة يوم التلف، وهو مذهب الحنابلة (¬2)، ووجه في مذهب الشافعية (¬3)، وقول محمَّد من الحنفية. ¬
القول الثاني
أو يجب الضمان بقيمته يوم قبضه، وهو مذهب الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) , وقول في مذهب الشافعية (¬3). وعللوا ذلك بأن القبض هو سبب الضمان. * القول الثاني: يضمن بأقصى القيمة للمتلف من وقت القبض إلى وقت التلف، وهو مذهب الشافعية (¬4). وقيل: يضمن بالثمن المسمى، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله تعالى (¬5). * دليل من قال: الضمان بالقيمة: الدليل الأول: قال: لما كان العقد فاسدًا لم يعتبر الثمن المسمى، وكان وجود العقد ¬
الدليل الثاني
كعدمه، فرجعنا إلى قيمة المبيع في نفسه. الدليل الثاني: أن اعتبار القيمة فيه عدل بين الطرفين، فقد يكون الثمن المسمى أكثر من القيمة الحقيقية، وقد يكون أقل، فلم نعتبر الثمن، والعقد فاسد، فنرجع إلى القيمة الحقيقة للمبيع. * تعليل من قال: الضمان بأقصى القيمة من القبض إلى التلف. قالوا: إنه مطالب في كل وقتٍ بِرَدَّه، ولم يفعل، فيعامل معاملة الغاصب. ويجاب: بأن يد الغاصب يد معتدية، فيعامل بالأشد، بينما المقبوض بالبيع الفاسد قبضه المشتري بإذن صاحبه ظانًا أن العقد صحيح، فتبين أن العقد فاسد، ولم يمض فيه بعد بيان فساده، فكيف يعامل معاملة الغاصب؟ * تعليل من قال: الضمان بالثمن المسمى. التعليل الأول: أن الثمن المسمى قد رضي به كل من العاقدين، وطابت أنفسهما به فهو أولى بالاعتبار من ثمن لم يتعاقدا عليه، ولم يرضياه، ولم يتفقا على قبوله. التعليل الثاني: العدل أن نقدر العقد الفاسد بكونه صحيحًا، ونوجب في هذا ما يجب في ذاك، فإذا كان الضمان بالعقد الصحيح إنما هو بالثمن المسمى بغض النظر عن قيمة المبيع الحقيقية، وكان وجوب الضمان بالعقد الفاسد مقيسًا على وجوبه بالعقد الصحيح، كان ضمانه مثله بالثمن المسمى، وهذا هو العدل المطلوب.
التعليل الثالث
وأجيب: بأن هناك فرقًا بين ضمان الشيء بالعقد، وبين ضمانه بالقبض فكل شيء يكون مضمونًا بالعقد يجب ضمانه بالمسمى، وذلك مثل العقد الصحيح، وكل شيء يكون ضمانه بالقبض فهو مضمون بنفسه، لا بالمسمى في العقد، فاعتبرت المالية القائمة بالعين يوم القبض، وهي القيمة إن كان من ذوات القيم، أو المثلية إن كان من ذوات الأمثال. التعليل الثالث: القياس على النكاح، فإذا فسد النكاح بعد الدخول وجب لها المهر المسمى، ولم يجب لها مهر المثل، فكذلك هنا. وأجيب: بأن هناك فرقًا بين النكاح والبيع الفاسد، فالضمان في النكاح الفاسد ضمان عقد، كضمانه في الصحيح، وضمان البيع الفاسد ضمان تلف، بخلاف البيع الصحيح، فإن ضمانه ضمان عقد (¬1). مع أن وجوب المسمى في النكاح الفاسد ليس محل اتفاق، فالشافعية يطردون القاعدة، فيوجبون المسمى في النكاح الصحيح، ومهر المثل في النكاح الفاسد (¬2). التعليل الرابع: أن إقباضه إياه إذن له في إتلافه بالعوض المسمى، فأشبه ما لو قال له: أتلفه بألف درهم، فأتلفه، فإنه لا يستحق عليه غير ما سمى له. ¬
الراجح
وتعقبه ابن رجب بقوله: وقد يجاب عن هذا، بأن المسمى إنما جعل عوضا عن الملك، لا عن الإتلاف، ولم يتضمن العقد إذنًا في الإتلاف، وإنما تضمن نقل ملك بعوض، ولم يوجد نقل الملك، فلا يثبت العوض، وإنما وجب الضمان بسبب متجدد (¬1). * الراجح: ليس في المسألة نص شرعي يجب الرجوع إليه، وما قدمه كل قول هو تعاليل، ولكل تعليل حظ من النظر، وأجد أضعفها مذهب الشافعية القائلين بوجوب أقصى القيمة من يوم القبض إلى يوم التلف، قياسًا على الغصب، وأجد أقواها ما اختاره ابن تيمية رحمه الله من أن الواجب الثمن المسمى في العقد لاتفاقهما عليه، وقبولهما إياه، كما لو كان العقد صحيحًا، والله أعلم. ¬
التقسيم الثالث تقسيم العقود باعتبار كون المعقود عليه ماليا أو غير مالي
التقسيم الثالث تقسيم العقود باعتبار كون المعقود عليه ماليًّا أو غير مالي تنقسم العقود باعتبار مالية المعقود عليه إلى ثلاثة أقسام: * القسم الأول: عقد مالي من الطرفين: كالبيع، والسلم، والإجارة، ونحوها. * القسم الثاني: عقد غير مالي من الطرفين: كعقد الهدنة. * القسم الثالث: عقد مالي من أحد الطرفين: كالنكاح، والخلع، والصلح عن الدم، ونحوها (¬1). ... ¬
التقسيم الرابع تقسيم العقود باعتبار اللزوم وعدمه
التقسيم الرابع تقسيم العقود باعتبار اللزوم وعدمه تنقسم العقود باعتبار اللزوم، وعدمه إلى ثلاثة أقسام: الأول: عقد لازم من الطرفين: وهو العقد الذي ينشئ التزامات متقابلة في ذمة كل من المتعاقدين، كالبيع يلتزم فيه البائع بنقل ملكية المبيع، ويلتزم فيه المشتري بدفع الثمن. الثاني: عقد جائز من الطرفين: وهو العقد الذي يملك فيه كل طرف أن يفسخ العقد متى شاء، وذلك مثل الشركة، والوكالة، والمضاربة، والوصية والعارية، والجعالة. الثالث: عقد لازم من طرف، وجائز من طرف آخر، وذلك مثل الرهن، فهو لازم من جهة الراهن بشرطه، وجائز من جهة المرتهن، وكذلك الضمان جائز من جهة المضمون له دون الضامن (¬1). [م - 8] وقد يتحول العقد الجائز إلى عقد لازم، إذا لزم من الفسخ ضرر بين، وقد ذكر ذلك ابن رجب في قواعده، فقال في القاعدة الستين: "التفاسخ ¬
في العقود الجائزة، متى تضمن ضررًا على أحد المتعاقدين، أو غيرهما ممن له تعلق بالعقد لم يجز، ولم ينفذ إلا أن يمكن استدراك الضرر بضمان، أو نحوه، فيجوز على ذلك الوجه" (¬1). ثم ذكر أمثلة ذلك، يستحسن مراجعتها من الكتاب، وسيأتي تفصيل تلك المسائل في أماكن متفرقة من البحث إن شاء الله تعالى، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. ¬
التقسيم الخامس تقسيم العقود باعتبار اشتراط القبض من عدمه
التقسيم الخامس تقسيم العقود باعتبار اشتراط القبض من عدمه تنقسم العقود باعتبار اشتراط القبض إلى أقسام: الأول: ما يشترط فيه القبض لبقائه على الصحة، كبيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، ومثل بيع السلم، فإنه يشترط فيه قبض الثمن في مجلس العقد. الثاني: ما يشترط فيه القبض للزومه، وذلك مثل الرهن، والهبة للأجنبي. الثالث: ما لا يشترط فيه القبض لا في صحته ولا في لزومه، وذلك مثل النكاح، والوصية.
التقسيم السادس تقسيم العقود باعتبار نفاذها في الحال من عدمه
التقسيم السادس تقسيم العقود باعتبار نفاذها في الحال من عدمه تنقسم العقود باعتبار نفاذها في الحال من عدمه إلى ثلاثة أقسام: العقد المنجز: وهو العقد الصحيح المستوفي لأركانه وشروطه، والصادر من كامل الأهلية، غير مضاف إلى المستقبل، ولا معلق على شرط، وهذا هو الأصل في العقود: أي أن آثارها تترتب عليها فور إنشائها. وقد تتوقف صحة العقد على كونه منجزًا، فإن تأخر بطل، وذلك كبيع الدراهم بالدراهم، وكبيع الدين بالدين. وهناك عقود يستغرق تنفيذها مدة بحيث يكون الزمن عنصرًا أساسيًا فيها، وذلك مثل الإجارة، والإعارة، والشركة. العقد المضاف للمستقبل: وهو ما صدر بصيغة أضيف فيها الإيجاب إلى زمن مستقبل، مثل آجرتك داري لسنة ابتداء من مطلع الشهر القادم، فينعقد في الحال، ولكن أثره لا يوجد إلا في الوقت الذي أضيف إليه. وهناك من العقود عقود لا تقع إلا مضافة للمستقبل، وذلك مثل عقد الإيصاء (¬1). ¬
العقد الموقوف: وهو العقد الصادر من كامل الأهلية، إلا أنه لا يملك إصدار هذا العقد، أو كان معلقاً على شرط. فالأول: كبيع الفضولي، فإنه موقوف على إجازة المالك، على خلاف بين الفقهاء في صحته، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بحثه عند الكلام على شروط العاقد. والثاني: المعلق على شرط كأن يقول: بعتك بيتي بشرط موافقة جاري، فإذا وافق الجار انعقد البيع (¬1). ... ¬
التقسيم السابع تقسيم العقود إلى بسيط ومركب
التقسيم السابع تقسيم العقود إلى بسيط ومركب " العقد البسيط: هو ما اقتصر على عقد واحد، ولم يكن مزيجًا من عقود متعددة ... كالبيع، والإيجار ... والعقد المختلط: هو ما كان مزيجًا من عقود متعددة اختلطت جميعًا، فأصبحت عقدًا واحداً. مثال ذلك: العقد بين صاحب الفندق، والنازل فيه: فهو مزيج من عقد إيجار بالنسبة إلى المسكن، وبيع بالنسبة إلى المأكل، وعمل بالنسبة إلى الخدمة، ووديعة بالنسبة إلى الأمتعة" (¬1). ¬
التقسيم الثامن تقسيم العقود إلى مسماة وغير مسماة
التقسيم الثامن تقسيم العقود إلى مسماة وغير مسماة تنقسم العقود من حيث التسمية إلى قسمين: العقود المسماة: وهي العقود التي نص الشارع على تسميتها، وجعل لها أحكاما خاصة كالبيع، والإجارة، والرهن، والزواج، والخلع، والهبة، والوصية. وعقود غير مسماة: وهي العقود التي لم ينص الشارع على تسميتها، وإنما استحدثت تبعًا لحاجة الناس، ولم تكن موجودة زمن التشريع، كعقود التأمين، والإجارة المنتهية بالتمليك، وعقد الاستصناع، وبيع الوفاء، وعقود النشر والدعاية، ونحوها (¬1). وهذه العقود غير المسماة قد اختلف الناس في جوازها تبعًا لاختلافهم في حرية العاقد في إحداث العقود، والشروط، فالظاهرية لا يجيزون عقدًا، أو شرطاً إلا إذا نص الشارع بخصوصه على جوازه، بينما نجد الحنابلة يجيزون إحداث العقود، والشروط التي لا تخالف نصوص الشريعة، ولأهمية هذا المبحث سوف نفرد له مبحثًا خاصًا، هل الأصل في العقود الجواز، والصحة، أو الأصل في العقود التحريم والمنع. هذه ثمان تقسيمات للعقود، ويستطيع الفقيه إحداث تقسيمات أخرى لاعتبارات، وفروق قد تكون شكلية، وقد تكون جوهرية، وفيما ذكرت من التقسيمات دليل على غيرها، وفيها كفاية إن شاء الله تعالى. ¬
عقد البيع
العقد الأول: عقد البيع * تمهيد: في تعريف البيع * * تعريف البيع في اصطلاح الفقهاء (¬1): يقصد من تعريف الشيء إيضاحه، وبيان حقيقته لغوية كانت، أو شرعية، ¬
تعريف الحنفية للبيع
ولكن الشيء إذا كان معروفًا، ومما يعلم بالضرورة كان تعريفه سببا في غموضه بدلا من إيضاحه، فلو أن أحدا جاء ليعرف لنا الماء، لكان تعريفه سببا في إبهامه، فالشيء المعروف، لا يعرف. ولهذا قال بعض المالكية: معرفة حقيقة البيع ضرورية حتى للصبيان (¬1). ورد ذلك ابن عرفة، بأن المعلوم ضرورة وجوده عند وقوعه، لكثرة تكراره، ولا يلزم منه علم حقيقته (¬2). * تعريف الحنفية للبيع: عرفه ابن نجيم بأنه: مبادلة المال بالمال بالتراضي ... زاد بعضهم على جهة التمليك، وقيل: لا حاجة إلى الزيادة؛ لأن المبادلة تدل عليه (¬3). وفي درر الحكام شرح غرر الأحكام: "مبادلة مال بطريق الاكتساب، أي التجارة، خرج به مبادلة رجلين بمالهما بطريق التبرع، أو الهبة بشرط العوض، فإنه ليس ببيع ابتداء، وإن كان في حكمه بقاء، ولم يقل: على سبيل التراضي ليتناول بيع المكره، فإنه بيع منعقد، وإن لم يلزم" (¬4). * تعريف المالكية: عرفه بعضهم: بأنه نقل الملك بعوض (¬5). ¬
تعريف الشافعية
فقوله: نقل الملك خرج بذلك العقد الباطل، فإنه لا ينقل الملك. وقوله: بعوض، خرج به الهبة، والصدقة، فإن فيها تنقل الملكية ولكن بدون عوض. وفي الشرح الصغير: عقد معاوضة على غير منافع. خرج بقيد المعاوضة: الهبة والوصية. وقوله: معاوضة: مفاعلة؛ إذ كل من البائع، والمشتري عوض صاحبه شيئاً بدل ما أخذه منه. وقوله: "على غير منافع" خرج النكاح، والإجارة، قال: وهذا تعريف للبيع بالمعنى الأعم: أي الشامل للسلم، والصرف، والمراطلة (بيع ذهب بذهب بالميزان) وهبة الثواب (¬1). * تعريف الشافعية: جاء في المجموع: "مقابلة المال بمال، أو نحوه تمليكًا" (¬2). وفي مغني المحتاج: "عقد معاوضة مالية يفيد ملك عين، أو منفعة. على التأبيد ... فدخل بيع حق الممر ونحوه، وخرجت الإجارة بقيد التأقيت؛ فإنها ليست بيعا" (¬3). فقوله (عقد معاوضة) أخرج العقود الأخرى التي لم تعقد للمعاوضة، كعقود التبرع مثلًا. ¬
تعريف الحنابلة
وقوله: (مالية) أخرج النكاح؛ فإنه وإن كان فيه عقد معاوضة، ولكنه ليس عقدا ماليا من الطرفين. وقوله (يفيد ملك عين) أخرج العقود التي لا تفيد الملك، كالعارية، والرهن. وقوله: (أو منفعة على التأبيد) أخرج الإجارة؛ فإنها عقد يقصد بها ملك المنفعة لمدة معينة. ويدخل في هذا الحد الربا، فإنه معاوضة مالية تفيد ملك العين على التأبيد، وهو ليس بيعا كما قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. ويدخل في الحد القرض، فإنه عقد معاوضة مالية على وجه التأبيد، وليس هو مع ذلك بيعا. * تعريف الحنابلة: عرفه بعضهم بأنه: مبادلة مال، ولو في الذمة، أو منفعة مباحة كممر في دار بمثل أحدهما على التأبيد، غير ربا وقرض (¬1). وارتضى هذا التعريف المرداوي في كتاب الإنصاف (¬2). فقوله: (مبادلة مال ... أو منفعة) .. كأنه أخرج المنفعة من المالية، وبعض الحنابلة يذهب إلى هذا؛ ولذلك يعرفون المال: بأنه عين مباحة النفع بلا حاجة، فقوله: (عين) أخرج المنفعة، وهذا خلاف المذهب، أعني عدم اعتبار المنفعة مالاً، وهي مسألة خلافية، وسيأتي إن شاء الله تحريرها عند الكلام على تعريف المال لدى الفقهاء. ¬
وقوله (ولو في الذمة) أدخل بيع الموصوف، كبيع ثوب صفته كذا وكذا، فإن البيع لا يتعلق بثوب بعينه، وإنما الواجب تعلق بذمته، فتكون مشغولة بأداء الموصوف، وذلك كبيع السلم مثلاً، وهذا لا بد أن يكون مما ينضبط بالصفة، وسيأتي إن شاء الله تحرير ما يجوز بيعه بالوصف. (بمثل أحدهما) شمل هذا الكلام صورًا من البيع: الصورة الأولى: أن يبيعه عينا بثمن، وهو البيع المشهور، وهو أن يكون المبيع من العروض، والعوض من الأثمان، كبيع السيارة بدارهم. الصورة الثانية: بيع المقايضة. وله ثلاثة أنواع: الأول: مقايضة عين بعين، كأن يبيع سيارته مثلاً ببيته. الثاني: مقايضة منفعة بمنفعة، كأن يبيع عليه حق الانتفاع بممر في أرضه بمثله من الجهة الأخرى. الثالث: مقايضة عين بمنفعة، وذلك أن يعطيه عروضا مقابل الانتفاع بممر في أرضه. الصورة الثالثة: بيع الصرف. وهو بيع ثمن بثمن، وذلك كبيع الدولار بالريال، أو بالدينار. الصورة الرابعة: بيع السلم. أن يبيعه دينا، والعوض مقدم في مجلس العقد، وهو نوعان: النوع الأول: دين بعين. النوع الثاني: دين بثمن. الصورة الخامسة: بيع المرابحة. عكس السلم، وهو أن يبيعه عينا حالة بدين.
الصورة السادسة: الإجارة. أن يبيعه منفعة مؤقتة بعين، أو ثمن. فهذه تسع صور أو أكثر لأنواع من البيوع، وكلها داخلة في مسمى البيع في معناه الأعم، وإن كان بعض المذاهب لا يرى الإجارة بيعًا، وسيأتينا إن شاء الله تعالى في كتاب الإجارة بيان هذا الخلاف، وهل هو خلاف اصطلاحي باعتبار أن البيع على التأبيد، والإجارة ليس فيها تأبيد، وإنما هي مؤقتة؟ وهذا في الحقيقة لا يخرجها عن مسمى البيع، فهي من باب بيع المنفعة بيعًا مؤقتًا، نعم اختلاف الاسم يعني اختلاف بعض الأحكام عن البيع المطلق، ولذلك فالصرف وإن كان بيعًا، إلا أن له أحكامًا خاصة من وجوب القبض في مجلس العقد، ومن وجوب التماثل مع اتحاد الجنس، وهذا لا يجب في غير مبادلة الربوي بالربوي، وكذلك الإجارة فإنها تختص ببعض الأحكام التي تخالف فيها البيع المطلق، وليس هذا مكان التعرض لها. هذه صور البيع، وكل هذه الصور سوف تأخذ نصيبها إن شاء الله تعالى من البحث، والدراسة، أعاننا الله على ذلك بمنه وكرمه، ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى. وقوله (على التأبيد) أخرج الإجارة، فإن الإجارة لا تسمى في مذهب الحنابلة بيعًا، وقد أشرنا إلى الخلاف فيها. (غير ربا، وقرض) الربا مبادلة مال بمال، ومع ذلك لا يسمى بيعًا، لقوله تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. فأحل الله البيع، وحرم الربا، فلم يدخل في مسمى البيع، وإلا لكان حلالاً. وكذلك القرض، وإن كان في صورته مبادلة مال بمثله على سبيل التملك، إلا أنه ليس بيعا؛ لأنه لم يقصد به المعاوضة، وإنما قصد به الإرفاق، ولو كان
القصد منه المعاوضة لحرم ذلك؛ لأنه مبادلة درهم بدرهم يشترط فيه التقابض، فلما جاز التفرق مع عدم القبض خرج ذلك عن سورة البيع. وهذا التعريف ربما كان من أشمل التعريفات السابقة، والله أعلم. وكل هذه التعريفات تدور على حقيقة واحدة: وهي أن البيع مبادلة مال بمال، أما كون المال أعيانًا، أو منافع، وهذه الأشياء قد تتعلق بالذمة وقد تتعلق بذات معينة، فكلها أقسام للمال لا حاجة إلى ذكرها في التعريف؛ لأن التعريف يقتصر فيه على الماهية. وهنا أمر يحسن التنبيه إليه، فهناك من يقسم المال إلى ثلاثة أقسام: أعيان، ومنافع، وديون. والحق أن الدين وصف للمال، وليس هو المال، فالمال إما ذات أو عرض (منفعة)، وكلاهما قد يكون دينًا وقد يكون معينًا. فالمال يكون ذاتًا كالبر مثلًا إن كان قائمًا فهو معين، وإن كان موصوفًا من غير تعيين، متعلق بالذمة، فهو دين، وكلاهما يؤول إلى ذات وليس إلى عرض (منفعة). والعرض (المنفعة) تكون دينًا ومعينة كالركوب، فإن كان من دابة معينة، فهي منفعة معينة، وإن كان من دابة موصوفة في الذمة فالمنفعة دين في الذمة، فتقسيم المال إلى ثلاثة أقسام عين ودين ومنفعة تقسيم غير دقيق، فالدين وصف للمال عينًا كان أو عرضًا، وكما تكون المنفعة عينًا ودينًا، يكون المال عينًا ودينًا، فالدين وصف يلحق الذوات كما يلحق المنافع. ويمكن أن نخرج من هذه التعاريف بضابط أو قاعدة: إذا كان البيع مبادلة مال بمال، فإنه لا يصح بيع ما لا يعد مالاً بين الناس، ولا يصح الشراء به.
الباب الأول في دراسة المال وبيان أنواعه
الباب الأول في دراسة المال وبيان أنواعه تبين لنا في الفصل السابق أن البيع مبادلة مال بمال، وإذا كان ذلك كذلك فلا بد من معرفة الحقيقة الاصطلاحية للمال، وما هي الأشياء التي تدخل في مسمى المال، وبالتالي يمكن أن يقع التبادل بينها على سبيل البيع، والأشياء التي لا تعتبر مالًا، بحيث لا يمكن تبادلها على سبيل المعاوضة، فإذا عرفنا حقيقة المال تصورنا وقوع المبادلة بين هذه الأموال المختلفة ليتحقق البيع الشرعي، وهذا ما دعاني إلى إفراد باب خاص للكلام على المال وأقسامه، أعاننا الله على جمعه، ووفقنا الله سبحانه وتعالى إلى حسن فهمه. وسوف نتناول إن شاء الله في هذا الباب المباحث التالية: * تعريف المال. * الخلاف في مالية المنافع. * الخلاف في مالية الديون. * الخلاف في مالية الحقوق. * أقسام المال، وأثره الفقهي.
الفصل الأولى في حقيقة المال
الفصل الأولى في حقيقة المال المبحث الأول: في تعريف المال قال ابن عبد البر: كل ما تملك وتمول فهو مال (¬1). إطلاق المال في السنة الشريفة، وأقوال الصحابة (¬2): جاء إطلاق المال في السنة وأقوال الصحابة على أنواع مختلفة لعلي أشير إلى بعضها: ¬
تعريف المال في اصطلاح الفقهاء
فقد جاء إطلاق المال على البستان (¬1)، وعلى الأرض (¬2)، وعلى الثياب والمتاع (¬3)، وعلى ما يؤكل ويلبس (¬4). * تعريف المال في اصطلاح الفقهاء: لم يضع الشرع للمال حقيقة شرعية تحدد معناه تحديدا دقيقا، كما هو الحال ¬
المال في اصطلاح الحنفية
في الإيمان والصلاة والزكاة حيث جعل الشارع لها حقيقة شرعية، بل ترك هذا لما يتعارف الناس على أنه مال، فالعربي الذي نزل القرآن بلغته حينما يسمع لفظة (المال) يفهم المراد منها، كما يفهم ما يراد بلفظ السماء والأرض، ولذلك نجد بعض أصحاب المعاجم اللغوية يقولون: "المال معروف". فإذا سمع العربي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه" (¬1) فهم المراد من المال بالطريقة التي يفهم بها كلمة العرض، وكلمة النفس من غير رجوع إلى اصطلاح خاص. وعندما قامت المذاهب الفقهية واستعمل لفظ المال مرادًا به معان اصطلاحية انشغل الفقهاء بوضع تعاريف له، وقد قام بهذا الصدد اصطلاحان رئيسيان: اصطلاح الحنفية، واصطلاح الجمهور (¬2). * المال في اصطلاح الحنفية: عرف الحنفية المال بعدة تعريفات، فعرفه بعضهم بقوله: "المال ما يميل إليه الطبع، ويمكن ادخاره لوقت الحاجة" (¬3). زاد صاحب مجلة الأحكام العدلية: "منقولًا كان أو غير منقول" (¬4). * شرح التعريف: قوله: "ما يميل إليه الطبع" خرج بذلك لحم الميتة. ¬
وقوله: "يمكن ادخاره لوقت الحاجة" خرج بذلك شيئان: أحدهما: ما لا يمكن ادخاره لحقارته كحبة حنطة مثلًا، فلا تعتبر مالًا. وثانيهما: خرج بقوله ما يمكن ادخاره المنافع والديون، فإنهما لا يمكن ادخارهما، وبالتالي لا تعتبر مالًا عند الحنفية (¬1). وقد يؤخذ من قوله (ما يمكن حيازته وادخاره) إطلاق المال على الشيء الذي يقبل الحيازة والادخار، ولو كان ذلك قبل حيازته كالسمك في الماء، والطير في الهواء؛ لأنه قال: مما يمكن حيازته، ولم يشترط الحيازة الفعلية. وكنت أظن أن الحنفية يقصدون بالادخار الإحراز، وليس الادخار المعروف في باب الزكاة، وذلك لأن هناك من الأعيان ما هو مال، ولا يمكن ادخاره كبعض أنواع البقول والخضر والفواكه، ولكن هذا التفسير يعكر عليه قولهم في تبيين الحقائق: "المال عبارة عن إحراز الشيء، وادخاره لوقت الحاجة في نوائب الدهر" (¬2). ¬
تعريف المال في اصطلاح الجمهور
فجعل الإحراز غير الادخار. فتبين من هذا أن الحنفية يشترطون لتحقيق المالية في الشيء أمرين: الأول: أن يكون الشيء مما يمكن حيازته وادخاره، فالمنافع كسكنى الدار، وركوب الدابة لا تعتبر مالاً؛ لأن المنافع لا يمكن حيازتها وادخارها. وكذلك الديون لا تعتبر مالاً وهي في الذمة حتى تقبض، فإذا قبضت أمكن حيازتها. وسيأتي مزيد بحث لمالية المنافع والديون إن شاء الله تعالى. الثاني: أن يكون الشيء مما له قيمة مادية بين الناس، فيخرج بذلك حبَّة القمح والأرز، فإنه لا ينتفع بها وحدها عادة. * تعريف المال في اصطلاح الجمهور: * المال في اصطلاح المالكية: عرف المالكية المال بعدة تعريفات: فقد عرفه الشاطبي بقوله: "ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك عن غيره إذا ¬
أخذه من وجهه" (¬1). فقوله في حده (ما يقع عليه الملك) يشمل الأعيان كما يشمل المنافع؛ لأنه يقع عليهما الملك. وقوله: (ويستبد به المالك عن غيره) إشارة إلى أن المقصود مما يقع عليه الملك مما له قيمة بين الناس، وليس المقصود ما يقع عليه الملك مما لا قيمة له فإنه لا يعتبر والحالة هذه مالاً، بل صرح بعضهم بأن ما لا قيمة له (أي منفعة) لا يقع عليه الملك (¬2). وينتقد التعريف بأنه لم يصرح بأن تكون العين أو المنفعة مأذونًا له شرعًا بالانتفاع بها، فإن هناك أشياء قد يستبد بها المالك عن غيره، ويجوز له الانتفاع بها؛ ولا تعتبر مالاً كشحوم الميتة وجلودها على المشهور من مذهب المالكية فإنهم يبيحون الانتفاع بها؛ ولا يجيزون بيعها (¬3). وعرفه النفرواي بقوله: "حقيقة المال: كل ما ملك شرعًا؛ ولو قلَّ" (¬4). فيفهم من هذا التعريف أن الأعيان قبل تملكها لا يطلق عليها مال، مثل السمك في البحر، والطير في الهواء، ولو قال: كل ما يمكن تملكه شرعًا لشمل الأعيان قبل وبعد تملكها. ¬
المال في اصطلاح الشافعية
وقال ابن العربي: "وتحقيق المال: ما تتعلق به الأطماع، ويعد للانتفاع، هذا رسمه في الجملة ... يترتب عليه أن منفعة الرقبة في الإجارة مال، وأن منفعة التعليم للعلم كله مال ... وأما عتق الأمة فليس بمال، وقال أحمد بن حنبل: هو مال يجوز النكاح بمثله؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله صداقا في نكاحه لصفية بنت حيي (¬1) ... وقال علماؤنا: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مخصوصا في النكاح وغيره بخصائص، ومن جملتها أنه كان ينكح بغير ولي ولا صداق" (¬2). والحق أن العتق مال؛ لأن العبد في نفسه مال من الأموال، فعتقه إخراج لهذا المال من ملكه. وقال القرافي في الذخيرة: "والأعيان على ثلاثة أقسام: ما اتفق على جواز بيعه وقبوله للملك والمالية كالدار والعبد. وما اتفق على منع بيعه وقبوله للمالية، إما لعدم اعتباره شرعا كالمحرمات من الميتة وغيرها، أو لعدم القيمة فيه عرفا كالنظر إلى السماء، والتوجه تلقاء الهواء ... وغير ذلك. وما اختلف فيه هل هو من القسم الأول أو الثاني" ثم ذكر من أمثلته بيع المصحف وإجارته وتعليم القرآن والفقه ونحوهما (¬3). * المال في اصطلاح الشافعية: قال الشافعي: "ولا يقع اسم مال إلا على ما له قيمة يباع بها، وتكون إذا ¬
استهلكها مستهلك أدى قيمتها وإن قلت" (¬1). وقال السيوطي: "قال الشافعي: لا يقع اسم مال إلا على ماله قيمة يباع بها، وتلزم متلفه، وإن قلت، وما لا يطرحه الناس، مثل الفلس وما أشبه ذلك" (¬2). فقوله: (ما له قيمة بين الناس): أخرج ما ليس له قيمة فلا يعد مالًا. قال في الإقناع: "ولا يصح بيع ما لا منفعة فيه؛ لأنه لا يعد مالًا، فأخذ المال في مقابلته ممتنع، للنهي عن إضاعة المال ... " (¬3). قال الغزالي: "وما لا منفعة له ثلاثة أقسام: أحدها: أن تسقط المنفعة للقلة، كالحبة من الحنطة ... فمن أتلفه فلا شيء عليه إذ لا قيمة له، وقال القفال: عليه مثله إن كان من ذوات الأمثال ... الثاني: أن تسقط منفعته لخسته، كحشرات الأرض من الخنافس والعقارب ... الثالث: ما سقطت منفعته شرعاً كالمعازف ... " (¬4). ¬
المال في اصطلاح الحنابلة
وقول السيوطي: "وتلزم متلفه" أخرج الكلب ونحوه مما له منفعة مباحة مقيدة بالحاجة أو الضرورة، فإذا أتلفه أحد لم تلزمه قيمته، وسوف يأتي إن شاء الله تعالى ذكر خلاف العلماء في بيع الكلب (¬1). * المال في اصطلاح الحنابلة: عرفه البهوتي بقوله: "والمال عين مباحة النفع بلا حاجة" (¬2). وينتقد هذا التعريف بإخراجه المنافع والديون من المالية؛ لأن المنفعة والدين ليست عينا، والمذهب الحنبلي يعتبر المنفعة والدين مالاً كما سيأتي تحريره في فصل مستقل إن شاء الله تعالى. وعرفه بعضهم: "المال شرعا: ما يباح نفعه مطلقا في كل الأحوال ... ¬
ويباح اقتناؤه بلا حاجة" (¬1). فخرج بقوله: (ما يباح نفعه) ما لا نفع فيه كالحشرات. وما فيه نفع محرم كالخمر. وما لا يباح نفعه لنجاسته كالميتة. وخرج بقوله: (يباح نفعه في كل الأحوال) جلد ميتة دبغ فإن الحنابلة لا يجيزون الانتفاع به إلا في اليابسات فقط؛ وقد فصلت مذهبهم في كتاب أحكام الطهارة، وبينت الراجح. وخرج بقوله: (يباح اقتناؤه بلا حاجة) ما أبيح بقيد الحاجة فلا يعتبر مالًا كالكلب، وكذلك ما أبيح الانتفاع به بقيد الضرورة كأكل الميتة من باب أولى. ¬
المبحث الثاني في اشتراط إباحة الانتفاع
المبحث الثاني في اشتراط إباحة الانتفاع كل ما لا ينتفع به فليس بمال، سواء كان ذلك لتحريمه كالخمر، أو لقلته كحبة الأرز، أو لخسته كبعض الحشرات (¬1). وقال ابن عبد البر: كل ما تملك وتمول فهو مال (¬2). [م - 9] يشترط الجمهور في المال أن يكون الانتفاع به مباحًا، فالشيء إذا لم يكن مما يباح الانتفاع به شرعًا فليس بمال أصلاً. وأما الحنفية فلا يشترطون في المالية إباحة الانتفاع، وهذا الذي دفعهم إلى تقسيم المال إلى متقوم وغير متقوم، ليخرجوا ما لا يحل الانتفاع به من الأموال عن أن يكون محلًا للعقد، نظرًا لعدم تقومه. يقول ابن عابدين في حاشيته: "المال أعم من المتقوم (¬3) لأن المال ما يمكن ادخاره، ولو غير مباح كالخمر، والمتقوم ما يمكن ادخاره مع الإباحة، فالخمر مال لا متقوم ... " (¬4). وقال أيضًا: "فما يباح بلا تمول لا يكون مالاً كحبة حنطة، وما يتمول بلا إباحة انتفاع لا يكون متقومًا كالخمر، وإذا عدم الأمران لم يثبت واحد منهما كالدم .. " (¬5). وقول الجمهور هو الصواب. ¬
المبحث الثالث في اشتراط الادخار في المال
المبحث الثالث في اشتراط الادخار في المال [م - 10] هذا هو الخلاف الثاني بين الحنفية والجمهور: فالحنفية يشترطون الادخار في المال، فالذي لا يمكن ادخاره لا يصلح أن يكون مالا، وقد سبق نقل كلامهم عند تعريف المال. وهذا الشرط أخرج منافع الأعيان فلا تعتبر مالًا عندهم، كما أخرج الديون المتعلقة بالذمة حال تعلقها؛ لأنها أوصاف، وليست أعيانا، فإذا قبضها صارت مالا لتحولها من وصف إلى عين، ولإمكان ادخارها حينئذ. بل ذهب الحنفية إلى عدم القطع في السرقة إلا في مال يمكن ادخاره. يقول السرخسي: "ولا قطع على سارق الخبز واللحم والفاكهة والرمان والعنب والبقول والرياحين والحناء والوسمة سواء سرق من شجره أو من غير شجره عندنا .... " (¬1). وعلل ذلك بقوله: "لأن في مالية هذه الأشياء نقصانا؛ لأن المالية بالتمول، وذلك بالصيانة والادخار لوقت الحاجة، ولا يتأتى ذلك فيما يتسارع إليه الفساد فيتمكن النقصان في ماليتها، وفي النقصان شبهة العدم ... " (¬2). بينما الجمهور لا يشترطون الادخار في المال، بل يرون مالية المنافع والديون والحقوق كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ¬
المبحث الرابع في اشتراط الطهارة في المال
المبحث الرابع في اشتراط الطهارة في المال [م - 11] وهذا هو الخلاف الثالث بين الحنفية والجمهور في حقيقة المال، وذلك اختلافهم في اشتراط الطهارة في المال، أو بعبارة أخرى هل يعتبر النجس مالًا؟ فالحنفية علقوا جواز بيع النجس على جريان الانتفاع، فما جرى الانتفاع به بين المسلمين، واعتادوا تموله من غير نكير جاز بيعه وإن كان نجسًا، وما لم تجر العادة بتموله لم يجز بيعه، وفي الجملة هم يقسمون النجس إلى ثلاثة أقسام: الأول: نجس العين الذي لم يجر العمل على الانتفاع به، فهذا لا يجوز بيعه، وإذا قال الحنفية عن شيء: إنه نجس العين فمعنى ذلك أن نجاسته نجاسة مغلظة غالبًا. قال القدوري: "وإنما معنى قولنا: نجس العين: ما تغلظت نجاسته" (¬1)، وهذا يعني أنهم لا يطلقون كلمة نجس العين على كل نجس في الغالب. قال في الهداية: "ولا يجوز بيع شعر الخنزير؛ لأنه نجس العين ... " (¬2). ¬
فهذا الكلام في نجس العين الذي لم يجر العمل على الانتفاع به، وكانت نجاسته مغلظة. الثاني: ما كانت نجاسته غير مغلظة، وجرى الانتفاع به من غير نكير فيجوز بيعه، وإن كان نجسًا. وهذا مثل السرجين النجس. وجاء في تبيين الحقائق: "كره بيع العذرة لا السرقين، وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز بيع السرقين أيضًا؛ لأنه نجس العين ... ولنا: أن المسلمين تمولوا السرقين، وانتفعوا يه في سائر البلدان والأعصار من غير نكير، فإنهم يلقونه في الأراضي لاستكثار الريع بخلاف العذرة؛ لأن العادة لم تجر بالانتفاع بها ... " (¬1). ¬
فهنا نص على أنهم حكموا عادة الناس بالانتفاع والتمول، ولم ينظروا إلى طهارة العين. وقال القدوري: "قال أصحابنا: يجوز بيع السرجين. وقال الشافعي: لا يجوز ذلك. لنا أن الناس يتبايعونه للزرع، وفي سائر الأزمان من غير نكير ... لأن الناس استخفوا نجاسته بدلالة أنهم لا يتجنبونه في الطرق كتجنب النجاسات، ويطينون به السطوح، ومتى خفت نجاسته جاز بيعه، كالثوب النجس ... وإنما معنى قولنا: نجس العين ما تغلظت نجاسته، ولا نسلم أن السرجين مغلظ النجاسة، فالوصف غير مسلم ... ولهذا قال أصحابنا: لا يجوز استعمال العذرة والدم في الأراضي حتى يغلب التراب عليها، ويجوز استعمال السرجين من غير أن يخالطه شيء" (¬1). الثالث: ما كانت نجاسته عن مجاورة كالدهن والثوب النجس, فهذا يجوز بيعه. جاء في المبسوط: "مسألة الدهن إذا اختلط به ودك الميتة، أو شحم الخنزير وهي تنقسم ثلاثة أقسام: فإن كان الغالب ودك الميتة لم يجز الانتفاع بشيء منه، لا بأكل ولا بغيره من وجوه الانتفاع؛ لأن الحكم للغالب، وباعتبار الغالب هذا محرم العين غير منتفع به، فكان الكل ودك الميتة ... وكذلك إن كانا متساويين؛ لأن عند المساواة يغلب الحرام، فكان هذا كالأول. فأما إذا كان الغالب هو الزيت، فليس له أن يتناول شيئاً منه في حال الاختيار؛ لأن ودك الميتة وإن كان مغلوبا مستهلكا حكما، فهو موجود في هذا ¬
المحل حقيقة، وقد تعذر تمييز الحلال من الحرام، ولا يمكنه أن يتناول جزءًا من الحلال إلا بتناول جزء من الحرام، وهو ممنوع شرعاً من تناول الحرام، ويجوز له أن ينتفع به من حيث الاستصباح، ودبغ الجلود بها؛ فإن الغالب هو الحلال، فالانتفاع إنما يلاقي الحلال مقصودًا ... وكذلك يجوز بيعه مع بيان العيب عندنا؛ ولا يجوز عند الشافعي رحمه الله تعالى؛ لأنه نجس العين كالخمر، ولكنا نقول: النجاسة للجار، لا لعين الزيت، فهو كالثوب النجس يجوز بيعه، وإن كان لا تجوز الصلاة فيه" (¬1). فهنا الحنفية أجازوا بيع الزيت المتنجس والانتفاع به في غير الأكل بشرط أن يكون الزيت متنجسًا لا نجسًا، وأن يكون الزيت الطاهر هو الغالب، ففرقوا في الحكم بين بيع نجس العين مما لم يجر الانتفاع به كالخنزير فلا يجوز بيعه، ولا الانتفاع به، وبين نجس جرى الانتفاع به من غير نكير، فأجازوا بيعه والانتفاع به في غير الأكل كالسرجين، ومثله الزيت الطاهر تقع فيه النجاسة فتنجسه، ويكون الزيت هو الغالب فيجوز بيعه والانتفاع به. وأجاز الحنابلة في قول في المذهب بيع النجس إذا كان مشتملًا على نفع (¬2)، ¬
وهو اختيار ابن حزم (¬1)، وابن القاسم من المالكية (¬2). وقيل: نجس العين لا يجوز بيعه، وكذا المتنجس الذي لا يمكن تطهيره، وهو مذهب الجمهور، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). ¬
واستدلوا بما ثبت من الأحاديث الصحيحة في النهي عن بيع الميتة، والخنزير، والخمر، والدم، والكلب، فهذه الأعيان نجسة، وقاسوا عليها سائر الأعيان النجسة. وسوف يأتي في كتاب موانع البيع حكم بيع هذه الأعيان إن شاء الله، وما ورد فيها من الأحاديث الصحيحة، كما سيأتي في شروط المعقود عليه خلاف أهل العلم في طهارة المعقود عليه، مع ذكر الأدلة ومناقشتها، فانظره هناك، وإنما اقتضى هنا التنبيه في خلاف الحنفية مع الجمهور حول حقيقة المال. هذه المسائل تقريبًا التي خالف فيها الحنفية جمهور الفقهاء فيما يتعلق بحقيقة المال. ¬
المبحث الخامس في عناصر المالية
المبحث الخامس في عناصر المالية من خلال التعريفات السابقة في المال، ومن خلال دراسة الفروق بين مذهب الحنفية ومذهب الجمهور نستطيع أن نتبين عناصر المالية على القول الصحيح فيما يلي: الأول: أن يأذن الشارع بتملكه، فما نهى الشرع عن تملكه، أو كان الشيء بطبيعته لا يقبل الملكية فلا يعتبر مالاً. قال ابن عبد البر رحمه الله: المعروف من كلام العرب أن كل ما تملك وتمول فهو مال". ثم قال أبو عمر: "وهذا أبين من أن يحتاج فيه إلى استشهاد .... لأن العلم محيط، واللسان شاهد في أن ما تملك وتمول يسمى مالاً .. " (¬1). وفي القاموس: "المال ما ملكته من كل شيء" (¬2). وفي اللسان: "المال معروف: ما ملكته من جميع الأشياء" (¬3). فما لا يقبل الملكية لا يمكن أن يكون مالًا كالصحة والشرف والشجاعة والذكاء والهواء في الجو، والماء في البحر، والشمس والنجوم. الثاني: أن يكون مشتملا على منفعة مباحة شرعاً واعتاد الناس تمولها (¬4). ¬
فقولنا: (أن يكون مشتملًا على منفعة) لا بد من اشتمال العين على منفعة وإن قَلَّت، والمنفعة قد تقوم في مكان دون آخر، وفي عصر دون عصر، فالماء العذب في وسط البحر نفيس جدًا لقلة المياه العذبة فيه، وإذا استغنى الناس عن شيء، ولم يعد الناس محتاجين إليه فقد ماليته لفقد منفعته، فالمنفعة تحددها حاجة الناس إلى تبادلها وبذل المال في تحصيلها. واشتراط المنفعة في العين يخرج ما لا نفع فيه، فلا يعتبر مالاً. وقولنا: (منفعة مباحة) يخرج ما فيه منفعة محرمة، فإنه لا يعتبر مالاً كالخمر والخنزير ونحوهما. وقولنا: (واعتاد الناس تمولها). هذا قيد ثالث في المنفعة، فقد تكون العين مشتملة على منفعة، وهذه المنفعة مباحة، ولكن الناس هجروا هذه المنفعة، ولم يعتادوا تمولها، فإنه والحالة هذه تفقد هذه العين ماليتها. ¬
فلو كنا في بلد تعارف أهله على عدم أكل حوايا الذبيحة ورأسها وأطرافها لم تكن هذه الأشياء مالًا عندهم، وإن كانت هذه الأعيان فيها منافع مباحة. وبناء عليه فإذا ترك الناس تمول بعض الأعيان فقدت ماليتها، فإذا رجع الناس إلى تمولها أصبحت مالاً. قال ابن عابدين: "والمالية تثبت بتمول الناس كافة أو بعضهم" (¬1). وقال في المبسوط "وإنما تنبني المالية على التمول" (¬2). وهذا فيه حصر ثبوت المالية على التمول. وقال أيضًا: "وإنما تعرف مالية الشيء بالتمول" (¬3). وقال أيضًا: "والمقصود بالمال التمول ... " (¬4). وعلل الكاساني من الحنفية عدم القطع في سرقة المصحف؛ بأنه يدخر لا للتمول، بل للقراءة، والوقوف على ما يتعلق به مصلحة الدين والدنيا والعمل به (¬5). وقال ابن نجيم: "فما يكون مباح الانتفاع بدون تمول الناس لا يكون مالاً كحبة حنطة" (¬6). وفي أسنى المطالب "وكل متمول مال ... " (¬7). ¬
وقال المرداوي في الإنصاف: "لا ربا في الماء مطلقاً على الصحيح من المذهب؛ لإباحته أصلًا، وعدم تموله عادة" (¬1). وقال في موضع آخر: "إن لم يتمول عادة كماء وكلأ محرز فلا قطع -يعني على سارقه- في إحدى الروايتين" (¬2). وقال في كشاف القناع: "ويلزمه قبول الماء إذا بذل له هبة؛ لسهولة المنة فيه، لعدم تموله عادة" (¬3). وقال ابن قدامة في شروط القطع في السرقة: "أن يكون المسروق مما يتمول عادة؛ لأن القطع شرع لصيانة الأموال، فلا يجب في غيرها ... " (¬4). والنصوص في هذا كثيرة كلها تصرح أن التمول مرده إلى العادة والعرف. ومن خلال هذه النصوص مع ما تقدم يتبين أن مالية الشيء متوقفة على إذن الشارع وحاجة الناس العرفية إلى تدواله، فإثبات المالية لعين ما، لا يقال: إن طريقه شرعي فقط، ولا عرفي فقط، بل مركب من الأمرين معاً، فما نهى الشارع عن بيعه فقد ماليته، وإذا هجر الناس الانتفاع بعين، ولم يعتادوا تدوالها فقدت ماليتها، كالنفط كان في عصر من العصور لا ينتفع به، وبعد اكتشاف دوره في الطاقة والصناعة كان من الأموال النفيسة. وإذا عرفنا عناصر المالية نستطيع أن نخلص إلى تعريف للمال على القول الصحيح، وأرجو أن يكون جامعًا، فأقول: ¬
المال: ما يمكن تملكه، وكان ذا منفعة مباحة مطلقًا، واعتاد الناس أو بعضهم تموله. وقولي: منفعة مباحة مطلقًا ليخرج بذلك ما كانت منفعة مباحة بقيد الحاجة كاقتناء الكلب، أو بقيد الضرورة كتناول الميتة. ونختم هذا الفصل ببعض الضوابط والقواعد: المال لا يثبت إلا بالتمول، والتمول مرده إلى العرف والعادة بشرط ألا ينهى الشارع عن تموله. أو بعبارة أخرى: ما اعتاد الناس تموله، ولم ينه الشارع عنه، فهو مال. وما ترك الناس تموله فقد ماليته. قد تكون العين مالاً عند أناس، وليست مالاً عند آخرين بحسب قيام التمول من عدمه.
الفصل الثاني في مالية المنافع
الفصل الثاني في مالية المنافع المبحث الأولى في تعريف المنفعة * تعريف المنفعة: المنفعة في اللغة تشمل كل ما يمكن استفادته من الأعيان عرضًا كان مثل سكنى الدار وأجرتها، وركوب السيارة والدواب، ولبس الثياب وقراءة الكتب، أو عينًا: مثل ثمر الأشجار، وحليب الأنعام ونحوها (¬1). إلا أن المقصود بالمنافع هنا ما هو أخص من التعريف اللغوي: فالمقصود المنافع المعنوية (الأعراض) وليست الأعيان، ويتضح ذلك بتعريف المنفعة اصطلاحًا. * تعريف المنفعة اصطلاحًا: قال السرخسي: "المنفعة عرض يقوم بالعين" (¬2). وعرفها ابن عرفة: "ما لا يمكن الإشارة إليه حسًا دون إضافة، يمكن استيفاؤه، غير جزء مما أضيف إليه. قال الشارح قوله: (ما لا يمكن) أي الشيء الذي لا يمكن الإشارة إليه، فخرج بذلك الأعيان. ¬
وقوله: (حسًّا) احترز مما يمكن الإشارة إليه حسًّا من الأعيان بنفسه كالثوب والدابة، فإنهما ليسا بمنفعة. قوله: (دون إضافة) معمول لإشارة وهو قيد في الإشارة، ومعناه: ما لا يشار إليه حسًّا إلا بقيد إلاضافة، ولا يمكن عقلًا إلا ذلك، مثل ركوب الدابة، ولبس الثوب، بخلاف الثوب والدابة، فإنهما يمكن الإشارة إليهما حسًّا من غير إضافة، فركوب الدابة منفعة، والدابة ليست كذلك. قوله: (يمكن استيفاؤه) أخرج به العلم والقدرة؛ لأنهما لا يمكن استيفاؤهما , ولا تمكن الإشارة إليهما حسًّا إلا بإضافتهما، تقول: هذا علم زيد. قوله: (غير جزء مما أضيف إليه) أخرج به نفس نصف العبد ونصف الدار مشاعًا؛ لأنه يصدق عليه، وهو مشاع لا تمكن الإشارة إليه إلا مضافًا ويمكن أخذ المنفعة منه، لكنه جزء مما أضيف إليه، وليس ركوب الدابة وما شابهه كذلك" (¬1). وعرفها في المطلع: "المنفعة والمنافع: الانتفاع بالأعيان كسكنى الدار، وركوب الدواب، واستخدام العبيد" (¬2). وفي مجلة مجمع الفقه الإِسلامي: المنفعة كل ما يقوم بالأعيان من أعراض ... (¬3). وفي الموسوعة الكويتية: "المنفعة في الاصطلاح هي: الفائدة التي تحصل ¬
باستعمال العين، فكما أن المنفعة تستحصل من الدار بسكناها، تستحصل من الدابة بركوبها" (¬1). ... ¬
المبحث الثاني خلاف العلماء في مالية المنافع
المبحث الثاني خلاف العلماء في مالية المنافع قال ابن قدامة: ما زالت عنه المنفعة زال عنه التقويم. لا يصح بيع ما لا نفع فيه (¬1). جاء في حاشية ابن عابدين: الأصل أن المنافع تجري مجرى الأعيان (¬2). كل ما تعورف على تداوله من أعيان ومنافع مباحة مطلقاً يعتبر محلًا صالحاً للتعاقد عليه، ككل مال متقوم (¬3). بذل المال لا يجوز إلا لمنفعة في الدين أو في الدنيا، هذا أصل متفق عليه (¬4). [م - 12] سبق لنا تعريف المال، ومن خلال التعريف السابق يتبين لنا أن العلماء متفقون على مالية الأعيان، مختلفون في مالية المنافع والحقوق. فقيل: المنفعة ملك، وليست مالًا، وهو مذهب الحنفية (¬5). ¬
ثمرة الخلاف
وقيل: المنافع من الأموال، وهو مذهب الجمهور، وهو الصحيح (¬1). * ثمرة الخلاف: تظهر ثمرة الخلاف في بعض الأبواب كالضمان والإجارة: فيرى الحنفية أن المنافع لا تضمن بالغصب والإتلاف خلافًا للجمهور، فمن غصب داراً، فسكنها سنين لم تجب عليه أجرتها، وعند الجمهور تلزمه (¬2). كما يرى الحنفية أن المستأجر إذا مات قبل انتهاء مدة الإيجار فإن العقد ينتهي بموته؛ لأن المنفعة ليست مالًا حتى تورث خلافًا للجمهور الذين يجعلون الورثة يحلون محل مورثهم حتى تنتهي مدة الايجار، والله أعلم (¬3). ¬
دليل الحنفية على عدم اعتبار المالية في المنافع
* دليل الحنفية على عدم اعتبار المالية في المنافع: الدليل الأول: المنافع قبل وجودها معدومة، والمعدوم لا يطلق عليه اسم مال، وبعد كسبها تتلاشى وتفنى، فلا يمكن إحرازها. ويناقش: كون المنافع معدومة قبل وجودها لا ينفي عنها المالية إذا وجدت، كالعين المستأجرة إذا تلفت قبل تمام المدة، تلفت فيما بقي من مال المؤجر، وفيما مضى من مال المستأجر، وهذا لا ينفي عنها المالية. وأما كونها بعد كسبها تتلاشى، فهذا ليس بشيء، فإن من الأعيان ما يكون الانتفاع بعينه يذهب به بالكلية، ومع ذلك لم ينف عنه المالية، فما بالك بمنافع تتجدد. الدليل الثاني: صفة المالية للشيء لا تثبت إلا بالتمول، والتمول صيانة الشيء وإحرازه، والمنافع لا يمكن تمولها؛ لأنه لا يمكن إحرازها. ويناقش: بأن هذا استدلال بموضع النزاع، فنحن لا نسلم أن مالية الشيء لا تثبت إلا بصيانة الشيء وإحرازه، والتمول ليس معناه صيانة الشيء وإحرازه، بل معنى قولك: تمول الشيء، أي اتخذه مالاً. ¬
الدليل الثالث
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: خذه فتموله، أو تصدق به. وتمولت واستملت: أي كثر مالك. الدليل الثالث: المنافع ليست أموالًا متقومة بنفسها؛ لأن التقوم يستدير سابقة الإحراز، وما لا بقاء له لا يمكن إحرازه، وغير المحرز لا يعتبر مالًا متقومًا كالصيد في الفلاة، وإنما تتقوم المنافع بالعقد الشرعي للضرورة (¬1). * دليل الجمهور على أن المنافع من الأموال. الدليل الأول: (ح-4) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله إني قد وهبت لك من نفسي فقال رجل زوجنيها قال: قد زوجناكها بما معك من القرآن. ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬2). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (زوجناكها بما معك من القرآن) فالباء في قوله (بما معك) للعوض، فإذا جعل التعليم عوضًا في النكاح دل على أنه مال، ولو لم يكن التعليم مالاً لم يصح جعله صداقًا؛ لأن الله تعالى قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]، ففي الآية دليل على أن ما لا يسمى مالًا لا يكون مهرًا. ¬
اعتراض على وجه الاستدلال
* اعتراض على وجه الاستدلال اعترض على وجه الاستدلال باعتراضين: الأول: أن الآية ليس فيها دليل؛ لأن الآية إن كانت من باب الإجارة فهي لا تصح لعدم تحديد المدة؛ لأن التعليم لا يعلم مقدار وقته، فقد يتعلم في زمان يسير، وقد يحتاج إلى زمان طويل، وإن كانت من باب الجعالة وهي في مثل هذا، مع عدم تحديد المدة لا تصح أيضًا، بل يجب أن يعتقد أنه لما تعذر الصداق بالعجز جعل عليه السلام حفظه للقرآن فضيلة توجب تزويجه، وأخر الصداق في ذمته تفويضًا، وعليه فتكون الباء في قوله (بما معك) بمعنى اللام، أي زوجناكها لما معك من القرآن، ونظيره قصة أبي طلحة مع أم سليم. (ح- 5) وذلك فيما أخرجه النسائي وصححه من طريق جعفر ابن سليمان، عن ثابت، عن أنس، قال: خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: والله ما مثلك يرد، ولكنك كافر، وأنا مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذاك مهري، لا أسألك غيره، فأسلم، فكان ذلك مهرها. والإِسلام لا يكون صداقًا بل تفويضًا. ورد هذا الاعتراض: ليس في الحديث ما يدل على أنه جعل الصداق دينًا في ذمته، وإنما النص على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - زوجها بما معه من القرآن، والأصل أن الباء للعوض، ودعوى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - زوجها إياه بمهر في الذمة تعطيل للنص المحفوظ، وإحالة على أمر لم يحفظ من النص. وأما الجواب عن دعوى الجهالة في مدة الإيجار فإن الجهالة في مدة الإيجار يسيرة خاصة مع تحديد السور المراد تعلمها، فهذا العقد في استئجار الحمام
الاعتراض الثاني
يكون على الماء، وعلى مقدار مدة اللبث في الحمام، وهما مجهولان، والإجارة لا تصح إلا بشرط معرفة العين المستهلكة من الماء، ومدة اللبث في الحمام، ومع كون العقد مشتملًا على جهالتين: جهالة المدة، وجهالة المعقود عليه، ومع ذلك صح دخول الحمام بأجرة والغرر ليس كله منهييًا عنه، بل هناك غرر متفق على قبوله، كالغرر اليسير، وغرر مجمع على النهي عنه كالغرر الكثير، وغرر مختلف فيه، هل يدخل في الغرر اليسير، فيقبل، أو في الغرر الكثير، فيمنع، وعقد التعليم مع تحديد السور المراد تعلمها من الغرر اليسير المقبول إن شاء الله تعالى. يقول ابن عابدين: "الناس في سائر الأمصار يدفعون أجرة الحمام، وإن لم يعلم مقدار ما يستعمل من الماء، ولا مقدار القعود، فدل إجماعهم على جواز ذلك، وإن كان القياس يأباه لوروده على إتلاف العين مع الجهالة" (¬1). الاعتراض الثاني: قالوا: إن تعليم القرآن قربة أخروية، ومنفعة بضع المرأة عرض دنيوي، والمعاوضة على القرب بعرض من الدنيا لا يجوز، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [هود: 15، 16]. ويجاب عن هذا: بأن تعليم القرآن مركب من أمرين، القيام بالتعليم، وكونه من القرآن، فالتعليم بحد ذاته منفعة دنيوية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المحذور أن ¬
الدليل الثاني
يكون قصد الإنسان في أمور الآخرة الدنيا فقط، وأما أن يكون الباعث على الأمر الأخروي مجموع الأمرين: الدنيا والآخرة فلا يقدح في هذا. قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2, 3]. وقال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10: 12]. فحض تعالى على الاستغفار بذكر بعض الفوائد الدنيوية. وأقر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخذ العوض على الرقية بالحديث الصحيح (¬1). مع أن الرقية عبادة. وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه" (¬2) ولو كان هذا يقدح في الإخلاص لم يحض الرسول - صلى الله عليه وسلم - صحابته على الجهاد بذكر المغنم. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكبير خبث الحديث" (¬3). الدليل الثاني: آجر شعيب موسى على أن ينكحه إحدى ابنتيه، والإجارة منفعة، قال تعالى في قصة موسى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27]. ¬
الدليل الثالث
فصح بذل المنفعة صداقًا للمرأة، وصح أن المنفعة مال وإلا لما صح جعله مهرًا. الدليل الثالث: الأعيان لا تكون مالاً إلا إذا ثبت أن لها منفعة؛ لأن الأعيان لا تقصد لذاتها، وإنما تقصد لمنافعها، فالمنافع هي الأصل في ثبوت المالية للأعيان، وإنما تعرف قيمة العين بحجم منفعتها، وإذا قلت منفعة العين أو انعدمت طرح الناس التمسك بالعين، وانتفت عنها المالية كما عرفنا سابقًا أن من شروط المال أن يكون مشتملًا على منفعة مباحة، وإذا كانت المنافع بهذه المثابة، فيستحيل ألا تكون متقومة بنفسها، فثبت بذلك ماليتها. الدليل الرابع: لو لم تكن المنافع أموالًا لما بذلت الأموال في تحصيلها؛ ولما بني عليها كثير من العقود كعقد الإجارة وعقد الاستصناع. ويمكن أن يجاب عن قول أصحاب القول الأول بأن قولكم: إن الإجارة على خلاف القياس دعوى في محل النزاع، بل لا يوجد في أحكام الشرع ما هو على خلاف القياس، وقد بينت ذلك في كتابي أحكام الطهارة في كتاب التيمم. * الراجح من الخلاف: الراجح أن المال كما يشمل الأعيان فإنه يشمل المنافع التي لها قيمة بين الناس واعتاد الناس الاعتياض عنها وتمولها. ***
الفصل الثالث في مالية الديون
الفصل الثالث في مالية الديون المبحث الأول في تعريف الدين قال ابن مفلح الدين لا يثبت إلا في الذمم (¬1). قال في الحاوي: جميع الديون تقضى من جميع الأموال (¬2). وفيه أيضًا: كل حق ثابت في الذمة لا يبطل يتلف المال كالدين والقرض (¬3). تعريف الدين (¬4): * الدين في اصطلاح الفقهاء: عرفه ابن عابدين بقوله: "الدين: ما وجب في الذمة بعقد أو استهلاك، وما صار في ذمته دينًا باستقراضه" (¬5). ¬
فقولنا: (ما وجب في الذمة) الذمة: وصف يصير به الإنسان أهلًا لما له، وما عليه، فيكون أهلًا للتملك، كما يكون أهلًا لتحمل دفع ثمن ما يملك (¬1). هذا هو تعريف الحنفية للذمة، فهو وصف قدر الشارع وافترض وجوده في الشخص إيذانًا بصلاحيته لأن تكون له حقوق، وعليه واجبات. وخالفهم آخرون، فلم يروا أن الذمة وصف مقدر، وإنما الذمة: هي النفس والذات، فإذا قيل: ثبت المال في ذمة فلان، وتعلق بذمته، وبرئت ذمته، وشغلت ذمته، فالمراد بذمته: ذاته، ونفسه؛ لأن الذمة في اللغة: العهد والأمانة، ومحلها: النفس، فسمي محلها باسمها (¬2). كما أن التعريف جعل الدين يشمل ثلاثة أمور: الأمر الأول: ما وجب بعقد كالمعاوضة عن طريق البيع والشراء والإجارة. الأمر الثاني: ما ثبت عن طريق الاستهلاك كالإتلاف مثلًا. الأمر الثالث: ما ثبت عن طريق القرض. فالدين أعم من القرض، فكل قرض دين، وليس العكس. وقال ابن نجيم: الدين "لزوم حق في الذمة" (¬3). وهذا أحسنها؛ لأنه يشمل كل ما يشغل ذمة الإنسان، سواء أكان حقًا لله، أم للعبد. ودَيْن الله: حقوقه التي ثبتت في الذمة، ولا مطالب لها من جهة العباد، كالنذور والكفارات، وصدقة الفطر ... (¬4). ¬
توصيف الدين
* توصيف الدين: يطلق الفقهاء كلمة (الدين) في مقابل كلمة (العين). فإذا كانت العين من الأموال هي ذاتًا يمكن الإشارة إليها بالتعيين، وترى بالعين، فإن الدين وصف، وليس عينًا، ويثبت في الذمة، ولا يمكن الإشارة إليه. فإذا اشتريت سيارة بسيارة، فقد اشتريت عينًا بعين. وإذا اشتريت سيارة بدراهم غير معينة، أو معينة على القول بأن الدراهم لا تتعين بالتعيين، فقد اشتريت عينًا بدين، حتى ولو كانت الدراهم حالة فإنها تسمى دينًا؛ لأن الدين قد يكون حالًا، وقد يكون مؤجلًا، والفرق بينهما: أن المعين إذا تلف فقد فات، وغير المعين (الدين) إذا تلف مال الإنسان لم يفت؛ لأن تعلقه بالذمة، وليس بعين المال فتشغل ذمته بدفع مثله. جاء في مجلة الأحكام العدلية: "الدين ما يثبت في الذمة، كمقدار من الدراهم في ذمة رجل، ومقدار منها ليس بحاضر، والمقدار المعين من الدراهم أو من صبرة الحنطة الحاضرتين قبل الإفراز، فكلها من قبيل الدين" (¬1). فجعل شراء المقدار المعين بكيل من صبرة الحنطة قبل كيلها من قبيل الدين، ولو كانت حاضرة. فتقسيم المال إلى دين وعين إنما هو تقسيم باعتبار متعلقه، فالمال إما أن يتعلق بالذمة، وهو ما يسمى بالدين. ¬
والفرق بين الدين والعين من وجوه
أو لا يتعلق بالذمة، فيسمى بالعين. وأقرب مثال يوضح ذلك: أن الزكاة لما كانت متعلقة بعين المال، وليست بالذمة وجبت في مال الصبي والمجنون، مع أن ذمتهما ليست محلًا للتكليف. قال - صلى الله عليه وسلم -: فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم (¬1). * والفرق بين الدين والعين من وجوه: الأول: المال المعين إذا تلف بغير تعد ولا تفريط فقد فات، أما المال الثابت في الذمة فإنه لا يبطل بتلف مال صاحبه. الثاني: من عليه دين فله قضاؤه من أي ماله شاء، فالدين يمكن وفاؤه بدفع مثله، وإن لم يدفع عينه. بخلاف العين فإن الحق يتعلق بذاتها, لا بأمثالها. الثالث: الحوالة، والمقاصة لا تجري إلا في الديون؛ لأن الأعيان إنما تستوفى بذاتها, لا بأمثالها. فائدة: إذا تزاحم حقان في محل: أحدهما متعلق بذمة من هو عليه، والآخر متعلق بعين من هي له، قدم الحق المتعلق بالعين على الآخر؛ لأنه يفوت بفواتها، بخلاف الحق الآخر (¬2). (ح-6) لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس، فهو أحق به من غيره. متفق عليه (¬3). ¬
المبحث الثاني خلاف العلماء في مالية الديون
المبحث الثاني خلاف العلماء في مالية الديون قال ابن رجب: الواجبات المالية منقسمة إلى دين وعين (¬1). وقال ابن الهمام: الدين مال حكمًا لا حقيقة (¬2). [م - 13] عرفنا فيما سبق الخلاف في مالية المنافع، ونريد أن نعرف الآن خلاف العلماء في مالية الديون، فهل يعتبر ما ثبت في ذمة الإنسان مالًا حال كونه في الذمة؟ وللجواب على هذا نقول: "لا خلاف بين الفقهاء في أن الحق الواجب في الذمة إذا لم يكن ماليًّا، فإنه لا يعتبر مالًا؛ ولا يترتب عليه شيء من أحكامه" (¬3). وأما إذا كان الدين الشاغل للذمة ماليًا، فقد اختلف الفقهاء في اعتباره مالًا حقيقة حال كونه دينًا على قولين: * القول الأول: الدين لا يعتبر مالًا حقيقة، وإنما يعتبر مالًا حكمًا باعتبار أنه يتحول إلى المال بالاستيفاء، وهو مذهب الحنفية (¬4)، والقديم من قولي الشافعي ¬
القول الثاني
عليه رحمه الله (¬1). * القول الثاني: الدين يعتبر من الأموال، وهو أحد القولين في مذهب الشافعية، ومذهب الحنابلة (¬2). ¬
تعليل من قال: الدين لا يعتبر مالا
* تعليل من قال: الدين لا يعتبر مالاً: التعليل الأول: عللوا ذلك: بأن الدين إنما هو وصف في الذمة، لا يتصور قبضه حقيقة (¬1) وقد تكلف الحنفية رحمهم الله في تصوير كيفية استيفاء الدين، لاعتقادهم بأن الدين لا يمكن قبضه حقيقة، وإنما يكون بطريق المقاصة عند أبي حنيفة (¬2). ويناقش: بأن الدين كونه وصفًا في الذمة فهذا من حيث تعلقه، فهو إما أن يتعلق ¬
التعليل الثاني
بالذمة، وهو الدين أو يتعلق بشيء معين، وهو العين، وحقيقتهما واحدة؛ لأن متعلق الشيء غير الشيء. التعليل الثاني: المال هو ما يتمول، وتمول ما في الذمة لا يتحقق. ويناقش: بأن عدم تموله ليس عائدًا إلى حقيقة المال، وإنما لوجود مانع، كما أن المرهون لا يمكن تموله، ولا يخرجه ذلك عن المالية. التعليل الثالث: المال ما يتوصل به إلى قضاء الحوائج، وما في الذمة باعتبار حاله غير صالح لذلك، بل باعتبار مآله، وهو القبض، والمقبوض عين (¬1). والجواب عنه كالجواب عن الدليل السابق. * دليل الجمهور على اعتبار الديون من الأموال: الدليل الأول: الدين مال حقيقة، ينتقل بالإرث، والهبة، والوصية، وهذا شأن الأموال، ويثبت بالدين حكم اليسار لصاحبه، وتلزمه نفقة الموسرين وكفارتهم، ولا تحل له الصدقة، وتجب عليه زكاة الدين إذا كان دينه على ملئ غير مماطل على الصحيح، وهذا كله دليل على أن الدين مال من الأموال. الدليل الثاني: قد أثبتنا في المسألة السابقة أن المنفعة مال، مع عدم القدرة على حيازتها ¬
الدليل الثالث
وادخارها، فكذلك الدين فإنه مال، وإن كان متعلقًا بالذمة. الدليل الثالث: أكثر أموال التجار هي ديون، فلو لم نعتبرها مالاً لتضرر الفقراء لعدم وجوب الزكاة فيها؛ لأن الزكاة لا تجب إلا في ما يعتبر مالًا، وهذا إضرار كبير بمصلحة الفقراء دون دليل. الدليل الرابع: الديون في حقيقتها إما أعيان أو منافع، وتعلقها بالذمة لا يغير شيئًا من ماهيتها لا من قريب ولا من بعيد، وإنما له تعلق في أبواب أخرى كباب الضمان مثلًا، فما تعلق بالذمة وجب رد مثله ولو تلف مال المدين، وما كان تعلقه بالعين، ثم تلف لم يضمن إلا ما كان فيه تعد أو تفريط (¬1)، كما أن ما تعلق بالذمة يمكن الوفاء من أي ماله شاء، ولا يتعلق الوفاء بمال بعينه، بخلاف ما تعلق بالعين فإنه يجب رد نفس العين (¬2)، فتحديد المتعلق إنما هو لهذه المصلحة وأمثالها، وهذا لا ينفي المالية. ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: يجوز أن يكون صداق المرأة دينًا في ذمة زوجها, ولو كان الدين لا يعتبر مالًا لما صح كونه صداقًا؛ لأن الصداق شرط في صحة النكاح قال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]. الدليل السادس: عرف الفقهاء المال كما تقدم في باب تعريف البيع، بأنه مبادلة مال بمال، وقد يثبت الثمن وحده في ذمة المشتري، وقد يثبت المبيع وحده في ذمة البائع كما في السلم، وقد يثبت الثمن والمبيع في ذمتيهما: كما لو اشترى خمسة آصع موصوفة بدينار ولم يعينه، فيكون من باب بيع الدين بالدين فيجوز بشرط قبض أحد العوضين قبل التفرق (¬1). فهل نقول عن هذه الصور بأنها ليست بيعًا؛ لأن أحد العوضين دين، والدين ليس بمال، ولم يقل أحد من أهل العلم بأن هذا لا يسمى بيعًا ما دام الثمن في ذمة المشتري، بل يرى الحنفية أن الدراهم والدنانير لا تتعين بالتعين، وإنما تجب في الذمة (¬2). * الخلاصة: بعد استعراض الخلاف والأدلة أجد أن القول الراجح قول الجمهور، وهو أن الدين مال حقيقة، وليس حكمًا. وأما قول الحنفية بأن الدين ليس بمال ما دام في الذمة حتى يقبض فلعلهم ¬
أرادوا أن يطردوا قولهم بأن المال لا بد له من الادخار، وأن المال وهو في الذمة لا يمكن ادخاره، وبالتالي لا يكون مالاً، ولو أنهم قالوا: إن الدين إن كان عن عين فهو مال، وإن كان عن منفعة لم يكن مالاً لاطَّرَد قولهم دون اللجوء إلى عدم اعتبار الدين مالاً في الزكاة والكفارات، واعتباره مالًا في النكاح، فإن هذا نوع من التناقض، والله أعلم.
الفصل الرابع في مالية الحقوق
الفصل الرابع في مالية الحقوق المبحث الأول: في تعريف الحق * تعريف الحق اصطلاحًا (¬1): يقول الشيخ مصطفى الزرقاء: "لم أر للحق بمفهومه العام تعريفًا صحيحًا ¬
جامعًا لأنواعه كلها لدى فقهاء الشريعة أو القانون" (¬1). ¬
وقال الشيخ علي الخفيف رحمه الله: "لا يختلف استعمال الحق عند الفقهاء عن استعماله اللغوي ... " (¬1). قلت: ومن ذلك ما نقله ابن نجيم عن البناية: حيث عرف الحق بقوله: الحق ما يستحقه الرجل ... (¬2). وهذا التعريف غير جامع، لعدم دخول حق الله فيه، كما أنه يلزم منه الدور، فمعرفة ما يستحقه الرجل متوقفة على معرفة الحق، ومعرفة الحق متوقفة على معرفة الاستحقاق، وهكذا. ونقل ابن نجيم عن شرح المنار للسيد نكركار: أن الحق هو الشيء الموجود من كل وجه، ولا ريب في وجوده، ومنه قوله عليه السلام: ... العين حق (¬3). ونقل ابن نجيم أيضًا عن شرح البخاري للكرماني، حيث قال: الحق حقيقة هو الله تعالى بجميع صفاته؛ لأنه الموجود حقيقة بمعنى لم يسبق بعدم، ولم يلحقه عدم، وإطلاق الحق على غيره مجاز، ولذا ورد في الحديث اللهم أنت ¬
تعريف الحق بمعناه العام
الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق" بالتعريف في الثلاثة ثم قال: ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق بالتنكير (¬1). اهـ والحق في المعنى الاصطلاحي له معنيان: أ- معنى عام. ب- ومعنى خاص. * تعريف الحق بمعناه العام: قال الشيخ علي الخفيف الحق "يطلق في الفقه الإِسلامي على كل عين أو مصلحة تكون لك بمقتضى الشرع سلطة المطالبة بها، أو منعها عن غيرك، أو بذلها له في بعض الأحيان، أو التنازل عنها كذلك، فيطلق على الأعيان المملوكة، فتقول: هذا الكتاب حقي، ويطلق على الملك نفسه، فتقول: ملكية هذا الكتاب حق من حقوقي، ويطلق على المنافع أو المصالح على وجه عام، فتقول: سكنى هذا الدار حق للموصى له بمنفعتها ... والحضانة حق للأم، والولاية على النفس وعلى المال حق للأب، والشفعة حق للشريك، ولفلان حق المرور في هذا الطريق أو حق العلو على هذا البناء، وهكذا". وهو بهذا المعنى يطلق على الأعيان والمنافع والمصالح المادية وغير المادية، فهو أعم من المال؛ لأن المال يطلق على ما يتموله الناس فقط كما سبق، والحق بمعناه العام يطلق على ما يتقوم ويتمول، ويطلق على غيره مما لا يتقوم أو يتمول. وجميع هذه الإطلاقات لم تخرج عن المعنى اللغوي للحق الذي سبق بيانه (¬2). ¬
أقسام الحق بمعناه العام
* أقسام الحق بمعناه العام: إذا عرفنا الحق بمعناه العام، نستطيع أن نقول: إن الحق بمعناه العام، ينقسم إلى قسمين: ¬
تعريف الحقوق العينية
حق مالي: وهو ما يتعلق بالمال، كملكية الأعيان أو الديون أو المنافع. وحق غير مالي: كحق الولي في التصرف على الصغير بتعليمه وتأديبه. والحق المالي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: حقوق عينية، وحقوق شخصية، وحقوق معنوية. * تعريف الحقوق العينية: الحق العيني: سلطة مباشرة يقررها الشرع لشخص ما على عين مالية معينة يملك صاحبها أن يباشر حق التصرف بهذه العين بيعًا واستعمالًا واستغلالًا واستهلاكًا واحتباسًا دون وساطة أحد، ولذا لا يرى في الحق العيني سوى عنصرين بارزين هما: صاحب الحق، ومحل الحق. وأهم الحقوق العينية هو حق الملكية (¬1). ¬
تعريف الحقوق الشخصية
* تعريف الحقوق الشخصية: عرفه الزرقاء رحمه الله: "مطلب يقره الشرع لشخص على آخر. وهذا الحق يكون متعلقه: تارة قيامًا بفعل ذي قيمة لمصلحة صاحب الحق. وتارة امتناعًا عن فعل مناف لمصلحته. وذلك كحق كل من المتبايعين على الآخر، فإن أحدهما يستحق على الآخر أداء الثمن، والآخر يستحق تسليم المبيع، وكل من هذين الحقين فعل، وكذا حق المودع على الوديع في أن لا يستعمل الوديعة، وهذا امتناع عن فعل" (¬1). وقيل في تعريف الحق الشخصي: هي الالتزامات التي تقوم بين الأفراد، وهي عبارة عن الحقوق التي تقوم بين شخصين معينين أو أكثر، ومحلها قيام المدين بعمل إيجابي أو سلبي مطلوب منه، مثل إقامة بناء، أو نقل بضاعة أو امتناع عن إقامة حائط أو رفعه. وبهذا تتميز الحقوق العينية عن الحقوق الشخصية كل التميز: فالحق العيني: سلطة لشخص على شيء. فمحل الحق العيني بجميع أنواعه: سلطة تنصب مباشرة على عين معينة ¬
تعريف الحقوق المعنوية
بالذات دون حاجة إلى توسط شخص آخر، في حين أن الحق الشخصي ليس سلطة وإنما رابطة والتزام قائم بين طرفين. ومحل الحق العيني مال معين مادي، ومحل الحق الشخصي فعل خارجي (¬1). * تعريف الحقوق المعنوية: عرف الشيخ علي الخفيف هذه الحقوق، فقال: "سلطة على شيء غير مادي، هو ثمرة فكر صاحب الحق أو خياله أو نشاطه، كحق المؤلف فيما ابتدعه من أفكار علمية، وحق الفنان في مبتكراته الفنية، وحق المخترع في مخترعاته الصناعية، وهكذا" (¬2). وقد اتفق القانونيون على اعتبار الحقوق المعنوية من الحقوق المالية، ولكنهم مختلفون، هل تعتبر هذه الحقوق من الحقوق المالية العينية، أم أنها حقوق مالية مستقلة بالإضافة إلى الحقوق العينية والشخصية؟ فذهب بعض القانونيين إلى أن الحقوق المالية تنقسم إلى حقوق عينية، وحقوق شخصية، وحقوق معنوية. * وجه كون الحقوق المعنوية قسمًا ثالثًا: أن الحق العيني سلطة يعطيها القانون لشخص معين على شيء مادي معين، فالحق العيني بناء على هذا القول يشترط أن يكون محله عينًا مادية قائمة بذاتها، بخلاف الحقوق المعنوية فإن محلها شيء غير مادي. ¬
الحق بالمعنى الخاص
وذهب قانونيون آخرون إلى أن الحق المعنوي حق من الحقوق العينية، وأن الشيء الذي تنصب عليه السلطة في الحق العيني أعم من أن يكون ماديا أو معنويا (¬1). وإلى هذا ذهب الدكتور فتحي الدريني في كتابه (حق الابتكار في الفقه الإِسلامي) معللاً ذلك بأن "الحق العيني في الفقه الإِسلامي لا يشترط فيه أن يكون محله عينا مادية، بل يجوز أن يكون منفعة أو معنى، إذ المنظور في الحق العيني: هو العلاقة المباشرة التي يقرها الشرع بين صاحب الحق ومحله، خلافا لما استقر عليه الفقه الوضعي من اشتراط كون محل الحق ماديا حتى يعتبر عينيا، وبذلك يشمل الحق العيني في الشريعة الحقوق المالية وغير المالية" (¬2). والمقصود في هذا العنوان أعني (مالية الحقوق) هي الحقوق المعنوية خاصة، وأما الحقوق العينية فهي إما أعيان لا خلاف في ماليتها، وإما منافع وقد فصلت الخلاف في مالية المنافع، وأما الحقوق الشخصية فقد سبق الكلام عليها عند الكلام على مالية الديون، ولذا أفردت في هذا الفصل كلام أهل العلم في مالية الحقوق المعنوية. * الحق بالمعنى الخاص: انتهينا من الكلام على الحق بالمعنى العام، وبينا أقسامه، وتعريف كل قسم وقد يستعمل الفقهاء الحق في مقابلة الأعيان والمنافع المملوكة، وعند ذلك لا يريدون به ذلك المعنى العام الذي سبق بيانه، وإنما يريدون تلك المصالح الاعتبارية الشرعية التي لا وجود لها إلا باعتبار الشرع وفرضه كحق الشفعة، ¬
وحق الخيار ... وحق الكفاءة في الزواج، وحق الطلاق، وحق القصاص، وحق الحضانة والولاية وما إلى ذلك (¬1). "ويستعمل الحق بالمعنى الخاص أيضًا فيما يثبت للعقار من منافع كحقوق الارتفاق، مثل: حق الشرب، وحق المسيل، وحق المرور وغيرها" (¬2). ويدخل في هذه الحقوق أيضًا الحقوق المعنوية، من ذلك الاسم التجاري والعنوان التجاري، والتأليف والاختراع أو الابتكار، وهي حقوق خاصة لأصحابها أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها. وبهذا التعريف للحق نجد أن الجمهور يجعلون الحق بمعناه الخاص في مقابلة الأعيان. والحنفية يجعلون الحق في مقابلة الأموال، ويقولون: إن الحق ليس بمال. ونستطيع أن نقسم الحق بمعناه الخاص إلى قسمين: حق غير مالي: وهي حقوق لا تُقوم بالمال، ولا تقبل التعامل بها، أو التنازل عنها, ولا نقلها من شخص لآخر، كحق الولاية، وحق حرية التنقل، وحق الحضانة ونحوها. وحق مالي: وهي الحقوق التي تُقوم بالمال، وتقبل التنازل عنها، والانتقال من شخص لآخر، كحق المرور وحق المسيل وحق الشرب. وبهذا نكون قد وقفنا على معرفة الحق بمعناه العام، وبمعناه الخاص، وعن أقسام الحق إلى حق مالي، وحق غير مالي، وأن الحق المالي ينقسم: إلى حقوق عينية، وحقوق شخصية، وحقوق معنوية. ¬
المبحث الثاني في مالية الحقوق المعنوية (الابتكار)
المبحث الثاني في مالية الحقوق المعنوية (الابتكار) قال ابن تيمية: حقوق الآدميين تقبل من المعاوضة والبدل ما لا يقبلها حقوق الله تعالى، ولا تمنع المعاوضة في حق الآدمي إلا أن يكون في ذلك ظلم لغيره، أو يكون في ذلك حق لله، أو يكون من حقوق الله (¬1). [ن- 1] الحقوق الفكرية (¬2)، أو الحقوق المعنوية أول من أقرها واعترف بها، ونظمها هو القانون الفرنسي، ثم انتقلت بفعل التأثر إلى القوانين العربية. فإذا جاء الفقيه المسلم ليناقش هذه الحقوق في ظل هيمنة القوانين العربية ¬
المتأثرة تأثرا كاملاً بالقوانين الغربية فإنه إما أن تكون مرجعيته في بحثه مستمدة من الفقه الإِسلامي، والذي لن يجد هذا الأمر محسومًا خاصة من خلال الفقه الإِسلامي القديم. وإما أن تكون المرجعية في ذلك إلى القوانين العربية المستمدة من القوانين الغربية، وهذه القوانين نشأت في بيئة النظام الرأسمالي، وإطلاق سلطان الإرادة، والحرية الفردية. فإذا حاول الفقيه تخريج هذا الحق على أحد الحقوق المقررة في الشريعة الإِسلامية فإن اجتهاده سيكون من قبيل النازلة الفقهية؛ لأن هذا الحق لم يكن معترفا به في العصور الإِسلامية السابقة، وسيكون على الفقيه أن يقدم الحجة المقنعة في عدم اعتبار هذه الحقوق حقوقا مالية مع قيام السبب طيلة هذه القرون من عصر الدولة الإِسلامية. ولن تكون هذه الحقوق الفكرية مهما قيل عنها بمنزلة الحقوق التي جاء النص الشرعي باعتبارها وذلك كحق الشفعة، وحق الخيار، وحق الطلاق، وحق القصاص، وحق الحضانة والولاية، وحقوق العاقدين وغيرها من الحقوق المالية وغير المالية المنصوص عليها. فإذا رجع الفقيه المسلم إلى تراثه في تعريف المال ليرى هل هذه الحقوق تدخل في مسمى المال؟ وبالتالي يصح أن تكون هذه الحقوق محلاً للمعاوضة؛ لأن ما ليس بمال لا يجوز بذل المال لتحصيله والمعاوضة عليه، وجدنا هناك خلافا بين مذهب الحنفية وبين مذهب جمهور الفقهاء في بيان حقيقة المال. فمذهب الحنفية يرى أن المال لا يقع إلا على شيء مادي يمكن حيازته وادخاره، وهذا الشرط عندهم أخرج منافع الأعيان؛ لأنها أعراض لا يمكن حيازتها وادخارها فالسيارة مال؛ لأنها شيء مادي محسوس يمكن حيازته وادخاره، بينما ركوب السيارة ليس مال عند الحنفية؛ لأنه لا يمكن حيازته وادخاره، وقس على ذلك سكنى الدار ونحوها.
فالحنفية يرون أن هذه المنافع ملك، وليست مالا (¬1). وليس هذا هو الخلاف الوحيد بين الحنفية والجمهور في حقيقة المال، ولكن هذا هو الخلاف الذي يعنينا في مسألتنا هذه. فإذا كانت الحقوق الفكرية كما يقول الشيخ علي الخفيف: "سلطة على شيء غير مادي، هو ثمرة فكر صاحب الحق، أو خياله، أو نشاطه، كحق المؤلف فيما ابتدعه من أفكار علمية، وحق الفنان في مبتكراته الفنية، وحق المخترع في مخترعاته الصناعية، وهكذا". فإذا كانت الحقوق الفكرية تقع على شيء غير مادي لا يمكن حيازتها وادخارها فإن الخلاف في ماليتها يجب أن يجري عليها كما جرى الخلاف في مالية المنافع بين الفقهاء المتقدمين. والحق أن مذهب الحنفية مذهب ضعيف جدا، وغير معمول به في عصرنا، وقد دلت الأدلة الكثيرة على أن المنافع من الأموال، وقد سبق تفصيل ذلك في بحث سابق. وإذا ثبت أن المنافع من قبيل الأموال، فإن إثبات المالية لها لا بد من توفر شرطين: الإذن بالتملك. وجريان التمول. قال ابن عبد البر رحمه الله: "المعروف من كلام العرب أن كل ما تملك وتمول فهو مال" (¬2). فأشار ابن عبد البر إلى الأمرين معا: التملك والتمول. فالشرط الأول لمالية الشيء هو الإذن بالتملك. بمعنى ألا ينهى الشارع عن ¬
تملكه، فما نهى الشارع عن تملكه، أو كان الشيء بطبيعته لا يقبل الملكية فلا يعتبر مالًا. فالأول: كالميتة والخمر، والدم، والخنزير، والأصنام. فقد نهى الشارع عن بيعها كما في حديث جابر المتفق عليه (¬1)، وبالتالي لا تعتبر مالًا بالاجماع. والثاني: كالهواء، وحق التنقل، وحق إبداء الرأي، فإن هذه الحقوق لا تقبل الملكية فلا تعتبر مالًا. فإذا نظرنا إلى الحقوق الفكرية فإنه لا يوجد نهي من الشارع ينهى عن تملكها، فالاسم التجاري، والعلامة التجارية وحق المؤلف والمخترع لا يوجد نص من الشارع ينهى عن تملكها، أو عدم إضافتها إلى أصحابها، أو جواز التعدي عليها. الشرط الثاني لمالية الشيء: هو جريان التمول بين الناس، فلا يكفي كون الشارع لم ينه عن تملك هذه العين أن تكون مالاً حتى يجري تمولها بين الناس، ويعتاد الناس ذلك، وتصبح لها قيمة مالية عندهم. وهذا الشرط متوفر أيضًا في الحقوق الفكرية، فإن الناس في عصرنا اعتادوا تمول مثل هذه الأشياء، وبذل المال فيها، والمعاوضة عليها. إذا تقرر هذا نستطيع أن نقول: إن حقيقة المال يشمل الحقوق الفكرية باعتبارها من قبيل المنافع. هذا الاستدلال على الحقوق الفكرية (المعنوية) على سبيل الإجمال، وسوف نتناول هذه الحقوق على سبيل التفصيل في المباحث التالية، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
الفرع الأول مالية العلامة والاسم التجاري
الفرع الأول مالية العلامة والاسم التجاري المسألة الأولى في تعريف الاسم والعلامة التجارية * تعريف الاسم التجاري: " الاسم التجاري: هو تسمية يستخدمها التاجر علامة تميز منشأته التجارية عن نظائرها؛ وليعرف المتعاملون معه نوعًا خاصًا من السلع وحسن المعاملة والخدمة". * تعريف العلامة التجارية: العلامة التجارية: "هي إشارة مادية يضعها التاجر أو المنتج على سلعة ليسهل تمييزها عن السلع الأخرى من ذات الصنف، ويمكن أن تكون اسمًا يتخذ شكلًا معينًا، أو إمضاء، أو كلمة، أو حروفًا، أو أرقامًا، أو رسومًا، أو غير ذلك (¬1). * الفرق بين الاسم التجاري والعلامة التجارية: الاسم التجاري يميز المنشاة التجارية ذاتها عن نظائرها (فهو علامة توضع على المصنع أو المنشأة). وأما العلامة التجارية يستخدم لتمييز البضائع والمنتجات (فهو علامة توضع على البضائع). ¬
فالطريقة الأولى
وقد يستخدم التاجر الاسم للمنشأة في تكوين العلامة التجارية التي يضعها على المنتجات وبذلك يقوم الاسم التجاري بوظيفة في تكوين العلامة التجارية (¬1). فالعلامة التجارية والاسم التجاري رغم الفارق بينهما إلا أن لهما ارتباطًا وثيقًا بالمحل التجاري كعلامات مميزة له. [ن- 2] إذا عرفنا الاسم التجاري والعلامة التجارية، فهل يعتبر هذا الاسم التجاري أو العلامة التجارية مالاً يمكن بيعه، والمعاوضة عليه؟ قبل الجواب عليه ينبغي أن نبين أن هناك طريقتين في بيع الاسم التجاري، أحدهما لا ينبغي أن يكون فيه خلاف في جواز بيعه، واعتباره مالاً حتى على قول من يرى أن المنافع ليست من قبيل الأموال: فالطريقة الأولى: أن تتعهد الشركة المنتجة ببيع الخبرة لشركة أخرى، وذلك بأن تقوم بدور التدريب والإرشاد لتصنيع البضاعة، والكشف عن أسرارها ومزاياها حتى تكون منتجات الشركتين بنفس الجودة والإتقان، فهذا العقد في الحقيقة منصب على نقل الخبرة الصناعية، وإنما دخل الاسم التجاري تبعًا، فهذا عقد صحيح لا ينبغي الخلاف عليه؛ لأن نقل الخبرة بالتدريب مقابل ثمن يتفق عليه، لا حرج فيه شرعًا، وإنما ينتقل الاسم التجاري تبعًا لانتقال الخبرة، نظرًا لما هو قائم بينهما من التلازم المستمر. ¬
الطريقة الثانية
الطريقة الثانية: أن يبيع التاجر الاسم التجاري دون أي التزام بتقديم خبرة، أو الكشف عن أسرار الصناعة، وإنما يطلب المشتري الاسم التجاري ليضعه على بضاعته ليحقق رواجا لسلعته تحت هذا الاسم مقابل مبلغ من المال، فيستفيد المشتري من شهرة الاسم وثقة الناس به (¬1). وهذا النوع من البيع هو الذي يمكن أن يجري فيه خلاف حسب قواعد الفقهاء المتقدمين، ويكون بيعه من قبيل بيع الحقوق والمنافع، وإن لم يكن هذا النوع من الحقوق معروفا في عصر الفقهاء المتقدمين، وإنما انتشر في العصر الحديث، والله أعلم. ... ¬
المسألة الثانية خلاف العلماء في مالية العلامة والاسم التجارى
المسألة الثانية خلاف العلماء في مالية العلامة والاسم التجارى ما جاز الانتفاع به جاز شراؤه وبيعه إلا ما خص بالدليل (¬1). بذل المال لا يجوز إلا لمنفعة في الدين أو الدنيا، وهذا أصل متفق عليه (¬2). [ن-3] ما حكم بيع الاسم التجاري إذا لم يصاحبه التزام من البائع بنقل الخبرة أو الكشف عن أسرار الصنعة، وإنما كان البيع للاسم التجاري فقط؟ في هذا خلاف بين أهل العلم يرجع إلى الخلاف القديم في تعريف المال، والاختلاف فيه على قولين: * القول الأول: لا يعتبر مالا، ولا يجوز أخذ العوض عليه، ويمكن تخريج هذا القول على مذهب الحنفية القائلين بعدم مالية المنافع (¬3). * القول الثاني: يعتبر مالا، وهو مقتضى مذهب جماهير العلماء، والذين يعتبرون المنافع من الأموال (¬4). ¬
تعليل من قال: إن الاسم التجاري لا يعتبر مالا
وقد ذهب عامة العلماء المعاصرين على اعتبار الاسم التجاري حقاً ماليا، وذا قيمة مالية، ودلالة تجارية معينة (¬1). وبه صدر قرار المجمع الفقهي الإسلامي (¬2). * تعليل من قال: إن الاسم التجاري لا يعتبر مالاً: التعليل الأول: الاسم التجاري من الحقوق المعنوية، والحقوق المعنوية لا تدخل في مسمى المال عند الحنفية كسائر المنافع العرضية؛ لأن الشيء لا يكون مالاً حتى يمكن حيازته وادخاره، وهذا من خصائص الأعيان، وعليه فالمنافع كسكنى الدار، والحقوق المعنوية ومنها الاسم التجاري لا تعتبر مالا. ويجاب من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم أن المال لا يطلق إلا على ما يمكن حيازته وادخاره، وقد سبق الجواب عن هذا الدليل في معرض الكلام على مالية المنافع فأغنى عن إعادته هنا. الوجه الثاني: يرى بعض الباحثين أن الاسم التجاري وإن كان حقاً مجردا غير ثابت في عين قائمة، ولكنه بعد التسجيل الحكومي الذي يتطلب بهذا كبيرا، تحصل له بعد ذلك صفة نظامية تمثلها شهادات مكتوبة بيد حاملها، وفي دفاتر الحكومة، أشبه ¬
التعليل الثاني
الحق المستقر في العين، والتحق في عرف التجار بالأعيان، ولا شك أن للعرف مجالًا في إدراج بعض الأشياء في الأعيان؛ لأن المالية كما يقول ابن عابدين رحمه الله: تثبت بتمول الناس، وهذا مثل القوة الكهربائية أو الغاز التي لم تكن في الأزمان السالفة تعد من الأموال والأعيان المتقومة؛ لأنها ليست عينًا قائمة في ذاتها؛ ولم يكن إحرازها في الوسعة البشرية ولكنها صارت الآن من أعز الأموال المتقومة التي لا شبهة في جواز بيعها وشرائها، وذلك لنفعها البالغ، ولإمكان إحرازها؛ ولتعارف الناس بماليتها وتقومها (¬1). ويقول القره داغي: "فالاسم التجاري وإن كان في ظاهره أمرًا معنويًا، لكنه في حقيقته له واقع ملموس، وقيمة ذاتية مستقلة عن السلع التي تمثلها ... " (¬2). التعليل الثاني: أن بيع الاسم التجاري مجردًا من نقل الخبرة يحمل غشا وتدليسًا للجمهور، وذلك لأن المزايا التي تتمتع بها السلعة الأصلية إنما هي ثمرة جهود أصحابها ونشاطهم الفكري أو الصناعي، فإذا نقل الرمز التجاري من بضاعة إلى أخرى انطوى ذلك على غش وتدليس وخداع للجمهور الذي اشترى البضاعة الجديدة على أنها نفس البضاعة الأصلية. ويجاب عن ذلك: بأننا نشترط في بيع الاسم التجاري أن لا يترتب على هذا البيع غرر، فبيع الاسم التجاري يلزم منه بيع مضمونه فيما يدل عليه من جودة وإتقان ومواصفات ¬
للسلع، فإن انفصلت الجودة والإتقان عن ذات الاسم التجاري كان ذلك تدليسًا وغشًا لما يوقعه من توهم الجودة، وهذا البيع لا يجوز، ولكن ما المانع إذا انتقل الاسم التجاري مع ما يدل عليه من جودة بضائعه وثبات صفاته المعهودة لدى المتعاملين معه، فإن تغير صاحب الاسم التجاري لا يغير من الأمر شيئًا، فقد انفصل الاسم بمزاياه وشهرته إلى غير صاحبه الأول، فلا يترتب على هذا تدليس أو تغرير. فلا فرق بين بيع الاسم التجاري وما يستوعبه من سلع وملحقات، أو بيع الاسم التجاري منفردا مع اشتراط أن ينشئ المشتري مضمونًا جديدًا من السلع لهذا الاسم بذات المواصفات والجودة المعهودة من ذي قبل، فإن لم يمكنه ذلك فيجب على المشتري أن يعلن أن الاسم التجاري لم يعد يمثل ما بداخله، وأن البضاعة قد تغيرت من حيث المواصفات والأنواع، فإن فعل ذلك ارتفع الغرر، ولذلك تجد المشتري للاسم التجاري أحياناً يبين بلد التصنيع ليرتفع بذلك الغرر (¬1). وفي أحيان كثيرة تعلن الشركة التي اشترت الاسم بأنها اشترت حق الترخيص من الشركة المالكة، فيزول اللبس على الجمهور ويعرف المستهلك الفرق بين البضاعة الأصلية، والبضاعة المقلدة. وقد أشار فضيلة الشيخ محمَّد تقي العثماني إلى هذا الشرط بقوله: "يستلزم هذا البيع الالتباس أو الخديعة في حق المستهلكين، وذلك بأن يقع الإعلان من قبل المشتري أن منتج هذه البضاعة غير المنتج السابق، وإنما يستعمل هذا الاسم، أو العلامة بعد شرائهما بنية أنه سيحاول بقدر الإمكان أن يكون إنتاجه بمستوى الإنتاج السابق أو أحسن منه. ¬
تعليلات الجمهور على جواز بيع الاسم التجاري
وأما بغير هذا الإعلان، فإن انتقال الاسم أو العلامة التجارية إلى منتج آخر يسبب اللبس والخديعة للمستهلكين، واللبس والخديعة حرام، لا يجوز بحال، والله سبحانه وتعالى أعلم" (¬1). * تعليلات الجمهور على جواز بيع الاسم التجاري: التعليل الأول: الاسم التجاري له قيمة مالية معتبرة، لأمور منها: (أ) الأموال والأوقات والجهود التي بذلت في تحقيق السمعة الطيبة للاسم التجاري، فالتاجر الذي نجح في إيجاد اسم تجاري له سمعة وشهرة قد بذل جهدًا ذهنيًّا وأموالًا ووقتًا ليس بالقليل حتى بني هذا الاسم وأنزله منزلة مقبولة لدى جمهور الناس. (ب) العائد المالي الذي يحققه هذا الاسم، فلا يستطيع أحد أن ينكر إن الاسم التجاري ذا السمعة الطيبة يعود على صاحبه بالأرباح الطائلة. وإذا كان الاسم التجاري رديء السمعة يهبط بقيمة السلعة، فإن الاسم التجاري ذا السمعة الجيدة يرفع من قيمة السلعة، ويحقق لها رواجًا وانتشارًا، فدل ذلك على أن له قيمة مالية معتبرة. (ج) قدرة الاسم التجاري على تمييز البضائع الجيدة من البضائع المقلدة والمزيفة. كل ذلك جعل للاسم التجاري قيمة مالية، وجعل لصاحبه الحق في الانتفاع بهذا الاسم، والتصرف فيه، واستعماله، واستغلاله، ومن ذلك بيعه. ¬
التعليل الثاني
التعليل الثاني: كل الأدلة التي سقناها في فصل سابق واستدل بها الجمهور على مالية المنافع تساق هنا باعتبار أن الاسم التجاري مشتمل على منفعة، وإذا كان الاسم التجاري له منفعة تعود على صاحبه، وتعود على المجتمع فقد قامت الأدلة على أن المنافع أموال، وأن مالك المنفعة يجوز له أن يتصرف فيها بيعًا واستعمالًا واستغلالًا. التعليل الثالث: إذا كانت المنفعة تعتبر أساسًا للقيمة والمالية، ولو كانت ترفيهية يسيرة الشأن، كما في تغريد بلبل أو تصويت ببغاء، فما بالك بمنفعة الاسم التجاري والتي تعود بالأموال الطائلة على صاحبها، كما لو كان يحمل سمعة عالمية طيبة. * الراجح من القولين: بعد استعراض الأدلة أجد أن الراجح القول بمالية الاسم التجاري، وأن له قيمة معتبرة، وأن لصاحبه الحق في التصرف فيه بيعًا، واستعمالًا، واستغلالًا بشرطه، وهو ألا يتضمن غررًا أو تدليسًا على الجمهور، والله أعلم. وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت، هذا نصه: بعد الاطلاع على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع الحقوق المعنوية واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، قرر: أولاً: الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والتأليف والاختراع أو الابتكار هي حقوق خاصة لأصحابها أصبح لها في العرف
المعاصر قيمة مالية معتبرة لتولي الناس لها، وهذه الحقوق يعتد بها شرعا، فلا يجوز الاعتداء عليها. ثانيًا: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية، ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك أصبح حقاً ماليا ... (¬1). ¬
الفرع الثاني في مالية حق المؤلف
الفرع الثاني في مالية حق المؤلف هذا قسم من الحقوق المعنوية، وهو حق المؤلف. وقد قيل في تعريفه: "حق الإنسان في إبداع شيء علمي أو أدبي أو فني، سواء بالجمع والاختيار، أو إحداث شيء لم يسبق إليه، أو إكمال ناقص، أو تصحيح خطأ، أو تفسير وتفصيل، أو تلخيص أو تهذيب، أو ترتيب مختلط" (¬1). وهذا الحق نوعان: الأول: حق أدبي لا يقبل المعاوضة، ولا يدخل في مسمى المال، ويشمل أربعة أمور: حق المؤلف في تقرير نشر مؤلفه، وحقه في نسبة مصنفه إليه، وحقه في دفع الاعتداء على مصنفة، وحقه في سحب مصنفه من التداول وحرقه متى ما رأى أن هناك خطأ علميًا ارتكبه. النوع الثاني: حق مالي يقبل المعاوضة، وهو حق صاحبه في اختصاصه بالمنفعة المالية التي تمكنه من استعماله واستغلاله وبيعه، وهذا هو مقصود البحث. [ن- 4] وقد اختلف الفقهاء في توصيف هذا الحق: فذهب بعضهم إلى أن حق المؤلف ليس حقًا ماليا (¬2). ¬
وذهب آخرون إلى أنه حق مالي (¬1). واختلف القائلون بأنه حق مالي: هل هذا يعني أنه من حقوق الملكية، أو من حقوق الاحتكار. فذهب بعض القانونيين إلى أنه من أقدس حقوق الملكية. وعلل ذلك: إذا كانت الملكية تطلق على استحواذ الإنسان على أشياء. مادية قد لا تكون من نتاج عقله ولا من صنع يده, فإن أطلاق الملكية على نتاج ذهن الإنسان وتفكيره أولى، فهي تتصل بالصميم من نفسه، وتظهر فيها شخصيته، واعتزازه بها، وحرصه عليها، أكثر من حرصه على ملكية أمور مادية لم يكن من نتاجه، ولا من عمل فكره. وذهب آخرون إلى أنه ليس من حقوق الملكية، وإن كان له حق في الجزاء المالي على عمله، ولكن هذا الجزاء ليس هو الملكية التي تتنافى طبيعتها مع طبيعة الفكر، بل هو الحق المالي للمؤلف أو المخترع في احتكاره، واستثمار فكره لمدة معقولة. فالملكية: حق استئثار مؤبد، في حين أن حق المؤلف أو المخترع حق استغلال مؤقت. والملكية تؤتي ثمارها بالاستحواذ عليها، والاستئثار بها. أما الفكر فعلى النقيض من ذلك إنما يؤتي ثماره بالانتشار، وليس ¬
بالاستئثار، وبالانتقال من شخص إلى آخر بحيث يمتد إلى أكبر مجموع ممكن من الناس. وإذا كان صاحب الفكر هو الذي ابتدع نتاج فكره، فالإنسانية شريكة له من وجهين: وجه تقضي به المصلحة العامة، إذ لا تتقدم الإنسانية إلا بفضل انتشار الفكر. ووجه آخر يرجع إلى أن صاحب الفكر مدين على نحو ما لأهل العلم قبله، ففكره ليس إلا حلقة في سلسلة تسبقها حلقات، فهو إذا كان قد أعان من جاء بعده، فقد استعان بمن سبقه، ومقتضى ذلك ألا يكون حق المؤلف حقًا مؤبدًا كما هو شأن الملكية المادية (¬1). ويظهر ذلك جليًّا في البحوث الشرعية، فإن جل مادة هذه البحوث مأخوذة من التراث، من كتاب الله، ومن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أقوال الصحابة وفقهاء هذه الأمة، وهذا التراث ليس ملكاً للباحث حتى يدعي أن ذلك من حقوق الملكية. لهذا يرى بعض الباحثين أن أقصى مدة لاستغلال الورثة للحق الناشئ عن الإنتاج الفكري هي ستون عامًا من تاريخ وفاة مورثهم، وذلك قياسًا على أقصى مدة للانتفاع عرفها الفقه، وهي الانتفاع بحق الحكر، وهو حق القرار على الأرض الموقوفة للغرس، أو البناء بطريق الإجازة الطويلة باعتبار أن أصل هذا القياس هو كون الإنتاج الفكري نسبي الابتكارة لاعتماده على تراث السلف، وهو حق عام للأمة بمثابة الموقوف على جهة عامة (¬2). ¬
وهذا الكلام يمكن تعقبه، بأن يقال: إن قولكم: (الملكية تؤتي ثمارها بالاستحواذ عليها، والاستئثار بها، وأما الفكر فلا يؤتي ثماره إلا بالانتشار، وليس بالاستئثار). فيقال: إن الاستئثار المقصود في الملك في الفقه الإِسلامي ليس معناه احتواء الشيء من قبل المالك، وإنما معناه أن يختص به دون غيره، فلا يعترض عليه أحد في التصرف فيه، والتصرف في الأشياء حسب طبيعتها, لذلك تختلف طبيعة التصرف في الشريعة من نوع إلى آخر (¬1). وأما قولكم بأن حق المؤلف ليس حقًا مؤبدًا، والملكية تعني الاستئثار المؤبد. فيقال: "الشريعة أيضًا لا تشترط التأبيد لتحقق معنى الملك، بل إن طبيعة ملك المنفعة مثلًا تقتضي أن يكون مؤقتًا، كما في ملك منفعة العين المستأجرة، وملك منفعة العين الموصى بمنفعتها دون رقبتها، فإذا كان لا بد أن يتأقت الحق المعنوي بمدة معينة بحجة أن صاحب الحق المعنوي قد استفاد من جهد غيره، فهو ليس جهدًا خالصًا له، كما أن جهده ضروري لتقدم البشرية ورقيها، ومقتضى ذلك ألا يكون حقه حقًا مؤبدًا، فإن هذا التوقيت لا يخرجه عن الملك في الشريعة" (¬2). ... ¬
دليل القائلين بأن حق المؤلف ليس حقا ماليا
* دليل القائلين بأن حق المؤلف ليس حقاً ماليًا: الدليل الأول: أن حق المؤلف حق معنوي، وليس عينًا, ولا يجوز الاعتياض عن الحقوق المعنوية المجردة. ويجاب: بأن دعوى أن الحقوق المجردة لا يجوز الاعتياض عنها بمال ليس محل إجماع، وإن سلم هذا فلا يسلم أن حق المؤلف من الحقوق المجردة كحق الشفعة وحق الخيار، وحق إبداء الرأي وحق الشورى وحق التنقل، وحق التعاقد بالعقود المشروعة، وغيرها من الحقوق المجردة التي لا تقوم بمحل، ولا تتقرر في ذات، وإنما ثبتت لدفع الضرر، بخلاف حق المؤلف الذي ثبت أصالة لصاحبه، وليس فقط لدفع الضرر عنه، وكان استحقاقه قائمًا على بذل جهد فكري، ووقت زمني، وما كان كذلك جاز أخذ العوض عليه. الدليل الثاني: أن حق المؤلف حق معنوي، والمالية لا تثبت إلا لما يمكن حيازته وادخاره. ويجاب: بأن حصر المال فيما يمكن حيازته وادخاره ليس مسلمًا، بل المال كل ما له قيمة شرعية، وأمكن الانتفاع به انتفاعًا مباحًا، وقد قدمنا في فصل سابق الأدلة على أن المنافع من الأموال، وأن الأموال ليست محصورة في الأعيان فقط. الدليل الثالث: أن التأليف كان موجودًا في عصور الإِسلام المختلفة، ولم يطالب المصنفون
لهذه الكتب بحقوق مالية، ولو كانت مالاً لوجد من يطالب بها، فدل على أنها ليست مالاً، ولم يعرف هذا الحق في الشرع، وإنما مصدر هذا الحق هو القانون، وهناك فارق كبير بين أن يقر بهذا الحق الشرع، وبين أن يقر به القانون الوضعي، والذي نشأ في بيئة النظام الرأسمالي، والذي لا يدخل في حسابه أن أحدًا يبذل جهده في التأليف لا يبتغي إلا وجه الله والدار الآخرة. ويجاب عن ذلك: لا نسلم أن مصدر هذا الحق هو القانون، وأن الشرع لم يتعرض له، فهناك نصوص شرعية كثيرة تدل على أن أخذ الأجر على التأليف سائغ شرعًا، كالإذن بأخذ الأجر على الرقية، وجعل التعليم مهرًا في النكاح، وأخذ الأجر على التحديث، وقد أوردناها في أدلة القائلين بالجواز فانظرها هناك، وعلى التسليم بأن مصدر هذا الحق هو القانون، فإن هذا لا يعني أن هذا الحق لا تقره قواعد الشرع. وأما كون هذا الحق لم يقم في المجتمع الإِسلامي رغم نشاط حركة التأليف في القديم فله أسباب كثيرة جدًا، ذكرها بعض المحققين في هذا الشأن، منها: السبب الأول: قد بينا في فصل سابق أن التمول مرده إلى العادة والعرف، فإذا اعتاد الناس تمول شيء صار مالاً، وإذا ترك الناس تمول بعض الأعيان فقدت ماليتها. قال ابن عابدين: "والمالية تثبت بتمول الناس كافة أو بعضهم" (¬1). وقال في المبسوط "وإنما تنبني المالية على التمول" (¬2). ¬
ومن أبرز الأمثلة على ذلك دود القز، فقد مر عهد طويل في بعض البلاد، والناس لا يرون لدود القز أي جدوى، إذ لم يكونوا يقبلون عليه بأي محاولة استفادة، إما لجهلهم بما فيه من المزية المعروفة، وإما لجهلهم بسبل الوصول إلى هذه المزية فيه، ومن ثم فلم يكن التعامل به مشروعا فلما تبدلت الأحوال وتنبه الناس إلى ما فيه من مزية وتمرسوا بسبل استخراج الحرير منه تغير الحكم، فأصبح التعامل به مشروعًا، بل أصبح مصدرا من مصادر الثروة والتجارة" (¬1). وإذا ثبت أن التمول مرده إلى العادة والعرف، فلقد أصبح العرف في هذا الزمن في بلاد الناس كافة تعتبر حق المؤلف حقًّا ماليًا، لا يجوز الاعتداء عليه. السبب الثاني: أن الكتاب مهما عظمت فائدته المعنوية، ومهما كان محل رغية عالية من جماهير الناس، فإن القيمة المالية التي يمكن أن تقدر تلك الفائدة بها تذوب وتختفي إزاء قيمة الجهد الكبير الذي كان الناس يبذلونه في سبيل رصد هذه الفائدة وتسجيلها، بحيث تبدو قيمة النسخ مساوية أو أغلى من قيمة المضمون العلمي أو الفكري للكتاب ... ولهذه المسائل نظائر معروفة في حياتنا اليوم، وهو أننا كثيراً ما نتأكد من وجود معادن ثمينة داخل بقعة من الأرض التي في حوزتنا، غير أن السعي إلى استخراج هذه المعادن وتصفيتها يتطلب من الجهد والتكاليف ما قد يربو ثمنه على قيمة تلك المعادن ووجوه الاستفادة منها .. ولا ريب أن قيمة تلك المعادن تضمحل وتذوب إزاء الجهود والصعوبات التي تقف في طريق استخراجها، ¬
الدليل الرابع
وعندئذٍ يصح أن يقال: إن هذه المعادن لا تنطوي حكما على أي قيمة مالية حية ... فكذلك الشأن في الكتاب في الزمن الماضي. أما اليوم وقد ظهرت الآلات الطابعة التي تقذف الواحدة منها عشرات النسخ من الكتاب في الدقيقة الواحدة فلم يعد يكلف إخراج النسخة الواحدة إلا مبلغًا زهيدا من المال، هو في مجموعه قيمة الورق ونفقات الآلة ... وأمام ضمور كلفة استخراج النسخة الواحدة تبرز قيمة المضمون العلمي له، تلك القيمة التي ظلت خفية أو ضامرة بسبب ضخامة القيمة التي كان يستحقها استخراج النسخة الواحدة منه (¬1). الدليل الرابع: إذا كان العلم من فروض الكفاية، وكان قربة وطاعة فكيف يجوز أخذ العوض على ما هو واجب، ويراد به وجه الله والدار الآخرة. وقد قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16]. فالتأليف الشرعي من أفضل القرب التي يتقرب بها العبد إلى ربه، وإذا كان ذلك كذلك فإن أساس العبادة ولبها هو إخلاصها لله، وتنزيهها عن شوائب الشرك بحظوظ النفس. قال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 14]. ويجاب: هذا الدليل مركب من دليلين، ويجاب عن كل واحد بمفرده، ¬
أما القول بأن الواجب لا يجوز أخذ العوض عليه. فيقال: لا مانع من أخذ المال على ما هو واجب على الإنسان، وذلك لأن التأليف اليوم حرفة ومهنة، فكيف يقوم الإنسان بمعاشه، ومعاش من يعوله إذا لم يكن لما بذله من جهد مضن وشاق ووقت كثير أي مردود مالي، بل إن الجهد البدني أخف بكثير من الجهد الذهني، فقد تأخذ مسألة فقهية من طالب علم أيامًا كثيرة، وهو يصرف الجهد والوقت في البحث عنها ليقدمها للقراء، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الإمامة العظمى، وهي من أعظم فروض الكفاية في الأمة، إذا اختير شخص ليكون إمامًا للأمة وخليفة لها أجرى له بيت المال رزقًا على عمله، يعول نفسه وولده، وهذا إمام الصلاة والمؤذن والقاضي، ومعلم القرآن والحديث والفقه يجري لهم أرزاق من بيت المال، فالمؤلف مثلهم، فإذا لم يجر له هذا المال من بيت مال المسلمين فما المانع أن يأخذ هذا الحق من منفعة كتبه مستغنيًا بذلك عن هبات الحكام وعطاياهم، والتي ربما قد تكون ثمنًا لدينه، وقد تحمله على أن يتقاعس عن القيام بواجبه. وأما الجواب عن أخذ العوض الدنيوي عما يراد به الدار الآخرة، فلا حرج فيه شرعا، وإنما الحرج لو كان الباعث على التأليف هو الدنيا وحدها، وأما إذا كان الباعث هو الرغبة في الأجر، أو كان الباعث أمرًا مشتركًا (الدين والدنيا) فلا يقدح هذا في إخلاص المرء ودينه. كما قدمنا في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلًا فله سلبه" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله" (¬2). ¬
الدليل الخامس
وأذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أخذ الأجرة من الرقية، وهي عبادة. وهذا الجهاد من حقوق الله تعالى، وهو من أعظم القربات، ومع ذلك فقد جعل للمجاهدين حقًا في أربعة أخماس الغنائم، وقد اعتبرت هذه الغنيمة معونة من الله - صلى الله عليه وسلم - للمجاهدين، ومكافأة لهم لتمكينهم من الاستمرار في الجهاد، وعدم الانقطاع عنه، وإهمال حقوق المؤلف أدعى لترك التأليف لعدم تمحض حق الله تعالى في التأليف كتمحضه في الجهاد في سبيل الله والأدلة في هذا كثيرة، وقد سبق ذكر مزيد منها عند الكلام على مالية المنافع. الدليل الخامس: أن في هذا السلوك كتمانًا للعلم، وقد توعد الشارع على من يكتم العلم. وبجاب عن هذا: بأن هناك فرقًا بين كتم العلم عن الناس، وبين بذله لهم بعوض مالي، والوعيد إنما هو في كتمه وحبسه عنهم. الدليل السادس: أن من باع كتابًا إلى آخر فقد ملك المشتري ذلك الكتاب، ومقتضى الملك أن يتصرف فيه كيف يشاء، فيجوز له أن يقوم بطباعته، وليس للبائع أن يحجر عليه أي نوع من أنواع التصرف من استعماله وبيعه واستغلاله (¬1). والجواب على ذلك: بأن يقال: هناك فرق واضح بين تمليك الانتفاع وبين ملك المنفعة. فتمليك الانتفاع: حق شخصي يباشره صاحبه بنفسه فقط، وليس له أن يمكن ¬
دليل من قال: إن حق المؤلف حق مالي.
غيره من تلك المنفعة، فالنكاح مثلًا من باب تمليك الانتفاع لا تمليك المنفعة، إذ ليس له أن يمكن غيره من تلك المنفعة. ومثله حق الجلوس في الطرقات والمساجد وإجراء الماء في أرض غيره إن احتاج إليه دون الإضرار به. وتمليك المنفعة أعم وأشمل، فهو يعطي صاحبه حق التصرف في المنفعة تصرف الملاك في أملاكهم ضمن حدود العقد الذي ملك به المنفعة، فيحق له تمليك المنفعة التي ملكها لغيره بأجرة أو هبة أو عارية، ولا يقيد في تصرفه إلا بشيء واحد، وهو المماثلة لما ملكه من المنفعة في وجه الانتفاع. فمن اشترى كتابًا فهو قد ملك الانتفاع بهذا الكتاب فقط (الوعاء المادي أصالة، وما قد تضمنه تبعًا) ولم يملك منفعته (مادة الكتاب)، ولهذا لو تلف الكتاب الذي اشتراه ليس له الحق في نسخة أخرى؛ لأن حقه تعلق في هذا الغلاف بعينه، وبه يتبين أن عقد الشراء لم يقع في الأصل على جوهر الحق الذي هو ملك للمؤلف، وإنما وقع العقد على نسخة من الكتاب ينتفع بها قراءة، وهبة، ولم ينتزع حق تلك الأفكار من مبدعها الذي لا تزال تنسب إليه شرعًا، ولم يجعل المشتري من نفسه بدلاً من المؤلف أو المبتكر، فليس للمشتري الحق في غير النسخة التي اشتراها, وليس له أن ينسخ عليها نسخًا أخرى، وهذا واضح بين. دليل من قال: إن حق المؤلف حق مالي. الدليل الأول: (ح-7) ما رواه مسلم من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من
وجه الاستدلال
صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (¬1). وجه الاستدلال: أثبت الحديث أن العلم من عمل الإنسان، لقوله (انقطع عمله) وعمل الإنسان له قيمة مالية، كما أثبت الحديث المنفعة للعلم بقوله (أو علم ينتفع به) وهو إثبات لقيمته المالية أيضًا، وقد ذكر الحديث أن منفعة العلم كما تكون في حياة صاحبه، تكون بعد وفاته. (ح-8) وروى مسلم أيضًا من طريق أبي معاوية، عن عاصم، عن عبد الله ابن الحارث، وعن أبي عثمان النهدي، عن زيد بن أرقم، قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول، كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والبخل، والهرم، وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ... الحديث (¬2). فتعوذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من العلم الذي لا ينفع، وإذا ثبتت المنفعة للعلم، وهو أمر لا يمكن أن يكابر فيه أحد، فقد ذكرت في مسألة سابقة الأدلة على أن المنافع أموال معتبرة شرعا، وأن المقصود من الأعيان إنما هي منافعها، وأن العين إذا فقدت منفعتها فقدت ماليتها، وبقدر ما تزداد المنفعة تزداد القيمة، وكل هذا دليل على أن حق المؤلف منفعة مالية. الدليل الثاني: القول بجواز الاعتياض عن حق المؤلف لا يعارض نصًا, ولا إجماعًا, ولا ¬
الدليل الثالث
قياسًا صحيحًا, ولا قول صحابي فيما أعلم، ولا قاعدة شرعية، بل إن ذلك موافق لقواعد الشريعة، وجريان العمل في العصر الحاضر دون أن ينكر ذلك أحد من العلماء المعاصرين. وقد أفتى المجمع الفقهي في رابطة العالم الإِسلامي بقرار نصه: "حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعًا, ولأصحابها حق التصرف فيها, ولا يجوز الاعتداء عليها" (¬1). الدليل الثالث: الأحكام الشرعية جاءت لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، وحفظ حقوق المؤلفين فيه مصلحة كبيرة تعود على العلم، وعلى المجتمع، وعلى المؤلف، وذلك لأن حفظ حقوق المؤلفين فيه تشجيع للمفكرين والعلماء، وسبب في زيادة الإنتاج والبحث العلمي وشحذ الهمم على الإبداع، وإهمال حقوق المؤلفين قد يتسبب في انصراف الناس عن البحث إلى تحصيل المعاش المفروض عليهم تحصيله، وهذا يؤدي إلى فساد عظيم وحرمان الأمة من مصلحة راجحة، وقاعدة سد الذرائع تقتضي اعتبار المالية لهذه الحقوق لما يؤدي إليه إبطالها من مفاسد وخيمة، وتعطيل جزء من المصالح العامة، وهي معتبرة من حقوق الله تعالى، وهي واجبة التحقيق، ولا يمكن إسقاطها، ويلزم حماية هذا الحق، وسد جميع السبل المفضية إلى إبطاله وتضييعه. الدليل الرابع: تمكين الناشرين والموزعين من حقوقهم المالية دون المؤلف وإثراؤهم على ¬
وقد اعترض بعضهم على هذا بقوله
حساب المؤلف دون أن يكون له نصيب فيما قام به من جهد، وتكلفه من مشقة، ليس من العدل والإنصاف، حيث إن المؤلف قد حبس نفسه ووقف حياته على هذا العمل، وقد لا يكون له مصدر للمعاش سواه. وقد أنكر الشيخ وهبة الزحيلي على من أنكر هذا الحق، قائلًا وفقه الله: "لا أدري وجود شر أو غبن أو جور أعظم من هذا: أن يستثمر الطابع أو الناشر حق المؤلف، ويربح على حسابه أموالًا طائلة، ويحرم المؤلف المسكين الذي كاد عقله أن يتفجر، وفكره يعيا، وأعصابه تتلف من عناء إنجاز المصنف، والذي كلفه جهودًا طويلة وشاقة، فسهر ليله، وأتعب عينيه، وشغل نهاره كله بالتأليف، ثم يقال له: قدم هذا العمل لغيرك مجانًا!! إن هذا لهو الإفك المبين والخطأ الواضح" (¬1). وقد اعترض بعضهم على هذا بقوله: لا يعتبر مصنف المؤلف الشرعي مغبونًا ومحرومًا إذا اختار ما وعد الله، وما يرجوه منه على دراهم معدودة يأخذها من الناشر، وقد يكون الله أغناه عنها بما أنعم عليه من كفاية. ويجاب عن هذا: بأن أخذ العوض لا يعني قطع الأجر، ولا القدح في الإخلاص كما ذكرنا ذلك في الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية السابقة، وإنما الذي يقدح لو كان الباعث على التأليف هو الكسب الدنيوي فقط، وأما إذا كان الباعث على العمل الدار الآخر، والكسب الدنيوي لم يكن ذلك قادحًا في النية. ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: إذا كانت المنفعة الناشئة عن خدمة بعض الحيوانات مهما كانت بسيطة كتغريد العصافير، وأصوات الببغاوات تعتبر مالاً محترمًا لأصحابها، وكذلك الديدان المعدة للصيد تعتبر مالًا نظراً لمنفعتها في جعلها طعمًا في الشرك، فأولى ثم أولى أن تكون المنفعة الناشئة عن التأليف مالاً محترمًا يجب صونه لصاحبه، وذلك لوجود البون الشاسع بين المنفعتين. الدليل السادس: إذا جاز جعل تعليم القرآن عوضًا تستحل به الأبضاع، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: (زوجناكها بما معك من القرآن) فمن باب أولى أخذ العوض على نشر علومه. الدليل السابع: قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله" (¬1). وجه الاستدلال: إذا جاز العوض في القرآن، ففي السنة من باب أولى، وإذا جاز في الوحيين فما تفرع عنهما من الاستنباط والمفهوم وتقعيد القواعد، وتأصيل الأصول لهو أولى بالجواز. الراجح من الأقوال: بعد استعراض الأدلة أجد أن القول الراجح هو من يقول: إن حق المؤلف حق مالي يجب صونه والدفاع عنه، وهذا الحق من حقوق ¬
الحكرة أكثر من كونه من حقوق الملكية، فيجب أن يستمر هذا الحق مدة معينة، ثم يصبح من حق الأمة، وهذه المدة هي محل اجتهاد، ويترك تقديرها في كل بلد إسلامي لأهل العلم، أو القضاة الشرعيين. وأما القوانين الوضعية فهي وإن كانت تعتبره حقًا ماليًا، إلا أنها في مدة استغلال هذا الحق مختلفة فيما بينها وأقصى مدة ذهب إليها القانونيون هي خمسون سنة (¬1). ¬
الفرع الثالث في مالية براءة الاختراع
الفرع الثالث في مالية براءة الاختراع المسألة الأولى في تعريف براءة الاختراع تعريف براءة الاختراع: هو سند، أو وثيقة، أو شهادة بالبراءة تشهد أن المخترع لم يسبق إليه، وأنه بريء من التقليد، أو التزوير، أو الانتحال، وأنه في أمان من الاعتداء على حقه حين أذاعه وأعلنه. فهو يشبه حق المؤلف إلا أن المؤلف يتعلق بالأعمال الأدبية والفنية، وأما حق براءة الاختراع فيتعلق بالأعمال الصناعية، كابتكار مذياع، أو اكتشاف دواء مرض معين (¬1). وتعطي هذه الشهادة صاحبها حق التصرف في الاختراع بجميع الطرق الممكنة والمباحة شرعاً من استغلال أو بيع أو نحوهما. ويشترط لمنح براءة الاختراع شروط أربعة: الشرط الأول: أن ينطوي الاختراع على ابتكار. وهذا هو الأساس الذي تقوم عليه حماية حق المخترع، فلولا هذا الابتكار الذي ينطوي عليه الاختراع لما استحق الحماية، فحق المخترع إنما هو ثمرة من ¬
ثمار فكر الإنسان وابتكاراته، ولا يشترط في الابتكار أن يكون ابتداعا رائعا، بل يكفي أي قدر من الابتكار، أيا كانت قيمته. الشرط الثاني: أن يكون الابتكار جديدا. أي ليس تكرارا لابتكار سابق, لأنه إذا كان الابتكار قد سبق إليه لم تكن البراءة في محلها؛ لأن البراءة تعني الشهادة بأن المخترع لم يسبق إليه، وإن كان القانون يقصد يكون الابتكار جديدا أن أحدا لم يسبقه بالتعريف بالمخترع، فلو سبقه أحد بابتكار هذا المخترع، ولم يسجله كان للمتأخر أن يطلب براءة باختراعه باعتبار أنه قد سبق غيره بطلب البراءة. الشرط الثالث: أن يكون الاختراع قابلا للاستغلال التجاري. لأن براءة الاختراع تعطي صاحبه وحده حق استغلاله اقتصاديا، وهذا هو المقصود الأعظم من براءة الاختراع، وتحميه من أن يعتدي على حقه أحد من الناس. الشرط الرابع: ألا يكون في الاختراع ما يخالف الشرع، ويعبر عنه القانون بألا يخالف الآداب العامة. فلا يجوز أن تمنح براءة اختراع لآلة تصنع الخمور مثلا, ولا لآلة للعب القمار، ولا لغيرها من المحرمات التي قد نص الشرع على تحريمها، وأجمع أهل العلم على أنها من الأمور المحرمة (¬1). ... ¬
المسألة الثانية خلاف العلماء في مالية براءة الاختراع
المسألة الثانية خلاف العلماء في مالية براءة الاختراع [ن- 5] الخلاف فيه كالخلاف في حق المؤلف، والأدلة هي الأدلة إلا أن الفرق بينهما كما قدمنا أن حق المؤلف يتعلق بالأعمال الأدبية والفنية، وحق براءة الاختراع يتعلق بالأمور الصناعية، والجامع بينهما أن كلا الحقين ثمرة من ثمرات الفكر والابتكار، وما رجحناه هناك نرجحه هنا: وأن براءة الاختراع حق مالي وملك لصاحبه، له حق حيازته، والاستئثار به. كما أن له حق أدبي فيه وذلك في نسبة المخترع إليه دون غيره، وحمايته من التقليد والغش والانتحال. وله حق في استغلال الاختراع، وينتقل هذا الحق إلى ورثة المخترع مدة مؤقتة، يقدرها القضاة الشرعيون في كل بلد، وتحديدها خاضع للاجتهاد. والقول بعدم مالية براءة الاختراع، وإعطاء غيره ليستغله دون الرجوع إلى صاحبه يفضي إلى انقطاع الناس عن العمل على إنتاج ابتكارات جديدة تخدم المجتمع في كل نواحي الحياة المدنية والعسكرية. ويجب على الدول الإِسلامية أن تعنى بإقامة مراكز للبحوث تشجع على البحث يتم من خلالها الوصول إلى أدوية جديدة لأمراض مستعصية، وكذلك صناعات عسكرية تحمي المسلمين وبلادهم من شر الاعتداء عليهم، وتمكنهم من نشر الدعوة إلى الله، وكل ما يخدم الإنسان في حياته اليومية، وهذا الجانب قد قصر فيه المسلمون كثيراً، وكان من عواقبه أن كانت أمة محمد في ذيل الأمم، وهي خير أمة أخرجت للناس، فالله المستعان.
وبهذا التقرير نعرف أن الحقوق الفكرية هي حقوق مالية يجب المحافظة عليها، وصونها تشجيعًا للباحث، وخدمة للبحث العلمي، ولن تتطور البحوث ويتوجه الناس لها، وهي حقوق منتهكة، يستفيد منها غير أهلها، كما أن على الإعلام أن ينشر هذه الثقافة بين عامة المواطنين ليكون هناك وعي لدى كافة الناس في أهمية المحافظة على هذه الحقوق الفكرية خدمة للعلم وأهله، وخدمة للمجتمع ليكون مجتمعًا منتجًا لا مستهلكًا, وليكون هناك وازع أخلاقي يردع الناس من الاعتداء على تلك الحقوق، وبلادنا كغيرها من البلاد النامية تعاني نقصًا من التشريعات الضرورية التي تحمي هذه الحقوق، ومن سوء تطبيق تلك القرارات إن وجدت، والتساهل غير المبرر في تطبيقها مع أن خسائرها قد تبلغ مليارات الريالات، فالله المستعان.
المبحث الثالث في مالية حقوق الارتفاق
المبحث الثالث في مالية حقوق الارتفاق الفرع الأول في تعريف الارتفاق تعريف الارتفاق في الاصطلاح (¬1): ذكر الفقهاء حقوق الارتفاق، ولم يصطلحوا على تعريف له، وأول من استعمل مصطلح حقوق الارتفاق، ووضع تعريفًا له هو محمد قدري باشا في كتابه مرشد الحيران، حيث عرفه: بأنه: حق مقرر على عقار لمنفعة عقار آخر لشخص آخر (¬2). ¬
الفرق بين حق الارتفاق وحق الانتفاع الشخصي
وقيل: هو "حق الانتفاع العيني الثابت لعقار على عقار آخر بقطع النظر عن شخص المالك" (¬1). ويلحظ على هذا التعريف بأنه غير جامع، فحق الشفة يعتبر من حقوق الارتفاق، وهو ليس خاصا بعقار. ولذا عرفه بعض الباحثين: بأنه حق متقرر على عقار لمنفعة عقار آخر، مالكهما مختلف، أو لمنفعة شخص بغير إجارة، أو إعارة، أو وقف، أو وصية (¬2). الفرق بين حق الارتفاق وحق الانتفاع الشخصي: أهم فرق بين هذين الحقين: أن حق الارتفاق إنما يكون مقررا لعقار كحق الشرب الثابت لأرض على مجرى يكون لها مهما تغير مالكها أو المنتفع بها، فينتفع به على أنه للأرض، بصرف النظر عن المالك بخلاف حق الانتفاع الموصى له بمنفعة أرض، فإنه خاص بشخصه، وينتفع به على أنه من حقوقه الشخصية، ولذا لا ينتفع به سواه، وإذا مات انتهى بذلك حقه. فإذا عرفنا هذا تبين لنا أن حق الارتفاق حق لازم بالنسبة لمالك العقار المرتفق به، فلا يملك أن يبطله بخلاف حق الانتفاع الشخصي فإنه قد يكون غير لازم، كما في المستعير فإن المعير يملك إبطاله (¬3). ¬
يقول الدكتور محمد يوسف موسى: "حق الارتفاق: هو النوع الثالث من أنواع الملك الخاص، وهو حق الانتفاع العيني الثابت لعقار على عقار آخر، بقطع النظر عن شخص المالك، فإن حق سقي أرض من مجرى ماء معين، أو صرف الماء الزائد عن حاجتها في مصرف معروف، أو المرور إليها من طريق هو جزء من أرض أخرى كل هذه الحقوق مرتبة لتلك الأرض على تلك المحال، سواء أكانت مملوكة ملكاً عاما أم خاصا، ومن أجل ذلك قلنا: بأن تلك حقوق عينية ما دامت متابعة للعين نفسها, لا لشخص المالك، فهي دائمة وليست مؤقتة بحياة مالك العقار. اهـ" (¬1). ويقول الشيخ مصطفى الزرقاء رحمه الله تعالى: "حق الارتفاق في نظر الفقهاء من قبيل ملك المنفعة، وهي منفعة بين عقارين متابعة لهما على الدوام مهما انتقلت ملكيتها، وإن مالك هذه المنفعة هو مالك العقار المنتفع، ومن هنا تتجلى عينية هذا الحق" (¬2). ¬
الفرع الثاني أنواع حقوق الارتفاق
الفرع الثاني أنواع حقوق الارتفاق الحقوق التي تكلم عنها الفقهاء والتي وجدت من قبل هي: الأول: حق الشرب وحق الشفة (¬1): وقد عرفه الفقهاء بأنه: النصيب من الماء لسقي الزرع والشجر، أو نوبة الانتفاع بالماء سقيا للشجر أو الزرع. وقد شمل التعريف معنيين من الحق: أحدهما: النصيب المستحق من الماء كما لو كانت القسمة على مقدار معين من الماء، وهو ما نص عليه بقوله: (بأنه النصيب من الماء لسقي الزرع ...). الثاني: زمن الانتفاع به كما لو كانت القسمة بالزمن، وهو ما نص عليه بقوله: (أو نوبة الانتفاع بالماء ...). ويلحق بهذا الحق: حق الشفة، وهو حق شرب الإنسان والدواب والاستعمال المنزلي، وسمي بذلك؛ لأن شرب الإنسان يكون بتناول الشفة لإيصاله إلى الجوف (¬2). ¬
الثاني: حق المجرى
الثاني: حق المجرى (¬1): يراد به في الاصطلاح: حق إجراء الماء المستحق من أرض إلى أرض أخرى لسقي ما بها من شجر أو زرع (¬2). وهذا الحق تابع لحق الشرب؛ لأن الشرب وهو النصيب من الماء لسقي الأشجار لا يمكن استيفاؤه إلا إذا كان له مجرى يمر به إلى الأرض المراد سقيها، فيكون حق المجرى: هو أن يكون لعقار حق مرور الماء الصالح لسقي زرعه أو شجره على عقار آخر مالكه غير المالك الأول. وقد وقع خلاف بين الفقهاء في ثبوت هذا الحق، وليس هذا الفصل مخصصا لبيان ثبوت هذا الحق من عدمه، فإن هذا له باب آخر، وإنما الكلام في هذا الفصل مخصص لمالية هذا الحق على القول بثبوته, لأن الكلام في تعريف المال، وكونه شاملا للأعيان والديون والمنافع والحقوق، ومن الحقوق حقوق الارتفاق (¬3). ¬
الثالث: حق المسيل
الثالث: حق المسيل (¬1): لم يعن الفقهاء بتعريف حق المسيل، وإن كانوا قد تعرضوا لأحكامه، وقد عرفه بعضهم بأنه: حق صرف الماء غير الصالح، أو الزائد عن الحاجة في ملك الغير حتى يصل إلى مستودع أو مصرف عام (¬2). الفرق بين حق المجرى وحق المسيل: أن المجرى يكون لجلب الماء الصالح للاستعمال، وأما المسيل: فيكون لتصريف المياه غير الصالحة، أو الزائدة عن الحاجة، والتخلص منها. الرابع: حق المرور (¬3): أن يكون لشخص حق المرور في أرض شخص آخر (¬4) ¬
الخامس: حق التعلي
الخامس: حق التعلي (¬1): هو أن يكون لإنسان الحق في أن يعلو بناؤه بناء غيره على وجه الاستقرار والدوام، بقي أو تهدم كل منهما. ويتحقق ذلك في دار لها سفل وعلو، ويكون مالك السفل غير مالك العلو، ويكون للعلو حق القرار والبقاء على ذلك السفل دون أن يتملك سقفه. كما يتحقق ذلك في دار مكونة من ثلاث طبقات فأكثر، يبيعها مالكها لثلاثة أشخاص فأكثر، لكل شخص طبقة من طبقاتها، فيكون للأعلى حق التعلي والقرار على من يليه، ولمن يليه حق التعلي والقرار على من يليه، وهكذا إلى اْرضها (¬2). السادس: حق الجوار (¬3): يراد بالجوار هنا الجوار الجانبي، وهو الناشئ عن الملاصقة بالحدود؛ لأن الجار العلوي داخل في حق التعلي كما سبق (¬4). ويرى أبو زهرة أن حق الجوار لا يدخل في حق الارتفاق؛ لأن حق الارتفاق: تكليف وعبء على عقار لمنفعة عقار آخر، وهو من نوع الشركة في العين التي تعلق بها الارتفاق، فإذا كان لعقار حق الشرب من مجرى يجري في عقار آخر كان بين صاحبي العقارين شركة في حق الشرب. ¬
أما حقوق الجار فتقوم على منع الضرر بالجار ضررا بينا فاحشا في سبيل انتفاع الشخص بملكه، فهي تقييد لانتفاع الشخص بملكه بقيد أن لا يضر بجاره. وبعبارة موجزة، أن الفرق بينهما: أن حق الارتفاق: حق إيجابي متعلق بالعقار. وأما حق الجوار فحق سلبي ليس إلا منعا للضرر (¬1). ¬
الفرع الثالث خلاف العلماء في إحداث حقوق ارتفاق جديدة
الفرع الثالث خلاف العلماء في إحداث حقوق ارتفاق جديدة [م - 14] سبق لنا أن ذكرنا ستة أنواع من حقوق الارتفاق، وهي حق الشرب، وحق المجرى، وحق المسيل، وحق المرور، وحق التعلي، وحق الجوار، ولم يتعارف قديمًا على غير هذه الحقوق، فهل يحق إنشاء حقوق ارتفاق أخرى سوى ما ذكر، في هذا خلاف بين العلماء، فيرى الحنفية أنه لا يجوز لمالك عقار أن ينشئ على عقاره حقوق ارتفاق أخرى؛ لأن في إنشائها تقييدًا للملكية التامة، والأصل فيها أنها لا تقبل التقييد، وما قيدت بتلك الحقوق إلا استثناء، ولا يتوسع في الاستثناء. ولأن المنافع والحقوق ليست بأموال عندهم فلا يصح أن تكون محلًا للمعاوضة استقلالاً، أما إذا دخل هذا الحق في العقد تبرعًا، فإن هذا التبرع يعتبر إعارة، وهي لا تفيد التزامًا، فيصح له أن يرجع في إعارته، مع أن حقوق الارتفاق ثابتة دائمة لا يملك معطيها الرجوع فيها. ويرى بعض العلماء، ومنهم المالكلية أن المالك حر فيما ينشئ على عقاره من حقوق لعقار غيره، وأن الحقوق لم تكن محصورة فيما سبق ذكره، فإذا كان لشخص قطعة أرض معدة للبناء بجوار داره، فباعها، واشترط على المشتري أن لا يقيم بناء ملاصقًا لبنائه، أو أن يبني بارتفاع معين لا يتجاوزه، وقبل المشتري، تم العقد، وصح الشرط (¬1). ¬
وهذا يتمشى مع مذهب الحنابلة الذين يجيزون الشروط كلها إلا شرطًا خالف نصا، أو خالف مقتضى العقد، وقد سبق لنا الكلام على خلاف العلماء في إحداث شروط جديدة، وما هو الأصل في الشروط، والحمد لله، فليرجع إليه من شاء.
الفرع الرابع اختلاف الفقهاء في مالية حقوق الارتفاق
الفرع الرابع اختلاف الفقهاء في مالية حقوق الارتفاق ليست حقوق الارتفاق على حكم واحد في مذاهب أهل العلم، فقد تجد في المذهب الواحد من يعتبر بعض هذه الحقوق حقا ماليا يجوز الاعتياض عنه، بينما يمنع بيع حق آخر لعلة عنده أوجبت التفريق، فالحنفية الذين يمنعون من بيع حقوق الارتفاق بمفردها، ويرون أن المنافع ليست أموالًا يرون جواز بيع حق المرور. والحنابلة مثلا يمنعون بيع حق الشرب، كما يرون أن للجار أن يضع خشبة على جدار جاره، وليس له أن يمنعه من ذلك، فضلاً عن أن يطالبه بعوض مالي مقابل ذلك، بينما ذكروا في حق آخر حكما مختلفا، فجاء في الروض المربع: "وإن صالحه على أن يجري على أرضه أو سطحه ماء معلوما صح لدعاء الحاجة إليه، فإن كان بعوض مع بقاء ملكه فإجارة، وإلا فبيع" (¬1). ولما كان ذلك كذلك، وطلبا لأن يكون البحث دقيقا رأيت أن أعرض هذه الحقوق حقا حقا، وأحرر الخلاف فيها ليقف طالب العلم على حكم كل مسألة بانفرادها، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
المسألة الأولى في بيع حق الشرب
المسألة الأولى في بيع حق الشرب حقوق الآدميين تقبل من المعاوضة والبدل ما لا يقبله حقوق الله تعالى، ولا تمنع المعاوضة في حق الآدمي إلا أن يكون في ذلك ظلم لغيره، أو يكون في ذلك حق لله، أو يكون من حقوق الله (¬1). حقوق الأشياء معتبرة بأصولها. [م - 15] اتفق الفقهاء على جواز بيعه تبعًا للأرض، واختلفوا في بيعه منفردا. فقيل: لا يجوز بيعه، وبهذا قال جمهور الحنفية (¬2)، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). على خلاف بينهم في وجه المنع: فالحنفية يرون المانع من بيع حق الشرب كونه من الحقوق، والحقوق لا تحتمل الإفراد بالبيع، ويصح بيعه تبعًا للأرض ¬
يقول الكاساني: "الحقوق لا تحتمل الإفراد بالبيع والشراء" (¬1). ويقول أيضًا: "ولو باع الأرض مع الشرب جاز تبعًا للأرض، ويجوز أن يجعل الشيء تبعًا لغيره، وإن كان لا يجعله مقصودًا بنفسه" (¬2). وقال في مجلة الأحكام العدلية: يصح بيع ... حق الشرب والمسيل تبعًا للأرض، والماء تبعًا لقنواته" (¬3). وقال سليم في شرح المجلة: "وإذا باع أرضًا مع شرب أرض أخرى جاز، ولكن لا يجوز بيع حق المرور، وحق الشرب، وحق التسييل، ولا هبتها قصدًا؛ لأن الحقوق بانفرادها لا يجوز بيعها ... " (¬4). واستدلوا لعدم ماليتها بتعذر إمكانية حيازتها؛ لأن من شرط المال أن يكون قابلًا لحيازته وادخاره كما مر معنا في الخلاف في مالية المنافع. ¬
وجه هذا القول
وأما المانع عند الحنابلة فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع فضل الماء (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: الناس شركاء في ثلاث، الماء والكلأ والنار (¬2)، ليس المانع عندهم كون هذا من قبيل بيع المنافع, فالمنافع يجوز المعاوضة عليها، وهي من أقسام المال، وليس المانع عندهم أيضًا كون هذا البيع من بيع الحقوق، فالحقوق المالية عندهم يجوز بيعها، والمعاضة عليها. وقد تكلمنا بشيء من التفصيل عن النهي عن بيع فضل الماء، فانظره في باب موانع البيع. وقيل: يجوز بيعه، وبهذا قال مشايخ بلخ من الحنفية (¬3)، وهو مذهب المالكية (¬4)، وأحد الوجهين عند الشافعية (¬5)، وقول في مذهب الحنابلة (¬6). وجه هذا القول: تعليل مشايخ بلخ: بأن الشرب حظ من الماء، يضمن بالإتلاف، وله قسط من الثمن، فجاز بيعه. وتعليل غيرهم: بأن حق الشرب ملك للبائع، ومن ملك شيئا كان له حق التصرف فيه، ببيع أو هبة أو غيرهما، والأصل أن مال المسلم لا يحل إلا بطيب ¬
القول الراجح
نفس منه، وقد انعقد الإجماع على ذلك، فأشبه ثمرة شجرته، ولبن شاته، ونحو ذلك. القول الراجح: أن اختصاص الإنسان بالشرب يعني تقديمه على غيره، ولا يعني أنه ملكه قبل حيازته، فما حازه جاز له بيعه، وما فضل عن حاجته، وكان ذلك قبل حيازته لم يجز له بيعه، ولا منع الناس منه إلا أن يتضرر، وقد بحثت هذه المسألة، ولله الحمد في موانع البيع، فمن أراد الاستزادة من الأدلة فليرجع إلى المسألة في موانع البيع.
المسألة الثانية: في حق المجرى
المسألة الثانية: في حق المجرى كل ما تعورف تداوله من اْعيان ومنافع وحقوق يعتبر محلًا صالحًا للتعاقد عليه ككل مال متقوم (¬1). وهو أصح من قول الحنفية: الحقوق لا تحتمل الإفراد بالبيع (¬2). [م - 16] اختلف الفقهاء في المجرى، هل يجب بذله بلا عوض، أو يجوز أخذ المعاوضة عليه. فذهب الحنفية (¬3)، والشافعي في أحد قوليه (¬4)، ورواية عن أحمد إلى أنه لا يجوز المعاوضة على المجرى بانفراده (¬5). إلا أن الحنيفة يمنعون المعاوضة عليها؛ لأن الحقوق لا يجوز إفرادها بالبيع، ولأن المنافع وحدها ليست مالا؛ لأن المال عندهم ما يمكن تموله وادخاره، يقول الكاساني: "الحقوق لا تحتمل الإفراد بالبيع والشراء" (¬6). ¬
بينما الشافعي والرواية الثانية عن أحمد، والتي رجحها ابن تيمية يرون أن المانع من المعاوضة عليها؛ ليس لأنها ليست مالاً، وإنما لأن المرافق يجب بذلها مجانًا إذا لم يكن على صاحبها ضرر في بذلها، وهو أقوى من تعليل الحنفية؛ لأن المنافع على الصحيح تعتبر مالاً يقع عليها البيع كما تقدم في بحث مالية المنافع. (ث- 1) واستدلوا بما رواه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أن الضحاك بن خليفة ساق خليجًا له من العريض، فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة، فأبى محمد، فقال له الضحاك: لم تمنعني، وهو لك منفعة، تشرب به أولا وآخرًا, ولا يضرك؟ فأبى محمد، فكلم فيه الضحاك عمر ابن الخطاب، فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله، فقال محمد: لا. فقال عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه، وهو لك نافع، تسقي به أولًا وآخرًا، وهو لا يضرك؟ فقال محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمر به، ففعل الضحاك (¬1). وأجيب عنه: الأول: أنه مرسل، يحيى المازني لم يدرك عمر، والمرسل من قبيل الضعيف، وقد صحح إسناده الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في الفتح (¬2). الثاني: على فرض أنه صحيح، فإنه حكم لعمر موقوف عليه، خالفه فيه صحابي جليل، وهو محمد بن مسلمة، وهو من كبار الصحابة، وممن شهد بدرًا, ولو كان يعلم أن ذلك قضاء الله، وقضاء رسوله - صلى الله عليه وسلم - لم يمتنع عن ذلك، ¬
ولكن ربما رآه أنه على الندب، وإذا وجد الخلاف بين الصحابة في ذلك وجب النظر في ترجيح أحد القولين، كيف والعمومات الشرعية قطعية الدلالة كلها تدل على حرمة مال المسلم إلا بطيب نفس منه. الثالث: أن الحديث على الندب، وليس على الوجوب, كما قال تعالى في مكاتبة العبد: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، والأمر بمكاتبة العبد على الندب. قال ابن عبد البر: "لم يختلف علماء السلف أن ذلك على الندب، لا على الإيجاب -يعني: مكاتبة العبد- فكذلك هنا" (¬1). وقال مالك: "لم أسمع أن أحدًا من الأئمة أكره رجلاً على أن يكاتب عبدًا" (¬2). وقال الباجي تعليقًا على قول مالك: "يريد أنه لم يكن تلك في السلف، وما روي عن عمر أنه أمر أنسًا أن يعتق عبده سيرين، فأبى فضربه عمر بالدرة، وقال: كاتبه فقال أنس: لا أكاتبه فتلا عمر {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، فكاتبه أنس، فليس فيه دليل على اللزوم، والجبر، ولو كان لعمر أن يجبر على ذلك أنسا لحكم بذلك عليه، واستغنى عن أن يضربه بالدرة، ويتلو عليه القرآن بالأمر بذلك، وإنما ضربه بالدَّرة لما ندبه إلى الخير، وإلى ما رآه صلاحًا له في دينه ودنياه، فامتنع من ذلك، فأدبه لامتناعه، وتلا عليه القرآن بالأمر بذلك والندب إليه، وقد أمر محمد بن مسلمة أن يبيح لجاره ¬
إمرار النهر على أرضه، وقال: والله ليمرن به ولو على بطنك على وجه التحكم عليه فيما هو صلاح له في دينه ودنياه، وعلم أن محمد بن مسلمة لا يراجعه إذا عزم عليه في ذلك" (¬1). القول الثاني: ذهب الجمهور من المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة في المشهور (¬4)، إلى جواز أخذ العوض عليها منفردة. واشترط الشافعية فيما إذا كان العقد بيعًا معرفة أمرين: أحدهما: معرفة موضع المجرى. والثاني: معرفة الطول والعرض، والعمق. ووافقهم الحنابلة إن كان ذلك بعوض مع بقاء ملك البائع؛ لأن العقد إجارة لبقاء ملك الرقبة لصاحب الأرض، أما لو كان البيع على موضع المجرى فلا يشترط معرفة العمق حينئذ؛ لأن من ملك الموضع كان له إلى تخوم الأرض، فلا حاجة لاشتراط معرفة ذلك. واستدلوا على جواز المعاوضة عليه بأدلة منها: ¬
الدليل الأول
الدليل الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. فمن أخذ مال الغير بدون رضاه فقد أكل ماله بالباطل الدليل الثاني: جميع الأدلة التي سقتها على مالية المنافع تصلح دليلا على مالية هذه الحقوق. وهذا الاستدلال يصلح الاحتجاج به على الحنفية الذي لا يرون المنفعة مالا, وليس بحجة على الحنابلة، الذين يرون أن المنفعة مال، ويرون في الوقت نفسه وجوب بذل المرفق إذا احتاج له الجار، ولم يكن في ذلك ضرر على المالك. الدليل الثالث: (ح- 9) ما رواه البخاري من طريق ابن سيرين، عن عبد الرحمن ابن أبي بكرة عن أبيه مرفوعا، وفيه: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه. ورواه مسلم (¬1). وأجيب عن هذا الحديث وأمثاله: بأن مال المسلم حرام على وجه التمليك والاستهلاك، وليس المرفق من ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرق بينهما في الحكم، فغير جائز أن يجمع بين ما فرق ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أوجب أحدهما كما في غرز الخشبة على جدار الجار، ومنع من الآخر وهو التعدي على ملك الغير بغير حق.
المسألة الثالثة في المعاوضة على حق المسيل
المسألة الثالثة في المعاوضة على حق المسيل [م - 17] اختلف العلماء في المعاوضة على حق المسيل منفردا: فقيل: لا يجوز ذلك، سواء كان ذلك على سطح، أو على الأرض، وهذا مذهب الحنفية. وقيل. يجوز، سوء كان ذلك ببيع، أم بإجارة، وسواء كان المسيل على السطح أم على الأرض، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). والخلاف فيها بين الحنفية والجمهور راجع للخلاف في مالية المنافع. فالحنفية يرون أن المنافع لا يجوز إفرادها بالبيع إلا تبعًا للعين, لأنها ليست مالاً؛ لأن المالية لا تثبت إلا بالتمول، وتمول الشيء يعني إحرازه وادخاره، والمنفعة لا يمكن صيانتها وادخارها. والجمهور لا يوافقونهم على أن المنافع ليست من الأموال، بل إن المالية تدور على المنفعة، فأينما وجدت المنفعة المباحة مطلقا وجدت المالية، وإذا فقدت المنفعة فقدت المالية. وسبق لنا تحرير أدلة كل قول، ومناقشتها بني مالية المنافع، فارجع إليها إن شئت. ¬
المسألة الرابعة في بيع حق المرور
المسألة الرابعة في بيع حق المرور [م - 18] اختلف العلماء في بيع حق المرور. فقيل: يجوز، وبه قال جماهير أهل العلم (¬1)، ورواية في مذهب الحنفية (¬2)، وعليها الفتوى (¬3). وجه الفرق عند الحنفية بين حق المرور وبين سائر حقوق الارتفاق: أن الفرق بين حق المرور وحق المسيل: أن حق المرور متعلق بمحل معلوم، وهو الطريق، وهو معلوم الطول والعرض، فيجوز بيعه، وأما حق التسييل، فإن كان على الأرض، فمجهول لجهالة محله الذي يأخذه الماء؛ لأن مقدار ما يشغله الماء من الأرض مختلف، ويختلف بقلة الماء وكثرته. وهو مجهول، وإن كان على السطح فهو نظير حق التعلي، وحق التعلي ليس متعلقا بما هو مال، بل بالهواء (¬4). ¬
كما أن الفرق بين حق المرور وحق التعلي أن حق المرور حق يتعلق برقبة الأرض، وهي عين مال، فما يتعلق به يكون له حكم العين، وأما حق التعلي فحق يتعلق بالهواء، وهو ليس بعين مال (¬1). وقيل: لا يجوز بيع حق المرور، وهو رواية ثانية في مذهب الحنفية (¬2). بناء على أصلهم في أن الحقوق لا تفرد بالبيع، وأن المنافع ليست مالا. وقد سبق مناقشة هذا الدليل فيما تقدم ذكره في بيع حق الشرب والمجرى والمسيل، فانظره هناك. والراجح: هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من جواز بيع المنفعة كممر في دار، سواء كان ذلك على وجه التأبيد ليكون بيعا، أو كان مؤقتا كما لو كان العقد عقد إجارة، والله أعلم. ¬
المسألة الخامسة في بيع حق التعلي
المسألة الخامسة في بيع حق التعلي [م - 19] اختلف العلماء في بيع حق التعلي. فقيل: لا يجوز، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، وقول المزني من الشافعية (¬2)، واختيار ابن حزم (¬3). وقيل: بل يجوز، وهو مذهب الجمهور (¬4)، بشرط أن يبين في العقد كل ما يرفع الجهالة والغرر، بحيث يبين قدر الارتفاع، ومتانته، ومادة البناء، ونحو ذلك. وجه قول الحنفية: أن حق التعلي ليس بمال؛ لأن المال ما يمكن إحرازه وقبضه، والهواء لا يمكن إحرازه وقبضه. ¬
وجه قول الجمهور
ويناقش: بأن البيع ليس لمادة الهواء، وإنما لسطح البناء من أجل الانتفاع به، والبناء عليه، وهو مال، يمكن الانتفاع به، واستغلاله. وجه قول الجمهور: أنه بيع عين يجوز الانتفاع به، فجاز إفراده بالبيع، وهو الصواب.
المسألة السادسة: في حق الجوار
المسألة السادسة: في حق الجوار [م - 20] اختلف الفقهاء في وضع الجار خشبةً على جدار جاره إذا اضطر إلى ذلك ولم يكن في ذلك ضرر على الجار. فذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والجديد من قول الشافعي (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4)، إلى أن الجار ليس له أن يضع خشبة على جدار جاره إلا بإذنه، وإن امتنع لم يجبر، وله أن يأخذ عوضًا ماليًا عن استخدام جداره. وذهب الشافعي في أحد قوليه (¬5)، والحنابلة في المشهور عندهم (¬6)، وأهل الحديث (¬7)، إلى أنه لا يحق للجار أن يمنع جاره من ذلك. دليل من قال: له أن يأخذ عوضًا ماليًا عن استخدام الجدار: الدليل الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. ¬
الدليل الثاني
فمن أخذ مال الغير بدون رضاه فقد أكل ماله بالباطل. الدليل الثاني: جميع الأدلة التي سقتها على مالية المنافع تصلح دليلا على مالية هذه الحقوق. الدليل الثالث: تحريم مال المسلم إلا بطيب نفس منه. (ح- 10) لما رواه البخاري من طريق ابن سيرين، عن عبد الرحمن ابن أبي بكرة عن أبيه مرفوعا، وفيه: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه. ورواه مسلم (¬1). وأجيب عن هذا الحديث وأمثاله: بأن مال المسلم حرام على وجه التمليك والاستهلاك، وليس المرفق من ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرق بينهما في الحكم، فغير جائز أن يجمع بين ما فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أوجب أحدهما كما في غرز الخشبة على جدار الجار، ومنع من الآخر وهو التعدي على ملك الغير بغير حق (¬2). دليل من قال: لا يحق للجار أن يمنع جاره من ذلك (ح- 11) واستدلوا بما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في ¬
جواب الجمهور عن هذا الحديث
جداره. ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم (¬1). جواب الجمهور عن هذا الحديث: بأن المسألة محمولة على الندب، والنهي في قوله (لا يمنع جار جاره) محمول على الكراهة وليس على التحريم. قال ابن رشد: "النهي إنما يحمل على التحريم أو الوجوب إذا لم تقترن به قرينة تدل على أن المراد به الكراهية أو الندب، ومن الدليل على أن المراد به كراهة المنع، والندب إلى الإذن: هو أنه إذن في حق الإذن؛ لأن الحائط ماله وملكه، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس" وهذا عموم، فلا يخصص مثله غرز الخشب في الجدار إلا بيقين في النهي عن المنع؛ لأن النهي قد يراد به الكراهة وقد يراد به التحريم، ولو كان من حق الجار أن يغرز خشبة في جدار جاره لقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ليس للجار أن يمنع جاره خشبة يغرزها في جداره، ولما قال: "لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة على جداره" إذ ليس من حق الكلام أن يقال للرجل فيما يفعله لغيره: لا تفعله إلا فيما له أن يفعله به، ألا ترى أنك تقول للرجل: لا تضرب عبدك، إذ له أن يضربه، ولا تقل له: ولا تضرب أباك، إذ ليس له أن يضربه ... " (¬2). واستدل بعض المالكية بأن الأمر على الندب بقرينة أخرى. قال: "قول أَبِي هريرة (ما لي أراكم عنها معرضين) دليل بأن العمل كان في ذلك العصر على خلاف ما ذهب إليه أبو هريرة، قال: لأنه لو كان على الوجوب ¬
رأي الباحث في المعاوضة على حقوق الارتفاق
لما جهل الصحابة تأويله، ولرضوا عن أبي هريرة حين حدثهم به، فلولا أن الحكم قد تقرر عندهم بخلافه لما جاز عليهم جهل هذه الفريضة، فدل على أنهم حملوا الأمر في ذلك على الاستحباب. وتعقبه ابن حجر، قائلاً: "وما أدري من أين له أن المعرضين كانوا صحابة، وأنهم كانوا عددًا لا يجهل مثلهم الحكم، ولم لا يجوز أن يكون الذي خاطبهم أبو هريرة بذلك كانوا غير فقهاء، بل ذلك هو المتعين، وإلا لو كانوا صحابة أو فقهاء ما واجههم بذلك" (¬1). رأي الباحث في المعاوضة على حقوق الارتفاق: يمكن لنا أن نخرج بقول وسط، فنقول: إن حق الارتفاق حق مالي يجوز الاعتياض عنه بالمال خاصة لمن أراد أن يتملكه بإتلاف أو استهلاك، وأما الانتفاع فهو أخف من التملك ويتجوز فيه ما لا يتجوز في غيره، خاصة إذا كان ينتفع به بلا ضرر، فيمكن لنا أن نقول: إن ما ورد فيه نص بوجوب بذله للجار بلا عوض يجب بذله، وما لم يرد فيه نص فالأولى بذله, لأن الله ذم من يمنع الماعون، بقوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]، فإن لم يفعل لم يجبر؛ لأن الأصل احترام حق الملكية الخاصة، وعدم الانتفاع بشيء منه بغير إذن مالكه. وقول الحنفية قول ضعيف؛ لأننا قد قدمنا أن المالية ليس من شرطها الحيازة، ولو سلم لكانت حيازة المنفعة حاصلة بحيازة العين، ولأن المال هو ما تمول عرفًا، وقد اعتاد الناس على تمول مثل ذلك، ولهذه الأشياء قيمة في الشرع فما المانع من اعتبار ماليتها، والمقصود من الأعيان إنما هو منافعها دون أعيانها، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس في تقسيم الأموال وأثره الفقهي
الفصل الخامس في تقسيم الأموال وأثره الفقهي بعد أن عرفنا المال بأنواعه، من أعيان، ومنافع، وديون، وحقوق، نأتي إلى تقسيم الفقهاء للمال وأثره من الناحية الفقهية، فقد قسم الفقهاء المال إلى عدة أقسام باعتبارات مختلفة، وسوف أشير إلى أهم هذه التقسيمات، فمن ذلك: تقسم المال إلى مثلي وقيمي. تقسيم الحنفية المال إلى متقوم وغير متقوم. تقسيم المال إلى عقار ومنقول. تقسيم المال إلى عام وخاص. تقسيم المال إلى أصول وثمار. تقسيم المال إلى حلال وحرام ومختلط. تقسيم المال إلى مال ظاهر ومال باطن. تقسيم المال إلى مالٍ يقبل القسمة ومالٍ لا يقبل القسمة. تقسيم المال إلى مستهلك ومستعمل. تقسيم المال إلى مملوك وغير مملوك. فهذا إحدى عشرة قسمةً مختلفة، ويمكن للباحث أن يحدث تقسيمات أخرى بحسب ما يلحظ من الفروق بين الأموال المختلفة، وسوف نتعرض إلى أهم هذه الأقسام مما لها تعلق في باب المعاملات إن شاء الله تعالى في المباحث التالية:
المبحث الأول في تقسيم المال إلى مثلي وقيمي
المبحث الأول في تقسيم المال إلى مثلي وقيمي ينقسم المال باعتبار تماثل آحاده أو أجزائه أو عدم تماثلها إلى قسمين: أ- مثلي. ب- قيمي. تعريف المثلي والقيمي في الاصطلاح: المثلي هو: " كل ما يوجد له مثل في الأسواق بلا تفاوت يعتد به" (¬1). كالمكيل والموزون، والعدديات المتقاربة مثل الجوز والبيض؛ لأنه وإن وجد تفاوت في الكبر والصغر بين أفراد البيض والجوز وآحادهما، فذلك التفاوت لا يوجب اختلافاً في الثمن، ويباع الكبير منهما بمثل ما يباع به الصغير. والقيمي: " ما لا يوجد له مثل في السوق، أو يوجد لكن مع التفاوت المعتد به" (¬2). واعتمد هذا التعريف صاحب مجلة الأحكام الشرعية الحنبلي (¬3). وذكر الباجي في المنتقى: أن الأعيان نوعان: نوع تختلف صفاته كالخيل والإبل والبقر والغنم وسائر الحيوان والثياب والعروض، فإن هذا لا يكاد جملة منه تتفق آحادها، فهذا مثال للقيمي. ¬
وأما المصنوعات فقسمها الحنفية إلى قسمين
ونوع لا تختلف صفاته على الوجه الذي ذكرناه كالجوز، والبيض، فهذا تتفق صفات آحاده، كما تتفق قيمه، فهذا هو المثلي (¬1). وأما المصنوعات فقسمها الحنفية إلى قسمين: النوع الأول: التي لا تختلف باختلاف الصنعة كالدراهم والدنانير، فالريالات والجنيهات المصنوعة في زماننا المتداولة بين الناس هي وإن كانت من المصنوعات إلا أنها غير مختلفة باختلاف الصنعة؛ لأنها لم تكن من مصنوعات اليد بل هي تصاغ بقالب ولذلك فالجنيه ... الذي هو بمائة قرش مثل للجنيه الآخر بذات القيمة، كما أن الريال ذا العشرين قرشا مثل للريال الآخر ذي العشرين قرشا. كذلك الجوخ الذي من جنس واحد والأقمشة التي هي من مصنوعات معمل واحد من هذا القبيل ... النوع الثاني: المصنوعات التي تختلف باختلاف الصنعة، كأباريق النحاس والقدور، والأسورة، ومع أن الفضة هي من المثليات، فكون الأسورة المعمولة منها قيمية هو بسبب الصنعة; لأن الصانع يصنع الأسورة بصور مختلفة، ولذلك فالأسورة المصنوعة من عشرين درهما فضة أو ذهبا ليست مثلا للأسورة الأخرى المعمولة عن عشرين درهما فضة أو ذهبا" (¬2). وسوف يأتي إن شاء الله تعالى بحث خاص مقارن عن الكلام عن المثلي والقيمي، عند الكلام على أحكام المبيع، بلغنا الله ذلك بحوله وقوته. ¬
فرع الأثر الفقهي في تقسيم المال إلى مثلي وقيمي
فرع الأثر الفقهي في تقسيم المال إلى مثلي وقيمي يترتب على تقسيم المال إلى مثلي وقيمي أمور منها: الأول: في باب الضمان [م - 12] إذا تلف الشيء في يد من عليه ضمانه. فقيل: عليه رد مثله إن كان مثليا، أو قيمته إن كان متقوما. وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة. وقيل: يجب رد المثل مطلقاً، اختاره العنبري من الحنابلة. وقال ابن حزم: يجب رد المثل مطلقاً، فإن عدم المثل فالمضمون مخير بين أن يمهله حتى يوجد المثل، وبين أن يأخذ القيمة. وقيل: يضمن المثلي وغيره مطلقاً بالقيمة، اختاره بعض الفقهاء. وسوف يأتي إن شاء الله تعالى العزو إلى هذه المذاهب مع أدلتها، وبيان الراجح في باب تلف المبيع، وكيفية الضمان في المجلد الثالث من هذه المجموعة. الثاني: في استقراض المال [م - 22] إذا كان المال مثليًا صح أن يكون دينا في الذمة بالاتفاق, لأنه ينضبط بالصفة، كما جاء في الحديث: "من أسلف فليسلف في قيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم، على خلاف بين العلماء في بعض الأموال هل هي مثلية أو غير مثلية كالخلاف في الحيوان؟ وأما المال القيمي، فهل يثبت دينًا في الذمة؟
الثالث: من الفروق المترتبة على تقسيم المال إلى مثلي وقيمي
اختلف العلماء في هذه المسألة. فقيل: المال القيمي لا يثبت دينا في الذمة، وهو مذهب الجمهور، وأصح القولين في مذهب الشافعية. وقيل: يجوز قرض كل شيء إلا الجواري، وهو قول في مذهب المالكية. وقيل: يجوز قرض غير المثلي، ويرد بدلا منه قيمته، وهو قول في مذهب الشافعية، ووجه في مذهب الحنابلة، وهو الراجح. وقد ذكرت أدلة هذه المسألة مع العزو إلى كتب المذاهب، ولله الحمد في باب أحكام المعقود عليه. الثالث: من الفروق المترتبة على تقسيم المال إلى مثلي وقيمي [م - 23] المال المشترك إذا كان مثليا كالمكيل والموزون والمعدود المتقارب تدخله قسمة الإجبار: أي يجبر الشريك على القسمة، ويتولاها القاضي. قال المرداوي في الإنصاف: "إذا طلب أحدهما قسمه وأبى الآخر أجبر عليه بلا نزاع" (¬1). وأما المال القيمي، فإن كان مما يمكن قسمه بلا ضرر، ولا يحتاج إلى رد عوض، كالأرض الواسعة، والقرى والبساتين والدور الكبار والدكاكين الواسعة فإنه يقسم قسمة إجبار كالمال المثلي. ¬
الرابع: من الفروق المترتبة على تقسيم المال إلى قيمي ومثلي
وإن كان مما لا يمكن قسمه، إلا بضرر كنقص القيمة، أو برد عوض من أحدهما على الآخر لم يجبر أحدهما على القسمة. وسوف يأتي مزيد بحث لهذه المسألة إن شاء الله تعالى في بابها، وإنما أردت هنا الإشارة إلى الآثار المترتبة على تقسيم المال إلى مثلي وقيمى، ولم أقصد تحرير قسمة المال المشترك بين الشركاء، وكيف يقسم، والله أعلم. الرابع: من الفروق المترتبة على تقسيم المال إلى قيمي ومثلي [م - 24] إذا كان أحد المبيعين مثليًا والآخر قيميًا وأردنا تحديد المبيع من الثمن. فالحنفية يرون أن المثلي هو الثمن لثبوته دينًا في الذمة، ولكونه لا يتعين بالتعيين، وأن القيمي هو المبيع. يقول الكاساني في بدائع الصنائع: "المبيع والثمن على أصل أصحابنا من الأسماء المتباينة الواقعة على معان مختلفة، فالمبيع في الأصل اسم لما يتعين بالتعيين، والثمن في الأصل ما لا يتعين بالتعيين، وإن احتمل تغير هذا الأصل بعارض ... والثمن في اللغة اسم لما في الذمة، هكذا نقل عن الفراء وهو إمام في اللغة؛ ولأن أحدهما يسمى ثمنا والآخر مبيعًا في عرف اللغة والشرع، واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل إلا أنه يستعمل أحدهما مكان صاحبه توسعًا; لأن كل واحد منهما يقابل صاحبه فيطلق اسم أحدهما على الآخر لوجود معنى المقابلة كما يسمى جزاء السيئة سيئة، وجزاء الاعتداء اعتداء. (فأما) الحقيقة فما ذكرنا ...... ثم الدراهم والدنانير عندنا أثمان على كل حال أي شيء كان في مقابلتها، وسواء دخله حرف الباء فيهما أو فيما يقابلهما لأنهما لا تتعين بالتعيين بحال فكانت أثمانًا على كل حال.
وأما ما سواهما من الأموال فإن كان مما لا مثل له من العدديات المتفاوتة والذرعيات فهو مبيع على كل حال لأنها تتعين بالتعيين، بل لا يجوز بيعها إلا عينا، إلا الثياب الموصوفة المؤجلة سلما فإنها تثبت دينا في الذمة مبيعة بطريق السلم استحسانا بخلاف القياس لحاجة الناس إلى السلم فيها .... " (¬1). فتبين من قوله: (أن الثمن اسم لما في الذمة) دليل على أنه لا يتعين بالتعيين: وهو نص على كونه مثليا. وقوله: (وأما ما سواهما من الأموال فإن كان مما لا مثل له من العدديات المتفاوتة، والذرعيات فهو مبيع على كل حال) دليل على أن المبيع يتعين بالتعيين، وهو نص على كونه قيميا. وللحنفية تفريعات كثيرة في معرفة الثمن والمثمن سيأتي تحريرها إن شاء الله تعالى في مسألة مستقلة مقابلا ذلك كله مع قول الجمهور وبيان الراجح، في أحكام المعقود عليه، وإنما اقتضى الإشارة هنا إلى الآثار المترتبة على تقسيم المال إلى مثلي وقيمي، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في تقسيم المال إلى متقوم وغير متقوم
المبحث الثاني في تقسيم المال إلى متقوم وغير متقوم قال السرخسي: ما يكون متقومًا شرعًا فالاعتياض عنه جائز (¬1). قال الماوردي: ما لا قيمة له لا تصح المعاوضة عليه (¬2). وقال السرخسي أيضًا: إتلاف ما ليس بمتقوم لا يوجب الضمان (¬3). سبق لنا أن الجمهور يشترطون في المال أن يكون الانتفاع به مباحًا، فالشيء إذا لم يكن مما يباح الانتفاع به شرعًا فليس بمال أصلاً. جاء في شرح الرصاع على حدود ابن عرفة: "إن المعتبر في التقويم إنما هو مراعاة المنفعة التي أذن الشارع فيها، وما لا يؤذن فيه فلا عبرة به، فلا تعتبر قيمته؛ لأن المعدوم شرعًا كالمعدوم حسًا" (¬4). بينما الحنفية لا يشترطون في المالية إباحة الانتفاع، وهذا الذي دفعهم إلى تقسيم المال إلى متقوم وغير متقوم، ليخرجوا ما لا يحل الانتفاع به من الأموال من أن يكون محلًا للعقد، نظرًا لعدم تقومه. فالمال المتقوم عند الحنفية: هو ما يباح الانتفاع به شرعًا في حال السعة والاختيار. والمال غير المتقوم: هو ما لا يباح الانتفاع به في حال الاختيار، كالخمر ¬
والخنزير، فهو مال غير متقوم بالنسبة للمسلم، وأما في حق الذمي، فهي مال متقوم؛ لأنه لا يعتقد حرمتها، ويتمولها (¬1). فإذا أتلف مسلم خمرا فإن كانت لذمي ضمنها المتلف، وإن كانت لمسلم لم يضمنها؛ لأنها ليست متقومة في حق المسلم (¬2). يقول ابن عابدين في حاشيته: "المال أعم من المتقوم (¬3) لأن المال ما يمكن ادخاره، ولو غير مباح كالخمر، والمتقوم ما يمكن ادخاره مع الإباحة، فالخمر مال لا متقوم ... " (¬4). وقال أيضًا: "فما يباح بلا تمول لا يكون مالا كحبة حنطة، وما يتمول بلا إباحة انتفاع لا يكون متقوما كالخمر، وإذا عدم الأمران لم يثبت واحد منهما كالدم ... " (¬5). والراجح ما ذهب إليه الجمهور، وكيف يقال عن الخمر بأنه مال، والحنفية يعرفون المال بأنه ما يمكن تموله، وهل يمكننا تمول الخمر والخنزير، ويعرفون المال بأنه ما خلق لمصالح الآدمي، ويمكن ادخاره وقت الحاجة، ولا أعرف مصلحة في الخمر بعد تحريمها وقد أمرنا باجتنابها، وهو أبلغ من النهي عن شربها، في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [المائدة: 90]، فالاجتناب: أن أكون في جانب، والخمرة ¬
في جانب آخر، وهذا يقطع التمول في الخمر من أي وجه من الوجوه، ويقطع ادخاره لوقت الحاجة. وقد يطلق الحنفية غير متقوم، ويقصدون به غير المحرز من المباحات، كالسمك في الماء، والطير في الهواء، والأشجار في البراري، ومثله الذهب في مناجمه، والفضة في معادنها، فلو أتلفه متلف لم يضمنه؛ لأنه لا حماية له قبل حيازته. جاء في مجلة الأحكام العدلية: "المال المتقوم يستعمل في معنيين: الأول: ما يباح الانتفاع به. والثاني: بمعنى المال المحرز، فالسمك في البحر غير متقوم؛ فإذا اصطيد صار متقومًا بالإحراز" (¬1). فالمعنى الأول: هو معنى المال الشرعي. والثاني: معناه العرفي. فلحم الخروف المذبوح مثلا بما أن أكله وتناوله مباح، فهو من هذه الجهة مال، ومتقوم أيضًا، أما لحم غير المذبوح كالمخنوق خنقًا، فبما أن أكله وتناوله حرام وممنوع، فمن هذه الجهة يعد غير متقوم، وإن عده البعض مالاً (¬2). ... ¬
الفرع الأول الأثر الفقهي في تقسيم المال إلى متقوم وغير متقوم
الفرع الأول الأثر الفقهي في تقسيم المال إلى متقوم وغير متقوم قال ابن قدامة: ما لا مثل له تجب قيمته (¬1). [م - 25] إذا أتلف المال المتقوم ضمن متلفه لمالكه مثله إن كان مثليا، أو قميته إن كان قيميا. وأما غير المتقوم فلا ضمان على متلفه، فلو أتلف مسلم لمسلم خمرا أو خنزيرا فلا ضمان عليه. وأما إذا أتلف مسلم لذمي خنزيرا أو أراق خمرا، فهل يضمنه متلفه باعتبار أن الخمر مال متقوم عند الذمي، أو لا يضمنه باعتبار أنه غير متقوم عند المتلف، في هذه المسألة خلاف بين العلماء: فقيل: عليه الضمان، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3). وقيل: لا ضمان عليه، وهو مذهب الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5)، ورجحه ابن حزم (¬6). ¬
وسيأتي تحرير هذه المسألة إن شاء الله تعالى في أحكام إتلاف المبيع، فانظره هناك غير مأمور. ***
المبحث الثالث تقسيم المال باعتبار ثبوته أو تحويله
المبحث الثالث تقسيم المال باعتبار ثبوته أو تحويله قسم الفقهاء المال بالنظر إلى إمكان نقله وتحويله إلى عقار ومنقول. تعريف العقار: جاء في مجلة الأحكام العدلية: العقار: غير المنقول: ما لا يمكن نقله من محل لآخر كالدور، والأراضي مما يسمى بالعقار. والمنقول: هو الشيء الذي يمكن نقله من محل إلى آخر، ويشمل النقود والعروض والحيوانات والمكيلات والموزونات (¬1). وفي مجلة الأحكام الشرعية: "العقار هو الأرض وحدها، أو ما اتصل بها للقرار، كالدور والبساتين. والمنقول: هو الشيء الذي يمكن نقله من محل إلى آخر" (¬2). [م - 26] فالفقهاء متفقون على أن ما لا يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر يسمى عقارا، وأن ما يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر مع بقاء صورته وهيئته منقول. واختلفوا فيما يمكن نقله مع تغيير صورته عند النقل كالبناء والشجر، هل هو عقار أو منقول؟ فذهب الحنفية إلى اعتباره من المنقولات إلا إذا كانا تابعين للأرض فيسري ¬
عليهما حكم العقار بالتبعية (¬1). وذهب الجمهور إلى اعتبار ذلك من العقار (¬2). والراجح -والله أعلم- قول الجمهور، وهو أن العقار يشمل الأرض وما اتصل بها من بناء أو شجر. قال في مختار الصحاح: العقار بالفتح مخففًا: الأرض والضياع والنخل (¬3). وفي اللسان: العقار بالفتح: الضيعة، والنخل الأرض (¬4). ¬
فرع الأثر الفقهي في تقسيم المال إلى عقار ومنقول
فرع الأثر الفقهي في تقسيم المال إلى عقار ومنقول يظهر أثر تقسيم المال إلى عقار ومنقول في بعض أبواب الفقه كباب الشفعة، وباب الوقف. أولاً: في باب الشفعة [م - 27] اتفق الفقهاء في ثبوت الشفعة في عقار يمكن قسمته ونحوه من البساتين. قال ابن المنذر: "لا اختلاف بين أهل العلم في إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم فيما يباع من أرض أو دار أو حائط" (¬1). ولم يختلف الفقهاء فيما أعلم في ثبوت الشفعة في البناء والغرس تبعًا للأرض (¬2). ومستندهم: (ح- 12) ما رواه مسلم من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يوذنه فهو أحق به (¬3). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن لفظ (ربعة) يتناول الأبنية، ولفظ (حائط) يتناول الأشجار. واختلف الفقهاء في ثبوت الشفعة في المنقول فيما لم يقسم، كما لو باع أحد الشريكين نصيبه في حيوان أو ثمرة، فهل للشريك أن يأخذ نصيب شريكه بالشفعة؟ فقيل: لا شفعة في المنقولات، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وقول في مذهب المالكية (¬4). وقيل: فيه الشفعة، وهو ورواية عن أحمد (¬5)، ونسب إلى ابن أبي مليكة، وعطاء وفقهاء مكة (¬6)، واختاره ابن حزم (¬7)، وابن عقيل من الحنابلة، ورجحه ¬
ثانيا: تأثير تقسيم المال إلى عقار ومنقول في باب الوقف
ابن تيمية (¬1)، وابن القيم (¬2). وقيل: بثبوت الشفعة في ثمرة تجنى مع بقاء أصلها، وما كانت ثمرته تجنى وليس له بقاء فلا شفعة فيه وهو قول في مذهب المالكية (¬3). وقيل: تثبت الشفعة في الحيوانات دون غيرها من المنقولات، وهو رواية عن أحمد (¬4). وسوف نأتي إن شاء الله تعالى على ذكر أدلة هذه الأقوال، والراجح منها في كتاب الشفعة، بلغنا الله ذلك بمنه وعونه وتوفيقه. ثانيا: تأثير تقسيم المال إلى عقار ومنقول في باب الوقف سبق لنا تأثير تقسيم المال إلى عقار ومنقول في باب الشفعة، وفي هذا الفصل نبين أثر تقسيم المال إلى عقار ومنقول في باب الوقف، [م - 28] فقد أجمع الفقهاء بأن العقار يصح وقفه. ¬
قال المرداوي: وقف غير المنقول يصح بلا نزاع (¬1). كما أجمعوا على صحة وقف المنقول تبعًا للعقار، قال الزيلعي: "وقف المنقول تبعًا للعقار جائز بالإجماع" (¬2). واختلفوا في المال المنقول، فقيل: لا يصح وقفه، وهذا قول أبي حنيفة (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). ¬
وقيل: بل لا فرق بين العقار والمنقول في باب الوقف، والجميع يصح وقفه، وهذا مذهب المالكية (¬1) , والشافعية (¬2)، والمشهور في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: يصح وقف السلاح والكراع من المنقولات، وهذا مذهب أبي يوسف من الحنفية (¬4). وقيل: يصح وقف ما جرى العرف بوقفه، وهذا رأي محمد بن الحسن من الحنفية (¬5). وسوف نذكر إن شاء الله تعالى أدلة هذه الأقوال مع بيان الراجح في باب الوقف، أسأل الله أن يبلغنا ذلك بحوله وتوفيقه. ¬
ثالثا: تأثير تقسيم المال إلى عقار ومنقول في باب التصرف في المبيع
ثالثًا: تأثير تقسيم المال إلى عقار ومنقول في باب التصرف في المبيع [م - 29] يفرق بعض الفقهاء في باب التصرف في المبيع قبل القبض بين العقار والمنقول. فقيل: يجوز بيع العقار قبل القبض في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى، ولا يجوز بيع المنقول حتى يقبض (¬1). وقيل: لا يجوز التصرف في المبيع قبل القبض مطلقًا عقارًا كان أو منقولاً، وهو قول محمد بن الحسن، وزفر من الحنفية (¬2)، ومذهب الشافعية، ورواية عن أحمد (¬3)، وهو قول الثوري، ورجحه ابن تيمية وابن القيم (¬4). وقيل: لا يجوز بيع الطعام المكيل أو الموزون قبل قبضه، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬5). ¬
رابعا: تأثير تقسيم المال إلى عقار ومنقول في حقوق الارتفاق
وقيل: لا يجوز بيع المكيل أو الموزون أو المعدود أو المذروع، وكذا ما اشتري بصفة أو رؤية متقدمة قبل قبضه، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: لا يجوز بيع الطعام الربوي فقط قبل قبضه، وأما غير الربوي من الطعام فيجوز بيعه قبل قبضه، وهو رواية عن مالك (¬2). وسوف نأتي على ذكر أدلة هذه الأقوال إن شاء الله تعالى في باب التصرف في المبيع، عند ذكر أحكام المبيع من هذا الكتاب، فانظره هناك مشكورا. رابعًا: تأثير تقسيم المال إلى عقار ومنقول في حقوق الارتفاق سبق لنا مناقشة مالية الحقوق، ومنها حقوق الارتفاق، وعرفنا حقوق الارتفاق بأنه: حق مقرر على عقار لمنفعة عقار آخر مملوك لمن لا يملك العقار الأول (¬3). ومن خلال تعريفها يتبين أن حقوق الارتفاق هي حقوق تتعلق بالعقار وحده، ولا تتعلق بالمنقول. ¬
فيمكن أن نقول من فوائد تقسيم المال إلى عقار ومنقول، اختصاص العقار بحقوق الارتفاق والجوار دون غيره من الأموال المنقولة. وللتوسع أكثر في حقوق الارتفاق يراجع الفصل الخاص بمالية حقوق الارتفاق، وقد سبق ذكره في هذا المجلد والله أعلم.
المبحث الرابع في تقسيم المال إلى عام وخاص
المبحث الرابع في تقسيم المال إلى عام وخاص قسم الفقهاء المال إلى عام وخاص: فالمال العام: هو كل مال استحقه المسلمون، ولم يتعين مالكه منهم، وذلك كالزكاة والفيء، وخمس الغنائم المنقولة، وخمس الخارج من الأرض ... ونحوها (¬1). والمال الخاص: هو المال الذي يملكه شخص معين، أو أشخاص محصورون (¬2). والأصل في التفريق بين المال العام والخاص: (ح-13) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا ثور الشامي، عن حريز ابن عثمان، عن أبي خداش، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). ¬
فيؤخذ من هذا الحديث أن ما تعلقت به حاجة الجماعة في الانتفاع به في أشياء معينة، فإنه لا يجوز أن تقع تحت التملك الفردي، وإنما تحجر أعيانها، وتباح منافعها، وذلك كما في الأنهار الكبيرة والطرق والجسور والأراضي المتروكة حول القرى لتستعمل من قبل أهلها للرعي والحصاد وغيرها. قال أبو يوسف: "الفرات ودجلة لجميع المسلمين، فهم فيه شركاء" (¬1). وفي البحر الرائق: "لا يملك الإِمام أن يقطع ما لا غنى للمسلمين عنه، كالملح والآبار يستسقي منها الناس" (¬2). وقال ابن القيم: "الماء خلقه الله في الأصل مشتركا بين العباد والبهائم، وجعله سقيا لهم" (¬3). وقال ابن قدامة: "ما تعلق بمصالح القرية كفنائها، ومرعى ماشيتها، ¬
الفرق بين المال العام والخاص
ومحتطبها، وطرقها، ومسيل مائها, لا يملك بالإحياء، ولا نعلم فيه خلافًا بين أهل العلم" (¬1). وقال أيضًا: "وما كانا الشوارع والطرقات والرحاب وبين العمران، فليس لأحد إحياؤه ... لأن ذلك يشترك فيه المسمون، وتتعلق به مصلحتهم، فأشبه مساجدهم" (¬2). الفرق بين المال العام والخاص: [م - 30] من أحكام المال الخاص: جواز التصرف فيه بأصالة أو بوكالة أو ولاية، ويقطع سارقه بشرطه. يقابله المال العام: كبيت مال المسلمين، والموقوف على المسلمين عامة، وكل ما كان نفعه للمسلمين عامة. فهل يقطع السارق من بيت المال؟ فيه خلاف. فقيل: لا قطع مطلقاً، وهو مذهب الحنفية، والحنابلة (¬3)، وبه يقول الحكم ابن عتيبة - رحمه الله - (¬4)، وإبراهيم النخعي (¬5). ¬
وقيل: يقطع مطلقاً، وهو مذهب المالكية (¬1)، واختيار ابن حزم (¬2)، واختاره حماد بن أبي سليمان (¬3). وقيل: إن سرق من بيت مال المسلمين، وهو مسلم، فإن فرز المال لطائفة ليس هو منهم قطع لانتفاء الشبهة، وإن لم يفرز فلا قطع، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬4)، والله أعلم وبحث هذه المسألة يأتي في باب الحدود إن شاء الله تعالى. ¬
المبحث الخامس في تقسيم المال إلى أصول وثمار
المبحث الخامس في تقسيم المال إلى أصول وثمار الأصول: جمع أصل، وهو ما يبنى عليه غيره، والمراد به عند الفقهاء: الأرض، والدور، والبساتين. والثمار: جمع ثمر، كجبال وجبل، وواحد الثمر: ثمرة (¬1). وكثير من الفقهاء في باب المعاملات يفرد بابًا باسم (بيع الأصول والثمار) ويذكر ما يتبع الأصول في البيع وما لا يتبعها، كما يتكلمون أحيانًا متى يجوز بيع الثمرة دون الأصل، ومتى يجوز بيعها مع أصلها، ومتى يجوز بيع الأصل دون الثمرة (¬2). وقد تكلمنا والحمد لله على فضله عن هذا المبحث عند الكلام على شمول المبيع، وما يدخل فيه، فانظره هناك مشكورًا. ¬
الباب الثاني في حكم البيع وبيان أركانه
الباب الثاني في حكم البيع وبيان أركانه الفصل الأول: في حكم البيع بعد أن عرفنا البيع، وأنه مبادلة مال بمال، وأخذنا تصورا شاملا عن تعريف المال، وأقسامه، والأثر الفقهي لهذه الأقسام نأتي في هذا الفصل في بيان حكمه؛ لأن الحكم على الشيء يجب أن يكون بعد معرفته، وتصوره. [م - 31] وقد اتفق الفقهاء على جواز البيع في الجملة، "قال ابن عبد السلام: كما أن حقيقته معلومة لكل الناس، فحكمه من الإباحة معلوم من الدين بالضرورة، فالاستدلال المذكور على ذلك في الكتب والمجالس إنما هو على طريق التبرك بذكر الآيات والأحاديث مع تمرين الطلبة على الاستدلال" (¬1). وقد دل على جوازه الكتاب والسنة، والإجماع، والمعقول. أما الكتاب، فقدل الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]. وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]. ¬
وأما السنة فأحاديث كثيرة، من بيعه - صلى الله عليه وسلم -، وشرائه، وإذنه في البيع، ووقوعه بحضرته. (ح- 14) ومن هذه الأحاديث: ما رواه مسلم من طريق أبي الأشعث، عن عبادة بن الصامت مرفوعًا، وفيه: فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد (¬1). (ح- 15) ومنها ما رواه البخاري ومسلم من طريق شعبة، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث رفعه، إلى حكيم بن حزام - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو قال: حتى يتفرقا. فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما (¬2). وقال ابن قدامة: "أجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة" (¬3). وأما المعقول فقال ابن قدامة: "والحكمة تقتضيه -يعني تقتضي جوازه- لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه، وصاحبه لا يبذله بغير عوض، ففي شرع البيع وتجويزه شرع طريق إلى وصول كل واحد منهما إلى غرضه، ودفع حاجته" (¬4). ومع أن قولنا: إن البيع جائز في الجملة، فقد يعرض للبيع الأحكام الخمسة: فقد يكون محرمًا، كما في البيوع المنهي عنها، كبيع الميتة، والدم، والخنزير، والخمر. وقد يكون واجبًا، كما لو كان البيع على من اضطر إلى شراء طعام أو شراب ¬
لإنقاذ مهجة، وبعضهم اعتبر الواجب هنا التمليك، وليس البيع نفسه (¬1)، ومثل له بعضهم ببيع القاضي مال المفلس بشروطه (¬2). وقد يكون مندوبا، كما في بيع الطعام زمن الغلاء، ومثله بيع الكتب النافعة مع النية الصالحة. وقد يكون مكروها، كما في البيوع المكروهة، وذلك نحو تلقي الجلب، وبعضهم يمثل في البيع والشراء ممن أكثر ماله حرام، وقد اختلط بالحلال. ¬
الفصل الثاني في أركان البيع
الفصل الثاني في أركان البيع تعريف الركن في الاصطلاح (¬1): عرفه ابن نجيم: بأن الركن، هو جزء الماهية (¬2). وعرفه بعض المالكية: ما تحقق به الماهية، ولو لم يكن جزءًا منها حقيقة (¬3). وعرفه بعض الشافعية: بأن أركان الشيء: أجزاؤه في الوجود، التي لا يحصل إلا بحصولها، داخلةً في حقيقته، محققةً لهويته (¬4). وفي الموسوعة الكويتية: الركن ما لا يتم الشيء إلا به، سواء أكان جزءا منه، أم لازمًا له (¬5). أركان البيع عند الفقهاء: [م - 32] اختلف الفقهاء في تحديد أركان البيع: ¬
وسبب الاختلاف
فقيل: أركان البيع هي الصيغة فقط (الإيجاب والقبول)، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: أركان البيع: الصيغة (الإيجاب والقبول). والعاقدان (البائع والمشتري). والمحل (المعقود عليه من مبيع وثمن)، وهذا مذهب الجمهور (¬2). وسبب الاختلاف: أن الحنفية يرون أن الركن: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءا داخلا في حقيقته، وهذا خاص في الإيجاب والقبول، أما العاقدان والمعقود عليه فهي من لوازم العقد، وليست جزءا من حقيقة البيع، وإن كان يتوقف عليها وجوده. بينما الجمهور يرون أن الركن: ما توقف عليه وجود الشيء وتصوره عقلا، سواء أكان جزءا من حقيقته أم لم يكن، ووجود البيع يتوقف على العاقدين والمعقود عليه، وإن لم يكن هؤلاء جزءا من حقيقته. ومذهب الحنفية أجود، وأدق، والجمهور لا يطردون في تحديد الأركان، فاللوازم تارة يعتبرونها من الأركان، وتارة لا يدخلونها، فهم يجعلون الفاعل ¬
ركنا في مثل عقد البيع والنكاح، ولا يجعلونه ركنا في العبادات كالصلاة والحج، وإن كان لا يتصور قيام الحج والصلاة بدون فاعل. قال في المصباح المنير: "والفرق عسر، ويمكن أن يقال: الفرق أن الفاعل علة لفعله، والعلة غير المعلول، فالماهية معلولة، فحيث كان الفاعل متحدا استقل بإيجاد الفعل كما في العبادات، وأعطي حكم العلة العقلية، ولم يجعل ركنا، وحيث كان الفاعل متعددا لم يستقل كل واحد بإيجاد الفعل، بل يفتقر إلى غيره؛ لأن كل واحد من العاقدين غير عاقد بل العاقد اثنان، فكل واحد من المتبايعين مثلا غير مستقل، فَبَعُد بهذا الاعتبار عن شبه العلة، وأشبه جزء الماهية في افتقاره إلى ما يقومه، فناسب أن يجعل ركنًا" (¬1). ولا حاجة إلى هذا الفارق العسر كما وصفه، بل يقال: مذهب الحنفية أقوى، ومطرد في تحديد أركان الشيء من عبادات ومعاملات، ويبقى الاختلاف في تحديد الأركان ليس له تأثير قوي في البيع إلا في بعض الصور القليلة وذلك بحسب مصطلح الحنفية في التفريق بين البيع الفاسد والباطل، فالباطل: هو الذي لحق الخلل فيه ركن البيع، والفاسد ما كان مشروعا بأصله، دون وصفه، وقد سبق الكلام عليه عند الكلام على أقسام العقد، ولله الحمد. وقد سمى بعض الباحثين أركان البيع: مقومات العقد، وهذا يدخل فيه الصيغة والعاقدان ومحل العقد باتفاق، وبهذا نخرج من خلاف الحنفية مع الجمهور. وبعض الحنفية يرى أن ركن البيع عبارة عن مبادلة مال بمال، وإنْ أُطْلق على الإيجاب والقبول أو على التعاطي الذي يقوم مقامهما فذلك إنما هو من قبيل إطلاق اسم المدلول على الدال (¬2). ¬
الباب الثالث في دراسة صيغة التعاقد (أحكام الإيجاب والقبول)
الباب الثالث في دراسة صيغة التعاقد (أحكام الإيجاب والقبول) عرفنا فيما سبق أن أركان البيع الصيغة (الإيجاب والقبول)، وهذا متفق عليه بين الأئمة. وزاد الجمهور العاقدين (البائع والمشتري)، والمعقود عليه (المبيع والثمن). وسوف أتناول أركان البيع بالدراسة التفصيلية، فخصصت الباب الثالث، في أحكم الإيجاب والقبول (الصيغة). والباب الرايع، في أحكام العاقدين (البائع والمشتري). والباب الخامس في أحكام المعقود عليه (المبيع والثمن). حتى إذا وفقنا الله - سبحانه وتعالى -، وخلصنا من هذه الأبواب الثلاثة يكون القارئ قد أحاط علما بأحكام أركان البيع، من إيجاب وقبول، وعاقد، ومعقود عليه. أسأل المولى وحده، عونه وتوفيقه. كما أن دراسة أركان البيع ستتضمن إن شاء الله تعالى دراسة شروط البيع إلا أن هذه الشروط ستكون مفرقة على أركان البيع: فشروط البيع الخاصة بالصيغة سنعرضها عند الكلام على شروط الإيجاب والقبول. وشروط البيع الخاصة بالعاقدين سنعرضها عند الكلام على أحكام العاقدين. وشروط البيع الخاصة بالمعقود عليه من ثمن ومثمن سنعرضها عند التعرض لأحكام المعقود عليه. والله ولي التوفيق.
تمهيد في تعريف الإيجاب والقبول
تمهيد في تعريف الإيجاب والقبول عقد البيع لا يتم إلا إذا وجدت إرادتان: إرادة باطنة: تعرف عند الفقهاء بالقصد (النية). وإرادة ظاهرة: تعرف عندهم بالصيغة (الإيجاب والقبول). والأولى: هي الأصل، والثانية دالة عليها. فالنية وحدها لا تكفي. يقول الإمام الشافعي - رحمه الله -: "النية لا تصنع شيئاً، وليس معها كلام" (¬1). ويقول ابن عابدين: "البيع لا ينعقد بالنية" (¬2). فلا تعتبر النية وحدها شروعا في البيع، أو النكاح، أو الإجارة أو الهبة، أو الوقف، أو الوصية، أو غيرهما من أصناف المعاملات؛ لأننا لا نعلم القصد المنوي، فلا بد من دلالة قولية أو فعلية على قصد الإنسان ونيته، ولا يغني أحدهما عن الآخر (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وهذه الدلالة الظاهرة هو ما يسمى عند الفقهاء بالإيجاب والقبول، وقد اختلف الحنفية مع الجمهور في تحديد تعريف الإيجاب (¬1)، والقبول (¬2). ¬
فقيل: الإيجاب: ما يذكر أولاً من كلام أحد المتعاقدين، ولا فرق بين أن يقع الكلام من البائع أو يقع من المشتري. والقبول: ما يذكر ثانيًا من الآخر، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: الإيجاب: هو اللفظ الصادر من قبل البائع، كقول البائع: بعتك، أو ملكتك أو نحوهما. والقبول: هو اللفظ الصادر من المشتري، كقوله: اشتريت، أو قبلت، أو تملكت، وهذا مذهب الجمهور (¬2). وهذا الكلام خلاف اصطلاحي ليس له أثر فقهي اللهم إلا فيمن يخالف في تقدم القبول على الإيجاب في بعض الحالات، فمن جعل الكلام الأول هو الإيجاب مطلقًا سواء صدر من البائع أو المشتري لا تأتي مسألة تقدم القبول على الإيجاب في تفريعاته، ومن جعل القبول هو لفظ المشتري خاصة، تكلم في مسألة تقدم القبول على الإيجاب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيان حكمه مفصلًا في مباحث مستقلة. ¬
الفصل الأول في أقسام الإيجاب والقبول
الفصل الأول في أقسام الإيجاب والقبول المبحث الأول في انقسام الإيجاب والقبول إلى صريح وكناية تنقسم ألفاظ الإيجاب والقبول إلى صريح وكناية (¬1): ويدور الصريح على معنيين لدى الفقهاء: المعنى الأول: الصريح بمعنى: الخالص، ومنه قوله في الحديث: (هذا صريح الإيمان) أي خالصه (¬2). فيكون معنى اللفظ الصريح في البيع: هو اللفظ الذي يستعمل في البيع خاصة دون غيره، كقوله: بعت، وقول المشتري: اشتريت. ¬
وهذا يوافق مذهب الشافعية. يقول السيوطي: "الصريح: اللفظ الموضوع لمعنى لا يفهم منه غيره عند الإطلاق، ويقابله الكناية" (¬1). ولذلك لا يعتبرون اللفظ صريحا إذا لم يرد في الشرع استعماله، وإن شاع استعماله في العرف. يقول الزركشي: "وأما ما لم يرد في الكتاب والسنة، ولكن شاع في العرف كقوله لزوجته: أنت علي حرام، فإنه لم يرد شرعاً الطلاق به، وشاع في العرف إرادته، فوجهان، والأصح التحاقه بالكناية" (¬2). المعنى الثاني: الصريح بمعنى البين الواضح، ومنه قوله: صرح فلان بالقول: إذا بينه وقصد الإخبار عنه. فيكون معنى اللفظ الصريح في البيع: ما يفهم منه لفظ البيع مما يستعمل فيه كثيرا وإن استعمل في غيره، مثل جعلته لك، وخذه، وتسلمه (¬3)، وهو لك، والله يربحك فيه؛ لأن هذه الألفاظ وإن استعملت في البيع وغيره إلا أنه قد كثر استعمالها في البيع وعرفت به، فصارت بينة واضحة في بابها، كالغائط الذي وضع للمطمئن من الأرض، ثم استعمل على وجه المجاز في إتيان قضاء الحاجة، فكان فيه أبين وأشهر منه فيما وضع له، وكذلك في مسألتنا مثله (¬4). ¬
وهذا هو مذهب الجمهور في تعريف الصريح من الكناية: يقول الكاساني الحنفي: "الصريح اسم لما هو ظاهر المراد، مكشوف المعنى عند السامع، من قولهم صرح فلان بالأمر: أي كشفه وأوضحه، وسمي البناء المشرف صرحا لظهوره على سائر الأبنية" (¬1). وعرف الكاساني كناية الطلاق: بأنه كل لفظ يستعمل فيه وفي غيره (¬2). وذكر القرافي المالكي في تعريف الصريح بأنه: كل لفظ يدل على معنى لا يحتمل غيره إلا على وجه البعد. والكناية: هي اللفظ المستعمل في غير موضعه لغة (¬3). وقال ابن قدامة: "الصريح في الشيء ما كان نصا فيه، لا يحتمل غيره إلا احتمالا بعيدا" (¬4). ¬
وهذا التعريف نفس تعريف القرافي. هذا هو التعريف الاصطلاحي للصريح والكناية، وبيان الخلاف بين الجمهور والشافعية. وكما قسم الفقهاء التعبير إلى صريح وكناية، قسم فقهاء القانون التعبير عن الإرادة إلى صريح، وضمني، أو مباشر وغير مباشر (¬1). ¬
الفرع الأول اللفظ الصريح هل هو عرف أو شرعي
الفرع الأول اللفظ الصريح هل هو عرف أو شرعي [م - 33] نتيجة لاختلاف الجمهور مع الشافعية في تعريف الصريح، اختلفوا فيما تثبت به الصراحة. فالجمهور يرون أن الصريح يثبت بغلبة الاستعمال في العرف. جاء في حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: "الصريح ما كان ظاهر المراد لغلبة الاستعمال" (¬1). وفي حاشية ابن عابدين: "الصريح ما غلب في العرف استعماله" (¬2). ¬
ويقول القرافي: "إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك، لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأَجره عليه، وأفته به، دون عرف بلدك، والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين، والسلف الماضين، وعلى هذه القاعدة تتخرج أيمان الطلاق والعتاق، وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى نية، وقد يصير الكناية صريحًا مستغنيا عن النية" (¬1). ويقول في موضع آخر: "ثم الكناية تنقسم إلى ما غلب استعماله في العرف في الطلاق، فيلحق بالصريح في استغنائه عن النية ... لقيام الوضع العرفي مقام الوضع اللغوي" (¬2). ويقول ابن القيم - رحمه الله -: "فكون اللفظ صريحًا أو كناية أمر يختلف باختلاف عرف المتكلم، والمخاطب، والزمان، والمكان، فكم من لفظ صريح عند قوم، وليس بصريح عند آخرين، وفي مكان دون مكان، وزمان دون زمان، فلا يلزم من كونه صريحًا في خطاب الشارع أن يكون صريحًا عند كل متكلم، وهذا ظاهر" (¬3). بينما الشافعية يرون أن مأخذ الصريح ورود الشرع، ولذلك مر علينا قول الزركشي: "وأما ما لم يرد في الكتاب والسنة، ولكن شاع في العرف كقوله لزوجته: أنت علي حرام، فإنه لم يرد شرعًا الطلاق به، وشاع في العرف إرادته، فوجهان، والأصح التحاقه بالكناية" (¬4). ¬
والصحيح رأي الجمهور، وأن مرد الصريح والكناية إلى العرف خاصة في باب المعاملات؛ لأن المعتبر في ذلك مقاصد الناس، وما يختارون في الدلالة عليها من الألفاظ، ولم بلفظ شرعي لا يجوز تجاوزه. ¬
الفرع الثاني الفرق بين الصريح والكناية
الفرع الثاني الفرق بين الصريح والكناية جاء في موسوعة القواعد والضوابط الفقهية: الصريح إذا صادف محله لم تؤثر النية فيه (¬1). وقال الزركشي: الصريح لا يحتاج إلى نية (¬2). [م - 34] والصريح يقع عند الجمهور مطلقا، نوى أو لم ينو. يقول ابن ملك الحنفي: "الصريح يستغني عن النية، كقولك بعت، واشتريت، فإن المقصود حاصل بهما، نوى أو لم ينو، كالطلاق والعتاق" (¬3). ويقول السيوطي: "الصريح لا يحتاج إلى نية، والكناية لا تلزم إلا بنية" (¬4). والكناية إن اقترنت بها دلالة حالية، وقع بدون نية, لأنها والحالة كذلك بمنزلة الصريح، وإن لم يكن هناك دلالة حالية لا يقع لفظ الكناية إلا مقترنا بالنية (¬5). ¬
وسبب افتقار الكناية إلى النية أن الكناية تحتمل أكثر من معنى، فافتقرت إلى النية لتعيين المراد. يقول القرافي: "والنية إنما يحتاج إليها لتمييز المراد من غير المراد في اللفظ المتردد، أما ما هو صريح بوضع لغوي أو عرفي فينصرف بصراحته لما وضع له من غير احتياج إلى نية، وما لم يغلب استعماله من الكنايات فهو مجاز على أصله، والمجاز يفتقر إلى النية الناقلة عن الحقيقة إليه؛ لأنها الأصل، ولم ينسخها عرف" (¬1). [م - 35] وهل يكتفى في التعبير الصريح بمجرد صدور اللفظ، أو لا بد من قصد المعنى؟ في ذلك خلاف: قال في شرح التلويح على التوضيح: "الصريح لا يحتاج إلى النية، يعني: أن الحكم الشرعي يتعلق بنفس الكلام، أراده، أو لم يرده، حتى لو أراد أن يقول: سبحان الله، فجرى على لسانه أنت طالق، أو أنت حر، يقع الطلاق أو العتاق، نعم لو أراد في أنت طالق رفع حقيقة القيد يصدق ديانة لا قضاء" (¬2). وقيل: لا بد من قصد اللفظ، واستشكل هذا، بأننا إذا اعتبرنا القصد (النية) لم يكن هناك فرق بين الصريح والكناية. قال الزركشي: "وقد استشكل هذا بقولهم: يشترط قصد حروف الطلاق ¬
لمعنى الطلاق، وعلى هذا فلا فرق بين الصريح والكناية، وقد تكلموا في وجه الجمع بكلام كثير، وأقرب ما يقال فيه: أن معنى قولهم: (الصريح لا يحتاج إلى نية) أي: نية الإيقاع لأن اللفظ موضوع له، فاستغنى عن النية. أما قصد اللفظ فيشترط لتخرج مسألة سبق اللسان، ومن ها هنا يفترق الصريح والكناية، فالصريح يشترط فيه أمر واحد: وهو قصد اللفظ. والكناية يشترط فيها أمران: قصد اللفظ، ونية الايقاع. وينبغي أن يقال: أن يقصد حروف الطلاق للمعنى الموضوع له ليخرج أنت طالق من وثاق" (¬1). ¬
الفرع الثالث تقسيم الإشارة إلى صريح وكناية
الفرع الثالث تقسيم الإشارة إلى صريح وكناية [م - 36] انفرد الشافعية في تقسيم الإشارة إلى صريح وكناية: يقول الغزالي - رحمه الله -: "أما الإشارة فهي معتبرة من الأخرس، وتنقسم إلى صريح وكناية. فالصريح: ما يتفق الكافَّة على فهمه. والكناية: ما يفطن له بعض الناس" (¬1). فإشارة الأخرس كالبيان، تلزمه أحكامها، ويجوز نكاحه بها، وطلاقه، وعتاقه، وبيعه، وشراؤه، إلى غير ذلك من الأحكام، والدليل على ذلك أن الإشارة كانت بيانا في الشرع من القادر، فما ظنك بالعاجز، ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام كان أفصح العرب، ومع هذا أنبأ بالإشارة، بقوله: (الشهر هكذا). الحديث (¬2). وقوله تعالى عن مريم {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29]. حيث فهم بنو إسرائيل كلام مريم من إشارتها، وأنكروا عليها كيف تطلب منهم أن يكلموا صبيا في المهد، مثله لا يتكلم عادة. ... ¬
الفرع الرابع في قول البائع هو لك بكذا
الفرع الرابع في قول البائع هو لك بكذا [م - 37] قوله: (هو لك بكذا) هل يعتبر من الصريح أحد من الكناية؟ اعتبر الشافعية: قول البائع: هو لك بكذا من الكناية (¬1). بينما صرح ابن تيمية - رحمه الله - بأن مذهب مالك وأحمد بأن دلالة الحال في الكنايات تجعلها صريحة، ويقوم مقام إظهار النية (¬2). فقدله: (هو لك بكذا) فكونه يربط الملك بذكر العوض دليل على أنه أراد البيع، ولم يرد الهبة أو أي عقد آخر، وهذا بمنزلة الصريح، كما أن من دلالة الحال كون الناس في سوق تعرض فيه البضائع للبيع، فيقول صاحب البضاعة: هو لك بكذا، فمثل هذا يجعل هذا اللفظ من قبيل اللفظ الصريح، وليس من قبيل الكنايات. ¬
الفرع الخامس عرض البضائع مع بيان أثمانها إيجاب بمنزلة الصريح
الفرع الخامس عرض البضائع مع بيان أثمانها إيجاب بمنزلة الصريح [م - 38] لا يشترط في الإيجاب أن يكون موجها إلى شخص معين بالذات، بل يصح الإيجاب ولو كان موجهًا لشخص غير معين، كالإيجاب الموجه للجمهور؛ وذلك لأن الموجب لا يعنيه شخص من يوجه إليه الإيجاب، ولا يهمه إلا أن يبيع سلعته لأي شخص يتقدم لشرائها بالثمن الذي حدده لها. ومن صوره: عرض البضائع مع بيان أثمانها إيجاب بمنزلة الصريح، وإن لم يكن موجها لشخص بذاته. وقوف عربات الركوب ونحوها في الأماكن المعدة لذلك يلحق بالصريح (¬1). ومنه ما يعرض في بعض الأسواق من نشرات شهرية تحمل أسعارًا مخفضة لبضائع محددة، ويكون الإيجاب فيها محددا تارة بالمدة، فيقال: العرض سار من تاريخ كذا، إلى تاريخ كذا، وتارة يقال: العرض سار إلى نفاذ الكمية، فهذا إيجاب صريح مكتوب. فإن كان العرض مطلقا غير محدد بالزمن فليس على التاجر أن يكون مقيدا بالثمن المكتوب في الإعلان، أو في النشرة إذا مضى بين صدور هذه الكتابة ¬
ووصول قبول العميل وقت يمكن أن تتغير فيه الأسعار، أو كانت هناك ظروف خاصة اقتضت تغير الأسعار تغيرا فجائيا سريعا (¬1). ومنه الإيجاب بطريق الإعلانات والنشر المتعامل بها إذا قامت دلائل تفيد قطعاً أن المراد به الإيجاب، وأما عند الشك فلا تعتبر إيجابا، وإنما تعتبر دعوة إلى التفاوض (¬2). ¬
الفرع السادس صلاحية الكنايات لإنشاء العقود وغيرها
الفرع السادس صلاحية الكنايات لإنشاء العقود وغيرها [م - 39] إذا عرفنا الفرق بين الصريح والكناية، فلا إشكال بأن الألفاظ الصريحة ينعقد بها البيع، ولكن السؤال المتبادر، ما مدى صلاحية ألفاظ الكناية لإنشاء العقود المالية، فهل يتوقف انعقادها على الألفاظ الصريحة فقط، أو يمكن أن تنعقد بالكناية أيضًا؟ في هذا خلاف بين الفقهاء: فقيل: تصلح الكنايات لإنشاء الطلاق والخلع ونحوهما, وهذا مذهب الجمهور. والعقود المالية من بيع ونحوه مقيس عليهما (¬1)، وذلك لأن الفقهاء جعلوا أحكام الصريح والكناية في باب الطلاق أصلاً (¬2)، ولا يعني هذا اختصاصه بالحكم، بل غيره من التصرفات مقيس عليه. يقول ابن ملك الحنفي: "الصريح يستغني عن النية، كقولك بعت، ¬
واشتريت, فإن المقصود حاصل بهما، نوى أو لم ينو، كالطلاق والعتاق" (¬1). ويقول الرملي الشافعي في باب البيع: "لا بد من قصد اللفظ لمعناه، كما في نظيره الطلاق" (¬2). ويقول الباجي المالكي: "ليس للإيجاب والقبول لفظ معين وكل لفظ أو إشارة فهم منه الإيجاب والقبول لزم به البيع وسائر العقود إلا أن في الألفاظ ما هو صريح لا يحتمل التأويل مثل أن يقول البائع بعتك هذا الثوب بدينار فيقول المبتاع قد قبلت أو يقول المبتاع قد ابتعت منك هذا الثوب بدينار فيقول البائع قد بعته منك فهذا يلزم به العقد المتبايعين، وأما الألفاظ المحتملة فلا يلزم البيع بها بمجردها حتى يقترن بها عرف أو عادة أو ما يدل على البيع .. " (¬3). وفي إعانة الطالبين: "صرح بالصيغة بقوله: بإيجاب وقبول ... ثم هي على قسمين: صريح وكناية. والأول: مما دل على التمليك أو التملك دلالة ظاهرة، مما اشتهر، وكرر على ألسنة حملة الشرع، كبعتك، وملكتك ... والثاني: ما احتمل البيع وغيره، كجعلته لك، وخذه، وتسلمه ... " (¬4). كما صرح الفقهاء بأن ألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية (¬5). ¬
وقسم الفقهاء ألفاظ العتق إلى صريح وكناية مما يدل على أن التقسيم ليس خاصا في باب الطلاق (¬1). وعللوا ذلك بأن العتق إزالة ملك، فانقسم إلى صريح وكناية، ومقتضى التعليل إلحاق البيع به بالحكم بجامع أن كلا منهما إزالة ملك (¬2). كما أن الوقف إزالة لملك الواقف، وقد قسموا ألفاظه أيضاً إلى صريح وكناية (¬3). وذكر ابن مفلح في الفروع بأن جميع العقود والشروط، إطلاق الاسم فيها يتناول المنجز والمعلق، والصريح والكناية، ونسب ذلك لابن تيمية (¬4). وذهب ابن حزم - رحمه الله - إلى أن لفظ الكناية لا يقع به بيع ولا طلاق (¬5). يقول ابن حزم: ولا يجوز البيع إلا بلفظ البيع، أو بلفظ الشراء، أو بلفظ يعبر به عن سائر اللغات عن البيع ... (¬6). ¬
دليل الجمهور على أن الكنايات معمول بها في العقود
دليل الجمهور على أن الكنايات معمول بها في العقود: (ح-16) ما رواه البخاري من طريق الأوزاعي، قال: سألت الزهري أي أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - استعاذت منه، قال: أخبرني عروة عن عائشة - رضي الله عنها - أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك فقال لها: لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك (¬1). (ح-17) وروى البخاري من طريق ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب بن مالك -وكان قائد كعب من بنيه حين عمي- قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن قصة تبوك، وفي الحديث: حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيني، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها, ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر (¬2). وجه الاستدلال من الحديثين: لفظ: "الحقي بأهلك" استعملها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الطلاق، واستعملها كعب في الاعتزال، وليس في الطلاق، وهذا دليل على أن اللفظ ليس صريحا، وإنما هو من قبيل الكناية، فإن نوى به الطلاق وقع، وإن نوى به شيئًا آخر لم يقع، والله أعلم. الدليل الثاني: (ث-2) ما رواه البخاري من طريق سعيد بن جبير. ¬
الدليل الثالث
قال ابن عباس في حديث طويل، وفيه: جاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل، فسأل امرأته عنه .... وفي الحديث، فقال إسماعيل: هل جاءكم من أحد، قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك، فأخبرته, وسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلقها ... الحديث (¬1). وجه الاستدلال منه كالاستدلال من الحديث السابق. الدليل الثالث: عقود المعاوضات مبنية على الرضا، فإذا تحقق حصل المقصود، والكناية إذا صاحبتها النية دلت على المراد، حيث تقوم النية بتعيين أحد الاحتمالين أو الاحتمالات الواردة. دليل ابن حزم على عدم اعتبار ألفاظ الكناية في العقود استدل ابن حزم بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]. وقال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم: 23]. فأخذ من الآيتين أن الأسماء توقيفية، لا سيما أحكام الشريعة التي لا يجوز فيها الأحداث، ولا تعلم إلا بالنصوص، وقد قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. فصرح باسم البيع، فمتى أخذ مال بغير الاسم الذي أباح الله تعالى به أخذه كان باطلاً بنص القرآن، قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. ¬
ولا خلاف بين المسلمين من أن رجلاً لو قال لرجل أقرضني هذا الدينار، وأقضيك ديناراً إلى شهر، أو لم يحد وقتا فإنه حسن وأجر وبر. وعندنا إن قضاه دينارين، أو نصف دينار فقط, ورضي كلاهما فحسن. ولو قال: بعني هذا الدينار بدينار إلى شهر، أو لم يسم أجلا، فإنه ربا وإثم وحرام، وكبيرة من الكبائر، والعمل واحد، وإنما فرق بينهما الاسم فقط (¬1). وهذا القول من ابن حزم لا شك أنه من أضعف الأقوال، وهو يتسق مع جمود الظاهرية، لكنه مخالف للنصوص، ولعمل الناس من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، وقياس البيع على القرض قياس مع الفارق، والذي فرق بينهما المعنى، وليس ظاهر الأسماء، فعقد البيع يقصد به المعاوضة والربح، وعقد القرض يقصد به الإرفاق والإحسان، ولذلك اغتفر فيه ما لا يغتفر في البيع، وقوله: إن البيع مثل الربا والذي فرق بينهما هو الاسم فقط مخالف للمنصوص والمعقول، فالله يقول على لسان أهل الجاهلية {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فأي فرق بين هذا القول وبين قول ابن حزم عفى الله عنه، فقال الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، ولو كان الربا والبيع في المعنى واحداً، لكان حكمهما واحداً أيضًا، فإن الله لا يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين متفرقين إلا لحكمة بالغة، فلما فرق بين البيع وبين الربا علم أن هناك فرقا بينهما ولابد، ولذلك اعتبر الشرع الربا من الظلم البين، {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]. إذا خلصنا أن ألفاظ البيع منها ما هو صريح وكناية، فاعلم أن صيغ الصريح والكناية التي وردت في كلام الفقهاء، هي الماضي والمضارع والأمر، والاستفهام، ولفظة (نعم) والجملة الإسمية، وسيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى. ¬
المبحث الثاني في اتقسام الصيغة إلي قولية وفعلية
المبحث الثاني في اتقسام الصيغة إلي قولية وفعلية يقول الباجي: "كل لفظ أو إشارة فهم منه الإيجاب والقبول لزم به البيع وسائر العقود ... " (¬1). [م - 40] ذهب الجمهور إلى أن الإيجاب والقبول يطلق على الصيغة القولية فقط، مثل: بعني هذا بعشرة، فتقول: قبلت، وأن المعاطاة ونحوها من إشارة أو كتابة لا يطلق عليها إيجابا ولا قبولا (¬2). وقيل: إن الإيجاب والقبول اسم لكل تعاقد بين طرفين، فإن إثباته يسمى ¬
إيجابا، والتزامه يسمى قبولا. وهو مذهب المالكية (¬1)، واختيار ابن تيمية (¬2). وهو الصواب الموافق للغة، وأما قصر الجمهور الإيجاب والقبول على الصيغة القولية فهو تخصيص عرفي من لدن هؤلاء الفقهاء، وليس تخصيصا شرعيا، يقول الكاساني في بدائع الصنائع: "أما القول، فهو المسمى بالإيجاب والقبول في عرف الفقهاء ... " (¬3). وجاء في النكت على المحرر: "قال الشيخ تقي الدين (ابن تيمية): عبارة أصحابنا وغيرهم تقتضي أن المعاطاة ونحوها ليست من الإيجاب والقبول، وهذا تخصيص عرفي، فالصواب الاصطلاح الموافق للغة وكلام المتقدمين: أن لفظ الإيجاب والقبول يشتمل على صور العقد قولية أو فعلية" (¬4). ¬
لأن الإيجاب والقبول حقيقته هو كناية عن إرادة المتعاقدين، والتعبير عن هذه الإرادة يأخذ صورا مختلفة، فقد يكون باللفظ، أو بالكتابة، أو بالإشارة المعبرة عن الإرادة، أو بتبني موقفاً لا تدع ظروف الحال شكا في دلالته على المقصود، كما هو الشأن في سيارات الأجرة التي تقف في مكان مخصوص تنتظر الركاب. يقول الباجي: "كل لفظ أو إشارة فهم منه الإيجاب والقبول لزم به البيع وسائر العقود ... " (¬1). فجعل اللفظ والإشارة معبرة عن الإيجاب والقبول الذي هو إرادة المتعاقدين، ولم يجعل اللفظ نفسه هو الإيجاب والقبول حتى يقال باختصاص الإيجاب والقبول بالصيغة القولية. ويقول الحطاب في مواهب الجليل: "ما يدل على الرضا من البائع، ويسمى الإيجاب، وما يدل على الرضا من المشتري، ويسمى القبول, سواء كان الدال قولا ... أو كان فعلا كالمعاطاة" (¬2). وما دام إطلاق الإيجاب والقبول على الصيغة اللفظية اصطلاحا عرفيا, وليس تخصيصا شرعيا، فالمسألة سهلة المأخذ، فالاصطلاح بين أهل الاختصاص لا مشاحة فيه، وإنما اقتضى الأمر التنبيه عليه. ¬
المبحث الثالث في بيان الصيغ القولية
المبحث الثالث في بيان الصيغ القولية الفرع الأول الإيجاب والقبول بصيغة الماضي المسألة الأولى في صيغة الماضي المجرد من الاستفهام [م - 41] صيغة الماضي المجردة من الاستفهام ينعقد بها العقد باتفاق الفقهاء، حكاه غير واحد من الفقهاء كالدسوقي، والصاوي، والخطيب، وابن قدامة، وغيرهم، لا سيما إذا لم يتقدم القبول على الإيجاب، كقول البائع (بعت) وقول المشتري (اشتريت). قال الدسوقي: "الماضي ينعقد به البيع اتفافا, ولا عبرة بقول من أتى به، أنه لم يرد البيع أو الشراء، ولو حلف" (¬1). وقال الصاوي: "الماضي لما كان دالا على الرضا من غير احتمال، انعقد البيع به من غير نزاع" (¬2). وقال في مغني المحتاج: "ولو قال: اشتريت هذا منك بكذا، فقال: بعتك، انعقد إجماعا" (¬3). ¬
واعتبروا صيغة الماضي من اللفظ الصريح: فقد صرح الحنفية إلى أن صيغة الماضي لا تحتاج إلى نية (¬1). وهذا شأن الألفاظ الصريحة. وقال الحطاب المالكي: "في الألفاظ ما هو صريح، مثل بعتك بكذا، فيقول: قبلت" (¬2). وسبب الاعتداد بالماضي مطلقاً دلالة صيغته على الحال، فالفعل الماضي يدل على تحقق الوقوع، وذلك أنسب في الدلالة على إنشاء العقد حيث يدل على أن صاحبه قد تخطى مرحلة التفكير والتردد، والمفاوضة والمساومة إلى مرحلة الجزم والقطع والبت والحسم. فإن قيل: إن الماضي بعت واشتريت صيغ للإخبار عن الماضي، فهو خبر، وليس إنشاء وإحداثا. قيل: وإن كانت صيغة الماضي صيغة إخبارية إلا أن المراد به الإنشاء قطعاً، لأن الرجل إذا قال: بعتك بكذا لو كان يقصد الأخبار لكان كاذبًا حيث لم يقع بيع ولا شراء، فالإنشاء هو المتبادر إلى الذهن، والنكتة في هذا أن الماضي إذا سيق للإنشاء يكون من باب التوكيد على تحقق الفعل، وكون الفعل في إيجاده وتحقق وقوعه واقع كالماضي، وهو مستعمل في كتاب الله تعالى، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف: 99]. وقال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، فعبر عن النفخ بالصور بصيغة الماضي للتوكيد على أن ذلك واقع لا محالة. ¬
ولذلك لا تجد في نفسك أن رجلاً لو قال لامرأته: (أنت طالق) أنه يحسن تصديقه أو تكذيبه، باعتبار الصيغة خبرية، وإنما يدرك بالضرورة أن الجملة إنشائية. فالعرف يقتضي أن يكون الماضي تعبيرا صريحا عن الإنشاء وإحداث العقد. يقول الكاساني: "هذه الصيغة وإن كانت للماضي وضعا لكنها جعلت إيجابا للحال في عرف أهل اللغة والشرع، والعرف قاض على الوضع" (¬1). ¬
المسألة الثانية في صيغة الماضي في المقرون بالاستفهام
المسألة الثانية في صيغة الماضي في المقرون بالاستفهام [م - 42] إذا جاء الماضي مقرونا بالاستفهام، كان يقول المشتري: هل تبيعني هذا بعشرة؟ فقال البائع: بعتك. فهل يقع البيع؟ صرح الحنفية والحنابلة بأن البيع لا يقع، وحكوا في ذلك الاتفاق. قال الكاساني: "ولا ينعقد -يعني البيع- بصيغة الاستفهام بالاتفاق، بأن يقول المشتري للبائع: .... أبعته مني بكذا؟ فقال البائع: بعت، لا ينعقد ما لم يقل المشتري: اشتريت" قال الكاساني: "لآن هذه الصيغة وإن كانت للماضي وضعًا لكنها جعلت إيجابًا للحال في عرف أهل اللغة والشرع، والعرف قاض على الوضع" (¬1). ويقول ابن قدامة في الكافي: "وإن أتى بلفظ الاستفهام، فقال: أبعتني ثوبك، فقال: بعتك، لم يصح متقدما ولا متأخرًا -يعني تقدم القبول أو تأخر- لأنه ليس بقبول ولا استدعاء" (¬2). وذكر في المغني بأنه لا يعلم خلافا في هذا (¬3). وزاد في الإنصاف: حتى يقول بعد ذلك: ابتعت، أو قبلت، أو اشتريت (¬4). ¬
فإن كانت المسألة إجماعًا كما حكوا فالقول مسلم للإجماع، ولعلهم أجمعوا على ذلك, لأن العرف في زمنهم كان لا يقبل مثل ذلك إيجابًا, وليس مرد الاتفاق إلى الصيغة، وإن كان الإجماع لا يصح فالقول بالمنع مطلقًا حتى لو كان هناك عرف متبع قول ضعيف (¬1)، وسيأتي في آخر البحث بعد أن نحرر مذاهب أهل العلم في ألفاظ الإيجاب والقبول بأن القول الراجح أن البيع ليس له لفظ خاص، وأن الحقيقة العرفية مقدمة على الحقيقة اللغوية، بل ومقدم على الحقيقة الشرعية لو وجدت في مثل هذه الأبواب؛ لأن المتبع هو ما يفهمه المتعاقدان مما تعارفا عليه، وكان معبرًا عن إرادتهما بوضوح لا لبس فيه ولا إشكال، بأي لفظ كان من ماض أو مضارع أو أمر، أو جملة اسميه أو معاطاة، أو غير ذلك، وسواء تقدمه استفهام أو لم يتقدمه، إذا كشف ذلك بوضوح عن إرادة المتعاقدين، فقد تم البيع، والله أعلم. ولذالك قد تجد صيغة الماضي صالحة لإنشاء بعض العقود، وغير صالحة لإنشاء عقود أخرى, والصيغة هي الصيغة، ومرد ذلك إلى العرف. ¬
يقول القرافي: "إن الشهادة تقع بالمضارع دون الماضي واسم الفاعل، فيقول الشاهد: أشهد بكذا عندك ... ولو قال: شهدت بكذا ... لم يقبل منه، والبيع يصح بالماضي دون المضارع عكس الشهادة، فلو قال: أبيعك بكذا، أو قال: أبايعك بكذا، لم ينعقد البيع عند من يعتمد على مراعاة الألفاظ كالشافعي ... " ثم بين القرافي سبب ذلك "وسبب هذه الفروق بين الأبواب النقل العرفي من الخبر إلى الإنشاء، فأي شيء نقلته العادة لمعنى صار صريحًا في العادة لذلك المعنى بالوضع العرفي، فيعتمد عليه الحاكم لصراحته، ويستغني المفتي عن طلب النية معه لصراحته بالوضع ... " (¬1). ... ¬
الفرع الثاني في الإيجاب والقبول بصيغة المضارع
الفرع الثاني في الإيجاب والقبول بصيغة المضارع [م - 43] العقود تحتاج إلى صيغة تدل على إرادة إنشاء العقد في الحال، ولذا لم يختلف الفقهاء في دلالة الفعل الماضي على الرضا لكون صيغته متمحضة للحال. وكذا لم يختلفوا بأن المضارع المقرون بالسين أو سوف، مثل قوله: سأبيع، أو سوف أبيع أن ذلك لا يصلح لإنشاء العقود؛ لأن صيغته متمحضة للاستقبال، فلا تفيد إلا مجرد الوعد بالعقد (¬1). وأما المضارع غير المقترن بالسين وسوف فإنه يحتمل الحال ويحتمل الاستقبال، وقد اختلف النحاة في كونه حقيقة فيهما، أو في أحدهما، أو مشتركا على أقوال ليس هذا مجال ذكرها، ولما كانت صيغة المضارع تحتمل الأمرين (الحال والاستقبال) اختلف الفقهاء هل يصح الإيجاب والقبول بها؟ فقيل: ينعقد البيع بصيغة المضارع مع نية الحال، أو وجود قرينة تدل على الحال، نحو قوله: أبيعك الآن. ¬
دليل من قال: يصح الإيجاب بالفعل المضارع مع النية أو القرينة.
وهذا رأي جمهور الحنفية (¬1)، وجمهور الشافعية (¬2). وقيل: إن الإيجاب والقبول يصح بالفعل المضارع، ويلزم به، لكن لو قال: إنه لم يرد البيع، حلف، ولم يلزمه، فإن أبى أن يحلف لزمه. وهذا مذهب المالكية (¬3). وقيل: لا يصح الإيجاب والقبول بالفعل المضارع، اختاره بعض المتقدمين من الحنفية (¬4)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). دليل من قال: يصح الإيجاب بالفعل المضارع مع النية أو القرينة. المطلوب أن تدل الصيغة على الحال، فإن تمحض للمستقبل كما لو دخل على المضارع حرف السين أو سوف، كقوله: سأبيعك، أو سوف أبيعك لم ينعقد؛ لأن لفظ المستقبل إن كان من جانب البائع كان عدة لا بيعا، وإن كان من جانب المشتري كان مساومة، وكل ذلك لا يعتبر إيجابا. وإن تمحض المضارع للحال كان إيجابا صالحاً، كما لو وجدت نية الحال، أو قرينة لفظية، أو عرف. ¬
دليل المالكية على انعقاد البيع بالمضارع إلا إن ادعى أنه لم يرد البيع.
فاعتبار الحال بالنية، يقول الكاساني: "اعتبرنا النية هاهنا، وإن كانت صيغة أفعل للحال هو الصحيح؛ لأنه غلب استعمالها للاستقبال إما حقيقة أو مجازا، فوقعت الحاجة إلى التعيين بالنية" (¬1). وأما اعتبار القرينة اللفظية كقولك: أبيعك الآن؛ لأن النية إذا كانت معتبرة في الدلالة على الحال، كان التصريح بها لفظًا أولى بالاعتبار (¬2). وأما دلالة العرف على الحال، فيقول ابن نجيم في البحر الرائق "في القنية إنما يحتاج إلى نية إذا لم يكن أهل البلد يستعملون المضارع للحال، لا للوعد والاستقبال، فإن كان كذلك كأهل خوارزم لا يحتاج إليها" (¬3). دليل المالكية على انعقاد البيع بالمضارع إلا إن ادعى أنه لم يرد البيع. ذكروا أن صيغة المضارع ليست حقيقة في نقل الملكية لتطرق الاحتمالات إليها، فليست إيجابًا باتًا, ولذلك إذا ادعى أنه لم يرد البيع قبل قوله مع اليمين، فإن كانت هناك قرينة كالمساومة عمل بها, ولم يقبل قوله، بخلاف الماضي فإنها لما كانت لا يتطرق إليها الاحتمالات انعقد بها البيع حتى لو ادعى أنه لم يرد البيع، والله أعلم. دليل من قال: لا ينعقد بالمضارع مطلقًا. اعتبر الحنابلة أن المضارع من قبيل الوعد، يقول صاحب كشاف القناع: "لو قال البائع بعتك بكذا، فقال المشتري: أنا آخذه بذلك، لم يصح: أي لم ينعقد البيع؛ لأن ذلك وعد بأخذه" (¬4). ¬
ويناقش
ويناقش: بأن الحنابلة أجازوا كما سيأتي انعقاد البيع بصيغة الأمر؛ لدلالة العرف، فلماذا لا يجيزون المضارع للعلة نفسها، بل إن المضارع أولى بالقبول، فإن المضارع يدل على الحال، والأمر إنما يدل على الاستقبال. ولذلك جاء في شرح الخرشي: "المضارع دلالته على البيع والشراء أقوى من دلالة الآمر؛ لأنه يدل على الحال، بخلاف الأمر فإنه لا يدل عليه اتفاقًا" (¬1). الراجح: سيأتي في آخر بحوث ألفاظ الإيجاب والقبول تحرير القول الراجح إن شاء الله تعالى، وأن البيع ليس له لفظ معين، وينعقد بكل ما يعبر عن إرادة المتعاقدين، ويدل على تحقق الرضا المطلوب من كل منهما. ¬
الفرع الثالث في الإيجاب والقبول بصيغة الأمر
الفرع الثالث في الإيجاب والقبول بصيغة الأمر [م - 44] اختلف الفقهاء في انعقاد البيع بصيغة الأمر، كما لو قال البائع: اشتر مني هذا بعشرة، فقبل المشتري، أو قال المشتري: بعني هذا بكذا، فقال البائع: بعتك. فقيل: لا ينعقد البيع بصيغة الأمر، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: ينعقد البيع بفعل الأمر، وهذا مذهب المالكية (¬4)، والأظهر عند الشافعية (¬5)، والقول المشهور في مذهب الحنابلة (¬6). واختلف المالكية، هل صيغة الأمر من الصريح فلا تحتاج إلى نية كالماضي، أو أنها من ألفاظ الكناية، فتحتاج إلى نية، أو قرينة، فلو ادعى المتلفظ بصيغة الأمر أنه لم يرد إنشاء العقد صدق في دعواه إذا حلف؛ لأن الصيغة كنائية، قولان في مذهب المالكية، والمعتمد الأول (¬7). ¬
دليل من قال: لا ينعقد.
دليل من قال: لا ينعقد. الدليل الأول: قالوا: إن قوله: بعني سوم، وأمر بالبيع، وليس بإيقاع للعقد، والأمر بالبيع ليس ببيع. الدليل الثاني: إنشاء العقد يحتاج إلى صيغة تدل على الحال، كالماضي، والمضارع مصحوبًا بنية الحال، وأما صيغة الأمر فهي متمحضة للاستقبال، فلا تصلح الصيغة أن تكون دالة على إنشاء العقد. دليل من قال: ينعقد البيع. الدليل الأول: ليس في الشرع ما يدل على اشتراط صيغة مخصوصة، بل علق الأمر على وجود الرضا من الطرفين. الدليل الثاني: القياس على النكاح، فإذا كان النكاح ينعقد بصيغة الأمر، كما لو قال الخاطب: زوجنيها، فقال: زوجتك (¬1)، فكذلك في البيوع من باب أولى؛ لأن الاحتياط في النكاح أشد منه في البيوع. (ح-18) فقد روى البخاري من طريق مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله إني قد وهبت لك ¬
الدليل الثالث
من نفسي فقال رجل زوجنيها قال: قد زوجناكها بما معك من القرآن. ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬1). الدليل الثالث: (ح-19) ما روى البخاري من طريق عامر قال: حدثني جابر بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - أن كان على جمل له قد أعيا، فمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فضربه، فدعا له، فسار سيرًا بسير ليس يسير مثله، ثم قال: بعنية بأوقية فبعته ... الحديث (¬2). الدليل الرابع: (ح-20) ما رواه البخاري من طريق سفيان، حدثنا عمرو، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر، فكان يغلبني فيتقدم أمام القوم فيزجره عمر ويرده، ثم يتقدم فيزجره عمر ويرده، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: بعنيه. قال هو لك يا رسول الله. قال: بعنيه، فباعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت (¬3). وجه الاستدلال: صدور الإيجاب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الأمر، وانعقاد البيع بذلك. الراجح: أن البيع ينعقد بلفظ الأمر, وبكل لفظ دل على حصول الرضا من الطرفين، وعبر عن إرادتهما، وسيأتي في آخر البحث إن شاء الله تعالى أدلة القول الراجح، هل يشترط للبيع لفظ معين. ¬
الفرع الرابع في الإيجاب والقبول بالجملة الاسمية
الفرع الرابع في الإيجاب والقبول بالجملة الاسمية [م - 45] إذا تضمنت الجملة الاسمية فعلاً أخذت حكم هذا الفعل، فجملة (أنا أشتري) حكمها حكم (أشتري). وقد مثل الدردير المالكي للفعل المضارع بكلمة "أنا أشتريها بكذا" (¬1). وإذا لم تتضمن فعلاً فقد تأخذ الجملة حكم الصريح إذا دلت على الرضا من غير احتمال، وقد تأخذ حكم الكناية إذا كانت تحتمل البيع وغيره (¬2). وقد ذهب جماهير أهل العلم إلى انعقاد البيع في الجملة الاسمية من حيث الجملة، ما دامت تدل على المقصود، وإن اختلفوا في بعض الصيغ منها. فينعقد البيع عند الحنفية بقول البائع: هو لك بألف، فيقول المشتري: قبلت، ولا ينعقد عندهم باسم الفاعل، كما لو قال: أنا مشتر هذا بألف، فقال: قبلت، وعللوا ذلك بجريان المساومة فيه (¬3). ¬
وأما المالكية، فقد قال خليل: "ينعقد البيع بما يدل على الرضا" (¬1). قال الدسوقي تعليقًا في حاشيته: "بما يدل أي: عرفًا، سواء دل على الرضا لغة أيضًا، أو لا، فالأول: كبعت، واشتريت، وغيره من الأقوال. والثاني: كالكتابة والإشارة، والمعاطاة" (¬2). وجاء في حاشية الصاوي: "وحاصله أن المطلوب في انعقاد البيع ما يدل على الرضا عرفًا، وإن كان محتملًا لذلك لغة ... " (¬3). وجاء في مواهب الجليل: "لو قلت له: أخذت منك غنمك هذه كل شاة بدرهم، فقال ذلك لك، فقد لزمك البيع" (¬4). كما ينعقد البيع عند الشافعية بقولك: هذا مبيع منك بكذا، أو أنا بائعه بكذا، واعتبروا ذلك من الألفاظ الصريحة (¬5). وصححوا البيع بقولك: هو لك بكذا، واعتبروا ذلك من ألفاظ الكناية، كما تقدم عند الكلام على الكنايات (¬6). وفي مذهب الحنابلة: "ولو قال المشتري: بعني كذا، فقال: بارك الله لك فيه، أو هو مبارك عليك ... صح البيع للدلالة على المقصود" (¬7). جاء في الإنصاف: "اختار الشيخ تقي الدين ابن تيمية صحة البيع بكل ما عده ¬
الناس بيعًا ... " (¬1). وقد جاء في السنة ما يدل على صلاحية الجملة الاسمية: (ح- 21) فقد روى البخاري من طريق سفيان، حدثنا عمرو، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر، فكان يغلبني فيتقدم أمام القوم فيزجره عمر ويرده، ثم يتقدم فيزجره عمر ويرده، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: بعنيه. قال هو لك يا رسول الله. قال: بعنيه، فباعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت (¬2). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (هو لك) جملة اسمية، وقد صح عقد الهبة بها، فدل ذلك على صلاحيتها لإنشاء العقود. ¬
الفرع الخامس في الإيجاب والقبول بكلمة نعم
الفرع الخامس في الإيجاب والقبول بكلمة نعم قال البغوي: ألفاظ العقود على عادات الناس (¬1). [م - 46] تأتي كلمة نعم جوابًا على الاستفهام المثبت، قال تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44]. فإذا وقعت كلمة (نعم) إيجابًا أو قبولاً، فهل ينعقد بها البيع، اختلف الفقهاء في هذا على أربعة أقوال: الأول: الصحة مطلقًا. الثاني: عدم الصحة مطلقًا. وهذا قولان متقابلان. الثالث: يصح أن تكون كلمة (نعم) إيجابًا من البائع والمشتري، وأما في القبول فلا تصح إلا من البائع دون المشتري. الرابع: التفريق بين أن تكون كلمة (نعم) خطابًا بين المتعاقدين مباشرة، فيصح، وبين أن تكون جوبًا للسمسار، ففيها قولان. وهذا التفصيل عند الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة. هذا ملخص الأقوال، وإليك التفصيل مع الأدلة: القول الأول: قيل: يصح أن تقع كلمة (نعم) إيجابًا من البائع والمشتري، وأما في القبول فلا تصح إلا من البائع دون المشتري، وهذا مذهب الحنفية (¬2). ¬
وجهه
وجهه: أن لفظ (نعم) بعد الاستفهام لا تكون إلا إيجابا؛ لأن الاستفهام لا يصح أن يكون إيجابا عند الحنفية. جاء في البحر الرائق: "ولو قال: أتبيعني عبدك هذا بألف؟ فقال نعم، فقال: أخذته، فهو بيع لازم، فوقعت كلمة نعم إيجابا، وكذا تقع قبولا فيما لو قال: اشتريت منك هذا بألف، فقال نعم" (¬1). وإنما كان قول البائع (نعم) في الصورة الأولى هو الإيجاب, لأن قول المشتري: أتبيعني عبدك جاء في صورة استفهام، والاستفهام لا يصلح إسجابا عند الحنفية، فلو لو يقل (أخذته) لم ينعقد البيع. وقد ناقشت صيغة الاستفهام، ومدى صلاحيتها في إنشاء العقود، بينما في الصورة الثانية كان قول البائع (نعم) هو القبول؛ لأن كلام المشتري لم يكن في صورة استفهام. القول الثاني: قيل: تصح كلمة نعم في إنشاء العقود، وتقع في الإيجاب والقبول. وهذا مذهب المالكية، وقول عند الشافعية، وقول عند الحنابلة. جاء في مواهب الجليل: "إذا قال المشتري: أتبيع سلعتك بكذا؟ فقال له البائع: نعم .... فقال: المشتري ما أردت الشراء فهو كمسألة السوم" (¬2). ومسألة السوم قال فيها الحطاب في الكتاب نفسه: "معنى المسألة: أن من أوقف سلعته في السوق للسوم، فقال له شخص: بكم تبيعها؟ فقال: صاحب السلعة بمائة مثلا، فقال المشتري: أخذتها بها، فقال صاحب السلعة: ما أردت ¬
وجه القول بالصحة
البيع، وإنما أردت اختبار ثمنها، أو كنت لاعبا ونحو ذلك، فإنه يحلف أنه ما أراد إيجاب البيع، فإن حلف لم يلزمه البيع، وإن لم يحلف لزمه" (¬1). فمعنى هذا أن كلمة نعم ينعقد بها البيع، إلا أنها لما كانت محتملة، لم ينعقد بها البيع إذا حلف البائع بأنه لم يرد البيع، أما إذا لم يحلف فالبيع نافذ. وقال السيوطي: "تقدم أن (نعم) كناية في قبول النكاح، فلا ينعقد به، وفي قبول البيع، فينعقد على الأصح، وينعقد به البيع في جواب الاستفهام جزما، وكأنه صريح (¬2). فقوله (على الأصح) إشارة إلى القول الآخر في المذهب. وجه القول بالصحة: أن كلمة (نعم) جواب صريح، فإذا قال البائع للمشتري: نعم بعد سؤاله: أبعت سلعتك لي؟ فإن معنى الكلام: نعم بعتك، ولذلك لما قال الله تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44]، أي وجدنا ذلك، فكان ذلك إقرارا منهم بوجدان ما وعدهم ربهم. وإذا كان الإنسان يؤخذ بالإقرار في كلمة (نعم)، فلو قيل لرجل: عليك ألف درهم، فقال: نعم، أخذ بإقراره، ففي البيوع من باب أولى. القول الثالث: قيل: لا تصح لفظ (نعم) لا في إيجاب، ولا قبول، وهو قول عند الشافعية (¬3). ¬
وجه عدم الانعقاد
وجه عدم الانعقاد: إذا قال المشتري: اشتريت منك هذا بكذا، فقال البائع: نعم، أو قال البائع: بعتك هذا، فيقول المشتري نعم، أن صيغة (نعم) في المثالين لم يسبقها التماس، فلا تكون جوابا. القول الرابع: يصح إن كان ذلك الخطاب بين المتعاقدين مباشرة، فإن كان بواسطة سمسار، ففيه قولان، أصحهما عند الشافعية الصحة، وهو قول في مذهب الحنابلة. جاء في المجموع: "إذا قال السمسار المتوسط بينهما للبائع: بعت بكذا؟ فقال: نعم أو بعت، وقال للمشتري: اشتريت بكذا؟ فقال: نعم، أو اشتريت، فوجهان حكاهما الرافعي (أصحهما) عند الرافعي وغيره الانعقاد لوجود الصيغة والتراضي (والثاني) لا ينعقد لعدم تخاطبهما وبهذا قطع المتولي" (¬1). وقال في المبدع: "قال الخاطب للولي: أزوجت؟ قال: نعم. وللمتزوج: أقبلت؟ قال: نعم. صح، ذكره الخرقي، ويحتمل ألا يصح" (¬2). والصحيح الصحة, لأن مخاطبة الوسيط قائمة مقام مخاطبة المالك؛ لأنه وكيله. وسوف يأتي في آخر ألفاظ البيع أن الراجح أن العقد ينعقد بكل ما يدل على الرضا، وسوف نسوق أدلة هذا القول في آخر البحث دفعا للتكرار. ¬
المبحث الرابع في بيان الصيغة الفعلية
المبحث الرابع في بيان الصيغة الفعلية الفرع الأول: في بيع المعاطاة المسألة الأولى في تعريف بيع المعاطاة وصوره تعريفه: المعاطاة في البيع في اصطلاح الفقهاء (¬1): هي أن يأخذ المشتري المبيع، ويدفع الثمن للبائع، أو يعطي البائع المبيع للراغب في الشراء، فيدفع الآخر الثمن، وذلك عن تراض منهما من غير إشارة ولا تكلم. صور بيع المعاطاة: هناك صورتان في بيع المعاطاة: ¬
الصورة الأولى
الصورة الأولى: أن يتم التعاطي من غير تكلم ولا إشارة من كلا الطرفين، وهذه الصورة لا نزاع فيها أنها من قبيل المعاطاة عند من يقول بجواز بيع المعاطاة، وسيأتي تحرير الخلاف في بيع المعاطاة إن شاء الله تعالى. الصورة الثانية: أن يتم التعاطي بتكلم أحد الطرفين، ويتم التسليم من قبل الطرف الآخر بلا كلام. [م - 47] وهذه الصورة قد اختلف الفقهاء في اعتبارها من بيع المعطاة، فالحنفية لم يعتبروها من بيع المعاطاة (¬1). وذهب المالكية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وبعض الحنفية، والنووي من الشافعية (¬4)، إلى اعتبارها من المعاطاة. واختار بعض الحنفية أن المعاطاة من جانب واحد يكون بإعطاء المبيع خاصة، دون الثمن (¬5). ¬
وجه قول الحنفية
وجه قول الحنفية: أن حقيقة التعاطي وضع الثمن وأخذ المثمن عن تراض منهما من غير لفظ، وهو يفيد أنه لا بد من الإعطاء من الجانبين لأنه من المعاطاة، وهي مفاعلة، فتقتضي حصولها من الجانبين كالمضاربة والمقاسمة والمخاصمة (¬1). وقد يقال: إن المعاطاة ليست من الجانبين: بل الإعطاء من جانب والأخذ من جانب آخر. وجه قول الجمهور: يمكن أن يقال: الإيجاب والقبول ركنا البيع، فإذا استغني عن القول في أحدهما مع أن لزوم البيع متوقف عليه، صدق عليه أنه من بيع المعاطاة. ¬
المسألة الثانية خلاف العلماء في صحة بيع المعاطاة
المسألة الثانية خلاف العلماء في صحة بيع المعاطاة قال ابن تيمية: البيع لا يفتقر إلى صيغة بل يثبت ذلك بالمعاطاة (¬1). جاء في مجلة الأحكام العدلية: إمضاء البيع يكون بالقول والفعل الدال على الرضا (¬2). [م - 48] اختلف الفقهاء في صحة البيع بالتعاطي: فقيل: يجوز مطلقا. وهو مذهب الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4) , والحنابلة (¬5) , واختاره بعض الشافعية (¬6). ¬
دليل من قال: يجوز البيع بالمعاطاة.
وقيل: لا يجوز مطلقًا. وهو مذهب الشافعية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة، واختاره ابن حزم من الظاهرية (¬2). وقيل: يجوز في المحقرات دون الأشياء النفيسة، اختاره بعض الحنفية (¬3)، وبعض الشافعية (¬4)، وبعض الحنابلة (¬5). دليل من قال: يجوز البيع بالمعاطاة. الدليل الأول: الأصل في العقود الإباحة إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا دليل مع القائلين بتحريم بيع المعاطاة. الدليل الثاني: البيع مما تعم به البلوى، فلو كان الإيجاب والقبول شرطًا في صحته لبينه ¬
الدليل الثالث
النبي - صلى الله عليه وسلم - بياناً عاما, ولم يخف حكمه، ولو بينه لنقل نقلا شائعا لكثرة وقوع البيع بينهم، ولأن عدم البيان يفضي إلى الوقوع في العقود الفاسدة، وأكل المال بالباطل، فلما لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من أصحابه اشتراط الإيجاب والقبول، علمنا أنه ليس بشرط. الدليل الثالث: أن الله - سبحانه وتعالى - أحل البيع، ولم يبين كيفيته، فوجب الرجوع فيه إلى العرف، كما رجع إليه في القبض والإحراز والتفرق، وهكذا كل شيء ليس له حد في الشرع، وليس له حد في اللغة فالمرجع فيه إلى العرف. الدليل الرابع: عندما جاء الإِسلام كان البيع موجودا بين الناس، معلوما عندهم، وإنما علق عليه الشارع أحكاما، وأبقاه على ما كان، فلا يجوز تغييره بالرأي والتحكم، وما زال المسلمون يتبايعون في أسواقهم بالمعاطاة في كل عصر، ولم ينقل إنكاره قبل هؤلاء المخالفين، فدل على صحة ذلك البيع. الدليل الخامس: شرط صحة البيع وجود التراضي بين المتعاقدين، فإذا وجد ما يدل على التراضي من قرينة حالية أو فعلية قام مقام الألفاظ، وأجزأ ذلك، لعدم التعبد فيه. الدليل السادس: يقول الكاساني. البيع في اللغة والشرع اسم للمبادلة، وهي مبادلة شيء مرغوب بشيء مرغوب، وحقيقة المبادلة بالتعاطي وهو الأخذ والإعطاء، وإنما
دليل من قال: لا يجيز بيع المعاطاة.
قول البيع والشراء دليل عليهما، والدليل عليه قوله - عز وجل -: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، والتجارة عبارة عن جعل الشيء للغير ببدل وهو تفسير التعاطي. وقال - سبحانه وتعالى - {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]، أطلق - سبحانه وتعالى - اسم التجارة على تبادل ليس فيه قول البيع. وقال الله - عز وجل - إن الله {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]، سمى - سبحانه وتعالى - مبادلة الجنة بالقتال في سبيل الله -تعالى- اشتراء وبيعًا، لقوله تعالى في آخر الآية {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة: 111]، وإن لم يوجد لفظ البيع، وإذا ثبت أن حقيقة المبادلة بالتعاطي وهو الأخذ والإعطاء ..... كان التعاطي في كل ذلك بيعا، فكان جائزًا (¬1). دليل من قال: لا يجيز بيع المعاطاة. الدليل الأول: الرضا شرط في صحة جميع التصرفات، ففي البيع قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وفي التبرع قال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]. والرضا عمل قلبي، لا يعلمه إلا الله، فهو أمر خفي فلا بد من لفظ يدل عليه، ويناط به الحكم، سواء كان مما يستقل به الإنسان كالطلاق والعتاق والعفو والإبراء، أو من غيره مما لا يستقل به وحده كالبيع والإجارة والنكاح ونحوها. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: القياس على عقد النكاح، فإنه لا ينعقد إلا باللفظ (¬1)، وقد اتفقوا على اشتراط الصيغ فيه، حتى لا يعلم أنه وجد لأحد من العلماء قول بالمعاطاة البتة، وإنما اختلفوا هل ينعقد بغير لفظ التزويج والنكاح أو لا ينعقد إلا بخصوص لفظهما (¬2). وأجيب: بأن هناك فرقا بين عقد النكاح والبيع، فالشهادة في النكاح آكد منها في البيع، ولأن الأصل في السلع الإباحة حتى تملك، والأصل في الفروج التحريم حتى يعقد عليهن بملك أو نكاح، ولأن الحاجة عامة في البيع؛ حيث لا غنى للإنسان عن مأكول ومشروب ولباس بحيث لا يخلو مكلف غالبا من بيع أو شراء بخلاف النكاح إلى غيره من الفروقات (¬3). الدليل الثالث: المعاطاة قد يراد بها البيع، وقد يراد بها الهبة، وقد يراد بها الإجارة، وقد يراد بها الرهن، وقد يدعي شخص أنه لم يرد به العقد مطلقا، وعليه فلا يصلح أن يكون الإعطاء سببا في التملك لكونه جنسًا يشمل أنواعا مختلفة من العقود، وكل عقد يختلف آثاره عن العقد الآخر، فلا بد للبيع أن يكون بالقول الدال على تحديد كل عقد بعينه، وإلا أدى ذلك إلى وقوع النزاع بين المتعاقدين، وعدم معرفة الرضا الكامل الذي أناط الله به الجواز. ¬
وأجيب
وأجيب: إذا احتملت المعاطاة غير البيع لم ينعقد بها البيع، وإنما الكلام فيما إذا كانت المعاطاة لا تحتمل إلا البيع، كما لو كانت البضاعة قد كتب عليها ثمنها، فجاء المشتري وأخذ السلعة من المكان المخصص للبيع، والتي تعرض فيه البضائع في السوق المخصص لذلك، ودفع المشتري الثمن، وأخذه صاحب البضاعة، ولم يعترض البائع على أخذ البضاعة بعد أخذه ثمنها، فإن احتمال التبرع هنا، أو الإجارة بعيد كل البعد. الدليل الرابع: استدل ابن حزم على وجوب لفظ البيع أو الشراء أو التجارة، بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. وقال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. لا يؤخذ مال بغير الاسم الذي أباحه الله به أخذه، وقد قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، فصح أن الأسماء كلها توقيفية، لا سيما أسماء أحكام الشريعة التي لا يجوز الإحداث فيها, ولا تعلم إلا بالنصوص ... (¬1). دليل من فرق بين المحقرات والأشياء النفيسة. بيع المعاطاة في المحقرات يشبه أن يكون معتادًا لدى الناس من عصر الصحابة إلى يومنا هذا, ولو كان الناس يكلفون الإيجاب والقبول مع الخباز والبقال والقصاب للحقهم بذلك حرج ومشقة، والحرج منتف عن هذه الملة. ¬
ونوقش هذا القول
ونوقش هذا القول: بأن تحديد الأشياء المحقرة من غيرها أمر يعسر ضبطه، ويختلف الناس فيه، ولذلك اختلف الناس في ضابط الحقير من النفيس: فقيل: المرجع في ذلك إلى عرف الناس وعاداتهم، فما عدوه من المحقرات، وعدوه بيعًا، فهو بيع. وهذا لا ينضبط، فإن الناس قد يعتادون بيع المعاطاة في الأشياء النفيسة أيضًا. وحكى الرافعي وجهًا أن المحقر ما كان دون نصاب السرقة. قال النووي: وهذا شاذ ضعيف (¬1). وذكر بعضهم أن معرفة ضابط بين الحقير والنفيس عن طريق التقدير غير ممكن، ولكن الأمور لها طرفان واضحان: أحدهما: شراء البقل وقليل من الفواكه، واللحم والخبر، فهذا لا يخفى أن مثل هذا يعتبر من المحقرات التي لا يعتاد فيها إلا المعاطاة، وطالب الإيجاب والقبول يعد مستقصيا، ويعتبر متكلفًا، ويستثقل، ويتهم بأنه يقيم وزنًا لأمر حقير. الطرف الثاني: مثل السيارات والعقارات والجواهر النفيسة، فطلب الإيجاب والقبول لبيع مثل هذه الأشياء لا يعتبر متكلفًا. وبينهما أوساط متشابهة يشك فيها، هي محل شبهة، فحق ذي الورع أن يميل فيها إلى الاحتياط، ولا ياع الإيجاب والقبول. ¬
والراجح
وجميع ضوابط الشرع فيما يعلم بالعادة تنقسم إلى أطراف واضحة، وأوساط مشكلة (¬1). والراجح: أن بيع المعاطاة يجوز مطلقًا، في النفيس والحقير، فالمطلوب هو الرضا، وبأي شيء تحقق فقد حصل المطلوب، سواء كان باللفظ أو بالكتابة أو بالإشارة، أو بقرينة الحال كالمعاطاة، والله أعلم. ¬
مطلب على القول بأن بيع المعاطاة لا يصح فما حكم المقبوض فيها
مطلب على القول بأن بيع المعاطاة لا يصح فما حكم المقبوض فيها [م - 49] الذين يمنعون بيع المعاطاة هم الشافعية، فهذه المسألة لا تأتي إلا على مذهبهم رحمهم الله، وفيها عندهم ثلاثة أوجه: أصحها: أن له حكم المقبوض بعقد فاسد، فيطالب كل واحد رد ما قبضه إن كان باقيا، وإلا فرد بدله. وقد تكلمنا في أول الكتاب في حكم المقبوض بعقد فاسد، والاختلاف فيه بين الفقهاء، فليراجعه من يحتاج إليه. الوجه الثاني: أن هذه إباحة لازمة لا يجوز الرجوع فيها. الوجه الثالث: أن العوضين يستردان، فإن تلفا فلا مطالبة لأحدهما، ويسقط عنهما الضمان (¬1). ... ¬
المسألة الثالثة في الإيجاب والقبول عن طريق الإشارة
المسألة الثالثة في الإيجاب والقبول عن طريق الإشارة قال الباجي: "كل لفظ أو إشارة فهم منه الإيجاب والقبول لزم به البيع وسائر العقود" (¬1). قال السيوطي: "إذا اجتمعت الإشارة والعبارة واختلف موجبهما غلبت الإشارة" (¬2). والبيع بالإشارة يعتبر من البيع بالمعاطاة, لأن الإشارة ليست كلامًا في وضع الشارع. قال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: 29]، مع قوله سبحانه: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]. إذا علم هذا، فقد تواضع عموم الناس على دلالة بعض الإشارات حتى ولو كانت صادرة من غير الأخرس، وذلك كهز الرأس عموديًا دليلًا على القبول، وهزه أفقيًا دليلًا على الرفض، كما أن الإشارة في بعض الأحيان تكون حتمية للتفاهم، فلو أن البائع عبر عن إرادته بالنطق وحده، وكان إيجابه موجهًا إلى شخص أصم، ولم يكن نطقه مصحوبًا بإشارات يفهمها الأصم لم يكن لإيجابه أي أثر على الإطلاق. والسؤال، إذا كان التعبير عن الإيجاب أو عن القبول أو عنهما معا عن طريق الإشارة المفهومة، هل ينعقد البيع، أو يشترط اللفظ لانعقاد البيع؟ ¬
وللجواب على ذلك نقول
وللجواب على ذلك نقول: [م - 50] أما الإشارة من الأخرس الأصلي العاجز عن الكتابة، فلم أقف على خلاف بين الفقهاء في قبول إشارته، وانعقاد البيع بها إذا كانت دالة على مراده. قال النووي: "قال أصحابنا: يصح بيع الأخرس وشراؤه بالإشارة المفهومة، وبالكتابة بلا خلاف للضرورة، قال أصحابنا: ويصح بها جميع عقوده" (¬1). وجاء في الموسوعة الكويتية: "اتفق الفقهاء على أن إشارة الأخرس المعهودة والمفهومة معتبرة شرعا، فينعقد بها جميع العقود، كالبيع، والإجارة، والرهن والنكاح ونحوها" (¬2). [م - 51] واختلفوا في إشارة الأخرس لعارض، والأخرس القادر على الكتابة، والإشارة من غير الأخرس على النحو التالي: فقيل: لا يجوز التعاقد بالإشارة من غير الأخرس، وهذا مذهب الحنفية (¬3)، ¬
والشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وأما من اعتقل لسانه فهل يلحق بالأخرس، فقيل: نعم، وهو مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: لا يعتد بإشارته حتى يمتد به ذلك، ويقع اليأس من قدرته على الكلام، وهذا مذهب الحنفية (¬5)، وقول عند الشافعية (¬6). وقيل: يجوز التعاقد بالإشارة مطلقًا, ولو من غير الأخرس إيجابًا وقبولًا إذا كانت مفهومة، وهذا مذهب المالكية (¬7)، .................... ¬
تعليل من قال: لا تعتبر الإشارة إلا من أخرس.
واختيار ابن تيمية (¬1)، وابن القيم (¬2). وقيل: لا يعتد بالإشارة من الأخرس إلا إذا كان عاجزًا عن الكتابة، اختاره بعض الحنفية (¬3)، والمتولي من الشافعية (¬4)، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬5). تعليل من قال: لا تعتبر الإشارة إلا من أخرس. التعليل الأول: الإشارة لا تسمى كلامًا, ولذلك لم تحنث مريم عليها الصلاة والسلام عندما ¬
ويناقش
نذرت عدم الكلام مع تعبيرها بالإشارة، ولو كانت كلاما لما قامت بالإشارة، وإذا لم تكن كلاما لا يمكن أن تكون الإشارة تعبيرا عن الرضا إلا للعاجز عن الكلام. ويناقش: بأن التعبير عن الإرادة غير محصور في الكلام، ولذلك يقع البيع بالمعاطاة عند الحنفية والحنابلة مع القدرة على الكلام. التعليل الثاني: الإشارة لا تخلو من احتمال، وتحول الملكية وغيرها من الآثار المترتبة على البيع لا يمكن أن يثبت بما فيه احتمال إلا مع الضرورة، ولا ضرورة للقادر على النطق. ويناقش: بأن المقصود بالإشارة المفهومة الواضحة المعبرة عن المراد، وسيأتي في أدلة القائلين بصحة الإيجاب والقبول بالإشارة أن الإشارة قبلت ليس في البيع والشراء، بل وفي باب الجنايات والإقرارات ونحوهما، وهما أبلغ. التعليل الثالث: الإشارة لا تقوم مقام العبارة إلا عند الضرورة، وذلك أن الإشارة لا يتبين بها حروف منظومة، فيبقى مجرد قصد الإيقاع، وقصد الإيقاع ليس إيقاعًا, ولذلك كان القادر على النطق لو أشار لم يقع شيء من التصرفات بإشارته (¬1). ¬
التعليل الرابع
التعليل الرابع: من لزمته القراءة في العبادة، مع القدرة عليها لم تقم الإشارة مقام النطق، فكذلك سائر المعاملات. ويناقش: بأن هناك فرقا بين العبادة والعادة، فالمقصود في العبادة قيام القارئ بالنطق بالعبارة، وهذا لم يتحقق بخلاف العادة فإن العبارة ليست مقصودة لذاتها. التعليل الخامس: لو لم نجعل إشارة الأخرس كعبارة الناطق لأدى ذلك إلى أن يموت الأخرس جوعا, ولا يوجد ضرورة في حق الناطق. تعليل من قال: لا تقبل الإشارة من معتقل اللسان. الإشارة إنما تقوم مقام العبارة إذا صارت معهودة، وذلك في الأخرس دون معتقل اللسان، ولذلك قلنا: إذا امتد به ذلك، وصارت له إشارة معلومة كان بمنزلة الأخرس الأصلي (¬1). تعليل من قال: لا فرق بين الأخرس الأصلي ومعتقل اللسان. إذا عجز عن الكلام لم يكن هناك فرق بين الأخرس ومعتقل اللسان، فالواجب اللفظ مع القدرة عليه، فإذا عجز قامت الإشارة مقام العبارة، كما أنه لا فرق بين الوحشي الأصلي والمتوحش في حق الذكاة. ¬
دليل من قال: تقبل الإشارة المفهومة مطلقا من الأخرس وغيره.
دليل من قال: تقبل الإشارة المفهومة مطلقًا من الأخرس وغيره. الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]، مع قوله {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29]. وجه الاستدلال: سمى الله - سبحانه وتعالى - الإشارة قولاً، بقوله تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]، أي قولي ذلك بالإشارة، فلو كان المراد قول اللسان لأفسدت نذرها. قال ابن كثير: "المراد بهذا القول الإِشارة إليه بذلك، لا أن المراد به القول اللفظي لئلا ينافي فلن أكلم اليوم إنسيا" (¬1). هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد فهم القوم إشارة مريم، وأجابوها بقولهم: كيف نكلم من كان في المهد صبيًا, ولم يعترضوا عليها بأنهم لم يفهموا ما تريده منهم. فنزلت الإشارة منزلة الكلام حتى من القادر على النطق. الدليل الثاني: (ح-22) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يزيد، أخبرنا المسعودي، عن عون، عن أخيه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بجارية سوداء أعجمية، فقال: يا رسول الله، إن علي عتق رقبة مؤمنة، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين الله؟ فأشارت إلى السماء بإصبعها السبابة. فقال لها: من ¬
أنا؟ فأشارت بإصبعها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلى السماء: أي أنت رسول الله، فقال: أعتقها (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قال الشنقيطي "جعل إشارتها كنطقها في الأيمان الذي هو أصل الديانات، وهو الذي يعصم به الدم والمال، وتستحق به الجنة، وينجى به من النار" (¬1). الدليل الثالث: (ح-23) ما رواه البخاري، قال: حدثنا آدم حدثنا شعبة، حدثنا الأسود ابن قيس، حدثنا سعيد بن عمرو، أنه سمع ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إنا ¬
وجه الاستدلال
أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا. يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين. رواه البخاري (¬1). وجه الاستدلال: نزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إشارته بأصبعه الشريفة منزلة نطقه، ودلت إشارته إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوما، وقد يكون ثلاثين. الدليل الرابع: (ح-24) ما رواه البخاري من طريق ابن وهب، قال: أخبرني عمرو، عن سعيد بن الحارث الأنصاري، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن مسعود - رضي الله عنهم -، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله، فقال: قد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى القوم بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بكوا فقال: ألا تسمعون، إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه، أو يرحم .... الحديث (¬2). فاستخدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إشارته في معرض التبليغ للأمة، وكانت مفهومة حيث حصل بها البلاغ مع قدرته على النطق. الدليل الخامس: (ح-25) ما رواه البخاري حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة حدثنا عثمان هو ابن موهب، قال: أخبرني عبد الله بن أبي قتادة أن أباه أخبره أن ¬
وجه الستدلال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حاجًا، فخوجوا معه، فصرف طائفة منهم -فيهم أبو قتادة -فقال: خذوا ساحل البحر حتى نلتقي، فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم ... وفي الحديث: قالوا: يا رسول الله، إنا كنا أحرمنا، وقد كان أبو قتادة لم يحرم، فرأينا حمر وحش، فحمل عليها أبو قتادة، فعقر منها أتانًا، فنزلنا، فأكلنا من لحمها، ثم قلنا: أنأكل لحم صيد، ونحن محرمون، فحملنا ما بقي من لحمها. قال: أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟ قالوا: لا. قال: فكلوا ما بقي من لحمها (¬1). وجه الستدلال: قوله: (أو أشار إليها) حيث جعل الإشارة إلى الصيد وهو محرم في حكم من قام بالصيد حال الإحرام في تحريم الأكل. الدليل السادس: (ح-26) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد ابن جعفر، حدثنا، شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس - رضي الله عنهم - أن يهوديًا قتل جارية على أوضاح لها، فقتلها بحجر، فجيء بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبها رمق، فقال: أقتلك فلان؟ فأشارت برأسها أن لا، ثم قال الثانية: فأشارت برأسها أن لا، ثم سألها الثالثة، فأشارت برأسها أن نعم، فقتله النبي - صلى الله عليه وسلم - بحجرين (¬2). والأحاديث في استعمال الإشارة في الخطاب النبوي كثيرة جدًا، وهي في مقام البلاغ، ولم يدع أحد أن الإشارة ليست مفهومة، ولا يحصل بها البلاغ الواجب. ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: لا يوجد نص صريح على اشتراط لفظ معين في عقد البيع، وإنما المطلوب ما يدل على الرضا بين الطرفين، من قول أو فعل أو إشارة، ومناط ذلك العرف الذي يحكم بأن هذا اللفظ أو الإشارة أو الفعل يدل على الرضا أو لا، فإذا كان الأمر كذلك فالعرف جار بين المسلمين على أن الإشارة المفهومة يحصل منها الرضا. الراجح: مذهب المالكية هو أرجح الأقوال وأقواها، وأسلمها من المعارضة، ولأن الإشارة المبينة عن إرادة صاحبها تقوم مقام نطقه، وسيأتي ذكر أدلة أخرى للقول الراجح زيادة على ما ذكره المالكية في آخر بحث ألفاظ الإيجاب والقبول إن شاء الله تعالى.
الفرع الثاني في الإيجاب والقبول عن طريق الكتابة
الفرع الثاني في الإيجاب والقبول عن طريق الكتابة قال الزيلعي: "الكتاب كالخطاب" (¬1). وعند الحنفية: أن الكتاب من الغائب كالخطاب من الحاضر (¬2). وقال السرخسي: الكتاب أحد اللسانين (¬3). وقال أيضًا: "الكتاب قد يزور، والخط يشبه الخط ... " (¬4). والكتابة أعم من اللفظ ومن الإشارة، وذلك أن جميع المعلومات إنما تعرف بالدلالة عليها بأحد أمور ثلاثة: ب (الإشارة واللفظ والخط). والإشارة تتوقف على المشاهد. واللفظ يتوقف على حضور المخاطب، وسماعه. وأما الخط فلا يتوقف على شيء، فهو أعمها نفعًا، وأشرفها, ولاشك أنه بالخط والقراءة ظهرت خاصة النوع الإنساني، وامتاز الإنسان عن سائر الحيوان، وضبطت الأقوال، وحفظت العلوم، وانتقلت من زمان إلى زمان (¬5)، فلولا الله - سبحانه وتعالى - ثم الكتابة لم نتمكن من قراءة كتاب الله - سبحانه وتعالى -، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكنا نسمع بالعلماء ولا نشاهد آثارهم، وإنما بقيت دعوة الأنبياء والرسل والمصلحين في العالم حية في قلوب الناس بفضل ما كتب من آثارهم وعلومهم. ¬
[م - 52] والذي يخصنا هنا في هذا الباب، ما مدى دلالة الكتابة على الرضا في العقود؟ فلو كان التعبير عن الإيجاب عن طريق الكتابة بأي شكل من أشكالها، أو كان التعبير عن القبول عن طريق الكتابة، فهل ينعقد البيع؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم. فقيل: ينعقد البيع بالكتابة مطلقاً. وهذا مذهب المالكية (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: لا ينعقد البيع بها مطلقاً، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية، ورجحه الشيرازي (¬3). ¬
دليل من قال: ينعقد البيع بالكتابة مطلقا.
وقيل: ينعقد البيع بالكتابة بالنسبة للغائب فقط دون الحاضر، وهو ظاهر مذهب الحنفية (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2)، وظاهر مذهب الحنابلة (¬3). دليل من قال: ينعقد البيع بالكتابة مطلقا. الدليل الأول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مأمورًا بتبليغ رسالته، فحصل ذلك بالقول تارة، وبالكتابة تارة، وبالرسول ثالثا، وقامت الحجة على الجميع، حيث كان التبليغ بالكتاب والرسول كالتبليغ بالخطاب، فدل على أن الكتاب يقوم مقام قول الكاتب. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: إذا كانت الكتابة وسيلة لإثبات الحقوق، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، فما كان وسيلة لإثبات الحق جاز أن يكون صالحاً لانعقاده. الدليل الثالث: القياس على كتاب القاضي حيث يقوم كتاب القاضي مقام لفظه في إثبات الديون والحقوق. الدليل الرابع: المطلوب في ألفاظ البيع ما يدل على الرضا, وليس لهذا الأمر شكل معين، والكتابة لا شك أنها تعبر عن إرادة صاحبها، فإذا علم الرضا انعقد البيع سواء كان باللفظ أو بالإشارة أو بالكتابة أو بغيرها مما تعارف عليه الناس. الدليل الخامس: المعاملات اليوم بين الناس توسعت، وأصبحت تعتمد على الاستيراد والتصدير، وبين المصدر والمستهلك مسافات بعيدة جداً، وقد يتعذر اشتراط اللفظ، فلا تقوم مصالح السوق، ومصالح الناس إلا بقبول الكتابة. تعليل من قال: لا ينعقد البيع بالكتابة. التعليل الأول: الأصل أن التعبير يكون باللفظ وحده، وإنما قبلنا الإشارة في حق الأخرس للضرورة لعجزه عن النطق، فأما القادر على النطق فلا يقبل منه التعبير بالكتابة كما لا يقبل منه التعبير بالإشارة.
ويناقش هذا
ويناقش هذا: القول بأن القادر على النطق لا يقبل منه الكتابة، هذه دعوى في محل النزاع، فتحتاج إلى دليل، فأين النص من الشارع الذي ينهى القادر على النطق من عقد البيع عن طريق الكتابة. التعليل الثاني: انعقاد البيوع على وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءت عن طريق الألفاظ، ولم يشتهر في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - انعقاد البيوع عن طريق الكتابة مع إمكان ذلك، فيجب الوقوف عند حد اللفظ فقط. ويناقش هذا: بأن البيع ليس من قبيل العبادات التي يحتاج الأمر فيها إلى توقيف، وإنما من قبيل العادات والمباحات، فالأصل فيها الحل إلا ما ود النهي عنه، ولم يأت نهي من الشارع ينهى عن عقد البيع عن طريق الكتابة. التعليل الثالث: الكتابة يتطرق إليها الاحتمالات، فقد يكتب اللفظ ويريد به تجربة القلم، أو تحسين الخط، كما يدخل الخط التزوير والتقليد، وما تطرق إليه الاحتمال وجا الانتقال إلى غيره مما لا يتطرق إليه الاحتمال، والله أعلم. ويناقش: بأن هذه الاحتمالات بعيدة، وعلى التنزل فإننا نقول بقبول الكتابة إذا لم يتطرق إليها احتمال، فيوجد اليوم طرق كثيرة لحماية الخط من التزوير، ولو كان هذا الاحتمال وجيها لما تعامل الناس اليوم بالشيكات، وهي تحمل مبالغ كثيرة جدا، وتعتمد على توقيع صاحبها مع إمكان التزوير والتقليد فيه.
دليل من فرق بين الحاضر والغائب.
دليل من فرق بين الحاضر والغائب. قالوا: الأصل انعقاد البيع باللفظ، واحتيج إلى الكتابة مع عدم حضور المتعاقدين، فيرخص للغائب دون الحاضر القادر على النطق، حيث لا يوجد مانع من المشافهة والمخاطبة. ويناقش هذا: بأن يقال: إما أن تصلح الكتابة في التعبير عن إرادة المتعاقدين، وحصول الرضا الذي هو شرط لانعقاد البيع، أو لا تصلح، فإن كشفت الكتابة وأفصحت عن إرادة المتعاقدين وعن حصول الرضا المطلوب لانعقاد البيع لم يكن لاشتراط الحضور معنى، بل إن عقد البيع عن طريق اللفظ إذا خلا من الإشهاد يستطيع المتعاقد أن يدعي أنه ما قال ذلك، أو يدعي أنه قال قولًا غير ما يدعيه المشتري, ولا يستطيع أن يدعي مثل ذلك في الكتابة. القول الراجح: ما ذهب إليه المالكية هو القول الصحيح، لقوة أدلته وسلامتها من الاعتراض، وسيأتي في آخر البحث ما يدعم هذا إن شاء الله تعالى.
مسألة زمان العقد ومكانه في بيع المكاتبة والمراسلة
مسألة زمان العقد ومكانه في بيع المكاتبة والمراسلة البيع بالمكاتبة أو بالمراسلة أو بالهاتف، يجب أن نبحث عن أمرين هامين: وهما: زمان العقد ومكانه. ما يميز العقد بين المتعاقدين الحاضرين وبين الغائبين، هو وجود فاصل من الزمن بين صدور القبول، وعلم الموجب به، ففي التعاقد بين حاضرين يعلم الموجب بالقبول في الوقت الذي يصدر فيه، وأما في التعاقد بين الغائبين فإن الإيجاب يصدر، ثم تمضي فترة من الزمن هي المدة اللازمة لوصول القبول إلى علم الموجب، ومن ثم يختلف وقت صدور القبول عن وقت العلم به. وهذا يجعلنا نسأل عن زمان انعقاد العقد ومكانه في حال البيع بالمكاتبة أو بالمراسلة، فما دام أن هناك فترة من الزمن تفصل ما بين صدور القبول والعلم به، فيجب التساؤل: متى يتم العقد؟ هل هو وقت صدور القبول، أو هو وقت علم الموجب به؟ هل نقول إن العقد قد تم في الزمان والمكان الذي صدر فيهما القبول. وتسمى عند فقهاء القانون نظرية الإعلان. أي إن العقد قد تم بمكان وزمان إعلان القبول. أو نقول: إن العقد قد تم في الزمان والمكان اللذين وصل فيهما القبول إلى علم الموجب. وتسمى عند فقهاء القانون بنظرية العلم. أي: إن العقد قد تم في وقت ومكان علم الموجب بالقبول. وهل يختلف الحكم في المسألتين؟
أولا: للمشتري ثمر البيع ونماؤه المتصل والمنفصل منذ انعقاد العقد
الجواب نعم، ينبني على هذا الخلاف أحكام شرعية ومالية مؤثرة بين القولين، من ذلك. أولاً: للمشتري ثمر البيع ونماؤه المتصل والمنفصل منذ انعقاد العقد ففي هذه الحال، إذا قيل: العقد قد انعقد منذ صدور القبول يختلف الحكم فيما لو قيل: العقد ينعقد عند علم الموجب بالقبول. ثانيًا: في هلاك المبيع قبل القبض وبعد العقد معلوم أن بعض السلع إذا هلكت تكون من ضمان المشتري، وبعضها من ضمان البائع، وقد ناقشت هذه المسألة بشيء من التفصيل فيما تقدم. فنحتاج إلى معرفة وقت انعقاد العقد لكي نعرف هل فات المبيع على المشتري أو على البائع؟ فإذا هلك المبيع بعد صدور القبول فطبقًا لنظرية الإعلان يكون من ضمان المشتري. وطبقًا لنظرية العلم فإنه يفوت على البائع. ثالثًا: في وقت رجوع الموجب عن إيجابه، والقابل عن قبوله إذا صدر القبول من القابل وقام من مجلسه، أو اشتغل بأجنبي فطبقًا لنظرية الإعلان لم يكن للموجب الرجوع عن إيجابه، ولا القابل عن قبوله. أما إذا قلنا بنظرية العلم، فلو عدل القابل عن قبوله قبل أن يصل القبول إلى الموجب فله ذلك، كما له أن يلغي إرسال القبول بعد صدوره، وله أن يسحب القبول من البريد أو من الرسول قبل وصوله، كما يمكنه أن يستخدم وسيلة أسرع من البريد ليبلغ عدوله عن القبول قبل وصول القبول إلى علم الموجب، فإذا عدل لم يتم العقد، وإذا حدد الموجب وقتًا لإيجابه، فاءن الإيجاب يسقط بانتهاء
رابعا: إذا مات القابل أو فقد أهليته
هذه المهلة، فلو تأخر وصول القبول إلى الموجب بسبب خارج عن إرادة القابل بعد الوقت الذي حدده، فإن العقد لا يتم طبقا لنظرية العلم، ويتم طبقا لنظرية الإعلان. رابعًا: إذا مات القابل أو فقد أهليته إذا مات القابل أو فقد أهليته بعد صدور القبول، وقبل وصوله إلى الموجب، فإن العقد لا يتم طبقا لنظرية العلم، ويتم طبقا لنظرية الإعلان. إذا عرفنا ذلك، فما هو الاتجاه الفقهي؟ هل ينعقد البيع بصدور القبول، أو ببلوغ القبول للموجب: [م - 53] في المسألة قولان: القول الأول: ظاهر كلام الفقهاء أن العقد ينعقد بصدور القبول، ولا يشترط علم الموجب (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: سماع كل من المتعاقدين كلام الآخر شرط لانعقاد البيع، وهذا يعني أن البيع ينعقد حتى يسمع الموجب قبول المشتري، وهو قول في مذهب الحنفية (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ونوقش هذا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
حجة من يقول: يلزم البيع بصدور القبول.
حجة من يقول: يلزم البيع بصدور القبول. الدليل الأول: يقول الشيخ علي قره داغي: "لا يوجد نص في جميع المذاهب التي اطلعنا على آرائهم ما يدل على اشتراط علم الموجب بالقبول في التعاقد بين الغائبين ليتم العقد، بل بالعكس وجدنا نصوصهم تتظاهر على تثبيت هذه القاعدة، وهي أن العقد يتم بركنيه، وهما الإيجاب والقبول، فإذا توفر فقد تم العقد، وأما اشتراط علم الموجب بعد تحققهما فهذا اعتراف ضمني بعدم كفاية الإيجاب والقبول في انعقاد العقد، وترتيب الأثر" (¬1). الدليل الثاني: أن في اشتراط علم الموجب للقبول فيه تأخير كبير لآثار العقد لا يتفق مع متطلبات العصر الحديث من سرعة إنهاء المعاملات، كما أن ذلك يؤدي إلى ¬
الدليل الثالث
زعزعة الثقة وعدم اطمئنان القابل من فعالية قبوله، حيث إن للموجب الحق في رفض التعاقد بعد القبول وقبل وصوله إلى علمه. الدليل الثالث: أن الموجب حينما بعث بإيجابه إلى الآخر عن طريق الكتابة أو الرسول، فقد تصور العقد والمعقود عليه، وانتهى من كل شيء من جانبه، فالأمر موكول إلى الآخر، فإذا قبله فقد تم العقد، فما الجدوى في تأخير انعقاد العقد إلى حين علم الموجب؟ (¬1). الدليل الرابع: " إذا كنتم تقولون: إن الوقوف عند وقت صدور القبول في التعاقد ما بين الغائبين يلقي الموجب في حيرة، فهو لا يعلم متى تم العقد، ولكن هذا القول مردود بأن الوقوف عند وقت العلم بالقبول هو أيضاً من شأنه أن يوقع القابل في حيرة، إذ هو لا يدري متى وصل القبول إلى علم الموجب، فلا يعلم متى تم العقد، ونرى من ذلك أن اعتبار وقت صدور القبول من شأنه أن لا يطمئن الموجب واعتبار وقت العلم بالقبول من شأنه أن لا يطمئن القابل، فلا ميزة لقول على آخر من حيث اطمئنان المتعاقدين" (¬2). ويناقش هذا: بأن هناك فرقا بين البائع والمشتري، فالبائع لو قلنا بنظرية الإعلان تبقى يده معلقة من التصرف في المبيع في الوقت الذي لا يعلم هل قبل القابل أم لا، فيكون في ذلك ضرر بين عليه في حالة ما إذا كان القابل قد رفض الشراء، أما ¬
حجة من يقول: يشترط العلم بالقبول.
المشتري فإن الثمن غالباً ما يكون وجوبه في ذمته، فله حق التصرف في عين ماله، فالأخذ بنظرية إعلان القبول هو من باب تحقيق مصلحة له، لا أكثر، وإذا اجتمع دفع المفسدة وجلب المصلحة كان دفع المفسدة مقدما على جلب المصلحة. حجة من يقول: يشترط العلم بالقبول. الدليل الأول: يذكر الحنفية في شروط انعقاد البيع سماع كل من المتعاقدين لصاحبه في البيع بين الحاضرين، حتى نقل بعضهم أن السماع شرط لانعقاد البيع بالإجماع، وهذا يدل على أنه شرط في البيع بين الغائبين كذلك. جاء في البحر الرائق: "إذا قبل المشتري فلم يسمعه البائع لم ينعقد، فسماع المتعاقدين كلاهما في البيع شرط للانعقاد إجماعا، فإن سمع أهل المجلس كلام المشتري والبائع يقول لم أسمع ولا وقر في أذنه لم يصدق قضاء" (¬1). وجاء في الفتاوى الهندية في معرض الكلام على شروط انعقاد البيع: "ومنها سماع المتعاقدين كلامهما، وهو شرط انعقاد البيع بالإجماع ... " (¬2). وجاء في مجمع الأنهر: "وفي المحيط سماع المتعاقدين الإيجاب والقبول شرط الانعقاد" (¬3). وفي شرح مجلة الأحكام: "يشترط في انعقاد البيع ... سماع كل من المتعاقدين كلام الآخر" (¬4). ¬
الدليل الثاني
وفي مذهب الشافعية جاء في الفتاوى الفقهية الكبرى لابن حجر الهيتمي: "وسئل: بما لفظه تبايعا، وبينهما حائل يمنع رؤية الأشخاص لأسماع الأصوات هل يصح أو لا؟ فأجاب بقوله: نعم يصح؛ لأنهم لم يشترطوا إلا سماع كل كلام صاحبه، بل صرحوا بصحة بيع الأعمى وشرائه لما رآه قبل العمى ولنفسه، وبصحة تبايع الغائبين، نعم إن كان وراء الحائل جماعة اشترط تسمية المشتري حتى يتميز منهم" (¬1). الدليل الثاني: في قواعد المذهب الحنفي كانوا يقيسون الكتابة على اللفظ، ولذلك كان من قواعد الحنفية: "الكتاب من الغائب كالخطاب من الحاضر". فما ثبت للأصل ثبت للفرع، فإذا كنا نشترط السماع في اللفظ، فلنثبت اشتراط العلم القائم مقام السماع للكتابة. الدليل الثالث: اشتراط السماع ليس مطلوبا لذاته، وإنما هو وسيلة للعلم بالرضا الذي هو شرط، فليس في القرآن ولا في السنة إناطة العقود بالكلام، ولا بالنطق، وإنما الذي جاء فيهما إناطة العقود بالتراضي، وقد أجمع الفقهاء على أن العلة الحقيقية هي الرضا, ولكن لما كان أمرا خفيًا لا يطلع عليه أقيم مقامه ما يدل عليه من سبب ظاهر، كاللفظ وغيره، فإذا كان سبب العدول عن الرضا النفسي إلى ما يدل عليه هو الاطلاع، وإذا كان الكلام الذي لا يسمع يستوي مع الرضا النفسي في عدم الاطلاع عليه، كان لا بد من السماع حتى يمكن الاطلاع عليه. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: إذا كان سماع القابل للإيجاب أمراً لا يصح أن ينازع فيه, لأن من وجه إليه الإيجاب لا يمكن أن يرضى إلا إذا علم بالإيجاب؛ لأن الرضا لا يكون بدون علم، فكذلك يجب سماع القبول؛ لأن الإعلان عن الرضا لا فائدة منه إلا بالاطلاع عليه، فإذا لم يسمع القبول فإنه يستوي حينئذ بالرضا المستكن في النفس الذي أجمعوا على عدم تأثيره في عقود المبادلات المالية، فإذا سمع الموجب فقد تحقق السماع والعلم (¬1). الدليل الخامس: إذا لم نشترط علم الموجب للقبول، فقد يحرم الموجب من فرصة التعاقد مع قابل آخر قد يعرض ثمنا أفضل، لظنه أن المشتري يحتمل أن يكون قد قبل عرضه، وقد يعتقد مع تأخر وصول القبول أن إيجابه مرفوض، فيتعاقد مع شخص آخر ظنا منه بأن إيجابه لم يقبل، فيكون عرضة لضياع مصلحته أو مصلحة القابل، وكل ذلك يدل على عيب في الاكتفاء بنظرية الإعلان فقط. مناقشة كل من النظريتين: بالنظر إلى أدلة كل قول يتكشف لنا عيوب القول المقابل: فالعيوب التي تتوجه إلى نظرية العلم: منها أن في اشتراط علم الموجب للقبول تأخيرا كبيرًا لآثار العقد لا يتفق مع متطلبات العصر الحديث من سرعة إنهاء المعاملات، كما أن ذلك يؤدي إلى ¬
والعيوب التي تتوجه إلى نظرية الإعلان
زعزعة الثقة وعدم اطمئنان القابل من فعالية قبوله، حيث إن للموجب الحق في رفض التعاقد بعد القبول وقبل وصوله إلى علمه. والعيوب التي تتوجه إلى نظرية الإعلان: تكاد السلع في أيامنا تتعرض في كثير من الأحيان إلى ارتفاع حاد، أو هبوط مفاجئ، ومع تهاون الناس في التزاماتهم الشرعية، وقلة الأمانة لدى كثير من المتعاملين في السوق، وكثرة الحيل في المعاملات المالية فإنهم سوف يسعون في حالة هبوط السلع إلى عدم لزوم البيع, وفي حالة ارتفاع السلع سيكون الموقف بالعكس، فإذا تم تبني نظرية إعلان القبول فإن إثبات وقت صدور القبول يشكل صعوبة كبيرة إلى درجة أنه قد يستحيل الإثبات في غالب الأحيان، فالقابل يسعه أن يغير مضمون القبول أو يبطله ما لم يرسله إلى الموجب. كما أن الموجب الذي ليس على علم بذلك قد يعتبر إيجابه ساقطا، وقد يتعاقد مع شخص آخر ظنا منه بأن إيجابه لم يقبله المرسل إليه، وفي مقابل ذلك يكون القابل في هذه الفترة على ثقة من انعقاد العقد، وينظم أموره حسب ذلك (¬1). ولوجود عيوب في نظرية الإعلان والقبول تفرعت قيود على هاتين النظريتين مما نتج عنه نظريتان أخريان، أعطيتا مصطلاحات خاصة، منها: الأولى: نظرية تصدير القبول (نظرية الإرسال) القرق بين نظرية إعلان القبول، ونظرية تصدير القبول. أن نظرية الإعلان تقول: إذا قبل من وجه إليه الإيجاب تم العقد دون حاجة ¬
وأما نظرية تصدير القبول
إلى تأخير ذلك إلى وقت لاحق، ويعيب هذه النظرية أن الموجب ستمضي عليه فترة عدم استقرار، لا يعلم فيها إذا كان العقد قد انعقد أم لا. وأما نظرية تصدير القبول: فهي تتفق مع النظرية الأولى في أساسها, ولكنها تختلف عنها في اشتراط أن يكون القبول نهائيا، والقبول لا يكون نهائيا في رأي أصحابها إلا إذا استحال على القابل الرجوع فيه، وهذا لا يتأتى إلا إذا صَدَّر القبول فعلا بالبريد أو البرق؛ لأنه قبل تصديره يكون في استطاعة القابل الرجوع فيه بإهمال تصدير الكتاب الذي يتضمنه أو بإعدامه، وهو ما قد يحدث لو تغيرت الظروف، وأصبحت الصفقة غير مربحة له (¬1). الثانية: نظرية استلام القبول (نظرية التسليم) هذه النظرية تقول بانعقاد العقد عندما يتسلم المرسل (الموجب) جواب الطرف القابل، ولو قبل الاطلاع على مضمونه. وتخالف نظرية العلم بالقبول بأن العقد في القول باشتراط العلم بالقبول لا ينعقد إلا بعد إلاطلاع على مضمون الخطاب، فلو أقام الدليل على أنه لم يعلم بالقبول بالرغم من وصوله لم ينعقد العقد (¬2). ¬
الراجح من هذه الأقوال
وقد تبنى اتفاق فيينا نظوية استلام القبول في مادتيه (23) و (24): يقول الشيخ إبراهيم كافى: "نشير هنا إلى موقف اتفاق فيينا في هذه القضية -ذلك الاتفاق الذي يعتبر ممثلًا لأخر ما توصل إليه معظم الحقوقيين في العالم في هذا المضمار- وهو الانحياز إلى نظرية استلام القبول" (¬1). الراجح من هذه الأقوال: هذه المسألة كما يقول عنها الشيخ الدكتور إبراهيم كافي بعد أن قدم بحثًا مميزًا في هذا الموضوع، يقول: "لا يمكن أن ننكر أن الموضوع يحتمل أكثر من وجه، ويوقع المرء في حيوة لا محالة" (¬2). وإذا كانت هذه المسألة من الصعوبة بمكان لعدم وجود أثر يقطع النزاع، فتبقى المسألة محل نظر واجتهاد وتلمس للحكم الشرعي بما يحفظ مصلحة البائع والمشتري، وبما يوافق القواعد العامة للشريعة، فالترجيح مني في مثل هذه الحال سيكون مجرد ميل واستحسان لقول على آخر، لا أكثر، فإذا رأينا أن ¬
الأصل عدم وقوع البيع حتى نتيقن أو يغلب على الظن وقوعه، وأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وأن القبول لا فائدة منه إلا بعد الاطلاع عليه. وأن القول بنظرية الإعلان سوف يتضرر البائع دون المشتري، فالمشتري يده مطلقة في الثمن، بينما البائع لا يمكنه التصرف في المبيع حتى يعلم بالرفض، وقد يتأخر وصول هذا العلم كثيرًا، ويترتب على ذلك أضرار كبيرة، فأرى أن القول باشتراط العلم بالقبول أرفق بالبائع، وأكثر رعاية لمصالحه، هو أولى بالمراعاة من المشتري؛ لأن البيع إخراج للمبيع من ملكه، فيجب أن تكون الإرادة المفروضة مطابقة لمصلحة البائع عند عدم الاتفاق، كما أن الراجح فيما لو اختلف المتبايعان في عين المبيع فالقول ما يقول رب السلعة أو يتتاركان، فراعى هنا مصلحة البائع؛ لأن في ذلك إخراجًا للمبيع من ملكه بغير رضاه، فكذلك هنا نراعي مصلحة البائع، ونقول لا بد من علمه بالقبول لينتج للعقد أثره المترتب عليه، على أن استلام القبول قرينة على الاطلاع عليه إلا أن يثبت عكسه من سفر أو مرض لم يتمكن بسببه من الاطلاع. وإذا كانت القاعدة الشرعية أن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، فإن القول باشتراط العلم بالقبول فيه دفع للمفسدة الواقعة على البائع، بينما الأخذ بنظرية الإعلان فيه جلب مصلحة للمشتري، في الوقت الذي قد يتضرر البائع، فإن قيل: تأخير القبول قد يلحق ضررًا بالمشتري. قيل في الجواب عن ذلك الأصل عدم وقوع الشراء، والثمن غالبًا ما يكون متعلقًا في الذمة، فلا أحد يملك أن يقيد يده من التصرف، بخلاف البائع فإن القول بالاكتفاء بالقبول يكف يد البائع عن التصرف في المبيع إلى حين يعلم هل قبل أو رفض المشتري، وفي ذلك ضرر بين، وإن كنت أنصح في مثل هذه العقود أن يشترط البائع أن يكون
الإيجاب موقتًا بوقت إذا لم يصل إليه القبول في خلاله يكون في حل من إيجابه، كما هو مذهب المالكية فهذا يحل الإشكال من أساسه، ولا يجعل البائع معلقاً لا يتمكن أن يستغل المبيع انتظارًا لقبول قد يقع وقد لا يقع، وقد يفوت عليه عروضًا كثيرة ربما تكون أهم من العرض الذي قدمه للمشتري. وقد استعرض مجمع الفقه الإِسلامي هذه المسألة وقدمت خلال دورته بحوث قيمة ناقشت هذه المسألة بإسهاب، واختلفت آراء أصحاب البحوث فيها كحال مسائل الخلاف، وكان قرار المجلس قد أخذ بنظرية الإعلان، وإليك نص القرار. إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة، ونظرًا إلى التطور الكبير الذي حصل في وسائل الاتصال وجريان العمل بها في إبرام العقود، لسرعة إنجاز المعاملات المالية والتصرفات، وباستحضار ما تعرض له الفقهاء بشأن إبرام العقود بالخطاب والكتابة وبالإشارة وبالرسول ... قرر: 1 - إذا تم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مكان واحد، ولا يرى أحدهما الآخر معاينة، ولا يسمع كلامه، وكانت وسيلة الاتصال بينهما الكتابة أو الرسالة، أو السفارة (الرسول) وينطبق ذلك على البرق والتلكس والفاكس، وشاشات الحاسب الآلي (الكمبيوتر) ففي هذه الحالة ينعقد العقد عند وصول الإيجاب إلى الموجه إليه وقبوله. 2 - إذا تم التعاقد بين طرفين في وقت واحد، وهما في مكانين متباعدين، وينطبق هذا على الهاتف واللاسلكي، فإن التعاقد بينهما يعتبر تعاقدًا بين
حاضرين، وتطبق على هذه الحالة الأحكام الأصلية المقررة لدى الفقهاء المشار إليها في الديباجة. 3 - إذا أصدر العارض بهذه الوسائل إيجابًا محدد المدة يكون ملزمًا بالبقاء على إيجابه خلال تلك المدة، وليس له الرجوع عنه. 4 - إن القواعد السابقة لا تشمل النكاح لاشتراط الإشهاد فيه، ولا الصرف لاشتراط التقابض، ولا السلم لاشتراط تعجيل رأس المال. 5 - ما يتعلق باحتمال التزييف أو التزوير أو الغلط يرجع فيه إلى القواعد للإثبات (¬1). ¬
المبحث الخامس الإيجاب والقبول بالوسائل الحديثة
المبحث الخامس الإيجاب والقبول بالوسائل الحديثة قال ابن تيمية: "كل ما عده الناس بيعًا وإجارة فهو بيع وإجارة، وإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال ... وليس لذلك حد مستمر، لا في شرع، ولا في لغة" (¬1). وذكر المالكية بأن البيع ينعقد بما دل على الرضا من قول، أو إشارة، أو كتابة من الجانبين، أو معاطاة (¬2). والإيجاب والقبول بالوسائل الحديثة مركب من صيغة لفظية وفعلية، ولذا أدرجتها في الصيغ الفعلية، وإن كانت تقبل أن تدرج في الصيغة اللفظية. والمقصود بالوسائل الحديثة: الهاتف، والبرق، والتلكس، والفاكس ونحوها. هذه الوسائل ليست على شكل واحد، فبعضها يأخذ حكم الكتابة، وبعضها يأخذ حكم اللفظ. فهي إن عبرت هذه الوسائل عن ملفوظ فهي في حكم الكلام، وذلك مثل البيع عن طريق الهاتف والراديو، ونحوها. ¬
ويبقى البيع بالهاتف.
وإن عبرت هذه الوسائل عن مكتوب فهي في حكم الكتابة، فالبرق مثل الكتاب، إلا أن الكتاب يصل إلى المرسل إليه بخط يده، في حين أن البرق تعبير عما كتبه، أو تلفظ به، والفاكس يقدم صورة عما كتبه الموجب، وقد سبق لنا مناقشة حكم البيع عن طريق الكتابة، وتوصلنا أن الكتاب في حكم الخطاب، فأغنى عن إعادته هنا. ويبقى البيع بالهاتف. [ن- 5] فالبيع عن طريق الهاتف أصبح يمارس اليوم على نطاق واسع في محيط التعامل بين المشتغلين بأمور التجارة، ولذا يجب بسط الكلام فيه، خاصة أن الفقهاء قديمًا لم يتعرضوا لحكمه لعدم وجود الهاتف في عصرهم، ولكن يوجد من عموم كلامهم ما يستدل به على حكم البيع بالهاتف. فقد صرح الحنفية والشافعية من أن المتعاقدين لا يشترط فيهما قرب المكان ولا رؤية بعضهما في صحة العقد. فهذا ابن نجيم في البحر الرائق يصحح البيع، ولو كان بين البائع والمشتري نهر عظيم تجري فيه السفن، ثم قال: "وقد تقرر رأي في أمثال هذه الصورة على أنه إن كان البعد بحال يوجب التباس ما يقول كل واحد منهما لصاحبه يمنع، وإلا فلا، فعلى هذا الستر بينهما الذي لا يمنع الفهم والسماع لا يمنع" (¬1). وجاء في الفتاوى الهندية: "والبعد إن كان بحال يوجب الالتباس بقول كل واحد منهما يمنع، إلا فلا" (¬2). جاء في المجموع: "لو تناديا، وهما متباعدان، وتبايعا صح البيع" (¬3) ¬
ويقول الشيخ أحمد إبراهيم. "وأما العقد بالتلفون فالذي يظهر أنه كالعقد مشافهة، مهما طالت الشقة بينهما، ويعتبر العاقدان كأنهما في مجلس واحد، إذ المعنى المفهوم من اتحاد المجلس أن يسمع أحدهما كلام الآخر، ويتبينه، وهذا حاصل في الكلام بالتلفون، كما هو مشاهد لنا، غاية الأمر أنه يحتمل الكذب، وتصنع صوت الغير، لكن هذا قد يحصل في الرسالة والكتابة أيضاً" (¬1). ويقول الأستاذ علي الخفيف: "إذا استعملا التلفون بالتعاقد كانا كحاضرين، فيدوم مجلس العقد ما دامت محادثتهما في شأنه، فإذا انتقلا منه إلى حديث في موضوع آخر انتهى مجلس العقد، وبطل بذلك الإيجاب" (¬2). وقد تبين لنا في بحث ألفاظ الإيجاب والقبول أن الشرع يعتبر الرضا هو الأساس في صحة العقود، لهذا أجاز الفقهاء التعاقد بالرسالة والكتابة وبالإشارة والمعاطاة، بل أجاز البيع بكل ما يدل على الرضا عرفًا، فكل ما عده الناس بيعًا فهو بيع، ومنه البيع عن طريق الهاتف. يقول الحطاب: "واحتج المالكية بما تقدم من أن الأفعال، وإن انتفت منها الدلالة الوضعية، ففيها دلالة عرفية، وهي كافية، إذ المقصود من التجارة إنما هو أخذ ما في يد غيرك بدفع عوض عن طيب نفس منكما، فتكفي دلالة العرف في ذلك على طيب النفس والرضا بقول أو فعل" (¬3). واختار النووي والمتولي والبغوي من الشافعية، وابن تيمية من الحنابلة انعقاد ¬
المسألة الأولى: اتحاد مجلس الإيجاب والقبول
البيع بكل ما يعده الناس بيعًا (¬1). وفي القانون المدني المصري: "يعتبر التعاقد بالتلفون أو بأية طريقة مماثلة كأنه تم بين حاضرين فيما يتعلق بالزمان، وبين غائبين فيما يتعلق بالمكان" (¬2). والذي قد يحتاج إلى توضيح في البيع بالهاتف ونحوه، الكلام في مسائل منها: المسألة الأولى: اتحاد مجلس الإيجاب والقبول يذكر الفقهاء لصيغة العقد شروطًا من أهمها شرطان: الأول: موافقة القبول للإيجاب، وسيأتي الكلام عليه بشيء من التفصيل إن شاء الله تعالى. الثاني: اتصال القبول يالإيجاب، ويشترط لاتصال القبول بالإيجاب ثلاثة شروط: - أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد. - ألا يصدر من أحد العاقدين ما يدل على إعراضه. - ألا يرجع الموجب عن إيجابه قبل صدور القبول. فما الذي يقصده الفقهاء بقولهم: اتحاد مجلس العقد، أو أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد؟ ليس المراد من اتحاد المجلس المطلوب في كل عقد كون المتعاقدين في ¬
المسألة الثانية
مكان واحد؛ لأنه قد يكون مكان أحدهما غير مكان الآخر كما مو علينا في البيع عن طريق المكاتبة أو المراسلة، وإنما المراد باتحاد المجلس: الوقت الذي يكون فيه المتعاقدان مشتغلين فيه بالتعاقد. فمجلس العقد: هو الحال التي يكون فيها المتعاقدان مقبلين على التفاوض في العقد، ما لم يفصل بين الإيجاب والقبول فاصل أجنبى يعتبر إبطالًا للإيجاب، كرجوع الموجب عن إيجابه قبل القبول، أو إعراض القابل عن هذا الإيجاب باشتغاله بشيء آخر غير العقد، فإذا لم يوجد شيء من ذلك صح القبول الصادر منه مهما طال الوقت. وبناء عليه يكون اتحاد المجلس في العقد عق طريق الهاتف: هو زمن الاتصال، فما دامت المحادثة في شأن العقد قائمة اعتبر المجلس قائمًا، وإذا انتقلا إلى حديث آخر اعتبر المجلس منتهيًا (¬1). المسألة الثانية: هل يثبت خيار ما يسمى (خيار المجلس) في البيع بالهاتف عند القائلين به، وهما الشافعية والحنابلة، وإذا قلنا بثبوته فكيف نكيفه؟ قال النووي: "لو تناديا، وهما متباعدان، وتبايعا صح البيع، وأما الخيار: فقال إمام الحرمين: يحتمل أن يقال: لا خيار لهما؛ لأن التفرق الطارئ يقطع الخيار، فالمقارن يمنع ثبوته. قال: ويحتمل أن يقال: يثبت ما داما في موضعهما، فإذا فارق أحدهما موضعه بطل خياره، وهل يبطل خيار الآخر أم يدوم إلى أن يفارق مكانه، فيه ¬
احتمالان للإمام، وقطع المتولي بأن الخيار يثبت لهما ما داما في موضعهما، فإذا فارق أحدهما موضعه، ووصل إلى موضع لو كان صاحبه معه في الموضع عد تفرقا، حصل التفرق، وسقط الخيار، هذا كلامه، والأصح في الجملة ثبوت الخيار، وأنه يحصل التفرق بمفارقة أحدهما موضعه، وينقطع بذلك خيارهما جميعًا. وسواء في صورة المسألة كانا متباعدين في صحراء، أو ساحة، أو كانا في بيتين من دار، أو في صحن، وصفة، صرح به المتولي، والله أعلم" (¬1). وفي بيع الهاتف اختلف الفقهاء المعاصرون في ثبوت خيار المجلس في الهاتف. فقيل: لا يوجد خيار مجلس في الهاتف؛ لأن قوله: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" إذا حملنا التقرق على تفرق الأبدان، وهو الصحيح، فإن الأبدان قد تفرقا بهما، فأحدهما في المشرق، والآخر في المغرب، فقضية خيار المجلس ينبغي ألا يحدث لأن الوسائل الحديثة أحدثت لنا طريقة أو وضعًا غير موجود في حديث الخيار، ولا يدل عليه الحديث إلا بتمحص وتكلف وقياسات لا يدل عليها الحديث، فتحقيق المناط غير متحقق في هذا". وذهب آخرون إلى أنه يمكن لنا أن نحدد مجلس العقد في بيع الهاتف. يقول الأستاذ علي الخفيف رحمه الله: "إذا استعملا التلفون بالتعاقد كانا كحاضرين، فيدوم مجلس العقد ما دامت محادثتهما في شأنه، فإذا انتقلا منه إلى حديث في موضوع آخر انتهى مجلس العقد ... " (¬2). ¬
المسألة الثالثة
وحتى نعرف القول الراجح لا بد لنا من معرفة مقصد الشارع من تشريع ما يسمى بخيار المجلس، هل قصد احترام المجلس (مكان التبايع) لذات المجلس، أو قصد أن يكون هناك فترة من الزمن بعد الإيجاب والقبول يتروى فيها كل من المتعاقدين خشية أن يكون تسرع في الصفقة، لأن البيع قد يقع فجأة من غير ترو ولا نظر، فجعل الشارع هذا الخيار ليحق له الرجوع، وإذا كان المقصود بالمفارقة هو مفارقة مكان التبايع فالمكان قائم في كل صفقة، فالحكم يتعلق بمكانهما إن كانا حاضرين، أو تعلق الحكم باتصالهما إن كانا غائبين، وليس من شرط قيامه اتحاد المكان، وقد ناقشت فيما سبق المكان في حالة البيع بالمكاتبة والمراسلة، فهنا المكان هو مكان الاتصال، فإذا انقطع الاتصال بين المتصلين فقد افترقا. المسألة الثالثة: البيع بالتلفون لا يصح فيما يشترط فيه القبض الفوري إلا إذا تم القبض بعد انتهاء المكالمة مباشرة، كأن يكون لكل واحد منهما عند الآخر وكيل بالقبض مثلًا، أو نحو ذلك، فالعقود في الأموال الربوية لا يتم فيها العقد بالهاتف إلا مع هذا الضابط.
الفصل الثاني في صدور الإيجاب والقبول من طرف واحد
الفصل الثاني في صدور الإيجاب والقبول من طرف واحد هل يمكن أن يصدر الإيجاب والقبول من شخص واحد؟ وإذا أمكن تصور ذلك، فهل يصح العقد؟ لهذه المسألة أكثر من صورة، منها الجائز، ومنها ما هو محل خلاف. [م - 54] فالصورة الجائزة، حتى حكى بعضهم الإجماع على جوازها، لها أمثلة منها: لو زوج أمته عبده الصغير، فإن للسيد أن يتولى طرفي العقد بنفسه؛ لأنه مالك لذلك بحكم الملك، لا بحكم الإذن (¬1). ومنها: الأب يشتري مال الصغير لنفسه، أو يبيع مال نفسه من الصغير (¬2). وعللوا ذلك بان الأب من طبعه الشفقة على ولده، والميل إليه، وترك حظ نفسه لحظه. وحكى القرافي الإجماع على صحة بيع الأب وشرائه من مال ولده الصغير (¬3). ¬
وأما التي هي محل خلاف، فلها صورتان: أحدهما: مسألة بيع الوكيل لنفسه، وشرائه منها، فلو وكل رجل رجلاً على شراء عقار، وكان عند الوكيل عين المطلوب، فهل له أن يبيع هذا العقار على موكله، ومثله لو وكله على بيع العقار، وهو محتاج إليه، فهل له أن يشتري هذا العقار؟ الصورة الثانية: تولي الوكيل طرفي العقد نيابة عن العاقدين، كما لو وكله شخص على بيع سلعة، ووكله آخر على شرائها. وسوف نتعرض إن شاء الله تعالى بالبحث لكل مسألة على انفرادها. أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
المبحث الأولى في بيع الوكيل لنفسه وشرائه منها
المبحث الأولى في بيع الوكيل لنفسه وشرائه منها [م - 55] إذا نهي الوكيل عن إجراء العقد مع نفسه فأجراه لم يصح العقد، وذلك لأن ما نهاه عنه غير داخل في إذنه، فلم يجز له كما لو لم يوكله. أما إذا أذن له بإجراء العقد مع نفسه، أو أطلق الوكالة ففي هذا خلاف بين أهل العلم. فقيل: له ذلك مطلقاً، وبه قال مالك رحمه الله (¬1)، ورواية عن الإمام أحمد (¬2). ¬
تعليل من قال: للوكيل أن يبيع على نفسه ويشتري منها مطلقا.
وقيل: لا يجوز له مطلقًا، ولو أذن له الموكل، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقال به أكثر الشافعية (¬2). وقيل: إن أذن له جاز، وإلا فلا، وهو قول عند الحنفية، (¬3)، والمشهور من مذهب المالكية (¬4)، واختاره بعض الشافعية (¬5)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬6). تعليل من قال: للوكيل أن يبيع على نفسه ويشتري منها مطلقًا. التعليل الأول: استدلوا بأن الوكيل ببيعه أو شرائه قد امتثل أمر الموكل، وحصل غرضه فصح كما لو كان من شخص أجنبي (¬7). ¬
ونوقش هذا
ونوقش هذا: بأن الموكل عندما وكله في البيع والشراء إنما يقصد من شخص أجنبي، ولو كان الموكل يعرف أن الوكيل سوف يتعاقد مع نفسه لباشر الموكل البيع عليه، ولم يكن هناك حاجة إلى أن ينيبه عن نفسه، وإذا كان العرف في الوكالة لا يتناول بيعه على نفسه لم يكن مفوضًا في هذا التصرف. التعليل الثاني: أن دين الرجل وأمانته تحمله على عمل الحق، وربما زاد خيرًا (¬1). ويناقش هذا: الناس متفاوتون في هذا الأمر، وربما تجد الرجل الذي ترضى سلوكه في قيامه بالواجبات المتعلقة بالبدن من صلاة وصيام وحج، وتضعف نفسه في الأمور المالية، كما أن الإنسان مجبول على محاباته لنفسه، وهو أمر مشاهد، وإنصاف الإنسان من نفسه عزيز. التعليل الثالث: لما جاز بيع الوكيل من غيره جاز من نفسه؛ قياسًا علي الأب حيث يجوز له أن يبيع على ولده من غيره، ويجوز له أن يبيع من نفسه. ونوقش هذا: لا يصح القياس على بيع الأب من مال ولده لأن الوالد مفطور على الشفقة على ابنه، فالقياس مع الفارق. ¬
تعليل من قال: ليس له ذلك مطلقا.
تعليل من قال: ليس له ذلك مطلقًا. التعليل الأول: الوكيل بمقتضى الطبيعة البشرية يستقصي لنفسه، وقد أخذ عليه بمقتضى عقد الوكالة أن يستقصي للموكل، فهذان غرضان متضادان فتمانعا. ونوقش هذا: بأن العقد لا يخرج عن صورتين: إما أن يعين الموكل للوكيل الثمن الذي يبيع به، أو لا يعين له ثمنًا، فإن عين له ثمنًا فقد زال مقصود الاستقصاء، وأن الوكيل لا يريد أكثر من هذا الثمن وقد حصل، سواء شراه الوكيل أو اشتراه غيره، وإن لم يعين له الثمن تقيد البيع والشراء بثمن المثل، كما لو باع أو اشترى من أجنبي، وهذا يدفع محاباة الوكيل لنفسه (¬1). التعليل الثاني: لا يجوز أن يتولى طرفي العقد واحد بنفسه، ويأخذ بأحدى يديه من الأخرى (¬2). فكيف يكون الشخص الواحد مسلمًا ومستلمًا، مطالِبًا ومطالَبًا. وكما أن الموكل لو وكل الوكيل ليهب من نفسه لم يصح، وإن انتفت التهمة؛ لاتحاد الموجب والقابل، فكذلك بيعه على نفسه وشراؤه منها (¬3). ويناقش: لا يوجد دليل يمنع من قيام الوكيل بنفسه بطرفي العقد، فمن قال: لا يجوز ¬
تعليل من قال: ليس له ذلك إلا أن يأذن له.
فيطالب بالدليل، وإذا جاز في المسألة المتفق عليها قيامه بطرفي العقد كما لو زوج عبده الصغير أمته، جاز له ذلك في المسائل المختلف فيها. وإذا كان الموكل مالكا للهبة بنفسه، فله الإنابة فيها؛ لأن من ملك شيئاً ملك الإنابة فيه، كما لو وكل المرأة على طلاق نفسها. تعليل من قال: ليس له ذلك إلا أن يأذن له. التعليل الأول: قالوا: إن سياق التوكيل في البيع يدل على إخراج الوكيل من جملة المشترين؛ لأن الموكل جعله بائعًا، فلا يكون مشتريًا، فنحتاج حتى يكون مشتريًا إلى إذن صريح من الموكل. التعليل الثاني: أن العرف محكم في ذلك، فمن وكل في البيع لم يدخل بيعه على نفسه، وإنما المقصود بيعه من غيره، ومن وكل في الشراء لم يدخل شراؤه من نفسه، فتحمل الوكالة على المتعارف عليه، ولذلك قلنا: نحتاج إلى إذن الموكل إذا باع أو اشترى من نفسه لحمل اللفظ على غير المتعارف عليه. التعليل الثالث: أن علة المنع من البيع والشراء من النفس وجود مظنة التهمة في محاباة النفس، وعدم رضا الموكل بهذا التصرف، وإخراج هذا التصرف من عموم لفظه وإذنه، فإذا صرح بالإذن فقد رضي هذا التصرف، وهو لو وهب له المبلغ كاملًا لم يكن هناك مانع شرعي، فإذا رضي منه أن يبيع على نفسه أو يشتري منها جاز ذلك من باب أولى.
واعترض الشافعية
واعترض الشافعية: بأن العلة ليس انتفاء التهمة فقط، وإنما هي عدم جواز اتحاد الموجب والقابل؛ لأن الإيجاب والقبول لا ينتظمان من شخص واحد، بدليل أنه لو وكله ليهب من نفسه لم يصح مع أن التهمة منتفية. ورد هذا: بأنه قد جاز إجراء الأب العقد مع نفسه في مال ولده الصغير، مع اتحاد الموجب والقابل. الراجح من الخلاف: الذي أميل إليه أن الوكيل لا يجوز له الشراء ولا البيع من نفسه إلا أن يكون هناك إذن سابق من الموكل أو إجازة لاحقة منه، أو كان الوكيل قد عين الثمن في البيع والشراء وكان يعرف ثمن السلعة (¬1)، أو كان البيع بالمزايدة، وتولى المزايدة غيره، فانتهت عليه، والذي يجعلنا نقول بأن الوكيل ليس له حق البيع والشراء من نفسه أن الوكالة بالبيع والشراء لا يدخل فيها عرفًا شراء الوكيل وبيعه من نفسه، إذ لو علم الموكل أن الوكيل سوف يتعاقد مع نفسه بيعًا أو شراء لأقدم على التعامل معه مباشرة منذ البداية دون أن ينيبه عنه، وإذا كان لفظ الوكالة لا يتناوله عرفًا لم يكن له حق التصرف، وإذا كان الوكيل يرى أنه لم يحاب نفسه فما المانع أن يطلع الوكيل على ذلك ليأخذ منه إجازة على تصرفه، وليبعد عن نفسه التهمة، وقد يطلع الموكل على تصرف الوكيل فيرفض هذا التصرف ويبطله، ويؤدي ذلك إلى فتح باب التنازع. ¬
المبحث الثاني تولي الوكيل طرفي العقد نيابة عن العاقدين
المبحث الثاني تولي الوكيل طرفي العقد نيابة عن العاقدين [م - 56] إذا وكل شخص في بيع سلعة، ووكله آخر في شرائها، فيكون الوكيل نائبًا عن البائع والمشتري في آن واحد، فما حكم هذه المسألة؟ في هذا خلاف بين أهل العلم: فقيل: لا يصح للوكيل إصدار تولي طرفي العقد نيابة عن العاقدين، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: يصح، وهو مذهب المالكية (¬4)، ووجه مرجوح في مذهب الشافعية (¬5)، وقال ابن قدامة، والمرداوي من الحنابلة: وهو قياس المذهب (¬6). وجه من قال: لا يصح للوكيل تولي صيغة العقد نيابة عن العاقدين: استدل الشافعية على عدم الجواز بأنه لا يجوز اتحاد الموجب والقابل؛ لأن ¬
واعترض
الإيجاب والقبول لا ينتظمان من شخص واحد، بدليل أنه لو وكله ليهب من نفسه لم يصح مع أن التهمة منتفية. واعترض: بأنه لا يوجد دليل يمنع من قيام الوكيل بنفسه بطرفي العقد، فمن قال: لا يجوز فيطالب بالدليل، وإذا جاز في المسألة المتفق عليها قيامه بطرفي العقد كما لو تولى الأب طرفي البيع في مال ولده، أو زوج عبده الصغير أمته، جاز له ذلك في المسائل المختلف فيها. ورد هذا: بأن الأب يتولى طرفي البيع في مال ولده وكذا الجد لقوة الولاية ولكثرة الحاجة في البيع، وعسر مراجعة السلطان، وهل يتولى الجد طرفي النكاح في حفدته، فيه وجهان مبنيان على أن العلة في البيع قوة الولاية وحدها، أم مع كثرة الحاجة إلى البيع فإن النكاح نادر (¬1). وجه من قال بالجواز: الوجه الأول: أن تصرف الوكيل عن العاقدين بناء على إذن منهما، فصح تولي العقد نيابة عنهما. الوجه الثاني: القياس على تولي الأب والجد طرفي البيع في مال ولده. ¬
وأجيب
وأجيب: بأن الولاية أقوى من الوكالة، لأنها مستمدة من الشرع، والأب والجد لهما حق الولاية على الأبناء، فلا يقاس الأضعف على الأقوى. الوجه الثالث: أن التهمة منتفية، لأن الوكيل لا يعقد العقد مع نفسه، أو مع ولده، فصحت النيابة. الراجح: القول بالجواز بشرط أن لا يوجد ما يدل على المحاباة.
الفصل الثالث الإيجاب والقبول الصوري
الفصل الثالث الإيجاب والقبول الصوري المبحث الأول: في بيع التلجئة الفرع الأول في تعريف بيع التلجئة قد يصدر الإيجاب والقبول من المتعاقدين، ولا يريدان حقيقة البيع، وإنما حملهما على ذلك الخوف من ظالم، أو الهروب من المكوس ونحوها، ويسميه الفقهاء بيع التلجئة وبيع الأمانة، ويسميه المعاصرون (العقد الصوري). تعريفه: يقول ابن عابدين: التلجئة: أن يتواضعا على إظهار البيع عند الناس لكن بلا قصده (¬1). وفي تعريفات الجرجاني: هو العقد الذي يباشره الإنسان عن ضرورة، ويصير كالمدفوع إليه، وصورته: أن يقول الرجل لغيره: أبيع داري منك بكذا في الظاهر، ولا يكون بيعًا في الحقيقة، ويشهد على ذلك، وهو نوع من الهزل (¬2). ويقول ابن قدامة: "ومعنى بيع التلجئة: أن يخاف أن يأخذ السلطان أو غيره ¬
الحكم التكليفي لبيع التلجئة
ملكه، فيواطئ رجلاً على أن يظهر أنه اشتراه منه؛ ليحتمي بذلك، ولا يريدان بيعًا حقيقيًا (¬1). الحكم التكليفي لبيع التلجئة: [م - 57] يختلف الحكم بحسب الغرض من الفعل، فإن كان الحامل على البيع الصوري حماية ماله من تسلط بعض الظلمة عليه بغير حق كان فعله مباحًا؛ لأن الإنسان من حقه أن يدافع عن ماله المعصوم، وإن كان الحامل عليه عملًا غير مشروع، كما لو كان الرجل مدينًا، فيلجأ إلى العقود الصورية ليبعد أمواله عن متناول دائنيه، بأن يتظاهر بإبرام تصرفات من شأنها إخراج هذه الأموال من ذمته، ليدعي الإعسار، وقد يخفي الطرفان عقد البيع تحت ستار عقد هبة صوري ليسقط حق الشفعة لشريكه، فهذا الفعل يكون محرمًا؛ لأنه يتضمن إسقاط حق الغير بغير حق. ¬
الفرع الثاني خلاف العلماء فى بيع التلجئة
الفرع الثاني خلاف العلماء فى بيع التلجئة قال ابن تيمية: المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرف والعادات (¬1). وقال أيضًا: كل لفظ بغير قصد من المتكلم ... فإنه لا يترتب عليه حكم (¬2). وخالف في ذلك الشافعية، فقالوا: إذا تعارضت النية واللفظ يغلب حكم اللفظ لقوته على حكم النية لضعفه (¬3). [م - 58] اختلف العلماء في بيع التلجئة. فقيل: البيع باطل. وهذا القول هو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف ومحمد (¬4)، والمشهور في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: البيع صحيح، رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة (¬6)، وهو مذهب الشافعية (¬7)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬8). ¬
وقيل: البيع موقوف، إن أجازاه معاً صح، وإن رداه بطل، وإن أجازه أحدهما لم ينعقد، وهو قول في مذهب الحنفية (¬1). ¬
دليل من قال: البيع باطل.
وسبب الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى مسألة أخرى، وهي إذا تعارضت الإرادة الباطنة والإرادة الظاهرة، فما هو المقدم منهما؟ أو بعبارة أخرى، هل المعتبر في العقود المعاني أو الألفاظ. وقد أشار النووي إلى هذا حين تكلم عن بيع التلجئة، فقال: "والصحيح صحته؛ لأن الاعتبار عندنا بظاهر العقود، لا بما ينويه العاقدان" (¬1). وسوف نفرد هذه المسألة بالبحث (أعني الاختلاف بين اللفظ والمعنى) لأهميتها بعد أن ننتهي من مسألتنا هذه. دليل من قال: البيع باطل. الدليل الأول: (ح-27) ما رواه البخاري من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرني محمَّد ابن إبراهيم التيمي، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على المنبر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه (¬2). وجه الاستدلال: أن كلًا من البائع والمشتري لم ينويا البيع، ولم يقصداه، والقصد معتبر في العقود، فلم يقع البيع. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]. فلا بد من وجود إرادة البيع عند كل من المتعاقدين ليتحقق حصول الرضا منهما، والذي هو أهم شرط في صحة العقود، فإذا فقدت الإرادة فقد الرضا، وإذا فقد الرضا بطل البيع. واعترض الشافعية: بأن عدم رضاه بوقوعه مع إيقاعه لا عبرة به، فهو كظنه أنه لا يقع، لا أثر له لخطأ ظنه. الدليل الثالث: القياس على بيع الهازل، فإذا كان بيع الهازل لا ينعقد لعدم توفر القصد، فكذلك بيع التلجئة بجامع أن كلا منهما لم يرد البيع حقيقة. واعترض الشافعية على هذا الدليل بأن الأصح عندهم انعقاد بيع الهازل. تعليل من قال: يصح بيع التلجئة. التعليل الأول: قالوا: إن هذا العقد قد توفرت فيه شروط البيع الصحيح، وتمت أركانه، فيكون بيعًا صحيحًا ولا عبرة بما اتفق عليه المتعاقدان بالسر، لأن العبرة بظاهر العقود، لا بما ينويه العاقدان" (¬1). ¬
ونوقش
ونوقش: بأن هذا البيع لم تتوفر فيه شروط البيع الصحيح، فإن من شروط البيع أن يقصد المتعاقدان حقيقة البيع ليكون البيع عن تراض منهما، وهذا ما لم يتوفر هنا، بل هو مكره على صورة العقد، وقد اتفقا على عدم نقل الملكية، وأن ملك كل واحد منهما باق على ما كان قبل العقد. التعليل الثاني: البيع قد تم بينهما خاليًا عن مقارنة مفسد فصح كما لو اتفقا على شرط فاسد، ثم عقد البيع بغير شرط فقد تم البيع، ولا عبرة بالشرط الفاسد، فالشرط يكون مفسدًا للعقد لو كان مقارنًا للعقد. وأجيب: بأننا لا نسلم بالتفريق في الشرط الفاسد بين كونه سابقًا للعقد، وبين كونه مقارنًا للعقد، وسيأتي مزيد إيضاح لهذا في باب الشروط في البيع، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. الراجح: القول بأن البيع لا يقع، وأن العبرة بما نوياه، لا بما أظهراه؛ لأن العبرة بالمعاني دون الألفاظ، وسوف نناقش إن شاء الله تعالى في المسألة التالية: هل العبرة في العقود المعاني أو الألفاظ.
مسألة في اختلاف لفظ الصيغة عن معناها
مسألة في اختلاف لفظ الصيغة عن معناها [م - 59] الأصل في ألفاظ العقود أن تكون مطابقة للمعنى المراد من العاقدين؛ لأن اللفظ هو المعبر عن المعنى القائم في نفس المتعاقدين، والأصل حمل كلام المتعاقدين على ظاهره، واللغة ما جعلت إلا لتعبر عما في النفس، ولو حملنا الكلام على غير ظاهره بدون صارف بطلت فائدة اللغة وفائدة التخاطب، وهذا مما لا خلاف فيه، ولكن الخلاف فيما لو تيقنا أن العاقد أراد معنى مخالفًا للفظ الصادر منه، فهل يغلب اللفظ، أو يغلب المعنى باعتباره هو المقصود، واللفظ مجرد دليل عليه؟ أضرب مثالاً ليتضح المقصود، لو أعار رجل شيئًا، وشرط عوضًا، فهل يعتبر العقد عارية، أو يعتبر إجارة لاشتراط العوض فيه؟ ولو قال: بعتك هذا الثوب بلا ثمن، فهل ينعقد هبة أو بيعًا؟ فإن نظرنا إلى اللفظ فإن الإيجاب صادر بلفظ البيع، وإذا نظرنا إلى المعنى، وكون التمليك بدون عوض فهو يدل على أن العقد من عقود التبرعات. ولو قال العاقد: وهبتك هذه الدابة بألف، فهل ذكر العوض يجعل العقد من عقود المعاوضات فيكون بيعًا، أو نعتبر اللفظ، ونفسد العقد؛ لأن عقود التبرعات لا عوض فيها، وهكذا إذا جاء اللفظ في العقود مخالفًا للمعنى الذي أراده العاقدان، فهل المعتبر اللفظ أو المراد المعنى؟ في هذا خلاف بين أهل العلم: فقيل: المعتبر هو المعنى الذي قصده العاقدان، واللفظ تابع للمعنى، فإذا
تعذر حمل اللفظ على مقتضاه حمل على المعنى الذي أراده العاقدان، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). ولا بد عند من قال بهذا القول في اعتبار المعنى وتقديمه على اللفظ أن يقع اتفاق العاقدين على المعنى المخالف للفظ، أو تدل عليه قرينة لفظية أو عرفية، ¬
أو حالية (¬1). وقيل: المعتبر اللفظ دون النظر إلى المعنى. وهو القول الراجح في مذهب الشافعية (¬2). ¬
دليل من قال: المعتبر المعنى
وقيل: هناك فرق بين القضاء وبين غيره، ففي القضاء العبرة بالإرادة الظاهرة إلا إذا قامت قرينة على الإرادة الباطنة، وهذا اختيار ابن القيم (¬1). دليل من قال: المعتبر المعنى: الدليل الأول: (ح-28) ما رواه البخاري من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرني محمَّد بن إبراهيم التيمي، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على المنبر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه (¬2). الدليل الثاني: (ح-29) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه، قال: هذا ما لكم، وهذا هدية. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك -إن كنت صادقًا- ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم، وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته، والله لا يأخذ أحد ¬
وجه الاستدلال
منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر ثم رفع يده حتى رئي بياض إبطه، يقول: اللهم هل بلغت، بصر عيني وسمع أذني، ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ينظر إلى لفظ المعطي، وإنما نظر إلى قصده ونيته، فلما كان الحال يدل على أن المعطي إنما أعطى نظراً لولاية المعطى؛ لينتفعوا منه تخفيفًا عنهم أو تقدمًا لهم على غيرهم أو لغيرها من الأسباب لم يعتبر ذلك هدية، وكان هذا الحديث أصلًا في اعتبار المقاصد ودلالات الحال في العقود (¬2). الدليل الثالث: النية تؤثر في صحة العقد وفساده، وفي حله وحرمته، وفي الثواب والعقاب، بل تؤثر حتى في الفعل الذي ليس بعقد فيصير حلالًا تارةً، وحرامًا تارة باختلاف النية والقصد، فالحيوان حلال أكله إذا ذبح لله، ويحرم إذا ذبح لغير الله، وكذلك الحلال يصيد الصيد للمحرم فيحرم عليه، ويصيده للحلال فلا يحرم على المحرم، وكذلك الرجل يشتري الجارية ينوي أن تكون لموكله فتحرم على المشتري، وينوي أنها له فتحل له، وصورة العقد واحدة، وإنما اختلفت النية والقصد، وكذلك صورة القرض وبيع الدرهم بالدرهم إلى أجل صورتهما واحدة، وهذا قربة صحيحة، وهذا معصية باطلة بالقصد، وكذلك عصر العنب بنية أن يكون خمرًا معصية ملعون فاعله على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعصره بنية ¬
أن يكون خلا أو دبسا جائز، وصورة الفعل واحدة، وكذلك السلاح يبيعه الرجل لمن يعرف أنه يقتل به مسلمًا حرام باطل لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان وإذا باعه لمن يعرف أنه يجاهد به في سبيل الله فهو طاعة وقربة، وكذلك قول الرجل لزوجه: "أنت عندي مثل أمي" ينوي بها الظهار فتحرم عليه، وينوي به أنها مثلها في الكرامة فلا تحرم عليه، وكذلك من أدى عن غيره واجبًا ينوي به الرجوع ملكه وإن نوى به التبرع لم يرجع. وهذا كما أنها أحكام الرب تعالى في العقود فهي أحكامه تعالى في العبادات والمثوبات والعقوبات؛ فقد اطردت سنته بذلك في شرعه وقدره، أما العبادات فتأثير النيات في صحتها وفسادها أظهر من أن يحتاج إلى ذكره فإن القربات كلها مبناها على النيات، ولا يكون الفعل عبادة إلا بالنية والقصد، ولهذا لو وقع في الماء ولم ينو الغسل أو دخل الحمام للتنظيف أو سبح للتبرد لم يكن غسله قربة ولا عبادة بالاتفاق، فإنه لم ينو العبادة فلم تحصل له، وإنما لامرئ ما نوى، ولو أمسك عن المفطرات عادة واشتغالا ولم ينو القربة لم يكن صائمًا، ولو دار حول البيت يلتمس شيئاً سقط منه لم يكن طائفًا، ولو أعطى الفقير هبة أو هدية ولم ينو الزكاة لم يحسب زكاة، ولو جلس في المسجد ولم ينو الاعتكاف لم يكن اعتكافا. وهذا كما أنه ثابت في الإجزاء والامتثال فهو ثابت في الثواب والعقاب؛ ولهذا لو جامع أجنبية يظنها زوجته أو أمته لم يأثم بذلك وقد يثاب بنيته، ولو جامع في ظلمة من يظنها أجنبية فبانت زوجته أو أمته أثم على ذلك بقصده ونيته للحرام، ولو أكل طعاما حرامًا يظنه حلالاً لم يأثم به، ولو أكله وهو حلال يظنه حرامًا، وقد أقدم عليه أثم بنيته، وكذلك لو قتل من يظنه مسلما معصوما فبان كافرًا حربيا أثم بنيته، والأمثلة كثيرة، وهي غير محصورة (¬1). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: " الألفاظ مقصودة لغيرها، ومعاني العقود هي التي تراد لأجلها، فإذا ألغيت، واعتبرت الألفاظ التي لا تراد لنفسها، كان هذا إلغاء لما يجب اعتباره، واعتبارًا لما قد يسوغ إلغاؤه، وكيف يقدم اعتبار اللفظ الذي قد ظهر كل الظهور أن المراد خلافه" (¬1). قال ابن القيم: " ... من عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده، والألفاظ تقصد لذاوتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان، عمل بمقتضاه، سواء كان وبإشارة أو كتابة أو بإيماءة، أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة له مطردة لا يخل بها" (¬2). الدليل الخامس: إذا كان الجهل بمعنى اللفظ يسقط حكمه، وذلك كما لو نطق الأعجمي بلفظ الكفر، أو بلفظ البيع أو الشراء، وقال: إني لا أعرف معناها، ولم أقصده، فكذلك إذا نطق العربي بلفظ، ولم يقصد معناه، بل قصد به معنى آخر، فإن اللفظ يلزمه حكمه، وإنما يلزمه المعنى الذي أراده وقصده (¬3). الدليل السادس: إذا كان السامع لا يفهم معنى الجملة إلا بحسب متعلقاتها، فكذلك اللفظ ¬
الدليل السابع
يتغير معناه بحسب ما يتعلق به، فإذا قال الإنسان: رأيت أسدًا في الغابة فالمقصود به الأسد الحقيقي، وإذا قال: رأيت أسدًا في ساحة الوغى فالمراد به الرجل الشجاع، وكلمة أسد لفظ واحد تغير معناه بحسب ما يتعلق به، فكذلك ألفاظ العقود، فإذا اشتهر لفظ في عقد، ثم أتى بعده بمتعلق يدل على عقد آخر، فإن السامع لا يفهم منه العقد الأول، بل العقد الثاني، فلا بد أن يقبل ما أراده المتكلم ودلت عليه القرينة؛ لأن المراد بالتخاطب أن يفهم المخاطب كلام المتكلم. الدليل السابع: إذا كان المرجع في عقود الناس إلى عرفهم، وعاداتهم، فما عده الناس بيعًا فهو بيع، وما عدوه إجارة فهو إجارة، وما عدوه هبة فهو هبة، قال ابن تيمية: هذا أشبه بالكتاب والسنة وأعدل (¬1). فإذا كان العرف يخالف الحقيقة اللغوية قدم العرف، وهذا تقديم للمعنى على اللفظ. ونظرًا لأهمية اعتبار العرف في معرفة قصد المتعاقدين فسوف أفرد له فصلًا خاصًا. وهناك أدلة أخرى سوف نتوسع بذكرها عند الكلام على عقد البيع، هل يتشرط فيه لفظ البيع، أو يصح بكل ما يدل عليه مما يدل على التمليك لغة أو عرفًا. دليل من قال: يقدم اللفظ. الدليل الأول: اعتبار المعنى يؤدي إلى إهمال اللفظ وهذا لا يصح، لأن ألفاظ اللغة لا ¬
ويجاب عن ذلك
يعدل بها عما وضعت له في اللغة، فيطلق اللفظ لغة على ما وضع له، فكذا ألفاظ العقود. ويجاب عن ذلك: بأن القول بأن ألفاظ اللغة لا يعدل بها عما وضعت له في اللغة، هذه دعوى في محل النزاع، فأين الدليل على ذلك، بل قد ذكرنا في أدلة القول الأول تقديم النية على اللفظ في أحكام متفرقة، وكيف كانت النية مؤثرة في التحليل والتحريم والصحة والفساد، والثواب والعقاب. الدليل الثاني: العقود تفسد باقتران شرط مفسد، ففسادها بتغير مقتضاها أولى. ويجاب: بأن الشرط مؤثر في صحة العقد، فقد يشترط ما يخالف الشرع، وقد يشترط ما ينافي مقتضى العقد، بخلاف اللفظ فلا يشترط له لفظ معين، وإنما اللفظ وسيلة لمعرفة حصول الرضا من العاقدين، فإذا تحقق الرضا بأي لفظ كان فقد حصل المقصود. الدليل الثالث: الأصل حمل الكلام على ظاهره، ولو حملنا الكلام على غير ظاهره بطلت فائدة اللغة وفائدة التخاطب. ويجاب: نعم الأصل حمل الكلام على ظاهره إلا إذا تعذر ذلك لقرينة حالية أو عرفية، فكما أن الأصل حمل الأمر على الوجوب والنهي على الكراهة إلا لقرينة
وجه من فرق بين القضاء وبين غيره
صارفة، فكذلك هنا، فنحن لم نترك ظاهر اللفظ إلا عند تعذره، وكنا بين أمرين إما أن نأخذ بهذا الظاهر والذي تيقنا أنه غير مراد للعاقدين، وبالتالي نبطل العقد، وإما أن نترك هذا الظاهر لقرينة صارفة، ونعمل بالمعنى الذي أراده العاقدان، ولاشك أن إمضاء العقود خير من إبطالها بسبب لفظ ظاهر غير مراد، وإعمال الكلام خير من إهماله. وجه من فرق بين القضاء وبين غيره: أن المتكلم بصيغ العقود إذا قصد غير معناها نحو أن يقصد بقوله: أنت طالق، أي أنها طالق من زوج سابق، لا تلزمه هذه الصيغ فيما بينه وبين الله تعالى، وأما في الحكم فإن اقترن بكلامه قرينة تدل على ذلك لم يلزمه أيضًا؛ لأن السياق والقرينة تدل على صدقه، وإن لم يقترن بكلامه قرينة أصلًا، وادعى ذلك دعوى مجردة لم تقبل منه؛ لأنها خلاف الظاهر. وهذا القول وسط بين القولين، خاصة أنه عند التنازع لابد من العمل إما بالبينة، أو بالظاهر، فإذا لم يوجد بينة أو قرينة تدل على عدم إرادة المعنى الظاهر علمنا بالظاهر، والباطن بينه وبين الله سبحانه وتعالى. والله أعلم.
الفرع الثالث الهزل في البيع
الفرع الثالث الهزل في البيع [م - 60] من البيع الصوري أن يكون المتعاقدان أو أحدهما هازلًا، ولم يقصد إنشاء العقد، فهل ينعقد بيع الهازل، أو يعتبر باطلًا لعدم قصد البيع. اختلف العلماء في هذا: فقيل: لا ينعقد بيع الهازل، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، ووجه في مذهب الشافعية (¬3)، والوجه المشهور في مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: ينعقد، وهو قول في مذهب المالكية (¬5)، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬6)، ووجه في مذهب الحنابلة، اختاره أبو الخطاب (¬7). وقيل: يقبل إن ادعى الهزل بقرينة، وهو قول في مذهب المالكية (¬8)، وقول ¬
دليل من قال: لا ينعقد.
في مذهب الحنابلة (¬1). دليل من قال: لا ينعقد. ذكروا أن العاقد وإن تكلم بصيغة العقد إلا أنه لم يرد حكم العقد، ولم يرض به، ولا بد من إرادة العقد ليتحقق الرضا، والذي هو شرط أساسي في صحة البيع، فإذا عدم الرضا عدم العقد. دليل من قال: ينعقد بيع الهازل. الدليل الأول: الهزل لم يجعله الله عذرًا صارفًا، بل صاحبه أحق بالعقوبة، ألا ترى أن الله تعالى عذر المكره في تكلمه بالكفر إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان، ولم يعذر الهازل، بل قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65]، وكذلك رفع المؤاخذة على المخطئ والناسي (¬2). الدليل الثاني: الهازل غير مأذون له في الهزل في العقود، فهو متكلم باللفظ، مريد له، ولم يصرفه عن معناه إكراه، ولا خطأ، ولا نسيان، ولا جهل (¬3). ¬
الدليل الثالث
فمن باشر سبب الحكم باختياره لزمه مسببه ومقتضاه وإن لم يرده (¬1). الدليل الثالث: عقد الهازل قد توفرت فيه شروط البيع الصحيح، وتمت أركانه، فيكون بيعًا صحيحًا، ولا عبرة بما نواه وقصده، وإنما العبرة بالإرادة الظاهرة حفاظًا على مبدأ استقرار العقود والمعاملات. وأجيب: بأننا قدمنا الأدلة في المسألة السابقة بأن العبرة بالعقود بما نواه وقصده العاقدان، وإذا تعارضت الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة قدمت الإرادة الباطنة. دليل من قال: لا بد من قرينة على أنه كان هازلاً. الهزل أمر باطن لا يعرف إلا من جهة الهازل، والأصل عدم الهزل، فإذا تكلم في إيجاب العقد أو في قبوله فالأمر محمول على الجد، وأما دعواه الهزل وأنه لم يقصد العقد فهذا أمر خفي بينه وبين الله، وأما في الظاهر فهو محمول على الصحة، ولا نقبل قوله في دعوى الهزل إلا بقرينة؛ لأنه يستلزم من قبول قوله إبطال حق العاقد الآخر، ولو فتح الباب في هذا لكان كل من يريد أن يفسخ العقد يدعي الهزل. الراجح: بعد استعراض الأقوال نجد أن الأقوال ترجع إلى قولين: ينعقد بيع الهازل، أو لا ينعقد، وأما القول بأنه لا بد من قرينة تدل على أنه أراد الهزل فهذا القول يرجع إلى القول بعدم انعقاد العقد في بيع الهازل؛ لأن هذا القول لم يطلب ¬
سوى إثبات وجود الهزل، فإذا ثبت لديه انتفى الحكم عنده، وأظن أن القائلين لا ينعقد لا يختلفون في هذا، لأن الأمر إما أن يصدقه صاحبه على دعوى الهزل، أو يكذبه، فإن صدقه أصبحت الأقوال في المسألة قولين، وإن كذبه فالأصل مع مدعي الجدة؛ لأنه هو الأصل، ولذلك الحنفية الذين يقولون بأن بيع الهازل لا ينعقد يقولون في نفس الوقت لا بد من قرينة، جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام "الجد شرط في البيع، فلا ينعقد بيع الهزل؛ إذ لا رضاء في عقد يبنى على الهزل ... وعلى هذا إذا قصد بالمبايعة الهزل وجب التصريح بذلك أثناء العقد إذ لا تغني دلالة الحال عن ذلك وحدها. فعلى الهازل في بيعه أن يقول للمشتري إني بعتك هذا المال هازلًا. وإذا تواطأ متبايعان على أن العقد الذي سيجريانه بحضور الشهود يراد به الهزل فالتواطؤ الذي تقدم العقد بمنزلة التصريح بقصد الهزل أثناء العقد ويكون هذا البيع بيع هزل، فإذا اختلف المتبايعان في البيع، هل هو هزل أو جد؟ فالقول لمدعي الجد مع يمينه، فإذا وجدت قرينة تدل على قصد الهزل في البيع كأن يباع الشيء بنقص فاحش جداً فالقول إذ ذاك لمدعي الهزل، أما إذا ادعى الهزل مشتر بعد أن دفع ثمن المبيع أو بعضه فدعواه غير مسموعة" (¬1). وإذا كان الأمر كذلك، فالخلاف إنما هو في حالة قيام ما يدل على إرادة الهزل أو الاتفاق عليه بين المتعاقدين هل ينعقد العقد في مثل هذه الحالة، أو لا ينعقد؟ والذي يظهر لي أن القول الصواب مع قول من قال: لا ينعقد العقد لعدم وجود قصد البيع والرضا به، والله أعلم (¬2). ¬
وهذه المسألة ترجع إلى مسألة أصولية سابقة، وهي إذا تعارضت الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة، فمن المقدم، هل يؤخذ بما نواه العاقدان، أو بما أظهراه؟ وقد ناقشت هذه المسألة في مبحث مستقل، وبينت الراجح فيها، فإن شئت الاستزادة فأرجع إليها مشكورًا. ¬
خاتمة القول المختار في صيغة العقود
خاتمة القول المختار في صيغة العقود قال القاضي أبو الحسين الحنبلي: ينعقد البيع بكل لفظ يدل عليه عرف الناس وعادتهم، وإن لم يوجد الإيجاب والقبول (¬1). [م - 61] بعد استعراض طويل لكلام الفقهاء في صيغ البيع المختلفة اللفظية والفعلية، حيث عرضنا بالتفصيل رأي المذاهب الفقهية بالصيغة اللفظية، سواء كان اللفظ ماضيًا أو مضارعًا أو أمرًا، كما عرضنا رأي هذه المذاهب في الجملة الاسمية، وفي كلمة نعم، وعرضنا أقوال الفقهاء في صيغة البيع الفعلية من إشارة وكتابة ومعاطاة، وعن طريق الاتصال بالبرق والفاكس والهاتف والحاسب الآلي وغيرها، ولما كان القول الراجح في جميع تلك المسائل واحداً فيما يتعلق بالصيغة، رأيت أن أعرض هذا القول في آخر هذه المباحث خشية التكرار، فأقول: الصحيح أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، فكل ما عده الناس بيعًا، أو إجارة، فهو بيع وإجارة، وإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال انعقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال، وليس لذلك حد في الشرع، ولا في اللغة، بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم، ولا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاح في المعاملات، فيصح بالقول كما يصح بالفعل، ويصح بالإشارة المفهومة، والكتابة وبكل ما يدل على المراد، ولهذا أدلة كثيرة ذكرها ابن تيمية رحمه الله، أذكر منها: ¬
الدليل الأول
الدليل الأول: أن الله سبحانه وتعالى اكتفى بالتراضي في البيع، في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 129]. وقال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]. فتلك الآية في جنس المعاوضات، وهذه الآية في جنس التبرعات، ولم يشترط لفظًا معينًا، ولا فعلًا معينًا، يدل على التراضي، وعلى طيب النفس، ونحن نعلم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم أنهم يعلمون التراضي وطيب النفس بطرق متعددة، والعلم به ضروري في غالب ما يعتاد من العقود، وهو ظاهر في بعضها، فإذا وجد تعلق الحكم به بدلالة القرآن. الدليل الثاني: أن الله سبحانه وتعالى أحل البيع، ولم يبين كيفيته، فوجب الرجوع فيه إلى العرف، كما رجع إليه في القبض والإحراز والتفرق، وهكذا كل شيء ليس له حد في الشرع، وليس له حد في اللغة فالمرجع فيه إلى العرف. بيان ذلك: أن هذه الأسماء جاءت في كتاب الله وسنة رسوله" معلقًا بها أحكام شرعية، وكل اسم لا بد له من حد، فمنه ما يعلم حده باللغة، كالشمس والقمر، والبر والبحر، والسماء والأرض. ومنه ما يعلم بالشرع، كالمؤمن والكافر، والمنافق، وكالصلاة والزكاة، والصيام، والحج، وما لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس، كالقبض المذكور في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه". ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حدًا في كتاب الله، ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين
الدليل الثالث
أنه عين للعقود صفة معينة من الألفاظ أو غيرها، فإذا لم يكن لذلك حد في الشرع، ولا في اللغة، كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، فما سموه بيعًا فهو بيع. الدليل الثالث: تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحضر، فلا يحضر منه إلا ما حضره الله سبحانه وتعالى، وإلا دخلنا في معنى قول الله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} [يونس: 59]. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. فالبيع والهبة والإجارة ليست من قبيل العبادات، بل هي من قبيل العادات، فالناس لهم أن يتبايعوا ويستأجروا كيف شاؤوا ما لم تحرم الشريعة، كما لهم أن يأكلوا ويشربوا كيف شاؤوا ما لم تحرم الشريعة. الدليل الرابع: البيع مما تعم به البلوى، فلو كان التزام لفظ معين شرطًا في صحته لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيانًا عامًا، ولم يخف حكمه، ولو بينه لنقل نقلاً شائعًا لكثرة وقوع البيع بينهم، ولأن عدم البيان يفضي إلى الوقوع في العقود الفاسدة، وأكل المال
بالباطل، فلما لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من أصحابه اشتراط لفظ معين، علمنا أنه ليس بشرط (¬1). ¬
الفصل الرابع شروط الإيجاب والقبول
الفصل الرابع شروط الإيجاب والقبول الشرط الأول: توافق الإيجاب والقبول [م - 62] يجب أن يوافق القبول الإيجاب من جميع الوجوه، فإن خالفه بأن قبل غير ما أوجبه، أو بعض ما أوجبه، أو بغير ما أوجبه، فلا ينعقد العقد (¬1). جاء في درر الحكام: "يشترط في انعقاد البيع أن يكون القبول موافقًا للإيجاب في خمسة أشياء: أولاً: في مقدار الثمن. ثانيًا: في جنسة. ثالثًا: في المثمن. رابعًا: في صفة الثمن. ¬
خامسًا: في شرط الخيار" (¬1). فلو أوجب البائع مثلًا البيع بثمن قدره مائة، فقبل المشتري بتسعين، فهنا خالفه في الثمن. أو أوجب المؤجر بخمسين ديناراً نقدًا، فقبل المستأجر بخمسين مؤجلة، فهنا خالفه في صفة الثمن. أو أوجب البيع في الكتاب فقبل في القلم، فهنا خالفه في عين المبيع (المثمن). أو قال: بعتكه بألف، فقال اشتريته بشرط الخيار. أو جزأ الصفقة بأن أوجب البيع في السيارتين بمائة ألف، فقال المشتري: قبلت في هذه السيارة بخمسمائة. لم ينعقد العقدة؛ لأن ذلك رد للإيجاب، وليس قبولًا له. وأما في ضم الصفقة، فإن من عادة التجار ضم الرديء إلى الجيد ترويجا للرديء بواسطة الجيد فلو ثبت للمشتري ولاية التفريق لقبل في الجيد دون الرديء فيتضرر به البائع، والضرر منفي. قال النووي: "لم يصح -يعني البيع- بلا خلاف؛ لأنه لا يعد قبولًا" (¬2). وجاء في الموسوعة الكويتية: "اتفق الفقهاء على أنه لا بد لانعقاد العقد من توافق الإيجاب والقبول" (¬3). ¬
المبحث الأول في مخالفة القبول للإيجاب
المبحث الأول في مخالفة القبول للإيجاب [م - 63] ذهب الحنفية إلى أن القبول المخالف يعتبر إيجابًا جديدًا يحتاج حتى ينعقد العقد إلى قبول من الطرف الآخر (الموجب سابقًا)، فيكون القبول إيجابًا، والرضا قبولًا (¬1). وهذا بناء على أصل الحنفية أن ما يصدر أولًا هو الإيجاب، وما يصدر تاليًا هو القبول، فلما بطل الإيجاب بمخالفة القبول له تحول القبول إلى إيجاب جديد إن قبله البائع تم العقد وإلا فلا. وقال السنهوري: "على أنه يلاحظ أن القبول إذا عدل في الإيجاب تعديلاً جوهريًا فيمكن القول بأن المتعاقدين لم يتخطيا مرحلة المفاوضات في تعاقدهما، ولم ينتقلا منه إلى الإيجاب البات، وقد عرفنا أنه يجوز لكل متعاقد أن يعدل عن المفاوضات ... " (¬2). ¬
المبحث الثاني في قبول بعض الإيجاب
المبحث الثاني في قبول بعض الإيجاب [م - 64] قد يصح العقد مع أن القبول لم يتوجه لكل الإيجاب، إذا كان القبول قد طابق الإيجاب في عناصر العقد الجوهرية، وتركت بعض المسائل الفرعية. ففي البيع: طابق القبول الإيجاب في عين المبيع وثمنه. وفي عقد الإيجار: طابق القبول الإيجاب في العين المؤجرة، والأجرة، ومدة الإيجار، ولم يبق إلا بعض المسائل التفصيلية، فهنا يصح العقد ولو لم يتوجه القبول لجميع الإيجاب (¬1). يقول الشيخ الزرقاء "إذا اتفق الطرفانه المتعاقدان على المسائل الجوهرية في العقد، وعلى إرجاء الاتفاق على المسائل الفرعية فذلك كاف لاعتبار القبول مطابقًا للإيجاب، وإذا اختلفا بعد ذلك في تلك المسائل المرجأة، كلاً أو بعضًا، لا يؤثر اختلافهما في بقاء العقد، بل يعود إلى المحكمة أن تقضي فيها طبقًا لطبيعة المعاملة ولأحكام القانون والعرف والعدالة، ما لم يكونا قد ربطا انعقاد العقد بالاتفاق اللاحق على تلك المسائل" (¬2). ¬
ويمكن لنا أن نأخذ من القيود التي ذكرها الزرقاء بأن هذه الحالة يمكن تقسيمها إلى حالتين. الأولى: أن يكتفي الطرفان بالاتفاق على المسائل الجوهرية، ولم يتعرضا للمسائل التفصيلية، أو اتفقا نصًا على إرجاء الأمور التفصيلية إلى حين تنفيذ العقد. ففي هذه الحالة يعتبر العقد قد انعقد على اعتبار أن نية الطرفين قد اتجهت إلى الأخذ بالعرف أو بالقواعد الكلية للشريعة، كالقواعد الخاصة في زمان ومكان تسليم المبيع، وميعاد دفع الثمن، وكيفيته، فإن لم يكن هناك عرف رجعا إلى القاضي الشرعي ليجري العقد حسب الأصل الشرعي، أو حسب الأخذ بالظاهر، والله أعلم، وسوف يأتي إن شاء الله تعالى التفصيل في حال اختلاف المتبايعين حول الأمور التفصيلية وكيفية فض النزاع فيها، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. الثانية: أن يتم الاتفاق على المسائل الجوهرية، ويتناقش الطرفان في المسائل التفصيلية دون أن يصلا إلى اتفاق في شأنها، ويتبين أن نية الطرفين قد اتجهت إلى تعليق انعقاد العقد إلى حين الوصول إلى اتفاق في شأن هذه المسائل، فهنا لا ينعقد العقد. ¬
المبحث الثالث إذا خالف القبول الإيجاب وكان في مصلحة الموجب
المبحث الثالث إذا خالف القبول الإيجاب وكان في مصلحة الموجب [م - 65] إذا قال البائع: بعتك هذا الثوب بعشرة، فقال المشتري: قبلت بعشرين، فهنا لم يطابق القبول الإيجاب، ولكن هذه المخالفة كانت لمصلحة الموجب، فهل ينعقد العقد؟ وهل يمكن تصور وقوع مثل ذلك؟ قد يقع مثل ذلك كما لو جرى بين البائع والمشتري مساومة على قيمة سلعة، فيطلب فيها البائع ثمنًا أكثر من الثمن الذي عرضه المشتري، ولا يتفقان، ثم يفكر البائع، فيقبل الثمن الذي عرضه المشتري، ويفكر المشتري فيقبل الثمن الذي طلبه البائع. وقد يقصد المشتري نفع البائع كما لو كان قريبًا أو صديقًا. فذهب الحنفية إلى أن العقد في هذه الحالة ينعقد، ويتوقف ثبوت الزيادة على قبول الموجب في المجلس؛ لأن رضا المشتري بعشرين رضا بالعشرة وزيادة، ولكن يتوقف قبول الزيادة على قبول الموجب لأنه تمليك، ولا يدخل شيء في ملكه بغير رضاه. وكذلك إذا قال المشتري: اشتريت بعشرين، فقال البائع: بعتكه بعشرة، صح العقد بالعشرة، واعتبرت العشرة الزائدة حطًا وإبراء من البائع، فلا تحتاج إلى قبول (¬1). ¬
وذهب الشافعية إلى فساد العقد لعدم مطابقة القبول للإيجاب (¬1). كما أفسدوا العقد أيضا لو أوجب البائع بألف مكسرة، فقبل المشتري بألف صحيحة. أو أوجب البائع بألف مؤجل فقبل بألف حال. أو أوجب بألف مؤجل إلى شهرين فقبل بمؤجل إلى شهر. فكل ذلك عندهم لا ينعقد، مع العلم أن الزيادة هنا متعلقة بالصفة، وليست بالعدد. والراجح هو رأي الجمهور، ما دامت المخالفة لصالح الموجب من كل وجه؛ وذلك أن مبنى العقد على التراضي، وقد تحقق، والتوافق قد تم بالنسبة للمبلغ المتفق عليه، وما زاد فالموجب إما أن يقبله، وإما أن يرده؛ لأن الشيء لا يدخل في ملك الإنسان إلا برضاه. نعم لو كانت المخالفة إلى خير وأفضل لكن ليست من كل وجه، وإنما من وجه دون وجه لا ينعقد العقد، إلا بموافقة الطرف الآخر، وذلك كما لو أوجب ¬
البائع بعشرين دينارًا نقدًا، فقبل المشتري بأربعين نسيئة إلى شهر مثلاً، فلا ينعقد العقد، لأنه وإن كان الثمن المقبول أكثر مقدارًا، فقد تكون حاجة البائع أو رغبته في النقد العاجل، فيفوت غرضه (¬1). وقد صرح الحنفية بأن القبول المخالف يعتبر إيجابًا يحتاج إلى قبول، على مذهبهم باعتبار الإيجاب هو الصادر أولاً سواء من البائع أو المشتري، أو يعتبر قبولاً تقدم الإيجاب على مذهب الجمهور، فإن قبل البائع، تم البيع. ¬
الشرط الثاني: اتحاد مجلس العقد
الشرط الثاني: اتحاد مجلس العقد المقصود باتحاد مجلس العقد: اتحاد المجلس تارة يكون حقيقيًا بأن يكون الطرفان حاضرين معًا، فيكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد. وتارة يكون حكميًا: كما لو تفرق مجلس القبول عن مجلس الإيجاب كما في البيع عن طريق المكاتبة والمراسلة. والمراد بالمجلس: ما هو أعم من الجلوس، فقد يحصل اتحاد المجلس مع الوقوف، ومع تغير المكان كما سيأتي عند عرض أقوال الفقهاء إن شاء الله تعالى (¬1). ... ¬
المبحث الأول تحديد مجلس العقد
المبحث الأول تحديد مجلس العقد الغرض من تحديد مجلس العقد: تحديد أجل للقبول يكون للقابل فيه حق التروي، فيقبل في خلاله. وهو ما يمكن أن نطلق عليه اصطلاحًا (نظرية مجلس العقد). وتعد هذه النظرية من أهم النظريات التي سبق إليها الفقه الإسلامي، والتي تمتاز بالدقة والإتقان، ولكن يؤخذ على بعض الفقهاء أنهم غالوا في تحديد مجلس العقد تحديدًا ماديًا وشكليًا بعيدًا عن روحه ومقصوده. [م - 66] فالحنفية بالغوا في اشتراط وحدة المكان في مجلس العقد، فجعلوا التتابع، وهما يمشيان أو يركبان، ولو دابة واحدة غير منعقد لاختلاف المجلس؛ لأن القبول يقع في غير مكان الإيجاب، فالمشي يعتبر فاصلًا بين الإيجاب والقبول، وعليه فالعقد لا يعتبر مستكملًا شروطه في هذه الحالة، فلا ينعقد، ولم يعتبروا السير على السفينة مؤثرًا، وذلك أن المجلس فيها لا يتبدل بجريانها بخلاف المجلس في المشي وفي السير على الدابة فإن المجلس يتبدل فيها، فيؤثر في صحة العقدة ولأن السفينة لا يملك المتعاقدان إيقافها، بخلاف الدابة (¬1). وذهب الجمهور في تحديد مجلس العقد: بأن المجلس هو الزمن الذي يظل فيه المتعاقدان مشتغلين بالتعاقد، فإن أعرضا عن العقد واشتغلا عنه بما يقطعه عرفًا فقد انقطع المجلس، ومن الإعراض عن العقد انفضاض المجلس. ¬
جاء في البحر الرائق: "المجلس المتحد: أن لا يشتغل أحد المتعاقدين بعمل غير ما عقد له المجلس، أو ما هو دليل الإعراض عن العقد" (¬1). وقال أيضًا: "القيام -يعني عن المجلس- دليل الإعراض" (¬2). فالعبرة هو الإعراض عن العقد، سواء كان ذلك بالقيام من المجلس، أو كان ذلك بالإعراض عنه والاشتغال بغيره، ولو كان المجلس باقيًا، فلا ينبغي أن يؤثر انتقالهما من مجلس إلى مجلس آخر ما داما منشغلين بالعقد. وجاء في درر الحكام "وصورة اختلاف المجلس: أن يوجب أحدهما، فيقوم الآخر قبل القبول، أو يشتغل بعمل يوجب اختلاف المجلس" (¬3). وقال الحطاب: "وإن تراخى القبول عن الإيجاب حتى انقضى المجلس لم يلزمه البيع اتفاقًا، وكذا لو حصل فاصل يقتضي الإعراض عما كانا فيه حتى لا يكون كلامه جوابًا للكلام السابق في العرف، لم ينعقد البيع" (¬4). وقال في الإنصاف: "وإن تراخى القبول عن الإيجاب: صح، ما داما في المجلس، ولم يتشاغلا بما يقطعه. قيد الأصحاب قولهم "ولم يتشاغلا بما يقطعه" بالعرف (¬5). ومن هنا كان مجلس العقد بالمكالمة الهاتفية: هو زمن الاتصال ما في دام الكلام في شأن العقد، فإن انتقل المتحدثان إلى حديث آخر انتهى المجلس، ¬
وإن كان الاتصال ما زال جاريًا، وقد نقلت كلام الفقهاء المعاصرين في هذا الشأن في مسألة مستقلة. وبهذا يتبين أن المجلس يقصد به ما هو أعم من الجلوس فقد يحصل اتحاد المجلس مع الوقوف، ومع تغير المكان والهيئة.
المبحث الثاني الآثار المترتبة على تحديد مجلس العقد
المبحث الثاني الآثار المترتبة على تحديد مجلس العقد يترتب على القول بمجلس العقد أحكام منها: الأول: تحديد أجل للقبول يكون للقابل فيه حق التروي، فيقبل في خلاله، أو بمعنى آخر أنه يجوز أن يتراخى القبول عن الإيجاب ما دام المتعاقدان في مجلس العقد، ولم يعرضا عنه. الثاني: أن للموجب خيار الرجوع عن إيحابه إلى أن يصدر القبول أو ينفض المجلس. وسوف نتعرض لخلاف العلماء في هاتين المسألتين مسألة مسألة مع ذكر أدلة كل قول ومناقشتها، وفقنا الله إلى الصواب بمنه وكرمه.
الفرع الأول في تراخي القبول عن الإيجاب
الفرع الأول في تراخي القبول عن الإيجاب [م - 67] بينا أن الغرض من تحديد مجلس العقد: تحديد أجل للقبول يكون للقابل فيه حق التروي، فيقبل في خلاله، وهو ما يسمى بتراخي القبول عن الإيجاب، فهل يشترط أن يكون القبول متصلاً بالإيجاب، أو يجوز أن يتراخى عنه؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والحنابلة (¬3)، إلى عدم اشتراط الفورية في القبول، فلو تراخى القبول عن الإيجاب صح العقد ما داما في مجلس العقد، ولم يظهر منهما ما يدل على الإعراض عن العقد. وقيل: للبائع إلزام المشتري في بيع المزايدة خاصة، ولو انفض المجلس، وهذا مذهب المالكية (¬4). وقيل: لا يشترط اتصال القبول بالإيجاب، وينعقد العقد مهما تأخر القبول عنه، ولا يقطعه طول المدة أن يكون قبولاً له، اختاره أبو بكر بن العربي من المالكية (¬5). ¬
وذهب الشافعية إلى اشتراط اتصال القبول بالإيجاب، فلو فصل بينهما بكلمة أجنبية، أو بسكوت طويل لا يتم العقد (¬1). ¬
وجه قول الجمهور
ووافق بعض الحنفية مذهب الشافعية باشتراط الفورية إذا كان كل من المتعاقدين يمشيان (¬1). وجه قول الجمهور: الوجه الأول: الإيجاب: هو خطاب البائع للمشتري، والقبول جواب المشتري للبائع على ما عرض عليه، تفرق المجلس فاصل بين الخطابين، فلا يقع الكلام متصلاً، ففي تفرقهما انقطع الخطاب بينهما، فلا يمكن أن يبنى الكلام اللاحق للكلام السابق وإذا انقطع الخطاب فلا بد من إيجاب جديد. الوجه الثاني: قالوا: القول باعتبار المجلس قول وسط، لأننا إن قلنا: باشتراط الفورية في القبول كان في ذلك تضييق على من وجه إليه الإيجاب، وعدم إعطائه فرصة للتدبر، وقد يفاجأ بالقبول من غير توقع. فإن رفض فورًا ضاعت عليه الصفقة. ¬
الوجه الثالث
وإن قبل فورًا ربما كان في العقد ضرر عليه، فيحتاج لفترة تأمل للموازنة بين ما يغنم، وبين ما يغرم، بين ما يجب أن يدفعه، وما له أن يأخذه. وإن قلنا: يسمح له أن يتأخر في صدور القبول حتى بعد التفرق، كان في ذلك إضرار بالموجب، وذلك بإبقائه مدة طويلة دون الرد على إيجابه، ومن هنا فالقول بمجلس العقد قول وسط. وعن هذا قال الفقهاء: إن المجلس يجمع المتفرقات. يقول البابرتي: "ما وجه اختصاص خيار الرد والقبول بالمجلس، ولم لا يبطل الإيجاب عقب خلوه عن القبول؟ أولم لا يتوقف على ما وراء المجلس؟ وتقرير الجواب: أن في إبطاله قبل انقضاء المجلس عسرًا بالمشتري، وفي إبقائه فيما رواء المجلس عسرًا بالبائع، وفي التوقف على المجلس يسرًا بهما جميعًا، والمجلس جامع للمتفرقات ... فجعلت ساعاته ساعة واحدة، دفعًا للعسر، وتحقيقًا لليسر" (¬1). الوجه الثالث: علل الحنابلة بتعليل آخر، قال ابن مفلح: "وإن تراخى القبول عن الإيجاب صح ما دام في المجلس ... لأن حالة المجلس كحالة العقد، بدليل أنه يكتفى بالقبض فيه لما يشترط قبضه" (¬2). الوجه الرابع: حكى بعضهم الإجماع على أن العقد لا يلزم بعد التفرق، قال الحطاب: ¬
"والذي تحصل عندي من كلام أهل المذهب، أنه إذا أجابه في المجلس بما يقتضي الإمضاء والقبول من غير فاصل لزمه البيع اتفاقًا. وإن تراخى القبول عن الإيجاب حتى انقضى المجلس لم يلزمه البيع اتفاقًا" (¬1). والإجماع الذي حكاه الحطاب رحمه الله لا يسلم حتى في مذهب المالكية، فقد نقلت رأي ابن العربي الذي يرى أن اتصال القبول بالإيجاب ليس بشرط مطلقًا. وقد حكى الإجماع غير الحطاب، فقد حكاه ابن تيمية رحمه الله. قال في معرض كلامه عن التحزيبات المحدثة في كتاب الله: "إن هذه التحزيبات المحدثة تتضمن دائماً الوقوف على بعض الكلام المتصل بما بعده، حتى يتضمن الوقوف على المعطوف دون المعطوف عليه، فيحصل القارئ في اليوم الثاني مبتدئًا بمعطوف، كقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، وقوله: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب: 31]، وأمثال ذلك، ويتضمن الوقوف على بعض القصة دون بعض -حتى كلام المتخاطبين- حتى يحصل الابتداء في اليوم الثاني. بكلام المجيب، كقوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 72]، ومثل هذا الوقوف لا يسوغ في المجلس الواحد إذا طال الفصل بينهما بأجنبي، ولهذا لو ألحق بالكلام عطف، أو استثناء، أو شرط، ونحو ذلك بعد طول الفصل بأجنبي لم يسغ باتفاق العلماء، ولو تأخر القبول عن الإيجاب بمثل ذلك بين المتخاطبين لم يسغ ذلك بلا نزاع" (¬2). ¬
وجه قول الشافعية
وجه قول الشافعية: القياس يقتضي وجوب الموالاة بين الإيجاب والقبول، كما يجب الموالاة في رد السلام، كما لو قال كلامًا وأراد أن يلحق به استثناء، أو شرطًا، أو عطفًا، وجب ألا يكون بينهما فاصل أجنبي، أو فاصل طويل، وكما تجب الموالاة بين الرضعات الخمس، وتجب الموالاة في قراءة الفاتحة، فإن السكوت الطويل يقطع موالاتها. ويرد عليهم: بأن أكثر هذه الأمور تصدر من شخص واحد كالاستثناء، والقراءة، وقد يحتمل من شخصين ما لا يحتمل من واحد، وقد يشدد في باب العبادات ما لا يشدد في غيره، بل إن الحكم يختلف باختلاف الأبواب كما ذكر السبكي، فرب باب يطلب فيه من الاتصال ما لا يطلب في غيره، وقد يغتفر من السكوت ما لا يغتفر من الكلام، ومن الكلام المتعلق بالعقد ما لا يغتفر من الأجنبي، ومن الفاصل بعذر ما لا يغتفر من غيره، فصارت مراتب، أقطعها للاتصال كلام كثير أجنبي، وأبعدها عنه سكوت يسير لعذر، وبينهما مراتب لا تخفى (¬1). توجيه ما ذكره الدسوقي: أن التقرق لا يوثر في بيع المزايدة. قال الدسوقي: "وللبائع إلزام المشتري في المزايدة، ولو طال الزمان، أو انفض المجلس، حيث لم يجر العرف بعدم إلزامه" (¬2). احتج الدسوقي بالعرف، ومعلوم أن ما تعارف عليه الناس يجري مجرى الشرط بينهم، فهو يتكلم عن مجتمع خاص جرى العرف بينهم أن ما بيع ¬
دليل ابن العربي على أن التفرق من المجلس لا يسقط الإيجاب.
بالمزايدة يلزم، ولو حصلت المفارقة في المجلس، والمعروف عرفًا كالمشروط لفظًا، فإذا كان هناك شرط وجب العمل به، وهذا الشرط تارة يوجبه عرف، وتارة يوجبه لفظ، ولا فرق، والكلام إذا لم يكن هناك عرف أو شرط. قال الحطاب: والذي "تحصل من كلام ابن رشد والمازري وابن عرفة في بيع المزايدة أن كل من زاد في السلعة فلربها أن يلزمه إياها بما زاد، إلا أن يسترد البائع سلعته، ويبيع بعدها أخرى، أو يمسكها حتى ينقطع مجلس المناداة، إلا أن يكون العرف اللزوم بعد الافتراق، أو يشترط ذلك البائع فيلزم المشتري البيع بعد الافتراق في مسألة العرف بمقدار ما جرى به العرف، وفي مسألة الشرط في الأيام المشروطة ... فإن شرط المشتري أنه لا يلزم البيع إلا ما دام في المجلس فله شرطه، ولو كان العرف بخلافه" (¬1). ولذلك الدسوقي نفسه لما حكى هذا المذهب ذكر أن العرف في مصر يخالفه، فقال: "وللبائع إلزام المشتري في المزايدة". ولو طال الزمان، أو انفض المجلس حيث لم يجر العرف بعدم إلزامه، كما عندنا بمصر من أن الرجل إذا زاد في السلعة، وأعرض عنه صاحبها، أو انفض المجلس، فإنه لا يلزمه بها ... " (¬2). دليل ابن العربي على أن التفرق من المجلس لا يسقط الإيجاب. قال ابن العربي: "والذي يقتضيه الدليل جواز تأخير الإيجاب عن القبول ما تأخر عنه، لا يقطعه طول المدة عن أن يكون قبولًا له، كما لا يمتنع أن يكون جواب الكلام بعد المدة الطويلة جوابًا له" (¬3). ¬
ويمكن أن يناقش هذا
والقياس على بيع الفضولي، حيث يقف القبول على رضا المالك على المشهور وإن طال. والقياس أيضًا على المحجور إذا باع من ماله أن لوصيه الإجازة وإن طال الأمد، ولم يحصل غير الإيجاب من المحجور مع قبول المبتاع، وإيجاب المحجور كالعدم (¬1). ويمكن أن يناقش هذا: بأن إجازة المالك في بيع الفضولي، وإجازة الوصي في بيع المحجور عليه أشبه ما يكون بالبيع بين غائبين، وليس بين حاضرين في مجلس واحد، ومعلوم أن العقد إذا كان بين غائبين أن مجلس العقد هو المجلس القابل، الذي بلغه الإيجاب، فهنا إذا علم بالإيجاب إما أن يقبل، وإما أن يسقط الإيجاب، والله أعلم. القول الراجح: هو القول الوسط، أن تراخي القبول عن الإيجاب لا يؤثر في صحة العقد ما دام المتعاقدان في المجلس، ولم يتشاغلا عن العقد بما يعتبر إعراضًا عنه عرفًا (¬2). ... ¬
الفرع الثاني في رجوع الموجب
الفرع الثاني في رجوع الموجب [م - 68]، ناقشنا في المسألة السابقة الأثر المترتب على نظرية تحديد مجلس العقد، في تأخير القبول عن الإيجاب ما دام المتعاقدان في المجلس، ولم يعرضا عن العقد، وفي هذه المسألة نناقش أثرًا آخر، وهو رجوع الموجب عن إيجابه في مجلس العقد قبل صدور القبول، فالسؤال: هل يكون الإيجاب ملزمًا قبل صدور القبول، أو يحق لمن صدر منه الإيجاب الرجوع عن إيجابه ما دام لم يقترن بالقبول؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال، ينبغي أن نعلم أن المفاوضات لا تعتبر إيجابًا، وذلك أن الإيجاب في بعض العقود يمر بمراحل من المساومات والمفاوضات، لأن طبيعة المعاملة تحتاج إلى أناة وإمعان نظر، فما يعرض في المفاوضات لا يعتبر إيجابًا. كما أن عرض شخص التعاقد دون بيان لشروطه كأن يعرض منزلًا للبيع دون بيان لثمنه، أو بضاعة دون بيان ثمنها، فإنه في هذه الحالة لا يتعلق الأمر بإيجاب بات، وإنما بمجرد دعوة إلى التفاوض، فإذا انتهى الأمر إلى اتفاق بين الطرفين حول شروط العقد وقيمة المبيع تحول إلى إيجاب كامل قائم، فإذا ارتبط بقبول مطابق متصل تم العقد. فإذا قطع أحد الطرفين المفاوضات قبل وصول الأمر إلى إيجاب بات فلا مسؤولية عليه، وليس لأحد أن يطالبه بأن يبين سبب هذا العدول، فقد يكون السبب أنه لم ير داعياً لإتمام الصفقة، أو أنه رأى أن إتمامها ليس في مصلحته، أو أن الشخص الذي يتعامل معه لا يناسبه لسبب من الأسباب، أو أن شخصًا
آخر عرض عليه صفقة أفضل، فإذا عدل أحد الطرفين عن مفاوضاته فلا مسؤولية على من عدل، ما دام لم يصل في مفاوضته إلى حد الإيجاب الجازم (¬1)، فإذا انتهت مرحلة المفاوضات، وعرض صاحب السلعة إيجابًا جازمًا، فهل له أن يرجع عن إيجابه قبل صدور القبول من الطرف الآخر؟ [م - 69] اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فقيل: للموجب حق الرجوع عن إيجابه قبل أن يتصل به القبول، وهذا مذهب الجمهور (¬2). ¬
بل اعتبر بعضهم لو صدر القبول مع الرجوع في وقت واحد، اعتبر الرجوع، وبطل به الإيجاب. قال ابن الهمام: "لو صادف رد البائع قبول المشتري بطل" (¬1). وقيل: ليس له حق الرجوع إذا صدر بصيغة الماضي، أو صدر بغير الماضي ¬
وجه التفريق بين صيغة الماضي وغيرها
وكان هناك قرينة أنه أراد البيع (¬1)، أما إذا كانت الصيغة بغير الماضي، ولم يكن هناك قرينة أنه أراد البيع، وادعى أنه ما أراد البيع، فيحلف، وبصدق، وهو مذهب المالكية (¬2). وجه التفريق بين صيغة الماضي وغيرها: قالوا: إن لفظ الماضي حقيقة في الدلالة على نقل الملكية، فلا يقبل معه ادعاء خلاف ذلك، وأما صيغة المضارع والأمر فليست حقيقة في نقل الملكية ¬
تعليل الجمهور
لتطرق الاحتمالات إليها، فليست إيجابًا باتًا، ولذلك قبل قوله مع اليمين، فإن كانت هناك قرينة عمل بها، كما قدمنا. وقيل: إذا حدد الموجب إيجابًا محدد المدة يكون ملزمًا بالبقاء على إيجابه خلال تلك المدة، وليس له الرجوع عنه، اختاره بعض المالكية (¬1)، ورجحه مجمع الفقه الإِسلامي (¬2). تعليل الجمهور: المانع من الرجوع عن الإيجاب لزوم إبطال حق الغير، وهو منتف ها هنا، فإيجاب أحدهما غير مفيد للحكم بدون قبول الآخر، وإذا كان كذلك كان للموجب أن يرجع عن إيجابه لخلوه عن إبطال حق الغير. تعليل المالكية: التعليل الأول: قال القرطبي: "ليس له أن يرجع حتى يسمع قبول المشتري أو رده؛ لأنه قد بذل ذلك من نفسه، وأوجبه عليها" (¬3). وبالإيجاب يثبت للمشتري حق التملك، وهو حق للمشتري، فلا يكون الرجوع خاليًا عن إبطال حق الغير. ¬
ورد هذا
ورد هذا: بأن الموجب وإن أثبت للمشتري حق التملك، فإن حقيقة الملك للبائع، والحقيقة مقدمة على الحق (¬1). يقول الشيخ أحمد إبراهيم: "وليس للطرف الآخر المشتري مثلًا أن يدعي أنه صار له حق تملك المبيع بسبب إيجاب البائع، وذلك لأن حقيقة الملك في العين لا تزال ثابتة للبائع، وهي أقوى من حق التملك، فلو لم يجز الرجوع لزم تعطيل حق الملك بحق التملك، ونظير هذا أن للأب حق التملك لمال ولده عند الحاجة، ومع هذا فللولد أن يتصرف في ماله كيف شاء، مع أن حق تملك الأب إياه متعلق به" (¬2). التعليل الثاني: ممكن أن يستدل لهم بأن نقول: إذا كان القبول يُلزِم المشتري بما صدر عنه، فالإيجاب يلزم البائع بما صدر عنه، فمن يتعاقد إنما يلتزم بالإرادة الصادرة عنه، لا بتوافق هذه الإرادة مع إرادة المتعاقد الآخر، ويترتب على ذلك أن الإيجاب وحده ملزم، فلا يستطيع من صدر عنه الإيجاب أن يعدل عنه. فالملتزم بالعقد إنما يلتزم بإرادته هو، لا بتوافق إرادته مع إرادة الطرف الآخر، فهو يوجد حقًا في ذمته لشخص آخر بمجرد إعلان إرادته، وموافقة الآخر لهذا الحق إنما هو مجرد انضمام تطلبناه؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يلزم غيره بشيء إلا برضاه، فلكي يكون الالتزام من الجانبين تطلب ذلك موافقة ¬
الطرف الآخر، بدلًا من كونه ملزمًا من جانب واحد، والدليل على ذلك أن الشيء إذا كان لا يتطلب موافقة الطرف الآخر صار ملزمًا ولو من جانب واحد، وهذا له نظائر في الفقه: فمن التصرفات التي تتم بإرادة منفردة في الفقه الإسلامي: الجعالة، والوصية، والوقف، والإبراء، واستعمال خيار من الخيارات كخيار الشرط، وخيار العيب، وخيار الرؤية، وأيضاً الكفالة والهبة والعارية وغير ذلك من التصرفات. ففي الجعل مثلًا يلتزم شخص بدفع مبلغ معين لمن عثر على شيء ضائع، فالواعد هنا قد التزم بإرادته المنفردة (¬1). ¬
والقول هنا بضرورة توافق الإرادتين غير ممكن إذ الدائن وقت وجود الالتزام غير معروف، وقد يكون الدائن غير موجود في الحال، ولكنه سيوجد في المستقبل، فلا يمكن الالتزام نحوه إلا بالإرادة المنفردة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هناك فرقًا بين العقد والالتزام، فالعقد لا ينعقد إلا بتوافق الإرادتين، وأما الالتزام فيقوم كل طرف على إرادته هو وحده، فالإيجاب ملزم وحده في حق من صدر عنه، حتى يرفضه من وجه إليه، أو ينشغلا عنه بما يقطعه، أو يتفرقا من المجلس قبل صدور القبول، فالكلام بأنه لا بد من تطابق الإرادتين إنما هو في الكلام على انعقاد العقد بين الطرفين، ولزومه في حقهما معاً، مثله تمامًا من اعتبر الوعد بالبيع ملزمًا لصاحبه إذا صدر عنه، ولا ينعقد العقد إلا إذا صدر القبول من صاحب الحق، فقد يكون الإيجاب ملزمًا لصاحبه ولا يلزم منه انعقاد العقد، لكون صاحب الحق في التملك لم يقبل. ¬
الراجح
الراجح: إذا أخذنا بخيار المجلس، وهو قد ثبت في أحاديث متفق على صحتها، لم يكن في رجوع الموجب قبل صدور القبول إشكال، لأن حقه في الرجوع قائم حتى بعد صدور القبول، وقبل التفرق، ولكن المالكية لا يرون خيار المجلس كما سيأتي بيان مذهبهم ومناقشته عند بحث المسألة إن شاء الله، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. وأما الاشتراط بأن يكون الإيجاب ملزمًا مدة معينة فربما هذا ليس بقول مستقل، وإنما يدخل في باب الشروط في البيع، كاشتراط البائع أو المشتري ما له فيه منفعة، وسوف يأتي. قال السنهوري: " على أنه لا خلاف في الأمر إذا كان من صدر منه الإيجاب قد اتفق مع الطرف الآخر على أن يبقى ملتزمًا لإيجابه لا يعدل عنه مدة معينة فيكون التزام الموجب مستندًا إلى عقد تم بينه وبين الطرف الآخر، وهو غير العقد المزمع إبرامه، فإن هذا لا يتم إلا إذا اقترن القبول بالإيجاب" (¬1). ¬
الشرط الثالث: هل يشترط تقديم الإيجاب علي القبول
الشرط الثالث: هل يشترط تقديم الإيجاب علي القبول [م - 70] هذه المسألة لا تأتي على مذهب الحنفية؛ لأن الإيجاب عندهم ما صدر أولاً سواء كان من البائع أو المشتري، والقبول ما صدر ثانيًا من أحدهما، وإنما هذه المسألة مفروضة على مذهب الجمهور القائلين بأن الإيجاب ما صدر من البائع، والقبول: ما صدر من المشتري، فإذا تقدم القبول على الإيجاب، وكان مجردًا من الاستفهام (¬1)، فهل ينعقد البيع عندهم؟ فقيل: ينعقد البيع مطلقًا، وهذا مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). ¬
دليل من قال: ينعقد مطلقا.
وقيل: لا ينعقد مطلقًا، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: إن تقدم بلفظ الماضي صح، وإن تقدم بلفظ المضارع لم يصح، وإن تقدم بلفظ الأمر، ففيه قولان، أشهرهما الصحة، وهذا ما عليه المتأخرون من الحنابلة (¬2). دليل من قال: ينعقد مطلقًا. المطلوب في البيع هو حصول الرضا من الطرفين، فالبيع ليس له صيغة معينة يجب الالتزام بها، لأنه ليس من الأمور التعبدية التي لها ألفاظ توقيفيه لا يجوز التصرف فيها، ولذلك يصح البيع حتى بدون ألفاظ كما في بيع المعاطاة. تعليل من قال: لا ينعقد مطلقًا. التعليل الأول: أن القبول رتبته التأخر، لأن القبول إنما يكون للإيجاب، فمتى وجد قبله لم يكن قبولاً. التعليل الثاني: القياس على النكاح، فالنكاح عند الحنابلة لا يجوز فيه تقدم القبول على الإيجاب، فكذلك البيع. ¬
ويجاب
ويجاب: لم يقم الدليل الصحيح على منع تقدم القبول على الإيجاب في النكاح حتى يصح قياس البيع عليه، ولو سلمنا الحكم في النكاح لم يكن القياس صحيحًا؛ لأن الاحتياط في باب النكاح أشد منه في باب البيوع. تعليل من قال: لا ينعقد إذا تقدم بلفظ المضارع. لم يقبل الحنابلة أن يكون القبول بصيغة المضارع ولو لم يتقدم على الإيجاب، فيكف إذا تقدم، يقول صاحب كشاف القناع: "لو قال البائع بعتك بكذا، فقال المشتري: أنا آخذه بذلك، لم يصح: أي لم ينعقد البيع؛ لأن ذلك وعد بأخذه" (¬1). وهذا القول ضعيف، وإذا كان الحنابلة أجازوا كما سبق انعقاد البيع بصيغة الأمر؛ لدلالة العرف، فلماذا لا يجيزون المضارع للعلة نفسها، بل إن المضارع أولى بالقبول، فإن المضارع يدل على الحال والاستقبال، والأمر إنما يدل على الاستقبال فقط. ولذلك جاء في شرح الخرشي: المضارع دلالته على البيع والشراء أقوى من دلالة الأمر؛ لأنه يدل على الحال، بخلاف الأمر فإنه لا يدل عليه اتفاقًا" (¬2). الراجح: جواز تقدم القبول على الإيجاب مطلقاً، وسبق لنا التدليل على أن البيع يقع بما يدل على الرضا بأي صيغة كانت. ¬
المبحث الأول في تقدم القبول على الإيجاب في بيع المزايدة
المبحث الأول في تقدم القبول على الإيجاب في بيع المزايدة تعريف المزايدة (¬1): المزايدة اصطلاحًا: عرف السرخسي المزايدة: أن ينادي الرجل على سلعته بنفسه، أو بنائبه، ويزيد الناس بعضهم على بعض. ... (¬2). وذكر نحوه ابن جزي في القوانين الفقهية (¬3). وعرفها النفراوي: بقوله: "أن يطلق الرجل سلعته في يد الدلال للنداء عليها، فمن أعطى فيها ثمنًا لزمه إن رضي مالكها، وله أن لا يرضى، ويطلب الزيادة، وهذا هو المعروف بين الناس اليوم" (¬4). وقوله: "فمن أعطى فيها ثمنًا لزمه" هذا بناء على مذهب المالكية في القول بعدم ثبوت خيار المجلس، وهو مرجوح كما سيأتي إن شاء الله تحريره. هذا تعريف المزايدة، أما فيما يتعلق بالإيجاب والقبول في بيع المزايدة، وكيف نحددهما في مثل هذا النوع من التعاقد؟ ¬
فالذي ينبغي أن ننبه عليه أن طرح البضاعة في سوق المزاد لا يعتبر إيجابًا، لأن هذا الطرح هو مجرد عرض للبيع خال من الثمن، وقد سبق لنا من خلال تعريف الإيجاب والقبول والذي توجهت له بالبحث في فصل مستقل أن هناك خلافًا بين الجمهور والحنفية في تعريف الإيجاب والقبول، فالحنفية يرون أن الإيجاب ما صدر أولاً، سواء كان اللفظ من البائع أو من المشتري، والقبول: ما صدر ثانيًا. وأما الجمهور فيرون أن الإيجاب هو اللفظ الصادر من البائع، والقبول هو اللفظ الصادر من المشتري (¬1). وإذا كان الحال كذلك: [م - 71] فمقتضى مذهب الحنفية أن يكون العطاء الذي يتقدم به المشتري وهو الإيجاب. وإرساء المزاد يمثل القبول فيه، وبهذا ينعقد العقد. وأما على مقتضى مذهب الجمهور فيكون الثمن المقدم من المشتري قبولًا متقدمًا على إيجابه، ويعد رسو المزاد من الإيجاب المتأخر على قبوله. فإذا عرض المشتري ثمنًا للسلعة فإن هذا يعتبر قبولًا على مذهب الجمهور، ويعتبر إيجابًا على مذهب الحنفية، فإذا وقف النداء على أعلى ثمن قدم، ورضي البائع بالبيع فإن رضي البائع يعتبر إيجابًا متأخرًا على مذهب الجمهور، وقبولًا على مذهب الحنفية، والله أعلم. وتكون هذه المسألة على قول الجمهور مبنية على جواز تقدم القبول على الإيجاب، والله أعلم. ¬
والراجح من الخلاف، أن نقول: إن الخلاف في هذه المسألة خلاف اصطلاحي ليس له أثر فقهي اللهم إلا فيمن يخالف في تقدم القبول على الإيجاب في بعض الحالات، وهذه المسألة ليست منها، لأن الأئمة الأربعة قد اتفقوا على جواز مثل هذا البيع، وحكي فيها الإجماع، وسوف أعقد فصلًا خاصًا في حكم بيع المزايدة.
المبحث الثاني سقوط الإيجاب في بيع المزايدة
المبحث الثاني سقوط الإيجاب في بيع المزايدة [م - 72] إذا عرضت البضاعة في المزاد، فعرض المشتري ثمنًا فإنه يعتبر إيجابًا منه وهذا لا إشكال فيه، ولكن إذا زاد عليه مشتر آخر، فهل يعتبر هذا الإيجاب الجديد مسقطًا لما قبله، باعتبار أن العطاء الأكثر يجعل البائع يعرض عن العطاء الأقل، والإعراض عن الإيجاب يسقطه، أو يحق للبائع أن يفضل صاحب العطاء الأقل على صاحب العطاء الأكثر؟. في هذه المسألة خلاف بين أهل العلم: فقيل: البائع غير في أن يمضيها لمن شاء ممن أعطى فيها، ولو زاد غيره عليه، وهذا مذهب المالكية. يقول ابن رشد في البيان والتحصيل: "وهو -يعني البائع- مخير في أن يمضيها لمن شاء، ممن أعطى فيها ثمنًا، وإن كان غيره قد زاد عليه" (¬1). وقيل: إذا زاد عليه غيره سقط إيجابه، وهو اختيار الأبياني من المالكية، وكان العمل عليه في أكثر البلاد. وقال الحطاب: "بيع المزايدة يلزم كل من زاد في السلعة، ولو زاد غيره عليه خلافًا للأبياني. وقد جرى العرف في مكة، وكثير من البلاد على ما قاله الأبياني" (¬2). ¬
تعليل المالكية
تعليل المالكية: لما عرض المتقدم عطاء لزمه ذلك العطاء، وليس وجود عطاء أكثر منه يعتبر إبراء له مما تقدم به. يقول ابن رشد: "لأن حق صاحب السلعة أن يقول للذي أراد أن يلزمها إياه إن أبى من التزامها، وقال له: بيع سلعتك من الذي زاد علي فيها؛ لأنك إنما طلبت الزيادة، وقد وجدتها: أنا لا أحب معاملة الذي زاد في السلعة عليك، وليس طلبي الزيادة فيها وإن وجدتها إبراء مني لك فيها" (¬1). تعليل من قال: لا يلزمه. أن العمل والعرف قد جرى في أكثر البلاد أن البيع لا يلزمه إذا زاد عليه غيره، والمعروف عرفًا كالمشروط شرطاً. الراجح: أن يقال: إن في هذا تفصيلًا: إن كان البائع هو مالك السلعة، فإن له الحق أن يبيع سلعته ممن يشاء، وذلك أن البائع قد لا يرغب في التعاقد مع صاحب العطاء الأكثر إما لأنه مماطل، أو لأنه قليل الخبرة في القيام بما تعاقدا عليه كما لو كان المطلوب عملًا معينًا، أو كان عسرًا في تعامله أو قاسيًا على الدابة كما لو كان المباع حيوانًا، أو لغير ذلك من الأعمال، وأما إذا كان البائع وكيلًا فلا يجوز له أن يمضي البيع لصاحب العطاء الأقل إلا بإذن صاحبه، وكذلك الشأن في عقود المناقصات، وما يباع في المزاد من أملاك الدولة لا يجوز أن يباع على صاحب العطاء الأقل، لأن البائع ¬
وكيل عن المسلمين ممثلين في بيت المال، وإلا حصل في هذا الأمر تلاعب لا يخفى قد تضيع فيه الأموال العامة بحجة أنه يجوز أن يرسو المزاد على صاحب العطاء الأقل (¬1). وبعد كتابة هذا النص وقفت على كلام للشيخ الزرقاء رحمه الله، يحسن أن أنقله بحروفه: قال الشيخ: "الذي يظهر في الجواب التفصيل بين حالين: فإذا كانت المزايدة جارية بطريق المزاد العلني الذي تقع فيه الزيادات متعاقبة إذ يزيد الواحد زيادة يطلع عليها سواه ويزيد عليه، فإن كل زيادة تقع تبطل ما قبلها، وتكون هي الإيجاب المنفرد الذي يصح أن يبني عليه قبول ملزم؛ لأنه العرف، ولأن انتظار البائع وتطلعه إلى زيادة جديدة إلى أن تقع هو إعراض عن الإيجاب الواقع بسابقتها، والإيجاب يبطل بالإعراض. ¬
وبهذا الحكم تتميز المزايدة عن بيع المساومة العادي بأن الإيجاب فيها يبطل بعمل شخص ثالث مزاحم غير المتبايعين، ومثل ذلك يقال في المناقصة. وأما إذا كانت المزايدة أو المناقصة جارية بطريق الظرف المختوم بأن يرسل المتزاحمون معروضاتهم في الأسعار دون أن يعلم أحدهم بما قدم الآخر، ثم تفتح هذه المعروضات فإنها تعتبر بحكم إيجابات متعددة، فيصح للطرف الآخر -أي البائع في حال المزايدة والمشتري في حال المناقصة- أن يبني قبوله على ما شاء منها، فيلزم صاحبه، ولو كان ما قد قبله هو الأقل في حال المزايدة، أو الأكثر في حال المناقصة. على أن هذا الاختيار لا يصح في المزايدات أو المناقصات التي تروجها الدوائر الرسمية من فروع الحكومة فيما تحتاج إلى بيعه وشرائه؛ لأنها لا يجوز لها أن تختار من الأسعار المعروضة إلا ما هو أوفق لمصلحة بيت المال العام، وهو السعر الأكثر في حال المزايدة، والأقل في حال المناقصة" (¬1). ¬
الفصل الخامس: مبطلات الإيجاب
الفصل الخامس: مبطلات الإيجاب المبحث الأول رجوع الموجب قبل صدور القبول [م - 73] إذا رجع الموجب عن إيجابه قبل صدور القبول، فهل يبطل الإيجاب، هذه المسألة ناقشتها بالتفصيل فيما سبق من خلال الكلام على الآثار المترتبة على تحديد مجلس العقد، وبينت أن الجمهور قد اختلفوا في هذه المسألة مع المالكية، فذهب الجمهور إلى أن للموجب حق الرجوع عن إيجابه مطلقاً قبل أن يتصل به القبول، وإذا رجع بطل الإيجاب (¬1). ¬
بل اعتبر بعضهم لو صدر القبول مع الرجوع في وقت واحد، اعتبر الرجوع، وبطل به الإيجاب. قال ابن الهمام: "لو صادف رد البائع قبول المشتري بطل" (¬1). وقيل: لا يبطل الإيجاب، وليس للموجب حق الرجوع مطلقا إذا صدر بصيغة الماضي، أو صدر بغير الماضي وكان هناك قرينة أنه أراد البيع (¬2). أما إذا كانت الصيغة بغير الماضي، ولم يكن هناك قرينة أنه أراد البيع، وادعى أنه ما أراد البيع، فيحلف، ويصدق، وهو مذهب المالكية (¬3). وقيل: إذا حدد الموجب إيجابًا محدد المدة يكون ملزمًا بالبقاء على إيجابه خلال تلك المدة، وليس له الرجوع عنه، اختاره بعض المالكية (¬4)، ورجحه مجمع الفقه الإِسلامي (¬5). وقد ذكرنا أدلة هذه الأقوال في بحث متقدم، فأغنى عن إعادته هنا. ¬
المبحث الثاني رفض الإيجاب من الطرف الآخر
المبحث الثاني رفض الإيجاب من الطرف الآخر [م - 74] يبطل الإيجاب إذا رفضه من عوض عليه، إما صراحة كأن يقول: لا أقبل، أو حكما بأن يشتغل عنه بأجنبي. كما أن أي تعديل يتضمنه القبول يعتبر رفضا للإيجاب. وقولنا: بطل الإيجاب هذا من باب التجوز لأنه من باب بطلان ما لم يتم أصلاً. جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "إذا أوجب أحد المتبايعين البيع، فرد الثاني إيجابه، يبطل الإيجاب، فلو حصل القبول بعدئذ، فلا ينعقد البيع" (¬1). وقال أيضاً: "ومما يبطل به الإيجاب أن يرده الطرف الآخر، فلو قبل بعد ذلك، فالبيع لا ينعقد" (¬2). وقال الزركشي في المنثور في القواعد الفقهية: "إذا لم يقبل المخاطب بطل ¬
الإيجاب، فهذا بطلان ما لم يتم، لا بطلان ما تم" (¬1). وجاء في قواعد ابن رجب: "إذا لم يقبل المخاطب بطل الإيجاب" (¬2). ومثل الرد الصريح الرد الضمني، وذلك بالاشتغال عن البيع بأجنبي، فإنه دليل على الإعراض عن البيع. جاء في البحر الرائق: "المجلس المتحد: أن لا يشتغل أحد المتعاقدين بعمل غير ما عقد له المجلس، أو ما هو دليل الإعراض عن العقد" (¬3). وقال الحطاب: "وإن تراخى القبول عن الإيجاب حتى انقضى المجلس لم يلزمه البيع اتفاقًا، وكذا لو حصل فاصل يقتضي الإعراض عما كانا فيه حتى لا يكون كلامه جوابًا للكلام السابق في العرف، لم ينعقد البيع" (¬4). وقال في الإنصاف: "وإن تراخى القبول عن الإيجاب: صح، ما داما في المجلس، ولم يتشاغلا بما يقطعه. قيد الأصحاب قولهم "ولم يتشاغلا بما يقطعه" بالعرف" (¬5). كما أن أي تعديل يتضمنه القبول يعتبر رفضًا للإيجاب، وقد فصلت الكلام في هذه المسألة عند التعرض لشروط الصيغة بأنه يجب أن يوافق القبول الإيجاب من جميع الوجوه، فإن خالفه بأن قبل غير ما أوجبه، أو بعض ما أوجبه، أو بغير ما أوجبه، فلا ينعقد العقد (¬6). ¬
المبحث الثالث يبطل الإيجاب بانتهاء المجلس قبل القبول
المبحث الثالث يبطل الإيجاب بانتهاء المجلس قبل القبول [م - 75] سبق أن ذكرنا في شروط صيغة العقد اتحاد مجلس العقد، وناقشنا ما المقصود في تحديد مجلس العقد بين الحنفية والجمهور، وذكرنا أن الحنفية بالغوا في الشكل المادي لمجلس العقد، حيث جعلوا التتابع وهما يمشيان أو يركبان ولو دابة واحدة يقطع مجلس العقد؛ لاشتراطهم أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد (¬1). بل اعتبر الحنفية لو كان من صدر منه الإيجاب جالسًا، وحين قام الطرف الآخر قال قبلت لم ينعقد البيع، فاعتبروا القيام ولو لم يفارق المجلس ينهي حالة المجلس بين المتعاقدين. جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "إذا قال البائع للمشتري: بعتك مالي بكذا، وكانا جالسين، فقام أحدهما بطل الإيجاب، ولو لم يمش؛ لأن القيام دليل على الرجوع والإعراض" (¬2). وقال في درر الحكام شرح غرر الأحكام: "لأن القيام دليل الرجوع والدلالة تعمل عمل الصريح" (¬3). ¬
وجاء أيضًا: " إذا تبايع شخصان، وكان أحدهما داخل الدار، والآخر خارجها، وبعد أن أوجب أحدهما البيع خرج الآخر من الدار، وقال: قبلت فالإيجاب باطل والبيع لا ينعقد" (¬1). فهم يوجبون عليه أن يعلن قبوله قبل خروجه من الدار، حتى ولو كان خروجه سوف يجمعه بالطرف الآخر فإنه ينهي عندهم حالة اتحاد المجلس حال صدور الإيجاب والقبول، وهذا لا شك أنه قول فيه ضعف. بينما الجمهور كانوا أكثر توفيقًا في تحديد مجلس العقد حيث اعتبروا المجلس هو الزمن الذي يظل فيه المتعاقدان مشتغلين بالتعاقد، فإن أعرضا عن العقد واشتغلا عنه بما يقطعه عرفًا فقد انقطع المجلس، ومن الإعراض عن العقد انفضاض المجلس قبل صدور القبول. فإذا انفض المجلس قبل صدور القبول بطل الإيجاب وقد حكي الإجماع على بطلانه، قال ابن نجيم في البحر الرائق: "لو أوجب أحد المتعاقدين فلم يقبل الآخر في المجلس فإنه يبطل الإيجاب لا نعلم فيه خلافا، لا فرق في هذا بين البيع والنكاح وغيرهما من العقود" (¬2). يقول الحطاب: "وإن تراخى القبول عن الإيجاب حتى انقضى المجلس لم يلزمه البيع اتفاقًا" (¬3). ونقل الحطاب عن ابن رشد قوله: "لو قال: أبيعك سلعتي بعشرة إن شئت، فلم يقل أخذتها حتى انقضى المجلس لم يكن له شيء اتفاقًا" (¬4). ¬
وسبق لي انتقاد حكاية الإجماع حتى على مذهب المالكية، وناقشت مذهب ابن العربي في ذلك، ومع ذلك يستثنى من هذا الإجماع ثلاث مسائل: الأولى: لو قيد الإيجاب بمدة إلى ما بعد المجلس، فإن المالكية لا يبطلون الإيجاب بانتهاء المجلس، وإنما يجعلون التقييد ملزمًا إلى انتهاء هذه المدة المحددة، وسبق الكلام على هذا. الثانية: الإيجاب في بيع المزايدة. فلا يبطل الإيجاب ولو طال الزمن في بيع المزايدة على مذهب المالكية. قال الدسوقي: "وللبائع إلزام المشتري في المزايدة، ولو طال الزمان، أو انفض المجلس، حيث لم يجر العرف بعدم إلزامه" (¬1). الثالثة: إذا كان الإيجاب بكتابة إلى غائب، فهل يسقط بانتهاء المجلس؟ ظاهر عبارة الهداية على سقوط الإيجاب بانتهاء المجلس، إذ يقول: "الكتاب كالخطاب وكذا الإرسال حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرسالة" (¬2). وقال ابن الهمام: " ... لما بلغه الكتاب وفهم ما فيه، قال: قبلت في المجلس انعقد" (¬3). واختار شيخ الإِسلام جواهر زاده أن الإيجاب إذا كان بالكتابة فقرئ في مجلس، فلم يتصل به القبول، جاز إتمام العقد بقراءته مرة أخرى في مجلس آخر يتصل به القبول، وتكون قراءته في المجلس الثاني بمثابة تكرار الإيجاب. ¬
جاء في حاشية ابن عابدين: "ذكر شيخ الإِسلام جواهز زاده في مبسوطه: الكتاب والخطاب سواء إلا في فصل واحد، وهو أنه لو كان حاضرًا، فخاطبها بالنكاح، فلم تجب في مجلس الخطاب، ثم أجابت في مجلس آخر، فإن النكاح لا يصح، وفي الكتاب إذا بلغها، وقرأت الكتاب، ولم تزوج نفسها منه في المجلس الذي قرأت الكتاب فيه، ثم زوجت نفسها في مجلس آخر بين يدي الشهود، وقد سمعوا كلامها، وما في الكتاب يصح النكاح؛ لأن الغائب إنما صار خاطبًا لها بالكتاب، والكتاب باق في المجلس الثاني بمنزلة ما لو تكرر الخطاب من الحاضر في مجلس آخر، فأما إذا كان حاضرًا، فإنما صار خاطبًا لها بالكلام، وما وجد من الكلام لا يبقى إلى المجلس الثاني ... قال ابن عابدين: وظاهر أن البيع كذلك، وهو خلاف ظاهر الهداية، فتأمل" (¬1). وظاهر كلام ابن عابدين أن القبول في المجلس الثاني متوقف على قراءة الكتاب مرة أخرى في المجلس الجديد. وقد اختلف العلماء المعاصرون في هذه المسألة على قولين: الأول: يرى أن حكم الإيجاب يظل باقيًا حتى يرفضه من وجه إليه، أو يرد ما يدل على رجوع صاحبه عنه، وأن الأمر لا يحتاج إلى قراءته في مجلس آخر، وممن اختار هذا الرأي الشيخ على الخفيف رحمه الله تعالى. يقول الشيخ: "جاء في كتاب النكاح من فتح القدير أن الإيجاب إذا كان بالكتابة فقرئ الكتاب في مجلس، فلم يتصل به قبول فيه جاز إتمام العقد بقراءته مرة أخرى في مجلس آخر يتصل به القبول فيه، وعلل ذلك بأن الغائب إنما صار مخاطبًا للمخطوبة بالكتاب، والكتاب باق في المجلس الثاني، وفي رأيي أن ¬
عقد البيع وغيره من عقود المال أولى بهذا الحكم من عقد النكاح، إذ يتساهل في البيع ونحوه بما لا يتساهل به في عقد النكاح، وعلى ذلك يجوز لمن أرسل إليه الإيجاب بالكتاب إذا قرأه، فلم يقبله في أول مجلس، أن يقرأه في مجلس آخر، ثم يقبل، ويكون مجلس العقد مجلس كل قراءة، ويؤيد ذلك ما جاء في رد المحتار: أن الإيجاب بالبيع إذا كان في كتاب مرسل إلى المشتري يتجدد بقراءة الكتاب مرة أخرى في مجلس آخر، فيصح حينئذ القبول في هذا المجلس، وإن لم يقبل في المجلس السابق، وهذا يخالف ظاهر ما جاء في الهداية. وقد يقال مع هذا: إن التلفظ ليس شرطاً في عقود المعاوضات المالية، بخلاف عقد النكاح، فلا ينعقد إلا باللفظ (¬1)، وإذن فلا داعي لقراءة الكتاب مرة أخرى، بل يعتبر وجوده وقيامه إيجابًا بالكتابة، فإذا علم مضمونه كان للمرسل إليه أن يقبل في أي وقت، وينشأ بذلك العقد لقيام الإيجاب بقيام الكتاب، وعندئذ لا يمكن إلا أن يعتبر مجلس العقد في هذه الحالة هو مجلس القبول، ويصح قبوله في كل وقت ما لم يرفض" (¬2). والكلام هذا وجيه إلا أنه يتضمن ضررًا على الموجب إذا قيل: إن للقابل أن يؤخر القبول إلى أي وقت يشاء، والضرر منتف. واختار أبو زهرة أن قياس البيع على النكاح قياس مع الفارق؛ لأن مجلس الكتاب بالنسبة للنكاح ليس مجلس وصول الكتاب، وإنما المجلس الذي يحضر فيه الشهود؛ لأن النكاح يحتاج إلى شهود على القول بأن الشهود يشترط في صحة ¬
النكاح، فتضطر المرأة إلى تأخير إعلان القبول إلى أن يتوفر لها الشهود على ذلك (¬1). وقد اختار هذا القول الدكتور محمد يوسف موسى، ونشأت إبراهيم الدريني. يقول الدكتور الدريني: "وأرجح ظاهر الهداية .. ثم علل ذلك بقوله: "الإيجاب إذا كان يبطل بالاعراض عنه، أو بمغادرة المجلس في التعاقد بين حاضرين، فإنه يجب أن يبطل بذلك إذا كان بكتابة أو برسالة؛ لأن الكتابة ليست أقوى من النطق، والرسالة ليست أقوى من الخطاب مع حاضر، ولأن الموجب يتضرر بالتأخير، وقد رأينا أنهم قرروا أن الأصل اتصال القبول بالإيجاب، ولكنهم خالفوا هذا الأصل لمصلحة القابل والموجب، فمن مصلحة القابل أن يتأخر القبول إلى آخر المجلس؛ ليتدبر أمره، ومن مصلحة الموجب ألا يتأخر القبول إلى ما وراء المجلس؛ لئلا يتضرر بالتأخير، وما أجيز استثناء من الأصل يجب أن يقدر بقدر ما أجيز من أجله لا يتعداه، وقد قالوا: إن ما أجيز للضرورة يقدر بقدرها، والمصلحة التي أجيز من أجلها مخالفة الأصل يكفي في تحققها تأخر القبول إلى آخر المجلس، فمن مصلحة الموجب ألا يتأخر القبول إلى آخر ما وراء المجلس، وعدم جواز القبول بعد المجلس ليس فيه ضرر على القابل بعد أن أعطي فرصة للتدبر إلى آخر المجلس". وخلاصة هذا أن نظرية المجلس -التي تقضي بجواز تأخير القبول إلى آخر المجلس إذا ظل الإيجاب قائمًا، وعدم جواز القبول بعد المجلس- تخالف الأصل، فلا يصح التوسع فيها، سواء في التعاقد بين حاضرين، أو بين غائبين" (¬2). ¬
المبحث الرابع بطلان الإيجاب بهلاك المعقود عليه أو تغيره قبل القبول
المبحث الرابع بطلان الإيجاب بهلاك المعقود عليه أو تغيره قبل القبول [م - 76] يبطل الإيجاب بهلاك المعقود عليه أو تغيره بزيادة أو نقص قبل صدور القبول (¬1). قال في البحر الرائق: "والحاصل أن الإيجاب يبطل بما يدل على الإعراض، وبرجوع أحدهما عنه ... وبتغيير المبيع: بقطع يد، وتخلل عصير، وزيادة بولادة، وهلاكه ... " (¬2). وقال في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "ومما يبطل به الإيجاب ... أن يتغير المبيع قبل القبول ... فإذا قال البائع للمشتري: بعتك هذا الدقيق، فقبل المشتري البيع بعد أن تحول الدقيق خبزًا، فالبيع لا ينعقد" (¬3). وهذه المسألة لم ينص عليها في القانون الغربي، ولا في القوانين العربية، والتي هي في الغالب منقولة عنه. يقول الدكتور نشأت إبراهيم: "أما سقوط الإيجاب في الفقه الإِسلامي بهلاك المحل، أو بتغيره، أو بزيادته قبل القبول فهو وإن لم يرد في الفقه الغربي فإن الدكتور السنهوري يرى أنه يمكن قبوله في الفقه الغربي؛ لأنه لا يخالف أصوله" (¬4). ¬
وهذا كالاعتذار من الدكتور السنهوري رحمه الله عن عجز القوانين الغربية على أن تكون شاملة لحالات قد تقع كثيراً في معاملات الناس، وليست من المسائل الشاذة ولا النادرة، والله أعلم.
المبحث الخامس تغيير الإيجاب قبل القبول بما يخالف الإيجاب الأول
المبحث الخامس تغيير الإيجاب قبل القبول بما يخالف الإيجاب الأول [م - 77] هذه المسألة لها تعلق في بحث سابق، وهو هل للبائع أن يرجع عن إيجابه قبل صدور القبول، وقد فصلنا هذه المسألة وبينا خلاف المالكية مع الجمهور، فالمالكية يرون أن الإيجاب ملزم وحده للبائع، ولا يحق له الرجوع عن إيجابه إلا أن يعرضا عن البيع أو ينفض المجلس بدون صدور القبول، بينما جماهير أهل العلم يرون أن من حق البائع الرجوع عن إيجابه قبل صدور القبول، وإذا كان يحق له الرجوع عن إيجابه ورفضه بالكلية جاز له تعديله من باب أولى. وقد ذكرنا أدلة الفريقين فأغنى عن إعادته هنا.
المبحث السادس موت العاقد أو فقد أهليته قبل صدور القبول
المبحث السادس موت العاقد أو فقد أهليته قبل صدور القبول [م - 78] موت أحد المتبايعين أو فقد أهليته بجنون أو إغماء قبل صدور القبول، هل يبطل الإيجاب؟ مثاله: لو أوجب البائع ثم مات قبل صدور القبول من المشتري، هل يبطل إيجابه؟ أو مات المشتري قبل صدور القبول منه، هل يبطل الإيجاب، أو يكون للورثة حق القبول كما لو كان الوارث حاضرًا في المجلس، في هذه المسألة خلاف بين أهل العلم. فقيل: يبطل الإيجاب، وهو قول أكثر أهل العلم. جاء في بدائع الصنائع: "إذا أوجب البيع ثم مات المشتري قبل القبول، أو أوجب الهبة ثم مات الموهب له قبل القبول ... يبطل الإيجاب". وعلل ذلك ب "أن القبول أحد ركني العقد، وقد فات بالموت، فيبطل الركن الآخر" (¬1). ¬
وقيل: يقوم وارثه مقامه إذا كان حاضرًا، نص عليه القرافي من المالكية في الذخيرة، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية، اختاره الدارمي. قال القرافي في الذخيرة: "وخيار الإقالة والقبول: إذا أوجب البيع لزيد، فلورثته خيار القبول أو الرد" (¬1). قال النووي: "ولو مات المشتري بعد الإيجاب وقبل القبول، ووارثه حاضر فقبل، فوجهان: الصحيح: لا يصح البيع؛ لعدم الإيجاب والقبول من المتعاقدين. والثاني: الصحة، وبه قال الدارمي؛ لأن الوارث كالميت، ولهذا يقوم مقامه ¬
والراجح من الخلاف
في خيار المجلس على الصحيح المنصوص، والله أعلم" (¬1). وفرق بعض الشافعية بين الوارث وبين الموكل، فقبل من الثاني ولم يقبل من الأول. جاء في أسنى المطالب: "ولو مات المشتري بعد الإيجاب بحضرة وارثه لم يقبل وارثه، ولا يقبل وكيله، بل ولا موكله كما جزم به المصنف في شرح الإرشاد وهو مقتضى كلام الأصحاب. وخالف بعضهم فقال بالصحة في الموكل" (¬2). والراجح من الخلاف: بعد استعراض الأقوال في المسألة فقد رجح الشيخ مصطفى الزرقاء رحمه الله القول ببطلان الإيجاب بالموت أو فقد الأهلية. قال الشيخ: "رجوع الموجب عن إيجابه قبل أن يقبل الطرف الآخر مبطل للإيجاب، فلا يعتبر القبول بعده، وكذا وفاة الموجب أو زوال أهليته قبل القبول، وهذا قد يكثر في حالات التعاقد بالكتابة بين الغائبين فقد يرسل شخص كتابًا يتضمن إيجاب العقد من طرفه، ثم يموت أو يجن وصول الكتاب، فلا يعتبر عندئذ قبول المرسل إليه عندما يصل إليه الكتاب ويقرؤه؛ لانهدام الإيجاب المبني عليه بوفاة الموجب قبل وقوع القبول" (¬3). ¬
كما رجح الدكتور نشأت الدريني بأن الإيجاب يسقط بموت الموجب أو فقده ¬
أهليته إذا كان الإيجاب غير ملزم، ولا يسقط إذا كان الإيجاب ملزمًا كما لو قيد الإيجاب بمدة معينة، يقول الدكتور: "ولما كان القول الصحيح في الفقه الإِسلامي هو عدم الإلزام بالإيجاب وحده إذا كان غير مقيد بمدة، وكان قول المالكية -الذي أرجحه- هو الإلزام بالإيجاب إذا قيد بمدة، فإني أرجح سقوط الإيجاب بموت الموجب، أو فقده أهليته إذا كان الإيجاب غير ملزم، وبقاءه إذا كان ملزمًا؛ لأنه إذا كان غير ملزم فلا نتأكد من إصرار الموجب على الإيجاب لاحتمال رجوعه لو بقي على أهليته قبل قبول الآخر، أما إذا كان ملزمًا فلا حق له في الرجوع لو بقي على أهليته، فيبقى الإيجاب، ويجوز أن يتصل به القبول؛ لأني لا أرى وجهًا قويًا حينئذ لتاثير الموت أو فقد الأهلية" (¬1). وهذا القول وسط بين القولين: بين من يقول: لا يسقط الإيجاب بالموت مطلقاً، وبين من يقول: يسقط الإيجاب بالموت مطلقاً، وهذا القول وسط بينهما، وذلك إن كان الإيجاب ملزمًا لصاحبه كما لو ضرب له مدة معينة فإنه لا يسقط بالموت ولا بفقد الأهلية ما دام أن القبول قد صدر خلال تلك المدة المعينة، وأما إذا كان الإيجاب غير ملزم كما لو كان لصاحبه الحق أن يرجع عن إيجابه متى شاء، فإن الموت وكذا فقد الأهلية يسقط الإيجاب، والله أعلم. ¬
الباب الرابع في الشروط المتعلقة بالعاقدين
الباب الرابع في الشروط المتعلقة بالعاقدين تناولنا فيما سبق الركن الأول من أركان البيع: وهو الإيجاب والقبول (الصيغة)، وبينا أحكامه وشروطه. وفي هذا الباب سوف نتناول إن شاء الله الركن الثاني للبيع، وهو العاقد، وهو الذي يباشر الإيجاب أو القبول في العقد؛ لأن الإيجاب والقبول لا يمكن تصور وجودهما من غير عاقد، والمقصود بالعاقد في عقد البيع: البائع والمشتري، ومن ينوب منابهما. ولما كان العاقد يشترط فيه شروط لا بد من توفرها حتى يكون البيع صحيحًا؛ فليس كل عاقد صالحًا لإبرام العقود، خصصنا هذا الباب لذكر الأحكام والشروط المتعلقة بالعاقدين (البائع والمشتري) نسأل الله سبحانه وتعالى العون والتوفيق.
الشرط الأول في توفر الأهلية في العاقد
الشرط الأول في توفر الأهلية في العاقد المبحث الأول في تعريف الأهلية تعريف الأهلية (¬1): الأهلية في الاصطلاح: عبارة عن صلاحيته لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه، وهي الأمانة التي أخبر الله عز وجل بحمل الإنسان إياها بقوله: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72]. وهي ضربان: أهلية الوجوب: أي صلاحيته لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه. فكل إنسان صالح لأن تكون له حقوق، وعليه واجبات، وتثبت له هذه الأهلية من وقت ميلاده، بل من وقت كونه جنينًا إلى وقت موته، فإذا انعدمت أهلية الوجوب انعدمت الشخصية معها، وذلك كالجنين يولد ميتًا. ¬
وقد أجمع الفقهاء على ثبوت هذه الأهلية للإنسان منذ ولادته، حتى يكون صالحاً لوجوب الحقوق له وعليه، فيثبت له ملك النكاح بتزويج الولي إياه، ويجب عليه المهر بعقد الولي (¬1). الضرب الثاني: أهلية الأداء: أي صلاحيته لصدور الفعل منه على وجه يعتد به شرعاً. وهذا هو الذي يعنينا في هذا الباب، فإذا أطلقنا الأهلية فالمقصود بها أهلية الأداء. وأهلية الأداء قد تكون كاملة، وقد تكون ناقصة، وقد تكون معدومة. ¬
ومن هذه العلامات
فالكاملة هي في حق البالغ الحر الرشيد غير المحجور عليه، فمن اتصف بهذه الصفات تحققت له أهلية الأداء الكاملة، ويكون حرًا طليقًا في تصرفاته إلا بما نهى عنه الشرع أو قيده. وتكون الأهلية ناقصة في حق الصبي، والمميز، والسفيه، والعبد. وتكون معدومة في حق الصبي غير المميز، والمجنون ونحوهما. ونريد أن نتوقف عند بيان الأهلية الكاملة. فقلنا الأهلية الكاملة: هي في حق المكلف الحر الرشيد. والمكلف: هو البالغ العاقل. فقيد العاقل: أخرج المجنون والسكران، والمعتوه. وقيد الحرية: أخرج العبد. وقيد البلوغ: أخرج الصبى. وللبلوغ علامات طبيعية منها ما هو محل وفاق، ومنها ما هو محل خلاف، ومنها ما هو مشترك بين الذكر والأنثى، ومنها ما هو خاص بأحدهما. ومن هذه العلامات: الأولى: الاحتلام. والمقصود به خروج المني من الرجل أو المرأة بلا علة، يقظة، أو منامًا. قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية [النور: 59]. وجه الاستدلال: أنه حين بلغ الأطفال الحلم كلفوا بوجوب الاستئذان، بينما قبل البلوغ كان
وجه الاستدلال
الخطاب موجهًا إلى أوليائهم، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور: 58]. وقال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. وجه الاستدلال: جعل الله سبحانه وتعالى بلوغ النكاح موجبًا لارتفاع الولاية عن اليتيم، بشرط كونه راشدًا. (ح-30) ومن السنة ما رواه مسلم، حدثنا عمرو بن سواد العامري، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث، أن سعيد بن أبي هلال، وبكير بن الأشج حدثاه، عن أبي بكر بن المنكدر، عن عمرو بن سليم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: غسل يوم الجمعة على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه. رواه البخاري، ومسلم واللفظ له (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (على كل محتلم) فجعل الاحتلام محلًا للتكليف. وأما الإجماع، فقال الحافظ في الفتح: "أجمع العلماء على أن الاحتلام في الرجال والنساء يلزم به العبادات، والحدود وسائر الأحكام" (¬2). العلامة الثانية: الحيض، وتختص به الأنثى. ¬
العلامة الثالثة: الإنبات.
قال الحافظ في الفتح: "وأجمع العلماء على أن الحيض بلوغ في حق النساء" (¬1). (ح- 31) وروى الإِمام أحمد، قال: حدثنا يونس، ثنا حماد، عن قتادة، عن ابن سيرين، عن صفية بنت الحارث، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار (¬2). [الحديث حسن لغيره إن شاء الله. ورواية قتادة قد اضطرب عليه فيها، والراجح فيه ابن سيرين عن عائشة، وليست بالمتصلة، لكن لها شاهد ضعيف من حديث أبي قتادة] (¬3). العلامة الثالثة: الإنبات. [م - 179] وقد اختلف الفقهاء في اعتبار الإنبات علامة من علامات البلوغ. فقيل: ليس بعلامة مطلقًا، لا في الحقوق الواجبة للخالق، ولا في حقوق الآدميين. وهو مذهب الحنفية (¬4). وقيل: إن الإنبات علامة مطلقًا في حق المسلم والكافر، في حق الله وحق المخلوق. وهو مذهب الحنابلة (¬5)، ورواية عن أبي يوسف من الحنفية (¬6). ¬
واعتبر المالكية الإنبات علامة إلا أنهم اختلفوا فيها على قولين: فقيل: الإنبات علامة مطلقاً. قال في الشرح الكبير وهو المذهب (¬1). وقال بعضهم: الإنبات علامة على البلوغ فيما بين الشخص وبين غيره من الآدميين من قذف، وقطع، وقتل. وأما فيما بين الشخص وبين الله تعالى من حقوق فليس بعلامة (¬2). وقالت الشافعية: الإنبات علامة على البلوغ في حق صبيان الكفار. وأما المسلمون فاختلفوا فيهم على وجهين: الوجه الأول: أنه علامة على البلوغ في حقهم كالكفار. الوجه الثاني: وهو الصحيح عندهم أنه ليس علامة على البلوغ عندهم (¬3). وانظر أدلة كل قول في هذه المسألة في كتابي الحيض والنفاس، فقد ذكرتها بالتفصيل، فأغنى عن إعادتها هنا. وقد ترجح لي أن الإنبات علامة من علامات البلوغ مطلقاً في حق الله وحق الآدمي، من المسلمين والكفار، والله أعلم. ¬
وفي المذهب المالكي أقوال
العلامة الرابعة: البلوغ بالسن. [م - 80] اختلف الفقهاء في سن البلوغ. فقيل: تمام خمس عشرة سنة، للذكر والأنثى. وهو مذهب الشافعية (¬1)، ومذهب الحنابلة (¬2)، واختاره ابن وهب من المالكية (¬3). وأبو يوسف ومحمد من الحنفية (¬4)، وهو رواية عن أبي حنيفة (¬5). وقيل: للغلام أن يتم له ثماني عشرة سنة، وللجارية أن يتم لها سبع عشرة سنة (¬6). وفي المذهب المالكي أقوال: المشهور منها بلوغ ثماني عشرة سنة للذكر الأنثى (¬7). وقيل: تسع عشرة. وقيل: سبع عشرة. وقيل: ست عشرة (¬8). ¬
واختار ابن حزم: تمام تسع عشرة (¬1). ولم يترجح لي شيء منها، والأدلة في ابن خمس عشرة سنة محتملة، ويندر أن يتأخر البلوغ إلى ما بعد ثماني عشرة سنة، والله أعلم. وإذا عرفنا علامات البلوغ، فلا يكفي في المرء حتى تتحقق فيه الأهلية الكاملة أن يكون بالغًا عاقلًا حتى يكون رشيدًا. والرشد في الاصطلاح (¬2): اختلف العلماء في تعريفه على قولين: فمنهم من عرف الرشد: بالصلاح في المال، وهذا مذهب الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والحنابلة (¬5). ¬
ومنهم من عرف الرشد: بالصلاح في الدين والمال، وهو مذهب الشافعية (¬1). والمراد بالصلاح في الدين: أن لا يرتكب محرمًا يسقط العدالة، وفي المال ألا يبذر (¬2). والصحيح أن الرشد يختلف من مقام لآخر. فالرشد في ولي النكاح مثلاً: معرفته بالكفء، ومصالح النكاح، وليس له علاقة بحفظ المال. والرشد في المال: هو حفظه وإصلاحه، ولا يدخل فيه الرشد في الدين، ولو كان صلاح الدين شرطًا في الرشد لوجب الحجر على المنافقين والمبتدعة، بل يجب الحجر على كل من اغتاب مسلمًا ولم يتب من هذه المعصية وذلك لارتكابه كبيرة من كبائر الذنوب، ويجب الحجر على كل من كذب في بيعه، أو غش فيه. فتلخص لنا أنه يشترط في العاقد أن يكون جائز التصرف، وهو الحر المكلف الرشيد، وهذا لا خلاف في جواز بيعه وشرائه، وسائر تصرفاته، كما أن المجنون لا خلاف في أنه لا يصح بيعه، وشراؤه، وسائر تصرفاته العقدية. واختلفوا في بيع الصبي، والسكران، والسفيه، والمعتوه، وسوف نفصل أحكامهم إن شاء الله تعالى في الفصول التالية. ... ¬
المبحث الثاني في تصرفات الصبي
المبحث الثاني في تصرفات الصبي الفرع الأول في تصرفات الصبي غير المميز مسألة في تعريف الصبا والتمييز تعريف الصبي (¬1): الصبي عند الفقهاء، قالوا: الصبي والغلام: من لم يبلغ (¬2). وقال ابن مفلح في شرح منظومة الآداب: "ظاهر كلام أهل اللغة أن الصبي من لم يفطم بعد، ولكن ليس مرادًا في كلام الناظم، بل المراد من لم يبلغ حد سن التكليف. ¬
وأما تعريف التمييز عند الفقهاء
وفي حديث: "أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى حسناً يلعب مع صبوة في السكة" والصبوة والصبية جمع صبي. ومعلوم أن الذين يلعبون أكبر من الذين يرضعون" (¬1). وأما تعريف التمييز (¬2) عند الْفُقَهَاءُ: فهم يريدون بسن التمييز تلك السن التي إذا انتهى إليها الصغير عرف مضاره ¬
ومنافعه، وكأنه مأخوذ من ميزت الأشياء إذا فرقت بين خيرها وشرها بعد المعرفة بها (¬1). [م - 81] وهل يبلغ الطفل التمييز بالسن، أو بالوصف؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم: فقيل: ليس له حد باعتبار السنين، وعلى هذا قالوا في تعريف المميز: هو الذي يفهم الخطاب، ويرد الجواب (¬2). وقال المرداوي الحنبلي في الإنصاف: وهو الصواب، والاشتقاق يدل عليه (¬3). وقال الدسوقي: "والمراد بفهم الخطاب ورد الجواب: أنه إذا كلم بشيء من مقاصد العقلاء فهمه، وأحسن الجواب عنه، لا أنه إذا دعي أجاب" (¬4). وقيل: أن يصير الصغير بحيث يأكل وحده، ويشرب وحده، ويستنجي وحده (¬5). وقيل: حده أن يعرف يمينه من شماله (¬6). ¬
وقيل: "بأن يعرف أن البيع سالب للملك والشراء جالب له، ويعلم الغبن الفاحش من اليسير، ويقصد به تحصيل الربح والزيادة" (¬1). وفي الجوهرة النيرة: "ومن علامة كونه غير عاقل، إذا أعطى الحلواني فلوسًا، فأخذ الحلوى، وجعل يبكي، ويقول: أعطني فلوسي، فهذا علامة كونه غير عاقل، وإن أخذ الحلوى، وذهب، ولم يسترد الفلوس فهو عاقل" (¬2). ومنهم من حد التمييز بالسن. قال النووي: إذا بلغ الصبي سبع سنين أو ثمان تقريبًا، صار مميزًا (¬3). وقيل: إذا بلغ سبع سنين، وعليه أكثر الحنابلة (¬4) ¬
دليل من قال: بالتحديد بالسن.
وقيل: ست سنين، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). دليل من قال: بالتحديد بالسن. الدليل الأول: (ح-32) بما رواه أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، وعبد الله بن بكر السهمي، المعنى واحد قالا: حدثنا سوار أبو حمزة، عن عمرو ابن شعيب عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع. وإذا أنكح أحدكم عبده فلا ينظرن إلى شيء من عورته، فإنما أسفل من سرته إلى ركبته من عورته (¬2) [صحيح لغيره] (¬3). والحق أن الحديث ليس صريحًا في الباب، فقد يقال: إن التكليف بالصلاة ليس متوقفًا على مجرد التمييز، ولو كان كذلك لأمر بها قبل السابعة؛ لأن فعل الصلاة يتطلب فعل الطهارة بنوعيها: الطهارة من الحدث، والطهارة من الخبث، وإدراك واجبات الصلاة، وهذا فيه نوع مشقة لا تخفى، لذلك علق الأمر بالسن السابعة والتي يصبح الطفل فيها مستعدًا للقيام بالواجبات، ولم يعلق على سن التمييز، والله أعلم. ¬
دليل من قال: الأمر لا يتعلق بالسن.
دليل من قال: الأمر لا يتعلق بالسن. (ح-33) استدلوا بما رواه البخاري من طريق الزبيدي، عن الزهري، عن محمود بن الربيع قال: عقلت من النبي - صلى الله عليه وسلم - مجة، مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو (¬1). قال ابن القيم: "ينشأ معه -يعني الصبي- التمييز والعقل على التدريج شيئًا فشيئًا إلى سن التمييز وليس له سن معين، بل من الناس من يميز لخمس، كما قال محمود ابن الربيع: عقلت من النبي - صلى الله عليه وسلم - مجة مجها في وجهي من دلو في بئرهم، وأنا ابن خمس سنين، ولذلك جعلت الخمس سنين حدًا لحدة سماع الصبي، وبعضهم يميز لأقل منها، ويذكر أمورا جرت له وهو دون الخمس سنين" (¬2). قلت: لا يلزم من تذكر حدث معين ليس فيه تفاصيل كثيرة أن يكون هذا دليلًا على أنه بلغ سن التمييز، والذي يحسن معه التصرف في البيع والشراء، ومعرفة النافع والضار إلى غير ذلك، فقد ينقل الطفل الصغير الكلام اليسير بين أبيه وأمه، وقد يعده أبوه بشراء شيء له، فيحفظ هذا، ويسأل أباه عنه إذا تخلف في وعده، وقد يزجره أبوه عن فعل ما، فيمتثل أمره، ولا يفعله مرة أخرى، وإن كان لا يقال مع ذلك قد بلغ مرحلة التمييز التي تؤهله أن يتصرف في البيع والشراء. (ح-34) فقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة، واللفظ المسلم، قال: أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كخ كخ، ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة (¬3). ¬
الدليل الثاني
فقوله: (كخ كخ) يشعرك بأن الحسن كان صغيرًا، وقال له ذلك ليستقذرها، ومع صغره فقد نهاه، وقرن النهي بالعلة، قائلاً (أما علمت) فجعل له نسبة من العلم. وفي شرح النووي على مسلم: "أما علمت أنا لا نأكل الصدقة، هذه اللفظة تقال في الشيء الواضح التحريم ونحوه، وإن كان المخاطب عالمًا به، وتقديره: عجيب كيف خفي عليك هذا مع ظهور تحريم الزكاة. .. " (¬1). إلا أن الحافظ جعل المقصود بالخطاب غيره، فقال: "ومخاطبة من لا يميز لقصد إسماع من يميز؛ لأن الحسن إذ ذاك كان طفلًا". والأفضل أن يقال: يؤخذ من هذا الحديث مشروعية مخاطبة الطفل بلسان من يعقل الأمور ليكتسبها، ويتعلم منها، ويزرع في قلبه مراقبة الله منذ نعومة أظفاره، كما يؤخذ منه أن الصغير ينهى عما ينهى عنه الكبير، فهذا من باب التروك، وليس من باب فعل المأمور. الدليل الثاني: إن كلمة تمييز يفهم من اشتقاقها أن يميز الشيء عن الشيء، بحيث يفصلة، ويفضل بعضه على بعض، بمعنى أن يميز ما ينفعه عما يضره، ويفضله عليه، وهذا يختلف من صبي لآخر كما هو مشاهد، فالقدرة على التعليم، ونسبة الذكاء يتفاوت فيها الصبية كما يتفاوت فيها الكبار، فحدها بسن معينة ليس دقيقًا. وهذا هو القول الراجح. ¬
الفرع الثاني خلاف العلماء في بيع الصبي غير المميز
الفرع الثاني خلاف العلماء في بيع الصبي غير المميز جاء في تحفة المحتاج: عبارة الصبي ملغاة (¬1). وجاء في المبدع: من لا يصح تصرفه لا قول له (¬2). قال السرخسي: الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء (¬3). [م - 82] ذهب عامة الفقهاء إلى بطلان تصرفات الصبي غير المميز من بيع وشراء وغير ذلك مطلقاً، سواء أذن له الولي أو لم يأذن. وعللوا ذلك بأن عبارته ملغاة لا اعتداد بها شرعاً، فلا تصح بها عبادة، ولا تجب بها عقوبة، ولا ينعقد معها بيع أو شراء، حتى تلك العبادات التي تصح منه كالحج والعمرة، لا تصح منه النية، وإنما ينوي عنه وليه؛ لأن التمييز إذا فُقِد لم يصح منه قصدٌ (النية)، ولم يقع منه رضا، وهما شرطان في صحة البيع (¬4). "قال ابن بزيزة: لم يختلف العلماء أن بيع الصغير والمجنون باطل لعدم التمييز" (¬5). ¬
وقيل: يصح تصرف الصبي غير المميز في الشيء اليسير، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: التمييز شرط للزوم البيع، وليس شرطًا للصحة، فيصح البيع من غير المميز، ويكون موقوفًا على إجازة من له النظر. وهذا قول مرجوح في مذهب المالكية (¬2). وهناك فرق بين إجازة الولي، وبين إذن الولي، فالإجازة تكون بعد انتهاء العقد، فيكون العقد موقوفًا حتى تأتي الإجازة، والإذن لا بد أن يكون سابقًا للعقد. والراجح القول بعدم اعتبار تصرف الصبي غير المميز إلا أن يجري عرف بأن الصبي إذا جاء يحمل معه مبلغًا يسيرًا لا يتطلع إليه غالب الناس، وجاء إلى البقال ليشتري له حلوى كعادة الصبيان في عصرنا، وكان عرف الناس كما هو الحال في بلادنا أن يبيعوا الشيء الذي يشير إليه، ولم يكن في هذا ضرر عليه في تناوله أن يبيعه صاحب الدكان، ولو لم يأخذ إذنًا صريحًا على أن وليه إن رفض بعد ذلك، ولم يفت المبيع كان له حق إرجاعه، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث في بيع الصبي المميز
الفرع الثالث في بيع الصبي المميز المسألة الأولى في الحكم على تصرفات الصبي المميز بيع الصبي: هو نوع من التصرف المالي، والفقهاء يقسمون تصرفات الصبي المميز إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: تصرفات نافعة نفعاً محضا، كقبول الهبة، والهدية، ونحوها، فهذه تجوز، وتصح من الصبي المميز، ولو بدون إذن الولي؛ لأن القبول نفع محض، والضرر منعدم، والحجر عليه إنما كان من أجل حظه، فيصح مطلقًا، وهذا مذهب الجمهور. وخالف الشافعية فقالوا: لا يصح، وإن أذن له الولي. وصحح الحنابلة القبول، وأما القبض فقالوا: يصح بإذن الولي. القسم الثاني: تصرفات ضارة ضررًا محضًا دنيويًا، كالتبرع، والقرض، والصدقة، والعتق، فلا يصحان، ولو أذن له الولي؛ لأن في ذلك إضاعة لماله، حتى ولو أذن له الولي؛ لأن ولايته ولاية نظر، وموافقته على ما فيه ضرر على الصبي معارض لغرض الولاية، وهو أمر منهي عنه. قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء 34].
القسم الثالث
واستثنى الحنفية من التبرع الإعارة، فصححوها، ومنعها الجمهور. القسم الثالث: هناك تصرفات قد اختلف فيها الفقهاء، هل تعتبر ضارة، فلا تصح، أو فيها منفعة راجحة، فتجوز، وهي كثيرة وليس هذا مجال بحثها؛ لأن في هذا خروجًا عن موضوع بحثنا (¬1). ¬
المسألة الثانية في بيع الصبي إذا كان مأذونا له
المسألة الثانية في بيع الصبي إذا كان مأذونًا له [م - 83] اختلف العلماء رحمهم الله في بيع الصبي المميز وشرائه إذا كان مأذونًا له في ذلك على قولين: القول الأول: يصح، وهو مذهب الحنفية (¬1)، ............ ¬
القول الثاني
والمالكية (¬1)، والحنابلة (¬2). القول الثاني: وقيل: لا يصح، ولو كان مأذونًا له وهو مذهب الشافعية (¬3)، ورواية عن الإِمام أحمد (¬4). القول الثالث: لا يصح إلا إذا اضطر إلى ذلك، كطعام يشتريه ليأكله، وثوب يستر به عورته إذا ضيعه أهل محلته، وهو رأي ابن حزم (¬5). ¬
دليل من قال: يصح عقده بإذن وليه.
وهذا القول يرجع إلى رأي الشافعية، لأن الاضطرار يبيح المحظورات. دليل من قال: يصح عقده بإذن وليه. الدليل الأول: الأصل في البيع الحل، قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، فأطلق الله الحل من غير فصل بين أن يتولاه بالغ أو صبي. الدليل الثاني: قال تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2]. وقال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. وجه الاستدلال:. في الآية الأولى أمر الله بدفع أموال اليتامى إليهم، فلولا أن تصرفه معتبر شرعًا لما كان للأمر بدفع الأموال فائدة؛ لأن دفع المال إليهم يمكنهم من التصرف فيه، وذلك إنما يكون عند الاختبار. وسماهم يتامى، واليتيم: اسم للصغير الذي لم يبلغ. وفي الآية الثانية: أمرنا بابتلائهم وهم أيتام، ومعنى الآية: اختبروهم لتعلموا رشدهم، وإنما يتحقق ذلك بتفويض التصرف إليهم في البيع والشراء، ومد الاختبار إلى البلوغ بلفظ {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6]، وهذا الاختبار إنما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء. واعترض على هذا الاستدلال:
الاعتراض الأول
الاعتراض الأول: قيل: إن تسميتهم يتامى في الموضعين إنما هو باعتبار ما كانوا متصفين به قبل البلوغ؛ إذ لا يُتْم بعد البلوغ إجماعًا، ونظيره قوله تعالى: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الشعراء: 46]، يعني: الذين كانوا سحرة؛ إذ لا سحر مع السجود لله (¬1). وأجيب عنه: بأن الله لما أمر باختبارهم مد هذا إلى غاية، وهي البلوغ، قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6]، فدل على أن الاختبار إنما هو قبل البلوغ. الاعتراض الثاني: لا يلزم من الأمر بالابتلاء أن يكون ذلك عن طريق البيع والشراء، فالمراد بالابتلاء اختبار عقله واستبراء حاله، هل له فهم وقدرة في معرفة المصالح والمفاسد، وهذا لا يلزم منه الإذن له بالتصرف، خاصة أن الآية أمرت باختبارهم في الوقت الذي أمرت بعدم دفع المال إليهم إلا بشرطين: البلوغ وإيناس الرشد: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. وإذا ثبت بموجب هذه الآية أنه لا يجوز دفع المال إليهم حال الصغر، وجب أن لا يجوز تصرفه حال الصغر. وعلى التنزل أنه يدفع إليه جزءًا من ماله ليظهر اختباره، فما المانع أن يفوض ¬
وأجيب
إليه السوم حتى إذا بقي الإيجاب ناب عنه وليه، وبهذا نجمع بين القيام بالاختبار، وامتثال الآية بعدم دفع المال إليه إلا بعد البلوغ، وإيناس الرشد (¬1). وأجيب: بأن الاختبار وإن لم يكن نصًا في الأمر بالبيع والشراء، إلا إن البيع والشراء داخلان في الاختبار، ولو كان البيع والشراء ليس داخلًا فيه لقال الله سبحانه وتعالى: وابتلوا اليتامى إلا في البيع والشراء، فثبت أن قوله {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6]، أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء (¬2). واختبار اليتيم بما يليق بحاله، فإن كانوا من أهل التجارة، فبأن يعطى من المال ما يتصرف فيه، وإن كان من له ضياع وأهل وخدم كان اختبارهم بأن يعطوا منه ما يصرفونه إلى نفقة عبيدهم وخدمهم وإجرائهم، وسائر مصارفهم حتى تتبين لكم كيفية أحوالهم، وتختبر المرأة في أمر بيتها، وحفظ متاعها، وغزلها، واستغزالها (¬3). الدليل الثالث: أن هذا البيع صدر من أهله بولاية شرعية فينفذ. أما كونه صدر من أهله، فلأن الأهلية في الأداء تعني أن يكون الصبي عاقلًا مميزًا، يعلم أن البيع سالب، والشراء جالب، ويعلم الغبن اليسير من الفاحش، وهذا متحقق في الصبي. أما كونه صدر بولاية شرعية؛ فلأنه صدر بإذن وليه، والولي له هذا ¬
الدليل الرابع
التصرف، فكذلك من أذن له، ألا ترى أن الطلاق والعتاق لما لم يملكه الولي لم يملك الإذن به (¬1). الدليل الرابع: (ح-35) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت، قال: حدثني ابن عمر بن أبي سلمة بمنى، عن أبيه، عن أم سلمة من حديث طويل في قصة وفاة أبي سلمة، وخطبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها، وفي آخره، فقالت أم سلمة: قم يا عمر، فزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
الدليل الخامس
ومتنه فيه نكاره، قال ابن عبد الهادي: "وفي هذا الحديث نظر؛ لأن عمر كان له من العمر يوم تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين، فكيف يقال له: زوج؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها في سنة أربع، ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولعمر تسع سنين ... ولو صح أن يكون الصغير قد زوجها فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفتقر نكاحه إلى ولي، قال أبو الوفاء ابن عقيل: ظاهر كلام أحمد أنه يجوز أن يتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير ولي؛ لأنه مقطوع بكفاءته" (¬1). الدليل الخامس: عمل الناس إلى اليوم، ما زالوا يرسلون صغارهم ليشتروا حاجات البيت، من المخبز والبقالة من غير نكير. دليل من قال: لا يصح بيعه وشراؤه. الدليل الأول: قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]. ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى نهى أن نؤتي السفيه أموالنا، ولم يخصص سفيهًا دون سفيه، فيعم كل سفيه، سواء كان صبيًا أم كبيرًا، ذكراً أم أنثى، ثم بين الله سبحانه وتعالى في الآية التي بعدها متى ندفع الأموال إليهم {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، ففهم من الآية أن أموالهم لا تدفع إليهم قبل تحقق الشرطين: البلوغ، والرشد، فمن دفع إليهم أموالهم قبل ذلك فقد خالف الآية. وقد سبق الجواب عن هذه الآية في أدلة القول الأول، فارجع إليه إن شئت. الدليل الثاني: قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282]. وجه الاستدلال: أن الله أمر ولي السفيه أن يباشر التصرف عنه، فلو كان تصرفه مباحًا لباشر التصرف بنفسه، وليس عن طريق وليه، والسفيه مطلق سواء كان مميزًا أم غير مميز لا فرق في الحكم، فمن قيد ذلك فعليه الدليل. ويجاب: بأن إذن الولي كاف في صحة مباشرته لبعض التصرفات، وقد قامت الأدلة السابقة في الدلالة على أن المميز له أن يباشر بعض التصرفات بنفسه بإذن وليه. الدليل الثالث: (ح-36) ما رواه أحمد من طريق همام، عن قتادة، عن الحسن البصري، عن
وأجيب
علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه أو قال: المجنون حتى يعقل، وعن الصغير حتى يشب (¬1). وفي رواية: وعن الصغير حتى يبلغ (¬2). [إسناده منقطع، ورجح الترمذي، والنسائي، والدارقطني وقفه، وقد سبق بحثه] (¬3). قال النووي: "وجه الدلالة منه أنه لو صح البيع لزم منه وجوب التسليم على الصبي -يعني تسليم المعقود عليه- وقد صرح الحديث بأن الصبي لا يجب عليه شيء، وقيل: وجه الدلالة منه أن مقتضى الحديث إسقاط أقواله وأفعاله" (¬4). وأجيب: بأن الحديث في رفع الإثم، ولذلك الحديث لا يمنع أن يتحمل الصغير قيمة ما يتلفه من الأموال، وهناك فرق بين خطاب الشرع، وبين خطاب الوضع، ووجوب التسليم إنما هو من خطاب الوضع لترتبه على استيفاء العقد أركانه وشروطه، والصبي أهل لخطاب الوضع. الدليل الرابع: العلة في الحجر على الصبي هو ضعف عقله، وإذن لولي: لا يرفع العلة. ¬
وأجيب
وأجيب: بأن العلة في الحجر على الصبي هو تردد عقله بين الضعف والقوة، وليست العلة ضعف العقل، فلا يحكم على شخص بضعف عقله لصغره، فكم من صغير مميز أقدر وأذكى من كبير بالغ، وإذن الولي ترجيح لجانب القوة على الضعف، ولهذا أمرنا باختباره لنرى هل يترجح لديه القوة أو الضعف (¬1). الدليل الخامس: العقل لا يمكن الوقوف منه على الحد الذي يصلح به التصرف؛ لخفائه، وتزايده تزايدًا خفي التدريج، فجعل الشارع له ضابًطا، وهو البلوغ، فلا يثبت له أحكام العقلاء قبل وجود المظنة (¬2). ويجاب: بأن معرفة ذلك ليست صعبة، فيمكن إدراك ذلك عن طريق التجربة، ومعرفة نتائج تصرفاته، كما يعلم ذلك في حق البالغ عند دفع المال إليه، فلا بد من تحقق وصف الرشد لديه قبل دفع ماله كله إليه. الراجح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها نجد أن القول بجواز تصرفات الصبي إذا أذن له الولي أقوى دليلاً، وعليه عمل الناس اليوم، والله أعلم. ¬
المسألة الثالثة في تصرف الصبي المميز من غير إذن وليه
المسألة الثالثة في تصرف الصبي المميز من غير إذن وليه قال السرخسي: الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء (¬1). [م - 84] إذا باع الصبي أو اشترى من غير أن يأذن له وليه بذلك، فهل يصح تصرفه مطلقًا، أو يبطل مطلقًا، أو يكون موقوفاً على إجازة الولي؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم: فقيل: يصح تصرفه، ويكون موقوفاً على إجازة الولي، وهو مذهب أبي حنيفة (¬2)، والمالكية (¬3). وقيل: لا يصح إلا أن يكون مبنيًّا على إذن سابق من الولي، وهو مذهب الحنابلة (¬4). وقد تقدم مذهب الشافعية في الفصل السابق، وأنهم يمنعون الصبي من التصرف مطلقًا، سواء كان مأذونًا له أم لا، وسواء كان مميزًا أم غير مميز، وسواء في بيع الاختبار وفي غيره (¬5). ¬
دليل الحنفية والمالكية على صحة تصرفه بشرط إجازة وليه.
دليل الحنفية والمالكية على صحة تصرفه بشرط إجازة وليه. الدليل الأول: الحجر على الصبي إنما هو لمصلحته خوفًا من ضياع ماله، فإذا تصرف تصرفًا بغير إذن وليه كان موقوفًا على إجازة من له النظر في ذلك، فإن رأى أن في هذا التصرف سدادًا وغبطة له كانت الإجازة من مصلحته، فلا ينبغي أن يكون الحجر سببًا في الإضرار به، وهو لم يعقد إلا لمصلحته. الدليل الثاني: القياس على تصرف الفضولي، فإذا كان الإنسان إذا تصرف في مال غيره كان مبنيًا على إجازة المالك، فكذلك هذا التصرف، غاية ما فيه أنه تعدى على حق الولي في عدم أخذ الإذن منه، وهو أخف من تصرف الفضولي فإن في تصرف الفضولي تعديًا على مال الغير بالتصرف فيه بدون إذن صاحبه، ومع ذلك كان موقوفًا على الإجازة على الصحيح كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فينبغي أن يكون هذا التصرف أولى بالإجازة، لأن المال مال الصبي، والحظ سيكون له، بخلاف تصرف الفضولي، وحق الولي في أخذ الإذن منه محفوظ في كون العقد سيبقى موقوفًا إلى حين نظر الولي في هذا التصرف، هل هو من مصلحة الصبي فينفذ، أو ليس من مصلحته فيرد. الدليل الثالث: إذا كنا نصحح تصرفه بالإذن ابتداء، فينبغي أن نصحح تصرفه بالإجازة انتهاء؛ لأن الإجازة إذن إلا أنها تأتي بعد تمام العقد، والعلة التي جعلنا نشترط إذن الولي هو حفظ مال الصغير، وهذا يتحقق في إجازة الولي بعد العقد.
تعليل الحنابلة بأن التصرف باطل.
تعليل الحنابلة بأن التصرف باطل. ذكر الحنابلة بأن الصبي إذا لم يؤذن له في التصرف كان محجورًا عليه، وتصرفات المحجور عليه باطله غير صحيحة قياسًا على السفيه (¬1). ويجاب: بأن الحجر تارة يكون لحظه، وتارة يكون لحظ غيره، فتصرفات المحجور عليه في ماله إن كان الحجر لحظ غيره كالمحجور عليه لفلس، فالحكم عليها بالبطلان ظاهر، ولكن إن كان الحجر عليه إنما هو لمصلحته، وكان في تصرفه غبطة وسداد، فكيف يلغى؟ أليس هذا إضرارًا بالصبي، وليس من قبيل المحافظة على ماله؟ الراجح: بعد استعراض أدلة الفريقين نجد أن القول بصحة تصرفه بعد إجازة وليه هو القول الصحيح. ¬
المبحث الثالث في تصرفات المجنون
المبحث الثالث في تصرفات المجنون [م - 85] ذهب عامة الفقهاء إلى أن بيع المجنون لا ينعقد (¬1). قال النووي: "وأما المجنون فلا يصح بيعه بالإجماع" (¬2). وقال ابن بزيزة المالكي: "لم يختلف العلماء أن بيع الصغير والمجنون باطل لعدم التمييز" (¬3). ولأن المجنون أقواله وأفعاله ملغاة، لا اعتداد بها شرعًا، فلا تصح بهما عبادة، ولا تجب بهما عقوبة، ولا ينعقد معهما بيع أو شراء. وإذا لم تصح عبادته التي هي محض نفع لا ضرر فيها، فلأن لا يصح بذله المال من باب أولى؛ لكونه قد يتضرر من هذا التصرف. ولأن العقل إذا فُقِد لم يصح منه قصدٌ (النية)، فكيف يقع منه الإيجاب والقبول، ولم يقع منه رضا، وهو شرط أساسي في صحة البيع (¬4). ¬
وقال الكساني في بدائع الصنائع: "وأما شرائط الانعقاد فأنواع، بعضها يرجع إلى العاقد، وبعضها يرجع إلى نفس العقد ... وأما الذي يرجع إلى العاقد فنوعان: أحدهما: أن يكون عاقلاً، فلا ينعقد بيع المجنون والصبي الذي لا يعقل؛ لأن أهلية المتصرف شرط انعقاد التصرف، والأهلية لا تثبت بدون العقل، فلا يثبت الانعقاد بدونه، فأما البلوغ فليس بشرط ... " (¬1). وقال ابن عرفة: "عقد المجنون حين جنونه ينظر له السلطان في الأصلح في إتمام أو فسخه، إن كان مع من يلزمه عقده" (¬2). ونقل هذا الكلام الحطاب في مواهب الجليل وأشار إلى أنهم أخذوا هذا الحكم من قوله "من جن في أيام الخيار نظر له السلطان" (¬3). ثم انتقد هذا المأخذ قائلا: "في استشهاد بمسألة المدونة نظر؛ لأن الجنون إنما طرأ بعد العقد". فتبين أن هناك فرقاً بين المقيس والمقيس عليه، فكيف يسوي بين بيع من جن في أيام الخيار، وقد عقد العقد في أهلية كاملة وبين من عقد العقد، وهو مجنون لا يعلم ما يقول، لا شك أن يبنهما فرقاً شاسعاً. ¬
المبحث الرابع في بيع المعتوه
المبحث الرابع في بيع المعتوه تعريف المعتوه (¬1): قيل في تعريفه: آفة توجب الاختلال بالعقل، بحيث يصير مختلط الكلام، فاسد التدبير، إلا أنه لا يضرب، ولا يشتم (¬2). [م - 86] وقد وقع خلاف في بيع المعتوه: فالحنفية لا يفرقون بين حكم الصبي المميز وبين المعتوه، فيصححون تصرفه بإذن وليه. جاء في مجلة الأحكام: "المعتوه في حكم الصغير المميز" (¬3). وذكر ابن نجيم في البحر الرائق أن المعتوه كالصبي العاقل (¬4). وقال أيضًا: "بيع المعتوه كبيع الصبي العاقل موقوف -يعني على إجازة الولي (¬5). ¬
وأما المالكية فتارة يعتبرونه كالمجنون، وتارة يعتبرونه ضعيف العقل. جاء في التاج والإكليل: "وقد تقدم قول مالك: يعيد من ائتم بمعتوه. قال ابن رشد: لأن المعتوه لا تصح منه نية، فوجب أن يعيد مأمومه أبداً" (¬1). وقال اللخمي: والمعتوه كالمجنون (¬2). وجاء في مواهب الجليل: "وقال ابن رشد: الأغلف هو الذي لم يختن، والمعتوه: الذاهب العقل" (¬3). وجاء فيه أيضًا: "ولا يجب -يعني الحج- على صبي، ولا مجنون، ولا معتوه. انتهى. قال في الشرح: إن كان مراده بالمعتوه المجنون، وهو الذي فسره به ابن رشد في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة، فقال: المعتوه: الذاهب العقل، لا يصح منه نية يعيد من ائتم به أبداً، فلا يصح عطفه عليه، وإن كان مراده به ضعيف العقل، كما هو الغالب في استعمالهم، فالظاهر أن الحج لا يسقط عنه" (¬4). وجاء في الشرح الصغير: "ولا تصح -يعني الإجارة- من مجنون ومعتوه ومكره" (¬5). وأما الحنابلة فلم يستخدموا هذا التعبير في كتبهم في البيع خاصة، واستخدموا بدلًا منه حكم بيع السفيه، وهو أعم من المعتوه، إلا أنهم في باب ¬
الطلاق فرقوا بين طلاق الصبي المميز، وبين طلاق المعتوه، فصححوا الأول دون الثاني، وهذا ذهاب منهم إلى أن الصبي المميز يدرك ما لا يدرك المعتوه (¬1). وقال ابن قدامة في تعريف المعتوه: "وهو زائل العقل بجنون مطبق" (¬2). وفي باب الحضانة ذكر ابن قدامة أن الغلام يخير بين أبويه، واستثنى المعتوه فإنه يبقى عند أمه، ولا يخير؛ لأنه بمنزلة الطفل وإن كان كبيرًا، وهذا أيضاً ذهاب منهم إلى أن العته أشد من الصبي المميز (¬3). فعلى هذا يمكن أن يقال: إن الحنابلة لا يصححون بيع المعتوه، والله أعلم، والمدار على التمييز، فإن كان مع العته تمييز صار بمنزلة الصبي المميز، وإن كان ليس معه تمييز كان بمنزلة الصبي غير المميز، لا يصح بيعه ولا شراؤه، والله أعلم. ¬
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد الثاني
(ح) دبيان بن محمَّد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمَّد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة / دبيان محمَّد الدبيان - الرياض، 1432 هـ 532 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجموعة) ج 2 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ. العنوان ديوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذا هو المجلد الثاني من عقد البيع، وقد درست في المجلد الأول ثلاثة أبواب: الباب الأول: وقد تناولت فيه دراسة المال وبيان أنواعه. والباب الثاني: وقد بحثت فيه حكم البيع وبيان أركانه. الباب الثالث: درست فيه صيغة التعاقد (أحكام الإيجاب والقبول). والباب الرابع: وقد تطرقت إلى الشروط المتعلقة بالعاقدين، إلا أن هذا الباب لم يستكمل في المجلد السابق، وسوف يستكمل إن شاء الله تعالى في هذا المجلد. وسيحوي هذا المجلد الثاني إن شاء الله تعالى بقية الباب الرابع، وبعض مباحث الباب الخامس، وستكون خريطة البحث على النحو التالي: المبحث الخامس: في بيع السكران: الفرع الأول: في بيان المقصود بالسكران. الفرع الثاني: خلاف العلماء في بيع السكران. المبحث السادس: في بيع السفيه. الفرع الأول: في تعريف السفيه. الفرع الثاني: في حكم بيع السفيه.
الشرط الثاني: أن يكون العاقد مختارًا. المبحث الأول: الفرق بين الرضا والاختيار. الفرع الأول: في بيع المكره. الفرع الثاني: في تعريف الإكراه. الفرع الثالث: في حكم بيع المكره. المسألة الأولى: في الإكراه بحق. المسألة الثانية: في الإكراه بغير حق. المسألة الثالثة: في الإكراه على سبب البيع. المبحث الثاني: في الغلط في العقد. الفرع الأول: الغلط في المعقود عليه. المسألة الأولى: الغلط في جنس المعقود عليه. المسألة الثانية: الغلط إذا كان في وصف مرغوب فيه. المسألة الثالثة: الغلط في الصيغة. المسألة الرابعة: الغلط بسبب الجهل بالحكم الشرعي. المبحث الثالث: يشترط في الرضا ألا يشوبه شيء من التدليس. المبحث الرابع: يشترط في الرضا سلامته من الغبن الفاحش. الفرع الأول: في تعريف الغبن وبيان حكمه. الفرع الثاني: خلاف العلماء في الغبن القادح في الرضا. الشرط الثالث: أن يكون العاقد مالكًا للمعقود عليه أو مأذونًا له فيه.
المبحث الأول: في حكم بيع الفضولي. الفرع الأول: في تعريف الفضولي. الفرع الثاني: في الحكم التكليفي لتصرف الفضولي. الفرع الثالث: خلاف الفقهاء في صحة بيع الفضولي. الفرع الرابع: شراء الفضولي لغيره. الباب الخامس: في أحكام المعقود عليه (المبيع والثمن). تمهيد ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في تعريف المبيع والثمن. المبحث الثاني: المبيع والثمن هل هما مترادفان أو متباينان. المبحث الثالث: انقسام المبيع والثمن إلى مثلي وقيمي. فرع: الأثر الققهي في تقسيم المال إلى مثلي وقيمي. الفصل الأول: في كيفية تعيين المبيع من الثمن. المبحث الأول: تعيين المبيع من الثمن في مبادلة سلعة بنقد. المبحث الثاني: تعيين المبيع من الثمن في مبادلة النقد بمثله. المبحث الثالث: تعيين المبيع من الثمن في مبادلة سلعة بمثلها. المبحث الرابع: هل تتعين النقود بالتعيين. الفصل الثاني: في شروط المعقود عليه (المبيع والثمن). الشرط الأول: في طهارة المعقود عليه. فرع: الصابون من الزيت النجس.
الشرط الثاني: اشتمال المعقود عليه على منفعة مباحة. المبحث الأول: في بيع المصحف وشرائه. الفرع الأول: في إبدال المصحف بمصحف آخر. الفرع الثاني: في بيع المصحف للكافر. الفرع الثالث: في رهن المصحف. المبحث الثاني: في بيع الهر. المبحث الثالث: في بيع الفيل. المبحث الرابع: في بيع القرد. المبحث الخامس: في بيع سباع البهائم والطير التي تصلح للصيد. المبحث السادس: في بيع الحشرات. المبحث السابع: في بيع لين الآدميات. المبحث الثامن: في بيع السم. المبحث التاسع: في بيع الطيور لصوتها أو للونها. الشرط الثالث: أن يكون المعقود عليه معلومًا للمتعاقدين. الشرط الرابع: أن يكون المعقود عليه مقدورًا على تسليمه. الشرط الخامس: أن يكون المعقود عليه مالاً. الشرط السادس: أن يكون المبيع مملوكًا في ذاته ولو لغير البائع. الشرط السابع: هل يشترط وجود المبيع حال العقد. الفصل الثالث: في شروط الثمن.
المبحث الأول: ما يشترط في المبيع يشترط في الثمن. المبحث الثاني: في الجهالة بالثمن. المبحث الثالث: إبهام الثمن على وجه التخيير. المبحث الرابع: في اشتراط القدرة على تسليم الثمن. الفصل الرابع: فيما يختص به المبيع من الأحكام. الحكم الأول: في شمول المبيع وما يدخل فيه عند الإطلاق. المبحث الأول: الضوابط التي تحكم ما يدخل في المبيع وما لا يدخل فيه. المبحث الثاني: ما يدخل في بيع الأرض. الفرع الأول: البناء والشجر. الفرع الثاني: في معادن الأرض. الفرع الثالث: الزرع الذي يحصد مرة واحدة. الفرع الرابع: الزرع الذي يجز مرة بعد أخرى. الفرع الخامس: في دخول البذر في بيع الأرض. الفرع السادس: في دخول ماء الأرض في بيع الأرض. الفرع السابع: في دخول الحجارة في بيع الأرض. المبحث الثالث: ما يدخل في بيع النخل والشجر. الفرع الأول: في ثمرة النخل والشجر. المسألة الأولى: لو لم يعلم بالتأبير أو لم يعلم في حكم الثمر المؤبر. المسألة الثانية: إذا اشترطت الثمرة على النخل.
المطلب الأول: أن يشترط المشتري الثمرة. المطلب الثاني: أن يشترط البائع الثمرة. الفرع الثاني: في ثمر النخل إذا بيع وقد أبر بعضه. الفرع الثالث: في تأبير بعض الثمرة في الشجرة الواحدة. الفرع الرابع: في اشتراط بعض الثمرة. الفرع الخامس: إذا كانت الثمرة للبائع فهل له أن يبقيها إلى الجذاذ. الفرع السادس: في فحل النخل. الفرع السابع: في سقي الشجر إذا كانت الأصول لرجل والثمار لآخر. مسألة: فيمن يتولى السقي. الفرع الثامن: في دخول الأرض تبعًا إذا باع النخل. المبحث الرابع: ما يدخل في بيع الدار. الفرع الأول: يدخل فيها ما يتناوله اسم الدار. الفرع الثاني: يدخل في اسم الدار ما كان من توابعها متصلاً بها. الفرع الثالث: في دخول المفاتبح في بيع الدار. الفرع الرابع: في دخول بستان الدار في بيع الدار. الفرع الخامس: ما دخل في بيع الأرض دخل في بيع الدار إن كان ذلك بداخلها. الفرع السادس: في دخول ظلة الدار. المسألة الأولى: في إخراج الظلة في هواء الطريق.
المسألة الثانية: في دخول ظلة الدار في بيع الدار. الفرع السابع: في دخول المرافق كالطريق والمسيل ونحوها. الفرع الثامن: في دخول حريم المبيع في بيعه. المبحث الخامس: ما يدخل في بيع القرية. الفرع الأول: في دخول ما تناوله اسم القرية. الفرع الثاني: في دخول مزارع القرية. الفرع الثالث: في دخول الأشجار في بيع القرية. الفرع الرابع: في دخول حريم القرية. المبحث السادس: ما يدخل في بيع الثمار. الفرع الأول: في دخول الثمار إذا كان ظهوره متلاحقًا. مسألة: إذا كانت الأصول لرجل والثمار لآخر ثم حدث نماء جديد. المبحث السابع: ما يدخل في بيع الحيوان. المبحث الثامن: ما يلحق في بيع المرابحة بأصل العقد. الحكم الثاني: في قبض المبيع. المبحث الأول: تعريف القبض. المبحث الثاني: علاقة القبض بعقد البيع. المبحث الثالث: في كيفية قبض المال. الفرع الأول: في كيفية قبض ما لا ينقل. المسألة الأولى: في قبض العقار.
المطلب الأول: في تعريف العقار. المطلب الثاني: في قبض العقار. المطلب الثالث: في شروط القبض بالتخلية. المسألة الثانية: في قبض الثمار على الشجر. الفرع الثاني: في كيفية قبض المال المنقول. المسألة الأولى: قبض ما فيه حق توفية. المسألة الثانية: القبض في بيع الأثمان بعضها ببعض. المسألة الثالثة: قبض المنقول مما ليس فيه حق توفية. المطلب الأول: في قبض الجزاف. المطلب الثاني: في قبض المشاع. القسم الأول: في قبض المشاع من غير الأسهم. القسم الثاني: في قبض المشاع من الأسهم والوحدات الاستثمارية. المطلب الثالث: القبض عن طريق القيد المصرفي. المطلب الرابع: استلام الشيك هل يقوم مقام القبض لمحتواه. المطلب الخامس: في قبض الشيكات السياحية. المطلب السادس: قبض الأوراق التجارية عدا الشيك؟ المطلب السابع: الشراء بالبطاقات الائتمانية فيما يشترط لصحة القبض. القسم الأول: شراء الذهب والفضة عن طريق بطاقات الائتمان. القسم الثاني: صرف العملات عن طريق بطاقات الائتمان.
المطلب الثامن: هل يقوم القبض السابق مقام القبض اللاحق. المطلب التاسع: حكم القبض السابق في تطارح الدينين صرفًا. هذا ما استوعبه المجلد الثاني من خطة البحث المتعلقة بعقد البيع، وتجد بقية خطة البحث في سائر المجلدات الباقية إن شاء الله تعالى. وسوف أذكر في كل مجلد ما يخصه منها.
المبحث الخامس: بيع السكران
المبحث الخامس: بيع السكران الفرع الأول في بيان المقصود بالسكران ما المقصود بالسكران؟ هل المقصود به، من ذهب عقله، فلم يعد يميز بين الأشياء؟ أو المقصود به، من تغير عقله، وإن لم يذهب بالكلية؟ اختلف العلماء في هذا على ثلاثة أقوال: القول الأول: المراد به من ذهب عقله جملة، وهو مذهب الحنفية. قال في البحر الرائق: "وهو -أي السكران- من لا يعرف الرجل من المرأة، ولا السماء من الأرض، فإن كان معه من العقل ما يقوم به التكليف فهو كالصاحي. والحاصل أن المعتمد في المذهب، أن السكران الذي تصح منه التصرفات من لا عقل له يميز به الرجل من المرأة ... والعجب ما صرح به في بعض العبارات من أنه معه من العقل ما يقوم به التكليف، ولا شك أن على هذا التقدير لا يتجه لأحد أن يقول لا تصح تصرفاته ... " (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: المراد من تغير عقله وإن لم يذهب بالكلية، وهي طريقة ابن رشد، وعليه أكثر المالكية. نقل الباجي عن القاضي أبي الوليد أنه قال: " ... والذي عندي في هذا: أن السكران المذكور لا يذهب عقله جملة، وإنما يتعين مع صحة قصده إلى ما يقصده ... وإنما تكلم الفقهاء على المعتاد من سكر الخمر؛ لأن سكر الخمر ليس بمنزلة الجنون الذي يذهب العقل جملة، وإنما يتغير العقل تغييرًا يجترئ به على معان لا يجترئ عليها صاحيًا كالسفيه، ولو علم أنه بلغ حد الإغماء لما اقتص منه، ولا لزمه طلاق ولا غيره كسائر من أغمي عليه ... " (¬1). إذا علم ذلك فالذي يظهر من كلامهم أن السكران الذي لا تمييز عنده كالمجنون اتفاقًا. وقد نص ابن رشد والباجي: أنه إن لم يعرف الأرض من السماء، ولا الرجل من المرأة فكالمجنون اتفاقًا. واستدلوا على هذا بأن الله سبحانه وتعالى خاطب السكران بقوله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]. فلو كان المقصود بالسكران من ذهب عقله بالكلية لكان بمعنى المجنون، وبالتالي لا يصح أن يوجه له أمر ونهي، فكيف ينهى عن قربان الصلاة، ولكن المقصود بالسكران هو الذي يفهم ما يأتي ويذر غير أن الشراب قد أثقل لسانه، وأجزاء جسمه، وأخدرها حتى عجز عن إقامة قراءته في صلاته وحدودها الواجبة عليه فيها من غير زوال عقله، فهو بما أمر به ونهي عنه عارف فهم، وعن ¬
القول الثالث
أداء بعضه عاجز بخدر جسمه من الشراب، وأما من صار إلى حد لا يعقل ما يأتي ويذر، فذلك منتقل من السكر إلى الخبل، ومعدود في المجانين، وليس ذلك الذي خوطب بقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 43]، لأن ذلك مجنون، وإنما خوطب به السكران، والسكران ما وصفنا صفته (¬1). وهذا رأي ابن قدامة من الحنابلة، فإنه قال: "السكران لا يزول عقله بالكلية، ولهذا يتقي المحذورات، ويفرح بما يسره، ويساء بما يضره، ويزول سكره عن قرب من الزمان، فأشبه الناعس، بخلاف النائم والمجنون" (¬2). ويشكل على هذا قول ابن قدامة قبل: "وحد السكر الذي يقع الخلاف في صاحبه، هو الذي يجعله يخلط في كلامه، ولا يعرف رداءه من رداء غيره، ونعله من نعل غيره، ونحو ذلك لأن الله تعالى قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، فجعل علامة زوال السكر علمه ما يقول، وروي عن عمر - رضي الله عنه -، أنه قال: استقرئوه القرآن، أو ألقوا رداءه في الأردية، فإن قرأ أم القرآن، أو عرف رداءه، وإلا فأقم عليه الحد، ولا يعتبر أن لا يعرف السماء من الأرض، ولا الذكر من الأنثى؛ لأن ذلك لا يخفى على المجنون، فعليه أولى" (¬3). القول الثالث: المقصود بالسكران مطلقا، سواء كان معه تمييز أم لا، وهذا اختيار اللخمي من المالكية (¬4). ¬
والذي أميل إليه أن الذي لا يتأثر بالسكر مطلقًا لكونه قد شرب قليلاً منه، أو لكونه قد اعتاد شربه حتى أصبح لا يؤثر في عقله، أنه لا فرق بينه وبين الصاحي؛ لأن الحكم يدور مع علته، فالعلة هي الخوف من تأثير السكر على العقل، فإذا انتفى التأثير انتفى الحكم. ولذلك قال تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، فجعل غاية النهي هي إدراك ما يقول. وأما من أثر فيه السكر ولو لم يذهب عقله بالكلية فإنه داخل في الخلاف، فإنه معروف أن من يشرب الخمرة فقد تدفعه إلى الإقدام على الصفقة من غير إدراك لعواقبها وإن كان لا يزال معه بقية من عقله، وقد تحول البخيل إلى كريم، والجبان إلى شجاع كما قال حسان: ونشربها فتتركنا ملوكًا ... وأسدًا ما ينهنهنا اللقاء وقال آخر: فإذا شربت فإنني رب الخورنق والسدير ... وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير وأما الاحتجاج بالآية في قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساءة 43]، وأن السكران لو كان عقله قد ذهب بالكلية لما صح أن يوجه له أمر ونهي، فكيف ينهى عن قربان الصلاة؟ فهذا استدلال ببعض الآية وترك لبعضها، فالآية تقول {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، وهو دليل على أن السكران لا يعلم ما يقول. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الآية نزلت في وقت كان شرب الخمر مأذونًا فيه، وهي تنهى شارب الخمر عن شرب الخمر في أوقات الصلوات لأن شربه الخمر سيكون سببًا في تركه للصلاة، فهو خطاب للمسلم قبل سكره، لهذا كان بعض الصحابة بعد نزول هذه الآية لا يشرب الخمر إلا بعد صلاة العشاء فلا يصبح إلا وقد ذهب عنه السكر.
الفرع الثاني خلاف العلماء في بيع السكران
الفرع الثاني خلاف العلماء في بيع السكران [م - 88] اختلف العلماء في بيع السكران، وفي سائر تصرفاته، ماذا يلزمه؟ على أربعة أقوال: القول الأول: يصح بيعه، وسائر تصرفاته. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة في المشهور (¬3)، واختيار ¬
القول الثاني
ابن نافع من المالكية (¬1). القول الثاني: لا يصح شيء من تصرفاته، وهو قول أبي يوسف، وأبي الحسن الكرخي، وأبي جعفر الطحاوي من الحنفية (¬2)، ومحمد بن عبد الحكم من المالكية (¬3)، وقول في مذهب الشافعية (¬4)، وقول في مذهب الحنابلة (¬5)، واختيار ابن حزم (¬6). القول الثالث: تلزمه الأفعال، ولا تلزمه الأقوال، فيقتل بمن قتل، ويحد في الزنا والسرقة، ولا يحد في القذف، ولا يلزمه طلاق، ولا عتق، وهو قول الليث. القول الرابع: تلزمه الجنايات، والعتق، والطلاق، والحدود، ولا يلزمه الإقرارات، والعقود، وهو مذهب مالك، وعامة أصحابه (¬7)، وبناء عليه لا يصح بيعه عند المالكية؛ لأنه من جملة العقود. والذي يعنينا في هذا الباب هو بيع السكران، وليس البحث في جناياته، ولا في طلاقه، فتصبح الأقوال في بيعه على قولين: ¬
القول الأول
القول الأول: يرى أن السكر لا يمنع من صحة البيع، ولو ذهب عقله بالكلية، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة. القول الثاني: يرى أن السكر مانع من صحة البيع، حتى ولو لم يذهب العقل بالكلية، وهذا مذهب المالكية. دليل من قال: لا ينعقد بيع السكران. الدليل الأول: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]. وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى لم يرتب على كلام السكران حكما حتى يكون عالمًا بما يقول، فدل على أنه لا عبرة بالعقود التي يعقدها السكران حال سكره. الدليل الثاني: (ح-37) ما رواه مسلم من طريق سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: جاء ماعز بن مالك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله طهرني، فقال: ويحك: ارجع فاستغفر الله، وتب إليه، حتى إذا كانت الرابعة، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فيم أطهرك؟ فقال: من الزنا، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: أشرب خمرًا؟ فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريح الخمر ... الحديث (¬1). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: لم يؤاخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا حتى علم أنه ليس بمجنون، ولم يشرب الخمرة، فدل على أن المجنون والسكران لا عبرة لأقوالهم. الدليل الثالث: (ح-38) ما رواه البخاري من طريق يحيى بن سعيد، عن محمد ابن إبراهيم، عن علقمة بن وقاص، عن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه (¬1). وجه الاستدلال: أن الحديث بين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الأعمال بالنية" أن العمل لا يقع إلا بالنية. وبين - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "ولكل امرئ ما نوى" أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه. وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود (¬2). فالحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر ... ؛ لأن غير العاقل المختار لا نية له فيما يقول أو يفعل، والسكران لا ينوي ما يفعل، ولا يعلم ما يقول بنص القرآن، ولذلك ترجم البخاري في صحيحه: (باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون وأمرهما ...) فجمع البخاري رحمه السكران مع المجنون ممن لا نية له (¬3). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (ح-39) ما رواه أبو داود من طريق سفيان، ثنا عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، أن رجلا من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف، فسقاهما قبل أن تحرم الخمر، فأمهم علي في المغرب، فقرأ قل يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] (¬1). وفي رواية الترمذي بين هذا التخليط بحيث قرأ: ونحن نعبد ما تعبدون (¬2). [مداره على عطاء بن السائب وفيه اختلاف في إسناده ومتنه] (¬3). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: لو كان السكران مؤاخذًا بما يقول للزم من ذلك كفر من قال مثل تلك المقالة، فلما لم يؤاخذ بما يستوجب الكفر لم يؤخذ بما دونه من الأقوال والأفعال، والله أعلم. الدليل الخامس: (ح- 40) روى الشيخان من حديث علي - رضي الله عنه - أن حمزة - رضي الله عنه - حين شرب الخمرة، واعتدى على ناقتي علي - رضي الله عنه - فجب أسنمتهما، وبقر خواصرهما، فشكاه علي إلى رسول الله - رضي الله عنه -، فذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حمزة، وتغيظ عليه، فقال: وهل أنتم إلا عبيد لآبائي، فعرف أنه ثمل ... الحديث اختصرته من حديث طويل (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول لم يؤاخذ حمزة في حال سكره، واعتبر كلامه لاغيًا، وكذلك يقاس عليه بقية أقواله. ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (ث- 3) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: نا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبان بن عثمان عن عثمان قال: كان لا يجيز طلاق السكران والمجنون، قال: وكان عمر ابن عبد العزيز يجيز طلاقه، ويوجع ظهره حتى حدثه أبان بذلك (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). دليل من قال يصح بيع السكران وشراؤه. الدليل الأول: قال تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]. وجه الاستدلال: أن خطاب الله للسكران دليل على التكليف، فلو كان بمنزلة المجنون لما صح أن يقال له: إذا سكرت فلا تقرب الصلاة. قال أحمد في السكران: "ليس بمرفوع عنه القلم، وقال: وكذا كان الشافعي يقول: وجدت السكران ليس بمرفوع عنه القلم" (¬3). ¬
وأجيب
وأجيب: بأن معنى الآية: لا تشربوا الخمر إذا دنى وقت الصلاة حتى لا تقربوها وأنتم سكارى، وقد ورد أنهم بعد نزول هذه الآية يشربون الخمرة بعد العشاء، فلا يصبحون إلا وقد زال عنهم السكر، وصاروا يعلمون ما يقولون، حتى نزل تحريمها في آية المائدة في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90، 91] (¬1). الدليل الثاني: قال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 229]. فلم يستثن السكران من غيره، فدل إطلاق الآية على وقوع طلاق السكران، وإذا اعتبر قوله في الطلاق اعتبر قوله في سائر العقود. الدليل الثالث: (ث-4) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: نا وكيع، عن جرير بن حازم، عن الزبير بن الخريت، عن أبي لبيد أن عمر أجاز طلاق السكران بشهادة النسوة (¬2). [إسناده منقطع] (¬3). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: قالوا: صححنا عقد السكران، وإن كان غير مكلف لأنه من قبيل ربط الأحكام بالأسباب الذي هو خطاب الوضع (¬1). ويجاب: لو صح هذا الكلام لصح عقد المجنون والنائم ونحوهما، فإذا لم يصح عقد المجنون لكونه غير مكلف، لم يصح عقد السكران للعلة نفسها، ولأن من شروط البيع أن يكون البائع قاصدًا للبيع مختارًا له راضيًا به، وهذا لا يتحقق وجوده مع السكر. الدليل الخامس: (ث- 5) ما رواه مالك، عن ثور بن زيد الديلي أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل فقال له علي بن أبي طالب ترى أن تجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى أو كما قال فجلد عمر في الخمر ثمانين (¬2). وجه الاستدلال: أن الصحابة جعلوه كالصاحي في الحد بالقذف، حيث قبلوا ما قاله علي - رضي الله عنه -، وفيهم عمر - صلى الله عليه وسلم -، فدل على أن أقواله وأفعاله معتبرة كسائر تصرفاته. ويجاب على هذا: بأن عمر - رضي الله عنه - أراد أن يزيد في عقوبة الخمر لردع من يشربها، فقال علي - رضي الله عنه - ¬
الدليل السادس
ما قال، وفي صحيح مسلم (استشار عمر الناس، فقال عبد الرحمن ابن عوف: أخف الحدود ثمانين، فأمر به عمر) (¬1). وقد يسكر الرجل ولا يهذي، وقد يهذي ولا يفتري، فلا يعاقب الشخص عقوبة القذف لمظنة أن يصدر منه ذلك، وإنما كلام عبد الرحمن بن عوف ألحقه بأخف الحدود، وهو ثمانون جلدة، والله أعلم. الدليل السادس: أنه أزال عقله بنفسه بما هو معصية لله، فتؤخذ عليه تصرفاته عقوبة، وزجرًا له عن ارتكاب المعاصي. ويجاب عنه: بأن يقال: نعم قد عصى الله في شربه للخمر، وله على ذلك عقوبة مقدرة في الدنيا، على خلاف هل هي حد أو تعزير، وهو في الآخرة إن لم يتب تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عاقبه، وليس ذلك بموجب إلزامه حكمًا زائدا لم يلزمه الله تعالى إياه (¬2). الراجح: القول بأن أقوال السكران لغو، وأنه لا يصح منه بيع ولا شراء، ولا عتق، ولا طلاق ولا غيرها هو الأقرب للصواب، والموافق لقواعد الشرع. ¬
المبحث السادس في بيع السفيه
المبحث السادس في بيع السفيه الفرع الأول في تعريف السفه تعريف السفه (¬1): السفه في الاصطلاح: السفه ضد الرشد، قال الحنفية في تعريفه: خفة تبعث الإنسان على العمل في ماله بخلاف مقتضى العقل (¬2). وقال الباجي المالكي: "وأما السفيه فهو الذي لا معرفة له بحفظ ماله، ووجه إصلاحه ... " (¬3). ¬
القول الأول
[م - 89] فالسفه في الاصطلاح اختلف الفقهاء في تفسيره على قولين: القول الأول: أنه إساءة التصرف في المال، ولا أثر للفسق والعدالة فيه. ويقابله الرشد، وهو إصلاح المال وتنميته، وعدم تبذيره. وهذا تعريف الجمهور من الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وقول مرجوح عند الشافعية (¬1). القول الثاني: وهو الراجح عند الشافعية (¬2)، وقول للإمام أحمد: أن السفيه: هو الفساد في الدين والمال معًا. فالفساد في المال يكون بالتبذير والإسراف فيه. والفساد في الدين: أن يكون ساقط العدالة، وذلك يكون بترك الواجبات، وارتكاب المحرمات، والإصرار عليها. ¬
واحتج الشافعي بقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقر ة: 130]. وقال تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13]. وقال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة: 142]. وكل هذه الآيات هي في سفيه الدين. وقول الجمهور أقوى، وليس الخلاف هل يطلق على الفاسق اسم السفيه أو لا، وإنما الخلاف في السفه في المال، هل يشمل السفه في الدين، فالجمهور على أنه إذا كان الرجل لا يخدع في ماله، وكان حافظاً له، فليس بسفيه، وإن كان فاسقًا. وقولنا: ليس بسفيه يعني في ماله، وإن كان سفيهًا في دينه. وقد سبق لنا أن الصحيح في الرشد أنه يختلف من مقام لآخر. فالرشد في ولي النكاح مثلاً: معرفته بالكفء، ومصالح النكاح، وليس له علاقة بحفظ المال. والرشد في المال: هو حفظه وإصلاحه، ولا يدخل فيه الرشد في الدين، ولو كان صلاح الدين شرطًا في الرشد لوجب الحجر على المنافقين والمبتدعة، بل يجب الحجر على كل من اغتاب مسلما ولم يتب من هذه المعصية وذلك لارتكابه كبيرة من كبائر الذنوب، ويجب الحجر على كل من كذب في بيعه، أو غش فيه.
الفرع الثاني في حكم بيع السفيه
الفرع الثاني في حكم بيع السفيه إذا بلغ الصبي، فإما أن يكون قد بلغ رشيدًا فيدفع إليه ماله بالاتفاق (¬1)، وإما أن يكون السفه قد استمر معه بعد البلوغ فيمنع عنه ماله باتفاق العلماء. [م - 90] فإن تصرف في ماله في هذه الحالة، فاختلف العلماء في حكم تصرفه على قولين: القول الأول: يرى أبو حنيفة أن تصرفه نافذ، لأنه لا يرى الحجر على الحر البالغ العاقل، وإن كان سفيهًا. فإن قيل: كيف يجوز تصرفه فيه، وهو ممنوع من قبضه؟ قيل: إن مثل ذلك لا يمنع، ألا ترى أن المبيع في يد البائع يمنع المشتري من قبضه قبل تسليم الثمن، ولو أعتقه جاز (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب المالكية والحنابلة إلى أن تصرفه لا يصح إلا بإذن وليه كالصبي المميز (¬1). القول الثالث: ذهب الشافعية أن تصرفه باطل مطلقاً أذن له وليه، أو لم يأذن له (¬2). [م - 91] وإذا بلغ سفيهًا ومنعنا عنه ماله، فمتى يدفع إليه ماله؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: ¬
القول الأول
القول الأول: يدفع إليه ماله إذا بلغ خمسًا وعشرين سنة، حتى لو استمر معه السفه، وهو مذهب أبي حنيفة. القول الثاني: لا يدفع إليه ماله، ولو بلغ مائة سنة حتى يؤنس منه الرشد، وهذا مذهب الجمهور. [م - 92] وأما إذا بلغ الصبي رشيدًا ثم طرأ عليه السفه: فيرى أبو حنيفة إلى أنه لا يجوز الحجر عليه مطلقًا، فلا يمنع عنه ماله. ويرى الجمهور إلى أنه يعود إليه الحجر (¬1). أدلة أبي حنيفة على التفريق بين اتصال السفه بالبلوغ، وبين أن يبلغ رشيدًا، ثم يطرأ عليه السفه: الدليل الأول: أما الدليل على منع المال منه عند البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، فإذا لم يوجد منه رشد بعد البلوغ لم يدفع المال إليه، لبقاء أثر الصبا عليه، وبقاء أثره كبقاء عينه. وهذا الكلام جيد إلا أن أبا حنيفة يرى أنه لا يدفع له المال في الوقت الذي يصحح له تصرفه فيه، وأي فائدة في ذلك إذ كنا نمنع عنه المال، ونطلق له التصرف فيه، وإنما لم ندفع له المال من أجل حفظه وصيانته عن التبذير، فإذا أطلق له التصرف انتفت الحكمة من منعه ماله. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: استدل أبو حنيفة - رحمه الله - على أنه إذا كبر لم يحجر عليه مطلقًا سواء كان سفيهًا أو غير سفيه، ومثله إذا طرأ عليه السفه بعد إيناس الرشد بقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6]، معناه مخافة أن يكبروا، فيلزمكم دفع المال إليهم، ودفع المال إليهم هنا مطلق غير معلق بشرط الرشد. ويجاب عن استدلاله: بأن يقال: الأصل في الكبير أن يكون راشدًا، وأن تكون أهليته مكتملة، فالآية سيقت بناء على الأصل، فالسفه عارض، وهو حالة مرضية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم تسق الآية في معرض بيان متى يدفع المال لليتيم، وإنما كانت الآية متوجهة إلى تناول الأولياء لمال اليتيم، فنهاهم سبحانه عن أكل مال اليتيم في حالتين: في حالة الإسراف، وفي حالة تقصد مبادرة الأخذ، استغلالاً لوقت الولاية، مخافة أن يصل اليتيم إلى سن الرشد الذي يجب أن يستلم فيه ماله. الدليل الثالث: (ح- 41) ما رواه البخاري من طريق عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، أن رجلاً ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يخدع في البيوع، فقال: إذا بايعت فقل: لا خلابة (¬1). الدليل الرابع: (ح-42) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب، أخبرنا سعيد، عن قتادة ¬
وأجيب عن هذا الحديث بأجوبة منها
عن أنس: أن رجلاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبتاع, وكان في عقدته -يعني عقله- ضعف, فأتى أهله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا نبي الله احجر على فلان؛ فإنه يبتاع، وفي عقدته ضعف، فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنهاه عن البيع، فقال: يا نبي الله إني لا أصبر عن البيع، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إن كنت غير تارك البيع، فقل هاء وهاء, ولا خلابة (¬1). [صحيح] (¬2). فلم يحجر عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ماله، وأباح له التصرف فيه, ولو كان الحجر واجبًا لما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - يبيع، وهو مستحق المنع منه. وأجيب عن هذا الحديث بأجوبة منها: الجواب الأول: بأن هذه قضية عين لا عموم لها، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليهم طلب الحجر، ولكن خصه بهذا الحكم بعد أن قال: لا أصبر عن البيع، فلا يقاس عليه غيره (¬3). ¬
ويجاب
ويجاب: بأنه لا يوجد أحد يخص عينه بحكم من الأحكام، وإنما الاختصاص بالوصف، فقد يقال: إن الحجر ليس بواجب؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقرهم على طلبهم الحجر، ولم يجعله لازمًا، وعالج الأمر باشتراط عدم الخديعة. الجواب الثاني: أن الغبن ربما كان يسيرًا, ولذلك لم يحجر عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال الخطابي: "وهذا الحديث إنما جاء في قصة حبان بن منقذ، ولم يذكر صفة سفهٍ، ولا إتلافًا لماله، وإنما جاء أنه كان يخدع في البيع، وليس كل من غبن في شيء يجب أن يحجر عليه، وللحجر حد، فإذا لم يبلغ ذلك الحد لم يستحق الحجر" (¬1). ويجاب عن ذلك: بأن الغبن اليسير لا يكاد ينفك عنه أحد، ولو حكمنا برد البيع لوجود الغبن اليسير ما نفذ بيع أبدًا، وإنما يرد البيع بوجود الغبن الفاحش (¬2)، وقد ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - الاستفصال هل كان الغبن يسيرًا أو فاحشًا؟ وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال. الجواب الثالث: ربما أذن له الرسول - صلى الله عليه وسلم - في البيع؛ لأنه لم يكن محجورًا عليه، فيكون سفيهًا مهملاً، والمنع إنما يكون على السفيه المحجور عليه. ويجاب: بأن أهله قد طلبوا الحجر عليه من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك لم يحجر عليه، ¬
الجواب الرابع
وأذن له بالتصرف، وأرشده إلى الاشتراط، مع أن أسباب الحجر قائمة، وهي ضعف العقل، مع كون هذا الضعف مؤثرًا في كونه يخدع في البيع. الجواب الرابع: وقيل من الأجوبة: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يرض له البيع إلا باشتراط عدم الغبن، فإذا انتفى الغبن بالشرط لم يكن للحجر معنى. ونوقش هذا: قال الجصاص: ليرض القائلون بالحجر منا على ما رضيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا السفيه الذي كان يخدع في البيع، وليس أحد من الفقهاء يشترط ذلك على السفهاء، لا من القائلين بالحجر، ولا من نفاته؛ لأن من يرى الحجر يقول: يحجر عليه الحاكم، ويمنعه من التصرف، ولا يرون إطلاق التصرف له مع التقدمة إليه بأن يقول عند البيع: لا خلابة. ومبطلو الحجر يجيزون تصرفه على سائر الأحوال (¬1). وقد يقال: ليس كل محجور عليه مولعًا بالبيع، لا يستطيع أن يمنع نفسه منه، فالأصل في الحجر أنه يمنع المحجور من التصرف، لكن لو كان المحجور بمثل حبان بن منقذ، لا يستطيع أن يمنع نفسه من البيع، وقول الصحابي: أنه لا يستطيع دليل على غلبة هذا الأمر على نفسه، وأن في منعه من ذلك أذى لا يمكن أن يتحمله، فإنه يمكن أن يعالج هذا بهذا العلاج النبوي، وهو اشتراط عدم الخديعة، والله أعلم. الدليل الخامس لأبي حنيفة: يمكن أن يستدل لأبي حنيفة: بأن السفيه البالغ أهليته كاملة فيما يتعلق بحقوق ¬
الدليل السادس
الله تعالى، فلا يسقط عنه صلاة، ولا صيام، ولا زكاة، ولا حج، وذمته صالحة لأن تكون مشغولة بالتكاليف، مع أن حق الله مبني على المسامحة. قال القرافي في الذخيرة: "السفيه البالغ يلزمه جميع حقوق الله تعالى التي أوجبها على عباده في بدنه وماله ... " (¬1)، فإذا وجب عليه حقوق الله تعالى فالتصرف في ماله أخف، أرأيت الصبي الذي لم يبلغ لا يجب عليه شيء من حقوق الله، وإذا تصرف بإذن وليه جاز، فلما كان السفيه مكلفًا في حقوق الله دل على أن أهليته كاملة لأن يتصرف في ماله بيعًا وشراء ونحوهما. الدليل السادس: بأن الحجر على الحر البالغ العاقل إهدار لآدميته، وإلحاق له بالبهائم، وهو أشد ضررًا من التبذير، أو من الضرر اللاحق بالغرماء، ولا يجوز تحمل الضرر الأعلى لدفع الضرر الأدنى (¬2). ويجاب: بأن الحجر عليه مراعاة لمصلحته، فإنه لو ترك له التصرف أهلك ماله، فدفعه إلى الحاجة، فإذا حفظ ماله، وأنفق عليه منه على قدر حاجته لم يحتج لأحد، واستغنى عن الناس بماله. دليل أبي حنيفة على دفع المال إليه إذا بلغ خمسًا وعشرين سنة ولو كان سفيهًا: أن الحجر عليه إن كان من قبيل التعزيز على تبذيره المال، فإنه إذا بلغ خمسًا ¬
دليل الجمهور على الحجر على السفية مطلقا، اتصل بالبلوغ أو طرأ بعده
وعشرين سنة فقد انقطع رجاء التأديب؛ لأنه يتوهم أن يصير جَدًا في هذه المدة (¬1). وإن كان المنع مراعاة لمصلحته، فإن الإنسان في أول أحوال البلوغ قد لا يفارقه السفه لقربه بزمان الصبا، وبعد تطاول الزمان به لا بد من أن يستفيد رشدًا ما، بطريق التجربة والامتحان؛ إذ التجارب لقاح العقول، والشرط قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6]، وكلمة: (رشد) نكرة في سياق الشرط، فتعم أي رشد، ويتحقق بأدنى ما ينطلق عليه الاسم كما في سائر الشروط المنكرة فسقط المنع أي منع المال بوجود هذا النوع من الرشد (¬2). دليل الجمهور على الحجر على السفية مطلقًا، اتصل بالبلوغ أو طرأ بعده الدليل الأول: استدل الجمهور بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، فدفع المال للصبي موقوف على تحقق شرطين: الأول: البلوغ، فلا يدفع إليه ماله قبله. الثاني: إيناس الرشد منه. (ث- 6) وقد روى مسلم في صحيحه من طريق جعفر بن محمَّد، عن أبيه "عن يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله, عن خمس خلال، وفيه: وكتبت تسألني متى ينقضي يتم اليتيم، فلعمري إن الرجل لتنبت لحيته، وإنه ¬
الدليل الثاني
لضعيف الأخذ لنفسه، ضعيف العطاء منها، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس، فقد ذهب عنه اليتم ... " (¬1). الدليل الثاني: قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]. فنهينا أن نعطي السفيه المال، وهو مطلق يشمل السفه المتصل بالبلوغ، والسفه الذي عاد إليه بعد أن كان رشيدًا. الدليل الثالث: قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282]. وجه الاستدلال: قال الشافعي: أثبت الولاية على السفيه والضعيف والذي لا يستطيع أن يمل هو، وأمر وليه بالإملاء عليه؛ لأنه أقامه فيما لا غناء به عنه من ماله مقامه (¬2). ونوقش هذا الاستدلال: بأن شيخ المفسرين الطبري - رحمه الله - قد رجح أن السفيه هنا هو الجاهل، وبين في تفسيره أن السفه في لغة العرب يأتي بمعنى الجهل، واستدل على ذلك، بأن الله - سبحانه وتعالى - ابتدأ الآية بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الآية [البقرة: 282]. والصبي والسفيه لا يجوز مداينته، وقد استثنى الله ثلاثة أشياء من الإملال، وهم السفيه والضعيف والذي لا يستطيع أن يمل هو، وهؤلاء الثلاثة أشخاص ¬
الدليل الرابع
مختلفون وليسوا صنفًا واحدًا، وكلهم تجوز مداينتهم، ولكنهم لا يستطيعون توثيق هذا الدين بالكتابة، فصار السفيه: هو الجاهل بالإملال، فوضع عنه فرض الإملال بجهله موضع صواب ذلك من خطئه. والموصوف بالضعف: هو العاجز عن إملاله، إما لعي لسانه أو خرس به، وإن كان شديدًا رشيدًا. وأن الموصوف بأنه لا يستطيع أن يمل هو: الممنوع عن إملاله إما لغيابه أو لحبسه ونحوهما. والولي هنا ليس ولي السفيه ومن ذكر معه، وإنما المقصود ولي الحق. قال الطبري: ولا وجه لقول من زعم أن السفيه في هذا الموضع: هو الصغير, وأن الضعيف: هو الأكبر الأحمق؛ لأن ذلك إن كان كما قال: يوجب أن يكون قوله أو لا يستطيع أن يمل هو: هو العاجز من الرجال العقلاء الجائزي الأمر في أموالهم وأنفسهم عن الإملال، إما لعلة بلسانه من خرس أو غيره من العلل وإما لغيبته عن موضع الكتاب، وإذا كان ذلك كذلك بطل معنى قوله: فليملل وليه بالعدل؛ لأن العاقل الرشيد لا يولى عليه في ماله، وإن كان أخرس أو غائبًا, ولا يجوز حكم أحد في ماله إلا بأمره (¬1). الدليل الرابع: (ث-7) ما رواه الدارقطني، قال: أخبرنا محمَّد بن أحمد بن الحسن الصواف، أخبرنا حامد بن شعيب نا سريج بن يونس، أخبرنا يعقوب ابن إبراهيم -هو أبو يوسف القاضي- نا هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر أتى الزبير، فقال: إني اشتريت بيع كذا وكذا، وأن عليا يريد أن يأتي أمير المؤمنين ¬
فيسأله أن يحجر على فيه، فقال الزبير: فأنا شريكك في البيع، فأتى على عثمان فقال: إن ابن جعفر اشترى بيع كذا وكذا، فأحجر عليه فقال الزبير: فأنا شريكه في البيع، فقال عثمان: كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير (¬1). [أعله أحمد بتفرد أبي يوسف فيه] (¬2). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قال الشافعي: "علي - رضي الله عنه - لا يطلب الحجر إلا وهو يراه، والزبير لو كان الحجر باطلاً قال: لا يحجر على حر بالغ، وكذلك عثمان بل كلهم يعرف الحجر" (¬1). الدليل الخامس: (ث-8) ما رواه البخاري من طريق شعيب، عن الزهري، قال: حدثني عوف ابن مالك بن الطفيل، هو ابن الحارث، وهو ابن أخي عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمها أن عائشة حدثت أن عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: والله لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها ... الحديث وفيه قصة (¬2). ففيه أن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - يرى الحجر على الكبير ولو لم يكن متصلاً بالبلوغ. الراجح: بعد استعراض أقوال العلماء أجد أن قول الجمهور هو القول الصواب المتمشي مع القواعد، وأن الحجر ينبغي أن يدور مع علته، فإذا وجد ما يقتضي الحجر من تبذير للمال وجب الحجر عليه، سواء كان السفه متصلاً بالبلوغ، أو طرأ عليه بعد أن كان رشيدًا، فإذا زال عنه السفه، وكان بالغًا وجب دفع المال إليه، وأن بيع السفيه وشراءه موقوف على إذن وليه، والله أعلم. ... ¬
الشرط الثاني أن يكون العاقد مختارا
الشرط الثاني أن يكون العاقد مختارًا المبحث الأول الفرق بين الرضا والاختيار [م - 93] يشترط في كل من العاقدين أن يكون مختارًا للعقد، اختيارًا يدل على الرضا المنافي للإكراه. وإنما قلت: (اختيارًا يدل على الرضا المنافي للإكراه) لأنه قد جرى خلاف بين الحنفية والجمهور في التفريق بين الرضا والاختيار كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. والدليل على اشتراط الرضا (الاختيار) في العقود. من القرآن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. فقوله: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} بصفة لتجارة، أي تجارة صادرة عن تراض بالعقد (¬1). (ح-43) ومن السنة ما رواه ابن ماجه، قال: ثنا مروان بن محمَّد، ثنا عبد العزيز ابن محمَّد، عن داود بن صالح المدني، عن أبيه، قال: سمعت أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما البيع عن تراض (¬2). ¬
[إسناده حسن] (¬1). ¬
وإذا كان الرضا شرطًا في صحة العقد، فلا بد أن يكون الرضا خاليًا من كل ما ينافيه، كالإكراه، والغلط، والتدليس، والغبن. كالإكراه، بحيث لو خلي المكره وسبيله لم يرض بالعقد. والغلط بحيث لو علم من وقع في الغلط ما أقدم على التعاقد. والتدليس على المتعاقد بحيث لو تكشفت الحقيقة للمتعاقد المدلس عليه (المخدوع) ما أقدم على التعاقد. أو وقع في غبن فاحش، فهذه العيوب كلها تنافي الرضا، وقد سماها بعض القانونيين عيوب الإرادة، وبعضهم يسميها العيوب التي تلحق الرضا، وسوف نعرض لها بالتفصيل إن شاء الله في الفصول التالية. ¬
المبحث الثاني في بيع المكره
المبحث الثاني في بيع المكره الفرع الأول في تعريف الإكراه تعريف الإكراه (¬1): الإكراه في الاصطلاح: عرفه الحنفية بقولهم: "حمل الغير على فعل بما يعدم رضاه به، لا اختياره" (¬2). فقوله (بما يعدم رضاه به لا اختياره) هذا بناء على تفريق الحنفية بين الرضا والاختيار، وأن الإكراه غير الملجئ ينافي الرضا, ولا ينافي الاختيار؛ لأن الإنسان قد يختار الشيء وهو مكره عليه لدفع ما هو أسوأ منه، وهذه المسألة فيها خلاف بين الحنفية والجمهور، وسوف نكشف عنه فيما يأتي من الكلام إن شاء الله تعالى. ¬
تعريف الجمهور للإكراه
تعريف الجمهور للإكراه: تعريف الإكراه عند المالكية: قال في التاج والإكليل: "حد الإكراه: ما فعل بالإنسان مما يضره أو يؤلمه من ضرب وغيره" (¬1). فالضرب المؤلم يعتبر إكراهًا، بل يعتبر الصفع لذي المروءة من الإكراه. تعريف الشافعية: قال الشافعي: الإكراه: أن يصير الرجل في يدي من لا يقدر على الامتناع منه من سلطان، أو لص، أو متغلب على واحد من هؤلاء، ويكون المكره يخاف خوفًا عليه دلالة أنه إن امتنع من قول ما أمر به يبلغ به الضرب المؤلم، أو أكثر منه، أو إتلاف نفسه (¬2). تعريف الإكراه عند الحنابلة: أن يكره إنسان غيره على فعل شيء، أو تركه، عن طريق التهديد بالضرب، أو منع الطعام، أو الشراب مع اضطرار إليه، أو منع الدفء في الشتاء ولياليه الباردة (¬3). إذا عرفنا ذلك، عرفنا أن الحنفية يختلفون مع الجمهور في تعريف الإكراه في مسألتين: المسألة الأولى: ينفرد الحنفية بتقسيم الإكراه إلى نوعين: ¬
(أ) إكراه ملجئ، وهو الإكراه الكامل: وهو أن يكرهه بما يخاف على نفسه، أو على تلف عضو من أعضائه. وهذا الإكراه ينافي الرضا، كما ينافي الاختيار، وبالتالي لا ينعقد البيع؛ لأن الاختيار الذي هو شرط لانعقاد البيع لم يوجد، فضلاً أن يوجد الرضا الذي هو شرط الصحة. (ب) إكراه غير ملجئ، وهو الإكراه القاصر، وهو أن يكرهه بما لا يخاف على نفسه، ولا على تلف عضو من أعضائه، كالإكراه بالضرب الشديد، أو القيد، أو الحبس، فإنه يعدم الرضا, ولا يفسد الاختيار (¬1). وبالتالي ينعقد البيع فاسدًا, وليس باطلاً. بينما الجمهور لم يقسموا الإكراه إلى ملجئ وغير ملجئ ولكنهم تكلموا بما يتحقق به الإكراه، وما لا يتحقق. فما سماه الحنفية إكراهًا ملجئًا هو إكراه عندهم بالاتفاق. وما سماه الحنفية إكراهًا غير ملجئ، مختلفون في تَحَقِّق الإكراه فيه على قولين، قيل: يعتبر إكراهًا، وقيل لا يعتبر إكراها، وهما قولان في مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬
المسألة الثانية: التفريق بين الرضا والاختيار.
المسألة الثانية: التفريق بين الرضا والاختيار. فالحنفية يفرقون بين الرضا والاختيار. فالاختيار: القصد إلى الشيء وإرادته. والرضا: إيثاره واستحسانه. فالمكره على الشيء يختاره، ولا يرضاه، ومن هنا قالوا: المعاصي والقبائح بإرادة الله تعالى، لا برضاه؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - لا يرضى لعباده الكفر (¬1). فإذا وجد الرضا وجد الاختيار، فقد يجتمعان، وقد ينتفيان، وقد يوجد أحدهما ولا يوجد الآخر. فإذا اختار العاقد العقد من غير إكراه، وكان مكلفًا راشدًا غير محجور عليه فإنه في هذه الحالة يتحقق اجتماع الرضا والاختيار في حق العاقد. وقد ينعدم الاختيار والرضا، كما لو كان البائع مجنونًا، أو صبيًا دون التمييز، ففي هذه الحالة ينتفي في العقد الرضا والاختيار. وقد يوجد الاختيار ولا يوجد الرضا عند الحنفية، كما لو كان البائع مكرهًا إكراهًا غير ملجئ، فالمكره مختار لما فعله، قاصد إياه؛ فهو قد اختار أهون الشرين عليه، إلا أنه قصده لا عن رضا به، بل لدفع الشر عن نفسه (¬2). ¬
وعمدتهم في التفريق بين الاختيار والرضا بأن معانيهما اللغوية تدل على وجود فرق بينهما: فالاختيار: هو ترجيح شيء على آخر (¬1). والرضا: هو الرغبة بالفعل والارتياح إليه، والانشراح النفسي به (¬2)، ولا تلازم بينهما، فقد يختار المرء أمرًا لا يرضاه، ولا يحبه، ولكنه لا يرضى شيئًا إلا وهو يحبه، قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216]. ذهب الجمهور إلى أن الرضا والاختيار لفظان مترادفان في الاصطلاح، فإذا قلنا: أن يكون العاقد مختارًا، بمنزلة أن أقول: أن يكون العاقد راضيًا بالعقد، وأن الاختيار لا يجتمع مع الإكراه. فمن أكره على فعل شيء لم يكن مختارًا البتة. قال السيوطي: "فالمراد بالاختيار قصده ذلك الفعل وميله ورضاه، وأنه لم يفعله على وجه الإكراه" (¬3). ¬
جاء في المطلع في تعريف المختار، قال: "وهو غير المكره، وهو اسم فاعل من اختار، ويقع على المفعول أيضًا، فيقال: اخترت الشيء فهو مختار" (¬1). وقال ابن القيم: "المكره محمول على ما أكره عليه، غير مختار له ... " (¬2). والسؤال، ما هي ثمرة الخلاف؟ [م - 94] يتضح الخلاف بين الحنفية والجمهور في بيع المكره، فالإكراه إذا كان غير ملجئ كالضرب المحتمل، والقيد ونحوهما، فإن البيع ينعقد فاسدًا عند الحنفية، وليس باطلاً. ولماذا قالوا بانعقاد البيع؟ لأن الاختيار عندهم شرط لانعقاد البيع، وقد وجد. ولماذا كان العقد فاسدًا؟ لأن الرضا الذي هو شرط للصحة لم يوجد مع وجود الإكراه. ويفرق الحنفية بين الفساد والبطلان: فالباطل: هو البيع الذي في ركنه خلل، كبيع المجنون، وبيع الميتة، وغير المميز. والفاسد: ما كان مشروعًا بأصله دون وصفه (¬3)، كما لو باع شيئًا بثمن مؤجل ¬
إلى مدة غير معلومة، أو كان البيع في حال الإكراه (¬1). وحكم البيع الباطل أنه لا يفيد الملك، ويجب فسخه مطلقًا, ولا ينقلب إلى عقد صحيح (¬2). لأن الشارع لم يأذن به، فوجوده كعدمه. وأما البيع الفاسد ينفذ بمجرد زوال صفة الفساد، ولا ينتج أثرًا قبل القبض، وإذا تم القبض بإذن البائع، فإنه يفيد الملك، ويضمن بالقيمة لا بالمسمى (¬3). وقد تكلمنا عن هذا بشيء من التفصيل في الكلام على تقسيم العقود باعتبار الوصف الشرعي، فأغنى عن إعادته هنا. بينما الجمهور يرون أن المكره عقده باطل، لعدم تفريقهم بين الفاسد والباطل، ولعدم التفريق بين الإكراه الملجئ وغيره؛ لأن الإكراه يتفاوت من شخص لآخر، فألم الخوف من التهديد عند بعض الناس يعتبر إكراهًا شديدًا، والحبس اليسير يعتبر في حق بعض الناس إكراهًا، وبعض الناس قد يكون شجاعًا، فلا يؤثر فيه الضرب الشديد، فضلاً عن الضرب اليسير، فمن لحقه أذى، أو خوف على نفسه، أو ماله، أو ولده بما يؤلمه، ويقيد من حريته، فهذا من الإكراه، والله أعلم. وسوف نفصل إن شاء الله تعالى في الفصل التالي حكم بيع المكره، أعاننا الله على ذلك بمنه وكرمه. ¬
الفرع الثاني في حكم بيع المكره
الفرع الثاني في حكم بيع المكره المسألة الأولى في الإكراه بحق قال ابن عابدين: الإكراه بحق لا يعدم الاختيار شرعًا (¬1). وقال البجيرمي: "الفعل مع الإكراه بحق كالفعل مع الاختيار" (¬2). وقال الماوردي: الإجبار على بيع الأملاك لا يجوز إلا في رهن أو غريم مفلس (¬3). [م - 95] الإكراه على البيع قسمان: إكراه بحق، وإكراه بغير حق. فالإكراه بحق له أمثلة كثيرة، منها: إكراه الحاكم المدين على بيع ماله لوفاء دينه. فهذا الإكراه لا يؤثر في صحة العقد، ولا يفسد الرضا، لإقامة رضا الشرع مقام رضا المالك، ويصح البيع عند أهل العلم، وحكي فيه الإجماع. قال ابن تيمية: "من كان قادرا على وفاء دينه وامتنع، أجبر على وفائه بالضرب والحبس، ونص على ذلك الأئمة من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم". ¬
قال أبو العباس: "ولا أعلم فيه نزاعًا ... وللحاكم أن يبيع عليه ماله ويقضي دينه" (¬1). وقال ابن عابدين: "الإكراه بحق لا يعدم الاختيار شرعًا" (¬2). وقال النووي: "القاضي بالخيار إن شاء باع ماله بغير إذنه لوفاء الدين، وإن شاء أكرهه على بيعه، وعزره بالحبس وغيره حتى يبيعه" (¬3). وقال ابن رجب في القواعد: "لو امتنع من وفاء دينه، وله مال، فباع الحاكم ماله، ووفاه عنه صح، وبرئ من الضمان" (¬4). ومنها بيع الرهن إذا امتنع من عليه دين من الوفاء، فإن الحاكم يجبره على الوفاء، فإن امتنع كان الحاكم مخيرًا إن شاء أجبره على البيع، وإن شاء باعه الحاكم عليه (¬5). "ومن الإكراه بحق: إكراه الحاكم من عنده طعام على بيعه عند حاجة الناس إليه ... " (¬6). قال الحطاب في مواهب الجليل: "أجمع العلماء على أنه لو كان عند إنسان طعام، واضطر الناس إليه، ولم يجدوا غيره أجبر على بيعه، دفعًا للضرر عن الناس" (¬7). ¬
ومن الإكراه بحق الجبر على بيع الأرض للطريق أو لتوسيع المسجد، ولم أقف على من خالف في جواز نزع الملكية الخاصة للصالح العام بشرط العوض بالقيمة ويدفع ما يلحقه من ضرر (¬1). جاء في الدر المختار "تؤخذ أرض ودار وحانوت بجنب مسجد ضاق على الناس بالقيمة كرهًا" (¬2). قال ابن عابدين تعليقًا: "وذلك لما روي عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لما ضاق المسجد الحرام أخذوا أرضين بكره من أصحابها بالقيمة، وزادوا في المسجد الحرام ... ولعل الأخذ كرها ليس في كل مسجد ضاق، بل الظاهر أن يختص بما لم يكن في البلد مسجد آخر؛ إذ لو كان فيه مسجد آخر يمكن دفع الضرورة بالذهاب إليه، نعم فيه حرج، لكن الأخذ كرها أشد حرجًا منه، ويؤيد ما ذكرنا فعل الصحابة إذ لا مسجد في مكة سوى الحرام" (¬3). والذي عليه مجلة الأحكام العدلية أن الحكم معلق بالحاجة، وليس بالضرورة، فوجود المشقة على الناس كاف في نزع ملكية أرض صاحبها. وهذا نص المجلة "يؤخذ لدى الحاجة ملك أي أحد بقيمته بأمر السلطان ويلحق بالطريق، ولكن لا يؤخذ ملكه من يده ما لم يؤد له الثمن" (¬4). ¬
قال في الشرح: "يستملك ملك أي أحد بقيمته الحقيقية للمنافع العمومية كالطريق والمسجد ومسيل الماء ولو لم يرض صاحبه ببيعه. فلذلك يؤخذ لدى الحاجة -أي إذا كان الطريق ضيقا ومست الحاجة إلى توسيعه- ملك أي أحد بقيمته بأمر السلطان ولو لم يرض صاحبه ويلحق بالطريق. فلذلك لو كان مسجد ضيق وغير كاف لاستيعاب المصلين، وكان لأحد ملك متصل بذلك المسجد، ووجدت حاجة لإلحاق قسم من تلك الدار للجامع، وتعنت صاحب الدار عن بيع ذلك المقدار من ملكه، فلا ينظر لرضائه، ويؤخذ المقدار اللازم للجامع، وحريم الجامع بقيمته جبرًا وكرهًا، ويوسع الجامع، وقد وسع الإِمام عمر والصحابة - رضوان الله عليهم - المسجد النبوي على هذا الوجه ... وكذلك يؤخذ محل مرور المياه بقيمته ولو لم يرض صاحبه" (¬1). وأشار الونشريسي: بأن مالكًا وأصحابه المتقدمين والمتأخرين لم يختلفوا فيه (¬2). وقال ابن هبيرة: "رأيت بخط ابن عقيل حكى عن كسرى أن بعض عماله أراد أن يجري نهرًا، فكتب إليه أنه لا يجري إلا في بيت لعجوز، فأمر أن يشتري منها، فضوعف لها الثمن فلم تقبل، فكتب كسرى أن خذوا بيتها؛ فإن المصالح الكليات تغفر فيها المفاسد الجزئيات". قال ابن عقيل: "وجدت هذا صحيحًا، فإن الله، وهو الغاية في العدل يبعث المطر والشمس، فإن كان الحكيم القادر لم يراع نوادر المضار لعموم المنافع فغيره أولى" (¬3). ¬
وقال الشيخ محمَّد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية في عصره: "نزع الملكية ليس من باب البيع الحقيقي المتوفرة فيه شروط البيع، وإنما هو اقتضاء إلزامي اقتضته المصلحة العامة لتوسعة شارع وخلافه، وتعويض المالك بهذا العوض" (¬1). وإذا جوزنا ذلك فلا بد من مراعاة أمور لا بد من توفرها حتى تكون المعاملة سائغة شرعًا، من ذلك: (1) أن يكون في نزع الملكية مصلحة عامة للناس، وليست مصلحة خاصة لأفراد منهم. (2) أن يكون تقدير المصلحة تلك إلى محكمة شرعية، وليست الجهة الحكومية المطالبة بنزع الملكية، فإذا قدرت المحكمة الشرعية بأن هناك حاجة عامة إلى هذه الأرض وقفت بذلك كانت الجهة الحكومية المعنية جهة منفذة لا أكثر. (3) أن يكون التعويض فيه غبطة للمالك، بحيث يكون مقدار التعويض زائدًا عن ثمن المثل مراعاة للأضرار التي تلحق المالك، فإن المالك إذا خرج من أرضه قد يأخذ وقتًا طويلاً حتى يبني سكنًا آخر يؤويه وعائلته، مع ما يتطلبه البناء من مشقة ووقت، وإذا استأجر سكنًا آخر لحقه في ذلك خسائر مادية (¬2). ¬
(4) أن يكون الثمن حالاً, وليس مؤجلاً، فإن الرجل لو طلب أن يشتري بديلاً قد لا يجد من يقرضه إلا أن يكون ذلك برضا المالك. وبعد أن وضعت هذه الشروط باجتهاد مني، رأيت قرارًا للمجمع الفقهي قد راعى أكثر هذه الشروط، وإن كان المجمع قد اختلف مع بعضها، وزاد عليها، لذا رأيت أن أنقل قرارهم بنصه، ليقارن مع ما تقدم ذكره. ففي قرار مجمع الفقه الإِسلامي رقم (4) د. 4/ 80/ 88. إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العريية السعودية، من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ. بعد الاطلاع على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع انتزاع الملك للمصلحة العامة. وفي ضوء ما هو مسلم في أصول الشريعة، من احترام الملكية الفردية، حتى أصبح ذلك من قواطع الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، وأن حفظ المال أحد الضروريات الخمس التي عرف من مقاصد الشريعة رعايتها، وتواردت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على صونها، مع استحضار ما ثبت بدلالة السنة النبوية وعمل الصحابة - رضي الله عنهم - فمن بعدهم من نزع ملكية العقار للمصلحة ¬
العامة تطبيقًا لقواعد الشريعة العامة في رعاية المصالح، وتنزيل الحاجة العامة منزلة الضرورة، وتحمل الضرر الخاص لتفادي الضرر العام. قرر ما يلي: أولاً: يجب رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء عليها, ولا يجوز تضييق نطاقها، أو الحد منها، والمالك مسلط على ملكه، وله في حدود المشروع التصرف فيه بجميع وجوهه، وجميع الانتفاعات الشرعية. ثانيًا: لا يجوز نزع ملكية العقار للمصلحة العامة إلا بمراعاة الضوابط والشروط الشرعية التالية: 1 - أن يكون نزع العقار مقابل تعويض فوري عادل، يقدره أهل الخبرة، بما لا يقل عن ثمن المثل. 2 - أن يكون نازعه ولي الأمر أو نائبه في ذلك المجال. 3 - أن يكون النزع للمصلحة العامة التي تدعو إليها ضرورة عامة، أو حاجة عامة تنزل منزلتها كالمساجد والطرق والجسور. 4 - أن لا يؤول العقار المنزوع من مالكه إلى توظيفه في الاستثمار العام، أو الخاص، وألا يعجل نزع ملكيته قبل الأوان. فإن اختلت هذه الشروط أو بعضها كان نزع ملكية العقار من الظلم في الأرض، والغصوب التي نهى الله تعالى عنها، ورسوله. على أنه إذا صرف النظر عن استخدام العقار المنزوعة ملكيته في المصلحة المشار إليها تكون أولوية استرداده لمالكه الأصلي، أو لورثته بالتعويض العادل.
المسألة الثانية في الإكراه بغير حق
المسألة الثانية في الإكراه بغير حق قال الونشريسي: المكره لا يلزمه شيء من العقود (¬1). وجاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: الإكراه معدم لرضا المكره (¬2). [م - 96] تقدم لنا أن الإكراه بحق ينعقد معه البيع صحيحًا، وأن فوات الرضا في هذه الحالة لا يؤثر في صحة العقد، وسوف نبحث إن شاء الله تعالى في هذا المبحث الإكراه بغير حق، كما لو أكره إنسان غيره على بيع ماله، وهدده بالضرب المؤلم أو الحبس إن لم يفعل، فهل ينعقد البيع؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: ينعقد البيع فاسدًا، وهذا مذهب الحنفية (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ينعقد البيع صحيحًا غير لازم، فللمكرَه الخيار بين إمضائه ورده، وهذا مذهب المالكية (¬1)، واختيار زفر من الحنفية (¬2). القول الثالث: لا ينعقد مطلقًا، وهذا مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬
وجه من قال: ينعقد البيع فاسدا وليس باطلا.
وجه من قال: ينعقد البيع فاسدًا وليس باطلاً. وجهه: أن البيع حكمنا عليه بالانعقاد لسببين: السبب الأول: أن ركن البيع (الإيجاب والقبول) صدر من أهله، مضافًا إلى محله، ومعلوم في المذهب أن البيع لا يكون باطلاً إلا إذا تطرق الخلل إلى ركن البيع، وأما إذا كان البيع مشروعًا بأصله دون وصفه كان البيع فاسدًا، فالركن الذي هو الإيجاب والقبول قد تحقق، فينعقد البيع، وما دام أن الخلل قد تطرق إلى الشرط أو الوصف وهو عدم الرضا حكمنا عليه بالفساد. السبب الثاني: أن الاختيار لم ينتف وإنما انتفى الرضا، فالمكره قد اختار البيع وقصده ليرتكب أخف الضررين، خاصة في الإكراه غير الملجئ، وقد تقدم بيانه. وإنما حكمنا بأن العقد فاسد؛ لفقد شرطه، وهو التراضي، فصار كسائر الشروط المفسدة، يثبت به الملك عند القبض، ويصح بإجازة المالك؛ لأن الحق له، فيرتفع الإكراه مع الإجازة. ويناقش: أولاً: التفريق بين الرضا والاختيار تفريق خاص في مذهب الحنفية، وسبق مناقشته، وبينا أن الرضا له معان كثيرة منها الاختيار، وما قيمة الاختيار إذا كان الإنسان مكرهًا عليه، وكيف يكون مختارًا للبيع، وهو مكره عليه، ولو خلي بينه وبين إرادته لم يختره، ولم يرضه. ثانيًا: أن التفريق بين الفاسد والباطل هو أيضًا اصطلاح خاص بالحنفية، وقد ناقشناه في فصل سابق.
دليل من قال: العقد باطل.
ثالثًا: القول بأن ركن البيع لم يتطرق إليه خلل فيه نظر، فإن الرضا في الحقيقة هو ركن البيع، وإنما عدل عنه إلى الصيغة (الإيجاب والقبول) لخفائه، فأقيمت الصيغة مقام الرضا للدلالة عليه. رابعًا: لو كان العقد فاسدًا لما صح بالإجازة، فإن العقد الفاسد عندكم لا يصح بالإجازة، كما لو باع درهمًا بدرهمين، فإن الخلل تطرق إلى الوصف، وقد تحقق ركن البيع (الإيجاب والقبول) فينعقد فاسدًا, ولا يصح بالإجازة، فما باله هنا صح بالإجازة، وقد فرقتم بين هذا العقد وبين سائر العقود الفاسدة بأربعة أحكام، ذكرناها سابقًا في أول البحث، فدل على أنه لا يصح الحكم عليه بالفساد حتى على مقتضى قواعد المذهب. دليل من قال: العقد باطل. الدليل الأول: قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وجه الدلالة: منطوق الآية أن من أخذ مال الغير بدون رضاه فقد أكل ماله بالباطل، فدل على أن الرضا شرط في صحة البيع، والشرط إذا عدم، عدم المشروط؛ لأنه يلزم من عدمه العدم. الدليل الثاني: تحريم مال المسلم ثابت بنصوص قطعية، ومن ذلك: (ح- 44) ما رواه البخاري من طريق فضيل بن غزوان، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم النحر، فقال: أيها الناس، أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام. قال: فأي بلد هذا. قالوا: بلد حرام. قال:
الدليل الثالث
فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا (¬1). فإذا كان الإكراه محرمًا، وفيه اعتداء على مال الغير، فإن الحرام لا ينبغي أن يترتب عليه أي أثر شرعي. الدليل الثالث: (ح-45) ما رواه ابن ماجه، قال: ثنا مروان بن محمَّد، ثنا عبد العزيز ابن محمَّد، عن داود بن صالح المدني، عن أبيه، قال: سمعت أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما البيع عن تراض (¬2). [إسناده حسن] (¬3). فحصر قيام البيع بقيام الرضا، ومفومه أنه لا يقوم البيع بانعدام الرضا. الدليل الرابع: الإجماع، قال النووي: "المكره على البيع إن كان إكراهه بغير حق لم يصح بيعه بلا خلاف .. " (¬4). ومع خلاف الحنفية لا يصح القول بالإجماع، وقد يوجه كلام النووي - رحمه الله - بأن عدم الصحة لا ينافي عدم الانعقاد، فالحنفية يقولون ينعقد فاسدًا, وليس صحيحًا، وبينهما فرق، فالرضا شرط للصحة، والاختيار مع الإكراه شرط للانعقاد، وبهذا التوجيه ممكن أن تكون عبارة النووي صحيحة، والله أعلم. ¬
دليل من قال: العقد موقوف على إجازة المالك.
دليل من قال: العقد موقوف على إجازة المالك. قالوا: إن النهي عن بيع المكره ليس لحق الله، وإنما هو لحق الآدمي، فإذا أجازه صاحبه بعد رفع الإكراه ارتفع المفسد، فصح العقد، مثله بيع الفضولي، فإنه لما كان الفضولي قد باع ملك غيره بغير إذنه، كان ذلك موقوفًا على إجازة صاحبه. الراجح: القول بأن البيع موقوف على إجازة المالك، فإن الحق له، إن شاء أمضاه، وإن شاء رده، لكن بشرط أن يرتفع الإكراه قبل الإجازة، أما لو أخذ ماله، وقال: لا أرده عليك إلا أن تبيعني إياه فهذا البيع غير صحيح؛ لأن الإجازة هنا مكره عليها.
المسألة الثالثة في الإكراه على سبب البيع
المسألة الثالثة في الإكراه على سبب البيع [م - 97] إذا طلب شخص ظالم من آخر مالاً، فاضطره إلى بيع ما يملك ليدفع له؛ لئلا يناله أذى من ذلك الظالم، فهل يصح البيع. اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: البيع لازم، وهو المعتمد في مذهب المالكية (¬1)، ومذهب الشافعية (¬2)، واختيار ابن تيمية من الحنابلة (¬3). لأنه لا إكراه فيه على البيع، إذ قصد الظالم تحصيل المال منه بأي وجه كان، سواء كان ببيع داره، أو رهنها، أو إيجارها، أو بغير ذلك. ولأنه لو امتنع الناس من الشراء منه كان ذلك أشد ضررًا عليه. القول الثاني: البيع غير لازم، وهو قول في مذهب المالكية. فقوله: غير لازم، يعني أنه صحيح، وللمكره الخيار إن شاء أمضاه، وإن شاء رده (¬4). ¬
القول الثالث
وهذا بناء على النهي فيه لحق العبد، وليس النهي فيه لحق الخالق، فإذا أجازه من له الحق جاز. القول الثالث: لا يصح، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). بناء على أن الرضا بالبيع شرط في صحة البيع، وهو لولا الإكراه لم يرض بالبيع. القول الرابع: يصح البيع، ويكره الشراء منه، وهو مذهب الحنابلة (¬3). ووجه الكراهة عند الحنابلة: أن البائع قد يتعرض للاستغلال؛ لأن المضطر غالبًا ما يحمله ذلك على البيع بأقل من ثمنه عادة. ولأن فيه خلافًا في صحة بيعه، فكره الشراء خروجًا من الخلاف. ويناقش: بأننا نحرم أن يستغل أحد ظرفه ليشتري منه بأقل من سعر المثل، أو بغبن فاحش مما لا يتغابن فيه الناس عادة، هذا من جهة دعوى أنه قد يتعرض للاستغلال، وأما دعوى كراهية البيع لوجود الخلاف في صحته، فهذا قول ضعيف؛ لأن الخلاف ليس من أدلة الشرع لا المتفق عليها, ولا المختلف فيها ¬
الراجح فيه
حتى نعلل به الأحكام، ونكره بسببه ما نعتقد إباحته لوجود الخلاف، وإنما الخلاف القوي قد يحمل على سلوك الاحتياط، وهذا غير الحكم بالكراهة، وإنما هو من باب دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. الراجح فيه: إن كان عدم الشراء منه يحمل المكره بالكسر على عذره, وعلى ترك مطالبته بالمال كان ترك الشراء منه واجبًا؛ لأن ترك الشراء طريق إلى رفع الظلم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وإن كان ترك الشراء منه تحمل المكره بالكسر على أذية المالك في نفسه أو ماله كان الشراء منه في هذه الحالة مباحًا أو مستحبًا لأن فيه إعانة له على دفع ظلم الظالم، والله أعلم.
المبحث الثاني الغلط في العقد
المبحث الثاني الغلط في العقد تمهيد تكلمت في المبحث السابق عن اشتراط الرضا بين المتعاقدين، وتكلمنا عن الإكراه باعتباره منافيًا لشرط الرضا في العقد، ونتكلم في هذا الفصل عن الغلط باعتباره قادحًا آخر، فإذا وقع العاقد في غلط في العقد، بحيث لو علم من وقع فيه ما أقدم على التعاقد، فلا شك أن مثل هذا يخدش في رضا العاقد بالعقد، والذي هو شرط أساسي لانعقاده. "ولم يجمع فقهاء المسلمين مسائل الغلط في بحث خاص، وإنما انتشرت مسائله في مباحث شتى ذات صلة به، فخيار الوصف، وخيار العيب، وخيار الرؤية بحوث يستقل بعضها عن بعض، ولكنها تتصل بنظرية الغلط" (¬1). والغلط قد يقع في المعقود عليه (المحل)، وهو أهم أنواع الغلط، وأكثره شيوعًا، وقد يقع الغلط في قيمة المتعاقد عليه، وقد عالجه الفقه في مبحث الغبن. وقد يقع الغلط في شخصية العاقد، كما لو كانت شخصية العاقد نفسها محل اعتبار كما في عقد التبرع، والمضاربة، وكالخطاط والرسام للتفاوت بينهما. وقد يقع الغلط في الصيغة، وسوف نناقش في هذه الفصول التالية بعض أحكام الغلط، على أن نرجي بعض الصور إلى مظانها من البحث، وإنما الهدف هنا ¬
بيان أن الرضا الصحيح يشترط ألا يشوبه شيء من الغلط فيقدح فيه، والذي هو شرط في صحة البيع، والله أعلم. ***
الفرع الأول الغلط في المعقود عليه
الفرع الأول الغلط في المعقود عليه المسألة الأولى الغلط في جنس المعقود عليه تعريف الغلط في المحل: أن يظهر المعقود عليه بعد تمام العقد مخالفًا لما وقع عليه العقد في عينه، أو في وصف يؤدي إلى تفاوت فاحش في القيمة والمنفعة. مثال للاختلاف في العين: أن يبيعه فصًا على أنه ياقوت، فإذا هو زجاج (¬1). مثال للاختلاف في وصف يؤدي إلى تفاوت فاحش في المنفعة: أن يبيعه دارًا على أن بناءها من الآجر، فإذا هو من اللبن (¬2). فالغلط لم يحصل هنا في الجنس, لأنه اشتراها على أنها دار، وهي كذلك، ولكن الغلط حصل في صفة الدار، إلا أن بين وصف الآجر واللبن تفاوت فاحش في المنفعة (¬3). ¬
القول الأول
[م - 98] وقد اختلف الفقهاء في حكم هذا العقد على ثلاثة أقوال: القول الأول: البيع باطل، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والراجح في مذهب الشافعية (¬2)، وهو مذهب الحنابلة (¬3)، وبه قال ابن حزم (¬4). القول الثاني: يصح البيع، ويثبت الخيار لمن وقع عليه الغلط، وهو مذهب المالكية (¬5) , ¬
القول الثالث
ووجه مرجوح في مذهب الشافعية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). القول الثالث: البيع فاسد، وليس باطلاً، وهو قول الكرخي من الحنفية (¬3). دليل من قال: البيع باطل. الدليل الأول: قال تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وجه الاستدلال: لا يتحقق الرضا إلا إذا كان المعقود عليه هو عين ما رضيه المتعاقدان، وطابت أنفسهما ببذله مقابل العوض المدفوع، فإذا كان المعقود عليه عينًا أخرى غير معلومة للمشتري، أو اختلف الثمن على البائع، فمن المعلوم أنه لم يتوجه الإيجاب والقبول إليه، وبالتالي لم يتحقق الرضا والذي هو شرط في صحة البيع. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أنه قد ثبت النهي عن بيع الغرر في حديث صحيح، وهو مجمع على النهي عنه في الجملة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في مباحث الغرر، وهذا قد تحقق الغرر فيه للجهل في المبيع؛ لأن عقد المشتري إنما توجه لجنس معين كالفرس مثلاً، فبان أن البيع وقع على جنس آخر مختلف تمامًا كالحمار مثلاً، ولم يعلم بذلك المشتري، ولم يقصده في الشراء، وهذا من أعظم الغرر. دليل من قال: ينعقد ولمن وقع عليه الغلط الخيار. الدليل الأول: أن البيع قد تعلق بطرفين بائع ومشتر، فالذي لم يقع عليه الغلط ينعقد في حقه لازمًا, وليس له خيار؛ لأن الغلط لم يقع عليه، وأما الذي وقع عليه الغلط فالحق له، وما دام أن الحق لآدمي، وليس النهي عنه لحق الله، فإن له الخيار، إن شاء أمضى البيع، وإن شاء رده، فالحكم ببطلان البيع يسقط حقه فيما لو طابت نفسه، ورضي بالبيع. الدليل الثاني: القياس على العين المعيبة، فإذا كان المشتري إذا اشترى عينًا، ووجد فيها عيبًا، كان له الخيار، إن شاء رد العين، وإن شاء أمضى البيع، فكذلك هنا، فاختلاف عين المبيع يعد كالعيب في المبيع، وفوات العين كفوات الصفة المرغوب فيها لمن فاته الخيار. الدليل الثالث: أن المبيع وإن وقع فيه غلط، إلا أنه قد عين في الإشارة، فقال: بعتك هذا الفرس، فبان حمارًا، فوجود التعيين بالإشارة يجعل البيع منعقدًا تقديمًا للإشارة
دليل من قال: ينعقد فاسدا.
على العبارة، وفوات العين أو الوصف المذكور في العبارة يثبت الخيار فقط، ولا يبطل البيع. دليل من قال: ينعقد فاسدًا. حجة هذا القول يرى بأن الخلل إذا لم يتطرق إلى ركن البيع، وهو الإيجاب والقبول، فإن البيع ينعقد فاسدًا، ومعنى ذلك أن الملك يثبت بالقبض، وإذا فات المبيع وجب دفع القيمة، وليس الثمن؛ لأن الثمن قد تطرق إليه الفساد. ويمكن أن يناقش هذا من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم أن الخلل لم يتطرق إلى ركن البيع، فإن الإيجاب والقبول كان متجهًا إلى جنس، ثم تبين أن المعقود عليه جنس آخر، فصار الإيجاب القبول قد توجه إلى جنس معدوم لا وجود له، فبطل الإيجاب والقبول، فوجود الإيجاب والقبول كعدمه هنا. الوجه الثاني: لا نسلم قاعدة الحنفية بأن الخلل إذا تطرق إلى ركن البيع بطل البيع، وإذا تطرق إلى وصفه كان فاسدًا، وقد بينا أن الجمهور لا يفرقون بين العقد الفاسد والباطل في بحث خاص، فأغنى عن إعادته هنا (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المسألة الثانية في الغلط إذا كان في وصف مرغوب فيه
المسألة الثانية في الغلط إذا كان في وصف مرغوب فيه [م - 99] يختلف هذا الغلط عن الغلط السابق، فإن الغلط السابق كان في جنس المعقود عليه، أو كان في وصف يؤدي إلى تفاوت فاحش في المنفعة، وأما هذا الغلط فهو في فوات وصف مرغوب فيه من غير أن يؤدي إلى اختلاف القيمة، كما لو اشترى فصًا على أنه ياقوت أحمر، فبان أخضر، فهنا الغلط لم يتوجه للجنس، فالجنس واحد، كما أن الغلط لم يكن في وصف يؤدي إلى تفاوت فاحش في المنفعة، وإنما فات وصف الحمرة، وهو وصف مرغوب فيه لدى المشتري فحسب، والثمن واحد (¬1). ¬
وقد ذهب الأئمة الأربعة إلى أن البيع ينعقد صحيحًا، ويثبت الخيار لمن فاته الوصف المرغوب فيه (¬1). وذهب الحنابلة في المشهور أن المشتري له الخيار بين الرد، أو الإمساك مع أرش فقد الصفة، وإن تعذر الرد تعين الأرش (¬2). وذهب ابن حزم إلى أن فوات الوصف يؤدي إلى البطلان (¬3). ¬
وجه كلام الأئمة
وجه كلام الأئمة: فرق الفقهاء بين الغلط بالجنس والغلط في الوصف، بأنه إذا اشترى فصًا على أنه ياقوت فبان أنه زجاج، كان البيع باطلاً؛ لأن المشار إليه من غير جنس المسمى، فيتعلق العقد بالمسمى، والمسمى معدوم، وبيع المعدوم باطل، أما إذا اشترى فصًا على أنه ياقوت أحمر، فبان أخضر، جاز البيع؛ لأن المشار إليه من جنس المسمى، فيتعلق العقد بالمشار إليه؛ لأن المشار إليه أبلغ في التعريف، إلا أنه حين فات المشتري وصف مرغوب فيه كان له الخيار. ويلزمه جميع الثمن إذا أمضى العقد؛ لأن الوصف لا يقابله شيء من الثمن، فإذا فات فات بدون مقابل. التعليل الثاني: المشتري لم يرض بالبيع إلا بوجود هذه الصفة المرغوبة له، والمشروطة منه، والرضا شرط لصحة البيع، ولهذا قلنا له حق الفسخ، وحق الإمضاء طلبًا لحصول الرضا وطيب النفس ليتم العقد. تعليل الحنابلة في تخييره بين الرد أو الإمساك وأخذ أرش النقص. الصفة لها حصتها من الثمن بدليل أن السلعة إذا بيعت بشرط الوصف زاد ذلك من قيمتها، فالسيارة الجديدة أغلى ثمنًا من السيارة القديمة، وإذا كانت الصفة لها أثر في الثمن كان فقدها فقدًا لجزء من الثمن، فاستحق الأرش مع الإمساك لفوات صفة كان قد اشترطها المشتري، والتزمها البائع في العقد، فلا يمكن أن يكون فواتها بدون مقابل، وتذهب على المشتري في حال رغب المشتري في إمساك السلعة، مع أن البائع قد أخذ عوضها في مقابل التزامه في وجودها.
ويناقش
ويناقش: بأن أخذ الأرش لم يتفقا عليه، فكيف يفرض على البائع دفعه بدون رضاه، وما دام أن السلعة قائمة، ولم تفت فليردها، ويأخذ الثمن الذي دفعه، نعم لو فاتت السلعة، ولم يكن لها مثل وجب اعتبار الأرش، باعتبار تعذر الرد هنا، والمشتري مستحق للصفة المشروطة والتي لم يلتزم البائع بتوفيرها. تعليل ابن حزم على كون العقد باطلاً. المشتري لم يرض بالبيع إلا بوجود هذه الصفة المشروطة في المبيع، وإذا فقد الرضا بطل البيع، فلا يجوز لهما تصحيحه إلا بابتداء عقد برضاهما، وتكون العين معلومة للمشتري والثمن معلوم للبائع، لا يجهلان، أو أحدهما شيئًا من ذاته، أو وصفه، وإذا تطرق الجهل إلى ذات المبيع أو وصفه بطل البيع. الراجح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها أجدني أميل إلى أن البيع ينعقد صحيحًا، ويثبت الخيار لمن فاته الوصف المرغوب فيه.
المسألة الثالثة الغلط في التعبير (الصيغة)
المسألة الثالثة الغلط في التعبير (الصيغة) [م - 100] إذا تكلم في البيع على لسانه خطأ، فقال بدلاً من قوله: تبيع هذا عليَّ بكذا؟ قال: بعت هذا عليك بكذا، فهل ينعقد البيع؟ وللجواب نقول: أما رفع الإثم فلا خلاف أن الخطأ عذر صالح لرفعه، قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]. وأما أثر الخطأ في العقود المالية، فقد اختلف الفقهاء فيه على قولين: القول الأول: إذا جرى البيع على لسانه خطأ، وصدقه خصمه، يكون بيعه كبيع المكره، ينعقد فاسدًا، ويملك بالقبض. وأما إذا لم يصدقه خصمه، فإن القضاء يحكم على ضوء ظاهر اللفظ، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وكيف انعقد، وهو مخطئ؟ قالوا: لأن الكلام صدر عنه باختياره، أو بإقامة البلوغ مقام القصد، وكان فاسدًا غير نافذ، لعدم الرضا حقيقة، واعترض عليهم بأن المخطئ غير مختار للفعل، فهو لم يقصد العبارة، ولا الأثر مطلقًا، بل هو كالنائم الذي يتكلم بإيجاب أو قبول لا عبرة لما يقول. ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا ينعقد، وهذا مذهب الجمهور (¬1)، وقول في مذهب الحنفية (¬2). واستدلوا على ذلك بما يلي: الدليل الأول: قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]. ونوقش: بأن الآية سيقت في رفع الجناح، وهو الإثم، وليس في وقوع أثر الخطأ، وبينهما فرق، فهذا الصبي عمده خطأ، ويضمن ما أتلفه. ورد هذا: بأن ضمان المخطئ لمتلفاته لا ترجع إلى وجود القصد أو عدمه، وإنما ترجع إلى دفع الضرر، وإلى قاعدة لا ضرر ولا ضرار، ولذلك أوجب الفقهاء الضمان على المجنون مع أنه لا يصح بيعه، وعلى النائم مع أن بيعه وسائر عقوده لا تصح. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن الرضا شرط في صحة العقد، والمخطئ غير راض بالعقد، ولم يقصد الفعل، فلا يعتد به. الراجح: ما ذهب إليه الجمهور لقوة أدلتهم، إلا أن الأصل عدم الغلط، فلا بد من بينة على صحة ما يدعيه، فإن لم تكن هناك بينة قبل قول المنكر عدم الغلط مع يمينه، والله أعلم.
المسألة الرابعة الغلط بسبب الجهل بالحكم الشرعي
المسألة الرابعة الغلط بسبب الجهل بالحكم الشرعي الجهل: هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به (¬1). وقيل: عدم العلم ممن شأنه العلم (¬2). وهو نوعان: مركب وبسيط: فالمركب: هو عبارة عن اعتقاد جازم غير مطابق للواقع، بمعنى أنه لا يدرك أنه جاهل، فهذا من الجهل المركب. والبسيط: انتفاء العلم بالمقصود، بأن لم يدرك أصلاً، ويعلم أنه لا يعلم، وهذا ليس عيبًا في الأصل، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]. تأثير الغلط بسبب الجهل بالحكم الشرعي (أو الجهل بالقانون) [م - 101] قال القرافي: "كل من فعل فعلاً أو قال قولاً، أو تصرف تصرفًا من المعاملات أو غيرها, لا يجوز له الإقدام عليه حتى يعلم حكم الله تعالى في ذلك. فإن تعلم، وعمل أطاع الله تعالى طاعتين: بالتعلم الواجب، وبالعمل إن كان قربة، وإلا فبالتعلم فقط. وإن لم يتعلم، ولم يعمل فقد عصى الله معصيتين: بترك التعلم، وبترك العمل إن كان واجبًا، وإلا فبترك التعلم فقط. وإن تعلم، ولم يعمل أطاع الله تعالى بالتعلم الواجب، وعصى بترك العمل ¬
إن كان واجبًا وإلا فلا. ونقل الإجماع على هذه القاعدة الشافعي - رضي الله عنه - في رسالته، والغزالي في إحياء علوم الدين ... " (¬1). والأصل أن الجهل يرفع الإثم. قال السيوطي: "اعلم أن قاعدة الفقه أن النسيان والجهل مسقط للإثم مطلقًا ... " (¬2). "وإعذار الجاهل إنما هو من باب التخفيف، لا من حيث جهله، ولهذا قال الشافعي - رضي الله عنه -: لو عذر الجاهل لأجل جهله، لكان الجهل خيرًا من العلم، إذ كان يحط عن العبد أعباء التكليف، ويريح قلبه من ضروب التعنيف" (¬3). وهل يرفع الجهل الحكم المترتب، كما لو باع بيعًا يشترط في صحته القبض، ولم يتقابضا جهلًا منهما بوجوبه؟ أو زنى جاهلاً، أو قَتَلَ شخصًا جاهلاً، فهل يحد أو يقتل، أو يسقط عنه ذلك بسبب جهله؟ وللجواب على ذلك نستطيع أن نقول: إنه ليس هناك قاعدة مطردة في أمور التكاليف، بحيث نقول: الجهل يرفع الحكم، أو لا يرفع، فهناك أمور متفق على أن الجهل يرفع الحكم، وهناك أمور على عكسها، وفيه أمور محل خلاف، فهناك نصوص تدل على العذر بالجهل، كالمسيء صلاته لم يطلب منه إعادة تلك الصلوات، ومثله المستحاضة حيث كانت تتوهم أنها حيض، فجاءت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهي تشكو أنها حبستها عن الصلاة والصيام، ولم يطلب منها ¬
الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعل الصلوات التي تركتها، ومنها صلاة عمار حين أجنب مع أنه لم يأت بالصفة المشروعة في التيمم، وإنما تمرغ كما تتمرغ الدابة، ومنها صاحب العقالين عندما أكل متوهمًا أنهما الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يؤمر بالقضاء، ومنها لما أفطر الصحابة في يوم غيم ظنًا منهم أن الشمس قد غربت، ثم طلعت الشمس، ولم ينقل أنهم قضوا، ونصوص كثيرة، فالاقتصار على هذه النصوص فقط نزعة ظاهرية، وفتح الباب على الإطلاق قال الشاطبي: "خرق لا يرقع، والاقتصار فيه على بعض النصوص دون بعض تحكم يأباه العقل والنقل" (¬1). قال القرافي: "اعلم أن صاحب الشرع قد تسامح في جهالات في الشريعة فعفا عن مرتكبها، وأخذ بجهالات، فلم يعف عن مرتكبها، وضابط ما يعفى عنه من الجهالات: الجهل الذي يتعذر الاحتراز عنه عادة، وما لا يتعذر الاحتراز عنه، ولا يشق لم يعف عنه" (¬2). وقال أيضًا: "الجهل قسمان: منه ما يتعذر الاحتراز منه غالبًا، أو فيه مشقة، فجعله الشارع عذرًا لمن ابتلي به ... ومنه ما ليس كذلك، فلا يعذر به ... وإلا فالأصل أن الجهل لا يجدي خيرًا, ولا يكون عذرًا" (¬3). ومن الصعوبة أن أتتبع جميع فروع المسائل في كتاب يبحث في باب المعاملات فقط، ولكني سأشير إلى أهم ما يكشف غموض هذا الباب، وما لم يذكر يقاس على ما ذكر. ¬
التنبيه الأول
التنبيه الأول: لا فرق بين الأمور القطعية في الدين، وبين الأمور الظنية في أن الإنسان يعذر فيها بالجهل (¬1). (ح- 46) فقد روى البخاري من طريق معمر، عن الزهري، عن حميد ابن عبد الرحمن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت، قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا، فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله به الأرض، فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك، فغفر له (¬2). قال ابن تيمية: "هذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك، أو شك، وأنه لا يبعثه، وكل من هذين الاعتقادين كفر يكفر من قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك، ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله، وكان عنده إيمان بالله وبأمره ونهيه، ووعده ووعيده، فخاف من عقابه، فغفر الله له بخشيته، فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد من أهل الإيمان بالله، وبرسوله، وباليوم الآخر، والعمل الصالح لم يكن أسوأ حالاً من الرجل فيغفر الله خطأه، أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق .. " (¬3). وقال ابن عبد البر: "هذا رجل جهل بعض صفات الله - عز وجل -، وهي القدرة ... ¬
التنبيه الثاني
ولم يكن بجهله بعض صفات الله كافرًا، قالوا: وإنما الكافر من عاند الحق، لا من جهله، وهذا قول بعض المتقدمين من العلماء، ومن سلك سبيلهم من المتأخرين ... " (¬1). التنبيه الثاني: ضمان الإتلاف في الخطأ لا يقدح في كون الإنسان معذورًا في الجهل، فضمان الإتلاف قد يلحق حتى العجماوات من البهائم، كما يضمن النائم والمجنون والصبي ما يتلفه من أموال الناس مع أنهم ليسوا من أهل التكليف أصلاً. "قال أحمد: من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوع فقد خالف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله أوجب في قتل الخطأ الكفارة" (¬2). التنبيه الثالث: الفرق بين الجهل بالتحريم والجهل بالحكم المترتب عليه. فمن جهل التحريم سقط عنه الحكم المترتب عليه، ومن علم بالتحريم وجهل ما يترتب عليه لم يفده ذلك. قال السيوطي: "كل من علم تحريم شيء، وجهل ما يترتب عليه لم يفده ذلك" (¬3). وقال الزركشي: "الجهل بالتحريم مسقط للإثم والحكم في الظاهر لمن يخفى عليه لقرب عهده بالإِسلام ونحوه. ¬
التنبيه الرابع
فإن علم التحريم وجهل المرتب عليه لم يعذر. ولهذا لو جهل تحريم الكلام في الصلاة عذر، ولو علم التحريم وجهل الإبطال بطلت ... " (¬1). قلت: يشهد لهذا حديث الرجل الذي جامع امرأته في نهار رمضان، فإنه كان عالمًا بالتحريم، لقوله "هلكت يا رسول الله"، ولم يكن عالمًا بما يترتب عليه، ولذلك سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماذا عليه، ووجبت عليه الكفارة، ولم يعذر بجهله في الحكم المترتب على الفعل (¬2). التنبيه الرابع: الفرق بين فعل المأمور، وترك المحظور، فمن وقع جهله في حقوق الله تعالى، وكان بترك مأمور لم يسقط، بل يجب تداركه ما دام يمكنه ذلك، وإن وقع في فعل منهي عنه سقط عنه. قال الزركشي "فالجهل والنسيان يعذر بهما في حق الله تعالى المنهيات دون المأمورات، والأصل فيه حديث معاوية بن الحكم، لما تكلم في الصلاة، ولم يؤمر بالإعادة لجهله بالنهي. وحديث يعلى بن أمية حيث أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بنزع الجبة عن المحرم، ولم يأمره بالفدية لجهله ... والفرق بينهما من جهة المعنى: أن المقصود من المأمورات إقامة مصالحها، وذلك لا يحصل إلا بفعلها، والمنهيات مزجور عنها بسبب مفاسدها امتحانًا للمكلف بالانكفاف عنها، وذلك إنما يكون ¬
التنبيه الخامس
بالتعمد لارتكابها، ومع النسيان والجهالة لم يقصد المكلف ارتكاب المنهي، فعذر بالجهل فيه" (¬1). ومن ذلك: من صلى ناسيًا طهارته فصلاته باطلة، ومن صلى بثوب نجس ناسيًا فصلاته صحيحة، وقد صلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي نعليه نجاسة، فأخبره جبريل بذلك، وهو في صلاته، فخلعهما، وبنى على صلاته، ولم يبطل الجزء الذي صلاه، هو متلبس بالنجاسة. ومن ذلك أوجب المالكية على المزكي ماله نية الزكاة عند عزلها، أو عند دفعها لمستحقها، فإن لم ينو ولو جهلاً أو نسيانًا لم يجزه (¬2). لأن هذا من باب فعل المأمور الذي لا يسقط بالجهل أو النسيان. ومنه ما ذكر فقهاء المالكية والحنابلة أن من ترك التسمية على الذبيحة، ولو جهلاً لم تؤكل ذبيحته، كما لو تركها عمدًا، لعموم قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] (¬3). التنبيه الخامس: الفرق بين من نشأ في بلد الإِسلام، وبين ظهراني العلماء، ومن نشأ في بلاد الكفر، أو في البادية حيث لا يوجد علماء. قال السيوطي: "كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس، لم يقبل منه دعوى الجهل، إلا أن يكون قريب عهد بالإِسلام، أو نشأ ببادية بعيدة ¬
يخفى فيها مثل ذلك، كتحريم الزنى، والقتل، والسرقة، والخمر، والكلام في الصلاة، والأكل في الصوم" (¬1). قال في حواشي الشرواني: "من جهل تحريم الزنا لقرب عهده بالإِسلام، أو بعده عن المسلمين ... إنما يقبل منه ببينة" (¬2). ولذلك لم يقبل عمر تأويل الصحابي - رضي الله عنه - قدامة بن مضعون حين شرب الخمرة متأولاً قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93]؛ لأن مثله لا يجهل تحريم الخمر، أو لأنه عرف التحريم، وتأول في العقوبة (¬3). وقد عذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأعرابي المسيء صلاته، فقد قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ارجع فصل فإنك لم تصل" ومع ذلك لم يطلب منه إعادة الصلوات الماضية، مع الحكم عليه بأنه لم يصل. ¬
التنبيه السادس
التنبيه السادس: إذا نطق الأعجمي بكلمة كفر، أو إيمان، أو طلاق، أو إعتاق، أو بيع، أو شراء، أو نحوه، ولا يعرف معنى ما تكلم به، لا يؤاخذ بشيء منه؛ لأنه لم يلتزم بمقتضاه، ولم يقصد إليه. وكذلك إذا نطق العربي بما يدل على هذه العبارة بلفظ أعجمي لا يعرف معناه، فإنه لا يؤاخذ (¬1). وحكي في ذلك الإجماع، قال المرداوي: "فإن قاله العربي -يقصد صريح الطلاق بلغة العجم- وهو لا يفهمه، أو نطق الأعجمي بلفظ الطلاق، وهو لا يفهمه, لم يقع، بلا نزاع" (¬2). التنبيه السابع: من عمل بتأويل، ولو لم يكن سائغًا، أو أخذ بأصل، ولو كان ذلك الأصل الذي عمل عليه غير مستند إلى دليل، كان ذلك عذرًا. وقد مثل ابن قدامة في المغني بمذهب الخوارج، فقد عرف عنهم تكفيرهم لكثير من الصحابة ومن بعدهم، واستحلال دمائهم، وأموالهم، واعتقادهم التقرب إلى الله بقتلهم، ومع ذلك لم يحكم أكثر الفقهاء بكفرهم لتأويلهم، وكذلك يُخَرَّج في كل محرم استحل بتأويل (¬3). ومن ذلك اعتبار المرأة التي كانت تستحاض بأن الدم مانع من الصلاة، والصيام، فقد بنت على أصل، وهو أن الأصل في الدم الخارج من المرأة أنه دم حيض يمنع من الصلاة، والصيام، فلم تكلف إعادة ما تركته من الصلاة. ¬
التنبيه الثامن
قال الشاطبي في الموافقات: "ومما وقع في المذهب في المستحاضة تترك الصلاة زمانًا، جاهلة بالعمل أنه لا قضاء عليها فيما تركت، قال في مختصر ما ليس في المختصر: لو طال بالمستحاضة والنفساء الدم، فلم تصل النفساء ثلاثة أشهر، ولا المستحاضة شهرًا، لم يقضيا ما مضى إذا تأولتا في ترك الصلاة دوام ما بهما من الدم ... " (¬1). ومن ذلك أخذ عمار بأن التيمم للجنب يجب تعميم البدن فيه بالتراب، فهو قد قاسه على طهارة الأصل: وهو الماء. التنبيه الثامن: [م - 102] المقبوض بعقد باطل جهلاً، هل ينقلب صحيحًا بالقبض؟ إذا قبض المبيع بعقد باطل، فقد ذهب الأئمة الأربعة إلى وجوب رده مطلقًا ما دامت عينه قائمة، سواء كان العاقد عالمًا بفساده، أو كان جاهلاً، فينقض بكل اعتبار. [م - 103] فإن تلفت عينه بيد المشتري، فهل يضمنه المشتري؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم على قولين: القول الأول: لا يضمنه, لأنه أمانة في يده، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى (¬2). القول الثاني: يضمنه كما لو قبضه بعقد صحيح، وهو مذهب الجمهور (¬3)، وقول في مذهب ¬
التنبيه التاسع
الحنفية (¬1). وقد سبق ذكر أدلة كل قول في المجلد الأول. التنبيه التاسع: هذا فيما يتعلق بالضوابط، أما أقوال المذاهب في هذا: [م - 104] فقد ذهب الحنفية أن الجهل بحكم الشرع ليس بعذر، وفرقوا بينه وبين النسيان. قال في بدائع الصنائع: "الجهل بحكم الشرع ليس بعذر، والنسيان عذر، ألا ترى أن من ظن أن الأكل لا يفطر الصائم، فأكل، بطل ¬
صومه، ولو أكل ناسيا لا يبطل" (¬1). وقيده في العناية في كون الجهل في دار الإِسلام، فقال: "الجهل بحكم الشرع في دار الإِسلام ليس بعذر" (¬2). وخالفهم المالكية، قال الشاطبي: "عمدة مذهب مالك، بل عمدة مذاهب الصحابة اعتبارُ الجهل في العبادات اعتبارَ النسيان على الجملة، فعدوا من خالف في الأفعال أو الأقوال جهلاً على حكم الناسي، ولو كان المخالف في الأفعال دون القصد مخالفًا على الإطلاق لعاملوه معاملة العامد، كما يقول ابن حبيب ومن وافقه، وليس الأمر كذلك، فهذا واضح في أن للقصد الموافق أثرًا، وهو بين في الطهارات والصلاة والصيام والحج، وغير ذلك من العبادات، وكذلك في كثير من العادات كالنكاح والطلاق والأطعمة والأشربة وغيرها. ولا يقال: إن هذا ينكسر في الأمور المالية، فإنها تضمن في الجهل والعمد؛ لأنا نقول الحكم في التضمين في الأموال شيء آخر؛ لأن الخطأ فيها مساو للعمد في ترتب الغرم في إتلافها" (¬3). وفي مذهب الشافعية اعتبر الجهل بمنزلة الخطأ والنسيان. قال السمعاني في قواطع الأدلة: "وأما الجهل فمثل الخطأ والنسيان، فإن الجهل بالحق لا يكون إلا بالجهل بدليله، وسبب وجوبه، فيكون الإعراض عن إقامته لا عن قصد العصيان والخلاف، بل كما يكون في المخطئ والناسي، ¬
ويكون الجاهل عاجزًا حكمًا كالناسي، ويكون الجهل عذرًا يؤخر حكم الخطاب، ولا يسقط الوجوب أصلاً كالخطأ، والنسيان" (¬1). ولم يطَّرد الحنابلة في العذر بالجهل فتجد أنهم قبلوا دعوى الجهل بتحريم الزنا، وشرب الخمر، إذا كان مثله يجهل لحداثة عهده بالإِسلام، أو لكونه نشأ في البادية، ولم يجعلوا الجهل عذرًا في بعض الأحكام، فالجهل في ترك واجب من واجبات الحج يجب فيه عندهم الدم، سواء كان ناسيًا، أو جاهلاً، كما أن قتل الصيد، والوطء وحلق الشعر في الحج يستوي فيه العامد والجاهل والناسي، ومثله ترك الترتيب الواجب في الوضوء، أو في الصلاة، لا يسقط بالجهل. جاء في شرح منتهى الإرادات: "ولا يحد، ولا يعزر شارب خمر جهل التحريم ... ولا تقبل دعوى الجهل ممن نشأ بين المسلمين؛ لأنه لا يكاد يخفى" (¬2). وقال ابن قدامة "قتله بسحر يقتل غالبًا، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا، أشبه السكين، وإن كان مما لا يقتل غالبًا، فهو خطأ العمد، وإن ادعى الجهل بكونه يقتل غالبًا، وكان مما يجوز خفاؤه عليه، فلا قود" (¬3). ¬
والصحيح أن الجهل بحكم الشرع عذر إن كان مثله يجهل، إلا ما كان فيه إتلاف فإنه يضمن، احترامًا لأموال الناس، ولدفع الضرر عن الآخرين والله أعلم. ¬
المبحث الثالث يشترط في الرضا ألا يشوبه شيء من التدليس
المبحث الثالث يشترط في الرضا ألا يشوبه شيء من التدليس تمهيد ذكرنا الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة على أن الرضا شرط في صحة البيع، وبيَّنا حكم ما إذا شاب الرضا شيء من الإكراه أو الغلط، هل يبطل العقد، أو يكون موقوفًا على إجازة المكرَه بعد رفع الإكراه، وعلى إجازة من وقع عليه الغلط، ونبين في هذا المبحث إن شاء الله تعالى حكم الرضا إذا شابه شيء من التدليس، فهل ينعدم الرضا بحيث يكون البيع باطلاً، أو يعيبه فقط فيكون قابلاً للإبطال وقابلا للنفاذ، كما لو اختار من وقع عليه التدليس إبطاله، أو إمضاءه, هذا ما سوف نكشفه في هذا المبحث. والأصل في التدليس حديث أبي هريرة في التصرية: (ح -47) فقد روى البخاري من طريق جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال أبو هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاع تمر (¬1). [م - 105] وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في الموقف من هذا الحديث على قولين: القول الأول: ذهب أبو حنيفة ومحمد بن الحسن رحمهما الله إلى أنه لا خيار للمشتري ¬
القول الثاني
بسبب التصرية (¬1)، وهو قول أشهب من المالكية (¬2). وهل يرجع المشتري على البائع بالنقصان؟ روايتان: في رواية الكرخي لا يرجع بشيء (¬3). وفي رواية شرح الطحاوي يرجع، وذلك لفوات وصف مرغوب فيه (¬4)، وهو المختار (¬5). القول الثاني: ذهب عامة أهل العلم إلى أن البيع لا يبطل بالتدليس، وأن العقد صحيح مع ¬
الإثم، وللمشتري الخيار، إن شاء أمضى البيع، وإن شاء رده (¬1). وذهب داود بن علي إلى أن البيع باطل بالتدليس (¬2). وسوف يأتينا إن شاء الله تعالى ذكر الأدلة في كتاب الخيار، (باب خيار التدليس) فقد تكلمنا فيه ولله الحمد عن تعريف التدليس، وعن حكمه التكليفي، وعن حكمه الوضعي، وأدلة كل قول، مع بيان الراجح، فانظره هناك مشكورًا. ... ¬
المبحث الرابع يشترط في الرضا سلامته من الغبن الفاحش
المبحث الرابع يشترط في الرضا سلامته من الغبن الفاحش الفرع الأول في تعريف الغبن وبيان حكمه ذكرنا من شروط العاقد أن يكون مختارًا (أي راضيًا) وذكرنا فيما سبق العيوب التي تنافي الاختيار، أو تقدح فيه: من إكراه، أو غلط، أو تدليس، وفي هذا المبحث نبين عيبًا آخر يقدح في اختيار العاقد، وهو أن يتعرض للغبن؛ لأن العاقد لو علم أنه مغبون لما أقدم على العقد، وفي هذا دليل على أن الغبن عيب يشوب الرضا، الذي هو شرط في صحة العقد. تعريف الغبن في الاصطلاح (¬1): عرفها الحطاب بقوله: "عبارة عن بيع السلعة بأكثر مما جرت العادة أن الناس لا يتغابنون بمثله، أو اشتراها كذلك" (¬2). [م - 106] وأما عن حكم الغبن، فإن كان الغبن يسيرًا، فإن ذلك لا يؤثر في صحة المعاملة؛ لأن معاملات المسلمين لا تخلو منه في الغالب؛ ولأن اليسير يتسامح فيه عادة. ¬
وإن كان فاحشًا فإن الغبن محرم؛ لأن فيه ظلمًا. قال ابن العربي: "الغبن في الدنيا ممنوع بإجماع في حكم الدنيا؛ إذ هو من باب الخداع المحرم شرعًا في كل ملة، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز منه لأحد، فمضى في البيوع، إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدًا؛ لأنه لا يخلو منه، حتى إذا كان كثيرًا أمكن الاحتراز منه، فوجب الرد به" (¬1). قال ابن هبيرة: "واتفقوا على أن الغبن في البيع بما لا يفحش لا يؤثر في صحته" (¬2). ومفهومه: أنه إن كان فاحشًا فإنه يؤثر في صحته. وأما المعيار في تقدير الغبن الفاحش من الغبن اليسير، ففيه أقوال، والصحيح منها: أن مرجع ذلك إلى عرف التجار، فما عد من الغبن الفاحش، فهو كثير، وما لا فلا، وانظر الأقوال في المسألة مع أدلتها في مبحث خيار الغبن، فقد وضحته هناك، والحمد لله. ¬
الفرع الثاني خلاف العلماء في الغبن القادح في الرضا
الفرع الثاني خلاف العلماء في الغبن القادح في الرضا [م - 107] إذا وقع الإنسان في الغبن الفاحش، فإن كان العاقد قد دخل على بينة، ولم يقع تحت تغرير الآخر، فليس له الحق في المطالبة في إبطال العقد أو تغييره بحجة الغبن، كما لو اشترى شخص شيئًا أعجبه بثمن يعادل ضعف قيمته من شخص لا يقبل أن يبيعه إلا بهذا الثمن؛ وذلك لأن الغبن قد رضي فيه المشتري، ولم يقع تحت تغرير البائع، والمشتري نفسه هو الذي أغرى البائع بدفع هذا العوض الكبير؛ ليرضى بالبيع مقابل هذا العوض، والبائع لم يفكر في البيع إلا مع كون البيع فيه غبطة كبيرة له؛ ولأن المشتري إذا كان عالمًا بثمن السلعة، وزاد البائع على قيمتها فهو كالواهب لما زاد، وهذا لا يبطل البيع، وقد حكى فيه القرطبي الإجماع على جواز مثل ذلك. قال القرطبي: "والجمهور على جواز الغبن في التجارة، مثل أن يبيع رجل ياقوتة بدرهم، وهي تساوي مائة ألف، فذلك جائز، وأن المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ماله الكثير بالتافه اليسير، وهذا ما لا اختلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك، كما تجوز الهبة لو وهب" (¬1). جاء في البحر الرائق: "اختار عماد الدين الرد بالغبن الفاحش إذا لم يعلم به المشتري" قلت: مفهومه أنه إذا علم به المشتري فلا رد إذًا. ثم قال: "وقال الإِمام جمال الدين جدي: إن غره فله الرد، وإلا فلا" (¬2). ¬
القول الأول
وجاء في التاج والإكليل "حكى ابن القصار أن مذهب مالك: للمغبون الرد إذا كان فاحشًا، وهذا إذا كان المغبون جاهلاً بالقيم" (¬1). ومعناه: إذا لم يكن جاهلاً في القيمة، وعلم أنه مغبون فيها، ودخل على بينة فلا رد بدعوى الغبن. وقال ابن حزم: "ولا يحل بيع شيء بأكثر مما يساوي ولا بأقل مما يساوي ... إلا بمعرفة البائع والمشتري معًا بمقدار الغبن في ذلك، ورضاهما به" (¬2). [م - 108] أما إذا كان الغبن لم يقع تحت رضا المشتري، فهل يعتبر الغبن قادحًا في الرضا، والذي هو شرط في صحة البيع؟ اختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال: القول الأول له الرد مطلقًا، وبه يفتى في مذهب الحنفية (¬3)، واختاره البغداديون من المالكية (¬4)، وقول في مذهب الحنابلة (¬5). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ليس له الرد إذا لم يوجد تغرير. قال ابن نجيم الحنفي: وهو جواب ظاهر الرواية (¬1)، وهو قول في مذهب المالكية (¬2)، ومذهب الشافعية (¬3). القول الثالث: ليس له الرد إلا في صورتين في بيع الاستئمان والاسترسال، أو يكون البائع بالغبن أو المشتري به وكيلاً، أو وصيًا، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬4). والاستئمان والاسترسال: هما شيء واحد، كما ذكر العدوي في حاشيته على الخرشي (¬5). وهو أن يقول البائع: أنا لا أعلم قيمة سلعتي فاشتر سلعتي كما تشتري من غيري، أو يقول المشتري: أنا لا أعلم قيمة السلعة فبعني كما تبيع غيري، فيغبنه الآخر (¬6). ¬
القول الرابع
القول الرابع: ليس له الرد إلا في ثلاث صور: الأولى: في بيع المسترسل: وهو الجاهل بقيمة السلعة من بائع أو مشتر، ولا يحسن المماكسة. الثانية: في زيادة الناجش: وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها, ليضر المشتري. الثالثة: في تلقي الجلب: إذا اشترى منهم، أو باع لهم، فلهم الخيار إذا هبطوا السوق، وعلموا أنهم قد غبنوا، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة (¬1). والفرق بين الاسترسال عند المالكية والحنابلة: الاسترسال عند المالكية: أن يطلب المشتري، أو البائع من الآخر، أن يكون البيع بسعر السوق، فيكذب فيه، فموجب الرد بالغبن عندهم: جهل المشتري أو البائع بالقيمة، وكذب الآخر (¬2). وأما الاسترسال عند الحنابلة: أن يكون جاهلاً بالقيمة، ولا يحسن المماكسة، ولو لم يحصل كذب صريح من الطرف الآخر، ويثبت جهله إما بالبينة، وإما بقوله مع يمينه (¬3). ¬
القول الخامس
القول الخامس: الغبن يبطل العقد من أصله، وهو قول داود الظاهري (¬1). فتحصل مجموع الأقوال إلى ما يلي: الأول: للمغبون الرد مطلقًا. الثاني: ليس له الرد مطلقًا. الثالث: ليس له الرد إلا في بيع الاستئمان والاسترسال، وفي بيع الوكيل والوصي. الرابع: ليس له الرد إلا إذا غبن عن طريق تلقي الجلب، أو زيادة الناجش، أو كان مسترسلاً. الخامس: الغبن يبطل العقد من أصله. هذا ملخص الأقوال في المسألة، وإذا أردت أن تنظر في أدلة الأقوال فانظرها في مبحث خيار الغبن، فقد ذكرتها هناك، والحمد لله، والقول بعدم ثبوت الخيار قول قوي جدًا إلا أن القول بثبوت الخيار أقوى, لأن البيع قائم على العدل، والعدل أن يكون البائع والمشتري لا يقعان تحت طائلة الاستغلال ¬
وإذا ثبت الخيار في تلقي الجلب وفي زيادة الناجش كان الغاية من ذلك حتى لا يقع الجالب ونحوه تحت طائلة استغلال المشتري لجهل الجالب بسعر السوق، وإذا ثبت الخيار في تلقي الجلب كان الغبن في غيره مقيسًا عليه، ولا فرق، وإذا كان اشتراط عدم الغبن يمنع من صحة البيع إذا كان هناك غبن، فإن الشرط العرفي كالشرط اللفظي، فإن كل متعاقدين لا يرضى أحدهما أن يكون مغبونًا، ولو علم بالغبن لما أجرى العقد، وإذا لم يكن راضيًا بالغبن لم يتحقق شرط البيع: وهو التراضي بين المتعاقدين (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الشرط الثالث أن يكون العاقد مالكا للمعقود عليه
الشرط الثالث أن يكون العاقد مالكا للمعقود عليه ذكرنا فيما سبق من الشروط التي تشترط في العاقد: أهلية العاقد، فلا يصح بيع مجنون وسكران وصبي غير مميز، ومعتوه، ولا يصح بيع سفيه، وصبي مميز بغير إذن وليه. وأن يكون العاقد مختارًا (أي راضيًا) وتكلمنا عن العيوب التي تنافي الاختيار أو تقدح فيه من إكراه أو غلط أو تدليس أو غبن. وفي هذا الفصل نبحث إن شاء الله تعالى اشتراط أن يكون العاقد مالكًا للمعقود عليه أو مأذونًا له فيه، فإذا تصرف في ملك غيره بيعًا وشراء بدون إذنه فإنه يقع على نوعين من التصرف: الأول: أن يتصرف فيه لمالكه، وهذا ما يسمى لدى الفقهاء في بيع الفضولي، وهو محل البحث هنا، فقد يحتاج الإنسان إلى بيع ملك غيره، أو يشتري منه ماله قبل أن يرجع إلى المالك، بحيث لو انتظر، ورجع إلى المالك لفاتت الصفقة على المالك، ويكون الباعث على ذلك تحقيق مصلحة للمالك، بحيث يلحظ المتصرف غبطة للمالك في البيع، أو يغلب على ظنه أنه يسر بذلك. النوع الثاني: أن يتصرف في ملك الغير لنفسه، وليس لحظ المالك، وهذا هو الغاصب، وله أحكام مستقلة سوف نبحثها إن شاء الله تعالى في بابها، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. ***
المبحث الأول في حكم بيع الفضولي
المبحث الأول في حكم بيع الفضولي الفرع الأول في تعريف الفضولي تعريف الفضولي في الاصطلاح (¬1): هو من لم يكن وليًا, ولا أصيلاً، ولا وكيلاً في العقد (¬2). وقيل: بيع الفضولي: هو الذي يبيع مال غيره ممن لا ولاية له عليه، وليس وكيلا له، وعلى ما يشبه ذلك من التبرع بمال الغير بهبة أو عتق أو نحوهما، ومن استفادة الزوج مال زوجته، وهي ساكنة، ومن حضور رب الدين لقسم تركة مدينه (¬3). وإذا عرفنا بيع الفضولي، فلنعرف حكمه التكليفي وحكمه الوضعي. ... ¬
الفرع الثاني في الحكم التكليفي لتصرف الفضولي
الفرع الثاني في الحكم التكليفي لتصرف الفضولي [م - 109] الحكم التكليفي لتصرف الفضولي قد اختلف فيه الفقهاء على أقوال: القول الأول: يحرم بيع الفضولي وشراؤه، قال القرافي: وهو المعتمد يعني في مذهب مالك (¬1). القول الثاني: أنه مطلوب؛ لأنه من باب التعاون على البر والتقوى، اختاره بعض المالكية (¬2). القول الثالث: يمنع في العقار، ويجوز في العروض (¬3). ¬
الراجح
الراجح: الراجح من الخلاف ما قاله الحطاب، قال: "الحق أن ذلك يختلف بحسب المقاصد، وما يعلم من حال المالك أنه الأصلح له" (¬1). ولأن الناس يطلبون الربح في العادة، ويتطلعون له، فإذا باع أحد مالهم نيابة عنهم وكان ذلك في صالحهم لم يكن في ذلك اعتداء على حقهم، ولا ضياع لمالهم، فإن المالك هو من سوف يباشر قبض ماله، والأمر متوقف على إجازته، فإن أجازه، وإلا فحقه محفوظ. وهذا أرجح. وأما الحكم الوضعي لتصرف الفضولي فسوف نبحثه في المبحثين التالين إن شاء الله تعالى، ونتكلم في أحدهما عن بيعه، وفي الآخر عن شرائه، يسر الله ذلك بمنه وكرمه. ¬
الفرع الثالث خلاف الفقهاء في صحة بيع الفضولي
الفرع الثالث خلاف الفقهاء في صحة بيع الفضولي جاء في مجلة الأحكام العدلية: البيع الذي يتعلق به حق الغير كبيع الفضولي وبيع المرهون ينعقد موقوفًا على إجازة ذلك الغير (¬1). وجاء في موسوعة القواعد والضوابط الفقهية: الإجازة إذا لاقت عقدًا موقوفًا صحت (¬2). الموقوف قبل الإجازة لا يفيد الملك (¬3). [م - 110] اختلف الفقهاء في صحة بيع الفضولي على قولين: القول الأول: ينعقد بيع الفضولي، ويكون موقوفًا على إجازة المالك. وهذا القول هو مذهب الحنفية (¬4)، والقديم من قولي الإِمام ... ¬
القول الثاني
الشافعي (¬1)، ومذهب المالكية (¬2)، وأحمد في رواية عنه (¬3)، اختارها ابن تيمية (¬4)، وابن القيم (¬5). القول الثاني: بيعه باطل، وهو قول الشافعي في الجديد (¬6)، والمشهور من مذهب ¬
دليل من قال: يصح بيع الفضولي ويكون موقوفا على إجازة المالك.
الحنابلة (¬1)، واختيار ابن حزم (¬2). دليل من قال: يصح بيع الفضولي ويكون موقوفًا على إجازة المالك. الدليل الأول: استدلوا بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وقوله عز شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وقوله - سبحانه وتعالى -: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، فشرع - سبحانه وتعالى - البيع، والشراء، والتجارة، وابتغاء الفضل من غير فصل بين ما إذا وجد هذا من المالك بطريق الأصالة، وبين ما وجد منه عن طريق الإجازة، وبين وجود الرضا في التجارة عند العقد أو بعده، فيجب العمل بإطلاقها إلا ما خص بدليل. فالأصل في المعاملات الحل حتى يأتي دليل صحيح صريح على ثبوت النهي عن معاملة بخصوصها, ولا يوجد نهي صريح في عدم بيع الفضولي. ونوقش هذا: بأن هذه الآيات عامة، ومخصصة بالنهي عن بيع ما ليس عند الإنسان، وبالنهي عن بيع ما لا يملكه البائع. وسيأتي الجواب على هذا الاعتراض عند أدلة القائلين بالبطلان إن شاء الله تعالى. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، فعقد الفضولي فيه مصلحة للعاقدين، مصلحة للبائع حيث تم له بيع بضاعته بمبلغ له فيه مصلحة وغبطة، وقد يذهب المشتري ولا يعود، وفيه مصلحة للمشتري بحيث تيسر له حصوله على السلعة في وقت حاجته دون مشقة، والفضولي لم يبع لنفسه حتى يكون متهمًا، وإنما باع لغيره. ونوقش هذا: بأن بيع مال الغير ليس من البر والتقوى، بل هو من الإثم والعدوان. ورد هذا: بأن العدوان لو كان باعه على وجه الغصب، أما لو باعه لمالكه، فأين العدوان في هذا، وهو موقوف على إجازة صاحبه، فإن أجازه وإلا لم يرتفع ملكه. الدليل الثالث: (ح- 48) ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، وفي الحديث: فقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد، ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أد إليَّ أجري، فقلت له: كل ما تراه من أجرك من الإبل، والبقر، والغنم، والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني
وجه الاستدلال
لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك لي منه شيئًا، فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة .. الحديث (¬1). وجه الاستدلال: أن الرجل قد عمل على إنماء مال الغير بغير إذنه، فدل على جواز تصرف الفضولي، وهو وإن كان في شرع من قبلنا إلا أنه لم يأت في شرعنا ما يدل على منعه (¬2). الدليل الرابع: (ح- 49) ما رواه البخاري من طريق سفيان، حدثنا شبيب بن غرقدة، قال: سمعت الحي يحدثون عن عروة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارًا يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه. وجه الاستدلال: أن عروة قد أذن له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشراء شاة واحدة، ولم يأذن له بالبيع، فاشترى شاة أخرى، وباع، وكل ذلك كان من قبيل تصرف الفضولي، فأجازه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ودعا له بالبركة. ¬
نوقش هذا الحديث
[الحديث ضعيف بهذا الإسناد، حسن بطرقه] (¬1). نوقش هذا الحديث: الحديث ليس على شرط البخاري، ومقصود البخاري في ذكره ما كان موصولاً منه، وهو حديث (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: أن عقد الفضولي إذا أجازه المالك جاز قياسًا على الوصية بأكثر من الثلث، فإنها تصح وتكون موقوفة على إجازة الورثة. ¬
دليل من قال: بيع الفضولي باطل.
دليل من قال: بيع الفضولي باطل. الدليل الأول: (ح-50) ما رواه أحمد من طريق أبي بشر، عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام، قال: قلت يا رسول الله يأتيني الرجل يسألني البيع ليس عندي ما أبيعه، ثم أبيعه من السوق؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك (¬1). [منقطع يوسف لم يسمعه من حكيم] (¬2). (ح-51) وروى أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬3). [إسناده حسن] وجه الاستدلال: المقصود من النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان: أي ما ليس في ملكه وحيازته عند قيام العقد، وبيع الفضولي يصدق عليه أنه ليس ملكًا للبائع، ولا في حيازته، فيكون منهيًا عنه. ¬
ويجاب عنه
ويجاب عنه: بأن تصرف الفضولي في حقيقته، هو وكالة معلقة على الإجازة، فهو يبيع المال لمصلحة مالكه، وليس لمصلحته هو حتى يقال: كيف يبيع ما ليس عنده، وإذا كان يبيعه نيابة عن صاحبه فإنه لا يصح أن يقال: إن المبيع ليس مملوكًا لبائعه، ولو باع الفضولي السلعة المعينة لحظ نفسه بناء على أنه سوف يشتريها من صاحبها فيما بعد لم ينعقد البيع إجماعًا؛ لأنه باع ما لا يملك. قال ابن قدامة: "ولا يجوز أن يبيع عينًا لا يملكها, ليمضي، ويشتريها، ويسلمها رواية واحدة، وهو قول الشافعي، ولا نعلم فيه مخالفًا ... ثم ذكر حديث حكيم: لا تبع ما ليس عندك" (¬1). وقد أجاب بعضهم عن حديث حكيم بن حزام وحديث عبد الله بن عمرو، بأن النهي عن بيع ما ليس عندك يقصد به النهي عن البيع النافذ الذي تجري فيه أحكام البيع بمجرد انعقاده، أما البيع الموقوف على إجازة المالك فلم يتضمنه (¬2). [م - 111] وقد اختلف الناس في تفسير حديث: "لا تبع ما ليس عندك" إلى ثلاثة أقوال، ذكرها ابن تيمية في مواضع من كتبه، ونقله عنه تلميذه ابن القيم موافقًا له (¬3)، خلاصتها: أحدها: ما ذهب إليه الشافعي - رضي الله عنه - إلى أن حديث حكيم بن حزام إنما هو في النهي عن بيع المعين والربح فيه قبل تملكه (¬4). ¬
وهذا لا يختلف الفقهاء في منعه، وقد سبق نقل الإجماع. الثاني: اختيار الجمهور، وهو أن النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان، يشمل: بيع المعين مما ليس مملوكًا له. وفي هذا موافقة للشافعي - رحمه الله -. وبيع الموصوف في الذمة إذا كان حالاً، وهو ما يسمى بالسلم الحال (¬1) ¬
قال الجصاص: "ومنه ما روي أن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله، إني أرى الشيء في السوق ثم يطلبه مني طالب، فأبيعه، ثم أشتريه، فأسلمه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا تبع ما ليس عندك. فهذا عموم في كل بيع لما ليس عند الإنسان سواء، كان عينًا أو في الذمة" (¬1). الثالث: يرى ابن تيمية أن بيع ما ليس عند الإنسان، إن كان عينًا معينة ليست مملوكة له، فهو ممنوع، وإن كانت موصوفة في الذمة اشترط أن تكون عنده في ملكه. قال ابن تيمية: أظهر الأقوال ... أن معنى حديث حكيم بن حزام: لا تبع ما ليس عندك، أن يبيعه شيئًا موصوفًا حالاً، وهو لم يملكه، ويربح فيه قبل أن يدخل ضمانه، وقبل أن يكون قادرًا على تسليمه، أما إذا باعه موصوفًا في الذمة حالاً، وهو عند بائعه قادرًا على تسليمه، فلا حرج إن شاء الله تعالى. وإذا لم يكن جائزًا بيع ما في الذمة مما ليس هو مملوكًا للبائع، ولا يقدر على تسليمه، فبيع المعين الذي لم يملكه أولى بالمنع (¬2). وسوف تأتي مناقشة الراجح من هذه الأقوال عند الكلام على مسألة (بيع ما ليس عند البائع) في موانع البيع، فانظره هناك. وكل هذه الأقوال في تفسير حديث حكيم بن حزام (في النهي عن بيع ما ليس عند البائع) لا يدخل فيها تصرف الفضولي؛ لأن الفضولي لا يبيع ما ليس عنده ¬
الدليل الثاني
لحظه هو، وإنما يبيع المبيع من أجل حظ صاحبه، إلا أنه لم يأخذ تفويضًا منه بذلك، فهو يتصرف كوكيل من غير تفويض، فإذا أجازه مالكه، كان ذلك قبولاً لتوكيله. الدليل الثاني: (ح-52) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، ثنا مطر الوراق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يجوز طلاق، ولا بيع، ولا عتق، ولا وفاء نذر فيما لا يملك (¬1). (ح-53) ورواه أبو داود من طريق عبد العزيز بن عبد الصمد به، بلفظ: "لا طلاق إلا فيما تملك، ولا عتق إلا فيما تملك، ولا بيع إلا فيما تملك .. " الحديث (¬2). [ذكر بيع ما لا يملك تفرد بها مطر الوراق، وهو سيء الحفظ، وقد رواه غيره عن عمرو بن شعيب ولم يرد فيه ذكر النهي عن بيع ما لا يملك] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: قال النووي: ولأن الفضولي "باع ما لم يقدر على تسليمه، فلم يصح، كبيع الآبق، والسمك في الماء، والطير في الهواء" (¬1). ويجاب: بأن الطير في الهواء ليس عليه ملك لأحد قبل البيع، وما لا يقع عليه ملك، وليس مملوكًا لأحد لا يكون محلاً للبيع، ولهذا لو كان الطير مملوكًا، وكان يطير، ثم يعود إلى مكانه، وكان بإمكانه أن يمسكه جاز بيعه، وكذلك السمك في الماء لو كان في بركة محصورة، وكان مملوكًا، وكان يمكنه إخراج السمك جاز بيعه، وهو في الماء. الراجح: بعد استعراض أدلة الفريقين أجد مذهب الحنفية والمالكية القائلين بأن بيع الفضولي جائز، ويكون موقوفًا على إجازة المالك أقوى حجة من أدلة المانعين، والله أعلم. ¬
الفرع الرابع شراء الفضولي لغيره
الفرع الرابع شراء الفضولي لغيره [م - 112] بعد استعراض أقوال الفقهاء في بيع الفضولي، نعرض في هذا المبحث كلام أهل العلم في شراء الفضولي لغيره، والخلاف فيه لا يختلف كثيرًا عن الخلاف في بيعه. القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن الفضولي إما أن يضيف العقد إلى نفسه، وإما أن يضيفه إلى الذي اشتراه له، فإن أضافه لنفسه كان الشراء له، سواء أجازه من اشتري له، أو لم يجزه؛ لأن الشراء إذا وجد نفاذًا على العاقد نفذ عليه، ولا يتوقف على الإجازة؛ لأن الأصل أن يكون تصرف الإنسان لنفسه لا لغيره، إلا أن يجعله لغيره، أو لم يجد نفاذًا لعدم أهلية المشتري، فيتوقف على إجازة الذي اشتري له بأن كان الفضولي صبيًا محجورًا عليه، أو عبدًا محجورًا عليه، فاشترى لغيره، فيكون العقد موقوفًا على إجازة ذلك الغير؛ لأن الشراء لم يجد نفاذًا عليه (¬1). دليل الحنفية: إذا أضاف الفضولي العقد له، أو لم يذكر أنه يشتري لغيره فالأصل أن العقد له؛ لأن الأصل أن يكون تصرف الإنسان لنفسه، قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وقال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وشراء الفضولي كسبه حقيقة، فالأصل أنه له. أما إذا جعل العقد لغيره، كان متوقفًا على إجازة ذلك الغير؛ لأن تصرف ¬
القول الثاني
الإنسان وإن كان له باعتبار الأصل، فإن له أن يجعله لغيره بحق الوكالة ونحوها، وهنا جعله لغيره فيكون موقوفًا على إجازة المالك، فإذا أجازه جاز، وقد ذكرنا الأدلة على صحة العقد بالإجازة في بيع الفضولي، والبائع: أحد المتعاقدين، فإذا جاز البيع بالإجازة جاز الشراء بها. القول الثاني: ذهب مالك رحمه الله تعالى (¬1)، والشافعي في القديم (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3)، اختارها ابن تيمية (¬4)، وابن القيم (¬5) إلى أن الشراء من الفضولي كالبيع يكون موقوفًا على إجازة المالك. دليلهم على صحة الشراء بالإجازة. ذكرنا أدلتهم في بيع الفضولي، وكونه موقوفًا على إجازة المالك، وحكم الشراء حكم البيع؛ لأن المشتري أحد المتعاقدين. قال في مواهب الجليل: "وحكمه -يعني شراء الفضولي - كبيعه" (¬6). القول الثالث: ذهب الشافعي في الجديد (¬7)، ................ ¬
القول الرابع
وأحمد في رواية (¬1) إلى أن شراء الفضولي باطل كبيعه. ذكرنا أدلتهم في بطلان بيع الفضولي، وهي الأدلة نفسها التي احتجوا بها على بطلان شراء الفضولي. القول الرابع: ذهب الحنابلة في المشهور عندهم إلى أن الفضولي إن اشترى للغير بعين مال الغير، لم يصح الشراء، وإن اشترى له في ذمته، بلا إذنه، ولم يسمه في العقد، صح للغير بالإجازة، ولزم الشراء للفضولي بعدمها (¬2). تعليلهم: إذا اشترى للغير من مال الغير فالشراء لا يصح, لأنه تصرف في مال الغير بغير إذنه، فهنا لا يختلف الشراء عن بيع مال الغير. وإن اشترى له في ذمته، أي ليس بعين ماله، فلم يقع العقد على ملك غيره، ولم يسمه في العقد؛ لأنه إن سماه بالعقد فقد اشترى له بالوكالة، وهو لم ¬
تنبيه
يوكله، فإن لم يسمه صح الشراء مطلقًا لكن إن أجازه الغير أصبح ملكًا للغير، وإن لم يقبل الغير لزم الشراء الفضولي. والصحيح أن الشراء لا يختلف حكمه عن حكم البيع، وأن الشراء للغير جائز، ويكون موقوفًا على إجازة المالك، وقد ذكرنا الأدلة الكثيرة على جواز بيع مال الغير بغير إذنه ويكون موقوفًا على الإجازة، والشراء لا يختلف حكمه عن حكم البيع، والله أعلم. تنبيه: لا يقتصر تصرف الفضولي على البيع والشراء، فقد يتصرف بما هو مصلحة للغير من إنقاذ للمال، أو نفقة على العيال، أو على الدواب، أو ينفق على مال الغير بما يكون سببًا في حفظه من التلف، أو إنقاذه من الضياع، أو ينفق على إصلاح جدار يخشى سقوطه، ونحو ذلك، ولم يكن بمقدور الفضولي أن يرجع إلى صاحبه وقت التصرف ليأخذ منه إذنًا صريحًا في ذلك، وانتظار الإذن من المالك قد يفوت مصلحة، أو يوقع في مفسدة قبل حصول الإذن، فيرجع الفضولي فيما ينفقه على مال غيره إذا دفع ذلك بنية الرجوع، وكان الحامل على ذلك مصلحة الغير، وسوف يأتي إن شاء الله في بحوث قادمة ما يكشف هذه المسائل (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وبهذا نكون قد انتهينا من شروط العاقدين، وقد كان مناسبًا، ونحن نعقد مبحثًا خاصًا في أحكام العاقد أن نخصص فصلاً في اختلاف العاقدين، لعلاقة ذلك في عنوان البحث، ولكن أحببت أن أجعل ذلك ضمن كتاب الخيار، وأن يكون مسمى البحث (خيار لاختلاف المتبايعين) لأنه من غير المناسب أن أعقد مبحثًا في اختلاف المتعاقدين على المبيع، وأنا لم أبحث حتى الآن أحكام المبيع وأحكام الثمن، لهذا رأيت من المناسب أن أترك هذا الفصل من اختلاف المتعاقدين بعد معرفة أركان البيع، من صيغة، وعاقد، ومعقود عليه. والله أعلم. ¬
الباب الخامس في أحكام المعقود عليه (المبيع والثمن)
الباب الخامس في أحكام المعقود عليه (المبيع والثمن) تناولنا فيما سبق الركن الأول من أركان البيع: وهو الإيجاب والقبول (الصيغة)، وبينا أحكامها وشروطها. ثم تناولنا في الركن الثاني من أركان البيع، أحكام العاقد الذي يباشر الإيجاب، أو القبول في العقد؛ وبينا الكلام في أهلية العاقد، وكونه مختارًا مالكًا للمعقود عليه. وسوف نتناول في هذا الباب الركن الثالث من أركان البيع، وهو أحكام المعقود عليه من مبيع وثمن، وهذا أهم ما في عقد البيع؛ لأنه مقصوده، والغاية منه، وسوف نتناول إن شاء الله تعالى مباحث كثيرة متفرقة، منها: الشروط الشرعية المعتبرة في المعقود عليه. معرفة الأحكام التي تخص المبيع وحده. من ذلك (شمول المبيع، قبض المبيع، التصرف في المبيع قبل قبضه، تلف المبيع، حبس المبيع، مكان تسليم المبيع) معرفة الأحكام التي تخص الثمن وحده. من ذلك: (الفرق بين المبيع والثمن، تأجيل الثمن، تقسيط الثمن، تحديد الثمن عن طريق الإِمام (التسعير) أو عن طريق العاقدين (البيع بسعر السوق أو بما يبيع به
زيد، أو بما ينقطع به السعر، أو عن طريق الرقم، أو عن طريق بيوع الأمانة (التولية المشاركة، المرابحة، المواضعة). إلى غير ذلك من الأحكام التي لا بد من معرفتها عند دراسة أحكام المعقود عليه، لنكون بهذا قد تناولنا عقد البيع صيغة، وعاقدًا، ومعقودًا عليه. أسأل الله - سبحانه وتعالى - وحده عونه وتوفيقه.
تمهيد
تمهيد المبحث الأول في تعريف المبيع والثمن تعريف المبيع والثمن اصطلاحًا (¬1): عرفه الحنفية: بأنه العين التي تتعين في البيع، وهو المقصود الأصلي من البيع؛ لأن الانتفاع إنما يكون بالأعيان. والأثمان وسيلة للمبادلة (¬2). شرح التعريف: قول الحنفية: (العين التي تتعين في البيع) هذا من حيث الأصل، فالمبيع في ¬
التفريق بين الثمن والقيمة
الأصل: اسم لما يتعين بالتعيين، والثمن في الأصل: ما لا يتعين بالتعيين، وإن احتمل تغير هذا الأصل بعارض، بأن يكون ما لا يحتمل التعيين مبيعًا كالمسلم فيه (¬1). وقوله: (وهو المقصود الأصلي من البيع ... الخ) بمنزلة التعليل لما قيل، يعني أنه لما كان المقصود الأصلي من البيع هو المبيع دون الثمن، اشترط تعيينه، بمعنى: وجوده، والقدرة على تسليمه دون الثمن. وقيل في تعريف المبيع: السلعة التي جرى عليها عقد البيع (¬2). وعرف الثمن: بأنه اسم لما هو عوض عن المبيع (¬3). التفريق بين الثمن والقيمة: قال ابن نجيم في البحر الرائق نقلاً من السراج الوهاج "والفرق بين الثمن والقيمة، أن الثمن: ما تراضى عليه المتعاقدان، سواء زاد على القيمة، أو نقص. والقيمة: ما قوم به الشيء بمنزلة المعيار من غير زيادة ولا نقصان" (¬4). وفي درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "الثمن المسمى: هو الثمن الذي يسميه ويعينه العاقدان وقت البيع بالتراضي، سواء كان مطابقًا للقيمة الحقيقية، أو ناقصًا عنها، أو زائدًا عليها ... والقيمة: هي الثمن الحقيقي للشيء" (¬5). ¬
الفرق بين الثمن وثمن المثل
الفرق بين الثمن وثمن المثل: الفرق بين الثمن وثمن المثل في المقدار، كالفرق بين الثمن والقيمة، وذلك أن ثمن المثل: هو القيمة، وقد عرفنا الفرق بين الثمن والقيمة. يقول ابن القيم: "الضمان يكون بثمن المثل، وهو القيمة" (¬1). أما الفرق بينهما من ناحية متى يجب الثمن المسمى، ومتى يجب ثمن المثل، ومتى تجب القيمة فهناك فرق من هذا الموضوع. فالثمن المسمى: يجب في حال صحة العقد، وتراضي المتعاقدين. وأما وجوب القيمة أو ثمن المثل: فيكون في حالات منها كما إذا فات المبيع، وكان مقبوضًا بعقد فاسد، أو على وجه السوم، أو أتلفه غاصب. فإن كان المبيع مثليًا فالواجب فيه المثل إن وجد، وإن لم يوجد، أو كان المبيع متقومًا، لا مثل له، فالواجب القيمة. وسوف يأتي بسط هذه المواضع إن شاء الله تعالى في باب ضمان المبيع إذا تلف. الفرق بين الثمن والقيمة والسعر: قد عرفنا الثمن: وهو ما يصطلح عليه المتعاقدان بتراضيهما، سواء كان مساويًا للقيمة، أو زائدًا، أو ناقصًا عنها. وأما القيمة فهي الثمن الحقيقي للشيء. وأما تعريف السعر: فقد عرفه ابن عرفة بأنه "تحديد حاكم السوق لبائع المأكول فيه قدرًا للمبيع بدرهم معلوم" (¬2). ¬
الفرق بين الثمن والأجرة
فعلى هذا يكون السعر: هو ما يحدده الحاكم أو وليه وتتم المبادلة عليه. وقيل في تعريف السعر: ما تقف عليه السلع من الأثمان في سوقها, ولا يزاد عليها (¬1). فالسعر قد يكون أعلى من القيمة، وقد يكون مساويًا لها، وقد يكن ناقصًا عنها، كما قلنا في الثمن، إلا أن السعر يتحكم به إما الدولة الراعية للسوق، أو العرض والطلب، بينما الثمن يتراضى عليه العاقدان. وأما القيمة فهي مقدار ثابت مستقر يتوصل به إلى الثمن الحقيقي للشيء. الفرق بين الثمن والأجرة: عرفنا الثمن فيما سبق، وأما الأجرة، فجاء في تعريفها: "الأجرة: هي العوض الذي يعطى مقابل منفعة الأعيان، أو منفعة الآدمي" (¬2). فعلى هذا يكون الثمن في مقابل المبيع، والأجرة في مقابل المنفعة. ¬
المبحث الثاني المبيع والثمن هل هما مترادفان أو متباينان
المبحث الثاني المبيع والثمن هل هما مترادفان أو متباينان [م - 113] اختلف الفقهاء هل المبيع والثمن اسمان مترادفان، أو هما اسمان متباينان؟ على قولين: القول الأول: المبيع والثمن من الأسماء المتباينة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، واختاره بعض المالكية (¬2). واستدلوا على ذلك بأنه قد نقل عن الفراء بأن الثمن: اسم لما في الذمة، وهو إمام في اللغة. ولأن أحدهما يسمى ثمنًا، والآخر مبيعًا في عرف اللغة والشرع، واختلاف الأسامي دليل على اختلاف المعاني في الأصل، واستعمال أحدهما مكان صاحبه من باب التوسع؛ لأن كل واحد منهما يقابل صاحبه، فيطلق اسم أحدهما على الآخر لوجود معنى المقابلة، كما يسمى جزاء السيئة سيئة، وجزاء الاعتداء اعتداء (¬3). وجاء في حدائق الأزهار: "والمبيع يتعين، فلا يصح معدومًا إلا في السلم، أو في ذمة مشتريه، ولا يتصرف فيه قبل القبض، ويبطل البيع بتلفه واستحقاقه، ويفسخ معيبه، ولا يبدل، والثمن عكسه في ذلك غالبًا" (¬4). ¬
القول الثاني
وقال السرخسي في المبسوط: "ومن حكم الثمن أن وجوده في ملك العاقد عند العقد ليس بشرط لصحة العقد، وإنما يشترط ذلك في المبيع ... " (¬1). القول الثاني: ذهب بعض أهل العلم إلى أن المبيع والثمن من الأسماء المترادفة الواقعة على مسمى واحد، بدليل قوله تعالى: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [التوبة: 9]، فالثمن هنا هو المبيع؛ لأن الثمن لا يشترى، وإنما يشترى به، فأطلق الثمن وأراد به المبيع (¬2). وأجاب بعضهم عن الآية بأن قوله "ثمنًا" أي ذا ثمن. واختار الفراء بأن كل ما كان في القرآن من هذا الذي قد نصب فيه الثمن، وأدخلت الباء في المبيع فإن ذلك أكثر ما يكون في الشيئين لا يكونان ثمنين معلومين ... فمن ذلك: اشتريت ثوبًا بكساء، أيهما شئت تجعل ثمنًا لصاحبه؛ لأنه ليس من الأثمان، وما كان ليس من الأثمان مثل الرقيق والدور وجميع العروض فهو على هذا، فإذا جئت إلى الدراهم والدنانير وضعت الباء في الثمن، كما قال تعالى في سورة يوسف {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] (¬3). ... ¬
المبحث الثالث انقسام المعقود عليه إلى مثلي وقيمي
المبحث الثالث انقسام المعقود عليه إلى مثلي وقيمي تعريف المثلي والقيمي في الاصطلاح (¬1): تعريف الحنفي للمثلي: هو "كل ما يوجد له مثل في الأسواق بلا تفاوت يعتد به" (¬2). ¬
تعريف المالكية للمثلي والقيمي
والقيمي: "ما لا يوجد له مثل في السوق، أو يوجد لكن مع التفاوت المعتد به" (¬1). تعريف المالكية للمثلي والقيمي: لا يختلف تعريف المالكية عن تعريف الحنفية. فالمثلي عند المالكية: ما له مثل من مكيل أو موزون (¬2) زاد بعضهم: أو معدود (¬3). والقيمي: ما عدا المكيل والموزون والمعدود (¬4). تعريف آخر: المثلي: ما اتفقت قيم آحاده ... والقيمي: ما تفاوتت قيم آحاده. وذكر الباجي في المنتقى أن الأعيان نوعان: قسم تختلف صفاته كالخيل والإبل والبقر والغنم وسائر الحيوان والثياب والعروض، فإن هذا لا يكاد جملة منه تتفق آحادها، فهذا مثال للقيمي. وقسم ثان لا تختلف صفاته على الوجه الذي ذكرناه كالجوز، والبيض، فهذا تتفق صفات آحاده، كما تتفق قيمه، فهذا هو المثلي (¬5). ¬
تعريف الشافعية
تعريف الشافعية: عرف الشافعية المثلي بقولهم: "ما حصره كيل أو وزن وجاز السلم فيه. فخرج بقيد الكيل أو الوزن ما يعد كالحيوان أو يذرع كالثياب. وبجواز السلم فيه: الغالية والمعجون" (¬1). وقال في إعانة الطالبين: "ما حصره كيل أو وزن ... بمعنى أنه يقدر شرعًا بالكيل أو الوزن، وليس المراد ما أمكن فيه ذلك، فإن كل شيء يمكن وزنه حتى الحيوان" (¬2). وأما المتقوم: فهو ما قابل المثلي، أي كل ما عدا المكيل والموزون فهو متقوم (¬3). تعريف الحنابلة: قال في الروض المربع: المثلي: "كل مكيل أو موزون لا صناعة فيه مباحة، يصح السلم فيه" (¬4). فمن خلال هذه التعريفات نستطيع أن نخرج بما يلي: المكيل والموزون مثلي بالاتفاق. المعدود المتقارب، لا يعتبر من المثليات عند الشافعية والحنابلة مطلقًا. قال في تحفة المحتاج: "فما حصره عد أو ذرع كحيوان وثياب متقوم" (¬5). ¬
ويعتبر مثليًا عند الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وأما المصنوع فالحنفية قسموا المصنوعات إلى نوعين: "النوع الأول - التي لا تختلف باختلاف الصنعة كالدراهم والدنانير، فالريالات والجنيهات المصنوعة في زماننا المتداولة بين الناس هي وإن كانت من المصنوعات إلا أنها غير مختلفة باختلاف الصنعة؛ لأنها لم تكن من مصنوعات اليد بل هي تصاغ بقالب ولذلك فالجنيه ... الذي هو بمائة قرش مثل للجنيه الآخر بذات القيمة، كما أن الريال ذا العشرين قرشا مثل للريال الآخر ذي العشرين قرشًا. كذلك الجوخ الذي من جنس واحد والأقمشة التي هي من مصنوعات معمل واحد من هذا القبيل ... النوع الثاني - المصنوعات التي تختلف باختلاف الصنعة، كأباريق النحاس والقدور، والأسورة، ومع أن الفضة هي من المثليات، فكون الأسورة المعمولة منها قيمية هو بسبب الصنعة؛ لأن الصانع يصنع الأسورة بصور مختلفة، ولذلك فالأسورة المصنوعة من عشرين درهما فضة أو ذهبا ليست مثلا للأسورة الأخرى المعمولة عن عشرين درهما فضة أو ذهبا" (¬3). ¬
الراجح من التعريفات
ولم يعتبر المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة المصنوع مثليًا (¬3)، وهذا الذي قالوه إنما كان حكمهم على صناعة عصرهم رحمهم الله حيث كانت الصناعة يدوية، وأما الآن فإن الصناعة دخلتها الآلة، فهي أدق في التشابه من تشابه المكيل والموزون بنظيره. واشترط الشافعية الحنابلة في الصناعة أن تكون مباحة، فإن كانت محرمة فإنها لا تؤثر, لأن الصناعة المحرمة لا قيمة لها شرعًا، فوجودها كعدمها، فلا تخرج المثلي عن طبيعته (¬4). الراجح من التعريفات: بعد استعراض تعريفات المذاهب للمثلي والقيمي نخلص إلى أن التعريف المختار هو تعريف الحنفية فهو أدق التعريفات وأصوبها، وخلاصته: أن المثلي ما كان له مثل في السوق، دون تفاوت يعتد به، سواء كان من المكيلات أو الموزونات أو المعدودات أو المذروعات، وسواء دخلته الصناعة أو لم تدخله، فالعبرة فيه هو وجود المماثل، وأن القيمي: ما لا يوجد له مثل في السوق، أو يوجد مثله مع تفاوت معتد به. ولذلك اعتمده في مواده صاحب مجلة الأحكام الشرعية الحنبلي (¬5). ... ¬
فرع الأثر الفقهي في تقسيم المال إلى مثلي وقيمي
فرع الأثر الفقهي في تقسيم المال إلى مثلي وقيمي عرفنا في المبحث السابق تعريف المثلي والقيمي، كما عرفنا قبله أثر هذا التقسيم لدى الفقهاء في تحديد المبيع من الثمن، ولم يكن هذا هو الأثر الوحيد نتيجة هذا التقسيم، بل يوجد آثار كثيرة في أبواب متفرقة، كالضمان، والقرض، والقسمة، وإليك بيانها: الأول: في تحديد المبيع من الثمن سبق لنا في مبحث سابق أن المعقود عليه إذا كان أحدهما مثليًا، والآخر قيميًا، فإن الحنفية يرون أن المثلي، هو الثمن لثبوته في الذمة. وأن القيمي: هو المبيع. وقد ذكرنا الخلاف، ودليل كل قول، فأغنى عن إعادته هنا. ثانيًا: في استقراض المال إذا كان المال مثليًا صح أن يكون دينًا في الذمة بالاتفاق, لأنه ينضبط بالصفة، كما جاء في الحديث: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" متفق عليه (¬1)، على خلاف بين العلماء في بعض الأموال هل هي مثلية، أو غير مثلية، كالخلاف في الحيوان. [م - 114] وأما المال القيمي، فهل يثبت دينًا في الذمة؟ اختلف العلماء في هذه المسألة: ¬
فقيل: المال القيمي لا يثبت دينًا في الذمة، وهو مذهب الحنفية، وأصح القولين في مذهب الشافعية" (¬1). ¬
وقيل: يجوز قرض كل شيء إلا الجواري، وهو قول في مذهب المالكية (¬1). وقيل: يجوز قرض غير المثلي، ويرد بدلاً منه قيمته، وهو قول في مذهب الشافعية (¬2)، ........................................................ ¬
دليل من قال: لا يجوز في المتقوم جعله دينا في الذمة.
ووجه في مذهب الحنابلة (¬1)، وهو الراجح. دليل من قال: لا يجوز في المتقوم جعله دينًا في الذمة. قالوا: إن المقرض لا يرد عادة عين ما اقترض، بل الغالب أن يتصرف فيه ببيع، أو هبة، أو استهلاك، فيحتاج إلى رد مثله، والمتقوم ليس له مثل، فلا يصح قرضه. دليل من قال: يجوز جعل المتقوم دينًا في الذمة. الدليل الأول: الأصل في معاملات الناس الحل والجواز، ولو كان ممنوعًا شرعًا لجاء النص الشرعي الصحيح بمنع ذلك، ولم يقم دليل على المنع. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-54) ما رواه الخطيب في تاريخه من طريق شيخ بن عميرة بن صالح الأسدي، حدثنا الزبير، قال: حدثتني أم كلثوم ابنة عثمان بن مصعب بن الزبير، عن صفية ابنة الزبير بن هشام بن عروة، عن جدها هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخبز والخمير نقرضهم، ويردون أكثر أو أقل، فقال: ليس بهذا بأس، إنما هذه مرافق الناس، لا يراد بها الفضل (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن المقترض إذا لم يتمكن من رد القرض نفسه، فإنه يدفع قيمته، كما لو وجب عليه ضمانه لسبب آخر من إتلاف ونحوه، والقول قول المقترض؛ لأنه غارم. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: أن القرض القصد منه الإرفاق والإحسان والمسامحة، ولذلك جاز النساء فيه بين الأموال الربوية، مع أنه في عقد المعاوضة محرم إجماعًا، فجواز دفع القيمة بدلاً من القرض يجوز من باب أولى، فباب القرض أخف من باب البيع. يقول ابن تيمية: "باب القرض أسهل من باب البيع، ولهذا يجوز على الصحيح قرض الخبز عددًا، وقرض الخمير" (¬1). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: المقرض والمقترض يعلمان أن هذا المال ليس له مثل، وأن القيمة سوف تدفع بدلاً منه، وتراضيا على ذلك، فأي محذور شرعي في منعه، فإن كان المنع حقًا لله، فلا بد من وجود نص من كتاب، أو سنة صحيحة يمنع منه، ولا وجود لذلك، وإن كان المنع حقًا لآدمي، فالغرر فيه يسير يتسامح فيه في باب القرض الذي هو من باب الإحسان, وقد تراضى المقرض والمقترض على ذلك، وطابت به نفوسهما، وهذا هو الذي يتمشى مع مقاصد الشرع في هذا العقد، وقضاء حاجة المحتاج، وعدم دفع المحتاج إلى معاملات التورق، ورفع السعر عليه مقابل التأجيل. الراجح: أن كل ما جاز بيعه جاز قرضه، سواء كان آدميًا أو غيره، وسواء كان مثليًا أو متقومًا، والقرض ليس من عقود المعاوضات، وإنما هو من عقود الإرفاق والإحسان, والله أعلم. ثالثًا: في باب الضمان. [م - 115] إذا تلف الشيء في يد من عليه ضمانه (¬1)، فإن الواجب يختلف ¬
بين المثلي والقيمي. فقيل: عليه رد مثله إن كان مثليًا، أو قيمته إن كان متقومًا. وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: يجب رد المثل مطلقًا، اختاره العنبري من الحنابلة (¬5). وقال ابن حزم: يجب رد المثل مطلقًا، فإن عدم المثل فالمضمون مخير بين أن يمهله حتى يوجد المثل، وبين أن يأخذ القيمة (¬6). وقيل: يضمن المثلي وغيره مطلقًا بالقيمة، اختاره بعض الفقهاء (¬7)، وهو رأي الهادوية (¬8). ¬
رابعا: في باب القسمة
وقد ذكرت ولله الحمد أدلة كل قول في باب تلف المبيع، وكيفية الضمان في المجلد الثالث من هذه المجموعة. رابعًا: في باب القسمة [م - 116] فالمال المشترك بين رجلين أو أكثر إذا كان مثليًا كالمكيل والموزون والمعدود المتقارب تدخله القسمة جبرًا: أي يجبر الشريك على القسمة، ويتولاها القاضي. قال المرداوي في الإنصاف: "إذا طلب أحدهما قسمه وأبى الآخر أجبر عليه بلا نزاع" (¬1). وأما المال القيمي، فإن كان مما يمكن قسمه بلا ضرر، ولا يحتاج إلى رد عوض، كالأرض الواسعة، والقرى والبساتين والدور الكبار والدكاكين الواسعة فإنه يقسم قسمة إجبار كالمال المثلي. وإن كان مما لا يمكن قسمه، إلا بضرر كنقص القيمة، أو برد عوض من أحدهما على الآخر لم يجبر أحدهما على القسمة. قال في البحر الرائق: "القسمة ثلاثة أنواع: قسمة لا يجبر الآبي عليها، كقسمة الأجناس المختلفة. وقسمة يجبر عليها الآبي كقسمة ذوات الأمثال كالمكيل والموزون. ¬
وقسمة يجبر الآبي في غير المثليات كالثياب من نوع واحد، والبقر والغنم" (¬1). وقال في المهذب: "وإن طلب أحد الشريكين القسمة وامتنع الآخر نظرت، فإن لم يكن على واحد منهم ضرر في القسمة كالحبوب والأدهان والثياب الغليظة وما تساوت أجزاؤه من الأرض والدور أجبر الممتنع؛ لأن الطالب يريد أن ينتفع بماله على الكمال، وأن يتخلص من سوء المشاركة من غير إضرار بأحد فوجبت إجابته إلى ما طلب، وإن كان عليهما ضرر كالجواهر، والثياب المرتفعة التي تنقص قيمتها بالقطع، والرحى الواحدة، والبئر والحمام الصغير لم يجبر الممتنع لقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا ضرر ولا إضرار، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إضاعة المال؛ ولأنه إتلاف مال وسفه يستحق بها الحجر فلم يجبر عليه". قال ابن رجب في قواعده: "إن كان المشترك مثليًا، وهو المكيل والموزون، وامتنع أحد الشريكين من الإذن في القسمة أو غاب، فهل يجوز للشريك الآخر أخذ قدر حقه منه بدون إذن الحاكم؟ على وجهين: (أحدهما): الجواز وهو قول أبي الخطاب. (والثاني): المنع وهو قول القاضي؛ لأن القسمة مختلف في كونها بيعا وإذن الحاكم يرفع النزاع" (¬2). وسوف يأتي مزيد بحث لهذه المسألة إن شاء الله تعالى في بابها، وإنما أردت هنا الإشارة إلى الآثار المترتبة على تقسيم المال إلى مثلي وقيمي، ولم أقصد تحرير قسمة المال المشترك بين الشركاء، وكيف يقسم، والله أعلم. ¬
الفصل الأول في كيفية تعيين المبيع من الثمن
الفصل الأول في كيفية تعيين المبيع من الثمن المبحث الأول تعيين المبيع من الثمن في مبادلة سلعة بنقد عقد البيع: هو عقد مبادلة مال بمال، أحدهما يسمى (مبيعًا) يدفعه البائع، والآخر يسمى (ثمنًا) يدفعه المشتري، وتارة يكون الثمن نقودًا، وتارة يكون عروضًا. والسؤال: كيف يتم تعيين المبيع من الثمن؟ وللجواب على ذلك يقال: [م - 117] إذا كان أحد العوضين نقودًا، والآخر سلعة، فهل النقد هو الثمن، ولا تأثير لباء الثمنية، أم أن ما تدخل عليه الباء هو الثمن؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ذهب جماهير أهل العلم إلى أن النقود ثمن دائمًا، ولا أثر للصيغة -أعني سواء دخلت الباء على المبيع، أو على الثمن- حتى لو قال: بعتك دينارًا بهذه السلعة، فإن الدينار هو الثمن رغم دخول الباء على (السلعة) وهي تدخل عادة على الثمن (¬1). ¬
الوصف الأول
وإنما كانت الدراهم والدنانير هي الثمن لثلاثة أوصاف: الوصف الأول: أن الدراهم والدنانير هي أثمان المبيعات، وهي المعيار الذي يعرف عن طريقه تقويم الأموال، فالأشياء سلع، والأثمان تعرف بواسطتها قيمة السلع، ولو كانت النقود سلعًا لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء. الوصف الثاني: أن الثمن لا يقصد لعينه، بل يقصد التوصل به إلى السلع، فإذا صارت في أنفسها سلعًا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس، وهذا معنى معقول يختص بالنقود (¬1). الوصف الثالث: أن النقود لا تتعين بالتعيين، بخلاف السلع. قال القرافي "أجمع الناس على أن العروض تتعين بالتعيين، وكذا الحيوان والطعام؛ لأن لهذه الأشياء من الخصوصيات والأوصاف ما تتعلق به الأغراض الصحيحة, وتميل إليه العقول السليمة، والنفوس الخاصة، لما في تلك المعينات من الملاذ الخاصة في تلك الأعيان" (¬2). ولذلك وجود الثمن في ملك العاقد عند العقد ليس بشرط في صحة العقد، ¬
القول الثاني
وإنما يشترط ذلك في المبيع؛ لأن الثمن إنما يثبت دينًا في الذمة، ولا يتعين بالتعيين. قال الفراء: الثمن: ما ثبت في الذمة. والفراء إمام في اللغة (¬1). (ح-55) ولما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هو يريد أن يدخل بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا، وبينكما شيء (¬2). [اختلف في رفعه ووقفه، ورجح شعبة والدارقطني وقفه] (¬3). قال السرخسي: "وإذا ثبت جواز الاستبدال بالثمن قبل القبض، ثبت أن فوات التسليم فيه لا يبطل العقد؛ لأن في الاستبدال تفويت التسليم فيما استحق بالعقد، وبهذا ثبت أن ملكه عند العقد ليس بشرط؛ لأن اشتراط الملك عند العقد: إما لتمليك العين، والثمن دين في الذمة. أو للقدرة على التسليم، ولا أثر للعجز عن تسليم الثمن في العقد" (¬4). القول الثاني: أن الثمن هو ما دخلت عليه الباء مطلقًا، وهو وجه في مذهب ¬
الشافعية (¬1)، ومذهب الحنابلة (¬2). ورجحه شيخنا محمَّد بن صالح العثيمين - رحمه الله -. قال في الشرح الممتع: "قال بعض العلماء: الثمن ما دخلت عليه الباء، فإذا قلت: بعت عليك ثوبًا بدرهم، فالثمن الدرهم، وإذا قال: بعت عليك درهما بثوب، فالثمن الثوب ... وهذا هو الأظهر حتى في عرف الناس، أن الثمن ما دخلت عليه الباء" (¬3). والأول أقوى من حيث الحجة، والله أعلم (¬4). ¬
المبحث الثاني تعيين المبيع من الثمن في مبادلة النقد بمثله
المبحث الثاني تعيين المبيع من الثمن في مبادلة النقد بمثله إذا كان كل من العوضين نقودًا، كما لو باع دراهم بدنانير، أو ريالاً بجنيه، فكيف نعرف الثمن من المبيع؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: كلاهما ثمن من وجه، ومبيع من وجه آخر، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقال الكاساني: "أما الصرف فلأن كل واحد من بدلي الصرف مبيع من وجه، وثمن من وجه؛ لأن البيع لا بد له من مبيع، إذ هو من الأسماء الإضافية، وليس أحدهما بجعله مبيعًا أولى من الآخر، فيجعل كل واحد منهما مبيعًا من وجه، وثمنا من وجه" (¬2). القول الثاني: الثمن ما دخلت عليه الباء، وهو مذهب الجمهور (¬3). لأن الباء من معانيها التعويض، كما في قوله تعالى: {اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [البقرة: 86]، فالدنيا والآخرة كلاهما يطلق عليه حياة، فتعين الثمن بما دخلت عليه الباء، فالمثمن الدنيا والثمن الآخرة. ¬
المبحث الثالث تعيين المبيع من الثمن في مبادلة سلعة بمثلها
المبحث الثالث تعيين المبيع من الثمن في مبادلة سلعة بمثلها إذا كان العوضان من السلع، فكيف يتم تحديد المبيع من الثمن؟ وللجواب على ذلك يقال: تختلف السلع بعضها عن بعض، فبعض السلع تكون مثلية، وبعضها قيمي: والسلعة المثلية: هي كل سلعة يوجد لها مثل في الأسواق بلا تفاوت يعتد به (¬1). وأما السلعة القيمية: فهي ما لا يوجد لها مثل في السوق، أو يوجد لكن مع التفاوت المعتد به (¬2). وإذا كان الأمر كذلك فلا تخرج القسمة في حالة كون المبيع سلعة بسلعة عن الآتي: (1) مبادلة سلعة مثلية بسلعة قيمية: [م - 118] إذا بيع مال قيمي بمال مثلي، فلا يخلو من حالتين: (أ): أن يكون المال المثلي معينًا كما لو أشير إليه مثلاً، كبعتك هذه الفرس بهذه المائة صاع من البر. أو قال: بعتك هذه المائة صاع من القمح، بهذه الفرس. فالقيمي هو المبيع، والمثلي هو الثمن، ولا عبرة بالصيغة، وهذا مذهب الجمهور (¬3). ¬
(2) مبادلة مال مثلي بمال مثلي.
لأن الثمن هو ما يثبت دينًا في الذمة، والمال المثلي: هو الذي يقبل أن يكون دينًا في الذمة. وقيل: الثمن ما دخلت عليه الباء، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقد ذكرنا دليلهم في المسألة السابقة. (ب) أن تكون الأموال المثلية غير معينة، فالثمن هو العوض المقترن بالباء، كما لو قال: بعتك هذه الفرس برطل من البر، فالبر هو الثمن، لدخول الباء عليه، ولو قال: بعتك رطلاً من البر بهذه الفرس، فالفرس هي الثمن، وهو من بيع السلم؛ لأن المبيع موصوف في الذمة، والثمن معجل، وهذا حقيقة السلم (¬3). (2) مبادلة مال مثلي بمال مثلي. إذا بيع مال مثلي بمال مثلي، فإما أن يكونا معينين، أو يكون أحدهما معينًا، والآخر موصوفًا في الذمة. فإن كانا معينين فما صحبه الباء فهو الثمن، والآخر مبيع. وإن كان أحدهما معينًا، والآخر موصوفًا في الذمة، فما كان موصوفًا في الذمة فهو الثمن، وما كان معينًا فهو المبيع. هذا مذهب الحنفية (¬4). واختار الشافعية والحنابلة بأن السلعة إذا بيعت بسلعة، فالثمن ما اتصلت به الباء، والمبيع ما يقابله مطلقًا، سواء كان المال مثليًا أو كان غير مثلي. ¬
(3) مبادلة مال قيمي بمال قيمي.
جاء في روضة الطالبين: "وفي حقيقة الثمن أوجه ... أصحها أن الثمن النقد، والمثمن ما يقابله، فإن لم يكن في العقد نقد، أو كان العوضان نقدين، فالثمن ما ألصق به الباء، والمثمن ما يقابله" (¬1). وجاء في الإنصاف: "يتميز الثمن عن المثمن بدخول باء البدلية مطلقًا على الصحيح من المذهب. قدمه في التلخيص، والرعاية. وقال: وهو أولى ... وقيل: إن اشتملت الصفقة على أحد النقدين. فهو الثمن، وإلا فهو ما دخلته باء البدلية. نحو لو قال: بعتك هذا بهذا. فقال المشتري: اشتريت، أو قال: اشتريت هذا بهذا. فقال البائع: بعتك ... " (¬2). (3) مبادلة مال قيمي بمال قيمي. فقيل: كل منهما مبيع من وجه، وثمن من وجه، وهذا مذهب الحنفية. لأن البيع لا بد له من مبيع، إذ هو من الأسماء الإضافية، وليس أحدهما بجعله مبيعًا أولى من الآخر، فيجعل كل واحد منهما مبيعًا من وجه، وثمنا من وجه. وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الثمن ما دخلت عليه الباء، وقد تقدم ذكر مذهبهم ودليلهم، والله أعلم. الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأقوال، الذي تميل له نفسي أن ما يميز الثمن عن المبيع هو النقد إن وجد، فإن لم يوجد نقد كان ما يميز الثمن عن المبيع هو باء الثمنية، لا ¬
ثمرة الخلاف بين الحنفية والجمهور
فرق في ذلك بين الثمن المثلي والقيمي، بدليل أننا في السلم لو اشترى مائة رطل مؤجلة بثوب معين كان الثوب هو الثمن، ولا عبرة في المثلي والقيمي، والله أعلم. ثمرة الخلاف بين الحنفية والجمهور: الخلاف بين الجمهور والحنفية في تعيين المبيع من الثمن تظهر ثمرته في بعض الأحكام، منها: الفائدة الأولى: سبق لنا أن مذهب الحنفية لا يشترطون في المالية أن يكون المال مباح النفع، فالخمر عندهم مال لكنه غير متقوم، فكون الخمر ثمنًا يفسد العقد، ولا يبطله، وإذا كان مبيعًا فإنه يبطل العقد، بناء على مذهب الحنفية في التفريق بين العقد الفاسد والباطل، وقد سبق الكلام عليه. ومعنى هذا: أن التقوم في الثمن شرط صحة، والتقوم في المبيع شرط انعقاد. وحجتهم: أن المبيع يقصد لنفسه بالتملك والتمليك، والخمر لا يصح تملكه، فلا يصح أن يكون مبيعًا، وأما كون الخمر أو الخنزير ثمنًا، فالثمن وسيلة وليس مقصودًا بنفسه، ولذلك يجب في الذمة، وما يكون في الذمة لا يكون مقصودًا بنفسه، بل يكون وسيلة إلى المقصود، فينعقد البيع، ويجب على مشتريه القيمة (¬1). ¬
الفائدة الثانية
قال ابن عابدين: "وحاصله أن المال أعم من المتمول؛ لأن المال ما يمكن ادخاره ولو غير مباح كالخمر، والمتقوم ما يمكن ادخاره مع الإباحة، فالخمر مال لا متقوم، فلذا فسد البيع بجعلها ثمنًا، وإنما لم ينعقد أصلا بجعلها مبيعًا؛ لأن الثمن غير مقصود، بل وسيلة إلى المقصود؛ إذ الانتفاع بالأعيان لا بالأثمان، ولهذا اشترط وجود المبيع دون الثمن، فبهذا الاعتبار صار الثمن من جملة الشروط بمنزلة آلات الصناع ... قال في البحر: ثم اعلم أن البيع وإن كان مبناه على البدلين، لكن الأصل فيه المبيع دون الثمن، ولذا تشترط القدرة على المبيع دون الثمن، وينفسخ بهلاك المبيع دون الثمن" (¬1). الفائدة الثانية: لا يشترط وجود الثمن في ملك العاقد عند العقد، ولا القدرة على تسليمه، ولا يبطل العقد بهلاك الثمن. وقد سبق لنا قول ابن عابدين قبل قليل: "ولذا تشترط القدرة على المبيع دون الثمن، وينفسخ بهلاك المبيع دون الثمن". وقال السرخسي: "ومن حكم الثمن أن وجوده في ملك العاقد عند العقد ليس بشرط لصحة العقد، وإنما يشترط ذلك في المبيع ... " (¬2). الفائدة الثالثة: إذا كان الثمن يثبت في الذمة، وكانت النقود ثمنًا أبدًا، وما يقابلها فهو مبيع، فهل تتعين النقود بالتعيين بحيث لا يمكن استبدالها، ويبطل العقد إذا استحقت ¬
للغير أو تلفت، أو لا تتعين بالتعيين، فيجوز إبدالها، كما لو اشترى شيئًا بدراهم معينة، فله أن يحبسها، ويعطي البائع مثلها, ولا يبطل العقد بتلفها؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم، ولأهميتها سوف أفردها بالبحث إن شاء الله تعالى.
المبحث الرابع هل تتعين النقود بالتعيين
المبحث الرابع هل تتعين النقود بالتعيين [م - 119] الدراهم مثلية بالاتفاق, لأن آحادها متساوية، لا فرق فيه بين درهم وآخر، فإذا عينت بالعقد كما لو اشترى سيارة بهذه الدراهم، وقد عينها بالإشارة، فهل تتعين، ويتعلق حق البائع بعين هذه الدراهم، أو أنه يجوز أن يدفع له مثلها. اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: النقود لا تتعين بالتعيين، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، ورواية في مذهب الحنابلة (¬3). القول الثاني: النقود تتعين بالتعيين، وهذا القول هو مذهب الشافعية (¬4)، ومذهب الحنابلة (¬5). ¬
القول الثالث
القول الثالث: إن عينها الدافع تعينت، وإن عينها القابض لم تتعين، وهو قول في مذهب المالكية (¬1). القول الرابع: تتعين في الغصب والوديعة دون العقد، وهو رواية عن أحمد (¬2). وتظهر فائدة الخلاف في مسائل منها: لو تلفت تلك الدراهم قبل القبض، فعلى القول بأنها تتعين بالتعيين ينفسخ العقد، وعلى القول بأنها لا تتعين لا ينفسخ. ومنها: لو أراد أن يمسك تلك ويدفع بدلها، فعلى القول بأنها تتعين ليس له ذلك، وعلى القول بأنها لا تتعين يجوز. ومنها: لو وجد بتلك الدراهم عيبا وردها، فعلى القول بأنها تتعين بالتعيين ينفسخ العقد، وليس له طلب البدل، وعلى القول بأنها لا تتعين له ذلك. دليل الحنفية والمالكية على كونها لا تتعين: الدليل الأول: (ح-56) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع ¬
وجه الاستدلال
بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هو يريد أن يدخل بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا، وبينكما شيء (¬1). [اختلف في رفعه ووقفه، ورجح شعبة والدارقطني وقفه] (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أجاز استبدال الدراهم بالدنانير، ولم يستفصل الرسول - صلى الله عليه وسلم -, هل يستبدلون ذلك بالدراهم المعينة، أو غير المعينة، فدل على عدم تعيين النقود بالتعيين (¬3). الدليل الثاني: المقصود من الدراهم والدنانير رواجها لا عينها، وغير المعين يعمل عمل المعين، والمقصود منها المالية, وما وراء ذلك، هي والأحجار سواء، فعلمنا أن التعيين لا يفيد (¬4). ونوقش: بأن قولكم بأن التعيين لا يفيد غير مسلم, لأن المشتري قد يقصد بالتعيين أن لا يتعلق الثمن بذمته (¬5). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: الدراهم بمنزلة المكيال، وصنجة الميزان, المقصود قدرها لا عينها (¬1). ونوقش الاستدلال: بأن المكيال والصنجة ليستا بعوض، وإنما يرادان لمعرفة المقدار، ولا يثبت فيهما الملك بحال (¬2). دليل من قال: النقود تتعين بالتعيين. الدليل الأول: إذا تعينت النقود فإن العقد قد وقع على عينها، فتعلق الحكم بها، فلا يجوز استبدالها. الدليل الثاني: القياس على السلعة فإنها تتعين بالإجماع، والبيع عوض كالسلعة. الدليل الثالث: القياس على الغصب، فإن الدراهم والدنانير تتعين فيه بالإجماع، كذا قال النووي (¬3). ونوقش هذا: بأن الإجماع لم يثبت، وللغاصب أن يعطي المغصوب من غيرها ما دام من جنسها وقدر وزنها (¬4). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: القياس على ما لو أخذ صاعًا من صبرة، فباعه بعينه، فإنه يتعين بالإجماع، ولا يجوز أن يعطي صاعا آخر بدله من تلك الصبرة، مع أنه يعمل عمله (¬1). ويجاب: بأن هناك فرقًا بين السلع وبين النقود، فالنقود وسائل لتحصيل الأغراض من السلع، والمقاصد إنما هي السلع، فالنقود ليست مقصودة لذاتها (¬2)، هذا من وجه، ومن وجه آخر: أن السلع يشترط أن تكون مملوكة لبائعها وقت العقد إلا في السلم خاصة، وليست النقود كذلك. الدليل الخامس: يلزم على القول بأن النقود لا تتعين بالتعيين، أن من ملك دينارًا لم يملك عينه، ولا جنسه لبطلان القول به، فيلزم أن من ملك دينارا أو غيره من النقود لم يملك شيئًا على هذا القول، أو كيف يصح أن يقال: بأنه يملك الجنس الكلي، وهو ذهني عند مثبتيه (¬3). ونوقش هذا: بأن الكلام ليس في باب الملكية، وإنما الكلام في باب المعاوضات، هل يتعلق حق الغير بالذمة، أو يتعلق بذات النقود، بحيث لو سلم نقودًا غير التي عقد عليها، هل تبرأ ذمته بذلك، ولو كانت النقود تالفة هل يلزمه بدلها، أو ينفسخ البيع. ¬
تعليل من قال: إن عينها الدافع تعينت بخلاف القابض.
تعليل من قال: إن عينها الدافع تعينت بخلاف القابض. أن الدافع إذا عينها تعينت؛ لأنه أملك بها، وهو مالكها بخلاف القابض، فهو لا يملكها إلا بالقبض. تعليل من فرق بين باب الغصب والوديعة وباب المعاوضات. أن الرد في المغصوب والوديعة متعلق في عين الشيء لأنه ليس فيه ثمن ومثمن، ولذلك لو تلفت الوديعة بدون تعد ولا تفريط لم يضمن المودع، وأما الغاصب فإنه يضمن مطلقًا؛ لأنه متعد، فهو كما لو تعدى، أو فرط المودع، بخلاف باب المعاوضة فالحق متعلق في الذمة. الراجح: أرى أن القول الراجح هو القول بأن النقود لا تتعين بالتعين لقوة أدلته، وضعف الأقوال الأخرى، والله أعلم.
الفصل الثاني في شروط المعقود عليه (المبيع والثمن)
الفصل الثاني في شروط المعقود عليه (المبيع والثمن) الشرط الأول في طهارة المعقود عليه [م - 120] هل يشترط أن يكون كل من الثمن والمبيع طاهرين، أو تجوز المعاوضة على الأعيان النجسة؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: إذا جرى العمل بالانتفاع بالنجس, وتموله في غير الأكل جاز بيعه، ومثله الزيت الطاهر تقع فيه نجاسة، فتنجسه، ويكون الزيت هو الغالب فيجوز بيعه مع بيان عيبه، والانتفاع به في غير الأكل. وهذا القول هو مذهب الحنفية (¬1). ¬
القول الثاني
واختيار ابن قاسم من المالكية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2)، واختيار ابن حزم (¬3). القول الثاني: نجس العين لا يجوز بيعه، وكذا ما لا يمكن تطهيره من المتنجس, وهو مذهب الجمهور، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). ¬
وسبب الخلاف اختلافهم في علة المنع من بيع الميتة، بعد اتفاقهم على عدم ¬
جواز بيعها، فقد ثبت النهي عن بيع الميتة في حديث جابر المتفق عليه (¬1)، فهل العلة كونها نجسة؟ وبالتالي ينسحب الحكم على كل نجس من جماد، وحيوان، أو العلة، كونها ليست مالاً؛ لكون المنفعة فيها منتفية، فإن الميتة يحرم أكلها، وهو المنفعة المقصودة منها. ولذلك لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جلد الميتة: ألا انتفعتم بإهابها، قالوا: إنها ميتة، قال - صلى الله عليه وسلم -: إنما حرم أكلها. متفق عليه (¬2). كما اختلفوا بتفسير قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه" رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح (¬3). فأخذ بعضهم بظاهره، ورأى أن النجاسة يحرم أكلها، فيحرم أكل ثمنها. وخالف في ذلك بعضهم: قال ابن عبد البر: "إنما هو كلام خرج على شحوم الميتة التي حرم أكلها، ولم يبح الانتفاع بشيء منها، وكذلك الخمر، والمعنى في ذلك: أن الله تعالى إذا حرم أكل شيء، ولم يبح الانتفاع به، حرم ثمنه، وأما ما أباح الانتفاع به فليس مما عني بقوله: إن الله إذا حرم أكل شيء حرم عليهم ثمنه، بدليل إجماعهم على بيع الهر، والسباع، والفهود المتخذة للصيد، والحمر الأهلية، قالوا: وكل ما يجوز الانتفاع به يجوز بيعه" (¬4). ¬
دليل من قال: يجوز بيع النجس إذا جرى الانتفاع به.
وقال الباجي: "ما لا يجوز أكله مما معظم منفعته الأكل، لا يجوز أكل ثمنه، فلا يجوز أكل ثمن الخمر، ولا ثمن الخنزير، ولا الميتة، وما جرى مجرى ذلك، وأما ما له منفعة فإنه يجوز أكل ثمنه وإن لم يجز أكله كالعبيد والإماء، والله أعلم وأحكم" (¬1). دليل من قال: يجوز بيع النجس إذا جرى الانتفاع به. الدليل الأول: لم يرد نص صريح في النهي عن بيع النجس, والرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطي جوامع الكلم, لو كان بيع النجس لا يجوز لجاء النص الصريح في عدم جواز بيع النجس، والنهي عن بيع الميتة لا يلزم منه النهي عن بيع كل شيء نجس، بل يؤخذ من النهي عن بيع الميتة: النهي عن بيع ما لا نفع فيه، فإن الميتة المقصود منها أكلها، وهو حرام، فتبقى لا منفعة فيها. ونوقش هذا: بأننا لا نسلم أن الميتة لا نفع فيها فيما عدا الأكل، فهذا شحم الميتة يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح الناس بها، ومع ذلك لم يأذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيعها مع قيام هذه المنافع بين الناس. وسيأتي إن شاء الله تعالى مناقشة حديث جابر أثناء ذكر أدلة الجمهور. الدليل الثاني: المسلمون ما زالوا ينتفعون في السرجين، ويتمولونه، وهذا دليل على جواز ¬
ويناقش
بيعه، وإذا جاز بيع السرجين، وهو نجس العين، جاز بيع كل ما هو نجس مما جرى الانتفاع به، وتموله. قال ابن نجيم: "كره بيع العذرة إلا السرقين؛ لأن المسلمين يتمولون السرقين، وانتفعوا به في سائر البلاد والأمصار من غير نكير، فإنهم يلقونه في الأراضي لاستكثار الريع، بخلاف العذرة؛ لأن العادة لم تجر بالانتفاع بها ... " (¬1). ويناقش: بأن هناك فرقًا بين حل الانتفاع، وبين جواز البيع، فباب الانتفاع أوسع من باب البيع. يقول ابن القيم: "وينبغي أن يعلم أن باب الانتفاع أوسع من باب البيع، فليس كل ما حرم بيعه، حرم الانتفاع به، بل لا تلازم بينهما، فلا يؤخذ تحريم الانتفاع من تحريم البيع" (¬2). وقد يباح الانتفاع بعين ما, ولا يجوز بيعها كالكلب على الصحيح، وسيأتي إن شاء الله كلام أهل العلم في حكم بيعه. هذه من جهة، ومن جهة أخرى لا نسلم بنجاسة السرجين مطلقًا، والناس كانوا ينتفعون بسرجين الدواب الطاهرة، مثل بهيمة الأنعام، وهذا لا حرج فيه. ¬
دليل من قال: لا يجوز بيع النجس.
دليل من قال: لا يجوز بيع النجس. الدليل الأول: الأدلة الصحيحة على تحريم بيع الميتة، والخنزير. (ح-57) فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح، وهو بمكة: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام. فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة؛ فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها، جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه (¬1). وجه الاستدلال: لما بلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - النهي عن بيع الميتة، قال رجل: أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ... الخ أي فهل يحل بيعها لما ذكر من المنافع؛ فإنها مقتضية لصحة البيع، فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا هو حرام، أي البيع. قال النووي: "والضمير في "هو" يعود إلى البيع، لا إلى الانتفاع، هذا هو الصحيح عند الشافعي وأصحابه، أنه يجوز الانتفاع بشحم الميتة في طلي السفن والاستصباح بها، وغير ذلك مما ليس بأكل، ولا في بدن الآدمي، وبهذا قال أيضًا عطاء بن أبي رباح، ومحمد بن جرير الطبري" (¬2). ¬
ورجح ذلك ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحوم الميتة جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه مشعر بأن النهي عن البيع, لأن من نهي عن أكل شيء، ثم باعه، فأكل ثمنه كأنه أكل ما نهي عنه، مثله في ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10]، يدخل فيه ما لو باعه الرجل الرجل، فأكل ثمنه. فيكون قوله: لا هو حرام، أي لا تبيعوا الميتة، فتأكلوا ثمنها، كما باع اليهود شحوم الميتة، فإنكم في هذا بمنزلة من أكل الميتة. واستدل الخطابي على جواز الانتفاع بإجماعهم على أن من ماتت له دابة ساغ له إطعامها لكلاب الصيد، فكذلك يسوغ دهن السفينة بشحم الميتة، ولا فرق (¬2). ويدل على جواز الانتفاع أيضًا ما رواه الشيخان من حديث ابن عباس في شاة ميمونة، بلفظ: "هلا انتفعتم بإهابها، قالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها" (¬3). فهذا مشعر بحل الانتفاع بما عدا الأكل. وأجاب الحنفية وغيرهم: بأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا هو حرام: أي الانتفاع، فقال: يحرم الانتفاع بها، قال ¬
وجه الاستدلال
ابن حجر: "وهو قول أكثر العلماء، فلا ينتفع من الميتة أصلاً عندهم إلا ما خص بالدليل، وهو الجلد المدبوغ" (¬1). ونسب القول إلى الجمهور النووي في شرحه لصحيح مسلم (¬2). واستدلوا على هذا بأدلة منها: أولاً: إباحة الانتفاع بهذه الأشياء ذريعة إلى اقتناء الشحوم وبيعها. (ح-58) ثانيًا: ما رواه أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفأرة تقع في السمن، فقال: إن كان جامدًا، فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه (¬3). وجه الاستدلال: أن إباحة الانتفاع به في الاستصباح وغيره قربان له، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن قربان الدهن المتنجس، فما بالك بالدهن النجس. ونوقش هذا: بأن الحديث قد أخطأ فيه معمر في إسناده ومتنه، والمحفوظ منه: "ألقوها وما حولها، وكلوه" (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: نقل ابن المنذر الإجماع على تحريم بيع الخمر، والميتة، والدم (¬1)، وحكى ابن حجر الإجماع على تحريم بيع الخنزير (¬2). ونوقش: بأن العلة في بيع الخمر ليست النجاسة، وقد ذكرنا خلاف العلماء في نجاسة الخمر، وذكرت أن القول بالنجاسة قول العامة، والصواب طهارته، وهو ما رجحه شيخنا محمَّد بن عثيمين عليه رحمة الله، وقد حررت خلاف أهل العلم في نجاسة عينه فيما سبق (¬3). كما أن الخنزير مختلف في نجاسته حال الحياة، وقد ذكرت خلاف العلماء في ذلك (¬4)، وعلى القول بنجاسته، وهو الراجح، لا يسلم أن العلة في المنع من بيعه هو النجاسة، فقد تكون العلة عدم المالية، فإنه لا يشتمل على منفعة مباحة، ومع ذلك فالحنابلة يرون أن ما كان فوق الهرة في الخلقة مما لا يحل أكله نجس العين، ومع ذلك يجيزون بيعه، وذلك نحو سباع البهائم, والطير التي تصلح للصيد، وكذلك يجوز بيع القرد، والحمار، والبغل، ونحوها مع كونها نجسة عندهم، وهذا ضرب من التناقض. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ح- 59) ما رواه البخاري في صحيحه من طريق شعبة عن عون بن أبي جحيفة، قال: رأيت أبي اشترى عبدًا حجامًا، فأمر بمحاجمه، فكسرت، فسألته، فقال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب، وعن ثمن الدم ... الحديث (¬1). وجه الاستدلال: نص الحديث: النهي عن بيع الدم، قال ابن حجر: وهو حرام إجماعًا، يعني بيع الدم، وأخذ ثمنه (¬2). قال ابن عبد البر: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الدم، وهذا حديث صحيح، وظاهره عندي على غير ما تأوله أبو جحيفة، بدليل ما في حديث أنس هذا؛ لأن نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الدم ليس من أجرة الحجام في شيء، وإنما هو كنهيه عن ثمن الكلب، وثمن الخمر، والخنزير، وثمن الميتة، ونحو ذلك، ولما لم يكن نهيه عن ثمن الكلب تحريمًا لصيده، كذلك ليس تحريم الدم تحريمًا لأجرة الحجام؛ لأنه إنما أخذ أجرة تعبه وعمله" (¬3). وسيأتي بحث كسب الحجام إن شاء الله تعالى في بحث مستقل. ويناقش: بأن النهي عن ثمن الدم ليس لعلة النجاسة، وإن كان الأئمة الأربعة على نجاسة الدم، وإنما النهي عن ثمن الدم كالنهي عن ثمن ضراب الفحل. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (ح-60) ما رواه البخاري ومسلم من طريق ابن شهاب، عن أبي بكر ابن عبد الرحمن عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن (¬1). ونوقش هذا: بأن العلماء قد اختلفوا في نجاسة الكلب، وقد حررت كلامهم في كتابي أحكام الطهارة (أحكام النجاسات) وعلى القول بأنه نجس, وهو الصحيح، فإن العلة في المنع من بيعه مختلف فيها، فيرى بعض أهل العلم أن العلة النجاسة، ويرى آخرون أن العلة النهي عن اتخاذه، والأمر بقتله، ولا يمنع الإنسان من اقتناء السرجين النجس, فدل على وجود الفرق، وسيأتي إن شاء الله تعالى في بحث مستقل حكم بيع الكلب، وذكر أدلة الفريقين، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. الراجح: الخلاف في المسألة قوي، ولكل قول وجهة، فإن قلنا: يجوز بيع النجس إذا كان مشتملاً على منفعة، فما بال الميتة منع الشارع من بيعها مع وجود بعض المنافع، وإذا كان النهي عن الانتفاع بالميتة لكونها نجسة، فالناس ما زالوا ينتفعون بالأشياء النجسة كالكلاب، وسباع البهائم، والطير الصالحة للصيد، والذي أميل إليه: أن النجس الذي لا يمكن تطهيره إذا كان فيه منفعة، والناس محتاجون إليه، ولم يكن منهيًا عن بيعه بخصوصه، كالكلب، والميتة، فإنه لا حرج في بيعها؛ لأن المنفعة مال، ولأن الأعيان النجسة تملك، والملك سبب لإطلاق التصرف، والمنفعة المباحة يباح استيفاؤها، فيجوز أخذ العوض ¬
عليها، وأما ما نص على النهي عن بيعه من النجاسات، فلا يجوز بيعه، ولو كان مشتملاً على منفعة، هذا أحسن ما رأيت أن أذهب إليه، احترامًا للنص الشرعي، ولعدم التناقض، قال الشوكاني: "بيع تلك الأعيان المنصوص عليها في الأحاديث حرام باطل، ومن جادل في ذلك، وألزم بإلزامات مذهبية فهو منتصب للرد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما لنا ولكون فلان لم يعمل بكذا، أو ترك العمل بكذا فلزمه كذا، فإن هذه المباحثة بالجهل أشبه منها بالعلم، واستعمال القواعد الجدلية عند الكلام على الأدلة الشرعية من التلاعب الذي لا يرضاه متدين، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ... " (¬1). وأما المتنجس الذي يمكن تطهيره فهذا لا حرج في بيعه، وذلك مثل جلد الميتة إذا دبغ، فإنه بمنزلة الثوب تلحقه النجاسة، فيغسل، فيكون طاهرًا، وقد حررت الخلاف في طهارة جلد الميتة بالدباغ (¬2) ورجحت طهارته. وإذا علم ذلك فإن تطبيقات هذا الشرط (أعني اشتراط طهارة المعقود عليه) يدخل فيه مسائل كثيرة، منها حكم بيع الكلب، وبيع الميتة، وبيع الدم، وبيع السرجين، وبيع سباع البهائم والطير التي تصلح للصيد، وغيرها من المباحث، والتي سوف نناقشها إن شاء الله تعالى في فصل موانع البيع. ¬
فرع الصابون من الزيت النجس
فرع الصابون من الزيت النجس [م - 121] الزيت المتنجس إذا تحول إلى صابون فقد استحال إلى عين أخرى، فهل يحكم له بالطهارة؟ الجواب على ذلك ينبني على سؤال آخر، وهو هل تطهر النجاسة باستحالتها إلى عين طاهرة؟ وهي مسألة خلافية: فالعلماء مجمعون على أن الطعام الطيب إذا تحول إلى عذرة من بني آدم أصبح نجسًا, ولا ينظر إلى أصله، وأما إذا تحولت العين الخبيثة إلى عين طاهرة، هل تتحول إلى الطهارة؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين بعد اتفاقهم على طهارة الخمرة إذا انقلبت إلى خل بنفسها، وهذا بناء على القول بنجاسة الخمرة. القول الأول: إن الاستحالة مطهرة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، ومذهب المالكية (¬2)، واختيار ابن حزم (¬3)، ورجحه ابن تيمية (¬4). القول الثاني: لا تأثير للاستحالة، وهو مذهب الشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). ¬
وقد ذكرنا أدلة الأقوال، ومناقشتها، وبيان الراجح في كتابي موسوعة أحكام الطهارة، فانظره مشكورًا (¬1). ... ¬
الشرط الثاني اشتمال المعقود عليه على منفعة مباحة
الشرط الثاني اشتمال المعقود عليه على منفعة مباحة [م - 122] يجب أن يكون المعقود عليه مشتملاً على منفعة مباحة مطلقًا. لأن بذل المال في مقابلة ما لا منفعة فيه يعتبر من إضاعة المال، وقد نهينا عن إضاعة المال. (ح- 61) ما رواه الشيخان من طريق الشعبي، عن كاتب المغيرة عن المغيرة قال: إن الله كره لكم قيل وقال: وإضاعة المال، وكثرة السؤال (¬1). كما أن أخذ المال في مقابل ما لا منفعة فيه يعتبر من أكل أموال الناس بالباطل، وقد قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. ويكفي أصل المنفعة وإن قَلَّت قيمتها، كما في التراب والماء، ولا يقدح في المنفعة إمكانية تحصيلها بلا مؤنة أو تعب (¬2). جاء في مواهب الجليل "إذا تقرر اشتراط المنفعة فيكفي مجرد وجودها وإن قلت، ولا يشترط كثرة القيمة فيها, ولا عزة الوجود بل يصح بيع الماء، ¬
والتراب، والحجارة؛ لتحقيق المنفعة ... " (¬1). كما ينظر في المنفعة استحقاقها في المآل، ولا يشترط وجودها في الحال، كما لو اشترى جحشًا صغيرًا جدًا للركوب عليه، أو اشترى أرضًا سبخة ليعالجها، ثم يزرعها، إلا في الحبوب والثمار فيشترط بدو صلاحهما، وسيأتي الكلام عليهما في باب مستقل إن شاء الله تعالى (¬2). ويستثنى من ذلك الآدمي الحر، فإنه وإن كان مشتملاً على منفعة، فلا يجوز بيعه. (ح-62) لما روى البخاري من طريق إسماعيل بن أمية، عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا، فاستوفى منه، ولم يُعْطِ أجره (¬3). كما استثنى الجمهور بيع أم الولد كذلك (¬4). ¬
واختلفوا في بيع المدبر (¬1). ويمكن تقسيم الأشياء بالنسبة إلى المنفعة إلى أقسام: القسم الأول: ما لا منفعة فيه أصلاً إما لقلته كالحبة من الحنطة، أو لخسته كحشرات الأرض من الخنافس ونحوها، فلا يجوز بيعه. القسم الثاني: ما كان جميع منافعه محرمة، وهذا في الحكم بمنزلة ما لا منفعة فيه؛ لأن المنفعة المحرمة وجودها كعدمها. ¬
القسم الثالث: ما فيه منافع محللة، ومنافع محرمة، وهذا القسم هو الذي يكثر فيه الخلاف، ويمكن تقسيمه إلى أقسام: (أ) أن يكون جل منافعه، والمقصود منها محرمًا، والحلال منها تبعًا، فهذا يلحق بالقسم المنهي عن بيعه، ولذلك قال تعالى عن الخمر {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. (ب) أن يكون جل المنافع والمقصود منها حلالاً، والمحرم تبعًا، فيلحق بالقسم الجائز بيعه، كما في بعض البيوع التي فيها غرر يسير، أو غير مقصود. (ج) أن يكون فيه منافع مقصودة حلال، وفيه منافع مقصودة حرام، فهذا قد يختلف الحكم بحسب الغرض الذي عقد لأجله البيع، كجهاز التلفاز، والسلاح، والعنب، فإن من اشترى التلفاز ليرى فيه ما حرم الله، أو اشترى السلاح لغرض القتل المحرم، أو اشترى العنب بقصد عصره خمرًا حرم البيع في كل ذلك، وإن اشتراه لغرض منافعه المباحة كان ذلك مباحًا، والله أعلم (¬1). إذا علم هذا، فإن تطبيقات اشتراط أن يكون في المعقود عليه منفعة مباحة يدخل فيه مسائل كثيرة سوف نتعرض لها بالبحث، وما لم يذكر منها يكون إن شاء الله تعالى مقيسًا عليها، من ذلك: بيع المصحف، والهر، والقرد، والفيل، وسباع البهائم والطير، والحشرات، ولبن الآدميات، والسم، وبيع الدمى (لعب الأطفال المجسمة). ... ¬
المبحث الأول في بيع المصحف وشرائه
المبحث الأول في بيع المصحف وشرائه [م - 123] اختلف العلماء في بيع المصحف، فذهب الأئمة الأربعة إلى جواز الشراء، واختلفوا في البيع على ثلاثة أقوال: القول الأول: يجوز بيع المصحف، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3)، واختيار ابن حزم (¬4). القول الثاني: يكره البيع دون الشراء، وهذا مذهب الشافعي (¬5)، ورواية عن أحمد (¬6). القول الثالث: لا يجوز بيعه، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬7). ¬
دليل من قال: لا يجوز البيع
دليل من قال: لا يجوز البيع: الدليل الأول: (ث-9) ما رواه ابن أبي شيبة (¬1)، وعبد الرزاق (¬2) من طريقين عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: وددت أني رأيت الأيدي تقطع في بيع المصاحف. [صحيح] (¬3). الدليل الثاني: (ث-10) ما رواه عبد الرزاق (¬4)، وسعيد بن منصور في سننه (¬5)، ومن طريقه البيهقي (¬6)، من طريق سعيد بن إياس الجريري عن عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكرهون بيع المصاحف، وتعليم الغلمان بالأجر، ويعظمون ذلك. [إسناده صحيح]. ولأنه يجب صون القرآن من أن يكون في معنى السلع المبتذلة بالبيع. دليل من قال: يجوز البيع. الدليل الأول: الأصل في البيع الحل، وقد قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: ولأنه بيع مشتمل على منفعة، بل هي أعظم منفعة على الإطلاق، فصح بيعه. الدليل الثالث: ولأن في بيعه سببًا في نشره، وفي نشره انتشارًا للعلم وهو مقصد شرعي مطلوب، وإذا كان مصحوبًا بنية صالحة كان من العبادات. الدليل الرابع: ذكر بعضهم أن البيع يقع على الجلد، والورق، وبيع ذلك مباح (¬1). والصحيح أن البيع يقع على الجميع: الكتاب والمكتوب، ولو جرد الكتاب من المكتوب لذهب أكثر سعره، ولقلت الرغبة فيه، ولو قيل: إن البيع للورق وعمل الأيدي لكان أوجه، كما قال الشعبي - رحمه الله - (¬2)، ولكن يشكل عليه أن من يبيع القرآن قد لا يكون له فيه أي عمل، كحال محلات بيع الكتب اليوم. ويجاب عن قولهم: بأن في البيع امتهانًا وابتذالاً له: لو كان في بيع القرآن امتهان وابتذال، لكره بيع كتب العلوم الشرعية، كالحديث، والفقه، والتفسير، ونحوها، وقد اشتغل في البيع والشراء الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم. ولو منع الناس من بيعه لأدى ذلك إلى ندرة المصاحف في أيدي الناس، حيث يكلف اليوم طباعة المصحف المبالغ الطائلة. ¬
دليل من فرق بين البيع والشراء
دليل من فرق بين البيع والشراء: الدليل الأول: (ث- 11) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير عن جابر أنه قال: اشترها, ولا تبعها (¬1). صحيح، وإسناده حسن إن شاء الله. ورواه ابن أبي شيبة أيضًا من طريق قتادة، عن سعيد بن جبير (¬2). [وإسناده صحيح] (¬3). الدليل الثاني: أن في شراء المصحف دليلاً على الرغبة فيه، بخلاف البيع. والحقيقة أنه لو كره البيع لكره الشراء؛ لأن الشراء سبب في وجود البيع. وفي تفريقهم بين البيع والشراء يظهر أن الكراهة كراهة تنزيه، وأنه ينبغي أن يبذل كتاب الله، ولا يؤخذ عوض عليه، ولكن القول بالتحريم بعيد جدًا، فالذي يظهر لي أن بيعه وشراءه جائز، ولا فيه أدنى شبهة، ومع النية الصالحة في الاشتغال ببيع القرآن وبيع الكتب الشرعية السليمة الخالية من البدع ما يؤجر عليه الإنسان لنشره العلم النافع بين الأمة. ومع أن الحنفية أجازوا بيعه، واعتبروه مالاً متقومًا، إلا أنهم يرون أن سارق ¬
المصحف لا تقطع يده (¬1)، واختاره من الحنابلة أبو بكر والقاضي (¬2). وعلل الكاساني من الحنفية عدم القطع في سرقة المصحف؛ بأنه يدخر لا للتمول، بل للقراءة، والوقوف على ما يتعلق به مصلحة الدين والدنيا والعمل به (¬3). وهذا يعني أنه ليس بمال؛ لأن المال هو ما يتمول. وعلل بعضهم: بأنه لم يجب فيه القطع؛ لأن له فيه حق التعليم، فليس له منعه عمن يحتاج إليه (¬4). وذهب الجمهور من المالكية (¬5)، والشافعية (¬6)، وأبو الخطاب (¬7)، من الحنابلة إلى وجوب القطع في سارق المصحف إذا بلغت قيمته ما تقطع فيه اليد. وسوف يأتي إن شاء الله تعالى بحث هذه المسألة في مظانها. ¬
الفرع الأول في إبدال المصحف بمصحف آخر
الفرع الأول في إبدال المصحف بمصحف آخر [م - 124] هذه المسألة إنما تناقش في مذهب من يمنع، أو يكره بيع المصحف، وأما من أجاز بيع المصحف فالاستبدال مثله، أو أولى. قال ابن رجب: "لو أبدل مصحفًا بمثله جاز، نص عليه، بخلاف ما لو باعه بثمن. وذكر أبو بكر في المبادلة هل هي بيع أم لا؟ على روايتين، وأنكر القاضي ذلك، وقال هي بيع بلا خلاف، وإنما أجاز أحمد إبدال المصحف بمثله؛ لأنه لا يدل على الرغبة عنه، ولا على الاستبدال به بعوض دنيوي، بخلاف أخذ ثمنه" (¬1). وقال في الإنصاف: "وفي كراهة شرائه وإبداله روايتان ... أحدهما: لا يكره، وهو المذهب ... والرواية الثانية: يكره، قدمه في الرعايتين" (¬2). ... ¬
الفرع الثاني في بيع المصحف للكافر
الفرع الثاني في بيع المصحف للكافر [م - 125] ذكر الحطاب من المالكية (¬1)، والعراقي (¬2) والنووي (¬3) وابن حجر (¬4) من الشافعية بأنه لا خلاف في تحريم بيع المصحف للكافر. واختلفوا في صحة البيع لو وقع على قولين: القول الأول: يصح البيع، ولا ينقض شراؤه، ويجبر على إزالة ملكه عنه ببيع، أو هبة، أو صدقة، أو نحو ذلك. وهذا مذهب الحنفية (¬5)، والمالكية (¬6)، وقول في مذهب الشافعية (¬7). القول الثاني: البيع باطل، وعليه أكثر المالكية (¬8)، وهو أصح القولين في مذهب ¬
دليل من قال بصحة البيع
الشافعية (¬1)، وهو مذهب الحنابلة (¬2). * دليل من قال بصحة البيع: قالوا: إنه بيع توفرت فيه شروطه، وليس من شرط صحة البيع إسلام المتعاقدين، والكافر لا يستخف بالمصحف؛ لأنه يعتقد أنه كلام فصيح، وحكمة بالغة، وإن كان لا يعتقد أنه كلام الله - عز وجل -، وإبطال البيع يحتاج إلى دليل خاص، ولا يوجد نص من الشارع على بطلان العقد، ولو كان العقد باطلاً لجاء النص الصريح كما جاء النهي عن تزويج المشركين، والنكاح منهم، وأما إجباره على إزالة ملكه؛ فلأنه لا يعظمه حق التعظيم، خاصة عند من يرى وجوب الطهارة لمسه (¬3). * دليل من قال: البيع باطل. الدليل الأول: (ح-63) ما رواه الشيخان من طريق مالك، عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (¬4). زاد مسلم من طريق الليث، عن نافع: مخافة أن يناله العدو (¬5). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]. ومن تعظيم القرآن تنزيهه وإبعاده عن القاذورات، وكون القرآن يكون عند الكفار، فيه تعريض له لذلك، وإهانة له، وكلهم أنجاس، لا يغتسلون من جنابة، ويأكلون الميتة. ويناقش: بأن نجاسة الكفار نجاسة معنوية، ولذلك يباح أكل طعامهم، ولبس ما نسجوه من الثياب. الدليل الثالث: ولأنه إذا كان يمنع من استدامة ملكه له، كما لو ملكه بإرث ونحوه، فيمنع من تملكه ابتداء من باب أولى، كنكاح المسلمة (¬1). * الراجح من الخلاف: القول بصحة البيع أقوى حجة من القول ببطلان العقد، ولو قيل: إن كان الحامل له على الشراء معرفة الإسلام، وكان يرجى إسلامه صح البيع، خاصة أن اشتراط الطهارة لمسه وإن كان قول العامة إلا أن الدليل ليس قويًا، وقد بحثت هذه المسألة في كتابي الحيض والنفاس، وقد أذن بعض الصحابة أن يكتب القرآن رجل ذمي، ولم يمنع الكافر من سماع كلام الله في قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ} [التوبة: 6]، كما لم ¬
يمنع الفقهاء الكفار تعلم أحكام الشريعة لمن يرجى إسلامهم، وكتب الرسول - صلى الله عليه وسلم - الآية للكافر حين أرسل إلى هرقل الروم كتابًا يدعوه فيه إلى الإِسلام، وفي الكتاب {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64]. وحكم القرآن لا يختلف عن حكم الآية، والله أعلم.
الفرع الثالث في رهن المصحف
الفرع الثالث في رهن المصحف [م - 126] الخلاف مبني على اختلافهم في حكم بيع المصحف، فمن أجاز بيعه أجاز رهنه، ومن منع البيع منع الرهن؛ لأن المقصود من الرهن التوثيق بالدين، والاستيفاء منه، أو من ثمنه إذا تعذر الاستيفاء، فمن أجاز بيعه أجاز رهنه. وأما رهن المصحف للكافر، فقد قال ابن قدامة: "وفي رهن المصحف روايتان كبيعه، وإن رهنه أو رهن كتب الحديث ... لكافر لم يصح؛ لأنه لا يصح بيعه له، ويحتمل أن يصح إذا شرط كونه في يد مسلم، ويبيعه الحاكم إذا امتنع مالكه؛ لأن الرهن لا ينقل الملك إلى الكافر بخلاف البيع" (¬1). ¬
المبحث الثاني في بيع الهر
المبحث الثاني في بيع الهر [م - 127] اختلف العلماء في بيع الهر على قولين: القول الأول: يجوز بيعه، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). القول الثاني: لا يجوز بيعه، حكاه ابن المنذر قولًا لأبي هريرة، وطاووس، ومجاهد، وجابر بن زيد (¬2)، وهو رواية عن الإِمام أحمد (¬3)، واختيار ابن حزم الظاهري (¬4). ¬
دليل من قال: لا يجوز بيعه.
* دليل من قال: لا يجوز بيعه. (ح - 64) ما رواه مسلم من طريق معقل، عن أبي الزبير، قال: سألت جابرًا عن ثمن الكلب والسنور، قال: زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (¬1). وأجيب: وقف العلماء من الحديث إما موقف التضعيف، أو التأويل. أما تضعيف الحديث فقد استنكره الإمام أحمد - رحمه الله - (¬2) وابن عبد البر (¬3). وأما التأويل فقال بعض العلماء: إن المراد به الهرة الوحشية، فلا يصح بيعها لعدم الانتفاع بها. وقال بعض العلماء: المراد بالنهي نهي تنزيه (¬4). ¬
دليل من قال: يجوز بيعه
قال النووي: "وأما النهي عن ثمن السنور، فهو محمول على أنه لا ينفع، أو على أنه نهي تنزيه، حتى يعتاد الناس هبته، وإعارته والسماحة به، كما هو الغالب، فإن كان مما ينفع، وباع صح البيع، وكان ثمنه حلالًا" (¬1). وقال القرطبي في المفهم: "لفظ زجر يشعر بتخفيف النهي، وأنه ليس للتحريم، بل على التنزه عن ثمنهما" (¬2). وهذا التأويل خلاف الظاهر، والقول بضعف الحديث أوجه. * دليل من قال: يجوز بيعه: الأصل الإباحة، وقد قال الإِمام أحمد: "ما أعلم فيه شيئًا يثبت أو يصح. وقال أيضًا: الأحاديث فيه مضطربة" (¬3). وقال ابن عبد البر: "ليس في السنور شيء صحيح، وهو على أصل الإباحة" (¬4). وقال الطحاوي: "ولم نعلم اختلافًا بين أهل العلم في ثمن السنور أنه ليس بحرام، ولكنه دنيء" (¬5). قلت: الخلاف محفوظ، فقد صرح بالتحريم ابن حزم، وكرهه جماعة من السلف، نقله عنهم ابن المنذر، وذكرت ذلك في الأقوال، والكراهة عند السلف تحتمل التحريم. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن الهر حيوان طاهر، يباح اتخاذه مطلقًا، وهو من الطوافين علينا، وفيه منفعة مباحة من اصطياد الفئران، فمثله جائز في النظر، إلا أن يمنع من ذلك دليل يجب التسليم له، وقد قال أحمد وابن عبد البر لا يصح فيه شيء، ونقلناه عنهم قبل قليل. * الراجح: صحة بيع الهر، وقد قال الإمام أحمد: لا يصح فيه شيء، يعني في النهي عن بيعه، لهذا أرى أن النظر لا يمنع من إباحة بيعه، فعينه طاهرة، ويشتمل على منفعة مباحة.
المبحث الثالث في بيع الفيل
المبحث الثالث في بيع الفيل [م - 128] ذهب الأئمة الأربعة إلى جواز بيع الفيل؛ لأنه حيوان مشتمل على منفعة، منها حمل الأثقال، واستعماله للقتال، ولم يرد فيه نص بالنهي عن اقتنائه (¬1). قال الكاساني: "ويجوز بيع الفيل بالإجماع؛ لأنه منتفع به حقيقة، مباح الانتفاع به شرعًا" (¬2). وقال النووي: "وكذلك القرد والفيل والهرة ... فكل هذا وشبهه يصح بيعه بلا خلاف" (¬3). ولعل النووي يقصد بلا خلاف في المذهب، وإلا فالهرة فيها خلاف أشرت إليه في بابه. وقيل: لا يجوز بيع الفيل؛ لأنه نجس، وهو رواية في مذهب الحنابلة (¬4). والقول الأول أصح. ... ¬
المبحث الرابع في بيع القرد
المبحث الرابع في بيع القرد [م - 129] اختلف العلماء في بيع القرد على ثلاثة أقوال: القول الأول: يجوز بيعه مطلقًا، وهو المختار في مذهب الحنفية (¬1)، ومذهب الشافعية (¬2). القول الثاني: لا يجوز بيعه مطلقًا، وهو رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة، رجحها صاحب بدائع الصنائع (¬3)، وهو مذهب المالكية (¬4)، ورواية في مذهب الحنابلة (¬5). القول الثالث: إن كان بيعه من أجل اللهو واللعب لم يصح بيعه، وإن كان لحفظ المتاع ¬
دليل من قال: لا يجوز بيعه.
والحراسة صح، وهذا هو الراجح من مذهب الحنابلة (¬1). * دليل من قال: لا يجوز بيعه. الدليل الأول: ذكر ابن عبد البر - رحمه الله - الإجماع على أنه لا يجوز بيعه. قال في الاستذكار: "ولا أعلم بين العلماء خلافا أن القرد لا يؤكل، ولا يجوز بيعه؛ لأنه لا منفعة فيه" (¬2). وإذا اطلعت على الخلاف السابق عرفت أن الإجماع لم ينعقد بعد على تحريم البيع، ولو صح لكان دليلًا كافيًا. الدليل الثاني: أن القرد حيوان لا يؤكل، فلا يجوز شراؤه للأكل، ولا منفعة فيه فيحل بيعه، قال ابن عبد البر: "وما لا منفعة فيه من الحيوان لا يجوز بيعه بحال كالقرد" (¬3). واللهو به واللعب لا يسوغ بذل المال في تحصيله، وما قيل: إنه يحفظ المتاع فهي منفعة يسيرة ليست مقصودة. قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: "وهذه المنفعة -يعني: حفظ المتاع- يسيرة، وليست هي المقصودة منه، فلا يبيح البيع كمنافع الميتة" (¬4). ¬
ويجاب
ويجاب: بأن حفظ المتاع ليست منفعة يسيرة، فهذا الكلب المحرم اقتناؤه اغتفر اقتناؤه لمصلحة حراسة الماشية، وهي من المتاع، بل إن حفظ المتاع أولى من منفعة شراء الطاووس للونه، والطير لصوته، فكيف يقلل من منفعة الحراسة، ولقد أخبرني من رأى القرد في الهند يقوم بقطف جوز الهند من أعالي الشجر، بعد أن قام صاحبه بتدريبه وتعليمه. * دليل من قال: يجوز بيعه. الدليل الأول: لم يرد نص في النهي عن بيعه، أو اقتنائه، والأصل الحل. الدليل الثاني: أنه حيوان مشتمل على منفعة، فهو يحفظ المتاع، ويحرسه، وكل ما كان كذلك كان مالًا يجوز بيعه وشراؤه، والله أعلم. * الراجح: جواز بيعه وشرائه؛ لأن الأصل الجواز، ولاشتماله على منفعة مباحة، والله أعلم.
المبحث الخامس في بيع سباع البهائم والطير
المبحث الخامس في بيع سباع البهائم والطير [م - 130] اتفقت المذاهب على عدم جواز بيع سباع البهائم إذا كانت هذه السباع مما لا نفع فيها، واختلفوا في تقدير المنفعة المبيحة للبيع. فالحنفية والمالكية ذهبوا إلى إطلاق النفع حتى ولو كان في اقتناء جلده (¬1). وقصر الشافعية والحنابلة المنفعة بصلاحيته للصيد، زاد الشافعية أو القتال. إذا علم هذا نأتي فقد اختلف العلماء في حكم بيع السباع المشتملة على منفعة على ثلاثة أقوال: القول الأول: يجوز بيع السباع من البهائم والطير مما يشتمل على منفعة في الحال، أو في المال. وهذا مذهب الحنفية (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب الشافعية والحنابلة إلى جواز بيع ما يصلح للاصطياد، ويقبل التعليم (¬1)، زاد الشافعية: أو يصلح للقتال (¬2). القول الثالث: ذهب المالكية إلى جواز بيع سباع الطيور مطلقًا؛ لأن لحمها مباح عندهم كالباز والعقاب (¬3)، وأما سباع البهائم، فإن كان الشراء من أجل الجلد جاز ذلك، وإن كان من أجل اللحم فلهم في ذلك ثلاثة أقوال: المنع مطلقًا. والكراهة مطلقًا. والتفصيل بين ما يعدو على الآدمي كالأسد، والفهد، والنمر، والذئب، فيمنع، وبين ما لا يعدو، كالدب، والثعلب، والهر فيكره (¬4). وهذه الأشياء لم يرد نص خاص في حكم بيعها منعًا أو إباحة، وما كان ربك ¬
نسيًا، والأصل في البيوع الإباحة، وعدم التحريم إلا بنص أو إجماع، ومدار الحكم على تحقق وجود منفعة مباحة، سواء كانت هذه المنفعة، هي الصيد، أو الحراسة، أو القتال، أو الجلد، أو أي منفعة مقصودة، يطلبها الناس، ولها قيمة عندهم، إلا جلود السباع فقد ورد النهي عنها. (ح - 65) فقد روى أحمد من طريق سعيد، عن قتادة، عن أبي المليح ابن أسامة الهذلي عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن جلود السباع (¬1). [حديث صحيح] (¬2). وأما ما لا يقبل التعليم، ولا منفعة في جلده فلا يجوز بيعه، لأن بذل المال فيما لا منفعة فيه يعتبر إضاعة له، وقد نهى الشارع عن إضاعة المال، والله أعلم. ¬
المبحث السادس في بيع الحشرات
المبحث السادس في بيع الحشرات [م - 131] لا يجوز بيع الحشرات التي لا نفع فيها، كالصراصير، والعقارب، والحيات ومثل له بعض المالكية ببعض العصافير التي لو جمع منها مائة لم يتحصل منها أوقية لحم. وعللوا ذلك: بأن ما لا نفع فيه لا يعد مالًا، وأخذ المال في منابلته ممتنع؛ لأنه من إضاعة المال، وهذا مذهب الأئمة (¬1)، وأما الحشرات التي فيها نفع، فاختلفوا فيها على قولين: القول الأول: لا يجوز بيع الحشرات مطلقًا، مثل النحل ودود القز، وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، إلا أن يبيع النحل تبعًا للعسل، أو تبعًا لكوارته (¬2)، أو يبيع دود القز تبعًا للقز (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يجوز بيع الحشرات التي فيها نفع، وهو اختيار محمد من الحنفية (¬1)، وهو مذهب الجمهور (¬2). * حجة الحنيفة على المنع: ذكر الكاساني أن النحل ودود القز وما شابههما ليس بمنتفع به بنفسه، فلم يكن مالا بنفسه، بل بما يحدث منه، وهو معدوم (¬3). وعلل في كنز الدقائق المنع من بيع النحل "أنه من الهوام، فلا يصح بيعه كالزنبور، وهوام الأرض، والانتفاع بما يخرج منه، لا بعينه، فلا يكون منتفعا به، والشيء إنما يصير مالًا لكونه منتفعا به" (¬4). * حجة الجمهور على الجواز: أن الحشرات التي ينتفع بها يجوز بيعها؛ لاشتمالها على منفعة مقصودة، فتعتبر مالًا، وكونه لا يحل أكلها، لا يمنع من جواز بيعها، فهي بمنزلة الحمار والبغل، يجوز بيعهما لمنفعتهما، وإن كان لا يحل أكلهما. ... ¬
المبحث السابع في بيع لبن الآدميات
المبحث السابع في بيع لبن الآدميات [م - 132] اختلف العلماء في بيع لبن الآدميات على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يجوز بيعه، وهو مذهب الحنفية (¬1)، ووجه شاذ في مذهب الشافعية (¬2)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬3). القول الثاني: يجوز بيعه، وهو مذهب المالكية (¬4)، والشافعية (¬5)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬6). القول الثالث: يجوز بيع لبن الأمة دون الحرة، وهذا اختيار أبي يوسف من الحنفية (¬7). ¬
دليل الحنفية على تحريم بيع لبن الآدميات.
* دليل الحنفية على تحريم بيع لبن الآدميات. الدليل الأول: قال الحنفية: إنه لا يباح الانتفاع به شرعًا على الإطلاق، بل لضرورة تغذية الطفل، وما كان حرام الانتفاع به شرعًا إلا لضرورة، لا يكون مالًا، كالخمر والخنزير (¬1). ورده القرافي، قال: "ويندفع الفرق بما روي عن عائشة - رضي الله عنهما -، أنها أرضعت كبيرًا، فحرم عليها، فلو كان حرامًا لما فعلت ذلك، ولم ينكر عليها أحد من الصحابة، فكان ذلك إجماعًا على إلغاء هذا الفرق" (¬2). الدليل الثاني: أنه جزء من الآدمي، والآدمي بجميع أجزائه محترم مكرم، وليس من الكرامة والاحترام ابتذاله بالبيع (¬3). الدليل الثالث: عمل الناس دليل على أنه ليس بمال، بدليل أنك لا تجده يباع اليوم في الأسواق، بخلاف لبن بهيمة الأنعام (¬4). الدليل الرابع: قياس لبن الآدمي على عرقه، وبزاقه، ومخاطه، وكل هذه الأشياء ليست مالًا، فكذلك اللبن (¬5). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: أن الآدمي خلق مالكًا للمال، واعتبار اللبن مالًا يحوله من كونه مالكًا للمال إلى كونه مالًا في نفسه، وبينهما منافاة (¬1). الدليل السادس: أنه جزء حيوان منفصل عنه في حياته، فيحرم أكله، فيمتنع بيعه (¬2). وهذا الكلام كأنه يشير إلى ما يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أبين من حي فهو كميتته (¬3)، وإذا كانت ميتة الآدمي لا تؤكل، فلا يجوز تناول ما انفصل عنه في حياته. ويجاب: بأن الانفصال هنا ليس كانفصال عضو من أعضاء الحيوان، ولو صح هذا الدليل لنهي عن تناول لبن بهيمة الأنعام؛ لأنه انفصل عنها في حياته، ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم، بل هذا الانفصال كانفصال شعر الحيوان؛ فإذا كان الشعر من الحيوان يجوز بيعه، والانتفاع به، جاز بيع اللبن، والانتفاع به. ¬
دليل الجمهور
* دليل الجمهور: الدليل الأول: الأصل جواز البيع في كل ما ينتفع به شرعا، ولم ينه المسلم عن بيعه لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، ولا يوجد دليل صريح في النهي عن بيع لبن الآدمي. الدليل الثاني: لبن الآدمي عين طاهرة، منتفع به شرعًا وعرفًا، فجاز بيعه كسائر الطاهرات. الدليل الثالث: القياس على لبن بهيمة الأنعام، بكونه لبنًا من حيوان طاهر. الدليل الرابع: ولأنه غذاء للآدمي، فجاز بيعه كالخبز. الدليل الخامس: وإذا كان يجوز استئجار الظئر من أجل حليبها لترضع الطفل، والأجرة إنما كانت من أجل الحليب، لا من أجل الحضانة، فما جاز أخذ العوض عنه كان ذلك دليلًا على جواز بيعه. * الراجح من الخلاف: أرى أن القول الراجح جواز بيع حليب الآم إذا جمع في وعاء منفصلاً عن صدر الأم، وقياس اللبن على الدمع والعرق قياس مع الفارق؛ لأن الدمع والعرق لا منفعة فيه بخلاف اللبن، والقول بأن البيع فيه امتهان لكرامة الإنسان ليس بصحيح، وإذا كانت منافع الآدمي الحر التي لا تنفصل عنه يجوز بيعها كما
في إجارة الآدمي، وقد استغل أجيرًا بعض أولو العزم من الرسل عليهم أفضل الصلاة والتسليم، ولم يكن في ذلك امتهان للإنسان، فكيف يقال هذا في بيع ما هو منفصل عنه، ولو كان في البيع امتهان وابتذال لكانت مهنة مزاولة البيع فيها الشيء نفسه، ولما اشتغل الأنبياء والرسل في البيع والشراء.
المبحث الثامن في بيع السم
المبحث الثامن في بيع السم [م - 133] السم إذا كان لا ينتفع به لم يجز بيعه، حتى ولو لم يضر قليله، ما دام أن قليله لا ينفع فلا يجوز بذل المال فيه. لأن من شروط البيع اشتمال المبيع على منفعة مباحة، وسبق أن ذكرنا الأدلة الشرعية على تحريم بيع ما لا نفع فيه في مسألة مستقلة. وإن خالط السم نجاسة، وكان يمكن الانتفاع به في غير الأكل كان الخلاف فيه راجعًا إلى اشتراط الطهارة في المبيع، وهي مسألة خلافية بين الحنفية والجمهور. وسبق أن حررت الخلاف فيها، وذكرت أن الراجح جواز بيع النجس إذا كان مشتملًا على منفعة، ولم يرد نص في النهي عن بيعه بذاته، ولم يكن المقصود منه الأكل. وإن كان السم يقتل كثيره، وينفع قليله كدواء ونحوه، وكانت عينه طاهرة، فقد اختلف العلماء في حكم بيعه على ثلاثة أقوال: القول الأول: يجوز بيعه، سواء كان السم من الحشائش أو من الحيات، وهو جار على قواعد مذهب الحنفية في جواز بيع كل عين جرى تمولها والانتفاع بها (¬1)، ¬
القول الثاني
وأجاز بيعه الشافعية (¬1). القول الثاني: لا يجوز بيعه مطلقًا، وهو مذهب المالكية (¬2). القول الثالث: التفريق بين سموم الحشائش، وبين سموم الحيات، فيحرم بيع سموم الأفاعي، ويجوز بيع سموم الحشائش، وهذا مذهب الحنابلة (¬3). ومذهب الشافعية أرجح؛ وعمل الناس اليوم على هذا، فإن السموم اليوم تعتبر مالًا، لها قيمة معتبرة، فعن طريق السموم يتخلص الإنسان من الحشرات الضارة، والتي تفسد البيوت والأطعمة، كما أن بعض السموم تخلص التربة والمحاصيل الزراعية من بعض الآفات التي تلحقها، ويستفيد منه بعض الصيادلة في قتل بعض الميكروبات، والفيروسات التي تصيب بدن الإنسان. ويؤخذ من تحريم بيع السموم الضارة التي لا نفع فيها، تحريم الدخان والذي انتشر في عصرنا حتى بلغ قتلاه بالملايين كل عام حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية، وتنفق بعض الدول على الرعاية الصحية في علاج آثاره ملايين ¬
الدولارات كل عام، وقد اتفق أطباء هذا العصر على أنه مضر بالصحة، ولا عبرة بما يقوله بعض الناس: إنه يشرب الدخان منذ أكثر من ثلاثين عامًا، ولم يلحقه ضرر منه، لأن مقاومة الأجسام للضرر قد تتفاوت بين الناس، والعبرة بعموم الناس، فما كان يضر غالب الناس حرم على الفرد منهم تناوله، هنا على التسليم بأنه لم يتضرر منه، ولو كشف على نفسه لدى الأطباء لأخبروه بما لحقه من الأضرار. جاء في حاشية الجمل عند الكلام على السم: "هل العبرة بالمتعاطي له، حتى لو كان القدر الذي يتناوله لا يضره، لاعتياده عليه، ويضر غيره لم يحرم، أو العبرة بغالب الناس، فيحرم ذلك عليه، وإن لم يضره، فيه نظر، والأقرب الثاني" (¬1). وقد حرم الله الخمرة؛ لأن ضررها أكبر من نفعها، فكيف بالدخان الذي لا نفع فيه البتة، بل هو ضرر محض، أليس أولى بالتحريم؟ ¬
المبحث التاسع في بيع الطيور لصوتها أو للونها
المبحث التاسع في بيع الطيور لصوتها أو للونها [م - 134] قال النووي: "قسم ينتفع به فيجوز بيعه، كالإبل والبقر ... وما ينتفع بلونه كالطاووس، أو صوته كالزرزور، والببغاء والعندليب ... فكل هذا وشبهه يصح بيعه بلا خلاف" (¬1). وقال في معالم القربة: "ويجوز بيع الببغاء، والطاووس، والطيور المسموعة، وإن كانت لا تؤكل؛ فإن التفرج بأصواتها، والنظر إليها غرض مقصود مباح" (¬2). وجاء في الإنصاف: "يصح بيع طير لأجل صوته، كالهزار، والبلبل، والببغاء ... وقال الشيخ تقي الدين: يجوز بيعه إن جاز حبسه، وفي جواز حبسه احتمالان ذكرهما ابن عقيل" (¬3). وجاء في تصحيح الفروع: "أما حبس المترنمات من الأطيار، كالقماري والبلابل، لترنمها في الأقفاص، فقد كرهه أصحابنا، لأنه ليس من الحاجات إليه، لكنه من البطر، والأشر، ورقيق العيش، وحبسها تعذيب، فيحتمل أن ترد الشهادة باستدامته، ويحتمل أن لا ترد، ذكره في الفصول، انتهى. ¬
وقال في الفصول في موضع آخر: وقد منع من هذا أصحابنا، وسموه سفهًا، انتهى. فقطع في الموضع الثاني بالمنع، وأن عليه الأصحاب، وهو قوي، وقال في باب الصيد: نحن نكره حبسه للتربية، لما فيه من السفه؛ لأنه يطرب بصوت حيوان، صوته حنين إلى الطيران، وتأسف على التخلي في الفضاء" (¬1). قلت: ويؤيد جواز حبس الطير، ولا يعتبر ذلك تعذيبًا له. (ح - 66) ما رواه البخاري من طريق شعبة، حدثنا أبو التياح، قال: سمعت أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول: إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير ما فعل النغير (¬2). وفي رواية: نغر كان يلعب به. قال الحافظ في الشرح: "طير صغير، واحد نغرة، وجمعه نغران، قال الخطابي: طوير له صوت، وفيه نظر، ورد في بعض طرقه أنه الصعو ... قال عياض: النغير طائر معروف، يشبه العصفور، وقيل: هي فرخ العصافير، وقيل: هي نوع من الحمر، بضم المهملة، وتشديم الميم، ثم راء، قال: والراجح: أن النغير طائر أحمر المنقار ... " (¬3). وساق الحافظ بعض فوائد الحديث، منها: "جواز لعب الصغير بالطير، وجواز ترك الأبوين ولدهما الصغير يلعب بما أبيح اللعب به، وجواز إنفاق المال فيما يتلهى به الصغير من المباحات، وجواز إمساك الطير في القفص ونحوه ... " (¬4). ¬
الشرط الثالث أن يكون المعقود عليه معلوما للمتعاقدين
الشرط الثالث أن يكون المعقود عليه معلومًا للمتعاقدين [م - 135] هل يشترط أن يكون الثمن والمثمن معلومين للمتعاقدين؟ اختلف العلماء في ذلك: القول الأول: يشترط أن يكون كل واحد من المتعاقدين عالمًا بالمعقود عليه قدرًا، وصفة، فإن جهل أحدهما المبيع، أو الثمن، فسد البيع، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة (¬1). القول الثاني: أجاز بعض الحنفية أن يكون المبيع مجهولًا للبائع، إذا كان المشتري عالمًا به، كما لو باع رجل حصته، وهو لا يعرف مقدارها، صح البيع، إلا أنه إن كان في البيع غبن ثبت له خيار الغبن (¬2). ¬
القول الثالث
القول الثالث: اختار بعض المالكية أنه لا يفسد البيع إلا إذا جهلاه معًا، أو جهله أحدهما، وعلم الآخر بجهله، وأما إذا لم يعلم الآخر بجهله فلا يفسد البيع، ولكن يخير الجاهل بين إمضاء البيع، وبين الرد (¬1). القول الرابع: اختار أكثر الحنفية، والباجي من المالكية جواز بيع الشيء، ولو لم يعلم ¬
المشتري جنس المبيع فضلًا عن معرفة صفته، كما لو قال: بعتك ما في كمي إذا كان الخيار للمشتري بعد رؤيته للمبيع (¬1). والدليل على اشتراط كون المعقود عليه معلومًا، أدلة كثيرة، منها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. فاشترطت الآية الرضا، والرضا لا يتعلق إلا بمعلوم. ومنها: النهي عن بيع الغرر، وهو أصل متفق عليه في الجملة (ح - 67) لما رواه مسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر (¬2). ومنه ما ثبت في الأحاديث الصحيحة في النهي عن بيع الملامسة والمنابذة، وحبل الحبلة، وإنما نهي عنها لما فيها من عدم العلم بالمبيع، قال النووي: "واعلم أن بيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع حبل الحبلة، وبيع الحصاة، وبيع عسب الفحل، وأشباهها من البيوع التي جاء فيها نصوص خاصة، وهي داخلة في النهي عن بيع الغرر، ولكن أفردت بالذكر، ونهي عنها لكونها من بيوعات الجاهلية المشهورة، والله أعلم" (¬3). وكل هذه الأحاديث سوف نسوقها بأسانيدها إن شاء الله تعالى في مباحث مستقلة. ¬
وأما حجة من قال: يشترط علم المشتري دون البائع
* وأما حجة من قال: يشترط علم المشتري دون البائع (ث-12) ما رواه الطحاوي من طريق هلال بن يحيى بن مسلم، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن رباح بن أبي معروف المكي، عن ابن أبي مليكة عن علقمة بن وقاعر الليثي، قال: اشترى طلحة بن عبيد الله من عثمان بن عفان مالًا، فقيل لعثمان: إنك قد غبنت، وكان المال بالكوفة، فقال عثمان: لي الخيار؛ لأني بعت ما لم أر، فقال طلحة: لي الخيار؛ لأن اشتريت ما لم أر، فحكَّما بينهما جبير بن مطعم، فقضى أن الخيار لطلحة، ولا خيار لعثمان (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
دليل من قال: إذا جهل أحدهما المبيع فللجاهل الخيار.
* دليل من قال: إذا جهل أحدهما المبيع فللجاهل الخيار. (ح - 68) ما رواه عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن المبارك عن الأوزاعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يحل للرجل أن يبيع طعامًا جزافًا قد علم كيله حتى يعلم صاحبه (¬1). [معضل بين الأوزاعي والنبي - صلى الله عليه وسلم - مفازة]. وهذا الدليل لا ينطبق على المدلول؛ لأن القول بأن للجاهل الخيار قول بصحة البيع وانعقاده؛ لأن ثبوت الخيار فرع عنه، والدليل المسوق فيه النهي عن ¬
دليل من أجاز البيع مع الجهل بجنس المبيع.
بيع الرجل الطعام، وهو يعلم كيله جزافًا حتى يعلم صاحبه، والأصل في النهي المنع. * دليل من أجاز البيع مع الجهل بجنس المبيع. يقول الباجي: "المعاوضة في العين الغائبة إذا كانت على وجه المغابنة والمكايسة لا تصح إلا بصفتها، أو برؤية متقدمة ... أما إذا كانت على وجه المكارمة، والمواصلة ... فتصح، ولو لم تذكر الصفة والجنس ... ومقتضى البيع المغابنة، والمكايسة، ولذا لا ينعقد فيما جهلت صفته وجنسه، فإذا شرط المشتري الخيار لنفسه، فقد صرح بالمكارمة، فيصح العقد؛ لأنه لا غرر فيه، إذ البائع قد علم صفة ما باع، فلا غرر عليه، والمبتاع بالخيار، فلا غرر عليه أيضًا" (¬1). والراجح اشتراط العلم في المبيع والثمن؛ لأن جهالة أحدهما تفضي إلى الغرر والنزاع. وتطبيقات هذا الشرط كثيرة جدًا، ويدخل فيه مسائل منها: هل يشترط للعلم بالمبيع الرؤية، أم يكفي الوصف؟ وهل يشترط رؤية جميع المبيع، أم تكفي رؤية بعضه؟ ومتى تكون الرؤية؟ هل تكون عند العقد، أو يصح أن تكون قبله؟ كما يبحث في هذا الشرط فروع منها: حكم بيع ما يسمى اليوم بالبوفيه المفتوح، وحكم بيع اللبن في الضرع، والحمل في البطن، وبيع ثوب من الثياب، أو شاة من القطيع، وبيع مقدار من ¬
الصبرة، والبيع بما ينقطع به السعر، والبيع بما باع به زيد، وجهلاه أو جهله أحدهما، وغيرهما من المسائل التي تدخل في اشتراط العلم بالمعقود عليه. وقد تعرضت لهذه المسائل ولله الحمد في باب موانع البيع، فانظرها هناك مشكورًا.
الشرط الرابع أن يكون المعقود عليه مقدورا على تسليمه
الشرط الرابع أن يكون المعقود عليه مقدورًا على تسليمه [م - 136] الشرط الرابع في المعقود عليه أن يكون مقدورًا على تسليمه، وقد اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب الجمهور إلى أنه يشترط في المعقود عليه من مبيع وثمن القدرة على تسليمه، فإن كان المبيع أو الثمن غير مندور على تسليمه لم يصح البيع (¬1). القول الثاني: ذهب الحنفية في التفريق بين المبيع والثمن، فيشترط في المبيع القدرة على تسليمه، ولا يشترط ذلك في الثمن (¬2). القول الثالث: ذهب ابن حزم - رحمه الله - تعالى إلى أنه لا يشترط في البيع القدرة على التسليم (¬3). ¬
تحرير محل الخلاف
* تحرير محل الخلاف: الضابط في هذا الباب: أن كل ما عجز عن تسليمه حسًا، فهو داخل في هذا المبحث، وأما ما عجز عن تسليمه شرعًا لحق آدمي، كالمرهون، فإنه يصح بيعه، ويقف اللزوم فيه على إجازة المرتهن، إذ الحق له، فيكون اشتراطه في اللزوم لا في الصحة، إذ هي حاصلة بدونه (¬1). * دليل الجمهور: الدليل الأول: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وبيع ما لا يقدر على تسليمه من أكل أموال الناس بالباطل، خاصة إذا لم يتمكن المشتري من قبض المبيع، والتصرف فيه، والذي هو المقصود من عملية البيع. الدليل الثاني: (ح - 69) حديث حكيم بن حزام، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: "لا تبع ما ليس عندك" (¬2). والمراد: لا تبع ما لست قادرًا على تسليمه، كما بينا ذلك في بحث سابق. الدليل الثالث: (ح - 70) حديث أبي هريرة في النهي عن بيع الغرر (¬3). ¬
الدليل الرابع
وما لا يقدر على تسليمه فيه غرر ظاهرة؛ لأن عاقبته مستورة، فلا يدري المتعاقد هل يحصل عليه، أم لا. الدليل الرابع: ولأن ما لا يقدر على تسليمه شبيه بالمعدوم، والمعدوم لا يصح بيعه. وفي بيع المعدوم خلاف سوف أبحثه إن شاء الله تعالى بشكل مستقل لأهميته. الدليل الخامس: ولأن بيع ما لا يقدر على تسليمه من بيع الميسر المنهي عنه؛ لأن العادة أن بيع ما لا يقدر على تسليمه سوف يباع بثمن أقل من ثمنه الحقيقي، فإن وجده المشتري صار غانمًا، وإن لم يتمكن من تسلمه صار غارمًا، وهذا هو حقيقية الميسر المنهي عنه بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]. * دليل الحنفية في التفريق بين المبيع وبين الثمن. الدليل الأول: (ح - 71) رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك ابن حرب، عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هو يريد أن يدخل بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا، وبينكما شيء (¬1). ¬
وجه الاستدلال
[اختلف في رفعه ووقفه، ورجح شعبة والدارقطني وقفه] (¬1). وجه الاستدلال: قال السرخسي: "إذا ثبت جواز الاستبدال بالثمن قبل القبض، ثبت أن فوات التسليم فيه لا يبطل العقد؛ لأن في الاستبدال تفويت التسليم فيما استحق بالعقد، وبهذا ثبت أن ملكه عند العقد ليس بشرط؛ لأن اشتراط الملك عند العقد إما لتمليك العين، والثمن دين في الذمة، أو للقدرة على التسليم، ولا أثر للعجز عن تسليم الثمن في العقد" (¬2). الدليل الثاني: الأصل في البيع هو المبيع دون الثمن، فالمقصود في البيع هو المبيع، والثمن وسيلة إليه، ولذلك جاز البيع بدون ذكر الثمن ويكون له ثمن المثل، كما سيأتي بحثه إن شاء الله تعالى، ولا يجوز البيع دون ذكر المبيع، والمبيع يتعلق بالعين، والثمن يتعلق بالذمة. * دليل ابن حزم على صحة بيع ما لا يقدر على تسليمه. قال ابن حزم: "التسليم لا يلزم، ولا يوجبه قرآن، ولا سنة ولا دليل أصلا، وإنما اللازم ألا يحول البائع بين المشتري وبين ما اشترى منه فقط فيكون إن فعل ذلك عاصيا ظالمًا". ولا يرى ابن حزم في عدم القدرة على التسليم غررًا؛ لأنه يحصر الغرر فيما كان مجهول القدر أو الصفة. ¬
قال ابن حزم: "ليس هذا غررًا؛ لأنه بيع شيء قد صح ملك بائعه عليه، وهو معلوم الصفة والقدر، فعلى ذلك يباع، ويملكه المشتري ملكًا صحيحًا، فإن وجده فذلك، وإن لم يجده فقد استعاض الأجر الذي هو خير من الدنيا وما فيها، وربحت صفقته. ولو كان هذا غررًا لكان بيع الحيوان كله، حاضره وغائبه غررًا لا يحل، ولا يجوز؛ لأنه لا يدري مشتريه أيعيش ساعة بعد ابتياعه أم يموت، ولا يدري أيسلم أم يسقم ... وإنما الغرر ما عقد على جهل بمقداره وصفاته حين العقد. فإن قالوا: فلعله ميت حين العقد، أو قد تغيرت صفاته؟ قلنا: هو على الحياة التي قد صحت له حتى يوقن موته، وعلى ما تيقن من صفاته حتى يصح تغييره، فإن صح موته ردت الصفقة، وإن صح تغيره فكذلك أيضًا. ولئن قلتم: إن هذا يمنع من بيعه فامنعوا من بيع كل غائب من الحيوان - ولو أنه خلف الجدار - إذ لعله قد مات للوقت حين عقد الصفقة، أو تغير بكسر، أو وجع، أو عور. نعم، وامنعوا من بيع البيض، والجوز، واللوز، وكل ذي قشر، إذلعله فاسد، ولا فرق بين شيء من ذلك؟ وإنما الغرر ما أجزتموه من بيع المغيبات التي لم يرها أحد قط: من الجزر، والبقل، والفجل، ولعلها مستاسة، أو معفونة، وما أجازه بعضكم من بيع ما لم يخلق بعد من بطون المقاثي التي لعلها لا تخلق أبدًا - ومن لبن الغنم شهرين، أو ثلاثة، ولعلها تموت، أو تحارد، فلا يدر لها شخب، ومن بيع لحم شاة مذبوحة لم تسلخ بعد، فلا يدري أحد من خلق الله تعالى ما صفته - فهذا وأشباهه هو بيع الغرر المحرم، وقد أجزتموه، لا ما صح ملكه، وعرفت صفاته" (¬1). ¬
ويناقش ابن حزم
ويناقش ابن حزم: بأنه - رحمه الله - جعل الغرر هو في مجهول الصفة والمقدار فقط، وهذا فيه نظر، وقد بين القرافي في الفروق الفرق بين قاعدة المجهول وقاعدة الغرر، فقال: "اعلم أن العلماء قد يتوسعون في هاتين العبارتين فيستعملون إحداهما موضع الأخرى، وأصل الغرر هو الذي لا يدرى، هل يحصل أم لا، كالطير في الهواء والسمك في الماء؟ وأما ما علم حصوله، وجهلت صفته فهو المجهول، كبيعه ما في كمه، فهو يحصل قطعًا، لكن لا يدرى أي شيء هو، فالغرر والمجهول كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه، فيوجد كل واحد منهما مع الآخر وبدونه، أما وجود الغرر بدون الجهالة فكشراء العبد الآبق المعلوم قبل الإباق، لا جهالة فيه، وهو غرر؛ لأنه لا يدري هل يحصل أم لا؟ والجهالة بدون الغرر كشراء حَجَرٍ يراه لا يدري، أزجاج هو أم ياقوت؟ مشاهدته تقتضي القطع بحصوله فلا غرر، وعدم معرفته تقتضي الجهالة به، وأما اجتماع الغرر والجهالة، فكالعبد الآبق المجهول الصفة قبل الإباق" (¬1). * الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأقوال والحجج أرى أن القول بعدم صحة بيع ما لا يقدر على تسليمه أقوى دليلًا، وأحفظ لأموال الناس. وتطبيقات هذا الشرط كثيرة، منها: (1) بيع الآبق والشارد. ¬
(2) بيع الطير في الهواء، والسمك في الماء. (3) بيع المعدوم. (4) بيع المغصوب. (5) بيع الشيء قبل قبضه. (6) بيع الدين. (7) بيع الرجل ما ليس عنده. وقد ذكرت هذه المسائل، ولله الحمد وحده في باب موانع البيع (في مبحث الغرر) فارجع إليها مشكورًا.
الشرط الخامس أن يكون المعقود عليه مالا
الشرط الخامس أن يكون المعقود عليه مالاً [م - 137] المالية شرط عند الجميع، ويضيف الحنفية وصفًا آخر للمال، وهو أن يكون متقومًا بناء على تقسيمهم المال إلى متقوم وغير متقوم، فالخمر عندهم مال، ولكنه غير متقوم. يقول ابن عابدين في حاشيته: "المال أعم من المتقوم (¬1)؛ لأن المال ما يمكن ادخاره، ولو غير مباح كالخمر، والمتقوم ما يمكن ادخاره مع الإباحة، فالخمر مال لا متقوم ... " (¬2). وقال أيضًا: "فما يباح بلا تمول لا يكون مالًا كحبة حنطة، وما يتمول بلا إباحة انتفاع لا يكون متقومًا كالخمر، وإذا عدم الأمران لم يثبت واحد منهما كالدم .. " (¬3). وأما بقية المذاهب فلم يذهبوا معهم إلى هذا التقسيم، فما ليس بمتقوم لا يعد عندهم مالًا وقد تكلمنا على أدلة الفريقين في باب تقسيم المال، فانظره هناك. ... ¬
الشرط السادس أن يكون المبيع مملوكا في ذاته وليس مباحا
الشرط السادس أن يكون المبيع مملوكًا في ذاته وليس مباحًا [م - 138] يشترط أن يكون المبيع مملوكًا في ذاته، ولو لغير البائع، فلا ينعقد بيع المباحات المعينة كالسمك، والكلأ، وحطب البوادي، والماء قبل حيازته. قال في تبيين الحقائق: "لا يجوز بيع الكلأ؛ لأنه ليس بمملوك، إذ لا يملكه بنباته في أرضه ما لم يحرزه، لقوله - عليه السلام -: "المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماء، والكلأ والنار ... " (¬1)، وهو محمول على ما إذا لم يحرزه" (¬2). فالمال غير المحرز من المباحات، كالسمك في الماء، والطير في الهواء، والأشجار في البراري، ومثله الذهب في مناجمه، والفضة في معادنها، لا يصح بيعها؛ لأنه غير مملوك قبل حيازته، ولو أتلفه متلف لم يضمنه؛ لأنه لا حماية له قبل حيازته. وقد استدل لعدم مشروعية بيع ما لا يملكه الإنسان بحديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه -، وفيه: لا تبع ما ليس عندك. وقد تكلمت في بيع الكلأ وبيع الماء قبل حيازته في مباحث مستقلة. كما تكلمنا عند الكلام على أحكام العاقد في مسألة بيع الفضولي باعتباره غير مالك للمعقود عليه، ولا مأذون له في التصرف، فأغنى عن إعادته هنا. والحمد لله. ¬
الشرط السابع هل يشترط وجود المبيع حال العقد
الشرط السابع هل يشترط وجود المبيع حال العقد [م - 139] هذه الشرط راجع إلى مسألة (حكم بيع المعدوم)، وقد اختلف الفقهاء في جواز بيعه على قولين: القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن بيع المعدوم لا يجوز، مع اتفاقهم على جواز بيع السلم، وقد لا يكون موجودًا وقت العقد. قال ابن نجيم: "وأما شرائط المعقود عليه: فأن يكون موجودًا ... وأن يكون مقدور التسليم، فلم ينعقد بيع المعدوم" (¬1). ويقول الكاساني في الكلام على شروط انعقاد البيع: "وأما الذي يرجع إلى المعقود عليه فأنواع، منها أن يكون موجودًا فلا ينعقد بيع المعدوم ... " (¬2). وفي الفتاوى الهندية: "وأما شرائط الانعقاد فأنواع، منها في العاقد ... ومنها في المبيع: وهو أن يكون موجودًا، فلا ينعقد بيع المعدوم ... " (¬3). وقال القرافي الملكي في الفروق: "بيع المجهول الموجود باطل قطعًا، فيبطل بطريق الأولى بيع المعدوم" (¬4). وقال الشيرازي في المهذب: "ولا يجوز بيع المعدوم، كالثمرة التي لم تخلق ... " (¬5). ¬
القول الثاني
وقال النووي في المجموع: "بيع المعدوم باطل بالإجماع ... " (¬1). ويقول ابن قدامة في الكافي: "ولا يجوز بيع المعدوم؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الغرر. رواه مسلم" (¬2). القول الثاني: صحح ابن تيمية وابن القيم، بيع المعدوم إذا كان ذلك لا يتضمن محذورًا آخر من غرر ونحوه. وقد ذكرت أدلة القولين في باب البيوع المنهي عنها، في باب النهي عن بيع الغرر، فانظره هناك مشكورًا. ¬
الفصل الثالث في شروط الثمن
الفصل الثالث في شروط الثمن المبحث الأول ما يشترط في المبيع يشترط في الثمن [م - 140] ذكرنا شروط الثمن ضمن شروط المبيع، وجمعنا ذلك تحت عنوان، شروط المعقود عليه، ليشمل المبيع والثمن، وقد وقع خلاف بين العلماء، هل الشروط التي يجب توفرها في المبيع تعتبر في الثمن أو لا؟ فذهب الحنفية إلى أن الشروط التي يجب توفرها في المبيع لا يشترط توفرها في الثمن، بل إن الحنفية لا يشترطون في الثمن إلا شرطًا واحدًا، وهو أن يكون مالًا. جاء في البدائع: "وكون الثمن مالًا في الجملة شرط الانعقاد" (¬1). وقال الشيخ الزرقاء - رحمه الله -: "لا يشترط في الثمن لانعقاد البيع سوى شرط واحد، هو أن يكون مالًا بالمعنى الشرعي. أما التقوم فليس في الثمن شرط انعقاد، بل شرط صحة للعقد، في النظر الفقهي عند الحنفية" (¬2). فهنا فرق الحنفية بين المبيع والثمن: فالتقوم في المبيع عندهم شرط لانعقاد البيع؛ لأنه هو المقصود الأصلي من ¬
وجه التفريق بين المبيع والثمن
العقد، ولأن الانتفاع يكون بالأعيان لا بالأثمان، فلو كان المبيع خمرًا، أو خنزيرًا، كان البيع باطلًا. وأما التقوم في الثمن فليس شرطًا للانعقاد، وإنما شرط للصحة، فلو كان الثمن خمرًا، أو خنزيرًا، لم يبطل العقد، وإنما يكون العقد فاسدًا (¬1). وتقسيم المال إلى متقوم وغير متقوم، هو مما انفرد به الحنفية، كما أن التفريق بين الفاسد والباطل في العقود مما وقع فيه نزاع بين الفقهاء، وقد سبق بحثه. * وجه التفريق بين المبيع والثمن: أن المبيع هو المقصود بالعقد، فإذا جعلت الخمر مبيعة تكون مقصودة، وفيه إعزاز لها، والشرع أمر بإهانتها. وأما الثمن فهو وسيلة إلى المقصود، فإذا كان الثمن مالًا غير متقوم، فالعقد فاسد، ويملكه بالقبض، وتجب فيه القيمة. وذهب الجمهور إلى أن ما يشترط في المبيع يشترط في الثمن. لأن كلًا منهما معقود عليه. قال الزنجاني: "معتقد الشافعي - رضي الله عنه -، أن موجب عقود المعاوضات التسوية بين العوض والمعوض، ذاتًا، ووصفًا، وحكمًا. أما ذاتًا، فبأن يكون كل واحد منهما مالًا. وأما وصفًا: فبأن يكون كل واحد منهما جائزًا أن يكون حالًا، ومؤجلًا، ودينًا، وعينًا. ¬
وأما حكمًا: فبأن يكون كل واحد منهما ركنًا مقصودًا بالعقد" (¬1). وجاء في إعانة الطالبين: "وكما لا يصح جعل النجس مبيعًا، لا يصح أيضًا جعله ثمنًا؛ إذ الطهر شرط للمعقود عليه مطلقًا، ثمنًا كان أو مثمنًا، ومثله يقال في بقية الشروط" (¬2). وجاء في مجلة الأحكام الشرعية الحنبلية: "يشترط في الثمن ما يشترط في المبيع" (¬3). والراجح: عدم التفريق بين المبيع والثمن في هذه المسألة بخصوصها. ¬
المبحث الثاني في الجهالة بالثمن
المبحث الثاني في الجهالة بالثمن [م - 141] أخذنا في فصل سابق أنه يشترط لصحة البيع العلم بالمبيع، فهل يشترط ذلك في الثمن باعتبار أن الثمن هو أحد العوضين، وما يشترط في المبيع يشترط في الثمن، فلو أن رجلًا باع سلعته من غير أن يذكر الثمن، فهل يصح البيع مع الجهل بالثمن، أو لا يصح البيع؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: ينعقد البيع فاسدًا، ويثبت الملك إذا قبضه، وتجب به القيمة وهذا مذهب الحنفية (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: البيع باطل، وهو مذهب المالكية (¬1)، ومذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). القول الثالث: اختار ابن تيمية صحة البيع (¬4). * دليل الجمهور على بطلان البيع: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. فاشترطت الآية الرضا، والرضا لا يتعلق إلا بمعلوم. ومنها: النهي عن بيع الغرر، وهو أصل متفق عليه في الجملة (ح - 72) لما رواه مسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج عن ¬
أدلة ابن تيمية على صحة البيع
أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر (¬1). وكون الثمن مجهولًا داخل في الغرر المنهي عنه. وإذا كان العلم بالمبيع شرط في صحة البيع، وسبق ذكر الأدلة على هذا في مسألة مستقلة فالثمن أحد العوضين، فما يشترط في المثمن يشترط في الثمن، ولا فرق (¬2). * أدلة ابن تيمية على صحة البيع: الدليل الأول: (ح - 73) ما رواه البخاري من طريق سفيان، حدثنا عمرو، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر، فكان يغلبني، فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر، ويرده، ثم يتقدم، فيزجره عمر ويرده، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: بعنيه. قال: هو لك يا رسول الله. قال: بعنيه، فباعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت (¬3). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى من عمر بعيره، ووهبه لعبد الله بن عمر، دون ذكر للثمن. الدليل الثاني: إذا كان الشارع قد جوز النكاح بدون تسمية المهر، قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]. ¬
ويجاب
قال ابن العربي: "لما قسم الله تعالى حال المطلقة إلى قسمين: مطلقة سمي لها فرض، ومطلقة لم يسم لها فرض، دل على أن نكاح التفويض جائز، وهو كل نكاح عُقِدَ من غير ذكر الصداق، ولا خلاف فيه" (¬1). ولها مهر مثلها، فكون البيع يجوز بثمن المثل من باب أولى؛ لأن المبيع يوجد مثله كثيرًا، بخلاف المرأة فإن وجود مثلها من نسائها في صفاتها المقصودة من كل وجه قد يتعذر. ويجاب: بأن النكاح لا يشبه البيوع، قال ابن حزم: "ما ندري في أي وجه يشبه النكاح البيوع، بل هو خلافه جملة؛ لأن البيع نقل ملك، وليس في النكاح ملك أصلًا ... والخيار جائز عندهم في البيع مدة مسماة، ولا يجوز في النكاح، والبيع بترك رؤية المبيع، وترك وصفه باطل لا يجوز أصلًا، والنكاح بترك رؤية المنكوحة وترك وصفها جائز ... فبطل تشبيه النكاح بالبيع جملة" (¬2). الدليل الثالث: القياس على الهبة بشرط الثواب، فهي عقد معاوضة عند الفقهاء، وقد قالوا بصحتها مع أنه لم يذكر فيها الثمن. وكذلك أجاز عامة الفقهاء أن يقول الرجل: اعتق عبدك عني، وعلي ثمنه، وهذه معاوضة بثمن المثل. كما أجاز كثير من الفقهاء عقد الإجارة بأجرة المثل، وهي بيع منافع. ¬
الراجح
* الراجح: جواز البيع من غير ذكر الثمن؛ لأن البائع والمشتري حين تبايعا من غير ذكر للثمن كان لسان حالهما أنهما قد تراضيا في أخذ السلعة بثمن المثل، فإذا تراضيا على ذلك جاز، والثمن وإن لم يكن مقدرًا هنا لكنه قابل للتقدير، كما أن الأخذ بقيمة المثل أدعى للعدل مما لو شراها بثمن مسمى، فقد يبيعها عليه بأكثر من قيمتها، ولا يزال الناس يتعاملون بهذا إلى اليوم، فيأخذ الرجل حاجته من البقال، أو اللحام، أو الفاكهي، ولا يتفقان على ثمن وقت الأخذ، ثم يحاسبه في آخر الشهر، وكان هذا البيع صورة من صور بيع المعاطاة، وقد سبق الأدلة على جوازه، والله أعلم.
المبحث الثالث إبهام الثمن على وجه التخيير
المبحث الثالث إبهام الثمن على وجه التخيير [م - 142] إذا قال الرجل للرجل: بعتك هذه السلعة بعشرة نقدًا، أو بعشرين نسيئة، وتفرقا دون القطع بأحد الثمنين فقد اختلف العلماء في حكم البيع على ثلاثة أقوال: القول الأول: البيع لا يصح، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). القول الثاني: إن وقع البيع على وجه اللزوم، فالبيع باطل، وإن وقع على وجه الاختيار، فالبيع صحيح، وهذا مذهب مالك في المدونة (¬4). ¬
القول الثالث
القول الثالث: البيع صحيح، وهو اختيار ابن القيم (¬1)، وخرجه بعضهم وجهًا في مذهب الحنابلة (¬2). وبعضهم يمنع البيع من باب منع الزيادة مقابل التأجيل، وهي مسألة سوف أناقشها في بحث مستقل إن شاء الله تعالى (¬3). * دليل من قال: لا يصح البيع. ¬
الدليل الأول
الدليل الأول: (ح - 74) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، ثنا محمد ابن عمرو، ثنا أبو سلمة. عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬
ونوقش هذا الاستدلال
ونوقش هذا الاستدلال: القول بأن هذا البيع بيعتان في بيعة غير صحيح، وإنما هو بيعة واحدة في أحد الثمنين. فحديث نهى عن بيعتين في بيعة، وهو الشرطان في البيع في الحديث الآخر: وهو الذي لعاقده أوكس البيعتين، أو الربا في الحديث الثالث، وذلك سد ¬
الدليل الثاني
لذريعة الربا، فإنه إذا باعه السلعة بمائتين مؤجلة، ثم اشتراها منه بمائة حالة فقد باع بيعتين في بيعة، فإن أخذ الثمن الزائد أخذ الربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما، وهذا من أعظم الذرائع إلى الربا، وأبعد كل البعد من حمل الحديث على البيع بمائة مؤجلة أو خمسين حالة (¬1). وسيأتي إن شاء الله الكلام على بيعتين في بيعة، وكلام السلف فيهما مقارنًا بكلام الفقهاء في مبحث مستقل، أسأل الله وحده العون والتوفيق. الدليل الثاني: علل بعضهم المنع بجهالة الثمن؛ لأننا لا ندري، هل الثمن هو النقد، أو الثمن هو النسيئة، فلم يعقد على ثمن بعينه (¬2)، ولعدم وجود ما يصلح أن يكون إيجابًا. وعلل بعضهم المنع بتعليق البيع، وتعليق البيع عندهم غير جائز (¬3). ونوقش هذا: بأن عدم تحديد أحد الثمنين في الإيجاب، لا يمنع من صحة البيع، وسوف يأتينا إن شاء الله تعالى صحة البيع بما ينقطع به السعر، وصحة البيع بسعر يومه، وبما يبيع به زيد، وكل ذلك ليس فيه تحديد للثمن. وأما القول بالبطلان بسبب تعليق البيع فهذا مذهب ضعيف، والصحيح جواز البيع بالتعليق، كما لو قلت: أبيعك إن رضي والدي، وسوف أناقش هذه المسألة في بحث مستقل إن شاء الله تعالى. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: القياس على ما لو قال: بعتك أحد هذين العبدين، فإذا كانت هذه الصيغة غير صالحة للبيع، فلا يجوز بعتك بألف نقدًا، أو بألفين نسيئة. ويناقش: بأن هناك فرقًا بين الصيغتين، فالمبيع في قولك: (بعتك أحد هذين العبدين) لم يتحدد المبيع، وأما قولك: بعتك بألف نقدًا، أو بألفين نسيئة، فالمبيع واحد متعين، والتخيير بالثمن. * دليل من قال: البيع باطل إن وقع لازما، وصحيح إن وقع على التخيير: ذكر ابن رشد الإجماع على بطلان العقد إن وقع على وجه اللزوم (¬1)، قال في بداية المجتهد " ... وهو أن يقول له: أبيعك هذا الثوب نقدًا بكذا، أو نسيئة بكذا، فهذا إذا كان البيع فيه واجبًا، فلا خلاف في أنه لا يجوز، وأما إذا لم يكن البيع لازمًا في أحدهما فأجازه مالك ... وجعله مالك من باب الخيار؛ لأنه إذا كان عنده على الخيار لم يتصور فيه ندم يوجب تحويل أحد الثمنين في الآخر، وهذا عند مالك هو المانع ... فعلة امتناعه عند مالك. سد الذريعة الموجبة للربا؛ لإمكان أن يكون الذي له الخيار قد اختار أولًا إنفاذ العقد بأحد الثمنين المؤجل أو المعجل، ثم بدا له، ولم يظهر ذلك، فيكون قد ترك أحد الثمنين للثمن الثاني، فكأنه باع أحد الثمنين بالثاني، فيدخله ثمن بثمن نسيئة، أو ثسيئة ومتفاضلًا، وهذا كله إذا كان الثمن نقدًا، وإن كان الثمن غير نقد، بل طعامًا، دخله وجه آخر، وهو بيع الطعام بالطعام متفاضلًا" (¬2). ¬
دليل من قال: البيع صحيح.
وهذا من مبالغة المالكية في سد باب الذرائع، فإن المشتري إذا اختار في نفسه أحد الثمنين لم يكن ذلك بيعًا حتى يتكلم به، ومجرد الاختيار النفسي لا يلزم الشخص أبدًا، لا في بيع، ولا في نكاح، ولا في طلاق، حتى يتلفظ بذلك. * دليل من قال: البيع صحيح. الدليل الأول: (ث- 13) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن يحيى ابن سعيد، أن عمر أجلى أهل نجران: اليهود والنصارى، واشترى بياض أرضهم وكرومهم، فعامل عمر الناس: إن هم جاؤوا بالبقر والحديد من عندهم، فلهم الثلثان، ولعمر الثلث، وإن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر ... الأثر (¬1). [منقطع، يحيى لم يدرك عمر] (¬2). الدليل الثاني: الأصل صحة البيع حتى يوجد دليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع يبطل مثل هذا العقد، أو يتضمن محذورًا يدعو إلى إبطال العقد كالربا، والجهالة، والغرر، فلما لم يوجد مثل ذلك دل هذا على صحة مثل هذا العقد، غاية ما في الأمر أنه خيره بين أي الثمنين يريد، وهذا لا حرج فيه. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: استدل بعضهم بقوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27]. قال ابن كثير: "وقد استدلوا بهذه الآية الكريمة لمذهب الأوزاعي فيما إذا قال: بعتك هذا بعشرة نقدًا، أو بعشرين نسيئة، أنه يصح، ويختار المشتري، وبأيهما أخذه صح ... " (¬1). ولم يقبل ابن كثير هذا الاستدلال، واعتذر عن بيان وجه الضعف فيه بأن ليس هذا موضع بسطه، والله أعلم. وفيه فرق بين الصورتين، فإن إتمام العشر تبرع محض، والعقد إنما وقع على الثمان، بخلاف صورة المسألة حيث إن العقد في الصورتين عقد معاوضة، إما نقدًا، وإما نسيئة. الدليل الرابع: (ث -14) روى ابن أبي شيبة من طريق أشعث، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لا بأس أن يقول للسلعة: هي بنقد بكذا، وبنسيئة بكذا، ولكن لا يفترقان إلا عن رضا (¬2). ¬
الراجح من الخلاف
[إسناده ضعيف] (¬1). * الراجح من الخلاف: الذي أميل إليه صحة مثل هذا العقد، وأن التخيير للمشتري من باب التوسعة عليه من قبل البائع، فالعقد مصيره إلى العلم بالثمن، غاية ما فيه أن المشيئة جعلها البائع للمشتري إن شاء أخذه بهذا، وإن شاء أخذه بهذا، ولا ضير في ذلك، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في اشتراط القدرة على تسليم الثمن
المبحث الرابع في اشتراط القدرة على تسليم الثمن [م - 143] اختلف الفقهاء في الثمن، هل يشترط أن يكون مقدورًا على تسلميه؟ فقيل: لا يشترط، وهو مذهب الحنفية (¬1)، واختيار ابن حزم (¬2). وقيل: يشترط في الثمن أن يكون مقدورًا على تسليمه إن كان حالًا، وعند حلول الأجل إن كان مؤجلًا، أما ما لا يقدر على تسليمه فلا يصح جعله ثمنًا، وهو مذهب الجمهور (¬3). وقد سبق لنا مناقشة هذه المسألة عند الكلام على شروط المعقود عليه (المبيع والثمن) هل يشترط القدرة على تسليمه، وذكرنا أدلة كل قول مع بيان الراجح، فأغنى عن إعادته هنا. ... ¬
الفصل الرابع فيما يختص به المبيع من الأحكام
الفصل الرابع فيما يختص به المبيع من الأحكام الحكم الأول في شمول المبيع وما يدخل فيه عند الإطلاق المبحث الأول الضوابط التي تحكم ما يدخل في المبيع وما لا يدخل فيه [م - 144] قد يتنازع المتبايعان في بعض الأشياء التي لها صلة بالمبيع، هل ملحقة به، داخلة فيه؛ لأن اسم المبيع يشملها، فتكون من حق المشتري، أو ليست داخلة فيه؛ لأن اسم المبيع لا يشملها، فتكون باقية على ملك البائع؟ وأنواع المبيع التي تُتْبَع بشيء إذا وقع العقد عليها ثمانية أشياء كما ذكر ذلك القرافي في الفروق: - لفظ الأرض. - ولفظ الدار. - ولفظ الشجر. وتسمى عند الفقهاء (بالأصول). - ولفظ الثمار والزروع. وتسمى عند الفقهاء (بالثمار) - ولفظ الشركة. - ولفظ المرابحة.
الضابط الأول
- ولفظ العبد والحيوان. هذه أنواع المبيع التي يتبعها أشياء إذا وقع العقد عليها، وسوف يحتاج الأمر إلى وضع قواعد وضوابط تعالج هذا الأمر، وتسد باب النزاع الذي يؤدي إلى فساد العقد، ثم نأتي إلى بحث المسائل الفرعية على طريقة الفقهاء، من هذه الضوابط: الضابط الأول: كل ما جرى عرف البلد على أنه من مشتملات البيع يدخل في البيع من غير ذكر، والعكس صحيح: أن ما جرى العرف بعدم إدخاله لم يدخل وإن كان اسم المبيع يشمله (¬1). وهذا الضابط من أهم الضوابط، بل إن مدار الباب عليه تقريبًا. * شرح هذا الضابط: قال ابن عابدين في حاشيته نقلًا من الذخيرة: "الأصل أن ما لا يكون من بناء الدار، ولا متصلًا بها لا يدخل إلا إذا جرى العرف في أن البائع لا يمنعه عن المشتري، فالمفتاح يدخل استحسانًا، لا قياسًا لعدم اتصاله، وقلنا بدخوله بحكم العرف" (¬2). وقال الزيلعي: "وثياب الغلام، والجارية تدخل في البيع من غير شرط للعرف، إلا أن تكون ثيابًا مرتفعة تلبس للغرض فلا تدخل إلا بالشرط لعدم العرف" (¬3). ¬
وقال الدسوقي في حاشيته: "محل تناول العقد على البناء والشجر للأرض، وتناول العقد على الأرض ما فيها من بناء وشجر، كان ذلك العقد بيعًا أو غيره، إن لم يكن شرط أو عرف بخلافه، وإلا عمل بذلك الشرط أو العرف" (¬1). ويقول القرافي المالكي في الفرق بين قاعدة: ما يتبع العقد عرفًا، وقاعدة: ما لا يتبعه -بعد أن سرد الأبواب في ذلك- قال: "جميع هذه المسائل وهذه الأبواب التي سردتها مبنية على العوائد غير مسألة الثمار المؤبرة، بسبب أن مدركها النص والقياس، وما عداها مدركة العرف والعادة، فإذا تغيرت العادة، أو بطلت، بطلت هذه الفتاوى، وحرمت الفتوى بها لعدم مدركها فتأمل ذلك، بل تتبع الفتاوى هذه العوائد كيفما تقلبت كما تتبع النقود في كل عصر وحين، وتعيين المنفعة من الأعيان المستأجرة إذا سكت عنها فتنصرف بالعادة للمنفعة المقصودة منها عادة، لعدم اللغة في البابين وكل ما صرح به في العقد، واقتضته اللغة فهذا هو الذي لا يختلف باختلاف العوائد، ولا يقال إن العرف اقتضاه فهذا تلخيص هذا الفرق" (¬2). وفي مجلة الأحكام الشرعية، وهي مجلة حنبلية، جاء فيها: "كل ما يتعلق به حاجة المبيع، أو يعد من مصلحته عرفًا، يدخل في بيعه تبعًا، فيدخل في بيع الدابة لجامها، ومقودها، ونعلها، وفي بيع القن لبسه المعتاد، ولا تدخل الحلي، ولباس التجميل. كل منفصل عن المبيع، مما لا يشمله اسمه عرفًا، ولا يعد من مصلحته عادة، لا يدخل في البيع بلا تصريح، فلا يدخل الكنز والحجر المدفونان في بيع ¬
الضابط الثاني
الأرض، ولا السرر، والأقفال، والفرش، والغروس الموضوعة في الأواني التي تنقل في بيع الدور ونحوها" (¬1). وقال شيخ شيخنا عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: "إن كان العرف جاريًا بدخول المفاتيح دخلت بلا ريب؛ لأن العرف كالشرطا" (¬2). الضابط الثاني: يدخل في المبيع كل ما يتناوله اسم المبيع لغة بحيث يعد جزءًا حقيقيًا منه بحسب مدلول اسمه (¬3). * شرح هذا الضابط: ما يتناوله اسم المبيع شيئان: إما أنه يتناوله عرفًا، وهذا سبق بحثه. أو يتناوله لغة، فهذا هو القسم الثاني. فبيع الدار يدخل فيه غرفها، وبيع الخزانة يدخل فيه أدراجها؛ لأن اسم المبيع يتناوله لغة وعرفًا، وهي جزء حقيقي منه. ولا يستثنى من هذين الشيئين إلا ما استثناه نص شرعي، كالثمرة المؤبرة فإنها جزء من المبيع، ولا تدخل إلا بالشرط، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الضابط الثالث: يدخل في المبيع كل ما كان كالجزء من المبيع، أو كان مما لا يقبل الانفكاك عن المبيع نظرًا إلى غرض المشتري. فبيع القفل مثلًا يدخل معه المفتاح (¬4). ¬
شرح هذا الضابط
* شرح هذا الضابط: هناك أشياء من توابع المبيع قد لا تدخل في مدلول الاسم، وهي مستقلة بذاتها ليست متصلة بالمبيع، ولكن حصول المنفعة من المبيع، أو تمامها لا يتم إلا بها، فهذه تدخل في المبيع نظرًا إلى أن غرض العاقد من المبيع يتوقف عليها، وعلى إلحاقها، فهذه تدخل في المبيع، وإن لم تذكر في الاسم، وأظهر مثال له دخول المفتاح في بيع القفل. قال الشيخ الزرقاء - صلى الله عليه وسلم -: "المبنى الفقهي في ذلك: أن الانتفاع المقصود من المبيع بعقد البيع يتوقف تحققه على هذه الأشياء، وإن كانت مستقلة عنه في الوجود، فيكون عدم ذكرها اعتمادًا على أن دخولها مفهوم، كما يستغنى بذكر الكل عن ذكر الأجزاء التي يتألف منها" (¬1). وأما إذا كان الشيء منفصلًا مستقلًا، ولم تتوقف عليه حصول المنفعة، فلا يدخل إلا بالتصريح، فلا يدخل في بيع الفرس سرجها وركابها. وفي بيع الدار، لا تدخل الكراسي، والخزانات المنفصلة. وفي بيع المنضدة لا يدخل كساؤها. الضابط الرابع: يدخل في المبيع كل ما كان متصلًا بالمبيع اتصال قرار، وكان من مصلحته (¬2). ¬
شرح هذا الضابط
* شرح هذا الضابط: " ضابط اتصال القرار: أن يكون الشيء موضوعًا على وجه الدوام، لا ليرفع، ويحول" (¬1). فيدخل في بيع الأرض ما فيها من بناء، وشجر، دون الزرع، والثمار. كما يدخل في بيع الدار: الأبواب المنصوبة، والرفوف المسمرة، والأوتاد المغروزة، والسلالم المثبتة، بخلاف الخزائن، والسلالم المنقولة، وأحواض الأزهار المنقولة، فإنها لا تدخل في المبيع دون تصريح بها. الضابط الخامس: يدخل في المبيع كل ما كان من توابع المبيع التي يعبر عنها بالألفاظ العامة بالحقوق والمرافق. فلو قال البائع: بعتك هذه الدار بجميع حقوقها: دخل في البيع حق الشرب، وحق المسيل، وحق المرور، بشرط أن تكون موجودة وقت البيع، والألفاظ العامة أربعة: (1) بجميع حقوقه. (2) بجميع مرافقه. (3) بكل قليل وكثير فيه. (4) بكل قليل وكثير منه (¬2) ¬
الضابط السادس
الضابط السادس: كل منفصل عن المبيع، مما لا يشمله اسمه عرفًا، ولا يعد من مصلحته عادة، لا يدخل في البيع بلا تصريح، فلا يدخل الكنز، والحجر المدفونان في بيع الأرض، ولا السرر، والأقفال، والفرش، والغروس الموضوعة في الأواني التي تنقل في بيع الدور ونحوها. الضابط السابع: وإذا وجد تصريح بإدخال ما لا يدخل تبعًا، أو بإخراج ما يدخل تبعًا عمل به (¬1). هذا ما تمكنت من جمعه من الضوابط العامة، وهذا أوان ذكر الأمور على سبيل التفصيل. ¬
المبحث الثاني ما يدخل في بيع الأرض
المبحث الثاني ما يدخل في بيع الأرض الفرع الأول: البناء والشجر [م - 145] إذا باع أرضًا، وأطلق، فهل يدخل في ذلك ما عليها من بناء، وشجر؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يدخلان في البيع قال الكاساني: "عند عامة العلماء" دون الشجر المجذوذ واليابس، فلا يدخلان إلا بالشرط (¬1). القول الثاني: لا يدخل البناء، والشجر الأخضر في بيع الأرض؛ لأن اسم الأرض لا يتناولهما، وليس هناك عرف مطرد في دخولهما. ¬
دليل دخول البناء والشجر في بيع الأرض.
وهو قول في مذهب الشافعية (¬1)، رجحه الغزالي والنووي (¬2)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬3). * دليل دخول البناء والشجر في بيع الأرض. الدليل الأول: (ح - 75) ما رواه البخاري من طريق نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، أن عمر بن الخطاب أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله ¬
وجه الاستدلال
إني أصبت أرضًا بخيبر، لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، قال: فتصدق بها عمر، أنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول ... (¬1). وجه الاستدلال: قوله (أصبت أرضًا) مع قوله (على من وليها أن يأكل منها بالمعروف) فأطلق الأرض، وأراد بما فيها. الدليل الثاني: أن البناء والشجر متصلة بالأرض اتصال قرار، ومن مصلحة الأرض. "وضابط اتصال القرار: أن يكون الشيء موضوعًا على وجه الدوام، لا ليرفع ويحول" (¬2). قال في البحر الرائق: "ويدخل البناء والشجر في بيع الأرض بلا ذكر لكونه متصلًا بها للقرار" (¬3). الدليل الثالث: رأى بعضهم أن دخول البناء والشجر بمقتضى العرف، وبعضهم يرى أن ذلك بمقتضى الشرع، وإن لم يجر عرف بذلك التناول، ما لم يجر عرف بخلافه. ففي شرح الخرشي، قال: "العقد على الأرض يتناول البناء والشجر اللذين ¬
الراجح من الخلاف
فيها بحكم العرف والعادة لا بحسب اللغة، وهذا حيث لا شرط، ولا عادة بخلافه" (¬1). وذكر الدسوقي في حاشيته أنه يتناولهما تناولًا شرعيًا، وإن لم يجر عرف بذلك التناول، ما لم يجر عرف بخلافه (¬2). ورأى بعضهم أن الشرع والعرف يقتضي دخولهما كما في منح الجليل (¬3). وقيدنا الشجر بالأخضر؛ لأن اليابس ليس متصلًا بالأرض على وجه الثبوت والدوام؛ ولأن الشجر اليابس أشرف على القطع، فشبهها بعضهم بالثمرة، والثمرة للبائع إلا بالشرط (¬4). وشبهها بعضهم بالحطب الموضوع على الأرض (¬5): واستثنينا الشجر المجذوذ؛ لأن المجذوذ ليس متصلًا بالأرض، فهي تشبه المتاع المودع بالأرض (¬6). * الراجح من الخلاف: إن كان هناك عرف عمل به، وإن لم يكن هناك عرف فإن الشجر والبناء يدخلان، وإن لم يتناولهما اسم الأرض، كما يدخل الأبواب والرفوف المثبتة في مسمى الدار، وإن لم يتناولهما الاسم، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني في معادن الأرض
الفرع الثاني في معادن الأرض [م - 146] ذهب عامة الفقهاء إلى أن المعادن إن كانت جامدة، كالذهب، والفضة والنحاس، والرصاص، أنها تدخل في بيع الأرض؛ لأنها تعتبر جزءًا من الأرض (¬1). قال ابن قدامة: "فإن كان في الأرض معادن جامدة، كمعادن الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، والرصاص، ونحوها، دخلت في البيع، وملكت بملك الأرض التي هي فيها؛ لأنها من أجزائها، فهي كترابها، وأحجارها، ولكن لا يباع معدن الذهب بذهب، ولا معدن الفضة بفضة، ويجوز بيعها بغير جنسها ... " (¬2). وأما مذهب الحنفية، فإنه يمكن أن يستنبط الحكم عندهم من مسألة مشابهة، فإنهم نصوا على أن الإنسان لو اشترى سمكة، فوجد فيها لؤلؤة، فهي للمشتري؛ لأن السمك يأكل الصدف، والصدف فيه اللؤلؤ، فكان بمثابة ما لو اشترى سمكة، فوجد فيها سمكة أخرى. قلت: كذلك الأرض من شأنها أن يوجد فيها معادن جامدة (¬3). وجاء في مختصر الإنصاف والشرح الكبير: "وإن ظهر في الأرض معدن، لا ¬
يعلم به البائع، فله الخيار، وروي أن ولد بلال بن الحارث باعوا عمر ابن عبد العزيز أرضًا، فظهر فيها معدن، فقالوا: إنما بعنا الأرض، ولم نبع المعدن، وأتوا عمر بالكتاب الذي فيه، قطيعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبيهم، فأخذه، وقبله، ورد عليهم المعدن، وعن أحمد: إذا ظهر المعدن في ملكه ملكه، وظاهره أنه لم يجعله للبائع، ولا جعل له خيارًا" (¬1). وجاء في شرح منتهى الإرادات: "وإن ظهر ذلك في الأرض -يعني المعدن- ولم يعلم به بائع، فله الفسخ" (¬2). ويرى أن ثبوت الخيار للبائع لا ينافي القول بأن المعدن من حق المشتري لأنه لو كان للبائع مطلقًا للزم البيع في حق المشتري، ولوجب على المشتري تسليمه للبائع، وإنما ثبوت الخيار للجهل بالمبيع، ألا ترى أن الرجل لو اشترى نخلة قد أبرت، فثمرتها للبائع، ومع ذلك لو ادعى المشتري أنه يجهل الحكم، وأنه اشترى النخلة باعتبار أن الثمرة داخلة معها، ثبت له الخيار إن كان مثله يجهل. قال في الإنصاف: "لو اشترى أرضًا فيه زرع للبائع، أو شجرًا فيها ثمر للبائع، وظن دخوله في البيع، أو ادعى الجهل به، ومثله يجهله، فله الفسخ" (¬3). وبهذا يفهم ما جاء عن الشوكاني في السيل الجرار. جاء فيه (ولا يدخل معدن). قال الشوكاني في شرح ذلك: "وجه هذا: أن البائع لو علم به لم تطب نفسه ¬
بالثمن الذي تراضيا عليه، فقد كشف ذلك عن اختلال التراضي، الذي هو المناط في نقل الأملاك، وإذا اختل فلا بيع، فلا بد بعد انكشاف المعدن والدفين ونحوهما من التراضي عن البيع، بثمن تطيب به نفساهما، فإن وقع منهما ذلك كان بيعًا جديدًا، وهكذا الكلام فيما وجد في بطن الشاة أنه مستحق للبائع، وأما التفصيل بين كونه إسلاميًا، أو كفريًا، فلا دخل له في الباب، بل ذلك حكم آخر يعمل البائع فيه بما يقتضيه الشرع، وهكذا حكم العنبر في سمك ونحوه، والحاصل أن من عرف أن مناط أحكام البيع الشرعية هو التراضي لم يستبعد هذا، ومن خفي عليه فمن نفسه أتي" (¬1). ¬
الفرع الثالث الزرع الذي يحصد مرة واحدة
الفرع الثالث الزرع الذي يحصد مرة واحدة [م - 147] ذهب عامة فقهاء المذاهب الأربعة على عدم دخول الزرع الذي يقلع، أو يقطع دفعة واحدة، كحنطة، وشعير، وسائر الزروع، كجزر، وفجل، ونحوهما في المبيع إلا إذا اشترطه المشتري (¬1). قال في المغني: "لا أعلم فيه خلافًا" (¬2). وفي الإنصاف: "قال في المبهج: إن كان الزرع بدا صلاحه لم يتبع الأرض، وإن لم يبد صلاحه فعلى وجهين ... قال في القواعد: وهو غريب جدًا، مخالف لما عليه الأصحاب" (¬3). * وجه كونه لا يدخل في الأرض: الوجه الأول: أنه متصل بالأرض لا على سبيل الثبات والدوام، فلم يدخل. ¬
الوجه الثاني
قال في البحر الرائق: "ولا يدخل الزرع في بيع الأرض بلا تسمية؛ لأنه متصل بالأرض للفصل فشابه المتاع الذي هو فيها" (¬1). الوجه الثاني: أن الزرع الذي يحصد مرة واحدة يشبه الثمرة، بجامع أن كلًا منهما يراد به النقل، وليس البقاء. وسيأتي إن شاء الله تعالى في بحث مستقل حكم الثمرة، ومن تكون له إذا بيع شجر مثمر. * وجه من قال: يتبع الأرض إذا لم يبد صلاحه: يظهر أن هذا القول قاسه على الثمرة المؤبرة، فقبل التأبير هي من حق المشتري، وبعده من حق البائع، فجعل بدو الصلاح في الزرع بمنزلة التأبير في الثمر. والراجح القول الأول، والله أعلم. ¬
الفرع الرابع الزرع الذي يجز مرة بعد أخرى
الفرع الرابع الزرع الذي يجز مرة بعد أخرى [م - 148] ذهب عامة الفقهاء إلى أن الزرع الذي يجز مرة بعد أخرى أن الجزة الظاهرة عند البيع لا تدخل في المبيع إلا بالشرط، وأما أصول الزرع فهي للمشتري (¬1). وقيل: تدخل في المبيع، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬2). ولعل عامة الفقهاء قاسوا ذلك على الثمرة المؤبرة، فرأوا أن ظهور الجزة يمنزلة التأبير للثمرة. ... ¬
الفرع الخامس في دخول البذر في بيع الأرض
الفرع الخامس في دخول البذر في بيع الأرض [م - 149] إذا باعه أرضًا، وفيها بذر، فإما أن يبيعه الأرض والبذر معًا، وإما أن يبيعه الأرض ويطلق، فهل يدخل البذر مع الأرض تبعًا؟ فإن باعه الأرض والبذر معًا، فاختلف العلماء في صحة هذا البيع إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: يجوز بيع الأرض والبذر معًا، وهو مذهب الجمهور (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2). القول الثاني: لا يجوز بيع الأرض والبذر معًا، وهو مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). القول الثالث: إن ذكر قدره ووصفه صح، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬5). وسبب الخلاف، هل جهالة مقدار البذر تؤثر في صحة البيع، أو لا توثر، ¬
القول الأول
فالجمهور يرون أن البذر تابع، وليس مقصودًا في العقد، كمن اشترى عبدًا، وله مال، فالجهالة بمقدار المال لا تؤثر في صحة العقد. ويرى الشافعية أن ذكر البذر في الصفقة يدل على أنه مقصود في العقد، بدليل ذكره في العقد، وإذا كان مقصودًا لم يكن تابعًا، فجهالته تؤثر (¬1). والقول الثالث لا يختلف عن هذا القول؛ لأنه اشترط العلم بالصفة والمقدار لتنتفي الجهالة، وإذا انتفت الجهالة صح، والله أعلم. [م - 150] أما إذا باع الأرض وأطلق، فهل يدخل البذر تبعًا، في ذلك خلاف بين العلماء على أقوال: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن البذر إذا لم ينبت، لم يدخل في البيع، وإذا نبت، وصار له قيمة، دخل في البيع. وهذا قول واحد في المذهب. وأما إذا نبت، ولم يصر له قيمة، أو عفن في الأرض، فقولان، أصحهما أنه يدخل في البيع (¬2). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن الأرض إذا كان فيها بذر مستكن، فهو من حق المشتري، داخل في المبيع، لا يجوز للبائع استثناؤه (¬3). ¬
القول الثالث
القول الثالث: ذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، إلى أن البذر إن كان مما يبقى أصله في الأرض سنتين، أو ثلاثًا، دخل البذر في بيع الأرض، وإن كان البذر مما لا يبقى أصله في الأرض، صح البيع في الأرض، ولم يدخل البذر في الأرض، وللبائع تبقيته إلى أن يستحصد، فإن علم المشتري بأن الأرض مبذورة فلا خيار له، وإن لم يعلم ثبت له الخيار. وقيل: البذر لا يدخل في بيع الأرض مطلقًا، وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة (¬3). * وجه قول من قال: إذا لم ينبت لم يدخل في الأرض: أن البذر إذا لم ينبت لم يدخل في الأرض لوجهين: الأول: أنه ليس من جنس الأرض، فلا يتناوله الاسم لا لغة، ولا عرفًا. والثاني: لأنه يشبه الشيء المودع في الأرض، كالمتاع ونحوه، لا يدخل فيها، وأما إذا نبت، وصار له قيمة فإنه صار جزءًا من الأرض، لا يجوز بيعه وحده، فلهذا كان تابعًا للأرض، فيدخل فيها. * وجه من قال: يدخل في بيع الأرض مطلقًا: أن البذر المستكن في الأرض يشبه الجنين، والثمرة قبل ظهورها، فيدخل في بيع الأرض، ولا يصح للبائع استثناؤه. ¬
وجه من قال: إن كان البذر يراد للبقاء دخل، وإلا لم يدخل
ولأن إبار الزرع هو خروجه من الأرض عندنا، وقبل خروجه يعتبر غير مؤبر، فيدخل في بيع الأرض تبعًا. * وجه من قال: إن كان البذر يراد للبقاء دخل، وإلا لم يدخل: قاسوا ذلك على الشجر والزرع، فإن كان البذر يبقى في الأرض السنتين والثلاث فإنه يشبه الشجر فيكون للمشتري، وإن كان لا يبقى فإنه يشبه الزرع، فيكون للبائع. * الراجح من الخلاف: المسألة مفروضة على اعتبار أنه لا يوجد عرف يمكن الرجوع إليه، فإن كان هناك عرف قدم على غيره؛ لأن الباب كله مبني على تحكيم العرف، ثم اللغة. فإن لم يكن هناك عرف فأرى نفسي تميل إلى مذهب المالكية، وأن البذر قبل ظهوره من الأرض يعتبر بحكم المستتر في الأرض، فأخذه من الأرض فيه مشقة، وقد يضر الحرث بالأرض، وإذا كنا نعتبر الزرع بالظهور، فما ظهر من الزرع فهو للبائع، وما لم يظهر فهو للمشتري، فكذلك البذر، والله أعلم. ***
الفرع السادس في دخول ماء الأرض في بيع الأرض
الفرع السادس في دخول ماء الأرض في بيع الأرض * تحرير محل الخلاف: [م - 151] ليس الكلام هنا في دخول البئر في بيع الأرض، فإنه لا خلاف بين الفقهاء في دخول ذلك: (ح - 76) فقد روى البخاري معلقًا بصيغة الجزم. قال البخاري: وقال عثمان: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من يشتري بئر رومة، فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين، فاشتراها عثمان - رضي الله عنه -. وإذا صح شراء البئر على وجه الاستقلال، جاز شراء الأرض، ودخول البئر تبعًا من باب أولى (¬1). ¬
[م - 152] كما أنه يجوز بيع الماء وحده إذا حازه الإنسان في إناء مثلًا: قال القرطبي: "المسلمون مجمعون على أن الإنسان إذا أخذ الماء من النيل مثلًا فقد ملكه، وأن له بيعه، قال بعض مشايخنا: فيه خلاف شاذ، لا يلتفت إليه" (¬1). وقال المازري في المعلم: "اعلم أن من الناس من زعم أن الإجماع قد حصل على أن من أخذ من دجلة ماء في إنائه، وحازه دون الناس أن له بيعه إلا قولًا شاذًا ذكر في ذلك، لا يعتد بخلافه عنده ... " (¬2). ¬
وسبب الخلاف
والدليل على أن الماء إذا استخرج من البئر، أو حيز في إناء جاز له بيعه: القياس على بيع الكلأ بعد حيازته، فكما أن الكلأ الناس شركاء فيه كالماء، فإذا حاز الإنسان الكلأ جاز له بيعه فكذلك الماء: (ح - 77) فقد روى البخاري من حديث الزبير بن العوام، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لأن يأخذ أحدكم أحبلًا، فيأخذ حزمة من حطب، فيبيع، فيكف الله بها وجهه خير من أن يسأل الناس، أعطي أم منع (¬1). [م - 153] وإنما البحث هنا في دخول ماء البئر في بيع الأرض، وهل يملك الماء إذا ملكت الأرض، أو لا يملك بذلك، هذا هو محل البحث. وسبب الخلاف: اختلافهم في ملك الماء قبل حيازته بملك الأرض والبئر، ومعارضة عموم النهي عن بيع فضل الماء لأصل الملكية، وهل يقاس الماء على الطعام إذا إحتيج إليه، بحيث يجوز بذله بالقيمة، أو لا؟ * اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: لا يملك الماء بملك الأرض أو البئر قبل حيازته، إلا أن صاحب الأرض إن ¬
القول الثاني
كان محتاجًا إليه فهو أحق به، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن الماء يملك بملك الأرض أو البئر قبل حيازته، وله منع المارة من مائها إلا بثمن، إلا على قوم لا ثمن معهم، وخافوا هلاكًا على أنفسهم، أو دوابهم، فيجب عليه أن يبذل لهم مجانًا، ولو كانوا أغنياء في بلادهم، أما إذا كان معهم مال فبالثمن باتفاق أهل المذهب. وكذلك يجب بذل فضل الماء إذا انهارت بئر جاره، وله زرع يخاف عليه التلف، فعليه أن يبذل له فضل مائه، ما دام متشاغلًا بإصلاح بئره، واختلف أصحاب مالك، هل يكون ذلك بثمن أو بغير ثمن، فقال بعضهم: يجبر، ويعطى الثمن. وقال بعضهم: يجبر، ولا ثمن له، وجعلوه كالشفاه من الآدميين والمواشي. هذا ملخص مذهب المالكية (¬3)،. . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ومذهب الشافعية قريب منه (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). وقد فصلنا أدلتهم في مسألة (بيع فضل الماء) فأغنى عن إعادتها هنا، والحمد لله على عونه وتوفيقه، وقد رجحنا هناك أن ملك البئر أو ملك الأرض لا يعني ملك الماء ما دام في مقره، لكن إذا كان الماء لا يكفي صاحبه فحاجته مقدمة على غيره، وذلك أن حديث: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء حديث ¬
صحيح، وهو مطلق، يشمل ما إذا كان بيع الفضل للشفة، أو للزرع، لا فرق في ذلك، خاصة أن النهي متوجه إلى الماء، وهو في مستقره، وقبل حيازته، وهو يتجدد، وما يستخرج من البئر يعقبه ماء جديد، فهو ماء جار تحت الأرض، فالمياه تحت الأرض أنهار جارية، كالأنهار الجارية فوق الأرض، وله ممراته الخاصة، وإذا كان الناس سواء في ماء النهر، كان الناس سواء في الماء قبل الحيازة، والله أعلم.
الفرع السابع في دخول الحجارة في بيع الأرض
الفرع السابع في دخول الحجارة في بيع الأرض [م - 154] ذهب الأئمة الأربعة إلى أن الحجارة المخلوقة في الأرض، أو المثبتة فيها، تدخل في بيع الأرض، دون الحجارة المنقولة، والمدفونة؛ لأنها مودعة فيها أشبهت المتاع (¬1). فإن كان نقل الحجارة يضر بالأرض أو ينقصها، ولم يعلم بذلك المشتري ثبت له الخيار، وإن كان عالمًا فلا خيار له، الشأن في ذلك شأن العيب يكون في السلعة. قال ابن عابدين في حاشيته: " (قوله: اتصال قرار الخ) فيدخل الحجارة المخلوقة، والمثبتة في الأرض والدار، لا المدفونة، يدل عليه قولهم: لو اشترى أرضًا بحقوقها، وانهدم حائط منها، فإذا فيه رصاص، أو ساج، أو خشب إنْ من جملة البناء كالذي يكون تحت الحائط يدخل، وإنْ شيئًا مودعًا فيه فهو للبائع، وإن قال البائع: ليس لي فحكمه حكم اللقطة، فقولهم: شيئًا مودعًا يدخل فيه الأحجار المدفونة، ويقع كثيرًا في بلادنا أنه يشتري الأرض، أو الدار، فيرى المشتري فيها بعد حفرها أحجار المرمر، والكذان، والبلاط، والحكم فيه: إن كان مبنيًا، فللمشتري، وإنْ موضوعًا لا على وجه البناء، فللبائع، وهي كثيرة الوقوع فاغتنم ذلك" (¬2). ¬
وقال القرافي في الذخيرة: "اللفظ الثالث: الأرض ... وتندرج الحجارة المخلوقة فيها دون المدفون ... " (¬1). وقال في الفروق: "بيع الأرض يندرج تحته الأشجار، والبناء، دون الزرع الظاهر، كمأبور الثمار، فإن كان كامنًا في الأرض اندرج على إحدى الروايتين، كما تندرج الحجارة المخلوقة فيها دون المدفونة، إلا على القول بأن من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها ... " (¬2). وقال الشافعي في الأم: "ولو باع رجل رجلًا أرضًا، أو دارًا، فكان له فيها خشب مدفون، أو حجارة مدفونة ليست بمبنية أن مُلْك الموضوع كله للبائع، لا يملك المشتري منه شيئًا، إنما يملك الأرض بما خلق في الأرض من ماء وطين، وما كان فيها من أصل ثابت من غرس، أو بناء، وما كان غير ثابت، أو مستودع فيها فهو لبائعه، وعلى بائعه أن ينقله عنه. قال: فإن نقله عنه كان عليه تسوية الأرض حتى تعود مستوية لا يدعها حفرًا (قال): وإن ترك قلعه منه، ثم أراد قلعه من الأرض من زرعه، لم يكن ذلك له حتى يحصد الزرع ثم يقلعه إن شاء، وإن كان له في الأرض خشب، أو حجارة مدفونة، ثم غرس الأرض على ذلك ثم باعه الأصل، ثم لم يعلم المشتري بالحجارة التي فيها، نظر: فإن كانت الحجارة أو الخشب تضر بالغراس، وتمنع عروقه كان المشتري بالخيار في الأخذ أو الرد؛ لأن هذا عيب ينقص غرسه، وإن كان لا ينقص الغراس، ولا يمنع عروقه، وكان البائع إذا أراد إخراج ذلك من الأرض قطع من عروق الشجر ما يضر به، قيل لبائع الأرض: أنت بالخيار بين أن تدع هذا، وبين رد البيع، فإن ¬
أحب تركه للمشتري تم البيع، وإن امتنع من ذلك قيل للمشتري لك الخيار بين أن يقلعه من الأرض، وما أفسد عليك من الشجر، فعليه قيمته إن كانت له قيمة، أو رد البيع" (¬1). وقال العز بن عبد السلام: "لا يدخل في البيع ما كان مدفونًا في الأرض من الحجارة، والكنوز، والأحطاب، والأخشاب؛ لأنه ليس جزءًا منها، ولا داخلًا في اسمها، ولا متصلا بها اتصال الأبنية" (¬2). ¬
المبحث الثالث ما يدخل في بيع النخل والشجر
المبحث الثالث ما يدخل في بيع النخل والشجر الفرع الأول في ثمرة النخلة والشجرة [م - 155] إذا باع نخلًا أو شجرًا، وكان عليه ثمر، فهل يدخل في البيع، أو تكون الثمرة للبائع؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على أربعة أقوال: القول الأول: الثمرة للبائع مطلقًا، سواء كان مؤبرًا، أو غير مؤبر، إلا أن يشترطه المشتري. وهذا قول أبي حنيفة، وبه أخذ محمد بن الحسن (¬1). القول الثاني: الثمرة للمشتري مطلقًا، وإن لم يشترطه، وهو رأي ابن أبي ليلى (¬2)، وابن عتاب من المالكية (¬3). القول الثالث: الثمار للمشتري، إلا في النخل إذا أبر، وفي غير النخل إذا برزت جميع الثمرة عن موضعها، وتميزت عن أصلها، فإنها للبائع، وهذا مذهب ¬
القول الرابع
المالكية (¬1)، ورواية عن أحمد، اختارها ابن تيمية (¬2). القول الرابع: الثمار للمشتري، إلا في النخل إذا تشقق طلعه، وفي غير النخل: إذا بدا ثمره، وبدو الورد والقطن ظهوره من أكمامه. وهذا مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬
دليل الحنفية على أن الثمرة للبائع مطلقا أبرت أو لم تؤبر.
* دليل الحنفية على أن الثمرة للبائع مطلقًا أبرت أو لم تؤبر. الدليل الأول: (ح - 78) استدل الحنفية بما يروونه في كتبهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من اشترى أرضًا فيها نخل، فالثمرة للبائع إلا أن يشترط المبتاع (¬1). [لم أقف عليه بهذا اللفظ، وهو مخالف لما رواه الشيخان في الصحيحين] (¬2). الدليل الثاني: إذا وجبت الثمرة للبائع بعد الأبار، فهي أحرى أن تجب له قبل الأبار (¬3). وجه ذلك: أنه إذا كان يحق للبائع أن يستبقي الثمرة بعد أن كانت صالحة للبيع والتداول، فكونه يستبقيها قبل صلاحها، واشتدادها، وأمنها للعاهة من باب أولى. ¬
ويجاب
ويجاب: بأن المسألة ليست من باب جواز ذلك بالشرط، فهو يحق له أن يستبقيها قبل التأبير بالشرط على الصحيح، وإنما الكلام على دخولها في البيع المطلق، فالحديث المتفق عليه نص على أن من باع نخلًا قد أبرت فثمرها للذي باعها، إلا أن يشترط المبتاع، وقَيْدُ التأبير يفهم منه أن النخل إذا لم يؤبر فهو للمشتري، فعدم دخول الثمرة في المبيع بعد التأبير لم نعرف ذلك من خلال اللغة، ولا من خلال العرف، وإنما عرفنا ذلك من خلال النص الشرعي، والذي فيه يفرق بين الثمرة قبل التأبير، والثمرة بعد التأبير، ومن سوى بينهما فقد سوى بين ما فرق الله ورسوله في الحكم. الدليل الثالث: شبه الحنفية خروج الثمرة بالولادة، فكما أن من باع أمة لها ولد، فولدها للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، كذلك الأمر في الثمرة إذا خرجت (¬1). ويجاب: بأن قياس الثمرة على الحمل قياس في مقابل النص، فيكون قياسًا فاسدًا، وقد يقال: إن الحمل الكامن يتبع الأصل، والحمل الظاهر لا يتبع، وظهور الحمل إنما يكون بالولادة، وكذلك الثمرة الكامنة تتبع الأصل، والثمرة الظاهرة لا تتبع، وظهور الثمرة يكون إما بالتشقق على قول، بحيث تخرج من مكمنها، أو بالتأبير على قول. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: إذا كان اسم النخلة لا يدخل فيها الثمرة المؤبرة، فكذلك غير المؤبر مقيس عليها، لخروجه عن اسم النخلة. وسبق الجواب على هذا، وأن قيد التأبير يفهم منه أن غير المؤبر يختلف حكمه عن المؤبر، وإلا لما كان قيد التأبير له فائدة. قال العز بن عبد السلام: "لو باع نخلًا عليها طلع مؤبر لم يدخل في البيع؛ لأن اسم النخلة لا يتناوله، وإن كان غير مؤبر فالقياس أنه لا يدخل، لخروجه عن اسم النخلة، لكن الشافعي نقله إلى المشتري مع خروجه عن اسم النخلة لاستتاره، كما نقل حمل الجارية والبهيمة إلى المشتري لاستتارهما، وعملًا بقوله - عليه السلام -: (من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع)، ومفهوم هذا أن ما لم يؤبر فهو للمشتري" (¬1). * دليل ابن أبي ليلى على أن الثمرة للمشتري مطلقًا: احتج ابن أبي ليلى على أن الثمرة للمشتري قياسًا على الشجر، بجامع أن كلًا منهما متصل بالأرض. جاء في المبسوط: "قال ابن أبي ليلى: الثمرة للمشتري، وإن لم يشترطها؛ لأن الثمرة متصلة بالمبيع اتصال خلقة، فتدخل في المبيع من غير ذكر، كأطراف العبد، وأغصان الشجر، والدليل عليه: أن النخل جعل تبعًا للأرض بسبب الاتصال، حتى يدخل في بيع الأرض من غير ذكر، فكذلك الثمرة؛ لأن الاتصال موجود فيها" (¬2). ¬
ويجاب
ويجاب: بأن هذا نظر في مقابل النص، فيكون نظرًا فاسدًا، ولعل الحديث لم يبلغ ابن أبي ليلى - رحمه الله -. * دليل ابن عتاب على أن الثمرة للمشتري: يرى ابن عتاب أن هناك فرقًا بين أن تباع النخلة وعليها ثمرة، وبين أن تباع الأرض، وفيها شجر مثمرة، فالأحاديث تنص على أن من باع نخلًا وقد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع، فالمعقود عليه النخل لا ذات الأرض، ولم تذكر ما إذا كان المعقود عليه الأرض لا ذات النخل، فإذا كان بيع الأرض يتناول بيع الشجر، فكيف لا يتناول ثمرة النخل، وهي فرع عن الشجرة، فتناول الأرض لأصله يقتضي تناولها لفرع الأصل بالأولى. * دليل من قال: الثمرة للمشتري ما لم تؤبر أو تتميز ثمرته: (ح - 79) ما رواه البخاري ومسلم من طريق سالم عن ابن عمر: - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ... الحديث (¬1). فالحديث نص في النخل، وفهم المالكية منه حكم ما عداه، فقالوا: الثمار التي لا تؤبر إذا برزت جميع الثمرة عن موضعها، وتميزت عن أصلها، أن ذلك بمنزلة التأبير في النخل. واقتصاره في الحديث على ثمرة النخل، إما لكونه كان الغالب بالمدينة، أو خرج جوابا لسؤال، والله أعلم. ¬
دليل من قال: الثمرة للمشتري ما لم يتشقق الطلع أو تبد الثمرة.
* دليل من قال: الثمرة للمشتري ما لم يتشقق الطلع أو تبد الثمرة. فسر الشافعية التأبير بالتشقق، سواء حُطَّ فيها شيء أم لا. قال النووي: الأبار: هو شقه، سواء حط فيه شيء أو لا، ولو تأبرت بنفسها: أي تشققت، فحكمها في البيع حكم المؤبرة بفعل الآدمي (¬1). فعبر بالتأبير عن ظهور الثمرة، ولذلك الثمر الذي لا يؤبر أنيط الحكم بالظهور، فكذلك النخل إذا تشقق وبدا طلعه فقد ظهر ثمره. وذهب الحنابلة بأن التشقق هو سبب التأبير، ووقته، فأنيط الحكم به. جاء في الإنصاف: "وإنما أنيط الحكم بالتأبير في الحديث لملازمته للتشقق غالبًا" (¬2). ولأن التشقق هو سبب التأبير، فعلق الحكم به، والمراد سببه. فالتشقق: هو وقت التأبير، وبلوغ الثمرة وقت التأبير قائم منام التأبير، فيكون ذكر التأبير أغلبيًا. ورجح شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله - رأي مالك، وأن الحكم معلق بالتأبير، وليس بالتشقق: قال - رحمه الله - لما يلي: أولًا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علقه به، وليس لنا أن نتجاوز ما حده الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ثانيًا: أن البائع إذا أبره فقد عمل فيه عملًا يصلحه، وتعلقت نفسه به، بخلاف ما إذا لم يؤبره، فإنه لم يصنع فيه شيئًا (¬3). ¬
الراجح
ورغم قوة هذا القول لكونه منطوق الحديث النبوي، فإنه يعكر عليه ما يلي: أولًا: قال ابن عبد البر في التمهيد: "لم يختلف العلماء أن الحائط إذا تشقق طلع إناثه، فأخر إباره، وقد أبر غيره ممن حاله مثل حاله، أن حكمه حكم ما أبر؛ لأنه قد جاء عليه وقت الأبار، وظهرت ثمرته بعد تغيبها في الخف" (¬1). فهذا الإجماع إن صح قد يعكر على من علق الحكم بالتأبير. وقال ابن عبد البر في الاستذكار أيضًا: "الإجماع على أن الثمرة لو لم تؤبر حتى تناهت، وصارت بلحًا أو بسرًا، وبيع النخل أن الثمرة لا تدخل فيه، قالوا: فعلمنا أن المعنى في ذكر التأبير ظهور الثمرة، فاعتبروا ظهور الثمرة، ولم يفرقوا بين المؤبر وغير المؤبر" (¬2). ثانيًا: قال ابن حجر: "لا يشترط في التأبير أن يؤبره أحد، بل لو تأبر بنفسه لم يختلف الحكم عند جميع القائلين به" (¬3). وهذا أيضًا يعكر على قول شيخنا - رحمه الله -: إن البائع إذا أبره فقد عمل فيه عملًا يصلحه، وتعلقت نفسه به، بخلاف ما إذا لم يؤبره، فإنه لم يصنع شيئًا فيه. * الراجح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها أجد أن مذهب ابن أبي ليلى هو أضعف الأقوال، حيث إنه يخالف صريح الحديث، ولعله لم يبلغه، ويليه بالضعف مذهب الحنفية حيث أخذوا بمنطوق حديث ابن عمر في المؤبرة، وهو لا يقول بدليل الخطاب، فألحق غير المؤبرة بالمؤبرة، وأقوى الأقوال القول بالتأبير فهو ¬
أسعدها بالدليل؛ لأنه منطوق الحديث، فمن أخذ به فقد أخذ بظاهر الحديث، وأما القول بالتشقق فيأتي بعده بالقوة، ولا يبعد أن يكون المعنى يقتضيه.
المسألة الأولى لو لم يعلم بالتأبير أو لم يعلم في حكم الثمر المؤبر
المسألة الأولى لو لم يعلم بالتأبير أو لم يعلم في حكم الثمر المؤبر [م - 156] قال في الإنصاف: "لو اشترى أرضًا فيه زرع للبائع، أو شجرًا فيها ثمر للبائع، وظن دخوله في البيع، أو ادعى الجهل به، ومثله يجهله، فله الفسخ" (¬1). وقال الشافعي في الأم: "إن كانت الأرض غائبة عند البيع عن البائع والمشتري، أو عن المشتري دون البائع، فوجد في شجرها ثمرًا قد أبر، وزرعًا قد طلع، فالمشتري بالخيار إذا علم هذا، إن كان قد رأى الأرض قبل الشراء ورضيها؛ لأن في هذا عليه نقصًا بانقطاع الثمرة عنه عامه ذلك، وحبس شجره بالثمرة، وشغل أرضه بالزرع، وبالداخل فيها عليه، إذا كانت له ثمرتها؛ لأنه ليس له أن يمنعه الدخول عليه في أرضه لتعاهد ثمرته، ولا يمنع من يصلح له أرضه من عمل له، فإن أحب أجاز البيع، وإن أحب رده" (¬2). وجاء في شرح منتهى الإرادات: "وكذا مشتر نخلًا عليها طلع، ظن المشتري طلعها لم يؤبر، فيدخل في البيع، فبان مؤبرًا ... فيثبت له الخيار ... ويثبت خيار لمشتر أرضًا، أو شجرًا، ظن دخول زرع بأرض، أو دخول ثمرة على شجر لبائع، كما لو جهل وجودهما، أي الزرع والثمر لبائع؛ لتضرره بفوات منفعة ¬
الأرض والشجر ذلك العام، والقول قوله أي المشتري بيمينه في جهله ذلك إن جهله مثله، كعامي؛ لأن الظاهر معه، وإلا لم يقبل قوله" (¬1). ... ¬
المسألة الثانية إذا اشترطت الثمرة التي على النخل
المسألة الثانية إذا اشترطت الثمرة التي على النخل المطلب الأول إذا اشترط الثمرة المشتري [م - 157] سبق لنا تحرير مسألة ما إذا باع نخلًا وعليها ثمرة، وأطلق البيع من غير تعرض للثمرة، فإن شرطها المشتري قبل التأبير صح الاشتراط، ويكون ذلك من باب التوكيد؛ لأن الثمرة له من غير اشتراط. وإن اشترطها المشتري بعد التأبير كانت للمشتري بالاتفاق، إن كانت الثمرة ثمرة نخل، وقد نص حديث ابن عمر المتفق عليه على ذلك. قال ابن عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ابتاع نخلا يعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ... الحديث (¬1). وثمار غير النخل مقيس عليه عند الأئمة الأربعة. وقال ابن حزم: الظاهر من الثمار للبائع، لا يحل بيعه لا مع الأصول، ولا دونه، ولا يصح أن يشترطه المشتري؛ لأن الاشتراط إنما جاء بالنص في ثمرة النخل، والقياس عنده باطل (¬2). واستدل ابن حزم: (ح - 80) بما رواه الشيخان من طريق حميد، حدثنا أنس بن مالك - رضي الله عنه -، عن ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وعن النخل حتى يزهو، قيل: وما يزهو؟ قال: يحمار أو يصفار (¬1). قال ابن حزم: "لا يجوز في ثمرة النخل إلا الاشتراط فقط ما لم تزه ... فلا يجوز بيعها قبل أن تزهي أصلًا، وأباح - عليه السلام - اشتراطها، فيجوز ما أجازه - عليه السلام - ويحرم ما نهى عنه". وانتقد العراقي قول ابن حزم، فقال: "كان مقتضى الجمود على الظاهر أن يكون ثمر غير النخل الظاهر للمشتري؛ لأنها داخلة في اسم الشجرة، وكونه يمتنع بيعها قبل بدو الصلاح بدون شرط القطع لا ينافي اندراجها تبعًا؛ لأنه يغتفر في التبعية ما لا يغتفر في الاستقلال" (¬2). ومذهب الظاهرية أضعف ما يكون في باب المعاملات المالية بخلاف العبادات فإن مذهبهم فيه قوة في غالب المسائل؛ لأن أحكامه غير معللة غالبًا، ولذلك أغرب من قول ابن حزم هذا قوله - رحمه الله -: "من باع نخلة أو نخلتين، وفيها ثمر قد أبر، لم يجز للمبتاع اشتراط ثمرتها أصلًا، ولا يجوز ذلك إلا في ثلاثة فصاعدًا ... لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من باع نخلًا قد أبرت، فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع". فلم يحكم - عليه السلام - بذلك إلا في نخل، وأقل ما يقع عليه اسم نخل، ثلاث فصاعدًا. لأن لفظ التثنية الواقع على اثنين معروف في اللغة التي بها نزل القرآن، وخاطبنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأول لفظ الجمع إنما يقع على الثلاث فصاعدًا" (¬3). ¬
المطلب الثاني أن يشترط البائع الثمرة
المطلب الثاني أن يشترط البائع الثمرة [م - 158] إذا شرط البائع الثمرة لنفسه بعد التأبير كان الشرط من باب التوكيد؛ لأن الثمرة له، ولو لم يشترط بمقتضى حديث ابن عمر المتفق عليه. قال ابن عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ... الحديث (¬1). وإن اشترطها البائع قبل التأبير كانت له عند جماهير العلماء (¬2). وخالف مالك: فقال: لا يجوز شرطها للبائع قبل التأبير (¬3). ولا تتأتى هذه المسألة على مذهب الحنفية؛ لأنهم يقولون بأنها للبائع مطلقًا قبل التأبير وبعده، فإذا اشترطها لنفسه قبل التأبير فهو من باب التوكيد عندهم. * دليل الجمهور: الدليل الأول: (ح - 81) ما رواه البخاري ومسلم من طريق سالم، عن ابن عمر: - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ... الحديث (¬4). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قوله (إلا أن يشترط المبتاع) والمبتاع وإن كان المقصود به المشتري، فإذا صح أن يشترط المشتري ما كان من حق البائع ساغ للبائع أن يشترط ما هو من حق المشتري، ولأن البائع أحد المتبايعين، فصح اشتراطه للثمرة كالمشتري. الوجه الثاني: أن اشتراط البائع الثمرة هو استثناء لبعض ما وقع عليه العقد، وهو معلوم، فإذا كانت الثنيا معلومة صح الاستثناء، كما لو باع بستانًا واستثنى منه نخلة معلومة. الوجه الثالث: أن الاستثناء استبقاء لبعض ملكه، فيصح؛ لأن الاستبقاء أقوى من الابتداء. * وجه قول مالك: أن هذا كامن لم يظهر بعد، فكان كالجنين في بطن أمه (¬1). والراجح قول الجمهور؛ لأن الاستثناء ليس بيعًا على الصحيح، وإنما إبقاء لملكه، فهو كأنه باع النخلة إلا ثمرتها، وهذا يعني أنها لم تدخل في العقد، ولذلك جاء في الذخيرة: "قال صاحب الإكمال: المشهور منع اشتراط البائع ما لم يؤبر، وعلى القول بأن المستثنى غير مبيع يجوز" (¬2). ... ¬
الفرع الثاني في ثمر النخل إذا بيع وقد أبر بعضه
الفرع الثاني في ثمر النخل إذا بيع وقد أبر بعضه [م - 159] إذا أبر بعض النخل، وبعضه لم يؤبر، فمن تكون له الثمرة؟ هذه المسألة لا تتأتى على مذهب الحنفية؛ لأنهم يقولون: إن الثمرة للبائع مطلقًا قبل التأبير وبعده، ولذا سيكون تحرير الأقوال بحسب بقية المذاهب عدا الحنفية. فقيل: إن أبرت كلها أو أكثرها، فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطه المشتري، وإن أبر منها دون النصف، فإنها تكون للمشتري، وإن أبر نصفها كان لكل حكمه، فالمؤبر للبائع، وغيره للمشتري، لا فرق بين الشائع وغيره. هذا مذهب المالكية (¬1). وقيل: إذا أبر نخلة تبعها في الحكم جميع النخل التي في البستان، بشرط أن يتحد المؤبر وغيره في البستان، والعقد، والنوع. فإن اختلف في شيء منها بأن اشترى في عقد نخل بستانين، ولو متلاصقين، أو نخلًا وعنبًا، أو في عقدين المؤبر في عقد، وغير المؤبر في عقد فلا تبعية لانقطاعهما، هذا هو الراجح في مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: ما أبر للبائع، وما لم يؤبر فهو للمشتري، قليلًا كان أو كثيرًا، وهذا ¬
دليل المالكية بأن الحكم للأكثر
مذهب الحنابلة (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2). * دليل المالكية بأن الحكم للأكثر: مشى المالكية رحمهم الله على القاعدة الفقهية التي تقول: (الأقل تبع للأكثر، وللأكثر حكم الكل) في مسائل كثيرة مختلفة، ومنها هذه المسألة. قال الشاطبي: "للقليل مع الكثير حكم التبعية، ثبت ذلك في كثير من مسائل الشريعة، وإن لم يكن بينهما تلازم في الوجود، ولكن العادة جارية بأن القليل إذا انضم إلى الكثير في حكم الملغى قصدًا، فكان كالملغى حكمًا" (¬3). قال العلامة مسلم بن علي الدمشقي: "الأصول مبنية على أن الأقل تبع للأكثر" (¬4). وقال السرخسي: "إقامة الأكثر مقام الكل أصل في الشرع" (¬5). وقال ابن مفلح الصغير في المبدع: "الأكثر يقوم مقام الكل في كثير من الأحكام" (¬6). * دليل الشافعية أنه إذا أبر واحدة فقد أبر الجميع من نفس النوع: الدليل الأول: (ح - 82) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا معمر، عن ¬
وجه الاستدلال
الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من باع عبدًا فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع، ومن باع نخلا فيها ثمرة قد أبرت، فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع (¬1). [انفرد عبد الرزاق بلفظ (فيها ثمرة قد أبرت) والمحفوظ من باع نخلًا قد أبرت] (¬2). وجه الاستدلال: قوله (وفيها ثمرة قد أبرت) فلم يشترط تأبير جميع الثمار. الدليل الثاني: ولأننا إذا جعلنا المؤبر للبائع، وجعلنا غيره للمشتري، أدى ذلك إلى الاشتراك في البستان، وهذه الشراكة قد تلحق ضررًا بالبائع، والضرر في الشرع مدفوع. ويجاب: بأن الشراكة ليست ضررًا، ولو كانت كذلك ما جازت في البيع مطلقًا، فإذا دخل المشتري على بينة من أمره، وأن العقد سوف يقتضي الشراكة جاز لرضاه بذلك، وإذا أجاز الشرع الشراكة إذا أبرت جميع الثمار، فالأصل للمشتري، والثمار للبائع بمقتضى الحديث النبوي، وهذا فيه نوع من الشركة، جازت الشراكة في بعض النخل دون بعض، بحيث تكون ثمار النخل التي لم تؤبر للمشتري، وثمار النخل التي أبرت للبائع. ¬
. . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: ولأن إفراد كل نخلة بحكم فيه عسر، وضرر، والضرر مدفوع. الدليل الرابع: ولأن الباطن سائر إلى الظهور، فكما يتبع باطن الصبرة ظاهرها في الرؤية، يتبع ما لم يخرج من الثمار ما خرج منها، خاصة أن الثمرة ثمرة عام واحد. ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: القياس على النخلة الواحدة، فإن العادة جارية بتأبير بعض ثمار النخلة على بعض، ولم تجر العادة بتأبيرها جميعها، فإذا كان يتبع غير المؤبر المؤبر في النخلة الواحدة، فليتبع غير المؤبر من الثمار الثمر المؤبر في البستان الواحد. الدليل السادس: القياس على جواز بيع ثمر البستان الذي بدا صلاح بعضه، فكما يتبع الثمر الذي لم يبد صلاحه يتبع الثمر الذي بدا صلاحه، فكذلك يتبع ثمرُ النخل غير المؤبر ثمرَ النخل المؤبر. * دليل الحنابلة على أن النخلة المؤبرة للبائع وغيرها للمشتري: (ح - 83) استدل الحنابلة بما رواه البخاري ومسلم من طريق سالم عن ابن عمر: - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ... الحديث (¬1). وجه الاستدلال: التأبير صفة للنخل المبيعة، وحقيقة ذلك أن يكون في الجميع، أما غير المؤبر فلا يشمله الحكم. * الراجح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها نجد أن مذهب الحنابلة أحوط لمن أراد أن يسلك مسلك الاحتياط، لكن القول بأنه إذا باع نخلًا بعضه مؤبر وبعضه لم يؤبر، وكان الغالب عليه التأبير أن الحكم للأكثر قول له قوة، ويتفق مع قواعد ¬
الشرع، ولا تجد مذهبًا من مذاهب الفقهاء إلا وتجده قد استدل بهذه القاعدة في جزئية ما من الأحكام الشرعية، وعدم طردها يرجع إلى أن شأن القواعد أغلبي التطبيق.
الفرع الثالث في تأبير بعض الثمرة في الشجرة الواحدة
الفرع الثالث في تأبير بعض الثمرة في الشجرة الواحدة [م - 160] اختلف العلماء فيما لو أبرت بعض الثمرة، وبعضها لم تؤبر، أو لم تظهر، في شجرة واحدة، فلمن تكون؟ فقيل: ما ظهر من الثمار فهو للبائع، وما لم يظهر فهو للمشتري. وهذا قول في مذهب الشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: الكل للبائع، وعليه جمهور الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). قال العراقي في طرح التثريب: "اختلف أصحابنا الشافعية في مسألة، وهي: ما لو باع نخلة، وبقيت الثمرة له؛ لكونها ظاهرة، ثم خرج طلع آخر من تلك النخلة، أو من أخرج حيث يقتضي الحال اشتراكهما في الحكم: فقال ابن أبي هريرة: هو للمشتري. وقال الجمهور: هو للبائع. ولكل من القولين متعلق من الحديث، فالجمهور يقولون جعل الشرع ثمرةَ المؤبرةِ للبائع، وهذا من ثمرةِ المؤبرة. وابن أبي هريرة يقول: إنما جعل له ما وجد وظهر، فأما ما لم يوجد فقد حدث على ملك المشتري، وهو أقيس، والأول أسعد بالحديث وأقرب إليه والله أعلم" (¬5). ¬
الفرع الرابع في اشتراط بعض الثمرة
الفرع الرابع في اشتراط بعض الثمرة [م - 161] سبق لنا أن الراجح من أقوال أهل العلم أن الثمرة إذا أبرت فهي للبائع، إلا أن يشترط المبتاع، وهذا ظاهر في اشتراط جميع الثمرة، أما لو اشترط جزءًا منها، ثلثها، أو نصفها، أو أقل أو أكثر، فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يصح اشتراط البعض إذا كان معلومًا، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول أشهب من المالكية (¬2)، ومذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا يصح اشتراط بعض الثمرة، ولو كان معلومًا، وهو مذهب المالكية (¬1). * دليل الجمهور على جواز اشتراط البعض: (ح - 84) استدلوا بما رواه البخاري ومسلم من طريق سالم عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ... الحديث (¬2). وجه الاستدلال: قوله (إلا أن يشترط المبتاع) ولم يقل: إلا أن يشترطها المبتاع، فكأنه قال: إلا أن يشترط المبتاع شيئًا من ذلك، فدل إطلاق الاشتراط على جواز أن يكون الاشتراط لشيء معلوم منها. قال ابن عبد البر: "حديث ابن عمر هذا في قصة النخل ... (يشترط) بلا هاء لا يقولون (يشترطها) ... ومعلوم أن الهاء لو وردت في هذا الحديث لكانت ضميرًا في يشترطها عائدًا على ثمرة النخل ... فكأنه قال إلا أن يشترط المبتاع شيئًا من ذلك، وفي سقوط الهاء من ذلك دليل على صحة ما ذهب إليه أشهب في قوله: جائز لمن ابتاع نخلًا قد أبرت أن يشترط من الثمرة نصفها، أو جزءًا منها ... " (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن ما جاز اشتراط جميعه جاز اشتراط بعضه، وما لم يدخل الربا في جميعه فأحرى أن لا يدخل في بعضه (¬1). الدليل الثالث: استثناء بعض المبيع من الكل ليس بيعًا، وإنما هو استبقاء لملكه، فإذا كان الاستثناء من المبيع لا يؤدي إلى أن يكون المستثنى منه مجهولًا جاز، لعدم جهالة المبيع. * دليل المالكية على المنع من اشتراط بعض الثمرة: الدليل الأول: قالوا: لا يجوز اشتراط بعض الثمرة، كما لا يجوز اشتراط بعض الصبرة، أو بعض الزرع، أو حلية السيف، أو أحد عبدين يبيعهما ويستثنى مال أحدهما (¬2). ويجاب: بأن اشتراط بعض الصبرة وما ذكر معه اشتراط مقدار مجهول، وأما اشتراط نصف الثمرة، أو ثلثها، أو نصفها، أو شيء معلوم منها، فإنه اشتراط جزء معلوم، فالجهالة منتفية فلا يوجد ما يمنع. الدليل الثاني: قوله في الحديث (فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع) الاستدلال بقوله (فثمرتها) يشمل جميع الثمرة، إلا أن يشترط المبتاع عائد إلى جميع الثمرة. ¬
ويجاب
ويجاب: بأن الحديث اشتمل على حكمين: الأول: أن الثمرة جميعها للبائع، ولو لم يشترط. وهذا نص في العموم من قوله (فثمرتها للبائع). الثاني: أن الحديث أعطى المشتري حق الاشتراط، وأطلق، بقوله (إلا أن يشترط المبتاع) ولم يقل إلا أن يشترطها، وعلى التسليم بأن الحديث نص في اشتراط جميع الثمرة، فإذا جاز اشتراط جميعها، جاز اشتراط بعضها إذا كان معلومًا، كل ما هنالك أن المشتري أبقى بعض ملكه على الثمرة في الاشتراط، ولم تشملها الصفقة، وهذا لا محذور منه. الدليل الثالث: قال في الفواكه الدواني: "ظاهر قول المصنف: إلا أن يشترطها المبتاع، أنه لا يجوز اشتراط بعضها، وهو كذلك؛ لأنه إنما جاز بيعها قبل بدو صلاحها في تلك الحال بطريق التبعية لأصلها، واشتراط بعضها يقتضي قصد بيعها لذاتها، وعدم التبعية" (¬1). * الراجح: القول الراجح قول الجمهور، وقول المالكية رحمهم الله فيه ظاهرية واضحة، وإن كان الظاهر من استدلالهم منع اشتراط بعض الثمرة إذا لم يبين مقدار المستثنى، وهذا حتى الجمهور يمنعونه والله أعلم. ... ¬
الفرع الخامس إذا كانت الثمرة للبائع فهل له أن يبقيها إلى الجذاذ
الفرع الخامس إذا كانت الثمرة للبائع فهل له أن يبقيها إلى الجذاذ [م - 162] إذا كانت الثمرة للبائع إما بموجب الشرط، أو بمقتضى العقد، كما جاء في حديث ابن عمر المتفق عليه: (من باع نخلًا قد أبرت فثمرتها للبائع)، فهل له أن يبقيها إلى الجذاذ، أو يجب عليه قطع الثمرة. اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: للمشتري أن يطالبه بقلعها عن النخل في الحال، ولا يلزمه أن يصبر إلى الجذاذ، فإن اشترط البائع في البيع ترك الثمرة إلى الجذاذ، فالبيع فاسد، وهذا مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: له تركها إلى أوان جذاذها، ولا يحق للمشتري أن يطالبه بقلعها إلا أن يشترط عليه قلعها، وهذا مذهب الجمهور (¬2). ¬
القول الثالث
القول الثالث: لا يجوز لمشتري الأصول أن يلزم البائع قلع الثمرة حتى يبدو صلاحها. وهذا اختيار ابن حزم (¬1). * دليل الحنفية على وجوب القطع: الدليل الأول: أن البيع يوجب تسليم المبيع عقبه بلا فصل؛ لأنه عقد معاوضة: تمليك بتمليك، وتسليم بتسليم، فالقول بتأخير التسليم يخالف مقتضى العقد. الدليل الثاني: أنه مبيع مشغول بملك البائع، فلزم نقله وتفريغه، كما لو باع دارًا فيها طعام، أو قماش له. * دليل قول الجمهور: الدليل الأول: حين جعل الشارع الثمر المؤبر للبائع، كان من لازم ذلك الإذن ببقائه إلى أوان جذاذه؛ لأنه من المعلوم أن الشارع لا يأمر إلا بما فيه فائدة، فلو أخذه البائع بعد التأبير لم يستفد منه، لأنه لا يمكن أن ينتفع به في هذا الوقت، وحرم المشتري من الاستفادة منه مستقبلًا، وهذا لا يمكن أن يأمر به الشارع، فلما جعل الشارع للبائع الثمرة بعد التأبير، فهم من ذلك أن الشارع جعل له حق إبقائه على الشجر إلى حين يصبح الانتفاع منها ممكنًا، لأن الأمر بالشيء أمر بلازمه. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن النقل والتفريغ للمبيع على حسب العرف والعادة، كما لو باع دارًا فيها طعام، لم يجب نقله إلا على حسب العادة في ذلك، وهو أن ينقله نهارًا، شيئًا بعد شيء، ولا يلزمه النقل ليلًا. فكذلك ها هنا، إفراغ النخل من الثمرة إنما هو في أوان تفريغها، وهو أوان جذاذها. * دليل ابن حزم على أن له إبقاءه إلى أوان صلاحها: لعل ابن حزم أخذه من أن الشارع أذن له ببيع الثمرة إذا بدا صلاحها، فإذا كان يحق له أن يتصرف فيها بالبيع ونحوه لم يكن له أن يبقيها على رؤوس النخل، ومفهومه إذا كان ممنوعًا من بيعها قبل ذلك كان له أن يبقيها حتى لا تفسد عليه إلى الوقت الذي يأذن له الشارع ببيعها، والتصرف فيها. (ح - 85) فقد روى الشيخان من طريق حميد. حدثنا أنس بن مالك - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وعن النخل حتى يزهو، قيل: وما يزهو؟ قال: يحمار أو يصفار (¬1). * الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأدلة أجد أن القول الراجح هو أن له بقاء الثمرة على الشجرة إلى أوان جزازها، والله أعلم. ¬
الفرع السادس في فحال النخل
الفرع السادس في فحال النخل [م - 163] ذكر الشافعية والحنابلة وحدهم -فيما اطلعت عليه- مسألة بيع الفحال المطلع، وجعلوا طلع الفحال كطلع الإناث. وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وسبق لنا تحرير حكم طلع الإناث في مذهب الشافعية، وأن ما تشقق طلعه فهو للبائع، وما لم يتشقق فهو للمشتري، وإذا بيع مجموعة منها، بعضها قد تشقق، وبعضها لم يتشقق، فكلها للبائع. وأما مذهب الحنابلة فسبق لنا أن ما تشقق طلعه فهو للبائع، وما لم يتشقق فهو ¬
الراجح
للمشتري، وإذا بيع مجموعة منها، بعضها قد تشقق، وبعضها لم يتشقق، فما تشقق فهو للبائع، وما لم يتشقق فهو للمشتري. وأدلتهم في هذه المسألة كأدلتهم في طلع الإناث، وقد سبق ذكرها، فأغنى عن إعادتها هنا. وقيل: الفحال للبائع مطلقًا، تشقق أو لم يتشقق، وهو وجه مرجوح في مذهب الشافعية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). قال ابن قدامة: يحتمل أن يكون طلع الفحال للبائع قبل ظهوره؛ لأنه يؤخذ للأكل قبل ظهوره، فهو كثمرة لا تخلق إلا ظاهرة كالتين، ويكون ظهور طلعه كظهور ثمرة غيره. ولنا، أنها ثمرة نخل إذا تركت ظهرت، فهي كالإناث، أو يدخل في عموم الخبر. وما ذكر للوجه الآخر لا يصح؛ فإن أكله ليس هو المقصود منه، وإنما يراد للتلقيح به، وهو يكون يعد ظهوره، فأشبه طلع الإناث" (¬3). * الراجح: النص إنما ورد في النخل المؤبر، وهو في الإناث خاصة، وأما المذكور فلم ¬
يرد فيها نص، فإن كان هناك عرف أجري العرف بحسبه، وإن لم يكن هناك عرف فالقول بالقياس فيه قوة، والله أعلم.
الفرع السابع في سقي الشجر إذا كانت الأصول لرجل والثمار لآخر
الفرع السابع في سقي الشجر إذا كانت الأصول لرجل والثمار لآخر [م - 164] بحث هذه المسألة لا يتأتى وفق مذهب الحنفية، لأنهم يرون وجوب القطع في الحال، وإنما تبحث هذه المسألة وفق مذهب الجمهور القائلين بأن الثمار باقية إلى أوان جذاذها. فإن كان السقي ينفع الثمار والأشجار، ولم يتضرر أحدهما منه، فلكل واحد منهما السقي، وليس للآخر منعه، وهذا بالاتفاق؛ لأن السقي حينئذ إصلاح للمال من غير إضرار بأحد (¬1). وإن أضر السقي الشجرة والثمرة معًا منعا منه؛ لأن في ذلك إفسادًا لمالهما، وإفساد المال ممتنع (¬2). (ح - 86) لما رواه الشيخان من طريق كاتب المغيرة بن شعبة، قال: كتب معاوية إلى المغيرة اكتب إلي بشيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكتب إليه أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله كره لكم ثلاثًا قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال (¬3). وفي رواية للبخاري: كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، ومنعٍ وهاتِ، وعقوق الأمهات، ووأد البنات (¬4). ¬
القول الأول
وإن احتاج الثمار إلى السقي، وكان فيه ضرر على الأصل، أو احتاج الأصل إلى السقي، وكان فيه ضرر على الثمار، فاختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ذهب المالكية إلى المنع من السقي؛ لأن شرط جواز السقي ما لم يضر أحدهما بالآخر، فإن ضر السقي بالآخر منع منه (¬1). * دليل المالكية: (ح - 87) ما رواه الدارقطني من طريق عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضاره الله، ومن شاق شق الله عليه. [المعروف من حديث أبي سعيد أنه مرسل، وهو حسن بشواهده] (¬2). القول الثاني: ذهب الشافعية إلى فسخ العقد إذا تنازعا، وكان أحدهما يتضرر من السقي (¬3). ¬
وجه قول الشافعية
* وجه قول الشافعية: لا يمكن أن يمكن أحدهما من إلحاق الضرر بالآخر، وليس أحدهما أولى بالمراعاة من الآخر، فيفسخ العقد لذلك. القول الثالث: لكل واحد سقي ماله إذا كان له فيه مصلحة، وإن تضرر الآخر، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1)، واختاره بعض الشافعية (¬2). * وجه قول الحنابلة: أن كل واحد من المتعاقدين إذا طلب السقي لحاجته أجبر الآخر عليه؛ لأنه دخل في العقد على ذلك، فالبائع من حقه تبقية الثمرة على الأصول، والسقي من تبقيتها، والمشتري من حقه حفظ الأصول، والسقي سبب لها، فلزم كل واحد منهما ما أوجبه العقد للآخر، وإن أضر به. وقد يجاب عنه: بأنه إنما رضي بذلك على وجه لا يتضرر به، فإذا أضر به لم يلزمه. ¬
القول الرابع
القول الرابع: يراعى جانب المشتري (يعني مشتري الأصول) على جانب البائع صاحب الثمرة، وهو وجه آخر عند الشافعية. وجهه: أن البائع ألزم نفسه سلامة الأشجار (¬1). القول الخامس: عكس هذا القول، وأن البائع أولى بالمراعاة؛ لأنه استحق إبقاء الثمار (¬2). * الراجح من الخلاف: الخلاف في المسألة ليس فيه نص في موضع النزاع، ولكن الترجيح سيكون وفق القواعد الفقهية: فمن المعلوم أن المشتري والبائع لم يدخلا في العقد إلا وقد التزم أحدهما بحفظ مال الآخر، وإن تضرر ماله، لأن الضرر هنا في مسألتنا هذه عارض، والأصل أن السقي ينفع الثمرة كما ينفع الأصل، ولكن لو عرض هذا الضرر، وكان في السقي إضرار بأحدهما، فإنه من المعلوم عصمة مال كل واحد منهما، وأنه لا يجوز لكي أحفظ مالي أن ألحق الضرر بمال غيري، وهو وإن كان صاحب الشجر قد التزم إبقاء الثمرة، أو كان صاحب الثمرة قد التزم تسليم الشجرة سليمة فإن هذا الالتزام لا يعني أن يلحق الضرر بماله، فإذا حدث هذا العارض، كان هذا نوعًا من العيب الذي بموجبه يثبت الخيار للمتضرر، فإن رضي المتضرر وإلا كان له حق الفسخ، وهذا ما ذهب إليه الشافعية، والله أعلم. ¬
مسألة في من يتولى السقي
مسألة في من يتولى السقي [م - 165] من يتولى السقي، هل يتولاه المشتري، صاحب الأصل، أو يتولاه البائع صاحب الثمار؟ هذه المسألة كما سبق لا تتنزل على مذهب الحنفية القائلين بوجوب قطع الثمرة، وإنما يأتي بحثها وفق مذهب الجمهور القائلين بأن له إبقاء الثمرة إلى أوان الجذاذ، وقد اختلف الفقهاء فيمن يجب عليه القيام بالسقي. القول الأول: السقي على البائع؛ لأن البائع لن يسلم الأصل حتى يجد البائع ثمرته، وهذا مذهب المالكية (¬1). القول الثاني: لكل منهما حق السقي لماله، وأيهما طلب السقي أجبر الآخر على تمكينه، ومؤنته عليه؛ لأنه لحاجته. وهذا مذهب الشافعية (¬2)، وهو المذهب عند ¬
الراجح
الحنابلة (¬1). فلا يجب على البائع سقي الأشجارة؛ لأنها خرجت من ملكه. ولا يجب على المشتري أن يسقي ثمار البائع؛ لأن البائع لم يملك الثمار من جهته، وإنما أبقى ملكه عليها، فمن احتاج منهما إلى السقي أجبر الآخر على تمكينه. [م - 166] فإن كان ترك السقي ضارًا بالمشتري لامتصاص الثمار رطوبة الأشجار فقيل: للمشتري أن يجبر البائع على أحد أمرين: إما أن يسقي، وإما أن يقطع الثمار. وهذا مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: ليس له أن يجبره على السقي وإن أضر به ترك السقي، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4). * الراجح: نستطيع أن نجمع بين قول المالكية، وقول الشافعية والحنابلة، بأن نقول: إن امتنع البائع من تسليم الأشجار إلى المشتري إلى أوان الجذاذ فإن السقي عليه؛ لأنه يجب عليه أن يسلم الشجر سليمًا إلى المشتري، وإن سلم البائع الأصول ¬
إلى المشتري، فهنا نقول بقول الشافعية والحنابلة: من احتاج منهما السقي أجبر الآخر على تمكينه منه، ولا يمكن إجبار البائع على السقي وقد سلم المبيع إلى صاحبه، ولا يمكن أن يجبر المشتري على السقي من أجل الثمار، والثمار لم يملكها البائع من جهته، وإنما نقول: من احتاج منهما السقي فله ذلك ما لم يضر بالآخر، والله أعلم. ***
الفرع الثامن في دخول الأرض تبعا إذا باع النخل
الفرع الثامن في دخول الأرض تبعًا إذا باع النخل [م - 167] ذكرنا فيما سبق حكم دخول الشجر تبعًا فيما إذا باع الأرض، وأطلق، هل يدخل الشجر في بيع الأرض أو لا يدخل إلا بالشرط؟ وهذه المسألة عكس تلك المسألة، فلو أنه باع النخل، هل تدخل أرض الشجرة تبعًا، أو لا تدخل إلا بالشرط؟ * تحرير محل الخلاف: إذا اشتراها بشرط القلع، أو اشتراها بشرط الترك، فله ذلك بحسب شرطه بالاتفاق (¬1)، وإنما الخلاف فيما إذا اشترى الشجرة، ولم يذكر شيئًا، فهل تدخل أرض الشجرة تبعًا، وهو ما يسمى (بالمغرس) أو لا تدخل؟ فإن قلنا: تدخل فإن الشجرة لو تلفت، أو قلعها المالك فله أن يزرع بدلها، وله أن يبيع مكانها. وإن قلنا: لا تدخل لم يحق له زرع بدلها. وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فقيل: بدخول الأرض تبعًا للشجر. وهو قول محمد بن الحسن من الحنفية، وهو المختار في المذهب (¬2)، ¬
وجه كون الأرض داخلة تبعا للشجر
ومذهب المالكية (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2)، ووجه في مذهب الحنابلة، قال في الإنصاف: ظاهر كلام الإمام أحمد الدخول، حيث قال فيمن أقر بشجرة لرجل: هي له بأصلها (¬3). * وجه كون الأرض داخلة تبعًا للشجر: أن الشجر والنخل لا يسمى كذلك إلا وهو ثابت في الأرض، فكان دخوله في الأرض من ضرورة ما سماه في العقد، ولهذا يذكر مواضعها من الأرض حتى لا يكون في ذلك نزاع بينهما. ولأن الأرض بعد القلع خشب لا شجر، فلا بد أن تدخل أرض الشجرة فيه، ولهذا دخلت في الإقرار بالإجماع، فلو أقر لرجل بشجرة في أرضه، كانت أرض الشجرة للمقر له. ويناقش: بأنه يمكن له أن يأخذ الشجر والنخل إلى أرضه، وذلك بقلعها من جذورها، وزرعها في المكان الذي يريد، لا أن يملك الأصل بملك الفرع، وإنما دخلت في الإقرار بالشجرة؛ لأن الإقرار إخبار عن كائن، فلا بد من كون سابق على الإقرار، وهو قيامها في الأرض التي هي قرارها، وذلك دليل كون الأرض للمقر له بسبب سابق، فكان الإقرار يكون الشجرة له إقرارا بكون الأرض له أيضًا، ومثل هذه الدلالة لم توجد في البيع، فلا يدخل والله - سبحانه وتعالى - أعلم. ¬
وجه كون الأرض لا تدخل تبعا للشجر
وقيل: لا تدخل الأرض تبعًا للشجر، وهو قول أبي يوسف من الحنفية (¬1)، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬2)، الحنابلة (¬3). * وجه كون الأرض لا تدخل تبعًا للشجر: دخول الشيء تبعًا لا بد له من شرطين: إما أن يتناوله الاسم لغة، أو يقضي به عرف، واسم النخل لا يتناول الأرض لا لغة، ولا عرفًا، ولم تذكر الأرض في العقد، والنخل هو من يتبع الأرض، فالأرض أصل، والنخل تبع، وليس العكس، والأصل لا يصير مذكورًا بذكر التبع فلم تدخل. * الراجح: بعد استعراض الأقوال فإن الراجح والله أعلم أن نقول: إن كان هناك عرف عمل بمقتضاه، وإن لم يكن هناك عرف فإن اسم الشجرة لا يتناول الأرض، وقد عرف من عمل الناس في وقتنا أنهم يشترون النخل الجيد لغرسه في أرض خالية، لتتحول الأرض البيضاء إلى بستان، والشجر يقبل النقل إذا قلع من عروقه على الوجه المعتاد، وليس كما يقال: بأن الشجرة إذا قلعت تحولت إلى خشب، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع ما يدخل في بيع الدار
المبحث الرابع ما يدخل في بيع الدار الفرع الأول يدخل فيها ما يتناوله اسم الدار [م - 168] يدخل في بيع الدار بناؤها، وأرضها، وسقفها، وغرفها، وهذا بلا نزاع؛ لأن إسم الدار يتناولها (¬1). ويدخل في ذلك علو الدار إلى السماء (¬2). وقد استدل ابن العربي على دخول العلو بقوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)} [الزخرف: 33]. قال ابن العربي: "في هذا دليل على أن السقف لصاحب السفل، وذلك لأن البيت عبارة عن قاعة، وجدار، وسقف، وباب، فمن له البيت فله أركانه، ولا خلاف في أن العلو له إلى السماء" (¬3). وقال النووي: "قال الأصحاب" إذا قال: بعتك هذه الدار دخلت في البيع الأرض، والأبنية على تنوعها، سفلها وعلوها، حتى يدخل الحمام المعدود من مرافقها. وحكي عن نصه أن الحمام لا يدخل، وحمله الأصحاب على ¬
حمامات الحجاز، وهي بيوت من خشب تنقل في الأسفار، فأما الحمامات المبنية من الطين والآجر إذا كان بحيث لا يمكن نقله، فإنه يدخل في العقد، وحكوا أن الربيع حمله على ذلك. وفصل الغزالي في الحمام فقال: إن كان لا يستقل دون الدار اندرج، وإن استقل فهو من الدار كالبناء من البستان، يعني فيجري فيه الخلاف في ذلك. واختار ابن الرفعة أن الحمام الخشب الذي لا ينقل لا يدخل لقول الشافعي - رضي الله عنه -: وما كان مما يجب من البنيان مثل البناء بالخشب، فإن هذا متميز، كالنبات، والحديد، فهو لبائعه، إلا أن يدخله المشتري في صفقة البيع. وقال: إنه لم ير أحدًا من الأصحاب تعرض له، وأنه فقه ظاهر؛ لأن ما كان من أجزاء الأرض إذا أثبت فيها، وإذا تغيرت صفته كاللبن يجعل أجزاء، أو لم يتغير كالأحجار، واللبن، يقرب أن يتبعها كما لو كان متصلًا من أصل الخلقة، بخلاف ما إذا كان من خشب، وإن كان الشجر الأخضر يتبع في بيع الأرض، ولكنه ليس بجزء منها. وإنما تبعها؛ لأنه صار كالجزء المتصل بها، ولهذا ينمو بها بخلاف البناء ... قال النووي معلقًا: إذا كانت الحمام كلها من خشب، وهي مثبتة في الدار لا تنقل، ولا تحول، كانت كالسور الخشب المسمرة التي لا تحول، وفي دخولها وجهان: أصحهما: الدخول كما سيأتى، وإذا كان كذلك فيكون ما قاله ابن الرفعة موافقًا لأحد الوجهين، وليس مما انفرد به عن الأصحاب كما ظن، ولكن مأخذ الأصحاب القائلين بذلك غير المأخذ الذي ذكره، وذلك عندهم في كل متصل مثبت يمكن الانتفاع به بعد انفصاله، ولا فرق في ذلك بين أن يكون من خشب، أو طين أو غيرهما .... حتى لو فرضنا حمامًا من حجر، وهي مثبتة في الدار، وكان يمكن أن تنقل وهي على حالها، وينتفع بها، اقتضى أن يجري
فيها الخلاف المذكور في الأمثلة المذكورة، ثم إن الشافعي - رضي الله عنه - إنما ذكر النص المذكور في الأرض، والمعنى الذي أبداه ابن الرفعة، وهو اعتبار أجزاء الأرض إنما يتم فيها، والكلام هنا إنما هو في بيع الدار، ومن المعلوم أن الدار في العرف غالبا يشتمل على أجناس من أجزاء الأرض وغيرها، ولا يلزم من القول بعدم دخول ما ليس من أجزاء الأرض تحت اسم الأرض القول بعدم دخوله تحت اسم الدار، والتحقيق ما قدمته من إلحاقها بالسرير ونحوه، والله أعلم" (¬1). ¬
الفرع الثاني يدخل في اسم الدار ما كان من توابعها متصلا بها
الفرع الثاني يدخل في اسم الدار ما كان من توابعها متصلاً بها [م - 169]، يدخل في اسم الدار أيضًا ما كان من توابع المبيع المتصلة المستقرة والتي من مصلحتها، كالأبواب، والسلالم الثابتة، والرفوف المسمرة، والأدراج المثبتة فيها، دون المنقولة (¬1). فخرج بقيد الاتصال ما كان منفصلًا عنها كالفرش، والأثاث المنقول، فلا يدخل فيها، إلا المفاتيح فإنها وإن كانت منفصلة فإنها داخلة على الصحيح، وسيأتي تحرير الخلاف. وقولنا: (السلالم الثابتة) فإن كانت السلالم غير ثابتة، بأن كانت غير مبنية، وتنقل من مكان إلى مكان فهي للبائع (¬2). وجاء في التاج والإكليل: "لا يندرج تحت الدار المنقولات، وتندرج الثوابت كالأبواب ... وكل ما في الدار المبيعة حين البيع مما ينقل من دلو، وبكرة، وباب، وحجر، وتراب كان معدًا لإصلاح الدار، أو مما انهدم منها فهو لبائعها لا لمبتاعها إلا بشرط" (¬3). ¬
وجاء في مواهب الجليل: "يتبع العقار كل ما هو ثابت من مرافقه، كالأبواب، والرفوف والسلالم المؤدية، والأخصاص، والميازيب، لا منقول إلا المفاتيح" (¬1). وقال في مجلة الأحكام الشرعية: "كل منفصل عن المبيع مما لا يشمله اسمه عرفًا، ولا يعد من مصلحته عادة، لا يدخل في البيع بلا تصريح، فلا يدخل الكنز، والحجر المدفونان في بيع الأرض، ولا السرر، والأقفال، والفرش، والغروس الموضوعة في الأواني التي تنقل في بيع الدور، ونحوها" (¬2). قال ابن حزم: من اشترى دارًا فبناؤها كلها له، وكل ما يكون مركبًا فيها من باب، وأدراج، وغير ذلك، وهذا إجماع متيقن (¬3). ونستطيع أن نخرج بضابط يجمع ما تفرق، ويقاس عليه ما لم يذكر، فنقول: كل ما لا ينقل فإنه يدخل في بيع الدار، إلا أن يجري عرف بخلافه. وكل ما كان ينقل فإنه لا يدخل، إلا أن يجري عرف بخلافه. وعلى هذا فقس. ¬
الفرع الثالث في دخول المفاتيح في بيع الدار
الفرع الثالث في دخول المفاتيح في بيع الدار [م - 170] اختلفوا في دخول مفاتيح الدار على قولين: القول الأول: تدخل، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). القول الثاني: لا تدخل، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬5)، والمذهب عند الحنابلة (¬6). وعلل الحنابلة ذلك: أن اسم الدار لا يتناول المفاتيح، وأن المفاتيح منقولة غير متصلة بالدار، وهذا التعليل ليس بشيء، والراجح الأول؛ لأن المفاتيح وإن كانت منقولة إلا أن أقفالها تعتبر مثبتة، وقد ركبت لتبقى، ومفتاح القفل تبعًا للقفل، ألا ترى أنه لو اشترى القفل دخل المفتاح فيه من غير تسمية. ¬
والخلاف في المفاتيح كالخلاف في رحى المنزل، وقد كان ذلك موجودًا في عصر متقدم، فمنهم من أتبع الرحى الفوقاني الرحى السفلي المثبت في الأرض كالمالكية والحنفية، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية، ووجه في مذهب الحنابلة (¬1). ومنهم من اعتبر الرحى السفلي يدخل في بيع الدار، ولا يدخل الرحى الفوقي؛ لأنه غير متصل بالدار كالحنابلة، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬2). والصحيح أن بابه باب القفل والمفتاح، فكما لا يوجد قفل بلا مفتاح، لا يوجد رحى بدون جزئه العلوي، والله أعلم. قال ابن قدامة: "وأما ما كان من مصالحها، لكنه منفصل عنها، كالمفتاح، والحجر الفوقاني من الرحى، إذا كان السفلاني منصوبًا، فيحتمل وجهين: أحدهما: يدخل في البيع؛ لأنه لمصلحتها، فأشبه المنصوب فيها. والثاني: لا يدخل؛ لأنه منفصل عنها، فأشبه السفلاني إذا لم يكن منصوبًا" (¬3). ¬
نعم يتوجه قول الحنابلة لو كانت المفاتيح لأقفال غير مثبتة بالأبواب، منفصلة عنها، كما لو كان الباب يقفل عن طريق قفل منقول لم يثبت بالباب، وهو ما يمكن أن نسميه بالقفل الخارجي، فمادام أن القفل منقول فالمفتاح تبع للقفل، فلو قيل بعدم دخول القفل ومفتاحه، لكونهما منفصلين عن الباب، لكان هذا القول له وجه، ولعل كلام الحنابلة متوجه لهذا النوع، وليس للقفل المثبت في الباب بالمسامير، فإن القفل تابع للباب، والمفتاح تبع للقفل، ولكن إطلاق الحنابلة على عدم دخول المفتاح مطلقًا ظاهره أن ذلك يشمل مفتاح القفل المنقول والمثبت بدليل أنهم لا يلحقون الرحى الفوقي بالرحى السفلي مع كونهما يشكلان بمجموعهما رحى واحدة، أحدهما ثابت، والآخر منقول، بخلاف الحنفية والشافعية، فإنهم فرقوا بين القفل المنقول والمثبت. قال في مجمع الأنهر: "وكذا - أي يدخل تبعًا في بيع الدار - مفتاح غلق متصل بباب الدار بخلاف المنفصل، وهو القفل، فإنه ومفتاحه لا يدخلان" (¬1). وقال النووي في الروضة: "وفي مفتاح المغلاق المثبت وجهان، أصحهما يدخل" (¬2)، فقوله (المغلاق المثبت) أخرج مفتاح القفل غير المثبت، فإنه لا يدخل، والله أعلم. ... ¬
الفرع الرابع في دخول بستان الدار في بيع الدار
الفرع الرابع في دخول بستان الدار في بيع الدار [م - 171] يدخل في بيع الدار بستان الدار، إن كان البستان داخل الدار، وإن كان خارج الدار لم يدخل؛ لأن الاسم لا يتناوله. قال في تبيين الحقائق: "ويدخل البستان الذي في الدار، صغيرًا كان أو كبيرًا، وإن كان خارج الدار لا يدخل" (¬1). قال النووي: "ولو كان وراء الدار بستان متصل بالدار لم يدخل في العقد، وإن قال: بحقوقها، لأن اسم الحقوق لا يطلق على البستان المتصل بالدار، قاله القاضي حسين" (¬2). واختار بعض الحنفية أنه إن كان البستان أصغر من الدار، ومفتحها إلى الدار يدخل في بيع الدار، وإن كان البستان أكبر من الدار، لا يدخل في بيع الدار (¬3). ... ¬
الفرع الخامس ما دخل في بيع الأرض دخل في بيع الدار إن كان ذلك في داخلها
الفرع الخامس ما دخل في بيع الأرض دخل في بيع الدار إن كان ذلك في داخلها [م - 172] فلو كان في داخل الدار شجر دخل في بيع الدار على الصحيح، وكذلك يدخل بئر، ومعدن جامد، وحجر مخلوق منها؛ لأن اتصال هؤلاء أقوى من اتصال الرفوف المسمرة، والأبواب المثبتة؛ ولأن الدار اسم للأرض والبناء معًا، فما دخل في بيع الأرض دخل في بيع الدار ما دام داخل حدودها، متصلًا بها على وجه الثبوت والدوام، فالدار عند الإطلاق تشمل جميع ما أحاط به بنيانها، وكذا ما اتصل بها مما بني لمصلحتها. قال الزيلعي: "الأصل في جنس هذه المسائل أن الشيء إذا كان متصلًا بالمبيع اتصال قرار دخل في المبيع تبعًا، وإلا فلا" (¬1). وقال أيضًا: "وتدخل البئر الكائنة في الدار، وإن كان عليها بكرة تدخل، ولا يدخل الحبل، والدلو المعلقان عليها، إلا إن كان قال بمرافقها" (¬2). وقال في الجوهرة النيرة: "إذا باع الدار دخل في البيع جميع ما كان فيها من بيوت، ومنازل، وعلو، وسفل، ومطبخ، وبئر، وكنيف، وجميع ما يشتمل عليها بيع الأرض لم يدخله في بيع الدار". قال النووي: "ولو كان في وسطها -يعني وسط الدار- شجر ففي دخوله الخلاف السابق في لفظ الأرض" (¬3). ¬
والراجح دخوله فيها، والله أعلم. وجاء في الموسوعة الكويتية: "ومن باع دارًا دخل في البيع بناؤها، وما فيها من شجر مغروس، وما كان متصلًا بها لمصلحتها ... " (¬1). ¬
الفرع السادس في دخول ظلة الدار
الفرع السادس في دخول ظلة الدار اختلف العلماء، هل للإنسان أن يعمل ظلة لداره، وهي الساباط الذي أحد طرفيه على الدار، والطرف الآخر على دار أخرى، أو على إسطوانات في السكة، ومفتحها إلى الدار المبيعة (¬1)؟ وإذا عمل ظلة، فهل تدخل في بيع الدار؟ فهاتان مسألتان: الأولى: هل له أن يخرج ظلة له في الطريق. والمسألة الثانية: إذا كان له ذلك، فهل تدخل في بيع الدار. وسوف نبحث كل مسألة على انفراد، أسأل الله سبحانه العون والتوفيق. ¬
المسألة الأولى في إخراج الظلة في هواء الطريق
المسألة الأولى في إخراج الظلة في هواء الطريق [م - 173] اختلف العلماء هل لصاحب الدار الارتفاق بهواء الطريق كوضع جناح، أو ساباط، أو ليس له ذلك؟ وللجواب على ذلك نقول: إن كان ذلك مضرًا بالمارة فلا يجوز وضعه مطلقًا، أذن بذلك الإمام أو لم يأذن، وسواء كان الطريق نافذًا أو غير نافذ. (ح - 88) لما رواه الدارقطني من طريق عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضاره الله، ومن سياق شق الله عليه (¬1). [المعروف من حديث أبي سعيد أنه مرسل، وهو حسن بشواهده] (¬2). ولأن العامة لهم حق في الطريق العام، فيلزم منع كل تصرف يضر بالحق العام. وإن كان ذلك غير مضر، وكان الطريق نافذًا، فقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: يجوز مطلقًا، سواء أذن الإمام أو لم يأذن، وهذا اختيار محمد ابن الحسن ¬
القول الثاني
من الحنفية (¬1)، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد اختارها ابن تيمية (¬4). القول الثاني: ليس له ذلك مطلقًا، ولو أذن الإمام، اختارها بعض الحنابلة (¬5). القول الثالث: لا يجوز له ذلك إلا بإذن الإمام أو نائبه، وبهذا قال أبو حنيفة، وأبو يوسف (¬6) وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬7). إلا أن أبا حنيفة قال: إن وضعه بدون إذن الإمام فعارضه رجل من ¬
وجه من قال: يجوز له ذلك مطلقا
المسلمين وجب قلعه ضر أو لم يضر، وقال أبو يوسف: يمنعه قبل الوضع لا بعده (¬1). * وجه من قال: يجوز له ذلك مطلقًا: (ح - 89) القياس على الميزاب، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع الميزاب بيده في دار عمه العباس، والميزاب إنما يشرع في هواء الطريق، فكذا الساباط (¬2). ¬
ويجاب
ولأن ذلك عمل الناس في كل عصر من غير نكير. ويجاب: بأن القياس على الميزاب قياس مع الفارق، فإن ما يشغله الميزاب قدر يسير بالنسبة للساباط. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن مصلحة الميزاب هي لتصريف السيول، وليس الساباط كذلك. * وجه من قال: يمنع مطلقًا: أن إخراج الظلة يعتبر تصرفًا في ملك الغير بدون إذنهم، وهو لا يخلو من ضرر لأنه قد يؤدي إلى إظلام الطريق، وإن لم يكن فيه ضرر في الحال فقد يكون فيه ضرر في المآل. ويناقش: بأن إذن الإمام يقوم مقام إذنهم لكونه نائبًا عنهم، وأما كونه لا يخلو من ضرر فإننا نشترط أن يكون ذلك خاليًا من الضرر في الحال وفي المآل. ¬
دليل من قال: يجوز بإذن الإمام أو نائبه.
* دليل من قال: يجوز بإذن الإمام أو نائبه. أن الإمام ينوب عن المسلمين، فإذنه يقوم مقام إذن كافة المسلمين. ولأن كل واحد صاحب حق في المرور بنفسه، وبدوابه، فكان له حق في النقض كما في الملك المشترك ما لم يأذن الإمام. * وجه قول أبي يوسف: ليس له أن يرفع الساباط بعد وضعه: أن الساباط بعد وضعه قد صارت يد صاحبه عليه، فالذي يريد نقضه يريد إبطال يده من غير دفع الضرر عن نفسه، ومادام كذلك فهو مضار، فلا يطاع. * الراجح من الخلاف: والراجح عندي أن ذلك جائز بشرطين: الأول: ألا يضر ذلك أحد، ولو كان الضرر يسيرًا. قال ابن تيمية: "الساباط الذي يضر بالمارة مثل أن يحتاج الراكب أن يحني رأسه إذا مر هناك، وإن غفل عن نفسه رمى عمامته، أو شج رأسه، ولا يمكن أن يمر هناك جمل عال إلا كسرت رقبته، والجمل المحمل لا يمر هناك فمثل هذا الساباط لا يجوز إحداثه على طريق المارة باتفاق المسلمين، بل يجب على صاحبه إزالته، فإن لم يفعل كان على ولاة الأمور إلزامه بإزالته حتى يزول الضرر، حتى لو كان الطريق منخفضًا، ثم ارتفع على طور الزمان، وجب إزالته إذا كان الأمر على ما ذكر، والله أعلم" (¬1). الشرط الثاني: ألا يمنع منه ولي أمر المسلمين، فإن منع ولي أمر المسلمين فهو ينوب عنهم فكأن المانع له جماعتهم، والله أعلم. ¬
المسألة الثانية في دخول ظلة الدار في بيع الدار
المسألة الثانية في دخول ظلة الدار في بيع الدار [م - 174] إذا كان للدار ظلة، فهل تدخل عند الإطلاق، أو لا تدخل إلا إذا ذكر ذلك صريحًا في العقد، في ذلك خلاف بين أهل العلم: فقيل: لا تدخل، وإن كان مفتحها إلى الدار إلا إذا قال: بكل حق هو لها، وهو مذهب أبي حنيفة (¬1). وقيل: تدخل، وإن لم يذكر كل حق هو لها، وهو اختيار أبي يوسف، ومحمد من الحنفية (¬2)، وهو مذهب الشافعية، ومذهب الحنابلة (¬3). واشترط الشافعية على المعتمد في المذهب أن يكون جذوع الساباط من الطرفين على حائطها (¬4). ¬
والراجح فيها أن الظلة حكمها حكم مرافق الدار، داخلة لا على وجه تملك الرقبة، وإنما هو أحق من غيره بالانتفاع بها، وفي عصرنا اعتاد الناس أن يوقفوا سيارتهم عند أبوابهم، وهم أحق من غيرهم في هذا المكان، وإن كانوا لا يملكون رقبة الطريق، والله أعلم.
الفرع السابع في دخول المرافق كالطريق والمسيل ونحوها في بيع الدار
الفرع السابع في دخول المرافق كالطريق والمسيل ونحوها في بيع الدار [م - 175] مرافق الأملاك كالطرق والأفنية، ومسيل المياه، وحق الشرب، هل تدخل في بيع الأرض والدار، أو لا تدخل إلا إذا نص عليها بالتصريح، أو قال: بكل حقوقها ومرافقها. * تحرير محل الخلاف: إذا كانت هذه المرافق داخل حدود الدار، فلا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف في دخولها في بيع الدار تبعًا، ولو لم يشترط ذلك؛ لأنها جزء من الدار، فإذا باع الدار دخل في البيع جميع ما كان فيها، وجميع ما يشتمل عليه حدودها الأربع. جاء في مغني المحتاج: "ولا يدخل في بيع الأرض مسيل الماء، وشربها ... حتى يشترطه، كأن يقول: بحقوقها. وهذا كما قال السبكي في الخارج عن الأرض، أما الداخل، فيها فلا ريب في دخوله" (¬1). كذلك لا تدخل هذه المرافق إذا كانت حقًا ينتفع بها عامة أهل العامر، ولم تكن من مرافق المبيع خاصة، جاء في معين الحكام: "بعد ذكر الحدود يقول: بحدوده، وحقوقه؛ لأنه لو لم يذكر الحقوق لا يدخل الطريق، والمسيل، فيتعطل عليه الانتفاع، فلا يفيده استحقاق الدار، ولا ينبغي أن يذكر الدار بطريقه، ومسيل مائه لو كان باب الدار، والميزاب على طريق العامة؛ يصير ¬
القول الأول
مدعيًا ذلك الموضع تمليكه لنفسه، وهو لم يجز، إذ طريق العامة لا يملكه أحد، قاله في الأقضية" (¬1). فعلى هذا يكون الخلاف محصورًا فيما إذا كانت هذه المرافق للمبيع خاصة، وليست داخلة في حدود الدار، وإنما متصلة بها، متعلقة بها مصالحها، هل تدخل في بيع الدار، أو لا بد من التصريح في دخولها، في ذلك خلاف بين أهل العلم: القول الأول: ذهب الحنفية والشافعية إلى أن الطريق الخاص، والمسيل، والشرب لا يدخل في شراء الدار، إلا أن ينص عليه، أو يشتريه بكل حقوقه ومرافقه. قال في الهداية: "ومن اشترى بيتًا في دار، أو منزلًا، أو مسكنًا لم يكن له الطريق، إلا أن يشتريه بكل حق هو له، أو بمرافقه، أو بكل قليل وكثير، وكذا الشرب، والمسيل؛ لأنه خارج الحدود، إلا أنه من التوابع، فيدخل بذكر التوابع" (¬2). ¬
القول الثاني مذهب الحنابلة، وفيه وجهان
وقال النووي: "لا تدخل مسايل الماء في بيع الأرض، ولا يدخل فيه شربها ... إلا أن يقل بحقوقها" (¬1). وجاء في الفتاوى الفقهية الكبرى للهيتمي: "لا يدخل في بيع الأرض مسيل الماء، ولا شربها: أي نصيبها من قناة، أو نهر مملوكين، ونبه السبكي، وتبعه الأذرعي وغيره، أن محل ذلك في المسيل، أو الشرب الخارج عن الأرض، بخلاف الداخل فيها، فإنه لا ريب في دخوله. . ." (¬2). القول الثاني مذهب الحنابلة، وفيه وجهان: أحدهما: ثبوت حق الاختصاص من غير ملك، جزم به القاضي، وابن عقيل في إحياء الموات، والغصب، ودل عليه نصوص الإمام أحمد. الثاني: ثبوت الملك، صرح به الأصحاب في الطرق خاصة، وجزم صاحب المغني في ثبوت ذلك في كل المرافق، وأخذه من نص الإمام أحمد، والخرقي على ملك حريم البئر (¬3). وقال ابن قدامة: "كل مملوك لا يجوز إحياء ما تعلق بمصالحه؛ لقوله - عليه السلام -: "من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم، فهي له"، مفهومه أن ما تعلق به حق مسلم لا يملك بالإحياء، ولأنه تابع للمملوك ولو جوزنا إحياءه، لبطل الملك في العامر على أهله. وذكر القاضي أن هذه المرافق لا يملكها المحيي بالإحياء، لكن هو أحق بها من غيره؛ لأن الإحياء الذي هو سبب الملك لم يوجد فيها. وقال الشافعي: ¬
الراجح من الخلاف
يملك بذلك. وهو ظاهر قول الخرقي في حريم البئر؛ لأنه مكان استحقه بالإحياء، فملكه، كالمحيي، ولأن معنى الملك موجود فيه؛ لأنه يدخل مع الدار في البيع، ويختص به صاحبها" (¬1). ولم أقف على نص من المالكية في دخول مرافق الدار في بيعها إلا أننا حررنا مذهبهم في مالية تلك المرافق، وفي جواز بيعها عند الكلام على مالية حقوق الارتفاق (¬2). * الراجح من الخلاف: الذي أميل إليه أن هذه المصالح هي تبع للعقار على سبيل الانتفاع بصرف النظر عن المالك، فمن ملك العقار اختص بالانتفاع بمرافقها، دون أن يمتلك رقبة تلك المرافق، ومن لم يملك العقار لم يملك حق الانتفاع بتلك المرافق، لأنه لا يمكن الانتفاع بالعين المملوكة، إلا إذا انتفع بمرافقها، فلا بد من الدار من مسيل لمائها، ولا بد لها من طريق يدخل منه صاحبها ويخرج، ولا بد للدار من أبواب ونوافذ على تلك الطريق، وكذا باقي مرافقها التي لا بد لها منها. جاء في جواهر العقود: "وإن كان العامر يجاور مواتًا، فلصاحب العامر من الموات الذي يجاور ملكه ما لا يمكنه الانتفاع بالعامر إلا به، مثل الطريق، ومسيل الماء الذي يخرج من الدار" (¬3). ¬
الفرع الثامن في دخول حريم المبيع في بيعه
الفرع الثامن في دخول حريم المبيع في بيعه الكلام في حريم الشيء، كالكلام في مرافق الأملاك وحقوقها. الحريم في الاصطلاح: حريم الشيء: ما حوله من حقوقه ومرافقه، وعرفه الشافعية بأنه: ما تمس الحاجة إليه لتمام الانتفاع، وإن حصل أصل الانتفاع بدونه" (¬1). [م - 176] إذا عرفنا ذلك، فقد ذهب الجمهور إلى دخول حريم الشيء فيه إذا باعه، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمشهور من مذهب المالكية (¬3)، واختاره بعض الحنابلة (¬4). ¬
وذهب الشافعية إلى دخوله بشرط أن يكون في سكة غير نافذة (¬1). وقيل: لا يدخل حريم الشيء في البيع، وهو قول في مذهب المالكية (¬2). وقال ابن مفلح الحنبلي الصغير: "ومن باع دارًا تناول البيع أرضها ... ولم يتعرض الأصحاب لذكر حريمها" (¬3). قلت: قد ذكر الإمام أحمد وأصحابه حريم البئر، وغيره مقيس عليه، وهو ¬
الراجح
داخل في البيع سواء كان دخوله على سبيل الاختصاص به، أو على سبيل الملك، وهما وجهان في المذهب كما سبق نقله في المسألة السابقة. الراجح: ما رجحته في مرافق الملك أرجحه هنا، ولا فرق بين المسألتين، والله أعلم.
المبحث الخامس ما يدخل في بيع القرية
المبحث الخامس ما يدخل في بيع القرية الفرع الأول في دخول ما تناوله اسم القرية [م - 177] جاء في الفتاوى الهندية "ولو باع قرية، ولم يسم حدودها فهو على موضع القرية: البيوت والبناء، دون المحرث، كذا في محيط السرخسي" (¬1). وأخرج الحنفية سور القرية، فلم يدخلوه في بيع القرية (¬2). والراجح دخوله، كما يدخل سور الدار في بيع الدار، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، وسيأتي النقل عنهم قريبًا .. كما أنه يخرج من بيع القرية ما لا يملك، كالمساجد، والمقابر، والطرق. جاء في فتح القدير: "إذا باع قرية يخرج منها الطريق، والمساجد، والفارقين، وسور القرية؛ لأن السور يبقى على أصل الإباحة عند القسمة، فلا يدخل في البيع" (¬3). قال النووي: "إذا قال: بعتك هذه القرية، وأطلق، دخل في البيع الأبنية، وما فيها من المساكن، والدكاكين، والحمامات، والساحات، والأرضون التي ¬
يحيط بها السور، والحصن الذي عليها، وهو السور، والسور المحيط، والدروب، فإن لم يكن سور فيدخل من الأرض ما اختلط ببنيانها، ومساكنها، وما كان من أفنية المساكن، وحقوقها" (¬1). وجاء في مطالب أولي النهى: "يدخل في بيع القرية (بيوت وحصن) إن كان بها، وسور (دائرًا عليها) أي على القرية؛ لأن ذلك هو مسمى القرية" (¬2). وقال في المغني: "وإن قال: بعتك هذه القرية، فإن كانت في اللفظ قرينة، مثل المساومة على أرضها، أو ذكر الزرع، والغرس فيها، وذكر حدودها، أو بذل ثمن لا يصلح إلا فيها، وفي أرضها، دخل في البيع؛ لأن الاسم يجوز أن يطلق عليها مع أرضها، والقرينة صارفة إليه، ودالة عليه، فأشبه ما لو صرح به، وإن لم يكن قرينة تصرف إلى ذلك، فالبيع يتناول البيوت، والحصن الدائر عليها، فإن القرية اسم لذلك، وهو مأخوذ من الجمع؛ لأنه يجمع الناس، وسواء قال: بحقوقها، أو لم يقل" (¬3). ففهم من النصوص السابقة أنهم لا يختلفون في دخول الأبنية كالبيوت في مسمى القرية، وإنما اختلفوا في سورها خاصة. ¬
الفرع الثاني في دخول مزارع القرية
الفرع الثاني في دخول مزارع القرية [م - 178] ذهب الشافعية في الأصح، والحنابلة إلى أن مزارع القرية لا تدخل في بيع القرية إلا بنص (¬1)، زاد الحنابلة: أو قرينة. جاء في الإنصاف للمرداوي: "لو باع قرية لم تدخل مزارعها، إلا بذكرها" (¬2). وجاء في شرح منتهى الإرادات: "ولا يدخل مزارع قرية بيعت ... بلا نص، أو قرينة، فإن قال: بعتك القرية بمزارعها، أو دلت قرينة على دخولها كمساومة على الجميع، أو بذل ثمن لا يصلح إلا فيها، وفي مزارعها دخلت عملًا بالنص أو القرينة" (¬3). واختار ابن الرفعة من الشافعية، إلى أن المزارع تدخل في بيع القرية إن كانت المزارع داخل القرية، غير منفصلة عنها (¬4). واختار بعض الشافعية إلى أن المزارع تدخل في بيع القرية إن قال: بحقوقها، ولم يرتضه جمهور الشافعية (¬5). وعللوا ذلك: بأن القرية اسم للأبنية دون المزارع، فلا تعتبر المزارع من حقوق القرية. ¬
وقيل: تدخل المزارع في بيع القرية، وهو قول مرجوح في مذهب الشافعية (¬1). والراجح: عدم دخول المزارع إلا أن يكون هناك عرف معتبر، أو نص أو قرينة، وقد قال الفقهاء: من حلف ألا يدخل القرية لم يحنث بدخول مزارعها (¬2)، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث في دخول الأشجار في بيع القرية
الفرع الثالث في دخول الأشجار في بيع القرية [م - 179] اختلف العلماء في دخول شجر القرية في بيع القرية على قولين: القول الأول: لا يدخل شجر القرية في بيع القرية، وهو قول في مذهب الشافعية (¬1). القول الثاني: يدخل شجر القرية في بيع القرية إذا كان في بيوتها، أو بين بنائها تبعًا للأرض، وهذا مذهب الحنابلة (¬2)، وهو أصح القولين في مذهب الشافعية (¬3)، واختاره الغزالي، ورجحه النووي. قال النووي: "خالف الإِمام والغزالي هنا اختيارهما، فاختارا في هذه دخول الأشجار تحت اسم القرية، وإن اختارا في اسم الأرض عدم الدخول، وهو متجه؛ لأن أهل العرف يفهمون من اسم القرية جميع ما فيها من بناء وشجر، وكذلك جزم الماوردي بدخول ما في خلال المساكن من النخل والشجر، وهو الحق" (¬4). ¬
الراجح
الراجح: أنها تدخل في بيع القرية تبعًا للأرض، وإذا دخلت الأرض في بيع الدار، ودخلت في بيع البستان، دخلت الأرض كذلك في بيع القرية، وكل ما يدخل في بيع الأرض تبعًا يدخل في بيع القرية تبعًا إذا كان ذلك في داخل القرية، كما لو كان في بيوتها، أو بين بنائها، ويدخل فيها حجر مخلوق منها، ومعدن جامد فيها، كما قلنا ذلك في بيع الأرض. ***
الفرع الرابع في دخول حريم القرية
الفرع الرابع في دخول حريم القرية [م - 180] الخلاف في دخول حريم القرية، كالخلاف في دخول حريم الدار في بيع الدار، فمن قال بدخول حريم الدار، قال بدخول حريم القرية، ومن لم يدخل الحريم في بيع الدار، لم يدخله في بيع القرية. قال النووي: "وحيث يدخل حريم الدار في بيع الدار، ينبغي أن يدخل حريم القرية في بيع القرية" (¬1). وقد تكلمنا عن حريم الدار، وفصلت الخلاف فيه مع بيان الراجح فأغنى عن إعادته هنا. ¬
المبحث السادس ما يدخل في بيع الثمار
المبحث السادس ما يدخل في بيع الثمار الفرع الأول في دخول الثمار إذا كان ظهوره متلاحقًا [م - 181] بعض الشجر يكون ثماره متلاحقًا، لا يظهر دفعة واحدة، فإذا باع الرجل ثمر شجرة يتلاحق ثمارها، فهل يصح البيع، وإذا صح البيع فهل يصح في الثمرة الظاهرة، أو في كل الثمرة، ما ظهر منها، وما لم يظهر؟ وللجواب على ذلك يقال: إذا كانت الأشجار لها ثمار متلاحقة، فإما أن يختلط ما ظهر من الثمار بما لم يظهر، أو تتميز الثمار الظاهرة عن الثمار اللاحقة، فإن تميزت الثمار الظاهرة حال العقد عن الثمار اللاحقة فالبيع صحيح، ويكون للمشتري الثمار الظاهرة دون الثمار اللاحقة. وهذا بالاتفاق. وإن كانت الثمار الظاهرة تختلط بالثمار اللاحقة على وجه لا يتميز بعضها عن بعض، فقد اتفق الفقهاء على صحة البيع، واختلفوا في وجوب قطعه في الحال على أقوال: القول الأول: يصح البيع وعلى المشتري قطعها في الحال، فإن شرط بقاءها فسد البيع؛ وهذا مذهب الحنفية (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا يصح بيعه إلا بشرط القطع في الحال وهذا مذهب الشافعية (¬1)، ومذهب ¬
الحنابلة (¬1). والفرق بين مذهب الحنفية ومذهب الشافعية والحنابلة، أن مذهب الحنفية يصحح شراء الثمرة المتلاحقة مطلقاً، أي: ولو لم يشترط القطع في الحال، ويكون ملزمًا بقطعها، فإن اشترط الترك فسد البيع. ومذهب الحنابلة والشافعية لا يصح البيع إلا بشرط القطع في الحال، والمعنى متقارب. ¬
القول الثالث
القول الثالث: يجوز بيع الثمار المتلاحقة، ولو لم يقطعها ويجعل المعدوم تبعًا للموجود، اختاره بعض الحنفية (¬1)، وهو مذهب المالكية (¬2)، وأفتى به ابن تيمية من الحنابلة، وقال: هو قول كثير من أصحابنا (¬3). • دليل من قال: إن اشترط ترك الثمار فسد البيع: لأن البيع مع شرط الترك شرط لا يقتضيه العقد، وهو شغل ملك الغير. ولأن البقاء إن كان له حصة من الثمن كان إجارة في بيع، وإن كان بدون مقابل كان إعارة في بيع، فيكون صفقتين في صفقة، وهو منهي عنه (¬4). ويناقش: بأننا لا نسلم أن هذا الشرط من قبيل بيعتين في بيعة، بل من قبيل اشتراط البائع ما له غرض صحيح فيه في عقد البيع، كاشتراط سكنى الدار لمدة معلومة، وعلى التسليم بأنه بيعتان في بيعة، فالمقصود كما بينا سابقًا إذا كانت البيعتان تتضمن محذورًا شرعيًا، كبيع العينة، وهذا ليس منه، والله أعلم. دليل من قال: يجوز البيع بشرط القطع في الحال. الدليل الأول: أن إدخال الثمرة التي لم تخلق بعد في المبيع يعتبر ذلك بيعًا للمعدوم، وبيع المعدوم لا يجوز. ¬
وأجيب
وأجيب: قال ابن القيم: "ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا في كلام أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بلفظ عام، ولا بمعنى عام، وإنما في السنة النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة، كما فيها النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة؛ فليست العلة في المنع لا العدم ولا الوجود، بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر، وهو: ما لا يقدر على تسليمه، سواء كان موجودًا أو معدومًا، كبيع العبد الآبق، والبعير الشارد إن كان موجودًا؛ إذ موجب البيع تسليم المبيع، فإذا كان البائع عاجزًا عن تسلميه فهو غرر ومخاطرة وقمار، فإنه لا يباع إلا بوكس، فإن أمكن المشتري تسلمه كان قد قمر البائع، وإن لم يمكنه ذلك قمره البائع، وهكذا المعدوم الذي هو غرر نهي عنه للغرر لا للعدم، كما إذا باعه ما تحمل هذه الأمة، أو هذه الشجرة؛ فالبيع لا يعرف وجوده ولا قدره ولا صفته؛ وهذا من الميسر الذي حرمه الله ورسوله" (¬1). وقد ناقشت في مسألة مستقلة حكم بيع المعدوم، وأقوال الفقهاء فيها، ورجحت أن المعدوم على قسمين: معدوم يتضمن بيعه غررًا، فهذا لا يجوز، ومعدوم لا يتضمن بيعه غررًا، وهذا جائز، كبيع السلم، وكعقد الاستصناع، ومثله الثمرة المتلاحقة، والله أعلم. الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع ما ليس عند البائع كما في حديث ابن عمرو، وحديث حكيم بن حزام، وسبق تخريجهما. والثمرة التي لم تخلق بعد إذا باعها فقد باع ما ليس عنده وقت العقد. ¬
ويجاب
ويجاب: بأن العقد وقع على موجود أصلاً، وما يتلاحق يعتبر تابعًا، ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره، ولا يشترط في التابع ما يشترط في المتبوع (¬1)، فبيع الثمرة قبل بدو صلاحها لا يجوز، وبيعها مع أصلها جائز، وبيع الحمل في البطن وحده لا يجوز، ولو بيعت الدابة، وهي حامل جاز. الدليل الثالث: بأن الثمار على رؤوس الأشجار تزداد، وهذه الزيادة من حق البائع؛ لأنها نماء ملكه، حيث كان يملك الأصل، وإذا كنا لا نستطيع أن نميز حق البائع من حق المشتري وجب منع ذلك من الأصل. ويجاب: لم يتفق على أن النماء الحادث هو ملك للبائع، فهناك من يرى أن النماء الحادث تابع للنماء الموجود، وسوف نبحث في الفصل التالي إن شاء الله ما لو حصل البيع، وحدث نماء جديد، واختلط بغيره، فمن يملك النماء الجديد، فارجع إليه إن شئت. دليل من قال: يجوز بيع الثمار المتلاحقة، ويجعل المعدوم تابعًا للموجود: الدليل الأول: أن ما ظهر هو الأصل، وهو المقصود، وما لم يظهر، فهو تابع للأصل، والتابع يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره. ¬
وجه الاستدلال
(ح-90) فقد روى البخاري ومسلم من طريق سالم عن ابن عمر: - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ابتاع نخلا بعد أن توبر فثمرتها للبائع إلا أن يتشرط المبتاع، ومن ابتاع عبدًا، وله مال، فماله للذي باعه لا أن يشترط المبتاع. وجه الاستدلال: أن المبتاع إذا اشترط الثمر بعد تأبيره، فقد اشترط ثمرًا لم يبد صلاحه، وهو منهي عن بيعه، وإنما جاز بيعه تبعًا لغيره كما أسلفنا، وكذلك المال الذي في حوزة العبد قد يكون ذهباً، وثمن العبد قد يكون ذهباً أيضًا، فأجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - للمشتري أن يشترط المال دون مراعاة لقواعد الصرف، وإنما جاز ذلك؛ لأنه تابع غير مقصود (¬1). فيجوز أن يشترط المشتري مال العبد، ولو لم يعلم مقداره؛ لأنه تابع، كما جوز الأئمة الغرر في التابع، وسبق تحريره في موانع البيع. الدليل الثاني: أن هذا هو عمل الناس في كل عصر ومصر من غير نكير. الدليل الثالث: الحاجة إلى هذه المعاملة، فإن الناس لو منعوا منها لتضرروا بذلك. قال ابن نجيم: "كان الحلواني يفتي بجوازه في الكل -يعني: " ما ظهر، وما لم يظهر- وزعم أنه مروي عن أصحابنا، وهكذا حكي عن الإِمام الفضلي، وكان يقول: الموجود وقت العقد أصل، وما يحدث تبع له، نقلنه شمس الأئمة ¬
الراجح
عنه، ولم يقيده عنه يكون الموجود وقت العقد يكون أكثر (¬1)، بل قال عنه: اجعل الموجود أصلًا في العقد، وما يحدث بعد ذلك تبعًا، وقال: استحسن فيه؛ لتعامل الناس، فإنهم تعاملوا بيع ثمار الكرم بهذه الصفة، ولهم في ذلك عادة ظاهرة، وفي نزع الناس عن عاداتهم حرج، وقد رأيت في هذا رواية عن محمَّد، وهو في بيع الورد على الأشجار، فإن الورد متلاحق، ثم جوز المبيع في الكل بهذا الطريق" (¬2). الراجح: جواز بيع الثمار المتلاحقة، ويكون ما لم يظهر تابعًا للأصل في الحكم، وخروجًا من النزاع لا مانع من النص على هذا في صلب العقد ليكون العقد سليمًا، فإن الحنفية يجيزون مثل ذلك إذا كان ذلك بإذن البائع، ويطيب للمشتري ما زاد من الثمرة. ¬
مسألة إنا كانت الأصول لرجل والثمار لآخر ثم حدث نماء جديد
مسألة إنا كانت الأصول لرجل والثمار لآخر ثم حدث نماء جديد [م - 182] بينا في المسألة الماضية حكم بيع ثمر الشجر الذي يثمر أكثر من مرة، أو يتتابع ظهور الثمر فيه، وأن هناك من يصحح بيع هذه الثمار ويوجب قطعها في الحال، وهناك من لا يصحح بيعها إلا بشرط القطع في الحال، وهناك من يجيزه مطلقًا كالمالكية، ولا يوجب قطعها في الحال. والبحث هنا ليس في صحة بيع تلك الثمار، وإنما البحث فيما إذا وقع البيع، واختلط الثمر بعضه ببعض، فمن يستحق الثمرة الجديدة؟ ومذهب المالكية لا إشكال فيه؛ لأنه يصحح البيع مطلقًا، وإنما خلاف هذه المسألة عند القائلين بأنه يجب القطع في الحال. تحرير محل الخلاف: إذا كانت ثمرة كل من البائع والمشتري متميزة معلومة المقدار، لم تختلط، فكل واحد له نصيبه، وهذا بين واضح. وإن كانت الزيادة مختلطة، ولكن كانت معلومة المقدار، كان البائع والمشتري شريكين، كل بقدر نصيبه، كما لو كانت الزيادة الحاصلة بقدر الربع، فهنا يكون للمشتري ثلاثة أرباع الثمرة، والربع للبائع. وجهه: أن مال المشتري قد اختلط بمال البائع على وجه لا يمكن فصلهما، فأصبحا شريكين بقدر حصصهما (¬1). ¬
القول الأول
قال ابن قدامة: "وإذا باع شجرة فيها ثمر للبائع، فحدثت ثمرة أخرى، أو اشترى ثمرة في شجرها، فحدثت ثمرة أخرى، فإن تميزها، فلكل واحد ثمرته. وإن لم تتميز إحداهما من الأخرى، فهما شريكان فيهما، كل واحد بقدر ثمرته ... " (¬1). أما لو كانت الزيادة غير متميزة، وغير معلومة المقدار، فهذه محل البحث في هذا الفصل، والمسألة قد اختلف العلماء فيها على أربعة أقوال: القول الأول: إن أثمرت ثمرًا جديدًا قبل القبض فسد البيع؛ لتعذر التمييز قبل التسليم، فأشبه فوات المبيع قبل التسليم. وهذا قول واحد في مذهب الحنفية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3). وإن أثمرت ثمرًا جديدًا بعد القبض فإنهما يشتركان فيها للاختلاط، والقول في قدره للمشتري مع يمينه؛ لأن المبيع في يده، وهو منكر، والقول قول المنكر، وهذا مذهب الحنفية (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: للمشتري (مالك الثمرة) بطون ما يخلف، ولا يتميز بعضه عن بعض، ولو لم يشترطه. وأما ما يتميز بطون بعضه عن بعض، سواء كان مما يتصل بطونه أم لا، فهو لمالك الأصل (البائع)؛ لأن البائع إنما باع للمشتري ما جرت العادة بأخذه من عينه، ولم يتبعه أصله. وهذا مذهب المالكية (¬1). وتعقب: بأنه كيف يكون المتولد جزءًا من الصفقة، وهو حال الحقد لم تخلق الثمرة بعد، فهو كما لو باعها قبل ظهور شيء منها، وما لم يخلق من ثمرة النخل لا يجوز بيعه تبعًا لما خلق، وإن كان ما لم يبد صلاحه يجوّز بيعه تبعًا لما بدا صلاحه؛ لأن ما لم يبد صلاحه يجوز إفراده بالبيع في بعض الأحوال كما لو اشترط القطع في الحال، وأما ما لم يخلق فلا يجوز إفراده بالبيع. ويناقش: بأنه سبق لنا في المسألة السابقة أن بينا أنه لا يشترط في التابع ما يشترط في المتبوع، فهذا الحمل لا يجوز إفراده بالبيع مطلقًا، ويجوز بيع الدابة، وهي حامل، ويكون له أثر في الثمن، فليس النظر في بيع ما بدا صلاحه تبعًا لما بدا، أنه يجوز إفراده بالعقد في حال اشتراط قطعه في الحال، فجاز بيعه تبعًا بخلاف الثمرة التي لم تخلق بعد، بل الملحظ: أن التابع يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره، والله أعلم. ¬
القول الثالث
القول الثالث: إذا حدث الاختلاط، وكان حق كل واحد متميزًا عن الآخر، فلكل واحد ثمرته، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة (¬1). وإن كان حق كل واحد منهما لم يتميز، فإن كان ذلك قبل التخلية، كان للمشتري الخيار بين الفسخ والإجازة. وجهه: أننا لم نقل بفسخ العقدة لبقاء عين المبيع. وقلنا بالخيار: لأن الاختلاط عيب حدث قبل التسليم. وإن سمح البائع بترك الثمرة الجديدة للمشتري، سقط خياره على الأصح، وأجبر على القبول. لزوال المحذور. وإن حدث ذلك بعد التخلية فإن تصالحا وتوافقا على شيء فذاك، وإلا فالقول قول صاحب اليد في قدر حق الآخر، واليد بعد التخلية للمشتري. وهذا مذهب الشافعية (¬2). القول الرابع: يصطلحان على الزيادة، ولا يبطل العقد، وهذا مذهب الحنابلة (¬3). ¬
الراجح من الخلاف
وجهه: أننا لم نقل يبطلان العقد؛ لأن المبيع لم يتعذر تسليمه، وإنما اختلط بغيره، فهو كما لو اشترى طعاماً في مكان، فانثال عليه طعام للبائع، أو انثال هو على طعام للبائع، ولم يعرف قدر كل واحد منهما، ويفارق هذا ما لو اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها، فتركها حتى بدا صلاحها، أو اشترى عرية فتركها حتى أثمرت، فإن العقد يبطل في إحدى الروايتين؛ لكون اختلاط المبيع بغيره حصل بارتكاب النهي، وكونه يتخذ حيلة على شراء الثمرة قبل بدو صلاحها، أو شراء الرطب بالتمر من غير كيل من غير حاجة إلى أكله رطبًا، وهاهنا ما ارتكب نهيًا، ولم يجعل هذا طريقا إلى فعل المحرم (¬1). الراجح من الخلاف: الذي أميل إليه هو ما اختاره المالكية رحمهم الله، وأن الثمر المتلاحق يكون من حق المشتري، ولكن خروجًا من الخلاف، وقطعًا للنزاع أرى أن ينص على ذلك في العقد. ¬
المبحث السابع ما يدخل في بيع الحيوان
المبحث السابع ما يدخل في بيع الحيوان [م - 183] في بيع الحيوان يدخل حمله تبعًا؛ لأن الحمل لا يجوز بيعه وحده، ولا يجوز استثناؤه على الصحيح وقد سبق بحثه في مسألة مستقلة. كما يدخل أيضًا لجام الدابة، وخطام البعير؛ لأن العرف والعادة جاريان أنها تدخل تبعًا في بيع الحيوان. ولا يدخل في بيع الفرس سرجها وركابها؛ لأنها منفصلة عن المبيع. كما نص الحنفية على أنه إذا اشترى بقرة حلوبًا لأجل اللبن، دخل فلوها الرضيع في البيع بدون ذكر بخلاف ولد الأتان فإنه لا يدخل في حبيع أمه بلا ذكر، ولو رضيعًا. والفرق أن البقرة لا ينتفع بها إلا بالعجل، ولا كذلك الأتان ... لأن البقرة تقصد للحلب، ومثلها الشاة والناقة، بخلاف الأتان، وبخلاف الولد الفطيم (¬1). قال ابن عابدين: "قد يدخل بعض المنقول المنفصل إذا كان تبعًا للمبيع بحيث لا ينتفع إلا به، فيصير كالجزء، كولد البقرة الرضيع، بخلاف الأتان. أما إذا حضر مهر الفرس، أو ولد الأتان، أو عجل البقرة أو حمل الشاة معها إلى محل البيع فتدخل هذه الأولاد كلها مع أمهاتها في البيع بدون ذكر، عملًا بالعرف (¬2). ¬
وقد يدخل عرفًا كقلادة الحمار، وثياب العبد" (¬1). ¬
المبحث الثامن ما يلحق في بيع المرابحة بأصل العقد
المبحث الثامن ما يلحق في بيع المرابحة بأصل العقد [م - 184] سيأتي الكلام مفصلًا عن بيع المرابحة والمواضعة في مباحث لاحقة، إلا أننا في هذا المبحث سوف نشير فيه إلى ما يلحق في أصل العقد مما يزاد في الثمن، أو يحط منه، وما لا يلحق فيه؛ لأن الكلام في الباب (ما يشمله اسم المبيع وما لا يدخل فيه)، والكلام في المبحث: (ما يلحق في بيع المرابحة) فالعلاقة ظاهرة بين المبحث، وبين الباب، فالسؤال: هل يلحق بأصل العقد ما يزاد في الثمن أو يحط منه، وللجواب على ذلك نقول: لا خلاف بين الفقهاء بأن للمشتري أن يزيد للبائع في الثمن، وأن للبائع أن يزيد في المبيع للمشتري أو يحط عن المشتري في الثمن، وإنما الخلاف بينهم هل تلحق هذه الزيادة أو النقصان بأصل العقد، وتكون ثمنًا، أو لا تلحق وتعتبر هبة؟ فإن اعتبرنا الزيادة أو النقص هبة لم تلزم إلا بالقبض، وإن اعتبرنا ذلك من الثمن أوجب ردها في الاستحقاق، وفي الرد بالعيب، وإن كانت الزيادة فاسدة فسد البيع، ومن لم يجعلها من الثمن لم يوجب شيئاً من هذا. ولتحرير ذلك نقول: إن كانت الزيادة أو الحط قبل لزوم العقد (¬1)، فإنها تلحق بأصل العقد، ¬
وتكون ثمنًا، وتضاف إلى الثمن في بيوع الأمانة باعتبار أن الزيادة، أو النقص جزء من الثمن، ولأن العقد قبل لزومه لم يستقر، فالثمن فيه قابل للزيادة والنقص، فوجب إلحاقه برأس المال، والإخبار به كأصله. قال ابن قدامة: "وإن كان ذلك -يعني الزيادة في الثمن والحط منه- في مدة الخيار لحق بالعقد، وأخبر به في الثمن، وبه قال الشافعي، وأبو حنيفة، ولا أعلم عن غيرهم خلافهم" (¬1). وأما إن كانت الزيادة أو الحط بعد لزوم العقد، فقد اختلف الفقهاء، هل يلحق ذلك بأصل العقد، أو تكون الزيادة هبة، والحط إبراء، وقد ذكرنا أدلة هذه المسألة في مبحث سابق، فأغنى عن إعادته هنا، وإنما أشرنا للمسألة للتذكير بأن الموضوع له علاقة في هذا الباب، والله أعلم. ¬
الحكم الثاني في قبض المبيع
الحكم الثاني في قبض المبيع المبحث الأول في تعريف القبض تعريف القبض اصطلاحًا (¬1): لا أكاد أجد تعريفًا جامعًا لكل صور القبض، وذلك أن حقيقة القبض تختلف ¬
القول الأول
صوره بحسب اختلاف الأموال من عقار ومنقول، وبيع، وصرف، وهبة، ورهن، لذا سأختار من التعريف ما أرأى أنه أقربها، وإن لم يكن جامعًا. القول الأول: عرفه الزرقاء بقوله: "المعنى العام الجامع لكل صوره: أن يصبح المشتري متمكنًا من المبيع بناء على تخلي البائع له، وإذنه له باستلامه" (¬1). وهذا القول يفسر القبض بالتخلية، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والخرسانيين من الشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). قال الكاساني: "التسليم والقبض عندنا: هو التخلية". ثم عرف التخلية بقوله: "والتخلي: وهو أن يخلي البائع بين المبيع وبين المشتري، برفع الحائل بينهما، على وجه يتمكن المشتري من التصرف فيه، فيجعل البائع مسلمًا للمبيع، والمشتري قابضًا له، وكذا تسليم الثمن من المشتري إلى البائع" (¬5). وقال النووي: "وفيه قول حكاه الخرسانيون أنه يكفي فيه -أي في المنقول- التخلية" (¬6). "وقد روى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى: أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز؛ لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل" (¬7). ¬
المناقشة
المناقشة: قد يقال: لو كانت التخلية هي القبض، لما اشترط في الهبة الحيازة دون التخلية، ولما اشترط القبض في اليد في بيع الصرف دون التخلية. وأجيب بعدة أجوبة: [م - 185] الأول: اشتراط الحيازة في الهبة ليست محل اتفاق بين الفقهاء. فذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة أنها لا تلزم إلا بالقبض (¬1). وقيل: تصح بنفس العقد وإن لم تقبض، وهو قول مالك (¬2). الثاني: أن التخلية إنما جعلت تسليمًا؛ لأن البائع إذا خلى بين المشتري وبين المبيع فقد رفع الموانع عن القبض. وهذا غاية ما يقدر عليه، وهو محتاج إلى إخراج نفسه من عهدة المبيع، فإذا أتى بما وسعه فقد بريء، وليس في وسعه إلا التخلية، وأما القبض الذي هو التسلم، فهذا فعل المشتري، فلا يكلف البائع فعل غيره، فجعل التمكن من القبض قبضًا، وهو القبض الحكمي، وهو القبض بطريق التخلية، وأما الهبة فلا يكفي فيها التخلية، وذلك أن التسليم ليس بواجب على الواهب، فإذا لم يسلمه إليه، ويقبضه لا يعد مسلمًا. وهذا النوع من القبض هو ما يسمى بالقبض الحقيقي، كما في قبض المفتاح (¬3). ¬
القول الثاني في تعريف القبض
الثالث: ولأن القبض ليس له حقيقة شرعية، وإنما يحدده العرف، وهذا يختلف من مال لآخر، فقبض العقار يختلف عن قبض النقود، فما تعتبر التخلية فيه قبضًا، لا يلزم منه أن تكون قبضًا في مال آخر. الرابع: أن الصرف جاء النص فيه أن يكون يدًا بيد، ولا يلزم منه أن يكون القبض في غيره يدًا بيد، على أن الصرف ليس محل اتفاق على وجوب أن يكون القبض يدًا بيد، وسوف يأتي تحريره إن شاء الله تعالى في كتاب الصرف. القول الثاني في تعريف القبض: قال التسولي: "الحوز: وضع اليد على الشيء المحوز" (¬1)، حقيقة أو حكمًا. وهذا تعريف للقبض بتعريف أحد الألفاظ المرادفة للقبض، وهو الحيازة. يرى فريق من العلماء أن التخلية في غير المنقول بمنزلة الأخذ باليد بالمنقول، وهذا مذهب الشافعية (¬2). وهذا القول يرى أن المنقول يمكن قبضه بحيازته ونقله، فلا يكفي فيه التخلية، وأما ما لا يمكن نقله وحيازته كالعقار فيكفي في قبضه التخلية. وهذا التعريف أشمل من التعريف السابق؛ لأنه يشمل قبض التخلية، ويشمل قبض اليد. ومن خلال هذا التعريف نستطيع أن نقسم القبض إلى قسمين: الأول: القبض الحكمي: وهو التخلية. الثاني: القبض الحقيقي: وهو تناول المبيع باليد، أو نقله وتحويله إلى حوزة القابض، أو كيل ما يكال، أو وزن ما يوزن، أو عد ما يعد، أو ذرع ما يذرع. ¬
المبحث الثاني علاقة القبض بعقد البيع
المبحث الثاني علاقة القبض بعقد البيع قبل أن نتكلم على علاقة القبض بعقد البيع لا بد من الكلام على الأدلة الشرعية على وجوب القبض في عقد البيع، فإذا تصور حكم القبض في عقد البيع عرفنا منزلته من العقد: [م - 186] الأصل في مسألة القبض أحاديث صحيحة، منها (ح-91) ما أخرجه الشيخان من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه (¬1). (ح- 92) وما رواه الشيخان من طريق ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه. قال ابن عباس وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام (¬2). (ح-93) ما رواه البخاري من طريق يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله، أن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: لقد رأيت الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتاعون جزافا -يعني الطعام- يضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم (¬3). فيؤخذ من جملة هذه الأحاديث أن القبض في البيع ليس هو من تمام العقد، بل الملك يحصل للمشتري قبل القبض وذلك بالإيجاب والقبول ولذلك ¬
الحال الأول
قال - صلى الله عليه وسلم -: من ابتاع طعامًا، فلا يبعه حتى يقبضه، فأثبت صحة البيع قبل القبض، ولكن منعه من التصرف فيه بالبيع قبل قبضه، والمنع من التصرف أخص من ثبوت الملك، فأثر القبض له تعلق في صحة التصرف في المبيع، وكذلك القبض له تعلق في الضمان إذا تلف قبل القبض وبعده، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في فصل مستقل من هذا البحث. وجاء في مجلة الأحكام العدلية: "القبض ليس بشرط في البيع، إلا أن العقد متى تم، كان على المشتري أن يسلم الثمن أولاً، ثم يسلم البائع المبيع إليه" (¬1). قلت: قوله "القبض ليس بشرط في البيع" هذا في الجملة، وإلا هناك من البيوع ما يكون القبض شرطًا في لزومها واستمرارها كالصرف، وبيع الأموال الربوية بعضها ببعض، وقبض رأس مال السلم. وقال ابن تيمية: "القبض في البيع ليس هو من تمام العقد، كما هو في الرهن، بل الملك يحصل قبل القبض للمشتري تابعًا، وبكون نماء المبيع له بلا نزاع، وإن كان في يد البائع، ولكن أثر القبض إما في الضمان، وإما في جواز التصرف" (¬2). وهذا كلام جيد إلا أن ابن تيمية - رحمه الله - لا يرى ذلك في عقد الصرف ونحوه كما سيأتي النقل عنه. ونستطيع من خلال ما تقدم أن نوحز علاقة القبض بالعقد: فنقول: علاقة القبض بالعقد لها حالان: الحال الأول: أن يكون القبض أثرًا من آثار العقد، وواحدًا من موجباته. كما هو الحال في ¬
الحال الثاني
البيع اللازم، والرهن اللازم، ولا يلزم من تأخر القبض الوقوع في أي محذور شرعي، ولذلك لا مانع من اشتراط الخيار فيه، واشتراط الأجل. فإذا تم انعقاد هذه العقود وأمثالها وجب على البائع تسليم المبيع إلى المشتري. ويلحظ هنا أن العقد تم بإيجاب وقبول، تولد عنهما التزام يوجب الإقباض. الحال الثاني: أن يكون القبض من تمام العقد، كقبض الثمن في السلم، والتقابض يدًا بيد في الأموال الربوية، فإذا تفرق العاقدان بدون القبض بطل العقد؛ لأن تأخير القبض يوقع في محذور شرعي لا يمكن دفعه إلا بالقبض، ولذلك لا يصح اشتراط الخيار فيه، ولا الأجل؛ لأنه بأحدهما لا يبقى القبض مستحقًا. [م - 187] ويثور جدل بين الفقهاء حول القبض هنا في البيوع الربوية. هل القبض فيها شرط لزوم العقد واستمراره، أو أنه شرط انعقاد العقد وإنشائه؟ على قولين: القول الأول: يرى بعض الفقهاء أن القبض شرط لزوم العقد واستمراره، وهو ليس ركنًا فيه؛ لأن العقد تراض في نظر الشرع، وهو يتم بالإيجاب والقبول، لكنه عقد غير لازم يفتقر إلى القبض. جاء في فتح القدير: "المختار أن القبض شرط البقاء على الصحة، لا شرط ابتداء الصحة، لظاهر قوله (فإذا افترقا بطل العقد، وإنما يبطل بعد وجوده، وهو الأصح" (¬1). ¬
وأجيب
وجاء في البحر الرائق: "اختلفوا في القبض، فقيل: شرط انعقاده صحيحًا، فأورد عليه أنه حينئذ لا بد من القرآن، أو المتقدم، والقبض متأخر، فكان حكمًا لا شرطًا (¬1). وأجيب: بأن الوجود في المجلس جعل مقارنًا للعقد حكمًا. والصحيح المختار: أنه شرط بقائه على الصحة، لا شرط انعقاده" (¬2). وجاء في شرح الزرقاني على الموطأ: "قال الأبي: المناجزة قبض العوضين عقب العقد، وهي شرط في تمام الصرف، لا في عقده، فليس لأحدهما أن يرجع، وصرح بأنها شرط المازري، وابن محرز، واختار شيخنا يعني ابن عرفة: أنها ركن، لتوقف حقيقته عليها، وليست بخارجة، وظاهر كلام ابن القصار أنها ليست بركن، ولا شرط، وإنما التأخير مانع من تمام العقد، فإن قيل: لا يصح أنها شرط؛ لأن الشرط عقليًا كالحياة للعلم، أو شرعيًا كالوضوء للصلاة: شرطه أن يوجد دون المشروط، والمناجزة لا توجد دون عقد الصرف، فما صورة تأخيرها؟ أجيب: بأنها إنما هي شرط في الصرف الصحيح، وهو متأخر عنها" (¬3). قال ابن رجب في القواعد: "واعلم أن كثيراً من الأصحاب يجعل القبض في هذه العقود معتبرًا للزومها، واستمرارها، لا لانعقادها وإنشائها، وممن صرح بذلك صاحب المغني، وأبو الخطاب في انتصاره، وصاحب التلخيص وغيرهم. ¬
القول الثاني
ومن الأصحاب من جعل القبض فيها شرطًا للصحة، وممن صرح بذلك صاحب المحرر فيه في الصرف، والسلم، والهبة" (¬1). القول الثاني: من الفقهاء من يرى أن القبض ركن في العقد؛ لأن به تمام الرضا، فلا ينعقد العقد ولا ينشأ إلا بحصول القبض، وقد صرح ابن عقيل بأن القبض ركن من أركان الهبة كالإيجاب في غيرها، وكلام الخرقي يدل عليه أيضًا (¬2). يقول ابن رجب: "قال الشيخ تقي الدين: التحقيق أن يقال في هذه العقود -يعني عقد الصرف والسلم والهبة ونحوها- إذا لم يحصل القبض فلا عقد، وإن كان بعض الفقهاء يقول: بطل العقد، فكما يقال: إذا لم يقبل المخاطب بطل الإيجاب، فهذا بطلان ما لم يتم، لا بطلان ما تم. اهـ ولا يستبعد توقف انعقاد العقد على أمر زائد على الإيجاب والقبول، كما يتوقف انعقاد النكاح معهما على الشهادة" (¬3). اهـ كلام ابن رجب. وإن كنت ميالًا إلى أن القبض هو شرط إما لصحة العقد، أو للزومه واستمراره؛ لا أن العقد لا ينعقد أصلاً إلا بالقبض، وذلك لأن المعنى الشرعي للعقد: هو ارتباط الإيجاب بالقبول على وجه يظهر أثره الشرعي في محله، وهذا المعنى للعقد يتحقق بالإيجاب والقبول، فالقبض ليس ركنًا في العقد، وإلا لكان ركنًا في العقد مطلقًا في كل بيع، وليس في بعض العقود خاصة، ¬
وإنما القبض أثر من آثار العقد، على اختلاف بين عقد وعقد، وحيث يكون تأخر القبض في بعض العقود محرمًا؛ لأنه يوقع العاقد في محذور شرعي، فيحرم تأخيره لذلك، كما يوقع تأخير القبض في عقد السلم في الوقوع في بيع الدين بالدين، ويوقع تأخير القبض في الأموال الربوية إلى الوقوع في ربا النسيئة كما في عقد الصرف، فدفعًا لهذه المحاذير، نقول: إذا تفرق العاقدان قبل القبض يكون العقد لاغيًا لافتقاره إلى شرط لزومه واستمراره، أو لافتقاره إلى شرط صحته، ولا يقال: إن العقد لم ينعقد أصلاً (¬1). ¬
المبحث الثالث في كيفية قبض المال
المبحث الثالث في كيفية قبض المال الفرع الأول في كيفية قبض ما لا ينقل المسألة الأولى: في قبض العقار المطلب الأول: في تعريف العقار تعريف العقار: [م - 188] اختلف الفقهاء في المقصود بالعقار: فقيل: العقار: كل ما له أصل ثابت، لا يمكن نقله، ولا تحويله كالدور والأراضي، أما البناء والشجر فلا يعتبران من العقار إلا على وجه التبعية. قال ابن نجيم: "صرح مشايخنا في كتاب الشفعة بأن البناء والنخل من المنقولات، وأنه لا شفعة فيها إذا بيعا بلا عرصة (¬1)، فإن بيعا معها وجبت تبعًا" (¬2). ¬
الراجح من الخلاف
وجاء في مطالب أولى النهى: "ظاهر كلام أئمة المذهب، بل صريحه، أن العقار: هو الأرض فقط، وأن الغراس والبناء ليس بعقار، وظاهر كلام أهل اللغة، أو صريحه، أنهما من العقار، فعن الأصمعي: العقار: المنزل، والأرض والضياع، وعن الزجاج: كل ما له أصل" (¬1). وجاء في الشرح الكبير للدردير: "وقبض العقار: وهو الأرض، وما اتصل بها من بناء وشجر" (¬2). ومذهب المالكية لا يختلف عن مذهب الحنفية، فهم يرون العقار هو الأرض، وأما البناء، والشجر فهو عقار باعتبار اتصاله بالأرض، أما إذا لم يتصل بالأرض فهو منقول. وقيل: العقار: هو الأرض، والبناء، والشجر، وهذا مذهب الشافعية (¬3). الراجح من الخلاف: الذي أراه أن الخلاف في المسألة خلاف اصطلاحي، ولا مشاحة في الاصطلاح. ¬
المطلب الثاني في قبض العقار
المطلب الثاني في قبض العقار [م - 189] نستطيع أن نقول: إن الفقهاء متفقون على أن محل العقد إن كان عقارًا كالدور، والأراضي، فإن قبضها يكون بالتخلية بينه وبين من انتقل إليه الملك، بحيث يتمكن من الانتفاع به الانتفاع المطلوب عرفًا. وحقيقة التخلية: أن يرفع البائع ملكه عن المبيع، بحيث يتمكن المشتري من القبض، ولا يجب القبض بالبراجم (¬1). وقيل: التخلية: رفع الموانع، والتمكين من القبض (¬2). والحجة في هذا اتفاق الفقهاء على أن التخلية قبض للعقار. جاء في حاشية ابن عابدين: "أجمعوا على أن التخلية في البيع الجائز تكون قبضًا" (¬3). وجاء في الإنصاف: "وفيما عدا ذلك بالتخلية، كالذي لا ينقل، ولا يحول، وهذا بلا نزاع" (¬4) ولأن القبض والتسليم: هو التخلية؛ وذلك أن التسليم في اللغة: عبارة عن جعله سالمًا خالصًا، يقال: سلم فلان لفلان: أي خلص له. ¬
قال الله تعالى: {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29]، أي سالمًا خالصًا، لا يشركه فيه أحد، فتسليم المبيع إلى المشتري: هو جعل المبيع سالمًا للمشتري: أي خالصًا له بحيث لا ينازعه فيه غيره، وهذا يحصل بالتخلية، فكانت التخلية تسليمًا من البائع. ... (¬1). "ولا يعتبر في قبض العقار دخوله، والتصرف فيه، وإنما المعتبر: التمكن من التصرف، وتسليم المفتاح" (¬2). ¬
المطلب الثالث في شروط القبض بالتخلية
المطلب الثالث في شروط القبض بالتخلية [م - 190] ذكر الفقهاء شروط القبض بالتخلية على خلاف بينهم في اعتبار من ذلك: الشرط الأول: اشترط الحنفية أن يكون العقار قريبًا، فإن كان العقار بعيدًا فلا تعتبر التخلية قبضًا؛ لأن في قرب العقار يتصور القبض الحقيقي في الحال، فتقام التخلية مقام القبض (¬1). الشرط الثاني: اشترط الشافعية (¬2)، وبعض المالكية (¬3)، أن يكون العقار غير معتبر فيه تقدير. أما إذا كان معتبرًا فيه، كما لو اشترى أرضًا مذارعة، فلا تكفي التخلية، والتمكين. ¬
الشرط الثالث
الشرط الثالث: اشترط الشافعية (¬1)، وبعض الحنفية (¬2) فراغ العقار من أمتعة البائع، وكذا أمتعة غير المشتري من مستأجر، ومستعير، وموصى له بالمنفعة. وجهه: أن التسلم في العرف موقوف على ذلك. ولم يعتبر المالكية، والحنابلة خلو المبيع من متاع البائع شرطًا للتخلية، واستثنى المالكية دار السكنى. قال في الشرح الكبير للدردير: "وقبض العقار، وهو الأرض، وما اتصل بها من بناء، وشجر بالتخلية بينه وبين المشتري، وتمكنه من التصرف فيه بتسليم المفاتيح إن وجدت، وإن لم يخل البائع متاعه منها، إن لم تكن دار سكنى، فإن قبضها بالإخلاء، ولا يكفي التخلية" (¬3). وجاء في مجلة الأحكام الشرعية: "قبض الدار والمتاع بالتخلية، ولو كان ¬
الشرط الرابع
فيها متاع البائع، وبتسليم مفتاح الدار، أو فتح بابها للمشتري" (¬1). واشترط بعض الحنفية حتى لا يؤثر على القبض وجود المتاع في الدار، أن يأذن له البائع بقبضه مع الدار، ليكون وديعة عنده. جاء في مجمع الأنهر "وعن الوبري: المتاع لغير البائع لا يمنع، فلو أذن له بقبض المتاع، والبيت، صح، وصار المتاع وديعة عنده" (¬2). الشرط الرابع: اشترط الشافعية إن لم يحضر العاقدان المبيع أن يمضي زمن يمكنه الوصول إليه، والاستيلاء عليه، "حتى لو سلم المفتاح لوكيل المشتري الحاضر عند المبيع، وفرغ المبيع من الأمتعة المذكورة، لم يحصل القبض بذلك قبل مضي الزمن المذكور" (¬3). الشرط الخامس: اشترط الشافعية أنه لا بد مع التخلية من لفظ من البائع يدل عليه، ولا يكتفى بالتخلية فقط. جاء في الفتاوى الفقهية الكبرى: "وسئل: هل يشترط تلفظ البائع بالتخلية في -المبيع- العقار لقبضة، أو يكفي السكوت مع التمكين، والفراغ من أمتعة البائع؟ فأجاب: لا بد مع التخلية في نحو العقار من لفظ من البائع يدل عليها، مع تسليم ¬
مفتاح الدار، وتفريغها من متاع غير المشتري ... " (¬1). قال في تحفة المحتاج: "بلفظ يدل ... الخ كخليت بينك وبينه، أو ما يقوم مقام اللفظ، كالكتابة، والإشارة، ومحل اشتراط ذلك -كما هو ظاهر- إن كان للبائع حق الحبس، أما إذا لم يكن له فسيأتي أنه يستقل المشتري بقبضه، فلا يحتاج إلى لفظ" (¬2). فعلم من هذا أن الشافعية اشترطوا ذلك فقط في الوقت الذي يحق للبائع حبس المبيع، كما لو لم يستلم الثمن، وذلك خوفًا من أن يكون القبض بغير إذن البائع، فيكون كالمغتصب للمبيع، أما إذا كان من حقه قبض المبيع، فيكفي التخلية ولو لم يكن هناك لفظ يدل عليها، والله أعلم. ¬
المسألة الثانية في قبض الثمار على الشجر
المسألة الثانية في قبض الثمار على الشجر [م - 191] الثمر على الشجر ألحقته في قبض ما لا ينقل بناء على مذهب الجمهور الذين يجيزون بقاءه إلى أوان الجذاذ، وقد اختلف العلماء في قبض الثمر على الشجر: فقيل: قبضه بالتخلية، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). قال العز بن عبد السلام: "الثمار على الأشجار إذا أينعت وبدا صلاحها، الأصح، أن تخليتها قبض لها" (¬4). وقيد بعض الشافعية ذلك يكون الثمرة المبيعة قبل أوان الجذاذ، أما إذا اشتراها وقت قطعها، فحكمها في القبض حكم المنقولات. ¬
جاء في فتاوى الرملي: "قال الشيخان: في معنى العقار الأشجار الثابتة، والثمرة المبيعة على الشجر قبل أوان الجذاذ. قال الإسنوي: وتقييده بما قبل الجذاذ يشعر بأن دخول وقت قطعها يلحقها بالمنقولات، وهو متجه. اهـ. وقال الأذرعي: لم يتعرض غير الشيخين لهذا القيد ... وقال البلقيني: لا فرق بين أن يبيعها قبل أوان الجذاذ، أو بعده، خلافًا لما في الروضة من التقييد بما قبل أوان الجذاذ، فإنه يلزم على هذا أن الثمرة المبيعة في أوان الجذاذ يكون قبضها بالقطع، وليس الأمر كذلك، ولو كان كذلك لما قال الشافعي في الجديد: إن الجوائح من ضمان المشتري، ولا فرق فيه بين أن تبلغ أوان الجذاذ، أم لا، فدل على أن قبض الثمار بالتخلية مطلقًا، فقد حكى الرافعي في المسألة ثلاث طرق: أظهرها: أنه على قولين. والثاني: القطع بأنها من ضمان المشتري. والثالث: القطع بأنها من ضمان البائع؛ لأنها لما شرط فيها القطع صار قبضها بنقلها. اهـ لكن ما ذكرته يدل على أن التعليل ليس محل وفاق" (¬1). ويرى بعض المالكية وبعض الحنابلة أن التخلية ليست قبضًا، أو ليست قبضًا تامًا، وأن قبض الثمار على الشجر لا يكون إلا بتمام الاستيفاء، وذلك إنما يكون بتمكن المشتري من جذاذها؛ لأن الثمار على الشجر لا يجوز بيعها قبل بدو صلاحها، فإذا بدا صلاحها جاز بيعها، ولمشتريها أن يبقيها إلى أوان الجذاذ، فقبل جذاذها لا يعتبر قد تمكن من استيفائها، والقبض التام لا يكون إلا بتمام الاستيفاء، ولذلك إذا تلفت بآفة سماوية كانت من ضمان البائع، ولو حدث الاستيفاء لكانت من ضمان المشتري. ¬
يقول ابن تيمية - رحمه الله -: "إن اشترى ثمرًا قد بدا صلاحه، فأصابته جائحة أتلفته قبل كمال صلاحه، فإنه يتلف من ضمان البائع ... والحديث قد ثبت في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئاً. بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ والاعتبار يؤيد هذا القول، فإن المبيع تلف قبل تمكن المشتري من قبضه، فأشبه ما لو تلفت منافع العين المؤجرة قبل التمكن من استيفائها. فإذا قيل: هذه الثمرة تلفت بعد القبض؟ قيل: قبض الثمرة التي لم يكمل صلاحها من جنس قبض المنافع؛ فإن المقصود إنما هو جذاذها بعد كمال الصلاح. ... " (¬1). وقال الباجي في المنتقي كلامًا نحو هذا، حيث يقول: "التخلية بينه وبينها ليست بقبض لها، بدليل أن الجائحة تثبت في الثمرة بعد تخلي البائع عنها إلى المبتاع، وهي في أصل شجره، ويجب على البائع سقيها، فلو كان ذلك قبضًا لكانت من ضمان البائع" (¬2). ويرى ابن قدامة أن تخلية الثمار على الشجر قبض غير تام، قال في المغني: "التخلية ليست بقبض تام -يعني في الثمار على الشجر- بدليل ما لو تلفت بعطش عند بعضهم، ولا يلزم من إباحة التصرف تمام القبض، بدليل المنافع في الإجارة يباح التصرف فيها، ولو تلفت كانت من ضمان المؤجر، كذلك الثمرة، فإنها في شجرها كالمنافع قبل استيفائها، توجد حالًا فحالًا، وقياسهم يبطل بالتخلية في الإجارة" (¬3). ¬
وقال البهوتي في كشاف القناع في معرض بيانه بوضع الجوائح: "وإن تلفت ثمرة ... بجائحة سماوية ... ولو كان التلف بعد قبضها وتسليمها بالتخلية؛ لأنها ليست بقبض تام، فوجب كونه من ضمان البائع، كما لو لم يقبض، رجع المشتري على بائع الثمر التالفة" (¬1). ويفهم من هذا الكلام أن القبض منه ما هو تام، ومنه ما هو ناقص، وقد اعترف الحنفية بهذا التقسيم للقبض ولكن خصوه فيما فيه حق توفيه فقط، كما تقدم، قال الكاساني: "إن أصل القبض يحصل بالتخلية في سائر الأموال، واختلفوا في أنها هل هي قبض تام فيها، أم لا؟ " (¬2). وسوف نناقش مسألة وضع الجوائح، ومسألة الضمان، وارتباطه بالتصرف في مسألة مستقلة إن شاء الله تعالى. ¬
الفرع الثاني في كيفية قبض المال المنقول
الفرع الثاني في كيفية قبض المال المنقول المسألة الأولى قبض ما فيه حق توفية [م 192] إن كان المال المنقول قد بيع على التقدير بالكيل، أو الوزن، فقد اختلف العلماء فيما يحصل به القبض على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن قبضه يكون بتخليته، وأما كيله أو وزنه فهو من تمام قبضه. يوضح ذلك الكاساني في بدائع الصنائع، فيقول: "لا خلاف بين أصحابنا في أن أصل القبض يحصل بالتخلية في سائر الأموال (¬1)، واختلفوا في أنها هل هي قبض تام فيها، أم لا؟ وجملة الكلام فيه: أن المبيع لا يخلو: إما أن يكون مما له مثل، وإما أن يكون مما لا مثل له". فإن كان مما لا مثل له من المذروعات، والمعدودات المتفاوتة، فالتخلية فيها قبض تام بلا خلاف، حتى لو اشترى مذروعًا مذارعة، أو معدودًا معاددة، ووجدت التخلية، يخرج عن ضمان البائع، ويجوز له بيعه، والانتفاع به قبل الذرع، والعد، بلا خلاف. ¬
وجه قول الأولين
وإن كان مما له مثل، فإن باعه مجازفة فكذلك؛ لأنه لا يعتبر معرفة القدر في بيع المجازفة. وإن باع مكايلة، أو موازنة في المكيل، والموزون، وخلَّى، فلا خلاف في أن المبيع يخرج عن ضمان البائع، ويدخل في ضمان المشتري، حتى لو هلك بعد التخلية قبل الكيل والوزن، يملك على المشتري. وكذا لا خلاف في أنه لا يجوز للمشتري بيعه، والانتفاع به قبل الكيل والوزن .... لكن اختلفوا في أن حرمة التصرف قبل الكيل، أو الوزن؛ لانعدام القبض، بانعدام الكيل، أو الوزن، أو شرعا غير معقول المعنى مع حصول القبض بتمامه بالتخلية؟ قال بعض مشايخنا: إنها تثبت شرعا غير معقول المعنى. وقال بعضهم: الحرمة لمكان انعدام القبض على التمام بالكيل، أو الوزن، وكما لا يجوز التصرف في المبيع المنقول بدون قبضه أصلًا، لا يجوز بدون قبضه بتمامه. وجه قول الأولين: ما ذكرنا أن معنى التسليم والتسلم، يحصل بالتخلية؛ لأن المشترى يصير سالمًا، خالصًا للمشتري، على وجه يتهيأ له تقليبه، والتصرف فيه، على حسب مشيئته، وإرادته، ولهذا كانت التخلية تسليمًا، وقبضًا، فيما لا مثل له، وفيما له مثل، إذا بيع مجازفة، ولهذا يدخل المبيع في ضمان المشتري بالتخلية نفسها، بلا خلاف، دل أن التخلية قبض، إلا أن حرمة التصرف مع وجود القبض بتمامه ثبت تعبدًا، غير معقول المعنى، والله عز وجل أعلم. وجه قول الآخرين: تعليل محمَّد - رحمه الله - في هذه المسألة في كتاب البيوع فإنه قال: ولا يجوز
خلاصة مذهب الحنفية
للمشتري أن يتصرف فيه قبل الكيل؛ لأنه باعه قبل أن يقبضه، ولم يرد به أصل القبض؛ لأنه موجود، وإنما أراد به تمام القبض، والدليل على أن الكيل، والوزن في المكيل، والموزون الذي بيع مكايلة، وموازنة من تمام القبض: أن القدر في المكيل، والموزون معقود عليه، ألا ترى أنه لو قيل، فازداد، لا تطيب له الزيادة بل ترد، أو يفرض لها ثمن؟ ولو نقص يطرح بحصته شيء من الثمن، ولا يعرف القدر فيهما إلا بالكيل، والوزن؛ لاحتمال الزيادة، والنقصان، فلا يتحقق قبض قدر المعقود عليه إلا بالكيل، والوزن، فكان الكيل، والوزن فيه من تمام القبض (¬1). خلاصة مذهب الحنفية: اتفق الحنفية مع الجمهور في قضية المنع من التصرف في المبيع الذي فيه حق توفيه، حتى يستوفى بالكيل، أو الوزن، واختلفوا معهم في أن التخلية في مثل هذا تعتبر قبضًا، وأنها تنقل الضمان من البائع إلى المشتري -وسيأتي دراسة ضمان المبيع في مبحث خاص، وكذا التصرف في المبيع قبل قبضه- وإنما البحث هنا، هل التخلية تعتبر قبضًا، أولاً تعتبر، فظهر لنا أن الحنفية اختاروا أن التخلية قبض، وأن الكيل، أو الوزن يعتبر من تمام القبض (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: أن التخلية لا تكون قبضًا للمال الذي فيه حق توفية، وإنما قبضه يكون باستيفاء قدره، أي بكيله، إن كان اشتري بكيل، أو بوزنه، إن اشتري بوزن، أو بعده، إن اشتري بالعد، وهكذا، وهذا مذهب المكالية (¬1). والحنابلة (¬2). زاد الشافعية: ونقله بعد تقديره. قال العز بن عبد السلام: "ما جرت العادة بنقله، وهو ضربان: أحدهما: ما يستحق كيله، أو وزنه، فقبضه بكيل مكيله، ووزن موزونه، ثم نقله بعد تقديره" (¬3). دليل الجمهور: استدل الجمهور أن الاستيفاء: هو كيل ما اشتري بكيل، أو وزن ما اشتري بوزن، هذا هو الاستيفاء، وإن بقي المبيع عند البائع. ¬
(ح-94) فقد روى الشيخان من طريق نافع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه (¬1). (ح-95) وفي رواية للشيخين من طريق عبد الله بن دينار، قال: سمعت ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه (¬2). جاء في شرح الزرقاني للموطأ: جعل مالك رواية (حتى يستوفيه) تفسيرًا لرواية (حتى يقبضه)؛ لأن الاستيفاء لا يكون إلا بالكيل، أو الوزن على المعروف لغة، قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)} [المطففين: 2، 3]. وقال {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} [يوسف: 88]. وقال: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} [الإسراء: 35] (¬3). وقال ابن عبد البر في التمهيد: والاستيفاء عنده -يعني مالكًا- وعند أصحابه لا يكون إلا بالكليل، أو الوزن، وذلك عندهم فيما يحتاج إلى الكيل، أو الوزن، مما بيع على ذلك، قالوا: وهو المعروف من كلام العرب في معنى الاستيفاء، بدليل قوله عز وجل: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)} [المطففين: 2، 3]. وقوله {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88]. {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} [الإسراء: 35] اهـ (¬4). ¬
دليل الشافعية على وجوب النقل بعد الاستيفاء
دليل الشافعية على وجوب النقل بعد الاستيفاء: (ح-96) استدلوا بما رواه الشيخان من طريق عبد الله بن دينار، قال: سمعت ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه. وفي رواية (حتى يستوفيه) (¬1). وقد رأى الشافعية أن لفظ (حتى يقبضه) فيه زيادة في المعنى على لفظ (حتى يستوفيه)، فالواجب مجموع اللفظين: الاستيفاء والقبض، أما استيفاء المبيع المنقول من البائع، وتبقيته في منزل البائع، لا يكون قبضًا شرعيًا، حتى ينقله المشتري إلى مكان، لا اختصاص للبائع به (¬2). (ح-97) ويدل لذلك ما رواه مسلم من طريق عمر بن محمَّد، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه، ويقبضه (¬3). ومن العلماء من قال: رواية (حتى يستوفيه) فيه زيادة في المعنى على رواية (حتى يقبضه) عكس ما قال الشافعية؛ لأنه إذا قبض البعض، وحبس البعض من أجل الثمن، صدق عليه القبض في الجملة، بخلاف الاستيفاء. وقد رأى بعض العلماء أنه جمع بين اللفظين، للإشارة إلى أن الروايتين بمعنى واحد (¬4). ¬
قال الكشميري في العرف الشذي: "وأما ألفاظ الحديث فثلاثة (حتى يستوفيه) (حتى ينقله) (حتى يقبضه) فزعم الشافعية أن الأصل حتى ينقله، والآخران يحملان عليه. وقال الأحناف: إن الكل صور القبض، أو كناية عن القبض" (¬1). قلت: لا يستبعد شذوذ الرواية التي تجمع بين لفظي (القبض والاستيفاء)، ولذلك لم يروها البخاري، وأكثر الروايات إما بلفظ: (حتى يستوفيه) أو لفظ (حتى يقبضه) دون الجمع بينهما، وكأن أحدهما رواية بالمعنى للأخرى، وسوف يأتي تخريج هذه الألفاظ إن شاء الله تعالى في باب التصرف في المبيع قبل قبضه، فانظرها هناك. ولأن الطعام إذا تم استيفاؤه، ولم يبق فيه حق توفية، أصبح حكمه حكم الصبرة من الطعام، قبضه بتخليته، ويجوز بيعه، وإن لم ينقله على الصحيح. ¬
المسألة الثانية القبض في بيع الأثمان بعضها ببعض
المسألة الثانية القبض في بيع الأثمان بعضها ببعض [م - 193] لم يختلف الفقهاء في وجوب التقابض في مجلس العقد قبل التفرق في عقد الصرف، قال الحافظ في الفتح: "شتراط القبض في الصرف متفق عليه" (¬1). وقال ابن عبد البر: "وهذا أمر مجتمع عليه، لا خلاف فيه والحمد لله" (¬2). وقال ابن قدامة: "الصرف: بيع الأثمان بعضها ببعض، والقبض في المجلس شرط لصحته، بلا خلاف. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد، والأصل فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالورق ولا إلا هاء وهاء ... " (¬3). كما حكى الإجماع أيضاً ابن الهمام في فتح القدير (¬4)، وابن تيمية (¬5)، والنووي في شرح مسلم (¬6). واختلفوا في القبض في الصرف في مسألتين: ¬
الأولى: حد القبض فيه. والثانية: اشتراط الفورية. [م - 194] أما اختلافهم في حد القبض في الصرف، فذهب عامتهم إلى أن القبض بالصرف هو القبض الحقيقي باليد (¬1). قال ابن الهمام نقلًا من فوائد القدوري: "المراد بالقبض هنا القبض بالبراجم، لا بالتخلية، يريد باليد" (¬2). ولأن قبض الأثمان يدخل في قبض ما يتناول باليد، وقبضه يكون بتناوله. قال النووي: "ما يتناول باليد كالدراهم، والدنانير، والمنديل، والثوب، والإناء الخفيف، والكتاب ونحوها فقبضه بالتناول، بلا خلاف" (¬3)، يعني في المذهب. وقال ابن مفلح: "وقبض ما ينقل بنقله، وما يتناول بتناوله" (¬4). وقيل: القبض في كل شيء بالتخلية، وهذا مطلقه يدخل فيه عقد الصرف. وجاء في كتاب الإنصاف: "وعنه أن قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز" (¬5). وقال ابن قدامة: "وقد روى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى: أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز؛ لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل" (¬6). ¬
وقال ابن رجب: "والتخلية قبض في المعينات على روايتين" (¬1). والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في المذهب الحنبلي، فيكون التعيين قبضًا لها في قول. [م - 195] وأما اشتراط الفورية في القبض، فقد اختلف مالك مع الجمهور، فرأى مالك أن القبض في عقد الصرف يجب أن يكون فورًا، ولا يجوز التراخي فيه، ولو كان العاقدان في المجلس (¬2). وذهب الجمهور إلى جواز التراخي في القبض ما دام العاقدان في مجلس العقد (¬3). وسيأتي بحث هذه المسألة، وذكر أدلتها في باب الربا والصرف إن شاء الله تعالى، بلغنا الله ذلك بحوله وقوته. ¬
المسألة الثالثة في قبض المنقول مما ليس فيه حق توفية
المسألة الثالثة في قبض المنقول مما ليس فيه حق توفية المطلب الأول في قبض الجزاف [م - 196] اختلف العلماء في قبض ما بيع جزافًا. فقيل: قبضه يكون بالتخلية مع التمييز، ولو لم يحصل تقدير، أو نقل، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، وقول للمالكية (¬2)، وقول عند الشافعية (¬3)، وأحد القولين في مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: قبض كل نوع منه بحسب العرف، وهذا مذهب المالكية (¬5). ¬
دليل من قال: قبض المنقول إذا لم يكن فيه حق توفيه بالتخلية
وقيل: قبضه يكون بنقله وتحويله، أو تمشيته من مكانه، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، وقول عند الحنابلة (¬2). دليل من قال: قبض المنقول إذا لم يكن فيه حق توفيه بالتخلية: (ح- 98) ما رواه البخاري من طريق سفيان، حدثنا عمرو، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر، فكان يغلبني، فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر، ويرده، ثم يتقدم، فيزجره عمر، ويرده، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: بعنيه. قال: هو لك يا رسول الله. قال: بعنيه، فباعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو لك يا عبد الله بن عمر، تصنع به ما شئت (¬3). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقبض البعير بنقله، ولا بوضع يده عليه، وإنما حصل القبض بالتخلية بينه وبينه مع تميزه، وتعينه، وهذا كاف في القبض، ولذلك تصرف فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في البعير بالهبة، وهي نوع من التصرف (¬4). ¬
وقد يجاب
وقد يجاب: بأن الحديث دليل على جواز هبة الشيء قبل قبضه، وليس فيه دليل على أن القبض قد حصل في هذه القصة بالتخلية، وإنما صح هبة المبيع قبل قبضه؛ لأن الهبة ليست من عقود المعاوضات، وإنما هي من عقود الإحسان، فلا يكون التصرف فيها عرضة لربح ما لم يضمن، فيجوز فيها ما لا يجوز في البيع، ألا ترى أن بيع المجهول لا يجوز، ويجوز هبته على الصحيح. الدليل الثاني: (ح-99) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يريد أن يدخل بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تتفرقا، وبينكما شيء (¬1). [اختلف في رفعه ووقفه، ورجح شعبة، والدارقطني وقفه] (¬2). وجه الاستدلال: دل الحديث على جواز بيع الثمن الذي في الذمة، وهو تصرف فيه قبل قبضه قبضًا حقيقيًّا، وهو أحد العوضين. ¬
ويجاب
ويجاب: بأن القبض هنا قد تم بين المتعاقدين، فما في الذمة فهو مقبوض حقيقة؛ لأن القبض هو الحيازة، وما في ذمة القابض، فقد حازه، ولذلك لو باع هذا الثمن قبل القبض، لغير من هو عليه لم يجز، وأما بدله فقد اشترط الحديث أن يتم قبضه في المجلس بسعر اليوم، ولا يبقى في الذمة، فيكون التقابض قد حصل فعلاً، بدليل أنهما يفترقان، وليس بينهما شيء غير مقبوض، وقد برئت ذمة كل واحد منهما، ولم يبق لأحدهما ما يطالب به الآخر، وهذه حقيقة القبض. الدليل الثالث: (ح- 100) ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى من جابر جمله، ونقده ثمنه، ثم وهبه إياه (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تصرف فيه، ولم يرد أنه نقله، ولا مشاه، فكان تخليته كافية في قبضه، والتصرف فيه. ويجاب: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرد حقيقة البيع، وإنما قصد من صورة البيع التوصل إلى نفع جابر - رضي الله عنه -، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في رواية كما في صحيح مسلم: (أتراني ماكستك لآخذ جملك، خذ جملك، ودراهمك، فهو لك)، وعلى فرض أن يكون قصد حقيقة البيع، فهو لم يتصرف فيه بالبيع، وإنما تصرف فيه بالهبة، والهبة ليست من عقود المعاوضات، وعلى التنزل فليس في الحديث أن ¬
الدليل الرابع
الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقبضه، بل إن في بعض روايات صحيح البخاري ما يفهم منه أن القبض قد حصل فعلًا، وليس مجرد التخلية، فجاء في البخاري: (عقلت الجمل في ناحية البلاط، فقلت: هذا جملك، فخرج، فجعل يطيف بالجمل، قال: الثمن، والجمل لك). وفي رواية في البخاري: (انطلقت حتى وليت، فقال: ادع لي جابرًا، فقلت: الآن يرد علي الجمل، ولم يكن شيء أبغض إلى منه، قال: خذ جملك، ولك ثمنه). ففي هذه الرواية ظاهر أن جابر قد قام بإقباض الجمل، ثم ولى، فدعاه، فقال جابر لنفسه: الآن يرد علي الجمل، فقال: خذ جملك، فظاهر هذه الرواية أن القبض الحقيقي قد تم، وليس فيه أن جابرًا قد أخلى البعير للنبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الرابع: أن ما اشتري جزافًا استيفاؤه بتمام العقد فيه؛ لأنه ليس فيه توفية أكثر من ذلك، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: حتى تستوفيه، والاسيفاء يحصل بالتخلية؛. ولذلك جاز بيعه قبل قبضه على الصحيح كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى (¬1). دليل من قال: قبض المنقول يكون بنقله: الدليل الأول: (ح-101) ما رواه البخاري من طريق يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: لقد رأيت الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتاعون جزافا -يعني الطعام- يضربون أن يبيعوه في مكانهم، حتى يؤووه إلى رحالهم (¬2). ¬
الدليل الثاني
(ح-102) وفي رواية لمسلم من طريق ابن نمير، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه، قال: وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه، حتى ننقله من مكانه (¬1). الدليل الثاني: (ح-103) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمَّد بن عوف الطائي، حدثنا أحمد بن خالد الوهبي، حدثنا محمَّد بن إسحاق، عن أبي الزناد، عن عبيد ابن حنين، عن ابن عمر قال: ابتعت زيتًا في السوق، فلما استوجبته لنفسي، لقيني رجل فأعطاني به ربحًا حسنًا، فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفت، فإذا زيد بن ثابت، فقال: لا تبعه حيث ابتعته، حتى تحوزه إلى رحلك؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (¬2). [انفرد الوهبي بلفظ (السلع) من قوله: نهى أن تباع السلع، ورواه غيره بلفظ: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك، وسيأتي تخريجه في مسألة التصرف في المبيع قبل قبضه] (¬3). دليل من قال: قبض المنقول يكون بحسب العرف: أن القبض ورد في الشرع مطلقًا من غير تحديد، وكل ما لا حد له في اللغة، ولا في الشريعة يجب الرجوع في حده إلى العرف، والعادة (¬4). ¬
الراجح
وقال ابن تيمية: "الأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وتارة باللغة، كالشمس، والقمر، والبر، والبحر، وتارة بالعرف، كالقبض، والتفريق" (¬1). الراجح: أرى أن أرجح الأقوال هو مذهب المالكية، وأن المرجع في ذلك إلى العرف، وأعتقد أن المذاهب الأخرى ليست بعيدة عن مذهب المالكية؛ لأن من قال: قبض المنقول بالتخلية إنما حكى عرفهم في ذلك الزمن، وكذا من قال: بالنقل والتحويل كالشافعية والحنابلة. يقول النووي في المجموع: "الرجوع في القبض إلى العرف، وهو ثلاثة أقسام: أحدها: العقار، والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية، والثاني: ما ينقل في العادة، كالأخشاب، والحبوب، والحيتان، ونحوها، فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به ... والثالث: ما يتناول باليد، كالدراهم، والدنانير، والمنديل، والثوب ... فقبضه بالتناول بلا خلاف. ... " الخ (¬2). فجعل هذا التقسيم، واختلاف القبض فيه مرده إلى العرف، والله أعلم. ¬
المطلب الثاني في قبض المشاع
المطلب الثاني في قبض المشاع القسم الأول في قبض المشاع من غير الأسهم [م - 197] اتفق العلماء على جواز بيع الحصة الشائعة، سواء كانت تقبل القسمة، أولاً تقبل القسمة. قال ابن نجيم: "بيع الشائع جائز اتفافًا" (¬1). وقال ابن تيمية: "يجوز بيع المشاع باتفاق المسلمين، كما مضت بذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مثل قوله الذي في صحيح مسلم: (أيما رجل كان له شرك في أرض، أو ربعة، أو حائط، فلا يحل له أن يبيعه، حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإن باع قبل أن يؤذنه فهو أحق بالثمن" (¬2) (¬3). وقال النووي: "يجوز بيع المشاع كنصف من عبد، أو بهيمة، أو ثوب، أو خشبة، أو أرض، أو شجرة، أو غير ذلك بلا خلاف، سوء كان مما ينقسم، أم لا ... " (¬4). وإنما اختلفوا في غير البيع، كإجارة الحصة الشائعة من غير الشريك، وهبة ما يقبل القسمة، وفي رهن المشاع ونحوها، وليس هذا مجال بحثها (¬5). ¬
[م - 198]، وإذا اتفق العلماء على جواز بيع الحصة الشائعة، فكيف يكون القبض في الحصة الشائعة. قيل: يكون ذلك بتخلية الكل، وهذا مذهب الحنفية. قال الكاساني في بدائع الصنائع: "يجوز بيع المشاع، وكذا هبة المشاع فيما لا يقسم، وشرطه: هو القبض، والشيوع لا يمنع القبض؛ لأنه يحصل قابضًا للنصف المشاع بتخلية الكل ... " (¬1). وفي الفتاوى الهندية: "تسليم الجزء الشائع متصور بتسليم الكل" (¬2). وجاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام "سؤال، يجوز في الوصية، والبيع الصحيح، والقرض، والبيع الفاسد، والسلم، والصرف، قبض الشائع، أما في الهبة فلا يجوز، فما الفرق في ذلك؟ جواب: بما أنه لا يشترط في الوصية، والبيع الصحيح القبض، فلا يضر فيهما الشيوع، كما أنه وإن شرط القبض في البيع الفاسد، والسلم، والقرض، والصرف، فبما أنه ليس منصوصًا عليه، فلا تقتضي مراعاة كماله" (¬3). وقيل: قبض المشتري للمشاع كقبض البائع لحصته مع شريكه، يكون بوضع اليد عليه من غير فرق بين ما لا ينقل، كالدار، والأرض، وبين ما ينقل كالثوب والعبد، وهذا مذهب المالكية (¬4). وقيل: قبض المشاع إن كان مما لا ينقل فهو بالتخلية، وإن كان مما ينقل كان ¬
قبضه بنقله، أو تناوله وذلك بتسليم الجميع، وإن كان له شريك، لم يجز ذلك إلا بإذنه. وهذا مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). قال النووي: "قبض الجزء المشاع من دابة، وثوب، وغير ذلك إنما يحصل بتسليم الجميع، ويكون ما عدا المبيع أمانة في يده، فلو طلب المشتري القسمة قبل القبض، قال صاحب التتمة: يجاب إليها؛ لأنا إن قلنا: القسمة إفراز فظاهر، وإن قلنا: بيع، فالرضا غير معتبر فيه، فإن الشريك يجبر عليه، وإذا لم نعتبر الرضا جاز ألا نعتبر القبض كالشفعة" (¬3). وجاء في نهاية الزين: "وقبض جزء شائع حاصل بقبض الجميع، لكن إن كان له شريك لم يجز نقل المنقول إلا بإذنه، بخلاف التخلية، لا تتوقف على إذن الشريك، والزائد على الجزء أمانة بيد القابض، إن أذن مالكه في قبضه، ويضمن البائع في هذه الصورة بالتعدي يتسلم المشاع، لا بالتخلية" (¬4). وقال في المغني: "والقبض فيما لا ينقل بالتخلية بينه وبينه، ولا حائل دونه، وفيما ينقل بالنقل، وفي المشاع بتسليم الكل إليه، فإن أبى الشريك أن يسلم نصيبه قيل للمتهب: وكيل الشريك في قبضه لك، ونقله، فإن أبى نصب الحاكم من يكون في يده لهما، فينقله ليحصل القبض" (¬5). ¬
الخلاصة
وقال ابن حزم: "وصفة القبض في الرهن وغيره-: هو أن يطلق يده عليه، فما كان مما ينقل نقله إلى نفسه، وما كان مما لا ينقل كالدور، والأرضين أطلقت يده على ضبطه، كما يفعل في البيع، وما كان مشاعًا كان قبضه له كقبض صاحبه لحصته منه مع شريكه، ولا فرق، ولو كان القبض لا يصح في المشاع لكان الشريكان فيه غير قابضين له، ولو كانا غير قابضين له لكان مهملًا، لا يد لأحد عليه، وهذا أمر يكذبه الدين، والعيان، أما الدين فتصرفهما فيه تصرف ذي الملك في ملكه، وأما العيان، فكونه عند كل واحد منهما مدة يتفقان فيها، أو عند من يتفق على كونه عنده" (¬1). الخلاصة: أن قبض المشاع كقبض غيره، فإن كان مما لا ينقل كان التخلية قبضًا له، وإن كان مما ينقل، فقبضه بحسب العرف والعادة، كما يعتبر نقله قبضًا له، ولكن إن كان له شريك فيه فلا يقبضه إلا بإذن شريكه، والله أعلم. ¬
القسم الثاني في قبض المشاع من الأسهم والوحدات الاستثمارية
القسم الثاني في قبض المشاع من الأسهم والوحدات الاستثمارية [ن-6] يذهب عامة العلماء المعاصرين في توصيف السهم بأنه يمثل حصة شائعة في الشركة وموجودتها. وإذا كان الشرط في البيع أن يكون مقدورًا على تسليمه، والشرط في الرهن أن يقبض المرتهن المال المرهون، ويحوزه حيازة دائمة، فهنا يقال: إن الحصة المالية الشائعة في صافي أصول الشركة، أو المشروع مقدور على تسليمها بتسليم الصك نفسه. وقد قرر المالكية أن قبض وثيقة الدين تقوم مقام قبض الدين نفسه، في صحة عقد الرهن، وتمامه، مع أن القبض شرط في تمام الرهن، بنص القرآن الكريم، في قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] (¬1). فالقبض معنى عام يكون في كل شيء بحسبه، وقد أجاز الفقهاء التصرف في الحصة الشائعة، ولم يشترطوا الإفراز في صحة البيع، كما أجاز عامة الفقهاء المعاصرين التصرف في أسهم الشركات المساهمة، ولا شك أن السهم يمثل حصة شائعة في صافي موجودات الشركة، التي تتكون من أعيان، وحقوق، ومنافع، ونقود، وديون في ذمة الغير، وقرروا أن للمجموع حكماً يختلف عن حكم كل فرد من أفراده، وجعلوا الحكم للغالب. ¬
وإذا تم بيع السهم، فإن حيازة الصك، وقبضه، يعد حيازة للحصة الشائعة نفسها، كحكم من أحكام العقد، وأثر من الآثار المترتبة عليه، فيعد حامل السهم حائزًا للحصة الشائعة التي يمثلها، وجميع الآثار المترتبة على القبض الشرعي تتحقق بحيازة الصك، فيستطيع التصرف في هذه الأسهم بلا قيود، بيعًا وشراء، ورهنًا ونحو ذلك، ويبرأ البائع من هذه الأسهم براءة تامة، فلا يحق للمشتري الرجوع عليه، وتثبت يده الحكمية على هذه الأسهم بحيازة الصك. ومن المعلوم أن قبض الأسهم في العصر الحاضر يتم عبر القيد المصرفي في المحافظ الاستثمارية (¬1)، وهذا القيد كاف في تحقق القبض الشرعي للأسهم؛ وذلك لأن القيد المصرفي لحساب المشتري يمكنه من التصرف فيه بالبيع، والرهن، ونحو ذلك، وهذا الرأي هو قول عامة العلماء المعاصرين، وممن ذهب إلى هذا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (¬2)، ومجمع الفقه الإِسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإِسلامي. جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي ما نصه: "أولاً: قبض الأموال كما يكون حسيًا في حالة الأخذ باليد، أو الكيل، أو الوزن في الطعام، أو النقل والتحويل إلى حوزة القابض، يتحقق اعتبارًا وحكمًا ¬
بالتخلية مع التمكين من التصرف ولو لم يوجد القبض حسًا. وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضًا لها. ثانيًا: إن من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعًا، وعرفًا. 1 - القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات التالية: (أ) إذا أودع في حساب العميل مبلغ من المال مباشرة، أو بحوالة مصرفية. (ب) إذا عقد العميل عقد صرف ناجز بينه وبين المصرف في حالة شراء عملة بعملة أخرى لحساب العميل ... " (¬1). إذا عرفنا هذا في ما يتعلق بقبض السهم، فإن الحكم فيه لا يختلف عن قبض شهادة الاستثمار (الصك)، باعتبار أن شهادة الوحدة الاستثمارية هي عبارة عن صكوك تمثل حق ملكية لصاحبها في حصة مشاعة من إجمالي المبالغ المستثمرة لدى البنك، فشهادة الوحدة الاستثمارية تشبه إلى حد كبير جدًا شهادات الأسهم، فكلاهما يمثل حصة مشاعة في الوعاء الاستثماري المقسم إلى وحدات استثمارية أو أسهم (¬2). ¬
وإذا كانت الأسهم والشهادات الاستثمارية تمثل عروضًا وحقوقًا ومنافع ونقودًا، فإن حيازة الصك كاف في حيازة ما يمثله إن شاء الله تعالى، ولكن السؤال فيما لو كانت الأسهم والشهادات الاستثمارية لا تمثل إلا نقودًا فقط، فهل حيازة الصك والحالة هذه يعتبر قبضًا لما تمثله من النقود، وأن هذا القبض الحكمي كاف في حصول التقابض الشرعي المشروط لصحة هذه المعاملة، أو لا بد من مراعاة أحكام الصرف من وجوب القبض الحقيقي باليد، وليس القبض الحكمي؟ هذه المسألة اختلف فيها الفقهاء المعاصرون، وسوف نناقشها إن شاء الله تعالى في كتاب الربا والصرف نسأل الله تعالى أن يبلغنا ذلك بحوله وقوته.
المطلب الثالث القبض عن طريق القيد المصرفي
المطلب الثالث القبض عن طريق القيد المصرفي [ن- 7] إذا قام الرجل ودفع للمصرف مبلغًا من النقود يالريال السعودي، على أن يقيده لحسابه الخاص بالدولار، ويعطيه إيصالًا بذلك، دون أن يقبض الدولارات قبضًا حقيقيًا، فهل يعتبر هذا القيد المصرفي كاف في حصول القبض، وهل يغني هذا القبض الحكمي عن القبض الحقيقي؟ في ذلك خلاف بين أهل الفقهاء المعاصرين: فقيل: القيد المصرفي يقوم مقام القبض الحقيقي، وبه أخذ أكثرية المجمع الفقهي لرابطة العالم الإِسلامي (¬1)، ومجمع الفقه الإِسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي (¬2)، وعليه أكثر الباحثين في هذا العصر (¬3). وقيل: الواجب القبض الحقيقي، ولا يكفي القيد المصرفي في حصول ¬
القبض الواجب شرعاً، وهذا رأي شيخنا محمَّد بن عثيمين - رحمه الله - (¬1). وسوف نذكر أدلة هذه المسألة إن شاء الله تعالى في باب الصرف من كتاب الربا، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
المطلب الرابع استلام الشيك هل يقوم مقام القبض لمحتواه
المطلب الرابع استلام الشيك هل يقوم مقام القبض لمحتواه تعريف الشيك: الشيك: عبارة عن ورقة تحرر وفقًا لشكل معين، تتضمن أمراً صادرًا من شخص يسمى (الساحب) إلى شخص آخر يسمى (المسحوب عليه) بدفع مبلغ معين إلى شخص ثالث يسمى (المستفيد) (¬1). وسيأتي مزيد عن البحث عن الشيك في كتاب المعاملات المصرفية، بلغنا الله ذلك بحوله وقوته. [ن- 8] والبحث هنا يتعلق بقبض الشيك، هل يعتبر تسلم الشيك قبضًا لمحتواه، خاصة فيما يعتبر القبض شرطاً لبقائه على الصحة، كبيع الذهب بالعملة الورقية، أو بيع العملات الورقية بعضها ببعض، فإذا أعطى أحدهما شيكًا بقيمة الذهب أو الفضة، أو بقيمة العملة الورقية، فهل يعتبر قبض الشيك قبضًا لمحتواه، بحيث يتحقق القبض الشرعي لصحة المعاملة، أو لا؟ اختلف العلماء على النحو التالي: فقيل: يعتبر تسلم الشيك قبضًا لمحتواه مطلقاً، وعلى هذا الرأي كثير من الباحثين المعاصرين (¬2). ¬
وقيل: لا يعتبر تسلم الشيك قبضًا لمحتواه مطلقًا. وهذا القول منسوب لشيخنا ابن عثيمين - رحمه الله - (¬1)، واختاره بعض الباحثين (¬2). وقيل: التفريق بين الشيك المصدق وبين غيره، فتسلم الشيك المصدق يعتبر قبضًا لمحتواه، بخلاف الشيك غير المصدق، وبه قال مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (¬3)، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ¬
بالسعودية (¬1)، واختاره شيخنا ابن عثيمين (¬2). هذه هي الأقوال في المسألة، وقد ذكرنا حجة كل قول في كتاب الصرف، تحت عنوان: هل ينوب استلام الشيك عن قبض بدل الصرف، فانظره هناك، وترجح لي أن الشيك إن كان مصدقًا، فهو لا شك أنه سالم من العيوب والمخاطر التي يتعرض لها الشيك غير المصدق، إذ يعتبر التصديق للشيك حجز لمحتوى الشيك لصالح المستفيد، فإذا استلم الشيك كان ذلك بمنزلة القبض لما يحتويه، فلا يستطيع الساحب التصرف فيه، ولا الرجوع فيه إلا بموافقة المستفيد. ¬
أما إذا كان الشيك غير مصدق، فهل يعتبر قبضه قبضًا لمحتواه؟ الذي أميل إليه هو ما اختاره الشيخ سعد الخثلان: أن الشيك إذا قرب من الشيك المصدق، بحيث يكون في دولة تتوفر فيها حماية كبيرة جداً له من الناحية التشريعة، والتنفيذية بحيث لا يجرؤ أحد على كتابة شيك بدون رصيد، فإن الشيك وإن لم يكن مصدقًا فإنه بمنزلة القبض لما يحتويه، أما إذا لم يتوفر للشيك الحماية المطلوبة فإنه لا يكون في معنى القبض لما يحتويه، ولا تكفي الحماية من الناحية التشريعية، بل لا بد أن تكون الجهات التنفيذية فيها من الإجراءات الصارمة والحازمة والرادعة ما تعزز ثقة الناس في الشيك، فعلى سبيل المثال بلغت قيمة الشكاوى المقدمة للغرفة التجارية بالرياض للشيكات بدون رصيد فقط عام 1417 هـ أكثر من مليار، و200 مليون ريال (¬1)، ورغم ضخامة هذا العدد إلا أنه نادراً ما نسمع بتنفيذ عقوبة في حق مصدر شيك بدون رصيد، ولهذا الوضع لا نستطيع أن تقول: إن استلام الشيك غير المصدق معتير قبضًا لما يحتويه خاصة في بلادنا وقت تحرير البحث، والله أعلم (¬2). ¬
المطلب الخامس في قبض الشيكات السياحية
المطلب الخامس في قبض الشيكات السياحية عرفنا في البحث السابق حكم قبض الشيك، فهل ما توصلنا إليه من نتائج ينطبق على الشيك السياحي، أو أن الشيك السياحي يختلف في حكمه عن الشيك المعتاد، ويتبين لنا ذلك من خلال تعريف الشيك السياحى. الشيك السياحي: عبارة عن كتاب اعتماد، وهذا النوع من الشيكات تبيعه معظم المصارف للأشخاص الذين لا يرغبون حمل نقود، أو أوراق مالية قابلة للتداول أثناء سفرهم من مكان إلى آخر، وهذا الشيك يوقعه صاحبه مرة عندما يشتريه من المصرف، ومرة أخرى عندما يريد أن يدفع به أو يسدد به مبلغًا من المال، وذلك بحضور الشخص الذي يدفع إليه، وبهذه الطريقة لا يمكن أن يستفيد أحد من الشيك إلا صاحبه (¬1). "يختلف الشيك السياحي عن الشيك العادي في أنه شيك مسحوب على بنك معين، من قبل بنك، أو شركة، وبمبلغ معين. وحامل الشيك: هو شخص يرغب في السفر والتنقل بين بلدان متعددة، ولا يريد أن يحمل نقودًا معه، كما لا يريد أن يزور المصارف ليضيع وقته في انتظار حوالات، أو قبضى شيكات. فالشيك السياحي يتم شراؤه من البنك، أو أحيانًا من الصراف، ويدفع قيمته مع عمولة إضافية قد تصل إلى واحد بالمائة من القيمة، وعليه أن يوقع الشيك في زاوية محددة عند الشراء أمام الموظف المسئول، وعندما يريد استعمال الشيك ¬
يكتب اسم المستفيد، ثم يوقع مرة ثانية في زاوية ثانية، أو يكتفي بالتوقيع، ويترك مكان اسم المستفيد على بياض (عند القبض من البنك يتم التوقيع أمام الموظف المسؤول) وعلى المستفيد أن يتوثق من مطابقة التوقيعين، وأخذ اسم الدافع، وعنوانه، ورقم جواز سفره، وعندما يكون لديه أي شك يمكنه أن يرفض الشيك السياحي" (¬1). ويذكر الأستاذ علي جمال الدين عوض أن أول نشأته كانت عام 1891 م بسبب رحلة قام بها رئيس شركة أمريكان إكسبرس للسياحة إلى أوروبا، فصادفته فيها متاعب راجعة إلى كيفية حصوله على مال يقوم بشئون حياته في هذه الرحلة، فابتكر نظام الشيكات السياحية حتى ذاع استعمالها، فأصبحت البنوك تصدر شيكات سياحية قابلة للصرف لدى جميع البنوك الأخرى، ويذكر الأستاذ على جمال الدين عوض أن الصورة الغالبة للشيك: هو أن يصدر الشيك بفئات نقدية معينة، وعلى الصك مكان يوقع فيه العميل عند استلام الشيك، ومكان آخر يوقع فيه عند قبض قيمته أمام البنك الذي يدفع هذه القيمة، ليتحقق من تطابق التوقيعين، ومن أن الذي يستوفي القيمة هو ذات المستفيد الذي تسلم الشيك ممن أصدره، وتنفيذه بطريق المقاصة. وبذكر الأستاذ علي عوض: أن كثيرًا من الشراح يستبعد الشيك السياحي من تعريف الشيك إذا تخلف بيان من البيانات اللازمة للشيك. وهو أمر غالب، حيث لا يتضمن تاريخ السحب، ومكان الإِصدار، واسم المسحوب عليه، كما ينكر عليه وصف السند الإِذني، أو السند لحامله كما يعرفه القانون التجاري، إذ هو لا يتضمن تعهد البنك بالدفع حتى ولو تضمن أمرًا للمسحوب عليه؛ لأن تعهد الساحب ضمنًا بالوفاء عند ¬
تخلف المسحوب عليه لا يكفي لاعتبار الورقة سندًا تجاريًا صرفيًّا، كما أن وظيفة الشيك السياحي تختلف عن وظيفة السند الإِذني، أو السند للحامل؛ لأن الشيك السياحي يستهدف مجرد نقل النقود، ولا يستخدم أداة للأثمان، وهي الوظيفة الأساسية للسندات التجارية، ومن هنا ندرك أن الشيك السياحي ورقة ابتكرها العرف، وأقر حكمها بعيدًا عن الأحكام التي وضعها التشريع للأوراق التي قد تشتبه بها. اهـ (¬1). [ن- 9] إذا عرفنا حقيقة الشيك السياحي، فهل قبضه يعتبر قبضًا لمحتواه، لم أجد من بحث هذا الموضوع بحثًا شافياً، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى حداثة تاريخ الشيك السياحي مقارنة بالشيك العادي، وقد أشار إليه بعض الباحثين أنقل كلامه بحروفه، يقول وفقه الله: "قبض الشيكات السياحية: إذا اعتبرنا قبض الشيك قبضًا لمحتواه فما حكم قبض الشيك السياحي، هل هو مثل قبض الشيك، أو أنه يغايره؟ نقل النقود من مكان إلى آخر قد يعرضها خطر السرقة، والغصب، أو الضياع، وهذه المشكلات حلت بعد استحداث (الشيك السياحي) وظهرت له مميزات يستحيل تحقيقها عن طريق استخدام طرق الوفاء القديمة. ولكن عند الكلام على قبضها، وهل هو قبض لمحتواها أو لا؟ لا بد من بيان الوصف الفقهي لها. وإجابة عليه لا بد من معرفة أن نظام الشيك السياحي حديث نسبيًا، ولذلك ¬
اختلف في تكييفه، هل هو شبيه بالشيك المتعارف عليه؟ أو هو سند لآمر؟ أو هو من الأوراق المالية؟ -أوراق البنكنوت- فمن ألحقها بالشيك عد قبضها تخلية، ومن ألحقها بالأوراق النقدية تم القبض الحقيقي عنده. وذهب إلى القول بإعطائها أحكام الأوراق النقدية بعض الباحثين المعاصرين" (¬1). ¬
المطلب السادس في قبض الأوراق التجارية عدا الشيك
المطلب السادس في قبض الأوراق التجارية عدا الشيك [ن- 10] الأوراق التجارية ثلاثة، الشيك، والكمبيالة، والسند الإذني، أو السند لأمر ... ، ويمكنك الاطلاع على تعريف هذه الأوراق وخصائصها، وبيان حكمها الشرعي في مباحث سوق المال، ولكن الذي يعنينا هنا هو موضوع القبض. أما الشيك فقد سبق بحثه، وبقي من الأوراق التجارية: الكمبياله، والسند الإذني (السند لأمر). ويتميز الشيك عن بقية الأوراق التجارية، أنه لا يقبل التأجيل، فهو مستحق الدفع متى توفرت شروطه، بخلاف الكمبيالة والسند لأمر، فإنهما يقعان في الغالب مؤجلين، إلا أنها في حالة نادرة تقبل أن تكون مستحقة الوفاء لدى الاطلاع، كما لو نص على ذلك، أو كانت الكمبيالة خالية عن بيان ميعاد الاستحقاق، فإن كانت هذه الأوراق يجب دفع قيمتها بمجرد الاطلاع فتأخذ أحكام الشيك في القبض والتداول بالتظهير (¬1). وإن كانت هذه الأوراق مؤجلة كما هو الغالب، فما يشترط فيه التقابض من الطرفين كالصرف، أو من طرف واحد كالسلم، لا يجوز أن يحرر به هذا النوع عن الأوراق التجارية، فلا يجوز صرف النقود مع تحرير كمبيالة بأحد العوضين ¬
لا تحل إلا بعد أجل، وذلك لأن من شرط صحة الصرف التقابض في مجلس العقد، وهو غير متحقق في الكمبيالة التي لا تحل إلا بعد أجل، كما أنه لا يجوز تحرير رأس مال السلم بكمبيالة لا تحل إلا بعد أجل؛ لأنه يشترط في صحة السلم، أن يكون الثمن مقبوضًا في مجلس العقد، وهو غير متحقق إذا حرر الثمن بكمبيالة لا تحل إلا بعد أجل، والله أعلم (¬1). ¬
المطلب السابع الشراء بالبطاقة الانتمانية فيما يشترط لصحته القبض
المطلب السابع الشراء بالبطاقة الانتمانية فيما يشترط لصحته القبض تعريف بطاقات الائتمان، والكلام على تاريخها، وبيان أنواعها، ومنافعها ومضارها، والتكييف الشرعي لها، كل ذلك سيأتي إن شاء الله بحثه في المعاملات المصرفية، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه، ولكن الذي يعنينا هنا الكلام على مسألة القبض عن طريق هذه البطاقة فيما يشترط فيه التقابض، هل يقوم هذا القبض الحكمي مقام القبض الحسي، كما قاله العلماء في الشيك المصدق، أو لا بد من التقابض الحقيقي، وبالتالي يحرم شراء الذهب بثمن يدفع عن طريق هذه البطاقات، أو صرف العملات عن طريق هذه البطاقات، ولبحث هذه المسألة نقسم البحث إلى مسألتين: الأولى: شراء الذهب والفضة عن طريق بطاقات الائتمان. الثانية: إذا ترتب على الدفع الصرف من عملة إلى أخرى. وسوف نبحث كل مسألة على حدة، نسأل الله عونه وتوفيقه.
القسم الأول شراء الذهب والفضة عن طريق بطاقات الائتمان
القسم الأول شراء الذهب والفضة عن طريق بطاقات الائتمان [ن- 11] اختلف العلماء في هذه المسألة: فقيل: لا يصح شراء الذهب، أو الفضة ببطاقة الائتمان مطلقاً، أي سواء كانت البطاقة مغطاة، أو غير مغطاة. وهذا اختيار الشيخ الصديق محمَّد الأمين الضرير (¬1). وقيل: يصح مطلقاً، لا فرق بين كون البطاقة مغطاة، أو ليست مغطاة (¬2)، اختاره بعض الباحثين، كالشيخ عبد الستار أبو غدة (¬3)، والشيخ نزيه حماد (¬4)، والشيخ يوسف الشبيلي (¬5)، وغيرهم. وقيل: يجوز شراء الذهب والفضة إن كانت البطاقة مغطاة، ولا يجوز إن كانت البطاقة غير مغطاة، اختاره بعض الباحثين (¬6). ¬
والذي أميل إليه أن القبض ببطاقة الائتمان قبض حكمي صحيح لا يختلف عن القبض بالشيك المصدق، ولا عن القبض بالشيك المحرر من لدن المصرف، إن لم تكن أقوى منها، وأن البطاقة إذا كانت خالية من شروط محرمة فالبيع والشراء بها سائغ، وأن قبض قسيمة الشراء يعتبر قبضًا لما تحتويه، والله أعلم، وإذا أردت الاطلاع على حجج هذه الأقوال فقد عرضتها، ولله الحمد في باب الصرف من كتاب الربا، فانظره هناك، وإنما اقتضت الإشارة إليه هنا لعلاقته بالقبض، كما أنني وبمشيئة الله تعالى سوف أتناول بشيء من البسط أنواع البطاقات، وتاريخها، وتكييفها التكييف الشرعي في باب المعاملات المصرفية، بلغنا الله ذلك بحوله وقوته، وإنما الذي حملنا على بحثها هنا هو مسألة قبض المبيع.
القسم الثاني صرف العملات عن طريق بطاقات الائتمان
القسم الثاني صرف العملات عن طريق بطاقات الائتمان [ن- 12] عرفنا في البحث السابق حكم شراء الذهب والفضة عن طريق دفع الثمن ببطاقات الائتمان، ونريد أن نبحث في هذه المسألة حكم ما إذا ترتب على الشراء صرف عملة بأخرى، وفي أحيان كثيرة تكون عملية الصرف من لازم الشراء، وإن لم يقصد المتعامل ببيعه وشرائه صرف نقود بأخرى، وذلك أن البطاقة لما كان لها صفة العالمية، وكان صاحبها يستطيع أن يستخدمها في معظم دول العالم، فإذا اشترى سلعًا فإن مصدر البطاقة يسدد عن حاملها فورًا بعملة البلد المستخدمة فيه، ثم يعود على حاملها ليسدد له بعملة أخرى، خلال مدة السماح المجانية، فهذه عملية صرف المقصود منها استيفاء ما وجب على المستفيد، وليس المقصود منها المعاوضة، فما حكم هذه العملية؟ أما من منع شراء الذهب والقصة ببطاقة الائتمان فإنه لا بد أن يمنع من الصرف فيها، حيث لا فرق عنده بين المسألتين. وهناك من أهل العلم من أجاز المسألتين، فلم يفرق بينهما، وفي الحالين أدلتهم في هذه المسألة هي أدلتهم في مسألة بيع وشراء الذهب ببطاقة الائتمان، وقد ذكرتها في باب الصرف من كتاب الربا، ولله الحمد، فلا حاجة لإعادتها هنا. وهناك فريق ثالث من أهل العلم أجاز شراء الذهب والفضة ببطاقة الائتمان، كما أجاز السحب النقدي بالبطاقة ولو لم يكن هناك تغطية في رصيده إذا لم يتقاض المصدر فوائد أو عمولة على الاقتراض زائدة عن النفقات الفعلية لتقديم هذه الخدمة، ومنع من الشراء بها سلعًا إذا ترتب على هذا الشراء صرف عملة بأخرى.
وهناك من طلبة العلم من أجاز الشراء، والصرف عن طريق بطاقة الائتمان، وانظر حجج هذه الأقوال في باب الربا من كتاب الصرف، فقد ذكرته هناك ولله الحمد.
المطلب الثامن هل يقوم القبض السابق مقام القبض اللاحق
المطلب الثامن هل يقوم القبض السابق مقام القبض اللاحق [م - 199] قبل الإجابة على هذا، نبين أن القبض ينقسم إلى قسمين: قبض ضمان. وقبض أمانة. فقبض الضمان: هو "ما كان فيه القابض مسؤولًا عن المقبوض تجاه غيره، فيضمنه إذا هلك عنده، ولو بآفة سماوية". كالمغصوب في يد غاصبه، والمبيع في يد مشتريه. وقبض أمانة: وهو "ما كان فيه القابض غير مسؤول عن المقبوض إلا بالتعدي، أو التقصير في الحفظ". ويرى بعض الفقهاء أن قبض الضمان أقوى من قبض الأمانة، إذا علم هذا، فنأتي للجواب على السؤال المطروح، هل يقوم القبض السابق مقام القبض اللاحق المستحق؟ في هذا خلاف بين العلماء: فرأى الحنفية أن القبض السابق للعقد إذا كان مثل المستحق بالعقد، فإنه ينوب منابه، بمعنى: أن القبضين إذا تجانسا بأن كانا قبض أمانة، أو كانا قبض ضمان تناوبا؛ لأنه إذا كان مثله، أمكن تحقيق التناوب. مثال ذلك: أن الشيء إذا كان في يد المشتري بغصب، أو كان مقبوضًا بعقد فاسد، فاشتراه من المالك بعقد صحيح، فينوب القبض الأول عن الثاني حتى لو هلك الشيء قبل أن يذهب المشتري إلى بيته، ويصل إليه، أو يتمكن من أخذه، كان الهلاك عليه، لتماثل القبضين من حيث كون كل منهما يوجب كون المقبوض مضمونًا بنفسه.
وكذا لو كان الشيء في يده وديعة، أو عارية، فوهبه منه مالكه، فلا يحتاج إلى قبض آخر، وينوب القبض الأول عن الثاني، لتماثلهما من حيث كونهما أمانة. أما إذا اختلف القبضان، فإنه ينوب القبض المضمون عن غيره، لا غير. مثال ذلك: لو كان الشيء في يده بغصب، أو بعقد فاسد، فوهبه المالك منه، فإن ذلك ينوب عن قبض الهبة، لوجود المستحق بالعقد، وهو أصل القبض، وزيادة ضمان. أما إذا كان المبيع في يد المشتري بعارية، أو وديعة، أو رهن، فلا ينوب القبض الأول عن الثاني، ولا يصير المشتري قابضًا بمجرد العقد؛ لأن القبض السابق قبض أمانة، فلا يقوم مقام قبض الضمان في البيع؛ لعدم وجود القبض المحتال إليه (¬1). وذهب الجمهور إلى أنه لا حاجة إلى تجديد القبض، بل ينوب القبض السابق للعين مقام القبض اللاحق المستحق مطلقًا، سواء كانت يد القابض عليه يد ضمان، أم يد أمانة. لأن المراد بالقبض المستحق: إثبات اليد، والتمكن من التصرف في المقبوض، فإذا تحقق هذا الأمر فقد وجد القبض، ولا علاقة لكون المقبوض مضمونًا، أو أمانة في حقيقة القبض، ولا يوجد دليل على أنه ينبغي أن يقع القبض ابتداء بعد العقد، إلا أن الشافعية اشترطوا لذلك شرطين: أحدهما: الإذن من صاحبه إن كان له في الأصل الحق في حبسه، ¬
كالمرهون، والمبيع إذا كان الثمن حالًا غير منقود، أما إذا لم يكن له هذا الحق، كالمبيع بثمن مؤجل، أو حال بعد نقد ثمنه، فلا يشترط ذلك الإذن. الثاني: مضي زمن يتأتي فيه القبض إذا كان الشيء غائبًا عن مجلس العقد؛ لأنه لو لم يكن في يده لاحتاج إلى مضي هذا الزمن ليحوزه، ويتمكن منه، ولأنا جعلنا دوام اليد كابتداء القبض، فلا أقل من مضي زمن يتصور فيه ابتداء القبض، ولكن لا يشترط ذهابه ومصيره إليه فعلًا (¬1). وهذا هو الراجح إلا أن اشتراط الشافعية أن يمضي زمن يتأتى فيه القبض مع كون القبض سابقًا على العقد شرط مرجوح؛ لأن مضي الزمن ليس من توابع القبض، وليس له مدخل في حقيقته. ¬
المطلب التاسع حكم القبض السابق في تطارح الدينين صرفا
المطلب التاسع حكم القبض السابق في تطارح الدينين صرفًا [م - 200] إذا كان لرجل في ذمة آخر دنانير، وللآخر عليه دراهم، فاصطرفا ما في ذمتيهما، فهل يقوم القبض السابق مقام القبض اللاحق، ويغني القبض السابق عن وجوب القبض اللاحق؟ في هذه المسألة خلاف بين العلماء: فذهب الحنفية والمالكية، والسبكي من الشافعية، وابن تيمية من الحنابلة إلى صحة الصرف من غير حاجة إلى قبض جديد (¬1)، إلا أن المالكية اشترطوا أن يكون الدينان قد حلا معًا. وحجتهم في أن ما في الذمة بحكم المقبوض: ¬
وجه الاستدلال
أن الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة، وبأن الدين في الذمة كالمقبوض، فأغنى ذلك عن إحضار كلا البدلين أو أحدهما في مجلس العقد. وقيل: لا يجوز، وهو مذهب الشافعية والحنابلة (¬1). (ح-104) واستدلوا بما رواه الشيخان من طريق مالك، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز (¬2). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز"، فإذا كان النهي قد ثبت عن بيع الغائب بالناجز، فالغائب بالغائب أحرى أن لا يجوز. ولأن هذا من باب بيع الدين بالدين، وهو غير جائز. الراجح من الخلاف: الراجح هو القول الأول؛ لأن ما في الذمة بحكم الحاضر، والنهي عن بيع الدين بالدين سيأتي بحثه إن شاء الله، وسنبين فيه إن شاء الله تعالى، أن هناك صورًا من بيع الدين جائزة، منها بيع الدين على من هو عليه كما في هذه المسألة. وقد قال ابن تيمية " ... لم ينه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع دين ثابت في الذمة يسقط إذا ¬
بيع بدين ثابت في الذمة يسقط، فإن هذا يقتضي تفريغ كل واحد من الذمتين، ولهذا كان جائزاً في أظهر قولي العلماء" (¬1). والله أعلم. ¬
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد الثالث
(ح) دبيان بن محمَّد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمَّد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة / دبيان محمَّد الدبيان - الرياض، 1432 هـ 536 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجموعة) ج 3 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ. العنوان ديوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (3)
مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. هذا هو المجلد الثالث من عقد البيع، وقد انتظم المجلدان السابقان في دراسة الباب الأول، والثاني، والثالث، والرابع، وجزءًا من الباب الخامس ونستكمل إن شاء الله تعالى مباحث الباب الخامس في هذا الجزء، ونتناول جزءًا من الباب السادس، أسأل الله وحده العون والتوفيق. وسيحتوي هذا المجلد إن شاء الله تعالى على المباحث التالية: الحكم الثالث: في أثر القبض في البيوع. المبحث الأول: في جواز التصرف في المبيع قبل قبضه. الفرع الأول: في التصرف في المبيع المعين قبل قبضه. مطلب: ارتباط التصرف بالضمان. الفرع الثاني: التصرف في الدين قبل قبضه. المسألة الأولى: في تعريف الدين. المسألة الثانية: موقف العلماء من بيع الدين في الجملة. المطلب الأول: بيع الدين على هو عليه بثمن حال. القسم الأول: بيع الدين المستقر على من هو عليه بثمن حال. القسم الثاني: بيع الدين غير المستقر على من هو عليه. الصورة الأولى: بيع دين السلم على من هو عليه بثمن حال.
الصورة الثانية: بيع الديون غير المستقرة من غير السلم على من هي عليه. المطلب الثاني: في بيع الدين بالدين على من هو عليه. الصورة الأولى: في تطارح الدينين. الصورة الثانية: في فسخ الدين بالدين على من هو عليه. المطلب الثالث: بيع الدين على غير من هو عليه بثمن حال. المطلب الرابع: بيع الدين لغير المدين بثمن مؤجل. المسألة الثالثة: ابتداء الدين بالدين. الحكم الرابع: في تعيين مكان القبض. المبحث الأول: في وجوب تعيين مكان التسليم. المبحث الثاني: إذا عين المتعاقدان مكانًا للتسليم غير مكان العقد. المبحث الثالث: إذا لم يعين المتعاقدان مكانًا للتسليم. الحكم الخامس: في تلف المبيع. المبحث الأول: في ضمان المبيع إذا تلف قبل القبض بآفة سماوية. الفرع الأول: أن يكون في المبيع حق توفية. الفرع الثاني: في ضمان المبيع إذا لم يكن فيه حق توفية. المبحث الثاني: في ضمان المبيع إذا تلف بفعل آدمي. الفرع الأول: إذا تلف المبيع بفعل البائع قبل القبض. الفرع الثاني: إذا تلف المبيع بفعل المشتري قبل القبض. الفرع الثالث: إذا تلف المبيع قبل القبض بفعل أجنبي.
المبحث الثالث: في ضمان المبيع إذا تلف بعد القبض. الفرع الأول: في ضمان الثمرة إذا أصابتها جائحة. الفرع الثاني: في هلاك العين المستأجرة قبل تمام المدة. المبحث الرابع: في كيفية الضمان. فرع: في إتلاف خمر الذمي وخنزيره. الحكم السادس: حبس المبيع من أجل استلام الثمن. المبحث الأول: حبس المبيع والثمن مؤجل. المبحث الثاني: حبس المبيع والثمن حال. الفرع الأول: حبس المبيع والثمن عين. الفرع الثاني: حبس المبيع والثمن حال في الذمة. الفرع الثالث: حبس المبيع ببعض الثمن. الفرع الرابع: إذا اشترى شيئين فأدى أحدهما. الفرع الخامس: إذا باع شيئين صفقة واحدة على اثنين. المبحث الثالث: في حبس المبيع في حال تقديم الرهن والكفيل. المبحث الرابع: قبض المشتري للمبيع هل يسقط به حق الحبس. فرع: إذا أودع المبيع أو أعاره للمشتري هل يسقط حق البائع بالحبس. المبحث الخامس: الحوالة بالئمن هل تسقط حق الحبس. الفصل الخامس: فيما يختص بالثمن من الأحكام. المبحث الأول: في أنواع الثمن.
الفرع الأول: في تعجيل الثمن. المسألة الأولى: وجوب تعجيل الثمن في عقد الصرف. المسألة الثانية: في تعجيل الثمن في بيع الأموال الربوية. المسألة الثالثة: في تعجيل رأس مال السلم. الفرع الثاني: في تأجيل الثمن. المسألة الأولى: حكم تأجيل الثمن. المسألة الثانية: في شروط تأجيل الثمن. المسألة الثالثة: في الزيادة في الثمن مقابل التأجيل. المطلب الأول: إذا عرضت السلعة نقدًا بكذا ونسيئة بكذا. المطلب الثاني: أن يكون العقد من الأصل مؤجلًا. الفرع الثالث: في تقسيط الثمن. المسألة الأولى: شروط تقسيط الثمن. المسألة الثانية: في حلول المؤجل إذا تأخر عن سداد قسط واحد. الفرع الرابع: في تحديد الثمن. المسألة الأولى: تحديد الثمن عن طريق التسعير. المطلب الأول: في حكم التسعير. المطلب الثاني: الحالات التي يسوغ فيها التسعير. المطلب الثالث: ما يدخله التسعير. المطلب الرابع: كيفية التسعير وصفته.
المطلب الخامس: حكم البيع مع مخالفة التسعير. المسألة الثانية: تحديد الثمن بالرجوع إلى سعر السوق أو بما ينقطع به السعر. المسألة الثالثة: تحديد الثمن عن طريق ما يسمى (بيوع الأمانة). المطلب الأول: في بيع التولية. المطلب الثاني: في توصيف عقد التولية. المطلب الثالث: في بيع الشركة. المطلب الرابع: شروط بيع التولية والشركة. المطلب الخامس: في بيع المرابحة. المطلب السادس: في حكم بيع المرابحة الصورة الأولى: أن يبيعه برأس المال وربح مجمل معلوم. الصورة الثانية: أن يبيعه برأس المال على أن يربح في كل عشرة درهمًا. المطلب السابع: شروط المرابحة. المطلب الثامن: صيغ بيع المرابحة. المطلب التاسع: الإخبار بالنماء المنفصل كالولد والثمرة. المطلب العاشر: ما يعمله المشتري بنفسه أو عمل له مجانًا. المطلب الحادي عشر: في تعريف المواضعة. المطلب الثاني عشر: أحكام بيع المواضعة. المطلب الثالث عشر: في إلحاق ما زيد في الثمن أو حط منه بأصل العقد.
المطلب الرابع عشر: إذا اشتري شيئين صفقة واحدة وباع أحدهما مرابحة. المطلب الخامس عشر: في بيع ما شتراه من أبيه أو أبنه أو زوجه مرابحة. الباب السادس: في موانع البيوع أو البيوع المنهي عنها. الفصل الأول: في الأعيان المنهي عنها لذاتها لكونها ليست مالاً أو لكونها نجسة. المبحث الأول: في بيع الميتة. الفرع الأول: حكم بيع شعر الميتة. الفرع الثاني: في بيع جلود الميتة. الفرع الثالث: في بيع عظم الميتة وقرنها وحافرها. الفرع الرابع: في بيع ميتة الجراد. الفرع الخامس: في بيع ميتة البحر. الفرع السادس: في بيع عصب الميتة. الفرع السابع: في بيع أنفحة الميتة ولبنها. الفرع الثامن: في بيع الجثة (ميتة الآدمي). المسألة الأولى: في تشريح الجثة. المسألة الثانية: في الانتفاع من جثة الميت لغرض غرس الأعضاء. المسألة الثالثة: في أكل ميتة الآدمي في حال الاضطرار. المبحث الثاني: في خلاف العلماء في بيع الكلب. المبحث الثالث: في تحريم بيع الخمر.
فرع: في قبض المسلم ثمن الخمر من الذمي وأكله. المبحث الرابع: في بيع الدم. المبحث الخامس: في بيع العذرة. المبحث السادس: في بيع السرجين النجس. المبحث السابع: في بيع الدهون النجسة والمتنجسة. الفرع الأول: في بيع الدهون النجسة. الفرع الثاني: في بيع الأدهان المتنجسة. الفرع الثالث: في الانتفاع بالدهن النجس والمتنجس. المبحث الثامن: في بيع الأصنام. المبحث التاسع: في بيع الدمى (لعب الأطفال المجسمة). الفرع الأول: في صناعة الصور من الخرق والرقاع. الفرع الثاني: هل يختلف الحكم إذا كانت هذه الصور من البلاستك. المبحث العاشر: في بيع الحر. المبحث الحادي عشر: في النهي عن مهر البغي وحلوان الكاهن. المبحث الثاني عشر: في بيع أمهات الأولاد. المبحث الثالث عشر: في بيع المدبر. الفصل الثاني: البيوع المنهي عنها من أجل الغرر تمهيد: في تعريف الغرر. المبحث الأول: في حكم الغرر.
المبحث الثاني: في البيوع التي نهي عنها من أجل الغرر. الفرع الأول: الغرر بسبب الجهالة. المطلب الأول: في بيع الغائب. المسألة الأولى: المقصود ببيع الغائب وعلاقته بالغرر. المسألة الثانية: في بيع العين الغائبة بلا رؤية ولا صفة. المسألة الثالثة: في بيع العين الغائبة عن طريق الوصف. هذا ما استوعبه المجلد الثالث من خطة البحث المتعلقة بعقد البيع، وستجد بقية خطة البحث في سائر المجلدات الباقية، وسوف نذكر في كل مجلد ما يخصه منها.
الحكم الثالث في أثر القبض في البيوع
الحكم الثالث في أثر القبض في البيوع قال ابن تيمية: "القبض في البيع ليس هو من تمام العقد، كما هو في الرهن، بل الملك يحصل قبل القبض للمشتري تابعًا، ويكون نماء المبيع له بلا نزاع، وإن كان في يد البائع، ولكن أثر القبض إما في الضمان، وإما في جواز التصرف" (¬1). فقول ابن تيمية عليه رحمة الله: القبض في البيع ليس من تمام العقد، هذا في الجملة، وإلا هناك من البيوع ما يكون القبض شرطاً في لزومها واستمرارها كالصرف وشبهه. وقد بين ابن تيمية أثر القبض في البيع، وأنه يتعلق بمسألتين، هما: جواز التصرف. وضمان المعقود عليه، وهاتان المسألتان بينهما رابط ما، فمن أطلقت يده في التصرف، تعلق الضمان عليه في الجملة (¬2)، والعكس صحيح، فمن كفت يده لم يلحقه ضمان في الجملة، وسوف نبحث أحكام هاتين المسألتين إن شاء الله تعالى في المباحث التالية، أسأل الله الرحمن العون والتوفيق. ¬
المبحث الأول في جواز التصرف في المبيع قبل قبضه
المبحث الأول في جواز التصرف في المبيع قبل قبضه نستطيع أن نقسم المبيع إلى قسمين: أعيان، وديون، والتصرف في الأعيان قبل قبضها يختلف حكمًا عن التصرف في الديون قبل قبضها؛ ذلك أن الحق في الأعيان متعلق برقبتها، والحق في الديون متعلق بالذمة، وضمان الأعيان يختلف عن ضمان الديون، والتصرف في الديون له صور كثيرة، منها ما هو محل وفاق بين العلماء في النهي عن بيعه قبل قبضه، ومنها ما هو محل خلاف بينهم، لذا سوف أتكلم إن شاء الله تعالى عن كل مسألة على انفراد.
الفرع الأول التصرف في المبيع المعين قبل قبضه
الفرع الأول التصرف في المبيع المعين قبل قبضه [م - 201] اختلف العلماء في التصرف في المبيع المعين قبل قبضه على خمسة أقوال: القول الأول: يجوز بيع العقار قبل القبض دون المنقول وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف (¬1). القول الثاني: لا يجوز التصرف في المبيع المعين قبل القبض مطلقًا، عقارًا كان أو منقولاً، وهو قول محمَّد بن الحسن، وزفر من الحنفية، ومذهب الشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3)، وهو قول ابن حزم (¬4)، ورجحه ابن تيمية وابن القيم (¬5). ¬
القول الثالث
القول الثالث: لا يجوز بيع الطعام المكيل أو الموزون قبل قبضه، وقبضه يكون بكيله أو وزنه، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬1). القول الرابع: لا يجوز بيع المكيل أو الموزون أو المعدود أو المذروع، وكذا ما اشتري بصفة أو رؤية متقدمة قبل قبضه، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). ¬
القول الخامس
القول الخامس: لا يجوز بيع الطعام الربوي فقط قبل قبضه، وأما غير الربوي من الطعام فيجوز بيعه قبل قبضه، وهو رواية عن مالك (¬1). دليل من قال: يجوز بيع العقار قبل قبضه ولا يجوز بيع المنقول حتى يقبض. الدليل الأول: البيع عقد لازم، فإذا حصل البيع، ثبت ملك المبيع للمشتري، وملك الثمن للبائع، والملك يفيد إطلاق صاحبه في التصرف فيه بيعًا وهبة ونحوهما، استثني من ذلك: ما ورد النص في النهي عن بيع الشيء قبل قبضه، وهو إما في الطعام (¬2)، وإما في السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (¬3)، وكل هذه من المنقولات، وأما العقار فلا يوجد نص في النهي عن بيعه قبل قبضه، والأصل الحل حتى يأتي دليل يدل على المنع. الدليل الثاني: المنقول عرضة للهلاك قبل القبض، وإذا هلك انفسخ العقد، وانتقض البيع، وبطل ملك المشتري، وهذا غرر يمنع المشتري من التصرف في المبيع المنقول قبل قبضه، وأما العقار فليس عرضة للهلاك؛ لأن الهلاك فيه نادر، فجاز تصرف المشتري فيه قبل قبضه؛ لأنه لا غرر فيه (¬4). ¬
دليل من قال: لا يجوز بيع كل شيء حتى يقبض.
وأجاب المخالفون عن هذا الدليل بجوابين: الأول: أنه معارض لإطلاق النصوص، في النهي عن التصرف في المبيع قبل قبضه، فإن مطلقها يتناول العقار. الثاني: أنه ينتقض بمن اشترى طعاماً كيلًا، وقبضه جزافًا، فقد أمن فسخ المبيع بهلاكه، ولا يجوز بيعه قبل كيله (¬1). دليل من قال: لا يجوز بيع كل شيء حتى يقبض. الدليل الأول: (ح-105) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا هشام، عن يحيى ابن أبي كثير، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عصمة، عن حكيم بن حزام، قال: قلت: يا رسول الله إني اشتري بيوعًا، فما يحل لي، وما يحرم علي؟ فقال لي: إذا بعت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه (¬2). [المحفوظ في إسناده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام حتى يستوفى] (¬3). الدليل الثاني: (ح-106) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمَّد بن عوف الطائي، حدثنا أحمد بن خالد الوهبي، حدثنا محمَّد بن إسحاق، عن أبي الزناد، عن عبيد بن حنين عن ابن عمر قال: ابتعت زيتًا في السوق، فلما استوجبته لنفسي، لقيني رجل، فأعطاني به ربحًا حسنًا، فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفت فإذا زيد بن ثابت، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى ¬
تحوزه إلى رحلك؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (¬1). [رجاله ثقات إلا ابن إسحاق فإنه صدوق، وقد انفرد الوهبي بلفظ (السلع) من قوله: نهى أن تباع السلع، ورواه غيره بلفظ: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك، وهو المحفوظ] (¬2). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: ظاهر حديث: نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن بيع السلع أنه حجة لمن جعل الطعام وغيره سواء، لا يجوز بيعه حتى يقبض. ويجاب: بأن المحفوظ من لفظ الحديث ليس فيه النهي عن بيع السلع على وجه العموم، وإنما الحديث نص في النهي عن بيع الزيت قبل استيفائه، ويقاس عليه كل مكيل، أو كل مطعوم مكيل بخلاف غير المكيل مما اشتري جزافًا فلا يشمله الحديث، والله أعلم. "قال ابن عبد البر: يحتمل أحسن يكون أراد السلع المأكولة والمؤتدم بها؛ لأن على الزيت خرج الخبر .... ويحتمل أن يكون اشتراه جزافًا بظرفه، فحازه إلى نفسه، كما كان في ذلك الظرف قبل أن يكيله، أو ينقله، والدليل على ذلك إجماع العلماء على أنه لو استوفاه بالكيل، أو الوزن إلى آخره، لجاز له بيعه في موضعه ... أو يكون لفظًا غير محفوظ في هذا الحديث ... " (¬1). ¬
الدليل الثالث
وهذا الاحتمال الأخير هو ما رجحته؛ لوجود الاختلاف على ابن إسحاق في لفظه، والله أعلم. الدليل الثالث: (ح-107) ما رواه البخاري من طريق يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله، أن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: لقد رأيت الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتاعون جزافا -يعني الطعام- يضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم (¬1). [اختلف في زيادة (جزافًا)، فرواه سالم عن أبيه لم يختلف عليه في ذكرها، ورواه عبيد الله عن نافع، واختلف عليه في ذكرها، ورواه مالك عن نافع، ولم يختلف عليه في عدم ذكرها، كما رواه عبد الله بن دينار وغيره عن ابن عمر بدون ذكرها] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
حمل بعضهم الحديث على تلقي السلع. وترجم له البخاري بعنوان: باب منتهى التلقي. (ح-108) ورواه في صحيحه من طريق جويرية، عن نافع، عن ابن عمر قال: كنا نتلقى الركبان، فنشتري منهم الطعام، فنهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى يُبلَغ به سوق الطعام (¬1). فجعل غاية النهي أن يبلغ به سوق الطعام، فظاهر أن البيع لم يكن في سوق الطعام. تم قال البخاري: هذا في أعلى السوق، يبينه حديث عبيد الله، ثم ساقه البخاري بإسناده من طريق عبيد الله، عن نافع به، بلفظ: "كانوا يبتاعون الطعام في أعلى السوق، فيبيعونه في مكانهم، نهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه" (¬2). ¬
ورواه البخاري من طريق موسى عن نافع: بلفظ: "أنهم كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه، حتى ينقلوه حيث يباع الطعام، قال: وحدثنا ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يباع الطعام إذا اشتراه حتى يستوفيه" (¬1). فقوله (حيث يباع الطعام) موافق لقوله: (حتى يبلغ به سوق الطعام). وقد جمع مسلم بين اللفظين في سياق واحد مما يجعل الحديث حديثًا واحدًا. فقد رواه مسلم من طريق ابن نمير، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه، قال: وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه (¬2). فقوله (من الركبان) فيه إشارة إلى تلقي السلع من الركبان. والذي أريد أن أتوصل إليه من خلال الرواية التي جمعت اللفظين، أعني لفظ: "النهي عن بيع الطعام حتى يستوفى". ولفظ: "وكانوا يشترون الطعام جزافًا، فيبيعونه فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيعه حتى يبلغ به سوق الطعام". وفي لفظ: "حتى ينقلوه حيث يباع الطعام". هو أن الجزء الأول من الحديث في طعام يجب الاستيفاء فيه، واستيفاء الطعام هو كيل ما اشتري بكيل، أو وزن ما اشتري بوزن، هذا هو الاستيفاء. ¬
قال ابن عبد البر في التمهيد: "والاستيفاء عنده -يعني مالكًا- وعند أصحابه لا يكون إلا بالكيل أو الوزن، وذلك عندهم فيما يحتاج إلى الكيل أو الوزن مما بيع على ذلك، قالوا: وهو المعروف من كلام العرب في معنى الاستيفاء، بدليل قوله عز وجل: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 2، 3]. وقوله {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88] ". {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} [الإسراء: 35] اهـ (¬1). وأما لفظ (كانوا يشترون الطعام جزافًا) فالنهي عن بيع ما اشتروه من الركبان جزافًا حتى يبلغ به سوق الطعام ليست العلة لكونه اشتري جزافًا وإنما لكونهم تلقوا الركبان، فإذا فعلوا، كان النهي عن بيع الطعام حتى يبلغ به سوق الطعام من أجل التلقي، لا من أجل اشتراط القبض، فالحديث جعل غاية النهي أن ينقل الطعام حيث يباع الطعام، وحتى يبلغ به سوق الطعام، وهو أخص من اشتراط القبض، ولذا نقول: إن ما بيع من الطعام جزافًا لا يحتاج إلى كيله، فإن اشتري من أهل السوق كان لمشتريه حق التصرف فيه قبل قبضه، وإن اشتراه من الركبان قبل دخول السوق، كان ممنوعًا من بيعه حتى يبلغ به سوق الطعام، هذا هو ما دلت عليه مجموع النصوص، وبذلك نكون قد جمعنا بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض، والله أعلم. جاء في المنتقى للباجي: "وفي كتاب أبي القاسم الجوهري بإثر هذا الحديث، إنما هو في تلقي الركبان، وهذا أيضًا يحتمل، فيكون معناه: أن من اشتراه في موضع غير سوق ذلك الطعام، فلا يبعه ممن يلقاه قبل أن يبلغ به السوق ... " (¬2). ¬
الدليل الرابع
وعلى التنزل فإن الأحاديث تنهى عن بيع الطعام قبل قبضه، فهي إنما نصت على الطعام، مما يدل على أن غير الطعام يخالفه في الحكم، وإلا كان النص على الطعام لغوًا لا فائدة فيه، كما أن ظاهر الأحاديث يدل على أن من كان عنده طعام لم يشتره، ولكنه أقرضه أو أودعه أو نحو ذلك فلا بأس ببيعه قبل أن يستوفيه؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه، ولم يقل: من كان عنده طعام، أو كان له طعام فلا يبعه حتى يستوفيه (¬1). الدليل الرابع: (ح-109) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو سعيد، حدثنا جهضم -يعني اليمامي- حدثنا محمَّد بن إبراهيم، عن محمَّد بن زيد، عن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعما في ضروعها إلا بكيل، وعن شراء العبد، وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن. ضربة الغائص (¬2). [إسناده ضعيف جدًا] (¬3). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (ح-110) ما رواه البيهقي من طريق يحيى بن صالح الأيلي، عن إسماعيل ابن أمية، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
الدليل السادس
لعتاب بن أسيد: إني قد بعثتك إلى أهل الله وأهل مكة، فانههم عن بيع ما لم يقبضوا، أو ربح ما لم يضمنوا، وعن قرض وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع وسلف (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل السادس: من القياس، فإذا ثبت النهي عن بيع الطعام قبل قبضه بالنص كما سبق، ثبت النهي عن بيع غير الطعام كذلك، إما بقياس النظير كما قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا بمنزلة الطعام. أو بقياس الأولى؛ لأنه إذا نهي عن بيع الطعام قبل قبضه مع كثرة الحاجة إليه وعمومها، فغير الطعام بطريق الأولى (¬3). ¬
ويناقش
ويناقش: بأن قياس غير الطعام على الطعام لا يصح؛ لأن القاعدة الشرعية أن الشيء إذا عظم قدره شدد فيه، وكثرت شروطه تعظيمًا لشأنه ورفعًا لقدره، وكلما عظم شرف الشيء عظم خطره عقلًا وشرعًا وعادة. ومن تطبيقات هذه القاعدة: خصوص المنع من بيع الشيء قبل قبضه بالطعام دون غيره، وذلك أن الطعام أشرف من غيره؛ لكونه سبباً لقيام البنية، وعماد الحياة، وهو غذاء الإنسان وحافظ بنيته الشريفة، فشدد الشرع على عادته من تكثير الشروط فيما عظم شرفه، فكل ما شرف قدره عظمه الله بتكثير شروطه، وهذا هو شأن الشرع في كل ما عظم خطره. ويتأكد ذلك بمفهوم نهيه عليه الصلاة والسلام (عن بيع الطعام حتى يستوفى) فمفهومه أن غير الطعام يجوز بيعه قبل قبضه، ولو لم يكن كذلك ما كان في تخصيص الطعام فائدة، وما لا توفية فيه كالجزاف يجوز بيعه قبل قبضه، ولو كان طعاماً. ومن تطبيقات هذه القاعدة أيضًا النكاح، فإن النكاح عظيم الخطر، جليل المقدار؛ لأنه سبب بقاء النوع الإنساني المكرم المفضل على جميع المخلوقات، وسبب العفاف الحاسم لمادة الفساد، واختلاط الإنساب، وسبب المودة والمواصلة والسكون وسبب استمرار النسل، فلما كان كذلك شدد الشرع فيه تفخيمًا لقدره باشتراط الصداق والشهادة والولي والإعلان وخصوص الألفاظ، ومقابل هذه القاعدة أن الشرع يوسع فيما كان على سبيل الإحسان والمعروف، ويسهل في أسبابه، وييسر شروطه، ويغتفر فيه ما لا يغتفره فيما ليس كذلك، فالقرض، والهبة، والصدقة، والوصايا، وأعطيات الناس من بيت
الدليل السابع
المال، كلها اشتركت في معنى الإحسان والمعروف، فوسع الشرع فيها تسهيلًا لطرق المعروف؛ ليكثر وقوعه (¬1). الدليل السابع: أن بيع ما لم يقبض غير مقدور على تسليمه، وبيع ما لا يقدر على تسليمه باطل كالعبد الآبق، والجمل الشارد (¬2). ويجاب: بأن هناك فرقًا بين بيع الآبق وبين بيع الشيء قبل قبضه، فالعبد الآبق ملك صاحبه عليه غير مستقر؛ لأنه شبيه بالمعدوم، بخلاف ما لم يقبض، ومع ذلك نحن نجعل القدرة على التسليم شرطاً للزوم البيع، وليس شرطاً في انعقاد البيع، فإذا لم يسلم المبيع لم يكن البيع لازمًا. دليل من قال: لا يشترط القبض إلا فيما يحتاج إلى استيفاء من كيل ونحوه. الدليل الأول: الأصل في المعاملات الصحة والجواز، والنهي إنما ورد في الطعام الذي فيه حق توفية من كيل أو وزن. (ح-111) لما رواه البخاري ومسلم من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمرو. - رضي الله عنهما -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه (¬3). ¬
الدليل الثاني
فقد دل مفهوم الحديث على حكمين: الأول: أن غير الطعام يجوز بيعه قبل قبضه، ولو لم يكن كذلك ما كان في تخصيص الطعام فائدة. الثاني: أن ما لا توفية فيه كالجزاف يجوز بيعه قبل قبضه، ولو كان طعاماً. الدليل الثاني: (ح-112) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يريد أن يدخل بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدواهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تتفرقا، وبينكما شيء (¬1). [اختلف في رفعه ووقفه، ورجح شعبة والدارقطني وقفه] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن الثمن أحد العوضين في عقد البيع، فإذا جاز التصرف في الثمن قبل قبضه، جاز التصرف في المبيع قبل قبضه. ويجاب: بأن الخلاف في مسألتنا هو في بيع المعين قبل قبضه، وليس في بيع الدين، وحديث ابن عمر إنما هو في بيع الدين على من هو عليه، فليس الحديث حجة في مسألتنا، وهناك فرق بين التصرف في الدين قبل قبضه، وبين التصرف في المبيع المتعين فالثمن مستقر في الذمة لا يتصور تلفه، والمبيع المتعين ليس كذلك، نعم لو كان الثمن معينًا لكان بمنزلة المبيع المتعين. الدليل الثالث: (ح-113) ما رواه البخاري من طريق سفيان، حدثنا عمرو، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ¬
وجه الاستدلال
قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر، فكان يغلبني فيتقدم أمام القوم فيزجره عمر ويرده، ثم يتقدم فيزجره عمر ويرده، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: بعنيه. قال هو لك يا رسول الله. قال: بعنيه، فباعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت (¬1). وجه الاستدلال: في هذا الحديث دليل على جواز التصرف في المبيع غير المكيل والموزون قبل قبضه، وإذا جاز التصرف بالهبة قبل قبضها، جاز البيع؛ لأنه نوع من التصرف. ويجاب: بأن الهبة ليست من عقود المعاوضات، وإنما هي من عقود الإحسان، فلا يكون التصرف فيها عرضة لربح ما لم يضمن، فيجوز فيها ما لا يجوز في البيع، ألا ترى أن بيع المجهول لا يصح، وتصح هبته على الصحيح. وقد يقال: إن قبض البعير حصل بالتخلية بينه وبينه مع تميزه وتعينه، وهذا كاف في القبض، فلا يكون فيه دليل على صحة التصرف قبل القبض (¬2). الدليل الرابع: ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى من جابر جمله، ونقده ثمنه، ثم وهبه إياه قبل قبضه (¬3). ¬
الدليل الخامس
وما قيل في الجواب عن حديث ابن عمر، يقال في الجواب عن حديث جابر، والله أعلم. الدليل الخامس: القياس على المنافع في الإجارة، فإذا كان للمستأجر أن يؤجر العين التي استأجرها قبل قبض المنافع، فكذلك في المبيع، يجوز له التصرف فيه قبل قبضه إذا لم يكن هناك حق توفية. ويجاب: بأن قبض العين المؤجرة قائم مقام قبض المنافع، ألا ترى أن المؤجر لو أتلف العين أو عطلها بعد قبضها، لكانت منافعها من ضمان المستأجر. الدليل السادس: جاز بيع الملك قبل قبضه في صور، فما ملك بالبيع، وليس فيه حق توفيه، فهو مقيس عليه، من ذلك: ما ملك بـ "الإرث والوصية وغلة الوقف والرزق المقرر من بيت المال، والسهم المقرر من الغنيمة والصيد إذا ثبت ووقع في الشبكة وما رجع فيه الوالد من الهبة لولده" (¬1). ويجاب عن ذلك: بأن كلامنا إنما هو في العقود، فأما الملك بغير عقد فليس داخلًا فيه، والقياس عليه قياس مع الفارق. ¬
الدليل السابع
يقول ابن رجب في قواعده: "فأما الملك بغير عقد، كالميراث والغنيمة، والاستحقاق من أموال الوقف، أو الفيء للمتناولين منه، كالمرتزقة في ديوان الجند، وأهل الوقف المستحقين له، فإذا ثبت لهم الملك فيه، وتعين مقداره، جاز لهم التصرف فيه قبل القبض بغير خلاف أيضاً؛ لأن حقهم مستقر فيه، ولا علاقة لأحد معهم، ويد من هو في يده بمنزلة يد المودع ونحوه من الأمناء" (¬1). والأمانات جميعها يجوز بيعها قبل قبضها لتمام الملك وعدم الضمان، كالوديعة ومال الشركة والقراض وما في يد الوكيل ويد المرتهن بعد فك الرهن، وما في يد المستأجر بعد انقضاء المدة وما في يد القيم بعد بلوغ الصبي ورشد السفيه وإفاقة المجنون (¬2). والأحاديث فيها إشارة إلى ذلك، فقد نبهت فيما تقدم، أن ظاهر الأحاديث يدل على أن من كان عنده طعام لم يشتره، ولكنه أقرضه، أو أودعه أو نحو ذلك، فلا بأس ببيعه قبل أن يستوفيه؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه، ولم يقل: من كان عنده طعام، أو كان له طعام فلا يبعه حتى يستوفيه (¬3). الدليل السابع: (ث-15) ما رواه الطحاوي من طريق بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، عن حمزة بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال: ما أدركت الصفقة حيًا، فهو من مال المبتاع. ¬
[إسناده صحيح، وهو موقوف] (¬1). (ح-114) وروى أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬2). [إسناده حسن] (¬3). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: دل أثر ابن عمر على أن الأصل في المال المعقود عليه مما لا يحتاج إلى استيفاء، أنه من ضمان المشتري، ولو لم يقبضه. ودل حديث عبد الله بن عمرو بمنطوقه على النهي عن ربح ما لم يضمن، ومفهومه الإذن بالربح فيما كان من ضمان المشتري، فما دخل في ضمانه، فله أن يربح فيه، والإذن بالربح إذن بالتصرف، فدل على جواز التصرف في المبيع قبل القبض، إذا كان ضمانه قد استقر على المشتري (¬1)، كالمبيع الذي لا يحتاج ¬
إلى كيل، أو وزن أو عد أو ذرع أو نحوها، وهذا هو الذي جعل المال ¬
وأجيب
الموروث والموصى به وغلة الوقف والرزق المقرر من بيت المال والسهم المقرر من الغنيمة والصيد إذا ثبت ووقع في الشبكة يجوز التصرف فيه، ولو لم يقبضه؛ لأن ملك صاحبه قد استقر عليه، وضمانه لو تلف على صاحبه، والله أعلم. وأجيب: بأن التلازم بين التصرف والضمان فيه خلاف، وسوف يأتي بحث ذلك إن شاء الله تعالى في المبحث التالي. دليل من قال: لا يجوز التصرف في الطعام قبل قبضه ويجوز غير الطعام. الدليل الأول: (ح-115) ما رواه البخاري من طريق شعبة، حدثنا عبد الله بن دينار، قال: سمعت ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه. ورواه مسلم (¬1). فالحديث له منطوق ومفهوم، منطوقه أن من ابتاع طعامًا فلا يجوز له بيعه إلا بعد قبضه. وطعام نكرة في سياق الشرط فتعم كل طعام، سواء كان مما اشتري جزافًا، أو اشتري بكيل، أو وزن. ومفهوم الحديث أن غير الطعام يجوز بيعه ولو لم يقبضه. وأجيب: بأن المقصود في الطعام هو الطعام الذي فيه حق توفية، وهو الكيل أو ¬
الدليل الثاني
الوزن، بدليل اللفظ الثاني للحديث نفسه، من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه، والاستيفاء: هو الكيل أو الوزن كما تقدم الاستدلال على ذلك. الدليل الثاني: (ح-116) ما رواه البخاري من طريق يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: لقد رأيت الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتاعون جزافا -يعني الطعام- يضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم (¬1). وجه الاستدلال من هذا الحديث كوجه الاستدلال من الحديث السابق، بل تضمن زيادة أخرى، وهو النص على أن الطعام كان جزافًا، أي ليس مكيلاً، ولا موزونًا، فإذا كان الجزاف لا يجوز بيعه حتى ينقله المشتري فغيره من باب أولى. وأجيب: بأنه سبق مناقشة هذا الحديث، وبيان أن المنع من بيعه ليس بسبب كونه طعامًا، ولا بسبب كونه جزافًا، وإنما الحديث نص في النهي عن تلقي السلع، وأن الغاية في النهي حتى يبلغ به سوق الطعام، والله أعلم. الراجح من الخلاف: هذه المسألة من مسائل المعاملات الشائكة، والأدلة فيها متقابلة، والترجيح في مثلها قد يتمكن منه الباحث، وقد لا يسعه إلا التوقف فيها، ويترك الترجيح للقارئ الكريم، وقد قال ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى عند الكلام على هذه ¬
المسألة، قال: "ولغموض مأخذ هذه المسائل كثر تنازع الفقهاء فيها" فإذا كانت غامضة بحق الفقهاء المتقدمين، مع رسوخهم في العلم، فما بالك بطالب العلم في هذا العصر، والذي بضاعته مزجاة، وهمته في فتور، وينازعه كثرة الصوارف، وقلة التفرغ، مع ضعف التوجه والالتجاء إلى الله - سبحانه وتعالى -. وإذا كان لا بد من الترجيح فلن يكون إلا مجرد ميل قلبي لهذا القول أو ذاك، وسيكون الترجيح بين مذهب الشافعية ومذهب الحنابلة فهما أقوى قولين في المسألة، ومما يعين على معرفة القول الراجح تلمس العلة من النهي عن بيع الطعام قبل قبضه. فهل العلة في النهي عن بيع ما لم يقبض هو كون العقد الأول لم يتم، حيث بقي من أحكامه التسليم، فلا يرد عليه عقد آخر قبل انبرامه، فالمشتري عاجز عن تسليم المبيع إلى المشتري الجديد، لأن البائع قد يسلمه إياه، وقد لا يسلمه إياه، لا سيما إذا رأى البائع أن المشتري قد ربح فيه، فيسعى في رد البيع إما بجحد أو باحتيال في الفسخ، وعلى هذا تجوز التولية في المبيع قبل قبضه، وهو مخرج من جواز بيع الدين، ويجوز التصرف فيه بغير البيع،، ويجوز بيعه لبائعه والشركة فيه، وإذا تعين ملك إنسان في موروث، أو وصية، أو غنيمة لم يعتبر لصحة تصرفه قبضه بلا خلاف. أو نقول: إن التصرف تبع للضمان، فما كان من ضمانه كان له أن يتصرف فيه، وأن يربح فيه، ولو لم يقبضه، وما كان من ضمان البائع، فلا يجوز له التصرف فيه حتى يقبضه، وحتى لا يتوالى ضمانان، وبالتالي نخص النهي عن بيع ما لم يقبض بالشيء الذي يحتاج فيه إلى استيفاء، وأما الشيء الذي لا يحتاج إلى استيفاء فلا مانع من بيعه قبل قبضه كما لو اشترى صبرة من الطعام. أو نقول: إن العلة هي خوف فوات المبيع، فما كان منقولاً عرضة للهلاك،
وإذا هلك بطل البيع الذي كان أساسًا لذلك التصرف، فكان من الاحتياط الانتظار إلى حين القبض صونًا للعقود من البطلان، وإبعادًا للتصرفات من الإلغاء، بخلاف العقار فإنه لا يتعرض غالبًا للهلاك، فيجوز له بيعه قبل قبضه. الذي أميل إليه بعض الشيء أن مذهب الشافعية أحوط، وهو أن الإنسان لا يبيع شيئًا ملكه بالبيع حتى يقبضه، ولأنه إذا باعه قبل قبضه كان العلماء متنازعين في صحة البيع، وإذا باعه بعد القبض كان الجميع متفقين على صحة البيع، وكوننا نفعل فعلًا يتفق عليه الفقهاء خير لنا من أن نفعل فعلًا يختلف الفقهاء في صحته، وإذا كان الترجيح لن يأخذ مسلك الاحتياط، وإنما مسلك أن الأصل في المعاملات الصحة، والحل إلا بدليل ظاهر أجد أن القول الذي ترجحه ظاهر الأدلة على غيره، هو القول بأن النهي خاص في بيع الطعام الذي يحتاج إلى توفية، من كيل، أو وزن، ويقاس عليه ما احتاج إلى عد، أو ذرع، والله أعلم
مطلب ارتباط التصرف بالضمان
مطلب ارتباط التصرف بالضمان [م - 202] موضوع الضمان سيكون إن شاء الله موضع بحث مفصل عند الكلام على تلف المبيع، فالبحث في تلف المبيع إنما هو من أجل معرفة تبعات التلف، ومن يتحمل ضمان التلف عند وقوعه، وأما البحث الآن فهو في علاقة التصرف بالضمان، بمعنى: هل هناك تلازم بين التصرف في المبيع وبين الضمان، بحيث نستطيع أن نقول: إن المشتري إذا كان عليه الضمان كان له أن يتصرف فيه، وأن يربح فيه، ولو لم يقبضه، وأما إن كان ضمان المبيع على البائع، فلا يجوز للمشتري أن يتصرف فيه حتى يقبضه؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء على قولين: القول الأول: هناك تلازم بين التصرف وبين الضمان، فإذا كان الضمان على البائع منع المشتري من التصرف في المبيع، وإذا انتقل الضمان من البائع إلى المشتري أطلقت يد المشتري بالتصرف. وهذا مذهب الحثفية، والشافعية، وقول في مذهب المالكية، وهي طريقة القاضي أبي يعلى وأصحابه والمتأخرين من أصحاب الإِمام أحمد (¬1). ¬
وجه الاستدلال
وحجتهم: (ح-117) ما رواه الشيخان من طريق ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه. قال ابن عباس: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام (¬1). (ح-118) وما رواه أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬2). [إسناده حسن]. وجه الاستدلال: ففي الحديث الأول: نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، وقال ابن عباس: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام، فيكون معنى ذلك: النهي عن بيع الشيء قبل قبضه. وفي الحديث الثاني: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربح ما لم يضمن، ومعناه: أن ما كان في ضمان غيره فليس له أن يبيعه، فصار الربح وغير الربح في ذلك سواء؛ لأن ما جاز بيعه برأس المال جاز بيعه بدونه، وبأكثر منه. فصار القبض شرطًا في صحة التصرف وشرطًا في دخول المبيع في ضمان المشتري، وهذا يدل على تلازم بين التصرف والضمان (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا تلازم بين التصرف والضمان، وهو قول في مذهب الحنابلة. واستدلوا: بأن المنافع المستأجرة يجوز أن يؤجرها المستأجر، وهي مضمونة على المؤجر الأول، والثمر المبيع على شجره يجوز بيعه، وهو مضمون على البائع الأول (¬1)، والمقبوض قبضًا فاسدًا كالمكيل إذا قبض جزافًا، ينتقل الضمان فيه إلى المشتري، ولا يجوز التصرف فيه قبل كيله (¬2)، وبيع الدين على من هو في ذمته جائز عند جماهير العلماء، وليس مضمونًا على مالكه، وكذلك المالك يتصرف في المغصوب والمعار والمقبوض قبضًا بعتهد فاسد، وضمانها على القابض (¬3). يقول ابن تيمية - رحمه الله -: "ومن جعل التصرف تابعًا للضمان فقد غلط؛ فإنهم متفقون على أن منافع الإجارة إذا تلفت قبل تمكن المستأجر عن استيفائها، كانت من ضمان المؤجر، ومع هذا للمستأجر أن يؤجرها بمثل الأجرة، وإنما تنازعوا في إيجارها بأكثر من الأجرة؛ لئلا يكون ذلك ربحًا فيما لا يضمن، والصحيح جواز ذلك؛ لأنها مضمونة على المستأجر؛ فإنها إذا تلفت مع تمكنه ¬
ويناقش
من الاستيفاء كانت من ضمانه ولكن إذا تلفت قبل تمكنه من الاستيفاء لم تكن من ضمانه" (¬1). وهذا الخرقي من الحنابلة - رحمه الله - يرى أن الصبرة المتعينة المبيعة جزافًا تدخل في ضمان المشتري بالعقد، ولا يجوز للمشترى بيعها حتى ينقلها (¬2). ويقول ابن تيمية: "ليس كل ما كان مضمونًا على شخص كان له التصرف فيه، كالمغصوب، والعارية. وليس كل ما جاز التصرف فيه كان مضمونًا عليه على المتصرف، كالمالك، له أن يتصرف في المغصوب والمعار، فيبيع المغصوب من غاصبه، وممن يقدر على تخليصه منه، وإن كان مضمونًا على الغاصب، كما أن الضمان بالخراج فإنما هو فيما اتفق ملكًا ويدًا، وأما إذا كان الملك لشخص، واليد لآخر، فقد يكون الخراج للمالك، والضمان على القابض" (¬3). اهـ ويناقش: غلط ابن تيمية من جعل التصرف تابعًا للضمان، واعترض عليه بمنافع الإجارة، فإنه يجوز للمستأجر أن يؤجرها، وضمانها على المستأجر ثم نقض كلامه - رحمه الله - بنفسه مباشرة عند الكلام على جواز إجارة العين المستأجرة بأكثر من الأجرة، فصحح العقد، وعلل ذلك بأنها مضمونة على المستأجر، فإنها إذا تلفت مع تمكنه من الاستيفاء كانت من ضمانه. فيقال: إذا كانت من ضمان المستأجر لم يصح تغليط من قال: بتلازم التصرف والضمان بمنافع الإجارة. ¬
وأما الاعتراض بكلام الخرقي، وهو أن الصبرة المبيعة جزافًا تدخل في ضمان المشتري بالعقد، ولا يجوز للمشتري بيعها حتى ينقلها. هذا القول ليس محل اتفاق، فلا يعترض بالمسائل الخلافية على المخالف، وقد قال ابن عبد البر: "إجماع العلماء على أنه لو استوفاه بالكيل أو الوزن إلى آخره لجاز له بيعه في موضعه ... " (¬1). فنقل ابن عبد البر إجماع العلماء على جواز التصرف قبل النقل. وأما الاعتراض بالعارية فالراجح فيها أنها ليست مضمونة على المستعير، وأن يده يد أمانة، فإذا تصرف المعير فهي من ضمانه، فالضمان والتصرف متلازمان. وأما الاعتراض بالعين المغصوبة، وكون الغاصب ضامنًا ويصح تصرف المالك فالكلام إنما هو فيما ملك بالمعاوضة، أما ما ملك بغير ذلك كالأمانات والغصوب، والإرث فكل ذلك يجوز له بيعه قبل قبضه، ولا تلازم فيه بين التصرف والضمان، والله أعلم. وإذا قيل بأنه لا تلازم بين التصرف والضمان، فيقال أيضاً: لا تلازم بين النهي عن الربح فيما لم يضمن، والمنع من أصل البيع، فالنهي عن الربح أخص من النهي عن البيع، فإذا باعه بمثل، أو بأقل مما اشتراه به لم يربح فيما لم يضمن. يقول ابن رجب في القواعد: "وأشار الإِمام أحمد إلى أن المراد من النهي عن الربح ما لم يضمن حيث كان مضمونًا على بائعه، فلا يربح فيه مشتريه، وكأنه حمل النهي عن الربح على النهي عن أصل البيع؛ لأنه مظنة الربح. ¬
الراجح من الخلاف
ويتخرج له قول آخر: أن المنهي عنه حقيقة الربح دون البيع بالثمن الذي اشتراه به، فإنه منع في رواية من إجارة المنافع المستأجرة إلا بمثل الأجرة؛ لئلا يربح فيما لم يضمن، ومنع في رواية أخرى من ربح ما اشتراه المضارب على وجه المخالفة لرب المال؛ لأنه ضامن له بالمخالفة، فكره أحمد ربحه لدخوله في ربح ما لم يضمنه، وأجاز أصل البيع، وأجاز الاعتياض عن ثمن المبيع قبل قبضه بقيمته من غير ربح؛ لئلا يكون ربحًا فيما لم يضمنه، فيخرج من هذا رواية عنه: أن كل مضمون على غير مالكه يجوز بيعه بغير ربح، ويلزم مثل ذلك في بيع الدين من الغريم، والتمر على رؤوس النخل وغيرهما مما لم يضمنه البائع" (¬1). الراجح من الخلاف: أرى أن المسألة على قسمين: (1) - أن يكون القبض تامًا، فالتلازم بين التصرف والضمان وارد. (2) أن يكون القبض غير تام فالتلازم بين التصرف والضمان منتف، هذا هو تحقيق المسألة، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني التصرف في الدين قبل قبضه
الفرع الثاني التصرف في الدين قبل قبضه المسألة الأولى في تعريف الدين تكلمنا في المسألة الأولى عن التصرف في الأعيان قبل قبضها في المبحث السابق، ونتكلم في المباحث التالية عن التصرف في الدين قبل قبضه. ونقصد بالتصرف: التصرف عن طريق البيع ونحوه، ولا نقصد التصرف بالدين عن طريق الهبة والإعارة والإبراء وغيرها من عقود التبرعات والإرفاق. الدين في اصطلاح الفقهاء (¬1): يعرف الفقهاء كلمة الدين في اصطلاحهم باعتبارين: باعتبار التعلق، وباعتبار المضمون. أما باعتبار التعلق: فيرد استعمالهم للدين في مقابل العين؛ لأن الحق ¬
المالي، إما أن يتعلق بالذمة، أو بذات معينة، فإذا تعلق بالذمة، فإنه يسمى دينًا، وإذا تعلق بذات معينة، فإنه يسمى عينًا. فيقولون: اشتريت بالدين، يعني: بالذمة. واشتريت بالعين: أي بالمنقود الحاضر. فالعين: هو الشيء المعين المشخص، كهذا البيت وهذا الحصان وهذه الصبرة، لحنطة حاضرة، فكل ذلك يعد من الأعيان. والدين: هو ما يثبت في الذمة، من غير أن يكون معينًا مشخصًا، سواء أكان نقدًا، أم غيره. فإذا كانت العين من الأموال: هي ذاتًا يمكن الإشارة إليها بالتعيين، وترى بالعين، فإن الدين وصف، وليس عينًا، ويثبت في الذمة، ولا يمكن الإشارة إليه. فإذا اشتريت سيارة بسيارة، فقد اشتريت عينًا بعين. وإذا اشتريت سيارة بدراهم غير معينة، أو معينة -على القول بأن الدراهم لا تتعين بالتعيين- فقد اشتريت عينًا بدين، حتى ولو كانت الدراهم حالة، فإنها تسمى دينًا؛ لأن الدين قد يكون حالاً، وقد يكون مؤجلاً، والفرق بين الدين والعين من وجوه: أحدها: أن المعين إذا تلف فقد فات، وغير المعين (الدين) إذا تلف مال الإنسان لم يفت؛ لأن تعلقه بالذمة، وليس بعين المال، فتشغل ذمته بدفع مثله. ثانيًا: الدين يكون وفاؤه بدفع أيةِ عينٍ مالية مثلية من جنس الدين الملتزم به، بخلاف العين، فإن الحق يتعلق بذاتها.
تعريف الدين باعتبار المضمون
ثالثًا: عقد الحوالة والمقاصة لا يجريان إلا في الديون دون الأعيان؛ لأن الأعيان إنما تستوفى بذواتها؛ لا بأمثالها (¬1). تعريف الدين باعتبار المضمون: الدين باعتبار المضمون له معنيان، عام، وخاص: تعريف الدين بمعناه العام: قال ابن نجيم: الدين "لزوم حق في الذمة" (¬2). وكان هذا التعريف عامًا؛ لأنه يشمل كل ما يشغل ذمة الإنسان، سواء أكان حقًا لله، أم للعبد، ودَيْن الله: حقوقه التي ثبتت في الذمة، ولا مطالب لها من جهة العباد، كالنذور، والكفارات، وصدقة الفطر ... (¬3). وأما تعريف الدين بمعناه الخاص: (أي في الأموال): عرفه ابن عابدين بقوله: "الدين: ما وجب في الذمة بعقد، أو استهلاك، وما صار في ذمته دينًا باستقراضه" (¬4). فقولنا: (ما وجب في الذمة) الذمة: وصف يصير به الإنسان أهلًا لما له وما عليه، فيكون أهلًا للتملك، كما يكون أهلًا لتحمل دفع ثمن ما يملك (¬5). كما أن التعريف جعل الدين يشمل ثلاثة أمور: الأول: ما وجب بعقد كالمعاوضة عن طريق البيع، والشراء، والإجارة. ¬
الثاني: ما ثبت عن طريق الاستهلاك، كالإتلاف مثلًا. الثالث: ما ثبت عن طريق القرض. فالدين أعم من القرض، فكل قرض دين، وليس العكس. وقد ذهب الحنفية إلى أن الدين لا يعتبر مالاً حقيقة، وإنما يعتبر مالاً حكمًا، باعتبار أنه يتحول إلى المال بالاستيفاء (¬1)، وهذا هو القول القديم للشافعي (¬2). وذهب الجمهور إلى أن الدين قسم من أقسام الأموال، فقد سبق لنا: أن ¬
المال ينقسم إلى أعيان ومنافع (¬1)، وكل منهما قد يكون دينًا وقد يكون معينًا. وقد ذكرت أدلة كل قول، فأغنى عن إعادته هنا. فإذا عرفنا الدين، وأنه مال، يأتي الكلام إن شاء الله تعلى على حكم التصرف في الدين، وسوف نبحث في هذا الباب مسألتين: الأولى: بيع الدين بالدين. وهذه لها صور أربع، وسوف نتكلم بحول الله وقوته على كل صورة. والمسألة الثانية: مسألة ابتداء الدين بالدين، وهذه ليس لها إلا صورة واحدة. ¬
المسألة الثانية موقف العلماء من بيع الدين في الجملة
المسألة الثانية موقف العلماء من بيع الدين في الجملة [م - 203] ذهب ابن حزم إلى تحريم بيع الدين مطلقًا في جميع صوره وحالاته (¬1). وأما الجمهور، فذهبوا إلى تقسيم الدين إلى صور خمسة، منها ما هو جائز، ومنها ما هو ممنوع، ومنها ما هو محل خلاف بينهم، وحتى نعرف هذه الصور، وحكم كل صورة، نقول: بيع الدين لا يخلو إما أن يكون بيعه على المدين، أو على شخص غيره، وفي كل الحالتين، لا يخلو إما أن يكون ثمن الدين حالاً، أو مؤجلاً، فالصور أربع: الصورة الأولى: بيع الدين على من هو عليه بثمن حال. الصورة الثانية: بيع الدين على من هو عليه بثمن مؤجل. الصورة الثالثة: بيع الدين على غير المدين بثمن حال. الصورة الرابعة: بيع الدين على غير المدين بثمن مؤجل. وإليك كلام أهل العلم في كل صورة على حدة: ¬
المطلب الأول بيع الدين على من هو عليه بثمن حال
المطلب الأول بيع الدين على من هو عليه بثمن حال قسم الفقهاء الديون إلى قسمين: ديون مستقرة: وذلك مثل ثمن المبيع، وبدل القرض، وغرامة المتلف. وديون غير مستقرة: مثل دين الكتابة، والمهر قبل الدخول، والأجرة قبل استيفاء المنفعة، والمسلم فيه. فأما دين الكتابة، فلأنه معرض للسقوط بعجز الكاتب، ولا يملك السيد إجبار العبد على أدائه. وأما المهر قبل الدخول، فلأنه قد ينفسخ النكاح بسبب من جهة المرأة، فلا تستحق شيئًا. والأجرة قبل استيفاء المنفعة: غير مستقرة؛ لأن المنفعة قد تتلف، فتسقط الأجرة. والمسلم فيه، قد لا يستطيع تسليمه، فينفسخ العقد. لذلك فرق الفقهاء في حكم بيع الديون، بين أن تكون الديون مستقرة، وبين أن تكون غير مستقرة، وسنعرض حكم كل واحد على حدة.
القسم الأول بيع الدين المستقر على من هو عليه بثمن حال
القسم الأول بيع الدين المستقر على من هو عليه بثمن حال [م - 204] مثاله: لو كان لرجل على آخر مائة صاع من البر دينًا في ذمته، فأراد أن يأخذ بدلًا منها نقودًا حالة، فهذا التصرف معاوضة، وهو من قبيل بيع الدين على من هو عليه بثمن حال، ومثله لو كان لك عند رجل ريالات، فأراد أن يعطيك بدلاً منها دولارات في مجلس العقد. فقد اختلف الفقهاء في حكم هذا البيع على قولين: القول الأول: يجوز، وهو قول الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). بشروط، منها: ¬
الشرط الأول؟
الشرط الأول؟ أن يكون المبيع مما يجوز بيعه قبل قبضه، وهذا الشرط احتراز به من أمرين: الأمر الأول: الاحتراز من دين السلم فلا يجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه عند الحنفية والشافعية والحنابلة مطلقًا (¬1)، وخص المالكية المنع بالطعام خاصة؛ لأنه يؤدي إلى بيع الطعام قبل قبضه (¬2). وسوف يأتي إن شاء الله تعالى البحث في مسألة بيع المسلم فيه قبل قبضه، والصحيح جوازه. الأمر الثاني: ألا يكون البيع في بدل صرف، أو رأس مال لسلم، فلا يجوز بيع أي منهما قبل قبضه؛ لأن القبض شرط لصحة العقد، وانتفاء القبض يبطل العقد، فلم يثبت ملكه عليه، فلا يصح ورود عقد آخر عليه قبل انبرامه؛ لعدم ثبوت الملك فيه (¬3). ¬
الشرط الثاني
الشرط الثاني: اشترط المالكية، وأحمد في قول له، وإسحاق بن راهوية (¬1)، وهو قول عثمان البتي (¬2)، ورجحه ابن تيمية وابن القيم (¬3)، أن يكون البيع بسعر يومه أو دونه، لا أكثر منه، وهذا الشرط معتبر؛ لأن بيعه بأكثر من ثمنه يدخل في ربح ما لم يضمن. جاء في المدونة: "قال مالك: لا بأس أن تبيع ما سلفت فيه، إذا كان من غير ما يؤكل ويشرب، من غير الذي عليه ذلك السلف، بأقل أو بأكثر أو بمثل ذلك إذا انتقدت، وأما الذي عليه السلف فلا تبعه منه قبل الأجل بأكثر، ولا تبعه منه إلا بمثل الثمن أو أقل، ويقبض ذلك، (¬4). والله أعلم. فالمالكية أجازوا الربح في بيع الدين إن كان على غير من هو عليه إذا نقد الثمن، حتى لا تكون المعاملة من بيع الدين بالدين. وجه القول بجواز الربح: أن المبيع موصوف في الذمة، فهو مضمون على بائعه، وسوف تأتينا إن شاء الله تعالى هذه المسألة، وخلاف العلماء: فيها. وأما إذا باع الدين على المدين فلا يجوز أن يربح فيه؛ لأنه لا يتصور أن يكون الدائن ضامنًا للدين، والدين في ذمة المشتري، والله أعلم. ¬
الشرط الثالث
الشرط الثالث: اشترط المالكية أن يكون الدين حالاً (¬1). الشرط الرابع: اشترط المالكية أن يعجل البدل، ويقبض في مجلس الاستبدال ليسلم من فسخ الدين بالدين. جاء في التاج والإكليل: "شروط بيع الدين ممن هو عليه، وهي ألا يكون الدين طعامًا ... وأن يتعجل العوض ... " (¬2). وقال القرافي: "الدين كالعين الحاضرة في جواز البيع بشرط قبض البدل في المجلس" (¬3). بل منع المالكية أن يكون البدل منافع عين ولو كانت معينة، كركوب دابة معينة، أو سكنى دار مدة معينة، أو خياطة أجير معين، أو خدمة عبد معين؛ لأن المنافع لا يقدر على قبضها دفعة واحدة، فيتأخر استيفاء المنافع عن وقت العقد، وأما منافع غير المعين فلا خلاف في منعه، وكذلك لا يصح بيع الدين ¬
بثمرة على رؤوس النخل، وإن كانت قد أزهت أو أرطبت، ولا بزرع قائم ولو كان قد اشتد؛ لتأخر قبضهما؛ لأن شرط الجواز أن يكون الثمن معينًا مقبوضًا، فإذا بيع بمعين يتأخر قبضه لم يصح عندهم، أما لو حصد الزرع، وجذت الثمرة جاز بيعه به؛ لعدم تأخير القبض (¬1). واشترط الشافعية في الأصح القبض في متحدي العلة، أما مختلفيهما فيشترط فيه التعيين فقط حتى لا يكون من بيع الدين بالدين. جاء في حاشية البجيرمي على الخطيب: "وأما بيع الدين لمن هو عليه فلا يشترط القبض إلا في متحدي العلة، أما مختلفهما فيشترط فيه التعيين فقط" (¬2). وذكر ابن تيمية بأن بيع الدين على من هو عليه إن باعه بما لا يباع به نسيئة، كأن يكون الدين برًا، فباعه بشعير، أو باعه بموصوف في الذمة غير معين، اشترط التقابض، وإن باعه بمعين، ففيه وجهان: أحدهما: لا يشترط القبض. والثاني: يشترط؛ لأنه يشبه بيع الدين بالدين. قال ابن تيمية: "يجوز بيع الدين ممن هو عليه؛ لأن ما في الذمة مقبوض للمدين، لكن إن باعه بما لا يباع به نسيئة اشترط فيه الحلول والقبض لئلا يكون ربا، وكذلك إذا باعه بموصوف في الذمة، وإن باعه بغيرهما، فوجهان: أحدهما: لا يشترط كما لا يشترط في غيرهما. والثاني: يشترط؛ لأن تأخير القبض نسيئة كبيع الدين بالدين" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا يجوز بيع الدين ولو كان على من هو عليه، وهو قول ابن حزم (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2)، وحكي عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن شبرمة (¬3). دليل من قال: يجوز بيع الدين لمن هو عليه بثمن حال. الدليل الأول: قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. فالأصل في البيع الحل إلا ما دل على تحريمه دليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع، ولا دليل على التحريم. الدليل الثاني: (ح-119) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يريد أن يدخل بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا، وبينكما شيء (¬4). [اختلف في رفعه ووقفه، ورجح شعبة والدارقطني وقفه] (¬5). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: الحديث دليل على جواز بيع ما في الذمة من أحد النقدين بالآخر، إذا كان المشتري هو المدين، وكان الثمن حالاً، وإذا جاز بيع النقدين بالآخر، جاز بيع غيرهما مما يثبت في الذمة من باب أولى. وهو دليل أيضًا على أنه لا فرق بين كون الدين حالاً، أو كونه مؤجلًا؛ لأنه لما لم يسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدين، هل كان حالاً أو مؤجلًا؟ دل ذلك على أنه لا فرق، ولو كان بينهما فرق في الشرع لبينه النبي عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك رد على المالكية الذين اشترطوا أن يكون الدين حالاً. وهو دليل أيضًا على اشتراط أن يكون البيع بسعر يومه بحيث لا يربح فيه؛ حتى لا يربح فيما لم يضمن؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها. (ح- 120) وروى أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربح ما لم يضمن (¬1). [وإسناده حسن] (¬2). وهو دليل أيضًا على اشتراط التقابض، إذا كان العوضان مما يجري فيهما ربا النسيئة، لأنه قال: ما لم تتفرقا وبينكما شيء. وعلى القول بأن الأثر موقوف، فإن ابن عمر صحابي جليل، من كبار فقهاء الصحابة، فيكون قوله حجة، ما دام لم يخالف الكتاب، ولا السنة، ولا قول صحابي أقوى منه، والله أعلم. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ث-16) ذكر ابن حزم معلقاً عن الحجاج بن منهال، قال: أخبرنا أبو عوانة، أخبرنا إسماعيل السدي، عن عبد الله البهي عن يسار بن نمير، قال: كان لي على رجل دراهم فعرض علي دنانير، فقلت: لا أخذها حتى أسأل عمر، فسألته، فقال: ائت بها الصيارفة فاعرضها فإذا قامت على سعر فإن شئت فخذها، وإن شئت فخذ مثل دراهمك (¬1). [إسناده ضعيف، لكونه معلقاً، والسدي مختلف فيه والله أعلم]. الدليل الرابع: المانع من بيع الدين هو خوف العجز عن التسليم، ولا مانع هنا؛ لأن ما في ذمة المدين مقبوض له، فإذا دفع ثمنه للدائن، كان ذلك بيع مقبوض بمقبوض، وهو جائز شرعاً، خاصة أن القبض لم يرد له في الشرع حد معين، وإنما مرد ذلك إلى العادة والعرف. دليل من قال: لا يجوز بيع الدين على من هو عليه: الدليل الأول: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وجه الاستدلال: أن المدين قد يضطر إلى هذه المعاملة فرارًا من المطالبة، فيبيع الشيء مع رغبته فيه، ويستغل الدائن حق مطالبته في شراء شيء يرغبه من المدين مما يفقد البيع الرضا، وهو شرط لصحة البيع. ¬
ويجاب
ويجاب: بأننا نشترط لصحة بيع الدين على من هو عليه، ألا يكون هناك إكراه على ذلك، وقد اشترط المالكية وأحمد في رواية، وابن تيمية وابن القيم، ألا يربح فيه الدائن، بحيث يكون البيع بسعر اليوم؛ لئلا يربح فيما لم يضمن. الدليل الثاني: (ح- 121) ما رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز (¬1). وجه الدلالة: قوله: "ولا تبيعوا غائبًا بناجز" فما كان في الذمة من الدين يعتبر غائبًا، فنهى عن بيعه بالحاضر. وأجيب عن ذلك: بأن المراد بالغائب المؤجل، فلا يباع الذهب بالذهب أو بالفضة، وأحدهما مؤجل. قال النووي: "وقد أجمع العلماء على تحريم بيع الذهب بالذهب أو بالفضة مؤجلاً، وكذلك الحنطة بالحنطة أو بالشعير" (¬2). وما في الذمة يعتبر مقبوضًا وليس غائبًا، يبين ذلك حديث ابن عمر، حين ¬
الدليل الثالث
قال: (ما لم تتفرقا وبينكما شيء) فهما إذا افترقا وذمة كل واحد منهما ليست مشغولة للآخر، صار البيع حاضرًا بحاضر، وعلى هذا التفسير لا يصير هناك تعارض بين حديث أبي سعيد، وحديث ابن عمر. الدليل الثالث: (ح-122) استدلوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر. رواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن بيع الدين داخل في بيع الغرر، ووجهه: أن الدين ليس عينًا، فهو شيء متعلق بالذمة، لا يدرى، أيحصل أم لا يحصل؟ ويجاب: بأن الغرر يرجع، إما إلى الجهالة في قدر الشيء وصفته، وإما إلى العجز عن تسليمه، وهذا غير موجود في بيع الدين على من هو عليه، فالدين والثمن كلاهما معلوما القدر والصفة، وكلاهما قد تم تسلمهما، فالدين في ذمة المشتري في حكم المقبوض، والثمن حال، وبالتالي لا يوجد غرر في مثل هذه المعاملة. الدليل الرابع: (ث-17) ما رواه عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو ابن دينار، قال: أخبرني أبو المنهال عبد الرحمن بن مطعم، قال: سألت ابن عمر، عن رجل لي عليه حق إلى أجل، فقلت: عجل لي وأضع لك، فنهاني عنه، وقال: نهانا أمير المومنين أن نبيع العين بالدين (¬2). ¬
الراجح
[إسناده صحيح]. هذا الأثر في مسألة (ضع وتعجل) وهي مسألة خلافية، وستأتي إن شاء الله تعالى، وليس هذا من باب بيع الدين على من هو عليه، وإنما هو تعجيل الدين بأخذ بعضه، وإبرائه عن بعضه، ومما يدل لذلك أن ابن حزم ساق إسنادًا معلقًا عن عمر، يدل على جواز بيع ما في الذمة بحاضر، على من هو عليه. الراجح: جواز بيع الدين على من هو عليه بثمن حال، وذلك لقوة أدلته، وسلامتها من المعارضة الصحيحة، ولأن "الاعتياض عما في الذمة من جنس الاستيفاء، فلا يقاس على البيع من كل وجه؛ لأن البيع المعروف: هو أن يملك المشتري ما اشتراه، وهنا لم يملك شيئاً، بل سقط الدين من ذمته، ولهذا لما وفاه ما في ذمته لا يقال: إنه باعه دراهم بدراهم، بل يقال: وفاه حقه، بخلاف ما لو باعه دراهم معينة بدراهم معينة، فإنه بيع" (¬1)، والله أعلم. ¬
القسم الثاني بيع الدين غير المستقر على من هو عليه
القسم الثاني بيع الدين غير المستقر على من هو عليه الصورة الأولى بيع دين السلم على من هو عليه بثمن حال تعريف السلم: السلم: هو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد. فهو يتكون من مشتر (المسلم، أو يقال: رب السلم). وبائع، يسمى (المسلم إليه). والثمن المقدم، يسمى (رأس مال السلم). والمبيع المؤجل يسمى (المسلم فيه، أو دين السلم). [م - 205] فهل يجوز للمشتري أن يبيع المسلم فيه (دين السلم) على صاحبه قبل قبضه؟ اختلف العلماء في هذه المسألة، على قولين: القول الأول: لا يجوز بيع المسلم فيه مطلقاً، سواء كان المسلم فيه موجودًا، أو معدومًا، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والشافعية، والحنابلة (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يجوز بيع المسلم فيه على من هو عليه بشروط، وهذا مذهب المالكية (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2)، اختارها ابن تيمية (¬3)، وابن القيم (¬4)، وهو قول ابن عباس - رضي الله عنه - (¬5)، من هذه الشروط: الشرط الأول: اشترط المالكية أن يكون المسلم فيه مما يجوز بيعه قبل قبضه، احترازًا من طعام السلم، فلا يجوز بيعه؛ لأنه يؤدي إلى بيع الطعام قبل قبضه. الشرط الثاني: اشترط المالكية أن يعجل البدل، ويقبض في مجلس الاستبدال ليسلم من فسخ الدين بالدين، واشترط ابن تيمية التقابض في حالتين: إن كان العوضان مما يجري فيهما ربا النسيئة، كالبر بالشعير، أو الدهب بالفضة. أو كان الثمن دينًا موصوفاً في الذمة. ¬
الشرط الثالث
فإن كان الثمن شيئاً معينًا، فهل يشترط فيه القبض، فيه وجهان، أطلق الخلاف فيهما ابن تيمية، ولم يرجح. قال ابن تيمية: "يجوز بيع الدين ممن هو عليه؛ لأن ما في الذمة مقبوض للمدين، لكن إن باعه بما لا يباع به نسيئة اشترط فيه الحلول والقبض؛ لئلا يكون ربا، وكذلك إذا باعه بموصوف في الذمة. وإن باعه بغيرهما، فوجهان: أحدهما: لا يشترط كما لا يشترط في غيرهما. والثاني: يشترط؛ لأن تأخير القبض نسيئة كبيع الدين بالدين" (¬1). الشرط الثالث: اشترط المالكية أن يكون المأخوذ مما يباع بالمسلم فيه يداً بيد، كما لو أسلم دراهم في ثوب مثلاً، فأخذ عنه طست نحاس، إذ يجوز بيع الطست بالثوب يدًا بيد. واحترز بذلك من أخذ اللحم عن الحيوان من جنسه، فإن ذلك لا يجوز؛ لامتناع بيعه يداً بيد، وانظر مسألة بيع اللحم بالحيوان في باب الربا، فقد حررت الخلاف فيها، والحمد لله. الشرط الرابع: اشترط المالكية أن يكون المأخوذ مما يجوز أن يسلم فيه رأس المال، كما لو أسلم دراهم في حيوان، فأخذ عن ذلك الحيوان ثوبًا، فإن ذلك جائزة إذ يجوز أن يسلم الدراهم في الثوب، واحترز بذلك من أخذ الدراهم عن الذهب، وعكسه، إذ لا يجوز أن تسلم الدراهم في الدنانير، ولا عكسه؛ لأنه يؤدي إلى الصرف المستأخر (¬2). ¬
الشرط الخامس
الشرط الخامس: اشترط المالكية وأحمد في قول له، وإسحاق بن راهوية (¬1)، وهو قول عثمان البتي (¬2)، ورجحه ابن تيمية وابن القيم (¬3)، أن يبيعه بمثل ثمنه أو أقل لا أكثر؛ وعلل المالكية المنع بأن بيع الدين على من هو عليه بزيادة يؤدي إلى سلف جر نفغا، وهذا ممنوع (¬4). قال في القوانين الفقهية: "يجوز بيع العرض المسلم فيه قبل قبضه من بائعه بمثل ثمنه أو أقل، لا أكثر؛ لأنه يتهم في الأكثر بسلف جر منفعة، ويجوز بيعه من غير بائعه بالمثل وأقل، وأكثر يداً بيد، ولا يجوز التأخير" (¬5). وعلل غيرهم المنع حتى لا يربح فيما لم يضمن. دليل الجمهور على منع بيع دين السلم. الدليل الأول: (ح-123) ما رواه أبو داود من طريق عطية بن سعد عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره (¬6). [ضعيف] (¬7). ¬
وبجاب عن الحديث بجوابين
وبجاب عن الحديث بجوابين: الأول: أن هذا الحديث ضعيف، فلا حجة فيه. الثاني: أن معنى فلا يصرفه إلى غيره، أي لا يصرفه إلى دين آخر، فيكون من باب بيع الدين بالدين، أما إذا باعه بعين، أو بثمن حال فلم يصرفه، بل أفرغه وانتهى منه. يقول ابن تيمية: "وأما احتجاج من منع بيع دين السلم، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره، فعنه جوابان: أحدهما: أن الحديث ضعيف. الثاني: المراد به ألا يجعل السلف سلمًا في شيء آخر، فيكون معناه: النهي عن بيعه بشيء معين إلى أجل، وهو من جنس بيع الدين بالدين، ولهذا قال: لا يصرفه إلى غيره، أي لا يصرف المسلم فيه إلى مسلم فيه آخر، ومن اعتاض عنه بغيره، قابضًا للعوض لم يكن قد جعله سلمًا في غيره" (¬1). الدليل الثاني: ذكر ابن قدامة الإجماع على التحريم، قال - رحمه الله -: "أما بيع المسلم فيه قبل قبضه، فلا نعلم في تحريمه خلافًا" (¬2). ويناقش: بأن الخلاف في المسألة محفوظ، والإجماع لم يثبت. قال ابن القيم: "كيف يصح دعوى الإجماع، مع مخالفة حبر الأمة ¬
الدليل الثالث
ابن عباس، وعالم المدينة مالك بن أنس ... " (¬1). الدليل الثالث: استدل الشافعية بأن دين السلم لم يقبض، وقد جاء النهي عن بيع ما لم يقبض، جاء في نهاية المحتاج: "ولا يصح بيع المثمن الذي في الذمة، نحو المسلم فيه، ولا الاعتياض عنه قبل قبضه بغير نوعه أو وصفه؛ لعموم النهي عن بيع ما لم يقبض" (¬2). ويناقش: بأن النهي عن بيع ما لم يقبض هو في بيع الأعيان، لا في بيع الديون، بدليل فعل ابن عمر - رضي الله عنه - حيث كان يبيع بالدراهم ويعتاض عنها الدنانير، ويبيع بالدنانير ويأخذ بدلاً منها الدراهم. وقد سبق لنا في الباب السابق خلاف العلماء في بيع الأعيان قبل قبضها، وقد ترجح لي مذهب المالكية والحنابلة، وأن ذلك خاص في المنع من بيع الطعام الذي يحتاج إلى استيفاء من كيل، أو وزن، فقياس بيع الدين على بيع الأعيان قياس مع الفارق. يقول ابن القيم: "وأما نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام قبل قبضه فهذا إنما هو في المعين، أو المتعلق به حق توفية من كيل أو وزن، فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه، وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء، وفائدته سقوط ما في ذمته عنه، لا حدوث ملك له، فلا يقاس بالبيع الذي يتضمن شغل الذمة، ¬
الدليل الرابع
فإنه إذا أخذ منه عن دين السلم عرضا أو غيره أسقط ما في ذمته، فكان كالمستوفي في دينه؛ لأن بدله يقوم مقامه" (¬1). الدليل الرابع: علل بعضهم المنع، لكون المبيع لم يدخل في ضمان بائعه، فلم يجز بيعه قبل قبضه. قال ابن قدامة: "ولا يجوز بيع السلم قبل قبضه ... لأنه مبيع، لم يدخل في ضمانه، فلم يجز بيعه" (¬2). ويناقش: بأن الحديث إنما تضمن النهي عن ربح ما لم يضمن، وليس فيه النهي عن التصرف فيه، وبينهما فرق، فإذا اشترطنا أن يبيعه بمثل ثمنه، أو أقل، لا أكثر، لم يربح فيما لم يضمن، ولا تلازم بين التصرف، والضمان، بدليل أن المنافع المستأجرة يجوز أن يؤجرها المستأجر، وهي مضمونة على المؤجر الأول، والثمر المبيع على شجره مبقىً، يجوز بيعه، وهو مضمون على البائع الأول (¬3). الدليل الخامس: (ث-18) روى البيهقي من طريق حصين، عن محمَّد بن زيد بن خليدة، قال: ¬
الدليل السادس
سألت ابن عمر عن السلف، قلت: إنا نسلف، فنقول: ان أعطيتنا برًا فبكذا، وإن أعطيتنا تمرًا فبكذا، قال: أسلم في كل صنف ورقًا معلومة، فإن أعطاكه، وإلا فخذ رأس مالك، ولا ترده في سلعة أخرى. [حسن لغيره] (¬1). الدليل السادس: (ث-19) ما رواه ابن أبي شيبة، من طريق عطاء بن السائب عن عبد الله بن مغفل في رجل أسلم مائة درهم في طعام، فأخذ نصف سلمه طعامًا، وعسر عليه النصف، فقال: لا تأخذ إلا سلمك، أو رأس مالك جميعًا (¬2). [مغفل تصحيف والصواب معقل، وهو تابعي فلا يكون في هذا حجة] (¬3). ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: (ث-20) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا محمَّد بن ميسرة (¬1)، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه شعيب أن عبد الله بن عمرو كان يسلف له في الطعام، فقال للذي كان يسلف له: لا تأخذ بعض مالنا، وبعض طعامنا، ولكن خذ رأس مالنا كله، أو الطعام وافيًا (¬2). [ضعيف جدًا] (¬3). ويجاب عن هذه الآثار السابقة: أن هذه الآثار على فرض صحتها فهي معارضة برأي ابن عباس، والصحابة إذا اختلفوا لم يكن قول بعضهم حجة على بعض، ويبقى النظر فيما ترجحه الأدلة، والله أعلم. الدليل الثامن: أن في بيع المسلم فيه قبل قبضه غررًا، وذلك أنه يحتمل حصول المبيع في المستقبل، وعدم حصوله، فهو مجهول العاقبة، وهذا حقيقة الغرر الممنوع في البيع. ويجاب: بأن الغرر إن كان يتعلق بالجهل في قدر المبيع وفي صفته فهو معلوم ¬
الدليل التاسع
للمتعاقدين، وإن كان يتعلق بالقدرة على التسليم، فإن المشتري هو من عليه الدين، فهو في حكم المقبوض؛ لأن ما في ذمة المدين مقبوض له، فإذا دفع ثمنه للدائن، كان ذلك بيع مقبوض بمقبوض، وهو جائز شرعًا. الدليل التاسع: بيع الدين على من هو عليه، يدخل في بيع ما ليس عند الإنسان، وقد نهي عنه. ويجاب: النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان، لا يدخل فيه النهي عن بيع الدين على من هو عليه؛ بل المقصود لا تبع معينًا ليس في ملكك، وإذا جاز بيع المغصوب على غاصبه، جاز بيع الدين على من هو عليه من باب أولى، والله أعلم. دليل القائلين بجواز بيع دين السلم على المدين:. الدليل الأول: قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. فالأصل في البيع الحل إلا ما دل على تحريمه دليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع، ولا دليل على التحريم، ولم يرد في منع الاعتياض عن الدين المسلم فيه نص صحيح، ولا يتضمن بيعه على من هو عليه بمثل ثمنه، أو أقل محذورًا شرعيًا يقتضي المنع منه. الدليل الثاني: (ث-21) روى عبد الرزاق في المصنف، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس، قال: إذا أسلفت في طعام، فحَلَّ
الدليل الثالث
الأجل، فلم تجد طعامًا، فخذ منه عرضًا بأنقص، ولا تربح عليه مرتين (¬1). [صحيح] قال ابن القيم: فهذا قول صحابي، وهو حجة ما لم يخالف (¬2). الدليل الثالث: المانع من بيع الدين، هو خوف العجز عن التسليم، ولا مانع هنا؛ لأن ما في ذمة المدين مقبوض له، فإذا دفع ثمنه للدائن، كان ذلك بيع مقبوض بمقبوض، وهو جائز شرعاً، خاصة أن القبض لم يرد له في الشرع حد معين، وإنما مرد ذلك إلى العادة والعرف. الدليل الرابع: أن دين السلم دين ثابت في الذمة، فجاز الاعتياض عنه كغيره، فإذا جاز على الصحيح بيع الدين على من هو عليه، إذا كان المبيع بدل قرض، أو ثمن مبيع، ونحوهما، جاز ذلك في دين السلم. (ح-124) فقد روى أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فأتيت ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يريد أن يدخل بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تتفرقا، وبينكما شيء (¬1). [اختلف في رفعه ووقفه، ورجح شعبة والدارقطني وقفه] (¬2). فالحديث دليل على جواز بيع ما في الذمة على من هو عليه، وإذا جاز ذلك في ثمن المبيع جاز ذلك في دين السلم، حيث لا فرق. وهو دليل أيضًا على أنه لا فرق بين كون الدين حالًا، أو كونه مؤجلًا؛ لأنه لم يسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدين، هل كان حالاً، أو مؤجلًا؟ ولو كان بينهما فرق في الشرع، لبينه عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك رد على المالكية الذين اشترطوا أن يكون الدين حالاً. وهو دليل أيضًا على اشتراط أن يكون البيع بسعر يومه، بحيث لا يربح فيه؛ لئلا يربح فيما لم يضمن؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها. (ح-125) ولما رواه أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربح ما لم يضمن (¬3). [إسناده حسن] (¬4). ¬
الراجح
وهو دليل أيضًا على اشتراط التقابض، إذا كان العوضان مما يجري فيهما ربا النسيئة؛ لأنه قال: ما لم تتفرقا وبينكما شيء. وعلى القول بأن الأثر موقوف، فإن ابن عمر صحابي جليل، من كبار فقهاء الصحابة، فيكون قوله حجة، ما دام لم يخالف الكتاب، ولا السنة، ولا قول صحابي أقوى منه، والله أعلم. الراجح: لقد ترجح لي بعد استعراض الأقوال وأدلتها القول بجواز بيع الدين على من هو عليه من غير فرق بين كون الدين طعاماً أو غير طعام بشروط: الأول: ألا يربح فيه حتى لا يربح فيما لم يضمن. الثاني: أن يتعين الثمن حتى لا يكون من قبيل فسخ الدين بالدين. الثالث: التقابض إن كان العوضان مما يجري بينهما ربا النسيئة.
الصورة الثانية بيع الديون غير المستقرة من غير السلم على من هي عليه
الصورة الثانية بيع الديون غير المستقرة من غير السلم على من هي عليه [م - 206] اختلف العلماء في بيع الديون غير المستقرة فيما عدا السلم، كالأجرة قبل استيفاء المنفعة، أو مضي زمانها، وكالمهر قبل الدخول. فقيل: يجوز بيعها، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والقول الأظهر للشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). ورجحه ابن تيمية (¬4)، بشرط أن يكون الاعتياض عنها بسعر يومها. وقيل: لا يجوز، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). والأدلة علي هذه المسألة، هي الأدلة على بيع دين السلم، فانظره في المسألة التي قبل هذه. ... ¬
المطلب الثاني في بيع الدين بالدين على من هو عليه
المطلب الثاني في بيع الدين بالدين على من هو عليه الصورة الأولى في تطارح الدينين [م - 207] إذا كان لرجل في ذمة آخر دنانير، وللآخر عليه دراهم، فيتفقان على المقاصة، بأن يطرح كل واحد دينه على الآخر بما عليه له، فيسقط دين هذا بسقوط دين هذا، فما حكم هذا البيع؟ اختلف العلماء في هذا البيع على ثلاثة أقوال: القول الأول: يجوز مطلقًا، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، وقول السبكي من الشافعية، واختاره ابن تيمية، وابن القيم من الحنابلة (¬2). القول الثاني: لا يجوز مطلقًا، يعني سواء كان الدينان حالين، أو مؤجلين، أو أحدهما ¬
القول الثالث
حالًا، والآخر مؤجلًا، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). القول الثالث: يجوز بشرط أن يكون الدينان حالين، فإن كانا مؤجلين، أو أحدهما، لم يجز، وهذا مذهب المالكية (¬3). تعليل من قال بالجواز: التعليل الأول: الأصل في البيع الحل، ولا يوجد دليل على المنع. التعليل الثاني: أن هذا البيع بيع ساقط بساقط، وهو يؤدي إلى تفريغ كل واحدة من الذمتين، ¬
التعليل الثالث
وهو مطلوب شرعًا؛ لما فيه من براءة الذمم، وأما بيع الدين بالدين، فهو يؤدي إلى شغل ذمتين، بغير مصلحة لهما، ولذلك نهي عنه. التعليل الثالث: أن الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة، فكأنهما تبادلا عينًا بعين، والقبض غير لازم في هذه الصورة؛ لأن العوضين مقبوضان عند الطرفين مسبقًا (¬1). دليل من قال: لا يجوز. الدليل الأول: (ح-126) ما رواه الدارقطني من طريق عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الكالئ بالكالئ (¬2). [ضعيف] (¬3). ¬
= ورواه البيهقي (5/ 290) من طريق عبيد الله بن موسى، وزيد بن الحباب، والواقدي، وحمزة أبن عبد الوحد، فرقهم، كلهم عن موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. ورواية حمزة، قال: عن موسى غير منسوب. وفي نصب الراية (4/ 40) رواه ابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، والبزار في مسانيدهم، من حديث موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار. ورواه البيهقي (5/ 290) من طريق عبد الأعلي بن حماد، ورواه ابن عدي في الكامل (6/ 235)، والبيهقي (5/ 290) من طريق أبي مصعب، كلاهما، عن الدراوردي، عن موسى بن عبيدة الزيدي، عن نافع، عن ابن عمر. قال البيهقي في السنن (5/ 290): "شيخنا أبو عبد الله -يعني الحاكم- قال في روايته: عن موسى بن عقبة، وهو خطأ، والعجب من أبي الحسن الدارقطني شيخ عصره، روى هذا الحديث في كتاب السنن، عن أبي الحسن علي بن محمَّد المصري هذا، فقال: عن موسى بن عقبة". وقال أيضاً: "رواه الشيخ أبو الحسن الدارقطني رحمه الله ... فقال: عن موسى بن عقبة، ورواه شيخنا أبو عبد الله بإسناد آخر، عن مقدام بن داود الرعيني، فقال: عن موسى بن عقبة، وهو وهم، والحديث مشهور عن موسى بن عبيدة، مرة عن نافع، عن ابن عمر، ومرة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، وبالله التوفيق". وموسى بن عبيدة، جاء في الجرح والتعديل (8/ 151): "قال أحمد بن حنبل: موسى ابن عبيدة لا يشتغل به، وذلك أنه يروي عن عبد الله بن دينار شيئًا لا يرويه الناس". وقال أحمد بن حنبل: "لا تحل الرواية عندي عن موسى بن عبيدة، قلنا: يا أبا عبد الله لا يحل؟ قال: عندي. قلت: فإن سفيان وشعبة قد رويا عنه؟ قال: لو بأن لشعبة ما بأن لغيره، ما روى عنه". المرجع السابق. وفي تهذيب التهذيب (5/ 177): "في العلل للخلال، أن أحمد سئل عن عبد الله بن دينار الذي روى عنه موسى بن عبيدة النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، فقال: ما هو الذي روى عنه الثوري، قيل: فمن هو؟ قال: لا أدري. وجزم العقيلي بأنه هو، فقال في ترجمته: روى عنه موسى ابن عبيدة ونظراؤه أحاديث مناكير، الحمل فيها عليهم، وروى عنه الأثبات ... ".
الدليل الثاني
الدليل الثاني: قال ابن قدامة: "ولنا أنه بيع دين بدين، ولا يجوز ذلك بالإجماع، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن بيع الدين بالدين لا يجوز، وقال أحمد: إنما هو إجماع ... " (¬1). ويناقش: إن كان بيع الدين بالدين ممنوعًا بالإجماع فليست هذه الصورة منه قطعًا لثبوت الخلاف، فالحنفية أجازوه مطلقًا، والمالكية بشرط حلول الدين، فصدق أن هذه الصورة ليست داخلة في الإجماع الذي نقله ابن قدامة، والإجماع بشترط لثبوت الاحتجاج به سلامته من الخلاف، فإذا كان الخلاف محفوظًا لم يكن هناك إجماع. وهذا بين. دليل المالكية على اشتراط حلول الأجلين: أن من عجل ما حقه التأجيل يعتبر مسلفًا، فيجتمع سلف وبيع، وهذا ممنوع (¬2). ¬
وبعضهم يوجه المنع: بأنه من الصرف المتأخر، وذلك أن المؤجل لا يتعجل ولو قبضه عند المالكية، وبناء عليه لا يوصف بأنه قبضه إلا بعد مضي أجله، فيقتضيه من نفسه، ويكون بذلك قد تأخر قبضه عن صرفه، والصرف المتأخر ممتنع (¬1). وهذا توجيه فيه بعد، إذا كيف بعد أن قبض المؤجل، يقال: لا يستحق قبضه إلا بعد مضي أجله، فإذا حل الأجل استحق القبض، فيقبضه من نفسه، ويكون قبضه المعجل كما لو لم يقبضه. والراجح: القول بالجواز لقوة دليله. ¬
الصورة الثانية في فسخ الدين بالدين على من هو عليه
الصورة الثانية في فسخ الدين بالدين على من هو عليه جاء في موسوعة القواعد والضوابط الفقهية: الأصل أن ربح ما لم يضمنه الرابح حرام ... (¬1). [م - 208] هذه المسألة يسميها بعض الفقهاء بيع الساقط بالواجب، وهو أن يشتري سلعة موصوفة في الذمة مؤجلة التسليم مقابل دين للمشتري على البائع، كأن يكون الرجل مدينًا لآخر بألف ريال فيتفقا على الاعتياض عن ذلك بطعام سلمًا إلى أجل معين، وقد أطلق عليها بعض الفقهاء جعل ما في الذمة رأس مال لسلم. ومثله بيع المسلم فيه بدين آخر، كما لو كان الرجل مدينًا لآخر بخمسين صاعًا من البر سلمًا، فاتفقا على أن يبيعه المسلم فيه قبل قبضه بألف دينار إلى سنة، فما حكم هذه المسألة؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: لا يجوز، وهذا مذهب الأئمة الأربعة (¬2)، وهو المنصوص عن ابن تيمية. ¬
قال ابن تيمية في مختصر الفتاوى المصرية: "ومن اشترى قمحًا إلى أجل، ثم عوض البائع عن الثمن سلعة إلى أجل لم يجز، وكذلك إن احتال على أن يزيده في الثمن، ويزيده في الأجل بصورة يظهر رباها لم يجز، ولم يكن عنده إلا الدين الأول، فإن هذا هو الربا الذي أنزل الله فيه القرآن، يقول الرجل لغريمه عند محل الأجل: تقضي أو تربي" (¬1). وقال أيضًا: "إذا اشترى قمحًا بثمن إلى أجل، ثم عوض البائع عن ذلك الثمن سلعة إلى أجل لم يجز فإن هذا بيع دين بدين" (¬2). وقال ابن تيمية أيضًا: "وأما احتجاج من منع بيع دين السلم بقوله: "من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره، فعنه جوابان: أحدهما: أن الحديث ضعيف. والثاني: المراد به ألا يجعل السلف سلمًا في شيء آخر، فيكون معناه: النهي عن بيعه بشيء معين إلى أجل، وهو من جنس بيع الدين بالدين، ولهذا قال: لا يصرفه إلى غيره، أي: لا يصرف المسلم فيه إلى مسلم فيه آخر، ومن اعتاض عنه بغيره قابضًا للعوض لم يكن قد جعله سلمًا في غيره" (¬3). ¬
القول الثاني
فهذا القول من ابن تيمية نص صريح في أنه لا يجوز بيع الدين على من هو عليه بدين آخر، ويجوز بيع الدين بعوض مقبوض، وهو من قبيل بيع الدين بالعين. القول الثاني: يجوز بيع الدين على من هو عليه بدين آخر، اختاره ابن القيم، وحكاه قولًا لابن تيمية (¬1). قال ابن القيم: "إذا كان الدين في ذمة المسلم إليه، فاشترى به شيئًا في ذمته، فقد سقط الدين من ذمته، وخلفه دين آخر واجب، فهذا من باب بيع الساقط بالواجب، فيجوز" (¬2). وقال أيضًا: "وقد حكي الإجماع على امتناع هذا ولا إجماع فيه، قاله شيخنا، واختار جوازه وهو الصواب" (¬3). ولم أقف على قول صريح لابن تيمية يقول بجواز بيع الدين على من هو عليه بدين، وكل ما وقفت عليه أنه حكى أن بيع الدين منه ما هو ممنوع بالاتفاق كبيع المؤخر بالمؤخر، ومنه ما تنازع العلماء فيه، وذكر منها مسألتنا هذه: بيع الساقط بالواجب. وحكاية الخلاف لا تعني أنه يقول بالجواز. قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، والكالئ: هو المؤخر الذي لم يبقض بالمؤخر الذي لم يقبض، كما لو أسلم شيئا في شيء في الذمة، وكلاهما مؤخر، فهذا لا يجوز بالاتفاق ... وينقسم ¬
دليل من قال: لا يجوز
-يعني بيع الدين بالدين- إلى بيع ساقط بساقط، وساقط بواجب، وهذا فيه نزاع" (¬1). وبيع الساقط بالساقط الخلاف فيه محفوظ بين الفقهاء، والراجح جوازه، وأما بيع الساقط بالواجب فلم يبين ابن تيمية من قال بجوازه من العلماء، ولم أقف على أحد قال بجوازه عدا ابن القيم، ولم يصرح ابن تيمية برأيه في المسألة، وقد سبق لنا في القول الأول النقل الصريح عن ابن تيمية بمنع هذه المعاملة، فإن صح ما حكاه ابن القيم عن شيخه فيكون لابن تيمية قولان في المسألة، وإلا كان وهمًا من ابن القيم في نسبة هذا القول لشيخه. دليل من قال: لا يجوز: الدليل الأول: أنه من باب بيع الدين بالدين، وقد نهي عنه كما في حديث ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الكالئ بالكالئ (¬2). [ضعيف]. وأجيب: قال ابن القيم: "ليس عن الشارع نص عام في المنع من بيع الدين بالدين، وغاية ما ورد فيه حديث، وفيه ما فيه: أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، والكالئ هو المؤخر، وهذا كما إذا كان رأس مال السلم دينًا في ذمة المسلم فيه، فهذا هو الممنوع منه بالاتفاق؛ لأنه يتضمن شغل ذمتين بغير مصلحة لهما، وأما إذا كان الدين في ذمة المسلم إليه، فاشترى به شيئًا في ذمته فقد سقط الدين من ¬
الدليل الثاني
ذمته، وخلفه دين آخر واجب، فهذا من باب بيع الساقط بالواجب، فيجوز، كما يجوز بيع الساقط بالساقط في باب المقاصة" (¬1). وتعقبه بعض العلماء المعاصرين: يقول الدكتور نزيه حماد: "قَصْر شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم معنى بيع الكالئ بالكالئ على صورة السلف المؤجل من الطرفين غير مسلم؛ لافتقاره إلى دليل يقيده، ولوجود صورة أخرى يصدق عليها معناه، وتدخل تحت عمومه، وقد نقل الإجماع على حضر بعضها باعتبارها من أفراده، ومنها هذه الصورة" (¬2). الدليل الثاني: الإجماع على المنع حكاه ابن قدامة وغيره. قال ابن قدامة: "إذا كان له في ذمة رجل دينار، فجعلة سلمًا في طعام إلى أجل لم يصح. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم، منهم: مالك والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي، وعن ابن عمر، أنه قال: لا يصح ذلك، وذلك لأن المسلم فيه دين، فإذا جعل الثمن دينًا كان بيع دين بدين، ولا يصح ذلك بالإجماع" (¬3). وقال السبكي في تكملة المجموع: "تفسير بيع الدين بالدين المجمع على منعه: وهو أن يكون للرجل على الرجل دين، فيجعله عليه في دين آخر، مخالف له في الصفة أو القدر، فهذا هو الذي وقع الإجماع على امتناعه" (¬4). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: هذه الصورة شبيهة بربا النساء المعروف، حيث إنَّ استبدال الدين الحال بدين مؤجل من غير جنسه مظنة الزيادة في الدين في مقابل الأجل الممنوح للمدين، وذلك في معنى ربا الجاهلية (تقضي أو تربي). الدليل الرابع: إذا كان ابتداء الدين بالدين مجمعًا على منعه، حكى الإجماع جماعة منهم ابن تيمية، وابن القيم فإن فسخ الدين بالدين مثله حيث لا فرق. دليل من قال بالجواز: الدليل الأول: الأصل في البيع الحل، ولا يوجد نص يدل على التحريم، يقول ابن القيم: "ليس عن الشارع نص عام في المنع من بيع الدين بالدين" (¬1). وقد أجاب فيما سبق عن حديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ. الدليل الثاني: استدل ابن القيم على الجواز بالقياس على الحوالة. قال رحمه الله: "قواعد الشرع تقتضي جوازه، فإن الحوالة اقتضت نقل الدين، وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فقد عاوض المحيل المحتال من دينه بدين آخر في ذمة ثالث، فإذا عاوضه من دينه على دين آخر في ذمته كان أولى بالجواز" (¬2). ¬
ويناقش
ويناقش: هناك فرق بين الحوالة وبين الدين على من هو عليه بثمن مؤجل من وجهين: الأول: أن بيع الدين على من هو عليه بثمن مؤجل من قبيل البيع، والحوالة على الصحيح ليست بيعًا. قال ابن تيمية: "الحوالة من جنس إيفاء الحق، لا من جنس البيع، فإن صاحب الحق إذا استوفى من المدين ماله كان هذا استيفاء، فإذا أحاله على غيره كان قد استوفى ذلك الدين عن الدين الذي له في ذمة المحيل، ولهذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحوالة في معرض الوفاء، فقال في الحديث الصحيح: مطل الغني ظلم، وإذ اتبع أحدكم على ملئ فليتبع. فأمر المدين بالوفاء، ونهاه عن المطل، وبين أنه ظالم إذا مطل، وأمر الغريم بقبول الوفاء إذا أحيل على مليء" (¬1). وقال القرافي: الحوالة تحويل الحق، وليس بتبديل ... لأن تبديل الدين بالدين لا يجوز، ولأن اسم الحوالة من التحويل، لا من التبديل (¬2). الوجه الثاني: يشترط في صحة الحوالة أن يحيله على جنس الدين، لا على جنس آخر، فإذا أحاله على جنس آخر لم تكن حوالة، وخرج العقد من الإرفاق والإحسان إلى المعاوضة والتكسب، فامتنعت. قال ابن رشد: "وللحوالة عند مالك ثلاثة شروط: ... الثاني: أن يكون الدين الذي يحيله به مثل الذي يحيله عليه في القدر، والصفة؛ لأنه إذا اختلفا في أحدهما كان بيعًا، ولم يكن حوالة فخرج من باب الرخصة إلى باب البيع، وإذا خرج إلى باب البيع دخله الدين بالدين" (¬3). ¬
الدليل الرابع
بينما بيع الدين على من هو عليه بثمن مؤجل هو من قبيل بيع الدين بغير جنسه، فلم يصح القياس على الحوالة، يقول ابن القيم في توصيف بيع الساقط بالواجب: "كما لو باعه دينًا له في ذمته بدين آخر من غير جنسه" (¬1). فظهر الفرق بين الحوالة وبين بيع الدين على من هو عليه بثمن مؤجل. الدليل الرابع: لكل واحد من المتبايعين غرض صحيح، ومنفعة مطلوبة؛ إذ تبرأ ذمة المدين عن دينه الأول، وتنشغل بدين آخر، قد يكون وفاؤه أسهل عليه وأنفع لجلب منافع الناس، وتحصيل مصالحهم. ويناقش: نحن لا نمانع إذا كان ذلك من قبيل المنفعة للدائن والمدين، وذلك لا يكون إلا إذا كان هناك وفاء في محل العقد، فيتحول البيع إلى بيع دين بعين، ويسلمه المبيع في مجلس العقد، فتبرأ ذمة المدين، وينتفع الدائن بقبض ماله، أما إذا كانت ذمته ستنتقل من دين لدين آخر، فما الفائدة المرجوة من ذلك، فلم ينتفع الدائن، ولم ينتفع المدين، والمقصود من العقود القبض، فهو عقد لم يحصل مقصوده أصلًا، وإذا كان المدين يراه أنه أسهل لوفاء دينه، فلينتظر حتى يكون المبيع معه، ثم يبيعه إياه، فيكون ذلك أسهل لوفاء دينه حقيقة لا دعوى. الدليل الخامس: استدل رحمه الله بالقياس على بيع العين بالدين. قال رحمه الله: "إذا جاز أن يشغل أحدهما ذمته، والآخر يحصل على الربح، ¬
ويناقش
وذلك في بيع العين بالدين، جاز أن يفرغها من دين، ويشغلها بغيره، وكأنه شغلها ابتداء بقرض، أو بمعاوضة، فكانت ذمته مشغولة بشيء، فانتقلت من شاغل إلى شاغل" (¬1). ويناقش: وهذا الكلام مدخول من أكثر من وجه: الوجه الأول: لو صح قياس بيع الدين بالدين، على بيع العين بالدين، لم يكن هناك إجماع على النهي عن بيع المؤخر بالمؤخر، وقد اتفقوا على منع بيع المؤخر بالمؤخر، كما لو باع عليه موصوفًا مؤجلًا، بثمن مؤجل. الوجه الثاني: ذكر ابن القيم أن كل واحد منهما له منفعة من هذه المعاملة، فالمدين أفرغ ذمته من دين وشغلها بآخر، والآخر حصل على الربح، والسؤال: كيف صحح ابن القيم أن يبيع الدين على من هو عليه بثمن مؤجل، وأذن له أن يربح فيه مع أن بيع الدين على من هو عليه بثمن حال يشترط لجوازه ألا يربح فيه حتى لا يربح فيما لم يضمن، فبيعه بثمن مؤجل من باب أولى ألا يربح فيه. الدليل السادس: استدل ابن القيم على الجواز بالقياس على المقاصة، وهو بيع الساقط بالساقط. يقول ابن القيم: "إذا كان الدين في ذمة المسلم إليه، فاشترى به شيئًا في ذمته ¬
ويناقش
فقد سقط الدين من ذمته وخلفه دين آخر واجب، فهذا من بيع الساقط بالواجب، فيجوز كما يجوز بيع الساقط بالساقط في باب المقاصة" (¬1). ويناقش: هناك فرق كبير بين بيع المقاصة وبين مسألتنا، ففي بيع المقاصة تبرأ الذمم، وينتهي الدين، فهو بمنزلة بيع عين بعين، بينما في مسألتنا تنشغل ذمة المدين بدين آخر بلا فائدة، وكان بالإمكان أن يمهل المدين إذا كان المقصود الإرفاق به لولا ما يرجوه الدائن من أخذ الربح في مقابل زيادة الأجل. الراجح: القول بالمنع؛ لأن المسألة لا تخرج إما أن يراد من هذه المعاملة منفعة الدائن، أو منفعة المدين، أو لا يراد منفعة أي واحد منهما. فإن كان لا منفعة لهما كانت هذه المعاملة عبثًا، والعاقل لا يبيع أو يشتري ما لا منفعة فيه للمتعاقدين. وإن كان يرى أن المنفعة في هذا التصرف في جانب الدائن فقط كان هذا من قبيل تقضي أو تربي، وتكون الزيادة في الأجل مقابل هذه المنفعة، وهي محرمة بالإجماع. وإن كانت المنفعة للمدين فقط حيث يراه في الانتقال إلى المبيع الجديد قد يكون أسهل لوفاء دينه، فلينتظر حتى يكون المبيع معه، ثم يبيعه إياه، فيكون ذلك أسهل لوفاء دينه حقيقة لا دعوى، ويكون من قبيل بيع دين بعين، وليس من قبيل بيع دين بدين، والله أعلم. ¬
المطلب الثالث بيع الدين على غير من هو عليه بثمن حال
المطلب الثالث بيع الدين على غير من هو عليه بثمن حال [م - 209] إذا كان الرجل مدينًا لآخر بمائة صاع من البر، فهل يجوز أن يبيعها على ثالث بمائة ريال حالة. والمبيع هنا ليس معينًا، وإنما هو في الذمة، والمدين الأول والمدين الثاني (الذي هو البائع) كلاهما ضامنان للمبيع لكون الدين متعلقًا بذمتهما، فإذا ربح فيه البائع لا يقال: ربح فيما لم يضمن. وقد أختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: لا يجوز بيع الدين لغير المدين مطلقًا. وهذا قول الحنفية (¬1)، وإحدى القولين للشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب ¬
القول الثاني
الحنابلة (¬1). القول الثاني: يجوز بيع الدين مطلقًا، وهو رواية عن أحمد، اختارها ابن تيمية (¬2). القول الثالث: يجوز بيع الدين بالعين بشروط، وهو مذهب المالكية (¬3)، والراجح عند ¬
تعليل من قال: لا يجوز
الشافعية (¬1). تعليل من قال: لا يجوز: التعليل الأول: علل الفقهاء المنع بعدم القدرة على التسليم، والقدرة شرط انعقاد العقد (¬2). ويناقش: بأن البائع يبيع شيئًا موصوفًا في الذمة، وما كان في الذمة فهو ليس عرضة ¬
التعليل الثاني
للتلف بخلاف المعين إذا كان في يد غيره فقد يتغير، وقد يتلف، فتبقى ذمة البائع مشغولة بهذا الدين حتى يسلمه إلى صاحبه. التعليل الثاني: أن الدين عند الحنفية، ووجه عند الشافعية، لا يعتبر مالًا، فالحنفية يرون أن المال: ما يمكن إحرازه، وادخاره، والدين معدوم، حال تعلقه بالذمة، قال الزركشي: "هل يجوز بيع الدين من غير من عليه الدين؟ إن قلنا: إنه مال جاز، أو حق فلا؛ لأن الحقوق لا تقبل النقل إلى الغير" (¬1). ويناقش: الدين وصف للمال، وليس هو المال، فالمال إما ذات أو عرض (منفعة)، وكلاهما قد يكون دينًا وقد يكون معينًا. فالمال إذا كان ذاتًا كما لو كان مائة صاع من البر، إن كان قائمًا فهو معين، وإن كان موصوفًا من غير تعيين، متعلقًا بالذمة، فهو دين، وكلاهما يؤول إلى ذات وليس إلى عرض (منفعة). والعرض (المنفعة) تكون دينًا ومعينة، فإذا استأجر الرجل ركوب دابة من صاحبها، فإن كانت الدابة معينة، فهي منفعة معينة، وإن كانت الدابة موصوفة في الذمة فالمنفعة دين في الذمة، فتقسيم المال إلى ثلاثة أقسام عين ودين ومنفعة تقسيم غير دقيق، فالدين وصف للمال عينًا كان أو عرضًا، وكما تكون المنفعة عينًا ودينًا، يكون المال عينًا ودينًا، فالدين وصف يلحق الذوات كما يلحق المنافع. ¬
دليل من قال: يجيز بيع الدين على غير من هو عليه بالشروط المذكورة.
دليل من قال: يجيز بيع الدين على غير من هو عليه بالشروط المذكورة. ما دام أن الدين ثابت في الذمة، لا يخشى سقوطه، وكان الثمن حالًا، لم يكن بيعه من باب بيع الدين بالدين المنهي عنه، ولأن الذين منعوه، إنما منعوه: إما خوفًا من الغرر، صاما خوفًا من الوقوع في الربا، ولذلك جعلنا لجواز هذا البيع، ما ينفي وقوع الغرر، وذلك بكون الدائن مليئًا مقرًّا بما عليه من الدين، كما جعلنا لهذا البيع من الشروط ما ينفي الوقوع في الربا من اشتراط التقابض في المجلس، وكون المبيع مما يجوز بيعه قبل قبضه، وألا يكون الثمن ذهبًا بفضة، فإذا تحققت هذه الشروط انتفى خوف الغرر، كما انتفى خوف الوقوع في الربا، فلا حرج في جواز هذا البيع، والله أعلم. الراجح: القول بالجواز، وإذا كنا منعنا في بيع الدين على من هو عليه ألا يربح فيه؛ لأن الدين ليس من ضمان البائع، فإنه لا مانع في بيع الدين على غير من هو عليه من أن يربح فيه البائع، فيجوز له أن يبيعه بمثل ثمنه أو أقل أو أكثر؛ لأن البائع إذا باع شيئًا موصوفًا في الذمة كانت ذمته مشغولة بالضمان، وإذا كان ضامنا لم يمنع من الربح فيه، ولا مانع أن يكون المتعهد بالضمان المدين الأول والمدين الثاني. وكون الشيء مضمونا على شخص بجهة، ومضمونا له بجهة أخرى غير ممتنع شرعًا ولا عقلًا، ويكفي في رده أنه لا دليل على امتناعه، فهذا المستأجر يجوز له إجارة ما استأجره، والمنفعة مضمونة له على المؤجر، وهي مضمونة عليه للمستأجر الثاني (¬1). ¬
وجاء في المدونة: "قال مالك: لا بأس أن تبيع ما سلفت فيه، إذا كان من غير ما يؤكل ويشرب، من غير الذي عليه ذلك السلف، باقل أو بأكثر أو بمثل ذلك إذا انتقدت، وأما الذي عليه السلف فلا تبعه منه قبل الأجل بأكثر، ولا تبعه منه إلا بمثل الثمن أو أقل، ويقبض ذلك" (¬1). والله أعلم. نعم لو قال البائع: أبيع عليك ما في ذمة فلان على أني لا أضمن لك تسلم المبيع لو صح مثل هذا الشرط يصح أن يقال: لا يجوز أن يربح فيه؛ لأنه قد ربح فيما لم يضمن، أما إذا باع موصوفًا في الذمة فهو قد باع غير معين، فلا مانع من الربح فيه. ... ¬
المطلب الرابع بيع الدين لغير المدين بثمن مؤجل
المطلب الرابع بيع الدين لغير المدين بثمن مؤجل [م - 210] إذا كان الرجل مدينًا لآخر بمائة صاع من البر، فهل يجوز أن يبيعها على ثالث بمبلغ مؤجل مدة معينة. ذهب الأئمة الأربعة إلى منع بيع الدين على غير المدين بثمن مؤجل (¬1). قال الكاساني: "الدين لا يقبل التمليك لغير من عليه الدين" (¬2). واعتبره المالكية قسمًا من أقسام الكالئ بالكالئ. قال الخرشي: " (وبيعه بدين) هذا هو القسم الثاني من أقسام الكالئ، والمعنى أن الدين ولو حالًا لا يجوز بيعه بدين" (¬3). وجاء في البهجة في شرح التحفة: "وأما إذا باعه لغير من هو عليه فيجوز قبل ¬
وجه القول بالمنع
الأجل وبعده بشرط أن يكون الثمن نقدًا، لا مؤجلًا فيمنع مطلقًا؛ لأنه من بيع الدين بالدين" (¬1). وجاء في حاشية الجمل: "حاصل الصور في هذا المقام أربعة: بيع الدين بغير دين لمن هو عليه، ولغير من هو عليه، وهاتان صحيحتان، الأولى باتفاق، والثانية على المعتمد. وبيع الدين بالدين لمن هو عليه ولغير من هو عليه، وهاتان باطلتان" (¬2). وقال في شرح منتهى الإرادات: "ولا بيع دين لغير من هو عليه مطلقًا ... " (¬3). وصحح المالكية بيع الدين بعين ولو كانت العين مؤجلة (¬4). قال الخرشي: "وفهم من قوله: بدين عدم منع بيع الدين بمعين يتأخر قبضه، أو بمنافع معين" (¬5). وعلل المالكية جواز بيع الدين بعين مؤجلة، بأن العين لا تثبت دينًا في الذمة، ولو تأخر تسليمها؛ فهو من قبيل بيع الدين بحاضر. وجه القول بالمنع: أن هذا من قبيل بيع الدين بالدين، والإجماع على منعه. ولأن هذا البيع صورة من صور بيع الكالئ بالكالئ، هو المؤخر بالمؤخر، فالثمن مؤخر في ذمة المشتري، والمبيع مؤخر في ذمة المدين. ¬
ولأن هذا التصرف فيه شغل لذمتي البائع والمشتري بدون فائدة، وذلك أن البائع لم يستلم الثمن حتى ينتفع به، والمشتري لم يستلم المبيع، ليقضي حاجته، فكلاهما غير محتاج لهذه المعاملة حين التعاقد. قال ابن تيمية: "فإن ذلك منع منه؛ لئلا تبقى ذمة كل منهما مشغولة بغير فائدة حصلت لا له ولا للآخر، والمقصود من العقود القبض، فهو عقد لم يحصل به مقصوده أصلًا، بل هو التزام بلا فائدة" (¬1). وجاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي: "فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في المدة من 21/ 26/ 10/ 1422 ... قد نظر في موضوع بيع الدين وبعد استعراض البحوث التي قدمت، والمناقشات المستفيضة حول الموضوع ... وبناء على ذلك قرر المجمع ما يأتي: ... ثانيًا: من صور بيع الدين غير الجائزة: ... (ب) بيع الدين لغير المدين بثمن مؤجل من جنسه، أو من غير جنسه؛ لأنها صورة من صور بيع الكالئ بالكالئ (أي الدين بالدين) الممنوع شرعًا". ولا أعلم أحدًا قال بجواز بيع الدين على غير المدين بثمن مؤجل، وإذا كانت الصورة السابقة، وهي بيع الدين على المدين بثمن مؤجل لم يقل بها أحد من العلماء إلا ما نقل عن ابن القيم، فإن هذه الصورة يجزم الباحث بعدم ثبوت القول بالجواز عن أحد من أهل العلم، والله أعلم. ... ¬
المسألة الثالثة ابتداء الدين بالدين
المسألة الثالثة ابتداء الدين بالدين يقصد به؛ أن يبتدئ المتعاقدان التعامل بينهما عن طريق الدين بالدين، وهو لا يقع إلا في السلم خاصة إذا كان الثمن موصوفًا مؤجلًا. وهذا مجمع على منعه حيث لم يختلف أحد في منعه. قال الشافعي: "المسلمون ينهون عن بيع الدين بالدين" (¬1). "وقال أحمد: لم يصح منه -أي في النهي عن بيع الكالئ بالكالئ- حديث، ولكن هو إجماع، وهذا مثل أن يُسْلَفَ إليه شيء مؤجل، فهذا الذي لا يجوز بالإجماع " ثم قال ابن تيمية: "والإجماع إنما هو بالدين الواجب كالسلف المؤجل من الطرفين" (¬2). ... ¬
الحكم الرابع في تعيين مكان القبض
الحكم الرابع في تعيين مكان القبض من المعلوم أنه لا بد في البيع من تسليم المبيع، واستلام الثمن، والمبيع تارة يكون حالًا، وتارة يكون مؤجلًا، وقد يكون لنقله إلى محل التسليم مئونة، وقد لا يكون له مئونة، كما أن المكان الذي عقد فيه البيع تارة يكون صالحًا للتسليم، وتارة لا يكون صالحًا، والعاقدان أحيانًا يعينان مكان التسليم، وأحيانًا يكون العقد مطلقًا. وكل هذه الصور تستدعي البحث عند الكلام على تعيين مكان القبض.
المبحث الأول في وجوب تعيين مكان التسليم
المبحث الأول في وجوب تعيين مكان التسليم [م - 211] المبيع إذا كان حالًا غير مؤجل تعين موضع العقد موضعًا للتسليم، وهذا بالاتفاق. قال الكاساني: "إذا كان حالًا -يعني المبيع- يتعين مكان العقد للتسليم بالإجماع" (¬1). وإذا كان المبيع مؤجلًا فهل يجب على المتعاقدين أن يذكرا في العقد مكان التسليم؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجب على العاقدين تعيين مكان التسليم سواء أكان التسليم يحتاج إلى مئونة أم لا، ويكون موضع العقد هو موضع التسليم، فإن كان لا يصلح للتسليم كالبحر والصحراء فإن الوفاء يتعلق بأقرب الأماكن إلى موضع العقد. وهذا اختيار أبي يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬2)، والمذهب عند المالكية (¬3)، وقول في مذهب الشافعية (¬4)، واختاره القاضي أبو يعلى من الحنابلة (¬5). إلا أن المالكية قالوا يفضل تعيين المكان، ولا يجب. ¬
دليل هذا القول
دليل هذا القول: الدليل الأول: حديث ابن عباس المتفق عليه، وفيه: من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر مكان إيفاء المسلم فيه، مع أن الحديث وارد لبيان شروط السلم، فدل على عدم اشتراطه، وإذا لم يجب في المسلم فيه لم يجب في غيره من البيوع المؤجلة. الدليل الثاني: إطلاق العقد يقتضي التسليم في الموضع الذي تم به العقد، لأن سبب وجوب الإيفاء هو العقد، والعقد وجد في هذا المكان فتعين هذا المكان موضعًا للوفاء، فإذا كان لا يصلح للتسليم، انتقل الحق إلى أقرب مكان من موضع العقد. ونوقش هذا: بأن العقد قائم بالعاقدين لا بالمكان، فلم يوجد العقد في هذا المكان، وإنما هذا مكان المتعاقدين. القول الثاني: ذهب الشافعية في المعتمد إلى أنه لا يجب تعيين مكان التسليم، ويكون التسليم في موضع العقد إلا في حالتين: الحال الأولى: إذا كان التسليم لحمله مئونة، فيجب ذكر مكان الإيفاء، ¬
دليل هذا القول
ووافق أبو حنيفة الشافعية، فيما إذا كان المبيع لحمله مؤونة فيجب عنده ذكر مكان الإيفاء (¬1). الحال الثانية: إذا كان موضع العقد لا يصلح للتسليم (¬2). ووافق الحنابلة الشافعية فيما إذا كان موضع العقد لا يصلح للتسليم، كالصحراء، والبحر، فيجب عندهم ذكر مكان الإيفاء (¬3). جاء في الإنصاف: "ولا يشترط ذكر مكان الإيفاء إلا أن يكون موضع العقد لا يمكن الوفاء به" (¬4). دليل هذا القول: وجه اشتراط تعيين مكان الوفاء إذا كان التسليم له حمل مئونة: يرى الشافعية أن موضع العقد هو محل التسليم، ولكن اشترطنا بيان مكان الوفاء إذا كان لحمله مؤنة قطعًا للمنازعة؛ لأن ما لحمله مؤنة تختلف قيمته باختلاف الأمكنة، فوجب اشتراط تعيين مكان الإيفاء، بخلاف ما لا حمل له ولا مئونة، فيتعين موضع العقد موضعًا للتسليم. ويرى أبو حنيفة أن موضع العقد لا يتعين مكانًا للوفاء ولو كان صالحًا للتسليم؛ لأن العقد وجد مطلقًا عن تعيين مكان الوفاء، فلا يتعين مكان العقد ¬
القول الثالث
مكانًا للإيفاء، والقول بأن مكان العقد هو موضع الوفاء من غير تعيين العاقدين تعيين لمطلق، فلا يجوز إلا بدليل، فإذا كان المبيع لا مئونة في حمله صح تسليمه في أي مكان، وإذا كان المبيع لحمله مئونة وجب تعيين مكان الوفاء، فإذا لم يتعين بقي مكان الوفاء مجهولًا فيؤدي ذلك إلى التنازع، فيفسد العقد. وجه اشتراط تعيين مكان الوفاء إذا كان موضع العقد لا يصلح للتسليم: إذا كان موضع العقد لا يصلح للتسليم كالصحراء والجبل تعذر الوفاء في موضع العقد، فيكون محل التسليم مجهولًا، وليس بعض الأماكن أولى من بعض، فاشترط تعيينه بالقول. القول الثالث: اختار ابن حزم بأن المتعاقدين إذا اشترطا دفعه في مكان بعينه فقد فسد العقد، بناء على مذهبه في الشروط، وأن كل شرط لم ينص الشرع على جواز اشتراطه، فاشتراطه باطل مفسد للعقد، وقد أجبنا على مذهبه في باب الشروط الجعلية، فأغنى عن إعادته هنا (¬1). الراجح: أرى أن تعيين مكان الوفاء ليس شرطًا يتوقف عليه صحة العقد؛ لأن مكان الإيفاء أمر خارج عن العقد، وإذا صح العقد تعين موضع العقد مكانًا للإيفاء، فإن كان غير صالح كان أقرب مكان لموضع العقد، على أن المبيع إذا كان لحمله مئونة ينبغي ذكر مكان الإيفاء قطعًا للنزاع، ولا يجب، والله أعلم. ... ¬
المبحث الثاني إذا عين المتعاقدان مكانا للتسليم غير مكان العقد
المبحث الثاني إذا عين المتعاقدان مكانًا للتسليم غير مكان العقد [م - 212] إذا عين المتعاقدان مكانًا للتسليم غير مكان العقد، فهل يتعين؟ اختلف الفقهاء على قولين: القول الأول: يتعين المكان بالتعيين مطلقًا، سواء كان لحمله مئونة، أو لا، وهذا مذهب الجمهور (¬1). وجه هذا القول: أن العاقدين لما عينا مكانًا للتسليم صار شرطًا في العقد، والشروط الصحيحة يجب الوفاء بها ديانة وقضاء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. ولأن القيمة تختلف باختلاف الأماكن بحسب العرض والطلب، فإذا عين العاقد موضع التسليم كان له غرض صحيح من التعيين، فيجب الوفاء به. القول الثاني: إن كان لحمله مئونة تعين بالتعيين، وإن لم يكن لحمله مئونة لم يتعين، وله أن يوفيه في أي مكان شاء، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2). ¬
وجه هذا القول
وجه هذا القول: أن المعقود عليه إذا لم يكن لحمله مئونة لم تختلف قيمته باختلاف الأماكن، فلم يتعين المكان بالتعيين. والراجح القول الأول؛ لأنه لما نص عليه في العقد وجب الوفاء به.
المبحث الثالث إذا لم يعين المتعاقدان مكانا للتسليم
المبحث الثالث إذا لم يعين المتعاقدان مكانًا للتسليم [م - 213] إذا كان العقد مطلقًا لم يعين المتعاقدان فيه مكانًا للتسليم، فقد اختلف الفقهاء على ثلاثة أقوال: القول الأول: يتم التسليم حيث يوجد المبيع، وهذا مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: يجب الوفاء في موضع العقد إن لم يشرط في غيره، والمراد بموضع العقد تلك المحلة، لا نفس موضع العقد، وهذا اختيار أبي يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية، ومذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة (¬2). ¬
القول الثالث
القول الثالث: إن كان لحمله مئونة تعين موضع العقد، وإن كان لا مئونة لحمله فله أن يوفيه في أي مكان شاء؛ لأن الأماكن كلها سواء. قال في البحر الرائق: وهو الأصح (¬1). والصحيح مذهب الجمهور أن مكان التسليم هو موضع العقد. أولًا: لأن سبب وجود التسليم وجد في موضع العقد، فوجب أن يتعين هذا المكان مكانًا للإيفاء (¬2)، فموضع العقد: هو موضع الالتزام، فيتعين لإيفاء ما التزمه (¬3). وثانيًا: لأن القيمة تختلف باختلاف الأماكن، واختلاف الطلب، فتجد في مكان قد يرتفع سعر سلعة ما نتيجة إقبال أهل البلد عليها، وقد تنخفض في آخر نتيجة إعراض الناس عنها، وقلة رغبتهم فيها، فدفعًا للضرر يكون التسليم حيث وجب العقد. ¬
الحكم الخامس في تلف المبيع
الحكم الخامس في تلف المبيع التلف تارة يكون الباعث على بحثه معرفة من يكون عليه ضمان المبيع، وتارة يكون الباعث على بحثه معرفة أثر التلف في فسخ العقد ولزومه، وفي هذا المبحث سنتكلم فقط على مسألة أثر التلف من جهة الضمان، وأما مسألة الفسخ فسأفرد لها إن شاء الله تعالى بابًا خاصًا في آخر الكتاب، يلحق فيها الكلام على أحكام الإقالة باعتبارها نوعًا من أنواع الفسخ. كما أن التلف تارة يكون قبل القبض، وتارة يكون بعده، كما أن المتلف قد يكون آفة سماوية، وقد يحصل التلف بفعل متلف، وكل منها يحتاج إلى بحث، وهذا إن شاء الله تعالى ما سوف نقوم باستكشافه، نسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ***
المبحث الأول في ضمان المبيع إذا تلف قبل القبض بآفة سماوية
المبحث الأول في ضمان المبيع إذا تلف قبل القبض بآفة سماوية الفرع الأول أن يكون في المبيع حق توفية جاء في التلقين: كل مبيع هلك قبل قبضه فهو من المشتري إن كان متعينًا متميزًا، وإن كان مما يجب فيه حق توفية فهو من البائع (¬1). [م - 214] إذا تلف المبيع بآفة سماوية قبل القبض، وكان فيه حق توفية من كيل، أو وزن، أو عد أو ذرع، فهو من ضمان البائع. وهذا قول عامة الفقهاء من الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). وعليه فإذا حدث عيب في المبيع قبل القبض، وكان فيه حق توفية، فإنه يثبت للمشتري خيار الرد بالعيب؛ لأنه مضمون في هذا الوقت على البائع. ¬
فإن كان البائع قد تسلم الثمن، فللمشتري حق أن يطالبه برده، وإن لم يكن قد تسلم الثمن فلا حق للبائع بالمطالبة به.
الفرع الثاني في ضمان المبيع إذا لم يكن فيه حق توفية
الفرع الثاني في ضمان المبيع إذا لم يكن فيه حق توفية [م - 215] إذا تلف المبيع قبل القبض بآفة سماوية، ولم يكن فيه حق توفية من كيل، أو وزن، أو عد، أو ذرع، فاختلف الفقهاء فيمن يضمن المبيع. فقيل: ضمانه على البائع، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: ضمانه على المشتري، وهو مذهب المالكية (¬4)، والمشهور عند ¬
- دليل من قال: ضمانه على البائع
الحنابلة (¬1). - دليل من قال: ضمانه على البائع: جاءت نصوص كثيرة في المنع من بيع الشيء قبل قبضه، وسبب المنع أن ضمانه قبل القبض على البائع، فلا يجوز للمشتري أن يربح فيما لم يضمنه، فمنع من بيعه حتى يقبضه، ليكون ضمانه عليه. (ح -127) فقد روى أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬2). [إسناده حسن] (¬3). ¬
ومن النصوص الدالة على منع بيع الشيء قبل قبضه، حديث ابن عباس في البخاري: أما الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو الطعام أن يباع حتى يقبض، قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله (¬1). (ح -128) وحديث ابن عمر في سنن أبي داود نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (¬2). [انفرد الوهبي بلفظ (السلع) وقد رواه غيره بلفظ: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك، وهو المحفوظ] (¬3). وحديث حكيم بن حزام عند أبي داود قال: قلت: يا رسول الله إني اشتري بيوعًا، فما يحل لي، وما يحرم علي؟ فقال لي: إذا بعت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه (¬4). [المحفوظ في إسناده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام حتى يستوفى] (¬5). وقد أجبت على هذه الأحاديث في مسألة التصرف في المعين قبل قبضه، وبينت أنها لا تدل على المراد. ونجيب أيضًا عليها بطريق الإجمال، فيقال: الأول: لا يلزم من النهي عن الربح فيما لم يضمن النهي عن أصل البيع كما لو باعه بنفس الثمن دون أن يربح فيه، فالقول بأن النهي عن بيع ما لم يقبض من ¬
أجل أن ضمانه على البائع، لذلك منع من التصرف فيه حتى لا يربح فيما لم يضمن قول غير دقيق. ثانيا: أن هذا ينتقض على قول أبي حنيفة وأبي يوسف في بيع العقار، فإنهما يجوزان أن يربح المشتري في العقار قبل قبضه (¬1). ثالثًا: مسألة تصرف المشتري فيما لم يقبضه سبق بحثها في مسألة مستقلة، والأقوال فيها كثيرة، وقد رجحت فيها أن النهي خاص في بيع الطعام الذي يحتاج إلى توفية من كيل، أو وزن، ويقاس عليه ما احتاج إلى عد، أو ذرع. وقد قال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل رحمه الله عن ربح ما لم يضمن؟ فقال: هذا في الطعام، وما أشبهه ... فلا يبعه حتى يقبضه (¬2). وجاء في المنتقى: "قال عيسى: سألت ابن القاسم عن ربح ما لم يضمن؟ فقال: ذكر مالك أنه بيع الطعام قبل أن يستوفى؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى) فربحه حرام، قال: وأما غير الطعام: العروض، والحيوان، والثياب، فإن ربحه حلال لا بأس به؛ لأن بيعه قبل استيفائه حلال" (¬3). رابعًا: التلازم بين التصرف والضمان فيه خلاف، ففي مذهب الحنابلة قولان: أحدهما: أنه لا تلازم بين التصرف والضمان، بدليل أن المنافع المستأجرة يجوز أن يؤجرها المستأجر، وهي مضمونة على المؤجر الأول، والثمر المبيع ¬
- دليل من قال: ضمان المبيع على المشتري إذا لم يكن فيه حق توفية.
على شجره يجوز بيعه، وهو مضمون على البائع الأول، والمقبوض قبضًا فاسدًا كالمكيل إذا قبض جزافًا، ينتقل الضمان فيه إلى المشتري، ولا يجوز التصرف فيه قبل كيله (¬1)، وبيع الدين ممن هو في ذمته جائز على المذهب، وليس مضمونًا على مالكه، وكذلك المالك يتصرف في المغصوب والمعار والمقبوض قبضًا بعقد فاسد، وضمانها على القابض (¬2). وقد سبق بحث التلازم بين التصرف والضمان في مبحث مستقل، فليراجعه من أراد الاستزادة. - دليل من قال: ضمان المبيع على المشتري إذا لم يكن فيه حق توفية. الدليل الأول: (ث -22) ما رواه الطحاوي من طريق بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، عن حمزة بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال: ما أدركت الصفقة حيًّا، قهو من مال المبتاع. [إسناده صحيح، وهو موقوف] (¬3). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أثر ابن عمر يدل على أن الأصل في المال المعقود عليه مما لا يحتاج إلى استيفاء أنه من ضمان المشتري، ولو لم يقبضه. الدليل الثاني: أن الغنم بالغرم، فإذا كان الملك يتم بالعقد، وليس بالقبض، وخراج المبيع للمشتري على الصحيح من وقت تمام العقد؛ فإن الخراج بالضمان، فمن كان له خراجه كان عليه ضمانه. (ح -129) فقد روى أحمد من طريق ابن أبي ذئب، قال: حدثني مخلد ابن خفاف بن إيماء، عن عروة عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: الخراج بالضمان (¬1). [إسناده ضعيف، وضعفه البخاري وأبو داود، وقال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم] (¬2). والحديث وإن لم يثبت إسنادًا، فهو أصل متفق عليه بين الفقهاء (¬3). الدليل الثالث: إذا مكن البائع المشتري من القبض، فقد أدى ما عليه، فإذا تلف كان من مال المشتري؛ لأنه هو المفرط بترك القبض، وإحالة الضمان على المفرط أولى من إحالته على من قام بما يجب عليه، ولم يفرط، كما في عقد الإجارة، فإن ¬
الراجح
المستأجر إذا فرط في استيفاء المنافع حتى تلفت كانت من ضمانه، ولو تلفت من غير تفريط كانت من ضمان المؤجر (¬1). - الراجح: الذي أميل إليه أن مذهب المالكية والحنابلة أقوى؛ لقوة أدلته، ولأن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، وعليه فإذا حدث عيب في المبيع قبل القبض، وبعد العقد، بفعل سماوي ولم يكن في المبيع حق توفية فإن ضمانه على المشتري، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني ضمان المبيع إذا تلف بفعل آدمي
المبحث الثاني ضمان المبيع إذا تلف بفعل آدمي الفرع الأول إذا تلف المبيع بفعل البائع قبل القبض إتلاف البائع للمبيع بعد لزوم العقد كإتلاف الأجنبي (¬1). وقال الشافعي: كل مبيع من ضمان البائع حتى يقبضه المشتري (¬2). [م - 216] اتفق العلماء على أن ضمان المبيع على البائع إذا تلف بفعل منه، واختلفوا في كيفية الضمان على ثلاثة أقوال: القول الأول: يضمن البائع المبيع بالثمن، بأن يرد الثمن على المشتري إن كان قد استلمه، وإن لم يكن قد استلمه، فلا حق للبائع بالمطالبة به. وهذا مذهب الحنفية (¬3)، والشافعية (¬4). وجه ذلك: أن المبيع إذا تلف بفعل البائع قبل القبض بطل العقد، وانفسخ البيع، وإذا ¬
القول الثاني
انفسخ البيع كان على البائع أن يرد الثمن إلى المشتري إن كان قد استلمه، وإن لم يكن البائع قد استلمه فلا حق له في المطالبة به. ولأن يد البائع ليست يد أمانة، فلا يمكن إعفاؤه من الضمان. القول الثاني: يضمن البائع المبيع بالمثل إن كان مثليًا، أو بالقيمة إن كان متقومًا. وهذا مذهب المالكية (¬1). وجه ذلك: أن إتلاف البائع للمبيع بعد لزوم العقد كإتلاف الأجنبي، لا فرق في ذلك، فمن باشر الإتلاف، وجب عليه الغرم: والغرم: هو ضمان المتلف بالمثل إن كان مثليًا، أو بالقيمة إن كان متقومًا؛ لأن البائع قد أتلف مالًا مملوكًا لغيره، بغير إذنه، فالمبيع قد صار مملوكًا للمشتري بالعقد قبل القبض، فمن أتلفه وجب عليه أن يغرم ما أتلفه. القول الثالث: التفريق بين ما بيع بكيل ونحوه مما فيه حق استيفاء، وما ليس كذلك: ¬
- وجه التفريق بين ما كان فيه حق توفية وبين غيره
فإن كان في المبيع حق توفية: خير مشتر بين الفسخ وأخذ الثمن، وبين الإمضاء، ومطالبة البائع بمثله إن كان مثليًا، أو بقيمته إن كان متقومًا. وإن لم يكن في المبيع حق توفية، فإن البائع يضمن المبيع بمثله، إن كان مثليًا، أو بقيمته إن كان متقومًا. وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). - وجه التفريق بين ما كان فيه حق توفية وبين غيره: أن المبيع الذي فيه حق توفية ضمانه على البائع حتى يقبضه المشتري، فإذا أتلفه البائع فكأنه حدث به عيب عند البائع، فيخير المشتري بين الفسخ، ليأخذ الثمن، وبين إمضاء البيع ليضمن البائع بدل المبيع، وبدل المبيع: هو المثل في المثليات، والقيمة في غير المثليات. وأما إذا لم يكن في المبيع حق توفية، فإنه يدخل في ضمان المشتري بمجرد العقد، فإذا أتلفه البائع، فقد أتلف ملك غيره، فيجب عليه ضمان ما يتلفه: وهو دفع مثله إن كان مثلياً، أو دفع قيمته إن كان متقومًا. وأنا أميل إلى قول الحنابلة، وقريب منه قول المالكية، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني إذا تلف المبيع بفعل المشتري قبل القبض
الفرع الثاني إذا تلف المبيع بفعل المشتري قبل القبض إتلاف المشتري للمبيع يقوم مقام القبض (¬1). [م - 217] إذا أتلف المشتري المبيع قبل القبض لم ينفسخ البيع، وضمنه المشتري بالثمن. وهذا مذهب الأئمة الأربعة (¬2). وجه ذلك: أن المشتري لما أتلف المبيع فهذا يدل على أنه تصرف فيه، وتصرف المشتري في المبيع ينزل منزلة القبض له، فكأنه أتلفه بعد قبضه، وإذا أتلفه بعد القبض استقر عليه الثمن، فكذلك هنا. قال الكاساني: "وإن هلك بفعل المشتري لا ينفسخ البيع، وعليه الثمن؛ لأنه بالإتلاف صار قابضًا كل المبيع؛ لأنه لا يمكنه إتلافه إلا بعد إثبات يده عليه، وهو معنى القبض، فيتقرر عليه الثمن" (¬3). ¬
وقال ابن قدامة: "فإن أتلفه المشتري استقر عليه الثمن، كما لو قبضه" (¬1). ¬
الفرع الثالث إذا تلف المبيع قبل القبض بفعل أجنبي
الفرع الثالث إذا تلف المبيع قبل القبض بفعل أجنبي [م - 218] إذا تلف المبيع قبل القبض بفعل أجنبي، فالضمان عليه؛ لأنه أتلف مال غيره، فوجب عليه ضمانه. وكيفية ضمانه: أن على متلفه أن يغرم بدل ما أتلفه: وهو دفع المثل إن كان المتلف مثليًا، أو دفع قيمته، إن كان المتلف متقومًا (¬1). هذا فيما يتعلق بالضمان، أما مسألة انفساخ العقد، وهل يخير المشتري بين الفسخ والإمضاء، فهي مسألة أخرى لم نتعرض لها؛ لأن البحث هنا إنما هو في ضمان المبيع، لا في أثر التلف على انفساخ العقد. وبهذا المبحث نكون قد انتهينا من بحث ضمان المبيع فيما لو تلف قبل القبض، سواء كان بآفة سماوية، أو كان بفعل أحد العاقدين، أو كان ذلك من أجنبي. ونناقش إن شاء الله تعالى في الفصل التالي ضمان المبيع إذا تلف بعد القبض، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
المبحث الثالث في ضمان المبيع إذا تلف بعد القبض
المبحث الثالث في ضمان المبيع إذا تلف بعد القبض [م - 219] إذا تلف المبيع بعد القبض فضمانه على المشتري إلا في مسألتين، قد اختلف العلماء فيهما: الأولى: الثمر المبيع على شجره إذا بيع دون أصله، وقد بدا صلاحه، ولم يتم نضجه، فباعه صاحبه مبقى إلى الجذاذ، فإذا خلى البائع بينه وبين المشتري، فأصابته جائحة (¬1) فعلى من يكون ضمانه؟ الثانية: هلاك العين المستأجرة قبل تمام المدة. وسوف نعرض لهاتين المسألتين، ونذكر كلام أهل العلم فيهما. ¬
الفرع الأول في ضمان الثمرة إذا أصابتها جائحة
الفرع الأول في ضمان الثمرة إذا أصابتها جائحة [م - 220] الثمر المبيع على شجره إذا بيع دون أصله، وقد بدا صلاحه، ولم يتم نضجه، إذا قبضه المشتري، فأصابته جائحة، فعلى من يكون ضمانه؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: ضمان المبيع على المشتري، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والقول الجديد للشافعي (¬2). القول الثاني: ضمانه على البائع. وهو مذهب المالكية (¬3)، والحنابلة (¬4)، والقديم من قول الشافعي (¬5). - دليل من قال بوضع الجوائح: (ح -130) ما رواه مسلم من طريق سفيان بن عيينة، عن حميد الأعرج، عن ¬
وجه الاستدلال
سليمان بن عتيق عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع الجوائح (¬1). (ح -131) ورواه مسلم من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو بعت من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ (¬2). وجه الاستدلال: أن قوله: (لا يحل لك) وقوله: (بم تأخذ مال أخيك بغير حق) وقوله: (أمر بوضع الجوائح) كل ذلك يفيد أن لأمر ليس من قبيل الندب، وإنما هو من قبيل الإلزام. وأجيب عن الحديث بجوابين: القول بتضعيف الحديث، أو الذهاب إلى تأويله، وإليك هما: الجواب الأول: ذهب إلى القول بتضعيف الحديث الإِمام الشافعي، قال: "سمعت سفيان يحدث هذا الحديث في طول مجالستي له لا يذكر فيه: (أمر بوضع الجوائح) ثم زاد بعد ذلك. قال سفيان: وكان حميد يذكر بعد بيع السنين كلامًا قبل وضع الجوائح لا أحفظه، وكنت أكف عن ذكر وضع الجوائح؛ لأني لا أدري كيف كان الكلام. قال الشافعي: قد يجوز أن يكون الكلام الذي لم يحفظه سفيان يدل على أمره بوضعها على مثال أمره بالصلح على النصف، وعلى مثل أمره بالصدقة تطوعًا ¬
ويجاب عنه
حضًا على الخير لا حتمًا، ويجوز غيره. فلما احتمل الحديث المعنيين، ولم يكن فيه دلالة على أيهما أولى به، لم يجز عندنا، والله أعلم، أن نحكم على الناس في أموالهم بوضع ما وجب لهم بلا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت بوضعه" (¬1). (ح -132) وقد روى الحميدي في مسنده، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت أبا الزبير، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر وضع الجوائح بشيء، قال سفيان: لا أحفظه، إلا أنه ذكر وضعها، ولا أحفظ كم ذلك الوضع (¬2). ويجاب عنه: بأن الحديث لم ينفرد به سفيان، فقد رواه مسلم من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير عن جابر وذكرته عند الاستدلال، مما يدل على أن الحديث بوضع الجوائح، محفوظ، والله أعلم. الجواب الثاني: القول بتأويل الحديث، وله ثلاثة أوجه: الوجه الأول: قال الطحاوي: "إن معنى الجوائح المذكورة فيها، هي الجوائح التي يصاب الناس بها، ويجتاحهم في الأرضين الخراجية، التي خراجها للمسلمين، فوضع ذلك الخراج عنهم واجب لازم؛ لأن في ذلك صلاحًا للمسلمين، وتقوية لهم في عمارة أرضيهم، فأما في الأشياء المبيعات، فلا. فهذا تأويل حديث جابر -يعني حديث أمر بوضع الجوائح. ¬
ويناقش
وأما حديث جابر الثاني -يعني حديث: لو بعت من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا - فمعناه غير هذا المعنى، وذلك أنه ذكر فيه البيع، ولم يذكر فيه القبض، فذلك عندنا على البياعات التي تصاب في أيدي بائعيها قبل قبض المشتري لها، فلا يحل للباعة أخذ أثمانها؛ لأنهم يأخذونها بغير حق، فهذا تأويل هذا الحديث عندهم، فأما ما قبضه المشترون، وصار في أيديهم، فذلك كسائر البياعات التي يقبضها المشترون لها، فيحدث بها الآفات في أيديهم، فكما كان غير الثمار يذهب من أموال المشترين لها، لا من أموال باعتها، فكذلك الثمار" (¬1). ويناقش: القول بأنه تلف قبل القبض ممنوع، بل نقول: ذلك تلف قبل تمام القبض وكماله؛ لأن البائع عليه تمام التربية من سقي الثمر إلى أوان الجذاذ، حتى لو ترك ذلك لكان مفرطًا، ولو فرض أن البائع فعل ما يقدر عليه من التخلية، فالمشتري إنما عليه أن يقبضه على الوجه المعروف المعتاد. فقد وجد التسليم دون تمام التسلم ... (¬2). وقد ناقشت عند الكلام على قبض المبيع: قبض الثمار على الشجر، هل يعتبر قبضا تامًّا، أو قبضًا ناقصًا هناك، فراجعه غير مأمور. الوجه الثاني: حمل حديث جابر على الندب، وعللوا ذلك بأنه لو كان الأمر بوضع الجوائح للوجوب مطلقًا، لم يكن لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها فائدة، ¬
الوجه الثالث
فلما أذن ببيعها بعد بدو صلاحها، دل على أن ضمان ذلك من مال المشتري، فإن أصابته جائحة بعد بدو صلاحها استحب له أن يضع ذلك عن المشتري (¬1). وسوف يأتي الجواب على ذلك عند ذكر أدلة القول الثاني إن شاء الله تعالى. الوجه الثالث: أن حديثي جابر محمولان على بيع ثمرة قبل بدو صلاحها. وقد أجاب عن ذلك ابن تيمية وغيره، قال ابن تيمية: "وهذا باطل لعدة أوجه: أحدها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة) والبيع المطلق لا ينصرف إلا إلى البيع الصحيح. والثاني: أنه أطلق بيع الثمرة، ولم يقل قبل بدو صلاحها، فأما تقييده ببيعها قبل بدو صلاحها، فلا وجه له. الثالث: أنه قيد ذلك بحال الجائحة، وبيع الثمر قبل بدو صلاحه لا يجب فيه ثمن بحال. الرابع: أن المقبوض بالعقد الفاسد مضمون، فلو كان الثمر على الشجر مقبوضًا، لوجب أن يكون مضمونًا على المشتري في العقد الفاسد" (¬2). الخامس: أن المشتري لم يقبض الثمرة القبض التام، الذي يوجب نقل الضمان إليه، فإن قبض كل شيء بحسبه، وقبض الثمار إنما يكون عند كمال إدراكها، ونضجها إنما يحدث شيئاً فشيئًا كالمنافع في الإجارة، وتسليم الشجرة إليه، كتسليم العين المؤجرة من الأرض والعقار والحيوان. ¬
- دليل من قال: لا يجب وضع الجوائح
وعلق البائع لم تنقطع عن المبيع، فإن عليه سقي الأصل، وتعاهده، كما لم تنقطع علق المؤجر عن العين المستأجرة، والمشتري لم يتسلم التسليم التام، كما لم يتسلم المستأجر التسليم التام، فإذا جاء أمر غالب اجتاح الثمرة من غير تفريط من المشتري، لم يحل للبائع إلزامه بثمن ما أتلفه الله - صلى الله عليه وسلم - منها، قبل تمكنه من قبضها القبض المعتاد (¬1). - دليل من قال: لا يجب وضع الجوائح: الدليل الأول: (ح -133) ما رواه مسلم من طريق بكير، عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري، قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فأكثر دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يبطل دين الغرماء بذهاب الثمار، ولم يرده على الباعة بالثمن، إن كانوا قد قبضوا ذلك منه، فدل ذلك على عدم وجوب وضع الجوائح. وأجيب: بأن الحديث مجمل، فهو يتكلم عن رجل اشترى ثمارًا فكثرت ديونه: ¬
الدليل الثاني
فيحتمل أن تكون كثرة الديون بسبب رخص في الأسعار. ويحتمل أن تكون الثمار تلفت، أو بعضها، بعد أن حازها إلى الجرين، أو إلى البيت، أو السوق. ويحتمل أن يكون هذا قبل أن ينهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها. فلا يترك الحديث الصريح البين، لحديث مجمل محتمل. ولو فرض أن هذا كان مخالفًا لكان منسوخًا؛ لأنه باق على حكم الأصل، وذاك ناقل عنة، والناقل عن البراءة الأصلية مقدم على غيره (¬1). الدليل الثاني: (ح -134) ما رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، قال البخاري: قال الليث، عن أبي الزناد، كان عروة بن الزبير يحدث عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري، من بني حارثة، أنه حدثه عن زيد بن ثابت - صلى الله عليه وسلم - قال: كان الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبايعون الثمار، فإذا جد الناس، وحضر تقاضيهم، قال المبتاع: إنه أصاب الثمر الدمان، أصابه مراض، أصابه قشام، عاهات يحتجون بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كثرت عنده الخصومة في ذلك: فإما لا، فلا تتبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر، كالمشورة يشير بها لكثرة خصومتهم (¬2). [حديث صحيح] (¬3). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن الصحابة - صلى الله عليه وسلم - كانوا يبيعون الثمار قبل بدو صلاحها، فتصيبها العاهة، فيطلب البائع ثمنها من المشتري، ويطلب المشتري وضع ثمنها بسبب العاهة، فيتخاصمون من أجل ذلك، فلو كان وضع ثمنها واجبًا لأرشدهم إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولبين لهم أنه لا حق للبائع في المطالبة بثمنها إذا أصابتها عاهة، وإنما أشار عليهم بعدم البيع قبل بدو الصلاح، فدل ذلك على أن الأمر بالوضع ليس للوجوب. وأجيب: بأن هذا الحديث قبل الأمر بوضع الجوائح، بدليل أن هذا الحديث في بيع الثمار قبل بدو صلاحها، كما كان في أول الأمر، ثم أشار عليهم بعدم بيعها حتى يبدو صلاحها، ثم نهى نهيًا جازمًا عن بيعها قبل بدو صلاحها. الدليل الثالث: (ح -135) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن حميد، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، فقيل له: وما تزهي؟ قال: حتى تحمر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه (¬1). وجه الاستدلال: الحديث نهى عن بيع الثمار حتى تحمر، وعلل ذلك: بأنه إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق، ومفهومه: أن الثمرة إذا احمرت فإن البيع جائز، ولا يؤمر البائع بوضع الجائحة على سبيل الوجوب؛ لأنه لو قيل بأن ¬
وأجيب بوجهين
الأمر بوضع الجوائح حتى بعد بدو صلاحها لم يكن هناك معنى للتفريق بين البيع قبل بدو الصلاح، وبين البيع بعد بدو الصلاح. وأجيب بوجهين: الأول: أن قوله في الحديث: (أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه) أخطأ فيه مالك، حيث أدرجه في الحديث، وهو من كلام أنس. وممن خطأ مالكاً: أبو حاتم الرازي، وأبو زرعة، والدارقطني، والخطيب البغدادي، وأبو مسعود الدمشقي، وغيرهم. جاء في العلل لابن أبي حاتم: "سألت أبي وأبا زرعة، عن حديث رواه محمَّد بن عباد، عن عبد العزيز الدراوردي، عن حميد، عن أنس ... وذكر الحديث، فقالا: هذا خطأ، إنما هو كلام أنس. قال أبو زرعة: كذا يرويه الدراودي، ومالك بن أنس مرفوعًا، والناس يروونه موقوفاً من كلام أنس" (¬1). وقال الخطيب البغدادي: "روى مالك بن أنس هذا الحديث، عن حميد، عن أنس، فرفعه، وفيه هذه الألفاظ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووهم في ذلك؛ لأن قوله: (أفرأيت إن منع الله الثمرة ...) إلى آخر المتن كلام أنس، بين ذلك يزيد بن هارون، وعبد العزيز بن محمَّد، وأبو خالد الأحمر، وإسماعيل بن جعفر، كلهم في روايتهم هذا الحديث عن حميد، وفصلوا كلام أنس، من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه محمَّد بن عبد الله الأنصاري، وعبد الله بن المبارك، وهشيم بن ¬
الوجه الثاني
بشير، وعبيدة بن حميد، أربعتهم، عن حميد، فاقتصروا على المرفوع فحسب، دون كلام أنس" (¬1). الوجه الثاني: وعلى فرض أن تكون الزيادة محفوظة، فإن تعرض الثمار للتلف قبل بدو الصلاح كثير، فنهى عن بيعه مطلقًا، وتعرضها للتلف بعد بدو الصلاح نادر، فأذن في بيعها، وفي حال أصابتها جائحة فإن ضمانها على البائع، والحاجة داعية إلى جواز بيع الثمار، فإن الثمار قد لا يمكن بيعها إلا كذلك، فلو منعناه من بيعها أضررنا بالبائع، ولو جعلناها من ضمان المشتري إذا تلفت بجائحة أضررنا بالمشتري، فجوزنا بيعها؛ لأنها في حكم المقبوض بالتخلية بينه وبينها، وجعلناها من ضمان البائع بالجائحة؛ لأنها ليست في حكم المقبوض من جميع الوجوه، ولهذا يجب عليه تمام التسليم بالوجه المحتاج إليه. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (ح -136) ما رواه مالك في الموطأ، عن أبي الرجال، محمَّد ابن عبد الرحمن، عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن، أنه سمعها تقول: ابتاع رجل ثمر حائط في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعالجه، وقام فيه حتى تبين له النقصان، فسأل رب الحائط أن يصنع له، أو أن يقيله، فحلف ألا يفعل، فذهبت أم المشتري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تألى ألا يفعل خيرًا، فسمع بذلك رب الحائط، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال يا رسول الله: هو له. [مرسل] (¬1). وجه الاستدلال: قول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: (تألى ألا يفعل خيرًا) فلو كان الحكم عليه أن يضع الجائحة لكان أشبه أن يقول: ذلك لازم له، حلف أو لم يحلف (¬2). وأجيب عن هذا الحديث: أولاً: الحديث مرسل، والمرسل لا تقوم به حجة. قال الشافعي: "حديث ¬
الدليل الخامس
مالك عن عمرة مرسل، وأهل الحديث ونحن لا نثبت مرسلًا" (¬1). ثانيًا: الحديث ليس صريحًا بأنه أصابته جائحة، كل ما فيه أنه عالجه، وأقام عليه حتى تبين له النقصان، ومثل هذا لا يكون سبباً لوضع الثمن. ثالثًا: قوله (تألى ألا يفعل خيرًا) ليس في هذا اللفظ ما يشعر بأنه ليس واجبًا عليه؛ لأن الخيرية لا تنافي الوجوب، كقوله في الأذان: الصلاة خير من النوم، ولأن من تألى ألا يفعل الواجب، فقد تألى ألا يفعل خيرًا. الدليل الخامس: ما قبضه المشتري، وصار في يديه، فضمانه عليه كسائر البياعات التي يقبضها المشتري، وقبض الثمار في رؤوس الأشجار يكون بالتخلية بينها وبين المشتري، وقد حصل ذلك، فإذا حدث بها آفة كانت من مال المشتري، لا من مال البائع (¬2). ويجاب عن ذلك: بأن التخلية لا تعتبر من القبض التام؛ لأن البائع عليه تمام التربية من سقي الثمر حتى لو ترك ذلك لكان مفرطًا، وبالتالي لا يصح القول بأن الثمار تلفت بعد القبض، ولو فرض أن البائع فعل ما يقدر عليه من التخلية، فالمشتري إنما عليه أن يقبضه على الوجه المعروف المعتاد. فقد وجد التسليم دون تمام التسلم ... (¬3). ¬
الراجح
- الراجح: بعد استعراض الأدلة أرى أن سبب الخلاف بين القولين راجع إلى تخلية البائع للثمار على رؤوس الأشجار، هل يعتبر مثل ذلك قبضًا للثمار، بحيث يكون ضمانها على المشتري، أو لا يعتبر قبضًا تامًّا باعتبار أن على البائع سقي الثمار حتى كمال طيبها، هذا هو محل النزاع، والذي أميل إليه القول بوضع الجوائح باعتبار أن القبض ليس تامًّا، مثله تمامًا قبض المنفعة في عقد الإجارة، فإن التخلية بين المشتري وبين العين لا يعتبر قبضًا تامًا للمنفعة، وهي تتولد يومًا فيومًا، فإذا تلفت العين كان ضمان المنفعة من مال المؤجر، وليس من مال المستأجر، وعلى كل حال هذا القول في تحرير محل الخلاف، أما وقد ورد الحديث عن المعصوم بوضع الجوائح فلا نظر مع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكل من يعارض الحديث بنظره، فهو نظر أعمى، والله أعلم.
الفرع الثاني في هلاك العين المستأجرة قبل تمام المدة
الفرع الثاني في هلاك العين المستأجرة قبل تمام المدة [م - 221] إذا تلفت العين المستأجرة، وكان التلف قبل القبض فالإجارة منفسخة بالاتفاق. قال ابن قدامة: "أن تتلف قبل قبضها -يعني المعين المستأجرة- فإن الإجارة تنفسخ بغير خلاف نعلمه؛ لأن المعقود عليه تلف قبل قبضه، فأشبه ما لو تلف الطعام المبيع قبل قبضه" (¬1). [م - 222] وإن تلفت العين المستأجرة بعد القبض، فاختلف الفقهاء فيها على أربعة أقوال: القول الأول: تنفسخ الإجارة فيما بقي مطلقًا، لا فرق بين العين المنقولة وبين العقار، وهذا قول عامة الفقهاء (¬2). القول الثاني: لا تنفسخ الإجارة بهلاك العين المستأجرة مطلقًا بعد قبض المستأجر للعين، وبه قال أبو ثور، وقول في مذهب الشافعية (¬3). ¬
القول الثالث
القول الثالث: إن كان بقي في العين المستأجرة نفع غير ما استأجرها له فلا تنفسخ فيما بقي، ويثبت الخيار فيها للمستأجر، وهو قول في مذهب الحنفية، ورواية عن الإِمام أحمد اختارها القاضي أبو يعلى من الحنابلة (¬1). القول الرابع: تنفسخ الإجارة فيما مضى وفيما بقي، وهو وجه في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). - الراجح من الخلاف: وقد ذكرت أدلة هذه المسألة في عقد الإجارة فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، وقد رجحت أن القول بأن المستأجر بالخيار هو أعدل الأقوال فيما أرى؛ لأن الحق له، فإذا قبل الإجارة فلا وجه لانفساخ العقد، وإن اختار الفسخ كان عليه أجرة ما مضى بحسبه، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في كيفية الضمان
المبحث الرابع في كيفية الضمان قال السرخسي: إتلاف ما ليس بمتقوم لا يوجب الضمان (¬1). قال ابن تيمية: الواجب ضمان المتلف بالمثل بحسب الإمكان (¬2). وقال أيضًا: الأصل في بدل المتلفات أن يكون من جنس المتلف (¬3). [م - 223] في البحوث السابقة كان البحث في معرفة من عليه الضمان، وفي هذا البحث نريد أن نعرف بماذا يكون الضمان. فإذا تلف الشيء في يد من عليه ضمانه (¬4)، فقد اختلف العلماء بماذا يضمنه إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: عليه رد مثله إن كان مثليًا، أو قيمته إن كان متقومًا. وهذا مذهب الحنفية (¬5)، ¬
القول الثاني
والمالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). القول الثاني: يجب رد المثل مطلقاً، اختاره العنبري من الحنابلة (¬4). وقال ابن حزم: يجب رد المثل مطلقاً، فإن عدم المثل فالمضمون غير بين أن يمهله حتى يوجد المثل، وبين أن يأخذ القيمة (¬5). القول الثالث: يضمن المثلي وغيره مطلقاً بالقيمة، اختاره بعض الفقهاء (¬6)، وهو رأي الهادوية (¬7). - أدلة من قال يجب رد المثل في المثلي والقيمة في غيره. الدليل الأول: (ح -137) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن نافع عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أعتق شركًا له في عبد، فكان له مال يبلغ ¬
وجه الاستدلال
ثمن العبد قُوِّم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق. ورواه مسلم (¬1). وفي رواية لمسلم "قوم عليه في ماله قيمة عدل، لا وكس، ولا شطط" (¬2). وجه الاستدلال: قوله: "قوم العبد عليه قيمة عدل". قال ابن حجر: "واستدل به على أن من أتلف شيئاً من الحيوان فعليه قيمته، لا مثله، ويلتحق بذلك ما لا يكال، ولا يوزن عند الجمهور" (¬3). ويجاب عن هذا الاستدلال: بأن هناك فرقًا بين أن يمتلك الإنسان حيوانًا كاملًا من مال غيره فيجب عليه مثله، وبين أن يمتلك جزءًا من حيوان فتجب عليه قيمته، فالحديث لم يذكر قط بأن الحيوان ليس مثليًا، وإنما الحديث دل على أن الرجل إذا تملك مال غيره، وكان هذا النصيب لا يمكن قسمته كالحيوان، والعبد، والجوهرة، ونحوها، فإن عليه قيمته، فلو أوجبنا المثل في مثل هذا لفات حقه من نصف القيمة الواجب له شرعًا، فلا يؤخذ من هذا الحديث، أن الحيوان ليس مثليًا، وأن القيمة تجب في كل عين ليست مكيلة، ولا موزونة، ولا معدودة، ولا مذروعة. وقد يقال: لو كان الواجب المثل مطلقًا لأمكنه أن يوجب عليه نصف عبد مثله، فيبحث عن عبد ليشتري نصفه ويدفعه إلى شريكه، ويكون هنا قد ضمن مثله، ولكن لما كان الحيوان غير مثلي وجب عليه قيمته، والله أعلم. ¬
- اعتراض آخر لابن حزم والجواب عليه
- اعتراض آخر لابن حزم والجواب عليه: اعترض ابن حزم على وجه الاستدلال بالحديث من وجهين، وسوف أنقل كلامه بالمعنى تجنبًا لقسوة عبارته رحمه الله تعالى. الوجه الأول: كيف يقاس الغاصب، وهو ظالم على المعتق، وهو محسن، فالمعتق أعتق حصته التي أباح الله له تعالى عتقها، وهو ماجور بخلاف الغاصب فإنه معتد ظالم. الوجه الثاني: الحديث نص في التقويم على الموسر فقط، ولم يقوم على المعسر، ولو كان القياس صحيحًا للزمهم أن يقولوا: يقوم عليه سواء أكان معسرًا أم موسرًا، كما يفعلون ذلك في حق كل من يستهلك مال غيره. ويجاب عن هذا: بأن الحديث ليس في باب ضمان المتلفات حتى يضمنه مطلقًا موسرًا كان أو معسرًا، وإنما هو من باب تملك مال الغير بإذن شرعي، وهذا يشترط أن يكون عنده ثمنه، فإذا لم يكن عنده ثمنه لم يتملكه، فالتضمين ها هنا كتضمين الشفيع الثمن إذا أخذ بالشفعة، لا بد أن يكون عنده الثمن ليدفعه إلى شريكه وإلا سقطت شفعته (¬1). الدليل الثاني: المعيار في وجوب المثل في المثليات والقيمة في غيرها هو تحقيق العدالة ¬
- دليل من قال: يجب المثل مطلقا.
بحيث لا يُظْلَم الضامن، ولا المضمون له، ولو أمرنا بالمثل في الأعيان التي لا تتساوى أجزاؤها، وتختلف صفاتها، لكان في ذلك ظلم بين، فرب حيوان مدرب، أو طير معلم، أو عبد يحسن الصناعة يساوي أضعاف قيمة غيره من مثله ممن لا يحسن شيئًا من ذلك (¬1). - دليل من قال: يجب المثل مطلقًا. الدليل الأول: قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ (126)} [النحل: 126]. وجه الاستدلال: أوجبت الآية المثل في العقاب، وهو دليل على أن المشروع هو المثل، وليس القيمة. ويجاب عن الآية: بأن الآية سيقت في باب العقوبات خاصة، وأما ضمان المتلفات فباب آخر، فقد يضمن بالمثل، وقد يضمن بغير المثل، ألا ترى أن الشاة المصراة إذا رغب المشتري في ردها، فإنه يردها وصاعًا من تمر بدلاً من الحليب الذي أخذ، فلو كان الواجب المثل مطلقًا لرد الحليب الذي أخذ أو رد مثله، خاصة أن الحليب مثلي عند الجمهور، وليس قيميًا. الدليل الثاني: (ح -138) ما رواه البخاري من طريق ابن علية، عن حميد، عن أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها ¬
وجه الاستدلال
طعام، فضربت التي النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة، فانفلقت، فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: غارت أمكم، ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت (¬1). وجه الاستدلال: حيث أوجب في الصحفة مثلها، والصحفة ليست مثلية خاصة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كانت الصنعة يدوية. وأجيب: نقل البيهقي في السنن جوابًا عن هذا، فقال: "قال بعض أهل العلم: الصحفتان جميعًا كانتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتي زوجتيه، ولم يكن هناك تضمين، إلا أنه عاقب الكاسرة بترك المكسورة في بيتها، ونقل الصحيحة إلى بيت صاحبتها". الدليل الثالث: (ح -139) ما رواه أحمد (¬2)، والنسائي (¬3)، وأبو داود (¬4)، وغيرهما (¬5)، من طريق فليت، عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة، قالت: ما رأيت صانعة طعام ¬
مثل صفية، أهدت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إناء فيه طعام، فما ملكت نفسي أن كسرته، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كفارته، فقال: إناء كإناء، وطعام كطعام. فظاهره أنه حكم من النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجوب المثل في الإناء والطعام، مع أن الإناء والطعام عند الجمهور من المتقومات، وليس من المثليات. ويجاب عن حديث جسرة، عن عائشة بأن إسناده ضعيف (¬1). فإن قيل: قد رواه غير جسرة. (ح - 140) فقد رواه ابن أبي حاتم في العلل، قال: "سألت أبي عن حديث رواه عمران بن خالد الواسطي، عن ثابت، عن أنس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في ¬
فالجواب
بيت عائشة، ومعه أصحابه، فأرسلت حفصة بقصعة، فكسرتها عائشة، فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم -: من كسر شيئًا فهو له وعليه مثله. قال أبو زرعة: هذا خطأ، رواه حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي المتوكل، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو الصحيح" (¬1). ورواه أبو يعلى في مسنده (¬2)، والدارقطني في سننه، وفيه: قال عمران: أكبر ظني أنه قال: حفصة، وفيه فصارت قضية من كسر شيئًا فهو له، وعليه مثله (¬3). فالجواب: بأن إسناده ضعيف، ومتنه منكر خالف عمران غيره في إسناده ومتنه (¬4). فأما مخالفته في الإسناد، فرواه عمران، عن ثابت، عن أنس. ورواه حماد بن سلمة، وهو من أثبت الناس في ثابت، عن ثابت، عن أبي المتوكل، عن أم سلمة. وأما مخالفتا في المتن، فرواه عمران، فزاد قوله: فصارت قضية، من كسر شيئًا فهو له، وعليه مثله، بينما لفظ حماد حكاية فعل، كلفظ حديث حميد، عن أنس في الصحيح (¬5). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]. "فنص الله - صلى الله عليه وسلم - ضمان الصيد بمثله من النعم، ومعلوم أن المماثلة بين بعير وبعير أعظم من المماثلة بين النعامة والبعير، والمماثلة بين شاة وشاة أعظم منها بين طير وشاة ... " (¬1). ويجاب: بأن الحكم من الابتداء لم يقصد فيه المثلية من كل وجه؛ لأن المتلف من الصيد، وكفارته مثله من النعم، فالجنس مختلف، وما دام أن الجنس مختلف فقد خرجت المثلية عن بابها، ولو أتلف الإنسان بعيرًا لآدمي لم يجز أن يدفع بدلًا منه نعامة، ولأن المثلية في آية الصيد كفارة في حق الله - صلى الله عليه وسلم -، وحقوق الله تعالى تجري فيها المسامحة، ولا تحمل على الاستقصاء وكمال الاستيفاء، بخلاف حقوق الآدميين. الدليل الخامس: قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)} [الأنبياء: 78، 79]. ¬
فقد ذكر المفسرون أن داود حكم بقيمة المتلف، فاعتبر الغنم فوجدها بقدر القيمة، فدفعها إلى أصحاب الحرث، وأما سليمان فقضى بالضمان على أصحاب الغنم، وأن يضمنوا ذلك بالمثل، بأن يعمروا البستان حتى يعود كما كان، ولم يضيع عليهم ثماره من الإتلاف إلى حين العود، بل أعطى أصحاب البستان ماشية أولئك ليأخذوا من نمائها بقدر نماء البستان، فيستوفوا من نماء غنمهم نظير ما فاتهم من نماء حرثهم، وهذا هو العلم الذي خصه الله به، وأثنى عليه (¬1). قال ابن القيم: "وما حكم به نبي الله سليمان هو الأقرب إلى العدل والقياس، وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضمان على أهلها، فصح بحكمه ضمان النفش، وصح بالنصوص السابقة، والقياس الصحيح، وجوب الضمان بالمثل، وصح بنص الكتاب الثناء على سليمان بتفهيم هذا الحكم، فصح أنه الصواب، وبالله التوفيق" (¬2). قلت: الحكم بأن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل جاء من حديث البراء، والراجح فيه أنه مرسل، ومع أنه مرسل إلا أنه موافق لحكم سليمان في نص القرآن. قال ابن عبد البر: "الحديث من مراسيل الثقات ... وهو موافق لما نصه ¬
الدليل السادس
الله عز وجل في كتابه عن داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ... ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن، ولغة أهل العرب أن النفش لا يكون إلا بالليل" (¬1). الدليل السادس: (ح -141) ما رواه البخاري من طريق محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان رجل في بني إسرائيل يقال له: جريج يصلي ... وذكر قصة هدم صومعته، ثم قالوا له: نبني صومعتك من ذهب، قال: لا، إلا من طين، ورواه مسلم (¬2). وترجم البخاري له: باب إذا هدم حائطًا فليبن مثله. قال الحافظ: أي خلافًا لمن قال: تلزمه القيمة من المالكية، وغيرهم (¬3). وجه الاستدلال: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، ولم يرد ما يرده، وقد هدموا صومعته ظلمًا ففعلوا مثلها مع أن الحائط ليس مثليًا عند الجمهور. ويجاب: بأن الاستدلال بالقصة فيه نظر. أولاً: لأنهم إنما عملوا ذلك إكرامًا لجريج بدليل أنهم عرضوا عليه أن يبنوها ذهبًا، أو فضة فأبى. وثانيًا: لم يأت في الحديث نص على أنه يلزمهم المثل، وإنما عرضوا عليه بناءها من ذهب، وهذا لا يلزمهم اتفاقًا، فطلب منهم أن يبنوها من طين، وإذا ¬
الراجح
تراضى الطرفان على فعل شيء جاز اتفاقًا، سواء كان هذا المتفق عليه مثل الواجب الذي لزمهم، أو أكثر منه، أو أقل، وإنما كلامنا فيما يجب عليهم فعله، فلو دفعوا له قيمة الجدار مع نفقة البناء، هل كان ذلك لا يجزئ عنهم، هذا هو محل الخلاف، والحديث ليس فيه ما يحسم النزاع. - الراجح: سقت لك أخي الكريم غالب أدلة الفريقين مما اطلعت عليه، والخلاف في المسألة قوي جداً، والذي أميل إليه أن الواجب هو المثل إن وجد، على أن المثلية ليست محصورة في المكيل والموزون، بل إن التفاوت اليسير يغتفر، كالبيض، فإذا وجد مثيلًا قريبًا وجب قبوله، وإلا رجع إلى القيمة. يقول ابن تيمية: "المماثل من كل وجه متعذر حتى في المكيلات فضلًا عن غيرها، فإنه إذا أتلف صاعًا من بر فضمن بصاع من بر لم يعلم أن أحد الصاعين فيه من الحب ما هو مثل الآخر، بل قد يزيد أحدهما على الآخر، ولهذا قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152]. فإن تحديد الكيل والوزن مما قد يعجز عنه البشر" (¬1). ¬
فرع في إتلاف خمر الذمي وخنزيره
فرع في إتلاف خمر الذمي وخنزيره [م - 224] إذا أتلف مسلم لذمي خنزيرًا أو أراق خمرًا، فهل يضمنه متلفه، باعتبار أن الخمر مال متقوم عند الذمي، أو لا يضمنه، باعتبار أنه غير متقوم عند المتلف؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: عليه الضمان، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). القول الثاني: لا ضمان عليه، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، ورجحه ابن حزم (¬5). ¬
- دليل من قال: عليه الضمان.
- دليل من قال: عليه الضمان. الدليل الأول: (ث -23) ما رواه عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن إبراهيم ابن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة، قال: بلغ عمر بن الخطاب أن عماله يأخذون الجزية من الخمر، فناشدهم ثلاثًا، فقال بلال: إنهم ليفعلون ذلك، قال: فلا تفعلوا، ولكن ولوهم بيعها، فإن اليهود حرمت عليهم الشحوم، فباعوها، وأكلوا أثمانها (¬1). ورواه أبو عبيد من طريق إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة، أن بلالًا قال لعمر بن الخطاب: إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج، فقال: لا تأخدوا منهم، ولكن ولوهم بيعها، وخذوا أنتم من الثمن (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: فهذا الأثر يدل على أن الخمرة مال محترم عندهم من ثلاثة أوجه: أحدها: أن المبيع متمول لأمر عمر بالبيع. وثانيها: إيجاب العشر في ثمنها، ولا يجب إلا في متمول. وثالثها: تسمية ما يقابلها ثمنًا، وهو لا يكون إلا في بيع صحيح عند الإطلاق، ولا يصح البيع إلا في متمول (¬1). قال أبو عبيد: "يريد أن المسلمين كانوا يأخذون الجزية من أهل الذمة الخمر والخنزير من جزية رؤوسهم، وخراج أراضيهم بقيمتها، ثم يتولى المسلمون بيعها، فهذا الذي أنكره بلال، ونهى عنه عمر، ثم رخص لهم أن يأخذوا ذلك من أثمانها، إذا كان أهل الذمة المتولين لبيعها؛ لأن الخمر والخنزير مال من أموال أهل الذمة، ولا تكون مالاً للمسلمين ... قال أبو عبيد: فهو لم يجعلها قصاصًا من الجزية إلا وهو يراها مالاً من أموالهم" (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: إذا كان عقد الذمة يضمن عدم التعرض لهم في شرب الخمر، وأكل الخنزير، فهذا يعني أننا قد التزمنا لهم بحفظها وحمايتها، والعصمة والإحراز يتمان بهذا الحفظ، ووجوب الضمان بالإتلاف ينبني على ذلك (¬1). "لأن الخمر غير محرمة عليهم، فتكون متمولة، أما عدم تحريمها فلأن الخمر كانت مباحة في صدر الإِسلام، ثم نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} - إلى قوله تعالى -: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 90 - 91]، فخصص بخطاب التحريم المؤمنين، ولأنهم ليسوا من أهل الصلاة، ولا عجيب في استثناء بعض الأحكام عنهم بدليل سقوط الضمان، والأداء عنهم؛ ولأن أهل الذمة عصمت دماؤهم عن السفك، وأعراضهم عن الثلم، وأموالهم عن النهب، وأزواجهم عن الوطء، مع وجود سبب عدم ذلك في الجميع، وهو الكفر، فكذلك الخمر لا تمنع مفسدة الإسكار تمولها، وعصمتها، ويؤكده الإجماع على منع إراقتها، ووجوب ردها مع بقاء عينها، وإنما الخلاف إذا تعدى فأتلفها" (¬2). - وأجيب عن هذا الدليل من وجوه: الوجه الأول: عدم التعرض لهم لا يعني الضمان بحال من الأحوال، فنحن لا نتعرض لصليبهم، ولا لأصنامهم، ومع ذلك لا نضمن لهم ما كسر لهم منها، فالضمان أمر زائد على الترك. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: لا نسلم بأننا لا نتعرض لهم في الخمر مطلقًا، وإنما تركهم مشروط بعدم إظهارها، فمتى ظهرت حلت إراقتها. الوجه الثالث: على التسليم بأن الخمر والخنزير مالان معصومان في حق الذمي، فإن العصمة لا تعني التقويم، فإن نساء أهل الحرب، وصبيانهم معصومون غير متقومين. الدليل الثالث: " الخمر يتعلق بها عندنا وجوب الحد، وسقوط الضمان، وقد خالف الذمي المسلم في الحد، فيخالفه في سقوط الضمان قياسًا لأحدهما على الآخر" (¬1). - دليل من قال: لا يضمن. الدليل الأول: (ح -142) ما رواه البخاري من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ... " الحديث، والحديث رواه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: أن النص على تحريم البيع يعني بذلك أنه ليس له قيمة شرعًا؛ لأن كل ما حرم ¬
الدليل الثاني
بيعه لا لحرمته، لم تجب له قيمة كالميتة (¬1). الدليل الثاني: إذا كان الخمر والخنزير لا يضمن بالإتلاف في حق المسلم، فكذلك في حق الذمي؛ لأن حقوقهم دون حقوقنا (¬2). ويناقش هذا الدليل: بأن عقد الإِسلام عقد عظيم يوجب الكمال، فلا تقر معه مفسدة، وأما عقد الذمة فإنه لنقصه تثبت معه المفاسد بدليل ثبوت الكفر وغيره معه، ومن المفاسد إقرارهم على شرب الخمر وضمانها لهم (¬3). الدليل الثالث: بعقد الذمة إنما ضمنا ترك التعرض لهم في الخمر والخنزير، وإيجاب ضمان القيمة على المتلف أمر زائد على ذلك، وذلك لأن ترك التعرض لهم فيهما لاعتقادهم أن الخمر والخنزير مالاً متقومان، ولكن اعتقادهم لا يكون حجة على المسلم المتلف في إيجاب الضمان، وإنما يكون معتبرًا في حقهم (¬4). ويناقش هذا الدليل: بأن القضاء إنما هو بحسب اعتقادهم، لا باعتقاد القاضي، بدليل أنه لا يوجب الحد عليهم فيها، ويقضي لهم بثمنها إذا باعها من ذمي، ويقرهم على ¬
الدليل الرابع
مسها وشربها وجعلها صداقًا وسائر التصرفات فيها، وكذلك نقرهم على أنكحتهم الفاسدة عندنا، فكذلك كونها مالًا ومضمونة (¬1). الدليل الرابع: كون الخمر والخنزير لا يضمنان بالمثل مع إمكانه دليل على عدم الضمان؛ لأن المثلي يضمن بالمثل، والخمر من ذوات المثل، فعدم الضمان بالمثل مع الإمكان دليل على سقوط الضمان. ويناقش هذا الدليل: بأن كون الخمر والخنزير لا يضمنان بالمثل لتعذر دفع المثل من جانب المسلم، فإن المسلم لا يمكن أن يملك المثل حتى يبذله للذمي، فكما لو قتله عن طريق اللواط فإن القصاص لا يجب أن يكون بالمثل، فهو مما عدل فيه عن المثل للضرورة. الدليل الخامس: الخمر حرام، ولا يجوز أن يكون للحرام ثمن، فضمانها اعتراف بثمنها. ويناقش هذا الدليل: القول بالضمان لا يلزم منه وجوب الثمن للخمر، وإنما يوجب القيمة، وبينهما فرق: فالثمن ما نشأ عن عقد صحيح، والقيمة ما نشأ عن إتلاف، وهي التي أوجبناها دون الثمن، فقيمة أم الولد حلال، وثمنها حرام، والقيمة في قتل الصيد على المحرم حلال، وثمنه حرام، ومهر المجوسية حرام، ومهر بضعها بالإتلاف حلال، وهكذا (¬2). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: قالوا: ساوى الذمي المسلم في عدم قطع يده بسرقتها، فيساويه بعدم الضمان بإتلافها. ويناقش هذا الدليل: بأن الفرق بين المسلم والذمي أن المسلم لا تعد في حقه مالًا، بخلاف الذمي، بدليل أنه يمكن من شربها والتصرف فيها ولا يجلد على تعاطيها، فيخالف الذمي المسلم في الضمان كذلك. الدليل السابع: لو كانت الخمر مالًا معصومًا لما وجب إراقتها إذا أظهروها قياسًا على سائر الأموال. ويناقش هذا الدليل: بأن في إظهارها في أسواق المسلمين عملًا على نشرها، وفيه مفسدة في حق المسلمين، بخلاف حمايتها لهم في بيوتهم بدليل أنه لو كان هناك قافلة لهم فيها خمر، فمر بها قطاع طريق وجب على الإِمام حمايتهم، والذب عنهم، فدل ذلك على أنها كأنفسهم معصومة. - الراجح من الخلاف: أجد أن القول بوجوب الضمان أقوى دليلًا، وأصلح للناس، فإن القول بالضمان قد يردع المعتدي؛ لأن بعض الناس إذا رأى أنه لن يؤاخذ على فعله لم يردعه شيء، وأرى أنه حتى على القول بعدم الضمان يجب أن يعزر المتلف بما يردع الناس عن التطاول على أهل الذمة، وإذا رأى القاضي أن يعزر المتلف بالمال، فله ذلك، وليس هذا من باب ضمان المتلف، وإنما من باب ردع الظالم من الظلم والعدوان، والله أعلم.
الحكم السادس حبس المبيع من أجل استلام الثمن
الحكم السادس حبس المبيع من أجل استلام الثمن يترتب على عقد البيع أن يكون العقد ملزمًا للعاقدين، فلا يستطيع أحد العاقدين بمفرده التحلل من قيده، ما لم يتفقا على الإقالة، ويكتسب العقد صفة اللزوم إما بمجرد تمام العقد بتطابق الإيجاب والقبول، كما هو مذهب الحنفية والمالكية، أو بعد انقضاء مجلس العقد كما هو مذهب الشافعية والحنابلة، وقد بحثت هذه المسألة في مبحث مستقل عند الكلام على الخيار، ولله الحمد. وفور اكتساب العقد صفة اللزوم فإن ملك المبيع ينتقل إلى المشتري، وملك الثمن ينتقل إلى البائع، ويكون البائع مطالبًا بتسليم المبيع إلى المشتري، كما أن المشتري يكون مطالبًا بتسليم الثمن إلى البائع؛ لأن تسليم البدلين واجب على العاقدين لتحقق الملك لكل منهما في البدلين. والبحث هنا: متى يحق للبائع حبس المبيع إلى أن يستلم الثمن؟ [م - 225] من العلماء من بني هذه المسألة على مسألة أخرى، وهو من المطالب أولاً بتسليم ما وجب عليه بسبب العقد، هل يطالب البائع أن يسلم أولاً، أو يطالب المشتري أن يسلم أولاً، فمن قال: إن المطالب بالتسليم أولاً هو البائع، فمعنى هذا أن البائع ليس له حق في حبس المبيع، ومن قال: إن المطالب بالتسليم هو المشتري أولاً، كان للبائع حق حبس المبيع حتى يستلم الثمن. ومن العلماء من خالف في ذلك، فقال: بحث مسألة التسليم أولاً فيما إذا كان كل من البائع والمشتري مستعدًّا لبذل ما عليه، ولا يخاف فوت ما عند صاحبه، أما إذا خاف البائع أو المشتري من تعذر أخذ العوض، فله حبس ما عنده. يقول النووي رحمه الله: "أمر مهم، وهو أن طائفة توهمت أن الخلاف في الابتداء
خلاف في أن البائع، هل له حق الحبس أم لا؟ إن قلنا: الابتداء بالبائع فليس له حبس المبيع لاستيفاء الثمن، وإلا فله. ونازع الأكثرون فيه، وقالوا: هذا الخلاف مفروض فيما إذا كان نزاعهما في مجرد الابتداء، وكان كل واحد يبذل ما عليه، ولا يخاف فوت ما عند صاحبه، فأما إذا لم يبذل البائع المبيع، وأراد حبسه خوفاً من تعذر الثمن فله ذلك، بلا خلاف، وكذلك للمشتري حبس الثمن خوفاً من تعذر المبيع، وبهذا صرح الشيخ أبو حامد، والماوردي" (¬1). وبناء على القول الأول، سوف نبحث إن شاء الله تعالى من هو المطالب بالتسليم أولًا، لنعرف من يحق له حبس المبيع، بناء على هذا القول. وحبس المبيع ليس مختصًّا بالبائع، فقد يحبس المشتري المبيع، كما لو حصلت إقالة، أو فسخ البيع بعيب ونحوه، فللمشتري أن يحبس المبيع حتى يقبض ما دفعه من ثمن. جاء في كفاية الأخيار: "إذا فسخ المشتري لعيب كان له حبس المبيع إلى قبض الثمن" (¬2). وجاء في أسنى المطالب: "للمشتري بعد الفسخ حبس المبيع إلى استرجاع الثمن من البائع" (¬3). وبمنزلة المبيع الإجارة، فإذا اشترط المؤجر تعجيل الأجرة كان له الحق في حبس الدار حتى يستلم الأجرة. ¬
جاء في الجوهرة النيرة: "المؤجر إذا اشرط تعجيل الأجرة في العقد كان له حبس الدار، حتى يستوفي الأجرة؛ لأن المنافع كالمبيع، والأجرة كالثمن، فكما وجب حبس المبيع إلى أن يستوفي الثمن، فكذلك يجب حبس المنافع حتى يستوفي الأجرة المعجلة" (¬1). [م - 226] واختلف العلماء فيمن استحق جعلًا، هل له أن يحبس ما في يده حتى يستلم الجعل؟ فذهب الحنفية إلى أن له الحق في حبس ما في يده حتى يستلم الجعل، كما له الحق في حبس اللقطة حتى يأخذ الملتقط ما أنفقه عليها، كحبس المبيع لأجل الثمن (¬2). جاء في فتح القدير: " .... له أن يحبس الآبق حتى يستوفي الجعل، بمنزلة البائع بحبس المبيع" (¬3). وخالف في ذلك الشافعية والحنابلة، جاء في روضة الطالبين: "إذا رد الآبق لم يكن له حبسه لاستيفاء الجعل؛ لأن الاستحقاق بالتسليم، ولا حبس قبل الاستحقاق" (¬4). وقد بحثت هذه المسألة في عقد الجعالة، فلله الحمد. ¬
المبحث الأولى حبس المبيع والثمن مؤجل
المبحث الأولى حبس المبيع والثمن مؤجل [م - 227] إذا باع الرجل سلعته بثمن مؤجل، فهل يملك البائع حق حبس المبيع إلى أن يستلم الثمن؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم: القول الأوَّل: ذهب عامة أهل العلم إلى أن البائع ليس له الحق في حبس المبيع إذا كان الثمن مؤجلًا (¬1). وجه هذا القول: أن البائع لما وافق على البيع بثمن مؤجل، فقد أسقط حقه في حبس المبيع، وإذا أسقط البائع حقه لم يسقط حق المشتري في قبض المبيع. القول الثاني: للبائع حبس المبيع إلى حلول الأجل، وهو قول ضعيف في مذهب الحنابلة (¬2). وجهه هذا القول: أن حق البائع هو قبض الثمن، وحق المشتري قبض المبيع، فلما كان حق البائع مؤخرًا كان هذا رضا من المشتري بتأخير حقه في القبض. ¬
القول الأول
والراجح القول الأول لقوة أدلته. [م - 228] ومثل هذه المسألة المرأة إذا رضيت بتأجيل المهر، فهل لها أن تمتنع من تسليم نفسها، اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ذهب أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، والشافعية، والحنابلة إلى أنها ليس لها أن تمتنع من تسليم نفسها. وجه هذا القول: أن المرأة بقبولها التأجيل رضيت بإسقاط حق نفسها، فلا يسقط حق الزوج، كالبائع إذا أجل الثمن يسقط حقه في حبس المبيع. القول الثاني: أختار أبو يوسف، وهو قول مرجوح في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة: أن لها أن تمتنع عن تسليم نفسها حتى تستلم صداقها. وجه هذا القول: أن من حكم المهر أن يتقدم على تسليم النفس بكل حال، فلما قبل الزوج التأجيل كان ذلك رضا بتأخير حقه في القبض، بخلاف البائع إذا أجل الثمن، فليس له أن يحبس المبيع، ويبطل حقه في الحبس بتأجيل الثمن؛ لأنه ليس من حكم الثمن تقديم تسليمه على تسليم المبيع (¬1). ¬
المبحث الثاني في حبس المبيع والثمن حال
المبحث الثاني في حبس المبيع والثمن حال الفرع الأول حبس المبيع والثمن عين [م - 229] هل يملك البائع حبس المبيع من أجل استلام ثمنه أولاً إذا كان الثمن عينًا؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ليس له الحق في حبس المبيع، بل يسلما معًا، وهذا مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: إذا حبس كل واحد منهما ما في يده، لم يجبر أي واحد منهما على التسليم، ¬
القول الثالث
بل يتركان حتى يصطلحا، فإذا تطوع أحدهما بالتسليم أجبر الآخر، وهذا قول في مذهب المالكية (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2). القول الثالث: يجعل بينهما عدل يقبض منهما، ويسلم إليهما. وهذا قول في مذهب المالكية (¬3)، والأصح عند الشافعية (¬4) والمذهب عند الحنابلة (¬5). ¬
القول الرابع
القول الرابع: يجبر البائع على دفع السلعة، وهو قول في مذهب المالكية (¬1) وقول في مذهب الشافعية (¬2) ورواية عن الإِمام أحمد (¬3). القول الخامس: يجبر المشتري أولاً على دفع الثمن، وهو قول في مذهب المالكية (¬4). - وجه من قال: يسلما معًا: لما كان الثمن عينًا لم يكن هناك فرق بين المبيع والثمن، فليس أحدهما أولى بتقديم التسليم من الآخر، فكان مقتضى المساواة بين المتبايعين التسليم معًا. - وجه من قال: ينصب عدل يستلم منهما، ويسلمهما: بأنه لما وجب لكل واحد من المتعاقدين على الآخر ما قد استحق قبضه بموجب العقد، فالبائع يستحق تسلم الثمن، والمشتري يستحق تسلم المبيع، وليس هناك أحد أولى من الآخر بالتسليم، ولم يتراضيا على البداءة بالتسليم، فيجبر كل واحد منهما على قضاء صاحبه حقه عن طريق العدل الذي ينصب لهذه المهمة. - وجه من قال: يجبر البائع: استدل له ابن قدامة بدليلين: ¬
- وجه من قال: يجبر المشتري
أحدهما: أن الذي يتعلق به استقرار البيع، وتمامه، هو المبيع، فوجب تقديمه. الثاني: أن الثمن لا يتعين بالتعيين، فأشبه غير المعين (¬1). - وجه من قال: يجبر المشتري: ذكر هذا القول ابن القصار من المالكية كما نقلناه عنه في معرض الأقوال، ولم يذكر دليله، وقد يستدل له بأن المشتري عادة هو من يطلب الشراء من البائع، فلا يحق له المطالبة بأخذ المبيع حتى يسلم عوضه. - الترجيح: بعد ذكر الأقوال وأدلتها، أجد أن أقوى الأقوال من يرى المساواة بين البائع والمشتري؛ لأنه لا يوجد فرق بين المبيع والثمن، فكلاهما عين، فلا يوجد مبرر في تقديم أحدهما على الآخر، ومثل ذلك لو كان العقد من باب بيع الدين بالدين، كما في عقد الصرف على القول بأن الدراهم لا تتعين بالتعيين، فإنه يجب على العاقدين التسليم معاً، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني حبس المبيع والثمن حال في الذمة
الفرع الثاني حبس المبيع والثمن حال في الذمة [م - 230] إذا اختلف العاقدان في التسليم، وكان الثمن في الذمة، كما لو باعه بدراهم غير معينة، أو معينة على القول بأن الدراهم لا تتعين بالتعيين، أو باعه عينًا بدين. فإن كان الثمن مؤجلًا فلا يحق للبائع حبس المبيع، وقد بينا ذلك. وإن كان الثمن حالًا في الذمة، فهل يملك البائع حق حبس المبيع؟ اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: يجبر المشتري على التسليم أولًا، ثم يلزم البائع بتسليم المبيع، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وقول للشافعية (¬3). القول الثاني: يجبر البائع بتسليم المبيع أولًا، ولا يحق له حبس المبيع على الثمن. وهذا هو الأظهر عند الشافعية، والمذهب عند الحنابلة (¬4). ¬
القول الثالث
القول الثالث: يلزم الحاكم بإحضار كل واحد ما عليه، فإذا أحضرا سلم الثمن إلى البائع، والمبيع إلى المشتري، يبدأ بأيهما شاء، أو يأمرهما بالوضع عند عدل، ليفعل العدل ذلك، وهذا قول في مذهب الشافعية (¬1). القول الرابع: لا يجبر أي واحد منهما، بل يمنعان من التخاصم، فإذا تطوع أحدهما بالتسليم أجبر الآخر، وهذا قول في مذهب الشافعية (¬2). - وجه من قال: يجبر المشتري أولاً: لما كان عقد البيع عقد معاوضة، وكانت المساواة في عقود المعاوضة مطلوبة للمتعاوضين، وتحقيق المساواة هنا إنما يتحقق بأن نجعل الثمن يتعين كما تعين المبيع، فإذا كان المبيع قد تعين بمجرد العقد، فإن الثمن لا يتعين إلا بالقبض، ¬
ونوقش هذا
فيجبر المشتري على التسليم أولًا، ليتعين الثمن، كما تعين المبيع، هذا هو مقتضى المساواة بين المتعاوضين. ونوقش هذا: القول بأن الثمن لا يتعين إلا بالقبض ليس محل اتفاق، وعلى التسليم بأنه لا يتعين إلا بالقبض، لا يلزم منه اشتراط التسليم، وإنما يلزمه إحضار الثمن، فإذا أحضر كل واحد منهما ما يجب عليه تسليمه، فقد تحققت المساواة بينهما، فيتم التسليم معاً، أو بتنصيب عدل يستلم منهما، ويستلمهما، هذا هو الذي يحقق المساواة بينهما، وينزع الخوف منهما. - وجه من قال: يجبر البائع: أن حق المشتري متعلق بعين المبيع، وحق البائع متعلق بذمة المشتري، وما تعلق بالعين مقدم على ما تعلق بالذمة. ولذلك قال الفقهاء: ما تعلق بالعين مقدم على ما تعلق بالذمة (¬1). وقال الفقهاء أيضاً: من وجد عين ماله عند رجل قد أفلس فهو أحق به. وقالوا أيضاً: "إذا تزاحم حقان في محل: أحدهما متعلق بذمة من هو عليه، والآخر متعلق بعين من هي له، قدم الحق المتعلق بالعين على الآخر؛ لأنه يفوت بفواتها، بخلاف الحق الآخر" (¬2). - وجه من قال: يستلم الحاكم أو العدل منهما، ويقوم بالتسليم نيابة عنهما: لما وجب على كل واحد منهما تسليم ما في يده، ولم يكن أحدهما أولى ¬
- وجه من قال: لا يجبر أي واحد منهما، فإذا سلم أحدهما أجبر الآخر
بالتقديم من الآخر، وجب أن يقوم الحاكم، أو العدل بالاستلام منهما، والتسليم لهما، هذا هو مقتضى العدل بين المتعاقدين. - وجه من قال: لا يجبر أي واحد منهما، فإذا سلم أحدهما أجبر الآخر: لا يوجد ما يقتضي تقديم أحدهما على الآخر، فيتركا حتى يصطلحا، أو يتبرع أحدهما بالتسليم فيجبر الآخر. - الراجح: الذي أميل إليه أن القول بأن الحاكم يستلم منهما، ويقوم بتسليمهما، أو يعين عدل يقبض منهما، ويسلمهما، هذا فيه عدل لكل واحد منهما، ولا أعلم نصًّا يقتضي إجبار أحد المتعاقدين قبل الآخر، والله أعلم.
الفرع الثالث في حبس المبيع ببعض الثمن
الفرع الثالث في حبس المبيع ببعض الثمن [م - 231] لو نقد المشتري بعض الثمن، وبقي بعضه، فهل للبائع أن يحبس جميع المبيع ببعض الثمن، أو يسلم من المبيع ما يقابله من الثمن؟ اختلف العلماء في ذلك: قال الكاساني: "ولو نقد الثمن كله إلا درهمًا، كان له حق حبس المبيع جميعه لاستيفاء الباقي؛ لأن المبيع في استحقاق الحبس بالثمن لا يتجزأ، فكان كل المبيع محبوسًا بكل جزء من أجزاء الثمن" (¬1). وجاء في كتاب الإنصاف: "لو أحضر نصف الثمن، فهل يأخذ المبيع كله أو نصفه أو لا يأخذ شيئًا حتى يزن الباقي ... قال في الرعاية: يحتمل وجهين ... قلت -والقائل المرداوي-: أما أخذ المبيع كله ففيه ضرر على البائع، وكذا أخذ نصفه للتنقيص، فالأظهر أنه لا يأخذ شيئًا من المبيع، حتى يأتي بجميع الثمن" (¬2). قلت: هذا التنظير ليس موافقًا للمذهب، فإن القول في مذهب الحنابلة يقضي بأن البائع ليس له الحق في حبس المبيع (¬3). ¬
وقد جاء في مجلة الأحكام الشرعية الحنبلية: "إذا كان المبيع مما لا ينقصه التفريق، فأحضر المشتري بعض الثمن، فله أخذ ما يقابله من المبيع، أما إذا نقصه التفريق فليس له ذلك" (¬1). ومن لم أقف له على نص في بقية المذاهب فيمكن تخريج هذه المسألة في مذهبهم على مسألة أخرى مشابهة، فقد تكلموا في مسألة الراهن لو قضى بعض الحق الذي عليه، فهل ينفك شيء من الرهن بقضاء بعض الدين، أو يبقى الرهن جميعه مرهونا بما تبقى من الدين؟ وقد ذهب الأئمة الأربعة إلى أن الرهن لا ينفك ما بقي في الدين درهم (¬2). ¬
قال في الجوهرة النيرة: "وإن قضاه البعض فله أن يحبس كل الرهن حتى يستوفي البقية، اعتبارًا بحبس المبيع حتى يستوفي الثمن" (¬1). وجاء في أسنى المطالب: "ولا ينفك شيء من الرهن ما بقي من الدين شيء، للإجماع كما قاله ابن المنذر، وكحق حبس المبيع" (¬2). والإجماع الذي نسبه إلى ابن المنذر هذا نصه: قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، على أن من رهن شيئاً بمال، فأدى بعض المال، وأراد إخراج بعض الرهن، أن ذلك ليس له، ولا يخرج شيء حتى يوفيه آخر حقه، أو يبرئه من ذلك" (¬3). ومثل هذه المسألة ما لو أبرأ البائع المشتري من بعض الثمن، فله أن يحبس المبيع حتى يستوفي الباقي. قال في الجوهرة النيرة: "ولو أبرأ المشتري عن بعض الثمن، كان له الحبس حتى يستوفي الباقي؛ لأن البراءة كالاستيفاء، ولو استوفى البعض كان له الحبس بما بقي" (¬4). ¬
الفرع الرابع إذا اشترى شيئين فأدى أحدهما
الفرع الرابع إِذا اشترى شيئين فأدى أحدهما [م - 232] إذا باع الرجل شيئين صفقة واحدة، فوفى المشتري أحدهما، فهل يجب على البائع تسليم ما استلم ثمنه، أو يحق له حبس جميع المبيع على بقية الثمن؟ اختلف العلماء في ذلك: فقيل: له حبس الجميع، حتى يستوفي جميع الثمن، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية (¬1). قال الكاساني: "لو باع شيئين صفقة واحدة، وسمى لكل واحد منهما ثمنًا، فنقد المشتري حصة أحدهما، كان للبائع حبسهما حتى يقبض حق الآخر، لما قلنا؛ ولأن قبض أحدهما دون الآخر تفريق الصفقة الواحدة في حق القبض، والمشتري لا يملك تفريق الصفقة الواحدة في حق القبول، بأن يقبل الإيجاب في أحدهما دون الآخر، فلا يملك التفريق في حق القبض أيضا؛ لأن للقبض شبهًا بالعقد، وكذلك لو أبرأه من حصة أحدهما فله حبس الكل لاستيفاء الباقي، لما ذكرنا" (¬2). وجاء في مغني المحتاج: "ولو اشترى شخص شيئًا بوكالة اثنين، ووفى نصف الثمن عن أحدهما، كان للبائع الحبس حتى يقبض الكل، بناء على أن الاعتبار بالعاقد" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب الحنابلة في وجه مرجوح عندهم إلى أن العبرة في المعقود عليه. جاء في مجلة الأحكام الشرعية: "إذا كان المبيع مما لا ينقصه التفريق، فأحضر المشتري بعض الثمن، فله أخذ ما يقابله من المبيع، أما إذا نقصه التفريق فليس له ذلك" (¬1). وجاء في كشاف القناع: "وإن أحضر المشتري بعض الثمن لم يملك أخذ ما يقابله من الثمن، إن نقص الباقي بالتنقيص، وقلنا: للبائع حبس المبيع على ثمنه، وإلا فله أخذ المبيع" (¬2). - الراجح: أرى أن مذهب الشافعية هو أعدل الأقوال، والله أعلم. ¬
الفرع الخامس إذا باع شيئين صفقة واحدة على اثنين
الفرع الخامس إذا باع شيئين صفقة واحدة على اثنين [م - 233] إذا باع الرجل صفقة واحدة على اثنين، فسلم أحدهما فهل يحبس الجميع اعتبارًا بالصفقة، أو يسلم أحدهما اعتبارًا بالعاقد؟ القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن له أن يحبس الجميع اعتبارًا بالصفقة. قال الكاساني: "لو باع من اثنين، فنقد أحدهما حصته، كان له حق حبس المبيع حتى يقبض ما على الآخر" (¬1). وجه هذا القول: أن الصفقة واحدة، فلا تحتمل التفريق في البعض كما لا تحتمله في القبول، فإذا كان لا يملك تفريق الصفقة الواحدة في حق القبول، بأن يقبل الإيجاب في أحدهما دون الآخر، فلا يملك التفريق في حق القبض، فالمبيع في حق الاستحقاق لحبس الثمن لا يحتمل التجزؤ، فكان استحقاق بعضه استحقاق كله. القول الثاني: إذا سلم أحدهما ما عليه استلم ما يخصه من المبيع اعتبارًا بالعاقد، وهذا اختيار أبي يوسف، والمذهب عند الشافعية. "روي عن أبي يوسف رحمه الله في (النوادر) أنه إذا نقد أحدهما نصف الثمن يأخذ نصف المبيع" (¬2). ¬
جاء في مغني المحتاج: إذا "باع منهما، ولكل منهما نصف، وأعطى أحدهما البائع النصف من الثمن، سلم إليه البائع نصفه من المبيع؛ لأنه سلمه جميع ما عليه، بناء على أن الصفقة تتعدد بتعدد المشتري" (¬1). ولأن الواجب على كل واحد منهما نصف الثمن، فإذا أدى النصف فقد أدى ما وجب عليه، فلا معنى لتوقف حقه في قبض المبيع على أداء صاحبه ¬
المبحث الثالث في حبس المبيع في حال تقديم الرهن والكفيل
المبحث الثالث في حبس المبيع في حال تقديم الرهن والكفيل [م - 234] إذا أعطى المشتري رهنًا، أو كفيلًا بالثمن، فهل يسقط حق البائع في حبس المبيع؟ هذه المسألة مبنية، على أن للبائع حق حبس المبيع، إلى أن يستلم الثمن، ولم أجد من يقول بحبس المبيع إلا الحنفية والمالكية؛ لأن هذه المسألة كما بينا مبنية على مسألة من يطالب بالتسليم أولًا؟ وقد عرفنا من خلال البحوث السابقة ما يلي: أولاً: إذا كان الثمن مؤجلًا، لا يحق للبائع أن يحبس المبيع، إلا برضا المشتري، وهذا قول عامة الفقهاء كما سبق بحثه. ثانيًا: إذا كان الثمن عينًا، فإنه لا يحق للبائع حبس المبيع عند الحنفية؛ لأنهم يرون أن التسليم يتم معًا، وبالتالي فليس هناك أحد يطالب بالتسليم أولًا، ليكون من حق الثاني حبس ما في يده، حتى يقوم الأول بدفع ما وجب عليه. وكذلك عند من يقول: يجعل بينهما عدل يقبض منهما، ويسلم إليهما، وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية، والمذهب عند الحنابلة، وقول في مذهب المالكية. ثالثًا: كذلك لا يحق له حبس المبيع عند من يقول: يجبر البائع على دفع السلعة أولًا، وهو قول في مذهب المالكية، وقول في مذهب الشافعية، ورواية عن الإِمام أحمد؛ لأن البائع إذا كان مطالبًا بالتسليم أولًا، لم يحق له حبس المبيع. وقد سبق بحث هذه الأقوال معزوة إلى كتب أهلها، وبيان أدلتهم فيما قالوه.
رابعًا: إذا كان الثمن حالاً في الذمة وليس عينًا، فقد اختلف العلماء في من يطالب بالتسليم أولاً، فالشافعية والحنابلة يرون أن المطالب بالتسليم هو البائع، وبالتالي لا يحق له حبس المبيع، وقيد الشافعية ذلك ما لم يخف البائع فوات الثمن (¬1). وأما الحنابلة في المشهور فقد صرحوا بأنه ليس للبائع الحق في حبس المبيع مطلقًا. قال ابن قدامة: "ويصح القبض قبل نقد الثمن وبعده، باختيار البائع وبغير اختياره؛ لأنه ليس للبائع حبس المبيع على قبض الثمن" (¬2). بقي عندنا مذهب الحنفية والمالكية الذين يقولون: إن المطالب هو المشتري ¬
بالتسليم أولًا، فهذه المسألة: أعني (حبس المبيع في حال تقديم المشتري رهنًا أو كفيلًا) لا تأتي إلا على هذين المذهبين فقط، ولم أجد في كتب المالكية من تعرض لهذه المسألة، وأما الحنفية فقد توجهوا لها، وتكلموا عليها في كتبهم. جاء في تبيين الحقائق: "ولو دفع المشتري إلى البائع بالثمن رهنًا أو تكفل به كفيل لا يسقط حق الحبس" (¬1). وجاء في فتح القدير: "وللبائع حبس المبيع، ولو بقي من ثمنه درهم، ولا يسقط حق حبس البائع للمبيع، ولو أخذ بالثمن كفيلًا، أو رهن المشتري به رهنًا" (¬2). وعلل ذلك في تحفة الفقهاء: بأن هذا وثيقة بالثمن، فلا يبطل حقه في حبس المبيع؛ لاستيفاء الثمن (¬3). ¬
المبحث الرابع قبض المشتري للمبيع هل يسقط به حق الحبس
المبحث الرابع قبض المشتري للمبيع هل يسقط به حق الحبس [م - 235] إذا قبض المشتري المبيع، هل يسقط حق البائع في حبس المبيع، أو له أن يطالب باسترداده، ليحبسه على ثمنه؟ فيه تفصيل: إن كان قبضه للمبيع بلا إذن من البائع فلا يسقط حق البائع في حبس المبيع، فله أن يطالب باسترداده، وحبسه إلى حين استلام ثمنه. وإن كان قبضه للمبيع بإذن من البائع، أو أنه رآه، فسكت، فليس له أن يطالبه برده. جاء في البحر الرائق: "ولو قبضه المشتري بغير إذن لم يسقط حقه في الحبس" (¬1). وجاء فيه أيضاً: "إذا قبضه المشتري بمرأى من البائع، فسكت، صح، وسقط حق الحبس بالثمن" (¬2). وجاء في الفتاوى الهندية: إذا "سلم بغير قبض الثمن، أو قبض المشتري بإجازة البائع لفظًا، أو قبضه، وهو يراه، ولا ينهاه، ليس له أن يسترده ليحبسه بالثمن، وإن قبضه بغير إذنه له أن ينقض قبضه" (¬3). وجاء في غمز عيون البصائر: "سكوت البائع الذي له حق حبس المبيع حين رأى المشتري قبض المبيع إذن بقبضه، صحيحًا كان البيع، أو فاسدًا" (¬4). ¬
وجاء في مغني المحتاج: "ولو أخذ المشتري المبيع بغير إذن البائع، حيث له حق الحبس، فله الاسترداد" (¬1). أما إذا كان بإذن البائع، فقال في روضة الطالبين: "ولو تبرع بالتسليم لم يكن له رده إلى حبسه" (¬2). ¬
فرع إذا أودع المبيع أو أعاره للمشتري هل يسقط به حق البائع بالحبس
فرع إذا أودع المبيع أو أعاره للمشتري هل يسقط به حق البائع بالحبس [م - 236] إذا أودع المبيع أو أعاره للمشتري، فهل يبطل حق البائع في حبس المبيع؟ اختلف العلماء في ذلك: القول الأول: يبطل حق البائع في حبس المبيع، ولا يملك استرداده في ظاهر الرواية عند الحنفية (¬1). - وجه ظاهر الرواية: " إذا وقعت العارية، أو الوديعة في يد المشتري، وقعت بجهة الأصالة، وهي يد الملك، ويد الملك يد لازمة، فلا يملك إبطالها بالاسترداد (¬2). القول الثاني: لا يبطل حق البائع في الحبس، وله أن يسترده، وهذا القول مروي عن أبي يوسف من الحنفية (¬3). - وجه هذا القول: أن عقد الإعارة، والإيداع ليس بعقد لازم، فكان له ولاية الاسترداد، ¬
القول الثالث
كالمرتهن إذا أعار الرهن من الراهن، أو أودعه إياه، له أن يسترده لما قلنا، كذا هذا. القول الثالث: التفريق بين الإيداع والإعارة، فإن أودعه كان له أن يسترده، وإن أعاره لم يكن له ذلك، وهذا مذهب الشافعية. جاء في مغني المحتاج: "ولو أودعه كان له استرداده، إذ ليس في الإيداع تسليط، بخلافه في الإعارة" (¬1). وقال في روضة الطالبين: "ولو تبرع بالتسليم لم يكن له رده إلى حبسه، وكذا لو أعاره للمشتري، ولو أودعه إياه فله ذلك" (¬2). ¬
المبحث الخامس الحوالة بالثمن هل تسقط حق الحبس
المبحث الخامس الحوالة بالثمن هل تسقط حق الحبس [م - 237] إذا أحال المشتري البائع على شخص لأخذ ثمن المبيع، فهل يسقط حق البائع في حبس المبيع؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يسقط حق البائع في حبس المبيع، وهو مذهب أبي حنيفة، وأبي يوسف (¬1)، ومذهب الشافعية (¬2). وجه هذا القول: بأن البائع لما قبل الحوالة، فقد برئت ذمة المشتري من دين البائع، فالحوالة بمنزلة القبض، فكأن البائع قد قبض الثمن؛ لأن الحوالة بمنزلة القبض حكمًا، فكان من حق المشتري استلام المبيع. القول الثاني: إذا أحال المشتري البائع بالثمن لم يبطل حقه بالحبس، وهذا رأي محمَّد ¬
ابن الحسن من الحنفية (¬1). قال في بدائع الصنائع: "أبو يوسف أراد بقاء الحبس على بقاء الدين في ذمة المشتري، وذمته برئت من دين المحال بالحوالة، فيبطل حق الحبس، ومحمد اعتبر بقاء حق المطالبة لبقاء حق الحبس، وحق المطالبة لم يبطل بحوالة المشتري" (¬2). والخلاف بين القولين راجع إلى الخلاف في توصيف عقد الحوالة: فمن قال: إن الحوالة تنقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، ويبرأ المحيل من الدين رأى أن الحوالة تسقط حق البائع في حبس المبيع. وهذا رأي جمهور الفقهاء. ومن قال: إن الحوالة لا تنقل الدين، وإنما تنقل المطالبة فقط، رأى أن الحوالة لا تسقط حق البائع في حبس المبيع. وهذا قول محمَّد بن الحسن، وقد تكلمنا عن توصيف عقد الحوالة في عقد الحوالة، فلله الحمد على فضله وكرمه. [م - 238] إذا علمنا الخلاف فيما لو أحال المشتري البائع على شخص، لأخذ الثمن، فهل يختلف الحكم فيما لو أحال البائع رجلاً على المشتري بالثمن، فهل يسقط حق البائع في حبس المبيع؟ قال في الجوهرة النيرة: "ولو أحال البائع رجلاً على المشتري بالثمن سقط الحبس إجماعًا .... لأن مطالبته سقطت كما لو استوفى" (¬3). ¬
وقال في البحر الرائق: "ويسقط بحوالة البائع على المشتري بالثمن اتفاقًا" (¬1). والخلاف في حبس المبيع يجري في حق الزوجة في حبس نفسها إذا أحالها الزوج بصداقها، والله أعلم. إذا علمنا الخلاف فيما لو أحال المشتري البائع على شخص، لأخذ الثمن، فهل يختلف الحكم فيما لو أحال البائع رجلاً على المشتري بالثمن، فهل يسقط حق البائع في حبس المبيع. قال في الجوهرة النيرة: "ولو أحال البائع رجلاً على المشتري بالثمن سقط الحبس إجماعًا .... لأن مطالبته سقطت كما لو استوفى" (¬2). وقال في البحر الرائق: "ويسقط بحوالة البائع على المشتري بالثمن اتفاقًا" (¬3). ¬
الفصل الخامس في ما يختص بالثمن من أحكام
الفصل الخامس في ما يختص بالثمن من أحكام [م - 239] سبق لنا أن ذكرنا تعريف الثمن عند الكلام على تعريف المبيع، كما سبق لنا أن ذكرنا جملة من شروط الثمن ذكرناها ضمن الكلام على شروط المعقود عليه (المبيع والثمن)، وسنذكر في هذه المباحث إن شاء الله تعالى بعض الأحكام المختصة بالثمن لنكون بذلك قد أتممنا والحمد لله أحكام المعقود عليه، لننتقل بعد ذلك إلى موانع البيع، نسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
المبحث الأول في أنواع الثمن
المبحث الأول في أنواع الثمن الفرع الأول في تعجيل الثمن [م - 240] حلول الثمن هو الأصل في البيع، إذ يقتضي عقد البيع تسليم المبيع إلى المشتري، وتسليم الثمن إلى البائع إلا أن يمنع من ذلك عرف، أو شرط. جاء في مجلة الأحكام العدلية: "البيع المطلق ينعقد معجلًا، أما إذا جرى العرف في بلدة على أن يكون البيع المطلق مؤجلًا، أو مقسطًا إلى أجل معلوم ينصرف البيع المطلق إلى ذلك الأجل" (¬1). ويقول ابن عبد البر: "الثمن أبدًا حال، إلا أن يذكر المتبايعان له أجلاً، فيكون إلى أجله" (¬2). إلا أن هناك في بعض البيوع ما يعتبر التعجيل شرطًا في بقائه على الصحة، كما في رأس مال السلم، وبيع الأثمان بعضها ببعض، وبيع الربويات بعضها ببعض. ¬
المسألة الأولى وجوب تعجيل الثمن في عقد الصرف
المسألة الأولى وجوب تعجيل الثمن في عقد الصرف [م - 241] اتفق الأئمة على تحريم تأجيل القبض في عقد الصرف. قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن المتصارفين إذا تفرقا قبل أن يتقابضا، أن الصرف فاسد" (¬1). واختلفوا في وجوب الفورية: فرأى مالك أن القبض في عقد الصرف يجب أن يكون فورًا، ولا يجوز التراخي فيه، ولو كان العاقدان في المجلس (¬2). وذهب الجمهور إلى جواز التراخي في القبض ما دام العاقدان في مجلس العقد (¬3). وسيأتي بحث هذه المسألة، وذكر أدلتها في باب الربا والصرف إن شاء الله تعالى، بلغنا الله ذلك بحوله وقوته. ¬
المسألة الثانية في تعجيل الثمن في بيع الأموال الربوية
المسألة الثانية في تعجيل الثمن في بيع الأموال الربوية [م - 242] اتفق الفقهاء على تحريم النسأ (التأجيل) في بيع الأموال الربوية بعضها ببعض، ولو اختلف جنسها إذا كانت العلة واحدة (¬1). واختلفوا في كيفية القبض: فقيل: يكفي فيها التعيين، ولو لم يحصل تقابض باليد. وهذا مذهب الحنفية. جاء في الدر المختار: "والمعتبر تعيين الربوي في غير الصرف، ومصوغ ذهب وفضة، بلا شرط تقابض، حتى لو باع برًّا ببر بعينهما، وتفرقا قبل القبض جاز" (¬2). وقيل: لا بد من التقابض، وهو مذهب الجمهور (¬3). ¬
وقد تناولنا عند الكلام على قبض المبيع أدلة كل فريق، فأغنى عن إعادته هنا، كما سيأتي بسط آخر لهذه المسألة إن شاء الله تعالى في كتاب الربا بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. ¬
المسألة الثالثة في تعجيل رأس مال السلم
المسألة الثالثة في تعجيل رأس مال السلم [م - 243] اختلف العلماء في حكم تعجيل ثمن المسلم فيه في مجلس العقد. فقيل: يجب تعجيل ثمن السلم في مجلس العقد، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: يجوز تأخير اليومين والثلاثة بالشرط وبدونه، وأما تأخيره بالشرط زيادة على الثلاثة فمفسد للعقد، وأما التأخير أكثر من ثلاثة أيام بغير شرط، ففي الفساد فيه قولان، بشرط ألا يبلغ التأخير أجل المسلم فيه، وهذا مذهب المالكية (¬2). وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط أدلة الأقوال في المسألة في كتاب السلم، وهل هناك فرق بين أن يكون الثمن في السلم معينًا، أو يكون في الذمة، أسأل الله عز وجل أن يبلغنا ذلك بحوله وقوته. ¬
الفرع الثاني في تأجيل الثمن
الفرع الثاني في تأجيل الثمن تكلمنا في البحوث السابقة عن وجوب تعجيل الثمن في بعض أنواع البيوع، ونتناول في هذا الباب وقوع التأجيل في الثمن، في بيان حكمه، وشروطه، والأصل أن تأجيل الثمن يبحث في الشروط الجعلية؛ لأنه قد يشترطه المشتري على البائع فيما يسوغ فيه التأجيل، فنكتفي بذكر أحكامه بالإشارة هنا، ونترك التفصيل في باب الشروط في البيع؛ لأنه أليق به فيما أراه، والله أعلم. - تعريف التأجيل اصطلاحًا (¬1): قال في بدائع الصنائع: "الأجل: اسم لزمان مقدر مضروب لانقضاء أمر، كآجال الديون وغيرها" (¬2). والتأجيل كما يقع في الثمن، يقع في المبيع. فاشتراط الأجل في تسليم المبيع (كالسلم) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم" (¬3). فالمؤجل هنا المبيع دون الثمن. ¬
وأما اشتراط الأجل بتسليم الثمن، كما لو اشترى رجل سلعة بثمن مؤجل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ (282)} [البقرة: 282].
المسألة الأولى حكم تأجيل الثمن
المسألة الأولى حكم تأجيل الثمن قال الماوردي: الآجال لا تثبت في العقود إلا بشرط كالآثمان (¬1). [م - 244] أجمع العلماء على أنه يجوز تأجيل الثمن إذا لم يكن القبض شرطًا في بقاء العقد على الصحة. قال ابن بطال: "الشراء بالنسيئة جائز بالإجماع" (¬2). وقال العيني: "وقد أجمعوا على أن الشراء بالدين جائز ... " (¬3). وقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن من باع معلومًا من السلع، بمعلوم من الثمن، إلى أجل معلوم من شهور العرب أن الدين جائز" (¬4). ومستند الإجماع نصوص كثيرة من الكتاب والسنة: أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. قال شيخ شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "فيها فوائد كثيرة، منها: جواز المعاملات في الديون، سواء كانت ديون سلم أو شراء مؤجل ثمنه، فكله جائز؛ لأن الله أخبر به عن المؤمنين، فإنه من مقتضيات الإيمان، وقد أقرهم عليه الملك الديان" (¬5). ¬
ومن السنة
ومن السنة: (ح -143) ما رواه الشيخان من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة - رضي الله عنهما -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى طعامًا من يهودي إلى أجل، ورهنه درعًا من حديد (¬1). وترجم البخاري في صحيحه: باب شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسيئة. ¬
المسألة الثانية في شروط تأجيل الثمن
المسألة الثانية في شروط تأجيل الثمن قال الماوردي: الآجال المجهولة يبطل بها البيع (¬1). [م - 245] نذكر شروط تأجيل الثمن مجملة، وقد حررنا الخلاف فيها في كتاب الشروط الجعلية (الشروط في البيع) فارجع إليه إن أردت. الشرط الأول: أن يكون العوضان مما لا يجري فيهما ربا النسيئة، فإن كان مما يجري فيهما ربا النسيئة حرم التأجيل، وذلك كما لو باع دراهم بدراهم، أو باع برًّا بشعير، وقد ذكرنا أدلة هذا الشرط في باب اشتراط التأجيل من كتاب الشروط في البيع، وانظر ربا النسيئة في كتاب الربا من هذا الكتاب لمعرفة الأموال التي يجري بينها ربا النسيئة. الشرط الثاني: يشترط في المؤجل عند الجمهور أن يكون دينا موصوفًا في الذمة، فلا يجوز التأجيل في المعقود عليه (ثمنا، أو مثمنا) إذا كان معينا. وقال ابن عابدين: "الأعيان لا تقبل التأجيل" (¬2). وقال الرملي: "الأعيان لا تقبل التأجيل ثمنا، ولا مثمنا" (¬3). ¬
الشرط الثالث
وقال ابن رشد في بداية المجتهد: "وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الأعيان إلى أجل، وأن من شرطها تسليم المبيع إلى المبتاع بأثر الصفقة" (¬1). وجاء في المجموع: "قال أصحابنا: إنما يجوز الأجل إذا كان العوض في الذمة، فأما إذا أجل تسليم المبيع أو الثمن المعين، بأن قال: اشتريت بهذه الدراهم على أن أسلمها في وقت كذا، فالعقد باطل" (¬2). وقد حكي فيه الإجماع، فإن صح الإجماع فهو حجة، وإلا فالنظر لا يمنع من تأجيل المعين، وإذا جاز على الصحيح أن يبيع الدار ويستثني سكناها مدة معينة، وهذا يقتضي عدم تسليم المعين، جاز الأجل في المعين (¬3)، كما تجوز الإجارة على مدة لا تلي العقد على الصحيح، وهذا يعني تأخير تسليم المعين. وقد بحثت هذا الشرط في كتاب الشروط في البيع (اشتراط التأجيل في العقد) فانظره هناك. الشرط الثالث: يشترط لتأجيل الثمن أن تكون السلعة حالة، حتى لا يؤدي ذلك إلى بيع الدين بالدين. "قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن بيع الدين بالدين لا يجوز، وقال أحمد: إنما هو إجماع ... " (¬4). وقال ابن تيمية: "ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، والكالئ: هو المؤخر ¬
الشرط الرابع
الذي لم يقبض، بالمؤخر الذي لم يقبض، وهذا كما لو أسلم شيئاً في شيء في الذمة، وكلاهما مؤخر، فهذا لا يجوز بالاتفاق، وهو بيع كالئ بكالئ" (¬1). وانظر مزيد بحث له في شروط التأجيل في العقد في الشروط في البيع. الشرط الرابع: ألا يكون الثمن والمثمن من جنس واحد، وهذا الشرط عند الحنفية فقط، لأن الحنفية يرون تحريم النسيئة في كل ما اتحد جنسه، وإن لم يكن مكيلًا، أو موزونا، فيذهبون إلى تحريم النسيئة في بيع الثوب بالثوب، وفي بيع الحيوان بالحيوان إذا كانا من جنس واحد (¬2). ووافقهم المالكية على ذلك بشرط أن يجمع بين التفاضل والنساء، وأن تتفق الأغراض والمنافع (¬3). وخالف في ذلك الشافعية والحنابلة فلم يشترطوا ذلك في الأموال التي ليست ربوية، فأجازوا فيها التفاضل والنساء. والراجح أن الربا لا يجري إلا في الأموال الربوية، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، وسوف نذكر إن شاء الله تعالى أدلة كل قول في كتاب الربا ومناقشتها، نسأل الله عز وجل أن يبلغنا ذلك بمنه وكرمه. ¬
المسألة الثالثة في الزيادة في الثمن مقابل التأجيل
المسألة الثالثة في الزيادة في الثمن مقابل التأجيل سبق لنا أن بينا أن إطلاق العقد يقتضي تعجيل التسليم لكل من المبيع والثمن، كما تكلمنا عن الحالات التي لم يجعل الشارع الخيار للعاقدين في التأجيل، بل أوجب عليهما التعجيل في مجلس العقد، ثم تكلمنا عن الحالات التي يكون الخيار فيها للعاقدين في تأجيل الثمن، كما لو شرطاه في العقد، ونبحث في هذا المبحث جواز الزيادة في الثمن مقابل التأجيل، بمعنى هل الأجل له قيمة في العقد. أما في عقد القرض فلا يجوز أن يكون للأجل أي قيمة، بل يجب في القرض أن يرد مثل ما أخذ بدون اشتراط أي زيادة، وهذا مجمع عليه. [م - 246] وأما الزيادة في عقد البيع مقابل التأجيل فهي محل خلاف. وللجواب على ذلك نقول: للمسألة صورتان: الصورة الأولى: أن يقول البائع للمشتري: السلعة بمائة نقدًا، أو بمائة وخمسين نسيئة. الصورة الثانية: أن يكون العقد من الأصل مؤجلًا دون أن يتعرض العاقدان لقيمة السلعة في حال التعجيل، ولكن من نظر إلى قيمة السلعة علم أن قيمتها قد زيد فيها مقابل التأجيل. وسوف نبحث كل مسألة على انفراد إن شاء الله تعالى.
المطلب الأول إذا عرضت السلعة نقدا بكذا ونسيئة بكذا
المطلب الأول إذا عرضت السلعة نقدًا بكذا ونسيئة بكذا [م - 247] إذا قال الرجل للرجل: بعتك هذه السلعة بعشرة نقدًا، أو بعشرين نسيئة، وتفرقا دون القطع بأحد الثمنين فقد اختلف العلماء في حكم هذا البيع على ثلاثة أقوال: القول الأول: البيع لا يصح، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). القول الثاني: إن وقع البيع على وجه اللزوم فالبيع باطل، وإن وقع على وجه الاختيار فالبيع صحيح، وهذا مذهب مالك في المدونة (¬4). ¬
القول الثالث
القول الثالث: البيع صحيح، وهو اختيار ابن القيم (¬1)، وخرجه بعضهم وجهًا في مذهب الحنابلة (¬2). وسبب الاختلاف عندهم: هو جهالة الثمن؛ لأنهم لا يدرون هل الثمن هو النقد، أو الثمن هو النسيئة. وسبق لنا تحرير هذه المسألة مع ذكر أدلتها في باب الجهالة بالثمن، حكم إبهام الثمن على وجه التخيير، فأغنى عن إعادته هنا. ¬
- ووجه المنع عندهم
وبعضهم يمنع البيع من باب منع الزيادة مقابل التأجيل (¬1)، اختاره بعض المعاصرين. - ووجه المنع عندهم: أن الزيادة إذا أفردت بالذكر عن ثمن السلعة حالة، يشعر أن الثمن للسلعة، والزيادة في مقابل الأجل، فيشبه الربا، وكأن الثمن النقدي ثبت في الذمة أولًا، ثم قدرت الزيادة خارجة عن قيمة السلعة، وإنما جاءت في مقابل تأجيل دين ثبت في الذمة حالًا. والصحيح أنه لا حرج في إفراد الزيادة بالذكر بشرط أن يتم العقد بثمن بات غير قابل للزيادة عند تأخر الأداء. وسيأتي إعادة هذه المسألة بالبحث بشيء من التفضيل والتوسع في ذكر الأدلة عند الكلام على المعاملات المصرفية: بيع المرابحة للآمر بالشراء، فانظره هناك، نسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
المطلب الثاني أن يكون العقد من الأصل مؤجلا
المطلب الثاني أن يكون العقد من الأصل مؤجلاً [م - 248] إذا دخل العاقدان من ابتداء العقد على أن الثمن مؤجل، ولم يتعرضا لقيمة السلعة حالة، ولكن قيمتها قد روعي فيه كون الثمن مؤجلاً، فزيد فيه من أجل ذلك، فما حكم هذه الزيادة؟ ذهب عامة أهل العلم إلى جواز مثل تلك المعاملة (¬1)، إلا خلافًا شاذا قال به بعض أهل العلم (¬2)، وهو قول مرجوح. وسنأتي على هذه المسألة إن شاء الله تعالى، في كتاب المعاملات المصرفية، باب بيع المرابحة للآمر بالشراء، فانظره هناك، وإنما اقتضى تمام التقسيم الإشارة إليه هنا، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
الفرع الثالث في تقسيط الثمن
الفرع الثالث في تقسيط الثمن تعريف التقسيط اصطلاحًا (¬1): تقسيط الدين: جعله أجزاء معلومة تؤدى في أوقات معينة (¬2). وجاء في مجلة الأحكام العدلية: "التقسيط: تأجيل أداء الدين مفرقًا إلى أوقات متعددة معينة" (¬3). ¬
المسألة الأولى شروط التقسيط
المسألة الأولى شروط التقسيط ما يشترط في تأجيل الثمن يشترط في تقسيط الثمن، حيث لا يوجد فرق في الحكم الشرعي بين ثمن مؤجل لأجل واحد، وثمن مؤجل إلى آجال متعددة، فما يحرم تأجيل الثمن فيه يحرم تقسيط الثمن فيه، وما يجوز فيه تأجيل الثمن يجوز فيه تقسيط الثمن، فشروط تأجيل الثمن هي شروط تقسيط الثمن، وقد ذكرنا شروط تأجيل الثمن في مسألة سابقة فأغنى عن إعادتها هنا.
المسألة الثانية في حلول المؤجل إذا تأخر عن السداد
المسألة الثانية في حلول المؤجل إذا تأخر عن السداد [م - 249] قد تنص بعض العقود بأنه في حالة تأخر المدين عن تسديد القسط الذي عليه في حينه، أو في حالة تأخره عن قسطين متتاليين، فإن بقية الأقساط تصير حالة بذلك، فما حكم هذا الشرط؟ هذا نوع من الشرط الجزائي، فإن كان ذلك دون شرط في العقد، فإنه لا يجوز تعجيل المؤجل إلا أن يتبرع المدين، وإن كان ذلك مشروطًا في العقد جاز ذلك بشرط أن يكون التأخير عن السداد ليس سببه الإعسار؛ لأنه ينبغي التفريق بين المعسر، وبين المؤسر المماطل، وقد بحثت هذه المسألة ولله الحمد في باب الشروط في البيع، عند الكلام على الشرط الجزائي، فارجع إليه إن شئت، كما بحثت معها مسألة لها علاقة بالباب، وهو حكم تعويض الدائق تعويضًا ماليًا عن التأخير في سداد الدين، فلله وحده الفضل والمنة.
الفرع الرابع في تحديد الثمن
الفرع الرابع في تحديد الثمن تكلمنا في الفصول السابقة عن تعجيل الثمن، وعن تأجيل الثمن، وسنتكلم في البحوث التالية عن تحديد الثمن، فقد يدخل البائع والمشتري والثمن قد تم تحديده، وتحديد الثمن له طرق كثيرة: فقد يكون تحديد الثمن عن طريق التسعير الذي يتولاه إمام المسلمين أو نائبه. وقد يكون تحديد الثمن عن طريق اتفاق العاقدين بالمبيع بسعر السوق، أو بما يبيع به التاجر الفلاني، وهو معروف مشهور بالسوق، أو بما ينقطع به السعر، أو عن طريق الرقم. وقد يأخذ التحديد شكلًا آخر، وذلك عن طريق بيوع ما يسمى اصطلاحًا بيوع الأمانة، كالتولية، والمرابحة، والمواضعة، والشركة، وسوف نعرض آراء الفقهاء لكل مسألة من هذه المسائل، نسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
المسألة الأولى تحديد الثمن عن طريق التسعير
المسألة الأولى تحديد الثمن عن طريق التسعير التسعير الاصطلاح (¬1): التسعير: تقدير السلطان أو نائبه للناس سعرًا، وإجبارهم على التبايع بما قدره (¬2). وجاء في حدود ابن عرفة، وشرحها: "تحديد حاكم السوق لبائع المأكول فيه قدرًا للمبيع بدرهم معلوم. قوله (تحديد) مناسب للمحدود لأنه مصدر. وقوله (حاكم) أخرج به غير حاكم السوق، كما إذا حدد البائع لنفسه؛ لأنه لا يسمى تسعيرًا، وكذلك غير الحاكم. قوله (لبائع المأكول) أخرج به غير المأكول؛ لأنه لا يسعر. وقوله (فيه) يتعلق بالبائع، والضمير يعود على السوق، ولا بد من ذكر ¬
الظرف، وإلا دخل فيه إذا حدد حاكم السوق على بائع المأكول قدرًا في مبيعه في غير السوق فتأمله. وقدرًا منصوب على المفعول، وللمبيع صفة للقدر، وبدرهم يتعلق بالتحديد" (¬1). ¬
المطلب الأول في حكم التسعير
المطلب الأول في حكم التسعير [م - 250] ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأصل في التسعير الحرمة، خاصة إذا كان أهل السوق يقومون بما أوجب الله عليهم (¬1). ¬
ومن أجاز التسعير منهم كالحنفية (¬1)، وابن عبد البر من المالكية (¬2)، وبعض الشافعية (¬3)، وابن تيمية (¬4)، وابن القيم (¬5)، فإنما أجازوه في حالات خاصة، بشروط معينة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى. وقيل: يجوز التسعير، وهو قول سعيد بن المسيب (¬6)، وربيعة ¬
ابن عبد الرحمن (¬1)، والليث بن سعد (¬2)، ويحيى بن سعيد الأنصاري (¬3)، وهو رواية أشهب عن مالك (¬4)، واختاره ابن العربي من المالكية (¬5). وأوجب ابن تيمية وابن القيم التسعير في حال التزم الناس ألا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون، لا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم، فلو باع غيرهم ذلك منع (¬6). ¬
وانظر أدلة كل قول في باب موانع البيع (البيوع المنهي عنها) من أجل الضرر، فقد فصلت المسألة هناك، والحمد لله، وبينت أن الأصل في التسعير الحرمة، وأن ارتفاع الأسعار منه ما هو مقبول، ولا يعالج بالتسعير، كما لو كان ذلك نتيجة عدم توفر السلع في الأسواق، أو كان ذلك بسبب كثرة الطلب على السلع، فهنا يترك السوق على حاله، والله هو المسعر كما قال - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي حمل النبي - صلى الله عليه وسلم - على ترك التسعير، واعتباره من الظلم، وأما إذا كان الباعة يظلمون الناس، كما لو كان أهل السوق يتفقون على عدم البيع إلا بسعر معين، أكثر من ثمن المثل، أو كانوا يحتكرون السلع طلبًا لغلاء الأسعار، فهنا يجب على ولي الأمر، أو نائبه، أن يتدخل ليحمي الناس من الإضرار بهم، فيسعر عليهم بطريقة تضمن حق البائع، كما تضمن حق المشتري، وسنأتي إن شاء الله تعالى على كيفية التسعير وطريقته بما يحفظ المصالح العامة، ولا يظلم الناس حقوقهم، والله أعلم.
المطلب الثاني في الحالات التي يسوغ في التسعير
المطلب الثاني في الحالات التي يسوغ في التسعير [م - 251] الحالات التي يسوغ فيها التسعير بعضها يصدق عليه أنه حالات، وبعضها تجري مجرى الشروط، وهي: - الحالة الأولى: تعدي أهل السوق في قيم السلع: اشترط الحنفية: أن يتعدى أهل السوق تعديًا فاحشًا، وقدر الحنفية التعدي الفاحش: بأن يبيع بضعف القيمة، ويعجز الحاكم عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، فلا بأس به. جاء في البحر الرائق: "ولا يسعر السلطان إلا أن يتعدى أرباب الطعام عن القيمة تعديًا فاحشًا" (¬1). وقدر الحنفية التعدي الفاحش بضعف القيمة (¬2). ولم يقدر ابن تيمية وابن القيم التعدي بضعف القيمة، وإنما ذكرا فقط أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة عن القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل ... (¬3). - الحالة الثانية: أن يكون الإِمام عادلًا. هذا شرط ذكره بعض المالكية، جاء في التاج والإكليل: "الجالب لا يسعر ¬
- الحالة الثالثة: أن تكون السلعة المسعرة مما يحتاجها عامة الناس.
عليه اتفاقًا، وإن كان التسعير لغيره، فلا يكون إلا إذا كان الإِمام عدلاً، ورآه مصلحة، بعد جمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء" (¬1). وهذا الشرط لحظ فيه المالكية أن الإِمام إذا لم يكن عادلًا ربما قصد من التسعير ظلم الناس، بائعًا كان، أو مشتريًا؛ لأن التسعير سلاح ذو حدين، إن ظلم به الإِمام أرباب السلع امتنعوا عن بيع سلعهم، وإن ظلم به العامة ضيق عليهم في أرزاقهم، وأقواتهم، فكان الإِمام العادل يتحرى الإنصاف في التسعير، ولذلك قالوا: يسعر بعد أن يجمع أهل السوق ليطلع على القيمة الحقيقية للسلع، لا وكس، ولا شطط، والله أعلم. - الحالة الثالثة: أن تكون السلعة المسعرة مما يحتاجها عامة الناس. لأن التسعير إنما جاز مراعاة للمصلحة العامة، والمصلحة العامة: تعني بذلك قيام الحاجة العامة لدى الناس إلى مثل تلك السلعة. وبهذا المعنى يقول الحنفية: "ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس ... إلا إذا تعلق به دفع ضرر العامة ... " (¬2). ويقول ابن تيمية: "وما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس، فإنه يجب أن لا يباع إلا بثمن المثل، إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة. ومن ذلك أن يحتاج الناس إلى صناعة ناس، مثل حاجة الناس إلى الفلاحة، والنساجة، والبناية، فإن الناس لا بد لهم من طعام يأكلونه، وثياب يلبسونها، ومساكن يسكنونها، فإذا لم يجلب لهم من الثياب ما يكفيهم، كما كان يجلب إلى الحجاز على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... احتاجوا إلى من ينسج لهم ¬
- الحالة الرابعة: احتكار التجار للسلع الضرورية.
الثياب ... ولهذا قال غير واحد من الفقهاء كأبي حامد الغزالي، وأبي الفرج ابن الجوزي، وغيرهم: إن هذه الصناعات فرض على الكفاية، فإنها لا تتم مصلحة الناس إلا بها، كما أن الجهاد فرض على الكفاية ... والمقصود هنا: أن ولي الأمر إن أجبر أهل الصناعات على ما تحتاج إليه الناس من صناعتهم، كالفلاحة، والحياكة، والبناية، فإنه يقدر أجرة المثل، فلا يمكن المستعمل من نقص أجرة الصانع عن ذلك، ولا يُمَكَّن الصانع من المطالبة بأكثر من ذلك، حيث تعين عليه العمل، وهذا من التسعير الواجب، وكذلك إذا احتاج الناس إلى من يصنع لهم آلات الجهاد، من سلاح، وجسر للحرب، وغير ذلك، فيستعمل بأجرة المثل، لا يمكن المستعملون من ظلمهم، ولا العمال من مطالبتهم بزيادة على حقهم، مع الحاجة إليهم، فهذا تسعير في الأعمال، وأما في الأموال: فإذا احتاج الناس إلى سلاح الجهاد، فعلى أهل السلاح أن يبيعوه بعوض المثل، ولا يمكنون من أن يحبسوا السلاح حتى يتسلط العدو، أو يبذل لهم من الأموال ما يختارون ... " (¬1). - الحالة الرابعة: احتكار التجار للسلع الضرورية. يشترط لجواز التسعير، أن يكون هناك احتكار من التجار للسلع، ينتج عنه غلاء تلك السلع، والناس يحتاجون إلى ما عندهم من الطعام، فيجبرون على بيع سلعهم بثمن المثل. يقول ابن تيمية: "المحتكر: هو الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام، فيحبسه عنهم، ويريد إغلاءه عليهم، وهو ظالم للخلق المشترين، ولهذا ¬
- الحالة الخامسة: أن تحتكر فئة معينة بيع سلع مخصوصة.
كان لولي الأمران يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه، والناس في مخمصة ... ومن هنا يتبين أن السعر: منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس، وإكراههم بغير حق على بيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباحه الله لهم فهو حرام ... وإذا تضمن العدل بين الناس بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل، فهو جائز، بل واجب. فأما الأول، فمثل ما روى أنس، قال: غلا السعر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله، لو سعرت، فقال: إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر ... وأما الثاني: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها، مع ضرورة الناس إليها، إلا بزيادة عن التهيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم الله به" (¬1). - الحالة الخامسة: أن تحتكر فئة معينة بيع سلع مخصوصة. يشترط لجواز التسعير، أن تحتكر فئة الشراء من المنتجين، فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ولا تشترى إلا منهم، فهنا يكون التسعير واجبًا عليهم. فإذا كان المنتج والذي يجلب بضاعته إلى السوق قد منع من البيع إلا لفئة من التجار، فلا يجد من يشتري منه، ولو باع على غيرهم عوقب ومنع، فهو مجبر على البيع لهؤلاء، فلو باعه بالسعر الذي يريدونه، ثم كان لهؤلاء المحتكرين ¬
- الحالة السادسة: أن يتواطأ البائعون ضد المشترين، أو العكس.
البيع على الناس بالسعر الذي يريدونه، لكان هذا من أعظم الفساد في الأرض، ولهذا يجب أن يسعر على هؤلاء شراء، وبيعًا، فيشترون بقيمة المثل لمن اشترى جملة، ويبيعون بقيمة المثل لمن باع مفرقاً. يقول ابن تيمية: "وأبلغ من هذا أن يكون الناس قد التزموا، أن لا يبيع الطعام، أو غيره إلا أناس معروفون، لا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم، فلو باع غيرهم ذلك منع، إما ظلمًا لوظيفة تؤخذ من البائع، أو غير ظلم لما في ذلك من الفساد، فهاهنا يجب التسعير عليهم، بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل، بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء؛ لأنه إذا كان قد منع غيره أن يبيع ذلك النوع، أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما اختاروا، أو اشتروا بما اختاروا، كان ذلك ظلمًا للخلق من وجهين: ظلمًا للبائعين الذين يريدون بيع تلك الأموال. وظلمًا للمشترين منهم، والواجب إذا لم يمكن دفع جميع الظلم، أن يدفع الممكن منه، فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع، وحقيقته: إلزامهم ألا يبيعوا، ولا يشتروا إلا بثمن المثل" (¬1). - الحالة السادسة: أن يتواطأ البائعون ضد المشترين، أو العكس. قال ابن تيمية: "إذا اتفق أهل السوق على أن لا يزايدوا في سلع، هم محتاجون لها؛ ليبيعها صاحبها بدون قيمتها، ويتقاسموها بينهم، فإن هذا قد يضر صاحبها أكثر مما يضر تلقي السلع إذا باعها مساومة، فإن ذلك فيه من بخس الناس ما لا يخفى، والله أعلم" (¬2). ¬
وجاء في البيان والتحصيل: "وسئل عن قوم يجتمعون في البيع، يقولون: لا نزيد على كذا، وكذا، فقال: لا والله، ما هذا بحسن. قال محمَّد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن تواطؤهم على ذلك إفساد على البائع، وإضرار به في سلعته ... " (¬1). وقال ابن تيمية: "منع غير واحد من العلماء كأبي حنيفة، وأصحابه القسامين، الذين يقسمون العقار وغيره بالأجرة، أن يشتركوا، فإنهم إذا اشتركوا والناس يحتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجرة، فمنع البائعين الذين تواطؤوا على أن لا يبيعوا إلا بثمن قدروه أولى، وكذلك منع المشتري إذا تواطؤوا على أن يشتركوا، فإنهم إذا اشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا سلع الناس أولى أيضًا. فإذا كانت الطائفة التي تشترى نوعًا من السلع، أو تبيعها، قد تواطأت على أن يهضموا ما يشترونه، فيشتروه بدون ثمن المثل المعروف، ويزيدوا ما يبيعونه بأكثر من الثمن المعروف، وينموا ما يشترونه، كان هذا أعظم عدوانًا من تلقى السلع، ومن بيع الحاضر للبادي، ومن النجش، ويكونون قد اتفقوا على ظلم الناس حتى يضطروا إلى بيع سلعهم وشرائها بأكثر من ثمن المثل، والناس يحتاجون إلى ذلك وشرائه، وما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس فإنه يجب أن لا يباع إلا بثمن المثل، إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة" (¬2). هذه هي الحالات التي ذكرها الفقهاء، والتي كانت تستدعي في عصرهم إلى علاجها عن طريق التسعير. ¬
يقول ابن القيم: "وجماع الأمر أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر عليهم" (¬1). وجاء في الموسوعة الكويتية: "وخلاصة رأي ابن تيمية، وابن القيم، أنه إذا لم تتم مصلحة إلا بالتسعير سعر عليهم السلطان تسعير عدل، بلا وكس، ولا شطط، وإذا اندفعت حاجتهم، وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل. وهذا يدل على أن الحالات المذكورة ليست حصرًا للحالات التي يجب فيها التسعير، بل كلما كانت حاجة الناس لا تندفع إلا بالتسعير، ولا تتحقق مصلحتهم إلا به كان واجبا على الحاكم حقا للعامة" (¬2). ¬
المطلب الثالث ما يدخله التسعير
المطلب الثالث ما يدخله التسعير كما اختلف العلماء في الاحتكار، هل هو خاص بالقوت، أو في كل السلع؟ كما سيأتي إن شاء الله تعالى كشفه في موانع البيع. [م - 252] كذلك اختلفوا في التسعير، هل يسعر كل شيء، أو يسعر ما هو قوت ضروري للناس، على النحو التالي: القول الأول: التسعير خاص في القوتين (قوت الآدمي وعلف الدواب)، صرح به العتابي وغيره من الحنفية (¬1)، وهو قول لبعض الشافعية (¬2). القول الثاني: التسعير في الطعام، وهو قول ربيعة، ويحيى بن سعيد (¬3). ¬
القول الثالث
القول الثالث: التسعير في كل شيء، واستظهره ابن عابدين بناء على قول أبي حنيفة في الحجر لدفع الضرر العام، وبناء على قول أبي يوسف، في أن الاحتكار يجري في كل شيء (¬1)، وهو اختيار ابن تيمية، وابن القيم من الحنابلة (¬2). القول الرابع: التسعير خاص في المكيل والموزون، مأكولًا كان أو غير مأكول، وهذا قول ابن حبيب من المالكية. قال أبو الوليد الباجي: هذا إذا كان المكيل والموزون متساويين، أما إذا اختلفا لم يؤمر صاحب الجيد أن يبيعه بمثل سعر ما هو أدون؛ لأن الجودة لها حصة من الثمن (¬3). وقدمه صاحب مطالب أولى النهى من الحنابلة (¬4). - دليل من قال: التسعير يكون في القوتين فقط. هذا القول يرجع إلى مسألة سابقة، فمن قال: الاحتكار لا يكون إلا في ¬
- وجه من قال: التسعير يكون في المكيل والموزون خاصة.
القوتين، قوت الآدمي وقوت الدواب، رأى أن التسعير لا يكون إلا في القوتين خاصة، منعًا من احتكارهما ورفع أسعارهما، وقد ذكرت أدلة من يرى أن الاحتكار لا يجري إلا في القوتين، وأجبت عنها في حكم الاحتكار في باب موانع البيع. ولأن الضرر في الأعم الأغلب إنما يلحق العامة بحبس القوت والعلف، فلا يتحقق الاحتكار إلا بهما (¬1)، وبالتالي تكون الحاجة إلى التسعير فيهما ضرورة؛ لأن قوام عيش الكائن الحي بهما. - وجه من قال: التسعير يكون في المكيل والموزون خاصة. وجه ذلك أن المكيل والموزون مما يرجع إلى المثل، فلذلك وجب أن يحمل الناس فيه على سعر واحد، وغير المكيل والموزون لا يرجع فيه إلى المثل، وإنما يرجع فيه إلى القيمة، ويكثر اختلاف الأغراض في أعيانه، فلما لم يكن متماثلا لم يصح أن يحمل الناس فيه على سعر واحد. - وجه من قال: التسعير في كل شيء. أن التسعير إنما جاز لدفع الإضرار بالعامة، وهذا لا يختص بالقوت والعلف، كما أن النهي عن الاحتكار إنما كان لمكان الإضرار بالعامة، وهو لا يختص بالقوت والعلف على الصحيح (¬2). - الراجح: بعد استعراض الأقوال نجد أن القول بأن التسعير يجري في كل شيء فيه ¬
مصلحة للناس، سواء كان من قوتهم أو من غير قوتهم، فاليوم تجد أن الدواء، والسكن لا يقل أهمية عن الطعام، ورفع مثل ذلك على الناس مما يلحق الضرر بعامتهم، ويعطل مصالحهم، ولكن لا يكون التسعير مشروعًا حتى تتحقق شروطه السابقة، وتنتفي موانعه، ويكون صادرًا من رجل يريد الخير للناس، ويوازن بين مصلحة السوق، ومصلحة المستهلك، ولا يغلب مصلحة طرف على طرف.
المطلب الرابع كيفية التسعير وصفته
المطلب الرابع كيفية التسعير وصفته [م - 253] التسعير لا يكون إلا بعد دراسة لقيم الأشياء، ومشاورة أهل الخبرة، وأخذ رأي أهل السوق المعنيين بالسلع. قال ابن القيم: "لا يجوز عند أحد من العلماء، أن يقول لهم: لا تبيعوا إلا بكذا وكذا، ربحتم، أو خسرتم، من غير أن ينظر إلى ما يشترون به، ولا أن يقول لهم فيما قد اشتروه: لا تبيعوا إلا بكذا وكذا، مما هو مثل الثمن، أو أقل. وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون، لم يتركهم أن يغلوا في الشراء، إن لم يزيدوا في الربح على القدر الذي حد لهم، فإنهم قد يتساهلون في الشراء إذا علموا أن الربح لا يفوتهم" (¬1). ولذلك نص الحنفية على أن تسعير الإِمام إنما يكون بمشاورة أهل الرأي والنظر. جاء في الدر المختار: "إذا تعدى أرباب الطعام عن القيمة تعديًا فاحشًا، فيسعر بمشورة أهل الرأي". وفي الهداية شرح البداية: "فإن كان أرباب الحطعام يتحكمون، ويتعدون عن القيمة تعديًا فاحشًا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، فحينئذ لا بأس به بمشورة من أهل الرأي والبصيرة" (¬2). ¬
- وصفة التسعير عند المالكية
- وصفة التسعير عند المالكية: " قال ابن حبيب: ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء، ويحضر غيرهم استظهارًا على صدقهم، فيسألهم، كيف يشترون؟ وكيف يبيعون؟ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد، حتى يرضوا به، قال: ولا يجبرون على التسعير، ولكن عن رضا، وعلى هذا أجازه من أجازه. ووجه ذلك: أنه بهذا يتوصل إلى معرفة مصالح الباعة والمشترين، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم، ولا يكون فيه إجحاف بالناس، وإذا سعر عليهم من غير رضا بما لا ربح لهم فيه أدى ذلك إلى فساد الأسعار، وإخفاء الأقوات، وإتلاف أموال الناس" (¬1). وقال ابن القيم: "وعلى صاحب السوق الموكل بمصلحته، أن يعرف ما يشترون به، فيجعل لهم من الربح ما يشبه، وينهاهم أن يزيدوا على ذلك، ويتفقد السوق أبداً، فيمنعهم من الزيادة على الربح الذي جعل لهم، فمن خالف أمره عاقبه، وأخرجه عن السوق ... " (¬2). ¬
المطلب الخامس حكم البيع مخالفة التسعير
المطلب الخامس حكم البيع مخالفة التسعير [م - 254] إذا سعر الإِمام للناس، فخالف أحدهم، فباع بأكثر، فهل يصح البيع؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يصح البيع، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والأصح عند الشافعية (¬2)، وهو المتبادر ¬
القول الثاني
من كلام المالكية، فإنهم يقولون: ومن زاد في سعر، أو نقص منه، أمر بإلحاقه بسعر الناس، فإن أبى أخرج من السوق (¬1). القول الثاني: إن هدد من خالف التسعير حرم البيع، وبطل العقد في الأصح؛ لأن الوعيد إكراه، وهذا مذهب الحنابلة (¬2). - وجه صحة البيع مع مخالفة التسعير: إن قلنا: إن التسعير لا يجوز، فهذا ظاهر؛ لأن التسعير حرام، وظلم، فالتزامه ليس بواجب. وإن قلنا: إن التسعير جائز، فوجه صحة البيع مع مخالفة التسعير: أن التسعير غاية ما فيه أنه جائز، ومخالفة الجائز لا تجعله حرامًا. وإن قلنا: إن التسعير واجب، كما نص عليه ابن تيمية في بعض الحالات، وقد تقدم نقل كلامه، فهنا يشكل عليه صحة البيع مع القول بوجوب التسعير، إلا أن يقال: إن الصحة والتحريم ليس بينهما تلازم، فقد يصح الشيء، مع كونه ¬
حرامًا، وقد رضي المتعاقدان بالسعر، مثله مثل ما لو رغب إنسان بسلعة آخر، وامتنع صاحبها عن بيعها إلا بثمن أعلى من ثمن المثل، ورضي المشتري فالبيع صحيح، ولو لم يكن هناك تسعير، والله أعلم.
المسألة الثانية تحديد الثمن بالرجوع إلى سعر السوق أو بما ينقطع به السعر أو بما يبيع به فلان ونحو ذلك
المسألة الثانية تحديد الثمن بالرجوع إلى سعر السوق أو بما ينقطع به السعر أو بما يبيع به فلان ونحو ذلك [م - 255] إذا باع البائع سلعته بسعر السوق، أو بما باع فلان، أو البيع بالرقم، وكان ذلك معلومًا لدى المتعاقدين، فالبيع لا إشكال فيه، ولكن قد يكون مجهولًا حال التعاقد، فهل يصح البيع، ويرجع المتعاقدان إلى السوق، أو إلى زيد من الناس لمعرفة الثمن، أو لا يصح البيع؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: لا يجوز، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والصحيح في مذهب ¬
الشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: البيع صحيح. وهو قول في مذهب الشافعية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة، رجحه ابن تيمية (¬2). * دليل من قال: لا يجوز: الدليل الأول: جهالة الثمن تؤدي إلى فساد البيع، والعلم بالثمن شرط لصحة البيع، كالعلم بالمبيع، والبيع بما ينقطع به السعر، أو بما باع به زيد، والبائعان يجهلان ما باع به، أو يجهله أحدهما، والبيع بالرقم كل هذه البيوع في حقيقتها بيع بثمن مجهول وقت العقد، وإذا كان الثمن مجهولًا أدى ذلك إلى الوقوع بالغرر المنهي عنه. الدليل الثاني: السعر يختلف، فهو عرضة للنقص، والزيادة حسب العرض والطلب، فإذا زاد السعر ظلم البائع، وإذا نقص السعر غبن المشتري، وفي هذا مخاطرة تجعل هذه الصورة من البيوع المنهي عنها، والله أعلم. * دليل من قال: بالجواز: الدليل الأول: الأصل في معاملات الناس الحل، ولا يوجد دليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع يمنع ذلك، ولا يخشى من القول بالجواز الوقوع في محذور شرعي يمنع من صحة البيع. ¬
الدليل الثاني
قال ابن القيم: "ليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا إجماع الأمة، ولا قول صاحب، ولا قياس صحيح ما يحرمه". الدليل الثاني: شرط صحة البيع حصول الرضا، ورضا المشتري بالشراء بما يشتري به عموم الناس حاصل أكثر من حصوله بالشراء عن طريق المماكسة؛ لأنه قد يغبنه بذلك، ولهذا يرضى الناس بتخبير الثمن أكثر مما يرضون بالمساومة؛ لأن تخبير الثمن يكون قد رضي بخبرة التاجر البائع وشرائه لنفسه؛ لأن خبرة التاجر تقضي بأن لا يشتري إلا بثمن المثل، أو أنقص، بخلاف المساومة، فإنه تعود إلى خبرة المشتري نفسه، فإذا علم المشتري أن عامة الناس يشترون بهذا الثمن، فهذا مما يرضى به عامة الناس، وليس هذا من الغرر الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ويقول ابن القيم: "هو أطيب لقلب المشتري من المساومة، يقول: لي أسوة بالناس، آخذ بما يأخذ به غيري" (¬2). الدليل الثالث: هو عمل الناس في كل عصر ومصر، فما زال الناس يأخذون من الخباز الخبز، ومن اللحام اللحم، ومن الفاكهي الفاكهة، ولا يقدر المتبايعان الثمن، بل يتراضيان بالسعر المعروف، ويرضى المشتري بما يبيع به البائع لغيره من الناس، وهذا هو المسترسل، وهو الذي لا يماكس، بل يرضى بما يبتاع به غيره، وإن لم يعرف قدر الثمن، فبيعه جائز إذا أنصفه، فإن غبنه فله الخيار، فغاية البيع بالسعر أن يكون بيعه بثمن المثل؛ فيجوز، كما تجوز المعاوضة بثمن ¬
الدليل الرابع
المثل في هذه الصورة وغيرها؛ فهذا هو القياس الصحيح، ولا تقوم مصالح الناس إلا به. الدليل الرابع: القياس على النكاح، يقول ابن القيم "قد أجمعت الأمة على صحة النكاح بمهر المثل" (¬1)، فهذا مقيس عليه، والله أعلم. * الراجح: بعد استعراض الخلاف أجد أن القول بجواز البيع بما ينقطع به السعر، وبما يبيع به الناس، وبرقمه، أو بما باع به زيد، وهو تاجر معروف يطمئن إلى سعره المشتري أن ذلك جائز، والجهالة في الثمن لا تؤدي إلى النزاع، ويمكن الوقوف عليها، فهو كما لو قال: بعت عليك هذه الصبرة كل صاع بدرهم يصح البيع، وإن كانت جملة الثمن في الحال مجهولة، لكن بالإمكان معرفتها بعد كيلها، وهذا بالإمكان معرفة الثمن بعد الرجوع إلى السوق، أو الرجوع إلى التاجر المعروف، وإذا كان الحنفية يجيزون بيع ما في كمه دون ذكر جنسه، كما مر معنا في بيع الغائب، وله الخيار إذا رآه، فلماذا لا يجيزون البيع بما باع به زيد، وله الخيار إذا علم، هذا هو مقتضى القياس، والله أعلم. ¬
المسألة الثالثة تحديد الثمن عن طريق ما يسمى (بيوع الأمانة)
المسألة الثالثة تحديد الثمن عن طريق ما يسمى (بيوع الأمانة) يثبت تحديث الثمن في بيوع الأمانة: في بيع التولية، والشركة، والمرابحة، والمواضعة، وتصنف هذه البيوع في النظر الفقهي تحت بيوع الأمانة؛ لأن البائع مؤتمن فيه في إخباره عن الثمن الذي اشترى به المبيع. وتقسيم هذه البيوع المختلفة إلى هذه الأقسام إنما هو باعتبار الإخبار بالثمن، لأنه إما أن يخبر بالثمن أو لا: فالثاني يسمى بيع المساومة. والأول: إما أن يخبر بالثمن مع زيادة، فهو المرابحة. أو يبيع برأس ماله فهو التولية. أو مع النقص: فهو الوضيعة. أو مع إشراك غيره فيما اشتراه، فهو الشركة. ولما كان يتعلق في كل نوع من هذه البيوع بعض الأحكام أحببت أن آخذ كل قسم منها بشيء من التفصيل. وبين التولية والإشراك ارتباط، وذلك أن الإشراك تولية، ولكنه بيع بعض المبيع ببعض الثمن، بينما التولية بيع المبيع كله بالثمن الأول، فهي أعم من الإشراك، وشاملة له. ومعلوم أن الإشراك في البعض كالتولية في الكل في جميع الأحكام.
كما أن المرابحة والمواضعة بينهما ارتباط، إلا أن الأولى يكون البيع بالثمن الأول مع زيادة معلومة، والثانية: البيع بالثمن الأول مع نقص معلوم، ولذلك حكم المواضعة لا يختلف عن حكم المرابحة.
المطلب الأول في بيع التولية
المطلب الأول في بيع التولية التولية اصطلاحًا (¬1): قيل في تعريفها: تمليك المبيع بمثل الثمن الأول من غير زيادة ولا نقصان (¬2). وقال ابن عابدين "بيعه بثمنه الأول، ولو حكمًا: يعني بقيمته، وعبر عنها به؛ لأنه الغالب" (¬3). وعرف بعضهم التولية بقوله: هي نقل جميع المبيع إلى المولَّى بفتح اللام بمثل الثمن المثلي، أو قيمة المتقوم (¬4). ¬
وسيأتي إن شاء الله تعالى عند الكلام على شروط بيع التولية، هل يشترط أن يكون الثمن مثليًا؟ واعتبر الحنابلة بيعه بالرقم المعلوم عند البائع والمشتري، والمكتوب على المبيع من بيع التولية (¬1). وقال في تهذيب اللغة: "التولية في البيع: أن تشتري سلعة بثمن معلوم، ثم توليها رجلًا آخر بذلك الثمن" (¬2). ¬
المطلب الثاني فى توصيف التولية
المطلب الثاني فى توصيف التولية [م - 256] لم يختلف الفقهاء في جواز التولية. قال ابن قدامة: "وأما التولية والشركة فيما يجوز بيعه فجائزان؛ لأنهما نوعان من أنواع البيع، وإنما اختصا بأسماء، كما اختص بيع المرابحة، والمواضعة بأسماء ... " (¬1). كما أن العلماء متفقون على أن التولية إن كانت بأقل، أو بأكثر، فهي بيع. قال ابن عبد البر: "لا خلاف بين العلماء أن الإقالة إذا كان فيها نقصان، أو زيادة، أو تأخير أنه بيع، وكذلك التولية، والشركة" (¬2). والكذلكة هنا: ليس باعتبار التولية بيعًا مطلقًا حتى ولو كانت بمثل الثمن، لأن المالكية لا يرون التولية من عقود المعاوضات إذا كانت بثمل الثمن، وإنما الكذلكة هنا: أن التولية إن كانت مع نقص أو زيادة فهي بيع بهذا الشرط، ويشكل عليه كيف يتصور بيع التولية مع الزيادة والنقصان في الثمن؛ لأن المعلوم أن بيع التولية، هو البيع برأس المال (¬3). ¬
دليل الجمهور على أن التولية بيع
[م - 257] وإنما وقع الخلاف بينهم في كون عقد التولية، هل يعتبر من عقود المعاوضات، أو من عقود الإرفاق والمعروف؟ (¬1). فذهب جمهور أهل العلم إلى أن عقد التولية بيع مبتدأ، لا يجوز في شيء منه إلا ما يجوز في سائر البيوع (¬2)، ورجحه ابن حزم (¬3). وذهب مالك وربيعة، وطاووس (¬4)، إلى أن عقد التولية من عقود الإرفاق، ويقصد بها المعروف كالإقالة، ولهذا ذهب الإمام مالك إلى جواز بيع الطعام تولية قبل قبضه، مع أن الإجماع على أن بيع الطعام قبل قبضه منهي عنه (¬5). * دليل الجمهور على أن التولية بيع: في التولية مبادلة مال بمال على سبيل التمليك، غير ربا ولا قرض، وهذا هو حقيقة البيع، وليس من شرط البيع أن يكون الثمن بأكثر مما اشتراه به، فقد يكون بمثله، أو أقل، أو أكثر، وهذا شأن التجارة. ¬
دليل المالكية على أن التولية عقد إرفاق
* دليل المالكية على أن التولية عقد إرفاق: استدل المالكية بأثر، ونظر، وإجماع: أما الأثر، ما رواه أبو داود في مراسيله، قال: (ح-144) حدثنا محمد بن إبراهيم البزار، حدثنا منصور بن سلمة، حدثنا سليمان بن بلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال سعيد بن المسيب في حديث يرفعه كأنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس بالتولية في الطعام قبل أن يستوفى، ولا بأس بالإقالة في الطعام قبل أن يستوفى، ولا بأس بالشركة في الطعام قبل أن يستوفى (¬1). [مرسل] (¬2). وأما النظر، فقد قال ابن رشد في بداية المجتهد: "إن هذه إنما يراد بها الرفق، لا المغابنة" (¬3). وأما الإجماع: فقد قال مالك: "أجمع أهل العلم أنه لا بأس بالشركة، والتولية، والإقالة في الطعام قبل أن يستوفى إذا انتقد الثمن ممن يشركه، أو يقيلة، أو يوليه" (¬4). ¬
وفي حكايه الإجماع نظر كبير، إذ لو قيل: إن أكثر أهل العلم يرى أن التولية بيع لم يكن ذلك بعيدًا. قال ابن عبد البر: "وقد قال بهذا القول -يعني قول الإمام مالك- طائفة من أهل المدينة، وقال سائر الفقهاء، وأهل الحديث لا يجوز بيع شيء من الطعام قبل أن يستوفى، ولا تجوز فيه الإقالة، ولا الشركة، ولا التولية عندهم قبل أن يستوفى بوجه من الوجوه، والإقالة، والشركة، والتولية عندهم بيع ... " (¬1). وقال ابن حزم: "ما نعلم روي هذا إلا عن ربيعة، وعن طاووس فقط، وقوله عن الحسن في التولية قد جاء عنه خلافها ... " (¬2). ¬
المطلب الثالث في بيع الشركة
المطلب الثالث في بيع الشركة الشركة اصطلاحًا (¬1): هو بيع بعض المبيع بقسطه من الثمن (¬2). فالإشراك يعتبر تولية، لكنه تولية بعض المبيع ببعض الثمن (¬3). ولذلك جاء في فتح العزيز: "والإشراك في البعض كالتولية في الكل في الأحكام" (¬4). والخلاف في الشركة كالخلاف في التولية، هل هي عقد إرفاق ومعروف، أو عقد مغابنة ومكايسة. والأدلة هناك هي نفس الأدلة هنا. قال ابن رشد في بداية المجتهد: "العقود تنقسم أولا إلى قسمين: قسم يكون بمعاوضة. ¬
وقسم يكون بغير معاوضة كالهبات والصدقات. والذي يكون بمعاوضة ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: يختص بقصد المغابنة والمكايسة، وهي البيوع، والإجارات، والمهور، والصلح، والمال المضمون بالتعدي وغيره. والقسم الثاني: لا يختص بقصد المغابنة، وإنما يكون على جهة الرفق وهو القرض. والقسم الثالث: فهو ما يصح أن يقع على الوجهين جميعا. أعني على قصد المغابنة وعلى قصد الرفق كالشركة، والإقالة والتولية ... وأما العقود التي تتردد بين قصد الرفق والمغابنة، وهي التولية والشركة والإقالة. فإذا وقعت على وجه الرفق من غير أن تكون الإقالة، أو التولية بزيادة، أو نقصان، فلا خلاف أعلمه في المذهب أن ذلك جائز (يعني التولية والشركة) قبل القبض وبعده. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تجوز الشركة ولا التولية قبل القبض. وتجوز الإقالة عندهما؛ لأنها قبل القبض فسخ بيع، لا بيع. فعمدة من اشترط القبض في جميع المعاوضات أنها في معنى البيع المنهي عنه، وإنما استثنى مالك من ذلك التولية والإقالة والشركة للأثر والمعنى ... ثم ساق أثر سعيد بن المسيب المتقدم ذكره في باب التولية. وأما من طريق المعنى، فإن هذه إنما يراد بها الرفق لا المغابنة، إذا لم تدخلها زيادة أو نقصان" (¬1). ¬
المطلب الرابع شروط بيع التولية والشركة
المطلب الرابع شروط بيع التولية والشركة [م - 258] جمعت شروط التولية مع الشركة؛ لأن بينهما ارتباط في الأحكام كما قدمت سابقًا، وذلك لأن الإشراك تولية لكنه تولية في بعض المبيع بقسطه من الثمن، ولذلك ما يشترط في أحدهما يشترط في الآخر: الشرط الأول: أن يكون الثمن في البيع الأول معلومًا. أما اشتراط العلم بالثمن الأول فقد وقع خلاف بين الجمهور والمالكية. فذهب الجمهور إلى اشتراط أن يكون الثمن في البيع الأول معلومًا للمشتري الثاني. واحتجوا: بأن العلم بالثمن شرط في صحه البيع، وبيع التولية يعتمد على أساس الثمن الأول، فإذا لم يعلم الثمن الأول فالبيع فاسد؛ إلا أن يعلم في المجلس، ويرضى به، فإذا لم يعلم المشتري حتى افترقا بطل العقد؛ لتقرر الفساد (¬1). ¬
واختار المالكية جواز بيع التولية إذا لم يعلم بالثمن بشرط أن يكون له الخيار إذا علم بالثمن، بخلاف البائع، فلا خيار له (¬1). جاء في التاج والإكليل "من المدونة، قال مالك: وإن اشتريت سلعة، ثم وليتها الرجل، ولم تسمها له، ولا ثمنها، أو سميت له أحدهما، فإن كنت قد ألزمتها إياه إلزامًا لم يجز؛ لأنه مخاطرة، وقمار، وإن كان على غير الإلزام جاز، وله الخيار إذا رآها، وعلم الثمن" (¬2). الشرط الثاني: هل يشترط أن يكون الثمن من المثليات. [م - 259] لم يختلف العلماء في جواز بيع التولية والشركة إذا كان الثمن مثليًا كالنقود، والمكيل، والموزون، واختلفوا فيما إذا كان الثمن قيميًا: ¬
فقيل: يجوز البيع تولية إن كان العرض قد انتقل إلى ملك المشتري، فإن كان العرض لم ينتقل إلى ملك المشتري فمنعه الحنفية مطلقًا (¬1). وأجازه الشافعية بشرط أن يقول: قام علي بكذا، وينص على العرض، ولا يقتصر على ذكر القيمة، فيصح. جاء في أسنى المطالب: "يشترط في التولية كون الثمن مثليًا، ليأخذ المولى مثل ما بذل، فإن اشترى بعرض لم يصح أن يوليه أي العقد، إلا من انتقل العرض إليه ملكًا" (¬2). وقال في مغني المحتاج: "إذا قال: وليتك هذا العقد ... لزمه مثل الثمن جنسًا وقدرًا، وصفة، أما إذا اشتراه بعرض (¬3)، فإن عقد التولية لم يصح إلا ممن ملك ذلك العرض. نعم لو قال: قام علي بكذا، وقد أوليتك العقد بما قام علي ... صح" (¬4). وفي فتاوى الرملي: "سئل عمن اشترى بعرض، وقال: قام علي بكذا، وقد وليتك العقد بما قام علي ... هل يصح أو لا؟ فأجاب: نعم تصح التولية إذا أخبر بشرائه بالعرض وبقيمته معًا ... " (¬5). وتكلم المالكية في المسألة، ولكن من خلال بيع المرابحة، ولا أعتقد أن الحكم يختلف عنه في بيع التولية، لأن الكلام في الثمن، والحكم واحد في ¬
بيوع الأمانة، والله أعلم فانظر إلى كلامهم في المسألة في شروط بيع المرابحة. وأجاز الحنابلة أن يكون الثمن عرضًا. جاء في المغني: "فإن ابتاعه بدنانير، فأخبر أنه اشتراه بدراهم، أو كان العكس، أو اشتراه بعرض، فأخبر أنه اشتراه بثمن، أو بثمن، فأخبر أنه اشتراه بعرض، وأشباه هذا، فللمشتري الخيار بين الفسخ، والرجوع بالثمن، وبين الرضا به بالثمن الذي تبايعا به" (¬1). فظاهر هذا النص أن الخيار إنما ثبت لكونه لم يخبر بواقع الحال، فلو كان الخبر صحيحًا، وقد اشتراه بعرض، وباعه بما أخبر به، فالبيع صحيح، ولا خيار للمشتري. الشرط الثالث: صحة العقد الأول. يشترط أن يكون العقد الأول صحيحًا، فإن كان فاسدًا لم يجز بيعه تولية؛ لأن التولية بيعه بالثمن الأول، فهو قائم على تقدير صحة البيع الأول، فإذا فسد البيع الأول لم يفد الملك عند الشافعية والحنابلة. ومن قال: إنه يفيد الملك أو شبهة الملك كالحنفية والمالكية بشرطه (¬2)، فإنه قال: يثبت الملك فيه بالقيمة، وليس بالثمن، وهذا لا يتفق مع مقتضى عقد بيع التولية، القائم على صحة الثمن الأول. وانظر شروط بيع المرابحة، فسوف نتناول فيه هذا الشرط بشيء من التفصيل. ¬
المطلب الخامس في بيع المرابحة
المطلب الخامس في بيع المرابحة المرابحة في اصطلاح الفقهاء (¬1): اتفقت تعريفات الفقهاء في المرابحة في مدلولها، وإن اختلفت في ألفاظها، فعرفها بعض الحنفية: بأن المرابحة بيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح (¬2). وعرفها بعض المالكية: بأنه بيع مرتب ثمنه على ثمن بيع تقدمه غير لازم مساواته له (¬3). فخرج بقوله (مرتب ثمنه على ثمن بيع تقدمه) بيع المساومة، والمزايدة، والاستئمان (¬4). ¬
وخرج بقوله (غير لازم مساواته له) الإقالة، والتولية، والشفعة. وعند المالكية أن المرابحة لا تقتصر على البيع بزيادة، بل تشمل بيع الوضيعة، والمساواة، وأن إطلاق المرابحة عليهما حقيقة عرفية. وذهب بعضهم إلى أن إطلاق المرابحة على البيع بمثل الثمن الذي اشتراه به، وزيادة ربح معلوم تعريف للنوع الغالب في المرابحة، الكثير الوقوع، لا أنه تعريف لحقيقة المرابحة الشاملة للوضيعة، والمساواة (¬1). وذكر بعض الشافعية أن المحاطة تدخل في المرابحة؛ وهذا ما فعله الإمام، لأنها في الحقيقة ربح للمشتري الثاني (¬2). وعرفها بعض المالكية والشافعية والحنابلة: بأنه بيع السلعة برأس المال، وربح معلوم (¬3). وعرفها بعضهم: بأن المرابحة بيع بمثل الثمن، أو ما قام عليه به، مع ربح موزع على أجزائه (¬4). وذكر الشافعية والحنابلة أن بيع المرابحة يأتي على صورتين: الأولى: أن يبيعه بربح، فيقول رأس مالي فيه مائة، بعتكه بها، وربح عشرة. وهذه لا خلاف في جوازها. ¬
الثانية: أن يقول: بعتكه على أن أربح في كل عشرة درهمًا (¬1). وهذه الصورة وقع خلاف بين أهل العلم في كراهتها وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبًا تحرير الكلام فيها. وهل يلزم في بيع المرابحة أن يكون المالك قد ملكه بالشراء. قال في الدر المختار في تعريف المرابحة: هي "بيع ما ملكه من العروض، ولو بهبة، أو إرث، أو وصية، أو غصب، فإنه إذا ثمنه بما قام عليه ... ثم باعه مرابحة جاز" (¬2). وخالف في ذلك المالكية، جاء في المنتقى للباجي: "قوله -يعني الإمام مالك- وإن باع رجل سلعة قامت عليه بمائة دينار، يريد قامت عليه بابتياع مكايسةٍ واجتهادٍ؛ لأن بيع المرابحة مخصوص بما ملكه البائع بذلك، دون ما ملكه بميراث، أو هبة، أو صدقة، فإن ملكه بشيء من ذلك لم ينبغ له أن يبيع مرابحة ... " (¬3). وجاء في تحفة الفقهاء: "الأصل في بيع المرابحة أنه مبني على الأمانة، فإنه بيع بالثمن الأول بقول البائع، من غير بينة، ولا استحلاف، فيجب صيانته عن حقيقة الخيانة، وشبهها، فإذا ظهرت الخيانة يجب رده، كالشاهد يجب قبول قوله، فإذا ظهرت الخيانة يرد قوله" (¬4). ولا يعتبر من بيع المرابحة لو باعه بمثل ما اشتراه به، وزيادة معلومة مع ¬
الاختلاف في اشتراط أجل، أو عدمه، أو طوله، أو قصره، أو اختلاف في اشتراط النقد وعدمه؛ لأنه حينئذ لم يبع بما اشتراه به حقيقة، وسوف يأتي بيانه في الشروط إن شاء الله تعالى. "ولو رخصت السلعة عما اشتراها به، لم يلزم الإخبار به" (¬1). ¬
المطلب السادس في حكم بيع المرابحة
المطلب السادس في حكم بيع المرابحة الصورة الأولى أن يبيعه برأس المال وربح مجمل معلوم [م - 260] صورة المسألة: أن يقول: بعتكه برأس مالي، وربح عشرة دارهم. وهذه الصورة جائزة، وقد حكى جمع من أهل العلم الإجماع على جوازها، منهم الكسائي من الحنفية، وابن قدامة وابن مفلح من الحنابلة. قال ابن قدامة في المغني: "هذا جائز، لا خلاف في صحته، ولا نعلم فيه عند أحد كراهة" (¬1). ومستند الإجماع الكتاب، والنص، والنظر الصحيح. أما الكتاب: فقد قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. وقال سبحانه وتعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]. وأما النص: (ح-145) فقد روى مسلم في صحيحه وفيه: فإذا اختلفت هذه الأوصاف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد (¬2). ¬
وأما النظر، فإن هذه البيع قد توفرت فيه شروط البيع الصحيح، فإن المبيع معلوم، والثمن والربح معلومان كذلك. والحاجة ماسة إلى هذا النوع من البيوع؛ لأن الشخص الذي لا يهتدي إلى التجارة، يحتاج إلى أن يعتمد فعل الذكي المهتدي، ويطيب نفسه بمثل ما اشترى، وبزيادة ربح، فوجب القول بجوازها (¬1). ومع جوازه إلا أن هناك من أهل العلم من فضل عليه بيع المساومة: جاء في منح الجليل: "في التوضيح: بيع المرابحة محتاج إلى صدق، وبيان وإلا أكل الحرام فيه بسرعة، لكثرة شروطه، ونزوع النفس فيه إلى الكذب، ولذا قال ابن عبد السلام: كان بعض من لقيناه يكره للعامة الإكثار من بيع المرابحة؛ لكثرة ما يحتاج إليه البائع من البيان ... " (¬2). "قال الإمام أحمد: المساومة عندي أسهل من المرابحة، قال في الحاوي الكبير: وذلك لضيق المرابحة على البائع؛ لأنه يحتاج أن يعلم المشتري بكل شيء، من النقد، والوزن، وتأخير الثمن، وممن اشتراه (¬3)، ويلزمه المئونة، والرقم، والقصارة، والسمسرة، والحمل، ولا يغر فيه، ولا يحل له أن يزيد على ذلك شيئًا إلا بينه له، ليعلم المشتري بكل ما يعلمه البائع، وليس كذلك المساومة" (¬4). وعكسة صاحب الإنصاف، فقال: "وأما بيع المرابحة في هذه الأزمان فهو أولى للمشتري وأسهل. انتهى. ¬
ويناقش
قال في كشاف القناع: ولا مخالفة بينهما: لأن كلام الحاوي في الضيق على البائع، وكلام صاحب الإنصاف في سهولة الأمر على المشتري بترك المماكسة". وجاء في تحفة المحتاج: "بيع المساومة أولى منه، فإنه مجمع على حله، وعدم كراهيته ... " (¬1). وجاء في حاشية الجمل: "والبيع مساومة أولى من المرابحة خروجًا من خلاف من حرمها، أو أبطلها من السلف" (¬2). ويناقش: لا يوجد خلاف في هذه الصورة، وإنما الخلاف وقع في الصورة الثانية كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وعلى تقدير أن يكون في هذه الصورة خلاف، فإن الخلاف ليس من أدلة الشرع المتفق عليها، ولا المختلف فيها، ولذلك قال بعض الشافعية: "ليس القول بالحرمة مطلقًا مقتضيا للكراهة، بل يشترط قوة القول بها" (¬3). وفي تحفة المحتاج: "ولعل عدم الكراهة مع القول بالحرمة، لشدة ضعف القول بالحرمة، وليس القول بالحرمة مطلقًا مقتضيًا للكراهة، بل يشترط قوة القول بها" (¬4). ¬
الصورة الثانية أن يبيعه برأس المال على أن يربح في حل عشرة درهما
الصورة الثانية أن يبيعه برأس المال على أن يربح في حل عشرة درهمًا اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في بيع المرابحة، إذا قال البائع: أبيعك هذه السلعة على أن أربح في كل عشرة درهمًا، وهي الصيغة المعروفة بـ (ده يازده - وده دوازده) (¬1). فقيل: يجوز البيع بهذه الصورة. وهو مذهب الحنفية (¬2)، والراجح عند المالكمة (¬3)، ....... ............. ¬
دليل من قال بالجواز
والشافعية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يكره البيع بهذه الصورة، وهو رواية عن الإمام أحمد (¬3). وقيل: يحرم البيع بهذه الصورة، والبيع باطل، اختاره إسحاق ابن راهوية (¬4)، ورجحه ابن حزم (¬5). * دليل من قال بالجواز: الدليل الأول: (ث-24) قال ابن حزم: روينا عن ابن مسعود أنه أجازه إذا لم يأخذ للنفقة ربحًا (¬6). [لم أقف عليه مسندًا] (¬7). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: الأصل صحة البيع، ولا يحرم إلا بدليل، وهذا البيع قد توفرت فيه شروط البيع الصحيح، وأركانه، وليس فيه ما يمنع صحة البيع، فالمبيع معلوم، ورأس المال والربح معلومان، فأشبه ما لو قال: بعتك وربح عشرة دراهم. الدليل الثالث: أن الجهالة يسيرة يمكن إزالتها بالحساب، فلا تضر، كما قلنا: في مسألة سابقة: إذا باعه صبرة: كل قفيز بدرهم، فإذا قال: رأس مالي 100 ريال، وأربح في كل عشرة درهمًا، كان مجموع الربح نتيجة تقسيم المائة على عشرة، فيكون الربح عشرة دراهم. * دليل من قال بالكراهة: الدليل الأول: (ث-25) ما رواه عبد الرزاق (¬1)، وابن أبي شيبة (¬2)، من طريق عبيد الله ابن أبي يزيد، عن ابن عباس، أنه كره بيع دوازده، وقال: بيع الأعاجم. ويجاب عن هذا الأثر بعدة أوجه: الوجه الأول: أن مقتضى تعليل الكراهة، أن الكراهة متوجهة على اللفظ، وليس على البيع؛ باعتبار أن اللفظ لفظ أعجمي، وقد كان السلف يكرهون رطانة العجم، والعدول عن العربية من أهلها. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: " ويحتمل أن يكون إنما نهى عنه إذا قال: هو لك بده يازده، أو قال: بده دوازده، ولم يسم رأس المال، ثم سماه عند النقد" (¬1). الوجه الثالث: أن يكون كره ذلك خشية أن يحمل ذلك منهم على جواز بيع الدراهم: العشرة باثنتي عشرة، فيكون ذلك من باب سد الذرائع. الوجه الرابع: أن يكون كره ذلك لكون المساومة أفضل من بيع المرابحة؛ لكثرة ما يحتاج إليه البائع في المرابحة من البيان، فيحتاج أن يعلم المشتري بكل ما يعلمه البائع، وليس كذلك بيع المساومة. الدليل الثاني: أن هذه الصورة من المرابحة فيها نوع من الجهالة، والتحرز عنها أولى. وأجيب: بأن الجهالة يمكن إزالتها بالحساب، وإذا عقداه بما يصير به الثمن معلومًا بعد العقد لم تضر الجهالة، كما لو باعه صبرة كل قفيز بدرهم. * دليل من قال بالتحريم: الدليل الأول: (ث-26) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن الوليد بن جميع، ¬
ويجاب
عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: هو ربا (¬1). [حسن]. ويجاب: لعل ابن عباس - رضي الله عنه - قصد بذلك أن هذا البيع يشبه في صورته بيع الدراهم العشرة اثنتي عشرة، والعبرة في العقود بالمعاني، وليس في الصورة الظاهرة، ولذلك جاز بالإجماع البيع برأس المال وربح معلوم، فالعبارتان مؤداهما واحد، وما يجوز في أحدهما يجوز على الأخرى. الدليل الثاني: استدل ابن حزم بما يراه أنه الأصل في الشروط، فهو يرى أن الأصل في الشروط التحريم حتى يأتي دليل خاص على صحة هذا الشرط، مستدلًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق" (¬2). وفي رواية: "من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن شرط مائة شرط" (¬3)، وبناء عليه فإن البيع على أن تربحني كذا شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، والعقد به باطل. وقد أجبت على هذا الاستدلال، وبينت أن الأصل في الشروط الصحة والجواز في باب الشروط في البيع فلله الحمد، فانظره هناك. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: استدل ابن حزم أيضًا بقوله: ولأنه " ... بَيْع بثمن مجهول؛ لأنهما إنما تعاقدا البيع على أنه يربح معه للدينار درهمًا، فإن كان شراؤه دينارًا غير ربع كان الشراء بذلك، والربح درهمًا غير ربع درهم، فهذا بيع الغرر الذي نهى عن - صلى الله عليه وسلم -، والبيع بثمن لا يدرى مقداره (¬1). وقد أجبنا عن دعوى الجهالة بالثمن. * الراجح من أقوال أهل العلم: بعد استعراض الأقوال ومناقشتها أجد أن القول بالجواز هو الأقوى، وحجته أظهر، وما يدعى فيه من الجهالة فهو يسير يمكن كشفه بالحساب، والله أعلم. ¬
المطلب السابع شروط المرابحة
المطلب السابع شروط المرابحة [م - 261] يشترط في المرابحة شروط منها: الشرط الأول: أن يكون العقد الأول صحيحًا، فإن كان فاسدًا، لم يجز بيع المرابحة؛ لأن المرابحة بيع بالثمن الأول مع زيادة ربح، والبيع الفاسد وإن كان يفيد الملك عند الحنفية في الجملة إذا تم القبض فيه بإذن البائع (¬1). ويفيد شبهة الملك عند المالكية بشرط القبض، وفوات الرجوع في المبيع. لكن يثبت الملك فيه بالقيمة، أو بالمثل، لا بالثمن المسمى في العقد لفساد التسمية، وهذا لا يتفق مع مقتضى عقد المرابحة القائم على معرفة الثمن الأول. وأما مذهب الشافعية والحنابلة فهو لا يفيد الملك مطلقًا (¬2). ¬
الشرط الثاني
الشرط الثاني: أن يكون رأس المال والربح معلومًا؛ لأن العلم بالثمن شرط في صحة البيع، وكذا العلم بالربح؛ لأنه بعض الثمن (¬1). ¬
الشرط الثالث
قال في بدائع الصنائع: "العلم بالثمن الأول شرط صحة البياعات كلها" (¬1). وقال أيضًا: "أن يكون الربح معلومًا؛ لأنه بعض الثمن، والعلم بالثمن شرط صحة البياعات" (¬2). وقال في البدائع أيضًا: "فإن لم يكن معلومًا له فالبيع فاسد، إلا أن يعلم في المجلس فيختار إن شاء، أو يترك، فيبطل. أما الفساد للحال، فلجهالة الثمن؛ لأن الثمن للحال مجهول. وأما الخيار فللخلل في الرضا؛ لأن الإنسان قد يرضى بشراء شيء بثمن يسير، ولا يرضى بشرائه بثمن كبير، فلا يتكامل الرضا إلا بعد معرفة مقدار الثمن، فإذا لم يعرف اختل رضاه، واختلال الرضا يوجب الخيار، ولو لم يعلم حتى افترقا عن المجلس بطل العقد لتقرر الفساد" (¬3). الشرط الثالث: ألا يكون الثمن في العقد الأول مقابلًا بجنسه من أموال الربا؛ لأن المرابحة بيع بالثمن الأول وزيادة، وما منعت الزيادة فيه من أموال الربا يكون أخذها أخذًا للربا وليست ربحًا. الشرط الرابع: أن يكون الثمن مثليًا، كالنقود، والمكيل، والموزون، سواء جعل الربح من جنس الثمن، أو من خلاف جنسه. ¬
القول الأول
[م - 262] أما إذا كان الثمن قيميًا، وهو ما ليس له مثل، فقد اختلف الفقهاء في حكم بيعه مرابحة: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أنه لا يجوز بيعه مرابحة إلا بشرط أن يكون العرض في ملك المشتري، والربح مثليًا معلومًا، وهذا مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية: يجوز بيعه مرابحة، ولو كان ثمنها قيميًا بشرط أن يكون الثمن بمقوم مماثل للمقوم الأول في صفته، وأن يكن هذا الثمن إما معينًا موجودًا في ملك المشتري، أو مضمونًا (موصوفًا) في ملك المشتري. فهاتان الصورتان يجوز البيع بهما مرابحة اتفاقًا في مذهب المالكية. فإن باعه بقيمة ذلك القيمي، فإنه لا يجوز قولًا واحدًا عند المالكية وإن كان الثمن معينًا في ملك الغير، أو كان مضمونًا (موصوفًا) ليس في ملك المشتري، ولا يقدر على تحصيلة، لم يجز بيعه مرابحة اتفاقًا عند المالكية. ¬
وحجة الحنفية
وإن كان الثمن المضمون ليس في ملك المشتري مع قدرته على تحصيله، ففيه خلاف بين المالكية، فمنعه أشهب، وأجازه ابن القاسم (¬1). وقيل: يجوز بيعه مرابحة، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وحجة الحنفية: أن المرابحة بيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح معلوم، فإذا لم يكن الثمن الأول مثليًا، فإما أن يقع البيع على قيمة ذلك العين، لأن العين ليست في ملكه، ¬
وحجة المنع عند أشهب
وهذا يجعل قيمة العين مجهولة؛ لأنها سوف تعرف عن طريق الحرز والتخمين؛ لاختلاف أهل التقويم فيها، وهذا لا يجوز. وإما أن يقع البيع على عين ذلك العرض، وهذا يشترط أن تكون العين قد انتقلت إلى ملك المشتري، فإن جعل الربح شيئًا مفردًا عن رأس المال معلومًا كالدراهم والدنانير، فإن ذلك جائز؛ لأن الثمن الأول معلوم، والربح معلوم. وإن جعل الربح جزءًا من رأس المال، بأن قال: بعتك بالثمن الأول، وربح ده يازده، فإن ذلك لا يجوز؛ لأنه جعل الربح جزءًا من العرض، والعرض ليس متماثل الأجزاء، وإنما يعرف ذلك بالتقويم، والقيمة مجهولة؛ لأن معرفتها بالحرز والتخمين، والله أعلم. وحجة المنع عند أشهب: أنه إذا اشترى ثوبًا بمال قيمي، فأراد بيعه مرابحة، فإن باعه بقيمة ذلك القيمي، فإنه لا يجوز قولًا واحدًا عند المالكية، وإن باعه بقيمي مماثل للمقوم الأول في صفته، ويزيده المشتري عليه ربحًا معلومًا، فإن أشهب يمنع ذلك؛ لأن دخول البائع على أن المشتري يدفع له مقومًا موصوفًا مماثلًا حالًا هو عين السلم الحال، وهو باطل عندهم. ولو منعه أشهب باعتبار أن المال القيمي لا مثل له لكان له وجه، باعتبار أن المال القيمي لو كان له مثل لكان مالًا مليًا، وليس قيميًا، ولذلك لما أجازه الشافعية اشترطوا أن يذكر قيمة المال القيمي، ليكون العقد على القيمة، وليس على المثل، وأما كونه يمنعه لأنه من قبيل السلم الحال، فإن السلم الحال يجوز على الصحيح، وسيأتي بحثه إن شاء الله تعالى في مسألة مستقلة، والله أعلم.
دليل من قال: بالجواز
* دليل من قال: بالجواز: اشترط الشافعية للجواز أن يذكر العرض وقيمته ليكون الثمن معلومًا، والمعتبر في قيمة العرض هو يوم العقد الأول، سواء ارتفعت قيمته أو انخفضت، ويقوم البائع إن كان من أهل الخبرة، فإن اختلفا في التقويم قوم لهما عدل، وإذا كان الثمن معلومًا، والربح معلومًا ودخل المشتري على بصيرة من أمره، لم يوجد مانع من صحة العقد، وإذا تبين أن الأمر بخلاف الواقع، فإن المشتري بالخيار. * الراجح: بعد استعراض الأقوال، أجد أن القول بالجواز أقوى بالقيد الذي ذكره الشافعية، وهو أن يذكر قيمة العرض عند العقد لتزول الجهالة عن مقدار الثمن، فإن الثمن يشترط أن يكون معلومًا، ومقدار الربح، فإذا ذكر قيمة العرض، ومقدار الربح زالت الجهالة عن الثمن، فجاز بيعه مرابحة، والله أعلم.
المطلب الثامن صيغ بيع المرابحة
المطلب الثامن صيغ بيع المرابحة هناك عبارتان شائعتان لبيع المرابحة، وتختلف العبارتان فيما يدخل تحتهما من الأحكام: العبارة الأولى: أن يقول: بعتك بما اشتريت به، وربح كذا وكذا، أو بعتك بالثمن الذي اشتريت به، وربح كذا وكذا، فإذا قال ذلك لم يدخل فيه سوى الثمن. العبارة الثانية: [م - 263] أن يقول: بعتك بما قام علي، وربح كذا وكذا، فهنا اختلف الفقهاء في الأمور التي يمكن أن تلحق برأس المال، وما لا يلحق به على النحو التالي: القول الأول: مذهب الحنفية: ضابط ما يلحق بالثمن عند الحنفية ما يأتي: الأول: يلحق برأس المال كل ما جرى العرف التجاري بإضافته. الثاني: يلحق أيضًا ما يزيد في عين المبيع، أو يزيد في قيمته، مثل الصبغ، وأجرة القصار، والطراز، والصباغ، والفتال، وأجرة حمل المبيع؛ لأن هذه الأشياء إما أن تزيد في عين المبيع، أو تزيد في قيمته: فالصبغ: يزيد في عين المبيع. وحمله يزيد في قيمته؛ لأن قيمة السلعة تختلف من مكان لآخر (¬1). ¬
وعلى هذا كل ما يذكره الحنفية مما يضاف إلى رأس المال على وجه التفصيل يدخل في هذين الضابطين، إما ألحقوه بناء على العرف الجاري في عصرهم، وهذا قد يختلف من عصر إلى آخر، ومن بلد إلى آخر (¬1)، أو ألحقوه بناء على أن ما أضافه إلى السلعة زاد في عينها، أو زاد في قيمتها. وأما أجرة السمسار ففي إضافتها روايتان: الأولى: أنها تضم، وهو ظاهر الرواية. الثاني: أنها لا تضم؛ لأنها لا تزيد في عين السلعة، ولا في قيمتها (¬2). ¬
القول الثاني: مذهب المالكية
القول الثاني: مذهب المالكية: ذهب المالكية إلى التفريق بين ما له عين قائمة كصبغ، وقصارة، وخياطة وتطريز، ونحوها، فيضاف إلى أصل الثمن، ويحسب في الربح، وبين ما له أثر في القيمة، وليس له عين قائمة، كأجرة الحمال، فإنه يحسب في أصل الثمن، ولا يحسب في الربح. وما ليس له أثر لا في عين السلعة، ولا في قيمتها، فلا يحسب مطلقًا، مثل أجر السمسرة، والنفقة، وأجر الشد، وأجر الطي. جاء في المدونة: "قال مالك في البر: يشترى في بلد، فيحمل إلى بلد آخر؟ قال مالك: أرى أن لا يحمل عليه أجر السماسرة، ولا النفقة، ولا أجر الشد، ولا أجر الطي، ولا كراء بيت، فأما كراء الحمولة، فإنه يحسب في أصل الثمن، ولا يجعل لكراء المحمولة ربح، إلا أن يعلم البائع من يساومه بذلك كله، فإن ربَّحوه بعد العلم بذلك فلا بأس بذلك، وتحمل القصارة على الثمن، والخياطة والصبغ، ويحمل عليها الربح كما يحمل على الثمن" (¬1). وما جاء في المدونة في السمسرة محمول على ما إذا كان المبيع من عادته أن يشترى بدون وسيط، وقد جاء في مذهب المالكية تفصيل في إلحاق أجرة السمسار إلى رأس المال، على النحو التالي: ما جرت العادة أنه لا يباع إلا بوسيط، فالمعتمد أن أجرة السمسار تضم إلى رأس المال، ولا يكون له قسط من الربح. وقيل: تحسب الأجرة وربحها. وما جرت العادة أنه يباع بدون وسيط، فثلاثة أقوال: ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية
أنه لا يضم إلى رأس المال، ولا إلى الربح، وهو مذهب المدونة، والموطأ. أنه يضم إلى رأس المال، ويكون له قسط من الربح. أنه يضم إلى رأس المال، ولا يكون له قسط من الربح (¬1). القول الثالث: مذهب الشافعية: ذهب الشافعية إلى إضافة جميع مؤن التجارة المرادة للاسترباح، كأجرة الكيال والدلال، والحمال، والقصار، والصباغ، وقيمة الصبغ، وعلف التسمين، وأجرة المكان، وأجرة الطبيب إذا اشتراه مريضًا. أما المؤن التي يقصد منها استبقاء الملك دون الاسترباح، كعلف الدابة المعتاد، فلا تدخل على الصحيح وكذا أجرة الطبيب إذا حدث المرض (¬2). القول الرابع: مذهب الحنابلة: ما زاد في ثمن السلعة نتيجة أجرة الكيل، أو الخياطة، أو الوزن، أو الحمل، أو نحو ذلك، ففي إضافة هذه التكاليف وجهان عند الحنابلة: الأول، وهو المذهب: أنه لا يجوز إضافة هذه التكاليف إلى الثمن، وإنما يخبر به على وجهه، بحيث يقول: اشتريت السلعة بكذا، وأنفقت عليها كذا، أو عملت فيها بكذا، ويبيعها بهما، وربح معلوم. وهذا ظاهر كلام الإمام أحمد، واختاره القاضي، ونصره ابن قدامة. ¬
وحجة هذا القول
وبه قال الحسن، وابن سيرين، وسعيد بن المسيب، وطاووس، والنخعي، والأوزاعي، وأبو ثور. وحجة هذا القول: أن عدم البيان فيه تغرير بالمشتري؛ لأنه قد لا يرغب في السلعة إذا علم أن جزءًا من الثمن هو قيمة للعمل الذي أدخله البائع عليها. الوجه الثاني: تجوز إضافة هذه التكاليف إلى الثمن، ويقول: قامت علي بكذا، أو تحصلت علي بكذا؛ لأنه صادق في ذلك (¬1). * الراجح: عرفنا ملخص الأقوال، فيما يضاف إلى رأس المال، ولا شك أن مذهب الحنابلة الذي يوجب أن يبين الأمر على وجهه بحيث يقول: اشتريتها بكذا، وأنفقت عليها بكذا، بحيث يدخل المشتري على بينة من أمره أسلم من النزاع، لأن هذا البيع من بيوع الأمانة، والذي يدخل فيه المشتري بناء على صدق خبر البائع، فإذا بين ذلك على وجه التفصيل، قطع البائع مادة النزاع، وابتعد عن تغرير المشتري، إلا أن يكون هناك عرف مطرد، فإذا اشتهر العرف لدى الناس أن النفقات التي أنفقها على السلعة أجرة للنقل، والخياطة، أو عمل صناعة فيها تضاف إلى التكاليف كان المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، ولذلك قال القرافي بعد أن تكلم على هذه المسألة، قال: ¬
تنبيه
" تنبيه: مدرك الأصحاب وغيرهم من العلماء فيما يحسب، وما لا يحسب، وما له ربح، وما لا ربح له إنما هو عرف التجارة، وكذلك صرحوا في تعاليلهم بذلك، ووقع لفظ المرابحة في تصانيفهم في مقتضيات الألفاظ عرفًا، ويلزم على هذا أمران: أحدهما: أن البلد إذا لم يكن فيه عرف، وباع بهذه العبارات من غير بيان، أن يفسد البيع للجهل بالثمن، وبأي شيء هو مقابل من المبيع. وثانيهما: أن العرف إذا كان في بلد على خلاف مقتضى هذه التفاصيل أن تختلف هذه الأحكام بحسب ذلك العرف، فاعلم ذلك" (¬1). ¬
المطلب التاسع الإخبار بالنماء المنفصل كالولد والثمرة
المطلب التاسع الإخبار بالنماء المنفصل كالولد والثمرة [م - 264] إذا نتج عن المبيع نماء منفصل، كالولد، والثمرة، والصوف، واللبن، فهل يجب على البائع إذا باعه مرابحة أن يخبر المشتري بهذا النماء، أو لا يخبره؟ فقيل: يجب أن يبين ذلك، فإن لم يفعل كان غاشًا للمشتري، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3)، وبه قال إسحاق بن راهوية (¬4). وقيل: لا يجب بيان ذلك ما دام أن النماء المنفصل لم تنقص به العين، وهذا هو قول الشافعية (¬5)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬6). ¬
تعليل من قال: يجب بيان ذلك.
* تعليل من قال: يجب بيان ذلك. التعليل الأول: أن الزيادة المتولدة من المبيع مبيعة تلحق بالأصل، حتى تمنع من الرد بالعيب، فإذا باعها مرابحة ولم يبين كان ذلك حبسًا لبعض المبيع، فلا يجوز من غير بيان. التعليل الثاني: تعتبر الولادة عند المشتري مما ينقص قيمة السلعة لا سيما إذا طالت إقامة الحيوان عند المشتري، وإذا كان الشأن كذلك فإنه يجب بيانه دفعًا للغش. * تعليل من قال: لا يجب عليه بيان ذلك: التعليل الأول: أن البائع صادق فيما أخبر به من غير تغرير بالمشتري، فجاز كما لو لم يزد. التعليل الثاني: القياس على الغلة، بجامع أن كلًا منهما نماء منفصل، فكما أنه يجوز أن يأخذ أجرة الدابة من غير أن يبين ذلك للمشتري، فكذلك يجوز أن يأخذ الولد من غير أن يذكر ذلك للمشتري. ويناقش: بأن القياس على الغلة قياس مع الفارق، فإن الغلة لو استحق المبيع فإنه لا يرد مع الأصل، وذلك لأنه يملكها بالضمان، بخلاف الولد فإنه جزء من المبيع.
الراجح
* الراجح: يمكن القول أن النماء المنفصل تارة يكون له تأثير على الأصل، وتارة لا يكون له ذلك الأثر، فإن كان له تأثير على الأصل بحيث ينقص قيمة السلعة وجب بيانه، كالولد فإن له تأثيرًا على الأم، وإن كان لا تأثير له كالحليب لم يجب عليه الإخبار به، والله أعلم.
المطلب العاشر ما يعمله المشتري بنفسه أو عمل له مجانا
المطلب العاشر ما يعمله المشتري بنفسه أو عمل له مجاناً [م - 265] ذهب الأئمة الأربعة إلى أن ما يعمله التاجر بنفسه من حمل، أو خياطة، أو صبغ، أو تطريز أو غير ذلك، أو عمله متبرع له أنه لا يضيفه إلى رأس المال، ويقول: تحصلت علي بكذا، وليس معنى ذلك أن ما عمله لا قيمة له، فقد يكون ما يعمله يرفع من سعر السلعة أضعافًا مضاعفة مما استأجر على عمله، ولكن البائع عندما يقول: قامت علي بكذا، فمعنى ذلك أنه بذل هذا المال في سبيل تحصيل ذلك، وما عمله بنفسه لم يبذل مالًا في تحصيله، فإذا أراد أن يخرج من ذلك يقول: قامت علي بكذا، وعملت فيها ما قيمته كذا وكذا، وأبيعك إياها بهما، وربح كذا وكذا. وكذلك يقال في قيمة الصبغ والصابون، إن كانت أعيانهما من البائع لم يحسب ذلك من الثمن، وإن كان قد اشتراهما أضيفا إلى رأس المال. قال ابن الهمام: "ولو قصر الثوب بنفسه، أو طين، أو عمل هذه الأعمال لا يضم شيئًا منها، وكذا لو تطوع متطوع" (¬1). وجاء في الشرح الكبير: "فإن عمله بنفسه -يعني الصبغ- أو عمل له مجانًا فلا يحسب، ولا يحسب ربحه، وكذا ما يصبغ به وما يخاط به، فإنه لا يحسب هو ولا ربحه إن كان من عند البائع وإلا حسبا" (¬2). ¬
وقال النووي: "ولو قصر الثوب بنفسه، أو كال، أو حمل، أو طين الدار بنفسه لم تدخل الأجرة فيه؛ لأن السلعة إنما تعد قائمة عليه بما بذل، وكذا لو كان البيت ملكه، أو تبرع أجنبي بالعمل، أو بإعارة البيت، فإن أراد استدراك ذلك فطريقه أن يقول: اشتريت، أو قام علي بكذا، وعملت فيه ما أجرته كذا، وقد بعتكه بهما، وربح كذا" (¬1). وفي مغني المحتاج: "ولو صبغه بنفسه حسبت له قيمة الصبغ فقط؛ لأنه عين، ومثله ثمن الصابون في القصارة" (¬2). وقال ابن قدامة: "وإن قال: تحصل علي بكذا لم يجز فيما عمله بنفسه؛ لأنه كذب، وجاز فيما استأجر عليه في أحد الوجهين لأنه صادق" (¬3). ¬
المطلب الحادي عشر فى تعريف المواضعة
المطلب الحادي عشر فى تعريف المواضعة المواضعة اصطلاحًا (¬1): أن يقول البائع: بعتك بمثل ما اشتريت به، أو بما قام علي، مع نقصان شيء معلوم، كعشرة دراهم، أو حط درهم لكل عشرة (¬2). كما قلنا في المرابحة. وهذا البيع هو نوع من بيوع الأمانة، لأن المشتري يأتمن البائع في خبره، معتمدًا على قوله، فيجب على البائع التنزه عن الخيانة، والتدليس، وتجنب الكذب لئلا يقع المشتري في التغرير. ¬
المطلب الثاني عشر أحكام بيع المواضعة
المطلب الثاني عشر أحكام بيع المواضعة إذا كان حكم التولية هو حكم الشركة؛ لأن الشركة تولية، ولكن ببعض المبيع، فكذلك حكم المواضعة حكم بيع المرابحة، إلا أن المرابحة بيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح معلوم، وبيع المواضعة: بيع بمثل الثمن الأول مع نقص معلوم. قال في بدائع الصنائع: "ويعتبر لها -يعني المواضعة- من الشرائط والأحكام ما يعتبر للمرابحة" (¬1). قال في الإنصاف: "حكم بيع المواضعة في الكراهة وعدمها، والصحة وعدمها حكم بيع المرابحة ... " (¬2). ¬
المطلب الثالث عشر في إلحاق ما زيد في الثمن أو حط منه بأصل العقد
المطلب الثالث عشر في إلحاق ما زيد في الثمن أو حط منه بأصل العقد [م - 266] لا خلاف بين الفقهاء بأن للمشتري أن يزيد للبائع في الثمن، وأن للبائع أن يزيد في المبيع للمشتري، أو يحط عن المشتري في الثمن، وإنما الخلاف بينهم هل تلحق هذه الزيادة أو النقصان بأصل العقد، وتكون ثمنًا، أو لا تلحق وتعتبر هبة؟ فإن اعتبرنا الزيادة أو النقص هبة لم تلزم إلا بالقبض، وإن اعتبرنا ذلك من الثمن أوجب ردها في الاستحقاق، وفي الرد بالعيب، وإن كانت الزيادة فاسدة فسد البيع، ومن لم يجعلها من الثمن لم يوجب شيئًا من هذا. ولتحرير ذلك نقول: إن كانت الزيادة أو الحط قبل لزوم العقد (¬1)، فإنها تلحق بأصل العقد، وتكون ثمنًا، وتضاف إلى الثمن في بيوع الأمانة، باعتبار أن الزيادة، أو النقص جزء من الثمن، ولأن العقد قبل لزومه لم يستقر، فالثمن فيه قابل للزيادة والنقص، فوجب إلحاقه برأس المال، والإخبار به كأصله. قال ابن قدامة: "وإن كان ذلك -يعني الزيادة في الثمن والحط منه- في مدة ¬
الخيار لحق بالعقد، وأخبر به في الثمن، وبه قال الشافعي، وأبو حنيفة، ولا أعلم عن غيرهم خلافهم" (¬1). [م - 267] وأما إن كانت الزيادة، أو الحط، بعد لزوم العقد، فقد اختلف الفقهاء هل يلحق ذلك بأصل العقد، أو تكون الزيادة هبة، والحط إبراء؟ فقيل: يلحق ذلك بأصل العقد (¬2) بشروط منها: الأول: أن يقترن ذلك بقبول الطرف الآخر في مجلس الزيادة. الثاني: يشترط أن يكون المبيع قائمًا، إذا كانت الزيادة في الثمن، لأنه إذا كان هالكًا قوبلت الزيادة بمعدوم، وإذا كان في حكم الهالك -وهو ما أخرجه عن ملكه- قوبلت الزيادة بما هو في حكم المعدوم (¬3)، وأما الحط من الثمن فيجوز، ولو بعد هلاك المعقود عليه إجماعًا. ¬
الثالث: يستثنى من المبيع المسلم فيه، فإنه لا تجوز الزيادة فيه، وعللوا ذلك: بأنه معدوم حقيقة، وإنما جعل في الذمة لحاجة المسلم إليه. وقال في بدائع الصنائع: "وأما الزيادة في المسلم فيه فلا تجوز في الإجماع" (¬1). الرابع: ألا تكون الزيادة مفسدة للعقد، فإن كانت مفسدة للعقد لم تصح الزيادة عند أبي يوسف ومحمد، كما لو باع الدراهم بالدراهم متساوية، ثم زاد أحدهما، أو حط، وقبل الآخر، وقبض الزايد في الزيادة، أو المردود في الحط، لم تصح الزيادة ولا الحط عند أبي يوسف ومحمد، وعند أبي حنفية تصح الزيادة، وتلحق بأصل العقد كأنهما عقداه كذلك من الابتداء، فيفسد العقد بسبب الزيادة أو الحط. ولا فرق فيما لو كانت الزيادة بعد التقابض، أو قبله، أو كانت من جنس المبيع، أو الثمن، أو من غير جنسه. ¬
الدليل الأول
وحكم الزيادة أنها تعديل للعقد السابق وليست هبة، ولذا لا تحتاج إلى القبض المشروط لتمام الهبة. هذا هو مذهب الحنفية في الجملة (¬1). وفي مذهب المالكية: أن الزيادة والحط يلحقان بالبيع، ويجريان مجراهما في أحد القولين، سواء أحدث ذلك عند التقابض، أم بعده، ويجب رد الزيادة عند الاستحقاق، وعند الرد بالعيب، وما أشبه ذلك (¬2)، إلا أن بعض المالكية استثنى الزيادة في حق الشفيع، وفي بيع المرابحة فلم يلحقها بالثمن الأول (¬3). وقال بعضهم: إن حط عن المبتاع ما يشبه أن يحط في البيوع وضع ذلك عن الشفيع، وإن كان لا يحط مثله فهي هبة، ولا يحط عن الشفيع شيئًا (¬4). * دليل من قال: إن الزيادة والنقص تلحق بأصل العقد. الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24]. وجه الاستدلال: أنه إذا جاز إلحاق الزيادة والحط من المهر بعد وجوبه، جاز ذلك في عقد البيع. ¬
ويناقش
ويناقش: ليس الكلام على جواز الزيادة والحط، وإنما الخلاف في تكييف هذه الزيادة والحط، هل هما تبرع باعتبار أن العقد أصبح لازمًا بالثمن الأول، أو رجوع عن العقد الأول إلى عقد آخر بحيث تلحق بالثمن في بيوع الأمانة ونحوها. الدليل الثاني: أن الزيادة والحط غيرا العقد عن وجهه الأول وهو كونه بذلك المقدار إلى كونه بهذا المقدار، ورأينا أن الشرع أثبت لهما ولاية تحويل العقد من صفة إلى صفة، فلهما أن يحولا العقد من عدم اللزوم إلى اللزوم بإسقاط الخيار، وعكسه بإلحاق الخيار، وكذا من كونه حالا إلى مؤجل بإلحاق الأجل. ومن وجوده بعد تحققه في الوجود إلى إعدامه بلا سبب سوى اختيارهما، كما لو أَقَالَ أحدهما الآخر، فأولى أن يثبت لهما تغييره من وصف كونه رابحًا إلى خاسر، أو خاسرًا إلى رابح، وإلى كونه عدلًا؛ لأن التصرف في صفة الشيء أهون من التصرف في أصله (¬1). وقيل: تكون هبة مطلقًا، فإن قبضها صارت ملكًا له، وإلا تبطل، وهذا قول زفر من الحنفية (¬2)، وأحد القولين في مذهب المالكية (¬3)، ومذهب الشافعية (¬4)، ¬
دليل من قال: الزيادة والحط بعد اللزوم هبة.
والمشهور في مذهب الحنابلة (¬1). * دليل من قال: الزيادة والحط بعد اللزوم هبة. الدليل الأول: إذا كان الفقهاء متفقين على أن الزيادة لا تلحق بأصل الثمن لمن أخذ بالشفعة، ولو كانت الزيادة تعديلًا للعقد الأول، للحقت الزيادة لمن أخذ المبيع بالشفعة، فدل ذلك على أن الزيادة، أو الحط، إنما هما من قبيل التبرع، وليسا تعديلًا للعقد الأول (¬2). الدليل الثاني: أن العقد قد استقر بلزومه، فلا تلحق به الزيادة، وما أعطاه البائع، أو المشتري بعد لزوم العقد، إنما هو بطيب نفس منه، لا يجبر عليه، ولا يلزمه ذلك إلا بأن يقبضه الطرف الآخر، وهذا شأن الهبة، وبالتالي لا يلحق بأصل العقد. ثمرة الخلاف: تظهر ثمرة الخلاف في مسائل منها: الأولى: حكم الزيادة، أو الحط برأس المال في بيع التولية، والمرابحة، هل تلحق الزيادة برأس المال، أو يكون البيع على الثمن الأول دون الزيادة. وكذلك الحط من الثمن، هل يكون العقد مرابحة، أو توليته على الباقي، أو يعتبر البيع على الثمن الأول، على الخلاف السابق، هل ذلك هبة، أو بيع، فمن ¬
الراجح من الخلاف
قال: إن ذلك هبة لم يلحقها، ومن قال: تجري مجرى البيع ألحقها بأصل العقد. الثانية: في الأخذ بالشفعة، هل يخصم الحط على الشفيع، أو يأخذها الشفيع بالثمن الأول قبل الحط، على الخلاف السابق: هل ذلك هبة، أو بيع. أما الزيادة فقد اتفق الفقهاء على عدم إلحاقها بأصل العقد، وذلك لأن الزيادة لما كانت بعد لزوم العقد، فقد ثبت حق الشفيع بالثمن الأول قبل الزيادة، لأنه بمجرد العقد تعلق حقه بأخذ الشفعة، والزيادة حدثت بعد ذلك فلا تلزمه. الثالثة: في الاستحقاق، فإذا استُحِق المبيعُ، وقضى به للمستحق، فمن قال: إن ذلك بيع رأى أن المشتري يرجع على البائع بالكل من أصل وزيادة، وكذلك في الرجوع بالعيب ولو أجاز المستحق البيع أخذ الكل. ومن قال: إن ذلك هبة لم ير رجوع المشتري بالاستحقاق. الرابعة: في حبس المبيع حتى يقبض الزيادة، أو الحط، فمن قال: إن ذلك بيع، رأى أن له حبسه حتى يقبض الزيادة، بخلاف من يرى أن ذلك هبة. الخامسة: هل يفسد عقد الصرف بالحط أو الزيادة، فمن رأى أن ذلك في حكم البيع رأى أن عقد الصرف يفسد بالحط، أو الزيادة للربا، كأنهما عقداه متفاضلًا ابتداء. ومنع أبو يوسف صحة الزيادة فيه والحط، ولم يبطل البيع، ووافقه محمد في الزيادة، وجوز الحط على أنه هبة مبتدأة (¬1). * الراجح من الخلاف: الأدلة في المسألة متجاذبة، وإن كان قول الشافعية والحنابلة أقوى من قول ¬
الحنفية والمالكية، لأن الأصل عدم الإلحاق، ولأن القول بأن أي زيادة، أو نقص يكون تغييرًا للعقد الأول يؤدي ذلك إلى عدم استقرار التعامل، ومع ذلك فلا مانع من اعتبار القرائن، فالزيادة والحط، تارة تكون تبرعًا محضًا دون شكوى من أحد من العاقدين، فيكون ذلك من باب الإحسان، وليس من باب المعاوضة، وأحيانًا يكون ذلك مشعرًا بطلب الإقالة من العقد الأول، لادعاء الغبن، فيحاول المشتري أن يجبر النقص بزيادة الثمن، أو يحاول البائع أن يجبر ذلك بزيادة المبيع، أو الحط من الثمن، فمثل هذا فيه شبهة أن أحد الطرفين أحب أن يقيل الآخر من الالتزام الأول، وأن يجري معه عقدًا آخر برضاهما يتم فيه تعديل العقد الأول دفعًا لما يدعيه أحدهما من الغبن، فيكون مثل هذا التصرف استصلاحًا للعقد الأول، فمثل هذا لو قيل: إنه يلحق بأصل العقد لم يكن بعيدًا. ثم وقفت على كلام للمالكية بمثل ما استحسنته، فجاء في التاج والإكليل: "وإن أشركت رجلًا في سلعة، أو وليتها، ثم حط بائعك من الثمن ما يشبه استصلاح البيع، لزمك أن تضع عمن أشركته نصف ما حط عنك، ولا يلزمك ذلك فيمن وليته. ابن القاسم: ولو حطك بائعك جميع الثمن أو نصفه، مما يعلم أنه لغير البيع، لم يلزمك أن تحط شيئًا، لا في بيع، ولا شرك، ولا تولية، ولا خيار لهم" والله أعلم (¬1). ¬
المطلب الرابع عشر إذا اشترى شيئين صفقة واحدة وباع أحدهما مرابحة
المطلب الرابع عشر إذا اشترى شيئين صفقة واحدة وباع أحدهما مرابحة [م - 268] إذا اشترى شيئين صفقة واحدة، ولم ينص على ثمن كل واحد منهما، ثم أراد بيع أحدهما مرابحة، فهل يجب عليه أن يبين؟ وللجواب على ذلك نقول: إن كان البيع من المثليات، كما لو كان مما يكال، أو يوزن، فيجوز أن يبيع بعضه مرابحة، وإن لم يبين. وحكاه ابن قدامة إجماعًا، قال رحمه الله: "أن يكون المبيع من المتماثلات التي ينقسم الثمن عليها بالأجزاء، كالبر، والشعير المتساوي، فيجوز بيع بعضه مرابحة بقسطه من الثمن ... ولا نعلم فيه خلافًا" (¬1). قال في التاج والإكليل: هذا "بناء على أن القسم في المكيل، والموزون تمييز حق، وأنه لا يزاد فيه لأجل الجملة". وإن كان البيع من المتقومات، التي لا ينقسم الثمن عليها بالأجزاء، وكانت معينة كالثياب (¬2)، والحيوان، والشجرة المثمرة، وأشباه هذا، فهذا لا يجوز بيع ¬
وجه المنع
بعضه مرابحة، حتى يخبر بالحال على وجهه. وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والحنابلة (¬3). وجه المنع: أن المبيع لما كان معينًا أصبح الثمن ينقسم عليه بحسب القيمة، وهي مختلفة، فإذا اختلفت قيم آحاد المبيع، لم يجب بيعه مرابحة حتى يبين ذلك. وذهب الشافعية إلى جواز بيع القيمي بحصته من الثمن، إذا قسط الثمن عليهما بالقيمة. ¬
وحجتهم
وحجتهم: أن الثمن ينقسم على المبيع على قدر قيمته؛ بدليل ما لو كان المبيع شقصًا وسيفًا، أخذ الشفيع الشقص بحصته من الثمن (¬1). وأجيب: بأن الشفعة لدفع الضرر، فاغتفر فيها ذلك، ولا ضرروة للبيع مرابحة، لأن بإمكانه أن يبين ذلك، ويتم البيع. * الراجح: الذي أميل إليه أن المال القيمي المعين لا يجوز بيع بعضه مرابحة حتى يبين ذلك، وأما المال المثلي، فإن كان ثمن الجملة يخالف ثمن الجزء كما هو حال السوق في عصرنا فإنه يجب البيان، وإلا لم يجب. ¬
المطلب الخامس عشر في بيع ما اشتراه من أبيه أو ابنه مرابحة
المطلب الخامس عشر في بيع ما اشتراه من أبيه أو ابنه مرابحة [م - 269] ذهب أبو حنيفة إلى أن البائع إن كان اشترى من أبيه، أو ابنه، أو ممن لا تقبل شهادته له لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين أمره (¬1). وبهذا قال الحنابلة، جاء في شرح منتهى الإرادات: "وإن اشتراه -أي المبيع- تولية، أو شركة، أو مرابحة، أو مواضعة ممن ترد شهادته له، كأحد عمودي نسبه، أو زوجته لزمه أن يبين، أو اشتراه ممن حاباه، أي اشتراه منه بأكثر من ثمن مثله، لزمه أن يبين، أو اشتراه لرغبة تخصه، كدار بجوار منزله، أو أمة لرضاع ولده، لزمه أن يبين" (¬2). وذلك أن بيع الأمانة يتعلق ببيع المكايسة، والاجتهاد دون بيع المحاباة، فلا يبع مرابحة إلا على القدر الذي يتيقن بالالتزام فيه لا على وجه المسامحة، وما يشتريه الإنسان من أصوله، وفروعه فهو يتسامح في الزيادة لهم، ما لا يتسامح مع غيرهم، لأن ما يحصله هؤلاء بمنزلة ما يحصله لنفسه، ولهذا لا تقبل شهادته لهم، وتقبل عليهم، فإذا وقع أن اشترى من هؤلاء، فباعه مرابحة وجب أن يعلم المشتري بذلك. وقيل: للبائع أن يبيع ما اشتراه من أبيه وابنه وزوجه مرابحة، وإن لم يبين، ¬
وعللوا ذلك
اختاره أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬1)، وهو الأصح في مذهب الشافعية (¬2). وعللوا ذلك: بأن الأملاك بين الآباء والأبناء متباينة، إذ ليس لكل واحد منهما في ملك صاحبه ملك، ولا حق ملك، فهما في ذلك كالأخوين. واستثنى الشافعية ما يشتريه من ابنه الطفل، فيجب الإخبار به؛ لأن الغالب في مثله الزيادة. وكذا ما اشتراه بدين من مماطل أو معسر. وقيل: إذا اشتراه من أبيه أو ابنه، أو زوجه ولم يكن في البيع محاباة لم يجب البيان، وهذا مذهب المالكية (¬3). فجعل المالكية الحكم يدور مع علته، وجودًا وعدمًا، فإن وجد محاباة وجب البيان، وإن لم يوجد لم يجب. وهذا الكلام جيد إلا أنه لا يترك التقدير للبائع، لأن الناس لا ينصفون من أنفسهم، فقد يدعي البائع بأنه لا محاباة في مثل ذلك، وواقع الحال غير هذا، ¬
إلا أن يقال: إن بيع الأمانة ما دام منوطًا في صدق البائع فليصدق في هذا أيضًا، فهو قائم على أساس أمانة البائع وصدقه، والله أعلم. وبهذا نكون قد أنهينا الكلام على بيوع الأمانة، ولم يبق فيها إلا مسألة واحدة، وهي حكم الخيانة إذا ظهرت في بيوع الأمانة، وقد أرجأت هذه المسألة إلى كتاب الخيار لعلاقتها به، فلله الحمد والفضل سبحانه لا أحصي ثناء عليه.
الباب السادس في موانع البيع أو البيوع المنهي عنها
الباب السادس في موانع البيع أو البيوع المنهي عنها في هذا الباب سوف نتكلم عن البيوع المنهي عنها، ويبحثها بعض الفقهاء تحت مسمى (موانع البيع) فهي بيوع في جملتها قد توفرت في كثير منها شروط البيع الصحيح، لكن الشيء لا يتم حتى تتوفر شروطه، وتنتفي موانعه، وهذه البيوع منها ما يكون المانع فيها لحق الله سبحانه وتعالى، كالبيع بعد نداء الجمعة الثاني، ومنها ما يكون المانع فيها لحق الآدمي، كالبيع على بيع أخيه، وتلقي الجلب، ومنها ما يكون المانع فيه لحق الله سبحانه وتعالى، ولحق الآدمي، كالبيوع المشتملة على الربا، وهذه المسائل، منها ما هو الراجح فيها بطلان البيع، فيجمع النهي بين التحريم والبطلان، ومنها ما لا يقتضي البطلان على الصحيح، وسوف نتكلم إن شاء الله تعالى في هذا الباب على المسائل التي ورد فيها نصوص، سواء كانت هذه النصوص صحيحة، أو كانت لا تصح، ونتناول فهم الفقهاء لهذه النصوص، وسيكون الترجيح فيها بحسب فهم الباحث وظنه كالحال في مسائل الخلاف، وقد يكون الصواب خلاف ما رجحت، وإنما التكليف على قدر الفهم، والله المستعان وحده، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويمكن للباحث أن يقسم هذا الباب عدة أقسام: إما تقسيمه باعتبار ما كان النهي فيه لحق الله. وما كان النهي فيه لحق الآدمي. وما كان النهي فيه لحق الله، ولحق الآدمي.
أو تقسيمه باعتبار ما نهي عنه لأمر يرجع إلى العاقد، أو لأمر يرجع إلى المعقود عليه، أو لأمر يرجع إلى صيغة العقد. أو تقسيمه باعتبار سبب التحريم، فيقال مثلًا: ما كان النهي فيه بسبب الغرر، ثم تذكر الأمثلة على ذلك. ما كان النهي فيه بسبب ترك واجب، أو ارتكاب محرم، تم تذكر الأمثلة على ذلك. ما كان النهي فيه بسب الغش والخداع، ثم تذكر أمثلة على ذلك، حتى يأتي على الأعيان المنهي عنها، وهذا ما سوف أختاره؛ لأن هذا التقسيم قائم على الفقه والفهم لهذه النصوص، وهو أليق بالبحث، ولأن التقسيم الأول، وهو ما كان النهي فيه لحق الله، أو كان النهي فيه لحق الآدمي، فيه تداخل، لأن ما نهى عنه الله بسبب حق الآدمي، فمخالفه قد عصى الله أيضًا، هذا ما أحببت أن أتقدم به قبل الدخول في صلب الموضوع، أسأل الله سبحانه وتعالى عونه وتوفيقه إنه على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الفصل الأول في الأعيان المنهي عنها لذاتها لكونها ليست مالا أو لكونها نجسة
الفصل الأول في الأعيان المنهي عنها لذاتها لكونها ليست مالاً أو لكونها نجسة قسم المحققون النهي عن بيع الشيء إلى ثلاثة أقسام: الأول: النهي الوارد لذات المنهي عنه، فيوجب فساد البيع، كبيع الحر، والخمر. الثاني: النهي الوارد لغيره، وليس لذلك الغير اتصال بالمنهي عنه، لا من حيث الأصل، ولا من حيث الوصف، فلا يوجب فساد المنهي عنه على الصحيح، كالنهي عن البيع بعد نداء الجمعة الثاني. الثالث: النهي الوارد لغيره، ولذلك الغير اتصال بالمنهي عنه من حيث وصفه، لا من حيث الأصل، وهو محل خلاف بين أهل العلم. وفي هذا الفصل سوف نتعرض إن شاء الله إلى الأعيان المنهي عنها لذاتها، ومن ذلك: (1) بيع الميتة. (2) بيع الكلب. (3) بيع الهر. (4) بيع الخمر. (5) بيع الخنزير. (6) بيع الدم.
(7) بيع العذرة. (8) بيع السرجين. (9) بيع الدهون النجسة. (10) بيع الدهون المتنجسة. (11) بيع لبن الآدمي، وشعره. (12) بيع أمهات الأولاد. (13) بيع المدبر. (14) بيع الأصنام. (15) بيع الحر. (16) مهر البغي. (17) حلوان الكاهن. فتكون مجموع مسائل هذا الفصل سبع عشرة مسألة، أسأل الله العون والتوفيق.
المبحث الأول في بيع الميتة
المبحث الأول في بيع الميتة [م - 270]، ليس المقصود بالميتة ما كانت ميتته حلالًا، كالسمك، والجراد، وإنما المقصود بالميتة ما فارقته الحياة حتف أنفه مما تحله الذكاة، وهي الذي نهينا عن أكلها في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]. قال النووي: "وأما الميتة، والخمر، والخنزير، فأجمع المسلمون على تحريم بيع كل واحد منها" (¬1). (ح-146) وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح وهو بمكة، إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميته، والخنزير، والأصنام. فقيل يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة؛ فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها، جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه (¬2). ونستطيع أن نقسم الميتة إلى أقسام، منها: الأول: حكم بيع شعر الميتة. الثاني: حكم بيع جلود الميتة. ¬
الثالث: حكم بيع العظم والقرن والظلف من الميتة. الرابع: حكم بيع ما كانت ميتته حلالًا، كالسمك والجراد. الخامس: حكم بيع جثة الآدمي.
الفرع الأولى حكم بيع شعر الميتة
الفرع الأولى حكم بيع شعر الميتة [م - 271] اختلف العلماء في طهارة شعر الميتة، ووبرها، وصوفها، هل هو نجس، أم طاهر؟ وقد سبق بحث هذه المسألة في كتابي موسوعة أحكام الطهارة، وبناء عليه اختلفوا في حكم بيع ذلك منه على أربعة أقوال: القول الأول: يجوز بيع شعر الميتة، ووبرها، وصوفها من كل حيوان إلا شعر الخنزير، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، واختاره أصبغ من المالكية (¬2). القول الثاني: شعر الميتة نجس مطلقًا، سواء كان من حيوان مأكول أو غير مأكول، وإذا كان نجسًا لم يصح بيعه، وهذا مذهب الشافعية (¬3). القول الثالث: يجوز بيع شعر الميتة مطلقًا، وهو اختيار ابن القاسم من المالكية (¬4)، ورجحه ¬
القول الرابع
ابن تيمية من الحنابلة (¬1). القول الرابع: يجوز بيع شعر الميتة إذا كان الحيوان يحكم له بالطهارة في حال حياته، فإن كان الحيوان نجسًا في الحياة، فالشعر تبع له، وهذا مذهب الحنابلة (¬2). * دليل من قال: يحرم بيع الشعر مطلقًا من الميتة. استدل بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وهو مطلق، يشمل ¬
الدليل الثاني
الشعر وغيره، فإن الميتة اسم لما فارقته الروح بجميع أجزائه. الدليل الثاني: (ح-147) روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح وهو بمكة، إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة ... الحديث (¬1). والشعر جزء من الميتة. ويجاب عن الدليلين السابقين بثلاثة أجوبة: الجواب الأول: كون الشعر جزءًا من الميتة، لا يمنع من القول بطهارته، وصحة بيعه، فهذا جلد الميتة جزء منها، بل هو أولى من الشعر، لوجود ما يلصق به من الشحم، ونحوه من الرطوبات، ومع ذلك يرى الشافعي -كما هو قوله في الجديد- جواز بيع جلد الميتة إذا دبغ، وقطعت عنه الرطوبات (¬2)، فما بالك بالشعر الذي لا يوجد به دم، ولا شحم، ولا غيرهما من الرطوبات. الجواب الثاني: " أن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، لا يدخل فيها الشعر، وما أشبهه، وذلك لأن الميت ضد الحي، والحياة نوعان: ¬
الجواب الثالث
حياة الحيوان، وحياة النبات. فحياة الحيوان: خاصتها الحس والحركة الإرادية. وحياة النبات: خاصتها النمو والاغتذاء، وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، إنما هو بما فارقته الحياة الحيوانية دون النباتية، فإن الشجر، والزرع إذا يبس، لم ينجس باتفاق المسلمين، وقد قال تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [النحل: 65]. وقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد: 17]. وإنما الميتة المحرمة ما فارقها الحس والحركة الإرادية، وإذا كان كذلك فالشعر حياته من جنس حياة النبات، لا من جنس حياة الحيوان، فإنه ينمو، ويتغذى، ويطول، كالزرع، وليس فيه حس، ولا يتحرك بإرادته، فلا تحله الحياة الحيوانية حتى يموت بمفارقتها، فلا وجه لتنجيسه ... " (¬1). الجواب الثالث: أن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، عام، وقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل:80]. خاص في بعضها، وهو الشعر، والصوف، والوبر، والخاص مقدم على العام. * دليل من قال: يصح بيع الشعر مطلقًا. الدليل الأول: كل شيء طاهر يباح الانتفاع به فالأصل جواز تملكه وبيعه إلا بدليل صحيح صريح في النهي عن بيعه، ولم يرد في الشرع دليل ينهى عن بيع الشعر، والصوف، والوبر. ¬
الدليل الثاني
وقد قدمت الأدلة على طهارة شعر الميتة في كتابي موسوعة أحكام الطهارة (¬1). الدليل الثاني: قال تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل:80]، وجه الاستدلال: في الآية دليل على جواز الانتفاع بالصوف، والوبر، والشعر من الحيوان، من غير فرق بين المذكى منه وبين الميتة، وبين ما أخذ قبل الموت، وما أخذ بعده، وإذا جاز الانتفاع به، وتملكه، جاز بيعه. الدليل الثالث: دل الإجماع على طهارة الشعر المأخوذ من الحيوان قبل موته، فلا ننتقل إلى نجاسته إلا بدليل، وإذا كان طاهرًا منتفعًا به جاز تملكه وبيعه. قال ابن تيمية: "اتفق العلماء على أن الشعر والصوف إذا جز من الحيوان كان طاهرًا، فلو كان الشعر جزءًا من الحيوان لما أبيح أخذه في حال الحياة" (¬2). (ح-148) فقد روى أحمد من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد الليثي قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، والناس يجبون أسنمة الإبل ويقطعون أليات الغنم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما قطع من البهيمة، وهي حية، فهي ميتة. [الراجح أنه مرسل] (¬3). فلو كان الشعر جزءًا من الحيوان، لما جاز أخذه من الحيوان الحي، ولكان ¬
الدليل الرابع
نجسًا، حكمه حكم ميتته، فلما جاز أخذه، علم أنه ليس جزءًا من الحيوان، وأنه طاهر مطلقًا في حياة الحيوان، وبعد موته. وإذا كان الشعر والصوف والوبر طاهرًا يباح الانتفاع به، كان جواز بيعه فرعًا عن طهارته، وإباحة الانتفاع به. الدليل الرابع: أن المقصود من تحريم الميتة ما يتأتى فيه الأكل، والدليل قوله تعالى في الآية الأخرى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145]. (ح-149) وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس، وفيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الميتة: "إنما حرم أكلها" (¬1). فلما لم يكن الشعر والصوف والوبر من المأكول لم يتناوله التحريم، وكما خصصنا جلد الميتة المدبوغ بالإباحة للآثار الواردة فيه، وجب تخصيص الشعر، والصوف، وما لا يتأتى فيه الأكل من جملة المحرم لقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [الأنعام:80]. وقوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل:5]، والدفء: ما يتدفأ به من شعر، وصوف، ووبر (¬2). * دليل من استثنى شعر الخنزير من شعر الميتة. رأى أصبغ من المالكية أن شعر الخنزير يختلف عن شعر الميتة، ووجه الفرق بينهما: أن الخنزير محرم حيًا وميتًا، لا يجوز بيعه بحال لا حيًا ولا ميتًا، ولا ¬
دليل من فرق بين شعر الحيوان الطاهر في الحياة وشعر الحيوان النجس.
تعمل فيه الذكاة، ولا يطهر جلده بالدباغ، فلما فارق غيره من الحيوانات بهذه الأمور، دل على أن شعره تبع له، لا يجوز بيعه، ولا أكل ثمنه (¬1). قلت: ينبغي أن يلحق به الكلب، بل هو أولى، فإن الكلب قد نهي عن اقتنائه بخصوصه. وأجاب الحطاب عن قول أصبغ: بـ "أن الشعر لا تحله الروح، وأنه يجوز أخذه من الحي والميت، كان مما يؤكل، أو مما لا يؤكل لحمه، كبني آدم، والخيل، والبغال، والقرود التي أجمع أهل العلم على أنه لا يؤكل لحومها، أو مما يكره أكل لحمه كالسباع، فوجب على هذا الأصل، أن يكون شعر الخنزير طاهر الذات، أخذ منه حيا، أو ميتا، تحل الصلاة به، وبيعه، وقول أصبغ ليس ببين، وقياسه فاسد" (¬2). قلت: وقد بينت في كتابي موسوعة أحكام الطهارة، أن المعتمد في مذهب المالكية طهارة الخنزير حيًا (¬3). * دليل من فرق بين شعر الحيوان الطاهر في الحياة وشعر الحيوان النجس. إذا كان الحيوان نجسًا في الحياة، فإن الشعر جزء منه، فهو نجس أيضًا، فإذا مات هذا الحيوان النجس لم يزده الموت إلا خبثًا. وقد سبق الجواب عنه. * الراجح: طهارة الشعر من كل حيوان دون استثناء، وصحة بيعه. ¬
الفرع الثاني في بيع جلود الميتة
الفرع الثاني في بيع جلود الميتة [م - 272] اختلف العلماء في بيع جلود الميتة على ثلاثة أقوال: القول الأول: يجوز بيعها مطلقًا، قبل الدبغ وبعده، وهو قول ابن شهاب والليث ابن سعد (¬1). القول الثاني: يجوز بيعها إذا دبغت، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والجديد في مذهب الشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). القول الثالث: لا يجوز بيعها وإن دبغت، وهذا المالكية (¬5)، والقول القديم للشافعي (¬6)، ............................................ ¬
ومذهب الحنابلة (¬1). واختاره من السلف سالم بن عمر، وطاووس (¬2). وسبب اختلافهم خلافهم أولًا في اشتراط الطهارة في المعقود عليه: فمن رأى أن طهارة الثمن والمثمن ليس بشرط أجاز بيعها مطلقًا (¬3). ومن اشترط الطهارة في المعقود عليه، اختلفوا هل الدباغ مطهر، أو غير مطهر؟ فمن رأى أن الدباغ لا يطهر جلد الميتة، وإنما يبيح الانتفاع بالجلد منع بيعها. ومن رأى أن الدباغ مطهر أباح بيعها بعد الدبغ. ومنهم من يجيزه حتى قبل الدبغ، ويرى أنه بحكم الثوب المتنجس الممكن تطهيره. ¬
دليل من قال: يجوز بيع الجلد مطلقا قبل الدبغ وبعده.
وقد فصلت القول في هذه المسألة، وذكرت الخلاف بين أهل العلم، وأدلتهم بالتفصيل في مسألة، هل الدباغ يطهر جلد الميتة، أو يبيح الانتفاع فقط في كتابي موسوعة أحكام الطهارة، فأغنى عن إعادة بحثه هنا (¬1). كما ذكرت في بحث سابق من هذا المنظومة خلاف أهل العلم في اشتراط طهارة المعقود عليه، ورجحت أن الطهارة ليست بشرط. * دليل من قال: يجوز بيع الجلد مطلقًا قبل الدبغ وبعده. (ح-150) ما رواه البخاري ومسلم من طريق يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عباس، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - شاة ميتة، أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هلا انتفعتم بجلدها؟ قالوا: إنما ميتة؟ قال: إنما حرم أكلها (¬2). وفي رواية للبخاري: "هلا استمتعتم بإهابها" (¬3). والإهاب: اسم للجلد قبل الدبغ. ولهذا الحديث كان الزهري يفتي بجواز الانتفاع به ولو لم يدبغ، فقد أخرج عبد الرزاق، عن معمر كان الزهري ينكر الدباغ، ويقول: يستمتع به على كل حال (¬4). ¬
وأجيب
وإذا أذن الشرع بالاستمتاع بالجلد قبل الدبغ، كان ذلك دليلًا على ماليته، وعلى جواز بيعه، وتنجسه لا يمنع من بيعه باعتبار أن تطهيره ممكن فهو بمنزلة الثوب المتنجس يجوز بيعه. وأجيب: بأن هناك فرقًا بين جلد الميتة، وبين الثوب المتنجس، فالثوب المتنجس نجاسته طارئة، بخلاف جلد الميتة فإن نجاسته بسبب الرطوبات المتصلة به بأصل الخلقة، فصار كلحم الميتة. ويجاب: بأن هذا التفريق ليس مؤثرًا في الحكم، ما دام أن عينه طاهرة، ونجاسته نجاسة مجاورة بسبب ما لصق به من تلك الرطوبات النجسة، والجلد هو المقصود بالعقد، وليس المقصود بالعقد تلك الرطوبات النجسة اللاصقة بالجلد، والقابلة للنزع. * دليل من قال: لا يجوز بيع الجلد مطلقًا قبل الدبغ وبعده. الدليل الأول: (ح-151) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم، قال: أتانا كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنا غلام: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب (¬1). وجه الاستدلال: أن البيع من وجوه الانتفاع، فوجب أن يكون منهيًا عنه. ¬
ويجاب
ويجاب: بأن الحديث وإن كان رجاله ثقات، إلا أن عبد الله بن عكيم لم يثبت له سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد اختلف في إسناده اختلافًا كثيرًا، وعلى فرض صحته فلا حجة فيه، لأن الإهاب: اسم للجلد قبل الدبغ. قال أبو داود: قال النضر بن شميل: وإنما يسمى إهابًا ما لم يدبغ (¬1). وإذا كان ذلك كذلك، فهو نهي عن الانتفاع به حال كون تلك النجاسات الرطبة ملاصقة له؛ لأن ذلك يؤدي إلى التلوث بالنجاسة، بخلاف البيع، فإن من اشتراه لن ينتفع به إلا بعد إزالة تلك النجاسات العالقة به. الدليل الثاني: قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]. وجلد الميتة جزء منها، فإذا أكلت ثمن الجلد كنت في منزلة من أكل الميتة، ولذلك جاء الذم في حق اليهود الذين حرمت عليهم شحوم الميتة، فباعوه، فأكلوا ثمنه، وحرم أكل ثمن الخمر، ولذا قال سالم بن عبد الله بن عمر: وهل بيع جلود الميتة إلا كأكل ثمنها (¬2). وقال النخعي: كانوا يكرهون أن يبيعوها، فيأكلوا أثمانها (¬3). وقد سبق الجواب عن هذا في الكلام على شعر الميتة في المسألة التي قبل هذه. ¬
دليل من قال: يجوز بيعه إذا دبغ.
* دليل من قال: يجوز بيعه إذا دبغ. الدليل الأول: (ح-152) ما رواه مسلم من طريق زيد بن أسلم، أن عبد الرحمن بن وعلة أخبره، عن عبد الله بن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا دبغ الإهاب فقط طهر (¬1). [صححه مسلم وضعفه أحمد] (¬2). الدليل الثاني: قال الطحاوي: لم نجد عن أحد من الفقهاء جواز بيع جلد الميتة قبل الدبغ إلا عن الليث. قال ابن عبد البر: يعني من الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار بعد التابعين، وأما ابن شهاب فذلك عنه صحيح ... وهو قول يأباه جمهور العلماء (¬3). قلت: وإذا حفظ الخلاف لم يكن فيه إجماع، وإذا لم يكن ثمة إجماع نظر في الراجح من حيث قربه أو بعده من النص الشرعي ومن قواعد الشريعة، لا من حيث كثرة القائلين به. الدليل الثالث: (ح-153) ما رواه مسلم من طريق ابن عيينة، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: تصدق على مولاة لميمونة بشاة، فماتت، فمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به؟ فقالوا: ¬
ويجاب عنه
إنها ميتة: فقال: إنما حرم أكلها (¬1). فشرط الدباغ للانتفاع، ومن جملة الانتفاع البيع. ويجاب عنه: انفرد ابن عيينة بذكر الدباغ في هذا الحديث، وقد رواه أصحاب ابن شهاب فلم يذكروا فيه الدباغ، منهم الإمام مالك، ويونس بن يزيد، وصالح ابن كيسان، ومعمر، والأوزاعي، وعقيل، وحفص بن الوليد وإسحاق بن راشد وغيرهم (¬2)، وقد طعن الإمام أحمد رحمه الله في زيادة ابن عيينة، قال ابن تيمية: "ليس في صحيح البخاري ذكر الدباغ، ولم يذكره عامة أصحاب الزهري عنه، لكن ذكره ابن عيينة، ورواه مسلم في صحيحه، وقد طعن الإمام أحمد في ذلك، وأشار إلى غلط ابن عيينة، وذكر أن الزهري وغيره كانوا يبيحون الانتفاع بجلود الميتة بلا دباغ لأجل هذا الحديث" (¬3). الدليل الرابع: (ح-154) ما رواه أحمد من طريق سالم بن أبي الجعد، عن أخيه، عن ابن عباس، قال: أرد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ من سقاء، فقيل له: إنه ميتة، فقال: دباغه يذهب خبثه أو رجسه، أو نجسه (¬4). [إسناده ضعيف] (¬5). ¬
الدليل الخامس
وله شاهد من حديث عائشة عند الدارقطني، وإسناده حسن، إن سلم من علة التفرد (¬1). وفي الباب حديث ميمونة، وفيه: يطهره الماء والقرض، وهو حديث ضعيف (¬2). وحديث ابن عمر: أيما إهاب دبغ فقد طهر، وهو معلول (¬3). وحديث أم سلمة: دباغها يحل كما يحل الخل الخمر، وهو ضعيف (¬4). وحديث زيد بن ثابت، وفيه: دباغ جلود الميتة طهورها، وهو ضعيف جدًا (¬5). الدليل الخامس: قال الطحاوي: "رأينا الأصل المجتمع عليه أن العصير لا بأس بشربه، والانتفاع به، ما لم يحدث فيه صفات الخمر، فإذا حدثت فيه صفات الخمر حرم بذلك، ثم لا يزال حراما كذلك حتى تحدث فيه صفات الخل، فإذا حدثت فيه صفات الخل حل. فكان يحل بحدوث الصفة، ويحرم بحدوث صفة غيرها، وإن كان بدنًا واحدًا، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك جلد الميتة، يحرم بحدوث صفة الموت فيه، ويحل بحدوث صفة الأمتعة فيه من الثياب وغيرها فيه، وإذا دبغ فصار كالجلود والأمتعة، فقد حدثت فيه صفة الحلال. ¬
تعليل من استثنى جلد الكلب والخنزير.
فالنظر على ما ذكرنا أن يحل أيضا بحدوث تلك الصفة فيه. وحجة أخرى: أنا قد رأينا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما أسلموا، لم يأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطرح نعالهم، وخفافهم، وأنطاعهم التي كانوا اتخذوها في حال جاهليتهم، وإنما كان ذلك من ميتة، أو من ذبيحة فذبيحتهم حينئذ إنما كانت ذبيحة أهل الأوثان، فهي -في حرمتها على أهل الإسلام- كحرمة الميتة. فلما لم يأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطرح ذلك، وترك الانتفاع به، ثبت أن ذلك كان قد خرج من حكم الميتة ونجاستها بالدباغ إلى حكم سائر الأمتعة وطهارتها، وكذلك كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتحوا بلدان المشركين لا يأمرهم بأن يتحاموا خفافهم، ونعالهم، وأنطاعهم، وسائر جلودهم، فلا يأخذوا من ذلك شيئًا، بل كان لا يمنعهم شيئا من ذلك، فذلك دليل أيضا، على طهارة الجلود بالدباغ" (¬1). * تعليل من استثنى جلد الكلب والخنزير. علل الشافعي رحمه الله بأن جلد الكلب والخنزير لا يطهر بالدباغ؛ لأن النجاسة فيهما، وهما حيان قائمة، وإنما يطهر بالدباغ ما لم يكن نجسًا حيًا (¬2). * تعليل من استثنى جلد الخنزير دون الكلب: فرق الحنفية بين الكلب والخنزير فقالوا: "الخنزير لا تلحقه الذكاة؛ لأنه محرم العين بمنزلة الخمر والدم، فلا تعمل فيه الذكاة، ألا ترى أنه لا يجوز الانتفاع به في حال الحياة، والكلب يجوز الانتفاع به في حال الحياة، فليس هو محرم العين" (¬3). ¬
ويرى الحنفية أن الكلب لو ذبح لكان طاهرًا، يجوز الانتفاع بلحمه في غير الأكل، بخلاف الخنزير، فلا تلحقه الذكاة (¬1). وهناك أقوال أخرى وأدلة أخرى تركتها اقتصارًا على ما فصلته في كتابي أحكام الطهارة، فأرجع إليها لزامًا (¬2). وكما رجحنا أن الدباغ يطهر جميع الجلود، نرجح هنا أن بيع الجلود بعد الدبغ لا مانع من بيعها، وقبل الدبغ كذلك؛ لأن الصحيح أن الطهارة ليست شرطًا في المعقود عليه، فالصحيح جواز بيع كل عين جرى الانتفاع بها بين المسلمين، ولم ينه عن بيعها بخصوصها، كالخمر، والميتة، والدم، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث في بيع عظم الميتة وقرنها وحافرها
الفرع الثالث في بيع عظم الميتة وقرنها وحافرها [م - 273] عظم الحيوان المأكول اللحم المذكى طاهر إجماعًا، كما أن عظم الآدمي طاهر تبعًا لذاته على الصحيح، ولكن لا يجوز استعماله ولو من كافر؛ لكرامة المؤمن، وتحريم المثلة في الكافر (¬1)، وأما عظم الحيوان غير المذكى، سواء كان من مأكول اللحم، أم من غير مأكول اللحم، فقد اختلف العلماء في بيعه لاختلافهم في طهارته. فقيل: يجوز، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، ورجحه ابن تيمية (¬3). وقيل: لا يجوز، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬4)، الشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). ¬
وقيل: لا يجوز بيعه، ويجوز الانتفاع به، وهو اختيار ابن حزم (¬1). وقد ذكرنا أدلة هذه المسألة في مبحث سابق، فأغنى عن إعادته هنا (¬2). ¬
الفرع الرابع في بيع ميتة الجراد
الفرع الرابع في بيع ميتة الجراد [م - 274] قال الشنقيطي رحمه الله: "لا خلاف بين العلماء في جواز أكله، يعني الجراد وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى أنه قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات نأكل الجراد" (¬1). وإنما وقع خلاف بين الجمهور والمالكية في حكم أكل ميتته من غير ذكاة، فمن رأى أن ميتته طاهرة، ويجوز أكلها أباح بيع ميتة الجراد، وهو مذهب الجمهور (¬2). ومن قال: إن مات حتف أنفه، أو بوعاء لم يؤكل، ولا يجوز بيعه؛ لأنه ميتة، وإن ذكي حل أكله، وذكاته أن يقتل إما بقطع رأسه، أو بغير ذلك، كما لو قطع منه شيء، أو سلق، أو قلبي، أو شوي حيًا. وهذا مذهب مالك رحمه الله (¬3). * دليل الجمهور: (ح-155) ما رواه أحمد من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه زيد بن أسلم عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال. ¬
دليل المالكية على اشتراط الذكاة للجراد.
[الراجح وقفه على ابن عمر، وقول الصحابي: أحل لنا كذا في حكم المرفوع] (¬1). * دليل المالكية على اشتراط الذكاة للجراد. ميتة الجراد داخلة في عموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، وحديث: أحلت لنا ميتتان ودمان: لم يصح مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). قال ابن العربي: ليس في الجراد حديث يعول عليه في أكل ميتته (¬3). ويجاب عن ذلك: بأن الرواية الموقوفة على ابن عمر عنه صحيحة، ولها حكم الرفع؛ لأن قول الصحابي: أحل لنا، أو حرم علينا له حكم الرفع؛ لأنه من المعلوم أنه لا يحل لهم، ولا يحرم عليهم إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقرر في علوم الحديث، قال الشنقيطي رحمه الله: وهو دليل لا لبس فيه على إباحة ميتة الجراد من غير ذكاة (¬4). ¬
الفرع الخامس في بيع ميتة البحر
الفرع الخامس في بيع ميتة البحر [م - 275] اختلف العلماء في أكل ميتة البحر، قال صاحب الهداية: "والخلاف في البيع، والأكل واحد" (¬1). يقصد أن من منع أكل ميتة البحر، فقد منع البيع؛ لأنها ميتة، ومن أباح أكل ميتة البحر، أباح البيع. فقيل: إباحة الأكل إنما تختص بالسمك دون سائر ميتات البحر، بشرط أن يكون موت السمك بسبب ظاهر، كانحسار الماء، أو نبذه له، أو ضرب صياد، أو نحو ذلك، فإن مات السمك حتف أنفه بغير سبب ظاهر، وطفا، فإنه يكره أكله، وهذا مذهب الحنفية (¬2). وقيل: إن مات في البحر ما لا نفس له سائلة، فهو طاهر، وإن مات ما له نفس سائلة، فهو نجس، وهذا منسوب إلى أبي يوسف من الحنفية (¬3). وقيل: بإباحة جميع ميتات البحر مما لا يعيش إلا في الماء، وهذا مذهب الجمهور إلا أن بعضهم استثنى كلب، وإنسان، وخنزير الماء (¬4). ¬
وقيل: إن ميتة البحر نجسة مطلقًا، سواء مات في البر، أو في البحر، اختاره ابن نافع من المالكية (¬1). وقيل: ما مات في البحر فهو طاهر، وما مات في البر، فهو نجس، وهذا اختيار ابن قاسم من المالكية (¬2). وقد سبق لي ذكر أدلة الأقوال في كتابي موسوعة أحكام الطهارة فانظره مشكورًا هناك (¬3). ¬
الفرع السادس في بيع عصب الميتة
الفرع السادس في بيع عصب الميتة [م - 276] سبق لنا أن الجمهور يشترطون في المعقود عليه أن يكون طاهرًا، فإذا كان نجسًا عندهم فلا يجيزون بيعه، وبناء عليه، فالمالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، لا يجيزون بيع عصب الميتة؛ لأنه نجس عندهم. بينما الحنفية يرون طهارته (¬4)، وبناء عليه فلا مانع عندهم من بيعه، بل سبق لنا أن الحنفية لا يرون اشتراط الطهارة في المعقود عليه، فلا مانع عندهم من بيع النجس إذا جرى تموله والانتفاع به في غير الأكل، ولهذا أجازوا بيع السرجين النجس وغيره. وقد سبق لي في كتاب أحكام الطهارة ذكر أدلة الحنفية، وأدلة الجمهور فيما ذهبوا إليه، وترجح لي طهارة العصب، وأن تحريم الأكل، لا يلزم منه النجاسة، وأنه يجوز الانتفاع به، شأنه شأن العظم، والظفر، والقرن، والحافر، فانظر أدلتهم على وجه التفصيل في الكتاب المذكور (¬5). ¬
الفرع السابع في بيع أنفحة الميتة ولبنها
الفرع السابع في بيع أنفحة الميتة ولبنها [م - 277] اختلف الفقهاء هل يجوز بيع أنفحة الميتة، وأكل الجبن المعمول بالأنفحة، وهل لبن الميتة طاهر أم نجس؟ على قولين: فمن ذهب إلى طهارته لم ير مانعًا من بيعه، ومن اشترط الطهارة في المعقود عليه، وهم الجمهور، ورأى نجاسة ذلك منع من البيع، وعلى القول بالبيع فإنه يجب أن يبين للمشتري أنه لبن ميتة؛ لأن النفس تستقذره، وإن كان بيعه مباحًا. فذهب أبو حنفية إلى طهارة لبن الميتة المأكولة اللحم (¬1) وأنفحتها (¬2)، وهو رواية في مذهب أحمد (¬3)، اختارها ابن تيمية (¬4). جاء في حاشيتي قليوبي وعميرة وهما من الشافعية: "الجبن المعمول بالإنفحة المتنجسة مما عمت به البلوى أيضا، فيحكم بطهارته، ويصح بيعه، وأكله، ولا يجب تطهير الفم منه، وإذا أصاب شيء منه ثوب الآكل أو بدنه لم يلزمه تطهيره للمشقة" (¬5). وذهب الجمهور إلى نجاسة لبن الميتة وأنفحتها (¬6). ¬
وقد سبق لي بحث مسألة طهارة لبن الميتة، وأنفحتها في مسألتين مستقلتين في كتابي أحكام الطهارة فأغنى عن إعادته هنا (¬1). ¬
الفرع الثامن في بيع الجثة (ميتة الآدمي)
الفرع الثامن في بيع الجثة (ميتة الآدمي) [م - 278] سبق لنا أن تحريم بيع الميتة من الحيوان إجماع بين الفقهاء، لم يخالف في ذلك أحد، وهل يشمل ذلك ميتة الآدمي، فالجواب: ميتة الآدمي يخالف ميتة الحيوان: أن ميتة الآدمي طاهرة، فإذا كانت ميتة السمك، وميتة الجراد، لا تدخل في عموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] لم يدخل في النص ميتة الآدمي؛ لأنها على الراجح من أقوال أهل العلم أنها طاهرة، وأن الموت لا ينجس الآدمي مسلمًا كان، أو كافرًا، وقد بحثت ذلك في كتاب أحكام الطهارة (النجاسات) وسقت الأدلة على طهارة ميتة الآدمي مطلقًا. وإذا كانت ميتة الآدمي طاهرة، فهل يجوز بيع ميتة الآدمي؟ وقبل الجواب يتوجه سؤال، من يملك جثة الآدمي؟ وما الغرض من بيعه؟ وهل بدن الميت حق للورثة؟ أو حق لله، أو حق مشترك؟ وإذا قيل: إن للورثة حقًا في بدن مورثهم، فهل هو حق اختصاص، أو حق تملك، كما يتملك المال، والمتاع، فيملك التصرف فيه ببيع، وهبة وتبرع ونحو ذلك. والذي أرى أن حق الوارث في بدن مورثه هو حق اختصاص ليس إلا؛ لأنه إذا كان المسلم الحر لا يملك أن يبيع نفسه في حال حياته، وهو ألصق ببدنه من وارثه، فكيف يملك الورثة أن يبيعوا بدن مورثهم؟ وإذا كان الحر لا يملك حيًا، فكيف يملك ميتًا؟
(ح-156) وقد روى البخاري في صحيحه بسنده من طريق سعيد ابن أبي سعيد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا، فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا، فاستوفى منه، ولم يعطه أجره) (¬1). هذا فيما يتعلق بالجواب عن الشق الأول من السؤال: من يملك جثة الآدمي؟ وأما الشق الثاني: وهو: ما الغرض من شراء جثة الميت؟ أو بسؤال آخر: ما هي المنفعة المرجوة من شراء جثة الميت. فقد يتوجه لبدن الميت إما حاجة إلى تشريحه. وإما حاجة إلى أخذ عضو من أعضائه، بما يسمى في الطب الحديث: غرس الأعضاء. وإما أن يضطر المسلم إلى بدن الميت، ليتناوله كطعام لينقذ نفسه المعصومة من الموت بسبب الجوع. وكل مسألة من هذه المسائل نحتاج إلى بحثها بخصوصها. فإذا تبين أن هذه المنافع جائزة، فهل ثبوت هذه المنافع لجثة الآدمي يسوغ بيعها أو أن الانتفاع أوسع من البيع، فقد يجوز الانتفاع، ولا يجوز البيع؟ هذا ما سوف نستكشفه من خلال المباحث التالية. ¬
المسألة الأولى في تشريح الجثة
المسألة الأولى في تشريح الجثة [ن-13] صدرت فتوى من هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في حكم التشريح، قالت فيه: "الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: التشريح لغرض التحقق من دعوى جنائية. الثاني: التشريح لغرض التحقق من أمراض وبائية؛ لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منها. الثالث: التشريح للغرض العلمي تعلمًا، وتعليمًا. وبعد تداول الرأي والمناقشة، ودراسة البحث المقدم من اللجنة -يعني اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد- قرر المجلس ما يلي: بالنسبة للقسمين الأول، والثاني، فإن المجلس يرى أن في إجازتهما تحقيقًا لمصالح كثيرة في مجالات الأمن، والعدل، ووقاية المجتمع من الأمراض الوبائية، ومفسدة انتهاك كرامة الجثة المشرحة، مغمورة في جنب المصالح الكثيرة والعامة المتحققة بذلك، وأن المجلس لهذا يقرر بالإجماع إجازة التشريح لهذين الغرضين، سواء كانت الجثة المشرحة جثة معصوم أم لا. وأما بالنسبة للقسم الثالث، وهو التشريح للغرض التعليمي، فنظرًا إلى أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها، وبدرء المفاسد وتقليلها، وبارتكاب أدنى الضررين، لتفويت أشدهما، وأنه إذا تعارضت المصالح أخذ بأرجحها، وحيث إن تشريح غير الإنسان من الحيوانات لا يغني
عن تشريح الإنسان، وحيث إن في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العملي في مجالات الطب المختلفة، فإن المجلس يرى جواز تشريح جثة الآدمي في الجملة إلا أنه نظرًا إلى عناية الشريعة الإسلامية بكرامة المسلم ميتًا، كعنايتها بكرامته حيًا. وذلك لما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كسر عظم الميت ككسره حيًا. ونظرًا إلى أن التشريح فيه امتهان لكرامته، وحيث إن الضرورة إلى ذلك منتفية بتيسير الحصول على جثث أموات غير معصومة، فإن المجلس يرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث، وعدم التعرض لجثث أموات معصومين، والحال ما ذكر، والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم" (¬1). وقد ذكر الفقهاء المتقدمون أسبابًا لبقر بطن الآدمي الميت مما يستأنس به على جواز التشريح للحاجة. جاء في كتاب رد المحتار على الدر المختار: "ولو بلع مال غيره، ومات، هل يشق أم لا؟ قولان، الأول: نعم" (¬2). وجاء في الخرشي: "من ابتلع مالًا له، أو لغيره، ثم مات، فإنه يشق جوفه، فيخرج منه، إن كان له قدر وبال، بأن يكون نصابًا، وهل نصاب الزكاة أو السرقة، قولان. وقال ابن حبيب بعدم البَقْر، قال شيخنا: ينبغي أن يكون الخلاف إذا ابتلعه ¬
لقصد صحيح، كخوف عليه، أو لمداواة، وأما إن قصد قصدًا مذمومًا، كحرمان وارثه، فلا ينبغي أن يختلف في وجوب البقر؛ لأنه كالغاصب" (¬1). وجاء في المهذب: "وإن ابتلع الميت جوهرة لغيره، وطالب بها صاحبها، شق جوفه، وردت الجوهرة" (¬2). وقال ابن قدامة: "وإن بلع الميت مالًا، لم يخل من أن يكون له، أو لغيره، فإن كان له لم يشق بطنه؛ لأنه استهلكه في حياته، ويحتمل أنه إن كان يسيرًا ترك، وإن كثرت قيمته، شق بطنه وأخرج؛ لأن فيه حفظ المال عن الضياع، ونفع الورثة الذين تعلق حقهم بماله بمرضه. وإن كان المال لغيره، وابتلعه بإذنه، فهو كماله؛ لأن صاحبه أذن في إتلافه. وإن بلعه غصبا ففيه وجهان: أحدهما: لا يشق بطنه، ويغرم من تركته؛ لأنه إذا لم يشق من أجل الولد المرجو حياته، فمن أجل المال أولى. والثاني: يشق إن كان كثيرًا؛ لأن فيه دفع الضرر عن المالك برد ماله إليه، وعن الميت بإبراء ذمته، وعن الورثة بحفظ التركة لهم" (¬3). وقال الشيخ بكر أبو زيد: "أما تشريح الميت لكشف الجريمة، فإنه متى استدعى الحال لخفاء في الجريمة، وسبب الوفاة باعتداء، وهل هذه الآلة المعتدى بها قاتلة منها، فمات بسببها أو لا؟ فإنه يتخرج القول بالجواز صيانة للحكم عن الخطأ، وصيانة لحق الميت الآيل إلى وارثه، وصيانة لحق الجماعة من داء الاعتداء والاغتيال، وحقنًا لدم المتهم من وجه، فتحقيق هذه المصالح ¬
غلبت ما يحيط بالتشريح من هتك لحرمة الميت، وقاعدة الشريعة: ارتكاب أخف الضررين، والضرورات تبيح المحظورات، والله أعلم. وهذا الجواز عند من قال به في ضوء الشروط الآتية: الأول: أن يكون في الجناية متهم. الثاني: أن يكون علم التشريح لكشف الجريمة بلغ إلى درجة تفيد نتيجة الدليل، كالشأن في اكتشاف تزوير التوقيعات، والخطوط. الثالث: قيام الضرورة للتشريح، بأن تكون أدلة الجناية ضعيفة لا تقوى على الحكم بتقدير القاضي. الرابع: أن يكون حق الوارث قائمًا لم يسقطه. الخامس: أن يكون التشريح بواسطة طبيب ماهر. السادس: إذن القاضي الشرعي. السابع: التأكد من موت من يراد تشريحه لكشف الجريمة: الموت المعتبر شرعًا. وأما التشريح للتعلم والتعليم، فحيث إن جثث الموتى من الوثنيين وغيرهم من الكفار ميسورة الشراء لهذين الغرضين بأرخص الأسعار، وأموال المسلمين نهابًا فيبذل قسط منها ... " أي في ذلك (¬1). فخلصنا في نهاية البحث إلى أنه يجوز الانتفاع بجثة الميت بقصد التشريح لكشف الجريمة، والأمراض الوبائية، وبقي بالبحث جواز الانتفاع بأعضاء الميت، بما يسمى في الاصطلاح المعاصر زراعة الأعضاء، وبعضهم يفضل أن تسمى غرس الأعضاء، وهذا أدق. ¬
المسألة الثانية في الانتفاع من جثة الميت لغرض غرس الأعضاء
المسألة الثانية في الانتفاع من جثة الميت لغرض غرس الأعضاء ليس البحث هنا عن نقل الدم، أو عن نقل عضو من إنسان حي لا يتأثر بذلك، ونقله إلى إنسان آخر، فإن ذلك لا علاقة له في بحثنا؛ لأن البحث كله يدور في حكم بيع الميتة، إذا ثبت في الواقع أن هناك منافع لها، فهل هذه المنافع تثبت لها المالية، بحيث يمكن المعاوضة عليها أو لا؟ فقد تكلمنا بشيء من التفصيل عن ميتة الحيوان، وعن بيع أجزئها من جلد وشعر ووبر وصوف وعظم ولبن وأنفحة ونحوها، وانتقلنا من ميتة الحيوان إلى ميتة الآدمي، والكلام فيها في مسألتين: الأولى: هل يمكن الانتفاع بأعضاء الميت، ونقلها إلى إنسان حي مضطر إليها؟ والمسألة الثانية: إذا أمكن ذلك، فهل يمكن بيعها والمعاوضة عليها لثبوت هذه المنفعة؟ إذا علم هذا نقول: لا يمكن من الناحية الطبية نقل الأعضاء من الميت بعد موت القلب وتوقفه عن النبض، ولا بد من نقل الأعضاء من الميت، وهو في حالة موتٍ يسميه الأطباء موتا دماغيًا، يمكن معه أن يستمر القلب في الضخ، والرئتان في التنفس بعد إعلان موت الدماغ. وهناك رأيان لأهل الاختصاص الطبي في تحديد حقيقة الموت الدماغي: الأول: التعريف الأمريكي: أن موت الدماغ يعني: توقف جميع وظائف الدماغ (المخ، والمخيخ، وجذع المخ) توقفًا نهائيًا، لا رجعة فيه.
الثاني: التعريف البريطاني: أن موت الدماغ: هو توقف وظائف جذع الدماغ فقط توقفًا نهائيًا، لا رجعة فيه (¬1). وقد ظهر مفهوم موت الدماغ وتقبلته الدوائر الطبية أولًا، ثم القانونية وذلك منذ السبعينيات وبداية الثمانينات في القرن العشرين، وتمكن الجراحون من أخذ الأعضاء، وهي لا تزال في حالة جيدة بسبب التروية الدموية المستمرة حتى لحظة نزع العضو، أو قبيله مباشرة. وإذا كان غرس الأعضاء متوقفًا على حكم ما يسمى بالوفاة الدماغية، فإن كان ذلك موتًا حقيقيًا، أمكن النظر في جواز الانتفاع بأعضاء هذا الإنسان من الناحية الفقهية، وإن كانت الوفاة الدماغية لا تعتبر موتًا حقيقيًا فإنه لا يمكن مناقشة غرس الأعضاء؛ لأن ذلك سيكون عملًا جنائيًا أن ينزع أحد من إنسان أعضاءه التي تتوقف حياته عليها قبل وفاته. ¬
[ن-14] وقد اختلف العلماء، هل يحكم بموت الشخص بمجرد موت دماغه، ولا ينظر إلى عمل القلب، بحيث تترتب عليه جميع الأحكام الشرعية المقررة في حال الوفاة، أم لا بد من توقف القلب عن النبض حتى يحكم بموت الإنسان؟ فقيل: يعتبر الموت الدماغي موتًا حقيقيًا لصاحبه، وإن كانت وظائف جسمة تعمل كالكبد، والقلب، والكلى، وغيرها من الأعضاء، وممن اختار ذلك مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، فقد جاء في قرار المجمع ما نصه: يعتبر شرعًا أن الشخص قد مات، وتترتب جميع الأحكام المقررة شرعًا في الوفاة عند ذلك، إذا تبينت فيه إحدى العلامتين التاليتين: 1 - "إذا توقف قلبه وتنفسه توقفًا تامًا، وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه. 2 - إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلًا نهائيًا، وحكم الأطباء الاختصاصيون، والخبراء، بأن هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذ دماغه في التحلل، وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص، وإن كان بعض الأعضاء كالقلب مثلًا لا يزال يعمل آليًا، بفعل الأجهزة المركبة" (¬1). اهـ وقد اختار هذا القول جماعة من العلماء المعاصرين، منهم: الدكتور عمر سليمان الأشقر (¬2)، والدكتور محمد سليمان الأشقر (¬3)، والدكتور محمد نعيم ¬
وحجة أصحاب هذا القول
ياسين (¬1)، والدكتور محمد علي البار (¬2). * وحجة أصحاب هذا القول: الدليل الأول: أن المولود إذا لم يستهل صارخًا فإنه لا يعتبر حيًا، ولو تنفس، أو بال، أو تحرك، كذا قال الإمام مالك رحمه اللهُ. فما لم يكن الفعل إراديًا استجابة لتنظيم الدماغ، لا يعتبر أمارة حياة وهذا واقع فيمن مات دماغه فيأخذ حكم المولود الذي لم يصرخ. وأجيب بجوابين: الجواب الأول: القول بأن المولود إذا لم يستهل صارخًا يعتبر ميتًا مسألة مختلف فيها بين الفقهاء. قال ابن عبد البر المالكي: وقد اختلف الفقهاء في المولود لا يستهل صارخًا، إلا أنه تحرك حين سقط من بطن أمه، وعطس، ونحو ذلك، ولم ينطق، ولا صرخ مستهلًا، فقال بعضهم: لا يصلى عليه، ولا يرث، ولا يورث، إلا أن يستهل صارخًا، وممن قال ذلك: مالك وأصحابه. وقال آخرون: كل ما عرفت به حياته فهو كالاستهلال، والصراخ، ويورث، ويرث، ويصلى عليه إذا استوقنت حياته بأي شيء صحت من ذلك كله، وهو قول الشافعي، والكوفي، وأصحابهم" (¬3). ¬
الجواب الثاني
الجواب الثاني: على التسليم بأن المولود إذا لم يستهل صارخًا يعتبر ميتًا، فإن هناك فرقًا بين المولود وبين المريض، فالمولود مشكوكٌ في حياته، لم تثبت حياته بعد، بخلاف المريض فإن الأصل بقاء حياته، فلا ينتقل عن هذا الأصل إلا بيقين. الدليل الثاني: أن المرجع في ذلك إلى الأطباء، وليس إلى الفقهاء، وقد كلفنا الله سبحانه وتعالى أن نسأل أهل الذكر إن كنا لا نعلم، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، فالأطباء: هم أهل الاختصاص والخبرة في الشأن، وهم مؤتمنون في هذا. وقد قال الأطباء: إذا رفض المخ قبول التغذية فقد مات الإنسان. ويجاب: بأن الأطباء وإن كان عامتهم يقولون بذلك، إلا أنهم لم يجمعوا على ذلك، فهناك من يعتبر الموت الدماغي موتًا فعليًا، وهناك من يرى أن من مات دماغيًا فقد استدبر الحياة، وهو في طريقه إلى الموت، ولا يحكم بموته نهائيًا إلا بعد توقف قلبه، والأجهزة الرئيسية في بدنه (¬1)، وانظر القول الثالث في هذه المسألة. وهذا الخلاف له أثر فقهي كبير، في أحكام الموت من ميراث وعدة، وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالوفاة. ¬
القول الثاني
القول الثاني: وقيل: لا يعتبر ميتًا حتى تتوقف معه حركة القلب، والنفس مع ظهور الأمارات الأخرى الدالة على موته، وبذلك صدر قرار هيئة كبار العلماء في السعودية في دورته الخامسة والأربعين، فقد جاء فيه ما نصه: "قرر المجلس أنه لا يجوز شرعا الحكم بموت الإنسان، الموت الذي ترتب عليه أحكامه الشرعية بمجرد تقرير الأطباء أنه مات دماغيًا، حتى يعلم أنه مات موتًا لا شبهة فيه، تتوقف معه حركة القلب، والنفس، مع ظهور الأمارات الأخرى الدالة على موته يقينًا؛ لأن الأصل حياته، فلا يعدل عنه إلا بيقين" (¬1). كما صدر بذلك قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي (¬2)، ولجنة الفتوى بوزارة الأوقاف الإسلامية الكويتية (¬3)، واختار ذلك سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله (¬4)، وشيخنا محمد بن عثيمين (¬5)، والشيخ بكر أبو زيد (¬6)، والشيخ محمد سعيد البوطي (¬7)، وجمع من أهل العلم. ¬
وقد استدل أصحاب هذا القول بقواعد فقهية، منها
يقول الشيخ بكر أبو زيد: "اعلم أن المراد بالميت هنا هو من فارقت روحه بدنه انقطاعًا تامًا، من توقف دقات قلبه المنزلة طبيعيًا، أو صناعيًا، واستكمال أماراته، فهذه هي الوفاة التي تترتب عليها أحكام مفارقة الإنسان للدنيا من انقطاع أحكام التكليف، وخروج زوجته من عهدته، وماله لوارثه، وتغسيله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه .. أما نصب موت الدماغ أو جذع الدماغ تحقيقًا لموته، مع نبض قلبه، ولو آليًا، فهذا في الحقيقة ليس موتًا، ولكنه نذير وسير إلى الموت، فما زال له حكم الأحياء حتى يتم انفصال الروح عن البدن" (¬1). وبناء على هذا الرأي فإنه يغلق النظر في جواز نقل أعضاء هذا الإنسان خاصة تلك الأعضاء التي تتوقف حياته عليها، كالقلب، والكبد، فإن من لم يقبل بموت الدماغ لم يقبل في الواقع العملي في نقل الأعضاء، لأن موت القلب وتوقفه عن العمل سبب في فساد تلك الأعضاء وتحللها، وبالتالي لا يمكن نقلها. وقد استدل أصحاب هذا القول بقواعد فقهية، منها: * قاعدة (اليقين لا يزول بالشك). وذلك أن حياة المريض متيقنة، لأن قلبه ما زال ينبض، وأعضاءه تعمل، وضغطه وحرارته ترتفع وتنخفض، ويحدث منه التبول، والشك إنما هو في موته باعتبار أن دماغه ميت، فوجب علينا اعتبار اليقين الموجب للحكم بحياته، فإذا شك في موت إنسان لم يكن لأحد أن يبادر بإنهائها باجتهاده، فالإقدام على نزع الأعضاء من إنسان، لا زال به رمق، أو شك في وفاته نوع من القتل المتعمد. * ومن ذلك قاعدة (الأصل بقاء ما كان على ما كان). ¬
ومن ذلك استصحاب الحال
وذلك أن الأصل في هذا المريض أنه حي، فنحن نبقى على هذا الأصل حتى نجزم بزواله. * ومن ذلك استصحاب الحال: ووجهه أن حالة المريض قبل موت الدماغ متفق على اعتباره حيًا فيها فنحن نستصحب الحكم الموجود فيها إلى هذه الحالة التي اختلفنا فيها ونقول: إنه حي لبقاء نبضه. * ومن ذلك الاحتجاج بسد الذريعة، فإن فتح هذا الباب سيؤدي إلى مفاسد كبيرة، كما نسمع عن خطف الأطفال الصغار في بعض البلاد، ثم تقطع أعضاؤهم، وتباع، وقد يتسرع الأطباء في الحكم بموت من مات دماغيًا حرصًا على أعضائه، وقد يسرق الأطباء أعضاء بعض المرضى أثناء إجراء العمليات الجراحية. القول الثالث: هناك قول ثالث يعتبر وسطًا بين القولين: وهو أن من مات دماغيًا فقد استدبر الحياة، وأصبح صالحًا لأن تجرى عليه بعض أحكام الموت، أما بقية أحكام الموت فلا تطبق عليه إلا بعد توقف الأجهزة الرئيسية. وهذا ما أوصى به مؤتمر الطب الإسلامي (¬1). ولا أدري كيف نطبق بعض أحكام الموت دون بعض، وهل الموت يتجزأ، فالإنسان إما حي، وإما ميت، ولا ثالث لهما: أما اعتبار أن يكون حيًا فيما ¬
الراجح من الخلاف
يتعلق ببعض الأحكام، وميتًا فيما يتعلق بأحكام أخرى، فأرى أن هذا القول لا ينضبط فقهيًا، وربما الذي حمل هؤلاء الأطباء على تبني هذا القول اقتناعهم بجواز عملية غرس الأعضاء، لذلك قالوا: الميت دماغيًا صالح لأن تجرى عليه بعض أحكام الموت، ولما كان مثل هذا سوف ينسحب على بقية الأحكام الأخرى، رجعوا فقالوا: ولا تجرى عليه بعض أحكام الموت الأخرى. * الراجح من الخلاف: إذا عرفنا هذا الخلاف نستطيع أن نقول: إن الانتفاع من جثة الميتة لغرض غرس الأعضاء لم يتفق على جوازها، والأصل المنع.
المسألة الثالثة في أكل ميتة الآدمي حال الاضطرار
المسألة الثالثة في أكل ميتة الآدمي حال الاضطرار [م - 279] اختلف الفقهاء في الانتفاع بميتة الآدمي بأكل جزء منها لدفع الهلاك على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يجوز، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، واختاره أكثر الحنابلة (¬3) القول الثاني: يجوز، اختاره ابن عبد السلام من المالكية (¬4)، وهو مذهب الشافعية (¬5)، وقول في مذهب الحنابلة (¬6). القول الثالث: إن كان الميت كافرًا حل أكله، وإن كان مسلمًا لم يحل، وهو وجه في ¬
دليل المانعين من أكل لحم الآدمي.
مذهب الشافعية (¬1). * دليل المانعين من أكل لحم الآدمي. (ح-157) ما رواه الإمام أحمد، حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، قال: قالت لي عمرة: أعطني قطعة من أرضك أدفن فيها، فإني سمعت عائشة تقول: كسر عظم الميت مثل كسر عظم الحي. قال محمد: وكان مولى من أهل المدينة، يحدثه عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ¬
[رجاله ثقات، وقد روي موقوفًا ومرفوعًا، قال البخاري: غير مرفوع أكثر] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأجيب
وأجيب: بأن المراد من الحديث التشبيه في أصل الحرمة، لا في مقدارها، بدليل اختلافهما في الضمان، والقصاص، ووجوب صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت. * دليل القائلين بالجواز: بأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، ولحمه سوف يأكله التراب، فكونه ينقذ به مسلم معصوم، أولى من كونه يأخذه التراب، والدود. ¬
الراجح
* الراجح: الراجح والله أعلم جواز أكل لحم الآدمي عند الضرورة. وإذا ثبت جواز المنفعة من جثة الميت بالتشريح لكشف الجريمة والأمراض الوبائية، وجاز الانتفاع بجثة الميت بالأكل للمضطر، فهل يجوز بذل المال في شراء الجثة لهذا المنافع المباحة؟ فالمباحث السابقة إنما سيقت لبيان أن جثة الميت صالحة للانتفاع بها كالتشريح، ونقل الأعضاء، والأكل عند الاضطرار، فمن احتاج إلى هذه المنافع، فهل يجوز له شراؤه لذلك. وللجواب على ذلك يقال: هناك فرق بين الانتفاع وبين البيع، فليس كل ما يجوز الانتفاع به يجوز بيعه. فهذا الدم لا يجوز بيعه، كما سيأتي بيانه إن شاء الله في فصل مستقل، ويكاد يتفق الفقهاء في هذا العصر على جواز هبته، ونقله من شخص لآخر. وهذا الكلب، لا يجوز بيعه على الصحيح، وهو قول الجمهور كما سيأتي بحثه إن شاء الله تعالى، ومع ذلك يجوز الانتفاع به في الحراسة، والصيد، ونحوها. فالأئمة على تحريم بيع جثة الآدمي: قال العيني: "قال ابن المنذر: فإذا أجمعوا على تحريم بيع الميتة، فبيع جيفة الكافر من أهل الحرب كذلك، وقال شيخنا: استدل بالحديث على أنه لا يجوز بيع ميتة الآدمي مطلقًا سواء فيه المسلم والكافر، أما المسلم فلشرفه وفضله، حتى إنه لا يجوز الانتفاع بشيء من شعره، وجلده، وجميع أجزائه. وأما الكافر فلأن نوفل بن عبد الله بن المغيرة لما اقتحم الخندق، وقتل، غلب المسلمون على جسده، فأراد المشركون أن يشتروه منهم فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا حاجة لنا بجسده، ولا بثمنه فخلى بينهم وبينه.
ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل السير، قال ابن هشام: أعطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجسده عشرة آلاف درهم فيما بلغني عن الزهري. (ح-158) وروى الترمذي من حديث ابن عباس أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين فأبى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعهم ... " (¬1). قلت: حديث ابن عباس: (ح-159) رواه الترمذي (¬2)، والبيهقي (¬3)، من طريق الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين، فأبى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعهم إياه. هذا لفظ الترمذي. ولفظ البيهقي: أن المسلمين أصابوا رجلًا من عظماء المشركين، فسألوهم أن يشتروه، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوا جيفة مشرك. [وهذا حديث ضعيف] (¬4). ¬
وقال القاضي عياض: "وفي تحريم بيع الميتة حجة على منع بيع جثة الكافر إذا قتلناه من الكفار، واقترابهم منا له، وقد امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك في غزوة الخندق، وقد بذلوا له في جسد نوفل بن عبد الله المخزومي عشرة الآف درهم، فيما ذكره ابن هشام، فدفعه إليهم، ولم يقبل ذلك منهم، وقال: لا حاجة لنا بجسده ولا ثمنه، وقد خرج الترمذي في هذا حديثًا نحوه (¬1) ". وقال البخاري في صحيحه: "باب طرح جيف المشركين في البئر، ولا يؤخذ لهم ثمن". ثم ساق البخاري بإسناده عن عبد الله في ذكر قتلى بدر، وطرحهم في القليب (¬2). وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي، ورد فيه: "لا يجوز إخضاع أعضاء الإنسان للبيع بحال ما، أما بذل المال من المستفيد ابتغاء الحصول على العضو المطلوب عند الضرورة، أو مكافأة، فمحل اجتهاد ونظر" (¬3). فهنا فرقوا بين البائع والباذل، فجزموا بالتحريم في حق البائع، وفتحوا الاجتهاد في مسألة المشتري أو ما سموه المستفيد. والباذل إذا لم يمكن أن يدفع الضرر عنه إلا عن طريق الشراء فهو مضطر لذلك، والإثم على من ألجأه إلى ذلك. وجاءت فتوى من لجنة الإفتاء في الأردن حول جواز نقل الأعضاء البشرية من إنسان لآخر تبرعًا، وتضمنت الفتوى تحريم البيع، حيث جاء فيها: "لا يجوز أن يتم التبرع مقابل بدل مادي، أو بقصد الربح" (¬4). ¬
ونقل الإجماع على تحريم البيع بعض أهل العلم. ففى مجلة مجمع الفقه الإسلامى: "وقد أجمع الفقهاء على عدم جواز بيع الأعضاء من الحر" (¬1). ¬
المبحث الثاني خلاف العلماء في بيع الكلب
المبحث الثاني خلاف العلماء في بيع الكلب [م - 280] اختلف العلماء في حكم بيع الكلب على ثلاثة أقوال: القول الأول: يجوز بيعه مطلقًا، وهو مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: لا يجوز مطلقًا، وهو مذهب الجمهور (¬2). القول الثالث: يجوز بيع الكلب المأذون باتخاذه، ككلب الصيد والحراسة ونحوهما، ولا يجوز بيع الكلب المنهي عن اتخاذه، اختاره بعض المالكية (¬3). وقد ورد النهي عن ثمن الكلب في أحاديث في الصحيحين، واختلف موقف الفقهاء منها، فمنهم من أخذ بها، ورأى أن علة النهي هي النجاسة كالجمهور. ومنهم من رأى أن الكلاب طاهرة، ورأى أن علة النهي عن ثمنها مرتبط ¬
دليل من قال: يجوز بيع الكلب.
بالنهي عن اقتنائها، فما أبيح اقتناؤه يجوز الانتفاع به، وبيعه، وما لا يجوز اقتناؤه لا يجوز بيعه. وهذا اختاره بعض المالكية. ومنهم من ذهب إلى أن أحاديث النهي عن ثمن الكلب منسوخة بأحاديث النهي عن قتلها في آخر الأمر، وإباحة الانتفاع بالمعلم منها دليل على النسخ، وبالتالي أجاز بيعها مطلقًا، المعلم منها وغيره، وهذا مذهب الحنفية، وإليك بيان أدلة كل قول، والله أعلم. * دليل من قال: يجوز بيع الكلب. قالوا: "إن الكلب مال (¬1)، فكان محلًا للبيع ... والدليل على أنه مال، أنه منتفع به حقيقة، مباح الانتفاع به شرعًا كلى الإطلاق، فكان مالًا ... والدليل على أنه مباح الانتفاع به شرعًا على الإطلاق، أن الانتفاع به بجهة الحراسة، والاصطياد مطلق شرعا في الأحوال كلها، فكان محلا للبيع ... " (¬2). ويناقش: هناك خلاف بين الحنفية والجمهور في حقيقة المال، وقد فصلت ذلك في أول الكتاب، فالحنفية لا يشترطون في المال الطهارة، ولذا يبيحون بيع السرجين النجس، ولا يشترطون في المال إباحة الانتفاع فيعتبرون الخمر مالًا، لكنهم يقسمون المال إلى متقوم وغير متقوم، بينما الجمهور يشترطون في المال أن يكون طاهرًا ذا منفعة مباحة، انظر مبحث تعريف المال. وفي مسألة بيع الكلب؛ ليس العلة في المنع عن البيع فيما أرى النجاسة، وإنما العلة أن الكلب قد نهينا عن اقتنائه لغير حاجة، ومن اتخذه لغير حاجة ¬
دليل الجمهور على تحريم بيع الكلب
نقص ذلك من أجره كما جاء في الحديث الصحيح، وهذا يدل على تحريم الاقتناء من غير حاجة، بخلاف سائر النجاسات، فإنها تملك ولو لغير حاجة، ولأن تعليل الحنفية نظر في مقابل النص، والنصوص صحيحة صريحة في النهي عن ثمن الكلب، سواء أطلق عليه الحنفية مالًا، أو ليس بمال. * دليل الجمهور على تحريم بيع الكلب: الدليل الأول: (ح-160) ما رواه البخاري في صحيحه من طريق شعبة، عن عون بن أبي جحيفة، قال: رأيت أبي اشترى عبدًا حجامًا، فأمر بمحاجمه، فكسرت، فسألته، فقال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب، وعن ثمن الدم ... الحديث (¬1). وجه الاستدلال: فقوله: (نهى عن ثمن الكلب) الكلب مطلق، يشمل المعلم وغير المعلم، وما يجوز اقتناؤه، وما لا يجوز، فمن قيده بالكلب غير المعلم، أو الكلب الذي لا يجوز اقتناؤه فعليه الدليل من الشرع المخصص لهذا الإطلاق، فما أطلقه الشارع لا يقيده إلا نص منه. الدليل الثاني: (ح-161) ما رواه البخاري ومسلم من طريق ابن شهاب، عن أبي بكر ابن عبد الرحمن، عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن (¬2). ¬
فقرن النهي عن ثمن الكلب بالنهي عن مهر البغي، وحلوان الكاهن، وهما محرمان إجماعًا، فدل على أن النهي للتحريم. قال ابن عبد البر: "لا خلاف بين علماء المسلمين في أن مهر البغي حرام ... والبغي الزانية: والبغاء: الزنى، قال الله - عز وجل -: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] ... وكذلك لا خلاف في حلوان الكاهن: أنه ما يعطاه على كهانته، وذلك كله من أكل المال بالباطل" (¬1). قلت: الاستدلال بالنهي أولى، لأن الأصل في النهي التحريم، وأما دلالة الاقتران فهي دلالة ضعيفة، ولذلك قرن الرسول - صلى الله عليه وسلم - النهي عن ثمن الكلب بالنهي عن كسب الحجام، والأول حرام، والثاني مكروه. يقول القرطبي في المفهم: "فإن قيل: فقد سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ثمن الكلب، وبين مهر البغي، وحلوان الكاهن، وهما محرمان بالإجماع، فليكن ثمن الكلب كذلك. فالجواب: إنا كذلك نقول، لكنه محمول على الكلب الغير مأذون فيه، ولئن سلمنا أنه متناول للكل، لكن هذا النهي ها هنا قصد به القدر المشترك الذي بين التحريم والكراهة، إذ كل واحد منهما منهي عنه، ثم تؤخذ خصوصية كل واحد منهما من دليل آخر، كما قد اتفق هنا، فإنا إنما علمنا تحريم مهر البغي وحلوان الكاهن بالإجماع، لا بمجرد النهي ... ثم استدل على ذلك بحديث رافع ابن خديج: شر الكسب مهر البغي، وثمن الكلب، وكسب الحجام" فشرك بالعطف بين مهر البغي وثمن الكلب، وكسب الحجام في (شر الكسب) مع ¬
الدليل الثالث
اختلاف الحكم بين مهر البغي، وكسب الحجام، وهذا مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "شر صفوف النساء أولها ... " (¬1). الدليل الثالث: (ح-162) ما رواه مسلم في صحيحه من طريق يحيى بن أبي كثير، حدثني إبراهيم بن قارظ، عن السائب بن يزيد، حدثني رافع بن خديج عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث (¬2). ناقش الحنفية هذه الأدلة: بأن كلب الصيد كان مما أمر بقتله في أول الأمر، فكان بيعه في ذلك الوقت والانتفاع به حرامًا، وكان قاتله مؤديًا للفرض عليه، فلا يحل لأحد إمساك شيء منها، وإذا كان ذلك كذلك لم يكن بيعها حينئذ جائزًا، ولا ثمنها بحلال (¬3). واحتجوا لذلك: (ح-163) بما رواه الشيخان من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب (¬4). ورواه مسلم من طريق عبيد الله، عن نافع به، بلفظ: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب، فأرسل في أقطار المدينة أن تقتل (¬5). ¬
ويجاب عن ذلك
ثم نسخ ذلك: (ح-164) بما رواه مسلم من طريق شعبة، عن أبي التياح، سمع مطرف ابن عبد الله، عن ابن المغفل، قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب، ثم رخص في كلب الصيد، وكلب الغنم (¬1). (ح-165) وروى مسلم من طريق ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها، فنقتله، ثم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتلها، وقال: عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين، فإنه شيطان (¬2). فلما نسخ النهي ذلك، وأبيح الاصطياد به، كان كسائر الجوارح في جواز بيعه، ألا ترى الحمار الأهلي، قد نهي عن أكله، وأبيح كسبه، والانتفاع به، فكان بيعه حلالًا، وثمنه حلالًا، فما روي من حرمة ثمن الكلاب كان ذلك وقت حرمة الانتفاع بها، وما روي في إباحة الانتفاع بها دليل على حل ثمنها (¬3). ويجاب عن ذلك: بأن الحمير يباح الانتفاع بها مطلقًا، وليس ذلك جائزًا في الكلاب. (ح-166) فقد روى مسلم من طريق حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو كلب غنم، أو ماشية (¬4). ¬
(ح-167) وروى البخاري ومسلم من طريق حنضلة بن أبي سفيان، قال: سمعت سالمًا يقول: سمعت عبد الله بن عمر يقول: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من اقتنى كلبًا إلا كلبًا ضاريًا لصيد، أو كلب ماشية، فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان (¬1). والمتأمل لحديث عبد الله بن مغفل يبين خطأ ما ذهب إليه الحنفية عليهم رحمة الله، فالحديث نصه: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب، ثم رخص في كلب الصيد، وكلب الغنم (¬2). فالحديث اشتمل على ثلاث جمل. الجملة الأولى: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب. الجملة الثانية: ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب. الجملة الثالثة: ثم رخص لهم في كلب الصيد وكلب الغنم. فقوله: (ثم رخص) يستفاد منها فائدتان: الأول التعبير بـ (ثم) الدالة على الترتيب، وأن ذلك كان متأخرًا. وقوله: (رخص) في مقابل المنع، وأن الكف عن قتل الكلب على القول به، لم ينسخ النهي عن الاقتناء، لأن قوله: (رخص في كلب الصيد) معنى ذلك أن غيره ليس فيه رخصة، وأنه منهي عن اقتنائه حتى بعد الكف عن قتلها. وقال ابن القيم بعد أن ذكر حديث عبد الله بن مغفل، قال: "دل على أن الرخصة في كلب الصيد والغنم وقعت بعد الأمر بقتل الكلاب، فالكلب الذي أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اقتنائه، هو الذي حرم ثمنه، وأخبر أنه خبيث، دون ¬
دليل من قال: يجوز بيع الكلب إذا كان مما يحل اقتناؤه.
الكلب الذي أمر بقتله، فإن المأمور بقتله غير مستبقى حتى تحتاج الأمة إلى بيان حكم ثمنه، ولم تجر العادة ببيعه وشرائه، بخلاف الكلب المأذون في اقتنائه، فإن الحاجة داعية إلى بيان حكم ثمنه، أولى من حاجتهم إلى بيان ما لم تجر عادتهم ببيعه، بل قد أمروا بقتله" (¬1). وقال نحوه ابن عبد البر، حيث يقول في كتابه الاستذكار: "إذا كان غير الضاري من الكلاب مأمورًا بقتله، فإنما وقع النهي عن ثمن الكلب المباح اتخاذه، لا المأمور بقتله؛ لأن المأمور بقتله معدوم، ولأنه محال ألا يطاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أمر به من قتله" (¬2). * دليل من قال: يجوز بيع الكلب إذا كان مما يحل اقتناؤه. (ح-168) استدلوا بما رواه النسائي من طريق حجاج بن محمد، عن حماد ابن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن السنور والكلب إلا كلب صيد (¬3). [قال النسائي: حديث حجاج، عن حماد بن سلمة ليس هو بصحيح، وقال مرة: هذا منكر] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-169) ما رواه الدارقطني من طريق عبيد بن محمد الصنعاني، عن محمد بن عمر ابن أبي مسلم، عن محمد بن مصعب الصنعاني، عن نافع بن عمر، عن الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح، عن عمه عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاث كلهن سحت، كسب الحجام، ومهر البغي، وثمن الكلب إلا كلبًا ضاربًا. [الحديث متنه منكر] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: قال القرطبي: "لما لم يكن الكلب عنده نجسًا -يعني مالكًا- وكان مأذونًا في اتخاذه لمنافعه الجائزة كان حكمة حكم جميع المبيعات، لكن الشرع نهى عن بيعه تنزيهًا؛ لأنه ليس من مكارم الأخلاق" (¬1). ويناقش: بأن الراجح أن الكلب نجس، وقد بينت ذلك في كتابي موسوعة أحكام الطهارة، وقدمت الأدلة على نجاسة عينه، ونجاسة الماء الذي يلغ فيه إذا كان في إناء ونحوه، وأن ولوغه في ماء الإناء لا ينجس الماء فحسب، بل ينجس حتى الإناء، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب .. " (¬2). ¬
الراجح
* الراجح: بعد استعراض الأدلة أجد أسعد الأقوال من قال: لا يجوز بيع الكلب، ويجوز اقتناء كلب الصيد ونحوه مما يحتاج إليه، ولو احتاج الإنسان إلى كلب حراسة ونحوه، ولم يجد أحدًا يبذله له إلا بالبيع، فإنه يجوز شراؤه بعد أن ينصح بائعه، والإثم على البائع، وإذا كان الإنسان لا يصل إلى حقه إلا عن طريق الشراء فالإثم على من ألجأه إلى ذلك، والله أعلم.
المبحث الثالث في تحريم بيع الخمر
المبحث الثالث في تحريم بيع الخمر [م - 281] يحرم بيع الخمر بالإجماع. قال القرطبي: "أجمع المسلمون على تحريم بيع الخمر ... " (¬1) وقال ابن مفلح: "بيع الخمر وشراؤه باطل إجماعًا" (¬2). وقال ابن المنذر: "أجمعوا على أن بيع الخمر غير جائز" (¬3). وحكى الإجماع الغزالي في الوسيط (¬4)، وغيره (¬5). ¬
فرع في قبض المسلم ثمن الخمر من الذمي وأكله
فرع في قبض المسلم ثمن الخمر من الذمي وأكله [م - 282] إذا باع النصراني خمرًا، ثم قضى من ثمنه دينًا لمسلم، فهل للمسلم أن يقبض ثمن الخمر، ويأكله، أو يحرم عليه؟ اختلف في ذلك: فقيل: يجوز له قبض ثمنه، وهو مذهب الحنفية (¬1). وعللوا ذلك: بأن الخمر في حق الذمي مال متقوم، فملك ثمنها، فصح قضاء الدين منه. واستدل الجصاص على كون الخمر مالًا في حق الذمي، بقوله: "لا نعلم خلافًا بين الفقهاء فيمن استهلك لذمي خمرًا أن عليه قيمتها" (¬2). وسبق لنا تحرير الخلاف في هذه المسألة، وأن المسألة خلافية فيما لو أتلف مسلم خمرًا لذمي، وأن في المسألة قولين، فارجع إليها إن شئت في باب ضمان المبيع. وعلل ابن تيمية جواز قبض ثمن الخمر بعلة أخرى، وهي أوجه من علة وجوب الضمان على متلفه. قال ابن تيمية: "ما قبض بتأويل، فإنه يسوغ للمسلم أن يشتريه ممن قبضه، وإن كان المشتري يعتقد أن ذلك العقد محرم، كالذمي إذا باع خمرًا، وأخذ ثمنه، جاز للمسلم أن يعامله في ذلك الثمن، وإن كان المسلم لا يجوز له بيع ¬
الراجح
الخمر، كما قال عمر بن الخطاب: ولوهم بيعها، وخذوا أثمانها، وهذا سببه أن بعض عماله أخذ خمرًا في الجزية، وباع الخمر لأهل الذمة، فبلغ ذلك عمر، فأنكر عمر ذلك، وقال: ولوهم بيعها وخذوا أثمانها، وهذا ثابت عن عمر، وهو مذهب الأئمة، وهكذا من عامل معاملة يعتقد جوازها، في مذهبه، وقبض المال جاز لغيره أن يشتري ذلك المال منه، وإن كان لا يرى جواز تلك المعاملة" (¬1). وقيل: لا يجوز، وهو مذهب الشافعية (¬2). واستدلوا بأن الذي حرمها حرم أكل ثمنها. (ح-170) فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح وهو بمكه، إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ... الحديث، وفيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها، جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه (¬3). فإذا كان الحرام لا يجوز أكله، فكذلك ثمن الحرام حرام. * الراجح: جواز أكله ما دام أن البائع يعتقد أن المبيع لا يحرم عليه، وهكذا الشأن في جميع المسائل الخلافية، فلو كان الإنسان يرى أن وضوءه يبطل بأكل لحم الجزور وصلى خلف إنسان يعتقد صحة صلاته، وقد أكل لحم جزور صحت صلاته على الصحيح، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في بيع الدم
المبحث الرابع في بيع الدم [م - 283] يحرم على الإنسان شرب الدم، قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]. [م - 284] واختلف الفقهاء في طهارة الدم، فذهب عامة الفقهاء إلى نجاسته، وذهب بعض المجتهدين إلى طهارته، وهو الصحيح، وقد سبق بحث المسألة في كتابي موسوعة أحكام الطهارة مفصلًا، فأرجع إليه إن شئت. [م - 285] وقد استقرت فتوى أهل العلم على جواز نقل الدم من شخص إلى آخر (¬1)، وتم بواسطة نقل الدم إنقاذ حياة ملايين من الناس ممن يتعرضون للحوادث بشكل يومي، أو كانت حاجتهم إلى الدم نتيجة عمليات جراحية أو بسبب ولادة ونحوها، وأجابوا عن النهي عن التداوي بالحرام، بأن نقل الدم إما أن يخرج على أنه من باب الغذاء، لا الدواء، وهذا يشكل عليه أنه قد نهي عن تناول الدم كطعام، أو أنه داخل في جواز تناول المضطر للحرام، لإنقاذ نفسه من الهلكة، ويكون داخلًا في عموم قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} إلى قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]. وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} إلى قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]. ¬
ومستند الإجماع
[م - 286] وإذا كان الراجح في الدم طهارته، وجواز الانتفاع به في حال الاضطرار بنقله من شخص لآخر فهل يجوز بيعه؟ وقد نقل الإجماع على تحريم ثمن الدم ابن المنذر (¬1)، وابن عبد البر (¬2)، وابن حجر (¬3)، وغيرهم. وقال ابن قدامة: "ولا يجوز بيع الخنزير، ولا الميتة، ولا الدم، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول به" (¬4). ومستند الإجماع: (ح- 171) ما رواه البخاري في صحيحه من طريق شعبة، عن عون بن أبي جحيفة، قال: رأيت أبي اشترى عبدًا حجامًا، فأمر بمحاجمه، فكسرت، فسألته، فقال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب، وعن ثمن الدم ... الحديث (¬5). [م - 287] وقد اختلف في المراد بالنهي عن ثمن الدم: فقيل: المراد بالنهي عن ثمن الدم النهي عن أخذ أجرة الحجامة، ثم اختلفوا هل النهي للكراهة، أو أنه قد نسخ، وسيأتي الكلام على كسب الحجام إن شاء الله تعالى (¬6). وقد رد هذا التفسير ابن عبد البر في التمهيد، فقال: "نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الدم ليس من أجرة الحجام في شيء، وإنما هو كنهيه عن ثمن الكلب، وثمن الخمر، ¬
والخنزير، وثمن الميتة ونحو ذلك، ولما لم يكن نهيه عن ثمن الكلب تحريمًا لصيده، كذلك ليس تحريم الدم تحريمًا لأجرة الحجام؛ لأنه إنما أخذ أجرة تعبه وعمله" (¬1). وقيل: المراد بالنهي عن ثمن الدم النهي عن بيع الدم، وهو السائل المعروف (¬2). والنهي عن بيعه إما لنجاسته عند من يحرم بيع كل شيء نجس كالمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). وإما لأن الدم ليس بمال عند من يجيز بيع النجس إذا جرى تموله والانتفاع به كالحنفية (¬6). أو لأن الآدمي محترم، وبيعه فيه ابتذال له، وإهانة لكرامته، كما علل الحنفية تحريمهم لبيع عظم الآدمي، مع القول بطهارته (¬7). أو لأن الشارع إذا حرم على قوم أكل شيء، حرم عليهم ثمنه. ويستثنى من النهي عن بيع الدم ما استثني من تحريم أكله، وهو الكبد والطحال. ¬
لحديث ابن عمر: "أحلت لنا ميتتان ودمان ... " وسبق تخريجه (¬1). والمقصود من غير الآدمي. ¬
المبحث الخامس في بيع العذرة
المبحث الخامس في بيع العذرة [م - 288] اختلف العلماء في حكم بيع العذرة (رجيع الآدمي)، فقيل: بالمنع مطلقًا، وعليه أكثر المالكية (¬1)، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: بالجواز مطلقًا، وهو اختيار ابن الماجشون من المالكية (¬4)، وابن حزم (¬5). وقيل: يكره بيعها، وهو اختيار أبي الحسن، واللخمي من المالكية (¬6). وقيل: بالتفصيل: فقيل: إن كانت مخلوطة بالتراب، وكان التراب غالبًا عليها فيجوز بيعها، وهو مذهب الحنفية (¬7). ¬
وقيل: يجوز بيعها في حال الاضطرار، ولا يجوز مع عدمه، وهو اختيار أشهب من المالكية (¬1). هذا ملخص أقوال أهل العلم في بيع العذرة. ومدار المسألة وأدلتها على مسألة تقدم بحثها، وذكرنا أدلتها بالتفصيل، وهي: هل يشترط أن يكون المعقود عليه من مبيع، أو ثمن طاهرًا، أو لا يشترط؟ فمن اشترط الطهارة، وهم الجمهور قالوا: لا يجوز بيع العذرة؛ لأنها نجسة بالإجماع، وطردوا المنع في بيع في كل عين نجسة، كالميتة، والدم. وسبق ذكر جميع أدلتهم على اشتراط الطهارة في المعقود عليه، فأغنى عن إعادته هنا. ومن لا يرى الطهارة بالاستحالة يرى أن تسميد الحرث والزرع بها يكون سببًا في نجاسة الثمار، والحبوب إذا سقيت بالنجاسة. وسبق لي في كتاب المياه والنجاسات من أحكام الطهارة ذكر خلاف أهل العلم في الطهارة بالاستحالة، وأن الراجح أن العين النجسة إذا استحالت إلى عين طاهرة أخذت حكمها، كما أن العين الطاهرة إذا استحالت إلى نجاسة أصبحت نجسة. ومن قال: لا يشترط في المعقود عليه طهارة عينه، أجاز بيعها إن كان قد جرى تمولها بين المسلمين وأمكن الانتفاع بها. ومنهم من كره بيعها؛ لأنها من الكسب الرديء كما كره التكسب في الحجامة، ولأنه يلزم منها مخالطة النجاسات، وهو مكروه عندهم. ¬
الراجح
ومنهم من رأى أنها إذا استهلكت في التراب، جاز بيعها تبعًا، ومنع بيعها استقلالًا، بناء على القاعدة الفقهية: يجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالًا. * الراجح: إذا كنا رجحنا أن طهارة المعقود عليه ليست بشرط في غير المأكول والمشروب، وكان الانتفاع به ساريًا بين الناس، ولم ينه عن بيعه لذاته كالكلب والميتة، جاز تملكه، وجاز بذله بعوض، هذا ما أميل إليه، وإن ترفع أحد عن بيعه كان أولى.
المبحث السادس في بيع السرجين النجس
المبحث السادس في بيع السرجين النجس [م - 389] اختلف العلماء في بيع السرجين: فقيل: يجوز بيعه مطلقًا، وهو مذهب الحنفية (¬1)، واختيار ابن القاسم من المالكية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). وقيل: لا يجوز بيعه مطلقًا، وهو مذهب الشافعية (¬4). وقيل: يجوز بيع السرجين إذا كان طاهرًا، كما لو كان من حيوان مأكول اللحم، ولا يجوز بيع السرجين النجس، وهذا مذهب المالكية (¬5)، ¬
والحنابلة (¬1). وقيل: يكره بيع السرجين النجس، وهو قول في مذهب المالكية (¬2). ومدار الخلاف بينهم اختلافهم في حكم بيع النجاسات العينية التي لا يمكن تطهيرها بحال، فمن رأى أن طهارة المعقود عليه شرط في صحة البيع منع من بيعها قياسًا على النهي من بيع الميتة، والدم. ومن لم ير الطهارة شرطًا أجاز بيعها، ورأى أن العلة في النهي عن بيع الميتة ليست النجاسة، وإنما انتفاء أن تكون مالًا، واعتبر النجاسة إذا أمكن الانتفاع بها وجرى تمولها أصبحت مالًا يمكن بيعها. وأما من كره بيعها فقد رأى أن ذلك من الكسب الردئ كما نهي عن كسب الحجامة ونحو ذلك. وقد عقدنا فصلًا مستقلًا ذكرنا فيه أدلة القائلين باشتراط الطهارة، في المعقود عليه، فأغنى عن إعادته هنا. ¬
المبحث السابع في بيع الدهون النجسة والمتنجسة
المبحث السابع في بيع الدهون النجسة والمتنجسة الفرق بين الدهون النجسة، والدهون المتنجسة: الدهون النجسة: ما كانت عينها نجسة، كشحوم الميتة ونحوها. والدهون المتنجسة: هي دهون طاهرة في ذاتها، طرأت عليها النجاسة، فتنجست بها، وسوف نتعرض في حكم بيع كل قسم على وجه التفصيل.
الفرع الأول في بيع الدهون النجسة
الفرع الأول في بيع الدهون النجسة [م - 290] الأدهان النجسة لا يجوز بيعها، وهو مذهب الأئمة، وحكي إجماعًا، وإن كان العلماء قد اختلفوا في جواز الانتفاع بها، وسيأتي الكلام على الانتفاع إن شاء الله تعالى. قال ابن عابدين: "لا يجوز بيعها اتفاقًا" -يعني: دهن الميتة- وعلل ذلك بقوله: "لأنه جزؤها، فلا يكون مالًا" (¬1). وقال النووي: "الدهن النجس ضربان: ضرب نجس العين، كودك الميتة، فلا يجوز بيعه بلا خلاف، ولا يطهر بالغسل" (¬2). وفي مذهب الحنابلة قول بجواز بيعها، وهو شاذ. قال في الإنصاف: "لا يجوز الاستصباح بشحوم الميتة ... واختار الشيخ تقي الدين جواز الانتفاع بالنجاسات ... ويتخرج على ذلك جواز بيعها، أن المصنف وغيره خرجوا جواز البيع من رواية جواز الاستصباح بها" (¬3). (ح-172) ومستند الإجماع ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح وهو بمكة، إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة؛ فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: ¬
وجه الشاهد منه
لا، هو حرام، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها، جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه (¬1). (ح-173) وما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة وقعت في سمن، فقال: ألقوها وما حولها فاطرحوه، وكلوا سمنكم (¬2). وجه الشاهد منه: حيث أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطرح ما حول الفأرة لتنجسه، ولو كان مالًا لما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بطرحه. فإن قيل: لماذا لم يأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالانتفاع به في غير الأكل، حيث ذهب بعض أهل العلم إلى جواز الانتفاع بشحوم الميتة بدهن السفن، وطلي الجلود، والاستصباح مثلًا. فيقال: أكثر أهل العلم على تحريم الانتفاع بشحوم الميتة، وهو رأي مرجوح، وسبق الجواب عليه، وقد يقال في الجواب على الإشكال الوارد أن ما حول الفأرة لا يبلغ من الكمية ما يمكن الانتفاع به، فأمر بطرحه لزهادته، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني في بيع الأدهان المتنجسة
الفرع الثاني في بيع الأدهان المتنجسة [م - 291] اختلف العلماء في حكم بيع الأدهان المتنجسة على قولين: القول الأول: يجوز بيعها إذا بين ذلك، وهو مذهب الحنفية (¬1)، واختاره بعض المالكية (¬2)، وقول عند الشافعية (¬3). ونسب هذا القول لأبي موسى الأشعري والليث بن سعد، والقاسم وسالم (¬4). القول الثاني: لا يجوز بيعها، وهو قول الجمهور (¬5). * دليل من قال: لا يجوز بيع الأدهان المتنجسة. الدليل الأول: (ح-174) ما رواه أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن ¬
الدليل الثاني
سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفأرة تقع في السمن، فقال: إن كان جامدًا، فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه (¬1). [أخطأ فيه معمر في إسناده ومتنه، والمحفوظ منه: (ألقوها وما حولها وكلوه)] (¬2). الدليل الثاني: القياس على الأدهان النجسة، فإذا كانت الأدهان النجسة لا يصح بيعها، فكذلك المتنجسة بجامع أن كلا منهما لا يمكن تطهيره. الدليل الثالث: ما ذكرناه من الأدلة على اشتراط طهارة المعقود عليه يصح أن يكون دليلًا في المسألة، ومن ذلك النهي عن بيع الميتة، والخنزير، والخمر، والدم لنجاسة هذه الأعيان. * دليل من قال: يجوز بيع الأدهان المتنجسة. الدليل الأول: لا يوجد دليل من الشارع ينهى عن بيع الشيء النجس، وإنما وجد النهي عن بيع شحوم الميتة، وهذا الدليل أخص من المدلول؛ لأن المقصود الأعظم من شحوم الميتة هي الأكل، فحرم بيعها لتحريم أكلها، وهذا لا يعني النهي عن بيع كل شيء نجس، فهناك من الأعيان ما هو نجس، ويجوز بيعه، وذلك مثل سباع ¬
الدليل الثاني
البهائم التي تصلح للصيد، فكذلك الزيت الطاهر الذي طرأت عليه نجاسة، وكان يمكن الانتفاع به في غير الأكل لا يمنع من بيعه لوجود منافعه. الدليل الثاني: أن نجاسة الزيت الطاهر نجاسة مجاورة، والعقد يقع على العين، والعين طاهرة، ومجاورة النجاسة لا تمنع جواز البيع كالثوب المتنجس إذا بيع (¬1). الدليل الثالث: (ح-175) استدلوا بما رواه البخاري من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة وقعت في سمن، فقال: ألقوها وما حولها فاطرحوه، وكلوا سمنكم (¬2). فأجابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - جوابًا عامًا مطلقًا، بأن يلقوها وما حولها، وأن يأكلوا سمنهم، ولم يستفصلهم، هل كان مائعًا، أو جامدًا، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال، مع أن الغالب في سمن الحجاز أن يكون ذائبًا لشدة الحرارة، والغالب على السمن، ألا يبلغ قلتين، مع أنه لم يستفصل، هل كان قليلًا أو كثيرًا؟ الدليل الرابع: [م - 292] القول بأنه لا يمكن تطهير الدهن المتنجس فيه نظر، وقد اختلف العلماء في إمكان تطهير المائعات من غير الماء إذا وقعت فيه نجاسة: فقيل: يمكن تطهير جميع المائعات إذا وقعت فيها نجاسة، وهو مذهب ¬
الراجح
الحنفية (¬1)، واختاره ابن القاسم وابن العربي من المالكية (¬2)، وابن سريج من الشافعية (¬3). وقيل: لا يطهر البتة، وهو مذهب الجمهور من المالكية (¬4) والشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). وقيل: يمكن تطهير الزيت، ولا يمكن تطهير غيره من المائعات؛ وذلك لأن الماء لا يخالط الزيت بخلاف غيره، وهو قول في مذهب المالكية (¬7)، والحنابلة (¬8). وقد ذكرت أدلة الأقوال في كتابي موسوعة أحكام الطهارة، فأغنى عن إعادته هنا (¬9). * الراجح: بعد ذكر الخلاف الذي يظهر لي جواز بيع الدهون المتنجسة، قال ابن رشد رحمه الله: "المشهور عن مالك، المعلوم من مذهبه في المدونة وغيرها: أن ¬
بيعه لا يجوز، والأظهر في القياس أن بيعه جائز ممن لا يغش به، إذا بين؛ لأن تنجيسه بسقوط النجاسة فيه لا يسقط ملك ربه عنه، ولا يذهب جملة المنافع منه، ولا يجوز أن يتلف عليه، فجاز له أن يبيعه ممن يصرفه فيما كان له هو أن يصرفه فيه، وهذا في الزيت على مذهب من لا يجيز غسله، وأما على مذهب من يجيز غسله، وروي ذلك عن مالك، فسبيله في البيع سبيل الثوب المتنجس" (¬1). ويدخل في ذلك بيع ماء المجاري، جاء في شرح ميارة: "ومما تدعو الضرورة إليه مع الاتفاق على نجاسته الماء المتغير بالنجاسة كالمجتمع من المراحيض، وقياسه على الزبل في الترخص في جواز بيعه أحرى، والله أعلم" (¬2). وإن كان ماء المجاري يمكن معالجته وتطهيره، ولكن لو أراد أن يستفيد منه على حالته، واحتاج إليه، ولم يقم غيره مقامه، جاز له شراؤه، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث في الانتفاع بالدهن النجس والمتنجس
الفرع الثالث في الانتفاع بالدهن النجس والمتنجس [م - 293] اختلف العلماء في الانتفاع بالدهن النجس والمتنجس فيما عدا الأكل، والبيع على قولين: القول الأول: لا يجوز الانتفاع بالدهن النجس، ويجوز الانتفاع بالدهن المتنجس، وهذا مذهب الجمهور (¬1). القول الثاني: يجوز الانتفاع بالدهن النجس والمتنجس، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله (¬2)، واختاره من المالكية أبو العباس القرطبي (¬3)، ومن الحنابلة ابن تيمية (¬4). ¬
دليل من قال: يجوز الانتفاع بالدهن نجسا كان أو متنجسا.
* دليل من قال: يجوز الانتفاع بالدهن نجسًا كان أو متنجسًا. الدليل الأول: (ح-176) ما رواه الشيخان من حديث ابن عباس في شاة ميمونة، بلفظ: هلا انتفعتم بإهابها، قالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها (¬1). فأباح الانتفاع، ومنع من الأكل. الدليل الثاني: استدل الخطابي على جواز الانتفاع بإجماعهم على أن من ماتت له دابة، ساغ له إطعامها لكلاب الصيد، فكذلك يسوغ دهن السفينة بشحم الميتة، ولا فرق (¬2). * دليل من فرق بين الدهن النجس والمتنجس. أما الأدلة على تحريم الانتفاع بالدهن النجس فمنها: الدليل الأول: (ح- 177) وما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن عبيد الله ابن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة وقعت في سمن، فقال: ألقوها وما حولها فاطرحوه، وكلوا سمنكم (¬3). وجه الشاهد منه: حيث أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطرح ما حول الفأرة لتنجسه، ولم يأمر بالانتفاع به. ¬
ويجاب عن ذلك
ويجاب عن ذلك: أن ما حول الفأرة لا يبلغ من الكمية ما يمكن الانتفاع به، فأمر بطرحه لزهادته، والله أعلم. الدليل الثاني: (ح-178) ما رواه البخاري، ومسلم في صحيحيهما من طريق الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح وهو بمكة، إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة؛ فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام ... الحديث (¬1). وجه الاستدلال: قالوا: لا هو حرام: أي الانتفاع، فقال: يحرم الانتفاع بالميتة إلا ما خصصتة السنة من الانتفاع بالجلد بعد الدبغ، ويبقى سائر أجزاء الميتة ومنه الشحم على النهي عن الانتفاع به. قال ابن حجر: "وهو قول أكثر العلماء، فلا ينتفع من الميتة أصلًا عندهم إلا ما خص بالدليل، وهو الجلد المدبوغ" (¬2). وأجيب: بأن قوله: هو حرام راجع إلى البيع، وهذا ما ذهب إليه الشافعية، وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما نهى عن بيع الميتة، قال رجل: أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى ¬
بها السفن ويدهن بها الجلود .. الخ أي فهل يحل بيعها لما ذكر من المنافع؛ فإنه مقتضية لصحة البيع، فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا هو حرام، أي البيع، فكأنهم قالوا: أرأيت شحوم الميتة، فهل يجوز بيعها؛ لأنها تطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، فقال: لا هو حرام، فهذه المنافع، وإن كانت جائزة، فليست مسوغة لجواز بيعها. قال النووي: "والضمير في (هو) يعود إلى البيع لا إلى الانتفاع، هذا هو الصحيح عند الشافعي وأصحابه ... وبهذا قال أيضًا عطاء بن أبي رباح، ومحمد ابن جرير الطبري" (¬1). ورجح ذلك ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى (¬2). ويدل له ما نقله الحافظ في الفتح، ونسبه إلى مسند أحمد، قال الحافظ: "قال أحمد: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، عن عبد الحميد بن جعفر، أخبرني يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح: إن الله حرم بيع الخنازير وبيع الميتة، وبيع الخمر، وبيع الأصنام. قال رجل: يا رسول الله فما ترى في بيع شحوم الميتة؛ فإنها تدهن بها السفن والجلود، ويستصبح بها، فقال: قاتل الله يهود ... وذكر الحديث (¬3). [لفظ "فما ترى في بيع شحوم الميتة" غير محفوظ، والمحفوظ "فما ترى في شحوم الميتة"] (¬4). ¬
ولكن قوله - صلى الله عليه وسلم -: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحوم الميتة جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه، مشعر بأن النهي عن البيع؛ لأن من نهي عن أكل شيء، ثم باعه، فأكل ثمنه، كأنه أكل ما نهي عنه، مثله في ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، فالوعيد يدخل فيه من باع مال اليتيم ثم أكل ثمنه، فيكون قوله: لا هو حرام، أي لا تبيعوا الميتة، فتأكلوا ثمنها كما باع اليهود شحوم الميتة، فإنكم بهذا بمنزلة من أكل الميتة. ¬
ويدل لذلك أيضًا: (ح-179) ما رواه أحمد من طريق هشيم، أخبرنا خالد الحذاء، عن بركة ابن العريان المجاشعي، قال: سمعت ابن عباس يحدث، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فباعوها، وأكلوا أثمانها، وإن الله جل وعلا إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). فنص على أن التحريم للشحوم إنما هو في مباشرة الأكل، وتحريم أكل الثمن في البيع، وليس في الانتفاع بغيرهما. وأما الأدلة على الانتفاع بالدهن المتنجس: (ح-180) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، أن جرًا لآل ابن عمر، فيه عشرون فرقا من سمن ¬
الدليل الثالث
أو زيادة، وقعت فيه فأرة، فماتت، فأمرهم ابن عمر أن يستصبحوا به (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثاني: ولأن عينه ليست نجسة، وإنما نجاسته نجاسة مجاورة، فلم يمنع الانتفاع به. الدليل الثالث: ولأن الدهن المتنجس ليس دهن ميتة، ولا هو من شحومها، فلم يتناوله حديث جابر بالنهي عن شحوم الميتة، وقد أمكن الانتفاع به من غير ضرر، فجاز كالطاهر. * الراجح من الخلاف: الذي يظهر لي، والله أعلم، أن القول بالانتفاع من الدهن النجس والمتنجس، هو القول الراجح؛ لأن الانتفاع بالنجس على وجه لا يتعدى، ليس في ذلك محذور شرعي، وحتى كراهيته لمخالطة النجاسة، ليس بصواب؛ لأن الإنسان إذا أراد عبادة من شرطها الطهارة، طلب منه التخلي عن النجاسة، وإن لم يكن في عبادة لم يكن في التلبس بالنجاسة مع الحاجة إلى ذلك حرج، ونحن في الاستنجاء ربما باشرنا النجاسة للتخلص منها، ولم يكن في ذلك بأس ما دام الحال سينتهي إلى قطعها عن البدن، فما بالك بالانتفاع بها خارج البدن، وخارج الأكل، والشرب، والبيع. ¬
المبحث الثامن في بيع الأصنام
المبحث الثامن في بيع الأصنام (ح- 181) روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح وهو بمكة، إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة. فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها، جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه (¬1). وجه الاستدلال من الحديث: دل الحديث على تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. قال ابن القيم: "وأما تحريم بيع الأصنام فيستفاد منه تحريم بيع كل آلة متخذة للشرك، على أي وجه كانت، ومن أي نوع كانت، صنمًا، أو وثنًا، أو صليبًا، وكذلك الكتب المشتملة على الشرك، وعبادة غير الله، فهذه كلها يجب إزالتها، وإعدامها، وبيعها ذريعة إلى اقتنائها واتخاذها، فهو أولى بتحريم البيع من كل ما عداها، فإن مفسدة بيعها بحسب مفسدتها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤخر ذكرها لخفة أمرها، ولكنه تدرج من الأسهل إلى ما هو أغلظ، فإن الخمر أحسن حالًا من الميتة، فإنها قد تصير مالًا محترمًا إذا قلبها الله سبحانه وتعالى ابتداء خلًا، أو قلبها الآدمي بصنعته عند طائفة من العلماء .... " (¬2). ¬
وجه التفريق بين الخشب والجوهر
[م - 294] وقد ذهب جماهير العلماء إلى تحريم بيع الأصنام مطلقًا عملًا بالحديث المتفق عليه. وذهب أبو حنيفة، وبعض الشافعية إلى جواز بيعها إذا كان مما يمكن الانتفاع بها بعد كسرها، فإذا أمكن الانتفاع بها فقد وجدت المالية، والتقوم، مما يترتب عليه جواز البيع حينئذ (¬1). وقيل: إن اتخذ من جوهر نفيس صح بيعها، وإن اتخذ من خشب ونحوه فلا، اختاره من الشافعية القاضي حسين، والمتولي، وإمام الحرمين والغزالي (¬2). * وجه التفريق بين الخشب والجوهر: أن الصنعة في الجوهرة تابعة؛ لأنها أقل قيمة. وفي الخشب والحجر، هي الأصل، فلا يضمن. قال ابن المنذر: "في معنى الأصنام: الصور المتخذة من المدر والخشب وشبهها، وكل ما يتخذه الناس مما لا منفعة فيه إلا اللهو المنهي عنه، ولا يجوز بيع شيء منه إلا الأصنام التي تكون من الذهب، والفضة، والحديد، والرصاص، إذا غيرت عما هي عليه، وصارت نقرًا، أو قطعًا، فيجوز بيعها والشراء بها ... " (¬3). قال الصنعاني: "الأولى أن يقال: لا يجوز بيعها، وهي أصنام للنهي، ويجوز بيع كسرها، إذ هي ليست بأصنام، ولا وجه لمنع بيع الأكسار أصلًا" (¬4). ¬
المبحث التاسع في بيع الدمى (لعب الأطفال المجسمة)
المبحث التاسع في بيع الدمى (لعب الأطفال المجسمة) يحتاج الطفل ذكرًا كان أو أنثى إلى اللعب، واللعب بالنسبة إلى الطفل لا يعتبر ضرورة بدنية فحسب، بل هو نوع من التعليم، ويعرف هذا جيدًا من زاول مهنة التعليم في رياض الأطفال، بحيث يستوعب الطفل عن طريق الألعاب المجسمة ما لا يستوعبه عن طريق العبارات المنمقة، ومن ذلك الألعاب بصور مجسمة لحيوانات وآدميين، وقد كانت في السابق تعمل هذه الصور من الخرق، والعهن (الصوف) ثم تطورت بسبب تطور الصناعة، ودخول الآلة في الصناعة، فصارت تصنع من البلاستك، وصارت من الدقة بحيث تحاكي الصور الحية، فما حكم بيع هذه الدمى لهذا الغرض؟ وللإجابة على هذا السؤال نذكر خلاف العلماء المتقدمين في حكم صناعة الصور من العهن والخرق، ثم نذكر كلام المعاصرين في حكمها من البلاستك ونحوها، فمن أباح صناعتها أباح بيعها، ومن منع من صناعتها، فقد منع من بيعها.
الفرع الأول في صناعة الصور من الخرق والرقاع
الفرع الأول في صناعة الصور من الخرق والرقاع [م - 295] اختلف العلماء في حكم صناعة اللعب من الخرق والرقاع على قولين: القول الأول: يجوز، وهو قول في مذهب الحنفية (¬1)، ومذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، وبعض المتأخرين من الحنابلة (¬4)، ورجحه ابن حزم (¬5)، وذكر القاضي عياض بأنه قول الجمهور (¬6). وقال النسائي: باب إباحة الرجل اللعب لزوجته بالبنات (¬7). ¬
القول الثاني
وقال ابن تيمية: يرخص فيه للصغار ما لا يرخص فيه للكبار (¬1). القول الثاني: لا يجوز، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2)، واختاره بعض المالكية (¬3)، وبعض الشافعية (¬4)، وبعض الحنابلة (¬5)، وهو المنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله (¬6). ¬
دليل من قال: يجوز صناعة صور الأطفال.
واعتبر المناوي القول بالمنع قولًا شاذًا (¬1). وروي عن مالك كراهة شرائها، قال القاضي عياض: "وهذا عندي محمول على كراهة الاكتساب بها للبائع، وتنزيه أولي المروءات عن تولي ذلك من بيع وشراء، لا كراهة اللعب بهن" (¬2). * دليل من قال: يجوز صناعة صور الأطفال. الدليل الأول: (ح-182) ما رواه البخاري ومسلم من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل يتقمعن منه، فيسربهن إلى فيلعبن معي (¬3). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قولها: "كنت ألعب بالبنات" وقد اطلع الرسول - صلى الله عليه وسلم - على وجود هذه الصور، وأقر اللعب بها، فدل على تخصيص لعب الأطفال من عموم النهي من اتخاذ الصور. وأجيب عن ذلك: بأن ذلك كان قبل تحريم الصور، ثم نسخ الأمر بعد ذلك. أو أن قول عائشة: "ألعب بالبنات" أي ألعب مع البنات، فتكون الباء بمعنى مع، فيكون المقصود بالبنات ليست اللعب. ورد هذا الجواب: أما الجواب عن دعوى النسخ، فيقال: إنه لا يصار إلى النسخ إلا عند تعارض الأدلة، ومعرفة المتأخر من المتقدم، لأن في النسخ إبطالًا لأحد الدليلين، بينما في الجمع إعمال لهما، وهنا لم يعرف التاريخ، ولم يتعذر الجمع، بل يحمل الإذن للصغار حديثي السن، ويحمل النهي للكبار، ولذلك: (ح-183) قالت عائشة كما في الصحيحين: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه، وأنا انظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا التي أسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو (¬1). وأما الجواب عن قولهم "كنت ألعب بالبنات" أي بمعنى مع البنات، كما قال ابن مالك: بالباء استعن وعد عوض ألصق ... ومثل مع ومن وعن بها انطق ¬
الدليل الثاني
فيقال: إن هذا مع كونه خلاف الظاهر ترده الألفاظ الأخرى للحديث، ففي صحيح مسلم من طريق جرير، عن هشام به بلفظ: كنت ألعب بالبنات في بيته، وهن اللعب. وروى الحميدي عن سفيان، قال: حدثنا هشام بن عروة به، بلفظ: كنت ألعب بهذه البنات، وكن جواري يأتيني يلعبن معي بها ... الحديث (¬1). وفي سنن النسائي الكبرى من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة، عن هشام به، بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسرب إلى صواحبي يلعبن معي باللعب البنات الصغار (¬2). وفي طريق آخر لحديث عائشة من غير طريق هشام بن عروة، فكشف ناحية الستر على بنات لعائشة لعب، وسوف أسوق إسناده بالدليل التالي. الدليل الثاني: (ح- 184) ما رواه أبو داود من طريق محمد بن إبراهيم، حدثه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها ستر، فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي. ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رقاع، فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس. قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان. قال: فرس له جناحان! قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلًا لها أجنحة، قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه (¬3). ¬
[إسناده صحيح] (¬1). وجه الاستدلال من الحديث كالاستدلال من الحديث السابق. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ح - 185) ما رواه البخاري من طريق خالد بن ذكوان، عن الربيع بنت معوذ، قالت: أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطرًا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائمًا فليصم، قالت: فكنا نصومه بعد، ونصوم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار (¬1). وجه الاستدلال: ظاهر قوله: "اللعبة من العهن" تنصرف في الغالب إلى اللعب المصنوعة من صور الآدميين والحيوانات، على شاكلة لعب عائشة - رضي الله عنها -. وقد يقال: إن الحديث ليس صريحًا بأن اللعب من الصور، فقد تكون اللعب من صور الأشجار أو نحوها مما ليس فيه روح، وهذا لا إشكال فيه، والله أعلم. الدليل الرابع: الصور المهانة في الوسائد والفرش ذهب جماهير العلماء إلى جوازها؛ لأنها ليست محلًا للتعظيم، وليست ذريعة إلى الشرك، فاللعب أولى بالجواز لأنها مما تختص بالصغار، ويتسلى بها، فليست محلًا للتعظيم والتقديس. الدليل الخامس: من النظر اتخاذ اللعب للأولاد تمليه الحاجة الماسة إلى تعليم الأطفال، وتدريب البنات على ممارسة رعاية أولادهن بالمستقبل، وتدريب الأولاد على ¬
دليل من قال: لا يجوز اتخاذ اللعب من الصور.
القيام بواجب الأبوة، مع ما فيه من إدخال السرور عليهم وكف أذاهم، وشغلهم بما ينفع بدلاً من أن يكون نشاطهم في العبث والتخريب. دليل من قال: لا يجوز اتخاذ اللعب من الصور. الدليل الأول: عمومات النهي الواردة في الصور والمصورين، وهي كثيرة، منها: (ح - 186) ما رواه البخاري من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، أن عبد الله بن عمر - صلى الله عليه وسلم - أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم (¬1). فلم يفرق بين ما يصنعونه للصغار أو يصنعونه للكبار. (ح - 187) ومنها ما رواه البخاري من طريق عوف، عن سعيد بن أبي الحسن، قال: كنت عند ابن عباس - رضي الله عنهما -، إذ أتاه رجل، فقال: يا أبا عباس إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير، فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول، سمعته يقول: من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدًا، فربا الرجل ربوة شديدة، واصفر وجهه، فقال: ويحك إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بهذا الشجر، كل شيء ليس فيه روح. (ح - 188) وفي لفظ لمسلم: "قال ابن عباس: أنبئك بما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفسًا، فتعذبه في جهنم، وقال: إن كنت لا بد فاعلاً، فاصنع الشجر، وما لا نفس له (¬2). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن ابن عباس لم يأذن له إلا بالشجر، أو ما ليس له روح، ولو كانت صور الأطفال داخلة في المباح لذكرها له، فلما لم يذكرها كانت داخلة في عموم النهي، وقوله في لفظ مسلم (كل مصور في النار) كل من ألفاظ العموم، فيدخل فيه ما يصوره للأطفال، وما يصوره للكبار. الراجح: الذي أميل إليه أن القول بإباحة صور الأطفال أقرب إلى الصحة، فهم يستدلون بأحاديث خاصة، والقائلون بالتحريم يستدلون بأحاديث عامة، والأحاديث الخاصة مقدمة على الأحاديث العامة، والنصوص العامة في الشريعة قد تخصص، والمطلق قد يقيد، ومنه مسألتنا هذه، والله أعلم.
الفرع الثاني هل يختلف الحكم إذا كانت هذه الصور من البلاستيك
الفرع الثاني هل يختلف الحكم إذا كانت هذه الصور من البلاستيك [م - 296] تطورت الصناعة في هذا العصر، ودخلت الآلة في صناعة الألعاب، فصارت الصورة تحاكي الحقيقة، وكانك وأنت تنظر إلى لعب الأطفال اليوم، كأنك تنظر إلى صورة حقيقية، بل إنهم جعلوها تبكي، وتضحك، وتغني، وتتكلم، فهل هذه الصورة بهذه المثابة داخلة في لعب عائشة، أو أن صور عائشة لم يوجد فيها هذه المضاهاة لخلق الله، فقد يكون الوجه مطموسًا أصلاً، فليس لها عينان، ولا أنف، ولا أسنان، في هذا خلاف بين أهل العلم في عصرنا. فمنع من ذلك طائقة من أهل العلم في عصرنا، على رأسهم سماحة الشيخ محمَّد بن إبراهيم - رحمه لله - (¬1)، وفضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري (¬2). وحجتهم في ذلك: أن الأصل المنع، وإنما الرخصة جاءت بمثل اللعب التي كانت على زمن عائشة - رضي الله عنها -، فيجب الاقتصار على ما ورد، ويبقى ما عدا ذلك على أصل التحريم، وأما اللعب البلاستيكية فلا تشملها الرخصة الشرعية؛ لشدة مشابهتها، ومضاهاتها لخلق الله، وخروجها عن جنس اللعب التي جاءت الشريعة باستثنائها. ¬
وحجتهم
وذهب آخرون إلى إلحاق العب البلاستيكية باللعب القديمة، من ذلك السيد سابق في كتابه فقه السنة (¬1)، والشيخ يوسف القرضاوي (¬2) وغيرهم. وحجتهم: أن الأحاديث التي فيها إذن باتخاذ لعب البنات جاءت مطلقة، ولم تتعرض للقيد صراحة، وأضيف على ذلك بأنه لو طمس الوجه لم يختلف أحد في إباحتها، واختلاف العلماء المتقدمون في لعب البنات إنما هو في صورة لها وجه، ولها يدان، ورجلان، ولذلك قال الإِمام أحمد في عصره: قال أبو عبد الله: "فقد يصيرون لها صدرًا، وعينًا، وأنفًا وأسنانًا ... " (¬3). مما يدل أن كلام المتقدمين ليس في صورة لها وجه مطموس، أو صورة من عودين معترضين يشكلان على هيئة مخلوق صغير، ثم يلبس بالقماش، فإن هذا ليس منهيًا عنه مطلقًا في حق الجميع من كبار وصغار، فعندما يقول العلماء المتقدمون: إن لعب الأطفال مخصوصة من النهي فذلك يعني صورة منهيًا عنها، ولا تكون صورة منهي عنها إلا ولها عينان، وأنف، وأسنان، كما أن لها يدين ورجلين، وإلا فما معنى قولهم: إن لعب الأطفال مخصوصة من النهي، إذا كانت ليست على شكل صورة، وإنما هي صورة قد طمس وجهها. قال القاضي عياض - رحمه لله -، وهو يتكلم على حديث: "كنت ألعب بالبنات عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فيه جواز اللعب بهن، وتخصيصهم من الصور المنهي عنها لهذا الحديث، ولما في ذلك من تدريب النساء في صغرهن على النظر لأنفسهن ¬
وبيوتهن، وأبنائهن، وقد أجاز العلماء بيعهن وشراءهن ... وعلى الجواز بلعب الجواري بهن جمهور العلماء ... " (¬1). فقوله: وتخصيصه من الصور المنهي عنها دليل على أنه يتكلم عن صورة منهي عنها، لا عن صورة مأذون فيها، فالصورة التي يتكلمون عليها، وهي الصورة المطموسة الوجه لا أحد يجادل أنه ليس منهيًا عنها أصلاً، ولذلك ذكر شيخنا ابن عثيمين - رحمه لله - للخروج من الشبهة بأن يطمس وجهها -يعني الصورة البلاستيكية - وإذا طمس وجهها أبيحت على كل حال، ولم تكن مخصوصة من النهي، وسوف أسوق كلامه بتمامه إن شاء الله تعالى. وقال الحافظ ابن حجر: "واستدل بهذا الحديث -يعني: حديث لعب عائشة - على جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور" (¬2). فتأمل كلام الحافظ ابن حجر، وقوله: "وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور". وقال الخطابي: "أرخص لعائشة - رضي الله عنها - لأنها إذ ذاك كانت غير بالغ" (¬3). فقوله: (أرخص لعائشة) دليل على أنه في حق صورة محرمة، لا في حق وسادة كبيرة خيط في أعلاها وسادة صغيرة، ولا في أعواد ربط بعضها ببعض. وقال المناوي في فيض القدير: "ويستثنى من تحريم التصوير لعب البنات، ¬
فيجوز عند المالكية، والشافعية، لورود الترخيص فيه، وشذ بعضهم فمنعها، ورأى أن حلها منسوخ" (¬1). وذهب آخرون إلى التوقف عن القول بالتحريم، وهو اختيار شيخنا ابن عثيمين - رحمه لله -. قال في كتابه الشرح الممتع: "قسم من البلاستك، وتكون على صورة الإنسان الطبيعي إلا أنها صغيرة، يكون لها حركة، وقد يكون له صوت، فقد يقول قائل: إنها حرام؛ لأنها دقيقة التصوير، وعلى صورة الإنسان تمامًا، أي ليست صورة إجمالية، ولكن صورة تفصيلية، ولها أعين تتحرك، وقد نقول: إنها مباحة؛ لأن عائشة كانت تلعب بالبنات، ولم ينكر عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن إذا استدللنا بحديث عائشة، فقد يقول قائل: بأن الصور التي عند عائشة ليست بهذه الصور الموجودة الآن، بينهما فرق عظيم، فمن نظر إلى عموم الرخصة، وأنه قد يرخص للصغار ما لا يرخص للكبار، كما قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه لله - في باب السبق لما ذكر بعض آلات اللهو، قال: إنه يرخص للصغار ما لا يرجح للكبار؛ لأن طبيعة الصغار اللهو، ولهذا تجد هذه الصور عند البنات الصغار كالبنات حقيقة، كأنها ولدتها، وربما تكون وسيلة لها لتربي أولادها في المستقبل، وتجدها تسميها أيضاً، هذه فلانة، وهذه فلانة، فقد يقول قائل: إنه يرخص لها فيها، فأنا أتوقف في تحريمها في الواقع، لكن يمكن التخلص من الشبهة بأن يطمس وجهها بالنار. اهـ كلام شيخنا - رحمه لله -. والملاحظ أن شيخنا لم يتوقف في إباحتها، بل توقف عن القول بالتحريم، وبينهما فرق، وهذا من فقهه رحمه الله تعالى. ¬
ولذلك حين وجه للشيخ سؤالان عن هذه اللعب في اللقاء المفتوح معه، لم يشدد فيها. داليك نص جوابه - رحمه لله -. السوال الأول: ما حكم اقتناء لعب الأطفال التي على شكل تمثال، من حصان، أو حمار، أو طير، أو غير ذلك؟ الجواب: الألعاب التي يلعب بها الصبيان نتسامح فيها قليلًا؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - كان عندها لعب بنات تلعب بها، ويسامح للصغار ما لم يسامح للكبار، لكن الأفضل في هذه الحالة أن يشتري لهم لعبة من هذه اللعب التي بدأت تصدر حديثًا، وهي ألعاب من القطن، أو من الإسفنج، على شكل آدمي أو على شكل حصان، أو على شكل بعير، إلا أنها ليست بينة، أي: ما فيها أنف بارزة، ولا شفتان، ولا شيء من الأشياء البارزة، يتلهى بها الصبي، وهو أحسن وأحوط. اهـ جوابه - رحمه لله -. وأما السؤال الثاني في اللقاء المفتوح، فجاء فيه: بالنسبة للعبة الأطفال التي تسمى العروسة، سمعنا أنك أفتيت فيها بالجواز؟ فكان جوابه - رحمه لله - أي نعم، لعب الأطفال، أنا لا أشدد فيها. أولاً: لأن حديث عائشة (أنها كانت تلعب بالبنات) صحيح ثابت في البخاري وغيره، في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، لا نعلم أن الصناعة وصلت إلى هذا الحد المعروف الآن. فنقول: ما دام المعنى الذي من أجله أبيح للبنات اللعب، هو موجود الآن حتى في هذه الصور، ولذلك تجد الصبية إذا صار لها بنت من هذه الصور تعتني بها اعتناءً كاملاً، تلبسه الثياب، وتغسله، وتضعه أمام المكيف، وتقول له: يا حلالي، ويا حبيبتي، وما أشبه ذلك، فالحكمة من ذلك اعتياد البنت على تربية أبنائها، فما دامت هذه العلة، فهي
موجودة، لكن مع ذلك لا نحبذ هذا الشيء، ونقول: من الممكن تأتي بالصورة هذه، وتقلع وجهها بالسكين، وتجعلها شيئاً آخر، وتكون كأنها بنت متغللة عليها غلال واحد. اهـ جوابه.
المبحث العاشر في بيع الحر
المبحث العاشر في بيع الحر [م - 297] لا يجوز بيع الحر، وحكاه بعض أهل العلم إجماعًا. قال النووي: "بيع الحر باطل بالإجماع" (¬1). وقال ابن قدامة: "ولا يجوز بيع الحر ... ولا نعلم في ذلك خلافًا" (¬2). (ح - 189) ومستند الإجماع ما رواه البخاري من طريق سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا، فأكل ثمنه، صرجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعطه أجره (¬3). ولأن حقيقة البيع: مبادلة مال بمال، والحر ليس بمال، وإنما خلق مالكًا للمال، وفرق بين كونه مالاً وبين كونه مالكاً للمال (¬4). (ح -190) وأما ما رواه الطحاوي من طريق عبد الرحمن بن عبد الله ابن دينار، قال: حدثني زيد بن أسلم، قال: لقيت رجلاً بالإسكندرية، يقال له: سرق، فقلت: ما هذا الاسم؟ فقال: سمانيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قدمت المدينة، فأخبرتهم أنه يقدم لي مال، فبايعوني، فاستهلكت أموالهم، فأتوا بي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬
فقال: أنت سرق، فباعني بأربعة أبعرة، فقال له غرماؤه: ما يصنع به؟ قال: أعتقه، قالوا: ما نحن بأزهد في الآخرة منك، فأعتقوني (¬1). [فإسناده ضعيف، وقد اختلف في إسناده] (¬2). قال ابن عبد الهادي في التنقيح: "وفي إجماع العلماء على خلافه - وهم لا يجمعون على ترك رواية ثابتة - دليل على ضعفه، أو نسخه إن كان ثابتا" (¬3). وقد ذهب إلى القول بالنسخ الطحاوي - رحمه لله -، فقال في شرح معاني الآثار: "في هذا الحديث بيع الحر في الدين، وقد كان ذلك في أول الإِسلام، يبتاع من عليه دين فيما عليه من الدين، إذا لم يكن له مال يقضيه عن نفسه، ¬
حتى نسخ الله - عز وجل - ذلك، فقال: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ... " (¬1). وذهب آخرون إلى أن المعنى: أنه باع منافعه، وليس المقصود بأنه باع رقبته؛ لأنه رجل حر، والإجارة تسمى بيعًا بلغة أهل المدينة (¬2). ولا حاجة إلى التأويل، والحديث ضعيف، والإجماع على خلافه. ¬
المبحث الحادي عشر في النهي عن مهر البغي وحلوان الكاهن
المبحث الحادي عشر في النهي عن مهر البغي وحلوان الكاهن البغي: الفاجرة، والبغاء: بكسر الباء الفجور. وفي التنزيل: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)} [مريم: 28]. وقوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور: 33]. ومهر البغي: هو أجر الزانية على الزنا. قال النووي: سماه مهرًا لكونه على صورته (¬1). وحلوان بضم الحاء وسكون اللام، مثل غفران: أي العطاء، وهو اسم من حلوته أحلوه. وقال ابن حجر: "الحلوان: مصدر حلوته حلوانًا: إذا أعطيته، وأصله من الحلاوة، شبه بالشيء الحلو من حيث أنه يأخذه سهلاً بلا كلفة، ولا مشقة، يقال: حلوته: إذا أطعمته الحلو ... " (¬2). وحلوان الكاهن: ما يعطاه الكاهن أجرًا على كهانته. والكهانة: ادعاء علم الغيب. [م - 298] وقد ثبت النهي عن مهر البغي وحلوان الكاهن. قال ابن عبد البر: "من المكاسب المجتمع على تحريمها: الربا، ومهور ¬
ومستند الإجماع
البغايا، والسحت ... وأخذ الأجرة على النياحة، والغناء، وعلى الكهانة ... " (¬1). كما حكى ابن عبد البر الإجماع على تحريم مهر البغي، وحلوان الكاهن في التمهيد (¬2). وقال النووي: "قال البغوي ... والقاضي عياض: أجمع المسلمون على تحريم حلوان الكاهن؛ لأنه عوض عن محرم، ولأنه أكل المال بالباطل ... " (¬3). ومستند الإجماع: (ح - 191) ما رواه البخاري ومسلم من طريق الزهري، عن أبي بكر ابن عبد الرحمن عن أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن (¬4). وعن الشيخ أبي عمران من علماء المالكية: أن حلوان الكاهن لا يحل له، ولا يرد لمن أعطاه له، بل يكون للمسلمين (¬5). ... ¬
المبحث الثاني عشر في بيع أمهات الأولاد
المبحث الثاني عشر في بيع أمهات الأولاد [م - 299] ذهب جماهير أهل العلم إلى أن أم الولد لا يجوز بيعها، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، واختيار ابن حزم (¬1). وقيل: إن للشافعي قولاً قديمًا بجواز بيعهن (¬2)، وكونه لا يوجد في عصرنا أمهات الأولاد فلا أرى الاشتغال بهذه المسألة، والإطالة فيها. ¬
المبحث الثالث عشر في بيع المدبر
المبحث الثالث عشر في بيع المدبر [م - 355] اختلف العلماء في بيع المدبر. فقيل: لا يجوز بيع المدبر مطلقًا، وهو مذهب الحنفية، ورواية عن مالك (¬1). وقيل: يجوز بيع المدبر مطلقًا، وهو مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة، واختيار ابن حزم (¬2). وقيل: لا يجوز بيعه إلا في دين سابق على التدبير في حياة سيده، وليس عنده ما يجعله في الدين، وأما الدين المتأخر عن التدبير، فلا يباع فيه المدبر في حياة سيده، ويباع فيه بعد موته. وهذا مذهب المالكية (¬3). وقيل: يجوز بيعه إن احتاج إلى ذلك صاحبه، وهو رواية عن أحمد (¬4). ¬
وقد فضلت عدم الإطالة في هذه المسألة؛ لعدم جدواها في العصر الحاضر؛ لعدم وجود الرق في أسواق المسلمين اليوم.
الفصل الثاني في البيوع المنهي عنها من أجل الغرر
الفصل الثاني في البيوع المنهي عنها من أجل الغرر تمهيد في تعريف الغرر الغرر اصطلاحًا (¬1): عند العلماء ثلاث تعريفات للغرر: التعريف الأول: قيل: الغرر: ما يكون مستور العاقبة. اختاره السرخسي (¬2)، والزيلعي (¬3)، من الحنفية، وهو موافق لتفسير الإِمام ¬
مالك - رحمه لله - (¬1)، واختاره بعض الشافعية (¬2)، وابن تيمية من الحنابلة في أحد قوليه (¬3). ورجحه الخطابي في معالم السنن. ومستور العاقبة يشمل أمرين: الأمر الأول: ما تردد بين الحصول وعدمه. الأمر الثاني: ما كان مجهول الصفة والمقدار، وإن تحقق حصوله. يقول مالك - رحمه لله -: "الأمر عندنا أن من المخاطرة والغرر: اشتراء ما في بطون الإناث من النساء والدواب؛ لأنه لا يدرى أيخرج، أم لا يخرج، فإن خرج لم يدر أيكون حسنًا، أو قبحًا، أم تامًّا، أم ناقصًا، أم ذكرًا، أم أنثى، وذلك كله يتفاضل، إن كان على كذا، فقيمته كذا، وإن كان على كذا، فقيمته كذا" (¬4). فهذا نص من الإِمام مالك - رحمه لله - أن الغرر: هو ما كان مجهول العاقبة إما للجهل بوجوده، أو للجهل بصفته. ويقول ابن تيمية - رحمه لله -: " الغرر: هو المجهول العاقبة " (¬5). ويقول الخطابي: "أصل الغرر: ما طوي عنك علمه، وخفي عليك باطنه وسره ... وكل بيع كان المقصود منه مجهولًا غير معلوم، ومعجوزًا عنه غير مقدور عليه فهو غرر، مثل أن يبيعه سمكًا في الماء، أو طيرًا في الهواء". ¬
القول الثاني
فجعل الخطابي الغرر شاملاً للأمرين: المجهول، والمعلوم المعجوز عن تسليمه. القول الثاني: قيل: الغرر: ما تردد بين الحصول والعدم. فيدخل فيه ما عجز عن تسليمه. وهذا تعريف الكاساني وابن عابدين من الحنفية، وابن تيمية في أحد قوليه. وهذا أخص من التعريف الأول؛ لأنه لا يدخل في تعريف الغرر ما كان مجهول الصفة والمقدار، وإن تحقق حصوله. يقول الكاساني: "الغرر: هو الخطر الذي استوى فيه طرف الوجود والعدم بمنزلة الشك". وذكر ابن عابدين أن الغرر: هو الشك في وجوده يعني: المبيع (¬1). ويقول ابن تيمية: "الغرر: قد قيل في معناه: هو ما خفيت عاقبته، وطويت مغبته، أو انطوى أمره. وقيل: ما تردد بين السلامة والعطب، ومعنى هذا: ما كان مترددًا بين أن يسلم للمشتري فيحصل المقصود بالعقد، وبين أن يعطب فلا يحصل المقصود بالعقد، وهذا التفسير أوضح وأبين من الأول، فإن الغرر من التغرير، والمغرر بالشيء: المخاطر، والمخاطر: المتردد بين السلامة والعطب، وهذا هو الذي خفيت عاقبته، فهذا كله يعود إلى سلامة المبيع للمشتري، وحصوله له ... " (¬2). ¬
القول الثالث
القول الثالث: رأي ابن حزم، قال في تعريفه: "ما عقد على جهل بمقداره، وصفاته" (¬1). فلا يدخل عنده ما عجز عن تسليمه، كالعبد الآبق، والبعير الشارد، فإن العبد والبعير معلوما الصفة والمقدار، ولكن وقع الشك في حصولهما، أو وجودهما، ولا يرى - رحمه لله - اشتراط القدرة على التسليم شرطًا في صحة البيع، وقد ناقشت أدلته في فصل سابق، فأغنى عن إعادته هنا (¬2). ومن خلال التعريفات السابقة نرى أن أكملها ما علق الغرر على الأمرين معًا، الجهل بالصفة، أو بالمقدار، والتردد بين حصول الشيء، وبين فواته، وهي المخاطرة، والله أعلم. ¬
المبحث الأول: في حكم الغرر
المبحث الأول: في حكم الغرر [م - 301] ذهب عامة العلماء إلى أن الغرر الكثير في عقود المعاوضات المالية، إذا كان ذلك في المعقود عليه أصالة لا تبعًا، ولم تكن هناك حاجة عامة ملحة إليه أن ذلك حرام (¬1). واختار ابن سيرين وشريح (¬2)، أن الغرر في المعاملات ليس بحرام. دليل من قال: الغرر الكثير المقصود في العقد دون حاجة عامة حرام. الدليل الأول: (ح - 192) ما رواه مسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة ¬
قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الشرط الأول
واشترطنا في الغرر المحرم شروطًا منها: الشرط الأول: أن يكون الغرر كثيرًا؛ لأن الغرر اليسير جائز بالإجماع، حكى الإجماع ابن رشد، والقرافي، والنووي (¬1). ¬
الشرط الثاني
قال ابن عبد البر: "لا يختلفون في جواز قليل الغرر؛ لأنه لا يسلم منه بيع، ولا يمكن الإحاطة بكل المبيع، لا بنظر، ولا بصفة ... " (¬1). ويحاول الباجي وضع ضابط في التفريق بين اليسير والكثير، بأن اليسير: هو ما لا يكاد يخلو منه عقد، والغرر الكثير: ما كان غالبًا في العقد حتى صار العقد يوصف به (¬2). الشرط الثاني: أن يكون الغرر في عقود المعاوضات المالية؛ لأن الغرر لا يؤثر على الصحيح في عقود التبرعات، وهو مذهب مالك، واختاره ابن تيمية - رحمه لله -. يقول القرافي: "فصل مالك بين قاعدة ما يجتنب فيه الغرر والجهالة ... وقاعدة ما لا يجتنب فيه الغرر والجهالة ... وانقسمت التصرفات عنده ثلاثة أقسام: طرفان وواسطة: فالطرفان: أحدهما: معاوضة صرفة، فيجتنب فيها ذلك إلا ما دعت الضرورة إليه عادة. وثانيهما: ما هو إحسان صرف، لا يقصد به تنمية المال، كالصدقة والهبة .. فإن هذه التصرفات إن فاتت على من أحسن إليه بها لا ضرر عليه؛ لأنه لم يبذل شيئًا، بخلاف القسم الأول إذا فات بالغرر والجهالة ضاع المال المبذول في مقابلته، فاقتضت حكمة الشرع منع الجهالة فيه، إما الإحسان الصرف، فلا ضرر فيه، فاقتضت حكمة الشرع وحثه على الإحسان، التوسعة فيه بكل طريق بالمعلوم والمجهول، فإن ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعًا، وفي المنع من ذلك، وسيلة إلى تقليله، فإذا وهب له بعيره الشارد، جاز أن يجده، فيحصل له ما ينتفع ¬
الشرط الثالث
به، ولا ضرر عليه إن لم يجده؛ لأنه لم يبذل شيئًا ... وأما الواسطة بين الطرفين فهو النكاح، فهو من جهة أن المال فيه ليس مقصودًا ... ومن جهة أن صاحب الشرع اشترط فيه المال بقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]، يقتضي امتناع الجهالة والغرر ... " (¬1). واختار ابن تيمية مذهب مالك، في أن الغرر يؤثر في عقود المعاوضات دون عقود التبرعات. الشرط الثالث: أن يكون الغرر في المعقود عليه أصالة؛ لأن الغرر في التابع مغتفر، عملًا بالقاعدة الفقهية: "يغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره". ولذلك صح بيع الحمل مع الشاة، ولا يصح إفراد الحمل بالبيع، وصح بيع الثمرة قبل بدو صلاحها تبعًا للشجرة، ولا يصح إفراد بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بالعقد، وهكذا. ويقول ابن تيمية: "يجوز من الغرر اليسير ضمنًا وتبعًا ما لا يجوز في غيره" (¬2). الشرط الرابع: ألا يكون هناك حاجة عامة، فإن كانت هناك حاجة عامة إلى المعاملة أبيحت المعاملة، وإن كان فيها غرر. يقول ابن تيمية: "مفسدة الغرر أقل من الربا، فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه، فإن تحريمه أشد ضررًا من كونه غررًا، مثل بيع العقار جملة، وإن لم يعلم دواخل الحيطان والأساس، ومثل بيع الحيوان الحامل أو المرضع، ¬
وإن لم يعلم مقدار الحمل، أو اللبن، وإن كان قد نهي عن بيع الحمل منفردًا، وكذلك اللبن عند الأكثرين ... " (¬1). وابن تيمية، وإن مثل لقاعدته في الغرر التابع، والغرر اليسير؛ لأن ابن تيمية من عادته إذا ساق الأمثلة، اختار من الأمثلة ما لا نزاع فيه، ولكن العبرة بالقاعدة التي ساقها ابن تيمية، فإنه رخص في الغرر إذا دعت إليه الحاجة، والغرر الذي تبيحه الحاجة أعم من الغرر اليسير أو التابع، فهذان يباحان مع قيام الحاجة، وبدونها. ويقول ابن تيمية أيضًا: "من أصول الشرع، أنه إذا تعارض المصلحة، والمفسدة قدم أرجحهما، فهو إنها نهى عن بيع الغرر، لما فيه من المخاطرة التي تضر بأحدهما، وفي المنع مما يحتاجون إليه من البيع ضرر أعظم من ذلك، فلا يمنعهم الضرر اليسير، بوقوعهم في الضرر الكثير، بل يدفع أعظم الضررين باحتمال أدناهما، ولهذا لما نهاهم عن المزابنة، لما فيها من نوع ربا، أو مخاطرة، أباحها لهم في العرايا للحاجة؛ لأن ضرر المنع من ذلك أشد، وكذلك لما حرم عليهم الميتة؛ لما فيها من خبث التغذية، أباحها لهم عند الضرورة؛ لأن ضرر الموت أشد، ونظائره كثيرة ... " (¬2). ويقول ابن تيمية أيضًا: "وإذا كانت مفسدة بيع الغرر، هي كونه مظنة العداوة، والبغضاء، وأكل الأموال بالباطل، فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة، قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام، والإبل لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض، وإن لم يجز غيره بعوض" (¬3). ¬
وهذه المفاسد التي ساقها ابن تيمية في عقد الغرر من كونه مظنة العداوة والبغضاء، وأكل أموال الناس بالباطل إنما توجد في الغرر الكثير، وليس في الغرر اليسير أو التابع، ومع ذلك رأى ابن تيمية أن المصلحة الراجحة إذا عارضت تلك المفاسد فإنها مقدمة عليها. ويقول ابن تيمية أيضًا: "والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه من البيع لأجل نوع من الغرر، بل يبيح ما يحتاج إليه من ذلك" (¬1). ويقول ابن تيمية أيضًا: "المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم" (¬2). وهذا يدل على أن المعاملة المالية قد يتنازعها موجبان: أحدهما يدعو إلى التحريم، وهو وجود الغرر، والآخر يدعو إلى الإباحة، وهو قيام الحاجة العامة الملحة، وتكون للأقوى منهما. ويقول الشيخ الصديق الضرير في كتابه القيم الغرر وأثره في العقود: "يشترط لتأثير الغرر في العقد ألا يكون الناس في حاجة إلى ذلك العقد، فإن كانت هناك حاجة إلى العقد لم يؤثر الغرر مهما كانت صفة الغرر، وصفة العقد؛ لأن العقود كلها شرعت لحاجة الناس إليها، ومن مبادئ الشريعة العامة المجمع عليها، رفع الحرج {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، ومما لا شك فيه أن منع الناس من العقود التي هم في حاجة إليها، يجعلهم في حرج، ولهذا كان من عدل الشارع، ورحمته بالناس، أن أباح لهم العقود التي يحتاجون إليها، ولو كان فيها غرر" (¬3). ¬
دليل ابن سيرين على جواز بيع الغرر.
ويقول أخونا الشيخ خالد المصلح: "ألا تدعو إلى الغرر حاجة عامة، فإن الحاجات العامة تنزل منزلة الضرورات ... فإذا دعت حاجة الناس إلى معاملة فيها غرر لا تتم إلا به فإنه يكون من الغرر المعفو عنه ... " (¬1). إذا عرفنا ذلك استطعنا أن نميز بين الغرر الجائز، والغرر المحرم: فالغرر الكثير الذي لا تدعو إليه حاجة عامة حرام، وما عداه حلال. فيدخل في الحلال الغرر اليسير، والغرر التابع ولو كان كثيرًا، والغرر الكثير إذا دعت إليه حاجة عامة. دليل ابن سيرين على جواز بيع الغرر. لم أقف على دليله، ولعله لم يبلغه النهي، ويمكن أن يستدل له بأن الغرر إذا كان هو المخاطرة، فإن البيع والشراء فيه مخاطرة بطبيعته، فالربح فيه غير مضمون، وهو دائر بين الربح والخسارة، وكم من رجل لحقته الديون الكثيرة بسبب التجارة، والله أعلم. وعلى كل حال لو صح أن هذا دليل ابن سيرين - رحمه لله -، فإنه نظر في مقابل النص، فيكون فاسدًا. والمخاطرة ليست كلها محرمة، ولا كلها جائزة، قال ابن تيمية: "أما المخاطرة فليس في الأدلة الشرعية ما يوجب تحريم كل مخاطرة، بل قد علم أن الله ورسوله لم يحرما كل مخاطرة" (¬2). وقال أيضًا: "الخطر خطران: خطر التجارة، وهو أن يشتري السلعة بقصد أن ¬
يبيعها بربح، ويتوكل على الله في ذلك، فهذا لا بد منه للتجار ... فالتجارة لا تكون إلا كذلك، والخطر الثاني: الميسر الذي يتضمن أكل أموال الناس بالباطل، فهذا الذي حرمه الله ورسوله ... " (¬1). ¬
المبحث الثاني في البيوع التي نهي عنها من أجل الغرر
المبحث الثاني في البيوع التي نهي عنها من أجل الغرر قال ابن عبد البر: "بيوع الغرر لا يحاط بها، ولا تحصى" (¬1). وإذا كنا نقول: إن الغرر يرجع إلى سببين: إما الجهالة، أو عدم القدرة على التسليم، أمكن لنا أن نقسم الغرر إلى قسمين: منه ما يرجع إلى الجهل بذات المعقود عليه، سواء كان جهلاً بذاته جنسًا، أو نوعًا، أو صفة، أو جهلاً في أجله بحيث لا يعرف له زمن معين ينتهي عنده. ومنها ما يرجع إلى عدم القدرة على التسليم. وزاد بعض أهل العلم من المعاصرين: الغرر بسبب صيغة العقد. كبيعتين في بيعة وبيع الحصاة، وبيع المنابذة، والملامسة، والعقد المعلق والعقد المضاف (¬2). وعند التأمل أرى أن هذا القسم يرجع إلى الجهالة، وهو ظاهر في بيع الحصاة والمنابذة، والملامسة. ¬
الفرع الأول الغرر بسبب الجهالة
الفرع الأول الغرر بسبب الجهالة [م - 302] سبق لنا عند الكلام على أركان البيع كلام أهل العلم في اشتراط أن يكون المعقود عليه معلومًا، والعلم بالمعقود عليه من ثمن أو مثمن ينفي وجود الجهالة فيهما، وقد وعدنا القارئ هناك بأننا في باب البيوع المنهي عنها سوف نتعرض لبعض البيوع المختلف فيها، هل مثلها يعتبر المعقود عليها معلومًا، فلا تدخل في بيع المجهول، أو مثلها يجعل المعقود عليه مجهولاً، وبالتالي يؤدي إلى إبطال العقد، هذا إن شاء الله ما سوف نحاول بحول الله وقوته في هذا الفصل أن نجيب عليه، ومن هذه المسائل: (1) بيع الغائب. (2) بيع اللبن في الضرع. (3) بيع الحمل في البطن. (4) بيع الصوف على الظهر. (5) بيع المغيبات في الأرض. (6) بيع ما مأكوله في جوفه. (7) بيع شاة غير معينة من القطيع. (8) بيع النوى في التمر. (9) بيع المسك في فأرته. (10) بيع الملامسة والمنابذة. (11) بيع الحصاة.
(12 - 16) البيع بسعر السوق، أو بما ينقطع به السعر، أو بما يبيع به فلان، أو البيع بالرقم. (17) البيع بعشرة نقدًا أو بعشرين نسيئة. (18) بيع عسب الفحل. (19)، الثنيا غير المعلومة. (20) بيع ضربة الغائص. (21) عقد التأمين.
المطلب الأول في بيع الغائب
المطلب الأول في بيع الغائب المسألة الأولى المقصود ببيع الغائب وعلاقته بالغرر علاقة بيع الغائب بالغرر: الفقهاء الذين منعوا بيع الشيء قبل رؤيته، إنما حملهم على ذلك الخوف من الوقوع في الغرر الكثير. وأما المقصود في بيع الغائب: فيقال: المبيع الغائب تارة يتعلق بالذمة، بحيث يكون البيع متوجهًا إلى سلعة غير معينة موصوفة في الذمة، فيكون هذا من قبيل بيع السلم، حالاً كان أو مؤجلًا. وهذا ليس هو المقصود في الباب هنا. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. وتارة يكون البيع متوجهًا إلى سعلة معينة، فلا يقال: بأنه سلم، ولكن يقال له غائب، وهذا الغائب، إما أن يكون قد شاهده البائع، ولم يمض على الرؤية وقت يخشى عليه من التغير، أو يكون موصوفًا لم يره المشتري، وإنما وصف له، أو يباع له بدون رؤية ولا صفة، وهذا هو المقصود في هذا البحث، وهو بيع سلعة معينة غائبة، تارة بلا رؤية ولا صفة، وتارة عن طريق الوصف بدون رؤية، والله أعلم. ***
المسألة الثانية في بيع العين الغائبة بلا رؤية ولا صفة
المسألة الثانية في بيع العين الغائبة بلا رؤية ولا صفة [م - 303] إذا باع الرجل سلعته بلا وصف ولا رؤية، فقد اختلف العلماء في صحة هذا البيع على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح البيع، وله الخيار مطلقًا إذا رآه، سواء اشترط الخيار أم لا، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقول مرجوح في مذهب الشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد نقلها حنبل، واختارها ابن تيمية في موضع من كلامه (¬3). القول الثاني: يصح البيع بلا صفة، ولا رؤية، بشرط أن يجعل للمشتري الخيار إذا رآه، وهذا مذهب المالكية (¬4). والفرق بين مذهب الحنفية والمالكية: أن الحنفية أثبتوا للمشتري خيار الرؤية بدون شرط، والمالكية اشترطوا لصحة البيع اشتراط المشتري خيار الرؤية. القول الثالث: لا يجوز البيع بغير صفة، ولا رؤية متقدمة، وهذا اختيار القاضي أبو محمَّد ¬
البغدادي من المالكية (¬1)، وهو الأظهر في مذهب الشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). فصارت الأقوال ثلاثة: يصح مطلقًا وله خيار الرؤية إذا رآه سواء اشترط الخيار أو لم يشترطه. لا يصح مطلقًا. وهذان القولان متقابلان. يصح إن اشترط المشتري له الخيار إذا رآه، وإن لم يشترط الخيار فلا يصح. وسوف نذكر أدلة هذا القول مع أدلة المسألة التالية لتداخلهما. ¬
المسألة الثالثة في بيع الغين الغائبة عن طريق الوصف
المسألة الثالثة في بيع الغين الغائبة عن طريق الوصف [م - 304] إذا باع سلعة معينة غائبة عن طريق الوصف، فهل يصح البيع؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يصح مطلقًا، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والقول القديم ¬
القول الثاني
للشافعية (¬1). وقال ابن تيمية في موضع: هو أعدل الأقوال (¬2). القول الثاني: لا يصح بيع السلع المعينة إلا عن طريق رؤيتها، وهو الجديد في مذهب الشافعي، وعليه الفتوى (¬3). القول الثالث: يصح البيع بالوصف إذا كانت السلع مما يصح السلم فيها، بحيث تكون السلعة مما يمكن ضبطها بالوصف، فما لا يصح السلم فيه، لا يصح بيعه بالصفة، وهذا مذهب الحنابلة (¬4). دليل من قال: يصح البيع بلا وصف ولا رؤية متقدمة. الدليل الأول: قال تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: مطلق الآية يشمل المبيع بالوصف والرؤية، والمبيع بدونهما، فتبقى الآية على إطلاقها إلا بيعًا منع منه كتاب، أو سنة، أو إجماع، ولا يوجد شيء من ذلك في مسألتنا. ونوقش هذا الاستدلال: بأن إطلاق الآية مخصوص بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاه وعن بيع الغرر، وعدم رؤية المبيع جهالة به، والغرر فيها ظاهر. ورد بالحنفية: بأن الجهالة في المبيع كلها تؤدي إلي إبطال البيع، فالجهالة هنا لا تفضي إلى المنازعة، لأننا نثبت للمشتري الخيار إذا رأى المبيع، فإذا لم يوافقه رده، وإن قبل المبيع بعد رؤيته لم يكن هناك ضرر عليه (¬1). الدليل الثاني: (ح - 193) ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا إسماعيل -يعني ابن عياش - عن أبي بكر بن عبد الله ابن أبي مريم عن مكحول رفعه قال: إذا اشترى الرجل الشيء، ولم ينظر إليه غائبًا عنه، فهو بالخيار إذا نظر إليه، إن شاء أخذ، وإن شاء ترك (¬2). [مرسل على ضعف في إسناده] (¬3). ¬
الدليل الثالث
قال النووي: "حديث ضعيف باتفاق المحدثين، وضعفه من وجهين: أحدهما: أنه مرسل؛ لأن مكحولًا تابعي. والثاني: أن أحد رواته ضعيف" (¬1). الدليل الثالث: (ث - 27) ما رواه الطحاوي من طريق هلال بن يحيى بن مسلم، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن رباح بن أبي معروف المكي، عن ابن أبي مليكة، عن علقمة بن وقاص الليثي، قال: اشترى طلحة بن عبيد الله من عثمان ابن عفان مالًا، فقيل لعثمان: إنك قد غبنت، وكان المال بالكوفة. فقال عثمان: لي الخيار؛ لأني بعت ما لم أر فقال طلحة: لي الخيار؛ لأني اشتريت ما لم ¬
وجه الاستدلال
أر، فحكما بينهما جبير بن مطعم، فقضى أن الخيار لطلحة، ولا خيار لعثمان (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). وجه الاستدلال: هذا الأثر يدل على أن عثمان قد باع مالاً له لم يره، والغالب أن عثمان لا يمكن أن يصف مالاً له لم يره، فهو دليل على صحة بيع المال من غير صفة ولا رؤية. ويجاب عنه بأجوبة: الأول: أنه ضعيف الإسناد، والحجة إنما تكون فيما صح إسناده. الثاني: قال النووي: "والجواب عن قصة عثمان، وطلحة، وجبير بن مطعم أنه لم ينتشر ذلك في الصحابة - رضي الله عنهم -، والصواب عندنا أن قول الصحابة ليس بحجة إلا أن ينتشر من غير مخالفة" (¬3). ورد هذا الجواب: بأن دعوى أن القول لم ينتشر بين الصحابة تحتاج إلى دليل، فلو صح لكان حجة عند من يرى أن قول الصحابي حجة؛ لأن هؤلاء ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم عثمان - رضي الله عنه -، وهو خليفة راشد، له سنة متبعة، ولكن ذلك لم يصح، ويبقى الاستدلال بأثر عبد الله بن عمر وعبد الله بن بحينة كما في الدليل الآتي وهو أقوى من الاستدلال بأثر عثمان مع طلحة، والله أعلم. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (ث - 28) روى الطحاوي من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: أخبرني سالم، أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - ركب يومًا مع عبد الله بن بحينة ... وهو من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض له بريم، فابتاعها منه عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، على أن ينظر إليها، صريح من المدينة على قريب من ثلاثين ميلًا (¬1). وجه الاستدلال: هذا الأثر صحيح عن ابن عمر، وقد اشترى ما لم يره، ورأى ذلك جائزاً، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنه - من فقهاء الصحابة - رضي الله عنهم -. وقد يقال: الأثر صريح بأنه اشترى المال من غير رؤية؛ لاشتراطه خيار الرؤية، ولكنه لم يتعرض للوصف، فهو لم يثبت الوصف ولم ينفه، فقد يكون اشتراها عن طريق الوصف، والكلام على صحة البيع من غير وصف ولا رؤية. الدليل الخامس: القياس على بيع الرمان، والجوز، وما كان مأكوله في جوفه، فإذا جاز بيعه، وهو مستتر لا يمكن رؤيته، جاز بيع الشيء قبل رؤيته. وأجيب عن هذا الدليل: بأن ظاهر الرمان والجوز يقوم مقام باطنهما في الرؤية، كصبر الحنطة، ولأن في استتار باطنها مصلحة لها، كأساس الدار بخلاف بيع الغائب (¬2). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: القياس على عقد النكاح، فإذا كان يجوز عقد النكاح، ولو لم ير الرجل المرأة، فكذلك البيع. ويمكن أن يقال: بأن عقد النكاح يخالف البيع، ولذلك يشترط في النكاح ما لا يشترط في البيع، والعكس صحيح، فليس في النكاح خيار، بخلاف البيع، والمقصود من النكاح، وهو الاستمتاع لا يمكن رؤيته قبل الزواج، ويمكن تجربة المبيع بخلاف النكاح، إلى غير ذلك من الفروق، وإذا ثبت الفرق لم يصح القياس. دليل من صحح البيع عن طريق الوصف فقط ولو لم ير المبيع. الدليل الأول: (ح - 194) روى البخاري من طريق منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تباشر المرأة المرأة، فتنعتها لزوجها، كأنه ينظر إليها (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل الوصف للمرأة يقوم مقام الرؤية، وهذا دليل على أن وصف الشيء يقوم مقام رؤيته. الدليل الثاني: استدلوا على صحة بيع الموصوف بصحة شراء الأعمى، فإن الأعمى إنما يشتري ويبيع بالوصف، قال الكاساني: "الإجماع فإن العميان في كل زمان من ¬
الدليل الثالث
لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يمنعوا من بياعاتهم وأشريتهم، بل بايعوا في سائر الأعصار من غير إنكار" (¬1). قلت: سيأتي تحرير الخلاف في مسألة شراء الأعمى إن شاء الله تعالى، والراجح صحة شرائه، والله أعلم. الدليل الثالث: القياس على بيع السلم، فكما أنه لا يصح بيع السلم، إلا إذا كان يمكن ضبطه بالصفة، فكذلك غيره من السلع. ويجاب: هناك فرق بين بيع الغائب وبيع السلم، فالسلم يشترط فيه أن يكون واجبًا في الذمة، والمبيع الغائب لا يشترط فيه ذلك، وقد يكون المبيع في السلم معدومًا عند العقد، ولابجوز هذا في بيع المعين الغائب، ولأن الجهالة في السلم تفضي إلى المنازعة، وأما الجهالة في بيع الغائب فلا تؤدي إلى ذلك لثبوت الخيار فيه بعد الرؤية. الدليل الرابع: الجهل في صفات المبيع كالجهل بذاته، فيفضي عدم ذكر صفاته إلى الجهالة، والجهالة في المبيع تفسد البيع. وسبق الجواب على ذلك بأن الجهالة إذا كانت لا تؤدي إلى المنازعة لم تفسد العقد. الدليل الخامس: بذل العوض في مقابل السلعة لا يمكن تقديره إلا عن طريق رؤية السلعة، أو ¬
ويجاب
معرفة صفتها، وإذا بيعت السلعة بدون وصف ولا رؤية كيف يمكن تقدير العوض خاليًا من النقص أو الغبن. ويجاب: بأننا عالجنا هذا في ثبوت الخيار للمشتري، فإذا شعر بالغبن كان له فسخ البيع. دليل من قال: لا يجوز بيع الموصوف مطلقًا بغير رؤية. الدليل الأول: (ح - 195) روى مسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر (¬1). والغرر: هو المستور العاقبة، وهذا متحقق في بيع الغائب، فيدخل في عموم النهي. وأجيب: بأن النهي عن بيع الغرر إنما هو لدفع الضرر عن التغرير بالمشتري، ولا ضرر في بيع الغائب؛ لأنه إنما يلزم الضرر لو لم يثبت له الخيار عند الرؤية، وأما إذا ثبت له الخيار فقد حفظ حقه. الدليل الثاني: (ح - 196) ما رواه أحمد من طريق يونس، عن يوسف بن ماهك، عن حكيم بن حزام، قال، قلت: يا رسول الله يأتيني الرجل يسألني البيع ليس عندي ما أبيعه، ثم أبيعه من السوق، فقال: لا تبع ما ليس عندك (¬2). ¬
وجه الاستدلال
[منقطع يوسف لم يسمعه من حكيم] (¬1). وجه الاستدلال: بيع الغائب بيع شيء غير موجود عند الإنسان حال العقد، فيكون داخلًا في عموم النهي الوارد به الحديث. ونوقش هذا الاستدلال: سيأتينا الكلام على حديث حكيم بن حزام، وبيان المراد منه في مسألة تالية، وخلاف العلماء في ذلك، وبيان أن حكيم بن حزام كان يبيع شيئًا لم يملكه بعد، فقد يحصل عليه في السوق، وقد لا يحصل عليه، فالأمر يتعلق في القدرة على تسليم المبيع، والذي هو شرط من شروط البيع، وأما بيع الغائب فهو في ملك البائع قد استقر ملكه عليه، فافترقا. الدليل الرابع: النهي عن بيع المنابذة والملامسة. (ح - 197) فقد روى البخاري ومسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الملامسة والمنابذة (¬2). وجه الاستدلال: نهى الحديث عن بيع الملامسة والمنابذة، وهما بيع للسلعة بمجرد اللمس والنبذ، دون رؤية أو تقليب، فدل على وجوب رؤية المبيع. ¬
واعترض على هذا الاستدلال
واعترض على هذا الاستدلال: بأن النهي ليس لعدم رؤية المبيع؛ لأن هذا البيع إنما هو بيع عين حاضرة، وليس من بيع الغائب بشيء، وإنما هذه بيوع كانت في الجاهلية لازمة للمتعاقدين بمجرد اللمس والنبذ، فهو نوع من بيوع القمار، وقد فسره راوي الحديث، وتفسيره أولى بالقبول. (ح - 198) فقد روى البخاري من طريق عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عامر بن سعد، أن أبا سعيد - رضي الله عنه - أخبره، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المنابذة، وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل، قبل أن يقلبه، أو ينظر إليه، ونهى عن الملامسة، والملامسة: لمس الثوب لا ينظر إليه (¬1). دليل الحنابلة على جواز بيع الغائب إذا كان يصح السلم فيه. أن ما لا يصح السلم فيه، لا يمكن ضبطه بالصفة؛ لتفاوت آحاده تفاوتًا يختلف معه الثمن اختلافاً ظاهرًا، فيفضي ذلك إلى التنازع، فلا يصح بيعه بالصفة، وأما ما يصح السلم فيه، فإنه يمكن أن تنضبط صفاته، لكون آحاده لا تفاوت بينها، فيصح بيعه بالصفة. الراجح من الخلاف: هذه المسألة مهمة جداً لوقوع التجار فيها، وأحيانا لو انتظر المشتري ليرى السلعة فقد تفوته الصفقة، لكثرة الطلب عليها، والذي أحبه في المعاملات، خاصة في المسائل التي لم يرد فيها نص صريح، أن ينظر إلى مقاصد الشريعة في إباحتها ومنعها، فمن مقاصد الشريعة في المعاملات: إقامة العدل بين الناس، ¬
ومنع الظلم، ودفع الغرر الكثير، وإغلاق كل باب يؤدي إلى التنازع والتباغض، ومفسدة الغرر أخف من مفسدة الربا، فلذلك رخص في الغرر فيما تدعو إليه الحاجة منه، كما رخص في اليسير، وفي الشيء غير المقصود والذي يدخل تبعًا. إذا عرفنا هذا يمكننا أن نقول: إن بيع الغائب إن وقع بلا وصف، ولا رؤية، فهو بيع جائز فيما أرى، ولكنه غير لازم، فللمشتري الخيار مطلقًا إذا رأى السلعة، وهنا نكون قد حققنا المصلحة لكل من المتعاقدين مصلحة البائع ومصلحة المشتري من غير لحوق ضرر فيهما، ودفعنا خوف الوقوع في الغرر، يكون البيع لا يلزم إلا إذا رأى المبيع. وكون المشتري يشترط الخيار في العقد أحب إلي، خوفًا من الاختلاف، أو من قوله: إن الخيار لا يثبت إلا بالنص الشرعي، كخيار المجلس، أو بالعرف، أو باشتراط، فإذا اشترط له الخيار قطع النزاع. وأما إذا اشترى البضاعة بالوصف، فإن كان الوصف مطابقًا لم يكن للمشتري الخيار إلا بعرف، أو شرط، ويكون البيع لازمًا، فإن وجد الصفة غير مطابقة فللمشتري الخيار بين القبول، أو الرد، وإذا تنازعا، فالبائع يدعي أن الصفة مطابقة للموصوف، والمشري يدعي عدم المطابقة، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه غارم، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الخيار فصل مستقل في اختلاف المتبايعين، أسأل الله وحده العون والتوفيق. وأضعف الأقوال قول الشافعية، والذين يشترطون رؤية المبيع. [م - 305] ومما يكثر في عصرنا الحاضر، وله دخل في هذه المسألة: شراء رقعة الأرض من خلال معرفة موقعها من المخطط الهندسي، وذلك بمعرفة
مساحتها، وهل هي على شارع أو على أكثر، دون الوقوف على الأرض على الطبيعة. فإن قلنا: يصح بيع الغائب بلا صفة ولا رؤية، صح البيع بلا إشكال. وإن قلنا: يشترط ذكر صفاته، صح البيع إن عرفت الصفات المقصودة في الأرض، وذلك بمعرفة موقع الأرض، وشوارعها المحيطة بها، وبعدها وقربها من المدينة، ووصول الخدمات إليها من كهرباء وماء وتلفون، وطبيعة الأرض هل هي جبلية أو رملية، مستوبة أو غير مستوية، وكل وصف مؤثر في السعر. وإن قلنا: لا يصح بيع الغائب مطلقًا، ولو كانت موصوفة لم يصح بيع الأرض من واقع المخطط فقط.
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد الرابع
(ح) دبيان بن محمَّد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمَّد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة / دبيان محمَّد الدبيان - الرياض، 1432 هـ 528 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجموعة) ج 4 1 - المعاملات (فقه إسلامى) أ. العنوان ديوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (4)
مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فهذا هو المجلد الرابع من عقد البيع، وقد تناولت في المجلدات الثلاثة السابقة: الباب الأول: وكان يعني بدارسة المال وبيان أنواعه. والباب الثاني: وكان يعني بدراسة حكم البيع، وبيان أركانه. والباب الثالث: وكان يعني بدراسة صيغ التعاقد (أحكام الإيجاب والقبول). والباب الرابع، وكان يعني بالشروط المتعلقة بالعاقدين. والباب الخامس، وكان يعني بأحكام المعقود عليه (المبيع والثمن). وكنت قد تناولت جزءًا من مباحث الباب السادس، والذي يعني بدراسة موانع البيع، (البيوع المنهي عنها)، ولم نستكمل مباحثه، وهذا المجلد بكامله سوف يخصص إن شاء الله تعالى لبحث بعض مسائل هذا الباب، وكان آخر ما تطرقت إليه في المجلد السابق البيوع المنهى عنها من أجل الغرر، (الغرر بسبب الجهالة) والمسائل التالية هي استكمال لهذا الجزء من هذا الباب، ونتناول معه أيضًا البيوع المنهي عنها من أجل الضرر، والبيوع المنهي عنها من أجل القمار، وستكون خطة البحث فيه إن شاء الله تعالى على النحو التالي:
المسألة الرابعة: في بيع الأعمى وشرائه. المسألة الخامسة: في بيع المغيبات في الأرض المسألة السادسة: في بيع ما مأكوله في جوفه. المسألة السابعة: في بيع أسهم الشركات المساهمة. المطلب الثاني: في بيع الأنموذج المطلب الثالث: في حكم البوفيه المفتوح. المطلب الرابع: في بيع اللبن في الضرع. المطلب الخامس: بيع الحمل في البطن. المسألة الأولى: بيع الحيوان واستثناء ما في بطنه. المسألة الثانية: بيع الحيوان بشرط الحمل. المطلب السادس: في بيع الصوف على الظهر. المطلب السابع: في بيع شاة غير معينة من قطيع أو ثوب من الثياب. المطلب الثامن: في بيع النوى في التمر. المطلب التاسع: في بيع المسك في فأرته. المطلب العاشر: في بيع المنابذة والملامسة. المطلب الحادي عشر: في بيع الحصاة. المطلب الثاني عشر: في النهي عن بيع عسب الفحل. المسألة الأولى: في تعريف عسب الفحل وعلاقته ببيع الغرر. المسألة الثانية: خلاف العلماء في النهي عن بيع عسب الفحل.
المطلب الثالث عشر: بيع ضربة الغائص. المسألة الأولى: تعريف ضربة الغائص. المسألة الثانية: في حكم بيع ضربة الغائص وقنص الصائد. المطلب الرابع عشر: الثنيا المجهولة في البيع. مسألة: في بيع الصبرة من الطعام واستثناء جزء معلوم منه. المطلب الخامس عشر: في عقد التأمين. تمهيد: في تعريف التأمين وعلاقته ببيع الغرر. المسألة الأولى: عناصر عقد التأمين. المسألة الثانية: خصائص عقد التأمين التجاري. المسألة الثالثة: في أنواع التأمين التجاري. المسألة الرابعة: حكم التأمين التجاري. المسألة الخامسة: في التأمين الاجتماعي (نظام التقاعد). المسألة السادسة: في التأمين التعاوني. الحكم الأول: في تعريف التأمين التعاوني وبيان أقسامه. الحكم الثاني: في حكم التأمين التعاوني. الفرع الثاني: الغرر بسبب عدم القدرة على عدم التسليم. المطلب الأول: خلاف العلماء في بيع الضال والمفقود. المطلب الثاني: في بيع السمك في الماء. المطلب الثالث: بيع المعدوم.
المطلب الرابع: في بيع المغصوب. المسألة الأولى: بيع المغصوب على غاصبه. المسألة الثانية: بيع المغصوب على غير غاصبه. المطلب الخامس: بيع ما ليس عند البائع. الفصل الأول: الأحاديث الواردة في النهي عن بيع ما ليس عند البائع. الفصل الثاني: خلاف العلماء في تفسير حديث: (لا تبع ما ليس عندك). الفصل الثالث: في بيع ما لا يملكه البائع. المبحث الأول: أن يبيعه سلعة ليست عنده موصوفة في ذمته. الفرع الأول: أن يكون المبيع حالاً. الفرع الثاني: أن يكون المبيع مؤجلا. المبحث الثاني: في بيع الرجل سلعة معينة لا يملكها. الفرع الأول: أن يبيع ملك غيره لحظ مالكه. الفرع الثاني: أن يبيع ملك غيره لحظ نفسه. المطلب السادس: في النهى عن القمار. المسألة الأولى: تعريف القمار وعلاقته بالغرر. المسألة الثانية: في حكم القمار. المسألة الثالثة: الحكمة من تحريم القمار. المسألة الرابعة: المعاملات المحرمة بسبب القمار. المطلب الأول: تعريف الحوافز المالية في المعاملات التجارية.
المطلب الثاني: الأصل في الحوافز التجارية. المطلب الثالث: في حكم الحوافز إذا تضمنت إلحاق الضرر بصغار المستثمرين. المطلب الرابع: في صور الحوافز التجارية وبيان حكمها. الصورة الأولى: أن تبذل الحوافز بلا مقابل. الصورة الثانية: أن يكون بذل الحافز مشروطًا بالشراء. المسألة الأولى: ربط السلعة المبيعة بهديه ظاهرة لكل مشتر. المسألة الثانية: ربط السلعة بهدية مجهولة. القسم الأول: أن توضع الهدية المجهولة مع كل سلعة. القسم الثاني: أن توضع الهدية المجهولة مع بعض السلع. المسألة الثالثة: أن تكون الهدية معلومة والحصول عليها غير معلوم. الحال الأولى: أن يزاد في قيمة السلعة من أجل الهدية. فرع: لو كان السحب على أموال المتبرعين لجهة خيرية. الحال الثانية: ألا يزاد في قيم السلع من أجل الهدية. الصورة الثالثة: أن يكون بذل الهدية دون وعد سابق على الشراء. الصورة الرابعة: جوائز البنوك على حسابات التوفير. الصورة الخامسة: بطاقات التخفيض. المسألة الأولى: التعريف ببطاقات التخفيض وبيان أقسامها. المسألة الثانية: توصيف العلاقة بين أطراف البطاقة الثلاثة.
المسألة الثالثة: حكم بطاقات التخفيض العامة. المسألة الرابعة: حكم بطاقات التخفيض الخاصة. الفصل الثالث: البيوع المنهي عنها من أجل الضرر. تمهيد: في تعريف الضرر. المبحث الأول: الأمور التي نهي عنها حماية أو نفعًا للسوق. الفرع الأول: في الاحتكار. المسألة الأولى: في تعريف الاحتكار. المسألة الثانية: في خلاف العلماء في حكم الاحتكار. المسألة الثالثة: في شروط الاحتكار. المسألة الرابعة: ما يجري فيه الاحتكار. المسألة الخامسة: في إجبار المحتكر على بيع ماله. المسألة السادسة: إذا أجبر المحتكر على البيع فهل يبيع بسعر المثل. المسألة السابعة: في إخراج الطعام من بلد إلى آخر. الفرع الثاني: منع البيع بأقل من سعر السوق حماية له. الفرع الثالث: في حماية السوق عن طريق تسعير السلع. المسألة الأولى: في حكم التسعير. المسألة الثانية: الحالات التي يسوغ فيها التسعير. الفرع الرابع: حماية السوق عن طريق منع الحاضر أن يبيع للبادي. المسألة الأولى: في الأحاديث الواردة في الباب.
المسألة الثانية: علاقة النهي عن بيع الحاضر للباد بنفع السوق. المسألة الثالثة: تعريف الحاضر للبادي. المسألة الرابعة: معنى النهي عن يبع الحاضر للبادي. المسألة الخامسة: حكم بيع الحاضر للبادي. المسألة السادسة: شروط تحريم بيع الحاضر للبادي. المسألة السابعة: الحكم الوضعي لبيع الحاضر للبادي. المسألة الثامنة: حكم الشراء للبادي. المسألة التاسعة: النهي عن بيع الحاضر للباد أذن بغبنه. المسألة العاشرة: هل ينصح الحاضر للبادي. هذا آخر ما استوعبه هذا المجلد من خطة البحث المتعلقة بعقد البيع، ونستكمل إن شاء الله تعالى بقية خطة البحث في المجلدات القادمة، أسأل الله العظيم العون والتوفيق.
المسألة الرابعة في بيع الأعمى وشرائه
المسألة الرابعة في بيع الأعمى وشرائه [م - 356] يدخل في بيع ما لم يره العاقد بيع الأعمى وشراؤه، وقد اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح، وهو مذهب الجمهور، وقول في مذهب الشافعية (¬1). على خلاف بينهم، هل يشترط الوصف، أو يصح بدونه على ما قدمنا في بيع الغائب؟ فقيل: يصح مطلقاً بالوصف وبدونه، وهو مذهب الحنفية. وقيل: يصح بالوصف أو ما يقوم مقامه، وهذا مذهب المالكية. قال ابن عبد البر: "جائز عند مالك بيع الأعمى، وشراؤه، في السلم وغيره، إذا وصف له الشيء صفة معلومة، أو كان معه من يراه له ممن يرضى ذلك منه" (¬2). وقال في الروض المربع: "يصح بيع الأعمى وشراؤه، بالوصف، واللمس، والشم، والذوق فيما يعرف به" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا يصح، وهو مذهب الشافعية (¬1)، بناء على أصل مذهبهم في عدم جواز بيع المعين الموصوف إذا كان غائبًا. قال النووي: "إن لم يجز بيع الغائب ولا شراؤه، لم يجز بيع الأعمى وشراؤه، وإلا فوجهان، أصحهما: لا يجوز أيضًا، إذ لا سبيل إلى رؤيته، فيكون كبيع الغائب ... " (¬2). القول الثالث: لا يصح بيع الأعمى ولا شراؤه إذا كان المبيع جزافًا؛ لأنه في الحالة هذه يشترط رؤية المبيع، ذكر ذلك بعض المالكية (¬3). والخلاف في هذه المسألة والأدلة فيها راجع إلى المسألة التي قبلها، وهو هل رؤية المبيع شرط في البيع، أو تكفي الصفة، جاء في النكت والفوائد على مشكل المحرر: "قال القاضي وغيره: شراء الأعمى وبيعه جائز على قياس المذهب، وأن الرؤية ليست بشرط في عقد البيع، وإنما الاعتبار بالصفة، وهذا يمكن في حق الأعمى" (¬4). وما رجحته في مسألة بيع الغائب أرجحه هنا، وأن الأعمى إذا كان يمكنه إدراك حقيقة المبيع بدون رؤية كما لو كان يدرك بالشم كالطيب، أو بالذوق كالمأكول فهذا لا يحتاج إلى اشتراط الرؤية أصلاً. ¬
وإن كان المبيع لا يدرك إلا بالرؤية أو بالوصف، ولا يدرك عن طريق اللمس أو الشم أو الذوق، فإن اشترى الشيء بدون صفة كان له الخيار مطلقًا مدة معلومة بما يكفي تجربة المبيع، والوقوف على حقيقته، وإن اشترى الشيء بالصفة، فإن طابقت الصفة الموصوف لم يكن له الخيار، وإن اختلفت الصفة كان له الخيار في ذلك للخلف في الصفة، والله أعلم.
المسألة الخامسة في بيع المغيبات في الأرض
المسألة الخامسة في بيع المغيبات في الأرض [م - 357] يدخل في بيع ما لم يره العاقد بيع المغيبات في الأرض. وقد ذكرنا من شروط المبيع أن يكون معلومًا برؤية أو صفة، فما حكم بيع بعض النباتات المستترة في الأرض كاللفت والجزر والفجل والبصل والبطاطس ونحوها؟ فهل كون هذه المغيبات لا يمكن رؤيتها، لا يصح بيعها حتى يتم قلعها وتتم معاينتها، أو يصح بيعها باعتبار أن أهل الخبرة يستدلون بما ظهر منها على ما بطن؟ وقبل الجواب أود أن ألفت الانتباه بأن المسألة محصورة فيما إذا كان المستتر في الأرض هو المقصود في الصفقة دون ما ظهر. أما ما كان يقصد منه فروعه وأصوله، كالبصل، والفجل. أو كان المقصود فروعه فقط، فالأولى جواز بيعه. يقول ابن قدامة عن بيع المغيبات: "أما إذا كان مما تقصد فروعه وأصوله، كالبصل المبيع أخضر والكراث والقجل، أو كان المقصود فروعه فالأولى جواز بيعه؛ لأن المقصود منه ظاهر، فأشبه الشجر والحيطان التي لها أساسات مدفونة، ويدخل ما لم يظهر في البيع تبعًا فلا تضر جهالته، كالحمل في البطن، واللبن في الضرع مع الحيوان ... " (¬1). أما إذا كان المقصود منه أصوله فقط، ففي جواز بيعه، وهو كامن في الأرض خلاف بين أهل العلم على قولين: ¬
القول الأول
القول الأول: ذهب الحنفية والمالكية إلى جواز بيع المغيبات في الأرض على خلاف بينهم في شروط الجواز. فذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى جواز بيع المغيبات في الأرض إن علم وجوده، ويكون مشتريًا شيئًا لم يره. إلا أن أبا حنيفة يثبت للمشتري الخيار مطلقًا ما لم ير الكل ويرض به، سواء كان يباع كيلًا، أو وزنًا، أو عددًا. وذهب صاحباه إلى أن المبيع إن كان مما يكال، أو يوزن بعد القطع كالجزر والثوم والبصل، وقلع المشتري بعضه لإذن البائع، أو قلعه البائع، فإن رضي بالمقلوع لزمه البيع بالباقي (¬1)؛ لأن الرضا ببعض المكيل بعد رؤيته رضا بالكل؛ لأن رؤية بعضه تدل على الباقي. وإن كان المغيب يباع بعد القلع عددًا، كالسلق والفجل لا يلزمه المبيع ما لم ير الكل، ويرض به؛ لأن رؤية البعض منه لا تفيد العلم بحال الباقي؛ للتفاوت الفاحش بين الصغير والكبير من هذا الجنس، فلا يحصل المقصود برؤية البعض، فيبقى على خياره (¬2). ¬
فعلم من هذا التفصيل، أن مذهب الحنفية جواز بيع المغيب في الأرض، إذا علم وجوده، ويبقى الخلاف في ثبوت الخيار للمشتري بعد رؤيته، فأبو حنيفة يثبت له الخيار مطلقًا. وذهب صاحباه أن ما يباع كيلاً، أو وزنًا، إذا رأى بعضه ليس له خيار في الباقي، وما يباع بالعدد فللمشتري الخيار، ولو رأى بعضه، وعليه الفتوى. وأما مذهب المالكية، فمنهم من أجازه مطلقًا، كالناصر اللقاني، ورأى أن رؤية ورقه يستدل بها على رؤية ما في الأرض من كبر أو صغر، على ما هو معروف لأهل الخبرة. واشترط ابن رشد وغيره ثلاثة شروط للجواز: الأول: أن يرى المشتري ظاهره. الثاني: أن يقلع شيئًا منه ويراه، فلا يكفي في الجواز رؤية ما ظهر منه بدون قلع. الثالث: أن يحزر إجمالًا بالقيراط، أو بالفدان، أو بالقصبة، ونحوها، ولا يجوز بيعه من غير حرز حتى لا يكون مجهولًا (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2) والظاهرية (¬3)، إلى أنه لا يجوز بيع المغيب في الأرض. خلاصة الأقوال: نحن أمام قولين للفقهاء، قول يرى جواز بيع المغيب في الأرض، كالحنفية والمالكية، على خلاف بينهم في شروط الجواز. وقول يمنع من بيعه مطلقًا كالشافعية والحنابلة والظاهرية. دليل من قال: يجوز بيع المغيب في الأرض. الدليل الأول: قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. فالآية مطلقة تشمل بيع المغيب في الأرض، وغير المغيب في الأرض، ومن استثنى المغيب في الأرض فعليه الدليل. الدليل الثاني: (ح - 199) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حسن، حدثنا حماد بن سلمة، عن ¬
حميد عن أنس بن مالك، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع الثمرة حتى تزهو، وعن العنب حتى يسود، وعن الحب حتى يشتد (¬1). [رجاله ثقات، وأشار الترمذي والبيهقي إلى تفرد حماد، وأشار البيهقي إلى مخالفته أصحاب حميد] (¬2). ¬
(ح - 200) وروى مسلم من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيض، ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري (¬1). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: في الحديثين دليل على جواز بيع المغيبات في الأرض؛ لأن الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز في حديث أنس بيع الحب إذا اشتد، وفي رواية ابن عمر إذا ابيض، ولم يقل: حتى ينفصل من سنبله، فكان هذا دليلاً على جواز بيع المغيبات في الأرض إذا طابت، وصلحت للأكل. الدليل الثالث: كل الأدلة التي سقناها على جواز بيع العين الغائبة عن مجلس العقد تصلح دليلاً لمسألتنا هذه، بجامع أن كلا منهما غائب عن المشاهدة. الدليل الرابع: أن أهل الخبرة يستدلون برؤية ورق هذه المدفونات على حقيقتها، ويعلمون ذلك أجود مما يعلمون البيت برؤية جدرانه، والمرجع في كل شيء إلى الصالحين من أهل الخبرة به، وهم يقرون أنهم يعرفون هذه الأشياء، كما يعرف غيرها، مما اتفق المسلمون على بيعه. الدليل الخامس: أن هذا مما تمس الحاجة إلى بيعه، فإنه إذا لم يبع حتى يقلع حصل على أصحابه ضرر عظيم، فإنه قد يتعذر عليهم مباشرة القلع، والاستنابة فيه، وإن قلعوه جملة فسد بالقلع، فبقاؤه في الأرض كبقاء الجوز واللوز ونحوهما في قشره الأخضر (¬1). ¬
دليل من قال: لا يجوز بيع المغيبات في الأرض حتى ترى.
دليل من قال: لا يجوز بيع المغيبات في الأرض حتى ترى. الدليل الأول: (ح - 201) ما رواه مسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رحمه لله -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر (¬1). وجه الغرر في هذا البيع: أن المبيع في الأرض مجهول القدر، مجهول الصفة، وما كان كذلك، كان في الإقدام على شرائه مخاطرة، فقد يغنم، وقد يغرم. وأجيب: بأننا لا نعترف أن فيه غررًا، وعلى التسليم بأن فيه غررًا، فهو من الغرر اليسير المغتفر، مقابل المصلحة الراجحة، وقياسًا على بيع العقار، فإذا رؤي من المبيع ما يدل على ما لم ير جاز البيع باتفاق المسلمين في مثل بيع العقار، والحيوان، فغيره مقيس عليه، وكذلك ما يحصل من الحرج بمعرفة جميعه يكتفى برؤية ما يمكن منه، كما في بيع الحيطان، وما مأكوله في جوفه، والحيوان الحامل، وغير ذلك. قال ابن القيم: "قول القائل: إن هذا غرر ومجهول، فهذا ليس حظ الفقيه، ولا هو من شأنه، وإنما هذا من شأن أهل الخبرة بذلك، فإن عدوه قمارًا أو غررًا فهم أعلم بذلك، وإنما حظ الفقيه يحل كذا؛ لأن الله أباحه، ويحرم كذا؛ لأن الله حرمه، وقال الله وقال رسوله وقال الصحابة، وأما أن هذا يرى خطرًا وقمارًا وغررًا فليس من شأنه، بل أربابه أخبر بهذا منه، والمرجع إليهم فيه، كما يرجع إليهم في كون هذا الوصف عيبًا أم لا، وكون هذا البيع مربحًا أم لا، ¬
الدليل الثاني
وكون هذه السلعة نافقة في وقت كذا وبلد كذا ونحو ذلك من الأوصاف الحسية والأمور العرفية ... " (¬1). الدليل الثاني: بيع المغيبات في الأرض، إما أن يبيعه بشرط خيار الرؤية، أو يبيعه بدون خيار الرؤية، وفي الحالتين لا يجوز: لأنه إن باعه بدون أن يكون له خيار فهذا من الغررة لجهالة قدره، ووصفه. وقد أجبت عن دعوى الغرر. وإن باعه بشرط الخيار إذا رآه لم يجز أيضًا؛ لأن اشتراط خيار الرؤية إنما يكون في بضاعة إذا ردها المشتري على البائع لم يتضرر البائع، وها هنا لا يمكن أن يرده إليه إلا بعد قلعه، ولا يمكنه رده على البائع كما أخذه، وقد يفسد على البائع إذا خرج من الأرض؛ لأن الأرض بمثابة القشرة له تحفظه من الفساد (¬2). ويناقش: بأن هذه العلة هي التي حملتنا على القول بجواز بيع المغيب في الأرض، لأننا إذا قلنا: لا يباع حتى يقلع، حصل على أصحابه ضرر عظيم؛ لأنهم إذا قلعوه جملة فسد بالقلع، وقد يتأخر شراؤه، فأجزنا بيعه، وهو كامن في أرضه، مراعاة لمصلحة البائع، والمشتري معًا، والمشتري يستطيع أن يستدل بما ظهر منه على ما بطن، والله أعلم. ¬
الراجح من الخلاف
الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأدلة نجد أن القول بجواز البيع على من يستطيع أن يستدل بما ظهر من النبات على ما بطن منه هو القول الراجح لقوة أدلته، فإن كان لا يستطيع أن يستدل على ما بطن برؤية ما ظهر فلا يحل له الشراء، والله أعلم.
المسألة السادسة في بيع ما مأكوله في جوفه
المسألة السادسة في بيع ما مأكوله في جوفه [م - 308] يدخل في بيع الغائب مما لا يراه العاقد بيع ما مأكوله في جوفه، وقد اختلف العلماء في بيع ما يختفي في قشره كالجوز واللوز والحب في سنبله على قولين: القول الأول: يجوز بيع البر في سنبله، والجوز، والفستق واللوز، في قشره مطلقًا، سواء بيع الحب وحده، أو الحب مع قشره، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2)، والقديم من قول الشافعي (¬3)، إلا أن الحنفية أثبتوا للمشتري خيار الرؤية؛ لأنه اشترى ما لم يره. وأجاز المالكية بيع الحب في سنبله جزافًا. إذا يبس، واستغنى عن الماء، وابيض السنبل، بشرط أن يكون قتًا، أو قائمًا دون المنفوش (¬4)، ودون ما في ¬
القول الثاني
تبنه إلا أن يكون رآه، وهو في سنبله قائمًا، وحزره، وألا يفرد الحنطة في سنبلها في الشراء دون السنبل على الجزاف. ومثله الجوز واللوز والباقلاء لا يجوز أن يفرد بالبيع دون قشره على الجزاف، ويجوز كل ذلك بالكيل (¬1). القول الثاني: لا يجوز بيع الحب في سنبله، وهو الجديد من قول الشافعي (¬2). وإذا كان للمبيع كمام واحد لا يزال إلا عند الأكل كالرمان والبيض جاز بيعه في قشره. وأما ما له كمامان: كالجوز واللوز والباقلاء: أي القول فيباع في قشره الأسفل؛ لأن بقاءه فيه من مصلحته، ولا يصح في الأعلى (¬3). ¬
دليل من قال: يجوز بيع الحب المشتد في سنبله.
فتلخص لنا من الخلاف قولان: أحدهما: يجوز بيع الحب في سنبله، سواء كان القول بالجواز مطلقًا كالحنفية والحنابلة، والقديم من قول الشافعي، أو جاز ذلك بشروط كالمالكية، وكان قصد المالكية من هذه الشروط إبعاد الغرر عن هذا البيع، خاصة في بيعه جزافًا. والثاني: لا يجوز بيع الحب في سنبله كالجديد من قول الشافعي. دليل من قال: يجوز بيع الحب المشتد في سنبله. الدليل الأول: (ح - 202) ما رواه مسلم من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيض، ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري (¬1). وجه الاستدلال: أجاز الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر بيع الحب إذا ابيض، ولم يقل: حتى ينفصل من سنبله، فكان هذا دليلاً على جواز بيع الحب في سنبله، وإذا جاز بيع الحب في سنبله، وهو غائب في قشره جاز بيع ما مأكوله في جوفه لعدم الفرق. الدليل الثاني: إذا جاز بيع الرمان في قشره، والبيض في قشره، فيجوز كذلك بيع الحنطة في سنبلها، والجوز، واللوز في قشرهما، وهذا مقتضى القياس. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: كل دليل استدللنا به على جواز بيع الغائب، وعلى جواز بيع الكامن في الأرض، يصح أن يكون دليلًا هنا، بجامع أن كلًا منهما مستتر. دليل من قال: لا يجوز البيع. الدليل الأول: (ح - 203) استدلوا بما رواه مسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر (¬1). وجه كونه من الغرر: أن الحب في سنبله مجهول القدر والصفة، والمقصود في البيع هو الحب دون السنبل، ورؤية السنبل وحده لا تحصل به المعرفة التامة في مقدار الحب، وهو شرط من شروط صحة البيع. الراجح: بعد عرض الأدلة أجد القول بالجواز هو القول الراجح، ونظر الشافعية نظر في مقابل النص؛ لأن النهي عن بيع الحب في سنبله يمتد إلى أن يبيض ويأمن العاهة، فإذا اشتد جاز بيعه، ولم يشترط الحديث غير ذلك، فاشتراط أن ينفصل عن السنبل زيادة على الحديث المرفوع، والله أعلم. ¬
المسألة السابعة في بيع أسهم شركات المساهمة
المسألة السابعة في بيع أسهم شركات المساهمة [ن - 15] يدخل في بيع ما لم يره العاقدان، البائع والمشتري بيع أسهم ما يسمى بالشركات المساهمة. فقد انتشر في عصرنا هذا النوع من الشركات، وجرى بين الناس تداول أسهمها بالبيع، والهبة ونحوهما، وإذا كان الراجح في توصيف السهم: أنه حصة شائعة في الشركة وموجوداتها، وأموال الشركة بعضها نقود، وبعضها ديون لها وعليها، وبعضها عروض مما لا يمكن ضبطه بالرؤية أو بالصفة بين المتبايعين، وإذا كان من شروط المبيع أن يكون معلومًا برؤية أو صفة، فالسؤال كيف يتحقق هذا الشرط في بيع تلك الأسهم؟ وللجواب على هذا الإشكال يقول سماحة مفتي الديار السعودية في عصره الشيخ محمَّد بن إبراهيم رحمه الله تعالى: "ورد إلينا استفتاء عن هذه الشركات المساهمة، كشركة الكهرباء والأسمنت، والغاز، ونحوها مما يشترك فيه المساهمون، ثم يرغب بعضهم بيع شيء من سهامهم بمثل قيمتها، أو أقل، أو أكثر، حسب نجاح تلك الشركة وضده، وذكر المستفتي أن الشركة عبارة عن رؤوس أموال، بعضها نقد، وبعضها ديون لها وعليها، وبعضها قيم ممتلكات وأدوات مما لا يمكن ضبطه بالرؤية ولا بالوصف، واستشكل السائل القول بجواز بيع تلك السهام؛ لأن المنصوص: اشتراط معرفة المتبايعين للمبيع ... وذكر أن هذا مما عمت به البلوى، وهذا حاصل السؤال منه ومن غيره عن حكم هذه المسألة. والجواب: الحمد لله، لا يخفى أن الشريعة الإِسلامية كفيلة ببيان كل ما يحتاج الناس إليه في معاشهم، ومعادهم، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَاب
تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، والكلام على هذا مبني على معرفة حكم عقد هذه الشركة، ومساهمة الناس فيها، ولا ريب في جواز ذلك، ولا نعلم أصلًا من أصول الشريعة يمنعه وينافيه، ولا أحد من العلماء نازع فيه. إذا عرف هذا فإنه إذا كان للإنسان أسهم في آية شركة، وأراد بيع أسهمه منها، فلا مانع من بيعها بشرط معرفة الثمن، وأن يكون أصل ما فيه الاشتراك معلومًا، وأن تكون أسهمه منها معلومة أيضًا. فإن قيل: إن فيها جهالة؛ لعدم معرفة أعيان ممتلكات الشركة، وصفاتها، فيقال: إن العلم في كل شيء بحسبه، فلا بد أن يطلع المشتري على ما يمكن الاطلاع عليه بلا حرج ولا مشقة، ولا بد أن يكون هناك معرفة عن حال الشركة ونجاحها وأرباحها، وهذا مما لا يتعذر علمه في الغالب؛ لأن الشركة تصدر في كل سنة نشرات توضح فيها بيان أرباحها وخسائرها، كما تبين ممتلكاتها من عقارات ومكائن وأرصدة كما هو معلوم من الواقع، فالمعرفة الكلية ممكنة ولابد، وتتبع الجزئيات في مثل هذا فيه حرج ومشقة، ومن القواعد المقررة أن المشقة تجلب التيسير، وقد صرح الفقهاء رحمهم الله باغتفار الجهالة في مسائل معروفة، في أبواب متفرقة، مثل جهالة أساس الحيطان وغير ذلك ... " (¬1). ويقول الدكتور عمر المترك - رحمه لله -: "إنه وإن كان يحصل في الشركات نوع من الجهالة، إلا أن مثل هذه الجهالة تغتفر، حيث إنها لا تفضي إلى النزاع. والجهالة التي تؤثر في صحة العقد هي الجهالة التي تؤدي إلى عدم إمكان تنفيذ العقد، أو إلى نزاع فيه، كبيع شاة من قطيع تتفاوت آحاده دون تعيين، فإن البائع يرغب عادة في إعطاء المشتري أدناه، والمشتري يرغب في أن يأخذ منه أحسنه ¬
وأغلاه، فيتنازعان، ويؤدي ذلك إلى عدم التنفيذ، أما الجهالة في مثل هذه المسألة فلا تؤدي إلى نزاع؛ لأن البيع والشراء يجري في جزء معين، وهو معلوم للبائع والمشتري. ولأن الناس محتاجون إلى هذه البيوع، والقول بعدم جوازها يؤدي إلى ضرر كبير، والشارع لا يحرم ما يحتاج إليه الناس لأجل نوع يسير من الغرر، ولذا أباح بيع الثمار بعد بدء صلاحها مبقاة إلى الجذاذ، وإن كان بعض المبيع لم يخلق بعد، وأجاز بعض العلماء بيع المغيبات في الأرض كالجزر وما أشبهه، وبيع ما يكون قشره صونًا له كالعنب والرمان والموز في قشره قولًا واحدًا، فإذا رئي من المبيع ما يدل على ما لم ير جاز البيع باتفاق، فكذلك الشركات يستدل على نجاحها وفشلها بما ظهر منها واشتهرت به، وبيع الغرر نهي عنه؛ لأنه يفضي إلى أكل المال بالباطل، فإذا عارض ذلك ضرر أعظم من ذلك أبيح دفعًا لأعظم الفسادين باحتمال أدناهما، وهذه قاعدة مستقرة في الشريعة الإسلامية" (¬1). وسوف أتناول بشيء من التفصيل الخلاف الفقهي في جواز إنشاء شركات المساهمة، والخلاف في حكم تداولها في بحوث مستقلة إن شاء الله تعالى في الكلام على سوق المال، وأسوق حجج المانعين وأدلة المجيزين بشيء من التوسع، وإنما اقتضى التذكير هنا لهذه المسألة لعلاقة بيع الأسهم هنا في بيع ما لم يره العاقد، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه، وأعاننا على فهمه ومعرفة الحق فيه. ... ¬
المطلب الثاني في بيع الأنموذج
المطلب الثاني في بيع الأنموذج [م - 309] هل تكفي رؤية الأنموذج عن رؤية بقية المبيع؟ إن كان الأنموذج من مال متقوم تتفاوت آحاده، فاختلف العلماء في صحة بيعه بالأنموذج على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح، وله الخيار إذا رآه. وهذا مذهب الحنفية (¬1). وجه القول بالصحة: شراء المتقوم بالأنموذج يعتبر بمنزلة من اشترى بلا رؤية ولا صفة، والمبيع يصح بيعه بلا رؤية ولا صفة، ويكون لمشتريه الخيار إذا رآه. وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على خيار الرؤية. القول الثاني: لا يصح مطلقًا، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬2). وجه القول بعدم الصحة: إذا كانت آحاده متفاوتة لم تكن رؤية الأنموذج دالة على رؤية باقية، فكأنه اشترى الشيء دون علم بالمبيع، والعلم بالمبيع شرط لصحة البيع. ¬
القول الثالث
كما أن الشافعية يمنعون من بيع الموصوف الغائب إذا كان معينًا. القول الثالث: لا يصح شراء المتقوم برؤية بعضه إلا أن يكون في نشره إتلاف للمبيع، فيصح للحاجة (¬1). وإن كان الأنموذج من مال مثلي. فاختلف أهل العلم في ذلك على قولين: القول الأول: يصح بيع الأنموذج على خلاف بينهم في شرط الجواز، وهذا قول جمهور العلماء، وقول في مذهب الحنابلة. فالحنفية قالوا: يصح ورؤية الأنموذج كافية في إسقاط خيار الرؤية؛ لأن رؤية بعضه تقوم مقام رؤية كله لتساوي آحاده، بخلاف المتقوم، ولجريان العادة بالاكتفاء برؤية بعضه في الجنس الواحد. ولأن رؤية جميع المبيع لا تشترط، لتعذره في بعض الأحوال، فيكتفى برؤية ما يدل على العلم بالمقصود (¬2). وذهب المالكية إلى صحة بيع الشيء برؤية بعضه لكن إن اشتراه جزافًا اشترط أن يكون المبيع حاضرًا، وإن اشتراه مكيلًا لم يشترط حضور المبيع (¬3). ¬
وذهب الشافعية إلى تفصيل آخر في بيع الأنموذج: قال النووي: "إذا رأى أنموذجًا من المبيع منفصلًا عنه، وبنى أمر المبيع عليه، نظر: إن قال: بعتك من هذا النوع كذا وكذا، فالمبيع باطل؛ لأنه لم يعين مالًا، ولم يراع شروط السلم، ولا يقوم ذلك مقام الوصف في السلم على الصحيح من الوجهين؛ لأن الوصف يرجع إليه عند النزاع بخلاف هذا. وإن قال: بعتك الحنطة التي في البيت، وهذا الأنموذج منها، فإن لم يدخل الأنموذج منها فوجهان، أصحهما: لا يصح البيع؛ لأن البيع غير مرئي (¬1) وإن أدخلها صح على أصح الوجهين ... ثم صورة المسألة مفروضة في المتماثلات، والله - سبحانه وتعالى - أعلم " (¬2). جاء في الإنصاف "وقيل: ضبط الأنموذج كذكر الصفات، نقل جعفر فيمن ¬
القول الثاني
يفتح جرابًا ويقول: الباقي بصفته، إذا جاء على صفته ليس له رده، قال المرداوي: وهو الصواب" (¬1). القول الثاني: ذهب الحنابلة إلى أن بيع الأنموذج لا يصح، قال في الإنصاف: " ولا يصح بيع الأنموذج، بأن يريه صاعًا، ويبيعه الصبرة على أنها من جنسه على الصحيح من المذهب، وقدمه في الفروع وغيره ... " (¬2). وعلل البهوتي عدم الصحة: "لعدم رؤية المبيع وقت العقد" (¬3). الراجح: بعد أن ذكرنا مذاهب العلماء في بيع الأنموذج، أرى أن الراجح هو القول بالجواز لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. ولأن الأصل عدم التحريم حتى يأتي نص من الشرع ينهى عن هذه المعاملة بخصوصها، أو يكون في القول بالجواز وقوع في محذور شرعي مجمع عليه، ولا محذور إن شاء الله تعالى، إلا أن القول بالجواز ينبغي أن يكون بالضوابط التالية: أولاً: أن يكون المبيع مما لا تتفاوت آحاده، حتى يمن أن تكون رؤية الأنموذج تعبر عن رؤية الكل؛ لأن آحاده إذا اختلفت لم يكن لرؤية الأنموذج فائدة. ¬
الثاني: أن يكون المبيع معينًا، وليس موصوفًا، فإن باع غير معين: أي موصوف كما لو قال: أبيعك مائة صاع من البر بمثل هذا الأنموذج، فهذا يشترط فيه ما يشترط في السلم؛ لأننا لو جوزنا البيع بهذه الصفة دون تقديم الثمن كان البيع بيع دين بدين، وهذا لا يجوز، فلا بد من تعيين المبيع في مثل هذه الحالة، أو يقدم الثمن ليكون المبيع سلمًا إما حالًا وإما مؤجلًا بناء على صحة السلم الحال، وفيه خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى. وأما اشتراط الشافعية أن يكون الأنموذج جزءًا من المبيع، حتى يمكن أن يقال: إن المشتري قد رأى بعض المبيع؛ لأن الأنموذج إذا كان خارج الصفقة يكون المبيع لم ير بعضه، وهم يمنعون بيع الغائب المعين كما مر معنا، فهذا الشرط، وإن كان طردًا لمذهبهم إلا أنه ليس بوجيه؛ لأن بيع الغائب الموصوف على الصحيح أنه جائز، ولو لم ير، والله أعلم.
المطلب الثالث في حكم البوفية المفتوح
المطلب الثالث في حكم البوفية المفتوح [ن - 16] البوفيه: كلمة، أصلها فرنسي، كانت تعني قطعة من الأثاث فيها أدراج وخزائن للأواني، ثم شملت الطاولة التي تقدم عليها المرطبات، ثم أصبحت تعني المطعم الذي يحتوي على هذه الطاولة (¬1). وكلمة مفتوح: تعني أن للمشتري أن يختار من جميع الأصناف المعروضة المقدار الذي يكفيه لوجبة واحدة. فهذا البيع يحتمل الصحة؛ لأن المشتري قد عرف المبيع بالرؤية، والبائع حدد المقدار بوجبة واحدة، وتفاوت الناس في الأكل يعتبر من التفاوت اليسير الذي يتسامح الناس فيه عادة، فيلحق بالغرر اليسير الجائز، ولو وجد أن أنسانًا قد يأكل بما مقداره وجبتين، أو أكثر، فهذا نادر، وسعر البوفيه المفتوح مرتفع قليلاً عن غيره لكون المشتري يحدد المقدار والصنف الذي يريد، وهذا الارتفاع في السعر يعوض البائع عن حالات قليلة قد يكون المشتري ممن يأكل مقدارًا يخرج عن العادة. وقد يقال: بأن هذا البيع يحتمل عدم الصحة؛ لأن الأصناف المعروضة متفاوتة في السعر، فقد يرغب في أغلاها سعرًا، وتحديد المقدار بالوجبة الواحدة للشخص لا يكفي، فإن الناس يتفاوتون في مقدار ما يأكلون تفاوتًا كبيرًا، فيدخل ذلك في الغرر المنهي عنه. والقول بالصحة عندي أقوى، والله أعلم. ¬
المطلب الرابع في بيع اللبن في الضرع
المطلب الرابع في بيع اللبن في الضرع [م - 310] يجوز بيع الحيوان، وفي ضرعه لبن، وإن كان اللبن مجهولًا؛ لأنه تابع للحيوان، وحكي الإجماع على جوازه، ودليله حديث المصراة، وهو في الصحيحين (¬1). [م - 311] ويجوز بيع اللبن بعد انفصاله من الضرع جزافًا، ومكيلًا، ولا إشكال فيه. [م - 312] وأما بيع اللبن وحده، وهو في الضرع، فقد اختلف العلماء في جواز ذلك على قولين: القول الأول: لا يجوز بيع اللبن في الضرع قبل انفصاله، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). استدل القائلون بعدم الجواز: الدليل الأول: (ح - 204) ما رواه الطبراني في معجمه من طريق حفص بن عمر الحوضي، ¬
ثنا عمر بن فروخ - صاحب الأقتاب - ثنا حبيب بن الزبير، عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تباع ثمرة حتى تطعم، ولا صوف على ظهر، ولا لبن في ضرع (¬1). [الراجح وقفه على ابن عباس] (¬2). ¬
الدليل الثاني
وله شاهد من حديث أبي سعيد سيأتي ذكره إن شاء الله في باب بيع الصوف على الظهر. الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الغرر، والجهل بالمبيع غرر منهي عنه، وما في الضرع لا يمكن الوقوف على مقداره، ولا يكفي في هذا رؤية الضرع أو لمسه فقد يكون الضرع كبيرًا من السمن، فيظن أنه من اللبن. الدليل الثالث: من شروط البيع القدرة على تسليم المبيع، وشراء اللبن في الضرع يتعذر تسليم المبيع بعينه؛ لأنه لا يعرف مقدار ما وقع عليه البيع، فإنه وإن كان مشاهدًا كاللبن في الظرف، لكنه إذا حلبه خلفه مثله سريعًا مما لم يكن في الضرع، فيختلط فيه ملك البائع بملك المشتري على وجه لا يتميز. القول الثاني: قالوا: يجوز بيع اللبن في الضرع أيامًا معدودة إذا عرف صفته، وقدره، وهذا اختيار القاضي عبد الوهاب البغدادي من المالكية (¬1). ¬
وحجته
وحجته: قال القاضي: "لأنه لبن موصوف بصفته، وقدره، فجاز بيعه في الضرع مدة معلومة كلبن الظئر" (¬1). وقد يناقش هذا القول: بأن هناك فرقًا بين بيع اللبن في الضرع، واستئجار المرأة لترضع الطفل، فالعقد في الظئر عقد مركب من عقدين هما بيع وإجارة فافترقا، ولذلك ذهب ابن تيمية إلى التفريق بين بيع اللبن في الضرع وبين استئجار البهيمة مدة معلومة لأخذ لبنها، فمنع الأول وأجاز الثاني، وهي مسألة خلافية بين أهل العلم (¬2). القول الثالث: قيل: يجوز شراء اللبن في الضرع من الغنم جزافًا وكيلاً، لكن إن اشتراه جزافًا فيشترط لجواز البيع شروط، وهي: الأول: أن تكون الغنم كثيرة كالعشرة ونحوها. الثاني: أن يكون الشراء في إبان اللبن. الثالث: أن يعرف قدر حلابها. الرابع: أن يكون إلى أجل لا ينقضي اللبن قبله. الخامس: أن يشرع في أخذ ذلك يومه أو إلى أيام يسيرة. وإن اشترى اللبن بكيل معلوم كأن يقول: اشتري منك كل يوم رطلين من لبن ¬
وحجة من فرق بين الشاة الوحدة وبين الغنم الكثير
شياهك مدة شهر بكذا، فيجوز بالشروط السابقة عدا الشرط الأول (¬1). هذا قول المالكية في بيع لبن الغنم المتعدد، وأما بيع لبن الشاة الواحدة، فاختلف المالكية في جوازه، فروى أشهب عن مالك جوازه. ورأى ابن القاسم منعه، وهو الأكثر. وحجة من فرق بين الشاة الوحدة وبين الغنم الكثير: أن الشاة الواحدة يلحقها التغير بالنقصان والزيادة، وقد يكون اللبن صافيًا وقد يكون كدرًا، والغنم الكثير يحمل بعضها بعضًا فلا يظهر في جملتها تغير بزيادة ولا نقصان، فيبعد الغرر فيها (¬2). هذه الشروط من المالكية حملهم عليها حرصهم على معرفة مقدار المبيع وضبطه، وجعل الغرر إن وقع، يكون من الغرر اليسير المغتقر، فهم في اللبن الجزاف اشترطوا أمورًا تتعلق بعضها في وقت الشراء، وبعضها في مقدار المبيع، وبعضها في عدد الغنم. ففي الوقت: اشترطوا أن يكون الشراء في إبان اللبن؛ لأن الشاة في آخر وقتها، وبعد شهور من إنجابها يقل لبنها، بخلاف لبنها إذا كان بعد الإنجاب مباشرة. كما اشترطوا أن يكون عدد الغنم كثيراً حتى يضمن عدم تغير صفة اللبن. وأن يضرب أجلًا يعلم أن لبنها لا ينقطع إلى مثله. ¬
القول الرابع: رأي ابن تيمية وابن القيم.
وأن يكون المتبايعان قد عرفا قدر حلابها حين التبايع، فهذه الشروط لا شك أنها تضبط إلى حد كبير جدًا مقدار المبيع وصفته، فينتفي عنه الغرر الكثير، ويبقى الغرر اليسير مما يغتفر مثله إن شاء الله تعالى. وأما إن اشتراه كيلًا فلا يدخله غرر حينئذ من جهة المقدار، وإذا لم يوف اللبن بالقدر المطلوب، أو جاء على صفة غير مرغوبة انفسخ المبيع كالسلم تمامًا. فلا أرى مع هذه الضوابط التي وضعها المالكية أي محذور شرعي من جواز بيع اللبن في الضرع، وليس في جوازه ظلم لأحد المتبايعين، وقدر المبيع يعرف بالعادة، وإنما المحذور، والظلم، أن يحصل لأحد المتعاوضين مال، والآخر قد يحصل له وقد لا يحصل، وما يقال من أن اللبن وقت الحلب يختلط بلبن حادث، لم يقع عليه البيع، فيجاب عنه، بأن هذا المقدار يسير جدًا في وقت يسير جدًا، وهو وقت الحلب، والذي لا يستغرق دقائق معدودة، وقد طابت به نفس البائع، فيكون من الغرر اليسير الذي لا يؤثر في البيع، والله أعلم. قال الشيخ الصديق محمَّد الأمين الضرير " فهذه الضمانات -يعني شروط المالكية في جواز بيع اللبن في الضرع - كافية لتصحيح بيع اللبن في الضرع في الشاة الواحدة، وفي الغنم الكثير، وإن كان الغرر في بيع الغنم الكثير أبعد منه في بيع لبن الشاة الواحدة " (¬1). القول الرابع: رأي ابن تيمية وابن القيم. قال ابن القيم: "وأما بيع اللبن في الضرع ... يجب فيه التفصيل: ¬
فإن باع الموجود المشاهد في الضرع، فإذا لا يجوز مفردًا، ويجوز تبعًا للحيوان؛ لأنه إذا بيع مفردًا تعذر تسليم المبيع بعينه؛ لأنه لا يعرف مقدار ما وقع عليه البيع، فانه وإن كان مشاهدًا، كاللبن في الظرف، لكنه إذا حلبه خلفه مثله مما لم يكن في الضرع، فاختلط المبيع بغيره على وجه لا يتميز، وإن صح الحديث الذي رواه الطبراني في معجمه من حديث ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يباع صوف على ظهر، أو لبن في ضرع " فهذا إن شاء الله محملة. وأما إن باعه آصعًا معلومة من اللبن، يأخذه من هذه الشاة، أو باعه لبنها أيامًا معلومة، فهذا بمنزلة بيع الثمار قبل بدو صلاحها، لا يجوز (¬1). وأما إن باعه لبنًا مطلقًا موصوفًا في الذمة، واشترط كونه من هذه الشاة، أو البقرة، فقال شيخنا: هذا جائز. واحتج بما في المسند من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يسلم في حائط بعينه، إلا أن يكون قد بدا صلاحه (¬2). ثم قال ابن القيم: "وأما إن أجره الشاة، أو البقرة، مدة معلومة، لأخذ لبنها في تلك المدة، فهذا لا يجوزه الجمهور، واختار شيخنا جوازه، وحكاه قولًا لبعض أهل العلم، وله فيها مصنف مفرد" (¬3). ¬
واستئجار الشاة للبنها سيأتي إن شاء الله بحثه في كتاب الإجارة، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. وأرى أن أرجح الأقوال قول المالكية، والله أعلم.
المطلب الخامس بيع الحمل في البطن
المطلب الخامس بيع الحمل في البطن [م - 313] بيع الحيوان الحامل جائز، ويدخل الحمل تبعًا على خلاف بين أهل العلم في جواز اشتراط الحمل، وسيأتي إن شاء الله تعالى بحثه. [م - 314] وأما بيع الحمل في البطن دون أمه، فلا يجوز بيعه، وهذا مذهب الأئمة (¬1). قال ابن عبد البر: "هذا مما لا خلاف فيه، وقد اتفق العلماء على أن بيع ما في بطون الإناث لا يجوز؛ لأنه غرر وخطر ومجهول ... " (¬2). قال النووي: أجمع العلماء على بطلان بيع الجنين ... نقل الإجماع ابن المنذر والماوردي وغيرهما (¬3). وقال في الإنصاف: "بيع الحمل في البطن نهى الشارع عنه، فلا يصح بيعه إجماعًا" (¬4). ومستند الإجماع دليل وتعليل: ¬
وجه الغرر في هذا البيع
أما الدليل فعام وخاص، أما العام فهو: (ح - 205) ما رواه مسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر (¬1). وجه الغرر في هذا البيع: جهالة المبيع، حيث لا تعلم صفته، ولا حياته، قال مالك: "والأمر عندنا أن من المخاطرة والغرر، اشتراء ما في بطون الإناث من النساء، والدواب؛ لأنه لا يدرى أيخرج أم لا يخرج، فإن خرج لم يدر أيكون حسنًا أم قبيحًا، تامًا أم ناقصًا، ذكرًا أم أنثى، وذلك كله يتفاضل إن كان على كذا فقيمته كذا، وإن كان على كذا فقيمته على كذا" (¬2). وأما الدليل الخاص فهو: (ح - 206) ما رواه أحمد من طريق جهضم -يعني اليمامي - حدثنا محمَّد ابن إبراهيم، عن محمَّد بن زيد، عن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعما في ضروعها إلا بكيل، وعن شراء العبد، وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص (¬3). [ضعيف جدًا] (¬4). وأما التعليل في المنع من بيع الحمل في البطن فذكروا ثلاثة تعاليل: ¬
الأول: الجهالة كما سبق، ونقلت ذلك من كلام الإِمام مالك - رحمه لله -. الثاني: تعذر التسليم، قال الباجي: "ووجهه من جهة المعنى ما احتج به من أنه مجهول الصفة، متعذر التسليم، وأحد الأمرين يفسد العقد، وإفسادهما إذا اجتمعا أوكد" (¬1). وقد علل السرخسي أيضًا بالعجز عن التسليم (¬2). الثالث: ذكر السرخسي علة أخرى، وهي انعدام المالية، قال في المبسوط: "وكذلك بيع أولادها في بطونها لا يجوز لمعنى الغرر، وانعدام المالية، والتقوم فيه مقصودًا قبل الانفصال، وعجز البائع عن تسليمه" (¬3). يقصد والله أعلم من قوله انعدام المالية باعتبار الحال، وليس باعتبار المآل، فإنه وهو جنين متصل بأمه لا حياة له مستقلة، ولا يمكن تموله في الحال، والله أعلم. ¬
المسألة الأولى بيع الحيوان واستثناء ما في بطنه
المسألة الأولى بيع الحيوان واستثناء ما في بطنه [م - 315] لو باع حيوانًا حاملًا واستثنى ما في بطنها، فقد اختلف العلماء في جوازه على قولين: القول الأول: البيع فاسد، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). واختار بعض المالكية أن الاستثناء باطل، والبيع صحيح (¬5). القول الثاني: الاستثناء صحيح، وهو وجه مرجوح في مذهب الشافعية (¬6)، ورواية عن أحمد (¬7)، ورجحه ابن حزم (¬8)، واختاره شيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى (¬9). ¬
حجة القائلين بالمنع دليل وتعليل
حجة القائلين بالمنع دليل وتعليل: أما الدليل: (ح - 207) فقد روى مسلم في صحيحه من طريق أيوب، عن أبي الزبير، وسعيد بن ميناء، عن جابر - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، والمعاومة، وقال الآخر: بيع السنين، وعن الثنيا، ورخص في العرايا (¬1). (ح - 208) وروى أبو داود من طريق عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن يونس بن عبيد، عن عطاء عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة، والمحاقلة، وعن الثنيا إلا أن يعلم (¬2). [رجاله ثقات] (¬3). ¬
وأما التعليل
ومعنى: نهى عن الثنيا: أن يبيع شيئاً، ويستثني بعضه، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، إلا أن يكون معلومًا. قال الحافظ في الفتح: "وأما حديث النهي عن الثنيا، ففي نفس الحديث إلا أن يعلم، فعلم أن المراد أن النهي إنما وقع عما كان مجهولاً" (¬1). والحمل: مجهول الصفة، ولا تعلم حياته، وقد يولد، وقد لا يولد، وقد يخرج ذكرًا وقد يخرج أنثى، وقد يخرج واحدًا، وقد يخرج توأما، فاستثناء الحمل يعتبر من استثناء المجهول عند المانعين. وقد أدخل الفقهاء مسائل كثيرة في النهي عن الثنيا، وقد ضبطها صاحب الشرح الكبير، فقال: "وضابط هذا الباب أنه لا يصح استثناء ما لا يصح بيعه منفردًا" (¬2). وأما التعليل: فقالوا: إذا كان الحمل لا يجوز إفراده بالعقد كما سبق في المسألة السابقة، فلا يجوز استثناؤه. ¬
دليل من قال: يجوز استثناء الحمل.
دليل من قال: يجوز استثناء الحمل. الدليل الأول: قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]. فكل فعل لم يأت في القرآن، ولا في السنة تحريمه، فهو حلال بنص القرآن، فمن ادعى التحريم فعليه الدليل. الدليل الثاني: أن استثناء الحمل ليس بيعًا حتى يقال: إن الحمل مجهول، واستثناء المجهول يصير المعلوم مجهولًا، بل هو استبقاء، فالبائع لم يبع شيئًا، والمشتري لم يشتر شيئًا، غاية ما فيه أن البائع استبقى ملكه على الحمل، ولم يدخله في الصفقة، وعدم نقل الملك في الحمل لا يضر المشتري شيئًا، فكانه باع عليه شاة حائلًا، وهو بمنزلة من باع شجرة واستثنى ثمرتها. وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى.
المسألة الثانية بيع الحيوان بشرط الحمل
المسألة الثانية بيع الحيوان بشرط الحمل [م - 316] هذه المسألة كان المفروض بحثها في الشروط، ولكني حريص إذا ذكرت مسألة أن أذكر ما يتعلق فيها، فلما ذكرت بيع الحيوان الحامل، وذكرت بيع الحمل وحده، وحكم استثناء الحمل من الصفقة، ناسب أن نذكر بيع الحيوان بشرط أن يكون حاملًا. وقد اختلف العلماء في بيع الحيوان بشرط الحمل على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يجوز، وهذا مذهب الحتفية (¬1)، ومذهب المالكية (¬2)، وقول مرجوح في مذهب الشافعية (¬3). القول الثاني: يصح الشرط، وهو رواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة (¬4)، وهو أصح القولين في مذهب الشافعية (¬5)، والمذهب عند الحنابلة (¬6). ¬
القول الثالث
القول الثالث: يصح اشتراطه في الجارية، ولا يصح في غيرها، وهو قول في مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2). تعليل من قال بالجواز: الحمل صفة مقصودة، مؤثرة في الثمن، فيصح اشتراطه، كما لو اشترط العبد كاتبًا. ولأنه لا يتعلق بإنشاء ما يتجدد، بل هو التزام صفة ناجزة، فلا يؤدي إلى المنازعة. ولأن معرفة كون الحيوان حاملًا أمر يعرفه أهل الخبرة. ولو تبين أن الدابة ليست حاملاً، فللمشتري خيار الرد. تعليل من قال لا يجوز: قالوا: إن ما في البطن لا تعلم حقيقته، فاشتراطه من اشتراط زيادة مجهولة في المبيع، وهذا لا يجوز (¬3). ولأن المشروط يحتمل الوجود والعدم، ولا يمكن الوقوف عليه للحال؛ لأن عظم البطن والتحرك يحتمل أن يكون لعارض داء، أو غيره، فكان في وجوده غرر، فيوجب فساد البيع (¬4). ¬
تعليل من فرق بين الجارية والبهائم
تعليل من فرق بين الجارية والبهائم: الحمل في الجواري عيب، بدليل أنه لو اشترى جارية فوجدها حاملًا فله أن يردها، فكان ذكر الحمل في الجواري إبراء عن هذا العيب، بخلاف البهائم؛ لأن الحبل فيها زيادة، ألا ترى أنه لو اشترى بهيمة، فوجدها حاملًا فليس له حق الرد (¬1). الراجح من الخلاف: أرى أن القول الراجح القول بصحة اشتراط الحمل مطلقًا في البهائم والجواري؛ لأن المشتري لا يشترط صفة في الحمل حتى يقال: إن هذا يصعب الوقوف عليها، كما لو اشترط كون الحمل أنثى أو ذكرا، وإنما يشترط كون الدابة حاملًا، ومعرفة هذا أمر بين يعرفه أدنى من له خبرة في البيع والشراء بالدواب، وإذا لم يكن هناك حمل يكون للمشتري الخيار، كما لو اشترى شيئاً موصوفًا، فلم يجد الصفة التي اشترطها في المبيع. ¬
المطلب السادس في بيع الصوف على الظهر
المطلب السادس في بيع الصوف على الظهر [م - 317] اختلف العلماء في بيع الصوف على ظهر الحيوان، وهو حي على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يجوز مطلقًا، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). القول الثاني: يجوز بيع الصوف على الظهر بشرط ألا يتأخر جزه أكثر من نصف شهر، وهذا مذهب المالكية (¬4). القول الثالث: يجوز بشرط جزه في الحال، وهو وجه ضعيف عند الشافعية (¬5)، ورواية عن ¬
دليل من قال: لا يجوز بيع الصوف على ظهر الحيوان.
أحمد (¬1)، رجحها ابن القيم، وقال في الإنصاف: وفيه قوة (¬2). دليل من قال: لا يجوز بيع الصوف على ظهر الحيوان. الدليل الأول: (ح - 209) ما رواه الطبراني في معجمه من طريق حفص بن عمر الحوضي، ثنا عمر بن فروخ - صاحب الأقتاب - ثنا حبيب بن الزبير، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تباع ثمرة حتى تطعم، ولا صوف على ظهر، ولا لبن في ضرع (¬3). [الراجح وقفه على ابن عباس] (¬4). الدليل الثاني: قياس الصوف على أعضاء الحيوان، بجامع أن كلًا منهما متصل بالحيوان. وأجيب: بأن هذا من أفسد القياس؛ لأن الأعضاء لا يمكن تسليمها مع سلامة الحيوان بخلاف الصوف (¬5). الدليل الثالث: أنه لا يمكن تسليمه إلا باستئصاله من أصله، ولا يمكن ذلك إلا بإيلام ¬
ويجاب
الحيوان، وهذا لا يجوز (¬1). ويجاب: بأن جزه في الحيوان ليس فيه تعذيب له أشبه بحلق الشعر من الآدمي، وأهل الخبرة يعرفون كيف يجزونه دون إيقاع ألم على الحيوان. الدليل الرابع: قد يموت الحيوان قبل الجز، فيتنجس شعره، وذلك غرر من غير حاجة (¬2). ويجاب: بأن الشافعية وحدهم من ينجس الشعر من الحيوان بالموت، والصحيح أن الشعر حياته حياة نباتية، لا ينجس بالموت، وقد ذكرت أدلة الشافعية وأجبت عليها في كتابي أحكام الطهارة، فأغنى عن إعادته هنا. الدليل الخامس: أن الصوف في حالة نمو مستمر، فيختلط الموجود عند العقد بالحادث على وجه لا يمكن تمييز ملك المشتري من ملك البائع. ويجاب: بأن هذا المحذور يمكن أن يدفع باشتراط جزه في الحال، أو بعد وقت يسير لا ينمو فيه الشعر نموًا يؤثر في قيمته، وهو يختلف عن اللبن في الضرع؛ لأن اللبن وأنت تأخذ منه يخلفه شيء جديد بينما الصوف يحتاج إلى وقت طويل حتى ينمو صوف جديد، ولو سلم جدلًا فإن مقدار الصوف الجديد يعتبر من الغرر اليسير المغتفر. ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: هذه الأعيان ما دامت متصلة بالحيوان، فهي وصف للحيوان، ولا تثبت فيها المالية مقصودًا إلا بعد الانفصال، فلا تكون قابلة للعقد مقصودًا (¬1). ويجاب: بأن هذا الكلام مبني على أصول الحنفية، بأن الوصف لا يعتبر مالاً على أصلهم بأن المنافع التي لا يمكن حيازتها لا تعتبر من الأموال، ومع أن هذا الأصل ضعيف، وقد بينت الرد عليه في الكلام على مالية المنافع إلا أنه في هذه المسألة لا يسلم أن الصوف وصف، بل هو عين محسوسة، شأنه شأن الثمرة على الشجرة. الدليل السابع: الاختلاف في موضع الجز، فتحديده غير متيسر، والمشتري يريد أن يستقصي، والبائع يريد أن يمنعه من ذلك، فيؤدي ذلك إلى التنازع بين البائع والمشتري. ويجاب: بأنه في حالة وجود خلاف في موضع الجز فالتحاكم إلى أهل المعرفة، وأهل الخبرة يعرفون موضع الجز، فلا يؤدي ذلك إلى غرر أو نزاع. دليل من قال: يجوز بيع الصوف بشرط جزه في الحال أو في أيام يسيرة. الدليل الأول: أن الصوف معلوم يمكن تسليمه، فجاز بيعه (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن ما جاز بيعه بعد جزه، جاز بيعه قبل جزه قياسًا على الرطبة. الراجح: هذه أدلة كل قول، والذي أرى أن القول بجواز بيعه بشرط جزه قول قوي جدًا؛ لأن الجهالة منتفية عن الصوف، وذلك برؤيتة، وكذلك الغرر منتف أيضًا وذلك بالقدرة على تسليمه، وما يحذر من اختلاط المبيع الموجود بالحادث على ملك البائع يزول بجزه في الحال. وهناك قول ثالث لم أذكره؛ لأن ابن القيم ذكره احتمالًا ولم يجزم به. قال ابن القيم: "لو قيل بعدم اشتراط جزه في الحال، ويكون كالرطبة التي تؤخذ شيئًا فشيئًا، وإن كانت تطول في زمن أخذها كان له وجه صحيح، وغايته بيع معدوم لم يخلق تبعًا للموجود، فهو كأجزاء الثمار التي لم تخلق، فإنها: تتبع الموجود منها، فإذا جعلا للصوف وقتًا معينًا يؤخذ فيه، كان بمنزلة أخذ الثمرة وقت كمالها" (¬1). فهذا ابن القيم يجوز بيعه مدة معلومة يستوفى فيها، ولو لم يجز بالحال، لكن ابن القيم لم يذكره قولًا قائمًا، وإنما قال - رحمه لله -: لو قيل به لكان صحيحًا، وإذا لم نعرف أحدًا قال به لم يكن هذا القول له القبول، وإن كان مقتضى القواعد جوازه. ¬
المطلب السابع في بيع شاة غير معينة من قطيع
المطلب السابع في بيع شاة غير معينة من قطيع [م - 318] إذا باع الرجل شاة غير معينة من قطيع، أو باع ثوبًا غير معين من جملة ثياب، فهل يصح البيع؟ اختلف العلماء في صحة ذلك إلى أربعة أقوال: القول الأول: البيع فاسد إلا في القليل كبيع ثوب من ثوبين أو ثلاثة، على أن يجعل للمشتري خيار التعيين، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: البيع باطل مطلقًا، وإن تساوت القيم، حتى ولو جعل خيار التعيين للمشتري، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). القول الثالث: ذهب الإمام مالك إلى صحة البيع في القليل والكثير، بشرط أن يجعل للمشتري خيار التعيين (¬3). القول الرابع: اختار الشريف أبو جعفر، وأبو الخطاب من الحنابلة صحة البيع إن تساوت القيم (¬4). ¬
ملخص الأقوال
وذكر ابن رجب في قواعده الفقهية، قال: "عقود التمليكات المحضة كالبيع ... لا يصح في مبهم من أعيان متفاوتة كعبد من عبيده، وشاة من قطيع ... ويصح في مبهم من أعيان متساوية مختلطة كقفيز صبرة (¬1). فيؤخذ من هذا أن كل ما كانت أجزاؤه وقيمته مختلفة، لا يصح بيع مبهم منه غير معين، وما كانت أعيانه وقيمه متساوية جاز بيع واحد منه غير معين. ملخص الأقوال: الفقهاء يكاد يتفقون إلى منع بيع شيء من أشياء كثيرة مختلفة، من غير أن يجعل للمشتري خيار التعيين، واختلفوا فيما لو جعل للمشتري خيار التعيين، فأجازه المالكية في القليل والكثير. ومنعه الشافعية والحنابلة في القليل والكثير. وأجازه الحنقية في القليل كالثوبين والثلاثة، ومنعوه فيما زاد على ذلك. وقيل: يجوز بشرط تساوي القيم، وهو قول في مذهب الحنابلة. حجة القائلين بالمنع: أن بيع غير المعين جهالة وغرر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر. ولأن الغنم آحادها مختلفة، وأثمانها تختلف باختلاف أعمارها وسمنها وضعفها، ويتعذر وجود غنم قيمها متساوية. حجة القائلين بالجواز: أن المشتري دخل في الصفقة على أن يختار الأحسن من القطيع، أو الأحسن ¬
حجة القائلين بالجواز إذا كان المبيع اثنين أو ثلاثة
من الثياب، أو الأحسن من الإماء، وقد رضي البائع، فلا غرر حينئذ، وليس على المشتري أن يختار الأدنى فانتفى الغرر. حجة القائلين بالجواز إذا كان المبيع اثنين أو ثلاثة: أن المبيع إذا كان عدده محدودًا، كاثنين أو ثلاثة كان البائع والمشتري على علم بالتفاوت القائم بين آحاد المبيع، فينتفي الغرر، أو يكون يسيرًا فيجوز البيع، بخلاف القطيع الكثير، والله أعلم. الراجح من الخلاف: أن المبيع إذا كانت آحاده متماثلة كما في الثوب من الثياب، فهذا لا حرج في صحة البيع ويعتذر للفقهاء، أنهم كانوا ينظرون على حسب ما هو معروف في زمانهم حيث كانت الثياب تختلف آحادها اختلافًا كبيرًا، أما في وقتنا فالثياب قد تكون متماثلة خاصة إذا كانت من مصنع واحد، حيث تكون خامتها واحدة، ومقاساتها متقاربة، وقيمها متساوية. وأما الغنم فإن آحادها تختلف، فإن كانت قيمها متساوية، أو متقاربة، فلا حرج في بيعه شاة من الشياه؛ لأن الغالب أن البائع يضع الثمن بالنظر إلى أعلاها وأحسنها؛ لكونه قد جعل الخيار للمشتري، وإن كانت قيمها متفاوتة تفاوتًا كبيرًا لم يصح البيع.
المطلب الثامن في بيع النوى في التمر
المطلب الثامن في بيع النوى في التمر [م - 319] بيع التمر بالنوى لا إشكال فيه، وكذلك بيع النوى وحده بعد إخراجه من التمر. وأما بيع النوى وحده، وهو في التمر فقد نص الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، على أنه لا يجوز. ولم أقف على نص في كتب المالكية. وقد ذكر ابن قدامة بأنه لا يعلم في ذلك خلافًا. قال في المغني: "البيض في الدجاج، والنوى في التمر، لا يجوز بيعهما؛ للجهل بهما، ولا نعلم في هذا خلافًا نذكره" (¬4). ومستند الإجماع الوقوع في الغرر للجهالة في قدر المبيع، فالنوى يختلف في النوع الواحد، فبعض التمر تكون نواته كبيرة، وبعضه تكون صغيرة، وليس له ضابط يعرف فيه النوى الكبير من الصغير، ولا يدل ظاهر التمرة على مقدار النوى فيها، بل النوع الواحد من التمر تجد في نواه تفاوتًا بين تمرة وأخرى. ¬
قلت: مقتضى التعليل لو أنه باعه كيلًا أن ذلك لا بأس به، كما لو باعه نوى هذا التمر كل صاع منه بكذا؛ للعلم بمقدار المبيع. وكذلك لو باعه بشرط الخيار إذا رآه ينبغي أن يكون ذلك جائزاً على مذهب الحنفية، والباجي من المالكية؛ لأنهم جوزوا بيع الشيء، ولو لم يعلم جنسه إذا كان الخيار للمشتري بعد رؤيته، وسبق أن ذكرنا نصهم فيما لو باعه ما في كمه، ولم يذكر جنسه في مسألة اشتراط العلم بالمبيع، والله أعلم.
المطلب التاسع في بيع المسك
المطلب التاسع في بيع المسك المسألة الأولى في طهارة المسك [م - 320] قال الحافظ ابن حجر: "المسك دم يجتمع في سرته - أي الغزال - في وقت معلوم من السنة، فإذا اجتمع ورم الموضع، فمرض الغزال إلى أن يسقط منه، ويقال: إن أهل تلك البلاد يجعلون لها أوتادًا في البرية تحتك بها ليسقط، ونقل ابن الصلاح في مشكل الوسيط: أن النافجة في جوف الظبية كالأنفحة في جوف الجدي" (¬1). وأشار الحافظ في الفتح إلى الخلاف. في طهارته وبيعه، وذكر أن الكراهة منقولة كن الحسن البصري وعطاء وغيرهما، قال: "ثم انقرض هذا الخلاف واستقر الإجماع على طهارة المسك، وجواز بيعه" (¬2). وقال النووي: "المسك طاهر، ويجوز بيعه بلا خلاف، وهو إجماع المسلمين، نقل جماعة فيه الإجماع، ونقل صاحب الشامل وآخرون عن بعض الناس أنه نجس، لا يجوز بيعه ... لأنه دم؛ ولأنه منفصل من حيوان حي، وما أبين من حي فهو ميت ... قال النووي: ... وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة كن عائشة وغيرها من ¬
والجواب الثاني
الصحابة، أنهم رأوا وبيص المسك في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانعقد إجماع المسلمين على طهارته، وجواز بيعه. وأما قوله: إنه دم، فلا يسلم، ولو سلم لم يلزم منه نجاسته، فإنه دم غير مسفوح كالكبد، والطحال. وأما قوله: منفصل من حيوان حي، فأجاب الأصحاب عنه بجوابين: أحدهما: أن الظبية تلقيه كما تلقي الولد، وكما يلقي الطائر البيضة، فيكون طاهرًا، كولد الحيوان المأكول، وبيضه، ولأنه لو كان من حيوان لا يؤكل لم يلزم من ذلك نجاسته، فإن العسل من حيوان لا يؤكل، وهو طاهر حلال، بلا شك. والجواب الثاني: أن هذا قياس منابذ للسنة، فلا يلتفت إليه، والله - سبحانه وتعالى - أعلم" (¬1). وجاء في عمدة القارئ: "وقد أجمع المسلمون على طهارة المسك، إلا ما حكي عن عمر رضي الله تعالى عنه من كراهته، وهكذا حكى ابن المنذر عن جماعة، ثم قال: ولا يصح المنع فيه إلا عن علاء، بناء على أنه جزء منفصل" (¬2). وجاء في الفتح: "وحكى ابن التين عن ابن شعبان من المالكية أن فأرة المسك إنما تؤخذ في حال الحياة، أو بذكاة من لا تصح ذكاته من الكفرة، وهي مع ذلك محكوم بطهارتها؛ لأنها تستحيل من كونها دمًا حتى تصير مسكًا، كما ¬
يستحيل الدم إلى اللحم، فيطهر، ويحل أكله، وليست بحيوان حتى يقال: نجست بالموت، وإنما هو شيء يحدث بالحيوان كالبيض" (¬1). قال العمراني: "المسك طاهر، ويجوز بيعه، وقال بعض الناس نجس، ولا يجوز بيعه؛ لأنه ينفصل من حيوان، وقيل: إنه دم" (¬2). ¬
المسألة الثانية في بيع المسك في فأرته
المسألة الثانية في بيع المسك في فأرته [م - 321] إذا كان العلماء قد أجمعوا في آخرة على جواز بيع المسك، بعد استخراجه من وعائه، فقد اختلفوا في حكم بيعه في فأرته على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح بيعه مطلقًا، وهو ظاهر مذهب الحنفية (¬1)، واختاره من الشافعية ابن سريج (¬2)، ومن الحنابلة ابن القيم (¬3)، وأومأ إليه ابن مفلح في فروعه (¬4). القول الثاني: لا يصح حتى يتم فتحها، اختاره المتولي وصاحب البيان من الشافعية (¬5)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬6). القول الثالث: لا يصح بيعه في وعائه مطلقًا، سواء بيع معها أو دونها، مفتوحة أو غير ¬
دليل من قال: يجوز بيع المسك، وهو في وعائه.
مفتوحة، وهو الصحيح في مذهب الشافعية (¬1). دليل من قال: يجوز بيع المسك، وهو في وعائه. الدليل الأول: القياس على جواز بيع ما مأكوله في جوفه، كالجوز، واللوز، والفستق، وجوز الهند بجامع أن كل واحد من هؤلاء يجوز بيعه في قشره، ويعتبر قشره وعاء له يصونه من الآفات، ويحفظ عليه رطوبته. الدليل الثاني: أن أهل الخبرة يعرفون المسك، وهو في فأرته، ويعرفون قدره، وجنسه معرفة لا تكاد تختلف، وما كان كذلك جاز بيعه، وقد جرت عادة الناس ببيعه وشرائه. الدليل الثالث: أن بقاءه في فأرته فيه مصلحة للمسك، فهي تحفظ عليه رطوبته، وذكاء رائحته، وما كان كذلك جاز بيعه في وعائه. دليل من قال: لا يجوز بيعه. قالوا: إن المسك في فأرته مجهول القدر، ومجهول الصفة، ولأنه لا حاجة في بيعه في وعائه؛ لأنه يبقى بعد إخراجه من وعائه، وتبقى رائحته، فلم يجز بيعه بوعائه، وقياسًا على منع بيع الدر في الصدف، ويخالف الجوز، واللوز؛ لأنه بعد إخراجه من ظرفه لا يبقى (¬2). ¬
دليل من قال: يجوز إن فتح الفأرة ونظر إلى المسك ولو لم يخرجه
دليل من قال: يجوز إن فتح الفأرة ونظر إلى المسك ولو لم يخرجه إذا رأى بعض المسك جاز بيعه؛ لأن المسك لا تختلف أجزاؤه، فظاهره كباطنه، كالجرة من السمن، والدبس، إذا رأى رأسها صح البيع، وإن لم ير بقيته. الراجح من الخلاف: جواز بيع المسك في فأرته إذا كان المشتري من أهل الخبرة ممن يعرف باطنه بالنظر إلى وعائه، أما إن كان لا يستطيع أن يعرف مقدار المسك وصفته من خلال النظر إلى ظاهره، فالظاهر أنه لا يجوز له شراؤه، إلا إن يوصف له وصفًا منضبطًا، بحيث يكون له الخيار إذا اختلفت صفته، والله أعلم.
المطلب العاشر في بيع المنابذة والملامسة
المطلب العاشر في بيع المنابذة والملامسة (ح - 210) جاء في السنة ما رواه البخاري ومسلم من طريق يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عامر بن سعد، أن أبا سعيد الخدري، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبستين وعن بيعتين: نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع، والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار، ولا يقلبه إلا بذاك، والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، وبنبذ الآخر ثوبه، ويكون ذلك بيعهما عن غير نظر ولا تراض ... الحديث (¬1). (ح - 211) وروى البخاري ومسلم من طريق أبي الزناد ومحمد بن يحيى ابن حبان، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الملامسة والمنابذة (¬2). (ح - 212) وروى مسلم من طريق ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، عن عطاء بن ميناء، أنه سمعه يحدث، عن أبي هريرة أنه قال: نهى عن بيعتين: الملامسة، والمنابذة، أما الملامسة فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل، والمنابذة: أن ينبذ كلا واحد منهما ثوبه إلى الآخر، ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه (¬3). ¬
ورواه البخاري في صحيحه من الطريق نفسه، وليس فيه التفسير، وزاد النهي عن صيام الفطر، والنحر (¬1). وفي الباب حديث أنس عند البخاري (¬2). [م - 322] كلام أهل العلم في تفسير الملامسة: ظاهر الحديثين السابقين أن التفسير جزء من الحديث المرفوع، قال ابن حجر: " ظاهر الطرق كلها أن التفسير من الحديث المرفوع، لكن وقع في رواية النسائي ما يشعر بأنه من كلام من دون النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولفظه: وزعم أن الملامسة أن يقول .. الخ " فالأقرب أن يكون ذلك من كلام الصحابي، لبعد أن يعبر الصحابى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: زعم، ولوقوع التفسير في حديث أبي سعيد الخدري من قوله أيضًا، كما تقدم " (¬3). فهنا ابن حجر - رحمه لله - يميل إلى أن التفسير الوارد في الحديثين موقوف على الصحابي. ¬
وأما ابن عبد البر - رحمه لله - فيميل إلى أن التفسير من كلام الليث، أو ابن شهاب في حديث أبي سعيد. يقول - رحمه لله -: "روى هذا الحديث يونس، عن ابن شهاب، عن عامر ابن سعد، عن أبي سعيد الخدري، حدث به عنه ابن وهب، وعنبسة، والليث، ولم يذكر بعضهم فيه هذا التفسير وقد يمكن أن يكون التفسير قول الليث، أو لابن شهاب، فالله أعلم" (¬1). وأستبعد أن يكون من كلام الليث؛ لأنه رواه غير الليث، عن ابن شهاب، وذكر هذا التفسير، والذي أميل إليه، والله أعلم أن يكون التفسير من كلام ابن شهاب، خاصة أن التفسير ورد عن ابن شهاب موقوفًا عليه، دون الحديث المرفوع، أو يكون ممن فوقه دون الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فسر أهل العلم الملامسة والمنابذة بثلاثة تفسيرات: أحدهما: أن يتساوم البائعان السلعة، فإذا لمس المشتري السلعة، أو نبذها إليه البائع، لزم البيع. وهذا تفسير الحنفية، وعلى هذا التفسير لا بد أن يسبق اللمس أو النبذ ترواض البائع والمشتري على الثمن. جاء في الهداية شرح البداية: "أن يتراوض الرجلان على سلعة، أي يساوما، فإذا لمسها المشتري، أو نبذها إليه البائع ... لزم البيع" (¬1). وقال في مجمع الأنهر: " ولا يجوز البيع بالملامسة ... بأن يتساوما سلعة، فيلزم البيع لو لمسها، أي السلعة المشتري، وهذا بيع الملامسة" (¬2). وفي عمدة القارئ: "قال أصحابنا: الملامسة، والمنابذة، وإلقاء الحجر ¬
التفسير الثاني
كانت بيوعًا في الجاهلية، وكان الرجلان يتساومان المبيع، فإذا ألقى المشتري عليه الحجر، أو نبذه البائع إلى المشتري، أو لمسه المشتري لزم البيع " (¬1). وهذا التفسير وجه في مذهب الشافعية (¬2)، وهو مذهب الحنابلة (¬3). وانتقد الشيخ الصديق محمَّد الأمين الضرير، هذا القول، وقال: "وهذا التفسير لا يتفق مع واحد من التآويل الواردة في الأحاديث، فالظاهر من تفسير الحنفية أن المدار عندهم أن يكون اللمس أمارة على لزوم البيع، سواء أكان المشتري عالمًا بالمبيع، أم غير عالم به، في حين أن تأويلات المحدثين متفقة على أن المناط في بيع الملامسة: أن يقوم فيه اللمس مقام النظر إلى السلعة بعد نشرها وتقليبها، إن كان مما يحتاج إلى ذلك كالثوب" (¬4). التفسير الثاني: أن يقوم اللمس مقام النظر، والعلم بالمبيع، وهذا تفسير المالكية. قال الإمام مالك في الموطأ: "الملامسة: أن يلمس الرجل الثوب، ولا ينشره، ولا يتبين ما فيه، أو يبتاعه ليلًا، وهو لا يعلم ما فيه، والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ الآخر إليه ثوبه، على غير تأمل منهما، ويقول كل واحد منهما هذا بهذا" (¬5). ¬
التفسير الثالث
وهذا التفسير قول في مذهب الشافعية (¬1). وتفسير الإِمام مالك موافق للتفسير الوارد في الحديث من طريق يونس، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد، عن أبي سعيد الخدري، وذكرته في صدر المسألة، حيث جعل اللمس قائمًا مقام العلم بالمبيع. قال ابن عبد البر معلقًا على تفسير مالك للحديث: "في هذا الحديث، على المعنى الذي فسره مالك، دليل على أن بيع من باع ما لا يقف على عينه، ولا يعرف مبلغه من كيل، أو وزن، أو ذرع، أو عدد، أو شراء من اشترى ما لا يعرف قدره، ولا عينه، ولا وقف عليه، فتأمله، ولا اشتراه على صفة باطل، وهو عندي داخل تحت جملة ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيع الغرر والملامسة" (¬2). التفسير الثالث: أن يبيعه شيئًا على أنه متى مسه انقطع خيار المجلس وغيره، وهو وجه ثالث في مذهب الشافعية (¬3). [م - 323] مذاهب الفقهاء في تفسير المنابذة: ¬
القول الأول: مذهب الحنفية
القول الأول: مذهب الحنفية: أن يتساوم البائعان السلعة، فإذا نبذها إليه البائع لزم البيع، وهذا تأويل الحنفية (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية: أن يقوم النبذ مقام رؤيته ونشره، وهذا مذهب المالكية. قال الإمام مالك في الموطأ: "والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ الآخر إليه ثوبه على غير تأمل منهما، ويقول كل واحد منهما هذا بهذا" (¬2). وجاء في الفواكه الدواني: "والمنابذة: أن ينبذ الرجل ثوب الآخر، ولا يلمسه، ولا ينشره، بل يلزمه الشراء بمجرد طرحه له من غير إحاطة بحاله" (¬3). الثالث: مذهب الشافعية، ولهم في تفسير المنابذة ثلاثة أوجه: الأول: أن يجعل المتبايعان نفس النبذ بيعًا، قال النووي: وهذا تأويل الشافعي. الوجه الثاني: أن يقول: بعتك، فإذا نبذته إليك انقطع الخيار، ولزم البيع، وهذا وجه عند الشافعية (¬4). ¬
القول الثالث: تفسير الحنابلة
الوجه الثالث: أن يكتفي بنبذه عن رؤيته (¬1). وقد زاد النووي وجهًا آخر: فقال: المنابذة أن يراد به نبذ الحصاة (¬2). القول الثالث: تفسير الحنابلة: بأن يقول: متى نبذت هذا الثوب فهو عليك بكذا، أو إن نبذت هذا الثوب فهو عليك بكذا، أو أي ثوب نبذته فهو عليك بكذا (¬3). والعلة في النهي عن بيع الملامسة والمنابذة عند الحنفية: ذكر الحنفية علتين: الأولى: ما فيه من المخاطرة، حيث وقع العقد باللمس، والنبذ، يقول الجصاص: " بيع الملامسة: هو وقوع العقد باللمس، والمنابذة: وقوع العقد بنبذه إليه ... فتكون هذه الأفعال عندهم موجبة لوقوع البيع، فهذه بيوع معقودة على المخاطرة، ولا تعلق لهذه الأسباب التي علقوا وقوع البيع بها بعقد البيع" (¬4). العلة الثانية: الجهالة، وهذا في حال ما إذا قال له: أي ثوب نبذته إليك فهو عليك بكذا، وقد علل بالجهالة ابن الهمام في فتح القدير (¬5). وأما علة النهي عند المالكية: الغرر الناتج عن الجهل بالمبيع وذلك لقيام اللمس والنبذ مقام الرؤية. ¬
وعلة التحريم عند الشافعية
يقول الباجي: "وإنما سمي بيع ملامسة؛ لأن لا حظ له من النظر والمعرفة لصفاته إلا لمسه" (¬1). ويقول ابن رشد في بداية المجتهد: "وأما بيع الملامسة فكانت صورته في الجاهلية أن يلمس الرجل الثوب، ولا ينشره، أو يبتاعه ليلًا، ولا يعلم ما فيه، وهذا مجمع على تحريمه، وسبب تحريمه الجهل بالصفة" (¬2). وعلة التحريم عند الشافعية: قدم الشافعية ثلاثة أوجه في تفسير الملامسة والمنابذة، وتختلف العلة بحسب اختلاف التفسير: فمنها: عدم رؤية المبيع، وهو تأويل الشافعي. ومنها: وعدم الصيغة، وذلك بجعل اللمس والنبذ بيعًا، اكتفاء عن الصيغة. ومنها: الشرط الفاسد، وذلك بقوله: متى لمسته أو نبذته فلا خيار لك (¬3). وعلة التحريم عند الحنابلة: ذكروا علتين: الجهالة كما لو قلت: أي ثوب لمسته أو نبذته فهو عليك بكذا، وكان هناك مجموعة من الثياب المختلفة. أو تعليق البيع كما لو قلت: إن لمست هذا الثوب أو نبذته عليك فهو عليك بكذا (¬4). ¬
وأقرب هذه التفسيرات للتفسير الوارد في الحديث سواء قلنا: إن التفسير من لدن الصحابي، أو ممن هو دونه من السلف، هو قول المالكية، وما وافقه من الأقوال الأخرى، وهو جعل اللمس والنبذ يقوم مقام رؤية المبيع، وهذا منهي عنه للجهالة في المبيع، فيقع الإنسان في الغرر المنهي عنه. وأما تعليق البيع فليس مؤثرًا في البيع، وسيأتي إن شاء الله بحثه في مسألة مستقلة. وقد سبق أن بينت أن مذهب الحنفية بعيد عن الصواب من خلال مناقشته. ومثله أو أضعف قول الشافعية بأن العلة هي إسقاط الخيار، فإسقاطه برضا المتبايعين قد دلت على جوازه السنة، فللمتبايعين أن يسقطا الخيار برضاهما، وسيأتي بحثه إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
المطلب الحادي عشر في يبع الحصاة
المطلب الحادي عشر في يبع الحصاة (ح - 213) روى مسلم في صحيحه من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر (¬1). واختلف العلماء في تفسير بيع الحصاة على أقوال: ذهب بعض أهل الحديث إلى تفسير بيع الحصاة: بأنه إذا رمى الحصاة فقد وجب البيع، وإلى هذا ذهب الترمذي والدارمي (¬2)، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3). وعبر المالكية بقولهم: متى سقطت الحصاة ممن هي معه، ولو باختياره لزم البيع (¬4). وقيل: بيع الحصاة: أن يتساوم الرجلان السلعة، فإذا وضع المشتري عليها حصاة، فقد لزم البيع، وهذا مذهب الحنفية (¬5)، ........... ¬
وقول في مذهب المالكية (¬1). وقيل: أن يكون هناك أثواب، فأي ثوب وقعت عليه الحصاة فهو مبيع بكذا، وهذا تفسير ابن الهمام من الحنفية (¬2)، وقول في مذهب المالكية (¬3)، وقول في مذهب الشافعية (¬4)، وقول في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: بيع الحصاة أن يقول: بعتك من هذه الأرض مقدار ما تبلغه الحصاة إذا رميتها بكذا، وهذا وجه في مذهب الشافعيهَ (¬6)، .......... ¬
وقول في مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: بيع الحصاة أن يقول: بعتك، ولك الخيار - أو لي الخيار أو لنا الخيار - إلى أن أرمي بهذه الحصاة، وهذا وجه في مذهب الشافعية (¬2). ولعل كل هذه التفسيرات ليس فيها اختلاف، وإنما هي أنواع لبيع الحصاة، وكلها لا تسلم من الجهالة والخطر ودخولها في الغرر المنهي عنه. ¬
المطلب الثاني عشر في النهي عن بيع عسب الفحل
المطلب الثاني عشر في النهي عن بيع عسب الفحل المسألة الأولى في تعريف عسب الفحل وعلاقته ببيع الغرر تعريف عسب الفحل (¬1): ويطلق العسب: على ضراب الفحل. ويطلق على ماء الفحل فرسًا كان أو بعيرًا: والعسب: إعطاء الكراء على الضراب، وهو منهي عنه كما سيأتي. مناسبة إدخال هذا الباب في باب الغرر: أدخلت النهي عن بيع عسب الفحل بالغرر بسبب الجهالة، ويصح أن يدخل في الغرر بسبب عدم القدرة على التسليم، وهذا ما يفهم من تعليل عبارة الفقهاء رحمهم الله. فقد علل الكاساني النهي يكون المعقود عليه معدومًا، فقال في بدائع الصنائع: "عسب الفحل ضرابه، وهو عند العقد معدوم" (¬2). ¬
وعلل الزيلعي النهي عنه بالجهالة، فقال في تبيين الحقائق: "وإنما نهي عنه للجهالة التي فيه، ولا بد في الإجارة من تعيين العمل، ومعرفة مقداره" (¬1). وعلل أكثر الشافعية النهي لكونه مجهولاً، وغير مقدور على تسليمه (¬2). وعلل الشيرازي منهم بأن ماء الفحل لا قيمة له لكونه محرمًا، قال في المهذب: "نهى عن ثمن عسب الفحل؛ لأن المقصود منه هو الماء الذي يخلق منه، وهو محرم، لا قيمة له، فلم يجز أخذ العوض عليه، كالميتة والدم" (¬3). وعلل ابن قدامة النهي بقوله: "لأنه مما لا يقدر على تسليمه، فأشبه إجارة الآبق، ولأن ذلك متعلق باختيار الفحل وشهوته، ولأن المقصود هو الماء، وهو مما لا يجوز إفراده بالعقد، وهو مجهول" (¬4). وعلل بعضهم: "بأن ثمرته المقصودة غير معلومة، فإنه قد يلقح، وقد لا يلقح، فهو غرر" (¬5). وهذا معنى التعليل بالجهالة. وعلل ابن القيم النهي بقوله: "النهي عن بيع عسب الفحل من محاسن الشريعة وكمالها، فإن مقابلة ماء الفحل بالأثمان، وجعله محلًا لعقود المعاوضات مما هو مستقبح، ومستهجن عند العقلاء" (¬6). ¬
المسألة الثانية خلاف العلماء في بيع عسب الفحل
المسألة الثانية خلاف العلماء في بيع عسب الفحل [م - 324] اختلف العلماء في حكم بيع عسب الفحل، وإجارته للضراب. فقيل: لا يجوز بيع عسب الفحل، ولا إجارته، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: لا يجوز بيعه، وتجوز إجارة الفحل للضراب مدة معلومة، وهو مذهب المالكية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3). واختار ربيعة جواز بيعه إذا كان له أجل ينتهي إليه ضرابه، ولم يكن يضمن له اللقاح (¬4). دليل من منع بيع عسب الفحل وإجارته. الدليل الأول: (ح - 214) ما رواه البخاري من طريق علي بن الحكم، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عسب الفحل (¬5). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: لا يمكن حمل النهي على نفس العسب، وهو الضراب؛ لأن ذلك جائز بالإعارة، فيحمل على بيع مائه وإجارته إلا أنه حذف ذلك وأضمره فيه، كما في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. وعلة النهي ما تقدم بأن المبيع مجهول، غير متقوم، ولا مقدور على تسليمه. وأجاب المالكية: بأن النهي محمول على ما فيه غرر من اشتراط الحمل (¬1). وحمل بعضهم النهي على الكراهة، وأن النفوس تستقبحه. ويجاب: بأن اشتراط الحمل لم يرد في شيء من النصوص، فحمل النهي على أمر لم يذكر في النص تأويل غير سائغ. الدليل الثاني: علل الحنفية منع البيع لكون عسب الفحل ليس مالًا (¬2). دليل من قال: تجوز إجارته لمدة معلومة. الدليل الأول: القياس على إجارة الظئر للرضاع، مع أنه ممنوع بيع لبنها. الدليل الثاني: القياس على جواز الإجارة على تلقيح النخل. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن الضراب منفعة مقصودة، والحاجة تدعو إليه، ولولا ذلك لانقطع النسل، والعقد إنما هو على ضراب الفحل، وهي منفعة معلومة، والماء تابع، والغالب حصوله عقيب نزوه، فيكون كالعقد على الظئر. ويجاب عن ذلك: بأن قيام الحاجة إليه ليس مسوغًا لجواز بيعه، فهذا الكلب نهى الشارع عن أخذ ثمنه، مع قيام الحاجة إليه في الحراسة والصيد ونحوهما، والمقصود هو ماء الفحل، والضراب وسيلة إليه، وإذا كان قد جاء النهي عن بيع اللبن في الضرع مع أن تحصيلة أمر ممكن مقدور عليه، فالنهي عن بيع عسب الفحل من باب أولى؛ لأنه عين غائبة غير مقدور على تسليمها، والله أعلم. الدليل الرابع: ذكر بعض المالكية بأن مالكًا إنما أجاز إجارة الفحل؛ لأن العمل عليه عند أهل المدينة، ومعروف رأي مالك في الاحتجاج بعمل أهل المدينة (¬1). ويجاب: بأن الحجة هو في الدليل الشرعي من كتاب أو سنة أو إجماع أما عمل أهل المدينة فلم نؤمر عند النزاع بالرجوع إليه. قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]. ¬
الراجح
الراجح: بعد استعراض أقوال العلماء أجد أن القول بالمنع أقوى دليلًا، خاصة مع صحة النهي عن المعصوم عليه الصلاة والسلام، وإذا لم يجد الإنسان فحلًا بالإعارة جاز له دفع الأجرة على ذلك، والإثم على المؤجر وحده بعد أن يبين له أنه لا يحل له أخذ العوض على الضراب، والله أعلم. ***
المطلب الثالث عشر بيع ضرية الغائص
المطلب الثالث عشر بيع ضرية الغائص المسألة الأولى تعريف ضربة الغائص ضربة الغائص: الغوص: هو النزول تحت الماء، وقيل: الغوص: الدخول في الماء، يقال: غاص في الماء غوصًا فهو غائص، والجمع: غاصة، وغواصون، فالغوص: هو الذي يغوص في البحر على اللؤلؤ. والغاصة: مستخرجوه، وفعله: الغياصة (¬1). والمراد أن يقول الغائص للتاجر: أغوص لك غوصة، فما أخرجته فهو لك بكذا (¬2). وقال الزيلعي: "روي في تهذيب الأزهري عن ضربة الغايص بالغين المعجمة والياء آخر الحروف بعد الألف وهو غوص الصائد في الماء أو غوص الرجل في البحر لأجل اللؤلؤ ... " (¬3). وقال بعضهم: ضربة القانص: وهو ما يخرج من الصيد بضرب الشبكة، أي وهو على هذا من القنص يقال قنص يقنص قنصا إذا صاد (¬4). ¬
المسألة الثانية في بيع ضربة الغائص وقنص الصائد
المسألة الثانية في بيع ضربة الغائص وقنص الصائد [م - 325] لا يختلف الفقهاء في فساد بيع ضربة الغائص، وقنص الصائد (¬1). وجه الفساد في هذا البيع: كون هذا البيع مشتملًا على غرر ظاهر، وذلك لجهالة ما يخرج من ضربة الغائص؛ لأنه يحتمل أن يحصل شيء من هذه الضربة، ويحتمل ألا يحصل، وإذا حصل فلا يعرف مقداره. قال ابن القيم: "وأما ضربة الغائص فغرر ظاهر لا خفاء به" (¬2). وعلل بعضهم النهي عنه لكون الغائص باع ما ليس بملكه، حيث لم يكن مالكًا وقت العقد ما يحصل من الضربة (¬3). (ح - 215) وأما ما رواه أحمد من طريق جهضم -يعني اليمامي- حدثنا محمَّد بن إبراهيم، عن محمَّد بن زيد، عن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعما في ضروعها إلا بكيل، وعن شراء العبد، وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص (¬4). ¬
[فإسناده ضعيف] (¬1). وقد قال البيهقي عن هذا الحديث: "وهذه المناهي وإن كانت في هذا الحديث بإسناد غير قوي، فهي داخلة في بيع الغرر الذي نهي عنه في الحديث الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). ¬
المطلب الرابع عشر الثنيا المجهولة في البيع
المطلب الرابع عشر الثنيا المجهولة في البيع سبق لنا عند الكلام على شروط المعقود عليه أنه يشترط العلم بمقدار المبيع، قال النووي: "وهذا لا خلاف فيه" (¬1). [م - 326] وإذا استثنى البائع شيئًا مجهولًا في المبيع كما لو قال: بعتك هذه الصبرة إلا بعضها، فإن مقدار المستثنى مجهول، ومتى كان المستثنى مجهولًا لزم منه أن يكون الباقي بعده (وهو المبيع) مجهولًا أيضًا، وجهالة المبيع تبطل البيع. قال النووي: "والثنيا المبطلة للبيع قوله: بعتك هذه الصبرة إلا بعضها، وهذه الأشجار أو الأغنام، أو الثياب ونحوها ألا بعضها، فلا يصح البيع؛ لأن المستثنى مجهول، فلو قال: بعتك هذه الأشجار إلا هذه الشجرة، أو هذه الشجرة إلا ربعها، أو الصبرة إلا ثلثها، أو بعتك بألف إلا درهمًا، وما أشبه ذلك من الثنيا المعلومة صح البيع باتفاق العلماء ... " (¬2). (ح - 216) وقد روى مسلم في صحيحه من طريق أيوب، عن أبي الزبير، وسعيد بن ميناء، عن جابر - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، والمعاومة، وقال الآخر: بيع السنين، وعن الثنيا، ورخص في العرايا (¬3). ¬
(ح - 217) وأما ما رواه أبو داود من طريق عباد بن العوام، عن سفيان ابن حسين، عن يونس بن عبيد، عن علاء، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة، والمحاقلة، وعن الثنيا إلا أن يعلم (¬1). رجاله ثقات، إلا أن زيادة (إلا أن يعلم) تفرد بها يونس بن عبيد عن عطاء، وأين أصحاب عطاء عن هذه الزيادة، مع أن البخاري قال: لا أعلم ليونس سماعًا من عطاء، وتفرد بها سفيان بن حسين عن يونس، بل قال ابن عدي: لا أعلم يروي سفيان بن حسين، عن يونس بن عبيد، غير هذا الحديث (¬2). هذا الكلام هو ما يقتضيه البحث وفق القواعد الحديثية، وأما المعنى فإن النهى عن الثنايا المطلق في رواية مسلم ينبغي أن يقيد بالثنيا المجهولة؛ لأن استثناء المجهول يصير المعلوم مجهولاً، وأما الاستثناء إذا كان معلومًا فلا حرج في استثنائه، وقد حكى النووي فيما سبق اتفاق العلماء على جوازه، والله أعلم. ¬
مسألة في بيع الصبرة من الطعام واستثناء جزء معلوم منها
مسألة في بيع الصبرة من الطعام واستثناء جزء معلوم منها [م - 327] بيع الصبرة من الطعام واستثناء مقدار معين منها، إن كان الاستثناء منها بالجزء، كالربع، والثلث، والخمس صح، وحكى ابن نجيم، والكاساني من الحنفية، والنووي من الشافعية اتفاق العلماء عليه (¬1). وذكر بعض الحنابلة فيه قولًا بالمنع (¬2). أما لو استثنى مقدرًا معينًا منها كما لو باع الصبرة إلا صاعًا منها، فاختلف العلماء في حكم البيع على قولين. ¬
القول الأول
القول الأول: لا يصح البيع، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة (¬1)، ومذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). القول الثاني: إذا استثنى رطلًا واحدًا جاز، وإذا استثنى أرطالًا معلومة لم يجز، حكاه ابن نجيم من الحنفية (¬4). وأجاز مالك البيع بشرط ألا يتجاوز المستثنى مقدار الثلث (¬5). القول الثالث: يصح البيع، وهو قول في مذهب الحنفية، اختاره أبو يوسف (¬6)، ورواية عن أحمد (¬7). ¬
دليل من قال: لا يصح البيع
دليل من قال: لا يصح البيع: قالوا: إن استثناء المعلوم من المجهول، كاستثناء المجهول من المعلوم، مثال ذلك: إذا استثنى صاعًا من مبيع مجهول قدره كالصبرة لا يعلم قدرها، حكمه كما لو استثنى مجهولًا من معلوم، كما لو قال: بعتك مائة صاع إلا بعضها، فالإبهام يعمهما. أو بعبارة أخرى: أن المبيع، والحالة هذه إنما علم بالمشاهدة، وبعد إخراج المستثنى تختل المشاهدة، فقد يدخل الندم على المشتري بعد إخراج المستثنى من البيع. وقال في قواعد الأحكام في مصالح الأنام: "لو باع صبرة مجهولة الصيعان، واستثنى منها صاعًا، فهل يصح هذا البيع؟ قلنا: لا يصح؛ لأن المبيع غير مقدر بالكيل ولا بتخمين العيان، فإن العيان لا يخمن المقادير إلا بعد الانفصال، فلما تعذر التقدير الحقيقي، والتخميني في هذه الصفقة حكم ببطلانها؛ لأن الجهل بتقديرها وتخمينها غرر لا تمس الحاجة إليه" (¬1). دليل من قال: يصح البيع: إنما نهى الشارع عن الثنيا إذا كانت غير معلومة، أما استثناء الصاع من الصبرة فلا يدخل في النهي، إذ الثنيا، والحال هذه معلومة، وإذا كانت الصبرة يجوز بيعها جزافًا مع الجهل بمقدارها، فالباقي بعد إخراج الصالح بمثابة الجزاف. ¬
دليل من قال: يصح البيع بشرط ألا يتجاوز المستشى مقدار الثلث
ولأن القاعدة تقول: ما جاز إيراد العقد عليه بانفراده، صح استثناؤه منه، وبيع صاع من صبرة جائز، فكذا استثناؤه، بخلاف استثناء الحمل من الشاة، فإنه لا يجوز استثناؤه؛ لأن إفراده بالعقد غير جائز. دليل من قال: يصح البيع بشرط ألا يتجاوز المستشى مقدار الثلث: الدليل الأول: استدل مالك بعمل أهل المدينة، قال - رحمه لله -: "الأمر المجتمع عليه عندنا: أن الرجل إذا باع ثمر حائطه، له أن يستثني من ثمر حائطه ما يينه وبين ثلث الثمر، لا يجاوز ذلك، وما كان دون الثلث فلا بأس بذلك" (¬1). قال الحطاب: "أكثر الفقهاء على منع استثناء الكيل قليلًا كان أو كثيرًا في الصبرة والثمرة، وأجازه مالك وفقهاء المدينة فيما كان قدر الثلث فأقل، ومنعوه فيما زاد؛ لكثرة الغرر، والله أعلم" (¬2). فكأن المستثنى إذا تجاوز قدر الثلث كان الباقي من الصبرة فيه غرر كثير، فيمنع، وإذا كان المستثنى من الثلث فأقل كان الغرر يسيرًا فيجوز، وقاعدة مذهب مالك في الكثير والقليل: الثلث، فما تجاوز الثلث فهو كثير، وما كان من الثلث فأقل فهو قليل، آخذًا بعموم حديث: (الثلث والثلث كثير). دليل من فرق بين الرطل والأرطال: قال ابن نجيم: "لو استثنى رطلًا واحدًا جاز اتفاقًا؛ لأنه استثناء القليل من ¬
الراجح
الكثير، بخلاف الأرطال؛ لجواز أنه لا يكون إلا ذلك القدر، فيكون استثناء الكل من الكل ... " (¬1). قلت: حكاية الاتفاق فيها نظر كبير؛ فإن الشافعية والحنابلة منعوا استثناء الصاع ونحوه. الراجح: الجواز مطلقًا؛ لأن المستثنى معلوم، والمستثنى منه قد أحاط به علم المشتري عن طريق الرؤية، وإذا جاز استثناء جزء مشاع منه، كالثلث، والربع، فجواز استثناء صاع، أو صاعين، لا يختلف فيه الحكم، والله أعلم. ¬
المطلب الخامس عشر في عقد التأمين
المطلب الخامس عشر في عقد التأمين تمهيد في تعريف التأمين وعلاقته ببيع الغرر [ن - 17] كثير من القوانين العربية تذكر عقد التأمين تحت عنوان: عقود الغرر؛ لأنه عقد مستور العاقية، فإن كلًا من العاقدين لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي، أو يأخذ، كما سيأتي بيانه، ولذا أدرجته تحت بيوع الغرر، ولا أظن أن أحدًا ينكر أن في هذا العقد غررًا، وإنما الخلاف، هل الغرر الموجود فيه غرر كثير، يمنع من صحة العقد، أو من الغرر اليسير؟ وإذا كان الغرر كثيراً، فهل الحاجة العامة الملحة تبيحه، أو ليس هناك حاجة إلى مثل هذا العقد مع وجود بديل سالم من المحاذير الشرعية؟ فهذا فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء - رحمه لله - وهو من انشرح صدره للقول بجواز التأمين بجميع أنواعه يرى أن أقوى دليل لمن قال بالمنع هو وجود الغرر، فيقول - رحمه لله -: " شبهة الغرر التي هي أقوى، وأهم الشبهات التي يتذرع بها المنادون بتحريم التأمين " (¬1). ويقول أيضًا: "وأما شبهة الغرر - وهي الشبهة الوحيدة الجديرة بالوقوف عندها للنظر والتمحيص" (¬2). ولكثرة مباحثه جعلته فصلاً، وألحقته في بيوع الغرر. ¬
تعريفه التأمين اصطلاحا
تعريفه التأمين اصطلاحا (¬1): عقد التأمين من العقود المستحدثة، ولذا ستكون النقول عن الفقهاء المعاصرين، وعن رجال القانون في هذا العصر. يقول الشيخ الزرقاء - رحمه لله -: "إن عقد التأمين هذا لا نجد عنه نصوصًا لفقهائنا الأقدمين؛ لأنه لم يكن متعارفًا في زمانهم، وهو في بلاد الغرب حديث الولادة" (¬2). ويقول الشيخ الصديق محمَّد الأمين الضرير: "عقد التأمين من العقود المستحدثة التي لم تكن معروفة قبل القرن الرابع عشر الميلادي كما قلنا؛ ولهذا فلن نجد في حكمه نصًا خاصًا، أو رأيًا خاصًا للمتقدمين من الفقهاء، كما أني لا أعتقد أن هناك عقدًا من العقود المعروفة في الفقه الإِسلامي يمكن قياس عقد التأمين عليه، لا من العقود الصحيحة، ولا من العقود غير الصحيحة، وقد حاول بعض فقهاء هذا العصر قياسه على بعض العقود فلم يوفق في ذلك" (¬3). ¬
ولم يعرف المسلمون التأمين إلا في القرن الثالث عشر الهجري، ولذلك لا نجد له بحثًا ولا ذكرًا في عبارات المتقدمين، وأول الفقهاء تعرضًا لمسألة التأمين هو محمَّد أمين الشهير بابن عابدين (ت 1252 ص 1836 م) في حاشيته المسماة (رد المحتار على الدر المختار) في فصل استئمان الكافر، من باب المستأمن من كتاب الجهاد، وسماه (السوكرة) وذلك عندما تعرض لضرب جديد من التعامل ظهر في القرن الثالث عشر الهجري، أي في الوقت الذي قوي فيه الاتصال التجاري بين الشرق والغرب في صورة صفقات يتوسط في إبرامها الوكلاء التجاريون الأجانب الذين دخلوا دار الإِسلام مستأمنين، يقول - رحمه لله -: "مطلب مهم فيما يفعله التجار من دفع ما يسمى سوكرة، وتضمين الحربي ما هلك في المركب، وبما قررناه يظهر جواب ما كثر السؤال عنه في زماننا: وهو أنه جرت العادة أن التجار إذا استأجروا مركبًا من حربي يدفعون له أجرته، ويدفعون أيضًا مالاً معلومًا لرجل حربي مقيم في بلاده، يسمى ذلك المال: سوكرة، على أنه: مهما هلك من المال الذي في المركب بحرق، أو غرق، أو نهب، أو غيره، فذلك الرجل ضامن له بمقابلة ما يأخذه منهم، وله وكيل عنه مستأمن في دارنا، يقيم في بلاد السواحل الإِسلامية بإذن السلطان، يقبض من التجار مال السوكرة، وإذا هلك من مالهم في البحر شيء يؤدي ذلك المستأمن للتجار بدله تمامًا، والذي يظهر لي: أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله؛ لأن هذا التزام ما لا يلزم. فإن قلت. إن المودع إذا أخذ أجرة على الوديعة يضمنها إذا هلكت. قلت: ليست مسألتنا من هذا القبيل؛ لأن المال ليس في يد صاحب السوكرة، بل في يد صاحب المركب، وإن كان صاحب السوكرة هو صاحب المركب، يكون أجيرًا مشتركًا قد أخذ أجرة على الحفظ،
تعريف نظام التأمين
وعلى الحمل، وكل من المودع والأجير المشترك لا يضمن ما لا يمكن الاحتراز عنه، كالموت، والغرق ونحو ذلك" (¬1). أردت من هذا العرض قبل تعريف التأمين أن نعرف أن المسألة من المعاملات المستحدثة، ولذا سيكون النقول في تعريف التأمين عن الكتب المعاصرة. إذا علم ذلك نأتي إلى تعريف التأمين، فالتأمين له تعريفان: أحدهما تعريف التأمين كنظام، والآخر تعريف التأمين كعقد، فأعرف كل واحد منهما حتى يتبين الفرق: تعريف نظام التأمين: يعرف الأستاذ مصطفى الزرقاء نظام التأمين بقوله: "نظام تعاوني تضامني، يؤدي إلى تفتيت أجزاء المخاطر، والمصائب، وتوزيعها على مجموع المستأمنين، عن طريق التعويض الذي يدفع للمصاب من المال المجموع من حصيلة أقساطهم، بدلاً من أن يبقى الضرر على عاتق المصاب وحده" (¬2). ويقول السنهوري في تعريفه: "تعاون منظم تنظيمًا دقيقًا بين عدد كبير من الناس معرضين جميعًا لخطر واحد، حتى إذا تحقق الخطر بالنسبة إلى بعضهم، تعاون الجميع في مواجهته بتضحية قليلة يبذلها كل منهم، يتلافون بها أضرارًا جسيمة تحيق بمن نزل الخطر به منهم" (¬3). ¬
تعريف التأمين كعقد
تعريف التأمين كعقد: تعرف القوانين العربية التأمين التجاري بأنه: "عقد يلتزم به المؤمِّن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمَّن له، أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغًا من المال، أو إيرادًا مرتبًا، أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث، أو تحقق الخطر المبين بالعقد، وذلك في نظير قسط، أو آية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمَّن له للمؤمِّن" (¬1). شرح التعريف: تتفق جميع التعريفات التي تناولت عقد التأمين التجاري بأنه اتفاق بين طرفين: أحدهما: شركة التأمين، وهي الجهة التي تدفع التعويض عند حصول الخطر المؤمن منه. وثانيهما: المستأمن، وهو الذي يدفع قسط التأمين للشركة على شكل دفعة واحدة، أو دفعات. ويتم الاتفاق على تحديد مقدار التعويض الذي تدفعه الشركة للمستأمن وفق شروط يتفق عليها بين الطرفين، والهدف من العقد بالنسبة للشركة: هو تحقيق الربح، والذي يتكون من فائض عمليات التأمين بعد دفع التعويضات، والمصاريف الإدارية، والعمومية، وأما الهدف بالنسبة للمستأمنين: فهو حصول الطمأنينة في دخول بعض المغامرات التجارية، وإذا حصل، ووقع له مكروه فإنه سيحصل على ترميم آثار الخطر المؤمن منه عند حصوله. ¬
وينتقد السنهوري - رحمه لله - هذا التعريف، فيقول: التعريف على هذا النحو يصلح تعريفًا وافيًا لعقد التأمين من أحد جانبيه، جانب العلاقة ما بين المؤمن والمؤمن له، ولكن للتأمين جانبًا آخر، ولا يمكن فهم التأمين على الوجه الصحيح دون أن يوضع هذا الجانب محل الاعتبار الأول، فشركة التأمين لا تبرم عقد التأمين مع مؤمن له واحد، أو مع عدد قليل من المؤمن لهم، ولو أنها فعلت لكان عقد التأمين مقامرة، أو رهانًا، ولكان عقدًا غير مشروع، إذ تكون الشركة قد تعاقدت مع مؤمن له، على أنه إذا احترق منزله مثلًا - في التأمين على الحريق - دفعت له قيمته، وإذا لم يحترق كان مقابل التأمين الذي دفعه المؤمن له حقًا خالصًا لها، وهذا هو الرهان بعينه، ولكن الشركة تتعاقد مع عدد كبير من المؤمن لهم، وتتقاضى من كل منهم مقابلًا، ومن مجموع ما تتقاضاه من هؤلاء جميعًا تعوض العدد القليل الذين تحترق منازلهم، فيفي ما تتقاضاه من المؤمن لهم، بما تدفعه من التعويض لبعضهم؛ لأنها تحسب مقابل التأمين على أساس فني مستمد من الإحصاء، على النحو الذي سنبينه فيما يلي عند الكلام في الأسس الفنية للتأمين، فالتأمين إذا نظرنا إليه من الجانب الآخر، وهو العلاقة ما بين الشركة ومجموع المؤمن لهم، لا يحمل طابع المقامرة، أو الرهبان، والشركة إذا حددت مقابل التأمين تحديدًا دقيقًا على الأسس الفنية الصحيحة، وأحسنت إدارة أعمالها، لا تتعرض لخطر يزيد على الخطر الذي تتحمله الشركات عادة في أعمال التجارة الأخرى غير أعمال التأمين، فالمؤمن لهم وجميعهم معرضون لخطر واحد يتحقق في العادة بالنسبة إلى عدد قليل منهم، ولا يتحقق بالنسبة إلى الغالبية العظمى، يتعاونون جميعًا في تعويض العدد القليل منهم الذين يتحقق الخطر بالنسبة إليهم،
فلا يتحمل هؤلاء الأخيرون الخسارة وحدهم، وبذلك يكفل التأمين للجميع توزيع الخسارة عليهم، فلا يخسر أي منهم، إلا مقابل التأمين الذي دفعه (¬1). وسوف يناقش هذا التوجيه من السنهوري إن شاء الله تعالى عند الكلام على مشروعية التأمين التجاري، وإنما احتجنا كلامه هاهنا لأنه موجه إلى نقد تعريف التأمين كعقد، والله أعلم. ¬
المسألة الأولى عناصر عقد التأمين
المسألة الأولى عناصر عقد التأمين [ن - 18] من خلال التعريف المتقدم، نرى أن التعريف قد أبرز عناصر التأمين في الآتي: الأول: التراضي بين الطرفين: المؤمِّن (الشركة) والمؤمَّن له، ويتمثل ذلك في الإيجاب والقبول الصادر منهما لإنشاء عقد التأمين مما يفضي صورة قانونية على هذا النظام، تلزم كلا الطرفين بتنفيذ الاتفاق في حال توفر شروطه. الثاني: المؤمِّن: وهو الذي يمثل شركات التأمين. الثالث: المؤمَّن له، ويطلق عليه المستأمن، وهو الشخص الذي يقوم بالتعاقد مع الشركة. الرابع: المستفيد، وقد يكون المستفيد هو المؤمَّن له، وقد يكون غيره، كما لو عين المؤمَّن له زوجة، أو ولدًا ليستفيد من عقد التأمين. الخامس: قسط التأمين، وهو محل التزام المؤمَّن له، حيث يقوم بدفع مبلغ من المال للشركة بشكل دوري ومحدد، ويحسب قسط التأمين على أساس الخطر، فإذا تغير الخطر تغير معه قسط التأمين وفقًا لمبدأ عام في التأمين، هو: (مبدأ نسبة القسط إلى الخطر) ففي حرب الخليج زادت أقساط التأمين على شركات الطيران، لزيادة الخطر في حالة الحرب، ويقوم احتساب قسط التأمين على قاعلتين أساسيتين: أحدهما: قاعده الكثرة، فكلما كان عدد المتعاقدين مع الشركة كثيرًا كان الحساب دقيقًا.
يقول السنهوري: "إذا أهدى الإحصاء إلى أن كارثة واحدة من كوارث الحريق تقع في كل ألف يتعرضون لهذا الخطر، فإن هذا التقدير قلما يصدق إذا كان المؤمن لهم ألفًا فقط، إذ تكون عوامل الحظ والمفاجأة هنا لها المقام الأول، فإذا كان المؤمن لهم خمسة آلاف، ضعفت عوامل الحظ والمصادفة، واقترب التقدير قليلاً إلى الدقة، حتى إذا كان المؤمن لهم عشرة آلاف مثلًا ابتدأ الحظ ينتفي، واقترب التقدير كثيراً إلى الدقة، وتزداد الدقة كلما ازداد العدد، وهذا هو المقصود بقانون الكثرة" (¬1). ثانيهما: قاعدة الإحصاءات الدقيقة. حيث تقدر الشركة احتمالات الخطر بالنسبة إلى جميع المشتركين، طبقًا لقوانين الإحصاء، واحتساب الأخطار الماضية، ومدى احتمال تحقق مثل ذلك في المستقبل، أو قريب منه. السادس: مبلغ التأمين: وهو محل التزام المؤمن (الشركة) حيث تقوم بدفعه إلى المؤمن له أو المستفيد عند وقوع الخطر، وهناك ارتباط وثيق بين مبلغ التأمين، وقسط التأمين، فكلما زاد قسط التأمين زاد المبلغ. السابع: الخطر، وهو الحادث الاحتمالي المؤمن منه، والمبين في العقد، كالحوادث والسرقات والحرائق، والمقصود بالخطر: هو حل حادث احتمالي سواء كرهه الإنسان أم أحبه، ترتب على وقوعه ضرر أم لا، فالتأمين على الحياة لحالة البقاء، وتأمين الأولاد، وتأمين الزواج كل ذلك تأمين من أخطار لا يكرهها الإنسان، ولا يترتب على وقوعها ضرر بالنفس أو بالمال، ففي التأمين على الحياة لحالة البقاء يتقاضى المستأمن مبلغ التأمين إذا بقي حيًا إلى تاريخ معين، وبقاؤه حيًا إلى هذا التاريخ أمر مرغوب فيه، وفي تأمين الأولاد يتقاضى ¬
المستأمن مبلغ التأمين كلما رزق بولد، وهكذا، ويشترط في الخطر عدة شروط، هي: (أ) - أن يكون الخطر محتمل الوقوع، أي لا يكون مستحيل الوقوع، ولا مؤكد الوقوع، أو يكون مؤكد الوقوع لكنه غير محدد الوقت كالموت. (ب) - ألا يكون الخطر محكومًا بإرادة أحد الطرفين، بل يكون ذلك موكولًا إلى القدر وحده، فإذا تعلق العقد بمحض إرادة المؤمَّن له فقد انتفى عنصر الاحتمال في الخطر، وأصبح تحقق الخطر بمشيئته. (ج) - أن يكون الخطر مشروعًا، فلا يجوز التأمين من الأخطار المترتبة على الاتجار بالمخدرات، أو التأمين على منزل يدار للدعارة، أو القمار. (د.) - ألا يكون الخطر نادر الوقوع، فكون الخطر منتظم الوقوع إلى درجة مألوفة تمكن الشركة من تقدير قيمة الخسائر المالية التي تنتج عنه، وبالتالي تحديد قيمة القسط، بينما إذا كان الخطر نادرًا تعذر على الشركة تقدير قيمة الخسارة، وعمل إحصاء عنه، كما أن الناس يعزفون عن التأمين على أخطار تعتبر نادرة الوقوع (¬1). ... ¬
المسألة الثانية خصائص عقد التأمين
المسألة الثانية خصائص عقد التأمين [ن - 19] بناء على ما تقدم ذكره نستطيع أن نقول: إن أهم خصائص عقد التأمين التجاري هي: الأول: أنه عقد معاوضة. والمقصود بالمعاوضة أن كلًا من الطرفين يأخذ مقابلًا لما أعطى، يقابله التبرع، والذي يعطي فيه المتبرع للآخر دون مقابل، وكونه عقد معاوضة يستلزم أن يتم العقد برضا الطرفين، شأنه شأن أي عقد من عقود المعاوضات. الثاني: أنه عقد ملزم للطرفين. فإذا تم العقد فلا يجوز لأحدهما الرجوع عنه، أو فسخه بعد انعقاده، إلا برضا الطرفين، كما أن العقد يلزم المستأمن بدفع أقساط التأمين، ويلزم المؤمن يدفع التعويض إذا وقع الخطر. الثالث: أن عقد التأمين عقد احتمالي. ومعنى عقد احتمالي: أن كلًا من طرفي العقد (المؤمن والمستأمن) لا يعرف وقت العقد مجموع ما سيأخذ من المال، ولا مقدار ما سيدفع؛ لأن ذلك متوقف على وقوع الخطر، وهذا لا يعلمه إلا الله، ولذلك أورده القانون المدني ضمن عقود الغرر. الرابع: يعتبر التأمين من عقود الإذعان. بمعنى أن أحد الطرفين أقوى من الآخر، والجانب القوي فيه: هو شركة
التأمين؛ لأنها تضع من الشروط في عقد التأمين ما لا يملك المستأمن إلا أن يقبل بها إن أراد التأمين، وهي شروط أكثرها مطبوع، وبعضها تعسفي يضر بمصالح المستأمنين، ولهذا السبب يتدخل القانون في أغلب الدول في تنظيم عقد التأمين لحماية المؤمن لهم، والتخفيف من تعسفية تلك الشروط، ومن تلك الشروط التعسفية: الشرط الذي يقضي بسقوط الحق في التأمين إذا تأخر في الإبلاغ عن الحادث للسلطات أو تقديم المستندات التي تبين أن التأخير كان لعذر (¬1). ¬
المسألة الثالثة في أنواع التأمين التجاري
المسألة الثالثة في أنواع التأمين التجاري [ن - 20) ينقسم التأمين التجاري باعتبار الأخطار المؤمن منها إلى أقسام، منها: الأول: التأمين على الممتلكات. وهو ما يكون فيه الخطر المؤمن منه يتعلق بمال المؤمن له، لا بشخصه، كالتأمين على السيارات والمتاجر والمنازل، من الحريق، أو الغرق، أو السرقة ونحو ذلك، ويهدف هذا إلى تأمين الضرر الكلي، أو الجزئي الذي يصيب مال المؤمن له. الثاني: التأمين على المسؤولية. وذلك كتأمين صاحب السيارة على مسؤوليته تجاه الغير عما تحدثه سيارته من أذى لأنفس، أو لأموال الآخرين، وكتأمين الأطباء، والجراحين مما قد يتعرضون له من مطالبات مالية نتيجة مخاطر الخطأ في مزاولة المهنة، ومثله تأمين الصيادلة مما قد يتعرضون له من مطالبات مالية نتيجة مخاطر الخطأ في تحضير الأدوية، وهكذا. الثالث: التأمين ضد الإصابات الجسدية أو المرض. وفيه يؤمن الشخص ضد الحوادث التي تمس سلامة أعضائه، والتي تؤدي إلى العاهة أو العجز الجسدي كليًا أو جزئيًا. الرابع: تأمين الزواج أو تأمين الأولاد. وفيه تقوم الشركة بتغطية نفقات الزواج للمستأمن، إذا تزوج قبل أن يبلغ سنًا
الخامس: التأمين على الحياة.
معينة، وأما تأمين الأولاد: فيغطي النفقات التي تقتضيها ولادة طفل للمستأمن خلال مدة معينة. الخامس: التأمين على الحياة. وهو عقد يتعهد المؤمن بمقتضاه دفع مبلغ من المال للمؤمن له عند موته، أو عند بقائه حيًا بعد مدة معينة، وهو ثلاثة أقسام: الأول: تأمين لحال الوفاة، والثاني: تأمين لحال البقاء، والثالث: التأمين المختلط. الأول: تأمين لحال الوفاة، وله ثلاث صور: الصورة الأولى: تأمين عمري، أو التأمين مدى الحياة، ويستحق المؤمن له مبلغ التأمين الذي يدفع للورثة، أو المستفيد عند وفاة المؤمن له، ويلتزم المؤمن له بدفع قسط التأمين مدى الحياة، ويبقى العقد ساري المفعول إلى حين وفاته. الصورة الثانية: تأمين مؤقت: وهو أن يدفع المؤمن له أقساطًا إلى مدة معينة، كعشرين سنة، فإذا مات قبلها لم يستحق مبلغ التأمين، وإذا بقي حيًا استمر في الدفع، فإذا توفي استحق مبلغ التأمين، وصرف إلى ورثته، أو إلى المستفيد الذي عينه. الصورة الثالثة: تأمين البقاء وفيه تدفع شركة التأمين مبلغ التأمين للمستفيد إذا بقي حيًا بعد موت المؤمن على حياته، فإذا مات المستفيد قبل موت المؤمن على حياته انتهى التأمين، وبرئت ذمة شركة التأمين، واحتفظت لنفسها بالأقساط التي قبضتها من المؤمن على حياته.
القسم الثاني: التأمين على الحياة لحالة البقاء
القسم الثاني: التأمين على الحياة لحالة البقاء وهو أن يدفع المؤمن له أقساطًا لمدة معينة، فإذا انتهت تلك المدة تدفع الشركة للمؤمن له مرتبًا شهريًا في حالة بقائه على قيد الحياة، أما إذا مات المؤمن على حياته قبل ذلك الأجل فإن التأمين ينتهي، وتبرأ ذمة شركة التأمين، وتحتفظ لنفسها بالأقساط التي قبضتها. القسم الثالث: التأمين المختلط وهو عقد تلتزم بموجبه شركة التأمين بدفع مبلغ محدد إلى المؤمن له في حالة بقائه على قيد الحياة عند انقضاء المدة المتفق عليها، أو إلى المستفيد في حال وفاة المؤمن له خلال مدة معينة، وسمي هذا النوع مختلطًا؛ لأنه يجمع بين التأمين حالة الوفاة إذا مات المؤمن على حياته خلال مدة معينة، والتأمين لحالة البقاء إذا بقي المؤمن على حياته حيًا عند انقضاء تلك المدة (¬1). وقد تحدث صور أخرى للتأمين بحسب ما يتجدد من أخطار محتملة، ويحتاج الناس للتأمين عليها، فالصور المذكورة ليست صورًا يقصد منها الحصر، وإنما المقصود ذكر ما شاع منها واشتهر خلال المدة الماضية، والله أعلم. السادس: إعادة التأمين من أنواع التأمين التجاري، ما يسمى إعادة التأمين، وقد عرفه بعضهم بأنه: عقد بين شركة التأمين المباشر، وشركة إعادة التأمين تلتزم بمقتضاه شركة التأمين ¬
المباشر بدفع حصة من أقساط التأمين المستحقة لها من المستأمنين لشركة إعادة التأمين مقابل التزام شركة إعادة التأمين بتحمل حصة من المخاطر التي تلتزم بها شركة التأمين المباشر (¬1). وحكم إعادة التأمين حكم التأمين التجاري، وسيأتي بحثه إن شاء الله تعالى بالمسألة التالية. ¬
المسألة الرابعة حكم التأمين التجاري
المسألة الرابعة حكم التأمين التجاري قال ابن تيمية: مفسدة الغرر أقل من الربا، فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه (¬1). وقال أيضًا: المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم (¬2). ويقول ابن تيمية أيضًا: "والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه من البيع لأجل نوع من الغرر، بل يبيح ما يحتاج إليه من ذلك" (¬3). قلت: المعاملة المالية إذا تنازعها موجبان: أحدهما يدعو إلى التحريم، وهو وجود الغرر، والآخر يدعو إلى الإباحة، وهو قيام الحاجة العامة الملحة، كانت للأقوى منهما، وهو الإباحة. وقال الصديق الضرير "إذا كانت هناك حاجة إلى العقد لم يؤثر الغرر مهما كانت صفة الغرر، وصفة العقد؛ لأن العقود كلها شرعت لحاجة الناس إليها، ومن مبادئ الشريعة العامة المجمع عليها، رفع الحرج {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، ومما لا شك فيه أن منع الناس من العقود التي هم في حاجة إليها، يجعلهم في حرج، ولهذا كان من عدل الشارع، ورحمته بالناس، أن أباح لهم العقود التي يحتاجون إليها، ولو كان فيها غرر" (¬4). ¬
[ن - 21]، لقد تعرض الفقهاء المعاصرون لحكم التأمين باختلاف أنواعه، قيامًا بالواجب، وبلاغًا للأمة، وكانت هذه المسألة محلًا للعناية في أكثر من محفل علمي، ومركز بحثي في العالم الإِسلامي، ومن ذلك: الأول: أسبوع الفقه الإسلامي والذي عقد بدمشق عام 1380 ص (1961 م). وهو أول مؤتمر علمي ناقش موضوع التأمين. الثاني: مؤتمر علماء المسلمين الثاني بالأزهر، بالقاهرة، عام 1385 هـ (1965 م). الثالث: ندوة التشريع الإسلامي بالبيضا في ليبيا عام 1392 هـ. الرابع: مؤتمر علماء المسلمين السابع بالقاهرة 1392 هـ. ولم يتفق الباحثون في هذه المؤتمرات على رأي، غير أنهم اتفقوا على أن الموضوع يحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة. بعد هذا التاريخ صدر من المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإِسلامي بمكة المكرمة عام 1396 هـ ما يفيد اتفاقهم على أن التأمين التجاري، الذي تمارسه شركات التأمين التجاري في هذا العصر، لا يحقق الصيغة الشرعية للتعاون والتضامن؛ لأنه لم تتوافر فيه الشروط الشرعية التي تقتضي حله ... وصدر مثل ذلك عن هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وقد أفتوا بجواز التأمين التعاوني؛ لأنه من عقود التبرع، ومثل ذلك صدر عن المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي عام 1398 هـ ، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي عام 1406 هـ وأصدرت هيئة رقابة بنك فيصل الإسلامي السوداني عدة فتاوى حول موضوع التأمين، مؤداها، أنه غير جائز،
القول الأول
إلا إذا نص في العقد على أنه تبرع، وأنه يدفع القسط للشركة لإعانة من يحتاج إليه من المشتركين (¬1). وقد اختلف العلماء المعاصرون في حكم التأمين التجاري على النحو التالي: القول الأول: ذهب أكثر أهل العلم إلى القول بتحريم التأمين مطلقاً. ومن أشهرهم: ابن عابدين الحنفي (¬2)، ومحمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية (¬3)، وأبو زهرة (¬4)، وأحمد إبراهيم الحسيني (¬5)، والصديق الضرير (¬6)، وعلي البقرة داغي (¬7)، والشيخ تقي العثماني (¬8). وبه أوصى المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإِسلامي المنعقد في مكة المكرمة في 1396 هـ وبه أخذ مجلس هيئة كبار العلماء في السعودية (¬9). ¬
القول الثاني
وغالب أعضاء المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي (¬1). وغالب أعضاء مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (¬2). القول الثاني: ذهب فريق من أهل العلم إلى جواز التأمين مطلقًا. وعلى رأسهم: العلامة مصطفى الزرقاء (¬3)، والشيخ عبد الله صيام (¬4)، والشيخ عبد الوهاب خلاف (¬5)، والشيخ علي الخفيف (¬6)، وعبد الرحمن عيسى (¬7)، ومحمد يوسف (¬8)، والشيخ محمد أحمد فرج السنهوري (¬9)، والشيخ عبد الله بن ¬
القول الثالث
منيع (¬1)، والأستاذ رفيق ابن يونس المصري (¬2)، وغيرهم. القول الثالث: ذهب إلى أن التأمين ينقسم إلى قسمين: الأول: ما كان التأمين فيه من عقود الغرر، كالتأمين التجاري على السلع والمنشآت، ومنه التأمين الصحي. وهو عقد قائم على جبر الأضرار، فهذا يدخل في العقود المباحة، والغرر الموجود في هذا العقد إما غرر يسير على قول، وإما غرر كثير تبيحه الحاجة العامة وهو الصحيح. الثاني: ما كان التأمين فيه من عقود الربا، كالتأمين على الحياة، فهذا التأمين لا يقوم على جبر الأضرار، بل يدفع المستأمن دراهم للمؤمن، وإذا بلغ سنًا معينًا أو مضى وقت معين دفع المؤمن للمستأمن دراهم عوضًا عنها إما دفعة واحدة، وإما على شكل رواتب وأقساط، وهذا العقد محرم. وقد توجت إلى هذا القول الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية (¬3)، ¬
والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود (¬1). ويلحق بالتأمين المحرم في رأي ما يسمى بالتأمين الاجتماعي (نظام التقاعد)؛ لأنه نوع من التأمين على الحياة، وقد أفردته بالبحث لأهميته. وبعضهم يسوق قولاً رابعًا، وهو التوقف في المسألة، والحقيقة أن المتوقف ليس له قول، ولا يعتبر التوقف قولاً، لا في هذه المسألة، ولا في غيرها، فالمسألة ليست خلوًا من الحكم الشرعي، والشريعة فيها بيان كل شيء، ولكن التوقف قد يصيب الباحث لتردد الأدلة، ولعدم وضوحها بالنسبة إليه، وهذا لا ينسب إلى حكم المسألة من الناحية الفقهية. ¬
دليل من ذهب إلى منع التأمين التجاري مطلقا.
* دليل من ذهب إلى منع التأمين التجاري مطلقًا. الدليل الأول: (ح-218) ما رواه مسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الغرر، وعقد التأمين مشتمل على غرر فاحش، في وجوده، وفي مقداره، وفي أجله. أما الغرر في وجوده، وهو أشد أنواع الغرر، وذلك أن العوض في التأمين، وهو المقصود من التعاقد قد يتحقق، وقد لا يتحقق , لأن استحقاقه متوقف على حدوث الخطر المؤمن منة، فإن وجد كان مستحقًا،، وإلا فلا. وأما الغرر في مقداره: فإن مقدار العوض المستحق يتوقف على مقدار الضرر، وكلا الطرفين لا يعلم مقدار الضرر، حتى يعلم مقدار العوض، وإنما يعلم ذلك إذا وقع الخطر، فعرف حجم الضرر. والجهل في مقدار العوض يجعل العقد باطلاً. قال ابن رشد في بداية المجتهد: "والغرر ينتفي عن الشيء بأن يكون معلوم الوجود، معلوم الصفة، معلوم القدر، مقدورًا على تسليمه" (¬2). وجاء في الفتاوى الهندية: "ويبطل الشرط الفاسد وجهالة البدل البيع، والإجارة، والقسمة، والصلح عن دعوى المال" (¬3). ¬
مناقشة وجود الغرر الفاحش
وهذا يعني أن جهالة البدل تبطل مبادلة المال بالمال. وأما الغرر في الأجل: فإن ذلك يتمثل في الجهالة به، فإن استحقاق العوض مبني على وقوع الخطر، وكلا المتعاقدين لا يستطيعان أن يعلما وقت حدوثه، فقد يقع بعد عقد التأمين مباشرة، وقد يتأخر وقوعه، وقد لا يقع أصلًا. فالأجل الذي به يستحق المستأمن ذلك العوض غير معلوم، هذا إذا كان مؤكد الوقوع، كالتأمين على الوفاة، فما بالك بغيره، فقد يدفع المستأمن قسطًا، أو قسطين، ثم تقع الكارثة، فيستحق العوض، وقد لا تقع الكارثة أصلاً، فيدفع جميع الأقساط، ولا يأخذ شيئاً، وقد يتأخر حدوث الخطر تأخرًا كثيرًا (¬1). مناقشة وجود الغرر الفاحش: ستتم مناقشة وجود الغرر في عقد التأمين من ثلاثة وجوه: الأول: هل هناك تسليم بأن عقد التأمين فيه غرر. الثاني: على التسليم بأن هناك غررًا في العقد، فهل هو غرر كثير مؤثر، أو من قبيل الغرر اليسير. الثالث: وإذا كان الغرر كثيرًا، فهل تبيحه الحاجة العامة الملحة. وألتمس من القارئ أن لا يستطيل الحديث عن الغرر، فإن هذا الدليل، هو أقوى دليل للمانعين، أو لعله هو الدليل الوحيد الذي يستحق الوقوف عنده، والمناقشة. * الوجه الأول: عدم التسليم بوجود الغرر في عقد التأمين. وذلك أن عقد التأمين يقوم بين طرفين: المستأمن والمؤمن، والسؤال: هل ¬
الغرر الموجود في عقد التأمين هو في حق المستأمن, أو في حق شركة التأمين، أو في كليهما؟ فإن قيل: إن الغرر في جانب المستأمن قلت: إن الغرر في حق المستأمن يجب أن يكون يسيرًا جدًا, لأن المبلغ الذي سوف يدفعه، هو مبلغ زهيد جداً، مقابل إقدامه على المخاطرة بنفس مطمئنة، فلو أخذنا تأمين الرخصة مثالًا، لرأينا أن سائق حافلة يحمل معه يوميًا أربعين طالبًا، أو طالبة، وراتبه بمقدار ألف ريال، ومع كثرة الحوادث على الطرق، سيتحمل مسؤولية عظيمة، فيما لو تعرض له حادث، وتلف مَنْ معه مِن النفوس، فيدفع ريالًا واحداً يوميًا، ليقدم على القيادة بنفس مطمئنة، ويقبل المغامرة بقبول هذه المهنة بهذا الراتب اليسير، وهذا المبلغ يدفعه المستأمن مقابل مشروب غازي واحد، فإن لم يتعرض للخطر فالحمد لله، فهذا ما كان يرغب فيه، وإن تعرض للخطر كان له من يحمل عنه هذه المبالغ الهائلة. وإن قيل: إن الغرر في جانب الشركة المؤمنة، فإنه من المعلوم أن شركات التأمين هي من أكثر الشركات ربحًا في السوق، ولو كانت قائمة على الغرر لوجدتها شركات خاسرة، فالشركة تتعاقد مع عدد كبير من المؤمن لهم، وتتقاضى من كل منهم مقابلًا، ومن مجموع ما تتقاضاه من هؤلاء جميعًا، تعوض العدد القليل، الذين تحترق منازلهم، فيفي ما تتقاضاه من المؤمن لهم، بما تدفعه من التعويض لبعضهم , لأنها تحسب مقابل التأمين على أساس فني مستمد من قواعد الإحصاء، وحساب الاحتمالات، وقانون الكثرة، فالتأمين إذا نظرنا إليه من الجانب الآخر، وهو العلاقة ما بين الشركة، ومجموع المؤمن لهم، لا يحمل طابع المقامرة، أو الرهبان.
والشركة إذا حددت مقابل التأمين تحديدًا دقيقًا، على الأسس الفنية الصحيحة، وأحسنت إدارة أعمالها, لا تتعرض لخطر يزيد على الخطر الذي تتحمله الشركات عادة في أعمال التجارة الأخرى غير أعمال التأمين، فالمؤمن لهم جميعهم معرضون لخطر واحد، يتحقق في العادة بالنسبة إلى عدد قليل منهم، ولا يتحقق بالنسبة إلى الغالبية العظمى، يتعاونون جميعًا في تعويض العدد القليل الذين يتحقق الخطر بالنسبة إليهم، فلا يتحمل هؤلاء الخسارة وحدهم، وبذلك يكفل التأمين للجميع توزيع الخسارة عليهم، فلا يخسر أي منهم، إلا مقابل التأمين الذي دفعه (¬1). ويدل على ذلك: أنه بالرجوع إلى نسبة الحوادث التي حصلت في المملكة العربية السعودية هذا العام، تجدها قريبة من نسبة الحوادث التي حصلت في العام الماضي، إذا أخذنا في الاعتبار الزيادة المطردة في عدد السائقين كل عام، والزيادة في عدد السيارات. كما أن شركات التأمين لا تقبل التأمين على الأمور التي لا تخضع للإحصاء الفني، فالمحاصيل الزراعية لا تقبل شركات التأمين أن تؤمن عليها , لأن الآفات والنقص التي تتعرض لها المحاصيل الزراعية لا يخضع للحساب الفني الدقيق. وإذا انتفى الغرر في حق المستأمن, وفي حق شركات التأمين انتفى الغرر عن مجموع العاقدين. وممن يرى هذا الرأي فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء رحمة الله، والدكتور السنهوري (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
جواب القائلين بالتحريم: أجاب القائلون بالتحريم على ما سبق بما يلي: (أ) أن عقد التأمين الذي تبرمه الشركة مع مؤمن له معين، لا ينشئ علاقة بين هذه الشركة، ومجموع المؤمن لهم، فالعلاقة بين شركة التأمين، ومجموع المؤمن لهم علاقة مفترضة، لا وجود لها في الواقع، فعقود التأمين إذن ليس لها إلا جانب واحد، هو جانب العلاقة التي تنشئها هذه العقود بين شركة التأمين، والمؤمن له المعين، وإذا كان الأمر كذلك، وجب على الفقيه أن ينظر -عند الحكم على عقد التأمين بالجواز، أو المنع- إلى ما ينشئه هذا العقد من علاقة بين طرفيه، وما يترتب على هذه العلاقة من حقوق، والتزامات متبادلة، وليس في أصول الاجتهاد الإِسلامي، ما يجيز لهذا الفقيه، أن يؤسس هذا الحكم على علاقة وهمية (بين الشركة ومجموع المؤمن لهم) لم ينشئها عقد التأمين، وبالتالي يتعذر عليه معرفة ما ترتبه مثل هذه العلاقة من حقوق، والتزامات متبادلة بين طرفيها، هذه المعرفة التي تعد لازمة لمثل هذا الحكم (¬1). ¬
ورد هذا
ورد هذا: بأن المستأمن وإن لم يكن له علاقة مع مجموعة المؤمنين، إلا أن الشركة لها تلك العلاقة، فهي لم تدخل في هذا العقد إلا عندما توفر لها مجموعة كبيرة من المستأمنين، مما جعلها تطمئن، أن عقد التأمين يمكن أن يكون عقدًا مربحًا. ألم يدع القائلون بجواز التأمين التعاوني، بوجود تلك العلاقة بين مجموعة المستأمنين أنفسهم، مع أنه لا يعرف بعضهم بعضًا، ومع أن العقد القانوني إنما هو قائم بين المستأمن وحده، وبين المؤسسين، ولا علاقة قانونية البتة بين مجموع المستأمنين بعضهم مع بعض. ومثلها في ذلك شركات المساهمة: فإن شركات المساهمة وإن كان العقد بين الشركة، وبين المساهم على انفراد، إلا أن الشركة لا تنظر إلى عقد المساهم وحده، بل تنظر إلى مجموعة المساهمين، فإذا توفر لها العدد الذي يكفي للقيام برأس المال مضت في تنفيذ عقد الشركة، وإلا حلت الشركة. وبناء عليه فإنه فلا يمكن أن ينكر أحد أن شركات التأمين لم تقبل الدخول في هذا العقد إلا بعد أن توفر لها مجموعة من المستأمنين، وإذا كان الشأن كذلك أصبح مجموع المؤمن لهم مقصودًا في الدخول في العقد، وقبول الالتزام به. (ب) لو سلمنا وجود مثل هذه العلاقة بين شركات التأمين، ومجموع المؤمن لهم، فإننا لا نسلم أن الوسائل العلمية المتاحة لشركات التأمين، كحساب الاحتمالات، وقانون الكثرة، وقواعد الإحصاء، تمكن هذه الشركات من تحديد ما يمكن أن تدفعه لجماعة المؤمن لهم، وما تأخذه منهم في مدة معينة، تحديدًا يمنع الغرر، والاحتمال، فقد تحدث كوارث لا تتوقعها شركات
ويجاب
التأمين، كالحروب، والفيضانات، والأوبئة، وغيرها مما يعرض شركات التأمين للإفلاس، كما حدث في حالات كثيرة (¬1). ويجاب: بأن المخاطر التي لا تتوقع، كالكوارث، والحروب، والأوبئة، والآفات السماوية، من أعاصير، وفيضانات، مما لا دخل للإنسان فيها لا يسلم منها النشاط الإنساني من تجارة، وزراعة، وصناعة، وغيرها, ولم تكن يومًا سببًا في تحريم تلك الأنشطة، والتأمين لا يختلف عنها، فالحكم في النشاط الإنساني إنما هو في الظروف العادية المعتادة. (ج) يسلم الشيخ الصديق الضرير بأن الغرر بالنسبة للمؤمن قد ينتفي بنسبة كبيرة بالنسبة لمجموع المستأمنين، وذلك عن طريق الاستعانة بقواعد الإحصاء، فإذا تجاوزنا في الأمر، ولم ننظر إلى علاقة المؤمن بكل مستأمن على حدة، ونظرنا إلى علاقته بمجموع المستأمنين فقط، أمكننا أن نقول بانتفاء عنصر الغرر بالنسبة للمؤمن في الظروف العادية. إلا أن الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير لا يرى انتفاء الغرر عن المؤمن وحده كافيًا، فلا بد أن ينتفي الغرر بالنسبة للمستأمن أيضًا. يقول الشيخ وفقه الله: "انتفاء الغرر بالنسبة للمؤمن وحده لا يكفي لانتفاء الغرر عن عقد التأمين، فلا بد من أن ينتفي الغرر بالنسبة للمستأمن أيضًا، وهو ما لم يستطع الأستاذ الزرقاء إثباته، فقد اعتمد في ذلك على حجة واهية، هي: أن العوض المقابل للأقساط، هو الأمان (الضمان)، أي أن محل العقد في التأمين، هو الأمان (الضمان)، وهذه حجة لا تستند على فقه، ولا على قانون، ¬
ويجاب عن هذا
فإن الأمان كما لا يخفى هو الباعث على عقد التأمين، ومحل العقد: هو ما يدفعه كل من المؤمن والمؤمن له، أو ما يدفعه أحدهما, إذ لو قلنا: إن الأمان هو المحل لكان عقد التأمين باطلا قانونًا وفقهًا، فإن من الشروط المسلم بها في القانون، والفقه أن محل العقد لا بد أن يكون ممكنًا، فإذا كان المحل مستحيلاً، فالعقد باطل، ومن البدهى أن الأمان في عقد التأمين يستحيل الالتزام به، وهذا يدفع قول الأستاذ الزرقاء: إنه ليس هناك دليل يثبت، أن الأمان (الضمان) لا يجوز الحصول عليه لقاء مقابل" (¬1). ويجاب عن هذا: أولاً: قول الشيخ الصديق محمد الضرير بأن الأمان في عقد التأمين يستحيل الالتزام به، فيقال: لم يقصد الشيخ الزرقاء أن يقول: إن عقد التأمين هو التزام بعدم حدوث خطر للمستأمن، حتى يقول: إنه يستحيل الالتزام به، وإنما يقصد أن الضمان القائم بعقد التأمين يحصل له منه الأمان، والإقدام على المخاطرة بنفس مطمئنة، وسواء حصل الخطر له، أو لم يحصل، فالأمر سيان عنده؛ لأن بضاعته والذي هو حريص على سلامتها، قد ضمن له سلامتها، وذلك بدفع مثلها إن تلفت، أو إتمامها إن نقصت، شأنه في ذلك شأن البضائع التي تشترى في السوق، وقد تعهدت الشركة المنتجة بالضمان لمدة معينة، وذلك باستبدال قطع الغيار التالفة، وكل ما زادت مدة الضمان، زادت قيمة السلعة، والشركة ليست مغامرة في هذا , لأنها تعرف بضاعتها، ونسبة ما قد يتعرض للتلف في مقابل رواج السلعة، وزيادة سعرها عن السلع غير المضمونة، فما تأخذه في مقابل زيادة السلعة، وزيادة رواجها، يغطي بعضه ما قد يحدث من تلف، ¬
الوجه الثاني: التسليم بأن عقد التأمين فيه غرر، ولكنه غرر غير مؤثر.
وتستطيع من خلال الإحصاءات الدقيقة والأسس الفنية أن تعرف نسبة ما قد تنفقه من تعويضات، مقابل هذا الضمان، وما تربحه مقابل ذلك. فإن قيل: هل يجوز التعاقد على الضمان، أو لا يجوز بذل العوض إلا إذا كان في مقابلته إما مال، وإما عمل؟ فالجواب: لا مانع شرعاً من دفع المال في مقابل ضمان الأعيان، إذا كان لا يترتب على ذلك محذور شرعي، حتى ولو لم يحصل تعويض، فالضمان بحد ذاته له قيمة مالية، كما سيتبين لك من خلال مناقشة الأدلة القادمة، فإن ترتب على الضمان محذور شرعي كما لو أدى الضمان إلى قرض جر نفعاً حرم أخذ العوض على الضمان، وسيأتي مزيد إيضاح لهذه المسألة إن شاء الله تعالى. ثانيًا: إذا سلم الشيخ الصديق محمد الضرير بأن الغرر في جانب المؤمن (شركة التأمين) هو غرر يسير، مع أن شركة التأمين هي في الحقيقة من يتحمل تبعات الأخطار، والغرم في حقها قد يكون كبيرًا جداً، فإن الغرر في جانب المستأمن يجب أن يكون يسيرًا جداً من باب أولى؛ لأن المبلغ الذي سوف يدفعه، هو مبلغ زهيد جدًا، مقابل إقدامه على المخاطرة بنفس مطمئنة، وقد أخذنا تأمين الرخصة مثالًا لذلك، وبينا انتفاء الغرر في حق المستأمن فأغنى ذلك عن تكراره. * الوجه الثاني: التسليم بأن عقد التأمين فيه غرر، ولكنه غرر غير مؤثر. هناك فريق من العلماء ممن أجاز التأمين يسلم بأن عقد التأمين فيه غرر، ولكنه يقول: ليس كل غرر مؤثرًا في صحة العقد، وإنما الغرر المؤثر في العقد هو الغرر الذي يؤدي إلى التنازع، والغرر الذي في عقد التأمين لا يؤدي إلى نزاع.
وجه الاستدلال
(ح-219) ويستدل لذلك بما رواه البخاري تعليقًا مجزومًا به، قال: وقال الليث، عن أبي الزناد، كان عروة بن الزبير يحدث عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري من بني حارثة، أنه حدثه عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -، قال: كان الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبايعون الثمار، فإذا جد الناس، وحضر تقاضيهم، قال المبتاع: إنه أصاب الثمر الدمان، أصابه مراض، أصابه قشام، عاهات يحتجون بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كثرت عنده الخصومة في ذلك، فإما لا، فلا تتبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر، كالمشورة يشير بها, لكثرة خصومتهم (¬1). [حسن] (¬2). وجه الاستدلال: أن بيع الثمار قبل بدو صلاحها يوقع في الغرر, لأن الثمرة عرضة للهلاك بسبب العاهة، ولم ينه رسول - صلى الله عليه وسلم - عن هذا البيع ابتداء، وإنما لما كثرت الخصومات بسبب هذا البيع، بسبب الوقوع في الغرر، الذي قد يلحق المشتري؛ لأن الثمرة قد تسلم له، وقد لا تسلم، عند ذلك نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فدل على أن الغرر المنهي عنه، هو الغرر الذي يوقع في الخصومات والمنازعات. ¬
مناقشة هذا الكلام
يقول الأستاذ علي الخفيف: "وما يظن أن الناس يتعارفون عقدًا يحوي غررًا يؤدي إلى نزاعهم، ثم يشيع بينهم، ولا يتركونه؛ إذ المقبول أنهم إذا تعاملوا به، فتنازعوا، تركوه" (¬1). مناقشة هذا الكلام: يرد الشيخ الصديق الضرير هذا الكلام، فيقول: "كون الغرر الذي في التأمين لا يؤدي إلى نزاع، أمر غير مسلم، فإن كثيرًا من الحالات التي يطالب فيها المؤمن له بالتعويض، لا تمر من غير نزاع، واتهام للمؤمن له، بأنه افتعل الحادث ليحصل على المبلغ المؤمن به، وما أظن أن استمرار الناس في التعامل بعقد من العقود دليل على أن ذلك العقد لا يؤدي إلى نزاع بينهم، فقد تعارف الناس الميسر، ولم يتركوه حتى جاء الإِسلام، فحرمه، وتعارفوا بيع الثمار قبل بدو صلاحها، مع أنه كان سبباً للنزاع، ولم يتركوه حتى نهاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنه، فشيوع التأمين، وانتشاره، لا يعني أن الغرر الذي فيه، لا يؤدي إلى نزاع" (¬2). وأجيب: بأن النزاع الموجود في التأمين موجود أيضًا في البيوع المباحة، ومعاملات الناس لا تسلم من النزاع، والاختلاف، ولكن الكلام، هل المعاملة نفسها سبب للوقوع في النزاع، بحيث لا يعرف المؤمن، والمستأمن ما له، وما عليه؟ أو أن النزاع يرجع إلى طبيعة شح الناس، وطمعهم، وهو ما يوجد في كثير من المعاملات المباحة. ¬
الوجه الثالث: التسليم بأن التأمين فيه غرر كثير، والأصل فيه التحريم، ولكن أباحته الحاجة.
* الوجه الثالث: التسليم بأن التأمين فيه غرر كثير، والأصل فيه التحريم، ولكن أباحته الحاجة. نسلم بأن عقد التأمين ينطوي على غرر كثير، وأن الأصل فيه التحريم، ولكن أباحته الحاجة الملحة العامة. وهذا ما أميل إليه. يقول ابن تيمية: "مفسدة الغرر أقل من الربا، فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه، فإن تحريمه أشد ضررًا من كونه غررًا، مثل بيع العقار جملة، وإن لم يعلم دواخل الحيطان والأساس، ومثل بيع الحيوان الحامل أو المرضع، وإن لم يعلم مقدار الحمل، أو اللبن، وإن كان قد نهي عن بيع الحمل منفردًا، وكذلك اللبن عند الأكثرين ... " (¬1). وابن تيمية، وإن مثل لقاعدته في الغرر التابع، والغرر اليسير؛ لأن ابن تيمية من عادته إذا ساق الأمثلة، اختار من الأمثلة ما لا نزاع فيه، ولكن العبرة بالقاعدة التى ساقها ابن تيمية، فإنه رخص في الغرر إذا دعت إليه الحاجة، والغرر الذي تبيحه الحاجة أعم من الغرر اليسير أو التابع، فهذان يباحان مع قيام الحاجة، وبدونها. ويقول ابن تيمية أيضًا: "من أصول الشرع، أنه إذا تعارضت المصلحة، والمفسدة قدم أرجحهما، فهو إنما نهى عن بيع الغرر، لما فيه من المخاطرة التي تضر بأحدهما، وفي المنع مما يحتاجون إليه من البيع ضرر أعظم من ذلك، فلا يمنعهم الضرر اليسير، بوقوعهم في الضرر الكثير، بل يدفع أعظم الضررين باحتمال أدناهما, ولهذا لما نهاهم عن المزابنة، لما فيها من نوع ربا، أو مخاطرة، أباحها لهم في العرايا للحاجة؛ لأن ضرر المنع من ذلك أشد، ¬
وكذلك لما حرم عليهم الميتة؛ لما فيها من خبث التغذية، أباحها لهم عند الضرورة؛ لأن ضرر الموت أشد، ونظائره كثيرة ... " (¬1). ويقول ابن تيمية أيضًا: "وإذا كانت مفسدة بيع الغرر، هي كونه مظنة العداوة، والبغضاء، وأكل الأموال بالباطل، فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة، قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام، والإبل لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض، وإن لم يجز غيره بعوض" (¬2). وهذه المفاسد التى ساقها ابن تيمية في عقد الغرر من كونه مظنة العداوة والبغضاء، وأكل أموال الناس بالباطل إنما توجد في الغرر الكثير، وليس في الغرر اليسير أو التابع، ومع ذلك رأى ابن تيمية أن المصلحة الراجحة إذا عارضت تلك المفاسد فإنها مقدمة عليها. ويقول ابن تيمية أيضًا: "والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه من البيع لأجل نوع من الغرر، بل يبيح ما يحتاج إليه من ذلك" (¬3). ويقول ابن تيمية أيضًا: "المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم" (¬4). وهذا يدل على أن المعاملة المالية قد يتنازعها موجبان: أحدهما يدعو إلى التحريم، وهو وجود الغرر، والآخر يدعو إلى الإباحة، وهو قيام الحاجة العامة الملحة، وتكون للأقوى منهما. ¬
ويقول الشيخ الصديق الضرير في كتابه القيم الغرر وأثره في العقود: "يشترط لتأثير الغرر في العقد ألا يكون الناس في حاجة إلى ذلك العقد، فإن كانت هناك حاجة إلى العقد لم يؤثر الغرر مهما كانت صفة الغرر، وصفة العقد, لأن العقود كلها شرعت لحاجة الناس إليها، ومن مبادئ الشريعة العامة المجمع عليها، رفع الحرج {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، ومما لا شك فيه أن منع الناس من العقود التي هم في حاجة إليها، يجعلهم في حرج، ولهذا كان من عدل الشارع، ورحمته بالناس، أن أباح لهم العقود التي يحتاجون إليها, ولو كان فيها غرر" (¬1). ويقول أخبرنا الشيخ خالد المصلح: "ألا تدعو إلى الغرر حاجة عامة، فإن الحاجات العامة تنزل منزلة الضرورات ... فإذا دعت حاجة الناس إلى معاملة فيها غرر لا تتم إلا به فإنه يكون من الغرر المعفو عنه ... " (¬2). وقد أجمع العلماء على جواز الغرر التابع وإن كان كثيرًا، فلو أن رجلاً باع ألف نخلة، وفي كل نخلة ثمر لم يبد صلاحه، جاز دخول الثمرة في الصفقة، مع أنه لا يجوز بيعه منفردًا؛ لوجود الغرر فيه، ومع أن الغرر كثير، وقيمة الثمر في العقد كبيرة جدًا، ومع ذلك جاز بيعه، لقيام الحاجة إلى جوازه. فكذلك الغرر في التأمين مقيس عليه، وإن كان كثيرًا، بجامع الحاجة العامة، فالناس اليوم بأشد الحاجة إلى التأمين. وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة لما فيها من الربا، ورخص في العرايا لحاجة الناس فالضرر الحاصل بترك التأمين أكثر من الضرر الحاصل في الوقوع ¬
في الغرر، والتاجر اليوم يختلف كثيراً عن التاجر بالأمس، وقد أصبح الكون كالقرية الواحدة بفضل سهولة الاتصال، وتشابك المصالح، والمنتج الذي ينزل لأول مرة في أمريكا أو في أوربا يعرض بنفس اليوم في دبي وفي عواصم العالم المختلفة، والمخاطر التي تحيط بالتاجر اليوم لا تقارن بالمخاطر التي تحيط به بالأمس، وإذا علمنا أن الشخص قد يعرض تجارته للإفلاس، وينتهي به الحال إلى دخول السجن، خاصة مع كثرة الحوادث. والسجن لا يعطل المسجون وحده، بل تتضرر أسرته، ممن يقوم على إعالتها، والنفقة عليها. وما تنفقه الدولة على سجناء الحوادث، وما تسخره من إمكانيات للقيام على السجناء ربما يفوق بكثير الخسائر التي تدفعها شركات التأمين للمستأمنين، وقد لا يحمي التأمين التاجر فحسب، بل يحمي أسواق المسلمين من الكوارث، ويضمن الاستقرار لها. ولذلك لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين: لا يختلى شوكها, ولا يعضد شجرها -يعني: شجر الحرم، قال رجل من قريش: إلا الإذخر، فإنما نجعله لبيوتنا، وقبورنا. فقال - صلى الله عليه وسلم -: إلا الإذخر (¬1). فدل على أن الشريعة قد اعتبرت حاجة الناس في الترخيص لهم، وإن كان في ذلك ما يدعو إلى التحريم إذا كانت حاجة الناس عامة. ويظهر ذلك جليًا في عقد الجعالة، فإن عقد الجعالة فيه غرر واضح، فإن قول القائل: من رد علي بعيري الشارد فله كذا، فالباحث عنه، قد يجده، وقد لا يجده، وهو غرر في وجوده، وهو أشد أنواع الغرر. وقد يعمل قليلاً لمدة قصيرة ويستحق الجعل، وقد يعمل كثيراً، ولمدة طويلة، ومع ذلك لا يجده، ولا ¬
يستحق الجعل، وهذا غرر في أجله، وهو غرر مؤثر في بطلان العقد. وقد يقول القائل: من وجد سيارتي المسروقة فله عشر قيمتها، فهذا جائز، ولو لم يعلم الطرفان قيمة السيارة، فالغرر في الجعالة غرر في حصول الشيء، وغرر في مقدار العمل، وغرر في أجله، ولم يمنع هذا الغرر جواز هذه المعاملة، لما كانت الحاجة قائمة إلى عقد الجعالة، وهي من عقود المعاوضات، وليست من عقود التبرعات. والذي ينبغي للفقيه أن يقف على مقدار حاجة السوق إلى التأمين، فإن غالب الفقهاء إن لم يكن كلهم، لا يمارسون التجارة بمفهومها الواسع من إيراد، أو تصدير، فاليوم لا يمكنك أن تصدر أو تستورد شيئاً، إلا عن طريق التأمين، والتاجر اليوم يغامر مغامرة كبيرة، وهو يحمل بضاعته من شتى أصقاع الأرض، ليأتي بها إلى سوق بلاده، فحاجة السوق إلى هذه المعاملة، ومقدار الضرر بمنعها، إنما يقدره التجار المسلمون، وليس الفقهاء المنشغلون بمسائل العلم عن الاطلاع على حاجة السوق، وربما كنت في يوم من الأيام وأنا أقرأ عبارة لابن القيم لم ترق لي، وعندما بحثت في التأمين اشتدت حاجتي إليها للاستدلال بأن الفقيه بحاجة إلى تقدير التاجر، فهو أعلم منه بما يحتاجه السوق، وما يتضرر منه التجار المسلمون لو منعوا من هذه المعاملة. يقول ابن القيم: "قول القائل: إن هذا غرر ومجهول، فهذا ليس حظ الفقيه، ولا هو من شأنه، وإنما هذا من شأن أهل الخبرة بذلك، فإن عدوه قمارًا، أو غررًا، فهم أعلم بذلك، وإنما حظ الفقيه يحل كذا, لأن الله أباحه، ويحرم كذا, لأن الله حرمه، وقال الله وقال رسوله، وقال الصحابة، وأما أن هذا يرى خطرًا، وقمارًا، وغررًا، فليس من شأنه، بل أربابه أخبر بهذا منه، والمرجع إليهم فيه، كما يرجع إليهم في كون هذا الوصف عيبًا، أم لا، وكون هذا البيع
مناقشة هذا الكلام
مربحًا، أم لا، وكون هذه السلعة نافقة في وقت كذا، وبلد كذا، ونحو ذلك من الأوصاف الحسية والأمور العرفية ... " (¬1). وما تكلمت مع تاجر إلا وهو يتمنى لو جعل له مخرج في إباحة التأمين، ليدخل السوق، وهو مطمئن من أن الكوارث والتقلبات لن تعصف بتجارته، فالتأمين يحفظ له إمكانية البقاء غنيًا فيما لو تعرض لحادثة من الحوادث، والله أعلم. ولو علم المشايخ بمقدار حاجة التجار الملحة إلى التأمين، بالقدر الذي أحسوه، ولمسوه من منفعة التأمين الاجتماعي (التقاعد) لوجدت الدفاع عن التأمين التجاري بقدر دفاعهم عن نظام التقاعد، فإذا عرفت أن التأمين التجاري ليس فيه ربا كما هو الحال في نظام التأمين الاجتماعي، ومنافع التأمين ليس في دفع الفقر عن التاجر، وإن كان هذا مطلوبًا، وإنما في المحافظة على كونه غنيًا في السوق كما لو لم يتعرض للجائحة، ويحمي التأمين أسواق المسلمين من الكوارث التي تحاك من المتلاعبين، والمضاربين، وحماية السوق من المقاصد الشرعية، إذا عرفت ذلك أدركت أن القول بجواز التأمين التجاري، هو عين الصواب، خاصة أن تحريمه من باب تحريم الغرر، والغرر أمر نسبي تبيحه الحاجة. مناقشة هذا الكلام: يسلم الشيخ الصديق الضرير الحاجة إلى التأمين في تعامل الناس في هذا العصر، ولكنه يرى أن التأمين التعاوني يقوم بالمهمة، وهو مباح، فلا حاجة إلى التأمين التجاري. ¬
يقول الشيخ وفقه الله: "أرى أن الحاجة إلى التأمين حاجة عامة، فإن كل إنسان في حاجة إلى نظام يكفل له من الأمن, والطمأنينة ما يستطيع البشر تحقيقه، ولا سيما في هذا العصر، الذي كثرت فيه مطالب الحياة، ومتاعبها، وامتلأ بالكوارث، والمفاجآت، والتأمين سواء كان تأمينًا تعاونيًا، أو تأمينًا ثابتًا بقسط ثابت يسد هذه الحاجة، وقد رأينا أن التأمين التعاوني لا شبهة في جوازه، وأنه يتفق مع دعوة الإِسلام إلى التعاون، وتفريج كرب المكروبين، ولذا فإني أرى أن الحاجة إلى التأمين بقسط ثابت في صورته الحاضرة، وإن كانت عامة، إلا أنها غير متعينة، وعلى هذا فإن قواعد الفقه الإِسلامي تقضي بمنعه؛ لأنه عقد معاوضة فيه غرر كثير من غير حاجة، إذ من الممكن أن نحتفظ بعقد التأمين في جوهره، ونستفيد بكل مزاياه مع التسمك بقواعد الفقه الإِسلامي، وذلك بإبعاد الوسيط الذي يسعى إلى الربح، وجعل التأمين كله تعاونيًا، وأرى أن خير وسيلة إلى ذلك هي أن تتولى الحكومات في البلاد الإِسلامية أمر التأمين بكافة أنواعه، فتجعل له منظمة خاصة تشرف عليه، على أن يكون المعنى التعاوني بارزًا فيه بروزًا واضحًا، وذلك بالنص صراحة في عقد التأمين، على أن المبالغ التي يدفعها المشترك تكون تبرعًا منة للشركة، يعان منها من يحتاج إلى المعونة من المشتركين حسب النظام المتفق عليه" (¬1). وهذا الاقتراح جيد، والتأمين التعاوني بالصورة التي يذكرها فضيلة الشيخ جائزة، وينبغي ألا يكون فيها خلاف، وهو خير من التأمين التجاري القائم على الغرر ولكني أقول بمسئولية: إن هذا النظام بهذه الصورة غير موجود، وحتى يقوم ذلك النظام، فما المخرج للناس؟ فإن أكثر شركات التأمين، والتي تسمي ¬
الدليل الثاني للقائلين بتحريم التأمين التجاري
نفسها تعاونية، هي شركات تجارية، وهمها هو الربح فقط، ثم لو سلمنا أن التأمين المسمى بالتعاوني الموجود في أسواق المسلمين خال من المحذورات الموجودة في التأمين التجاري، فماذا نعمل في بلاد ليس فيها تأمين تعاوني، هل نقول بأن لهم أن يدخلوا في شركات التأمين التجارية للحاجة الماسة إلى ذلك، أو نحرم عليه التأمين التجاري، مع قيام الحاجة الملحة إلى ذلك؟ مع أني أجزم أن التأمين التعاوني هو إلى الآن قائم كفكرة، ولم يوجد حتى الآن في أسواق المسلمين كممارسة، وما يسمى بالتأمين التعاوني القائم في السوق لا يختلف في وجوه من الوجوه عن التأمين التجاري، بل هو أسوأ (¬1)، وسوف نناقش التأمين التعاوني في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى. هذا فيما يتعلق بالاستدلال بالغرر على تحريم التأمين، وهو أقوى دليل للمانعين، وأرجو أن أكون قد أجبت عنه. الدليل الثاني للقائلين بتحريم التأمين التجاري اشتمال عقد التأمين على الربا بنوعيه (ربا الفضل وربا النسيئة). فإن الشركة إذا دفعت للمستأمن، أو لورثته، أو للمستفيد، أكثر مما دفعه من ¬
ويناقش هذا الكلام
النقود، فهو ربا فضل، والمؤمن يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة، فيكون ربا نسيئة، وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها، يكون ربا نسيئة فقط، وكلاهما محرم بالنص، والإجماع. ويناقش هذا الكلام: بأن ما تدفعه الشركة ليس من قبيل الصرف، حتى يقال: دراهم بدراهم مع التفاضل والنسأ, وليس من قبيل القرض الذي جر نفعًا، وإنما عقد التأمين قائم على جبر الأضرار. فما تدفعه الشركة إنما تدفعه مقابل عروض تالفة، لا ربا بينها وبين ما أخذت الشركة، فإذا كان المؤمن عليه سيارة، والقسط دراهم، لم يكن بين الدراهم والسيارة أي نوع من الربا، فإذا تلفت السيارة دفعت شركة التأمين سيارة بديلة، وإذا نقصت العين دفعت له قطع الغيار اللازم، وفي التأمين الصحي تدفع له العلاج اللازم من كشف، وأدوية، وتحاليل، ولذلك لو لم تتلف العين أو تنقص تتحمل الشركة الغرم، نعم يصح هذا دليلًا لو كان التأمين منصبًا على الدراهم نفسها, لقيل دراهم بدارهم مع النسأ، كما هو في التأمين على الحياة. فتبين بهذا أن التأمين الذي تدفعه الشركة ليست المعاوضة فيه قائمة على دراهم بدراهم، وإنما دراهم في مقابل عروض، وهذه العروض لا تدفع إلا إذا وقع الخطر، وبمقدار الضرر من غير زيادة، وما أبعد ذلك عن الربا والصرف (¬1). الدليل الثالث للمانعين: التأمين نوع من القمار، يقول الشيخ محمد بخيت المطيعي: "عقد التأمين ¬
مناقشة هذا الدليل
عقد فاسد شرعًا، وذلك لأنه معلق على خطر، تارة يقع، وتارة لا يقع، فهو قمار معنى" (¬1). وفي مجلة مجمع الفقه الإِسلامي: عقد التأمين التجاري ضرب من ضروب المقامرة لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية، ومن الغرم بلا جناية، أو تسبب فيها، ومن الغنم بلا مقابل، أو مقابل غير مكافئ، فإن المستأمن قد يدفع قسطًا من التأمين ثم يقع الحادث، فيغرم المؤمن كل مبلغ التأمين، وقد لا يقع الخطر، ومع ذلك يغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل، وإذا استحكمت فيه الجهالة كان قمارًا، ودخل في عموم النهي عن الميسر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90] (¬2). مناقشة هذا الدليل: مع أن الشيخ الصديق محمد الضرير لا يرى مشروعية التأمين التجاري، إلا أنه لا يسلم بأن في التأمين قمارًا، يقول وفقه الله: "وأرى أن حقيقة التأمين تختلف عن حقيقة القمار شرعًا، وقانونًا، وإن كان في كل منهما غرر، فالقمار ... ضرب من اللهو، واللعب، يقصد به الحصول على المال، عن طريق الحظ والمصادفة، وهو يؤدي دائمًا إلى خسارة أحد الطرفين، وربح الطرف الآخر، ولهذا وصفه القرآن بأنه موقع في العداوة والبغضاء، وصاد عن ذكر الله وعن الصلاة، والقانون كما رأينا -يحرم المقامرة- في حين أنه يجيز عقد التأمين، ولا يعتبره من القمار، ويفرق شراح القانون بين التأمين والقمار: ¬
بأن التأمين يقوم على التعاون بين المستأمنين، ذلك التعاون الذي يؤدي إلى توزيع المخاطر بين أكبر عدد ممكن من الأفراد، بدلًا من أن يتحمل كل فرد عبء ما يصيبه من كارثة واحدة، ويؤدي أيضاً إلى كفالة الأمان للمستأمن، والمؤمن معًا، فالمستأمن واثق من الحصول على ما التزم به المؤمن بأدائه، والمؤمن مطمئن أيضاً إلى أنه سيفي بما التزم به؛ لأن التعويض سيدفع من الرصيد المشترك الذي تعاون المستأمنون على جمعه، لا من مال المؤمن الخاص. وهذا الأمان هو الغاية التي يسعى إليها كل مستأمن، فالشخص الذي ... يؤمن على ماله ضد الحريق مثلاً إنما يفعل ذلك بغرض التحصن من خطر محتمل، لا يقوى على تحمله وحده، وهذه المعاني غير موجودة في المقامرة، فإن المقامر لا يتحصن من خطر، وإنما يوقع نفسه في الخطر، وهو عرضة لأن يفقد ماله جريًا وراء ربح موهوم، موكول لمجرد الحظ، وعلى هذا فلست أرى ما يبرر قياس التأمين على القمار، فالتأمين جد، والقمار لعب، والتأمين يعتمد على أسس علمية، والقمار يعتمد على الحظ، وفي التأمين ابتعاد عن المخاطر، وكفالة للأمان، واحتياط للمستقبل بالنسبة للمستأمن, كما فيه ربح محقق عادة بالنسبة للمؤمن، وفي القمار خلق للمخاطر، وابتعاد عن الأمان، وتعرض لمتاعب المستقبل، فكيف يستويان" (¬1). وهذا الكلام شبيه بكلام أبي عبيدة في كتابه الأموال عندما ذهب أهل العراق إلى إنكار الخرص والقرعة، وأنهما نوع من القمار، قال رحمة الله: "وأما قوله: إن الخرص كالقمار فكيف يتساوى هذان القولان، وإنما قصد بالخرص قصد البر ¬
الدليل الرابع للمانعين من التأمين التجاري
والتقوى، ووضع الحقوق في مواضعها، والقمار إنما يراد به الفجور، والزيغ عن الحق، واجتياح الأموال بغير حلها، فكم بين هذين، ومتى سوي الغي بالرشاد، مع أن الذي جاء بتحريم القمار، هو الذي سن الخرص، وأباحه، وأذن فيه، فما جعل قوله هاهنا مقبولًا، وهاهنا مردودًا" (¬1). الدليل الرابع للمانعين من التأمين التجاري عقد التأمين التجاري فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، وأخذه بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرم لدخوله في عموم النهي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. * وجه كون التأمين فيه أكل مال الغير بالباطل: أن الخطر المؤمن عنه إذا لم يقع فإن الأقساط التي دفعها المستأمن أصبحت حقاً خالصًا للمؤمن بدون مقابل. وقد يدفع المستأمن قسطًا، أو قسطين، فيقع الخطر، فيأخذ مبلغ التأمين بالكامل، ويكون أضعاف ما دفع، وهذا من قبيل أكل المال بالباطل (¬2). ويناقش هذا الدليل: بأن المخالف ينازع في دعوى أن عقد التأمين فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، فالضمان الذي يلتزمه المؤمن بتحمل تبعات الأخطار التي تجري على مال المستأمن, هذا الضمان، هو شغل لذمته إلى أن يبرأ مثله بتحمل الخطر عند ¬
وجود سببه، وهذا الالتزام هو الذي دفع المستأمن إلى قبول المغامرة في ماله، سواء في نقله من دولة إلى دولة، أو الدخول في صفقات تجارية، أو تعرضه للحوادث بسبب مخاطر محتملة، فكيف يقال: إن ذلك بدون مقابل. فمحض الالتزام فيه منفعة مقصودة، ومصلحة مشروعة، والمنافع تعتبر من الأموال، وقد أجاز الحنفية والحنابلة أخذ الربح مقابل الضمان، حيث أجازوا شركة الوجوه، وهي شركة على الذمم من غير صنعة، ولا مال، حيث يتعاقد اثنان فأكثر، بدون رأس مال، على أن يشتريا نسيئة، ويبيعا نقدًا، ويقتسما الربح بينهما بنسبة ضمانهما للثمن، ويتخرج على مذهبهم، أنه لو اشترك وجيه مع آخر على الضمان، والربح مناصفة، ولم يشتر الثاني، ولم يبع شيئاً، فإنه يستحق الربح لمجرد الضمان (الذي هو مجرد التزام مال في الذمة) بدون بذل مال، أو عمل، وقد جاء في مجلة الأحكام العدلية "استحقاق الربح في الوجوه إنما هو بالضمان" (¬1). كما أن حديث الخراج بالضمان دليل قوي جدًا، على أن الضمان له قيمة مالية، فالخراج يراد به: ما يخرج، ويحصل من غلة العين، وذلك بأن يشتري الرجل سلعة، فيستغلها زمنًا، ثم يعثر فيها على عيب فيها، فله رد العين المعيبة، وأخذ الثمن، ويكون للمشتري ما استغله؛ لأن المبيع لو تلف في يده، لكان في ضمانه، ولم يكن له على البائع شيء، والباء في قوله: "بالضمان" سببية، أي الخراج مستحق بسبب الضمان (¬2). وهذا التلف احتمالي، وقد يكون نادرًا، ومع ذلك فالخراج له بسبب أنه قد شغل ذمته بالضمان لهذا الخطر الاحتمالي النادر، وهو ضمان مجرد ما دام أن ¬
السلعة قد تبين وهو يردها، أنها لم ينقصها شيء، ومع ذلك فقد استحق هذا الخراج بمجرد هذا الضمان، فدل على أن التزام الضمان له قيمة مالية مقصودة، وأنه يسوغ بذل العوض في مقابل تحصيلها. ومثله ما أفتى فيه بعض العلماء المعاصرين من جواز ما يسمى بتغطية الإصدار: وهو ضمان المصرف، أو بنك الاستثمار تغطية الأسهم للشركة المساهمة، مقابل عمولة على ذلك. كما صحح المالكية بذل المال مقابل إحضار كفيل بالدين. قال الدردير: "وإن كان الجعل من رب الدين، أو من أجنبي للمدين على أن يأتيه بحميل، فإنه جائز" (¬1). وقال الخرشي مثله (¬2). فهذا يدل على أن مجرد التزام الكفيل بالدين له قيمة مالية في ذاته، وإلا لما جاز أن يبذل رب الدين، أو الأجنبي الجعل للمدين، في مقابل تقديم كفيل بدينه، صحيح أن آخذ الجعل في هذه الصورة هو المدين، وليس الكفيل، ولكنه يشهد يكون الالتزام في عقد الكفالة، مما يصح بذل المال في مقابلته، والجعل من أجله (¬3). وإذا كان الحال كذلك، فكيف يقال: إن شركة التأمين قد أخذت المال بلا مقابل، مع قيامها بهذا الضمان الواجب عليها، وهو ليس ضمانًا مجردًا كما هو ¬
الدليل الخامس للمانعين
الحال في استحقاق الخراج مقابل الضمان، بل هو ضمان يكف يدها عن التصرف في جزء من مالها، يظل حبيسًا لما قد يجب عليها من تعويضات، ويترتب عليها من استحقاقات، وهذا الكف لهذا المقدار من المال، هو عمل منها أيضًا, ولو اشتغلت بكل المال لضاعفت من أرباحها، والله أعلم. الدليل الخامس للمانعين: في عقد التأمين التجاري الإلزام بما لا يلزم شرعًا، فإن المؤمن لم يحدث الخطر منه، ولم يتسبب في حدوثه، وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه، مقابل مبلغ يدفعه المستأمن له، والمؤمن لم يبذل عملًا للمستأمن، فكان حرامًا (¬1). وذكر القرافي في الفروق أن أسباب الضمان في الشريعة ثلاثة: الأول: العدوان، كالقتل، والإحراق، وهدم الدور، وأكل الأطعمة ... الثاني: التسبب للإتلاف، كحفر الآبار في طرق الحيوان في غير الأرض المملوكة للحافر، أو في أرضه، ولكن حفرها لهذا الغرض ... الثالث: وضع اليد التي ليست بمؤتمنة، كالسارق، والغاصب، ومن قبض المال بغير إذن المالك ... الخ كلامه رحمة الله (¬2). ويجاب عن ذلك: أولاً: أن الضمان الذي ذكره القرافي إنما هو الضمان الواجب بسبب العدوان والتغرير والغصب، وأهمل القرافي نوعًا آخر من الضمان سببه العقد، ¬
كالكفالة، وهو التزام ما ليس بواجب عليه التزامه أصلاً، ومع ذلك إذا التزمه صح التزامه، ومنه التأمين. ثانيًا: لم يرد دليل على أن أسباب الضمان محصورة في الإتلاف والتغرير، ووضع اليد غير المؤتمنة، والكفالة، بل إن الفقهاء ضمنوا وضع اليد، ولو كانت مؤتمنة كتضمين الصناع. يقول الشيخ علي الخفيف: "لم يظفر هذا الموضوع -يعني الضمان- في الفقه ببحث خاص مستقل يتناول جميع عناصره، وأسبابه، وشروطه، وأنواعه، وموضوعاته، وأحكامه، وإنما جاء ذكره عرضًا كأصل بنيت عليه حلول كثير من المسائل عند بحثها، وتعرف الحكم فيها" (¬1). فالضمان: تارة يكون سببه إلزام الشارع، كما في ضمان الديات، والأروش، وضمان قيمة صيد الحرم عند الاعتداء عليه، وضمان ما يجب من كفارات الأيمان، والظهار، والإفطار عمدًا في رمضان. وتارة يكون سببه التزام العاقد نفسه، بحيث ألزم نفسه بالضمان بعقد رضائي، كالكفالة، وعقد التأمين، ولا يوجد دليل شرعي يوجب بطلان ما التزم به الإنسان من قبل نفسه، ولا يترتب على هذا الالتزام أي مفسدة شرعية حتى يقال بالبطلان، وإذا كان الإنسان له أن يلزم نفسه بالضمان بدون مقابل، كما في الكفالة، فكونه يجب مع بذل العوض من باب أولى، وقد سقت في الدليل السابق أنواعًا من الالتزامات التي صحح المالكية أخذ الجعل عليها, ولم يأت النص الشرعي بجواز أخذ المال مقابل هذه الالتزامات، وإنما قال المالكية بجوازها جريًا على قاعدة: الأصل في مثل ذلك الحل، حتى يأتي نص من ¬
الدليل السادس للمانعين
الشارع بتحريم مثل ذلك، أو يترتب على الالتزام بها الوقوع في مفسدة شرعية منهي عنها, ولم يوجد مثل ذلك في التأمين. وقد ذكر الحنفية والحنابلة ومن وافقهم أن استحقاق الربح في الشركة يكون بأحد أمور ثلاثة: المال، أو العمل، أو الضمان (¬1). بل إن الشارع علق استحقاق الربح بالضمان، فنهى الشارع عن ربح ما لم يضمن (¬2)، كل ذلك دليل على أن الضمان له قيمة معتبرة شرعاً. الدليل السادس للمانعين: الضمان من قبيل البر والخير والإحسان, فلا يجوز أخذ العوض عنه. ويناقش هذا الدليل من وجوه: الوجه الأول: أخذ العوض على الضمان محل خلاف بين العلماء المعاصرين، فقد قال بجواز أخذ الأجرة على الضمان شيخ شيخنا عبد الرحمن بن ناصر السعدي (¬3)، والشيخ علي الخفيف، وعبد الرحمن عيسى، ومحمود عبد الحليم، وعبد الله البسام، وعبد الله بن منيع (¬4)، ................. ¬
الوجه الثاني
والدكتور نزيه حماد (¬1)، ونسب هذا القول لبعض العلماء المتقدمين كالإمام إسحاق بن راهوية، ولا يثبت عنه (¬2). الوجه الثاني: أن الفقهاء المتقدمين عندما منعوا أخذ العوض على الضمان إنما منعوه في باب ضمان الديون، وهو الذي قد يؤدي إلى الربا باعتبار أن المضمون قد يعجز عن السداد، فيقوم الضامن بالسداد عنه، ويكون العوض حينئذ من قبيل القرض الذي جر نفعًا للمقرض وحده، فهذا هو الضمان الذي حرم العلماء أخذ العوض عليه، وليس الضمان في التأمين من هذا النوع؛ لأنه ليس فيه ¬
مدين أصلًا، وإنما فيه التزام بجبر الضرر مقابل عوض مالي، والتزام مثل هذا لا يوقع في الربا. لهذا لا أرى مانعًا من أخذ العوض على الضمان إذا لم يترتب على ذلك محذور شرعي، وإذا ترتب على ذلك محذور شرعي منع لا من أجل الضمان، ولكن لأن المعاملة تؤدي إلى الوقوع في ذلك المحذور مثله تمامًا سائر المعاملات المباحة إذا ترتب عليها محذور شرعي منعت، وينبغي أن يكون المنع في أخذ العمولة على ضمان الديون محل اتفاق بين الفقهاء حيث لم يخالف في ذلك أحد من العلماء المتقدمين، ومن حكا من المتأخرين جوازه فهو محجوج بالإجماع، وما حكي عن إسحاق ابن راهوية فلا أظن أنه يخرق الإجماع لعدم فهم المتأخرين لقول إسحاق، وربما كان العذر للمشايخ أنهم لم يقفوا على عبارة إسحاق، أما وقد طبع كتاب مسائل الإِمام أحمد وإسحاق رواية الكوسج فأعتقد أن كثيرًا منهم سوف يراجع قوله. وهذا هو الظن فيهم. وبناء على هذا فيجوز أخذ العوض على الضمان في الحالات التالية: الحال الأولى: إذا كان الضمان تبعًا, ولم يكن مفردًا بالذكر، ولا مخصوصًا بالأجر. كما لو اشترى الإنسان سلعة، وكانت مضمونة لمدة معينة مقابل زيادة في القيمة، فإن الضمان هنا تابع، وليس مستقلًا فلا أرى مانعًا من جواز تلك الزيادة في القيمة في مقابل الضمان، وجوازه ليس لأنه تابع فقط، بل لأن أخذه لا يؤدي إلى قرض جر نفعاً، ولو أدى إلى ذلك لحرم ولو كان تابعًا بدليل حديث القلادة .. الحال الثانية: يجوز أخذ العوض على الضمان إذا لم يكن ناشئًا عن دين أصلًا، وذلك مثل تغطية الإصدار في طرح الاكتتاب. وسيأتي بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى عند الكلام على سوق المال.
الحال الثالثة: يجوز أخذ العوض على الضمان فيما لو كان الكفيل مدينًا للمكفول بمثل المال المضمون، وهو ما يسمى بالضمان المغطى، فإن هذا لا يؤول إلى قرض جر نفعاً سواء سمينا هذه الصورة بالضمان، أو اعتبرناها وكالة بالدفع، وإن كنت أميل إلى اعتبار العقد من عقود الضمان؛ لأن الضمان في حالة كون قيمته مغطاة لا يخرج عن الضمان (¬1). ¬
الوجه الثالث
الحال الرابعة: يجوز أخذ العوض على الضمان في عقود التأمين القائم على جبر الأضرار، دون الضمان في عقود التأمين على الحياة، والتأمين الاجتماعي , فإن الضمان في هذه العقود لم يكن ناشئًا عن دين. وانظر أخذ العمولة على الضمان ضمن مباحث كتاب الربا، فقد بعثت الخلاف في المسألة، وناقشت الأدلة هناك ولله الحمد وحده. الوجه الثالث: على التنزل بأن عقد الضمان عقد إرفاق وإحسان، فمن قال: إن عقد البر والإحسان لا يجوز أخذ العوض عنه. (ح-220) فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جواز اشتراط الأجر على الرقية بالقرآن (¬1). (ح-221) وجاز جعل تعليم القرآن عوضًا عن دفع المهر في النكاح، كما في حديث سهل بن سعد في الصحيحين (¬2). وجاز الاستئجار على تعليم الفقه، والحديث، وغيرهما من العلوم الشرعية، وهي من أعمال الخير، والبر. وإذا كان الضمان الأصل فيه أنه عقد إرفاق وإحسان، فلا مانع من قلبه إلى عقد معاوضة، كما يجوز في عقود التبرعات أن تنقلب إلى معاوضات، وتترتب عليها أحكامها الشرعية، فالأصل في الوديعة أنها تبرع بالحفظ, وبالالتزام بالحفظ كما قال الكاساني: "الإيداع من جانب المالك استحفاظ، ومن جانب المودَع التزام بالحفظ" إذ في كثير من صورها لا يقوم المستودَع بأي عمل لحفظ الوديعة، ولا حتى بشغل مكان لصونها، كما في إيداع وثيقة، أو صك، وعلى ¬
هذا فلو طلب الأجر مقابل الوديعة جاز ذلك، وانقلب العقد إلى عقد معاوضة (¬1). ¬
وكذلك العارية: الأصل فيها أنها عقد تبرع، ولو طلب العوض في العارية وتراضيا على ذلك جاز، وانقلبت إلى إجارة، مع أن الأصل فيها أنها تبرع بمنافع العين المعارة، وكذا جواز الوكالة بأجر، مع أن الأصل فيها أن يبذل الوكيل منافعه مجانًا لموكله، قال السرخسي: "الوكيل معير لمنافعه" (¬1). فإذا جاز انقلاب عقود التبرعات إلى معاوضات بالتراضي، فلا مانع أن يؤخذ العوض على الضمان، وإن كان الأصل فيه أنه من عقود الإرفاق. فالذي يمنع الضمان بأجر، لوجود الضمان بدون أجر، كالذي يمنع الوكالة بأجر، لمجرد جواز الوكالة بلا أجر، أو كالذي يمنع جواز الأجارة، لمجرد جواز الإعارة، أو يمنع جواز البيع، لمجرد جواز الهبة. ¬
فالمعاوضة إذا كانت حلالًا لا تفسد العقد إذا انقلب حالها من التبرع إلى المعاوضة، نعم لو كانت المعاوضة حرامًا بذاتها، كان انقلابها إلى معاوضة يصيرها من الحلال إلى الحرام، فطلب الربح بالشريعة ليس من المحرمات، بل إن طلب الربح يعتبر من المحفزات على النماء، لا غنى عنه في الأنشطة الاقتصادية، وهو الأساس، وأما التبرع فهو نادر، واستثناء. يقول العز بن عبد السلام: "البيع لو لم يشرعه الشارع لفاتت مصالح الخلق فيما يرجع إلى أقواتهم، ولباسهم، ومساكنهم، ومزارعهم، ومغارسهم وسواتر عوراتهم، وما يتقربون به إلى عالم خفياتهم، ولا عبرة بالهبات، والوصايا، والصدقات؛ لأنها نادرة لا يجود بها مستحقها إلا نادرًا" (¬1). "وكذلك الإجارات، لو لم يجوزها الشارع لفاتت مصالحها من الانتفاع بالمساكن، والمراكب، والزراعة، والحراثة، والسقي، والحصاد، والتنقية، والنقل والطحن، والعجن، والخبر، ولا عبرة بالعواري (جمع عارية) وبذل المنافع كالخدمة ونحوها، فإنها لا تقع إلا نادرًا لضنة أربابها بها، مع ما فيه من مشقة المنة على من بذلت له ... " (¬2). فهل نترك التأمين مع قيام الحاجة التي قد تصل إلى حد الضرورة في سائر المرافق الاقتصادية الحيوية والتي هي بحاجة ماسة إلى تخفيف آثار الكوارث الماحقة، إلى وجود متبرع بالضمان من أهل الخير، وإذا وجد هذا المتبرع، فهل يستطيع أن يوفر الضمان في جميع المشاريع الاقتصادية الحيوية. ¬
الدليل السابع للمانعين
الدليل السابع للمانعين: عقد التأمين يتضمن بيع دين بدين، وهذا منهي عنه؛ لأن الأقساط التي سيدفعها المستأمن دين في ذمته، ومبلغ التأمين الذي لمشدفعه الشركة دين في ذمتها، فهو دين بدين، فلا يصح. مناقشة هذا الدليل: لا يعتبر الالتزام بالضمان دينًا قبل استحقاقه، ولو اعتبر الالتزام دينًا لم يجز ضمان الديون مطلقًا؛ لأنه سيكون دينًا بدين، ولا قائل به، وإذا استحق التعويض لقيام سببه، من إتلاف، أو نقص، ستكون الأقساط التي موجبها يستحق التعويض قد دفعت، فلا يكون دينًا بدين. هذه أدلة المانعين التي وقفت عليها، وأقوى دليل لهم هو القول بوجود الغرر الفاحش، وقد تمت مناقشته، وتحريم الغرر ليس كتحريم الربا، على أن القائلين بجواز التأمين التجاري لا يسلمون بوجود الغرر، وإن سلم بعضهم بوجوده، لا يرون الغرر مانعًا من مشروعية المعاملة، باعتبار أنْ منع الناس من التأمين أشد ضررًا عليهم من وقوعهم في الغرر الموجود في التأمين، وذلك أن الغرر مفسدته محتملة، وليست حتمية، ومنع الناس من التأمين مع قيام حاجتهم إليه مفسدته قائمة، ولا تدفع المفسدة المتيقنة بالمفسدة المتوقعة. * دليل القائلين بجواز التأمين التجاري. الدليل الأول: لا يطالب من قال بالجواز بدليل إيجابي، بل يكفيه الدليل السلبي، وهو عدم وجود دليل صحيح يقتضي التحريم، وقد أجاب القائلون بالجواز عن جميع أدلة المانعين، وهذا بحد ذاته كاف ليكون دليلًا على جواز التأمين التجاري، فإن
مناقشة هذا الاستدلال
الأصل في المعاملات الحل، وهذا أقوى دليل للقائلين بالجواز، وهو الدليل الذي أراه سالمًا من المعارضة، ومحاولات القائلين بالجواز في إيجاد دليل إيجابي لمعاملة مستحدثة على غير مثال سابق لها في المعاملات القديمة، قد يكون فيه تكلف، وربما إذا رأى القارئ سلامة الاعتراضات على أكثر الأدلة يعتقد ضعف القول، وهذا من الخطأ؛ لأن المعاملات، والعقود، والشروط، الأصل فيها الحل، حتى يقوم دليل شرعي صحيح على تحريمها. وهذا الذي حمل الدكتور رفيق المصري أن يقول: "أنا لا أشك أن بعض المجيزين للتأمين التجاري قد استدلوا بأدلة ضعيفة، وأن بعضهم كان يريد إباحته بأدلة متكلفة، وبأي ثمن، وبناء على أحكام مسبقة، ولكن خصومهم إذ شعروا بأنهم قد استطاعوا رد مثل هذه الأدلة، ضنوا أنهم قد ردوا التأمين، والحال أن التأمين يمكن أن يستدل له بأدلة أخرى قوية، يصعب ردها" (¬1). بل كنت أتمنى لو اكتفى القائلون بالجواز بهذا الدليل، ولم يتكلفوا غيره من الأدلة التي لا تسلم من النقاش، ومع ذلك أوردت أكثر هذه الأدلة وإن كنت غير مقتنع بها؛ لأن هذا ما يقتضيه البحث العلمي، ورب دليل رأيته غير مقنع كان مقنعًا لغيري. مناقشة هذا الاستدلال: المانعون لا يسلمون بهذا الدليل، كما لا يسلمون بغيره، ويرون أن الإباحة الأصلية لا تصلح دليلاً هنا؛ لأن عقود التأمين التجاري -فيما يرون- قد قامت الأدلة عندهم على مناقضتها لأدلة الكتاب، والسنة، والعمل بالإباحة الأصلية مشروط بعدم الناقل عنها، وقد وجد عندهم، فبطل الاستدلال. ¬
الدليل الثاني
وإذا كنا قد وفقنا في مناقشة هذه الأدلة التي يظن أنها ناقلة من الإباحة إلى التحريم، فإن للمجيز أن يقول: لم تسلم أدلتكم من الاعتراض، فلم تبق عندي ناقلة عن الأصل العظيم، وهو أن الأصل في معاملات المسلمين الحل، حتى يقوم الناقل الصحيح الصريح السالم من الاعتراض، وهذا ما لم يوجد، والله أعلم. الدليل الثاني: قياس عقود التأمين التجاري على ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب، وقد صحح الحنابلة مثل ذلك. قال في المغني: "ويصح ضمان أرش الجناية، سواء كانت نقودًا، كقيم المتلفات، أو حيوانًا كالديات" (¬1). لأن جهل ذلك لا يمنع وجوبه بالإتلاف، فلم يمنع جوازه بالالتزام. وقال أيضاً: "وقد دلت مسألة الخرقي على أحكام منها، صحة ضمان المجهول: لقوله: ما أعطيته فهو علي، وهذا مجهول، فمتى قال: أنا ضامن لك ما على فلان، أو ما يقضي به عليه، أو ما تقوم به البينة، أو ما يقر به لك، أو ما يخرج في روز مانحك صح الضمان، وبهذا قال الإِمام أبو حنيفة ومالك" (¬2). وقال ابن تيمية: "ضمان السوق، وهو أن يضمن الضامن ما يجب على التاجر من الديون، وما يقبضه من الأعيان المضمونة ضمان صحيح، وهو ضمان ما لم يجب، وضمان المجهول، وذلك جائز عند جمهور العلماء كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل" (¬3). ¬
مناقشة هذا الدليل
وقال أيضًا: "ويصح ضمان المجهول، ومنه ضمان السوق، وهو أن يضمن ما يلزم التاجر من دين، وما يقبضه من عين ... " (¬1). قلت: على أن أخذ العوض على الضمان تارة يؤدي إلى الوقوع في الربا فيحرم، كما هو في ضمان الديون؛ لأنه قد يعجز المدين عن السداد، فيؤدي الضمان إلى أن يكون قرضاً جر نفعاً، وقد لا يؤدي أخذ العوض عن الضمان إلى الوقوع في الربا فلا يحرم، كما هو الحال في التأمين، وضمان تغطية الإصدار، ونحوها من سائر الالتزامات. مناقشة هذا الدليل: قالوا: قياس عقود التأمين التجاري على ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب قياس غير صحيح؛ لأنه قياس مع الفارق أيضًا، ومن الفروق أن الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض، بخلاف التأمين فإنه عقد معاوضة تجارية يقصد منها الكسب المادي، فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود، والأحكام يراعى فيها الأصل (¬2). وقد بينت فيما سبق، أن الضمان كونه من عقود الإرفاق، لا يمنع أن ينقلب إلى عقد معاوضة، كالعارية، والوديعة، والوكالة فهذه كلها من عقود التبرعات، ولو انقلبت إلى عقود معاوضات لم يمنع محذور شرعي من ذلك. ويختلف الضمان بين الموجب والقابل، فالقابل إذا قبل الضمان لم ينقصه شيء، كقابل الهبة، إن زاد حاله، وإلا لم يغرم شيئاً، وأما من يوجب الضمان فهو غارم، وقد يغرم أكثر مما يغرم العاقدان في عقود المعاوضات، وإيجابه ¬
الدليل الثالث
للضمان على ما يجب على الشخص كائنًا ما كان فيه شغل لذمته، والغرر فيه ليس باليسير، ومع ذلك صحح بعض الفقهاء هذا الضمان، فالجامع بين التأمين والضمان شغل الذمة بالغرم بشيء مجهول، بل إن التأمين أقل غررًا؛ لأن سقف الغرم في التأمين له حد في الغالب، وهو قيمة السلعة المؤمنة، وهذا شيء معلوم، والله أعلم. ثم إن المعاوضة إذا كانت حلالًا فإنها لا تفسد العقد إذا انقلب إليها من التبرع، كما ذكرنا ذلك فيما سبق، نعم لو كانت المعاوضة حرامًا بذاتها، كما في مبادلة ريال بريال مع النسيئة، فإنه يجوز ذلك في القرض، ولا يجوز في البيع، ففي هذه الحالة يكون انقلابها إلى معاوضة يصيرها من الحلال إلى الحرام، أما إذا لم يتضمن ذلك فإنها لا تحرم، وذلك أن طلب الربح بالشريعة ليس من المحرمات، بل إن طلب الربح يعتبر من المحفزات على النماء، لا غنى عنه في الأنشطة الاقتصادية، وهو الأساس، وأما التبوع فهو نادر، واستثناء. الدليل الثالث: قياس عقد التأمين على خطر الطريق، فقد نص الحنفية على جواز مسألة ضمان خطر الطريق، وصورتها: أن يقول رجل لآخر: اسلك هذا الطريق، فإنه آمن، وإن أُخِذ مالك فأنا ضامن (¬1)، فلو أخذ ماله ضمن، فالتزام القائل بالضمان هو نفس التزام المؤمن بضمان المؤمن له عند وقوع الخطر. وأجيب: بأن الضمان في ضمان خطر الطريق من عقود التبرع، وعقد التأمين من عقود المعاوضات، ويغتفر في عقود التبرع ما لا يغتفر في عقود المعاوضات. ¬
الدليل الرابع
وقد ناقشت القول بأن عقد الضمان من عقود التبرع، وأنه لا مانع من انقلاب عقد التبرع إلى عقد معاوضة، بشرط ألا يكون فيه محذور شرعي، وكون الضمان في عقد التأمين من باب المعاوضات لا يترتب عليه محذور شرعي، فلا حرج فيه، وليس كل ضمان هو عقد تبرع، ولذا كان استحقاق الخراج بسبب الضمان كما هو معروف، والضمان فيه ليس من قبيل التبرع. وضمان ما قبض بسوم، ليس من قبيل التبرع. وضمان السلعة المعيية كذلك. الدليل الرابع: قياس عقد التأمين على عقد الموالاة. والمولاة: أن يقول رجل مجهول النسب لرجل معروف النسب، أنت وليي ترثني إذا مت، وتعقل عني إذا جنيت. وقد سماه الحنقية: ولاء الموالاة، وهو جائز، ويقع به التوارث عند الحنفية، مستدلين على ذلك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء: 33]. والنصيب: هنا الميراث، قال الجصاص: "ثبت مما قدمنا من قول السلف أن ذلك كان حكمًا ثابتًا في الإِسلام، وهو الميراث بالمعاقدة، والموالاه" (¬1). وعقد التأمين من المسؤولية يشبه عقد الموالاة من حيث طرفا العقد، وعوضاه. فشركة التأمين يقابلها مولى الموالاة. والمستأمن يقابل المعقول عنه. والعوض الذي تلتزم به شركة التأمين يقابل الدية التي يدفعها مولى الموالاة. ¬
ورد هذا الاستدلال
وأقساط التأمين التي يدفعها المؤمن، في مقابل العوض الذي يلتزم به المعقول عنه، وهو التركة. قال الشيخ علي الخفيف: هو أشبه العقود بعقد التأمين، وقد قال به بعض كبار الصحابة مثل ابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر، وبه أخذ الحنفية (¬1). يقول الشيخ أحمد السنوسي: "عقد الموالاة يكون نصًّا صريحًا في التأمين من المسؤولية. قال الزرقاء تعليقًا على هذا: من غريب المصادفة، أني كنت منذ زمن طويل أرى في عقد الموالاة هذه الدلالة على جواز عقد التأمين، وقد سجلتها في كتابي المدخل الفقهي العام عند فكري عقد الموالاة بين العقود المسماة المعروفة في الفقه الإِسلامي، وكنت مترددًا في صحة ملاحظتي لهذه الدلالة، حتى رأيت فيما بعد مقالة الأستاذ السنوسي التي تحط على الملاحظة نفسها ببسط وتفصيل، وبتاريخ أسبق من تاريخ الطبعة التى سجلت فيها ملاحظتي في عقد الموالاة، قبل أن أطلع على مقالته المذكورة، فعجبت من التوارد في الخواطر بيني وبينه، ورأيت في هذا التوارد دليلاً على صحة الملاحظة" (¬2). ورد هذا الاستدلال: بأن قياس عقود التأمين على ولاء الموالاة عند من يقول به غير صحيح، فإنه قياس مع الفارق، ومن الفروق بينهما أن عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر، والقمار، وفاحش الجهالة، بخلاف عقد ولاء الموالاة فالقصد ¬
الأول فيه: التآخي في الإِسلام، والتناصر، والتعاون في الشدة، والرخاء، وسائر الأحوال، وما يكون من كسب مادي فالقصد إليه بالتبع. ولأن كثيراً من العلماء يرى أن التوريث بعقد الموالاة منسوخ. وكنت أتمنى ألا يقاس عقد التأمين على غيره من العقود، فليست الإباحة محصورة في العقود القديمة، ولا مانع أن يحدث المسلمون من العقود والشروط والمعاملات ما لم يكن له مثال سابق، ما دام أن القول بها لا يترتب عليه محذور شرعي، وهذا هو ما يتمشى مع صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، وقيامها بمصالح الخلق في المعاش، والمعاد، ولأن المعترض سيوجد فرقًا بين المقيس والمقيس عليه، مهما كان هذا الفرق، ثم يرتد هذا على حكم التأمين، فالتأمين عقد مستحدث على غير مثال سابق، وإباحته لا تستلزم أن يكون له مثال سابق، إلا عند من يرى أن الأصل في العقود التحريم، حتى يأتي دليل على إباحتها، وهو قول ضعيف جدًا، وأما من يرى أن الأصل في العقود الجواز والصحة حتى يقوم دليل صحيح صريح على التحريم فلا يتكلف قياس عقد التأمين على غيره من العقود، وهذا يطرح عنك تكلفًا كثيراً في الاستدلال على جواز التأمين، والله أعلم. يقول الشيخ الصديق محمَّد الأمين الضرير: "عقد التأمين من العقود المستحدثة التي لم تكن معروفة قبل القرن الرابع عشر الميلادي كما قلنا , ولهذا فلن نجد في حكمه نصا خاصًا، أو رأيًا خاصًا للمتقدمين من الفقهاء، كما أني لا أعتقد أن هناك عقدًا من العقود المعروفة في الفقه الإِسلامي يمكن قياس عقد التأمين عليه، لا من العقود الصحيحة, ولا من العقود غير الصحيحة, وقد حاول بعض فقهاء هذا العصر قياسه على بعض العقود، فلم يوفق في ذلك" (¬1). ¬
الدليل الخامس
وأما القول بأن عقد التأمين هدفه الربح، فهذا ليس عيبًا، بل الربح هو من فضل الله، ولقد قسم الله من يضرب في الأرض على قسمين: مجاهدين لإعلاء كلمة الله، وآخرين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله لعمارة الأرض، والقيام على مصالح الخلق. قال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]. وأما كون الربح مشوبًا بالغرر، أو مشتملًا على القمار فقد أطلت النقاش في ذلك فيما سبق فلا داعي للتكرار. الدليل الخامس: قياس عقد التأمين التجاري على عقد ما يسمى بالتأمين التعاوني، وسيأتي الكلام عن التأمين التعاوني إن شاء الله تعالى في فصل مستقل. فإذا كان عقد التأمين التعاوني جائزا عند غالب الفقهاء المعاصرين، لزم منه القول بجواز التأمين التجاري، حيث لا يختلف التأمين التجاري عن التأمين التعاوني. والدليل على وجود الشبه بينهما: " أن التأمين التعاوني يعتمد في إجرائه وترتيب أحكامه ... على ما يعتمد عليه التأمين التجاري من إجراءات، حيث إن التأمين مطلقًا يعتمد على خمس ركائز هي: المؤمن، المؤمن له، محل التأمين، القسي التأميني، التعويض في حال الاقتضاء" (¬1). ¬
ورد هذا
"وكلاهما شركة تأمين تتفق إحداهما مع الأخرى في جميع خصائص التأمين من حيث عناصره، ومن حيث الإلزام والالتزام، والصفة القانونية لكلا القسمين. فشركة التأمين التجارية شركة قائمة على الإلزام، والالتزام، والحقوق والواجبات، وكذلك الأمر بالنسبة لشركة التأمين التعاونية، فهي شركة قائمة على الإلزام، والالتزام، والحقوق والواجبات ... " (¬1). ورد هذا: بأن هناك فرقًا كبيرًا بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني من ذلك: الفارق الأول: أن التأمين التعاوني يختلف عن التأمين التجاري في أن الفائض من التزامات صندوق التأمين التعاوني يعود إلى المشتركين فيه، كل بحسب نسبة اشتراكه. وهذا أثر من آثار وصف هذا النوع بالتأمين التعاوني، فهو تعاون بين المشتركين فيه على رأب الصدوع، وجبر المصائب، وما زاد عن ذلك رجع إليهم، وما ظهر من عجز تعين عليهم سداده من أموالهم، كل بقدر نسبة اشتراكه. فالتأمين التعاوني تجد طرفي العقد فيه: هم المستأمنون أنفسهم، فكل مستأمن له صفتان في آن واحد: صفة المؤمَّن لغيره، والمؤمن له. وأما التأمين التجاري فليس فيه هذا التوجه، حيث يعتبر الفائض في صندوقه ربحًا لشركة التأمين التجارية، وفي حال وجود عجز في هذا الصندوق، فيعتبر خسارة على شركة التأمين التجارية، وعليها الالتزام بتغطية هذا العجز من رأس مال الشركة، أو من احتياطياتها، حيث تعتبر هذه الخسارة دينًا على الشركة. ¬
ويجاب
فالتأمين التجاري تجد طرفي العقد: أحدهما: المستأمن بوصفه طالب التأمين، والثاني: شركة التأمين، بوصفها الطرف المؤمَّن، وتكون أقساط التأمين التي يلتزم بدفعها المستأمن ملكًا للشوكة، تتصرف فيها كما تشاء، وتستغلها لحسابها. ويجاب: من خلال هذا العرض يظهر أن دعوى اختلاف التأمين التعاوني عن التأمين التجاري في موضوع الفائض دعوى غير صحيحة، فالفائض في القسمين ربح، يعود في التأمين التعاوني إلى المشتركين باعتبارهم مؤمنين، وفي التأمين التجاري إلى شركة التأمين لنفس الاعتبار، والعجز في صندوق كل منهما خسارة، يعود في شركة التأمين إلى الشركة نفسها، ويعود في التأمين التعاوني إلى الأعضاء المشتركين أنفسهم حيث إنهم أصحاب الشركة، وملاكها، فيجب على كل واحد منهم أن يسهم في تغطية العجز كل بقدر نسبة اشتراكه فيها. يقول الشيخ عبد الله بن منيع: "التأمين التعاوني في واقعه شركة تأمين مكونة من المشتركين أعضاء فيها. فكل مشترك يحمل في الشركة صفتين: صفة المؤمَّن، باعتباره باشتراكه فيها عضوًا، له حق في الفائض بقدر نسبة اشتراكه، وعليه الالتزام بالمشاركة في سداد عجز صندوق الشركة عن الالتزام بالتعويضات بنسبة مشاركته، وله صفة المؤمَّن له، باعتباره باشتراكه أحد عملاء الشركة، ملتزمًا بدفع القسط التأميني، وتلتزم الشركة له بدفع تعويضه عما يلحقه من ضرر مغطى بموجب تعاقده مع الشركة، وبهذا ينتفي وجه التفريق بين التأمين التعاوني، والتأمين التجاري، فكلاهما شركة تأمين، تتفق إحداهما مع الأخرى في جميع خصائص التأمين من حيث عناصره، ومن حيث الإلزام
والالتزام، والصفة القانونية لكلا القسمين. فشركة التأمين التجارية شركة قائمة على الإلزام والالتزام والحقوق والوجبات، وكذلك الأمر بالنسبة لشركة التأمين التعاونية، فهي شركة قائمة على الإلزام والالتزام والحقوق والواجبات ... كما أن شركة التأمين التجارية ملزمة بدفع التعويضات المستحقة عليها للمشتركين، عند الاقتضاء والوجوب، سواء أكانت الشركة رابحة، أم خاسرة، فكذلك الأمر بالنسبة لشركات التأمين التعاونية، فهي ملزمة كذلك بدفع التعويضات المستحقة عليها للمشتركين عند الاقتضاء والوجوب، وإذا كان صندوق الشركة فيه عجز يحول دون كامل التزاماته، أو بعضها، تعين الرجوع إلى المشتركين فيها لسد عجز الصندوق، حتى يكون قادرًا على الوفاء بتغطية كامل التزاماته، حيث إنهم أصحاب الشركة وملاكها، فيجب على كل واحد منهم أن يسهم في تغطية العجز كل بقدر نسبة اشتراكه فيها. وقد جاء النص على ذلك في الأنظمة الأساسية لشركات التأمين التعاونية، وصدرت قرارات، وفتاوى الهيئات الشرعية الرقابية بذلك، كما صدرت قرارات مجموعة من المجالس، والمجامع الفقهية، والندوات العلمية بإلزام المشتركين في شركات التأمين التعاونية بسد عجز صناديقها، وهذا مما تزول به الحواجز المفتعلة بين شركات التأمين التجارية، وشركات التأمين التعاونية" (¬1). وحتى هذا الفارق الشكلي بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري لم يعد قائمًا بعد صدور اللائحة التنفيذية لنظام مراقبة شركات التأمين التعاوني، ففي المادة (70) من اللائحة التنفيذية تقضي بأن يصرف فائض التأمين والذي يمثل الفرق بين مجموع الاشتراكات، ومجموع التعويضات بإعادة 10% للمؤمن ¬
لهم، وأما الباقي وهو ما يعادل 90 % من الفائض الصافي فيكون ممن نصيب المساهمين نتيجة تعريض حقوقهم لمخاطر التأمين، وهذا يعني أن نظام التأمين التعاوني قائم على الالتزام التعاقدي، فالأرباح يستحقها المساهمون عوضًا عن التزامهم بالتعويض، وهذا هو حقيقة التأمين التجاري، وما إعادة جزء من الفائض إلا محاولة لإضفاء الصبغة الشرعية على العقد، والواجب في التأمين التعاوني أن يرحل جميع الفائض في حساب احتياطات عمليات التأمين. ثانيًا: القول بأن شركات التأمين تأخذ أموال المستأمنين، وتتصرف فيها كيفما تشاء لحسابها، هو من إلقاء القول جزافًا، فإن التزام الشركة بدفع التعويضات يحملها مسؤولية كبيرة، ويكف يدها عن التصرف في هذه الأموال كيفما تشاء، وإلا فكيف تؤمن التعويضات الباهظة التي تدفعها لمن يتعرض للخطر منهم. ولذلك رأى الشيخ مصطفى الزرقاء رحمة الله أن شركات التأمين هي شركات تعاونية (¬1): فهو يرى أن التأمين التجاري: يؤدي إلى تفتيت المصيبة وتوزيعها على أكبر عدد من الرؤوس، وهم عدد المستأمنين الآخرين الذين دفعوا أقساط التأمين، فترميم الحوادث، أو التعويض عنها، إنما يدفع من هذه الأقساط ¬
الفارق الثاني بين شركات التأمين التجاري والتعاوني
المدفوعة، وبذلك تكون المصيبة قد وزعت على مجموعة كبيرة من الرؤوس، لا تثقل أحدًا، فنظام التأمين إنما يقوم على هذا الأساس (¬1). ويقول السنهوري: "المؤمن لهم، وجميعهم معرضون لخطر واحد يتحقق في العادة بالنسبة إلى عدد قليل منهم، ولا يتحقق بالنسبة إلى الغالبية العظمى، يتعاونون جميعًا في تعويض العدد القليل منهم الذين يتحقق الخطر بالنسبة إليهم، فلا يتحمل هؤلاء الأخيرون الخسارة وحدهم، وبذلك يكفل التأمين للجميع توزيع الخسارة عليهم، فلا يخسر أي منهم إلا مقابل التأمين الذي دفعه" (¬2). وبعد دفع جميع التعويضات المستحقة عليها لأصحابها، ودفع المصاريف الإدارية والعمومية، فما تبقى بعد ذلك يعتبر فائضًا، وهو الربح الذي تأخذه شركة التأمين التجارية، ويأخذه الأعضاء المشتركون في شركة التأمين التعاونية. فالربح في الشركتين: هو فرق الأقساط بين ما تأخذه الشركة، وبين ما تدفعه من تعويضات ومصاريف، فإن كانت الشركة في التأمينات التجارية تملك الأقساط، فإن تلك الأقساط في التأمينات التعاونية تكون ملكًا للأعضاء المشتركين، ولهذا استحقوا الربح بحسب اشتراكهم، وتحملوا الخسارة بحسب ذلك. الفارق الثاني بين شركات التأمين التجاري والتعاوني: أن عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات، بينما عقد التأمين التعاوني من عقود التبرعات، فالغرر الموجود في عقود المعاوضات لا يغتفر، بينما الغرر الموجود في عقود التبرعات مغتفر على الصحيح. ويقول أحد الباحثين: "في التأمين التجاري الهدف الأساسي لشركة التأمين ¬
هو تحقيق أكبر قدر من الربح على حساب المستأمنين، وتحقيق الأمان إن كان مقصودًا، فإنه يقصد تبعًا، واستثناء، لا أصالة. أما في التأمين التعاوني، فإن المقصد الأساسي منه، هو تحقيق الأمان من خلال التعاون بين المستأمنين على ترميم آثار المخاطر التي تصيب أنا منهم على أساس التبرع، فما يدفعه كل مستأمن، إنما يريد به التعاون مع إخوانه المستأمنين في تخفيف الضرر، أو رفعه عن أحدهم إذا ما نزل به بحدوث الكارثة المؤمن منها". ويقول شيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى: "التأمين التعاوني لا يقصد به المعاوضة، وإنما يقصد به التعاون على النكبات والحوادث، وأما التأمين التجاري فالغرض منه المرابحة، وهو من الميسر الذي حرمه الله عز وجل في كتابه ... هذا هو الفرق، ولذلك تجد الرجل لو أقرض شخصًا ديناراً، ولم يسلمة المقترض إلا بعد سنة، أو أقل، أو أكثر، كان هذا صحيحًا, ولو أعطاه ديناراً بدينار، على سبيل المعاوضة، كان هذا فاسدًا حرامًا، فالنية لها أثر في تحويل المعاملات من حرام إلى حلال" (¬1). والقاعدة في هذا: أن المتبرع لجهة، أو لجماعة تجمعهم صفة معينة، فإنه يدخل في الاستحقاق مع هذه الجماعة، إذا توافرت فيه هذه الصفة، كمن تبرع لطلاب العلم، فإنه يستحق نصيباً من هذا التبرع، إذا طلب العلم، فلا يقال في هذه الحالة: إنه يأخذ مقابلاً، أو عوضًا لما بذل، وإنما يقال: إنه يستحق نصيباً من المال المتبرع به لتوافر صفة الاستحقاق فيه، فهو يدفع متبرعًا، ويأخذ من مال التبرع، فانتفت المعاوضة تمامًا في مثل هذه الحالة (¬2). ¬
مناقشة هذا الفارق
مناقشة هذا الفارق: هذا الفارق يدور حول دعوى واحدة، أن المشترك في التأمين التعاوني قصد أمرين: التعاون، والتبرع، بخلاف المشترك بالتأمين التجاري، فإنه قصد المعاوضة، ولم يقصد التعاون. وهذه دعوى مجافية للحقيقة لأمور، منها: الأمر الأول: أن المستأمن في الشركتين: التجاري والتعاوني ليس لواحد منهم قصد التعاون بينه وبين بقية المستأمنين، فهو لا يعرف أعيانهم، ولكن التعاون الموجود في التأمين يتم بغير قصد كالحال بالنسبة للمشتركين في التأمين التجاري. يقول الشيخ عبد الله بن منيع: القول "بأن المشترك في التأمين التعاوني يقصد التعاون على البر والتقوى محتسبًا الأجر في ذلك عند الله بخلاف المشترك في التأمين التجاري فليس له قصد في التعاون، لا شك أن القول بذلك دعوى موغلة في الوهم، وعدم الانفكاك عما يكذبها من حيث الحس والعقل ... وبهذا يظهر أن وصف التأمين التعاوني بالتعاون المقصود قول لا حقيقة له، وأن الصحيح أنه تعاون غير مقصود، كالتعاون التجاري، فبطل القول بذلك كفرق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني" (¬1). الأمر الثاني: قولهم: إن تحقيق الأمان في شركات التأمين إن كان مقصودًا فإنه يقصد تبعًا، واستثناء، لا أصالة، أما في التأمين التعاوني فإن المقصد الأساسي منه هو تحقيق الأمان ... الخ. ¬
الأمر الثالث
فهذا الكلام ليس دقيقًا، فالضمان في كلا النظامين هو الباعث على التعاقد، فالمستأمن حين دفع ماله على حبه له، إنما دفعه من أجل هدف واحد، سواء كان ذلك في التأمين التعاوني أو التجاري، لم يدفعه بقصد الإحسان, ولا بنية التعاون على البر والتقوى، وإنما دفعه طلبًا للضمان، وتحصينًا لماله من التعرض للهلاك، وهو طلب مشروع، لا يقدح في صحة المعاملة. الأمر الثالث: أن حقيقة المتبرع هو من يبذل ماله بغير عوض، بخلاف المعاوض: فإنه يبذل ماله بعوض. فالتأمين التعاوني حقيقته: أتبرع لك بشرط أن تتبرع لي، ولولا هذا الالتزام لم أتبرع، ولولا الطمع في أن يكون هناك تعويض لم ألتزم بدفع أقساط التأمين، فهناك فرق بين من يتبرع، ولا يتطلب استحقاقًا، ثم قد توجد به صفة الاستحقاق دون قصد، فيأخذ، ومن يدفع من أجل الأخذ، ولولا الأخذ ما دفع، فلو أوصى رجل على أن ثلث ماله يصرف على الفقراء، أو على طلبة العلم، وكان أحد أولاده فقيرًا، أو طالب علم استحق بهذا الوصف، ولم يدخل في الوصية للوارث , ولو أراد بتلك الوصية التحايل لإعطاء أحد ورثته دود آخر، أثم بذلك، ولم يحل له أخذ المال، فعقد التأمين التعاوني أعطيكم بشرط أن تعطوني، هذه حقيقة المعاوضة، والأشياء بمعانيها لا بأسمائها، وإذا كان الفقهاء يعدون هدية الثواب معاوضة؛ لأن الإنسان إنما بذل هديته طلبًا للثواب، فأخذت حكم المعاوضة، ولم ينظر إلى كونها قدمت باسم الهدية، فكيف لا يكون التبرع للآخرين بشرط أن يتبرعوا له، لا يكون معاوضة. ثم إن التبرع ليس من عقود الإلزام، وهذا عقد ملزم، فطبيعة العقد: التزام
المؤمن بتحمل الخسائر الناجمة عن الأضرار المؤمن عنها عند حدوثها، والتزام المستأمن بدفع قسط التأمين. "فمن خصائص التبرع أن المتبرع له حق العدول عن التبرع بكامل ما يتبرع به، أو بجزئه، فما على المحسنين من سبيل، كما أن له حق الامتناع عن الاستمرار بما وعد به من تبرع بالأقساط، أو بالمشاركة في سد عجز الصندوق، فهل يقبل من المشترك في التأمين التعاوني هذا الحكم، على اعتبار أن مشاركته كانت على سبيل التبرع؟ أم أن امتناعه عن الاستمرار في دفع الأقساط، أو الامتناع عن المشاركة في تغطية عجز الصندوق يعرضه للمساءلة، كما يسقط حقه في التعويض وفي الأرباح، وفي المطالبة بما مضى منه دفعه، ويعطي القائمين على إدارة التأمين التعاوني حق فسخ العقد معه؟ " (¬1). ثم لو كان إطلاق اسم التبرع على العقد يغير حكمه، كان من الممكن في التأمين التجاري أن نقول: ادفع قسط التأمين التجاري بنية التبرع للشركة، ثم على الشركة أن تدفع من أموال المتبرعين ما يصيبهم من أضرار، وما بقي بعد خصم المصاريف الإدارية والعمومية فهو على القائمين على الشركة بمثابة الجعل أو الأجرة لهم على ما قاموا به من إدارة لأموال المتبرعين، واستثمارها. يقول الدكتور رفيق المصري: "ومما يؤخذ على رأي المجيزين للتأمين التعاوني، والمانعين للتأمين التجاري: أنهم رأوا أن التعاونيات كالتبرعات، يغتفر فيها من الغرر ما لا يغتفر في المعاوضات، وهذا فيه نظر؛ لأن (أتبرع لك على أن تتبرع لي) ليس من التبرعات، بل هو من المعاوضات" (¬2). ¬
الأمر الرابع
وإن كان المقصود من التعاون أن يؤخذ من مجموع مال المستأمنين فيدفع إلى من يحتاج منهم، فهذا موجود في التأمين التجاري، كما هو موجود في التأمين التعاوني؛ لأن التأمين لا يمكن أن يقوم بين مستأمن ومؤمن وحده، وإلا كانت العملية خاسرة من كل الوجوه، وإنما العقد يقوم بين شركة التأمين وبين مجموعة كبيرة من المستأمنين، بحيث من تعرضت منهم بضاعته للتلف أمكن تعويضه من مجموع مال المستأمنين، وهذا حقيقة التعاون، وهو موجود فيهما (التجاري والتعاوني) (¬1). الأمر الرابع: كون الهدف من التأمين تحقيق أكبر قدر من الربح، فهذا لا يقتضي أبدًا تحريم المعاملة؛ لأن طلب الربح أمر مشروع كما بينت سابقًا, ولولا طلب الربح ما قام التأمين التعاوني أيضاً؛ لأن التأمين التعاوني نفسه لا يمكن أن يتم طوعًا بلا أجر، ولولا ذلك لما رضي أحد بالعمل به، ولو رضي لما قام به على الوجه المطلوب، فالربح الموجود في التأمين التجاري، يقابله الأجر الموجود بالتأمين التعاوني، إذا كان نصيب شركات التأمين التعاونية العمل بالأجرة، أو الربح إن عملوا فيه بالمضاربة، فالربح موجود في التأمين التعاوني كما هو موجود في التأمين التجاري، وإذا كان التأمين التجاري أكثر ربحًا، فيمكن العمل على أن يكون الربح معتدلاً وذلك عن طريق فتح باب المنافسة لشركات التأمين الأخرى، ومراقبة الدولة وذلك بوضع الأنظمة التي تحد من استغلالها. ونتيجة هذا النقاش أرى أن قياس التأمين التجاري على التأمين التعاوني بالحكم قياس صحيح، وأن القول بجواز التأمين التعاوني يؤدي إلى القول ¬
بجواز التأمين التجاري؛ لأن الفرق بين النظامين ليس كبيرًا، وإذا وجد فرق فإنما هو في المحسنات ليس إلا، أي أنه أكثر انضباطًا في تحديد نسبة الربح من شركات التأمين التجارية، لا أكثر، والله أعلم. وعلى فرض أن يكون هناك فارق بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري، في التكييف، فإنه لا يوجد فارق في الممارسة، وهو المهم، فإنه ما من شركة تأمين تعاوني إلا وتمارس التأمين التجاري فيما يسمى بإعادة التأمين، فرجع التأمين التعاوني إلى التأمين التجاري، فشركات التأمين التعاونية تقوم بإعادة التأمين عند شركات تجارية، فحرَّموا على المستأمن ما سمحوا لأنفسهم بالوقوع فيه، بعد ما أخذوا أمواله، واستفادوا منها، ذهبوا يؤمنون عليها عند شركات تجارية، وإذا كان الحال كذلك فلم يعملوا شيئًا. يقول الشيخ الصديق الضرير عن شركة التأمين التعاونية الإِسلامية في السودان: "والعقبة التي اصطدمنا بها: هي موضوع إعادة التأمين، وهنا طبقنا أيضًا نفس القاعدة، والتي هي قاعدة الغرر لإعادة التأمين، لم نجد في ذلك الوقت شركة إعادة تأمين إسلامية، فليس هناك إلا الشركات التجارية، شركات إعادة التأمين، أيضًا صدرت فتوى بجواز إعادة التأمين في الشركات التجارية عملًا بمبدأ الحاجة، ومبدأ الحاجة التي تجعل الغرر غير مؤثر؛ لأنه ليست هناك شركة إسلامية يمكن أن يعاد فيها التأمين (¬1)، وتبين لنا من أقوال المتخصصين ¬
الدليل السادس
في التأمين أنه لا يمكن قيام شركة تأمين من غير أن نعيد التأمين في شركات أخرى؛ لأنه سيكون مصيرها الفشل والخسارة ... " (¬1). وإذا كان لا بد من إعادة التأمين عند شركات التأمين التجارية فلماذا نرهق المستأمن, ونحمله على طلب محلل، وذلك بكونه يؤمن مرتين، مرة مع شركات التأمين التعاوني كل مستأمن على حدة، ومرة نقوم بالتأمين على مجموع ما دفعه المستأمنون لدى شركات التأمين التجارية، فليذهب المستأمن مباشرة إلى التأمين التجاري، ولا نرهقه بإعادة التأمين، أليس هذا من الظلم للمستأمن الحريص على التأمين الحلال أن نحمله على أن يؤمن مرتين، مرة لدى التأمين التعاوني، ومرة لدى التأمين التجاري، وهذا سيكون على حساب مقدار القسط المدفوع إذا تقاسمته شركات التأمين. الدليل السادس: قياس عقد التأمين التجاري على نظام التقاعد باعتباره نوعًا من التأمين يسميه بعضهم بالتأمين الاجتماعي. وذلك لأن حقيقة التقاعد تقوم على أساس: أن يقتطع من المرتب الشهري للموظف في الدولة جزء محدود بمقدار 9% لصالح مصلحة التقاعد، أو مؤسسة تسمى بالتأمينات الاجتماعية. وتقوم دولة الموظف، أو المؤسسة الأهلية بدفع مبلغ مماثل لصالح المؤسسة. ويقوم على هذه المؤسسة موظفون من قبل الدولة للعمل على نماء هذا المال، ويجمع هذا المال مع نمائه في صندوق لحساب المؤسسة، فإذا بلغ ¬
الموظف سنًا معينة أحيل إلى التقاعد، واستحق راتبًا شهريًا من قبل المؤسسة، دون أن يقوم الموظف بأي عمل، وقد يبلغ ذلك الراتب أضعاف ما كان يقتطع من راتبه، وقد يموت قريبًا، وتستغني ذريته، وهذا هو الغالب، فيذهب ما أخذ منه بلا مقابل. ويستمر المرتب التقاعدي ما دام حياً مهما طالت حياته، وينقل هذا الحق إلى أسرته التي يعولها بشرائط معينة بعد وفاته، وعندما تعجز المخصصات (وهي ما يؤخذ من راتب الموظف وأرباح المؤسسة) عن القيام بتعويض الموظف تتبرع الدولة عندئذ بسد العجز، وقد أجازه فضيلة الشيخ عبد الله بن حميد وسماحة الشيخ ابن باز. وتعتبر مصلحة التقاعد، والتأمينات الاجتماعية في عالم الاقتصاد اليوم من أكبر مؤسسات الاستثمار في سوق المال. فعقد التأمين التجاري يشبه نظام التقاعد إلى حد كبير. فالموظف أو العامل هو المستأمن. والدولة ممثلة بمصلحة التقاعد أو مؤسسة التأمينات الاجتماعية هي (شركة التأمين التجارية). وقسط التأمين: هو وما يقتطع من راتب الموظف. والتعويض: هو ما يدفع للمتقاعد من راتب شهري طيلة حياة الموظف، ويدفع للقاصرين من ذريته بعد وفاته. وهو نفس ما تدفعه شركات التأمين للمستأمن من تعويضه عن الشيء المؤمن عنه. والأرباح التي تجنيها شركات التأمين التجارية، تجنيها مصلحة التقاعد والتأمينات الاجتماعية من وراء تشغيل الأقساط. ولا يختلف الحكم الشرعي يكون المالك هي الدولة ممثلة بمصلحة التقاعد
أو مؤسسة التأمينات، أو كان المالك فردًا، فماذا لو كانت شركات التأمين التجارية هي شركات حكومية هل سيجعل الحكم الشرعي مختلفًا لدى من يقول بتحريم التأمين التجاري. يقول الشيخ مصطفى الزرقاء: "وفي كليهما -يعني التأمين ونظام التقاعد- يدفع الشخص قسطًا ضئيلًا دوريًا، لا يدري كم يستمر به دفعه، وكم يبلغ مجموعه عند التقاعد، وفي كليهما يأخذ الشخص، أو أسرته في مقابل هذا القسط الدوري الضئيل مبلغًا دوريًا أيضًا في التقاعد، وفوريًا في التأمين على الحياة، قد يتجاوز كثيراً مجموع الأقساط، ولا يدرى كم يبلغ مجموعه في التقاعد إلى أن ينطفئ الاستحقاق وانتقالاته، بينما هو محدد، معلوم المقدار في التأمين على الحياة، فالغرر والجهالة في نظام التقاعد أعظم منها في التأمين على الحياة" (¬1). بل إني أرى أن التأمين الاجتماعي، هو صورة من التأمين على الحياة، وهو محرم كما سيأتي بيانه إن شاء الله في مبحث مستقل، والفرق بين نظام التقاعد وبين التأمين التجاري من ناحيتين: الأولى: أن عقد التأمين التجاري هو عقد رضائي، يتم بين طرفين بالتراضي، وأما نظام التقاعد فهو من عقود الإذعان حيث يقتطع جزء من راتب الموظف بدون اختياره. وهذا الفارق يسجل لصالح التأمين التجاري، وهو قد يرفع الإثم عن الموظف في الوقوع في ربا النسيئة، ولكن لا يستحق أن يأخذ أكثر مما أخذ منه، وإلا وقع منه ربا الفضل باختياره. الثانية: أن التعويض في التأمين التجاري يكون في مقابل عروض تعرضت للتلف أو النقص، فهو دراهم في مقابل عروض، ولا ربا بين الدراهم ¬
الدليل السابع
والعروض، بينما نظام التقاعد: هو دراهم في مقابل دراهم، وهذا أسوأ من التأمين التجاري. وقد اعترض على هذا الاستدلال: ففي قرار مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإِسلامي ما نصه: "قياس عقود التأمين التجاري على نظام التقاعد غير صحيح، فإنه قياس مع الفارق أيضًا؛ لأن ما يعطى من التقاعد حق التزم به ولي الأمر، باعتباره مسئولًا عن رعيته، وراعى في صرفه ما قام به الموظف من خدمة الأمة، ووضع له نظامًا راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف، ونظرًا إلى مظنة الحاجة فيهم، فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها، وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة؛ لأن ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر حقًّا التزم به من حكومة مسئولة عن رعيتها، وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة كفاء لمعروفه، وتعاونًا معه من جراء تعاونه ببدنه وفكره وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة" (¬1). وقد أجبت ولله الحمد على قول المجمع الفقهي في مبحث حكم التأمين الاجتماعي، فانظره هناك وفقك الله. الدليل السابع: قياس عقد التأمين التجاري على عقد الحراسة. يقول الزرقاء رحمه الله: "الأجير الحارس، وإن كان مستأجرًا على عمل يؤديه، وهو القيام بالحراسة، نجد أن عمله المستأجر عليه ليس له أي أثر أو نتيجة سوى ¬
واعترض على هذا الاستدلال
تحقيق الأمان للمستأجر على الشيء المحروس، واطمئنانه إلى استمرار سلامته من عدوان شخص، أو حيوان يخشى أن يسطو عليه ... فكذا الحال في عقد التأمين يبذل فيه المستأمن جزءًا من ماله في سبيل الحصول على الأمان من نتائج الأخطار التي يخشاها" (¬1). واعترض على هذا الاستدلال: جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي: "قياس عقود التأمين على عقود الحراسة غير صحيح؛ لأنه قياس مع الفارق أيضاً، ومن الفروق: أن الأمان ليس محلاً للعقد في المسألتين، وإنما محله في التأمين الأقساط، ومبلغ التأمين، وفي الحراسة: الأجرة، وعمل الحارس، أما الأمان فغاية ونتيجة، وإلا لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس" (¬2). ويقول الشيخ الصديق الضرير: "على أنا لو سلمنا بجواز شراء الأمان في عقد الحراسة، فإنه لا يلزم من ذلك جواز شرائه في عقد التأمين، للفارق الكبير بين العقدين، ففي عقد الحراسة يقوم الحارس بعمل: هو حفظ العين، وحراستها في حدود الطاقة البشرية، ونتيجة لتلك الحراسة، يحصل الأمان للمستأجر، فهناك ارتباط وثيق بين عمل الحارس، والأمان الذي يحصل للمستأجر، أما في عقد التأمين، فإن المؤمن لا يقوم بأي عمل يؤدي إلى الأمان، فإن الشيء المؤمن عليه يكون في يد صاحبه، وتحت حراسته، لا في يد المؤمِّن، والمؤمِّن يكون ضامنًا لسلامته مما يمكن الاحتراز منه، ومما لا يمكن الاحتراز منه على السواء" (¬3). ¬
الدليل الثامن
ومع أني لست ممن يستريح لهذا القياس، وسبق أن نبهت عليه، إلا أن ما أثاره فضيلة الشيخ الصديق محمد الضرير في التفويق بين العقدين تفريق صحيح، إلا أنه لا يؤثر في الحكم فيما أرى والله أعلم، فإن الضمان قد دللت على جواز المعاوضة عليه فيما سبق، وأن له قيمة شرعية، كما أن الضمان لا يشترط فيه أن يكون المضمون في يد الضامن، وحصر الضمان في أسباب خاصة، وتحريم الضمان فيما عداها قول لا تساعده أدلة شرعية، ولم يأت نص قط في حصر الضمان في عقد من العقود، والضمان تارة يكون لإلزام الشارع، وتارة يكون لإلزام العاقد نفسه، وقد دللت على ذلك فيما سبق، والله أعلم. الدليل الثامن: قياس عقد التأمين التجاري على العاقلة. والعاقلة في اللغة: مأخوذة من العقل، وهو الدية، سميت بذلك؛ لأن أهل القاتل كانوا يأتون بالدية من الإبل، فيعقلونها بفناء ولي المقتول. والعاقلة تطلق على الجماعة التي تغرم الدية، وهم عشيرة الرجل، أو أهل ديوانه: أي الذين يرتزقون من ديوان على حدة، أو الموظفين في دائرة واحدة. وقد اتفق الفقهاء على مشروعية نظام العاقلة في القتل الخطأ. (ح-222) ما روى البخاري من طريق ابن شهاب، عن ابن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها، وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقضى أن دية جنينها غرة عبد، أو وليدة، وقضى أن دية المرأة على عاقلتها، ورواه مسلم (¬1). ¬
ووجه الشبه بين عقد التأمين ونظام العاقلة
فإذا جنى أحد جناية قتل غير عمد، بحيث يكون موجبها الأصلي الدية، وليس القصاص، فإن دية النفس توزع على أفراد عاقلته الذين يحصل بينه وبينهم التناصر عادة، وهم الرجال البالغون من أهله وعشيرته، والغاية من هذا التشريع حكم منها: أولًا: تخفيف أثر المصيبة عن الجاني المخطئ. ثانيَا: صيانة دماء ضحايا الخطأ أن تذهب هدرًا؛ لأن الجاني المخطئ قد يكون فقيرًا، لا يستطيع التأدية، فتضيع الدية. ووجه الشبه بين عقد التأمين ونظام العاقلة: هو في تخفيف أثر المصيبة عن المصاب عن طريق توزيع العبء المالي على جميع المشاركين، مما يحول دون دم المقتول هدرًا. فما المانع من أن يفتح باب لتنظيم هذا التعاون على ترميم الكوارث المالية، بجعله ملزمًا بطريق التعاقد، والإرادة الحرة، كما جعله الشارع إلزاميًا دون تعاقد في نظام العاقلة، كما هو معمول به في عقد التأمين التجاري، يقول ابن القيم رحمه الله في صدد ما يجوز من المشارطات العقدية شرعاً: "كل شرط قد جاز بذله بدون الاشتراط، لزم بالشرط، فمقاطع الحقوق عند الشروط، وإذا كان من علامات النفاق إخلاف الوعد، وليس بمشروط، فكيف الوعد المؤكد بالشرط، بل ترك الوفاء بالشرط يدخل بالكذب، والخلف، والخيانة، والغدر" (¬1). ونوقش هذا الدليل: بأن ما تدفعه العصبة ليس من باب المعاوضة، فعصبة الجاني لم تتلق منه ¬
دليل من قال: لا يجوز التأمين على الحياة.
مبالغ، أو أقساطًا تلتزم بعدها بتسليم دية المجني عليه، فهو من باب التعاون بين العاقلة التي تربط بينهم رابطة الدم، والرحم، والقرابة التي تدعو إلى النصرة، والتواصل، والتعاون، وإسداء المعروف، ففيه فرق بينه وبين عقد التأمين القائم على عقد المعاوضة، والاستغلال. وكما قلت فيما سبق أن محاولة التكلف في تخريج عقد التأمين على عقد من العقود السابقة عمل ليس بجيد، فلسنا مكلفين بتكييف عقد التأمين على أنه عقد كفالة، أو عقد وكالة، أو مضاربة، أو مرابحة، أو قياسه على الوعد الملزم عند المالكية، أو على أي عقد من العقود المعروفة من المسميات القديمة، ولذا سوف أعرض عن هذه الأدلة صفحًا تجنبًا للتكلف في رد الاعتراض عليها، وإنما علينا أن ندرس عقد التأمين من حيث هو، بصرف النظر عن العقود السابقة، وهل القول بجوازه يتمشى مع الأصل، وأن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، أو أن هذا العقد يخالف حكم الله، فيكون باطلاً لمخالفته حكم الله، هذا هو مناط التحقيق، والله أعلم. * دليل من قال: لا يجوز التأمين على الحياة. حقيقة التأمين على الحياة: أنه شراء دين بدين، وشراء دراهم بدراهم أكثر منها، وذلك أن المؤمن على حياته يدفع نقودًا مقسطة، مقابل نقود كثيرة مؤجلة، فيقع في نوعي الربا: ربا الفضل وربا النسيئة، كما أن هذا العوض غير موثوق في الحصول عليه، فقد يفوت عليه بعجزه عن دفع بقية الأقساط. ويختلف هذا التأمين عن التأمين على البضائع، فإن المؤمن على سيارته لا يريد الحصول على نقود أكثر مما دفع، ولا أقل، لا في حياته، ولا بعد مماته، وإنما يريد الاطمئنان عن الحوادث منها أو عليها، وإذا تلفت السيارة تعوضه
الراجح من الخلاف
الشركة بسيارة مثلها، أو تصلحها وهذا هو الأمان والاطمئنان مما يستوجب أن يدفع فيه نفيس الأثمان. * الراجح من الخلاف: بعد هذا النقاش، واستعراض الأدلة، أريد أن أسجل بعض النتائج من ذلك: أولاً: أجد أن الخلاف في التأمين هو خلاف قوي، والترجيح إنما هو بين قول قوي وآخر أقوى منه، ولا يحسن من بعض المشايخ عند التعرض له، أن يقول أحدهم: دحض شبه القائلين بكذا، من القولين، فليس القول الذي لا نشتهيه: هو القول الساقط، وأدلته مجرد شبه، بل لكل قول وجهته، وأدلته القوية. ثانيًا: أن بعض المعاملات المالية قد يتنازعها موجبان، موجب يقول بالتحريم، وموجب آخر يقول بالإباحة، والأخذ إنما هو بأقوى الداعيين بمقتضى اجتهاد الباحث، ولا يطلب من كل المعاملات المالية الحلال ألا يكون فيها ما يوجب التحريم، وهذه من مرونة الشريعة الإِسلامية وتقديرها لمصالح العباد، فعقد السلم يتنازعه المبيح والمانع، فالمانع لأنه بيع معدوم، وقد لا يوجد المعقود عليه مستقبلاً فيتعذر التسليم، ويفسخ العقد، ويكون انتظار المشتري بلا مقابل، وإن وجد المعقود عليه فقد تتغير قيمته هبوطًا أو ارتفاعًا، وكل هذا مما يستدعي المنع، وأما الداعي للإباحة: فإن البيع واقع في الذمة، وليس على شيء معين، والناس بحاجة إلى هذه المعاملة لحاجة المزارعين إلى السيولة لاستصلاح الأرض والزرع والثمار، وحاجة التجار إلى الحصول على هذه المحاصيل بسعر أقل، فيرتفق المزارعون بحصولهم على الأموال، ويرتفق التجار بحصولهم على السلع بقيمة أقل، وهكذا.
ومن ذلك إباحة الغرر التابع، فإن الغرر التابع قد يكون كثيرًا، ومؤثرًا في قيمة الصفقة، ومع ذلك إرفاقًا بالناس أجازت الشريعة هذه المعاملة، وبقيت المفسدة مغمورة في جانب الضرر الواقع على الناس فيما لو منعوا من تبادل مثل ذلك. ومن ذلك النهي عن بيع الحاضر للباد، فإنه يتنازعه مبيح ومانع أيضًا: فالنصيحة للمسلم البادي، والذي قدم من مكان بعيد، متحملًا عناء الأسفار، والابتعاد عن الأهل، مع جهله بالأسعار، وتشوفه للتعويض مقابل ما أنفقه على بهائمه لا سيما مع قلة الأمطار، وغلاء الأعلاف، وصعوبة التنقل بالمواشي طلبًا للكلأ، وبحثًا عن الماء، كل ذلك يحمل المسلم أن يبيع له بسعر السوق لينفعه، وليعود ذلك بالنفع عليه وعلى أهله، وعلى مواشيه. ينازع ذلك مصلحة السوق، وأن يرزق الله العباد بعضهم من بعض، وهذه مصلحة عامة في مقابل مصلحة خاصة، والعام مقدم على الخاص، ولهذا قدمت هذه المصلحة على تلك، وهكذا كثير من المعاملات قد يتنازعها موجبان، مبيح وحاضر، وتلحق بأقواهما، والله أعلم. ثالثًا: أن التأمن التجاري وإن قلت بجوازه لكونه من عقود الغرر فإن الغرر في عقد التأمين أرى أنه من الغرر الكثير وليس من الغرر اليسير، ولكن أباحته عندي حاجة الناس إلى هذه المعاملة بخلاف التأمين على الحياة والتأمين الاجتماعي فإن الحاجة لا تبيحه مطلقًا؛ لأنه من عقود الربا، لكونه دراهم بدراهم مؤجلة مع التفاضل. رابعًا: أن على طالب العلم إذا لم يغلب على ظنه القول بالتحريم فعليه أن يفتي بجواز التأمين حتى يتبين له القول بالتحريم؛ لأن الأصل في المعاملات الإباحة حتى نتيقن المانع، أو يغلب على الظن قيامه، والاحتياط للنفس غير
الاحتياط للخلق، فإن الاحتياط للخلق ألا يحرم طالب العلم على الناس ما يشك في تحريمه. ومع هذا الترجيح، فإن عقلي، وقلبي مفتوحان لتقبل ما قد يكشفه اعتراضات الإخوة على هذا الترجيح، لو بأن لي أنني لم يحالفني الصواب، وقد قلت ذلك عن اجتهاد، فإن يكن صواباً فالحمد لله على فضله، وإن يكن غير ذلك، فأستغفر الله، والذي يجب أن ندركه أن هذه المسألة أعني مسألة التأمين أصبحت قدرًا من مسائل الخلاف، ولم يحصل عليها إجماع، وهذا من سعة رحمة الله على عباده، فمن لم ينشرح صدره للقول بالجواز، فعليه أن ينشرح صدره لتقبل الخلاف فيها, ولكل دليله، ولا ينكر على من تبنى أحد القولين باجتهاد، ومن أنكر عليه فقد أساء وتعدى وظلم.
المسألة الخامسة في التأمين الاجتماعي (نظام التقاعد)
المسألة الخامسة في التأمين الاجتماعي (نظام التقاعد) حقيقة التقاعد: [ن-22] حقيقته: تقوم على أساس: أن يقتطع من المرتب الشهري للموظف في الدولة جزء محدود بمقدار 9 % لصالح مصلحة التقاعد أو مؤسسة تسمى بالتأمينات الاجتماعية. وتقوم دولة الموظف بدفع مبلغ مماثل لصالح المؤسسة. ويقوم على هذه المؤسسة موظفون من قبل الدولة للعمل على نماء هذا المال، ويجمع هذا المال مع نمائه في صندوق لحساب المؤسسة، فإذا بلغ الموظف سنًا معينة أحيل إلى التقاعد، واستحق راتبًا شهريًا من قبل المؤسسة، دون أن يقوم الموظف بأي عمل، وقد يبلغ ذلك الراتب أضعاف ما كان يقتطع من راتبه، ويستمر المرتب التقاعدي ما دام حيًا مهما طالت حياته، وينقل إلى أسرته التي يعولها شرائط معينة بعد وفاته (¬1)، وعندما تعجز المخصصات (وهي ¬
ما يؤخذ من راتب الموظف وأرباح المؤسسة) عن القيام بتعويض الموظف تتبرع الدولة عندئذ بسد العجز، وقد أجازه فضيلة الشيخ عبد الله بن حميد وسماحة الشيخ ابن باز (¬1). فعقد التأمين التجاري يشبه نظام التقاعد إلى حد كبير، لكنه عقد بين الموظف من جهة يقابله في التأمين التجاري المستأمن. وبين الدولة من جهة أخرى ممثلة بمصلحة التقاعد أو مؤسسة التأمينات الاجتماعية يقابلها (شركة التأمين التجارية). وما يقتطع من راتب الموظف يقابل قسط التأمين. والتعويض: وهو دفع راتب شهري طيلة حياة الموظف، ويدفع للقاصرين من ذريته بعد وفاته، يقابله ما تدفعه شركات التأمين للمستأمن من تعويضه عن الشيء المؤمن عنه. ¬
والأرباح التي تجنى من وراء تشغيل الأقساط أرباح طائلة، سواء كان المالك الدولة ممثلة بمصلحة التقاعد أو مؤسسة التأمينات، أو كان المالك فردًا، وقد لمح إلى ذلك الشيخ عبد الله بن بيه، فقال وفقه الله: "التأمين تابع لأي من الوزارات؟ هل هو تابع لوزارة الشئون الاجتماعية، أو وزارة الأوقاف، لا، هو تابع لوزارة المالية، ووزارة التجارة، إذن تأمين الشركة التجارية إذا كان للدولة فالدولة تجني من ورائه أرباحًا، وإذا كان للأفراد فالأفراد يجنون من ورائه أرباحًا، وهذه هي المهمة الكبرى، وهي الباعث" (¬1). والفرق الذي يمكن أن يسجل لصالح التأمين التجاري من ناحيتين: الأولى: أن عقد التأمين التجاري هو عقد رضائي، يتم بين طرفين بالتراضي، وأما نظام التقاعد فهو من عقود الإذعان حيث يقتطع جزء من راتب الموظف بدون اختياره. وهذا قد يرفع الإثم عن الموظف في الوقوع في ربا النسيئة، ولكن لا يستحق أن يأخذ أكثر مما أخذ منه، وإلا وقع معه في ربا الفضل باختياره. وهل يطالب الموظف بتقديم استقالته قبل تمام العشرين سنة ليتمكن من أخذ استحقاقه قبل إجباره على نظام التقاعد، هذه محل بحث (¬2). ¬
الحكم الفقهي لنظام التقاعد
الثانية: أن التعويض في التأمين التجاري يكون في مقابل عروض تعرضت للتلف، أو النقص، فهو دراهم في مقابل عروض، بينما نظام التقاعد: هو دراهم في مقابل دراهم، وهذا أسوأ من التأمين التجاري. * الحكم الفقهي لنظام التقاعد: [ن-23] ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى تحريم نظام التقاعد، وبعضهم ذهب إلى عدم وجود فرق بين التأمين التجاري ونظام التقاعد بجامع أن كلًا منهما نوع من التأمين (¬1). وقد أشارت اللجنة الدائمة إلى أن القول بالتحريم قول محفوظ، وله حظه من ¬
النظر، قالت ذلك في معرض ردها على الشيخ مصطفى الزرقاء حين احتج بأن علماء الشريعة كافة يقرون نظام التقاعد بلا نكير، ولا يرون فيه آية شبهة شائبة من الناحية الشرعية مع أنه نظام تأميني بكل ما في كلمة تأمين من معنى. وقد ناقشت اللجنة هذا القول بما يأتي: أولاً: إن قول المستدل: قد شهدت جميع الدلائل الشرعية في الشريعة الإِسلامية وفقهها بجواز نظام التقاعد مجرد دعوى مبالغ فيها ليس معه من الأدلة الصحيحة ما يعتمد عليه فيها فضلاً عن أن يكون لها أدلة لا تقوم أمامها شبهة توهم المنع. ثانيًا: ادعى المستدل أن علماء الشريعة كافة في عصرنا أقروا نظام التقاعد دون آية شبهة، وفي هذا من المبالغة ما في سابقه، وإنما هى دعوى يردها الواقع، فإن المسألة نظرية، ويوجد من العلماء المعاصرين من يخالف فيها ... ثالثًا: قد يقال: إن كان ما اقتطع من مرتب الموظف لا يزال باقيًا على ملكه مع ما قد ضم إليه إلا أنه قيد صرفه بزمن محدد، وكيفية محدودة، فالكلام في حكمه كالكلام في حكم التأمين، وقد تقدم، وربما كان التقاعد أشد؛ لأن ما فيه من الغرر والمخاطرة، والمغامرة أشد, ولأن توزيعه يجري على غير سنن المواريث عطاء مستمرًا، أو مؤقتًا، أو حرمانًا ... الخ كلام اللجنة (¬1). والمهم في هذا النص الإقرار بأن القول بتحريم التقاعد محفوظ لدى أهل العلم في هذا العصر، ولم يجمع العلماء على جوازه كما توهم بعضهم. وقد أخبرني سماحة الوالد فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين بأن الشيخ ¬
وذهب عامة أهل العلم إلى القول بجواز التقاعد
عبد الرزاق عفيفي رحمة الله رفض أن يستلم من تقاعده شيئًا حتى ولا مقدار المبلغ الذي أخذ منه، كل ذلك يدل على أن القول بالتحريم قول محفوظ. وذهب عامة أهل العلم إلى القول بجواز التقاعد: فـ "قد أجاز مؤتمر علماء المسلمين الثاني في القاهرة عام 1385 هـ (¬1)، ومؤتمر علماء المسلمين السابع عام 1392 هـ كلًا من التأمين الاجتماعي والتأمين التعاوني، وهو ما قرره مجمع الفقه الإِسلامي في مكة المكرمة عام 1398 هـ " (¬2). وتبنى القول بالجواز هيئة كبار العلماء في البلاد السعودية (¬3). وقد بنوا قولوهم على تصور غير صحيح حيث اعتبروا أن الخصم من راتب الموظف هو خصم صوري، وأن حقيقة التقاعد هو هبة من ولي الأمر، مكافأة للموظف على خدمته للدولة، وهذا تكييف للمسألة بخلاف الواقع. والدليل على ذلك: أولاً: لا تدعي الحكومات، وهي الجهة التي تتولى الخصم من الرواتب بأن ¬
العقد صوري، فمن أين أتت دعوى أن العقد في التقاعد صوري، ولعل ما زين هذا التصور أن المعطي والخاصم جهة واحدة، لكن هذا لا يستقيم مع تأمين العمال من أصحاب القطاع الخاص كما سيأتي بيانه. ثانيًا: أن الموظف إذا أنهى عمله قبل عشرين سنة له أن يأخذ جميع ما أخذ منه من استحقاقات، ولو كان الخصم صوريًا لم يستحق شيئًا. ثالثًا: لو قصرت مصلحة المعاش والتقاعد، فلم تدفع للموظف شيئًا، كان للموظف أن يحاكم الجهة المقصرة بعدم السداد، ولو كانت هبة لم تلزم إلا بالقبض. رابعًا: أن مقدار الراتب في التقاعد يحدده المبلغ المخصوم من راتبه، فكلما كان الراتب كبيرًا، كان الخصم منه أكثر، وبالتالي يكون المرتب في التقاعد أكثر، ولو كان الأمر من قبيل المكافأة لم يعلق مقدار التقاعد على مقدار الخصم من الراتب. خامسًا: العامل في المؤسسات الخاصة يدفع له تأمين من قبله، ومن قبل الجهة التي يعمل فيها, ولو قصرت تلك الجهة تعرضت لغرامات مالية، وهو لا يأخذ راتبه من قبل الدولة حتى يقال: إن الخصم صوري، مما يدل على أن الأمر ليس من قبيل الهبة، ولا المكافأة، وإنما هو من قبيل المعاوضة. يقول الشيخ مصطفى الزرقاء: "وفي كليهما -يعني التأمين ونظام التقاعد- يدفع الشخص قسطًا ضئيلًا دوريًا لا يدري كم يستمر به دفعه، وكم يبلغ مجموعه عند التقاعد، وفي كليهما يأخذ الشخص، أو أسرته في مقابل هذا القسط الدوري الضئيل مبلغًا دوريًا أيضًا في التقاعد، وفوريًا في التأمين على الحياة، قد يتجاوز كثيراً مجموع الأقساط، ولا يدرى كم يبلغ مجموعه في التقاعد، إلى
وقد اعترض على هذا الاستدلال
أن ينطفئ الاستحقاق وانتقالاته، بينما هو محدد معلوم المقدار في التأمين على الحياة، فالغرر، والجهالة في نظام التقاعد أعظم منها في التأمين على الحياة" (¬1). ويقول الدكتور السنهوري: "لا تصح التفرقة بين التأمين الاجتماعي، والتأمين الفردي، فكلاهما يقوم على أساس واحد، ولا يختلفان إلا في أن الدولة في التأمين الاجتماعي هي التي تقوم بدور المؤمن، فمن قال: بجواز التأمين الاجتماعي، وجب أن يقول بجواز التأمين الفردي" (¬2). وقد اعترض على هذا الاستدلال: ففي قرار مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإِسلامي ما نصه: "قياس عقود التأمين التجاري على نظام التقاعد غير صحيح، فإنه قياس مع الفارق أيضًا؛ لأن ما يعطى من التقاعد حق التزم به ولي الأمر باعتباره مسئولاً عن رعيته، وراعى في صرفه ما قام به الموظف من خدمة الأمة، ووضع له نظامًا راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف، ونظرًا إلى مظنة الحاجة فيهم، فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها، وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين، والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة؛ لأن ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر حقًا التزم به من حكومة مسئولة عن رعيتها، وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة كفاء لمعروفه، وتعاونًا معه جزاء تعاونه ببدنه، وفكره، وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة" (¬3). ¬
الجواب على رد المجمع
الجواب على رد المجمع: القول بأن التقاعد التزم به ولي الأمر في مقابل ما قام به الموظف من خدمة الأمة، هذا قول غير صحيح، فإنه التزم به في مقابل الأقساط التي تؤخذ من راتب الموظف والعامل، وليس مكافأة على خدمته في مجال عمله، ولو كان مكافأة له على خدمته لم يُقْتَطع جزء من راتبه لمصلحة التقاعد، أو لمؤسسة التأمينات الاجتماعية، ولو كان مكافأة لم يعاقب العامل لدى القطاع الخاص إذا لم يدفع قسط التأمين بغرامة مالية. ولو كان مكافأة لم يطالب من أخذ إجازة بدون راتب، أن يسدد من قِبَله فترة إجازته جميع الأقساط التي كان من المفترض أن تخصم من راتبه لمصلحة التقاعد. والقول بأن نظام التقاعد ليس من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها، وعلى هذا لا شبه بيته وبين التأمين الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية من غريب القول، فما هي المعاوضات المالية في تعريف المشايخ الفضلاء، أليس كل واحد من طرفي العقد يأخذ مقابلاً لما أعطى؟ أليس الموظف يبذل عوضًا ماليًا، وتلتزم الدولة بالمقابل بدفع عوض مالي آخر، على شكل راتب يأخذه مدى حياته، وبعد وفاته بشروط معينة، أليس هذا هو حقيقة المعاوضة، الفرق أن المعاوضة في التأمين بين فرد وشركة، وأما في التقاعد فهو بين موظف أو عامل وبين الدولة ممثلة بمؤسسة التأمينات الاجتماعية، أو مصلحة التقاعد، وهذا لا يشكل فارقًا جوهريًا. ولو سلم أن الربح غير مقصود، فالمعاوضة المالية ليست متوقفة على الربح، حتى يقال: إذا لم يقصد الربح انتفت المعاوضة، فالبيع بالتولية معاوضة على الصحيح عند جمهور العلماء، والربح منتف، وبيع الوضيعة معاوضة، والخسارة معلومة.
والقول بأن الدولة ليست في مركز المعاوض، ولا تطلب مقابلًا لما تبذل، فلماذا إذا تعمل الدول على نماء هذا المال، واستثماره فيما يجوز، وما لا يجوز، وتقترض منه إذا احتاجت إليه، أليس هذا يعود عليها بالنفع، وهو عين ما يطلبه صاحب المال من ماله. ولماذا لا يشرف على نظام التقاعد وزارة الأوقاف، إذا كان صندوق مؤسسة التأمينات الاجتماعية أو مصلحة التقاعد صندوقًا وقفيًا خيريًا تعاونيًا، لماذا يربط في بعض الدول بوزارة التجارة، أو بوزارة المالية، فربطه لإحدى هاتين الوزارتين دليل على أن سبيله التجارة ليس إلا، والله أعلم. فالذي يحرم التأمين التجاري يلزمه القول بتحريم نظام التقاعد، فإنه نوع من التأمين، ومن أجاز التأمين الاجتماعي يلزمه القول بجواز التأمين التجاري، حيث لا فرق (¬1). ¬
وكون الدولة تدفع نسبة من قسط التأمين لا يعني أنها متبرعة بها؛ لأن هذا المبلغ إنما دفع بشرط أن يكون موظفًا لديها، فهو جزء من التزامات العقد بين الموظف وبين الدولة، فهو داخل في المعاوضة، بدليل أن أصحاب المؤسسات الخاصة ملزمون بدفع نفس النسبة عن عمالهم، ويعاقبون إذا تخلفوا عن دفع تلك النسبة، فلو لم يكن ذلك جزءًا من التزام العقد لم يلزموا, ولم يغرموا إذا تأخروا. ولو صح أن يقال: إن ما تدفعه الدولة من قبيل التبرع، لكانت القروض الربوية، يمكن أن يقال عنها: إن ما زاد عن قيمة القرض فإن المقترض متبرع به للمقرض. ولو سلمنا أن ما تدفعه الدولة يعتبر من قبيل التبرع المحض، فهذا لا ينطبق على ما يدفعه الموظف، فإن ما يدفعه الموظف هو من قبيل المعاوضة؛ لأن ما يدفعه الموظف سوف يأخذ مقابلًا لما يدفعه، ووجود طرف ثالث متبرع لا يجعل المعاملة كلها من قبيل التبرع الجائز. إنني أضع هذه التساؤلات أمام نظر مشايخنا، وفقهائنا للنظر فيها وإبداء الرأي، والنقد لما جاء فيها قيامًا بواجب العلم وأداء للأمانة، ولا أعتقد أن الدولة ملومة وقد أفتاها كثير من أهل العلم والفضل بجواز ذلك، ولكن المسئولية تقع على أهل العلم وذلك بتقديم بديل شرعي صحيح للوضع القائم لذلك كان هذا القول مني تسجيلًا لرأي في المسألة حتى لا يقال: إن المسألة فيها إجماع على القول بالجواز، وأظن ولاة الأمر حريصين على البديل الشرعي ¬
السليم الذي يحقق الأهداف التي من أجلها قام نظام التقاعد، مع تحقيق نظام عادل يحفظ للموظف والعامل حقه المالي المأخوذ منه، ويحفظ حسن رعايته ورعاية من يعول في كبره، فالمسؤولية الكبرى على الفقيه المسلم في إيجاد بديل شرعي سالم من المخالفات، وإني مستعد للمشاركة في وضع بديل شرعي متوازن في حال طلب مني ذلك، والله أعلم.
المسألة السادسة في التأمين التعاوني
المسألة السادسة في التأمين التعاوني الحكم الأول فى تعريف التأمين التعاوني وبيان أقسامه [تعريف التأمين التعاوني]: [ن-24] التأمين التعاوني صورتان: الأولى: التأمين التعاوني البسيط وتعريفه: بأنه عقد تأمين جماعي، يلتزم بموجبه كل مشترك بدفع مبلغ من المال على سبيل التبرع لتعويض الأضرار التي قد تصيب أيًا منهم عند تحقق الخطر المؤمن منه (¬1). مثال ذلك: أن يقوم مجموعة من الناس بتشكيل جمعية تعاونية، كما لو قام أهل سوق الذهب مثلاً، أو بعض العائلات الكبيرة بإنشاء صندوق تعاوني من أموالهم، بحيث يقدم كل منهم حصته من قسط التأمين، ويرصد المبلغ في صندوق للطوارئ بحيث يؤدى منه تعويض لأي مشترك منهم، عندما يقع الخطر الذي أسس الصندوق لدفعه كخطر السرقة، أو الاحتراق، أو دفع حاجة خاصة كمن يحتاج إلى زواج، أو بناء مسكن، أو غيرها من الحاجات. وقد يعطى المبلغ كاملاً، أو يعطى بعضه مجانًا، وبعضه على شكل قروض ميسرة السداد على حسب شروط ذلك الصندوق. ¬
الثانية: التأمين التعاوني المركب
الثانية: التأمين التعاوني المركب الفرق بين التأمين التعاوني البسيط والتأمين التعاوني المركب: هو أن التأمين التعاوني البسيط يكون فيه عدد المستأمنين محدودًا، يعرف بعضهم بعضاً، فإذا كثر عددهم ليبلغ الآلاف، وتعددت الأخطار المؤمن منها, لتشمل أنواعًا كثيرة، اقتضى الأمر وجود جهة تتولى إدارة التأمين التعاوني، اكتتابًا، وتنفيذًا بصفة الوكالة بأجر معلوم، وهذه الجهة هي شركات التأمين أو المنظمات التعاونية، ونظرًا لتعدد العقود التي يتكون منها التأمين التعاوني بهذه الصورة، وتداخلها استحق أن يسمى بالتأمين المركب. وعليه فيمكن تعريف التأمين التعاوني المركب بقولك: هو عقد تأمين جماعي يلتزم بموجبه كل مشترك فيه بدفع مبلغ معين من المال على سبيل التبرع، لتعويض المتضررين منهم على أساس التكافل والتضامن عند تحقق الخطر المؤمن منه، وتدار فيه العمليات التأمينية من قبل شركة متخصصة على أساس الوكالة بأجر معلوم (¬1). طبيعة عقد التأمين التعاوني المركب: اختلف العلماء في تكييف عقد التأمين التعاوني. فذهب كثير منهم وعلى رأسهم هيئة كبار العلماء في السعودية، ومجمع الفقه الإِسلامي، إلى أن عقد التأمين التعاوني هو في حقيقته عقد تبرع يقدمه المشتركون في هذا التأمين، ولكن من هو المتبرع له؟ قد يكون المتبرع له، هم المشتركون في هذا التأمين، كما هو الحال في التأمين التعاوني في شركات التأمين التعاوني على الحوادث المنتشرة اليوم، وقد يكون المتبرع له هو مؤسسة ¬
التأمين التعاوني، كما هو الحال في التأمينات الاجتماعية، ورواتب التقاعد، والتأمين الصحي وغيرها (¬1). وخالف آخرون، فهم يرون أن عقد التأمين التعاوني، هو من عقود المعاوضات المالية، لا يختلف عن التأمين التجاري؛ لأن حقيقته: أتبرع لك بشوط أن تتبرع لي، وهذه معاوضة، والأشياء بمعانيها لا بأسمائها، وإذا كان الفقهاء يعدون هدية الثواب معاوضة؛ لأن الإنسان إنما بذل هديته طلبًا للثواب، فأخذت حكم المعاوضة، ولم ينظر إلى كونها قدمت باسم الهدية، فكيف لا يكون التبرع للآخرين بشرط أن يتبرعوا له لا يكون معاوضة. يقول الدكتور رفيق المصري: "ومما يؤخذ على رأي المجيزين للتأمين التعاوني، والمانعين للتأمين التجاري: أنهم رأوا أن التعاونيات كالتبرعات يغتفر فيها من الغرر ما لا يغتفر في المعاوضات، وهذا فيه نظر؛ لأن (أتبرع لك على أن تتبرع لي) ليس من التبرعات، بل هو من المعاوضات" (¬2). ولا يختلف الحكم بين كون المؤمِّن هو شركة التأمين، أو المؤمن هم الأعضاء أنفسهم. يقول الشيخ عبد الله بن منيع: "التأمين التعاوني في واقعه شركة تأمين مكونة من المشتركين أعضاء فيها. فكل مشترك يحمل في الشركة صفتين: صفة المؤمِّن، باعتباره باشتراكه فيها عضوًا له حق في الفائض بقدر نسبة اشتراكه، وعليه الالتزام بالمشاركة في سداد عجز صندوق الشركة عن الالتزام ¬
بالتعويضات بنسبة مشاركته، وله صفة المؤمَّن له، باعتباره باشتراكه أحد عملاء الشركة، ملتزمًا بدفع القسط التأميني، وتلتزم الشركة له بدفع تعويضه عما يلحقه من ضرر مغطى بموجب تعاقده مع الشركة، وبهذا ينتفي وجه التفريق بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري، فكلاهما شركة تأمين، تتفق إحداهما مع الأخرى في جميع خصائص التأمين من حيث عناصره، ومن حيث الإلزام والالتزام، والصفة القانونية لكلا القسمين. فشركة التأمين التجارية شركة قائمة على الإلزام والالتزام والحقوق والوجبات، وكذلك الأمر بالنسبة لشركة التأمين التعاونية، فهي شركة قائمة على الإلزام والالتزام والحقوق والواجبات ... كما أن شركة التأمين التجارية ملزمة بدفع التعويضات المستحقة عليها للمشتركين، عند الاقتضاء والوجوب، سواء أكانت الشركة رابحة أم خاسرة، فكذلك الأمر بالنسبة لشركات التأمين التعاونية، فهي ملزمة كذلك بدفع التعويضات المستحقة عليها للمشتركين عند الاقتضاء والوجوب، وإذا كان صندوق الشركة فيه عجز يحول دون كامل التزاماته أو بعضها، تعين الرجوع إلى المشتركين فيها لسد عجز الصندوق، حتى يكون قادرًا على الوفاء بتغطية كامل التزاماته، حيث إنهم أصحاب الشركة وملاكها، فيجب على كل واحد منهم أن يسهم في تغطية العجز كل بقدر نسبة اشتراكه فيها. وقد جاء النص على ذلك في الأنظمة الأساسية لشركات التأمين التعاونية، وصدرت قرارات، وفتاوى الهيئات الشرعية الرقابية بذلك، كما صدرت قرارات مجموعة من المجالس، والمجامع الفقهية، والندوات العلمية بإلزام المشتركين في شركات التأمين التعاونية بسد عجز صناديقها، وهذا مما تزول به الحواجز المفتعلة بين شركات التأمين التجارية، وشركات التأمين التعاونية" (¬1). ¬
الحكم الثاني في حكم التأمين التعاوني
الحكم الثاني في حكم التأمين التعاوني الكلام في حكم التأمين التعاوني هو من حيث التصور الفقهي، أما الممارسة والتطبيق فلا أعلم في بلادي اليوم أن هناك شركة تطبق التأمين التعاوني بالصورة التي أجازها علماؤنا الفضلاء، وقد أعلن المشايخ بأن ما يمارس اليوم ليس من التأمين التعاوني في شيء (¬1)، كما أن طبيعة النظام المطبق على شركات التأمين التعاونية لا يُمَكِّن من قيام نظام تأمين تعاوني، ¬
فالمادة 70 من اللائحة التنفيذية لنظام مراقبة شركات التأمين التعاوني تقضي بأن يصرف فائض التأمين الذي يمثل الفرق بين مجموع الاشتراكات ومجموع التعويضات لإعادة 15 % للمؤمن لهم، وأما الباقي، وهو ما يعادل 90 % من الفائض الصافي فيكون من نصيب المساهمين (ملاك الشركة) نتيجة تعرض حقوقهم لمخاطر التأمين. وهذا يعني أن نظام التأمين في الشركة قائم على الالتزام التعاقدي، وهذا هو حقيقة التأمين التجاري. إذا علم ذلك نأتي إلى حكم التأمين التعاوني بالصورة المفترضة. [ن-27] اختلف العلماء في حكم التأمين التعاوني. فذهب الأكثرون إلى إباحة التأمين التعاوني، وعلى رأسهم: هيئة كبار العلماء في السعودية (¬1)، ومجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (¬2)، والمجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي (¬3)، وبه صدر قرار المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإِسلامية (¬4). كما أن كل من أباح التأمين التجاري، فقد أباح التأمين التعاوني. ¬
دليل من قال بجواز التأمين التعاوني.
وخالف آخرون، فقالوا: لا يجوز التأمين التعاوني، منهم الدكتور سليمان الثنيان (¬1)، والأستاذ عيسى عبده (¬2)، والشيخ شوكت عليان (¬3)، مع آخرين. * دليل من قال بجواز التأمين التعاوني. الدليل الأول: كل دليل استدللنا به على جواز التأمين التجاري فهو دليل على جواز التأمين التعاوني من باب أولى. الدليل الثاني: (ح-323) ما رواه الشيخان (البخاري ومسلم) من طريق حماد ابن أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن الأشعريين إذا أرملوا فى الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، قهم مني، وأنا منهم (¬4). وهذا ظاهر في أنه نوع من التأمين التعاوني البسيط، ولو اتبعنا منهج المخالف في البحث عن أدنى فارق ليرد به الاستدلال لوجد أن المخالف قد يقول: إن هذا العقد تبرع محض، وليس من قبيل المعاوضة، فلا يشترط للمستفيد أن يدفع مقدارًا معينًا، بل لو لم يدفع شيئاً البتة لعجزه ناله ما نال غيره من القسمة، فهو تبرع محض ليس فيه: أتبرع لك بشرط أن تتبرع لي، ومع ذلك أرى أن هذا الدليل يصح للاستدلال على التأمين بنوعيه، وأن انقلاب عقد ¬
دليل من قال: لا يجيز التأمين التعاوني.
التبرع إلى عقد معاوضة لا يقدح في صحتها، إلا إذا ترتب على ذلك محذور شرعي، ولا محذور هنا إن شاء الله. * دليل من قال: لا يجيز التأمين التعاوني. الدليل الأول: استدل أصحاب هذا القول بالأدلة نفسها التي استدل بها من قال: بتحريم التأمين التجاري. من ذلك: اشتمال التأمين التعاوني على الربا بنوعيه: أما ربا التأجيل، فللفارق الزمني بين دفع القسط، واستلام العوض إذا وقع الحادث، فلا يوجد قبض العوضين الربويين في مجلس العقد. وأما ربا الفضل فلأنه يدفع القليل، ويأخذ الكثير. ومن ذلك قيام التأمين التعاوني على القمار، والغرر الفاحش. وقد تم مناقشة ذلك في الكلام على التأمين التجاري فيغني عن إعادته هنا. كما أن من يبيح التأمين التعاوني وحده دون التأمين التجاري، لا ينكر وجود الغرر في عقد التأمين التعاوني. لكنه يرى أن الغرر مغتفر فيه؛ لأنه من عقود التبرعات. وقد تمت مناقشة ذلك، وإن كنت أرجح أن التأمين التعاوني من عقود المعاوضات، لكن لا أرى أن الغرر وإن كان كثيراً يمنع من إباحة المعاملة لقيام الحاجة إلى هذه المعاملة، والضرر الواقع على الناس في منعهم من هذه المعاملة أشد من ضرر الغرر الذي قد يقع وقد لا يقع، وقد دللت على ذلك من كلام أهل العلم في الكلام على التأمين التجاري فأغنى عن إعادته هنا.
الدليل الثاني
وأما الربا فليس المبلغ المدفوع قيمة للقسط المدفوع، وإنما هو قيمة للعروض المؤمنة، من أثاث، وسيارات، ومحلات تجارية، وبضائع استهلاكية، وأدوية ونحوها، وهذه الأموال لا يجري الربا في تبادلها، وإنما الربا يجري في أموال خاصة. الدليل الثاني: التأمين التعاوني محاولة لأسلمة التأمين التجاري، فهو ليس إلا مجرد محاولة لإلباس التأمين التجاري العمة الإِسلامية، ثم نقول: الآن أسلمت. ويمكن مناقشة هذا: بأن أسلمة العقود المستوردة عمل محمود، ولم يرفض الإِسلام جميع المعاملات التي كانت تمارس في الجاهلية، وإنما قبل منها ما كان حلالاً، وما كان حرامًا صرفًا رده، وما كان الخلل يتطرق إلى شرط أبطل الشرط وحده دون المعاملة، فالأصل في معاملات الناس الحل. الدليل الثالث: يرى أصحاب هذا القول بأن فريضة الزكاة تقوم برسالة التأمين، فيكتفى بها عن غيرها من الحلول المستوردة، ويستدلون لهذا (ث-29) بما رواه الطبري عن مجاهد في تفسير كلمة الغارمين حيث يقول: "من احترق بيته، أو يصيبه سيل، فيذهب متاعه، ويدان على عياله، فهذا من الغارمين" (¬1). [صحيح]. ¬
فالحريق والسيل موضوعان من مواضيع التأمين. وروى القاسم بن سلام في كتابه الأموال، قال: حدثني يحيى بن بكير، قال: سمعت الليث بن سعد يقول: كتب عمر بن عبد العزيز أن اقضوا عن الغارمين. فكتب إليه: إنا نجد الرجل له المسكن والخادم والفرس والآثاث، فكتب عمر: أنه لا بد للمرء المسلم من مسكن يسكنه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، ومن أن يكون له الأثاث في بيته، نعم فاقضوا عنه، فإنه غارم (¬1). والرسول - صلى الله عليه وسلم - كما روى مسلم أباح لمن أصابته جائحة، فاجتاحت ماله، أن يسأل ولي الأمر حقه من الزكاة. يقول الشيخ القرضاوي: "والزكاة بهذا تقوم بنوع فريد من التأمين الاجتماعي ضد الكوارث، ومفاجآت الحياة، وسبق كل ما عرفه العالم بعد من أنواع التأمين، وفضلاً عن السبق الزمني لهذا التأمين الذي حققه الإِسلام لأبنائه بنظام الزكاة، نراه أسمى وأكمل وأشمل من التأمين الذي عرفه الغرب في العصر الحديث بمراحل ومراحل، فالتأمين على الطريقة الغربية لا يعوض إلا من اشترك بالفعل في دفع أقساط محددة لشركة التأمين، وعند إعطاء التعويض يعطى الشخص المنكوب على أساس المبلغ الذي أمن به، لا على أساس خسائره وحاجته، فمن كان قد أمن بمبلغ أكبر أعطي تعويضًا أكبر، ومن كان مبلغه أقل كان نصيبه أقل، مهما عظمت مصيبته، وكثرت حاجته، وذوو الدخل المحدود يؤمنون عادة بمبالغ أقل، فيكون حظهم إذا أصابتهم الكوارث أدنى، وذلك أن أساس التأمين الغربي التجارة، والكسب من وراء الأشخاص المؤمن لهم، أما ¬
ويناقش هذا
التأمين في الإِسلام فلا يقوم على اشتراط دفع أقساط سابقة، ولا يعطى المصاب بالجائحة إلا أساس حاجته، وبمقدار ما يجبر كسره، ويفرج ضائقته" (¬1). ويناقش هذا: بأن دور الزكاة دور تأميني في المجتمع في محاربة آثار الفقر، هذا أمر لا شك فيه، ولكن الزكاة لا تعوض المصاب إلا إذا أصابه فقر، وتعطيه قدر ما يسد فقره وحاجته، ولا تجعل منه غنيًا، وأما التأمين التعاوني والتجاري فهما يعوضان المصاب ولو لم يصبه فقر؛ لأن الغرض منه هو رده إلى مستواه السابق من الغنى والكفاءة الإنتاجية، فالهدف من التأمين التجاري والتعاوني هدف اقتصادي تنموي، من رفع الكفاءة الاقتصادية في المجتمع، ومنع الكوارث الاقتصادية. * الراجح: إذا كنت رجحت جواز التأمين التجاري على البضائع، فهذا من باب أولى، وما منع منه التأمين التجاري يمنع منه التأمين التعاوني إذ لا فرق، فلا أرى جواز التأمين على الحياة، ولو كان بصورة التأمين التعاوني؛ لأن حقيقة العقد فيه أنه من عقود المعاوضات إلا أن يكون المدفوع للمؤمن ليس نقودًا، بحيث يخرج العقد عن كونه دراهم بدراهم مع التفاضل والتأجيل، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني الغور بسبب عدم القدرة على التسليم
الفرع الثاني الغور بسبب عدم القدرة على التسليم سبق لنا في الفصل السابق أن تناولنا أحكام المسائل التي ترجع إلى الغرر بسبب الجهالة، سواء كانت الجهالة بالثمن، أو كانت الجهالة بالمثمن. ونتناول في هذا الفصل إن شاء الله تعالى قسمًا آخر من الغرر يرجع إلى عدم القدرة على تسليم المعقود عليه، من ذلك: (1) بيع الآبق والشارد. (2) بيع الطير في الهواء، والسمك في الماء. (3) بيع المعدوم. (4) بيع المغصوب. (5) بيع الرجل ما ليس عنده. (6) بيوع القمار.
المطلب الأول خلاف العلماء في بيع الضال والمفقود
المطلب الأول خلاف العلماء في بيع الضال والمفقود [م - 328] اختلف العلماء في بيع العبد الآبق، والجمل الشارد، ويقاس عليه السلعة المفقودة. فقيل: لا يجوز، وهو مذهب الجمهور في الجملة (¬1). ¬
وقيل: يجوز بيع العبد الآبق، وهو قول ابن سيرين، وشريح القاضي (¬1) , وعثمان البتي (¬2)، وابن حزم (¬3). ¬
دليل الجمهور على عدم صحة بيع العبد الآبق.
واشترى ابن عمر بعيرًا، وهو شارد (¬1). * دليل الجمهور على عدم صحة بيع العبد الآبق. الدليل الأول: (ح-224) استدلوا بحديث أبي هريرة في مسلم في النهي عن بيع الغرر (¬2). ووجه الغرر في هذا البيع: أن هذا البيع فيه مخاطرة، فقد يستلمه المشتري، وقد لا يستلمه، ومن عادة الناس أن تبيع الشيء الضال والشارد والآبق بأقل من قيمته، فإن حصل عليه المشتري كان في ذلك غبن للبائع، وإن ضاع على المشتري كان فيه غبن علي المشتري، وهذا هو الميسر الذي نهى الله سبحانه وتعالى عنه. يقول الإِمام مالك رحمه الله تعالى: "ومن الغرر والمخاطرة، أن يعمد الرجل قد ضلت دابته، أو أبق غلامه، وثمن الشيء من ذلك خمسون دينارًا، فيقول رجل: أنا آخذه منك بعشرين دينارًا، فإن وجده المبتاع ذهب من البائع ثلاثون دينارًا، وإن لم يجده ذهب البائع من المبتاع بعشرين دينارًا. قال مالك: وفي ذلك عيب آخر: أن تلك الضالة إن وجدت لم يدر أزادت أم نقصت، أم ما حدث بها العيوب؟ فهذا أعظم المخاطرة" (¬3). الدليل الثاني: (ح-225) ما رواه أحمد من طريق جهضم -يعني اليمامي- حدثنا محمد ابن إبراهيم، عن محمد بن زيد، عن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد ¬
الدليل الثالث
الخدري - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعما في ضروعها إلا بكيل، وعن شراء العبد، وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: أن المانع من صحة بيع العبد الآبق ليس الإباق، فإن كون العبد عاصيًا لا يمنع من صحة البيع، وإنما المانع من صحة البيع، هو عدم القدرة على التسليم، والذي هو شرط في صحة البيع -وقد ذكرنا أدلته في المسألة السابقة- فيدخل في ذلك بيع الطير في الهواء، وبيع السمك في البحر، وبيع الضالة ونحوها. * دليل من قال: يجوز بيع العبد الآبق، والجمل الشارد ونحوهما. الدليل الأول: (ث-30) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن عبيد الله ابن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه اشترى بعيرًا، وهو شارد. [إسناده صحيح] (¬3). وحكم البعير الشارد، والعبد الآبق واحد من جهة القياس، وابن عمر من فقهاء الصحابة - رضي الله عنه -، وهو إمام في زهده وورعه، ولا يعلم له مخالف من الصحابة. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن العبد الآبق مال مملوك لسيده بالاتفاق، وإذا ثبت ملكه عليه صح تصرفه فيه بالبيع، والهبة وغيرهما, ولا غرر في ذلك لكون المبيع معلوم الصفة والمقدار، وإنما الغرر ما عقد على جهل بمقداره، وصفاته حين العقد، وقد دخل المشتري، وهو يعلم أن العبد آبق. الدليل الثالث: القدرة على التسليم لا يوجبه قرآن، ولا سنة، ولا دليل أصلاً، وإنما اللازم ألا يحول البائع بين المشتري وبين ما اشترى منه فقط، فيكون إن فعل ذلك عاصيًا ظالمًا. * الراجح من الخلاف: القول بتحريم البيع، والجمل شارد أقوى حجة، وأقرب لقواعد الشرع، حيث حرم الشارع أكل أموال الناس بالباطل، فأخذ العوض مقابل عين لا يدرى، هل يحصل عليها أو لا يحصل عليها، من الغرر البين، والله أعلم.
المطلب الثاني في بيع السمك في الماء
المطلب الثاني في بيع السمك في الماء [م - 329] لا يجوز بيع السمك قبل صيده؛ لأنه مال مباح غير مملوك لأحد، فلا يكون محلًا للبيع. وأما بيعه في الماء بعد أن يحاز، ويملك فقد اختلف العلماء فيه على أربعة أقوال: القول الأول: يجوز بيعه، إن كان لا يحتاج في أخذه إلى اصطياد، ولمن اشتراه خيار الرؤية بعد اصطياده , ولا يعتد برؤيته، وهو في الماء؛ لأن السمك يتفاوت في الماء، وخارجه، وأما إذا كان أخذه يحتاج إلى حيلة واصطياد، فلا يصح بيعة، لعدم القدرة على التسليم عقيب البيع، وهذا مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: لا يجوز بيع السمك في البركة، وهذا مذهب مالك (¬2). ¬
القول الثالث
القول الثالث: لا يصح بيع سمك في ماء، ولو في بركة إن شق تحصيله منها, لعدم قدرته على تسليمه، فإن سهل تحصيله، ولم يمنع الماء رؤيته صح بيعه، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). زاد بعض الشافعية والحنابلة: بشرط ألا تكون البركة متصلة بالنهر (¬3). القول الرابع: يجوز بيعه ولو كان أخذه يحتاج إلى كلفة، ومئونة، وهو ظاهر قول عمر ابن عبد العزيز وابن أبي ليلى (¬4). وباستعراض هذه الأقوال نجد أننا أمام قولين متقابلين: قول يجيز بيع السمك في البركة، وهم الجمهور، ويتفقون على اشتراط إمكانية أخذه من الماء دون كلفة، أو مشقة، إلا ما يروى عن عمر بن عبد العزيز ¬
دليل من أجاز بيع السمك في البركة.
وابن أبي ليلى، وأجد أن اشتراط إمكانية أخذه بلا كلفة لا دليل عليها، ما دام أنه يمكنه اصطياده وأخذه ولو كان ذلك بكلفة، ومشقة، أشبه بعض المبيعات مما يحتاج إلى مئونة في كيله، ووزنه، ونقله، بل إن بعض بهيمة الأنعام ولو كانت محوطة بسياج محدود يكون في إمساكها كلفة، ومشقة، ومع ذلك لا يمنع ذلك من بيعها. وينفرد الحنفية بإثبات خيار الرؤية عند استلامه؛ لأن رؤية السمك في الماء تختلف عن رؤيته خارج الماء. وقول يمنعه مطلقًا، وهم المالكية، وإليك أدلة الفريقين: * دليل من أجاز بيع السمك في البركة. أن السمك في البركة مال مملوك، معلوم القدر والصفة عن طريق الرؤية، مقدور على تسليمه، فجاز بيعه كغيره من الأموال. * دليل من قال: لا يجوز بيع السمك في الماء. (ح-226) ما رواه أحمد، قال: حدثنا محمد بن السماك، عن يزيد بن أبي زياد، عن المسيب بن رافع، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر (¬1). [إسناده ضعيف، والمعروف وقفه] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن بيع السمك في الماء من الغرر بحيث لا يمكن معرفته جيدًا، ما دام داخل الماء. ¬
ويناقش
ويناقش: لو كان هذا مسلمًا لكان حكم بيعه حكم بيع العين الغائبة، والمالكية أجازوا بيع العين الغائبة إذا أمكن معرفة صفتها، مع أن القائلين بالجواز، إما اشترطوا أن يكون الماء رقيقًا بحيث لا يمنع من رؤية السمك، كما هو مذهب الشافعية، والحنابلة، أو جعلوا له خيار الرؤية عند التسليم كالحنفية. * الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة الفريقين أجد أن القول بجواز بيع السمك في الماء إذا كان مملوكًا ومقدورًا على تسليمه أقوى من قول المانعين. ***
المطلب الثالث في بيع المعدوم
المطلب الثالث في بيع المعدوم [م - 330] يشترط جمهور الفقهاء في المعقود عليه أن يكون مقدورًا على تسليمه، فهل يصح بيع المعدوم باعتبار أن ذلك لا يمكن تسليمة على الأقل في الحال، وإن أمكن ذلك في المآل؟ (¬1). اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: بيع المعدوم لا يجوز، وبه قال الجمهور (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يجوز بيع المعدوم إذا كان ذلك لا يتضمن محذورًا آخر من غرر، ونحوه، وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة (¬1). * أدلة الجمهور على عدم جواز بيع المعدوم. الدليل الأول: (ح-227) ما رواه مسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر (¬2). وجه الاستدلال: يقول الشيرازي: "والغرر: ما انطوى عنه أمره، وخفيت عليه عاقبته ... والمعدوم قد انطوى أمره، وخفي عليه عاقبته، فلم يجز بيعه" (¬3). وقال النووي: "وأما النهي عن بيع الغرر فهو أصل عظيم من أصول كتاب ¬
ويناقش
البيوع ... ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة، كبيع الآبق والمعدوم والمجهول ... " (¬1). ويناقش: بأننا نسلم أن المعدوم الذي فيه غرر لا يجوز بيعه، ولكن ليس كل معدوم تخفى علينا عاقبته؛ لأن من المعدوم ما لا غرر في بيعه، ولا تخفى علينا عاقبته، كما في بيع الأشياء المعدومة وقت العقد، ولكنها متحققة الوجود في المستقبل بحسب العادة، كما في السلم والاستصناع، وبيع الأشياء المتلاحقة الوجود (¬2). الدليل الثاني: علل الفقهاء النهي عن بيع بعض الأشياء لكونها معدومة، وبالتالي قالوا: ببطلان بيع المعدوم مطلقًا، من ذلك: النهي عن بيع السنين (¬3). (ح-228) فقد روى مسلم، قال: حدثنا سعيد بن منصور، وأبو بكر ابن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب، قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن حميد الأعرج، عن سليمان بن عتيق عن جابر، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع السنين. وفي رواية ابن أبي شيبة: عن بيع الثمر سنين (¬4). اهـ ¬
قال النووي: "وأما النهي عن بيع المعاومة: وهو بيع السنين، فمعناه: أن يبيع ثمر الشجرة عامين، أو ثلاثة، أو أكثر، فيسمى بيع المعاومة، وبيع السنين، وهو باطل بالإجماع، نقل الإجماع فيه ابن المنذر وغيره، لهذه الأحاديث , ولأنه بيع غرر؛ ولأنه بيع معدوم، ومجهول، وغير مقدور على تسليمه، وغير مملوك للعاقد" (¬1). ومن ذلك أيضًا: النهي عن بيع حبل الحبلة. (ح-229) فقد روى البخاري ومسلم رحمهما الله من طريق نافع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع حبل الحبلة (¬2). زاد البخاري: وكان بيعًا يتبايعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها (¬3). ¬
وقد فسره العلماء بتفسيرين
وقد فسره العلماء بتفسيرين: الأول: التفسير الوارد في سياق الحديث، ومعناه: البيع بثمن مؤجل إلى أجل مجهول، وهو أن تلد الناقة، ويلد ولدها. قال ابن عبد البر: "وقد جاء تفسير هذا الحديث كما ترى في سياقه، وإن لم يكن تفسيره مرفوعًا، فهو من قبل ابن عمر وحسبك، وبهذا التأويل قال مالك والشافعي، وأصحابهما، وهو الأجل المجهول. ولا خلاف بين العلماء أن البيع إلى مثل هذا من الأجل لا يجوز" (¬1). الثاني: أن المقصود في الحديث بيع ولد نتاج الدابة، وبه قال أحمد وإسحاق، وابن حبيب المالكي، وأكثر أهل اللغة، وبه جزم الترمذي، والمنع في هذا من جهة أنه بيع معدوم، ومجهول، وغير مقدور على تسليمه، فيدخل في بيوع الغرر. وقال ابن التين: محصل الخلاف: هل المراد: البيع إلى أجل، أو بيع الجنين، وعلى الأول: هل المراد بالأجل: ولادة الأم، أو ولادة ولدها، وعلى الثاني: هل المراد بيع الجنين الأول، أو بيع جنين الجنين ... (¬2). وأرى أن تفسير الراوي خاصة من صحابي فقيه أولى بالقبول من غيره، وهل كان الصحابة رضوان الله عليهم إلا أئمة في اللغة والفقه. وتعقب هذا الاستدلال: بأن النهي عن بيع السنين، وعن بيع حبل الحبلة، ليس العلة في كونه ¬
الدليل الثالث
معدومًا، فسبب النهي عن بيع السنين هو الغرر الناشئ عن الجهل بوجوده في المستقبل، لا كونه معدومًا. والنهي عن بيع الجزور إلى حبل الحبلة: هو الأجل المجهول، وقد أجمع العلماء على أن الأجل في البيع يجب أن يكون معلومًا، كما في السلم وغيره، وقد نقل ابن عبد البر الاتفاق على أن الأجل المجهول لا يجوز في البيوع، ونقلنا كلامه قبل قليل، وإذا فسرنا حديث النهي عن بيع حبل الحبلة بالنهي عن بيع الجنين، كان علة النهي ليس كونه معدومًا، وإنما العلة كونه مجهولًا. قال مالك: "والأمر عندنا أن من المخاطرة والغرر اشتراء ما في بطون الإناث من النساء والدواب؛ لأنه لا يدرى أيخرج أم لا يخرج، فإن خرج لم يدر أيكون حسناً، أم قبيحًا، تامًا، أم ناقصًا، ذكراً، أم أنثى، وذلك كله يتفاضل إن كان على كذا، فقيمته كذا، وإن كان على كذا فقيمته على كذا" (¬1). وقال ابن عبد البر: "هذا مما لا خلاف فيه -يعني بيع الأجنة- وقد اتفق العلماء على أن بيع ما في بطون الإناث لا يجوز؛ لأنه غرر، وخطر ومجهول ... " (¬2). وإذا كان ذلك كذلك لم تكن العلة كونه معدومًا، وبالتالي لا يصح سحب الحكم على كل معدوم، حتى ولو لم يكن في ذلك غرر وجهالة. الدليل الثالث: (ح-230) ما رواه أحمد من طريق يونس، عن يوسف بن ماهك، عن حكيم ¬
وجه الاستدلال
بن حزام، قال، قلت: يا رسول الله يأتيني الرجل يسألني البيع ليس عندي ما أبيعه، ثم أبيعه من السوق، فقال: لا تبع ما ليس عندك (¬1). [منقطع، يوسف لم يسمع من حكيم بن حزام] (¬2). وجه الاستدلال: إذا كان بيع الموجود غير المملوك لا يجوز، فمن باب أولى لا يجوز بيع المعدوم؛ لأنه غير مملوك حتمًا. ويجاب عنه: هناك فرق كبير بين بيع ما لا يملكه الإنسان، ولا هو قادر على تسليمه، وبين بيع معدوم موصوف في ذمته، قادر في العادة على تسليمه في وقته، فعلة النهي في بيع غير المملوك: هو كونه غير مقدور على تسليمه، كما ذهب إلى ذلك ابن تيمية، وابن القيم، ونقلناه عنهم في مسألة مستقلة سابقة، فالمعدوم إذا كان قادرًا على تسليمة جاز بيعه، ولا إشكال فيه. قال الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: "ربما يقال: وإذا لم يجز بيع الموجود غير المملوك، فمن باب أولى لا يجوز بيع المعدوم؛ لأنه غير مملوك حتمًا، أقول: هذا منطق سليم، ولكن يجب أن يقيد عدم جواز بيع المعدوم بما قيدته به في بيع ما ليس عندك، وهو كون البيع وقع على أن يسلم المبيع في الحال، فإنه مع هذا القيد لا يختلف اثنان في أن بيع المعدوم لا يجوز" (¬3). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: قال في تهذيب الفروق: "بيع المجهول الموجود باطل قطعًا، فيبطل بطريق الأولى بيع المعدوم" (¬1). ويناقش: بأن يقال: هذا قياس غير سليم , فإن المجهول فيه غرر وخطر، ولا يمكن معرفة قيمة عين مجهولة القدر أو الصفة، وأما المعدوم، فهو معلوم القدر والصفة، وكونه غير موجود لا يؤثر في صحة البيع، فكما أن الثمن قد يكون غير موجود في بيع التأجيل، ولا يمنع ذلك من صحة البيع، وإذا صح ذلك في الثمن، وهو أحد العوضين، صح ذلك في المبيع إذا كان مما يمكن ضبطه ومعرفة صفاته، ولذلك جاز بيع السلم، وهو غير موجود. الدليل الخامس: موجب العقد التسليم في الحال، وبيع المعدوم لا يتمكن العاقد من التسليم في الحال. ويناقش: قال ابن القيم: "قوله: إن موجب العقد التسليم في الحال، جوابه: أن موجب العقد إما أن يكون ما أوجبه الشارع بالعقد، أو ما أوجبه المتعاقدان مما يسوغ لهما أن يوجباه، وكلاهما منتف في هذه الدعوى , فلا الشارع أوجب أن يكون كل مبيع مستحق التسليم عقيب العقد، ولا العاقدان التزما ذلك، بل تارة يعقدان العقد على هذا الوجه، وتارة يشترطان التأخير إما في الثمن وإما في ¬
دليل ابن تيمية وابن القيم على جواز بيع المعدوم
المثمن، وقد يكون للبائع غرض صحيح ومصلحة في تأخير التسليم للمبيع، كما كان لجابر - رضي الله عنه - غرض صحيح في تأخير تسليم بعيره إلى المدينة ... " (¬1). * دليل ابن تيمية وابن القيم على جواز بيع المعدوم: الدليل الأول: قال ابن القيم: "ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا في كلام أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بلفظ عام، ولا بمعنى عام، وإنما في السنة النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة، كما فيها النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة , فليست العلة في المنع لا العدم ولا الوجود، بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر، وهو: ما لا يقدر على تسليمه، سواء كان موجودًا أو معدومًا، كبيع العبد الآبق، والبعير الشارد إن كان موجودًا , إذ موجب البيع تسليم المبيع، فإذا كان البائع عاجزًا عن تسليمه فهو غرر ومخاطرة وقمار، فإنه لا يباع إلا بوكس، فإن أمكن المشتري تسلمه كان قد قمر البائع، وإن لم يمكنة ذلك قمره البائع، وهكذا المعدوم الذي هو غرر نهي عنه للغرر لا للعدم، كما إذا باعه ما تحمل هذه الأمة، أو هذه الشجرة , فالبيع لا يعرف وجوده ولا قدره ولا صفته , وهذا من الميسر الذي حرمه الله ورسوله" (¬2). الدليل الثاني: صحح الشارع بيع المعدوم في بعض المواضع، كما في عقد السلم والاستصناع، والإجارة، فإن المنافع فيها تولد شيئاً فشيئًا، وبيع الثمر بعد بدو صلاحه، والحب بعد اشتداده بشرط الاستبقاء إلى كمال الصلاح، فإن العقد قد ¬
الراجح من الخلاف
ورد على الموجود، والمعدوم الذي لم يخلق بعد، وأجاز المالكية بيع ما لم يوجد من البطيخ والقثاء والباذنجان والقرع مع ما وجد منه إذا بدا صلاحه؛ لأنه لا يمكن حبس أوله على آخره، وكل ذلك دليل على أن القول بأن بيع المعدوم لا يجوز قول مرجوح. * الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأقوال, أجد أن قول ابن تيمية وابن القيم قول تؤيده الأدلة، ويعضده القياس الصحيح، كما لو كان الثمن معدومًا، فإذا جاز أن يكون الثمن معدومًا، جاز أن يكون المبيع معدومًا؛ لأنه أحد العوضين، والله أعلم.
المطلب الرابع في بيع المغصوب
المطلب الرابع في بيع المغصوب المسألة الأولى بيع المغصوب على غاصبه [م - 331] بيع المغصوب على غاصبه، حكي في جوازه الإجماع. قال في الإنصاف: "وبيع المغصوب من غاصبه صحيح بلا نزاع" (¬1). وقد أطلق الجمهور جواز بيع المغصوب على غاصبه، وظاهر إطلاق كلامهم، أنه سواء رده إليه قبل البيع، أو لم يرده إليه، وسواء باعه بثمن المثل أو أقل أو أكثر (¬2). واختار بعض المالكية: أنه لا يجوز البيع للغاصب، إلا بعد أن يقبضه ربه، ويبقى بيده مدة طويلة، حدها بعضهم بستة أشهر فأكثر، ورأى أن بائعه إذا باعه على غير ذلك، وهو مضغوط أن يبيعه. ببخس مكرهًا، استخلاصًا لبعض حقه (¬3). ولم ير ابن رشد اشتراط الرد، وإنما قسم بيع المغصوب على غاصبه إلى ثلاثة أقسام: ¬
الأول: أن يعلم أنه عازم على رده لصاحبه، فيجوز بيعه اتفاقًا. الثاني: أن يعلم أنه غير عازم على رده، وإن طلبه ربه، فلا يجوز بيعه اتفاقًا. الثالث: أن يشكل أمره، وفيه قولان، وبالفساد قال مطرف، ورواه عن مالك (¬1). قال الحطاب: "حيث قلنا: لم يجز البيع، فالمعنى أنه لا يصح، ولا يلزم البائع، وليس المراد أنه يحرم عليه أن يأخذ من الغاصب ثمنًا؛ لأنه يستخلص من حقه ما قدر عليه" (¬2). واشترط بعض الحنابلة ألا يكون قصده من غصبه حمل صاحبه على بيعه. قال في مطالب أولي النهى: "ولا يصح بيع مغصوب إلا لغاصبه الذي لم يقصد بغصبه الاستيلاء عليه، حتى يبيعه له ربه، لانتنفاء الغرر" (¬3). وينبغي أن يزاد على ذلك، وأن يكون بيعه بسعر المثل، بحيث لا يكون في ذلك ظلم للبائع بسبب الغصب. ... ¬
المسألة الثانية بيع المغصوب على غير غاصبه
المسألة الثانية بيع المغصوب على غير غاصبه [م - 332] اختلف الفقهاء في حكم بيع المغصوب على غير غاصبه على أربعة أقوال: القول الأول: ذهب الحنفية: إلى أن بيع المغصوب من غير الغاصب، صحيحٌ موقوفٌ على التسليم، فإن أقر الغاصب، أو جحد، وكان للمغصوب منه بينة، صح البيع، ولزم بالتسليم، وإن جحد الغاصب، ولم يكن للمغصوب منه بينة لم يصح البيع لعدم القدرة على التسليم (¬1). فإن قيل: لماذا بيع الآبق يقع باطلاً على ما في ظاهر الرواية, وبيع المغصوب صحيحًا موقوفاً على التسليم، مع أن كلا منهما غير مقدور على تسليمه؟ أجاب صاحب بدائع الصنائع: بأن المالك في بيع المغصوب قادر على التسليم بقدرة السلطان والقاضي وجماعة المسلمين، إلا أنه لم ينفذ في الحال؛ لقيام يد الغاصب صورة، فإذا سلم الغاصب المبيع زال المانع، فنفذ البيع، وأما الآبق، فإنه معجوز عن التسليم على الإطلاق، لا تصل إليه يد أحد؛ لأنه لا يعرف مكانه، فكان العجز متيقنًا، والقدرة محتملة، لم ينعقد البيع مع الاحتمال (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب المالكية: إلى أن بيع المغصوب لغير الغاصب صحيح، إذا كان الغاصب تأخذه الأحكام، وكان مقرًا بالغصب، وإن كان الغاصب لا تأخذه الأحكام، أو كان منكرًا للغصب، ولو كان للمدعي بينة لم يصح البيع. وهذا مذهب المالكية (¬1). ووجهه: أن الغاصب إذا كان مقرًا بالغصب، وتأخذه الأحكام، لم يكن هناك عجز عن تسليم المبيع، وإذا كان قادرًا على تسليم المبيع، صح البيع بلا إشكال. وأما إذا كان منكرًا، لم يصح البيع مطلقًا، سواء كان هناك بينة أو لم تكن هناك بينة؛ لأن البينة إن لم تكن موجودة تجعل المسألة مجرد دعوى غصبٍ، لا دليل عليها. وإن كانت هناك بينة، وكان الغاصب ممن تأخذه الأحكام، كان المنع بسبب آخر، وهو منع بيع ما فيه خصومة، والمشهور منع بيعه على المذهب. القول الثالث: وذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، إلى أن بيع المغصوب لغير غاصبه يصح، بشرط أن يكون المشتري قادرًا على أخذه من الغاصب، ولم يشترطوا أكثر من ذلك، ولم يلحظوا عجز البائع، وإنما علقوه بقدرة المشتري على أخذه؛ لأن ¬
القول الرابع
المانع إنما هو لفقد شرط: وهو القدرة على تسليم المبيع، فإذا تحقق ذلك ارتفع المانع. القول الرابع: لا يصح بيع المغصوب على غير غاصبه؛ لعجز البائع بنفسه عن تسليم المبيع، وهو قول للشافعية (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2). [م - 333] فإن عجز المشتري عن أخذه من يد الغاصب، فاختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول: لا خيار له إن كان عالمًا بالحال، إلا أن يكون عجزه لضعف عرض له، أو قوة عرضت للغاصب، فحينئذ له الخيار على الصحيح من مذهب الشافعية (¬3). القول الثاني: له الفسخ مطلقًا، وهو مذهب الحنابلة (¬4). * الراجح: أرى جواز بيع المغصوب على غير غاصبه بشروط: أولاً: أن يكون المشتري قد دخل على بينة. ثانيًا: أن يكون المغصوب مما يجوز بيعه قبل قبضه , أي ليس فيه حق توفية، ¬
فلو أن الغاصب غصب صبرة من الطعام، وكان المغصوب منه يملك أصواعًا منه لم يستوفه بعد، لم يجز للمالك أن يبيعه على غير غاصبه قبل أن يستوفيه. ثالثًا: وألا يكون العوضان من الأصناف الربوية , لاشتراط التقابض في بيعها. رابعًا: أن يكون المشتري قادرًا على أخذه بلا مئونة، ومشقة كبيرة. خامسًا: أن يكون الغاصب مقرًا بغصبه؛ لأنه إذا لم يكن مقرًا بالغصب كان الأمر مجرد دعوى، فإذا توفرت هذه الشروط صح البيع، فإن تمكن من استلام المبيع، وإلا فله الفسخ.
المطلب الخامس بيع ما ليس عند البائع
المطلب الخامس بيع ما ليس عند البائع بيع ما ليس عند البائع تدخل فيه صور كثيرة جداً، وقد كان محل عناية لي في بحث خاص، وقد جاءت أمهات مسائله أكثر من أربعين مسألة فقهية، منها القديم، ومنها المعاصر، وتأتي مجموع مسائله الفرعية أكثر من مائة مسألة فقهية، وغالب هذه المسائل التي ذكرتها في رسالتي هي مبثوثة في هذه الموسوعة إلا أنها مفرقة فيه بحسب مظانها، وسوف أختار تحت هذا العنوان ما هو ألصق به من هذه المسائل، وأقسمه إلى فصول، ومباحث، ومن أراد أن يطلع على صور بيع ما ليس عند البائع فليرجع إلى الكتاب الخاص، أسأل الله أن ييسر لي طبعه، لينفع الله به. ***
الفصل الأول الأحاديث الواردة في النهي عن بيع ما ليس عند البائع
الفصل الأول الأحاديث الواردة في النهي عن بيع ما ليس عند البائع الحديث الأول: (ح-231) روى أحمد من طريق أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن حكيم بن حزام، قال: قلت يا رسول الله يأتيني الرجل يسألني البيع ليس عندي ما أبيعه، ثم أبيعه من السوق؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك. ورواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عصمة، عن حكيم بن حزام، قال: قلت: يا رسول الله إني اشتري بيوعًا، فما يحل لي، وما يحرم علي؟ فقال لي: إذا بعت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه (¬1). ورواه ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عصمة، عن حكيم بن حزام، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تبع طعامًا حتى تشتريه وتستوفيه. رواه الشافعي، وأحمد، والنسائي، والبيهقي وغيرهم، واللفظ للنسائي (¬2). [المحفوظ في إسناده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام حتى يستوفى] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني: (ح-232) روى أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث: (ح-233) رواه الطبراني من طريق موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد الله ابن عبيدة عن عتاب بن أسيد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له حين أمره على مكة، هل أنت مبلغ عني قومك ما آمرك به، قل لهم: لا يجمع أحد بيعًا ولا سلمًا, ولا بيع أحد بيع غرر، ولا بيع أحد ما ليس عنده (¬1). [ضعيف جددًا] (¬2). ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع: (ح-234) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، ثنا مطر الوراق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يجوز طلاق، ولا بيع، ولا عتق، ولا وفاء نذر فيما لا يملك (¬1). ورواه أبو داود من طريق عبد العزيز بن عبد الصمد به، بلفظ: (لا طلاق إلا فيما تملك، ولا عتق إلا فيما تملك، ولا بيع إلا فيما تملك ..) الحديث (¬2). [ذكر بيع ما لا يملك تفرد بها مطر الوراق، وهو سيء الحفظ، وقد رواه غيره عن عمرو بن شعيب ولم يرد فيه ذكر النهي عن بيع ما لا يملك] (¬3). ¬
الفصل الثانى خلاف العلماء في تفسير حديث: (لا تبع ما ليس عندك)
الفصل الثانى خلاف العلماء في تفسير حديث: (لا تبع ما ليس عندك) [م - 334] اختلف الناس في تفسير حديث: "لا تبع ما ليس عندك" إلى ثلاثة أقوال، ذكرها ابن تيمية في مواضع من كتبه، ونقله عنه موافقًا له تلميذه ابن القيم (¬1)، خلاصتها: القول الأول: ذهب الشافعي - رضي الله عنه - إلى أن حديث حكيم بن حزام إنما ينهى عن بيع الأعيان المعينة، ليكون بيع الموصوف في الذمة ليس داخلًا تحته مطلقاً، لا حالًا, ولا ¬
وأجاب ابن تيمية
مؤجلاً، ويستدل لذلك بأنه إذا جاز بيع السلم المؤجل بالإجماع، مع كونه ليس عند البائع، وقت العقد، جاز السلم الحال من باب أولى (¬1). وأجاب ابن تيمية: بأن هذا ضعيف جدًا، فإن حكيم بن حزام ما كان يبيع شيئًا معينًا، هو ملك لغيره، ثم ينطلق فيشتريه منه، ولا كان الذين يأتونه يقولون له: نطلب عبد فلان أو دار فلان، وإنما الذي يفعله الناس أن يأتيه الطالب، فيقول: أريد طعام كذا، وكذا، وثوبًا صفته كذا وكذا، فيقول: نعم أعطيك، فيبيعه منه، ثم يذهب، فيحصله من عند غيره إذا لم يكن عنده، ولهذا قال: يأتيني، فيطلب البيع ليس عندي، لم يقل: يطلب مني ما هو مملوك لغيري. فالطالب قد طلب الجنس، ولم يطلب شيئًا معينًا، كما جرت عادة الطالب (¬2). ¬
القول الثاني
وأرى أن قول الشافعي أقوى، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك. القول الثاني: ذهب الجمهور إلى أن النهي عن بيع ما ليس عند البائع يشمل أمرين: بيع المعين مما ليس مملوكًا له. وبيع الموصوف في الذمة إذا كان حالًا، وهو ما يسمى بالسلم الحال (¬1). قال الجصاص: "ومنه ما روي أن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله، إني أرى الشيء في السوق ثم يطلبه مني طالب، فابيعه، ثم أشتريه، فأسلمه، ¬
القول الثالث
فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا تبع ما ليس عندك. فهذا عموم في كل بيع لما ليس عند الإنسان سواء، كان عينًا أو في الذمة" (¬1). ورأى الجمهور أن عموم حديث لا تبع ما ليس عندك يقتضي النهي عن بيع ما في الذمة إذا لم يكن عنده، وهو يتناول النهي عن السلم مطلقًا، لكن جاءت الأحاديث في جواز السلم المؤجل، فبقي النهي عن السلم الحال. قال ابن العربي: "المراد بقوله في الحديث: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ما ليس عندك، يعني في ملكك" (¬2). وقد انتقد ابن تيمية المنع من بيع السلم الحال إذا كان المبيع في ملك البائع، والبائع قادر على تسليم المبيع، وبين أن حكيم بن حزام إنما سأله عن بيع شيء في الذمة يبيعه حالاً؛ لأنه قال: أبيعه، ثم أذهب فأبتاعه، فقال له: لا تبع ما ليس عندك، فلو كان السلم الحال لا يجوز مطلقًا، لقال له ابتداء: لا تبع هذا، سواء كان عنده أو ليس عنده، فإن صاحب هذا القول يقول: بيع ما في الذمة حالاً لا يجوز، ولو كان عنده ما يسلمه (¬3). القول الثالث: يرى ابن تيمية أن النهي في حديث لا تبع ما ليس عندك، يشمل أمرين: الأول: النهي عن بيع المعين إذا لم يكن عنده. الثاني: النهي عن بيع السلم الحال إذا لم يكن عنده، فإن كان عنده وقت العقد جاز. ¬
قال ابن تيمية: أظهر الأقوال: أن الحديث لم يرد به النهي عن السلم المؤجل ولا الحال مطلقًا، وإنما أريد به النهي عن بيع ما في الذمة مما ليس مملوكًا له، ولا يقدر على تسليمه، ويربح فيه قبل أن يملكه، ويقدر على تسليمه، فقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث حكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك" العندية هنا ليست عندية الحس والمشاهدة، وإنما هي عندية الحكم والتمكين، ولهذا جاز بيع المعدوم الموصوف في الذمة إذا كان وقت التسليم قادرًا على تسليمه كبيع السلم، فمعنى حديث حكيم بن حزام: لا تبع ما ليس عندك، أن يبيعه شيئاً موصوفا حالاً، وهو لم يملكه، ويربح فيه قبل أن يدخل ضمانه، وقبل أن يكون قادرًا على تسليمه، أما إذا باعه موصوفًا في الذمة حالًا، وهو عند بائعه قادرًا على تسليمه، فلا حرج إن شاء الله تعالى. وإذا لم يكن جائزًا بيع ما في الذمة مما ليس هو مملوكًا للبائع، ولا يقدر على تسليمه، فبيع المعين الذي لم يملكه أولى بالمنع (¬1). فتلخص لي أن ابن تيمية يرى أن بيع ما ليس عند الإنسان، إن كان معينا ليس مملوكًا له، فهو ممنوع، وإن كان موصوفًا في الذمة اشترط أن يكون عنده في ملكه. فتلخص من هذا: أن الأقوال متفقة على منع بيع المعين الذي لا يملكه الإنسان، فيبيعه، ثم يذهب يشتريه. وأما بيع الموصوف في الذمة مما ليس عند البائع، فإن كان مؤجلاً جاز بالإجماع، وهو السلم المؤجل. وإن كان حالًا، فقد اختلفت الأقوال: ¬
الراجح
فقيل: يجوز مطلقًا، وهو قول الشافعي. وقيل: لا يجوز مطلقًا، وهو قول الجمهور. وقيل: يجوز إن كان عنده في ملكه، ولا يجوز إن لم يكن عنده، وهو اختيار ابن تيمية. * الراجح: أرى أن الراجح في ذلك قول الشافعي رحمه الله، والذي حمل ابن تيمية على منع السلم الحال إذا لم يكن عند البائع هو لفظ حديث حكيم بن حزام: (أبيعه، ثم أذهب فأبتاعه، فقال له: لا تبع ما ليس عندك) قال ابن تيمية: فلو كان السلم الحال لا يجوز مطلقًا، لقال له ابتداء: لا تبع هذا، سواء كان عنده، أو ليس عند (¬1). وإذا عرفنا أن حديث حكيم بن حزام بهذا اللفظ ليس محفوظًا -كما بينته عند الكلام على أحاديث الباب في المبحث السابق- لم يكن في المسألة حرج من حمل حديث: (لا تبع ما ليس عندك) على الشيء المعين , ولأن السلم الحال كالسلم المؤجل مضمون على صاحبه، فلا حرج في الربح فيه؛ لأن الربح إنما نهي عنه، إذا كان في شيء لم يضمنه، أما إذا كان عليه ضمانه، فالغنم بالغرم، وكونه قد لا يقدر على تسليمه، فهذه العلة موجودة في السلم المؤجل، بل هي أظهر منها في السلم الحال، ولم يمنع ذلك من جواز المعاملة، وسوف يأتي إن شاء الله تعالى مزيد بسط لهذه المسألة في بحث: خلاف العلماء في السلم الحال، في هذا البحث. ¬
الفصل الثالث في بيع ما لا يملكه البائع
الفصل الثالث في بيع ما لا يملكه البائع بيع ما لا يملكه البائع يقع على صفتين: الصفة الأول: أن يبيعه سلعة موصوفة في الذمة، وليست معينة. الصفة الثانية: أن يبيعه سلعة معينة بعينها، وهو لا يملكها، فيذهب ليشتريها، ويسلمها له. وهذا يقع على طريقتين: الطريقة الأولى: أن يبيع ملك غيره لحظ مالكه، وهذا ما يسمى لدى الفقهاء في بيع الفضولي، فقد يحتاج الإنسان إلى بيع ملك غيره أو يشتري منه ماله قبل أن يرجع إلى المالك، بحيث لو انتظر ورجع إلى المالك لفاتت الصفقة على المالك، ويكون الباعث على ذلك تحقيق مصلحة للمالك، بحيث يلحظ المتصرف غبطة للمالك في البيع، أو يغلب على ظنه أنه يسر بذلك , وهذا نوع من الوكالة بدون تفويض، وقد سبق بحث هذه المسألة عند الكلام على أحكام العاقد. الطريقة الثانية: أن يبيع ملك الغير لحظ نفسه، وليس لحظ المالك، وهذا يقع على ضربين: غاصب يبيع عينًا مغصوبة ليست ملكه. وتاجر يبيع ملك غيره، ثم يذهب ليشتريها من المالك. وهذا يقع على صورتين: الصورة الأولى: أن يبيعه عينًا معينة يملكه الغير، ثم يذهب ليشتريها، وهذا يصدق عليه أنه باع ما لا يملكه، وما ليس عنده.
الصورة الثانية: أن يأخذ البائع وعدًا من المشتري على الشراء إذا اشتراها من مالكها، وهو ما يسمى في عصرنا (بيع المرابحة للواعد بالشراء). وأكثر ما يمارس هذه الصورة المصارف الإِسلامية والتقليدية، وسوف تأتينا هذه المسألة إن شاء الله في أحكام المعاملات المصرفية هذه قسمة ما يبيعه الإنسان مما لم يملكه.
المبحث الأول فى بيع سلعة ليست عنده موصوفة في ذمته
المبحث الأول فى بيع سلعة ليست عنده موصوفة في ذمته الفرع الأول أن يكون المبيع حالاً [م - 335] إذا كان المبيع حالاً، والسلعة المباعة موصوفة، وهو ما يسمى اصطلاحًا بالسلم الحال، فقد اختلف العلماء في مثل هذا البيع على أربعة أقوال: القول الأول: لا يجوز البيع مطلقًا، سواء كانت السلعة عنده أو ليست عنده، وهذا مذهب الجمهور (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: البيع جائز مطلقًا، وهو مذهب الشافعي (¬1). القول الثالث: يجوز البيع إن كانت السلعة عنده، ولا يجوز إن لم تكن عنده، وهذا اختيار ابن تيمية (¬2). ¬
القول الرابع
القول الرابع: يجوز السلم الحال بلفظ البيع، ولا يجوز بلفظ السلم، اختاره القاضي أبو يعلى من الحنابلة (¬1). * دليل من قال: لا يجوز السلم حالاً: الدليل الأول: (ح-235) ما رواه البخاري ومسلم من طريق سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عبد الله بن كثير، عن أبي المنهال، عن ابن عباس، قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: من أسلف في تمر، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أوجب مراعاة الأجل في عقد السلم كما أوجب مراعاة القدر فيه (في كيل معلوم ووزن معلوم)، فإذا كان القدر المعلوم شرطًا في عقد السلم، وجب أن يكون الأجل شرطاً فيه أيضًا. وأجاب النووي: بأن ذكر الأجل في الحديث ليس من أجل اشتراط الأجل في العقد، وإنما معناه: إن كان هناك أجل، فليكن معلومًا, كما أن الكيل والوزن ليس بشرط، بل يجوز السلم في الثياب بالذراع، وإنما ذكر الكيل بمعنى: أنه إن أسلم في مكيل، فليكن كيله معلومًا، وإن كان في موزون، فليكن وزنه معلومًا، وإن كان ¬
الدليل الثاني
مؤجلاً، فليكن أجله معلومًا, ولا يلزم من هذا اشتراط كون السلم مؤجلًا، بل يجوز حالاً (¬1). الدليل الثاني: روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن بيع ما ليس عند البائع، ورخص في السلم. وعليه فعقد السلم بيع معدوم ليس عند البائع وقت العقد، ولكنه شرع رخصة؛ ليدفع به حاجة كل من المتعاقدين، فصاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري الثمرة بأرخص من قيمتها ليربح فيها، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبانها لينفقه عليها، فظهر أن بيع السلم من المصالح الحاجية، وقد سماه بعض الفقهاء بيع المحاويج، فإذا جاز حالًا بطلت هذه الحكمة، وارتفعت هذه المصلحة، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عند البائع فائدة (¬2). يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: قوله: ورخص في السلم لا أصل له بهذا اللفظ، وهو لا يثبت إلا من كلام الفقهاء (¬3). الجواب الثاني: قولكم: بأن السلم لم يشرع إلا رخصة، إن كنتم تقصدون بذلك كما يقول بعضهم: إن السلم على خلاف القياس؛ لأنه بيع معدوم، وبيع المعدوم لا يجوز، وإذا كان الحال كذلك اقتصر بالسلم على صفته، فلم يجز حالاً، فيقال: ¬
القول بأن السلم على خلاف القياس غير صحيح، بل يقال: من رأى شيئًا من الشريعة مخالفًا للقياس، فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، وليس مخالفًا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر. نعم في الشريعة ما يخالف القياس الفاسد، وإن كان من الناس من لا يعلم فساده، فالسلم جار على وفق القياس، وذلك أن السلم المؤجل دين من الديون، فكما أن الثمن قد يؤجل في الذمة، وهو أحد العوضين، فكذلك المثمن قد يؤجل في ذمة البائع، فأي فرق بين كون أحد العوضين يصح أن يكون مؤجلًا في الذمة، ولا يصح أن يكون العوض الآخر موجلًا في الذمة. فالسلم بيع مضمون في الذمة، موصوف، مقدور على تسليمه غالبًا، فهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة، فقياس السلم على بيع العين المعدومة التي لا يدرى أيقدر على تحصيلها، أم لا؟ والمشتري منها على غرر من أفسد القياس، وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه، ولا ما هو مقدور عليه، وبين السلم إليه في مغل مضمون في ذمته، مقدور فى العادة على تسليمه، فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكى (¬1). وقد عقدت فصلًا مستقلًا في عقد السلم بينت الأدلة على أن هذا العقد جار على وفق القياس فراجعه مشكورًا. وأما قولكم: إذا جاز حالًا بطلت الحكمة من مشروعية السلم، فيقال: على التسليم بقولكم، فإن الحكمة إذا بطلت من مشروعية السلم، فلم تبطل حكمة الشرع من مشروعية المعاوضة، فإن البائع انتفع بالثمن، والمشتري ¬
الدليل الثالث
انتفع بالمبيع بعد استلامه، وهذا هو المقصود الأعظم للشرع من إباحة تبادل الأموال عن طريق المعاوضة، وما جاز في المعاوضات مؤجلاً جاز حالًا، وليس العكس، فإن هناك من المعاملات ما لا تصح إلا حالة مقبوضة في مجلس العقد. الدليل الثالث: الحلول في السلم يخرج العقد عن اسمه ومعناه: أما إخراجه عن اسمه، فظاهر، فإن معنى السلم والسلف: أن يعجل أحد العوضين، ويتأخر الآخر، فإذا لم يكن هناك تأجيل، وكان حالًا خرج السلم عن اسمه. وأما خروجه بالتعجيل عن معناه: فإن الشارع إنما أرخص فيه للحاجة الداعية إليه، كما بينت فيما سبق، ومع حضور ما يبيعه حالاً لا حاجة إلى السلم، فإن البائع والحالة هذه لا يبيع إلا معينًا، لا يبيع شيئاً في الذمة، وهذا لا يقال له سلم (¬1). ويجاب عنه: قال ابن تيمية: "بيع الأعيان الحاضرة التي يتأخر قبضها يسمى سلفًا إذا عجل له الثمن، كما في المسند عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى أن يسلم في حائط بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحه" (¬2). ¬
الفائدة الأولى
فإذا بدا صلاحه، وقال: أسلمت إليك في عشرة أوسق من تمر هذا الحائط جاز (¬1). مع أن السلم في شيء معين لا يجوز. فإن قيل: ما فائدة العدول من البيع إلى السلم الحال؟ أجيب: بأن في ذلك أكثر من فائدة: الفائدة الأولى: في باب الضمان، فإن المشتري إذا اشترى سلعة معينة، ولم تكن بحاجة إلى استيفاء من كيل أو وزن، فهلكت قبل قبضها، فإن ضمانها على المشتري، وإذا اشترى شيئًا موصوفًا في ذمة البائع، فهلكت قبل قبضها كان ضمانها على البائع. الفائدة الثانية: أن الشافعية يمنعون بيع العين الغائبة، ولو كانت موصوفة ما دامت معينة، فإذا كانت السلعة المعينة غير حاضرة عند العقد لم يصح العقد عليها عندهم، لكنهم يجوزن السلم الحال مع غيبة المبيع؛ لأن المبيع في مثل هذا لا يكون متعلقًا بسلعة معينة، بل يكون موصوفًا، متعلقًا في ذمة البائع، مضمونًا عليه (¬2). * دليل الشافعي على جواز السلم حالاً: الدليل الأول: قالوا: إذا جاز السلم مؤجلًا مع الغرر، فجواز الحال أولى؛ لأنه أبعد عن الغرر، أو نقول بلفظ آخر: كل بيع صح مع التأجيل، ينبغي أن يصح مع التعجيل؛ لأن التعجيل زيادة مطلوبة، تحقق الغرض من مقصود البيع، وهو انتفاع البائع بالثمن، وانتفاع المشتري بالمبيع. ¬
وأجاب الجمهور
وأجاب الجمهور: لا نسلم عدم الغرر مع الحلول؛ لأنه إن كان عنده فهو قادر على بيعه معينًا، فعدوله إلى السلم قصد للغرر، وإن لم يكن عنده، فالأجل يعينه على تحصيله، والحلول يمنع ذلك، فبقي الغرر (¬1). ويرد على هذا: بأن يقال: قد أجبنا عن فائدة العدول إلى السلم في بيع الحال، فإن المشتري والبائع مستفيدان من هذه الصيغة، فالمشتري يريد أن يتعلق الضمان بعين موصوفة، ليكون ضمانها على البائع، والبائع إن كانت سلعته موجودة عنده، فقد لا تكون حاضرة في مجلس العقد، وإن كانت ليست عنده كان له من الوقت ما يذهب , ويحضرها، والحلول لا يعني وجوب التقابض في مجلس العقد، كما لو باعه عينًا معينة غائبة موصوفة, فإن البيع يعتبر حالاً، ويعطى من الوقت ما يمكنه من إحضار السلعة، وأخطر ما في ذلك أن يعجز البائع عن تحصيل المبيع، فإن عجز انفسخ العقد، كما أن العقد ينفسخ في السلم المؤجل إذا عجز البائع عن تحصيل المبيع، والضرر في السلم الحال أخف؛ لأن المشتري في السلم المؤجل قد ينتظر السنة والسنتين، ويعجز البائع عن تسليم المبيع، فينفسخ العقد، أو ينتظر إلى حين تمكن البائع من تحصيل المبيع، ففي الحالة هذه يكون الضرر أبلغ على المشتري، ومع هذا الاحتمال لم يمنع ذلك من صحة البيع، فكذلك لا يمنع صحته في السلم الحال. الدليل الثاني: عقد السلم الحال عقد من عقود المعاوضات، وعقود المعاوضات ليس من شرط صحتها التأجيل كالبيع. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: البيع نوعان: بيع عين، وبيع صفة، وبما أنه يصح بيع العين حالًا، فإنه يجب أن يصح بيع الصفة حالًا مثله، غاية ما في ذلك أن بيع الصفة لا يتعلق المبيع فيه بسلعة معينة، وإنما يكون تعلقها بذمة البائع، وهذا لا يوجب فرقًا مؤثرًا في صحة البيع. * دليل ابن تيمية على اشتراط كون المسلم فيه مملوكًا: استدل الشيخ رحمه الله بعدة أدلة، منها: الدليل الأول: (ح-236) ما رواه أحمد من طريق أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن حكيم بن حزام، قال: قلت يا رسول الله يأتيني الرجل يسألني البيع ليس عندي ما أبيعه، ثم أبيعه من السوق؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك (¬1). وقد وجه ابن تيمية رحمه الله هذا الحديث على تحريم السلم الحال إذا لم يكن عنده بالآتي: الأول: الحديث في النهي عن بيع شيء في الذمة، وليس النهي عن بيع شيء معين يملكه زيد أو عمرو، وبينا فيما سبق أن حكيمًا لم يكن يبيع شيئًا معينًا يملكه غيره، ولا كان الذي يأتيه يقول: أريد سلعة فلان، أو سيارة فلان، وإنما كان الذي يأتيه يقول: أريد طعام كذا وكذا، ثم يذهب فيحصله من غيره، فدل على أن النهي إنما هو في بيع شيء في الذمة ليس عنده. الثاني: أنه يبيعه حالًا, وليس مؤجلًا، فإنه قال: أبيعه، ثم أذهب فأبتاعه، ¬
المناقشة
فقال له: لا تبع ما ليس عندك، فلو كان السلم الحال لا يجوز مطلقا، لقال له: لا تبع هذا، سواء كان عنده أو ليس عنده، فلما قال: لا تبع ما ليس عندك، كان هذا دليلاً على جواز السلم الحال إذا كان عنده، وكان الحديث دليلاً على اشتراط وجود المسلم فيه مملوكا له وقت العقد، فهو نهي عن السلم الحال إذا لم يكن عند المستسلف ما باعه، فيلزم ذمته بشيء حال، ويربح فيه، وليس هو قادرًا على إعطائه (¬1). المناقشة: كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يصح توجيهه لو كان حديث حكيم ابن حزام محفوظا باللفظ الذي استشهد به ابن تيمية رحمه الله، وإذا كان المحفوظ في حديث حكيم -كما بينته عند تخريج الحديث- إنما هو بالنهى عن بيع الطعام حتى يستوفى لم يكن فيه دليل على اشتراط وجود المسلم فيه مملوكًا عند البائع، وإنما النهي عن بيع ما ليس عندك ثبت من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وليس فيه القصة التي ذكرها حكيم، وهو مطلق، ويمكن حمله على النهي عن بيع شيء معين لا يملكه، كما حمله الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى. وأما قوله: "فيربح فيه، وليس هو قادرًا على إعطائه". فيقال: نحن نشترط ألا يسلم في شيء حال إلا إذا كان يغلب على ظنه وجوده، وما غلب على الظن وجوده كان قادرًا على تسليمه، ولذلك أجاز بعض الفقهاء السلم في الخبز واللحم يأخذ منه كل يوم أجزاء معلومة، إذا غلب على الظن وجوده عنده، وهذا يمكن إلحاقه بالسلم الحال؛ لأنه يمكن له أن يشرع في قبض الحصة الأولى مع العقد. ¬
الدليل الثاني لابن تيمية
وأما قول الشيخ رحمه الله: "فيربح فيه وليس هو قادرًا على إعطائه، أما الربح فيه فليس منهيًا عنه ما دام مضمونًا عليه؛ لأن المحذور أن يربح فيما لم يضمن، كما لو باعه شيئًا معينًا لم يدخل ملكه، فيربح فيه قبل أن يدخل في ضمانه، وأما السلم الحال والمؤجل فهو بيع شيء موصوف في ذمته، مضمون عليه، فلا حرج في الربح فيه. وأما قول الشيخ: "وليس هو قادرًا على إعطائه". إن كان المقصود ليس قادرًا على إعطائه في مجلس العقد فمسلم، وهذا لا يمنع صحة السلم؛ لأن حلول السلم لا يعني وجوب التقابض في مجلس العقد، كما لو باعه عينًا معينة غائبة موصوفة، فإن البيع يعتبر حالًا، ويعطى من الوقت ما يمكنه من إحضار السلعة، وإن كان المقصود ليس قادرًا على إعطائه مطلقًا فغير مسلم؛ لأننا نشترط في السلم الحال أن تكون السلعة موجودة في السوق، فلا يسلم حالاً في وقت الصيف في فاكهة. لا توجد إلا في الشتاء أو العكس. الدليل الثاني لابن تيمية: ذكر رحمه الله بأن السلعة إذا لم تكن عنده، فقد يحصل عليها، وقد لا يحصل عليها، وهذا نوع من الغرر، وإن حصله، فقد يحصله بثمن أعلى مما تسلفه، فيندم، وقد يحصله بسعر أرخص من ذلك، فيندم المسلف؛ لأنه كان يمكنه أن يشتريه هو بذلك الرخص، فصار هذا من نوع الميسر والقمار والمخاطرة، كبيع العبد الآبق، والبعير الشارد,، يباع بدون ثمنه، فإن حصل ندم البائع، وإن لم يحصل ندم المشتري (¬1). ¬
المناقشة
المناقشة: قول ابن تيمية رحمه الله: السلعة إذا لم تكن عنده فقد يحصل عليها، وقد لا يحصل عليها، وهذا نوع من الغرر: يقال: هذا الغرر موجود في السلم المؤجل من باب أولى، فإن البائع قد يحصل على المبيع وقد لا يحصل عليه، والتأجيل: ليس مظنة الحصول عليه، ولأن الشأن في حال السلم المعجل قد يتصل البائع بالمورد، ويسأله عن وجود البضاعة، ويتأكد من وجودها قبل دخوله في الصفقة، بخلاف المؤجل فإنه غيب لا يعلمه إلا الله، وعلى كل حال نحن نشترط لصحة السلم الحال أن تكون البضاعة موجودة، وفرق بين اشتراط وجود البضاعة في السوق، وبين اشتراط وجودها في ملكه. وأما قول الشيخ: بأنه قد يحصل عليها بثمن أقل، فيندم المشتري إذ كان يمكنه تحصيل السلعة من المصدر، وقد يحصل عليها بثمن أكثر من قيمتها، فيندم البائع، فيكون هذا كبيع العبد الآبق، والجمل الشارد. فيقال: قد يكون كلام الشيخ رحمه الله مناسبًا للعصر الذي كان فيه، أما اليوم فقد يحرص المشتري أن يحصل على البضاعة من خلال التاجر، ولا يرغب في الحصول عليها من خلال الموزع، وذلك ليستعين بخبرة التاجر من خلال معرفته للسلع الجيدة من السلع المقلدة، فهو يعرف السلع جيدًا والفروق بينها، ومدى جودة كل سلعة، وملاءمتها للظروف، كما يرغب المشتري أن يكون الضامن للسلعة رجلاً معروفًا في السوق يستطيع أن يرجع إليه إذا تبين وجود عيب أو خلل، أو قامت حاجة إلى قطع غيار ونحوه، كما أن في الناس من لا يعرف قيمة الأشياء، فيستعين بمن يعرفها، فالتاجر يستطيع أن يشتري البضاعة بأقل سعر ممكن مما لو اشتراها الرجل العادي، فيطيب المشتري نفسًا أن يدفع ربحًا
دليل من قال: يصح بلفظ البيع، ولا يصح بلفظ السلم.
معلومًا فوق الثمن الذي دفعه البائع، ومع كل هذا فإن العرف التجاري اليوم، أن المنتج إذا باع بضاعته على الباعة أعطاهم إياها بسعر الجملة، وإذا باع على الأفراد كان لها سعر آخر، وهو سعر الاستهلاك، فلو رجع المستهلك إلى المصدر وجد تطابقًا بالسعر بين البائع والمنتج أو الموزع، وهذا عرف يحترمه التجار بينهم، لينتفع أهل السوق من جهة، ويكون سعر البضاعة موحدًا من جهة أخرى. * دليل من قال: يصح بلفظ البيع، ولا يصح بلفظ السلم. ربما استدل صاحب هذا القول بأن الألفاظ لها دور كبير في توصيف المعاملة من الإباحة إلى التحريم، فمن دفع درهماً، وأخذ درهمًا بدلًا عنه: إن كان ذلك بلفظ البيع اشترط التقابض في مجلس العقد، وإن كان بلفظ القرض جاز التأجيل، والذي فرق بينهما هو اللفظ، فالسلم اسمه ومعناه: أن يسلم الثمن، ويتأخر المثمن، فهو أخص من البيع، فإذا جرت المعاوضة بدفع الثمن، وكان المثمن حالًا لم يصدق عليه أنه من باب السلَم، وصدق عليه أنه بيع، فنشترط أن يكون بلفظ البيع، ولا يكون بلفظ السلم. فيقال: فرق بين عقد القرض، وعقد المعاوضة، فعقد القرض من عقود الإرفاق والإحسان , لم يقصد به الربح، بخلاف عقود المعاوضات، والسلم والبيع من عقود المعاوضات، فما يشترط في البيع يشترط في السلم، من العلم في المبيع والعلم بالثمن، وانتفاء الجهالة والغرر ... الخ شروط البيع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العبرة في ألفاظ العقود بمعانيها لا بألفاظها، وقد قدمت فصلًا مستقلًا بأنه: إذا تعارض اللفظ والمعنى، قدم المعنى على الصحيح من أقوال أهل العلم، وقد انتقد ابن تيمية من فرق بين السلم الحال بلفظ البيع وبين السلم الحال بلفظ السلم، فقال: "مستند هذا الفرق ليس مأخذًا شرعيًا،
الراجح من الخلاف
فإن أحمد لا يرى اختلاف أحكام العقود باختلاف العبارات، كما يراه طائفة من أصحابه ... يُجَوُّزن بيع ما في الذمة بيعًا حالاً بلفظ البيع، ويمنعونه بلفظ السلم؛ لأنه يصير سلمًا حالاً، ونصوص أحمد وأصوله تأبى هذا كما قدمناه عنه بصيغ العقود، فإن الاعتبار في جميع التصرفات القولية بالمعاني، لا بما يحمل على الألفاظ، كما تشهد به أجوبته في الأيمان والنذور، والوصايا، وغير ذلك من التصرفات، وإن كان هو قد فرق بينهما كما فرق طائفة من أصحابه، فيكون هذا التفريق رواية عنه مرجوحة ... " (¬1). * الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأقوال أجد أن أقوى الأقوال في المسألة هو مذهب الشافعية، وهو جواز السلم الحال مطلقًا، سواء كان عند البائع، أو ليس عنده، بشرط أن يغلب على الظن وجوده في السوق، وإذا كان السلم المؤجل لا يدخل في قوله: لا تبع ما ليس عندك، لم يدخل السلم الحال من باب أولى، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني أن يكون المبيع موجلا
الفرع الثاني أن يكون المبيع موجلاً [م - 336] تبين لنا خلاف العلماء في بيع ما ليس عند الإنسان، إذا كان المبيع موصوفا في الذمة، حالًا، وفي هذا المبحث نريد أن نقف على حكم بيع الإنسان ما ليس عنده، إذا كان المبيع مؤجلاً موصوفًا في الذمة، والثمن مقدم في مجلس العقد، وهو ما يسمى لدى الفقهاء بالسلم، فهذا البيع جائز بالاتفاق، قال القرطبي رحمه الله: "والسلم بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق، مستثنى من نهيه عليه السلام، عن بيع ما ليس عندك ... " (¬1). وقال النووي: "أجمع المسلمون على جواز السلم" (¬2). وقال ابن حجر: "اتفق العلماء على مشروعيته إلا ما حكي عن ابن المسيب" (¬3). وممن حكى الإجماع ابن قدامة في المغني (¬4)، وابن رشد في بداية المجتهد (¬5)، وغيرهم. وفيه خلاف شاذ سوف نعرض له في عقد السلم إن شاء الله تعالى. ... ¬
المبحث الثاني في بيع الرجل سلعة لا يملكها
المبحث الثاني في بيع الرجل سلعة لا يملكها الفرع الأول أن يبيع ملك غيره لحظ مالكه قد يتقدم الرجل للسلعة، فلا يجد صاحبها، ويسأل عنها، فيتطفل بعض الناس، فيبيعه إياها دون تفويض من صاحبها، وهو ما يسميه الفقهاء (تصرف الفضولي). وقد اختلف العلماء في حكم هذا التصرف، هل يحرم، أو يجوز؟ وإذا قلنا: بالجواز، هل يترتب على هذا التصرف أثر، أو هو تصرف ملغى باعتبار أنه صادر من رجل لا يملك السلعة؟ وقد تكلمنا في أحكام العاقد عن حكم تصرف الفضولي وشرائه، فارجع إليه إن شئت.
الفرع الثاني أن يبيع ملك غيره لحظ نفسه
الفرع الثاني أن يبيع ملك غيره لحظ نفسه [م - 337] إذا كان المبيع معينًا، أي ليس موصوفًا, ولم يملكه البائع، ولم يبعه لصاحبه، وإنما باع البائع تلك السلعة قبل تملكها طلبًا للربح، ثم يذهب ليشتريها، ويعطيها المشتري، فالعلماء متفقون على عدم جواز بيعه. وقد حكى بعض أهل العلم الإجماع على بطلان البيع: قال الزيلعي: "والمراد بالنهي عن بيع ما ليس عند الإنسان ما ليس في ملكه، بدليل قصة الحديث -يعني حديث حكيم بن حزام- ثم قال: أجمعنا على أنه لو باع عينًا حاضرة غير مملوكة له لا يجوز، وإن ملكها فيما بعد" (¬1). وقال ابن الهمام: "أما النهي عن بيع ما ليس عندك، فالمراد منه ما ليس في الملك اتفاقًا ... " (¬2). وقال ابن قدامة: "ولا يجوز أن يبيع عينًا لا يملكها , ليمضي، ويشتريها، ويسلمها رواية واحدة، وهو قول الشافعي، ولا نعلم فيه مخالفًا ... ثم ذكر حديث حكيم: لا تبع ما ليس عندك " (¬3). وقال ابن حزم عن حديث حكيم بن حزام بعد أن صححه، قال: "وبه نقول، وهو بين كما تسمع، إنما هو نهي عن بيع ما ليس في ملكك، كما في الخبر نصًا، وإلا فكل ما يملكه المرء فهو عنده، ولو أنه بالهند ... " (¬4). ¬
ومستند الإجماع
وذكر ابن عبد البر أن بيع ما ليس عند الإنسان من الأصول المجتمع على تحريمها (¬1). ومستند الإجماع: (ح-237) ما رواه أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬2). [إسناده حسن، وسبق تخريجه] (¬3). وفي الباب حديث حكيم بن حزام وغيره، وقد سبق تخريجها في الفصل الأول. وفي هذا البيع محذوران شرعيان: الأول: أنه باع ما لا يملك، ومن شروط صحة البيع أن يكون المبيع مملوكًا للبائع، أو مأذونًا له في بيعه، ومثل هذا البيع لا يجوز. لأنه قد يحصل على المبيع، وقد لا يحصل عليه، فيكون في ذلك نوع من الغرر. ¬
قال ابن القيم: "وأما قوله: "لا تبع ما ليس عندك" فمطابق لنهيه عن بيع الغرر؛ لأنه إذا باع ما ليس عنده فليس هو على ثقة من حصوله، بل قد يحصل له، وقد لا يحصل، فيكون غررًا، كبيع الآبق والشارد، والطير في الهواء، وما تحمله ناقته" (¬1). وعلى تقدير تحصيل السلعة، فقد يكون بثمن مثل الأول، أو أقل، أو أكثر، فإن أخذها من صاحبها بأكثر مما باعها به للأجنبي، فيضيع عليه الزائد، وهو سفه، وإن اشتراها من صاحبها بأقل مما باعها به، فإن الحزن يدخل على المشتري إذ كان يمكنه تحصيل السلعة بأقل مما اشترها به. الثاني: أنه ربح فيما لم يضمن. (ح-238)، وقد روى أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬2). [إسناده حسن]. ¬
المطلب السادس في النهى عن القمار
المطلب السادس في النهى عن القمار المسألة الأولى تعريف القمار وعلاقته بالغرر تعريف القمار اصطلاحًا (¬1): عرفه بعض الحنفية بقولهم: "تمليك المال على المخاطرة" (¬2). وقال ابن عابدين: "تمليك على سبيل المخاطرة" (¬3). وعرفه الإِمام مالك بقوله: "ميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه". وقال القرطبي: "الميسر: مصير الشيء إلى الإنسان في القمار بغير كد ولا تعب، فكانوا يشترون الجزور، ويضربون بسهامهم، فمن خرج سهمه أخذ نصيبه من اللحم، ولا يكون عليه من الثمن شيء، ومن بقي سهمه آخرًا كان عليه ثمن الجزور كله، ولا يكون له من اللحم شيء" (¬4). ¬
وقال ابن حزم: "الميسر الذي حرمه الله هو القمار: وذلك ملاعبة الرجل صاحبه على أن من غلب منهما أخذ من المغلوب قمرته التي جعلها بينهما كالمتصارعين يتصارعان والراكبين يتراكبان على أن من غلب منهما فللغالب على المغلوب كذا وكذا خطارًا وقمارًا، فإن ذلك هو الميسر الذي حرمه الله" (¬1). وعرفه ابن تيمية بقوله: "القمار معناه: أن يؤخذ مال الإنسان وهو على مخاطرة، هل يحصل له عوضه، أو لا يحصل، كالذي يشتري العبد الآبق، والبعير الشارد، وحبل الحبلة ونحو ذلك مما قد يحصل له، وقد لا يحصل، وعلى هذا فلفظ الميسر في كتاب الله يتناول ذلك كله" (¬2). وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الميسر هو القمار. (ث- 31) والحجة في ذلك ما رواه ابن أبي حاتم (¬3)، والطبري (¬4) من طريق أبي بدر شجاع بن الوليد، قال: حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: الميسر هو القمار. [وسنده حسن]. وقال ابن حزم: "أجمعت الأمة التي لا يجوز عليها الخطأ فيما نقلته مجمعة عليه أن الميسر الذي حرمه الله هو القمار ... " (¬5). وقيل: إن الميسر ينقسم إلى قسمين: ¬
علاقة القمار بالغرر
(أ) ميسر لهو، وهو ما ليس فيه مال. (ب) وميسر قمار، وهو ما فيه مال. وهذا القول منسوب إلى مالك، قال القرطبي: "قال مالك: الْمَيْسِر مَيْسِران: مَيْسِر اللهو، وميسر القِمار؛ فمن مَيْسر اللهوِ النَّرْد والشَّطْرنج والملاهي كلها. وميسر القمار. ما يتخاطر الناس عليه" (¬1). علاقة القمار بالغرر: ذكرنا من تعريفات الغرر: بأنه ما كان مستور العاقبة. وهو ما اختاره السرخسي (¬2)، والزيلعي (¬3)، من الحنفية، وهو موافق لتفسير الإِمام مالك رحمه الله (¬4)، واختاره بعض الشافعية (¬5)، وابن تيمية من الحنابلة في أحد قوليه (¬6). ورجحه الخطابي في معالم السنن. ومستور العاقبة يشمل أمرين: الأمر الأول. ما تردد بين الحصول وعدمه. الأمر الثاني: ما كان مجهول الصفة أو المقدار أو الأجل، وإن تحقق حصوله. والأمر الأول علاقته بالقمار ظاهرة؛ لأن كلًّا منهما مبني على المخاطرة. ¬
ولذلك قال القاضي عبد الوهاب البغدادي: "يجمع بين الغرر ثلاثة أوصاف: أحدهما تعذر التسليم غالبًا. والثاني: الجهل. والثالث: الخطر والقمار" (¬1). فالأول والثالث عاقبته مستورة بسبب التردد بين الحصول وعدمه. والثاني: عاقبته مستورة بسبب الجهل في صفته أو مقداره، أو أجله، فتبين بهذا أن القمار نوع من الغرر، وأن الغرر أعم من القمار. وجاء في التاج والإكليل: "بيع الدنانير والدراهم جزافا قمار ومخاطرة ... لأن الغرر يدخلها من وجهين: من جهة خفة الدراهم، ومن جهة المبلغ فلم يجز ذلك لكثرة الغرر" (¬2). وقال ابن تيمية: "والغرر هو المجهول العاقبة فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار" (¬3). وقال أيضاً: "والنبي - صلى الله عليه وسلم - حرم بيوع الغرر؛ لأنها من نوع القمار مثل أن يشتري العبد الآبق، والبعير الشارد، فإن وجده كان قد قمر البائع، وإن لم يجده كان البائع قد قمره" (¬4). ... ¬
المسألة الثانية في حكم القمار
المسألة الثانية في حكم القمار [م - 338] القمار محرم بالكتاب، والسنة، وإجماع أهل العلم. أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90: 91]. وجه الاستدلال: أخبر الله سبحانه وتعالى بأن الميسر رجس، وأنه من عمل الشيطان مستخدمًا أداة الحصر (إنما)، وأمر باجتنابه والأصل في الأمر الوجوب لا سيما وقد علق عليه الفلاح، ورغب في تركه بذكر المفاسد المترتبة على تعاطيه من وقوع العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله، وعن الصلاة. ثم ختم الآية بالاستفهام الدال على النهي، فهل أنتم منتهون. وأما السنة: (ح- 239) فقد روى البخاري ومسلم من طريق الزهري، عن حميد ابن عبد الرحمن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق (¬1). ¬
فإذا كانت الدعوة إلى القمار توجب الصدقة، فما بالك بمباشرة القمار نفسه. وأما الإجماع فقد نقله طائفة كثيرة من أهل العلم، أذكر بعضهم: من الحنفية، قال الجصاص: "ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم القمار، وأن المخاطرة من القمار" (¬1). وحكاه أيضًا منهم العيني في عمدة القارئ (¬2)، وبرهان الدين ابن مازة (¬3). ومن المالكية نقل الإجماع القرطبي (¬4)، وابن العربي (¬5). ومن الشافعية حكاه الحافظ ابن حجر (¬6). ومن الحنابلة حكاه ابن تيمية (¬7). ومن الظاهرية حكاه ابن حزم (¬8). ... ¬
المسألة الثالثة الحكمة من تحريم القمار
المسألة الثالثة الحكمة من تحريم القمار القمار حرام لأنّ الله حرّمه وهو سبحانه وتعالى يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90]. وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36]. وقال سِبحانه وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. وأما الحكمة في تحريمه فإن العاقل يرى في ذلك أسبابا كثيرة منها: 1 - القمار من أكل أموال الناس بالباطل، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. فالكسب والخسارة في القمار لا يقوم على تبادل المنافع بالطرق المشروعة، بل يقوم على المخاطرة والمصادفة والحظ وترك العمل والجد، وأخذ المال بلا مقابل. 2 - القمار يورث العداوة والبغضاء بين المتلاعبين، وذلك أن القمار سبب في سلب الأموال بلا مقابل, وذلك أن الإنسان إذا غلب في القمار دعاه ذلك إلى الدخول فيه مرة أخرى طمعًا في تعويض خسارته، وقد يتفق ألا يحصل له ما أراد، بل تزداد خسارته، وتتفاقم مشاكله وما يزال يدخل في ذلك مرة بعد مرة
طمعًا في التعويض حتى يصل إلى حال لا يبقى معه شيء من المال، فيصير معدمًا، ينظر إلى أولئك الناس الذين كانوا سببًا في خسارته وسلب أمواله بلا مقابل على أنهم من ألد أعدائه، فظهر بذلك أن القمار سبب عظيم في إثارة العداوة والبغضاء بين الناس. 3 - القمار يصد عن ذكر الله وعن الصلاة بنص القرآن، فإذا كان الإنسان مأمورًا إذا سمع النداء يوم الجمعة أن يسعى لذكر الله ويذر البيع المباح، فكيف إذا كان الشاغل عن ذكر الله وعن الصلاة أمرًا محرمًا كالقمار. 4 - القمار أداة لهدم البيوت العامرة، وفقد الأموال في وجوه محرمة، وافتقار العوائل الغنية، وإذلال النفوس العزيزة. كم من بيوت افتقرت بسبب القمار، وكم من بطون جاعت وأجسام عريت أو لبست الأسمال وكم من زواج فشل، ووظيفة ضاعت؛ لأن صاحبها اختلس ليقامر، وكم من رجل باع دينه وعِرضه على مائدة القمار، فالقمار يدمر كل شيء وهو إن كان هدفه المال ولكنه يشمل الخمر والتدخين ورفاق السوء والظلام والغموض والغش والكراهية والتربص والاختلاس وكل صفات الشر (¬1). ¬
المسألة الرابعة المعاملات المحرمة بسبب القمار
المسألة الرابعة المعاملات المحرمة بسبب القمار لا يمكن حصر المعاملات التي فيها قمار، وذلك أن الناس يحدثون في كل عصر أنواعًا من المعاملات المشتملة على القمار مما لم يكن معروفًا في العصور السابقة، ولذلك يمكن تقسيم المعاملات التي يقع فيها القمار إلى قسمين: القسم الأول: القمار في المسابقات والمغالبات، وهذا سوف يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى في كتاب خاص. القسم الثاني: القمار في المعاملات المالية، وهذه المعاملات منها ما هو متفق على منعه، كبيع الحصاة، والمنابذة، والملامسة، والمزابنة، وبيع حبل الحبلة، وبيع الثمار قبل أن تزهو أو قبل أن تحمر أو تصفر بشرط البقاء، وهذه المعاملات سبق بحثها, ولله الحمد. ومنها ما هو مختلف فيه: كبيع المعدوم، وبيع الغائب، وبيع المغيبات في الأرض، وبيع العبد الآبق، والجمل الشارد، ومعاملات التأمين، وقد سبق بحث هذه المسائل ولله الحمد. ومنها ما سوف نتعرض له بالبحث إن شاء الله تعالى في المباحث التالية كالحوافز المالية. وينبغي أن ألفت النظر مرة أخرى أن الغرض من ذكر هذا التقسيم هو المثال،
وإلا فمعاملات القمار أكثر من أن تحصى، ولم أحاول الاستيعاب لأن البحث لم يقتصر على دراسة هذا النوع من المعاملات دون غيرها، والله وحده هو الموفق والمعين.
المطلب الأول تعريف الحوافز المالية في المعاملات التجارية
المطلب الأول تعريف الحوافز المالية في المعاملات التجارية تعريف الحوافز المالية اصطلاحًا (¬1): بعض العلماء يطلق لجها اصطلاح الجوائز. والجائزة في الاصطلاح (¬2): هي العطية على معروف. وتعتبر الحوافز التجارية من المسائل النازلة لذا سوف نرقم هذه المسائل ضمن المعاملات المعاصرة. يقول أخونا الشيخ خالد المصلح: "ما تشهده الأسواق والمراكز التجارية ومحلات البيع صغيرها وكبيرها من الحوافز الترغيبية في السلع والخدمات، ووسائل ترويجها فإنها من أبرز سمات الأسواق والمراكز التجارية المعاصرة، وهي لا شك بحاجة إلى دراسة خاصة" (¬3). وقد عرفت الحوافز بأنها: "كل ما يقوم به البائع أو المنتج من أعمال تعرف ¬
بالسلع، أو الخدمات، وتحث عليها، وتدفع إلى اقتنائها وتملكها من صاحبها بالثمن، سواء كانت تلك الأعمال قبل عقد البيع أو بعده" (¬1). ... ¬
المطلب الثاني الأصل في الحوافز التجارية
المطلب الثاني الأصل في الحوافز التجارية [ن-25] الأصل في الحوافز التجارية الحل إذا روعي فيها الضوابط الشرعية وذلك بمراعاة ما يلي: الأول: أن يكون ذلك عن رضا وطيب نفس من العاقدين، لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]. الثاني: ألا توقع في الربا، وذلك بألا تكون المسألة من مسائل ما يعرف بمد عجوة ودرهم، فإن كانت من هذه المسائل وجب أن يراعى في ذلك شرط الجواز كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في كتاب الربا. الثالث: أن تكون المعاملة خالية من القمار والمخاطرة، والغرر الفاحش، والخداع والتدليس. الرابع: ألا يؤدي ذلك إلى التغرير بالمشترين كأن يرخص سلعة، ويزيد في أسعار السلع الأخرى عن سعر السوق .. الخامس: ألا يؤدي ذلك إلى الإضرار بالسوق وصغار المستثمرين. السادس: أن تكون الحوافز مما أباح الله، فلا يضع حوافز تؤدي إلى الوقوع في الحرام، من ذلك صرف تذاكر للمراهقين والمراهقات للسفر إلى بلاد الكفار، أو توزيع أفلام ساقطة، أو مجلات خليعة، أو الدخول في الحفلات المختلطة، أو غيرها من المحرمات. السابع: أن يكون التاجر ملتزمًا ببذل ما وعد؛ لأن هذه العدة جزء من المعاوضة لا يجوز الخروج منها، أو التحايل على إسقاطها؛ لأن التاجر عندما
وعد ببذل هذه الحوافز لا يبذلها هدية للمشتري أو إحسانًا عليه، وإنما كان الغاية منها والباعث عليها ترويج السلع، وإغراء الناس في الشراء، وهذا يلحقها بعقود المعاوضات لا عقود التبرعات؛ لأن التبرع والهبة إذا رتب على عمل خرج من كونه تبرعًا إلى كونه معاوضة. قال ابن تيمية: "الواهب لا يهب إلا للأجر فتكون صدقة، أو لكرامة الموهوب له فتكون هدية، أو لمعنى آخر فيعتبر ذلك المعنى" (¬1). ¬
المطلب الثالث فى الحوافز إذا تضمنت إلحاق الضرر بصغار المستثمرين
المطلب الثالث فى الحوافز إذا تضمنت إلحاق الضرر بصغار المستثمرين [ن-26] بعض المحلات التجارية الكبرى ذات الفروع الكثيرة تستطيع أن تحصل على السلع بسعر أقل من سعر الجملة لقدرتها على الشراء بكميات كبيرة، ومن ثم بيعها بالتجزئة بأقل من سعر الجملة أيضًا بعد توزيعها على فروعها المنتشرة في المدن، وهذا التصرف لا يستطيع معه صغار المستثمرين الدخول في المنافسة؛ لأن ذلك يعني خسارتهم المؤكدة، وبعض التجار قد يكون محكومًا بسعر معين من قبل المنتج لا يستطيع البيع بأقل مثله، فيعمد إلى وضع جوائز مع السلعة تكون محصلته أنه باع بأقل من سعر السوق، وبأقل من السعر المتفق عليه مع المنتج، والسؤال ما حكم هذه الحوافز في هذه الحالة؟ وللجواب على ذلك أن يقال: البيع بمثل هذه الحوافز إما أن يقلل أرباح بقية التجار أو يتسبب بالخسارة لهم. فإن كان البيع بمثل هذه الحوافز يعني التقليل من أرباح التجار، ولو باعوا بمثل ما باع به هذا التاجر لم يلحق التجار خسارة في تجارتهم , فإن هذا التصرف جائز؛ لأن التعدي كان من التجار أنفسهم بسبب طمعهم وجشعهم ورفعهم الأرباح فوق المقدار المطلوب. ولأن أسعار السلع حق لأربابها فلا يحجر عليهم فيها ما دام أن هذا التصرف لا يلحق الضرر بالآخرين. وقد أجاز الفقهاء بيع الوضيعة، وهو بيع السلعة بنقيصة عن الثمن الأول.
ويعتبر هذا التاجر محسنًا في تصرفه هذا؛ لأن هذا التصرف يؤدي إلى مصلحتين: الأولى: انتفاع الناس بالحصول على السلع في سعر أقل. الثانية: الحد من طمع التاجر في سعيهم إلى رفع أسعار السلع على الناس. وهاتان المصلحتان مقصودتان للشارع. وإن كان البيع بمثل هذه الحوافز يعني أن هذا التاجر يبيع بسعر لا يمكن لبقية التجار أن يبيعوا بمثله، ولو باعوا بمثله لخسروا، فإن هذا الفعل لا يجوز، ويجب على وزارة التجارة أن تتدخل لوضع حد لمثل هذا السلوك، فإن حرية الإرادة ليست مطلقة، فحرية الإنسان يجب ألا تسبب في إلحاق الضرر بالسوق، ولا في كساد تجارة صغار المستثمرين، والتسابق في التنافس في جذب المستهلك والاستئثار به يجب أن يكون متوازنًا بين مصلحة المستهلك ومصلحة التاجر. قال ابن القيم: "أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن طعام المتباريين (¬1) ,وهما الرجلان يقصد ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
كل منهما مباراة الآخر، ومباهاته: إما في التبرعات كالرجلين يصنع كل منهما دعوة يفتخر بها على الآخر، ويباريه بها، وإما في المعاوضات كالبائعين يرخص كل منهما سلعته لمنع الناس من الشراء من صاحبه، ونص الإِمام أحمد على كراهية الشراء من هؤلاء ... " (¬1). (ث-32) وروى مالك، عن يونس بن يوسف، عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة، وهو يبيع زبيبًا له بالسوق، فقال له عمر بن الخطاب: إما أن تزيد في السعر، واما أن ترفع من سوقنا (¬2). [رجاله ثقات، وعلى تقدير أن سعيدًا لم يسمع من عمر فمراسيله من أصح المراسيل] (¬3). ¬
وظاهر الأثر أن المقصود: يزيد في الثمن لأن قوله (إما أن تزيد في السعر) فالسعر يطلق على الثمن، ولذلك يقال: هذا له سعر، إذا زادت قيمته، وليس له سعر: إذا أفرط رخصه (¬1). ولأنه طلب خروجه من السوق، ولم يطلب منعه من البيع، وهذا دليل على أنه يضر بالسوق، وإنما يضر بالسوق إذا باع بأقل من سعر السوق. إلا أن أصحاب مالك اختلفوا في قوله: إما أن تزيد في السعر، هل المقصود: يزيد في الثمن، أو يزيد في المثمن على قولين، وعلى أي تقدير فإنه يقال: إذا منعتم النقص من المثمن، وهو أحد العوضين، فالنقص من الثمن مقيس عليه؛ فالنقص من المثمن يضر بالمشتري، والنقص في الثمن يضر بالسوق، وهو أكبر، والإضرار ممنوع منه الإنسان. ¬
وإذا كانت الشريعة قد سمحت بغبن البادي من أجل نفع السوق، فنهى أن يبيع الحاضر للباد، وعلل ذلك - صلى الله عليه وسلم - بقوله: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض. فكيف يعتقد بأن الشريعة تسمح بالإضرار بالسوق. وقد حرمت الشريعة الإضرار بالآخر، فمنعت بيع المسلم على بيع أخيه، والشراء على شرائه كل ذلك منعًا للضرر الواقع بين المسلمين، فإذا كان ذلك بين آحاد المسلمين، وضرره محدود، فكيف إذا كان الضرر يقع على عامة التجار، وصغار المستثمرين، فإذا رأى الباعة أن بعض التجار يبيع بسعر لا يمكن لهم أن يبيعوا به، ولو باعوا به لخسروا، فلا شك أن مثل ذلك سيكون سببًا للعداوة والبغضاء. وإذا كانت الشريعة قامت بحماية المشتري، من تحريم النجش، وتحريم الاحتكار، وتحريم الغبن، فإن أهل السوق هم مشترون قبل أن يكونوا باعة، فإن السلع التي في محلاتهم ليست نتاجًا، وإنما اشتروها طلبًا للربح، فتعريضهم للخسارة ضرر كبير بهم يعود في نهايته على المستهلك، فإن هؤلاء الكبار إذا ألحقوا الضرر بصغار المستثمرين، وأخرجوهم من السوق، تحكم هؤلاء فيما بعد بالمستهلك، وصاروا هم وحدهم اللاعب بالسوق، فالشريعة قامت على العدل، فهي في الوقت التي تحمي المشتري من أن يتعرض للاستغلال، تحمي البائع كذلك من أن يتعرض للخسارة بفعل غيره، وكما هو مطلوب حماية المشتري من الغبن، مطلوب أيضاً حماية بقية أهل السوق من الخسائر، والله أعلم. ***
المطلب الرابع في صور الحوافز التجارية وبيان حكمها
المطلب الرابع في صور الحوافز التجارية وبيان حكمها الصورة الأولى أن تبذل الحوافز بلا مقابل [ن-27] تقوم بعض الشركات التجارية عند إصدار نوع جديد من منتجاتها بالترويج لها وذلك بتوزيع بعض العينات المجانية تعريفًا بالسلعة طمعًا في إقبال الناس على المنتج بعد ذلك، وتارة يكون تقديم الهدية خاليًا من أي شرط، وتارة تشترط الشركة المنتجة الجواب على بعض الأسئلة إلا أنه في الحالين يكون بذل الهدية ليس مشروطًا بالشراء من الشركة، والغرض من اشتراط الجواب على الأسئلة هو التعريف بالشركة ومنتجاتها، والترويج للسلعة الجديدة. وهذا العمل جائز شرعاً؛ لأن الترويج للسلعة وطلب اشتهارها جائزان شرعاً إذا ما روعي في ذلك الضوابط الشرعية، من ذلك: التزام الصدق، وذلك بأن لا يزين السلعة بما ليس فيها, ولا يخفي عيوبها. وأن يتجنب المبالغة في مدح السلعة. وألا يتعدى على غيره بأن يشمل الترويج لسلعته ذم سلع الآخرين. وهذه الحوافز لا تخرج عن كونها هبة من الشركة التي أنتجت السلعة؛ لأن التمليك فيها بدون عوض، وهي من طرف واحد فلا تدخل في القمار، ولا أعرف أن أحدًا من أهل العلم حرم مثل ذلك (¬1). ¬
الصورة الثانية أن يكون بذل الحافز مشروطا بالشراء
الصورة الثانية أن يكون بذل الحافز مشروطًا بالشراء المسألة الأولى ربط السلعة المبيعة بهدية ظاهرة لكل مشتر تقوم بعض المحلات التجارية بربط السلعة بهدية ظاهرة للعيان، بحيث يحصل كل مشتر لهذه السلعة على هذه الهدية، كأن يقول: من اشترى سيارة كذا وكذا فله جهاز كذا وكذا، وتعرض عينة من الهدية، أو يذكرها مصفاتها المعروفة المتميزة عن غيرها. من أحضر خمسين كوبونًا أو بطاقة أو غطاء معينًا فله كذا وكذا. وقد تكون الهدية خدمة معينة، كأن يقال: من اشترى كمية من البنزين حصل على حق تغيير الزيت مجانا، أو على حق تغسيل سيارته. وفي كلا الحالين يكون المشتري موعودًا بالهدية قبل الشراء، ويكون مقدار الهدية معلومًا. وقد اختلف العلماء في حكم هذه المسألة على قولين: القول الأول: ذهب أكثر أهل العلم في عصرنا إلى القول بجواز هذه الهدايا والخدمات، على رأسهم شيخنا محمَّد بن صالح العثيمين رحمه الله (¬1)، وبه أفتت اللجنة الدائمة ¬
للبحوث العلمية والإفتاء في البلاد السعودية (¬1). ومستند القول بالجواز ما يلي: أن هذه الحوافز بالنسبة للمشتري متحققة، وليس مبناها على الحظ والتردد بين الغنم والغرم، فخرجت عن كونها قمارًا أو ميسرًا، وقد قبل المشتري الصفقه وهو يعلم ما سوف يأخذه في مقابل ما سوف يدفعه. وأما بالنسبة للبائع فإن هذه الحوافز إما أن يكون توصيفها على أنها هبة، فيكون متبرعًا بها، والهبة جائزة. ¬
القول الثاني
وإما أن يكون توصيفها على أنها جزء من المبيع، وهذا جائز؛ لأن المبيع معلوم لا جهالة فيه (¬1). القول الثاني: ذهب جماعة إلى تحريم هذه الجوائز. وممن قال بهذا القول سماحة الشيخ محمَّد ابن إبراهيم (¬2)، وسماحة الشيخ ¬
• وجه القول بالتحريم
عبد العزيز بن باز (¬1)، وفضيلة الشيخ عبد الله ابن جبرين (¬2). • وجه القول بالتحريم: الوجه الأول: أن هذا العمل يغري بعض الناس على الشراء من هذا المحل دون غيره مما يؤدي إلى ترويج سلعة وكساد سلعة الآخرين. ويناقش: سبق لنا أن البيع بأقل من سعر السوق إن كان يؤدي ذلك إلى خسارة التجار، فإن ذلك محرم، ولا أعتقد أن هذه الجوائز والتي تمنح لكل مشتر تبلغ هذا المبلغ، وإن كانت تؤدي إلى تقليل أرباح التجار فقط، فإن هذا الأمر سائغ، وإلزام التاجر بأن يبيع بمثل ما يبيع به الناس فإن هذا يعني التسعير على التاجر دون حاجة، وقد امتنع الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن التسعير بلا حاجة. فقد روى أحمد من طريق حماد بن سلمة، عن قتادة، وثابت البناني، عن أنس بن مالك، قال: غلا السعر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله لو سعرت. فقال: إن الله هو الخالق القابض الباسط الرزاق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله، ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال (¬3). [صحيح] (¬4). ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أن هذا الفعل يتسبب في نشر العداوة والبغضاء بين التجار، فيكون من الميسر الذي أخبر الله عنه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91]. ويناقش: بأن العداوة إن كان سببها التعدي فلا يجوز، وإن كان الباعث عليها حب الأثرة والاستئثار، والحسد بين التجار فلا يكلف الشخص بدفع مثل ذلك؛ والناس يتفاوتون في هذا. الوجه الثالث: أنها تغري المشتري في شراء سلع ليس لهم فيها حاجة طمعًا في الحصول على الجائزة. ويناقش: الأصل أن الهدايا متابعة، وليس لها قيمة كبيرة؛ لأنها تصرف لكل مشتر، ولم ترفع قيمة السلعة بسبب الهدية، ولو كانت قيمتها كبيرة لأدى ذلك إلى خسارة البائع، ومع ذلك لو فرض أن المشتري أقدم على الشراء بسبب حاجته إلى الجائزة دون السلعة، فإن المبيع بالأصالة في حق المشتري ستكون الجائزة، وتكون السلعة هي التابعة، وهذا غير ممنوع ما دام أن المشتري يعرف حق المعرفة ما سوف يأخذه في مقابل ما سوف يدفعه، والله أعلم. • الراجح من الخلاف: أرى أن القول بالجواز هو أرجح القولين.
ويمكن أن يخرج ما وضع باسم الجائزة على أنه جزء من المبيع، ويكون مراد التاجر التخفيض من الثمن للسلعة الأصلية بزيادة المبيع، والله أعلم (¬1). ¬
المسألة الثانية ربط السلعة بهدية مجهولة
المسألة الثانية ربط السلعة بهدية مجهولة القسم الأول أن توضع الهدية المجهولة مع كل سلعة إذا وعد المشتري بأنه مع كل سلعة يشتريها سوف يحصل على هدية إلا أن هذه الهدية مستترة، فهي مجهولة النوع والمقدار، فما حكم البيع مع وجود هذه الهدية؟ أما القائلون بتحريم ربط السلعة بهدية ظاهرة معلومة فإنهم سيقولون بتحريم هذه من باب أولى. وهذا ما رواه سماحة الشيخ محمَّد بن إبراهيم، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين، وقد ناقشنا أدلتهم في المسألة السابقة، وأجبنا على الإشكالات الواردة، فأغنى عن إعادتها هنا. وأما القائلون بالجواز، فإن حكمهم سيختلف بناء على اختلافهم في توصيف وتخريج الهدية: فمن خرجها على أنها هبة محضة، فإنه لا يمانع من القول بالجواز إذا كانت قيمة السلعة لم تزد بسبب الهدية؛ لأن الجهالة مغتفرة في عقود التبرعات على الصحيح بخلاف الجهالة في عقود المعاوضات فإنها مؤثرة في صحة العقد. وأما من خرج الهدية على أنها جزء من المبيع فسوف يمنع هذه المعاملة؛ لأن الجهالة بالهدية سيؤدي إلى جهالة جزء من المبيع، وجهالة جزء من المبيع جهالة للمبيع كله، وإذا كان العقد محرمًا:
الراجح
فإما أن نقول: إن العقد باطل لتحريمه، أو نقول: بتفريق الصفقة. الراجح: أن الهدية المجهولة إذا كانت مربوطة مع السلعة فإنها جزء من المبيع، والجهالة بها يؤدي إلى جهالة المبيع، فتحرم، والله أعلم.
القسم الثاني أن توضع الهدية المجهولة مع بعض السلع
القسم الثاني أن توضع الهدية المجهولة مع بعض السلع [ن-30] قد يعلن المنتج لسلعة ما أنه وضع بداخل بعض السلع هدية، ولا يعلن عن جنس الهدية، وقد يعلن عن جنس الهدية ولا يبين مقدراها، كأن يقول: يوجد داخل بعض السلع نقود ورقية، ولا يبين من أي فئة، أو يعلن عن وجود قطعة ذهبية، ولا يبين زنتها. فهنا المشتري يشتري البضاعة وهو لا يعلم نوع الهدية، ولا يعلم هل يحصل عليها، أو لا يحصل عليها؟ فما حكم هذا النوع من الهدايا؟ اختلف العلماء في حكم هذه المسألة على قولين: القول الأول: لا يجوز الشراء من هذه السلع، وإلى هذا ذهب الشيخ محمَّد الحامد (¬1)، والشيخ رفيق المصري (¬2)، والشيخ سليمان الملحم (¬3)، والشيخ خالد المصلح (¬4). كما أن هذا القول هو قول من حرم هدايا البيوع مطلقًا، كسماحة الشيخ محمَّد ابن إبراهيم (¬5)، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (¬6)، وفضيلة الشيخ عبد الله ابن جبرين (¬7). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يجوز بشرط ألا يكون هناك زيادة في الثمن من أجل الهدية، وإلى هذا ذهبت لجنة الإفتاء المصرية (¬1)، ولجنة الإفتاء بالأزهر (¬2)، ......... ¬
• وجه القول بالتحريم
ورجحه الشيخ محمَّد عثمان شبير (¬1). • وجه القول بالتحريم: الوجه الأول: أن هذا البيع مشتمل على غرر ظاهر، فقد يشتري الرجل سلعة واحدة أو أكثر، ولا يحصل على شيء، وإذا حصل عليها قد تكون لها قيمة، وقد لا تكون لها قيمة، وهذا من أقوى الأدلة على المنع. ونوقش هذا: بأن الهدية إذا كيفت بأنها تبرع، فالجهالة لا تضر على الصحيح؛ لأن باب التبرعات يغتفر فيها ما لا يغتفر في باب المعاوضات. ورد هذا: بأن التوصيف على أنها تبرع ليس صحيحًا؛ لأن ربط هذه الهدية بالشراء دليل ¬
الوجه الثاني
على أنها جزء من العقد، ولذلك لو رد المشتري السلعة لعيب أو غيره فإنه يرد الهدية معها؛ لأنها من قبيل هدية الثواب. الوجه الثاني: أن هذه الوسيلة قد تدفع الناس إلى الإسراف في الاستهلاك، حيث يشتري الناس ما لا حاجة لهم فيه طمعًا في الحصول على الهدية التي لا يعرف مقدارها. ونوقش هذا: بأن الإسراف لا تعلق له بالمبيع، وإنما يتعلق بالمستهلك، ولذا قد يحصل الإسراف في كل أنواع البيوع من مأكولات ومشروبات وملبوسات ونحوها إذا كان الإنسان مسرفًا مبذرًا، وهذا لا يؤاخذ عليه البائع، ولا يمنع من هذه الوسيلة. الوجه الثالث: أن بعض البائعين ممن يفعل ذلك قد يلجأ إلى رفع أسعار السلع لتغطية قيمة الهدايا، وهذا يؤدي إلى القمار الممنوع شرعًا، والذي بدوره يولد العداوة والبغضاء في قلوب الخاسرين، وعلى التنزل أن البائع لم يرفع السعر من أجل ذلك فإن إباحة هذه الصورة ذريعة للوقوع في الميسر، ومعلوم أن من القواعد الأصولية في الشريعة سد الذرائع، فلو لم يكن في المنع إلا سد الذرائع لكان كافيًا. ونوقش هذا: بأننا نشترط ألا يرفع سعر السلعة في مقابل الهدية، وهذا يمكن التحقق منه اليوم بسهولة عن طريق معرفة سعر مثلها في السوق، فإذا لم يزد البائع في سعر
• وجه من قال بالجواز
السلعة فلا تعتبر من القمار؛ لأن المشتري لا يدفع شيئاً مقابل الهدية، وإنما يدفع قيمة السلعة فقط، فالمشتري إما أن يكون غانمًا بتحصيل الهدية، وإما أن يكون سالمًا من الغرم. • وجه من قال بالجواز: أن البائع إذا لم يزد في الثمن من أجل الهدية فإن هذه الأعيان الموضوعة في بعض السلع تعد من قبيل الهدية، وهي عقد تبرع، ولا يشترط العلم بالهدية، ويغتفر في التبرعات ما لا يغتفر في المعاوضات. ويجاب: بأن التاجر حين وضع هدية لها قيمة مع بعض السلع، وربط ذلك بالشراء كان ذلك تخفيضا منه لقيمة السلعة الأصلية، والتجار تارة يخفضون قيمة السلع عن السوق، وتارة يكون التخفيض بإضافة سلعة أخرى للمبيع، كمن يقول: اشتر سلعة، واحصل على الأخرى مجانا، فالحقيقة أن السلعة الأخرى ليست مجانا، وإنما باع التاجر السلعة بنصف قيمتها، وحتى يسوق بقية السلع جعل التخفيض في صورة الهبة ليستفيد التاجر في بيع سلعتين بدلًا من سلعة واحدة. • الراجح من الخلاف: القول بالتحريم أقوى؛ لأننا إذا حرمنا وضع الهدية المجهولة مع كل سلعة كان أولى بالتحريم وضع الهدية المجهولة مع بعض السلع، والله أعلم.
المسألة الثالثة أن تكون الهدية معلومة والحصول عليها غير معلوم
المسألة الثالثة أن تكون الهدية معلومة والحصول عليها غير معلوم في المسألتين الماضيتين كانت السلعة مجهولة للمشتري، سواء أكان الحصول عليها مقطوعًا به لكل مشتر، أم كان الحصول عليها غير مقطوع به، كأن يحصل عليها بعضهم دون بعض، وأما مسألتنا هذه فالهدية معلومة بالمشاهدة، كأن يضع سيارة أمام المحل، ويمنح كل مشتر رقمًا أو بطاقة تخوله الدخول في السحب، فإذا انتهت المدة أجريت القرعة، فمن خرج رقمه أو بطاقته فهو الفائز، وليس لغيره شيء، وقد يجعل بعض التجار بدل الجائزة الواحدة عدة جوائز تكون متفاوتة في القيمة، فمن خرج اسمه أولًا استحق الجائزة الكبرى، ومن خرج اسمه ثانيًا استحق التي تليها، وهكذا. والحصول على الجائزة معلق على أمر احتمالي تخفى عاقبته، والسؤال ما حكم هذا النوع من الحوافز. وللجواب على هذا نقول: هذه الحوافز لا تخلو من حالين: الحال الأولى: أن يزاد في قيم السلع بسبب الهدية. الحال الثانية: ألا يزاد في قيم السلع من أجل الهدية. وسوف نبحث كلام أهل العلم في كل حالة في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
الحال الأولى أن يزاد في قيم السلع من أجل الهدية
الحال الأولى أن يزاد في قيم السلع من أجل الهدية [ن-31] إذا زاد التاجر في قيم السلع عن ثمن مثلها من أجل الهدية فإن الدخول في هذا النوع من الجوائز يعتبر من القمار المحرم؛ لأن المشارك يبذل مالاً زائدًا على ثمن السلعة رجاء حصوله على الهدية، فقد تحصل له، وقد لا تحصل له، فهو بين أن يفوز بالهدية فيكون غانمًا، وبين ألا يفوز بها، فيكون غارمًا، وهذا هو الميسر الذي حرمه الله في كتابه. فإن قيل: إن ما يزاد في قيمة السلعة يعتبر يسيرًا ليس له وقع في الثمن، وقد جرت عادة الناس بالتغابن بمثله. فالجواب: أنه لا فرق في القمار بين أن يكون المبلغ المقامر به قليلاً أو كثيراً ما دام أن مناط الحكم موجود، وعلته قائمة، فكما أن الشارع لم يرخص في اليسير من الربا، سواء أكان ذلك في الفضل أو في النسأ، ولم يرخص في اليسير من الخمر، فكذلك هنا، ولهذا لم تكن يسارة المبلغ المقامر به في اليانصيب موجبة للحل عند أحد من العلماء، إذ لو فتح هذا الباب لتدرج الناس منه إلى المحارم، واستحلوا العظائم (¬1). ¬
فرع لو كان السحب على أموال المتبرعين لجهة خيرية
فرع لو كان السحب على أموال المتبرعين لجهة خيرية [ن-32] تقوم بعض اللجان الخيرية. تشجيعًا للتبرعات. بتوزيع كوبونات (بطاقات تبرع) وتحمل هذه البطاقات أرقامًا خاصة على كل من يتبرع لها بمبلغ من المال، ومن ثم يجري سحب على هذه الأرقام وصاحب الرقم الفائز سوف تمنحه اللجنة جائزة قيمة. فما حكم هذا النوع من السحب؟ هذا العمل لا يجوز؛ لأن الحصول على الجائزة مشروط بالتبرع، ويخشى أن يكون المتبرع إنما تبرع من أجل الحصول على الجائزة، ولولا الجائزة لم يتبرع، فيأخذ التبرع هنا حكم المعاوضة، وليس من قبيل التبرع المحض، وإذا أخذ حكم المعاوضة صار الداخل في هذه المعاملة مترددًا بين أن يكون غانمًا وذلك بالحصول على الجائزة، وبين أن يكون غارمًا بأن يخسر ماله الذي قدمه، وهذا حقيقة القمار. وبهذا أفتت لجنة الفتوى في وزارة الأوقاف والشئون الإِسلامية في دولة الكويت (¬1). ... ¬
الحال الثانية ألا يزاد في قيم السلع من أجل الهدية
الحال الثانية ألا يزاد في قيم السلع من أجل الهدية [ن-33] إذا كان التاجر يبيع السلع بقيمة مثلها، وقد وضع جائزة يجري السحب عليها عن طريق القرعة، فما حكم الدخول في هذا النوع من الجوائز علمًا أن المشتري قد اشترى السلعة لحاجته إليها, ولم يكن الباعث على الشراء هو الحصول على الهدية؟ اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: القول بالتحريم، وقد ذهب إلى هذا سماحة الشيخ محمَّد ابن إبراهيم (¬1)، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (¬2)، وفضيلة الشيخ عبد الله ابن جبرين (¬3)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في البلاد السعودية (¬4)، وهو قول قديم لفضيلة شيخنا محمد بن عثيمين (¬5). • وجه القول بالتحريم: الوجه الأول: أن كل عقد معلق على خطر الحدوث من عدمه غير جائز شرعًا، وهو من ¬
الوجه الثاني
القمار، وإن لم يكن من القمار فهو ذريعة ووسيلة قوية إليه، وقد تقرر في الشريعة سد الذرائع المفضية إلى المحرمات، وهذا من أقوى الأدلة على التحريم. الوجه الثاني: أن استعمال القرعة في المسابقات التجارية لتحديد الفائز لا يجوز؛ لأنها من قبيل اليانصيب المحرمة التي تتضمن القمار، فهي تؤدي إلى حصر الفائزين في فئة معينة، وأما بقية المشاركين فيخسرون، ولا يحصلون على فائدة. ونوقش هذا: بأن هناك فرقًا بين ورقة اليانصيب وبين القرعة، فالمشتري لورقة اليانصيب اشتراها قصدًا ليربح بالحظ، فيكون قمارًا، وأما هذا فقد اشترى البضاعة قاصدًا لها، محتاجًا إليها بسعر مثلها، وقد تبرعت الشركة بجائزة، وجعلت هذا الحق للمشتري، فتزاحمت الحقوق لوجود مجموعة عن المشترين، ولم يكن هناك سبب لتفضيل بعضهم على بعض فكان الفصل بينهم بالقرعة، والفصل بالقرعة أمر مشروع عند تزاحم الحقوق. قال تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141]. وقال تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]. (ح-241) ومن السنة ما رواه مسلم من حديث عمران بن حصين أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته، ولم يكن له مال غيرهم فدعا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجزأهم أثلاثًا، ثم أقرع بينهم، فاعتق اثنين، وأرق أربعة (¬1). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر أقرع بين نسائه. ¬
الوجه الثالث
الوجه الثالث: أن وضع الجوائز الكبيرة تغري الناس في الشراء، وترغبهم فيه، فيكون ذلك داعية إلى إسراف وضياع مال. ونوقش هذا: بأن القول بالجواز مشروط بأن يكون المشتري قد اشترى السلعة لحاجته، ولم يكن الباعث على الشراء الحصول على الجائزة. الوجه الرابع: أن ذلك يعود الناس على الكسل، وانتظار المكاسب الوهمية. ونوقش هذا: لا يوجد أحد من الناس يعتمد في كسبه على مثل هذه الجوائز حتى يقال: إن مثل هذه الجوائز تعود الناس على الكسل. القول الثاني: ذهب بعض أهل العلم إلى القول بجواز هذه الحوافز لكن بشروط، وهذا الاختيار هو آخر القولين لفضيلة شيخنا محمَّد بن صالح العثيمين (¬1)، والشيخ محمَّد عثمان شبير (¬2)، وأفتى به الدكتور يوسف القرضاوي (¬3)، ولجنة الفتوى في ¬
الشرط الأول
بيت التمويل الكويتي (¬1)، وهيئة الفتوى لبنك دبي الإِسلامي (¬2)، واختاره من طلبة العلم الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان (¬3). وقد وضعوا للجواز ثلاثة شروط: الشرط الأول: شرط يعود إلى السلعة، وهو ألا يزاد في قيمة السلعة من أجل الهدية حتى لا يكون هناك قمار، ويكون المشتري مترددًا بين الغنم والغرم. ونوقش هذا: بأن الأسعار يصعب ضبطها, سيما مع اختلاف السلع وتنوعها، وقيام بعضها مقام بعض، وبعض السلع لا تباع إلا من جهة البائع فلا يعرف سعرها عن طريق السوق. ويجاب: بأن معرفة هذا ممكن وذلك بالنظر إلى قيمة السلعة قبل وضع الجائزة، وقيمتها بعدها، ومع ذلك إذا لم يمكن معرفة قيمة السلعة على وجه الدقة ترك هذا لأمانة البائع، وحرصه على الحلال. الشرط الثاني: شرط يعود على المشتري، وهو أن يشتري السلعة لحاجته إليها، فإن ¬
ونوقش هذا الشرط
اشترى السلعة من أجل الجائزة فهو يقامر؛ لأنه قد يحصل عليها وقد لا يحصل عليها. ونوقش هذا الشرط: بأن العلم بالمقاصد متعذر فإن ما في القلوب لا يطلع عليه إلا علام الغيوب، وما يدرينا أنه اشتراها لحاجته، أو مخاطرة من أجل الجائزة. ورد هذا: بأن الباعث على الشراء إن علم ذلك بالقرائن أو بغلبة الظن حرم على البائع البيع عليه، وإن لم يعلم فإن ذلك يوكل إلى دين المشتري وذمته، ومثل ذلك كثير في الفقه، كشراء العنب لمن يعصره خمرًا، أو شراء السلاح بقصد القتل، أو غير ذلك من البواعث المحرمة. الشرط الثالث: شرط يعود على البائع، وهو أن يكون قصده من الهدية الترويج للسلعة، وليس الإضرار بغيره من التجار، أو الإضرار بالسوق، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا ضرر ولا ضرار، وهو حديث حسن (¬1). (ح-242) ولما رواه الشيخان من طريق قتادة، عن أنس مرفوعا: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (¬2). وقد استدل من قال بالجواز بالشروط السابقة: أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة ما لم يقم دليل على التحريم، ولا ¬
القول الثالث
دليل هنا يعتمد عليه في منع هذه الصورة من الجوائز، وما ذكر من الشروط للإباحة إنما هو احتراز من قيام أسباب التحريم من القمار وإضاعة المال. القول الثالث: ذهب الشيخ الزرقاء رحمه الله إلى التفريق بين الجوائز البسيطة المعتادة بين التجار كقلم، وساعة يد، وبين الجوائز ذات القيمة الكبيرة كالسيارة، والثلاجة، فأجاز الجوائز البسيطة؛ لأنها تقدمة تعبيرية عن تقديرات التاجر لذلك الزبون، ومنع الجوائز ذات القيمة الكبيرة؛ لأنها من قبيل اليانصيب التجاري الذي هو الآن في نظر علماء الشريعة ضرب من المقامرة محرم يأثم فيه الطرفان التاجر والزبون، ولا يكون ما يستحقه بهذه الطريقة حلالًا, ولا سيما أنه يضر اقتصاديًا بالتجار الذين لا يملكون مثل هذه الوسائل القامرية المغرية، فيصرف عنهم الناس، ويخرجهم من السوق، وهذا ضرر اقتصادي كبير. • الراجح: كل قول من هذه الأقوال له ما يؤيده، وإن كنت أميل إلى القول الأخير باعتبار أن مثل هذه الهدايا لا تبعث المشتري على الشراء من أجل الحصول على الهدية بخلاف الهدايا ذات القيمة الكبيرة، والله أعلم.
الصورة الثالثة أن يكون بذل الهدية دون وعد سابق على الشراء
الصورة الثالثة أن يكون بذل الهدية دون وعد سابق على الشراء [ن-34] تكلمنا في الصورة الأولى: أن تبذل الهدية بلا مقابل، وفي الصورة الثانية: أن يكون بذل الحوافز بشرط الشراء، وفي هذه الصورة نوع آخر من الحوافز، فقد يبذل التاجر هدية دون أن يكون قد التزم بذلك بوعد سابق على عقد الشراء، فالباعث على الشراء قد خلا من الإغراء بتقديم الحوافز، والمشتري لم يعلم بحصوله على الهدية إلا عندما تم الإيجاب والقبول. وإنما قصد بذلك ترغيب المشتري بتكرار الشراء منه، أو قصد إكرامه بهذه الهدية مكافأة له على اختيار الشراء منه، أو لغيرها من الأسباب. وسواء اعتبرنا هذه الجائزة هبة محضة نظرًا إلى ظاهر اللفظ. أو اعتبرناها زيادة في المبيع بعد تمام العقد؛ لأن البيع هو السبب في حصول الهدية. قال ابن تيمية رحمه الله: "الهدية إذا كانت بسبب ألحقت به" (¬1). وجاء في القواعد لابن رجب: "تعتبر الأسباب في عقود التمليكات، كما تعتبر في الأيمان، ويتخرج على هذا مسائل متعددة. ... " ذكر منها: هبة المرأة زوجها صداقها إذا سألها ذلك؛ فإن سببها طلب استدامة النكاح، فإن طلقها فلها الرجوع فيها، نص عليه أحمد في رواية عبد الله ... ومنها ما نص عليه أحمد في رواية ابن ماهان فيمن اشترى لحمًا، ثم استزاده البائع، فزاده، ثم رد اللحم بعيب، فالزيادة لصاحب اللحم؛ لأنها أخذت بسبب ¬
اللحم، فجعلها تابعة للعقد في الرد؛ لأنها مأخوذة بسببه، وإن كانت غير لاحقة به" (¬1). أو اعتبرناها حطًا من الثمن، قال في مطالب أولي النهى: "وهبة بائع لوكيل اشترى منه كنقص من الثمن، فتلتحق بالعقد؛ لأنها لموكله، وهو المشتري، ويخير بها". فكل هذه التخريجات تدل على جواز مثل تلك الهدايا، وإن كان الاعتبار الثالث هو أضعفها؛ لأن البائع في الحقيقة لم يحط من الثمن شيئًا، فثمن السلعة لم يطرأ عليه تغيير، ولو اعتبرناها جزءًا من المبيع لطبق عليها أحكام البيع، من اشتراط العلم بها، والرد بالعيب ونحوه، ولا يظهر لي هذا، فأقوى التخريجات اعتبارها هدية على سبب، وهو وجود العقد، واختلفت الهدية في هذه الصورة عن الهدايا في الصور السابقة؛ لأن الهدايا في الصور السابقة قد التزم بها البائع بوعد سابق على عقد الشراء، بخلاف هذه الصورة فإن المشتري لم يعلم بحصوله على الهدية إلا عندما تم الإيجاب والقبول والله أعلم. ¬
الصورة الرابعة جوائز البنوك على حسابات التوفير
الصورة الرابعة جوائز البنوك على حسابات التوفير [ن-35] في البنوك التجارية يوجد نوعان من الحسابات: حسابات جارية، وأخرى آجلة، والآجلة أنواع، منها ما يسمى بحسابات التوفير، فهي نوع من الودائع المصرفية الآجلة. وفي الحسابات الجارية لا يدفع البنك في الغالب عليها أية فوائد، ولصاحبها الحق في أن يسحبها في أي وقت شاء. وأما حسابات التوفير فإنها لا تسحب كامل المبلغ دفعة واحدة إلا بعد إشعار ومضي مدة معينة متفق عليها، وتدفع البنوك الربوية فوائد مضمونة معلومة المقدار مستحقة بمضي تلك المدة، ولا يعلق الاستحقاق على وجود الأرباح، بينما في البنوك الإِسلامية يكون العائد غير معلوم المقدار، ويعلق الاستحقاق على وجود أرباح حقيقية، ويستحق صاحبه نسبة مئوية من الربح، وإن خسر البنك جهده خسر العميل ماله. وقد أخذت تلك البنوك على صرف جوائز عن طريق السحب على تلك الشهادات؟ وقد اختلف العلماء في حكم جوائز البنوك على حسابات التوفير على ثلاثة أقوال: القول الأول: القول بالتحريم مطلقًا، سواء أكانت تلك الجوائز من البنوك التقليدية (الربوية) أم كانت من المصارف الإِسلامية، وهذا ما ذهبت إليه لجنة الرقابة الشرعية لمصرف قطر الإِسلامي (¬1). ¬
• وجه القول بالتحريم مطلقا
• وجه القول بالتحريم مطلقاً: أما تحريم الجوائز من البنوك الربوية؛ فلأن حساب التوفير هو في حقيقته قرض ربوي، وصاحب الحساب مقرض، والبنك مقترض، وأخذ الجوائز على القروض محرم شرعًا؛ لأن ذلك يؤدي إلى قرض جر نفعاً. وأما وجه تحريم الجوائز من المصارف الإِسلامية؛ فلأن هذا يعد تقليدًا للغرب، وحثًا للناس على الاستهلاك، وشراء ما لا يحتاجون إليه. ونوقش هذا: بأن تقليد الغرب في وسائل المعاملات المالية الأصل فيه الإباحة ما لم يوجد ما يمنع منه شرعًا، بل ربما يأخذ تقليد الغرب الأحكام التكليفية الخمسة. فإن كان التقليد في الأمور المباحة كالمعاملات المالية المباحة كان التقليد مباحًا، وإن كان التقليد في الأمور المطلوبة كان التقليد مطلوبًا وجوبًا أو استحبابًا، وإن كان التقليد في الأمور المحرمة كان التقليد محرمًا، أو في الأمور المكروهة كان مكروهًا. وأما دعوى أن الناس قد يدفعهم ذلك إلى الإسراف، فسبق الجواب عليه، وهذا ممكن أن يقال في الجوائز على الشراء، وليس في الجوائز على حسابات التوفير، والله أعلم. القول الثاني: القول بجواز هذه الجوائز مطلقًا، وهذا ما اختاره الشيخ جاد الحق. ¬
• وجه من قال بالجواز
• وجه من قال بالجواز: جاء في جواب على سؤال وجه لفضيلة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، وكان نص السؤال: أولاً: هل الجوائز التي يحصل عليها أصحاب شهادات الاستثمار من فئة (ج-) حلال أم حرام (¬1). ثانيًا: السائل لديه دفاتر توفير في بنك الاسكندرية باسم أولاده -وقد تنازل عن الفائدة؛ لأنها ربا محرم، ولكن البنك يجرى على الدفاتر سحبًا شهريًا بجوائز لها- فما هو الحكم الشرعي لهذه الجوائز؟ فأجاب فضيلته: "إن الجوائز التي تعطى للفائزين من أصحاب شهادات الاستثمار من الفئة (ج-) وللمدخرين في دفاتر التوفير تدخل في نطاق الوعد بجائزة الذي أباحه بعض الفقهاء. أما الفائدة المحددة مقدمًا ... بواقع كذا في المائة فهي المحرمة؛ لأنها من باب ربا الزيادة المحرم شرعاً، ولما كان ذلك فإنه يباح للسائل أن يحصل على ¬
ويناقش
الجائزة عن شهادات الاستثمار فئة (ج) أو عن دفاتر التوفير، أما الفوائد فإنها محرمة، والله سبحانه وتعالى أعلم" (¬1). ويناقش: بأن ما يعطيه البنك لا يدخل في نطاق ما يسمى بالوعد بالجائزة لسببين: الأول: أن ما يدفعه صاحب حساب التوفير هو قرض، وليس وديعة؛ لأن الوديعة أمانة في يد المودَع لا يملكها, ولا يتصرف فيها، بينما البنك يأخذ هذه الأموال من أصحاب الحساب، ويتملكها، ويستثمرها، وإذا تصرف المودَع في الوديعة، فإن كانت الوديعة من العروض كالكتاب والسيارة فإنها تتحول إلى عارية، وإن كان الوديعة نقودًا تهلك بالاستعمال فإنها تتحول إلى قرض، هذا هو القول الصحيح في توصيف وديعة المصارف، وسوف يأتينا إن شاء الله تعالى الخلاف في توصيف الوديعة المصرفية. وإذا كانت قروضًا فإنه لا يجوز أخذ الجائزة على القرض؛ لأنها تؤدي إلى أن يجر القرض نفعًا على المقرض، وهذا لا يجوز. ثانيًا: أن البنوك الربوية تحدد فائدة ربوية على الودائع ابتداء، ثم منهم من يصرح بالفائدة ويوزعها بعد ستة أشهر، أو أكثر أو أقل، ومنهم من يخفي ذلك، ويوزعها بالقرعة على بعض المستثمرين، وهذا أسوأ من الأول؛ لأنه جمع بين الربا والقمار. القول الثالث: القول بالتفصيل: فيحرم أخذ الجوائز من البنوك التقليدية، ويجوز أخذها من المصارف الإِسلامية بشرط أن تكون تلك الجوائز من أرباح أصحاب الأسهم، ¬
• وجه القول بالتفريق
وأن يكون مجلس الإدارة مخولًا بذلك، ولا يجوز إخراج الجوائز من أرباح المودعين؛ لأن ذلك يؤدي لإخراج جزء من حصة أصحاب المودعين على سبيل التبرع، وهو ممنوع شرعًا؛ إذا لا يجوز للمضارب (البنك) التبرع من مال المضاربة إلا بإذن رب المال (أصحاب الحسابات الاستثمارية). وهذا ما ذهبت إليه لجنة الرقابة الشرعية للبنك الإِسلامي الأردني (¬1)، ورجحه الشيخ محمَّد عثمان شبير (¬2). • وجه القول بالتفريق: أن العقد بين البنك الربوي وبين أصحاب حسابات التوفير هو عقد قرض كما تقدم، والمقرض هو صاحب الحساب، ولا يجوز له أن ينتفع من المقترض بشيء بسبب القرض؛ لأن كل قرض جر نفعاً فهو ربا. والقول بأن حساب التوفير أو شهادات الاستثمار هي من قبيل شركة المضاربة الشرعية، دعوى بلا دليل لأسباب منها: أولاً: أن البنك يضمن لصاحب الحساب رأس ماله، وضمان رأس المال في عقد المضاربة باطل. ثانيًا: يضمن البنك لصاحب الحساب الربح. وضمان الربح في عقد المضاربة باطل أيضاً. ثالثًا: أن البنك يحدد للعميل مقدارًا معلومًا من الأرباح حتى قبل أن يتجر البنك بمال العميل، فالبنك لا يكتفي بأن يضمن للعميل عدم الخسارة، ولا الربح فقط، بل يحدد له مقدارًا معلومًا من الربح بحسب طول مدة القرض. ¬
بينما يشترط في المضاربة الصحيحة ألا يحدد الربح سلفًا، وأن يكون الربح شائعًا بين المضارب ورب المال، فلا يجوز أن يشترط أحدهما جزعًا معلومًا من الربح، وهذا الشرط نص عليه جميع الفقهاء من المذاهب الأربعة المعتمدة. فإذا لم يكن المال الذي أخذه البنك التجاري مضاربة، فإنه سيكون قرضًا، والقرض لا يجوز أخذ الجوائز عليه؛ لأنها من قبيل الربا. وأما أصحاب حسابات التوفير في البنوك الإِسلامية فهم في الحقيقة دفعوا أموالهم لتستثمر لهم، والعقد بينهم وبين البنك عقد مضاربة، فالبنك: هو المضارِب، ومنه العمل، وهو الاتجار بالمال طلبًا للربح. ورب المال: هو صاحب حساب التوفير، حيث يدفع ماله للبنك ليتجر فيه، ويتحملا الغرم معًا، والربح لهما على ما شرطاه، ففي حال الخسارة يخسر البنك جهده وعمله، ويخسر رب المال ماله، وفي حال الربح فإنه يشترط أن يكون جزءًا شائعًا كالنصف أو الثلث، فإن شرطا مقدارًا معينًا من المال فسدت المضاربة، هذا هو الفارق الجوهري بين عمل البنوك الربوية وبين عمل المصارف الإِسلامية. فإذا أعطى المصرف الإِسلامي أصحاب حسابات التوفير جوائز على ذلك فإن ذلك يعد من قبيل الهبة؛ لأن البنك في هذه الحالة ليس مقترضًا، وإنما هو مضارب لصاحب المال، والباعث على دفع البنك جوائز لشركائه هو تشجيع أصحاب المال لاستقطاب أكثر عدد ممكن من العملاء (الشركاء) بطريقة لا تفضي إلى محظور شرعًا، وإذا كان التقديم مسبوقًا بالإعلان فيكون ذلك وعدًا بالهبة، سواء أكان الوعد لجميع العملاء أم كان ذلك لبعضهم طبقًا لمواصفات معينة، والجهالة هنا مغتفرة كما هو مقرر في عقود التبرعات، ولا يشبه هذا القمار؛ لأن العميل لم يدفع شيئًا حتى يتردد بين أن يكون غانمًا أو غارمًا ..
الراجح
• الراجح: أرى أن القول بالتفصيل هو القول الوسط، فالسحب على حسابات التوفير إن كانت صادرة من المصارف الإِسلامية. فالجوائز جائزة، وإن كانت من البنوك التقليدية فهي محرمة، والله أعلم.
الصورة الخامسة: بطاقات التخفيض
الصورة الخامسة: بطاقات التخفيض المسألة الأولى التعريف ببطاقات التخفيض وبيان أقسامها تعريفها: عبارة عن قطعة صغيرة من البلاستيك أو غيره، يكتب عليها اسم المستفيد والجهة المصدرة لها، وتمنح حاملها حسمًا من أسعار سلع وخدمات مؤسسات وشركات معينة مدة صلاحية البطاقة. وهي على نوعين: النوع الأول: بطاقة التخفيض العامة: وهي بطاقات يتولى إصدارها في الغالب شركات السياحة والدعاية، والإعلان، أو الجمعيات التعاونية، أو الأندية، وتمنح حاملها حسمًا في أسعار السلع والخدمات لدى جهات تجارية عديدة، من الفنادق والمطاعم والمستشفيات والمدارس ومكاتب السفر والسياحة. النوع الثاني: بطاقة التخفيض الخاصة: وهي بطاقة تصدرها بعض الشركات والمؤسسات، وتمنح حاملها حسمًا لدى جميع سلعها وخدماتها في جميع فروعها. • الفرق بين بطاقة التخفيض العامة وبطاقة التخفيض الخاصة: الفرق بين بطاقات التخفيض العامة والبطاقة الخاصة من وجهين:
الوجه الأول
الوجه الأول: أن البطاقات العامة يستفيد المستهلك بالتخفيض من جهات تجارية عديدة من فنادق ومطاعم ومراكز تسوق، ومستشفيات ونحوها. أما البطاقات الخاصة فلا يستفيد العميل إلا من جهة واحدة، وهي الجهة التي أصدرتها. الوجه الثاني: أن البطاقات التخفيضية العامة أطرافها ثلاثة: (1) المصدر للبطاقة، وهي الجهة القائمة على برنامج التخفيض والمنظمة له، حيث تقوم بإصدار البطاقات التخفيضية والتنسيق مع الجهات التجارية المشتركة، ومتابعتها في الوفاء بما تعهدت به من تخفيض سلعها، وخدماتها، وهذه الجهة غالبًا ما تكون شركات السفر والسياحة، أو شركات الدعاية والإعلان. (2) الجهات التجارية المشتركة في هذه البطاقة، والمانحة للتخفيض. (3) حامل البطاقة، وهو العميل أو المستهلك وأما البطاقات الخاصة فإن أطرافها طرفان فقط: (1) جهة الإصدار. (2) حامل البطاقة. ***
المسألة الثانية توصيف العلاقة بين أطراف البطاقة
المسألة الثانية توصيف العلاقة بين أطراف البطاقة قبل البحث في حكم بطاقات التخفيض العامة يحسن بنا أن نتكلم عن توصيف العلاقة بين أصحاب البطاقة؛ لأن القول بالتحريم أو الجواز محكوم بهذا التوصيف: • العلاقة بين جهة التخفيض وبين جهة الإصدار: [ن-36] يرى القائلون بالتحريم أن العلاقة بين جهة التخفيض (المحلات التجارية، والمطاعم، والفنادق) وبين جهة الإصدار هو عقد إجارة، بحيث تبذل جهة التخفيض رسمًا إما أن يكون مقطوعًا، وإما أن يكون مقدرًا بالنسبة من ثمن المبيعات التي حصل عليها المحل بسبب البطاقة، كأن يعطى 2 % أو 3 % من قيمة المبيعات. والمنفعة التي تستفيدها جهة التخفيض: هي منفعة الدعاية، وجلب كثير من الناس للشراء من هذه المحلات. وإذا كان التوصيف بهذه الصورة، فإن العقد مشتمل على غرر، فقد يحصل الشراء، وقد لا يحصل، وإذا كان كذلك فإنه سيكون محرمًا. كما أن الأجرة إن كانت نسبة من المبيعات، فإن هذه الأجرة مجهولة، فلا ندري قد تكون قليلة، وقد تكون كثيرة. ويناقش: الذي أميل إليه أن العلاقة بين جهة الإصدار وبين شركات التخفيض هي
• العلاقة بين جهة الإصدار وبين المستهلك (حامل البطاقة)
علاقة سمسرة، وعقد السمسرة يتسامح فيه بالغرر لقيام الحاجة إلى هذا العقد، لأن السمسار إذا أخذ السلعة قد ينادي عليها الوقت الكثير، ولا يجد مشتريًا، ومع ذلك لا يستحق شيئًا، وقد يجد السمسار المشتري المناسب من حين أن يعلن عن السلعة، ويأخذ أجرته كاملة دون أن يكون هناك كلفة أو مشقة. وإذا كانت أجرة السمسار مقدرة بالنسبة لثمن المبيعات لم يكن هناك ظلم، فإن وجد السمسار مشترين، وحصل الشراء فعلًا استحق السمسار العوض، وإن لم يجد السمسار المشتري لم يستحق شيئًا، وهذا تمام العدل لكل منهما. وقد يقال: إن العلاقة بينهما عقد جعالة، فكان هذه المحلات قالت: من جاءنا بمن يشتري منا استحق كذا وكذا، وعلى كلا التوصيفين لا يكون الغرر مؤثرًا في صحة العقد؛ لأن السمسرة والجعالة يقبل فيهما الغرر لقيام الحاجة إلى هذه العقود، والله أعلم. • العلاقة بين جهة الإصدار وبين المستهلك (حامل البطاقة): يرى بعض العلماء أن العقد بينهما عقد إجارة، وإذا كان الحال كذلك كانت إجارة فاسدة لسببين: السبب الأول: أن المنفعة المعقود عليها، وهو التخفيض من السعر مجهولة، فلا يعلم قدر التخفيض الذي يحصله المستهلك، فقد تكون مشترياته كثيرة، فتكون نسبة التخفيض كبيرة، وقد تكون مشترياته قليلة، فتكون نسبة التخفيض قليلة، وجهالة المعقود عليه في الإجارة يصيرها فاسدة. ويناقش: بأن المعقود عليه أحد أمرين:
الأمر الأول
الأمر الأول: أن يكون المعقود عليه هو الحصول على التخفيض، فكأن المستهلك قال لمصدر البطاقة: ائتني بتخفيض ولك كذا وكذا، وقد فعل مصدر البطاقة، فاستحق الجعل أو الأجرة، فعلى هذا تكون الرسوم التي يأخذها مصدر البطاقة من قبيل الجعل أو الأجرة على السمسرة، ولا حرج شرعا أن يقول شخص لآخر: حصِّل لي تخفيضًا من المحلات التجارية، ولك كذا وكذا، وقدى نص الإِمام أحمد على جواز أن يقول الرجل لآخر: اقترض لي من فلان مائة ولك عشرة، كما نقل ذلك ابن قدامة في المغني، فإذا جاز العوض مقابل التوسط للحصول على القرض، فالعوض مقابل التوسط للحصول على التخفيض أولى بالجواز. الأمر الثاني: أن يقال: إن المعقود عليه هو الحق في التخفيض، وليس مقدار التخفيض، والحق في التخفيض قد استحقه من حين العقد، خاصة إذا علمنا أن التاجر لا يلحقة خسارة من التخفيض؛ لأن مقدار التخفيض الذي يقبله التاجر هو التنازل عن جزء من الربح، فالتاجر لا يمكن أن يقبل البيع بخسارة، والتقليل من الربح معوض بكثرة البيع، فالربح القليل مع البيع الكثير يصير الربح كثيراً. على أنه يمكن أن يوصف العقد بين جهة الإصدار وبين المستهلك بأنه عقد ضمان تضمن فيه جهة الإصدار للمضمون له وهو المستهلك الحصول على التخفيض من هذه المحلات الخاصة مقابل مبلغ من المال، وأخذ العوض على الضمان إذا لم يكن من ضمان الديون لا أرى حرجًا في أخذه كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في عقد الربا، وأما أخذ العوض على ضمان الديون فلا يجوز حتى لا يؤول إلى قرض جر نفعًا في حال عجز المضمون عنه عن السداد. وإذا
السبب الثاني
لم يف الضامن بما ضمن أمكن للمضمون له الرجوع إليه بما دفع له مقابل هذا الضمان. السبب الثاني: أن منفعة التخفيض ليست عند جهة الإصدار فتكون منفعة غير مقدور على تسليمها، وعدم القدرة على التسليم يجعل الإجارة فاسدة. ويناقش: بأن العقد أطرافه ثلاثة، وإذا كان العقد بين جهة الإصدار وبين جهة التخفيض هو عقد سمسرة أو جعالة، فإن جهة التخفيض ملزمة بتنفيذ الاتفاق، باعتبار أن جهة الإصدار مفوضة من المحلات التجارية القابلة للتخفيض، ونائبة عنها، فلا يصح دعوى أن جهة الإصدار لا تملك القدرة على التسليم؛ لأن الوكيل نائب عن الموكل. وإذا أحل أحد بالتزاماته فإنه يمكن الرجوع إلى الجهات الحكومية المختصة التي منحت الترخيص لمثل هذا النشاط، فإنها هي المسئولة عن إلزام كل طرف بتعهداته. • العلاقة بين جهة التخفيض وبين المستهلك: العلاقة بين جهة التخفيض وحامل البطاقة هي علاقة بيع وشراء، والمشتري غير ملزم بالشراء، إن شاء اشترى، وإن شاء لم يفعل، وأما البائع فإنه ملزم بالبيع بسعر محدد إذا كانت البضاعة موجودة، والتسعير جائز خاصة إذا كان التسعير جاء من إلزام البائع نفسه بهذا, ولم يلزمه أحد بقبول هذا التسعير، إلا أن التزام البائع لما لم يكن للمستهلك، وإنما كان التزامه لجهة إصدار البطاقة لم يكن المشتري قادرًا على إلزام البائع بالتزام التخفيض، وغاية ما يمكن المستهلك إذا رفض المحل أن يراجع الجهة الضامنة جهة الإصدار.
وقد أصبح لهذه البطاقات شهرة دولية، وتتعامل مع المراكز التجارية الكبيرة، مما أدى إلى أن يكون الالتزام فيها مستقرًا، وترعاه وزارة التجارة.
المسألة الثالثة حكم بطاقات التخفيض العامة
المسألة الثالثة حكم بطاقات التخفيض العامة [ن-37] سبق لنا توصيف خلاف العلماء في توصيف العلاقة بين أطراف بطاقة التخفيض، وبناء عليه يمكن القول بأن بطاقات التخفيض العامة إن كانت مجانية فالتخفيض من قبيل الهبة، والهبة جائزة؛ لخلوها من القمار؛ لأن حامل البطاقة سيكون إما غانمًا أو سالمًا. والجهالة في الهبة على الصحيح لا تؤثر في صحتها؛ لأنه يغتفر في التبرعات ما لا يغتفر في باب المعاوضات، وبهذا صدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي، وسأنقل نصه قريبًا إن شاء الله تعالى. [ن- 38] وإن كانت بطاقة التخفيض يستحقها حاملها مقابل رسوم يدفعها لمصدر البطاقة، فقد اختلف العلماء فيها, ولما كانت هذه المسألة من النوازل كان الاجتهاد فيها محصورًا بالعلماء المعاصرين، وقد اختلفوا فيها على قولين: القول الأول: القول بتحريم مثل تلك البطاقات. وبه قال شيخنا محمَّد بن صالح العثيمين (¬1)، وفضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين (¬2)، وفضيلة الشيخ بكر ابن عبد الله أبو زيد (¬3)، وأخونا الشيخ خالد ¬
• وجه القول بالتحريم
المصلح (¬1)، وأخونا فضيلة الشيخ خالد ابن علي المشيقح (¬2). وأفتت بالتحريم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬3)، وبه صدر قرار من مجمع الفقه الإِسلامي. جاء في نص القرار: "بطاقات الفنادق وشركات الطيران، والمؤسسات التي تمنح نقاطًا تجلب منافع مباحة، هي جائزة إذا كانت مجانية (بغير عوض) وأما إذا كانت بعوض فإنها غير جائزة لما فيها من الغرر" (¬4). • وجه القول بالتحريم: يرجع القول بالتحريم إلى تكييف العلاقة بين أطراف البطاقة الثلاثة: • أدلة القائلين بتحريم بطاقات التخفيض: ساق القائلون بالتحريم أدلة كثيرة على تحريم مثل هذه البطاقات، منها: الدليل الأول: الجهالة والغرر في هذا العقد، وقد بينا وجه الغرر عند الكلام على توصيف العلاقة بين أصحاب البطاقة في المبحث السابق. ¬
ويناقش
ويناقش: بأن الاعتقاد بأن المعاملة فيها غرر جاء من اعتقاد أن المعقود عليه هو مقدار التخفيض، وهو غير معلوم، أما إذا اعتبرنا أن المعقود عليه هو العمل على الحصول على حق التخفيض من المحلات التجارية، فإن هذا ليس فيه غرر، أو تكون الأجرة في مقابل الضمان على الحصول على التخفيض إذا أراد الشراء، والضمان إذا لم يكن في باب الديون فلا محذور من المعاوضة عليه، والله أعلم. الدليل الثاني: أن فيها أكلًا للمال بالباطل. ويناقش: بأن أكل المال بالباطل إذا كان أحد العوضين يدفع ماله بلا مقابل، وهذا لا يظهر في بطاقة التخفيض. الدليل الثالث: أن هذه المعاملة كثيراً ما تكون سبباً للنزاعات والمخاصمات بين أطرافها. ويناقش: بأن معاملات الناس لا تسلم من النزاع، ولكن الكلام على المعاملة نفسها هل هي سبب للوقوع في النزاع بحيث لا يعرف الأطراف الثلاثة في العقد التزامات كل طرف، فإن كانت التزامات كل طرف فيها محددة ومعلومة لم يكن النزاع فيها إلا بسبب شح الناس وطمعهم، وهو ما يوجد في كثير من المعاملات المباحة.
الدليل الرابع
الدليل الرابع: أن فيها إضرارًا بالتجار الذين لم يشاركوا في برنامج التخفيض. ويناقش: بأن التخفيض الموجود في هذه البطاقة إن كان يؤدي إلى وقوع التجار في الخسارة فيما لو باعوا بمثل هذا التخفيض لم يكن التخفيض مباحًا، وهذا التحريم ليس راجعاً للبطاقة، وإنما هو راجع لأمر آخر، حتى ولو لم يكن عن طريق البطاقة، وإن كان التخفيض يؤدي إلى تقليل أرباح التجار فقط، فالضرر كان بسبب طمعهم وجشعهم. وقد سبق مناقشة هذا في مبحث مستقل. الدليل السادس: أن في هذه البطاقات حصرًا لتداول المال بين طائفة معينة من التجار وهم المشاركون في برنامج التخفيض دون غيرهم. ويجاب عنه بنفس الجواب السابق. • الراجح: الذي أميل إليه هو القول بجواز بطاقات التخفيض، وأرى أن أطراف العقد الثلاثة لهم مصلحة في إتمام العقد. فالمصدر للبطاقة يستفيد من الرسوم التي يحصل عليها من البائع والمستهلك، وهو في مقابل عمل وجهد، فهو يذهب ليعقد اتفاقًا مع المحلات التجارية من مطاعم وفنادق ومراكز تسوق وغيرها ويقدم دعاية لتلك المحلات، ويقوم بطبع نشرات تبين مواقع هذه المحلات، ووسيلة الاتصال بها، وتقريبها للمستهلك. وأرى أن عمولة المصدر للبطاقة من قبل البائع بالذات يجب أن تكون مقدرة بالنسبة لثمن المبيعات وليست مبلغًا مقطوعًا حتى يكون الأمر عاد،، فإذا وجد
مشتر استحق العوض، وإلا لم يستحق شيئاً، كما في عمل السمسار، وعقد الجعالة. كما أن البائع يستفيد من وجود عدد من المشترين، وكثرة الطلب على السلع تزيد في أرباحه، والتخفيض الحاصل لا يضره إذ هو خصم جزء من الربح يستفيد منه المستهلك، ولا يلحق الضرر بالتاجر. والمستهلك يستفيد بالحصول على حق التخفيض، فهو لا يقدم على البطاقة إلا وهو يعلم أن له حاجة في مثل هذه السلع، فإن اشترى فقد مارس هذا الحق، وإن لم يشتر فالأمر جاء من جهته، وتنازل الشخص عن حقه لا يقدح في هذا الاستحقاق. والله أعلم. ومما يبين مصلحة هذه البطاقة وأهدافها ما ورد في خطاب رئيس مجموعة مركز الأعمال السعودي الدولي، حيث جاء في سؤاله الذي وجهه إلى اللجنة الدائمة ما نصه: بعد دراسة مستفيضة عن الأسواق التجارية، وأسعار البضائع والخدمات التي تقوم بها المؤسسات للمستهلك، وجدنا أن المستهلك يدفع مبالغ كبيرة، وإنه بالإمكان إيجاد وسيلة للتوفير من هذه المصروفات التي يتكبدها المستهلك، وخاصة ذوي الدخل المحدود منهم. فحرصنا ووفقنا بحمد الله لابتكار وسيلة لإقناع التجار بالإسهام معنا في هذا الهدف، بطريقة عملية وحديثة، تتماشى مع عصر النهضة والتقدم الذي نعيشه، وهذه الوسيلة هي عبارة عن بطاقة يعترف بها التاجر ويحملها المستهلك، وقد أسميناها بـ (بطاقة الأسرة الاقتصادية) واختصرنا الاسم إلى اسم تجاري هو: (بطاقة بيكس) وهذا المسمى يعني: أنها بطاقة يحملها كل الناس، وجعلناها في
أولا: الأهداف
متناول الجميع، وجعلنا لها سعراً رمزياً يغطي ما نتكبده من المصاريف، وسعرها مائة وخمسون ريالا فقط، وإليكم شرحًا لأهدافها وفوائدها والتزاماتها تجاه المشتركين فيها: أولاً: الأهداف: أ- تخفيف أعباء المعيشة على المواطن والمقيم والزائر لهذا البلد الكريم وكافة الدول العربية والإِسلامية التي تقبل هذه البطاقة حاليًا أو مستقبلًا. ب- توجيه المستهلك لشراء حاجته دونما إسراف، ولا حاجة لتكديس ما لا يحتاجه بأسباب التخفيضات الموسمية المؤقتة. جـ - تركيز الاستفادة لصالح ذوي الدخل المحدود. د- إعداد وتعويد جيل المستقبل على التوفير. ثانيا: فوائد البطاقة: أ- توفير الجهد والوقت في البحث عن الأماكن التي يرغب الشراء منها، وذلك بوضع دليل لجميع الأماكن المشاركة لكافة احتياجاته، حيث يوضح له العنوان ونسبة الخصم وعليه الاختيار. ب- المشترك لا يحتاج إلى التخفيضات الموسمية، حيث يتمتع بالتخفيض طوال العام وإن وجدت يستفيد منها أيضًا. ج- يستطيع الحصول على الخصومات طوال مدة اشتراكه معنا، وفي مختلف مدن المملكة والبلدان الأخرى، ويستطيع حاليًا أن يستفيد من خدماتنا فيما لا يقل عن ألفي متجر، وباب الاشتراك معنا للتجار مفتوح، وليس مخصصًا لتاجر دون الآخر، المهم أن يكون له رغبة بالالتزام بتخفيض أعباء المعيشة على المستهلك.
ثالثا: التزاماتنا تجاه المشتركين
د- يوفر المشترك ما لا يقل عن ثلث دخله في السنة، فإذا فرضنا أن مشتركًا دخله الشهري ثلاثة آلاف ريال، يكون دخله السنوي ستة وثلاثين ألفاً، وإذا كان متوسط توفيره معنا 30 % فقط أصبح توفيره (10800) عشرة آلاف وثمانمائة ريال سنويًا، وذلك نظير اشتراكه بالبطاقة لمدة عام، وباشتراك رمزي قدره مائة وخمسون ريالاً. ثالثا: التزاماتنا تجاه المشتركين: أ- نلتزم بالمتابعة والإشراف والتأكد من أن جميع المحلات ملتزمة بالتخفيض. ب - حل أي مشكله تواجه المشترك من قبل التجار. ج- دفع نسبة الخصم إن رفض التاجر ذلك. د- تزويد المشترك بكل جديد من المحلات طوال مدة اشتراكه وذلك من خلال جميع فروعنا ووكلائنا المنتشرة في جميع المناطق التي فيها المتاجر المشتركة معنا. هـ - إصدار دليل تجاري كل سنة، فيه شرح عن المتاجر. وعناوينها ونسبة الخصم المقدمة له". اهـ وأعتقد أن هذه الرسالة تكشف بوضوح مقدار المصلحة المتحققة لكل من الأطراف الثلاثة: المصدر للبطاقة، والتاجر، والمستهلك. وبعد أن أنهيت البحث في هذه المسألة وجدت فضيلة الشيخ الدكتور سامي بن إبراهيم السويلم قد اتفق معي بالقول بالجواز، ويرى أن ثمن الاشتراك مقابل وساطة مصدر البطاقة لدى المحل وإقناعه بالتخفيض للمشتري أجرة على عمل، ولا حرج شرعًا أن يقول شخص لآخر: احصل لي على تخفيض من المحل
الفلاني، ولك كذا، وقد نص الإِمام أحمد على جواز أن يقول الرجل لآخر: اقترض لي من فلان مائة ولك عشرة، كما نقل ذلك ابن قدامة في المغني، فإذا جاز العوض مقابل التوسط للحصول على القرض، فالعوض مقابل التوسط للحصول على التخفيض أولى بالجواز. وهدف بطاقة التخفيض هو تحقيق مصالح الأطراف الثلاثة: التاجر والمشترك والوسيط. فالتاجر ينتفع بتسويق بضاعته، والمشترك ينتفع بالتخفيض، والوسيط بالاشتراك، وإنما نشأ الإشكال من جهة أن المشترك قد يشتري، وقد لا يشتري، فإن اشترى تحققت المصلحة، وإلا خسر هو قيمة الاشتراك، وخسر التاجر أيضًا إن كان قد دفع مبلغًا محددًا للوسيط. وهذا التردد أورث شبهة الغرر. لكن ليس كل ما تردد بين الغنم والغرم، أو بين الانتفاع وبين الخسارة يدخل في باب الغرر الممنوع، ففي بيع العربون يتردد المشتري بين أن يملك السلعة وينتفع بها، وبين أن يغرم إذا لم يشترها ويخسر العربون، وهو مع ذلك جائز عند الإِمام أحمد وجمع من السلف، وذلك أن الهدف من العربون ليس المقامرة، وإنما الانتفاع بالسلعة، والتردد بين إمضاء الشراء وعدمه راجع للمشتري، وليس معتمداً على الحظ أو ما لا يتحقق غالباً. وحقيقة الغرر المحرم أنه معاوضة احتمالية نتيجتها انتفاع أحد الطرفين على حساب الآخر، فإن كانت المعاملة تحتمل انتفاع كلا الطرفين، وتحتمل مع ذلك انتفاع أحدهما وخسارة الآخر، أي أن المعاملة تحتمل الغرر وتحتمل عدمه، فينظر في احتمال كل واحد من الأمرين. فإن كان الغالب هو انتفاع الطرفين، وهذا هو مقصود المعاملة، فهي جائزة، ويغتفر ما فيها من الغرر، وهذا هو ضابط الغرر اليسير الذي نص عليه الفقهاء. أما إن كان احتمال انتفاع أحدهما
وخسارة الآخر هو الغالب، وهو مقصود الطرفين، فهذا من الغرر الفاحش الذي لا يغتفر. وشراء بطاقة التخفيض معاملة تحتمل انتفاع الطرفين. المصدر والمشترك. وتحتمل مع ذلك انتفاع المصدر وخسارة المشترك. فإن كان المشترك يحتاج غالباً للسلع محل التخفيض، وينتفع بحصول التخفيض على أسعارها، فالغالب في هذه الحالة هو انتفاع الطرفين، فيغتفر ما فيها من الغرر؛ لأنه من اليسير المعفو عنه. فشراء البطاقة في هذه الحالة لا حرج فيه إن شاء الله (¬1). ¬
المسألة الرابعة حكم بطاقات التخفيض الخاصة
المسألة الرابعة حكم بطاقات التخفيض الخاصة [ن-39] عرفنا فيما سبق الفرق بين بطاقة التخفيض العامة، وبين بطاقة التخفيض الخاصة، وأن أهم فرق بينهما أن بطاقة التخفيض الخاصة يتولى إصدارها المحل التجاري الملتزم بالتخفيض، وبالتالي فإن أطراف العقد طرفان فقط: أحدهما: الجهة المصدرة للبطاقة، وهي المحل التجاري الملتزم بالتخفيض، كما لو قام فندق أو مستشفى أو صاحب مكتبة بإصدار بطاقات عن طريق رسوم يدفعونها مثلًا مائة ريال مقابل التخفيض بنسبة معينة تقدر بـ 20 % أو أقل أو أكثر. والثاني: المستهلك وهو المستفيد من التخفيض. وهذا النوع من البطاقات لا بد أنه أفضل من البطاقة العامة حيث إن جهة الإصدار تملك منفعة التخفيض، والتزامها مباشرة مع المستهلك، بخلاف البطاقة العامة. وقد اختلف العلماء في هذه البطاقة على قولين: القول الأول: يرى تحريم هذه البطاقة. وبهذا أفتى فضيلة شيخنا محمَّد بن صالح العثيمين (¬1)، وفضيلة الشيخ ¬
عبد الله بن جبرين (¬1)، والشيخ محمَّد عثمان شبير (¬2)، ورجحه الشيخ خالد المصلح (¬3). وأدلتهم: هي نفس أدلة القول بتحريم بطاقات التخفيض العامة، وقد سبق ذكرها، ومناقشتها فأغنى عن إعادتها. ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب بعض الباحثين إلى جوازها (¬1)، ومال إليه أخبرنا فضيلة الشيخ خالد ابن علي المشيقح (¬2). وقيد القول بالجواز بشرطين. الشرط الأول: معرفة نسبة التخفيضات، كأن ينص في العقد على مقدار التخفيض بـ 20% أو 50 %. وهذا الشرط لا بد منه حتى في بطاقة التخفيض العامة. الشرط الثاني: معرفة ما يكون فيه التخفيضات؛ كأن يقال: التخفيض على تكاليف الكشف, أو التخفيض على تكاليف الأدوية , أو التخفيض على تكاليف التحاليل. وهكذا بحيث تكون المشتريات محدودة السلع. • الراجح: إذا كنت أميل إلى جواز التخفيض في البطاقات العامة فإن الجواز في هذه البطاقات الخاصة لا تختلف عنها في الحكم إن لم تكن هذه البطاقات أولى منها بالجواز، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث البيوع المنهي عنها من أجل الضرر
الفصل الثالث البيوع المنهي عنها من أجل الضرر تمهيد في تعريف الضرر كل البيوع المنهي عنها لا بد وأن فيها ضررًا, ولذلك نهى الشارع عنها، وأحكام المعاملات معللة، وليست تعبدية؛ لأن القصد منها تحقيق العدل بين الناس، ورفع الظلم عنهم، فلا تجد معاملة قد نهى عنها الشارع ولا تتلمس الضرر البين فيها. تعريف الضرر اصطلاحًا (¬1): الذي يعنينا هنا من الضرر هو الضرر المالي فحسب، ولسنا في صدد الضرر بمفهومه العام، والذي قد يلحق أيضًا غير المال من بدن، أو عرض. ¬
وقد عرف الشيخ علي الخفيف الضرر المالي بقوله: "كل أذى يصيب الإنسان، فيسبب له خسارة مالية في أمواله، سواء كانت ناتجة عن نقصها، أو عن نقص منافعها، أو عن زوال بعض أوصافها، ونحو ذلك مما يترتب عليه نقص في قيمتها عما كانت عليه قبل حدوث ذلك الضرر" (¬1). ولقد اعتنى الشارع الحكيم بموضوع الضرر، ومنعه قبل وقوعه، ودفعه بعد وقوعه، برفعه أو تخفيف آثاره، وقعد الفقهاء لذلك مجموعة من القواعد الفقهية الكلية التي تضبطه، وتوضح معالمه العامة، وتعالج آثاره. (ح-243) وكان الحديث النبوي، الذي رواه الدارقطني من طريق عثمان ابن محمَّد بن عثمان بن ربيعة، ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضاره الله، ومن شاق شق الله عليه (¬2). [المعروف من حديث أبي سعيد أنه مرسل، وهو حسن بشواهده] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
يعتبر كما قال أبو داود: من الأحاديث التي يدور الفقه عليها. اهـ بل إن هذا الحديث نصف الفقه، وذلك أن الأحكام: إما لجلب مصلحة، أو لدفع مضرة (¬1). لأن الشريعة إما أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، والأول تجلب فيه المصالح، والثاني تدفع فيه المضار. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار). فيه نفي الضرر، وليس المراد نفي وقوعه، ولا إمكانه، فدل على أنه لنفي الجواز، وإذا انتفى الجواز ثبت التحريم، فالحديث يوجب منعه مطلقا، ويشمل بعمومه الضرر العام والخاص، ويشمل فدفعه قبل الوقوع بطرق الوقاية الممكنة، ورفعه بعد الوقوع بما يمكن من التدابير التي تزيل آثاره، وتمنع تكراره، وتدل أيضاً على وجوب اختيار أهون الشرين لدفع أعظمهما؛ لأن في ذلك تخفيفاً للضرر عندما لا يمكن منعه بتاتًا (¬2). ¬
• معنى حديث: لا ضرر ولا ضرار
• معنى حديث: لا ضرر ولا ضرار: اختلف العلماء في معنى حديث: (لا ضرر ولا ضرار) هل تكرار الكلمتين من باب التوكيد، أو بينهما اختلاف في المعنى؟ على أربعة أقوال: القول الأول: أن المعنى واحد، وتكرارهما يراد به التوكيد، ذكره بعض الحنفية (¬1)، واختاره ابن حبيب من المالكية (¬2). القول الثاني: الضرر: فعل الواحد، والضرار: أن يضر كل واحد منهما بصاحبه؛ لأن هذا البناء يستعمل كثيرًا بمعنى المفاعلة، كالقتال، والضراب، والسباب، والجلاد، والزحام وهذا اختيار بعض الحنفية (¬3)، والباجي من المالكية (¬4)، وذكره بعض ¬
القول الثالث
الشافعية (¬1)، وارتضاه الإمام الزبيدي في تاج العروس (¬2). القول الثالث: الضرر: هو مالك فيه منفعة، وعلى غيرك فيه مضرة. والضرار: ما ليس لك فيه منفعة، وعلى غيرك فيه مضرة. فيكون الضرر: ما قصد به الإنسان به منفعة نفسه، وكان فيه ضرر على غيره، والضرار: ما قصد به الإنسان الإضرار بغيره، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 107]. وهذا اختيار الخشني (¬3). القول الرابع: الضرر: أن يضر نفسه، والضرار: أن يضر غيره، اختاره بعض الشافعية (¬4). فيؤخذ من هذه الأقوال الواردة في معنى حديث: (لا ضرر، ولا ضرار) يؤخذ منها حكمان: الحكم الأول: أنه لا يجوز الإضرار ابتداء، أي لا يجوز للإنسان أن يضر شخصًا آخر في نفسه، وماله، سواء كان فيه منفعة له، أو ليس فيه منفعة له؛ لأن إضراره بغيره ظلم، والظلم ممنوع في كل دين. ¬
الحكم الثاني
الحكم الثاني: لا يجوز مقابلة الضرر بمثله، وهو الضرار. فمن أتلف مال غيره مثلًا، فلا يجوز أن يقابل بإتلاف ماله؛ لأن في ذلك توسيعًا للضرر بلا منفعة، وأفضل منه تضمين المتلف قيمة ما أتلف؛ فإن فيه نفعاً بتعويض المضرور، وتحويل الضرر نفسه إلى حساب المعتدي، وذلك بخلاف الجناية على النفس والبدن مما شرع فيه القصاص، فمن قتل يقتل، ومن قطع يقطع؛ لأن هذه الجنايات لا يقمعها إلا عقوبة من جنسها، كي يعلم الجاني أنه في النهاية كمن يعتدي على نفسه، ومهما تكن العقوبة الأخرى فإنها لا تعيد للمجني عليه ما فقد من نفس أو عضو (¬1). ومن أجل دفع الضرر شرع الشارع أمورًا ومنع من أخرى من باب الوقاية من الوقوع في الضرر، ورفعه أو تخفيفه إذا وقع، وقطع كل ما يؤدي إلى العداوة والبغضاء. ففي ميدان المصالح العامة: شرع الجهاد، لدفع ضرر الأعداء. وشرع العقوبات؛ لقمع الإجرام. وشرع سد ذرائع الفساد؛ لدفع الشر بجميع أنواعه. وفي ميدان الحقوق الخاصة: شرع الرد بالعيب؛ لإزالة الضرر الواقع على المشتري. وشرع جميع أنواع الخيارات؛ لإزالة الأضرار الواقعة على أحد المتعاقدين، كخيار المجلس، والعيب، والغبن، والتدليس. ¬
وشرع الحجر بسائر أنواعه منعاً للضرر من سوء التصرف، أو الضرر اللاحق للدائنين. وشرع الشفعة لدفع ضرر الشريك. وهذه أمثلة لما شرعه الشارع في سبيل منع الضرر ودفعه وتخفيفه، وهي أمثلة تدل على غيرها. وأما ما منعه الشارع في سبيل الوقاية من الوقوع في الضرر. فيدخل فيه كل ما يضر الإنسان نفسه: سواء كان الضرر في دينه كبيع وشراء الأفلام الخليعة التي تخدش الحياء، ومثله بيع كتب أهل البدع، والروايات الماجنة، والمجلات الخليعة. أو يضر المشتري في بدنه، أو في ماله، مثل بيع وشراء الخمر، والحشيش والمخدرات، والدخان، وسائر المحرمات. أو يلحق ضررًا بالسوق. مثل الاحتكار - والتسعير - وتلقي الجلب - وبيع الحاضر للباد. أو يلحق ضررًا بأخيه المسلم: كالبيع على بيعه - وبيع المضطر - وأخذ الربا - وغبن المسترسل - والنجش، وحرم الغش، والتدليس (كالتصرية)، وحرم القمار والميسر، وأكل أموال الناس بالباطل. أو يعين على باطل، مثل بيع السلاح في زمن الفتنة، وبيع العنب لمن يعصره خمرًا. وأختم هذه المقدمة الموجزة لبيان ذكر بعض القواعد التي ذكرها الفقهاء لمنع الضرر، وإزالته، وتخفيفه، والمقام لا يحتمل شرح كل هذه القواعد؛ لأن المقصود من هذا الكلام التمهيد لبيان بعض البيوع المحرمة من أجل الضرر، فمن هذه القواعد:
- الأصل في المنافع الحل, وفي المضار والتحريم (¬1). - العقود ما شرعت إلا للنفع, وكل بيع فيه ضرر من غير نفع راجح لا يجوز؛ لأنه خلاف الوضع، وخلاف الوضع لا يجوز في الشرع. - كل أمر ضرره وإثمه أكبر من نفعه فهو منهي عنه، من غير أن يحتاج إلى نص خاص (¬2). - الضرر يدفع بقدر الإمكان (¬3). - الضرر يزال (¬4). ¬
والمقصود من هذه القاعدة: رفع الضرر وتوميم آثاره. - الضرر لا يزال بمثله (¬1). وهذا قيد للقاعدة السابقة، فإن إزالة الضرر لا يجوز أن يكون بإحداث ضرر مثله؛ لأن السعي بإزالته بإحداث ضرر مثله ضرب من العبث، ولأن هذا ليس إزالة للضرر، ويفهم من ذلك، أنه لا تجوز إزالته بضرر أعظم منه بحكم الأولوية. - الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف (¬2). "يعني: أن الضرر تجوز إزالته بضرر أخف منه، ولا يجوز أن يزال بمثله، أو بأشد منه" (¬3). - يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام. أو بعبارة أخرى: دفع الضرر العام واجب، ولو بإثبات الضرر الخاص (¬4). درء المفاسد أولى من جلب المنافع (¬5). الضرورات تبيح المحظورات (¬6). ¬
ومن ثم أبيحت الميتة عند المخمصة، وإساغة اللقمة بالخمر لمن غص، ولم يجد غيرها، وأبيحت كلمة الكفر للمكره. قال تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]. وقال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106]. هذا ما أردت أن أقدم به بين يدي بحث بعض المسائل التي منعت من أجل الضرر، والتي يذكرها الفقهاء عادة في هذا الفصل، وسوف أنتقي من هذه المسائل ما يناسب البحث إن شاء الله تعالى، سائلًا الله الإعانة والتوفيق، إنه ولي ذلك، والقادر عليه.
المبحث الأول الأمور التي نهى عنها حماية أو نفعا للسوق
المبحث الأول الأمور التي نهى عنها حماية أو نفعا للسوق الفرع الأول: في الاحتكار المسألة الأول في تعريف الاحتكار تعريف الاحتكار اصطلاحًا (¬1): تعريف الحنفية: عرفه السغدي في فتاويه: "هو أن يشتري من مصره الطعام، فيحتكره عليهم" (¬2). ¬
محترزات التعريف
محترزات التعريف: قوله: (أن يشتري من مصره) فإن اشتراه من بلد بعيد، ثم جلبه إلى بلده، أو كان ذلك من غلة أرضه بلا شراء، فله حبسه عنهم. والتعريف غير جامع، حيث لم يشترط أن يكون ذلك فيه إضرار بالسوق، فإن اشتراه من السوق، ولم يكن في حبسه إضرار بهم، فليس باحتكار حتى عند الحنفية. وعرفه ابن عابدين: "اشتراء طعام ونحوه، وحبسه إلى الغلاء أربعين يوماً" (¬1). فقوله: (اشتراء طعام) إشارة إلى أن الاحتكار هو في القوت خاصة. وقوله: (وحبسه إلى الغلاء) إشارة إلى أن حبسه إذا لم يكن مضرًا بالناس كما لو كان في زمن توفر السلع، وكثرتها؛ لعرضها في زمن قلتها، فليس بادخار؛ لأن هذا أنفع للناس. وقوله: (أربعين يوماً) هذه مسألة تعرض لها الحنفية، ولم يتعرض لها غيرهم، وهي مدة الاحتكار، وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى. تعريف المالكية: عرفه الباجي بقوله: الاحتكار: هو الادخار للمبيع، وطلب الربح بتقلب الأسواق (¬2). وقال الرصاع في شرح حدود ابن عرفة: "ما ملك بعوض ذهب، أو فضة، محبوسًا لارتفاع سوق ثمنه" (¬3). ¬
تعريف الشافعية
فقوله: (ما ملك بعوض) أخرج ما ملك عن طريق الزراعة، أو الهبة، أو غيرهما من أنواع التملك بغير معاوضة. وقوله: (محبوسًا لارتفاع سوق ثمنه) فإن حبسه من أجل قوت عياله لم يكن احتكارًا، وإنما حبسه ليرتفع سعره. تعريف الشافعية: عرفه الشيرازي بقوله: أن يبتاع في وقت الغلاء، ويمسكه ليزداد في ثمنه (¬1). وهذا التعريف ليس بمانع، فإنه ليس كل ما يشتريه في وقت الغلاء ويمسكه يكون احتكارًا، فإن الاحتكار عند الشافعية، هو في القوت خاصة. تعريف آخر: الاحتكار، هو: إمساك ما اشتراه في الغلاء، لا الرخص من الأقوات، ولو تمراً، أو زبيبًا، ليبيعه بأغلى منه عند الحاجة (¬2). وعرفه النووي بقوله: "وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء للتجارة، ولا يبيعه في الحال بل يدخره، ليغلو ثمنه، فأما إذا جاءه من قريته، أو اشتراه في وقت الرخص، وادخره، أو ابتاعه في وقت الغلاء، لحاجته إلى أكله، أو ابتاعه ليبيعه في وقته فليس باحتكار" (¬3). وهذا أتم من التعريفين السابقين. ¬
تعريف الحنابلة
تعريف الحنابلة: قال في كشاف القناع: "الاحتكار في القوت: أن يشتريه للتجارة، ويحبسه ليقل، فيغلو" (¬1). وعرفه البهوتي في شرح منتهى الإرادات: "الشراء للتجارة وحبسه، مع حاجة الناس إليه في قوت آدمي" (¬2). تعريف الاحتكار في هذا العصر: عرفه بعض الباحثين بقوله: "الاحتكار: هو حبس مال، أو منفعة، أو عمل، والامتناع عن بيعه، وبذله، حتى يغلو سعره غلاء فاحشاً غير معتاد، بسبب قلته، أو انعدام وجوده في مظانه، مع شدة حاجة الناس أو الدولة أو الحيوان إليه" (¬3). فالتعريفات القديمة لدى الفقهاء كانت تدل على مفهوم الاحتكار الذي كان سائدًا في تلك العصور، وأنه غالباً ما كان يجري في الأقوات، نظراً لبساطة تكاليف الحياة، ومتطلبات المعيشة، إلا أنها لا تصلح أن تكون تعاريف للاحتكار الحديث الذي اتسع مفهومه، وأصبحت له فنون، وطرق متشعبة مترامية الأطراف، فنحن نعيش في زمن أوحت الشياطين فيه إلى أوليائها زخرفًا من الأقوال، والأفعال، حيث امتد إخطبوط الاحتكار ليهيمن على مناحي الحياة، بما فيها من أقوات، وأعمال، ومنافع (¬4). ¬
ومع ذلك فإن هذا التعريف قد لا يسلم من المعارضة، فقوله: الاحتكار حبس مال أو منفعة أو عمل، لعله أراد بالمال: مفهوفا خاصًا؛ لأن عطف المنفعة والعمل على المال، قد يبدو للقارئ أن المنفعة والعمل ليسا من الأموال، مع أن المنفعة والعمل داخلان في مسمى المال عند الجمهور، بل إن قوله: "أو عمل" العمل من المنافع أيضاً، إلا أن يقال: لعله من باب عطف الخاص على العام. وإطلاقه الحبس يدخل فيه الحبس وقت الرخص، وهذا غير مراد؛ لأن حبس الشيء وقت كثرته من الحزم والعقل حتى ينتفع به يوم قلته، وسيأتي مزيد بحث لهذا القيد إن شاء الله تعالى عند الكلام عن شروط الاحتكار.
المسألة الثانية خلاف العلماء في حكم الاحتكار
المسألة الثانية خلاف العلماء في حكم الاحتكار [م - 339] اختلف العلماء في حكم الاحتكار على قولين: القول الأول: يحرم، وهو قول الجمهور (¬1)، وعبر الحنفية بالكراهة، والمقصود بها كراهة التحريم (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا يحرم، وهو قول الموصلي الحنفي في المغني (¬1)، وهو قول مرجوح لدى الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وإذا انتفى التحريم لم تنتف الكراهة (¬4). • دليل من ذهب إلى القول بالتحريم: الدليل الأول: الاحتكار ظلم للعباد، ووجهه: أن بيع ما في العصر قد تعلق به حق العامة، ¬
فإذا امتنع المحتكر عن بيعه للناس عند شدة حاجتهم إليه فقد منعهم حقهم، ومنع الحق عن المستحق ظلم. وإذا كان ذلك كذلك فإن كل آية في تحريم الظلم فإنها بعمومها صالحة للاستدلال بها على تحريم الاحتكار. ولذلك فسر بعض العلماء قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، قال: الإلحاد فيه: احتكار الطعام بمكة (¬1)، وهذا من قبيل التفسير بالمثال، والظلم أعم من ذلك، وأشده: الشرك بالله، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. (ح-244) وأما ما رواه أبو داود من طريق أبي عاصم، عن جعفر بن يحيى ابن ثوبان، أخبرني عمارة بن ثوبان، حدثني موسى بن باذان، قال: أتيت يعلى بن أمية، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه (¬2). [فهو حديث ضعيف، مسلسل بالضعفاء] (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-245) ما رواه الدارقطني من طريق عثمان بن محمَّد بن عثمان ابن ربيعة، ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضاره الله، ومن شاق شق الله عليه (¬1). [المعروف من حديث أبي سعيد أنه مرسل، وهو حسن بشواهده] (¬2). وجه الاستدلال: الحديث نص في النهي عن ارتكاب ما يضر بالغير، سواء كان هذا الغير فرداً، أو جماعة، ولا يشك عاقل في أن الاحتكار يلحق الضرر في عامة المسلمين حيث يعتبر الاحتكار من أعظم أسباب ارتفاع الأسعار، وانعدام السلع من الأسواق. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ح-246) ما رواه مسلم من طريق محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد ابن المسيب، عن معمر بن عبد الله، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: لا يحتكر إلا خاطئ (¬1). ورواه مسلم من طريق يحيى بن سعيد، قال: كان سعيد بن المسيب يحدث، أن معمراً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من احتكر فهو خاطئ ... (¬2). وجه الاستدلال: قوله: (لا يحتكر إلا خاطئ) قال النووي: (قال أهل اللغة: الخاطئ بالهمز: هو العاصي الآثم، وهذا الحديث صريح في تحريم الاحتكار" (¬3). وقال أبو عبيد: "سمعت الأزهري يقول: خَطِئ إذا تعمد، وأخطأ: إذا لم يتعمد ... " (¬4). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (ح-247) ما رواه أحمد من طريق أبي معشر، عن محمَّد بن عمرو ابن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ (¬1). [ضعيف، ويشهد له حديث معمر بن عبد الله السابق في مسلم] (¬2). ¬
الدليل الخامس
وجه الاستدلال به كالاستدلال بالحديث الذي قبله. الدليل الخامس: (ح-248) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الصمد، ثنا زيد -يعني ابن مرة- أبو المعلى، عن الحسن، قال: ثقل معقل بن يسار، فدخل إليه عبيد الله بن زياد يعوده، فقال: هل تعلم يا معقل أني سفكت دمًا. قال: ما علمت. قال: هل تعلم أني دخلت في شيء من أسعار المسلمين؟ قال. ما علمت. قال: أجلسوني، ثم قال: اسمع يا عبيد الله حتى أحدثك شيئًا لم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة ولا مرتين، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم، فإن حقًا على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة، قال: أنت سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: نعم غير مرة، ولا مرتين (¬1). [حديث حسن، والحسن البصري سمع من معقل بن يسار] (¬2). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (ح-249) ما رواه ابن ماجه، من طريق أبي أحمد، ثنا إسرائيل، عن علي ابن سالم بن ثوبان، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: (ح-250) ما رواه أبو داود الطيالسي من طريق أبي يحيى المكي [عن فروخ مولى عثمان] (¬1) عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من احتكر على المسلمين طعامهم ابتلاه الله بالجذام، أو قال بالإفلاس (¬2). [ضعيف] (¬3). ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: (ح-251) ما ورواه أحمد من طريق أصبغ بن زيد، حدثنا أبو بشر، عن أبي الزاهرية، عن كثير بن مرة الحضرمي عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من احتكر طعامًا أربعين ليلة، فقد برئ من الله تعالى، وبرئ الله تعالى منه، وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله تعالى (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬
الدليل التاسع
الدليل التاسع: (ح-252) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر، قال: أخبرنا القاسم، عن أبي أمامة قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحتكر الطعام (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬
الدليل العاشر
الدليل العاشر: (ح-253) روى ابن أبي شيبة، قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى عن الربيع ابن حبيب، عن نوفل بن عبد الملك، عن أبيه، عن علي قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحكرة بالبلد (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الحادي عشر: من الآثار: (ث-33) روى ابن أبي شبية، قال: نا يحيى بن سعيد القطان، عن يحيى ابن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، قال: الحكرة خطيئة (¬3). ¬
[صحيح]. (ث-34) وروى مالك في الموطأ، أنه بلغه، أن عمر بن الخطاب قال: لا حكرة في سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا، فيحتكروه علينا, ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء، والصيف، فذلك ضيف عمر، فليبع كيف شاء الله، وليمسك كيف شاء الله (¬1). [البلاغ ضعيف؛ لأنه منقطع]. (ث-35) وروى مالك في الموطأ، أنه بلغه: أن عثمان بن عفان كان ينهى عن الحكرة (¬2). [ضعيف لكونه بلاغًا، والبلاغ منقطع]. (ث-36) وروى ابن أبي شيبة، قال: نا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، عن الحسن، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن قيس، قال: قال قيس: قد أحرق لي علي بيادر بالسواد كنت احتكرتها, لو تركها لربحتها مثل عطاء الكوفة (¬3). [رجاله ثقات إلا قيسًا والد عبد الرحمن، لم أقف له على ترجمة]. (ث-37) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع عن سفيان عن إبراهيم ¬
الدليل الثاني عشر: من المعقول
ابن مهاجر عن عبد الله بن نائلة عن عبد الله بن عمرو قال: لا يحتكر إلا خاطئ أو باغ (¬1). [ضعيف لم أقف على ترجمة عبد الله بن نائلة]. الدليل الثاني عشر: من المعقول: الاحتكار فيه ظلم للناس، وظلم للسوق، وظلم للتجار. أما الظلم على المستهلكين فلما يقع فيه من التضييق عليهم في أرزاقهم، ورفع الأسعار عليهم. وأما الظلم على التجار فلأن السلع تكون فقط في يد المحتكر دون بقية التجار، وفي ذلك إهدار لحرية التجارة والصناعة، وعدم التكافؤ في الفرص. وظلم للسوق حيث ينتج من الاحتكار عدم توفر السلع في السوق، فالعقل دال على تحريم مثل هذا الفعل لما فيه من الظلم. • دليل من قال: يكره. الدليل الأول: قال الموصلي في كتابه المغني: "قد ورد في ذلك أحاديث مغلظة، وليس فيها ما يصح، غير قوله عليه الصلاة والسلام: من احتكر فهو خاطئ" انفرد به مسلم، والجواب عنه من عدة وجوه: الأول: "أن راوي هذا الحديث سعيد بن المسيب، عن معمر بن أبي معمر، وكان سعيد بن المسيب يحتكر، فقيل له في ذلك، فقال: إن معمراً الذي كان ¬
يحدث بهذا الحديث كان يحتكر، والصحابي إذا خالف الحديث دل على نسخة أو ضعفه. والثاني: أن للناس في انفراد مسلم بهذا كلامًا. والثالث: أنه يحمل على ما إذا كان يضر بأهل البلد" اهـ (¬1). والحمل الثالث هو المتعين؛ لأن تحريم الاحتكار إنما هو خاص فيما إذا كان يضر بأهل البلد، أما إذا كان لا يضرهم، ومن باب أولى إذا كان الاحتكار ينفعهم، كما لو كان الادخار زمن وفرة السلع لتوفيرها للناس زمن قلتها، أو في غير وقتها، فهذا مطلوب، وسنشرح ذلك إن شاء الله من خلال الكلام على شروط الاحتكار. وقد قال بعضهم متهجمًا على الموصلي بأن رأيه هذا "من تمحلات متعصبة الحنفية في رد النصوص إذا خالفت المذهب" (¬2). فليعلم أن مذهب الحنفية هو تحريم الاحتكار، وقد نقلنا ذلك في نصوص كثيرة من كتب الحنفية، فلم يقل ذلك نصرة لمذهبه، وإنما لرأي رآه، وهو قد ذكر ثلاثة وجوه، أحدها صحيح بالاتفاق، وهو الوجه الثالث، والثاني إنما عزاه للناس من الكلام على أفراد مسلم، ولم ينسبه لنفسه، والأول هو المدخول، وهو قوله بأن معارضة الراوي لما روى تدل على نسخه أو ضعفه، والله أعلم، وعلى كل حال ينبغي أن يعذر المجتهد إذا لم يوفق للصواب. ... ¬
المسألة الثالثة في شروط الاحتكار
المسألة الثالثة في شروط الاحتكار لما كان حبس الطعام منه ما هو احتكار محرم، ومنه ما هو مباح، وضع الفقهاء شروطًا إذا تحققت سمي حبس الطعام احتكارًا، وهذه الشروط منها ما هو محل وفاق، ومنها ما هو محل خلاف، وسوف نذكرها، ونشير إلى ما يوجد فيها من خلاف إن شاء الله تعالى. الشرط الأول: [م - 340] أن يكون المحتكر قد اشتراه من السوق، وهذا الشرط نص عليه الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وأما ادخار غلة أرضه، فليس باحتكار، وحكى بعضهم الإجماع على ذلك. ¬
القول الأول
قال في الجامع الصغير: "فأما من جلب شيئًا من أرضه، وحبسه فليس باحتكار بالإجماع؛ لأن ذلك خالص حقه، فلم يكن بالحبس مبطلًا حق غيره" (¬1). وقال في الدر المختار: "ولا يكون محتكرًا بحبس غلة أرضه بلا خلاف" قال ابن عابدين تعليقًا: "لأنه خالص حقه، لم يتعلق به حق العامة ألا ترى أن له ألا يزرع، فكذا له ألا يبيع" (¬2). (ث-38) وقد روى عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، أنه كان يكون عنده الطعام من أرضه السنتين والثلاث يريد بيعه، ينتظر الغلاء (¬3). [وإسناده صحيح]. [م - 341] وإن كان جلب ذلك عن طريق الشراء من سوق بلد إلى أخرى غير تلك البلد، فاختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول: إن اشتراه من مكان قريب يحمل طعامه إلى العصر كان محتكرًا، وإن اشتراه من مكان بعيد، وحبسه لا يكون محتكرًا. ووجهه: أن حرمة الاحتكار بحبس المشترى في العصر لتعلق حق العامة به، فيصير ظالمًا بمنع حقهم، ولم يوجد ذلك في المشترى خارج العصر من مكان بعيد؛ لأنه متى اشتراه ولم يتعلق به حق أهل العصر، فلا يتحقق الظلم. ¬
وهذا رأي أبي حنفية (¬1)، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: اختار أبو يوسف أنه متى اشتراه وحبسه فهو احتكار، سواء اشتراه من مكان بعيد، أو من مكان قريب، لا فرق في ذلك (¬1). ووجهه: أن المعنى الذي منع من أجله الاحتكار في العصر لما في ذلك من الإضرار بالعامة، وهو متحقق هنا، فإنه متى ما حبس المبيع عن الناس، ارتفع سعره عليهم، وإذا كانت العلة من منع الاحتكار: هو ارتفاع الأسعار بسبب ذلك، لم يكن هناك فرق بين ما اشتراه من مكان قريب، وما اشتراه من مكان بعيد. الشرط الثاني: اشترط المالكية (¬2)، والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) أن يكون اشتراه زمن الغلاء، فإن اشتراه زمن الرخص، فحبسه ليرتفع سعره، فليس بمحتكر عندهم. وهو معنى قول الحنفية وغيرهم أن يكون احتكاره مضرًا بالناس؛ لأنه لا يضر ¬
الشرط الثالث
بالناس إلا أن يكون شراء ذلك في زمن الغلاء، أما إذا اشتراه في زمن الرخص لم يكن في ذلك إضرار بهم. الشرط الثالث: أن يدخره للتجارة، فإن ادخره لقوت أهله، وعياله، فليس باحتكار، وهو مذهب الجمهور (¬1). لأن المقصود: هو منع التجار من الادخار لطلب الربح وغلاء الأسعار. (ح-254) فقد روى عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، أنه سمع ابن الخطاب يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبس نفقة أهله سنة، ثم يجعل ما بقي من تمره مجعل مال الله. [صحيح، والحديث أصله في الصحيحين] (¬2). وفصل بعض المالكية في ذلك: فقالوا: إن كان ادخاره نفقة أهله وعياله من غلة أرضه، فلا خلاف في جوازه. وإن كان ذلك عن طريق شرائه من السوق، فأجازه قوم، ومنعه آخرون إذا أضر بالناس، وهذا مذهب مالك في الادخار مطلقًا (¬3). وهذا التفصيل أولى بالقبول، وذلك أن المنع من الاحتكار هو الإضرار ¬
الشرط الرابع
بالسوق، والتسبب في غلاء الأسعار، وهذا موجود فيما يشترى من السوق ليدخر لوقت طويل، والله أعلم. الشرط الرابع: أن يكون الاحتكار مضرًا بالناس، فإن كان البلد كبيرًا لا يضره الاحتكار لم يحرم، نص على ذلك الجمهور، وخالف في ذلك بعض المالكية وقالوا بتحريم الاحتكار مطلقًا. جاء في درر الحكام: "قال في الهداية والكنز والكافي: يكره -يعني الاحتكار- إذا كان يضر بهم بأن كانت البلدة صغيرة، بخلاف ما إذا لم يضر بأن كان المصر كبيرًا؛ لأنه حبس ملكه من غير إضرار بغيره" (¬1). وقال ابن رشد في التحصيل: إلا اختلاف في أنه لا يجوز احتكار شيء من الأطعمة في وقت يضر احتكاره بالناس، وأما احتكارها في وقت لا يضر احتكارها في الناس، ففيه أربعة أقوال: أحدها: إجازة احتكارها كلها: القمح والشعير وسائر الأطعمة، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة. والثاني: المنع من احتكارها كلها جملة من غير تفصيل ... وهو مذهب مطرت وابن الماجشون. والثالث: إجازة احتكارها كلها ما عدا القمح والشعير، وهو دليل رواية أشهب عن مالك في رسم البيوع من كتاب جامع البيوع. والرابع: المنع من احتكارها كلها ما عدا الأدم والفواكه، والسمن والعسل، ¬
الراجح
والتين والزبيب، وشبه ذلك. وقال: قال ابن زيد فيما ذهب إليه مطرف وابن الماجشون من أنه لا يجوز احتكار شيء من الأطعمة معناه في المدينة، إذ لا يكون الاحتكار أبدًا إلا مضرًا بأهلها, لقلة الطعام بها، فعلى قولهم: هم متفقون على أن علة المنع من الاحتكار تغلية الأسعار، وإنما اختلفوا في جوازه لاختلافهم باجتهادهم في وجود العلة وعدمها" (¬1). • والراجح: أن الاحتكار لا يمنع إلا في حال كان مضرًا بالناس، فإن لم يكن مضرًا فإنه ربما كان مطلوبًا، وهذا ما صنعه يوسف عليه الصلاة والسلام في أهل مصر، وجنب البلد شر مجاعة لو وقعت أتت على الأخضر واليابس، وذلك بالادخار زمن الرخاء. قال تعالى: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف: 47، 48]. فقوله: {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} [يوسف: 47]، إشارة إلى ادخاره لأكله في وقت السبع الشداد، ولذلك قال سبحانه {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} [يوسف: 48]، قال القرطبي: أي ما ادخرتم لأجلهن ... وقال أيضًا: "وهو يدل على جواز احتكار الطعام إلى وقت الحاجة" (¬2). وقال ابن حزم: والمحتكر في وقت رخاء ليس آثما، بل هو محسن؛ لأن الجلاب إذا أسرعوا البيع أكثروا الجلب، وإذا بارت سلعتهم، ولم يجدوا لها ¬
الشرط الخامس
مبتاعًا، تركوا الجلب، فأضر ذلك بالمسلمين، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] (¬1). الشرط الخامس: أنه لا احتكار إلا في القوت. وهذا الشرط بحسب مذهب الجمهور، وهو مختلف فيه وسيأتي إن شاء الله تعالى تحرير النزاع في فصل خاص، مع ذكر الأدلة والقول الراجح. الشرط السادس: أن يحتكر الطعام أربعين يوماً فأكثر، وهذا الشرط للحنفية وحدهم، وتوجيه قولهم: بأنه إذا كان الاحتكار: هو حبس الطعام، فإن حبس الطعام مدة قصيرة لا يتضرر منها الناس، فلا يكون احتكارًا، وإنما الضرر في حبسه مدة طويلة يتضرر الناس منها، ومن هنا تعرض الحنفية وحدهم لمدة الاحتكار. فقال بعضهم: هي مقدرة بأربعين يوما لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من احتكر طعامًا أربعين ليلة فقد برئ من الله، وبرئ الله منه. وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى. وقيل: بالشهر؛ لأن ما دونه قليل عاجل، والشهر وما فوقه كثير آجل (¬2). ¬
المسألة الرابعة ما يجري فيه الاحتكار
المسألة الرابعة ما يجري فيه الاحتكار قال أبو يوسف: كل ما أضر بالعامة حبسه فهو احتكار، وإن كان ذهبًا أو فضة أو ثوبًا (¬1). [م - 342] اختلف أهل العلم في الأشياء التي يجري فيها الاحتكار على أربعة أقوال: القول الأول: يجري في قوت الآدمي وعلف البهائم، وهو مذهب أبي حنيفة، وصاحبه محمَّد بن الحسن (¬2). القول الثاني: يجري في قوت الآدمي خاصة، وهذا مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). القول الثالث: يجري في كل ما يضر بالعامة، قوتاً كان، أو لباسًا، أو غيرهما. وهذا اختيار ¬
القول الرابع
أبي يوسف من الحنفية (¬1)، ومذهب المالكية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3)، واختيار ابن حزم (¬4). القول الرابع: لا احتكار إلا في القوت والثياب خاصة، وهذا قول آخر لمحمد ابن الحسن (¬5). • وجه قول من قال: يجري في قوت الآدمي وعلف الحيوان: الدليل الأول: (ح-255) ما رواه أبو داود الطيالسي من طريق أبي يحيى المكي [عن فروخ مولى عثمان] (¬6) عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من احتكر على المسلمين طعامهم ابتلاه الله بالجذام، أو قال بالأفلاس (¬7). [ضعيف] (¬8). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-256) ما ورواه أحمد من طريق أصبغ بن زيد، حدثنا أبو بشر، عن أبي الزاهرية، عن كثير بن مرة الحضرمي عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من احتكر طعامًا أربعين ليلة، فقد برئ من الله تعالى، وبرئ الله تعالى منه، وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله اتعالى (¬1). [ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: (ح-257) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر، قال: أخبرنا القاسم عن أبي أمامة قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحتكر الطعام (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). الدليل الرابع: أن الضرر في الأعم الأغلب إنما يلحق العامة بحبس القوت والعلف، فلا يتحقق الاحتكار إلا به (¬5). وما روي من أحاديث مطلقة، أو عامة، كحديث من احتكر فهو خاطئ فإن العام يحمل على الخاص، والمطلق يحمل على المقيد. ¬
ويجاب عن هذا
ويجاب عن هذا: بأن هذه الأحاديث ضعيفة، ولو صحت لم تخصص العام، ولم تقيد المطلق، فإن ذكر فرد من أفراد العام، أو المطلق بحكم يوافق المطلق، أو العام، لا يقتضي تخصيصًا, ولا تقييدًا. فلو قلت: أكرم الطلبة، ثم قلت: أكرم زيداً، وهو من الطلبة لم يقتض هذا تقييدًا للمطلق، وذلك أن ذكر زيد بالحكم موافق للحكم المطلق. ومثله قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، فذكر الصلاة الوسطى لا يقيد بقية الصلوات، وهكذا. • دليل من قال: يجري في كل شيء يضر بالعامة. الدليل الأول: (ح-258) ما رواه مسلم من طريق محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد ابن المسيب، عن معمر بن عبد الله، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: لا يحتكر إلا خاطئ (¬1). ورواه مسلم من طريق يحيى بن سعيد، قال: كان سعيد بن المسيب يحدث، أن معمراً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من احتكر فهو خاطئ ... (¬2). فهذا الحديث بحكم إطلاقه، أو عمومه، يدل على منع الاحتكار في كل شيء. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-259) ما رواه أحمد من طريق أبي معشر، عن محمَّد بن عمرو ابن علقمة، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ (¬1). [ضعيف] (¬2). وجه الاستدلال كالاستدلال بالحديث الذي قبله. الدليل الثالث: (ح -260) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الصمد، ثنا زيد -يعني ابن مرة- أبو المعلى، عن الحسن، قال: ثقل معقل بن يسار، فدخل إليه عبيد الله بن زياد يعوده، فقال: هل تعلم يا معقل أني سفكت دمًا، قال: ما علمت. قال: هل تعلم أني دخلت في شيء من أسعار المسلمين؟ قال: ما علمت. قال: أجلسوني، ثم قال: اسمع يا عبيد الله حتى أحدثك شيئًا لم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة ولا مرتين، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من دخل في شيء من أسعار المسلمين، ليغليه عليهم، فإن حقًا على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة، قال: أنت سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: نعم غير مرة، ولا مرتين (¬3). [حديث حسن، والحسن البصري سمع من معقل بن يسار] (¬4). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (ح-261) ما رواه ابن ماجه، من طريق أبي أحمد، ثنا إسرائيل، عن علي ابن سالم بن ثوبان، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون (¬1). [ضعيف] (¬2). الدليل الخامس: (ث-39) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: نا يحيى بن سعيد القطان، عن يحيى ابن سعيد، عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر، قال: الحكرة خطيئة (¬3). [صحيح]. الدليل السادس: أن النهي عن الاحتكار إنما كان لمكان الإضرار بالعامة، وهذا لا يختص بالقوت والعلف. فكل ما أضر بالعامة حبسه فهو احتكار، وإن كان ذهبًا أو فضة، أو ثوبًا، أو غيرها وما ورد من النصوص الخاصة فهي من قبيل اللقب، واللقب لا مفهوم له. • وجه من قال: يجري في القوت والثياب خاصة. بأن الثياب كالقوت في الحكم، باعتبار أن كلًا منهما من الحاجات الضرورية للإنسان. ¬
الراجح
• الراجح: القول بأن الحكرة تجري في كل ما يضر بالناس، وذلك أن التحريم من باب دفع الضرر عن السوق والمستهلك، فما كان في احتكاره ضرر على السوق، أو على المستهلكين في رفع الأسعار عليهم حرم تعاطي ذلك، بل إن حماية السوق أهم من حماية الأفراد، وذلك أن الشارع نهى عن تلقي الجلب حماية للبائع، ولما كان النفع راجعًا إلى السوق نهى أن يبيع الحاضر للبادي، وكان المقصود نفع السوق، وإن تضرر البادي. وقد تطورت عملية الاحتكار في هذا العصر، حتى أصبحت الشركات الصناعية، والتجارية تقوم باعتماد وكالات لها في مختلف الأسواق، ولا يكون البيع والشراء إلا من خلالها، بل إن بعض الدول تقوم باقتطاع نسبة معينة من الرسوم الجمركية (المكوس) التي تفرض على السلع المستوردة عن غير طريق الوكالة لصالح هذه الوكالة المحتكرة حماية لها. وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى حرمة مئل هذا النوع من الاحتكار: يقول رحمه الله: "ومن ذلك -أي من أقبح الظلم- أن يلزم الناس ألا يبيع الطعام، أو غيره من الأصناف إلا ناس معروفون، فلا تباع تلك السلعة إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون، فلو باع غيرهم ذلك منع، وعوقب، فهذا من البغي في الأرض، والفساد، والظلم الذي يحبس به قطر السماء" (¬1). وقال أيضاً: "ومن أقبح الظلم إيجار الحانوت على الطريق، أو في القرية بأجرة معينة على ألا يبيع أحد غيره، فهذا ظلم حرام على المؤجر، ¬
والمستأجر، وهو نوع من أخذ أموال الناس قهرًا، وأكلها بالباطل، وفاعله قد تحجر واسعًا، فيخاف عليه أن يحجر الله عنه رحمته، كما حجر على الناس فضله، ورزقه" (¬1). وقال ابن تيمية: "ومن ضمن مكانا ليبيع فيه ويشتري وحده، كره الشراء منه بلا حق (¬2)، ويحرم عليه أخذ زيادة بلا حق" (¬3). وقال أيضًا: "إذا اتفق أهل السوق على أن لا يزايدوا في سلع، هم محتاجون لهاة ليبيعها صاحبها دون قيمتها، ويتقاسموها بينهم، فإن هذا قد يضر صاحبها أكثر مما يضر تلقي السلع إذا باعها مساومة، فإن ذلك فيه من بخس الناس ما لا يخفى، والله أعلم" (¬4). وجاء في البيان والتحصيل: "وسئل عن قوم يجتمعون في البيع، يقولون: لا نزيد على كذا وكذا، فقال: لا والله، ما هذا بحسن. قال محمَّد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن تواطؤهم على ذلك إفساد على البائع، وإضرار به في سلعته ... " (¬5). كما تكلم ابن القيم عن احتكار العمل. قال ابن القيم: "منع غير واحد من العلماء كأبي حنيفة وأصحابه القسامين ¬
الذين يقسمون العقار وغيره بالأجرة، أن يشتركوا، فإنهم إذا اشتركوا، والناس يحتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجرة. قلت -القائل ابن القيم-: وكذلك ينبغي لولي الحسبة أن يمنع مغسلي الموتى، والحمالين لهم من الاشتراك، لما في ذلك من إغلاء الأجرة عليهم، وكذلك اشتراك كل طائفة يحتاج الناس إلى منافعهم، كالشهود، والدلالين وغيرهم ... " (¬1). ¬
المسألة الخامسة في إجبار المحتكر على بيع ماله
المسألة الخامسة في إجبار المحتكر على بيع ماله [م - 343] اتفق فقهاء المذاهب على أن الحاكم يأمر المحتكر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله للناس (¬1)، وإذا لم يمتثل، فهل يجبر على بيع ماله؟ وللجواب على هذا أن يقال: إذا خيف الضرر على العامة أجبر على بيعه، أو أخذ منه وأعطي مثله عند وجوده، أو أعطي قيمته، وهذا قدر متفق عليه بين الأئمة (¬2). قال الحطاب في مواهب الجليل: "أجمع العلماء على أنه لو كان عند إنسان طعام، واضطر الناس إليه، ولم يجدوا غيره، أجبر على بيعه، دفعًا للضرر عن الناس" (¬3). ¬
القول الأول
وممن حكى الإجماع أيضًا النووي في شرحه على صحيح مسلم (¬1)، والأذرعي (¬2)، وغيرهم. وقال ابن رشد: "إذا وقعت الشدة أمر أهل الطعام بإخراجه مطلقًا، كان من زراعة، أو جلب" (¬3). قال القرطبي: "من جلب طعامًا، فإن شاء باع، وإن شاء احتكر، إلا إن نزلت فادحة، وأمر ضروري بالمسلمين فيجب على من كان عنده ذلك أن يبيعه بسعر وقته، فإن لم يفعل جبر على ذلك إحياء للمهج، وإبقاء للرمق" (¬4). وقال ابن تيمية: "لولي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل، عند ضرورة الناس إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه، والناس في مخمصة، فإنه يجبر على بيعه للناس بقيمة المثل، ولهذا قال الفقهاء: من اضطر إلى طعام الغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة مثله، ولو امتنع من بيعه إلا بأكثر من سعره لم يستحق إلا سعره" (¬5). [م - 344] وإذا لم يخش الضرر على العامة، وإنما احتيج إليه، فهل يجبر على بيعه؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأول: ليس للحاكم أن يجبره على بيع ماله، وهذا رأي أبي حنيفة، وأبي يوسف (¬6). ¬
القول الثاني
القول الثاني: للحاكم أن يجبره على بيع ماله، وهذا قول محمَّد بن الحسن من الحنفية (¬1)، ومذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وحكى بعض الحنفية الاتفاق على بيع مال المحتكر (¬5). وقال ابن نجيم: "قيل: يبيع -يعني يبيع القاضي طعام المحتكر- بالإجماع؛ لأنه اجتمع ضرر عام، وضرر خاص، فيقدم دفع الضرر العام ... قال بعض مشايخنا: إذا امتنع المحتكر عن بيع الطعام، يبيعه الإِمام عليه عندهم جميعًا" (¬6). قوله جميعًا يعني أبا حنيفة وصاحبيه. ¬
• دليل أبي حنيفة على أنه لا يجبر
• دليل أبي حنيفة على أنه لا يجبر: الدليل الأول: قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وإذا أكره على البيع لم يكن البيع عن رضا. الدليل الثاني: بأن الإجبار نوع من الحجر، وهو لا يرى الحجر على الحر الكبير. واستدل أبو حنيفة بأنه لا يحجر على الكبير مطلقًا سواء كان سفيهًا، أو غير سفيه، بقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6]، معناه مخافة أن يكبروا فيلزمكم دفع المال إليهم، ودفع المال إليهم هنا مطلق غير معلق بشرط الرشد. (ح-262) وبما رواه البخاري من طريق عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، أن رجلاً ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يخدع في البيوع، فقال: إذا بايعت فقل: لا خلابة (¬1). (ح-263) وبما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب، أخبرنا سعيد، عن قتادة، عن أنس: أن رجلاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبتاع، وكان في عقدته -يعني عقله- ضعف، فأتى أهله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا نبي الله احجر على فلان؛ فإنه يبتاع، وفي عقدته ضعف، فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنهاه عن البيع، فقال: يا نبي الله إني لا أصبر عن البيع، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إن كنت غير تارك البيع، فقل: هاء ¬
الدليل الثالث
وهاء، ولا خلابة (¬1). [إسناده حسن] (¬2). فلم يحجر عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ماله، وأباح له التصرف فيه، ولو كان الحجر واجبًا لما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - يبيع، وهو مستحق المنع منه. وقد ناقشت قول أبي حنيفة، وجواب أهل العلم عليه في مسألة متقدمة، في الحجر على الكبير، فأغنى عن إعادته هنا. الدليل الثالث: (ح-264) ما رواه ابن ماجه، قال: ثنا مروان بن محمَّد، ثنا عبد العزيز ابن محمَّد، عن داود بن صالح المدني، عن أبيه، قال: سمعت أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما البيع عن تراض (¬3). [إسناده حسن] (¬4). فحصر قيام البيع بقيام الرضا، ومفهومه: أنه لا يقوم البيع بانعدام الرضا، ولا يجتمع الإكراه والرضا. • وجه قول الجمهور: الوجه الأول: الإكراه على البيع قسمان: إكراه بحق، وإكراه بغير حق، وهذا من الإكراه ¬
الوجه الثاني
بحق قال ابن عابدين: "الإكراه بحق لا يعدم الاختيار شرعًا" (¬1). الوجه الثاني: إذا كان من عنده طعام فاضلًا عن حاجته يجبر على بيعه إذا اضطر الناس إليه، فمن باب أولى أن يجبر المحتكر على البيع إذا احتاج الناس إليه، وذلك أن المحتكر يطلب غلاء السلعة، وقلتها من السوق، بخلاف الأول. قال الحطاب: "أجمع العلماء على أنه لو كان عند إنسان طعام، واضطر الناس إليه، ولم يجدوا غيره أجبر على بيعه، دفعًا للضرر عن الناس" (¬2). • الراجح: بعد استعراض الأدلة أجد أن القول بأنه يجبر على بيعه، هو القول المتعين، لقوة أدلته، وضعف أدلة القائلين بأنه لا يجبر، والله أعلم. ¬
المسألة السادسة إذا أجبر المحتكر على البيع فهل يبيع بسعر المثل
المسألة السادسة إذا أجبر المحتكر على البيع فهل يبيع بسعر المثل [م - 345] اختلف العلماء في قيمة السلعة المحتكرة إذا أجبر المحتكر على بيعها على ثلاثة أقوال: القول الأول: يؤمر أن يبيع المحتكر بقيمة مثلها، ويعفى عن الزيادة اليسيرة إذا كان يتغابن الناس في مثلها، وهذا قول محمَّد بن الحسن من الحنفية، ومذهب الحنابلة (¬1). ولم يتعرض الشافعية لقيمة المباع؛ لأنه يحرم عندهم التسعير، ولو في وقت الغلاء (¬2)، وإذا حددنا قيمة بيع المحتكر فهو نوع من التسعير، وسيأتي مناقشة التسعير إن شاء الله تعالى في مسألة مستقلة. القول الثاني: تباع بالسوق، ويعطى المحتكر رأس ماله، والربح يتصدق به أدبًا له، وينهى عن ذلك، فمن عاد ضرب، وطيف به، وسجن (¬3). القول الثالث: ذهب المالكية بأنه يجبر على البيع يالسعر الذي اشتراه به، ويشترك فيه الناس سواء كان أهل سوقه، أو غيرهم، فإن لم يعلم ثمنه، فبسعره يوم احتكاره. ¬
وجه ذلك
وجه ذلك: أن المنع قد تعلق بشرائه لحق الناس، وأهل الحاجة، فإذا صرفه إليهم بمثل ما كانوا يأخذونه أولًا حين ابتياعه إياه، فقد رجع عن فعله الممنوع منه. فإن أبى المحتكر ذلك، فإنه يخرج من يده إلى أهل السوق يشتركون فيه بالثمن، فإن لم يعلم ثمنه فبسعره يوم احتكاره: ووجه ذلك: أنه لما كان هذا الواجب عليه فلم يفعله أجبر عليه، وصرف الحق إلى مستحقه (¬1). • الراجح من الخلاف: الراجح قول من قال: تباع بقيمة مثلها؛ لأن ثمن المثل عدل في حق البائع والمشتري؛ ولأن للإنسان أن يرج في ماله كغيره، ولكن المحرم أن يستغل حاجة الناس، فيبيع بأكثر من ثمن المثل، وأما قول من قال: يتصدق بالربح أدباً فلعله قال ذلك ليس من باب الوجوب، وإنما هو من باب اتباع السياسة الشرعية، ومراعاة المصالح، ورح المعتدي، فلو رأى الحاكم أن المحتكرين قد كثروا في السوق، وأن الأمر يتطلب إلى فعل رادع يحافظ به على مصلحة المستهلك، ومصلحة السوق، فللحاكم الشرعي أن يتخذ ما تقوم به مصالح العامة، والله أعلم. ... ¬
المسألة السابعة في إخراج الطعام من بلد إلى آخر
المسألة السابعة في إخراج الطعام من بلد إلى آخر [م - 346] إخراج الطعام من بلد إلى آخر تكلم على هذه المسألة المالكية، وفرقوا بين إخراجه من الفسطاط للريف، والعكس: والفسطاط كما في اللسان: المدينة التي فيها مجتمع الناس، وكل مدينة فسطاط، ومنه قيل: لمدينة مصر التي بناها عمرو بن العاص: الفسطاط (¬1). قال الباجي: "إن اشترى بالفسطاط للريف فلا يخلو أن يكون بالفسطاط كثيرًا، فلا يضيق على أهله، أو قليلاً يضيق على أهله. فإن كان كثيرًا، وعند أهل الريف ما يغنيهم، ففي كتاب ابن المواز عن مالك يمنعون ذلك. ووجهه: أن الفسطاط عمدة الإِسلام، ومجتمع الناس، فإذا تساوت حاله، وحال الأطراف منع الانتقال منه؛ لأنه إذا فسد فسدت الأرياف، والجهات، ولا تفسد الجهات مع صلاحه؛ لأن قيامها به ... وإن كانت الحاجة بالريف، والكثرة بالمصر، جاز اقتيات أهل الأرياف منه بالإخراج إليهم؛ لأن جلب الطعام إلى العصر، وادخاره بها إنما هو عدة للمصر، وأريافه، وجهاته. وإن كان بالمصر قليلاً يخاف من شراء أهل الأرياف له، وإخراجه عنه مضرة منعوا من إخراجه؛ لتساوي الحالين، فإن ابتاعوه، وأكلوا بالمصر لم يمنعوا ¬
منه؛ لأنه لا يجوز إسلامهم للضر والهلكة، وإنما يمنعون من إضعاف العصر بإخراج الطعام منه؛ لأنه إذا لم يكن بد من إتلاف الجهتين كانت مراعاة بقاء العصر أولى" (¬1). ¬
الفرع الثاني منع البيع بأقل من سعر السوق حماية له
الفرع الثاني منع البيع بأقل من سعر السوق حماية له [م - 347] بعض أصحاب المحلات الكبار ذات الفروع الكثيرة المنتشرة في سائر بلاد المملكة تشتري كميات كبيرة جدًا من الشركة المنتجة، وتشترط على الشركة المنتجة أن تبيعها بسعر مخفض جدًا مقابل شرائها هذه الكمية الكبيرة، فتقوم هذه المحلات ببيعه بربح قليل، ولو باعت بمثله الشركات والمحلات الصغيرة لخسرت، فتجذب هذه الشركة الكبيرة بهذا التصرف غالب المشترين عن أصحاب المحلات الصغيرة، ويلحقها ضرر كبير، ولا تسطيع الشركات الدخول معها في المنافسة، ومع ذلك يكون ربح صاحب المحلات الكبيرة ربحًا مضاعفًا؛ لأن الربح القليل بالكميات الكثيرة يتحول إلى ربح كثير جدًا، والمستهلك يشتري أكثر من حاجته لخوفه ألا يجد فرصة للشراء بمثل هذا السعر. خذ مثلًا لو أن شركة مثل هذه الشركات الكبيرة، والتي لها فروع كثيرة في المدينة الواحدة، فضلاً عن فروعها في سائر مدن المملكة، اشترت من شركات الدواجن مليون دجاجة، واشترطت على الشركة المنتجة أن يكون سعر الدجاجة خمسة ريالات، مقابل هذه الكمية الكبيرة، وكانت الشركة المنتجة تبيع الدجاجة الواحدة على التجار الصغار بسبعة ريالات، ليبيعها التاجر على المستهلك بثمانية، فإذا باعت هذه الشركة الدجاجة بسبعة ريالات، وفرقت هذه الكمية على محلاتها المنتشرة، فإنها سوف تبيعها من خلال يوم واحد، أو يومين، والتجار لا يستطيعون أن يبيعوا بهذا السعر؛ لأن ذلك يعني بيعها برأس مالها، بينما تكسب تلك الشركة مليوني ريال مقابل هذه الصفقة.
وقد يشترط بعضهم أن يكون سداد الصفقة مؤجلاً، فينتفع بهذا المبلغ الكبير (الربح مع رأس المال) مدة قبل سداده للتاجر. والسؤال الكبير: هل يجوز للتاجر أن يبيع بسعر أقل من سعر السوق، أو يجب على الدولة أن تمنع من ذلك حماية للسوق من الكساد، وحماية لصغار المستثمرين من الإفلاس؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم: وقبل ذكر الخلاف نبين أن الكلام لا ينطبق على الجالب، فمن جلب شيئًا إلى السوق، فله أن يبيع بأقل من سعر الناس (¬1). قال ابن رشد: "مما لا اختلاف فيه أنه لا يسعر على الجلاب" (¬2). وقال أيضًا: "أما الجلاب، فلا اختلاف في أنه لا يسعر عليهم شيء مما جلبوه للبيع، وإنما يقال لمن شذ منهم، فحط من السعر، أو باع بأغلى مما يبيع به عامتهم: إما أن تبيع بما يبيع به العامة، وإما أن ترفع من السوق" (¬3). وذلك أن السوق يستفيد من الجلاب، حيث يبيعون بضائعهم بسرعة، ويرجعون إلى أهلهم، وهذا ما حمل الشارع على النهي من أن يبيع حاضر لباد، وقال: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، وسوف يأتي بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى في مبحث مستقل. أما غير الجالب فاختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال: ¬
القول الأول
القول الأول: يبيع كيف يشاء، سواء باع بأقل من السوق، أو بأكثر منهم، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، وابن حزم (¬3). القول الثاني: يلزم أن يبيع كما يبيع الناس، فإن زاد، أو نقص عن أهل السوق منع من ذلك. وهذا رأي ابن جزي (¬4)، وأبو الحسن بن القصار من المالكية (¬5)، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬6)، رجحه ابن تيمية (¬7). وقد نسبه بعضهم إلى ابن عمر - رضي الله عنه - (¬8). ¬
القول الثالث
القول الثالث: قال مالك: من حط من سعر السوق أقيم (¬1). واختلف أصحابه في تفسير ذلك: فقيل: من حط من الثمن، ومعنى هذا: أنه يجوز الزيادة في الثمن عن سعر السوق، وهذا اختيار ابن عبد البر (¬2)، وأبي الوليد الباجي في المنتقى (¬3)، والزرقاني في شرحه على الموطأ (¬4). وقيل: من حط من المثمن، ومعنى هذا: أنه يجوز الحط من الثمن عن سعر السوق، وهذا ما اختاره ابن وهب (¬5)، وابن رشد الجد (¬6)، والقاضي ¬
عبد الوهاب البغدادي (¬1)، وابن ناجي، والونشريسي (¬2) وغيرهم. واستدلوا على صحة هذا التفسير، بأن ابن وهب سمعه من مالك، قال ابن وهب: "سمعت مالك بن أنس يقول: لا يسعر على أهل الأسواق، فإن ذلك ظلم، ولكن إذا كان في السوق عشرة أصوع، فحط هذا صاعًا، أمر أن يخرج من السوق" (¬3). (ث- 40) وقد روى عبد الرزاق في المصنف، قال: أخبرنا ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، قال: وجد عمر بن الخطاب ابن أبي بلتعة يبيع الزبيب بالمدينة، فقال: كيف تبيع يا حاطب؟ فقال: مدين. فقال: تبتاعون بأبوابنا، ¬
• دليل من قال: يبيع كيف شاء، بأقل أو بأكثر من سعر السوق.
وأفنيتنا، وأسواقنا، تقطعون رقابنا، ثم تبيعون كيف شئتم، بيع صاعًا، وإلا فلا تبع في سوقنا، وإلا فسيروا في الأرض، واجلبوا، ثم بيعوا كيف شئتم (¬1). فهذا الأثر نص بأن حاطبًا كان يبيع مدين، فطلب منه أن يبيع صاعًا، وهذا واضح أن نقص حاطب إنما كان في المبيع، وليس في الثمن. إلا أن أثر عمرو بن شعيب عن عمر، مرسل، حيث لم يدرك عمرو ابن شعيب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (¬2). هذا ملخص الأقوال في المسألة. • دليل من قال: يبيع كيف شاء، بأقل أو بأكثر من سعر السوق. الدليل الأول: قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وإذا أكره على البيع بثمن معين، سواء قيل له: زد في الثمن، كما لو حط من السعر، أو قيل له: انقص منه كما لو زاد فيه فهذا البيع ليس عن تراض، ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه. قال الشافعي: "الناس مسلطون على أموالهم، ليس لأحد أن يأخذها, ولا شيئًا منها بغير طيب أنفسهم إلا في المواضع التي تلزمهم، وليس هذا منها" (¬3). الدليل الثاني: (ح-265) ما رواه ابن ماجه، قال: ثنا مروان بن محمَّد، ثنا عبد العزيز ¬
• وجه من قال: إن زاد أو نقص عن سعر السوق لم يجز.
ابن محمَّد، عن داود بن صالح المدني، عن أبيه، قال: سمعت أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما البيع عن تراض (¬1). [إسناده حسن] (¬2). • وجه من قال: إن زاد أو نقص عن سعر السوق لم يجز. عللوا ذلك بأنه إن باع بأقل من سعر السوق أضر بالسوق، حيث يصرف الناس إليه، ويصاب غيره بالكساد، وإن باع بأكثر مما يبيع الناس أضر بالمشتري، فالعدل ثمن المثل. (ح-266) ولما رواه الدارقطني من طريق عثمان بن محمَّد بن عثمان ابن ربيعة، ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضاره الله، ومن شاق شق الله عليه (¬3). [المعروف من حديث أبي سعيد أنه مرسل، وهو حسن بشواهده] (¬4). (ث-41) ومن الآثار استدلوا بما رواه مالك، عن يونس بن يوسف، عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة، وهو يبيع زبيبًا له بالسوق، فقال له عمر بن الخطاب: إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا (¬5). ¬
[صحيح، وعلى تقدير أن سعيدًا لم يسمع من عمر فمراسيله من أصح المراسيل] (¬1). وظاهر الأثر أن المقصود: يزيد في الثمن لأن قوله (إما أن تزيد في السعر) فالسعر يطلق على الثمن، ولذلك يقال: هذا له سعر، إذا زادت قيمته، وليس له سعر: إذا أفرط رخصه (¬2). ولأنه طلب خروجه من السوق، ولم يطلب منعه من البيع، وهذا دليل على أنه يضر بالسوق، وإنما يضر بالسوق إذا باع بأقل من سعر السوق. إلا أن أصحاب مالك اختلفوا كما سبق في قوله: إما أن تزيد في السعر، هل المقصود: يزيد في الثمن، أو يزيد في المثمن على قولين سبق ذكرهما، وعلى أي تقدير فإنه يقال: إذا منعتم النقص من المثمن، وهو أحد العوضين، فالنقص من الثمن مقيس عليه؛ فالنقص من المثمن يضر بالمشتري، والنقص في الثمن يضر بالسوق، وهو أكبر، والإضرار ممنوع منه الإنسان. وإذا كانت الشريعة قد سمحت بغبن البادي من أجل نفع السوق، فنهى أن يبيع الحاضر للبادي، وعلل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض. فكيف تسمح بالإضرار بالسوق. وقد حرمت الشريعة الإضرار بالآخر، فمنعت بيع المسلم على بيع أخيه، والشراء على شرائه كل ذلك منعًا للضرر الواقع بين المسلمين، فإذا كان ذلك بين آحاد المسلمين، وضرره محدود، فكيف إذا كان الضرر يقع على عامة التجار، وصغار المستثمرين، فإذا رأى الباعة أن بعض التجار يبيع بسعر لا ¬
يمكن لهم أن يبيعوا به، ولو باعوا به لخسروا، فلا شك أن مثل ذلك سيكون سبباً للعداوة والبغضاء. وإذا كانت الشريعة قامت بحماية المشتري، من تحريم النجش، وتحريم الاحتكار، وتحريم الغبن، فإن أهل السوق هم مشترون قبل أن يكونوا باعة، فإن السلع التي في محلاتهم ليست نتاجًا، وإنما اشتروها طلبًا للربح، فتعريضهم للخسارة ضرر كبير بهم يعود في نهايته على المستهلك، فإن هؤلاء الكبار إذا ألحقوا الضرر بصغار المستثمرين، وأخرجوهم من السوق، تحكم هؤلاء فيما بعد بالمستهلك، وصاروا هم وحدهم اللاعبين بالسوق، فالشريعة قامت على العدل، فهي في الوقت التي تحمي المشتري من أن يتعرض للاستغلال، تحمي البائع كذلك من أن يتعرض للخسارة بفعل غيره. جواب الشافعي عن أثر عمر: أجاب الشافعي بأن عمر رجع عن قوله، ولم يكن هذا القول عزيمة منه، وإنما اجتهاد اجتهده، ورجع عنه. (ث-42) واستدل الشافعي لذلك بما رواه هو، قال: أخبرنا الدراوردي، عن داود بن صالح التمار، عن القاسم بن محمَّد، عن عمر، أنه مر بحاطب بن أبي بلتعة بسوق المصلى، وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما، فسعر له مدين بدرهم. فقال عمر: لقد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبًا، وهم يعتبرون سعرك، فإما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل زبيبك البيت، فتبيعه كيف شئت، فلما رجع عمر حاسب نفسه ثم أتى حاطبًا في داره، فقال له: إن الذي قلت لك ليس بعزيمة مني، ولا قضاء، إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع.
ويجاب عن اعتراض الشافعي
قال الشافعي: وهذا الحديث مستقصى، ليس بخلاف لما روى مالك، ولكنه روى بعض الحديث، أو رواه من روى عنه، وهذا أتى بأول الحديث وآخره، وبه أقول؛ لأن الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد أن يأخذها, ولا شيئًا منها بغير طيب أنفسهم، إلا في المواضع التي تلزمهم وهذا ليس منها (¬1). ويجاب عن اعتراض الشافعي: بأن القاسم بن محمَّد لم يدرك عمر، فقد ذكر ابن حجر أقوال العلماء في تاريخ وفاته، وكانت الأقوال تتراوح بين عام (101 إلى عام 112) عن سبعين سنة، فعلى هذا لم يولد إلا بعد وفاة عمر - رضي الله عنه -، وكان مولد أبيه محمَّد في عام حجة الوداع. • وجه من قال: إن زاد عن سعر السوق منع، وإن نقص جاز. لا يلام أحد على المسامحة في البيع، والحطيطة فيه، بل يشكر على ذلك إن فعله لوجوه الناس، ويؤجر فيه إذا فعله لوجه الله، ولكن إن زاد على غيره فقد أضر بالناس إذ كان يمكنهم أن يشتروا من غيره بأقل منه، وربما قلده أهل السوق، فرفعوا الأسعار على الناس، تأسيًا به، فلذلك قلنا: يخرج من السوق. • وجه من قال: إن زاد عن سعر السوق جاز، وإن نقص منع. إن نقص عن سعر السوق أضر بالسوق فيمنع، وإن رفع عن سعر السوق فإن للمشتري الخيار إن شاء اشترى منه، وإن شاء تركه واشترى من غيره، فيرجع الضرر على البائع نفسه. ¬
الراجح
وتعقب هذا بما قاله ابن حزم، قال: "وهذا عجيب جدًا، أن يمنعوه من الترخيص على المسلمين، ويبيحوا له التغلية، إن هذا لعجيب، وما نعلم قولهم عن أحد قبل ... " (¬1). • الراجح: لا شك أن الزيادة اليسيرة عن سعر السوق مما قد يتغابن الناس في مثله لا حرج منه، وأما إن كانت الزيادة كبيرة جدًا، مما قد يلحق بالمشتري غبن، فإنه يمنع من ذلك، ومثله من أراد أن يبيع بأقل من سعر السوق، فإن كان هذا الفعل يقلل من أرباح التجار في السوق لم يمنع، وإن كان يلحق التجار خسارة وكسادًا فإنه يمنع إلا أن يكون هذا عارضًا كما لو كانت البضاعة سينتهي تاريخها مثلاً، فإن البائع قد يخفض من سعرها خشية أن تبقى عنده، فتفسد عليه، وعلى الناس، والله لا يحب الفساد، وهذا أمر طارئ يتحمله السوق، أو كان للتاجر موسم معين قبل نهايته، وقبل بداية موسم جديد يريد أن يتخلص من البضاعة القديمة، فيعرض فيه تخفيضات محددة، ولفترة محددة لا تلحق بالسوق كسادًا من تصرفه، فمثل هذا أيضاً يكون مقبولاً، أما أن يبيع بأقل من سعر السوق دائمًا، ويضر بالتجار فإنه يمنع من ذلك، وكما هو مطلوب حماية المشتري من الغبن، مطلوب أيضًا حماية بقية أهل السوق من الخسائر، وقد سبق أن تكلمت على هذه المسألة حين الكلام على الحوافز التجارية إذا كانت تضر بالتجار الآخرين، فارجع إليه إن شئت. والله سبحانه وتعالى أعلم. ... ¬
الفرع الثالث حماية السوق عن طريق تسعير السلع
الفرع الثالث حماية السوق عن طريق تسعير السلع المسألة الأولى في حكم التسعر [م - 348] اختلف العلماء في حكم التسعير (¬1) إلى أقوال: القول الأول: ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأصل في التسعير الحرمة، خاصة إذا كان أهل السوق يقومون بما أوجب الله عليهم (¬2). ¬
ومن أجاز التسعير منهم كالحنفية (¬1)، وابن عبد البر من المالكية (¬2)، وبعض الشافعية (¬3)، وابن تيمية، وابن القيم (¬4)، فإنما أجازوه في حالات خاصة، بشروط معينة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى. ¬
القول الثاني
القول الثاني: يجوز التسعير، وهو قول سعيد بن المسيب (¬1)، وربيعة ابن عبد الرحمن (¬2)، والليث بن سعد (¬3)، ويحيى بن سعيد الأنصاري (¬4)، وهو رواية أشهب عن مالك (¬5)، واختاره ابن العربي من المالكية (¬6). القول الثالث: أوجب ابن تيمية وابن القيم التسعير في حال التزم الناس ألا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون، لا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعوها هم، فلو باع غيرهم ذلك منع (¬7). ¬
• دليل من قال: يحرم التسعير
• دليل من قال: يحرم التسعير: الدليل الأول: إذا كان الإكراه على البيع لا يجوز بالإجماع، فكذلك إكراههم على تقدير الثمن لا يجوز أيضًا، وذلك أن الثمن حق البائع، فكان إليه تقديره، فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وإذا أكره على البيع بثمن معين لم يكن البيع عن رضا. (ح-267) وروى ابن ماجه، قال: ثنا مروان بن محمَّد، ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن داود بن صالح المدني، عن أبيه، قال: سمعت أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما البيع عن تراض (¬1) [أحسن] (¬2). وجه الاستدلال: حصر قيام البيع بقيام الرضا، ومفهومه أنه لا يقوم البيع بانعدام الرضا، فإذا أكره على البيع بثمن معين انعدم الرضا الذي هو شرط لصحة البيع. ¬
ويناقش هذا الاستدلال من وجهين
ويناقش هذا الاستدلال من وجهين: الوجه الأول: أنه ليس في التسعير إكراه على بيع الإنسان ماله، فهو حر إن شاء باع، وإن شاء أمسك، ما لم يكن محتكرًا, ولكن إذا شاء بيعه بإرادته فليس له بيعه إلا بسعر المثل، وهذا ليس إكراهًا على البيع، وإنما تقدير للثمن، فلا يجوز لنا أن نلحق الضرر بالمستهلك حماية لحق بائع، أو عدد من الباعة، وقد يزيدون فيما هو قوت للناس، ولا تقوم حياتهم إلا به، مع أن مصلحة الباعة مصلحة تحسينية في كسب مقدار زائد من الربح، في مقابل مصلحة المستهلك، وهي مصلحة ضرورية فيها حفظ الأنفس، وعلى تقدير أن تكون مصلحة البائع، ومصلحة المشتري متقابلتين، فليس أحدهما أولى بالمراعاة من الآخر، فلا يجوز للبائع أن يستغل حاجة المستهلك إلى السلعة، ليبيعها بأكثر من ثمنها, وليس من حق المشتري أن يأخذ السعلة بأقل من ثمنها، فالعدل مراعاة حق العاقدين من بائع ومشتر، وثمن المثل ليس فيه وكس ولا شطط. الوجه الثاني: أن يقال: ليس الإكراه على البيع باطلاً كله، بل منه ما هو يحق، ومنه ما هو بغير حق، فإذا كان الإكراه على البيع من أجل قضاء دين واجب عليه، أو لأداء نفقة واجبة عليه، فلا يعتبر من الإكراه الباطل، وكذلك تقدير الثمن: منه ما هو بحق، ومنه ما هو بغير حق، فإذا كان الباعة يتعدون في الثمن، ويلحقون الضرر بعامة الناس، ويحتكرون السلع طلبًا للغلاء الفاحش كان التسعير عليهم لدفع عدوانهم، وأما إذا كان ارتفاع الثمن نتيجة قلة السلع في السوق، أو كثرة الطلب عليها، كان التسعير عليهم من الظلم لهم، ونحن نقول بالتسعير إذا كان فيه عدل للطرفين، ولم يشتمل على ظلم طرف لآخر.
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-268) ما رواه أحمد من طريق حماد بن سلمة، عن قتادة، وثابت البناني عن أنس بن مالك، قال: غلا السعر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله لو سعرت. فقال: إن الله هو الخالق القابض الباسط الرزاق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله، ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال (¬1). [صحيح] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - امتنع من التسعير، واعتبر ذلك من الظلم الذي لا يحب أن يلقى الله به. وأجيب: بأن التسعير منه ما هو ظلم محرم، ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن التسعير ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم، فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس، مثل إكراههم على من يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائز، بل واجب. والحديث يحمل على التسعير المحرم، فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على ¬
الدليل الثالث
الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر، إما لقلة الشيء، وإما لكثرة الخلق فهذا إلى الله، فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق (¬1). الدليل الثالث: قال بعض الفقهاء: التسعير سبب الغلاء؛ لأن الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعهم بلدًا يكرهون على بيعها فيه يغير ما يريدون، ومن عنده البضاعة يمتنع من بيعها، ويكتمها، ويطلبها أهل الحاجة إليها، فلا يجدونها إلا قليلاً، فيرفعون في ثمنها ليصلوا إليها، فتغلو الأسعار، ويحصل الضرر بالجانبين، جانب الملاك في منعهم من بيع أملاكهم، وجانب المشتري في منعه من الوصول إلى غرضه (¬2). ويناقش: بأن التسعير يكون سببًا للغلاء إذا كان في التسعير ظلم للباعة، وأما إذا كان بربح معقول يراعى فيه مصلحة البائع ومصلحة المشتري، كما سيأتي بيانه عند الكلام على كيفية التسعير وصفته، ويُقدَّر له ربح معقول يكفي مثله، فهو لا يمنع الجالب الطالب للرزق الحلال من البيع في السوق، وإنما يرح التاجر الجشع الذي لا يشبعه شيء، فهذا السوق ليس بحاجة إليه، وتضرر السوق منه أكثر من نفعه. • دليل من قال بجواز التسعير: الدليل الأول: (ح-269) ما رواه مسلم من طريق ابن عيينة، عن عمرو، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أعتق عبدًا بينه وبين آخر، ¬
وجه الاستدلال
قوم عليه في ماله قيمة عدل، لا وكس ولا شطط، ثم عتق عليه في ماله إن كان موسرًا. وهو في البخاري بنحوه (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (قوم عليه في ماله قيمة عدل) فالتقويم هنا: هو التسعير، قال ابن تيمية: "إذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء من ملك مالكه بعوض المثل لحاجة الشريك إلى إعتاق ذلك، وليس للمالك المطالبة بالزيادة على نصف القيمة، فكيف بمن كانت حاجته أعظم من الحاجة إلى إعتاق ذلك النصيب، مثل حاجة المضطر إلى الطعام، واللباس، وغير ذلك، وهذا الذي أمر به النبي من تقويم الجميع بقيمة المثل، هو حقيقة التسعير" (¬2). الدليل الثاني: (ح-270) ما رواه الدارقطني من طريق عثمان بن محمَّد بن عثمان بن ربيعة، ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه. عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضاره الله، ومن شاق شق الله عليه (¬3). [حسن بشواهده، وقد سبق بحثه] (¬4). وجه الاستدلال: إذا كانت منفعة أحد من الناس تلحق الضرر بآخرين حرم ذلك النفع، فلا ¬
• دليل من قال: يجب التسعير على محتكري بيع السلع.
ضرر، ولا ضرار، فغلاء الأسعار يضر بالمشتري، والبيع بأقل من ثمن المثل يضر بالبائع، والتسعير: هو البيع بثمن المثل، وهو عدل، فالتسعير ضبط الأمر على قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد من الطائفتين، التاجر والمستهلك. فالتسعير: لا يمنع البائع من الربح، ولا يجبره على بيع ماله بخسارة، ولا يسوغ له منه ما يضر بعامة الناس. ولو ترك التاجر وما أراد، مع ما جبل عليه الإنسان من الشح والطمع، وحب المال لأدى ذلك إلى الإضرار بأقوات الناس، وما يحفظ عليه قوام عيشهم. "قال الليث: السوق موضع عصمة ومنفعة للمسلمين، فلا ينبغي للوالي أن يترك أهل الأسواق، وما أرادوه من أنفسهم إذا كان في ذلك فساد لغيرهم، ولو كان في ذلك إخراجهم من السوق، وإدخال غيرهم فيه، والقيمة حسنة، ولابد منها عند الحاجة إليها مما لا يكون فسادًا ينفر به الجالب، ويمتنع به التاجر من البيع؛ لأن ذلك أيضاً باب فساد لا يدخل على الناس ... " (¬1). وقال أيضاً: "لا بأس بالتسعير على البائعين إذا خيف منهم أن يفسدوا أسواق المسلمين، ويغلوا أسعارهم، وحق على الوالي أن ينظر للمسلمين فيما يصلحهم ويعمهم نفعه" (¬2). • دليل من قال: يجب التسعير على محتكري بيع السلع. نقل الإجماع ابن تيمية، وابن القيم على وجوب التسعير على أناس قد احتكروا بيع سلع معينة فلا تباع إلا عليهم، ولا تشترى إلا منهم، وقال: "لو ¬
الراجح
سوغ لهم أن يبيعوا بما شاؤوا، أو يشتروا بما شاؤوا، كان ذلك ظلمًا للناس: ظلمًا للبائعين الذين يريدون بيع تلك السلع، وظلمًا للمشترين منهم" (¬1). • الراجح: بعد استعراض أقوال أهل العلم أجد أن القول الراجح هو أن الأصل في التسعير الحرمة، وأن ارتفاع الأسعار منه ما هو مقبول، ولا يعالج بالتسعير، كما لو كان ذلك نتيجة عدم توفر السلع في الأسواق، أو كان ذلك بسبب كثرة الطلب على السلع، فهنا يترك السوق على حاله، والله هو المسعر كما قال - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي حمل النبي - صلى الله عليه وسلم - على ترك التسعير، واعتباره من الظلم، وأما إذا كان الباعة يظلمون الناس، كما لو كان أهل السوق يتفقون على عدم البيع إلا بسعر معين، أكثر من ثمن المثل، أو كانوا يحتكرون السلع طلبًا لغلاء الأسعار، فهنا يجب على ولي الأمر، أو نائبه أن يتدخل ليحمي الناس من الإضرار بهم، فيسعر عليهم بطريقة تضمن حق البائع كما تضمن حق المشتري، وسنأتي إن شاء الله تعالى على كيفية التسعير وطريقته بما يحفظ المصالح العامة، ولا يظلم الناس حقوقهم، والله أعلم. ¬
المسألة الثانية الحالات التي يسوغ فيها التسعير
المسألة الثانية الحالات التي يسوغ فيها التسعير ذكرنا في باب أحكام الثمن الحالات التي يسوغ فيها التسعير، منها: الأول: تعدي أهل السوق في قيم السلع. الثاني: أن يكون الإِمام عادلًا. الثالث: أن تكون السلع مما يحتاجها عامة الناس. الرابع: احتكار التجار للسلع الضرورية. الخامس: أن يحتكر فئة معينة الشراء من المنتجين ويعاقب من يخالف ذلك. السادس: أن يتواطأ البائعون ضد المشترين أو العكس. وقد ذكرنا كلام أهل العلم حول هذه الشروط في باب أحكام الثمن، فأرجع إليه غير مأمور.
الفرع الرابع حماية السوق عن طريق منع الحاضر أن يبيع للبادي
الفرع الرابع حماية السوق عن طريق منع الحاضر أن يبيع للبادي المسألة الأولى الأحاديث الواردة في الباب ورد في الباب أحاديث كثيرة، منها: (ح-271) ما رواه البخاري من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، قال: حدثني أبي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لباد (¬1). (ح-272) ومنها ما رواه البخاري، ومسلم من طريق معمر بن راشد، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد .. قال: فقلت لابن عباس: ما قوله: لا يبع حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمسارًا (¬2). (ح-273) ومنها ما رواه البخاري، ومسلم من طريق ابن عون، عن محمَّد، عن أنس- بن مالك، - رضي الله عنه -، نهينا أن يبيع حاضر لباد (¬3). ¬
ورواه مسلم من طريق يونس، عن ابن سيرين به، وزاد: وإن كان أخاه، أو أباه (¬1). (ح-274) وروى مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض (¬2). وفي الباب حديث أبي هريرة متفق عليه (¬3). ولما كانت الأحاديث متفقًا عليها اكتفيت بذكرها عن ذكر غيرها. ¬
المسألة الثانية علاقة النهي عن بيع الحاضر للبادي بنفع السوق
المسألة الثانية علاقة النهي عن بيع الحاضر للبادي بنفع السوق [م - 349] قال ابن عبد البر: "ومعنى نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لباد، لم يختلفوا أنه أريد به نفع أهل السوق، ونحوها من الحاضرة" (¬1). قال المازري: "لما كان البادي إذا باع بنفسه انتفع جميع أهل السوق، واشتروا رخيصًا، فانتفع به جميع سكان البلد، نظر الشارع لأهل البلد على البادي" (¬2). قلت: في ذلك فائدتان للسوق وللتجار. أما الفائدة للتجار: فإن أهل البادية يستعجلون الذهاب إلى أماكنهم، فيبيعون برخص، فينتفع الباعة منهم، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". وأما الفائدة للسوق: فإن التاجر إذا اشترى برخص باع برخص، وإذا باع برخص استفاد عامة الناس، وكثر الطلب على السلعة، بخلاف ما إذا كانت قيم السلع مرتفعة، فإن كثيرًا من الناس قد لا يستطيع الشراء حينئذ. قال الشافعي: "أهل البادية يقدمون جاهلين بالأسواق، وبحاجة الناس إلى ما ¬
قدموا به، ومستثقلين المقام، فيكون أدنى من أن يرتخص المشترون سلعهم، فإذا تولى أهل القرية لهم البيع، ذهب هذا المعنى ... " (¬1). ويقول الطحاوي: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى الحاضر أن يبيع للبادي؛ لأن الحاضر يعلم أسعار الأسواق، فيستقصي على الحاضرين، فلا يكون لهم في ذلك ربح، وإذا باعهم الأعرابي على غرته، وجهله بأسعار الأسواق، ربح عليه الحاضرون، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخلى بين الحاضرين وبين الأعراب في البيوع، ومنع الحاضرين أن يدخلوا عليهم في ذلك" (¬2). ¬
المسألة الثالثة تعريف الحاضر والبادي
المسألة الثالثة تعريف الحاضر والبادي [م - 350] اختلف العلماء في تعريف الحاضر والبادي على ثلاثة أقوال: القول الأول: البادي: ساكن البادية، والحاضر: ساكن الحاضرة، كالمدن، والقرى والريف، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، وقول في مذهب الشافعية (¬1). ويستدل له بقوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ} [الأحزاب: 20]. وقد يقال: لو كان البادي هو الأعرابي لما احتاج إلى تقييد البادي بالأعراب. ¬
واستدلوا من جهة المعنى
واستدلوا من جهة المعنى: فإن حرمة المصري لمصري آخر متساوية، وبأيسر مقام في البلد يعرفون الأسعار، ولا يصح أن يخفي ذلك عليهم، فلا فائدة لكتمانهم ذلك (¬1). القول الثاني: البادي: من يدخل البلدة من غير أهلها، سواء كان بدويًا، أو من قرية، أو بلدة أخرى، وهذا مذهب الحنابلة (¬2)، ومذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب المالكية (¬4). قلت: ويؤيد ذلك قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]. ¬
ومن جهة المعنى
ومن جهة المعنى: فإن اغترابهم، وبعد أوطانهم يقتضي جهلهم بالأسعار، فمنع من يعرفها من البيع لهم، ليرخص بذلك ما جلبوه (¬1). ومنشأ الخلاف راجع إلى النظر في حديث النهي عن بيع الحاضر للبادي، فمن نظر إلى لفظ الحديث قصره على أهل البابية، ومن نظر إلى المعنى الذي جعل الشارع ينهى عن بيع الحاضر للبادي، حمله على أهل البادية ومن كان في معناهم، والذي يظهر لي أن النظر إلى المعنى هو المتعين؛ لأنه لا معنى باختصاص الحكم في أهل البادية فقط، فأقول: ينظر إلى حال العبادتين، فإن كانوا تجازا لم يمنعوا من طلب الربح؛ لأنهم قد اشتروا ذلك بأموالهم، وطلب الربح هو حرفتهم، فيطلب انتفاعهم كما يطلب انتفاع غيرهم من أهل السوق، وتكره لهم الخسارة كما تكره لغيرهم من أهل السوق، بصرف النظر، هل هم من الحاضرة، أو من البادية، وإن كان ما معهم من نتاج أموالهم، ولم يكونوا تجارًا، وقد جاؤوا من خارج البلد، ويريدون الرجوع سريعًا إلى أهلهم، فلا يباع لهم طلبًا أن ينتفع أهل السوق بما معهم، هذا هو المعنى الذي يظهر من منع الحاضر من البيع للبادي، والله أعلم. ¬
المسألة الرابعة معنى النهي عن بيع الحاضر للبادي
المسألة الرابعة معنى النهي عن بيع الحاضر للبادي [م - 351] إذا عرفنا الحاضر، وعرفنا البادي، فما معنى النهي عن بيع الحاضر للبادي؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: لا يبع حاضر لباد، معناه: أن يكون لرجل طعام، وعلف، لا يبيعهما إلا لأهل البادية بثمن غال (¬1). فعلى هذا يكون الحاضر: هو مالك السلعة، وهو البائع، والبادي: هو المشتري. وهذا التفسير انفرد به الحنفية عن غيرهم (¬2). قالوا: ويشهد لصحة هذا التفسير، ما في الفصول العمادية، عن أبي يوسف: لو أن أعرابًا قدموا الكوفة، وأرادوا أن يمتاروا منها، ويضر ذلك بأهل الكوفة، قال: أمنعهم عن ذلك، قال: ألا ترى أن أهل البلدة يمنعون عن الشراء للحكرة، فهذا أولى (¬3). القول الثاني: وهو مذهب الجمهور، والأصح في مذهب الحنفية، وهو أن يتوكل الحاضر ¬
ونوقش هذا
عن البادي، ويبيع الطعام له، ويغالي السعر. وهذا له صورتان: الصورة الأولى: أن يصير الحاضر سمسارًا للبادي البائع. الصورة الثانية: أن يبيع له بالتدريج أي بالتجزئة كوكيل، شيئًا فشيئًا، بدلاً من بيعه جملة. قال العيني: "صورة البيع للبادي، أن يقدم غريب من البادية بمتاع ليبيعه بسعر يومه، فيقول له بلدي: اتركه عندي؛ لأبيعه لك على التدريج بأغلى منه ... " (¬1). ويؤيد هذا قوله في الحديث: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". ولأن الفعل عدي باللام، فقال: (لا يبع حاضر لباد) ولم يعد بمن. ونوقش هذا: بأنه ليس من بيع الحاضر للبادي بيع الدلال اليوم؛ لأن الدلال إنما هو لإشهار السلعة فقط، والعقد عليها إنما يتولاه ربها، وبيع الحاضر: إنما هو أن يتولى الحاضر العقد، أو يقف مع رب السلعة ليزهده في البيع، ويعلمه أن السلعة لم تبلغ ثمنها، ونحو ذلك، والدلال على العكس؛ لأن له رغبة في البيع (¬2). ويجاب: بأن الدلال، وإن كان له رغبة في البيع، إلا أنه حريص على أن يبيع بثمن ¬
أغلى؛ لأنه كلما زاد سعر السلعة زادت أجرة السمسرة، هذا من جهة، والقول بأن السمسرة لا تدخل في الحديث لأن العاقد في نهاية الأمر هو البادي، وليس الحاضر، إنما هو تحكيم لظاهر اللفظ دون النظر إلى المعنى، وذلك لأن السمسرة وإن كانت لإشهار السلعة، فإن الإشهار سبب لارتفاع قيمتها, ولم يكن النهي لمجرد أن يكون الإيجاب والقبول في نهاية الأمر صادرًا من الحضري كوكيل، أو من البدوي كأصيل، فإن هذا لا يختلف في المعنى ما دام أن الحضري، هو سبب ارتفاع قيمة السلعة، وهو الذي يعرض على البدوي القبول المعروض من جماعة المشترين، والله أعلم. ثم إن البائع حقيقة هو الموكل؛ لأن الوكيل نائبه.
المسألة الخامسة حكم بيع الحاضر للبادي
المسألة الخامسة حكم بيع الحاضر للبادي [م - 352] اختلف أهل العلم في حكم بيع الحاضر للباد على ثلاثة أقوال: القول الأول: يجوز أن يبيع الحاضر للبادي مطلقًا، وهذا قول منسوب لأبي حنيفة (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2)، وهو قول مجاهد، وعطاء (¬3). القول الثاني: يحرم بيع الحاضر للبادي، وهذا مذهب الحنفية (¬4)، ......... ¬
القول الثالث
ومذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). القول الثالث: يكره بيع الحاضر للبادي، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4)، وحكاه النووي في شرحه على صحيح مسلم (¬5). • دليل الجمهور على تحريم بيع الحاضر للبادي. ما ورد من الأحاديث الصحيحة المتفق عليها، وفيها النهي عن بيع الحاضر للبادي، من ذلك حديث ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وقد سبق تخريجها في أول البحث (¬6)، والأصل في النهي التحريم. ¬
• دليل من قال: يجوز بيع الحاضر للبادي.
• دليل من قال: يجوز بيع الحاضر للبادي. الدليل الأول: (ح-275) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، ثنا أبو عوانة، عن عطاء ابن السائب، عن حكيم بن أبي يزيد، عن أبيه عمن سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: دعوا الناس فليصب بعضهم من بعض، فإذا استنصح رجل أخاه، فلينصح له (¬1). [إسناده ضعيف على اضطراب فيه، وزيادة: إذا استنصح، فلينصح له في حديث النهي عن بيع الحاضر للبادي منكرة، وهي ثابتة من حديث لا علاقة له بحديث بيع الحاضر للبادي] (¬2). ¬
(ح-276) وله شاهد عند البيهقي، رواه في سننه من طريق عبد الملك ابن عمير، عن أبي الزبير. عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه (¬1). ¬
وجه الاستدلال
[إسناده ضعيف] (¬1). (ح-277) وقد روى مسلم من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حق المسلم على المسلم ست .. وذكر منها: وإذا استنصحك؟ فانصح له (¬2). فقوله: "وإذا استنصحك فانصح له" أي إذا طلبْ منك النصيحة، كان واجبًا عليك نصيحته. ومن ذلك حديث: "الدين النصيحة" رواه مسلم من حديث تميم الداري (¬3). وجه الاستدلال: أن بيع الحاضر للبادي من النصح له، ورأوا أن هذه الأحاديث ناسخة للنهي، وأن النهي كان في أول الإِسلام لما كان عليهم من الضيق في ذلك. ويجاب: أولاً: أن أحاديث النصيحة عامة، أو مطلقة، وحديث النهي عن بيع الحاضر للبادي خاص، والخاص مقدم على العام (¬4). ¬
الدليل الثاني
ثانيًا: النصيحة للبادي ليست بأولى من النصيحة للحاضر، فلا تقدم النصيحة للبادي (البائع) على حساب النصيحة للمشتري الحاضر، فليس أحدهما بأولى من الآخر بتقديم النصح، فيترك البادي يبيع لنفسه، بل إن النصيحة للحاضر أولى بالتقديم؛ لأن المنفعة عامة، وذلك أن المنفعة تعود لأهل السوق، وللمستهلكين، بينما المضرة خاصة، وتقديم النفع العام على النفع الخاص، هو مقتضى قواعد الشريعة. ثالثًا: لو صح الحديث لم يكن فيه حجة على جواز بيع الحاضر للبادي؛ لأنه قال: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فأمر بترك البادي يبيع لنفسه، حتى يصيب الناس منه، وإذا استنصح فلينصح له، هذه حالة استثناء، وهو في حال ما إذا طلب النصيحة، وسوف يأتي بحث إذا طلب النصيحة فهل يلزمه أن ينصح له، أو لا؟ رابعًا: القول بالنسخ مجرد دعوى؛ إذ النسخ لا يثبت بالاحتمال. الدليل الثاني: (ث-43) ما رواه عبد الرزاق (¬1)، وابن أبي شيبة (¬2)، عن الثوري، عن أبي موسى، عن الشعبي، قال: كان المهاجرون يكرهون ذلك، يعني: بيع الحاضر للبادي. وإنا لنفعله. [ضعيف، فيه أبو موسى، وهو مجهول] (¬3). ¬
الراجح
• الراجح: بعد استعراض أدلة كل قول، يتبين لي -والله أعلم- أن القول بالتحريم أقوى؛ لأنه الأصل في النهي. لكن هل يختص الإثم بالحضري؟ قال الشافعية: يختص الإثم بالحضري؛ لأن البدوي لا سبيل إلى منعه من طلب الربح؛ ولأن منعه من الربح فيه إضرار به، وهذا ممنوع (¬1). وهو ظاهر مذهب الحنابلة؛ لأنهم اشترطوا للتحريم أن يكون الحاضر هو الذي طلب من البادي أن يبيع له، فلو قصده البادي لم يكن محرمًا عليه. لكن قد يقال: إن الإثم يلحقه؛ لأنه بموافقته قد مكن الحاضر من الوقوع في الإثم، فأعانه على الوقوع في محرم، كما لو باع من تلزمه الجمعة على آخر لا تلزمه الجمعة بعد نداء الجمعة الثاني، وكما لو وافقت الزوجة الحلال زوجها المحرم على جماعها، مع أن الجماع منها لا يحرم عليها؛ لكونها غير محرمة. ولذلك قيل: الإثم يلحقهما معًا، وهو ظاهر مذهب المالكية: جاء في الشرح الكبير: "وأُدِب كل من المالك والحاضر والمشتري، إن لم يعذر بجهل" (¬2). والتأديب إنما يكون على محرم. ... ¬
المسألة السادسة شروط تحريم بيع الحاضر للبادي
المسألة السادسة شروط تحريم بيع الحاضر للبادي [م - 353] اختلف العلماء في بيع الحاضر للبادي، هل التحريم مطلق دون قيد أو شرط، أو أن التحريم مقيد بشروط على قولين: القول الأول: أن تحريم بيع الحاضر للبادي مطلق بدون قيد أو شرط، وهذا مذهب الظاهرية (¬1)، ورجحه الشوكاني: وجه القول بذلك: أن النصوص في النهي عن بيع الحاضر للبادي مطلقة، فلم تقيد بشرط، وتقييدها بالشروط تقييد لما أطلقه الشارع، والعام، والمطلق، لا يخصصه، ولا يقيده إلا نص مثله. قال الشوكاني: "البقاء على ظواهر النصوص هو الأولى، فيكون بيع الحاضر للبادي محرمًا على العموم، سواء كان بأجرة، أم لا" (¬2). القول الثاني: ذهب الأئمة الأربعة إلى القول بأن التحريم مقيد بشروط على خلاف بينهم في تلك الشروط، فمن هذه الشروط: ¬
الشرط الأول
الشرط الأول: اشترط الشافعية أن يكون الحاضر عالماً بالنهي. وهذا شرط يعم جميع المناهي (¬1). ولا أظن أن أحداً ينازع في ذلك. الشرط الثاني: اشترط الحنفية أن يكون هذا الفعل مضرًا بأهل البلد، كما لو كانوا في قحط وعوز، فإن كانوا في خصب وسعة، فلا بأس به؛ لانعدام الضرر (¬2). جاء في البحر الرائق: "وهو مقيد -كما في الهداية- بما إذا كان أهل البلد في قحط وعوز ... لما فيه من الإضرار بهم، أما إذا لم يكن كذلك، فلا بأس به؛ لانعدام الضرر" (¬3). الشرط الثالث: اشترط الحنفية والشافعية أن تكون السلعة مما تعم الحاجة إليه، كالأقوات، فإن كانت الحاجة إليها نادرة لم يمنع الحاضر من بيعها (¬4). الشرط الرابع: اشترط المالكية أن تكون بضاعة البادي مما استفاده من فوائد البادية، أي لا رأس مال لهم فيه، وإنما صار لهم بالاستغلال، فإنه إذا باعه برخص لم يكن فيه ¬
الشرط الخامس
ضرر على أهل البادية، وكان فيه إرفاق بأهل الحاضرة، وهي أكثر بلاد الإِسلام، فيلزم الرفق بها، وبمن يسكنها. فإن كان الذي قد جلبوه قد اشتروه، فهم فيه تجار، يقصدون الربح، وهذا عملهم، فلا يحال بينهم وبينه (¬1). الشرط الخامس: اشترط المالكية والحنابلة أن يكون البادي جاهلاً بالسعر؛ وذلك لأن النهي لأجل أن يبيع للناس برخص، وهذا العلة إنما توجد إذا كان جاهلاً بالسعر؛ لأنه إذا عرف السعر كان له أن يتوصل إلى تحصيله إما بنفسه، وإما بغيره (¬2). وقيل: يمنع الحاضر من البيع للبادي مطلقًا، سواء كان البادي عالمًا بالسعر، أو جاهلاً به، وهو قول لبعض المالكية (¬3). لأن النهي مطلق، لم يقيد، وما أطلقه الشارع لم يقيد إلا بنص. وقد تكون العلة ليست الجهل بالسعر، فإن البادي لا مقام له في الحاضرة، فيريد الاستعجال للرجوع إلى البادية، فإذا أخذها الحاضر ليبيعها له، رجع إلى بلده، ولم يستعجل بيعها، وبذلك يحرم أهل السوق من الانتفاع بما جلب. الشرط السادس: اشترط الشافعية والحنابلة: أن يدعو الحاضر البدوي إلى ذلك، فإن التمسه ¬
الشرط السابع
البدوي منه فلا بأس (¬1). قال العمراني: "إذا جاء البادي إلى الحاضر، وسأله أن يبيع له، لم يحرم ذلك عليه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا استُنصِح أحدكم فلينصح) ولأنا لو منعنا الحاضر من البيع في ذلك أدى ذلك إلى الإضرار بصاحب المتاع، وربما أدى تلك إلى انقطاع الجلب؛ لأن كل أحد لا يقدر على البيع بنفسه" (¬2). الشرط السابع: اشترط الحنابلة أن يجلب البادي السلعة ليبيعها، فإن جلبها ليدخرها، فلا ضرر على الناس في بيع الحاضر له (¬3). الشرط الثامن: اشترط الشافعية والحنابلة، أن يقصد البادي بيعها بسعر يومها، ويتضرر الناس بتأخير بيعه (¬4). الشرط التاسع: اشترط البخاري أن يبيع الحاضر للبادي بالأجر، أما إذا باع له بغير أجر فلا يمنع، واستدل على ذلك بقول ابن عباس: لا يكون له سمساراً، والسمسار: هو الذي يبيع بالأجر. ولأن الذي يبيعه بأجر لا يكون غرضه نصح البائع، وإنما ¬
غرضه تحصيل الأجرة، وأما إذاً كان بغير أجرة فإنه لا بأس به؛ لأن ذلك من باب النصيحة له، وقد ورد الأمر بنصحه (¬1). هذه تقريبًا ما وقفت عليه من الشروط، وأنت ترى أن بعضها قد انفرد بذكرها بعض المذاهب، والبعض الآخر قد اشترطها أكثر من مذهب، ومنشأ الخلاف والله أعلم ما قاله ابن دقيق العيد، قال - صلى الله عليه وسلم -: "أعلم أن أكثر هذه الأحكام: قد تدور بين اعتبار المعنى، واتباع اللفظ، ولكن ينبغي أن ينظر في المعنى إلى الظهور والخفاء، فحيث يظهر ظهورًا كثيرًا، فلا بأس باتباعه، وتخصيص النص به، أو تعميمه على قواعد القياسيين، وحيث يخفى، ولا يظهر ظهورًا قويًا، فاتباع اللفظ أولى. فأما ما ذكر من اشتراط أن يلتمس البلدي ذلك، فلا يقوى لعدم دلالة اللفظ عليه، وعدم ظهور المعنى فيه. فإن الضرر المذكور الذي علل به النهي، لا يفترق الحال فيه بين سؤال البدوي، وعدمه، وأما اشتراط أن يكون الطعام مما تدعو الحاجة إليه فمتوسط في الظهور وعدمه؛ لاحتمال أن يراعى مجرد ريح الناس في هذا الحكم على ما أشعر به التعليل، من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) وأما اشتراط أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعر في البلد، فكذلك أيضاً، أي أنه متوسط في الظهور، لما ذكرناه من احتمال أن يكون المقصود مجرد تفويت الربح، والرزق على أهل البلد. وهذه الشروط منها ما يقوم الدليل الشرعي عليه، كشرطنا العلم بالنهي، ولا إشكال فيه، ومنها ما يؤخذ باستنباط المعنى، فيخرج على قاعدة أصولية. وهي أن النص إذا استنبط منه معنى يعود عليه بالتخصيص. هل يصح أو لا؟ ويظهر لك هذا باعتبار بعض ما ذكرناه من الشروط" (¬2). ¬
المسألة السابعة الحكم الوضعي لبيع الحاضر للبادى
المسألة السابعة الحكم الوضعي لبيع الحاضر للبادى [م - 354] سبق لنا الحكم التكليفي لبيع الحاضر للبادي، ورجحنا القول بالتحريم، ونريد أن نبحث في هذا الفصل الحكم الوضعي لبيع الحاضر للبادي. هل العقد إذا وقع يكون باطلاً، يجب فسخه، أو يكون لازمًا، وصحيحًا؟ في هذا خلاف بين القائلين بتحريم بيع الحاضر للبادي على ثلاثة أقوال: القول الأول: العقد صحيح، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، وقول في مذهب المالكية (¬3)، وراية عن أحمد (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: إن العقد باطل، وهذا مذهب والحنابلة (¬1)، والظاهرية (¬2). القول الثالث: العقد فاسد، ويجب فسخ المبيع ما لم يفت، بأن كان المبيع قائمًا، وإلا فالبيع ماض بالثمن وقت العقد، وهذا مذهب المالكية (¬3). • وجه من قال: العقد صحيح. قالوا: إن النهي في الحديث لا يعود إلى ذات البيع، فالبيع قد توفرت فيه ¬
• وجه من قال: العقد باطل.
شروط العقد الصحيح، وقد سلم بنفسه من الفساد، وإنما النهي راجع لأمر خارج عن البيع، وهو معنى الاسترخاص، وانتفاع أهل البلد بالرخص، كما قال في الحديث: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)، وهذا لا يوجب إبطال العقد (¬1). • وجه من قال: العقد باطل. قالوا: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحاضر للبادي، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه (¬2). وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو رد (¬3). والراجح القول بالصحة مع الإثم لمن كان عالمًا بالنهي. ¬
المسألة الثامنة حكم الشراء للبادي
المسألة الثامنة حكم الشراء للبادي [م - 355] نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحاضر للبادي، فهل يختلف الحكم في شراء الحاضر للبادي؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: لا بأس أن يشتري له، وهذا مذهب المالكية (¬1)، والحنابلة (¬2)، ووجه في مذهب الشافعية (¬3)، إلا أن المالكية -في المعتمد- قيدوا الجواز فيما إذا اشترى له بالنقد. ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا يجوز أن يشتري له، وهو قول في مذهب المالكية (¬1)، والصحيح في مذهب الشافعية (¬2)، واختاره ابن حزم من الظاهرية (¬3). • وجه من قال: لا يجوز: احتجوا بأن البيع في اللغة يقع على الشراء، كما يقع الشراء على البيع، كقوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20]، أي: باعوه، وهو من الأضداد. (ح-278) ومثله ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يبع بعضكم على بيع بعض ... الحديث (¬4). أي لا يشتري على شراء أخيه. مثال البيع على بيعه: أن يقول لمن اشترى شيئًا: افسخ هذا البيع، وأنا أبيعك مثله بأرخص من ثمنه، أو أجود منه بثمنه. ومثال الشراء على شرائه: أن يقول للبائع: افسخ هذا البيع، وأنا أشتريه منك بأكثر من هذا الثمن. ¬
• وجه من قال: يجوز الشراء لهم
(ث-44) وقد روى أبو داود من طريق أبي هلال، حدثنا محمَّد، عن أنس بن مالك، قال: كان يقال: لا يبع حاضر لباد، وهي كلمة جامعة، لا يبيع له شيئًا، ولا يبتاع له شيئًا (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬2). وقد فسر ابن عباس حديث: "لا يبع حاضر لباد" أي لا يكون له سمساراً، والسمسار عام لمن يبيع ويشتري للناس. • وجه من قال: يجوز الشراء لهم: قالوا: إن النهي غير متناول للشراء، لا بلفظه، ولا في معناه. أما اللفظ فلأنه صرح في البيع دون الشراء. وأما المعنى: فلأن ما يجلبه البادي يكون لأهل السوق تشوف له، وتطلع إلى شرائه، فمنع الحاضر أن يبيعه له حتى لا يحرم أهل السوق من الانتفاع منه، بخلاف الشراء للبادي. ¬
ولأن النهي عن البيع للرفق بأهل الحضر؛ ليرخص عليهم السعر، ويزول عنهم الضرر، والمنتفع بذلك عموم الناس، ولا يلحق البادي مضرة، فقدمت مصلحة الجماعة مقابل مصلحة فرد، وهو البادي، وليس ذلك في الشراء للبادي، إذ لا يتضرر الحاضرة بعدم غبنهم للبادي في شرائه، بل يتضرر البادي إذا غبن، والمنتفع هو البائع فقط، والشرع ينظر في دفع الضرر عن البادي كما يدفع الضرر عن الحاضر، إذ الخلق في نظر الشرع كلهم سواء، ولذلك نهي عن تلقي الجلب لما كان في التلقي إنما ينتفع المتلقي خاصة، وهو واحد في قبالة واحد، فلم يكن في إباحة التلقي مصلحة عامة فلذلك نهي عنه (¬1). وهذا هو الصواب، والله أعلم. ¬
المسألة التاسعة النهي عن بيع الحاضر للبادي إذن بغبنه
المسألة التاسعة النهي عن بيع الحاضر للبادي إذن بغبنه [م - 356] هل يفهم من قول - صلى الله عليه وسلم -: (لا يبيع حاضر لباد)، وتعليل ذلك بقوله: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) على جواز الغبن بالتجارة، وبالتالي يجوز غبن الحاضر للبادي؟ قال القرطبي: "الجمهور على جواز الغبن في التجارة، مثل أن يبيع رجل ياقوتة بدرهم، وهي تساوي مائة، فذلك جائز، وأن المالك الصحيح الملك، جائز له أن يبيع ماله الكثير، بالتافه اليسير، وهذا ما لا اختلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك، كما تجوز الهبة، واختلفوا فيه إذا لم يعرف قدر ذلك. فقال قوم: عرف قدر ذلك، أو لم يعرف، فهو جائز، إذا كان رشيدًا، حرًا، بالغًا. وقالت فرقة: الغبن إذا تجاوز الثلث مردود، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات، وأما المتفاحش الفادح فلا، قاله ابن وهب من أصحاب مالك. والأول أصح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الأمة الزانية: (فليبعها، ولو بظفير). وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تبتعه -يعني الفرس- ولو أعطاكه بدرهم). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (دعوا الناس، يرزق الله بعضهم من بعضه). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يبع حاضر لباد).
وليس فيها تفصيل بين القليل والكثير من ثلث ولا غيره .. اهـ" (¬1). وقد بحثت حكم الغبن في البيوع في بحث سابق، فأغنى عن إعادته هنا. ... ¬
المسألة العاشرة هل ينصح الحاضر للبادي
المسألة العاشرة هل ينصح الحاضر للبادي [م - 357] هل ينصح الحاضر للبادي، إذا استنصح البادي الحاضر؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: لا ينصح له، قال مالك في البدوي يقدم، فيسأل الحاضر عن السعر، أكره له أن يخبره (¬1). واعتبر المالكية أن تعريفه بالسعر كالبيع له (¬2). يعني في الحكم. قال ابن رشد: "وهذا ما لا اختلاف فيه أعلمه في مذهب مالك" (¬3)، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬4). قال الليث: لا يشير الحاضر على البادي (¬5). القول الثاني: إذا استنصح البادي الحاضر نصح له، وهذا هو الوجه المعتمد عند الشافعية (¬6)، ................................................. ¬
• وجه من قال: لا يشير عليه.
ومذهب الحنابلة (¬1)، وهو رأي الإمام البخاري (¬2)، والأوزاعي (¬3). • وجه من قال: لا يشير عليه. لا فرق بين الإشارة عليه، وبين البيع له من جهة المعنى؛ لأن المعنى الذي نهي عنه من أجل البيع، ما قاله - صلى الله عليه وسلم -: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا أشار إليه حرم السوق من الانتفاع بما قد يبيعه البادي برخص. • دليل من قال: يشير عليه، ولا يبيع له. الدليل الأول: استدلوا بأحاديث النصيحة للمسلم، خاصة إذا استنصحه. (ح-279) فقد روى البخاري، ومسلم من طريق سفيان، عن زياد بن علاقة، سمع جرير بن عبد الله يقول: بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - على النصح لكل مسلم (¬4). (ح-280) وعن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حق المسلم على المسلم ست .. وذكر منها: وإذا استنصحك فانصح له (¬5). ¬
الدليل الثاني
(ح-281) ومنها ما رواه مسلم من حديث تميم الداري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الدين النصيحة ... (¬1). (ح-282) ومنها ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، ثنا أبو عوانة، عن عطاء ابن السائب، عن حكيم بن أبي يزيد، عن أبيه، عمن سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول. دعوا الناس، فليصب بعضهم من بعض، فإذا استنصح رجل أخاه، فلينصح له (¬2). [إسناده ضعيف على اضطراب فيه، وزيادة: إذا استنصح، فلينصح له في حديث النهي عن بيع الحاضر للبادي منكرة، وهي ثابتة من حديث لا علاقة له بحديث بيع الحاضر للبادي] (¬3). الدليل الثاني: (ح-283) ما رواه أبو يعلى من طريق حماد بن سلمة، عن محمَّد ابن إسحاق، عن سالم المكي أن أعرابيًا قال: قدمت المدينة بحلوبة لي، فنزلت على طلحة بن عبيد الله، فقلت: إنه لا علم لي بأهل السوق، فلو بعت لي. فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبيع حاضر لباد، ولكن اذهب إلى السوق، فانظر من يبايعك، فشاورني، حتى آمرك، أو أنهاك (¬4). [المحفوظ أن الاستشارة منصبة حول وفاء الرجل المشتري وملاءته، وليست الاستشارة حول قيمة المبيع] (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الراجح في هذه المسألة
الراجح في هذه المسألة: بعد استعراض الأدلة أجد أن القول الراجح مذهب المالكية، وما قلناه في مسألة النهي عن بيع الحاضر للبادي، نقوله في مسألتنا هذه، فالاحتجاج بأحاديث النصيحة عامة، لا تقضي على أحاديث النهي عن بيع الحاضر للبادي لكونها خاصة، وإذا كان في النصيحة للبادي ما يوقعنا فيما نهينا عنه حرمت النصيحة، وهو أنه إذا نصحنا للبادي لم ندع الناس يرزق الله بعضهم من بعض، هذه علة منصوص عليها لم تستنبط، ولأن الشارع إذا نهى عن شيء نهى عن كل ما يؤدي إليه، ومنه النصيحة، فيعتذر المسْتَنْصَح بفتح الصاد للمستنصِح.
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد الخامس
(ح) دبيان بن محمَّد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمَّد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة / دبيان محمَّد الدبيان - الرياض، 1432 هـ 544 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجموعة) ج 5 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ. العنوان ديوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فهذا هو المجلد الخامس من عقد البيع، وسوف نكمل فيه إن شاء الله مباحث الباب السادس المتعلق بموانع البيع، أو البيوع المنهي عنها، ونذكر معه الباب السابع والمتعلق بالشروط الجعلية في عقد البيع، أسأل الله سبحانه وتعالى الإعانة والسداد. وستكون خطة البحث في هذا المجلد على النحو التالي: الفرع الخامس: المنع من تلقي الركبان نفعًا للسوق وحماية للجالب. المسألة الأولى: الأحاديث في النهي عن تلقي الركبان. المسألة الثانية: علاقة النهي عن تلقي الركبان بنفع السوق. المساْلة الثالثة: الحكم التكليفي لتلقي الركبان. المسألة الرابعة: الحكم الوضعي لتلقي الركبان. المبحث الثاني: البيوع المنهي عنها دفعًا للضرر عن المسلم. الفرع الأول: البيع على بيع المسلم والشراء على شرائه. المسألة الأولى: الأحاديث الواردة في الباب. المسألة الثانية: الحكم التكليفي للبيع على بيع أخيه والشراء على شرائه. المسألة الثالثة: الحكم الوضعي لعقد من باع على بيع أخيه. المسألة الرابعة: البيع على بيع المسلم في بيع المزايدة. المسألة الخامسة: في الاتفاق على ترك المزايدة.
الفرع الثاني: النهي عن النجش. المسألة الأولى: تعريف النجش. المسألة الثانية: الحكم التكليفي للنجش. المسألة الثالثة: الحكم الوضعي لبيع النجش. الفرع الثالث: في النهي عن بيع المضطر. المسألة الأولى: في معني بيع المضطر وبيان الأحاديث الواردة فيه. المسألة الثانية: في حكم بيع المضطر. الفرع الرابع: في النهي عن الغش في البيوع. المسألة الأولى: تعريف الغش. المسألة الثانية: الحكم التكليفي للغش. المسألة الثالثة: الحكم الوضعي للبيع الذي وقع فيه غش. الفرع الخامس: في النهي عن بيع المخدرات. المسألة الأولى: تعريف المخدرات. المسألة الثانية: حكم بيع المخدرات. الفرع السادس: أن يكون العقد مشروعًا والباعث عليه غير مشروع. الفصل الرابع: في البيوع المنهي عن بيعها لعدم جواز تملكها. المبحث الأول: في الوقف. الفرع الأول: في حكم بيع الوقف. الفرع الثاني: في بيع رباع مكة ودورها.
الفرع الثالث: في بيع أرض الخراج. المسألة الأولى: توطئة. المسألة الثانية: خلاف العلماء في بيع الخراج. الفرع الرابع: في بيع فضل الماء والكلأ. الفصل الخامس: ما نهي عن بيعه لحرمة المكان أو لحرمة الزمان. المبحث الأول: البيع في المسجد. المبحث الثاني: البيع بعد نداء الجمعة الثاني. المسألة الأولى: الحكم التكليفي للبيع بعد نداء الجمعة الثاني. المسألة الثانية: الحكم الوضعي للبيع بعد نداء الجمعة الثاني. المسألة الثالثة: البيع في حال السعي للجمعة. المساْلة الرابعة: هل يقاس على البيع سائر العقود. المسألة الخامسة: في بيع من لا تلزمه الجمعة. الباب السابع: الشروط في البيع (الشروط الجعلية). التمهيد: وفيه مبحثان: المبحث الأول: الفرق بين شروط البيع والشروط في البيع. المبحث الثاني: الأصل في الشروط الجواز والصحة. المبحث الثالث: الشرط العرفي كالشرط اللفظي. القصل الأول: الشروط الصحيحة المعتبرة في العقود. المبحث الأول: اشتراط ما يقتضيه العقد.
الفصل الثاني: اشتراط صفة لازمة مباحة في المعقود عليه. الفرع الأول: اشتراط الحمل في الدابة. الفرع الثاني: اشتراط أن تكون الدابة ذات لبن. الفرع الثالث: في اشتراط أن يكون الحيوان معلمًا. الفرع الرابع: في اشتراط التصويت في الطير ونقل الرسائل. الفصل الثالث: من الشروط الصحيحة اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولا ينافيه. المبحث الأول: بيان معني هذا الشرط. المبحث الثاني: في حكم اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولا ينافيه. الفرع الأول: اشتراط مالاً يقتضيه العقد ولا ينافيه وفيه مصلحة للعقد. المطلب الأول: في اشتراط الرهن في العقد. المطلب الثاني: في اشتراط الكفيل في العقد. المطلب الثالث: اشتراط التأجيل في العقد. المطلب الرابع: الأحكام المتعلقة بالأجل. المسألة الأولى: أن يكون الأجل معلوما. المسألة الثانية: أثر الجهالة في الأجل على عقد البيع. المسألة الثالثة: اشتراط أن يؤدي الثمن من بيعه. المسألة الرابعة: في اشتراط أن يكون الأجل بالشهور العربية. المسألة الخامسة: إذا حدد التأجيل بالشهر وأطلق فلم يعين. المسألة السادسة: في التأجيل إلى الحصاد والجذاذ.
الفرع الثاني: اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولا ينافيه وليس فيه مصلحة للعقد. المبحث الرابع: تعدد الشروط الصحيحة في المبيع. المبحث الخامس: إذا لم يف أحد العاقدين بالشرط الصحيح. الفرع الأول: إذا لم يف وعاد ذلك بالنقص على المعقود عليه. الفرع الثاني: إذ لم يف وعاد ذلك بالنفع على المعقود عليه. الفصل الرابع: في الشروط الفاسدة. المبحث الأول: في الشروط التي تخالف نصًا شرعيًا. فرع: حكم البيع مع وجود شرط محرم. المبحث الثاني: حكم البيع مع وجود شرط يخالف مقتضى العقد. الفرع الأول: إذا باعه بشرط ألا يبيع ولا يهب. الفرع الثاني، إذا باعه بشرط أن لا خسارة عليه أو متى نفق المبيع وإلا رده. المبحث الثالث: اشتراط أحد المتعاقدين مع البيع عقدًا آخر. الفرع الأول: إذا باعه أو صارفه أو أجره بشرط أن يقرضه. الفرع الثاني: إذا اجتمع مع عقد البيع عقد آخر غير القرض. المبحث الرابع: من الشروط المفسدة أن يوقع الشرط في غرر محرم. المبحث الخامس: الشروط التي تعلق العقد. الفرع الأول: شروط التعليق. الفرع الثاني: أثر التعليق على التصرفات. الفرع الثالث: خلاف العلماء في تعليق البيع على شرط.
الفرع الرابع: تعليق فسخ البيع على شرط. المبحث السادس: اشتراط البراءة من العيوب. الفرع الأول: تعريف البيع على البراءة. الفرع الثاني: في أقسام البراءة. الفرع الثالث: في البراءة من العيب المعلوم. الفرع الرابع: في البراءة من العيب المجهول. الفرع الخامس: الإبراء من المجهول. الفرع السادس: الحكم الوضعي للعقد إذا اقترن به شرط البراءة. المبحث السابع: بيع العربون. الفرع الأول: في تعريف بيع العربون. الفرع الثاني: غرض العاقد من بيع العربون. الفرع الثالث: شروط بيع العربون عند من يجيزه. الفرع الرابع: خلاف العلماء في بيع العربون. الفرع الخامس: بعض المعاملات التي تشبه بيع العربون وليست منه. المبحث الثامن: في الشرط الجزائي. الفرع الأول: في تعريف الشرط الجزائي. الفرع الثاني: شروط استحقاق الشرط الجزائي. الفرع الثالث: إذا كان الشرط الجزائي تعويضًا عن ضرر فما نوع الضرر الذي يستحق عليه التعويض.
الفرع الرابع: حكم العقد إذا تضمن شرطًا جزائيًا. المسألة الأولى: الشرط الجزائي في مقابل التأخير عن تنفيذ الأعمال. المسألة الثانية: الشرط الجزائي في مقابل الديون. المطلب الأول: الاتفاق على دفع غرامة مالية عند تأخر المدين عن الأداء. المطلب الثاني: في أخذ الغرامة المالية من المماطل في السداد. المطلب الثالث: سقوط الأجل إذا لم يسدد في وقته المحدد. هذا ما أمكن استيعابه في هذا المجلد من خطة البحث، وستكون بقية مباحث عقد البيع محل العناية في المجلدين التاليين، نسأل المولى سبحانه العون والسداد، إنه على كل شيء قدير.
الفرع الخامس المنع من تلقي الركبان نفعا للسوق
الفرع الخامس المنع من تلقي الركبان نفعًا للسوق المسألة الأولى الأحاديث الواردة في النهي عن تلقي الركبان [م - 358] وردت أحاديث كثيرة في النهي عن تلقي الركبان، منها: (ح-284) ما رواه البخاري، ومسلم من طريق معمر بن راشد، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد (¬1). (ح-285) ومنها ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد، ولا تصروا الغنم، ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها، وصاعًا من تمر (¬2). معنى تلقي الركبان: التلقي: المقصود به الخروج من البلد التي يجلب إليها القوت ونحوه. والركبان: جمع راكب، والتعبير جرى به على الغالب، والمراد به القادم، سرإء أكانوا ركباناً، أو مشاة، جماعة، أم واحدًا. ¬
وقد روي النهي عن التلقي بألفاظ مختلفة، من حديث أبي هريرة وغيره: فحديث الأعرج عن أبي هريرة: (لا تلقوا الركبان). ورواية ابن سيرين، عن أبي هريرة: (لا تلقوا الجلب). ورواية أبي صالح وغيره، عن أبي هريرة: (لا تلقوا السلع). والركبان: هو الغالب على تعبير الشافعية، والحنابلة، وتلقي الجلب هو الغالب على تعبير الحنفية، وعبر المالكية بتلقي السلع. والمعنى في كل ذلك واحد. وهل يعتبر من التلقي إذا وصل بائع البضاعة إلى السوق قبل البضاعة، فاشتراها مشتر منه قبل أن تعرض على الباعة، أو وصلت البضاعة إلى السوق قبل صاحبها، فخرج أحد الباعة ليتلقاه، ويشتري منه، فهل يعتبر هذا من التلقي؟ وللجواب، يقال: إذا وصل بائع البضاعة المجلوبة إلى السوق قبل أن تصل بضاعته، فاشتراها منه رجل، فقد قال الباجي: "روى ابن المواز، عن مالك، فيمن جاءه طعام، أو بز، أو غيره، فوصل إليه خبره، وصفته على مسيرة يوم، أو يومين، فيخبر بذلك، فيشتريه منه رجل، فلا خير فيه، وهذا من التلقي. ووجه ذلك: ما قدمناه، من أنه شراء السلع قبل وصولها الأسواق، وإنما الاعتبار على هذا بوصول السلع، ووصول بائعها" (¬1). أما إذا وصلت البضاعة إلى السوق قبل صاحبها، فتلقاه مشتر، فقد قال الباجي: "لو وصلت السلع السوق ولم يصل بائعها، فخرج إليه من يتلقاه، ¬
ويستثنى من منع التلقي
ويشتريها منه قبل أن يهبط إلى الأسواق، ويعرف الأسعار، فلم أر فيه نصًّا، وعندي أنه من التلقي الممنوع، والله أعلم" (¬1). ويستثنى من منع التلقي: الأول: البضائع التي تتعرض للتلف في حالة تبليغها للأسواق. قال الباجي: "ما كان يضر بالناس تبليغه الأسواق، كالفواكه، والثمار التي يلحق أهل الأصول ضرر بتفريق بيعها، ومحتاجون إلى بيعها جملة ممن يجنيها، أو يبقيها في أصلها، ويدخلها إلى الأمصار والقرى بقدر ما يتأتى له من بيعها، فقد روى ابن القاسم عن مالك في العتبية في الأجنة التي تكون حول الفسطاط من نخيل، وأعناب، يخرج إليها التجار، فيشترونها، ويحملونها في السفن إلى الفسطاط للبيع لا بأس بذلك ... " (¬2). فالجواز هنا ظاهر لأمرين: (أ): أن المنهي عنه هو تلقي الجلب، وما اشتري في أصوله لم يجلب أصلًا حتى يكون المتلقي قد قطع الطريق على الجالب، وحرمه وحرم السوق من ¬
الثاني مما يستثنى
بضاعته، وإنما خرج إلى الحائط والبستان في مكانه، فمثله مثل من يستورد البضائع من أماكن صناعتها؛ ليجلبها إلى السوق. قال ابن عبد البر: "لا أعلم خلافًا في جواز خروج الناس إلى البلدان، في الأمتعة، والسلع، ولا فرق بين القريب والبعيد من ذلك في النظر، وإنما التلقي تلقي من خرج بسلعة يريد بها السوق، وأما من قصدته إلى موضعه فلم تتلق" (¬1). (ب): ما أشار الباجي فيه إلى الضرر الحاصل من قطع الفواكه من أصولها، فقد تفسد على صاحبها، فاحتاج إلى بيعها في أصولها على من يملك تحصيلها شيئًا فشيئًا، ويعرض بالسوق منها على قدر حاجة السوق. الثاني مما يستثنى: البضائع التي تأتي بالبواخر، ولو كانت خارج السوق، إذا تلقاها أحد، واشترى منهم بالساحل، ولو لم يكن هو محل سوق تلك البضائع. وقال الباجي أيضًا: "ما أرسي بالساحل من السفن بالتجار، فلا بأس أن يشتري منهم الرجل الطعام وغيره، فيبيعه بها، إلا أن يقصد الضرر، والفساد، فلا يصلح؛ لأنه من باب الحكرة. ووجه ذلك: أن هذا منتهى سفر الوارد (الجالب) فلا يكلف سفرًا آخر؛ لأن ذلك مضر به، كما لو كان السفران في البر" (¬2). الثالث مما يستثنى: إذا كان منزل المتلقي خارجًا عن البلد التي جلبت له بمسافة لا تقل عن ستة أميال، أو خرج إليهم بمقدار تلك المسافة. ¬
قال الدسوقي: "اختلف هل النهي عن التلقي مقيد بما إذا كان على أقل من ستة أميال؟ فإذا كان على ستة أميال فلا يحرم؛ لأن هذا سفر لا تلقي. وقيل: إن النهي إذا كان التلقي على مسافة، فرسخ: أي ثلاثة أميال، فلا يحرم التلقي، إذا كان على مسافة أكثر منها. وقيل: إن النهي إذا كان التلقي على مسافة ميل، فإن كان التلقي على مسافة أزيد من الميل فلا يحرم. والأول أرجحها" (¬1).اهـ وهذا التفصيل خاص للمالكية، والنصوص مطلقة، ليس فيها هذا التقييد، وقد انتقده القرطبي في المفهم، قال رحمه الله: "اختلف أصحابنا في مسافة منع ذلك، فقيل: يومان، وقيل: ستة أميال، وقيل: قرب العصر. قلت: -والقائل القرطبي- هذه التحديدات متعارضة، لا معنى لها، إذ لا توقيف، وإنما محل المنع أن ينفرد المتلقي بالقادم، خارج السوق، من حيث لا يعرف ذلك أهل السوق غالبًا، وعلى هذا فيكون ذلك في القريب والبعيد حتى يصح قول بعض أصحابنا: لو تلقى الجلب في أطراف البلد، أو أقاصيه لكانا متلقيا منهيا عنه، وهو الصحيح لنهيه - صلى الله عليه وسلم - في الرواية الأخرى: عن تلقي السلع حتى تورد الأسواق، فلو لم يكن للسلعة سوق فلا يخرج إليه؛ لأنه التلقي المنهي عنه، غير أنه يجوز أن يشتري في أطراف البلد؛ لأن البلد كله سوقها" (¬2). * * * ¬
المسألة الثانية علاقة النهي عن تلقي الركبان بنفع السوق
المسألة الثانية علاقة النهي عن تلقي الركبان بنفع السوق [م - 359] قال الباجي في بيان وجه المنع من تلقي الركبان، قال: "وجه ذلك: أن هذا فيه مضرة عامة على الناس؛ لأن من تلقاها، أو اشتراها غلاها على الناس، وانفرد ببيعها، فمنع من ذلك ليصل بائعوها بها إلى البلد، فيبيعونها في أسواقها، فيصل كل أحد إلى شرائها، والنيل من رخصها" (¬1). وقال ابن رشد: "المعنى في النهي عن تلقي السلع عند مالك، إنما أريد به نفع أهل الحاضرة، كما أريد بالنهي عن أن يبيع حاضر لباد نفع أهل الحاضرة، بأن يكون البادي والجالب هو المتولي البيع في السوق، على ما هو عليه من الجهل بالسوق، فيشتري أهل الحاضرة منه في السوق بما يرضى به من قليل الثمن وكثيره، فإذا باع ... الجالب لها من رجل من أهل الحاضرة، قبل أن يصل إلى السوق، فكان هو الذي يقوم بها، ويبيعها على معرفة، فقد قطع عن أهل الحاضرة الحق الذي جعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم في ذلك، والله الموفق" (¬2). وقال ابن عبد البر: "أما مذهب مالك والليث، ومن قال بمثل قولهما في النهي عن تلقي السلع، معناه عندهم: الرفق بأهل الأسواق لئلا يقطع بهم عما له جلسوا، يبتغون من فضل الله، فنهى الناس أن يتلقوا السلع التي يهبط بها إليهم؛ لأن في ذلك فسادًا عليهم. ¬
وأما الشافعي فمذهبه في ذلك أن النهي إنما ورد رفقًا بصاحب السلع؛ لئلا يبخس في ثمن سلعته ... " (¬1). (ح-286) قلت: ويدل لمذهب مالك: ما رواه البخاري من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ... لا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى السوق (¬2). ويدل لما ذهب إليه الشافعي رحمه الله: (ح-287) ما رووه الشيخان من حديث أبي هريرة، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتلقى الجلب، فمن تلقى، فاشتراه منه، فإذا أتى سيده السوق، فهو بالخيار (¬3). فأثبت الخيار للبائع وحده، ولم ينقض البيع من أجل مصلحة السوق. قال ابن قدامة: "وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الخيار له، يدل على أن النهي عن تلقي الركبان لحقه، لا لحق غيره، ولأن الجالس في السوق كالمتلقي، في أن كل واحد منهما مبتغ لفضل الله تعالى، فلا يليق بالحكمة فسخ عقد أحدهما، وإلحاق الضرر به، دفعًا للضرر عن مثله، وليس رعاية حق الجالس أولى من رعاية حق المتلقي، ولا يمكن اشتراك أهل السوق كلهم في سلعته، فلا يعرج على مثل هذا، والله أعلم" (¬4). ولا مانع، والله أعلم من اعتبار المعنيين، فمراعاة السوق من جهة حتى لا ¬
يتفرد المتلقي بالرخص عن أهل السوق، ويتفرد بالمجلوب عن أهل السوق، وهم أولى بالمراعاة من المتلقي؛ لأنهم الأكثر، ومراعاة الجالب من جهة أخرى حتى لا يغرر به المتلقي، وهو واحد والمتلقي واحد، فليس أحدهما أولى بالمراعاة من الآخر. وهذا رأي ابن العربي (¬1)، وأومأ إليه المازري بقوله: "فإن قيل: المنع من بيع الحاضر للبادي سبب الرفق بأهل البلد، واحتمل فيه غبن البادي، والمنع من التلقي أن لا يغبن البادي، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: فإذا أتى سيده السوق، فهو بالخيار". فالجواب: أن الشرع ينظر في مثل هذه المسائل إلى مصلحة الناس، والمصلحة تقتضي أن ينظر للجماعة على الواحد، لا للواحد على الواحد، فلما كان البادي إذا باع بنفسه انتفع جميع أهل السوق، واشتروا رخيصًا، فانتفع به جميع سكان البلد، نظر الشارع لأهل البلد على البادي، ولما كان في التلقي إنما ينتفع المتلقي خاصة، وهو واحد في قبالة واحد، لم يكن في إباحة التلقي مصلحة، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك علة ثانية، وهي لحوق الضرر بأهل السوق في انفراد المتلقي عنهم بالرخص، وقطع المواد عنهم، وهم أكثر من المتلقي، فنظر الشارع لهم عليه، فلا تناقض بين المسألتين بل هما متفقتان في الحكمة والمصلحة والله أعلم" (¬2). وفي المغني: "روي أنهم كانوا يتلقون الأجلاب، فيشترون منهم الأمتعة قبل أن تهبط الأسواق، فربما غبنوهم غبنًا بينًا، فيضرونهم، وربما أضروا بأهل البلد؛ لأن الركبان إذا وصلوا باعوا أمتعتهم، والذين يتلقونهم لا يبيعونها ¬
سريعًا، ويتربصون بها السعر، فهو في معنى بيع الحاضر للبادي، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ... " (¬1). قلت: وقد جمع الرسول بين النهي عن تلقي الركبان، وبين النهي عن بيع الحاضر للباد، لكون المعنى فيهما واحداً، والله أعلم. (ح-288) فقد روى البخاري، ومسلم من طريق معمر بن راشد، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد (¬2). ¬
المسألة الثالثة الحكم التكليفي لتلقي الركبان
المسألة الثالثة الحكم التكليفي لتلقي الركبان [م - 360] اختلف العلماء في حكم التلقي لمن كان عالمًا بالنهي. فقيل: يحرم، وهذا مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وعبر الحنفية بالكراهة، والمراد بها كراهة التحريم عندهم (¬4). قال في فتح القدير: "هذه الكراهات -يعني: النجش، والسوم على سوم غيره، وتلقي الجلب، وبيع الحاضر للباد، والبيع عند أذان الجمعة- كلها تحريمية، لا نعلم خلافًا في الإثم" (¬5). وقيل: يكره، وهو قول مرجوح في مذهب الحنابلة (¬6). والتحريم عند الحنفية في حالتين: ¬
الحالة الأولى: أن يتلقاهم المشترون للطعام منهم، في سنة حاجة، ليبيعوه من أهل البلد بزيادة، فمنع ذلك من أجل الضرر. الحالة الثانية: أن يشتري منهم بأرخص من سعر البلد، وهم لا يعلمون السعر، فمنع ذلك من أجل الغرر (¬1). فإذا لم يكن هناك ضرر كما في الصورة الأولى، ولم يكن هناك غرر كما في الصورة الثانية، فلا بأس بالتلقي. واشترط المالكية أن يكون المتلقي على دون ستة أميال، فإن كان أكثر من ستة أميال فلا يحرم التلقي على الصحيح من المذهب. وإن كان دون ستة أميال، وليس في البلد فاشترطوا للتحريم أن يكون المشتري للتجارة، وليس للأكل والقنية. وإن كانت داره في البلد، فمرت به، فإن كان للبضاعة سوق لم يشتر منها، لا للتجارة، ولا للقنية، حتى تهبط الأسواق، وإن لم يكن للبلد سوق، فإنه يجوز أن يشتري منها إذا دخلت أزقة البلد (¬2). والأحاديث مطلقة، والحد بالمسافة بحاجة إلى توقيف. ¬
وقد سبق أن تطرقت إلى ذلك عند الكلام على الأحاديث الواردة في النهي عن التلقي. واشترط بعض المالكية، وهو قول مرجوح لدى الشافعية أن يقصد التلقي، فإن لم يقصد لم يحرم، وهو قول الليث بن سعد، والأوزاعي. قال القاضي عياض: "وقد اختلف المذهب عندنا فيمن لم يقصد التلقي، ولم يبرز إليه خارج المدينة، بل مر به على بابه بعض البداة، هل يشتري منه ما يحتاج إليه قبل وصوله إلى السوق؟ قيل: بالمنع لعموم الحديث. وقيل: الجواز؛ لأن هذا لم يقصد الضرر، ولا الاستبداد دون أهل السوق، فلم يمنع" (¬1). وقال العراقي: "واختلفوا في شرط آخر، وهو أن يقصد التلقي، فلو لم يقصده، بل خرج لشغل، فاشترى منهم، ففي تحريمه خلاف عند الشافعية والمالكية، والأصح عند الشافعية تحريمه؛ لوجود المعنى، وسيأتي عن الليث ابن سعد اشتراط قصد التلقي" (¬2). وقال العمراني الشافعي: "وإن خرج لحاجة غير التلقي، فوافى القافلة، فهل يجوز له أن يشتري منهم؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه لم يقصد التلقي. والثاني: لا يجوز. قال ابن الصباغ: وهو الصحيح؛ لأن المعنى الذي نهي عن التلقي لأجله موجود" (¬3). ¬
وهو المشهور من مذهب الحنابلة. قال في شرح منتهى الإرادات: "ولو كان المتلقي بلا قصد نصًا؛ لأنه شرع لإزالة ضررهم بالغبن، ولا أثر للقصد فيه ... " (¬1). وقال ابن عبد البر في الاستذكار: وقال الليث بن سعد: ... إن كان على بابه، أو في طريقه، فمرت به سلعة، يريد صاحبها سوق تلك السلعة، فلا بأس أن يشتريها، إذا لم يقصد التلقي؛ لأنه ليس بمتلق، وإنما التلقي أن يعمد إلى ذلك" (¬2). وقال في التمهيد: "لم يجعل الأوزاعي القاعد على بابه، فتمر به سلعة، لم يقصد إليها، فيشتريها متلقيًا، والمتلقي عنده: التاجر، القاصد إلى تلك، الخارج إليه" (¬3). وقال الشيخ محمَّد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية -حرسها الله- في زمانه: "لو اشترى إنسان من إنسان في البرية، أو في فناء من أفنية البلد، فلا خيار له -يعني البائع- والبيع صحيح؛ لأنه قصر في الاختيار في البيع، والنهي جاء في التلقي، ولا جاء لا تشتروا من الجالبين في الطريق" (¬4). قلت: المفسدة التي من أجلها منع المشتري من التلقي موجودة في هذا العقد، سواء قصد التلقي أو لم يقصده؛ وسواء قلنا: العلة هي حماية الجالب، أو قلنا: إن العلة هي نفع السوق. ¬
المسألة الرابعة الحكم الوضعي لتلقي الركبان
المسألة الرابعة الحكم الوضعي لتلقي الركبان [م - 361] إذا اشترى المتلقي من الركبان، فهل العقد صحيح؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: العقد صحيح، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). القول الثاني: يفسخ البيع إن لم تفت السلعة، وهو قول في مذهب المالكية (¬5)، وقول الليث بن سعد (¬6). ¬
القول الثالث
القول الثالث: العقد باطل، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). والقائلون بأن العقد صحيح اختلفوا هل للبائع الخيار: فقيل: له الخيار إن ثبت أنه باع بأقل من سعر البلد، وهذا مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: له الخيار مطلقاً، وهو قول في مذهب الشافعية (¬4)، ومال إليه بعض المالكية (¬5). والمشهور عن مالك وأكثر أصحابه اشتراك أهل السوق بالسلعة. قال ابن عبد البر: "البيع في تلك عقده صحيح، ولكن السلعة تؤخذ عن المشتري، فتعرض على أهل سوقها من العصر، فإن أرادوها بذلك الثمن أخذوها، وكانوا أولى بها، وإن لم يريدوها لزمت المبتاع المتلقي، وهذا أصح ما روي في ذلك عن مالك، وأولاه بالصواب" (¬6). وقال القرطبي: "على قول مالك لا يفسخ -يعني عقد المتلقي- ولكن يخير ¬
دليل الجمهور على صحة العقد مع التلقي.
أهل السوق، فإن لم يكن سوق، فاهل العصر بالخيار، وهل يدخل المتلقي معه، أو لا؟ قولان. سببُ المنع عقوبته بنقيض قصده" (¬1). دليل الجمهور على صحة العقد مع التلقي. (ح-289) ما رواه مسلم من طريق هشام بن حسان، عن ابن سيرين، قال: سمعت أبا هريرة يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق، فهو بالخيار (¬2). وثبوت الخيار فرع عن صحة البيع؛ قال ابن قدامة: "الخيار لا يكون إلا في عقد صحيح. ولأن النهي لا لمعنى في البيع، بل يعود إلى ضرب من الخديعة، يمكن استدراكها بإثبات الخيار" (¬3). دليل من قال: إن العقد باطل. ثبت النهي عن تلقي الركبان من أحاديث كثيرة، بعضها في الصحيحين، والنهي يقتضي الفساد، وأما زيادة: فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار، فربما لم تبلغ من قال بهذا القول، أو لم تثبت عنده هذه الزيادة (¬4)، فقد تفرد بها ابن سيرين، عن أبي هريرة. ورواه جماعة عن أبي هريرة، فلم يذكروا ما ذكره ابن سيرين (¬5). ¬
كما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر (¬1)، وحديث ابن عباس (¬2)، وابن مسعود (¬3). ورواه مسلم من حديث جابر (¬4)، فلم يذكروا ما ذكره ابن سيرين عن أبي هريرة. كما أخرجه أحمد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بدون ذكر هذه الزيادة (¬5). وأخرجه أحمد وغيره من طريق مطر، عن الحسن، عن سمرة بدونها (¬6). ولذا قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث أيوب" يعني: عن ابن سيرين، عن أبي هريرة. فالتفرد، حتى ولو كان من إمام مثل ابن سيرين قد يجعل في النفس شيئًا من جهة ثبوتها، لاحتمال وهم الواحد بخلاف الجماعة، ولذلك لم يأخذ مالك بهذه الزيادة. ¬
دليل من قال: السوق شركاء في السلعة.
ولقد خرج مسلم في صحيحه، زيادة ابن سيرين (فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار). ويمكن أن يقال: إن ابن سيرين إمام في الإتقان والحفظ، وكان له عناية في الرواية باللفظ، فتعتبر زيادته زيادة ثقة، فتعتبر حجة على من قال: ببطلان العقد مع التلقي، والله أعلم بالصواب. دليل من قال: السوق شركاء في السلعة. لا أعلم لهم دليلاً من جهة الآثار، ولكن قالوا ذلك: نكاية بالمتلقي، ومعاملة له بنقيض قصده، ومثل هذا يكون جيدًا لو لم يكن هناك نص من السنة، وقد قال القرطبي عن مذهب مالك، وموقفه من زيادة ابن سيرين في ثبوت الخيار للبائع إذا أتى السوق، قال: "كأن مالكًا لم تبلغه هذه الزيادة، أو لم تثبت عنده أنها من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى قول مالك، فلا يفسخ، ولكن يخير أهل السوق، فإن لم يكن سوق، فأهل العصر بالخيار، وهل يدخل المتلقي معه، أو لا؟ قولان: سبب المنع عقوبته بنقيض قصده" (¬1). الراجح من الخلاف: النهي عن التلقي ثابت في أحاديث كثيرة، واعتبار العقد صحيحًا أيضاً متجه لما رواه مسلم من طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة، وفيه: (فإذا أتى سيده السوق، فهو بالخيار) حيث أثبت للبائع الخيار، وثبوت الخيار فرع عن صحة البيع، وإن لم تثبت زيادة ابن سيرين، فيمكن تصحيح العقد باعتبار أن النهي ليس عائدًا لذات البيع، وإنما لمعنى خارج عن البيع، وهو خوف التغرير بالبائع وخداعه، وهذا لا يستوجب إبطال العقد، وإنما يثبت الخيار لمن وقع في الغرر، فإن لم يكن هناك غرر فالقول بعدم الخيار قول قوي، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني البيوع المنهي عنها دفعا للضرر عن المسلم
المبحث الثاني البيوع المنهي عنها دفعًا للضرر عن المسلم الفرع الأول البيع على بيع المسلم والشراء على شرائه المسألة الأولى الأحاديث الواردة في الباب [م - 363] وردت أحاديث في النهي عن بيع المسلم على بيع أخيه والشراء على شرائه من ذلك: (ح-390) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يبيع بعضكم على بيع بعض (¬1). (ح-291) ومنها ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لا تلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ... الحديث (¬2). (ح-292) ومنها ما رواه البخاري من طريق سعيد بن المسيب، أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: لا يبتع المرء على بيع أخيه، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد (¬3). ¬
ورواه البخاري ومسلم من طريق عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، وفيه: "وأن يستام الرجل على سوم أخيه" (¬1). (ح-293) وروى مسلم من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يسم المسلم على سوم أخيه (¬2). (ح-294) وروى مسلم من طريق هشام، عن محمَّد بن سيرين عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: ولا يسوم على سوم أخيه. (ح-295) وروى مسلم من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن ابن شماسة، أنه سمع عقبة بن عامر على المنبر يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر (¬3). (ح-296) وروى مسلم من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تهجروا، ولا تدابروا، ولا تحسسوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا (¬4). والنهي عن البيع على بيع أخيه إنما نهي عنه من أجل الضرر. جاء في قواعد الأحكام: "النهي عن البيع على بيع الأخ، مع توافر الشروط والأركان، ليس النهي من جهة المعنى عن البيع، وإنما هو نهي عن الإضرار المقترن بالبيع" (¬5). ¬
وبيع الرجل على الرجل: وهو أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: أنا أعطيك مثلها بتسعة. وشراء الرجل على شراء أخيه: وهو أن يقول لمن باع سلعة بتسعة: عندي فيها عشرة. وأما السوم، فصورته: أن يأخذ المشتري شيئاً ليشتريه، فيقول له: ذره لأبيعك خيرًا منه بثمنه، أو مثله بأرخص. أو يقول للمالك: استرده لأشتريه منك بأكثر. [م - 363] واختلف العلماء في البيع، والسوم، هل هما شيء واحد، أو هما شيئان مختلفان: قال في الفواكه الدواني: "اختلف الناس ... فمنهم من فهم أن السوم والبيع شيء واحد، وهو الزيادة في الثمن على عطاء الغير. ومنهم من فهم أنهما شيئان، فالسوم الزيادة في الثمن، والبيع متعلق بالمثمن: الذي هو السلعة .. " (¬1). وفسر مالك النهي عن البيع بالنهي عن السوم "قال مالك: وتفسير قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما نرى، والله أعلم: "لا يبع بعضكم على بيع بعض" أنه إنما نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه .... " (¬2). ففسر مالك النهي عن البيع بالنهي عن السوم. ويؤيد أن السوم والبيع شيء واحد، أنه لم يرد اللفظان في حديث واحد، بل الحديث الواحد تارة يأتي بلفظ: لا يبيع بعضكم على بيع بعض، وتارة: لا ¬
يستام المسلم على سوم أخيه، إلا ما رواه مسلم قال: حدثني عمرو الناقد، وزهير ابن حرب، وابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبيع حاضر لباد، أو يتناجشوا، أو يخطب الرجل على خطبة أخيه، أو يبيع على بيع أخيه ... الحديث وزاد عمرو الناقد في روايته: ولا يسم الرجل على سوم أخيه (¬1). وقد انتقد البيهقي الجمع بين لفظ البيع ولفظ السوم في الحديث، فقال: وهذا الحديث حديث واحد، واختلف الرواة في لفظه؛ لأن الذي رواه على أحد هذه الألفاظ الثلاثة من البيع، والسوم والاستيام، لم يذكر معه شيئاً من اللفظين الأخريين، إلا في رواية شاذة ذكرها مسلم بن الحجاج، عن عمرو الناقد، عن سفيان، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، ذكر فيها لفظ البيع والسوم جميعًا، وأكثر الرواة لم يذكروا عن ابن عيينة فيه لفظ السوم، فإما أن يكون معنى ما رواه ابن المسيب، عن أبي هريرة، ما فسره غيره من السوم والاستيام، وإما أن ترجح رواية ابن المسيب على رواية غيره، فإنه أحفظهم، وأفقههم، ومعه من أصحاب أبي هريرة، عبد الرحمن الأعرج، وأبو سعيد مولى عامر بن كريب، وعبد الرحمن بن يعقوب في بعض الروايات، عن العلاء، عنه، وبأن روايته توافق رواية عبد الله بن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). فإن قلنا: اللفظ واحد، فهي رواية بالمعنى، وإن قلنا: لما اختلف اللفظ ينبغي أن يختلف المعنى، فالبيع غير السوم، قلنا: لا فرق بين النهي عن البيع على بيع أخيه، والنهي عن السوم على سوم أخيه، من جهة الضرر الحاصل، ¬
والعداوة الناتجة من هذا التصرف، إلا أنه يستثنى منه بيع المزايدة، فيجوز السوم على سوم أخيه فيها بالإجماع، حكى الإجماع فيه ابن عبد البر (¬1). (ث-45) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن حزام بن هشام الخزاعي، عن أبيه، قال: شهدت عمر بن الخطاب باع إبلًا من إبل الصدقة فيمن يزيد (¬2). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬3). وعمر بن الخطاب له سنة متبعة، وقد أمرنا باتباع سنته؛ لأنه خليفة راشد، وإذا جاز بيع إبل الصدقة في المزاد جاز بيع غيرها لعدم الفرق. (ح-297) وروى أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن الأخضر بن عجلان، حدثني أبو بكر الحنفي، عن أنس بن مالك، أن رجلاً من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فشكا إليه الحاجة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما عندك شيء؟ فأتاه بحلس وقدح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من يشتري هذا؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: من يزيد على درهم، فسكت القوم، فقال: من يزيد على درهم، فقال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. قال: هما لك، ثم قال: إن المسألة لا تحل إلا لإحدى ثلاث، ذي دم موجع، أو غرم مفضع، أو فقر مدقع (¬4). [إسناده ضعيف] (¬5). ¬
(ث-46) وروى البخاري في صحيحه معلقًا، قال: قال عطاء: أدركت الناس لا يرون بأسًا ببيع المغانم فيمن يزيد (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). وهذا الأثر لا يدل على حصر بيع المزاد في المغانم فقط، وإنما فيه التصريح ببيع المغانم في المزاد، وهو لا ينفي بيع المزاد في غيرها، ولذلك جاء بيع المواريث في المزاد قال ابن العربي: "لا معنى لاختصاص الجواز بالغنيمة والميراث، فإن الباب واحد، والمعنى مشترك" (¬3). وقال ابن حجر: "وكأنه خرج على الغالب فيما يعتاد فيه البيع مزايدة، وهي الغنائم والمواريث، ويلتحق بهما غيرهما للاشتراك في الحكم" (¬4). ¬
المسألة الثانية الحكم التكليفي للبيع على بيع أخيه والشراء على شرائه
المسألة الثانية الحكم التكليفي للبيع على بيع أخيه والشراء على شرائه [م - 364] ذهب الأئمة الأربعة إلى تحريم بيع المسلم على بيع أخيه، وشرائه على شرائه، وكذلك سومه على سومه (¬1). يشروط، منها: الشرط الأول: أن يكون البيع على بيع أخيه والشراء على شرائه بعد أن يتراضى المتبايعان على البيع، أما قبل أن يتراضيا البيع فلا يحرم. قال في فتح القدير: "وشرطه: وهو أن يتراضيا بثمن، ويقع الركون به، فيجيء آخر، فيدفع للمالك أكثر، أو مثله، غير أنه رجل وجيه، فيبيعه منه لوجاهته" (¬2). وقال الطحاوي: "إن كان المساوم أو الخاطب قد ركن إليه، فلا يحل لأحد أن يسوم على سومه، ولا يخطب على خطبته، حتى يترك ... فأما من ساوم رجلاً بشيء، أو خطب إليه امرأة، هو وليها، فلم يركن إليه، فمباح لغيره من الناس أن يسوم بما ساوم به، ويخطب بما خطب ... ثم قال: وهذا ¬
المعنى ... فيما أبحنا فيه من السوم والخطبة، وفيما منعنا فيه من السوم والخطبة، هو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد" (¬1). وقال ابن عبد البر: "قال مالك في تفسير قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يبع بعضكم على بيع بعض، فيما نرى والله أعلم أنه إنما نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه إذا ركن البائع إلى السائم، وجعل يشترط وزن الذهب ويتبرأ من العيوب، وما أشبه هذا مما يعرف به أن البائع قد أراد مبايعة السائم، فذلك الذي نهى عنه، والله أعلم. قال مالك: ولا بأس بالسوم بالسلعة توقف للبيع، فيسوم بها غير واحد، قال: ولو ترك الناس السوم عند أول من يسوم بالسلعة أخذت بشبه الباطل من الثمن، ودخل على الباعة في سلعهم المكروه والضرر، قال: ولم يزل الأمر عندنا على هذا. قال أبو عمر (ابن عبد البر): أقوال الفقهاء كلهم في هذا الباب متقاربة المعنى، وكلهم قد أجمعوا على جواز البيع فيمن يزيد" (¬2). وفسر صاحب الفواكه الدواني الركون للبيع: بأن مال البائع إلى البيع، ومال المشتري إلى الشراء، بحيث لم يبق بينهما إلا الإيجاب والقبول باللفظ، فحينئذ لا يجوز لأحد أن يزيد على عطاء ذلك المشتري، أو يعرض له سلعة أخرى يرغبه فيها حتى يعرض عن الأولى، وهذا التقييد من تفسير الراسخين، وبيان ¬
المتفقهين ... وإنما صرح المصنف بذلك، وإن فهم من التقييد ردًا على من كره التزايد في السلعة مطلقًا مخافة الوقوع في النهي المذكور ... " (¬1). وعبر الشافعية عن هذا القيد بالتحريم عند استقرار الثمن، وحصول الرضا بين المتساومين. قال ابن دقيق العيد: "وللتحريم في ذلك عند أصحاب الشافعي شرطان: أحدهما: استقرار الثمن، فأما ما يباع فيمن يزيد، فللطالب أن يزيد على الطالب، ويدخل عليه. والثاني: أن يحصل التراضي بين المتساومين صريحًا، فإن وجد ما يدل على الرضا من غير تصريح فوجهان، وليس السكوت بمجرده من دلائل الرضا عند الأكثرين منهم" (¬2). وقال ابن قدامة: "روى مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يسم الرجل على سوم أخيه ولا يخلو من أربعة أقسام: أحدها، أن يوجد من البائع تصريح بالرضا بالبيع، فهذا يحرم السوم على غير ذلك المشتري، وهو الذي تناوله النهي. الثاني، أن يظهر منه ما يدل على عدم الرضا فلا يحرم السوم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - باع في من يزيد ... " (¬3). ¬
الشرط الثاني
الشرط الثاني: اشترط الشافعية والحنابلة بأن لا يأذن البائع والمشتري، فإن أذنا لم يحرم. قال في مغني المحتاج: "محل التحريم عند عدم الإذن، فلو أذن البائع في البيع على بيعه، أو المشتري في الشراء على شرائه، لم يحرم؛ لأن الحق لهما، وقد أسقطاه ... إن كان الآذن مالكًا، فإن كان وليًا، أو وصيًا، أو وكيلاً، أو نحوه، فلا عبرة بإذنه إن كان فيه ضرر على المالك" (¬1). وترجم البخاري في صحيحه، فقال: "باب: لا يبيع على بيع أخيه، ولا يسوم على سوم أخيه حتى يأذن له أو يترك". (ح-298) وروى أحمد من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه، ولا يبع على بيع أخيه إلا بإذنه (¬2). ¬
وهو في مسلم بلفظ: لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له. ¬
الشرط الثالث
فقدم ذكر البيع على النكاح. فإن كان الاستثناء يرجع للجميع (النكاح والبيع) كما هو رأي الشافعية فهذا نص على أن الإذن شرط في جواز بيع الرجل على بيع أخيه. وإن كان الضمير يرجع إلى آخر مذكور كما هو مذهب الحنفية، وصار المحفوظ في الحديث هو لفظ مسلم، فإن البيع مقيس على النكاح لعدم الفرق، فالنهي إنما هو لحق الغير، وليس لحق الله، فإذا أذن الغير فقد تنازل عن حقه، والله أعلم (¬1). الشرط الثالث: [م - 365] اشترط الشافعية والحنابلة بأن يكون البيع على البيع، أو الشراء على الشراء، قبل لزوم العقد، وذلك في زمن خيار المجلس، أو الشرط، أما بعد لزوم العقد فلا معنى له، فلا يحرم (¬2)، إلا أن يكون في زمن خيار العيب، فيحرم، ولو بعد لزوم العقد. قال العمراني الشافعي: "قال الشافعي: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يبع بعضكم على بيع بعض. وجملة ذلك: أن الرجلين إذا تبايعا عينًا، وبينهما خيار مجلس أو خيار شرط، فجاء رجل إلى المشتري، فقال: أنا أبيعك مثل هذه السلعة بدون ثمنها الذي اشتريتها به، أو أبيعك خيرًا منها بمثل ثمنها، فهذا حرام، لا يحل؛ لما ¬
روى ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبع بعضكم على بيع بعض" ... وهكذا إذا قال للبائع في مدة الخيار: افسخ البيع، وأنا اشتريها منك بأكثر من هذا الثمن، فإن هذا محرم؛ لأن فيه معنى نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). قال المرداوي: "ولا يجوز بيع الرجل على بيع أخيه: وهو أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: أنا أعطيك مثلها بتسعة، ولا شراء الرجل على شراء أخيه: وهو أن يقول لمن باع سلعة بتسعة: عندي فيها عشرة، ليفسخ البيع، ويعقد معه، وهذا بلا نزاع فيهما، ويتصور ذلك في مسألتين: الأولى: في خيار المجلس. والثانية: في خيار الشرط" (¬2). وقال في الروض المربع: "محل ذلك -يعني النهي عن البيع على بيع أخيه، أو الشراء على شرائه- إذا وقع في زمن الخيارين، ليفسخ المقول له العقد، ويعقد معه" (¬3). والصحيح أنه يحرم مطلقًا، حتى بعد لزوم العقد. وعلل ذلك بما يلي: أولاً: أن هذا تخصيص لعموم الحديث بلا موجب، فيكون فاسدًا. فإن بيعه على بيعه، وشراءه على شرائه متناول قبل لزوم العقد، وبعد لزومه. ثانيًا: أن المعنى الذي حرم الشارع لأجله ذلك لا يختص في زمن الخيار، بل هو موجود وقت الركون والتراضي على البيع، وبعد لزوم العقد، وذلك لأن ¬
الشرط الرابع
مثل هذا التصرف يؤدي إلى العداوة والبغضاء بين البائع والمشتري، فإن المشتري قد يرى أن البائع ربما خدعه، وغبنه. ثالثًا: أنه ربما تحايل على الفسخ بأي سبب من الأسباب، كان يدير عيبًا، أو ما أشبه ذلك مما يمكنه من الفسخ. ورجحه شيخنا محمَّد بن صالح العثيمين (¬1). وألحق الماوردي من الشافعية بالشراء على الشراء: طلب سلعة من المشتري بزيادة ربح، والبائع حاضر؛ لأدائه إلى الفسخ، أو الندم" (¬2). "واشترط ابن كج من الشافعية في البيع على البيع أن لا يكون المشتري مغبونًا غبنًا مفرطًا، فإن كان فله أن يعرفه، ويبيع على بيعه؛ لأنه ضرب من النصيحة. قال النووي: هذا الشرط انفرد به ابن كج، وهو خلاف ظاهر إطلاق الحديث، والمختار أنه ليس بشرطه (¬3). الشرط الرابع: اشترط الشافعية بأن يكون العاقد عالماً بالنهي .. والصواب أن ذلك شرط في جميع المناهي (¬4). الشرط الخامس: [م - 366] رأى الأوزاعي أن النهي خاص بالمسلمين فيما بينهم. وأما الذمي فيجوز أن يبيع على بيعه، ويشتري على شرائه. ¬
(ح-299) واستدل بحديث ابن عمر في الصحيحين، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يبيع بعضكم على بيع أخيه" (¬1). (ح-300) وحديث أبي هريرة فيهما: وفيه: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه ... " (¬2). وخالفه في ذلك سائر الفقهاء، قال ابن عبد البر: "لا أعلم خلافًا في أن الذمي لا يجوز لأحد أن يبيع على بيعه، ولا يسوم على سومه، وأنه والمسلم في ذلك سواء، إلا الأوزاعي، فإنه قال: لا بأس بدخول المسلم على الذمي في سومه؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما خاطب المسلمين في أن لا يبيع بعضهم على بيع بعض، وخاطب المسلم أن لا يبيع على بيع أخيه المسلم، فليس الذمي كذلك. وقال سائر العلماء: لا يجوز ذلك، والحجة لهم: أنه كما دخل الذمي في النهي عن النجش، وفي ربح ما لم يضمن ونحوه، كذلك يدخل في هذا. وقد يقال: هذا طريق المسلمين، ولا يمنع ذلك أن يدخل فيه، ويسلكه أهل الذمة، وقد أجمعوا على كراهية سوم الذمي على الذمي، فدل على أنهم مرادون، والله أعلم" (¬3). ولعل ابن عبد البر أخذ ذلك من الطحاوي، فإنه قال في مختصر العلماء: "قال الأوزاعي: لا بأس بدخول المسلم على الذمي في سومه، قال أبو جعفر: ولا نعلم أحدًا قال بذلك غير الأوزاعي" (¬4). ومن قرأ كتب ابن عبد البر وجد نقولاً كثيرة عن الطحاوي. ¬
والحق أن الأوزاعي لم ينفرد في هذا المذهب، قال ابن حجر: "وافقه من الشافعية ابن المنذر، وابن جويرية، والخطابي، ويؤيده قوله في أول حديث عقبة ابن عامر عند مسلم: (المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبته حتى يذر). وقال الخطابي: قطع الله الأخوة بين الكافر والمسلم، فيختص النهي بالمسلم وقال ابن المنذر: الأصل في هذا الإباحة حتى يرد المنع، وقد ورد المنع مقيدًا بالمسلم، فبقي ما عدا ذلك على أصل الإباحة. وذهب الجمهور إلى إلحاق الذمي بالمسلم، وأن التعبير بأخيه خرج على الغالب، فلا مفهوم له، وهو كقوله تعالي: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، وكقوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]، ونحو ذلك. وبناه بعضهم على أن هذا المنهي عنه، هل هو من حقوق العقد واحترامه، أو من حقوق المتعاقدين، فعلى الأول فالراجح ما قال الخطابي. وعلى الثاني: فالراجح ما قال غيره، وقريب من هذا البناء اختلافهم في ثبوت الشفعة للكافر، فمن جعلها من حقوق الملك أثبتها له، ومن جعلها من حقوق المالك منع" (¬1).اهـ وقد أجاز الحنابلة الدخول على الذمي في خطبته، قال في كشاف القناع: "ولا تحرم خطبة على خطبة كافر؛ لمفهوم قوله: على خطبة أخيه، كما لا يجب أن ينصحه نصًّا، لحديث: الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم. رواه مسلم؛ لأن النهي خاص ¬
بالمسلم، وإلحاق غيره به إنما يصح إذا كان مثله، وليس الذمي كالمسلم، ولا حرمته كحرمته" (¬1). والذي أميل إليه أن مذهب الجمهور أقوى؛ لأن الاعتداء على الذمي محرم، كالاعتداء على المسلم. ¬
المسألة الثالثة الحكم الوضعي لعقد من باع على بيع أخيه
المسألة الثالثة الحكم الوضعي لعقد من باع على بيع أخيه [م - 367] اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب الجمهور إلى أن البيع صحيح مع الإثم، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). ونسب ابن عبد البر القول بصحة البيع إلى الجمهور (¬2). وجه كون العقد صحيحًا: لأن النهي عنه لا يرجع إلى ذات البيع، وإنما لما يلحق هذا التصرف من الأذى، والضرر، وهو أمر خارج عن العقد. قال الكاساني: "والنهي لمعنى في غير البيع، وهو الإيذاء، فكان نفس البيع مشروعًا، فيجوز شراؤه، ولكن يكرها (¬3). وعلل ابن عبد البر الصحة: بأن البيع على البيع إنما يكون قبل أن يتم البيع الأول، وقد كان لكل واحد منهما أن لا يتمه إن شاء، وكأن ابن عبد البر يرى أن النهي عن البيع على بيع أخيه، إنما يكون ذلك قبل لزوم البيع (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: أن البيع مفسوخ ما لم يفت، وهو رواية ثانية عن مالك، وقد أنكر بعض أصحاب مالك هذه الرواية عنه (¬1). قال ابن عبد البر: "أنكر ابن الماجشون ذلك -يعني فسخ البيع ما لم يفت- أن يكون قاله مالك في البيع، وإنما قال ذلك في نكاح الذي يخطب على خطبة أخيه ... " (¬2). وجاء في الفواكه الدواني: "ولمالك قولان في النهي، هل على الكراهة، أو الحرمة؟ والفسخ على الثاني دون الأول؟ والمعتمد الحرمة ... " (¬3). وجه قول من قال: يفسخ البيع ما لم تفت السلعة: هذا هو أصل مذهب مالك في البيع الفاسد، أن البيع الفاسد يجب فسخه، إلا أن تفوت السلعة، فإن فاتت مضى البيع، ووجب عليه القيمة. جاء في منح الجليل: "البيع الفاسد يثبت شبهة الملك فيما يقبله، فإذا لحقه أحد أربعة أشياء تقرر الملك بالقيمة، وهي حوالة السوق -أبي تغيره- وتلف ¬
العين، ونقصانها، وتعلق حق الغير بها على تفصيل في ذلك في كتب الفروع ... " (¬1). وقال ابن رشد في بداية المجتهد: "النظر في حكم البيع الفاسد إذا وقع أن نقول: اتفق العلماء على أن البيوع الفاسدة إذا وقعت ولم تفت بإحداث عقد فيها، أو نماء، أو نقصان، أو حوالة سوق أن حكمها الرد -أعني أن يرد البائع الثمن والمشتري المثمون- واختلفوا إذا قبضت، وتصرف فيها بعتق، أو هبة، أو رهن، أو غير ذلك من سائر التصرفات، هل ذلك فوت يوجب القيمة، وكذلك إذا نمت، أو نقصت؟ فقال الشافعي: ليس ذلك كله فوتًا، ولا شبهة ملك في البيع الفاسد، وأن الواجب الرد. وقال مالك: كل ذلك فوت يوجب القيمة، إلا ما روى عنه ابن وهب في الربا أنه ليس بفوت، ومثل ذلك قال أبو حنيفة، والبيوع الفاسدة عند مالك تنقسم إلى محرمة، وإلى مكروهة: فأما المحرمة، فإنها إذا فاتت مضت بالقيمة، وأما المكروهة فإنها إذا فاتت صحت عنده، وربما صح عنده بعض البيوع الفاسدة بالقبض؛ لخفة الكراهة عنده في ذلك، فالشافعية تشبه المبيع الفاسد لمكان الربا، والغرر بالفاسد لمكان تحريم عينه، كبيع الخمر، والخنزير، فليس عندهم فيه فوت، ومالك يرى أن النهي في هذه الأمور إنما هو لمكان عدم العدل فيها -أعني بيوع الربا والغرر- فإذا فاتت السلعة فالعدل فيها هو الرجوع بالقيمة ... " (¬2). ¬
القول الثالث
القول الثالث: ذهب الحنابلة في المشهور عنهم إلى أن البيع باطل (¬1)، وهو قول سفيان ابن عيينة (¬2)، والظاهرية (¬3). دليل الحنابلة على بطلان العقد: الدليل الأول: (ح-301) ما رواه مسلم من طريق سعد بن إبراهيم، عن القاسم بن محمَّد، قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد (¬4). وجه الاستدلال: أن معنى: رد: أي مردود على صاحبه، والمردود: هو الباطل. الدليل الثاني: (ح-302) ما رواه البخاري من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. ورواه مسلم (¬5). ¬
الدليل الثالث
فأفاد وجوب اجتناب المنهي عنه، وتصحيحه يدل على عدم اجتنابه، وهذا مخالف لنهيه - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثالث: إذا كان الأمر يقتضي الصحة، فالنهي نقيضه، والنقيضان لا يجتمعان، فيكون النهي مقتضيًا للفساد. وقد عقدت فصلًا مستقلًا، هل النهي يقتضي الفساد، أو لا يقتضي الفساد، أو هناك فرق بين أن يكون النهي عائدًا إلى ذات الشيء، أو يكون النهي عن الشيء لأمر خارج عنه، فأغنى عن إعادة ذلك، فارجع إليه مشكورًا. وقيل: النهي إنما وقع على المشتري لا على البائع. فقد نقل ابن منظور هذا القول عن أبي عبيد، قال في اللسان: "كان أبو عبيدة وأبو زيد وغيرهما من أهل العلم يقولون: إنما النهي في قوله: (لا يبيع على بيع أخيه) إنما هو لا يشتر على شراء أخيه، فإنما وقع النهي على المشتري لا على البائع؛ لأن العرب تقول: بعت الشيء: بمعنى: اشتريته ... وليس للحديث عندي وجه غير هذا؛ لأن البائع لا يكاد يدخل على البائع، وإنما المعروف أن يعطي الرجل بسلعته شيئًا، فيجيء مشتر آخر، فيزيد عليه" (¬1). ونقل ابن عبد البر هذا القول لابن حبيب من المالكية (¬2). ¬
ورده ابن عبد البر من المالكية، وقال: "لا أدري وجهًا لإنكاره أن يراد بذلك البيع، والعرب إن كان يعرف من لغتها أن تقول: بعت بمعنى اشتريت، فالذي هو أعرف وأشهر عنها، أن يقول: بعت بمعنى: بعت" (¬1). ولو نازع أحد في الشراء على الشراء كان له مدخل، وذلك لأن أكثر النصوص هي في نهي البيع على بيع أخيه. ومع ذلك فقد حفظ النهي عن الشراء على شراء أخيه، إما بالنص، وإما بالمعنى: (ح-303) أما النص فقد روى البخاري من طريق سعيد بن المسيب، أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: لا يبتاع المرء على بيع أخيه، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد (¬2). (ح-304) وروى مسلم من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن ابن شماسة، أنه سمع عقبة بن عامر على المنبر يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر (¬3). فقوله: "لا يبتاع" جاء في اللسان: "الابتياع: الاشتراء ... وابتاع الشيء: اشتراه" (¬4). (ح-305) بل جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: "من ابتاع شاة مصراة، فهو بالخيار ... " (¬5). يعني: من اشترى. ¬
الراجح من أقوال أهل العلم
(ح-306) وجاء في الصحيحين من حديث ابن عمر: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه" (¬1). وأما من جهة المعنى، فإن البيع والشراء يطلق أحدهما على الآخر. قال أبو عبيد: البيع من حروف الأضداد في كلام العرب، يقال: باع فلان: إذا اشترى وباع من غيره (¬2). قال الله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20]، أبي باعوه، وفي النهاية لابن الأثير: "قال الزبير لابنه عبد الله: والله لا أشري عملي بشيء، وللدنيا أهون علي من منحة ساحة" قال ابن الأثير: لا أشري؛ أي لا أبيع، يقال: شرى بمعنى: باع واشترى" (¬3). وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207]. قال ابن عطية في تفسيرها: "يشري" معناه يبيع ... (¬4). الراجح من أقوال أهل العلم: بعد استعراض أقوال أهل العلم، أجد أن البيع على بيع أخيه، والشراء على شرائه، إن وقع ذلك بعد لزوم العقد، كان ذلك حرامًا، ولم يؤثر في صحة العقد؛ لأن العقد الثاني لم يفسد العقد الأول، وإنما التحريم من جهة ما يدخل على القلوب ويفسد المودة بين المسلمين، والشرع حريص على قطع مثل ذلك. ¬
وإن ورد العقد الثاني على العقد الأول قبل لزوم العقد كان القول ببطلان العقد الثاني متجه معاملة له بنقيض قصده، وردعًا له عن الاعتداء على حق أخيه، والله أعلم. * * *
المسألة الرابعة البيع على بيع المسلم في بيع المزايدة
المسألة الرابعة البيع على بيع المسلم في بيع المزايدة [م - 368] اختلف العلماء في بيع المزايدة على أربعة أقوال: القول الأول: أنه جائز، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). القول الثاني: يكره مطلقًا، وهو مروي عن إبراهيم النخعي (¬2). القول الثالث: يكره إلا في بيع الشركاء فيما بينهم، وهو مروي عن مكحول (¬3). القول الرابع: تكره إلا في بيع الغنائم والمواريث، وهو اختيار الحسن، ومحمد بن ¬
دليل من قال بالجواز
سيرين (¬1)، والأوزاعي، وإسحاق (¬2). قال ابن رشد: "منع قوم بيع المزايدة، وإن كان الجمهور على خلافه" (¬3). دليل من قال بالجواز: الدليل الأول: قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، فالأصل في البيوع الحل، ومن ذلك بيع المزايدة، فمن ادعى أنها من البيوع المنهي عنها فعليه الدليل، وليس في التعامل بها اعتداء على حق لله أوحق لآدمي، ولو كان البيع فيها منهيًا عنه لجاء النص الشرعي الصحيح والذي تقوم بمثله الحجة على الخلق بالنهي عنها، ولما لم يوجد علم أنه ليس في التعامل بها حرج إن شاء الله تعالى. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-307) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن الأخضر بن عجلان، حدثني أبو بكر الحنفي عن أنس بن مالك، أن رجلاً من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فشكا إليه الحاجة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما عندك شيء؟ فأتاه بحلس وقدح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من يشتري هذا؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: من يزيد على درهم، فسكت القوم، فقال: من يزيد على درهم، فقال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. قال: هما لك، ثم قال: إن المسألة لا تحل إلا لأحدى ثلاث، ذي دم موجع، أو غرم مفضع، أو فقر مدقع (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ح-308) ما رواه البخاري من طريق عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، أن رجلاً أعتق غلامًا له عن دبر، فاحتاج، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا، فدفعه إليه (¬1). ورواه مسلم من طريق عمرو بن دينار، عن جابر (¬2). ¬
واعترض على هذا
واعترض على هذا: بما نقله الحافظ عن الإسماعيلي، فقال: "ليس في قصة المدبر بيع المزايدة، فإن بيع المزايدة: أن يعطي به واحد ثمنًا، ثم يعطي به غيره زيادة عليها. وأجاب ابن بطال: بأن شاهد الترجمة منه قوله في الحديث: (من يشتريه مني) قال: فعرضه للزيادة ليستقصي به للمفلس الذي باعه عليه" (¬1). الدليل الرابع: (ث-47) حدثنا وكيع، عن حزام بن هشام الخزاعي، عن أبيه، قال: شهدت عمر بن الخطاب باع إبلًا من إبل الصدقة فيمن يزيد (¬2). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬3). وعمر بن الخطاب له سنة متبعة، وقد أمرنا باتباع سنته؛ لأنه خليفة راشد، وإذا جاز بيع إبل الصدقة في المزاد جاز بيع غيرها لعدم الفرق. ¬
دليل من قال: يكره إلا في بيع المغانم والمواريث
دليل من قال: يكره إلا في بيع المغانم والمواريث: الدليل الأول: (ح-309) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا عبيد الله بن أبي جعفر، عن زيد بن أسلم، قال: سمعت رجلاً سأل عبد الله بن عمر عن بيع المزايدة، فقال ابن عمر: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع أحدكم على بيع أخيه إلا الغنائم والمواريث. [إسناده ضعيف] (¬1). الدليل الثاني: (ث-48) روى البخاري في صحيحه معلقًا، قال: قال عطاء: أدركت الناس لا يرون بأسًا ببيع المغانم فيمن يزيد (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬
وأجيب عن هذا الدليل
وأجيب عن هذا الدليل: هذا الأثر لا يدل على حصر بيع المزاد في المغانم فقط، وإنما فيه التصريح ببيع المغانم في المزاد، وهو لا ينفي بيع المزاد في غيرها، ولذلك جاء بيع المواريث في المزاد، وعلى التنزل: فإن مقتضى القياس الصحيح: أنه إذا ثبت صحة بيع المغانم فيمن يزيد جاز غيرها قياسًا عليها. قال ابن العربي: "لا معنى لاختصاص الجواز بالغنيمة والميراث، فإن الباب واحد، والمعنى مشترك" (¬1). وقال ابن حجر: "وكأنه خرج على الغالب فيما يعتاد فيه البيع مزايدة، وهي الغنائم، والمواريث، ويلتحق بهما غيرهما للاشتراك في الحكم" (¬2). دليل من قال: يكره مطلقًا: الدليل الأول: (ح- 310) ما رواه البزار في مسنده كما في مختصر زوائد مسند البزار (¬3)، من ¬
الدليل الثاني
طريق ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن المغيرة بن زياد، عن سفيان بن وهب، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن المزايدة. قال البزار: لا نعلم روى سفيان إلا هذا، وابن لهيعة ضعيف. اهـ وهو كما قال. الدليل الثاني: (ح-311) ما رواه مسلم من طريق عن هشام، عن محمَّد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يسوم على سوم أخيه (¬1). وجه الحديث: أن في بيع المزايدة السوم على سوم أخيك، وهذا داخل في النهي. وأجيب: بأن المنهي عنه السوم قبل أن يرد البائع السائم الأول، فإذا طلب الدلال الزيادة في الثمن فقد رد السائم الأول، وإذا رده جازت الزيادة عليه، ولو قلنا بتحريم الزيادة بعد رد السائم الأول لوقع بذلك ضرر كبير للبائع وللسوق مما لا يمكن أن يأتي به شرع، كما أنها تجوز الخطبة بعد رد الخاطب الأول. قال ابن عبد البر: "قال مالك في تفسير قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يبع بعضكم على بيع بعض، فيما نرى والله أعلم أنه إنما نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه إذا ركن البائع إلى السائم، وجعل يشترط وزن الذهب ويتبرأ من العيوب، وما أشبه هذا مما يعرف به أن البائع قد أراد مبايعة السائم، فذلك الذي نهى عنه، والله أعلم. ¬
الراجح
قال مالك: ولا بأس بالسوم بالسلعة توقف للبيع، فيسوم بها غير واحد، قال: ولو ترك الناس السوم عند أول من يسوم بالسلعة أخذت بشبه الباطل من الثمن، ودخل على الباعة في سلعهم المكروه والضرر، قال: ولم يزل الأمر عندنا على هذا. قال أبو عمر (ابن عبد البر): أقوال الفقهاء كلهم في هذا الباب متقاربة المعنى، وكلهم قد أجمعوا على جواز البيع فيمن يزيد" (¬1). الراجح: لا شك أن الخلاف في بيع المغانم ربما كان قديمًا، وأما عمل الناس اليوم فإنه لا خلاف بينهم في جواز هذه المعاملة وانتشارها بينهم من غير نكير، بل إن عقد المزايدة في هذا العصر انتشر محليًا ودوليًا، وأصبح له نظمه وقوانينه ولوائحه حتى أصبح جزءًا من العقود الإدارية، ويستخدم في عقود عديدة، كبيع أموال القاصرين في تصفية التركات، وكبيع أموال المدينين المحجوزة، وكبيع شيء من أملاك الدولة عند الاستغناء عتها، وكذلك شراء لوازم الدوائر الحكومية، وهو لا يختص بعقد البيع، بل يجري أيضًا في عقود الإيجار وتعهدات الأعمال فإذا احتاجت الحكومة إلى مثل هذا النوع من التعاقد أعلنت عن المزايدة في الصحف ووسائل الإعلام لتحقيق المنافسة الحرة، والمساواة بين المتنافسين، ثم تقوم الإرادة بفحص العطاءات المقدمة والتأكد من مطابقتها للشروط المعلن عنها، وإبعاد العطاءات التي لم تستوف الشروط وذلك عن طريق لجنة فتح المظاريف، ثم تقوم لجنة أخرى وهي لجنة البت بإتمام الإجراءات المؤدية إلى تعيين من ترسو عليه المزايدة (المناقصة). ¬
وتضع الدولة شروطًا تحددها الأنظمة والقرارات الحكومية، منها ألا يقبل للدخول في المزايدة أو المناقصة إلا من يسلف مبلغًا معينًا يسمى تأمينًا، كيلا ينكل إذا توجهت الإحالة القطعية إليه، فإن نكل جددت المزايدة أو المناقصة على حسابه، وفرق السعر يؤخذ من مبلغ تأمينه.
المسألة الخامسة في الاتفاق على ترك المزايدة
المسألة الخامسة في الاتفاق على ترك المزايدة [م - 369] إذا اتفق شخص، أو أكثر على ترك المزايدة في السوق، ويقتسمون البضاعة فيما بينهم، أو طلب السائم ترك الزيادة عليه مقابل مبلغ معلوم من المال، فهل هذا الفعل صحيح؟ والجواب أن هذا له حالتان: الأول: أن يكون الاتفاق بين يعض السائمين، وفي السوق من يزيد، فهذا لا يحرم؛ لأن باب المزايدة مفتوح. الثاني: أن يتفق أهل السوق كلهم على ترك المزايدة، فهذا لا يجوز؛ لأن في هذا إضرارا بأهل السلع، أكثر مما نهى عنه الشارع في تلقي الركبان، وفيه بخس الباعة بعض حقوقهم. وإذا كان الشارع حفظ حق المشتري بتحريم النجش، وهو أحد المتعاقدين، فيجب تحريم مثل ذلك في حق البائع؛ لأن فيه إضرارًا به. قال خليل في مختصره: "وجاز سؤال البعض ليكف عن الزيادة، لا الجميع" (¬1). وسئل ابن تيمية رحمه الله عن تاجرين عرضت عليهما سلعة للبيع، فرغب في شرائها كل وأحد منهما، فقال أحدهما للآخر: أشتريها شركة بيني وبينك، وكانت نيته أن لا يزيد عليه في ثمنها، وينفرد فيها، فرغب في الشركة لأجل ¬
ذلك، فاشتراها أحدهما ودفع ثمنها من مالهما على السوية، فهل يصح هذا البيع والحالة هذه، أو يكون في ذلك دلسة على بائعها، والحالة هذه؟. فأجاب الحمد لله، أما إذا كان في السوق من يزايدهما، ولكن أحدهما ترك مزايدة صاحبه خاصة لأجل مشاركته له، فهذا لا يحرم؛ فان باب المزايدة مفتوح، وإنما ترك أحدهما مزايدة الآخر، بخلاف ما إذا اتفق أهل السوق، على أن لا يزايدوا في سلع هم محتاجون لها ليبيعها صاحبها بدون قيمتها، ويتقاسمونها بينهم، فإن هذا قد يضر صاحبها أكثر مما يضر تلقى السلع إذا باعها مساومة، فإن ذلك فيه من بخس الناس ما لا يخفى والله اعلم" (¬1). وقال ابن رشد: "لو قال لواحد كف عني، ولك دينار جاز، ولزمه الدينار، ولو لم يشتر، ويجوز أيضًا أن يقول: وتكون شريكي فيها" (¬2). * * * ¬
الفرع الثاني النهي عن النجش
الفرع الثاني النهي عن النجش المسألة الأولى: تعريف النجش من الأمور التي نهي عنها المسلم دفعًا للضرر عن أخيه النجش في البيع، وذلك لأنه نوع من الغش والخداع، وهذا ما سوف يتبين لنا من خلال الكلام عن النجش من حيث تعريفه، وحكمه التكليفي والوضعي. تعريف النجش اصطلاحًا (¬1): لدينا تعريفان للنجش اصطلاحًا: التعريف الأول: تعريف الجمهور: "وهو أن يستام السلعة بأزيد من ثمنها وهو لا يريد شراءها بل ليراه غيره فيقع فيه" (¬2). وهذا هو المشهور في تعريف النجش، وعبارات الفقهاء متقاربة المعنى، وإن اختلفت ألفاظهم. قال ابن عبد البر: "وأما النجش: فلا أعلم بين أهل العلم اختلافًا في أن ¬
معناه: أن يعطي الرجل الذي قد دسه البائع، وأمره في السلعة عطاء لا يريد شراءها به، فوق ثمنها، ليغتر المشتري، فيرغب فيها، أو يمدحها بما ليس فيها، فيغتر المشتري حتى يزيد فيها، أو يفعل ذلك بنفسه، ليغر الناس في سلعته، وهو لا يعرف أنه ربها. وهذا معنى النجش عند أهل العلم، وإن كان لفظي ربما خالف شيئاً من ألفاظهم، فإن كان ذلك فإنه غير مخالف لشيء من معانيهم" (¬1). وقد أضاف ابن عبد البر في تعريفه صورة أخرى للنجش، وأنه لا يلزم أن يكون النجش مقصورًا على من يزيد في السلعة، بل يدخل في النجش: إطراء السلعة ومدحها بما ليس فيها لمن يريد شراءها، حتى يدفعه إلى شرائها. وهذه الصورة قد أخذت في عصرنا أشكالاً كثيرة مغرية، وأصبحت وسائل الدعاية السمعية، والمرئية، والمقروءة كل يوم تدعو الناس بوسائل متنوعة، تدعوهم إلى الإقبال على شراء منتجاتهم، وقد تعتمد في ذلك على مشاهير الناس ليخرجوا في وسائل الإعلام والنشر، ويدعوا الناس إلى شراء هذا المنتج، وتقديمه على غيره، فإذا لم يكن الأمر حقيقة فإنه من النجش المحرم، مع ما فيه من مكر وخديعة، وغش، وتدليس. وفي مقابل إطراء السلعة ومدحها بما ليس فيها ما ذكر ابن نجيم في البحر الرائق: "أن تنفر الناس عن الشيء إلى غيره" (¬2). التعريف الثاني: تعريف المازري: الناجش هو الذي يزيد في سلعة ليقتدي به غيره (¬3). ¬
الفرق بين التعريفين
الفرق بين التعريفين: لم يقيد المازري النجش بالزيادة على الثمن، بل جعل مجرد الزيادة في قيمة السلعة، وهو لا يريد شراءها من النجش، بينما الجمهور جعلوا النجش أن يستام السلعة بأزيد من ثمنها. ولذلك قال ابن عرفة: "وكلام المازري أعم من كلام مالك، وهو حسن" (¬1). وتعريف خليل قريب من تعريف المازري. قال خليل في مختصره: "وكالنجش يزيد ليغر" (¬2). وقد شرح هذه العبارة في منح الجليل، فقال: "ظاهره سواء كانت الزيادة على ثمنها الذي تباع به عادة، أو على أقل منه، وهو ظاهر قول المازري ... وهو خلاف قول مالك رضي الله تعالى عنه في الموطأ، والنجش: أن تعطيه في سلعة أكثر من ثمنها، وليس في نفسك اشتراؤها، ليقتدي بك غيرك" (¬3). وذهب بعض المالكية بأنه لا فرق بين تعريف الإِمام مالك وبين تعريف المازري. قال في الشرح الكبير: "كلام المازري مساو لكلام الإِمام، بحمل الثمن في كلام الإِمام على الثمن الذي وقع في المناداة، لا القيمة، وقول المازري: يزيد: أبي على ثمن المناداة" (¬4). ¬
وأضاف الحنابلة صورة أخرى من صور النجش: فقال في مطالب أولى النهى: "ومنه: أي النجش، قول بائع: أعطيت في السلعة كذا، وهو كاذب" (¬1). فتجمع لنا أربع صور من النجش: الأولى: أن يزيد في السلعة، وهو لا يريد شراءها. الثانية: أن يمدح السلعة، ويثني عليها حتى يدفع غيرها ليغتر بها، ويشتريها، ومنه ما تفعله وسائل الدعاية والإعلان. الثالثة: أن يقول بائع، أو وكيله، من سمسار ونحوه، أعطيت بالسلعة كذا، وهو كاذب. الرابعة: ما ذكره ابن نجيم في البحر الرائق: "أن تنفر الناس عن الشيء إلى غيره" (¬2). فلو كان هناك في السوق سلعتان، فنفرت الناس عن السلعة المنافسة بلا حق، ليذهبوا إلى السلعة الأخرى كان ذلك من النجش، وهذا أشد عدوانًا؛ لأنه أضر بأكثر من جهة، وكلما كثر الضرر زاد التحريم. وبذلك يمكن أن نعرف النجش: بأن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، أو يمدحها بما ليس فيها، أو يقول: بأني أعطيت فيها كذا، وهو كاذب، أو ينفر الناس عن السلعة إلى غيرها. ... ¬
المسألة الثانية الحكم التكليفي لبيع النجش
المسألة الثانية الحكم التكليفي لبيع النجش (ح-312) روى البخاري ومسلم من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النجش (¬1). (ح-313) وروى البخاري ومسلم من طريق الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يبع حاضر لباد، ولا تناجشوا ... الحديث (¬2). [م - 370] وقد ساق ابن عبد البر الإجماع على تحريم النجش. قال رحمه الله: النجش "مكر وخداع، لا يجوز عند أحد من أهل العلم، لنهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن النجش، وقوله: لا تناجشوا. وأجمعوا أن فاعله عاص لله إذا كان بالنهي عالماً" (¬3). وقال الشافعي: "من نجش فهو عاص بالنجش، إن كان عالماً بنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه" (¬4). وقال ابن قدامة عن النجش: حرام وخداع ... وهو خداع باطل، لا يحل (¬5). ¬
وعبر الحنفية بالكراهة، والمقصود كراهة التحريم، قال في فتح القدير: "فهذه الكراهات كلها تحريمية، لا نعلم خلافًا في الإثم" (¬1). قال ابن الجلاب: "ولا يجوز النجش في البيوع ... ولا ينبغي أن يقر الغش في شيء من أسواق المسلمين بوجه من الوجوه، ولا يسمح فيه لأحد" (¬2). وقد قيد الحنفية وابن العربي من المالكية بأن الممنوع في النجش أن يزيد في ثمن السلعة على قيمتها، فإن بَلَّغَها قيمتها، وهو لا يريد شراءها لم يكن ذلك ممنوعًا. "قال ابن العربي: الذي عندي أنه إن بلغها الناجش قيمتها، ورفع الغبن عن صاحبها، فهو مأجور، ولا خيار لمبتاعها" (¬3). وهذا الذي قاله ابن العربي قريب من مذهب الحنفية: قال الكاساني بعد أن عرف النجش، وبين أنه مكروه، قال: "وهذا إذا كان المشتري يطلب السلعة من صاحبها بمثل ثمنها، فأما إذا كان يطلبها بأقل من ثمنها، فنجش رجل سلعة حتى تبلغ إلى ثمنها، فهذا ليس بمكروه وإن كان الناجش لا يريد شراءها والله عز وجل أعلم" (¬4). ولم يقيد الشافعية التحريم في هذا الباب كون الناجش عالمًا بالنهي كما قيدوا ذلك في البيع على بيع أخيه. وفي ذلك يقول النووي: "واعلم أن الشافعي أطلق القول بتعصية الناجش (¬5)، ¬
وشرط في تعصية البائع على بيع أخيه أن يكون عالماً بالنهي. قال الأصحاب: السبب فيه أن النجش خديعة، وتحريم الخديعة واضح لكل أحد، معلوم من الألفاظ العامة، وإن لم يعلم هذا الحديث، والبيع على بيع أخيه، إنما عرف تحريمه من الخبر الوارد فيه، فلا يعرفه من لا يعرف هذا الخبر. قال الرافعي: ولك أن تقول: البيع على بيع أخيه إضرار أيضًا، وتحريم الإضرار معلوم من الألفاظ العامة، والوجه تخصيص التعصية بمن عرف التحريم بعموم أو خصوص" (¬1). وقول الجمهور أقرب؛ لأن أحاديث النهي عن النجش مطلقة، ولأن زيادته في السلعة، وهو لا يريد شراءها كذب، والكذب محرم ومعلوم تحريمه من الدين بالضرورة، وقد يطمع المشتري في أن يشتريها برخص ليسترزق منها، فيؤدي ذلك إلى التضييق على المشتري في رزقه من رجل لا يريد شراء تلك البضاعة، والشرع له تطلع إلى أن يزرق الله الناس بعضهم من بعض. ¬
المسألة الثالثة الحكم الوضعي لبيع النجش
المسألة الثالثة الحكم الوضعي لبيع النجش [م - 371] بعد أن عرفنا الحكم التكليفي للنجش، وأنه محرم، فمما هو الحكم الوضعي للعقد إذا دخله النجش، هل يصح، أو لا؟ أختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول: يصح، وهذا مذهب الأئمة الأربعة (¬1). القول الثاني: يبطل، وهو قول في مذهب الحنابلة، اختاره أبو بكر منهم (¬2). واختلف القائلون بالصحة في ثبوت الخيار للمشتري: فقيل: لا خيار له مطلقاً، سواء كان فعل الناجش بمواطأة من البائع أم لا، وهذا ظاهر مذهب الحنفية (¬3)، والصحيح من مذهب الشافعية (¬4). ¬
دليل من قال: العقد صحيح
وقيل: له الخيار إذا غبن مطلقاً، وهذا مذهب الحنابلة (¬1)، واختاره ابن حزم (¬2). وقيل: إذا لم يعلم البائع بالناجش، فلا خيار للمشتري مطلقاً، وإن علم البائع بالناجش، وسكت، فللمشتري رد المبيع إن كان قائمًا، وله التمسك به. وإن فات المبيع فالواجب القيمة، وهذا مذهب المالكية (¬3) مذهب الشافعية (¬4). دليل من قال: العقد صحيح: قالوا: لأن النهي لا يعود إلى البيع، فالبيع قد توفرت فيه شروط البيع الصحيح، ولأن النهي لحق الآدمي، فلم يفسد العقد كتلقي الركبان، وقد تقدم. ¬
دليل من قال: العقد باطل
دليل من قال: العقد باطل: قالوا: ثبت النهي عن النجش بالسنة الصحيحة، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. (ح-314) وقد روى مسلم من طريق سعد بن إبراهيم، عن القاسم ابن محمَّد، قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد (¬1). ومعنى: رد: أبي مردود على صاحبه، والمردود: هو الباطل. تعليل من قال: له الخيار مطلقًا حتى ولو كان النجش بدون علم البائع: لأن الحق للمشتري، وهو المتضرر من زيادة الناجش، فإذا غبن عن طريق النجش كان له خيار الرد، سواء كان ذلك بمواطأة البائع، أو بدونه. تعليل من قال: ليس له الخيار مطلقًا، ولو كان النجش بعلم البائع: التعليل الأول: الأحاديث الواردة في النهي عن النجش لم تثبت الخيار للمشتري، فلا نثبت له شيئاً لم تثبته النصوص. ويناقش: إن لم تذكر النصوص الخيار، فقد ذكر الخيار بمثله، كتلقي الركبان، والتصرية، وهذان البيعان فيهما غبن في الأول، وغش في الثاني، وبيع النجش قد اشتمل عليهما. ¬
التعليل الثاني
التعليل الثاني: أن العقد الذي دخله النجش ليس فيه أكثر من الغبن، وذلك لا يثبت الخيار كما هو في كل غبن؛ ولأن التفريط جاء من قبل المشتري، حيث اشترى ما لا يعرف قيمته (¬1). ويناقش: مسألة ثبوت الخيار للمغبون مسألة خلافية، والجمهور على أن الغبن جائز في الجملة، وقد بحثت المسألة في بحث سابق مستقل، فأغنى عن إعادته هنا. تعليل من قال: له الخيار إلا إن كان البائع لا يعلم بالنجش. لأن النجش إذا لم يكن من صنع البائع، ولم يعلم به، فلا خيار للمشتري لأنه لم يوجد من جهة البائع تدليس، فمعاقبة البائع بفعل غيره لا وجه له؛ لأن الناجش غير صاحب السلعة، فلا يفسد بفعله بيع غيره (¬2). الراجح: ثبوت الخيار إذا ثبت أن الناجش قد زاد في ثمن السلعة عن قيمتها مطلقاً، سواء كان ذلك بتدبير من البائع أو كان بدونه؛ لأن دفع الضرر عن المشتري مطلوب بصرف النظر عن موقف البائع، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث في النهي عن بيع المضطر
الفرع الثالث في النهي عن بيع المضطر المسألة الأولى في معنى بيع المضطر وبيان الأحاديث الواردة فيه [م - 372] من الأمور التي نهي عنها المسلم في المعاملات دفعًا للضرر عن أخيه، استغلال حاجته، وهو ما يسمى ببيع المضطر. (ح-315) فقد روى أحمد من طريق هشيم، أخبرنا أبو عامر المزني، حدثنا شيخ من بني تميم، قال: خطبنا علي، وفيه: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطرين، وعن بيع الغرر (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني: (ح-316) ما رواه سعيد بن منصور في سننه، من طريق مطرف، عن بشر أبي عبد الله، عن بشير بن مسلم عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يركب البحر إلا حاج، أو معتمر، أو غاز في سبيل الله، فإن تحت البحر نارًا، وتحت النار بحرًا، وقال: لا يشترى من ذي ضغطة سلطان شيئاً (¬1). ¬
ومعنى بيع المضطر
[ضعيف جدًا] (¬1). ومعنى بيع المضطر: عرفه ابن عابدين من الحنفية: بأن يضطر إلى بيع شيء من ماله، ولم يرض المشتري إلا بشرائه بدون ثمن المثل، بغبن فاحش (¬2). ومثال شراء المضطر، قال: "أن يضطر الرجل إلى طعام، أو شراب، أو لباس، أو غيره، ولا يبيعه البائع إلا بأكثر من ثمنه" (¬3). ¬
وعرفه الحنابلة: بأن يكره على دفع مال، فيبيع ملكه لذلك، قال في الإنصاف: وهو بيع المضطر" (¬1). ¬
المسألة الثانية في حكم بيع المضطر
المسألة الثانية في حكم بيع المضطر [م - 373] قال الحطاب في مواهب الجليل: "سئل السيوري ... عمن يتعدى عليه الأعراب، فيسجنونه، فيبيع هو، أو وكيله، أو من يحتسب له ريعًا، لفدائه، هل يجوز شراؤه، أم لا؟ ... فأجاب: بيع المضطر لفدائه جائز، ماض، باع هو، أو وكيله بأمره، وكذا أخذه معاملة، أو سلفًا، ومن فعل ذلك معه أجر على قدر نيته في الدنيا والآخرة" (¬1). وقال الخطابي: "بيع المضطر يكون على وجهين: أحدهما: أن يضطر إلى العقد عن طريق الإكراه عليه، فهذا فاسد لا ينعقد. والوجه الآخر: أن يضطر إلى البيع لدين يركبه، أو مئونة ترهقه، فيبيع ما في يده بالوكس من أجل الضرورة" (¬2). وهذان الوجهان اللذان ذكرهما الخطابي، سبق لنا خلاف العلماء في حكم البيع فيهما. سواء ما كان فيه الإكراه على البيع. أو كان الإكراه على سبب البيع، كما لو طلب شخص ظالم من آخر مالاً، فاضطره إلى بيع ماله، ليدفع له، لئلا يناله أذى، أو يمنع من حق من حقوقه. ¬
فقيل في هذه الصورة: البيع لازم، وهو المعتمد في مذهب المالكية (¬1)، ومذهب الشافعية (¬2)، واختيار ابن تيمية من الحنابلة (¬3). وقيل: البيع غير لازم، وهو قول في مذهب المالكية. فقوله: غير لازم، يعني أنه صحيح، وللمكره الخيار إن شاء أمضاه، وإن شاء رده (¬4). وقيل: لا يصح، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬5)، وقول في مذهب الحنابلة (¬6). وقيل: يصح البيع، ويكره الشراء منه، وهو مذهب الحنابلة (¬7). وسبق لنا ذكر أدلة كل قول في الركن الثاني من أركان البيع، فأغنى عن إعادته هنا. * * * ¬
الفرع الرابع في النهي عن الغش في البيوع
الفرع الرابع في النهي عن الغش في البيوع المسألة الأولى: تعريف الغش من الأمور التي نهي عنها المسلم في المعاملات دفعًا للضرر عن أخيه المسلم الغش في البيوع، لما فيه من أكل أموال الناس بغير حق، وسوف أقوم بتعريف الغش، وبيان حكمه التكليفي وحكمه الوضعي إن شاء الله تعالى. تعريف الغش في الاصطلاح (¬1): عرفه بعض الفقهاء بقولهم: "اشتمال المبيع على وصفِ نقصٍ، لو علم به المشتري لامتنع عن شرائه" (¬2). وعرفه بعض الباحثين بقوله: "إظهار أحد المتعاقدين أو غيره العقد بخلاف الواقع بوسيلة قولية، أو فعلية، وكتمان وصف غير مرغوب فيه، لو علم به أحد المتعاقدين لامتنع من التعاقد عليه" (¬3). ¬
فقوله: (إظهار أحد المتعاقدين) معنى ذلك أن يبين ويظهر الغش، ويخدع به أحد المتعاقدين، وذلك يكون من البائع عن طريق التدليس، والكتمان. ويكون أيضًا من المشتري كأن يعيب السلعة، ويزري بها كي يزهد البائع بها، فيبيعها ببخس. وقوله (أو غيره) أبي غير المتعاقدين، فالغش قد يحصل من غير المتعاقدين، كما في النجش: بأن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، وكما يحدث من بعض السماسرة، وأصحاب الوكالات في الدعايات الإعلانية الذين يرغبون الناس في السلع بطرق عديدة مع الكذب والتزوير. وقوله (العقد) ليدخل في ذلك المعاوضات المالية، وغير المالية كعقد النكاح ونحوه. وقوله (بوسيلة قولية، أو فعلية) أن الغش يكون بالقول كما يكون بالفعل، فالغش بالقول كان يمدح السلعة بما ليس فيها، أو يدعي أنه أعطي فيها كذا وكذا كذبًا. والغش بالفعل كما في التصرية والتدليس. وقوله: (وكتمان وصف غير مرغوب فيه) مثل إخفاء العيوب، والنقص في السلعة. وقوله: (لامتنع من التعاقد عليه) يعني لولا وجود الغش في العقد بأنواعه من غش قولي، أو فعلي، أو كتمان وصف غير مرغوب فيه، لما أقدم المتعاقدان على التعاقد عليه (¬1). ... ¬
المسألة الثانية الحكم التكليفي للغش
المسألة الثانية الحكم التكليفي للغش قال الكاساني: قليل الغش مما لا يمكن التحرز عنه (¬1). [م - 374] حرم الله سبحانه وتعالى جميع أنواع الغش والخداع في التجارة، وهو أمر مجمع عليه، حكى فيه الإجماع غير واحد من أهل العلم. قال العدوي: "لا أعلم خلافا في تحريم الغش، والخديعة وما ذكر معهما؛ لأن هذه أمور ممنوعة في الشرع؛ لأنها ضرب من المكر، والحيل على الناس، والتوصل إلى أخذ أموالهم بغير حق" (¬2). وقال النووي: "والأحاديث في تحريم الغش، ووجوب النصيحة كثيرة جداً، وحكمها معلوم من الشريعة ... " (¬3). كما حكى الإجماع كل من الشوكاني (¬4)، والصنعاني (¬5). ومستند هذا الإجماع آيات قرآنية، وأحاديث شريفة صحيحة. فمن الكتاب قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين]. قال الشنقيطي رحمه الله: "كل من غش في سلعة، أو دلس، أو زاد في عدد، أو ¬
نقص، أو زاد في ذرع، أو نقص، فهو مطفف في الكيل، داخل تحت الوعيد بالويل" (¬1). وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. فالآية نص في تحريم أخذ المال بغير حق شرعي، ومنه أكل مال الغير عن طريق الغش، فمن غش فقد أخذ جزءًا من المال بغير حقه بقدر غشه، وذلك أن الغاش يأخذ قيمة السلعة سالمة من الغش، وهو خلاف الواقع. فقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} [البقرة: 188]، أي لا يأكل بعضكم مال بعض. {بِالْبَاطِلِ} أي بأي وجه من وجوه التعدي مما لم يبحه الله، ولم يشرعه، ومنه الغش، والخداع، والتغرير. وأصل الباطل: الشيء الذاهب، والأكل بالباطل أنواع، قد يكون بطريق الغش، والخداع، والتدليس، وقد يكون بطريق الغصب، والنهب، وقد يكون بطريق اللهو، كالقمار، وقد يكون بطريق الرشوة، والخيانة (¬2). قال ابن العربي: هذه الآية من قواعد المعاملات، وأساس المعاوضات، ينبنى عليها (¬3). ومن الآيات الدالة على تحريم الغش قوله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الشعراء: 183]. ¬
وأما تحريم الغش من السنة
فقوله: ولا تبخسوا الناس أشياءهم معنى ذلك: لا تنقصوا الناس حقوقهم التي يجب عليكم أن توفوها كيلاً، أو وزنًا، أو غير ذلك (¬1). وقال ابن العربي: "البخس في لسان العرب: هو النقص بالتعييب والتزهيد أو المخادعة عن القيمة أو الاحتيال في التزيد في الكيل أو النقصان مني (¬2). وأما تحريم الغش من السنة: (ح-317) فقد روى مسلم في صحيحه من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من حمل علينا السلاح فليس منا. ومن غشنا فليس منا (¬3). (ح-318) وروى مسلم أيضاً من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني (¬4). (ح-319) وروى البخاري من طريق هشام، عن الحسن، قال: أتينا معقل ابن يسار نعوده، فدخل علينا عبيد الله، فقال له معقل: أحدثك حديثا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما من والٍ على رعية من المسلمين، فيموت، وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة (¬5). قال ابن بطال: "هذا وعيد شديد على أئمة الجور، فمن ضيع من ¬
استرعاه الله، أو خانهم، أو ظلمهم، فقد توجه إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة، فكيف يقدر على التحلل من ظلم أمة عظيمة ... " (¬1). (ح-320) وروى البخاري من طريق صالح أبي الخليل، عن عبد الله ابن الحارث، عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا -أو قال: حتى يتفرقا- فإن صدقا، وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا، وكتما محقت بركة بيعهما (¬2). ولأجل منع الغش، وقطع أسبابه حرم الإِسلام على المسلمين، النجش وتلقي الركبان، وتصرية بهيمة الأنعام. فقد سبق لنا تحريم النجش، وثبت النهي عنه في أحاديث في الصحيحين وفي غيرهما، وأجمع العلماء على تحريم النجش، وإنما حرم لما فيه من الغش والخداع. قال ابن الجلاب: "ولا يجوز النجش في البيوع ... ولا ينبغي أن يقر الغش في شيء من أسواق المسلمين بوجه من الوجوه، ولا يسمح فيه لأحد" (¬3). وقال ابن عبد البر رحمه الله: النجش "مكر وخداع، لا يجوز عند أحد من أهل العلم، لنهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن النجش، وقوله: لا تناجشوا. وأجمعوا أن فاعله عاص لله إذا كان بالنهي عالمًا" (¬4). ¬
وقد سبق بحث أحكام النجش على وجه التفصيل في بحوث سابقة من هذا الباب. كما سبق لنا تحريم تلقي الركبان، وثبت النهي عنه في أحاديث في الصحيحين، قال النووي: "قال العلماء: وسبب التحريم إزالة الضرر عن الجالب، وصيانته ممن يخدعه". وقد بحثنا أحكام تلقي الركبان على وجه التفصيل في بحوث سابقة من هذا الباب، فأغنى عن إعادته هنا. كما جاء النهي عن التدليس في البيع؛ لأنه نوع من الغش، والأصل في النهي عنه حديث أبي هريرة في التصرية: (ح-321) فقد روى البخاري من طريق جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال أبو هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاع تمر (¬1). والتدليس حرام بالإجماع. قال في إحكام الأحكام: "لا خلاف أن التصرية حرام؛ لأجل الغش والخديعة التي فيها للمشتري، والنهي يدل عليه، مع علم تحريم الخديعة قطعًا" (¬2). وقال النووي: "من ملك عينًا، وعلم بها عيبًا لم يجز أن يبيعها حتى يبين عيبها، وهذا الحكم متفق عليه ... لا خلاف فيه بين العلماء، قال الشافعي رحمه الله ¬
في آخر باب الخراج بالضمان من المختصر: وحرام التدليس، وكذلك جميع الأصحاب" (¬1). وقال ابن هبيرة: "واتفقوا على أنه لا يجوز تصرية الإبل والبقر والغنم للبيع تدليسًا على المشتري" (¬2). وقال في كشاف القناع: "ويحرم التدليس لحديث من غشنا فليس منا" (¬3). وقال في حواشي الشرواني: وينبغي أن يكون كبيرة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: من غشنا فليس منا (¬4). ومن أجل تحريم الغش والخداع حرم الإِسلام الغبن الفاحش. قال ابن العربي: "الغبن في الدنيا ممنوع بإجماع في حكم الدنيا؛ إذ هو من باب الخداع المحرم شرعًا في كل مدة، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز منه لأحد، فمضى في البيوع، إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدًا؛ لأنه لا يخلو منه، حتى إذا كان كثيراً أمكن الاحتراز منه، فوجب الرد به" (¬5). قال ابن هبيرة: "واتفقوا على أن الغبن في البيع بما لا يفحش لا يؤثر في صحته" (¬6). ومفهومه: أنه إن كان فاحشًا فإنه يؤثر في صحته. ¬
وسبق لنا خلاف العلماء في تقدير الغبن الفاحش، وحكم البيع الذي وقع فيه غبن فاحش، وهل يرد به البيع أم لا؟ فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله.
المسألة الثالثة الحكم الوضعي للبيع الذي وقع فيه غش
المسألة الثالثة الحكم الوضعي للبيع الذي وقع فيه غش قال أبو بكر بن العربي: متى كان المنع لحق الله تعبدًا فسخ البيع إجماعًا، ومتى كان لحق الآدمي كالعيب والغش فله الخيار، ومتى كان لحق الله ولحق الآدمي فعند كافة العلماء أنه يفسخ (¬1). [م - 375] تكلمنا في الفصل السابق عن الحكم التكليفي للغش، وبينا أن العلماء مجمعون على تحريمه، ونعرض في هذا الفصل الحكم الوضعي لهذا البيع. والغش إن كان عن طريق تلقي الركبان، أو النجش، أو التصرية، أو الغبن الفاحش فقد سبق بحث الحكم الوضعي لهذه المسائل، فأغنى عن إعادته هنا. وإن كان الغش عن طريق خلط المبيع بغيره، فإن كان المشتري يعلم قدر الغش الذي فيه، ويدخل في البيع على بينة، قهذا بيعه جائز؛ لأن المبيع وإن كان مغشوشا، إلا أن البائع لم يتعرض للغش فيه، لكونه علم مقدار ذلك. وإن كان المغشوش لا يعلم مقداره، كاللبن إذا خلط بالماء مثلاً، فهذا لا يجوز بيعه، حتى ولو علم بذلك المشتري؛ لأن المشتري لا يعلم مقدار الخلط، فيبقى المبيع مجهولاً، وهو غرر. قال ابن تيمية: "بيع المغشوش الذي يعرف قدر غشه: إذا عرف المشتري بذلك، ولم يدلسه على غيره جائز، كالمعاملة بدراهمنا المغشوشة. ¬
وأما إذا كان قدره مجهولاً، كاللبن الذي يخلط بالماء، ولا يقدر قدر الماء، فهذا منهي عنه، وإن علم المشتري أنه مغشوش ... " (¬1). قال ابن تيمية: "ومن باع مغشوشا لم يحرم عليه من الثمن إلا مقدار ثمن الغش، فعليه أن يعطيه لصاحبه، أو يتصدق به عنه إن تعذر رده. مثل من يبيع معيبًا مغشوشًا بعشرة، وقيمته لو كان سالمًا عشرة وبالعيب قيمته ثمانية، فعليه إن عرف المشتري أن يدفع إليه الدرهمين إن اختار، وإلا رد إليه المبيع، وإن لم يعرفه تصدق عنه بالدرهمين، والله أعلم" (¬2). [م - 376] وأما إذا كان المبيع معيبًا، وكتمه البائع، ولم يطلع عليه المشتري، فقد اختلف العلماء في صحة هذا البيع. فقيل: البيع صحيح، والعقد لازم من جهة البائع، وغير لازم من جهة المشتري. وهذا مذهب الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). وقيل: البيع باطل، وهذا قول الظاهرية (¬7)، واختاره بعض الحنابلة (¬8). ¬
دليل من قال بصحة بيع المعيب، وللمشتري الخيار.
دليل من قال بصحة بيع المعيب، وللمشتري الخيار. (ح-322) ما رواه البخاري من طريق جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال أبو هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاع تمر (¬1). قال ابن عبد البر عن هذا الحديث: "وهو أصل في النهي عن الغش، والدلسة بالعيوب، وأصل أيضًا في الرد بالعيب لمن وجد فيما يشتريه من السلع، وفيه دليل على أن بيع المعيب بيع يقع صحيحًا، بدليل التخيير فيه؛ لأنه إن رضي المبتاع بالعيب جاز ذلك، ولو كان بيع المعيب فاسدًا، أو حرامًا لم يصح الرضا به، وهكذا أصل مجتمع عليه" (¬2). الدليل الثاني: الأصل في المبيع السلامة من العيب، وكون العقد مطلقاً، لم يذكر فيه وجود العيب دليل على أن مقتضى العقد سلامته من العيب؛ فكأن العاقدين نصا على اشترط سلامة المبيع من العيب، فلما لم يسلم المبيع من العيب كان ذلك إخلالًا بهذا الشرط، والمتضرر من ذلك هو المشتري وحده، فجعل الخيار له. يقول الكاساني: "السلامة -يعني من العيب- شرط في العقد دلالة، فما لم يسلم المبيع لا يلزم البيع، فلا يلزم حكمه، والدليل على أن السلامة مشروطة في العقد دلالة: أن السلامة في البيع مطلوبة من المشتري عادة؛ لأن غرضه الانتفاع بالمبيع، ولا يتكامل انتفاعه إلا بقيد السلامة، ولأنه لم يدفع جميع الثمن إلا ليسلم له جميع المبيع، فكانت السلامة مشروطة في العقد دلالة، ¬
دليل من قال: البيع باطل
فكانت كالمشروطة نصًا، فإذا فاتت المساواة كان له الخيار، كما إذا اشترى جارية على أنها بكر، أو على أنها طباخة، فلم يجدها كذلك، وكذا السلامة من مقتضيات العقد أيضًا؛ لأنه عقد معاوضة، والمعاوضات مبناها على المساواة عادة وحقيقة، وتحقيق المساواة في مقابلة البدل بالمبدل، والسلامة بالسلامة، فكان إطلاق العقد مقتضيًا للسلامة، فإذا لم يسلم المبيع للمشتري يثبت له الخيار؛ لأن المشتري يطالبه بتسليم قدر الفائت بالعيب بحكم العقد، وهو عاجز عن تسليمه، فيثبت الخيار" (¬1). دليل من قال: البيع باطل: كتمان العيب منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد. ومعنى رد: أبي مردود، وإنفاذ البيع تصحيح لما نهى عنه الشارع، فلا يجوز. ويناقش: بأن صحة البيع ترجع إلى أمرين: الأول: أن فوات السلامة من العيب حق للمشتري، وإثبات هذا الحق له إنما يكون بجعل الخيار له وحده دون البائع، فإذا رضي بالعيب فقد تنازل عن حق هو يملكه، فلم نحرمه من الصفقة مع رضاه بالعيب. الثاني: أن البيع من حيث هو ليس منهيًا عنه، وإنما المنهي عنه هو كتمان العيب، والكتمان معنى متعلق بالبائع، لا بالبيع، ومن كان حكمه كذلك فإنه لا يمنع صحة البيع، كالبيع على بيع أخيه، وتلقي الجلب والشراء منهم، والنجش ¬
في البيع، وبيع المصراة، إلا أن وجود العيب يمنع من رضا المشتري، فإعطاؤه الخيار جابر للخلل الحاصل من وجود العيب. يقول الكاساني: "السلامة لما كانت مرغوبة من المشتري، ولم تحصل، فقد اختل رضاه، وهذا يوجب الخيار؛ لأن الرضا شرط صحة البيع، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، فانعدام الرضا يمنع صحة البيع، واختلاله يوجب الخيار فيه إثباتاً للحكم على قدر الدليل" (¬1). وإذا أراد المشتري إمساك المبيع، فهل له أن يأخذ أرش النقص، هذه مسألة خلافية بين أهل العلم، سنأتي عليها إن شاء الله تعالى بحوله وقوته عند الكلام على خيار العيب، إنما الكلام في هذا المبحث حول الحكم التكليفي والوضعي للبيع إذا تعرض المشتري للغش. ¬
الفرع الخامس في النهي عن بيع المخدرات
الفرع الخامس في النهي عن بيع المخدرات المسألة الأولى: تعريف المخدرات من الأمور التي نهي عن بيعها دفعا للضرر، بيع المخدرات، ويلحق بها كل ما من شأنه أن يضر بدن المسلم كالدخان. تعريف المخدرات: المخدرات في اصطلاح الفقهاء (¬1): أطلق بعض الفقهاء على اسم المخدر اسم (المفسد). وعرفه القرافي المخدر يقوله: "هو المشوش للعقل، مع عدم السرور الغالب، كالبنج" (¬2). ¬
فيجتمع المسكر والمخدر بأن كلا منها يغيب العقل دون الحواس، ويفترقان: بأن المسكر يكون معه نشوة، وفرح، وزيادة في الشجاعة، وقوة في النفس، والميل إلى البطش، والانتقام من الأعداء، بخلاف المخدر، فإنه ليس معه نشوة، ولا طرب. وعرفت الموسوعة الكويتية المخدر بأنه ما غيب العقل دون الحواس بلا نشوة، وطرب، كالحشيشة (¬1). وأنواع المخدرات كثيرة، منها الأفيون (¬2)، والحشيش (¬3)، والهروين (¬4)، ¬
والقات (¬1)، والمورفين (¬2)، وغيرها. وهذه أمثلة، ولا يراد منها حصر جميع الأمور المخدرة، فإن الضابط فيها ما غيب العقل دون الحواس، بلا نشوة ولا طرب، وذلك أن المجتمعات تحدث من الأمور المخدرة بين حين وآخر أسماء لم تكن معروفة من قبل حسب فقرها وغناها. ¬
المسألة الثانية حكم بيع المخدرات
المسألة الثانية حكم بيع المخدرات سبق لنا في كتابي موسوعة الطهارة خلاف العلماء في طهارة المخدارت، ومنها الحشيشة، وقد رجحت أنها طاهرة مطلقًا، سواء كانت صلبة، أو سائلة. [م - 377] وأما حكم بيعها، فقد اختلف العلماء في ذلك: فقيل: يجوز بيعها على من يشتريها لغير الأكل والشرب، وهي رأي أبي حنيفة (¬1)، ومذهب المالكية (¬2). ¬
وأجاز الشافعية بيع الأفيون (¬1). واستثنى ابن نجيم من الحنفية الحشيشة، وذلك لقيام المعصية بذاتها. وقيل: لا يجوز بيعها مطلقًا. وهو رأي أبي يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬2)، وأبي إسحاق الشيرازي، والزركشي من الشافعية (¬3)، وهو مذهب الحنابلة (¬4)، واختيار ¬
ابن تيمية (¬1). وسبب اختلافهم في بيعها راجع لاختلافهم في مسألتين: الأولى: اختلافهم في طهارتها، فمن رأى طهارتها، وجواز أكل القليل منها مما لا يذهب العقل ولا يحدث ضررًا بالبدن، أو رأى الانتفاع بها في غير الأكل أجاز بيعها. ومن ذهب إلى نجاستها كالحنابلة، ومنهم ابن تيمية، حرم بيعها، وحرم التداوي بها، وحرم أكل القليل منها مما لا يسكر. المسألة الثانية: اختلافهم في المخدرات هل هي مسكرة، فيحرم القليل منها، ولو لم تدهب العقل، أو أنها غير مسكرة. فمنهم من رأى أنها مسكرة كابن تيمية. ومنهم من لم ير أنها مسكرة، وإن أذهبت العقل دون الحواس؛ لأن المسكر يحدث نوعًا من النشوة والطرب بخلاف المخدر فإن متناولها لا يحدث معه شيء من ذلك. ولذلك ذكر القرافي أن هناك ثلاثة فروق بين المخدر، والمسكر، فتنفرد المسكرات عن المخدرات بثلاثة أحكام: الحد، والنجاسة، وتحريم اليسير، بخلاف المخدر، فلا حد فيه، وإنما فيه التعزير، وهو طاهر العين، ولا يحرم اليسير منه. ولعل اختلافهم كان في السابق قبل أن يكشف العلم أنها تسبب الإدمان ¬
وأنها أخطر بكثير من المسكرات، وأنها خراب للعقول، والأبدان، والبيوت، ولو اطلع الفقهاء المتقدمون على خطورتها لجزموا بتحريمها مطلقاً، ولا يؤخذ من طهارتها جواز بيعها، فهناك أمور كثيرة محرمة، وهي طاهرة العين، والله أعلم.
الفرع السادس أن يكون العقد مشروعا والباعث عليه غير مشروع
الفرع السادس أن يكون العقد مشروعًا والباعث عليه غير مشروع [م - 378] من البيوع التي منعها بعض الفقهاء دفعًا للضرر بيع العنب لمن يعصره خمرًا، ومثله بيع السلاح في زمن الفتنة، ومثله كل بيع يكون في نفسه مشروعًا، والباعث على البيع غير مشروع، فالعنب بيعه مشروع، ولكن الباعث على الشراء غير مشروع، وهو عصره ليتخذ خمرًا، وكذلك بيع السلاح مشروع، ولكن الباعث عليه وهو الظلم، والقتل غير مشروع، ومثل استئجار البيت مشروع، ولكن استئجاره، ليباع فيه الخمر، أو يتخذ محلاً للدعارة غير مشروع، فهل يحرم البيع نظرًا لأن الباعث على هذا الفعل غير مشروع، أو لا يحرم باعتبار أن البيع أصله مباح، والباعث نية في قلب العاقد، لا أثر لها في صحة العقد أو بطلانه. ولتحرير الخلاف في هذه المسألة نذكر محل الاتفاق، ثم نذكر محل الخلاف: إذا كانت صيغة العقد (الإيجاب والقبول) قد تضمنت النص الصريح على ذكر الباعث على هذا العقد، وكان الباعث غير مشروع فالبيع لا يجوز. فإذا قال: بع عليَّ عصيرًا، لأتخذه خمرًا، أو قال: بع علي سلاحًا، لأقتل به معصومًا، أو قال: بعني بيتك، لأتخذه مكانًا لبيع الخمور، أو لأقيم عليه كنيسة، أو بيع علي خشبتك، لأعمل منها صليبًا، أو بع علي هذا البيض، للعب القمار، أو غير ذلك من الأمور غير المشروعة، فالبيع، والإجارة في مثل هذه الحالة لا يصحان قولًا واحدًا؛ لأن البيع لو صح في مثل هذه الحالة، لكان ذلك
مضافًا إلى الشارع من حيث إنه شرع عقدًا موجبًا للمعصية، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا (¬1). ¬
ولأن تمكين العاقد من فعله المحرم إعانة له على ذلك الباطل، والإعانة على الحرام تجعله شريكًا له في الفعل. قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. الحالة الثانية: إذا لم يذكر الباعث على العقد في صيغة العقد، ولكن علم البائع، أو غلب على ظنه من القرائن، وظروف الحال، أن المشتري يريد بالعنب عصره خمرًا، كما لو كان المشتري للعنب شخصًا يتجر بالخمور، فهل يصح البيع والحالة هذه. هذه المسألة إن كان الأمر من قبيل الشك، والاحتمال فلا يحرم البيع. قال ابن قدامة: "إنما يحرم البيع ويبطل إذا علم البائع قصد المشتري ذلك، إما بقوله، وإما بقرائن مختصة به تدل على ذلك، فأما إذا كان الأمر محتملاً، مثل أن يشتريها من لا يعلم حاله، أو من يعمل الخل والخمر معًا، ولم يلفظ بما يدل على إرادة الخمر، فالبيع جائز" (¬1). وإن كان البائع علم قصد المشتري إما بقرائن خاصة، أو بأخبار صحيحة، أو غلبة ظن (¬2)، ففي هذه المسألة خلاف بين الفقهاء: ¬
فقيل: البيع باطل، وهو مذهب المالكية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: البيع صحيح، وهل يحرم البيع مع الصحة، قيل: إن تحقق أنه يشتري المباح لفعل المعصية حرم على الصحيح، وإلا كره، وهذا مذهب الشافعية (¬3)، وهو قول الحسن، وعطاء، والثوري (¬4). ¬
دليل من قال: لا يصح البيع
وقيل: يصح بيع العنب لمن يعصره خمرًا، ولا يصح بيع السلاح على أهل الفتنة، وهذا مذهب الحنفية (¬1). دليل من قال: لا يصح البيع: الدليل الأول: (ح-323) ما رواه البخاري من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرني محمَّد بن إبراهيم التيمي، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على المنبر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه (¬2). وجه الاستدلال: إذا كانت الأعمال بالنيات، فهذا إنما كانت نيته من العقد عملاً محرمًا، فحرم عليه العقد. الدليل الثاني: (ح-324) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالكم، وهذا هدية. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فهلا جلست في بيت أبيك، وأمك حتى تأتيك هديتك -إن كنت صادقًا- ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني أستعمل ¬
وجه الاستدلال
الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم، وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته، والله لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يده حتى رئي بياض إبطه، يقول: اللهم هل بلغت. بصر عيني وسمع أذني. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ينظر إلى لفظ المعطي، وإنما نظر إلى قصده ونيته، فلما كان الحال يدل على أن المعطي إنما أعطى نظراً لولاية المعطي؛ لينتفعوا منه تخفيفًا عنهم، أو تقديمًا لهم على غيرهم، أو لغيرها من الأسباب لم يعتبر ذلك هدية، وكان هذا الحديث أصلًا في اعتبار المقاصد، ودلالات الحال في العقود (¬2). الدليل الثالث: المقاصد والنيات معتبرة في التحليل والتحريم، مقدمة على ظواهر الألفاظ، فإذا كانت قصده من هذا العقد محرمًا حرم عليه العقد، وإن كان ظاهر العقد السلامة والصحة. يقول ابن القيم في ذلك: "هل الاعتبار بظواهر الألفاظ والعقود، وإن ظهرت المقاصد والنيات بخلافها، أم للقصود والنيات تأثير يوجب الالتفات إليها، ومراعاة جانبها؟ ¬
وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصود في العقود معتبرة، وأنها تؤثر في صحة العقد، وفساده، وفي حله وحرمته، بل أبلغ من ذلك، وهي أنها تؤثر في الفعل الذي ليس بعقد تحليلًا وتحريمًا، فيصير حلالًا تارة، وحرامًا تارة، باختلاف النية، والقصد، كما يصير صحيحًا تارة، وفاسدًا تارة باختلافها، وهذا كالذبح فإن الحيوان يحل إذا ذبح لأجل الأكل، ويحرم إذا ذبح لغير الله، وكذلك الحلال يصيد الصيد للمحرم، فيحرم عليه ويصيده للحلال، فلا يحرم على المحرم، وكذلك الرجل يشتري الجارية ينوي أن تكون لموكله، فتحرم على المشتري، وينوي أنها له فتحل له، وصورة العقد واحدة، وإنما اختلفت النية والقصد، وكذلك صورة القرض، وبيع الدرهم بالدرهم إلى أجل، صورتهما واحدة وهذا قربة صحيحة وهذا معصية باطلة بالقصد، وكذلك عصر العنب بنية أن يكون خمرًا معصية ملعون فاعله على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعصره بنية أن يكون خلًا، أو دبسًا جائز، وصورة الفعل واحدة، وكذلك السلاح يبيعه الرجل لمن يعرف أنه يقتل به مسلمًا حرام باطل؛ لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان، وإذا باعه لمن يعرف أنه يجاهد به في سبيل الله، فهو طاعة، وقربة، وكذلك عقد النذر المعلق على شرط، ينوي به التقرب، والطاعة، فيلزمه الوفاء بما نذره، وينوي به الحلف، والامتناع فيكون يميناً مكفرة، وكذلك تعليق الكفر بالشرط ينوي به اليمين والامتناع فلا يكفر بذلك، وينوي به وقوع الشرط فيكفر عند وجود الشرط [ولا يكفر إن نوى به اليمين] وصورة اللفظ واحدة، وكذلك ألفاظ الطلاق صريحها، وكنايتها ينوي بها الطلاق، فيكون ما نواه، وينوي به غيره فلا تطلق، وكذلك قوله: (أنت عندي مثل أمي) ينوي بها الظهار، فتحرم عليه، وينوي به أنها مثلها في الكرامة، فلا تحرم عليه، وكذلك من أدى عن غيره واجبا ينوي به الرجوع ملكه، وإن نوى به
التبرع لم يرجع. وهذا كما أنها أحكام الرب تعالى في العقود، فهي أحكامه تعالى في العبادات، والمثوبات، والعقوبات؛ فقد اطردت سنته بذلك في شرعه، وقدره، أما العبادات فتأثير النيات في صحتها وفسادها أظهر من أن يحتاج إلى ذكره؛ فإن القربات كلها مبناها على النيات، ولا يكون الفعل عبادة إلا بالنية، والقصد، ولهذا لو وقع في الماء ولم ينو الغسل أو دخل الحمام للتنظيف أو سبح للتبرد لم يكن غسله قربة ولا عبادة بالاتفاق، فإنه لم ينو العبادة فلم تحصل له، وإنما لامرئ ما نوى، ولو أمسك عن المفطرات عادةً واشتغالًا، ولم ينو القربة لم يكن صائماً، ولو دار حول البيت يلتمس شيئاً سقط منه لم يكن طائفًا، ولو أعطى الفقير هبة، أو هدية، ولم ينو الزكاة لم يحسب زكاة، ولو جلس في المسجد ولم ينو الاعتكاف لم يحصل له. ولهذا كما، أنه ثابت في الإجزاء والامتثال فهو ثابت في الثواب والعقاب؛ ولهذا لو جامع أجنبية يظنها زوجته، أو أمته لم يأثم بذلك، وقد يثاب بنيته، ولو جامع في ظلمة من يظنها أجنبية، فبانت زوجته، أو أمته أثم على ذلك بقصده، ونيته للحرام، ولو أكل طعاما حرامًا يظنه حلالًا لم يأثم به، ولو أكله، وهو حلال يظنه حرامًا، وقد أقدم عليه أثم بنيته ... " (¬1). وجاء في القواعد لابن رجب: "تعتبر الأسباب في عقود التمليكات، كما تعتبر في الأيمان، ويتخرج على هذا مسائل متعددة ... " ذكر منها: هبة المرأة زوجها صداقها إذا سألها ذلك، فإن سببها طلب استدامة النكاح، فإن طلقها فلها الرجوع فيها، نص عليه أحمد في رواية عبد الله ... ومنها ما نص عليه أحمد في رواية ابن ماهان فيمن اشترى لحمًا، ثم استزاده ¬
الدليل الرابع
البائع، فزاده، ثم رد اللحم بعيب، فالزيادة لصاحب اللحم؛ لأنها أخذت بسبب اللحم، فجعلها متابعة للعقد في الرد؛ لأنها مأخوذة بسببه، وإن كانت غير لاحقة به" (¬1). الدليل الرابع: إذا كان الغرض من العقد محرمًا كان العقد محرمًا من باب سد الذريعة، فتحريم الذرائع في الإِسلام أمر معلوم، فما كان ذريعة إلى الحرام أخذ حكم الحرام، وإن كان في أصله مباحًا. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104]. يقول ابن كثير: نهى الله عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقص عليهم لعائن الله، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، يقولوا: راعنا، يورون بالرعونة، كما قال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 46] (¬2). وقال تعالى {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. فلما كان سب الأصنام يؤدي إلى سب الله نهى الله رحمه الله عن سب الأصنام؛ سدًا لذردعة. ¬
دليل من قال بصحة البيع
دليل من قال بصحة البيع: الدليل الأول: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. فبيع العنب أو السلاح قد تم بأركانه وشروطه، وما كان كذلك فهو عقد صحيح. الدليل الثاني: استدل الشافعي بقوله: "أصل ما ذهب إليه: أن كل عقد كان صحيحًا في الظاهر لم أبطله بتهمة، ولا بعادة بين المتبايعين، وأجزته بصحة الظاهر، وأكره لهما النية إذا كانت النية لو أظهرت كانت تفسد البيع، وكما أكره للرجل أن يشتري السيف على أن يقتل به، ولا يحرم على بائعه أن يبيعه ممن يراه أنه يقتل به ظلمًا؛ لأنه قد لا يقتل به، ولا أفسد عليه هذا البيع، وكما أكره للرجل أن يبيع العنب ممن يراه أنه يعصره خمرًا، ولا أفسد البيع إذا باعه إياه؛ لأنه باعه حلالاً، وقد يمكن أن لا يجعله خمرًا أبدًا، وفي صاحب السيف، أن لا يقتل به أحدا أبدًا" (¬1). وهذا القول من الشافعي رحمه الله مطرد مع أصل مذهبه من تقديم ظاهر اللفظ على النية في العقود. قال النووي: "الاعتبار عندنا بظاهر العقود، لا بما ينويه العاقدان" (¬2). وقد سبق في أدلة القول الأول الاستدلال بأن النية لها تأثير في الصحة والبطلان، والحل والحرمة، فأغنى عن إعادته. ¬
وجه تفريق الحنفية بين العنب والسلاح
وجه تفريق الحنفية بين العنب والسلاح: أن العنب لا تقوم المعصية بعينه، بل بعد تغيره، فجاز بيعه، وأما السلاح في الفتنة فتقوم المعصية بعين السلاح، فمنع من بيعه، ولذلك لو اشترى حديدًا ليصنع منه سلاحًا، لجاز بيعه، ولم يكن هناك فرق بين العنب والحديد. الراجح: بعد استعراض الأدلة أجد أن مذهب المالكية والحنابلة أقوى من حيث الدليل، لكنه لا يدل إلا على تحريم العقد إذا كان الباعث على العقد والقصد منه محرمًا، وأما بطلان العقد فلا يصار إليه إلا بحكم قضائي، بعد أن يتعذر إلزام المشتري من استغلال ما اشتراه بوجه حلال، والكف عن استعماله بوجه حرام، ويكون منع البائع للمشتري من استغلاله استغلالًا محرمًا على وجه الحسبة، لا عن طريق بطلان العقد؛ لأننا لا نستطيع لمجرد الباعث، وهو نية في قلبه على بطلان العقود التي ظاهرها الصحة، ولأن إثبات أن قصده من العقد كان محرمًا لمجرد أن استعمل البائع المبيع على وجه حرام ليس كافيًا، فقد يكون الباعث حين العقد مشروعًا، فيطرأ على المشتري ما يحمله على استعماله بوجه حرام، فقد يشتري السلاح للصيد، أو للجهاد، وتكون نيته تلك بقلبه، ثم يحدث ما يجعله يستعمل سلاحه في أمر محظور، وقد يكون الباعث على العقد أمرًا مشتركًا، فأراد به استعماله في الحلال، واستعماله في الحرام، كالمشتري لآنية مثلاً أراد أن يشرب بها المباح، والخمرة، فلا يبطل بهذه النية عقد البيع، فليس للبائع سلطة على المشتري ما دام أن العقد في شروطه، وأركانه، ومنها الصيغة قد توفرت فيها شروط العقد الصحيح. ***
الفصل الرابع البيوع المنهي عن بيعها لعدم جواز تملكها
الفصل الرابع البيوع المنهي عن بيعها لعدم جواز تملكها المبحث الأول: في الوقف الفرع الأول في حكم بيع الوقف عرف ابن قدامة الوقف بقوله (¬1): "تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة" (¬2). [م - 379] وقد اختلف العلماء في حكم بيع الوقف. فقيل: إذا صدر الوقف من الواقف، وكان مستكملاً لشروط الوقف، ولم يعلقه على شيء، ولم يشترط استبداله بمثله، أو أفضل، لزم، وامتنع التصرف بالعين بأي تصرف يخل بالمقصود من الوقف، من بيع، أو غيره. وهذا قول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬3)، ومذهب ¬
دليل الجمهور على عدم جواز بيعه.
المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). قال ابن نجيم: "ألا يذكر مع الوقف اشتراط بيعه، فلو وقف بشرط أن يبيعها، ويصرف ثمنها إلى حاجته، لا يصح الوقف في المختار ... وجوزه يوسف بن خالد السمتي إلحاقا للوقف بالعتق" (¬4). وقيل: الوقف غير لازم، فهو بمنزلة العارية، فله أن يرجع فيه أي وقت شاء، ويورث عنه إذا مات، وهو قول أبي حنيفة (¬5). دليل الجمهور على عدم جواز بيعه. الدليل الأول: (ح-523) ما رواه البخاري عن طريق نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخيبر، لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، فتصدق بها عمر، أنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث ... " (¬6). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يباع ولا يوهب، ولا يورث)، فالحديث دليل على أن الوقف لازم، لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث. الدليل الثاني: (ح-326) ما رواه مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (¬1). فالوقف إذا لم يرد به الدوام لم يكن صدقة جارية. قال في المبدع: "القصد بالوقف: الصدقة الدائمة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: أو صدقة جارية" (¬2). وقال في مغني المحتاج: "والصدقة الجارية محمولة عند العلماء على الوقف كما قاله الرافعي، فإن غيره من الصدقات ليست جارية بل يملك المتصدق عليه أعيانها، ومنافعها ناجزًا" (¬3). الدليل الثالث: الإجماع الفعلي للصحابة، فقد وقف أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعائشة، وعمرو بن العاص، وابن الزبير، وجابر، وغيرهم (¬4)، فلم ينقل عن أحد منهم أنه رجع عن وقفه، أو تصرف فيه. ¬
الدليل الرابع
قال الإِمام أحمد: "إذا كان في الوقف شيء من ذكر البيع فليس بوقف صحيح، وذلك أن أوقاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هي بتة بتله (¬1)، والشرط فيها ألا تباع، ولا توهب، فإذا دخلها البيع لم يصح" (¬2). الدليل الرابع: القياس على وقف المسجد، فإذا أوقف أرضه مسجدًا لزم بمجرد الوقف، بدون حكم حاكم، ولا إضافة لما بعد الموت، فيقاس على المساجد سائر الموقوفات، فتلزم بمجرد الوقف، ولا يجوز الرجوع فيها. الدليل الخامس: إذا كان الرجوع في الصدقة بعد إخراجها لا يجوز، لأن العطية لا يجوز الرجوع فيها بعد إخراجها في ملكه، فكذلك الوقف لا يجوز الرجوع فيه بعد أن تصدق به. دليل أبي حنيفة على أن الوقف غير لازم: (ث-49) ما رواه الطحاوي من طريق مالك، عن زياد بن سعد، عن ابن شهاب أن عمر قال: لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو نحو هذا لرددتها (¬3). [منقطع] (¬4). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قال الطحاوي: "لما قال عمر - رضي الله عنه - هذا دل على أن نفس الإيقاف للأرض لم يكن يمنعه من الرجوع فيها، وإنما منعه من الرجوع فيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره فيها بشيء، وفارقه على الوفاء به، فكره أن يرجع عن ذلك، كما كره عبد الله بن عمر أن يرجع بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصوم الذي كان فارقه على أن يفعله، وقد كان له أن لا يصوم" (¬1). وأجيب: قال ابن حجر: "لا حجة فيما ذكره من وجهين: أحدهما: أنه منقطع؛ لأن ابن شهاب لم يدرك عمر. ثانيهما: أنه يحتمل ما قدمته، ويحتمل أن يكون عمر كان يرى بصحة الوقف ولزومه، إلا إن شرط الواقف الرجوع، فله أن يرجع" (¬2). الدليل الثاني: (ح-327) ما رواه الدارقطني من طريق أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه جاء إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله إن حائطي هذا صدقة، وهو إلى الله تعالى ورسوله، فجاء أبواه، فقالا يا رسول الله كان قوام عيشنا، فرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ماتا، فورثهما ابنهما بعدهما. قال الدارقطني: مرسل؛ لأن عبد الله بن زيد بن عبد ربه توفي في خلافة عثمان، ولم يدركه أبو بكر بن حزم (¬3). ¬
والوجه الثاني
وما قيل في أثر عمر يقال في أثر عبد الله بن زيد بن عبد ربه. من وجهيه السابقين: الانقطاع. والوجه الثاني: قال البيهقي: الحديث وارد في الصدقة المنقطعة، وكأنه تصدق به صدقة تطوع، وجعل مصرفها إلى اختيار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتصدق بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبويه (¬1). وقد يقال: إن أبويه قد قالا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن فيه قوام عيشنا، والمرء منهي عن أن يتصدق بقوام عيشه، خاصة إذا كان مسئولًا عن عائلة من أب، وولد. الدليل الثالث: (ح-328) ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس - رضي الله عنه -، قال: لما نزلت {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، جاء أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وإن أحب أموالي إلى بيرحاء، قال: وكانت حديقة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها، ويستظل بها، ويشرب من مائها، فهي إلى الله عزَّ وجلَّ وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أرجو بره، وذخره، فضعها أي رسول الله حيث أراك الله، فقال ¬
وأجاب عنه الحافظ، فقال.
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بخ يا أبا طلحة، ذلك مال رابح، قبلناه منك، ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين، فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه، وكان منهم أُبَي، وحسان، قال: وباع حسان حصته منه إلى معاوية، فقيل له: تبيع صدقة أبي طلحة؟ فقال: ألا أبيع صاعًا من تمر بصاع من دراهم ... الحديث (¬1). وأجاب عنه الحافظ، فقال. " يدل على أن أبا طلحة ملكهم الحديقة المذكورة، ولم يوقفها عليهم، إذ لو وقفها ما ساغ لحسان أن يبيعها ... ويحتمل أن يقال: شرط أبو طلحة عليهم لما وقفها عليهم أن من احتاج إلى بيع حصته منهم جاز له بيعها، وقد قال بجواز هذا الشرط بعض العلماء" (¬2). وإن كان الجواب الأول أقوى؛ لأنه لو كان لأبي طلحة شرط لنقل إلينا، واللفظ ليس فيه ما يدل على أن أبا طلحة وقف الحديقة، كل ما فيه أنه تصدق بها، وهذا يحتمل أته تصدق بعينها، ويحتمل أنه حبس أصلها، وتصدق بثمرتها، فكان بيع حسان لنصيبه دليلًا على أنه لم يوقف الحديقة، وعلى التسليم بأنه وقف، فإن فعل حسان - رضي الله عنه - فعل صحابي، وهو حجة ما لم يخالف، وقد أُنْكِر عليه، فقيل له كما في الحديث نفسه: (أتبيع صدقة أبي طلحة؟ فقال: ألا أبيع صاعًا من تمر، بصاع من دراهم). الدليل الرابع:. القياس على العارية، فإن الوقف تمليك منفعة الموقوف دون عينه، فلا يلزم كالعارية. ¬
ويجاب
ويجاب: بأن العارية لم يحبس أصلها، فهي تبرع بالمنفعة المؤقتة دون تحبيس العين بخلاف الوقف. الراجح من الخلاف: القول الراجح هو قول الجمهور القائل بلزوم الوقف، جاء في الفتح "قال القرطبي: رد الوقف مخالف للإجماع، فلا يلتفت إليه، وأحسن ما يعتذر به عمن رده ما قال أبو يوسف، فإنه أعلم بأبي حنيفة من غيره. يقصد القرطبي ما حكاه الطحاوي، ونقله الحافظ ابن حجر عنه أنه قال: كان أبو يوسف يجيز بيع الوقف، فبلغه حديث عمر هذا، فقال: من سمع هذا من ابن عون، فحدث به ابن علية، فقال: هذا لا يسع أحدًا خلافه، ولو بلغ أبا حنيفة لقال به، فرجع عن بيع الوقف، حتى صار كأنه لا خلاف فيه بين أحد" (¬1). ¬
الفرع الثاني في بيع رباع مكة ودورها
الفرع الثاني في بيع رباع مكة ودورها من المعلوم أن مكة شرفها الله فتحت عنوة. قال في التاج والإكليل: "لا خلاف أن مكة افتتحت عنوة، وأنها لم تقسم" (¬1). وإذا فتح المسلمون بلادًا كان الإِمام مخيرًا بين أن يقسمها بين الغانمين كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فتح خيبر، وإما أن يوقفها على المسلمين ويضرب عليها خراجًا مستمرًا، كما فعل عمر - رضي الله عنه - حين فتح أرض الشام، ومصر، والعراق، وكان الذي حمل عمر - رضي الله عنه - على وقفها أن ينتفع منها أجيال المسلمين. (ح-339) فقد روى البخاري في صحيحه، قال عمر: لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها كما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر. وتختلف مكة وأرض الحرم بأنها أماكن عبادة، قال تعالى {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]. [م - 380] فهل يصح بيع أراضي مكة، وإجارتها، أو لا يصح؟ اختلف العلماء في ذلك على ستة أقوال: القول الأول: يجوز بيع أراضيها، وإجارتها، بلا كراهة، وهو قول أبي يوسف ومحمد ابن الحسن، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة (¬2). ¬
القول الثاني
قال ابن رشد: وهو أشهر الروايات، والمعتمد الذي به الفتوى، وعليه جرى العمل من أئمة الفتوى والقضاة بمكة (¬1)، وهو مذهب الشافعية (¬2). القول الثاني: لا يجوز البيع، ولا الإجارة، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وهذان قولان متقابلان. القول الثالث: يجوز بيع بناء بيوت مكة، ولا يجوز بيع أراضيها. وهذا أحد القولين عن أبي حنفية (¬5). القول الرابع؟ يجوز البيع دون الإجارة، وهو اختيار ابن تيمية، وابن القيم (¬6). ¬
القول الخامس
القول الخامس: يكره بيع دور مكة، وكراؤها، وهو مروي عن مالك، قال في الموازنة: فإن قصد بالكراء الآلات والأخشاب جاز، وإن قصد البقعة فلا خير فيه. قال الحطاب: وظاهره أن الكراهة على بابها: أي للتنزيه (¬1). القول السادس: يكره كراؤها في أيام الموسم خاصة، وهو قول لأبي حنيفة (¬2)، وقول في مذهب المالكية (¬3). ¬
فخلاصة الأقوال
فخلاصة الأقوال: منع البيع والكراء مطلقا. جواز البيع والكراء مطلقا. كراهة البيع والكراء مطلقًا. منع بيع الأرض دون المباني. جواز البيع دون الإجارة. كراهة ذلك في أيام المواسم خاصة. دليل من قال: يجوز البيع والإجارة: الدليل الأول: قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8]. وقال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [الممتحنة: 8]. ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أضاف الديار للمهاجرين، فدل على أنها ملكهم، كما أن الأموال أموالهم. ونوقش هذا الاستدلال: بأن الإضافة قد تكون لليد، والسكنى، لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33]. فالمنازع يصح له أن يقول: الإضافة قد تصح لأدنى ملابسة، فهي إضافة اختصاص، لا إضافة ملك؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل الناس في الحرم سواء، العاكف فيه والباد (¬1). ورد هذا الاعتراض: قال النووي: "حقيقة الإضافة تقتضي الملك، ولهذا لو قال: هذه الدار لزيد حكم بملكها لزيد، ولو قال: أردت به السكنى واليد لم يقبل" (¬2). الدليل الثاني: (ح-330) ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد أنه قال زمن الفتح، يا رسول الله، أين تنزل غدًا؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وهل ترك لنا عقيل من منزل. ثم قال: لا يرث المؤمن الكافر، ولا يرث الكافر المؤمن. قيل للزهري: ومن ورث أبا طالب، قال: ورثه عقيل وطالب ... زاد في مسلم: ولم يرثه جعفر ولا علي شيئا؛ لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين (¬3). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قال الشنقيطي: قوله: "وهل ترك لنا عقيل من رباع صريح في إمضائه - صلى الله عليه وسلم - بيع عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه تلك الرباع، ولو كان بيعها وتملكها لا يصح لما أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا يقر على باطل بإجماع المسلمين ... " (¬1). وفيه دليل من وجه آخر فإذا كان عقيل ورث أبا طالب، فإن الإرث دليل على التملك. الدليل الثالث: (ح-331) ما رواه مسلم من طريق ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي هريرة من حديث طويل في قصة الفتح، وفيه: جاء أبو سفيان، فقال: يا رسول الله أبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، قال أبو سفيان: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن ... الحديث (¬2). وجه الاستدلال: أنه أضاف الدار إلى أبي سفيان، فهذا دليل على صحة تملكه، وما صح في التملك صح بيعه، وإجارته. الدليل الرابع: (ث-50) ما رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم، قال: اشترى نافع بن ¬
الحارث داراً للسجن بمكة من صفوان بن أمية على أن عمر إن رضي فالبيع بيعه، وإن لم يرض عمر فلصفوان أربعمائة (¬1). [حسن] (¬2). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: إذا جاز بيع بيوت مكة جازت إجارتها؛ لأن الإجارة بيع منافع. الدليل الخامس: (ث- 51) ما رواه البيهقي من طريق أبي عمرو بن السماك، ثنا حنبل ابن إسحاق بن حنبل، ثنا الحميدي، ثنا سفيان، قال: قال هشام بن عروة: وكان عبد الله بن الزبير يعتد بمكة ما لا يعتد بها أحد من الناس، أوصت له عائشة - رضي الله عنها - بحجرتها، واشترى حجرة سودة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). دليل من قال: لا يجوز البيع ولا الإجارة: الدليل الأول: قوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]. ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: والمراد بالمسجد جميع الحرم كله، لكثرة إطلاقه عليه في النصوص، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]. وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1]. وفي الصحيح أنه أسري به من بيت أم هانئ. وقال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]. وليس المراد حضور نفس موضع الصلاة اتفاقًا، وإنما هو حضور الحرم والقرب منه. وقال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل: 91]، قالوا: والمحرم: لا يجوز بيعه. الدليل الثاني: (ح-332) ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا عيسى بن يونس، عن عمر بن سعيد ابن أبي حسين، عن عثمان بن أبي سليمان، عن علقمة بن نضلة، قال: كانت رباع مكة في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمان أبي بكر، وعمر تسمى السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن (¬1). [قال ابن حجر: علقمة بن نضلة تابعي صغير، مقبول، أخطأ من عده من الصحابة] (¬2). ¬
الدليل الثالث
وعليه فيكون مرسلاً، والمرسل ضعيف. الدليل الثالث: (ح-333) ما رواه الدارقطني من طريق القاسم بن الحكم، نا أبو حنيفة، عن عبيد الله بن يزيد، عن أبي نجيح، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن الله حرم مكة، فحرام بيع رباعها، وأكل ثمنها، وقال: من أكل من أجر بيوت مكة شيئًا فإنما يأكل نارًا. [قال الدارقطني: هذا رواه أبو حنيفة مرفوعًا، ووهم أيضًا في قوله: عبيد الله بن أبى يزيد، وإنما هو ابن أبى زياد القداح، والصحيح أنه موقوف] (¬1). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (ح-334) ما رواه الدارقطني من طريق إسماعيل بن مهاجر، عن أبيه، عن عبد الله بن باباه عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مكة مناخ، لا تباع رباعها, ولا تؤجر بيوتها (¬1). [قال الدارقطني: إسماعيل بن مهاجر ضعيف، ولم يروه غيره] (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (ث-52) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حفص، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: كان عمر يمنع أهل مكة أن يجعلوا لها أبوابًا حين ينزل الحج في عرصات الدور (¬1). [عطاء لم يدرك عمر، والأثر ثابت عن عمر] (¬2). ¬
دليل من قال: يكره البيع والكراء
دليل من قال: يكره البيع والكراء: أدلة هذا القول هي عين أدلة القائلين بالمنع، إلا أنهم حملوا هذه الأحاديث على كراهية التنزيه، وليس على التحريم، جمعًا بينها وبين أدلة القائلين بالجواز. دليل من قال: يمنع بيع الأراضي دون المباني: هذا القول لما كان يرى أن الأرض موقوفة، رأى أنه لا يصح بيعها؛ لأنها لا تملك، وأما المباني فهي ملك لمن أقامها، وبناها، فيجوز بيعها وإجارتها. دليل من قال: يجوز البيع دون الإجارة. أدلة هذا القول قريبة من أدلة القول السابق: فالأرض لا يجوز بيعها, ولا إجارتها لأنها أمكنة المشاعر، لا تملك، ولا تباع، ولا تورث. والدور والمباني هي التي تملك وتباع وتورث، ويجوز بيعها؛ لأنها عين ماله. وأما الإجارة فهي للأرض والمباني، فلا تجوز الإجارة، لأنه إنما جاز له البناء على الأرض لكونه محتاجًا إلى ذلك، فهو أحق من غيره؛ لأنه سبق إليه، وإجارته دليل على أنه استغنى عنها، وإذا استغنى عنها وجب بذلها لمن يحتاج إليها. هذا ملخص أدلة هذا القول تقريباً. قال ابن القيم: "الصواب ... أن الدور تملك وتوهب، وتورث، وتباع، ¬
ويكون نقل الملك في البناء، لا في الأرض والعرصة، فلو زال بناؤه لم يكن له أن يبيع الأرض، وله أن يبنيها ويعيدها كما كانت، وهو أحق بها، يسكنها، ويسكن فيها من شاء، وليس له أن يعاوض على منفعة السكنى بعقد الإجارة، فإن هذه المنفعة إنما يستحق أن يقدم فيها على غيره، ويختص بها لسبقه وحاجته، فإذا استغنى عنها لم يكن له أن يعاوض عليها، كالجلوس في الرحاب، والطرق الواسعة، والإقامة على المعادن، وغيرها من المنافع، والأعيان المشتركة التي من سبق إليها فهو أحق يها، ما دام ينتفع فإذا استغنى لم يكن له أن يعاوض" (¬1). وقال ابن تيمية: "المانع من إجارتها كونها أرض المشاعر، التي يشترك في استحقاق الانتفاع بها جميع المسلمين، كما قال تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]. فالساكنون بها أحق بما احتاجوا إليه؛ لأنهم سبقوا إلى المباح كمن سبق إلى مسجد، أو طريق، أو سوق، وأما الفاضل فعليهم بذله؛ لأنه إنما لهم أن يبنوا بهذا الشرط، لكن العرصة مشتركة في الأصل ... " (¬2). وتعقب ابن تيمية رحمه الله: بأن الآية في قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]، المقصود في الآية أمكنة المشاعر، فهذه التي لا شك أنها لا تملك، كعرفات، ومنى، ومزدلفة، ومثله المسجد الحرام، وأما الأرض التي ليست مشعرًا فيجوز بيعها وإجارتها. ¬
دليل من خص الكراهة بأيام الموسم من الحاج والمعتمر
دليل من خص الكراهة بأيام الموسم من الحاج والمعتمر: كرهوا ذلك لقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]. جاء في الدر المختار: "أكره إجارة بيوت مكة، في أيام الموسم، وكان يفتي لهم أن ينزلوا في دورهم، لقوله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]، ورخص فيها في غير أيام الموسم" (¬1). الراجح: عمل الناس اليوم، ومن قديم الزمان جواز بيع دور مكة وإجارتها، والإجماع العملي قوي جدًا؛ لأن مكة لها خصائص ليست لغيرها، من ذلك أنه لا ينفر صيدها، ولا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها، فليست تقاس مكة على شيء من البلاد، وهي بلد الله الحرام، فلا حجة لمن قاس مكة على خيبر، أو قاسها على ما فعل عمر بالسواد من أرض الشام، ومصر، فأرض مكة أصل لا يقاس عليها غيرها، ولا تقاس هي على غيرها من البلاد، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث في بيع أرض الخراج
الفرع الثالث في بيع أرض الخراج المسألة الأولى: توطئة قال الماوردي في الأحكام السلطانية: "الأرضون كلها تنقسم أربعة أقسام: أحدها: ما استأنف المسلمون إحياءه، فهو أرض عشر، لا يجوز أن يوضع عليها خراج ... والقسم الثاني: ما أسلم عليه أربابه، فهم أحق به، فتكون على مذهب الشافعي رحمه الله أرض عشر، ولا يجوز أن يوضع عليها خراج. وقال أبو حنيفة: الإِمام مخير بين أن يجعلها خراجًا، أو عشرًا، فإن جعلها خراجًا لم يجز أن تنقل إلى العشر، وإن جعلها عشرا جاز أن تنقل إلى الخراج. والقسم الثالث: ما ملك من المشركين عنوة وقهرًا، فيكون على مذهب الشافعي رحمه الله غنيمة تقسم بين الغانمين، وتكون أرض عشر، لا يجوز أن يوضع عليها خراج، وجعلها مالك وقفًا على المسلمين بخراج يوضع عليها. وقال أبو حنيفة: يكون الإِمام مخيرًا بين الأمرين. والقسم الرابع: ما صولح عليه المشركون من أرضهم فهي الأرض المختصة بوضع الخراج عليها ... " (¬1). ... ¬
المسألة الثانية خلاف العلماء في بيع الخراج
المسألة الثانية خلاف العلماء في بيع الخراج [م - 381] اختلف العلماء في بيع أرض الخراج على أربعة أقوال: القول الأول: أرض الخراج تباع، وتوهب، وتورث، وتؤجر، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، واختاره بعض الشافعية (¬2)، ورجحه ابن تيمية وابن القيم (¬3). القول الثاني: ما فتح عنوة لا يصح بيعه، وما فتح صلحًا جاز بيعه، وهذا مذهب الإِمام مالك رحمه الله (¬4). القول الثالث: لا يباع غير المساكن مما فتح عنوة، بل تؤجر، وهذا مذهب الشافعية (¬5)، ¬
القول الرابع
والحنابلة (¬1). القول الرابع: يجوز الشراء، ويكره البيع، وهو قول للإمام أحمد (¬2). دليل من قال: يجوز بيع أرض الخراج، وإجارتها: الدليل الأول: (ث-53) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حفص، عن مجالد، عن الشعبي، أن ابن مسعود اشترى أرض خراج (¬3). [حسن لغيره] (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: قالوا: إذا كانت أرض الخراج تورث، وتوهب، ويوصى بها، دل ذلك على أنها ليست كالوقف الخاص، فإن الوقف الخاص لا يورث، ولا يوهب، ولا يوصى به، فلا يقاس هذا على الوقف الخاص، وإنما المقصود من الوقف: إقرارها على حالها، والاستمرار في ضرب الخراج عليها في رقبتها. ولأنه إن كان وقفا فهو وقف عام للمسلمين، ليس له مستحق خاص، فحكمها بيد المشتري كحكمها في يد البائع، فهو كما لو ولاه إياها بلا مقابل، والمشتري لم يملك العين، وإنما ملك منفعة العين ملكا مؤبدًا. وإذا جاز بيع المساكن جاز بيع الأرض، إذ لا فرق. قال ابن تيمية: "ولا يجوز رفع أيدي المسلمين الثابتة على حقوقهم بما ذكر، إذ الأرض الخراجية كالسواد وغيره نقلت من الخراج إلى المقاسمة، كما فعل أبو جعفر المنصور بسواد العراق، وأقرت بيد أهلها، وهي تنتقل عن أهلها إلى ¬
دليل من قال: لا تباع غير المساكن، بل تؤجر
ذريتهم، وغير ذريتهم، بالإرث، والوصية، والهبة، وكذلك البيع في أصح قولي العلماء، إذ حكمها بيد المشتري كحكمها بيد البائع، وليس هذا تبعًا للوقف الذي لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، كما غلط في ذلك من منع أرض السواد معتقدًا أنها كالوقف الذي لا يجوز بيعه، مع أنه يجوز أن يورث، ويوهب إذ لا خلاف في هذا ... " (¬1). دليل من قال: لا تباع غير المساكن، بل تؤجر: قالوا: بأن أرض الخراج وقف على المسلمين، وما كان وقفًا لم يصح بيعه، وأما المساكن فهي ملك لمن أقامها، وبناها، فيصح بيعها، ويصح تأجير الأرض؛ لأن الأجرة في مقابل المنفعة، لا في مقابل العين. وتعقب هذا: بأن "معنى وقفها: إقرارها على حالها، وضرب الخراج عليها مستمرًا في رقبتها، وليس معناه الوقف الذي يمنع من نقل الملك في الرقبة ... " (¬2). الدليل الثاني: استدلوا بالإجماع على جواز بيع المساكن. جاء في تاريخ بغداد: "قال أبو عبيد: إنما كان اختلافهم في الأرضين المغلة، التي يلزمها الخراج من ذات المزارع، والشجر، فأما المساكن، والدور بأرض السواد، فما علمنا أحداً كره شراءها، وحيازتها، وسكنها، قد اقتسمت الكوفة خططًا في زمن عمر، وهو أذن في ذلك، ونزلها من كبار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان منهم سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وعمار، ¬
الدليل الثالث
وحذيفة، وسلمان، وخباب، وأبو مسعود، وغيرهم، ثم قدمها علي عليه السلام، فيمن معه من الصحابة فأقام بها خلافته كلها، ثم كان التابعون بعد بها، فما بلغنا أن أحدًا منهم ارتاب بها، ولا كان في نفسه منها شيء بحمد الله ونعمته، وكذلك سائر السواد، والحديث في هذا أكثر من أن يحصى" (¬1). الدليل الثالث: (ث-54) روى البيهقي في السنن من طريق قيس، عن أبي إسماعيل، عن الشعبي، عن عتبة بن فرقد، قال: اشتريت عشرة أجربة من أرض السواد، على شاطيء الفرات، لقضب دواب، فذكر ذلك لعمر - رضي الله عنه -، قال: اشتريتها من أصحابها؟ قال: قلت: نعم. قال: رح إلي، قال: فرحت إليه، فقال: يا هؤلاء أبعتموه شيئًا؟ قالوا: لا. قال: ابتغ مالك حيث وضعته (¬2). [حسن إن ثبت سماع الشعبي من عتبة] (¬3). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ث-55) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن محمَّد ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، أن رجلاً سأل عن شراء أرض الخراج، أو شيء هذا معناه، فقال: يخرج الصغار من عنقه، فتجعله في عنقك (¬1). [إسناده حسن]. الدليل الثالث: (ث-56) ما رواه ابن أبي شيبة، من طريق ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن علي أنه كان يكره أن يشتري من أرض شيئًا، ويقول: عليها خراج المسلمين (¬2). [قتادة لم يسمع من علي، ولم يسمع من صحابي غير أنس]. الدليل الرابع: (ث-57) روى ابن أبي شيبة من طريق شريك، عن الشيباني، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كره شراء أرض السواد (¬3). [ضعيف] (¬4). دليل من قال: يشتري، ولا يبيع: جاء في المغني: "وقد روي عن أحمد أنه قال: إن كان الشراء أسهل، يشتري الرجل ما يكفيه، ويغنيه عن الناس، هو رجل من المسلمين، وكره البيع في ¬
الراجح من أقوال أهل العلم
أرض السواد، وإنما رخص في الشراء، والله أعلم؛ لأن بعض الصحابة اشترى، ولم يسمع عنهم البيع؛ ولأن الشراء استخلاص للأرض، فيقوم فيها مقام من كانت في يده، والبيع أخذ عوض عن ما لا يملكه، ولا يستحقه، فلا يجوز" (¬1). إذا كان البيع لا يجوز، فإنه لا يوجد شراء إلا ويوجد بيع، وإذا كان البيع غير مشروع، فالشراء مترتب عليه، وما ترتب على غير المشروع فهو غير مشروع، إلا أن يكون النهي عن البيع محمولاً على الكراهة، أو منع الإنسان حقه، فلا يصل إليه إلى عن طريق الشراء، فالإثم على من اضطره إلى ذلك. الراجح من أقوال أهل العلم: إن ثبت ما يروى عن عمر - رضي الله عنه -، فينبغي ألا يتجاوز، فإنه هو من أوقف أرض السواد، وهو أعلم بها، وبأحكامها من غيره، وإن لم يصح ذلك، فالقول الذي يراه ابن تيمية قول فيه قوة، فإن المراد بوقفها: استمرار أخذ الخراج منها، ممن هي في يده، سواء كان انتقال هذه الأرض له بإرث، أو هبة، أو وصية، أو شراء، فما صح هبته، صح بيعه، والله أعلم. ¬
المسألة الثالثة في بيع فضل الماء والكلأ
المسألة الثالثة في بيع فضل الماء والكلأ [م - 382] من الأمور التي نهي عن بيعها لعدم تملكها فضل الماء، والكلأ. (ح-335) فقد روى ابن ماجه من طريق سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ والنار (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). (ح-336) وروى أحمد حدثنا وكيع، حدثنا ثور الشامي، عن حريز ابن عثمان، عن أبي خراش عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ والنار (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). ¬
............................................................... ¬
وإنما جعل الشارع المسلمين شركاء في النار، ووقودها الذي هو الكلأ، والماء؛ لأنها أسباب الحياة، حياة الإنسان، وحياة الحيوان، وما كان سببًا في حياة الناس لا يجوز احتكاره، كالهواء، والله أعلم. وقال السرخسي: "تفسير هذه الشركة في المياه التي تجري في الأودية والأنهار العظيمة ... فإن الانتفاع بها بمنزلة الانتفاع بالشمس والهواء، ويستوي في ذلك المسلمون وغيرهم، وليس لأحد أن يمنع أحدًا من ذلك، وهو بمنزلة الانتفاع بالطرق العامة من حيث التطرق فيها، ومرادهم من لفظة الشركة بين الناس بيان أصل الإباحة، والمساواة بين الناس بالانتفاع، لا أنه مملوك لهم، فالماء في هذه الأودية ليس بملك لأحد ... " (¬1). ¬
وقال العيني عن قوله: المسلمون شركاء في ثلاث، قال: "شركة إباحة، لا شركة ملك ... " (¬1). وقبل أن نحرر الخلاف نبين المسائل محل الوفاق، في بيع الماء والكلأ، ثم ننتقل إلى مسائل الخلاف فيه. [م - 383] في حكم بيع ماء الأنهار والعيون التي ليست بمملوكة: قال القرطبي: "ماء الأنهار والعيون، وآبار الفيافي التي ليست بمملوكة، فالاتفاق حاصل على أن ذلك لا يجوز منعه، ولا بيعه، ولا يشك في تناول أحاديث النهي في ذلك" (¬2). وقال ابن تيمية: "قد اتفق المسلمون على أن الكلأ الثابت في الأرض المباحة مشترك بين الناس، فمن سبق إليه فهو أحق به" (¬3). كما يجوز بيع البئر وحده دون الأرض، ويجوز بيع الأرض وفيها بئر، ودليل ذلك ما رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم. قال البخاري: وقال عثمان: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من يشتري بئر رومة، فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين، فاشتراها عثمان - رضي الله عنه -. كما أن الماء إذا استخرجه الإنسان وحازه في إناء ونحوه جاز له بيعه، وإذا جمع الكلأ وحصده، فقد ملكه، وصح له بيعه. ومثل الكلأ الحطب، فإذا جمعه صار مالكًا له، وجاز بيعه" (¬4). ¬
والدليل على أن الإنسان إذا استخرج الماء من البئر، أو حازه في إناء جاز له بيعه، وكذلك الكلأ
قال القرطبي: "المسلمون مجمعون على أن الإنسان إذا أخذ الماء من النيل مثلًا فقد ملكه، وأن له بيعه ... " (¬1). وقال المازري في المعلم: "اعلم أن من الناس من زعم أن الإجماع قد حصل على أن من أخذ من دجلة ماء في إنائه، وحازه دون الناس أن له بيعه إلا قولًا شاذًا ذكر في ذلك، لا يعتد بخلافه عنده ... " (¬2). والدليل على أن الإنسان إذا استخرج الماء من البئر، أو حازه في إناء جاز له بيعه، وكذلك الكلأ: (ح-337) ما رواه البخاري من حديث الزبير بن العوام، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لأن يأخذ أحدكم أحبلاً، فيأخذ حزمة من حطب، فيبيع، فيكف الله بها وجهه خير من أن يسأل النايس، أعطي أم منع (¬3). [م - 384] حكم بيع الماء والكلأ إذا كان في أرض مملوكة. ¬
وسبب الخلاف
انتهينا من الماء والكلأ إذا كان في أرض مباحة قبل حيازته، وبعد حيازته، وأما حكم بيع الماء والكلأ إذا كان في أرض مملوكة، فيقال: إن كان صاحب الأرض محتاجًا إليه فهو أحق به. قال ابن تيمية عن الكلأ: "وأما النابت في الأرض المملوكة فإنه إن كان صاحب الأرض محتاجًا إليه فهو أحق ... " (¬1) وما يقال في الكلأ يقال في الماء. وأما الفاضل عن حاجته، فهل يجبر على بذله، أو لا يجبر؟ وإذا أجبر هل يجبر بالقيمة أم لا؟ في هذه المسألة خلاف بين الفقهاء: وسبب الخلاف: معارضة عموم النهي عن بيع فضل الماء لأصل الملكية، وقياس الماء على الطعام إذا احتيج إليه، فإنه يجب بذله بالقيمة. من أجل ذلك اختلف العلماء في المسألة إلى أقوال: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أنه لا يجوز بيع فضل الماء مطلقاً للشفة (سقي الإنسان والحيوان) سواء كانت البئر نابعة في أرضه، أو كانت البئر مملوكة له في أرض فلاة، لا فرق في ذلك (¬2). ¬
القول الثاني
ومذهب الحنابلة مثله إلا أنهم لم يقيدوا ذلك للشفة، بل يجب بذل فضل الماء للشفة والزرع (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن كل من حفر في أرضه، أو داره بئرًا، فله بيعها، وبيع مائها كله، وله منع المارة من مائها إلا بثمن إلا على قوم لا ثمن معهم، وخافوا هلاكًا على أنفسهم، أو دوابهم، فيجب عليه أن يبذل لهم مجانًا، ولو كانوا أغنياء في بلادهم، أما إذا كان معهم مال فبالثمن باتفاق أهل المذهب. وكذلك يجب بذل فضل الماء إذا انهارت بئر جاره، وله زرع يخاف عليه التلف، فعليه أن يبذل له فضل مائه، ما دام متشاغلًا بإصلاح بئره، واختلف أصحاب مالك، هل يكون ذلك بثمن أو بغير ثمن. فقال بعضهم: يجبر، ويعطى الثمن. وقال بعضهم: يجبر، ولا ثمن له، وجعلوه كالشفاه من الآدميين والمواشي. وإن كانت البئر محفورة في أرض موات، لا مالك لها، فأهلها أحق بريهم، ثم الناس سواء في فضلها (¬2). ¬
القول الثالث
القول الثالث: ذهب الشافعية إلى أن صاحب البئر الذي حفرها بنية الارتفاق بمائها، أو بنية التملك، أنه لا يجب عليه أن يبذل فضل مائه لزرع غيره على الصحيح عندهم، ويجب بذله للماشية على الصحيح بشروط: الأول: أن لا يكون هناك ماء آخر مباح يستغني به. الثاني: أن يكون بذل الماء لحاجة الإنسان، والماشية، لا لسقي الزرع. الثالث: أن يكون هناك كلأ يرعى، ولا يمكن رعيه إلا بسقي الماء، فإذا منع الماء المملوك أدى إلى منع الكلأ غير المملوك. الرابع: أن لا يكون مالكه محتاجًا إليه. الخامس: أن لا يكون على صاحب الماء ضرر من سقي دواب غيره، فإن لحق أرضه، أو زرعه ضرر بورودها على مائه منعت، لكن يجوز للرعاة استقاء فضل الماء لها. السادس: أن يكون الماء في مستقره، وهو مما يستخلف، فأما إذا أخذه في الإناء فلا يجب بذله على الصحيح (¬1). القول الرابع: قيل: لا يجب بذل فضل ماء بئره للشرب مطلقًا، اختاره بعض الشافعية (¬2). ¬
دليل من قال: لا يجوز بيع فضل الماء والكلأ.
وروي عن أحمد ما يدل على أن نقع البئر مملوك لصاحبه (¬1). [م - 385] وأما الكلأ فقيل: لا يملك، ولو نبت في أرضه حتى يحوزه، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والحنابلة (¬3). وذهب المالكية (¬4)، والشافعية إلى أن الكلأ الثابت في أرضه مملوك له، وله أن يمنع غيره منه، ولو كان فاضلًا عن حاجته (¬5). دليل من قال: لا يجوز بيع فضل الماء والكلأ. الدليل الأول: (ح-338) ما روه مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء (¬6). وجه الاستدلال: أنه خص النهي على منع فضل الماء، فدل على أن ما يحتاج إليه لا يجب عليه بذله. ولأن ما لا يفضل عن حاجته يستضر ببذله، والضرر لا يزال بالضرر. الدليل الثاني: (ح-339) روى ابن ماجه من طريق سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن ¬
الدليل الثالث
أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ والنار (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثالث: (ح-340) روى أحمد حدثنا وكيع، حدثنا ثور الشامي، عن حريز بن عثمان، عن أبي خداش. عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ والنار (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). الدليل الرابع: من النظر، وذلك أن مياه الآبار في الأعم الأغلب متصلة بالمجرى العام للمياه، فهي تأتي إليه من غير أرضه إلى ملكه، فأشبه الماء الجاري في النهر يأتي إلى ملكه، فله حاجته منه، وما فضل يجب بذله. ولأن الكلأ لا يملك بملك الأرض إلا إذا حازه، وقبل حيازته لم يملك، وذلك أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أنبته، وسقاه، ولكن إن كان محتاجًا إليه فهو أحق به من غيره. دليل من قال: له أن يمنع الناس من أخذ الماء والكلأ في أرضه، وله بيعه: الدليل الأول: الأصل أن مال المسلم لا يحل إلا بطيب نفس منه، وقد انعقد الإجماع على ¬
دليل من قال: يجب بذل فضل الماء للإنسان والحيوان خاصة بشروط
ذلك، فالكلأ الثابت في أرضه، والماء النابع فيها ملك لمالك الأرض؛ لأنه نماء ملكه فأشبه ثمرة شجرته، ولبن شاته، وحملوا حديث جابر (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء) إما على أن النهي للتنزيه، أو يحمل حديث جابر على حديث أبي هريرة: (لا تمنعوا فضل الماءة لتمنعوا به الكلأ) فيكون معنى الحديث: لا تمنعوا فضل الماء الذي يملك إذا كان يؤدي ذلك إلى منع الكلأ الذي لا يملك، وسيأتي إن شاء الله بعد قليل مزيد توضيح لهذا عند الكلام على أدلة الشروط. دليل من قال: يجب بذل فضل الماء للإنسان والحيوان خاصة بشروط: أما الدليل على اشتراط أن يكون الماء فاضلًا عن حاجته، فلأن الحديث لما خص النهى عن بيع فضل الماء دل على أن ما يحتاج إليه لا يجب عليه بذله، ولأن حاجة الإنسان مقدمة على حاجة الغير فله أن يقدم نفسه على غيره، ولأنه لو بذله مع حاجته لتضرر بذلك، فلا يدفع ضرر غيره بتضرره هو. وأما الدليل على اشتراط أن لا يكون هناك ماء آخر في أرض مباحة يستغنى به، فلأنه إنما وجب بذل الماء للغير لدفع حاجة الغير، فلما كان صاحب المواشي يمكنه أن يقضي حاجته من الماء المباح لم يتعين على مالك الماء بذله له. وأما الدليل على اشتراط أن يكون هناك كلأ ولا يمكن رعيه إلا بسقي الماء. فلحديث أبي هريرة: (لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ). قال النووي في معنى الحديث: "أن يكون لإنسان بئر مملوكة له بالفلاة،
وأما الدليل على التفريق بين الماشية والزرع
وفيها ماء فاضل عن حاجته، ويكون هناك كلأ ليس عنده ماء إلا هذه، فلا يمكن لأصحاب المواشي رعيه إلا إذا حصل لهم السقي من هذه البئر، فيحرم عليه منع فضل هذا الماء للماشية، ويجب بذله لها بلا عوض؛ لأنه إذا منع بذله امتنع الناس من رعي ذلك الكلأ خوفا على مواشيهم من العطش، ويكون بمنعه الماء مانعًا من رعي الكلأ ... " (¬1). وقال ابن عبد البر: "وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ فذلك عند مالك وأصحابه ... القوم يحفرون البئر في الصحراء أو القفار، ليسقوا منها مواشيهم، فليس لهم بعد سقي مواشيهم أن يمنعوا أحدًا ممن يرعى في ذلك الموضع معهم من سقي ماشيته بما فضل عن ري مواشيهم، ويقضى عليهم أن يبذلوا فضل ذلك للناس عامة يشتركون فيه، وإنما لهم لسبقهم إلى حفر البئر فضل التقدمة لا غير، فهذا معنى: لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ: يريد أنهم لو منعوا الماء لامتنع من رعي الكلأ الذي فيه الناس شركاء ... " (¬2). وأما الدليل على التفريق بين الماشية والزرع: وأما الدليل على التفريق بين الماشية والزرع فيجب بذل فضل الماء للمواشي دون الزرع: حرمة الروح، ولذلك لو كان له دواب وجب عليه سقيها، ولو كان له زرع لم يجب عليه أن يسقيه. والدليل على أن الماء الذي يجب بذله كونه في مستقره، فإذا حازه في إناء ونحوه لم يجب عليه بذله. ¬
الراجح من أقوال أهل العلم
(ح-341) ما رواه البخاري من حديث الزبير بن العوام، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لأن يأخذ أحدكم أحبلاً، فيأخذ حزمة من حطب، فيبيع، فيكف الله بها وجهه خير من أن يسأل الناس، أعطي أم منع (¬1). قال ابن قدامة: "وأما ما يحوزه من الماء في إنائه، أو يأخذه من الكلأ في حبله، أو يحوزه في رحله ... فإنه يملكه بذلك، وله بيعه بلا خلاف بين أهل العلم" (¬2). هذه أدلة من قال: إنه يملك الماء إذا كان نابعًا من بئره المملوكة له في أرضه، ومنع بذل فضل الماء إلا بشروط، كالشافعية. واستدل الشافعية بأنه لا يجب بذل الفاضل عن حاجته من الكلأ، بأن هناك فرقًا بين فضل الكلأ وفضل الماء. وذلك أن الماء إذا أخذت منه خلفه غيره مباشرة، وأما الكلأ فلا يستخلف إذا أخذ منه. وربما احتاج إليه لماشيته قبل أن يستخلف. الراجح من أقوال أهل العلم: أرى أن مذهب الحنابلة أسعد بالدليل من غيره، وذلك أن حديث: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء حديث صحيح، وهو مطلق، يشمل ما إذا كان بيع الفضل للشفة، أو للزرع، لا فرق في ذلك، خاصة أن النهي متوجه إلى الماء، وهو في مستقره، وقبل حيازته، وهو يتجدد، وما يستخرج من البئر يعقبه ماء جديد، فهو ماء جار تحت الأرض له ممراته الخاصة، فالمياه تحت الأرض أنهار جارية، كالأنهار الجارية فوق الأرض، وإذا كان كذلك فأرى أن بيع ¬
الماء، وهو في البئر بيع لما لم يملك بعد، وملك البئر لا يعني ملك الماء ما دام في مقره، لكن إذا كان الماء لا يكفي صاحبه فحاجته مقدمة على غيره، والله أعلم.
الفصل الخامس ما نهي عن بيعه لحرمة المكان أو لحرمة الزمان
الفصل الخامس ما نهي عن بيعه لحرمة المكان أو لحرمة الزمان المبحث الأول البيع في المسجد [م - 386] المساجد سوق من أسواق الآخرة بنيت لإقامة ذكر الله، وسوق البيع والشراء هو سوق من أسواق الدنيا. (ح-342) روى مسلم في صحيحه من طريق أبي عبد الله مولى شداد بن الهاد أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا (¬1). وورد النهي عن البيع بخصوصه، وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى قريبًا، ومعلوم أن المساجد لم تبن لتكون سوقًا يروج فيها التجار سلعهم، (ح-343) وقد روى مسلم في صحيحه من طريق عبد الرحمن بن مهران مولى أبي هريرة عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها (¬2). فجعل المساجد في مقابل الأسواق في الحب والبغض، وإنما كانت المساجد أحب الأماكن إلى الله؛ لأنها أماكن أسست لتقوى الله وطاعته، ¬
وكانت الأسواق أبغض البلاد إلى الله لما فيها من الغش والخداع، والربا، والأيمان الكاذبة. وإذا كان البيع في المسجد دخله سمسار منع بالاتفاق؛ لأنه يكون المسجد، والذي هو أحب الأماكن إلى الله في صورة السوق التي هي أبغض الأماكن إلى الله. قال في مواهب الجليل: "وأما البيع بالسمسار فيه -يعني في المسجد- فممنوع باتفاق ... " (¬1). وكذلك اشتد نهي الفقهاء إذا كان البيع في المسجد مع حضور السلعة، لأن ذلك يحول المسجد إلى سوق للبيع والشراء وتبادل البضائع، ولم تبن المساجد لهذا. قال الكاساني في بدائع الصنائع: "والمراد من البيع والشراء: هو كلام الإيجاب والقبول من غير نقل الأمتعة إلى المسجد؛ لأن ذلك ممنوع عنه لأجل المسجد؛ لما فيه من اتخاذ المسجد متجرًا" (¬2). وقال الإِمام مالك: "لا أحب لأحد أن يظهر سلعته في المسجد للبيع، فأما أن يساوم رجلاً بثوب عليه، أو بسلعة تقدمت رؤيته لها، فيوجب بيعها، فلا بأس" (¬3). وإذا تبين لنا هذا فما حكم الإيجاب والقبول في المسجد بدون حضور السلعة، وبدون أن يكون هناك سمسار؟ ¬
القول الأول
اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: يكره لغير المعتكف، وهو مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: يكره مطلقًا، وهو مذهب عامة أهل العلم (¬2). القول الثالث: يحرم، وهو المشهور في مذهب الحنابلة (¬3)، واختيار اليمانيين: الشوكاني والصنعاني (¬4). القول الرابع: يجوز البيع في المسجد، اختاره بعض التابعين (¬5)، وهو قول ضعيف في مذهب الشافعية (¬6)، واختيار ابن حزم (¬7). ¬
دليل من قال: يكره البيع في المسجد
دليل من قال: يكره البيع في المسجد: الدليل الأول: (ح-344) ما رواه أحمد من طريق ابن عجلان، ثنا عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تنشد فيه الضالة، وعن الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة (¬1). [تفرد به عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده] (¬2). قد يقال: لما نهى عن الشراء والبيع في المسجد كان المقصود بذلك الإيجاب والقبول؛ لأن النهي عن البيع يتضمن النهي عن الشراء، فيكون فيه إشارة إلى أن النهي يشمل ما إذا كانت السلعة حاضرة، أو غير حاضرة، وهو ما يدل عليه إطلاق النهي عن البيع والشراء فيه. وقد قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله كلامًا نحو هذا. قال في الشرح الممتع: "مراده بالشراء هنا القبول؛ لأنه قد يوجب البائع البيع، فيقول: بعت عليك هذا بعشرة، وبعد ذلك يقول المؤذن: الله أكبر، فيقول الثاني: قبلت، فالذي وقع بعد النداء هو الشراء، وإلا من المعلوم أنه لا ¬
الدليل الثاني
بيع إلا بشراء، ولا شراء إلا ببيع، لكن قد يقع القبول بعد النداء، والإيجاب قبل النداء، فنقول: إن البيع لا يصح" (¬1). والذي حمل النهي على الكراهة: أن الحديث قد تضمن النهي عن إنشاد الشعر في المسجد، وقد صح الإذن فيه (¬2)، ولهذا حمل النهي على التنزيه، والإذن فيه لبيان الجواز، أو المرخص فيه الشعر المحمود كالذي في الزهد ومكارم الأخلاق، والمنهي عنه خلافه (¬3). الدليل الثاني: (ح-345) ما رواه الترمذي من طريق عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي، أخبرنا يزيد بن خصيفة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا رأيتم من يبيع أو ييتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة، فقولوا: لا رد الله عليك (¬4). [رواه الثوري، عن يزيد بن خصيفة، عن محمَّد بن عبد الرحمن، قال: كان يقال: ولم يرفعه، وهو المحفوظ، ورجح الدارقطني: إرساله] (¬5). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ح-346) ما رواه عبد الرزاق، عن محمَّد بن مسلم، عن عبد ربه بن عبد الله، عن مكحول عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جنبوا مساجدكم مجانينكم، وصبيانكم، ورفع أصواتكم، وسل سيوفكم، وبيعكم، وشراءكم، وإقامة حدودكم، وخصومتكم، وجمروها يوم جمعكم، واجعلوا مطاهركم على أبوابها (¬1). [ضعيف جدًا] (¬2). ¬
................................................................. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (ح-347) ما رواه ابن ماجه من طريق زيد بن جبيرة الأنصاري، عن داود ابن حصين، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: خصال لا تنبغي في المسجد، لا يتخذ طريقًا، ولا يشهر فيه سلاح، ولا ينبض فيه بقوس، ¬
دليل من قال: يحرم البيع في المسجد
ولا ينشر فيه نبل، ولا يمر فيه بلحم نيء، ولا يضرب فيه أحد، ولا يقتص فيه من حد، ولا يتخذ سوقًا (¬1). [ضعيف جدًا] (¬2). دليل من قال: يحرم البيع في المسجد: (ح-348) استدلوا بما رواه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشراء والبيع في المسجد ... الحديث (¬3). [سبق تخريجه في أدلة القول الأول]. وإذا ثبت النهي عن البيع في المسجد، فإن الأصل حمل النهي على التحريم، ولا يحمل على الكراهة إلا لقرينة صارفة، ولا قرينة. قال الشوكاني: "وأنت خبير بأن حمل النهي على الكراهة يحتاج إلى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي الذي هو التحريم عند القائلين بأن النهي حقيقة في التحريم، وهو الحق" (¬4). قال الصنعاني تعليقًا على حديث أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك ... (¬5). ¬
دليل من قال: يجوز البيع في المسجد
قال الصنعاني تعليقًا على هذا: "فيه دلالة على تحريم البيع والشراء في المساجد، وأنه يجب على من رأى ذلك فيه: أن يقول لكل من البائع والمشتري: لا أربح الله تجارتك، يقول جهرًا زجرًا للفاعل لذلك" (¬1). والحديث سبق تخريجه، ولم يصح مرفوعًا، ولو صح لكان ظاهراً في الدلالة على التحريم؛ لأن الدعاء على المسلم بكساد تجارته لا يباح إلا لمحرم، لما في ذلك من تنفير القلوب، وتوريث العداوة. دليل من قال: يجوز البيع في المسجد: الدليل الأول: استدلوا بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ} [البقرة: 275]، ولم يأت نهي عن ذلك إلا من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وتفرده بمثل ذلك لا يقبل. الدليل الثاني: الإيجاب والقبول كلام مباح، مثله مثل أي كلام يدور في المسجد بين رجلين، وإذا كان إنشاد الشعر في المسجد جائزاً، فالإيجاب والقبول مثله، إن لم يكن أحوج منه، ما دام أن ذلك لا يحمل على لغط ورفع أصوات في المسجد، وعرض السلع، وسماسرة تنادي من يشتري، من يزيد؟. الدليل الثالث: لو استأجر رجل رجلاً على تعليم الصبيان في المسجد لكان ذلك مباحًا، وعقد الإجارة بيع منفعة. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: إذا كان الرسول قد يقضي بين المتخاصمين في المسجد، ولا ينافي ذلك حرمة المسجد، وما بنيت له فكذلك ألفاظ الإيجاب والقبول. فقد جاء في الصحيحين في قصة المتلاعنين، حيث تلاعنا في المسجد (¬1)، (ح-349) وجاء في الصحيحين من حديث كعب أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا كان له عليه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فارتفعت أصواتهما، حتى سمعهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كشف سجف حجرته، فنادى يا كعبُ، قال: لبيك يا رسول الله، فأشار إليه بيده أن ضع الشطر من دينك، قال كعب: قد فعلت يا رسول الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قم فاقضه (¬2). (ح-350) وجاء في الصحيحين من حديث عائشة، قالت: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا على باب حجرتي، والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله يسترني بردائه، انظر إلى لعبهم (¬3). الراجح من الخلاف: القول بالتحريم لم يقل به إلا الحنابلة، ولا أستطيع أن أجزم به، وهو لم يرد إلا في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ولست أنكر أن هذا السند من قبيل الحسن لذاته فيما لم يتفرد به من الأحكام، وأما إذا تفرد فإن النفس لا تقبل مثله، والقول بالكراهة غير بعيد عن الصواب، من أجل المعنى، لا من ¬
أجل النص، وأجد قول مالك رحمه الله أن الإيجاب والقبول في المسجد إذا لم يكن في ذلك رفع أصوات، ولم يكن بحضور السلعة إلى المسجد، ولم يكن في ذلك ما يشغل عن صلاة واجبة، ولم يستغل جمع المسجد في البحث عن مشتر للسلعة، أنه لا بأس به، وأن ذلك من جنس الكلام المباح الذي قد يتكلم به الرجل في المسجد مع أخيه. قال الإمام مالك: "لا أحب لأحد أن يظهر سلعته في المسجد للبيع، فأما أن يساوم رجلاً بثوب عليه، أو بسلعة تقدمت رؤيته لها، فيوجب بيعها، فلا بأس" (¬1). وأبعد من ذلك من حرم من أهل عصرنا توزيع النشرات العلمية المشتملة على بعض الأذكار في المساجد؛ لأنه قد وضع في أسفلها اسم من قام بطبعها من الشركات، والمحلات التجارية، وأن ذلك يدخل في مسمى البيع؛ لأنه نوع من الدعاية لتلك المحلات فهذا بعيد كل البعد عن مقصود الشارع من كراهة البيع والشراء في المسجد، فمراد الشارع على التسليم بثبوت النهي عن البيع والشراء ألا يتحول المسجد إلى سوق تعرض فيه السلع، فيتحول من كونه سوقًا للآخرة إلى سوق من أسواق أهل الدنيا، وليس في هذه النشرات ما يصرف الناس عن رسالة المسجد، وكتابة اسم من قام بطباعتها، أو وضع علامته التجارية تابع غير مقصود. ... ¬
المبحث الثاني البيع بعد نداء الجمعة الثاني
المبحث الثاني البيع بعد نداء الجمعة الثاني المسألة الأولى الحكم التكليفي للبيع بعد نداء الجمعة الثاني [م - 387] أمر الله سبحانه وتعالى بترك البيع عند الأذان من يوم الجمعة، والسعي إلى الصلاة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]. قال ابن العربي: "وهذا مجمع على العمل به، ولا خلاف في تحريم البيع ... " (¬1). وحكى الإجماع ابن رشد في بداية المجتهد (¬2). وعبر الحنفية بالكراهة، وذكر ابن نجيم بأن المقصود بها كراهة التحريم اتفافًا (¬3). وقال الشافعية: لا يكره البيع قبل الزوال يوم الجمعة. ويكره البيع كراهة تنزيه بعد الزوال، وقبل ظهور الإِمام، أو قبل جلوسه على المنبر وقبل شروع المؤذن في الأذان. ¬
القول الأول
ويحرم البيع بعد جلوس الخطيب على المنبر، وشروع المؤذن في الأذان (¬1). ولا أعلم دليلًا في تعليق الكراهة على الوقت، فإن الآية إنما نهت عن البيع حين سماع النداء للجمعة إلى حين الفراغ من الصلاة، فما عداه فعدى الإباحة. هذا هو الحاكم التكليفي للبيع بعد سماع النداء. [م - 388] وقد اختلف العلماء في نداء الجمعة، هل المقصود به النداء الأول، أو النداء الثاني؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: يحمل على الأذان الأول، وهذا القول هو الأصح في مذهب الحنفية. وقيده الزيلعي بأن يقع الأذان الأول بعد الزوال" (¬2). القول الثاني: يحمل على الأذان الثاني، وهو مذهب الجمهور (¬3)، واختاره بعض ¬
القول الثالث
الحنفية (¬1). القول الثالث: لا يجوز البيع منذ زوال الشمس من يوم الجمعة إلى مقدار تمام الخطبتين والصلاة، ومن شهد الجمعة فإلى أن تتم صلاتهم للجمعة، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2)، وحكاه القاضي رواية عن أحمد (¬3)، واختيار ابن حزم (¬4). دليل الجمهور على أن المعتبر هو النداء الثاني: (ح-351) ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: كان النداء يوم الجمعة: أوله إذا جلس الإِمام على المنبر على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وعمر - رضي الله عنهما -، فلما كان عثمان - رضي الله عنه -، وكثر الناس، زاد النداء الثالث على الزوراء. قال أبو عبد الله: الزوراء موضع بالسوق بالمدينة (¬5). واعتبر ما أحدثه عثمان النداء الثالث، باعتبار أن الإقامة تسمى أذانًا، ويطلق عليه الأول باعتبار موضعه منها. (ث-58) فقد روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار أن عثمان أول من زاد الأذان الأول يوم الجمعة لما كثر الناس، زاده، فكان يوذن به على الزوراء (¬6). ¬
دليل من قال: يحرم البيع من زوال الشمس.
[إسناده صحيح]. (ث-59) وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: كان الأذان في يوم الجمعة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وعمر أذانًا واحداً حتى يخرج الإِمام، فلما كان عثمان كثر الناس، فزاد الأذان الأول، وأراد أن يتهيأ الناس للجمعة (¬1). [إسناده صحيح]. فإذا كان النداء على وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو النداء الثاني، الذي يكون بين يدي الخطيب، وهو على المنبر، ولم يكن معروفاً النداء الأول كان هو المقصود بقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]. وهو النداء الذي يجب السعي عنده إلى الصلاة، ولا يجب السعي بمجرد النداء الأول، وإنما النداء الأول لأجل أن يرجع الناس من الأسواق ليستعدوا للصلاة. تعليل الحنفية على أن المعتبر هو النداء الأول: علل الحنفية قولهم ذلك: بأن النداء الأول هو النداء الذي يحصل به الإعلام، ولأنه لو انتظر الأذان عند المنبر يفوته أداء السنة، وسماع الخطبة، وربما تفوته الجمعة إذا كان بيته بعيدًا عن الجامع (¬2). دليل من قال: يحرم البيع من زوال الشمس. إن التوجه إلى الجمعة يجب بدخول الوقت، وإن لم يؤذن لها أحد، ولهذا لا ¬
وتعقبه ابن قدامة
يعتبر في التحريم الأذان لو كان قبل الوقت، فهذا يدل على أن المعتبر هو الوقت، وليس مجرد الأذان. وتعقبه ابن قدامة: " لا يصح هذا -يعني تعليق النهي بالوقت- لأن الله تعالى علقه على النداء، لا على الوقت، ولأن المقصود بهذا إدراك الجمعة، وهو يحصل بما ذكرنا، دون ما ذكره، ولو كان تحريم البيع معلقاً بالوقت لما اختص بالزوال، فإن ما قبله وقت أيضاً، فأما من كان منزله بعيدًا، لا يدرك الجمعة بالسعي وقت النداء، فعليه السعي في الوقت الذي يكون به مدركًا للجمعة؛ لأن الجمعة واجبة، والسعي قبل النداء من ضرورة إدراكها، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، كاستقاء الماء من البئر للوضوء، إذا لم يقدر على غيره، وإمساك جزء من الليل مع النهار في الصوم، ونحوهما" (¬1). الراجح من الخلاف: قول الجمهور هو القول المتعين؛ لأن حمل الآية على أمر لم يكن موجودًا وقت نزولها لا يتصور. والسعي إلى الصلاة له وقتان: وقت استحباب، ووقت وجوب، وهو وقت النداء إذا جلس الإِمام على المنبر، والتحريم خاص في وقت الوجوب، وليس في وقت الاستحباب؛ لأن من فوت وقت الاستحباب لم ينكر عليه. ¬
المسألة الثانية الحكم الوضعي للبيع بعد نداء الجمعة
المسألة الثانية الحكم الوضعي للبيع بعد نداء الجمعة [م - 389] عرفنا في المبحث السابق أن البيع بعد نداء الجمعة محرم، وأن العلماء مجمعون على تحريمه، والسؤال: لو أن البيع وقع، فهل نحكم على البيع بالبطلان، أو نقول: يحرم البيع مع صحة العقد؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يصح العقد مع التحريم، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، وبعض المالكية (¬3). القول الثاني: يجب فسخه، وهو مذهب المالكية، والحنابلة (¬4). ¬
• دليل من قال: العقد صحيح
• دليل من قال: العقد صحيح: قالوا: الأدلة قد قامت على أن النهي إذا لم يتناول معنى في نفس العقد، أو القربة المفعولة، أو ما هو من شروطها التي يخصها لم يمنع جواز ذلك، وذلك نحو البيع عند أذان الجمعة، وتلقي الجلب، وبيع حاضر لباد، ومثل الصلاة في الأرض المغصوبة، والطهارة بماء مغصوب، وغسل النجاسة به، والوقوف بعرفات على جمل مغصوب، وكون الفعل فيها منهيًا عنه في هذه الصفة، لا يمنع من القول بجوازه؛ لأن النهي عنها لم يتناول معنى في نفس المفعول، وإنما تناول معنى في غيره، وكون الإنسان مرتكبًا للنهي، عاصيًا في غير المعقود عليه، لا يمنع وقوع فعله موقع الجواز، والدليل على صحة ما ذكرنا: أنه لو رأى رجل يصلي رجلًا يغرق، وقد كان يمكنه خليصه، أنه منهي عن المضي في هذه الصلاة، ومأمور بتخليص الرجل، فإن لم يفعل، ومضى في صلاته، كانت صلاته مجزئة، ولولا أن ذلك كذلك لقلنا: لا يجوز له فعل الصلاة. وفي اتفاق المسلمين على جواز صلاة من هذا وصفه دلالة على أن النهي إذا لم يتعلق بمعنى في نفس العقد، أو في نفس القربة المفعولة، أو بما هو من شروطها التي تختص بها، أنه لا يمنع صحة العقد، ووقوع القربة موقع الجواز، ¬
• دليل من قال: العقد باطل
ألا ترى أن تخليص الرجل من الغرق ليس من الصلاة، ولا من شروطها في شيء. ألا ترى أن من عليه تخليص الغريق لو اشتغل بالصلاة أيضًا كان عاصيًا في اشتغاله عن تخليصه، وأن أذان الجمعة ليس من نفس البيع، ولا من شرطه، فلم يفسد البيع من أجله وإن كان منهيًا عنه؛ لأن المعنى فيه الاشتغال عن صلاة الجمعة لا البيع؛ لأنه لو لم ينعقد البيع في ذلك الوقت واشتغل بغيره كان النهي قائمًا في اشتغاله بغير الصلاة، فعلمت أن النهي إنما تناول الاشتغال عن الجمعة لا البيع نفسه، وكذلك النهي عن تلقي الجلب، وبيع حاضر لباد، إنما هو لأجل حق الغير، لا لأجل البيع، وكذلك في استيام الرجل على سوم أخيه، أنه منهي عنه، ولو عقد البيع على هذا الوجه كان العقد صحيحًا، مع كونه منهيًا عنه، لأن النهي عنه إنما تعلق لحق المساوم لا بالعقد نفسه. ونظائر ذلك كثيرة، وفيما ذكرنا تنبيه على المعنى في أشباهه، فصار ما ذكرنا أصلًا في هذه المسائل (¬1). • دليل من قال: العقد باطل: الدليل الأول: قال تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]. وجه الاستدلال: أمر الله سبحانه وتعالى بترك البيع، فكأنه قال: لا تبيعوا، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. ونوقش: أنتم لا تمنعون أن هناك أشياء نهى عنها الشارع، وصححها لوجود قرينة، كالنهي عن تلقي الجلب، ومع ذلك أثبت للبائع الخيار إذا أتى السوق، ونهى ¬
وتعقب ذلك
عن التصرية، وأثبت للمشتري الخيار إذا وقع البائع في النهي، وثبوت الخيار فرع عن صحة البيع فيهما، فدل ذلك على أن التحريم والصحة قد يجتمعان، ولا تلازم بين النهي، والفساد، وإذا كان لا تلازم بين النهي والفساد، لم تكن صيغة النهي وحدها دالة على الفساد، وإنما تدل على التحريم، والممنوع أن يكون الشيء منهيًا عنه، ومأمورًا به في ذات الوقت، فيمتنع أن يقال: حرمت عليك الطلاق في حال الحيض، وأمرتك به، وأبحته لك، وأما إذا قال: حرمت عليك الطلاق في الحيض، فإن فعلت فقد وقع الطلاق، وأنت آثم، وحرمت عليك الصلاة في الثوب المغصوب، فإن فعلت صحت الصلاة، وأنت آثم، فشيء من هذا ليس بممتنع (¬1). فدل على أن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه في كل حال. وتعقب ذلك: قال شيخنا ابن عثيمين: "إن قال قائل: لما لا تقولون: هو حرام، ولكنه صحيح، كما قلتم في الجلب؟ فالجواب: الفرق بينهما ظاهر. أولًا: لأن حديث التلقي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار). فثبوت الخيار فرع عن صحة العقد، فيكون في الحديث دليل على أن العقد صحيح. ثانيًا: أن النهي عن التلقي ليس نهيًا عن العقد لذاته، ولكنه نهي عن العقد لحق الغير، حيث إنه ربما يكون فيه خديعة للقادم، فيشتريه المتلقي بأقل، ولهذا جعل الحق له في إمضاء البيع، أو فسخه، وأما مسألتنا فإن النهي عن البيع ¬
بعينه، وما نهي عن البيع بعينه لا يمكن أن نقول: إنه صحيح، سواء في العبادات، أو في المعاملات؛ لأن تصحيحنا لما جاء فيه النهي بعينه إمضاء لهذا الشيء الذي نهى الشارع عنه؛ لأن الذي نهى الشارع عنه يريد منا أن نتركه، ونتجنبه، فإذا حكمنا بصحته فهذا من باب المضادة لأمر الله سبحانه وتعالى ... " (¬1). وقول شيخنا عليه رحمه الله بأن النهي عن البيع لعينه، كأنه رأى أن النهي عائد إلى ذات البيع، وليس لأمر خارج، والحقيقة أن النهي وإن كان نهيًا عن البيع، لكنه معلل بأمر خارج، فليس النهي عن البيع عند نداء الجمعة، كالنهي عن بيع الغرر، والنهى عن الربا، والنهي عن القمار، فهذه البيوع هي البيوع المنهي عنها لذاتها، ولذلك لو انشغل عن السعي للصلاة بغير البيع كان منهيًا عنه أيضًا، مما يدل على أن النهي ليس لذات البيع، فالعلة من الأمر بترك البيع مئصوص عليها في سياق الآية، فقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، يعلم منه التعليل للنهي عن البيع بكونه مانعًا من السعي إلى الجمعة، إذ لو قدرنا النهي عن البيع مطلقًا من غير رابطة الجمعة كان الكلام غير منتظم. فقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، مقصوده الحفظ على إقامة الجمعة، وعدم التفريط فيها، وقوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، جار مجرى التوكيد لذلك بالنهي عن ملابسة ما يشغل عن السعي إليها، لا أن البيع تحول إلى منهي عنه لذاته، والله أعلم. ولذلك قال الجصاص: "لما لم يتعلق النهي بمعنى في نفس العقد، وإنما تعلق بمعنى في غيره، وهو الاشتغال عن الصلاة، وجب أن لا يمنع وقوعه ¬
الدليل الثاني
صحته ... وأيضًا هو مثل تلقي الجلب، وبيع الحاضر للباد، والبيع في الأرض المغصوبة ونحوها، كونه منهيًا عنه لا يمنع وقوعه" (¬1). ولو قال شيخنا - رحمه الله -: إن النهي عن البيع بعد نداء الجمعة لحق الله، والنهي عن تلقي الجلب لحق الآدمي لكان فرقًا صحيحًا، لكنه فرق غير مؤثر في الحكم فيما أرى، وإن كان الباجي المالكي يراه مؤثرًا، قال في المنتقى: "النهي عن البيع إذا كان لحق الله اقتضى فساده، كالبيع وقت صلاة الجمعة" (¬2). أما أن يقال: بأن النهي عنه عائد لذات البيع فلم يتضح لي، والله أعلم بالصواب. الدليل الثاني: أن الشارع لم يأذن بالبيع بعد نداء الجمعة، فوجوده كعدمه. (ح-352) وقد روى مسلم من طريق سعد بن إبراهيم، عن القاسم بن محمَّد، قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد (¬3). أن معنى: رد: أي مردود على صاحبه، والمردود: هو الباطل. • الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأدلة أجد أن القول بصحة العقد أقوى من حيث الدليل، ونحن نقول للناس لا تفعلوا، ونشدد عليهم في ذلك، فإن خالف أحد وفعل فلن ترتفع المفسدة بإبطال العقد، فالمفسدة: التي هي الانشغال عن سماع الخطبة ¬
قد وقعت، سواء صححنا البيع، أو أبطلناه، وكوننا نصحح العقد مع مطالبتنا للعاقدين بالتوبة، وعدم تكرار مثل ذلك أولى من إبطال العقد، خاصة أن العقد قد توفرت فيه شروط العقد الصحيح وأركانه، والله أعلم.
المسألة الثالثة البيع في حال السعي للجمعة
المسألة الثالثة البيع في حال السعي للجمعة [م - 390] قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]. قال الشافعي: ومعقول أن السعي في هذا الموضع العمل، لا السعي على الأقدام، قال الله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19]. وقال تعالى: {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان: 22]. وقال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. وقال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} [البقرة: 205]. "وقال مالك: فليس السعي الذي ذكر الله في كتابه السعي على الأقدام، ولا الاشتداد وإنما عني العمل، والفعل". وقال الباجي: "السعي إذا كان بمعنى العدو، أو بمعنى المضي إلى الصلاة فإنه يتعدى إلى الغاية بـ (إلى) يقال سعى إلى غاية كذا وكذا: أي جرى إليها، ومشى إليها، وإذا كان بمعنى العمل فإنه لا يتعدى بـ (إلى)، وإنما يتعدى باللام فتقول: سعيت لكذا وكذا، وسعيت لفلان. قال الله تعالى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء: 19]، وإنما تعدى السعي إلى الجمعة بـ (إلى) لأنه بمعنى المضي" (¬1). ¬
القول الأول
فإذا كان النهي عن البيع معللًا كي لا ينشغل عن السعي إلى الصلاة، فقد يوجد الانشغال عن السعي الواجب بدون وجود البيع، فيحرم غير البيع إذا أدى ذلك إلى الانشغال عن السعي إلى الصلاة، وسوف أفرد له مبحثًا خاصًا. وقد يجري البيع في حال السعي إليها فلم يشغل عقد البيع عن السعي إلى الصلاة، فإذا جرى البيع حال السعي إلى الصلاة، فهل يقال: إن البيع جائز ما دام أنه لم يشغل عن السعي إليها المأمور به في الآية، وأن البيع في هذه الحالة لا يدخل في النهي؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: لا يحرم البيع، وهو مذهب الحنفية (¬1)، الشافعية (¬2)، وأحد القولين في مذهب المالكية (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يحرم البيع، قال به بعض الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2). ولم أجد نصًا عن الحنابلة في هذه المسألة (¬3). • دليل من قال: لا يحرم البيع حال السعي: هذا القول نظر إلى المعنى، فإن منصوص الآية الكريمة تضمن، الأمر بالسعي إلى الصلاة، وترك البيع، فكأن العلة في ذلك حتى لا ينشغل عن السعي إلى الصلاة، وليست العلة راجعة لذات البيع، بل يحرم البيع وغير البيع من الأعمال التي تشغل عن السعي إلى الصلاة، كما لا يحرم الشراء لو كان متوجهًا لما فيه مصلحة الصلاة، كما لو كان محدثًا، ولم يجد ماء ليرفع به الحدث، فاشترى الماء لذلك لم يحرم عليه على الصحيح، مما يدل على أن النهي إنما هو لأجل القيام بالسعي الواجب عند سماع الأذان، وإذا كان البيع لم يخل بهذا الواجب كان على حكمه الأصلي، وهو الإباحة، والله أعلم. • دليل من قال: يحرم عليه البيع: الدليل الأول: هذا القول نظر إلى ظاهر اللفظ، فالآية تقول: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]. فأمر بترك البيع عند سماع النداء، وهو مطلق يشمل حال السعي وغيره. ¬
ويناقش
ويناقش: بأن تخصيص النص بالعلة معلوم في الشريعة، فيكون النص المطلق مقيدًا في حالة ما إذا كان ذلك شاغلًا عن السعي إلى الصلاة. الدليل الثاني: قالوا: القول بالمنع يدخل في سد الذريعة، فإنه لو فتح الباب ربما أدى ذلك إلى الانشغال عن السعي الواجب، فإذا منع الناس لم نخش عليهم الوقوع في المحذور. الدليل الثالث: وهذا استدل به بعض الحنفية وفقًا لقواعد مذهبهم: قالوا: إن النهي عن البيع ورد مطلقًا، فتخصيصه في بعض الوجوه دون بعض يكون نسخًا، فلا يجوز بالرأي (¬1). أي فلابد من قبول النهي على إطلاقه. ويجاب: على التسليم بصحة هذه القاعدة، فإن النص ليس مطلقًا، لأن النص معلل بالإخلال بالسعي، فإذا انتفى انتفى (¬2). • الراجح: بعد استعراض الأدلة أجد أن القول بالجواز أقوى دليلًا، وأن الجزم بالتحريم لم يظهر لي، وإن كنت لا أحب أن يشتغل أحد في البيع والشراء حال السعي إلى الصلاة خروجًا من الخلاف، وخوفًا من أن يجر ذلك إلى الوقوع في المحذور، والله أعلم. ¬
المسألة الرابعة هل يقاس على البيع سائر العقود
المسألة الرابعة هل يقاس على البيع سائر العقود [م - 391] الآية الكريمة نصت على الأمر بالسعي إلى الصلاة، وترك البيع، فهل يختص النهي عن البيع وحده نظرًا لظاهر النص، أو يشمل النهي كل ما يشغل عن السعي إلى الصلاة نظرًا إلى المعنى؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأول: لا مفهوم للبيع والشراء، فيحرم كل ما يشغل عن السعي إليها، كالتولية، والشركة، والهبة، والأخذ بالشفعة، والصدقة، والخياطة، والحصاد، والدراس، والسفر في ذلك الوقت، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يختص النهي بالبيع، ويلحق به المساومة، والمناداة، دون النكاح وسائر العقود، وهو مذهب الحنابلة (¬1)، واختيار ابن حزم (¬2). • دليل من قال: يحرم كل ما يشغل عن السعي إلى الصلاة: قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]. أمرت بأمرين: السعي إلى ذكر الله، وترك البيع. فالمقصود من قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، هو التمكن من امتثال قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، فكأن قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، جار مجرى التوكيد لذلك بالنهي عن ملابسة كل ما يشغل عن السعي إليها، ولا معنى لتخصيص ذلك بالبيع؛ وإنما البيع ورد على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر، فالعلة من الأمر بترك البيع كونه مانعًا من السعي إلى الجمعة، يدل لذلك أنه لو قال قائل بالنهي عن البيع قبل وجوب السعي إلى ¬
• دليل من قال: لا يحرم إلا البيع خاصة
الجمعة لم يقبل منه، وكذلك لو كان المتبايعان لا يجب عليهم السعي إلى الجمعة لم يمنعوا من البيع والشراء، فإذًا المراد بالنهي عن البيع نهي عن كل ما يشغل الإنسان عن الواجب الذي قد دخل وقته من حين إعلان النداء للجمعة، وهو وجوب السعي إلى الجمعة، فالنهي كما يشمل البيع يشمل سائر العقود، بل يشمل حتى الانشغال بالكلام المباح إذا كان ذلك يعوق السعي إلى الصلاة، فكله داخل في النهي. ويقول شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: "سائر العقود منهي عنها كالبيع، وإنما ذكر الله البيع بحسب الواقع؛ لأن هذا هو الذي حصل، فالصحابة - رضي الله عنهم - لما وردت العير من الشام خرجوا، وبدؤوا يتبايعون فيها (¬1)، فتقييد الحكم بالبيع إنما هو باعتبار الواقع فقط، وإلا فكل ما ألهى عن حضور الجمعة فهو كالبيع، لا فرق ... " (¬2). • دليل من قال: لا يحرم إلا البيع خاصة: استدل بظاهر الآية الكريمة من قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] فأخذ الظاهرية وفقًا لقواعد مذهبهم من الجمود على الظاهر، وعدم ملاحظة المعنى فقالوا: لا يحرم إلا البيع. وأما أهل القياس كالحنابلة فقالوا بصحة النكاح وسائر العقود، وعللوا ذلك بأن الآية نصت على البيع، وأما غيره فلا يساويه لقلة وقوعه، قلا تكون إباحته ذريعة إلى فوات الجمعة (¬3). ¬
الراجح
وهو تعليل مرجوح كما علمت، وليست العلة بالكثرة والقلة؛ إذ لو كانت العلة كذلك لقيل: إذا وقع البيع من آحاد الناس صح، وإذا وقع البيع من أهل السوق لم يصح، لأن أهل السوق يقع منهم البيع كثيرًا، بينما آحاد الناس لا يكثر منهم البيع والشراء، ولا يقع منهم إلا لحاجة. • الراجح: القول المتعين الذي لا يصح غيره أن النهي يشمل كل ما يشغل عن السعي إلى الصلاة من قول، أو فعل، سواء كان ذلك عقدًا، أو غيره من التصرفات، والله أعلم.
المسألة الخامسة في بيع من لا تلزمه الجمعة
المسألة الخامسة في بيع من لا تلزمه الجمعة [م - 392] إذا كان العاقدان ممن لا تجب عليهما الجمعة كالمرأة مع مثلها، فهل يحرم عليهما البيع بعد نداء الجمعة؟ اختلف العلماء على أربعة أقوال: القول الأول: لا يحرم عليهما، وهو من مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). القول الثاني: يكره لهما البيع في الأسواق في تلك الساعة، فإن باع فيها لم يفسخ بيعه، وأما في غير الأسواق فجائز للعبيد، والنساء، والمسافرين، وأهل السجون، والمرضى أن يتبايعوا فيما بينهم، وهذا مذهب المالكية (¬4). ¬
القول الثالث
القول الثالث: لا يصح، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). القول الأول: لا يصح من مريض ونحوه دون غيره، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). • دليل من قال: لا يحرم عليهم البيع: قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]. فالأمر بترك البيع من أجل السعي إلى الصلاة، فإذا كان لا يجب عليه السعي لم يحرم عليه البيع. • دليل من خص الكراهة بالسوق: أن في ذلك سدًا للذريعة، حتى لا ينتهك أحد الحضر، وحتى لا يقصد الأسواق من لا يحل له البيع والشراء، فلا تفتح أسواق المسلمين للبيع والشراء وقت الخطبة والصلاة. • دليل من قال: يمنع المريض. كأنه رأى أن الرجل الصحاح مخاطب بأمرين: السعي للجمعة، وترك البيع، وإذا سقط أحدهما بعذر لم يسقط الآخر. ¬
• الراجح من أقوال أهل العلم
• الراجح من أقوال أهل العلم: القول بالصحة هو الأقوى، وقول الإمام مالك إنما هو من باب السياسة الشرعية، ولذلك لم يفسخ البيع إذا وقع، فإذا رأى الإمام أن يفعل مثل ذلك في أسواق المسلمين كان له ذلك، والله أعلم. [م - 393] وهذا الحكم فيما إذا كان كل من العاقدين لا تجب عليه الجمعة، وأما إذا كان أحدهما من أهل الفرض دون الآخر. فقيل: يحرم عليهما جميعًا، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). وقيل: يحرم على صاحب الفرض، ويكره للآخر، وهو مذهب الحنابلة، وقول مرجوح في مذهب الشافعية (¬3). • تعليل من قال: يحرم عليهما معًا: التعليل الأول: إذا اجتمع مبيح وحاضر غلب جانب الحضر، كما في هذه الصورة. التعليل الثاني: أن ذلك من باب الإعانة على الإثم. • تعليل من قال: يكره. لم يحرم عليه؛ لأنه ليس مكلفًا بالسعي إلى الجمعة، وكره له؛ لأن في ذلك إعانة لغيره على الإثم. ¬
الباب السابع الشروط في البيع (الشروط الجعلية)
الباب السابع الشروط في البيع (الشروط الجعلية) تمهيد المبحث الأول الفرق بين شروط البيع والشروط في البيع الشروط في البيع: هي إلزام أحد المتعاقدين الآخر ما لا يلزمه بمقتضى العقد. وتختلف الشروط في البيع عن شروط البيع من وجوه: الأول: أن شروط البيع من وضع الشارع، فيصح أن تسمى الشروط الشرعية، وأما الشروط في البيع فهي من وضع المتعاقدين، فيصح أن تسمى الشروط الجعلية. الثاني: شروط البيع يتوقف عليها صحة البيع، وأما الشروط في البيع فيتوقف عليها لزوم البيع، فالبيع معها صحيح، ولكن ليس بلازم لأن من له الشرط إذا لم يوف له به فله الخيار. الثالث: أن شروط البيع لا يمكن إسقاطها، والشروط في البيع يمكن إسقاطها. الرابع: أن ما اتفق على اعتباره من شروط البيع فكلها صحيحة؛ لأنها من وضع الشارع، والشروط في البيع منها ما هو صحيح، ومنها ما هو ليس بصحيح؛ لأنها من وضع العاقدين، والعاقد قد يخطئ ويصيب (¬1). ¬
المبحث الثاني الأصل في الشروط الجواز والصحة
المبحث الثاني الأصل في الشروط الجواز والصحة بين يدي هذا المبحث: قبل أن أتناول هذه القاعدة: أحب أن أنبه إلى مسائل في هذه القاعدة الجليلة، منها: التنبيه الأول: الموقف من هذه القاعدة يعكس مدرستين فقهيتين: الأولى: مدرسة أهل الظاهر، وهي المدرسة التي تقف عند ظاهر النص، بمعزل عن العلة، وتجعل الأصل في جميع معاملة الناس وشروطهم الأصل فيها الحضر والمنع، بل بالغ ابن حزم - رحمه الله - في ظاهريته حتى رأى أن ألفاظ الإيجاب والقبول يجب أن تكون بألفاظ وردت في النصوص، وأن أي لفظ في الإيجاب والقبول لم يرد عليه نص شرعي باستعماله فهو لا يفيد، ولا ينعقد به بيع، ولا غيره، وقد سبق نقل كلامه عند دراسة أركان البيع. والمدرسة الثاني: وهم بقية الفقهاء ممن يأخذ النص ولا يعزله عن بقية النصوص، مستنبطًا العلة والحكمة من أوامر الشارع ونواهيه، ويربطه بمقاصد الشريعة، ليصل إلى مراد الشارع منه. فالموقف من الشروط لا يختلف كثيرًا عن الموقف من النص الشرعي في حكم مسألة ما، هل نكتفي بظاهر النص، أو ندرس النص مع بقية النصوص الأخرى، ونتلمس الحكم والعلل التي من أجلها شرع مثل ذلك النص.
التنبيه الثاني
التنبيه الثاني: الفقهاء المتقدمون لم يبرزوا هذه القاعدة بالبحث، وإنما اجتهد من أبرزها باستنباطها من أصول مذاهب الأئمة، ومن خلال تتبع أحكامهم على الشروط الصحيحة والفاسدة، وما استقر عليه مذهبهم عند الكلام على مسائل من الفروع الفقهية والمتضمنة لاشتراط شروط خاصة في العقود، كاشتراط الخيار أكثر من ثلاثة أيام، وكاشتراط سكنى الدار مدة معينة ... الخ هذه الفروع (¬1)، وأول من تناول هذه القاعدة بالبحث هو ابن حزم، ثم توسع في ذكرها، وإبرازها، والدفاع عنها، وحشد الأدلة عليها ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم رحمهم الله، ولا يستغني أي باحث يريد أن يتناول هذه القاعدة عن الرجوع إلى كلام ابن حزم، وابن تيمية وابن القيم عليهم رحمه الله جميعًا. ¬
التنبيه الثالث
التنبيه الثالث: الكلام في مسألة الأصل في الشروط مرتبط ارتباطًا لازمًا في مسألة شبيهة بها: وهي ما الأصل في العقود؟ وأدلة تلك المسألة هي عين أدلة المسألة الأخرى. ولذلك كان ابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم يجمعون بينها في سياق واحد. يقول ابن تيمية - رحمهُ الله -: "القاعدة الثالثة: في العقود والشروط فيها، فيما يحل منها ويحرم، وما يصح منها، ويفسد ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدًا، والذي يمكن ضبطه فيها قولان" (¬1). ويقول ابن القيم: "الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع، أو نهى عنه ... " (¬2). وقال ابن حزم: "وأما العقود والعهود والشروط والوعد فإن أصل الاختلاف فيها على قولين، لا يخرج الحق عن أحدهما" (¬3). وسبب الجمع بين هاتين المسألتين: أن "الكلام على حرية الاشتراط يسبقه أو يقارنه بالضرورة الكلام على حرية التعاقد؛ لأنه إذا كانت العقود مقصورة على ما نص عليه الشارع فإن الشروط المتعلقة بهذه العقود ستقتصر في الغالب أيضًا على ما نص عليه الشارع، وعلى العكس إذا كانت العقود مطلقة من هذا القيد ويستطيع المكلف أن يبرم ما ¬
القول الأول
يحتاجه من العقود مع اجتناب ما نص على تحريمه فقد يؤدي هذا إلى القول بحرية الاشتراط، ولذلك فإن الكلام على حرية الاشتراط يرتبط بالكلام على حرية التعاقد بصفة عامة، بل إن حرية الاشتراط تابعة لحرية التعاقد" (¬1). وبذلك تكون أدلة المسألة على أن الأصل في العقود الجواز والصحة نحتج بها على مسألتنا هذه: وهي الأصل في الشروط الجواز والصحة، إذا عرفنا ذلك نأتي إلى ذكر خلاف العلماء في مسألة الأصل في الشروط، وما هو موقف العلماء من إحداث شروط جديدة في العقد. [م - 394] اختلف الفقهاء، هل الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة إلا ما دل على تحريمه دليل شرعي، أو الأصل في الشروط التحريم والبطلان حتى يأتي نص يدل على خلاف ذلك؟ وفي المسألة قولان: القول الأول: مذهب الحنابلة: يذهب إلى أن الأصل في الشروط الجواز والصحة، ولا يحرم منها، ولا يبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله، وهو أوسع المذاهب على الإطلاق في تصحيح الشروط (¬2)، وقريب منه مذهب الإمام مالك (¬3). ¬
ونص كثير من الفقهاء على أن الأصل في العقود الصحة والجواز، والكلام في العقود كالكلام في الشروط، وممن نص على ذلك السرخسي (¬1)، والزيلعي (¬2)، والجصاص من الحنفية (¬3)، والشاطبي من المالكية (¬4)، والهيتمي من الشافعية (¬5)، وابن تيمية (¬6)، وابن القيم (¬7)، والبهوتي (¬8) من الحنابلة وغيرهم. ونسب ابن القيم هذا القول إلى الجمهور (¬9). وقيل: الأصل في العقود والشروط البطلان والتحريم إلا ما نص الشرع على ¬
• دليل من قال: الأصل في العقود الصحة
جوازه، وهذا مذهب ابن حزم رحمه الله تعالى (¬1). قال ابن تيمية: "وكثير من أصول أبي حنيفة تنبني على هذا، وكثير من أصول الشافعي، وأصول طائفة من أصحاب مالك وأحمد" (¬2). وهذا الكلام من ابن تيمية كأنه ينسب هذا المذهب إلى جمهور الفقهاء وحتى لا يفهم منه أن مذهب الجمهور مطابق لقول ابن حزم، استدرك ذلك بقوله: إلا أن "هؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر، ويتوسعون في الشروط أكثر منهم؛ لقولهم بالقياس، والمعاني، وآثار الصحابة، ولما يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر" (¬3). • دليل من قال: الأصل في العقود الصحة الدليل الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8]. ومن السنة أحاديث كثيرة، منها: (ح-353) ما رواه البخاري حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج (¬4). ¬
• وجه الاستدلال منها
(ح-354) ومنها ما رواه البخاري من طريق الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق عن عبد الله بن عمرو، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر (¬1). فذم الغدر، وكل من شرط شرطًا، ثم نقضه فقد غدر. • وجه الاستدلال منها: أن النصوص السابقة دلت على الأمر بالوفاء بالعهود، والشروط، والمواثيق، والعقود، وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، وعلى النهي عن الغدر، ونقض العهود والخيانة، والتشديد على من يفعل ذلك، ولو كان الأصل فيها الحظر والفساد إلا ما أباحه الشرع لم يجز أن يؤمر بها مطلقًا، ويذم من نقضها وغدر مطلقًا. كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع، أو أوجبه لم يجز أن يؤمر بقتل النفوس، ويحمل على القدر المباح، بخلاف ما كان جنسه واجبًا كالصلاة والزكاة فإنه يؤمر به مطلقًا، وإن كان لذلك شروط وموانع، فينهى عن الصلاة بغير طهارة، وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك، وكذلك الصدق في الحديث مأمور به، وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض، ويجب السكوت والتعريض، وإذا كان حسن الوفاء ورعاية العهد مأمورًا به، علم أن الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده، ومقصوده: هو الوفاء به، وإذا كان الشرع قد أمر بمقصود العهود، دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة (¬2). ¬
وأجيب
وأجيب: بأن الأمر بالوفاء بالعقود والعهود إنما هو مخصوص في عقد، أو عهد جاء الشرع بالإلزام به، بدليل أنها لا تشمل الأمر بالوفاء بالعقود والعهود التي نهى الشرع عنها. ورد هذا الجواب: بأن هذا التخصيص لا وجه له، بل يدخل فيها كل عقد وعهد نص الشارع على الوفاء به بخصوصه، كما يدخل فيها العقود والعهود التي لم ينص الشارع على الوفاء بها بخصوصها، ولم ينهنا عن الوفاء بها، لدخولها في العموم، فأين النص على إخراجها من عموم النص، فلا يخصص النصوص الشرعية ولا يقيد ما أطلقه الشارع إلا بنص منه، فكما أن قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238]، يدخل فيه جميع الصلوات المفروضة، وقوله {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، ليس مخصصًا لما أطلق من عموم الصلوات، نعم ما نهينا عنه بخصوصه كالصلاة في المقبرة مثلًا يخرج من العموم، فكذلك القول في العقود، فالعقود التي نهينا عنها بخصوصها غير داخلة لخروجها من العموم بالمخصص، والتي لم ننه عنها داخلة في عموم الأمر بالوفاء بالعقود، ولا يحتاج النص على آحادها، لأن هذا أمر يطول. الدليل الثاني: " الأمور قسمان: عبادات ومعاملات، فالعبادات الأصل فيها التحريم؛ لأن التعبد لابد فيه من الإذن الشرعي على فعله، ولهذا ذم الله - سبحانه وتعالى - المشركين الذين شرعوا لهم دينًا من قبل أنفسهم، فقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
الدليل الثالث
وأما المعاملات فالأصل فيها الحل، حتى يأتي دليل شرعي يمنع من ذلك لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، فالبيع مطلق يشمل كل بيع إلا ما دل الدليل الخاص على تحريمه. وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. فلم يشترط إلا مجرد الرضى. فإذا كانت العقود والشروط من باب الأفعال العادية، فالأصل فيها عدم التحريم، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم، كما أن الأعيان الأصل فيها عدم التحريم، وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]، عام في الأعيان والأفعال، وإذا لم تكن حرامًا لم تكن فاسدة؛ لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم، وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة، وأيضًا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط إلا ما ثبت حله بعينه" (¬1). الدليل الثالث: (ح-355) ما رواه الترمذي من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حرامًا. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح (¬2). ¬
[ضعيفٌ] (¬1). ¬
وأجيب بجوابين
وأجيب بجوابين: الأول: أن الحديث ضعيف، فلا يصح الاحتجاج به. ورد هذا الجواب: بأنه وإن كان ضعيفًا في نفسه، فإن له طرقًا يتقوى بها، وممن رأى هذا الرأي ابن تيمية (¬1). ¬
الجواب الثاني
والصحيح أنه لا حجة فيه، وتكفي الأدلة السابقة للاحتجاج على أن العقود والشروط الأصل فيها الحل إلا ما خالف الشرع، أو خالف مقتضى العقد كما سيأتي مزيد إيضاح له في بحث الشروط في البيع. الجواب الثاني: أن شروط المسلمين في الحديث هي الشروط التي نص الشارع على جوازها، وقد نص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط. وسوف يأتي الجواب عن هذا الحديث عند الكلام على أدلة ابن حزم رحمه الله تعالى. • دليل من قال: الأصل فيها الحظر. الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]. وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]. وجه الاستدلال: فإذا كان الله قد أكمل لنا ديننا، ولم يفرط في الكتاب بترك الأشياء التي يحتاج إليها المسلمون، كان ذلك دليلًا على أن الشروط التي يحتاج إليها المسلمون، وتكون مباحة في حكم الله هي الشروط التي جاءت النصوص صريحة في إباحتها، كما لو اشترط رهنًا في البيع، أو اشترط الخيار لمدة معينة، أو اشترط عدم الخديعة، ونحو ذلك مما جاءت به النصوص، فإن لم يكن هذا الشرط منصوصًا على إباحته بعينه لم يكن من الشروط المباحة. ويجاب عن ذلك: أنه ليس في إباحة إنشاء عقد، والالتزام به، أو اشتراط شرط، ووجوب
الدليل الثاني
الوفاء به زيادة في دين الله؛ لأن دين الله هو الذي أثبت ذلك، ودل عليه، كما أن إباحة طعام ما، لم يأت نص من الشرع على إباحته بخصوصه، لا يدل على تحليل ما حرم الله؛ لأن المحرم من الأطعمة منصوص عليه، وما عداه فهو حلال، فكذلك العقود والشروط المحدثة الأصل فيها الحل حتى يأتي نهي من الشرع يدل على تحريمها، وكمال الدين وإتمام النعمة يدخل فيه توضيح القواعد العامة التي يتخرج عليها فروع كثيرة، ومنها حل العقود والشروط التي لم ينص عليها الشارع، كما بينا ذلك في أدلة القول الأول. الدليل الثاني: قوله تعالي: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14]. وجه الاستدلال: أن كل عقد أو شرط لم يأت نص في إباحته فالقول بجوازه تعد لحدود الله. وأجيب: بأن تعدي حدود الله إنما يكون في تحريم ما أحله الله، أو في إباحة ما حرمه الله، أو في إسقاط ما أوجبه الله، أما إباحة ما سكت عنه، وعفا عنه فليس فيه تعد لحدود الله، بل تحريم مثل ذلك المسكوت عنه هو من تعدي حدوده. الدليل الثالث: (ح-356) من السنة ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة مرفوعًا في قصة عتق بريرة من حديث طويل، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ما بال أقوام
ويجاب عن ذلك من وجوه
يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق (¬1). وفي رواية: من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن شرط مائة شرط (¬2). فهذه الأخبار براهين قاطعة في إبطال كل عهد، وكل عقد، وكل وعد، وكل شرط ليس في كتاب الله الأمر به، أو النص على إباحة عقده؛ لأن العقود والعهود والأوعاد شروط، واسم الشرط يقع على جميع ذلك (¬3). ويجاب عن ذلك من وجوه: الأول: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل شرط ليس في كتاب الله) المقصود بالشرط هنا: هو المشروط، كما يقال: درهم ضرب الأمير: أي مضروب الأمير، ومعناه: من اشترط شيئًا لم يبحه الله، أو من اشترط ما ينافي كتاب الله لقوله: (كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق) أي كتاب الله أحق من هذا الشرط، وشرط الله أوثق منه، وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه، بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى، وأما إذا لم يكن الشرط مما حرمه الله فلم يخالف كتاب الله وشرطه، حتى يقال: كتاب الله أحق، وشرطه أوثق. الوجه الثاني: أن المقصود بقوله: (ليس في كتاب الله) أي في حكم الله، بدليل أن الحكم بالولاء لمن أعتق ليس منصوصًا عليه في كتاب الله، وإنما هو مما جاءت به السنة، ¬
الوجه الثالث
وقد دلت العمومات من الكتاب والسنة على أن الأصل في العقود، والشروط الإباحة، فيصدق على الشروط التي لم يحرمها الشرع أنها في كتاب الله. الوجه الثالث: أن قوله في الحديث: (ليس في كتاب الله) يشمل ما ليس في كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه، فإذا قيل: هذا في كتاب الله، فإنه يشمل ما هو فيه بالعموم والخصوص، بدليل أن الشرط الذي ثبت جوازه بالسنة، أو بالإجماع صحيح بالاتفاق، فيجب أن يكون في كتاب الله، وقد ذكرنا في أدلة القول الأول الأدلة على جواز العقود والشروط التي لم يحرمها الشرع، فتكون إباحتها في كتاب الله، سواء جاء النص على إباحتها بعمومها، أو بخصوصها، وسواء كان حكم الإباحة في كتاب الله، أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله قد أمرنا باتياع السنة، فتكون إباحتها في كتاب الله بهذا الاعتبار (¬1). الدليل الرابع: هذا العاقد، أو المشترط شيئًا ليس في كتاب الله النص على إباحته لا ينفك من أحد أربعة أوجه لا خامس لها أصلًا: إما أن يكون التزم فيه إباحة ما حرمه الله تعالى، أو التزم فيه تحريم ما أباحه الله تعالى، أو التزم إسقاط ما أوجبه الله تعالى، أو أوجب على نفسه ما لم يوجبه الله تعالى، وكل هذه الوجوه الأربعة تعد لحدود الله، وخروج عن الدين. وأجيب: بأن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله، ولا يحرم ما أباحه الله، فإن ¬
الراجح من الخلاف
شرطه يكون حينئذ إبطالًا لحكم الله، وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله، وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبًا بدونه، فمقصود الشروط: وجوب ما لم يكن واجبًا، ولا حرامًا، وعدم الإيجاب ليس نفيًا للإيجاب حتى يكون المشترط مناقضًا للشرع، وكل شرط صحيح فلابد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبًا، أو يبيح لكل منهما أو لأحدهما ما لم يكن مباحًا، أو يحرم على كل منهما أو على أحدهما ما لم يكن حرامًا، وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين، وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهنًا، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها، فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك، وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط، قال: لأنها إما أن تبيح حراما، أو تحرم حلالًا، أو توجب ساقطًا، أو تسقط واجبًا، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع، وقد وردت شبهة عند بعض الناس حتى توهم أن هذا الحديث متناقض، وليس كذلك، بل كل ما كان حراما بدون الشرط، فالشرط لا يبيحه كالزنا، وكالوطء في ملك الغير، وكثبوت الولاء لغير المعتق ونحوها، وأما ما كان مباحًا بدون الشرط، فالشرط يوجبه ولا مانع، كالزيادة في مهر المثل، والرهن، وتأخير الاستيفاء، فإذا شرطه صار واجبًا، ولا يجب بغير الشرط (¬1). • الراجح من الخلاف: القول الذي لا يسع الناس غيره، أن العقود والشروط الأصل فيها الحل حتى يثبت دليل على التحريم، والقول بالمنع فيه تضييق بلا حجة أو برهان، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث الشرط العرفي كالشرط اللفظي أو المعروف عرفا كالمشروط شرطا
المبحث الثالث الشرط العرفي كالشرط اللفظي أو المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا يتعين تحكيم العرف في عقود المعاوضات، سواء في بيان المقصود من ألفاظهم، أو فيما تعارفوا عليه من الشروط، فإذا كان عرف الناس على أن المهر يقسم إلى قسمين: مقدم ومؤخر، كما هو الحال اليوم في بعض البلاد الإسلامية، كان المؤخر في حكم المشروط ولو لم يذكر في العقد؛ لأن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. قال الإِمام البخاري - رحمه الله - في صحيحه في كتاب البيوع: باب: من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع، والإجارة، والمكيال، والوزن، وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة" (¬1). وقال الطبري: "إن الحكم بين المسلمين في معاملاتهم وأخذهم وإعطائهم على المتعارف المستعمل بينهم" (¬2). وأما النصوص عن الحنفية رحمهم الله تعالى، فقد قال الكاساني: "العرف إنما يعتبر في معاملات الناس فيكون دلالة على غرضهم" (¬3). ¬
وقال السرخسي: "الثابت بدلالة العرف كالثابت بدلالة النص" (¬1). وقال أيضًا: "الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي" (¬2). وقال أيضًا: "مطلق العقد يتقيد بدلالة العرف" (¬3). وقال أيضًا: "الثابت بالعرف كالثابت بالشرط" (¬4). وقال في مجمع الأنهر: "الأحكام تبتنى على العرف، فيعتبر في كل إقليم وفي كل مصر عرف أهله" (¬5). وفي مجلة الأحكام العدلية: "التعيين بالعرف كالتعيين بالنص" (¬6). وفيها أيضًا: "المعروف بين التجار كالمشروط بينهم" (¬7). وأما النصوص عن المالكية: فقال في المعيار المعرب: "العرف أحد أصول الشرع" (¬8). وفيه أيضًا: "تنزيل العقود المطلقة على العوائد المتعارفة أصل من أصول الشريعة" (¬9). وقال ابن العربي في أحكام القرآن: "وما جرى به العرف فهو كالشرط حسبما ¬
بيناه في أصول الفقه، من أن العرف والعادة أصل من أصول الشريعة، يقضى به في الأحكام" (¬1). وأما النصوص عن الشافعية رحمهم الله: فقال الماوردي في الحاوي الكبير: "العرف المعتاد يجري في العقود مجرى الشرط" (¬2). وقال العز بن عبد السلام: "الإتلاف بالإذن العرفى منزل منزلة الإتلاف بالإذن اللفظي" (¬3). وقال ابن حجر الهيتمي: "العبرة في العقود إنما هو بعرف المتعاقدين" (¬4). وقال النووي: "الله تعالى أحل البيع، ولم يثبت في الشرع لفظ له، فوجب الرجوع إلى العرف، فكل ما عده الناس بيعًا كان بيعا، كما في القبض، والحرز، وإحياء الموات، وغير ذلك من الألفاظ المطلقة فإنها كلها تحمل على العرف" (¬5). وقال السيوطي: "كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له فيه، ولا في اللغة، يرجع فيه إلى العرف" (¬6). وأما النصوص عن الحنابلة، قال ابن قدامة: "العرف الجاري يقوم مقام القول" (¬7). ¬
الدليل على اعتبار العرف في العقود.
وقال أيضًا: "إطلاق العقد يقتضي المتعارف، فصار كالمشروط" (¬1). وقال أيضًا: "الإذن العرفي يقوم مقام الإذن الحقيقي" (¬2). وقال ابن تيمية: "الشرط العرفي كالشرط اللفظي" (¬3). وقال ابن القيم: "المشروط عرفًا كالمشروط لفظًا" (¬4). وقال أيضًا: "جرى العرف مجرى النطق في أكثر من مائة موضع ... " ثم ذكر أمثلة كثيرة على ذلك، منها نقد البلد في المعاملات، ودخول الحمام وإن لم يعقد عقد إجارة مع صاحبه (¬5). ولو كتبت النصوص التي اجتمعت لي باعتبار العرف في العقود والشروط لجاء كتيبًا لطيفًا، ويكفي منه ما أشرت إليه فيما تقدم. الدليل على اعتبار العرف في العقود. الدليل الأول: قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وقال سبحانه: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ} [النساء: 4]. ولم يجعل لحصول التراضي وطيب النفس لفظًا معينًا لا في الشرع، ولا في اللغة، فكان المرجع فيما لم يجعل له حد في الشرع، ولا في اللغة إلى العرف. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن الله - سبحانه وتعالى - لم يقدر بعض الحقوق، وإنما جعل تقديرها راجعًا إلى عرف الناس، وهذا دليل على تحكيم العرف. قال تعالى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]. قال ابن تيمية: "الصواب المقطوع به عند جمهور العلماء أن نفقة الزوجة مرجعها إلى العرف، وليست مقدرة بالشرع، بل تختلف باختلاف أحوال البلد والأزمنة، وحال الزوجين وعادتهما، فإن الله تعالى يقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف (¬1). وقال: ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" (¬2) (¬3). وقال تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 236]. وكل مطلقة لها على زوجها أن يمتعها ويعطيها ما يناسبها ويناسب حاله وحالها، وهذا يرجع إلى العرف، وهو يختلف باختلاف الأحوال. وقال تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]. ¬
الدليل الثالث
وليس هناك ضابط لمعرفة المتوسط إلا بالعرف والعادة. الدليل الثالث: قدمت في المسألة السابقة الأدلة على أن المقاصد والمعاني معتبرة في العقود، ومقدمة على ظاهر اللفظ، ولا شك أن العرف يحدد مقصود المتعاقدين؛ لأن عامة الناس ممن يشتغل بالتجارة قد لا يعرف الحقائق اللغوية والشرعية للألفاظ، ولكن عامتهم يعرفون الحقائق العرفية لجريانها بينهم.
الفصل الأول الشروط الصحيحة المعتبرة في العقود
الفصل الأول الشروط الصحيحة المعتبرة في العقود المبحث الأول اشتراط ما يقتضيه العقد تعريف هذا الشرط: قال ابن نجيم: "معنى كون الشرط يقتضيه العقد: أن يجب بالعقد من غير شرط" (¬1). فهو شرط لازم مستحق بموجب العقد سواء ذكر في العقد أو لم يذكر، فذكره لا ينفع العقد، وعدم ذكره لا يضره، وإنما ذكره يأتي من باب البيان والتوكيد ليس إلا. مثال الشروط التي يقتضيها العقد: قال الكاساني: "وأما الشرط الذي يقتضيه العقد. كما إذا اشترى بشرط أن يتملك المبيع، أو باع بشرط أن يتملك الثمن، أو باع بشرط أن يحبس المبيع، أو اشترى على أن يسلم المبيع، أو اشترى جارية على أن تخدمه، أو دابة على أن يركبها، أو ثوبا على أن يلبسه، أو حنطة في سنبلها، وشرط الحصاد على البائع، ونحو ذلك فالبيع جائز؛ لأن البيع يقتضي هذه المذكورات من غير شرط، فكان ذكرها في معرض الشرط تقريرًا لمقتضى العقد، فلا توجب فساد العقد" (¬2). ¬
حكم اشتراط مثل هذا الشرط
حكم اشتراط مثل هذا الشرط: [م - 395] اتفق الأئمة الأربعة رحمهم الله بأن كل شرط يقتضيه العقد فهو شرط صحيح، لازم، تترتب عليه آثاره الشرعية (¬1)، وحكي الإجماع على صحته، وإليك بعض النصوص عنهم: "قال المازري: الشروط ثلاثة: شرط يقتضيه العقد، كالتسليم، والتصرف، فلا خلاف في جوازه، ولزومه، وإن لم يشترط" (¬2). قال ابن القيم: "إنَّ شَرْط ما يقتضيه العقد أو ما هو من مصلحته، كالرهن، والتأجيل، والضمين، والنقد، جائز بلا خلاف، تعددت الشروط أو اتحدت" (¬3). وقال في مطالب أولي النهى: "ويصح شرط كل ما يقتضيه العقد بلا نزاع" (¬4). ¬
الفصل الثاني اشتراط صفة لازمة مباحة في المعقود عليه
الفصل الثاني اشتراط صفة لازمة مباحة في المعقود عليه [م - 396] من الشروط الصحيحة اشتراط صفة لازمة مباحة في المعقود عليه. مثال ذلك: كأن يشترط المشتري أن يكون الطير معلمًا، وأن تكون الأرض زراعية، أو رملية، أو أن تكون الأرض مستوية، أو أن تكون السيارة مكيفة، أو غيرها من الصفات اللازمة. فقد اتفق الأئمة على صحة اشتراط مثل هذا الشرط (¬1). واستدلوا على صحة مثل هذا الشرط بما يلي: الدليل الأول: الإجماع على صحة مثل هذا الشرط. قال النووي: "الضرب الثاني: أن يشترط ما لا يقتضيه إطلاق العقد، لكن فيه مصلحة للعاقد ... كشرط كون العبد المبيع خياطًا، أو كاتبًا، ونحوه، فلا يبطل العقد أيضًا بلا خلاف، بل يصح، ويثبت المشروط" (¬2). وقال ابن قدامة: "والشروط تنقسم إلى أربعة أقسام ... الثاني: تتعلق به ¬
الدليل الثاني
مصلحة العاقدين، كالأجل، والخيار ... أو اشتراط صفة مقصودة في المبيع كالصناعة، والكتابة، ونحوها، فهذا شرط جائز، يلزم الوفاء به، ولا نعلم في صحة هذين القسمين خلافًا" (¬1). وقال في الإنصاف: "الثاني: شرط من مصلحة العقد كاشتراط صفة في الثمن، كتأجيله ... أو صفة في المبيع نحو كون العبد كاتبًا، أو خصيًا، أو صانعًا، أو مسلمًا، أو الأمة بكرًا، أو الدابة هملاجة، والفهد صيودًا، فيصح الشرط بلا نزاع" (¬2). الدليل الثاني: (ح-357) ما رواه الترمذي من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح (¬3). [ضعيف] (¬4). الدليل الثالث: أن هذا الشرط بهذه الصفة ما هو إلا التزام أمر موجود عند العقد، لا يتوقف على إنشاء أمر مستقبل، فيصح (¬5). ¬
الفرع الأول اشتراط الحمل في الدابة
الفرع الأول اشتراط الحمل في الدابة [م - 397] اختلف العلماء في بيع الحيوان بشرط الحمل على أربعة أقوال: القول الأول: لا يجوز، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، ومذهب المالكية (¬2)، وقول مرجوح في مذهب الشافعية (¬3). القول الثاني: يصح الشرط، وهو رواية الحسن بن زياد، عن أبي حنيفة (¬4)، وهو أصح القولين في مذهب الشافعية (¬5)، وهو مذهب الحنابلة (¬6). القول الثالث: يصح اشتراطه في الجارية، ولا يصح في غيرها، وهو قول في مذهب الحنفية (¬7)، وقول في مذهب الشافعية (¬8). ¬
القول الرابع
القول الرابع: اشتراط الحمل يصح بشرط أن يكون الحمل ظاهرًا، ويقصد به البراءة من الحمل، وهذا مذهب المالكية (¬1). وقد ذكرنا أدلة هذه المسألة، وبيان الراجح في مسائل تتعلق بالحيوان الحامل، من ذلك بيع الحيوان الحامل، وبيع الحمل وحده، وحكم استثناء الحمل من الصفقة، واشتراط الحمل في الدابة، فأغنى عن إعادته هنا، فالحمد لله على توفيقه. وقد رجحت القول بصحة اشتراط الحمل مطلقًا في البهائم والجواري؛ لأن المشتري لا يشترط صفة في الحمل يمكن أن يقال: إنه يصعب الوقوف عليها، كما لو اشترط كون الحمل أنثى، أو ذكرًا، وإنما يشترط كون الدابة حاملًا، ومعرفة هذا أمر بين يعرفه أدنى من له خبرة في البيع والشراء بالدواب، وإذا لم يكن هناك حمل يكون للمشتري الخيار كما لو اشترى شيئًا موصوفاً فلم يجد الصفة التي اشترطها في المبيع. ¬
الفرع الثاني في اشتراط أن تكون الدابة ذات لبن
الفرع الثاني في اشتراط أن تكون الدابة ذات لبن [م - 398] إذا اشترط المشتري أن تكون الدابة لبونًا، أو حلوبًا، فهل يصح اشتراط مثل ذلك الشرط؟ اختلف العلماء في هذا على قولين: القول الأول: الشرط صحيح، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والراجح في مذهب الشافعية (¬3)، والمشهور في مذهب الحنابلة (¬4). القول الثاني: لا يجوز، اختاره بعض الحنفية (¬5)، وقول مرجوح في مذهب الشافعية (¬6). تعليل من قال: الشرط صحيح: اشتراط كونها لبونًا صفة مقصودة يمكن التحقق منها، وتأخذ حصة من ¬
دليل من قال: لا يصح الشرط
الثمن، وللمشتري في ذلك غرض صحيح، وتختلف الرغبات باختلاف ذلك، فلا مانع من اشتراطه، ولو لم يصح اشتراط مثل ذلك لفاتت الحكمة التي من أجلها شرع البيع. دليل من قال: لا يصح الشرط: لم يفرق هذا القول بين اشتراط أنها تحلب كذا وكذا، وبين اشتراط كونها حلوبًا، لأن اللبن في حقيقته زيادة مال منفصل، ولا تكون لبونًا أو حلوبًا إلا به، وتلك الزيادة مجهولة، فيصير كما لو اشترى الدابة على أنها حامل (¬1). ويناقش: بأن هناك فرقًا كبيرًا بين اشتراط أن تحلب الدابة مقدارًا معينًا لا يمكن ضمان مثله، خاصة أن الدابة يتغير لبنها في اليوم، وذلك بحسب المكان والطعام بخلاف اشتراط كونها ذات لبن، فيصدق الشرط عرفًا على الكمية المعتادة. وأما المنع من اشتراط اللبن قياسًا على اشتراط الحمل، فلم يسلم الحكم في المقيس عليه حتى يسلم الحكم في المقيس، فالراجح أنه لا يمنع من اشتراط كون الدابة حاملًا، وعلى تقدير أن اشتراط الحمل لا يصح فإن هناك فرقًا، وذلك أن اللبن يمكن التحقق من وجوده، بخلاف الحمل. ¬
الفرع الثالث في اشتراط أن يكون الحيوان معلما
الفرع الثالث في اشتراط أن يكون الحيوان معلمًا [م - 399] اختلف الفقهاء فيمن اشترى كالسباع والطيور التي تصلح للصيد، واشترط كونها معلمة، أو اشترى دابة، واشترط أن تكون هملاجة: القول الأول: الشرط صحيح، وهو مذهب الحنابلة قولًا واحدًا (¬1)، واختاره من الحنفية أبو يوسف (¬2)، وإحدى الروايتين عن محمَّد (¬3). القول الثاني: لا يصح اشتراط الاصطياد، وهو القول الثاني لمحمد بن الحسن (¬4). وجه من قال: يجوز الاشتراط: قالوا: تعليم السباع الاصطياد مباح ليس بمحظور، فأشبه شرط الكتابة في العبد، والطبخ في الجارية. ولأنه شرط يمكن الوقوف عليه، بأن يأخذ المصيد فيمسكه على صاحبه، فلا يكون في اشتراطه خطر، ولا غرر. ¬
تعليل محمد بن الحسن بأنه لا يجوز اشتراط الصيد في الحيوان.
تعليل محمَّد بن الحسن بأنه لا يجوز اشتراط الصيد في الحيوان. اشتراط الاصطياد فيه غرر، إذ لا يمكن الوقوف عليه إلا بالاصطياد، والجبر عليه غير ممكن، ولأن الجبر عليه فيه تعذيب للحيوان، وتعذيب الحيوان لا يجوز. الراجح: القول بالجواز هو الراجح، لقوة تعليله، وضعف تعليل المانع من الجواز.
الفرع الرابع في اشتراط التصويت في الطير ونقل الرسائل
الفرع الرابع في اشتراط التصويت في الطير ونقل الرسائل [م - 400] لو اشترى قمرية على أنها تصوت، أو طيرًا على أنه يجيء من مكان بعيد، فهل يصح الشرط؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأول: ذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجوز اشتراط ذلك، وهو إحدى الروايتين عن محمَّد بن الحسن، واختاره أبو يعلى من الحنابلة (¬1). قال في البدائع: "ولو اشترى قمرية على أنها تصوت، أو طيرًا على أنه يجيء من مكان بعيد، أو كبشًا على أنه نطاح، أو ديكًا على أنه مقاتل (¬2)، فالبيع فاسد عند أبي حنيفة - رحمه الله -، وهو إحدى الروايتين عن محمَّد - رحمه الله -؛ لأنه شرط فيه غرر، والوقوف عليه غير ممكن؛ لأنه لا يحتمل الجبر عليه، فصار كشرط الحبل؛ ولأن هذه صفات يتلهى بها عادة، والتلهي محظور، فكان هذا شرطًا محظورًا، فيوجب فساد البيع" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب الحنابلة إلى جواز اشتراط مثل ذلك (¬1). وقال محمَّد بن الحسن: إذا باع قمرية على أنها تصوت، فإذا صوتت جاز البيع (¬2). دليل من قال بالجواز: التصويت في الحيوان مقصود، واشتراطه غرض صحيح، ولا يؤدي اشتراطه إلى غرر؛ إذ يمكن الوقوف عليه، فهو كاشتراط الصيد في الحيوان، والهملاجة في الدابة. وأما محمَّد بن الحسن فإنه اشترط لجواز البيع أن تصوت، وعلل ذلك: بأنها لما صوتت علم أنها مصوتة، فانتفى الغرر. قال الكاساني: وعلى هذه الرواية، قالوا في المحرم إذا قتل قمرية مصوتة: أنه يضمن قيمتها مصوتة (¬3). الراجح: جواز الاشتراط؛ لأن الأصل في الشروط الصحة والجواز، فلا يحرم منها إلا ما خالف نصًا، أو كان محرمًا في ذاته، أو خالف مقتضى العقد، وهو ما لم يتوفر هنا. ¬
الفصل الثالث من الشروط الصحيحة اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولا ينافيه
الفصل الثالث من الشروط الصحيحة اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولا ينافيه المبحث الأول بيان معنى هذا الشرط قولنا: (لا يقتضيه العقد): أي أن هذا الشرط إذا أطلق العقد لا يقتضيه، فلا يستحق بمجرد العقد، فلابد من اشتراطه في العقد حتى يقتضيه، فإذا لم يذكر في العقد لم يستحق العاقد المطالبة به أو بعبارة أخرى: العقد يقتضي الإطلاق في التصرف والتخيير، بينما الشرط يقتضي الإلزام والتقييد، ومن هذا جاء أن هذا الشرط لا يقتضيه إطلاق العقد. وقولنا: (لا ينافيه) أي لا ينافي مقتضى العقد، فمقتضى العقد أن يملك المشتري المبيع، ويملك البائع الثمن، فإذا اشترط عليه شرطًا ينافي هذه الملكية أصبح الشرط منافيًا لمقتضى العقد، كما لو اشترط عليه ألا ينتفع بالمبيع، وكذلك لو شرط المشتري أن لا خسارة عليه، فهذا الشرط ينافي مقتضى العقد، فالشرط الذي نحن بصدده: هو شرط لا يقتضيه العقد، ولكن لا ينافيه. وقد أطلق الحنفية على هذا الشرط: الشرط الذي لا يقتضيه العقد، ولكنه ملائم له (¬1). ¬
وسماه المالكية: شرط لا يقتضيه العقد، ولا ينافيه، فهو من مصلحته، ولا معارض له من جهة الشرع (¬1). وعبر عنه الشافعية: بأنه الشرط الذي لا يقتضيه العقد، ولكن فيه مصلحة له (¬2). وعبر عنه الحنابلة: بأنه شرط من مصلحة العقد (¬3). وأمثلة هذا الشرط كثيرة جدًا، منها ما يتعلق بالثمن: كشرط الكفيل، وشرط الرهن. ومنها ما يتعلق بالمثمن كشرط تجربة المبيع. وقد يتعلق بهما كشرط الخيار لمدة معلومة، وشرط التأجيل لأحدهما، وسوف أفرد إن شاء الله تعالى لكل مسألة من هذه المسائل بحثًا مستقلًا، أعرض فيه كلام الفقهاء بشيء من التفصيل، وما لم يذكر فإنه مقيس على ما ذكر، أسأل الله عونه وتوفيقه، إنه ولي ذلك، والقادر عليه. ¬
المبحث الثاني في حكم اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولا ينافيه
المبحث الثاني في حكم اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولا ينافيه اشتراط ما لا يقتضيه العقد، ولا ينافيه ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: اشتراط ما فيه مصلحة تعود على العقد، كالرهن والضمان، والتأجيل، والشهادة، ونحوها. القسم الثاني: اشتراط ما ليس فيه مصلحة للعقد، كاشتراط منفعة معلومة، أو عمل في المعقود عليه، كحمل الحطب، أو خياطة الثوب، وكاشتراط سكنى الدار مدة معلومة، أو ركوب الدابة إلى مكان معين. والقسم الأول لم يقع فيه خلاف بين الفقهاء بخلاف القسم الثاني، وهذا ما سوف نتوجه لبيانه إن شاء الله من خلال الفصلين القادمين، نسأل الله عونه وتوفيقه.
الفرع الأول اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولا ينافيه وفيه مصلحة للعقد
الفرع الأول اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولا ينافيه وفيه مصلحة للعقد [م - 401] اتفق الأئمة الأربعة على أن اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولا ينافيه، أنه شرط صحيح، لازم، تترتب عليه آثاره الشرعية، وحكي الإجماع على صحته، إلا أن الحنفية أجازوه من باب الاستحسان، وإن كان مقتضى القياس عندهم أنه لا يجوز: قال في بدائع الصنائع: "وجملة الكلام في البيع بشرط إعطاء الرهن، أن الرهن لا يخلو: إما أن يكون معلومًا، أو مجهولًا، فإن كان معلومًا، فالبيع جائز استحسانًا، والقياس أن لا يجوز؛ لأن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في الأصل، وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى العقد فكان مفسدًا، إلا أنا استحسنا الجواز؛ لأن هذا الشرط لو كان مخالفًا مقتضى العقد صورة، فهو موافق له معنى؛ لأن الرهن بالثمن شرع توثيقًا للثمن، وكذا الكفالة، فإن حق البائع يتأكد بالرهن والكفالة، فكان كل واحد منهما مقررًا لمقتضى العقد معنى، فأشبه اشتراط صفة الجودة للثمن، وأنه لا يوجب فساد العقد، فكذا هذا ... " (¬1). وقال أيضًا: "وكذلك البيع بشرط إعطاء الكفيل، أن الكفيل إن كان حاضرًا في المجلس، وقبل، جاز البيع استحسانًا" (¬2). فجعل الجواز من قبيل الاستحسان، لا من قبيل القياس. ¬
ويناقش
وقال أيضًا: "ولو اشترى شيئًا على أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام، فلا بيع بيننا، فالقياس أن لا يجوز هذا البيع، وهو قول زفر - رحمه الله -، وفي الاستحسان جائز" (¬1). ويناقش: بأن القول بأن اشتراط مثل ذلك يخالف القياس فيه نظر كبير؛ لأن البائع أو المشتري إذا اشترط ما فيه منفعة له مقصودة، ولم يكن هذا الشرط ينافي مقتضى العقد، وكانت الحاجة داعية إلى اشتراط مثل ذلك، فأين القول بأنه يخالف القياس، فمن حق البائع أن يطلب رهنًا؛ لأن تسليم الثمن واجب على المشتري، فإذا كان دفع الثمن سوف يتأخر، فمن أين له أن يضمن حقه إذا لم يطلب رهنًا بذلك، فاشتراط الرهن أو الضمان يؤكد ما يجب بالعقد، وما كان كذلك كان القياس جوازه، ولذلك قال الكاساني الحنفي: "الشرط الذي لا يقتضيه العقد، لكنه ملائم للعقد، لا يوجب فساد العقد أيضًا؛ لأنه مقرر لحكم العقد من حيث المعنى، مؤكد إياه ... " (¬2). وأما سائر الأئمة، فقد رأوا جوازه، ولكن ليس من باب الاستحسان (¬3). الأدلة على جواز اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولا ينافيه: الدليل الأول: دل القرآن الكريم على جواز اشتراط الرهن، ومثله مقيس عليه: ¬
قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. جاء في شرح ميارة: "اشتراط البائع في الثمن المؤجل، أو المعجل أن يعطيه فيه رهنًا، أو حميلًا، فإن ذلك كله جائز بنص الكتاب العزيز، فلا يتوهم فيه أنه من الشرط المؤثر في الثمن، وهذا شرط صحيح معمول به، وهو مما لا يقتضيه عقد البيع، ولا ينافيه، وفيه مصلحة للبائع" (¬1). وقال الشيرازي: "فإن شرط ما لا يقتضيه العقد، ولكن فيه مصلحة كالخيار، والأجل، والرهن، والضمين، لم يبطل العقد؛ لأن الشرع ورد بذلك ... " (¬2). والدليل على أن الشرع قد ورد بمثل ذلك، ما جاء في كتاب الله من جواز اشتراط تأجيل الثمن، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. (ح-358) وروى البخاري من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يهودي طعامًا بنسيئة، ورهنه درعه (¬3). ودلت السنة على جواز اشتراط الخيار لأحد المتعاقدين: (ح-359) فقد روى البخاري من طريق عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، أن رجلًا ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يخدع في البيوع، فقال: إذا بايعت فقل: لا خلابة (¬4). ¬
الدليل الثاني
فدل الحديث على جواز أن يشترط المشتري عند العقد مثل هذا الشرط، ويكون له الخيار في فسخ العقد أو إمضائه إذا ثبت أنه قد غُبِنَ في البيع. الدليل الثاني: نقل بعض العلماء الإجماع على جواز اشتراط ما لا يقتضيه العقد، ولا ينافيه. قال النووي: "الضرب الثاني: أن يشترط ما لا يقتضيه إطلاق العقد، لكن فيه مصلحة للعاقد، كخيار الثلاث، والأجل، والرهن، والضمين، والشهادة، ونحوها ... فلا يبطل العقد بلا خلاف، بل يصح، ويثبت المشروط" (¬1). وقال ابن القيم: "الأمة مجمعة على جواز اشتراط الرهن، والكفيل، والضمين، والتأجيل، والخيار ثلاثة أيام" (¬2). وحكى الحافظ في الفتح الإجماع على اشتراط ما فيه مصلحة كالرهن (¬3). الدليل الثالث: الحاجة تدعو إلى اشتراط مثل ذلك، وقد علل به الشيرازي من الشافعية (¬4)، ولا يترتب على اشتراطه محذور شرعي، فكان القياس جوازه. ¬
المطلب الأول في اشتراط الرهن في العقد
المطلب الأول في اشتراط الرهن في العقد [م - 402] اشتراط الرهن في العقد من الشروط الصحيحة، والتي دل على صحتها الكتاب والسنة، والإجماع. أما الكتاب: فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. ثم قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الآية. ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. قال الجصاص: إذا عدمتم التوثق بالكتاب والإشهاد، فالوثيقة برهان مقبوضة" (¬1). (ح-360) وأما السنة فقد روى البخاري من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يهودي طعامًا بنسيئة، ورهنه درعه (¬2). وأما دليل الإجماع على جواز الرهن، فقد حكاه جمع من أهل العلم. جاء في العناية في شرح الهداية: "الأمة اجتمعت على جوازه -يعني الرهن- من غير نكير" (¬3). ¬
وقال الحطاب في مواهب الجليل: "ثبت -يعني الرهن- بالكتاب، والسنة، والإجماع" (¬1). قال الشافعي: "لا أعلم مخالفًا في إجازته" (¬2). يعني الرهن. وقال ابن قدامة: "أجمع المسلمون على جواز الرهن في الجملة" (¬3). ¬
المطلب الثاني في اشتراط الكفيل في العقد
المطلب الثاني في اشتراط الكفيل في العقد [م - 403] اشتراط الكفيل ويقال له: (الضمين، والحميل، والقبيل، والزعيم) (¬1)، اشتراط مثل هذا في العقد يعتبر من الشروط الصحيحة التي دل على صحتها الكتاب والسنة، والإجماع. أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]. (ح-361) وأما السنة، فمنها ما رواه البخاري من طريق أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بجنازة، ليصلي عليها، فقال: هل عليه دين؟ قالوا: لا. فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أخرى، فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: نعم. قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: علي دينه يا رسول الله، فصلى عليه (¬2). وأما الإجماع فقد قال في رد المحتار: "ودليلها -يعني الكفالة- الإجماع" (¬3). وجاء في درر الحكام: "مشروعية الكفالة بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة" (¬4). ¬
وقال ابن قدامة: "أجمع المسلمون على جواز الضمان في الجملة" (¬1). وقال البهوتي: "الضمان جائز إجماعًا في الجملة" (¬2). كما أن الحاجة داعية إليه، فقد لا يطمئن البائع إلى المشتري، فيحتاج إلى من يكفله بالثمن، أو لا يطمئن المشتري إلى البائع، فيحتاج إلى من يكفله في المبيع (¬3). ¬
المطلب الثالث اشتراط التأجيل في العقد
المطلب الثالث اشتراط التأجيل في العقد قال الماوردي: الآجال لا تثبت في العقود إلا بشرط كالأثمان (¬1). اشتراط الأجل في البيع تكلمنا عنه حين الكلام على تأجيل الثمن، في مباحث أحكام الثمن، وذكرنا تعريفه، وحكمه، إلا أننا هنا نتكلم عن التأجيل بإطلاق، سواء كان للمبيع أو للثمن، لأن التأجيل تارة يكون للمبيع، وتارة يكون التأجيل بتسليم الثمن. فاشتراط الأجل في تسليم المبيع (كالسلم) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم". فالمؤجل هنا المبيع دون الثمن. وأما اشتراط الأجل بتسليم الثمن، كما لو اشترى رجل سلعة بثمن مؤجل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. واشتراط التأجيل في العقود من الشروط الصحيحة المعتبرة، ولكن أجازها الفقهاء بشروط، سوف نعرض لها في المباحث التالية، نسأل الله - سبحانه وتعالى - عونه وتوفيقه. الشرط الأول: أن يكون العوضان مما لا يجري فيهما ربا النسيئة، فإن كان مما يجري فيهما ربا النسيئة حرم التأجيل، وذلك كما لو باع دراهم بدراهم، أو باع برًا بشعير. ¬
الدليل الأول
قال النووي: وقد أجمع العلماء على تحريم بيع الذهب بالذهب أو بالفضة مؤجلًا، وكذلك الحنطة بالحنطة أو بالشعير" (¬1). ومستند الإجماع أحاديث كثيرة في الصحيحين وفي غيرها، منها: الدليل الأول: (ح-362) ما رواه البخاري ومسلم من طريق الزهري، عن مالك بن أوس، سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء (¬2). (ح-363) ومنها: ما رواه الشيخان من طريق أبي الأشعث عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد (¬3). (ح-364) ومنها ما رواه البخاري بإسناده، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز (¬4). ¬
الشرط الثاني
وانظر ربا النسيئة في كتاب الربا من هذا الكتاب لمعرفة الأموال التي يجري فيها ربا النسيئة. الشرط الثاني: يشترط في المؤجل عند الجمهور أن يكون دينًا موصوفًا في الذمة، فلا يجوز التأجيل في المعقود عليه (ثمنًا، أو مثمنًا) إذا كان معينًا. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. فالآية تدل على جواز التأجيل في الديون، ولم يرد في النصوص ما يشير إلى جواز تأجيل الأعيان، ولهذا قال الكاساني في البدائع "التأجيل يلائم الديون، ولا يلائم الأعيان" (¬1). وقال ابن عابدين: "الأعيان لا تقبل التأجيل" (¬2). وفي درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "يصح البيع بتأجيل الثمن وتقسيطه بشرط أن يكون ... دينًا لا عينًا" (¬3). وقال الرملي: "الأعيان لا تقبل التأجيل ثمنًا، ولا مثمنًا" (¬4). وقال ابن رشد في بداية المجتهد: "وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الأعيان إلى أجل، وأن من شرطها تسليم المبيع إلى المبتاع بأثر الصفقة" (¬5). ¬
وجاء في المجموع: "قال أصحابنا: إنما يجوز الأجل إذا كان العوض في الذمة، فأما إذا أجل تسليم المبيع أو الثمن المعين، بأن قال: اشتريت بهذه الدراهم على أن أسلمها في وقت كذا، فالعقد باطل" (¬1). وعلل الحنفية والشافعية المنع من التأجيل في المعين بأنه إنما شرع الأجل لتحصيل المبيع، فإذا كان معينًا فقد تم تحصيله فلا حاجة له. قال في العناية: "الأجل في المبيع العين باطل لإفضائه إلى تحصيل الحاصل، فإنه شرع ترفيهًا في تحصيله باتساع المدة، فإذا كان المبيع أو الثمن حاصلًا كان الأجل لتحصيل الحاصل ... " (¬2). وقال السيوطي: "الأجل شرع رفقًا للتحصيل، والمعين حاصل" (¬3). وعلل السمرقندي بأن الأجل في المعين لا يفيد، فقال: "ومنها: أن يشترط الأجل في المبيع العين، أو الثمن العين؛ لأن الأجل في الأعيان لا يفيد، فلا يصح، فيكون شرطًا لا يقتضيه العقد، فيفسد البيع" (¬4). وهذا الكلام ليس على إطلاقه، وإذا جاز على الصحيح: أن يبيع الدار ويستثني سكناها مدة معينة، وهذا يقتضي عدم تسليم المعين، كما تجوز الإجارة على مدة لا تلي العقد على الصحيح، وهذا يعني تأخير تسليم المعين. وأجاز ابن القاسم كراء الدابة المعينة تقبض بعد شهر (¬5). ¬
الشرط الثالث
فإذا جاز كل ذلك جاز تأجيل المعين، وسيأتي مزيد بحث إن شاء الله تعالى في اشتراط منفعة في المبيع لمدة معلومة، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. الشرط الثالث: يشترط لتأجيل الثمن أن تكون السلعة حالة أو معينة، حتى لا يؤدي ذلك إلى بيع الدين بالدين. "قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن بيع الدين بالدين لا يجوز، وقال أحمد: إنما هو إجماع ... " (¬1). وقال ابن تيمية: "ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، والكالئ: هو المؤخر الذي لم يقبض، بالمؤخر الذي لم يقبض، وهذا كما لو أسلم شيئًا في شيء في الذمة، وكلاهما مؤخر، فهذا لا يجوز بالاتفاق، وهو بيع كالئ بكالئ" (¬2). وقد تقدم تفصيل هذه المسائل في أحكام بيع الدين بالدين عند الكلام على التصرف في الدين قبل قبضه، فأغنى عن إعادته هنا. الشرط الرابع: ألا يكون الثمن والمثمن من جنس واحد، وهذا الشرط عند الحنفية فقط، لأن الحنفية يرون تحريم النسيئة في كل ما اتحد جنسه، وإن لم يكن مكيلًا أو موزونًا، فيذهبون إلى تحريم النسيئة في بيع الثوب بالثوب، وفي بيع الحيوان بالحيوان إذا كانا من جنس واحد (¬3). ¬
ووافقهم المالكية على ذلك بشرط أن يجمع بين التفاضل والنساء، وأن تتفق الأغراض والمنافع (¬1). وخالف في ذلك الشافعية والحنابلة فلم يشترطوا ذلك في الأموال التي ليست ربوية، فأجازوا فيها التفاضل والنساء. وسوف نأتي على ذكر أدلتهم إن شاء الله تعالى في كتاب الربا، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. ¬
المطلب الرابع الأحكام المتعلقة بالأجل
المطلب الرابع الأحكام المتعلقة بالأجل المسألة الأولى أن يكون الأجل معلومًا قال الماوردي: الآجال المجهولة يبطل بها البيع (¬1). وقال السرخسي: الآجال المجهولة إذا شرطت في أصل البيع فسد بها العقد (¬2). [م - 404] اتفق الفقهاء على صحة الأجل فيما يقبل التأجيل، إذا كان الأجل معلومًا (¬3). والدليل على اشتراط معلومية الأجل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. ¬
(ح-365) ومن السنة ما رواه البخاري من طريق ابن أبي نجيح، عن عبد الله بن كثير، عن أبي المنهال عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، والناس يسلفون في التمر السنتين والثلاث فقال: من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم (¬1). ومن المعقول: أن الأجل له حصة من الثمن، والثمن يشترط علمه. فأما كيفية العلم به، فإنه يحتاج فيها إلى أن يعلم بزمان بعينه، لا يختلف من شخص إلى آخر، ومن جماعة إلى جماعة، وذلك إنما يكون إذا كان محددًا باليوم، والشهر، والسنة. وهل يشترط أن يكون الأجل بالأهلة (المشهور العربية) أو يصح بأي أجل معلوم للطرفين، وهل يصح التوقيت بالحصاد والجذاذ والعطاء، هذا ما سوف نبينه إن شاء الله من خلال المباحث التالية، نسأل الله عونه وتوفيقه. ¬
المسألة الثانية أثر الجهالة في الأجل على عقد البيع
المسألة الثانية أثر الجهالة في الأجل على عقد البيع [م - 405] اختلف الفقهاء في تأثير جهالة الأجل إذا كانت فاحشة على صحة العقد على ثلاثة أقوال: القول الأول: العقد فاسد، وهو مذهب الحنفية، بناء على تفريقهم بين العقد الفاسد والباطل (¬1). القول الثاني: العقد باطل، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). ¬
القول الثالث
القول الثالث: العقد صحيح، والشرط باطل، وهو مذهب الحنابلة (¬1). دليل من قال: العقد فاسد: أن البيع لا يقال عنه باطل؛ لأن الخلل لم يتطرق إلى ركن البيع، بل هو عقد مشروع بأصله، دون وصفه، فاستحق أن يكون فاسدًا (¬2). أما حكم البيع الفاسد: فإنه ينفذ بمجرد زوال صفة الفساد، ولا ينتج أثرًا قبل القبض، وأما إذا تم القبض بإذن البائع، فإنه يفيد الملك، ويضمن بالقيمة لا بالمسمى (¬3). وقد بحثت الفرق بين العقد الفاسد والعقد الباطل في مسألة مستقلة، وقارنت بين مذهب الحنفية وبين مذهب الجمهور، في أول الكتاب، وبينت الراجح، فأغنى عن إعادته هنا. تعليل من قال: العقد باطل: التعليل الأول: الجهالة بالشرط تؤدي إلى الجهالة بالثمن، وذلك أن اشتراط الأجل يؤثر بالثمن، فكل ما كان توقيت الأجل بعيدًا كل ما زادت قيمة السلعة، والعكس بالعكس، فإذا كان الأجل مجهولًا أدى ذلك إلى جهالة بالثمن. ¬
التعليل الثاني
التعليل الثاني: أن الجهالة بالشرط نوع من الغرر، ويفضي إلى التنازع، فقطع ذلك ببطلان العقد. دليل الحنابلة على صحة العقد وبطلان الشرط: (ح-366) استدلوا بما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: جاءت بريرة، فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقالت عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة، وأعتقك فعلت، ويكون ولاؤك لي، فذهبت إلى أهلها فأبوا ذلك عليها ... فسمع بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألني، فأخبرته، فقال: خذيها، فأعتقيها، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق، قالت: عائشة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، ما بال رجال منكم يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، فأيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، فقضاء الله أحق، وشرط الله أوثق ... " (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبطل الشرط وحده، وأبقى على العقد صحيحًا، فدل الحديث أن الشرط في البيع إذا تطرق إليه الخلل بطل الشرط وحده، ولم يبطل العقد، ومنه مسألتنا هذه حيث تطرق الخلل إلى الشرط الذي وضعه المتعاقدان، فيبطل الشرط وحده، فوجوده كعدمه، ويصح العقد. ¬
الراجح
الراجح: لا أرى الاستدلال بحديث بريرة على بطلان الشرط وحده، وذلك أن شرط الولاء ليس شرطًا ماليًا فليس له قيمة في الشرع، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء وعن هبته، متفق عليه (¬1). فلا أرى قياس الشروط المالية على شرط غير مالي، فاشتراط الأجل له قيمة في العقد، وطوله وقصره له قيمة أيضًا، فإذا أبطلنا الشرط فلا بد أن نبطل عوضه، وإلا كيف يستحل البائع قيمة شرط لم يلتزمه، وإذا جهلنا قيمة الشرط عاد ذلك على الثمن بالجهالة، لأن عود المجهول على المعلوم يصير المعلوم مجهولًا، ولو فرض أننا عرفنا قيمة هذا الشرط، فإن للبائع أن يقول: أنا لم أرض بالثمن الجديد، ولم يخرج المبيع من ملكي إلا بالثمن الذي اتفقنا عليه، فلابد من اتفاق جديد على ثمن جديد، فيعود البطلان إلى العقد. ¬
المسألة الثالثة اشتراط أن يؤدي الثمن من بيعه
المسألة الثالثة اشتراط أن يؤدي الثمن من بيعه [م - 406] هذا الشرط قد يؤدي إلى جهالة الأجل في البيع؛ لأن تصريف المبيع قد يتحقق، وقد لا يتحقق، وإذا تحقق فقد يتحقق بعد أجل طويل، وقد يتحقق بعد أجل قصير، فتعود هذه المسألة إلى الجهالة بالأجل، وقد تكلمنا عن حكم البيع إذا كان الأجل المشروط مجهولًا في المسألة المتقدمة. وقد نص الحنفية على هذه المسألة بخصوصها: جاء في البحر الرائق: "ولو اشتراه على أن يؤدي الثمن من بيعه فهو فاسد إن شرط" (¬1). ¬
المسألة الرابعة في اشتراط أن يكون الأجل بالشهور العربية
المسألة الرابعة في اشتراط أن يكون الأجل بالشهور العربية [م - 407] ذهب الشافعي إلا أن الأجل لا يكون معلومًا إلا إذا حدد بالأهلة (الشهور الهجرية)، وما سواه يعتبر مجهولًا (¬1)، وهو اختيار الخرقي، وابن أبي موسى من الحنابلة (¬2). واختار بعض الحنفية إلى أنه لا يجوز التأجيل إلى النيروز، والمهرجان، وصوم النصارى (¬3). وذهب المالكية (¬4)، وجمهور الشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6)، وبعض الحنفية (¬7)، ¬
دليل من قال: لا يعلم التحديد إلا بالأهلة (الشهور الهجرية).
إلى أن الأجل المعلوم هو الأجل المحدد المعروف للطرفين، سواء أكان مقدرًا بالأهلة، أم بشهور الروم، أم بغيرها مما هو معلوم للطرفين. دليل من قال: لا يعلم التحديد إلا بالأهلة (الشهور الهجرية). الدليل الأول: قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. وقال سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]. وقال أيضًا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]. وقال أيضًا: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]. وجه الاستدلال: قال الشافعي: "أعلم الله -سبحانه وتعالى- بالأهلة جمل المواقيت، وبالأهلة مواقيت الأيام من الأهلة، ولم يجعل علمًا لأهل الإسلام إلا بها، فمن أعلم بغيرها، فبغير ما أعلم الله" (¬1). وقال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]. فهذه الآية تدل على أن التوقيت بالأهلة منذ خلق الله السموات والأرض، وقوله: (عند الله) أي في حكمه وشرعه. الدليل الثاني: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. ¬
وجه الدلالة
وجه الدلالة: قال الشافعي: "الأجل المسمى ما لا يختلف، والعلم يحيط أن الحصاد والجذاذ يتأخران ويتقدمان بقدر عطش الأرض وريها، وبقدر برد الأرض والسنة وحرها، ولم يجعل الله فيما استأخر أجلًا إلا معلومًا، والعطاء إلى السلطان يتقدم ويتأخر، وفصح النصارى عندي يخالف حساب الإسلام وما أعلم الله به، فقد يكون عامًا في شهر، وعامًا في غيره، فلو أجزناه إليه أجزناه على أمر مجهول، فكره؛ لأنه مجهول" (¬1). الدليل الثالث: أن التأجيل بحساب النصارى "خلاف ما أمر الله به ورسوله أن نتأجل فيه، ولم يجز فيه إلا قول النصارى، على حساب يقيسون فيه أيامًا، فكنا إنما أعلمنا في ديننا بشهادة النصارى، الذي لا نجيز شهادتهم على شيء، وهذا عندنا غير حلال لأحد من المسلمين" (¬2). مناقشة هذه الأدلة: الاستدلال بالآيات تدل على أن الأهلة مواقيت، وهذا لا خلاف فيه، ولا يوجد في الآيات ما يدل على أنه لا يوجد مواقيت إلا الأهلة، وبينهما فرق. والقول بأن التحديد بتقويم النصارى يؤدي إلى التحديد بمجهول غير مسلم؛ فالحس شاهد على أن التقويم الميلادي منضبط كالتقويم الهجري. والمزارعون اليوم لهم تقويم وحساب يتعلق بزراعة الأرض وحرثها، وحصادها، وهي أيام منضبطة، معلومة من السنة، وليست قائمة على الأهلة. ¬
دليل الجمهور على جواز التحديد بكل ما هو معلوم.
وأما رد تلك التقاويم باعتبارها ليست إسلامية، فالمجال هنا لا يتعلق بالعبادات، ولا يتعلق بالأفضل، ولا نطالب بأن يجعل التقويم الميلادي بديلًا عن التقويم الهجري، ولكن الأمر يتعلق بعقد فيه أجل، وكان الأجل قد حدد بالتقويم الميلادي، فهل يتجرأ أحد على إفساد العقد بالقول بأن التأجيل في مثل هذا مجهول أو حرام؟ دليل الجمهور على جواز التحديد بكل ما هو معلوم. الدليل الأول: قوله تعالى: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282]. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: من أسلف في شيء، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم (¬1). وجه الدلالة: لم يرد دليل في كتاب الله ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجوب التوقيت بالأهلة، بل النصوص لم تشترط إلا أن يكون الأجل مسمى، وأن يكون معلومًا للمتعاقدين، بأي وسيلة كانت، سواء كان ذلك بالأهلة، أو بالتقويم الميلادي، أو بغيرها من الآجال المعلومة. فالأجل المعلوم: كل ما يعرفه الناس فهو معلوم، بل إن التقويم الهجري في غالب البلاد الإسلامية لا يعرفونه، فلو قال قائل: إن الأجل فيه قد يصيره مجهولًا بالنظر إلى المتعاقدين لم يكن بعيدًا. ¬
الراجح
الراجح: مذهب الجمهور أقوى من حيث الاستدلال، ولذلك أكثر الشافعية لم يعتمدوا ما ورد في الأم، وأجازوا التوقيت بالأشهر غير العربية إذا كانت منضبطة لا تتقدم، ولا تتأخر، ومعروفة لدى المتعاقدين، كما بينت ذلك من خلال عرض الأقوال، والله أعلم.
المسألة الخامسة إذا حدد التأجيل بالشهر وأطلق فلم يعين
المسألة الخامسة إذا حدد التأجيل بالشهر وأطلق فلم يعين [م - 408] إذا جعل أحد المتعاقدين الأجل بالأشهر، ولم يبين المراد منها. فذهب الأئمة إلى أن الأشهر في هذه الحالة تنصرف إلى الأشهر الهلالية (¬1)؛ لأن الشهور في عرف الشارع هي الشهور الهلالية، قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]. قال في تحفة المحتاج: "وإن اطرد عرفهم بخلافه؛ لأنه عرف الشرع" (¬2). قلت: ينبغي أن يقيد ذلك بأن لا يعارضه عرف، فإن الحقيقة العرفية في المعاملات مقدمة على الحقيقة اللغوية والشرعية؛ لأن المتبع هو ما يفهمه المتعاقدان مما تعارفا عليه، وكان معبرًا عن إرادتهما بوضوح لا لبس فيه، ولا إشكال. ¬
المسألة السادسة في التأجيل إلى الحصاد والجذاذ
المسألة السادسة في التأجيل إلى الحصاد والجذاذ [م - 409] اختلف العلماء في الأجل إلى الحصاد والجذاذ، هل هو أجل معلوم، أو يعتبر الأجل مجهولًا؟ فقيل: لا يجوز التأجيل بالحصاد والجذاذ، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختيار ابن حزم (¬4). وقيل: بل يجوز، وهو مذهب المالكية (¬5)، وبه قال أبو ثور، وابن أبي ليلى (¬6)، وهو وراية عن الإمام (¬7)، وصوبه في الإنصاف (¬8). دليل من قال: لا يجوز التأجيل إلى الحصاد والجذاذ. الدليل الأول: (ث-60) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن عبد الكريم الجزري، عن ¬
الدليل الثاني
عكرمة، عن ابن عباس، أنه كره إلى الأندر والعصير، والعطاء أن يسلف إليه، ولكن يسمي شهرًا (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثاني: أن هذه الآجال قد تتقدم، وقد تتأخر فهي تختلف من موسم لآخر، بحسب الأمطار واعتدال المناخ، فيؤدي التأجيل بمثل ذلك إلى الجهالة والغرر المفضيان إلى المنازعة والخصام. الدليل الثالث: أن الآجال المعتبرة في الشرع ما كان في الأوقات دون الأفعال، لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. فالآية تدل على أن أعلام الآجال يكون بما لا يتقدم، ولا يتأخر من الأيام والشهور، فأما ما يتقدم ويتأخر من أفعال العباد فإنه لا يجوز التوقيت فيه لكونه مجهولًا. دليل من قال: يجوز التأجيل إلى الحصاد والجذاذ: الدليل الأول: (ح-367) ما رواه أحمد من طريق جرير -يعني ابن حازم- عن محمَّد -يعتي ابن إسحاق- عن أبي سفيان، عن مسلم بن جبير، عن عمرو بن حريش، ¬
قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت: إنا بأرض ليس بها دينار، ولا درهم، وإنما نبايع بالإبل والغنم إلى أجل، فما ترى في ذلك؟ قال: على الخبير سقطت، جهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشًا على إبل من إبل الصدقة، فنفدت، وبقي ناس، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اشتر لنا إبلًا بقلائص من إبل الصدقة إذا جاءت حتى نؤديها إليهم، فاشتريت البعير بالاثنين، والثلاث من قلائص، حتى فرغت، فأدى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إبل الصدقة (¬1). وفي لفظ أبي داود: فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة (¬2). [حسن] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: إذا جاز البيع إلى إبل الصدقة، جاز التأجيل إلى العطاء والحصاد والجذاذ، فهذه آجال معروف معلومة في العادة، وعلى تقدير أن فيها تقديمًا أو تأخيرًا فإنه يسير جدًا، والغرر اليسير مغتفر في الشريعة، فليس كل غرر يبطل العقد، كما بينا ذلك عند الكلام على حكم الغرر. الراجح: بعد استعراض الخلاف، أجد أن القول الذي أميل إليه هو القول بجواز التأجيل إلى الحصاد، والجذاذ، ويكون وقت حلول الأجل كما قال المالكية: وقت تعاظم الحصاد والجذاذ، والتفاوت اليسير من عام لآخر يعتبر من التفاوت المغتفر لحقارته، والله أعلم.
الفرع الثاني اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولا ينافيه وليس فيه مصلحة للعقد
الفرع الثاني اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولا ينافيه وليس فيه مصلحة للعقد [م - 410] بعض الفقهاء يبحث هذا الشرط تحت مسمى (اشتراط البائع أو المشتري منفعة معينة، أو القيام بعمل معلوم في المعقود عليه) ولا مشاحة في الاصطلاح، ويمثل الفقهاء لهذه المسألة فيما لو باع رجل بيته واستثنى سكناه مدة معلومة، أو باع الدابة، واشترط ركوبها إلى مكان معين. وهذا الشرط فيه نفع للبائع. وقد يكون النفع للمشتري كما لو اشترى حطبًا واشترط على البائع حمله إلى بيته، أو اشترط تكسيره، أو اشترى ثوبًا، واشترط المشتري على البائع خياطته. وهذه الشروط ليس فيها مصلحة ترجع للعقد كالرهن والضمان والتأجيل، وإن كان فيه مصلحة للعاقد، وهذا بديهي، لأن أي شرط يضعه أحد العاقدين فلابد فيه من مصلحة ما ترجع إليه، وإلا لما تكلف اشتراطه، المهم أن شرط حمل الحطب لا يرجع إلى عقد شراء الحطب بمصلحة، فهما عقدان مستقلان: عقد بيع، وعقد إجارة جمعا في عقد واحد، وكان عقد الإجارة مشروطًا في عقد البيع، فهذا الشرط هو ما سميناه: شرط لا يقتضيه العقد، ولا ينافيه، وليس فيه مصلحة للعقد. وقد اختلف العلماء في صحة مثل هذا الشرط على قولين: القول الأول: الشرط صحيح لازم، وهذا مذهب المالكية (¬1)، ...... ¬
القول الثاني
والحنابلة (¬1). قال البخاري في صحيحه: باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز (¬2). القول الثاني: الشرط باطل، ثم اختلفوا: فقيل: الشرط والعقد فاسدان، وهذا مذهب الحنفية (¬3)، ... ¬
الشرط الأول
والشافعية (¬1)، ورواية في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: الشرط باطل، والعقد صحيح، حكاه الطحاوي (¬3). والقائلون بالصحة قالوا ذلك بشروط، منها: الشرط الأول: أن تكون المنفعة المستثناة مباحة، فإن كانت محرمة فلا يجوز الاستثناء، كما لو باع أمة، واشترط الاستمتاع بها، فهذا لا يجوز. الشرط الثاني: أن تكون المدة المستثناة مدة يسيرة، لا يتغير فيها المبيع غالبًا، وهذا الشرط نص عليه المالكية. ¬
الشرط الثالث: أن تكون المنفعة المستثناة معلومة.
جاء في البيان والتحصيل: "وسئل عن رجل يبيع الدار بثمن إلى أجل، على أن يسكن الدار سنة، أترى الدين بالدين يدخل هذا؟ فقال: أما السكنى القريب، والأشهر اليسيرة فلا بأس به، قال: وقد سمعت مالكًا وربما خفف السنة، وهو أبعد ذلك عندي. قال محمَّد بن رشد: لم يخفف إلا الأشهر والسنة، وكره ما هو أبعد من ذلك ... وإنما كره مالك أن يستثني سكنى أكثر من السنة؛ لأنه رأى أن الدار يتغير بناؤها إلى هذه المدة، فلا يدري المشتري كيف ترجع إليه الدار التي اشترى، فهذا هو الأصل في هذه المسألة، أنه يجوز للبائع أن يستثني من المدة ما يؤمن تغيير بناء الدار فيها" (¬1). وأجاز أبو ثور أن يستثني سكنى الدار مدة مسماة أو دهره كله، وخدمة العبد كذلك، وركوب الدابة كذلك. وعلل ذلك بأن الأصل له والمنافع له، فباع ما شاء، وأمسك ما شاء (¬2). الشرط الثالث: أن تكون المنفعة المستثناة معلومة. وعلل ذلك ابن قدامة بقوله: "لأننا نزلنا ذلك منزلة الإجارة، فلو اشترط حمل الحطب إلى منزله، والبائع لا يعرف منزله، لم يصح" (¬3). دليل من قال: لا يصح للبائع أن يستثني منفعة في المبيع مدة معلومة. الدليل الأول: (ح-368) روى مسلم -رحمه الله- في صحيحه من طريق أيوب، عن أبي الزبير، ¬
ويجاب
وسعيد بن ميناء عن جابر - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، والمعاومة، وقال الآخر: بيع السنين، وعن الثنيا، ورخص في العرايا (¬1). ويجاب: بأن النهى عن الثنيا المطلق في رواية مسلم ينبغي أن يقيد بالثنيا المجهولة؛ لأن استثناء المجهول يصير المعلوم مجهولًا، وأما الاستثناء إذا كان معلومًا فلا حرج في استثنائه، والله أعلم. الدليل الثاني: علل الكاساني الفساد بقوله: "زيادة منفعة مشروطة في البيع، تكون ربا؛ لأنها زيادة لا يقابلها عوض في عقد البيع، وهو تفسير الربا، والبيع الذي فيه الربا فاسد" (¬2). ¬
ويناقش
ويناقش: بأن هذا التعليل عليل، فليس في الموضوع ربا، ولا شبهة الربا، وذلك أن البيع إذا كان فيه اشتراط كان ذلك محسوبًا من قيمة السلعة، فإن قيمة السلعة التي يتأخر تسليمها عن وقت العقد ليست كقيمة السلعة التي تسلم حالًا، وهذا معروف، فإذا اشترط سكناها لمدة شهر اختلفت قيمتها فيما لو استثناها لمدة سنة، مما يجعل هذه المنفعة المستثناة لها قيمة في السلعة، وعلى فرض ألا يكون لها قيمة، فإن الاستثناء أقوى من الابتداء، فإذا جاز تأجيل الثمن مدة معلومة، جاز تأجيل تسليم السلعة مدة معلومة، والانتفاع بها مدة التأجيل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فليست كل زيادة تكون ربا، لأن الربا: هو زيادة في أموال مخصوصة، أو نسأ في أموال مخصوصة، وليست كل زيادة؛ تكون من باب الربا. الدليل الثالث: أن اشتراط منفعة الدار يلزم منه تأجيل تسليم العين، والتأجيل إنما يصح في الديون، ولا يصح في الأعيان. قال السرخسي: "هذا شرط أجل في العين، والعين لا تقبل الأجل" (¬1). ويناقش: إذا صح أن يؤجل تسليم العين إلى أن يحضر الثمن، وصح أن ترهن العين في مقابل تأجيل الثمن، وهو تأجيل للعين، فما المانع أن يصح التأجيل في الأعيان، ثم إن هذا التعليل نظر في مقابل النص، فيكون فاسدًا، فقد باع جابر جمله، واستثنى ظهره إلى المدينة، فدل على جواز التأجيل في الأعيان. ¬
الدليل الرابع
وقال ابن القيم: "بعض أصحاب الإمام أحمد يقول: إذا استثنى منفعة المبيع فلابد أن يسلم العين إلى المشتري ثم يأخذها ليستوفي المنفعة، بناء على هذا الأصل الذي قد تبين فساده، وهو أنه لابد من استحقاق القبض عقيب العقد، وعن هذا الأصل قالوا: لا تصح الإجارة إلا على مدة تلي العقد، وعلى هذا بنوا ما إذا باع العين المؤجرة؛ فمنهم من أبطل البيع لكون المنفعة لا تدخل في البيع فلا يحصل التسليم، ومنهم من قال: هذا مستثنى بالشرع، بخلاف المستثنى بالشرط، وقد اتفق الأئمة على صحة بيع الأمة المزوجة وإن كانت منفعة البضع للزوج، ولم تدخل في البيع، واتفقوا على جواز تأخير التسليم إذا كان العرف يقتضيه كما إذا باع مخزنًا له فيه متاع كثير، لا ينقل في يوم ولا أيام، فلا يجب عليه جمع دواب البلد ونقله في ساعة واحدة، بل قالوا: هذا مستثنى بالعرف، فيقال: وهذا من أقوى الحجج عليكم، فإن المستثنى بالشرط أقوى من المستثنى بالعرف، كما أنه أوسع من المستثنى بالشرع؛ فإنه يثبت بالشرط ما لا يثبت بالشرع، كما أن الواجب بالنذر أوسع من الواجب بالشرع" (¬1). الدليل الرابع: قال العيني في عمدة القارئ: "أبطل أبو حنفية البيع والشرط، وأخذ بعموم نهيه عن بيع وشرط". والنهي عن بيع وشرط. (ح-369) رواه الطبراني في المعجم، الأوسط، قال: حدثنا عبد الله بن أيوب القربي، قال: أخبرنا محمَّد بن سليمان الذهلي، قال: أخبرنا عبد الوارث بن سعيد، قال: قدمت مكة، فوجدت فيها أبا حنيفة، ¬
وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، فسألت أبا حنيفة، قلت: ما تقول في رجل باع بيعًا وشرط شرطًا، قال: البيع باطل، والشرط باطل، ثم أتيت ابن أبي ليلى، فسألته، فقال: البيع جائز، والشرط باطل، ثم أتيت ابن شبرمة، فسألته، فقال: البيع جائز، والشرط جائز. فقلت: يا سبحان الله، ثلاثة من فقهاء العراق اختلفتم علي في مسألة واحدة، فأتيت أبا حنيفة، فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط. البيع باطل، والشرط باطل. ثم أتيت ابن أبي ليلى، فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أشتري بريرة، فأعتقها. البيع جائز، والشرط باطل. ثم أتيت ابن شبرمة، فأخبرته، فقال: ما أدري ما قالا، حدثني مسعر بن كدام، عن محارب بن دثار، عن جابر بن عبد الله، قال: بعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة، وشرط لي حملانه إلى المدينة. البيع جائز، والشرط جائز (¬1). [ضعيف جدًا، ومتنه منكر، فالمحفوظ عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، بلفظ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شرطين في بيع] (¬2). ¬
الوجه الأول
والجواب من وجهين: الوجه الأول: أن الحديث ضعيف جدًا، قال ابن تيمية: "هذا حديث باطل، وليس في شيء من كتب المسلمين، وإنما يروى في حكايات منقطعة" (¬1). وقال أيضًا: "يروى في حكاية عن أبي حنيفة، وابن أبي ليلى، وشريك، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط، وقد ذكره جماعات من المصنفين في الفقه، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث، وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء، وذكروا أنه لا يعرف، وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه" (¬2). الوجه الثاني: إذا كان اشتراط صفة قائمة في المعقود عليه تجوز إجماعًا، ولا تعتبر من قبيل النهي عن بيع وشرط، لم يكن استثناء منفعة معلومة من قبيل النهي عن بيع وشرط. قال ابن تيمية: "أجمع العلماء المعروفون من غير خلاف أعلمه عن غيرهم، أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه -كاشتراط كون العبد كاتبًا، أو صانعًا، أو اشتراط طول الثوب، أو قدر الأرض، ونحو ذلك- شرط صحيح" (¬3). الدليل الخامس: " احتج بعضهم: بأن الركوب إن كان من مال المشتري، فالبيع فاسد؛ لأن البائع شرط لنفسه ما قد ملكه المشتري، وإن كان من ماله، ففاسد؛ لأن ¬
وتعقب
المشتري لم يملك المنافع بعد البيع من جهة البائع، وإنما ملكها لأنها طرأت في ملكه. وتعقب: بأن المنفعة المذكورة قدرت بقدر من ثمن المبيع، ووقع البيع بما عداها، ونظيره: من باع نخلًا قد أبرت، واستثنى ثمرتها، والممتنع إنما هو استثناء شيء مجهول للبائع والمشتري، أما لو علماه معًا فلا مانع ... " (¬1). الدليل السادس: قالوا: إذا اشترى الحطب واشترط عليه حمله، أو اشترى الدار، واشترط عليه سكناها لمدة معلومة أدخل الثمن في حد الجهالة، فيبطل العقد وهكذا الشأن في كل شرط يدخل الثمن في حد الجهالة فإنه يبطل العقد. وجه ذلك: أنه إذا قال له: بعتك هذا الثوب بعشرة على أن تخيطه لي، أو قال: بعتك هذا الحطب بعشرة على أن تحمله لي، فإن العشرة التي هي الثمن: تنقسم على الثوب (المبيع) وعلى أجرة خياطته، وعلى قيمة الحطب (المبيع)، وعلى أجرة حمله، فلا يدرى كم حصة المبيع من الثمن وكم حصة الإجارة، فيؤدي ذلك إلى أن يكون الثمن مجهولًا، وكل شرط يدخل الثمن في حد الجهالة فإنه يبطل العقد، وكذا كل عقد جمع بيعًا وإجارة فسبيله في الفساد هذا السبيل (¬2). ¬
ويناقش
ويناقش: بأن الثمن في مثل ذلك معلوم، ولم يدخله هذا الشرط في حد الجهالة، كل ما هنالك أن ثمن المبيع وثمن الإجارة جمعا بثمن واحد، ولم يفرق الثمن على الصفقة، وهذا لا يضر، ولو صحت دعوى الجهالة في مثل هذا لقيل: لا يجوز بيع سلعتين بثمن واحد؛ لأننا لا نعلم قيمة كل سلعة على انفراد، ولم يقل أحد بأنه لا يجوز بيع السلعتين فأكثر بثمن واحد، وإذا احتيج إلى معرفة قيمة المبيع من قيمة الإجارة فرق الثمن عليهما، وأهل السوق يعرفون قيمة السلعة من قيمة الإجارة. دليل من قال: يصح البيع والشرط: الدليل الأول: من الكتاب، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. وقوله تعالي: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34]. الدليل الثاني: (ح-370) ما رواه البخاري من طريق زكريا، قال: سمعت عامرًا يقول، حدثني جابر - رضي الله عنه -، أنه كان يسير على جمل له قد أعيا، فمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فضربه، فدعا له، فسار سيرًا ليس يسير مثله، ثم قال: بعنيه بوقيه، قلت: لا، ثم قال: بعنيه بوقيه، فبعته، فاستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما قدمنا أتيته بالجمل، ونقدني ثمنه، ثم انصرفت، فأرسل على إثري، قال: ما كنت لآخذ جملك، فخذ جملك ذلك، فهو مالك (¬1). ¬
ونوقش هذا
ورواه البخاري ومسلم من طريق جرير، عن المغيرة، عن عامر (الشعبي) به، بنحوه، وفيه. "فبعته إياه على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة" (¬1). ورواه مسلم من طريق حماد، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر، وفيه: "فلحقني النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: بعنيه، فبعته بخمس أواق. قال: قلت: على أن لي ظهره إلى المدينة، قال: ولك ظهره إلى المدينة". ورواه يسار، عن الشعبي به، بلفظ: "فاشترى مني بعيرًا على أن لي ظهره". ونوقش هذا: بأن الحديث قد روي بألفاظ مختلفة بعضها لا يدل على الاشتراط. من ذلك لفظ شعبة، عن مغيرة، عن عامر، عن جابر: "أفقرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظهره إلى المدينة" (¬2). ورواه أبو عوانة عن مغيرة به، بلفظ: "بعنيه، ولك ظهره حتى تقدم" رواه النسائي (¬3). ورواه مسلم من طريق ابن أبي زائدة، عن ابن جريج، عن عطاء عن جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: قد أخذت جملك بأربعة دنانير، ولك ظهره إلى المدينة (¬4). ¬
وكل هذه الطرق ليس فيها دلالة على الاشتراط. قال ابن عبد البر: "اضطراب ألفاظ الناقلين لخبر جابر في ذلك كثير" (¬1). وأجاب الطحاوي عن حديث جابر من وجهين: الأول: أن الاستثناء حدث بعد تمام البيع، فلم يكن الاستثناء مشروطًا في عقدته. الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعطيه الثمن، ولم يرد حقيقة البيع. قال الطحاوي: "وجه هذا الحديث أن البيع إنما كان على ما كانت عليه المساومة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم كان الاستثناء للركوب من بعد، فكان ذلك الاستثناء مفصولًا من البيع، لأنه إنما كان بعده، فليس في ذلك حجة تدلنا كيف حكم البيع، لو كان ذلك الاستثناء مشروطًا في عقدته، هل هو كذلك أم لا؟ وأما الحجة الأخرى، فإن جابرًا - رضي الله عنه - قال: لما قدمت المدينة، أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبعير، فقلت: هذا بعيرك يا رسول الله. قال: لعلك ترى أني إنما ماكستك لأذهب ببعيرك، يا بلال أعطه أوقية، وخذ بعيرك فهما لك. فدل ذلك أن ذلك القول الأول لم يكن على التبايع. فلو ثبت أن الاشتراط للركوب، كان في أصله بعد ثبوت هذه العلة، لم يكن في هذا الحديث حجة؛ لأن المشترط فيه ذلك الشرط لم يكن بيعًا؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يكن ملك البعير على جابر، فكان اشتراط جابر للركوب اشتراطًا فيما هو له مالك. فليس في هذا دليل على حكم ذلك الشرط لو وقع في بيع يوجب الملك للمشتري، كيف كان حكمه؟ " (¬2). ¬
ويجاب عن ذلك
ويجاب عن ذلك: أما الجواب عن دعوى الاضطراب: فيقال: لو انفرد راوٍ بذكر الاستثناء على طريقة الاشتراط لقلت: إن هذا الطريق شاذ، ولكن كونه ورد من أكثر من طريق وبعضها في الصحيحين، أو في أحدهما، وكلها تدل على أن الاستثناء ورد على طريق الاشتراط، فالطرق الأخرى، والتي لا تدل على الشرطية لا بد أنها رويت بالمعنى، ولابد من المصير إلى ذلك؛ لأن القصة واحدة، وجاءت بألفاظ مختلفة، ولا تحتمل التعدد، وقوله: (ولك ظهره إلى المدينة) لا ينافي الاشتراط، فقد ورد اللفظان معًا في بعض الطرق، فقد رواه مسلم، بلفظ: "فبعته بخمس أواق. قال: قلت: على أن لي ظهره إلى المدينة، قال: ولك ظهره إلى المدينة". وقد قال الحافظ ابن حجر: "والحاصل أن الذين ذكروه بصيغة الاشتراط أكثر عددًا من الذين خالفوهم، وهذا وجه من وجوه الترجيح، فيكون أصح، ويترجح أيضًا بأن الذين رووه بصيغة الاشتراط معهم زيادة، وهم حفاظ، فتكون حجة، وليست رواية من لم يذكر الاشتراط منافية لرواية من ذكره؛ لأن قوله: ولك ظهره، وأفقرناك ظهره، وتبلغ عليه، لا يمنع وقوع الاشتراط قبل ذلك ... " (¬1). وقال أيضًا: "وما جنح إليه المصنف (البخاري) من ترجيح رواية الاشتراط هو البخاري على طريقة المحققين من أهل الحديث؛ لأنهم لا يتوقفون عن تصحيح المتن إذا وقع فيه الاختلاف إلا إذا تكافأت الروايات، وهو شرط الاضطراب الذي يرد به الخبر، وهو مفقود هنا مع إمكان الترجيح. قال ابن دقيق العيد: إذا اختلفت الروايات، وكانت الحجة ببعضها دون ¬
وأما الجواب بأن الرسول لم يرد حقيقة البيع
بعض، توقف الاحتجاج بشرط تعادل الروايات، أما إذا وقع الترجيح لبعضها بأن تكون رواتها أكثر عددًا، أو أتقن حفظًا، فيتعين العمل بالراجح؛ إذ الأضعف لا يكون مانعًا من العمل بالأقوى، والمرجوح لا يمنع التمسك بالراجح ... " (¬1). وأما الجواب بأن الرسول لم يرد حقيقة البيع: فنقول: نعم، وهذه كانت نية مبيتة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يبدها لجابر إلا عند وصوله إلى المدينة، وجابر قد اعتقد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يريد حقيقة الشراء، وعامله بهذه النية، فكانت صورة البيع صورة مشروعة، تمت فيها أركان البيع وشروطه، وكانت المساومة بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجابر محفوظة في هذا الحديث، ولو كانت الصورة باطلة لبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الطريقة التي تم فيها البيع كانت صورة باطلة، ليحيط علم جابر ببطلان مثل هذا الشرط في شريعة الله، وليبلغ الأمة حتى لا تعتد بمثل هذا الشرط، فلما لم يبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - لجابر أن الشرط باطل، ولما لم يعلل الرسول - صلى الله عليه وسلم - رد الجمل بسبب أن الشرط باطل، علم أن الشرط صحيح، وإنما رده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبب آخر، وهو إرادة النفع لجابر - رضي الله عنه -. الدليل الثالث: إذا كان استثناء جزء معلوم من المبيع كما لو باع بستانه إلا شجرة واحدة معلومة يجوز بالاتفاق، فكذلك استثناء منفعة معلومة مدة معلومة من هذا الباب، فالفرق أن هذا استثناء عين، وتلك استثناء منفعة، وهذا الفارق غير مؤثر في الحكم. قال النووي: "لو قال: بعتك هذه الأشجار إلا هذه الشجرة، أو هذه الشجرة ¬
الدليل الرابع
إلا ربعها، أو الصبرة إلا ثلثها، أو بعتك بألف إلا درهما، وما أشبه ذلك من الثنيا المعلومة صح البيع باتفاق العلماء ... " (¬1). (ح-371) وقد روى البخاري من طريق مالك، عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من باع نخلًا قد أبرت، فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع (¬2). فإذا كان يصح للمشتري أن يستثني ما كان من حق البائع، جاز للبائع أن يستثني ما كان من حق المشتري، كما لو استثنى سكنى الدار، أو ركوب الدابة. أو بطريقة أخرى أن يقال: المنفعة المستثناة بالشرط لمدة معلومة صحيحة، قياسًا على المنفعة المستثناة بالشرع. الدليل الرابع: (ث-61) ما رواه أحمد من طريق سعيد بن جمهان، عن سفينة أبي عبد الرحمن، قال: أعتقتني أم سلمة، واشترطت علي أن أخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما عاش (¬3). [إسناده أرجو أن يكون حسنًا] (¬4). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: إذا صح استثناء خدمة العبد في العتق، صح استثناؤها في البيع. إلا أن هذا الدليل فيه إشكال عندي، وذلك أن استثناء نفع المبيع مدة الحياة مدة مجهولة وذلك أن أمد الحياة لا يعلمه إلا الله، فقد يطول وقد يقصر. إلا أن يقال: إن العقد عقد تبرع مشروط، ويجوز في التبرعات ما لا يجوز في المعاوضات. الدليل الخامس: ما الفرق بين أن يشري الدار، ويستثني سكناها مدة معلومة، أو الدابة ويستثني ركوبها إلى مكان معين، أو الماشية ويشترط سقيها وعلفها مدة معينة، وبين أن يشتري الثمرة قد بدا صلاحها، فيبقيها إلى الجذاذ، والتمكين من سقيها بمائها. فإذا صح أن يشتري الثمرة بشرط بقائها في ملك البائع إلى أوان جدادها، صح أن يشتري الدار، ويستثني سكناها مدة معينة (¬1). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا يحرم ولا يبطل منها إلا ما دل على تحريمه وإبطاله نص، أو قياس صحيح. دليل من قال: العقد صحيح والشرط باطل: (ح-372) استدلوا بما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنهما -، قالت: جاءت بريرة، فقالت: إن كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقالت عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة، وأعتقك فعلت، ويكون ولاؤك لي، فذهبت إلى أهلها فأبوا ذلك عليها ... فسمع بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألني، فأخبرته، فقال: خذيها، فأعتقيها، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق، قالت: عائشة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، ما بال رجال منكم يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، فأيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، فقضاء الله أحق، وشرط الله أوثق ... " (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبطل الشرط وحده، وأبقى على العقد صحيحًا. ويناقش: بأن الشرط الذي أبطله كان منافيًا لمقتضى العقد، ولذلك قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: إنما الولاء لمن أعتق، بينما هذا الشرط لا ينافي مقتضى العقد. ¬
الراجح
الراجح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها أجد أن مذهب المالكية والحنابلة أقوى دليلًا، وهو يتفق مع القول: بأن الأصل في الشروط الصحة إلا ما خالف نصًا شرعيًا، أو كان منافيًا لمقتضى العقد.
المبحث الرابع تعدد الشروط الصحيحة في المبيع
المبحث الرابع تعدد الشروط الصحيحة في المبيع [م - 411] إذا تعددت الشروط الصحيحة في العقد، فهل تؤثر في صحة العقد؟ وللجواب على ذلك، لابد من الرجوع إلى التقسيم السابق. فإن كانت تلك الشروط مما يقتضيه العقد، فلا حرج في تعددها، كما لو اشترط أحد المتعاقدين الانتفاع من المبيع، وتسليمه، والتصرف بعد تسلمه، فكل هذه الشروط هي مستحقة ولو لم تذكر، فذكرها توكيدًا وبيانًا لمقتضى العقد. وإن كانت الشروط صفات لازمة للمعقود عليه، كالصناعة والكتابة الخ فهذه الشروط لا يؤثر تعددها في العقد. وكذلك إذا كانت الشروط لا يقتضيها إطلاق العقد، ولكن تعتبر من مصلحة العقد،، كاشتراط الرهن والتأجيل، والضمان والشهادة، ونحوها فهذا لا يضر تعددها. قال ابن القيم: "إنَّ شرط ما يقتضيه العقد، أو ما هو من مصلحته كالرهن، والتأجيل، والضمين، ونقد كذا جائز بلا خلاف تعددت الشروط أو اتحدت" (¬1). وقال ابن قدامة: "إن شرط شرطين أو أكثر من مقتضى العقد أو مصلحته، مثل أن يبيعه بشرط الخيار، والتأجيل، والرهن، والضمين، أو بشرط يسلم إليه المبيع، أو الثمن فهذا لا يؤثر في العقد، وإن كثر" (¬2). ¬
القول الأول
وإن كانت الشروط مما لا يقتضيه العقد، ولا ينافيه، ولا يعتبر من مصلحة العقد، مثل حمل الحطب، وتكسيره، أو طحن الطعام، وحمله، فقد اختلف العلماء في صحة هذا الشرط على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يصح وجود شرط واحد منها في البيع، فضلًا عن وجود شرطين، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2). قال ابن القيم: "وأما أصحاب الشافعي وأبي حنيفة فلم يفرقوا بين الشرط والشرطين، وقالوا: يبطل البيع بالشرط الواحد، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وشرط ... " (¬3). القول الثاني: إن شرط شرطًا واحدًا، صح كما لو اشترى الحطب، واشترط تكسيره فقط، فإن أضاف إليه شرطاً آخر كما لو اشترط حمله وتكسيره بطل البيع، سواء أكان الشرطان صحيحين أم فاسدين، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬4). ¬
القول الثالث
القول الثالث: يصح تعدد الشروط مهما كثرت، ما دامت الشروط صحيحة، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها ابن تيمية وابن القيم (¬1). دليل من قال: لا يصح بيع وشرط: ذكرنا أدلتهم في المسألة التي قبل هذه، ومن أهمها: الدليل الأول: قالوا: إذا اشترى الحطب واشترط عليه حمله، أو اشترى الدار، واشترط عليه سكناها لمدة معلومة أدخل الثمن في حد الجهالة، فيبطل العقد، وهكذا الشأن في كل شرط يدخل الثمن في حد الجهالة فإنه يبطل العقد. وجه ذلك: أنه إذا قال له: بعتك هذا الثوب بعشرة على أن تخيطه لي، أو قال: بعتك هذا الحطب بعشرة على أن تحمله لي، فإن العشرة التي هي الثمن: تنقسم على الثوب (المبيع) وعلى أجرة خياطته، وعلى قيمة الحطب (المبيع)، وعلى أجرة حمله، فلا يدرى كم حصة المبيع من الثمن وكم حصة الإجارة، فيؤدي ذلك إلى أن يكون الثمن مجهولًا، وكل شرط يدخل الثمن في حد الجهالة فإنه يبطل العقد، وكذا كل عقد جمع بيعًا وإجارة فسبيله في الفساد هذا السبيل (¬2). ¬
ويناقش
ويناقش: بأن الثمن في مثل ذلك معلوم، ولم يدخله هذا الشرط في حد الجهالة، كل ما هنالك أن ثمن المبيع وثمن الإجارة جمعا بثمن واحد، ولم يفرق الثمن على الصفقة، وهذا لا يضر، ولو صحت دعوى الجهالة في مثل هذا لقيل: لا يجوز بيع سلعتين بثمن واحد، لأننا لا نعلم قيمة كل سلعة على انفراد، ولم يقل أحد بأنه لا يجوز بيع السلعتين فأكثر بثمن واحد، وإذا احتيج إلى معرفة قيمة المبيع من قيمة الإجارة فرق الثمن عليهما، وأهل السوق يعرفون قيمة السلعة من قيمة الإجارة. الدليل الثاني: (ح-373) ما رواه الطبراني في المعجم، الأوسط، قال: حدثنا عبد الله بن أيوب القربي، قال: أخبرنا محمَّد بن سليمان الذهلي، قال: أخبرنا عبد الوارث بن سعيد، عن أبي حنيفة، قال: حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط ... وفي الحديث قصة (¬1). وقد سبق الكلام على الحديث، والجواب عنه من عدة وجوه، ونعيدها هنا باختصار: الوجه الأول: أن الحديث ضعيف جدًا. الوجه الثاني: أن هذا الحديث مخالف للأحاديث الصحيحة الدالة على صحة الاشتراط، من ذلك: ¬
دليل من قال: يصح شرط واحد، ولا يصح شرطان.
(ح-374) ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول. من اتباع نخلًا بعد أن تؤبر، فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدًا، وله مال، فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع (¬1). فهذا الشرط ليس من مصلحة العقد، ولكن لا ينافي مقتضى العقد، فصح الاستثناء، فغيره مقيس عليه. الوجه الثالث: أنه مخالف لما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده بسند أصح من هذا السند، وفيه: أنه نهى عن شرطين في بيع. مما يدل بمفهومه على جواز الشرط الواحد. وقد أجاب عنه النووي، وسوف ننقل كلامه عند الكلام على تفسير حديث: النهي عن شرطين في بيع. الوجه الرابع: أنه لا فرق بين أن يشترط الرهن، أو الكفيل، أو الأجل، أو الخيار أو غيرها من الشروط الجائزة المجمع على جوازها، وبين أن يشترط حمل الحطب، أو تكسيره، أو خياطة الثوب، أو تقصيره، فالجامع بين الصورتين أن في كل منها بيعًا وشرطًا. وانظر بقية أدلة الشافعية والحنقية في المسألة التي قبل هذه، فقد استكملت ذكرها هناك، فأغنى عن إعادتها هنا. دليل من قال: يصح شرط واحد، ولا يصح شرطان. (ح-375) وروى أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن ¬
وجه الاستدلال
عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬1). [إسناده حسن] (¬2). وجه الاستدلال: ظاهر الحديث أنه نهى عن شرطين في بيع، والنهي يقتضي التحريم. قال ابن قدامة: "دل بمفهومه على جواز الشرط الواحد. قال أحمد: إنما نهى عن شرطين في بيع، أما الشرط الواحد فلا بأس به" (¬3). "قال القاضي في المجرد: ظاهر كلام الإمام أحمد أنه متى شرط في العقد شرطين بطل، سواء كانا صحيحين، أو فاسدين، لمصلحة العقد، أو لغير مصلحته، أخذًا بظاهر الحديث، وعملًا بعمومه" (¬4). ¬
ويناقش
ويناقش: قد اختلف العلماء في تفسير النهي عن شرطين في بيع إلى أقوال: الأول: أنه متى شرط في العقد شرطين بطل، سواء أكانا صحيحين أم فاسدين. وبهذا قال إسحاق. حكى ابن المنذر عن أحمد وإسحاق، فيمن اشترى ثوبًا، واشترط على البائع خياطته، وقصارته، أو طعامًا: واشترط طحنه وحمله، إن اشترط أحد هذه الأشياء فالبيع جائز، وإن اشترط شرطين فالبيع باطل (¬1). مناقشة هذا التفسير: القول بأنه يجوز أن يشتري الحطب بشرط حمله، أو بشرط تكسيره، فإن اشترط حمله وتكسيره فسد البيع فبعيد؛ لأن اشتراط منفعة في المبيع إن كان فاسدًا فسد الشرط، والشرطان، لا فرق بين كونه شرطًا واحدًا، وبين كونه شرطين فأكثر، وإن كان الشرط صحيحًا فأي فرق بين منفعة أو منفعتين، أو منافع؟ لاسيما والمصححون لهذا الشرط يقولون: هو عقد جمع بيعًا وإجارة، وهما معلومان، لم يتضمنا غررًا، فكانا صحيحين، وإذا كان كذلك فما الموجب لفساد الإجارة على منفعتين، وصحتها على منفعة؟ وأي فرق بين أن يشترط على بائع الحطب حمله، ونقله، أو حمله وتكسيره (¬2). فإذا كانت هذه الشروط لا تؤثر في صحة العقد، وهي منفردة، فيلزم ألا تؤثر فيه، وهي مجتمعة. ¬
التفسير الثاني للحديث
التفسير الثاني للحديث: المقصود من النهي عن شرطين في بيع: عن التردد بين النقد والنسيئة في صيغة واحدة. مثاله: أن يبيعه سلعة بألف إلى سنة، أو بألف وخمسمائة إلى سنتين، ولم يبينا العقد على أحدهما. ومثله لو كان التردد بين الحلول والتأجيل. وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والبغوي والخطابي من الشافعية (¬3). مناقشة هذا التفسير: الحديث يتكلم عن الشروط في البيع، (نهى عن شرطين في بيع) وتفسيركم هذا يجعل الحديث بعيدًا عن الكلام على الشروط في البيع؛ لأن الشرط إنما يقال لأمر عارض محتمل الوقوع في المستقبل، والأمر هنا بحسب تفسيركم ليس عارضًا، وإنما هو أمر يتعلق بصيغة العقد، وما احتوت عليه في إفادتها ودلالتها، وتعبيرها عن الرضا بعقد معين، أو عدم إفادتها ذلك، فهو أمر يتصل بالبحث في صيغة العقد، وليس في الشروط المقترنة به، ولهذا لا أرى رابطًا بين تفسيركم، وبين لفظ الحديث. ¬
التفسير الثالث للحديث
التفسير الثالث للحديث: أن المراد الجمع بين شرطين فاسدين. قال ابن قدامة: "روى الأثرم عن أحمد تفسير الشرطين: أن يشتريها على أنه لا يبيعها من أحد، وأنه يطؤها، ففسره بشرطين فاسدين" (¬1). مناقشة التفسير: قال ابن القيم: "وأما التفسير الثاني: وهو الشرطان الفاسدان، فأضعف، وأضعف؛ لأن الشرط الواحد الفاسد منهي عنه، فلا فائدة بالتقييد بشرطين في بيع، وهو يتضمن زيادة في اللفظ، وإيهامًا لجواز الواحد، وهذا ممتنع على الشارع مثله؛ لأنه زيادة مخلة بالمعنى" (¬2). ولو صح التفسير بالشرطين الفاسدين لكان الجواب على اعتراض ابن القيم أن يقال: الفرق بين الشرط الفاسد، وبين الشرطين الفاسدين أنه إذا اشترط فيه شرطان فاسدان فسد العقد والشرط، وإذا اشترط فيه شرط فاسد واحد فسد الشرط وحده دون العقد، وإذا اشترط فيه شرطان صحيحان، صح العقد والشرط. هذا هو وجه الفرق بين شرط فاسد واحد، وبين شرطين فاسدين لو صح حمل الحديث في النهي (عن شرطين في بيع) على الشرطين الفاسدين، والله أعلم. التفسير الرابع: حمل ابن القيم الشرطين في بيع على بيع العينة، وسيأتي الكلام على بيع العينة في باب الربا إن شاء الله تعالى. ¬
الراجح
قال ابن القيم: إذا تبين ضعف هذه الأقوال فالأولى تفسير كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بعضه ببعض، فنقول نظير هذا نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة، وعن بيعتين في بيعة ... وقد فسرت البيعتان ... بأن يقول: خذ هذه بعشرة نقد، وآخذها منك بعشرين نسيئة، وهي مسألة العينة بعينها، وهو المعنى المطابق للحديث، فإنه إذا كان مقصوده الدراهم العاجلة بالآجلة، فهو لا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الثمنين، فإن أخذه أخذ أوكسهما، وإن أخذ الثمن الأكثر فهو أخذ الربا، فلا محيد له عن أوكس الثمنين أو الربا، ولا يحتمل الحديث غير هذا المعنى، وهذا هو بعينه الشرطان في بيع، وأن الشرط يطلق على العقد نفسه؛ لأنهما تشارطا على الوفاء به، فهو مشروط، والشرط يطلق على المشروط كثيرًا، كالضرب يطلق على المضروب، فالشرطان كالصفقتين سواء، فشرطان في بيع، كصفقتين في صفقة، وإذا أردت أن يتضح لك هذا المعنى فتأمل نهيه - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمرو عن بيعتين في بيعة، وعن سلف وبيع، رواه أحمد، ونهيه في هذا الحديث عن شرطين في بيع، وعن سلف وبيع، فجمع السلف والبيع مع الشرطين في البيع، ومع البيعتين في بيعة، وسر ذلك أن كلا الأمرين يؤول إلى الربا، وهو ذريعة إليه (¬1). الراجح: بعد استعراض الأقوال والأدلة أجد أن أضعف الأقوال: القول بأنه متى اشتمل البيع على شرط واحد بطل البيع، والاحتجاج بحديث: نهى عن بيع وشرط، وهو حديث لا يصح، وقد أنكره الأئمة. ويأتي بعده بالضعف القول بأن العقد متى اشتمل على شرطين فأكثر فسد ¬
البيع، حتى ولو كان الشرطان صحيحين، فإن إبطال العقد بسبب شرطين صحيحين لا معنى له مع القول بصحة شرط واحد. وحمله على بيع العينة هو من حمل المسألة على المثال وليس المقصود الحصر، فيدخل فيه بيع الذهب القديم بشرط أن يشتري منه ذهبًا جديدًا، وشراء التمر الرديء بشرط أن يشتري منه تمرًا جيدًا، وهكذا، والله أعلم.
المبحث الخامس إذا لم يف أحد العاقدين بالشرط الصحيح
المبحث الخامس إذا لم يف أحد العاقدين بالشرط الصحيح الفرع الأول إذا لم يف وعاد ذلك بالنقص على المعقود عليه [م - 412] إذا اتفق البائع والمشتري على اشتراط صفة في المعقود عليه، ولم يف أحد العاقدين بالشرط، وعاد ذلك بالنقص على المعقود عليه، فما حكم العقد؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: يثبت لمن فاته الخيار إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أمسكه بالثمن، وهذا مذهب الجمهور (¬1). القول الثاني: يخير بين الفسخ، وبين الإمساك مع أرش فقد الصفة. وهو الصحيح من ¬
القول الثالث
مذهب الحنابلة (¬1). القول الثالث: ليس له أرش فقد الصفة إلا أن يتعذر الرد، وهذا قول للشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). دليل من قال: يخير بين الإمساك والرد دون أرش: فوات الوصف يجعل للمشتري حق الرد، وأما وجوب الأرش فيعني تغيير الثمن، وهو عقد معاوضة جديد، فيحتاج إلى رضا من الطرفين؛ لأن من شروط صحة البيع رضا المتعاقدين، وهو لم يرض أن يبيعه بثمن ناقص عن الثمن المتفق عليه، فإما أن يؤخذ بالثمن الذي تراضيا عليه، وإما أن يرد المشتري المبيع لفوات الصفة المشروطة. تعليل من قال: يخير بين الإمساك مع أخذ الأرش، وبين الرد: المتبايعان تراضيا على أن العوض في مقابلة المبيع، فكل جزء منه يقابله جزء من الثمن، ومع فوات الوصف المشروط فات جزء من المبيع، فله الرجوع ببدله، وهو الأرش. تعليل من قال: ليس له أخذ الأرش إلا إذا تعذر الرد. إذا أمكن الرد فليس له أخذ الأرش، لأن أخذ الأرش عقد معاوضة لابد فيه من رضا الطرفين، ولكن إذا تعذر الرد، فليس من حق البائع أن يأخذ قيمة الصفة ¬
الراجح من الخلاف
المشروطة، وهو قد قصر بالالتزام بها، فإذا فاتت هذه الصفة على المشتري ولم يكن بوسعه أن يرد السلعة لتلفها مثلًا كان من حقه أن يسترد قيمة هذه الصفة الفائتة من قيمة المبيع، وهو أخذ الأرش. الراجح من الخلاف: الذي أميل إليه القول بحق الرد إذا أمكن، وأما أخذ الأرش مع إمكان الرد فإنه لا يجوز إلا برضا البائع، لأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه، لأنه عقد معاوضة، لابد فيه من رضاه، فإن تعذر الرد كان للمشتري أن يأخذ قيمة ما فاته من السلعة. وقد رجح شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله- هذا القول إلا أن يكون فقد الصفة بسبب تدليس من البائع، وتغرير منه، فيعامل بالأشد. يقول شيخنا -رحمه الله-: "والصحيح في هذه المسألة أن يقال: إن تبين أن البائع مدلس، وأنه غر المشتري، فللمشتري أرش فقد الصفة، وإن لم يكن مدلسًا، فللمشتري الخيار بين الإمساك بلا أرش والرد؛ لأن البائع أيضًا قد يكون مغترًا، ويقول: لم أرض ببيعه إلا بهذا الثمن، ولا أرضى أن ينزل من الثمن شيء" (¬1). ¬
الفرع الثاني إذا لم يف وعاد ذلك بالنفع على المعقود عليه
الفرع الثاني إذا لم يف وعاد ذلك بالنفع على المعقود عليه [م - 413] إذا اشترط العاقد صفات في المعقود عليه، فبانت أعلى منها، كما لو اشترط أن تكون الأمة ثيبًا، فبانت بكرًا، أو اشترط في العبد أن يكون أميًا، فبان كاتبًا، أو اشترط أن يكون جاهلًا، فبان عالمًا، أو صانعًا، أو اشترط أن يكون مريضًا فبان صحيحًا. وبعض الفقهاء يبحث هذا الشرط تحت مسمى (إذا شرط ما لا غرض فيه، ولا مالية). قال في فتح العلي المالك: "إذا اشترط المشتري ما لا غرض فيه، ولا مالية، كما لو شرط أنه أمي، فيجده كاتبًا، أو أنه جاهل، فيجده عالمًا، ولا غرض له في ذلك ... " (¬1). فهل يحق للمشترط الفسخ، مع أنه وجد صفات أعلى من الصفات التي اشترطها، اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح العقد، ويبطل الشرط. ¬
القول الثاني
وهو مذهب الحنفية (¬1)، والراجح في مذهب الشافعية (¬2)، ومذهب الحنابلة (¬3). وصرح الشافعية بأنه لا عبرة لغرض المشترط إذا كان العرف يعتبر فقد الشرط أعلى من وجوده. القول الثاني: يلغى الشرط إلا أن يكون له غرض صحيح، كما لو اشترطها نصرانية ليزوجها ¬
القول الثالث
لعبد نصراني، أو اشترطها ثيبًا لعجزه عن البكارة، أو يكون عليه يمين ألا يشتري الأبكار، أو لا يطأهن. وهذا مذهب المالكية (¬1). القول الثالث: له الفسخ وهو قول في مذهب المالكية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة، رجحه ابن قدامة (¬3)، وساقه المرداوي وغيره، احتمالًا، وقواه في الإنصاف (¬4). تعليل من قال: لا خيار له إذا بأن أعلى، أو شرط ما لا منفعة له فيه: التعليل الأول: أن فوات هذا الشرط زاد المشتري خيرًا. ¬
التعليل الثاني
التعليل الثاني: أن فوات مثل هذا الشرط لا يؤثر في قيمة السلعة، وإذا لم يؤثر لم يكن له الخيار إذا فاته. التعليل الثالث: أنه على التسليم بأن له غرضًا في اشتراط مثل ذلك، فلا أثر لذلك أيضًا من جهة الرد، لأن المدار على ما هو الأجود عرفًا، والعرف يقتضي أن فوات الشرط قد زاد المبيع ولم ينقصه. تعليل من قال: له الرد إذا كان له غرض صحيح: إذا ادعى أن له غرضًا صحيحًا طلبت منه البينة إلا إذا ادعى أن عليه يمينًا ألا يتزوج بكرًا فيصدق لخفاء مثل ذلك، وإذا ثبت أن له غرضًا صحيحًا فله الفسخ؛ لأن من حق العاقد أن يشترط ما له فيه غرض مقصود، فقد يشترط كون الأمة ثيبًا لعجزه عن البكارة، أو ليبيعها لعاجز عن البكارة، وقد يشترط الكفر ليزوجها لعبد نصراني، أو لعجزه عن مراقبتها للقيام بتكاليف العبادات، وقد يشترط كون العبد خصيًا لكونه يدخل على النساء .. إلى غير ذلك من الأغراض الصحيحة المقصودة، فإذا التزم البائع بهذا الشرط، كان مطالبًا بالالتزام به، والوفاء به، ولأن الكذب عليه نوع من التدليس والتغرير لا يمكن منه البائع. دليل من قال: له الرد مطلقًا إذا فات شرطه. الأصل أن العاقد لا يضع شرطًا إلا وله فيه غرض صحيح، وليس من حقنا أن نطالب العاقد بأن يكشف لنا عن غرضه من شرطه، فإن كان الشرط الذي وضعه العاقد محرمًا في نفسه، أو يخالف نصًا شرعيًا، أو يخالف مقتضى العقد، لم يمكن من ذلك ابتداء، فإن وقع لجهل أو نسيان بطل العقد والشرط، أو بطل
الراجح من الخلاف
الشرط وحده، وإذا كان الشرط في نفسه مباحًا، ولم يخالف نصًا شرعيًا، ولم يخالف مقتضى العقد فإن له كامل الحق في اشتراطه، وإرادته مطلقة في ذلك، فإذا اتضح أن العقد على خلاف ما تعاقدا عليه فله الفسخ، لفوات الشرط الذي من أجله أقدم على العقد، ولأن الرضا شرط في صحة العقد، وهو مفقود في هذا العقد، ولأن الأصل في الشروط الصحة والجواز. الراجح من الخلاف: بعد استعراض أقوال أهل العلم أجد أن القول بأن له الفسخ مطلقًا هو أقوى الأقوال، وهو يتمشى مع القول بأن الأصل في الشروط الصحة والجواز، ثم إننا إذا تأملنا المذاهب وجدنا بينها اختلافًا في فروع هذه المسائل. فنجد أن الخصي صفة كمال عند الشافعية مع أنها في حقيقتها نقص في الذكورية، فإذا اشترط أن يكون فحلًا فبان خصيًا لم يكن له الخيار عندهم. والإسلام صفة كمال عند الحنابلة، فإذا اشترط أن يكون كافرًا فبان مسلمًا لم يكن له الخيار، بينما الشافعية عكس مذهب الحنابلة، فلو اشترط كونه مسلمًا فبان كافرًا لم يكن له الخيار لأن الكافر يشتريه المسلم والكافر، والمسلم لا يشتريه إلا المسلم، فيكون على هذا زاده صفة أعلى من الصفة التي طلبها. لهذا ولغيره أرى أن القول بأن الشرط المباح إذا اشترطه العاقد، وتعاقدا على هذا الشرط، وتراضيا عليه، أنه يجب الوفاء به ما دام أنه لا يحل حرامًا، ولا يحرم حلالًا، ولا يخالف مقتضى العقد، والإخلال به إخلال بما التزماه، وغش وكذب لا يحل لمن التزم الشرط أن ينكث به، والله أعلم.
الفصل الرابع في الشروط الفاسدة
الفصل الرابع في الشروط الفاسدة المبحث الأول في الشروط التي تخالف نصًا شرعيًا [م - 414] اتفق العلماء على أن من اشترط في عقد من العقود شرطًا يخالف حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو شرط باطل، ولو كان مائة شرط. قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته: "ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق". والمقصود: في كتاب الله: أي في حكمه وشرعه. قال ابن تيمية: "هذا الحديث الشريف المستفيض الذي اتفق العلماء على تلقيه بالقبول، اتفقوا على أنه عام في الشروط في جميع العقود، ليس ذلك مخصوصًا عند أحد منهم بالشروط في البيع، بل من اشترط في الوقف، أو العتق، أو الهبة، أو البيع، أو النكاح، أو الإجارة، أو النذر، أو غير ذلك، شروطًا تخالف ما كتب الله على عباده، بحيث تتضمن تلك الشروط الأمر بما نهى الله عنه، أو النهي عما أمر الله به، أو تحليل ما حرمه، أو تحريم ما حلله، فهذه الشروط باطلة باتفاق المسلمين في جميع العقود" (¬1). قال الكاساني: "والشرط إن كان حرامًا كبيع جارية على أنها مغنية على سبيل ¬
الرغبة فيها، فالبيع فاسد؛ لأن التغنية صفة محظورة، لكونها لهوًا، فشرطها في البيع يوجب فساده" (¬1). وقال القرطبي: "الشرط أو العقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله، أي دين الله، فإن ظهر فيها ما يخالف رد" (¬2). وقال في شرح ميارة: "وإن كان الشرط حرامًا بطل به البيع مطلقًا، أي أثر جهلًا في الثمن أو لا" (¬3). وقال خليل في مختصره: "وفسد منهي عنه إلا لدليل" (¬4). وقال الشافعي في الأم: "أبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل شرط ليس في كتاب الله جل ثناؤه، إذا كان في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلافه" (¬5). وقال في كشاف القناع: "وإن شرط رهنًا فاسدًا، كخمر ونحوه كخنزير، لم يصح الشرط" (¬6). (ح-376) وأما ما رواه الترمذي من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الصلح جائز بين المسلمين ¬
إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح (¬1). [الحديث ضعيف] (¬2). ويغني عنه ما سبق مما ذكره ابن تيمية من الإجماع، وحديث عائشة المتفق على صحته في قصة عتق بريرة. وإذا كان اشتراط مثل ذلك حرامًا، فهل يبطل البيع والشرط، أو يبطل الشرط وحده، هذا ما سوف نعرض له إن شاء الله في الفصل التالي، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
فرع حكم البيع مع وجود شرط محرم
فرع حكم البيع مع وجود شرط محرم الشرط المحرم: إما أن يكون محرمًا لكونه يخالف مقتضى العقد، كما لو باعه بشرط أن لا خسارة عليه، أو باعه بشرط: إن نفق المبيع وإلا رده، أو باعه بشرط ألا يبيعه، أو لا يهبه. وإما أن يكون محرمًا للنهي عنه، كما لو باعه بشرط أن يقرضه، أو باعه وشرط عليه عقدًا آخر، على القول بأنه هذا هو المقصود من حديث: (نهى عن بيعتين في بيعة). وسوف نتعرض لكل شرط في مبحث خاص إن شاء الله تعالى.
المبحث الثاني حكم البيع مع وجود شرط يخالف مقتضى العقد
المبحث الثاني حكم البيع مع وجود شرط يخالف مقتضى العقد لا يتفق الفقهاء على مصطلح الشروط، فلا يستطيع الباحث أن يبحث حكم شرط ما من خلال مسماه العام مثل: (الشروط التي تخالف مقتضى العقد) لأنك قد تجد شرطًا يعتبره الحنفية من الشروط المخالفة لمقتضى العقد، بينما هذا الشرط عند الحنابلة يندرج تحت مسمى الشروط الصحيحة، ولذلك تحتاج إلى دراسة كل شرط على حدة، وتعرض فيه أقوال الفقهاء، وحجة كل قول. خذ على سبيل المثال كلام الكاساني حول اشتراط الرهن والكفيل في العقد مع أن اشتراط الرهن والكفيل من الشروط المجمع على جوازها بمقتضى النصوص الشرعية. يقول في البدائع: "جملة الكلام في البيع بشرط إعطاء الرهن: أن الرهن لا يخلو: إما أن يكون معلومًا، أو مجهولًا، فإن كان معلومًا فالبيع جائز استحسانًا، والقياس ألا يجوز؛ لأن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في الأصل، وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى العقد؛ فكان مفسدًا إلا أنا استحسنا الجواز ... " (¬1). فنظرة الحنفية إلى اشتراط الكفيل والرهن أنه شرط يخالف مقتضى العقد، ولكنه جوز ليس من باب القياس، ولكنه من باب الاستحسان. فإذا كان هذا التوصيف من الحنفية في شرط مجمع على جوازه، فما بالك لو كان هذا الشرط من الشروط المختلف فيها. ¬
ولهذا نحتاج إلى دراسة كل شرط، وبحثه تحت مسماه الخاص، وليس في إدراجه تحت المسمى العام، والذي قد يختلف مصطلح كل مذهب عن بقية المذاهب، حتى نكون أكثر صوابًا ودقة، أسأل الله عونه وتوفيقه.
الفرع الأول إذا باعه بشرط ألا يبيع ولا يهب
الفرع الأول إذا باعه بشرط ألا يبيع ولا يهب [م - 415] إذا تضمن البيع شرطًا يخالف مقتضى العقد، كما لو باعه بشرط ألا يبيعه، ولا يهبه، فقد اختلف العلماء في حكم البيع على أربعة أقوال: القول الأول: البيع فاسد، إن كان في هذا الشرط منفعة، وإن كان لا منفعة فيه لأحد فالبيع صحيح ويلغى الشرط، وهذا مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: يبطل البيع والشرط، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬2)، ومذهب ¬
القول الثالث
الشافعية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2)، إلا أن المالكية قالوا: إن ترك البائع الشرط صح البيع، وكذا إن شرط ألا يبيعه على نفر قليل (¬3). القول الثالث: البيع صحيح والشرط باطل، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬4)، وحكاه أبو ثور عن الشافعي، واستغربه النووي (¬5)، وبه قال ابن أبي ليلى (¬6). ¬
القول الرابع
القول الرابع: البيع صحيح والشرط صحيح، وهذا رأي ابن سيرين (¬1). دليل من قال: إن كان في الشرط منفعة فسد، وإلا صح وبطل الشرط. وجه كون البيع فاسدًا في الشروط النافعة لتضمنها الربا، وذلك بزيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض. وأما وجه كون البيع صحيحًا في الشروط التي لا نفع فيها فلأن هذا الشرط لما لم يوجد فيه منفعة لأحد، ولم يقابله عوض، لم يوجب فسادًا، ولكن لما كان الشرط فاسدًا في نفسه فسد الشرط وحده. ويناقش: كان مقتضى القياس أن يقال: إذا كان في الشرط منفعة كان العقد سائغًا، والشرط كذلك، وإذا كان الشرط لا منفعة فيه، صح البيع وبطل الشرط، هذا هو مقتضى القياس. وقولهم: إن الشرط النافع: يتضمن معنى الربا، لكونه زيادة في العقد لا يقابلها عوض، لا يسلم من وجهين: الأول: أن زيادة مثل ذلك ليس من الربا، وليس كل زيادة تكون من الربا المحرم، فالربا إنما هو زيادة مخصوصة في مال مخصوص، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عبادة في مسلم: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد) (¬2)، فأذن في الزيادة، وأطلق الحرية للعاقدين، وسيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الربا بيان الزيادة المحرمة من الزيادة المشروعة. ¬
دليل من قال: يبطل البيع والشرط
الثاني: من قال: إن الشرط لا يقابله عوض، فإنه ما من التزام يلتزمه العاقد إلا وله ما يقابله، فإذا شرط البائع على المشتري ألا يبيعه، فلابد أن يقابل تقييد اليد من التصرف أن يعرضه بقيمة أقل مما لو خلا العقد من هذا القيد، وهذا أمر محسوس. دليل من قال: يبطل البيع والشرط: الدليل الأول: أما بطلان الشرط، فلأنه شرط مخالف لأمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما كان مخالفًا لأمر الله ورسوله كان حقه أن يكون باطلًا. (ح-377) ولما رواه مسلم من طريق سعد بن إبراهيم، عن القاسم بن محمَّد، قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد (¬1). ومعنى رد: أي مردود عليه. وأما بطلان البيع ببطلان الشرط: فلأن البيع من شرطه الرضا، وهما لم يتراضيا على البيع خاليًا من الشرط، فلا يمكن إنفاذ البيع بالشرط لكون الشرط محرمًا، ولا يمكن تصحيح البيع مع بطلان الشرط، لفقد شرط الرضا بالبيع خاليًا من الشرط، فلابد من القول ببطلان البيع، وإذا تراضيا أن يتم البيع خاليًا من الشرط المحرم فليتعاقدا عليه من جديد، ليتحقق الرضا، والذي هو شرط من شروط صحة البيع. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ث-62) روى ابن أبي شيبة من طريق عاصم بن عبيد الله، عن القاسم عن عائشة - رضي الله عنه - أنها كرهت أن تباع الجارية بشرط ألا تباع (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: (ث-63) ما رواه سعيد بن منصور، قال: نا هشيم، أنا يونس بن عبيد، عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره أن يشتري الرجل الأمة على ألا تباع، ولا توهب (¬3). [إسناده صحيح]. دليل من قال: يصح البيع، ويبطل الشرط. الدليل الأول: (ح-378) استدلوا بما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنه -، قالت: جاءت بريرة، فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقالت عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة، وأعتقك فعلت، ويكون ولاؤك لي، فذهبت إلى أهلها فأبوا ذلك عليها ... فسمع بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألني، فأخبرته، فقال: خذيها، فأعتقيها، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق، قالت: عائشة، فقام ¬
وجه الاستدلال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، ما بال رجال منكم يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، فأيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، فقضاء الله أحق، وشرط الله أوثق ... " (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبطل الشرط وحده، وأبقى على العقد صحيحًا، فدل على أن الشرط إذا كان مخالفًا للشرع صح البيع، وبطل الشرط. والحنابلة أخذوا بهذا الحديث في باب المعاوضات وفي غيره، فقالوا: ببطلان الشرط وحده دون العقد، وقاسوا على اشتراط الولاء جميع الشروط التي تخالف مقتضى العقد، وذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع، فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع. مناقشة الحديث: أشكل على المخالفين، كيف يصدر الإذن من النبي - صلى الله عليه وسلم - باشتراط شرط باطل في العقد، ويأمر به، وهو يعلم بطلانه، ولهذا وقفوا من الحديث أحد موقفين: الموقف الأول: الحكم بشذوذ لفظة (اشترطي لهم الولاء). جاء في الفتح: "واستشكل صدور الإذن منه - صلى الله عليه وسلم - في البيع على شرط فاسد، واختلف العلماء في ذلك، فمنهم من أنكر الشرط في الحديث، فروى الخطابي في المعالم بسنده إلى يحيى بن أكثم، أنه أنكر ذلك، وعن الشافعي في الأم ¬
الإشارة إلى تضعيف رواية هشام المصرحة بالاشتراط، لكونه انفرد بها دون أصحاب أبيه، وروايات غيره قابلة للتأويل، وأشار غيره إلى أنه روى بالمعنى الذي وقع له، وليس كما ظن" (¬1). وفي تلخيص الحبير: "قال الرافعي: قالوا: إن هشام بن عروة تفرد بقوله: (اشترطي لهم الولاء) ولم يتابعه سائر الرواة، والله أعلم، وقد قيل: إن عبد الرحمن ابن نمر تابع هشامًا على هذا، فرواه عن الزهري، عن عروة نحوه" (¬2). والحق أن هشامًا لم ينفرد بهذه اللفظة، بل رواها غيره، إلا أنه ما من راو رواها إلا وقد اختلف عليه في ذكرها، وأرى أن الأكثر على رواية (اشتريها، فأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق) وهذا ليس فيه الإذن باشتراط الولاء لهم مع العلم بأن الوفاء به متعذر لحرمته (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ومن هذه التأويلات
الموقف الثاني: موقف التأويل، على خلاف بينهم في تأويلها، قال النووي: "وقال جماهير العلماء هذه اللفظة صحيحة، واختلفوا في تأويلها" (¬1). ومن هذه التأويلات: التأويل الأول: قال الشافعي في معنى (واشترطي لهم الولاء): "معناه: اشترطي عليهم الولاء، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} [الرعد: 25]، بمعنى: عليهم" (¬2). وكقوله -سبحانه وتعالى-: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، أي فعليها كما هو في الآية الأخرى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46] (¬3). ويجاب: لو كان الأمر كما قيل في هذا التأويل لما أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم الاشتراط، ولما خطب في القوم قائلًا: ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليس في كتاب الله. ¬
التأويل الثاني
التأويل الثاني: قال آخرون: الأمر في قوله اشترطي للإباحة، وهو على جهة التنبيه على أن ذلك لا ينفعهم، فوجوده وعدمه سواء، وكأنه يقول: اشترطي أو لا تشترطي، فذلك لا يفيدهم، ويقوي هذا التأويل، قوله في رواية أيمن ... اشتريها ودعيهم يشترطون ما شاؤوا (¬1). التأويل الثالث: قيل: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعلم الناس بأن اشتراط البائع الولاء باطل، واشتهر ذلك بحيث لا يخفى على أهل بريرة، فلما أرادوا أن يشترطوا ما تقدم لهم العلم ببطلانه، أطلق الأمر مريدًا به التهديد على مآل الحال، كقوله {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 105]، وكقول موسى {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس: 80]، أي فليس ذلك بنافعكم، وكأنه يقول: اشترطي لهم فسيعلمون أن ذلك لا ينفعهم، ويؤيده قوله حين خطبهم: ما بال رجال يشترطون شروطًا ... الخ فوبخهم بهذا القول، مشيرًا إلى أنه قد تقدم منه بيان حكم الله بإبطاله، إذ لو لم يتقدم بيان ذلك، لبدأ ببيان الحكم في الخطبة، لا بتوبيخ الفاعل؛ لأنه كان يكون باقيًا على البراءة الأصلية" (¬2). قلت: لعل البيان من المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كان لكثير من الصحابة، ولم يبلغ موالي بريرة، ولو بلغهم كان الظن فيهم وفي غيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - حسن الامتثال، وفي بلاغ واحد من الأمة بلاغ للأمة كلها. ¬
التأويل الرابع
التأويل الرابع: قال النووي: "والأصح في تأويل الحديث، ما قال أصحابنا في كتب الفقه: إن هذا الشرط خاص في قصة عائشة، واحتمل هذا الإذن، وإبطاله في هذه القصة الخاصة، وهي قضية عين لا عموم لها، قالوا والحكمة في إذنه ثم إبطاله: أن يكون أبلغ في قطع عادتهم في ذلك، وزجرهم عن مثله، كما أذن لهم - صلى الله عليه وسلم - في الإحرام بالحج في حجة الوداع، ثم أمرهم بفسخه، وجعله عمرة بعد أن أحرموا بالحج، وإنما فعل ذلك ليكون أبلغ في زجرهم، وقطعهم عما اعتادوه من منع العمرة في أشهر الحج، وقد تحتمل المفسدة اليسيرة لتحصيل مصلحة عظيمة، والله أعلم" (¬1). وتعقبه ابن دقيق العيد: بأن التخصيص لا يثبت إلا بدليل. التأويل الخامس: منهم من قال: إن الشرط لم يكن في نفس العقد. "قال ابن الجوزي: ليس في الحديث أن اشتراط الولاء والعتق كان مقارنًا للعقد، فيحمل على أنه كان سابقًا للعقد، فيكون الأمر بقوله: (اشترطي) مجرد وعد، ولا يجب الوفاء به. قال ابن حجر: وتعقب باستبعاد أنه - صلى الله عليه وسلم - يأمر شخصًا أن يعد مع علمه بأنه لا يفي بذلك الوعد" (¬2). وقيل غير ذلك من التأويلات، والله أعلم. ¬
دليل من قال: يصح البيع ويصح الشرط
دليل من قال: يصح البيع ويصح الشرط: الدليل الأول: (ث-64) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق جعفر بن برقان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن ابن مسعود اشترى عن زوجته زينب جارية، فاشترطت عليه: إن باعها، فهي أحق بالثمن، فسأل ابن مسعود عمر، فكره أن يطأها (¬1). [صحيح] (¬2). وجه الاستدلال: هذا البيع تضمن شرطين: الأول: ألا يبيعها لغيره، وهذا نوع من الحجر على تصرفه فيما يملك، وهو يخالف مقتضى العقد. الثاني: أن يبيعها إياه بالثمن الذي باعها عليه، وهذا أيضًا يخالف مقتضى العتهد فإن مقتضاه أن يبيعه بالسعر الذي يراه مناسبًا. وأما الدليل على صحة البيع مع هذا الشرط كون عمر - رضي الله عنه - لم يكره له إلا ¬
الدليل الثاني
الوطء، ولو كان البيع باطلًا لكره له الوطء وغيره، لعدم الملك، فيكون قد اتفق عمر - رضي الله عنه - مع ابن مسعود على صحة مثل هذا الشرط. وأما الدليل على صحة الاشتراط كون عمر - رضي الله عنه - لم يبين فساد هذا الشرط، ولو كان الشرط فاسدًا عنده لبينه عمر - رضي الله عنه - مع ما عرف عنه من جهره بالحق، وصدعه به. الدليل الثاني: قد يشترط البائع ألا يبيعه ولا يهبه، وله في ذلك غرض صحيح، وليس مجرد التحجير على المشتري، فقد يشترط البائع ذلك لمصلحة تعود على العاقد، أو على المعقود عليه، ولا حرج في ذلك: فالمصلحة التي تعود على العاقد، كما لو علمت حاجة المشتري إلى بيت يسكنه، ولكنه لا يحسن التصرف، فما يقع في يده شيء إلا ويزهد فيه، ويبيعه رغم حاجته إليه، فأردت أن أبيعه، وأشترط عليه ألا يبيعه، وكان الغرض من ذلك نفع المشتري حتى لا يخرجه من ملكه. فهذا الشرط لا يحل حرامًا، ولا يحرم حلالًا، واشتراط البائع له فيه غرض صحيح. وأما مثال المصلحة التي تعود على المعقود عليه: كما لو كان للبائع عبد صالح، واحتاج إلى بيعه، وخاف إن باعه أن تداوله الأيدي، فيقع في يد من لا يقدره، ولا يحسن عليه بل قد يظلمه، فاشترط على المشتري ألا يخرجه من ملكه، فالمصلحة هنا تعود على المعقود عليه، وليس اشتراط مثل ذلك لمجرد التحجير على المشتري. الراجح: من خلال استعراض أدلة الأقوال رأينا كيف أن حديث هشام (اشترطي لهم
الولاء) فيه من الاختلاف ما وقفت عليه، والأكثر على عدم ذكر زيادة (واشترطي لهم الولاء) وعلى فرض أن تكون هذه الزيادة محفوظة فإنه يقال فقط في القضية التي سيق فيها الحديث: كما باع رجل عبده بشرط أن يكون له ولاؤه. أما الذي هو محل تأمل كبير عندي: هل قياس جميع الشروط التي تخالف مقتضى العقد على اشتراط الولاء قياس صحيح، فإن كان الولاء حقًا ماليًا، له قيمة في العقد صح قياس جميع الشروط التي تخالف مقتضاه، وإن كان الولاء ليس من الحقوق المالية بنص الحديث لم يصح القياس. (ح-379) فقد روى الشيخان من حديث ابن عمر (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء، وعن هبته) (¬1). (ح-380) وروى ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر مرفوعًا: (الولاء لحمة كلحمة النسب) (¬2). فلا يقاس على الولاء غيره من الشروط المالية ولو كانت تخالف مقتضى العقد، وذلك أن كل شرط مالي، ولو كان مخالفًا للعقد قد قابله جزء من الثمن، فإذا بطل الشرط فهل يحق للمشتري أن يأخذ ما يقابله من الثمن بلا عوض، فمثلًا: إذا اشترط المشتري أن لا خسارة عليه، فشرطه هذا شرط يخالف مقتضى العقد، وإذا قبل البائع هذا الشرط فإن المشتري سوف يشتري المبيع بقيمة أكثر مما لو اشتراها بدون هذا الشرط، وهذا معلوم، فيكون البائع قد قبض قيمة هذا الشرط الباطل، فإذا بطل الشرط، ولزم البيع بنفس الثمن، فقد أخذ ¬
البائع قيمة هذا الشرط الباطل بلا مقابل، فهل يحق له أن يأخذ قيمة هذا الشرط إذا صححنا العقد، أو نقول: يلزم البيع، وما زاد من الثمن مقابل هذا الشرط يرد إلى المشتري؛ لأن عوض الحرام حرام. وإذا قلنا: بخصم قيعة الشرط، فإن البائع له أن يقول: أنا لم أرض بإخراج المبيع من ملكي بهذا الثمن بعد الخصم، ومن شروط صحة البيع: رضا البائع بالثمن، ورضا المشتري بالمبيع، وهو ما لم يتحقق هنا، فإذا تراضيا على الثمن الجديد فليتعاقدا عليه بعد إبطال العقد بالصورة الأولى، وبهذا نكون قد توجهنا إلى الأخذ بقول الجمهور، وهو إبطال البيع وإبطال الشرط. هذا الكلام يقال: من حيث الجملة حول ما يسمى بالشرط المخالف لمقتضى العقد، ولا يلزم من ذلك أن يكون كل شرط يخالف مقتضى العقد أن يكون باطلًا خاصة إذا كان للعاقد غرض صحيح مشروع من اشتراط ألا يبيعه، ولا يهبه، فإذا كان له غرض مشروع فإن القول الذي أميل إليه هو صحة التزام مثل هذا الشرط، لأن الأصل في الشروط الصحة والجواز، فلو أراد البائع أن يبيع سلعته على أحد من الناس، وقصد محاباته بهذا البيع وانتفاعه من هذا المبيع، وخشي أنه إن باعه عليه أن يخرجه من ملكه ببيع أو هبة، وهو لم يرد من البيع إلا انتفاع المشتري من المبيع ولولا ذلك لما باعه فإن هذا الشرط لا يوجد ما يمنعه، والغرض منه غرض مشروع وصحيح، والله أعلم.
الفرع الثاني إذا باعه بشرط ألا خسارة عليه أو متى نفق المبيع وإلا رده
الفرع الثاني إذا باعه بشرط ألا خسارة عليه أو متى نفق المبيع وإلا رده [م - 416] إذا باعه بشرط ألا خسارة عليه. فهذا الشرط يخالف مقتضى العقد؛ لأن مقتضى العقد أن يكون له الغنم كما يكون عليه الغرم. وأكثر من توجه لهذا الشرط بالبحث الشافعية والحنابلة. فإذا اشترط المشتري على البائع بأنه لا خسارة عليه، أو شرط عليه: إن نفق المبيع وإلا رده عليه، فما حكم التزام مثل هذا الشرط، وما حكم العقد إذا اقترن به؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: البيع صحيح، والشرط باطل، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: البيع فاسد، يجب فسخه فإن فات بعد القبض وجبت القيمة، وهذا مذهب المالكية (¬1). القول الثالث: البيع باطل، وهذا مذهب الشافعية (¬2)، ورواية في مذهب الحنابلة، اختارها القاضي وأصحابه (¬3). وأدلة هذه المسألة هي أدلة التي قبلها، إذا باعه بشرط ألا يبيع، ولا يهب، وما قيل في تلك يقال في هذه المسألة، ولم أقف على أحد صحح الشرط من المتقدمين، وإنما هم متفقون على بطلان الشرط، مختلفون في تصحيح البيع، والذي أميل إليه في هذه المسأك هو بطلان البيع والشرط: أما بطلان الشرط، فلأن الشرط يخالف مقتضى البيع، فإن مقتضاه أن يكون له غنمه، وعليه غرمه. ¬
وأما بطلان العقد فالظاهر أن التزام ألا خسارة عليه له ما يقابله من الثمن، فإذا سقط الشرط سقط عوضه، وإذا تغير الثمن لابد من رضا الطرفين، لأن إرادة المتعاقدين لم تلتق بالثمن الجديد، ولم يكن هناك إيجاب وقبول، والإيجاب والقبول بالشرط قد تطرق لهما الفساد، فيحتاجان إلى التزام جديد، والله أعلم. وقد انتشرت في عصرنا مسألة البيع بالتصريف، فيأتي المنتج والمورد إلى البقال والصيدلي وغيرهما فيضع عنده بضاعته، من خبز وحليب ودواء وغيرها ويبيعها عليه، فما باعه المشتري من البضاعة في وقت صلاحيتها فهي على المشتري، وما بقي منها فهي رد على البائع، وبعض البضائع قد تمتد مدة صلاحيتها الفترة الطويلة كالدواء مثلًا فلا يدري المنتج كمية ما باعه منها، ولا يدري المشتري مقدار ما اشتراه منها، فهل مثل هذا البيع يمكن تصحيحه مع الابتلاء فيه؟ والجواب على هذا نقول: بيع التصريف يقع على طريقتين: الأولى: أن يكون صاحب المحل وكيلًا للمنتج، بأن يقول صاحب البضاعة لصاحب المحل: خذ هذا بعه لي، ولك على كل سلعة تبيعها كذا وكذا، فهذا جائز قولًا واحدًا؛ لأن هذا العمل من قبيل الوكالة بأجرة. وإذا كان صاحب المحل وكيلًا انطبقت عليه أحكام الوكالة، فتكون يده يد أمانة، فلا ضمان عليه إلا بتعد أو تفريط. الثاني: أن يقوم صاحب البضاعة سلعًا معلومة، ويقول البائع: ما بعته منها فهو على بيعه، وما لم يتصرف فرده إلى بقسطه من الثمن. وهذا العقد من عقود البيع، ويكون المشتري ضامنًا لكامل السلعة لو تلفت حتى لو كان التلف بلا تعد ولا تفريط؛ لأنه ماله تلف تحت يده، فضمانه عليه.
وهذا الصورة هو الذي وقع فيها إشكال في جوازها، وسوف أقيد كل ما وقفت عليه من الأقوال والنصوص القديمة والمعاصرة زيادة على ما تقدم لعلها تعين القارئ على فهم حكم هذه المسألة. فإذا بحثنا في كتب التراث عن حكم هذه المسألة. وجدنا أن الإمام أحمد قد تعرض لها فيما فهمته، والله أعلم، فقد جاء في مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود ما نصه: "سمعت أحمد سئل عن الرجل يبيع البر، فيطلب منه صنفًا من المتاع ليس عنده، فيشتريه من السوق، ثم يبيعه، فإن جاز منه جاز، ويستفضل في ذلك فضلًا لنفسه، وإن رده عليه رده؟ فقال: لا، ولكنه إن قال: ما استفضلت على كذا وكذا فهو لي، فإنه جائز" (¬1). اهـ فهذا النص من الإمام أحمد كأنه يجيز مسألة البيع بالتصريف إذا كان ذلك عن شرط، ولا يجيزها بدون شرط. وهذا القول غير معروف في مذهب الحنابلة، ولم أقف على أحد من فقهاء الحنابلة نص عليه في كتبهم المعتمدة، بل إن الحنابلة نصوا على أنه إن اشترط أنه متى نفق المبيع وإلا رده أن هذا الشرط باطل على خلاف في صحة البيع، ولم يحكوا خلافًا في بطلان الشرط. وقد سجلت أربعة أقوال في المسألة للعلماء المعاصرين وتكلم عليها شيخنا محمَّد بن عثيمين، وكان له أكثر من رأي مما يعبر عن تردده في حكم هذه المسألة نظرًا لانتشارها، وعمل الناس بها. ¬
القول الأول
القول الأول: يرى شيخنا أن العقد صحيح والشرط باطل، وعلل ذلك في الشرح الممتع بأنه يخالف مقتضى العقد، إذ إن مقتضى العقد أن المبيع للمشتري سواء نفق المبيع أو لا. وهذا القول من شيخنا يتفق مع ما هو معروف من مذهب الحنابلة. وقال شيخنا أيضًا: "البيع بالتصريف عقد محرم لحصول الجهالة والغرر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر" (¬1). وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: قالت اللجنة: "إذا شرط المشتري أن لا خسارة عليه، أو متى نفق المبيع وإلا رده عليه، أو شرط البائع ذلك فقال: اشتر هذه البضاعة مني، وإذا خسرت فأنا أدفع مقابل الخسارة، فإن الشرط يبطل وحده، ويصح البيع؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط. متفق عليه. ولأن مقتضى العقد انتقال المبيع للبائع بعد دفع الثمن، والتصرف المطلق فيه، وأن له ربحه وعليه خسارته وحده، ولدفع الضرر المتوقع إذا تهاون المشتري في ترويج السلعة فباعها بخسارة ورجع على البائع، ولأن قوله البائع: إن خسرت البضاعة فأنا أدفع الخسارة فيه تغرير من ناحية إيهام المشتري بأن السلعة رائجة، وأنها تساوي هذا المبلغ" (¬2). القول الثاني: أن العقد والشرط صحيحان. ذكره شيخنا في الشرح الممتع، ورجحه، ولم ¬
القول الثالث
ينسبه لأحد من أهل العلم، وعلل الجواز بأنه ليس على أحد الطرفين ضرر، وليس فيه ظلم، وصاحب السلعة مستعد لقبول ما تبقى (¬1). القول الثالث: ذكر شيخنا قولًا ثالثًا بأنه إن كان رد المشتري للسلعة بدون شرط وعقد مسبق بينه وبين البائع فلا بأس، لأنه إذا رده بدون شرط، ورضي البائع فهو إقالة من البائع للمشتري، والإقالة جائزة (¬2). ويشكل على هذا التخريج: أن التعامل اليوم أصبح عرفًا بين الناس، والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. وهذا التخريج عكس ما نقلته عن الإمام أحمد حيث أجاز ذلك بالشرط، ومنعه من دون شرط. القول الرابع: أن العقد والشرط باطلان. وهذا قول في مذهب الحنابلة. جاء في الشرح الكبير لابن قدامة: "شرط ما ينافي مقتضى البيع نحو أن يشترط أن لا خسارة عليه، أو متى نفق المبيع وإلا رده ... فهذا الشرط باطل في نفسه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث بريرة حين شرط أهلها الولاء: (ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) نص على بطلان هذا الشرط، وقسنا عليه سائر الشروط؛ لأنها في معناه. ¬
وهل يبطل بها البيع؟ على روايتين: قال القاضي: المنصوص عن أحمد أن البيع صحيح، وهو ظاهر كلام الخرقي، وبه قال الحسن والشعبي والنخعي، والحكم وابن أبي ليلى، وأبو ثور. والثانية: البيع فاسد، وهو قول أبي حنفية، والشافعي؛ لأنه شرط فاسد، فأفسد البيع كما لو اشترط فيه عقدًا آخر، ولأن الشرط إذا فسد وجب الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن، وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولًا، ولأن البائع إنما رضي بزوال ملكه عن المبيع بشرطه، والمشتري كذلك إذا كان الشرط له، فلو صح البيع بدونه لزال ملكه بغير رضاه، والبيع من شرطه التراضي، ولأنه قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع وشرط، ووجه الأولى: ما روت عائشة - رضي الله عنها - قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي ... وذكر حديث عائشة في قصة عتق بريرة ... فأبطل -يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - الشرط ولم يبطل العقد" (¬1). وجاء في بحوث هيئة كبار العلماء في البلاد السعودية: "من الشروط الفاسدة: شرط ينافي مقتضى العقد، كأن يشترط في المبيع ألا خسارة عليه، أو ألا يبيع، ولا يهب، ولا يعتق، فهذه الشروط باطلة، وهل تبطل العقود المشتملة عليها؟ قولان لأهل العلم، وهما روايتان عن الإمام أحمد" (¬2). واشتراط ألا خسارة عليه كاشتراط متى نفق المبيع وإلا رده، فإن المحصلة واحدة، لأن المبيع متى كان نافقًا فالمشتري رابح، ومتى كان المبيع غير نافق فإن المشتري سيخسر، فالشرطان بمعنى واحد، وهما شرطان مخالفان لمقتضى العقد وبينهما فرق يسير سوف أشير إليه عند التعرض للترجيح. ¬
الراجح من أقوال أهل العلم
الراجح من أقوال أهل العلم: باستثناء النص عن الإمام أحمد الذي حكاه أبو داود لم أجد أحدًا من أهل العلم نص على جوازها، ويكاد يتفق الفقهاء على المنع من اشتراط عدم الخسارة، وإن كان هناك فرق يسير بين المسألتين: فالمسألتان كلتاهما تعنيان أن المشتري لا خسارة عليه. إلا أن العقد في اشتراط عدم الخسارة قد اشتمل على ضمان من البائع للمشتري بأن يضمن له ما نقص من رأس ماله، وهذا لا يوجد في اشتراط نفاق المبيع. واشتراط نفاق المبيع وإلا رد السلعة لا يوجد ضمان لرأس المال، وإنما اشتمل العقد على محذورين: الأول: اشتمال العقد على استثناء مجهول، فالعقد يحتمل رد جزء من المبيع غير معلوم المقدار، والاستثناء يجب أن يكون معلومًا؛ لأن استثناء المجهول من المعلوم يصير المعلوم مجهولًا كما هو معلوم. المحذور الثاني: التعليق في البيع على أمر مجهول، وذلك أن نفاذ البيع على جميع السلعة معلق على أمر غير معلوم أثناء التعاقد، وهو نفاق السلعة لدى الناس، والتعليق في البيع على أمر مجهول لا يجوز. ويجتمع العقدان أعني عقد اشتراط عدم الخسارة، واشتراط نفاق المبيع في أن مثل هذه الشروط تخالف مقتضى العقد، إذ إن مقتضى العقد: أن الربح للمشتري، والخسارة عليه. ووجود ثلاثة أقوال في المسألة لشيخنا يرحمه الله يدل على أنه كان مترددًا فيها نظرًا لانتشارها، وعمل الناس بها، والذي يظهر لي أن هذا الشرط باطل،
والعقد صحيح، وإنما قلت: إن العقد صحيح لأني أرى أن البائع لا يزيد في قيمة السلعة مقابل هذا الشرط، ولو حدث أن زاد البائع في قيمة السلعة في مقابل هذا الشرط فإن العقد يجب أن يكون باطلًا أيضًا، والله أعلم.
المبحث الثالث إذا اشترط مع البيع عقدا آخر
المبحث الثالث إذا اشترط مع البيع عقدًا آخر الفرع الأول إذا باعه أو صارفه أو أجره بشرط أن يقرضه (ح-381) روى أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬1). [إسناده حسن] (¬2). فقوله: (نهى عن سلف وبيع) المقصود بالنهي الجمع بين البيع والقرض بصفقة واحدة، وفي معنى البيع: الصرف؛ لأنه بيع دراهم بدراهم، والإجارة: لأنه من قبيل بيع المنافع. [م - 417] وقد أجمع الفقهاء على حرمة اجتماع القرض مع البيع في صفقة واحدة إذا كان ذلك عن اشتراط، كما لو باعه بشرط أن يقرضه. إلا أن المالكية قالوا: إن تنازل عن الشرط صح البيع. ¬
واستثنى الحنفية مسألتين: الأولى: لو قال: بعتك هذه الدار بألف على أن يقرضني فلان الأجنبي عشرة دراهم، فقبل المشتري ذلك البيع صح؛ لأن الإقراض لا يلزم الأجنبي (¬1). الثانية: لو دفع رجل إلى آخر ألف درهم، على أن يكون نصفها الآخر قرضًا عليه، ويعمل في النصف الآخر بشركته، فإنه يجوز ذلك، وذلك يعني جواز الجمع بين الشركة والقرض (¬2). قال ابن رشد: "اتفق الفقهاء على أنه -يعني الجمع بين بيع وسلف- من البيوع الفاسدة، واختلفوا إذا ترك الشرط قبل القبض، فمنعه أبو حنفية، والشافعي، وسائر العلماء. وأجازه مالك وأصحابه إلا محمَّد بن عبد الحكم. وقد روي عن مالك مثل قول الجمهور. ¬
وحجة الجمهور
وحجة الجمهور: أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، مع أن الثمن يكون في المبيع مجهولًا لاقتران السلف به. وقد روي عن محمَّد بن أحمد بن سهل البرمكي أنه سأل عن هذه المسألة إسماعيل بن إسحاق المالكي، فقال له: ما الفرق بين السلف والبيع، وبين رجل باع غلامًا بمائة دينار، وزق خمر، فلما عقد البيع، قال: أنا أدع الزق، قال: وهذا البيع مفسوخ عند العلماء بإجماع؟ فأجاب إسماعيل عن هذا بجواب لا تقوم به حجة، وهو أن قال له: الفرق بينهما: أن مشترط السلف مخير في تركه أو عدم تركه، وليس كذلك مسألة زق الخمر. قال ابن رشد: وهذا الجواب هو نفس الشيء الذي طولب فيه بالفرق، وذلك أن يقال له: لما كان هنا مخيرًا، ولم يكن هنالك مخيرًا في أن يترك الزق، ويصح البيع، والأشبه أن يقال: إن التحريم ها هنا لم يكن لشيء محرم بعينه، وهو السلف؛ لأن السلف مباح، وإنما وقع التحريم من أجل الاقتران، أعني اقتران البيع به، وكذلك البيع في نفسه جائزًا، وإنما امتنع من قبل اقتران الشرط به، وهنالك إنما امتنع البيع من أجل اقتران شيء محرم لعينه به، لا أنه شيء محرم من قبل الشرط. ونكتة المسألة: هل إذا لحق الفساد بالبيع من قبل الشرط يرتفع الفساد إذا ارتفع الشرط أم لا يرتفع، كما لا يرتفع الفساد اللاحق للبيع الحلال من أجل اقتران المحرم العين به. وهذا ينبني على أصل آخر هو: هل هذا الفساد حكمي أو معقول، فإن قلنا:
حكمي، لم يرتفع بارتفاع الشرط، وإن قلنا: معقول، ارتفع بارتفاع الشرط" اهـ كلام ابن رشد (¬1). وقال ابن عبد البر: "أجمع العلماء على أن من باع بيعًا على شرط سلف يسلفه، أو يستسلفه، فبيعه فاسد مردود، إلا أن مالكًا في المشهور من مذهبه يقول في البيع والسلف: إنه إذا طاع الذي اشترط السلف بترك سلفه، فلم يقبضه، جاز البيع. هذا قوله في موطئه ... " (¬2). وقال القرطبي: "واتفق العلماء على منع الجمع بين بيع وسلف" (¬3). وقال ابن قدامة: "لو باعه بشرط أن يسلفه، أو يقرضه، أو شرط المشتري ذلك عليه، فهو محرم، والبيع باطل ... ولا أعلم فيه خلافًا، إلا أن مالكًا قال: إن ترك مشترط السلف السلف صح البيع" (¬4). وقال القاضي ابن العربي: "وأما بيع وسلف، فإنما نهى عنه لتضاد الهدفين، فإن البيع مبني على المشاحة والمغابنة، والسلف مبني على المعروف والمكارمة، وكل عقدين يتضادان وصفًا، لا يجوز أن يجتمعا شرعًا، فاتخذوا هذا أصلًا" (¬5). ¬
وقال ابن القيم: "وحرم الجمع بين السلف والبيع لما فيه من الذريعة إلى الربا في السلف بأخذ أكثر مما أعطى، والتوسل إلى ذلك بالبيع أو الإجارة كما هو الواقع" (¬1). "لأنه إذا أقرضه مائة إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة، فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك" (¬2). "ولا خلاف بين الفقهاء في أن الحكم بحرمة ذلك وفساده منسحب على الجمع بين القرض والسلم، وبين القرض والصرف، وبين القرض والإجارة؛ لأنها كلها بيوع، وأما الجمع بين ما سوى ذلك من العقود فهو محل نظر الفقهاء، وقد اختلفت اجتهاداتهم فيه، وتباينت تفصيلاتهم وآراؤهم في كثير من صوره، وضوابطه ... " (¬3). وسوف نعرض اشتراك بعض العقود مع البيع، ومدى تأثير مثل ذلك على صحة البيع. ¬
الفرع الثاني إذا اجتمع مع عقد البيع عقدا آخر غير القرض
الفرع الثاني إذا اجتمع مع عقد البيع عقدًا آخر غير القرض [م - 418] بحثنا في الفرع السابق حكم البيع إذا اجتمع مع القرض بصفقة واحدة، كما لو باعه بشرط أن يقرضه، وخلصنا إلى أن العلماء متفقون على تحريم البيع بشرط القرض، ونبحث في هذا الفصل حكم البيع إذا اجتمع مع عقد آخر غير القرض بصفقة واحدة، كما لو باعه بشرط أن يبيعه سلعة أخرى، أو بشرط الهبة، أو بشرط النكاح، أو بشرط المصارفة، أو بشرط الجعالة، وكان ذلك في صفقة واحدة. القول الأول: مذهب الحنفية: يمنع الحنفية جمع صفقتين في صفقة واحدة، ولذلك منعوا الجمع بين بيع وإجارة (¬1)، أو بيع وإعارة (¬2). قال في الهداية: "وكذلك لو باع عبدًا على أن يستخدمه البائع شهرًا، أو دارًا على أن يسكنها، أو على أن يقرضها المشتري درهمًا، أو على أن يهدي له هدية؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد، وفيه منفعة لأحد المتعاقدين، ولأنه - عليه السلام - نهى عن بيع وسلف، ولأنه لو كان الخدمة والسكنى يقابلهما شيء من الثمن يكون إجارة في بيع، ولو كان لا يقابلهما يكون إعارة في بيع، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة" (¬3). ¬
ومنعوا الجمع بين البيع وبين القسمة التي في معنى البيع، كما منعوا كل قسمة على شرط هبة أو صدقة. جاء في المبسوط: "إذا اقتسما دارًا على أن يستوفي أحدهما من الآخر دارًا له بألف درهم، فالقسمة على هذا الشرط باطلة؛ لأن فيها معنى البيع، واشتراط هذا في البيع مبطل له؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة، وكذلك كل قسمة على شرط هبة، أو صدقة، فهي فاسدة كالبيع، وكذلك كل شراء على شرط قسمته فهو باطل؛ لأن اشتراط القسمة في الشراء كاشتراط الشراء في القسمة" (¬1). ويستثنى من ذلك الجمع بين القرض والشركة: فقد نص الحنفية بأنه: لو دفع رجل إلى آخر ألف درهم، على أن يكون نصفها الآخر قرضًا عليه، ويعمل في النصف الآخر بشركته، فإنه يجوز ذلك، وذلك يعني جواز الجمع بين الشركة والقرض (¬2). كما أجاز الحنفية جواز الجمع بين عقدي الكفالة والوكالة باعتبار أنهم قد أجازوا شركة المفاوضة، وهي تتضمن الوكالة والكفالة. فما اشتراه أحد الشريكين فهو جائز عليه وعلى صاحبه، يؤخذ به كله؛ لأن المفاوضة تتضمن الوكالة والكفالة، فبحكم الوكالة يجعل شراء أحدهما كشرائهما، وبحكم الكفالة يجعل كل واحد منهما مطالبًا بما يجب على صاحبه بسبب التجارة (¬3). ¬
القول الثاني: مذهب المالكية
هذا ما وقفت عليه من مذهب الخفية في حكم الجمع بين العقود المختلفة. القول الثاني: مذهب المالكية: منع المالكية أن يجتمع البيع مع واحد من العقود التالية وهي: الجعالة، والصرف، والمساقاة، والشركة، والنكاح، والقراض (المضاربة)، والقرض، فكذلك لا يجتمع اثنان منها في عقد واحد (¬1). وهي مجموعة في قولك: (جص مشنق) فالجيم: للجعالة، والصاد: للصرف، والميم: للمساقاة، والشين: للشركة، والنون: للنكاح، والقاف: للقراض. ونظمها بعضهم، فقال: عقود منعنها مع البيع ستة ... ويجمعها في اللفظ جص مشنق فجعل وصرف والمساق شركة ... نكاح قراض منع هذا محقق (¬2) وكذلك لا يجمع الجزاف مع الكيل، ويجوز الجمع بين البيع والإجارة كأن يشتري زرعًا، ويشترط على البائع حصاده (¬3). وجه منع هذه العقود بخصوصها مع عقد البيع عند المالكية: منع المالكية اجتماع هذه العقود مع عقد البيع لتنافي أحكام هذه العقود مع عقد البيع، ومن المعلوم أن تنافي اللوازم يدل على تنافي الملزومات (¬4). ¬
وجه منافاة أحكام البيع لأحكام الصرف
وقال ابن العربي: "كل عقدين يتضادان وصفًا ويتناقضان حكمًا، فإنه لا يجوز اجتماعهما، أصله البيع والسلف، فركبه على جميع مسائل الفقه، ومنه البيع والنكاح ... ومن هذا الباب الجمع بين العقد الواجب والجائز، ومثله بيع وجعالة ... وأمثال ذلك لا تحصى" (¬1). هذا من حيث الجملة، وأما من حيث التفصيل: وجه منافاة أحكام البيع لأحكام الصرف: أن "الصرف مبني على غاية بالتضييق، حتي شرط فيه التماثل الحقيقي في الجنس، والتقابض الذي لا تردد فيه، ولا تأخير، ولا بقاء علقة، وليس البيع كذلك" (¬2). وأما وجه منافاة أحكام البيع لأحكام النكاح: أن "النكاح مبني على المكارمة والمسامحة، وعدم المشاحة، ولذلك سمي الصداق نحلة، وهي العطية لا في مقابلة عوض، وأجيز فيه نكاح التفويض بخلاف البيع" (¬3). وأما وجه منافاة أحكام البيع لأحكام الجعالة: فإن "الجعل مبني على الجهالة بالعمل، وعلى أن العامل بالخيار، والبيع يأبى ذلك" (¬4). ¬
وأما وجه منافاة أحكام البيع لأحكام القراض والمساقاة
وأما وجه منافاة أحكام البيع لأحكام القراض والمساقاة: فإن "القراض والمساقاة مبنيان على التوسعة، إذ هما مستثنيان من أصل ممنوع، وهو الإجارة المجهولة، فصارا كالرخصة، بخلاف البيع فإنه مبني على رفع الجهالة في الثمن والمثمن والأجل، وغير ذلك، فأحكامه تنافي أحكامهما" (¬1). وأما وجه منافاة أحكام البيع لأحكام الشركة: فـ "الشركة فيها صرف أحد النقدين بالآخر من غير قبض، فهو صرف غير ناجز، وفي الشركة مخالف للأصول، والبيع يوافق الأصول، فهما متضادان، وما لا تضاد فيه يجوز جمعه مع البيع، فهذا وجه الفرق" (¬2). ويقول الشاطبي: "الشركة مبناها على المعروف والتعاون على إقامة المعاش للجانبين بالنسبة إلى كل واحد من الشريكين، والبيع يضاد ذلك" (¬3). وجاء في تهذيب الفروق: "وأما نحو الإجارة والهبة مما يماثل البيع في الأحكام والشروط ولا يضاده، فإنه يجوز اجتماعه مع البيع، كما يجوز اجتماع أحدهما مع الآخر في عقد واحد لعدم التنافي" (¬4). القول الثالث: مذهب الشافعية: قال النووي: إذا جمع في العقد مبيعين مختلفي الحكم، كثوبين شرط الخيار في أحدهما دون الآخر، أو بين بيع وإجارة، أو بيع وسلم، أو إجارة وسلم، أو صرف وغيره فقولان مشهوران: ¬
القول الرابع: مذهب الحنابلة
أصحهما: صحة العقد فيهما، ويقسط العوض عليهما بالقيمة والثاني: يبطل فيهما. وصورة البيع والإجارة: بعتك عبدي وأجرتك داري سنة بألف. وصورة البيع والسلم: بعتك ثوبي ومائة صاع حنطة سلمًا بدينار. وصورة الإجارة والسلم: أجرتك داري سنة وبعتك مائة صاع سلمًا بمائة درهم. ولو باع حنطة وثوبا بشعير، ففي صحة البيع القولان؛ لأن التقابض في الحنطة وما يقابلها من الشعير واجب، ولا يجب في الباقي، فهو كبيع وصرف ... وإذا جمع بيعًا ونكاحًا فقال: زوجتك جاريتي هذه وبعتك عبدي هذا بمائة، وهو ممن تحل له الأمة، أو قال: زوجتك بنتي وبعتك عبدها، وهي في حجره، أو رشيدة وكلته في بيعه، صح النكاح بلا خلاف -يعني في المذهب- وفي البيع والصداق القولان السابقان في البيع والإجارة (أصحهما) الصحة فإن صححناهما، وزع المسمى على قيمة المبيع ومهر المثل وإلا وجب في النكاح مهر المثل" (¬1). القول الرابع: مذهب الحنابلة: الحنابلة فرقوا بين الجمع بين عقدين بعوض واحد، فيصح البيع، وبين أن يبيعه ويشترط عليه عقدًا آخر، فيبطل البيع فإن جمع بين البيع وبين غيره من بيع أو صرف، أو إجارة، أو خلع، أو نكاح بعوض واحد صح البيع وما جمع إليه (¬2). ¬
وإن باعه واشترط أحدهما على الآخر عقدًا آخر كسلم، أو بيع، أو إجارة، أو صرف، أو شركة بطل العقد (¬1). مثال البيع واشتراط السلم: بعتك بيتي بمائة ألف على أن تسلمني خمسين صاعًا من البر بألف ريال. ومثال البيع واشتراط الإجارة: أن يقول: بعتك هذه السلعة بكذا على أن تؤجرني بيتك بكذا. ومثال البيع واشتراط الصرف: بعتك هذه السلعة بكذا على أن تصرف لي هذه الدنانير بكذا دراهم. ومثال البيع واشتراط الشركة: بعتك هذه السلعة بكذا على أن تشاركني بكذا. وكذلك كل ما كان في معنى ذلك، مثل أن يقول: بعتك داري بكذا، على أن تزوجني ابنتك، أو على أن أزوجك ابنتي ... فهذا وأمثاله لا يجوز عند الحنابلة: (ح-382) واستدلوا بما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، ثنا محمد بن عمرو، ثنا أبو سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة (¬2). [إسناده حسن] (¬3). وسيأتينا إن شاء الله تعالى خلاف العلماء في تفسير حديث النهي عن بيعتين ¬
الراجح: في العقود المشتركة
في بيعة والراجح في ذلك في حكم بيع العينة من عقد الربا، فانظره هناك مشكورًا. الراجح: في العقود المشتركة: منع الجمع بين كل عقدين يترتب على الجمع بينهما الوقوع في محذور شرعي، وإن كان كل واحد منهما جائزًا بمفرده. من ذلك: أن يقول أبيعكها بمائة إلى سنة، على أن أشتريها منك بثمانين حالة، وهذا بيع العينة المنهي عنه (¬1). ومنه لو باع عليه ذهبًا، واشترط عليه أن يشتري منه بثمنه ذهبًا آخر، فإنه حيلة لمبادلة الذهب بالذهب مع التفاضل. ومنه لو باعه الجمع بالدراهم، ثم ابتاع بالدراهم جنيبًا، وكان ذلك عن مواطأة. وكذلك لو باع عليه سلعة بشرط أن يقرضه، فإنه يدخل في القرض إذا جر نفعًا، وهكذا، ولا يدخل في ذلك العقدان اللذان لا يترتب على جمعهما محذور شرعي، كما لو باعه سيارته بشرط أن يبيعه داره، لأنه لا محذور هنا في جمع العقدين في عقد واحد، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع من الشروط المفسدة أن يوقع الشرط في غرر محرم
المبحث الرابع من الشروط المفسدة أن يوقع الشرط في غرر محرم [م - 419] إذا تضمن الشرط غررًا كثيرًا فسد البيع (¬1). كما لو اشترى بقرة على أنها تحلب كذا وكذا رطلًا (¬2). قال النووي: "ولو شرط كونها قدر كل يوم قدرًا معلومًا من اللبن بطل البيع بلا خلاف؛ لأن ذلك لا يمكن معرفته، ولا ضبطه، فلم يصح، كما لو شرط في العبد أن يكتب كل يوم عشر ورقات" (¬3). أو باع سلعة، واشترط عليه أن ينفق عليه مدة حياته (¬4). أو اشترط عليه حمل المبيع إلى منزله، والبائع لا يعرف منزل المشتري لم يصح، لوجود الغرر (¬5). ¬
وأجاز الحنابلة شرط البائع نفع المبيع مع جهالة المدة. قال ابن تيمية: "إذا شرط البائع نفع المبيع لغيره مدة معلومة فمقتضى كلام أصحابنا جوازه، فإنهم احتجوا بحديث أم سلمة أنها أعتقت سفينة، وشرطت عليه أن يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما عاش، واستثناء خدمة عبده في العتق كاستثنائها في البيع" (¬1). وقد يقال: إن إعتاق سفينة من قبيل التبرع المشروط، فخرج عن باب المعاوضة، أما اشتراط مثل ذلك في المعاوضة فلا أشك في بطلانه؛ لأن أمد الحياة مجهول والدليل على فساد البيع بالشرط المتضمن غررا. (ح-383) ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة، - رضي الله عنه -، أنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر. ولما فيه من المخاطرة التي يترتب عليها أكل أموال الناس بالباطل، قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. ¬
المبحث الخامس الشروط التي تعلق العقد
المبحث الخامس الشروط التي تعلق العقد تعريف التعليق اصطلاحًا (¬1): ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى بأداة من أدوات الشرط (¬2). مثاله: أن يعلق أحد المتعاقدين الصفقة على رضا أبيه، أو موافقة زيد من الناس، أو على قدومه. • الفرق بين التعليق والشرط: قال في المنثور: "والفرق بين التعليق والشرط: أن التعليق ما دخل على أصل الفعل بأداته، كإن، وإذا. والشرط: ما جزم فيه بالأصل، وشرط فيه أمر آخر" (¬3). فإذا قلت: بعتك إن رضي فلان، فهذا تعليق. وقولك: بعتك على أن تحمل المبيع إلى البيت، فهذا شرط. ¬
الفرع الأول: شروط التعليق
الفرع الأول: شروط التعليق [م - 420] يشترط لصحة التعليق أمور: الأول: أن يكون المعلق عليه أمرًا معدومًا عند صدور صيغة التعليق، لكنه على خطر الوجود، بحيث يكون مترددًا بين أن يكون وألا يكون، فالتعليق على المحقق يعتبر تنجيزًا مثل: إن كانت السماء فوقنا، والتعليق على المستحيل يعتبر لغوًا مثل: إن دخل الجمل في سم الخياط (¬1). الثاني: أن يكون المعلق عليه أمرًا يرجى الوقوف على وجوده، فتعليق التصرف على أمر لا يتسنى العلم به لا يصح، فلو علق الطلاق مثلا على مشيئة الله تعالى، بأن قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فإن الطلاق لا يقع اتفاقا؛ لأنه علقه على شيء لا يرجى لوقوف على وجوده. ويناقش: إن صحت حكاية الاتفاق، وإلا معرفة مشيئة الله ليست مستحيلة، فإنه لا يقع شيء إلا ونعلم أن الله أراده. قال القرافي في الفروق: "مشيئة الله تعالى واجبة النفوذ، فلذلك كل عدم ممكن يعلم وقوعه نعلم أن الله تعالى أراده، وكل وجود ممكن يعلم وقوعه نعلم أن الله تعالى أراده، فتكون مشيئة الله تعالى معلومة قطعًا، وأما مشيئة غيره فلا تعلم غايته أن يخبرنا، وخبره إنما يفيد الظن، فظهر بطلان ما يروى عن مالك وجماعة من العلماء من أنه علق الطلاق على مشيئة من لم تعلم مشيئته، بخلاف ¬
التعليق على مشيئة البشر ويجعل ذلك سبب عدم لزوم الطلاق، والأمر بالعكس" (¬1). الثالث: كونه متصلًا بحيث لا يوجد فاصل بين الشرط والجزاء، أي بين المعلق والمعلق عليه، فلو قال لزوجته: أنت طالق، ثم قال بعد فترة من الزمن: إن خرجت من الدار دون إذن مني لم يكن تعليقا للطلاق، ويكون الطلاق منجزًا بالجملة الأولى. الرابع: أن يكون المعلق عليه أمرا مستقبلا بخلاف الماضي، فإنه لا مدخل له في التعليق، فالإقرار مثلا لا يصح تعليقه بالشرط؛ لأنه إخبار عن ماض، والشرط إنما يتعلق بالأمور المستقبلة (¬2). ¬
الفرع الثاني أثر التعليق على التصرفات
الفرع الثاني أثر التعليق على التصرفات [م - 421] اختلف الفقهاء في العقد المعلق على شرط هل التعليق يمنع السبب عن السببية، أو يمنع الحكم عن الثبوت؟ فكون التعليق يمنع الحكم من الثبوت هذا لا نزاع فيه بين العلماء، واختلفوا في كون التعليق هل يمنع السبب عن السببية. فقيل: التعليق يمنع السبب عن السببية، فلا ينعقد سببًا للحكم في الحال، وإنما يتأخر ذلك إلى زمن وجود الشرط، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وقيل: إن التعليق على شرط ينعقد سببًا للحكم في الحال، وإنما يؤخر التعليق ثبوت الحكم إلى زمن وجود الشرط. وإلى هذا ذهب الشافعية (¬3)، ¬
والحنابلة (¬1). ومما يتفرع عليه: تعليق الطلاق بالزواج، والعتاق بالملك، فإنه يصح عند الحنفية والمالكية، ويقع عند وجود الزواج، وثبوت الملك، لعدم سببيته في الحال، وإنما يصير سببًا عند وجود الشرط، وهو الملك، فيصادف محلًا مملوكًا، ولا يصح عند الشافعية والحنابلة؛ لأن التعليق عندهم ينعقد سببًا للحكم في الحال، والمحل هنا غير مملوك، فيلغى، لعدم وجود المحل، ولا يقع شيء عند وجود الشرط، ومنه: تقديم الكفارة على الحنث، باعتبار أن اليمين هو سبب الكفارة، والحنث هو شرط الوجوب (¬2). ومنه تقديم الطهارة، فإن سبب وجوبها الحدث، وشرط الوجوب فعل العبادة المشترط لها الطهارة، فيجوز تقديمها على العبادة ولو بالؤمن الطويل بعد الحدث (¬3). ¬
الفرع الثالث خلاف العلماء في تعليق البيع على شرط
الفرع الثالث خلاف العلماء في تعليق البيع على شرط [م - 422] ذهب الأئمة الأربعة إلى أنه لا يجوز تعليق البيع على شرط، مثل: بعتك إن قدم فلان، أو إن كان فلان حاضرًا، أو بعتك إن نجح ابني (¬1). واستثنى الحنفية والمالكية إذا علق البيع على رضا شخص أو مشورته؛ وعللوا ذلك بأن اشترط الخيار إلى أجنبي جائز (¬2). ¬
"ولأن الخيار وضع لتأمل المبيع وحظ مشترطه، وقد لا يعرف ذلك، فيشترطه لغيره ليعرفه إياه" (¬1). واستثنى الشافعية ثلاث صور: الأولى: بعتك إن شئت. والثانية: إن كان ملكي فقد بعتكه. لأن هذا تصريح بمقتضى العقد فذكره من باب التوكيد، ولأن هذا الشرط أثبته الله في أصل البيع فيكون اشتراطه كتحصيل الحاصل. ومثل هذا لو قال: إن كنت جائز التصرف فقد بعتك، وإن أعطيتني ثمن هذا المبيع فقد بعتكه. والثالثة: البيع الضمني: كأعتق عبدك عني على مائة إذا جاء رأس الشهر (¬2). واستثنى الحنابلة صورتين: الأولى: ما إذا علق الإيجاب والقبول على مشيئة الله، كقوله: بعتك إن شاء الله، أو قبلت إن شاء الله، وذكر ابن قدامة بأنه لا يعلم خلافًا في وقوعه. والثانية: بيع العربون وإجارته (¬3). (ث-65) لما رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم، قال: اشترى نافع ¬
• دليل من قال: لا يجوز تعليق البيع بالشروط
ابن الحارث دارًا للسجن بمكة من صفوان بن أمية على إن رضي عمر فالبيع بيعه، وإن لم يرض عمر فلصفوان أربعمائة (¬1). [حسن] (¬2). وقيل: يجوز تعليق البيع على شرط مطلقًا، وبه قال أحمد، وقدماء أصحابه، وهو اختيار ابن تيمية، وابن القيم (¬3). • دليل من قال: لا يجوز تعليق البيع بالشروط: الدليل الأول: عقود التمليك تقتضي انتقال الملكية في الحال، بمعنى: أن يترتب على العقد أثره في الحال، والتعليق يمنع ذلك. ويناقش: قولكم: إن عقود التمليك تقتضي انتقال الملكية في الحال، إن أردتم أن هذا مقتضى عقود التمليك المطلقة التي لم تقيد بشيء، فهذا مسلم، وإن أردتم أن هذا مقتضى العقد على كل حال فلا قائل بذلك، فإن شرط الخيار وهو مجمع على جوازه كما سيأتي بيانه في باب الخيار هو في الحقيقة تعليق للعقد؛ لأن ¬
الدليل الثاني: التعليق غرر وقمار.
المشترط إن اختار إتمام العقد انعقد، وإن اختار الرد انفسخ العقد، وما الفرق بين هذا وبين التعليق على شرط. الدليل الثاني: التعليق غرر وقمار. وجه ذلك: أن العقد المعلق يحتمل الوجود ويحتمل العدم؛ لأن التعليق يتوقف على أمر مستقبلي، مما يعني أن التمليك في العقد المعلق فيه مخاطرة، فقد ينشأ العقد، وقد لا ينشأ، وهذا معنى وجود القمار والغرر في العقد المعلق. ويناقش: العقد المعلق ليس فيه غرر ولا قمار، فالبيع نفسه خال من شرط التعليق، لا غرر فيه، ولا قمار بلا نزاع، والتعليق نقل العقد من كونه لازمًا إلى كونه جائزًا، فإن وجد شرط لزومه لزم، وإن لم يوجد لم يلزم، وعلى كلا التقديرين لا يكون أحد المتعاقدين قد أكل مال الآخر بالباطل، ولا قمر أحدهما الآخر، وإنما التغرير والقمار لو أنه إذا عقد العقد استحق البائع الثمن على كلا التقديرين، سواء استحق المشتري المبيع أو لم يستحقه، فهذا هو الغرر والميسر الذي حرمه الله ورسوله، وهذا هو الذي يتحقق فيه أكل أموال الناس بالباطل. الدليل الثالث: انتقال الملك يعتمد على الرضا، والرضا إنما يكون مع الجزم، ولا جزم مع التعليق؛ لأن الشأن في جنس المُعَلَّق عليه أن يعترضه عدم الحصول (¬1). ويناقش: القول بأن الرضا لا يكون إلا مع الجزم دعوى بلا دليل، فالعاقدان في العقد ¬
• دليل من قال: يجوز تعليق البيع بالشروط
المعلق قد تم برضا الطرفين، ولم يكره أحد منهما على العقد، ولو صحت هذه الدعوى لقيل إن الرضا لا يتحقق في العقود التي لا تقع إلا معلقة كالوصية، ولا قائل به. وأما قولكم: إن العقد المعلق يعترضه عدم الحصول، فهذا لا حرج فيه؛ لأنه إذا لم يحصل لم يترتب عليه أكل أموال الناس بالباطل، فإن مال كل واحد من العاقدين لم يخرج عن ملكه. • دليل من قال: يجوز تعليق البيع بالشروط: الدليل الأول: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] وجه الاستدلال: أن الآية الكريمة تدل على وجوب الوفاء بكل عقد وشرط لا يخالف الشرع؛ لأن إطلاق الاسم يتناول المنجز والمعلق، والصريح والكناية ... ومن ادعى تقييدها بالمنجز دون المعلق فعليه الدليل. الدليل الثاني: (ث-66) روى البخاري في صحيحه معلقًا بصيغة الجزم. قال البخاري: عامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا. [منقطع، وقد جاء من طريق آخر مرسلًا، قال الحافظ: فيتقوى أحدهما بالآخر] (¬1). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: القياس على الاشتراط في الحج. (ح-384) فقد روى البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة بنت الزبير، فقال لها: لعلك أردت الحج؟ قالت: والله لا أجدني إلا وجعة، فقال لها: حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني، وكانت تحت المقداد بن الأسود (¬1). قال ابن القيم: شرع الله لعباده في كل موضع يحتاج إليه العبد حتى بينه وبين ربه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لضباعة بنت الزبير، وقد شكت إليه وقت الإحرام، فقال: حجي واشترطي على ربك، وقولي: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، فإن لك ما اشترطت على ربك. الدليل الرابع: (ث-67) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق جعفر بن برقان، عن الزهري، عن ¬
وجه الاستدلال
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن ابن مسعود اشترى من زوجته زينب جارية، فاشترطت عليه: إن باعها، فهي أحق بالثمن، فسأل ابن مسعود عمر، فكره أن يطأها (¬1). وفي رواية: لا تقربها ولأحد فيها شرط (¬2). [صحيح] (¬3). وجه الاستدلال: نص أحمد على جواز تعليق البيع بالشرط عملًا بهذه القصة، فإن زوجة ابن مسعود علقت بيع الجارية على زوجها بأن لا يبيعها لغيرها، وإذا باعها فإنما يبيعها بالثمن. واعترض: بأن في قول عمر: لا تقربها، وفيها لأحد شرط، دليل على بطلان الشرط. وأجيب: بأن قول عمر - رضي الله عنه - حين قال: لا تقربها وفيها لأحد شرط دليل على جواز البيع والمنع من الوطء، فصار نهي عمر- رضي الله عنه - عن قربانها إعمالًا للشرط، وليس إبطالًا للشرط؛ لأن الشرط يحد من الملكية، ولا يحل الوطء إلا إذا كان ملكه عليها تامًّا، قال ابن تيمية في الاختيارات: "يحرم الوطء لنقص الملك"، ولأن الرجل إذا وطئها قد تحمل، فيمتنع عودها إليها. ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: الأصل في الشروط الصحة والجواز، ولا يبطل منها إلا ما دل الدليل على بطلانه، أو كان في التزام الشرط يؤدي إلى الوقوع في محذور شرعي من غرر، أو ظلم، أو أكل لأموال الناس بالباطل، وتعليق العقود لم يقم دليل في النهي عنه، ولم يكن في التزامه ما يؤدي إلى الوقوع في محذور شرعي، بل إن فيه مصلحة راجحة، فمثله لا يمكن أن ينهى الشارع عنه؛ لأن الشريعة جاءت في اعتبار مصالح العباد، والنهي عما يضر بها. • الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة كلا الفريقين أجد أن القول بالجواز هو القول الصواب، وهو الذي يتمشى مع القاعدة التي رجحناها في الشروط والعقود: أن الأصل في الشروط والعقود الصحة والجواز. بل إن المانعين للتعليق قد استثنوا صورًا من تعليق البيع بالشرط، فما الفرق بين ما استثني وبين ما لم يستثن، فكان يلزمكم إما منع جميع صور التعاليق، أو القول بالجواز مطلقًا، وهو الحق.
الفرع الرابع تعليق فسخ المبيع على شرط
الفرع الرابع تعليق فسخ المبيع على شرط مثاله: لو قال البائع: بعتك هذه السلعة على أن تنقدني الثمن إلى ثلاثة أيام، أو مدة معينة، وإلا فلا بيع بيننا. فهنا التعليق للفسخ، بخلاف ما لو قال: بعتك إن رضي أبي، فإنه تعليق للعقد، وليس للفسخ. [م - 423] اختلف العلماء في حكم البيع إذا علق الفسخ فيه على شرط. فقيل: يصح البيع والشرط، فإذا مضت المدة ولم ينقده الثمن، انفسخ العقد، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3). وقيل: يصح البيع، ويبطل الشرط، وهذا مذهب المالكية (¬4). ¬
• دليل من قال: يصح البيع ويصح الشرط
وقيل: يفسد البيع والشرط، وبه قال زفر من الحفنية (¬1)، وهو مذهب الشافعية (¬2). • دليل من قال: يصح البيع ويصح الشرط: الدليل الأول: (ث- 68) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج، أخبرني سليمان مولى البرصاء، قال: بعت من ابن عمر سلعة، أو بيعًا، فقال: إن جاءت نفقتنا إلى ثلاث، فالسلعة لنا، وإن لم تأت نفقتنا إلى ثلاث، قلا بيع بيننا وبينك، فسنستقبل فيها بيعًا مستقبلًا (¬3). [إسناده فيه لين] (¬4). الدليل الثاني: الأصل في الشروط الصحة والجواز إلا شرطًا يحل حرامًا، أو يحرم حلالًا، وهذا الشرط لا يخالف مقتضى العقد فيبطل، ولا يخالف نصًا شرعيًا فيحرم، ¬
الدليل الثالث
والحاجة داعية إليه؛ لأن اشتراطه من مصلحة العقد، كطلب الرهن، والكفيل، فإذا لم يأته برهن أو كفيل انفسخ العقد. الدليل الثالث: قال السرخسي: "هذا الشرط من حيث المقصود كشرط الخيار؛ لأنه إنما يشترط الخيار ليتروى النظر فيه، ويكون مخيرًا في الأيام الثلاثة بين فسخ العقد وتمامه، وبهذا الشرط لا يحصل إلا هذا المقصود، والشرع إنما جوز شرط الخيار لهذا المقصود ... " (¬1). الدليل الرابع: علل ابن قدامة الصحة بقوله: "لأنه علق رفع العقد بأمر يحدث في مدة الخيار، فجاز كما لو شرط الخيار؛ ولأنه نوع بيع، فجاز أن ينفسخ بتأخير القبض كالصرف، ولأن هذا بمعنى شرط الخيار؛ لأنه كما يحتاج إلى التروي في البيع، هل يوافقه أو لا؟ يحتاج إلى التروي في الثمن، هل يصير منقودًا أو لا؟ فهما سيان في المعنى، متغايران في الصورة، إلا أنه في الخيار يحتاج إلى فسخ، وهاهنا ينفسخ إذا لم ينقد؛ لأنه جعله كذلك" (¬2). • تعليل من قال: يصح البيع ويبطل الشرط: علل ابن جزي بأنه من باب اشتراط ما لا يجوز، إلا أنه خفيف. قال في القوانين: "وإن شرط ما لا يجوز، إلا أنه خفيف جاز البيع، وبطل الشرط" (¬3). ¬
ويناقش
وعلل المالكية في المدونة لوجود الغرر والمخاطرة، جاء في المدونة: "لم كرهه مالك؟ قال: لموضع الغرر والمخاطرة في ذلك، كأنه زاده في الثمن على أنه إن نقده إلى ذلك الأجل فهي له، وإلا فلا شيء له، وهذا من الغرر والمخاطرة" (¬1). وذكر الدسوقي بأن البيع قد انعقد قبل حلول الأجل، أي فلا يبطل البيع ببطلان الشرط (¬2). ويناقش: لا نسلم أن هذا الشرط من الشروط التي لا تجوز، كما أن هذا الشرط لا يتضمن غررًا ولا مخاطرة، وذلك لأنه قد دخل على بينة من أمره، وقد قلتم بصحة خيار الشرط، وهذا في معناه. • دليل من قال: يبطل البيع والشرط: الدليل الأول: قال النووي: "أنه في معنى تعليق البيع، فلم يصح" (¬3). ويناقش: سبق لنا أن بينا أن تعليق البيع جائز على الصحيح، فإذا سلمنا أنه بمعنى تعليق البيع لم يمنع ذلك من القول بالصحة، مع أنه قد يقال: إن الأقرب أن يقال: إنه بمعنى خيار الشرط، وهو سائغ بالاتفاق. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: جاء في المبسوط: "لو شرط إقالة مطلقة فسد به العقد، فإذا شرط إقالة معلقة أولى أن يفسد به (¬1). وفي تبيين الحقائق: "البيع بشرط الإقالة الصحيحة باطل، فشرط الإقالة الفاسدة أولى" (¬2). وجاء في بدائع الصنائع: "هذا بيع علقت إقالته بشرط عدم نقد الثمن إلى ثلاثة أيام، وتعليق الإقالة بالشرط فاسد، فكان هذا بيعًا دخله شرط فاسد، فيكون فاسدًا كسائر الأنواع التي دخلتها شروط فاسدة" (¬3). ويناقش: لا نسلم أنه لو شرط إقالة مطلقة أو إقالة صحيحة فسد بها العقد، فإنه لو اشترى بشرط الخيار له لمدة ثلاثة أيام، فإنه قد شرط حق الإقالة المطلقة تلك المدة، وهو سائغ بالاتفاق، والقول بأن اشتراط الإقالة لعدم نقد الثمن شرط فاسد، احتجاج بموضع النزاع، فلا يصح. • القول الراجح: القول الصحيح أن هذا الشرط جائز وصحيح، وفيه مصلحة للعقد؛ لأن تسليم الثمن من مصلحة العقد، فاشتراط ما يحمل المشتري على التسليم شرط صحيح يعود على العقد بالمصلحة كاشتراط الرهن ونحوه، ومن المعلوم أن المشتري لو عجز عن تسليم الثمن كان من حق البائع أن يفسخ العقد بلا شرط، ¬
فاشتراط الفسخ لعدم تسليم الثمن الحال الواجب التسليم يدخل من باب التوكيد لما هو واجب بمقتضى العقد.
المبحث السادس اشتراط البراءة من العيوب
المبحث السادس اشتراط البراءة من العيوب الفرع الأول تعريف البيع على البراءة قال ابن عبد السلام: معنى البراءة: التزام المشتري للبائع أن لا يطالب بشيء من سبب عيوب المبيع التي لم يعلم بها، كانت قديمة، أو مشكوكًا فيها (¬1). قال ابن عابدين: "ومنه ما تعورف في زماننا فيما إذا باع دارًا مثلًا، فيقول: بعتك هذه الدار على أنها كوم تراب، وفي بيع الدابة يقول: مكسرة محطمة، وفي نحو الثوب يقول: حراق على الزناد، ويريدون بذلك أنه مشتمل على جميع العيوب" (¬2). ويقال مثله في عصرنا: أبيعك السيارة على أنها كومة حديد. الغرض من هذا الشرط: غرض البائع من ذلك أن يجعل العقد لازمًا، بحيث لا يحق للمشتري الخيار في رد السلعة إذا ثبت فيها عيب. ¬
الفرع الثاني في أقسام البراءة
الفرع الثاني في أقسام البراءة [م - 424] تنقسم البراءة من العيب إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن تكون البراءة مقيدة بالعيب الموجود عند العقد. فهنا لا خلاف في أن البراءة على هذه الصورة ونحوها لا تتناول إلا ما كان قائمًا وقت العقد، دون ما يحدث بعده إلى حين التسليم، ولا فرق بين صدور البراءة على وجه العموم: كما لو قال: بريء من كل عيب به، أو الخصوص، بأن قال: برئ من عيب كذا به. جاء في الجوهرة النيرة: "وإن قال البائع: على أني بريء من كل عيب به لم يدخل الحادث بعد البيع وقبل القبض إجماعًا" (¬1). وقال ابن نجيم: "وأجمعوا أنه لو أبرأه من كل عيب به، لا يدخل الحادث" (¬2). [م - 425] القسم الثاني: أن ينص على البراءة عن العيب القائم والحادث بعد العقد، وقبل القبض. فقيل: البيع بهذا الشرط فاسد، وهذا مذهب الحنفية (¬3)، ومذهب الشافعية (¬4). ¬
قال في بدائع الصنائع: "وإن أضافها -يعني البراءة من العيب- إلى عيب حادث بأن قال: على أني بريء من كل عيب يحدث بعد البيع، فالبيع بهذا الشرط فاسد عندنا؛ لأن الإبراء لا يحتمل الإضافة؛ لأنه، وإن كان إسقاطًا، ففيه معنى التمليك؛ ولهذا لا يحتمل الارتداد بالرد، ولا يحتمل الإضافة إلى زمان في المستقبل نصًا، كما لا يحتمل التعليق بالشرط، فكان هذا بيعًا أدخل فيه شرطًا فاسدًا، فيوجب فساد البيع" (¬1). وقيل: يصح الشرط، ذكره السرخسي في المبسوط، وهو قول مرجوح في مذهب الشافعية (¬2). قال السرخسي: -رحمه الله- في بيان وجه الصحة: "ذلك صحيح عندنا، باعتبار أنه يقيم السبب وهو العقد مقام نفس العقد الموجب للرد في صحة الإسقاط، ولئن سلمنا، فنقول: هنا ظاهر لفظه يتناول العيوب الموجودة، ثم يدخل فيه ما يحدث قبل القبض تبعًا؛ لأن ذلك يرجع إلى تقرير مقصودهما، وقد يدخل في التصرف تبعًا ما لا يجوز أن يكون مقصودًا بذلك التصرف، كالشرب في بيع الأرض، والمنقولات في وقف القربة" (¬3). وقال في مغني المحتاج: "يصح بطريق التبع، فإن انفرد الحادث فهو أولى بالبطلان" (¬4). [م - 426] القسم الثالث: أن يشترط البراءة بصورة الإطلاق، من غير بيان، ¬
• وجه ذلك
أهو براءة من العيب الموجود، أم منه، ومن الحادث، كما لو قال: على أني برئ من كل عيب، أو بريء من عيب كذا، ويطلق. فقيل: يدخل تحت الإبراء العيب القائم عند العقد، والحادث بعده وقبل القبض، وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة، وأبو يوسف (¬1). • وجه ذلك: أن لفظ الإبراء يتناول الحادث نصًا ودلالة، أما النص: فإن لفظ البراءة عام للعيوب كلها، فتحصيصه أو تقييده بالموجود عند العتهد لا يجوز إلا بدليل. وأما الدلالة: فإن غرض البائع من هذا الشرط هو جعل العقد لازمًا، وانسداد طريق الرد، وفي هذا لا فرق بين العيب الموجود والحادث قبل القبض. وقيل: لا يدخل فيه الحادث بعد العتهد، بل يقتصر فيه على العيوب الموجودة عند العقد، وبه قال محمَّد بن الحسن، وزفر، وهو مذهب مالك (¬2). • وجه كون العيب الحادث لا يدخل: أن الإبراء عن العيب يقتضي وجود العيب؛ لأن الإبراء عن المعدوم لا يتصور، والحادث لم يكن موجودًا عند البيع، فلا يدخل تحت الإبراء، فلو دخل إنما يدخل بالإضافة إلى حالة الحدوث، والإبراء لا يحتمل الإضافة؛ لأن فيه معنى التمليك، وإذا كان المذهب لا يدخل العيب الحادث مع التنصيص عليه، فكونه لا يدخل بلا تنصيص كما إذا أطلق، من باب أولى (¬3). ¬
ولأن ذلك مجهول، لا يدرى أيحدث أم لا، وإذا حدث فما مقداره (¬1). وهذا هو القول الراجح، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث في البراءة من العيب المعلوم
الفرع الثالث في البراءة من العيب المعلوم [م - 427] إذا كان العيب معلومًا للبائع، فهل يبرأ منه إذا اشترط البراءة؟ فقيل: يبرأ البائع مطلقًا إذا باعه بشرط البراءة، سواء كان البائع عالمًا به، أم غير عالم، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، وأحد قولي الشافعي (¬2). وقيل: لا يبرأ البائع إذا كان عالمًا بالعيب، وهذا مذهب المالكية (¬3)، وأحد قولي الشافعي (¬4)، وقول في مذهب الحنابلة اختاره ابن تيمية (¬5). وقيل: لا يبرأ مطلقًا، سواء كان عالمًا أو غير عالم، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬6). ¬
• دليل من قال: لا يبرأ مع العلم بالعيب
• دليل من قال: لا يبرأ مع العلم بالعيب: (ث -69) ما رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد، عن سالم، أن عبد الله بن عمر باع غلامًا له بثمانمائة درهم، وباعه بالبراءة، فقال الذي ابتاعه لعبد الله بن عمر: بالغلام داء لم تسمه لي، فاختصما إلى عثمان بن عفان، فقال الرجل: باعني عبدًا وبه داء لم يسمه. وقال عبد الله: بعته بالبراءة، فقضى عثمان بن عفان على عبد الله بن عمر أن يحلف له، لقد باعه العبد وما به داء يعلمه، فأبى عبد الله أن يحلف، وارتجع العبد، فصح عنده، فباعه عبد الله بعد ذلك بألف وخمسمائة درهم (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثاني: أن البائع إذا كان مطلعًا على العيب، ولم يوقف عليه المشتري كان في ذلك نوع من التدليس من جانب البائع يعطي المشتري حق الخيار في الرد. فالإبراء من العيوب إذا كان يسقط خيار العيب عند بعض الفقهاء، فإنه لا يسقط خيار التدليس، فلا يؤثر في عيب يعلمه، ثم يخفيه، وهناك فرق كبير بين أن يكون البائع جاهلًا بالعيب، ويطلب البراءة، وبين أن يكون عالمًا به، ويطلب البراءة؛ لأن المسألة الأولى كان شرط البراءة للاحتياط، وليس للاحتيال، وأما البائع في المسألة الثانية فقد كان عالمًا بالعيب، فكتمه، ثم اشترط هذا الشرط تهربًا من أثره، واحتيالًا فيعاقب بنقيض قصده؛ لأنه أقدم على العقد بسوء نية (¬3). ¬
دليل من قال: يبرأ البائع وإن علم الغيب
دليل من قال: يبرأ البائع وإن علم الغيب: المبيع بشرط البراءة من العيب، ولو علم البائع بالعيب ليس في ذلك جهالة، ولا غرر؛ لأن المبيع معلوم للمشتري، مشار إليه بعينه ومكانه، قد أحاط نظره بالسلعة، ولم يدلس عليه فيها، والبائع قادر على تسليمه بتلك الصفة التي عليها المبيع، ولم يدع سلامته من العيوب، بل طلب البراءة من كل عيب فيها، وأعطاه المشتري هذا الحق، فأسقط حقًا له يملكه، وهذا الشرط لا ينافي مقتضى العقد، بل يقرر مقتضى العقد، وهو أن مقتضى العقد اللزوم، وبهذا الشرط جعل البيع لازمًا وأسقط المشتري حقه في الرد بخياره العيب، فلا حرج في ذلك إن شاء الله (¬1). الراجح: القول الراجح أن البائع إذا كان عالمًا بالعيب لا ينفعه اشتراطه البراءة، وذلك أنه كان يمكنه أن يوقف المشتري على العيب، وتكون إرادة المشتري جازمة، ولا يدخل باحتمال أن تكون السدعة سليمة من العيب، وكون ابن عمر نكل عن اليمين لا يدل على أنه كان عالمًا بالعيب، فربما امتنع من باب الورع، ولذلك عوضه الله خيرًا. ¬
الفرع الرابع في البراءة من العيب المجهول
الفرع الرابع في البراءة من العيب المجهول [م - 428] إذا كان العيب أو العيوب مجهولة للبائع، وطلب البراءة منها، فقد اختلف العلماء، هل يبرأ البائع أم لا؟ فقيل: يبرأ من جميع العيوب، في كل السلع، لا فرق في ذلك بين الحيوان وبين غيره. ولا فرق بين بيع الحاكم والوارث، وبين بيع غيره، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، وهو أحد الأقوال عن مالك (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد اختارها ابن تيمية، وابن القيم (¬4). وقيل: لا يبرأ إلا في الرقيق خاصة، بشرط أن تطول إقامة الرقيق عنده بحيث يطمئن فيه لسلامته من العيوب التي تؤثر في رغبة الناس في المبيع، ويستثنى من ذلك بيع الحاكم (القاضي) لخلاص الديون، أو على المفلس لقضائها، وكذلك بيع الوارث لخلاص الديون، وأما البيع من أجل الاقتسام فقولان، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬5). ¬
وقيل: يبرأ في عيب باطن في الحيوان، عاقلًا كان أو غير عاقل، وهذا أظهر الأقوال عن الشافعي (¬1)، وهو قول مالك في الموطأ (¬2). وقيل: لا يبرأ مطلقًا إلا أن يطلع عليه المشتري، ويسميه له، ويوقفه عليه، وهو قول لمالك (¬3)، وقول للشافعي (¬4)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5)، وبه قال ابن حزم (¬6)، وجماعة (¬7). فإذا الأقوال أربعة: يبرأ مطلقًا، وهو مذهب الحنفية. لا يبرأ مطلقًا، وهو المشهور من مذهب الحنابلة. ¬
دليل من قال: بيرأ مطلقا من جميع العيوب، في جميع السلع.
يبرأ في الحيوان والرقيق، وهو المشهور عند الشافعية. يبرأ في الرقيق خاصة، وهو المشهور من مذهب المالكية. دليل من قال: بيرأ مطلقا من جميع العيوب، في جميع السلع. الدليل الأول: قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] قال في المعونة (¬1): وجه القول بأن شرط البراءة جائز قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. الدليل الثاني: (ث-70) "أن ابن عمر - رضي الله عنهما- باع بشرط البراءة كما في موطأ مالك وغيره (¬2). وسنده صحيح (¬3). ولم ينكر عليه عثمان، وإنما رأى البراءة مع العلم بالعيب لا ينفع، ولم يخالفه أحد" (¬4). الدليل الثالث: قام الدليل على صحة الإبراء عن الحقوق المجهولة، وهذا منها. وسوف أفرد لمسألة (الإبراء عن الحقوق المجهولة) بحثا خاصًا بعد هذه الفراغ من هذه المسألة، فأكتفي به عن ذكرها هنا. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: البراءة من العيب شرط شرطه البائع، ورضي به المشتري، وهو لا يخالف نصًّا شرعيًا، ولا يخالف مقتضى العقد، ولا يلزم منه الوقوع في محذور شرعي، كل ما هنالك أن المشتري كان له حق خيار الرد بالعيب، فتنازل عن حقه، فكأنه اختار لزوم البيع مع تحقق العيب. ويناقش: بأن العيب لما كان مجهول الجنس والقدر، وكان ذلك مؤثرًا في قيمة السلعة، وكان شرط صحة البيع العلم بالمبيع، ومع وجود عيب لم يعلم جنسه، ولا قدره لم يتحقق شرط العلم بالمبيع، ولعل المشتري لو كان يعلم أن فيه مثل هذا العيب لم يرض به، وإنما رضيه لأنه غلب على ظنه سلامة المبيع من العيوب اعتمادا على ظاهر الرؤية، ولذلك الرجل الذي اشترى من ابن عمر الغلام، وبه عيب قد رضي هذا الشرط، وعندما اطلع على العيب، وتحقق من وجوده طالب بإرجاع السلعة، والله أعلم. الدليل الخامس: خيار الرد بالعيب إنما يثبت لكون العقد يقتضي مطلق السلامة، فإذا صرح بالبراءة فقد ارتفع الإطلاق، ولم تكن صيغة العقد تقتضي السلامة من العيب. دليل من قال: لا يبرأ مطلقًا في جميع السلع. الدليل الأول: حق الخيار بالعيب إنما يثبت بعد العقد، فلا يسقط بالإسقاط قبله، كالشفعة إذا أسقطها الشفيع قبل البيع لا تسقط.
ونوقش
ونوقش: لا نسلم القياس على حق الشفعة، فإن الشفعة إذا أسقطها الشفيع قبل البيع سقطت. (ح-385) لما رواه مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه -، قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شركة لم تقسم: ربعة أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: (لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه) فهو قد طلب من شريكه الإذن بالبيع قبل البيع، وقبل قيام حق الشفعة. الدليل الثاني: العيوب تتفاوت بعضها أكثر من بعض، فكيف يبرأ بما لم يعلم المشتري قدره، فهذا نوع من الغرر. فإن قيل: البائع كذلك يجهله، ولم يقف عليه. قيل: إن علم البائع العيب، فكتمه، فهو غش وخداع، وإن لم يعلم البائع العيب، وطلب البراءة منه فهو غرر. وجه الغرر في ذلك: أن المشتري بذل ثمنه في مقابل سلعة لم يعقد البيع على سلامتها من ¬
وأجيب
العيوب، ولا رجوع له بما يُنْقص العيب منها، فلم يعلم قدر ما يشتري به، ولا ما يُسَلَّم، والله أعلم. وأجيب: لا نسلم أن البيع بشرط البراءة من العيب أنه من قبيل الغرر؛ لأن السلعة قائمة، ووسائل معرفتها متوفرة. الدليل الثالث: قالوا: في الإبراء معنى التمليك، وتمليك المجهول لا يصح (¬1). ويناقش: حقيقة الإبراء إسقاط، وليس تمليكًا، والإسقاط في المجهول صحيح على الراجح. ويجاب: بأن الإبراء من مجهول إن كان على سبيل التبرع جاز على الصحيح، وأما في عقود المعاوضات فالجهالة فيها مؤثرة، والشرط جزء من المعاملة؛ لأن كل التزام يلتزمه الإنسان فإن له جزءًا من الثمن، كما هو هنا فلا يصح؛ لأن المعاوضات أضيق من باب التبرعات. دليل من قال: يبرأ في الرقيق خاصة دون سائر الحيوان والعروض. قال الباجي: "الرقيق يكتم عيوبه، ولا يظهرها سترًا على نفسه، ورغبة في بقائه في محله، فكان ذلك مقويًا لما يدعيه البائع من استواء علمه به وعلم ¬
دليل من قال: يبرأ من الحيوان، عاقلا كان أو غير عاقل.
المبتاع، ومن أصلنا أن الرد بالعيب مبني على علم البائع بالعيب وتدليسه، وما استوى فيه علم البائع والمبتاع فلا سبيل إلى الود به علمًا أو جهلًا (¬1). دليل من قال: يبرأ من الحيوان، عاقلًا كان أو غير عاقل. الدليل الأول: الدليل إنما ورد في بيع الحيوان بشرط البراءة، وذلك في قضاء عثمان، (ث- 71) فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه، من طريق سالم أن ابن عمر باع غلامًا له بثمانمائة، قال: فوجد به المشتري عيبًا، فخاصمه إلى عثمان، فسأله عثمان فقال: بعته بالبراءة، فقال: تحلف بالله، لقد بعته وما به من عيب تعلمه، فقال: بعته بالبراءة، وأبى أن يحلف، فرده عثمان عليه، فباعه بعد ذلك بألف وخمسمائة (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ولم نعد الحكم إلى غير الحيوان؛ لأن في الحيوان معنى يفارق ما سواه، فإن ما كانت فيه الحياة يتغذى بالصحة والسقم، وطبائعه تتحول، وقلما يبرأ من عيب يظهر، أو يخفى، فدعت الحاجة إلى البراءة من العيب الباطن فيه؛ لأنه لا سبيل إلى معرفته، وتوقيف المشتري عليه، وهذا المعنى لا يوجد في العيب الظاهر، ولا في العيب الباطن في غير الحيوان، فلم تصح البراءة منه مع الجهالة. ¬
الراجح
الراجح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها أجد أن أضعف الأقوال: القول بأن البائع ينفعه شرط البراءة إذا كان المبيع حيوانًا، سواء خص ذلك بالرقيق كما هو المشهور من مذهب المالكية، أو خص ذلك بالحيوان مطلقًا، عاقلًا كان أو غير عاقل كما هو المنصوص عن الشافعي في الأم؛ لأن شرط البراءة إذا نفع البائع في الحيوان، فغير الحيوان مقيس عليه. ويبقى النظر في القولين المتقابلين: القول بأنه يبرأ مطلقًا كما هو مذهب الحنفية، أو القول بأنه لا يبرأ مطلقًا كما هو المشهور من مذهب الحنابلة، وفي كلا القولين قوة، ولا أرى الاحتجاج بأثر عثمان - رضي الله عنه -، فإن أثر عثمان يكون حجة لو لم يخالفه صحابي آخر، وقد عارضه ابن عمر، فهو قد اشترط البراءة، ورأى أن ذلك ينفعه، وكون رأي عثمان - رضي الله عنه - قد لزم ابن عمر - رضي الله عنه - فلأنه كان قد رضيه حاكمًا، وحكمه ملزم للمتخاصمين، ولكن رأي ابن عمر يبقى قولًا محفوظًا لصحابي ورع فقيه، ويبقى النظر في الحجج الأخرى خارج هذا الأثر، فالحنفية يرون أنه من باب الإسقاط، فالمشتري يملك حق خيار الرد بالعيب، فإذا أسقط حقه سقط، والإبراء من الحق المجهول جائز، والحنابلة يرون أن بعض العيوب قد تلحق ضررًا كبيرًا في المشتري، فلو دار في خلده أن يكون به مثل هذا الجنس من العيوب، أو مثل هذا القدر ما قبل البيع، واكتشاف هذا العيب بهذا الحجم يدل على أن العلم بالمبيع لم يكن متحققًا، وهو شرط في صحة البيع، فإذا لزمته الصفقة مع قيام هذا العيب المؤثر في ثمن السلعة والذي لم يعلم به العاقدان يعرض المشتري للغبن الفاحش، والغرر الكثير، ومثل هذا يؤثر في البيع.
هذان التعليلان متقابلان، وأرى أن كلًا من التعليلين له وجه، وإن كنت أميل إلى اعتبار قول الحنابلة لأن القول بعدم لزوم البيع لن يدخل البائع في غبن؛ لأن حقه في المبيع سيعود إليه غير منقوص في الوقت الذي نكون قد جنبنا المشتري من الوقوع في الغبن والضرر، وهذا الميل لا يعني أن قول الحنفية وتعليلهم ضعيف، ولو تخير الحاكم بين القولين بأنه إذا كان الغين فاحشًا والضرر بينًا، والعيب غير متوقع كان له الأخذ بقول الحنابلة، وإن كان العيب متوقعًا، والغبن ليس كبيرًا جدًا كان له أن يأخذ بقول الحنفية، وهذا التخير ليس مبنيًا على التشهي، وإنما لقوة كل دليل، لعل مثل ذلك لا يبعد عن الصواب، ولما كانت هذه المسألة لها تعلق كبير في الإبراء من المجهول، وهل يصح أو لا؟ رأيت أن أبحث هذه المسألة بشكل مستقل في المبحث التالي إن شاء الله تعالى، أعاننا الله على ذلك بمنه وكرمه.
الفرع الخامس الإبراء من المجهول
الفرع الخامس الإبراء من المجهول [م - 429] اختلف الفقهاء في صحة الإبراء من المجهول: فقبل: الإبراء من المجهول صحيح، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والقول القديم للشافعي (¬3). وقيل: يصح إن تعذر علمه، وإلا فلا، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وذهب الشافعية إلى أنه لا يصح الإبراء من المجهول مطلقًا، وإذا وقع الإبراء ضمن معاوضة كالخلع اشترط علم الطرفين بالمبرأ عنه، أما في غير المعاوضة فيكفي علم المبرئ وحده (¬5). ¬
دليل من قال: يصح الإبراء من المجهول
وسبب الخلاف في هذه المسألة: اختلافهم هل الإبراء إسقاط محض كالإعتاق، أو تمليك للمديون ما في ذمته، فإذا ملكه سقط. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ورد النهي عن الغرر، وعن بيع المجهول، فمن العلماء من عممه في جميع التصرفات، فمنع من الجهالة في الهبة، والصدقة، والإبراء، والخلع، والصلح كالشافعية. ومنهم من فصل فمنع من الغرر والجهالة في باب المعاوضات الصرفة، والتي يقصد فيها تنمية المال، ولم يمنع من الغرر والجهالة في باب ما هو إحسان صرف، لا يقصد به تنمية المال، كالصدقة، والهبة، والإبراء كالحنفية، والمالكية. دليل من قال: يصح الإبراء من المجهول: الدليل الأول: (ح-386) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق أسامة بن زيد الليثي، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت: جاء رجلان من الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يختصمان في مواريث بينهما قد درست، ليس لهما بينة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيهْ بشيء فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار، يأتي بها إسطامًا في عنقه يوم القيامة، قالت: فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما إذ فعلتما فاذهبا واقتسما، وتوخيا الحق، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه (¬1). ¬
وجه الاستدلال
[إسناده حسن] (¬1) وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وتوخيا الحق، ثم ليحلل كل واحد منكما. صاحبه فيه دليل على جواز الإبراء من المجهول؛ لأن التوخي لا يكون من المعلوم. الدليل الثاني: الإبراء إسقاط، والجهالة فيه لا تؤدي إلى المنازعة، وإنما كانت الجهالة مبطلة في التمليكات؛ لأنها تفوت التسليم الواجب بالعقد، وهذا لا يتصور في الإسقاط، فلا تكون الجهالة مبطلة له. دليل من قال: الإبراء من المجهول صحيح إن تعذر علمه. الحاجة داعية إلى تبرئة الذمة، ولا سبيل إلى العلم فيها، فلو وقفت صحة البراءة على العلم لكان سدًا لباب عفو الإنسان عن أخيه المسلم، وتبرئة ذمته، فلم يجز ذلك، وأما إن كان من عليه الحق يعلمه، ويكتمه المستحق خوفًا من أنه إذا علمه لم يسمح بإبرائه منه، فينبغي ألا تصح البراءة فيه؛ لأن فيه تغريرًا بالمشتري، وقد أمكن التحرز منه (¬2). ¬
دليل من منع الإبراء من المجهول مطلقا
دليل من منع الإبراء من المجهول مطلقًا: هذا القول رأى أن حقيقة الإبراء: تمليك المديون ما في ذمته، والتمليك لا بد فيه من الرضا وانتفاء الغرر، ولا يعقل وجود الرضا مع قيام الجهالة، فمن أبرأ مما لا يعلم جنسه أو قدره لم يبرأ بذلك لوجود الغرر، والغرر مانع من الصحة، ولأنه لا يتصور قيام الرضا مع وجود الجهالة (¬1). الراجح: أرى أن مذهب الحنابلة وسط بين القولين، فلا يصح الإبراء من مجهول يمكن الوقوف على جنسه وقدره، ويصح فيما يتعذر علمه حتى لا يقفل باب العفو، ولأن القول بعدم الصلح على المجهول يفضي إلى ضياع المال، والله أعلم. ¬
الفرع السادس الحكم الوضعي للعقد إذا اقترن به شرط البراءة
الفرع السادس الحكم الوضعي للعقد إذا اقترن به شرط البراءة [م - 430] من ذهب إلى صحة اشتراط البراءة من العيوب كالحنفية ليس بحاجة إلى بحث هذه المسألة، وكذا المالكية في حال كان المبيع رقيقًا، وكذا الشافعية فيما إذا كان المبيع حيوانًا، فإن الشرط إذا كان صحيحًا، كان البيع صحيحًا كذلك، ولكن نحتاج إلى معرفة من يرى بطلان هذا الشرط، كالحنابلة مثلًا، وكذلك المالكية والشافعية فيما لو كانت البراءة من العيوب في العروض، وليست في الحيوان، هل يبطل عندهم العقد، أو يبطل الشرط وحده؟ في هذا خلاف بينهم: فقيل: يصح العقد، ويبطل الشرط. وهذا مذهب المالكية (¬1)، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: يبطل العقد، وهذا وجه في مذهب الشافعية (¬4). ¬
دليل من قال بصحة العقد مع بطلان الشرط
دليل من قال بصحة العقد مع بطلان الشرط: الدليل الأول: (ث-72) ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، من طريق سالم، أن ابن عمر باع كلامًا له بثمانمائة، قال: فوجد به المشتري عيبًا، فخاصمه إلى عثمان، فسأله عثمان فقال: بعته بالبراءة، فقال: تحلف بالله، لقد بعته وما به من عيب تعلمه، فقال: بعته بالبراءة، وأبى أن يحلف، فرده عثمان عليه، فباعه بعد ذلك بألف وخمسمائة (¬1). [إسناده صحيح] وجهه: حيث صحح عثمان - رضي الله عنه - البيع، وأبطل الشرط. الدليل الثاني: أن هذا الشرط فيه شبه من التدليس، حيث طلب البائع البراءة منه، ولم يوقف عليه المشتري، والتدليس لا يمنع صحة البيع، وللمدلس عليه الخيار في الرد. وجه من قال: يبطل العقد: قال الشيرازي: "هذا الشرط يقتضي جزءًا من الثمن، تركه البائع لأجل الشرط، فإذا سقط وجب أن يرد الجزء الذي تركه بسبب الشرط، وذلك مجهول، والمجهول إذا أضيف إلى المعلوم صار الجميع مجهولًا، فيصير الثمن مجهولًا، ففسد العقد" (¬2). بل لو قدر معرفة حصة هذا الشرط من الثمن، فإن البائع لم يرض بالبيع إلا ¬
الراجح
بالثمن الذي جرى عليه التعاقد، وأما الثمن مخصومًا منه حصة الشرط فلم يقع عليه الرضا، فكيف يلزم البائع بإخراجه عن ملكه بأقل مما تعاقدا عليه. الراجح: إن رجحنا مذهب الحنفية، وهو صحة اشتراط البراءة من العيب، فالتفريع هذا يكون بناء على القول المرجوح، فلا أرى حاجة إلى الخوض في الراجح حينئذ، وإن رجحنا مذهب الحنابلة، وهو القول ببطلان الشرط، فالذي أميل إليه أن الشرط إذا بطل، فإن كان له حصة من الثمن، فإن إبطاله لا بد أن يفضي إلى إبطال العقد؛ لأن البائع لا يستحق أن يأخذ قيمة شرط قد التزمه، ثم تبين بطلانه، فإذا أعفي من الشرط، سقط ما يقابله من الثمن، وإذا سقط جزء من الثمن احتاج الأمر إلى تعاقد جديد بثمن يقع فيه الرضا بين الطرفين. وإن لم يكن الشرط له حصة من الثمن فالبيع صحيح، ويبطل الشرط وحده، كما في بيع العبد بشرط الولاء، فإن الولاء ليس له حصة من الثمن، لكون الولاء لا يصح بيعه، ولا هبته، فلا مانع من إبطال الشرط هنا، وإمضاء البيع، والله أعلم.
المبحث السابع في بيع العربون
المبحث السابع في بيع العربون الفرع الأول في تعريف بيع العربون تعريف العربون اصطلاحًا (¬1) عرف مالك بيع العربون بقوله: "وذلك -أي بيع العربون- فيما نرى، والله أعلم، أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة، أو يتكارى الدابة، ثم يقول للذي اشترى منه، أو تكارى منه: أعطيك دينارًا أو درهمًا، أو أكثر من ذلك، أو أقل على أني إن أخذت السلعة، أو ركبت ما تكاريت منك، فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة، أو من كراء الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة، أو كراء الدابة، فما أعطيتك لك باطل بغير شيء" (¬2). وعرفه صاحب غريب ألفاظ التنبيه بقوله: "وهو أن يشتري سلعة، ويعطي ¬
توصيف بيع العربون
البائع درهمًا أو دراهم مثلًا، ويقول: إن يتم البيع فهو من الثمن، وإن تركته فهو لك مجانًا" (¬1). فتبين لنا من خلال ما سبق أن بيع العربون: هو أن يشتري الرجل السلعة، ويدفع للبائع مبلغًا من المال على أنه إن أخذ السلعة كان ذلك المبلغ محسوبًا من الثمن، وإن تركها، فالمبلغ للبائع. توصيف بيع العربون: [م - 431] اختلف العلماء في توصيف بيع العربون على أقوال: القول الأول: حقيقة بيع العربون: بأنه خيار شرط، يقابله مال في حال الرد، ويثبت فيه الخيار للمشتري وحده دون البائع، فإذا أمضى البيع كان العربون جزءًا من الثمن، وإن رد البيع خسر المشتري العربون. ولهذا أوردت هذا البحث في باب الشروط. القول الثاني: ذهب بعض العلماء إلى أن العربون هبة إذا لم تتم الصفقة. جاء في تعريف مالك المتقدم: "وإن تركت ابتياع السلعة، أو كراء الدابة، فما أعطيتك لك باطل بغير شيء" (¬2). وجاء في مغني المحتاج: "أن يشتري ويعطيه دراهم لتكون من الثمن، إن رضي السلعة، وإلا فهبة" (¬3). ¬
القول الثالث
وجاء في روضة الطالبين: "إن أخذ السلعة فهي -أي الدراهم- من الثمن، وإلا فهي للمدفوع مجانًا" (¬1). القول الثالث: قد يقال: إن العربون عوض عن انتظار البائع. ورد هذا: بأن الإنظار للبيع لا تجوز المعاوضة عنه، ولو جازت لوجب أن يكون معلوم القدر كالإجارة (¬2). والصحيح أنه يجب أن يكون معلوم القدر حتى لا يكون الأجل فيه مجهولًا، فيفسد البيع. القول الرابع: بيع العربون بيع مشتمل على شرط جزائي، بأنه في حال نكل المشتري عن إتمام الصفقة فإنه يترتب عليه خسارته لجزء مقدم من الثمن، يسمى العربون. فكل من الشرط الجزائي وبيع العربون يتضمن التزام أحد طرفي العقد عند التعاقد أن يدفع مبلغًا معينًا من المال فالشرط الجزائي تقدير للتعويض في حالة الإخلال بالشرط، والعربون تقدير للتعويض في حالة العدول عن العقد، فإذا شرطا هذا في العقد، وصدر عن رضا واختيار لزمهما. فالشرط الجزائي على هذا فيه شبه من العربون، خاصة في القوانين التي تجيز الشرط الجزائي بدون أي حق للقاضي في تعديل مبلغه بالزيادة أو النقصان، أو الإلغاء، لكي يتناسب المبلغ مع مقدار الضرر الفعلي (¬3). ¬
ويختلف العربون عن الشرط الجزائى بأمرين: الأول: أن الشرط الجزائي يراه البعض أنه يدفع في مقابل التعويض عن الضرر الذي ينشأ عن الإخلال بالشرط، ومن ثم جاز للقاضي تخفيض هذا التقدير إذا كان مبالغَا فيه إلى درجة كبيرة، بل جاز له ألا يحكم به أصلًا إذا لم يحلق الدائن أي ضرر. وأما الالتزام في دفع قيمة العربون فإنه قد جعل في مقابل حق العدول عن العقد، ولو لم يترتب على العدول أي ضرر. وهذا الفرق إنما يراه من يرى أن الشرط الجزائي إنما هو في مقابل التعويض عن الضرر، وليس في مقابل الإخلال بالشرط، وفي ذلك خلاف بين أهل العلم، وأنا أميل إلى أن الشرط الجزائي في مقابل الإخلال بالشرط. فلا يظهر فرق بين الشرط الجزائي وبين العربون من هذه الحيثية. وسوف نتعرض بالدراسة للشرط الجزائي إن شاء الله تعالى في مباحث الشروط الجعلية في آخر الباب. الثاني: أن الشرط الجزائي ليس بديلًا عن العقد الأصلي، بل يؤديه، ويلتزم بتنفيذ العقد الأصلي إذا كان ذلك ممكنًا. بينما العربون هو بدل عن الالتزام في العقد الأصلي، وتبرأ ذمته عن العقد الأصلي إذا أخذ منه العربون (¬1). وسوف نبحث إن شاء الله تعالى الشرط الجزائي بعد هذا المبحث، نسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
القول الخامس
القول الخامس: العربون جزاء حبس السلعة عن عرضها للبيع، وقد يحرم البائع فرصًا في بيعها، وربما كانت هذه الفرص أكثر غبطة ومصلحة لمالكها، فالعربون عوض عن هذا الحرمان. وهذا التخريج فيه قوة. القول السادس: ذهب الشيخ عبد الله بن منيع وفقه الله إلى توصيف العربون وتخريجه بطريقة مختلفة: فقال: "قد يخرج بيع العربون على أنه بيع ناجز بين البائع والمشتري بثمن معين، يدفع المشتري جزءًا امن الثمن هو العربون، والباقي يدفعه في حال اختياره نفاذ البيع، ويعطيه البائع وعدًا بشراء ما باعه إياه في حال رغبته عن المبيع، وبثمن أقل من ثمن ما اشتراه بقدر العربون" (¬1). وقد ظن الشيخ بأنه بهذا التوصيف قد استطاع الخروج من الإيرادات التي قد يوردها الجمهور، وأعتقد أنه بهذا قد زاد العقد تعقيدًا، وإن كان قد سلم من بعضها، فالجمهور حتى على هذا التوصيف لا يجيزونه، حتى الحنابلة لو خرج على هذا النحو لم يجيزوه، وذلك أنهم يمنعون بيعتين في بيعة. فضلًا عن الحنفية والشافعية الذين يمنعون من بيع وشرط. فهو عقد يقول فيه المشتري: أشتري منك هذا المبيع دينًا بشرط أن تشتري مني السلعة إذا رغبت عن السلعة في مدة معينة بقيمة أقل من القيمة التي اشتريتها بها، وهذا النقص يحدده قدر العربون، ثم نتقاص ما وجب في ذمة كل واحد منا. ¬
الشرط الأول
فهو قد اشتمل على شرطين: الشرط الأول: أشتري منك بشرط أن تشتري السلعة مني، وهذا ليس حتمًا، ولكنه متعلق برغبة المشتري فقط خلال مدة معينة، إن شاء باعها على صاحبها، وصاحبها ملزم بشرائها، وإن شاء باعها على غيره. الشرط الثاني: أن يكون ثمن الشراء في العقد الثاني أقل من قيمة العقد الأول بقدر يحدده قدر العربون. وهل يدخله الاختلاف في بيع الشيء قبل قبضه، باعتبار أن المشتري قد باعه على بائعه قبل أن يقبضه المشتري؟ قد ينازع في هذا باعتبار أن المشتري الجديد والذي كان بائعًا في العقد الأول كون المبيع في يده بمنزلة قبضه له. ولا أعتقد أن العاقدين قد تصورا هذا التكييف، وهما يعقدان بيع العربون. والذي أميل إليه أن بيع العربون ليس هبة كما يختار ذلك الشافعية، فإن الهبة ما يعطى للآخر بلا مقابل، وهذا العربون قد كان في مقابل اختيار العدول عن الصفقة، فحقيقة بيع العربون: بيع اشترط فيه الخيار للمشتري، وهذا الخيار (كون العقد جائزًا مدة معينة في حق المشتري) قد يكون له ثمن، وقد يتسامح فيه البائع فيكون بلا ثمن، ففي حال عدول المشتري عن الصفقة يكون الخيار له ثمن، وهو قيمة العربون، وفي حال إتمام الصفقة يكون العربون جزءًا من الثمن، ويكون جعل العقد غير لازم مدة معينة بلا مقابل تسامحًا من البائع لقاء اختيار المشتري إتمام الصفقة.
وحين نقول: إن الثمن في مقابل كون العقد جائزًا أحسن من قولنا: إن الثمن في مقابل الانتظار؛ حتى لا ندخل في خلاف: هل الانتظار ليس له قيمة مطلقًا، أو له قيمة في البيع، وليس له قيمة في القرض، والله أعلم.
الفرع الثاني غرض العاقد من بيع العربون
الفرع الثاني غرض العاقد من بيع العربون [م - 432] اختلف العلماء في الغرض من بيع العربون إلى قولين: القول الأول: يذهب بعض الباحثين إلى أنه لا يوجد حاجة عامة أو خاصة للتعامل بالعربون تجعل التعامل به جائزًا، ولو كانت هناك حاجة فإنها غير متعينة، وغير معتبرة. غير متعينة: لأن في البيع مع خيار الشرط بشروطه الشرعية غنى عنه. وغير معتبرة؛ لأن الشارع نهى عنه كما في حديث عمرو بن شعيب. وممن ذهب هذا المذهب فضيلة الشيخ الدكتور الفقيه: الصديق محمَّد الضرير (¬1). ويناقش: بأن البائع قد لا يقبل خيار الشرط، خاصة إذا كانت السلعة مطلوبة ومرغوبة، ولكن إذا علم البائع بأنه في حال نكل المشتري فإنه سوف يأخذ مقابل ذلك مبلغًا من المال فإنه لا يمانع من البيع، وربما كان ما يجنيه البائع من العربون أكثر مما يجنيه من الربح في بيع السلعة. وأما حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده في النهي عن بيع العربون، فقد ضعفه الإِمام أحمد، وسوف يأتي تخريجه إن شاء الله تعالى، في حكم بيع العربون، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب كثير من الباحثين إلى أن العربون فيه مصلحة لكل من البائع والمشتري: أما البائع: فإن في العربون جبرًا للضرر الواقع على البائع نتيجة نكول المشتري عن العقد. وأما المشتري فإن بيع العربون يعطيه الحق في النكول إذا بدا له أن الشراء ليس في صالحه. ويفصل الدكتور رفيق يونس المصري هذه المصالح، فيقول: 1 - قد يرغب أحد المستهلكين في شراء السلعة، ولا يملك ثمنها كاملًا، فيدفع جزءًا من الثمن للبائع، ويقول له: لا تبع هذه السلعة لغيري، فإن عدت إلى يوم كذا فما دفعته يكون جزءًا من الثمن، وإلا فلك. 2 - قد يجد أحد المشترين سلعة لدى أحد الباعة، ويتردد في شرائها، خشية عدم ملاءمتها جودة أو ثمنًا، أو غير ذلك، فإن لم يشترها فربما عاد فلم يجدها، وإن اشتراها على البت فربما لم تعجبه بعد ذلك، أو لم تعجب من اشتراها له كزوجه، أو ولده، أو موكله. من أجل الخروج من التردد يلجأ إلى شرائها بشرط الخيار لنفسه، فإن وافق البائع على الخيار فبها ونعمت، ولكن البائع قد لا يوافق على هذا الخيار بالمجان للمشتري، ولا سيما أن ضررًا قد يصيبه من جراء عدول المشتري عن الشراء، مثل تفويت فرصة بيعها لآخر. وقد تكون السلعة غير جاهزة، بل سلعة يطلب المشتري تصنيعها، أو خياطتها، أو غير ذلك، وقد لا يسهل على البائع تصريفها إذا عدل عنها مشتريها كأن تكون سلعة خاصة من حيث أوصافها: قياسها، لونها .. الخ.
ففي مثل هذه الحالات يكون العربون بمثابة تعويض مقطوع للبائع عن العطل والضرر، يتفق عليه المتبايعان، ويقدرانه منذ العقد، ولا يؤخرانه لحين وقوع الضرر الفعلي، فالعربون هو ثمن الخيار، أو ثمن أو جزاء حق النكول. 3 - والسلعة إما أن تبقى عند البائع محجوزة لحين عودة المشتري وعزمه على الأخذ أو الترك، أو أن يأخذها المشتري معه لكي يتفحصها أو يختبرها بنفسه أو بالاستعانة بغيره، أو لكي يعرضها على زوجه أو ولده أو موكله، فيتحقق له بذلك التروي أو المشورة أو التجريب (الاختبار، القياس). وهذا كله بافتراض أن المشتري إذا أخذ السلعة ثم ردها لم تتغير عنده نتيجة استعمال أو استهلاك، أو تلف، فمثل هذا إذا وقع فهو دليل على أن المشتري قد عزم على إمضاء الشراء، ولم يعد له خيار فيه" (¬1). ¬
الفرع الثالث شروط بيع العربون عند من يجيزه
الفرع الثالث شروط بيع العربون عند من يجيزه [م - 433] يشترط لبيع العربون شرطان عند من يقول به: الشرط الأول: أن يكون البيع مما لا يجب فيه التقابض، فإن كان المعقود عليه مما يجب فيه التقابض قبل التفرق فإن بيع العربون لا يجوز أن يدخل فيه؛ لأن بيع العربون يتضمن خيار الشرط، وخيار الشرط يمنع ثبوت الملك أو تمامه لحين مضي مدته، فبيع العربون يتهتضي تأخير الثمن حتى اختيار المشتري ما يراه من إمضاء البيع أو رده، وذلك يخل بالقبض المشروط، وعليه فلا يجوز بيع العربون في عقود الصرف، وفي عقود بيع الطعام بالطعام، وفي عقد السلم، وفي كل عقد يكون القبض شرطًا في صحته. (ح-387) لما رواه مسلم من طريق أبي الأشعث، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد (¬1). فأما ما لا يشترط فيه القبض من أنواع البيوع فيدخل فيه العربون، وذلك مثل تقديم العربون في بيع أسهم الشركات التي تمارس أعمالًا مشروعة، ومثل تقديم العربون في بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد تملك البائع للسلعة، وعند إبرام العقد، وأما في مرحلته الأولى: وهي مرحلة المواعدة فإنه لا يجوز دفع العربون على القول الصحيح الذي اخترته، وذلك أن الإلزام بالوعد لا يجوز. ¬
الشرط الثاني
وحكم الإجارة حكم البيع، يجوز تقديم العربون فيه؛ لأن الإجارة تعتبر بيعًا للمنافع مدة معلومة. الشرط الثاني: أن يكون الخيار للمشتري في مدة معلومة على الصحيح، اختاره بعض الحنابلة (¬1). لأن الخيار إذا كان مجهول المدة لا يصح، كما لو اشترط أن له رد البيع متى شاء من غير ذكر أجل معين. وقيل: إن بيع العربون صحيح سواء وقت أو لم يوقت؛ وهو الصحيح من مذهب الحنابلة؛ لأنهم رأوا أن جوازه على خلاف القياس، ولأن النصوص الواردة في جوازه مطلقة من غير تقييده بمدة معلومة. والصحيح الأول. وقد اعتقد الصديق الضرير أن القول بأن تقييد الرد في بيع العربون بمدة محددة ليس قولًا في الفقه الإِسلامي. يقول وفقه الله: (الرأي الذي يتحدث عن بيع العربون: المدة فيه محددة، لا يتحدث عن بيع العربون في الفقه الإِسلامي، هذا رأي من عنده" (¬2). وهذا القول غير دقيق: أولًا: قد اختار جماعة من الحنابلة القول بتحديد المدة، وهم يحسبون على الفقه الإِسلامي. قال في الإنصاف: "وهو -يعني العربون- أن يشتري شيئًا، ويعطي البائع ¬
درهمًا، ويقول: إن أخذته، وإلا فالدرهم لك. الصحيح من المذهب: أن هذه صفة بيع العربون، ذكره الأصحاب، سواء وقت، أو لم يوقت، جزم به في المغني، والشرح، والمستوعب، وغيرهم، وقدمه في الفروع. وقيل: العربون أن يقول: إن أخذت المبيع، وجئت بالباقي وقت كذا، وإلا فهو لك، جزم به في الرعايتين، والحاويين، والفائق" (¬1). وقال في مطالب أولي النهى: "ويتجه صحة هذا الاشتراط في بيع العربون وإجارته إن قيد المتعاقدان ذلك يزمن معين، كـ إلى شهر من الآن، وفات ذلك الزمن. وإلا يقيداه بزمن فلا يصح اشتراطه من أصله؛ لأن البائع أو المؤجر لا يدري إلى متى ينتظر، فالإطلاق لا يناسب، لما يلزم عليه من طول الأمد بلا نهاية، فيترتب عليه من الضرر ما فيه كفاية. .. (¬2). وعليه فهناك جماعة من فقهاء الحنابلة يرون وجوب تحديد المدة في الخيار للمشتري في بيع العربون. ثانئا: أن القول بتحديد المدة ثابت عن ابن سيرين - رضي الله عنه -، وهو ممن يرى جواز بيع العربون. (ث-73) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يزيد، عن هشام عن ابن سيرين، أنه كان لا يرى يأسًا أن يعطي الرجل العربون الملاح أو غيره، فيقول: إن جئت به إلى كذا وكذا، وإلا فهو لك (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). ¬
ثالثًا: لو سلمنا أنه لا يوجد فقهاء مطلقًا لا عند الحنابلة ولا عند غيرهم يقولون بتحديد المدة، فإن المشهور من مذهب الحنابلة أن بيع العربون صحيح، ولو كان مؤقتًا. فالمرداوي وهو يقدم الصحيح من مذهب الحنابلة يرى أن صفة بيع العربون صحيحة، سواء وقت، أو لم يوقت. فإذا أخذ الفقيه في بيع العربون في حال كون الخيار مؤقتًا فهو صحيح بموجب النص عن المذهب؛ لأنهم يقولون بصحته إذا وقت، وبصحته إذا لم يوقت، وبالتالي لا يكون الاختيار في حال التوقيت خروجًا عن المذهب، ولم يكن انتحالًا لقول جديد؛ لأن القول بعمومه يشمل المؤقت وغير المؤقت، نعم يعتبر بدعًا من القول لو كان الحنابلة يشترطون عدم التوقيت، أما إذا كان القول يشمل الحالتين، وأخذ فقيه بأحدهما لم يخرج عن الفقه الإِسلامي. رابعًا: على القول بأن الأجل في بيع العربون غير محدد من جهة النصوص الواردة في بيع العربون، فإن ترك التعرض له لا يعني عدم اعتبار الأجل فيه، فإن كل شيء يجب أن يكون محددًا، وإذا لم يذكر الأجل في العقد كان مرجع ذلك إلى عرف الناس. وسيأتي مزيد بحث في هذه المسألة إن شاء الله تعالى عند بحث حكم العربون.
الفرع الرابع خلاف العلماء في بيع العربون
الفرع الرابع خلاف العلماء في بيع العربون [م - 434] اختلف العلماء في بيع العربون على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يجوز، وهو قول الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، وأبو الخطاب من الحنابلة (¬4)، ونسب ابن رشد هذا القول للجمهور (¬5). وذكر ابن عبد البر والقرطبي: بأنه قول جماعة فقهاء الأمصار من الحجازيين والعراقيين (¬6). القول الثاني: البيع صحيح، سواء وقت أو لم يوقت، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة (¬7). ¬
القول الثالث
وبه قال عمر وابن عمر - رضي الله عنه -، وسعيد بن المسيب (¬1)، ومجاهد (¬2). القول الثالث: البيع صحيح بشرط أن يكون زمن الخيار محددًا. اختاره ابن سيرين (¬3)، ورجحه بعض الحنابلة (¬4)، وبه أخذ مجمع الفقه الإِسلامي (¬5). دليل من قال: لا يجوز بيع العربون: الدليل الأول: (ح- 388) ما رواه مالك، عن الثقة عنده، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع العربان (¬6). [ضعيف] (¬7). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: اشتمال بيع العربون على الغرر المنهي عنه. وجه كون بيع العربون مشتملًا على الغرر المحرم. يقسمم المالكية الغرر إلى ثلاثة أشياء: (1) غرر في العقد. (2) وغرر في الأجل. (3) وغرر في أحد العوضين. وغرر العقد عندهم: هو كل عقد لا يدرى هل يتم أو لا يتم. من ذلك بيع العربون فقد اشتمل على نوعين من الغرر: غرر العقد، وغرر الأجل. أما غرر العقد فإنه لا يدري كل من البائع والمشتري هل يتم البيع، أو لا يتم؟ يقول ابن رشد الجد: "الغرر الكثير المانع من صحة العقد يكون في ثلاثة أشياء: أحدها: العقد. والثاني: أحد العوضين. والثالث: الأجل فيهما، أو في أحدهما، فأما الغرر في العقد، فهو مثل نهي ¬
مناقشة هذا الدليل
النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة (¬1)، وعن بيع العربان" (¬2). وأما غرر الأجل، فإن بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول؛ لأن المشتري اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة، فلم يصح، كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة، ومعها درهمًا. يقول ابن قدامة: "اختار أبو الخطاب أنه لا يصح، وهو قول مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي ... لأنه بمنزلة الخيار المجهول، فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح، كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهمًا، وهذا هو القياس ... " (¬3). مناقشة هذا الدليل: أما دعوى الغرر في الأجل فقد تمت مناقشته في شروط بيع العربون، ونلخص الجواب عنه فيما يأتي: الجواب الأول: ذكرنا أن مذهب الحنابلة فيه قولان: أحدهما: وجوب تحديد الأجل في بيع العربون. والآخر: أن بيع الأجل صحيح سواء وقت أو لم يوقت. ¬
الجواب الثاني
وذكرنا أن الراجح أن الأجل في بيع العربون يجب أن يكون محددًا، وتعرضت بالرد على من قال: تحديد المدة في بيع العربون لا يعد قولًا في الفقه الإِسلامي، وإنما هو قول قاله من قاله مِن عنده، وقد اختار القول بالتحديد مجمع الفقه الإِسلامي، فليراجع القارئ مناقشة هذا الجواب في ما تقدم عند الكلام على شروط بيع العربون، فقد أغنى ذلك عن إعادته هنا. الجواب الثاني: على القول بأن الأجل في بيع العربون غير محدد من جهة النصوص الواردة في بيع العربون، فإن ترك التعرض له لا يعني عدم اعتبار الأجل فيه، فإن كل ضيء يجب أن يكون محددًا، وإذا لم يذكر الأجل في العقد كان مرجع ذلك إلى عرف الناس. الجواب الثالث: على القول بأن الأجل ليس واردًا مطلقًا، لا نصًّا، ولا عرفًا، فإن هذا غير كاف لرد النصوص الواردة في بيع العربون، وقد أجاز الفقهاء بعض الشروط المطلقة، والتي لم تحدد بمدة معينة، من ذلك: خيار العيب، وخيار الرؤية، وخيار الفسخ، وخيار المجلس عند القائلين به، فقد يطول المجلس، وقد يقصر وكل هذه الخيارات ليست محددة بمدة، وإن كنت أرجح القول بوجوب تحديد المدة في بيع العربون. هذا الجواب فيما يتعلق بدعوى الغرر في الأجل. وأما دعوى وجود الغرر في العقد، لكون كل من البائع والمشتري لا يدري هل يتم البيع أو لا يتم؟ فهذا لا يعد من الغرر في شيء، كل ما هنالك أن العقد أصبح جائزًا، وليس
الدليل الثالث
لازمًا مدة معينة، ولو عد ذلك من الغرر لاعتبر خيار الشرط باطلًا، وقد أجمع العلماء على اعتباره في الجملة، وهو مجهول العاقبة، لا يدري كل من البائع والمشتري هل يتم البيع أو لا يتم؟ فإن اعتبر بيع العربون من الغرر في العقد، اعتبر خيار الشرط كذلك، ولا فرق بينهما من جهة لزوم العقد وجوازه. الدليل الثالث: علل كثير من الفقهاء بأن بيع العربون من أكل أموال الناس بالباطل، ويقصدون بذلك أنه في حال اختار المشتري رد المبيع فإن البائع يأخذ العربون بغير عوض، وهذا لا يجوز. قال القرطبي: "ومن أكل المال بالباطل العريان ... " (¬1). وعلل ابن عبد البر عدم الجواز بقوله: "لأنه من بيع القمار، والغرر، والمخاطرة، وأكل المال بغير عوض، ولا هبة، وذلك باطل ... " (¬2). وقال ابن قدامة: "واختار أبو الخطاب أنه لا يصح ... لأنه شرط للبائع شيئًا بغير عوض فلم يصح كما لو شرطه لأجنبي" (¬3). الدليل الرابع: اشتمال هذا البيع على شرط فاسد: قال في مغني المحتاج: "ولا يصح بيع العربون ... لأن فيه شرطين فاسدين: ¬
ويناقش
أحدهما: شرط الهبة. والثاني: شرط الرد على تقدير أن لا يرضى" (¬1). وقال الخطابي: "اختلف الناس في جواز هذا البيع، فأبطله مالك والشافعي للحديث، ولما فيه من الشرط الفاسد ... " (¬2). ويناقش: أما الجواب عن دعوى أن العربون يأخده البائع هبة في حال نكول المشتري عن الشراء فقد سبق في تكييف بيع العربون: وأن الصحيح في بيع العربون أنه ليس هبة ولم يدفع للبائع مجانًا، وإنما هو في مقابل أمرين: الأول: أنه في مقابل حبس السلعة عن عرضها للبيع، وقد يحرم البائع فوصًا في بيعها، وربما كانت هذه الفرص أكثر غبطة ومصلحة لمالكها، فالعربون في مقابل التعويض عن هذا الحرمان. الثاني: أن العربون أيضًا في مقابل اختيار العدول عن الصفقة، فحقيقة بيع العربون: بيع اشترطى فيه الخيار للمشتري، وهذا الخيار (كون العقد جائزًا مدة معينة في حق المشتري) قد يكون له ثمن، وقد يتسامح فيه البائع فيكون بلا ثمن، ففي حال عدول المشتري عن الصفقة يكون الخيار له ثمن، وهو قيمة العربون، وشي حال إتمام الصفقة يكون العربون جزءًا من الثمن، ويكون جعل العقد غير لازم مدة معينة بلا مقابل تسامحًا من البائع لقاء اختيار المشتري إتمام الصفقة. وقد استفاد المشتري من هذا الشرط من نواحي كثيرة، إما في تقليب النظر في الصفقة، والنظر في الأحظ من القبول أو الرفض، وقد لا يكون مع المشتري ما ¬
الدليل الخامس
يكفي قيمة للسلعة، فيعطيه البائع مهلة يستطيع أن يدبر الثمن إلى غير ذلك من المنافع، فهذه أمور إذا دفع المشتري العربون مقابل تحصيلها لم يكن بذله للعربون هبة من غير مقابل. وأما الجواب عن اشراط الرد إذا لم يرض الصفقة، فما هو الخلل في هذا الشرط حتى يقال عنه: إنه شرط فاسد، فهذا الشرط لم يخالف نصًا شرعيًا، ولم يخالف مقتضى العقد، وفيه مصلحة للعاقد، والأصل في الشروط الصحة، ولو منع مثل هذا لمنع خيار الشرط، والعلماء على قبوله، فإن الغرض من خيار الشرط أن يرد المبيع إذا لم يرض الصفقة، فأي فرق بينهما. الدليل الخامس: تقديم الحظر على الإباحة عند التعارض؛ لأنه ناقل عن البراءة الأصلية. قال الشوكاني: "ولأنه - يعني حديث عمرو بن شعيب) يتضمن الحظر، وهو أرجح من الإباحة، كما تقرر في الأصول" (¬1). ويناقش: قاعدة تقديم الحظر على الإباحة عندها يتساوى الدليلان، وهنا الدليلان غير متساويين، بل هناك مرجح للقول بجواز بيع العربون، إما من جهه الأثر كما هو فعل عمر -رضي الله عنه-، أو من جهة القياس؛ لأن المسلمين على شروطهم، كما أن قاعدة تقديم الحظر على الإباحة إنما هو في الأمور التي يكون الأصل فيها الحظر كالعبادات والفروج، أما في المعاملات فيعمل فيها في الأصل، والأصل في المعاملات الإباحة، كما أن الأصل في الشروط الجواز والصحة، والله أعلم. ¬
دليل من قال: يصح بيع العربون وقت أو لم يوقت
دليل من قال: يصح بيع العربون وقت أو لم يوقت: الدليل الأول: (ث-74) روى البخاري معلقًا بصيغة الجزم، قال: اشترى نافع بن الحارث دارًا للسجن بمكة من صفوان بن أمية على أنه إن رضي عمر فالبيع بيعه، وإن لم يرض عمر فلصفوان أربعمائة (¬1). أحسن، (¬2). وجه الاستدلال: هذه الواقعة قد سمع بها الصحابة، واطلعوا عليها، ولم ينكروها، ونقلوها لنا، وهي دالة على استحقاق البائع مبلغ العربون في حال اختار عدم إتمام الصفقة. ونوقش هذا الاستدلال: هذا الأثر يحتمل بيع العربون، ويحتمل وجهًا آخر، ذكره ابن قدامة، بأن المشتري إذا دفع دراهم للبائع، وقال، لا تبع هذه السلعة لغيري، وإن لم اشترها منك فهذه الدراهم لك، ثم اشتراها منه بعد ذلك بعقد مبتدئ، وحسب الدراهم من الثمن صح العقد؛ لأن البيع قد خلا عن الشرط المفسد. قال ابن قدامة: "ويحتمل أن الشراء الذي اشتري لعمر كان على هذا الوجه، فيحمل عليه، جمعًا بين فعله، وبين الخبر، وموافقة القياس، والأئمة القائلين بفساد العربون" (¬3). ¬
ورد هذا
ورد هذا: بأن هذا التخريج لا يدل عليه الأثر فإن الأثر يقول: اشترى نافع ابن الحارث دارًا للسجن بمكة من صفوان بن أمية على أنه إن رضي عمر ... ، فالشراء سابق على رأي عمر، ومعلق لزومه على رضا أمير المؤمنين، فإن اختار الفسخ كان للبائع مقدارًا من الدراهم، وهو العربون. الدليل الثاني: الأصل في الشروط الصحة والجواز إلا شرطًا خالف نصًا شرعيًا، أو خالف مقتضى العقد، وشرط العربون ليس منها، وقد التزم المشتري هذا الشرط طائعًا غير مكره فيلزمه. (ث-75) روى عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: اختصم إلى شريح في رجل اكترى من رجل ظهره، فقال: إن لم أخرج يوم كذا وكذا، ذلك زيادة كذا وكذا، فلم يخرج يومئذ، وحبسه، فقال شريح: من شرط على نفسه شرطًا طائعًا غير مكره، أجزناه عليه (¬1). [إسناده صحيح]. الدليل الثالث: (ح-489) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، عن زيد بن أسلم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحل العربان في البيع (¬2). ¬
الدليل الرابع
[ضعيف لعلة الإرسال] (¬1). الدليل الرابع: القياس على ما قاله سعيد بن المسيب، وابن سيرين، من أنه لا بأس إذا كره المشرْى السلعة أن يردها، ويرد معها شيئًا، فقد قال الامام أحمد: هذا في معناه (¬2). ونوقش هذا: بأن هذه الصورة ليست من بيع العربون؛ لأن هذه الصورة هي بيع مستأنف، ولا مانع من أن يشتري شخص سلعة بمائة نقدًا، ثم يرغب في ترك السلعة، فيبيعها لمن اشتراها منه بتسعين نقدًا، وبعضهم يسميها إقالة بعوض، والحق أنها بيع مستأنف. جاء في الموطأ: "قال مالك في الرجل يبتاع العبد أو الوليدة بمائة دينار إلى أجل، ثم يندم البائع، فيسأل المبتاع أن يقيله بعشرة دنانير، يدفعها إليه نقدًا، أو إلى أجل، ويمحو عنه المائة دينار التي له، قال مالك: لا بأس بذلك ... (¬3). ¬
دليل من قال: يجوز بيع العربون بشرط أن يكون الأجل فيه مؤقتا.
دليل من قال: يجوز بيع العربون بشرط أن يكون الأجل فيه مؤقتًا. ذكروا بأن بيع العربون إذا خلا من خيار محدد بوقت معين كان بمنزلة الخيار المجهول، وعدم التوقيت في الخيار يبطل البيع فإنه متى اشترط أن له رد البيع من غير ذكر مدة لم يصح، كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهمًا (¬1). ولأن البائع يكون معلقًا، فلا يدري هل اختار المشتري السلعة أو اختار الرد، فيتضرر من التعليق هذا، وربما فوت عليه فرصًا كثيرة، فإذا وقت أصبح البائع على بينة، وإذا مضت تلك المدة صار له أن يتصرف في السلعة. وقد ناقشت هذه المسألة فيما سبق ضمن أدلة القول الأول، وأميل إلى اشتراط أن يكون الأجل في الخيار محددًا بوقت معين. الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأدلة أجد أن الحديث الوارد في النهي عن بيع العربون لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأجد أن القول بجواز العربون يتمشى مع أصل عظيم: وهو أن الأصل في الشروط الجواز والصحة حتى يقوم دليل على المنع، ولم يقم دليل على منع بيع العربون. وقد تعارف كثير من البلدان على بيع العربون حتى تلك البلاد التي لا تدين بمذهب الحنابلة، والعرف معتبر إذا لم يعارضه نص، وقد قدم الحنفية العمل البخاري وما كان متعارفًا عليه على القياس، فأجازوا شروطًا كان مقتضى القياس عندهم منعها احترامًا لعمل الناس. ¬
والحاجة إلى بيع العربون في هذا الزمن أكثر منها في أي وقت مضى، وذلك لاختلاف الأسعار، فقد تهبط السلعة فيرد المشتري السلعة، ويتضرر البائع، ولأن الثقة اليوم بين الباعة شبه مفقودة، فإذا جرى التعامل بشرط العربون لم يكن هناك ضرر على أحد، وقد دخل المشتري على بينة من أمره بأنه إذا اختار الرد كان عليه بذل العربون. وقد اختار مجمع الفقه الإِسلامي جواز بيع العربون بشرط توقيت مدة الانتظار. وهذا نص القرار عن المجمع: إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي، دار السلام، من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (بيع العربون) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي: 1 - المراد ببيع العربون، بيع السلعة مع دفع المشتري مبلغًا من المال إلى البائع على أنه إن أخذ السلعة احتسب المبلغ من الثمن، وإن تركها فالمبلغ للبائع. ويجري مجرى البيع: الإجارة؛ لأنها بيع المنافع، ويستثنى من البيوع كل ما يشترط لصحته قبض أحد البدلين في مجلس العقد (السلم) أو قبض البدلين (مبادلة الأموال الربوية والصرف) ولا يجري في المرابحة للآمر بالشراء في مرحلة المواعدة، ولكن يجري في مرحلة البيع التالية للمواعدة. 2 - يجوز بيع العربون إذا قيدت فترة الانتظار بزمن محدود، ويحتسب
العربون جزءًا من الثمن إذا تم الشراء، ويكون من حق البائع إذا عدل المشتري عن الشراء (¬1). ¬
الفرع الخامس بعض المعاملات التي تشبه بيع العربون وليست منه
الفرع الخامس بعض المعاملات التي تشبه بيع العربون وليست منه [م - 435] هناك تشابه بين بعض الصور وبين بيع العربون وإن كانت لا تحسب من بيع العربون، وقد يجيز تلك الصور أولئك الفقهاء الذين منعوا من بيع العربون. الصورة الأولى: إذا اتفق المتعاقدان على أنه إن تم البيع أو الإجارة كان جزءًا من الثمن، وإن لم يتم العقد استرد المدفوع، فهذا ليس من العربون المختلف فيه بين العلماء، بل هو جائز إجماعًا، كل ما هنالك أن الثمن عين بعضه. جاء في التاج والإكليل: "قال مالك: وأما من اشترى شيئًا، وأعطى عربانًا، على أنه إن رضيه أخذه، وإن سخطه رده، وأخذ عربانه، فلا بأس به" (¬1). يقول الباجي في المنتقى: "وأما العربان الذي لم ينه عنه، فهو أن يبتاع منه ثوبًا أو غيره بالخيار، فيدفع إليه بعض الثمن مختومًا عليه إن كان مما لا يعرف بعينه على أنه إن رضي البيع كان من الثمن، وإن كره رجع إليه ذلك، لأنه ليس فيه خطر يمنع صحته، وإنما فيه تعيين للثمن أو بعضه (¬2). الصورة الثانية: أن يشتري الرجل السلعة، ثم يطلب من البائع إقالته من البيع مقابل جزء من المال، فهذا جائز على الصحيح، وهو بيع مستأنف، وليس من باب الإقالة. ¬
جاء في الموطأ: "قال مالك في الرجل يبتاع العبد أو الوليدة بمائة دينار إلى أجل، ثم يندم البائع، فيسأل المبتاع أن يقيله بعشرة دنانير، يدفعها إليه نقدًا، أو إلى أجل، ويمحو عنه المائة دينار التي له، قال مالك: لا بأس بذلك ... " (¬1). (ث-76) وقد روى ابن أبي شيبة، قال: أخبرنا وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث، عن مجاهد عن ابن عمر، في رجل اشترى بعيرًا، فأراد أن يرده، وبرد معه درهمًا، فقال: لا بأس به (¬2). [ضعيف جدًا] (¬3). (ث-77) وروى ابن أبي شيبة، أخبرنا وكيع، عن يزيد بن إبراهيم عن الحسن وابن سيرين، في الرجل يشتري السلعة، ثم يستغليها، قال: لا بأس أن يردها، ويرد معها شيئًا (¬4). [إسناده حسن]. وذكر ابن قدامة هذا الأثر في المغني، ونقل عن أحمد أنه قال تعقيبًا: "هذا في معناه": أي في معنى بيع العربون (¬5). ¬
الصورة الثالثة
والفرق بين هذه الصورة وبين بيع العربون: أن العربون يتفق عليه منذ العقد الأول، وأما هذه الصورة فيتم الاتفاق عليها عند العقد الثاني. الصورة الثالثة: أن يدفع إليه قبل البيع درهمًا، ويقول له: لا تبع هذه السلعة لغيري، وإن لم اشترها منك فهذا الدرهم لك، ثم يشتريها منه بعد ذلك بعقد جديد، ويحسب الدرهم من الثمن، فهذا البيع صحيح، وليس من بيع العربون. ذكرها ابن قدامة في المغني، وعلل الصحة بقوله: "لأن البيع خلا عن الشرط الفاسد" (¬1). يعني والله أعلم أن شرط ترك العربون لم يقترن بالعقد ليفسد البيع عند من لا يجيزه، وإنما كان هناك اتفاقان: الاتفاق الأول: ترك العربون له إذا ترك البيع، وهذا الاتفاق منفصل عن عقد البيع. والاتفاق الثاني: عقد البيع خاليًا من هذا الشرط، والله أعلم. هذا ما تيسر جمعه حول بيع العربون والله أعلم. ¬
المبحث الثامن في الشرط الجزائي
المبحث الثامن في الشرط الجزائي الفرع الأول في تعريف الشرط الجزائي تعريف الشرط الجزائي في الاصطلاح (¬1): عبارة الشرط الجزائي غير معروفة في كتب الفقه القديمة بهذا المصطلح، ولكنها معروفة في القوانين الغربية، كالقانون الفرنسي، والإِنجليزي وغيرهما من القوانين الغربية، وقد أخذت قوانين البلاد العربية هذا التعبير عن القوانين الغربية، وأدخلت عليه بعض التعديلات، وأول قانون عربي أخذ به هو القانون ¬
المصري، أخذه عن القانون الفرنسي وعبر عنه الدكتور السنهوري بالعبارة التالية: التعويض الاتفاقي، أو الشرط الجزائي، وتبعت أكثر قوانين البلاد العربية القانون المصري (¬1). لذا سيكون التعريف للشرط الجزائي منقولًا من كتب القوانين. فقيل في تعريفه: "اتفاق المتعاقدين في ذات العقد أو في اتفاق لاحق، قبل الإخلال بالالتزام على مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن عند عدم قيام المدين بتنفيذ التزامه، أو تأخيره عنه فيه" (¬2). وإذا كان الفقهاء المتقدمون لم يتوجهوا لبحث هذا الشرط بهذه الصيغة لعدم قيام الحاجة إليه في ذلك الوقت، فإنه في هذا الزمن أصبحت الحاجة إليه ملحة جدًا؛ لأن تأخر أحد المتعاقدين أو امتناعه عن تنفيذ التزاماته في مواعيدها المشروطة مضر بالطرف الآخر في وقته وماله أكثر مما كان عليه في الزمن الماضي. فلو أن بائع بضاعة ما تأخر في تسليمها حتى هبط سعرها لتضرر المشتري بخسارة فادحة (¬3). ¬
الفرع الثاني شروط استحقاق الشرط الجزائي
الفرع الثاني شروط استحقاق الشرط الجزائي [ن- 40] يشترط لاستحقاق مقدار الشرط الجزائي شروط منها: الشرط الأول: لا بد من الإخلال بالشرط المتفق عليه، وهو ما يعبر عنه بوجود الخطأ؛ لأن الشرط الجزائي لا يستحق على المدين إذا لم يكن هناك إخلال بالشرط المتفق عليه. الشرط الثاني: ألا يوجد هناك عذر معتبر شرعًا من عدم الالتزام بالوفاء في الوقت المحدد. ولهذا جاء في قرار المجمع الفقهي: "لا يعمل بالشرط الجزائي إذا أثبت من شرط عليه أن إخلاله بالعقد كان بسبب خارج عن إرادته ... " (¬1). وجاء في قرار مجلس هيئة كبار العلماء الرسميين في السعودية: "إن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر، يجب الأخذ به، ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له يعتبر شرعًا، فيكون العذر مسقطًا لوجوبه حتى يزول" (¬2). الشرط الثالث: هل يشترط أن يكون المبلغ في الشرط الجزائي مساويًا للضرر الواقع من التأخير. ¬
القول الأول
وللجواب على ذلك لا بل من السؤال: هل الشرط الجزائي عقوبة مالية مقابل الإخلال بالشرط، أو أنه تعويض عن الضرر الحاصل من التأخير. فإذا قلنا: إن الشرط الجزائي عقوبة مالية مقابل الإخلاق بالشرط المتفق عليه لم ندخل في بحث: هل المبلغ في الشرط الجزائي مساو للضرر الحاصل من التأخير، أو أكثر منه، أو أقل. أما إذا قلنا: إنه تعويض عن الضرر الحاصل من التأخير، فإنه يلزم على ذلك لوازم كثيرة، منها: أنه لا يستحق شيئًا من الشرط الجزائي إذا ثبت أن التأخير لم يترتب عليه أي ضرر. ومنها: الرجوع إلى المحاكم الشرعية في تقدير الضرر، ومقابلة ذلك بالمبلغ المتفق عليه. ومنها: زيادة المبلغ إذا كان المبلغ في الشرط الجزائي المتفق عليه أقل من الضرر الواقع، أو النقص منه إذا كان الشرط الجزائي أكثر من الضرر الواقع. [ن- 41] وقد اختلف العلماء في الشرط الجزائي هل هو عقوبة أو تعويض عن الضرر إلى قولين: القول الأول: يرى أن الشرط الجزائي تعويض عن الضرر الحاصل، وبالتالي: لا يستحق شيئًا من شرط له إذا ثبت أن التأخير لم يترتب عليه أي ضرر، ولم يتسبب في فوات أي منفعة مالية. وهذا ما أخذ به مجمع الفقه الإِسلامي، وظاهر قرار هيئة كبار العلماء.
ويرى فضيلة الشيخ الدكتور الصديق الضرير أن جميع القوانين الغربية والعربية على هذا القول (¬1). ¬
ففي قرار المجمع ما نصه: "لا يعمل بالشرط الجزائي إذا ثبت من شرط عليه أن إخلاله بالعقد كان بسبب خارج عن إرادته، أو أثبت أن من شرط له لم يلحقه أي ضرر من الإخلال بالعقد" (¬1). وجاء في قرار هيئة كبار العلماء: "إذا كان الشرط الجزائي كثيرًا عرفًا بحيث يراد به التهديد المالي، ويكون بعيدًا عن مقتضى القواعد الشرعية، فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف على حسب ما فات من منفعة، أو لحق من ضرر، ويرجع في تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي عن طريق أهل الخبرة والنظر" (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب بعض العلماء إلى أن الشرط الجزائى هو عقوبة مالية نظير الإخلال بالشرط، (غرامة تأخير) وليس تعويضًا عن الضرر. وممن ذهب إلى هذا فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع، ورفيق المصري (¬1)، والقاضي محمود شمام رئيس محكمة التعقيب الشرعي في تونس (¬2). يقول الشيخ عبد الله بن منيع وفقه الله: "في الواقع أتساءل الآن: هل الشرط ¬
الوجه الأول
الجزائي تعويض عن ضرر، أو عقوبة مالية؟ الذي يظهر لي أن الشرط الجزائي عقوبة مالية في مقابلة الإخلال بالعمل سواء أكان ذلك يتعلق بالعمل نفسه، أو يتعلق بزمان أدائه ... " (¬1). وهذا القول هو الذي يتمشى مع غرض العاقد من الشرط الجزائي، وبيان ذلك من وجوه: الوجه الأول: إذا كان التعويض بمقدار الضرر، لم يكن هناك فائدة من التنصيص على مقدار الشرط الجزائي، لأن التنصيص عليه سيكون تحصيل حاصل، فإن كان الضرر أقل من الشرط الجزائي، أو كان أكثر منه كان الرجوع إلى مقدار الضرر، وإذا لم يكن هناك ضرر من التأخير فللمقاول أو المورد أو الصانع أن يتأخر كما يشاء، ويكون وجود الشرط الجزائي كعدمه. ولأننا إذا اعتبرنا أن الشرط الجزائي تعويض عن الضرر، لم يكن العاقدان بحاجة إلى اشتراط مثل ذلك أصلًا في صلب العقد؛ لأن الضرر مدفوع ولو لم يشترط، لحديث: لا ضرر، ولا ضرار. الوجه الثاني: ما المانع من اعتبار الشرط الجزائي غرامة مالية يتفق عليها العاقدان عند عدم الالتزام بالمدة المتفق عليها لتنفيذ العقد، فسواء كان هناك ضرر، أو لم يكن هناك ضرر، أليس من حق العاقد أن يشترط تسليم المبيع خلال مدة معينة يمكن للمقاول أو المورد أو الصانع أن ينجز العمل فيها، ألم يكن بوسع من شرط عليه مثل ذلك أن لا يقبل هذا الشرط، ويدع العقد لمن يستطيع أن يلتزمه، فإذا التزم ¬
الوجه الثالث
بتسليم المبيع خلال هذه المدة، وأخل بهذا الشرط من غير عذر فإخلاله بما التزمه يستحق أن يوقع عليه غرامة مالية، وهذه الغرامة قد تمت برضا الطرفين، كالعربون تمامًا فإنه يلتزمه المشتري ولو لم يكن هناك ضرر على البائع، ولا نشترط لقبول العربون وقوع ضرر على البائع. الوجه الثالث: ولأن الأجل له قيمة في الشرع خاصة في البيوع، وإن لم يكن له قيمة في القروض، فإذا أجله تسليم المبيع هل يكون هذا والحال قيمتهما واحدة، فإذا كانت قيمة الحال أقل من قيمة المؤجل، فلماذا لا يتحمل العقوبة في مقابل التأجيل. الوجه الرابع: العاقد عندما اشترط الشرط الجزائي أراد بذلك أن يتجنب اللجوء إلى القضاء من أجل تقدير التعويض المترتب على الأضرار الناشئة عن التأخير، وأراد أن يوفر الجهد والمال في تجنب الإجراءات القضائية الطويلة والباهظة التكاليف، وأراد أيضًا أن يتجنب عبء إثبات الضرر الذي يصيبه عند إخلال المدين بالتزامه، وإذا كان الأمر بمقدار الضرر دخل العاقدان في نزاع ثبوت هذه الأضرار، وفي تقديرها. وقد ورد في البحث المعد للجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية ما يلي: "يمكن أن يقال بأن الشرط الجزائي يشبه بيع العربون في أن كلًّا منهما شرط يوجب على من أخل بالشرط عقوبة مالية يجري تعيينها قبل حصول ذلك". وهذا نص على أن الشرط الجزائي عقوبة مالية على من أخل بالشرط، والله أعلم.
الشرط الأول
وهذا القول هو الذي أميل إليه؛ بشرطين: الشرط الأول: ألا يكون المبلغ في الشرط الجزائي مبالغًا فيه، فلا يجوز أن يكون الشرط الجزائي يأتي على ربح المقاول كله، فضلًا أن يحمله خسائر، فهذه العقوبة المالية إنما تقلل من ربحه فقط، بحيث لا يتجاوز به ثلث الربح، أو عشرة بالمائة من مقدار العقد؛ لأن الشرط الجزائي يجب أن يكون قائمًا على العدل، بحيث لا يأتي على نصيب المقاول كله فيكون عمله بلا مقابل، فهذا من الظلم الذي لا تقره الشريعة، بل يجب أن يكون متوازنًا، فإذا كان المبلغ في الشرط الجزائي مبالغًا فيه حمل ذلك على أن مراد العاقد هو التهديد وحمل المقاول على التنفيذ، ويسقط الشرط الجزائي إلا أن يكون هناك ضرر فيقدر بقدره؛ لأن الضرر مدفوع. الشرط الثاني: ألا يكون الشرط الجزائي قد نص على أن استحقاقه في مقابل التعويض عن الأضرار، فإن هذا ظاهر بأن العاقدين قد اجتهدا في تقدير الضرر وقت العقد عندما قدرا الشرط الجزائي، وقد يكون الضرر أكثر، أو أقل، ولكن لو كان الشرط الجزائي لم ينص على أنه تعويض في مقابل الأضرار، وإنما كان النص على أنه في مقابل التأخير، فالذي أراه أنه يجب الالتزام بالشرط الجزائي بغض النظر عن قيمة الضرر الواقع من التأخير، لاعتبارات كثيرة منها ما تقدم، ومنها: - أنه شرط معلق على التأخير، وليس معلقًا على الضرر، فإذا علق الشرط على التأخير استحق بحصول التأخير، ولو لم يكن هناك ضرر.
- ومنها: أن هذا القول هو الذي يتفق مع حق العاقدين في اشتراط الشروط، فلا ينبغي تقييد حريتهما والحد منها إلا فيما يخالف نصًّا شرعيًا كما لو كان يلزم من الشرط الوقوع في الربا أو في الغرر، أو لزم منه مخالفة مقتضى العقد، وهذا ليس منها، كل ما هنالك أنه قد يلحق المقاول من جراء الشرط بعض الغبن؛ وهذا ليس كافيًا في تعليق العقد بالضرر؛ لأن جماهير الفقهاء على جواز الغبن لمن دخل على بصيرة. قال القرطبي: "الجمهور على جواز الغبن في التجارة، مثل أن يبيع رجل ياقوتة بدرهم، وهي تساوي مائة، فذلك جائز، وأن المالك الصحيح الملك، جائز له أن يبيع ماله الكثير، بالتافه اليسير، وهذا ما لا اختلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك، كما تجوز الهبة، واختلفوا فيه إذا لم يعرف قدر ذلك ... " (¬1). - ومنها: أن المبلغ المتفق عليه كشرط جزائي إما أن يكون في مقابل التأخير، ولو لم يكن هناك ضرر؛ وإما أن يكون في مقابل دفع الضرر: فإن كان في مقابل التأخير فيجوز أن يأخذ الشرط الجزائي ولو ولم يكن هناك ضرر: لأن الأجل له قيمة في العقد، فالسلعة قيمتها مؤجلة تختلف عن السلعة قيمتها حالة، وهذا أمر معلوم فإن قيمة العقد إذا اشترط على المقاول ونحوه أن يكون إنجازه خلال عام تختلف قيمته عندما يكون العقد مدة إنجازه خلال عامين أو ثلاثة، ولو لم يكن في مقابل التأخير وقوع ضرر، أو فوات منفعة. وإن كان الشرط الجزائي في مقابل الضرر. ¬
فإما أن يكون الشرط الجزائي أكثر من الضرر، أو مساويًا له، أو أقل منه. ففي حال كان المبلغ المتفق عليه مساويًا للضرر الواقع فلا إشكال. وأما في حال كان المبلغ المتفق عليه أقل من الضرر الواقع فإنه يدخل في جواز أن يتنازل الإنسان عن بعض حقه ابتداء، فيجوز إذا كان ذلك بشرط من باب أولى. وإما إذا كان المبلغ المتفق عليه أكثر من الضرر الواقع، ولم يكن المبلغ فاحشًا بحيث يذهب بالربح كله -بحيث لا يجعل الشرط الجزائي عمل المقاول والمورد والصانع مجانًا بدون مقابل- وكان ذلك باتفاق مسبق بين العاقدين، فما الحرج في دفعه، فإن العربون يدفع، ولو لم يكن هناك ضرر أصلًا، أو كان هناك ضرر ولكن ليس بقدر العربون، ويكون هذا من باب الغرامية المالية بسبب التأخير. وهذا ما يجري عليه العمل في العقود، فإنك تجد أن العقود تنص على أن التأخير في الشهر الأول تختلف غرامته عن الشهر الثاني، فيجعلون الجزاء تصاعديًّا، فالشهر الأول أو اليوم الأول: غرامته مثلًا 1% من قيمة العقد، واليوم الثاني أو الشهر الثاني غرامته بقدر 1.5%، وفي اليوم الثالث: 2%، وهكذا مما يدل على أن الشرط هنا غرامة، وليس تعويضًا عن أضرار، والله أعلم. وهذا القول يتفق مع ما جاء في نظام المناقصات والمزايدات السعودية، فقد جاء فيها ما يلي: إذا تأخر المقاول عن إتمام العمل وتسليمه كاملًا في المواعيد المحددة، ولم تر اللجنة صاحبة المقاولة داعيًا لسحب العمل منه توقع عليه غرامة عن المدة
التي يتأخر فيها إكمال العمل بعد الميعاد المحدد للتسليم إلى أن يتم الاستلام المؤقت دون حاجة إلى تنبيه للمقاول، ويكون توقيع الغرامة على المقاول كما يلي: 1 % عن الأسبوع الأول. 1.5 % عن الأسبوع الثاني. 3 % عن الأسبوع الثالث. 2.5 % عما زاد عن ثلاثة أسابيع. 3 % عن أي مدة تزيد عن أربعة أسابيع (¬1). ¬
الفرع الثالث إذا كان الشرط الجزائي تعويضا عن الضرر ما نوع الضرر الذي يستحق التعويض عليه؟
الفرع الثالث إذا كان الشرط الجزائي تعويضًا عن الضرر ما نوع الضرر الذي يستحق التعويض عليه؟ الأضرار تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: الضرر الناتج عن تلف المال، أو نقص قيمته بفعل ضار الثأنى، الضرر الناتج عن فوات المنافع والمكاسب المؤكدة. الثالث: الضرر الأدبي والمعنوي كالضرر الذي يلحق الإنسان بسبب الاعتداء على حريته، أو في عرضه، أو في سمعته، أو في مركزه الاجتماعي، أو اعتباره المالي. [م - 436] أما الضرر الذي يكون بتلف المال فلا خلاف بين الفقهاء في وجوب التعويض عنه. [ن-42] وأما التعويض عما فات الإنسان من مكاسب مؤكدة، فاختلف العلماء المعاصرون في ذلك على قولين: القول الأول: أن ذلك يوجب التعويض، وبهذا صدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي، وقرار هيئة كبار العلماء. يقول نص قرار المجمع الفقهي: "الضرر الذي يجوز التعويض عنه يشمل الضرر المالي الفعلي، وما لحق المضرور من خسارة حقيقية، وما فاته من كسب مؤكد، ولا يشمل الضرر الأدبي أو المعنوي" (¬1). ¬
القول الثاني
كما نص قرار هيئة كبار العلماء الرسميين في المملكة العربية السعودية على جواز التعويض عما فات من منفعة أو لحقه من ضرر (¬1). القول الثاني: خالف الشيخ علي الخفيف -رحمه الله- فلم ير التعويض عما فات الإنسان من المكاسب، وقصر التعويض في مقابلة إتلاف المال خاصة. يقول الشيخ علي الخفيف -رحمه الله-: "إن عدم قيام الملتزم بالالتزامه يستلزم شرعًا إلزامه وإجباره عليه، فإن امتنع كان امتناعه معصية يستحق عليها التعزيز إلى أن يتمثل، أما إلزامه بمال على وجه التعويض عما أحدثه بامتناعه من ضرر، لا يتمثل في فقد مال، فلا تبيحه القواعد الفقهية والأصول الشرعية التي تقضي: بأن أخذ المال لا يكون إلا تبرعًا، أو في مقابلة مال أخذ أو أتلف، وإلا كان أكلًا له بالباطل، وعلى ذلك يكون أخذه تعويضًا عن ضرر، ولم يترتب عليه قلت لمال في جائز شرعًا؛ لأن أساس التعويض في نظر الفقهاء هو مقابلة المال بالمال، فإذا قوبل المال بغير مال كان أكلًا للمال بالباطل" (¬2). ويقول أيضًا: (إن وجوب التضمين بالمال إنما يكون في ضرر مالي أصاب المضرور، وذلك بتلف بعض ماله، أو نقص قيمته بفعل ضار، أما الضرر الذي لا يتمثل في فقد مال كان قائمًا، فلا يرى الفقهاء فيه تعويضًا" (¬3). ¬
ولعل الشيخ أخذ بهذا المذهب بناء على رأي الحنفية الذي يذهب إلى أن المنافع لا تعد من الأموال، وقد حررت مذهبهم في المجلد الأول من الموسوعة، وذكرت أدلتهم والجواب عنها، ورجحت في ذلك مذهب الجمهور الذي يذهب إلى اعتبار المنافع من الأموال، وهو المتعين. [م - 437]، وأما التعويض عن الضرر الأدبي، فإن الفقهاء المتقدمين لم يتكلموا عليه بالاسم، ولا يرى الفقهاء المعاصرون التعويض عنه بالمال، وإنما يكتفى بالتعزير للمعتدي بما يردعه من الاعتداء على الآخرين. يقول الشيخ الزرقاء -رحمه الله-: "الحكم بالتعويض المالي عن الضرر الأدبي حكم مستحدث، ليس له نظائر في الفقه الإِسلامي ... والأسلوب الذي اتبعته الشريعة في معالجة الإضرار الأدبي إنما هو التعزير الزاجر، وليس التعويض المالي، إذ لا تعد الشريعة شرف الإنسان وسمعته مالاً متقومًا يعوض بمال آخر إذا اعتدي عليه ... وخلاصة القول إننا لا نرى مبررًا استصلاحيًا لمعالجة الإضرار الأدبي بالتعويض المالي ما دامت الشريعة قد فتحت مجالًا واسعًا لقمعه بالزواجر التعزيرية" (¬1). وأما القوانين العربية فقد أخذت بمبدأ التعويض عن جميع الأضرار الثلاثة: الضرر المالي، والأدبي، وما فاته من كسب. فقد نصت المادة (267) مدني من القانون الأردني على وجوب التعويض عن الضرر الأدبي، تقول المادة: "يتناول حق الضمان الضرر الأدبي كذلك، فكل تعد على الغير في حريته، أو في عرضه، أو في شرفه، أو في سمعته، أو في مركزه الاجتماعي، أو في اعتباره المالي يجعل المتعدي مسئولًا عن الضمان" (¬2). ¬
الراجح
وهذا النص موافق لقانون المعاملات المدنية السودانية 1984 (¬1). كما نص القانون المدني المصري على التعويض عن الأضرار الأدبية، وما فات الدائن من كسب (¬2). الراجح: أرى أن ما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي، وهيئة كبار العلماء في السعودية هو الراجح ما دام أنه لم يوجد قول في الفقه الإسلامي يمكن لنا أن نعتمده في التعويض عن الأضرار الأدبية، فإن وجد قول فقهي باعتباره فإن القول باعتباره متجه، والله أعلم. ¬
الفرع الرابع حكم العقد إذا تضمن شرطا جزائيا
الفرع الرابع حكم العقد إذا تضمن شرطًا جزائيًا الشرط الجزائي بهذا المصطلح حديث النشأة، وإن وجد كلام لبعض الفقهاء المتقدمين في بعض صوره، كما سيأتي نقله إن شاء الله تعالى، وإذا كان الشأن كذلك فسوف يكون بحثنا فيه من خلال كلام العلماء المعاصرين، كالمجامع الفقهية، ومراكز البحوث الفقهية، والنظر إلى قواعد ومذاهب الأئمة في الشروط، وهل مثل هذا الشرط يتمشى مع قواعد تلك المذاهب في الشروط الجعلية، والقياس عليها أو لا؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشرط الجزائي متعدد الصور، منها ما يكون ممنوعًا باتفاق، ومنها ما يكون جائزًا عند كثير من العلماء المعاصرين، لذا سوف نبحث هذه الصور المتعددة صورة صورة.
المسألة الأولى الشرط الجزائي في مقابل التأخير عن تنفيد الأعمال
المسألة الأولى الشرط الجزائي في مقابل التأخير عن تنفيد الأعمال [ن-143] محل الالتزام بين المتعاقدين تارة يكون عملًا من الأعمال، وتارة يكون دينًا من الديون بسبب بيع أو قرض. وقد يكون العقد الواحد ذا وجهين كعقد الاستصناع، فهو من جهة المستصنع يكون التزامه دينًا (مبلغًا من النقود) ومن جهة الصانع يكون التزامه عملًا، والكلام في هذا المبحث في حكم الشرط الجزائي إذا كان محل الالتزام عملًا من الأعمال. مثاله: أن يلتزم المقاول أو المورد أو الصانع في عقود المقاولة أو التوريد أو الاستصناع أن يدفع مبلغًا معينًا عن كل يوم، أو عن كل أسبوع، أو عن كل مدة أخرى من الزمن يتأخر فيها المقاول أو المورد أو الصانع عن تسليم العمل المعهود إليه إنجازه. مثال آخر: أن يشترط المؤجر للأرض الزراعية أن تسلم الأرض إليه خالية من الزراعة عند انتهاء مدة الإجارة، فإذا أخل المستأجر بهذا الشرط فإنه يلتزم بدفع مبلغ معين لصاحب الأرض. فما حكم اشتراط مثل هذا الشرط إذا تضمنه العقد؟ نستطيع أن نقول: إن هذا الشرط يرجع إلى مسألة متقدمة، وهو هل الأصل في الشروط المنع والبطلان، أو الأصل الصحة والجواز.
ففي المسألة قولان: الأول: يرى أن الأصل في الشروط المنع والبطلان، حتى يقوم دليل على جوازه وصحته، ومثل هذا المذهب لا يجيز مثل هذا الشرط جزمًا، ومن هؤلاء ابن حزم -رحمه الله- (¬1). ويستدل بأدلة كثيرة سبق ذكرها والجواب عنها فيما تقدم، من أهمها: [ح- 390] ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنه - في قصة شراء بريرة، وفي الحديث: "قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله في باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق ... " (¬2). قال ابن حزم: "فهذه الأخبار براهين قاطعة في إبطال كل عهد، وكل عقد، وكل وعد، وكل شرط ليس في كتاب الله الأمر به، أو النص على إباحة عقده؛ لأن العقود والعهود والأوعاد شروط، واسم الشرط يقع على جميع ذلك (¬3). وقيل: الأصل في الشروط الصحة والجواز حتى يقوم دليل شرعي على المنع والبطلان، وهذا يذهب إليه ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة (¬4)، ومثل هؤلاء يمكن لهم أن يذهبوا إلى جواز الشرط الجزائي. وإذا أردنا أن نعرف حكم الشرط الجزائي بالنظر إلى قواعد كل مذهب وموقفه من الشروط الجعلية. ¬
فيمكن القول بأن مذهب الحنفية والشافعية لا يقولون بصحة الشرط الجزائي، لأن الأصل في مذهبهم النهي عن بيع وشرط، ويروون حديثًا ضعيفًا بهذا اللفظ، وقد سبق تخريجه. فالشافعية لا يستثنون من هذا إلا الشروط التي يقتضيها العقد، مثل التسليم، والانتفاع، والشروط التي فيها مصلحة للعقد كالرهن والتأجيل والكفيل، والخيار، ويلحق به إذا باعه بشرط العتق. وما سوى ذلك من الشروط فهي باطلة عندهم. ويدخل في ذلك الشرط الجزائي، إذا اعتبرنا أن الشرط الجزائي لا يقتضيه العقد، وليس بمنزلة الرهن والضمان، والأجل. يقول الغزالي: "الثامن (نهى عن بيع وشرط) فاقتضى مطلقه امتناع كل شرط في البيع، والمفهوم من تعليله أنه إذا انضم شرط إلى البيع بقيت معه علقة بعد العقد، يتصور بسببها منازعة، ويفوت بفواتها مقصود العاقد، وينعكس على أصل العقد، فيحسم الباب، ولم يكن محذور هذا النهي منفصلًا عن العقد، فيدل على فساده أو فساد الشرط لا محالة ... ثم ذكر ما يستثنى من حديث النهي عن بيع وشرط" (¬1). ويقول الشيرازي: "إذا شرط في المبيع شرطًا نظرت: فإن كان شرطًا يقتضيه البيع، كالتسليم، والرد بالعيب، وما أشبههما لم يبطل العقد؛ لأن شرط ذلك بيان لما يقتضيه العقد، فلم يبطله. فإن شرط ما لا يقتضيه العقد، ولكن فيه مصلحة: كالخيار، والأجل، والرهن، والضمين، لم يبطل العقد؛ لأن الشرع ورد بذلك على ما نبينه في ¬
مواضعه إن شاء الله، ولأن الحاجة تدعوا إليه، فلم يفسد العقد، فإن شرط عتق العبد المبيع، لم يفسد العقد؛ لأن عائشة -رضي الله عنه- اشترت بريرة لتعتقها ... فإن شرط ما سوى ذلك من الشروط التي تنافي مقتضى البيع، بأن باع عبدًا بشرط ألا يبيعه، أو لا يعتقه، أو باع دارًا بشرط أن يسكنها مدة، أو ثوبًا بشرط أن يخطيه له، أو نعلة بشرط أن يحذوها له، بطل البيع، لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع وشرط ... " (¬1). ولا يختلف مذهب الحنفية عن مذهب الشافعية في بطلان الشرط في البيع؛ لأنهم يذهبون مع الشافعية إلى اعتماد ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن بيع وشرط، إلا أن الحنفية يختلفون عن الشافعية في تقديم الشرط الذي جرى به العرف، وكان عليه عمل الناس، ويقدمونه على القياس، فإذا جرى العرف على اعتبار الشرط الجزائي في العقود، وجرى التعامل به بين الناس أمكن للمذهب الحنفي أن يتسع لقبول القول بالشرط الجزائي استحسانًا وإن كان على خلاف القياس عندهم. وهذه مرونة في المذهب يختلف فيها عن المذهب الشافعي. فقد ذكر الكاساني أن الشرط الذي لا يقتضيه العقد، وليس بملائم له، ولكن للناس فيه تعامل، وفيه عرف ظاهر أن هذا الشرط فاسد بالقياس عندهم، ولكنهم يقولون بجوازه استحسانًا؛ لأن العرف يقضي على القياس، ويسقط القياس بتعامل الناس كما سقط في الاستصناع (¬2). ولو أن مذهب الحنفية جعلوا عمل الصحابة يسقط القياس لكان هذا جيدًا، أما عمل الناس من غير الصحابة فليس بحجة، وقد يتعامل الناس بما يخالف نصًا شرعيًا، أيكون ذلك حجة على أحد؟ ¬
وأما مذهب المالكية فإن الباحث لا يستطيع أن يخرج بقاعدة من تعاملهم مع الشروط يمكنه أن يتلمس صحة هذا الشرط أو بطلانه عندهم، وهذا ما عبر عنه ابن رشد الحفيد، حيث يقول في بداية المجتهد: "وأما مالك فالشروط عنده تنقسم ثلاثة أقسام: شروط تبطل هي والبيع معًا. وشروط تجوز هي والبيع معًا. وشروط تبطل هي، ويثبت البيع. وقد يظن أن عنده قسمًا رابعًا: وهو أن من الشروط ما إن يمسك المشترط بشرطه بطل البيع، وإن تركه جاز البيع، وإعطاء فروق بَيِّنة في مذهبه بين هذه الأصناف الأربعة عسير، وقد رام ذلك كثير من الفقهاء، وإنما هي راجعة إلى كثرة ما يتضمن الشروط من صنفي الفساد الذي يخل بصحة البيوع: وهما الربا والغرر، وإلى قلته، وإلى التوسط بين ذلك، أو إلى ما يفيد نقصًا في الملك، فما كان دخول هذه الأشياء كثيرًا من قبل الشرط أبطله، وأبطل الشرط، وما كان قليلًا أجازه، وأجاز الشرط فيها، وما كان متوسطًا أبطل الشرط، وأجاز البيع ... " (¬1). ويفهم من كلام ابن رشد أن يسير الربا يجوز كما يجوز يسير الغرر، والحق أن يسير الربا محرم، ويسير الغرر جائز بالإجماع. وأما مذهب الحنابلة فهم أوسع المذاهب في الشروط، ويمكن تخريج صحة الشرط الجزائي على قواعد المذهب، والله أعلم. ¬
القول الأول
هذا ما ظهر لي من خلال تقسيم الشروط في كل مذهب ما يصح منها، وما لا يصح. وقد خالفني في هذا بعض الفضلاء، فرأى أن الشرط الجزائي مشروع وصحيح عند سائر أئمة المذاهب، يقول الشيخ الدكتور ناجي شفيق عجم، من جامعة الملك عبد العزيز: "الشرط الجزائي شرط جائز، ومشروع حتى إنه صحيح عند المذاهب؛ لأنه شرط مقترن بالعقد جرى به العرف، وفيه مصلحة للعقد، وهو شرط ملائم للعقد، ولذلك فهو صحيح عند الحنفية لجريان العرف به، وصحيح عند الشافعية؛ لأن فيه مصلحة للعقد، وصحيح عند المالكية لأن فيه مصلحة للعقد، ولأنه شرط ملائم لم يرد بالغائه وتحريمه أو جوازه نص خاص، فهو ملائم مرسل، وهو جائز وصحيح من باب أولى عند الحنابلة الذين لا يحرمون إلا الشروط التي ورد بتحريمها نص، أو التي تنافي متقتضى العقد" (¬1). وإذا عرفت حكم الشرط الجزائي بالنظر إلى قواعد كل مذهب وموقفه من الشروط الجعلية، نأتي إلى خلاف المعاصرين في حكم الشرط الجزائي، فقد اختلفوا فيه على قولين: القول الأول: ذهب إلى جواز اشتراط مثل هذا الشرط أعضاء هيئة كبار العلماء بالسعودية (¬2). ¬
وقد استدلوا بأدلة عامة وخاصة
وبه صدر قرار مجمع الفقه الإسلامى التاسع المؤتمر الإسلامى (¬1). وقد استدلوا بأدلة عامة وخاصة: أما الأدلة العامة التي يستدل بها فهي كل دليل يمكن أن يستدل به على أن الأصل في الشروط الصحة والجواز حتى يأتي دليل يدل على المنع والبطلان، وهذه كثيرة منها: الدليل الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]. وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج: 32]. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: ما ذكره العلماء من أن الأمور قسمان: عبادات ومعاملات، فالعبادات الأصل فيها التحريم؛ لأن التعبد لا بد فيه من الإذن الشرعي على فعله، ولهذا ذم الله -سبحانه وتعالى- المشركين الذين شرعوا لهم دينًا من قبل أنفسهم، فقالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. وأما المعاملات فالأصل فيها الحل، حتى يأتي دليل شرعي يمنع من ذلك لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، فالبيع مطلق يشمل كل بيع إلا ما دل الدليل الخاص على تحريمه وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فلم يشترط إلا مجرد الرضا. فإذا كانت العقود والشروط من باب الأفعال العادية، فالأصل فيها عدم التحريم، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم، كما أن الأعيان الأصل فيها عدم التحريم، وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]، عام في الأعيان والأفعال، وإذا لم تكن حراما لم تكن فاسدة؛ لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم، وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة، وأيضًا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط إلا ما ثبت تحريمه بعينه (¬1). الدليل الثالث: (ح-391) ما رواه الترمذي من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: الصلح جائز بين المسلمين إلا ¬
وأجيب بجوابين
صلحا حرم حلالا أو أحل حراما والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلال أو أحل حرامًا. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح (¬1). [ضعيف] (¬2). وأجيب بجوابين: الأول: أن الحديث ضعيف، فلا يصح الاحتجاج به. ورد هذا الجواب: بأنه وإن كان ضعيفًا في نفسه، فإن له طرقًا يتقوى بها، وممن رأى هذا الرأي ابن تيمية (¬3). والصحيح أنه لا حجة فيه، وتكفي الأدلة السابقة للاحتجاج على أن العقود والشروط الأصل فيها الحل إلا ما خالف الشرع أو خالف مقتضى العقد كما سبق لنا عند الكلام على الشروط الصحيحة. وهناك أدلة أخرى ذكرناها في مبحث خاص، وهو هل الأصل في الشروط الصحة والجواز في أول مباحث كتاب الشروط، فأغنى عن إعادتها هنا. وأما الأدلة الخاصة على صحة اشتراط الشرط الجزائي، فكثيرة منها: الدليل الأول: (ث-78) روى عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، ¬
الدليل الثاني
قال: اختصم إلى شريح في رجل اكترى من رجل ظهره، فقال: إن لم أخرج يوم كذا وكذا، ذلك زيادة كذا وكذا، فلم يخرج يومئذ، وحبسه، فقال شريح: من شرط على نفسه شرطًا طائعًا غير مكره، أجزناه عليه (¬1). [إسناده صحيحًا]. قال الشيخ الزرقاء -رحمه الله-: "وهذا النوع من الاشتراط المروي عن القاضي شريح في ضمان التعويض عن التعطل والانتظار ما يسمى في الفقه الأجنبي الحديث: الشرط الجزائي" (¬2). وعندي أن هذا من بيع العربون، وليس من الشرط الجزائي، وسيأتي الفرق بين بيع العربون، وبين الشرط الجزائي في الدليل الثاني، وعلى تقدير أنه من الشرط الجزائي فهذا يساق على أن الشرط الجزائي وجد من يقول به من السلف، ولا يساق على أنه دليل على صحته، فليس كل قول مأثور، عن رجل غير معصوم، يكون قوله حجة، ويساق قوله للاحتجاج كما تساق الأدلة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو عن صحابته رضوان الله عليهم، ولكن إن سيق للاستئناس به، فلا بأس. الدليل الثاني: الشرط الجزائي فيه شبه ببيع العربون، والذي أجازه الحنابلة، ورجحت جوازه في المبحث السابق. فحقيقة بيع العربون: أن يدفع المشتري مبلغًا من المال للبائع على أنه إن أخذ السلعة يكون ذلك المبلغ محسوبًا من الثمن، وإن تركها فالمبلغ للبائع. ¬
فكل من الشرط الجزائي وبيع العربون يتضمن التزام أحد طرفي العقد عند التعاقد أن يدفع مبلغًا معينًا من المال فالشرط الجزائي في مقابل الإخلال بالشرط، والعربون في مقابلًا استعمال خيار العدول عن العقد، فإذا شرطا هذا في العقد، وصدر عن رضا واختيار لزمهما. وهناك فرق بين بيع العربون، وبين الشرط الجزائي، من ذلك: 1 - العربون هو في مقابل عدول المشتري عن العقد، أما الشرط الجزائي فهو في مقابل الإخلال بالتزام المقاول أو الصانع. 2 - الالتزام بدفع العربون عند عدول المشتري قائم ولو لم يترتب على العدول ضرر؛ لأنه مقابل العدول، أما الشرط الجزائي ففيه خلاف: فقيل: لا يستحق إلا إذا وقع ضرر على الدائن؛ لأنه تقدير للتعويض عن الضرر. وقيل: الشرط الجزائي عقوبة مالية للإخلال بالالتزام (¬1). 3 - العربون لا يجوز تعديله من القاضي، والشرط الجزائي، إن قيل: إنه تعويض عن الضرر جاز تخفيضه وزيادته، وإن قيل: إنه عقوبة مالية لم يتدخل القاضي بذلك. 4 - في بيع العربون المشتري غير بين تنفيذ العقد وترك العربون، أما في ¬
الدليل الثالث
العقد الذي فيه شرط جزائى فلا خيار للمدين، وعليه أن ينفذ التزامه الأصلي ما دام ممكنا ..... " (¬1). الدليل الثالث: يعتبر الشرط الجزائي من الشروط التي تعتبر من مصلحة العقد، ومن مصلحة العاقد، وما كان كذلك كان اشتراطه جائزًا، والعمل به صحيحًا. أما وجه كون الشرط من مصلحة العقد فلأنه حافز لإكمال العقد في وقته المحدد، وهذا يخدم العقد (¬2). وأما وجه كون الشرط من مصلحة العاقد، فلأنه من خلاله يتوصل العاقد إلى مصالح منها: (أ) ضمان تنفيذ العقد في المدة المتفق عليها، وهذا ينفع كلًا من العاقدين. (ب) تحمل الأضرار الناتجة من التهاون في تنفيذ العقد في المدة المتفق عليها. (ج) تجنب المتعاقدين اللجوء إلى القضاء من أجل تقدير التعويض المترتب على الأضرار الناشئة عن التأخير، وتوفير الجهد والمال في الإجراءات القضائية الطويلة والباهظة التكاليف. (د) إعفاء الدائن من عبء إثبات الضرر الذي يصيبه عند إخلال المدين بالتزامه (¬3). ¬
الدليل الرابع
واشتراط ما يحقق هذه المصالح لا يمكن أن يكون منهيًا عنه. الدليل الرابع: الشرط الجزائي "في مقابلة الإخلال بالالتزام، حيث إن الإخلال به مظنة الضرر، وتفويت المنافع، وفي القول بتصحيح الشرط الجزائي سد لأبواب الفوضى، والتلاعب بحقوق عباد الله، وسبب من أسباب الحفز على الوفاء بالعهود والعقود، تحقيقًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] " (¬1). الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة الفريقين أجد أن الأخذ بالشرط الجزائي قول تؤيده الأدلة، والقواعد الفقهية، وهو وإن كان مستحدثًا في كثير من صوره، إلا أن بعض صوره قد تعرض لها الفقهاء المتقدمون. يقول الكاساني: "لو جعل المال نجومًا، بكفيل، أو بغير كفيل، وشرط أنه إن لم يوفه كل نجم عند محله، فالمال حال عليه، فهو جائز على ما شرط؛ لأنه جعل الإخلال بنجم شرطًا لحلول كل المال عليه، وأنه صحيح" (¬2). وقال ابن القيم: " إن خاف صاحب الحق أن لا يفي له من عليه بأدائه عند كل نجم كما أجله، فالحيلة أن يشترط عليه أنه إذا حل نجم، ولم يؤد قسطه فجميع المال عليه حال، فإن نجمه على هذا الشرط جاز، وتمكن من مطالبته به حالًا ومنجمًا ... " (¬3). ¬
فهذه صورة من صور الشرط الجزائي، تكلم عليها سلفنا، فهي شاهد على أن الشرط الجزائي ليس عقدًا مستحدثًا من كل وجه، وهذا الشرط يمثل عقوبة غرامية، وليست تعويضًا اتفاقيًا، وسوف نأتي إن شاء الله على الصورة التي ذكرها الكاساني وابن القيم في المباحث التالية، نسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
المسألة الثانية الشرط الجزائي في مقابل الديون
المسألة الثانية الشرط الجزائي في مقابل الديون المطلب الأول الاتفاق على دفع غرامة مالية عند تأخير المدين عن الأداء [ن-44] تكلمنا في المبحث السابق في حكم الشرط الجزائي إذا كان محل الالتزام عملًا من الأعمال. ونريد أن نبحث في هذا الفصل عن حكم الشرط الجزائي في العقود التي يكون الالتزام الأصلي فيها دينًا، كما لو كان الالتزام بسبب قرض، أو بسبب بيع بثمن مؤجل أو مقسط (كبيع المرابحة للآمر بالشراء)، ومثل عقد السلم. فهل يجوز في عقد القرض أن يشترط الدائن على المدين شرطًا جزائيًا بدفع مبلغ معين من المال في حال تأخره عن السداد؟ وهل يجوز للبائع في عقد البيع بثمن مؤجل أو مقسط، أن يشترط على المشتري شرطًا جزائيًا بدفع مبلغ من المال في حال تأخر عن سداد الدين؟ وهل يجوز في عقد السلم أن يشترط رب السلم على المسلم إليه شرطًا جزائيًا بدفع مبلغ من المال في حالة تأخره عن تسليم المسلم فيه في وقته. وللجواب على ذلك نقول: لا يجوز الشرط الجزائي في العقود التي يكون الالتزام الأصلي فيها دينًا،
فإذا اتفق الدائن مع المدين على تعويضه مبلغًا معينًا عن كل يوم تأخير، فإن هذا الشرط لا يجوز شرعًا باتفاق الفقهاء؛ لأنه صريح الربا. قال الحطاب: " إذا التزم المدعى عليه للمدعي أنه إذا لم يوفه حقه في كذا، فله عليه كذا وكذا، فهذا لا يختلف في بطلانه؛ لأنه صريح الربا، وسواء كان الشيء الملتزم به من جنس الدين أو غيره، وسواء كان شيثًا معينًا، أو منفعة ... " (¬1). ويقول الشيخ عبد الله بن منيع: " الذي يظهر لي أن الشرط الخزائي بالنسبة لسداد الديون، هو أخذ بالمنهج الجاهلي: (أتربي أم تقضي) بل قد يكون أشد من ذلك؛ لأن المنهج الجاهلي يبدأ عند حلول أجل السداد، وهذا يقر عند التعاقد، فهو إقرار بالربا الجاهلي عند التعاقد" (¬2). وقال الشيخ مصطفى الزرقاء: "إن الاتفاق على مقدار ضرر الدائن عن تأخير الوفاء، له محذور كبير، وهو أنه قد يصبح ذريعة لربا مستور، بتواطؤ من الدائن والمدين، بأن يتفقا في القرض على فوائد زمنية ربوية، ثم يعقد القرض في ميعاده، لكن يستحق عليه الدائن تعويض تأخير متفق عليه مسبقًا يعادل سعر الفائدة، فلذلك لا يجوز في نظري" (¬3). وجاء في قرار المجمع الفقهي ما نصه: "لا يجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم فيه؛ لأنه عبارة عن دين، ولا يجوز اشتراط الزيادة في الديون عند التأخير" (¬4). ¬
وجه التفريق بينهما
كما جاء قرار المجمع الفقهي في البيع بالتقسيط رقم: 51 (2/ 6): "إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط بعد الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق، أو بدون شرط؛ لأن ذلك ربا محرم" (¬1). وجاء أيضًا في قرار آخر للمجمع: "لا يجوز مثلا -يعني الشرط الجزائي- في البيع بالتقسيط بسبب تأخر المدين عن سداد الأقساط المتبقية، سواء كان بسبب الإعسار، أو المماطلة، ولا يجوز في عقد الاستصناع بالنسبة للمستصنع إذا تأخر في أداء ما عليه" (¬2). وهنا مجمع الفقه الإِسلامي فرق بين الصانع والمستصنع، فأجاز الشرط الجزائي على الصانع ومنع الشرط الجزائي على المستصنع: وجه التفريق بينهما: أن الالتزام في حق الصانع إنما هو التزام بأداء عمل، لا يستحق مقابله إلا بعد أدائه، وأخذ الشرط الجزائي في مقابل التأخير في تنفيذ الالتزام جائز على الصحيح إذا كان محل الالتزام عملًا من الأعمال كما بينا في المسألة السابقة، وأما الالتزام في حق المستصنع: فهو دين مالي حقيقي ثابت في ذمته، وأخذ شرط جزائي على تأخير الدين المالي يعتبر من الربا الصريح. ومثل الاستصناع عقد المقاولة، وعقد التوريد. القول الثاني: ذهب بعض الباحثين منهم الدكتور رفيق المصري، والشيخ حسن الجواهري، ¬
وحجتهم
والدكتور علي محيي الدين القره داغي: أن الشرط الجزائي جائز في عقد الاستصناع والمقاولة والتوريد في حالة عدم التنفيذ، ولا يجوز في حالة التأخر عن التنفيذ. يقول الدكتور رفيق المصري: الشرط الجزائي إن كان لعدم التنفيذ فهو جائز، ويأخذ حكم العربون، وإن كان اشتراط الشرط لأجل التأخير في التنفيذ فإنه غير جائز؛ لأنه يكون في حكم ربا النسيئة. وحجتهم: أن المبيع المستحق التسليم في أجل محدد ضرب من الالتزام (الدين) فأخذ غرامة على التأخير فيه شبهة ربا النسيئة: تقضي أو تربي (¬1). ويقول الشيخ حسن الجواهري عن عقد الاستصناع: "المشْتَرَى دين في ذمة البائع، فإن تأخر البائع عن التسليم، وألزمناه بالشرط الجزائي فمعنى ذلك تأخر قضاء الدين في مقابل المال، هو الربا المحرم، ولذا أرى أن يقيد مثلًا صحة الشرط الجزائي في عقد الاستصناع بهذه الجملة: (إذا لم يف المستصْنَع بالعقد أصلًا) ولا تترك على إطلاقها ... " (¬2). ويتساءل الدكتور رفيق المصري: لماذا يجوز الشرط الجزائي في عقد التوريد، ولا يرى جوازه عند التأخر في السلم، فأي فرق ها هنا بين التوريد والسلم؟ (¬3). ويجيب الدكتور الصديق الضرر على هذا القول: فيقول: استدلال الدكتور رفيق هو أن المبيع المستحق التسليم في أجل محدد ضرب من الالتزام (الدين). ¬
الراجح بين القولين
أقول: -القائل الصديق الضرير- كون المبيع المستحق التسليم في أجل محدد ضربًا من الالتزام لا خلاف فيه، وأما كون هذا الالتزام مساويًا للدين فغير مسلم؛ لأنا الالتزام أعم من الدين، فكل دين التزام، وليس كل التزام دينًا، والالتزام في عقد المقاولة ليس دينًا، وإنما هو التزام بأداء عمل، والمقاول قد يكون دائنًا لا مدينًا في كثير من الحالات، فالبنوك العقارية تقوم ببناء المساكن مقاولة، وتتقاضى المقابل على أقساط بعد تسليم المبنى، وكذلك يفعل كبار المقاولين، والفرق كبير جدًا بين التزام المقاول والمورد، والتزام المقترض والمشتري بثمن مؤجل، والمسلم إليه، فالتزام هؤلاء الثلاثة دين حقيقي ثبت في ذممهم، وأخذوا مقابله، أما التزام المقاول والمورد فهو التزام بأداء عمل، لا يستحق مقابله إلا بعد أدائه، والله أعلم (¬1). الراجح بين القولين: الذي أميل إليه القول بجواز الشرط الجزائي إذا كان محل الالتزام عملًا من الأعمال، وإن كنت لا أتفق مع فضيلة الشيخ الصديق الكريم بأن التزام العمل ليس دينًا، بل هو دين؛ لأن محله ذمة الأجير أو المقاول أو المورد، وسماها الفقهاء الإجارة في الذمة، لكن هناك فرق بين أن يكون الدين عملًا، وبين أن يكون الدين غير ذلك، ولذلك أجاز الحنابلة والحنفية في الإجارة في الذمة من تأخير العوضين، ومنعوا ذلك في البيوع إذا كان كل من المبيع والثمن دينًا في الذمة، مما يدل على أن هناك فرقًا بين الالتزامين لذلك أرى أنه لا مانع من أخذ الشرط الجزائي إذا كان محل الالتزام عملًا من الأعمال، وإن كان هذا العمل يصح أن يقال: هو دين في ذمة الأجير والمقاول والمورد، والله أعلم. ¬
المطلب الثاني في أخذ الغرامة المالية من المماطل عن السداد
المطلب الثاني في أخذ الغرامة المالية من المماطل عن السداد [م - 438] إذا امتنع المدين عن وفاء الدين في الوقت المحدد، فإن كان معسرًا فإن الموقف الشرعي أن ينتظر به إلى ميسرة. قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. قال ابن رجب: "من عليه دين لا يطالب به مع إعساره، بل ينظر إلى حال يساره، قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. وعلى هذا جمهور العلماء خلافًا لشريح، في قوله: إن الآية مختصة بديون الربا في الجاهلية، والجمهور أخذوا باللفظ العام ... " (¬1). وإن كان موسرًا فإنه لا يجوز له أن يماطل، ويجب عليه سداد دينه في وقته، فإذا ماطل وتأخر عن السداد، ولحق الدائن ضرر مالي بسبب هذا الامتناع فهل يجب على المدين أن يدفع تعويضًا ماليًا في مقابل ما فات الدائن من منافع أو لحقه من ضرر؟ هذه المسألة اختلف فيها الفقهاء المعاصرون، وأما الفقهاء المتقدمون فلا أعلم أن أحدًا منهم أجاز تغريم المتأخر غرامة مالية تعويضًا للدائن، أو عقابًا للمدين. وما وجد من ذلك لبعضهم إنما هو في حق الغاصب، ومعلوم أن الغاصب يعامل معاملة الأشد لعدوانه على خلاف بينهم فيما إذا كانت الأعيان ¬
المغصوبة دراهم أو عروض كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. أما المدين فلم أقف على كلام للفقهاء المتقدمين يقول بوجوب دفع التعويض إذا تأخر عن السداد، ويبقى القائل بوجوب دفع التعويض مطالبًا بأن يثبت هذا القول عن السلف. وأما إجتهاد الفقهاء المعاصرين فجاء على النحو التالي (¬1): فقيل: للدائن أن يطالب المدين إذا كان موسرًا بالتعويض المالي عما لحقه من ضرر أو فاته من منافع نتيجة مماطلته. وهذا قول الشيخ مصطفى الزرقاء (¬2)، والشيخ عبد الله بن منيع (¬3)، والدكتور الصديق الضرير (¬4). على خلاف: هل يجوز أن يكون هذا التعويض موضع اتفاق مسبق بين الدائن والمدين، أو يجب أن يرجع فيه إلى القضاء عند وقوع المماطلة؟ ¬
وهل يقدر التعويض وفق ربح الدائن، أو يقر وفق ربح المثل؟ (¬1). وقيل: لا يجوز أخذ هذا التعويض مطلقًا، وهذا قول الدكتور نزيه حماد (¬2)، والشيخ عبد الله بن بيه (¬3)، والدكتور زكي الدين عثمان (¬4)، وجماعة من أهل العلم. وقيل: أخذ مال من المماطل زائدًا على قدر الدين، هو من باب العقوبة، يرجع فيها إلى القضاء، وتصرف في بيت مال المسلمين إن وجد أو في المصالح العامة. وهذا يتوجه له بعض الباحثين، منهم القاضي محمَّد تقي العثماني (¬5). وقيل: في التفريق بين التعويض عن الضرر الفعلي الواقع، وبين التعويض عما فات الدائن من كسب، فيجوز الأول دون الثاني. ¬
ويناقش
ويحملون كلام ابن تيمية الوارد في تغريم المماطل نفقات وتكاليف الشكاية المألوفة عرفًا والناتجة عن رفع الدعوى إلى المحاكم ليصل الدائن إلى حقه ويدفع الضرر عن نفسه على جواز التعويض عن الضرر المالي الفعلي، وليس عن التعويض على الفرص والمكاسب الفائتة (¬1). يقول ابن تيمية: "إذا كان الذي عليه الحق قادرًا على الوفاء، ومطله حتى أحوجه إلى الشكاية، فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المماطل، إذا غرمه على الوجه المعتاد" (¬2). ويناقش: وللمتأمل أن يقول: إن تغريم نفقات الشكاية ليس تعويضًا عن الضرر المالي لحبس ما في الذمة، وإنما لأن المماطل تسبب للدائن في نفقات مالية إضافية بسبب مطله، فتضاف إلى المال المحبوس، فوجب على المدين تحملها لكونه المتسبب له في ذلك. وليس في ذلك دفع أي تعويض عن منافع المال المحبوس، والذي هو محل النزاع، ولذلك لو تأخر في دفع نفقات الشكاية لا يقال: يدفع تعويضًا ماليًا لتأخره. ¬
دليل القائلين بجواز العقوبة المالية
دليل القائلين بجواز العقوبة المالية: الدليل الأول: (ح-392) ما رواه البخاري من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مطل الغني ظلم، فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع (¬1). فإذا كان مطله ظلمًا، وقد منعك ما هو من حقك، كانت يده على المال يد غصب، وإذا كانت الأعيان المغصوبة مضمونة على الغاصب سواء استوفى الغاصب تلك المنفعة أو عطلها كما هو رأي الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، خلافًا للحنفية (¬4)؛ لأن المنافع لما كانت متقومة كانت مضمونة بالغصب، فالمطل في أداء الديون يشبه الغصب، فيجب أن يأخذ حكمه؛ لأنه ظلم من جهة، ولأن غصب ما في الذمة إنما يكون بحجبه عن صاحبه؛ لأن الديون ليست أعيانًا حتى يتأتى فيها الغصب المادي، فحجبها عن صاحبها هو كالغصب في حق الأعيان (¬5). وهو مقتضى ما ذهب إليه بعض المحققين من أهل العلم من القول بضمان نقص سعر العملة الورقية، وإن كانت المسألة فيها خلاف قوي: ¬
وناقش المانعون هذا الدليل من وجوه
قال شيخ شيخنا عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: "قال الأصحاب: وما نقص بسعر لم يضمن. أقول: وفي هذا نظر، فإن الصحيح أنه يضمن نقص السعر، وكيف يغصب شيئًا يساوي ألفًا، وكان مالكه يستطيع بيعه بالألف، ثم نقص السعر نقصًا فاحشًا فصار يساوي خمسمائة أنه لا يضمن النقص، فيرده كما هو" (¬1). وناقش المانعون هذا الدليل من وجوه: الأول: أن اعتبار المماطل ظالمًا فهذا مما لا شك فيه، والنص فيه صريح وواضح، ولكن أين الدليل على أن هذا النوع من الظلم يوجب تعويضًا ماليًا للمظلوم. الثاني: أن القائلين بضمان منافع العين المغصوبة وهم الشافعية والحنابلة يشترطون أن تكون العين مما يصح أخذ العوض عنها، وذلك بأن يكون المغصوب من الأعيان التي يرد عليها عقد الإجارة. والنقود لا تؤجر بالإجماع (¬2)، فلا يجوز أخذ العوض عليها. يقول النووي: "فكل عين لها منفعة تستأجر لها يضمن منفعتها إذا بقيت في يده مدة لها أجرة، حتى لو غصب كتابًا، وأمسكه مدة وطالعه، أو مسكًا فشمه أو لم يشمه لزمه أجرته" (¬3). ¬
وقال في الإنصاف: "وإن كان للمغصوب أجرة، فعلى الغاصب أجرة مثله، مدة مقامه في يده" (¬1). وقال في كشاف القناع: "وإن كان للمغصوب منفعة تصح إجارتها، يعني: إن كان المغصوب مما يؤجر عادة، فعلى الغاصب أجرة مثله، مدة مقامه في يده" (¬2). الثالث: قياس المدين على الغاصب قياس مع الفارق، فالغاصب يعامل معاملة الأشد، ولذلك الفقهاء الذين قالوا بأخذ التعويض من الغاصب لم يقولوا ذلك بأخذ التعويض من المدين. رابعًا: على فرض أن يكون قياس المدين على الغاصب قياسًا صحيحًا، فإن العلماء المتقدمين لم يتفقوا على تغريم الغاصب نماء المال المغصوب، بل أكثرهم على القول بأنه ليس للغاصب إلا ما أخذ منه، فيرد إليه عين ماله إن كان موجودًا، أو مثله إن كان مثليًا، أو قيمته إن كان قيميًا، وإذا اختلف العلماء في الأصل (المقيس عليه) لم يكن في المقيس (الفرع) حجة للقائلين بوجوب التغريم، كما أنهم يفرقون بين نماء الأعيان بنفسها كالتسل واللبن والصوف، ونماء الدراهم والدنانير التي تتوقف على عمل الغاصب وكسبه. جاء في الفواكه الدواني: "الثمرة والنسل والصوف واللبن، ومنفعة العقار لرب الشيء المغصوب، وأما ربح الدراهم ونماء البذر فهو للغاصب، وإنما يرد رأس المال" (¬3). ¬
وإليك الخلاف في تغريم الغاصب
وفي غصب منفعة الأعيان هناك من لا يوجب ضمان المنفعة مطلقًا كالحنفية، وقد تقدم ذكر مذهبهم عند الكلام على مالية المنافع. وهناك من يفرق بين أن يحبس الغاصب الرقبة دون استغلال، وبين أن يستغل الرقبة بالسكنى أو بالكراء، فلا يوجب ضمان المنفعة إلا إذا استغلت الرقبة بالسكنى، وهذا مذهب المالكية (¬1). وهناك من يوجب ضمان المنفعة مطلقًا كالشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وإليك الخلاف في تغريم الغاصب: فقد ذهب عامة أهل العلم إلى أن الغاصب إن حبس المال، ولم يتجر فيه، أو اتجر فيه فخسر فليس للمالك إلا رأس ماله (¬4). قال الخرشي عن ضمان غلة الغاصب: "لو لم يستعمل فلا يضمن شيئًا، كالدار يغلقها، والدابة يحبسها، والأرض يبورها، والعبد لا يستخدمه" (¬5). وقال ابن عبد البر في الكافي: "وتحصيل مذهبه أن من غصب سكنى دار، فسكنها لزمه كراؤها، ولو غصب رقبتها لم يلزمه كراؤها إذا لم يسكنها، ولم يأخذ لها كراء" (¬6). وهذا الكلام في غير الدراهم والدنانير. ¬
الحال الأولى
وجاء في مجلة الأحكام الشرعية الحنبلية: "لا يضمن الغاصب ما فوته على المالك من الربح بحبسه مال التجار" (¬1). وقيل: للمغصوب منه قدر ما كان يربح فيها لو كان المال في يده. وهذا قول مرجوح في مذهب المالكية (¬2). وبناء على هذا القول فإنه يشترط في ضمان الربح المقدر شرطان: أن يكون رب المال تاجرًا يتجر فيها. الثاني: أن يعلم أن التجارة في تلك المدة كانت مربحة، فلو علم أن التجارة في تلك المدة غير مربحة لم يضمن (¬3). وأما إذا اتجر الغاصب في المغصوب، وكان المغصوب دراهم ودنانير وربح فيها فعلًا، فلا يخلو الأمر من حالين: الحال الأولى: أن يشترى الغاصب بعين المال المغصوب، فهنا اختلف العلماء في صحة العقد على قولين: القول الأول: تصرفه باطل، وهذا مذهب الشافعية (¬4)، ورواية في مذهب الحنابلة. ¬
وجه القول بالبطلان
قال ابن قدامة: "وتصرفات الغاصب كتصرفات الفضولي على ما ذكرنا من الروايتين: إحداهما: بطلانها. والثانية صحتها، ووقوفها على إجازة المالك ... " (¬1). وجه القول بالبطلان: أن من شرط صحة البيع أن يكون المعقود عليه مملوكًا للعاقد، أو مأذونًا له فيه، والعاقد ليس له ولاية في عين المعقود عليه. القول الثاني: العقد صحيح؛ لأن الغاصب لما تصرف في المغصوب صار مضمونًا عليه بمثله أو قيمته فيكون ملكه عليه صحيحًا، وتصرفه فيه نافذًا، ولأن الدراهم لا تتعين بالتعيين وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية، والحنابلة (¬3)، على خلاف بينهم فيمن يستحق الربح. ¬
فقيل: يتصدق بالربح إذا اشترى بعين المغصوب، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). جاء في فتاوى السغدي: "لو غصب دراهم ودنانير، أو غير ذلك من الكيلي والوزني، فاتجر فيه، فإنه يتصدق بالربح في الأفضل، وليس بالواجب" (¬3). وقيل: الربح للغاصب وهذا مذهب المالكية (¬4)، واختيار أبي يوسف من الحنفية (¬5). وقيل: الربح للمالك، وهذا ظاهر مدهب الإِمام مالك (¬6). جاء في المدونة: "من غصب دنانير من رجل، فاشترى بها سلعة لم يكن للمغصوب منه إلا مثل دنانيره" (¬7). وهذا يعني تصحيح تصرف الغاصب، وأن الربح للغاصب، والخسارة عليه. وجاء في المنتقى للباجي: "إن كانت -أي العين المغصوبة- عينًا فمذهب ¬
الحال الثانية
مالك أن ما ابتاع به له، وأن الربح في ذلك له، والخسارة عليه، وهذا عندي مبني على أن الدنانير والدراهم لا تتعين بالغصب" (¬1). الحال الثانية: أن يشتري بذمته، وينقد الثمن من المال المغصوب، فهنا الشراء صحيح؛ لثبوته في ذمته، واختلفوا فيمن يستحق الربح. فقيل: ليس للمغصوب إلا رأس ماله مطلقًا، سواء ربح فيها الغاصب أو لم يربح. وهذا مذهب الحنفية (¬2) وقول الإمام مالك وابن القاسم (¬3)، وحكى ابن رشد الجد الاتفاق عليه (¬4)، وهو القول الجديد للشافعي (¬5). واختاره بعض الحنابلة (¬6). ¬
وجه ذلك
وقيل: الربح للمالك، وهو قول الشافعي في القديم (¬1)، وظاهر مذهب أحمد -رحمه الله- (¬2). وقيل: إن اتجر فيها، وهو موسر، كان الربح له، وإن كان معسرًا فالربح لصاحبها، وهو قول ابن مسلمة من المالكية (¬3). وقيل: الغاصب والمالك شريكان في الربح، وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم (¬4). وجه ذلك: أن الربح لم يحصل بالمال فقط، ولا بعمل الغاصب فقط، وإنما النماء حصل من مال المغصوب منه، ومن عمل الغاصب، فلا يختص أحدهما ¬
الدليل الثاني
بالربح، ولا تجب عليهما الصدقة بالنماء؛ لأن الحق لهما، لا يعدوهما، بل يجعل الربح بينهما كما لو كانا مشتركين شركة مضاربة. هذه هي الأقوال في المسألة وإذا عرفت الخلاف عرفت أن كلام أهل العلم في الغاصب وعامتهم في الكلام على الربح الفعلي وليس المقدر، والجمهور منهم على أن الربح للغاصب وليس للمغصوب منه، فبان لك ضعف ما احتج به بعض العلماء المعاصرين من قياس المدين على الغاصب، ومهما قيل يبقى أن كل هذا الكلام من العلماء المتقدمين إنما هو في الغاصب أما المدين فلم أقف على كلام للعلماء الممكدمين يقول بوجوب دفع التعويض إذا تأخر عن السداد، ويبقى القائل بوجوب التعويض عن تأخر المدين مطالبًا بأن يثبت هذا القول عن السلف؛ لأن المسألة ليست من النوازل التي يتطلب لها اجتهاد حادث، فإذا لم يثبت ذلك كان عليه أن يقر بأن القول بالتعويض قول حادث لا دليل عليه. الدليل الثاني: (ح-393) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثثا وبر بن أبي دليلة، شيخ من أهل الطائف، عن محمَّد بن ميمون بن مسيكة -وأثنى عليه خيرًا، عن عمرو ابن الشريد عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لي الواجد يحل عرضه وعقوبته. قال وكيع: عرضه: شكايته، وعقوبته: حبسه (¬1). [أرجو أن يكون الحديث حسنًا] (¬2). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: اللي: هو التأخر، والواجد: هو الغني، فيكون المعنى: تأخر الغني يحل عرضه وعقوبته. ¬
وتعقب هذا الاستدلال من وجوه
والعقوبة مطلقة، فتشمل العقوبة المالية وغيرها، ومن قصرها على الحبس فقد قيد ما أطلقه الشارع. ومن عقوبته المالية: المتقدم للقضاء بطلب التعويض عن الضرر الذي سببته المماطلة في أدائه الحق، وضمان المنفعة الفائتة والتي يغلب على الظن حصولها للدائن في حال لو استلم حقه في وقته. وتعقب هذا الاستدلال من وجوه: الوجه الأول: بأن أخذ ما فات الدائن من ربح ماله بسبب المماطلة إن كان حقًا له، فلا يصح الحديث دليلًا على جواز أخذه؛ لأن الحديث يتحدث عن عقوبة، (يحل عرضه وعقوبته) وأخذ الحق لا يسمى عقوبة، فلا يستدل بمشروعية عقوبته على جواز أخذ ما يدعى أنه من حقه. الوجه الثاني: أن الحديث فيه: (يحل عرضه وعقوبته) ولم يقل: يحل ماله. الوجه الثالث: لا يوجد في الفقهاء والمحدثين من فسر العقوبة هنا بعقوبة مالية على اختلاف بينهم في جواز التعزير بالمال. قال الجصاص: "المراد بالعقوبة هنا: الحبس؛ لأن أحدًا لا يوجب غيره" (¬1). ¬
الوجه الرابع
وقال أيضًا: "جعل مطل الغني ظلمًا، والظالم لا محالة مستحق العقوبة، وهي الحبس، لاتفاقهم على أنه لم يرد غيره" (¬1). الوجه الرابع: " أن المدين المماطل لا يتجاوز من أن يكون غاصبًا أو سارقًا، فغاية ما يتصور في حقه أن تجري عليه أحكام السرقة والغصب، ولم تفرض الشريعة الإِسلامية أي تعويض على السارق أو الغاصب من أجل النقود المغصوبة، ولا شك أن كلًا من السارق والغاصب قد أحدث ضررًا على المالك، لا في حرمانه من أصل ماله فقط، بل فوات الربح المتوقع منه أيضًا، ولكن الشريعة الإِسلامية قد أمرت بإزالة هذا الضرر برد المال المسروق إلى المالك فقط، وبعقوبة الجاني في جسده أو عرضه، فتبين أن فوات الربح المتوقع ليس ضررًا معوضًا عليه في الشرع" (¬2). الدليل الثالث: استدل القائلون بجواز أخذ التعويض في مقايل التأخير: (ح-394) بما رواه الدارقطني من طريق عثمان بن محمَّد بن عثمان بن ربيعة، ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضاره الله، ومن شاق شق الله عليه (¬3). ¬
وجه الاستدلال
[حسن بشواهده] (¬1). وجه الاستدلال: دل الحديث على وجوب رفع الضرر وإزالته، ولا يمكن إزالة الضرر عن الدائن إلا بتعويضه تعويضًا ماليًا عما لحقه من الضرر، وأما حبس المدين فلا يرفع الضرر الذي وقع على الدائن، وإنما الذي يرفع الضرر هو التعويض المالي وحده، كما أن من أتلف مالًا معصومًا لا يكون التعويض بإتلاف مال المعتدي، وإنما بتقدير المال المتلف، ودفع مثله إن كان مثليًا أو قيمته. والجواب على هذا الدليل من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: هذا الدليل عليكم، وليس لكم، فالمعتدي لم يكلف دفع الأرباح المتوقعة من المال الذي اعتدى عليها، وإنما كلف دفع مثل المال الذي أتلف أو قيمته فقط. الوجه الثاني: أن يقال: ليس كل ضرر يوجب الضمان، فالذي يوجب الضمان: هو الضرر المادي الذي أصاب المضرور، وذلك بتلف بعض ماله، وأما ما يصيب الإنسان من ضرر أدبي كالذي يصيب الإنسان في شرفه وعرضه، أو الضرر الذي يصيبه من امتناع المدين عن الوفاء بالدين فلا يوجب تعويضًا ماليًا. الوجه الثالث: تضرر الدائن بالمطل نتيجة تفويت الاتجار به أمر ليس مؤكد الحصول، فقد يربح الدائن في ماله لو استلمه في تلك المدة، وقد لا يربح فيه، وقد يخسر، ¬
الدليل الرابع
كما هو الشأن في كل أمور التجارة، ومبدأ الضمان في الشريعة قائم على أساس المماثلة بين الفائت وعوضه، ولا مماثلة بين المنفعة المحتملة، وبين مقدار التعويض المتحقق، فلا يزال هذا الضرر المحتمل بضرر متحقق يلحق المماطل، فإن من شرط إزالة الضرر ألا يزال الضرر بمثله، ولا بما هو أشد منه (¬1). وأما القول بأن عقوبة المماطل بالحبس لا تفيد المدين شيئًا، فيقال في الجواب على ذلك: بأن العقوبات الشرعية ليس من شأنها الجبر، بل وظيفتها تكاد تنحصر في الزجر، فقطع السارق لا يزيل الضرر عن المسروق، وقتل القاتل لا يزيل الضرر عن المقتول، وهكذا، فإذا عرف من يريد ارتكاب الجريمة أنه سيعاقب على ارتكابها فإنه يكف عن المخالفة، فيقع الردع العام الذي قصده الشارع من نظام العقوبات الشرعية (¬2). الدليل الرابع: لا يوجد في نصوص الشريعة وأصولها ومقاصدها العامة ما يتنافى معه، بل العكس يوجد ما يؤيده في الشريعة وقواعدها العامة. أما اتفاق هذا الشرط مع مقاصد الشريعة، فإن من مقاصد الشريعة وأسسها في تقرير الأحكام عدم المساواة بين الأمين والخائن، وبين المطيع والعاصي، وبين العادل والظالم، وبين من يؤدي الحقوق إلى أصحابها في مواقيتها ومن يجحدها، أما العقاب الأخروي للمماطل فهو لا يفيد الدائن شيئًا في الدنيا، ¬
والجواب على هذا من ثلاثة وجوه
فإذا تساويا في الأمر الدنيوي فإن هذا تشجيع لكل مدين على المطل وتأخير الحقوق. وأما كونه هذا الشرط يوجد ما يؤيده في الشريعة: فإن الأصل في الشروط الصحة والجواز إلا شرطًا خالف نصًا شرعيًا، أو خالف مقتضى العقد، فإذا لم يخالف نصًا، ولم يخالف مقتضى العقد، فالمسلمون عند شروطهم، خاصة أن استحقاق هذا التعويض مشروط على المدين بأن لا يكون له معذرة شرعية في هذا التأخير، بل يكون مليئًا مماطلًا يستحق الوصف بأنه ظالم غاصب. والجواب على هذا من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: لا نسلم أن القول بتحريم التعويض المالي يلزم منه المساواة بين الأمين الطائع وبين الخائن العاصي، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتبر المطل ظلمًا، والظلم ظلمات يوم القيامة، يحسب لها المسلم ألف حساب، ويشعر معها المسلم بعظم الذنب الذي اقترفه، وهذا الشعور له أكبر الأثر في رفع الضرر والظلم. الوجه الثاني: أن الشرع جاء بإباحة عرض المماطل، وعقوبته العقوبة التي تزجره، وتردع غيره عن المطل والتعدي على حقوق الناس إما بالحبس والضرب، أو بما يراه الحاكم زاجرًا له عن المطل، ثم إذا لم يجد كل ذلك باع القاضي ماله لوفاء دينه. الوجه الثالث: أن القول بأن الأصل في الشروط الصحة والجواز ليس على إطلاقه، وإنما هو مقيد بما لا يتعارض مع الشريعة الإِسلامية، واشتراط التعويض المالي على
دليل من قال: لا يجوز أخذ التعويض المالي
المدين عند التأخير يتعارض تعارضًا واضحًا مع الشريعة الإِسلامية؛ لأنه ربا صريح، كما سيأتي بيانه عند الكلام على أدلة القائلين بالمنع. دليل من قال: لا يجوز أخذ التعويض المالي: الدليل الأول: المدين: إما أن يكون موسرًا أو معسرًا، فالمعسر يمهل بنص القرآن: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. وإن كان موسرًا فإنه يعاقب بكل شيء يؤدي إلى أن يؤدي ما عليه من الحقوق من الحبس والضرب، وبيع أموال المماطل لتسديد دينه إلا أنه لا يعاقب في أخذ زيادة مالية عليه، فإن هذا هو ربا الجاهلية الصريح القائلين: إما أن تقضي وإما أن تربي. لماذا تربي لتسد الضرر: أي للتعويض عن التأخير: فالبنك الذي يأخذ مالًا في مقابل التأخير كالمرابي الذي يأخذ زيادة على دينه مقابل التأخير، فكأن البنوك الإِسلامية تقول: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]. ونوقش هذا: بأن هناك فرقًا بين التعويض وبين الفائدة الربوية، من ذلك: الأول: أن الفائدة الربوية تلزم المدين مطلقًا، سواء كان معسرًا أم موسرًا، أما التعويض فلا يلزم إلا في حال كان موسرًا غير معذور. ورد هذا: بأن قضية الإعسار والإيسار من الأمور التي يصعب على البنوك التثبت فيها في كل قضية منفردة، فإن كل مدين يعتبر نفسه معسرًا، والواقع العملي الذي
ورد هذا
تسير عليه المصارف الإِسلامية التي تقر بمبدأ التعويض تصرح في اتفاقياتها بأن المدين يعتبر موسرًا إلا في الحالة التي قضي عليه فيها بالإفلاس قانونًا، ومن المعلوم أن الإفلاس حالة نادرة، ومن المتيقن أن هناك كثيرًا من الذين لم يحكم عليهم بالإفلاس، ومع ذلك يعتبرون معسرين حقيقة. الثاني: أن التعويض لا يلزم إلا إذا كان مماطلًا، وليس بمجرد التأخير وحده، بينما الفائدة الربوية تلزم بمجرد التأخير حتى ولو كان التأخير لمدة يوم واحد، ولو لم يكن بسبب المماطلة. أو بعبارة أخرى: الربا اتفاق بين الدائن والمدين على الزيادة لقاء التأجيل، فهي زيادة على سبيل التراضي، فلا يسمى المؤخر للسداد في هذه الحالة مماطلًا ولا متعديًا ولا ظالمًا للدائن، وأما التعويض المالي الواجب على المماطل فهو في مقابل تفويت المكاسب والمنافع على صاحب المال مدة مطل المدين الذي هو من قبيل الظلم والتعدي. ورد هذا: بأن المصارف الإِسلامية التي تأخذ بمبدأ التعويض تعتبر المدين مماطلًا إذا قامت بإخطاره أربع مرات خلال شهر واحد، فإذا لم يمتثل اعتبرته مماطلًا، وعليه فالفرق بين هذه البنوك وبين البنوك الربوية هو في شهر واحد، وليس هذا فارقًا مؤثرًا يمكن أن يعتد به. وإذا كنا نعتبر الربا ظلمًا، وهو قد أخذ التعويض (الزيادة) عن طريق الاتفاق والرضا، فأخذ التعويض المالي دون اتفاق ولا رضا يعتبر ظلمًا من باب أولى فأولى، ثم لا يمكن لنا أن نعتبر المماطل ظالمًا ومتعديًا إذا كان الأمر سيؤول إلى تعويض الدائن على ما فاته، وإنما يكون ظلمًا إذا كان المنع لا يمكن تعويضه.
ورد هذا
الثالث: أن الفائدة الربوية تلزم المدين في كل حال، وأما التعويض فإنه متوقف على حصول الأرباح في مدة المماطلة، فإن لم تتحقق هناك أرباح فإن المدين لا يطالب بأي تعويض. ورد هذا: بأن التعويض كونه متوقفًا على حصول الأرباح في مدة المماطلة، فإن هذا الفرق صحيح نظريًا، وأما من الناحية العملية فإننا نرى أن معظم عمليات المصارف الإِسلامية تدور حول المرابحة المؤجلة، وإن تحقق الربح ونسبته في هذه العمليات معروفة لدى المصرف، ولدى عملائه، فأصبحت نسبة التعويض معروفة لدى الفريقين عمليًا، والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. الرابع: أن الفائدة الربوية نسبتها معلومة للجانبين منذ أول يوم من الدخول في اتفاقية الدين، وأما التعويض فلا يمكن معرفة نسبته عند الدخول في اتفاقية المرابحة أو الإجارة، وإنما تتعين هذه النسبة على أساس نسبة الأرباح الفعلية التي سوف تتحقق خلال مدة المماطلة، ولا بد فيها من الرجوع إلى القضاء للوقوف على ثبوت هذه الأرباح وثبوت مقدارها الفعلي. ورد هذا: التفريق بين كون الربا متفقًا على مقدار الزيادة، والتعويض غير متفق على مقدار الزيادة لا يصح أن يكون فرقًا مؤثرًا؛ لأن الفرق حينئذ إنما هو في طريقة تقدير الزيادة، لا في منع الزيادة، فلا يكون الأمر مؤثرًا من الناحية الشرعية. ثم إن معظم المصارف الإِسلامية تحسب أرباحها بعد كل أربعة أشهر، أو بعد كل ستة أشهر، فلا تكون الأرباح معلومة بالضبط إلا عند نهاية كل فترة، فلو
الدليل الثاني
كانت مدة المماطلة في أثناء هذه الفترة كيف تعرف الأرباح الحاصلة في هذه الفترة بالضبط؟ (¬1). الدليل الثاني: " مشكلة المماطلة ليست مشكلة جديدة قد حدثت اليوم، وإنما هي مشكلة لم يزل التجار يواجهونها في كل عصر ومصر، وكانت المشكلة موجودة في عهد النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد الصحابة رضوان الله عليهم، ولكن لا يوجد في شيء من الأحاديث أو الآثار ما يدل على أن هذه المشكلة قد التمس حلها بفرض التعويض على المماطل" (¬2) ولم ينقل لنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن صحابته أنهم أخذوا التعويض المالي من المماطل، ولو كان التعويض المالي حقًا للمدين لم يترك هذا الحق يضيع على صاحبه، ولجاءت الشريعة في بيان وجوب رد الحق (التعويض) إلى أهله، فلما لم يوجد مثل ذلك علم أنه ليس حقًا للمدين. الدليل الثالث: من القواعد الشرعية المعتبرة: سد الذرائع، وقد بني عليها كثير من الأحكام الشرعية، والأخذ بهذه القاعدة الجليلة يؤدي إلى القول بتحريم التعويض المالي؛ لأنه إن لم يكن من الربا الصريح فإنه وسيلة إليه، فإن من تأمل هذا القول وما ينتهي إليه سيؤدي حتمًا إلى أخذ الفوائد الربوية للديون المؤجلة، وكون الزيادة في مقابل الأجل سميت فائدة، أو سميت تعويضًا، أو أعطي لها أي اسم آخر، لا يختلف حكمها فالأمور بمعانيها وليس بألفاظها. ¬
دليل من قال: أخذ المال من المماطل عقوبة يصوف في المصالح العامة
دليل من قال: أخذ المال من المماطل عقوبة يصوف في المصالح العامة: إذا كان أخذ المال له على وجه العقوبة، كما يفيده الاستدلال بحديث: (يحل عرضه وعقوبته) فإن جعل صاحب الحق هو الذي يتولى العقوبة أمر غير معهود في الشريعة، فكما لا يجوز للدائن أن يعاقب بالحبس ولا بالضرب، فكذا لا يجوز أن يعاقب بالتعويض المالي، ولكن لا بد من حماية أموال البنوك الإِسلامية، ولذلك فإن القول الذي أخذت به ندوة البركة: وهو أن هذه الزيادة تقرر، ولكن لا لفائدة البنوك، وإنما لفائدة المصالح العامة، وهكذا تصبح هذه الزيادة عقوبة فعلًا؛ لأنه لا يستفيد منها البنك، ولا صاحب رأس المال، وإنما تستفيد منها المجموعة العامة، شأن العقوبات التي تسلط على الإنسان (¬1). الراجح من الأقوال: القول بأنه يجوز للدائن أن يأخذ عوضًا عن دينه (النقود) زيادة على حقه هذا القول لا يجوز، ويؤدي إلى صريح الربا، والقول بجواز التعزير بالمال، وصرفه في مصالح المسلمين إذا رآه الحاكم الشرعي من باب السياسة الشرعية، ورأى أن مثل هذا قد يردع المماطل لا أرى حرجًا فيه، فإن العقوبة الواردة في حديث: (يحل عرضه وعقوبته) مطلقة في الحديث، تشمل حتى التعزير المالي، ومسألة التعزير بالمال على الصحيح جائزة شرعًا، لكن لا يستحق أن ينتفع الدائن بهذا المال حتى لا يؤول إلى الربا، والله أعلم. وقد نص قرار المجمع الفقهي على تحريم أخذ التعويض في مقابل التأخير، جاء في قرار المجمع رقم (53/ 6/ 53) بشأن البيع بالتقسيط: "إذا تأخر ¬
المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد، فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق، أو بدون شرط؛ لأن ذلك ربا محرم".
المطلب الثالث سقوط الأجل إذا لم يسدد في وقته المحدد
المطلب الثالث سقوط الأجل إذا لم يسدد في وقته المحدد [م - 439] قد تنص بعض العقود بأنه في حالة تأخر المدين عن تسديد القسط الذي عليه في حينه، أو في حالة تأخره عن قسطين متتاليين فإن بقية الأقساط تصير حالة بذلك، فما حكم هذا الشرط الجزائي بهذه الصيغة؟ وللجواب على ذلك نقول: إن كان المتأخر عن أداء الأقساط معسرًا فلا يجوز إلزامه بتعجيل الأقساط المؤجلة عليه بسبب العجز؛ وذلك لأن الواجب في حق المعسر الإنظار إلى ميسرة، كما قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. وإن كان المتأخر عن أداء الأقساط موسرًا، ولكنه يماطل في أداء هذه الحقوق، فإن الحنفية وبعض الحنابلة قد نصوا على جواز مثل هذا الشرط الجزائي في حق الموسر المماطل. يقول الكاساني: "لو جعل المال نجومًا، بكفيل، أو بغير كفيل، وشرط أنه إن لم يوفه كل نجم عند محله، فالمال حال عليه، فهو جائز على ما شرط؛ لأنه جعل الإخلال بنجم شرطًا لحلول كل المال عليه، وأنه صحيح" (¬1). وجاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "إذا اشترط الدائن في الدين المقسط، بأنه إذا لم يدفع المدين الأقساط في أوقاتها المضروبة، يصبح الدين ¬
معجلًا، فيجب مراعاة الشرط، فإذا لم يف المدين بالشرط، ولم يدفع القسط الأول مثلًا عند حول أجله، يصبح الدين جميعه معجلًا" (¬1). وقال ابن القيم: "إن خاف صاحب الحق ألا يفي له من عليه بأدائه عند كل نجم كما أجله، فالحيلة أن يشترط عليه أنه إذا حل نجم، ولم يؤد قسطه فجميع المال عليه حال، فإن نجمه على هذا الشرط جاز، وتمكن من مطالبته به حالًا ومنجمًا ... " (¬2). ولأن هذا الشرط فيه مصلحة للعقد ومصلحة للعاقد: أما مصلحة العقد فإن مثل هذا الشرط يحمل المدين على الالتزام في سداد الديون بأوقاتها، وهذا احترام لنص الالتزام الذي تضمنه العقد. وفيه منفعة للعاقد: وذلك لأن من ماطل في سداد قسط واحد، قد يحمله ذلك على المماطلة في سداد بقية الأقساط، فبدلًا من أن يطالبه في كل قسط يتأخر في سداده، وهذا يعني ضياع وقته وماله، فإنه إذا تأخر طالبه مرة واحدة بسداد جميع الأقساط. ولأن الأصل في الشروط الصحة والجواز، فإذا رضي المدين بهذا الشرط عند التعاقد فإنه يلزمه؛ لأن المؤمنين على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، وهذا الشرط لا يخالف نصًّا شرعيًا، ولا يخالف مقتضى العقد، وفيه مصلحة للعاقد فاقتضت القواعد صحته. وقد نص قرار مجمع الفقه الإِسلامي على صحة هذا الشرط. جاء في قرار المجمع رقم: (53/ 6/ 2) بشأن البيع بالتقسيط "يجوز شرعًا أن ¬
يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها، عند تأخر المدين عن أداء بعضها ما دام المدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد". وقد خالف في ذلك أعضاء اللجنة الدائمة للإفتاء في البلاد السعودية، ورأوا أن شرط حلول الأقساط عند تأخر المدين عن السداد لا يجوز، وعللوا ذلك بأنه ينافي مقتضى العقد؛ وهو التأجيل الذي استحقت به هذه الزيادة (¬1). وبهذه المسألة نكون -بعون الله وتوفيقه وحده- قد أكملنا البحث في شروط العاقدين، ما يصح منها، وما لا يصح. ¬
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد السادس
(ح) دبيان بن محمَّد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمَّد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة / دبيان محمَّد الدبيان - الرياض، 1432 هـ 544 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجموعة) ج 6 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ. العنوان ديوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (6)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا هو المجلد السادس من عقد البيع، وقد خصصته لدراسة الخيار في عقد البيع، ولما كان الخيار في العيب مباحثه متشعبة وتقسيماته كثيرة فضلت أن أجعله كتابًا بدلًا من كونه بابًا من أبواب عقد البيع، وقسمت هذا الكتاب إلى أبواب وفصول ومباحث وفروع على الطريقة السابقة، وقد قسمت الخيار إلى نوعين: خيار بسبب التروي، وخيار بسبب النقيصة، واستوعب هذا المجلد كامل خيار التروى بأنواعه الثلاثة: خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار الرؤية. وتناولت فيه أيضًا من خيار النقيصة خيار العيب، وخيار فوات الوصف أو الشرط، وسوف يستكمل خيار النقيصة إن شاء الله تعالى في مطلع المجلد السابع، أسأل الله -سبحانه وتعالى- العون والتوفيق. وستكون الخطة في هذا المجلد على النحو التالي: كتاب: الخيار في البيع. التمهيد: ويشمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في تعريف الخيار. المبحث الثاني: في أنواع الخيار.
لمبحث الثالث: الحكمة من مشروعية الخيار. الباب الأول: في خيار التروي. الفصل الأول: في خيار المجلس. المبحث الأول: في تعريف خيار المجلس. المبحث الثاني: في مشروعية خيار المجلس. المبحث الثالث: في العقود التي يثبت فيها خيار المجلس. الفرع الأول: العقود التي لا يدخلها خيار المجلس قولًا واحدًا. الفرع الثاني: في العقود المختلف في ثبوت خيار المجلس فيها. المبحث الرابع: خيار المجلس في حال اختلف مكان المتعاقدين. الفرع الأول: البيع بالهاتف ونحوه. الفرع الثاني: خيار المجلس في حال كان البيع عن طريق الكتابة. المبحث الخامس: حد التفرق بالأبدان عند القائلين بخيار المجلس. المبحث السادس: في خيار المجلس حال الإكراه. الفرع الأول: الإكراه على البقاء معًا. الفرع الثاني: الإكراه على التفرق. المبحث السابع: إبطال الخيار بالجنون والإغماء. المبحث الثامن: إذا خرس أحد العاقدين في مجلس الخيار. المبحث التاسع: مفارقة العاقد خوفًا من الفسخ. المبحث العاشر: التفرق بالهرب هل يبطل الخيار.
المبحث الحادي عشر: ملك المبيع زمن خيار المجلس. الفرع الأول: ملك النماء في زمن الخيار. المسألة الأولى: ملك النماء المتصل زمن الخيار. المسألة الثانية: ملك النماء المنفصل زمن الخيار. المبحث الثاني عشر: أسباب انتهاء خيار المجلس. الفرع الأول: إسقاط الخيار ابتداء. الفرع الثاني: تفرق المتعاقدين من المجلس. الفرع الثالث: إذا خير أحدهما الآخر في مجلس العقد. مسألة: معنى قوله في الحديث (إلا بيع الخيار). المطلب الأول: الخلاف في بقاء خيار الساكت. المطلب الثاني: الخلاف في بقاء خيار القائل (اختر). الفرع الرابع: في انتهاء خيار المجلس بموت أحد العاقدين. الفرع الخامس: في انتهاء الخيار بالتصرف في المبيع. الفرع السادس: انتهاء الخيار باختيار الفسخ. الفصل الثاني: خيار الشرط. المبحث الأول: تعريف خيار الشرط. المبحث الثاني: في حكم خيار الشرط. المبحث الثالث: في اشتراط الخيار لأجنبي. المبحث الرابع: في حكم الخيار إذا كان المبيع مما يتسارع إليه الفساد.
المبحث الخامس: في مدة خيار الشرط. المبحث السادس: إذا شرط الخيار ولم تذكر مدته. المبحث السابع: ابتداء مدة خيار الشرط. المبحث الثامن: في اتصال مدة الخيار وموالاتها. المبحث التاسع: في محل خيار الشرط. الفرع الأول: اشتراط خيار الشرط قبل العقد. الفرع الثاني: اشتراط خيار الشرط بعد العقد. المبحث العاشر: العقود التي يصح فيها خيار الشرط. المبحث الحادي عشر: الملك والتصرف في زمن خيار الشرط. فرع: استعمال المبيع زمن الخيار. المبحث الثاني عشر: الانتفاع من المبيع بغير تجربته. المبحث الثالث عشر: في تسليم المبيع والثمن زمن الخيار. المبحث الرابع عشر: النماء في زمن الخيار. المبحث الخامس عشر: إذا تلف المبيع في زمن خيار الشرط. المبحث السادس عشر: أسباب انتهاء خيار الشرط. الفرع الأول: انتهاء خيار الشرط بالموت. الفرع الثاني: انتهاء خيار الشرط باختيار الفسخ. مسألة: لا يفتقر الفسخ إلى حضور صاحبه ولا إلى أذنه ولا إلى حكم قاض. الفرع الثالث: انتهاء خيار الشرط بالإجارة.
الفرع الرابع: انتهاء الخيار بانتهاء المدة. المسألة الأولى: في دخول الغاية في شرط الخيار. المسألة الثانية: إذا اختار الفسخ بعد انتهاء مدة الخيار بيوم أو يومين. الفرع الخامس: في انتهاء خيار الشرط بالجنون والإغماء. المبحث السابع عشر: ضوابط وتوقيعات مهمة في خيار الشرط والمجلس. الفصل الثالث: من خيارات التروي خيار الرؤية. المبحث الأول: تعريف خيار الرؤية. المبحث الثاني: العقود التي يدخلها خيار الرؤية. المبحث الثالث: شروط خيار الرؤية. الشرط الأول: عدم رؤية المبيع. الشرط الثاني: أن يكون المبيع مما يتعين بالتعين. الشرط الثالث: كون المعقود عليه مما يقبل الفسخ. المبحث الرابع: خلاف العلماء في مشروعية خيار الرؤية. المبحث الخامس: مبطلات خيار الرؤية. المبحث السادس: انتهاء خيار الرؤية. الفرع الأول: انتهاء الخيار بالرضا بالمبيع. الفرع الثاني: انتهاء خيار الرؤية بالفسخ. الفرع الثالث: انتهاء الخيار باستنفاذ وقته. الباب الثاني: في خيار النقيصة.
الفصل الأول: في خيار العيب. المبحث الأول: تعريف خيار العيب. المبحث الثاني: حكم كتمان العيب. الفرع الأول: الحكم التكليفي لكتمان العيب. الفرع الثاني: الحكم الوضعي لكتمان العيب. المبحث الثالث: العقود التي يدخلها خيار العيب. المبحث الرابع: خيار العيب يثبت بلا اشتراط. المبحث الخامس: خيار العيب لا يمنع وقوع الملك للمشتري. المبحث السادس: خيار العيب يورث. المبحث السابع: خيار العيب على التراخي. المبحث الثامن: الرد بالعيب يفسخ العقد من أصله، أو من حينه. المبحث التاسع: شروط الرد بالعيب. الشرط الأول: الجهل بالعيب. الشرط الثاني: كون العيب مؤثرًا. الشرط الثالث: أن يكون حدوث العيب في وقت ضمان البائع للمبيع. الشرط الرابع: عدم اشتراط البراءة من العيب. الشرط الخامس: ألا يتمكن من إزالة العيب بلا مشقة. المبحث العاشر: في ثبوت خيار الرد في العيب. الفرع الأول: أن يتعذر رد السلعة المعيبة.
الفرع الثاني: أن تكون السلعة المعيبة قائمة بحالها لم تتغير. الفرع الثالث: إذا وافق البائع على الأرش مقابل قبول المشتري للسلعة. الفرع الرابع: في إلزام البائع بالأرش ونحوه. المبحث الحادي عشر: موانع الرد بالعيب. المانع الأول: الرضا بالعيب. الفرع الأول: استغلال المبيع للضرورة هل يمنع الرد؟ الفرع الثاني: تجربة المبيع بعد العلم بالعيب هل يسقط حق الرد؟ المانع الثاني: تغير المبيع عند المشتري. الفرع الأول: تغير المبيع بتحوله إلى عين أخرى لا يجوز تملكها. الفرع الثاني: تغير المبيع بالزيادة. المسألة الأولى: تغير المبيع بالزيادة المتصلة. المسألة الثانية: تغير المبيع بالزيادة المنفصلة. المطلب الأول: الزيادة إذا كانت من غير عين المبيع. المطلب الثاني: الزيادة المنفصلة إذا كانت من عين المبيع. الفرع الثالث: تغير المبيع بالنقص. المسألة الأولى: أن يكون النقص بسبب لا بد منه للوقوف على عيب المبيع. المطلب الأول: إسقاط الرد بحلب المصراة. المطلب الثاني: نقص المبيع بكسر ما مأكوله في جوفه ونحوه. المسألة الثانية: أن يكون نقص المبيع بسبب سوء استخدام المشتري.
المانع الثالث: تلف المبيع عند المشتري. المانع الرابع: زوال العيب عند المشتري. المانع الخامس: العلم بالعيب بعد زوال الملك بالمبيع. الحالة الأولى: أن يخرج المبيع من ملكه ولا يعود إليه منه شيء. الحالة الثانية: أن يخرج المبيع من ملكه، ويعود كله إليه. الفرع الأول: أن يرجع المبيع بسبب جديد كالبيع والهبة. الفرع الثاني: أن يرجع المبيع بسبب فسخ العقد. الحال الثالثة: أن يخرج بعض المبيع من ملك المشتري ويبقي بعضه. فرع: إذا تعدد العاقد مع اتحاد الصفقة. الفصل الثاني: خيار فوات الوصف أو الشرط. المبحث الأول: تعريف خيار فوات الوصف أو الشرط. المبحث الثاني: شروط الوصف المعتبر اشتراطه. المبحث الثالث: مشروعية خيار فوات الوصف أو الشرط. المبحث الرابع: أحكام خيار فوات الشرط أو الصفة المقصودة. المبحث الخامس: حد الفوات.
كتاب الخيار في عقد البيع
كتاب الخيار في عقد البيع تمهيد المبحث الأول في تعريف الخيار تعريف الخيار في الاصطلاح (¬1): طلب خير الأمرين من إمضاء عقد أو فسخه (¬2). والخيار في العقد: هو حق العاقد في فسخ العقد أو إمضائه لظهور مسوغ شرعي، أو بمقتضى اتفاق عقدي (¬3). ¬
المبحث الثاني في أنواع الخيار
المبحث الثاني في أنواع الخيار الخيار له أنواع كثيرة، منها المتفق عليها، ومنها ما هو مختلف في ثبوتها، وترجع هذه الأنواع إلى نوعين رئيسين: النوع الأول: خيار يثبت بالشرع، ويسمى خيارًا حكميًا: وهو ما ثبت بمجرد حكم الشارع، فينشأ الخيار عند وجود سببه الشرعي، وتحقق شرائطه المطلوبة، فهذه الخيارات لا تتوقف على اتفاق أو اشتراط لقيامها، بل تنشأ لمجرد وقوع سببها الذي ربط قيامها به. مثاله: خيار العيب، وخيار المجلس. النوع الثاني: الخيار الإرادي: وهو الخيار الذي ينشأ عن إرادة العاقد. والخيارات الحكمية تستغرق معظم الخيارات، بل هي كلها ما عدا الخيارات الإرادية الثلاثة: خيار الشرط، وخيار النقد، وخيار التعيين، فما وراء هذه الخيارات فإنه حكمي المنشأ، أثبته الشارع رعاية لمصلحة العاقد المحتاج إليه، دون أن يسعى الإنسان للحصول عليه (¬1). والغاية من مشروعية الخيار يرجع تتمثل في شيئين: إما التروي وجلب المصلحة، أو تكملة النقص ودرء الضرر؛ لأن ثبوته يكون إما من جهة العاقد، أو من جهة المعقود عليه. ¬
الأول: المجلس
فإن كان من جهة العاقد: فهو خيار التروي: ويقال له: خيار النظر والتفكر في الأمر والتبصر في إمضاء البيع أو رده، وله ثلاثة أسباب: الأول: المجلس والثاني: الشرط. وهذا القسم هو الذي ينصرف إليه بيع الخيار عند إطلاقه في عرف الفقهاء. والثالث: الرؤية وإن كان من جهة المعقود عليه فهو خيار النقيصة: وهو ما موجبه ظهور عيب أو استحقاق، فيثبت بفوات أمر مظنون، نشأ الظن فيه من التزام شرعي، أو قضاء عرفي، أو تغرير فعلي. أو ظهور استحقاق في المبيع كتمه البائع (¬1). وأما أنواع الخيار فإنه يختلف بحسب موضوعه. فمنها خيار المجلس وخيار الرؤية، وخيار الشرط، وخيار التدليس، وخيار الغبن، وخيار الأمانة، وخيار الخلف، وخيار امتناع التسليم. ولكل من هذه الأنواع أقسام سنأتي على ذكرها إن شاء الله تعالى. ¬
المبحث الثالث الحكمة من مشروعية الخيار
المبحث الثالث الحكمة من مشروعية الخيار الأصل أن الخيار بأنواعه المختلفة إنما شرع لدفع الضرر عن العاقد، وهذا الضرر يكون متوقعًا تارة، ويكون واقعًا تارة أخرى. أما دفع الضرر المتوقع، فشرع الله له خيار المجلس وخيار الشرط، وذلك لدفع ضرر يتوقع العاقد حصوله، فيستدركه في مجلس العقد، أو في مدة الخيار، ويتخلص منه، وذلك أن العقد قد يقع بغتة من غير ترو ولا نظر في القيمة، فاقتضت محاسن الشريعة أن يُجْعَل للعقد خيار يتروى فيه العاقدان، ويعيدان النظر، ويستدرك كل واحد منهما ما فاته. وإما دفع الضرر الواقع، كخيار العيب، والتدليس، والنجش، وتلقي الركبان، ونحوها، فإن الإنسان بطبيعته البشرية -كما وصفه الله- ظلوم جهول، فقد يتعرض أحد العاقدين على يد الآخر للغش والتدليس أو غيرهما من أنواع الظلم، فأباح الشرع للعاقد الذي وقع تحت تأثير الغش والتدليس أن يدفع عنة هذا الضرر بثبوت الخيار له في هذه الحالة، فكان ثبوت الخيار من محاسن التشريع التي لا بد منها لدفع الضرر، والله أعلم.
الباب الأول في خيار التروي
الباب الأول في خيار التروي الفصل الأول في خيار المجلس المبحث الأول في تعريف خيار المجلس تعريف خيار المجلس: قولنا: (خيار المجلس) مركب إضافي من كلمتين، هما: (خيار) و (مجلس). أما كلمة: خيار فقد سبق تعريفها. وأما قولنا: (مجلس) فالمجلس بكسر اللام: ترد في اللغة مصدرًا ميميًا، واسمًا للزمان، واسما للمكان، من مادة (جلس). فإن أريد به اسم المكان، صار المراد به موضع الجلوس أي مجلس العقد خاصة، وهذا التقييد تشير إليه (أن) في كلمة (المجلس) فهي للدلالة على المعهود في الذهن. والمراد مكان التبايع أو التعاقد. وإن أريد به اسم الزمان وهو الأظهر: فالمراد به الفترة الزمنية التي تعقب عملية التعاقد فالمراد بمجلس العقد حينئذ: هو الحال التي يكون فيها المتعاقدان مقبلين على التفاوض في العقد، ما لم يفصل بين الإيجاب والقبول فاصل أجنبي
يعتبر إبطالًا للإيجاب، كرجوع الموجب عن إيجابه قبل القبول، أو إعراض القابل عن هذا الإيجاب باشتغاله بشيء آخر غير العقد. فحقيقة الجلوس ليست مقصودة في هذا الخيار المسمى (بخيار المجلس)، بل المراد بالمجلس ما هو أعم من الجلوس، فقد يحصل اتحاد المجلس مع الوقوف، ومع تغير المكان كما سيأتي عند عرض أقوال الفقهاء إن شاء الله تعالى (¬1). فالمعتبر هو الفترة الزمنية التي تعقب عملية التعاقد دون طروء التفرق من مكان التعاقد. فالجلوس ذاته ليس معتبرًا في ثبوته، ولا ترك المجلس معتبرًا في انقضائه، بل العبرة للحال التي يتلبس بها العاقدان، وهي الانهماك في التعاقد. فخيار المجلس هو: حق العاقد في إمضاء العقد أو رده، من وقت التعاقد إلى التفرق أو التخاير، فمجلس العقد: هو وحدة زمنية أقرب من كونه وحدة مكانية، وزمنه يبدأ من وقت صدور الإيجاب ولحاق القبول به من المشتري مطابقًا له، وتستمر طوال المدة التي يظل فيها العاقدان منصرفين إلى التعاقد، دون ظهور إعراض من أحدهما عن التعاقد، وتنتهى بالتفرق، وهو مغادرة أحد العاقدين للمكان الذي حصل فيه العقد، وفي حكم التفرق حصول التخاير، وهو أن يخير أحدهما الآخر في إمضاء العقد أو رده. فلا يبدأ خيار المجلس من صدور الإيجاب من البائع بل من لحاق القبول به من المشتري مطابقا له، أما قبل وقوع القبول فإن العاقدين يملكان خيارًا في إجراء العقد أو عدمه، لكنه خيار يدعى خيار القبول، ولا يسمى خيار المجلس. وأضيف هذا الخيار إلى المجلس لاختصاص هذا الخيار بمجلس العقد عند ¬
القائلين به، والخيار في قولنا: (خيار الشرط، وخيار العيب) من باب إضافة الشيء إلى سببه، أي خيار سببه الشرط، وخيار سببه العيب، وهكذا. ومعظم المؤلفين يطلقون على هذا الخيار (خيار المجلس) غير أن بعضهم أطلق عليه (خيار المتابعين) ولعل هذه التسمية مأخوذة من الحديث الشريف المثبت لهذا الخيار، وهو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا). ففي بعض ألفاظه المروية: (المتبايعان بالخيار) وسيأتي إن شاء الله تعالى تخريج هذه الألفاظ بعونه وتوفيقه (¬1). ¬
المبحث الثاني في مشروعية خيار المجلس
المبحث الثاني في مشروعية خيار المجلس نستطيع أن نقسم حالة المشتري والبائع إلى أربع حالات: منها ما هو مجمع عليه، ومنها ما هو محل خلاف بين الفقهاء: الحالة الأولى: مرحلة المساومة. [م - 440] ففي مرحلة المساومة وقبل وجود إيجاب بات بين المتبايعين، فإن المتبايعين بالخيار، وهذا بالإجماع؛ لأن الأمر في هذه الحالة لا يتعدى أن يكون مجرد دعوة إلى التفاوض، كما لو عرض البائع على المشتري منزله للبيع بدون بيان ثمنه، فإذا قطع أحد الطرفين المفاوضات قبل وصول الأمر إلى إيجاب بات فلا مسؤولية عليه، وليس لأحد أن يطالبه بأن يبين سبب هذا العدول، فقد يكون السبب أنه لم ير داعيًا لإتمام الصفقة، أو أنه رأى أن إتمامها ليس في مصلحته، أو أن الشخص الذي يتعامل معه لا يناسبه لسبب من الأسباب، أو أن شخصًا آخر عرض عليه صفقة أفضل، فإذا عدل أحد الطرفين عن مفاوضاته فلا مسؤولية على من عدل، ما دام الأمر لم يصل في مفاوضته إلى حد الإيجاب الجازم (¬1). قال الشنقيطي -رحمه الله-: "كل عاقل يعلم أن الخيار حاصل لكل من البائع والمشتري ضرورة قبل حصول الإيجاب والقبول" (¬2). ¬
الحال الثانية: بعد صدور الإيجاب وقبل صدور القبول.
الحال الثانية: بعد صدور الإيجاب وقبل صدور القبول. إذا انتهت مرحلة المفاوضات، وعرض صاحب السلعة إيجابًا جازمًا، ولم يصدر القبول من المشتري فما حكم رجوع البائع والمشتري عن البيع؟ أما المشتري فله خيار القبول بالإجماع، كما إذا قال البائع: بعتك هذا البيت بكذا وكذا، فالمشتري بالخيار بين القبول وبين الرد، ما دام العاقدان في مجلس العقد، ولم يتفرقا بأبدانهما، ولم يتشاغلا عن العقد بما يبطله. قال الماوردي: "خيار المشتري بعد بذل البائع وقبل قبوله معلوم بالإجماع، إذ لو سقط خياره ببذل البائع لوجبت البياعات جبرًا بغير اختيار ... ولأفضى الأمر فيها إلى ضرر وفساد" (¬1). [م - 441] وأما البائع فهل له أن يرجع عن إيجابه قبل صدور القبول من الطرف الآخر؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فقيل: للموجب حق الرجوع عن إيجابه قبل أن يتصل به القبول، وهذا مذهب الجمهور (¬2). ¬
بل اعتبر بعضهم لو صدر القبول مع الرجوع في وقت واحد، اعتبر الرجوع، وبطل الإيجاب. قال ابن الهمام: "لو صادف رد البائع قبول المشتري بطل" (¬1). وقيل: إذا صدر إيجاب بات فليس له حق الرجوع، والإيجاب البات هو ما صدر بصيغة الماضي، أو صدر بغير الماضي وكان هناك قرينة أنه أراد البيع (¬2)، ¬
وجه التفريق بين صيغة الماضي وغيرها
أما إذا كانت الصيغة بغير الماضي، ولم يكن هناك قرينة أنه أراد البيع، وادعى أنه ما أراد البيع، فيحلف، ويصدق، وهو مذهب المالكية (¬1). وجه التفريق بين صيغة الماضي وغيرها: قالوا: إن صيغة الماضي حقيقة في الدلالة على نقل الملكية، فلا يقبل معه ادعاء خلاف ذلك، وأما صيغة المضارع والأمر فليست حقيقة في نقل الملكية لتطرق الاحتمالات إليها، فليست إيجابًا باتًا، ولذلك قبل قوله مع اليمين، فإن كانت هناك قرينة عمل بها، كما قدمنا. وقيل: إذا حدد الموجب إيجابًا محدد المدة يكون ملزمًا بالبقاء على إيجابه خلال تلك المدة، وليس له الرجوع عنه، اختاره بعض المالكية (¬2)، ورجحه ¬
مجمع الفقه الإِسلامي (¬1). ويظهر أن هذا القول وسط بين قولين: الأول: يرى أن الموجب له حق الرجوع مطلقًا. والثاني: يرى أن الموجب لا يحق له الرجوع. والقول الثالث: قول وسط: وهو إذا حدد ميعادًا للقبول فإنه يبقى ملتزمًا هذه المدة بعدم العدول عن إيجابه. ويرى أصحاب القول الثالث: أن القول بكون الإيجاب غير ملزم مطلقًا يؤدي إلى حرمان المعاملات وعلى الأخص التجارية منها من عامل الاستقرار التي لا غنى عنه؛ لأن التاجر الذي يوجه إليه إيجاب يوازن عادة بينه وبين إيجاب مماثل يوجه إليه من الغير، فقد يفوته أحدهما على أهميته بناء على وجود إيجاب آخر أفضل منه، فإذا لم نلزم الموجب بالبقاء على إيجابه مدة ما أصبنا الموجب له بضرر فادح، وأشعنا الفوضى في المعاملات. لكن عند التأمل أرى أن هذا القول الوسط ليس قولًا، وإنما هو عمل بالشرط بين المتبايعين، فكل من ألزم نفسه شرطًا لا يخالف الشرع، ولا ينافي مقتضى العقد، وله فيه مصلحة، فيجب الوفاء به (¬2). ¬
الحالة الثالثة
وقد ذكرنا أدلة هذه المسألة بشيء من التفصيل في باب الإيجاب والقبول فأغنى عن إعادته هنا. الحالة الثالثة: [م - 442] إذا تم الإيجاب والقبول بين المتبايعين، وتفرقا بأبدانهما عن مجلس العقد دون فسخ، ولم يكن في البيع خيار شرط، فإنه لا خلاف أن البيع يصبح لازمًا لا يستقل أحد العاقدين بالرجوع عنه دون رضا الطرف الآخر. قال ابن قدامة: "لا خلاف في لزمه -يعني عقد البيع- بعد التفرق" (¬1). الحالة الرابعة: [م - 443] إذا تم الإيجاب والقبول بين المتبايعين، وتوفرت الشروط، وانتفت الموانع، وكان العاقدان في مجلس العقد فهل يلزم البيع بمجرد الإيجاب والقبول، أم أن العقد ما زال جائزًا، ويملك كل واحد من المتبابعين الرجوع عنه بموجب خيار المجلس دون رضا الطرف الآخر. في هذه المسألة خلاف بين الفقهاء: فقيل: البيع لازم، ولا يملك أحد العاقدين الرجوع عن العقد إلا برضا صاحبه، ولا يشرع خيار المجلس، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، ¬
وعليه الفقهاء السبعة (¬1). وقيل: بل العقد جائز، ويملك كل واحد من المتابعين خيار المجلس. وهذا مذهب الشافعية (¬2)، ومذهب الحنابلة (¬3)، واختاره بعض المالكية (¬4). وقال النووي: "وبهذا قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، وممن قال به: علي بن أبي طالب، وابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، وأبو برزة الأسلمي، وطاووس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وشريح القاضي، والحسن البصري، والشعبي، والزهري، والأوزاعي، وابن أبي ذئب، وسفيان ابن عيينة، والشافعي، وابن المبارك، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهوية، وأبو ثور، وأبو عبيد، والبخاري، وسائر المحدثين" (¬5). ¬
دليل من قال: لا يشرع خيار المجلس
دليل من قال: لا يشرع خيار المجلس: الدليل الأول: قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وجه الاستدلال: ظاهر الآية يقتضي حل الأكل عند حصول التجارة عن تراض من غير تقييد بالتفرق عن مكان العقد، فتقييد حل الأكل بالتفرق زيادة على النص ومخصص لها بغير دليل (¬1). والجواب عن الآية: نصت الآية الكريمة على شرط واحد من شروط البيع، وهو الرضا، ولا يعني ذلك أن الشروط الأخرى غير معتبرة من أدلة أخرى، فركن البيع وشرطه الذي يقوم عليه: هو الرضا بين المتبايعين، وهذا لا يعني عدم مراعاة بقية الشروط الأخرى، وانعقاد البيع يتم بالإيجاب والقبول المطابق له مع الرضا بالعقد، ولكن انعقاد البيع شيء، ولزومه شيء آخر، كالبيع بشرط الخيار، ينعقد البيع من صدور الإيجاب والقبول، ويلزم بانتهاء مدة الخيار لمن شرط له إذا لم يترك البيع. الدليل الثاني: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]. ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قال الجصاص: "ألزم كل عاقد الوفاء بما عقد على نفسه، فيلزمه الوفاء به ... وفي إثبات الخيار نفي للزوم الوفاء به وذلك خلاف مقتضى الآية" (¬1). ويجاب عن الآية: بأن الآية الكريمة تأمر بالوفاء بالعقود، وهي لا تأمر بالوفاء بالعقد إلا في وقت يكون العقد لازمًا، أما العقد إذا كان جائزًا كما في مدة خيار المجلس، وفي مدة خيار الشرط فلا يؤمر العاقد بالوفاء به، بل الأمر متروك لإرادته، إن شاء أمضى العقد، وإن شاء ترك، فالآية تتحدث عن عقد انتقل من الجواز إلى اللزوم، فلم تقل الآية: أوفوا بالعقود إذا تم الإيجاب والقبول قبل التفرق، فالآية مطلقة، فتحمل على ما بعد الخيار جمعًا بين الأدلة (¬2). فالذي أمرنا بالوفاء بالعقود هو الذي أخبرنا على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن العقد لا يكون لازمًا إلا بالتفرق، أو أن يخير أحدهما الآخر بعد التعاقد، وإلا فلا يلزم الوفاء بذلك العقد. الدليل الثالث: قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، إلى قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282]. وجه الاستدلال: لو لم يكن عقد المداينة موجبًا للحق على المدين قبل الافتراق لما قال: ¬
الدليل الرابع
{وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282]، ولما وعظه بترك البخس وهو لا شيء عليه؛ لأن ثبوت الخيار له يمنع ثبوت الدين للبائع في ذمته، وفي إيجاب الله تعالى الحق عليه بعقد المداينة في قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282]، دليل على نفي الخيار، وإيجاب البتات. الدليل الرابع: قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]. و"إذا" هي للوقت، فاقتضى ذلك الأمر بالشهادة عند وقوع التبايع من غير ذكر الفرقة، وندب إلى الإشهاد على التبايع عند وقوعه، ولم يقل: إذا تبايعتم وتفرقتم (¬1). ويناقش هذان الدليلان: بأن توثيق الدين بالكتابة والشهادة، وتوثيق البيع بالشهادة أو بالرهن وقت الخيار لا يعني أن العقد أصبح لازمًا، بل يعني أن العقد صالح للزوم، ومصيره إلى ذلك، وهو الأصل فيه؛ لأن الإنسان لم يقدم على العقد إلا لرغبته فيه، ولكن لو اختار غير ذلك قبل التفرق أصبح مطلوبًا منه توثيق ذلك أيضًا، لإثبات أنه ترك العقد في الوقت الذي يحق له تركه قبل أن يصبح العقد لازمًا، تمامًا كما لو كان البيع فيه شرط خيار، فإنه مطالب بتوثيق البيع وتوثيق الدين، ولا يمنع من كون العقد في مدة الخيار جائزًا أن يوثقه بالكتابة والرهن، فإذا كان ذلك لم يمنع في البيع بشرط الخيار، لم يمنع ذلك في البيع وقت خيار المجلس. الدليل الخامس: الرضا بالعقد هو الموجب للملك، وليس الفرقة، فليس في الفرقة دلالة على ¬
ويناقش
الرضا، ولا على نفيه؛ لأن حكم الفرقة والبقاء في المجلس سواء في نفي دلالته على الرضا، فعلمنا أن الملك إنما وقع بالرضا من ابتداء العقد لا من الفرقة (¬1). ويناقش: بأننا لا نخالف بأن الملك يقع بالرضا من ابتداء العقد، ولكن الخلاف، ليس في قوع الملك، وإنما في لزومه، فهناك عقود كثيرة يرى الحنفية والمالكية أنها عقود صحيحة غير لازمة، كما في بيع الفضولي، فكذلك هنا فنحن نرى أن الملك يقع بالإيجاب والقبول، ولكن لا يكون لازمًا إلا بالفرقة، شأنه في ذلك شأن البيع الذي شرط فيه خيار، فالملك يقع بالإيجاب والقبول، ويكون لمن اشترط له الخيار حق الرجوع، ولا يكون العقد لازمًا في حقه مدة خيار الشرط. الدليل السادس: القول بخيار المجلس خلاف القياس، فليس في الأصول فرقة يتعلق بها تمليك وتصحيح العقد، بل في الأصول أن الفرقة إنما تؤثر في فسخ كثير من العقود، من ذلك الفرقة في عقد الصرف قبل القبض، وفي عقد السلم قبل قبض الثمن، وعن الدين قبل تعيين أحدهما، فلما وجدنا الفرقة في الأصول في كثير من العقود إنما تأثيرها في إبطال العقد دون لزومه ولم نجد في الأصول فرقة مؤثرة في لزوم العقد، ثبت أن اعتبار خيار المجلس ووقوع الفرقة في لزوم العقد خارج عن الأصول، مع ما فيه من مخالفة ظاهر الكتاب (¬2). ويناقش: أولًا: بأننا لا نعلم الأصول إلا من خلال النصوص الشرعية، فالمتبع ¬
الدليل السابع
للنصوص الشرعية هو المتبع للأصول الصحيحة فلا ترد النصوص إلى الأصول، بل العكس هو الصحيح، وربما رد نص صحيح لأصل استنبطه فهم غير معصوم، فالنص الشرعي لا يعارض بالعقل ولا بالقياس، فهو أصل بذاته، ويجب التسليم له. ثانيًا: على فرض أن الحديث مخالف للأصول، فلا نسلم أن الحديث المخالف للأصول يرد، غاية ما في الباب أن يكون الشرع أخرج بعض الجزئيات عن الكليات لمصلحة تخصها، ومن تأمل الحكم الشرعية بثبوت خيار المجلس علم حكمة التشريع بثبوت مثل هذا الخيار، فإن العقد قد يقع بغتة من غير ترو، ولا نظر في القيمة، فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد حريمًا يتروى فيه المتبايعان، ويعيدان النظر، ويستدرك كل واحد منهما مدى حاجته للعقد، فلا أحسن من هذا حكمًا، ولا أرفق من هذا لمصلحة الخلق، وبعض الناس قبل أن يتملك السلعة وهي في يد البائع يكون عنده تشوف وتطلع إلى تملكها، فيندفع إلى شرائها، بلا ترو ولا نظر، فإذا وقعت في يده ذهب ما يجده في نفسه من حب تملكها إلى الموازنة بين المكاسب والخسارة، فالذي يعرف النفس البشرية هو الذي شرع لها هذا الخيار لعلاج مثل هذا الاندفاع (¬1). الدليل السابع: (ح-395) ما رواه البخاري من طريق شعبة، حدثنا عبد الله بن دينار، قال: سمعت ابن عمر -رضي الله عنه- يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه. ورواه مسلم (¬2). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: الحديث أجاز بيع المبيع بعد القبض، ولم يشرط فيه الافتراق، فوجب بنص الخبر أنه إذا قبضه في المجلس أنه يجوز له بيعه، وذلك ينفي خيار البائع لأن ما للبائع فيه خيار لا يجوز تصرف المشتري فيه. ويجاب: بأن الحديث نص في النهي عن بيع الشيء قبل قبضه، سواء تفرق المتبايعان قبل القبض أو لم يتفرقا. ومفهومه: جواز بيعه بعد القبض، سواء حصل التفرق أو لم يحصل، وهذا المفهوم المطلق جاء تقييده بنص آخر، وهو ألا يكون فيه خيار، سواء كان فيه خيار مجلس أو خيار شرط، ولهذا لا يجوز بيعه لو كان البائع قد اشترط فيه خيارًا لمدة معينة، ولا يقال: إن هذا الخيار يعارض حديث: (لا تبعه حتى تقبضه) فإذا كان خيار الشرط لا يعارض حديث النهي عن بيع الشيء قبل قبضه، فكذلك خيار المجلس لا يعارض حديث النهي عن بيع الشيء قبل قبضه. وجواب آخر: أن حديث النهي عن بيع الشيء قبل قبضه، وحديث ثبوت خيار المتبايعين في مجلس العقد، كل من الحكمين ثبت بحديث صحيح بل في غاية الصحة، حيث إن الحديثين مخرجان في الصحيحين، وأسانيدهما في أعلى شروط الصحة، فكيف يدفع أحدهما بالآخر مع إمكان استعمالهما معًا: فمقتضى العمل بالحديثين: أن نمنع من بيع الشيء قبل قبضه، ولو لزم البيع بالتفرق: فبيع الشيء قبل قبضه منهي عنه مطلقًا تفرقا أو لم يتفرقا، لزم البيع أو لم يلزم.
الدليل الثامن
وإذا قبض المبيع، صح البيع، ولا يلزم إلا بالتفرق. وبهذا نكون قد عملنا بالحديثين معًا. فلا ينبغي ضرب السنة بعضها ببعض، ولا يعترض بالعام على الخاص، ولا بظواهر النصوص على صريحها. هذه هي طريقة الراسخين في العلم. الدليل الثامن: (ح-396) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، -رضي الله عنه-، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ابتاع نخلًا يعد أن توبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدًا، وله مال، فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع (¬1). وجه الاستدلال: جعل الحديث الثمرة ومال العبد للمشتري بالشرط من غير ذكر التفرق بالأبدان، وبما أنه من المحال أن يملكها المشتري قبل ملك الأصل المعقود عليه؛ دل ذلك على وقوع الملك للمشتري بالعقد نفسه. ويجاب: بأن هناك فرقًا بين صحة البيع، وبين لزوم البيع، فنحن نقول: إن البيع صحيح من صدور الإيجاب من البائع، وصدور القبول مطابقًا له من المشتري، وصحة البيع دليل على ثبوت الملك، إلا أن صحة البيع لا يعني لزوم البيع، وهذا الاستدلال قد تكرر منهم، والجواب نفسه يتكرر، كما أن البيع بشرط الخيار يقع صحيحًا من العقد، ويثبت به الملك، ولا يلزم إلا بمضي مدة الخيار. ¬
الدليل التاسع
الدليل التاسع: خيار المجلس ليس له حد معروف، فقد يطول وقد يقصر، ولو شرط أحدٌ الخيار مدة مجهولة لبطل إجماعًا، فكيف يثبت عن طريق الشرع حكم لا يجوز اشتراطه بالعقد، وأيضًا فإن القول بخيار المجلس يعتبر من الغرر؛ لأن كليهما لا يدري ما يحصل له من الثمن والمثمن (¬1). ويناقش: لو سلمنا أن القول بخيار المجلس يؤدي إلى الوقوع في الغرر، فالغرر ليس كله حرامًا، بل منه ما هو جائز بالإجماع كالغرر اليسير والغرر التابع ولو كان كثيرًا، ومنه ما هو محرم بالإجماع كالغرر الكثير غير التابع مما لا يحتاج إليه، ومنه ما هو محل خلاف بين العلماء هل يلحق بالكثير أو بالقليل، وقد دلت الأحاديث الصحيحة المتفق على صحتها على اعتبار خيار المجلس، فدل على أن الغرر فيه مغتفر لكونه يسيرًا، ولوجود مصلحة كبرى لكل واحد من المتعاقدين بحيث يتروى، ويقلب النظر في العقد، وألا يكون قد استعجل في القبول، ومدة الخيار يسيرة معروفة عرفًا مدة اتحاد مجلسهما، فإذا أمضى كل من المتعاقدين البيع أصبح كل منهما على بصيرة ومعرفة، والله أعلم. والمالكية صححوا البيع إذا علقه على مشورة شخص قريب، ولا يفسدون العقد بمجرد جهل زمن الخيار، فزمن المجلس مثله يعتبر زمنًا قصيرًا عرفًا، بل هو أقصر من زمن المشورة (¬2). وأما القول بأن كل واحد من المتبايعين لا يدري ما يحصل له من الثمن ¬
الدليل العاشر
والمثمن، فهذا الشأن في كل خيار، حتى في خيار الشرط المجمع على القول به، فإن لكل واحد من المتعاقدين زمن الخيار إمضاء العقد وفسخه، ولا يقدح ذلك في صحة العقد، والله أعلم. الدليل العاشر: (ح-397) ما رواه أحمد من طريق ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن يكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله (¬1). [الحديث صحيح إلا قوله: ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله، فقد تفرد بها عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: استدل بهذا الحديث على عدم ثبوت خيار المجلس من وجهين: أحدهما: أنه لو كان له خيار المجلس لما احتاج إلى أن يسأله الإقالة، بل كان هو يفسخه بحق الخيار الذي له فيه. والثاني: أن الإقالة لا تكون إلا بعد صحة العقد، وحصول ملك كل واحد منهما فيما عقد عليه من قبل صاحبه، فهذا أيضا يدل على نفي الخيار، وصحة البيع (¬1). ويجاب: بأن الحديث يقول: (ولا يحل له) بمعنى: أنه يحرم عليه أن يفارقه خشية أن يستقيله، هذه الإقالة هل هي حق لكل واحد منهما، أو لا تكون إلا برضاهما، فإن كانت حقًا لكل واحد منهما قبل التفرق، فالخلاف معكم خلاف اصطلاحي، فنحن نسميه خيارًا، وأنتم تسمونه إقالة، والأمور بمعانيها, وليست بألفاظها. وإن قلتم: إن الإقالة لا بد من رضاهما, ولا بد من اتفاقهما على فسخ العقد، وأن العقد لازم قبل التفرق، وأن الإقالة ليست واجبة، فكيف تقولون: لا يحل له أن يفارقه إذا كانت الإقالة ليست ملزمة، وأن لكل واحد من المتبايعين له أن يرفض إقالة صاحبه قبل التفرق، فأنتم تحتجون بحديث لم تأخذوا بظاهره، حيث إن ظاهره يقول: (ولا يحل له) بمعنى أنه يحرم عليه، في الوقت الذي تقولون إن الإقالة ليست واجبة، وله ألا يوافق على الإقالة، فأصبح الأمر بالنسبة لكم: إما القول بترك ظاهر الحديث، وإما حمل الإقالة على معنى آخر، وهو ¬
الدليل الحادي عشر
فسخ أحد العاقدين العقد بموجب خيار المجلس، وليس المراد حقيقة الإقالة، والذي يدل عليه أيضًا أن هذا هو المراد: أن الإقالة لا تختص بمجلس العقد، ولا تبطل بالتفرق، بل يجوز طلب الإقالة بمجلس العقد قبل الافتراق، وبعد مفارقة المجلس، والذي يختص بالمجلس إنما هو خيار المجلس، وهو المراد بالحديث، والله أعلم. الدليل الحادي عشر: (ح- 398) ما رواه البخاري من طريق سفيان، حدثنا عمرو، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر، فكان يغلبني فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر ويرده، ثم يتقدم فيزجره عمر ويرده، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: بعنيه. قال هو لك يا رسول الله. قال: بعنيه، فباعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت (¬1). وجه الاستدلال: لو كان خيار المجلس ثابتًا لما تصرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المبيع حتى ينفض المجلس أو يحصل التخاير ليكون البيع لازمًا، فدل ذلك على عدم ثبوت خيار المجلس. ويناقش: حديث خيار المجلس ثبت بأحاديث صحيحة لا نزاع في صحتها، فلا ترد هذا الأحاديث بهذه القصة المحتملة، ولا تضرب الأحاديث بعضها ببعض، بل يجتهد في الجمع بينها ما أمكن، فإن لم يمكن الجمع عمل بالترجيح، والترجيح ¬
الدليل الثاني عشر
لو كان هو السبيل فإن حديث خيار المجلس مقدم على هذه القصة، لوجوه، منها: أولاً: أن حديث خيار المجلس ناقل عن البراءة الأصلية، وما كان كذلك كان حقه التقديم على غيره. ثانيًا: يحتمل أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد تقدم أو تأخر قبل الهبة بما يحصل به التفرق عرفًا، حقًا ليس في الحديث ما يثبت ذلك، ولكن في الوقت نفسه ليس فيه ما ينفيه، فلا يترك الحديث الصحيح الصريح لقضية عينية محتملة. ثالثًا: على فرض أن تكون الهبة حصلت بعد الإيجاب والقبول مباشرة، وأن تكون هذه القصة متأخرة عن حديث خيار المتبايعين، فيؤخذ منها أن المشتري إذا تصرف في المبيع بحضور البائع، ولم ينكر البائع كان ذلك قاطعًا لخياره لإقراره تصرف المشتري. الدليل الثاني عشر: (ث-79) ما رواه الطحاوي من طريق بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، عن حمزة بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال: ما أدركت الصفقة حيًا، فهو من مال المبتاع. [إسناده صحيح، وهو موقوف] (¬1). وجه الاستدلال: دل الأثر أن العقد إذا تم بالإيجاب والقبول وكان المبيع حيًا مجموعًا فهو من مال المشتري، ولو كان ذلك قبل التفرق، وهذا يدل على أن ملكية المعقود عليه ¬
ويجاب
انتقلت إلى المشتري بذلك، ولو كان خيار المجلس مشروعًا لم تنتقل الملكية إلا بالتفرق بالأبدان. ويجاب: بأننا كررنا مرارًا بأن البيع ينعقد بالإيجاب والقبول، وأن اللزوم لا يلزم إلا بالتفرق، وليس بينهما تعارض. وقد يقال: إن قوله: (ما أدركت الصفقة) فالصفقة محمولة على البيع الذي انبرم، لا على ما لم ينبرم؛ لأن هذا الأثر الموقوف على ابن عمر، لا يمكن أن يعارض به ما رواه ابن عمر نفسه من الحديث المرفوع، خاصة أن ابن عمر كان يقول بخيار المجلس، ويعمل به في بيوعه كما ثبت عنه في الصحيح، ويرى - رضي الله عنه - أن البيع لا يلزم إلا بالتفرق، فلا يضرب كلام ابن عمر بعضه ببعض. الدليل الثالث عشر: القياس على النكاح والخلع والعتق، وكلها عقود معاوضة، فإذا كانت تتم بالإيجاب والقبول، وتلزم قبل الفرقة، فكذلك عقد البيع. ويجاب: أولاً: أن هذا قياس في مقابل النص، فيكون فاسدًا. ثانيًا: أن النكاح والخلع ليس مقصودهما المال، ولهذا لا يفسدان بفساد العوض، بخلاف البيع. ثالثًا: أن النكاح لا يقع غالبًا إلا بعد ترو ونظر، فلا يحتاج إلى خيار بعده، كما أن في مشروعية الخيار في النكاح مضرة، وذلك لما يلزم من مشروعية رد الزوجة بعد ابتذالها بالعقد، وذهاب حرمتها بالرد، وإلحاقها بالسلع المبيعة.
الدليل الرابع عشر
الدليل الرابع عشر: (ث-80) ما رواه عبد الرزاق في مصنفه، قال: أخبرنا هشيم، عن الحجاج، عن محمَّد بن خالد بن الزبير، عن رجل من كنانة، قال: قال عمر - رضي الله عنه -، حين وضع رجله في الغرز، وهم بمنى: اسمعوا ما أقول لكم، ولا تقولوا: قال عمر. وقال عمر: البيع عن صفقة أو خيار، ولكل مسلم شرطه (¬1). [ضعيف] (¬2). وجه الاستدلال: دل الأثر أن البيع قسمان: قسم اشترط فيه الخيار، وهو خيار الشرط، وقسم لم يشترط فيه الخيار، وسمي هذا القسم بالصفقة: أي بالإيجاب والقبول. ويجاب عن هذا: أولاً: الأثر ضعيف، والضعيف لا تقوم به حجة. ثانيًا: موقوف، والموقوف لا يخالف به المرفوع. ثالثًا: على تقدير صحة الأثر، فإن معناه: أن البيع قسمان: قسم اشترط فيه الخيار، وهو خيار الشرط، وقسم لم يشترط فيه الخيار، وسمي هذا القسم بالصفقة لقصر مدة خيار المجلس. هذه هي أقوى الأدلة التي استدل بها نفاة خيار المجلس، والجواب عنها. ¬
دليل من قال: يشرع خيار المجلس
دليل من قال: يشرع خيار المجلس: الدليل الأول: (ح-399) ما رواه البخاري ومسلم من طريق شعبة، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث رفعه، عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو قال: حتى يتفرقا. فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما (¬1). الدليل الثاني: (ح-400) وروى البخاري ومسلم من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه، ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار. ورواه الشيخان، من طريق الليث، عن نافع به، وفيه: إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعًا، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع، وإن تفرقا، بعد أن تبايعا, ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع (¬2). ورواه البخاري من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع، وزاد: قال نافع: وكان ابن عمر إذا اشترى شيئًا يعجبه فارق صاحبه (¬3). ورواه مسلم من طريق ابن جريج، عن نافع به، وفيه: قال نافع: فكان ابن عمر إذا بايع رجلاً، فأراد ألا يقيله، قام، فمشى هنيهة، ثم رجع (¬4). ¬
قال ابن عبد البر: "أجمع العلماء من أهل الفقه بالحديث أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، من أثبت ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أخبار الآحاد العدول، لا يختلفون في ذلك، وإنما اختلفوا في القول به، وادعاء النسخ فيه، وتخريج معانيه" (¬1). (ث-81) وروى البخاري معلقًا بصيغة الجزم، قال أبو عبد الله: قال الليث: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، قال: بعت من أمير المؤمنين عثمان مالاً بالوادي بمال له بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادني البيع، وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا، قال عبد الله: فلما وجب بيعي وبيعه رأيت أني قد غبنته بأني سقته إلى أرض ثمود بثلاث ليال، وساقني إلى المدينة بثلاث ليال (¬2). [إسناده حسن إن شاء الله] (¬3). ¬
وجه الاستدلال
وفي الباب حديث أبي برزة، وحديث أبي هريرة، وحديث سمرة ابن جندب، من رواية الحسن عنه، وحديث عبد الله بن عمرو، وحديث ابن عباس، وحديث جابر (¬1)، وغيرهم، وفي حديث الصحيحين غنية. وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت للمتبايعين بعد انعقاد البيع بالإيجاب والقبول الخيار في فسخ البيع أو إمضائه دون رضا الطرف الآخر، ما داما في مجلس العقد، ولم يتفرقا بالأبدان، أو لم يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر، بأن قال له: اختر البيع أو فسخه، فاختار إمضاء البيع، أو تفرقا عن مجلس العقد بأبدانهما، فقد لزم العقد، ولا يملك أحدهما الرجوع إلا برضا الطرف الآخر. ومما يدعم أن هذا هو الفهم الصحيح للحديث أن هذا ما فهمه ابن عمر - رضي الله عنه -، وهو راوي الحديث، وهو من أهل الفقه وأهل اللسان، فكان إذا اشترى شيئًا، وتم الإيجاب والقبول, قام عن المجلس، ومشى قليلاً، ثم رجع، وذلك ليلزم العقد. بل إن نقل ابن عمر يدل على أن هذا هو فهم الصحابة رضوان الله عليهم، فحين باع عثمان - رضي الله عنه -، رجع القهقرى، خشية أن يراده البيع، ولم يكن هذا مذهبًا لابن عمر؛ لأن ابن عمر قال بعده، وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا. ونوقش هذا الاستدلال: وقف أصحاب القول الأول من الأحاديث التي تثبت خيار المجلس أحد موقفين، إما دعوى النسخ، وإما التأويل، وكلاهما ضعيف. ¬
وأجيب عنه
أما التأويل، فلهم في ذلك أقاويل كثيرة، أشير إلى أهمها، وقد تركت بعضها لكونه ظاهر الضعف. من ذلك قولهم: إن هذا خبر آحاد فيما تعم به البلوى، وخبر الواحد فيما تعم به البلوى غير مقبول، وذلك أن البيع يتكرر، ومثل هذا تعم البلوى بمعرفة حكمه، ولأن العادة تقتضي أن ما عمت به البلوى يكون معلومًا عند الكافة، فانفراد الواحد به، على خلاف العادة، فيرد. وأجيب عنه: أولاً: لا نسلم هذا التقسيم، فإن تقسيم الأخبار إلى آحاد ومتواتر لم يكن مأثورًا عن السلف، ولا عن المتقدمين من أهل الحديث، وإنما عرف هذا عن أهل الأصول، وهم ليسوا من أهل الأثر، وعند المتأخرين من أهل الحديث، وعلى القول بهذا التقسيم فلا أثر له من جهة العمل بالحديث فلم يكن السلف يفرقون بين الآحاد والمتواتر بالأحكام من جهة وجوب العمل، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبعث الصحابة لدعوة الناس إلى الهدى ودين الحق، وكانت الحجة تقوم بهم، وهم آحاد، والمعتمد في الرواية على عدالة الراوي وجزمه بالرواية. وقد وجد ذلك، وعدم نقل غيره لا يصلح معارضًا لجواز عدم سماعه للحكم. فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يبلغ الأحكام للآحاد والجماعة، ولا يلزم تبليغ كل حكم لجميع المكلفين. وعلى تقدير السماع: فجائز أن يعرض مانع من النقل، أعني نقل غير هذا الراوي. ثانيًا: سلمنا أن البيع بما تعم به البلوى، ولكن الحديث دليل على إثبات خيار الفسخ، وليس الفسخ مما تعم به البلوى في البيع، فإن الظاهر من الإقدام على البيع: الرغبة من كل واحد من المتعاقدين فيما صار إليه. فالحاجة إلى معرفة حكم الفسخ لا تكون عامة.
ومن التأويل قولهم
ومن التأويل قولهم: إطلاق لفظ المتبايعين إنما هو يطلق حقيقة على المتشاغلين بالبيع، وهي حالة السوم، وأما قبل صدور الإيجاب والقبول، أو بعد الإيجاب والقبول فيطلق لفظ المتبايعين عليهما مجازًا، فالعاقدان إذا أبرما البيع وتراضيا فقد وقع البيع، فليسا متبايعين في هذه الحال في الحقيقة، كما هو الشأن في سائر أسماء الفاعل، فالمتضاربين والمتقايلين إنما يلحقهما هذا الاسم في حال التضارب والتقايل، وبعد انقضاء الفعل لا يسميان به على الإطلاق وإنما يقال كانا متقايلين ومتضاربين. وقد دلت السنة على إطلاق لفظ المتبايعين على المتساومين. (ح-401) فقد روى البخاري ومسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يبع بعضكم على بيع بعض ... الحديث (¬1). ورواه البخاري ومسلم من طريق عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، وفيه: "وأن يستام الرجل على سوم أخيه" (¬2). وروى مسلم من طريق العلاء، عن أبيه عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يسم المسلم على سوم أخيه (¬3). وروى مسلم من طريق هشام، عن محمَّد بن سيرين عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: ولا يسوم على سوم أخيه. ¬
وفسر مالك النهي عن البيع بالنهي عن السوم "قال مالك: وتفسير قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما نرى، والله أعلم: "لا يبع بعضكم على بيع بعض" أنه إنما نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه ... " (¬1). ففسر مالك النهي عن البيع بالنهي عن السوم. ومما يؤيد أن السوم والبيع شيء واحد، أنه لم يرد اللفظان في حديث واحد، بل الحديث الواحد تارة يأتي بلفظ: لا يبيع بعضكم على بيع بعض، وتارة بلفظ: لا يستام المسلم على سوم أخيه. (ح-402) إلا ما رواه مسلم قال: حدثني عمرو الناقد، وزهير ابن حرب، وابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبيع حاضر لباد، أو يتناجشوا، أو يخطب الرجل على خطبة أخيه، أو يبيع على بيع أخيه ... الحديث وزاد عمرو الناقد في روايته: ولا يسم الرجل على سوم أخيه (¬2). وقد انتقد البيهقي رواية عمرو الناقد عن ابن عيينة، وما فيها من مخالفة، وسبق نقل كلامه بتمامه في غير هذا الموضع (¬3). وإذا كانت حقيقة معنى اللفظ ما وصفنا لم يصح الاستدلال في حديث المتبايعان بالخيار على ثبوت خيار المجلس. فإن قيل: كيف يجوز أن يسمى المتساومان متبايعين قبل وقوع العقد بينهما؟ قيل له: جائز إذا قصدا إلى البيع بإظهار السوم فيه كما نسمي القاصدين إلى ¬
ويجاب عن هذا من وجوه
القتل متقاتلين، وإن لم يقع منهما قتل بعد، وكما قيل لولد إبراهيم - عليه السلام - المأمور بذبحه: الذبيح؛ لقربه من الذبح، وإن لم يذبح؛ وقال تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، والمعنى فيه مقاربة البلوغ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232]، وأراد به حقيقة البلوغ، فجائز على هذا أن يسمى المتساومان متبايعين إذا قصدا إيقاع العقد على النحو الذي بينا، والذي لا يختل على أحد أنهما بعد وقوع البيع منهما لا يسميان متبايعين على الحقيقة كسائر الأفعال إذا انقضت زال عن فاعليها الأسماء المشتقة لها من أفعالهم، إلا في أسماء المدح والذم على ما بينا في صدر هذا الكتاب؛ وإنما يقال كانا متبايعين وكانا متقايلين وكانا متضاربين (¬1). ويجاب عن هذا من وجوه: منها: أن هذا الحمل قد يقبل في رواية: (المتبايعان بالخيار)، ولكنه لا يرد على رواية: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار)، وهذا اللفظ قد اتفق في تخريجه الشيخان من طريق الليث، عن نافع، عن ابن عمر (¬2). ومنها: أن إطلاق البائعين على العاقدين بعد صدور الإيجاب والقبول حقيقة لغة وشرعًا، وإطلاق ذلك على العاقدين قبل صدور الإيجاب والقبول مجاز، عكس ما يقوله نفاة خيار المجلس. دليل ذلك من حيث اللغة: أن البائع والبيع مشتق من الفعل، والأسماء المشتقة من الأفعال لا تطلق على مسمياتها إلا بعد ¬
وجود الفعل، كالقاتل، والزاني، والسارق، فإنها لا تتناول المسمى إلا بعد وجود القتل والسرقة والزنا، فكذلك البيع لا يطلق عليه اسم البائع إلا بعد وجود البيع منه، والبيع يوجد بعد إتمام العقد بالإيجاب والقبول، لا قبله. وأما دليله من حيث الشرع، فإنه لو قال شخص لعبده: إذا بعتك فأنت حر، فإنه لا يعتق عليه بالمساومة، بل إذا تم العقد عتق عليه (¬1). ومنها: أن حمل لفظ المتبايعين على المتساومين من قبيل المجاز، ولا يتحول إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا الحمل يجعل تقدير الحديث: أن المتساومين بالخيار إن شاءا عقدا البيع، وإن شاءا لم يعقداه، وهذا تحصيل الحاصل؛ لأن كل واحد يعرف ذلك، فيصان كلام الشارع عن مثل هذا الحمل (¬2). [م - 444] وأما تفسير مالك بالنهي عن البيع على بيع أخيه بأن المراد به النهي عن السوم على سومه، فهو أمر قد اختلف فيه العلماء. قال في الفواكه الدواني: "اختلف الناس ... فمنهم من فهم أن السوم والبيع شيء واحد، وهو الزيادة في الثمن على عطاء الغير. ومنهم من فهم أنهما شيئان، فالسوم الزيادة في الثمن، والبيع متعلق بالمثمن: الذي هو السلعة ... " (¬3). ومن التأويل قولهم: إن المراد بالتفرق بالحديث التفرق بالأقوال، لا التفرق بالأبدان لقوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]. ¬
ويناقش هذا القول من وجوه
فإذا قال الزوج لزوجته: طلقتك بكذا، فقالت: قبلت. فقد بانت المرأة منه، وتفرقا بهذا القول، وإن لم يتفرقا بالأبدان. وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4]. ويقال: تشاور القوم في كذا فافترقوا عن كذا، يراد به الاجتماع على قول والرضى به وإن كانوا مجتمعين في المجلس. وعلى التسليم بأن المراد بالفرقة بالأبدان، فإن المراد بالخيار هنا خيار القبول، وذلك إذا قال البائع للمشتري: بعتك هذا بكذا، فالمشتري بالخيار في قبول ذلك ما لم يفارق صاحبه بالبدن، فإذا فارق صاحبه بالبدن سقط خياره في القبول، وتفسير الفرقة بهذا له أصل في الشرع متفق عليه، وهي الفرقة في عقد الصرف، فهي فرقة بالبدن باتفاق الفقهاء، فإذا تفرق العاقدان في عقد الصرف بالأبدان قبل القبض بطل العقد، فكذا الفرقة في مسألتنا إذا حصلت بالبدن قبل القبول بطل الإيجاب، وعلى ذلك لا دلالة في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - على خيار المجلس. ويناقش هذا القول من وجوه: أولاً: حمل التفرق على الأقوال، وليس على الأبدان من قبيل المجاز، ولا يتحول إلى المجاز إلا عند تعذر حمله على الحقيقة. "قال البيضاوي: ومن نفى خيار المجلس ارتكب مجازين: بحمله التفرق على الأقوال، وحمله المتبايعين على المتساومين" (¬1). ثانيًا: لا يقبل أن يكون اتفاق الإيجاب والقبول، وتطابقهما من قبيل التفرق، بل ذلك من قبيل التوافق والاتفاق. ¬
ثالثًا: لو سلمنا أن حديث ابن عمر يحتمل أن يكون التفرق بالأقوال، ويحتمل أن يكون التفرق بالأبدان، فإن الإجماع منعقد على أن المراد أحدهما لا هما معًا، وقد قام دليل على أن المراد بالتفرق هو تفرق الأبدان بعد انعقاد البيع، وهو فعل ابن عمر، وهو راوي الحديث، وفهم أبي برزة، وهو صاحبي جليل، وهما أعلم بمعنى الحديث من غيرهما، بل إن ابن عمر لما حمله على التفرق بالأبدان نسب ذلك إلى السنة. قال الحافظ: "ابن عمر حَمَلَه على التفرق بالأبدان، وكذلك أبو برزة الأسلمي، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة" (¬1). رابعًا: كيف يفسر التفرق بالأقوال، والحديث قد رواه الشيخان من طريق الليث، عن نافع، عن ابن عمر: بلفظ: "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعًا ... " (¬2). فقوله: (إذا تبايع الرجلان): دليل على أن هذا كان بعد انعقاد البيع، وليس قبله، وأن العاقدين يملكان الرجوع عن العقد بعد انعقاد البيع، وقبل التفرق. وقوله: (وكانا جميعًا) توكيد لقوله: ما لم يتفرقا، وهو ظاهر بأن المراد بالتفرق هو التفرق بالأبدان، وليس بالأقوال. خامسًا: أن الاحتجاج بعقد الصرف دليل عليكم، وليس لكم، فإن الفرقة في عقد الصرف تبطل العقد بعد تمام العقد، وقبل القبض، وأنتم حملتم الفرقة قبل إتمام العقد. ¬
ويناقش
كما أن بعضهم أجاب عن فعل ابن عمر بقوله: "أما ما روي من فعل ابن عمر فلا دلالة فيه على أنه من مذهبه لأنه جائز أن يكون خاف أن يكون بائعه ممن يرى الخيار في المجلس فيحذر منه بذلك حذرا مما لحقه في البراءة من العيوب، حتى خوصم إلى عثمان فحمله على خلاف رأيه ولم يجز البراءة إلا أن يبينه لمبتاعه، وقد روي عن ابن عمر ما يدل على موافقته، وهو ما روى ابن شهاب عن حمزة بن عبد الله عن أبيه قال: ما أدركت الصفقة حيا فهو من مال المبتاع. وهذا يدل على أنه يرى أن المبيع كان يدخل في ملك المشتري بالصفقة ويخرج عن ملك البائع، وذلك ينفي الخيار" (¬1). ويناقش: قد يقال ذلك لو كان ابن عمر لم ينسب ذلك إلى السنة. (ح-403) فقد روى البخاري معلقًا بصيغة الجزم، قال أبو عبد الله: قال الليث: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، قال: بعت من أمير المؤمنين عثمان مالاً بالوادي بمال له بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادني البيع، وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا، قال عبد الله: فلما وجب بيعي وبيعه رأيت أني قد غبنته بأني سقته إلى أرض ثمود بثلاث ليال، وساقني إلى المدينة بثلاث ليال (¬2). [إسناده حسن إن شاء الله] (¬3). ¬
هذا موقف التأويل، وأما موقف النسخ
وأما الجواب عن أثر ما أدركت الصفقة حيًا مجموعًا فهو من مال المشتري فقد سبق في أدلة المخالفين فأغنى عن إعادته هنا. هذا موقف التأويل، وأما موقف النسخ: فقد رأى بعضهم أن الحديث منسوخ، واستدل على النسخ بحديث: (المسلمون على شروطهم) وبحديث التحالف عند اختلاف المتبايعين؛ لأنه يقتضي الحاجة إلى اليمين، وذلك يستلزم لزوم العقد، ولو ثبت الخيار لكان كافيًا في رفع العقد، وبقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، والإشهاد: إن وقع بعد التفرق لم يطابق الأمر، وإن وقع قبل التفرق لم يصادف محلاً (¬1). كما أن ترك العمل بالحديث دليل على نسخه، قال مالك في الموطأ عن خيار المجلس: "وليس لهذا عندنا حد معروف، ولا أمر معمول به". وإذا كان الحديث ليس معمولاً به مع ثبوته دل ذلك على نسخه. بل زعم بعضهم أن مالكًا قد احتج بعمل أهل المدينة، وأنه لم ير أحدًا من أهل المدينة يعمل به، وإجماع أهل المدينة عنده حجه، كما قال أبو بكر بن عمرو ابن حزم: إذا رأيت أهل المدينة قد أجمعوا عني شيء فاعلم أنه الحق، وإجماعهم عند مالك أقوى من خبر الواحد. ويناقش: قال ابن حجر: "لا حجة في شيء من ذلك؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والجمع بين الدليلين مهما أمكن لا يصار معه إلى الترجيح، والجمع هنا ممكن بين الأدلة المذكورة بغير تعسف، ولا تكلف" (¬2). ¬
وقد سبق الجواب عن الأدلة المذكورة والتي رأى فيها المخالفون أنها ناسخة لحديث خيار المجلس عند سياق أدلة المخالفين، فأغنى عن إعادته هنا. وأما القول بأن مالكًا قد احتج بعمل أهل المدينة فإن كلامه ليس صريحًا في هذا، وإنما أخذ ذلك من قوله في الموطأ عن خيار المجلس: "وليس لهذا عندنا حد معروف، ولا أمر معمول به". جاء في الاستذكار: "لا يجوز لأحد أن يدعي في هذه المسألة إجماع أهل المدينة؛ لأن الاختلاف فيها موجود بها، قال: وإنما معنى قول مالك: وليس لهذا عندنا حد معروف: أي ليس للخيار عندنا حد معروف؛ لأن الخيار عنده ليس محدودًا بثلاثة أيام، كما حده الكوفيون والشافعي، بل هو على حسب حال المبيع، فمرة يكون ثلاثة أيام، ومرة أقل، ومرة أكثر، وليس الخيار في العقار كمثله في الدواب والثياب، هذا معنى قوله ذلك" (¬1). وجاء في الفتح: "اشتد إنكار ابن عبد البر وابن العربي على من زعم من المالكية أن مالكًا ترك العمل به لكون عمل أهل المدينة على خلافه، قال ابن العربي: إنما لم يأخذ به مالك؛ لأن وقت التفرق غير معلوم، فأشبه بيوع الغرر، كالملامسة" (¬2). قال ابن عبد البر: "لا يصح دعوى إجماع أهل المدينة في هذه المسألة؛ لأن الاختلاف فيها بالمدينة معلوم، وأي إجماع يكون في هذه المسألة إذا كان المخالف فيها عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وابن شهاب، وابن أبي ذئب، وغيرهم، وهل جاء فيها منصوصًا الخلاف إلا عن أبي الزناد، ¬
الراجح من الخلاف
وربيعة، ومالك، ومن تبعه، وقد اختلف فيها أيضًا عن ربيعة فيما ذكر بعض الشافعيين. وقال ابن أبي ذئب - وهو من جلة فقهاء المدينة -: من قال: إن البيعان ليسا بالخيار حتى يفترقا استتيب، وجاء بقول فيه خشونة تركت ذكره، وهو محفوظ عند العلماء ... " (¬1). الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأدلة أجد أن القول الأقوى في هذه المسألة, هو قول الشافعية الحنابلة، فالأحاديث صحيحة وصريحة في ثبوت خيار المجلس، ويعتذر عن مالك - رضي الله عنه - بكونه لم يأخذ بالحديث مع علمه به واطلاعه على صحته: بأنه ما من عالم إلا ترك جملة من أدلة الكتاب أو السنة لمعارض راجح عنده، وليس هذا خاصًا بمالك - رضي الله عنه -، وهو مأجور على اجتهاده، وهو دليل على أن العالم مهما بلغ من العلم إلا ويقع له في اجتهاده ما يجانب الصواب، وهذا لا يقدح في مكانة الإِمام، ولا في علمه، ولا يدعو ذلك إلى ترك الانتفاع به لهذه المسألة أو لعشرات مثلها، وإذا كان هذا مع مالك، عالم المدينة، وهو من هو في الحفظ والإتقان، ورجوح العقل، مع إمامة في الفقه، وكمال في الورع، فكيف يكون الحال مع صغار الطلبة (¬2). ¬
وقد ذكر بعض العلماء أن حديث خيار المجلس لا يعمل به اليوم مطلقًا، قال: "خيار المجلس لا عمل به عندنا الآن في العالم الإسلامي، ولا عمل به في عهد مالك، في مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... " (¬1). وهذا الكلام غير كاف في رد الحديث؛ لأن ترك العمل في أكثر بلدان العالم الإِسلامي اليوم إما راجع إلى أن معظم البلاد قد أخذت بالقوانين الوضعية، ¬
وهجرت الرجوع إلى التشريع الإِسلامي، وإما بسبب انتشار مذهب الحنفية إبان عصر الدولة العثمانية، وأما بلادي السعودية حرسها الله فإن محاكمها الشرعية لا زالت تأخذ بخيار المجلس، وتقضي به، فلله الحمد والمنة.
المبحث الثالث في العقود التي يثبت فيها خيار المجلس
المبحث الثالث في العقود التي يثبت فيها خيار المجلس هذا الفصل إنما يبحث بناء على قول الشافعية والحنابلة ممن يذهب إلى القول بثبوت خيار المجلس، وهو الراجح، ولا يتأتى هذا البحث على مذهب من لا يثبت خيار المجلس، كالحنفية، والمالكية. والنصوص الواردة في خيار المجلس إنما وردت في عقد البيع، وضبطه بعض الشافعية بقوله: يثبت خيار المجلس في كل معاوضة محضة واقعة على عين لازمة من الجانبين، ليس فيها تملك قهري، ولا جارية مجرى الرخص. شرح هذا الضابط: خرج بقوله (في كل معاوضة)، ما لا يعد من باب المعاوضات، كالهبة، والإبراء، وصلح الحطيطة، والقرض. وخرج بقوله (معاوضة محضة) النكاح والخلع، فإنهما لا يفسدان بفساد المقابل، بخلاف البيع. وقوله (واقعة على عين) أراد أن يخرج الإجارة، وفيها خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره، وبيان الراجح. وقوله (لازمة من الجانبين) أخرج العقود الجائزة من الجانبين كالشركة، والقراض، وأخرج كذلك ما كان لازمًا من جانب واحد كالرهن. وقوله (ليس فيها تملك قهري) أخرج الشفعة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحرير الخلاف فيها.
وقوله: (ولا جارية مجرى الرخص) أخرج الحوالة (¬1). ويقاس على عقد البيع ما كان في معناه، كالصلح على مال عن دين أو عين أقر بهما؛ لأنه بمعنى البيع، يشترط فيه ما يشترط في البيع. مثاله: بأن يدعي عليه ألفًا، فيقر بها، ويعطيه بدلاً من الألف عينًا، أخرى، فهذا بيع، يثبت فيه خيار المجلس (¬2). أما الصلح عن دم العمد فهو صلح عن القود، فسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه. وأما باقي العقود فمنها ما هو محل وفاق في عدم دخول خيار المجلس فيها، ومنها ما هو محل خلاف. وفي تحرير هذا الفصل يستحسن أن نذكر محل الوفاق بين الشافعية والحنابلة، ثم ننتقل إلى مسائل الخلاف بينهما. ¬
الفرع الأول العقود التي لا يدخلها خيار المجلس قولا واحدا
الفرع الأول العقود التي لا يدخلها خيار المجلس قولاً واحدًا [م - 445] اتفق الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) على عدم ثبوت خيار المجلس في العقود الجائزة: وهي العقود التي يملك فيها كل طرف أن يفسخها متى شاء، وذلك مثل الشركة والوكالة والوديعة، والوصية، والعارية، والجعالة. وكذلك العقود الجائزة من طرف، ولازمة من طرف آخر: وذلك مثل الرهن فهو لازم من جهة الراهن بشرطه، وجائز من جهة المرتهن، وكذلك الضمان جائز من جهة المضمون له دون الضامن. فهذه العقود لا يثبت فيها خيار المجلس؛ وذلك لأن العقود ما دامت غير لازمة، فإنه يمكن فسخها متى شاء بأصل وضعها، فيغني ذلك عن خيار المجلس. ¬
وأيضًا لأن عقد الرهن والضمان ليسا من عقود المعاوضات، وإنما هما من عقود التوثقة، وخيار المجلس إنما ثبت في عقد البيع، وهو من عقود المعاوضة. لأن خيار المجلس إنما ثبت في البيع، وهو عقد لازم من الطرفين، فلا يثبت إلا في عقد البيع، أو ما كان في معناه. كما اتفق الفقهاء على أن خيار المجلس لا يثبت في عقد النكاح، والطلاق، والعتق على مال، والصلح من دم العمد إذا تعاقداه بينهما. وممن حكى الإجماع الطبري (¬1). وقال النووي: "ولا خيار فيه -يعني النكاح- بلا خلاف" (¬2). قال ابن قدامة: "ولأن النكاح لا يقع غالبًا إلا بعد رؤية ونظر وتمكث، فلا يحتاج إلى الخيار بعده، ولأن ثبوت الخيار فيه مضرة لما يلزم من رد المرأة بعد ابتذالها بالعقد" (¬3). وقال الجصاص: "اتفاق الجميع على أن النكاح والخلع، والعتق على مال، والصلح من دم العمد إذا تعاقداه بينهما صح بالإيجاب والقبول من غير خيار يثبت لواحد منهما" (¬4). والصحيح أن الخلاف في الخلع محفوظ. ولم يثبت خيار المجلس في الصلح عن دم العمد؛ لأنه في معنى العفو عن القود (¬5). ¬
ولا يثبت خيار المجلس في الإبراء؛ لأنه يقصد به الإرفاق، ولا يقصد به المعاوضة (¬1). ولا يدخل خيار المجلس في صلح الحطيطة: وهو أن يدعي عليه ألفًا، فيقر له فيها، ثم يبرئه من بعضها، ويأخذ منه الباقي، فلا خيار فيه كالإبراء (¬2). ولا يثبت خيار المجلس في القرض؛ لأن الخيار يراد للفسخ، وفي القرض يجوز لكل واحد منهما أن يفسخ إذا شاء، فلا معنى لخيار المجلس (¬3). ولأن القرض ليس من عقود المعاوضة. ولا يثبت خيار المجلس في الوقف، ولا في العتق؛ ولا في الطلاق لأن ذلك ليس بيعًا (¬4). ولا يثبت خيار المجلس في الهبة إذا لم يرد بها الثواب؛ لأن خيار المجلس إنما ثبت في البيع، والهبة من عقود الإحسان, وليست من عقود المعاوضات (¬5). هذه هي المسائل التي وقفت عليها من حيث العقود التي لا يدخلها خيار المجلس بالاتفاق، وهناك مسائل اختلف فيها القول بين الشافعية والحنابلة نعرض لها إن شاء الله تعالى في الفصل اللاحق، سائلين الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
الفرع الثاني العقود المختلف في ثبوت خيار المجلس فيها
الفرع الثاني العقود المختلف في ثبوت خيار المجلس فيها الأول: الصرف والسلم. [م - 446] اختلف العلماء في ثبوت خيار المجلس في عقدي الصرف والسلم على قولين: القول الأول: يثبت فيها خيار المجلس، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والصحيح من مذهب الحنابلة (¬2) لتناول البيع لهما, ولأن خيار المجلس شرع للنظر في الحظ في المعاوضة، وهو موجود فيهما. القول الثاني: لا يثبت فيهما خيار المجلس، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3)، قياسًا على خيار الشرط فإنه لا يصح فيهما. والأول أصح، وامتناع خيار الشرط فيهما؛ لأنهما يفتقران إلى القبض في المجلس، فلو أثبتنا فيهما خيار الشرط أدى إلى أن يفترقا قبل تمامهما، وهذا لا يصح. وهذا المعنى غير موجود في خيار المجلس. الثاني: الإقالة. [م - 447] اختلفوا في الإقالة، هل يثبت فيها خيار المجلس؟ على قولين: ¬
القول الأول
القول الأول: لا يثبت فيها خيار المجلس، باعتبار أن الإقالة فسخ، وهو قول في مذهب الشافعية (¬1)، والصحيح من مذهب الحنابلة (¬2). القول الثاني: يثبت فيها خيار المجلس، إن قيل هي بيع، وهو قول في مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). والصحيح الأول، وهو أن الإقالة فسخ، وليست بيعًا، وقد أفردت هذه المسألة بالبحث في أحكام الفسخ في آخر عقد البيع. الثالث: عقد الشفعة [م - 448] لا يدخل خيار المجلس الشفعة في حق المشتري؛ لأنه يؤخذ منه المبيع قهرًا (¬5). واختلفوا في ثبوت الخيار للشفيع على قولين: القول الأول: ليس له خيار مجلس، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬6)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬7). ¬
القول الثاني
قال النووي: "ولا يثبت في الشفعة للمشتري، وفي ثبوته للشفيع وجهان مشهوران، أصحهما: لا يثبت ... وهو الراجح في الدليل أيضًا" (¬1). ولأن الشفيع يستقل بانتزاع المبيع من غير رضا صاحبه، فأشبه فسخ البيع بالرد بالعيب. القول الثاني: له حق خيار المجلس؛ لأن الشفيع قبل المبيع بثمنه، فأشبه المشتري، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬2)، وساقه ابن قدامة احتمالًا (¬3). "فإن أثبتناه، فقيل: معناه: أنه بالخيار بين الأخذ والترك، ما دام في المجلس مع تفريعنا على قولنا: الشفعة على الفور. قال إمام الحرمين: هذا الوجه غلط، بل الصحيح أنه على الفور، ثم له الخيار في نقض الملك، ورده ما دام في المجلس، وهذا هو الصواب، وهي حقيقة خيار المجلس" (¬4). وقد بحثت هذه المسألة ولله الحمد بأدلتها في عقد الشفعة، فانظر هناك. الرابع: عقد الحوالة. [م - 449] اختلف الفقهاء في ثبوت خيار المجلس في عقد الحوالة. قال النووي: ولا يثبت في الحوالة -يعني خيار المجلس- إن قلنا: إنها ¬
الخامس: في هبة الثواب.
ليست معاوضة، وإن قلنا: معاوضة لم يثبت أيضًا على أصح الوجهين؛ لأنها ليست على قاعدة المعاوضات" (¬1). وقال في شرح منتهى الإرادات: "ولا في حوالة -يعني: ولا يثبت خيار مجلس في حوالة- لاستقلال أحد المتعاقدين بها" (¬2). وأجود ما يعلل به هو أن الحوالة ليست من قبيل البيع. وانظر بحث هذه المسألة بتوسع في عقد الحوالة. الخامس: في هبة الثواب. [م - 450] اختلف العلماء في ثبوت خيار المجلس فيها على قولين: القول الأول: لا يثبت فيها الخيار، وهو الأصح في مذهب الشافعية (¬3). لأنها وإن وكانت معاوضة، فليس القصد منها العوض، فلم يثبت فيها الخيار كالنكاح (¬4). القول الثاني: يثبت فيها خيار المجلس؛ وهو قول في مذهب الشافعية (¬5)، وقول في مذهب الحنابلة؛ لأنه يراد بها المعاوضة، والعبرة بالعقود بمعانيها, لا بألفاظها. ¬
السادس: عقد الإجارة
قال في الإنصاف: "الهبة ... إن كانت بعوض ففي ثبوت الخيار فيها روايتان، مبنيتان على أنها هل تصير بيعًا، أو يغلب عليها حكم الهبة؟ ... وجزم في التلخيص والخلاصة والبلغة بأن الخيار يثبت فيها" (¬1). السادس: عقد الإجارة [م - 451] إن كانت الإجارة في الذمة فاختلف العلماء في ثبوت خيار المجلس فيها على قولين: القول الأول: ذهب بعض الشافعية، وهو المشهور من مذهب الحنابلة إلى القول بثبوت خيار المجلس فيها؛ لأنها تشبه السلم، والسلم يدخله خيار المجلس، لكونه نوعًا من البيوع (¬2). القول الثاني: لا يثبت الخيار في الإجارة ولو كانت في الذمة، وهو قول في مذهب الشافعية (¬3)، وحكاه بعضهم وجهًا في مذهب الحنابلة (¬4). ¬
وجه هذا القول
وجه هذا القول: أن الإجارة ليست بيعًا؛ لأن حقيقة البيع: مبادلة المال بمال على وجه التأبيد، ولا تأبيد في الإجارة. وإن كانت الإجارة على عين، فاختلف القول فيها على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يثبت الخيار فيها في أصح القولين في مذهب الشافعية (¬1)، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). وعلل الشافعية ذلك: بأن عقد الإجارة عقد غرر؛ إذ هو عقد على معدوم، والخيار غرر، فلا يضم غرر إلى غرر (¬3). القول الثاني: لا يثبت خيار المجلس في الإجارة إذا كانت على مدة تلي العقد. وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4). وعللوا ذلك بأن الإجارة إذا كانت على مدة تلي العقد أدى خيار المجلس إما إلى تفويت بعض منافع العين مدة الخيار، أو التصرف في العين المؤجرة مدة الخيار، وكلاهما لا يجوز. القول الثالث: يثبت الخيار في الإجارة مطلقًا، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5)، وقول ¬
السابع: عقد المساقاة والمزارعة.
في مذهب الشافعية (¬1). وهذا هو الصحيح؛ وعلل ذلك بأن خيار المجلس ثبت في البيع، والإجارة في حقيقتها نوع من أنواع البيع، وكونها مؤقتة لا يمنع أن تكون بيعًا. السابع: عقد المساقاة والمزارعة. [م - 452] اختلف الفقهاء في ثبوت خيار المجلس فيهما، بناء على اختلافهم هل عقد المساقاة والمزارعة من العقود الجائزة، أو من العقود اللازمة؟ فعلى القول بأنهما من العقود الجائزة، فلا يدخل فيها خيار المجلس، إذ يستغنى بجواز العقد عن ثبوت الخيار، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وعلى القول بأن العقد فيهما لازم، فقد اختلفوا في ثبوت خيار المجلس فيهما على قولين: القول الأول: لا يثبت فيهما خيار المجلس؛ لأن العقد فيهما لا يعتبر فيه قبض العوض في المجلس، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يثبت فيهما خيار المجلس؛ لأنهما عقدان لازمان، يقصد بهما المال، فأشبه البيع. وهو قول في مذهب الشافعية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). والراجح أن عقد المساقاة والمزارعة كعقد المضاربة عقد جائز، وليس بلازم، وانظر بحث هذه المسألة في عقدي المساقاة والمزارعة، فقد بحثتها هناك، ولله الحمد. الثامن: بيع المزايدة. [م - 453] لا يختلف الفقهاء في أن بيع المزايدة يدخل ضمن عقد البيع، وكان الأصل أن كل ما ثبت أنه بيع، فإنه يشمله عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا". ودعم هذا الفهم ما جاء في مواهب الجليل عن نقل العمل في مكة في زمنه، حيث يقول: "جرت العادة أيضًا بمكة أن من رجع بعد الزيادة لا يلزمه شيء ما دام في المجلس، وهذا والله أعلم مبني على القول بخيار المجلس، كما هو مذهب الشافعي، والله أعلم" (¬3). اهـ كلام الحطاب. وقد أثار بعض الباحثين المعاصرين أن الأخذ بخيار المجلس في بيع المزايدة يتضمن ضررًا بالغًا؛ وذلك أن المشتري إذا استقر عليه المزاد، ثم أظهر رغبته في السلعة تفرق الناس، فإذا رجع عن الشراء في المجلس بعد تفرق الناس ¬
ويتعقب هذا الكلام بأمرين
يكون قد ألحق بالبائع ضررًا كبيرًا؛ لأنه فوت عليه فرصة اجتماع الناس للشراء، ولأن إعادة الناس إلى المزاد مرة أخرى بعد أن تفرقوا فيه مشقة كبيرة. ودفعًا لهذا الضرر فهناك من رجح أن بيع المزاد لا يثبت فيه خيار المجلس، ورأى أن بيع المزاد مخصوص من عموم حديث: (البيعان بالخيار). يقول الشيخ عبد الله بن منيع: "لا شك أن خيار المجلس ثابت بنص صريح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكن فيما يتعلق بالمزايدة، هل يمكن أن يدخل خيار المجلس في المزايدة؟ في الواقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجرى المزايدة في القدح والحلس، ولم يثبت لمن باعه هاتين السلعتين، لم يثبت له الخيار، إذن ممكن أن يكون البيع بالمزايدة مخصصًا لعموم خيار المجلس: بمعنى أنه لا خيار لمن اشترى عن طريق البيع بالمزايدة، لأنه حينما يختار الرد، فمعنى ذلك أن يفوت هذه الفرصة التي قد توجد المشقة في إعادتها مرة ثانية، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا ضرر ولا ضرار" (¬1). ويتعقب هذا الكلام بأمرين: الأول: أن خيار المجلس حق للمتبايعين، وليس واجبًا، فقد يقع البيع، ولا يحتاج أحد منهما إلى خيار المجلس، ويمضيان في العقد، وهذا هو الغالب في العقود، ولا يعني هذا أن خيار المجلس ليس ثابتًا. الثاني: أن النصوص الواردة في بيع المزاد لم يكن فيها نص على نفي خيار المجلس حتى يقال: إن بيع المزاد مخصوص من العموم، غاية ما فيها أن خيار المجلس لم يتعرض له، لا في نفي ولا إثبات، فتبقى النصوص على عمومها. ¬
يقول الشيخ علي التسخيري تعقيبًا على الشيخ ابن منيع: "النصوص التي تحدثت عن عمل الرسول عليه الصلاة والسلام لم تقل: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفى خيار المجلس حتى يمكن أن تكون هذه النصوص مخصصة لعموم خيار المجلس للبيعتين والمتعاقدين إذا عممنا، فالعموم باق على حاله. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ما قال: إنه أسقط حق الخيار في هذه العين، عمل هذا العمل دون أن نعلم أنه أسقط حق الخيار حتى تخصص عموم خيار المجلس، فخيار المجلس باق على حاله، ولا يمكننا تخصيصه بمثل هذا النص" (¬1). ومن الباحثين من دفع هذا الضرر عن طريق أن يخير البائع المشتري قبل تفرق الناس ليكون البيع لازمًا قبل التفرق، أو يعود إلى المزاد قبل تفرق الناس. وهذا الحل جيد باعتبار أنه لا يعطل النصوص العامة التي تثبت خيار المجلس، ويدفع في نفس الوقت الضرر اللاحق بالبائع من رجوع المشتري عن العقد زمن الخيار. يقول الشيخ علي السالوس من خلال مناقشة البحوث المقدمة لمجمع الفقه الإِسلامي: "المسألة الثانية تتعلق بمذهب خيار المجلس، وكما تفضل به بعض الأخوة، فإنه لو أثبتنا خيار المجلس هنا لذهبت فائدة المزايدة رأسًا، وإني مع الأخوة الذين يرجحون حديث خيار المجلس، وقد أثبتوا في كتاب شرح مسلم: أن أدلة الجمهور في ذلك أقوى، ولكن مع ذلك ربما يكون هناك مخرج أضعه أمام أصحاب الفضيلة، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما أثبت خيار المجلس قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يختارا) ولقد فسر الشافعية كلمة أو يختارا: بأنه إذا قال البائع فور إتمام البيع: اختر، فإن ذلك البيع يكون لازمًا حتى قبل انقضاء ¬
التاسع: العقد الذي يتولى شخص واحد طرفيه.
المجلس، فلو كان هذا الأمر مسبقًا من قبل الإعلانات أن هذا البيع لا يكون فيه خيار المجلس، هل يدخل ذلك في مثل قول البائع: اختر، لم يقلها بعد تمام البيع ولكنه قال ذلك قبل تمامه. وحينئذ يكون هناك، مخرج لنفي خيار المجلس في هذه البيعة" (¬1). التاسع: العقد الذي يتولى شخص واحد طرفيه. [م - 454] لو تولى شخص واحد طرفي العقد، بأن يكون المشتري هو البائع: كأن يشترى لنفسه من مال ولده، أو يشتري من ماله لوله. فقد اختلف العلماء في ثبوت خيار المجلس في هذه الحالة على قولين: القول الأول: لا يثبت خيار المجلس في مثل ذلك، وهذا وجه في مذهب الشافعية (¬2)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقال القرافي المالكي: "لو صح خيار المجلس لتعذر تولي طرفي العقد، كشراء الأب لابنه الصغير, والوصي، والحاكم؛ لأن ذلك مجتمع عليه، فيلزم ترك العمل بالدليل. وعلى قولنا: لا يلزم" (¬4). يعني قولهم بعدم مشروعية خيار المجلس مطلقًا. وليس الأمر مجمعًا عليه، بل الخلاف محفوظ حتى في هذه المسألة كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ¬
القول الثاني
القول الثاني: يثبت خيار المجلس إذا تولى شخص طرفي العقد، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬1)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬2). وبناء على هذا الوجه: قيل: يلزم العقد بمفارقة الموضع، وهو الأصح عند الشافعية (¬3). وقيل: لا يحصل اللزوم إلا بقوله: اخترت لزوم العقد؛ لأنه لا يمكن أن يفارق نفسه وإن فارق الموضع (¬4). العاشر: شراء من يعتق عليه [م - 455] اختلف العلماء في ثبوت خيار المجلس فيما لو اشترى العاقد ذا رحم محرم على قولين: القول الأول: يثبت فيه خيار المجلس، وهو مذهب الشافعية، بناء على أن الملك في زمن الخيار إما للبائع، أو موقوف (¬5). القول الثاني: لا يثبت فيه خيار المجلس؛ لعتقه بمجرد العقد، وهو مذهب الحنابلة (¬6). ¬
الحادي عشر: شراء العبد نفسه من سيده.
الحادي عشر: شراء العبد نفسه من سيده. [م - 456] اختلف العلماء في ثبوت الخيار في شراء العبد نفسه من سيده على قولين: القول الأول: يثبت فيه خيار المجلس، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬1). القول الثاني: لا يثبت فيه الخيار، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وعللوا ذلك بأنها وسيلة للعتق، والعتق ليس فيه خيار مجلس. والصحيح الأول. الثاني عشر: الخلع. [م - 457] اختلف العلماء في الخلع هل يثبت فيه خيار المجلس؟ فقيل: يثبت؛ لأنه معاوضة، فإذا فسخ بقي الطلاق رجعيًا. وقيل: لا يثبت؛ لأن القصد منه الفرقة دون المال، فأشبه النكاح، والقولان وجهان في مذهب الشافعية (¬4). وذكر صاحب الإنصاف عن الحاوي الكبير، فيما إذا قالت: طلقني بألف، فقال: طلقتك بها طلقة، احتمالين: ¬
الثالث عشر: الصداق.
أحدهما: عدم الخيار مطلقًا. والثاني: يثبت له الخيار في الامتناع من قبض الألف، ليكون الطلاق رجعيًا (¬1). الثالث عشر: الصداق. [م - 458] قال العمراني: "اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا يثبت فيه الخيار. ومنهم من قال: يثبت إذا شرط" (¬2). ومحل التردد فيه، هل هذا التعامل في معنى البيع، لاشتماله على المعاوضة، أو لا يقصد به المعاوضة، فلا يثبت فيه الخيار. الرابع عشر: السبق والرمي. [م - 459] فيه قولان في ثبوت خيار المجلس وعدمه. فإن قيل: بأنهما جعالة، فلا خيار فيهما. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وإن قيل: هما عقدان لازمان، دخلهما خيار المجلس. وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4). والقولان محكيان في مذهب الشافعية: قال العمراني: "وأما السبق والرمي، فإن قلنا: إنهما كالجعالة، فهما عقدان ¬
الخامس عشر: القسمة.
جائزان، فلا يثبت فيهما الخيار، وإن قلنا: إنهما كالإجارة، فقد مضى حكمهما" (¬1). الخامس عشر: القسمة. [م - 460] تنقسم القسمة إلى قسمين: الأولى: قسمة التراضي: وهو ما كان فيها ضرر، أو رد عوض، فهذه بمعنى البيع، فيثبت فيها خيار المجلس. الثاني: قسمة الإجبار، وهذه عكس الأولى، فلا يثبت فيها خيار المجلس؛ لأنها من قبيل فرز الحق. ولأن قسمة الإجبار لا معنى لثبوت الخيار فيها، إذ في كل لحظة يملك الإجبار، فلا يقع ثبوت الخيار في فسخها, ولأن القسمة فيها واجبة، وحيث وجبت القسمة فينبغي أن تكون لازمة؛ لأن أحدهما لو فسخها كان للآخر مطالبته بإعادتها، فلا فائدة في فسخها (¬2). ¬
المبحث الرابع خيار المجلس في حال اختلف مكان المتعاقدين
المبحث الرابع خيار المجلس في حال اختلف مكان المتعاقدين الفرع الأول البيع بالهاتف ونحوه [ن-45] قد يعقد البيع مع اختلاف مكان المتعاقدين كما في حال البيع عن طريق الهاتف، أو عن طريق الكتابة والرسالة، وسوف نتكلم أولاً على حكم الفقهاء في البيع بالهاتف، فإذا صح البيع تكلمنا في ثبوت خيار المجلس؛ لأن المسألة الثانية فرع عن المسألة الأولى. البيع عن طريق الهاتف أصبح يمارس اليوم على نطاق واسع في محيط التعامل بين المشتغلين بأمور التجارة، ولذا يجب بسط الكلام فيه، خاصة أن الفقهاء قديمًا لم يتعرضوا لحكمه لعدم وجود الهاتف في عصرهم، ولكن يوجد من عموم كلامهم ما يستدل به على حكم البيع بالهاتف. فقد صرح الحنفية والشافعية أن المتعاقدين لا يشترط فيهما قرب المكان ولا رؤية بعضهما البعض في صحة العقد. فهذا ابن نجيم في البحر الرائق يصحح البيع، ولو كان بين البائع والمشتري نهر عظيم تجري فيه السفن، ثم قال: "وقد تقرر رأي في أمثال هذه الصورة على أنه إن كان البعد بحال يوجب التباس ما يقول كل واحد منهما لصاحبه يمنع، وإلا فلا، فعلى هذا الستر بينهما الذي لا يمنع الفهم والسماع لا يمنع" (¬1). ¬
وجاء في الفتاوى الهندية: "والبعد إن كان بحال يوجب الالتباس بقول كل واحد منهما يمنع، وإلا فلا" (¬1). جاء في المجموع: "لو تناديا، وهما متباعدان، وتبايعا صح البيع" (¬2). ويقول الشيخ أحمد إبراهيم: "وأما العقد بالتليفون فالذي يظهر أنه كالعقد مشافهة، مهما طالت الشقة بينهما، ويعتبر العاقدان كأنهما في مجلس واحد، إذ المعنى المفهوم من اتحاد المجلس أن يسمع أحدهما كلام الآخر، ويتبينه، وهذا حاصل في الكلام بالتليفون، كما هو مشاهد لنا، غاية الأمر أنه يحتمل الكذب، وتصنع صوت الغير، لكن هذا قد يحصل في الرسالة والكتابة أيضًا" (¬3). ويقول الأستاذ علي الخفيف: "إذا استعملا التليفون بالتعاقد كانا كحاضرين، فيدوم مجلس العقد ما دامت محادثتهما في شأنه، فإذا انتقلا منه إلى حديث في موضوع آخر انتهى مجلس العقد، وبطل بذلك الإيجاب" (¬4). وقد تبين لنا في بحث ألفاظ الإيجاب والقبول أن الشرع يعتبر الرضا هو الأساس في صحة العقود؛ لهذا أجاز الفقهاء التعاقد بالرسالة والكتابة وبالإشارة والمعاطاة، بل أجاز البيع بكل ما يدل على الرضا عرفًا، فكل ما عده الناس بيعًا فهو بيع، ومنه البيع عن طريق الهاتف. يقول الحطاب: "واحتج المالكية بما تقدم من أن الأفعال، وإن انتفت منها الدلالة الوضعية، ففيها دلالة عرفية، وهي كافية، إذ المقصود من التجارة إنما ¬
المسألة الأولى: قول الفقهاء اتحاد مجلس الإيجاب والقبول.
هو أخذ ما في يد غيرك بدفع عوض عن طيب نفس منكما، فتكفي دلالة العرف في ذلك على طيب النفس والرضا بقول أو فعل" (¬1). واختار النووي والمتولي والبغوي من الشافعية، وابن تيمية من الحنابلة انعقاد البيع بكل ما يعده الناس بيعًا (¬2). وفي القانون المدني المصري: "يعتبر التعاقد بالتلفون أو بأية طريقة مماثلة كأنه تم بين حاضرين فيما يتعلق بالزمان، وبين غائبين فيما يتعلق بالمكان" (¬3). والذي قد يحتاج إلى توضيح في البيع بالهاتف ونحوه، الكلام في مسائل منها: المسألة الأولى: قول الفقهاء اتحاد مجلس الإيجاب والقبول. [م - 461] ما الذي يقصده الفقهاء بقولهم: اتحاد مجلس العقد، أو أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد؟ ليس المراد من اتحاد المجلس المطلوب في كل عقد كون المتعاقدين في مكان واحد؛ لأنه قد يكون مكان أحدهما غير مكان الآخر كما مر علينا في البيع عن طريق المكاتبة أو المراسلة، وإنما المراد باتحاد المجلس: الوقت الذي يكون فيه المتعاقدان مشتغلين فيه بالتعاقد، فمجلس العقد: هو الحال التي يكون فيها المتعاقدان مقبلين على التفاوض في العقد، ما لم يفصل بين الإيجاب والقبول فاصل أجنبي يعتبر إبطالاً ¬
المسألة الثانية
للإيجاب، كرجوع الموجب عن إيجابه قبل القبول، أو إعراض القابل عن هذا الإيجاب باشتغاله بشيء آخر غير العقد، فإذا لم يوجد شيء من ذلك صح القبول الصادر منه مهما طال الوقت. وبناء عليه يكون اتحاد المجلس في العقد عن طريق الهاتف: هو زمن الاتصال، فما دامت المحادثة في شأن العقد قائمة اعتبر المجلس قائمًا، وإذا انتقلا إلى حديث آخر اعتبر المجلس منتهيًا (¬1). المسألة الثانية: [م - 462] هل يثبت خيار ما يسمى بـ (خيار المجلس) في البيع بالهاتف عند القائلين به، وهم الشافعية والحنابلة، وإذا قلنا بثبوته فكيف نكيفه. قال النووي: "لو تناديا، وهما متباعدان، وتبايعا صح البيع، وأما الخيار: فقال إمام الحرمين: يحتمل أن يقال: لا خيار لهما؛ لأن التفرق الطارئ يقطع الخيار، فالمقارن يمنع ثبوته. قال: ويحتمل أن يقال: يثبت ما داما في موضعهما، فإذا فارق أحدهما موضعه بطل خياره، وهل يبطل خيار الآخر أم يدوم إلى أن يفارق مكانه، فيه احتمالان للإمام، وقطع المتولي بأن الخيار يثبت لهما ما داما في موضعهما، فإذا فارق أحدهما موضعه، ووصل إلى موضع لو كان صاحبه معه في الموضع عد تفرقا، حصل التفرق، وسقط الخيار، هذا كلامه، والأصح في الجملة ثبوت الخيار، وأنه يحصل التفرق بمفارقة أحدهما موضعه، وينقطع بذلك خيارهما جميعًا. ¬
القول الأول
وسواء في صورة المسألة كانا متباعدين في صحراء، أو ساحة، أو كانا في بيتين من دار، أو في صحن، أو صُفَّة، صرح به المتولي، والله أعلم" (¬1). وفي البيع بالهاتف اختلف الفقهاء المعاصرون في ثبوت خيار المجلس فيه على قولين: القول الأول: لا يوجد خيار مجلس في الهاتف؛ لأن قوله: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" إذا حملنا التفرق على تفرق الأبدان، وهو الصحيح، فإن الأبدان قد تفرقت، فأحدهما في المشرق، والآخر في المغرب، فقضية خيار المجلس ينبغي ألا يحدث لأن الوسائل الحديثة أحدثت لنا طريقة أو وضعًا غير موجود في حديث الخيار، ولا يدل عليه الحديث إلا بتمحص وتكلف وقياسات لا يدل عليها الحديث، فتحقيق المناط غير متحقق في هذا. القول الثاني: ذهب آخرون إلى أنه يمكن لنا أن نحدد مجلس العقد في بيع الهاتف. يقول الأستاذ علي الخفيف - رحمه الله -: "إذا استعملا التليفون بالتعاقد كانا كحاضرين، فيدوم مجلس العقد ما دامت محادثتهما في شأنه، فإذا انتقلا منه إلى حديث في موضوع آخر انتهى مجلس العقد ... " (¬2). وحتى نعرف القول الراجح لا بد لنا من معرفة مقصد الشارع من تشريع ما يسمى بخيار المجلس، فهو لم يقصد احترام المجلس (مكان التبايع) لذات المجلس، بل قصد أن يكون هناك فترة من الزمن بعد الإيجاب والقبول يتروى ¬
المسألة الثالثة
فيها كل من المتعاقدين خشية أن يحدث تسرع في الصفقة؛ لأن البيع قد يقع فجأة من غير ترو ولا نظر، فجعل الشارع هذا الخيار ليحق له الرجوع، وإذا كان المقصود بالمفارقة هو مفارقة مكان التبايع فالمكان قائم في كل صفقة، فالحكم يتعلق بمكانهما إن كانا حاضرين، أو تعلق الحكم باتصالهما إن كانا غائبين، وليس من شرط قيامه اتحاد المكان، وقد ناقشت فيما سبق المكان في حالة البيع بالمكاتبة والمراسلة، فالمراد بالمكان هنا هو مكان الاتصال، فإذا انقطع الاتصال بين المتصلين فقد افترقا. المسألة الثالثة: [م - 463] البيع بالتليفون لا يصح فيما يشترط فيه القبض الفوري إلا إذا تم القبض بعد انتهاء المكالمة مباشرة، كأن يكون لكل واحد منهما عند الآخر وكيل بالقبض مثلاً، أو نحو ذلك، فالعقود في الأموال الربوية لا يتم فيها العقد بالهاتف إلا مع هذا الضابط. ***
الفرع الثاني خيار المجلس في حال كان البيع عن طريق الكتابة
الفرع الثاني خيار المجلس في حال كان البيع عن طريق الكتابة [م - 464] إذا تم البيع عن طريق الكتابة، فهل يثبت في هذا العقد خيار المجلس؟ اختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول: يثبت فيه خيار المجلس على خلاف في المجلس المعتبر: فقيل: المعتبر مجلس المكتوب إليه وحده، ولا يعتبر للكاتب مجلس أصلاً، اختاره الغزالي والنووي من الشافعية، وهو المشهور من مذهب الحنابلة. جاء في المجموع: "قال الغزالي في الفتاوى: إذا صححنا البيع بالمكاتبة، فكتب إليه، فقبل المكتوب إليه ثبت له خيار المجلس ما دام في مجلس القبول. قال: ويتمادى خيار الكاتب إلى أن ينقطع خيار المكتوب إليه" (¬1). ولم يذكر غيره النووي، وهذا دليل على أنه هو القول الذي يرتضيه. وجاء في مطالب أولي النهى: "ويتجه لو كان المتبايعان في بلدتين، أو بلدة واحدة، وكل واحد منهما في محلة منها، فتبايعا بمكاتبة، فيحصل تفرقهما، بمفارقة مجلس وقع فيه قبول من مشتر، أو وكيله، أو وليه" (¬2). وقيل: المعتبر مجلس كل منهما. ¬
القول الثاني
جاء في حاشية قليوبي: "لو كان البيع بالمكاتبة، فالمعتبر مجلس كل منهما، بعد قبول المكتوب إليه، فمن فارقه منهما بطل خيارهما، كذا قاله شيخنا. فراجعه مع ما مر في البيع الذي اعتبر مجلس المكتوب إليه وحده بعد قبوله، وهو الوجه هنا" (¬1). وفي حاشية الجمل: "قبل بلوغ الخبر للمكتوب إليه لا عبرة بمفارقة الكاتب محله؛ لأنه إلى الآن لم يحصل العقد، ولا خيار إلا بعد العقد، فلا يعتبر التفرق إلا بعده، فإذا بلغه الخبر اعتبر في حقه مجلس بلوغ الخبر، وفي حق الكاتب: المجلس الذي هو فيه، حين بلوغ ذلك الخبر، حتى إذا فارقه بطل خيارهما" (¬2). واعتبر البجيرمي هذا القول هو المعتمد (¬3). واقتصر النووي على القول الأول، ولم يذكر القول الثاني (¬4). الراجح الأول؛ لأن الكاتب قد لا يطلع على زمن وصول الخطاب، ليراعي حقه في خيار المجلس مع اختلاف الأمكنة وتباعدها. القول الثاني: لا يثبت في هذا العقد خيار المجلس. وجه هذا القول: إذا كان التفرق الطارئ يقطع الخيار، فالتفرق المقارن يمنع ثبوته. وقد أشار إلى هذا القول السنهوري في مصادر الحق، قال رحمه الله تعالى: ¬
والراجح
"وإذا قبل المتعاقد الآخر في مجلس بلوغ الكتاب أو أداء الرسالة، فليس له بعد ذلك خيار المجلس ... لأن الحديث الذي يستند إليه القائلون بخيار المجلس يقتصر على التعاقد ما بين الحاضرين، إذ يفترض أنهما لم يتفرقا" (¬1). والراجح: القول الأول، ونفي خيار المجلس بعد ثبوته شرعًا في عقود البيع يحتاج إلى نص شرعي يخرج هذا الفرد من ذلك العموم، ومقاصد الشارع من مشروعية خيار المجلس ليس احترام مكان الجلوس، وإنما إعطاء حق التروي لكل واحد من المتعاقدين خشية أن يكون هناك اندفاع متسرع لقبول العقد دون تقليب نظر، وهذا موجود في عقد البيع مع اتحاد المكان، ومع اختلافه، والله أعلم. ... ¬
المبحث الخامس حد التفرق بالأبدان عند القائلين بخيار المجلس
المبحث الخامس حد التفرق بالأبدان عند القائلين بخيار المجلس قضت أحاديث خيار المجلس أن البيع لا يلزم إلا بالتفرق، وقد رجحنا أن المراد بالتفرق: تفرق الأبدان. [م - 465] فما هو الضابط في التفرق؟ اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: أن الضابط في التفرق: هو عرف الناس وعاداتهم؛ لأن الشارع علق عليه حكمًا, ولم يبينه، فدل ذلك على أنه أراد ما يعرفه الناس، كالقبض والإحراز. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬1). قال العراقي: "لم يذكر في الحديث للتفرقة ضابطًا، ومرجعه العرف" (¬2). ¬
القول الثاني
(ث-82) وقد روى مسلم من طريق ابن جريج، عن نافع، قال: كان ابن عمر إذا بايع رجلاً، فأراد ألا يقيله، قام، فمشى هنيهة، ثم رجع (¬1). القول الثاني: يشترط أن يبعد عن صاحبه بحيث لو كلمه على العادة من غير رفع صوت لم يسمع كلامه، اختاره أبو سعيد الإصطخري من الشافعية (¬2)، وقال به بعض الحنابلة (¬3). القول الثالث: يبطل الخيار ولو لم يتفرقا، إذا شرعا في أمر آخر، وأعرضا عن أمر العقد، وطال الفصل، اختاره بعض الشافعية (¬4). ولعل هذا القول اعتبر ما يبطل الإيجاب، يبطل الخيار. القول الرابع: ضابط التفرق: أن يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه، وهذا قول الأوزاعي (¬5). ¬
الراجح من الخلاف
الراجح من الخلاف: القول الأول هو أصح الأقوال، قال ابن حجر: "والمشهور الراجح من مذاهب العلماء في ذلك، أنه موكول إلى العرف، فكل ما عد في العرف تفرقًا حكم به، وما لا فلا، والله أعلم" (¬1). [م - 466] لم يعتبر الشافعية والحنابلة النوم في مجلس واحد تفرفا يلزم به البيع؛ لأن النائمين لم يفترقا بأبدانهما (¬2). قال النووي: "إذا ناما في المجلس فلا ينقطع خيارهما بلا خلاف، صرح به المتولي وغيره؛ لأن النوم لا يسمى تفرقًا" (¬3). وقد فات هذا العلامة السيوطي - رحمه الله -، حين قال في الأشباه والنظائر: "لا ينقطع خيار المجلس بالجنون والإغماء على الصحيح، ولم أر من تعرض للنوم" (¬4). ¬
المبحث السادس في خيار المجلس حال الإكراه
المبحث السادس في خيار المجلس حال الإكراه الفرع الأول الإكراه على البقاء معًا [م - 467] إذا أكره المتعاقدان على البقاء معًا فالخيار باق لهما؛ لعدم التفرق بالأبدان، ولم أقف فيه على خلاف بين الشافعية والحنابلة الذين يقولون بخيار المجلس (¬1). وأشار في تصحيح الفروع أن الإكراه على التفرق هو الذي حصل فيه خلاف، أي ولم يحصل خلاف في بقاء الخيار مع الإكراه على البقاء معًا (¬2). ¬
الفرع الثاني في الإكراه على التفرق
الفرع الثاني في الإكراه على التفرق المسألة تقع على طريقتين: إما أن يكره المتعاقدان على التفرق، أو يكره أحدهما. الطريقة الأولى: [م - 468] إذا أكره المتعاقدان على التفرق، فقد اختلف العلماء في حكم هذا التفرق على قولين: القول الأول: يبطل خيارهما؛ لأن الرضا في الفرقة غير معتبر، ألا ترى أنه يحق لأحد المتعاقدين أن يفارق صاحبه بدون رضاه، فإذا كان لا يعتبر الرضا من أحد الجانبين فكذلك منهما, ولأن كل واحد منهما ينقطع خياره بفرقة الآخر له، فأشبه ما لو أكره صاحبه دونه، وهو أحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬1). القول الثاني: إن أكرها معًا لم يبطل خيارهما، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والمشهور عند المتأخرين من الحنابلة (¬3). واستدلوا على ذلك: أولاً: أن فعل المكره لا يعتد به شرعًا. ¬
الراجح
وثانيًا: أن عقد البيع إذا كان لا ينعقد مع الإكراه، فكذلك لا يلزم البيع مع الإكراه، وإذا لم يلزم دل ذلك على بقاء الخيار لهما في المجلس الذي زال عنهما الإكراه فيه حتى يتفرقا. وفي نهاية المحتاج: "فلو زال الإكراه كان موضع زوال الإكراه كمجلس العقد، فإن انتقل منه إلى غيره بحيث يعد مفارقًا له، انقطع خياره، ومحله كما هو ظاهر، حيث زال الإكراه في محل يمكنه المكث فيه عادة، أما لو زال، وهو في محل لا يمكن المكث فيه عادة، كلجة ماء، لم ينقطع خياره بمفارقته؛ لأنه في حكم المكره على الانتقال منه؛ لعدم صلاحية محله للجلوس" (¬1). الراجح: بعد استعراض القولين وأدلتهما أجد أن القول الأول فيه قوة، إلا أن القول الثاني أقوى من حيث القواعد: وهو أن فعل المكره لا يعتد به شرعًا، وقد صوبه المرداوي في تصحيح الفروع (¬2)، والله أعلم. وقال ابن عقيل: إذا رأى المتبايعان وهما في مجلس التبايع، سبعًا، أو ظالمًا خشياه، فهربا فزعًا منه، أو حملهما من مجلس التبايع سيل، أو فرقتهما ريح، فكإكراه (¬3). الطريقة الثانية: [م - 469] إذا أكره أحد المتعاقدين دون الآخر، فهل يبطل الخيار؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: ¬
القول الأول
القول الأول: لا يبطل خيار المكره فقط دون صاحبه؛ لأن المكره معذور بالإكراه، وأما صاحبه فقد كان تفرقه باختياره؛ لأنه كان يمكنه أن يتبعه، أو يختار فسخ البيع قبل مفارقة صاحبه وهذا هو المذهب عند الشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). واختار الشافعية أن خيار المكره لا ينقطع ولو كان قادرًا على الكلام. جاء في مغني المحتاج: "لا ينقطع خياره إذا أكره على الخروج، ولو لم يسد فمه؛ لأن فعل المكره كلا فعل، والسكوت عن الفسخ لا يقطع الخيار، كما في المجلس" (¬3). القول الثاني: يبطل خياره وإن كان مكرهًا، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬4). وعللوا ذلك: بأنه إذا كان لصاحبه أن يفارقه بدون رضاه، ويبطل خياره بذلك، فكذلك يبطل خياره إذا فارق صاحبه، ولو بدون رضاه. القول الثالث: إن كان يقدر على كلام يقطع به خياره انقطع، وإلا فلا. اختاره بعض الحنابلة (¬5). ¬
الراجح
الراجح: بعد استعراض الأدلة أجد أن القول بأن خيار المكره لا ينقطع أقوى من حيث الاستدلال، والله أعلم.
المبحث السابع إبطال الخيار بالجنون والإغماء
المبحث السابع إبطال الخيار بالجنون والإغماء [م - 470] اتفق الشافعية والحنابلة على أن العاقد إذا جن أو أغمي عليه في مجلس العقد لم يبطل خياره (¬1). [م - 471] وإذا فارق المجلس خلال جنونه فخياره باق، ولا حكم لفعله. قال في الحاوي: "إذا جن أحد المتبايعين في خيار المجلس، فالخيار ثابت لا ينقطع بما حدث من الجنون؛ لأن الحقوق لا تبطل بحدوثه، وسواء فارق المجنون المجلس أو قام فيه؛ لأن فعل المجنون لا حكم له، فلم ينقطع الخيار بفراقه، وينتقل الخيار عنه إلى وليه، كما ينتقل خيار الميت إلى وارثه، ويكون الخيار باقيًا لولي المجنون ووارث الميت ما لم يعلما بالحال، ولم يفارق العاقد الآخر المكان" (¬2). وجاء في الإنصاف: "لو جن قبل المفارقة والاختيار فهو على خياره" (¬3). [م - 472] وهل ينوب عنه وليه؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: ¬
القول الأول
القول الأول: وليه يقوم مقامه، وإن لم يكن له ولي قام الحاكم مقامه، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). القول الثاني: لا يقوم الولي مقامه، وهو المشهور عند المتأخرين من الحنابلة؛ لأن الرغبة في المبيع وعدمها لا تعلم إلا من جهته (¬3). جاء في مطالب أولي النهى "ولا يثبت الخيار لوليه على الصحيح من المذهب" (¬4). ... ¬
المبحث الثامن إذا خرس أحد العاقدين في مجلس الخيار
المبحث الثامن إذا خرس أحد العاقدين في مجلس الخيار [م - 473] اتفق الشافعية والحنابلة بأن العاقد إذا خرس في مجلس الخيار، فإن كانت له إشارة مفهومة، أو خط قام ذلك مقام لفظه, وإن لم تكن له إشارة، أو كانت له إشارة غير مفهومة، ولم يكن له خط، كان في حكم المغمى عليه، يقوم وليه أو الحاكم مقامه عند الشافعية (¬1). ويقوم أبوه أو وصيه أو الحاكم عند الحنابلة. يقول ابن قدامة: "وإن خرس أحدهما قامت إشارته مقام لفظه، فإن لم تفهم إشارته ... قام وليه من الأب، أو وصيه، أو الحاكم" (¬2). ... ¬
المبحث التاسع مفارقة العاقد خوفا من الفسخ
المبحث التاسع مفارقة العاقد خوفًا من الفسخ [م - 474] اختلف العلماء في العاقد يفارق الآخر في المجلس بغير إذنه، خشية أن يفسخ العقد على ثلاثة أقوال: القول الأول: يكره، وهو مذهب الشافعية (¬1). القول الثاني: يجوز، وهو رواية عن أحمد (¬2). القول الثالث: لا يجوز، وهو رواية ثانية عن أحمد، اختارها أبو بكر (¬3)، وابن قدامة (¬4)، ¬
دليل من قال: لا يجوز
ورجحها ابن تيمية (¬1)، وابن القيم من الحنابلة (¬2). دليل من قال: لا يجوز: الدليل الأول: (ح-404) ما رواه أحمد من طريق ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن يكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله (¬3). وأجيب: بأن حديث (لا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله) تفرد به عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، وكل من روى أحاديث خيار المجلس لم يذكر هذه الزيادة، وأين أحاديث الصحيحين وغيرها من الأحاديث الصحيحة ممن حفظت لنا خيار المتبايعين (خيار المجلس) عن هذه الزيادة التي لو كانت محفوظة لجاءت بأسانيد صحيحة (¬4). الدليل الثاني: مقصود الشارع من مشروعية خيار المجلس في البيع ليحصل تمام الرضا الذي شرطه تعالى في العقد؛ فإن العقد قد يقع بغتة من غير ترو ولا نظر في القيمة، فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد حريما يتروى فيه المتبايعان، ويعيدان النظر، ويستدرك كل واحد منهما عيبا كان خفيًا. فلو بادر ¬
دليل من قال: يكره
أحد المتعاقدين من النهوض في الحال، والمبادرة إلى التفرق حتى لا يختار الآخر فسخ البيع لكان في ذلك حيلة على إسقاط حق الغير، وتفويت المصلحة عليه من الاستفادة من ممارسة حقه، والنظر في الأحظ له من إمضاء البيع أو فسخه، وبالتالي يفوت عليه المقصود من مشروعية الخيار بالنسبة إليه، وهب أنك أنت الذي اخترت إمضاء البيع فصاحبك لم يتسع له وقت ينظر فيه ويتروى، فنهوضك حيلة على إسقاط حقه من الخيار، فلا يجوز حتى يخيره؛ فلو فارق المجلس لغير هذه الحاجة من صلاة أو غير ذلك ولم يقصد إبطال حق الآخر من الخيار لم يدخل في هذا التحريم (¬1). دليل من قال: يكره: استدلوا بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده السابق، وفسروا قوله: (لا يحل له أن يفارقه) بأن لفظ الحل في الخبر محمول على الإباحة المستوية الطرفين، وليس معنى ذلك التحريم. قال ابن عبد البر: "قوله: (لا يحل له) لفظة منكرة، فإن صحت فليست على ظاهرها, لإجماع المسلمين أنه جائز له أن يفارقه لينفذ بيعه، ولا يقيله إلا أن يشاء، وفيما أجمعوا عليه من ذلك رد لرواية من روى: (ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله) فإن لم يكن وجه هذا الخبر الندب، وإلا فهو باطل بإجماع" (¬2). وقال أيضًا: "حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله، فإن هذا معناه إن صح على الندب ... وقد كان ¬
دليل من قال: يجوز له أن يفارقه حتى لا يفسخ البيع
ابن عمر - رضي الله عنهما -، -وهو الذي روى حديث: البيعان بالخيار ما لم يفترقا- إذا بايع أحدًا، وأحب أن ينفذ البيع مشى قليلاً، ثم رجع" (¬1). دليل من قال: يجوز له أن يفارقه حتى لا يفسخ البيع: الدليل الأول: (ح-405) ما رواه البخاري من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: سمعت نافعًا، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن المتبايعين بالخيار في بيعهما ما لم يتفرقا، أو يكون البيع خيارًا. قال نافع: وكان ابن عمر إذا اشترى شيئًا يعجبه فارق صاحبه (¬2). ورواه مسلم من طريق ابن جريج، عن نافع به، وفيه: قال نافع: فكان ابن عمر إذا بايع رجلاً، فأراد أن لا يقيله، قام، فمشى هنيهة، ثم رجع (¬3). الدليل الثاني: ما سبق نقله من كلام ابن عبد البر - رحمه الله - حيث قال في التمهيد: "إجماع المسلمين أنه جائز له أن يفارقه لينفذ بيعه، ولا يقيله إلا أن يشاء، وفيما أجمعوا عليه من ذلك رد لرواية من روى: (ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله) فإن لم يكن وجه هذا الخبر الندب، وإلا فهو باطل بإجماع" (¬4). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: لو منع أحد العاقدين من التفرق حتى يقوم الآخر لكان في ذلك إضرار به ومفسدة راجحة. الراجح من الخلاف: بعد ذكر خلاف العلماء، وذكر الأدلة، أرى أن الاحتجاج بحديث عمرو ابن شعيب عن أبيه، عن جده لا يتمشى مع القواعد الحديثية بصرف النظر عن المسألة من الناحية الفقهية. وحكاية الإجماع التي ساقها ابن عبد البر على جواز أن يفارقه حتى لا يقيله في النفس منها شيء مع ثبوت الخلاف عن أحمد في إحدى الروايتين عنه. ويبقى النظر في المعنى، فإن مفارقة العاقد مجلس العقد خشية أن يستقيله تتضمن إسقاط حق الغير من التروي وتقليب النظر، وهل يصل هذا إلى التحريم مع فعل ابن عمر - رضي الله عنه - مع ما أوتيه من فقه وورع، أو نقول بالكراهة، هذا هو محل النظر والاجتهاد، وأجدني أميل إلى القول بالكراهة، خاصة أنه قد يقال: يمكن للعاقد الآخر أن يتبع أخاه فلا يتمكن من الاستقلال بالمفارقة، فإذا منعه من اتباعه كان هذا بمثابة الإكراه على التفرق، وقد سبق بحثها، والله أعلم. وهذه المسألة قريبة من مسألة أخرى بحثها بعض الفقهاء تحت مسمى: لو هرب أحد العاقدين، فهل يبطل خيارهما، وهذا ما سنتطرق إليه إن شاء الله تعالى في المسألة التالية.
المبحث العاشر التفرق بالهرب هل يبطل الخيار
المبحث العاشر التفرق بالهرب هل يبطل الخيار [م - 475] إذا هرب أحد العاقدين فإن كان مكرهًا على الهرب فقد سبق حكم الإكراه على التفرق، وإن هرب مختارًا، فقد اختلف العلماء هل هروبه يقطع خيارهما؟ فذهب أكثر الشافعية، بأنه لو هرب أحد العاقدين، ولم يتبعه الآخر أنه ينقطع خيارهما. قال النووي: "لو هرب أحد العاقدين، ولم يتبعه الآخر، فقد أطلق الأكثرون أنه ينقطع خيارهما ... " (¬1). قال النووي في الروضة: وهو الأصح، وعلل ذلك بأنه يمكنه الفسخ بالقول (¬2). وقال في مغني المحتاج: "وقضية التعليل الأول: أنه لو لم يتمكن من الفسخ بالقول بقي خياره حتى يتمكن منه" (¬3). ووافق الحنابلة مذهب الشافعية في هذا، قال ابن قدامة: "ولو هرب أحدهما من صاحبه لزم العقد؛ لأنه فارقه باختياره، ولا يقف لزوم العقد على رضاهما، ولهذا كان ابن عمر يفارق صاحبه ليلزم البيع" (¬4). ¬
ويتعقب هذا من ثلاثة وجوه
وقيل: إن كان يمكنه أن يتبعه فلم يتبعه بطل خيارهما، وإن لم يتمكن بطل خيار الهارب دون الآخر. وهذا قول في مذهب الشافعية (¬1). وقدم النووي القول الأول عليه، وعلل ذلك: بأنه إذا كان لا يمكنه أن يتبعه كان بإمكانه أن يفسخ العقد بالقول. ويتعقب هذا من ثلاثة وجوه: الأول: بأن السكوت عن الفسخ لا يقطع الخيار، كما في المجلس. الثاني: أن مذهب الشافعية بأن المكره على مفارقة المجلس باق على خياره، ولو كان يمكنه الفسخ بالقول، فهذا مثله. الثالث: أن يقال: إن في هروب أحد العاقدين حيلة على إسقاط حق الآخر في التروي، وتقليب النظر حتى يتبين له الأحظ، فإن إلجاء العاقد الآخر إلى القبول دون ترو، أو إقدامه على فسخ العقد دون أن يتبين ما هو الأحظ له، في ذلك تعد على حقه الذي أعطاه الشارع، ولذلك قلت: إن هذه المسألة هي قريبة من المسألة السابقة، وهو إذا فارقه خشية أن يستقيله، إن لم تكن هي عينها، ومع ذلك اختلفت الأقوال في المسألتين بين المذاهب، والله أعلم. الراجح: ما رجحته في مسألة (إذا فارقه خشية أن يستقيله) أرجحه هنا؛ لأن المسألتين واحدة، والله أعلم. ¬
المبحث الحادي عشر ملك المبيع زمن خيار المجلس
المبحث الحادي عشر ملك المبيع زمن خيار المجلس [م - 476] إذا تم البيع بين العاقدين، فإن لكل واحد منهما الفسخ زمن خيار المجلس، بناء على القول الراجح، والذي مشى عليه مذهب الشافعية والحنابلة، والسؤال الذي يطرح نفسه: من يستحق الملك للمبيع والثمن قبل التفرق، وبعد العقد؟ اختلف الفقهاء القائلون بخيار المجلس في هذه المسألة إلى أربعة أقوال: القول الأول: أن ملك المبيع للمشتري، وملك الثمن للبائع، رجحه جماعة من الشافعية (¬1)، ونص عليه الشافعي في زكاة الفطر (¬2)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). القول الثاني: أن البائع باق على ملكه للمبيع، والمشتري باق على ملكه للثمن إلى حين ¬
القول الثالث
لزوم العقد. وهو قول في مذهب الشافعية (¬1)، قال الماوردي: نص عليه في كتاب الأم (¬2)، وهو رواية في مذهب الحنابلة (¬3). القول الثالث: أنه موقوف، فإن تم البيع بَانَ حصول الملك للمشتري من وقت البيع، وإلا بَانَ أن ملك البائع لم يزل، وكذا يتوقف في الثمن، وهو قول في مذهب الشافعية (¬4). القول الرابع: أنه لا خلاف في المسألة، والأقوال الثلاثة تنزل على أحوال مختلفة، فإن كان خيار المجلس للمشتري وحده كان الملك له وحده، وهذا هو القول الأول، وإن كان الخيار للبائع وحده كان الملك للبائع وحده، وهذا هو القول الثاني، وإن كان الخيار لهما، فهو موقوف إلى حين لزوم العقد. اختاره بعض الشافعية (¬5). ¬
دليل من قال: الملك للمشتري بنفس العقد
فإن قيل: كيف يتصور أن يكون خيار المجلس لأحدهما: فالجواب: يتصور ذلك فيما إذا اختار أحدهما لزوم العقد، والآخر لم يختر شيئًا (¬1). دليل من قال: الملك للمشتري بنفس العقد: الدليل الأول: (ح-406) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله عن أبيه، - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدًا, وله مال، فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع (¬2). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين في هذا الحديث أن من باع نخلاً فإن الملك ينتقل للمشتري مباشرة بنفس العقد، ولم يستثن من ذلك إلا ثمرة النخل بعد أن تؤبر، فإنها تبقى على ملك البائع إلا أن يشترطها المبتاع. كما بين - صلى الله عليه وسلم - أن من باع عبدًا فإن الملك ينتقل للمشتري مباشرة بنفس العقد، ولم يستثن من ذلك إلا مال العبد، فإنه للبائع إلا أن يشترطه المشتري، فدل على أن الملك ينتقل مباشرة بنفس العقد. ¬
الدليل الثاني
ولو كان الملك لا يحصل للمشتري زمن الخيار لاستثناه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما استثنى الثمرة المؤبرة، ومال العبد، وكما قيل: الاستثناء معيار العموم، فلما لم يستثن إلا ما ذكر دل على أن ما عداه قد دخل ملك المشتري. الدليل الثاني: (ث-83) ما رواه الطحاوي من طريق بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، عن حمزة بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال: ما أدركت الصفقة حيًا، فهو من مال المبتاع. [إسناده صحيح، وهو موقوف] (¬1). دل الأثر على أن ما أدركته الصفقة حيًا، فهو من مال المبتاع، وهذا يدل على أن ملكية المعقود عليه انتقلت إلى المشتري بمجرد الصفقة. الدليل الثالث: من النظر: أن ثبوت الخيار لا يمنع ملك المبيع، كما لو اشترى رجل سلعة، ووجد بها عيبًا، فإن للمشتري الخيار بين الإمساك والرد، وهذا الخيار لا ينافي الملك، فكذلك خيار المجلس لا ينافي ملك المشتري للمبيع. الدليل الرابع: إذا كان البيع مع وجود خيار المجلس بيعًا صحيحًا، قد توفرت شروطه، وتمت أركانه، فينتقل الملك في أثره، ولا معنى لمنع انتقال الملك بهذا البيع، وقد بينا بأن الخيار لا ينافي الملك. ¬
دليل من قال: المبيع للبائع والثمن للمشتري إلى حين لزوم العقد.
دليل من قال: المبيع للبائع والثمن للمشتري إلى حين لزوم العقد. الدليل الأول: (ح-407) ما رواه الشيخان من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا، إلا بيع الخيار (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا بيع بينهما حتى يتفرقا) معلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرد به أنه لا عقد بينهما؛ لأن العقد قد وجد، فعلم أنه أراد: لا حكم للبيع بينهما ما لم يتفرقا. ويجاب عن هذا الاستدلال من وجهين: الأول: الحديث لا بد فيه من التأويل؛ لأن قوله (كل بيعين) أثبت أن هناك متبايعين، ولا يقال: بائعان إلا إذا كان هناك بيع، وعليه فيجب أن يكون نفي البيع بقوله: (فلا بيع بينهما حتى يتفرقا) غير المثبت في أول الحديث، وإلا كان هناك تناقض، فيكون معنى: لا بيع بينهما أي لا بيع لازم إلا بالتفرق، وإلا فإن التفرق وحده ليس عقدًا حتى يقال: إن التفرق حصل به البيع، وإنما التفرق حصل به لزوم البيع، وبينهما فرق. الوجه الثاني: حديث ابن عمر ورد بلفظين، فإما أن نحمل أحد اللفظين على الآخر، ونرى أن معناهما واحد، ولا نرى أن بينهما اختلافًا، أو أن نرجح بين اللفظين: فإن حملنا أحد اللفظين على الآخر: فيكون الحديث بلفظ: (كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا) موافقًا في المعنى للفظ الحديث: (المتبايعان بالخيار حتى ¬
يتفرقا)، وتكون دلالتهما واحدة: فهما يدلان على أن وقوع البيع يكون بالعقد، ولزوم البيع يكون بالتفرق. فقوله (لا بيع بينهما) أي لا بيع لازم، ليكون موافقًا في المعنى لقوله (البيعان بالخيار). وقوله (حتى يتفرقا) قد وردت في كلا اللفظين. وهذا ما أميل إليه. أو نرجح بين اللفظين: فنرى أن لفظ حديث ابن عمر: (البيعان بالخيار حتى يتفرقا) مطابق للفظ حديث حكيم بن حزام، وأبي برزة وغيرهما، ويكون هو المحفوظ من النص المعصوم، وأن يكون لفظ الحديث (كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا) قد روي بالمعنى، وبالتالي لا يستنبط منه حكم يعارض به لفظ الجماعة. وهذا يتطلب منا أن نتتبع حديث عبد الله بن دينار، عن ابن عمر لنرى هل هناك تفرد بهذا اللفظ، أو لا؟ وهل اختلف عليه في لفظه أو لم يختلف عليه (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: لما كان للبائع أن يفسخ العقد مع سلامة الثمن، دل على أن المشتري لم يملك أصله بأصل القبول. وسوف نذكر في أدلة القول التالي الجواب عن الاستدلال بحق الفسخ على عدم حصول الملك إن شاء الله تعالى. دليل من قال: الملك موقوف إلى أن ينتهي الخيار بالتفرق أو التخاير: الدليل الأول: من حقوق الملك جواز التصرف فيه، فإذا كان الإنسان ممنوعًا من التصرف كان ذلك دليلاً على عدم انتقال الملك، وإذا نظرنا إلى كل من البائع والمشتري وجدناه ممنوعًا من التصرف زمن الخيار، فإما أن نقول: إن الثمن والمثمن بلا ¬
وأجيب
مالك وهذا لا يمكن مع قيام العقد، أو نقول: إن الملك موقوف إلى أن يختار كل منهما لزوم العقد، وهذا هو المتعين. وأجيب: بأنه لا تلازم بين ثبوت الملك والمنع من التصرف: فالمرهون ملك للراهن، وهو ممنوع من التصرف فيه من أجل حق المرتهن. وكذا مال الصبي، فإن ملكه للمال صحيح، وتصرفه فيه غير صحيح، فالمنع من التصرف ليس لعدم ثبوت الملك، وإنما حتى لا يؤدي التصرف إلى إبطال حق الغير، من جواز الرجوع عن العقد. الدليل الثاني: لا بد من القول بالوقف؛ لأننا لا يمكن لنا أن نقول: إن المشتري قد ملك المبيع؛ لأن البائع يملك حق فسخ البيع، ولا يمكن لنا أن نقول: إن ملك البائع لم يزل؛ لأن سبب زوال الملك وهو العقد قد وجد، فلم يبق إلا أن نقول: إنه موقوف إلى أن ينتهي الخيار. ويجاب: حق الفسخ لأحد العاقدين لا ينافي ثبوت الملك للطرف الآخر، لوجهين: الوجه الأول: إذا كان خيار العيب يعطي صاحبه حق الفسخ، وهو لا ينافي ثبوت الملك، فكذلك هنا. الوجه الثاني: أن حق الفسخ قد يكون دليلاً على انتقال الملك؛ لأن ملك المبيع لو كان
الراجح من الأقوال
باقيًا للبائع لم يحتج الأمر إلى فسخ، فالفسخ: هو رفع لما ثبت شرعًا، وهو الملك. الراجح من الأقوال: بعد استعراض أدلة الأقوال، أجد أن مذهب الحنابلة هو الراجح؛ نظرًا لقوة أدلته، والجواب عن أدلة الأقوال الأخرى، وأن العقد الصحيح يفيد الملك، وأن الخيار لا ينافي الملك، وإنما يعطي صاحبه حق الرد لا أكثر، والله أعلم. ***
الفرع الأول ملك النماء في زمن الخيار
الفرع الأول ملك النماء في زمن الخيار [م - 477] في المسألة السابقة بحثنا ملك المبيع وملك الثمن زمن خيار المجلس، وفي هذه المسألة نريد أن نعرف من يستحق نماء المبيع ونماء الثمن في زمن خيار المجلس، وذلك أن المال من طبيعته أنه ينمو ويزيد، فإذا زاد المبيع أو الثمن بعد البيع، وقيل التفرق من المجلس فمن يملك هذه الزيادة، سواء اختار العاقدان إمضاء العقد، أو اختارا فسخه، وقبل الإجابة على هذا يجب أن نقسم النماء إلى قسمين: نماء متصل، لا ينفصل عن المبيع، وذلك مثل: البرء من المرض، والحمل قبل الوضع، والسمن. ونماء منفصل: وهي على نوعين: متولدة من الأصل: كالولد، والبيض، واللبن، والصوف، والثمرة. وغير متولدة من الأصل: كالكسب، والمهر، وما يوهب له، وما يوصى له به، ونحو ذلك .. وسوف نعرض لكل مسألة على انفراد. ***
المسألة الأولى ملك النماء المتصل زمن الخيار
المسألة الأولى ملك النماء المتصل زمن الخيار [م - 478] اختلف الفقهاء في النماء المتصل زمن الخيار من يستحقه؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: إن كان الخيار لأحدهما فالملك في المبيع مع توابعه المتصلة لمن انفرد بالخيار من بائع أو مشتر. وإن كان الخيار لهما فموقوف، فإن تم البيع، فنماء المبيع للمشتري من حين العقد، وإن فسخ، بقي نماء المبيع للبائع، ونماء الثمن للمشتري وهذا مذهب الشافعية (¬1). القول الثاني: النماء المتصل تابع للمبيع، سواء تم البيع، أو فسخ، كما يتبعه في الرد ¬
القول الثالث
بالعيب. وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). القول الثالث: النماء للمشتري، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬2)، ورجحه ابن تيمية (¬3) , واختاره شيخنا ابن عثيمين (¬4). دليل الشافعية على أن النماء لمن انفرد بالخيار، وإن كان لهما فموقوف: ملك النماء تبعًا لملك المبيع، فمن ملك المبيع ملك النماء، ويستحق الملك من يملك التصرف، فمن انفرد بالخيار كان هو وحده متصرفًا في المبيع، ونفوذ التصرف دليل على الملك. وإن كان الخيار لهما كان الملك موقوفًا إلى حين ¬
ويناقش
لزوم العقد؛ لأن كل واحد منهما ممنوع من التصرف، ولأنه ليس أحد الجانبين أولى من الآخر، فتوقفنا، والله أعلم. ويناقش: سبق الجواب على أدلة الشافعية حين الكلام على من يستحق الملك زمن الخيار، وأن المنع من التصرف لا ينافي الملك، فأغنى عن إعادته هنا. تعليل الحنابلة على أن النماء المتصل تبع للمبيع: علل الحنابلة بأن النماء المتصل إنما هو تبع للعين لتعذر انفصاله عن العين، فالسمن مثلاً لا يمكن استحقاقه وحده، لتعذر انفصاله عن الأصل (¬1). وأجيب: بأن النماء إذا كان لا يمكن فصله عن العين، فإن هذا لا يعني أن المشتري لا يستحق قيمة تلك الزيادة الحادثة في ملكه، فيرد الزيادة تبعًا للعين، ويأخذ قيمتها لحدوثها في ملكه. ورد هذا: بأننا إذا ألزمنا البائع أن يدفع قيمة تلك الزيادة، فان هذا يعني أننا نلزمه بمعاوضة لم يلتزمها، فهذا عقد بيع جديد يفتقد إلى الرضا، والذي هو شرط في صحة البيع. دليل من قال: إن النماء للمشتري: الدليل الأول: جميع الأدلة التي سقناها على ثبوت الملك للمشتري مدة الخيار، وإذا كان الملك له، كان النماء له أيضًا؛ لأنه حدث في ملكه. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-408) روى أحمد من طريق ابن أبي ذئب، قال: حدثني مخلد ابن خفاف بن إيماء، عن عروة عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: الخراج بالضمان (¬1). [إسناده ضعيف، وضعفه البخاري وأبو داود، وقد قال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم] (¬2). الدليل الثالث: ولأن النماء المتصل قد يكون أنفع من المنفصل وأغلى عند الناس، فإذا فسخ البيع يقوم المبيع حين العقد، ويقوم حين الفسخ، والفرق بين القيمتين تكون للمشتري. الراجح: أن النماء تبع للملك، فمن كان له الملك كان له النماء، وقد دللنا على أن الملك في زمن الخيار إنما هو للمشتري، ولا فرق عندي بين النماء المتصل والمنفصل، وفي حين لم يرض البائع أن يشتري الزيادة المتصلة، فيرى شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله - أنه يلزمه، ولا بد (¬3)، وقد يقال: إن المشتري يكون شريكًا له بقدر تلك الزيادة، ولا يلزم البائع بمعاوضة لم يلتزمها، وهذا هو الذي يتمشى مع القواعد، من كون البيع لا يكون إلا بالتراضي، والله أعلم. ... ¬
المسألة الثانية في ملك النماء المنفصل زمن الخيار
المسألة الثانية في ملك النماء المنفصل زمن الخيار [م - 479] اختلف العلماء فيمن يستحق نماء المبيع المنفصل زمن الخيار؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: الملك في نماء المبيع المنفصل لمن انفرد بخيار من بائع أو مشتر، فإن كان الخيار لهما فموقوف، فإن تم البيع، فنماء المبيع للمشتري من حين العقد، وإن فسخ، بقي نماء المبيع للبائع، ولا يفرق الشافعية بين النماء المتصل وبين النماء المنفصل، ولا بين خيار المجلس وخيار الشرط (¬1). القول الثاني: نماء المبيع للمشتري مطلقًا، سواء اختارا إمضاء البيع أو فسخه، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة (¬2). القول الثالث: النماء للمشتري إن كان المبيع من ضمانه، ويكون من ضمانه إذا كان المبيع لا يحتاج إلى استيفاء (¬3)، ولم يمنع البائع المشتري من قبضه، وهو قول ¬
دليل من قال: إن النماء لمن انفرد بالخيار، وإن كان الخيار لهما فموقوف
للحنابلة (¬1). دليل من قال: إن النماء لمن انفرد بالخيار، وإن كان الخيار لهما فموقوف: ذكرنا دليلهم في مسألة حكم النماء المتصل، فإنهم لا يفرقون بين النماء المتصل، والمنفصل في الحكم. دليل من قال: للمشتري إن ضمن: (ح-409) ما رواه أحمد من طريق ابن أبي ذئب، قال: حدثني مخلد ابن خفاف بن إيماء، عن عروة، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: الخراج بالضمان (¬2). [إسناده ضعيف، وضعفه البخاري وأبو داود، وقال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم] (¬3). وأما أدلة الحنابلة على أن المشتري يضمن في ثلاث حالات: الأولى: إذا قبض المبيع، وهذا ظاهر؛ لأنه إذا قبض ملكه فقد دخل في ضمانه. الثانية: يضمن المشتري قبل القبض إذا لم يكن في المبيع حق توفية من كيل أو وزن أو ذرع أو عد، وقد ذكرنا أدلتهم على هذه الحالة بالتفصيل في مسألة (التصرف في المبيع قبل القبض) فأغنى عن إعادتها هنا. ¬
دليل من قال: النماء للمشتري مطلقا
الثالثة: إذا طلب البائع من المشتري القبض، فلم يقبض؛ لأنه إذا منعه البائع من استلام المبيع كان ظالمًا، فإذا هلك ضمن البائع. دليل من قال: النماء للمشتري مطلقًا: جميع الأدلة التي سقناها على ثبوت الملك للمشتري مدة الخيار، يستدل بها على أن النماء للمشتري أيضًا، وذلك أنه إذا كان الملك له، كان النماء له أيضًا، لأنه حدث في ملكه. كما أن جميع الأدلة التي ذكرناها على كون النماء المتصل للمشتري يستدل بها على أن النماء المنفصل له أيضًا من باب أولى، وذلك أنه إذا كان يستحق النماء المتصل بالعين، مع عدم استحقاق العين، فكونه يستحق النماء المنفصل من باب أولى، والله أعلم. الراجح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها يجب أن ننظر: هل استحقاق النماء راجع إلى ثبوت الملك، أو راجع إلى استقرار الضمان على المشتري، فإن كان النماء مستحقًا لثبوت الملك، فإن المشتري يثبت له الملك في نفس العقد من صدور القبول مطابقًا للإيجاب، وكون العقد ليس لازمًا مدة الخيار فإنه هذا لا يعني عدم ثبوت الملك، وقد ناقشنا هذه المسألة بشيء من التفصيل، فأغنى عن إعادته هنا، وإذا ثبت له الملك ثبت له النماء؛ لأنه فرع عنه. وإن كان استحقاق النماء راجعًا إلى شغل الذمة بالضمان، كما جاء في الأثر: الخراج بالضمان، فإن المبيع يدخل في ضمان المشتري من العقد إلا أن يكون المبيع يحتاج إلى توفية: من كيل أو وزن أو عد أو ذرع، وكما قال
فائدة
ابن عمر: ما أدركته الصفقة حيًا مجموعًا فهو من مال المشتري (¬1). أي من ضمانه. ولا مانع من أن يستحق الشيء بأكثر من سبب، فالنماء للمشتري لأنه نماء ملكه، وهو أيضًا داخل في ضمانه كما لو تلف، وهو لا يحتاج إلى استيفاء، والله أعلم. فائدة: [م - 480] إذا بيعت الدابة حاملاً فولدت أثناء الخيار، فإن الحمل لا يعتبر نماء، لا متصلاً ولا منفصلاً، وذلك أنه وقع عليه البيع، فهو جزء من المبيع لكونه له قسط من الثمن، وإن كان لا يجوز بيعه منفردًا، فإذا رد المبيع رد معه ولده، نعم لو أن الحمل حدث في زمن الخيار فإنه يعتبر من نماء المبيع، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني عشر أسباب انتهاء خيار المجلس
المبحث الثاني عشر أسباب انتهاء خيار المجلس الفرع الأول إسقاط الخيار ابتداء [م - 481] اختلف العلماء في البيع بشرط نفي خيار المجلس على ثلاثة أقوال: القول الأول: يبطل البيع، وهو الصحيح من مذهب الشافعية (¬1). القول الثاني: يصح البيع ويسقط الخيار، وهو قول في مذهب الشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). القول الثالث: يصح البيع، ولا يسقط الخيار، وهو قول في مذهب الشافعية (¬4)، وقول في ¬
دليل من قال: يبطل البيع
مذهب الحنابلة (¬1). دليل من قال: يبطل البيع: قال السيوطي: "من أبطل العقد أو الشرط نظر إلى أن مقصود العقد: إثبات الخيار فيه للتروي، فاشتراط نفيه يخل بمقصوده" (¬2). وقال في أسنى المطالب: "ولو شرطا نفي خيار المجلس بطل البيع؛ لأنه ينافي مقتضاه، فأشبه ما لو شرط ألا يسلم المبيع" (¬3). دليل من قال: يصح البيع، ويسقط الخيار. الدليل الأول: إذا كان للعاقدين أن يسقطا الخيار بعد العقد، صح لهما أن يسقطا الخيار في ابتدائه، وسيأتي ذكر الأدلة إن شاء الله تعالى على صحة إسقاط خيار المجلس بعد العقد، وقبل التفرق. الدليل الثاني: أن خيار المجلس حق للعاقدين، فإذا تراضيا على إسقاطه سقط. دليل من قال: يصح البيع ولا يسقط الخيار: الدليل الأول: (ح-410) ما رواه البخاري من طريق يحيى بن سعيد، قال: سمعت نافعًا، ¬
وجه الاستدلال
عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن المتبايعين بالخيار في بيعهما ما لم يتفرقا، أو يكون البيع خيارًا (¬1). وجه الاستدلال: أن الحديث أثبت الخيار للبائعين ما لم يتفرقا، أو يتخايرا، والتخاير لا يكون إلا بعد البيع؛ لأنهما قبل تمام العقد لا يقال لهما متبايعان. الدليل الثاني: أن خيار المجلس يثبت بعد تمام البيع، فلم يجز إسقاطه قبل ذلك، كخيار الشفعة. ولم يؤد اشتراط مثل ذلك إلى بطلان البيع؛ لأن هذا الشرط لا يؤدي إلى جهالة العوض، ولا إلى جهالة المعوض، فلم يبطل العقد لأجله (¬2). بمعنى: أن الشرط الفاسد لا يعود إلى العقد بالفساد ما دام أن العقد بنفسه صحيح، قد توفرت شروطه وتمت أركانه. الراجح: جواز اشتراط إسقاط الخيار، وهو يتمشى مع القواعد بأن الأصل في الشروط الصحة والجواز إلا ما ثبت النهي عن اشتراطه، أو كان اشتراطه يؤدي إلى الوقوع في محذور شرعي، ولا محذور هنا، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني تفرق المتعاقدين من المجلس
الفرع الثاني تفرق المتعاقدين من المجلس [م - 482] لم يختلف الشافعية والحنابلة القائلون بخيار المجلس بأنه إذا تفرق المتعاقدان من المجلس، ولم يترك أحدهما البيع في أثناء المجلس، فقد لزم البيع، وبطل خيار المجلس (¬1). (ح-411) فقد روى البخاري ومسلم من طريق الليث، عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعًا، أو يخير أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا, ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع (¬2). وقال ابن قدامة: "لا خلاف في أن البيع يلزم بعد التفرق، ما لم يكن سبب يقتضي جوازه، وقد دل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: وإن تفرقا بعد أن تبايعا, ولم يترك أحد منهما البيع، فقد وجب البيع. وقوله: (البيعان بالخيار حتى يتفرقا) جعل التفرق غاية للخيار، وما بعد الغاية يجب أن يكون مخالفًا. لما قبلها" (¬3). ¬
وقال أيضًا: "البيع يلزم بتفرقهما؛ لدلالة الحديث عليه، ولا خلاف في لزومه بعد التفرق" (¬1). وقد سبق لنا الخلاف في حد التفرق، وهل مرجع ذلك إلى العرف، أو أن يتوارى عن صاحبه، أو لا يسمع صوته لو ناداه عن بعد، فليرجع إليه من شاء. ¬
الفرع الثالث إذا خير أحدهما الآخر في مجلس العقد
الفرع الثالث إذا خير أحدهما الآخر في مجلس العقد [م - 483] إذا خير أحد العاقدين الآخر في مجلس العقد، وهو ما يسمى بالاصطلاح (التخاير). فالتخاير: هو اختيار المتعاقدين لزوم العقد في المجلس، فإذا اختارا إمضاء العقد، فهل يبطل خيارهما بذلك قبل التفرق؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يبطل الخيار بالتخاير، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). القول الثاني: لا يبطل الخيار بالتخاير، بل يمتد إلى التفرق بالأبدان، وهي رواية عن أحمد (¬3). ¬
دليل من قال: يبطل خيارهما بالتخاير
دليل من قال: يبطل خيارهما بالتخاير: الدليل الأول: (ح-412) ما رواه البخاري ومسلم من طريق الليث، عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعًا، أو يخير أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا, ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع (¬1). وجه الاستدلال: قوله: (أو يخير أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع). الدليل الثاني: (ح-413) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه، ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار (¬2). ورواه البخاري من طريق أيوب، عن نافع به، بلفظ: البيعان بالخيار، ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه اختر، وربما قال: أو يكون بيع خيار (¬3). وجه الاستدلال: قوله: "أو يقول لصاحبه: اختر، وربما قال: أو يكون بيع خيار". ¬
الدليل الثالث
فهاتان الجملتان تفسر إحداهما الأخرى، فقوله: (أو يقول لصاحبه: اختر) هو بمعنى قوله: (أو يكون بيع خيار)، فإذا قال لصاحبه بعد إتمام البيع: اختر نفاذ البيع، أو فسخه، فإن اختار إمضاء البيع لزم البيع بينهما، وإن لم يتفرقا. وقد اختلف العلماء في تفسير هذه اللفظة من الحديث، وسوف أفرد لها مبحثًا خاصًا إن شاء الله تعالى. الدليل الثالث: الإجماع على أنه إذا خيره، فاختار انقطع خيارهما. قال النووي: "إذا قال أحدهما للآخر: اختر، أو خيرتك، فقال الآخر: اخترت، فإنه ينقطع خيارهما بلا خلاف" (¬1). ولعل مراد النووي بقوله: بلا خلاف يعني في مذهب الشافعية، وإلا فالخلاف محفوظ كما بينا في عرض الأقوال، والله أعلم. دليل من قال: لا يلزم البيع إلا بالتفرق. الدليل الأول: (ح-414) ما رواه البخاري ومسلم من طريق شعبة، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث رفعه إلى حكيم بن حزام - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو قال: حتى يتفرقا. فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-415) ما رواه أحمد، قال: ثنا أبو كامل، ثنا حماد بن زيد، عن جميل بن مرة، عن أبي الوضئ, قال: كنا في سفر، ومعنا أبو برزة. فقال أبو برزة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا (¬1). [صحيح] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ح-416) ما رواه أحمد من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال من الأحاديث السابقة
وجه الاستدلال من الأحاديث السابقة: أن هذه الأحاديث فيها أن المتبايعين بالخيار ما لم يتفرقا، من غير تقييد، ولا تخصيص، هكذا رواه حكيم بن حزام، وأبو برزة، وسمرة بن جندب، وأكثر الرويات عن عبد الله بن عمر. أجابوا عن حديث: أو يخير أحدهما صاحبه بجوابين: الجواب الأول: أن التخاير لم يرد إلا في حديث ابن عمر، وأكثر الروايات ليس فيها ذكر التخاير. قال القاضي أبو يعلى: "وهذا -يعني حديث حكيم بن حزام، وأبي برزة، وسمرة بن جندب- أولى من حديث ابن عمر؛ لأنه تفرد بروايته في التخاير، وهذا رواه جماعة كل لا يذكر فيه التخاير، وإنما يشترط التفرق" (¬1). الجواب الثاني: أن المراد بقوله: أو يخير أحدهما الآخر: أي فيشترطا الخيار مدة معينة، فلا ينقضي الخيار بالتفرق، بل يبقى حتى تمضي المدة (¬2). ¬
الراجح
الراجح: أن التخاير في مجلس العقد إذا اختار العاقدان إمضاء العقد، أنه مبطل لخيارهما، لحديث ابن عمر - رضي الله عنه -، وكونه اشتمل على زيادة لم ترد في حديث حكيم بن حزام، وحديث أبي برزة، وحديث سمرة ليس كافيًا في رده، والشذوذ وزيادة الثقة لا تعتبران في زيادة بعض الصحابة - رضي الله عنهم - على بعض، وإنما يعتبران في زيادة من يروي عنهم من التابعين فمن بعدهم، ولم ينفرد نافع بروايته عن ابن عمر حتى يقال: لا يقبل ما تفرد به نافع, فقد رواه عن ابن عمر، نافع (¬1)، وعبد الله بن دينار (¬2)، وروايتهما في الصحيحين. يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "الذي يبحث فيه أهل الحديث في هذه المسألة إنما هو في زيادة بعض الرواة من التابعين فمن بعدهم، أما الزيادة الحاصلة على صحابي آخر إذا صح السند إليه فلا يختلفون في قبولها، كحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي في الصحيحين في قصة آخر من يخرج من النار، وأن الله تعالى يقول له بعد أن يتمنى ما يتمنى: لك ذلك، ومثله معه. قال أبو سعيد: أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لك ذلك، وعشرة أمثاله (¬3). مع أن القول بأن ابن عمر قد تفرد بهذه الزيادة فيه نظر، فقد روى التخاير غير ابن عمر أيضًا. (ح-417) فقد روى أبو داود الطيالسي حدثنا يونس، حدثنا أيوب ابن عتبة، ¬
عن أبي كثير الغبري عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يكون بيعهما خيارًا (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). (ح-418) وروى أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا سليمان، عن سماك، عن ¬
عكرمة عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بايع رجلاً، فلما بايعه، قال: اختر. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هكذا البيع (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). (ح-419) وروى ابن ماجه، قال: حدثنا حرملة بن يحيى، وأحمد بن عيسى المصريان، قالا: حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني ابن جريج، عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، قال: اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رجل من الأعراب، حمل خبط، فلما وجب البيع، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اختر. فقال الأعرابي: عمرك الله بيعًا (¬3). [رجاله ثقات إلا أنه اختلف في وصله وإرساله] (¬4). ¬
فهذه الأحاديث وإن كانت لا تخلو من ضعف إلا أنها بمجموعها يشهد لحديث ابن عمر المتفق على صحته على جواز التخاير في مجلس العقد، فإذا اختار العاقدان إمضاء البيع، وإسقاط الخيار بطل خيارهما, ولأن الخيار حق للعاقدين، فإذا أسقطاه برضاهما سقط، والله أعلم. ... ¬
مسألة معنى قوله في الحديث: (إلا بيع الخيار)
مسألة معنى قوله في الحديث: (إلا بيع الخيار) (ح-420) روى البخاري ومسلم من طريق الليث، عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعًا، أو يخير أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا, ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع (¬1). وفي رواية البخاري من طريق مالك، عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه، ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار (¬2). ورواه البخاري من طريق أيوب، عن نافع به، بلفظ: البيعان بالخيار، ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه اختر، وربما قال: أو يكون بيع خيار (¬3). [م - 484] اختلف العلماء في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أو يقول لصاحبه: اختر، وربما قال: أو يكون بيع خيار" على أقوال منها: القول الأول: أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أو يقول لصاحبه: اختر) هو بمعنى قوله: (أو يكون بيع ¬
القول الثاني
خيار)، فإذا قال لصاحبه بعد إتمام البيع: اختر نفاذ البيع، أو فسخه، فإن اختار إمضاء البيع لزم البيع بينهما، وإن لم يتفرقا. وهذا التفسير هو قول الثوري، والليث بن سعد، والأوزاعي، وابن عيينة، وعبيد الله بن الحسن، وإسحاق بن راهوية (¬1). ونسبه ابن حجر إلى جمهور العلماء، وقال: جزم الشافعي به (¬2). فيكون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلا بيع الخيار) استثناء من امتداد الخيار إلى التفرق، فيكون التقدير: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا البيع الذي جرى فيه التخاير (¬3). قال النووي: "وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلا بيع الخيار) ففيه ثلاثة أقوال ذكرها أصحابنا وغيرهم من العلماء: أصحها: أن المراد التخيير بعد تمام العقد، قبل مفارقة المجلس، وتقديره: يثبت لهما الخيار ما لم يتفرقا إلا أن يتخايرا في المجلس، ويختارا إمضاء البيع، فيلزم البيع بنفس التخاير، ولا يدوم إلى المفارقة" (¬4). قال ابن حجر: "ورواية الليث ظاهرة جدًا في ترجيحه" (¬5). القول الثاني: ذهب آخرون في تفسير قوله: (إلا بيع الخيار) إلى أنه استثناء من انقطاع ¬
القول الثالث
الخيار بالتفرق، فيكون المعنى: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يشترطا الخيار مدة معينة، فلا ينقضي الخيار بالتفرق، بل يبقى حتى تمضي المدة. قال ابن عبد البر: "وهذا قول الشافعي، وأبي ثور، وجماعة" (¬1). قال الحافظ: "حكاه ابن عبد البر عن أبي ثور، ورجح الأول بأنه أقل في الإضمار" (¬2). وقال النووي "والقول الثاني: أن معناه: إلا بيعًا شرط فيه خيار الشرط ثلاثة أيام، أو دونها، فلا ينقضي الخيار فيه بالمفارقة، بل يبقى حتى تنقضي المدة المشروطة. القول الثالث: معنى (إلا بيع الخيار) أي إلا بيعًا شرط فيه إلا خيار لهما في المجلس، فيلزم البيع بنفس البيع، ولا يكون فيه خيار (¬3). قال ابن حجر عن القول الثالث: "وهذا أضعف هذه الاحتمالات" (¬4). القول الرابع: قال ابن حجر: "قوله (إلا أن يكون بيع خيار) أي هما بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن يتخايرا, ولو قبل التفرق، وإلا أن يكون البيع بشرط الخيار، ولو بعد التفرق. وهو قول يجمع التأويلين الأولين، ويؤيده رواية عبد الرزاق، عن ¬
الراجح
سفيان، في حديث الباب الذي يليه، حيث قال فيه: (إلا بيع الخيار، أو يقول لصاحبه: اختر) إن حملنا قوله: (أو) على التقسيم، لا على الشك" (¬1). الراجح: قال النووي: "اتفق أصحابنا على ترجيح القول الأول، وهو المنصوص للشافعي، ونقلوه عنه، وأبطل كثير منهم ما سواه، وغلطوا قائله" (¬2). قلت: يؤيد ذلك ما رواه النسائي من طريق إسماعيل، عن نافع به، بلفظ: (المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا، إلا أن يكون البيع كان عن خيار، فإن كان البيع عن خيار، فقد وجب البيع) (¬3). (ح-421) ورواه النسائي أيضًا من طريق ابن جريج، قال: أملى علي نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا تبايع البيعان فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يفترقا، أو يكون بيعهما عن خيار، فإن كان عن خيار فقد وجب البيع (¬4). وهذه متابعة لإسماعيل، على قوله (فقد وجب البيع). ورواه ابن طهمان في مشيخته، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعًا بلفظ: (البيعان بالخيار من بيعهما، ما لم يفترقا، أو يكون بيعهما عن خيار، فإذا كان بيعهما عن خيار فقد وجب البيع) (¬5). ¬
فلو كان المراد به خيار الشرط، لم يصح أن يقول: فقد وجب البيع. (ح-422) ويؤيد ذلك أيضًا ما رواه أحمد، والحميدي (¬1) من طريق الثوري. ومسلم، والنسائي (¬2) من طريق إسماعيل بن جعفر. والطيالسي، وأحمد، والنسائي (¬3)، من طريق شعبة. والنسائي (¬4)، من طريق ابن الهاد. كلهم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا، إلا بيع الخيار (¬5). معنى الحديث: حصر لزوم البيع في التفرق أو في التخاير وإن لم يتفرقا، فهذا معنى قوله: إلا بيع الخيار معناه: أنه لازم، وإن لم يتفرقا. ¬
المطلب الأول الخلاف في بقاء خيار الساكت
المطلب الأول الخلاف في بقاء خيار الساكت [م - 485] بحثنا في المسألة السابقة: انتهاء خيار المجلس بالتخاير، وهو ما إذا وقع اختيار الفسخ أو إمضاء العقد من العاقدين، فيؤدي ذلك إلى إسقاط الخيار، وفي هذه المسألة نريد أن نبحث حكم ما لو قال أحد العاقدين للآخر: اختر، فسكت، ولم يجب بشيء، فما حكم خيار الساكت؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: الساكت لا ينقطع خياره، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، والراجح عند الحنابلة (¬2). القول الثاني: يسقط خيار الساكت، وهو وجه ضعيف في مذهب الشافعية (¬3). دليل من قال: الساكت لا ينقطع خياره: قالوا: الساكت باق على خياره؛ لأنه لم يوجد منه ما يبطل خياره، ولا يبطل خياره كلام صاحبه حتى يختار هو لنفسه. ¬
دليل من قال: يسقط خيار الساكت.
قال النووي: "إذا قال أحدهما للآخر: اختر، أو خيرتك، فقال الآخر: اخترت، فإنه ينقطع خيارهما بلا خلاف ... وإن سكت الآخر لم ينقطع خيار الساكت بلا خلاف" (¬1). وقوله بلا خلاف فيه نظر، بل هناك وجه ضعيف لدى الشافعية بأن خيار الساكت يسقط أيضًا، وهو ما سنذكر دليله في القول الثاني. دليل من قال: يسقط خيار الساكت. قالوا: إن الخيار لا يتبعض ثبوته، فلا يتبعض سقوطه، فإذا كان ثبوت خيار المجلس لا يتجزأ، فلا يثبت لأحدهما دون الآخر، فكذلك سقوطه، ليتساويا في انتهاء العقد، كما تساويا في نشوئه وقيامه (¬2). الراجح: أن الساكت لا ينقطع خياره؛ لأن الخيار إذا كان حقًا للساكت لم يبطل بفعل غيره، فما فائدة أن يكون له حق الاختيار، في الحال الذي يقال: إن الطرف الآخر يملك إسقاط هذا الحق متى شاء، فلا يسقط الحقوق إلا من يملكها، أو نص شرعي، ولا نص هنا، والله أعلم. ... ¬
المطلب الثاني الخلاف في بقاء خيار القائل (اختر)
المطلب الثاني الخلاف في بقاء خيار القائل (اختر) [م - 486] إذا قال أحد العاقدين لصاحبه: (اختر)، فهل قوله هذا يسقط خياره؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يسقط خياره، وهو المذهب عند الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). القول الثاني: لا يسقط خياره، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). دليل من قال: يسقط خياره: الدليل الأول: (ح-423) ما رواه البخاري من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا البيعان بالخيار، ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر ... الحديث (¬5). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أفاد الحديث أن الخيار باق إلا في حالتين: أن يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر، فإن تفرقا فقد سقط خيارهما بنص الحديث، وإن قال لصاحبه: اختر، فاختار فقد سقط خيارهما، وإن سكت فقد سقط خيار القائل، وأما الساكت فهو على خياره كما قدمنا، وذكرنا دليله في المسألة السابقة. الدليل الثاني: أن قوله لصاحبه: اختر دليل على رضاه بالبيع وقبول لزومه، فإذا اختار لزومه وجب البيع في حقه، وبقي حق صاحبه. دليل من قال: لا يسقط خياره: (ح-424) ما رواه البخاري ومسلم من طريق الليث، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعًا، أو يخير أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا, ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع (¬1). وجه الاستدلال: قوله: (أو يخير أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع) فالحديث نص بأنه إذا خيره، فتبايعا على ذلك فقد لزم البيع، أما إذا خيره، فلم يختر فالبيع لم يلزم في حقهما، الشأن في ذلك شأن الإيجاب فلا يلزم البائع بصدور الإيجاب منه حتى يصدر القبول من المشتري مطابقًا للإيجاب. ¬
ويناقش
ويناقش: بأن هناك فرقًا بين الإيجاب والقبول، وبين حق الخيار، فمن الممكن أن يكون الخيار لأحدهما دون الآخر، وممكن أن يسقطاه ابتداء، بخلاف الإيجاب والقبول، فهما ركنا البيع، لا يتم البيع بدونهما، فإذا قال: اختر، فإنه لم يقل هذا إلا بعد الرضا منه بالبيع، واختيار لزومه فإذا أسقط حقه بالخيار سقط. الدليل الثالث: أن الرجل إذا قال لزوجته: اختاري نفسك، فسكتت، فإن خيار الزوج في طلاقها لا يسقط، فكذلك هنا (¬1). وأجيب: بأن المرأة لم تكن مالكة للخيار، فإذا خيرها فقد ملكها ما لم تكن تملكه، فإذا سكتت بقي على حقه، وها هنا المشتري يملك الفسخ، فلا يفيد تخييره إسقاط حقه المملوك له قبل تخييره. الراجح: أنه إذا قال لصاحبه: اختر، فإنه قد اختار لزوم البيع، وطالب صاحبه أن يختار إمضاء البيع، أو الفسخ، فإذا اختار إمضاء البيع لزم القائل، وهذا دليل على سقوط خياره، فإن سكت، بقي خيار الساكت، وسقط خيار القائل، هذا هو ظاهر الحديث، والله أعلم. ... ¬
الفرع الرابع في انتهاء خيار المجلس في موت أحد العاقدين
الفرع الرابع في انتهاء خيار المجلس في موت أحد العاقدين [م - 487] اختلف الفقهاء هل ينتهي خيار المجلس في موت أحد العاقدين. فقيل: إذا مات قبل التفرق قام ورثته مقامه، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يبطل خياره، وهو قول في مذهب الشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). دليل من قال: ينتقل لورثته: الدليل الأول: حق خيار المجلس حق أعطاه الشارع لكل واحد من المتعاقدين ما داما في المجلس، وقد قال الزركشي في القواعد: "الحقوق تورث كما يورث المال، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: من ترك حقًا فهو لورثته" (¬5). ¬
الدليل الثاني
وإذا كان لم يثبت قوله (من ترك حقًا فهو لورثته) فإن عموم قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12]، يدخل فيه، فإنه من جملة ما ترك. الدليل الثاني: قالوا: إن خيار المجلس حق مقصود، فلا يبطل بالموت (¬1). الدليل الثالث: قياس خيار المجلس على خيار العيب، فكلاهما حق لازم ثابت في البيع بحكم الشرع، ولا خلاف في انتقال خيار العيب بالموت، فكذلك خيار المجلس. الدليل الرابع: القياس على خيار الشرط، فكما أن خيار الشرط يورث، فكذلك خيار المجلس، والله أعلم. تعليل من قال: من مات بطل خياره. التعليل الأول: إذا كان خيار المجلس يبطل بالتفرق، فالتفرق بالموت أعظم الفرقتين. ¬
التعليل الثاني
التعليل الثاني: قال ابن قدامة: "لم يثبت لورثته؛ لأنه حق فسخ، لا يجوز الاعتياض عنه، فلم يورث كخيار الرجوع في الهبة" (¬1). ولأن خيار المجلس إرادة ومشيئة تتصل بشخص العاقد، وانتقال ذلك إلى الوارث لا يتصور. الراجح: المسألة ليس فيها نص، ويبقى الاجتهاد والنظر، فالإنسان إذا مات، واعتبرنا أنه بالموت قد فارق المجلس، فإنه قد فارق المجلس بغير اختياره، فلا يبعد أن يكون حكمه حكم المكره، وسبق لنا أن المكره على المفارقة له حق الخيار، وما دام لا يستطيع وقد مات فإن حق الاختيار ينتقل إلى ورثته، سواء قلنا: إنه يورث، أو أنه ينوب عن الميت لتعذر ذلك من الميت، وملكية الميت للمبيع سابقة للموت، ويبقى حق الطرف الذي ما زال حيًا، فلم يسقط خياره بموت صاحبه. قال ابن قدامة: "وفي خيار صاحبه وجهان: أحدهما: يبطل؛ لأن الموت أعظم التفرق. والثاني: لا يبطل؛ لأن الفرقة بالأبدان لم تحصل" (¬2). وهذا الوجهان للشافعية، وعندهم وجه ثالث: حكاه القاضي حسين: أن خيار صاحبه يمتد حتى يجتمع هو والوارث (¬3). ¬
قال الغزالي: "نعم ينقدح الخلاف في أن الوارث إذا بلغه الخبر يدوم خياره بدوام مجلس البلوغ، أم هو على الفور؟ من حيث إن التفرق بالموت أبطل المجلس، وبقي مجرد الحق، فثبت اختياره على الفور. والوجه الآخر: أن الحق إذا بقي بقي بوصفه" (¬1)، والله أعلم. ¬
الفرع الخامس انتهاء الخيار بالتصرف في المبيع
الفرع الخامس انتهاء الخيار بالتصرف في المبيع [م - 488] اختلف الفقهاء القائلون بخيار المجلس في حكم التصرف في المبيع زمن الخيار، هل يسقط الخيار؟ وهل يصح التصرف؟ إلى قولين: القول الأول: مذهب الشافعية: أن البائع إذا تصرف في المبيع ببيع أو هبة أو وقف أو نحوها والخيار له أو لهما: صح تصرفه، وكان ذلك منه اختيارًا لفسخ البيع. لأن هذا تصرف يفتقر إلى الملك، فجعل هذا منه اختيارًا للفسخ، ورد المبيع إلى ملكه في زمن الخيار. وأما تصرف البائع بالثمن فلا ينفذ إن كان معينًا حتى ينقطع خيار المشتري، ويقبض الثمن، وإن كان في الذمة لم ينفذ تصرفه فيه قبل انقطاع الخيار (¬1). وأما تصرف المشتري فتارة يكون في الثمن، وتارة يكون في المبيع: فإن كان تصرف المشتري في الثمن صح تصرفه، إن كان الخيار له، أو لهما، وكان ذلك منه اختيارًا لفسخ البيع. وإن كان تصرف المشتري بالمبيع ببيع أو هبة أو وقف ونحوها ففيه تفصيل: إن كان تصرفه بإذن البائع، أو باع المبيع للبائع نفسه، فوجهان: ¬
أصحهما صحة التصرف؛ لتضمنه الإجازة، ولأن المنع من التصرف لحق البائع، وقد رضي، ويصير البيع بذلك لازمًا (¬1). وإن كان تصرف المشتري بغير رضا البائع، والخيار لهما، فإن فسخ البائع البيع الأول، لم يصح البيع الثاني. وإن أجاز البائع البيع، فإن قلنا: إن المشتري لا يملك إلا بشرطين (العقد وانقطاع الخيار) لم يصح بيعه. وإن قلنا: إنه يملك بنفس العقد، أو الملك موقوف، فهل يصح بيعه؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح بيعه؛ لأنه صادف ملكه. والثاني: لا يصح؛ لأنه باع عينًا تعلق بها حق غيره، بغير إذنه، فلم يصح كالراهن إذا باع الرهن. وتصرف المشتري ولو بغير إذن البائع، ولو لم يصح تصرفه يعتبر إجازة من المشتري للبيع (¬2). وإن كان الخيار للمشتري وحده، فباع أو وهب، ففيه ثلاثة أوجه، أصحها: أن تصرفه صحيح، ويبطل خياره (¬3). ¬
القول الثاني: مذهب الحنابلة
لأن تصرفه في هذه الحالة إما أن يصادف ملكه فظاهر، وإما أن يعتبر تصرفه إمضاء للبيع، وإسقاطًا للخيار؛ وفي كلا الحالين ليس في ذلك إبطال لحق غيره، والله أعلم. هذا ملخص قول الشافعية في المسألة: القول الثاني: مذهب الحنابلة: ذهب الحنابلة: إلى أن الخيار إما أن يكون لهما، أو لأحدهما: فإن كان الخيار لهما (لكلا العاقدين) فليس لواحد من المتبايعين التصرف في المبيع ولا في عوضه مدة الخيار؛ لأنه ليس بملك للبائع فيتصرف فيه، ولا انقطعت عنه علاقته، فيتصرف فيه المشتري، ولأن تصرفه يؤدي إلى إبطال حق صاحبه، وهذا لا يجوز. وإن كان الخيار لواحد منهما: فإن كان للمشتري وحده صح تصرفه في المبيع؛ لأن تصرفه من مالك تام الملك، جائز التصرف، فنفذ كما بعد انتهاء الخيار، ولأن تصرفه في المبيع دليل على رضاه به، وإمضائه للبيع. وإن كان الخيار للبائع وحده: فإن تصرف في المبيع لم ينفذ. قال المرداوي: وهذا الصحيح من المذهب ... وهو من المفرادات. ¬
والراجح
وعللوا ذلك: بأن البائع لا يملك المبيع بعد بيعه (¬1). وإن تصرف البائع بالثمن، نفذ تصرفه، وبطل خياره؛ لأن تصرفه في الثمن دليل على رضاه وإمضائه للبيع. وقيل: ينفذ تصرف البائع في المبيع، إن قلنا: إن البيع لا ينقل الملك، وكان الخيار لهما، أو للبائع، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يقع التصرف موقوفًا على انقضاء الخيار، ولا يبطل حق من لم يتصرف من الخيار، فإن انقضى ولا فسخ، صح التصرف، وإن فسخ من لم يتصرف بطل التصرف، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3). والراجح: أن التصرف في المبيع أو الثمن تارة يكون ناقلاً للملكية، وهذا لا يجوز، ولا يصح إذا كان الخيار لهما، بصرف النظر عن كون هذا التصرف صدر من مالك أو من غيره؛ لأن هذا التصرف يؤدي إلى إسقاط حق الغير بغير رضاه، ويعتبر مثل هذا التصرف مسقطًا لخيار من صدر عنه؛ لأنه دليل على إجازته للعقد. وإن كان الخيار لأحدهما، فيجوز تصرف من كان له الخيار وحده، ويعتبر دليلاً على اختياره إمضاء العقد؛ لأن تصرفه لا يؤدي إلى إسقاط حق غيره. وإن كان التصرف لا ينقل الملكية، كما لو استخدم المبيع في غير تجربته، فهذا التصرف يسقط خيار من صدر عنه؛ لأنه دليل على إمضاء العقد، ولا يجوز تصرفه هذا إن كان الخيار لهما إلا بإذن الآخر، والله أعلم. ¬
الفرع السادس انتهاء الخيار باختيار الفسخ
الفرع السادس انتهاء الخيار باختيار الفسخ [م - 489] لا شك أن فسخ العقد ينهي خيار المجلس، وذلك أن خيار المجلس إنما شرع لإتاحة الفسخ لكل واحد من المتعاقدين، وهذا أمر معلوم. ويحصل الفسخ في زمن خيار المجلس بكل لفظ يدل عليه، كفسخت البيع، واسترجعت المبيع، أو رددته، أو رددت الثمن، ونحو ذلك. قال الصيرمي: وقول البائع في زمن الخيار: لا أبتاع حتى يزيد في الثمن، مع قول المشتري: لا أفعل، يكون فسخًا. وكذا قول المشتري: لا أشتري حتى ينقص عني من الثمن، مع قول البائع: لا أفعل. وكذا طلب البائع حلول الثمن المؤجل، وطلب المشتري تأجيل الثمن الحال، كل هذا فسخ (¬1). ¬
الفصل الثاني: خيار الشرط
الفصل الثاني: خيار الشرط المبحث الأول تعريف خيار الشرط تعريفه: سبق لنا تعريف كلمة الخيار وحده في الفصل الذي قبل هذا، وسبق لنا تعريف كلمة الشرط وحده في باب (الشروط في البيع)، ونعرف الآن الكلمتين مركبتين: (خيار الشرط) وهو مركب إضافي فخيار الشرط: هو من باب إضافة الشيء إلى سببه؛ لأن الشرط سبب الخيار. خيار الشرط في الاصطلاح: قال ابن عابدين في تعريفه: "خيار الشرط مركب إضافي، صار علمًا في اصطلاح الفقهاء على ما يثبت لأحد المتعاقدين من الاختيار بين الإمضاء والفسخ" (¬1). وعرفه ابن عرفة، فقال: "بيع وقف بته أولاً على إمضاء يتوقع" (¬2). فخرج بقوله: (وقف بته) بيع البت، والبيع الذي آل إلى خيار، كمن اشترى شيئًا على البت، فاطلع على عيب، فإنه مخير بين الرد والإمساك؛ فهذا البيع وإن كان قد وقف بته لكن ليس في أول الأمر، وإنما في آخره (¬3). ¬
ويقول السنهوري في تعريفه: "خيار الشرط: خيار يشترطه أحد العاقدين أو كلاهما، بموجبه يكون لمن له الخيار الحق في نقض العقد في خلال مدة معينة، فإن لم ينقضه نفذ" (¬1). فمن خلال هذه التعريفات يتضح ما يلي: أولاً: أن خيار الشرط هو خيار إرادي ينشأ عن إرادة العاقد، وليس هو خيارًا حكميًا يثبت بمجرد حكم الشرع كخيار المجلس وخيار العيب. ثانيًا: أن العقد الذي فيه خيار الشرط يكون عقدًا غير لازم من جانب من له الخيار. ثالثًا: أن الغاية من مشروعية هذا الخيار هو التروي، والتفكر في الأمر، والتبصر في إمضاء البيع أو رده، فهو خيار ينشأ من جهة العاقد، بخلاف خيار النقيصة، فهو خيار ينشأ من جهة المعقود عليه يكون موجبه ظهور عيب أو استحقاق. ¬
المبحث الثاني في حكم خيار الشرط
المبحث الثاني في حكم خيار الشرط [م - 490] اختلف الفقهاء في حكم اشتراط الخيار في عقد البيع على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). القول الثاني: لا يصح اشتراط الخيار للبائع، أو لهما، ويجوز اشتراطه للمشتري وحده، وهو قول ابن شبرمة، والثوري (¬2). ¬
القول الثالث
القول الثالث: لا يصح اشتراط الخيار مطلقًا في عقد البيع إلا أن يقول أحدهما حين يبيع أو يبتاع: لا خلابة، ثم هو بالخيار ثلاثة أيام، وهذا اختيار ابن حزم (¬1). دليل الجمهور على جواز اشتراط الخيار في عقد البيع: الدليل الأول: ذكرنا في مسألة سابقة الأدلة الصحيحة الصريحة على أن الأصل في الشروط الصحة والجواز إلا ما جاء نص في النهي عن اشتراطه، أو كان في اشتراطه محذور شرعي، وأجبنا عن أدلة المخالفين بما يغني عن إعادته بنصه هنا (¬2). وهذه الأدلة الكثيرة والتي سقناها على هذه القاعدة أرى أنها أقوى دليل على جواز اشتراط الخيار مدة معينة، وما عدا ذلك من الأدلة قد ينازع فيها منازع إما في ثبوتها، وإما في دلالتها على المطلوب كما سترى من خلال عرض الأدلة، وأسعد الفقهاء بهذا الاستدلال هم الحنابلة، والذين يرون أن شرط الخيار أصل بذاته، فليس جاريًا على خلاف القياس كما يراه الحنفية (¬3)، ولا مستثنى من بيع ¬
الدليل الثاني
الغرر كما يراه المالكية (¬1)، وليس من قبيل الرخص ارتفاقًا بالعباد كما يراه الشافعية (¬2)، بل هو أصل بذاته، والمعنى يقتضيه؛ لأن خيار الشرط إما للتروي في الثمن، وليقف على غلائه ورخصه، وإما ليختبر المبيع، ويعلم جودته ورداءته، وإما ليؤامر نفسه في العزم على الشراء، وهذه المقاصد مشروعة، وتحقق الرضا من المتعاقدين، والذي هو شرط في صحة العقد، والله أعلم. الدليل الثاني: حكى جماعة من أهل العلم الإجماع على جواز اشتراط الخيار مدة معلومة في عقد البيع. منهم العيني، وابن الهمام من الحنفية، والنووي وجمع من الشافعية، وابن قدامة من الحنابلة. قال العيني: "وشرط الخيار جائز بإجماع العلماء والفقهاء" (¬3). وقال ابن الهمام: "شرط الخيار مجمع عليه" (¬4). وجاء في الفواكه الدواني: "والإجماع على جوازه". يعني خيار الشرط (¬5). ¬
ويناقش
وقال النووي: "واعلم أن أقوى ما يحتج به في ثبوت خيار الشرط الإجماع، وقد نقلوا فيه الإجماع، وهو كاف" (¬1). وقال أيضًا: "يصح شرط الخيار في البيع بالإجماع، إذا كانت مدته معلومة" (¬2). وقال ابن قدامة: "الضرب الثاني: خيار الشرط، نحو أن يشترط الخيار في البيع مدة معلومة، فيجوز بالإجماع" (¬3). ويناقش: لا يقوم الإجماع مع ثبوت الخلاف عن ابن شبرمة، والثوري، وابن حزم. الدليل الثالث: استدل الحنفية والشافعية بقصة حبان بن منقذ، واشتراط الرسول - صلى الله عليه وسلم - الخيار له. (ح-425) فقد روى الطحاوي من طريق الشافعي، عن سفيان، قال: حدثنا محمَّد بن إسحاق، عن نافع عن ابن عمر، أن حبان بن منقذ، كان شج في رأسه مأمومة، فثقل لسانه، فكان يخدع في البيع، فجعل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ابتاع من شيء، فهو بالخيار ثلاثًا، وقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل لا خلابة، قال ابن عمر، فسمعته يقول: لا خذابة، لا خذابة (¬4). ¬
[اضطرب فيه ابن إسحاق، والحديث في الصحيحين وليس فيه ذكر الخيار] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أجاز لحبان بن منقذ أن يشترط الخيار في بيعه دفعًا للضرر عنه، وهذا دليل على جواز اشتراط الخيار في البيع. والاستدلال بهذا اللفظ رغم ضعفه أصح من الاستدلال بلفظ الصحيحين، لعدم دلالته على المطلوب. قال ابن الهمام: "أما ما روي في الموطأ والصحيح عن ابن عمر أن رجلاً ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يخدع في البيوع، فقال: إذا بايعت فقل: لا خلابة، والخلابة الخديعة، فليس فيه دليل على المقصود، والعجب ممن قال: الأصل في جواز شرط الخيار، ثم ذكر هذا الحديث، وهو لا يمس المطلوب" (¬1). قلت: كونه لا يمس المطلوب؛ لأن شرط الخيار إنما يكون برضا المتعاقدين، بينما هذا يثبت لقائله بمجرد أن يقول: لا خلابة، سواء رضي الطرف الآخر أو لم يرض، ولأن الحديث في الصحيحين لم يذكر مدة معلومة ¬
الدليل الرابع
للخيار، فلو كان من قبيل خيار الشرط اشترط أن ينص على ذكر الأجل في الخيار؛ لأن الجهالة في المدة تبطل الشرط، بل قد تبطل العقد، وهذا دليل على أن الخيار فيه من قبيل خيار كتمان العيب، أو من قبيل الخديعة والتغرير، والذي لا يتوقف الحق فيه على أجل معين، والله أعلم. قال الباجي في المنتقى: "الخلابة أن يكتمه عيبًا فيها، ويقول: إنها تساوي أكثر من قيمتها، وأنه قد أعطي فيها الأكثر مما أعطى بها" (¬1). وقد رأى بعض الفقهاء أن حديث حبان بن منقذ خاص به، لا يتعداه إلى غيره، وقد ذهب إلى هذا جمع من العلماء منهم الإِمام محمَّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة (¬2) والإمام البيهقي (¬3) وغيرهما. ولعل الحامل على هذا والله أعلم ما كان يعاني منه حبان بن منقذ الذي ورد الحديث في شأنه من ضعف في عقله، إلا أن القول بالخصوصية فيه نظر، ذلك أن الخصوصية لا تثبت بمجرد الاحتمال، بل لا بد من التنصيص عليها. وهذا الجواب يقال لو كان الحديث ثابتًا، وإذ لم يكن ثابتًا لم يكن هناك مجال في الاحتجاج به، والله أعلم. الدليل الرابع: احتج المالكية على جواز اشتراط الخيار: (ح-426) بما رواه البخاري ومسلم من طريق مالك، عن نافع عن ¬
وجه الاستدلال
ابن عمر - رضي الله عنهما -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه، ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار (¬1). وجه الاستدلال: قال الباجي في المنتقى: "قوله - صلى الله عليه وسلم -: (... إلا بيع الخيار) يقتضي والله أعلم على تأويل مالك وأصحابه، إلا أن يشترط أحدهما الخيار على صاحبه مدة مقررة، يثبت مثلها في المبيع، ولا يقدر الخيار بمدة، فيقضي فيها بالواجب، فيكون الاستثناء على هذا مما يقتضيه قوله: إنهما بالخيار ما لم يفترقا، فإنه لا خيار بينهما بعد التفرق إلا في بيع الخيار، فكأنه قال: حكم البيع اللزوم بمجرد العقد إلا البيع الذي يشترط فيه الخيار، فيثبت فيه الخيار على حسب ما شرط" (¬2). ويناقش: بأنه قد تقدم الخلاف في تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلا بيع الخيار) وأن في المسألة ثلاثة أقوال، وبينا أن الراجح في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلا بيع الخيار) أنه استثناء من امتداد الخيار إلى التفرق، فيكون التقدير: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا البيع الذي جرى فيه التخاير. ونسبه ابن حجر إلى جمهور العلماء، وقال: جزم الشافعي به (¬3). وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: "وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلا بيع الخيار) فيه ثلاثة أقوال ... أصحها: أن المراد التخيير بعد تمام العقد، قبل مفارقة ¬
وجه الاستدلال
المجلس، وتقديره: يثبت لهما الخيار ما لم يتفرقا إلا أن يتخايرا في المجلس، ويختارا إمضاء البيع، فيلزم البيع بنفس التخاير، ولا يدوم إلى المفارقة" (¬1). (ح-427) ويؤيد ذلك ما رواه مسلم والنسائي أيضًا من طريق ابن جريج، قال: أملى علي نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا تبايع البيعان فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يفترقا، أو يكون بيعهما عن خيار، فإن كان عن خيار فقد وجب البيع (¬2). فلو كان المراد به خيار الشرط، لم يصح أن يقول: فقد وجب البيع. ويؤيده أيضًا ما رواه البخاري من طريق أيوب، عن نافع به، بلفظ: البيعان بالخيار، ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه اختر، وربما قال: أو يكون بيع خيار (¬3). وجه الاستدلال: قوله: "أو يقول لصاحبه: اختر، وربما قال: أو يكون بيع خيار". فهاتان الجملتان تفسر إحداهما الأخرى، فقوله: (أو يقول لصاحبه: اختر) هو بمثابة (أو يكون بيع خيار) ولذلك لم يرد قوله (إلا أن يكون بيع خيار) مع قوله: (أو يقول لصاحبه: اختر) مما يدل أنهما لفظان بمعنى واحد، فربما قال الراوي هذا، وربما استبدله بهذا اللفظ، وعليه فقوله: (إلا أن يكون بيع خيار) بمنزلة: أن يقول لصاحبه بعد إتمام البيع: اختر نفاذ البيع، أو فسخه، فإن اختار إمضاء البيع لزم البيع بينهما، وإن لم يتفرقا. ¬
دليل من قال: يصح الخيار للمشتري، ولا يصح للبائع.
دليل من قال: يصح الخيار للمشتري، ولا يصح للبائع. صاحب هذا القول رأى أن الأصل في العقود اللزوم، وأن شرط الخيار إنما ثبت في حق المشتري فقط، كما في حديث حبان بن منقذ المتقدم، فيقتصر عليه، ولا يجوز اشتراطه للبائع (¬1). ويناقش: أولاً: لا نسلم أن خيار الشرط ما ثبت إلا في حديث حبان بن منقذ، بل ثبت وفقًا للأصل الشرعي أن الأصل في العقود والشروط الصحة والجواز، وقد تضافرت الأدلة على صحة هذا الأصل، ومنها حكاية الإجماع من جمع من أهل العلم. ثانيًا: على التسليم بأن خيار الشرط لم يثبت إلا في حديث حبان بن منقذ، فقد أجاب ابن الهمام عن الاستدلال به، بأنه - صلى الله عليه وسلم - قال له: (إذا بايعت) وهذا يصدق بكونه بائعًا ومشتريًا (¬2). ولأن ما يثبت لأحد المتعاقدين يثبت للآخر، لكونه أحد طرفي العقد، أو للقياس عليه. ولأن خيار الشرط إنما جاز للحاجة إلى دفع الغبن بالتروي، والعاقدان في ذلك سواء، البائع والمشتري. دليل ابن حزم على أنه لا يجوز اشتراط الخيار في العقد: الدليل الأول: كل الأدلة التي ساقها ابن حزم في الاستدلال على أن الأصل في الشروط ¬
الدليل الثاني
التحريم والبطلان إلا ما دل الدليل على صحته من كتاب أو سنة أو إجماع، يستدل به هنا على بطلان خيار الشرط. والجواب عن تلك الأدلة هناك هو الجواب عن استدلاله بها في هذا الموضع، مما يغني عن تكرار ذكرها. الدليل الثاني: قال ابن حزم في معرض رده على جواز اشتراط الخيار: "نسألهم عن بيع الخيار، هل زال ملك بائعه عنه، وملكه المشتري له، أم لا، إذا اشترط الخيار للبائع أو لهما؟ فإن قالوا: لا، فهو قولنا، وصح أنه لا بيع هنالك أصلاً؛ لأن البيع نقل ملك البائع، وإيقاع ملك المشتري. وإن قالوا: نعم، قلنا: فالخيار لا معنى له، ولا يصح في شيء قد صح ملكه عليه - وأقوالهم تدل على خلاف هذا. فإن قالوا: قد باع البائع ولم يشتر المشتري بعد؟ قلنا: هذا تخليط وباطل، لا خفاء به؛ لأنه لا يكون بيع إلا وهنالك بائع ومبتاع وانتقال ملك. وهكذا إن كان الخيار للبائع فقط، فمن المحال أن ينعقد بيع على المشتري ولم ينعقد ذلك البيع على البائع. فإن كان الخيار لهما أو لأجنبي، فهذا بيع لم ينعقد لا على البائع، ولا على المبتاع، فهو باطل" (¬1). ¬
ويجاب عن ذلك
ويجاب عن ذلك: بأن البيع ينقل الملك، ولكن البيع مدة الخيار يكون جائزًا، وليس لازمًا، وهذا لا تعارض بينه وبين ثبوت الخيار، فإن خيار العيب، يجعل المشتري له حق الرد، وهو لا ينافي انتقال الملك، وابن حزم يرى خيار المجلس، ويقول به، ومع هذا لا ينافي ذلك ثبوت البيع، وانتقال الملك؛ إلا أنه انتقال غير لازم، فيملك الفسخ مدة الخيار، والله أعلم. الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال أرى أن القول الراجح هو القول بجواز اشتراط الخيار في عقد البيع، وإن الأخذ به يتمشى مع القواعد الفقهية، والمقاصد الشرعية، من تحقيق العدل والتراضي بين المتعاقدين، وتجنب الغلط، والبعد عن الغبن، والإحاطة في المبيع بتجريبه، والتروي وتقليب النظر في صالح الأمرين من الإمضاء أو الفسخ، والله أعلم. ***
المبحث الثالث في اشتراط الخيار لأجنبي
المبحث الثالث في اشتراط الخيار لأجنبي [م - 491] الأصل في خيار الشرط أنه راجع إلى إرادة العاقدين، والمراد بالعاقدين هنا ما هو أعم من المالكين فيشمل المالكين والوكيلين والوصيين وغيرهما ممن له الحق في إبرام العقد، وإذا عرفنا أن الخيار يثبت للعاقدين، فقد يكون اشتراط الخيار للعاقدين كليهما، وقد يشترط لأحدهما دون الآخر وهذا كله لا خلاف فيه بين الفقهاء القائلين بخيار الشرط. قال النووي: "يجوز شرط الخيار للعاقدين أو لأحدهما بالإجماع" (¬1). والسؤال، ماذا لو شرط العاقدان أو أحدهما الخيار لأجنبي من العقد ممن ليس له أي علاقة بالعقد، فهل يصح جعل الخيار لأجنبي؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: يجوز اشتراط الخيار لأجنبي عن العقد، وهذا ما عليه الأئمة الأربعة (¬2). القول الثاني: لا يجوز جعل الخيار لأجنبي، اختاره زفر من الحنفية (¬3)، وهو قول في ¬
القول الثالث
مذهب الشافعية (¬1). القول الثالث: البيع صحيح، والشرط باطل، حكاه الماوردي عن ابن سريج (¬2). دليل الجمهور على الجواز: الدليل الأول: أن اشتراط الخيار للأجنبي فيه معنى اشتراط الخيار للعاقدين نفسيهما؛ لأن المشترط يجعل غيره نائبًا عنه في التصرف بحكم الخيار، ولا يكون ذلك إلا بعد ثبوت الخيار له. الدليل الثاني: أن خيار الشرط إنما شرع من أجل الحاجة إلى دفع الغبن، وقد يشتري الإنسان شيئًا وهو غير مهتد فيه فيحتاج إلى اشتراطه لمن يكون مهتديًا من صديق أو قريب حتى ينظر له، فللحاجة إليه صار كاشتراط الخيار للعاقدين (¬3). دليل من قال: لا يجوز الخيار لأجنبي: الدليل الأول: أن اشتراط الخيار للعاقد مع أن القياس يأباه إنما ثبت بالنص، فيبقى اشتراطه لغيره على أصل القياس، وهو المنع (¬4). ¬
ويناقش
ويناقش: أن الحكم بجواز اشتراط الخيار معلول بالحاجة إلى النظر والتأمل، وهذا كما يكون للعاقد، قد يكون لرجل أجنبي بحيث يساعد العاقد على التأمل والنظر كما لو كان العاقد ليس من أهل الخبرة والنظر، فتتحقق الحكمة من اشتراط الخيار، والله أعلم. الدليل الثاني: أن الخيار من حقوق العقد وأحكامه، وحقوق العقد تثبت للعاقد، فاشتراطه لغير العاقد خلاف مقتضى العقد، فيكون مفسدًا للعقد، فلا يجوز اشتراطه لغير العاقدين كما لا يجوز اشتراط الثمن على غير المشتري (¬1). ويناقش: إذا كان الخيار من حقوق العاقد فإن الحقوق تقبل الانتقال، فكما يجوز له التنازل عن حقه، يجوز له نقله إلى غيره كسائر الحقوق التي تقبل الانتقال. أما القياس على الثمن فغير مسلم، وذلك أن الثمن من موجبات العقد باعتباره من مقاصد العقد ومقوماته بخلاف الخيار الذي هو أمر زائد على العقد أوجبه الشارع بإيجاب العاقد له على نفسه أو غيره لمصلحة العاقدين، والدليل على ذلك أنه إذا لم يشترط العاقدان أو أحدهما الخيار لا يؤثر ذلك في العقد، ولا يفسده أو يبطله؛ وإنما يؤثر فيه برفع اللزوم إلى وقت معلوم، فقياس الخيار على الثمن قياس مع الفارق. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن في اشتراط الخيار لأجنبي تعليقًا لفسخ البيع بفعل الغير، والعقود لا تحتمل التعليق. ويناقش: أولاً: القول بأن العقود لا تقبل التعليق قول غير مسلم به، وقد ناقشنا تعليق العقود في مسألة مستقلة، وبينا أن العقود تحتمل التعليق، وقد اختار كثير من الفقهاء جواز البيع إذا قال العاقد: اشتريته إن رضي زيد أو رضي أبي. ثانيًا: على فرض التسليم بأن العقود لا تحتمل التعليق، فإن الخيار ليس تعليقًا لذات البيع، بل هو تعليق للفسخ، والفسخ يقبل التعليق، وتعليق الفسخ غير تعليق العقد. الدليل الرابع: اعتبار خيار الشرط بخيار العيب والرؤية، فإذا كان خيار العيب والرؤية لا يجوز شرطهما لغير العاقدين فكذا خيار الشرط (¬1). ويناقش: بأن هناك فرقًا بين خيار العيب والرؤية وبين خيار الشرط، فإن الخيار في العيب والرؤية لم يثبت بإرادة المتعاقدين، وإنما وجدا حين وجد المقتضي لذلك، كوجود العيب في السلعة، وبيع الغائب بلا صفة ولا رؤية، أما خيار الشرط فلا يثبت إلا بالرضا والاشتراط من العاقدين أو من أحدهما, ولا يثبت بغير اشتراط فافترقا. ¬
دليل من قال: البيع صحيح والشرط باطل
دليل من قال: البيع صحيح والشرط باطل: يمكن أن يستدل له: بأن العقد قد تمت أركانه، وتوفرت شروطه، واشتراط الخيار هو أمر زائد على موجبات العقد، فإذا تطرق إليه الخلل لم يتطرق إلى العقد، والله أعلم الترجيح: القول الراجح هو قول عامة الفقهاء: وهو أن الخيار كما يكون حقًا للشخص يمكن أن يجعله صاحبه لنفسه، ويمكن أن يجعله لشخص آخر يراه أهلاً ومحلاً لثقته وخبرته، كما لو اختار رجلاً أجنبيًا، وهذه المسألة لا تبعد عن مسألة سابقة: أن يشتري الرجل البضاعة بشرط أن يرضى فلان. ***
المبحث الرابع حكم الخيار إذا كان المبيع مما يتسارع إليه الفساد
المبحث الرابع حكم الخيار إذا كان المبيع مما يتسارع إليه الفساد [م - 492] إذا كان المبيع مما يتسارع إليه الفساد، كالخضار والفواكه، فهل يصح اشتراط الخيار، والمبيع كذلك؟ اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: مذهب الحنفية: نص الحنفية على هذه المسألة بأن الرجل إذا اشترى شيئًا مما يتسارع إليه الفساد على أنه بالخيار ثلاثة أيام: فالقياس عندهم: أنه لا يجبر المشتري على شيء. والاستحسان: أن يقال للمشتري: إما أن تفسخ البيع، وإما أن تأخذ المبيع، ولا شيء عليك من الثمن حتى تجيز البيع، أو يفسد عندك. يعني: فإن فسد عنده لزمه الثمن (¬1). فالحنفية يقيدون مدة الخيار بثلاثة أيام، فإذا كان المبيع مما يتسارع إليه الفساد، واشترط المتعاقدان الخيار برضاهما، فإنهما يتحملان مسئولية ذلك، فإن فسد البيع مدة الخيار، وهو عند المشتري لزمه الثمن، ومعلوم أنه لو فسد المبيع، وهو عند البائع كان فساده من ماله، وليس من مال المشتري. القول الثاني: مذهب المالكية: أرجع المالكية القول فيه إلى عمل الناس، وقيدوا ذلك بأن يكون في مدة لا يقع فيها تغيير ولا فساد. ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية
جاء في المدونة: "قلت: أرأيت لو أن رجلاً اشترى بطيخًا، أو قثاء، أو فاكهة رطبة: تفاحًا، أو خوخًا، أو رمانًا على أنه بالخيار في ذلك يومًا، أو يومين، أيكون له هذا الخيار الذي شرط في ذلك؟ قال: لم أسمع من مالك في هذا شيئًا، وأرى أن ينظر في هذا إلى ما يصنع الناس، فإن كانوا يستشيرون في ذلك، ويرون هذه الأشياء غيرهم، ويحتاجون فيه إلى رأي غيرهم، رأيت لهم من الخيار قدر حاجتهم إلى ذلك، على ما وصفت لك من الخيار في غيرها من الأشياء، مما لا يقع فيه تغيير ولا فساد" (¬1). القول الثالث: مذهب الشافعية: لا يصح اشتراط الخيار فيما يتسارع إليه الفساد في أصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬2). قال النووي: "لو كان المبيع مما يتسارع إليه الفساد، فباعه بشرط الخيار ثلاثة أيام، فوجهان، حكاهما صاحب البيان (¬3): أصحهما: يبطل البيع. والثاني: يصح، ويباع عند الإشراف على الفساد، ويقام ثمنه مقامه، وهذا غلط ظاهر" (¬4). ¬
وجه الفرق
وقال المرداوي الحنبلي: لو قيل بعدم الصحة لكان متجهًا، وهو أولى (¬1). وقال الزركشي: "قال أبو العباس: ويتوجه عدم الصحة من وجه في الإجارة، أي من وجه عدم صحة اشتراط الخيار في إجارة تلي العقد، ومن أن تلف المبيع يبطل الخيار" (¬2). وقد فرق الشافعية بين خيار المجلس، وبين خيار الشرط، فقالوا بثبوت خيار المجلس فيما يتسارع إليه الفساد، وامتداده ما دام في المجلس، وإن لزم تلف المبيع بخلاف خيار الشرط. وجه الفرق: أن خيار المجلس يثبت قهرًا من الشارع، فهو خيار حكمي، بخلاف خيار الشرط، فهو لا يثبت إلا بإرادة المتعاقدين ورضاهما (¬3). القول الرابع: مذهب الحنابلة: يصح، ويباع عند الإشراف على الفساد، ويقام ثمنه مقامه، وهذا هو مذهب الحنابلة (¬4)، ووجه مرجوح عند الشافعية (¬5). قال الزركشي: "وهذا قياس ما قالوه في الرهن، إذا كان لا يبقى إلى المدة" (¬6). ¬
الراجح
الراجح: أجد أن مذهب المالكية هو أعدل الأقوال، حيث اشترط أن تكون حاجة الناس قائمة إلى المشاورة في مثل هذا البيع، وأن يكون العمل جاريًا عندهم في ذلك، وأن يكون الخيار في مدة قبل تغير المبيع وفساده، فإذا كان يتغير خلال ثلاثة أيام، فليكن الخيار في يوم واحد، أو يومين، والله أعلم.
المبحث الخامس في مدة خيار الشرط
المبحث الخامس في مدة خيار الشرط [م - 493] اتفق عامة الفقهاء القائلين بجواز اشتراط الخيار في عقد البيع بأن المدة لا بد أن تكون معلومة (¬1)، واختلفوا في مقدارها على ثلاثة أقوال: القول الأول: الحد الأقصى الذي يجوز اشتراطه هو ثلاثة أيام فأقل، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3). القول الثاني: ليس له قدر محدود في نفسه، وإنما يتقدر بقدر الحاجة، ولا يجوز الزيادة على قدر الحاجة، وهي تختلف باختلاف المبيع، والغرض من الخيار. فهو في الدار الشهر ونحوه، وفي الرقيق: الخمسة أيام والجمعة، وما أشبه ذلك. وفي الدابة: اليوم وما أشبهه، ولا بأس أن يشترط السير عليها البريد والبريدين ما لم يتباعد ذلك. والفرق بينها وبين الرقيق: أنها لا تميز، فتكتم أخلاقها وأحوالها. ¬
وفي الثوب: اليومان والثلاثة. كما أن المدة تختلف باختلاف الغرض من الخيار: فهناك فرق بين شرط الخيار لاختبار السلعة، وبين شرط الخيار لغرض المشورة، أو للتعرف على حقيقة الثمن غلاء ورخصًا. ولو شرط في الخيار مدة زائدة عن قدر الحاجة بكثير فسد العقد (¬1). ¬
القول الثالث
القول الثالث: لا تحديد لمدة الخيار، فتصح المدة وإن طالت ما دامت معلومة، وهذا مذهب الحنابلة (¬1)، واختيار أبي يوسف ومحمد من الحنفية (¬2). دليل من قال: لا يجوز اشتراط أكثر من ثلاثة أيام: الدليل الأول: (ح-428) روى الطحاوي من طريق الشافعي، عن سفيان، قال: حدثنا محمَّد بن إسحاق، عن نافع عن ابن عمر، أن حبان بن منقذ، كان شج في رأسه مأمومة، فثقل لسانه، فكان يخدع في البيع، فجعل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ابتاع من شيء، فهو بالخيار ثلاثًا، وقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل لا خلابة، قال ابن عمر، فسمعته يقول: لا خذابة، لا خذابة (¬3). وجه الاستدلال: مقتضى عقد البيع: هو اللزوم، وشرط الخيار مخالف لهذا، وإنما جوزنا شرط الخيار وإن كان بخلاف القياس بما رويناه من النص، فيقتصر على مورد النص، ويبقى ما زاد عليها على أصل القياس. ¬
ويناقش
ويناقش: أولاً: أن ذكر اشتراط الخيار لم يثبت في الحديث، فقد انفرد به ابن إسحاق، وقد اضطرب فيه، والحديث في الصحيحين من مسند ابن عمر، وفي السنن من مسند أنس وليس فيه أنه بالخيار ثلاثًا (¬1). ثانيًا: لو صح الحديث لكان التقدير بالثلاث خرج مخرج الغالب؛ لأن النظر يحصل فيها غالبًا، وهذا لا يمنع من الزيادة عليها عند الحاجة، كما قدرت حجارة الاستنجاء بثلاثة، ثم لو دعت الحاجة إلى الزيادة وجب (¬2). الدليل الثاني: استدل الحنفية بحديث التصرية على جواز اشتراط الخيار في البيع (¬3). (ح-429) وحديث التصرية رواه مسلم من طريق قرة، عن محمَّد، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها رد معها صاعًا من طعام، لا سمراء. ورواه مسلم من طريق يعقوب يعني: ابن عبد الرحمن القارئ، عن سهيل، عن أبيه عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها ورد معها صاعًا من تمر (¬4). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل خيار التصرية له أجلاً لا يزيد عن ثلاثة أيام، فكذلك خيار الشرط. ويناقش: أولاً: الحنفية لا يأخذون بالحديث، فهم لا يرون التصرية عيبًا ترد به الشاة، كما بيناه فيما سبق، ويرون أن رد الصاع من التمر بدلاً من الحليب على خلاف القياس عندهم، فهم لا يأخذون بالحديث، ولا يصححونه، فكيف يحتجون به في توقيت الخيار بثلاثة أيام، فهذا من عجيب الاستدلال (¬1). ثانيًا: أن الخيار في التصرية هو من قبيل خيار العيب، وهو يختلف عن خيار الشرط، فخيار الشرط: هو خيار ينعقد بإرادة المتعاقدين واتفاقهما، وإرادتهما مطلقة في المدة التي يختارونها، بينما هذا: خيار يثبت لصاحبه الذي تعرض للغش والخداع والتدليس، فكيف يحتج به في غير بابه. وبمعنى آخر: أن خيار التصرية ثابت بالشرع، وخيار الشرط لا يثبت إلا بالاشتراط. ثالثًا: أن توقيت الخيار في ثلاثة أيام في خيار التصرية: هو خاص في التصرية خاصة، وذلك أن عيب التصرية غالبًا لا يعلم فيما دون ذلك، بينما غيره من السلع قد يتطلب الأمر أكثر من ثلاثة أيام لمعرفة عيوب السلعة، وهذا ظاهر. ¬
دليل من قال: يختلف ذلك باختلاف السلع
رابعًا: الخيار الثابت بحديث التصرية إنما هو للمشتري فقط دون البائع سواء رضي بذلك أم لم يرض بخلاف خيار الشرط فإن ذلك قد يكون للبائع، وقد يكون للمشتري، وقد يكون لكلا المتعاقدين. دليل من قال: يختلف ذلك باختلاف السلع: لما كان اشتراط الخيار مستثنى من بيع الغرر؛ للتردد في العقد؛ لأنه لا يدري ما يؤول إليه الأمر، لكن أجازه الشارع رفقًا بالمتبايعين للنظر، والرأي، والاختبار، وليدخل من له الخيار على بصيرة بالثمن والمثمن، ولينفي الغبن عن نفسه، فإنه يجب أن يكون الأجل بقدر الحاجة، تقليلاً للغرر، وإذا كان الأجل بقدر الحاجة فإن ذلك يختلف باختلاف السلع، والغرض من الخيار، فمن اشترط الخيار للمشورة لا يحتاج من الأجل كما يحتاج من اشترط الخيار لأجل تجربة المبيع، والوقوف على حقيقته. ويناقش: أولاً: لا نسلم أن اشتراط الخيار مستثنى من بيع الغرر؛ لأن الخيار غاية ما فيه أنه يحول العقد من كونه لازمًا إلى كونه جائزًا، ومثل هذا لا يعتبر من الغرر، لأن العاقد قد دخل على بصيرة، وأجل الخيار معلوم لدى المتعاقدين ولو كان طويلاً، فانتفت الجهالة وانتفى الغرر. ثانيًا: أن تقدير المدة واختلافها من سلعة إلى سلعة، ومن غرض إلى آخر بحيث لو زادت المدة على هذا التقدير فسد العقد هذا الأمر يعسر ضبطه، وقد يختلف الناس في تقديره، فإن كان تقدير ذلك للفقهاء فهم قد لا يكونون من أهل المعرفة لبعدهم عن التجارة، وإن كان مرد ذلك إلى التجار أدى ذلك إلى الاختلاف والتنازع في ضبط مثل ذلك لاختلاف عرف التجار، واتساع رقعة
دليل الحنابلة على أن الأجل يرجع إلى تقدير المتعاقدين طال أو قصر.
البلاد، فالتقدير لا يمكن ضبطه إلا بتوقيف، أي بنص من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا توقيف هنا. دليل الحنابلة على أن الأجل يرجع إلى تقدير المتعاقدين طال أو قصر. الدليل الأول: عدم الدليل على التحديد، وما جاء مطلقًا أخذ على إطلاقه، فالتقييد بمدة معينة يحتاج إلى توقيف، ولا توقيف هنا. الدليل الثاني: جعل الشارع حق الخيار يعتمد على العاقد في اشتراطه، فلو لم يشترطه لم يثبت له هذا الحق، فإذا كان وجود الخيار يتوقف على اشتراط العاقد فليرجع تقديره إلى العاقد أيضًا كالأجل في العقد. الدليل الثالث: الأجل في العقد شرع للحاجة إلى التأخير مخالفًا لمقتضى العقد، ثم جاز أي مقدار تراضيا عليه طال الأجل أم قصر، فكذلك الأجل في شرط الخيار يرجع إلى العاقد، فإذا تراضيا على مدة معينة جاز. الدليل الرابع: جواز العقد أو لزومه حق للمتعاقدين بدليل أنه يملك أحد العاقدين أن يقيل الآخر متى ما طلب ذلك، فإذا كان ذلك كذلك كان تقدير مدة الخيار حقًا لهما، فأي مدة اتفقا عليها جاز ذلك لهما, ولا تقييد لحريتهما في ذلك. الراجح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها أجد أن قول الحنابلة هو أقوى الأقوال، لقوة
أدلته، والجواب عن أدلة المخالفين، وعليه عمل الناس اليوم، فإن شرط الخيار وتحديد مدته راجع إلى إرادة المتعاقدين، فإذا اتفقا على ذلك، وكان ذلك بالتراضي لا يوجد دليل يبطل ما اتفقا عليه، والله أعلم. ومما ينبغي التنبيه عليه أن مجلة الأحكام العدلية لم تشر إلى مدة خيار الشرط مما يدل على أنها تتبنى مذهب من لا يرى التحديد، وقد نبه على هذا العلامة علي حيدر بقوله: "وقد أطلقت المجلة المدة إشارة إلى أن مدة الخيار التي يتفق عليها معتبرة مهما بلغت الأيام" (¬1). ¬
المبحث السادس إذا شرط الخيار ولم تذكر مدته
المبحث السادس إذا شرط الخيار ولم تذكر مدته [م - 494] اختلف العلماء في العاقد يشترط الخيار دون أن يقرر مدته. فقيل: يفسد العقد إلا أن يجيز البيع أو يبطل خياره قبل مضي ثلاثة أيام، فينقلب صحيحًا (¬1)، وهذا مذهب أبي حنيفة (¬2). ¬
تعليل الحنفية على أنه إن أجاز أو أبطل خياره في الثلاث صح
وقيل: يبطل العقد، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة (¬1). وقيل: لا يبطل البيع، ويحكم في ذلك بمقدار ما تختبر به تلك السلعة في غالب العادة، وهذا مذهب المالكية (¬2). وقيل: يجوز اشتراط الخيار مطلقًا, ويكون له الخيار أبدًا. وهذا القول منسوب للثوري، والحسن بن جني، وجماعة (¬3). وقيل: البيع صحيح، والشرط باطل، وبه قال الأوزاعي، وابن أبي ليلى (¬4). تعليل الحنفية على أنه إن أجاز أو أبطل خياره في الثلاث صح: تقدم لنا دليل الحنفية على أن مدة خيار الشرط ثلاثة أيام، فإذا أطلق مدة الخيار، وأجاز البيع أو أبطل خياره قبل مضي ثلاثة أيام فإن المفسد للعقد قد زال قبل تقرره، فينقلب العقد صحيحًا؛ لأن المفسد اتصال اليوم الرابع بهذه المدة، فإذا حذفه قبل اليوم الرابع فقد منع اتصال المفسد بالعقد، فصار كأن الخيار لم يكن مشروطًا في اليوم الرابع (¬5). ¬
دليل المالكية على أنه يجوز، وتقدر المدة بقدر الحاجة
وإنما انقلب صحيحًا عند الحنفية بناء على مذهبهم في التفريق بين الباطل والفاسد خلافًا للجمهور: فالحنفية يرون أن العقد الفاسد ما كان مشروعًا بأصله دون وصفه، وأنه ينفذ بمجرد زوال صفة الإفساد، وهذا العقد فاسد لأن الخلل تطرق إلى اشتراط الخيار، وهو كالوصف في العقد. وقد تقدم تقرير مذهبهم، ومناقشته في مسألة سابقة في كتاب الشروط الجعلية، فأغنى عن إعادته هنا. دليل المالكية على أنه يجوز، وتقدر المدة بقدر الحاجة: ذكر المالكية أن خيار الشرط له قدر في الشرع، وذلك قدر الحاجة إليه في كل نوع من المبيع، فإذا أخلا بذكره فقد دخلا على المعروف، ألا ترى أنهما لو زادا عليه لفسد العقد به، ولم يثبت لهما ما زاداه. ويناقش: بأن هذا الدليل قائم على دعوى أن الشرع قد قدر لكل سلعة من المبيع مدة محدودة في خيار الشرط، فإذا لم يذكر العاقدان المدة رجعا إليه، ولكن القول بأن الشرع قد حدد مدة الخيار لكل سلعة دعوى لا دليل عليها, وليس هناك توقيف من الشارع في ذكر مدة الخيار، فإذا أخلا بذكر الأجل كان الأجل مجهولاً، والأجل المجهول يؤدي إلى فساد العقد، والله أعلم. دليل الشافعية والحنابلة وزفر على بطلان العقد: أن العقد باطل؛ لأن الجهالة في مدة الخيار من الغرر المؤثر في صحة العقد، فلا يصح العقد، ولا ينقلب صحيحًا إذا أجازه في الثلاثة الأيام؛ لأن العقد لما انعقد باطلاً لا يمكن له أن ينقلب صحيحًا، وإنما يحتاج إلى عقد جديد، والله أعلم.
دليل من قال: العقد صحيح، والشرط باطل
دليل من قال: العقد صحيح، والشرط باطل: ربما رأى صاحب هذا القول أن الخلل لا يعود إلى العقد، فالعقد صحيح قد تمت شروطه وتوفرت أركانه، وإنما تطرق الخلل إلى اشتراط الخيار فيبطل الخيار وحده، ويكون البيع صحيحًا. دليل من قال: يصح الشرط ويكون له الخيار أبدًا: لم أقف على دليل له، ويمكن أن يستدل له بأن العاقد إذا شرط على نفسه شرطًا لزمه، وقد قبل أن يكون العقد جائزًا مدة بقاء السلعة عنده فيلزم في حقه. الراجح: أجد مذهب المالكية أعدل الأقوال، وأن العاقدين حين لم يذكرا مدة العقد قد رضيا أن يعملا بما تعارف الناس عليه، والله أعلم.
المبحث السابع ابتداء مدة الخيار بالشرط
المبحث السابع ابتداء مدة الخيار بالشرط [م - 495] إذا عقد البيع، واشترط فيه الخيار مدة معلومة، فمتى تبدأ مدته؟ هل تبدأ من حين العقد، أو من حين انتهاء خيار المجلس؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب الحنفية والمالكية إلى أن أول مدة الخيار تبدأ من حين العقد، وهذا واضح؛ لأنهم لا يقولون بخيار المجلس كما مر معنا. قال ابن جزي: "في مدته -يعني مدة الخيار- وأولها عند العقد، وآخرها مختلف باختلاف المبيعات ... " (¬1). القول الثاني: تبدأ المدة من حين اشتراطه، فإن كان اشتراطه في العقد كان ابتداؤها من العقد، وإن كان اشتراطه بعد العقد في المجلس فمن حين اشترط. وهذا هو مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). ¬
ووجهه
ووجهه: أن مدة الخيار مدة ملحقة بالعقد، فاعتبر ابتداؤها من حين العقد كالأجل. ولأن الخيار لو اعتبر من التفرق لصارت أول مدة الخيار مجهولة؛ لأنه لا يعلم متى يفترقان. ويتفرع عليه: أنه لو اشترط أن يكون ابتداء الخيار من حين التفرق لم يصح الشرط للجهالة؛ لأنهما لا يدريان متى يفترقان، وقد صرح بهذا الشافعية والحنابلة (¬1). كما يتفرع عليه أيضًا ما قاله النووي: "قال أصحابنا: فإن قلنا: ابتداء المدة من حين العقد فانقضت، وهما مصطحبان فقد انقطع خيار الشرط، وبقي خيار المجلس، وإن تفرقا والمدة باقية فالحكم بالعكس، ولو أسقطا أحد الخيارين سقط، ولم يسقط الآخر، ولو قالا: ألزمنا العقد أو أسقطنا الخيار سقطا جميعا ولزم البيع، هذا تفريع كونه من العقد" (¬2). ¬
القول الثالث
القول الثالث: قالوا: تبدأ المدة من التفرق، أو التخاير، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬1)، ونسبه الماوردي إلى الجمهور (¬2)، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬3). تعليل هذا القول: التعليل الأول: أن الشارط قصد بالشرط زيادة على ما يفيده المجلس. التعليل الثاني: ولأن الخيار ثابت في المجلس حكمًا، فلا حاجة إلى إثباته بالشرط. وتعقب هذان: بأنه ليس هناك ما يمنع من ثبوت الحكم بسببين، كتحريم الوطء بالصيام والإحرام، والظهار. فلا يمنع أن يثبت الخيار بسببين: خيار المجلس وخيار الشرط. التعليل الثالث: ولأن حالة المجلس كحالة العقد؛ لأن لهما فيه الزيادة والنقصان، فكان كحالة العقد في ابتداء مدة الخيار بعد انقضائه (¬4). وبناء على هذا القول فلو اشترط أن يبدأ الخيار من العقد، فهل يبطل العقد. ¬
ويتفرع عليه
قال الشيرازي: "إن قلنا: إن ابتداءه من حين التفرق، فشرط أن يكون من حين العقد، فوجهان: أحدهما: يصح؛ لأن ابتداء الوقت معلوم. والثاني: لا يصح؛ لأنه شرط ينافي موجب العقد، فأبطله" (¬1). وقال النووي: أصحهما باتفاق الأصحاب لا يبطل، وممن صححه صاحب الشامل والروياني وصاحب البيان والرافعي وآخرون (¬2). ويتفرع عليه: قال النووي: "فأما إذا قلنا: من التفرق -يعني ابتداء مدة الخيار- فإذا تفرقا انقطع خيار المجلس وابتدأ خيار الشرط، وإن أسقطا الخيار قبل التفرق انقطع خيار المجلس، وفي خيار الشرط وجهان حكاهما إمام الحرمين والبغوي وغيرهما: أحدهما: ينقطع؛ لأن مقتضاهما واحد. وأصحهما: لا ينقطع؛ لأنه غير ثابت في الحال، فكيف يسقط؟ والله تعالى أعلم" (¬3). الراجح من الخلاف: الذي أميل إليه أن ابتداء المدة من حين الاتفاق على الشرط، فإن اشترط في العقد فمن حين العقد، وإن اشترط في خيار المجلس فمن حين اشترط، هذا هو الأصل. ¬
أما القول بأنه إن اشترط من حين التفرق فإنه يبطل العقد للجهالة؛ لأنهما لا يدريان متى يفترقان، فهذا قول مرجوح؛ لأن التفرق وإن لم يعلم بدقة، فهو وقت يسير غالبًا، فمجلس العقد غالبًا ما تكون مدته يسيرة، ولذا لو كانت الجهالة بالتفرق مؤثرة لم يشرع خيار المجلس مع قيام الجهالة بالتفرق، فالجهالة اليسيرة مغتفرة، والله أعلم. ***
المبحث الثامن في اتصال مدة الخيار وموالاتها
المبحث الثامن في اتصال مدة الخيار وموالاتها [م - 496] المقصود باتصال مدة الخيار، ألا يكون هناك فاصل بين العقد وبين مدة الخيار. والمقصود بالموالاة: تتابع أجزاء مدة الخيار، بحيث لا يكون الخيار مدته ثلاثة أيام: اليوم الأول يثبت فيه الخيار، واليوم الثاني لا يثبت، واليوم الثالث يثبت فيه الخيار، وهكذا. وقد تقدم لنا في المسألة السابقة أن هناك قولاً مرجوحًا في مذهب الشافعية والحنابلة بأنه يمكن أن تبدأ مدة الخيار من التفرق، وهذا يعني: أن اتصال بداية مدة الخيار ممكن أن تتأخر عن العقد بناء على هذا القول. كما تقدم لنا أن القائلين بثبوت خيار المجلس يقولون بأنه يمكن أن يشترط الخيار أثناء مدة خيار المجلس، وبعد العقد وهذا يعني أيضًا أن يكون هناك فاصل بين إبرام العقد، وبين اشتراط الخيار. أما إذا لم يتصل الخيار بالعقد إلا بعد التفرق، ففيه خلاف في صحة الشرط على قولين: القول الأول: ذهب الجمهور إلى بطلانه. ففي الفتاوى الهندية، "إذا اشترط للمشتري خيار يومين بعد شهر رمضان، والشراء في آخر شهر رمضان، فالشراء جائز، وله الخيار ثلاثة أيام: اليوم الأخير من شهر رمضان، ويومين بعده، ولو قال: لا خيار له في رمضان فالبيع
فاسد، كذا في المحيط" (¬1). لأنه حين قال: لا خيار له في رمضان، أصبح الخيار غير متصل بالعقد، ولهذا فسد البيع، ويتعذر تصحيحه في هذه الحال مع عدم اتصال الخيار بالعقد، وهذا ما علل به ابن نجيم في البحر الرائق (¬2). وفي الجوهرة النيرة: "ولو اشترى شيئًا على أن له الخيار بعد شهر، كان له الخيار شهرًا كاملًا وثلاثة أيام عند محمَّد -يعني محمَّد بن الحسن. وقال أبو يوسف: لا خيار له بعد الشهر" (¬3). ولما كان محمد بن الحسن وأبو يوسف يخالفان أبا حنيفة في مدة الخيار، وأنه لا مانع عندهما من الزيادة على ثلاثة أيام، فإذا اشترط الخيار بعد شهر، حسب الشهر من مدة الخيار حتى لا يفصل بين العقد وبين مدة الخيار بفاصل. واكتفى أبو يوسف بالشهر مدة للخيار، وزاد عليه محمد بن الحسن ثلاثة أيام بعد الشهر؛ لأن هذا ما يفيده كلمة بعد شهر. وقال النووي: "قال أصحابنا: ويشترط أن تكون المدة متصلة بالعقد، فلو شرطا خيار ثلاثة أيام أو دونها من آخر الشهر، أو من الغد، أو متى شاء، أو شرطا خيار الغد دون اليوم، بطل العقد؛ لمنافاته لمقتضاه" (¬4). وقال ابن قدامة: "وإن شرط الخيار شهرًا، يوماً يثبت، ويومًا لا يثبت، فقال ابن عقيل: يصح في اليوم الأول؛ لإمكانه، ويبطل فيما بعده؛ لأنه إذا لزم في اليوم الثاني لم يعد إلى الجواز. ¬
القول الثاني
ويحتمل بطلان الشرط كله؛ لأنه شرط واحد، تناول الخيار في أيام، فإذا فسد في بعضه، فسد جميعه، كما لو شرط إلى الحصاد" (¬1). القول الثاني: قيل: يصح، وهو قول في مذهب الحنابلة قدمه في الرعاية الكبرى. قال ابن مفلح: "وإن شرطاه يومًا نعم، ويومًا لا، فقيل: يبطل، وقيل: يصح، وقيل: في اليوم الأول" (¬2). علق عليه في تصحيح الفروع: "القول الأول: احتمال في المغني، وهو قوي. والقول الثاني: قدمه في الرعاية الكبرى. والقول الثالث: أصح، واختاره ابن عقيل، وجزم به ابن الجوزي في المذهب، وقدمه في الفائق، وشرح ابن رزين، وأطلق الأول والثالث في الكافي، وهو ظاهر المغني والشرح ... " (¬3). ... ¬
المبحث التاسع في محل خيار الشرط
المبحث التاسع في محل خيار الشرط [م - 497] اتفق الأئمة الأربعة على صحة اشتراط الخيار في صلب العقد. جاء في اللباب: "خيار الشرط جائز في صلب العقد" (¬1). وقال ابن عبد البر: "من لم يشترط الخيار في عقد صفقته لم يجب له" (¬2). وقال الرملي، وهو يتكلم عن شرط الخيار: "الشرط المؤثر هنا هو ما وقع في صلب العقد من المبتدئ به ... " (¬3). وقال البهوتي: "خيار الشرط: وهو أن يشترطاه في العقد ... مدة معلومة" (¬4). واختلفوا في صحة اشتراطه قبل العقد وبعده قبل لزومه كما في مدة الخيارين (خيار المجلس وخيار الشرط) وبعد لزوم العقد، وهذا ما سوف نتعرض له إن شاء الله في المباحث التالية. ¬
الفرع الأول اشتراط خيار الشرط قبل العقد
الفرع الأول اشتراط خيار الشرط قبل العقد قال ابن تيمية: الشرط المتقدم على العقد بمنزلة المقارن (¬1). وقال أيضًا: الاتفاق الموجود قبل العقد بمنزلة المشروط في العقد (¬2). [م - 498] إذا اشتراط العاقدان أو أحدهما خيار الشرط قبل العقد، ثم أبرم العقد دون أن يذكر الشرط، فقد اختلف العلماء في لزوم هذا الشرط، وهذه المسألة ترجع إلى مسألة أخرى: هل الشرط المتقدم على العقد بمنزلة المقارن له، وهي مسألة خلافية، والخلاف فيها على النحو التالي. القول الأول: الشرط المتقدم على العقد إذا لم يذكر في صلب العقد غير معتبر، وهذا هو مذهب الحنفية (¬3)، والشافعية (¬4)، وقول في مذهب أحمد قد يختاره في بعض المواضع طائفة من أصحابه (¬5). ¬
القول الثاني
القول الثاني: الشرط المتقدم على العقد بمنزلة المقارن له. وهذا هو مذهب المالكية (¬1)، ومذهب أهل الحديث كالإمام أحمد وغيره (¬2)، وهو قول في مذهب الشافعي (¬3)، وصححه ابن تيمية من الحنابلة (¬4)، وتابعه عليه ابن القيم، ونسبه قولًا للجمهور (¬5). القول الثالث: التفريق بين الشرط المتقدم الرافع لمقصود العقد، وبين الزائد عليه أو المقيد ¬
له، فإن كان رافعًا كان الشرط المتقدم مؤثرًا، كما لو تواطأ العاقدان على كون العقد تلجئة، أو تحليلًا فإن العقد يبطل. وإن لم يكن رافعًا بل كان مقيداً له أو زائدًا عليه، كاشتراط كون المهر أقل أو أكثر من المسمى، فاشتراط الخيار لا يؤثر، وهذا قول طائفة من أصحاب أحمد، كالقاضي أبي يعلى (¬1). إذا علم هذا نأتي إلى مسألتنا بخصوصها: [م - 499] فإذا اشترط العاقد الخيار قبل الجلوس لأبرام العقد، ثم وقع بينهما العقد مطلقاً من غير اشتراط الخيار، فهل يثبت الخيار؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم: القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يلزم الوفاء به. وهذا مذهب الحنفية والشافعية، واختاره بعض المالكية، وبعض الحنابلة. قال ابن نجيم: "لو قال: جعلتك بالخيار في البيع الذي نعقده، ثم اشترى مطلقاً لم يثبت كما في التتارخانية" (¬2). وجاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "اشتراط الخيار بعد العقد، وهذا لا حكم له، فإذا قال شخص لآخر: خيرتك في البيع الذي سنعقده، ثم وقع بينهما العقد مطلقاً أي بغير اشتراط الخيار فلا يثبت بذلك خيار" (¬3). ¬
ومثله عند الشافعية، قال النووي في المجموع: "الشرط المقارن للعقد يلحقه، فإن كان شرطًا صحيحًا لزم الوفاء به، وإن كان فاسدًا أفسد العقد، وأما الشرط السابق فلا يلحق العقد، ولا يؤثر فيه، فلا يلزم الوفاء به، ولا يفسد العقد به إن كان شرطًا فاسدًا؛ لأن ما قبل العقد لغو، هكذا نص عليه، وقطع به الأصحاب" (¬1). وقال ابن مفلح في المبدع: "الثاني: خيار الشرط، وهو أن يشترطاه في العقد، وظاهره لو اتفقا قبله لم يلزم الوفاء به" (¬2). وقال في مطالب أولي النهى: "خيار شرط: وهو أن يشترطاه في العقد، أو بعده زمن الخيارين" (¬3). ومفهومه أنه لو اشترطه قبل العقد لم يصح؛ لأنه لم يذكر إلا وقتين لصحة اشتراطه: اشتراطه في صلب العقد، أو بعده في زمن الخيارين، ولم يذكر اشتراط الخيار قبل العقد بما يفيد أنه لا يلزم لو اشترطه قبل العقد. وقال المرداوي وهو يتكلم عن الشروط في البيع: "ومحل هذه الشروط أن تقع مقارنة للعقد" (¬4). وشرط الخيار هو شرط في البيع؛ لأنه لا يثبت إلا باشتراط المتعاقدين أو أحدهما. وقال في مواهب الجليل: "إما أن يكون موجب الخيار مصاحبًا للعقد، أو متقدمًا عليه. ¬
والأول: هو التروي (يعني: خيار الشرط). والثاني: خيار النقيصة (يعني: خيار العيب وخيار الاستحقاق" (¬1). فجعل موجب خيار الشرط مصاحباً للعقد، ويفهم منه: أنه لا يصح قبله، ولا بعده. وقال في منح الجليل: "إنما يثبت الخيار في إمضاء البيع ورده لأحد المتعاقدين، أو لهما، أو لغيرهما بشرط في عقد البيع" (¬2). فنص على أن الشرط يكون في عقد البيع، أي لا قبله، ولا بعده. وقال ابن عبد البر: "من لم يشترط الخيار في عقد صفقته لم يجب له" (¬3). ومفهومه: أنه لو اشترطه قبل عقد صفقته أو بعده لم يجب له، بل لا بد أن يشترط الخيار في عقد الصفقة. إذا عرفنا هذا القول، فما هو دليله على أنه لا يجوز أن يتقدم الخيار على العقد: قالوا: "لا يصح اشتراط الخيار قبل إجراء العقد، إذ الخيار كالصفة للعقد، فلا يذكر قبل الموصوف" (¬4). (ح-430) وروى البخاري من طريق الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ابتاع نخلًا بعد أن تؤبر، ¬
الراجح
فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدًا, وله مال، فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع (¬1). قال الباجي تعليقًا: "إذا ثبت أن المبتاع يجوز له أن يشترط مال العبد فإنه لا خلاف في جواز ذلك في نفس العقد؛ لأنه مقتضى لفظ الحديث في ذلك بقوله إلا أن يشترطه المبتاع، ولا يوصف هذا بأنه شرط إلا أن يكون ذلك شُرِط في عقد البيع وإلا كان بيعًا مبتدأ ... " (¬2). وهل يصلح دليلًا أن نقول: إن العقد هو السبب الموجب لاشتراط الخيار، فلا يتقدم الشرط على سببه الموجب له؟ كما لو طلق الرجل قبل الزواج، ثم تزوج بالمرأة، فإنه لا يقع طلاقه. ومثله لو أخرج زكاة ماله قبل بلوغ النصاب، فإنها لا تعد من الزكاة. ولكن قد يقال: ما دام أن اشتراط الخيار راجع للعاقد نفسه، وليس ثابتًا بالشرع فلا يضر تقدمه كالنكاح فإن الشروط فيه لا بد أن تتقدم العقد، والله أعلم. الراجح: بعد استعراض الأقوال نرى أننا إذا نظرنا إلى هذه المسألة بخصوصها رأينا عامة الفقهاء يقولون: بأنه لا عبرة بشرط الخيار إذا تقدم على العقد، وإذا ربطنا هذه المسألة بأصلها: وهو أن الشرط المتقدم على العقد هل هو بمنزلة المقارن له؟ وجدنا أن كثيراً من الفقهاء يجعلون الشرط المتقدم كالشرط المقارن، وينبغي أن يكون هذا ملحوظًا في عقد البيع أكثر من غيره؛ لأن عقد البيع، خاصة في ¬
فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدًا, وله مال، فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع (¬1). قال الباجي تعليقًا: "إذا ثبت أن المبتاع يجوز له أن يشترط مال العبد فإنه لا خلاف في جواز ذلك في نفس العقد؛ لأنه مقتضى لفظ الحديث في ذلك بقوله إلا أن يشترطه المبتاع، ولا يوصف هذا بأنه شرط إلا أن يكون ذلك شُرِط في عقد البيع وإلا كان بيعًا مبتدأ ... " (¬2). وهل يصلح دليلًا أن نقول: إن العقد هو السبب الموجب لاشتراط الخيار، فلا يتقدم الشرط على سببه الموجب له؟ كما لو طلق الرجل قبل الزواج، ثم تزوج بالمرأة، فإنه لا يقع طلاقه. ومثله لو أخرج زكاة ماله قبل بلوغ النصاب، فإنها لا تعد من الزكاة. ولكن قد يقال: ما دام أن اشتراط الخيار راجع للعاقد نفسه، وليس ثابتًا بالشرع فلا يضر تقدمه كالنكاح فإن الشروط فيه لا بد أن تتقدم العقد، والله أعلم. الراجح: بعد استعراض الأقوال نرى أننا إذا نظرنا إلى هذه المسألة بخصوصها رأينا عامة الفقهاء يقولون: بأنه لا عبرة بشرط الخيار إذا تقدم على العقد، وإذا ربطنا هذه المسألة بأصلها: وهو أن الشرط المتقدم على العقد هل هو بمنزلة المقارن له؟ وجدنا أن كثيراً من الفقهاء يجعلون الشرط المتقدم كالشرط المقارن، وينبغي أن يكون هذا ملحوظًا في عقد البيع أكثر من غيره؛ لأن عقد البيع، خاصة في ¬
الفرع الثاني اشتراط خيار الشرط بعد العقد
الفرع الثاني اشتراط خيار الشرط بعد العقد [م - 500] اختلف العلماء في اشتراط الخيار بعد العقد إلى خمسة أقوال: القول الأول: يصح اشتراط الخيار بعد لزوم البيع إذا تراضيا على ذلك، سواء نقد الثمن أو لم ينقد، ويعتبر اشتراط الخيار فسخ للبيع الأول، وعقد للبيع من جديد باشتراط الخيار. وإلى هذا ذهب الحنفية، والمالكية في أحد القولين. جاء في فتح القدير: "يجوز إلحاق خيار الشرط بالبيع، لو قال أحدهما بعد البيع، ولو بأيام: جعلتك بالخيار ثلاثة أيام، صح بالإجماع" (¬1). يعني أبا حنيفة وصاحبيه، وهذا العقد نوع من التبرع من جهة، وإقالة من الالتزام السابق من جهة، ولا أظن أن ذلك قد يخالف فيه أحد، وإنما البحث، هل يلزم أحد العاقدين اشتراط الآخر بعد مضي العقد بأيام. جاء في الفتاوى الهندية: "ومن باع من آخر شيئاً وقبض المشتري المبيع، ومضى أيام، فقال البائع للمشتري: أنت بالخيار، فله الخيار ما دام في المجلس؛ لأن هذا بمنزلة قولك: لك الإقالة، ولو قال: أنت بالخيار ثلاثة أيام، فله الخيار ثلاثة أيام" (¬2). وجاء في المدونة: "قلت: أرأيت لو أني بعت من رجل سلعة فلقيته بعد يوم أو يومين فجعلت له الخيار، أو جعل لي الخيار أياماً، أيلزم هذا الخيار أم لا؟ قال: نعم. ¬
القول الثاني
قلت: أرأيت إن اشتريت سلعة من رجل، ثم لقيته بعد يوم، أو يومين، فجعلت له الخيار، أو جعل لي، أيلزم هذا الخيار أم لا؟ قال: نعم إذا كان يجوز في مثله الخيار، وهو بمنزلة بيعك إياه بالثمن من غيره، وله الخيار عليك، أو لك عليه ... " (¬1). وجاء في الذخيرة: " في الكتاب: إذا جعلا الخيار بعد تمام العقد لربهما، إذا كان يجوز في مثله الخيار، وهو بيع مؤتنف ... " (¬2). واختار اللخمي الجواز مطلقًا، سواء نقد الثمن أو لم ينقد (¬3). ولأن جعل الخيار لأحدهما ليس عقدًا حقيقة، إذ المقصود به تطييب نفس من جعل له الخيار لا حقيقة البيع، فلا يلزم المحذور المذكور (¬4). فهذا القول من الحنفية والمالكية بصحة اشتراط الخيار بعد لزوم البيع يرون أنه بيع جديد وفسخ للبيع الأول، إلا أن هذا يشترط له ما يشترط في البيع من حصول الرضا من المتعاقدين واتفاقهما على ذلك، فإن أبى أحد العاقدين لم يلزمه. القول الثاني: يصح اشتراط الخيار بعد لزوم العقد بشرط أن يكون ذلك بعد نقد الثمن، وهو المعتمد في مذهب المالكية. جاء في الشرح الكبير: "يصح فيما وقع فيه البيع على البت أن يجعل أحدهما لصاحبه أو كل منهما للآخر الخيار، وهل محل الصحة والجواز إن نقد المشتري ¬
القول الثالث
الثمن للبائع، وعليه الأكثر، وهو المعتمد، فكان الأولى الاقتصار عليه؛ لأنه إذا لم ينقد فقد فسخ البائع ماله في ذمة المشتري في معين يتأخر قبضه ... " (¬1) لأن المعين عندهم لا يحتمل التأخير. وقال الخرشي: ولأن البائع تقرر له ثمن في ذمة المشتري، أوجب له عنده سلعة فيها خيار، فهو فسخ دين في دين (¬2). القول الثالث: قالوا: إن كان الإلحاق بعد العقد وقبل لزومه صح إلحاقه كما لو كان ذلك في مجلس البيع، وزمن خيار المجلس أو الشرط، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية (¬3)، ومذهب الحنابلة (¬4). قال النووي: "أما الشرط الذي يشترط بعد تمام العقد، فإن كان بعد لزوم العقد بانقضاء الخيار فهو لغو قطعاً، وإن كان قبله في مدة خيار المجلس أو الشرط فثلاثة أوجه: ... الثالث: وهو الصحيح عند الجمهور، وبه قطع أكثر العراقيين، يلحق في مدة الخيارين جميعاً (يعني خيار المجلس وخيار الشرط)، وهو ظاهر نص الشافعي" (¬5). وجاء في الإنصاف: "لو ألحق بالعقد خياراً بعد لزومه لم يلحق على الصحيح من المذهب. وعليه الأصحاب" (¬6). ¬
وحجة هذا القول
وجاء في كشاف القناع: "القسم الثاني من أقسام الخيار: خيار الشرط، وهو أن يشترطاه في العقد، أو بعده: أي العقد في زمن الخيارين: أي خيار المجلس وخيار الشرط " (¬1). وحجة هذا القول: بأن العقد بعد انتهاء خيار المجلس وخيار الشرط أصبح لازماً، فلا يصح اشتراط خيار آخر بعد لزومه، وإن كان قبل لزوم العقد فيصح اشتراط خيار آخر فيه؛ لأن البيع لم يلزم بعد، فكما يجوز فسخ العقد، يجوز تقييده بخيار أو شرط، والله أعلم. القول الرابع: قالوا: لا يلحق الشرط بعد العقد مطلقًا، وهو الأصح في مذهب الحنفية (¬2)، وأحد القولين في مذهب المالكية (¬3)، وقول في مذهب الشافعية (¬4). وحجة هذا القول: أن شرط الخيار بعد إبرام العقد لا يصادف محلًا، فلا يمكن الالتزام به، فإذا انعقد العقد فلا خيار لواحد من المتبايعين إلا أن يشترطاه في العقد. وهذا القول يتمشى مع من يرى أن العقد يلزم بمجرد الإيجاب والقبول، ولا ¬
القول الخامس
يرى مشروعية خيار المجلس، فإذا تم البيع دون أن يشترط في صلب العقد خيار الشرط فقد لزم البيع، وإذا لزم فلا سبيل إلى اشتراط الخيار بعد لزوم العقد. القول الخامس: التفريق بين أن يقول ذلك في خيار المجلس وبين أن يقول ذلك في خيار الشرط، فيلحق إن اشترطه في خيار المجلس، دون خيار الشرط، وهو قول في مذهب الشافعية (¬1). وهذا القول لا أعلم له حجة، وأصحابه الذين ذكروه لم يسوقوا له حجة، والله أعلم. الراجح من الخلاف: أرى أن مذهب الشافعية والحنابلة القائلين بأن العقد ما دام جائزاً, ولم يلزم بعد فيحق للعاقد أن يشترط الخيار له في عقدة العقد؛ لأن العقد ما دام جائزاً لم يلزم بعد، فهو يملك الرجوع عن العقد مطلقاً، ويملك تقييده بشروط لا تنافي مقتضى العقد، ومنه خيار الشرط. أما بعد لزوم العقد فإلحاق خيار الشرط يكون بالتراضي، ولا يكون بالإلزام؛ لأن الرجوع عن العقد السابق أو الدخول في عقد جديد لا بد فيه من الرضا من كلا العاقدين، فإذا تراضيا على أن يكون له الخيار بعد لزوم البيع فهذا تبرع محض لا يمنع منه الشرع، وكما يملك أن يقيله من العقد السابق مطلقاً، يملك أن يعطيه الخيار مدة معلومة، والله أعلم. ... ¬
المبحث العاشر العقود التي يصح فيها خيار الشرط
المبحث العاشر العقود التي يصح فيها خيار الشرط [م - 501] اختلف الفقهاء في العقود التي يدخلها خيار الشرط على النحو التالي: القول الأول: مذهب الحنفية: وضع الحنفية ضوابط للعقود التي يلحقها خيار الشرط، وهي على النحو التالي: أولاً: أن يكون العقد من العقود اللازمة، ولو من جانب واحد (¬1). لأن العقود غير اللازمة لا حاجة إلى اشتراط الخيار فيها، إذ يتمكن العاقد من فسخها دون اشتراط الخيار (¬2). والعقد اللازم: هو العقد الذي لا يحق لأحد المتعاقدين الرجوع عنه بدون رضا الآخر. فإذا كان العقد لازماً من الطرفين صح اشتراط الخيار من الطرفين كالبيع. ¬
وإذا كان العقد لازماً من طرف واحد، صح اشتراط الخيار في حق من كان لازماً في حقه، كالرهن، فيجوز اشتراط الخيار للراهن، دون المرتهن؛ لأن المرتهن له نقض الرهن متى شاء، فلا يحتاج إلى خيار (¬1). أما العقود الجائزة فلا يدخلها خيار الشرط؛ لأن العاقد يملك فسخها متى شاء، فأغنى ذلك عن خيار الشرط، وذلك مثل عقد الوكالة، والوصية. ثانيًا: أن يكون العقد قابلًا للفسخ بالتراضي؛ لأن الخيار إنما وضع من أجل أن يتمكن العاقد من فسخ العقد، فإذا كان العقد لا يقبل الفسخ لم يصح اشتراط الخيار فيه، وذلك كالطلاق واليمين والنذر. ثالثًا: ألا يكون القبض شرطاً في صحة العقد، فلا يصح اشتراط الخيار في عقدي الصرف والسلم. وقد ذكر ابن نجيم وغيره العقود التي يدخلها شرط الخيار، وهي: (1) عقد البيع. (2) المزارعة. (3) المعاملة. (4) الإجارة. (5) القسمة. (6) الصلح على مال. (7) الكتابة. (8) الخلع. (9) الرهن. (10) العتق. (11) الكفالة. (12) الحوالة. (13) الإبراء. (14) الوقف على قول أبي يوسف. (15) الشفعة (¬2). ولا يدخل خيار الشرط: في عقد نكاح، وطلاق، ويمين، ونذر، وصرف، وسلم، ووكالة ووصية وإقرار، إلا الإقرار بعقد. ¬
القول الثاني: مذهب المالكية
فنخلص إلى ضابط يجمع كل ذلك بأن العقود التي يدخلها خيار الشرط: هي العقود اللازمة ولو من جانب واحد، والتي تقبل الفسخ بالتراضي، والتي لا يشترط في صحتها القبض في المجلس. هذا هو الضابط عند الحنفية في العقود التي يدخلها الخيار. القول الثاني: مذهب المالكية: يقصر المالكية شرط الخيار (خيار التروي) في عقد البيع بأنواعه، وعندما يعرفون شرط الخيار (خيار التروي) يعرفونه من خلال عقد البيع لا غير، بما يفهم أنهم لا يرون شرط الخيار في غيره. جاء في الفواكه الدواني: "خيار التروي: وهو كما قال ابن عرفة: بيع وقف بته أولاً على إمضاء يتوقع ... " (¬1). وجاء في مواهب الجليل: "خيار التروي: وهو الذي ينصرف إليه بيع الخيار عثد الإطلاق في عرف الفقهاء" (¬2). وجاء في الشرح الصغير: " (الخيار قسمان: ترو ونقيصة). أي خيار ترو: أي نظر وتأمل في إبرام البيع وعدمه. وخيار نقيصة: وهو ما كان موجبه وجود نقص في المبيع من عيب أو استحقاق. (فالأول) أي خيار التروي (بيع وقف بته): أي لزومه (على إمضاء) ممن له الخيار من مشتر أو بائع أو غيرهما (يتوقع) في المستقبل. (وإنما يكون) أي يوجد ويحصل (بشرط) من المتبايعين ولا يكون بالمجلس ... " (¬3). ¬
فخلصنا من هذا أن المالكية يقصرون خيار الشرط على عقد البيع، وما كان في معناه. فيجوز شرط الخيار عندهم في بيع التولية (¬1) , وفي قسمة التراضي (¬2) ,وفي الإجارة (¬3). وفرقوا بين عقد السلم والصرف، فأجازوا الخيار في عقد السلم في مدة لا تتجاوز ثلاثة أيام إن لم ينقد رأس المال. ¬
ومنعوا شرط الخيار في عقد الصرف. وهذه المسألة ترجع إلى مسألة أخرى اختلف فيها المالكية مع جمهور أهل العلم، وهي: هل يجوز تأخير تسليم الثمن في عقد السلم عن مجلس العقد؟ فذهب الجمهور من الحنفية والشافعية، والحنابلة إلى أنه يشترط تسليم الثمن في مجلس العقد، وأنه لا يجوز تأخيره مطلقاً (¬1). وبناء عليه لا يجوز اشتراط الخيار فيه؛ لأن خيار الشرط يقتضي تأجيل الثمن، ومقتضى عقد السلم وصحته تتطلب تعجيله، وحينئذ يكون خيار الشرط منافياً لمقتضى العقد، فيرتد هذا بالبطلان عليه. وذهب المالكية إلى اشتراط قبض رأس مال السلم في مجلس العقد إلا أنهم أجازوا تأخيره يومين أو ثلاثة أيام، ورأوا أن هذه المدة مدة يسيرة، وهي بحكم التسليم في المجلس لقربها منه. وسوف تأتينا هذه المسألة إن شاء الله في باب السلم. وبناء على هذا القول فإنهم أجازوا اشتراط الخيار في عقد السلم بمقدار المدة التي يجوز تأخير تسليم الثمن فيها: يومين أو ثلاثة أيام، بشرط ألا ينقد رأس المال في مجلس العقد؛ لأن نقده، ولو كان طوعياً يجعل العقد يتردد بين الثمنية والسلفية وبين البيع والسلف. ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية
جاء في المدونة: "هل يجيز مالك الخيار في التسليف (السلم) قال: إذا كان أجلًا قريبًا، اليوم واليومين، ولم يقدم رأس المال، فلا أرى به بأسًا، وهو قول مالك" (¬1). وفي مواهب الجليل: قال في المدونة في كتاب الخيار: "ولا بأس بالخيار في السلم إلى أمد قريب، يجوز تأخير النقد إلى مثله، كيومين أو ثلاثة إذا لم يقدم رأس المال، فإن قدم كرهت ذلك؛ لأنه يدخله بيع وسلف جر منفعة، وإن تباعد أجل الخيار كشهر أو شهرين لم يجز، قدم النقد أم لا" (¬2). وسوف نأتي على هذه المسألة محررة إن شاء الله تعالى في كتاب السلم. وجاء في المدونة: "قلت: أرأيت، هل يجيز مالك الخيار في الصرف؟ قال: لا" (¬3). القول الثالث: مذهب الشافعية: نستطيع أن نضبط مذهب الشافعية في خيار الشرط بما يلي: الأول: أن خيار المجلس وخيار الشرط في مذهب الشافعية متفقان في صورة الوفاق والخلاف إلا في أشياء يسيرة سوف نذكرها إن شاء الله تعالى. والضابط في خيار المجلس عند الشافعية أنه يثبت في كل معاوضة محضة واقعة على عين لازمة من الجانبين، ليس فيها تملك قهري، ولا جارية مجرى الرخص (¬4). ¬
وسبق لنا شرح هذا الضابط في خيار المجلس فأغنى عن إعادته هنا: ومن خلال هذا الضابط نعرف أن خيار الشرط يلحق من العقود ما يتحقق فيه شرطان: الأول: أن يشتمل على معاوضة محضة، بل صرح الشافعية بأن خيار الشرط لا يثبت إلا في البيع بأنواعه. قال في مغني المحتاج: "وعلم من تقييده بالبيع أنه لا يشرع في غيره كالفسوخ والعتق والإبراء، والنكاح والإجارة، وهو كذلك" (¬1). الثاني: أن يكون العقد لازماً من الطرفين، فلا يثبت خيار الشرط في العقود الجائزة كالشركة والوكالة والقرض والعارية، ولا يثبت في العقود اللازمة من طرف واحد كالرهن. يقول النووي: "وهما -أي خيار المجلس وخيار الشرط- متفقان في صورة الوفاق والخلاف إلا في أشياء: أحدهما: أن البيوع التي يشترط فيها التقابض في المجلس كالصرف وبيع الطعام بالطعام، أو القبض في أحد العوضين كالسلم، لا يجوز شرط الخيار فيها بلا خلاف، مع أن خيار المجلس يثبت فيها ... الثاني: أن خيار الشرط لا يثبت في الشفعة بلا خلاف، وكذا لا يثبت في الحوالة، وفي خيار المجلس فيهما خلاف سبق. الثالث: أنه إذا كان رجع في سلعة باعها ثم حجر على المشتري بالفلس لا يثبت فيها خيار الشرط بلا خلاف، وفي خيار المجلس خلاف ضعيف قد سبق ذكره. ¬
القول الرابع: مذهب الحنابلة
الرابع: في الهبة بشرط، وفي الإجارة طريق قاطع بأنه لا يثبت خيار الشرط مع جريان الخلاف في ثبوته في خيار المجلس. وأما شرط الخيار في الصداق فسيأتي في كتاب الصداق إن شاء الله تعالى إيضاحه وتفصيله، ومختصره أن الأصح صحة النكاح، وفساد المسمى، ووجوب مهر المثل، وأنه لا يثبت الخيار، والله تعالى أعلم" (¬1). القول الرابع: مذهب الحنابلة: يتفق الحنابلة مع الشافعية على أن خيار الشرط لا يثبت إلا في البيع، إلا أن مفهوم البيع عند الحنابلة أوسع منه عند الشافعية. فمفهوم البيع كما يعني البيع بأنواعه، فإنه يعني أيضًا الإجارة؛ لأنها نوع من البيع، فهي من قبيل بيع المنافع، وكذلك يدخل في معنى البيع الهبة بعوض معلوم. وكذا الصلح إذا كان بمعنى البيع، كما لو أقر له بدين أو عين، وصالحه بمال بشرط الخيار أمدًا معلومًا؛ لأنه في معنى البيع. وكذا على إجارة في الذمة، كما لو استأجره على أن يعمل له عملًا. وأما الإجارة المعينة فإن كانت مدتها من حين العقد لم يدخل فيها خيار الشرط؛ لأن دخوله يفضي إلى فوات بعض المنافع المعقود عليها، أو إلى استيفائها في مدة الخيار، وكلاهما لا يجوز (¬2). ويدخل في معنى البيع قسمة التراضي، وهي ما فيها ضرر، أو رد عوض؛ لأنها نوع من البيع. ¬
الخلاصة من هذا العرض
والحنابلة كغيرهم يمنعون الخيار في عقد الصرف؛ لأنه يشترط لصحة العقد التقابض في مجلس العقد، ومثله كل بيع يشترط فيه التقابض في مجلس العقد كبيع الربوي بمثله. كما يمنع الحنابلة اشتراط الخيار في عقد السلم (¬1). واختار ابن تيمية من الحنابلة: جواز خيار الشرط في كل العقود. قال رحمه الله: "ويثبت خيار المجلس في البيع، ويثبت خيار الشرط في كل العقود، ولو طالت المدة" (¬2). ولا أعلم خلافاً في منع خيار الشرط في عقد الصرف، وكذا كل بيع يكون القبض شرطًا لصحة البيع فيه كبيع المال الربوي بمثله. هذا ملخص مذهب الحنابلة (¬3). الخلاصة من هذا العرض: الأول: أن الحنفية أوسع المذاهب الفقهية في العقود التي يدخلها الخيار، فلم تقصر خيار الشرط على عقد البيع فقط، بل في كل العقود اللازمة القابلة للفسخ، بينما الجمهور ذهبوا إلى قصر الخيار على عقد البيع، والمالكية والحنابلة أخذوا البيع بمفهومه العام، فيدخل في ذلك عقد الإجارة، وقسمة ¬
التراضي، والصلح بمعنى البيع خلافا للشافعية والذي يعتبر مذهبهم أضيق المذاهب في هذه المسألة. الثاني: أدخل الحنفية العقود اللازمة ولو من جانب واحد كالرهن، فأثبتوا الخيار للراهن لأن العقد في حقه لازم بخلاف المرتهن؛ لأن العقد في حقه جائز، وهذا خلاف للجمهور. الثالث: اتفق الأئمة على عدم ثبوت الخيار في عقد الصرف، واختلفوا في عقد السلم، فمنعه الجمهور خلافًا للمالكية حيث أجازوا الخيار فيه في مدة يسيرة اليومين والثلاثة بشرط عدم نقد الثمن، والصواب مع الجمهور، ويدخل في الصرف بيع ما يعتبر القبض شرطًا في صحته كبيع المال الربوي بمثله. الرابع: انفرد المالكية في أنه لا يجوز اشتراط نقد الثمن في بيع الخيار خلافًا للجمهور (¬1)؛ لأن اشتراط النقد يجعل الثمن متردداً بين السلفية إذا لم يتم البيع، والثمنية إذا تم البيع، وهو ممنوع للغرر بعدم معرفة ما يؤول إليه الحال، وإذا حصل النقد تطوعًا من غير شرط جاز لضعف التهمة في تردد الثمن بين السلفية والثمنية (¬2). ¬
هذا ما يمكن تلخيصه من العرض السابق لأقوال الفقهاء، والذي أميل إليه أن مذهب الحنفية: هو أقوى المذاهب هنا؛ لأن الخيار إنما شرع من أجل الفسخ، في عقد لازم، فإذا كان العقد اللازم يقبل الفسخ، كان اشتراط الخيار فيه سائغًا, ولا معنى لقصره في عقد البيع، فإن هذه ظاهرية لا تليق بعقود المعاملات المبنية على التعليل، والله أعلم. ... ¬
المبحث الحادي عشر الملك والتصرف في زمن الخيار
المبحث الحادي عشر الملك والتصرف في زمن الخيار سبق أن ناقشنا هاتين المسألتين مفرقتين في خيار المجلس، ولما كان خيار المجلس لا يراه الحنفية والمالكية بخلاف خيار الشرط والذي يرى صحته الأئمة الأربعة كان لا بد من إعادة البحث في خيار الشرط، لنستوعب الأقوال. [م - 502] وقد اختلف الفقهاء في ملك المبيع والثمن، وحكم التصرف في زمن الخيار، إلى أقوال: القول الأول: مذهب الحنفية: يختلف القول عند الحنفية بين أن يكون الخيار للبائع والمشتري معًا، وبين أن يكون الخيار لأحدهما. فإن كان الخيار لهما: فإن المبيع لم يخرج عن ملك البائع، والثمن لم يخرج عن ملك المشتري، فليس للبائع أن يتصرف في الثمن، كما أنه ليس للمشتري أن يتصرف في المبيع، وأما تصرف البائع في المبيع فإنه جائز، ويعتبر ذلك منه فسخًا، ومثله تصرف المشتري في الثمن. وجه ذلك: أن الخيار إذا كان لهما لم يثبت حكم العقد أصلًا؛ فلا يزول المبيع عن ملك البائع، ولا يدخل في ملك المشتري، وكذا الثمن؛ لأن المانع من انعقاد الحكم، وهو الخيار موجود في الجانبين جميعًا.
وجه قول أبي حنيفة
وإن كان الخيار للبائع وحده فالمبيع لم يخرج عن ملكه بالاتفاق (¬1)، ولا يجوز للمشتري أن يتصرف فيه، ويخرج الثمن عن ملك المشتري بالاتفاق؛ لأن البيع بات في حقه، وهل يدخل في ملك البائع؟ عند أبي حنيفة: لا يدخل، وعند أبي يوسف ومحمد يدخل. وجه قول أبي حنيفة: إذا كان المبيع لم يخرج عن ملك البائع، فلو قلنا: إن الثمن يدخل في ملكه اجتمع للبائع ملك المبيع وملك الثمن في آن واحد، ولا يمكن أن يجتمع البدلان في ملك رجل واحد. وجه قول أبي يوسف ومحمد: لما اتفقنا أن الثمن قد خرج عن ملك المشتري (¬2)، وجب أن يدخل في ملك البائع؛ كيلا يصير سائبًا بغير مالك؛ لأنه لا يمكن أن يكون الثمن زائلًا عن ملك المشتري وصائرًا إلى غير مالك، فإن مثل هذا لا عهد لنا به في الشرع. وإن كان الخيار للمشتري وحده، فالثمن لم يخرج عن ملكه بالاتفاق، ولا يجوز للبائع أن يتصرف فيه إن كان عيناً, ولا يستحقه على المشتري إن كان دينًا، ويخرج المبيع عن ملك البائع بالاتفاق، حتى لا يجوز له التصرف فيه؛ لأن البيع بات في حقه، وهل يدخل في ملك المشتري؟ عند أبي حنيفة: لا يدخل، وعند صاحبيه: يدخل. ¬
وجه قول أبي حنيفة
وجه قول أبي حنيفة: إذا كان الثمن لم يخرج عن ملك المشتري، فلو قلنا: إن المبيع يدخل في ملكه اجتمع للمشتري ملك المبيع وملك الثمن في آن واحد، ولا يمكن أن يجتمع البدلان في ملك رجل واحد. وجه قول أبي يوسف ومحمد: لما خرج المبيع عن مالك البائع، وجب أن يدخل في ملك المشتري؛ كيلا يصير سائبة بغير مالك؛ لأنه لا يمكن أن يكون المبيع زائلًا لا إلى مالك (¬1). وقد أخذت مجلة الأحكام العدلية برأي الصاحبين، فقد جاء فيها: "إذا شرط الخيار للمشتري فقط خرج المبيع من ملك البائع، وصار ملكًا للمشتري ... " (¬2). هذا ملخص مذهب الحنفية فيما يتعلق بالملك، وفي التصرف في زمن الخيار، في حالة ما كان الخيار للعاقدين أو لأحدهما. القول الثاني: مذهب المالكية: يرى المالكية أن بيع الخيار منحل حتى ينعقد، وهذا يعني أن المبيع في مدة الخيار للبائع لم ينتقل؛ إذ الأملاك لا تنتقل إلا بتمام الرضا، والخيار ينافي تمام الرضا، فعقد الخيار عقد منحل، وإمضاؤه بعد ذلك نقل جديد للملكية، وليس تقريرًا للعقد الأول، وهذا معنى قول العلماء: إن بيع الخيار منحل، ولا فرق على المذهب في الخيار بين أن يكون لهما أو لأحدهما (¬3). ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية
القول الثالث: مذهب الشافعية: الملك زمن الخيار لا فرق فيه عند الشافعية بين خيار المجلس وخيار الشرط، تم تحرير الأقوال في خيار المجلس، ونقتصر هنا على القول المعتمد في ¬
مذهبهم، ومن أراد الاطلاع على بقية الأقوال فليراجع الخلاف في خيار المجلس، فقد ذكرناها هناك فأغنى عن إعادتها هنا: والراجح عند الشافعية: أن الخيار إن كان للعاقدين، فالملك موقوف، فإن تم البيع تبين أن ملك المبيع للمشتري، وملك الثمن للبائع من حين العقد، دان فسخ العقد تبين أن المبيع لم يخرج عن ملك البائع، ولم يخرج الثمن عن ملك المشتري من العقد. وجهه: لما كان البائع ممنوعًا من التصرف في الثمن إلا بإذن المشتري، والمشتري ممنوعًا من التصرف في المبيع إلا بإذن البائع، كان ذلك دليلًا على عدم انتقال الملك، فإما أن نقول: إن الثمن والمثمن بلا مالك، وهذا لا يمكن مع قيام العقد، أو نقول: إن الملك موقوف إلى أن يختار كل منهما لزوم العقد، وهذا هو المتعين. وإن كان الخيار لأحدهما فالملك لمن له الخيار، وحيث حكم بملك المبيع لأحدهما حكم يملك الثمن للآخر. فإن كان الخيار للبائع: فله ملك المبيع بتوابعه، وللمشتري ملك الثمن بتوابعه. وإن كان الخيار للمشتري، فله ملك المبيع بتوابعه، وللبائع ملك الثمن بتوابعه (¬1). وجهه: أن من كان له الخيار وحده فإنه مأذون له في التصرف؛ لأن تصرفه لن يؤدي إلى إسقاط خيار صاحبه، وجواز التصرف دليل على ثبوت الملك. ¬
القول الرابع: مذهب الحنابلة
القول الرابع: مذهب الحنابلة: ذهب الحنابلة في المشهور عندهم أن ملك المبيع للمشتري، وملك الثمن للبائع، سواء كان الخيار لهما، أو لأحدهما. وقد استوعبنا ذكر أدلتهم في الملك زمن خيار المجلس، فلا داعي للتكرار. وأما الحكم في التصرف: فإن كان الخيار لهما (لكلا العاقدين) فليس لواحد من المتبايعين التصرف في المبيع ولا في عوضه مدة الخيار؛ لأن تصرفه يؤدي إلى إبطال حق صاحبه، وهذا لا يجوز. وإن كان الخيار لواحد منهما: فإن كان للمشتري وحده صح تصرفه في المبيع؛ لأن تصرفه صادر من مالك تام الملك، جائز التصرف، فنفذ كما بعد انتهاء الخيار، ولأن تصرفه في المبيع دليل على رضاه به، وإمضائه للبيع. وإن كان الخيار للبائع وحده: فإن تصرف في المبيع لم ينفذ. قال المرداوي: وهذا الصحيح من المذهب ... وهو من المفردات. وعللوا ذلك: بأن البائع لا يملك المبيع بعد بيعه (¬1). وإن تصرف البائع بالثمن، نفذ تصرفه، وبطل خياره؛ لأن تصرفه في الثمن دليل على رضاه وإمضائه للبيع. هذا ملخص مذهب الحنابلة عليهم رحمه الله. ¬
الراجح
الراجح: هذه المسألة من أهم المسائل في خيار التروي: الملك والتصرف زمن الخيار من يستحقه؟ وقد رجحت مذهب الحنابلة؛ لأن الأدلة في حقهم ظاهرة، والخلاف فيها قوي، والأدلة فيها متنازعة، لكني أرى أن أدلة الحنابلة تستند إلى أحاديث ونصوص شرعية ذكرتها في مباحث خيار المجلس، وغالب أدلة المذاهب مبنية على تعاليل فيها قوة، لكنها لا تقابل أدلة الحنابلة، إلا أن الخيار إذا كان للبائع، وتصرف في المبيع كان ذلك دليلًا على اختيار الرجوع، والله أعلم.
فرع استعمال المبيع زمن الخيار
فرع استعمال المبيع زمن الخيار [م - 503] ذهب الجمهور إلى أن المشتري إذا اشترى المبيع، واستعمله في زمن الخيار، فإن كان المقصود من الاستعمال تجربة المبيع، فإن خياره لا يبطل، ولا يعتبر استعماله إجازة للبيع، وإن خرج ذلك عن تجربة المبيع إلى الاستعمال، فإن هذا يبطل خياره، ويعتبر إمضاء للبيع (¬1). ¬
القول الأول
قال الكرابيسي الحنفي في الفروق: "إذا اشترى دابة أو قميصًا على أنه بالخيار، فركبها في حاجته لينظر إليها وإلى سيرها، أو لبس القميص لينظر إلى قدره عليه، فهو على خياره. ولو اشتراها، فوجد بها عيبًا، فركبها، أو لبس القميص، كان هذا رضا بالعيب. والفرق: أن شرط الخيار للاختبار، وهذه الأشياء مما يقع بها الاختبار فلم يكن مختارًا، وأما في العيب، فليس له أن يختبر. وجه آخر: أنه خير ليختبر، فلم يكن ركوبه ولبسه للاختبار اختيارًا. وأما في العيب فلم يجعل له أن يختبر، فصار باختباره مختارا" (¬1). [م - 504] وهل يملك المشتري مطالبة البائع بتجربة المبيع إذا اشترط الخيار، أو لا يملك ذلك إلا بالشرط؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يملك المشتري مطالبة البائع بتجربة المبيع، ولو بدون شرط، وهذا مذهب الجمهور (¬2)، واختاره أبو عمران من المالكية، وقال الحطاب: وهو الصحيح (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: أن الخيار إن كان للتروي في الثمن لم يكن له قبض السلعة. وبالتالي ليس له حق في تجربة المبيع، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية. وإن كان الخيار ليختبره جاز له قبضه، وإذا امتنع البائع من دفع المبيع للمشتري ليختبره، وقال: إنما فهمت عنه المشورة، لا أن أدفع سلعتي إليه، فذلك للبائع، ولا يدفع للمشتري ليختبره إلا بشرط؛ لأن الخيار تارة للمشورة، وتارة للاختبار، ولا يلزم الاختبار إلا بشرط (¬1). ولأن خيار الشرط إذا أطلق يراد به غير تجربة المبيع كالمشاورة والتروي في الثمن، فلا بد من اشتراط التجربة. والصحيح أن المشتري يملك ذلك من غير شرط: لأن اشتراط الخيار يقصد لأحد أمور ثلاثة: أحدها: للتروي في الثمن، ليقف على غلائه من رخصه. والثاني: ليؤامر نفسه في العزم على الشراء، مع علمه بموضع الثمن من الغلاء والرخص. والثالث: ليختبر المبيع. فالخيار يعطيه كل هذه الحقوق مدة الخيار؛ إلا أن تجربة المبيع يجب أن تكون بقدرها, ولا يؤدي ذلك إلى استعمال المبيع، فإن أدى ذلك إلى استعمال المبيع كان ذلك بالأجرة إن اختار الفسخ، كما في شرط الخيار في عقد الإجارة على مدة تلي العقد، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني عشر الانتفاع من المبيع بغير تجربته
المبحث الثاني عشر الانتفاع من المبيع بغير تجربته [م - 505] اختلف الفقهاء في استخدام المبيع من قبل المشتري في غير تجربة المبيع على أقوال: القول الأول: ذهب المالكية إلى المنع مطلقًا إلا بثمن، قال ابن رشد: "لا يجوز للمبتاع اشتراط الانتفاع بالمبيع أمد الخيار إلا قدر ما يقع به الاختبار، كاستخدام العبد في الشيء اليسير الذي لا ثمن له" (¬1). وأجاز المالكية استخدامه بالأجرة؛ لأن ذلك من غلة المبيع، وغلته للبائع (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: أجازه الشافعية في أصح الوجهين مطلقًا, ولم يعتبروا استخدام المبيع فسخًا للخيار (¬1). جاء في أسنى المطالب: "يجوز للمشتري الانتفاع بالمبيع في زمن الخيار، كركوب الدابة واستخدام الرقيق" (¬2). وهذا يعني: سواء كان استخدامه للتجربة، أو للانتفاع. ¬
القول الثالث
القول الثالث: المشهور في مذهب الحنابلة أن الخيار إذا كان للعاقدين فإنه يحرم، ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع إلا بإذن الآخر، ولم يستثنوا من ذلك إلا تجربة المبيع (¬1). إلا أن الحنابلة أجازوا الانتفاع بالمبيع إن كان ذلك بإذن البائع، بشرط أن يكون الإذن حادثًا بعد العقد، ولم ينوياه في العقد، فإن أراده قبل العقد، أو دخلا في العقد على اشتراط انتفاع المشتري بغلة المبيع بطل البيع؛ لأن الذي يقبضه البائع بمثابة القرض، فيكون حيلة ليربح فيما أقرض. قال العنقري في حاشيته، تعليقًا على قوله في المتن: (ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع، وعوضه المعين فيها بغير إذن الأخر). قال العنقري: "مراده إذا كان الإذن ونيته حادثين من البائع والمشتري بعد العقد، لم يريداه، ولم ينوياه في العقد، بل دخلا في البيع على أصله الشرعي، ثم حدث هذا الإذن بعد ذلك، وإلا فإن أراده ونوياه قبل العقد، ودخلا في البيع عليه، وعلى انتفاع المشتري بغلة المبيع حرم، وبطل البيع؛ لأن الذي يقبضه ¬
البائع قرضًا، فكان هذا الخيار المشروط حيلة ليربح في القرض" (¬1). وقال في الإنصاف: "لو شرط خيار الشرط حيلة ليربح فيما أقرضه لم يجز، نص عليه، وعليه الأصحاب. قال المرداوي: وأكثر الناس يستعملونه في هذه الأزمنة ويتداولونه فيما بينهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله" (¬2). وقال ابن قدامة: "قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يشتري من الرجل الشيء، ويقول: لك الخيار إلى كذا وكذا مثل العقار؟ قال: هو جائز إذا لم يكن حيلة؛ أراد أن يقرضه، فيأخذ منه العقار، فيستغله، ويجعل له فيه الخيار، ليربح فيما أقرضه بهذه الحيلة. فإن لم يكن أراد هذا، فلا بأس. قيل لأبي عبد الله: فإن أراد إرفاقه، أراد أن يقرضه مالا يخاف أن يذهب، فاشترى منه شيئًا، وجعل له الخيار، ولم يرد الحيلة؟ فقال أبو عبد الله: هذا جائز، إلا أنه إذا مات انقطع الخيار، لم يكن لورثته. وقول أحمد بالجواز في هذه المسألة محمول على المبيع الذي لا ينتفع به إلا بإتلافه، أو على أن المشتري لا ينتفع بالمبيع في مدة الخيار؛ لئلا يفضي إلى أن القرض جر منفعة" (¬3). ¬
مناقشة الأقوال
مناقشة الأقوال: المالكية هم أضيق المذاهب في استخدام المبيع وتجربته، حتى إنهم رأوا في بعض المبيع أنه لا يحتاج حتى التجربة، وذلك في مثل شراء الثوب. قال في التاج والإكليل: " (أو لبس ثوب) أشهب: لا يَشْتَرط لبس الثوب؛ لأنه لا يختبر باللبس كما تختبر الدابة بالركوب، والعبد بالاستخدام" (¬1). وأوسع المذاهب مذهب الشافعية حيث رأوا أن لمس الأمة وتقبيلها بشهوة ومباشرتها لا يبطل الخيار. وأما مذهب الحنابلة فهو وسط بين طرفين: منعوا ذلك في حالتين: الأولى: إذا لم يأذن البائع، وكان الخيار لهما؛ لأن في تصرفه تعديًا على حق صاحبه؛ لأن علق البائع لم تنته بعد. الثانية: إذا كان ذلك مشروطًا في العقد؛ لأنه يؤدي ذلك إلى التحايل ليربح فيما أقرض. فأرى أن مذهب الحنابلة هو أقواها، ويتمشى مع القواعد، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث عشر في تسليم المبيع والثمن زمن الخيار
المبحث الثالث عشر في تسليم المبيع والثمن زمن الخيار [م - 506] اتفق الفقهاء على أنه لا يجب تسليم البدلين في مدة الخيار في حال الإطلاق، وعدم اشتراط التسليم (¬1)، إلا ما سبق بحثه، هل تجربة المبيع من حق المشتري ولو لم يشترط، أو لا يحق له ذلك إلا بالاشتراط، وقد سبق بحث هذه المسألة. قال النووي: "قال أصحابنا: لا يجب على البائع تسليم المبيع، ولا على المشتري تسليمة الثمن في مدة الخيار ... " (¬2). وجاء في قواعد ابن رجب: "إن كان هناك خيار لهما أو لأحدهما لم يملك البائع المطالبة بالنقد ذكره القاضي في الإجارات من خلافه، وصرح به الأزجي في نهايته. ولا يملك المشتري قبض المبيع في مدة الخيار بدون إذن صريح من البائع نص عليه أحمد في رواية ابن الشالنجي" (¬3). وعلل الحنابلة ذلك بقوله: لعدم انقطاع علق من له الخيار عنه (¬4). ¬
جاء في البحر الرائق: "لو كان الخيار إلى البائع، فسلم المبيع إلى المشتري، فلو سلمه على وجه التمليك بطل خياره، لا لو سلمه على وجه الاختبار ... " (¬1). [م - 507] وإذا سلم أحدهما تطوعًا، وامتنع الآخر، فقد اختلف الفقهاء: فالحنفية يرون أنه إن امتنع عن التسليم من له الخيار لم يجبر على التسليم. وإن دفع المشتري الثمن، والخيار له أجبر البائع على تسليم المبيع. وإن كان الخيار للبائع، ودفع المبيع أجبر المشتري على تسليم الثمن. جاء في البحر الرائق: "إذا كان الخيار للبائع فإنه يملك مطالبة المشتري بالثمن بخلاف ما إذا كان للمشتري" (¬2). وجاء في الفتاوى الهندية: "ولو دفع المشتري الثمن وكان الخيار له: أجبرت البائع على دفع المبيع إليه. ولو دفع البائع المبيع أجبرت المشتري على دفع الثمن. ولو كان الخيار للبائع، ونقد المشتري الثمن، وأراد أن يقبض العبد، فمنعه البائع، فله ذلك، غير أنه يجبر البائع على رد الثمن" (¬3). وقال النووي في المجموع: "فلو تبرع أحدهما بالتسليم لم يبطل خياره ولا يجبر الآخر على تسليم ما عنده، وله استرداد المدفوع، هذا هو المذهب. وفيه وجه ضعيف أنه ليس له استرداده، وله أخذ ما عند صاحبه بغير رضاه، وممن حكى هذا الوجه الرافعي" (¬4). ¬
الراجح
الراجح: أن المشتري إن طالب البائع تسليمه المبيع للتجربة لم يمنع من ذلك، ولكن تقدر بقدرها، فإن كان الخيار لهما لم يجبر أحد منهما على تسليم ما في يده مدة الخيار؛ لأن من له الخيار لم تنقطع علقه منه. وإن كان الخيار لأحدهما، ودفع ما معه لصاحبه لا يجوز أن يمتنع الطرف الآخر؛ لأن البيع في حقه لازم، وقد استلم العوض، فلا يمكن أن يدعي أنه يخشى تلفًا أو تغيرًا؛ فلا معنى للامتناع عن تسليم ما معه، والخيار ليس في حقه، والله أعلم.
المبحث الرابع عشر النماء في زمن الخيار
المبحث الرابع عشر النماء في زمن الخيار [م - 508] النماء في زمن الخيار مبني على ثبوت الملك فيه، فمن كان له الملك في زمن الخيار استحق النماء، وقد سبق بحث هذه المسألة في خيار المجلس بشيء من التفصيل، وعرضنا للخلاف في النماء المتصل والمنفصل كل مسألة على انفراد إلا أن الخلاف فيهما كان محصورًا بين الشافعية والحنابلة، بخلاف مذهب الحنفية والمالكية، فإننا لم نتعرض لهما؛ لأنهما لا يقولان بخيار المجلس، فلا بد من الإشارة إليهما في خيار الشرط لتستكمل الأقوال. اختلف الفقهاء فيمن يستحق النماء في زمن الخيار، إلى أقوال: القول الأول: مذهب الحنفية: قسم الحنفية الزيادة إلى قسمين: زيادة متصلة، وزيادة منفصلة. والزيادة المتصلة تنقسم إلى قسمين: (أ) زيادة متصلة غير متولدة من الأصل، كما إذا كان ثوبًا، فصبغه، أو سويقًا فلتَّه بسمن، أو كان أرضًا فبنى عليها، أو غرس فيها، فهذه الزيادة للمشتري قولاً واحدًا في المذهب؛ لأن الزيادة في الأصل تمنع رد المبيع، بحيث يلزم العقد ويسقط الخيار. (ب) زيادة متصلة متولدة من الأصل، كالحسن والجمال، والسمن، والبرء من المرض، وانجلاء البياض من العين، ونحو ذلك. فهذه حكمها لا يختلف عن حكم سابقتها عند أبي حنيفة وأبي يوسف، أنها تمنع الرد وتسقط الخيار، ويلزم العقد، وتكون للمشتري.
وجه قول أبي حنيفة
وعند محمد: لا تبطل الخيار؛ لأنها عنده لا تمنع الرد، فإن اختار الفسخ ردها مع الأصل، وإن اختار البيع صارت ملكاً للمشتري. وإن كانت الزيادة منفصلة، فهي تنقسم أيضًا إلى قسمين: (أ) زيادة متولدة من الأصل كالولد، والثمر، واللبن، ونحوها، أو كانت غير متولدة من الأصل لكنها بدل الجزء الفائت كالأرش، فهذه للمشتري؛ لأنها تبطل الخيار، وتمنع من رد المبيع. (ب) وإن كانت منفصلة غير متولدة من الأصل: كالصدقة، والكسب، والغلة؛ فاختار أبو حنيفة: أن الزيادة لا تمنع الرد، فلا تبطل الخيار، فإن اختار البيع فالزوائد له مع الأصل؛ لأنها تبين أنها كسب ملكه، فكانت ملكه، وإن اختار الفسخ رد الأصل مع الزائد. واختار أبو يوسف ومحمد: أن الزيادة للمشتري (¬1). وجه قول أبي حنيفة: أن ملك المبيع كان موقوفًا، فإذا فسخ تبين أنه لم يدخل في ملكه، فتبين أن الزيادة حصلت على ملك البائع، فيردها إليه مع الأصل. وجه قول أبي يوسف ومحمد: أن المبيع دخل في ملك المشتري، فكانت الزوائد حاصلة على ملكه، والفسخ يظهر في الأصل لا في الزيادة، فبقيت على حكم ملك المشتري (¬2). ¬
القول الثاني: مذهب المالكية
القول الثاني: مذهب المالكية: غلة الشيء المبيع في مدة الخيار تكون لمالك المبيع، وهو البائع سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما، إلا أن يشترطه المشتري، وسواء كانت أجرة عقار، أو غلة ثمار مؤبرة، أو غلة حيوان: كاللبن والبيض، ويستثنى من ذلك ما كان جزءًا باقيًا من المبيع كالولد والصوف؛ فهما للمشتري زمن الخيار إذا تم له الشراء؛ لأنهما جزء من المبيع وقت شرائه، وتكون الغلة للبائع سواء كان البيع صحيحًا أو فاسدًا (¬1). كما يختار المالكية ألا يسكن في البيت الذي اشتراه بشرط الخيار، فإن سكن فيها كان ذلك بالأجرة؛ لأن الغلة للبائع، ولو شرط المشتري أن يسكنها مدة الخيار، على ألا يؤدي كراءها، لكان البيع فاسدًا؛ لأنه من بيع العربان (¬2). وجه قولهم: أن المبيع في مدة الخيار لا يزال على ملك البائع لم ينتقل، إذ الأملاك لا تنتقل إلا بتمام الرضا، والخيار ينافي تمام الرضا، وقد قدمنا في الخلاف السابق أن عقد الخيار عند المالكية عقد منحل، وهذا يعني أن إمضاءه بعد ذلك نقل جديد للملكية، وليس تقريرًا للعقد الأول. القول الثالث: مذهب الشافعية: الملك في المبيع مع توابعه المتصلة والمنفصلة لمن انفرد بخيار من بائع أو ¬
وجه قول الشافعية
مشتر، فإن كان الخيار لهما فموقوف، فإن تم البيع، فنماء المبيع للمشتري من حين العقد، وإن فسخ، بقي نماء المبيع للبائع، وهذا مذهب الشافعية، لا فرق عند الشافعية بين النماء المتصل والمنفصل، ولا بين خيار المجلس وخيار الشرط (¬1). وجه قول الشافعية: ملك النماء تبع لملك المبيع، فمن ملك المبيع ملك النماء، ويستحق الملك من يملك التصرف، فمن انفرد بالخيار كان هو وحده متصرفًا في المبيع، ونفوذ التصرف دليل على الملك. وإن كان الخيار لهما كان الملك موقوفًا إلى حين لزوم العقد؛ لأن كل واحد منهما ممنوع من التصرف، ولأنه ليس أحد الجانبين أولى من الآخر، فتوقفنا، والله أعلم. القول الرابع: مذهب الحنابلة: الصحيح من مذهب الحنابلة أن النماء المتصل تابع للمبيع، سواء تم البيع، أو فسخ، كما يتبعه في الرد بالعيب. وأما النماء المنفصل فهو للمشتري مطلقًا، سواء اختار إمضاء البيع أو فسخه، ولا فرق في الحكم بين خيار المجلس وخيار الشرط (¬2). ¬
الراجح من الخلاف
وهناك قول آخر في مذهب الحنابلة: وهو أن النماء للمشتري إن كان المبيع من ضمانه، ويكن من ضمانه إذا كان المبيع لا يحتاج إلى استيفاء (¬1)، ولم يمنع البائع المشتري من قبضه، وهو قول للحنابلة (¬2). وقد ذكرنا أدلة الحنابلة عند الكلام على نماء المال المتصل والمنفصل في زمن خيار المجلس، فأغنى عن إعادته هنا. الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأقوال وأدلتها يجب أن ننظر: هل استحقاق النماء راجع إلى ثبوت الملك أم راجع إلى استقرار الضمان على المشتري؟ فإن كان النماء مستحقًا لثبوت الملك، فإن المشتري يثبت له الملك في العقد نفسه من صدور القبول مطابقًا للإيجاب. (ح- 431) لحديث ابن عمر - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ابتاع نخلًا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدًا، وله مال، فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع (¬3). فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أن من باع نخلاً فإن الملك ينتقل للمشتري مباشرة بالعقد نفسه، ولم يستثن من ذلك إلا ثمرة النخل بعد أن تؤبر، فإنها تبقى على ملك البائع إلا أن يشترطها المبتاع. كما بين - صلى الله عليه وسلم - أن من باع عبدًا فإن الملك ينتقل للمشتري مباشرة بالعقد نفسه، ¬
ولم يستثن من ذلك إلا مال العبد، فإنه للبائع إلا أن يشترطه المشتري، فدل على أن الملك ينتقل مباشرة بنفس العقد. وكون العقد ليس لازمًا مدة الخيار فإن هذا لا يعني عدم ثبوت الملك، كما لو اشترى رجل سلعة، ووجد بها عيبًا، فإن للمشتري الخيار بين الإمساك والرد، وهذا الخيار لا ينافي الملك، فكذلك خيار الشرط لا ينافي ملك المشتري للمبيع، وإذا ثبت له الملك ثبت له النماء؛ لأنه فرع عنه. وإن كان استحقاق النماء راجعًا إلى شغل الذمة بالضمان، كما جاء في الأثر: الخراج بالضمان، فإن المبيع يدخل في ضمان المشتري من العقد إلا أن يكون المبيع يحتاج إلى توفية: من كيل أو وزن أو عد أو ذرع، وكما قال ابن عمر: ما أدركته الصفقة حيًا مجموعًا فهو من مال المشتري (¬1). أي من ضمانه. ولا مانع من أن يستحق الشيء بأكثر من سبب، فالنماء للمشتري لأنه نماء ملكه، وهو أيضًا داخل في ضمانه كما لو تلف، وهو لا يحتاج إلى استيفاء، والله أعلم. ... ¬
المبحث الخامس عشر إذا تلف المبيع في زمن خيار الشرط
المبحث الخامس عشر إذا تلف المبيع في زمن خيار الشرط [م - 509] اختلف الفقهاء في المبيع إذا تلف في زمن الخيار على من يكون الضمان، وهل يبطل الخيار؟ على أقوال: القول الأول: مذهب الحنفية، ولهم في ذلك تفصيل على النحو التالي: الحالة الأولى: إذا تلف المبيع قبل القبض، فيبطل البيع، سواء كان الخيار للبائع، أو للمشتري، أو لهما قولاً، واحدًا. وجهه: أن البيع لو كان باتًا لبطل، فإذا كان فيه خيار يشترط كان هذا من باب أولى؛ لأنه أضعف منه، ولأن المبيع لم يخرج عن ملكه اتفاقا, ولم ينضم إلى الخيار قبض ليكون له أثر في تعديل ارتباط تبعة الهلاك بالملك. ولأنه لا يمكنه مطالبة المشتري بالثمن بدون تسليم المبيع، وقد عجز عن التسليم، فلا فائدة في بقائه، فيفسخ، فيبطل خياره ضرورة (¬1). الحالة الثانية: إذا تلف المبيع الذي شرط فيه الخيار للبائع بعد أن قبضه المشتري ولكن بإتلاف البائع إياه، ففي هذه الصورة ينفسخ البيع، ولا يترتب شيء على المشتري. ¬
الحالة الثالثة
الحالة الثالثة: إذا تلف المبيع بعد القبض، فإما أن يكون الخيار للبائع، أو يكون الخيار للمشتري. فإن كان الخيار للبائع، فهلك بإتلاف المشتري خلال مدة الخيار، فإن البيع يبطل، ويسقط الخيار، ويكون الضمان على المشتري، ويضمنه بالقيمة لا بالثمن (¬1). وجه هذا القول: أن البيع قد انفسخ بهلاك المحل إذ كان موقوفاً، لأجل خيار البائع، ولا نفاذ للموقوف إذا هلك المحل، فبقي في يد المشتري مقبوضًا على جهة العقد (أي المعاوضة)، لا على وجه الأمانة المحضة كالإيدع والإعارة؛ لأن البائع لم يرض بقبض المشتري له إلا على جهة العقد. أما كيفية ضمانه، فإن كان مثلياً ضمنه بالمثل، وإن لم يكن مثلياً فإنه يضمن بالقيمة لا بالثمن، والضمان بالقيمة، لا بالثمن، هو الشأن فيما قبض على جهة العقد، كالمقبوض على سوم الشراء. وقد جعل الكاساني ضمانه أولى من ضمان المقبوض على سوم الشراء (¬2). وإن كان الخيار للمشتري، وقد قبض المبيع، فهلك في يده، لا يبطل البيع، ولكن يبطل الخيار، ويلزم البيع، وعليه الثمن. ¬
وجه ذلك على أصل أبي يوسف ومحمد
وجه ذلك على أصل أبي يوسف ومحمد: أن المشتري ملكه بالعقد، فإذا قبضه فقد تقرر عليه الثمن، فإذا هلك يهلك مضمونًا بالثمن، كما كان في البيع البات. وأما على أصل أبي حنيفة: فالمشتري وإن لم يملكه فإن هلاكه بمثابة تعيبه في يده بعيب لم يكن عند البائع؛ لأن الهلاك يكون بناء على سبب مؤثر فيه عادة، والسبب المفضي إلى الهلاك يكون عيبًا، وتعيب المبيع في يد المشتري يسقط خياره؛ لأنه يعجز عن الرد على الوجه الذي أخذه سليمًا. وكون الضمان هنا بالثمن لا بالقيمة بينما الحالة السابقة كان الضمان بالقيمة لا بالثمن فقد أشار الحنفية إلى وجه الفرق: أن البيع في حالة كون الخيار للبائع إذا تلف في يد المشتري انفسخ العقد ضرورة، وإذا انفسخ العقد رجعنا إلى قيمة المبيع لا إلى الثمن، ويكون ضمانه كالمقبوض على سوم الشراء، أي بالقيمة، لا بالثمن لفقدان العقد. بينما إذا كان الخيار للمشتري وهلك المبيع في يده، فإن خيار المشتري يبطل لأنه بمنزلة حدوث العيب عند المشتري، فبدخول العيب على محل الخيار لا يملك المشتري (صاحب الخيار) الرد على البائع حال قيام العيب، كائنا ما كان العيب، فإذا اتصل به الهلاك لم يبق الرد سائغًا، فيهلك المحل بعد أن أصبح العقد لازمًا، وبلزوم العقد يجب الثمن لا القيمة (¬1). الحالة الرابعة: إذا قبضه المشتري بإذن البائع، ثم أودعه البائع فهلك في يده. ¬
القول الثاني: مذهب المالكية
فإن كان الخيار للبائع أو لهما، بطل البيع قولًا واحداً في مذهب الحنفية. وإن كان الخيار للمشتري، فإن البيع يبطل أيضًا عند أبي حنيفة؛ لأنه لما رده للبائع فقد ارتفع قبضه، فهلك المبيع قبل القبض. وعند صاحبيه: يهلك على المشتري، ويلزمه الثمن؛ لأنه دخل في ملك المشتري، فهلاكه في يد المودع كهلاكه في يد المشتري؛ لصحة الإيداع، باعتبار قيام الملك (¬1). هذا ملخص مذهب الحنفية، مع بيان الدليل أو التعليل لقولهم. القول الثاني: مذهب المالكية: يرى المالكية أن الأصل في المبيع إذا تلف في زمن الخيار أنه من مال البائع، ولو قبضه المشتري. هذا هو الأصل، ويضمنة البائع في الحالات التالية: الحالة الأولى: إذا تلف المبيع في يده. الحالة الثانية: إذا تلف المبيع في يد المشتري، وكان المبيع مما لا يغاب عليه، أي لا يمكن إخفاؤه كالحيوان، ولم يظهر كذب المشتري، فهو من ضمان البائع مع يمين المبتاع، لقد ذهب من غير فعله. الحالة الثالثة: أن يتلف المبيع في يد المشتري، ويكون المبيع مما يغاب عليه: أي يمكن إخفاؤه كالحلي والثياب، ويثبت تلفه ببينة تشهد أن تلفه لم يكن بسبب المشتري ولا تفريطه، ففي هذه الحالات يكون تلفه من مال البائع مطلقًا، سواء كان الخيار له، أو للمشتري، أو لهما، أو لغيرهما. ¬
الحالة الأولى
ويضمن المشتري في الحالات التالية: الحالة الأولى: أن يتلف المبيع في يد المشتري، ويكون المبيع مما لا يغاب عليه كالحيوان، ولم يظهر كذبه، وينكل عن اليمين حيث توجهت له في دعواه ضياع المبيع (¬1). الحالة الثانية: أن يتلف المبيع في يد المشتري، ويكون المبيع مما لا يغاب عليه، ويظهر كذبه في دعوى تلفه، فإنه يضمنه. الحالة الثالثة: أن يتلف المبيع في يد المشتري، والمبيع مما يغاب عليه، ولم تكن له بينة على تلفه تظهر صدق دعواه؛ فإنه يضمنه؛ لأنه يتهم أن يكون غيبه وحبسه عن صاحبه. وفي هذه الحالات الثلاث يجب على المشتري ضمان الأكثر من الثمن أو قيمة المبيع يوم قبضه، إن كان الخيار مشروطًا للبائع؛ لأن شرط الخيار يجعله أحق بأفضل الصفقتين، فله اختيار الإمضاء، ويأخذ الثمن، إن كان الثمن أكثر، وله اختيار الرد، ليأخذ القيمة إن كانت القيمة أكثر. ويستثنى من ذلك ما إذا كان المبيع مما يغاب عليه، وادعى المشتري هلاكه، ولم يقدر على إقامة بينة تشهد له لتعفيه من الضمان، فإنه إذا حلف أنه ضاع بغير سببه، وتفريطه، فإن يمينه لا تسقط عنه الضمان، لكن يخفف عنه بسببها، فلا يغرم مع الحلف إلا ثمن المبيع المتفق عليه، دون القيمة الزائدة. ¬
وجه قول المالكية الأصل أن يكون الضمان على البائع
أما إذا كان الخيار للمشتري، ولزمه ضمان المبيع على النحو السابق، فالواجب عليه هو الثمن، ولا يكلف القيمة إن كانت زائدة (¬1). وجه قول المالكية الأصل أن يكون الضمان على البائع: الوجه الأول: أن الغلة في بيع الخيار إذا كانت للبائع مطلقًا، فيجب أن يكون ضمانه على البائع أيضاً؛ لأن الخراج بالضمان، فمن له الغنم والانتفاع بالغلة، فعليه الغرم بتحمل ضمان الهلاك. الوجه الثاني: أن عقد الخيار عند المالكية يعتبر منحلًا حتى ينعقد، كما بينا في ملكية المبيع زمن الخيار، وإذا كان منحلًا فهلاك المبيع يكون على مالكه، وهو البائع. قال ابن الشاط: "وعمدتهم أنه عقد غير لازم، فلم ينتقل الملك عن البائع، كما لو قال: بعتك، ولم يقل المشتري: قبلت" (¬2). جاء في المنتقى: "إذا هلك المبيع في مدة الخيار بيد البائع فهو منه، وإن هلك بيد المبتاع، ففي كتاب ابن حبيب: إن كان مما لا يغاب عليه، فهو من ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية
ضمان البائع مع يمين المبتاع، لقد ذهب من غير فعله، وإن كان مما يغاب عليه فهو من ضمان المبتاع إذا لم تقم بينة بضياعه. ووجه ذلك: أنه قبضه لمنفعة نفسه، مع بقائه على ملك بائعه، فأشبه الرهن" (¬1). القول الثالث: مذهب الشافعية: إذا تلف المبيع فلا يخلو: إما أن يكون الذي أتلفه البائع، أو المشتري، أو يكون التلف بآفة سماوية، أو يتلفه أجنبي، وإليك بيان حكم كل حالة: الحالة الأولى: أن يتلف بآفة سماوية: إذا تلف المبيع بآفة سماوية، في زمن الخيار، قبل القبض انفسخ البيع؛ لأنه ينفسخ بذلك عند بقاء يده، فعند بقاء ملكه أولى. ولأن نقل الملك بعد التلف لا يمكن. وإن كان التلف بعد القبض، فإن كان الخيار للبائع انفسخ أيضاً، ويسترد المشتري الثمن، ويرجع البائع عليه بالقيمة. ¬
الحالة الثانية
وإن كان الخيار لهما، أو للمشتري بقي الخيار على الأصح (¬1)، ولا ينفسخ العقد؛ لدخوله في ضمان المشتري بالقبض، فإن تم العقد: بأن أجاز المشتري البيع لزمه الثمن، وإن لم يتم العقد لزمته القيمة (¬2). الحالة الثانية: أن يتلفه المشتري، ولو قبل القبض، والخيار له، أولهما استقر عليه الثمن؛ لأنه بإتلافه المبيع قابض له، كما لو أتلف المالك المغصوب في يد الغاصب (¬3). الحالة الثالثة: أن يتلفه البائع، فإذا أتلفه البائع، ولو بعد القبض، فكتلفه بآفة، وتقدم حكم ما لو تلف المبيع بآفة، فلا داعي لتكرار الكلام (¬4). الحالة الرابعة: أن يتلفه أجنبي، فإذا أتلفه أجنبي، وقلنا: الملك موقوف، أو للمشتري لم ينفسخ، وعلى من باشر الإتلاف الغرم، والخيار بحاله، فإن تم البيع فهي للمشتري، وإلا فاللبائع (¬5). ¬
القول الرابع: مذهب الحنابلة
القول الرابع: مذهب الحنابلة: ذهب الحنابلة بأنه إذا تلف المبيع في مدة الخيار، فلا يخلو: إما أن يكون قبل قبضه، أو بعده. فإن كان تلفه قبل قبضه، وكان مكيلًا أو مورونًا، أو معدودًا، أو مذروعًا، انفسخ البيع، وكان من ضمان البائع إلا أن يتلفه المشتري فيكون من ضمانه، ويبطل خياره. وإن كان المبيع غير ذلك (¬1)، ولم يمنع البائع المشتري من قبضه، فهو من ضمان المشتري. وإن كان تلفه بعد قبضه في مدة الخيار، فهو من ضمان المشتري، ويبطل خياره على الصحيح من المذهب، وأما خيار البائع ففيه روايتان: أحدهما: يبطل، وهو الصحيح من المذهب، اختاره الخرقي، وأبو بكر، وغيرهما، وقدمه في المحرر والفائق ... والرواية الثانية: لا يبطل، وله الفسخ، والرجوع بالقيمة، أو مثله إن كان مثليًا، اختاره القاضي، وابن عقيل، وحكاه في الفصول في موضع عن الأصحاب، وقدمه في الخلاصة، والكافي، والرعايتين، والحاوي الصغير. هذا ملخص مذهب الحنابلة (¬2). هذا عرض لأقوال الأئمة الأربعة مع أدلتهم، ونستطيع أن نخرج من هذا العرض بالتالي: ¬
الأول: أن المشهور في مذهب المالكية أن الضمان على البائع مطلقًا، قبضه المشتري أو لم يقبضه، وسواء كان الخيار لهما، أو لأحدهما إلا أن يقبضه المشتري، والمبيع مما يغاب عليه، ولم تقم على تلفه بينة (¬1). وهو قول ابن أبي ليلى إذا كان الخيار للبائع فقط؛ لأنه يرى أن يد المشتري يد أمانة. الثاني: ينفرد الحنابلة بأنهم يرون أن الضمان قد يكون على المشتري، ولو لم يقبض المبيع، كما لو كان المبيع لا يحتاج إلى استيفاء، ولم يكن شراؤه عن صفة أو رؤية متقدمة، ولم يمنع البائع المشتري من قبضه. الثالث: يرى الحنفية والشافعية أن تلف المبيع قبل القبض، يفسخ البيع، سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما، ويقيد الحنابلة ذلك بأن يكون المبيع يحتاج إلى استيفاء، من كيل أو وزن أو عد أو ذرع، فإن كان لا يحتاج إلى استيفاء كان من ضمان المشتري، ولو لم يقبض المبيع. الرابع: يرى الحنفية أن تلف المبيع في يد المشتري، يلزمه الضمان مطلقًا، لكن إن كان الخيار للبائع فلا يلزمه الثمن المسمى، بل يلزمه أداء قيمة المبيع، وإن كان الخيار للمشتري لزمه أداء الثمن المسمى دون القيمة. وقد بينا وجه ذلك. ويفرق الشافعية بين أن يكون التلف بآفة سماوية، وبين أن يكون التلف بسبب من المشتري، ففي الأول: يعتبرون القيمة دون الثمن، وفي الثاني: يلزمه الثمن فقط. ¬
وملخص مذهبهم
وملخص مذهبهم: إن كان التلف بآفة سماوية، وكان ذلك بعد القبض، فإن كان الخيار للبائع يرى الشافعية أن العقد ينفسخ، ويسترد المشتري الثمن، ويرجع البائع عليه بالقيمة. وإن كان الخيار لهما، أو للمشتري بقي الخيار على الأصح، ولا ينفسخ العقد؛ لدخوله في ضمان المشتري بالقبض، فإن تم العقد: بأن أجاز المشتري البيع لزمه الثمن، وإن لم يتم العقد لزمته القيمة. أما إذا تلف المبيع بسبب من المشتري فإن الشافعية والحنابلة يرون أنه يلزمه الثمن مطلقًا، سواء كان ذلك قبل القبض أو بعده، ولا يتعرضون للقيمة. هذا ملخص ما يمكن أن نستخلصه من أقوال الأئمة عليهم رحمه اللهُ. وأضعف الأقوال عندي قول المالكية الذين يرون أن عقد البيع بشرط الخيار عقد منحل، وأن اختيار الإمضاء في العقد نقل جديد للملكية، وليس تقريرًا للعقد الأول، وبالتالي يرون أن الضمان على البائع مطلقًا، قبل القبض وبعده، وسواء كان الخيار لهما أو لأحدهما. فالصحيح أن عقد البيع بشرط الخيار هو منعقد من صدور القبول مطابقًا للإيجاب، لكنه عقد جائز في حق من له الخيار، وملزم في حق من ليس له الخيار. ولذلك فإن الحنابلة رحمهم الله ردوا قولهم في هذه المسألة إلى مسألة ضمان المبيع إذا تلف، ولم يروا أن هناك تأثيرًا لشرط الخيار في العقد، فلم يختلف الحكم عندهم في عقد لا خيار فيه، أو عقد فيه خيار، وهو الصواب: فالمبيع الذي يحتاج إلى استيفاء من كيل أو وزن أو عد أو ذرع، فإن ضمانه على بائعه حتى يستوفيه المشتري.
وإن كان لا يحتاج إلى استيفاء، ولم يمنعه البائع من قبضه فإن ضمانه على المشتري، سواء كان تلفه قبل القبض أو بعده. وأن المشتري إذا أتلفه فهو من ضمانه، بصرف النظر هل كان ذلك قبل قبضه، أو بعده، والله أعلم. ***
المبحث السادس عشر أسباب انتهاء خيار الشرط
المبحث السادس عشر أسباب انتهاء خيار الشرط الفرع الأول انتهاء خيار الشرط بالموت [م - 510]، اختلف العلماء في خيار الشرط، هل يورث؟ على قولين: القول الأول: لا يورث، بل إذا مات من له الخيار بطل خياره، وهو مذهب الحنفية (¬1)، ومذهب الحنابلة (¬2). القول الثاني: وذهب بعض العلماء إلى أن خيار الشرط يورث، وهو مذهب المالكية (¬3)، ¬
ووجه الفرق عندهم
والشافعية (¬1). وهذه المسألة ترجع إلى مسألة أخرى: هل الحقوق تورث كما يورث المال، أو الحقوق تسقط بموت أصحابها, ولا تدخلها النيابة؟ والمتأمل أن الحنفية فرقوا بين خيار الشرط وبين خيار العيب، فذهبوا إلى أن خيار الشرط لا يورث، وأثبتوا الميراث في خيار العيب. ووجه الفرق عندهم: أن خيار الشرط: يخير العاقد بين الفسخ والإجازة، ولا يتصور ذلك منه بعد موته، فالخيار لا يخرج عن كونه مشيئة وإرادة، ولا يتصور انتقاله فلا يورث، بخلاف خيار العيب، فإنه حق يلحق العين المملوكة، وهي موروثة، فالعاقد: قد استحق أن يستلم المبيع سليمًا، فكذا الوارث (¬2). أما المالكية والشافعية فلم يفرقوا بين حق وحق، فذهبوا إلى أن الحقوق تورث كما يورث المال. وإذا كان هذا الحق مما تركه الميت فقد قال تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12]، فيدخل فيه هذا الحق، فيجب أن يكون للوارث. ومن جهة القياس: أن هذا خيار ثبت لإصلاح المال، فوجب أن ينتقل بالموت إلى الوارث كخيار العيب (¬3). وقد توسعنا في ذكر ما بقي من حجج القوم في مسألة: هل ينتهي خيار ¬
المجلس في موت أحد المتعاقدين، فالأدلة واحدة، وما رجح هناك يرجح هنا، بجامع أن كلًا منهما له حق في الخيار، فراجع المسألة لتطلع على زيادة أدلة، والله أعلم.
الفرع الثاني انتهاء خيار الشرط باختيار الفسخ
الفرع الثاني انتهاء خيار الشرط باختيار الفسخ [م - 511]، كل من له شرط الخيار فله الحق في فسخ البيع في المدة المعينة للخيار، وكما يكون الفسخ بالقول صريحًا، يكون بالفعل أيضًا، وهو ما يسمى الفسخ بطريق الدلالة. أما الأول: كأن يقول من له الخيار: فسخت البيع، أو نقضته، أو أبطلته، فينفسخ البيع، سواء كان الخيار للبائع، أو للمشتري، أو لهما. لأن الخيار شرع للفسخ، فإذا سقط بطل الخيار ... ولأن الخيار: هو التخيير بين الفسخ والإجازة، فأيهما وجد سقط. وأما الثاني: وهو الفسخ بالفعل: أو الفسخ بطريق الدلالة: فهو أن يتصرف من له الخيار تصرف الملاك، كما لو تصرف البائع في المبيع إن كان الخيار له، أو تصرف المشتري في الثمن إن كان الخيار له، وكان الثمن عينًا؛ لأن تصرف البائع في المبيع، وتصرف المشتري في الثمن إذا كان عينًا دليل على إبقاء الملك وإثباته، فالإقدام عليه يبطل خياره تحقيقًا لغرضه (¬1). ومن الفسخ عن طريق الدلالة ما نقلناه سابقًا عن الصيرمي، حيث يقول: "وقول البائع في زمن الخيار: لا أبتاع حتى يزيد في الثمن، مع قول المشتري: لا أفعل، يكون فسخًا. وكذا قول المشتري: لا أشتري حتى ينقص ¬
عني من الثمن، مع قول البائع: لا أفعل. وكذا طلب البائع حلول الثمن المؤجل، وطلب المشتري تأجيل الثمن الحال، كل هذا فسخ" (¬1). وهذا الأمر بين واضح؛ لأن الخيار يفقد معناه وموضوعه إذا لم يعط حق الفسخ لصاحبه، والله أعلم. ¬
مسألة لا يفتقر الفسخ إلى حضور صاحبه أو إذنه أو حكم قاض
مسألة لا يفتقر الفسخ إلى حضور صاحبه أو إذنه أو حكم قاض [م - 512] اختلف الفقهاء في العاقد إذا كان له الخيار، واختار الفسخ، هل يشترط حضور صاحبه، أو إذنه أو حكم القاضي؟ على قولين: القول الأول: ذهب الجمهور من المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختاره أبو يوسف من الحنفية (¬4)، إلى أن فسخ العقد في مدة الخيار لا يتوقف على رضاء الآخر ولا على حضوره، ولا حكم قاض. إلا أن المالكية قالوا: إن كان المبيع بيد البائع، والخيار له لم يحتج إن أراد الفسخ إلى الإشهاد، وإن أراد إمضاء البيع فليشهد. وإن كان المبيع بيد المشتري، فأراد إمضاء البيع فلا يحتاج إلى الإشهاد، وإن ¬
القول الثاني
أراد فسخه فليشهد (¬1). القول الثاني: قال أبو حنيفة ومحمد: إن أجاز العقد صح، وإن فسخ فإن كان الفسخ بالفعل كان له ذلك، ولو مع غيبة صاحبه (¬2)، وإن كان فسخه بالقول فليس له ذلك إلا بمحضر الآخر (¬3). وخرج أبو الخطاب الحنبلي ومن تبعه من عزل الوكيل: أنه لا يفسخ في غيبته حتى يبلغه في المدة (¬4). والمقصود بمحضر الآخر: أي بعلمه، فإذا فسخ العقد بدون علمه لم ينفسخ. قال في البحر: "والمراد: بالغيبة: عدم علمه، والمراد بالحضرة علمه، فلو فسخ في غيبته، فبلغه في المدة تم الفسخ، لحصول العلم به، ولو بلغه بعد مضي المدة، تم العقد بمضي المدة قبل الفسخ (¬5). ¬
وجه قول الجمهور: أنه لا يشترط حضوره
وجه قول الجمهور: أنه لا يشترط حضوره: الوجه الأول: أن العاقدين لما اتفقا على اشتراط الخيار كان ذلك منهما اتفاقًا على حق الفسخ لمن له الخيار، فلا يحتاج إلى إذن، ولا حضور، ولا حكم قضاء. الوجه الثاني: إذا كان فسخ العقد لا يتوقف على رضا الطرف الآخر، لم يتوقف الفسخ على حضوره أيضًا. الوجه الثالث: أن موجب الخيار: الفسخ أو الإجازة. وفي الإجازة لا يشترط حضور الآخر بالإجماع، فكذا الفسخ بل أولى؛ لأن الخيار إنما شرط للفسخ لا للنفاذ، إذ النفاذ ثابت بدون الخيار، وبالاتفاق على اشتراط الخيار صار العاقد مسلطًا على الفسخ من جهته، ولهذا لا يشترط رضا الطرف الآخر (¬1). وجه قول أبي حنيفة وصاحبه: أن الفسخ بدون علم صاحبه يلزم منه وقوع الضرر على صاحبه؛ لأنه ربما يعتمد تمام البيع السابق، فيتصرف فيه، فيلزمه غرامة القيمة بالهلاك فيما إذا كان الخيار للبائع، أو لا يطلب لسلعته مشتريًا فيما إذا كان الخيار للمشتري، وهذا نوع ضرر، فيتوقف على علمه، وصار كعزل الوكيل يتطلب علمه بذلك، بخلاف الإجازة؛ لأنه لا ضرر فيها على صاحبه؛ إذ هو موافق له فيها (¬2). ¬
وجيب
فكل ما فيه إلزام على الغير لا يثبت بدون علمه، فإذا اختار العاقد الفسخ فإنه يلزم غيره حكمًا جديدًا لم يكن، فلا يثبت حكم تصرفه في حق ذلك الغير ما لم يعلم به. وجيب: القول بأنه يخبره حتى لا يتصرف في المبيع، فالأصل أنه ممنوع من التصرف زمن الخيار؛ لأن تصرفه يؤدي إلى إسقاط حق صاحبه، وهذا لا يجوز. وأما القياس على عزل الوكيل فهو قياس مع الفارق، فإن الموكل قد سلط على التصرف بإذن من الوكيل، فعزله خلاف الأصل، فيتوقف عزله على علمه؛ كما أن العبد له أن يعمل بالحكم المنسوخ قبل علمه بالناسخ، بخلاف شرط الخيار فليس له أن يعتبر العقد لازمًا في زمن الخيار. وبخلاف خيار العيب كذلك؛ لأن المشتري هناك غير مسلط على الفسخ وإنما له حق المطالبة بتسليم الجزء الفائت فإذا تحقق عجز البائع عنه، تمكن من الفسخ فلا يتحقق عجزه إلا بمحضر منه (¬1). الراجح: أرى أن قول الجمهور هو الراجح، وتفريق أبي حنيفة ومحمد عليهما رحمه الله بين الإجازة والفسخ، وبين الفسخ بالفعل والفسخ بالقول لا دليل عليه، وهو يشير إلى أنه من قبيل الرأي المحض. ... ¬
الفرع الثالث انتهاء خيار الشرط بالإجازة
الفرع الثالث انتهاء خيار الشرط بالإجازة [م - 513] الأصل لزوم البيع، وجوازه عارض إنما هو من أجل الخيار، فإذا أجاز البيع من له الخيار فقد لزم البيع، وبطل خياره، وهذا مذهب الجمهور. والإجازة منها ما هو صريح، ومنها ما هو بطريق الدلالة: فالصريح: أن يقول من له الخيار: أجزت البيع، أو أوجبته، أو أسقطت الخيار، أو أبطلته، ونحو ذلك. وأما الإجازة بطريق الدلالة، وهو أن يتصرف من له الخيار بالعوض الذي انتقل إليه تصرف الملاك، فإذا تصرف البائع في الثمن، وكان الخيار له وحده، كان هذا منه دليلًا على إجازة البيع، فالإقدام على هذا التصرف يكون إجازة للبيع دلالة. وإن تصرف البائع في المبيع كان هذا منه دليلًا على فسخ البيع. ومثله تصرف المشتري في المبيع إذا كان الخيار له وحده فإنه دليل على إجازة البيع، كما أن تصرفه في الثمن دليل على فسخ البيع .. ومن هذه التصرفات عرضه للبيع، والمساومة، والهبة إذا لم يتصل بها قبض، والرهن، واستعمال المبيع في غير تجربته؛ لأن جواز هذه التصرفات يعتمد الملك، فالإقدام عليها يكون دليل قصد التملك، هذا ما ذهب إليه الجمهور (¬1). ¬
دليل الجمهور
كما أن تصرف أحد العاقدين مع الآخر، أو بإذنه في أحد العوضين، أو فيهما مسقط لخيارهما (¬1). دليل الجمهور: ما جاء عن ابن عمر أن الأمة إذا عتقت، فلها أن تختار زوجها العبد، ولها أن تنفصل عنه، فإن غشيها برضاها فقد بطل خيارها؛ لأن هذا منها اختيار بالفعل، وقد روي مثل هذا في قصة عتق بريرة إلا أنه مرسل (¬2). (ث-84) روى ابن أبي شيبة قال: حدثنا عبدة، عن عبيد الله، عن نافع عن ابن عمر، قال: إذا قربها، فلا خيار لها، قد أقرت (¬3). [إسناده صحيح]. (ث-85) وروى أيضًا من طريق قتادة، أن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتقت ¬
القول الثاني
جارية لها، فقالت: إن وطئك زوجك فلا خيار لك (¬1). [قتادة عن حفصة مرسل، قال أحمد: ما أعلم قتادة سمع من أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من أنس بن مالك] (¬2). القول الثاني: إن كان الخيار للبائع، فكل شيء يفعله مما لو فعله المشتري كان رضًا، فهو إذا فعله البائع يعتبر ردًا للبيع إلا الإجارة (¬3). وجه هذا القول: إذا صدر من البائع تصرفًا لو تصرفه المشتري لأسقط خياره كان ردًا للبيع كما لو رهن المبيع، أو استغله، إلا الإجارة فإنه لو أجر البائع المبيع لم يعتبر ردًا للبيع؛ لأن المالكية يرون أن غلة المبيع ملك للبائع وقت الخيار؛ فالإجارة استغلال لحقه فلا تعتبر عندهم ردًا للبيع، ولأن عقد الخيار كما قدمنا: عقد منحل عندهم حتى ينبرم. القول الثالث: اختار الشافعية في أصح الوجهين أن عرض السلعة للبيع، والتوكيل فيه، والرهن، والهبة إذا لم يتصل بها قبض، وتقبيل الجارية، أن ذلك ليس فسخًا، ولا إجازة (¬4). ¬
والراجح
والراجح: ما ذهب إليه الجمهور، لقوة دليلهم وتعليلهم، والله أعلم. ... ¬
الفرع الرابع انتهاء الخيار بانتهاء المدة
الفرع الرابع انتهاء الخيار بانتهاء المدة إذا انقضت مدة الخيار ولم يفسخ من له الخيار لزم البيع، وهذا مذهب الجمهور، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه. وقد خالف بعض الفقهاء في مسألتين: المسألة الأولى: في دخول الغاية في شرط الخيار، فإذا اشترط الخيار إلى الغد، أو إلى الليل، أو إلى الظهر، فهل يدخل الغد والليل، والظهر، أو لا يدخلون. المسألة الثانية: إذا انقضت مدة الخيار، ولم يفسخ من له الخيار، فهل له الرد بعد انقضاء المدة بيوم أو يومين، أو ليس له الرد؟. وسوف نعرض لكل مسألة من هاتين المسألتين على انفراد، ونبين فيها قول المخالف، ودليله، والجواب عنه إن شاء الله تعالى.
المسألة الأولى دخول الغاية في شرط الخيار
المسألة الأولى دخول الغاية في شرط الخيار [م - 514] اختلف العلماء في دخول الغاية في شرط الخيار، فإذا شرط الخيار إلى الليل، أو إلى الغد، أو إلى الظهر، هل يدخل الليل، أو الغد، أو الظهر؟ على قولين: القول الأول: ذهب أبو حنيفة: إلى أن الليل والغد والظهر تدخل (¬1)، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). القول الثاني: ذهب الجمهور إلى أن الغاية لا تدخل، واختاره أبو يوسف ومحمد من الحنفية (¬3). وجه قول أبي حنيفة: استدل الكاساني لقول أبي حنيفة بقوله: "إن الغايات منقسمة: غاية إخراج، ¬
وجه قول الجمهور
وغاية إثبات، فغاية الإخراج تدخل تحت ما ضربت له الغاية، كما في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، والغاية هاهنا في معنى غاية الإخراج، ألا ترى أنه لو لم يذكر الوقت أصلاً لاقتضى ثبوت الخيار في الأوقات كلها حتى لم يصح؛ لأنه يكون في معنى شرط خيار مؤبد، بخلاف التأجيل إلى غاية، فإنه لولا ذكر الغاية لم يثبت الأجل أصلاً، فكانت الغاية غاية إثبات، فلم تدخل تحت ما ضربت له الغاية" (¬1). فيقصد من قوله: (غاية إخراج) أن اليد لو لم يقل: إلى المرافق لدخلت اليد كلها في الغسل، فيكون الغرض من قوله إلى المرافق غاية إخراج: أي إخراج جزء من اليد عن حكم الغسل. وأما غاية الإثبات فقد ضرب لها المؤلف مثالًا بالأجل، وهو واضح. واستدل القدوري لقول أبي حنيفة بقوله: "لنا أن الغاية فيه احتمال، قد يدخل في الكلام تارة، ولا يدخل أخرى، والعقد لا يتعلق به استحقاق، وإنما يبرم بمضي مدة الخيار، فلم يجز لنا إلزام صاحب الخيار بالعقد بالشك" (¬2). وجه قول الجمهور: احتجوا بأن أهل اللغة مجمعون على أن لفظ (من) لابتداء الغاية، ولفظ (إلى) لانتهاء الغاية. والراجح في هذه المسألة أنه إن كان هناك عرف عمل به، فإن كان العرف في البلد يدخل الغاية عمل به؛ لأن العقود تجري بما يتعارف عليه الناس. ¬
قال ابن مفلح: ويتوجه تقديم العرف في الأصح (¬1). وإن لم يكن هناك عرف فقول الجمهور أرجح من قول أبي حنيفة رحمه الله، ولذلك اختارت مجلة الأحكام العدلية رأي أبي يوسف ومحمد. جاء في المادة (305): "إذا مضت مدة الخيار، ولم يفسخ أو لم يجز من له الخيار لزم البيع، وتم". ¬
المسألة الثانية إذا اختار الفسخ بعد انتهاء مدة الخيار بيوم أو يومين
المسألة الثانية إذا اختار الفسخ بعد انتهاء مدة الخيار بيوم أو يومين [م - 515] إذا اختار العاقد الفسخ بعد انتهاء مدة الخيار بيوم أو يومين، فهل يملك ذلك؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ليس له الفسخ، وهذا مذهب الجمهور (¬1). القول الثاني: له الرد بعد انقضاء المدة بيوم أو يومين، وليس له الرد بأكثر من هذا، سواء كانت المدة المحددة بالنص عليها والاتفاق، وذلك فيما إذا ضربا للخيار أجلاً، أو بمضي المدة المقررة لكل سلعة بحسبها على ما تقدم إذا لم يضربا لها أجلًا، ¬
وجه قول الجمهور
وهذا مذهب المالكية (¬1). وجه قول الجمهور: أن الأصل لزوم العقد، وإنما خولف ذلك لوجود الشرط، فإذا انتهى الشرط رجع العقد إلى اللزوم، فليس له رد المبيع. ولأن الخيار لا يثبت إلا بالشرط، وهذا متفق عليه، فإذا كان كذلك لم يبق الخيار أكثر من مدته المشروطة. وجه قول المالكية: احتج المالكية بالقاعدة التي تقول: "ما قارب الشيء له حكمه" (¬2) ¬
قال ابن رشد: "هذه القاعدة كثيرًا ما يذكرها الفقهاء، ولم أجد دليلاً يشهد لعينها، فأما إعطاؤه حكم نفسه، فهو الأصل، وأما إعطاؤه حكم ما قاربه، فإن كان مما لا يتم إلا به، كإمساك جزء من الليل، فهذا يتجه، وإن كان على خلاف ذلك، فقد يحتج له بحديث: مولى القوم منهم، وبقوله عليه السلام: المرء مع من أحب ... " (¬1). واستدل لهذه القاعدة الشنقيطي رحمه اللهُ في أضواء البيان بقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]. قال الشيخ: "ظاهره أن الإمساك بمعروف إذا بلغن أجلهن مع أنهن إذا بلغن إلى ذلك الحد خرجن من العدة، وانتهى وجه المراجعة، ولكن المراد هنا: إذا قاربن أجلهن، ولم يتجاوزنه، أو يصلن إليه بالفعل، والقاعدة: أن ما قارب الشيء يعطى حكمه، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. ومثل الآية: الحديث في قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، مع أنه عند الإتيان، أو أثنائه لا يحق له أن يقول ذلك، وإنما يقوله إذا قارب دخوله" (¬2). "ومن جهة الاعتبار: أن إلحاق ما قارب الشيء به دليل على أن هذا الشيء ليس تحديدًا، بل اجتهادًا مقاربًا، فهو من منزلة العفو، وباب التقديرات الاجتهادية، لا من تحديدات الشرع" (¬3). ¬
الراجح
الراجح: قول الجمهور ويقال جوابًا على ما ذكره المالكية: إن المدة إذا حددت بالاتفاق يكون الخروج على تلك المدة مخالفًا لما اتفق عليه، فإن الأجل إما أن يعرف بالشرع، فلا يجوز الزيادة عليها؛ لأن ذلك استدراك على الشارع، كتوقيت المسح يوماً وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر، وكصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع، وإما أن يعرف ذلك بالاتفاق، فيكون الخروج عن ذلك الاتفاق مخالفًا لمقتضى الشرط، وعلى أضعف تقدير: أن تكون المدة المنصوصة يقينًا دون الزائد، وإنما يؤخذ بالمتيقن، والله أعلم.
الفرع الخامس في انتهاء خيار الشرط بالجنون والإغماء
الفرع الخامس في انتهاء خيار الشرط بالجنون والإغماء [م - 516] اختلف الفقهاء في انتهاء خيار الشرط بالجنون والإغماء، إلى أقوال: القول الأول: أن الجنون والإغماء لا يبطل الخيار، فإذا أفاق فهو على خياره، وإن مضت مدة الخيار، ولم يفق فقد لزم البيع. وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة (¬1). لأن خيار الشرط مؤقت، ولا يبقى بعد مضي وقته، وقد عجز عن الفسخ في مدته، فيلزم البيع. ولا يثبت الخيار لوليه؛ لأن الرغبة في المبيع وعدمها لا تعلم إلا من جهته. وإن أفاق في مدة الخيار كان على خياره، لإمكان الفسخ والإجازة، وكذا لو بقي نائمًا في آخر مدة الخيار حتى مضت، سقط الخيار. القول الثاني: فرق المالكية بين المغمى عليه، وبين الجنون: فإن جن من له الخيار، فإن السلطان ينظر له، أو يوكل من ورثته من ينظر له في الأصلح من إمضاء أو رد. ¬
وجه التفريق بين الجنون والإغماء
وأما إذا أغمي عليه، فتنتظر إفاقته، فإن طال إغماؤه بعد مضي زمنه بما يحصل به الضرر للآخر، فسخ السلطان البيع، وليس له أن يمضيه (¬1). وجه التفريق بين الجنون والإغماء: لعل وجه التفريق: أن الجنون يفقد فيه الإنسان الأهلية، فينظر له السلطان في الأصلح نيابة عنه، وأما الإغماء فهو نوع من المرض، لا يفقد فيه الإنسان أهليته، فلا ينوب عنه أحد، ولكن الضرر يزال. القول الثالث: مذهب الشافعية: لا يختلف قول الشافعية في هذه المسألة عنها في خيار المجلس فإذا جن أو أغمي عليه من له الخيار انتقل الخيار إلى الناظر في ماله، فيقوم مقامه (¬2). لأن هذا حق مالي، والخيار ثبت لإصلاح المال، وقد تعذر على الإنسان قيامه بذلك حال الجنون والإغماء، فيقوم الناظر في ماله نيابة عنه. الراجح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها أجد أن مذهب الشافعية هو أعدل الأقوال في هذه المسألة، والحنفية والحنابلة أرادوا طرد قولهم في أن هذا الحق لا ينتقل بالموت إلى الورثة، وإذا كان ذلك كذلك لم ينتقل حال الجنون والإغماء من باب أولى، وقد رجحنا في مسألة الميت انتقال الحق إلى الورثة، فكذلك هنا. والتفريق بين الجنون والإغماء ليس ظاهرًا لي من حيث التكليف، فإن المغمى عليه قد غطي على عقله، ولا يستطيع رفعه، فليس كالنوم، ولذلك الراجح أن من أغمي عليه لا يطالب في قضاء الصلوات حال الإغماء. ¬
(ث-86) وقد روى مالك عن نافع، عن ابن عمر أنه أغمي فلم يقض الصلاة. وهذا سند صحيح عن ابن عمر - رضي الله عنه - (¬1). ... ¬
المبحث السابع عشر ضوابط مهمة في خيار الشرط والمجلس
المبحث السابع عشر ضوابط مهمة في خيار الشرط والمجلس في نهاية بحث خيار المجلس وخيار الشرط نذكر بعض الفوائد والضوابط والقواعد المتعلقة بهذا الباب، لتلخص لنا المباحث السابقة. - الخيار يمنع لزوم العقد، ولا يمنع انتقال الملك على الصحيح، وهذا يعني أن ملك المبيع للمشتري، وملك الثمن للبائع زمن الخيار. ويتفرع على ذلك أن ما يحصل من غلات المبيع ونمائه منفصلًا أو متصلًا في مدة الخيار فهو للمشتري. - الخيار الثابت بمقتضى الشرع لا يضر جهالة زمنه، كخيار المجلس، وخيار الرد بالعيب، والأخذ بالشفعة، بخلاف خيار الشرط، فإنه يتعلق بشرطهما، فاشترط بيانه. - خيار الشرط حق يثبت باشتراط المتعاقدين لهما، أو لأحدهما، أو لغيرهما، يخول من يشترط له إمضاء العقد أو فسخه خلال مدة معلومة، ويسمى الخيار الشرطي. وخيار المجلس حق يثبت بالشرع بمقتضى العقد، لا يتوقف قيامه على اتفاق، أو اشتراط، ويسمى الخيار الحكمي. - اشتراط الخيار المتقدم على العقد كالمقارن للعقد في الحكم، وأما بعد لزوم العقد فهو اتفاق جديد مستأنف لا يلزم إلا بالتراضي. - يتم اشتراط الخيار بكل ما يدل عليه.
- البيوع التي يشترط فيها التقابض في المجلس كالصرف، وبيع الطعام بالطعام، أو يشترط فيها قبض أحد العوضين كالسلم، لا يجوز فيها خيار الشرط، مع أن خيار المجلس يثبت فيها. - لا يجب تسليم البدلين (المبيع أو الثمن) في عقد البيع بشرط الخيار، ولكن يجوز قيام أحد العاقدين أو كليهما بالتسليم طواعية لا سيما بهدف التجربة والاختبار. - نماء المبيع في مدة الخيار للمشتري إن كان قد دخل في ضمانه. - إذا كان الخيار للمشتري وحده فإن تصرفاته، من بيع وإجارة ونحو ذلك، تصرفات صحيحة ناقلة للملك مسقطة للخيار. - تصرف البائع في الثمن -إذا كان الخيار له وحده- دليل على إجازة البيع، وتصرفه في المبيع دليل على فسخ البيع. وتصرف المشتري في المبيع -إذا كان الخيار له وحده- دليل على إجازة البيع، وتصرفه في الثمن دليل على فسخ البيع. - يسقط الخيار ويصبح العقد باتًا بمجرد انقضاء مدة الخيار إذا لم يصدر من المشتري فسخ العقد أو التصرف في السلعة. - الخيار يسقط بالصريح وبالدلالة على الإسقاط وإن لم يكن صريحًا. - من ثبت له خيار الشرط كان له الفسخ في حضرة صاحبه، وفي غيبته. ***
الفصل الثالث من خيارات التروي خيار الرؤية
الفصل الثالث من خيارات التروي خيار الرؤية المبحث الأول تعريف خيار الرؤية تعريف خيار الرؤية: سبق لنا تعريف الخيار في أول الباب. أما لفظ (خيار الرؤية) فهو من المركب الإضافي، والرؤية، مصدر للفعل رأى يرى ومعناه لغة: النظر بالعين وبالقلب. أما خيار الرؤية اصطلاحا: فهو حق يثبت به للمتملك الفسخ، أو الإمضاء عند رؤية محل العقد المعين الذي عقد عليه ولم يره (¬1). فعلم من هذا أن الخيار هو في شراء شيء معين غائب لم يسبق له رؤية. وقولنا: في شراء شيء معين: المقصود به ما ينعقد العقد على عينه، لا على مثله، أو على وصفه وهو مقابل للدين. فالمبيع الغائب تارة يتعلق بشيء موصوف في الذمة، فيكون من قبيل بيع السلم، حالًا، كان أو مؤجلًا، وهذا لا يحق للمشتري أن يفسخ العقد بخيار الرؤية بحجة أن البائع أعطاه شيئًا لم يكن مطابقًا للموصوف؛ لأن المبيع لم يتعين في عين ذلك الشيء المدفوع، وإنما تعلق بذمة البائع، ولم يتعلق بشيء معين، فيبقى العقد قائمًا، ويلزم البائع بدفع سلعة مطابقة للصفة المتفق عليها. ¬
وتارة يكون المبيع الغائب متعلقًا بشيء معين، فلا يقال له بأنه سلم، ولكن يقال له: غائب، وهذا الغائب: إما أن يكون قد شاهده البائع، ولم يمض على الرؤية وقت يخشى عليه من التغير، فهذا غير مقصود في هذا الباب. وإما أن يكون المبيع المعين موصوفًا لم يره المشتري، وإنما وصف له، وهذا هو المقصود في هذا البحث. ومن هنا يتبين علاقة هذا الخيار بالخلاف في بيع السلعة المعينة الغائبة التي لم يسبق لها رؤية، فالقول بخيار الرؤية إيجابًا ونفيًا مرتبط كل الارتباط بجواز بيع الغائب المعين صحة وفسادًا. فالذين منعوا بيع الشيء المعين إذا كان غائبًا لا يثبتون خيار الرؤية، والذين أجازوه لم يمنعوا من ثبوت هذا الخيار كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. والمراد بالرؤية في قولنا: خيار الرؤية، العلم بالمبيع، فإذا حصل له العلم بالمبيع سواء كان ذلك عن طريق الرؤية مما يدرك بالرؤية، أو كان ذلك عن طريق الحواس مما يدرك بالحواس، كالشم، واللمس، والذوق وإن لم يره بعينه، فإذا حصل له العلم بالمبيع بأحد حواسه لم يثبت له خيار عند رؤيته (¬1)، وقد تكلمنا فيما سبق في شراء الأعمى، ورجحنا صحة شرائه، لكونه قد يحصل له العلم بالمبيع بدون رؤية. كما أن الغائب يشمل ما كان غائبًا عن مجلس العقد، أو حاضرًا فيه لكنه مستور. ¬
وخرج بقولنا: (لم يسبق له رؤية) ما لو رأى بعضه، وكانت رؤية بعضه تدل على رؤية الباقي كما لو كان مثليًا، فإنه لا يثبت له خيار؛ لأن العلم به يحصل برؤية بعضه، فإن كان ما رآه لا يفيد العلم بحال الباقي كما لو كان المبيع من أعيان مختلفة فله الخيار؛ لأن المقصود لم يحصل برؤية ما رأى، فكأنه لم ير شيئًا أصلًا (¬1). وأكثر المذاهب تفصيلًا لهذا الخيار هو مذهب الحنفية، وبالتالي سوف نسوق أحكام هذا الخيار من خلال تفريعات الحنفية، باعتبار أنهم أكثر المذاهب تفصيلًا لهذا الخيار، وتبيانًا له. وجعلنا هذا النوع من الخيار قسمًا من خيار الرؤية باعتبار أن هذا الخيار يثبت بحكم الشرع، فحقيقته عند الحنفية لمطلق التروي، لا لتحاشي الضرر، أو الخلف في الوصف، غايته: أن ينظر المشتري أيصلح له أم لا؟ (¬2). ¬
المبحث الثاني العقود التي يدخلها خيار الرؤية
المبحث الثاني العقود التي يدخلها خيار الرؤية [م - 517] هذا البحث إنما يتأتى على مذهب من يقول بخيار الرؤية كالحنفية، والمالكية، بخلاف مذهب الشافعية والحنابلة الذين لا يقولون بثبوت خيار الرؤية. الأول: مذهب الحنفية: نص الحنفية على أن خيار الرؤية لا يختص بالبيع، بل يجري في كل عقد محتمل للفسخ يتملك به عين كالإجارة، والقسمة، والصلح عن دعوى المال على عين، ونحوها , لذلك قالوا يثبت خيار الرؤية في أربعة أشياء: الأول: يثبت الخيار في البيع الصحيح دون الفاسد فلا يثبت فيه خيار الرؤية، لوجوب فسخه بدون خيار الرؤية (¬1). فيثبت الخيار للمشتري في صور منها: (أ) أن يشتري الشخص سلعة لم يرها. (ب) ومنها: أن يرى بعض ما اشتراه صفقة واحدة من أشياء متفاوتة، فإن رأى بعض ما اشتراه من أشياء متماثلة لم يكن له خيار؛ لأن رؤية بعضه تغني عن رؤية الباقي. (ج) ومنها: أن يشتري الأعمى شيئًا لا يعرف وصفه. أما البائع فلا يثبت له الخيار إلا إذا كان الثمن عينًا، فإن كان الثمن في الذمة ¬
الثاني: في الإجارة.
كما لو كان دراهم أو دنانير حتى ولو تعينت على القول بأنها تتعين بالتعيين فلا خيارله (¬1). الثاني: في الإجارة. يثبت خيار الرؤية في إجارة العين إذا لم يسبق لها رؤية. الثالث: في قسمة في غير المثليات. يثبت خيار الرؤية في قسمة غير المثليات سواء كانت القسمة في أجناس مختلفة، أو كانت في نوع واحد كالحيوانات، أما قسمة ذوات الأمثال كالمكيلات والموزونات فلا يثبت فيها خيار الرؤية إذا كانت غير معينة، فإن كانت معينة فإنها من الأعيان يجري فيها خيار الرؤية. الرابع: الصلح عن دعوى المال على شيء بعينه (¬2). ولا يثبت خيار الرؤية في أمور: أحدها: الديون. الثاني: النقد. الثالث: ما قبل رؤية المبيع. الرابع: إذا رأى المشتري بعض المبيع، وكان مثليًا، أو رأى غرفة من الدار، وكانت غرفها متماثلة، أو كان المبيع مما يعلم باللمس، أو الشم، أو الذوق، بعد لمسه، أو شمه، أو ذوقه. وقد وضع بعض الحنفية ضابطًا لما يدخله خيار الرؤية، فقال: "يثبت خيار الرؤية في كل عين ملكت بعقد، يحتمل الفسخ كالشراء" (¬3). ¬
القول الثاني: مذهب المالكية
فقولنا: (في كل عين) أخرج المسلم فيه، فإن وجوبه في الذمة. وقد سبق الكلام عليه. وأما رأس مال السلم فإن كان من الأثمان الخالصة فلا يثبت فيه خيار الرؤية، وإن كان من الأعيان فإنه يثبت فيه الخيار؛ لأن الأثمان الخالصة، كالدراهم والدنانير لا تتعين بالتعيين على الصحيح فيكون وجوبها بالذمة. وقولهم: (يحتمل الفسخ) أخرج بذلك المهر، وبدل الخلع، والصلح عن القصاص، فإنه لا يدخلها خيار الرؤية، ولو كانت أعيانًا لعدم قبولها الفسخ؛ ولأن الرد لما لم يوجب الانفساخ بقي العقد قائمًا، وقيامه يوجب المطالبة بالعين لا بما يقابلها من القيمة، فلو كان له أن يرده كان له أن يرده أبدا (¬1). هذا ملخص مذهب الحنفية في العقود التي يدخلها خيار الرؤية. القول الثاني: مذهب المالكية: لم أقف على نص في كتب المالكية عن العقود التي يثبت فيها خيار الرؤية، وكلام المالكية عن خيار الرؤية إنما ذكروه في عقد البيع إذا بيع بلا وصف، ولا رؤية، وهم لا يثبتون خيار الرؤية إلا إذا كان مشروطًا في صلب العقد، وإذا كان الأمر كذلك فهو عندهم بمنزلة خيار الشرط، لهذا يمكن القول: إن خيار الرؤية حكمه عند المالكية حكم خيار الشرط، وقد سبق بحث العقود التي يدخلها خيار الشرط عند المالكية عند الكلام على خيار الشرط. وقد جاء في منح الجليل: "هل تجوز مساقاة الغائب بلا وصف وبلا رؤية سابقة، بشرط خيار العامل بالرؤية كالبيع، وهو الظاهر، ويؤخذ من تشبيهها فيها بالبيع" (¬2). ¬
فحين أجاز خيار الرؤية في عقد المساقاة للغائب، قال: قياسًا على البيع؛ لأنها تشبه البيع باعتبار ذلك عقد معاوضة.
المبحث الثالث شروط خيار الرؤية
المبحث الثالث شروط خيار الرؤية الشرط الأول عدم رؤية المبيع [م - 518] يشترط لثبوت خيار الرؤية عند الحنفية: عدم رؤية المبيع، فإن اشترى المبيع، وهو يراه فلا خيار له؛ لأن الأصل لزوم العقد وانبرامه (¬1). وقيد الحنفية الرؤية أن تكون بقصد الشراء، فإن رأى شخص مالًا يقصد برؤيته شراءه، ثم اشتراه بعد ذلك ثبت له الخيار، وعللوا ذلك: بأن الرؤية إذا لم تكن بقصد الشراء فلا تستوفى. وكذلك إذا رآه بقصد الشراء، ثم اشتراه، وهو لا يعلم أنه المال الذي رآه، كان مخيرًا، كما لو رأى المشتري سراويل بقصد شرائها، ثم اشتراها بعد مدة في صوانه الذي يحفظ فيه، ولم يعلم أن هذا هو عين ما رآه، فإن له الخيار (¬2). ويشترط المالكية مع عدم الرؤية: شرطين آخرين: ألا يوصف أيضًا، وأن يشترط الخيار في صلب العقد، كما بينا سابقًا في الخلاف في مشروعية خيار الرؤية. فإن كان المشتري لم يره وقت الشراء، ولكن قد رآه قبل ذلك، فإن كان لم يتغير عن حاله التي رآه عليها فلا خيار له؛ لأن العلم بالمبيع قد حصل بالرؤية السابقة. ¬
وإن كان قد تغير عن حاله فله الخيار؛ لأنه لما تغير عن حاله لم تكن رؤيته السابقة مفيدة للعلم بالمبيع، ولأنه بتغير ذلك المال أصبح بمنزلة مال آخر كأن لم يره. وهذا متفق عليه بين الحنفية والمالكية (¬1). ¬
الشرط الثاني أن يكون المبيع مما يتعين بالتعيين
الشرط الثاني أن يكون المبيع مما يتعين بالتعيين [م - 519] اشترط الحنفية لثبوت خيار الرؤية أن يكون المبيع مما يتعين بالتعيين. قال الكاساني في بدائع الصنائع: "أن يكون المبيع مما يتعين بالتعيين، فإن كان مما لا يتعين بالتعيين لا يثبت فيه الخيار حتى إنهما لو تبايعا عينًا بعين يثبت الخيار لكل واحد منهما, ولو تبايعا دينًا بدين لا يثبت الخيار لواحد منهما. ولو اشترى عينًا بدين فللمشتري الخيار، ولا خيار للبائع، وإنما كان كذلك؛ لأن المبيع إذا كان مما لا يتعين بالتعيين لا ينفسخ العقد برده؛ لأنه إذا لم يتعين للعقد لا يتعين للفسخ، فيبقى العقد، وقيام العقد يقتضي ثبوت حق المطالبة بمثله، فإذا قبض يرده هكذا إلى ما لا نهاية له، فلم يكن الرد مفيدًا، بخلاف ما إذا كان عينًا؛ لأن العقد ينفسخ برده؛ لأنه يتعين بالعقد، فيتعين في الفسخ أيضا، فكان الرد مفيدًا, ولأن الفسخ إنما يرد على المملوك بالعقد، وما لا يتعين بالتعيين لا يملك بالعقد، وإنما يملك بالقبض، فلا يرد عليه الفسخ، ولهذا يثبت خيار الرؤية في الإجارة، والصلح عن دعوى المال، والقسمة، ونحو ذلك؛ لأن هذه العقود تنفسخ برد هذه الأشياء، فيثبت فيها خيار الرؤية، ولا يثبت في المهر، وبدل الخلع والصلح عن دم العمد، ونحو ذلك؛ لأن هذه العقود لا تحتمل الانفساخ برد هذه الأموال، فصار الأصل أن كل ما ينفسخ العقد فيه برده يثبت فيه خيار الرؤية وما لا فلا" (¬1). ¬
وقد زدت هذه المسألة وضوحًا فيما سبق حين كان الكلام على شرح تعريف خيار الرؤية، وعلى بيان العقود التي يدخلها خيار الرؤية، وأن السلعة إذا كانت موصوفة غير معينة، وبيعت بثمن حال فلا يثبت فيها خيار الرؤية، ويسمى هذا العقد بيع السلم حالاً كان أو مؤجلاً، فإن جاء به على الوصف الذي تم به العقد أصبح العقد لازمًا , ولا خيار للمشتري، وإن كان المدفوع لم يكن مطابقًا للصفة التي جرى العقد عليها أصبح البائع مطالبًا بدفع ما هو مطابق للموصوف؛ لأن المبيع لم يتعين في عين ذلك الشيء المدفوع، وإنما تعلق بذمة البائع، ولم يتعلق بشيء معين، فيبقى العقد قائمًا، ويلزم البائع بدفع سلعة مطابقة للصفة المتفق عليها. ***
الشرط الثالث كون المعقود عليه مما يقبل الفسخ
الشرط الثالث كون المعقود عليه مما يقبل الفسخ [م - 520] الخيار إنما شرع ليتمكن العاقد من الفسخ، فإذا كان العقد مما لا يقبل الفسخ لم يكن هناك فائدة من اشتراط الخيار، ولذلك عقد النكاح لما كان من العقود التي لا تقبل الفسخ على الصحيح لم يكن الخيار فيه مشروعًا. وأخرج بذلك المهر، وبدل الخلع، والصلح عن القصاص، فإنه لا يدخلها خيار الرؤية وقد نص على ذلك الحنفية، حتى ولو كانت أعيانًا لعدم قبولها الفسخ؛ ولأن الرد لما لم يوجب الانفساخ بقي العقد قائمًا، وقيامه يوجب المطالبة بالعين لا بما يقابلها من القيمة، فلو كان له أن يرده كان له أن يرده أبدا (¬1). ... ¬
المبحث الرابع خلاف العلماء في مشروعية خيار الرؤية
المبحث الرابع خلاف العلماء في مشروعية خيار الرؤية [م - 521] اختلف الفقهاء في إثبات خيار الرؤية للمبيع إذا اشترى المشتري شيئًا معينًا لم يره على أربعة أقوال: القول الأول: يثبت خيار الرؤية بحكم الشرع، دون حاجة إلى اشتراط، سواء بيع الغائب بلا وصف ولا رؤية، أو بيع بالوصف فقط، ويحق للعاقد فسخ إذا رأى المبيع، ولو كان المبيع مطابقًا لما وصف له، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، وهو رواية عن أحمد اختارها ابن تيمية (¬2). القول الثاني: إذا بيع المعين بلا وصف ولا رؤية، لم يصح العقد إلا بشرط خيار الرؤية. وإن بيع الغائب بالوصف صح ولو لم يشترط الخيار، وإن جاء مطابقًا للموصوف فلا خيار للمشتري إلا أن يشترطه، وهذا مذهب المالكية (¬3). ¬
القول الثالث
القول الثالث: يثبت الخيار للمشتري إن باعه بالوصف، وله الخيار إذا رآه وإن وجده كما وصف، وهو قول في مذهب الشافعية (¬1). وعللوا ذلك: بأن الخبر ليس كالمعاينة. القول الرابع: لا يثبت خيار الرؤية مطلقًا، لا بحكم الشرع، ولا عن طريق الاشتراط، وهذا هو القول الراجح في مذهب الشافعية (¬2)، ومذهب الحنابلة (¬3)، واختاره القاضي أبو محمد البغدادي من المالكية (¬4). دليل من قال: يثبت خيار الرؤية بلا شرط: الدليل الأول: (ث-87) ما رواه الطحاوي من طريق هلال بن يحيى بن مسلم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن رباح بن أبي معروف المكي، عن ابن أبي مليكة عن علقمة بن وقاص الليثي، قال: اشترى طلحة بن عبيد الله من عثمان ابن عفان مالاً، فقيل لعثمان: إنك قد غبنت، وكان المال بالكوفة، فقال عثمان: لي الخيار؛ لأني بعت ما لم أر، فقال طلحة: لي الخيار؛ لأني اشتريت ما لم أر، فحكم بينهما جبير بن مطعم، فقضى أن الخيار لطلحة، ولا خيار لعثمان (¬5). ¬
وجه الاستدلال
[إسناده ضعيف] (¬1). وجه الاستدلال: قول طلحة - رضي الله عنه -: (لي الخيار؛ لأني اشتريت ما لم أره) دليل على أن من اشترى شيئًا لم يره فله الخيار، ولو لم يشترط. ويجاب عنه بأجوبة: الأول: أنه ضعيف الإسناد، والحجة إنما تكون فيما صح إسناده. الثاني: قال النووي: والجواب عن قصة عثمان وطلحة وجبير بن مطعم أنه لم ينتشر ذلك في الصحابة رضي الله عنهم، والصواب عندنا أن قول الصحابة ليس بحجة إلا أن ينتشر من غير مخالفة" (¬2). ويجاب عن هذا: بأن دعوى أن القول لم ينتشر بين الصحابة تحتاج إلى دليل، فلو صح لكان حجة عند من يرى أن قول الصحابي حجة؛ لأن هؤلاء ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم عثمان - رضي الله عنه -، وهو خليفة راشد، له سنة متبعة، ولكن ذلك لم يصح. الدليل الثاني: (ح-432) ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا إسماعيل -يعني ابن عياش- عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن مكحول رفعه، قال: إذا اشترى الرجل الشيء، ولم ينظر إليه غائبًا عنه، فهو بالخيار إذا نظر إليه، إن شاء أخذ، وإن شاء ترك (¬3). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أنه جعل الخيار في حق المشتري، ولو لم يشترط إذا اشترى شيئاً لم يره. وأجيب: بأن الأثر لا حجة فيه؛ لأنه مرسل، على ضعف في إسناده (¬1). قال النووي: "حديث ضعيف باتفاق المحدثين، وضعفه من وجهين: أحدهما: أنه مرسل؛ لأن مكحولًا تابعي. والثاني: أن أحد رواته ضعيف" (¬2). وانظر بقية أدلة المسألة في بيع العين الغائبة بلا صفة ولا رؤية متقدمة، فإن الخلاف في تلك المسألة مرتبط كل الارتباط في الخلاف في هذه المسألة. دليل من قال: له الخيار إذا اشترط. (ث-88) روى الطحاوي من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - ركب يومًا مع عبد الله بن بحينة ... وهو من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض له بريم، فابتاعها منه عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، على أن ينظر إليها، وريم من المدينة على قريب من ثلاثين ميلًا (¬3). [إسناده صحيح]. وجه الاستدلال: أن عبد الله بن عمر قد اشترى ما لم يره، ورأى ذلك جائزًا، وعبد الله ابن عمر - رضي الله عنه - من فقهاء الصحابة - رضي الله عنهم -. ¬
الدليل الثاني
والأثر صريح بأنه اشترى المال من غير رؤية؛ وإنما صح لاشتراطه خيار الرؤية، ولو كان الخيار ثابتًا له من غير اشتراط لم يشترط ابن عمر الخيار في عقدة البيع. الدليل الثاني: أن السلعة إذا بيعت بلا صفة ولا رؤية متقدمة لم يصح البيع إلا بشرط الخيار؛ لأن بيع مجهول الصفة إذا بيع بدون شرط الخيار أدى ذلك إلى الوقوع في الغرر. وإذا بيعت السلعة بالصفة، ولم يشترط المشتري الخيار، فإن طابق الموصوف صفته لم يثبت فيه خيار الرؤية قياسًا على بيع السلم إذا جاء به البائع على صفته، وإن جاء به مغايرًا للصفة التي وقع العقد عليها كان للمشتري الخيار؛ للخلف في الصفة (¬1). دليل من قال: لا يصح اشتراط خيار الرؤية. ثبوت خيار الرؤية مبني على صحة بيع الشيء دون صفة أو رؤية متقدمة، وبيع الشيء دون صفة أو رؤية متقدمة لا يجوز، والأدلة على ذلك كثيرة منها: الدليل الأول: (ح-433) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر. رواه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: بيع الشيء بلا رؤية، ولا صفة ينطوي على جهالة وغرر. ¬
ورد الحنفية
ورد الحنفية: بأن الجهالة في المبيع ليست كلها تؤدي إلى إبطال البيع، فالجهالة هنا لا تفضي إلى المنازعة؛ لأننا نثبت للمشتري الخيار إذا رأى المبيع، فإذا لم يوافقه رده، وإن قبل المبيع بعد رؤيته، لم يكن هناك ضرر عليه (¬1). الدليل الثاني: (ح-434) ما رواه أحمد من طريق يونس، عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام، قال، قلت: يا رسول الله يأتيني الرجل يسألني البيع ليس عندي ما أبيعه، ثم أبيعه من السوق، فقال: لا تبع ما ليس عندك (¬2). [منقطع يوسف لم يسمعه من حكيم] (¬3). وجه الاستدلال: بيع الغائب بيع شيء غير موجود عند الإنسان حال العقد، فيكون داخلاً في عموم النهي الوارد به الحديث. ونوقش هذا الاستدلال: سبق أن تكلمت عن حديث حكيم بن حزام، وما المراد منه في مسألة سابقة، وخلاف العلماء في تأويله، فحكيم بن حزام كان يبيع شيئاً معينًا لم يملكه بعد، فقد يحصل عليه في السوق، وقد لا يحصل عليه، فالأمر يتعلق في القدرة على تسليم المبيع، والذي هو شرط من شروط البيع، وأما بيع الغائب فهو في ملك البائع قد استقر ملكه عليه، فافترقا. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: النهي عن بيع المنابذة، والملامسة. (ح-435) فقد روى البخاري ومسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الملامسة والمنابذة (¬1). وجه الاستدلال: نهى الحديث عن بيع الملامسة والمنابذة، وهما بيع للسلعة بمجرد اللمس والنبذ، دون رؤية أو تقليب، فدل على وجوب رؤية المبيع. واعترض على هذا الاستدلال: بأن النهي ليس لعدم رؤية المبيع؛ لأن هذا البيع إنما هو بيع عين حاضرة، وليس من بيع الغائب بشيء، وإنما هذه بيوع كانت في الجاهلية لازمة للمتعاقدين بمجرد اللمس والنبذ، فهو نوع من بيوع القمار، وقد فسره راوي الحديث، وتفسيره أولى بالقبول (ح-436) فقد روى البخاري من طريق عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عامر بن سعد أن أبا سعيد - رضي الله عنه - أخبره، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المنابذة، وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه، أو ينظر إليه، ونهى عن الملامسة، والملامسة: لمس الثوب لا ينظر إليه (¬2). ليس في ثبوت خيار الرؤية نص من خبر أو أثر يمكن الاحتجاج به، خاصة إذا قلنا: إن خيار الرؤية يثبت بحكم الشرع دون حاجة إلى اشتراط، فيعني هذا أن تكون نصوص الشريعة صحيحة صريحة في ثبوته، ولكن اشتراط خيار الرؤية في ¬
عقدة البيع يدخل في خيار الشرط، والأصل في خيار الشرط الجواز هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذه المسألة على قدر كبير من الأهمية لوقوع التجار فيها، وأحيانًا لو انتظر المشتري؛ ليرى السلعة، فقد تفوته الصفقة؛ لكثرة الطلب عليها، والذي أفضله في المعاملات، خاصة في المسائل التي لم يرد فيها نص صريح، أن ينظر إلى مقاصد الشريعة في إباحتها ومنعها، فمن مقاصد الشريعة في المعاملات: إقامة العدل بين الناس، ومنع الظلم، ودفع الغرر الكثير، وإغلاق كل باب يؤدي إلى التنازع والتباغض، ومفسدة الغرر أخف من مفسدة الربا، فلذلك رخص في الغرر فيما تدعو إليه الحاجة منه، كما رخص في اليسير، وفي الشيء غير المقصود والذي يدخل تبعًا. إذا عرفنا هذا يمكننا أن نقول: إن بيع الغائب إن وقع بلا وصف ولا رؤية فهو بيع جائز فيما أرى، ولكنه غير لازم، فللمشتري الخيار مطلقًا إذا رأى السلعة، وهنا نكون قد حققنا المصلحة لكل من المتعاقدين، مصلحة البائع، ومصلحة المشتري، من غير لحوق ضرر فيهما، ودفعنا خوف الوقوع في الغرر، بكون البيع لا يلزم إلا إذا رأى المبيع. ولابد للمشتري أن يشترط الخيار في العقد؛ لأنه ليس هناك نصوص في ثبوت خيار الرؤية بمجرد العقد، وخوفًا من الاختلاف، أو من قول: إن الخيار لا يثبت إلا بالنص الشرعي كخيار المجلس، أو بالعرف، أو باشتراط، فإذا اشترط المشتري له الخيار انقطع النزاع. وأما إذا اشترى البضاعة بالوصف، فإن كان الوصف مطابقًا لم يكن للمشتري الخيار إلا بعرف، أو شرط، ويكون البيع لازما، فإن وجد الصفة غير مطابقة، فللمشتري الخيار بين القبول أو الرد، وإذا تنازعا، فالبائع يدعي أن الصفة مطابقة للموصوف، والمشتري يدعي عدم المطابقة، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه الغارم، والله أعلم.
المبحث الخامس مبطلات خيار الرؤية
المبحث الخامس مبطلات خيار الرؤية [م - 522] سبق لنا أن أخذنا مبطلات خيار المجلس، وخيار الشرط، والسؤال في هذا البحث بأي شيء يبطل خيار الرؤية؟ وللجواب على ذلك: نقول هذا البحث لا يتأتى على مذهب الشافعية والحنابلة؛ لأنهم لا يقولون بخيار الرؤية أصلًا. وبقي تحرير مذهب الحنفية والمالكية: الأول: مذهب الحنفية: يسقط خيار الرؤية عند الحنفية بأمور، منها: الأول: إذا تعذر فسخ العقد، كما لو تصرف المشتري بالمبيع تصرفًا لا يقبل الفسخ كالإعتاق والتدبير. أو تصرف تصرفًا يوجب حقًا للغير كالبيع والإجارة، والرهن؛ فإن تعذر الفسخ يوجب لزومه، ويسقط خيار الرؤية، ولا فرق في ذلك كون هذا التصرف قبل الرؤية أو بعدها. وقولنا: (يسقط ... إذا تعذر الفسخ) احترازًا من التصرفات التي لا يتعذر معها الفسخ، كما لو عرضه للبيع قبل الرؤية، أو وهبه قبل الرؤية ولم يتم التسليم، أو عرضه للمساومة قبل الرؤية،؛ فإن هذه التصرفات وإن كانت دالة على الرضا، فإنه لا يسقط بها خيار الرؤية؛ لأن خيار الرؤية لا يسقط بصريح الرضا قبل الرؤية، فكونه لا يسقط بدلالة الرضا من باب أولى (¬1). ¬
ولو عرض على البيع بعض المبيع بعد الرؤية بطل خياره عند محمد، ولا يبطل في قول أبي يوسف، كذا في فتاوى قاضي خان، والصحيح قول أبي يوسف كذا في البدائع (¬1). الثاني: هلاك المبيع أو بعضه. الثالث: إذا تعيب في يد المشتري. الرابع: قبض المبيع، ونقد الثمن بعد الرؤية. الخامس: حصول الزيادة في المبيع، وهو في يد المشتري أو وكيله يسقط خيار الرؤية، سواء أكانت تلك الزيادة متصلة، أو منفصلة (¬2). السادس: موت المشتري. خيار الرؤية عند الحنفية لا ينتقل بالموت، ومع اعتبار هذا الخيار يثبت بحكم الشرع، فقد ذهبوا إلى أنه مرتبط بالإرادة من حيث الاستعمال، وإذا كان مرتبطًا بالإرادة لم يورث، وإنما هو اختيار، فحقيقته لمطلق التروي، لا لتحاشي الضرر، أو الخلف في الوصف، غايته: أن ينظر المشتري أيصلح له أم لا؟ (¬3). السابع: الأمور التي تبطل خيار الشرط تبطل خيار الرؤية (¬4). قال في مجمع الأنهر: "غير منعكس، فلا يقال: ما لا يبطل خيار الشرط لا يبطل خيار الرؤية، لانتقاضه بالقبض بعد الرؤية، فإنه يبطل خيار الرؤية والعيب، لا الشرط" (¬5). ¬
القول الثاني: مذهب المالكية
ولم يرتض ابن نجيم هذه العبارة من صاحب الكنز، أعني قوله: (ويبطل بما يبطل به خيار الشرط)؛ لأنه يرد عليه الأخد بالشفعة (¬1)، والعرض على البيع، والبيع بخياره، والإجارة، والإسكان بلا أجر، فإنها تبطل خيار الشرط، دون الرؤية (¬2). قال ابن عابدين: "والصواب إسقاط قوله: (والإجارة) فإنها توجب حقًا للغير ... ثم إن ما أورده في البحر احترز عنه الشارح بقوله (ومفيد الرضا بعد الرؤية لا قبلها) فإن هذه الأشياء لا تبطل خيار الرؤية قبل الرؤية؛ لأنها تفيد الرضا، وصريح الرضا قبلها لا يبطله، فلذا قال: بعد الرؤية لا قبلها , لكن يبقى إيراد البحر واردًا على قوله: وهو مبطل خيار الشرط مطلقًا، فإن هذه الأشياء تبطل خيار الشرط، فيتوهم أنها تبطل خيار الرؤية قبلها وبعدها، مع أنها لا تبطله قبلها لما علمت ... " (¬3). هذا ملخص ما يبطل خيار الرؤية عند الحنفية. القول الثاني: مذهب المالكية: خيار الرؤية عند المالكية: نوع من خيار التروي؛ لأنه لا يثبت هذا الخيار عندهم إلا عن طريق الاشتراط، كما بينا في بحث سابق، وكل خيار عند المالكية لا يثبت إلا عن طريق الاشتراط أو العادة فهو من قبيل خيار التروي. ¬
الراجح من الخلاف
جاء في الفواكه الدواني: "خيار التروي عندنا إنما يكون بالشرط، كما قال خليل: إنما الخيار بشرط أو عادة" (¬1). وجاء في القوانين الفقهية: "والخيار المشروط: هو خيار التروي" (¬2). وإذا كان يأخذ حكم الشرط في ثبوته، فهو أيضًا يأخذ حكم الشرط في بطلانه، وقد سبق لنا تحرير مذهب المالكية في مبطلات خيار الشرط، فأغنى عن إعادته هنا. الراجح من الخلاف: بينا فيما سبق عند البحث عن مشروعية خيار الرؤية أن هذا الخيار لا يوجد نص أو أثر في ثبوته، وتبقى الحاجة إليه بناء على أن الأصل في المعاملات الإباحة، ومشروعيته متوقفة على اشتراطه لأنه إذا اشترى ما لم ير، ولم يوصف بدون اشتراط الخيار فالبيع لم ينعقد، للجهالة في المبيع، وليس فيه خيار على ¬
الصحيح؛ لأن الخيار لا يثبت إلا بنص أو شرط أو عرف، وإن اشتراه بشرط أن يكون له الخيار إذا رآه، صح؛ لأن الخيار يجعل العقد غير لازم، وينتفي معه خوف الغرر. وإن اشتراه موصوفًا صح ولو لم يشترط الخيار، فإن جاء مطابقًا لم يكن له خيار إلا أن يشترطه، فدل على أن هذا الخيار بمنزلة خيار الشرط، فما يبطل خيار الشرط يبطله، والله أعلم.
المبحث السادس انتهاء خيار الرؤية
المبحث السادس انتهاء خيار الرؤية هذا البحث له علاقة ما بالبحث السابق، أعني: مبطلات خيار الرؤية؛ لأن انتهاء الخيار يعني بطلان سريان مفعوله، وهو: انتقال العقد من الجواز إلى اللزوم، إلا أنه لما كان انتهاء الخيار قد لا يعني بطلانه، وإنما يعني: استنفاذه، سواء كان ذلك بالرضا بالمبيع، أو كان بمضي مدته على القول بأنه خيار مؤقت، أحببت أن أفرده بعنوان مستقل.
الفرع الأول انتهاء الخيار بالرضا بالمبيع
الفرع الأول انتهاء الخيار بالرضا بالمبيع [م - 523] وعلى هذا نقول: ينتهي خيار الرؤية بأمور، منها: الأول: انتهاء الخيار بإجازة العقد، والرضا به، فإذا وجد من العاقد ما يدل على الرضا بعد رؤية المبيع لا قبلها انتهى الخيار. والرضا نوعان: صريح ودلالة: أما الصريح فكان يقول: أجزت البيع، أو رضيت، أو اخترت، وما جرى مجراها. والرضا به قبل الرؤية لا يسقط الخيار، وأما بعد الرؤية فيسقطها. وجه التفريق: أن النص جاء بثبوت الخيار عند رؤية المبيع لا قبلها، فلو قيل: إن الرضا قبل الرؤية يسقط الخيار لأدى ذلك إلى إبطال حكم ثبت بالنص، وإذا كان الخيار معلقًا بالرؤية لم يثبت قبلها، بخلاف الرضا بعد الرؤية فهو على مقتضى النص (¬1). فإن قيل: إن الخيار حق للمشتري فله إسقاطه. أجيب: بأن هذا الحق ليس حقًا صرفًا للمشتري، فإن شراء الشيء بلا رؤية ولا صفة، ولا خيار، فيه غرر وغبن، وبيع الغرر منهي عنه لذاته، حتى ولو رضي العاقدان، ولإمكانه أن يرضى بعد الرؤية، فيتحقق المراد. ¬
وأما الرضا دلالة، فهو أن يوجد من المشتري تصرف في المبيع بعد الرؤية يدل على الإجازة، كما لو قبضه بعد رؤيته، فإن قبضه بعد رؤيته كالعقد بعد الرؤية يكون العقد لازمًا (¬1). ¬
الفرع الثاني انتهاء خيار الرؤية بالفسخ
الفرع الثاني انتهاء خيار الرؤية بالفسخ [م - 524] والفسخ نوعان: اختياري واضطراري. والاختياري: أن يقول: فسخت العقد، أو نقضته، أو رددته، ونحو ذلك. وله الفسخ بعد الرؤية قولًا واحدًا عند من يثبت خيار الرؤية. أما الفسخ قبل الرؤية، ففي مذهب الحنفية قولان: أحدهما: أنه لا يملك الفصح قبل الرؤية؛ لأنه لا خيار قبل الرؤية، وإذا كانت الإجازة قبل الرؤية لا تجوز، فلا يجوز الفسخ أيضًا قبلها. وأجيب: أن صحة الفسخ لم يكن بسبب الخيار حتى يقال: لا خيار قبل الرؤية، وإنما ثبت الفسخ لعدم لزوم العقد. والثاني: أنه يملك الفسخ قبل الرؤية، وهو الأصح عندهم؛ لأن العقد غير لازم بسبب جهالة المبيع، وما لم يكن لازمًا فللمشتري فسخه؛ ولأن الفسخ كما يملك بالخيار، يملك أيضًا بسبب عدم لزوم البيع كالعارية، والوديعة، والوكالة (¬1). وأما الفسخ الضروري فله صورة واحدة، وهو أن يهلك المبيع قبل القبض، فينفسخ العقد ضرورة، وينتهي معه خيار الرؤية لفوات المحل (¬2). ¬
الشرط الأول
ويشترط لصحة الفسخ ثلاثة شروط: الشرط الأول: قيام الخيار؛ لأن الخيار إذا سقط بأحد المسقطات لزم العقد (¬1). الشرط الثاني: ألا يتضمن الفسخ تفريق الصفقة على البائع، فإذا أراد المشتري الفسخ فإما أن يفسخ الكل، أو يرد الكل، لا فرق في ذلك بين ما كان قبل القبض، وما كان بعده. واختار أبو يوسف في رواية عنه، أنه إذا هلك بعض المبيع في يد المشتري قبل الرؤية، فله أن يرد ما بقي، وجهه: أن المشتري لو صرح بإسقاط الخيار قبل الرؤية لم يسقط خياره، فبهلاك البعض أولى ألا يسقط خياره فيما بقي (¬2). الشرط الثالث: من شروط صحة الفسخ عند أبي حنيفة ومحمد، أن يعلم البائع بالفسخ. وعند أبي يوسف ليس بشرط، ومع اختلافهم في اشتراط علم البائع فإنهم متفقون على أن الفسخ لا يتوقف على رضا البائع , بل ينفسخ العقد سواء رضي بذلك البائع أو لم يرض. ولا يتوقف الفسخ أيضًا على حكم القاضي، بل بمجرد قوله: رددت ينفسخ قبل القبض وبعده (¬3). ¬
وخلافهم في هذه المسألة كالخلاف في الفسخ في خيار الشرط، وقد بينا أدلة الأقوال هناك، والراجح منها، فأغنى عن إعادته هنا، وقول أبي يوسف أقوى من قول الإِمام وصاحبه.
الفرع الثالث انتهاء الخيار باستفاد وقته
الفرع الثالث انتهاء الخيار باستفاد وقته [م - 525] هل خيار الرؤية مؤقت بوقت بحيث ينتهي الخيار باستنفاذ وقته، أو هو على التراخي فلصاحبه أن يختار الرد متى شاء، أو بعبارة أخرى: هل خيار الرؤية على الفور، أم على التراخي؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: خيار الرؤية غير مؤقت، وهو باق إلى أن يوجد ما يبطله، وهذا هو المختار في مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: أنه مؤقت بعد الرؤية بقدر ما يتمكن فيه من الفسخ، فإذا تمكن من الفسخ بعد الرؤية، ولم يفسخ انتهى خياره، وهذا قول في مذهب الحنفية، وقول في مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). القول الثالث: يمتد امتداد مجلس الرؤية، وهو الأصح عند الشافعية، والحنابلة على القول بجواز بيع الغائب (¬4). ¬
دليل من قال: إنه غير مؤقت
دليل من قال: إنه غير مؤقت: الدليل الأول: أن النص الذي أثبت هذا الخيار مطلق، ويقصدون بالنص: (ح-437) ما رواه الدارقطني، من طريق أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن مكحول رفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال: من اشترى شيئًا لم يره، فهو بالخيار إذا رآه، إن شاء أخذه، وإن شاء تركه. قال الدارقطني: هذا مرسل، وأبو بكر بن أبي مريم ضعيف (¬1). ويجاب: بأن الخيار إذا كان غير مؤقت أضر ذلك بالبائع؛ لأن بقاء العقد غير لازم في مدة مجهولة يضر بالبائع، حيث لا يمكنه أن يتصرف في الثمن خشية فسخ العقد. الدليل الثاني: أن الرد حق للمشتري فلا يسقط إلا بما يدل على إسقاطه من قول أو فعل. الدليل الثالث: أن هذا الخيار شرعه الشارع من أجل التروي والنظر، فلو طلب من المشتري الرد فورًا وإلا لزمه المبيع لكان في ذلك إضرار به. ويجاب: بأنه لا يلزم أن يقال: إما إنه على الفور، وإما أنه غير مؤقت أبدًا طيلة عمره، ¬
دليل من قال: إنه على الفور
فهناك قول وسط، وهو أن له النظر ما دام في مجلس الرؤية، فمجلس الرؤية بمنزلة مجلس العقد. دليل من قال: إنه على الفور: الدليل الأول: أن الأصل في البيع اللزوم، والمصلحة التي شرع الرد لأجلها تتحقق مع البدار، وذلك ممكن، فالتأخير تقصير، فيبطل الخيار بالتأخير بلا عذر. ويناقش: قولكم (الأصل في البيع اللزوم) هذا في العقد المطلق، أما العقد الذي فيه خيار فليس الأصل فيه اللزوم، والقول بأن المصلحة تتحقق مع الفورية غير صحيح؛ لأن الإنسان قد يحتاج إلى تقليب النظر لينظر في الأصلح، وقد لا يخلص إلى الأصلح له مع إلزامه بالفورية. وقولكم: (إن التأخير تقصير) غير مسلم، فالخيار لم يشرع إلا لإعطاء صاحبه مهلة ليتخير. الدليل الثاني: القياس على خيار الشفعة؛ فإنه خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال، فكان على الفور. ويناقش: بأن خيار الشفعة ليس محل اتفاق بأنه على الفور، والراجح فيه أنه على التراخي، والأحاديث الواردة في خيار الشفعة بأنه على الفور ضعيفة لا تقوم بها حجة، والأصل أن كل من ثبت له حق شرعي فإنه لا يسقط إلا بما يدل على رضاه من قول أو فعل.
دليل من قال: إنه يمتد امتداد مجلس الرؤية
دليل من قال: إنه يمتد امتداد مجلس الرؤية: الدليل الأول: القياس على خيار المجلس، بجامع أن كلًا منهما شرع للتروي، والنظر في الأصلح. الدليل الثاني: أن اعتبار المجلس قول وسط بين قول الحنفية الذين يقولون: إنه غير مؤقت مطلقًا، فيتضرر البائع، وبين قول الشافعية الذين يقولون: إنه على الفور، فيتضرر المشتري، فاعتبار مجلس الرؤية يحقق مصلحة كل من البائع والمشتري، وإذا كان الفقهاء قد اعتبروا مجلس العقد في صدور القبول، ولم يلزموا المشتري أن يصدر منه القبول حال صدور الإيجاب، واعتبروا التفرق من المجلس قبل صدور القبول يبطل الإيجاب، فكذلك الشأن هنا، والله أعلم. القول الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال، أجد أن القول بأن خيار الرؤية يمتد امتداد مجلس الرؤية هو قول وسط، يحقق مصلحة كل من البائع والمشتري، والقاعدة الشرعية تقول: لا ضرر، ولا ضرار، فهو الراجح عندي، والله أعلم. ***
الباب الثاني في خيار النقيصة
الباب الثاني في خيار النقيصة الفصل الأول في خيار العيب المبحث الأول تعريف خيار العيب تعريف خيار العيب: كلمة (خيار العيب) مركب إضافي من كلمتي (خيار) و (وعيب). أما كلمة (خيار) فقد سبق تعريفها عند تعريف الخيار بوجه عام وبينا معناها اللغوي والاصطلاحي. وأما تعريف العيب اصطلاحًا (¬1): فقد اختلف الفقهاء في تعريفهم للعيب، فبعضهم عرفه بتعريف شامل للبيع ¬
تعريف الحنفية
وغيره، وبعضهم قصره على تعريف العيب في البيع، وهو المعنى به في هذا البحث. وسوف نعرض تعريفًا واحدًا لكل مذهب: تعريف الحنفية: عرفه ابن الهمام بقوله: "والعيب ما تخلو عنه أصل الفطرة السليمة مما يعد به ناقصًا" (¬1). شرح التعريف: المراد بالفطرة: الخلقة، التي هي أساس الأصل (¬2)، فما طرأ على أصل خلقته مما ينقصه يعتبر عيبًا, أما إذا كان أصل خلقته يعتبر رديئًا لم يكن ذلك عيبًا في الأصل الفقهي ,وإن كان يعتبر عيبًا بالمعنى اللغوي. قال في شرح المجلة: "يشترط لثبوت خيار العيب ... أن يكون العيب عارضًا، لا من مقتضى الخلقة الأصلية في الشيء، فمن اشترى حنطة مثلًا فليس له أن يردها بخيار العيب؛ لأنها رديئة؛ لأن الجودة والرداءة من أصل الخلقة، ومن اشترى حلة ليس له أن يردها بخيار العيب لمجرد كونها رديئة؛ لأن الشيء يصنع إما جيداً، وإما رديئًا، فالرداءة موجودة في أصل الصنعة والخلقة" (¬3). ¬
تعريف المالكية
وقولنا في العيب: هو الطارئ على أصل الخلقة، لا يفهم منه أن العيب لا يعتبر إلا إذا كان عارضًا على الشيء بعد أن سبق له سلامته منه، فالصمم في الدابة، يعتبر عيبًا لأن ذلك يعتبر طارئًا باعتبار أصل الفطرة، فالفطرة السليمة في مثل هذه الدابة ألا تكون صماء، وألا تكون مكسورة، فلو كان الصمم والكسر من أصل خلقتها اعتبر عيبًا باعتبار أن فطرة هذا الجنس من الحيوان سلامته من ذلك العيب. وهذا بين. وقوله (مما يعد به ناقصًا) هذا القيد لا بد منه، وليس المراد به النقص الذي هو في مقابل الزيادة، فالزيادة في المبيع قد تكون عيبًا، فالأصبع الزائدة كالأصبع الناقصة، وإنما المقصود مما يعد به ناقصًا أي عن قيمته لو كان سويًا، عند أرباب المعرفة، ولو كان النقص يسيرًا. قال الكاساني: كل ما يوجب نقصان الثمن في عادة التجار نقصانًا فاحشًا، أو يسيرًا، فهو عيب يوجب الخيار" (¬1). تعريف المالكية: العيب: هو وجود ما العادة السلامة منه مما يؤثر في نقص الثمن، أو المبيع، أو في التصرف، أو خوف في العاقبة. فالذي يؤثر في نقص الثمن دون المبيع: كما لو وجده آبقا، أو سارقًا. والذي يؤثر في نقص المبيع دون الثمن كالخصاء في العبد. والذي يؤثر في نقص التصرف كالعسر والتخنث. والذي يؤثر في خوف العاقبة كجذام أحد الأبوين (¬2). ¬
مذهب الشافعية
مذهب الشافعية: العيب: كل ما ينقص العين أو القيمة نقصًا يفوت به غرض صحيح، إذا غلب في جنس المبيع عدمه (¬1). وهذا التعريف قريب من تعريف الحنفية. تعريف الحنابلة: العيب: هو ما ينقص قيمة المبيع نقيصة يقتضي العرف سلامة المبيع عنها غالبًا (¬2). وعرفه البهوتي بأنه نقص عين المبيع كخصاء، ولو لم تنقص به القيمة، بل زادت، أو نقص قيمته عادة في عرف التجار، وإن لم تنقص عينه (¬3). تعريف ابن حزم: عرفه ابن حزم بقوله: "هو ما حط من الثمن الذي اشترى به، أو باع به ما لا يتغابن الناس بمثله" (¬4). ونلحظ أن كل التعريفات تقريبًا تتفق على أمرين: الأول: أن النقص الذي يلحق بالمبيع أو بثمنه فهو عيب معتبر، إذا كان الغالب في جنس المبيع عدمه، ونص المالكية والحنابلة بأن نقص العين من العيب، وإن زاد في الثمن كالخصاء. الثاني: لما كانت العيوب لا يمكن إحصاؤها، كان لا بد من وضع ضابط لما ¬
يعتبر عيبًا مؤثرًا، مما لا يعد كذلك. قال ابن تيمية: "لا يطمع في إحصاء العيوب" (¬1). لذلك رأى الفقهاء الرجوع إلى عرف التجار في تحديد هل هذا عيب مؤثر، أو غير مؤثر؟ ذكر الحنفية أن المرجع في معرفة العيب عرف أهله (¬2). قال الشيرازي: "والعيب الذي يرد به المبيع ما يعده الناس عيبًا، فإن خفي منه شيء، رجع فيه إلى أهل الخبرة بذلك الجنس" (¬3). قال النووي في شرحه تعليقًا: "لما كانت الأمثلة لا تنحصر قدم عليها الضابط فيها، وما ذكره من الضابط سديد، فإن المدرك في ذلك العرف، ولولا ذلك واقتضى العرف سلامة المبيع حتى جعل ذلك كالمشروط لما ثبت الرد، فلذلك جعل ضابطه راجعا إلى العرف، فما عده الناس وأهل العرف عيبا كان عيبا، وما لا فلا" (¬4). وقال في شرح منتهى الإرادات: "ما عده التجار منقصًا أنيط الحكم به؛ لأنه لم يرد في الشرع نص في كل فرد منه، فرجع فيه إلى أهل الشأن" (¬5). وقال القرافي في الفروق: "إذا كان الشيء عيبا في الثياب في عادة رددنا به المبيع فإذا تغيرت العادة وصار ذلك المكروه محبوبا موجبا لزيادة الثمن لم ترد ¬
به وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه، بل قد يقع الخلاف في تحقيقه هل وجد أم لا" (¬1). ¬
المبحث الثاني حكم كتمان العيب
المبحث الثاني حكم كتمان العيب الفرع الأول الحكم التكليفي لكتمان العيب [م - 526] كتمان العيب غش، والغش متفق على تحريمه (¬1)، فمن علم عيبًا وجب عليه بيانه لمشتر ونحوه ممن يتضرر بكتمانه، فإن لم يفعل فهو غاش، آثم وعاص. قال ابن جزي: العيوب وكتمانها غش محرم بإجماع (¬2). قال ابن نجيم: "كتمان عيب السلعة حرام، وفي البزازية وفي الفتاوى: إذا باع سلعة معيبة عليه البيان، وإن لم يبين، قال بعض مشايخنا: يفسق وترد شهادته. قال الصدر: لا نأخذ به" (¬3). وقال النووي: "من ملك عيبًا، وعلم بها عيبًا لم يجز أن يبيعها حتى يبين عيبها، وهذا الحكم متفق عليه ... لا خلاف فيه بين العلماء، قال الشافعي رحمه الله في آخر باب الخراج بالضمان من المختصر: وحرام التدليس" (¬4). ¬
وقال ابن رشد: "لا يحل لامرئ مسلم أن يبيع عبدًا، أو أمة، أو سلعة من السلع، أو دارًا، أو عقارًا، أو ذهبًا، أو فضة، أو شيئًا من الأشياء، وهو يعلم فيه عيبًا، قل أو كثر، حتى يبين ذلك لمبتاعه، ويقفه عليه وقفًا يكون علمه به كعلمه، فإن لم يفعل ذلك وكتمه العيب، وغشه بذلك، لم يزل في مقت الله، ولعنة ملائكة الله ... " (¬1). وهناك قول في مذهب الحنابلة ذكره أبو الخطاب: أن كتمان العيب يكره، قال في التبصرة: نص عليها أحمد، لكن قال صاحب الإنصاف: مراد الإمام أحمد بالكراهة: التحريم (¬2). والأدلة على تحريم الغش وكتمان العيب ووجوب النصيحة كثيرة جدًا، وحكمها معلوم من الشريعة. (ح-438) من ذلك ما رواه البخاري ومسلم من طريق شعبة، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث رفعه إلى حكيم بن حزام - رضي الله عنه - , ¬
وجه الاستدلال
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو قال: حتى يتفرقا. فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما. ومحق البركة عقوبة لا تكون إلا من أمر محرم. الدليل الثاني: (ح-439) ما رواه مسلم من طريق العلاء، عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا، فقال ما هذا يا صاحب الطعام قال أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني (¬2). قال القرافي في الذخيرة: يعاقب الغاش لمعصيته. لقوله عليه السلام: من غشنا فليس منا (¬3). وفي هذا الحديث دليل على أن الغش كبيرة من كبائر الذنوب. الدليل الثالث: (ح-440) ما رواه البخاري في صحيحه من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله، قال - رضي الله عنه - قال: بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم (¬4). ¬
الفرع الثاني الحكم الوضعي لكتمان العيب
الفرع الثاني الحكم الوضعي لكتمان العيب [م - 527] سبق لنا أن كتم العيب في البيع محرم، وهذا حكمه التكليفي، فهل تحريم كتمان العيب يؤثر في صحة العقد، أو أن العقد صحيح، والمحرم هو الكتمان خاصة، اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: البيع صحيح لازم من جهة البائع، ولكنه غير لازم من جهة المشتري. وهذا مذهب جماهير العلماء من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). القول الثاني: أن البيع باطل، حكي ذلك عن داود الظاهري (¬5)، واختاره بعض الحنابلة (¬6). ¬
الدليل الأول
الدليل الأول: (ح- 441) من السنة ما رواه البخاري من طريق جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال أبو هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاع تمر (¬1). وجه الاستدلال: ثبوت الخيار للمشتري فرع عن صحة البيع، فلو كان البيع باطلًا لما ثبت فيه الخيار، ولتعين الرد. الدليل الثاني: أن التحريم لا يرجع إلى ذات العقد، وإنما يرجع إلى أمر خارج، وهو الكتمان، والكتمان معنى متعلق بالعاقد، وليس بالعقد، والنهي إذا لم يكن عائدًا إلى العقد صح مع الإثم، فجعل لمن وقع عليه الغش الخيار، إن شاء أمضاه، وإن شاء رده، ولم يجعل الخيار للبائع؛ لأنه لم يقع عليه غش، وإنما يبطل العقد إذا توجه النهي إلى المعقود عليه، وهو ما ليس موجودًا هنا. الدليل الثالث: حكى ابن قدامة الإجماع على صحة البيع، قال: "متى علم بالبيع عيبًا لم يكن عالمًا به فله الخيار بين الإمساك والفسخ، سواء كان البائع علم العيب وكتمه، أو لم يعلم، لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافًا" (¬2). ¬
دليل من قال: إن العقد باطل
دليل من قال: إن العقد باطل: يستدل لهذا القول بأن الغش محرم، ومنهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. (ح-442) وقد روى مسلم من طريق سعد بن إبراهيم، عن القاسم بن محمد، قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد (¬1). ومعنى: رد: أي مردود على صاحبه، والمردود: هو الباطل. ولأن تصحيح البيع، يكون تصحيحًا لما نهى عنه الشارع، وهذا خلاف مقصود الشارع. الراجح: هذه المسألة ترجع إلى مسألة أصولية، وهو هل النهي المطلق يقتضي فساد المنهي عنه، أو لا يقتضي ذلك؟ وهي مسألة خلافية، وقد تم التعرض لها في أول البحث، ورجحت فيها: أن الأصل الشرعي أن النهي المطلق يقتضي فساد المنهي عنه، فقد أمرنا الله سبحانه وتعالى باجتناب ما نهى عنه، أو نهى عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ووقوعه منا مخالفة لأمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن إذا وجد ما يدل على صحة الفعل بعد وقوعه عمل بذلك، كما أننا نقول: الأصل في الأمر الوجوب وفي النهي التحريم، وإذا ما وجد ما يدل على الاستحباب أو الكراهة عمل به، ومن القرائن الصارفة للنهي عن الفساد أن يكون النهي لا يعود إلى العقد، وإنما يعود إلى أمر خارج عنه، كما ¬
هو الحال في هذه المسألة، ومثله لو كان النهي لحق الآدمي مثلاً، كتلقي الجلب، وزيادة الناجش، وعقد المصراة ونحوه، فإن الفعل محرم، والعقد صحيح.
المبحث الثالث العقود التي يدخلها خيار العيب
المبحث الثالث العقود التي يدخلها خيار العيب [م - 528] لم يتكلم في هذه المسألة فيما أعلم إلا الحنفية والمالكية، وحتى يمكن أن نضع ضابطًا للعقود التي يدخلها خيار العيب والتي لا يدخلها، أقول: الأول: لا يثبت خيار العيب إلا في العقود اللازمة، وذلك أن العقود الجائزة يكتفى بجوازها عن المطالبة بالفسخ. الثاني: لا يثبت خيار العيب إلا في العقود التي تقبل الفسخ؛ لأن خيار العيب من أجل تمكين المشتري من فسخ العقد، ورد السلعة بالعيب. يقول السنهوري: "وخيار العيب كخيار الرؤية لا يثبت إلا في العقود التي تحتمل الفسخ، كالبيع، والإجارة، والقسمة، والصلح عن مال على شيء بعينه" (¬1). وقال الأتاسي في شرح المجلة: "يثبت -يعني خيار العيب- في البيع، والمهر، وبدل الخلع، وبدل الصلح عن دم العمد، وبدل الصلح عن المال، والقسمة، والإجارة ... " (¬2). وقال ابن رشد الحفيد: "أما العقود التي يجب فيها بالعيب حكم بلا خلاف، فهي العقود التي المقصود منها المعاوضة، كما أن العقود التي ليس المقصود منها المعاوضة لا خلاف أيضًا في أنه لا تأثير للعيب فيها، كالهبات لغير الثواب، والصدقة، وأما ما بين هذين الصنفين من العقود، أعني: ما جمع قصد ¬
المكارمة والمعاوضة، مثل هبة الثواب، فالأظهر في المذهب أنه لا حكم فيها بوجود العيب، وقد قيل: يحكم به إذا كان العيب مفسدًا" (¬1). ويرى الحنفية أن النكاح لا يثبت فيه خيار العيب، فلا ترد المرأة عندهم بعيب ما (¬2). وذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، إلى دخول خيار العيب في عقد النكاح. ¬
المبحث الرابع خيار العيب يثبت بلا اشتراط
المبحث الرابع خيار العيب يثبت بلا اشتراط [م - 529] معلوم أن الخيار قسمان: خيار يثبت بالشرع، ويسمى خيارًا حكميًا: وهو ما يثبت بمجرد حكم الشارع، فهذا الخيار لا يتوقف على اتفاق أو اشتراط لقيامه، بل ينشأ لمجرد وقوع سببه الذي ربط قيامه به، وذلك مثل: خيار العيب. يقول ابن عابدين في حاشيته: "خيار العيب يثبت بلا شرط" (¬1). وذلك لأن موجب الخيار في العيب ظهور عيب أو استحقاق، فيثبت بفوات أمر مظنون، نشأ الظن فيه من التزام شرعي، أو قضاء عرفي، أو تغرير فعلي، أو ظهور استحقاق في المبيع كتمه البائع (¬2). النوع الثاني: الخيار الإرادي: وهو الخيار الذي ينشأ عن إرادة العاقد. مثل خيار الشرط، فلا يثبت إلا باتفاق العاقدين وتراضيهما. وعلى هذا فإن خيار العيب يعتبر حكمي المنشأ، أثبته الشارع رعاية لمصلحة العاقد المحتاج إليه، دون أن يسعى الإنسان للحصول عليه (¬3). ... ¬
المبحث الخامس خيار العيب لا يمنع وقوع الملك للمشتري
المبحث الخامس خيار العيب لا يمنع وقوع الملك للمشتري [م - 530] إذا كان الفقهاء قد اختلفوا في الملك زمن الخيارين: خيار المجلس عند القائلين به، وخيار الشرط، فإنهم لم يختلفوا في ثبوت الملك للمشتري زمن خيار العيب. يقول ابن عابدين: "خيار العيب يثبت بلا شرط، ولا يتوقت، ولا يمنع وقوع الملك للمشتري ... " (¬1). وجاء في الموسوعة الكويتية: "إن وجود خيار العيب في العقد لا أثر له على حكم العقد الذي هو انتقال الملك، فملك المبيع يثبت للمشتري حالا، وملك الثمن ينتقل إلى البائع في الحال؛ لأن ركن البيع مطلق عن الشرط، والثابت بدلالة النص شرط السلامة لا شرط السبب (كما في خيار الشرط) ولا شرط الحكم (كما في خيار الرؤية) وأثر شرط السلامة يقتصر على منع لزوم العقد، ولا سلطان له على منع أصل حكم العقد" (¬2). ... ¬
المبحث السادس خيار العيب يورث
المبحث السادس خيار العيب يورث [م - 531] لم يختلف الفقهاء في خيار العيب بكونه يورث، قال النووي: "كون خيار العيب ينتقل للوارث لا خلاف فيه" (¬1). وإن اختلف الحنفية مع الجمهور في خيار الشرط هل يورث أو لا يورث؟ وسبب اختلافهم: أن الحنفية يرون أن خيار الشرط: يخير العاقد بين الفسخ والإجازة، ولا يتصور ذلك منه بعد موته، فالخيار لا يخرج عن كونه مشيئة وإرادة، ولا يتصور انتقاله فلا يورث، بخلاف خيار العيب، فإنه حق يلحق العين المملوكة، وهي موروثة، فالعاقد: قد استحق أن يستلم المبيع سليمًا، فكذا الوارث (¬2). أما المالكية والشافعية فلم يفرقوا بين حق وحق، فذهبوا إلى أن الحقوق تورث كما يورث المال. كما أن عموم قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12]، وهذا الحق مما ترك، فوجب أن يكون للوارث. ومن جهة القياس: أن خيار العيب ثبت لإصلاح المال، فوجب أن ينتقل بالموت إلى الوارث (¬3). ¬
المبحث السابع خيار العيب على التراخي
المبحث السابع خيار العيب على التراخي [م - 532] إذا اطلع المشتري على عيب في السلعة، واختار رد السلعة فهل يلزمه أن يكون الرد على الفور بحيث لو تأخر رده للسلعة سقط حقه من الرد، أو يجوز أن يرد السلعة متى شاء؛ لأن تأخيره لا يسقط حقه؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: خيار الرد بالعيب على التراخي، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). القول الثاني: خيار الرد بالعيب على الفور، وهو مذهب الشافعية (¬3). ¬
القول الثالث
القول الثالث: توسط المالكية، فقالوا: السكوت عن الرد بعد الاطلاع على العيب أكثر من يومين يعتبر رضا إذا كان من غير عذر، فإن طلب الرد بعد اليومين فلا يجاب، ولو أقسم أنه لم يرض. والسكوت يوما أو يومين إذا ادعى فيهما واجد العيب عدم الرضا صدق بيمينه، وفي أقل من يوم يصدق بلا يمين. وإن كان سكوته لعذر، كغياب البائع خارج البلد فله الرد مطلقًا من غير يمين، ولو طال الزمن، ويستحب له أن يشهد أنه غير راض، وأن الذي منعه من رد المبيع هو غياب البائع، فإن كان للبائع وكيل فإن شاء رد المبيع على وكيله، وإن شاء انتظر حضور الأصيل، وإن لم يكن له وكيل، فهو بالخيار إن شاء انتظر حضوره، ورد عليه إذا حضر، وإن شاء رفع الأمر إلى القاضي. هذا خلاصة مذهب المالكية (¬1). ¬
دليل من قال: إنه على التراخي
دليل من قال: إنه على التراخي: الدليل الأول: أن هذا الخيار شرع لدفع الضرر المتحقق، فكان على التراخي كخيار القصاص. الدليل الثاني: وجود العيب في السلعة أثبت للمشتري حق الرد بالاتفاق، وما وجب له بالإجماع لا يسقطه إلا نص، أو إجماع متيقن، ولا سبيل إلى وجودهما هنا. الدليل الثالث: ولأنه قد يحتاج إلى التروي للنظر، هل من مصلحته قبول المبيع بعيبه، أو رده وأخذ الثمن، فلو طلب منه أن يرده فورًا وإلا لزمه المبيع لكان ذلك إضررًا به. الدليل الرابع: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل الخيار ثلاثة أيام في بيع المصراة، ولو كان على الفور لم يجعل له الخيار تلك المدة. فقد روى مسلم من طريق سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ابتاع شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها، ورد معها صاعًا من تمر (¬1). وقد يجاب: بأن عيب المصراة لا يمكن كشفه بالحال، فجعل له هذا الأمد ليتحقق من ¬
وجه من قال: خيار الرد بالعيب على الفور
وجود هذا العيب؛ لأن تغير مقدار الحليب قد يكون بسبب آخر غير التصرية، فجعل له هذا الأمد. وجه من قال: خيار الرد بالعيب على الفور: يجب على المشتري الرد حال علمه بالعيب؛ لأن الأصل في البيع اللزوم، فإذا لم يقم المشتري بالرد فورًا بطل حقه بالرد، وبقي العقد على أصله، وهو اللزوم. ولأن خيار العيب ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال، فكان فوريًا كالشفعة. ويناقش: القول بأن المشتري إذا لم يقم بالرد فورًا بطل حقه بالرد هذا الكلام دعوى في محل النزاع، يحتاج ثبوته إلى دليل شرعي. والقياس على حق الشفعة قياس غير صحيح؛ لأن حق الشفعة مختلف فيه، فالمالكية لا يوجبون الفورية في حق الشفعة، وهو الصواب كما بينته والحمد لله في عقد الشفعة، وما اختلف فيه لا يجب الاحتجاج به على المخالف، والله أعلم. دليل من قال: إن تأخر أكثر من يومين سقط حقه في الرد. القاعدة في المذهب عند المالكية أن ما قارب الشيء يعطى حكمه، وأن التأخير يومًا أو يومين لا يعتبر فاصلًا مؤثرًا, ولا يعتبر دليلًا على الرضا بالعيب وإن كان التأخير أكثر من يومين كان ذلك دليلًا على رضاه بالعيب. وقد فصلت أدلة المذهب على هذه القاعدة في خيار الشرط، فأغنى عن إعادته هنا.
المبحث الثامن الرد بالعيب يفسخ العقد من أصله أو من حينه
المبحث الثامن الرد بالعيب يفسخ العقد من أصله أو من حينه إذا استحق المشتري رد السلعة بسبب عيب، وطلب فسخ العقد، فهل يفسخ العقد من أصله، أو من حينه؟ في المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: أن الرد بالعيب يفسخ العقد من حينه، لا من أصله. وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، واختاره ابن وهب ¬
الدليل الأول
من المالكية (¬1). واستدل صاحب هذا القول بأدلة منها: الدليل الأول: الإجماع على أن المبيع إذا كان له غلة فإن المشتري لا يردها إذا رد المبيع. قال ابن الجهم كما في إيضاح المسالك: "إذا آجر العبد بإجارة كثيرة، أو زوج الأمة بصداق كثير أو قليل، ثم رد بالعيب فإنه لا يرد ما أخذه من إجارة أو صداق، قال: ولا خلاف بين الناس في هذا , لم يخالف ذلك إلا شريح وعبيد الله ابن الحسن العنبري في حكاية الجوزي، ونقل المازري" (¬2). الدليل الثاني: أن المشتري لو تصرف بالمبيع قبل علمه بالعيب ببيع أو هبة، أو عتق ونحو ذلك، فإنه ينفذ، ويفوت الرد، ولو كان نقضًا للعقد من أصله بطل تصرفه، ولم يفت الرد. جاء في المجموع: "المذهب الصحيح، وبه قال ابن سريج: أن الفسخ يرفع العقد من حينه، لا من أصله؛ لأن العقد لا ينعطف حكمه على ما مضى، فكذلك الفسخ، وبدليل أنه لا يسقط به الشفعة، ولو انفسخ من الأصل لسقطت؛ ولأنه لو باع عبد الجارية، فأعتق الجارية، ثم رد العبد بالعيب، لم يبطل العتق به، ولو كان فسخًا من الأصل لبطل ... " (¬3). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن المشتري لو أراد الفسخ، ثم تلفت العين في يده قبل وصولها إلى البائع فات الرد، ولو كان فسخًا للعقد من أصله لكان له أن يرد مثلها أو يرد قيمتها؛ لأن وجوبها عليه من باب ضمان المتلف. الدليل الرابع: أن رفع العقد من أصله رفع للواقع في الزمن الماضي، وهو محال. فإن قلت: المرتفع الأحكام المترتبة على لفظ العقد، لا على نفس العقد، قيل: الأحكام واقعة في الزمن الماضي، قبل الرد بالعيب، فإن كان رفع الواقع محالًا فرفعها محال أيضًا. القول الثاني: أن الرد بالعيب يفسخ العقد من أصله، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية (¬1). وهذا القول ضعيف، ولذلك قال القرافي في الأمنية: "معنى قولنا في الرد بالعيب: أنه رفع للعقد من أصله، أي يقدر كالمعدوم وإن كان موجودًا، فيعطى حكم المعدوم، ومقتضى هذا أن ترد الغلات للبائع، ولا يبقى أثر من الآثار, لكن الأصحاب لم يقولوا بذلك، ولا إخاله قول أحد من العلماء، بل إنما قدره الأصحاب كالمعدوم من أصله في أمور خاصة، فقالوا: إذا صرح بالرد، فهلك المبيع قبل وصوله ليد البائع ففي ضمانه من البائع أو من المبتاع أقوال، ثالثها: من البائع إن حكم به حاكم، وإلا فمن المبتاع. ¬
القول الثالث
قال الشيخ أبو الطاهر منشأ الخلاف: هل الرد نقض للعقد من أصله، فيكون الضمان من البائع كأنه لم يخرج عنه، أو من حينه فلا يتحقق النقض إلا بوصوله إليه، ونحو هذا" (¬1). القول الثالث: التفصيل: إن كان الفسخ قبل القبض رفع العقد من أصله، وإلا فمن حينه، وهذا قول في مذهب الشافعية (¬2). وعللوا ذلك: بأن العقد قبل القبض ضعيف. وينبني على هذا الخلاف في هذه المسألة الاختلاف في مسائل كثيرة، منها: لو اشترى المسلم عبدًا كافرًا من كافر، ثم أسلم العبد، واطلع المشتري على عيب فيه، هل يكون لمشتريه الرد على بائعه الكافر أم لا. فعلى أن البيع رفع للعقد من أصله يجوز له رده بالعيب، وعلى أنه رفع له من حينه: لا يجوز له رده عليه بالعيب بعدما أسلم. ومنها: مسألة من ابتاع أمة بعبد، فأعتق الأمة، ثم رد العبد عليه بعيب، فعلى أنه رفع له من حينه لا يكون للبائع رد العتق، وإنما له قيمة الأمة، وعلى القول بأنه فسخ للعقد من أصله يرد الأمة. ومنها: إذا رد المبيع بالعيب، فهل له أن يسترد الجعل الذي أخذه السمسار؟ ... ¬
المبحث التاسع شروط الرد بالعيب
المبحث التاسع شروط الرد بالعيب الشرط الأول: الجهل بالعيب [م - 533] يشترط في ثبوت خيار العيب للمشتري أن يكون المشتري غير عالم بالعيب عند العقد، فإن كان عالمًا به فلا خيار له؛ لأن الإقدام على الشراء مع العلم بالعيب دليل على الرضا به معيبًا (¬1). ولأنه لو لم يعلم بالعيب، ثم علم به، ورضي المبيع على حاله سقط حقه في الرد، فكذلك من باب أولى أن يسقط حقه إذا دخل في ابتداء العقد على بينة، وهو يعلم بالعيب. قال النووي: "إن كان عالمًا -يعني بالعيب- فلا خلاف أنه لا يثبت له الخيار؛ لرضاه بالعيب" (¬2). [م - 534] وهل يشترط حتى يكون له حق الرد أن يكون قد باعه بثمن هو قيمته سليمًا، بحيث لو باعه بثمن هو قيمته معيبًا فلا رد له؟ قال ابن حزم: "إن كان اشترى الشيء بثمن هو قيمته معيبًا، أو باعه بثمن هو قيمته معيبا -وهو لا يدري العيب- ثم وجد العيب فلا رد له؛ لأنه لم يجد عيبًا. وقد قال قوم: له الرد -وهذا خطأ فاحش؛ لأنه ظلم للبائع، وعناية ومحاباة للمشتري بلا برهان، لا من قرآن، ولا سنة" (¬3). ¬
فرع
والقول بأن له الرد أقوى؛ لأن الثمن والقيمة لا يشترط في البيع تطابقها، ولأن الأصل سلامة العين من العيب، ونقص الثمن عن القيمة المعتادة لا يعني بكل حال الرضا بعيب غير معين في السلعة؛ لأن العيب نقص في العين أو في الصفة، ولابد من وجود الرضا الصريح من المشتري بهذا النقص، فربما لو علم المشتري بالعيب قبل العقد لم يوافق على الشراء، وقد كان للبائع أن يطلع المشتري على العيب ليخرج من العهدة، فلما كتم العيب استحق المشتري الرد. فرع: [م - 535] لو علم بالعيب، ولكنه لم يعلم أنه ينقص الثمن، ويوجب الرد، فهل له الرد. قال النووي: "لو كان المشتري قد علم به -يعني العيب- ولكن لم يعلم أنه عيب يوكس الثمن، ويوجب الفسخ، قال الماوردي: لا رد له؛ لأنه قد كان يمكنه عند رؤيته أن يسأل عنه؛ ولأن استحقاق الرد حكم، والجهل بالأحكام لا يسقطها" (¬1). ¬
الشرط الثاني كون العيب مؤثرا
الشرط الثاني كون العيب مؤثرًا [م - 536] لا بد أن يكون العيب مؤثرًا، وهذا شرط لا بد منه، ولا يختلف الفقهاء في النقص إذا كان كثيرًا، سواء كان ينقص العين، أو ينقص القيمة. واختلفوا في النقص اليسير على ثلاثة أقوال: القول الأول: إن كان العيب ينقص القيمة أَثَّر ذلك مطلقًا، يسيرًا كان، أو كثيرًا. وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وأحد القولين في مذهب ¬
الشافعية (¬1)، ومذهب الحنابلة (¬2). قال في بدائع الصنائع: "فكل ما يوجب نقصان الثمن (¬3)، في عادة التجار نقصانًا فاحشًا أو يسيرًا، فهو عيب يوجب الخيار" (¬4). أضاف ابن الهمام: "وسواء كان ينقص العين، أو لا ينقصها ولا ينقص ¬
القول الثاني
منافعها، بل مجرد النظر إليها كالظفر الأسود الصحيح القوي على العمل ... " (¬1). القول الثاني: ما ينقص من القيمة إن كان يسيرًا مما يتغابن الناس في مثله، فلا يؤثر، وهو قول في مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3)، واختاره ابن حزم. القول الثالث: النقص اليسير مؤثر مطلقًا، سواء نقص من القيمة، أم لا، اختاره بعض المالكية (¬4). تعليل من قال: العيب المؤثر ما أنقص القيمة، ولو يسيرًا وإلا فلا. التعليل الأول: كل ما نقص من قيمة المبيع فقد انتقص من ماليته، فالمبيع إنما صار محلًا للعقد باعتبار صفة المالية، فما يوجب نقصًا فيها يكون عيبًا, ولو كان يسيرًا، بخلاف العيب الذي لا ينقص من قيمته، فلا ينقص من ماليته، فلا يكون عيبًا مؤثرًا. التعليل الثاني: العقد المطلق يقتضي سلامة المبيع من العيوب، فكان وصف السلامة ¬
التعليل الثالث
كالمشروط، فالإخلال به يوجب تخيير المتضرر، وإلزام المشتري بما ليس سالمًا إلزام له بما لم يرض به، وهذا لا يجوز. التعليل الثالث: سلامة المبيع لها ما يقابلها من الثمن، فإذا دخل المبيع نقص في قيمته يكون البائع قد فوت على المشتري جزءًا من المبيع مع أنه قد أخذ ما يقابله باعتبار أنه قد دفعت له قيمة المبيع سليمًا، وهذا لا يجوز. دليل من قال: إذا كان النقص يسيرًا فلا يؤثر. أن النقص اليسير لا ينفك عنه المبيع، ولذلك تجد المقدار اليسير يتغابن الناس فيه عادة، ولا يؤثر مثل ذلك في لزوم العقود وصحتها. دليل من قال: العيب مؤثر مطلقًا, ولو لم ينقص من القيمة. يمكن أن يستدل بأن العقد المطلق يقتضي سلامة المبيع من كل العيوب، فكان وصف السلامة كالمشروط، وبعض العيوب وإن كان ليس له تأثير في الثمن إلا أنه لا يستوي عند الناس عين سالمة من العيوب مطلقًا وعين أخرى فيها عيب لا يؤثر على ثمنها، فنفاق الأولى أسرع، وتطلع الناس لها أكمل. الراجح: أميل إلى الأخذ بضابط الشافعية أن العيب المؤثر ما فوت غرضًا صحيحًا لأحد العاقدين مع اعتبار نقص القيمة كأحد العيوب المؤثرة، وليس حصر ذلك فيه. يبين ذلك أن الرجل لو اشترى بقرة، فوجدها لا تحلب، فإن كان اشتراها للحليب كان له الرد، وإن اشتراها للحم فلا يرد، وفي الحالين قد تكون القيمة سليمة من النقص.
وقد رأى بعض الفقهاء أن جار السوء عيب، وهذا لا دخل له في العين أصلًا (¬1). وذكر بعض الفقهاء بأن الشاة مقطوعة الأذن إن اشتراها للأضحية فله الرد، وإن اشتراها لغير الأضحية فلا، ما لم يعده الناس عيبًا. كما ذكر بعض الفقهاء بأنه لو اشترى ثوبًا أو خفًا فوجده صغيرًا، فإن له الرد، وإن لم يكن ذلك عيبًا في عين المبيع، وإنما اعتبر فوات غرض المشتري عيبًا موجبا للرد، وإن كان لا تأثير له في الثمن. كما أن هناك ما لا يعد عيبًا، وإن كان له تأثير في الثمن، كما في الأمة يشتريها، فيجدها ثيبًا، فليس له الرد إلا أن يشترط أن تكون بكرًا، مع أن كونها ثيبًا ينقص من قيمتها، ومع ذلك لم يعتبر عيبًا. ومثله لو اشترى دابة، فوجدها كبيرة السن, فليس له الرد إلا أن يشترط صغرها، مع أن كبر سنها ينقص من قيمتها. قال ابن عابدين تعليقًا على الأمثلة السابقة: "يظهر أن قولهم في ضابط العيب ما ينقص الثمن عند التجار مبني على الغالب، وإلا فهو غير جامع وغير مانع. أما الأول: فلأنه لا يشمل مسألة ... الثوب والخف والقلنسوة وشاة الأضحية؛ لأن ذلك وإن لم يصلح لهذا المشتري يصلح لغيره، فلا ينقص الثمن مطلقًا. ¬
وأما الثاني؛ فلأنه يدخل فيه مسألة الدابة، والأمة الثيب، فإن ذلك ينقص الثمن مع أنه غير عيب، فعلم أنه لا بد من تقييد الضابط بما ذكره الشافعية. والظاهر أنهم لم يقصدوا حصر العيب فيما ذكر؛ لأن عبارة الهداية والكنز، وما أوجب نقصان الثمن عند التجار فهو عيب، فإن هذه العبارة لا تدل على أن غير ذلك لا يسمى عيبًا، فاغتنم هذا التحرير" (¬1). ¬
الشرط الثالث أن يكون حدوث العيب في وقت ضمان البائع للمبيع
الشرط الثالث أن يكون حدوث العيب في وقت ضمان البائع للمبيع [م - 537] يعبر بعض الفقهاء عن هذا الشرط بأن يكون العيب قديمًا، أي ليس حادثًا عند المشتري، فإن قلت: هل يمكن لنا أن نأخذ من كلام الفقهاء ضابطًا نعرف من خلاله قدم العيب من حدوثه؟ فالجواب: قالوا في ضابط ذلك: أن يحدث العيب مقارنًا للعقد، أو بعده وقبل القبض (¬1). قال النووي: العيب الطارئ قبل القبض كالمقارن للعقد (¬2). وقيل الضابط: ثبوت العيب في زمن ضمان البائع (¬3). وهذا الضابط أجود وأدق؛ لأن الضمان قد يكون على المشتري، ولو لم يحصل القبض. وقد يكون على البائع، ولو بعد القبض، فالأول: مثل المبيع إذا لم يكن بحاجة إلى استيفاء، ولم يمنع البائع المشتري من قبضه فضمانه على الصحيح على المشتري ولو لم يقبضه. وأما الثاني فمثل الإجارة، والجائحة، فضمانهما على المؤجر والبائع، ولو كان ذلك بعد القبض على الصحيح. ¬
وخلاصة هذه المباحث
إذا تبين هذا فإن معرفة قدم العيب من حدوثه مبني على معرفة مسألة أخرى: متى يكون المبيع من ضمان البائع، ومتى يكون من ضمان المشتري، فإذا عرفنا وقت ضمان المبيع نكون بذلك نعرف قدم العيب من حدوثه. يقول الشيرازي رحمه اللهُ: "إن ابتاع شيئاً، ولا عيب فيه، ثم حدث به عيب في ملكه، نظرت، فإن كان حدث قبل القبض ثبت له الرد؛ لأن المبيع مضمون على البائع ... " (¬1). فهو يربط ما بين حق الرد، وما بين ضمان المبيع. وجاء في المجموع: "المبيع مضمون قبل القبض على البائع بجملته، فكذا أجزاؤه، وضمان الجزء (يعني المعيب) الذي لا يقابله قسط من الثمن لا يقتضي الفسخ، فأثبت الخيار" (¬2). فربط بين خيار العيب، وبين وجوب الضمان على البائع. وقد تعرضنا فيما سبق لبعض المباحث التي لها علاقة في مسألة ضمان المبيع، منها مسألة: التصرف في المبيع قبل قبضه، ومنها مسألة التلف في زمن الخيار، متى يكون من ضمان البائع، ومتى يكون من ضمان المشتري، وتعرضنا للبحث أيضًا لمسائل تلف المبيع وضمانه قبل قبض المبيع وبعد قبض المبيع، وسواء كان التلف بآفة سماوية، أو بفعل فاعل في مباحث مستقلة كشفت لنا حكم هذه المسائل لدى الفقهاء، فأغنى والله الحمد عن إعادتها هنا. وخلاصة هذه المباحث: أن العيب الذي ثبت مقارنًا للعقد من ضمان البائع، ومن باب أولى ما كان قبل العقد. ¬
وأن العيب الطارئ بعد قبض المشتري للمبيع يعتبر من ضمان المشتري، ويستثنى على قول بعض الفقهاء: العهدة، ووضع الجائحة، وعقد الإجارة. [م - 538] وأما العيب الحادث بعد العقد، وقبل القبض. فقيل: يعتبر من ضمان البائع مطلقًا حتى يقبض، وهو مذهب الحنفية، والشافعية، واستثنى الحنفية العقار. وقيل: يعتبر من ضمان المشتري إلا إذا كان العيب في مبيع لا ينتقل ضمانه من البائع إلى المشتري إلا بالقبض كما في المبيع إذا كان فيه حق توفية. وهذا مذهب المالكية والحنابلة في الجملة. هذا باختصار ما يتعلق بالضمان، وقد بسطت هذه المباحث، ولله الحمد مع ذكر أدلتها التفصيلية، وبيان الراجح، فأرجع إليها إن شئت. ***
الشرط الرابع عدم اشتراط البراءة من العيب
الشرط الرابع عدم اشتراط البراءة من العيب " معني البراءة: التزام المشتري للبائع في عقد البيع ألا يطالبه بشيء من سبب عيوب المبيع التي لم يعلم بها، كانت قديمة، أو مشكوكًا فيها" (¬1). قال ابن عابدين: "ومنه ما تعورف في زماننا فيما إذا باع دارًا مثلًا، فيقول: بعتك هذه الدار على أنها كوم تراب، وفي بيع الدابة يقول: مكسرة محطمة، وفي نحو الثوب يقول: حراق على الزناد، ويريدون بذلك أنه مشتمل على جميع العيوب" (¬2). ويقال مثله في عصرنا: أبيعك السيارة على أنها كومة حديد. الغرض من هذا الشرط: غرض البائع من ذلك أن يجعل العقد لازمًا، بحيث لا يحق للمشتري الخيار في رد السلعة إذا ثبت فيها عيب. فإذا عرفنا ذلك، فهل يشترط لثبوت خيار الرد في العيب أن يكون العقد غير مقترن بشرط البراءة منه؟ وللجواب على ذلك نقول: تارة يكون العيب معلومًا للبائع، وتارة يكون العيب غير معلوم للبائع، وفي كل قد اختلف الفقهاء. [م - 539] فإن كان العيب معلومًا للبائع، فهل له أن يشترط البراءة منه وإن لم يخبر المشتري؟ ¬
القول الأول
اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: يبرأ البائع مطلقًا إذا باعه بشرط البراءة، سواء كان البائع عالمًا به، أم غير عالم، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، واحد قولي الشافعي (¬2). القول الثاني: لا يبرأ البائع إذا كان عالمًا بالعيب، وهذا مذهب المالكية (¬3)، وأحد قولي الشافعي (¬4)، وقول في مذهب الحنابلة اختاره ابن تيمية (¬5). القول الثالث: لا يبرأ مطلقًا، سواء كان عالمًا أو غير عالم، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬6). ¬
القول الأول
وقد ذكرنا أدلة كل قول في باب الشروط في البيع، فأغنى عن إعادتها هنا، ولله الحمد. [م - 540] وأما إن كان العيب أو العيوب مجهولة للبائع، وطلب البراءة من العيوب، فقد اختلف العلماء أيضًا، هل يبرأ البائع أم لا؟ على أربعة أقوال: القول الأول: يبرأ من جميع العيوب، في كل السلع، لا فرق في ذلك بين الحيوان وبين غيره، ولا فرق بين بيع الحاكم، والوارث وبين بيع غيره، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، وهو أحد الأقوال عن مالك (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد اختارها ابن تيمية، وابن القيم (¬4). القول الثاني: لا يبرأ إلا في الرقيق خاصة، بشرط أن تطول إقامة الرقيق عنده بحيث يطمئن فيه لسلامته من العيوب التي تؤثر في رغبة الناس في المبيع، ويستثنى من ذلك ¬
القول الثالث
بيع الحاكم (القاضي) لخلاص الديون، أو على المفلس لقضائها، وكذلك بيع الوارث لخلاص الديون، وأما البيع من أجل الاقتسام فقولان، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬1). القول الثالث: يبرأ في عيب باطن في الحيوان، عاقلًا كان أو غير عاقل، وهذا أظهر الأقوال عن الشافعي (¬2) , وهو قول مالك في الموطأ (¬3). القول الرابع: لا يبرأ مطلقًا إلا أن يطلع عليه المشتري، ويسميه له، ويوقفه عليه، وهو قول لمالك (¬4)، وقول للشافعي (¬5)، ................... ¬
وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1)، وبه قال ابن حزم (¬2)، وجماعة (¬3). فإذًا الأقوال في المسألة أربعة: يبرأ مطلقًا، وهو مذهب الحنفية. لا يبرأ مطلقًا، وهو المشهور من مذهب الحنابلة. يبرأ في الحيوان والرقيق، وهو المشهور عند الشافعية. يبرأ في الرقيق خاصة، وهو المشهور من مذهب المالكية. وقد ذكرنا أدلة كل قول في بحث سابق في باب الشروط في البيع، فأغنى عن إعادته هنا. وقد رجحت في هذه المسألة وبينت أن أضعف الأقوال: القول بأن البائع ينفعه شرط البراءة إذا كان المبيع حيوانًا، سواء خص ذلك بالرقيق كما هو المشهور من مذهب المالكية، أو خص ذلك بالحيوان مطلقًا، عاقلًا كان أو غير عاقل كما هو المنصوص عن الشافعي في الأم؛ لأن شرط البراءة إذا نفع البائع في الحيوان، فغير الحيوان مقيس عليه. ويبقى النظر في القولين المتقابلين: القول بأنه يبرأ مطلقًا كما هو مذهب الحنفية، أو القول بأنه لا يبرأ مطلقًا كما هو المشهور من مذهب الحنابلة، وفي كلا القولين قوة، فالحنفية يرون أنه من باب الإسقاط، فالمشتري يملك حق خيار الرد بالعيب، فإذا أسقط حقه سقط، والإبراء من الحق المجهول جائز، ¬
والحنابلة يرون أن بعض العيوب قد تلحق ضررًا كبيرًا في المشتري، فلو دار في خلده أن يكون به مثل هذا الجنس من العيوب، أو مثل هذا القدر ما قبل البيع، واكتشاف هذا العيب بهذا الحجم يدل على أن العلم بالمبيع لم يكن متحققًا، وهو شرط في صحة البيع، فإذا لزمته الصفقة مع قيام هذا العيب المؤثر في ثمن السلعة والذي لم يعلم به العاقدان يعرض المشتري للغبن الفاحش، والغرر الكثير، ومثل هذا يؤثر في البيع. هذان التعليلان متقابلان، وأرى أن كلًا من التعليلين له وجه، وإن كنت أميل إلى اعتبار قول الحنابلة لأن القول بعدم لزوم البيع لن يدخل البائع في غبن؛ لأن حقه في المبيع سيعود إليه غير منقوص في الوقت الذي نكون قد جنبنا المشتري من الوقوع في الغبن والضرر، والله أعلم. ***
المبحث العاشر في ثبوت خيار الرد بالعيب
المبحث العاشر في ثبوت خيار الرد بالعيب من اشترى سلعة معيبة لم يعلم عيبها إلى وقت القبض، ثم وقف على العيب فيها، فإما أن تكون السلعة بحالها لم يطرأ عليها زيادة ولا نقص، أو يتعذر رد السلعة على البائع لكون المشتري قد تصرف فيها. وهل للمشتري أن يطالب بالأرش مطلقًا، سواء تعذر رد السلعة المعيبة، أو لم يتعذر، وسواء كان ذلك برضا البائع، أو لم يرض. أو ليس له الأرش إلا برضا البائع، أو عند تعذر رد السلعة. كل هذه المسائل منها ما هو محل اتفاق بين الفقهاء، ومنها ما هو محل خلاف بينهم، وسوف نعرض لهذه المسائل مسألة مسألة، ونبين الراجح منها إن شاء الله تعالى، نسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ***
الفرع الأول أن يتعذر رد السلعة المعيبة
الفرع الأول أن يتعذر رد السلعة المعيبة [م - 541] إن كان المشتري قد تصرف في السلعة، أو طرأ عليها زيادة، أو نقصان، فليس للمشتري أن يرد السلعة وقد تغيرت، وله أن يطالب بأرش العيب، باتفاق الأئمة الأربعة في الجملة، وسوف يأتي بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى ضمن المسائل التي تمنع من رد السلعة المعيبة في مسائل مستقلة، ضمن هذا الباب. والأرش في اللغة: الفساد، ثم استعمل في نقص الأعيان؛ لأنه فساد فيها، والجمع: أروش، مثل: فَلْس، وفُلُوس، وعرش وعروش. واصطلاحًا: هو المال الواجب في الجناية على ما دون النفس، وقد يطلق على بدل النفس، وهو الدية. ثم توسع الفقهاء في إطلاق هذا المصطلح فأرادوا به: الفرق بين قيمة المبيع معيبًا، وبين قيمته سليمًا من الثمن. يقول الشيرازي: "إذا أراد الرجوع بالأرش: قوم المبيع بلا عيب، فيقال: قيمته مائة، ثم يقوم مع العيب، فيقال: قيمته تسعون، فيعلم أنه قد نقص العشر من بدله، فيرجع على البائع بعشر الثمن" (¬1). وقال المرداوي في تعريفه: "هو قسط ما بين قيمة الصحيح والمعيب من الثمن" (¬2). ¬
فلو قوم المبيع صحيحًا بعشرة دراهم، ومعيبًا بثمانية دراهم، وكان الثمن الذي جرى عليه العقد خمسة عشر، فالنقص خمس الثمن (¬1). ¬
الفرع الثاني أن تكون السلعة المعيبة قائمة بحالها لم تتغير
الفرع الثاني أن تكون السلعة المعيبة قائمة بحالها لم تتغير [م - 542] إن كان المشتري لم يتصرف في السلعة المعيبة، ولم يطرأ عليها زيادة، ولا نقصان، فإن له أن يرد السلعة، ويأخذ الثمن، وله أن يمسكها، وهذا محل اتفاق بين الفقهاء. قال ابن قدامة: "متى علم -يعني المشتري- بالمبيع عيبًا، لم يكن عالمًا به، فله الخيار بين الإمساك والفسخ، سواء كان البائع علم العيب وكتمه، أو لم يعلم، لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافًا" (¬1). وقال ابن حزم: "واتفقوا على أن من اشترى شيئاً، ولم يبين له البائع بعيب فيه، ولا اشترط المشتري سلامته، ولا اشترط ألا خلابة، ولا بيع منه ببراءة، فوجد فيه عيبًا كان عند البائع، وكان ذلك العيب يمكن للبائع علمه، وكان يحط من الثمن حطًّا لا يتغابن الناس بمثله في ذلك المبيع في مثل ذلك الوقت، نعني وقت عقد البيع، ولم تتلف عين المبيع ولا بعضها, ولا تغير اسمه، ولا تغير سوقه، ولا خرج عن ملك المشتري كله ولا بعضه، ولا أحدث المشتري فيه شيئًا, ولا وطئًا, ولا غيره، ولا ارتفع ذلك العيب، وكان المشتري قد نقد فيه جميع الثمن، فإن للمشتري أن يرده، ويأخذ ما أعطى من الثمن، وله أن يمسكه إن أحب، واختلفوا فيما عدا كل ما ذكرنا بما لا سبيل إلى ضم إجماع حائز فيه" (¬2). ... ¬
الفرع الثالث إذا وافق البائع على الأرش مقابل قبول المشتري للسلعة
الفرع الثالث إذا وافق البائع على الأرش مقابل قبول المشتري للسلعة علمنا من الفصل السابق أن المشتري له أن يرد السلعة المعيبة إذا كانت قائمة بحالها لم تتغير، ولم يتصرف فيها, وله أن يمسكها. فإن أحب المشتري أن يمسك السلعة المعيبة، ويطالب المشتري البائع بأرش العيب، فإما أن يكون ذلك برضا البائع، أو يكون ذلك بدون رضاه. [م - 543] فإن كان ذلك برضاه، فقد ذهب عامة الفقهاء إلى جوازه، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬1)، ورجحه ابن تيمية (¬2). قال ابن رشد: "فإن اتفقا على أن يمسك المشتري سلعته، ويعطيه البائع قيمة العيب، فعامة فقهاء الأمصار يجيزون ذلك" (¬3). وقيل: لا يصح، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية، وهو المذهب عندهم (¬4). ¬
دليل من قال: بالجواز
دليل من قال: بالجواز: الدليل الأول: قالوا القياس على جواز أخذ الأرش إذا فاتت السلعة المعيبة، كما لو تصرف المشتري بالسلعة ببيع ونحوه وتعذر الرد، أو طرأ على السلعة المعيبة زيادة أو نقصان، فإذا جاز أخذ الأرش في مثل هذه، جاز أخذ الأرش هنا ما دام ذلك بالتراضي بين العاقدين. الدليل الثاني: خيار العيب حق للمشتري، وهذا الحق له أن يستوفيه برد السلعة، وله أن يأخذ العوض على هذا المال بشرط أن يكون ذلك بالتراضي بين العاقدين، فإذا تراضيا على دفع عوض مقابل إسقاط هذا الحق جاز. الدليل الثالث: يمكن أن يعتبر أخذ العوض على ما فات من عين السلعة أو صفتها بمثابة عقد جديد بناء على فسخ العقد الأول، وإنشاء عقد آخر بثمن جديد اتفقا عليه، بدليل أننا نشترط أن يكون ذلك بالتراضي بين العاقدين وهذا لا يمكن أن يمنع منه أحد. دليل من قال: لا يجوز: ثبوت الخيار للمشتري في رد السلعة المعيبة لا يعطيه الحق بالمعاوضة على هذا الحق، فالخيار في العيب حق يمكن صاحبه من فسخ العقد، فهو خيار فسخ فقط، ولا يعتبر من الحقوق المالية التي يجوز بيعها وشراؤها، كالشأن في خيار المجلس وخيار الشرط بجامع أن كلًّا منها غير متقوم.
وأجيب
وأجيب: بأن قياس خيار العيب على خيار المجلس أو الشرط خيار مع الفارق؛ وذلك لأن خيار الشرط وخيار المجلس لا يوجد لهما بدل، بخلاف خيار العيب فإن المشتري قد يرجع إلى الأرش إذا تعذر رد المبيع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن خيار العيب يأخذ العوض في مقابل ما فات من السلعة، ويسقط إلى مال، وهذان معنيان ليسا في خيار المجلس أو الشرط. قلت: وعلى فرض أن يكون خيار الفسخ ليس حقًا ماليًا فهذا لا يعني تحريم المعاوضة عليه، كالخلع، فإن المرأة تفتدي نفسها بعوض، وإن لم يكن في مقابلة مال، ومثله أيضًا حق النزول عن الوظيفة بمال، فهو جائز، وإن لم يكن في مقابلة مال، والصلح عن دم العمد وغيرها كثير. فالراجح: أن دفع الأرش يجوز إذا كان ذلك برضا المتعاقدين، وهو بمثابة إنشاء عقد جديد، أو بمنزلة الصلح بمعنى البيع.
الفرع الرابع في إلزام البائع بالأرش ونحوه
الفرع الرابع في إلزام البائع بالأرش ونحوه [م - 544] إن أحب المشتري أن يمسك السلعة المعيبة، والتي لم يطرأ عليها زيادة، ولا نقصان، ولم يتصرف في السلعة تضرفًا يمنع من ردها، فهل له أن يلزم البائع بدفع الأرش دون رضاه؟ هذه المسألة قد اختلف فيها العلماء على أربعة أقوال: القول الأول: ليس للمشتري أن يطالب البائع بأرش العيب بدون رضاه، فإن شاء رد السلعة، وإن شاء أمسكها بلا أرش، وهذا قول الحنفية (¬1)، الشافعية (¬2)، واختاره بعض المالكية (¬3) ورواية عن أحمد، رجحها ابن تيمية (¬4). القول الثاني: إن كان المبيع المعيب حيوانًا فليس له أخذ الأرش، وله رده أو إمساكه. وإن كان عقارًا، وكان العيب يسيرًا ذا قيمة (¬5)، فليس له رده، وله أخذ الأرش. ¬
القول الثالث
وإن كان المبيع عروضًا، فالمشهور أن حكمه حكم الحيوان. القول الثالث: حكمه حكم العقار، اختاره ابن رشد الجد وغيره. وهذا التفصيل هو القول المشهور في مذهب مالك (¬1). القول الرابع: يخير المشتري بين الرد، وبين إمساك المبيع مع أخذ الأرش، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2)، وبه قال إسحاق (¬3). دليل الجمهور على أنه ليس له أن يلزم البائع بالأرش: الدليل الأول: (ح-443) روى البخاري من طريق جعفر بن ربيعة، عن الأعرج قال أبو هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاع تمر (¬4). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين حق المشتري بين الإمساك من غير أرش، وبين رد السلعة، ولو كان الأرش واجبًا لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬
ونوقش هذا الاستدلال
ونوقش هذا الاستدلال: بأن التصرية من باب التدليس، وليس من قبيل العيب، والتصرية ليس فيها أرش، ولذلك لو امتنع رد المبيع المصَرَّى على البائع لم يملك المشتري المطالبة بالأرش بخلاف العين المعيبة، فإن الفقهاء متفقون بأنه إذا تعذر رد العين المعيبة تعين الأرش. ورد هذا: بأن التدليس أقبح من بيع السلعة المعيبة؛ لأن السلعة المعيبة قد يكون عيبها بأصل الخلقة، وقد يكون البائع لم يعلم بالعيب، أو علمه ونسي أن ينبه عليه، بخلاف التدليس فإنه غش وكتمان وخديعة، ولذلك ذهب شيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى إلى أن الأرش لا يلزم به البائع إلا إذا تبين أنه دلس في السلعة، فقد قال عن قول ابن تيمية بأن الأرش لا يلزم البائع بأنه قول "وجيه إلا إذا علمنا أن البائع مدلس -أي علم بالعيب ولكنه دلس- فهنا يكون الخيار بين الإمساك مع الأرش وبين الرد، معاملة بأضيق الأمرين" (¬1). الدليل الثاني: شرط صحة البيع وجود الرضا من المتعاقدين، وإجبار البائع على دفع الأرش إجبار على معاوضة جديدة لم يلتزمها, ولم يقبل بها، فالبائع لم يرض بخروج المبيع عن ملكه إلا بالمسمى بينهما، فإجباره على إخراجه من ملكه بأقل من المسمى إكراه على البيع، وهذا لا يجوز (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: خيار العيب شرع لأجل دفع الضرر عن المشتري وعن البائع: فالمشتري يدفع الضرر عن نفسه بالسلعة المعيبة بتمكينه من رد السعلة إلى صاحبها، وأخذ ما دفعه من الثمن، وعدم إلزامه بقبول السلعة المعيبة بالثمن المتفق عليه. ودفع الضرر عن البائع يكون بعدم إلزامه بدفع أرش العيب، وهو لم يلتزمه، وبهذا يتحقق أنه لا ضرر ولا ضرار. فإذا ألزمنا البائع بدفع أرش العيب لحق البائع ضرر بذلك؛ لأنه دخل في العقد على أن يحصل له الثمن كاملاً، فإجبار البائع بإخراج المبيع عن ملكه ببعض الثمن من غير رضاه ضرر بين عليه، فالقول العدل الذي يحقق مصلحة كل من البائع والمشتري بأن يخير المشتري بين الإمساك وبين رد السلعة وأخذ الثمن. دليل من فرق بين العيب اليسير في العقار وبين العيب في الحيوان والعروض: قالوا: إن العقار لا يخلو من العيب، فلو رد العقار في اليسير والكثير لأضر ذلك بالبائع، ولهذا كانت عادة التجار التساهل في اليسير من العيوب، ولأن العيب اليسير في العقار غالباً ما يسهل إصلاح عيبه، بحيث لا يبقى منه شيء بخلاف غيره. وقيل في التفريق: أن العيب في الدور والأصول لا يعيب إلا موضعه، ويتهيأ زواله، وغيرها يعيب جميعه، ولا يتهيأ زواله. وقيل في التفريق: أن الدور تشترى للقنية بخلاف غيرها (¬1). ¬
ويناقش
ويناقش: بما اعترض به بعض المالكية، حيث ذكر ابن زرقون: بأن مسألة التفريق بين الدور وغيرها ضعيفة، ولذلك احتاج الناس إلى توجيهها (¬1). وبأن الأدلة التي أثبتت خيار العيب لم تفرق بين منقول وعقار، وعليه فالتفريق يحتاج إلى دليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قياس صحيح، ولا دليل. دليل الحنابلة على أن المشتري له أن يلزم البائع بدفع الأرش: الدليل الأول: قالوا بأن العاقدين بانعقاد البيع قد تراضيا بأن الثمن في مقابل المبيع، فكل جزء من الثمن يقابله جزء من المبيع، ومع ظهور العيب في المبيع فقد فات جزء منه، إما عينًا أو صفة، ومن ثم كان للمشتري أن يرجع على البائع ببدل هذا الجزء الفائت من المبيع، وهو الأرش. ويناقش: نحن لا نسلم بأن السلعة المعيبة قد فات جزء منها على المشتري، وإنما الواقع أن المشتري قد اغتر فظن المبيع سليمًا، فإذا بان واتضح العيب ثبت له الخيار. وعلى التسليم بأنه بثبوت العيب في السلعة يكون قد فات جزء من المبيع على المشتري، فإننا والحالة هذه نكون قد مكنا المشتري من رد السلعة لدفع الغبن عن نفسه، ولكن أن نلزم البائع بأن يخرج المبيع من ملكه بثمن لا يرضاه، ولم يجر الاتفاق عليه فإن هذا من الإكراه على البيع، والإكراه على البيع غير جائز، ¬
الدليل الثاني
قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، فلا بد في صحة العقد من وجود الرضا من المتعاقدين. الدليل الثاني: لو حدث في السلعة المعيبة عيب جديد عند المشتري لم يكن للمشتري حق رد السلعة وقد تغيرت عنده، وكان له أخذ الأرش من البائع عند فقهاء الأئمة الأربعة (¬1)، فكذلك ما نحن فيه بجامع أن كلًا منهما عيب في المبيع. ومثله لو تلفت السلعة عند المشتري، ثم اطلع على عيب قديم فيها، فإن له الرجوع بالأرش. ويجاب: بأن الرجوع إلى الأرش مع تعذر الرد نوع من الاضطرار أكثر منه من الاختيار؛ لأننا إما أن نقول بعدم الأرش، وهنا إضرار بالمشتري، أو نقول بوجوب الرد مع تغير السلعة وهذا إضرار بالبائع، فكان القول بالأرش هنا من باب الاضطرار، ويختلف الحال عنه إذا كانت السلعة قائمة بحالها لم تتغير، فإنه بالإمكان فسخ العقد برد السلعة على البائع، والرجوع بالثمن للمشتري، وهنا لم يتضرر كل من البائع والمشتري. الراجح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها أجد أن القول القوي الذي تؤيده الأدلة أن الأرش لا يلزم البائع إلا برضاه، وأن المشتري له الخيار بين الإمساك وبين الرد، والله أعلم. ¬
المبحث الحادي عشر موانع الرد بالعيب
المبحث الحادي عشر موانع الرد بالعيب المانع الأول: الرضا بالعيب [م - 545] إذا تبين للمشتري بعد البيع أن السلعة معيبة، ورضي المشتري بالعيب فلا خيار له، كما لو علم بالعيب قبل الشراء، ورضي به. ولا يكفي اطلاعه على العيب بل لا بد أن يعلم أنه عيب في السلعة، فلو اطلع على العيب ورضي به، ولم يعلم أن مثله يعتبر عيبًا فلا يعتبر اطلاعه عليه رضا. قال في حاشية ابن عابدين: "لو رأى بالأمة قرحة، ولم يعلم أنها عيب، فشراها، ثم علم أنها عيب، له ردها؛ لأنه مما يشتبه على الناس، فلا يثبت الرضا بالعيب" (¬1). والرضا بالعيب قسمان: صريح وكناية. فالرضا الصريح: كأن يقول بعد اطلاعه على العيب رضيت به، أو أجزت البيع، أو أبرأت البائع، أو أسقطت خياري، فإذا نطق بالرضا فلا خيار له، وهذا باتفاق الفقهاء (¬2). ¬
لأن الرد حق له، فإذا أسقطه برضاه سقط. ولأن الرد ثبت دفعًا للضرر عن المشتري، فإذا رضي بالضرر جاز البيع. قال ابن تيمية: "إذا ظهر ما يدل على الرضا من قول أو فعل سقط خياره بالاتفاق" (¬1). والرضا الضمني أو الكناية: بأن يصدر من المشتري بعد العلم بالعيب فعل يدل على الرضا به، كما لو استغل المبيع لغير ضرورة ولا تجربة (¬2)، أو عرضه للبيع. فإن حصل مثل ذلك، فقيل: يسقط خياره، وهذا قول عامة أهل العلم (¬3). وقيل: لا يسقط خياره، وهو اختيار ابن حزم (¬4). ¬
دليل الجمهور على سقوط الخيار: الدليل الأول: حكى الخرشي من المالكية الاتفاق على سقوط الخيار، قال رَحِمَهُ اللَّهُ: "وأما لبس الثوب، ووطء الأمة فهو رضا باتفاق" (¬1). ومع ثبوت الخلاف عن ابن حزم لا يثبت الاتفاق. الدليل الثاني: أن التصرف بالمبيع بعد الاطلاع على العيب دليل على رضاه به، ورغبته باستبقاء ملكه عليه، فينزل منزلة التصريح بقبوله إياه. دليل ابن حزم على أن التصرف لا يسقط الخيار: بأن الحق الثابت بالنص لا يسقطه إلا نص مثله، أو إجماع، وقد ثبت للمشتري حق الرد بالعيب بالنصوص الصحيحة الصريحة، فلا يسقطه إلا نص أو إجماع متيقن، ولا سبيل إلى وجودهما في هذه المسألة. والراجح: ما ذهب إليه الجمهور، وأن التصرف في المبيع واستعماله دليل على رضاه به معينًا، إذ لو كان يرغب في رده لم يتصرف فيه تصرف الملاك مع كونه من مال الغير، فتصرفه في مال الغير مع رغبته في رده يعتبر من الاعتداء على مال الغير، فحماية لحق البائع اعتبر انتفاعه بمال غيره من قبيل الرضا بالعيب، وأن مثل هذا مسقط لخياره، والله أعلم. ... ¬
الفرع الأول استعمال المبيع للضرورة هل يمنع الرد
الفرع الأول استعمال المبيع للضرورة هل يمنع الرد [م - 546] إذا لبس الرجل ثوبًا، ثم اكتشف به عيبًا، وهو في السوق، وليس معه من الثياب غيره، فهل بقاؤه لابسًا له حتى يكون في مكان يمكنه أن يجد فيه ثوبًا يلبسه، هل يعتبر مثل ذلك مانعًا من رده؟ ومثل ذلك لو أنه ركب الدابة، ثم اطلع على العيب، وهو في الطريق، وليس معه ما يركبه، فهل ركوبه يسقط حقه في الرد؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: القول بأن ذلك يمنع من رد السلعة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وأحد القولين في مذهب المالكية (¬2)، وهو المفهوم من إطلاق الحنابلة (¬3). وجه ذلك: أن لبس الثوب وركوب الدابة، وإن كان مضطرًا إليه إذا كان ذلك من أجله هو فهو بمنزلة الرضا، وإن كان من أجل الدابة كما لو ركبها ليعلفها، أو ليسقيها، أو ليردها لم يعتبر ذلك رضا منه. ولأن اللبس قد ينقص قيمة المبيع، خاصة إذا طال اللبس، واتسخ الثوب. ¬
القول الثاني
فإن قيل: إنه كان مضطرًا إلى لبس الثوب، أو ركوب الدابة يقال في الجواب: إن اضطراره ألزمه الرضا بالمبيع. أو يقال: إن اضطراره لا يعطيه حق الفسخ، وإنما يدفع عنه دلالة الرضا بالنقيصة، بحيث يمكنه استرجاع أرش النقيصة إذا طالب به، والله أعلم. القول الثاني: لا يمنع ذلك من رد السلعة إذا كان الركوب واللبس للضرورة، وهذا قول في مذهب الحنفية (¬1)، وهو مذهب المالكية (¬2)، واختاره ابن حزم (¬3). وجه ذلك: أن لبس الثوب في مثل هذه الحالة لا يدل على الرضا بالسلعة، وإنما كان لبسه له ضرورة، وهو معذور في لبسه. ولأن الرد قد وجب له بوجود العيب، فهو على ما وجب له، لا يجوز أن يسقط هذا الحق إلا بنص، أو إجماع متيقن، ولا سبيل إلى وجودهما هنا. وقيل: في التفريق بين استدامة اللبس فلا يسقط به الرد، وبين استدامة الركوب، فإنه يسقط به الرد، وهذا مذهب الشافعية (¬4). ¬
وجه قولهم
وجه قولهم: أن نزع الثوب في الطريق غير معتاد، فلا يسقط به الرد، ولأن استدامة لبس الثوب في طريقه للرد لا تؤدي إلى نقصه، واستدامة ركوب الدابة قد يؤدي إلى تعيبها. وقد يقال في الجواب عن ذلك: إن لبس الثوب قد يخلقه، ويتسخ به، بخلاف ركوب الدابة فإنها قد خلقت لذلك فلا تتأثر، لكن التعليل الأول أن خلع الثوب في الطريق غير معهود، وقد لا يكون معه ثوب غيره، بخلاف الركوب فإنه يمكنه المشي، كما يمكنه أن يستأجر دابة غيرها ليركبها، والله أعلم. الراجح: بعد استعراض الأقوال أجد أن القول بأنه إذا اضطر إلى ركوب الدابة، أو لبس الثوب بعد أن علم بالعيب، واختار الرد أن ذلك لا يسقط حقه من الرد، لأنه لا يعتبر ذلك منه رضا بالبيع، والذي هو ركن من أركان البيع، ولكن يثبت عليه أجرة الركوب واللبس إذا استخدم مال غيره مضطرًا إليه، أو يدفع أرش نقص السلعة بسبب الاستخدام، فإن ركب أو لبس غير مضطر إلى ذلك فإن ذلك يمنع من رد السلعة، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني تجربة المبيع بعد العلم بالعيب هل يسقط حق الرد
الفرع الثاني تجربة المبيع بعد العلم بالعيب هل يسقط حق الرد [م - 547] اختلف العلماء فيما لو اشترى دابة أو ثوبًا، فوجد عيبًا، ثم ركب الدابة، أو لبس الثوب للتجربة، فهل يسقط حقه في الرد؟ فقيل: إن الركوب واللبس بعد الاطلاع على العيب يسقط حقه من الرد، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والظاهر من إطلاق المالكية (¬2). قال الكرابيسي: "وإذا اشترى دابةً، أو قميصًا، على أنه بالخيار، فركبها في حاجته لينظر إليها وإلى سيرها، أو لبس القميص لينظر إلى قدره عليه فهو على خياره. ولو اشتراها فوجد بها عيبًا، فركبها، أو لبس القميص كان هذا رضا بالعيب، والفرق: أن شرط الخيار للاختبار، وهذه الأشياء مما يقع بها الاختبار فلم يكن مختارًا، وأما في العيب فليس له أن يختبر. وجه آخر: أنه خير ليختبر، فلم يكن ركوبه ولبسه للاختبار اختيارًا. وأما في العيب فلم يجعل له أن يختبر، فصار باختباره مختارًا" (¬3). ¬
وجه ذلك
وقيل: إن ذلك لا يمنع من رد السلعة، وهذا مذهب الحنابلة (¬1). وجه ذلك: أن استخدام المبيع إذا كان بقصد التجربة لم يكن ذلك من قبيل الرضا بالمبيع؛ لأن المشتري قد يستخدمه ليتحقق من وجود العيب، أو يتحقق من تأثير العيب على وظائف السلعة، فلا يكون الاستخدام رضا بالعيب. الراجح: أن الاستعمال بعد الاطلاع على العيب يسقط حقه من الرد إلا إذا ادعى المشتري أنه قصد من الاستعمال التأكد من وجود العيب فإن ذلك لا يسقط حقه من الرد؛ لأن المشتري لا يمكنه المطالبة برد السلعة إلا إذا تحقق من وجود العيب، ولا يكون ذلك إلا باستعمال المبيع، والله أعلم. ¬
المانع الثاني تغير المبيع عند المشتري
المانع الثاني تغير المبيع عند المشتري إذا تغير المبيع بنقص أو زيادة، أو بتحوله إلى عين أخرى لا يجوز تملكها، وكان هذا التغير حدث عند المشتري، فهل يمنع ذلك من رد المبيع، وللجواب على ذلك يقال: تغير المبيع بالزيادة فإن الزيادة تكون على قسمين: إما أن تكون الزيادة متصلة في المبيع. أو تكون الزيادة منفصلة. ومثله تغير المبيع بالنقص فهو يأتي على ثلاث صور: الأولى: أن يكون النقص حاصلاً بسبب خروج بعض المبيع من ملك المشتري ببيع، أو وقف، أو هبة ونحو ذلك. الثانية: أن يكون النقص حاصلاً بسبب لا بد منه للوقوف على عيب المبيع، وذلك كما في حلب المصراة، وكسر ما مأكوله في جوفه، ونحو فتح المعلبات ونحوها للاطلاع على ما فيها. الثالثة: أن يكون حصول النقص ليس بسبب الوقوف على عيب المبيع، وإنما نتيجة سوء استخدام المشتري للمبيع، وذلك كما لو اشترى دابة، فانكسرت رجلها، أو أصابها عور أو عمى عند المشتري. وسوف نبحث إن شاء الله تعالى كل هذه المسائل في مباحث مستقلة، ونبين فيها بحوله وقوته أوجه الاتفاق والخلاف، نسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
الفرع الأول تغير المبيع بتحوله إلى عين أخرى لا يجوز تملكها
الفرع الأول تغير المبيع بتحوله إلى عين أخرى لا يجوز تملكها [م - 548] إذا تغير المبيع بتحوله إلى عين أخرى لا يجوز تملكها، كما لو اشترى رجل مسلم من رجل مسلم عصيرًا معيبًا، فلم يعلم المشتري بعيبه حتى صار خمرًا. ومثله أن يشتري ذمي خمرًا من ذمي، ثم يسلما، فيجد المشتري في الخمر عيبًا، فإن تحول المبيع إلى عين محرمة لا يجوز تملكها يمنع من رد السلعة المعيبة؛ لأن المسلم لا يصح أن يتملك الخمر بأي سبب من أسباب التملك. جاء في الفتاوى الهندية: "قال محمَّد رحمه الله تعالى في الجامع: مسلم اشترى عصيرًا، وقبضه، وتخمر في يده، ثم اطلع على عيب لم يرده، ويرجع بنقصان العيب، فإن قال البائع: أنا آخذ الخمر بعينها فليس له ذلك؛ لأن امتناع الرد لحق الشرع ... " (¬1). وقال النووي: "لو اشترى عصيرًا حلوًا، فلم يعلم بعيبه حتى صار خمرًا، فله الأرش، وليس له رد الخمر، واسترجاع ثمنه، سواء أرضي البائع بقبوله أم لا؛ لتحريم المعاوضة على الخمر" (¬2). ¬
الفرع الثاني تغير المبيع بالزيادة
الفرع الثاني تغير المبيع بالزيادة المسألة الأولى تغير المبيع بالزيادة المتصلة [م - 549] إذا حدث في المبيع زيادة متصلة، كالسمن في البدن، والبرء من المرض، وكصبغ الثوب وخياطته، ثم وجد المشتري به عيبًا، فهل هذه الزيادة تمنع من رده؟ وإذا رده فلمن تكون هذه الزيادة؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال منها: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن الزيادة المتصلة التي تمنع من رد المبيع بالعيب هي كل زيادة لم تكن متولدة من المبيع، وذلك كالصبغ في الثوب، والخياطة في الثوب، والبناء والغرس في الأرض، فهذه الزيادة تمنع من الرد بالعيب مطلقاً، سواء حدثت قبل القبض أو بعده (¬1). وحجتهم: الدليل الأول: حكى الكاساني الإجماع على أن الزيادة المتصلة غير المتولدة من الأصل تمنع من الرد (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن هذه الزيادة ليست بتابعة، بل هي أصل بنفسها، فلو رد المبيع فإنه لا يخلو: إما أن يرده وحده بدون الزيادة، وهذا لا سبيل إليه لتعذره. أو يرده مع الزيادة، وهذا أيضًا لا سبيل إليه لكون الزيادة ليست مبيعة، فامتنع أصلاً، والفسخ لا يرد على غير المبيع؛ فلو رده مع الزيادة لزم الربا، فإن الزيادة تكون فضلاً مستحقًا في عقد المعاوضة بلا مقابل، وهو معنى الربا أو شبهته، ولشبهة الربا حكم الربا، فلا يجوز، فامتنع أصلاً، وليس للبائع أن يأخذه وإن رضي المشتري بترك الزيادة؛ لأن الامتناع لم يتمحض لحقه، بل لحقه وحق الشرع بسبب ما ذكرنا من لزوم الربا. وكون الزيادة مانعة مطلقًا، سواء كان ذلك قبل القبض أو بعده؛ لأن تصرف المشتري في المبيع قبل القبض بمنزلة القبض، فكأنه قد قبض المبيع (¬1). القول الثاني: ذهب الجمهور إلى أن الزيادة المتصلة لا تمنع من الرد بالعيب، على خلاف فيما بينهم فيمن يستحق هذه الزيادة، هل تكون للبائع، أو تكون للمشتري، أو يكون المشتري شريكًا للبائع في المبيع بقدر تلك الزيادة؟ وإليك تفصيل هذه الأقوال: فذهب المالكية إلى التفريق بين الزيادة المتولدة من الأصل، وبين ما يحدثه المشتري في المبيع من صنعة مضافة إليه كالصبغ والخياطة: أما الزيادة المتصلة المتولدة من الأصل كالسمن، والكبر، والتعليم، فاختلف المالكية على قولين: ¬
وجه ذلك
الأول: أن ذلك لا يمنع من الرد بالعيب، وهو مخير بين أن يرد الدابة بحالها، أو يمسك، ولا شيء له. الثاني: أن ذلك يمنع من الرد بالعيب، وليس له إلا الإمساك، والرجوع بقيمة العيب. وأما الزيادة التي تكون نتيجة ما يحدثه المشتري في المبيع من صبغ وخياطة، فإنه لا خلاف في المذهب أن ذلك يوجب له الخيار: بين أن يمسك، ويرجع بقيمة العيب، أو يرد ويكون شريكًا بما زاد بما أحدثه من الصبغ وشبهه (¬1). وجه ذلك: أن مال المشتري قد اختلط بمال البائع على وجه لا يمكن فصلهما، فأصبحا شريكين بقدر حصصهما. وأما الشافعية، والحنابلة فقد ذهبوا إلى أن الزيادة المتصلة لا تمنع من الرد، وترد مع أصلها, ولا شيء للمشتري (¬2). وجه قولهم: أن هذه الزيادة لا يمكن أن تنفرد عن الأصل في الملك، فمن ملك الأصل ملك هذه الزيادة. ¬
وقد ادعى بعضهم الإجماع على أن الفوائد المتصلة ترد مع المبيع عند رده بالعيب، وفي دعوى الإجماع نظر (¬1). وذهب الإِمام أحمد في رواية، اختارها ابن عقيل وابن تيمية إلى أن الزيادة لا تمنع من الرد، وتكون الزيادة من حق المشتري (¬2). ¬
واستدلوا بأدلة منها
واستدلوا بأدلة منها: الدليل الأول: الملك ثابت للمشتري في السلعة المعيبة من حين العقد، وكون الخيار له في رد السلعة المعيبة لا ينافي ثبوت الملك، وإذا كان الملك له، كان النماء له أيضًا؛ لأنه حدث في ملكه. الدليل الثاني: (ح-444) روى أحمد من طريق ابن أبي ذئب، قال: حدثني مخلد ابن خفاف بن إيماء، عن عروة عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: الخراج بالضمان (¬1). [إسناده ضعيف، وقد ضعفه البخاري وأبو داود، وقال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم] (¬2). الدليل الثالث: ولأن النماء المتصل قد يكون أنفع من المنفصل وأغلى عند الناس، فإذا فسخ البيع يقوم المبيع حين العقد، ويقوم حين الفسخ، والفرق بين القيمتين تكون للمشتري. الراجح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها أجد أن القول بأن الزيادة لا تمنع من الرد هو القول الراجح لقوة أدلته، وهل يستحق الزيادة البائع، أو المشتري، فإذا كانت ¬
الزيادة قد حدثت في ملك المشتري فهي من نصيبه؛ لأن الخراج بالضمان، ولكن لا يجبر البائع على دفع قيمة هذه الزيادة المتصلة؛ لأن إجبار البائع على دفع قيمة الزيادة إجبار على معاوضة لم يردها، والبيع إنما هو عن تراض، فإن شاء البائع أن يدفع قيمة تلك الزيادة، وإلا كان المشتري شريكًا له بقدر تلك الزيادة، هذا ما أميل إليه، والله أعلم.
المسألة الثانية تغير المبيع بالزيادة المنفصلة
المسألة الثانية تغير المبيع بالزيادة المنفصلة المطلب الأول الزيادة إذا كانت من غير عين المبيع [م - 550] الزيادة المنفصلة تارة تكون من عين المبيع كالولد والثمرة. وتارة تكون من غير عين المبيع، وذلك مثل كسب العبد وخدمته، وأجرته، ونحو ذلك. فإذا كانت الزيادة من غير عين المبيع كما لو اشترى الرجل سيارة يشتغل عليها، ويكسب منها، أو آلة قدر عليه غلة معينة كل يوم، فهل له أن يرد المبيع وقد حدث فيه زيادة منفصلة غير متولدة، أو أن هذه الزيادة تمنع من الرد؟ وللجواب يقال: قد أجمع الفقهاء على أن الزيادة المنفصلة غير المتولدة كالغلة الحاصلة من تأجير المبيع لا تمنع من رد المبيع بالعيب. جاء في تحفة الفقهاء: "أجمعوا أن الكسب والغلة التي تحدث بعد القبض لا تمنع فسخ العقد" (¬1). واتفق عامتهم على أن الزيادة تكون للمشتري (¬2). ¬
وأما حجة من قال: الغلة رد على البائع
وقيل: الزيادة ترد مع المبيع، ونسب هذا القول إلى عثمان البتي، وعبيد الله ابن الحسن (¬1). وقد احتج الجمهور بحديث الخراج بالضمان، وقد سبق بحثه (¬2). كما احتج بعضهم بالإجماع، قال ابن قدامة عن كون الزيادة المتولدة من غير عين المبيع للمشتري، قال: "لا نعلم في هذا خلافًا" (¬3). وقال ابن رجب: "لو اشترى شيئًا، فاستغله، ونما عنده، ثم رده بعيب، فإن كان نماؤه كسبًا لم يرده معه، قال كثير من الأصحاب: بغير خلاف .... (¬4). وأما حجة من قال: الغلة رد على البائع: لم أقف على حجتهم، وقد قال ابن عبد البر: "أما ... عثمان البتي وعبيد الله بن الحسن فقد جهلوا السنة المأثورة من نقل أهل المدينة في أن الخراج بالضمان، والغلة بالضمان، وقالوا بالرأي على غير سنة" (¬5). فإن كان رأيهم مبنيًا على أن الرد بالعيب فسخ للعقد من أصله، وكأن المبيع لم ينتقل عن ملك البائع، فإن هذا غير مسوغ لهذا القول، وذلك أن يد المشتري كانت يدًا ضامنة، والغنم بالغرم، والخراج بالضمان فليس القول بأن الرد فسخ للعقد من أصله يجعل الغلة من حق البائع، والله أعلم. ¬
المطلب الثاني الزيادة المنفصلة إذا كانت من عين المبيع
المطلب الثاني الزيادة المنفصلة إذا كانت من عين المبيع إذا اشترى الرجل دابة، وبعد قبضها ولدت، ثم وقف على عيب فيها، أو اشترى شجرة، فأثمرت عنده، فوقف على عيب فيها، فهل هذه الزيادة تمنع من ردها؟ اختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال: القول الأول: تمنع من الرد ما دام أن الزيادة حدثت بعد قبض السلعة، وهذا مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: لا تمنع ممن الرد، وهذا مذهب الجمهور على خلاف بينهم لمن تكون هذا الزيادة: القول الثالث: إن كانت النماء من قبيل الثمار، فالثمار للمشتري، وإن كان من قبيل الولد فهو يرد مع أمه للبائع، وهذا مذهب المالكية (¬2). ¬
القول الرابع
القول الرابع: الزيادة للمشتري من غير فرق بين الثمرة والولد، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). القول الخامس: الزيادة تكون للبائع، وهو ظاهر قول عثمان البتي، وعبيد الله ابن الحسن (¬3) , ورواية عن أحمد (¬4). دليل من قال: الزيادة تمنع الرد: استدل الحنفية لمنع الرد بأن القول بالرد يتضمن محظورين؛ لأنها إما أن ترد مع الأصل، أو يرد الأصل بدونها: فإن ردت مع الأصل ترتب على ذلك إعطاء ربح ما لم يضمن، وهو منهي عنه (¬5). وإن رد الأصل بدونها لزم منه الربا: لأن المشتري يكون أخذ الزيادة بدون مقابل، وذلك هو عين الربا، وما دام أن الفسخ يترتب عليه هذان المحظوران، فإننا نقول: يمتنع الرد، ويتعين الأرش، حتى لا يذهب حق المشتري (¬6). ¬
ويناقش
ويناقش: بأن المشتري إذا أخذ الزيادة لم يكن ذلك بلا مقابل، بل أخذ ذلك مقابل الضمان، ولذلك لم يعتبر الحنفية الغلة الحاصلة من كسب العبد إذا أخذها المشتري بأنها من قبيل الربا، مع أنها زيادة حاصلة من عين المبيع. دليل المالكية في التفريق بين ثمرة الشجرة وبين الولد: أما الدليل على أن ثمرة الشجرة تكون للمشتري، فهو حديث الخراج بالضمان (¬1). وأما الدليل على أن الولد يكون للبائع، فإن الولد لا يعتبر خراجًا للمبيع، وإنما هو جزء منه، بمنزلة العضو منه. ولأن العقد إذا انفسخ، ورجع الملك إلى صاحبه، فالملك قد سرى إلى الأولاد، والرد بالعيب إنما هو فسخ للعقد من أصله، لا من حين الرد، فيرجع الملك بما أسري إليه، واتصل به. ويناقش: بأن التفريق بين الثمرة والولد تفريق ضعيف، فكلاهما نماء للمبيع، وأما الاستدلال بأن الرد بالعيب فسخ للعقد من أصله، فهذه مسألة خلافية، وقد سبق بحثها، وعلى التسليم بذلك فإن الثمرة والولد لم يقع عليهما عقد البيع، لا عند العقد، ولا عند القبض، فلم يكونا جزءًا من الصفقة حتى يكونا جزءًا من المبيع. دليل من قال: الزيادة للمشتري: (ح-445) استدل بما رواه أحمد من طريق ابن أبي ذئب، قال: حدثني مخلد ¬
وجه الاستدلال
ابن خفاف بن إيماء، عن عروة عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الخراج بالضمان (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). وجه الاستدلال: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: الخراج بالضمان يشمل كل خارج من السلعة، سواء كان هذا الخارج من عين المبيع، أو من غيره، ومن فرق فعليه الدليل، ولا دليل. الراجح: بعد استعراض الأقوال والأدلة أجد أن قول الشافعية والحنابلة متفق مع النصوص الشرعية القاضية بأن الخراج بالضمان، وإذا كانت الغلة بالإجماع هي من حق المشتري, فإنه لا فرق بين الغلة وبين الولد إلا أن يكون الولد مما وقع عليه البيع كما لو كان المبيع حاملًا وقت العقد، فهذه مسألة أخرى، أما إذا حصل الحمل عند المشتري، فولدت عنده، فهو له؛ لأن ضمان المبيع عليه، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث تغير المبيع بالنقص
الفرع الثالث تغير المبيع بالنقص نقص المبيع تارة يكون بإخراج بعضه بالبيع، أو بالوقف أو الهبة ونحوها، فهل خروج بعض المبيع من ملك المشتري مانع من رد الباقي المعيب؟ هذه المسألة سوف يأتي بحثها إن شاء الله تعالى في مبحث مستقل، ولكننا في هذا المبحث نعني بالنقص فقط ما يلحق المبيع من نقص عينه، إما بسبب لا بد منه للوقوف على عيب المبيع، وذلك نحو حلب الشاة المصراة، وكسر ما مأكوله في جوفه، وإما بسبب سوء استخدام المشتري للمبيع، فهل مثل هذا النقص يمنع من رد السلعة المعيبة، هذا ما سوف نتطرق إليه إن شاء الله تعالى في المباحث التالية.
المسألة الأولى أن يحون النقص بسبب لا بد منه للوقوف على عيب المبيع
المسألة الأولى أن يحون النقص بسبب لا بد منه للوقوف على عيب المبيع المطلب الأول إسقاط الرد بحلب المصراة [م - 551] اختلف العلماء في حلب الشاة المصراة هل يعتبر ذلك مانعًا من رد السلعة المعيبة؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: إذا حلب الشاة المصراة فليس له ردها مطلقًا، لا بسبب التصرية، ولا بغيره من العيوب، ويرجع بنقصان عيب قديم غير التصرية. وهذا مذهب أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، وقول قديم لأبي يوسف (¬1). القول الثاني: حلب المصراة لا يمنع من الرد إلا إذا زاد ذلك عن المدة المقدرة شرعًا، ¬
دليل الحنفية على أن حلب المصراة يمنع رد المبيع
وهي ثلاثة أيام، فإذا حلبها أكثر من ثلاثة أيام فإن ذلك منه يكون رضا بالمبيع، ويمنع من الرد، وهذا هو قول الجمهور (¬1)، وبه أخذ زفر وابن أبي ليلى والقول الجديد لأبي يوسف (¬2). دليل الحنفية على أن حلب المصراة يمنع رد المبيع: أما استدلالهم على أن حلب المصراة مانع من رد السلعة بأي عيب ظهر للمشتري، فهو مبني على أن لبن المصراة جزء من المبيع، فاستيفاؤه استيفاء جزء من المبيع، فأخذه يفوت على صاحبه حق الرد. لأنه نقص في عين المبيع حدث عند المشتري، كما أن الحلب دليل على الرضا بالمبيع. وأجيب: بأن التصرية غش وخداع لا يمكن معرفته والوقوف عليه إلا بالحلب، فكيف يكون الحلب دليلًا على الرضا بالمبيع؟! وأما استدلالهم على أن التصرية ليست عيبًا: فقولهم هذا مبني على أساس أن حقيقة العيب ما انعدمت معه صفة السلامة وقلة اللبن لا تنعدم معه صفة السلامة؛ لأن اللبن ثمرة، وبانعدام الثمرة لا تنعدم ¬
السلامة. وإذا ثبتت صفة السلامة انتفى العيب، وما دام أنه ليس بعيب فإن التدليس به لا يثبت الخيار (¬1). ولأن اشتراط غزارة اللبن مفسد للبيع، كشرط الحمل، فإذا كان لا يمكن اشتراطه لم يكن فقده نقصًا في المبيع (¬2). وبأن المشتري مغتر، وليس بمغرر، فهو كما لو علفها، فانتفخت بطنها، وظن المشتري أنها حامل لم يثبت له الخيار فكذلك هنا، وقد كان يمكنه أن يسأل البائع عن لبنها، أو يشترط عدم التصرية، فحين لم يفعل كان ذلك دليلًا على رضاه بعيبها، وبالتالي فهو ليس مغرورًا من قبل البائع، وإنما هو الذي غر نفسه (¬3). ولأن المبيع إذا اختلط بمال المشتري، وزاد زيادة متصلة فإن ذلك يمنع من رد السلعة، فاللبن الذي أخذه المشتري قد كان بعضه في ضرعها وقت وقوع البيع، فهو جزء من المبيع، وبعضه حدث في ضرعها في ملك المشتري بعد وقوع البيع عليها فهو من ملك المشتري، وقد اختلط هذا بهذا, ولم يعرف مقدار واحد منهما، فيفوت الفسخ في المبيع كما لو تصرف في المبيع المعيب بعد قبضه (¬4). وسوف يأتي إن شاء الله تعالى مناقشة مجموع هذه الأدلة واحدًا واحدًا في باب خيار التدليس، فانظره هناك مشكورًا. ¬
دليل الجمهور على أن حلب المصراة لا يمنع من رد السلعة
دليل الجمهور على أن حلب المصراة لا يمنع من رد السلعة: الدليل الأول: (ح-446) ما رواه البخاري من طريق جعفر بن ربيعة، عن الأعرج قال أبو هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاع تمر (¬1). الدليل الثاني: (ح-447) ما رواه مسلم من طريق سهيل، عن أبيه عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ابتاع شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها، ورد معها صاعًا من تمر (¬2). ورواه مسلم أيضًا من طريق قرة، عن محمَّد، عن أبي هريرة إلا أنه قال: ورد معها صاعًا من طعام لا سمراء. فيوخذ من مجموع اللفظين: ثبوت النهي عن التصرية، وأن المشتري بالخيار حتى بعد الحلب، وأن عليه إن حلبها أن يرد معها صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر، وأن مدة الحلب التي لا تمنع من الرد إلى ثلاثة أيام، فإن حلب بعد الثلاث كان ذلك دليلًا على رضاه بالمصراة، وقد ادعى الحنفية في رد حديث أبي هريرة دعاوى كثيرة كلها لا تقف في مواجهة الحديث الثابت الصحيح، منها ما لا ينبغي ذكره، كالكلام الذي يطال شخص أبي هريرة - رضي الله عنه -، فإن مثل هذا لا يقدر الباحث على ذكره تعاظمًا له واستقباحًا، فيرى بدلا من الجواب عليه تجاهله لافتقاره إلى الموضوعية ¬
والإنصاف، وأسأل الله أن يغفر لهم ما وقعوا فيه من التعصب الذي أوقعهم في النيل من صحابي جليل كرس حياته لحفظ العلم، وروايته. ومنها ما يمكن مناقشته والجواب عنه، وسوف نأتي على ذكره إن شاء الله مفصلاً في خيار التدليس، نسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
المطلب الثاني نقص المبيع بكسر ما مأكوله في جوفه
المطلب الثاني نقص المبيع بكسر ما مأكوله في جوفه [م - 552] إذا اشترى إنسان ما مأكوله في جوفه كالبطيخ والرمان، والبيض فوجده فاسدًا: فإن كان فاسده لا قيمة له فإن للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن كله؛ لأن هذا تبين به فساد العقد من أصله؛ لأنه بيع ما ليس بمال، وبيع ما ليس بمال لا ينعقد، ولأن من شروط البيع أن يكون المبيع مشتملاً على منفعة دينية أو دنيوية، وبيع ما لا نفع فيه باطل. وهذا قول جمهور الفقهاء (¬1). وذهب المالكية في المشهور إلى أن ما لا يمكن الاطلاع على عيبه إلا بتغير في ذات المبيع كسوس الخشب، والجوز واللوز، والبطيخ والمر من القثاء فإنه لا يكون عيبًا, ولا قيمة للمشتري على البائع في نظير ذلك إلا أن يشترط الرد لفظًا أو عرفًا، فيعمل به؛ لأنه شرط فيه غرض، ومالية (¬2)، وهذا القول هو رواية في مذهب الحنابلة (¬3). ¬
وجه قول المالكية
وجه قول المالكية: أن البائع لم يجر منه تفريط ولا تدليس، لعدم معرفته بعيبه، وكونه لا يمكنه الوقوف عليه إلا بكسره يجري مجرى البراءة من العيوب. الراجح: ما ذهب إليه الجمهور، وكون البائع لا يعلم بالعيب فهذا يرفع عنه الإثم، ولكن بم يأخذ مال أخيه بغير حق، وقد باع عليه ما ليس بمتقوم، ولا يعتبر مالاً؟ والله أعلم.
المسألة الثانية أن يكون نقص المبيع بسبب سوء استخدام المشتري
المسألة الثانية أن يكون نقص المبيع بسبب سوء استخدام المشتري [م - 553] إذا كان المشتري قد اشترى سلعة معيبة لم يعلم عيبها، وقبل أن يردها حدث فيها عيب جديد من قبله، فهل يمنع حدوث هذا العيب من رد السلعة بالعيب القديم؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: ليس له الرد، وله أرش العيب القديم. وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والقول الجديد للشافعي (¬2)، ورواية عن الإمام أحمد (¬3)، اختارها ابن تيمية (¬4). القول الثاني: يخير المشتري بين الرد وإعطاء البائع ثمن العيب الحادث، وبين الإمساك وأخذ الأرش من البائع. ¬
القول الثالث
وهذا مذهب المالكية (¬1)، ورواية عن الإِمام أحمد (¬2)، وهو قول إسحاق (¬3). إلا أن المالكية والحنابلة فرقوا بين المدلس وغيره فإن كان البائع قد دلس العيب فإن للمشتري أن يرد المبيع بذلك العيب، ولا يلزمه أرش العيب الحادث، وله أن يمسك المبيع دون أخذ أرش العيب القديم (¬4). القول الثالث: للمشتري الإمساك بلا أرش، أو رد السلعة مع دفع أرش العيب الذي حدث ¬
تعليل من قال ليس له الرد، وله أخذ الأرش
عنده، وهو قول الثوري، وحكاه عن الشافعي في القديم (¬1). هذا ملخص الأقوال في هذه المسألة: تعليل من قال ليس له الرد، وله أخذ الأرش: التعليل الأول: الرد إنما ثبت حقًا للمشتري لإزالة الضرر، وفي الرد هنا إضرار بالبائع، والضرر الخاص لا يزال بالضرر الخاص فتضرر المشتري بالعيب القديم لا يدفع بالإضرار بالبائع بالعيب الجديد، فتعين الرجوع بالنقصان، وهو الأرش. فكل عيب يوجب الرد على البائع يمنع الرد إذا حدث عند المشتري، ومالا فلا، وما لا يرد به على البائع لا يمنع الرد إذا حدث عند المشتري. ويمكن مناقشة هذا التعليل: أن مراعاة حق المشتري أولى من مراعاة حق البائع، وذلك أن البائع ربما كان مفرطًا في عدم اطلاع المشتري على عيب سلعته، ولأن حق المشتري بالرد ثابت قبل حدوث العيب عند المشتري، ولأن الرد فيه جبر لضرر البائع والمشتري، ففيه جبر لضرر البائع بالأرش، وفيه جبر لضرر المشتري بالرد. التعليل الثاني: أن من شرط الرد بقاء المبيع على حاله؛ لأن من حق البائع أن يقول: هذه ليست سلعتي التي أقبضتك. فإذا تغير المبيع سقط حق الرد، وبقي حق الرجوع بالنقصان، وهو الأرش. ¬
ويناقش هذا الاستدلال
ويناقش هذا الاستدلال: بأن القول أن من شرط الرد بقاء المبيع على حاله، إن كان هذا الشرط متفقًا عليه فهو حجة، وإن كان مختلفًا فيه كما هو الواقع فهو استدلال بمحل النزاع، فلا يكون حجة. وإذا رد المشتري السلعة بالعيب، ورد معها قيمة ما حدث عنده من العيب فكأنه رده بحاله؛ لأنه قد أخذ أرش النقص بالعيب الحادث عند المشتري. التعليل الثالث: أن حق المشتري لن يضيع سدى؛ لكون البائع سيدفع أرش العيب القديم. ويناقش: قد يكون غرض المشتري سلامة المبيع من هذا النقص، فوجود العيب في المبيع قد يفوت عليه غرضا مشروعًا في المبيع، فإلزامه إمساك سلعة معيبة لم يقصدها بالعقد من الإكراه غير المشروع. دليل من قال: إن رد المشتري دفع الأرش، وإن أمسك أخذ الأرش: الدليل الأول: (ح-448) ما رواه البخاري من طريق جعفر بن ربيعة، عن الأعرج قال أبو هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاع تمر (¬1). وجه الاستدلال: أن لبن المصراة جزء من المبيع، ومع إتلاف المشتري لم يمنع ذلك من الرد، ¬
ويناقش
وصار مخيرًا بين أن يمسك الشاة، وبين أن يردها ويدفع صاعاً من تمر قيمة لما أتلف. ويناقش: بأن حديث المصراة وإن كان قد أعطى المشتري حق الرد، إلا أنه لم يعطه مع الإمساك حق أخذ الأرش، فهو دليل للقول الثالث، وليس دليلاً لهذا القول؛ لأن الحديث خير المشتري بين الإمساك بلا أرش، أو رد السلعة وضمان ما أتلف من لبنها، والله أعلم، وقد اعترض الحنفية على هذا الحديث بعدة اعتراضات ذكرناها، وأجبنا عليها في المسألة السابقة. الدليل الثاني: (ث-89) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق أيوب، عن ابن سيرين عن عثمان، أنه قضى في الثوب يشتريه الرجل، وبه عوار (¬1) أنه يرده إذا كان قد لبسه (¬2). [ضعيف] (¬3). وجه الدلالة: في هذا الأثر عن عثمان - رضي الله عنه - أنه أجاز الرد مع نقصان المبيع، فدل على أن نقصان المبيع لا يمنع من الرد. دليل من قال له الإمساك بلا أرش، أو رد السلعة مع دفع الأرش: إذا كنا رجحنا في السلعة يشتريها الرجل، فيقف على عيب فيها أنه غير بين ¬
ويتعقب
الإمساك بلا أرش، أو الرد، فينبغي أن نستصحب هذا الحكم فيما لو اختار الإمساك، فإذا قلنا: بأنه لا حق له في أخذ الأرش إذا كان المشتري قد حافظ على المبيع، فينبغي ألا يكون له حق في أخذ الأرش إذا لم يحافظ على المبيع من باب أولى، أما إذا اختار الرد فإن عليه دفع ما لحق في السلعة من نقص؛ لأن العيب حدث في زمن كانت السلعة في ضمانه، فيغرم النقص من باب ضمان الإتلاف، كما يضمن ذلك أي شخص يتلف مال غيره، وليست يده يد أمانة حتى يعفى من الضمان، وكما لو أحدث العيب البائع بعد قبض المشتري فإنه يضمن ما أحدث في السلعة من نقص. قال ابن رشد: "قد أجمعوا على أنه إذا لم يحدث بالمبيع عيب عند المشتري فليس له إلا الرد، فوجب استصحاب حال هذا الحكم وإن حدث عند المشتري عيب مع إعطائه قيمة المعيب الذي حدث عنده" (¬1). ويتعقب: بأن هذا الكلام جيد إلا أنهم في الحقيقة لم يجمعوا على أنه إذا لم يحدث عيب عند المشتري فليس له إلا الرد فالحنابلة يرون كما سبق أن له الإمساك مع أخذ الأرش، نعم القول بالرد بدون أرش هو القول الراجح كما قدمنا, ولم تكن المسألة من مسائل الإجماع. الراجح من الخلاف: أرى أن القول بأن المشتري مخير بين الإمساك بلا أخذ الأرش، وبين رد السلعة وضمان ما ألحقه فيها من تلف هو القول الراجح؛ لأنه متسق مع القواعد الفقهية، وحديث المصراة دليل قوي له؛ لأن المشتري قد خيره الشارع بين ¬
الإمساك بدون أخذ الأرش، أو رد السلعة ودفع قيمة ما أتلف من لبنها، وقد قدره الشارع صاعًا من تمر، وتدليس البائع لا يعني عدم حرمة ماله، فالتصرية حرام، وقد حكي الإجماع على التحريم كما سبق ونقلته، ومع ذلك فإن المشتري يغرم قيمة ما أتلف من لبنها، والله أعلم.
المانع الثالث تلف المبيع عند المشتري
المانع الثالث تلف المبيع عند المشتري [م - 554] إذا اشترى الرجل السلعة، ثم وقف على عيب فيها، وقبل ردها تلفت عنده، سواء كان تلفها حسًا كالموت للدابة، والأكل للطعام، أو حكمًا كما لو أوقفها، أو وهبها، فهل يكون تلفها مانعًا من خيار الرد بالعيب؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: تلف المعقود عليه يسقط خيار العيب، ويمنع من الرد، وإلى هذا ذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والمشهور في مذهب الحنابلة (¬4). القول الثاني: تلف المعقود عليه لا يمنع من الرد، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬5). دليل الجمهور على أن تلف السلعة يمنع من الرد: أن رد الشيء يستلزم وجود العين المردودة، فإذا ذهبت العين فات الرد لفوات محله، وتعين الأرش. ¬
دليل من قال: هلاك المبيع لا يمنع من الرد
قال الكاساني: "ومنها -أي من الموانع التي تمنع الرد- هلاك المبيع؛ لفوات محل الرد" (¬1). دليل من قال: هلاك المبيع لا يمنع من الرد: إذا تعذر رد العين قامت القيمة مقام العين، كما أن ضمان المتلف إذا تعذر المثل، أو كان التالف قيميًا قامت القيمة مقام العين. الراجح من الخلاف: أن هلاك العين يمنع من الرد، ويتعين أخذ الأرش، لقوة تعليلهم، ولأن إقامة القيمة مقام العين قد لا يرضي البائع، وقد يتنازعان في مقدار القيمة، والله أعلم. ¬
المانع الرابع زوال العيب عند المشتري
المانع الرابع زوال العيب عند المشتري [م - 555] إذا وجد المشتري عيبًا قديمًا في السلعة، ثم زال هذا العيب: فإما أن يزول هذا العيب، والسلعة في يد البائع، وقبل أن يقبضها المشتري فإن البيع لازم للمشتري، ولا خيار له (¬1). لأن المطلوب سلامة المبيع من العيوب عند التسليم، وقد حصل. وإما أن يزول العيب بعد رد السلعة، وفسخ البيع، فإن زوال العيب أيضًا لا يؤثر على صحة الفسخ على الصحيح، فلا يكون البيع لازمًا للمشتري بعد فسخ العقد، خاصة إذا كان الفسخ بحكم قاض (¬2). قال ابن نجيم: "لو قضى بفسخ البيع بسبب العيب، ثم زال العيب، لا يعود البيع، وإن زال المقتضي للفسخ" (¬3). ولأن اتفاقهما على رد المبيع بحكم الإقالة، فإذا اتفقا على ذلك فقد ارتفع حكم العقد فلا يعود إلا برضاهما. وإما أن يزول العيب بعد المطالبة بالفسخ في زمن الخصومة، فهذا قد اختلف فيه الفقهاء: قال السرخسي: "وزوال العيب قبل الخصومة يسقط حق المشتري في الرد" (¬4). ¬
ومفهومه: أنه لو زال العيب بعد الخصومة لم يسقط حق المشتري في الرد، وهو اختيار أشهب من المالكية الذي أجاز الرد إذا زال العيب بعد المطالبة بالفسخ (¬1). واختار ابن القاسم من المالكية، والنووي من الشافعية بأن زوال العيب في زمن الخصام مانع من الرد. قال النووي: "لا فرق -يعني في كونه يمنع من الرد- بين أن يكون زوال العيب قبل العلم به، أو بعد العلم به، وقبل الرد، في مدة طلب الخصم والقاضي" (¬2). وجاء في الشرح الكبير: " (و) منع من الرد بالعيب (زواله) أي العيب، قبل الرد، سواء زال قبل القيام به، أو بعده، وقبل الحكم عند ابن القاسم" (¬3). قال الدسوقي في حاشيته تعليقًا: "قوله (أو بعده، وقبل الحكم) أي بأن زال في زمن الخصام، قوله (عند ابن القاسم) أي خلافا لأشهب القائل: إن زواله بعد القيام، وقبل الحكم بالرد لا يمنع من رده" (¬4). فإن زال العيب قبل المطالبة بالفسخ، كما لو اشترى دابة، فوجدها مريضة، ثم إن الدابة تعافت من ذلك المرض قبل أن يطلب فسخ البيع، فهل يبطل خيار الرد بذلك؟ ¬
في ذلك خلاف بين العلماء
في ذلك خلاف بين العلماء: القول الأول: أن زوال العيب يمنع من الرد، مطلقًا، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬4). واشترط الحنفية والمالكية بألا يبقى أثر للعيب؛ لأن بقاء أثر العيب عيب، والعيب سبب للرد فأثره كذلك. كما زاد المالكية شرطًا آخر: وهو ألا يكون الغالب عود العيب، فإن كان عوده غالبًا لم يمنع من الرد بالعيب. ¬
القول الثاني
القول الثاني: أن زوال العيب لا يسقط الخيار بعد ثبوته، وهذا أحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬1)، واختيار ابن حزم (¬2). وجه هذا القول: علل ذلك ابن حزم بقوله: "له الرد ... لأنه حين العقد وقع عليه غبن، فله ألا يرضى بالغبن إذا علمه، ولا يوجب سقوط ما له من الخيار ... قرآنٌ ولا سنةٌ، وبالله تعالى التوفيق" (¬3). ولأن العيب لما زال في ملك المشتري كان ذلك نعمة حدثت في ملكه، والخلاف الحاصل بالعيب قد قابله جزء من الثمن؛ لأنه إنما بذل الثمن في مقابلة سليم، ولم يحمل (¬4). ويناقش: بأن الخيار إذا كان قد ثبت لوقوع الغبن عليه، فإن الخيار يسقط بزوال الغبن، وقد زال، فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا. الراجح من أقوال أهل العلم: بعد استعراض الأدلة أجد أن قول الجمهور بأن زوال العيب قبل المطالبة بالفسخ يمنع من رد السلعة بالعيب بشرط ألا يبقى أثر للعيب، ولا يخشى عود ¬
العيب إلى السلعة؛ لأن كلًا منهما يعد عيبًا في السلعة، ومثله: لو أن المشتري حين علم بالعيب حدث عنده عيب جديد، وقلنا: إن حدوث عيب جديد عند المشتري يمنع من الرد، فإن العيب الحادث لو زال سريعًا رجع حق المشتري في رد السلعة، والله أعلم.
المانع الخامس العلم بالعيب بعد زوال الملك بالبيع
المانع الخامس العلم بالعيب بعد زوال الملك بالبيع [م - 556] إذا اشترى رجل سلعة معيبة، ثم باعها، أو وهبها، فإن كان وقت إخراجها من ملكه عالماً بالعيب فإنه لا خلاف بين العلماء أن ذلك من المشتري يعتبر قبولاً بعيب السلعة، وقد تكلمت في فصل سابق أن المشتري إذا رضي بالعيب، أو تصرف تصرف الملاك من بيع ونحوه أن ذلك مانع من رد السلعة. وأما إذا كان وقت إخراجها من ملكه لم يعلم بعيبها، فلا يخلو الأمر من ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يخرج المبيع من ملكه، ولا يعود إليه منه شيء. الحالة الثانية: أن يخرج المبيع من ملكه، ويعود كله إليه. الحالة الثالثة: أن يخرج المبيع من ملكه، ويعود بعضه إليه. وسوف نتكلم عن كل حالة على انفرد إن شاء الله تعالى، نسأل الله وحده، عونه وتوفيقه.
الحال الأولى أن يخرج المبيع من ملكه ولا يعود إليه منه شيء
الحال الأولى أن يخرج المبيع من ملكه ولا يعود إليه منه شيء [م - 557] اتفق الفقهاء على أن المشتري لو لم يعلم بالعيب إلا بعد خروجه من ملكه، أن ذلك مانع من الرد لعجزه عن رده، بسبب زوال ملكه عن المبيع. واختلفوا هل يستحق المشتري أن يأخذ أرش العيب من البائع؟ على قولين: القول الأول: لا يستحق الأرش، وهو قول أبي حنيفة (¬1)، ومالك (¬2)، والشافعي (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: للمشتري أن يرجع على البائع بأرش العيب، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1)، واختاره ابن سريج من الشافعية (¬2)، وابن حزم من الظاهرية (¬3). وجه قول الجمهور على أن المشتري لا ورجع على البائع بشيء: أن امتناع الرد لم يكن من قبل البائع، وإنما كان بفعل المشتري؛ لأنه بالبيع صار حابسًا للمبيع، فأشبه ما لو أتلف المبيع. ولأنه لم ييأس من الرد، فقد يرجع إليه المبيع فيرده على بائعه. ولا رجوع له بالنقصان: لأنه لولا تصرفه بالبيع لأمكن رد المبيع، وأخذ الثمن. ولأنه استدرك ظلامته ببيعه، فَغَبَن كما غُبِن، فلم يكن له أرش. وجه قول الحنابلة: استدل ابن قدامة للمذهب بقوله: "لأن البائع لم يوفه ما أوجبه له العقد، ولم يوجد منه الرضا به ناقصًا، فكان له الرجوع عليه، كما لو أعتقه. وقياس المذهب، أن له الأرش بكل حال، سواء باعه عالمًا بعيبه أو جاهلاً به؛ لأننا خيرناه ابتداء بين رده، وإمساكه وأخذ الأرش، فبيعه والتصرف فيه بمنزلة إمساكه؛ ولأن الأرش عوض الجزء الفائت من المبيع، فلم يسقط ببيعه، ولا رضاه، كما لو باعه عشرة أقفزة، وسلم إليه تسعة، فباعها المشتري. وقولهم: ¬
الراجح
إنه استدرك ظلامته لا يصح، فإن ظلامته من البائع، ولم يستدركها منه، وإنما ظلم المشتري، فلم يسقط حقه بذلك من الظالم له" (¬1). وعلل ابن حزم قوله بأن من غبن في بيعه فإنه يرجع بقيمة الغبن (¬2). الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال أجد أن القول الثاني أقوى؛ لأننا نوجب الرد حين تكون السلعة قائمة، فلا نلزم البائع بالأرش مع إمكان رجوع المشتري بالثمن على البائع، أما وقد تعذر ذلك، فإن المشتري يستحق ما أوجبه له العقد، وهو جبر النقص الحاصل بالمبيع، وذلك بأخذ الأرش، والله أعلم. ¬
الحال الثانية أن يخرج المبيع من ملكه ويعود كله إليه
الحال الثانية أن يخرج المبيع من ملكه ويعود كله إليه الفرع الأول أن يرجع المبيع بسبب جديد كالبيع والهبة اختلف الفقهاء فيما إذا اشترى رجل سلعة معيبة، ثم خرجت من ملكه ببيع ونحوه غير عالم بالعيب، ثم رجع إليه المبيع كاملاً بسبب جديد كالبيع والهبة ونحوهما، فهل يملك رد السلعة إلى البائع بذلك العيب؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ليس له أن يرده إلى بائعه الأول، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، وإحدى الوجهين في مذهب الشافعية (¬2). القول الثاني: له أن يرد السلعة إلى بائعها الأول، وهذا مذهب المالكية (¬3)، والوجه الثاني في مذهب الشافعية (¬4)، والمذهب عند الحنابلة (¬5). ¬
تعليل قول الحنفية ومن معهم
تعليل قول الحنفية ومن معهم: التعليل الأول للحنفية: أن المبيع وإن عاد إلى المشتري إلا أنه عاد إليه بسبب جديد كالبيع والإرث، فكأن ملكه للمبيع مبتدأ، لا علاقة له بالبيع السابق، وصار كأنه لم يملكه من قبل، بخلاف ما لو عاد إليه عن طريق القضاء فإنه يعتبر فسخًا للبيع الثاني، فكأن البيع الثاني لم يكن، فصار من حقه إذا رجع إليه عن طريق حكم القاضي أن يرده إلى البائع. التعليل الثاني لبعض الشافعية: أن رد المبيع إنما كان لاستدراك مظلمته من أجل الغبن الذي وقع عليه، فإذا غبن المشتري غيره ببيعه عليه فقد استدرك مظلمته، فإذا رجع إليه بعقد أو بسبب جديدين لم يكن له حق الرد، وذلك أنه قد استدرك مظلمته، بينما لو عاد إليه عن طريق فسخ البيع الثاني بقيت مظلمته، فجاز له رده. وجه قول المالكية ومن معهم: أن المانع من الرد هو تعذر رده بزوال ملكه عنه، فإذا عاد إليه بأي سبب من الأسباب فقد تمكن من الرد، فكان ذلك من حقه أن يرده على بائعه الأول. الراجح من القولين: إذا نظرنا إلى سبب الاختلاف، رأينا أن من قال: لا يملك رده إذا عاد إليه بسبب جديد أنه نظر إلى أن المانع من الرد: هو استدراك مظلمته ببيعه بعيبه، فإن كان قد غبن علي البناء للمجهول، فقد غبن هو غيره، ومن قال: يملك رده نظر إلى أن المانع من الرد: هو تعذر الرد بزوال الملك، فإذا تمكل من الرد فله
ذلك، وأرى أن هذا التعليل أقوى من التعليل السابق، فإن استدراك مظلمته لم يكن عن طريق البائع الأول حتى يتعذر الرد، وهو معذور عند بيعه دون أن يطلع المشتري الثاني على العيب لكونه لم يعلم بالعيب، والله أعلم.
الفرع الثاني أن يرجع المبيع بسبب فسخ العقد
الفرع الثاني أن يرجع المبيع بسبب فسخ العقد [م - 558] إذا اشترى رجل سلعة معيبة، ولم يعلم بعيبها حتى باعها، ثم رجعت إليه السلعة، فإن رجعت إليه قبل أن يقبض المشتري الثاني المبيع فلا خلاف في أن له أن يرد السلعة إلى بائعها الأول. قال الكاساني: "لو باعه المشتري، ثم رد عليه بعيب، فإن كان قبل القبض له أن يرده على بائعه، سواء كان الرد بقضاء القاضي، أو بالتراضي بالإجماع" (¬1). وإن رجعت إليه ببيع جديد، أو إرث، أو هبة، فقد سبق الكلام على ذلك في الفصل السابق. [م - 559] وإن رجعت إليه عن طريق القضاء، كما لو حكم القاضي بفسخ العقد، فلا خلاف بين الفقهاء أن للمشتري أن يرد السلعة إلى البائع الأول؛ لأن القاضي قد حكم بفسخ العقد، وإذا فسخ العقد صار كأن لم يكن. قال الكاساني: "وإن كان - أي رد المشتري الثاني للسلعة المعيبة - بعد القبض، فإن كان بقضاء القاضي له أن يرده على بائعه بلا خلاف" (¬2). [م - 560] وإن رجعت عن طريق التراضي بين المتعاقدين، فقد اختلف العلماء، هل للمشتري أن يرد السلعة إلى البائع الأول أو ليس له ذلك؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: ¬
القول الأول
القول الأول: ليس له الرد، وهذا مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: له الرد، وهذا مذهب الجمهور من المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وجه قول الحنفية: أن الرد إذا كان عن طريق التراضي فهو بمنزلة الإقالة، والإقالة في حق البائع الأول بمنزلة بيع مبتدأ، وإن كانت فسخًا في حقهما (¬5). قال الكاساني: "القبول بغير قضاء فسخ في حق العاقدين، بيع جديد في حق غيرهما، فصار كما لو عاد إليه بشراء، ولو اشتراه لم يملك الرد على بائعه كذا هذا، والدليل على أن القبول بغير قضاء بيع جديد في حق غير العاقدين: أن معنى البيع موجود فكان شبهة الشراء قائمة، فكان الرد عند التراضي بيعًا لوجود معنى البيع فيه، إلا أنه أعطي له حكم الفسخ في حق العاقدين، فبقي بيعًا جديدًا في حق غيرهما، بمنزلة الشراء المبتدأ، ولهذا يثبت للشفيع حق الشفعة، وحق ¬
ويجاب
الشفعة إنما يثبت بالبيع بخلاف الرد بقضاء القاضي؛ لأنه لم يوجد فيه معنى البيع أصلا؛ لانعدام التراضي فكان فسخًا، والفسخ رفع العقد من الأصل، وجعله كأن لم يكن، ولهذا لم يثبت للشفيع حق الشفعة" (¬1). ويجاب: بأننا لا نسلم بأن المبيع إذا عاد عن طريق التراضي يكون بيعًا، بل هو فسخ للعقد بتراضيهما، وعلى التنزل فإننا لا نسلم أن المبيع إذا عاد بالبيع ونحوه أن المشتري لا يملك رد المبيع على البائع الأول، وقد ناقشنا ذلك في المسألة السابقة، وذكرنا أن المانع من الرد هو تعذر الرد، فإذا تمكن من الرد برجوع المبيع إليه بأي سبب كان، فله أن يرفع الظلم عن نفسه، والله أعلم. وجه قول الجمهور: أن المانع من الرد هو تعذر رده بزوال ملكه عنه، فإذا عاد إليه بأي سبب من الأسباب فقد تمكن من الرد، فكان ذلك من حقه أن يرده على بائعه الأول. الراجح: الذي أميل إليه هو قول الجمهور، بأن المبيع إذا عاد إلى البائع الأول، ولم يتغير، فإن له رده على صاحبه، والرجوع بالثمن، والله أعلم. ¬
الحال الثالثة أن يخرج بعض المبيع من ملك المشتري ويبقى بعضه
الحال الثالثة أن يخرج بعض المبيع من ملك المشتري ويبقى بعضه [م - 561] إذا اشترى رجل سلعة معيبة لم يعلم بعيبها، حتى خرج بعضها من ملكه، ثم علم بعد ذلك، فهل خروج بعض المبيع من ملكه مانع من رد السلعة، أو له أن يرد بعض السلعة المعيبة؟ وللجواب على ذلك يقال: إن كان لا يلحق البائع ضرر في تفريق الصفقة عليه، ولا ينقص ذلك من ثمن المبيع، فإن له أن يرد الجزء المعيب من السلعة، كما لو اشترى رجل شاتين، وكانت قيمتهما سواء، فوجد في أحدهما عيبًا، كان له رد ما وجد معيبًا بحصته؛ لأنه لا ضرر على المشتري حينئذ في تفريق الصفقة، وهذا قول الحنقية، وأحد القولين في مذهب الشافعية، ورواية في مذهب الحنابلة رجحها ابن قدامة (¬1). واشترط الحنفية أن يكون تفريق الصفقة بعد تمام القبض، فلو قبض بعض المبيع، ثم وجد في بعضه عيبًا رده كله. ¬
القول الأول
واختار الشافعية المنع من تفريق الصفقة إن كان الباقي باقيًا في ملكه، والمنع كذلك من تفريق الصفقة في أصح القولين إن كان الباقي زائلاً عن ملكه. قال النووي: "وليس له رد بعضه إن كان الباقي باقيًا في ملكه، لما فيه من التشقيص على البائع ... وإن كان الباقي زائلاً عن ملكه، بأن عرف العيب بعد بيع بعض المبيع، ففي رد الباقي طريقان: أحدهما: على قولي تفريق الصفقة. وأصحهما: القطع بالمنع كما لو كان باقيًا في ملكه" (¬1). وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). [م - 562] وإن كان التفريق يلحق بالبائع ضررًا، كما لو كان المبيع مكيلاً أو موزونًا، فإنه إذا أمسك الجيد، ورد المعيب قد يلحق البائع ضرر من ذلك، فهل له أن يرد المعيب فقط؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ليس له الرد، وهذا مذهب الحنفية (¬3)، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬4)، وقول في مذهب الحنابلة، ............... ¬
القول الثاني
رجحه ابن قدامة (¬1). القول الثاني: له الرد، وهو مذهب المالكية (¬2)، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة، اختاره الخرقي (¬4). واشترط المالكية ثلاثة شروط للرد: الأول: ألا يكون المعيب أكثر الصفقة، بأن ينوبه من الثمن أكثر من النصف، ولو يسيرًا، فإن كان المعيب أكثر الصفقة فإما أن يمسك الجميع، أو يرد الجميع؛ لأنه لا يجوز التمسك بالأقل إذا عيب الأكثر. الشرط الثاني: ألا يكون بعض المبيع لا يستغني عن الآخر إما حقيقة كالخفين، والنعلين، والمصراعين، أو حكمًا كالقرطين، والسوارين، فإذا كان المعيب أحد مزدوجين فليس له رد المعيب بحصته من الثمن، والتمسك بالسليم، ولو تراضيا على ذلك؛ لما في ذلك من الفساد الذي منع الشرع منه. الشرط الثالث: ألا يترتب على التفريق محذور شرعي، كما لو كان المعيب أُمًّا وولدها، فإذا وجد العيب بأحدهما، وجب ردهما معًا، أو التمسك بهما معًا (¬5). ¬
وجه قول من قال: ليس له حق الرد
وجه قول من قال: ليس له حق الرد: أن البائع يتضرر برجوع بعض المبيع إليه، وذلك أنه إذا أمسك الجيد، ورد المعيب فإن الرديء قد لا يجد من يشتريه؛ أو يشتريه بأقل من ثمنه؛ وهذا ضرر عليه، والضرر مرفوع في الشريعة، ولأن من عادة التجار أن الجيد يسوِّق الرديء، فإذا رد الرديء وحده حصل له من الضرر ما ذكرنا، والله أعلم. وجه قول من قال: له ود المعيب وحده: أن العيب قد اختص بأحدهما، فجاز أن يفرده بالرد. ولأن خيار العيب إنما شرع لاستدراك الضرر الذي قد يحصل للمشتري من تعيب المبيع، فإذا قلنا: إن الرد يفوت على المشتري في هذه الحالة حصل له ضرر بذلك. الترجيح: بعد استعراض القولين، أجد أن القول بعدم الرد إذا ترتب على تفريق الصفقة ضرر على البائع هو الأقوى حجة، وذلك أن الضرر لا يمكن أن يزال بالضرر، وما يقال عن ضرر المشتري فإنه يمكن دفعه بتقدير الأرش، والله أعلم.
فرع إذا تعدد العاقد مع اتحاد الصفقة
فرع إذا تعدد العاقد مع اتحاد الصفقة [م - 563] إذا اشترى رجلان أو أكثر من واحد عينًا، فظهر بها عيب، فأراد أحدهم رد حصته، بينما أراد الآخر إمساك حصته، فهل اختلافهما يمنع من رد السلعة المعيبة على البائع؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: لا ينفرد أحدهما بالرد دون صاحبه، وهذا قول أبي حنيفة (¬1)، وأحد القولين في مذهب مالك (¬2)، والقول القديم للشافعي (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). القول الثاني: ينفرد المستحق بالرد دون صاحبه، وبهذا القول أخذ أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة، وابن أبي ليلى (¬5)، وهو الراجح في مذهب المالكية (¬6)، ¬
وجه قول من قال: لا ينفرد بالرد
وأظهر القولين في مذهب الشافعية (¬1)، والمذهب عند الحنابلة (¬2)، ورجحه ابن حزم (¬3). وجه قول من قال: لا ينفرد بالرد: أن المبيع خرج من ملك البائع دفعة واحدة، غير متشقص، فإذا رد أحدهما نصيبه رد المبيع ناقصًا، وتفريق الصفقة يلحق الضرر بالبائع، وحق الرد بالعيب إنما ثبت لهما على وجه لا يتضرر به البائع، وفي رد أحدهما نصيبه إضرار بالبائع، إذ المبيع خرج من ملكه غير متعيب بعيب الشركة، فلو رده أحدهما لرده معيبًا بها (¬4). ولأن خيار الرد بالعيب تصرف يحتاج فيه إلى الرأي، كالبيع، والخلع، ونحوهما، وكل ما هو كذلك إذا فوض إلى رجلين لا يستقل واحد منهما فيه، كالوكالة، فإنه إذا وكل رجلين بالبيع ونحوه لا يقدر أحدهما على التصرف بدون الآخر؛ لأن الموكل رضي برأيهما، لا رأي أحدهما. وجه قول من قال: له أن ينفرد بالرد: ثبوت خيار العيب لهما يعني ثبوته لكل واحد منهما؛ لأنه شرع لدفع الغبن، وكل واحد منهما محتاج إلى دفعه عن نفسه، فلو بطل هذا لإبطال الآخر خياره لم يحصل مقصوده، ويلحقه به ضرر. ¬
الراجح
ولأنه إذا رد أحدهما نصيبه فقد رد جميع ما ملك، وملكه مستقل عن ملك صاحبه، فصفقة كل واحد منهما غير صفقة الآخر. الراجح: الخلاف في المسألة مبني على القول بتفريق الصفقة، وتفريق الصفقة إذا كان في تفريقها ضرر على البائع، فإنه لا يدفع الضرر عن المشتري بارتكاب الضرر على البائع، خاصة أن ضرر المشتري يمكن دفعه بتقدير الأرش، وإذا لم يكن هناك ضرر في تفريق الصفقة، فالقول بأن لأحدهما أن ينفرد بالرد له قوة، والله أعلم.
الفصل الثاني خيار فوات الوصف أو الشرط
الفصل الثاني خيار فوات الوصف أو الشرط المبحث الأول تعريف خيار فوات الوصف أو الشرط خيار فوات الوصف أو الشرط يعتبر من خيار النقيصة وليس من خيار التروي. وقد قيل في تعريفه: هو حق الفسخ لتخلف شرط صحيح، أو وصف مرغوب فيه اشترطه العاقد في المعقود عليه. مثال فوات الشرط: أن يبيعه بشرط الأجل، أو الرهن، أو الكفيل. ومثال فوات الوصف: أن يشتري دابة بشرط أن تكون صغيرة، أو حصانًا بشرط أن يكون عربيًا، أو كلبًا بشرط أن يكون معلمًا. وقد ذكرت هذا الخيار بعد خيار العيب لوجود شبه بينهما، وإن كان فوات الوصف والشرط لا يعتبر عيبًا. ولكن لما كان العيب: هو نقص في المعقود عليه، وفوات ما التزم به بالشرط أو بالوصف في المعقود عليه يعتبر نقصًا في المعقود عليه، فكان بينهما شبه من هذه الناحية، أو يقال: إن وجود العيب هو من باب فوات صفة مشروطة في العقد دلالة، وهي صفة السلامة من العيب؛ لأن العقد المطلق يقتضي السلامة من العيب، ولهذا ثبت خيار الرد في فوات الشوط والصفة كما ثبت في خيار
العيب، بل إن ثبوت الخيار في فوات الشرط أو الصفة أولى منه في خيار العيب، ولذلك قال القرافي وهو يبين سبب خيار النقيصة: خيار "الشرط - يعني: فواته يوجب الخيار - وهو الأصل؛ لأنه تصريح، وما عداه -يعني من العيوب والتغرير- ملحق به، تنزيلاً للسان الحال منزلة لسان المقال" (¬1). وقال الغزالي فيما نقله السبكي عنه، قال: "الالتزام الشرطي هو الأصل، وما عداه -يعني من خيار العيب والتصرية- ملحق به" (¬2). والقول بخيار فوات الوصف أوسع من القول بخيار فوات الشرط؛ وذلك لأن هناك من المذاهب من ضيق الشروط في البيع، وتبنى نظرية النهي عن بيع وشرط، ولذلك عند بحث خيار فوات الشرط، نقول ونحن نستعرض رأي المذاهب الفقهية أن ذلك متصور فقط في شرط يكون اشتراطه مقبولاً لدى الفقهاء بالاتفاق كما لو اشترط الأجل، أو الرهن، أو الكفيل، ونحو ذلك من الشروط التي لا نزاع في اشتراطها لدى سائر الفقهاء، بخلاف الشروط المختلف فيها، فإننا لا نمثل لها هنا. ¬
المبحث الثاني شروط الوصف المعتبر اشتراطه
المبحث الثاني شروط الوصف المعتبر اشتراطه [م - 564] يشترط في الوصف الذي يعتبر فواته موجبًا للخيار شروط، منها: الشرط الأول: أن يكون المطلوب وجوده وصفًا، وقد عرفه ابن عابدين، بأن الوصف ما يدخل تحت المبيع بلا ذكر، كالجودة، وذلك لأن المشروط صفة محضة للمعقود عليه، أما لو كان ملكية عين أخرى، أو منفعة، ونحو ذلك مما هو ليس من قبيل الأوصاف، فليس من باب فوات الوصف، وإنما هو من باب الشروط، ولهذا التعليل ذهب الحنفية إلى فساد اشتراط كون الشاة حاملاً؛ لأن ذلك ليس بوصف، بل اشتراط مقدار من البيع مجهول، وضم المعلوم إلى المجهول يجعل الكل مجهولًا. وقد سبق لنا ذكر الخلاف في اشتراط الحمل في الدابة، فأغنى عن إعادته هنا. الشرط الثاني: أن يكون الوصف من الأوصاف المباحة في الشرع، فاشتراط وصف غير معتبر شرط لاغٍ، كما لو اشترط أن يكون الكبش نطاحًا، أو الديك صائلاً (¬1). الشرط الثالث: أن يكون الوصف منضبطًا، بحيث يمكن معرفته، والتحقق من وجوده إذا ¬
الشرط الرابع
وجد، والحكم بتخلفه إذا لم يوجد، فلا يصح أن يشترط في الديك أن يوقظه للصلاة، وهكذا كل وصف يكون في اشتراطه غرر، أو الوقوف عليه غير ممكن فاشتراطه يفسد البيع (¬1). الشرط الرابع: أن يشترط ما له فيه غرض صحيح، وله مالية يصح التزامها، فهذا يثبت الخيار بتخلفها بالاتفاق، فإن اشترط ما لا غرض فيه ولا مالية كما لو اشترط أن يكون مشوه الخلقة، لم يثبت له الخيار بفواته لعدم الفائدة. وإن اشترط ما فيه غرض، ولكن ليس له مالية، كالثيابة في الجارية، والكفر في العبد، فقولان في مذهب المالكية والشافعية، والصحيح أن فواته يوجب له الخيار؛ لأن الأصل في الشروط الصحة، فإذا التزم العاقد للآخر شرطاً له فيه غرض صحيح، وجب التزامه، كما لو قال: اشترطت أن تكون ثيبًا ليمين في ذمتي ألا أطأ بكرًا، أو قال: اشترطت كفره بقصد أن أزوجه أمة كافرة. وإن ظهر المبيع أعلى مما اشترط فلا خيار للمشتري، كما لو اشترط أن يكون العبد أميًا، فبان كاتبًا، إلا أن يتعلق بشرطه غرض متجه (¬2). ¬
المبحث الثالث مشروعية خيار فوات الوصف أو الشرط
المبحث الثالث مشروعية خيار فوات الوصف أو الشرط [م - 565] ذهب عامة الفقهاء إلى أن فوات الشرط الصحيح يجعل الخيار لصاحب الشرط، إن شاء أمضى البيع، وإن شاء فسخ. قال في الهداية: "فوات الشرط بمنزلة العيب" (¬1). وإذا كان فواته بمنزلة العيب أصبح يوجب فواته ما يوجبه وجود العيب من ثبوت الخيار لصاحبه. وقد نص الحنفية والشافعية والحنابلة على أن البائع لو اشترط على المشتري رهنًا، فامتتع المشتري، فإن البائع بالخيار إن شاء رضي بترك الرهن، وإن شاء فسخ البيع، ولا يجبر من شرط عليه ذلك القيام بما شرط لزوال الضرر بالفسخ (¬2). وقال المالكية: توقف السلعة حتى يقبض الرهن (¬3). وأما فوات الوصف المرغوب فإن الفقهاء كلهم متفقون على ثبوت الخيار إذا فات على صاحبه. قال ابن قدامة: "إذا اشترط المشتري في المبيع صفة مقصودة مما لا يعد فقده ¬
عيبًا صح اشتراطه، وصارت مستحقة، يثبت له خيار الفسخ عند عدمها، فمتى بأن خلاف ما اشترطه فله الخيار في السخ، والرجوع بالثمن، أو الرضا به، لا نعلم بينهم في هذا خلافًا؛ لأنه شرط وصفًا مرغوبًا فيه، فصار بالشرط مستحقًا" (¬1). قال ابن عابدين: "لو اشترى دابة، فوجدها كبيرة السن ليس له الرد، إلا إذا اشترط صغرها ... فله الرد؛ لفقد الوصف المرغوب" (¬2). وقال الكرابيسي: "فوت الصفة في المبيع يوجب خيارًا, ولا يوجب غرمًا" (¬3). وقال القرافي: "مهما شرط وصفًا يتعلق بفواته نقصان مالية ثبت الخيار بفواته" (¬4). وقال في نهاية الزين: "إذا شرط العاقد وصفًا مقصودًا، ككون العبد كاتبًا، وكون الأمة حاملاً، أو ذات لبن .. فيصح العقد مع ذلك الشرط؛ لأنه شرط يتعلق بمصلحة العقد، وهو العلم بصفات المبيع التي تختلف بها الأغراض، ويثبت لمشتر الخيار فورًا إذا لم يوجد الشرط الذي شرطه" (¬5). وأما النقل عن الحنابلة فقد سبق لنا أن نقلنا كلام ابن قدامة، وأن الفقهاء متفقون على أن من شرط وصفًا مرغوبًا فيه، فإن له الخيار متى بان خلاف ما اشتراطه. ¬
المبحث الرابع أحكام خيار فوات الشرط أو الصفة المقصودة
المبحث الرابع أحكام خيار فوات الشرط أو الصفة المقصودة لا تختلف أحكام الخيار في فوات الشرط أو الصفة عن أحكامه في خيار العيب، فما اتفقوا عليه هناك اتفقوا عليه هنا، وما اختلفوا فيه هناك اختلفوا فيه هنا. [م - 566] فقد أجمعوا على أن الخيار هنا يورث كما أجمعوا على ذلك في خيار العيب؛ لأن فوات الشرط أو الصفة يعني فوات جزء من المال مستحق للمشتري بالعقد، فإذا استحقه المشتري موصوفاً بذلك الوصف فالوارث يخلف المشتري في ملك ذلك الجزء الفائت (¬1). [م - 567] واختلفوا هل هذا الخيار على الفور، أو هو على التراخي كاختلافهم في خيار العيب (¬2). [م - 568] واختلفوا هل له أخذ الأرش مع الإمساك (¬3)، كاختلافهم في خيار العيب. ¬
وهكذا القول بسائر الأحكام فما يسقط به خيار العيب يسقط به خيار فوات الشرط أو الصفة. ولذلك قال في الهداية: "فوات الشرط بمنزلة العيب" (¬1). [م - 569] وإن كان هناك اختلاف فربما أن خيار العيب يثبت بلا اشتراط، وأما الشرط أو الصفة فلا يستحقهما المشتري إلا إذا كان هناك شرط، فإذا لم يكن هناك شرط لم يكن هناك خيار؛ لأن فوات الشرط أو الصفة لا يعتبر عيبًا، فيحتاج العاقد إلى اشتراطهما لوجوب استحقاقهما. ولذلك قال ابن عابدين: "لو كانت الدابة بطيئة السير لا ترد إلا إذا اشترط أنها عجول؛ لأن بطء السير ليس الغالب عدمه ... ولو اشترى دابة، فوجدها كبيرة ليس له الرد إلا إذا اشترط صغرها ... فله الرد لفقد الوصف المرغوب" (¬2). ¬
المبحث الخامس حد الفوت في الشرط أو الصفة
المبحث الخامس حد الفوت في الشرط أو الصفة [م - 570] يكفي أن يوجد من الصفة المذكورة ما ينطلق عليه الاسم، ولا يشترط النهاية فيها. فإذا اشترط أن يكون الكلب صائدًا، فوصف الصيد له مفهوم، وهو الاستجابة للدعوة إلى الانقضاض على الصيد والائتمار بأمر مرسله، بحيث يرجع إن استدعاه، وينطلق إذا أغراه، فمتى وجد هذا الوصف، ولو لم يكن بالصورة المثلى التي يندر معها إفلات الفريسة منه لم يكن له حق الرد (¬1). ¬
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد السابع
(ح) دبيان بن محمَّد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمَّد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة / دبيان محمَّد الدبيان - الرياض، 1432 هـ 512 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجموعة) ج 7 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ. العنوان ديوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (7)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، فهذا هو المجلد السابع من عقد البيع، وقد استكملت فيه مباحث خيار النقيصة، وتناولت في هذا المجلد خيار الغبن، وخيار التدليس، وخيار الخيانة في بيوع الأمانات، وخيار اختلاف المتعاقدين، وتعرضت من خلال هذا الخيار صور اختلاف المتعاقدين، ابتداء من الخلاف في أصل العقد إلى الاختلاف في جنسه، أو في لزومه، أو في صحته، أو الاختلاف في عين المبيع والثمن، أو في جنسهما أو في قدرهما، والاختلاف في أجل أو شرط، أو الاختلاف في البداءة بالتسليم إلى آخر صور اختلاف المتعاقدين، فلله الحمد والفضل. وقد انتظمت بحوث هذا المجلد في الخطة التالية: الفصل الثالث: خيار الغبن. المبحث الأول: تعريف الغبن. المبحث الثاني: حكم الغبن في البيع. المبحث الثالث: المعيار في تقدير الغبن. المبحث الرابع: البيوع المنهي عنها لارتباطها بالغبن. المبحث الخامس: خلاف العلماء في ثبوت خيار الغبن. المبحث السادس: الغبن في بيع المزايدة. المبحث السابع: ثبوت خيار الغبن في القسمة. المبحث الثامن: مسقطات خيار الغبن.
الفصل الرابع: خيار التدليس. المبحث الأول: في تعريف التدليس. المبحث الثاني: في الحكم التكليفي للتدليس. المبحث الثالث: الحكم الوضعي للتدليس. الفصل الخامس: خيار في البيع لظهور الخيانة في بيوع الأمانة. المبحث الأول: ظهور الخيانة في بيع المرابحة. الفرع الأول: ظهور الخيانة في صفة الثمن. الفرع الثاني: ظهور الخيانة في بيع المرابحة في قدر الثمن. المبحث الثاني: ظهور الخيانة في بيع التولية والشركة والوضعية. الباب الثالث: خيار لاختلاف المتبايعين. تمهيد. الفصل الأول: الاختلاف في عقد البيع. المبحث الأول: الاختلاف على أصل العقد. المبحث الثاني: الاختلاف في جنس العقد. المبحث الثالث: الاختلاف في صفة العقد. الفرع الأول: الاختلاف على لزوم العقد. الفرع الثاني: الاختلاف في شرط العقد كاشتراط الأجل. المطلب الأول: الخلاف في وجود الأجل. المطلب الثاني: إذا اتفقا على اشتراط الأجل واختلفا في قدره.
المطلب الثالث: إذا اختلفا في انتهاء الأجل. الفرع الثالث: الاختلاف في صحة العقد وفساده. الفصل الثاني: الاختلاف في المبيع. المبحث الأول: الاختلاف في تعيين المبيع. المبحث الثاني: الاختلاف في صفة المبيع. الفرع الأول: الاختلاف في اشتراط وصف في المبيع. الفرع الثاني: من الاختلاف في صفة المبيع الاختلاف في عيبه. المسألة الأولى: اختلاف المتبايعين في العلم بالعيب. المسألة الثانية: اختلاف المتبايعين في وقت حدوث العيب. فرع: صفة اليمين هل هي على البت أو على نفي العلم. المسألة الثالثة: اختلاف المتبايعين في عين السلعة المعيبة. المسألة الرابعة: الاختلاف في تغير المبيع بعد رؤيته. المبحث الثالث: الاختلاف في قدر المبيع. الفرع الأول: إذا اختلف المتبايعان في قدر المبيع. الفرع الثاني: إذا اختلف المتبايعان في قدر المبيع والمبيع تالف. المبحث الرابع: الاختلاف في قبض المبيع. المبحث الخامس: الاختلاف في البداءة بتسليم المبيع والثمن. الفرع الأول: أن يكون الثمن عينًا. الفرع الثاني: إذا اختلفا في التسليم وكان الثمن في الذمة.
المسألة الأولى: أن يكون الثمن مؤجلا. المسألة الثانية أن يكون الثمن حالاً. الفصل الثالث: الاختلاف في الثمن. المبحث الأول: الاختلاف في قدر الثمن. الفرع الأول: الاختلاف في قدر الثمن والسلعة قائمة. المسألة الأولى: من يبدأ بالحلف. المسألة الثانية: في صفة اليمين. المسألة الثالثة: إذا تحالفا فهل ينفسخ العقد أو يحتاج إلى فسخ القاضي. المسألة الرابعة: في نفاذ الفسخ ظاهرا وباطنًا. الفرع الثاني: الاختلاف في قدر الثمن والسلعة تالفة. الفرع الثالث: الاختلاف في قيمة السلعة الهالكة. الفرع الرابع: وقت اعتبار القيمة. في فسخ العقد وانفساخه. تمهيد: ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: في الشروط العامة للفسخ. المبحث الثاني: في موانع الفسخ. الباب الأول: في أسباب انفساخ العقد. الفصل الأول: انفساخ العقد لقيام المانع الشرعي. فرع: انفساخ البيع بسبب فساد العقد.
الفصل الثاني: انفساخ العقد بسبب فوات المحل المعقود عليه قبل القبض. المبحث الأول: هلاك المعقود عليه قبل القبض. الفرع الأول: هلاك المبيع بآفة سماويه. الفرع الثاني: هلاك المبيع بفعل البائع. الفرع الثالث: هلاك الثمن المعين قبل قبضه. المبحث الثالث: في انفساخ البيع بسبب الجوائح. المبحث الرابع: انفساخ العقد بسبب موت أحد العاقدين. المبحث الخامس: انفساخ العقد بسبب ظهور استحقاق في المبيع. الفرع الأول: انفساخ العقد عند استحقاق المبيع كله. الفرع الثاني: استحقاق بعض المبيع. المبحث السادس: في استحقاق الثمن. المبحث السابع: في انفساخ البيع بسبب كساد الثمن. المبحث الثامن: في انفساخ العقد بسبب اختلاط المبيع يغيره. المبحث التاسع: انفساخ العقد بسبب التعذر في تنفيذ العقد. الفرع الأول: عجز العاقد عن المضي في العقد. الفرع الثاني: تعذر التنفيذ بسبب فوات العين المستأجرة. الفرع الثالث: تعذر التنفيذ بسبب الإفلاس. المسألة الأولى: الإفلاس قبل قبض المفلس للمبيع. المسألة الثانية: الإفلاس بعد قبض المفلس للمبيع.
مطلب: في شروط الرجوع في عين مال البائع عند المفلس. الشرط الأول: أن لا يتعلق بالمبيع حق للغير. الشرط الثاني: في اشتراط كون المشتري لم ينقد من ثمنها شيء. الشرط الثالث: هل يشترط أن يكون المفلس حيًا. الشرط الرابع: أن تكون السلعة بحالها لم تتغير. المسألة الأولى: أن تتغير السلعة بتحويلها إلى عين أخرى. المسألة الثانية: أن تتغير السلعة بخلطها بعين أخرى. المسألة الثالثة: أن يتغير المبيع بحصول زيادة فيه. الباب الثاني: في الفسخ الاختياري للعقد. الفصل الأول: فسخ العقد بسبب فوات شرط من شروط البيع. المبحث الأول: فسخ العقد لفوات شرط الرضا. المبحث الثاني: فسخ العقد لفوات شرط الملك للمعقود عليه. الفرع الأول: فسخ عقد الفضولي لفوات الأذن بالتصرف. الفرع الثاني: فسخ عقد الصبي المميز لفوات الإذن بالتصرف. المبحث الثالث: فسخ العقد لفوات شرط العلم بالمعقود عليه. الفصل الثاني: فسخ البيع بسبب عدم لزوم العقد. المبحث الأول: فسخ العقد بسبب وجود خيار في العقد. المبحث الثاني: الفسخ بسبب كون العقد من العقود الجائزة. الفصل الثالث: فسخ البيع بسبب الاختلاف بين المتعاقدين.
الفصل الرابع: فسخ العقد بسبب ثبوت النهي عنه. المبحث الأول: فسخ العقد بسبب بيع الرجل على بيع أخيه. المبحث الثاني: فسخ العقد بسبب ببيع الحاضر للبادي. المبحث الثالث: فسخ العقد بسبب النجش. المبحث الرابع: فسخ العقد بسبب البيع بعد نداء الجمعة الثاني. الباب الثالث: انفساخ العقد بالإقالة. تمهيد: تعريف الإقالة. الفصل الأول: في مشروعية الإقالة. الفصل الثاني: في حقيقة الإقالة. المبحث الأول: ثمرة الخلاف في حقيقة الإقالة. المبحث الثاني: الإقالة هل هي رفع للعقد من أصله أو من حينه. المبحث الثالث: خيار المجلس في الإقالة. المبحث الرابع: البيع بلفظ الإقالة. المبحث الخامس: الإقالة قبل قبض المبيع. المبحث السادس: الأخذ بالشفعة. المبحث السابع: اشتراط العلم في المقال فيه. المبحث الثامن: الإقالة بعد نداء الجمعة الثاني. المبحث التاسع: الإقالة مع تعيب المبيع عند المشتري. المبحث العاشر: الإقالة مع تلف المبيع.
المبحث الحادي عشر: الإقالة بزيادة أو بنقص أو بغير جنس الثمن. المبحث الثاني عشر: الإقالة بعد أن نما المبيع. الفصل الثالث: في أركان الإقالة. الفصل الرابع: في شروط الإقالة. المبحث الأول: في الشروط المتفق عليها. الشرط الأول: رضا المتقالين. الشرط الثاني: اتحاد المجلس. المبحث الثاني: في شروط الإقالة المختلف فيها. الشرط الأول: اشتراط أن تكون الإقالة بمثل الثمن الأول. الشرط الثاني: اشتراط العلم بالمقال فيه، والقدرة على تسليمه. الفصل الخامس: في صيغ الإقالة. المبحث الأول: الصيغة القولية. الفرع الأول: الإقالة بغير لفظ الإقالة. الفرع الثاني: الإقالة بصيغة الماضي. الفرع الثالث: الإقالة بلفظ المضارع. الفرع الرابع: الإقالة بصيغة الأمر. المبحث الثاني: الإقالة بالصيغة الفعلية. الفصل السادس: في محل الإقالة. المبحث الأول: في العقود التي تقبل الإقالة.
المبحث الثاني: إذا تقايلا وقد تعلق في المبيع حق للغير. المبحث الثالث: في مؤنة الرد في الإقالة. المبحث الرابع: في الإقالة من الإقالة. وبهذا البحث أكون قد انتهيت من عقد البيع، فقد بدأت هذا العقد في تعريف البيع، ودراسة المال وبيان أنواعه باعتباره هو محل التعاقد، ثم درست شروط العاقدين، وشروط المعقود عليه، ثم تناولت الشروط الجعلية التي يشترطها أحد العاقدين، ثم لما استكملت الشروط أتيت إلى موانع البيع، فإن الشيء لا يتم إلا بتوفر شروطه، وانتفاء موانعه، ثم عرضت لأنواع الخيار التي قد تثبت في عقد البيع، سواء كان هذا الخيار يثبت بالعقد أو يثبت عن طريق الشرط، ثم تعرضت لأحكام اختلاف المتعاقدين التي قد تطرأ أثناء وبعد عقد العقد، فلما استجمع العقد أركانه وشروطه وانتفت موانعه ختمت هذه البحوث في أحكام فسخ العقد، سواء كان هذا انفساخًا أو كان فسخًا بإرادة المتعاقدين، وعرضت في أحكام الفسخ حكم الإقالة، وقد كان عقد البيع هو أطول عقود المعاوضات لأنه أسها التي تقوم عليه. وسوف أثني بعد عقد البيع بعقد السلم إن شاء الله تعالى؛ لأنه نوع من أنواع البيوع، وهو أولى من عقد الربا؛ لأن عقد الربا نفى الله عنه اسم البيع، فقال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
الفصل الثالث: خيار الغبن
الفصل الثالث: خيار الغبن المبحث الأول: تعريف الغبن يعتبر خيار الغبن من خيار النقيصة. وقد قيل في تعريف الغبن اصطلاحًا (¬1): بأنه "عبارة عن بيع السلعة بأكثر مما جرت العادة أن الناس لا يتغابنون بمثله، أو اشتراها كذلك" (¬2). وعرفه ابن ميارة الفاسي: "الغبن: هو أن يشتري بأكثر من القيمة بكثير، فيغبن المشتري، أو يبيع بأقل من القيمة بكثير، فيغبن البائع" (¬3). وعرفه الشافعية: الغبن الفاحش: وهو ما لا يحتمل غالبًا (¬4). ¬
المبحث الثاني حكم الغبن في البيع
المبحث الثاني حكم الغبن في البيع [م - 571] الغبن إما أن يكون يسيرًا، وإما أن يكون فاحشًا. فإن كان يسيرًا فلا يؤثر في صحة المعاملة؛ لأن معاملات المسلمين لا تخلو منه في الغالب؛ ولأن اليسير يتسامح فيه عادة. وإن كان فاحشًا فإن الغبن محرم؛ لأن فيه ظلمًا. قال ابن العربي: "الغبن في الدنيا ممنوع بإجماع في حكم الدنيا؛ إذ هو من باب الخداع المحرم شرعًا في كل ملة، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز منه لأحد، فمضى في البيوع؛ إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدًا؛ لأنه لا يخلو منه، حتى إذا كان كثيرًا أمكن الاحتراز منه، فوجب الرد به" (¬1). قال ابن هبيرة: "واتفقوا على أن الغبن في البيع بما لا يفحش لا يؤثر في صحته" (¬2). ومفهومه: أنه إن كان فاحشًا فإنه يؤثر في صحته. ¬
المبحث الثالث المعيار في تقدير الغبن
المبحث الثالث المعيار في تقدير الغبن كل ما لم يأت تقديره من الشرع فالمرجع فيه إلى العرف والعادة (¬1). ما كان ضرره يسيرًا, ولا يمكن التحرز منه تدخله المسامحة (¬2). [م - 572] اختلف الفقهاء في تحديد المعيار للغبن الفاحش إلى أقوال: القول الأول: الفاحش ما لا يدخل تحت تقويم المقومين، أو تقدير الخبراء العارفين بأسعار الأشياء السالمين من الغرض. وهذا مذهب الحنفية، قال في حاشية ابن عابدين: وهو الأصح (¬3)، وكذا قال ابن نجيم (¬4). فلو اشترى إنسان سلعة بمائة، ثم ادعي فيها الغبن، وعرضت السلعة على الخبراء، فقومها عدل بمائة وعشرة، وقومها عدل آخر بتسعين، وثالث بثمانين، فإن المائة قد دخلت تحت تقويم المتقومين فإن ما بين الثمانين إلى مائة وعشرة قد دخل تحت تقويم المتقومين. ولو كان تقويم المتقومين من السبعين إلى التسعين، وكانت السلعة بمائة لم تدخل تحت تقويم المتقومين، هذا معنى كلامهم (¬5). ¬
القول الثاني
واختارت مجلة الأحكام العدلية بأن الغبن الفاحش: ما كان على قدر نصف العشر في العروض، والعشر في الحيوانات، والخمس في العقار أو زيادة، وربع العشر في الدراهم (¬1). القول الثاني: الغبن الفاحش: ما خرج عن المعتاد (¬2). بأن يبيع السلعة بما لا يتغابن الناس بمثله في العادة أو يشتريها كذلك، وأما ما جرت به العادة فلا يعتبر غبنًا. قال ابن رشد المالكي: هنا هو ظاهر المذهب (¬3)، والمشهور عند الحنابلة (¬4). ¬
القول الثالث
القول الثالث: الغبن الكثير ما كان بمقدار الثلث، وهو قول في مذهب المالكية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). القول الرابع: الغبن الفاحش: ما زاد على الثلث، وهو قول آخر في مذهب المالكية (¬3). وقيل: يقدر بالربع، وقيل بالسدس وهذا قول خامس وسادس في المسألة ذكر ذلك صاحب الإنصاف (¬4). هذه مجمل الأقوال التي اطلعت عليها في تحديد الغبن الفاحش. تعليل من قال: إذا خرج عن تقويم المتقومين فهو غبن فاحش. عللوا ذلك: بأن القيمة تعرف بالحرز والظن بعد الاجتهاد، فما كان داخلاً في ظن المتقومين فهو يسير لا يمكن الاحتراز منه، وما كان خارجًا عن تقويمهم بعد اجتهادهم فلا يعذر فيه؛ لفحشه، ولإمكان الاحتراز عنه؛ لأنه لا يقع في مثله عادة إلا عمدًا (¬5). دليل من فرق بين الدراهم والعروض والحيوان والعقار. ذكرت مجلة الأحكام العدلية هذا القول، وذكر شارح المجلة بأن وجه ¬
دليل من قال: يقدر الغبن الفاحش في العرف والعادة
اختلاف مقدار الغبن باختلاف الأموال ناشئ عن مقدار التصرف بتلك الأموال، فما كان التصرف بها كثيراً قَلَّ المقدار الذي يعد فيها غبنًا فاحشًا، وما كان التصرف بها قليلاً كثر فيه ذلك المقدار (¬1). ولعل مستند هذا التحديد هو اعتبار العرف البخاري وقت صدور المجلة، وهذا يختلف باختلاف الأمكنة والأزمان، الله أعلم. دليل من قال: يقدر الغبن الفاحش في العرف والعادة: هذا القول أخذ بالقاعدة التي تقول: إن كل ما لم يأت تقديره من الشرع فالمرجع فيه إلى العرف والعادة. دليل من قال: يقدر الغبن الفاحش بالثلث. قوله - صلى الله عليه وسلم - في مقدار الوصية: "الثلث والثلث كثير" (¬2). دليل من قال: يقدر الغبن الفاحش بما زاد على الثلث. لما جازت الوصية بالثلث، ومنع الشارع من الزيادة على الثلث كان الثلث حدًا بين الجائز والممنوع، فالثلث جائز، والممنوع الزيادة عليه. دليل من حد الشيء بالربع والسدس: لا أعرف لهم مستندًا من نص إلا أن يكون ذلك في زمانهم من الكثير عرفًا، والله أعلم. وأجد أقوى الأقوال في هذا هو القول بأن مرجع ذلك إلى عرف التجار، فما عد من الغبن الفاحش، فهو كثير، وما لا فلا، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع البيوع المنهي عنها لارتباطها بالغبن
المبحث الرابع البيوع المنهي عنها لارتباطها بالغبن [م - 573] هناك بيوع كثيرة نهي عنها لارتباطها بالغبن، من ذلك: الأول: الاحتكار. فالمحتكر يطلب غلاء السلعة وقلتها من السوق، وهذا فيه غبن للناس، ولذلك اختار كثير من الفقهاء أنه يحرم عليه أن يستغل حاجة الناس فيبيعها بأكثر من ثمن المثل. قال ابن تيمية: "لولي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل، عند ضرورة الناس إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه، والناس في مخمصة، فإنه يجبر على بيعه للناس بقيمة المثل، ولهذا قال الفقهاء: من اضطر إلى طعام الغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة مثله، ولو امتنع من بيعه إلا بأكثر من سعره لم يستحق إلا سعره" (¬1). الثاني: النجش. من البيوع التي نهي عنها لارتباطها بالغبن البيع إذا دخله نجش. (ح-449) وقد روى البخاري ومسلم من طريق مالك، عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -، قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النجش (¬2). (ح-450) وروى البخاري ومسلم من طريق الزهري، عن سعيد عن ¬
الثالث: تلقي الجلب.
أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يبع حاضر لباد، ولا تناجشوا ... الحديث (¬1). وقد ساق ابن عبد البر الإجماع على تحريم النجش. قال رحمه الله: النجش "مكر وخداع، لا يجوز عند أحد من أهل العلم، لنهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن النجش، وقوله: لا تناجشوا. وأجمعوا أن فاعله عاص لله إذا كان بالنهي عالماً" (¬2). الثالث: تلقي الجلب. من البيوع التي نهي عنها لارتباطها بالغبن تلقي الركبان، (ح-451) فقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتلقى الجلب، فمن تلقى، فاشتراه منه، فإذا أتى سيده السوق، فهو بالخيار (¬3). فأثبت الشرع الخيار للبائع وحده، حماية له من الغبن الذي قد يتعرض له من المتلقي، والله أعلم. وفي المغني: "روي أنهم كانوا يتلقون الأجلاب، فيشترون منهم الأمتعة قبل أن تهبط الأسواق، فربما غبنوهم غبنًا بينًا، فيضرونهم، وربما أضروا بأهل البلد؛ لأن الركبان إذا وصلوا باعوا أمتعتهم، والذين يتلقونهم لا يبيعونها سريعًا، ويتربصون بها السعر، فهو في معنى بيع الحاضر للبادي، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ... " (¬4). ¬
الرابع: التدليس.
وكل هذه البيوع سبق لنا أن ذكرنا ما يقترن بها من أحكام تفصيلية في مباحث مستقلة عند الكلام على موانع البيع (البيوع المنهي عنها)، فأغنى عن إعادة الكلام عليها هنا. الرابع: التدليس. من البيوع التي نهي عنها دفعًا للغبن التدليس كالتصرية، وسنتكلم عنه في خيار التدليس إن شاء الله تعالى.
المبحث الخامس خلاف العلماء في ثبوت خيار الغبن
المبحث الخامس خلاف العلماء في ثبوت خيار الغبن قال القرطبي: المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ماله الكثير بالتافه اليسير .. إذا عرف قدر ذلك، كما تجوز الهبة لو وهب (¬1). قلت: خرج بالمالك الوكيل والوصي فلا يجوز لهما هذا. قال الباجي: لا تنفذ خلابة الخالب على مغبون مستسلم (¬2). [م - 574] إذا وقع الإنسان في الغبن الفاحش، فإن كان العاقد قد دخل على بينة، ولم يقع تحت تغرير الآخر فليس له الحق في المطالبة في إبطال العقد أو تغييره بحجة الغبن، كما لو اشترى شخص شيئاً أعجبه بثمن يعادل ضعف قيمته من شخص لا يقبل أن يبيعه إلا بهذا الثمن. وذلك لأن الغبن قد رضي به المشتري ولم يقع تحت تغرير البائع، والمشتري نفسه هو الذي أغرى البائع بدفع هذا العوض الكبير ليرضى بالبيع مقابل هذا العوض، والبائع لم يفكر في البيع إلا مع كون البيع فيه غبطة كبيرة له؛ ولأن المشتري إذا كان عالمًا بثمن السلعة، وزاد البائع على قيمتها فهو كالواهب لما زاد، وهذا لا يبطل البيع، وقد حكى القرطبي الإجماع على جواز مثل ذلك. قال القرطبي: "والجمهور على جواز الغبن في التجارة، مثل أن يبيع رجل ياقوتة بدرهم، وهي تساوي مائة ألف، فذلك جائز، وأن المالك الصحيح ¬
القول الأول
الملك جائز له أن يبيع ماله الكثير بالتافه اليسير، وهذا ما لا اختلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك، كما تجوز الهبة لو وهب" (¬1). جاء في البحر الرائق: "اختار عماد الدين الرد بالغبن الفاحش إذا لم يعلم به المشتري ... وقال الإِمام جمال الدين جدي إن غره فله الرد، وإلا فلا" (¬2). وجاء في التاج والإكليل: "حكى ابن القصار أن مذهب مالك: للمغبون الرد إذا كان فاحشًا، وهذا إذا كان المغبون جاهلاً بالقيم" (¬3). ومعناه: إذا لم يكن جاهلاً في القيمة، وعلم أنه مغبون فيها، ودخل على بينة فلا رد بدعوى الغبن. وقال ابن حزم: "ولا يحل بيع شيء بأكثر مما يساوي ولا بأقل مما يساوي ... إلا بمعرفة البائع والمشتري معًا بمقدار الغبن في تلك، ورضاهما به" (¬4). أما إذا كان الغبن لم يقع تحت رضا المشتري، فهل يثبت للمشتري الخيار إذا ثبت أنه قد غبن في البيع؟ اختلف العلماء في ذلك على ستة أقوال: القول الأول: له الخيار مطلقًا، وبه يفتى في مذهب الحنفية (¬5)، واختاره البغداديون من ¬
استدل من قال: له الخيار مطلقا بالأدلة التالية
المالكية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة. استدل من قال: له الخيار مطلقًا بالأدلة التالية: الدليل الأول: من الكتاب، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وجه الاستدلال: أن المغبون لم يرض أن يؤخذ منه ما أخذ عن طريق الغبن، والرضا شرط في صحة البيع. ونوقش هذا: بأن البيع بالغبن هو بيع تجارة فيكون جائزًا بمقتضى الآية، ولم يكن البيع بين المتعاقدين بشرط القيمة بحيث لا يزيد عليها, ولا ينقصر منها, ولم يكن بشرط عدم الغبن، فقوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، قد تحقق في بيع المغبون، فقد باع عليه السلعة بما اتفقا عليها دون إكراه، ولم يَدَّعِ المشتري جهلًا بالقيمة، ولم يدع البائع أنه يبيع بسعر السوق، وتراضيا على ذلك. الدليل الثاني: (ح-452) ما أخرجه الشيخان من طريق ابن علية، عن خالد الحذاء، عن ¬
وجه الاستدلال
ابن أشوع، عن الشعبي، حدثني كاتب المغيرة بن شعبة، قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: أن اكتب لي بشيء سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكتب إليه: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله كره لكم قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السوال (¬1). وجه الاستدلال: ثبت في هذا الحديث النهي عن إضاعة المال، فمن باع ما يساوي عشرة دنانير بدرهم، فقد أضاع ماله، كما أن من اشترى ما يساوي درهما بعشرة دنانير فقد أضاع ماله (¬2). ونوقش هذا: بأن المقصود في النهي عن إضاعة المال بحيث لا يكون في مقابلة شيء، بحيث يضيع المال بغير عوض، أو بما هو مفسدة محققة، أما في بيع الغبن فما ضاع لأحد المتبايعين قد انتفع به الآخر فلم يتحقق ضياع المال (¬3). والدليل على عدم دخول بيع الغبن في الحديث، أنه لو علم المشتري بالغبن، واشتراه بما هو أضعاف قيمته، ورضي بذلك جاز البيع إجماعًا كما تقدم، فلو كان داخلاً في إضاعة المال لما جاز البيع في هذه الحالة، لإطلاق الحديث، وعدم تفريقه بين العالم وغير العالم، ولكان النهي عن إضاعة المال يشمل أيضًا ما يعطيه الإنسان لأخيه على وجه الهبة والهدية؛ لأنه في غير مقابل. الدليل الثالث: (ح-453) ما رواه مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه عن ¬
ويجاب
أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني (¬1). (ح-454) وروى مسلم أيضًا من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا (¬2). فالغبن في البيع نوع من أنواع الغش. ويجاب: بأن هناك فرقًا بين الغبن والغش، فالغش خداع وكذب، والغابن لا يكذب على المغبون، ولم يخدعه، فهو الذي خدع نفسه. الدليل الرابع: ذكر بن حزم رَحِمَهُ اللَّهُ أثرًا عن ابن عمر، قال: (ث-90) روينا من طريق حماد بن زيد، أخبرنا أيوب وهشام - هو ابن حسان - كلهم عن محمَّد بن سيرين، أن رجلاً قدم المدينة، فنزل على ابن عمر، فذكر الحديث، وفيه: أنه باع جارية من ابن جعفر، ثم جاء الرجل إلى ابن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن غبنت بسبعمائة درهم، فأتى ابن عمر إلى عبد الله بن جعفر، فقال: إنه غبن بسبعمائة درهم، فإما أن تعطيها إياه، وإما أن ترد عليه بيعه، فقال ابن جعفر: بل نعطيها إياه. ¬
القول الثاني
قال ابن حزم: فهذا ابن جعفر وابن عمر قد رأيا رد البيع من الغبن في القيمة (¬1). [ساقه ابن حزم معلقًا، وما ظهر من إسناده فرجاله ثقات، ويبقى النظر في الإسناد المطوي ولم أقف عليه، ويعارضه ما ساقه البخاري معلقًا بسند صحيح عن ابن عمر وسيأتي ذكره إن شاء الله في أدلة المجوزين]. القول الثاني: ليس له الخيار مطلقًا، وهذا مذهب الشافعية. قال الثوري في المجموع: "قال أصحابنا: لا يثبت الخيار بالغبن، سواء أتفاحش أم لا" (¬2). دليل من قال: ليس له الخيار مطلقًا. الدليل الأول: (ح-455) رواه البخاري من طريق عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، أن رجلاً ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يخدع في البيوع، فقال: إذا بايعت فقل: لا خلابة (¬3). (ح-456) ورواه أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب، أخبرنا سعيد، عن قتادة عن أنس: أن رجلاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبتاع، وكان في عقدته -يعني ¬
وجه الاستدلال
عاقله - ضعف، فأتى أهله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا نبي الله احجر على فلان؛ فإنه يبتاع، وفي عقدته ضعف، فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنهاه عن البيع، فقال: يا نبي الله إني لا أصبر عن البيع، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إن كنت غير تارك البيع، فقل هاء وهاء, ولا خلابة (¬1). [إسناده حسن] (¬2). وجه الاستدلال: الحديث يدل على أن الغبن لا يفسد البيع من وجهين: الأول: أن الخيار لو كان يثبت للمغبون بمجرد الغبن لبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرجل إذا تعرض للغبن كان له حق الرد، فلما لم يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك علم أن الغبن بمجرده لا يعطي للمغبون حق الرد. الثاني: لو كان الغبن يعطي المغبون حق الرد لم يكن الأمر بحاجة إلى اشتراط الخيار، فلما كان الخيار لا يثبت بالغبن إلا بالاشتراط علم أن الغبن وحدمه غير كاف في ثبوت الخيار لصاحبه. والله أعلم (¬3). ونوقش هذا الاستدلال: قال الباجي في المنتهى: "الخلابة الخداع، وليس من الخداع أن يبيع البائع بالغلاء، أو يشتري المشتري برخص، وإنما الخلابة أن يكتمه عيبًا فيها، ويقول: إنها تساوي أكثر من قيمتها، وأنه قد أعطي فيها الأكثر مما أعطى بها" (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-457) ما رواه البيهقي من طريق محمَّد بن عبيد المحاربي، عن موسى ابن عمير، عن مكحول عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من استرسل إلى مؤمن، فغبنه، كان غبنه ذلك ربا (¬1). ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق أبي توبة، عن موسى بن عمير به، بلفظ: غبن المسترسل حرام. [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قوله: (غبن المسترسل ربا)، وفي لفظ (غبن المسترسل حرام) دليل على أنه لا غبن في غير المسترسل، وأن غبن غيره حلال. الدليل الثالث: (ح-458) ما رواه مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يبع حاضر لباد؛ دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، بيان لعلة النهي عن بيع الحاضر للباد، فالحاضر إذا باع لأهل البادية باع بسعر السوق، فيضيق مجال الربح بخلاف أهل البادية، فإنه سيستعجل البيع ليرجع إلى مضاربه، فلا يستقصي الثمن، وقد فسر النهي ابن عباس عندما سئل عن معنى ذلك، فقال: لا يكن له سمسارًا، وفي ذلك دليل على جواز الغبن في البيع؛ لأن الحديث لم يشترط أن يكون البيع بما يتغابن الناس بمثله في العادة. الدليل الرابع: (ح-459) ما رواه البخاري من طريق زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعت عمر - رضي الله عنه - يقول: حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: لا ¬
الدليل الخامس
تشتره، ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم؛ فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه (¬1). فقوله: "وإن أعطاكه بدرهم" دليل على جواز شراء النفيس بثمن قليل. فإن قيل: إن الحديث سيق بقصد المبالغة، فما الجواب عن قول عمر في الحديث: "وظننت أنه يبيعه برخص" فإن فيه دليلاً على جواز أن يشتري المشتري برخص، وهذا يلزم منه أن يقع البائع تحت طائلة الغبن. الدليل الخامس: (ح-460) ما رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم، قال أبو عبد الله: قال الليث: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، قال: بعت من أمير المومنين عثمان مالاً بالوادي بمال له بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادني البيع، وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا، قال عبد الله: فلما وجب بيعي وبيعه رأيت أني قد غبنته بأني سقته إلى أرض ثمود بثلاث ليال، وساقني إلى المدينة بثلاث ليال. [صحيح] (¬2). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: التجارة مبنية على الربح والخسارة، والتاجر معرض لهما، فقد يربح في بضاعة أضعاف ما يربحه في بضاعة أخرى، وقد يخسر، ولو منع التغابن لأدى ذلك إلى زهد التجار في العمل. وفي عصرنا قد حدثني بعض تجار الطيب (دهن العود) بأن صاحب التجارة يربح فيها ما يقارب ثلاث مئة بالمئة أو يزيد، وربما لو نقص عن هذا لحمل الناس على الشك في البضاعة، وأنها ربما تكون مغشوشة. ونوقش هذا: بأن احتمال الربح والخسارة في التجارة محمول على ما يسمح به عرف التجار، أو بما يجري فيه التغابن عادة، أما الربح إذا خرج عن ذلك فهو غير محتمل، ومن أكل أموال الناس بالباطل، وما سيق في عمل الناس اليوم في التجارة في الطيب ليس بحجة، وإنما الحجة والبرهان في الدليل الشرعي الخالي من النزاع. الدليل السابع: العقد الذي وجد فيه الغبن قد توفرت فيه أركان البيع وشروطه، فيكون بيعًا صحيحًا، وعدم الغبن ليس ركنًا من أركان البيع، ولا يعتبر شرطًا من شروطه بحيث تتوقف صحته على توفره. ¬
وأجيب
وأجيب: أولاً: لو سلمنا أن عدم الغبن ليس ركنًا ولا شرطاً فإن هذا لا يعني أن البيع صحيح، فإن الغبن يعتبر مانعًا من موانع الصحة، والبيع حتى يكون صحيحًا لا بد من توفر شروطه وانتفاء موانعه. ثانيًا: أن المغبون لا يعتبر راضيًا بما وقع عليه من غبن، وإذا لم يكن راضيًا فإن الرضا شرط من شروط صحة البيع، فكيف يقال: إن عدم الغبن لا يعتبر شرطاً. الدليل الثامن: حكى ابن عبد البر وابن رشد الإجماع على أن بيع المغبون في غير المسترسل لازم، وسوف ننقل نصه وما يمكن مناقشته عند الكلام على أدلة المالكية. الدليل التاسع: الرد بالغبن يؤدي إلى عدم اطمئنان الناس على تعاقدهم، وعدم استقرار السوق, وكلما تغيرت الأسعار هبوطًا أو صعودًا أدى ذلك إلى فتح باب الخصومات، وكثرة المنازعات، وإشغال القضاء، وإذا كان المغبون هو المسؤول عن غبنه لم يسرع في التعاقد إلا بعد ترو ومشورة واطلاع على أحوال السوق، وإذا غبن مرة وذاق مرارة التسرع أدى ذلك إلى عدم تكرار ذلك. القول الثالث: ليس له خيار إذا غبن إلا إذا وجد تغرير من البائع، أو كان الغبن في مال اليتيم، أو مال الوقف. وحكم بيت المال حكم مال اليتيم.
وجه هذا القول
قال ابن نجيم الحنفي: وهو جواب ظاهر الرواية (¬1)،، وهو قول في مذهب المالكية (¬2). وجه هذا القول: البيع مع الغبن بيع صحيح لا يوجد في البيع بحد ذاته خلل، فلا يجب الخيار لمجرد الغبن، وإنما ثبت الخيار إذا كان فيه تغرير من أجل الخداع والتدليس لا من أجل الغبن. وأما ثبوت الخيار إذا كان الغبن في مال اليتيم أو مال الوقف فلأن المتصرف في العقد لهما إما الوصي وإما ناظر الوقف، وإذا كان الإنسان يتصرف لغيره كان الإذن له بالتصرف بحسب المصلحة، فلا يدخل فيه الشراء بأكثر من ثمن المثل، ولا البيع بأقل من ثمن المثل، فكان ثبوت الخيار من أجل هذا لا من أجل الغبن، والله أعلم. القول الرابع: ليس له خيار إلا في صورتين في بيع الاستئمان والاسترسال، أو يكون البائع بالغبن أو المشتري به وكيلاً أو وصيًا، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬3). ¬
القول الخامس
والاستئمان والاسترسال: هما شيء واحد، كما ذكر العدوي في حاشيته على الخرشي (¬1). وهو أن يقول البائع: أنا لا أعلم قيمة سلعتي فاشتر سلعتي كما تشتري من غيري، أو يقول المشتري: أنا لا أعلم قيمة السلعة فبعني كما تبيع غيري، فيغبنه الآخر (¬2). القول الخامس: ليس له خيار إلا في ثلاث صور: الصورة الأولى: في بيع المسترسل: وهو الجاهل بقيمة السلعة من بائع أو مشتر، ولا يحسن المماكسة إذا غبن في ذلك. الصورة الثانية: زيادة الناجش: وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها, ليضر المشتري. الصورة الثالثة: تلقي الجلب: إذا اشترى منهم، أو باع لهم، فلهم الخيار إذا هبطوا السوق، وعلموا أنهم قد غبنوا، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة (¬3). والفرق بين الاسترسال عند المالكية والحنابلة: الاسترسال عند المالكية: أن يطلب المشتري أو البائع من الآخر أن يكون ¬
دليل من قال: الغبن لا يؤثر إلا في بيع الاستئمان والاسترسال.
البيع بسعر السوق، فيكذب فيه، فموجب الرد بالغبن عندهم: جهل المشتري أو البائع بالقيمة، وكذب الآخر (¬1). وأما الاسترسال عند الحنابلة: أن يكون جاهلاً بالقيمة، ولا يحسن المماكسة، ولو لم يحصل كذب صريح من الطرف الآخر، ويثبت جهله إما بالبينة، وإما بقوله مع يمينه (¬2). دليل من قال: الغبن لا يؤثر إلا في بيع الاستئمان والاسترسال. أما أدلتهم على أن الغبن لا يؤثر في سائر البيوع عدا بيع الاستئمان والاسترسال فهي أدلة من قال: المغبون ليس له الرد، ولا حاجة إلى إعادتها، إلا دليلاً لم نذكره هناك فنذكره هنا. وأما أدلتهم على أن غبن المسترسل مؤثر فهو مبني على أن المسترسل قد أعلن عن جهله بالقيمة للبائع، وأن البائع قد كذب عليه في سعر البضاعة، وإذا ثبت كذب البائع فهو قد غرر المشتري بكذبه، فتكون العهدة عليه، ويمكن إدخال ذلك في الكذب في بيع الأمانة كما لو باعه برأس ماله فقط أو برأس ماله مع ربح معلوم أو نقص معلوم وكذب عليه، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليها في مباحث مستقلة. ومن أدلتهم التي لم نذكرها سابقًا ما حكاه بعض العلماء من إجماع على أن بيع المغبون في غير الاستئمان والاسترسال لازم. قال أبو عمر: "الغبن في بيع المستسلم المستنصح يوجب للمغبون الخيار ¬
ونوقش هذا
فيه. وبيع غيره المالك أمر نفسه لا أعلم في لزومه خلافًا, ولو كان بأضعاف القيمة" (¬1). وحكى الإجماع فيه ابن رشد أيضاً (¬2). ونوقش هذا: بأن الخلاف محفوظ حتى عند المالكية، فهؤلاء البغداديون من أصحاب مالك نقلت عنهم في الأقوال أن المغبون له الرد مطلقًا، سواء كان مسترسلاً أو غير مسترسل، وهؤلاء الحنابلة يردون بالغبن عن طريق تلقي الجلب، أو زيادة الناجش مما يضعف حكاية الإجماع، والله أعلم. أدلة الحنابلة على أن ثبوت الخيار للمغبون في الصور الثلاث. الدليل على ثبوت الخيار في زيادة الناجش، ما ثبت في الصحيح من النهي عنه. (ح- 461) فقد روى الشيخان من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النجش (¬3). "قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن الناجش عاص بفعله، واختلفوا في البيع ... " (¬4). وقال النووي: "النجش ... أن يزيد فى ثمن السلعة لا لرغبة فيها، بل ليخدع غيره ويغره ليزيد، ويشتريها، وهذا حرام بالإجماع، والبيع صحيح" (¬5). ¬
وأما النهي عن تلقي الجلب.
ولما كان النهي عائدًا إلى أمر خارج عن البيع، وكان لحفظ حق المشتري كان الراجح أن النهي لا يبطل البيع، وإنما جعل للمشتري الخيار. وأما النهي عن تلقي الجلب. (ح-462) فقد رواه مسلم من طريق هشام القردوسي، عن ابن سيرين، قال: سمعت أبا هريرة يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار (¬1). وهو في البخاري بالنهي عن التلقي دون ذكر الخيار (¬2). وأما الدليل على ثبوت الخيار في حال المسترسل عند الحنابلة، فهو من قبيل التعليل، ولم أقف لهم على دليل من الكتاب أو السنة، فقالوا: إن الغبن إذا كان نتبجة لجهله بقيمة المبيع، ولا يحسن أن يماكس ليصل إلى سعر المبيع فله الخيار؛ لأن البائع استغل جهله، وأما العالم بقيمة السلعة أو من كان يحسن المماكسة لو توقف لعرف ذلك فإذا استعجل في ذلك، فغبن، فلا خيار له؛ لأنه أتي من باب تقصيره وتفريطه (¬3). القول السادس: الغبن يبطل العقد من أصله، وهو قول داود الظاهري (¬4). ¬
الراجح
استدل الظاهرية بما رواه مسلم من طريق سعد بن إبراهيم، عن القاسم ابن محمَّد، قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد (¬1). ومعنى رد: أي مردود عليه. وأن الأصل في النهي يقتضي فساد المنهي عنه. والله أعلم. هذا ملخص الأقوال في المسألة، وأدلتها، ومن قال: له الخيار، يعني: إما أن يمسك السلعة أو يردها, وليس له المطالبة بالأرش مع الإمساك، كما ذهب إلى ذلك الحنابلة في خيار العيب (¬2). الراجح: القول بعدم ثبوت الخيار قول قوي جدًا إلا أن القول بثبوت الخيار أقوى، لأن البيع قائم على العدل، والعدل ألا يقع البائع والمشتري تحت طائلة الاستغلال، وإذا ثبت الخيار في تلقي الجلب وفي زيادة الناجش كانت الغاية من ذلك حتى لا يقع الجالب ونحوه تحت طائلة استغلال المشتري لجهل الجالب بسعر السوق، وإذا ثبت الخيار في تلقي الجلب كان الغبن في غيره مقيسًا عليه، ولا فرق، وإذا كان اشتراط عدم الغبن يمنع من صحة البيع إذا كان هناك غبن، ¬
الراجح
استدل الظاهرية بما رواه مسلم من طريق سعد بن إبراهيم، عن القاسم ابن محمَّد، قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد (¬1). ومعنى رد: أي مردود عليه. وأن الأصل في النهي يقتضي فساد المنهي عنه. والله أعلم. هذا ملخص الأقوال في المسألة، وأدلتها، ومن قال: له الخيار، يعني: إما أن يمسك السلعة أو يردها, وليس له المطالبة بالأرش مع الإمساك، كما ذهب إلى ذلك الحنابلة في خيار العيب (¬2). الراجح: القول بعدم ثبوت الخيار قول قوي جدًا إلا أن القول بثبوت الخيار أقوى، لأن البيع قائم على العدل، والعدل ألا يقع البائع والمشتري تحت طائلة الاستغلال، وإذا ثبت الخيار في تلقي الجلب وفي زيادة الناجش كانت الغاية من ذلك حتى لا يقع الجالب ونحوه تحت طائلة استغلال المشتري لجهل الجالب بسعر السوق، وإذا ثبت الخيار في تلقي الجلب كان الغبن في غيره مقيسًا عليه، ولا فرق، وإذا كان اشتراط عدم الغبن يمنع من صحة البيع إذا كان هناك غبن، ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث السادس الغبن في بيع المزايدة
المبحث السادس الغبن في بيع المزايدة [م - 575] اختلف الفقهاء في دخول الغبن بيع المزايدة على قولين: القول الأول: المشهور من مذهب المالكية أن بيع المزايدة لا يتصور فيه الغبن. قال الونشريسي: "أما بيع المزايدة فلا يتصور فيها غبن" (¬1). وعلل المالكية عدم سماع دعوى الغبن في بيع المزايدة لما يتوفر فيه من الإشهار, وحضور المتزايدين. وعلل بعضهم بأنه لا يتصور الغبن فيها لكون قيمة الشيء هي ما وقفت عليه (¬2). ويناقش: حضور المتزايدين لا يمنع من وقوع الغبن، فقد يتواطأ الحاضرون على عدم الزيادة، وقد يزيد بعضهم وهو لا يريد الشراء كما في الناجش، فيتضرر المشتري. ¬
القول الثاني
وقولهم: إن ما وقفت عليه السلعة هي القيمة الحقيقية لا يسلم؛ فالقيمة الحقيقية ما يقومه به أهل معرفته؛ لأن بعض الناس قد يزيد في السلعة بأكثر من ثمنها سواء كان ذلك لحاجته، أو كان ذلك من باب النجش. القول الثاني: أن خيار الغبن يثبت في بيع المزايدة كما يثبت في بيع المساومة. اختاره بعض المالكية (¬1). وجه هذا القول: أن بيع المزايدة بيع من البيوع، فإذا ثبت خيار الغبن في بيع المساومة ثبت في بيع المزايدة، ولا فرق، ومن استثنى بيع المزايدة فعليه الدليل. الراجح: أن الغبن في بيع المزايدة إن جاء عن طريق النجش، حيث يطرح بعض الأشخاص سعرًا, وليس في نيته الشراء، وإنما في نيته نفع البائع أو الإضرار بالمشتري، فإذا ثبت مثل ذلك في بيع المزايدة ثبت للمشتري الخيار. وكذلك إذا ثبت أن أهل السوق قد اتفقوا على عدم الزيادة في السلعة ليتشاركوا فيها, حرم ذلك، واستحق البائع الخيار. قال ابن تيمية: "إذا اتفق أهل السوق ألا يزيدوا في سلعة لهم فيها غرض ليشتريها أحدهم، ويتقاسموها، فهذا يضر بالمسلمين أكثر من تلقي الركبان" (¬2). ¬
وإن كان الغبن جاء من رجل زاد في السلعة رغبة فيها، فحمل ذلك المشتري على الزيادة بأكثر من ثمنها ليحوز السلعة فهو قد دخل على بصيرة، فلا يثبت له خيار، خاصة أن البائع يتضرر في فسخ البيع بعد انفضاض الناس عن سوق المزاد، ولا يدفع الضرر عن المشتري إذا كان فيه ضرر على البائع، وأحيانًا يتطلب المزاد إعلانات تجارية لجمع الراغبين، فإذا ادعى الغبن بعد انصراف الناس كان في ذلك كلفة ومشقة على البائع، والله أعلم.
المبحث السابع ثبوت خيار الغبن في القسمة
المبحث السابع ثبوت خيار الغبن في القسمة قال ابن قدامة: كل قسمة غير واجبة إذا تراضيا بها فهي بيع، حكمها حكم البيع (¬1). [م - 576] اختلف الفقهاء في ثبوت خيار الغبن في القسمة على أقوال: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن القسمة إن ظهر فيها غبن فإن كان يسيرًا بحيث يدخل تحت تقويم المتقومين لا تسمع دعواه، ولا تقبل بينته، وإن كان الغبن فاحشًا بحيث لا يدخل تحت تقويم المتقومين، فإن كانت القسمة بقضاء بطلت اتفاقًا في المذهب؛ لأن تصرف القاضي مقيد بالعدل، ولم يوجد. وإن وقعت بالتراضي ففيها قولان في المذهب، أصحهما أنها تفسخ أيضًا؛ لأن شرط جوازها العدل، ولم يوجد، فوجب نقضها. وقيل: لا تفسخ؛ لأن القسمة نظير البيع، والبيع لا يمتنع جوازه بسبب الغبن، فكذلك القسمة (¬2). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن القسمة إذا كانت من قبيل تمييز الحق لم تكن بيعًا، ويجبر عليها من يأباها وترد بالغبن. ¬
القسمة الأول
وما كانت من قبيل البيع لم يجبر عليها من يأباها؛ لأن البيع لا بد فيه من الرضا, ولم ترد بالغبن؛ لأن البيع لا يرد بالغبن عندهم، لهذا قسم المالكية القسمة إلى ثلاثة أقسام: القسمة الأول: قسمة قرعة، وهي تمييز حق، وليست بيعًا، وهذه القسمة ترد بالغبن؛ ويجبر عليها من يأباها؛ لأنها ليست بيعًا. القسمة الأول: قسمة المراضاة، إذا قامت على التعديل والتقويم، سواء أدخلا مقومًا، أو قوما لأنفسهما إذا ظهر فيها غبن ردت؛ لأنها لما قامت على التقويم والتعديل لم يدخلوا فيها إلا على التساوي، فإذا وقع غبن في التقويم لم تتحقق المساواة، وإلحاقًا لها بالقرعة. القسمة الثالثة: قسمة المراضاة إذا لم يدخلا فيها مقومًا، كأن يقول: خذ هذه الدار، وهذا العبد من غير أن يكون هناك تقويم، وكانت القسمة بالتراضي لم تفسخ بالغبن؛ لأنها بيع من البيوع (¬1). القول الثالث: اختار الشافعية أن قسمة الإجبار تبطل بظهور الغبن فيها, لتبين فساد الإفراز، وأما قسمة التراضي فإن الراجح عندهم أنها لا تفسخ بالغبن، وإن تحقق وجوده؛ لأنه رضي بترك الزيادة له، فصار كما لو اشترى شيئًا بغبن (¬2). ¬
القول الرابع
ولأنهم لا يثبتون في البيع خيار الغبن، فلا يثبت في قسمة التراضي أيضاً على الصحيح في المذهب. القول الرابع: القسمة عند الحنابلة نوعان: قسمة إجبار، يجبر عليها من يأباها، وهي إفراز حق، وليست بيعًا، فإن ظهر فيها غبن فاحش بطلت لتبين فساد الإفراز. وقسمة تراض، وهذه لا يجبر عليها من يأباها، وهي تأخذ حكم البيع، فإن ظهر فيها غبن صحت القسمة، وثبت الخيار للمغبون (¬1). جاء في قواعد ابن رجب: "لو ظهر في القسمة غبن فاحش، فإن قلنا: هي إفراز، لم يصح؛ لتبين فساد الإفراز، وإن قلنا: بيع، صحت، وثبت فيها خيار الغبن، ذكره في الترغيب والبلغة" (¬2). الراجح من الأقوال: الراجح أن المال قسمان: قسم كبير وواسع، لا يتميز بين أجزائه، كالدور الكبار، والبستان والأرض الواسعة، فهذه تجب قسمتها إذا طلب أحد الشريكين؛ لأنه لا ضرر في قسمتها، وتسمى هذه قسمة إجبار، وهي إفراز لا بيع، فإذا ظهر فيها غبن بطلت القسمة لفساد الإفراز. القسم الثاني: عقار صغير: كحمام، ودكان ضيق، وهذه لو قسمت لم يعد ¬
كل قسم صالحًا للانتفاع والبيع، فلا تقسم مثل هذه إلا برضا الشريكين، أو الشركاء جميعًا لوجود الضرر في قسمتها. وضابط ذلك: أنه إذا كانت الأرض تنقسم بدون ضرر، ولا رد عوض، فالقسمة إجبارية، وإذا كانت لا تنقسم إلا بضرر، أو رد عوض، فالقسمة اختيارية، وهذه القسمة تأخذ حكم البيع، فإذا ظهر فيها غبن صحت القسمة، وثبت الخيار فيها للمغبون، والله أعلم.
المبحث الثامن مسقطات خيار الغبن
المبحث الثامن مسقطات خيار الغبن [م - 577] ينبغي أن تكون مسقطات خيار الغبن، هي مسقطات خيار العيب، فإن الخيار في المبيع إذا كان مبيعًا إنما شرع لدفع الغبن عن المشتري الذي وقع عليه الضرر، فما يسقط الخيار هناك يسقط الخيار هنا، وما لا فلا، وأما إذا طلبنا مسقطات خيار الغبن بالنص عليه في كتب المذاهب، فمن المعلوم أن خيار الغبن قد اختلف الفقهاء في إثباته كما مر معنا في مبحث سابق، فهناك من لم يثبت خيار الغبن مطلقًا كالشافعية، وهناك من أثبته بشرط أن يوجد تغرير من البائع كالحنفية، وهناك من أثبته في بعض العقود دون بعض كالمالكية والحنابلة، لذلك لم يفصل الفقهاء مسقطات الخيار كما فصلوا ذلك في خيار العيب، وذلك أن خيار العيب متفق على ثبوته دون خيار الغبن. وقد تكلم الحنفية والحنابلة على مسقطات خيار الغبن، وتكلم المالكية في بعض صور الغبن، فننقل ما نجده عنهم في كتبهم، وما لم ينص عليه هنا يقاس على خيار العيب، والله أعلم. ذكر الحنفية مسقطات خيار الغبن، فذكروا منها: الأول: هلاك المبيع يمنع الرد؛ لأن الفسخ لا يرد إلا على عمن ما ورد عليه العقد، فإذا هلك ما ورد عليه العقد فقد تعذر الرد. الثاني: استهلاك المبيع، للعلة نفسها. الثالث: التصرف في المبيع بعد العلم بالغبن؛ لأن هذا التصرف هو رضا بالغبن.
مسقطات خيار الغبن عند المالكية
الرابع: إذا حدث عيب في المبيع عند المشتري؛ لأن في الرد إضرارًا بالبائع، لكون المبيع خرج من ملكه سليمًا من العيب، فيتضرر برده إليه معيبًا. الخامس: أن يحصل في المبيع زيادة متصلة غير متولدة، إذ لا يمكن رده بدون الزيادة؛ لأنها لا تنفك عنه، ولا وجه للرد مع الزيادة؛ لأن الزيادة تكون فضلاً مستحقًا في عقد معاوضة، بلا مقابل، وهذا نوع من الربا (¬1). وقد ناقشنا كل ذلك في خيار العيب، وبينا الراجح من هذه المسقطات، والمرجوح منها، فأرجع إليه غير مأمور. مسقطات خيار الغبن عند المالكية: نص المالكية على أن التصرف في المبيع، وكذلك ذهاب عينه ببيع أو تلف، وهو ما يسميه المالكية بالفوات، بأنه يسقط حقه بالرد، لتعذره (¬2). كما قالوا مثل ذلك في القسمة، جاء في مواهب الجليل: "قال في معين الحكام أيضًا: وإذا ثبت الغبن في القسمة انتقضت ما لم تفت الأملاك ببناء، أو هدم، أو غير ذلك من وجوه الفوات، فإن فاتت الأملاك بما ذكرنا رجعا في ذلك إلى القيمة يقتسمونها، وإن فات بعضه وبقي سائره على حاله اقتسم ما لم يفت مع قيمة ما فات" (¬3). مسقطات خيار الغبن عند الحنابلة: وإذا علم المغبون بالغبن فرضي، أو تصرف في المبيع تصرفًا دالاً على ¬
الرضى سقط خياره (¬1). وأما تعيب المبيع عند المشتري فلا يمنع الفسخ، وعلى المشتري الأرش. كما أن تلف المبيع لا يمنع الفسخ كذلك، وعلى المشتري قيمته لبائعه، وظاهره، ولو كان مثليًا (¬2). وأما الشافعية فلا يثبتون خيار الغبن، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع: خيار التدليس
الفصل الرابع: خيار التدليس المبحث الأول في تعريف التدليس خيار التدليس يعد نوعًا من خيار النقيصة. تعريف التدليس اصطلاحًا (¬1): عرفه الحنفية: بأنه كتمان عيب السلعة عن المشتري (¬2). وعرفه الشافعية كما في كتاب الزاهر: "أن يكون في السلعة عيب باطن، فلا يخبر البائع المشتري لها بذلك العيب الباطن، ويكتمه إياه" (¬3). بينما وسع المالكية والحنابلة مفهوم التدليس ليشمل كتمان العيب، وإظهار السلعة بصفة الكمال كاذبًا. ¬
فعرفه الرصاع المالكي في شرح حدود ابن عرفة بقوله: "هو إبداء البائع ما يوهم كمالاً في مبيعه كاذبًا، أو كتم عيبه" (¬1). وهذا أكمل من تعريف الحنفية والشافعية، والذي حصر التدليس في كتمان العيب، فهو يشمل ما يفعله البائع بستر العيب حتى يظهر في صورة السالم منه. ويشمل ما يظهر كمالاً في المبيع وإن لم يكن فيه عيب، كصبغ الثوب القديم ليظهر أنه جديد (¬2). ومنه ما يفعل في عصرنا من طلاء السيارات القديمة لتظهر بأنها حديثة، والتلاعب بعداد السيارة لتظهر بأنها قليلة الاستعمال. وجاء في كشاف القناع: "التدليس ضربان: أحدهما: كتمان العيب. والثاني: فعل يزيد به الثمن، وإن لم يكن عيبًا، كتحمير وجه الجارية، وتسويد شعرها، وتجعيده" (¬3). وجاء في مجلة الأحكام الشرعية: "التدليس فعل ما يتوهم به المشتري أن في المبيع صفة توجب زيادة الثمن، أو كتمان العيب" (¬4). ¬
المبحث الثاني في الحكم التكليفي للتدليس
المبحث الثاني في الحكم التكليفي للتدليس [م - 578] التدليس حرام بالإجماع. قال الشافعي: "وحرام التدليس، ولا يُنتَقض به البيع" (¬1). وقال الترمذي: "والعمل على هذا - أي تحريم التصرية - عند أهل العلم" (¬2). وقال في إحكام الأحكام "لا خلاف أن التصرية حرام؛ لأجل الغش والخديعة التي فيها للمشتري، والنهي يدل عليه، مع علم تحريم الخديعة قطعًا" (¬3). وقال النووي: "من ملك عينًا، وعلم بها عيبًا لم يجز أن يبيعها حتى يبين عيبها، وهذا الحكم متفق عليه ... لا خلاف فيه بين العلماء، قال الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ في آخر باب الخراج بالضمان من المختصر: وحرام التدليس" (¬4). وقال ابن هبيرة في الإفصاح: "واتفقوا على أنه لا يجوز تصرية الإبل والبقر والغنم للبيع تدليسًا على المشتري" (¬5). وقال في كشاف القناع: "ويحرم التدليس" لحديث من غشنا فليس منا (¬6). ¬
وقال في حواشي الشرواني: "وينبغي أن يكون كبيرة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: من غشنا فليس منا" (¬1). هذا هو بيان الحكم التكليفي للتدليس، وأما في الحكم الوضعي فسوف نبينه في الفصل التالي إن شاء الله تعالى. ¬
المبحث الثالث الحكم الوضعي للتدليس
المبحث الثالث الحكم الوضعي للتدليس قال الماوردي: تدليس العيوب في العقود يوجب الخيار، ولا يوجب الفسخ (¬1). قال ابن قدامة: كل تدليس بما يختلف به الثمن يثبت خيار الرد (¬2). [م - 579] عرفنا في المبحث السابق الحكم التكليفي للتدليس، وأنه حرام، فإذا دلس البائع فهل يبطل البيع بالتدليس؟ الأصل في تحريم التدليس حديث أبي هريرة في التصرية: (ح-463) فقد روى البخاري من طريق جعفر بن ربيعة، عن الأعرج قال أبو هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاع تمر (¬3). وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في الموقف من هذا الحديث على أقوال: القول الأول: ذهب أبو حنيفة ومحمد بن الحسن رحمهما الله إلى أنه لا خيار للمشتري بسبب التصرية، وهو قول أشهب من المالكية (¬4). ¬
القول الثاني
وهل يرجع المشتري على البائع بالنقصان؟ روايتان: أحدهما: لا يرجع بشيء، وهي رواية الكرخي (¬1). الثانية: يرجع, وهي رواية الطحاوي، وذلك لفوات وصف مرغوب فيه، قال في الدر المختار: وهو المختار (¬2). القول الثاني: ذهب عامة أهل العلم إلى أن البيع لا يبطل بالتدليس، وأن العقد صحيح مع الإثم, وللمشتري الخيار، إن شاء أمضى البيع، وإن شاء رده، وإن اختار الإمساك أمسكه بلا أرش (¬3). ¬
القول الثالث
القول الثالث: ذهب داوود الظاهري إلى أن البيع باطل بالتدليس (¬1). دليل الجمهور على ثبوت الخيار: الدليل الأول: (ح-464) من السنة ما رواه البخاري من طريق جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال أبو هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاع تمر (¬2). وجه الاستدلال: ثبوت الخيار للمشتري فرع عن صحة البيع، فلو كان البيع باطلاً لما ثبت فيه الخيار، ولتعين الرد. الدليل الثاني: أن التحريم لا يرجع إلى ذات العقد، وإنما يرجع إلى أمر خارج، والنهي إذا لم ¬
الدليل الثالث
يكن عائدًا إلى ذات الشيء صح مع الإثم، فجعل لمن وقع عليه الغش الخيار، إن شاء أمضاه، وإن شاء رده، ولم يجعل الخيار للبائع؛ لأنه لم يقع عليه غش. الدليل الثالث: حكى ابن قدامة الإجماع على صحة البيع، قال: "متى علم بالبيع عيبًا لم يكن عالماً به فله الخيار بين الإمساك والفسخ، سواء كان البائع علم العيب وكتمه، أو لم يعلم، لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافًا" (¬1). وناقش الحنفية: بأن الرد بالعيب محل اتفاق، ولا نسلم أن التصرية عيب، كما سيأتي بيانه في أدلتهم. الدليل الرابع: (ح-465) ما رواه أحمد، قال: ثنا وكيع، ثنا المسعودي، عن جابر، عن أبي الضحى، عن مسروق عن عبد الله قال: ثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الصادق المصدوق، قال: بيع المحفلات خلابة، ولا تحل الخلابة لمسلم (¬2). [إسناده ضعيف، والمعروف وقفه] (¬3). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: الخلابة: هي الغش والخديعة، وإذا ثبت أن التصرية غش وخديعة ثبت للمشتري حق الرجوع؛ لأن الرضا لم يتحقق كاملاً بحيث لو أدرك المشتري حقيقة المعقود عليه لما أقدم على العقد، ولئن كان المرفوع ضعيفاً فإن الموقوف صحيح، وقول ابن مسعود حجة إذا لم يخالف نصًا، أو يخالف صحابيًا آخر، كيف وهو موافق للحديث المرفوع: لا تصروا الإبل والغنم السابق ذكره؟ (ث-91) وقد روى ابن أبي شيبة عن قيس بن أبي حازم بإسناد صحيح أنه قال: التصرية خلابة (¬1). الدليل الخامس: حديث ثبوت الخيار بالتصرية مع أنه حديث صحيح في أعلى درجات ¬
دليل أبي حنيفة على عدم ثبوت الخيار بالتصرية
الصحة، وكان ذلك كافيًا في حق الفقيه، فهو موافق للقواعد، فإن الرضا شرط لصحة البيع، وفقده يؤثر في العقد، وإلزام الناس به يكون من أكل أموال الناس بالباطل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، والمشتري لم يقبل المبيع، ولم يرض أن يبذل الثمن إلا لظنه أن المباع كثير اللبن، وقد فعل البائع ما أوقع المشتري في التغرير من التصرية المنهي عنها بالإجماع كما سبق ذكره، فأفقد ذلك لزوم البيع في حق المشتري، وكان له الخيار ليتحقق الرضا، والذي هو شرط من شروط صحة البيع. دليل أبي حنيفة على عدم ثبوت الخيار بالتصرية: الدليل الأول: قالوا: إن التصرية ليست عيبًا، بدليل أنه لو لم تكن مصراة، فوجدها أقل لبنًا من أمثالها لم يملك ردها بالاتفاق؛ لأن قلة اللبن ليست عيبًا، والبيع إنما يقتضي سلامة المبيع، وبقلة اللبن لا تنعدم صفة السلامة؛ لأن اللبن ثمرة، وبعدم الثمرة لا تنعدم السلامة. وإذا ثبتت صفة السلامة انتفى العيب، وما دام أنه ليس بعيب فالتدليس به لا يوجب الخيار (¬1). ويجاب: لو سلمنا أن قلة اللبن ليست عيبًا، فإن كثرة اللبن صفة كمال مطلوبة للمشتري، وقد اشترى الدابة بناء على وجود هذه الصفة، فتبين عدم وجودها فاستحق الخيار لفوات الصفة المرغوبة، خاصة أن هذه الصفة تزيد في قيمة الدابة. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن المشتري مغتر، وليس بمغرور، فهو كما لو علفها فانتفخت بطنها، وظن المشتري أنها حامل لم يثبت له الخيار فكذلك هنا، وانتفاخ الضرع قد يكون بسبب كثرة اللبن، وقد يكون بالتحفيل، وعلى ما ظهر من عادات الناس احتمال التحفيل فيه أظهر، فيكون هو مغترًا، وقد كان يمكنه أن يسأل البائع ليبني على النص الذي يسمع منه، أو يشترط عدم التصرية، فحين لم يفعل كان ذلك دليلاً على رضاه بعيبها، وبالتالي فهو ليس مغرورًا من قبل البائع، وإنما هو الذي غر نفسه (¬1). ويجاب عن ذلك: لا نسلم أن الغالب في امتلاء الضرع أن يكون عن تصرية؛ لأن الأصل في معاملة المسلم عدم الغش والتدليس، وكونه لم يسأل بناء على هذا الأصل، والمشتري إذا رأى في السلعة صفة مرغوبة قد يحمله ذلك على المبادرة على الشراء حتى لا تفوته، فيلهيه ذلك عن السؤال، ويكون الاغترار ناتجًا عن التغرير. الدليل الثالث: اشتراط غزارة اللبن مفسد للبيع كشرط الحمل، فإذا كافي لا يمكن اشتراطه لم يكن فقده نقصًا في المبيع (¬2). وأجيب: لا نسلم أن اشتراط الحمل مفسد للبيع، وإنما الممنوع أن يشترط مقدارًا أو ¬
الدليل الرابع
وصفًا في الحمل فهذا لا يصح قطعا؛ لأنه لا سبيل إلى معرفته، وأما اشتراط أصل الحمل فهذا يصح على الأصح؛ لأنه معلوم موجود، وعليه أمارات ظاهرة يعرفها أهل الخبرة (¬1). وعلى التسليم بأن اشتراط الحمل لا يجوز فإن القياس عليه قياس مع الفارق، فإن الحمل مجهول الجنس، ولا يمكن الاطلاع عليه إلا بعد الولادة، وذلك لا يعرف موعده بسهولة، وأما اللبن فيمكن استخراجه من الضرع في الحال. الدليل الرابع: ما فعله البائع من التصرية في المبيع بمنزلة خبر يخبر به المشتري، وليس شرطًا مشروطًا في العقد فلا يلزم منه الضمان، كما لو أخبر شخص آخر بأن الطريق آمن، فسار فيه، فوجد فيه لصوصًا فأخذوا ماله، فإنه لا يضمن له ما أخذ منه (¬2). ويجاب: بأن المشتري لما رأى الضرع مملوءًا لبنًا ظن أنه عادة لها، فكأن البائع شرط له ذلك، فتبين الأمر بخلافه، فثبت له الرد لفقد الشرط المعنوي؛ لأن البائع يظهر صفة المبيع تارة بقوله وتارة بفعله، فإذا أظفر المبيع على صفة فبان الأمر بخلافها، كان قد دلس عليه، فشرع له الخيار، وهذا هو محض القياس، ومقتضى العدل ... وقد أثبت الشارع الخيار للركبان إذا تلقوا واشتري منهم قبل أن يهبطوا السوق ويعلموا السعر، وليس هناك عيب، ولا خلف في شرط، ولكن لما فيه من الغش والتدليس (¬3). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: أن اللبن الذي أخذه المشتري قد كان بعضه في ضرعها وقت وقوع البيع، فهو جزء من المبيع، وبعضه حدث في ضرعها في ملك المشتري بعد وقوع البيع عليها فهو من ملك المشتري، فلما لم يمكن رد اللبن بكماله على البائع؛ لأن بعضه مما يملكه المشتري. ولم يمكن أن يجعل كله للمشتري؛ لأن بعضه جزء من المبيع، وقد اختلط هذا بهذا, ولم يعرف مقدار واحد منهما، فيفوت الفسخ في المبيع كما لو تصرف المشتري في المبيع المعيب بعد قبضه (¬1). ويجاب: بأن الشرع قد قضى في هذا النزاع، ونص على رد صاع من تمر بدلًا من اللبن المجهول الكمية، فوجب المصير إليه. موقف الحنفية من حديث أبي هريرة في النهي عن التصرية. ادعى الحنفية في رد حديث أبي هريرة دعاوى كثيرة، كلها لا تقف في مواجهة الحديث الثابت الصحيح، منها ما لا ينبغي ذكره، كالكلام الذي يطال شخص الصحابي الجليل أبي هريرة - رضي الله عنه -، فإن مثل هذا لا يقدر الباحث على ذكره تعاظمًا له واستقباحًا، فيرى بدلا من الجواب عليه تجاهله؛ لافتقاره إلى الموضوعية والإنصاف، وأسأل الله أن يغفر لهم ما وقعوا فيه من التعصب الذي أوقعهم في النيل من صحابي جليل كرس حياته لحفظ العلم، وروايته. ومنها ما يمكن مناقشته والجواب عنه كقولهم: إن هذا الحديث مخالف للكتاب والسنة والأصول من وجوه عندهم: ¬
أحدها: أن ضمان المتلفات يتقدر بالمثل بالكتاب والسنة، وفيما لا مثل له بالقيمة، فإن كان اللبن من ذوات الأمثال فالواجب المثل، والقول قول المشتري في مقداره، وإن لم يكن من ذوات الأمثال فالواجب القيمة، فأما إيجاب التمر مكان اللبن فهذا مخالف لما ثبت بالكتاب والسنة. وثانيها: الأصل أنه إذا قل المتلف قل الضمان، وإذا كثر المتلف كثر الضمان وهنا الواجب صاع من التمر قل اللبن أو كثر. وثالثها: أن حديث المصراة قد خالف الأصول في توقيت خيار العيب بثلاث، مع أن خيار العيب لا يقدر بالثلاث (¬1). ورابعها: أن لبن المصراة دين في ذمة المشتري، وإذا أوجبنا في ذمته صاعًا من تمر، كان الطعام بالطعام نسيئة، ودينًا بدين، وهذا ممنوع (¬2). وخامسها: أنه معارض لحديث الخراج بالضمان، وهو أصل متفق عليه (¬3). (ح-466) فقد روى أحمد من طريق ابن أبي ذئب، قال: حدثني مخلد ابن خفاف بن إيماء، عن عروة عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: الخراج بالضمان (¬4). [إسناده ضعيف، وضعفه البخاري وأبو داود، وقال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم] (¬5). ¬
وجه الدلالة
وجه الدلالة: أن معنى قوله: (الخراج بالضمان) الخراج: يراد به ما يخرج ويحصل من غلة العين، وذلك بأن يشتري المشتري حيوانًا أو سلعة فيستغلها زمنًا، ثم يعثر على عيب فيها، فله رد العين المعيبة، وأخذ الثمن، ويطيب للمشتري ما استغله؛ لأن المبيع لو تلف في يده لكان عليه ضمانه، ولم يكن له على البائع شيء، والباء في ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ويجاب عن ذلك
قوله: (بالضمان) سببية، أي الخراج مستحق بسبب الضمان (¬1). وإذا كان الخراج بالضمان لم يكن اللبن مضمونًا على المشتري في حال التصرية. ويجاب عن ذلك: أما رد الحديث لمخالفته الأصول، فيقال: الحديث موافق لأصول الشريعة وقواعدها, ولو خالفها لكان أصلاً بنفسه، كما أن غيره أصل بنفسه، وأصول الشرع لا يضرب بعضها ببعض، كما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أن يضرب ¬
ودعوى أن الحديث معارض للقياس، فيقال
كتاب الله بعضه ببعض بل يجب اتباعها كلها، ويقر كل منها على أصله وموضعه، فإنها كلها من عند الله الذي أتقن شرعه وخلقه (¬1). قال ابن عبد البر: "هذا الحديث مجمع على صحته، وثبوته من جهة النقل، وهذا مما يعد وينقم على أبي حنيفة من السنن التي ردها برأيه، وهذا ما عيب عليه، ولا معنى لإنكارهم ما أنكروه من ذلك؛ لأن هذا الحديث أصل في نفسه" (¬2). وقال النووي: "أجمع أهل العلم بالحديث على صحته وثبوته من حديث أبي هريرة، رواه عنه الأعرج، ومحمد بن سيرين، وأبو صالح السمان، وهمام ابن منبه، وثابت مولى عبد الرحمن، وقد تقدمت روايتهم، ومحمد بن زياد، ورواياته في جامع الترمذي ... وموسى بن يسار ... ومجاهد وأبو إسحاق، ويزيد ابن عبد الرحمن بن أذينة وغيرهم، ورواه عن هؤلاء وعمن بعدهم خلائق لا يحصون، حتى ادعى بعضهم أنه صار إلى التواتر" (¬3). ودعوى أن الحديث معارض للقياس، فيقال: الأصول في الحقيقة اثنان لا ثالث لهما: كلام الله، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما عداهما فمردود إليهما؛ فالسنة أصل قائم بنفسه، والقياس فرع، فكيف يرد الأصل بالفرع؟ فالحديث أقوى من القياس، وهو مقدم على القياس من حيث رتبته في التشريع، فلا يعارض الأقوى بالأدنى، وقد قال أحمد: إنما القياس أن نقيس على أصل، فأما أن تجيء إلى أصل، فتهدمه، ثم تقيس عليه، فعلى أي شيء تقيس" (¬4). ¬
أما الجواب على الاعتراض يكون الضمان من غير اللبن
وقال ابن السمعاني: "لا يرد الخبر بالقياس باتفاق، فالسنة مقدمة عليه بلا خلاف" (¬1). أما الجواب على الاعتراض يكون الضمان من غير اللبن: أما الاعتراض على الحديث بكونه جبر لبن المصراة بالتمر، مع أن جبر الأعيان إما بالمثل أو بالقيمة. فيقال: لم يعرف مقدار اللبن حتى يمكن رد مثله أو قيمته، وما كان مجهول الوصف والقدر جاز الرجوع فيه إلى بدل مقدر في الشرع من غير الرجوع إلى مثله أو قيمته، كالغرة في الجنين يستوي فيه الذكر والأنثى، وإن اختلفت دياتهما. وكذلك الموضحة حكم الشارع في صغيرها وكبيرها بحكم واحد، تستوي فيه دية ما كبر منها وما صغر (¬2). هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن اللبن الذي في المصراة لا يمكن تضمينه بمثله، وذلك لأن اللبن الذي في الضرع محفوظ غير معرض للفساد، فإذا حلب صار عرضة لحمضه وفساده. وأما الاعتراض يكون الرد صاعًا مطلقًا لا فرق بين قليله وكثيره: فالجواب عنه أن يقال: إن اللبن الموجود في الضرع وقت العقد والذي هو للبائع قد اختلط به لبن حادث بعد العقد يملكه المشتري، ولا سبيل إلى معرفة مقدار اللبن القديم من اللبن الحادث، فإن جُعِل تقدير ذلك إلى المتعاقدين ¬
وأما معارضة الحديث بحديث الخرج بالضمان.
أفضى ذلك إلى التنازع والخصومات، لذلك تولى الشرع تقديره قطعاً للنزاع (¬1). فلما تعذر معرفة مقدار الحق شرع الشارع ما هو أمثل الطرق وأقربها إلى الحق، ولذلك تجد الشارع يأمر أحيانًا بالخرص إذا تعذر الكيل أو الوزن، إقامة للظن مقام العلم عند تعذر العلم، ويأمر بالاستيهام لتعيين المستحق عند كمال الإيهام، وتارة يقدر بدل الاستحقاق إذا لم يكن طريق آخر لقطع الشقاق، ورد المشتري للصاع بدل ما أخذ من هذا الباب (¬2). وأما معارضة الحديث بحديث الخرج بالضمان. فيقول ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ: "حديث المصراة أصح منه باتفاق أهل الحديث قاطبة ... مع أنه لا تعارض بينهما بحمد الله؟ فإن الخراج اسم للغلة مثل كسب العبد وأجرة الدابة ونحو ذلك، وأما الولد واللبن فلا يسمى خراجًا، وغاية ما في الباب قياسه عليه بجامع كونهما من الفوائد، وهو من أفسد القياس، فإن الخراج لم يكن موجودًا حال البيع، وإنما حدث بعد القبض، وأما اللبن هاهنا فإنه كان موجودًا حال العقد، فهو جزء من المعقود عليه، والشارع لم يجعل الصالح عوضًا عن اللبن الحادث، وإنما هو عوض عن اللبن الموجود وقت العقد في الضرع، فضمانه هو محض العدل والقياس" (¬3). وعلى التسليم بأن حديث المصراة مخالف للأصول، فإن الواجب مع صحة ¬
الراجح من الخلاف
الحديث أن يستثنى هذا من هذه الأصول كلها لموضع صحة الحديث، وهذا كأنه ليس من هذا الباب، وإنما هو حكم خاص (¬1). الراجح من الخلاف: الراجح الذي يتعين القول به أن التدليس حرام، ويثبت الخيار لمن دلس عليه، وأن البيع صحيح مع التدليس فلا يفسد أصل البيع، وأن الخيار لمن وقع عليه التدليس، إن شاء أمضى البيع، وإن شاء رد البيع، وأن السنة الصحيحة الثابتة لا تعارض بالعقل والقياس، فالموقف هو التسليم للحديث الصحيح، والقول بمقتضاه، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس خيار في البيع لظهور الخيانة في بيوع الأمانة
الفصل الخامس خيار في البيع لظهور الخيانة في بيوع الأمانة من خيارات النقيصة خيار في البيع لظهور الخيانة في بيوع الأمانة، وقد تكلمنا في أحكام الثمن عن بيوع الأمانة وذلك عند الكلام على تحديد الثمن، وتناولنا أنواع بيوع الأمانة من مرابحة، ومواضعة، وتولية، وشركة، ونتناول في هذه المباحث ما لو ظهر من البائع خيانة للمشتري في هذه البيوع، فهل يثبت له الخيار أو لا يثبت؟ هذا ما سوف نتكلم عليه في هذه المباحث إن شاء الله تعالى.
المبحث الأول ظهور الخيانة في بيع المرابحة
المبحث الأول ظهور الخيانة في بيع المرابحة الفرع الأول ظهور الخيانة في صفة الثمن الثمن يزاد لأجل الأجل، فيعتبر الأجل مالاً في المرابحة (¬1). قال ابن قدامة: الأجل يقتضي جزءًا من العوض (¬2). [م - 580] إذا ظهرت الخيانة في صفة الثمن، كما لو اشترى شيئاً مؤجلاً، وباعه مرابحة حالاً، ولم يبين ذلك، فقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال: القول الأول: له الخيار بين الإمساك والرد، وهذا مذهب الحنفية (¬3)، والشافعية (¬4)، وقول في مذهب الحنابلة (¬5)، حتى حكى في ذلك الإجماع (¬6). ¬
القول الثاني
القول الثاني: للمشتري أن يرد المبيع، ولا يصح أن يأخذه بالثمن مؤجلاً. وإن رضي المشتري به نقدًا فقولان: أقواهما الصحة؛ لأنه حق لمخلوق، وهذا مذهب المالكية (¬1)، ورواية في مذهب الحنابلة (¬2). ¬
القول الثالث
القول الثالث: يأخذه المشتري مؤجلاً, ولا خيار له، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، قال صاحب الفروع: اختاره الأكثر (¬1). القول الرابع: يحط عن المشتري مقدار التفاوت بين المؤجل والحال، والفرق يأخذه المشتري، ولا خيار. اختاره بعض فقهاء الشافعية (¬2). وجه من قال له الخيار: الوجه الأول: أن الإنسان في العادة يشتري الشيء مؤجلاً بأكثر مما يشتريه حالاً، فإذا باعه تولية أو مرابحة حالاً ولم يخبر المشتري فكأنه باعه بأكثر مما اشتراه به، وهذا غش للمشتري يوجب له الخيار. الوجه الثاني: سبق لنا أن التدليس يوجب أمرين: الأول صحة العقد، والثاني: ثبوت الخيار لمن وقع عليه التدليس، كما في حديث المصراة، وهذا منه حيث اشتراه مؤجلاً ولم يبين، فلم نبطل العقد، وجعلنا الخيار للمشتري. وجه من قال: يأخده المشتري مؤجلاً: إذا كان المشتري الأول قد أخذه مؤجلاً، فيجب أن يأخذه المشتري الثاني ¬
وجه من قال: يحرم أن يأخذه المشتري مؤجلا
على صفته، وكون البائع لا يرضى بذلك، فقد عقد البيع على أنه من بيوع الأمانة، وهو اعتبار الثمن الأول في قدره وصفته، فيلزمه ذلك. وجه من قال: يحرم أن يأخذه المشتري مؤجلاً: قالوا: "لما كان له رد السلعة إذ هي قائمة، صار التأخير بالثمن إنما اتفقا عليه من أجل ترك القيام الذي كان له أن يفعله، فهو من باب السلف الذي يجر نفعاً، كمن وجد عيبًا في سلعة، فقال البائع: لا تردها، وأنا أؤخرها بالثمن إلى أجل، أن ذلك سلف جر نفعًا" (¬1). ويناقش: بأن هذا من احتياط المالكية في باب سد الذرائع في بيوع الآجال، وكثير منها لا يكون المنع قويًا، وهذا منه. وجه من قال: يحط التفاوت بين المؤجل والحال: لعل من قال ذلك: رأى أن العقد لما وقع حالاً، بينما العقد في الثمن الأول كان مؤجلاً رأى أن يدفع التغرير الواقع على المشتري بخصم قيمة التأجيل من الثمن، ونكون بذلك قد راعينا كلاً من البائع والمشتري. الراجح: أجد أن قول الجمهور: وهو أن البيع صحيح، وأن المشتري غير بين الإمساك أو الرد هو أقوى الأقوال حجة، والله أعلم. أما قول المالكية: إن المشتري لا يحق له أن يأخذه بالأجل، وأن ذلك من باب السلف الدي يجر نفعًا فهو من باب الاحتياط وسد الذرائع، ولا يظهر لي ¬
قوته؛ لأن الأجل تبين أنه مستحق من العقد، وليس بعد ثبوت الدين حيث إن العقد وقع بالثمن الأول، وهذا يعني أنه باعه بالثمن الأول قدرًا وصفة، والتأجيل صفة، وكونه كتمها لا يعني ذلك أنها غير مستحقة، والله أعلم.
الفرع الثاني ظهور الخيانة في بيع المرابحة بقدر الثمن
الفرع الثاني ظهور الخيانة في بيع المرابحة بقدر الثمن فوات صدق البائع يوجب الخيار كفوات السلامة من العيب (¬1). [م - 581] إذا ظهرت الخيانة في بيع المرابحة بقدر الثمن، كما لو باع رجل سلعة مرابحة، ثم تبين أن رأس مالها الأول أقل مما ذكره البائع إما بإقرار البائع، أو بقيام البينة، وكانت السلعة قائمة لم تتغير، ولم يتعذر ردها على البائع، فقد اختلف الفقهاء في هذا على قولين: القول الأول: البيع صحيح، وهذا قول عامة الفقهاء الذين قالوا بثبوت الخيار، أو قالوا: يجب حط الزائد؛ لأن ثبوت الخيار، أو وجوب حط الزائد فرع عن صحة البيع، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى. القول الثاني: البيع باطل، حكاه وجهًا أبو حامد من الشافعية، وهو ضعيف (¬2). والقائلون بأن العقد صحيح اختلفوا في الواجب: القول الأول: المشتري بالخيار بين أخذ المبيع بجميع الثمن، وبين رده على صاحبه. وبه قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن، وهو المعتمد في المذهب (¬3)، وقول في ¬
القول الثاني
مذهب الشافعية (¬1). القول الثاني: المشتري بالخيار بين أخذ المبيع برأس ماله الصحيح، وما يقابله من الربح، وبين رده على صاحبه. وهذا قول مخرج عند الشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد اختارها بعض الحنابلة (¬3). والفرق بين هذا القول والقول السابق أنهما اتفقا على أن المشتري يملك حق الرد، واختلفوا هل له أن يأخذه بالثمن الحقيقي الذي كتمه البائع، أو ليس له أن يأخذه إلا بجميع الثمن الذي اتفقا عليه، وتراضيا عليه. القول الثالث: إن حط البائع الزيادة وما يقابلها من الربح فلا خيار للمشتري، وإن لم يفعل فالمشتري بالخيار بين الإمساك والرد. وهذا مذهب الإِمام مالك (¬4). القول الرابع: يجب حط الزائد مع قسطه من الربح، ولا خيار لهما، اختاره أبو يوسف من ¬
القول الخامس
الحنفية (¬1)، وهو الأظهر عند الشافعية (¬2)، والصحيح من المذهب عند الحنابلة (¬3). القول الخامس: إن باعه، وأخبره أنه اشترى السلعة بكذا وكذا، وأنه لا يربح فيها إلا كذا وكذا، فوجده كاذبًا، فالبيع صحيح، وكذبه لا يضر البيع شيئًا, ولا رجوع للمشتري على البائع بشيء إلا من عيب في المبيع أو غبن ظاهر كسائر البيوع، والكاذب آثم لكذبه، وهذا اختيار ابن حزم (¬4). وجه من قال: المشتري بالخيار إن شاء أخذه بكل الثمن، وإن شاء رده: الوجه الأول: قياس عقد المرابحة على عقد السلعة المعيبة، فإن عقد المرابحة مبني على ¬
ونوقش
الصدق والأمانة، وفوات الأمانة يوجب الخيار كفوات السلامة من العيب، بجامع أن كلًا منهما مشروط دلالة. وإذا كان على المشتري أن يأخذ السلعة المعيبة بكامل الثمن أو يتركها دون أخذ الأرش على الصحيح، فكذلك عقد المرابحة، إن شاء أخذها بالثمن الذي اتفقا عليه أو يترك السلعة؛ لأن الثمن الحقيقي ليس محل وفاق بين العاقدين حتى يمكن الرجوع إليه عند ظهور الخيانة في الثمن، فكان مقتضى العدل بين البائع والمشتري أن يعطى الخيار للمشتري دفعًا للخيانة، فلا نلزمه بالعقد، ولا نلزم البائع بالثمن الأصلي لأنه في الحقيقة لم يرضه. وكونه كذب بالثمن هذا لا يجعلنا نظلمه فنأخذ منه ماله بما لم يبع به. ونوقش: بأن القياس على السلعة المعيبة قياس مع الفارق، فإن بائع السلعة المعيبة لم يرض بإخراج السلعة إلا بالثمن المسمى المتفق عليه، بخلاف البائع في عقد المرابحة فإنه قد رضي أن يكون البيع برأس المال، وربح معلوم، فإذا تبين زيادة في رأس المال حطت الزيادة وما يقابلها من الربح، وهذا هو ما وقع عليه العقد حقيقة. ورد هذا الاعتراض: بأن العقد قد عقد على الثمن المسمى، هو الثمن المعلوم، ولذلك بذله المشتري، وأما ذكر المرابحة مع تسمية الثمن فهو صفة ترويجية، فإذا ظهرت الخيانة أوجب ذلك الخيار للمشتري، ولا يعني هذا تغيير الثمن المسمى إلى ثمن لا يرضاه البائع كما يثبت الخيار لفوات السلامة من العيب، ولا يعني هذا تغيير الثمن مع أن وجود العيب قد أنقص القيمة.
الوجه الثاني
الوجه الثاني: القياس على الخيانة في صفة الثمن، فإذا كان البائع إذا باع مرابحة حالاً ما اشتراه نسيئة، ولم يبين، فالمشتري بالخيار على الصحيح، ولا نقول له: اقبلها مؤجلة، فكذلك الشأن إذا خان في مقدار الثمن. الوجه الثالث: قد لا يطمئن المشتري إلى البائع إذا تبين له أنه قد خانه في بيع الأمانة؛ لأن من خان في الخبر الأول فلا يؤمن أن يخون في الخبر الثاني، وربما خاف أن يخونه في أمور لا يدري عنها، فاحتاج الأمر إلى أن يترك الأمر إلى اختيار المشتري، ولا يلزم بالمبيع. تعليل المالكية بأنه إذا حط البائع الزيادة وما يقابلها من الربح فلا خيار: إلزام البائع بحط الزيادة إجبار على البيع بما لم يرض، ومن ثم شرع الخيار للمشتري دفعًا للخيانة، فإذا حط البائع الزيادة من قبل نفسه وحط ما يقابلها من الربح، فقد اندفع الضرر عن المشتري، ومن ثم فلا وجه لمشروعية الخيار للمشتري بعد حط الزيادة؛ لأن الأصل في العقد اللزوم. وبهذا نكون قد راعينا مصلحة كل واحد من المتعاقدين بحيث لم نجبر البائع على حط الزيادة وما يقابلها, ولم نلزم المشتري بالمبيع بالثمن المسمى، وبهذا تتحقق قاعدة: لا ضرر، ولا ضرار. وجه من قال: يحط الزائد وما يقابله من الربح، ولا خيار لهما: الوجه الأول: رأس المال الحقيقي هو الأصل في بيع المرابحة؛ لأن العقد مبني عليه، فإذا
الوجه الثاني
فسدت التسمية بسبب الخيانة بطلت التسمية، وبقي العقد لازمًا بالثمن الحقيقي وما يقابله من الربح. الوجه الثاني: أن المشتري إذا حط عنه الزيادة وما يقابلها من الربح فقد ازداد خيرًا، وإذا كان قد رضي بالثمن الأكثر فهو سيرضى بالأقل من باب أولى، فلا وجه للخيار؛ لأن الخيار إنما شرع لدفع الضرر، أو جبر النقص، ولا ضرر هنا، ولا نقص؛ لأن من رضي بمئة وعشرة مثلاً سيرضى بتسعة وتسعين من باب أولى. الوجه الثالث: القياس على عقد الشفعة، إذا أخذت بما أخبر به المشتري ثم تبين كذب المشتري، فإن الشفيع يأخذ الشفعة بالثمن الصحيح، فكذلك عقد المرابحة إذا تبين كذب البائع في الثمن، فإن المشتري يأخذها بالثمن الصحيح. ويناقش: بأن هناك فرقًا بين عقد الشفعة وعقد البيع، فعقد الشفعة هو استحقاق الشريك حصة شريكه بسبب الشفعة، فينتزع الشريك الملك من المشتري بالثمن الصحيح، غير معتبر رضا المشتري، فلا يمكنه إبطاله ولا تغييره، وبالخيانة يكون قد قصد تغييره فيرد عليه، بينما عقد المرابحة قد يقال: إن العاقدين لم يتراضيا إلا على المسمى، والكذب فيه يجعل الخيار للمشتري، ولا يلزم البائع أن يخرج ملكه بأقل مما سمى في عقد البيع، والله أعلم. وجه من قال: البيع صحيح، ولا خيار مع الإثم: رأى ابن حزم رَحِمَهُ اللَّهُ أن البيع إذا سلم من الغرر، والجهالة، والعيب فقد وقع
الراجح من الخلاف
صحيحًا كما أمر الله تعالى، وكذب البائع معصية لله تعالى، ليست معقودًا عليها، فهو كزناه لو زنى، أو شربه الخمر لو شرب، ولا فرق (¬1). الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأقوال أجد أن القول بأن المشتري بالخيار إلا أن يرضى البائع بحط الزائد وما يقابله من الربح، ولا أرى إلزام البائع بحط الزائد خوفاً من أن نكون أكرهناه على إخراج ماله بغير الثمن الذي ارتضاه، فإذا أسقطه من قبل نفسه فلا حاجة إلى خيار المشتري؛ لأنه لا ضرر عليه والحالة هذه؛ ولأن القول بالخيار والحالة هذه قد يتخذها المشتري وسيلة للتخلص من المبيع الذي لزمه خاصة إذا كانت قيمة السلع قد نقصت في السوق، فيستغل هذا ليتخلص من التزاماته، ويقع ضرر على البائع دون حاجة إلى ذلك، والله أعلم. تنبيه: إذا اشترى سلعة مرابحة، فعلم المشتري أن البائع كذب في رأس المال, فرضي المشتري بالسلعة، ثم أراد أن يبيعها مرابحة، فذكر في المدونة أنه لا يبيعها مرابحة حتى يبين (¬2). ¬
المبحث الثاني ظهور الخيانة في بيع التولية والشركة والوضيعة
المبحث الثاني ظهور الخيانة في بيع التولية والشركة والوضيعة [م - 582] الأصل أن كلًا من المرابحة والتولية والشركة والوضيعة كلها من بيوع الأمانات، فالحكم في واحد منها لا يختلف عن الحكم في سائرها، والذي حملني على فصل الخيانة في عقد المرابحة عن غيرها أن أبا حنيفة وبعض الشافعية اختلف حكمهم في المرابحة عن حكمهم في التولية والشركة والوضيعة، فاحتاج الأمر إلى فصل المرابحة عن باقي بيوع الأمانة. فإذا ظهرت الخيانة في عقد التولية، والشركة، والوضيعة فقد اختلف الفقهاء فيها على أقوال: القول الأول: يحط القدر الزائد، ولا خيار للمشتري. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة (¬1)، وأبو يوسف (¬2)، وهو القول الأظهر عند الشافعية (¬3)، والصحيح في مذهب الحنابلة (¬4). ¬
دليل أبي حنيفة على وجوب حط الزائد في التولية دون المرابحة
القول الثاني: المشتري بالخيار إن شاء فسخ العقد، وإن شاء أخذ المبيع بجميع الثمن، وهذا اختيار محمَّد بن الحسن من الحنفية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). القول الثالث: المشتري بالخيار بعد حط مقدار الخيانة في الثمن وما يقابلها من الربح، وهو قول للشافعية (¬3)، وقول للحنابلة (¬4). القول الرابع: إن حط البائع الزيادة فلا خيار للمشتري، وإن لم يفعل فالمشتري بالخيار بين الإمساك والرد. وهذا مذهب الإمام مالك (¬5). دليل أبي حنيفة على وجوب حط الزائد في التولية دون المرابحة: إذا خان البائع في عقد التولية، فلو أخذه المشتري بالثمن المسمى لم يكن ¬
دليل الشافعية والحنابلة على أن الزائد يحط في الجميع
تولية، بل يصير به البيع مرابحة لا تولية، فلما صرحا بالتولية كان ذلك منهما نفياً لمقدار الخيانة، بخلاف الخيانة في بيع المرابحة فإننا إذا أثبتنا جميع المسمى لا يتغير به العقد عن كونه مرابحة، غاية ما هنالك أن يكون الربح أكثر مما ظنه المشتري، والبائع دلس عليه بجعل بعض الربح من رأس المال، فكان ذلك يثبت الخيار للمشتري، ولم يجب حط الزائد. دليل الشافعية والحنابلة على أن الزائد يحط في الجميع: سبق ذكر أدلتهم في الخيانة في بيع المرابحة، فأدلتهم واحدة، فهم لا يفرقون بين بيع المرابحة، وبين التولية، والشركة، والوضيعة. دليل المالكية على أن المشتري بالخيار إلا إذا حط البائع القدر الزائد: سبق ذكر أدلتهم في الخيانة في بيع المرابحة، فأدلتهم واحدة، فهم لا يفرقون بين بيع المرابحة، وبين التولية، والشركة، والوضيعة. دليل من قال: المشتري بالخيار بعد حط الزيادة وما يقابلها: أن المشتري لا يأمن الخيانة في هذا البيع أيضًا، ولأن المشتري ربما كان له غرض في الشراء بذلك الثمن بعينه لكونه وكيلاً، أو عليه يمين أو نحو ذلك. وقد يقال: إن احتمال أن يكون وكيلاً، أو عليه يمين أمر نادر الوقوع، ومع ذلك فالوكيل له أن يشتري بأقل مما وكله صاحبه؛ لأنه زيادة خير له، بخلاف ما لو كان يلزمه أن يشتري بأكثر مما وكله به، فربما هنا يتوقف الأمر على إجازته، والله أعلم. الراجح من الخلاف: ما رجحناه في الخيانة في أمر المرابحة نرجحه هنا، فالشأن واحد،
فالمشتري بالخيار إلا أن يضع عنه البائع برضاه مقدار ما غرر به وخانه، والله أعلم. ***
الباب الثالث خيار لاختلاف المتابعين
الباب الثالث خيار لاختلاف المتابعين تمهيد ذكرنا في الباب الأول من كتاب الخيار: خيار التروي، وذكرنا في الباب الثاني خيار النقيصة، وهذا الباب من الخيار هو قسم ثالث، لا يلحق لا بهذا ولا بذاك، ويسمى خيار لاختلاف المتبايعين، وهذا الخلاف يأخذ أشكالًا مختلفة، وقد ذكر صاحب تهذيب الفروق ثمانية عشر نوعًا من الاختلاف بين المتعاقدين (¬1): من اختلاف في أصل العقد، واختلاف في عين المبيع، واختلاف في قدر الثمن، واختلاف في صفته، واختلاف في أجل أو شرط، واختلاف في التسليم، واختلاف في دعوى فساد العقد لاختلال شرط، أو وجود مانع، واختلاف في دعوى تغير المبيع إذا بيع بصفة أو رؤية متقدمة، واختلاف عند من حدث العيب، إلى غير ذلك، وربما كان الحكم مختلفًا بين كل مسألة وأخرى، فبعضها قد يعطي العاقدين الخيار، وبعضها قد لا يعطي العاقدين الخيار، وسوف أتكلم إن شاء الله تعالى على كل مسألة وأبين خلاف العلماء فيها. أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. وهذا الباب عظيم الشأن؛ وذلك لأنّ الخلاف يقع كثيراً بين المتبايعين، والعناية به من أهم الأمور؛ لأنّ الإِسلام حريص على سد أبواب النزاع بين المسلمين، وحريص على إقامة العدل بينهم، ولا يتأتى هذا إلا مع العناية ¬
الشديدة في هذا الباب، وعلى طالب العلم أن يعني به لمعرفة من المقدم قوله، ولتحديد المدعي من المدعى عليه، ولهذا أفرد الفقهاء في مصنفاتهم فصولاً خاصة في اختلاف المتبايعين، وكان الأليق بهذا الكتاب أن يذكر في باب الأقضية، لعلاقته الشديدة بذلك، ومع ذلك فكثير من الفقهاء تكلموا فيه في باب البيوع، وقد تابعتهم على ذلك تأسياً بهم. والكلام في اختلاف المتعاقدين المقصود به عند عدم البينة كما أشار إلى ذلك الفقهاء (¬1)، فإن كان لأحدهما بينة قضي بها بلا نزاع. (ح-467) لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - للحضرمي: (ألك بينة) قال لا. قال: (فلك يمينه) (¬2). (ح-468) ولما روى البخاري ومسلم من طريق ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه (¬3). ¬
الفصل الأول الاختلاف في عقد البيع
الفصل الأول الاختلاف في عقد البيع الاختلاف في عقد البيع يأتي على أكثر من وجه، فقد يختلف المتعاقدان في وجود عقد البيع، سواء اختلفا في أصل العقد، كأن يدعي أحدهما البيع، والآخر ينكره، أو اختلفا في جنس العقد كأن يدعي أحدهما أن العقد عقد معاوضة كالبيع مثلًا، ويدعي الآخر أن العقد عقد هبة، أو عارية، ففي المسألتين الخلاف واقع على وجود عقد البيع. وقد يختلفان في صفة العقد، كأن يدعي أحدهما لزوم العقد ويدعي أحدهما وجود خيار فيه، أو اختلفا في صحة العقد وبطلانه، كأن يدعي أحدهما فساداً في العقد بسبب اختلال شرط في صحته، كالجهل في الثمن، أو عدم القبض في بيع يعتبر القبض شرطًا لصحة العقد كالصرف، ونحو ذلك، والآخر يدعي سلامته من ذلك المفسد، وفي هاتين المسألتين الخلاف واقع على صفة العقد، وسوف نتعرض إن شاء الله تعالى لكل مسألة من هذه المسائل مع ذكر خلاف أهل العلم، وبيان الراجح منها، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
المبحث الأول الاختلاف على أصول العقد
المبحث الأول الاختلاف على أصول العقد قال القرافي: الأصل بقاء الأملاك على ملك أربابها والنقل والانتقال على خلاف الأصل (¬1). وقال ابن قدامة: الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت زواله (¬2). وقال السيوطي: الأصل العدم وبراءة الذمة (¬3). [م - 583] إذا اختلف العاقدان على أصل العقد، مثل أن يقول البائع: بعتك هلا الشيء بألف، فيقول الآخر: ما اشتريت. أو يقول المشتري: اشتريت منك هذه السلعة بألف، فيقول المالك: ما بعت. فإذا أنكر أحدهما وجود بيع بينهما، فالقول قول منكر العقد مع يمينه بائعًا كان أو مشترياً، وهذا محل اتفاق بين الفقهاء. قال القرافي: "الاختلاف في وقوع العقد، فيصدق منكره مع يمينه إجماعًا" (¬4). ¬
لكن قال ابن فرحون: "لا يمين على المدعى عليه، إذا كانت السلعة بيد صاحبها" (¬1). والأول أصح. (ح-469) لما رواه البخاري ومسلم من طريق ابن أبي مليكة عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه (¬2). (ح-470) ولما رواه مسلم من طريق أبي الأحوص، عن سماك، عن علقمة بن وائل عن أبيه، في قصة الحضرمي والكندي اللذين اختلفا في الأرض، وفيه: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للحضرمي: ألك بينة، قال: لا. قال: ذلك يمينه ... الحديث (¬3). قال القرطبي: "قوله للحضرمي: (ألك بينة) ... دليل على أن المدعي يلزمه إقامة البينة، فإن لم يقمها حلف المدعى عليه، وهو أمر متفق عليه" (¬4). ولأن الأصل عدم وجود العقد حتى يقوم الدليل على وجوده. ولأن الأصل أيضًا براءة ذمة الإنسان من حق الغير حتى يثبت العكس. ... ¬
المبحث الثاني الاختلاف في جنس العقد
المبحث الثاني الاختلاف في جنس العقد إذا ادعى أحد المتعاقدين عقدًا خلاف ما يدعيه الآخر فالأصل عدم ثبوت ما يدعيه كل واحد منهما. [م - 584] إذا أقر المتعاقدان بوجود علاقة تعاقدية بينهما، لكن أحدهما يدعي البيع، والآخر ينفي البيع، ويدعي العارية، أو القرض، أو الرهن، أو نحو ذلك، فقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: القول قول البائع مع يمينه، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف (¬1)، واختيار الشيخ أبي حامد من الشافعية (¬2)، ووجه عند الحنابلة (¬3). تعليل من قال: القول قول البائع مع يمينه: التعليل الأول: الأصل أن الإنسان لا يبذل ماله إلا بعوض، فالأملاك لا تنتقل عن يد أربابها إلا بمقابل، فيستصحب هذا الأصل حتى يثبت خلافه. التعليل الثاني: أن الأصل بقاء ملك من يدعي البيع، فيكون القول قوله (¬4). ¬
ويناقش
ويناقش: سلمنا أن الأصل بقاء الملك، لكنه يدعي الآن ما هو خلاف الأصل، وهو انتقال الملك، والأصل عدمه، والآخر ينكر انتقال الملك بالبيع، والقول قول المنكر. القول الثاني: يتحالفان، ثم لا يقبل قول واحد منهما على الآخر، وهو قول محمَّد ابن الحسن من الحنفية (¬1) والأصح عند الشافعية (¬2) وهو المذهب عند الحنابلة (¬3). ¬
دليل من قال: يتحالفان ثم تبطل دعوى كل واحد منهما
دليل من قال: يتحالفان ثم تبطل دعوى كل واحد منهما: الدليل الأول: كل واحد منهما مدَّعٍ، ومدَّعَى عليه، فالمالك يدعي البيع وينكر الهبة، والآخر يدعي الهبة، وينكر البيع، فلما لم تكن هناك بينة للمدعي، كانت اليمين في حق المدعى عليه، ولما كان كل واحد منهما يعتبر مدعى عليه، كان على كل واحد منهما أن يحلف. (ح-471) لما رواه البخاري ومسلم من طريق ابن أبي مليكة عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه (¬1). (ح-472) ولما رواه مسلم من طريق أبي الأحوص، عن سماك، عن علقمة بن وائل عن أبيه، في قصة الحضرمي والكندي اللذين اختلفا في الأرض، وفيه: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للحضرمي: ألك بينة، قال: لا. قال: فلك يمينه ... الحديث (¬2). فيقال للبائع: أنت تدعي البيع، ألك بينة؟ فإن قال: لا. قال: لك يمين صاحبك، ويقال للطرف الآخر: أنت تدعي الهبة، أو القرض، أو العارية: ألك بينة؟ فإن قال: لا. قيل له: لك يمين صاحبك، وعلى هذا كل واحد منهما عليه أن يحلف على نفي ما ادعاه صاحبه كما هو مذهب الشافعية، أو يحلف على إثبات ما ادعاه، ونفي ما ادعاه صاحبه، كما هو الشأن في صفة حلف المتبايعين إذا اختلفا، وسيأتي بحث صفة اليمين في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: الأصل عدم ثبوت ما يدعيه كل واحد منهما، فلا يثبت عقد البيع، كما لا يثبت عقد الهبة. الدليل الثالث: لما كان كل واحد منهما يدعي عقدًا يختلف عما يدعيه خصمه، كان النظر ألا يصدق واحد منهما على الآخر. القول الثالث: إذا اختلف المتعاقدان فأحدهما يدعي البيع، والآخر يدعي القرض، أو العارية، أو الوكالة فالقول قول مدعي هذه العقود على قول مدعي البيع. وهذا مذهب المالكية (¬1)، وقول للشافعية (¬2)، ووجه للحنابلة (¬3). واستدل أصحاب هذا القول بالآتي: قدمنا مدعي العارية أو الوكالة على مدعي البيع: لأنّ البائع يدعي نقل الملك بعوض، والآخر ينفي ذلك، والأصل أن الأملاك باقية على ملك أصحابها حتى يثبت. وقدمنا مدعي القرض على مدعي البيع؛ لأنّ الذي يدعي البيع يدعي على ¬
ويناقش
صاحبه ثمن مبيع، والمدعى عليه يعترف بأن في ذمته دينًا بمثل ما قبض، والأصل أن عليه أن يرد عين ما أخذ، أو مثله، فكان كالعارية والرهن. وقدمنا من يدعي عقد الوكالة على مدعي البيع؛ لأنّ السلعة إن كانت في يده فالحل أن يردها، وإن ادعى أنها تلفت فالقول قوله؛ لأنه الوكالة من عقود الأمانات والبيع من عقود الضمان، فيقدم قول من يدعي الوكالة؛ لأنه غارم (¬1). وقدمنا مدعي الهبة على مدعي البيع؛ لأنّ مدعي الهبة يملك العين باتفاقهما، وصاحبه يدعي عليه ثمنها، والأصل براءة ذمته (¬2). ويناقش: لا نسلم أن مدعي الهبة مالك باتفاقهما؛ لأنّ صفة التمليك مختلف فيها، إذ مدعي البيع يدعي التمليك بعوض، والآخر يدعي التمليك بغير عوض، وليس قول أحدهما بأولى من قول الآخر (¬3). الترجيح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها أجد أن قول من قال: يتحالفان، ثم تسقط دعوى كل منهما هو القول الراجح لاحتجاجه بنصوص شرعية، بينما الأقوال الأخرى قائمة على تعليلات لا تصلح أن تكون معارضة للنصوص الواردة. ¬
المبحث الثالث الاختلاف في صفة العقد
المبحث الثالث الاختلاف في صفة العقد الفرع الأول الاختلاف على لزوم العقد الصفات من خيار أو رهن أو أجل أو غيرها لا تثبت إلا بالشرط، والأصل عدم الاشتراط. إذا اختلفا في أجل أو رهن، أو خيار، أو ضمين فالقول قول من ينفيه؛ لأنّ الأصل عدمه (¬1). الأصل في البيع اللزوم (¬2). [م - 585] إذا اختلف المتعاقدان في صفة العقد، كان يدعي أحدهما أن العقد على البت واللزوم، ويدعي الآخر أن العقد فيه خيار، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: القول قول المنكر مع يمينه، وهذا القول هو مذهب الحنفية (¬3)، ¬
تعليل من قال: القول قول من ينكر الخيار
والمالكية (¬1) أو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). تعليل من قال: القول قول من ينكر الخيار: التعليل الأول: مقتضى العقد اللزوم، ومدعي الخيار يدعي خلافه، فكان القول قول المنكر لأنه هو مقتضى العقد، ولأن المشتري مقر بالبيع، مدع لما يرفعه، ولا بينة معه، فكان القول قول المنكر؛ لأنّ اليمين على المدعى عليه كما في حديث ابن عباس المتفق عليه. التعليل الثاني: الأصل عدم الخيار؛ لأنه لا يثبت إلا بالشرط، والأصل عدم الاشتراط، فكان القول قول من ينكره. القول الثاني: يتحالفان، ثم يفسخ البيع، وهو مذهب الشافعية (¬3)، ....... ¬
تعليل من قال: يتحالفان
ورواية أحمد (¬1). تعليل من قال: يتحالفان: القياس على الاختلاف في الثمن والمثمن، فإذا كان الاختلاف في الثمن أو في المثمن يوجب التحالف فكذلك الاختلاف في صفة العقد؛ لأنّ صفات العقد ملحقة بأصله فوجب أن يكون حكمها في التحالف كحكم الاختلاف في تقدير الثمن أو تقدير المثمن، ولأن هذه كلها قد تأخذ من الثمن قسطاً؛ لأنّ الثمن قد يزيد وينقص بعدمها، فصارت في الحكم كأجزاء الثمن والمثمن. وأجاب الحنفية عن ذلك: بأن الاختلاف في شرط الخيار اختلاف في غير المعقود عليه؛ لأنّ العقد لا يختل بعدمه، بخلاف الاختلاف في قدر الثمن؛ لأنه لا بقاء للعقد بدونه، وبخلاف الاختلاف في وصف الثمن وجنسه حيث يكون بمنزلة الاختلاف في القدر؛ لأنه يرجع إلى نفس الثمن؛ لأنه يعرف بالوصف لا غير. ألا ترى أنه لو شهد أحدهما أنه باعه بشرط الخيار ثلاثة أيام، وشهد الآخر أنه باعه، ولم يذكر الخيار فإنه إذا لم يثبت ما ادعاه لم يرجع الاختلاف إلى صحة البيع، لاتفاقهما على البيع، بخلاف ما إذا وقع الاختلاف في الثمن أو المثمن، وتحالفا فإنه عندما لا يثبت ما يدعياه يبقى الثمن أو المثمن مجهولاً، فيرجع الاختلاف إلى بطلان البيع. وعندي أن جواب الحنفية ليس بسديد، لأمرين: الأول: أن القول بالتحالف إذا اختلفا في تقدير الثمن أو المثمن فيه ¬
القول الثالث
نزاع، والراجح أن القول قول البائع مع يمينه كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الثاني: يرد على قول الحنفية الاختلاف في أصل العقد فإن القول للمنكر مع يمينه بالإجماع، ومع ذلك لا يتحالفان، مع أن الاختلاف فيه يؤدي إلى عدم قيام العقد. فالجواب الصحيح أن يقال: إنما يتحالفان إذا كان كل واحد منهما يصدق عليه أنه مدع ومدعى عليه، كما لو اختلفا في جنس العقد، فأحدهما يقول: هو عقد بيع، والآخر يقول: هبة، فإذا لم يكن لأحد منهما بينة باعتبار أن كل واحد منهما مدع، طلب من كل واحد منهما اليمين باعتبار أنه مدعى عليه أما في مسألتنا هذه فالمدعي هو مدعي الخيار لا غير، واليمين إنما هي في جانب المنكر. القول الثالث: القول قول مدعي الخيار، وهذا قول أشهب من المالكية (¬1). تعليل هذا القول: التعليل الأول: الأصل عدم انتقال الملك، فالبائع يدعي انتقال الملك، والمشتري ينكر ذنك، والقول قول المنكر مع يمينه. ويناقش من وجهين: الوجه الأول: هذا القول مبني على أن الملك في زمن الخيار للبائع كما هو مذهب ¬
الوجه الثاني
المالكية، فإن قيل: إن الملك في زمن الخيار للمشتري، وهو الصواب لم يكن المشتري ينكر انتقال الملك، بل هو يدعيه. الوجه الثاني: البيع هو الذي ينقل الملك، وهو في نفسه لم يختلف عليه، فكل منهما مقر بوقوعه، والخلاف في اشتراط الخيار، فالمشتري يدعي الخيار، وهو أمر زائد على البيع، لا يثبت إلا بالشرط، فالأصل عدمه حتى يثبت العكس. التعليل الثاني: أن منكر الخيار يدعي لزوم العقد، ومدعيه ينكر اللزوم، فالقول قوله؛ لأنّ الأصل عدم اللزوم (¬1). ويناقش: بأن لزوم العقد لا يحتاج إلى دعوى، فالعقد بمجرده يقتضيه، فعقد البيع من العقود اللازمة بنفسه، ولذلك احتاج العاقدان إذا أرادا أو أحدهما أن يكون العتهد عقدًا جائزًا أن يشترطا ذلك في صلب العقد، ولمدة معلومة، فلو كان الأصل عدم اللزوم كما قيل لما احتاج الأمر إلى اشتراط ذلك في صلب العقد، ولمدة معلومة. الترجيح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها أجد أن القول الأول هو القول الراجح، وأن القول قول من ينكر الخيارة وكل من قيل: إن القول قوله فالمراد مع يمينه، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني الاختلاف في شرط العقد كاشتراط الأجل
الفرع الثاني الاختلاف في شرط العقد كاشتراط الأجل [م - 586] من الاختلاف في صفة العقد الاختلاف في وجود شرط تقييدي في صلب العقد، وقد مر معنا في باب: (الشروط في البيع) الكلام على الشروط الجعلية، وما يصح اشتراطه منها، وما لا يصح، فإذا اختلف العاقدان على شرط العقد، كأن يقول أحدهما: الثمن مؤجل، والآخر يقول: بل هو حال، وهذا اختلاف في وجود الأجل، وقد يقر كل واحد منهما بالأجل، ولكن يختلفان في قدره، وقد يتفقان على مدته، ولكن يدعي أحدهما انتهاءه والآخر بقاءه، ومثل الخلاف في اشتراط الأجل الخلاف في اشتراط رهن أو كفيل، وهذه الشروط كلها شروط ترجع إلى العقد، ولا دخل لها في المبيع، ولذلك جعلناها في هذا المبحث، وقد يكون الشرط الجعلي يرجع إلى صفة المبيع، كما لو اشترط أن تكون السلعة المبيعة ذات لبن، فهذا شرط يعود إلى صفة المبيع، فذكرناه هناك، وألحقناه في الاختلاف على صفة المبيع. فإذا اختلف البيعان، فأحدهما يدعي وجود شرط إضافي (جعلي تقييدي) والآخر ينكره، فمن المقدم قوله؟ هذا ما سوف نستكشف أقوال العلماء فيه في المباحث التالية إن شاء الله تعالى، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
المطلب الأول الخلاف في وجود الأجل
المطلب الأول الخلاف في وجود الأجل الأصل عدم التأجيل؛ لأنّ التأجيل لا يثبت إلا بالشرط، والأصل عدم الاشتراط (¬1). [م - 587] إذا اختلف المتبايعان في اشتراط الأجل، فأحدهما يدعي أن الثمن مؤجل، والآخر يقول: بل حال، فقد اختلف الفقهاء من المقدم قوله على أقوال: القول الأول: قالوا: إن القول قول من ينفيه، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والمذهب عند الحنابلة (¬3). تعليلات هذا القول: التعليل الأول: الأصل عدم اشتراط الأجل؛ لأنّ الأصل في البيع انعقاده خاليًا من أي شرط إضافي، فالأجل لا يثبت إلا بالشرط، والأصل عدم الاشتراط، ولذلك كان القول قول من يتمسك بالأصل: وهو خلو العقد من الشروط الجعلية. ¬
وقد يناقش
وقد يناقش: بأن الأصل إذا تعارض مع الظاهر قدم الظاهر، فالظاهر كثرة اشتراط الأجل في عقود الناس خاصة مع قلة السيولة في أيدي الناس. التعليل الثاني: أن أحد المتبايعين يدعي الأجل، والآخر ينكره، والقاعدة أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، فكانت اليمين في حق من ينفي الأجل؛ لأنه مدعى عليه. التعليل الثالث: القياس على الاختلاف في أصل العقد، فإذا كان المتبايعان إذا اختلفا في أصل العقد كان القول قول من ينكره بالإجماع، فكذلك الاختلاف في صفات العقد كالأجل، فإن صفة العقد ملحقة بأصله فوجب أن يكون حكمها في التحالف كحكمه. القول الثاني: يتحالفان، ثم يفسخ البيع، وهو مذهب الشافعية (¬1)، وقول زفر من الحنفية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). ¬
دليل من قال: يتحالفان ويفسخان
دليل من قال: يتحالفان ويفسخان: الدليل الأول: القياس على الاختلاف في قدر الثمن والمثمن، فإذا كان الاختلاف في الثمن أو في المثمن يوجب التحالف فكذلك الاختلاف في الأجل، وذلك أن ادعاء المشتري الأجل دليل على أن المشتري قد زاد في الثمن في مقابل انتفاعه بالتأجيل، أو التقسيط، فكانت الدعوى في الأجل كالدعوى في قدر الثمن. ويجاب: بأن الزيادة في الثمن مقابل اشتراط الأجل قول صحيح، إلا أن القول بالتحالف عند الاختلاف في الثمن والمثمن قول مرجوح كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى عند الكلام على اختلاف المتبايعين في الثمن، فلم يصح القياس. وأجاب الحنفية بجواب آخر: وهو أن الاختلاف في شرط الأجل اختلاف في غير المعقود عليه؛ لأنّ العقد لا يختل بعدمه، بخلاف الاختلاف في قدر الثمن؛ لأنه لا بقاء للعقد بدونه. وعندي أن جواب الحنفية ليس بسديد، لأمرين سبق أن ذكرتهما في المسألة السابقة: الأول: أن القول بالتحالف إذا اختلفا في تقدير الثمن أو المثمن فيه نزاع، والراجح أن القول قول البائع مع يمينه كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الثاني: يرد على قول الحنفية الاختلاف في أصل العقد فإن القول للمنكر مع يمينه بالإجماع، ومع ذلك لا يتحالفان، مع أن الاختلاف فيه يؤدي إلى عدم قيام العقد.
الدليل الثاني
فالجواب الصحيح أن يقال: إنما يتحالفان إذا كان كل واحد منهما يصدق عليه أنه مدع ومدعى عليه، كما لو اختلفا في جنس العقد، فأحدهما يقول: هو عقد بيع، والآخر يقول هو هبة، فإذا لم يكن لأحد منهما بينة باعتبار أن كل واحد منهما مدع، طلب من كل واحد منهما اليمين باعتبار أنه مدعى عليه أما في مسألتنا هذه فالمدعي هو مدعي الأجل لا غير، واليمين إنما هي في جانب المنكر، والله أعلم. الدليل الثاني: اشتراط الأجل في عقد البيع مقصود للعاقد، بدليل اشتراطه في العقد، وإذا كان كذلك فإنه لا يكون قول أحدهما مقدمًا على قول الآخر، فيتحالفان، ويتفاسخان. ويناقش: ليس الموجب للتحالف أن يكون الشرط مقصوداً أو غير مقصود، فإنه ما من شرط في البيع إلا وهو مقصود لمن اشترطه، ولكن القاعدة الشرعية التي دلت عليها النصوص أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه (المنكر)، فالعاقدان يقران بالبيع، ويختلفان في اشتراط الأجل، فالمشتري يدعيه، والبائع ينفيه، والقول قول المنكر. القول الثالث: ذهب إلى التفصيل: إن اختلفا والسلعة قائمة، سواء كانت بيد البائع أو بيد المشتري فإنهما يتحالفان ويتفاسخان. وإن فاتت السلعة صدق المشتري بيمينه إن ادعى أمدًا قريبًا لا يتهم فيه، فإن ادعى أمدًا بعيدًا صدق البائع بيمينه، ما لم يكن هناك عرف، فإن كان هناك عرف
دليل من فرق بين كون السلعة قائمة فيتحالفان، أو فائتة فيحلف المشتري.
قدم قول من يشهد له العرف، فالعرف في السلع، كاللحوم، والبقول والأبزار، والثياب الحلول. والعرف في العقار التأجيل، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬1). دليل من فرق بين كون السلعة قائمة فيتحالفان، أو فائتة فيحلف المشتري. الدليل الأول: أن المتبايعين في حال قيام السلعة يمكن ردهما إلى حالة ما قبل التعاقد، فالواجب أن يتفاسخا بعد أن يتحالفا، وذلك أن الشرط الجعلي (اشتراط لأجل ونحوه) يكون المشتري قد زاد في الثمن الذي سيشتري به في مقابل انتفاعه بالتأجيل أو التقسيط، وبالتالي تكون الدعوى فيه كالدعوى في الثمن ذاته. أما في حال فوات السلعة فلا يمكن ردهما إلى ما قبل التعاقد، ولهذا قلنا: القول قول المشتري إن ادعى أجلًا قريبًا، والمالكية يطردون هذا في كل شيء قريب، فمثلًا: إذا اشترط الخيار لمدة معلومة، فرد المبيع بعد انتهاء الخيار بيوم أو يومين، فإنهم يجيزون ذلك باعتبار أن الموعد وإن تأخر عن الحد المتفق عليه، فهو قريب، وليس بعيدًا (¬2)، وكذلك لما أجمع العلماء على أن عقد السلم ¬
لا بد فيه من تقديم رأس المال (الثمن) أجاز المالكية تأخير التسليم يوماً أو يومين؛ ولم يروا في ذلك مخالفة للإجماع على وجوب تسليم الثمن؛ لأنّ أجل التأخير قريب، فإذا كان الأجل الذي يدعيه المشتري قريبًا فإنه في حكم الحال عندهم، فيقبل قول المشتري. ويستدل المالكية لعموم قاعدتهم هذه بالقاعدة التي تقول: "ما قارب الشيء له حكمه" (¬1). قال ابن رشد: "هذه القاعدة كثيرًا ما يذكرها الفقهاء، ولم أجد دليلًا يشهد لعينها، فأما إعطاؤه حكم نفسه، فهو الأصل، وأما إعطاؤه حكم ما قاربه، فإن ¬
الدليل الثاني
كان مما لا يتم إلا به، كإمساك جزء من الليل، فهذا يتجه، وإن كان على خلاف ذلك، فقد يحتج له بحديث: مولى القوم منهم، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: المرء مع من أحب ... " (¬1). واستدل لهذه القاعدة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان بقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2]. قال الشيخ: "ظاهره أن الإمساك بمعروف إذا بلغن أجلهن مع أنهن إذا بلغن إلى ذلك الحد خرجن من العدة، وانتهى وجه المراجعة، ولكن المراد هنا: إذا قاربن أجلهن، ولم يتجاوزنه، أو يصلن إليه بالفعل، والقاعدة: أن ما قارب الشيء يعطى حكمة، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. ومثل الآية: الحديث في قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، مع أنه عند الإتيان، أو أثنائه لا يحق له أن يقول ذلك، وإنما يقوله إذا قارب دخوله" (¬2). "ومن جهة الاعتبار: أن إلحاق ما قارب الشيء به دليل على أن هذا الشيء ليس تحديدًا، بل اجتهاد مقارب، فهو من منزلة العفو، وباب التقديرات الاجتهادية، لا من تحديدات الشرع" (¬3). الدليل الثاني: (ح-473) ما يروى مرفوعًا بلفظ: (إذا اختلف البيعان والسلعة قائمة تحالفا). ¬
ويجاب عن ذلك
ففرق بين قيام السلعة وبين فواتها. قال الطحاوي: "وجدنا أهل العلم قد احتجوا بهذا الحديث -يعني حديث حميد بن أخت صفوان بن أمية، عن صفوان في التصدق بردائه على سارقه- قال الطحاوي: فوقفنا بذلك على صحته عندهم، كما وقفنا على صحة قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندهم: "لا وصية لوارث"، وكما وقفنا على صحة قوله عندهم: (إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة، تحالفا وترادا البيع)، وإن كان ذلك كله لا يقوم من جهة الإسناد، فغنوا بصحته عندهم عن طلب الإسناد له" (¬1). وقال الخطيب البغدادي في الاستدلال بصحة الأحاديث التي لا تثبت من جهة الإسناد، إذا تلقيت بالقبول، قال: "وقوله: (إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا، وتراد البيع) ... وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد، ولكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها ... " (¬2). ويجاب عن ذلك: أن كلام العلماء رحمهم الله إنما هو في حديث ابن مسعود في اختلاف المتبايعين، وفي إسناده ضعف على اختلاف في لفظه كما سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى، والمعروف في لفظه: إذا اختلف المتبايعان ليس بينهما بينة فالقول ما يقول رب السلعة، أو يتتاركان. ¬
الراجح من الخلاف
وأما لفظ التحالف فلا يوجد في شيء من كتب الحديث، نص على ذلك ابن حجر (¬1)، وابن حزم (¬2)، وغيرهما، وكون الخطيب البغدادي نص على ذلك، ونقل عنه ابن القيم ومن تبعه ذلك النص فربما كان ذلك سهوًا منهم رحمهم الله تعالى. وأما لفظ (والسلعة قائمة) فقد انفرد بهذه الزيادة ابن أبي ليلى، وهو ضعيف، سيئ الحفظ، ضعفه الإمام أحمد وغيره. * الراجح من الخلاف: إذا اختلف المتبايعان، فالبائع يدعي أنه حال، والمشتري يدعي أنه مؤجل، فالقول قول البائع: لأنّ الأصل عدم التأجيل، ولحديث ابن مسعود في اختلاف المتبايعين: أن القول ما يقول رب السلعة أو يتتاركان، وسوف نذكر تخريجه قريبًا إن شاء الله تعالى. ولأن المشتري يدعي الأجل، والبائع ينكره، والقول قول المنكر (المدعى عليه). والاختلاف في اشتراط الأجل كالاختلاف في اشتراط رهن، أو كفيل؛ بجامع أن كلاً منها شروط جعلية، لا تثبت إلا بالاشتراط، ولا يتوقف عليها صحة العقد. ¬
قال ابن قدامة: "إن اختلفا في أجل، أو رهن، أو في قدرهما، أو في شرط خيار، أو ضمين، أو غير ذلك من الشروط الصحيحة، ففيه روايتان: إحداهما: يتحالفان، وهو قول الشافعي؛ لأنهما اختلفا في صفة العقد، فوجب أن يتحالفا قياسًا على الاختلاف في الثمن. والثانية: القول قول من ينفي ذلك مع يمينه. وهو قول أبي حنيفة؛ لأن الأصل عدمه، فالقول قول من ينفيه، كأصل العقد؛ لأنه منكر، والقول قول المنكر" (¬1). فجمع ابن قدامة رحمه الله مسألة الخلف في الأجل مع مسألة الخلف في الرهن والكفيل، وساق أقوال العلماء فيها جميعًا بدون أن يفصل مسألة عن أخرى، لأن القول فيهما واحد، ولم ينفرد بذلك ابن قدامة بل صنع ذلك غيره من فقهاء المذاهب (¬2). والذي أميل إليه أن القول قول من ينفي الأجل؛ لأن العاقدين متفقان على حصول البيع، مختلفان في اشتراط الأجل، فالمشتري يدعيه، والبائع ينكره، والقول قول المنكر (المدعى عليه)؛ لحديث ابن عباس أن اليمين على المدعى عليه، والله أعلم. ¬
المطلب الثاني إذا اتفقا على اشتراط الأجل واختلفا في قدره
المطلب الثاني إذا اتفقا على اشتراط الأجل واختلفا في قدره الاختلاف في قدر الأجل كالاختلاف في أصل الأجل، فالقول قول من ينفيه؛ لأنّ الأصل عدمه، ولأنه منكر، والقول قول المنكر. [م - 588]، قد يتفق البائعان على البيع، ويتفقان على أن الثمن مؤجل، ولكن يختلفان في قدر الأجل، فالبائع يقول: الأجل لمدة شهر، والمشتري يقول: بل شهران، فمن المقدم قوله؟ وللجواب على ذلك نقول: لم يختلف قول الحنفية، والحنابلة، والشافعية في مسأله الخلاف في أصل الأجل عن الخلاف في قدر الأجل، فالقول عندهم واحد في المسألتين: فقيل: القول قول من ينكر الأجل، كما هو مذهب الحنفية. وقيل: يتحالفان، ويتفاسخان، كما هو مذهب الشافعية. وكلا القولين هما روايتان في مذهب الحنابلة، والمذهب عندهم ما يوافق قول الحنفية. قال ابن عابدين: "أطلق الاختلاف في الأجل، فشمل الاختلاف في أصله، وقدره فالقول لمنكر الزائد" (¬1). ¬
القول الأول
وجاء في العناية شرح الهداية: "إذا اختلفا في الأجل في أصله، أو قدره، أو في شرط الخيار ... فلا تحالف بينهما، والقول قول البائع" (¬1). قال ابن قدامة: "إن اختلفا في أجل أو رهن أو في قدرهما أو في شرط خيار أو ضمين أو غير ذلك من الشروط الصحيحة، ففيه روايتان: إحداهما: يتحالفان، وهو قول الشافعي؛ لأنهما اختلفا في صفة العقد، فوجب أن يتحالفا قياسًا على الاختلاف في الثمن. والثانية: القول قول من ينفي ذلك مع يمينه. وهو قول أبي حنيفة؛ لأن الأصل عدمه، فالقول قول من ينفيه، كأصل العقد؛ لأنه منكر، والقول قول المنكر" (¬2). وأدلتهم في المسألتين واحدة، وقد ذكرنا أدلتهم في المسألة السابقة فأغنى عن إعادتها هنا. وأما مذهب المالكية فقد اختلف القول عند بعضهم، ولهم في المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: إن كانت السلعة قائمة تحالفا، وتفاسخا، وإن كانت فاتت بيد المشتري فالقول قوله مع يمينه إن ادعى أمدًا قريبًا، وإن ادعى أمدًا بعيدًا صدق البائع. وهذا القول مطابق لقولهم في الاختلاف في أصل الأجل. القول الثاني: يصدق قول المشتري مع يمينه مطلقاً؛ لأن كلاً منهما مقر بالأجل، والبائع ¬
القول الثالث
يدعي حلوله، فالمشتري هو المدعى عليه، فالقول قوله بيمينه؛ لأنّ الأصل عدم الحلول. القول الثالث: إن كانت السلعة تالفة فالقول لمن أشبه قوله عادة الناس في الأجل، أي من تشهد له القرينة، فإن لم تشهد لأحد منهما تحالفا. والعمل بالقرينة عند وجودها جيد، لكنه قد يقال: إذا كان العمل للقرينة، فما الفرق بين فوات السلعة وقيامها، فلماذا لا يعمل بالقرينة مطلقًا، قامت السلعة أو فأتت؟ (¬1). الترجيح: ما رجحته في مسألة الخلاف في أصل الأجل أرجحه هنا لعدم الفارق بين المسألتين، والله أعلم. ¬
المطلب الثالث إذا اختلفا في انتهاء الأجل
المطلب الثالث إذا اختلفا في انتهاء الأجل إذا اتفقا على الأجل، واختلفا في بقائه، فالأصل بقاؤه؛ لأنّ البائع يدعي انتهاءه والمشتري ينكر، والقول قول المنكر. [م - 589] إذا اتفق البائع والمشتري على الأجل، وعلى مقداره، واختلفا في انتهائه؛ لاختلافهما في ابتدائه. كما لو اتفق البائع والمشتري على أن الأجل لمدة شهر فقال البائع: قد ابتدأ الأجل من مطلع شهر شعبان، وقال المشتري: قد ابتداء الأجل من منتصف شهر شعبان، فمن يؤخذ بقوله؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ذهب الجمهور إلى أن القول قول من ينكر انتهاء الأجل (¬1). تعليل الجمهور على بقاء الأجل: التعليل الأول: أن العاقدين بتصادقهما على الأجل أصبح الأجل حقا للمشتري، وهو ينكر استيفاءه، والقول قول المنكر مع يمينه عند عدم البينة، لحديث ابن عباس المتفق عليه: (واليمين على المدعى عليه) يعني: المنكر (¬2). ¬
التعليل الثاني
التعليل الثاني: أنهما اتفقا على الأجل، واختلفا في بقائه والأصل البقاء. القول الثاني: إن كانت السلعة قائمة تحالفا، وإن كانت السلعة قد فاتت، فالقول قول من ينكر انتهاء الأجل، وهو المشتري، إلا أن يكون قول البائع أشبه وهذا مذهب المالكية (¬1). وجه قول المالكية في التفريق بين فوات السلعة وقيامها: أن المتبايعين في حال قيام السلعة يمكن ردهما إلى حالة ما قبل التعاقد، فالواجب أن يتفاسخا بعد أن يتحالفا، وذلك أن الشرط الجعلي (كاشتراط الأجل ونحوه) يكون المشتري قد زاد في الثمن الذي سيشتري به في مقابل انتفاعه بالتأجيل، أو التقسيط، وبالتالي تكون الدعوى فيه كالدعوى في الثمن ذاته. أما في حال فوات السلعة فلا يمكن ردهما إلى ما قبل التعاقد، فكان القول قول المشتري مع يمينه؛ لأنّ البائع والمشتري مقران بالأجل، إلا أن البائع يدعي انتهاءه، والمشتري ينكره، والقول قول المنكر. ¬
الراجح
الراجح: بعد استعراض الأدلة أجد أن قول الجمهور أقوى من حيث الاستدلال، وأنه لا فرق بين قيام السلعة وبين فواتها، فإن السلعة إن كانت قائمة فالحمد لله، وإن كانت فائتة، فإن كانت مثلية قام مثلها مكانها، وإلا قومت، فالراجح أن القول قول المشتري ما دام أن الأصل بقاء الأجل، وأن البائع يدعي انتهاءه، والمشتري ينكره، والقول قول المنكر. والله أعلم.
الفرع الثالث الاختلاف في صحة العقد وفساده
الفرع الثالث الاختلاف في صحة العقد وفساده الظاهر في العقود الجارية بين المسلمين الصحة حتى يقوم دليل الفساد (¬1). الفساد طارئ على العقد، والأصل عدمه. [م - 590] من الاختلاف في صفة العقد الاختلاف على أمر يترتب عليه صحة العقد وفساده، كما لو ادعى أحدهما الجهل بالمبيع، ونفى الآخر، أو ادعى أحدهما عدم القبض فيما يعتبر القبض شرطًا في صحته كالصرف، وادعى الآخر حصول القبض، أو ادعى أحدهما أنه عقد مكرهاً على العقد، وقال الآخر: بل عقد مختارًا، فمن المعتبر قوله في هذه المسألة؟ اختلف في ذلك أهل العلم على ثلاثة أقوال: القول الأول: إذا اختلف المتبايعان، فادعى أحدهما صحة العقد وادعى الآخر ما يفسد معه العقد، فالقول قول مدعي الصحة. وإذا اختلف المتبايعان، فادعى أحدهما صحة العقد، وادعى الآخر ما يبطل به العقد فالقول قول مدعي البطلان. وهذا مذهب الحنفية، وقد انفرد الحنفية في تقسيم العقد إلى صحيح وفاسد وباطل (¬2). ¬
وجه الفرق بين المسألتين
وجه الفرق بين المسألتين: أن مدعي البطلان: منكر للعقد، فيقدم قوله؛ لأنّ الأصل عدم البيع. وأما مدعي الفساد فهو لا ينكر العقد، بل يدعي أمرًا زائدًا، وهو المفسد، ومدعي الصحة ينكره، والقول قول المنكر. القول الثاني: أن القول لمدعي الصحة، وهذا مذهب المالكية (¬1)، والحنابلة (¬2)، والأصح عند الشافعية (¬3)، قال المالكية: ما لم يغلب الفساد، فيقدم قول مدعي الفساد. ¬
وجه من قال: القول لمدعي الصحة
وجه من قال: القول لمدعي الصحة: الوجه الأول: أن الأصل في المسلم تعاطي العقد الصحيح؛ لأنّ تعاطي المسلمين للعقود الصحيحة أكثر من تعاطيهم للعقود الفاسدة، ولأن الظاهر من العقود الجارية بين المسلمين الصحة، فأصبح الأصل والظاهر يؤيد قول مدعي الصحة. الوجه الثاني: أن كلا من العاقدين قد اتفقا على حصول العقد، واختلفا فيما يفسده، فأحدهما يدعي فساده، ولا بينة له، والآخر ينكره، والقول قول المنكر مع يمينه؛ لأنه هو المدعى عليه. (ح-474) لما رواه البخاري ومسلم من طريق ابن أبي مليكة عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه (¬1). القول الثالث: أن السلعة إن كانت قائمة، فإنهما يتحالفان، ويتفاسخان، وإن كانت فائتة فالقول لمدعي الصحة، اختاره بعض المالكية (¬2). وجه ذلك: أن المتبايعين في حال قيام السلعة يمكن ردهما إلى حالة ما قبل التعاقد، فالواجب أن يتفاسخا بعد أن يتحالفا. ¬
القول الرابع
أما في حال فوات السلعة فلا يمكن ردهما إلى ما قبل التعاقد، فيكون القول قول مدعي الصحة؛ لأنه هو المدعى عليه، كما في حديث ابن عباس المتقدم (ولكن اليمين على المدعى عليه) متفق عليه (¬1). القول الرابع: أن القول لمدعي الفساد، وهو قول للشافعية (¬2) وقول للحنابلة (¬3). وجهه: أن الأصل عدم انتقال الملك، فمدعي الصحة يدعي انتقاله، ومدعي الفساد ينكره، والقول قول المنكر (¬4). ويناقش: يقال: الأصل عدم انتقال الملك لو أنهما اختلفا في أصل العقد، أحدهما يدعي البيع والآخر ينفيه، أما وهما مقران بأن البيع قد وقع، فليس الأصل عدم انتقال الملك، بل الأصل أن البيع ينقل الملك، والأصل في معاملات المسلمين الصحة، وليس الأصل أن تكون معاملات المسلمين فاسدة، فالفساد عارض، فمدعي الفساد يدعي حصوله، والآخر ينفيه، والقول قول المنكر. هذا هو التوجيه الصحيح. قال الجصاص: "كل متعاقدين دخلا في عقد، فدخولهما فيه اعتراف منهما بلزوم موجب العقد من الحقوق، وغير مصدق بعد العقد واحد منهما على نفي موجبه، ومن أجل ذلك قلنا: إن ذلك يقتضي اعترافاً منهما بصحته؛ إذ كان ذلك ¬
الترجيح
مضمناً للزوم حقوقه، وفي تصديقه على فساده نفي ما لزمه بظاهر العقد؛ ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أن مدعي الفساد منهما بعد وقوع العقد بينهما وصحته في الظاهر غير مصدق عليه، وأن القول قول مدعي الصحة منهما" (¬1). الترجيح: الذي أميل إليه أن الأصل في معاملات المسلمين الصحة، والأصل في البيع أنه ينقل ملك المبيع إلى المشتري، وينقل ملك الثمن إلى البائع، فمن يدعي خلاف هذا الأصل فعليه البينة، فإن لم تكن بينة فالقول قول منكر الفساد، أي قول مدعي الصحة، والله أعلم. وهذه القاعدة تختلف عن مسألة: هل الأصل في العقود الجواز والصحة، أو التحريم؟ والفرق بين المسألتين كالتالي: أن معنى قولنا: الأصل في العقود الجواز والصحة: أن العقد إذا لم يرد عن الشارع ما يدلّ على تحريمه فهو صحيح جائز. وأما القول: بأن الأصل في العقود حملها على الصحة، فمعنى هذا لو وقع نزاع بين المتعاقدين هل العقد صحيح أو فاسد، وليس ثمت ما يدلّ على قول أحدهما فالقول قول مدعي الصحة؛ لأنه الأصل في العقود، والفساد طارئ على العقد، ولأن الأصل في العقود الجارية بين المسلمين الصحة. وأمثلة هذه القاعدة غير محصورة. منها: ما جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "لو ادعى أحد وقوع هذه ¬
الإجارة بغبن فاحش، فلا يحكم بوقوعها بمجرد القول والادعاء؛ لأن الأصل في العقود الصحة" (¬1). ومنها ما ذكره ابن حجر الهيتمي فيما لو اختلف المتعاقدان في رؤية المبيع، فالقول قول مثبتها، وعلل ذلك: بأنه الموافق لقاعدة أن القول قول مدعي الصحة، ولأن إقدام المنكر على العقد اعتراف منه بصحته، ففيه تكذيب لدعواه، ولأن الأصل في العقود الجارية بين المسلمين الصحة كما صرحوا به (¬2). ومنها ما ذكره في شرح منتهى الإرادات: إذا ادعى أحدهما ما يفسد العقد من سفه أو صغر أو إكراه ... وأنكره الآخر، فقول المنكر؛ لأن الأصل في العقود الصحة (¬3). ¬
الفصل الثاني الاختلاف في المبيع
الفصل الثاني الاختلاف في المبيع انتهينا في الفصل السابق من الاختلاف في العقد، سواء أكان الاختلاف في أصله، أم في جنسه، أم في وصفه. وفي هذا الفصل نتكلم عن الاختلاف في المبيع، ورغم أنه لا يختلف كثيرًا عن الاختلاف في الثمن؛ لأن كلاً من المبيع والثمن معقود عليه إلا أنني فضلت أن أفصل هذا عن ذاك لوجود بعض الاختلاف، ولو يسيراً عند بعض العلماء، وسنبحث إن شاء الله تعالى في مباحث الاختلاف في المبيع: الاختلاف في تعيين المبيع، والاختلاف في صفات المبيع، والاختلاف في قبض المبيع، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
المبحث الأول الاختلاف في تعيين المبيع
المبحث الأول الاختلاف في تعيين المبيع إذا اختلف المتعاقدان وكان كل منهما مدعيًا ومدعى عليه تحالفا. [م - 591] قد يختلف البائع والمشتري في تعيين المبيع، سواء أكان الاختلاف في تعيين جنسه، كما لو قال: بعتني هذه السيارة، قال: بل هذا الحيوان، أم كان الاختلاف في تعيين نوعه، كالاختلاف بين الجيد والرديء، أم كان الاختلاف في تعيين عينه، كبعتك هذه السيارة، قال: بل هذه السيارة. فإذا اختلف البائعان في ذلك، وكانت السلعة قائمة لم تتغير فقد اختلف العلماء في هذا على قولين: القول الأول: يتحالفان، ويتفاسخان، وهذا مذهب الحنفية, (¬1)، والمالكية (¬2)، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬3). . . . . .. . . . . ¬
دليل من قال: يتحالفان
وقول الحنابلة (¬1). * دليل من قال: يتحالفان: الدليل الأول: كل واحد منهما مدَّع، ومدَّعَى عليه، فالبائع يدعي أن البيع وقع على تلك العين، وينكر أن يكون البيع وقع على ما يدعيه المشتري، والمشتري يدعي أن البيع وقع على عين أخرى، وينكر أن يكون البيع وقع على ما يدعيه البائع، فلما لم تكن هناك بينة للمدعي، كانت اليمين في حق المدعى عليه، ولما كان كل واحد منهما يعتبر مدعى عليه، كان على كل واحد منهما أن يحلف. (ح-475) لما رواه البخاري ومسلم من طريق ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه (¬2). (ح-476) ولما رواه مسلم من طريق أبي الأحوص، عن سماك، عن علقمة بن وائل عن أبيه، في قصة الحضرمي والكندي اللذين اختلفا في الأرض، وفيه: ¬
الدليل الثاني
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للحضرمي: ألك بينة، قال: لا. قال: فلك يمينه ... الحديث (¬1). فيقال للبائع: أنت تدعي أن البيع وقع على هذه العين، ألك بينة؟ فإن قال: لا. قال: لك يمين صاحبك، ويقال للمشتري: أنت تدعي أن البيع وقع على هذه العين، ألك بينة؟ فإن قال: لا. قيل له: لك يمين صاحبك، وعلى هذا كل واحد منهما عليه أن يحلف باعتباره مدعى عليه. الدليل الثاني: (ح-477) ما يروى مرفوعًا بلفظ: (إذا اختلف البيعان والسلعة قائمة تحالفا). وقد رأى الطحاوي والخطيب البغدادي وابن القيم وغيرهم الاحتجاج بهذا اللفظ لتلقي العلماء له، واحتجاجهم به، وإن كان الحديث لا يثبت من جهة الإسناد، ولكن لما تلقاه الكافة عن الكافة غنوا بصحته عندهم عن طلب الإسناد له، وقد نقلنا كلامهم في بحث سابق (¬2). ويجاب عن ذلك: أن كلام العلماء رحمهم الله إنما هو في حديث ابن مسعود في اختلاف المتبايعين، وفي إسناده ضعف على اختلاف في لفظه كما سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى، والمعروف في لفظه: إذا اختلف المتبايعان ليس بينهما بينة فالقول ما يقول رب السلعة، أو يتتاركان. ¬
القول الثاني
وأما لفظ التحالف فلا يوجد في شيء من كتب الحديث، نص على ذلك ابن حجر (¬1)، وابن حزم (¬2)، وغيرهما، وكون الخطيب البغدادي نص على ذلك، ونقله عنه ابن القيم ومن تبعه على ذلك فربما كان ذلك سهواً منهم رحمهم الله تعالى. القول الثاني: القول قول البائع، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد (¬3). دليل من قال: القول قول البائع: الدليل الأول: (ح-478) ما رواه أبو داود من طريق أبي عميس، عن عبد الرحمن ابن قيس بن محمَّد بن الأشعث، عن أبيه، عن جده، قال: اشترى الأشعث رقيقًا من رقيق الخمس، من عبد الله بعشرين ألفًا، فأرسل عبد الله إليه في ثمنهم، فقال: إنما أخذتهم بعشرة آلاف، فقال عبد الله: فاختر رجلًا يكون بيني وبينك، قال الأشعث: أنت بيني وبين نفسك. قال عبد الله: فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إذا اختلف البيعان، وليس بينهما بينة، فهو ما يقول رب السلعة، أو يتتاركان. ¬
[حسن بمجموع طرقه] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن البائع غارم فهو الذي ستؤخذ منه السلعة، فلا يغرم غير ما أقر به، ولا ينزع ماله منه إلا بثمن يرتضيه، فإما أن يقبل المشتري ما يقوله رب السلعة، أو يترك السلعة لصاحبها. ¬
ونوقش
ونوقش: بأن المشتري غارم أيضًا من جهة أن البائع يريد إعطاءه سلعة أقل أو أردأ فيكون غارمًا أيضًا. ويجاب: على تقدير أن المشتري غارم أيضًا، فيجتمعان أن كلاً منهما غارم، فدفع الغرم عن المشتري بألا يلزم بقول البائع، كما أن دفع الغرم عن البائع ألا يلزم بإخراج ملكه منه إلا بثمن يرتضيه، فنكون بهذا قد حققنا العدل بينهما، فتحقيق العدل ليس بالتحالف، وليس بإلزام المشتري بما يقول البائع، بل يقال: القول قول البائع مع يمينه بمعنى أن يقدم قول البائع، ثم المشتري بالخيار إن شاء أن يأخذ بما قال البائع، أو يترك السلعة، وليس معنى أن القول قول البائع، أننا نلزم المشتري بقول البائع مع أن البائع لا بينة له. الدليل الثالث: أن الأصل بقاء ملكه على ملكه فلا يترك هذا الأصل بمجرد دعوى المشتري. * الترجيح: أرى أن القول بالتحالف أقوى؛ لأنه ليس فيه تقديم لأحد العاقدين على الآخر، ولأن كل واحد منهما مدع، ومدعى عليه. وأما حديث ابن مسعود فلا يعارض به حديث ابن عباس المتفق عليه، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ولكن اليمين على المدعى عليه. ولا يعارض به أيضًا حديث مسلم عن علقمة بن وائل، عن أبيه، في قصة
الحضرمي والكندي اللذين اختلفا في الأرض، وفيه: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للحضرمي: ألك بينة، قال: لا. قال: فلك يمينه ... الحديث (¬1). وإذا كانت اليمين في حق المدعى عليه، فإن كل واحد منهما مدعى عليه، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني الاختلاف في صفة المبيع
المبحث الثاني الاختلاف في صفة المبيع الفرع الأول الاختلاف في اشتراط وصف في المبيع الجودة لا تستحق بالعقد إلا بالشرط، والأصل عدم الاشتراط (¬1). [م - 592] إذا اختلف المتبايعان في اشتراط صفة في المبيع لا تدخل في المبيع إلا بالشرط، كاشتراط جودة معينة، أو اشتراط اللبن في الدابة، ونحو ذلك، فقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: القول قول البائع، وهو مذهب الحنفية (¬2)، وقول للشافعية (¬3) ورواية عن أحمد (¬4). ¬
دليل من قال: القول قول البائع
وبه قال المالكية إلا أنهم اشترطوا أن يكون البائع قد انتقد الثمن، فإن لم يكن انتقد الثمن فالقول قول المشتري (¬1). دليل من قال: القول قول البائع: الدليل الأول: أن البائع والمشتري متفقان على العقد، والمشتري يدعي صفة في المبيع لا تثبت إلا بالشرط وليس معه بينة، والبائع ينكرها، والقول قول المنكر مع يمينه؛ لأنه مدعى عليه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس المتفق عليه (ولكن اليمين على المدعى عليه) (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-479) ما رواه أبو داود من طريق أبي عميس، عن عبد الرحمن ابن قيس بن محمد بن الأشعث، عن أبيه، عن جده، عن ابن مسعود، وفيه: قال عبد الله فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إذا اختلف البيعان، وليس بينهما بينة، فهو ما يقول رب السلعة، أو يتتاركان. [حسن بمجموع طرقه] (¬1). الدليل الثالث: الأصل عدم اشتراط وصف في المبيع، فيكون القول قول من ينفيه .. القول الثاني: يتحالفان، ثم يفسخ البيع، وهو قول في مذهب المالكية (¬2)، والأصح عند الشافعية (¬3)، ورواية عن الإمام أحمد (¬4). دليل من قال: يتحالفان: الدليل الأول: أن كل واحد منهما مدَّع، ومدَّعَى عليه، فالبائع يدعي أن البيع وقع على صفة، وينكر أن يكون البيع وقع على ما يدعيه المشتري، والمشتري يدعي أن البيع وقع على صفة أخرى، وينكر أن يكون البيع وقع على ما يدعيه البائع، فلما ¬
ويناقش من وجهين
لم تكن هناك بينة للمدعي، كانت اليمين في حق المدعى عليه، ولما كان كل واحد منهما يعتبر مدعى عليه، كان على كل واحد منهما أن يحلف. (ح-480) لما رواه البخاري ومسلم من طريق ابن أبي مليكة عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه (¬1). فيقال للبائع: أنت تدعي أن البيع وقع على هذه الصفة، ألك بينة؟ فإن قال: لا. قال: لك يمين صاحبك، ويقال للمشتري: أنت تدعي أن البيع وقع على تلك الصفة، ألك بينة؟ فإن قال: لا. قيل له: لك يمين صاحبك، وعلى هذا كل واحد منهما عليه أن يحلف باعتباره مدعى عليه. ويناقش من وجهين: الوجه الأول: المنع من أن يكون كل منهما مدعى عليه، فالبائع والمشتري يتفقان على وقوع البيع، والمشتري يدعي أنه اشترط صفة في المبيع، فهو المدعي، والبائع ينكر وجود هذا الشرط، فهو المنكر، فاليمين في جانبه. الوجه الثاني: لو سلمنا أن كلا منهما مدعى عليه، فإن حديث ابن عباس (ولكن اليمين على المدعى عليه) عام يشمل اختلاف المتبايعين وغيرهما، وحديث ابن مسعود (إذا اختلف البيعان، ولا بينة لهما، فالقول قول البائع، أو يترادان) (¬2) خاص، ¬
الدليل الثاني
والخاص مقدم على العام، فيكون عموم حديث ابن عباس قد خص منه اختلاف المتبايعين، فعلى هذا يكون القول قول البائع، والله أعلم. الدليل الثاني: (ح-481) ما يروى مرفوعًا بلفظ: (إذا اختلف البيعان والسلعة قائمة تحالفا). وقد رأى الطحاوي والخطيب البغدادي وابن القيم وغيرهم الاحتجاج بهذا اللفظ لتلقي العلماء له، واحتجاجهم به، وإن كان الحديث لا يثبت من جهة الإسناد، ولكن لما تلقاه الكافة عن الكافة غنوا بصحته عندهم عن طلب الإسناد له، وقد نقلنا كلامهم في بحث سابق (¬1). وتقدم الجواب عن هذا الدليل في بحث سابق، فأغنى عن إعادته هنا. القول الثالث: القول قول مشتر بيمينه، وهو المشهور في مذهب الحنابلة (¬2). تعليل من قال: القول قول المشتري: علل الحنابلة ذلك بأن المشتري غارم، والقول قول الغارم مع يمينه. ¬
ويجاب
ويجاب: لا نسلم أن المشتري غارم، بل الغارم البائع؛ لأن المشتري يطالبه بزيادة الصفة في المبيع التي لا تثبت بمجرد العقد، وإنما تثبت بالشرط، والأصل عدم الاشتراط. الترجيح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها أجد أن قول من قال: إن المقدم قول البائع مع يمينه هو الأقوى، يؤيده بذلك نص وتعليل، أما النص فحديث ابن عباس، وحديث ابن مسعود وأما التعليل، فلأن البائع هو المدعى عليه، والله أعلم. ***
الفرع الثاني من الاختلاف في صفة المبيع الاختلاف في عيبه
الفرع الثاني من الاختلاف في صفة المبيع الاختلاف في عيبه [م - 593] العيب صفة في المبيع، فالخلاف فيه يدخل ضمن الاختلاف في صفة المبيع، والخلاف في العيب بين البائع والمشتري يأخذ وجوهًا كثيرة، منها: اختلاف المتبايعين في وجود العيب. واختلافهما في العلم بالعيب، كما لو كان البائع يدعي أن المشتري قد رضي بالعيب، وعلم به قبل الشراء، والمشتري ينكر ذلك. واختلافهما في وقت حدوث العيب، فالبائع يدعي أن العيب حادث عند المشتري ليكون ضمانه عليه، والمشتري يدعي أن العيب قديم ليكون ضمانه على البائع. ومنه اختلاف المتبايعين في كون العيب مؤثرًا في قيمة المبيع، وسوف نتكلم على بعض هذه المسائل إن شاء الله تعالى، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
المسألة الأولى اختلاف المتبايعين في العلم بالعيب
المسألة الأولى اختلاف المتبايعين في العلم بالعيب قال ابن قدامة: إذا اختلفا في العلم -يعني في العلم بالعيب- فالقول قول من ينكره؛ لأن الأصل عدمه" (¬1). [م - 594] سبق لنا في خيار العيب أن من شروط الرد بالعيب أن يكون المشتري جاهلاً بالعيب عند العقد والقبض، فإن كان عالمًا به عند أحدهما فلا خيار له؛ لأن الإقدام على الشراء مع العلم بالعيب رضا به دلالة، فإن اختلف المتبايعان، فقال البائع: بعته بعد أن علم بالعيب، وقال المشتري: اشتريته، وأنا جاهل بوجود العيب فيه، فمن يؤخذ بقوله؟ ذهب عامة الفقهاء إلى أن القول قول المشتري (¬2). قال الجمهور: مع يمينه. وقال المالكية: بلا يمين. جاء في الفتاوى الهندية: "أن يدعي البائع سقوط حق المشتري في الرد -يعني رد السلعة المعيبة- بالرضا أو غيره، ويكون القول قول المشتري فيه مع يمينه كذا في المحيط" (¬3). وقال الدسوقي في حاشيته: "المشتري إذا اطلع على عيب قديم، وأراد ¬
وجه هذا القول
الرد، فقال له البائع: أنت رأيته وقت الشراء، وأنكر رؤيته، فطلب البائع يمينه، فإن المشتري لا يلزمه يمين، ويرد المبيع بلا يمين ... (¬1). وقال النووي في روضة الطالبين: "ولو ادعى البائع علم المشتري بالعيب أو تقصيره في الرد، فالقول قول المشتري" (¬2). وقال ابن قدامة: "إذا اختلفا في العلم -يعني في العلم بالعيب- فالقول قول من ينكره؛ لأنّ الأصل عدمه" (¬3). وجه هذا القول: أن الأصل عدم العلم بالعيب، فكان القول قول من ينفيه. ولأن البائع هو المدعي، حيث يدعي أن المشتري قد اطلع على العيب، ولا بينة له، والمشتري ينكر ذلك، فهو المدعى عليه، وقد جاء في حديث ابن عباس المتفق عليه، (ولكن اليمين على المدعى عليه) (¬4). ولم أقف على خلاف في المسألة، والأدلة التي ساقها الفقهاء قوية جدًا، إلا أن يكون هناك قرينة تشهد لصدق قول البائع، كما لو كان ثمن المبيع قد روعي فيه وجود العيب، بحيث لو كانت السلعة سليمة لكانت قيمتها أغلى بكثير من الثمن المتفق عليه، فهنا قد يتجه القول بتقديم قول البائع مع يمينه لدلالة القرينة على صدقه، والله أعلم. ¬
المسألة الثانية اختلاف المتبايعين في وقت حدوث العيب
المسألة الثانية اختلاف المتبايعين في وقت حدوث العيب الأصل سلامة المبيع من عيب قديم. والقول قول من يدعي الأصل. المشتري يدعي ما يوجب الفسخ، والبائع ينكر، والقول قول المنكر. [م - 595] إذا اختلف العاقدان في العيب، هل كان في المبيع قبل العقد، أو حدث عند المشتري، لم يخل الأمر من قسمين: القسم الأول: ما علم تقدمه يقينًا، فيقبل قول المشتري في الأصبع الزائدة، والشجة المندملة التي لا يمكن حدوث مثلها عند المشتري. ويقبل قول البائع في الجرح الطبري الذي لا يحتمل كونه قديماً. وهذا جلي وواضح؛ لأننا نعلم صدق المشتري وكذب البائع في المثالين الأولين، وصدق البائع وكذب المشتري في المثال الثالث. وهل يقبل بدون يمين، أو لا بد من اليمين، قولان (¬1). القسم الثاني: أن يحتمل قول كل واحد منهما، كالخرق في الثوب، والكسر في الإناء. فهذا قد اختلف العلماء فيمن يقبل قوله على أربعة أقوال: ¬
القول الأول
القول الأول: القول قول البائع، وهو مذهب الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) والشافعية (¬3) ورواية الإمام أحمد (¬4). وجه من قال: القول قول البائع: الوجه الأول: الأصل سلامة المبيع من عيب قديم. والقول قول من يدعي الأصل. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أن المشتري يدعي قدم العيب فهو المدعي، ولا بينة له، والبائع ينكر، فهو المدعى عليه، والقول قول المدعى عليه مع يمينه إذا لم تكن بينة للمدعي، كما في حديث ابن عباس المتفق عليه (ولكن اليمين على المدعى عليه) (¬1). واعترض عليه: بأن المشتري ينكر حق القبض في الجزء الفائت بالعيب فالقول قوله. ويجاب: بأن الأصل أن المسئولية تقع على اليد، فالسلعة في يد المشتري، فإما أن يقدم بينة على أن يده غير مسئولة، وإلا كان الضمان عليه. الوجه الثالث: الأصل لزوم العقد، والمشتري يدعي حق الفسخ، فالقول قول المنكر، والمنكر هنا هو البائع. الوجه الرابع: أن طروء العيب متيقن، وقدمه مشكوك فيه، والحكم باليقين أولى من الحكم بالشك (¬2). وقد يجاب: بأن يقال: التعارض ليس بين حدوث العيب وقدمه، حتى يقال: إن حدوث ¬
القول الثاني
العيب يقين، وقدمه مشكوك فيه، وإنما التعارض بين حدوثه قبل العقد أو بعد العقد، وكلاهما مشكوك فيه، فلا يقدم أحدهما على الآخر إلا ببينة. القول الثاني: القول قول المشتري بيمينه، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وجه من قال: القول قول المشتري: الوجه الأول: الأصل عدم القبض في الجزء الفائت (المعيب) وعدم استحقاق ما يقابله من الثمن، فكان القول قول من ينفي القبض، كما لو اختلفا في قبض المبيع (¬2). ويجاب: الخلاف في قبض المبيع خلاف في أصل القبض، والأصل عدمه، والخلاف في حدوث العيب خلاف في أمر حادث طارئ، والأصل السلامة منه، فافترقا. القول الثالث: يتحالفان وهو قول في مذهب الشافعية رجحه النووي (¬3) وقول لبعض الحنابلة (¬4). ¬
دليل من قال: يتحالفان
دليل من قال: يتحالفان: الدليل الأول: (ح-482) ما يروى مرفوعًا بلفظ: (إذا اختلف البيعان والسلعة قائمة تحالفا). وقد احتج جماعة من أهل العلم بهذا اللفظ لتلقي العلماء له، واحتجاجهم به، وإن كان الحديث لا يثبت من جهة الإسناد، ولكن لما تلقاه الكافة عن الكافة غنوا بصحته عندهم عن طلب الإسناد له، وقد نقلنا كلامهم في بحث سابق (¬1). ويجاب عن ذلك: بما ذكرناه سابقًا بأن كلام العلماء رحمهم الله إنما هو في حديث ابن مسعود في اختلاف المتبايعين، وفي إسناده ضعف على اختلاف في لفظه وقد سبق تخريجه، والحمد لله، والمعروف في لفظه: إذا اختلف المتبايعان ليس بينهما بينة فالقول ما يقول رب السلعة، أو يتتاركان. وأما لفظ التحالف فلا يوجد في شيء من كتب الحديث، نص على ذلك ابن حجر (¬2)، وابن حزم (¬3)، وغيرهما. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن كلا من البائع والمشتري مدع ومدعى عليه، فالبائع يدعي أن العيب حدث عند المشتري، والمشتري يدعي أن العيب حدث عند البائع، وإذا صح أن كلاً منهما مدعى عليه فإنهما يتحالفان، لحديث ابن عباس المتفق عليه (ولكن اليمين على المدعى عليه) (¬1). ويجاب: لا نسلم أن المشتري مدعى عليه؛ بدليل أن المشتري لو ترك دعواه لترك، وهذا يدلّ على حصر الدعوى في جانبه فقط. القول الرابع: بالتفريق بين أن يكون المبيع عينًا معينة أو في الذمة، فإن كان في الذمة فالقول قول القابض (أي المشتري) وجهًا واحدًا. وجه القول بذلك: أن الأصل اشتغال ذمة البائع، فلم تثبت براءتها (¬2). الترجيح: بعد استعراض الأدلة أجد أن من يقول: إن القول قول البائع أقوى من حيث الاستدلال، والله أعلم. ¬
فرع صفة اليمين هل هي على البت أو على نفي العلم
فرع صفة اليمين هل هي على البت أو على نفي العلم [م - 596] إذا قيل إن القول قول البائع مع يمينه، فهل يمينه على البت (القطع والجزم)، أو على نفي العلم بالعيب؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: اليمين علي البت مطلقًا، لا على نفي العلم، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وقول في مذهب المالكية (¬4). وجه من قال: إن اليمين على البت: لا ينتفي حق الرد للمشتري إلا إذا كانت اليمين على البت والقطع إلا أن يكون النفي على فعل الغير، فإنه يقبل أن تكون على نفي العلم. القول الثاني: اليمين على نفي العلم مطلقًا، وهو قول في مذهب المالكية (¬5)، وقول في مذهب الحنابلة (¬6). ¬
دليل من قال: إن اليمين على نفي العلم.
دليل من قال: إن اليمين على نفي العلم. لا يمكن له أن يحلف على البت، فلعل العيب كان موجوداً ولم يعلم به، فليحلف على نفي العلم. القول الثالث: يحلف البائع على البت في الظاهر من العيوب، وعلى نفي العلم بالخفي منها، وهذا مذهب المالكية (¬1). دليل من فرق بين العيب الظاهر والعيب الخفي: أن العيب الظاهر يمكن للبائع أن يحلف على البت، لإمكان العلم بعدم وجوده، بخلاف العيب الخفي، فإنه لا يمكن أن يحلف على البت، فلعله كان موجودًا ولم يعلم به. الراجح: أرى أن مذهب المالكية قول وسط بين القولين، وحجته قوية، والله أعلم. ¬
المسألة الثالثة اختلاف المتبايعين في عين السلعة المعيبة
المسألة الثالثة اختلاف المتبايعين في عين السلعة المعيبة [م - 597] من وجوه الاختلاف في صفة المبيع أن يريد المشتري رد العين على البائع بدعوى وجود عيب فيها، فيقول البائع: ليس هذا هو المبيع. فقد ذهب الأئمة الأربعة إلى أن القول في هذه المسألة قول البائع مع يمينه، بشرط ألا يكون البيع فيه خيار شرط. واشترط الشافعية والحنابلة في قول شرظا آخر، وهو أن يكون المبيع معيناً في العقد، فإن كان عينه بعد ما وجب في ذمته فالقول قول المشتري. جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "إذا أراد المشتري رد المبيع، فقال البائع: ليس هذا هو المبيع، وقال المشتري: بل هو، فالقول للبائع مع يمينه" (¬1). وجه ذلك: أن المشتري هو المدعي، والبائع هو المدعى عليه؛ لأنه ينكر أن تكون هذه سلعته، والقول قول المدعى عليه مع يمينه، كما في حديث ابن عباس المتفق عليه (ولكن اليمين على المدعى عليه) (¬2). ¬
كما أن الأصل لزوم العقد، وعدم استحقاق الفسخ. وأما المبيع إذا كان فيه شرط خيار، فإن القول قول المشتري: وعلل الحنفية ذلك بأن المشترى في خيار الشرط ينفسخ العقد بلا توقف على رضا الآخر، وإذا انفسخ يكون الاختلاف بعد ذلك اختلافًا في المقبوض، فالقول فيه قول القابض بخلاف الفسخ بالعيب، لا ينفرد المشتري بفسخه، ولكنه يدعي ثبوت حق الفسخ في الذي أحضره، والبائع ينكره (¬1). وعلل الحنابلة ذلك: بأن المبيع إذا كان فيه خيار الشرط، فقد اتفقا على استحقاق الفسخ، بخلاف التي قبلها (¬2). ومثل ذلك عند الحنابلة ما لو اعترف البائع بوجود عيب في المبيع، ففسخ المشتري البيع، ثم أنكر البائع أن المبيع هو المردود، فإن القول قول المشتري؛ لأنهما أتفقا على استحقاق الفسخ للوجود العيب (¬3). ¬
المسألة الرابعة الاختلاف في تغير المبيع بعد رؤيته
المسألة الرابعة الاختلاف في تغير المبيع بعد رؤيته التغير حادث والأصل عدم التغير (¬1). [م - 598] من الاختلاف في صفة المبيع أن يشتري الرجل السلعة بناء على رؤية سابقة. فإذا ادعى المشتري أن المبيع تغير عن رؤيته السابقة، وأنكر البائع، فمن القول قوله؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: القول قول البائع، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، ووجه عند ¬
وجه من قال: القول قول البائع
الشافعية (¬1) ورواية عن الإمام أحمد (¬2). وجه من قال: القول قول البائع: الوجه الأول: أن الأصل عدم تغير المبيع عن رؤيته المتقدمة: لأنّ التغير حادث، والأصل عدم التغير. الوجه الثاني: أن المشتري يدعي أن المبيع قد تغير، والبائع ينكر، والقول قول المنكر مع يمينه، كما في حديث ابن عباس المتفق عليه: (ولكن اليمين على المدعى عليه) (¬3). ونوقش: بأن المدعي هو البائع، وجه ذلك أن البائع يدعي على المشتري أنه قد رآه بهذه الصفة الموجودة الآن، ورضي به، والمشتري ينكر ذلك (¬4). ورد هذا النقاش: لا نسلم أن البائع هو المدعي بدليل أن المشتري لو ترك دعواه لتم البيع، وهذا يدلّ على حصر الدعوى في جانبه فقط. ¬
القول الثاني
القول الثاني: القول قول المشتري، وهو أصح الوجهين عند الشافعية (¬1)، والمذهب عند الحنابلة (¬2)، وقول أشهب من المالكية (¬3). وجه من قال: القول قول المشتري: لما كان الثمن يلزم المشتري، فلا يلزمه إلا ما اعترف به، ولا ينتزع منه الثمن إلا بما يرضى به (¬4). وعلل البهوتي بقوله: القول قول المشتري؛ لأن الأصل براءة ذمته من الثمن (¬5). ويجاب: بأن البيع قد انعقد بين المتبايعين بناء على تلك الرؤية السابقة، فاستقر الثمن في الذمة، والمشتري يدعي بأن المبيع قد تغير، والأصل عدم التغير، ولو فتح الباب للمشتري أن تقبل دعواه بلا بينة، لأبطل كثير من العقود، والأصل لزوم عقد البيع، فلا ينفسخ إلا بما يوجب الفسخ، وذلك إما بإقرار البائع بأن المبيع قد تغير، أو أن يقدم المشتري بينة بأن التغير قد حصل بعد الرؤية، وما عدا ذلك فالأصل لزوم البيع، والله أعلم. ¬
القول الثالث
القول الثالث: يتحالفان وهو رواية عن الإمام أحمد (¬1). وجه قول من قال: يتحالفان: الوجه الأول: (ح-483) ما يروى مرفوعًا بلفظ: (إذا اختلف البيعان والسلعة قائمة تحالفا). احتج به بعضهم بناء على دعوى أنه متلقى بالقبول فأغنى ذلك عن صحته وطلب الإسناد له، وقد نقلنا كلامهم في بحث سابق (¬2). وقد سبق الجواب عن هذا الحديث، وبينا أن لفظ التحالف لا يوجد في شيء من كتب الحديث، نص على تلك ابن حجر (¬3) , وابن حزم (¬4)، وغيرهما, وأن كلام أهل العلم إنما يتجه في حديث ابن مسعود في اختلاف المتبايعين، وفي إسناده ضعف على اختلاف في لفظه كما سبق تخريجه، والمعروف في لفظه: إذا اختلف المتبايعان ليس بينهما بينة فالقول ما يقول رب السلعة، أو يتتاركان. الوجه الثاني: أن كل واحد منهما مدع ومدَّعَى عليه، فالبائع يدعي بقاء المبيع على ما كان ¬
الراجح
عليه، وينكر تغيره. والمشتري يدعي تغيره، وينكر بقاءه على ما كان عليه، فلما لم تكن هناك بينة للمدعي، كانت اليمين في حق المدعى عليه، ولما كان كل واحد منهما يعتبر مدعى عليه، كان على كل واحد منهما أن يحلف. الراجح: بعد استعراض الأدلة أجد القول الأول أقوى الأقوال الثلاثة، وذلك أنه يستند إلى حديث ابن عباس المتفق عليه في كون اليمين على المدعى عليه، ولأن الأصل عدم تغير المبيع، والأصل لزوم البيع، فلا يفسخ العقد إلا ببينة تقوم على أن المبيع قد تغير، والله أعلم. ***
المبحث الثالث الاختلاف في قدر المبيع
المبحث الثالث الاختلاف في قدر المبيع الفرع الأول إذا اختلف المتبايعان في قدر المبيع [م - 599] إذا اختلف المتبايعان في مقدار المبيع، وكان المبيع قائمًا فمن يؤخذ بقوله؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يتحالفان، ثم يفسخ البيع إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه (¬4). ¬
دليل من قال: يتحالفان
دليل من قال: يتحالفان: الدليل الأول: أن كلاً منهما منكر لما يدعيه صاحبه، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عباس المتفق عليه: (ولكن اليمين على المدعى عليه) (¬1) (¬2). الدليل الثاني: استدلوا بما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: إذا اختلف المتبايعان، والسلعة قائمة تحالفا، وترادا" (¬3). هذا الحديث لا أصل له، وسبق بيان ذلك. الدليل الثالث: القياس على الاختلاف في الثمن، بجامع أن كلاً منها أحد عوضي العقد (¬4). القول الثاني: القول قول البائع، وهذا مذهب الحنابلة (¬5). دليل من قال: القول قول البائع: أن المشتري يدعي زيادة في قدر المبيع، والبائع ينكره، والقول قول المنكر ¬
وأجيب
بيمينه، كما في حديث ابن عباس المتفق عليه: (ولكن اليمين على المدعى عليه (¬1). وأجيب: لا نسلم أن البائع هو المنكر وحده حتى يقال: إن القول قوله، بل المشتري منكر أيضًا، حيث ينكر وقوع العقد على القدر الذي يدعيه البائع. ورد: بأن المدعي هو المطالب، ولو ترك دعواه لبطلت الدعوى، هذا هو ما يحدد المدعي والمدعى عليه، فالمدعي هو المشتري حيث يدعي قدرًا زائدًا في المبيع، والبائع ينكره؛ ولأن الغارم هنا هو البائع، والقول قول الغارم. الترجيح: بعد استعراض الأدلة أجد أن قول الحنابلة أقوى من حيث موافقته لحديث ابن عباس المتفق عليه، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني إذا اختلفا المتبايعان في قدر المبيع والمبيع تالف
الفرع الثاني إذا اختلفا المتبايعان في قدر المبيع والمبيع تالف [م - 600] لم يفرق الجمهور بين هذه المسألة والمسألة التي قبلها، فالقول عندهم لا يختلف فيما لو كانت السلعة قائمة، أو كانت السلعة تالفة. فالمالكية والشافعية ورواية عن أحمد أنهما يتحالفان. وقول الحنابلة: أن القول قول البائع، وقد تقدم ذكر أدلتهم، فأغنى عن إعادتها هنا. وأما الحنفية فقد اختلفوا فيما بينهم: فذهب أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف إلى التفريق بين كون السلعة قائمة، وبين كون السلعة تالفة. فإن كانت السلعة قائمة، فقد تقدم أنهما يتحالفان. وإن كانت السلعة تالفة فالقول قول المشتري (¬1). وذهب محمد بن الحسن إلى أنه لا فرق بين هذه المسألة والتي قبلها، فيتحالفان، ويتفاسخان (¬2). دليل أبي حنيفة وأبي يوسف على الفرق بين المسألتين: (ح-484) ما يروى مرفوعاً بلفظ: (إذا اختلف البيعان والسلعة قائمة تحالفا). ¬
وجه الاستدلال
ففرق بين قيام السلعة وبين فواتها. قال الطحاوي: "وقفنا على صحة قوله عندهم: (إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة، تحالفا وترادا البيع)، وإن كان ذلك كله لا يقوم من جهة الإسناد، فغنوا بصحته عندهم عن طلب الإسناد له" (¬1). وجه الاستدلال: قوله (إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة) دليل على أن التحالف يشترط له أن تكون السلعة قائمة، ولأنه بالتحالف يفسخ العقد، ولا فسخ للعقد مع فوات المبيع: لعدم إمكان رد المبيع. ويجاب عن ذلك: أن لفظ والسلعة قائمة لم يرد في نص أثري مع لفظ التحالف. فكلمة (والسلعة قائمة) انفرد فيها محمد بن أبي ليلى، وليس في هذا الأثر النص على التحالف. (ح-485) وهذا لفظ محمد بن أبي ليلى، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه عن ابن مسعود، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا اختلف البيعان والبيع قائم بعينه، وليس بينهما بينة، فالقول ما قال البائع، أو يترادان البيع (¬2). فالحديث يقول: إذا كانت السلعة قائمة فالقول قول البائع، وأنتم تقولون: إذا كانت السلعة قائمة تحالفا، فلم يكن الحديث حجة لقولكم لوصح مع أن كلمة (والسلعة قائمة) قد انفرد فيها محمد بن أبي ليلى، ولم يذكرها كل من روى حديث ابن مسعود في اختلاف البيعين، فلا يصح الاحتجاج بها. ¬
دليل محمد بن الحسن على أنه لا فرق بين كون السلعة قائمة أو فائتة
أما لفظ التحالف فقد بينت أنه لا يوجد في شيء من كتب الحديث، نص على ذلك ابن حجر (¬1)، وابن حزم (¬2)، وغيرهما، وقد سبق الجواب عن كلام الطحاوي ومن وافقه في كلام سابق. دليل محمد بن الحسن على أنه لا فرق بين كون السلعة قائمة أو فائتة: ذكرنا دليل من قال إذا اختلف المتبايعان في قدر المبيع يتحالفان، ولم يفرقوا بين كون السلعة قائمة، وبين كون السلعة فائته في المسألة السابقة. جواب محمد بن الحسن على دليل أبي حنيفة وأبي يوسف: أن المتبايعين إذا كانا يتحالفان مع قيام السلعة، والقدرة على إمكان تمييز الصادق من الكاذب، وذلك عن طريق تحكيم قيمتها في الحال، ومعرفة أشبه القولين بالقيمة، فإذا كان يجري التحالف بينهما مع إمكان الوقوف على قيمة السلعة، فأولى أن يجري ذلك عند عدم إمكان ذلك كما لو تلفت السلعة. ولأن كل واحد منهما يدعي عقدا غير العقد الذي يدعيه صاحبه، فكان عليهما التحالف (¬3). الراجح: ما رجحته في المسألة السابقة، نرجحه هنا لعدم الفرق بين كون السلعة تالفة، أو قائمة، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع الاختلاف في قبض المبيع
المبحث الرابع الاختلاف في قبض المبيع إذا اختلفا في قبض المبيع فالأصل عدم القبض (¬1). [م - 601] إذا اختلف البائع والمشتري، فادعى البائع أن المشتري قد قبض كل المبيع أو بعضه، وأنكر المشتري القبض، فإن القول قول المشتري في قول عامة أهل العلم؛ لأنه منكر. وقيد المالكية ذلك بأمرين: أحدهما: ألا يشهد عرف لأحدهما، فمن شهد له العرف كان القول قوله. الثاني: أن يبين المشتري بالمبيع أي ينفصل به، فإن لم يبن به، وكان النزاع بالحضرة، فإن القول قول البائع؛ لأن المشتري اعترف بعمارة ذمته بقبض المبيع، فادعاؤه أنه دفع الثمن لا يبرئه حتى يثبت. جاء في بدائع الصنائع: "ولو اختلف البائع والمشتري في قبض المبيع، فقال البائع: قبضته، وقال المشتري: لم أقبضه، فالقول قول المشتري" (¬2). ¬
وجه هذا القول
وجه هذا القول: الوجه الأول: أن البائع هو المدعي، حيث يدعي وجود القبض وتقرر الثمن، والمشتري ينكر، فهو المدعى عليه، وقد قال في - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس المتفق عليه: (ولكن اليمين على المدعى عليه) (¬1). الوجه الثاني: حكي الإجماع على أن القول قول المشتري، جاء في تبيين الحقائق: "ولو قال: إني اشتريت منه مبيعًا إلا أني لم أقبضه، كان القول قوله بالإجماع" (¬2). الوجه الثالث: أن الأصل عدم القبض حتى يثبت، ولم يثبت القبض. ¬
المبحث الخامس الاختلاف في البداءة بتسليم المبيع والثمن
المبحث الخامس الاختلاف في البداءة بتسليم المبيع والثمن [م - 602] إذا تنازع المتبايعان في أيهما يسلم قبل الآخر، فقال البائع: لا أسلم المبيع حتى أستلم الثمن، ورأى أن من حقه حبس المبيع حتى يستلم عوضه، وقال المشتري: لا أسلم الثمن حتى أتسلم المبيع، وقال: من حقي حبس الثمن حتى أستلم المبيع، فإذا كان كل واحد منهما مطالباً بكسر اللام، ومطالبًا بفتحها، فمن يجب عليه أولاً بتقديم ما في يده، هذا هو ما سوف نبحثه الآن إن شاء الله تعالى، والفقهاء يقسمون المسألة إلى مسألتين: أن يكون الثمن عينًا. أو يكون الثمن في الذمة.
الفرع الأول أن يكون الثمن عينا
الفرع الأول أن يكون الثمن عينًا [م - 603] إذا اختلف المتبايعان في التسليم، والثمن عين، فقد اختلف الفقهاء فيمن يسلم أولاً على خمسة أقوال: القول الأول: يسلمان معًا، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وجه من قال: يسلمان معًا: لما كان الثمن عينًا لم يكن هناك فرق بين المبيع والثمن، فليس أحدهما بتقديم التسليم أولى من الآخر، فكان مقتضى المساواة بين المتبايعين التسليم معًا. القول الثاني: لا يجبر أي واحد منهما، ويتركان حتى يصطلحا، فإذا سلم أحدهما أجبر الآخر، وهذا قول في مذهب المالكية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3). ¬
وجه هذا القول
وجه هذا القول: لا يوجد ما يقتضي تقديم أحدهما على الآخر، فيتركا حتى يصطلحا، أو يتبرع أحدهما بالتسليم فيجبر الآخر. القول الثالث: يجعل بينهما عدل يقبض منهما، ويسلم إليهما. وهذا قول في مذهب المالكية (¬1)، والأصح عند الشافعية (¬2) والمذهب عند الحنابلة (¬3). وجه هذا القول: بأنه لما وجب لكل واحد من المتعاقدين على الآخر ما قد استحق قبضه ¬
القول الرابع
بموجب العقد، فالبائع يستحق تسلم الثمن، والمشتري يستحق تسلم المبيع، وليس هناك أحد أولى من الآخر بالتسليم، ولم يتراضيا على البداءة بالتسليم، فيجبر كل واحد منهما على قضاء صاحبه حقه عن طريق العدل الذي ينصب لهذه المهمة. القول الرابع: يجبر البائع على دفع السلعة، وهو قول في مذهب المالكية (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2) ورواية عن الإمام أحمد (¬3). وجه من قال: يجبر البائع: استدل له ابن قدامة بدليلين: أحدهما: أن الذي يتعلق به استقرار البيع وتمامه هو المبيع، فوجب تقديمه. الثاني: أن الثمن لا يتعين بالتعيين، فأشبه غير المعين (¬4). القول الخامس: يجبر المشتري أولاً على دفع الثمن، وهو قول في مذهب المالكية (¬5). وجه من قال: يجبر المشتري: ذكر هذا القول ابن القصار من المالكية كما نقلناه عنه في معرض الأقوال، ولم يذكر دليله، وقد يقال في وجه ذلك: أن المشتري عادة هو من يطلب الشراء من البائع، فلا يحق له المطالبة بأخذ المبيع حتى يسلم عوضه. ¬
الترجيح
الترجيح: بعد ذكر الأقوال وأدلتها أجد أن أقوى الأقوال من يرى المساواة بين البائع والمشتري؛ لأنه لا يوجد فرق بين المبيع والثمن، فكلاهما عين، فلا يوجد مبرر في تقديم أحدهما على الآخر، والله أعلم.
الفرع الثاني إذا اختلفا في التسليم وكان الثمن في الذمة
الفرع الثاني إذا اختلفا في التسليم وكان الثمن في الذمة [م - 604] إذا اختلف العاقدان في التسليم، فقال البائع: لا أسلم حتى أستلم الثمن، وقال المشتري: لا أسلم حتى أستلم المبيع، وكان الثمن في الذمة، كما لو باعه بدراهم غير معينة، أو معينة على القول بأن الدراهم لا تتعين بالتعيين، أو باعه عينًا بدين. فهنا إما أن يكون الثمن مؤجلاً، أو يكون الثمن حالاً. وسوف نبحث إن شاء الله تعالى كلام الفقهاء على كل مسألة على انفراد. ***
المسألة الأولى أن يكون الثمن مؤجلا
المسألة الأولى أن يكون الثمن مؤجلاً لا يحبس المبيع والثمن مؤجل (¬1). [م - 605] إذا باع الرجل سلعته بثمن مؤجل، وتم العقد على هذا، فهل يجب على البائع تسليم المبيع؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يجب على البائع تسلم المبيع إلى المشتري أولاً، ولا يحق له أن يطالب بتسليم الثمن قبل حلول الأجل، وليس له الحق في حبس المبيع. وهذا قول أكثر أهل العلم (¬2). وجه القول بذلك: أن البائع لما وافق على البيع بثمن مؤجل فقد أسقط حقه بقبض الثمن حالاً وإذا أسقط حقه ذلك برضاه لم يسقط حق المشتري في قبض المبيع. القول الثاني: للبائع حبس المبيع إلى حلول الأجل، وهو قول ضعيف في مذهب الحنابلة (¬3). والراجح الأول. ¬
المسألة الثانية أن يكون الثمن حالا
المسألة الثانية أن يكون الثمن حالاً قال الفقهاء: ما تعلق بالعين مقدم على ما تعلق بالذمة (¬1). [م - 606] إذا اختلف العاقدان في التسليم، وكان الثمن حالاً، في الذمة، فقد اختلف العلماء فيمن يجبر على التسليم أولاً على أربعة أقوال. القول الأول: يجبر المشتري على التسليم أولاً، ثم يلزم البائع بتسليم المبيع، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، وقول للشافعية (¬4). وجه من قال: يجبر المشتري أولاً: عقد البيع عقد معاوضة والمساواة في عقود المعاوضة مطلوبة للمتعاوضين وتحقيق المساواة هنا أن نجعل الثمن يتعين كما تعين المبيع، فإذا كان المبيع قد تعين بمجرد العقد، فإن الثمن لا يتعين إلا بالقبض، فيجبر المشتري على التسليم أولاً ليتعين الثمن كما تعين المبيع، هذا هو مقتضى المساواة بين المتعاوضين. ¬
ونوقش هذا
ونوقش هذا: القول بأن الثمن لا يتعين إلا بالقبض ليس محل اتفاق، وعلى التسليم بأنه لا يتعين إلا بالقبض لا يلزم منه اشتراط التسليم، وإنما يلزمه إحضار ذلك، فإذا أحضر كل واحد منهما ما يجب عليه تسليمه فقد تحققت المساواة بينهما، فيتم التسليم معًا، أو بتنصيب عدل يستلم منهما، ويسلمهما، هذا هو الذي يحقق المساواة بينهما، وينزع الخوف منهما. القول الثاني: يجبر البائع بتسليم المبيع أولاً، وهو الأظهر عند الشافعية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). وجه من قال: يجبر البائع: أن حق المشتري تعلق بعين المبيع، وحق البائع تعلق بالذمة، وما تعلق بالعين مقدم على ما تعلق بالذمة. ولذلك قال الفقهاء: ما تعلق بالعين مقدم على ما تعلق بالذمة (¬3). وقال الفقهاء أيضًا: من وجد عين ماله فهو أحق به. وقالوا أيضًا: "إذا تزاحم حقان في محل: أحدهما متعلق بذمة من هو عليه، والآخر متعلق بعين من هي له، قدم الحق المتعلق بالعين على الآخر؛ لأنه يفوت بفواتها، بخلاف الحق الآخر" (¬4). ¬
القول الثالث
القول الثالث: يلزم الحاكم بإحضار كل واحد ما عليه، فإذا أحضرا سلم الثمن إلى البائع، والمبيع إلى المشتري يبدأ بأيهما شاء، أو يأمرهما بالوضع عند عدل، ليفعل العدل ذلك، وهذا قول في مذهب الشافعية (¬1). وجه من قال: يستلم حاكم أو عدل منهما، ويقوم بالتسليم: لما وجب على كل واحد منهما تسليم ما في يده، ولم يكن أحدهما أولى بالتقديم من الآخر، وجب أن يقوم الحاكم أو العدل بالاستلام منهما، والتسليم لهما، هذا هو مقتضى العدل بين المتعاقدين. القول الرابع: لا يجبر أي واحد منهما، بل يمنعهما من التخاصم، فإذا سلم أحدهما أجبر الآخر، وهذا قول في مذهب الشافعية (¬2). وجه من قال بهذا القول: لا يوجد ما يقتضي تقديم أحدهما على الآخر، فيتركا حتى يصطلحا، أو يتبرع أحدهما بالتسليم فيجبر الآخر. الراجح: الذي أميل إليه أن القول بأن الحاكم يستلم منهما، ويقوم بتسليمهما، أو يعين عدل يقبض منهما، ويسلمهما هذا فيه عدل لكل واحد منهما، ولا أعلم نصًا يقتضي إجبار أحد المتعاقدين قبل الآخر، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث الاختلاف في الثمن
الفصل الثالث الاختلاف في الثمن سبق لنا دراسة الاختلاف في المبيع، ومعظم الأحكام فيها تنطبق على الاختلاف في الثمن، بجامع أن كلاً من المبيع والثمن معقود عليه إلا في حالات نادرة أو قليلة، والذي اقتضى فصلهما هو التنسيق والترتيب، والاختلاف في الثمن قد يكون اختلافا في قدره، وقد يكون اختلافًا في جنسه، وقد يكون اختلافًا في صفته أو نوعه، وكل ذلك قد يكون والسلعة قائمة، وقد يكون والسلعة فائتة، ولا يختلف الحكم في الاختلاف في قدر الثمن عن الاختلاف في بقيتها؛ لأنّ كل ذلك راجع إلى الاختلاف في الثمن، إلا قول الحنابلة في الاختلاف في صفة الثمن، وهو أن الواجب: نقد البلد، فإن تعدد أخذ الغالب رواجًا، فإن استوت نقود البلد في الرواج فالوسط منها، وإذا لم يكن في البلد إلا نقدان متساويان فينبغي أن يتحالفا؛ لأنهما اختلفا في الثمن على وجه لم يترجح قول أحدهما، فيتحالفان كما لو اختلفا في قدر الثمن (¬1). ¬
وعلى هذا سيكون الكلام في الخلاف في الثمن على الخلاف في قدره، وما عداه مقيس عليه، والاختلاف في قدره تارة يكون والسلعة قائمة، وتارة يقع، والسلعة فائتة، أو تالفة، وسوف نتناول خلاف الفقهاء في هاتين المسألتين إن شاء الله تعالى، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
المبحث الأول الاختلاف في قدر الثمن
المبحث الأول الاختلاف في قدر الثمن الفرع الأول الاختلاف في قدر الثمن والسلعة قائمة [م - 607]، إذا اختلف المتعاقدان في قدر الثمن، بأن قال البائع: بعتك سلعتي بألف دينار، وقال المشتري: اشتريتها بخمسمائة، والسلعة قائمة، فقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أربعة أقوال: القول الأول: يتحالفان، ويترادان، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمالكية (¬3)، والمشهور في مذهب الحنابلة (¬4). ¬
دليل من قال: يتحالفان
دليل من قال: يتحالفان: الدليل الأول: أن كل واحد من المتعاقدين مدع، ومدعى عليه، فالبائع يدعي أن البيع كان بعشرين، والمشتري ينكر ذلك، والمشتري يدعي أن البيع كان بعشرة، والبائع ينكره، فشرعت اليمين في حقهما. (ح-486) لما رواه البخاري ومسلم من طريق ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه (¬1). وجه الاستدلال: قوله: (ولكن اليمين على المدعى عليه) وقد ثبت أن كل واحد منهما مدعى عليه. (ح-487) ولما رواه مسلم من طريق أبي الأحوص، عن سماك، عن علقمة بن وائل عن أبيه، في قصة الحضرمي والكندي اللذين اختلفا في الأرض، وفيه: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للحضرمي: ألك بينة، قال: لا. قال: فلك يمينه ... الحديث (¬2). فيقال للبائع: أنت تدعي أن البيع كان بعشرين ألك بينة؟ فإن قال: لا. قال: لك يمين صاحبك، ويقال للمشتري: أنت تدعي أن البيع وقع بعشرة، ألك بينة؟ فإن قال: لا. قيل له: لك يمين صاحبك، وعلى هذا كل واحد منهما عليه أن يحلف باعتباره مدعى عليه. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-488) ما يروى مرفوعًا بلفظ: (إذا اختلف البيعان والسلعة قائمة تحالفا). ففرق الحديث بين قيام السلعة وبين فواتها. قال الطحاوي: "وقفنا على صحة قوله عندهم: (إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع)، وإن كان ذلك كله لا يقوم من جهة الإسناد، فغنوا بصحته عندهم عن طلب الإسناد له" (¬1). وجه الاستدلال: فقوله: (إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة) فدل على أن التحالف يشترط له أن تكون السلعة قائمة، ولأنه بالتحالف يفسخ العقد، ولا فسخ للعقد مع فوات المبيع؛ لعدم إمكان رد المبيع. ويجاب عن ذلك: أن لفظ والسلعة قائمة انفرد فيه محمد بن أبي ليلى، ولم يذكره كل من روى حديث ابن مسعود في اختلاف البيعان، فلا يصح الاحتجاج بها هذا من جهة، وليس في حديث ابن أبي ليلى النص على التحالف. (ح-489) وهذا لفظ محمد بن أبي ليلى، فقد رواه عن القاسم ابن عبد الرحمن، عن أبيه عن ابن مسعود، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا اختلف البيعان والبيع قائم بعينه، وليس بينهما بينة، فالقول ما قال البائع، أو يترادان البيع (¬2). ¬
القول الثاني
وأما لفظ التحالف فلم يوجد في شيء من كتب الحديث، نص على ذلك ابن حجر (¬1)، وابن حزم (¬2)، وغيرهما، وقد سبق الجواب عن كلام الطحاوي ومن وافقه في كلام سابق. القول الثاني: القول قول المشتري مع يمينه، وهو رواية عن مالك (¬3)، وبه قال أبو ثور (¬4). دليل من قال: القول قول المشتري مع يمينه: بأن كلاً من البائع والمشتري متفقان على العشرة، مختلفان فيما زاد عليها، فالبائع يدعيها، والمشتري ينكرها، والقول قول المنكر؛ لأنه مدعى عليه، لحديث ابن عباس المتفق عليه: (ولكن اليمين على المدعى عليه) (¬5). الدليل الثاني: أن المشتري هو الغارم، والقول قول الغارم بيمينه. ويناقش: بأن البائع أيضًا غارم، حيث يخرج منه ملكه بما لم يرضه. ¬
القول الثالث
القول الثالث: القول قول البائع، أو يترادان، وهو رواية عن الإمام أحمد، وبه قال الشعبي (¬1). دليل من قال: القول قول البائع أو يترادان: (ح-490) ما رواه أبو داود من طريق أبي عميس، عن عبد الرحمن ابن قيس بن محمد بن الأشعث، عن أبيه عن جده، قال: اشترى الأشعث رقيقًا من رقيق الخمس، من عبد الله بعشرين ألفًا, فأرسل عبد الله إليه في ثمنهم، فقال: إنما أخذتهم بعشرة آلاف، فقال عبد الله: فاختر رجلاً يكون بيني وبينك، قال الأشعث: أنت بيني وبين نفسك. قال عبد الله فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إذا اختلف البيعان، وليس بينهما بينة، فهو ما يقول رب السلعة، أو يتتاركان. [حسن بمجموع طرقه] (¬2). وأجيب: بأنه لا تعارض بين هذا الحديث وحديث ابن عباس القائل بالتحالف، قال ابن قدامة: "ويحتمل أن يكون معنى القولين واحدًا، وأن القول قول البائع مع يمينه، فإذا حلف، فرضي المشتري بذلك أخذ به، وإن أبى حلف أيضًا، وفسخ البيع بينهما" (¬3). وبهدا التوجيه نكون قد أخذنا بحديث ابن عباس وحديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن البائع غارم فهو الذي ستؤخذ منه السلعة، فلا يغرم غير ما أقر به، ولا ينزع ماله منه إلا بثمن يرتضيه، فإما أن يقبل المشتري ما يقوله رب السلعة، أو يترك السلعة لصاحبها. ونوقش: بأن المشتري غارم أيضًا من جهة أن البائع يريد إعطاءه السلعة بثمن لم يرضه. ويجاب: على تقدير أن المشتري غارم أيضًا، فيجتمعان أن كلاً منهما غارم، فدفع الغرم عن المشتري بألا يلزم بقول البائع، كما أن دفع الغرم عن البائع ألا يلزم بإخراج ملكه منه إلا بثمن يرتضيه، فنكون بهذا قد حققنا العدل بينهما. الدليل الثالث: أن الأصل بقاء ملكه على ملكه فلا يترك هذا الأصل بمجرد دعوى المشتري. القول الرابع: إن كان الاختلاف قبل القبض تحالفا، وإن كان بعده فالقول قول المشتري، وهو رواية عن الإمام مالك (¬1) وراوية عن الإمام أحمد (¬2). دليل هذا القول: وجه التفريق بين قبل القبض وبعده أنهما قبل القبض قد تساويا في الدعوى، ¬
الترجيح
ولا مرجح لأحدهما فيتحالفان لحديث ابن مسعود: (إذا اختلف المتبايعان والسلكة قائمة، ولا بينة لأحدهما تحالفا) (¬1). وقد علمت الجواب عن هذا الحديث. وأما بعد القبض فالقول قول المشتري؛ لأنه إذا قبض السلعة فقد صار القبض شاهدًا للمشتري، وشبهة لصدقه، واليمين إنما تجب على أقوى المتداعيين شبهة، ويقوي ذلك أيضًا أن البائع والمشتري قد اتفقا على حصول الملك للمشتري، واتفقا على بعض الثمن، والبائع يدعي عليه زيادة على ما اتفقا عليه، والمشتري ينكر الزيادة، والقول قول المنكر (¬2). الترجيح: الذي أراه أن الأخذ بحديث ابن عباس المتفق عليه: (ولكن اليمين على المدعى عليه)، ويبقى الاجتهاد في تحديد المدعى عليه في هذه المسألة، هل هو المشتري منكر الزيادة، أو كل من البائع والمشتري، وهذا الأخير هو الأقرب عندي، وأن الراجح أنهما يتحالفان، والجمع الذي ذكره ابن قدامة في التوفيق بين حديث ابن عباس وابن مسعود جيد، والله أعلم. ¬
المسألة الأولى من يبدأ بالحلف
المسألة الأولى من يبدأ بالحلف [م - 608] إذا اختلف المتبايعان، وقلنا يتحالفان، فمن يبدأ الأول بالحلف؟ اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: يبدأ المشتري بالحلف، وهو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة، وقول محمد ابن الحسن، وأحد القولين عن أبي يوسف (¬1)، وقول عند الشافعية (¬2). وجه من قال: يبدأ الحلف بالمشتري: الوجه الأول: أن اليمين وظيفة المنكر، والمشتري أشد إنكارًا، وذلك أن البائع والمشتري قد اتفقا على العشرة، واختلفا في الزائد، فالبائع يدعي قدرًا زائدًا، والمشتري ينكر ذلك، فهو أشد إنكارًا من البائع. الوجه الثاني: أن المشتري يطالب أولاً بتسليم الثمن؛ لأن الثمن في الذمة، فيطالب بتسليمه ¬
القول الثاني
حتى يكون عينًا، وإذا كان أول التسليمين عليه، وهو تسليم الثمن، فأول اليمينين عليه أيضًا. القول الثاني: يبدأ الحلف بالبائع، وهو قول لأبي حنيفة، وأحد القولين عن أبي يوسف، واختاره زفر (¬1)، وهو مذهب المالكية (¬2)، وأظهر القولين عند الشافعية (¬3)، ومذهب الحنابلة (¬4). دليل من قال: يبدأ الحلف بالبائع: الدليل الأول: (ح-491) ما رواه أبو داود من طريق أبي عميس، عن عبد الرحمن ابن قيس بن محمد بن الأشعث، عن أبيه، عن جده، عن ابن مسعود، وفيه: قال عبد الله فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إذا اختلف البيعان، وليس بينهما بينة، فهو ما يقول رب السلعة، أو يتتاركان. [حسن بمجموع طرقه] (¬5). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قال السرخسي: "الشرع جعل القول قول البائع، وهو يقتضي الاكتفاء بيمينه، وإن كان لا يكتفى بيمينه فلا أقل من أن يبدأ بيمينه" (¬1). الدليل الثاني: أن المقصود من الاستحلاف قطع المنازعة، والنكول طريق إليه، وبنكول البائع تنقطع المنازعة بنفسه، وبنكول المشتري لا تنقطع المنازعة، ولكن يجبر على أداء ما ادعى من الثمن، فيبدأ بيمين من يكون نكوله أقرب إلى قطع المنازعة (¬2). الدليل الثالث: أن المتبايعين إذا تحالفا رجع المبيع إلى البائع، فكان البائع بهذا كصاحب اليد، فكان جانبه أقوى من المشتري، والبداءة إنما تكون في جانب الأقوى. القول الثالث: يتساويان، حيث لا فرق، وعلى هذا يخير الحاكم بين أن يبدأ بيمين البائع، أو بيمين المشتري، أو يقرع بينهما، وهو قول في مذهب الحنفية (¬3)، وقول في مذهب الشافعية (¬4). ¬
دليل من قال: يتساويان، فيتخير الحاكم، أو يقرع
دليل من قال: يتساويان، فيتخير الحاكم، أو يقرع: بأنه لما لم يوجد ما يقتضي تقديم أحدهما على الآخر؛ لأن كل واحد منهما مدع، ومدعى عليه، استويا في التقديم. وعلى هذا يكون التخير للحاكم، أو أن يقرع بينهما. القول الرابع: ينظر أيهما سبق بالدعوة، فيبدأ بيمين خصمه، وهو قول في مذهب الحنفية (¬1). دليل هذا القول: أن من سبق بالدعوة قد سبق بالادعاء، فصار هو المدعي، وخصمه مدعى عليه، فيبدأ بيمين المدعى عليه، كما في حديث ابن عباس: (ولكن اليمين على المدعى عليه) (¬2). الراجح: سبق وأن رجحنا في المسألة السابقة أن كلا من البائع والمشتري مدع، ومدعى عليه، واليمين في جانب المدعى عليه، فقضية التقديم والتأخير ليست مسألة ذات شأن كبير؛ لأن كل واحد منهما مطالب باليمين، والبداءة بهذا أو بذاك لن تعفي الخصم الآخر من اليمين، فالقول بأن الحاكم يبدأ بأيهما شاء قول قوي لتساويهما، يليه بالقوة البداءة بيمين المشتري؛ لأن ما زاد على الثمن، يدعيه البائع، وينكره المشتري، واليمين على المنكر (المدعى عليه)، والله أعلم. ¬
المسألة الثانية: في صفة اليمين
المسألة الثانية: في صفة اليمين [م - 609]، اختلف العلماء في صفة اليمين على ثلاثة أقوال: القول الأول: الأصح في صفة اليمين عند الحنفية الاقتصار على النفي: بأن يحلف البائع بالله ما باعه بألف، ويحلف المشتري بالله ما اشتراه بألفين. واستدلوا بأثر ونظر: أما الأثر فلأن الأيمان وضعت على ذلك، دل عليه حديث القسامة: بالله ما قتلتم، ولا علمتم له قاتلاً (¬1). وأما النظر، فلأن اليمين إنما تجب على المنكر، وهو النافي فيحلف على هيئة النفي إشعارًا بأن الحلف وجب عليه لإنكاره، وإنما وجب على البائع والمشتري؛ لأن كلا منهما منكر ... (¬2). القول الثاني: يحلف بالنفي والإثبات، فالنفي لما ادعي عليه، والإثبات لما ادعاه؛ لأن كلاً منهما مدع، ومدعى عليه، فهو يدعي عقدًا، وينكر آخر فما يثبته فهو مدع فيه، وما ينكره فهو مدعى عليه، فافتقر إلى النفي والإثبات. ويقدم النفي على الإثبات، وهذا مذهب الجمهور، وقول مرجوح في مذهب الحنفية (¬3). ¬
القول الثالث
القول الثالث: يقدم الإثبات على النفي، كما قدم الإثبات على النفي في اللعان، اختاره أبو سعيد الإصطخري من الشافعية (¬1). وهل يجمع بين النفي والإثبات بيمين واحدة، بحيث يحلف البائع ما باعه بكذا، وإنما باعه بكذا، ويحلف المشتري: ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا؟ أو يفرد النفي بيمين، والإثبات بيمين، قولان. جاء في المهذب: "وهل يجمع بين النفي والإثبات بيمين واحدة، أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يجمع بينهما بيمين واحدة، وهو المنصوص في الأم؛ لأنه أقرب إلى فصل القضاء، فعلى هذا يحلف البائع أنه لم يبع بألف، وقد باع بألفين، ويحلف المشتري أنه ما اشترى بألفين، ولقد اشترى بألف، فإن نكل المشتري قضي للبائع، وإن حلف فقد تحالفا. والثاني: أنه يفرد النفي بيمين، والإثبات بيمين؛ لأنه دعوى عقد، وإنكار عقد، فافتقر إلى يمينين، ولأنا إذا جمعنا بينهما بيمين واحدة حلفنا البائع على الإثبات قبل نكول المشتري عن يمين النفي، وذلك لا يجوز، فعلى هذا يحلف البائع أنه ما باع بألف، ثم يحلف المشتري أنه ما ابتاع بألفين، فإن نكل المشتري حلف البائع أنه باع بألفين وقضي له، فإن حلف المشتري، حلف ¬
الترجيح
البائع: أنه باع بألفين، ثم يحلف المشتري أنه ابتاع بألف، فإن نكل قضي للبائع، وإن حلف فقد تحالفا" (¬1). الترجيح: الراجح والله أعلم مذهب الحنفية، وهو ما اختاره شيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى، قال في الشرح الممتع: "الصحيح أنه لا يحتاج إلى الجمع بين النفي والإثبات، والمقصود هو نفي ما ادعاه صاحبه فقط، أو إثبات ما ادعاه هو، وهذا يحصل بإفراد النفي، أو إفراد الإثبات، والجمع بينهما ليس بلازم، وهذا أيضًا أقوى من وجوب الجمع بينهما، وذلك لأنّ المقصود من الألفاظ هو المعاني، فإذا ظهر المعنى اكتفينا به بأي صيغة كانت، فلا يشترط على القول الراجح الجمع بينهما، بل نقول إذا أثبت كفى، سواء جاء بطريق الحصر: "والله ما بعته إلا بكذا" أو قال: "والله لقد بعته بمائة" وإذا قلنا: بالجمع أيضًا، فالقول الراجح أيضًا أنه لا يشترط تقديم النفي، وأنه لو قال: والله لقد بعته بمائة، وما بعته بثمانين كفى؛ لأن المقصود حصل" (¬2). ¬
المسألة الثالثة إذا تحالفا فهل ينفسخ العقد أو يحتاج إلى فسخ القاضي
المسألة الثالثة إذا تحالفا فهل ينفسخ العقد أو يحتاج إلى فسخ القاضي [م - 610] إذا وقع التحالف بين المتبايعين، هل لكل واحد من المتعاقدين فسخ العقد، أو يحتاج الأمر إلى فسخ القاضي؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: لا ينفسخ إلا بحكم القاضي، وهذا أصح القولين في مذهب الحنفية (¬1)، وقول عند المالكية (¬2)، وأصح القولين في مذهب الشافعية (¬3). وجه من قال: لا ينفسخ إلا بحكم القاضي: الوجه الأول: أن المتبايعين لما تحالفا لم يثبت ما يدعيه كل واحد منهما، وقد اعترفا ¬
الوجه الثاني
بالبيع، فيبقى البيع بثمن مجهول، فيفسخ القاضي قطعًا للمنازعة (¬1). الوجه الثاني: إذا كانت البينة، وهي أقوى من اليمين لا ينفسخ العقد بها، فلو أقام كل واحد منهما بينة على ما يدعيه لم ينفسخ العقد بذلك فكونه لا ينفسخ العقد بمجرد التحالف من باب أولى. القول الثاني: لهما فسخه بعد التحالف، ولا يحتاج إلى حكم قاض، وهو قول عند الحنفية (¬2)، وقول في مذهب المالكية (¬3)، وقول عند الشافعية (¬4)، والمنصوص عليه عند الحنابلة (¬5). وذكر بعضهم في ثمرة الخلاف: إذا رضي أحدهما بما قال الآخر بعد التحالف، وقبل الحكم بفسخ العقد، فعلى القول بأن الفسخ يحتاج إلى حكم قاض له أن يأخذه، وعلى القول الآخر ليس له ذلك لحصول الفسخ بمجرد التحالف (¬6). دليل من قال: الفسخ لا يحتاج إلى حكم القاضي: الدليل الأول: (ح-492) ما رواه أحمد من طريق الثوري، عن معن، عن القاسم، قال: ¬
وجه الاستدلال
اختلف عبد الله والأشعث، فقال: ذا بعشرة، وقال الآخر: ذا بعشرين، قال: اجعل بيني وبينك رجلاً، قال: أنت بيني وبين نفسك، قال: أقضي بما قضى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا اختلف البيعان، ولم تكن بينة، فالقول قول البائع، أو يترادان البيع (¬1). [حسن بمجموع طرقه] (¬2). وجه الاستدلال: قوله: (أو يترادان البيع) حيث جعل لهما تراد البيع من غير حاجة إلى حكم حاكم. الدليل الثاني: القياس على انفساخ النكاح بمجرد التلاعن بين الزوجين، ولم يفتقر ذلك إلى حكم حاكم. وأجيب: أن القياس على اللعان قياس مع الفارق، وذلك أن الزوجين إذا تلاعنا فرق القاضي بينها مطلقًا طلب الزوجان التفريق أو لم يطلباه؛ لأن حرمة التفريق ثبتت شرعًا للعان، ولا يجتمعان أبدًا، وهذه الحرمة حق الشرع، وأما العقد وفسخه فحقهما بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: تحالفا وترادا. الدليل الثالث: لما تحالفا ولم يرض أحد المتعاقدين بما يقول الآخر لم يبق ممكنًا إلزام ¬
الترجيح
أحدهما بما يقول الآخر، ولم يبق فائدة في بقاء العقد دون أن يتفقا على ثمن معلوم، فينفسخ بنفسه، ولا حاجة إلى حكم حاكم. الترجيح: الراجح أنهما إذا تحالفا، فتراضيا على الفسخ انفسخ العقد ولو بدون حكم حاكم، حتى أولئك الذين يقولون: لا ينفسخ إلا بحكم الحاكم يقولون بذلك حال التراضي، سواء اعتبروا ذلك من قبيل الفسخ أو من قبيل الإقالة، ولكن لو لم يرض أحدهما بفسخ العقد فنحتاج حينئذ إلى حكم الحاكم لينقطع النزاع، وليكون الأمر ملزمًا.
المسألة الرابعة في نفاذ الفسخ ظاهرا وباطنا
المسألة الرابعة في نفاذ الفسخ ظاهراً وباطنًا الحكم يجري على الظاهر، والسرائر موكولة إلى الله سبحانه وتعالى (¬1). [م - 611] إذا انفسخ العقد بين المتنازعين، سواء أقلنا: انفسخ بمجرد التحالف، أم كان الأمر بعد أن حكم به حاكم، فهل ينفسخ ظاهراً وباطنًا، أم أنه ينفسخ في الظاهر فقط، وأما في الباطن فلأن أحدهما ظالم لا ينفسخ العقد في حقه؟ وقبل الجواب على هذا السؤال نقول: معنى الفسخ في الظاهر: أن يصح التصرف فيما بينه وبين المخلوقين. ومعنى: الفسخ في الباطن: أن يصح التصرف فيما بينه وبين الله. وثمرة الخلاف بين القولين: تظهر فيما إذا كان المبيع أمة، والظالم هو البائع، فهل يحل للبائع وطؤها، وهل يحل للمبتاع وطؤها إذا ظفر بها، وأمكنه ذلك؛ لأنه أخذ ثمنه الذي دفعه فيها، ومراعاة لمن يقول بالفسخ في حق المظلوم باطنًا أيضًا، أو لا يحل له ذلك، وهل للبائع الظالم إذا فسخ البيع، ورد له المبيع أن يبيعه، وإذا حصل له ربح، فهل له أن يتملكه؟ (¬2). أما كونه ينفسخ في الظاهر فلا خلاف فيه إلا قولاً شاذاً عند الشافعية كما سيأتي، ولذلك رد المبيع إلى البائع، ورد الثمن إلى المشتري. ¬
القول الأول
وأما في الباطن، فقد اختلف الفقهاء في انفساخه على خمسة أقوال: القول الأول: إن العقد ينفسخ في الباطن، وهو مذهب أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه (¬1)، والمشهور من مذهب المالكية (¬2)، ووجه عند الشافعية (¬3)، والصحيح في مذهب الحنابلة (¬4). القول الثاني: ينفذ الفسخ في الظاهر فقط دون الباطن، وهو قول في مذهب المالكية (¬5)، ووجه عند الشافعية (¬6). القول الثالث: إن كان البائع صادقًا انفسخ البيع في حقه ظاهرًا وباطنًا، وإن كان البائع ظالماً انفسخ ظاهرًا، لا باطنًا، وإن كان المشتري ظالماً انفسخ في حقه ظاهراً وباطنًا، وهو وجه عند الشافعية (¬7)، وقول أبي الخطاب من الحنابلة (¬8). ¬
القول الرابع
القول الرابع: إن فسخه الصادق انفسخ في حقه ظاهرًا وباطنًا، وإن فسخه الكاذب انفسخ في حقه ظاهرًا، لا باطنًا. وهذا القول للمالكية (¬1)، ووجه عند الشافعية (¬2)، وقول للحنابلة اختاره ابن قدامة (¬3). القول الخامس: لا ينفسخ في الباطن مطلقا، وهو قول للشافعية (¬4). دليل من قال: إذا تحالفا انفسخ العقد بالباطن، ولو كان أحدهما ظالمًا: الدليل الأول: القياس على اللعان، بجامع أن كلاً منهما يحصل الفسخ بمجرد التحالف، بصرف النظر عن كون أحدهما صادقًا أو كاذبًا. ويجاب: بأن الفسخ في اللعان حق الشرع، وأما الفسخ في البيع فهو حق المتعاقدين، فافترقا. الدليل الثاني: أن هذا الفسخ لاستدراك الظلامة، فهو كالرد بالعيب. ¬
ويجاب
ويجاب: بأن الرد بالعيب فيه استدراك للظلامة؛ لأن الذي يطلب الفسخ قد وقع عليه ظلم بسبب العيب الموجود في السلعة، وأما في مسألتنا فلا يتعين أن يكون الفسخ استداركًا للظلامة؛ لأن الفسخ قد يطلبه الكاذب من المتعاقدين، وهو ظالم بطلبه الفسخ، فكيف يكون الفسخ استدراكًا للظلامة. دليل من قال: العقد ينفسخ ظاهرًا فقط: استدلوا بأثر ونظر: أما الأثر: (ح-493) فاستدلوا بما رواه البخاري من طريق عروة، عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا، فلا يأخذ فإنما أقطع له قطعة من النار (¬1). وجه الاستدلال: بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن حكم الحاكم هو فيما يتعلق بالظاهر فقط بدليل قوله (وأقضي له على نحو ما أسمع) فالسماع ظاهر، وقد لا يتطابق مع الباطن، وبالتالي حكم الحاكم لا يحل الحرام، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا) دليل على أن ملك المظلوم ما زال باقيًا على ملكه. وأما النظر: فلأن سبب الفسخ هو الجهل بالثمن، والثمن معلوم في الباطن، مجهول في الظاهر، فلما اختصت الجهالة بالظاهر دون الباطن، اختص البطلان بالظاهر دون الباطن. ¬
دليل من قال: إن كان البائع ظالما انفسخ ظاهرا لا باطنا، وإن كان المشتري كاذبا انفسخ ظاهرا وباطنا
دليل من قال: إن كان البائع ظالمًا انفسخ ظاهرًا لا باطنًا، وإن كان المشتري كاذبًا انفسخ ظاهرًا وباطنًا: وجه التفريق بين البائع والمشتري، أن البائع إذا كان ظالمًا، فإنه كان يمكنه إمضاء العقد، واستيفاء حقه، فإذا فسخ فقد تعدى، فلا ينفسخ العقد في الباطن، ولا يباح له التصرف في المبيع؛ لأنه غاصب. وإن كان المشتري ظالمًا انفسخ البيع ظاهرًا وباطنا؛ لأن البائع لا يمكنه استيفاء حقه في العقد، فكان له الفسخ، كما لو أفلس المشتري. دليل من قال: إن فسخ الصادق البيع انفسخ ظاهرًا وباطنًا، وإن فسخ الكاذب عالمًا بكذبه لم ينفسخ في حقه فقط دون الصادق: إن فسخه الصادق منهما انفسخ ظاهرًا وباطنًا؛ لأن الفسخ يحل له، فانفسخ بالنسبة إليه. وإن فسخه الكاذب عالمًا بكذبه لم ينفسخ في الباطن؛ لأنه لا يحل له الفسخ، فلم يثبت حكمه بالنسبة إليه، ويثبت بالنسبة إلى صاحبه، فيباح له التصرف فيما رجع إليه؛ لأنه رجع إليه بحكم الشرع من غير عدوان منه، فأشبه ما لو رد عليه المبيع بدعوى العيب، ولا عيب فيه. الراجح: بعد استعراض الأقوال أجد أن القول بأن الفسخ إن طالب به الصادق انفسخ ظاهرًا وباطنًا، وإن طالب به المعتدي لم ينفسخ في حقه في الباطن؛ لأنه ظالم ومعتد في تصرفه، بخلاف صاحبه، والله أعلم. ***
الفرع الثاني الاختلاف في قدر الثمن والسلعة تالفة
الفرع الثاني الاختلاف في قدر الثمن والسلعة تالفة [م - 612] علمنا فيما سبق خلاف العلماء فيما لو اختلف المتعاقدان في قدر الثمن، والسلعة قائمة، فهل يختلف الحكم فيما لو اختلف المتعاقدان في قدر الثمن، والسلعة تالفة، كما لو قال البائع: بعتك سلعتي بألف دينار، وقال المشتري: اشتريتها بخمسمائة، والحال أن السلعة تالفة؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: القول قول المشتري مع يمينه، وهذا هو مذهب أبي حنيفة، وأبي يوسف من الحنفية (¬1)، ورواية عن الإمام أحمد (¬2). القول الثاني: القول قول المشتري بشرط أن يدعي الأشبه، فإن ادعى ما لا يشبه أن يكون ثمن السلعة، وجاء البائع بما يشبه أن يكون ثمنًا للسلعة صدق مع يمينه. وهذا القول رواية ابن القاسم عن مالك (¬3)،. . . . . . . . . . . . ¬
القول الثالث
واختاره ابن قدامة (¬1) القول الثالث: يتحالفان كما لو كانت السلعة قائمة، وبهذا قال محمد بن الحسن من الحنفية (¬2)، ورواية أشهب عن مالك (¬3)، ومذهب الشافعية (¬4)، والصحيح في مذهب الحنابلة (¬5). فالأقوال الثلاثة ترجع إلى قولين: أحدهما: أن القول قول المشتري مع يمينه، سواء أكان ذلك مطلقًا، أم كان ذلك بشرط أن يدعي الأشبه. والثاني: أنهما يتحالفان. والفرق بينهما: أننا إذا قلنا: بالتحالف، فإن العقد سوف ينفسخ إذا ¬
دليل من قال: القول قول المشتري مع يمينه
تحالفا (¬1)، فيرد البائع الثمن، ويرد المشتري بدلا من السلعة الهالكة إما مثلها أو قيمتها. وإن قلنا: إن القول قول المشتري بيمينه، فإذا حلف استحق المبيع بالثمن الذي أقر به، وإن نكل لزمه ما ادعى به البائع، هذه هي الأقوال، وما يترتب عليها، وحان الآن ذكر أدلة كل قول، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. دليل من قال: القول قول المشتري مع يمينه: الدليل الأول: (ح-494) ما يروى مرفوعًا بلفظ: (إذا اختلف البيعان والسلعة قائمة تحالفا). ففرق بين قيام السلعة وبين فواتها (¬2). وجه الاستدلال: فقوله (إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا) دليل على أن التحالف يشترط له أن تكون السلعة قائمة. وهذا الحديث بهذا اللفظ لا أصل له، وسبق بيانه والحمد لله. الدليل الثاني: (ح-495) ما رواه الدارقطني من طريق الحسن بن عمارة، عن القاسم ابن عبد الرحمن، عن أبيه عن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا اختلف البيعان فالقول ما قال البائع، فإذا استهلك فالقول قول المشتري. ¬
الدليل الثالث
قال الدارقطني: الحسن بن عمارة متروك (¬1). الدليل الثالث: أن المتبايعين إذا تحالفا انفسخ العقد، ولا فسخ للعقد مع فوات المبيع: لعدم إمكان رد المبيع، وبالتالي لا يشرع التحالف. ويناقش: إذا لم يمكن رد المبيع بعينه، فإنه يمكن رد بدله، وهو مثله إن كان مثليًا، أو قيمته إن كان قيميًا. الدليل الرابع: الأصل أن المتبايعين إذا اختلقا في زيادة في قدر الثمن، فالبائع يدعيها، والمشتري ينكرها، أن يكون القول قول المنكر، وهو المشتري، هذا هو الأصل، تركنا هذا الأصل حال قيام السلعة للحديث الوارد فيه التحالف، فما عداه يبقى على الأصل. ونوقش: بأنك قد علمت أن لفظ (تحالفا) المنسوبة لحديث ابن مسعود لم يرد في شيء من كتب الحديث، وإنما يورده الفقهاء دون أن يوقف له على إسناد، وبالتالي لا يحتج بها. دليل من قال: القول قول المشتري بشرط أن يدعي الأشبه. أن المشتري إذا ادعى الأشبه قوي جانبه، واليمين إنما هي في جانب أقوى المتداعيين. ¬
دليل من قال: يتحالفان
دليل من قال: يتحالفان: استدلوا بالأدلة نفسها التي ذكرناها في مسألة (اختلاف المتبايعين في قدر الثمن والسلعة قائمة) فأغنى عن إعادتها هنا، ورأى أصحاب هذا القول بأنه لا فرق بين أن تكون السلعة قائمة، أو أن تكون السلعة تالفة في الحكم، بل لو قيل: إن التحالف مع تلف السلعة آكد من التحالف مع قيام السلعة. وجه ذلك: أن المتبايعين إذا كانا يتحالفان مع قيام السلعة، والقدرة على إمكان تمييز الصادق من الكاذب، وذلك عن طريق تحكيم قيمتها في الحال، ومعرفة أشبه القولين بالقيمة، فإذا كان يجري التحالف بينهما مع إمكان الوقوف على قيمة السلعة، فأولى أن يجري ذلك عند عدم إمكان ذلك كما لو تلفت السلعة. الراجح: الراجح أنهما يتحالفان، ويترادان البيع إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر، والله أعلم.
الفرع الثالث الاختلاف في قيمة السلعة الهالكة
الفرع الثالث الاختلاف في قيمة السلعة الهالكة [م - 613] رجحنا فيما لو اختلف المتبايعان، والسلعة هالكة، أنهما يتحالفان، فإذا تحالفا انفسخ العقد، فصار حقًا على البائع أن يرد الثمن إلى المشتري، وكان حقًا على المشتري أن يرد مثل السلعة إن كانت مثلية، أو يرد قيمتها إن كانت قيمية، فإذا اختلفا في قيمة السلعة، فمن يقدم قوله؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: القول قول البائع مع يمينه، وهذا مذهب الحنيفة اختاره أبو يوسف (¬1)، وهو قول في مذهب المالكية (¬2)، وهو المنصوص في الأم (¬3)، وصححه الشيرازي من الشافعية (¬4). وجه من قال: القول قول البائع: قال الزيلعي: "كان القول قول البائع مع يمينه؛ لأنهما اتفقا على وجوب كل الثمن، ثم المشتري يدعي زيادة السقوط بدعواه أن قيمة الهالك أقل والبائع ينكر فكان القول له". ¬
ويناقش
ويناقش: لو اتفقا على قدر الثمن لم يصح وقوع الاختلاف، فالثمن الذي يدعيه البائع لا يعترف به المشتري، فكيف يقال: اتفقا على وجوب كل الثمن. القول الثاني: القول قول المشتري مع يمينه، وهذا اختيار محمد بن الحسن من الحنفية (¬1)، وابن أبي ليلى (¬2)، ورجحه النووي من الشافعية (¬3)، وهو مذهب الحنابلة (¬4). دليل من قال: القول قول المشتري: الدليل الأول: أن المشتري مدعى عليه؛ حيث يدعي البائع عليه زيادة في القيمة، والمشتري ينكرها، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس المتفق عليه: ولكن اليمين على المدعى عليه. الدليل الثاني: ولأن المشتري غارم، وإذا اختلف قول الغارم والمغروم له، فالقول قول الغارم؛ لأن الأصل براءة ذمته من الزيادة. ¬
القول الثالث
القول الثالث: إن اختلفا في قيمة الهالك تواصفاه، ثم قوم، فإن اختلفا في صفته، فالقول للبائع إن انتقد الثمن، وإن لم ينتقد فللمشتري، وهذا مذهب المالكية (¬1). الدليل على أن القول للبائع إن انتقد الثمن، وللمشتري إن لم ينتقد: هذا القول يعتمد تقديم قول الغارم، فالمشتري إن لم ينتقد الثمن فهو الغارم، والبائع هو الغارم إن كان المشتري قد انتقد الثمن. الراجح: الذي أميل إليه أن القول قول المشتري مع يمينه. ¬
الفرع الرابع وقت اعتبار القيمة
الفرع الرابع وقت اعتبار القيمة [م - 614] إذا اختلف المتعاقدان في ثمن السلعة، وكانت السلعة تالفة، وفسخ العقد، ووجب رد القيمة، فهل المعتبر في قيمة السلعة، وقت قيام العقد، أو وقت التلف، أو وقت القبض؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: المعتبر في القيمة وقت القبض. وهذا مذهب الحنفية، ومذهب المالكية، وقول عند الشافعية (¬1). القول الثاني: المعتبر في القيمة يوم العقد. وهذه هي الرواية المشهورة في مذهب المالكية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). ¬
القول الثالث
القول الثالث: المعتبر قيمته يوم تلفه، وهو أصح الأقوال في مذهب الشافعية (¬1) , والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). القول الرابع: المعتبر أقل القيمتين يوم العقد ويوم القبض، وهو قول في مذهب الشافعية (¬3). القول الخامس: المعتبر أقصى القيمتين من يوم القبض إلى يوم التلف، وهو قول في مذهب الشافعية (¬4). وجه من قال: القيمة تعتبر وقت القبض: أن القبض هو سبب الضمان، فيكون المعتبر في القيمة وقت القبض. وجه من قال: القيمة تعتبر وقت العقد. أن هذا العقد عقد صحيح، فوجب اعتبار القيمة من وقت العقد، ويختلف عن العقد الفاسد الذي يجب أن يكون المعتبر هو وقت القبض؛ لأن وقت العقد لا يمكن اعتباره لفساده. ¬
وجه من قال: القيمة تعتبر وقت التلف
وجه من قال: القيمة تعتبر وقت التلف: الأصل أن الواجب رد عين المبيع، انتقلنا عن هذا الواجب لتعذر رد العين بسبب التلف، إلى قيمة العين، فالقيمة إنما وجبت بسبب تلف المبيع، فاعتبرت القيمة يوم التلف. وجه من قال: يعتبر أقل القيمتين يوم العقد ويوم القبض: قالوا: إن كانت القيمة يوم العقد أقل، فالزيادة حدثت في ملك المشتري، يعني: فلا تجب عليه. وإن كانت القيمة يوم القبض أقل، فهي المعتمدة؛ لأنها يوم دخول السلعة في ضمان المشتري؛ لأن السلعة لا تدخل في ضمان المشتري إلا بالقبض. وجه من قال: المعتبر أقصى القيمتين من يوم القبض إلي يوم التلف: لعلهم رأوا أن القول في هذه المسألة كالقول في السلعة إذا تلفت، وقد قبضت بعقد فاسد، فإنهم قالوا: إنه يضمن بأقصى القيمة من القبض إلى التلف وعللوا ذلك بأنه مطالب في كل وقت برده، ولم يفعل، فيعامل معاملة الغاصب. ويجاب: بأن يد الغاصب يد معتدية، فيعامل بالأشد، بينما المقبوض هنا مقبوض بعقد صحيح، فكيف يعامل معاملة الغاصب. الراجح: بعد تأمل الخلاف أجد أن الراجح يتنازعه قولان: إما القيمة وقت القبض، أو القيمة وقت التلف، وما عداه فهو قول ضعيف، والله أعلم.
وبهذا نكون ولله الحمد والمنة قد انتهينا من أوجه اختلاف المتبايعين في أحكام المبيع، وكان الأليق بهذا الكتاب كما نبهت سابقًا أن يذكر في باب الأقضية، والنزاع فيه يدور في تحديد المدعي من المدعى عليه، وفي أيهما يقدم عند التعارض حديث ابن مسعود في اختلاف المتبايعين، أو حديث ابن عباس في تقديم قول المنكر مع يمينه في باب الدعاوى، ومع أن حديث ابن عباس عام، وحديث ابن مسعود خاص، والقاعدة تقتضي تقديم الخاص على العام، ولكن هذا عند تساوي الأدلة في القوة، فحديث ابن عباس متفق على صحته، وحديث ابن مسعود أحسن أحواله أن يكون حسنًا، والله أعلم.
في فسخ العقد وانفساخه
في فسخ العقد وانفساخه تمهيد تكلمنا فيما سبق على مقومات عقد البيع (صيغة العقد، وأحكام المتعاقدين، وأحكام المبيع، والثمن) ثم انتقلنا بعد ذلك إلى الكلام على موانع البيع؛ لأن العقد قد لا يتم بتوفر شروطه فقط، فلا بد من انتفاء موانعه، وبعد أن انتهينا من الكلام على الموانع انتقلنا للكلام على الشروط التي يضعها المتعاقدان أو أحدهما أثناء عقد البيع مما لهما فيه مصلحة، ولا ينافي ذلك مقتضى العقد، ثم انتقلنا بعد ذلك إلى أحكام الخيار، والتي تجعل العقد من كونه لازمًا إلى كونه جائزًا مدة معلومة، فإذا تحقق كل ذلك، وأصبح العقد لازمًا فإنه لا يجوز لأحد من المتعاقدين أن يستقل بنقض الاتفاق أو تعديله ما لم يتم الاتفاق على ذلك بين الطرفين؛ لأن العقد إذا أبرم على وجه الصحة نشأ عنه التزام لا يستطيع العاقد أن يتحلل منه إلا أنه قد يطرأ على العقد أمور تجعل العقد قابلاً للانحلال بعد أن كان لازمًا، وهو ما يسمى بانفساخ العقد، وقد يقوم اتفاق بين العاقدين على فسخ هذا الالتزام والتحلل منه، وهو ما يسمى بفسخ العقد لهذا عقدت في هذا المبحث دراسة رفع آثار العقد بعد لزومه، لنكون بذلك قد تنقلنا من عقد البيع من الصيغة التي تعبر عن إرادة المتعاقدين، ورغبتهما في إنشاء العقد، إلى الصيغة التي ترفع آثار العقد بعد لزومه، فإذا انتهينا من هذا المبحث نكون بذلك إن شاء الله قد ختمنا عقد البيع، نحمد الله سبحانه وتعالى على عونه، وتوفيقه، وفتحه، فله الفضل كله، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] , {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] , {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
تعريف الفسخ اصطلاحا
تعريف الفسخ اصطلاحًا (¬1): عرفه الفقهاء بأنه حل رابطة العقد (¬2). وقيل: رفع حكمه (¬3). الفرق بين الفسخ والانفساخ: قد يكون الانفساخ أثرًا للفسخ، ولذلك يقال: فسخت البيع فانفسخ. وقد يوجد فرق بينهما، فيقال: الفسخ: هو فعل المكلف، بأن يعمد المكلف إلى عقد لازم قبل لزومه أو بعده بفسخ البيع. والانفساخ: هو حكم الشرع بذلك إذا وجد مقتضيه، كما لو قام مانع من صحة العقد، أو تعذر الاستمرار في العقد لفوات محله، كما ينفسخ عقد البيع من تلقاء نفسه إذا تبين فساده، وكما ينفسخ النكاح إذا طرأ عليه الفساد بسبب ردة أحد الزوجين، أو عند تبين رضاع بينهما، وكما ينفسخ عقد المضاربة بموت أحد العاقدين، ونحو ذلك. يقول القرافي: "الفسخ قلب كل واحد من العوضين لصاحبه، والانفساخ انقلاب كل واحد من العوضين لصاحبه، فالأول فعل المتعاقدين أو الحاكم إذا ¬
الفرق بين الإقالة وبين الفسخ
ظفروا بالعقود المحرمة. والثاني صفة العوضين، فالأول سبب شرعي، والثاني حكم شرعي، فهذان فرعان، فالأول من جهة الموصوفات، والثاني من جهة الأسباب والمسببات" (¬1). ويقول الدكتور نزيه حماد: "والذي يتحصل من كلام الفقهاء أن هذا الرفع إما أن يترتب على سبب إرادي، كما في الإقالة وخيار الشرط ونحوها، فيسمى فسخًا. وإما أن ينشأ بسبب طارئ غير إرادي، كما في حالة انفساخ البيع بهلاك المبيع قبل تسليمه للمشتري، وذلك لاستحالة تنفيذ العقد بالتسليم بعد هلاك محله، فينفسخ العقد لفقد ما يعتمد عليه بقاؤه وكما في حالة انفساخ الشركة والمضاربة والمزارعة والمساقاة بموت أحد العاقدين ... ويسمى هذا الزوال انفساخًا" (¬2). وقد قسم ابن رجب الفسوخ التي ترد على العقد إلى قسمين: الانفساخ الحكمي، والفسخ الاختياري (¬3). الفرق بين الإقالة وبين الفسخ: الإقالة على الصحيح هي نوع من الفسخ، إلا أن هناك فروفاً بين الإقالة والفسخ. الفرق الأول: الإقالة تختص في رفع العقد اللازم، بخلاف الفسخ، فإنه يرد على العقد اللازم كما يرد على العقد الجائز. ¬
الفرق الثاني
الفرق الثاني: الإقالة تتوقف على رضا المتعاقدين. والفسخ لا يشترط له الرضا، فقد يقع الفسخ لحق الشارع ولو بغير اختيار المتعاقدين، وقد يقع بسبب استحقاق لأحد العاقدين، أو بسبب شرط، فمن يملكه يكن له حق الأخذ به دون أن يتوقف ذلك على رضا المتعاقد الآخر. الفرق الثالث: أن عقد الإقالة من عقود الإرفاق والإحسان بخلاف الفسخ. وسوف نتكلم أولاً إن شاء الله تعالى على العقود التي تقبل الفسخ، والعقود التي لا تقبل الفسخ، ثم ننتقل بعد ذلك إلى مسائل انفساخ العقد، ويعده ننتقل إن شاء الله تعالى إلى الكلام على فسخ العقد، وإن كان في بعض هذه المسائل تداخل؛ لأن بعض العقود فيها خلاف بين أهل العلم, فمنهم من يقول: ينفسخ العقد فيها، وبعضهم يقول: للمشتري الخيار إن شاء فسخ العقد، وإن شاء أمضاه، فعلى القول الأول تعتبر المسألة من مسائل الانفساخ، وعلى القول الثاني تعتبر المسألة من مسائل الفسخ؛ لأنها علقت بإرادة العاقد، فلينتبه إلى هذا، والله أعلم. ***
المبحث الأولى في الشروط العامة للفسخ
المبحث الأولى في الشروط العامة للفسخ [م - 615] لما كان للفسخ أسباب متعددة، كان لكل سبب من هذه الأسباب شروط خاصة للفسخ به، وهذه الشروط قد تكلمنا عليها عند دراستها، فالفسخ بالعيب ذكرنا شروطه عند الكلام على خيار العيب، وكذا الفسخ بخيار الشرط تكلمنا على شروطه عند الكلام على خيار الشرط، وشروط الفسخ بالإقالة سنذكر شروطه عند الكلام على الإقالة إلا أن أسباب الفسخ مع تنوعها تتفق فيما بينها بشروط يصح أن نسميها: الشروط العامة للفسخ. فمن هذه الشروط: الشرط الأول: أن يكون العقد قابلاً للفسخ، سواء كان العقد لازمًا كعقود المعاوضات المالية، أو كان العقد جائزًا كالوكالة والعارية، فإن كان العقد غير قابل للفسخ لم يتطرق إليه الفسخ، وذلك مثل الوقف، والعتق، والطلاق، فإنها إذا وقعت لا يمكن رفعها. وكذلك أيضًا الأيمان والنذور؛ لأن الشارع قد وضع لهما رافعًا خاصًا بهما، وهو الكفارة. الشرط الثاني: أن يقوم في العقد ما يوجب فسخه، أو يطرأ عليه موجب للفسخ. فمثال الأول: أن يكون المتبايعان قد عقدا البيع بشرط الخيار لهما أو لأحدهما.
الشرط الثالث
ومثال الثاني: أن يظهر عيب في المبيع كتمه البائع، أو تهلك العين المستأجرة قبل تمام مدة العقد. وإذا لم يوجد في العقد ما يوجب فسخه امتنع الفسخ؛ لأن الأصل في عقد البيع اللزوم. الشرط الثالث: ألا يطرأ مانع من موانع الفسخ، فإن طرأ مانع من موانع الفسخ امتنع الفسخ، وذلك كأن يتضمن الفسخ تفريق الصفقة؛ لأن التفريق قد يضر بالبائع. أو أن يكون المبيع قد تغير عن حاله وقت العقد، فإن تغير امتنع الفسخ في الجملة، أو تعلق بالمبيع حق للغير من بيع أو رهن ففي هذه الحالة يمتنع الفسخ؛ لأن الفسخ يؤدي إلى ضياع حق الغير. الشرط الرابع: هل يشترط علم الآخر بالفسخ؟ وللجواب عن ذلك نقول: إن كان الفسخ بدلالة الفعل، كان يكون الخيار للبائع فيعتق المبيع، فلا خلاف بين الفقهاء في أنه لا يشترط لذلك علم العاقد الآخر، فمتى تصرف من له حق الفسخ في المبيع تصرفًا يدل على الفسخ انفسخ العقد وإن لم يعلم العاقد الآخر. وإن كان الفسخ بدلالة اللفظ، كأن يقول من له حق الفسخ فسخت العقد، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأول: لا بد من علم الآخر، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن (¬1). ¬
القول الثاني
وخرج أبو الخطاب الحنبلي ومن تبعه من عزل الوكيل: أنه لا يفسخ في غيبته حتى يبلغه في المدة (¬1). القول الثاني: لا يشترط علم الآخر، وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية (¬2)، ومذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). وجه قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن: أن الفسخ بدون علم صاحبه يلزم منه وقوع الضرر على صاحبه؛ لأنه ربما يعتمد تمام البيع السابق، فيتصرف فيه، فيلزمه غرامة القيمة بالهلاك فيما إذا كان الخيار للبائع، أو لا يطلب لسلعته مشتريًا فيما إذا كان الخيار للمشتري، وهذا ¬
وأجيب
نوع ضرر، فيتوقف على علمه، وصار كعزل الوكيل يتطلب علمه بذلك، بخلاف الإجازة؛ لأنه لا ضرر فيها على صاحبه، إذ هو موافق له فيها (¬1). فكل ما فيه إلزام على الغير لا يثبت بدون علمه، فإذا اختار العاقد الفسخ فإنه يلزم غيره حكمًا جديدًا لم يكن، فلا يثبت حكم تصرفه في حق ذلك الغير ما لم يعلم به. وأجيب: القول بأنه يخبره حتى لا يتصرف في المبيع، فالأصل أنه ممنوع من التصرف زمن الخيار؛ لأن تصرفه يؤدي إلى إسقاط حق صاحبه، وهذا لا يجوز. وأما القياس على عزل الوكيل فهو قياس مع الفارق، فإن الموكل قد سلط على التصرف بإذن من الوكيل، فعزله خلاف الأصل، فيتوقف عزله على علمه؛ كما أن العبد له أن يعمل بالحكم المنسوخ قبل علمه بالناسخ، بخلاف شرط الخيار فليس له أن يختبر العقد لازمًا في زمن الخيار. وبخلاف خيار العيب؛ لأن المشتري هناك غير مسلط على الفسخ وإنما له حق المطالبة بتسليم الجزء الفائت فإذا تحقق عجز البائع عنه، تمكن من الفسخ فلا يتحقق عجزه إلا بمحضر منه (¬2). وجه قول الجمهور أنه لا يشترط علمه: الوجه الأول: أن العاقدين لما اتفقا على اشتراط الخيار كان ذلك منهما اتفاقًا على حق ¬
الوجه الثاني
الفسخ، فهو حق متفق على ثبوته بذلك الشرط، فلا يحتاج إلى إذن، ولا حضور، ولا حكم قضاء، فكان حق الفسخ حقًا خالصًا لمن له الخيار. الوجه الثاني: إذا كان لا يشترط رضاه في الفسخ، فيتم الفسخ ولو مع سخط صاحبه، فكذلك لا يشترط علمه. الوجه الثالث: أن موجب الخيار: الفسخ أو الإجازة، ثم الإجازة تتم بغير محضر الآخر بالإجماع، كما تتم بغير رضاه، فكذا الفسخ بل أولى؛ لأن الخيار يشترط للفسخ لا للنفاذ، إذ النفاذ ثابت بدون الخيار، وهذا لأنه بالاتفاق على اشتراط الخيار صار مسلطا على الفسخ من جهته، ولهذا لا يشترط رضاه في تصرفه، فلا يتوقف تصرفه على علمه، كالوكيل إذا تصرف بغير حضرة الموكل، وكالمخيرة إذا اختارت لنفسها بغير حضرة الزوج، بأن بلغها الخبر وهي غائبة (¬1). ... ¬
المبحث الثاني: موانع الفسخ
المبحث الثاني: موانع الفسخ لا نستطيع أن نضع موانع عامة للفسخ كما وضعت ذلك في الشروط، وذلك أن كل سبب من أسباب الفسخ له موانعه الخاصة. فخيار المجلس له موانعه التي تختلف عن خيار الشرط، وعن خيار العيب، كما أن أسباب الفسخ لم تتوقف على الخيار فقط، فهناك أسباب كثيرة للفسخ، منها: الفسخ بسبب فساد العقد، ومنها الفسخ بسبب إفلاس المشتري، ومنها الفسخ بسبب ظهور استحقاق في المبيع وغيرها من الأسباب التي سوف نقف عليها إن شاء الله تعالى، وسوف أحاول قدر الإمكان الإشارة إلى الموانع التي هي محل اتفاق بين الفقهاء في الجملة، وقد تكلمنا في كتاب الخيار عن موانع الفسخ في كل نوع من أنواع الخيار مما يغني عن ذكره على سبيل التفصيل. فمن الموانع التي لم يختلف فيها الفقهاء في الجملة: المانع الأول: انتهاء مدة الخيار. [م - 616] إذا انقضت مدة الخيار، ولم يفسخ من له الخيار امتنع الفسخ. وقد خالف بعض الفقهاء في مسألتين: المسألة الأولى: في دخول الغاية في شرط الخيار، فإذا اشترط الخيار إلى الغد، أو إلى الليل، أو إلى الظهر، فهل يدخل الغد والليل، والظهر، أو لا تدخل (¬1). ¬
المسألة الثانية
المسألة الثانية: إذا انقضت مدة الخيار، ولم يفسخ من له الخيار، فهل له الرد بعد انقضاء المدة بيوم أو يومين، أو ليس له الرد؟ (¬1). وقد تكلمنا على هاتين المسألتين في خيار الشرط فأغنى عن إعادته هنا. المانع الثاني: إسقاط الخيار. [م - 617] إذا أجاز البيع من له الخيار فقد لزم البيع، وبطل حقه بالفسخ. ¬
والإجازة منها ما هو صريح، ومنها ما هو بطريق الدلالة: فالصريح: أن يقول من له الخيار: أجزت البيع، أو أوجبته، أو أسقطت الخيار، أو أبطلته، ونحو ذلك. وأما الإجازة بطريق الدلالة، وهو أن يتصرف من له الخيار بالعوض الذي انتقل إليه تصرف الملاك، فإذا تصرف البائع في الثمن وكان الخيار له وحده كان هذا دليلاً على إجازة البيع، وبالتالي امتناع الفسخ. كما أن تصرف البائع في المبيع إذا كان الخيار له وحده دليل على فسخ البيع. وتصرف المشتري في المبيع -إذا كان الخيار له وحده- دليل على إجازة البيع، وتصرفه في الثمن دليل على فسخ البيع (¬1). ¬
المانع الثالث: الرضا بالعيب.
المانع الثالث: الرضا بالعيب. [م - 618] إذا تبين للمشتري بعد البيع أن السلعة معيبة، ورضي المشتري بالعيب امتنع الفسخ، كما لو علم بالعيب قبل الشراء، ورضي به. ولا يكفي إطلاعه على العيب بل لا بد أن يعلم أنه عيب في السلعة، فلو اطلع على العيب ورضي به، ولم يعلم أن مثله يعتبر عيبًا فلا يعتبر اطلاعه عليه رضا (¬1). والرضا بالعيب قسمان: صريح وكناية. فالرضا الصريح: كان يقول بعد اطلاعه على العيب رضيت به، أو أجزت البيع، أو أبرأت البائع، أو أسقطت خياري، فإذا نطق بالرضا امتنع الفسخ، وهذا باتفاق الفقهاء (¬2). لأن الفسخ حق له، فإذا أسقطه برضاه سقط. ولأن الرد ثبت دفعًا للضرر عن المشتري، فإذا رضي بالضرر جاز البيع. قال ابن تيمية: "إذا ظهر ما يدل على الرضا من قول أو فعل سقط خياره بالا تفاق" (¬3). ¬
المانع الرابع
والرضا الضمني أو الكناية: بأن يصدر من المشتري بعد العلم بالعيب فعل يدل على الرضا به، كما لو استغل المبيع لغير ضرورة ولا تجربة (¬1)، أو عرضه للبيع. فإن حصل مثل ذلك، فقيل: يمتنع الفسخ، وهذا قول عامة أهل العلم (¬2). وقيل: لا يسقط خياره، وهو اختيار ابن حزم (¬3). وقد تكلمنا على أدلة المسألة في خيار العيب فأغنى عن إعادته هنا، ولله الحمد. المانع الرابع: [م - 619] أن يوجد مانع يمنع من الفسخ. كما لو تحول المبيع إلى عين أخرى لا يجوز تملكها، كما لو انقلب العصير إلى خمر، فإن هذا مانع يمنع من الفسخ. ¬
جاء في الفتاوى الهندية: "قال محمد رحمه الله تعالى في الجامع: مسلم اشترى عصيرًا، وقبضه، وتخمر في يده، ثم اطلع على عيب لم يرده، ويرجع بنقصان العيب، فإن قال البائع: أنا آخذ الخمر بعينها فليس له ذلك؛ لأن امتناع الرد لحق الشرع ... " (¬1). وقال النووي: "لو اشترى عصيرًا حلوًا، فلم يعلم بعيبه حتى صار خمرًا، فله الأرش، وليس له رد الخمر، واسترجاع ثمنه، سواء أرضي البائع بقبوله أم لا: لتحريم المعاوضة على الخمر" (¬2). تكاد تكون هذه الموانع محل اتفاق في الجملة بين الفقهاء، وهناك موانع هي محل خلاف نشير إليها، ونترك التفصيل فيها, لكون التفصيل فيها سبق في كتاب الخيار، فأغنى عن إعادته هنا، ولله الحمد: من الموانع المختلف فيها: حدوث عيب جديد عند المشتري. فإذا حدث عيب جديد عند المشتري بعد قبضه، فإن ذلك يمنع من رد السلعة المعيب عند الحنفية (¬3)، وهو القول الجديد للشافعي (¬4)، ورواية عن الإمام أحمد (¬5)، اختارها ابن تيمية (¬6). ¬
ومن الموانع التي تمنع الرد حدوث زيادة متصلة غير متولدة من المبيع كالصبغ والخياطة للثوب، والبناء والغراس في الأرض. وهذا مذهب الحنفية (¬1). ومنها: تلف المبيع عند المشتري، فإذا اشترى الرجل السلعة، ثم وقف على عيب فيها، وقبل ردها تلفت عنده، سواء كان تلفها حسًا كالموت للدابة، والأكل للطعام، أو حكمًا كما لو أوقفها، أو وهبها، فقد ذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والمشهور في مذهب الحنابلة (¬5) , إلى أن تلف المعقود عليه يسقط خيار العيب، ويمنع من الفسخ. هذه تقريبًا بعض موانع الفسخ للبيع المختلف فيها، ومن أحب أن يقف على الخلاف فعليه مراجعة كتاب الخيار، فإني قد وضحت عند كل خيار ما يمنع من الرد، والحمد لله على توفيقه وإعانته. ¬
الباب الأول في أسباب انفساخ العقد
الباب الأول في أسباب انفساخ العقد الفصل الأول انفساخ العقد لقيام المانع الشرعي [م - 620]، قد يقوم مانع شرعي يمنع من صحة البيع، حتى ولو قامت أركانه، وتوفرت شروطه، وقد عقدت بابًا كاملاً في الكلام على البيوع المنهي عنها، وتكلمت على خلاف العلماء في هذه البيوع عقدًا عقدا، فإذا قام هذا المانع في عقد من العقود فإن العقد يصبح باطلاً، ولا يجوز المضي فيه، وهذا يشمل كل بيع ثبت النهي عنه لذاته، وكان الحق فيه لله سبحانه وتعالى، ولم يكن الحق فيه لآدمي، فإذا عقد الإنسان على ميتة (¬1)، أو على خمر (¬2) أو على خنزير، أو عقد على دم (¬3)، أو اشترى حرًا، ونحو ذلك، فإن العقد يعتبر باطلاً, وليس هذا خاصًا في البيع، بل حتى في الأجرة المحرمة، كمهر البغي، وهو أجر الزانية على الزنا، وحلوان الكاهن، وهو ما يعطاه الكاهن أجرًا على كهانته ونحو هذه العقود. ¬
والعقد في هذه الحالة لم ينعقد أصلاً، فهو في حكم اللغو، ومن ثم لا يتطرق إليه فسخ، كما لا تلحقه إجازة، وقد يستخدم بعض الفقهاء كلمة (وجوب الفسخ) للعقد الباطل، فقد جاء في فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك، حين سئل عن رجل عقد على أخت له من الرضاع، ولم يعلم، وكان ذلك قبل الدخول، فقال: "هذا العقد باطل إجماعًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فيجب فسخه" (¬1). فقد يعبرون بالفسخ ويريدون به البطلان والنقض، يقال: انفسخ: أي بطل وانتقض. والحق أن بين الفسخ والبطلان فرقًا جوهريًا: فالعقد الباطل في حكم المعدوم، حيث لم ينعقد أصلاً. وأما الانفساخ فإنه يكون بعد تمام الانعقاد لسبب طارئ يمتنع معه بقاء العقد كهلاك العين المستأجرة مثلاً. وإنما اشترطت أن يكون النهي عن المبيع لذاته؛ لأن النهي إن كان يعود لأمر خارج فإنه لا يمنع من صحة البيع، كما في النهي عن تلقي الركبان، فإذا اشترى المتلقي فإن العقد صحيح وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). ¬
كما أن اشتراط أن يكون النهي لحق الله سبحانه وتعالى؛ لأن النهي إن كان لحق العاقد، كما في البيع على بيع أخيه، وكما في زيادة الناجش ونحوها، فإن البيع قد يصح مع التحريم، وهذا مذهب الجمهور (¬1). ¬
فرع انفساخ البيع بسبب فساد العقد
فرع انفساخ البيع بسبب فساد العقد العقد الباطل لم ينعقد أصلاً، والفاسد يفسخ ما دامت عين المبيع قائمة (¬1). قال الحنفية: البيع الفاسد يفيد الملك بالقبض والباطل لا يفيده أصلاً (¬2). وهذا الضابط عند من يفرق بين الفاسد والباطل. المختلف في فساده إذا فات يمضي بالثمن، والمتفق على فساده يمضي بالقيمة إن كان مقومًا أو مثليًا (¬3). المقبوض بعقد فاسد تعتبر قيمته يوم القبض، وقيل: يوم التلف (¬4). [م - 621] انفساخ العقد بسبب فساد العقد، هذه المسألة فرع عن المسألة المتقدمة، وهي مبنية على مسألة خلافية في التفريق بين العقد الباطل والعقد الفاسد كما هو مذهب الحنفية، فإذا اعتبرنا المسألة الماضية تجري في العقود الباطلة، فإن هذه المسألة تتنزل على العقود الفاسدة. وقد اختلف الحنفية مع الجمهور في التفريق بين الباطل والفاسد: فقيل: الفاسد مرادف للباطل، وهذا مذهب الجمهور في الجملة. وذهب الحنفية إلى التفريق بين العقد الفاسد وبين الباطل: ¬
وأما حكم البيع الفاسد والبيع الباطل
فالباطل عندهم: هو البيع الذي في ركنه خلل، كبيع المجنون، وغير المميز وبيع الميتة. والفاسد: ما كان مشروعًا بأصله دون وصفه (¬1)، كما لو باع شيئًا بثمن مؤجل إلى مدة غير معلومة، أو كان البيع في حال الإكراه، أو اشتمل البيع على وصف محرم كالربا (¬2). وأما حكم البيع الفاسد والبيع الباطل: فالبيع الباطل يتفقون جميعًا على أنه لا يفيد الملك، وأن وجوده كعدمه، ولا ينقلب إلى عقد صحيح (¬3)؛ لأن الشارع لم يأذن به، فوجوده كعدمه. كما يتفقون على أن البيع الفاسد لا أثر له قبل قبضه، وأنه يجب فسخه، ورده، ولا يتوقف فسخه على رضا الطرفين، ما دامت عينه قائمة ولم تتغير، ولم يتصرف فيها قابضها. وهذا ما يعنينا في كتاب الفسخ. قال ابن عابدين الحنفي في حاشيته: "الفاسد يجب فسخه على كل منهما بدون رضا الآخر، وكذا للقاضي فسخه بلا رضاهما" (¬4). ¬
وقال ابن الجلاب المالكي في كتابه التفريع: "من اشترى شيئًا بيعًا فاسدًا فسخ بيعه، ورد المبيع على بائعه" (¬1). وقال ابن رشد: "اتفق العلماء على أن البيوع الفاسدة إذا وقعت، ولم تفت بإحداث عقد فيها، أو نماء، أو نقصان، أو حوالة سوق أن حكمها الرد -أعني أن يرد البائع الثمن والمشتري المثمن" (¬2). واختلفوا في قبضه، هل يفيد الملك إذا قبض؟ فقال الحنفية: إذا قبض بإذن صاحبه أفاد الملك (¬3). وقالت المالكية: يفيد شبهة الملك (¬4). وذهب الشافعية والحنابلة: إلى أنه لا يفيد الملك أبدًا. قال النووي: "إذا اشترى شيئًا فاسدًا، إما لشرط فاسد، وإما لسبب آخر، ثم قبضه لم يملكه بالقبض، ولا ينفذ تصرفه فيه، ويلزمه رده، وعليه مئونة رده، كالمغصوب، ولا يجوز حبسه لاسترداد الثمن" (¬5). وقال ابن قدامة: "وكل موضع فسد به العقد لم يحصل به ملك، وإن قبض؛ لأنه مقبوض بعقد فاسد، فأشبه ما لو كان الثمن ميتة، ولا ينفذ تصرف المشتري ¬
فيه، وعليه رده بنمائه المنفصل والمتصل، وأجرة مثله مدة مقامه في يده، ويضمنه إن تلف أو نقض بما يضمن به المغصوب؛ لأنه ملك غيره حصل في يده بغير إذن الشرع، أشبه المغصوب" (¬1). واختلفوا في وجوب فسخه إذا تصرف فيه قابضه أو تغير: فذهب الحنفية إلى أنه يبطل حق الفسخ إذا هلك المبيع في يد المشتري، أو استهلكه، أو أخرجه من يده ببيع صحيح، أو بهبة، أو زاد فيه المشتري شيئًا من ماله، كما لو كان المبيع دارًا فعمرها، أو أرضًا فغرس فيها أشجارًا، أو تغير اسم المبيع بأن كان حنطة، فطحنها، وجعلها دقيقًا (¬2). وقال مالك: يفسخ ما لم يفت (¬3). وقال الشافعية والحنابلة: يفسخ أبدًا حيثما وقع، وكيفما وجد، فات أو لم يفت. قال في منح الجليل: "قال مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنهم: النهي يدل على الفساد. وقال أبو حنيفة: يدل على الصحة. فكل واحد طرد أصله إلا مالكًا -أي لم يطرد حكمه في هذا الباب- فقال أبو حنيفة: يجوز التصرف في المبيع بيعًا فاسدًا ابتداء، وهذه هي الصحة. وقال الشافعي ومن وافقه: لا يثبت أصلاً، ولو تداولته الأملاك، وهذا هو الفساد ... ¬
الراجح
فطرد الحنفي أصله، وقال إذا اشترى جارية شراء فاسدًا جاز له وطؤها، وكذا سائر العقود الفاسدة، وطرد الشافعي أصله، وقال: يحرم الانتفاع مطلقًا، وإن باعه ألف بيع وجب نقضه، ونحن خالفنا أصلنا، وراعينا الخلاف، وقلنا: البيع الفاسد يثبت شبهة الملك فيما يقبله، فإذا لحقه أحد أربعة أشياء تقرر الملك بالقيمة، وهي حوالة السوق -أي تغيره- وتلف العين، ونقصانها، وتعلق حق الغير بها على تفصيل في ذلك في كتب الفروع ... وقال ابن مسلمة: يمضي الفاسد المختلف فيه ... " (¬1). فالفرق بين مذهب الحنفية والمالكية في أثر العقد الفاسد: أن الحنفية يشترطون مجرد القبض. وأما المالكية فيشترطون القبض، وفوات الرجوع في المبيع كما لو باعه بعد قبضه. والحنفية يعتبرون الملك حقيقة، والمالكية يعدونه شبهة على خلاف في المذهب (¬2). الراجح: سبق لنا مناقشة مذهب الحنفية في التفريق بين البيع الفاسد والباطل، والذي يعنينا هنا أن العلماء متفقون على وجوب الفسخ ما دامت عين المبيع قائمة لم تتغير، ولم يتصرف فيه صاحبه، وأنه مضمون على قابضه بالقيمة، لا بالثمن المسمى في العقد؛ لأن العقد فاسد على خلاف بينهم، هل الواجب قيمته يوم تصرف فيه، أو قيمته يوم قبضه؟ وقد سبق بيان الراجح فيه، فأغنى عن إعادته هنا. ¬
الفصل الثاني انفساخ العقد بسبب فوات المحل المعقود عليه قبل القبض
الفصل الثاني انفساخ العقد بسبب فوات المحل المعقود عليه قبل القبض لن نناقش مسألة فوات المعقود عليه قبل القبض إلا من خلال المسائل التي لها تعلق بانفساخ العقد، وأما المسائل التي لا تعلق لها بانفساخ العقد فلن نتعرض لها؛ لأننا قد تعرضنا لتلف المعقود عليه بكل تفاصيله في باب أحكام المبيع، في مبحث تلف المبيع. فمثلاً تلف المعقود عليه قبل القبض إذا كان من فعل المشتري، أو من فعل أجنبي، أو كان التلف بعد قبض المشتري له لم يوجب ذلك انفساخ العقد قولاً واحدًا، فمثل هذه المسائل لن نتعرض لها، وإنما نتعرض للمسائل التي قيل فيها بانفساخ العقد بهلاك المعقود عليه فقط، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
المبحث الأول هلاك المعقود عليه قبل القبض
المبحث الأول هلاك المعقود عليه قبل القبض الفرع الأول هلاك المبيع بآفة سماوية قال ابن قدامة: ما لا يحتاج إلى قبض إذا تلف فهو من مال المشتري (¬1). [م - 622] إذا هلك المبيع قبل القبض بآفة سماوية، فإما أن يكون فيه حق توفية، أو لا. فإن كان فيه حق توفية من كيل، أو وزن، أو عد أو ذرع، فإن عقد البيع ينفسخ، وهذا قول عامة الفقهاء من الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). وإن لم يكن في المبيع حق توفية من كيل أو وزن أو عد أو ذرع، فاختلف الفقهاء على قولين: ¬
القول الأول
القول الأول: ينفسخ البيع، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). القول الثاني: لا ينفسخ البيع، ويكون ضمانه على المشتري، وهو مذهب المالكية (¬4)، ¬
والمشهور عند الحنابلة (¬1). وقد قدمنا أدلة الأقوال في أحكام المعقود عليه، في باب تلف المبيع، فانظره هناك. ¬
الفرع الثاني هلاك المبيع بفعل البائع
الفرع الثاني هلاك المبيع بفعل البائع إتلاف البائع للمبيع بعد لزوم العقد كإتلاف الأجنبي (¬1). [م - 623] اختلف العلماء في انفساخ البيع إذا تلف المبيع قبل القبض بفعل البائع على ثلاثة أقوال: القول الأول: ينفسخ البيع، وهذا هو مذهب الحنفية (¬2)، والمذهب عند الشافعية (¬3). القول الثاني: لا ينفسخ البيع مطلقًا، وهو مذهب المالكية (¬4). ¬
القول الثالث
القول الثالث: لا ينفسخ البيع بشرط أن يكون البيع ليس فيه حق توفية، فإن كان فيه حق توفية خير مشتر بين الفسخ والإمضاء، وهذا مذهب الحنابلة (¬1). وجه من قال: ينفسخ البيع: أن المبيع في يد البائع ليس أمانة عنده، وإنما يده يد ضمان، وإذا كانت يده يد ضمان فإذا تلف المبيع بفعل البائع قبل القبض بطل العقد، وانفسخ البيع. ويناقش: بأنه لا يلزم من كون الضمان عليه أن ينفسخ العقد، بل يجب عليه رد مثله إن كان مثلياً، أو قيمته إن كان متقومًا. وجه من قال: لا ينفسخ العقد: أن إتلاف البائع للمبيع بعد لزوم العقد كإتلاف الأجنبى لا فرق في ذلك، فإذا كان إتلاف الأجنبي لا يوجب الفسخ، فكذلك إتلاف البائع، فمن باشر الإتلاف وجب عليه الغرم: والغرم: هو ضمان المتلف بالمثل إن كان مثلياً ,أو كان مثليًا, أو بالقيمة إن كان متقومًا؛ لأن البائع قد أتلف مالاً مملوكًا لغيره بغير إذنه. وجه تفريق الحنابلة بين ما فيه حق توفية، وبين غيره: أن المبيع الذي فيه حق توفية ضمانه على البائع حتى يقبضه المشتري، فإذا أتلفه البائع فكأنه حدث به عيب عند البائع، فيخير المشتري بين الفسخ، ليأخذ الثمن، وبين إمضاء البيع ليضمن البائع بدل المبيع، وبدل المبيع: هو المثل في المثليات، والقيمة في غير المثليات. ¬
وأما إذا لم يكن في المبيع حق توفية، فإنه يدخل في ضمان المشتري بمجرد العقد، فإذا أتلفه البائع فقد أتلف ملك غيره، فيجب عليه ضمان ما يتلفه: وهو دفع مثله إن كان مثليًا، أو دفع قيمته إن كان متقومًا. ومذهب المالكية أقوى الأقوال، ولا يوجد تلازم بين الضمان وبين الفسخ حتى يقال: ما كان من ضمان البائع أوجب ذلك الفسخ إذا تلف، وما كان ضمانه على المشتري لم يوجب الفسخ.
الفرع الثالث هلاك الثمن المعين قبل قبضه
الفرع الثالث هلاك الثمن المعين قبل قبضه جاء في درر الحكام: "تلف أحد البدلين قبل التسليم في بيع المقايضة يفسخ البيع ... " (¬1). [م - 624] ذهب عامة الفقهاء إلى انفساخ العقد بهلاك الثمن المعين إذا كان مما يتعين بالتعيين قبل قبضه، وذلك قياسًا على المبيع: لأنّ الثمن لما كان عينًا أصبح كل واحد منهما مبيعًا، وقد قدمت أن هلاك المبيع قبل القبض ينفسخ به العقد، فكذلك الثمن المعين (¬2). جاء في درر الحكام في شرح مجلة الأحكام ما نصّه: "إذا تلف المبيع قبل القبض في يد البائع، أو تلف الثمن المتعين بالتعيين قبل التسليم في يد المشتري ينفسخ البيع" (¬3). وقال أيضًا: "تلف أحد البدلين قبل التسليم في بيع المقايضة يفسخ البيع ... " (¬4). وبيع المقايضة: هو بيع عين بعين. ¬
وقال في مختصر المزني: "ولو كان الثمن عرضًا، أو ذهبًا بعينه، فتلف من يد المشتري، أو تلفت السلعة مع يدي البائع انتقض البيع" (¬1). ¬
المبحث الثالث في انفساخ البيع بسبب الجوائح
المبحث الثالث (*) في انفساخ البيع بسبب الجوائح الجائحة في اللغة: الشدة. وفي اصطلاح الشافعية والحنابلة: كل ما أذهب الثمرة أو بعضها بغير جناية آدمي، كربح ومطر وثلج وبرد وجليد وصاعقة وحر وعطش ونحوها (¬1). وعرفها المالكية: كل شيء لا يستطاع دفعه لو علم به، سواء أكان سماويًا كالبرد والحر، والعفن، والدود، والفأر، والطير، والريح والثلج والمطر، أم غير سماوي كجيش (¬2). (ح-496) والأصل فيه ما رواه مسلم من طريق سفيان بن عيينة، عن حميد الأعرج، عن سليمان بن عتيق عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بوضع الجوائح (¬3). (ح-497) ورواه مسلم من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لو بعت من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ (¬4). فالحديث يفيد أن الثمر المبيع على شجره إذا بيع دون أصله، وقد بدا صلاحه، ولم يتم نضجه، إذا قبضه المشتري، فأصابته جائحة فإن البيع ينفسخ؛ لأنه جعل الضمان على البائع. ¬
القول الأول
[م - 625] وقد اختلف العلماء في الأخذ بالحديث على قولين: القول الأول: ذهب إلى القول بالحديث المالكية (¬1)، والحنابلة (¬2)، والقديم من قول الشافعي (¬3). حيث جعلوا الضمان على البائع، ومعنى هذا أنهم يذهبون إلى القول بانفساخ البيع إذا أصيبت الثمرة بجائحة. القول الثاني: ضمان المبيع على المشتري، ومعنى هذا أنهم لا يرون انفساخ العقد بالجائحة، وهو مذهب الحنفية (¬4)، والقول الجديد للشافعي (¬5). وقد تم ذكر أدلة القولين ومناقشتها، وبيان الراجح في باب تلف المبيع فأغنى عن إعادتها هنا، وإنما أوجب إعادة المسألة للتوكيد على المسائل التي ينفسخ فيها العقد تلقائيًا، فرقًا بينها وبين المسائل التي لا تنفسخ إلا بإرادة العاقدين أو أحدهما، والله الموفق للصواب. ¬
المبحث الرابع انفساخ العقد بسبب موت أحد العاقدين
المبحث الرابع انفساخ العقد بسبب موت أحد العاقدين قال الماوردي: العقود غير اللازمة تبطل بالموت (¬1). [م - 626] في العقود الجائزة كعقد المضاربة والوكالة ونحوها إذا مات رب المال، أو مات العامل في عقد المضاربة انفسخت المضاربة، فموت رب المال ينهي المضاربة؛ لأنها تعتمد على الإذن منه للمضارب في التصرف في مال المضاربة، وبوفاة صاحب المال ينتهي الإذن. كما أن موت العامل ينهي المضاربة كذلك؛ لأنّ الإذن من رب المال صادر له هو، ولا يتصور بقاء الإذن بعد وفاة المضارب إلا أن المالكية قالوا: إن كان ورثة العامل مأمونين قيل لهم: بيعوا ما بقي في يدي صاحبكم من السلع، وأنتم على الربح الذي كان لصاحبكم (¬2). قال الكاساني: "وتبطل بموت أحدهما -يعني المضاربة- لأنّ المضاربة تشتمل على الوكالة، والوكالة تبطل بموت الموكل والوكيل، وسواء علم المضارب بموت رب المال أو لم يعلم؛ لأنه عزل حكمي، فلا يقف على العلم كما في الوكالة" (¬3). ¬
وقال في مغني المحتاج: "ولو مات أحدهما أو جن، أو أغمي عليه انفسخ عقد القراض كالوكالة ... " (¬1). وقد بحثت هذه المسألة بتوسع في عقد المضاربة فانظره هناك مشكورًا. ¬
المبحث الخامس انفساخ العقد بسبب ظهور استحقاق في المبيع
المبحث الخامس انفساخ العقد بسبب ظهور استحقاق في المبيع تعريف الاستحقاق اصطلاحًا (¬1): قيل في تعريفه: ظهور كون الشيء حقًا واجبًا للغير (¬2). وقيل: بأنه رفع ملك شيء بثبوت ملك قبله بغير عوض (¬3). والاستحقاق عند الفقهاء نوعان: مبطل للملك وناقل له. فالأول: ما يبطل ملكية كل أحد في المستحق به، كظهور المبيع وقفًا. والثاني: ما ينقل الملكية من واحد إلى آخر، كأن يشتري أحد مالًا، فيظهر أنه ملك لآخر، فهذا الاستحقاق قد ينقل ويحول ملكية ذلك المال من المشتري إلى ذلك الآخر (¬4). ¬
الفرع الأول في انفساخ العقد عند استحقاق المبيع كله
الفرع الأول في انفساخ العقد عند استحقاق المبيع كله استحقاق المبيع إن أبطل الملك وجب الفسخ، وإن نقل الملك توقف العقد على الإجازة. [م - 627] إذا استحق المبيع كله، فإن كان الاستحقاق مبطلًا للملك، كما لو كان المستحق وقفًا فإن البيع ينفسخ قولًا واحدًا. وإن كان الاستحقاق ناقلًا للملكية، وهو الذي يرد على محل قابل للتملك، فاختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول: لا ينفسخ العقد بل يكون موقوفًا على إجازة المستحق، فإن أجازه نفذ، وإن لم يجزه انفسخ، وهذا هو مذهب الحنفية (¬1)، ومذهب المالكية (¬2). ¬
القول الثاني
جاء في معين الحكام: "استحقاق المبيع يوجب توقف العقد على الإجازة، لا نقضه في ظاهر الرواية" (¬1). القول الثاني: ينفسخ العقد، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وسبب الخلاف بين الحنفية والمالكية من جهة وبين الشافعية والحنابلة أمور: الأول: أن النهي في هذا العقد ليس عائدًا إلى ذات البيع، وإنما النهي لأمر خارج، وهو حق الآدمي، كبيع الفضولي، فيكون الأمر موقوفاً على إجازة المالك، فإن أجازه نفذ كما هو مذهب الحنفية والمالكية، وفي هذا مصلحة ¬
وأجيب
للمالك، ومصلحة للمشتري حيث لم يبطل بيعه مباشرة، وإن لم يجزه لم ينفذ مراعاة لحقه. وهذا فيه قوة، وإن كان هناك فرق بين بيع الفضولي وبين هذه المسألة، وذلك أن مسألة بيع الفضولي تصرف فيه البائع لمصلحة المالك بدون إذنه، فهو لم يبعه أصلًا لحظ نفسه، وإنما لحظ في رغبة المشتري بالشراء غبطة للمالك، وخشي إن انتظر إلى أن يأخذ إذنًا من صاحبه أن تضيع الصفقة على مالكه، فباعه له دون أن يأخذ إذنه، وأما مسألتنا هذه فإن البائع قد باعه لمصلحته هو، وعلى أنه هو المالك للمال، وقد يكون ذلك نتيجة شبهة عنده، وقد يكون نتيجة غصب وظلم وتعد، ثم بعد أن باع السلعة تبيّن أن المبيع مستحق لغيره، فهذا الفرق قد يكون مؤثرًا في الحكم، وقد يقال: إن الفرق لا يمس الحكم، وإنما يتعلق بالضمان، فإن الفضولي قد تصرف لمصلحة المالك، وهذا قد تصرف لمصلحته، فيضمن الثاني دون الأول، والله أعلم. الثاني: أن بيع ملك غيره لمصلحة غير مالكه بدون إذن مالكه بيع لما لا يملك، وبيع ما لا يملك مفسوخ أبدًا، والمفسوخ لا تلحقه إجازة. وهذا سبق الجواب عنه، في الفرق بين تصرف الفضولي وبين هذا البيع، وبينا أن الفرق ربما يكون غير مؤثر في الحكم. الثالث: إثبات المالك لاستحقاقه للمبيع دليل على عدم رضاه بالبيع، وإذا لم يكن راضيًا كان مفسوخًا، والمفسوخ لا تلحقه الإجازة. وأجيب: القول بأن إثبات الاستحقاق دليل على عدم الرضا بالبيع ليس بلازم، لجواز أن يكون دليل عدم الرضا بأن يذهب من يده مجانًا، وذلك لأنه لو لم يدع
الاستحقاق ويثبته استمر في يد المشتري من غير أن يحصل له عين المبيع، ولا بدله، فإثباته ليحصل له أحدهما، إما العين أو البدل كما لو أجاز البيع (¬1). ¬
الفرع الثاني استحقاق بعض المبيع
الفرع الثاني استحقاق بعض المبيع قال المالكية: استحقاق الأكثر كاستحقاق الكل (¬1). [م - 628] اختلف العلماء فيما لو كان الاستحقاق لبعض المبيع دون الكل، فهل يبطل البيع في الكل، أو يبطل البيع في البعض؟ اختلف العلماء في ذلك إلى أقوال: القول الأول: مذهب الحنفية: ذهب الحنفية إلى التفريق بين استحقاق المبيع قبل قبضه، واستحقاقه بعد قبضه: فإن استحق المبيع قبل قبض المشتري للمبيع بطل العقد في القدر المستحق، لأنه تبيّن أن ذلك القدر لم يكن ملكًا للبائع، ولم توجد الإجازة من المالك، فبطل، وللمشتري الخيار في الباقي إن شاء رضي به بحصته من الثمن، وإن شاء رده، سواء كان استحقاق ما استحقه يوجب العيب في الباقي، أو لا يوجب؛ لأنه إذا لم يرض المستحق فقد تفرقت الصفقة على المشتري قبل التمام، فصار كعيب ظهر في السلعة قبل القبض، وذلك يوجب الخيار فكذا هذا. وإن كان الاستحقاق بعد قبض البعض دون البعض، فكذلك الجواب سواء. وإن استحق المبيع بعد قبض الكل بطل البيع في القدر المستحق لما قلنا، ثم ينظر: فإن كان استحقاق ما استحق يوجب العيب في الباقي، فالمشتري بالخيار في الباقي إن شاء رضي به بحصته من الثمن، وإن شاء رده؛ لأنّ الشركة في الأعيان عيب. ¬
القول الثاني: مذهب المالكية
وإن كان استحقاق ما استحق لا يوجب العيب في الباقي، كثوبين استحق أحدهما فإنه يلزم المشتري الباقي بحصته من الثمن؛ لأنه لا ضرر في تبعيضه، فلم يكن له خيار الرد، والله أعلم (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية: فرق المالكية بين الاستحقاق في الشائع وغيره، وبين كون المستحق الأقل أو الأكثر، وبين أن يكون مثليًا أو قيميًا. وحاصل مذهبهم: أن يقال: لا يخلو استحقاق البعض إما أن يكون شائعًا أو معينًا: فإن كان شائعًا مما لا ينقسم خير المشتري -سواء قل المستحق أو كثر- بين التمسك بالباقي والرجوع بحصة المستحق، وبين الرد والرجوع بجميع الثمن، وإنما جعل له الخيار دفعًا لضرر الشركة. وإن استحق جزءًا معينًا، فلا يخلو إما أن يكون مقومًا أو مثليًا: فإن كان مقومًا كالعروض والحيوان فإن استحق البعض رجع بحصته بالقيمة لا بالتسمية. وإن استحق وجه الصفقة (أكثر من النصف ولو يسيرًا) تعين رد الباقي، ولا يجوز التمسك بالأقل. * وجه التفريق: أن استحقاق الأكثر كاستحقاق الكل؛ لأنّ الحكم لما كان للغالب انفسخ العقد باستحقاق الأكثر، فكان التمسك بالأقل كابتداء عقدة بثمن مجهول إذ لا ¬
القول الثالث
يعلم حصة الباقي من الثمن إلا بعد تقويم المستحق والباقي، ونسبة قيمة الباقي لمجموع القيمتين، بخلاف استحقاق الأقل (¬1). وإن كان الجزء المعين مثليًا، فإن استحق الأقل رجع بحصته من الثمن، ولم يخير، وإن استحق الأكثر خير بين التمسك والرجوع بحصته من الثمن وبين الرد والرجوع بالثمن؛ لأنّ حصة المال المثلي من الثمن معلومة بخلاف المتقوم (¬2). القول الثالث: أنه إذا استحق البعض بطل البيع في الجميع، نص عليه في الأم، وهو رواية عند الحنابلة (¬3). جاء في الأم: "قال الربيع: الذي يذهب إليه الشافعي أنه إذا بيع الشيء، فاستحق بعضه بطل البيع كله؛ لأنّ الصفقة جمعت شيئين حلالًا وحرامًا، فبطل كله" (¬4). وجاء فيه أيضًا: "آخر قول الشافعي أنه إذا استحق بعض ما اشترى، فإن البيع كلّه باطل، من قبل أن الصفقة جمعت حلالًا وحرامًا، فبطلت كلها" (¬5). ¬
وجه القول بالبطلان
* وجه القول بالبطلان: أحدهما: ما نص عليه من أنها لفظة واحدة قد جمعت حرامًا وحلالًا، وتبعيضها غير ممكن، وتغليب أحد الحكمين واجب، فكان تغليب حكم الحرام في إبطال العقد على الحلال أولى تغليبًا لجانب الحضر. الثاني: أنه ببطلان البيع في الحرام يبطل من الثمن ما قابله فيصير الباقي بعده مجهولًا، وجهالة الثمن تبطل البيع، فوجب أن يكون البيع الحلال باطلًا؛ لجهالة ثمنه (¬1). القول الرابع: يتخير المشتري بين رد المبيع بالفسخ، وبين التمسك بالباقي، والرجوع بحصة القدر المستحق من الثمن، وهو قول في مذهب الشافعية، ورواية ثانية للحنابلة (¬2). جاء في مختصر المزني: "لو اشترى عبدًا، واستحق نصفه، إن شاء رد الثمن، وإن شاء أخذ نصفه" (¬3). ¬
وجه هذا القول
وجاء فيه أيضًا: "إن اشترى شقصًا وعرضًا صفقة واحدة، أخذت الشفعة بحصتها من الثمن" (¬1). * وجه هذا القول: الوجه الأول: أنه لما كان لو أفرد كل واحد منهما بالعقد خالفه حكم صاحبه، وجب إذا جمع بينهما في العقد أن يخالف كل واحد منهما صاحبه، كالمشتري صفقة عبدًا وشقصًا في الشفعة. الوجه الثاني: أنه لو كان الجمع بينهما يوجب حمل أحدهما على الآخر، لم يكن حمل الصحة على البطلان بأولى من حمل البطلان على الصحة، كالانفراد، فوجب أن يسقط اعتبار أحدهما بالآخر لتكافؤ الأمرين، ويحمل كل واحد منهما على مقتضاه في الحالين (¬2). * الراجح: بعد استعراض الأدلة أجد أن القول بإبطال البيع مطلقًا قول ضعيف، وفيه تضييع لحق المشتري كما لو رغب في أخذ البعض، وما يدعى أن الثمن يبقى مجهولًا فإنها جهالة طارئة تعرف بالحساب، كما أن إلزام المشتري في قبول الصفقة، وهو لم يعقد قبوله إلا على الصفقة كاملة فيه إجحاف عليه؛ لأنه قد يكون له غرض صحيح في كمال الصفقة، لا في بعضها. وأما البائع فإنه لا خيار له مطلقًا؛ لأنه لا نقص عليه. وينبغي أن يكون الخيار للمشتري إن شاء قبل البعض، ورجع بمثل الفائت إن ¬
كان مثليًا أو بقيمته إن كان قيميًا، وإن شاء رد السلعة لا سيما إذا ترتب على تفريق الصفقة ضرر عليه، والله أعلم.
المبحث السادس في استحقاق الثمن
المبحث السادس في استحقاق الثمن قال الماوردي: "كل حق ثابت في الذمة لا يبطل بتلف المال ... " (¬1). [م - 629] علمنا خلاف العلماء فيما إذا استحق المبيع، فهل يختلف الحكم فيما إذا استحق الثمن؟ فيه تفصيل: أن يكون الثمن واجبًا في ذمة المشتري، كما لو اشترى الرجل المبيع بنقود لم يعينها، فلو استحق مال المشتري كله لم يوجب ذلك فسخ العقد قولًا واحدًا؛ لأنّ الحق لم يتعلق بنقود بعينها، وإنما تعلق ذلك بذمته (¬2). قال في الحاوي: "كل حق ثابت في الذمة لا يبطل بتلف المال، كالدين والقرض، وكل حق تعلق بالعين يبطل بتلف المال، كالوديعة والمضاربة" (¬3). والفرق بين ما وجب في الذمة والمعين من وجهين: الوجه الأول: أن المعين إذا تلف أو استحق فقد فات، وأما ما تعلق في الذمة فلو تلف مال الإنسان كله أو استحق لم يفت؛ لأنّ تعلقه بالذمة، وليس بعين المال، فتشغل ذمته بدفع مثله. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أن ما في الذمة يكون وفاؤه بدفع أيةِ عينٍ مالية مثلية من جنس الملتزم به، بخلاف المعين، فإن الحق يتعلق بذاته. وإن كان الثمن نقودًا معينة فالخلاف مبني على مسألة أخرى، هل تتعين النقود بالتعيين، أو لا تتعين؟ فمن قال: لا تتعين بالتعيين، فإنه لا يفسخ العقد بهلاك النقود المعينة، وهو مذهب الحنفية والمالكية. ومن قال: إنها تتعين بالتعيين فإنه يقول بفسخ العقد، والله أعلم. وقد ناقشت مسألة: هل النقود تتعين بالتعيين في مسألة مستقلة، وبينت الراجح منها، فأغنى عن إعادتها هنا. وإن كان الثمن عينًا فعامة الفقهاء على بطلان البيع (¬1)؛ لأنّ المعين يراد لعينه، ولا يقوم غيره مقامه. قال ابن عابدين: "الاستحقاق في بيع المقايضة يبطل البيع" (¬2). جاء في التاج والإكليل: "قال مالك: من ابتاع شقصًا بحنطة بعينها، فاستحقت الحنطة قبل أخذ الشفيع، فسخ البيع، ولا شفعة" (¬3). وجاء في حاشية الرملي: "ولو استحق الثمن، فإن كان معينًا بطل البيع" (¬4). ¬
المبحث السابع في انفساخ البيع بسبب كساد الثمن
المبحث السابع في انفساخ البيع بسبب كساد الثمن منع التعامل في النقود يجعلها معدومة حكمًا. [م - 630] إذا اشترى الرجل سلعة بفلوس نافقة، ثم كسدت قبل تسلمها (¬1)، فهل ينفسخ العقد؟ اختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال: القول الأول: ينفسخ العقد، وهذا رأي أبي حنيفة رحمه الله تعالى (¬2). القول الثاني: لا ينفسخ، والبائع بالخيار، إن شاء فسخ، وإن شاء أخذ قيمة الفلوس، وهذا رأي أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬3). ¬
القول الثالث
القول الثالث: يجب رد المثل ما دامت الفلوس موجودة، ولو رخصت أو غلت، فإن عدمت بالكلية فله قيمتها، وهو المعتمد في مذهب المالكية (¬1)، ومذهب الحنابلة (¬2). القول الرابع: يجب على المدين عند الكساد أو الانقطاع المثل، وليس للدائن سواه، ولا يثبت للبائع الخيار في الفسخ، ويعتبر الكساد أو الانقطاع كجائحة نزلت به، وهو مذهب المدونة، وما أفتى به ابن رشد (¬3)، وعليه جمهور الشافعية (¬4). * وجه من قال: ينفسخ العقد بكساد الثمن: أن الفلوس والدراهم المغشوشة إذا كسدت خرجت عن كونها ثمنًا؛ لأنّ ثمنيتها إنما ثبتت باصطلاح الناس عليها، فإذا ترك الناس التعامل بها فقد زال عنها صفة الثمنية، ولا بيع بلا ثمن، فينفسخ العقد ضرورة. ¬
وجه من قال: لا ينفسخ العقد، وللبائع الخيار
وإذا كان تخمر العصير قبل القبض وبعد العقد يبطل العقد، فكذلك كساد الفلوس قبل القبض يبطل العقد؛ لأنّ كلًا منهما لو اقترن بالعقد كان مانعًا (¬1). * وجه من قال: لا ينفسخ العقد، وللبائع الخيار: أن العقد تم، والفلوس كانت رائجة، فثبتت في ذمة المشتري ثمنًا، وما وجب في الذمة لا يحتمل الهلاك، فلا يكون الكساد هلاكًا لما استقر في الذمة، بل يكون عيبًا فيها يوجب الخيار للبائع (¬2). * وجه من قال: يجب على المشتري رد المثل ولو رخصت، وإلا فالقيمة: لأنه إنما وجب عليه المثل؛ لأنّ هذا هو ما لزمه يوم العقد، وكونها رخص سعرها لا يوجب عدم الرد؛ لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير سعرها، فأشبهت الحنطة إذا رخصت أو غلت، لكن إن انقطع الثمن حتى لا يوجد، أو أبطل السلطان التعامل بها كان له قيمته؛ لأنّ كل شيء تعذر مثله حسًا أو حكمًا وجبت قيمته (¬3). ولأن انقطاع التعامل بها يسقط ماليتها، ويكون وجودها كعدمها، والبيع لم ينعقد إلا بما يعتبر مالًا. ولأن إبطال التعامل بها يشبه كسرها، أو تلف جزء منها، فيلحقه الضمان، فيرد قيمتها. ¬
وجه من قال: يجب عليه المثل مطلقا
* وجه من قال: يجب عليه المثل مطلقًا: إذا كان العقد قد تم بهذه الفلوس وهي رائجة، فهي التي وجبت عليه بتراضيهما، وكسادها وانقطاعها بعد لزوم العقد، واستقرار الوجوب بمنزلة الجائحة التي تنزل به، لا يتحملها المشتري، وهو لم يكن سببًا فيها. * الراجح: أن النقود إن انقطعت أو منع السلطان التعامل بها وجب على المشتري قيمتها؛ لأنّ يده يد ضمان، ولأن منع التعامل في النقود يجعلها معدومة حكمًا، فيلزمه قيمتها، وإن رخصت دفعها إلى البائع، ولم يلزمه شيء؛ لأنّ المال لم يكن معدومًا حكمًا، ويكون النقص من مال البائع كما أن الثمن لو زادت قيمته كان له، فكذلك إذا نزلت قيمته كان ذلك عليه، فالغنم بالغرم، والله أعلم، وهذا أقرب الأقوال إلى الحق، وهو ما أميل إليه، والله أعلم.
المبحث الثامن في انفساخ العقد بسبب اختلاط المبيع بغيره
المبحث الثامن في انفساخ العقد بسبب اختلاط المبيع بغيره [م - 631] إذا اختلط المبيع بغيره، ولم يقدر على تمييزه، كأن يكون المبيع ثمرًا على شجر، وقد بيعت بشرط القطع، فلم تقطع حتى حدثت ثمرة أخرى معها، واختلطت بها، ولم يتميز مال كل منهما، أو كان المبيع حنطة بيعت جزافًا، فلم تقبض حتى انثالت عليها أخرى، واختلطت، فهل يفسخ البيع بذلك؟ اختلف أهل العلم في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: إن حصل الاختلاط قبل القبض فسد البيع؛ لتعذر التمييز قبل التسليم، فأشبه فوات المبيع قبل التسليم. وهذا قول واحد في مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2). وإن أثمرت ثمرًا جديدًا بعد القبض فإنهما يشتركان فيها للاختلاط، والقول في قدره للمشتري مع يمينه؛ لأنّ المبيع في يده، وهو منكر، والقول قول المنكر، وهذا مذهب الحنفية (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: إذا حدث الاختلاط، وكان حق كل واحد لم يتميز، فإن كان ذلك قبل التخلية، كان للمشتري الخيار بين الفسخ والإجازة. وجهه: أننا لم نقل بفسخ العقد؛ لبقاء عين المبيع. وقلنا بالخيار؛ لأنّ الاختلاط عيب حدث قبل التسليم. وإن سمح البائع بترك الثمرة الجديدة للمشتري، سقط خياره على الأصح، وأجبر على القبول. لزوال المحذور. وإن حدث ذلك بعد التخلية فإن تصالحا وتوافقا على شيء فذاك، وإلا فالقول قول صاحب اليد في قدر حق الآخر، واليد بعد التخلية للمشتري. وهذا مذهب الشافعية (¬1). القول الثالث: يصطلحان على الزيادة، ولا يبطل العقد، وهذا مذهب الحنابلة (¬2). ¬
وجهه: أننا لم نقل يبطلان العقد؛ لأنّ المبيع لم يتعذر تسليمه، وإنما اختلط بغيره، فهو كما لو اشترى طعامًا في مكان، فانثال عليه طعام للبائع، أو انثال هو على طعام للبائع، ولم يعرف قدر كل واحد منهما، ويفارق هذا ما لو اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها، فتركها حتى بدا صلاحها، أو اشترى عرية فتركها حتى أثمرت، فإن العقد يبطل في إحدى الروايتين؛ لكون اختلاط المبيع بغيره حصل بارتكاب النهي، وكونه يتخذ حيلة على شراء الثمرة قبل بدو صلاحها، أو شراء الرطب بالتمر من غير قيل من غير حاجة إلى أكله رطبًا، وها هنا ما ارتكب نهيًا، ولم يجعل هذا طريقا إلى فعل المحرم (¬1). والله أعلم. ¬
المبحث التاسع انفساخ العقد بسبب التعذر في تنفيذه
المبحث التاسع انفساخ العقد بسبب التعذر في تنفيذه الفرع الأول عجز العاقد عن المضي في العقد [م - 632] إذا عجز العاقد عن المضي في موجب العقد انفسخ العقد، كما لو استأجر شخص رجلًا على قلع الضرس، ثم سكن الضرس. أو استأجر طبيبًا على قطع اليد المتآكلة، ثم برئت اليد قبل التنفيذ، أو استأجر على استيفاء القصاص، ثم سقط بالعفو، فهنا ينفسخ العقد لعجز العاقد عن المضي في موجب العقد شرعًا؛ لأنّ المضي فيه في هذه الحالات يعتبر حرامًا (¬1). قال السرخسي: "من استأجر أجيرًا ليقلع ضرسه، فسكن ما به من الوجع كان ذلك عذرًا في فسخ الإجارة" (¬2). وقال ابن قدامة: "إن برأ الضرس قبل قلعه انفسخت الإجارة؛ لأنّ قلعه لا يجوز، وإن لم يبرأ، لكن امتنع المستأجر من قلعه لم يجبر؛ لأنّ إتلاف جزء من الآدمي محرم في الأصل، وإنما أبيح إذا صار بقاؤه ضررًا، وذلك مفوض إلى كل إنسان في نفسه إذا كان أهلًا لذلك، وصاحب الضرس أعلم بمضرته، ومنفعته، وقدر ألمه" (¬3). ¬
وجاء في أسنى المطالب: " (لو استأجرها) أي امرأة إجارة عين (لكنس المسجد اليوم) مثلًا (فحاضت، انفسخت) أي الإجارة (لفوات المنفعة شرعًا") (¬1) وقال النوويّ: "فإذا استؤجر لقلع سن وجعة، أو يد متآكلة، أو لاستيفاء قصاص في نفس أو طرف، فالإجارة صحيحة على الأصح كما سبق، فإذا زال الوجع، أو عفي عن القصاص، فقد أطلق الجمهور أن الإجارة تنفسخ، وفيه كلامان: أحدهما: أن المنفعة في هذه الإجارة مضبوطة بالعمل دون الزمان، وهو غير مأيوس منه؛ لاحتمال عود الوجع، فليكن زوال الوجع، كغصب المستأجرة، حتى يثبت خيار الفسخ دون الانفساخ. والثاني: حكى الشيخ أبو محمَّد وجهًا أن الإجارة لا تنفسخ، بل يستعمل الأجير في قلع مسمار، أو وتد، ويراعى تداني العملين، وهذا ضعيف، والقوي ما قيل: إن الحكم بالانفساخ جواب على أن المستوفى به لا يبدل؛ فإن جوزناه أمره بقلع سن وجعة لغيره" (¬2). ¬
الفرع الثاني تعذر التنفيذ بسبب فوات العين المستأجرة
الفرع الثاني تعذر التنفيذ بسبب فوات العين المستأجرة [م - 633] ذهب عامة الفقهاء إلى أن عقد الإجارة ينفسخ بهلاك العين المستأجرة، فإن تلفت قبل القبض، أو عقيب القبض قبل مضي عدة يتمكن المستأجر من الانتفاع بها انفسخ العقد من أصله، وسقط الأجر. وإن تلفت العين المستأجرة بعد مضي شيء من المدة، انفسخت فيما بقي، دون ما مضى، ويكون عليه من الأجرة بقدر ما استوفى من المنفعة أو بقدر ما مضى من المدة. واختار أبو ثور بأن العين المستأجرة إذا تلفت بعد القبض فإن الأجرة تجب للمؤجر؛ لأنّ المعقود عليه تلف بعد قبضه، أشبه المبيع، وهذا غلط؛ لأنّ المعقود عليه المنافع، وقبضها باستيفائها، أو التمكن من استيفائها، ولم يحصل ذلك، فأشبه تلفها قبل قبض العين؛ لأنّ المنافع تحدث شيئًا فشيئًا، وإنما يستلمها على حسب وجودها شيئًا فشيئًا، فإذا اعترض مانع فقد تعذر تسليم المعقود عليه قبل القبض، فلا يجب البدل، كما لو تعذر تسليم المبيع قبل القبض بالهلاك (¬1). وقد سبق بحث هذه المسألة مع ذكر الأدلة عليها في عقد الإجارة، فلله الحمد. ¬
الفرع الثالث تعذر التنفيذ بسبب الإفلاس
الفرع الثالث تعذر التنفيذ بسبب الإفلاس تعريف الإفلاس اصطلاحًا (¬1): التفليس: خلع الرجل من ماله لغرمائه (¬2). والمفلس: من كان دينه مساويًا لماله، أو كان دينه أزيد (¬3). وقال في المغني: والمفلس في عرف الفقهاء عن دينه أكثر من ماله، وخرجه أكثر من دخله، وسموه مفلسًا وإن كان ذا مال؛ لأنّ ماله مستحق الصرف في جهة دينه، فكأنه معدوم، وقد دلّ عليه تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- مفلس الآخرة فإنه أخبر أن له حسنات أمثال الجبال، لكنها كانت دون ما عليه فقسمت بين الغرماء، وبقي لا شيء له، ويجوز أن يكون سمي بذلك لما يؤول إليه من عدم ماله بعد وفاء دينه، ويجوز أن يكون سمي بذلك؛ لأنه يمنع من التصرف في ماله إلا الشيء التافه الذي لا يعيش إلا به، كالفلوس ونحوها (¬4). ¬
علاقة الفلس بتعذر تنفيد العقد
* علاقة الفلس بتعذر تنفيد العقد: إذا تم عقد البيع بالإيجاب والقبول بين البائع والمشتري، وافترقا فقد انعقد البيع، ومقتضاه: انتقال ملكية المبيع للمشتري، وملكية الثمن للبائع، وبناء على ذلك يكون المشتري قد ملك السلعة بهذا العقد ملكا حقيقيًا، وموجب العقد: أن يسلم البائع المبيع للمشتري، ويسلم المشتري الثمن للبائع فلو فرض أن المشتري قد عجز عن تسليم الثمن بسبب إفلاسه، فهنا نستطيع أن نقول: إن أحد العاقدين قد طرأ عليه عجز عن تنفيذ ما يوجبه عليه العقد، وهو تسليم الثمن، فهل ينفسخ البيع باعتبار أن العقد الذي طرأ عليه الإفلاس قد تعذر فيه تسديد المشتري للثمن، وبالتالي تعذر فيه تنفيذ موجب العقد: من تسليم المبيع للمشتري، وتسليم الثمن للبائع؟ وللجواب على ذلك نقول: المسألة لها صورتان: الصورة الأولى: أن يطرأ الإفلاس قبل قبض المشتري للمبيع. الصورة الثانية: أن يطرأ الإفلاس بعد قبض المشتري للمبيع. وسوف نعرض حكم كل صورة من هذه الصور.
المسألة الأولى الإفلاس قبل قبض المفلس للمبيع
المسألة الأولى الإفلاس قبل قبض المفلس للمبيع [م - 634] إذا باع الرجل السلعة بثمن حال، ولم يقبض ثمنها حتى أفلس المشتري، والعين ما زالت باقية في يد البائع لم يقبضها المشتري فإن العقد ينفسخ، ويكون البائع أحق بعين سلعته من بين بقية غرماء المشتري المفلس، وقد حكي الاتفاق على هذا. قال الكاساني في البدائع: "وإن لم يكن قبضه -يعني المبيع- حتى أفلس أو مات ... فإن كان حالًا فالبائع أحق به بالإجماع" (¬1). قال ابن رشد الجد: "فأما العرض -يعني المبيع- فإن كان في يد بائعه لم يسلمة حتى أفلس المشتري، فهو أحق به في الموت والفلس جميعًا؛ لأنه كالرهن بيده، وهذا ما لا خلاف فيه" (¬2). ونقل الإجماع كذلك ابن رشد الحفيد في كتابه بداية المجتهد (¬3)، والقرافي في الذخيرة (¬4). ¬
المسألة الثانية الإفلاس بعد قبض المفلس للمبيع
المسألة الثانية الإفلاس بعد قبض المفلس للمبيع [م - 635] من باع سلعة وقبضها المشتري ولم يستلم البائع من ثمنها شيئًا حتى أفلس المشتري، فوجد البائع عين سلعته المبيعة لدى المشتري لم تتغير عن حالها، ولم يتعلق بها حق عيني لأحد، فهل ينفسخ البيع، ويكون البائع أحق بسلعته من سائر الغرماء؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: لا يكون البائع أحق من غيره في عين سلعته، بل هو أسوة الغرماء. وهذا مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: للبائع أن يفسخ العقد، ويكون أحق من غيره في عين سلعته من بقية الغرماء، وهذا مذهب جماهير أهل العلم (¬2). ¬
دليل من قال: البائع وبقية الغرماء سواء
* دليل من قال: البائع وبقية الغرماء سواء: الدليل الأول: قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. فالمفلس يستحق النظرة بدلالة الآية. ويجاب عن الآية: بأن الآية عامة، والحديث الوارد في المسألة خاص، والخاص مقدم على العام. أو يقال: إن وجود السلعة عند المشتري لا يصدق عليه أنه معسر حتى يمكن إمهاله، وإنما الأمر بالإنظار للمعسر إذا كان البائع لا يجد عنده ما يقوم بسداد دينه، ولذلك للغرماء إذا وجدوا مالًا عند المعسر لهم أن يأخذوه، ولا ينافي ذلك الأمر بإنظاره، وإنما قدم البائع على بقية الغرماء لتعلق حقه بأمرين ذمة المشتري وقيام عين المبيع، بخلاف غيره فإن تعلقهم بالذمة فقط. الدليل الثاني: استشهد الحنفية بما قال السرخسي: ذكر الخصاص بإسناده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أيّما رجل أفلس، فوجد رجل عنده متاعه، فهو في ماله بين غرمائه، أو قال: فهو أسوة غرمائه (¬1). لم أقف عليه في كتب الحديث المسندة، وهو مخالف لما رواه الجماعة من حديث أبي هريرة، وسيأتي ذكره في أدلة القول الثاني. الدليل الثالث: أن البيع انعقد بالإيجاب والقبول، فخرج المبيع من ملك البائع، ودخل في ¬
ويناقش من عدة وجوه
ملك المشتري، وبالقبض صار من ضمان المشتري، ومالًا له كسائر أمواله، وأصبح حق البائع متعلقًا بذمة المشتري مثله مثل دين بقية الغرماء، فالقول باستحقاق البائع لعين سلعته المبيعة نقض لملك المشتري. ويناقش من عدة وجوه: الوجه الأول: أن هذا نظر في مقابل النص، فيكون نظرًا فاسدا. الوجه الثاني: كون البيع انعقد فإنه لا يمنع من فسخ العقد بالإفلاس، كما يثبت الفسخ لثبوت العيب ونحوه، فعجزه عن تسليم الثمن عيب يوجب فسخ العقد بعد انعقاده، خاصة أن الأمر الذي ثبت به الحكم هو نص شرعي صحيح، وهو أخص، فيبنى العام على الخاص. الوجه الثالث: أن البائع قد امتاز عن بقية الغرماء بأن عين المبيع ما زال قائمًا، فإذا كان بقية الغرماء قد تعلق حقهم في الذمة فقط، فالبائع قد تعلق حقه في الذمة، وفي عين المال لقيام المبيع على حاله، وعدم فواته، فبهذا استحق التقديم على غيره، كما يستحق من الغرماء التقديم فيما لو كان دينه موثقًا برهن ونحوه، والله أعلم. الدليل الرابع: من حق البائع حبس السلعة حتى يستلم ثمنها، سواء كان المشتري معسرًا أو موسرًا، وقد سبق الكلام عليه في حبس المبيع، فإذا سلم البائع للمشتري السلعة فقد سقط حقه في حبس السلعة، والرجوع عن البيع مطلقًا، موسرًا كان أو
ويجاب
معسرًا كالمرتهن إذا سلم المرهون للراهن فإنه يسقط حقه في الرجوع في العين المرهونة، فكذا البائع. ويجاب: بأن هناك فرقًا بين الرهن والمبيع، فالرهن من عقود التوثقة، وهو ليس عوضًا للمبيع، بينما الثمن عوض عن السلعة، فإذا تعذر استيفاء الثمن رجع البائع إلى سلعته. * دليل من قال: للبائع فسخ العقد، وأخذ سلعته: الدليل الأول: (ح-498) ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي بكر بن محمَّد بن عمرو ابن حزم، أن عمر بن عبد العزيز أخبره، أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام أخبره أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قضى بأن الرجل إذا وجد سلعته عند المشتري، وقد أفلس فهو مقدم على غيره من الغرماء. ونوقش هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أننا لا نسلم أن الحديث في البيع؛ لأنّ الحديث يقول: (من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس) والمبيع إذا باعه البائع، وقبضه المشتري لا يسمى عين مال ¬
وأجيب عن هذا الاعتراض بعدة أجوبة
البائع، وذلك لخروجه عن ملكه بالبيع، ولخروجه عن ضمانه بالقبض، فهو الآن مال المشتري، وعلى ذلك فالمراد بقوله (من أدرك عين ماله عند رجل) كما لو أخذ ذلك على وجه الغصب، أو السرقة، أو استعاره، أو التقطه، أو أودعه صاحبه عند رجل، ثم أفلس، فهنا يصدق عليه أن المال مال البائع، ويقدم على سائر الغرماء. وأجيب عن هذا الاعتراض بعدة أجوبة: الجواب الأول: لو كان الحديث يتكلم عن العواري والمغصوب والسرقة لما كان لذكر الفلس فائدة، فإن هذه الأعيان هي ملك لصاحبها مطلقًا، سواء أفلس من هي في يده أو لم يفلس. الجواب الثاني: أن صيغة (أحق به) صيغة تفضيل، فهي تقتضي الاشتراك، إلا أن البائع أحق من غيره من الشركاء، وفي المغصوب والمسروق والعواري لا يستحسن أن يقال: أحق؛ لأنه لا يوجد شركاء. الجواب الثالث: قال ابن خزيمة: "المال قد يضاف إلى المالك الذي قد ملكه في بعض الأوقات بعد زوال ملكه عنه كقوله تعالى: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} [يوسف: 62]، فأضاف البضاعة إليهم بعد اشترائهم بها طعامًا" (¬1). ¬
الجواب الرابع
الجواب الرابع: (ح-499) أن مالكًا قد رواه في الموطأ عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أيّما رجل باع متاعًا، فأفلس الذي ابتاعه منه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا، فوجده بعينه فهو أحق به. وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء. [وهذا مرسل] (¬1). وقد اعتضد بمرسل آخر رجاله ثقات. (ح-500) فقد روى عبد الرزاق في المصنف، قال: أخبرنا إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من باع سلعة لرجل لم ينقده، ثم أفلس الرجل، فوجد سلعته بعينها، فليأخذها دون الغرماء (¬2). (ح-501) وروى عبد الرزاق في المصنف (¬3)، وعبد بن حميد كما في المنتخب (¬4)، والحميدي في مسنده (¬5)؛ وابن حبان في صحيحه (¬6)، والدارقطني ¬
في سننه (¬1)، من طريق هشام بن يحيى عن أبي هريرة بلفظ: إمّا أفلس الرجل فوجد البائع سلعته بعينها، فهو أحق بها دون الغرماء. وفي إسناده هشام بن يحيى، وهو صالح في المتابعات (¬2). وأما رواية مسلم من طريق ابن أبي حسين، أن أبا بكر بن محمَّد بن عمرو ابن حزم أخبره، أن عمر بن عبد العزيز حدثه، عن حديث أبي بكر ابن عبد الرحمن، عن حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الرجل الذي يعدم إذا وجد عنده المتاع، ولم يفرقه، أنه لصاحبه الذي باعه. فهذه رواية له بالمعنى، والمحفوظ من رواية يحيى بن سعيد، عن أبي بكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فأدرك متاعه بعينه. وقال يحيى بن سعيد: فهو أحق، ولم يقل: لصاحبه الذي باعه. وجاء لفظ البيع من رواية يحيى بن سعيد، وذلك فيما يرويه الثوري عنه، إلا أن الثوري قد اختلف عليه على ثلاثة ألفاظ، مما يجعل الباحث يتوقف في قبول لفظ الثوري. فقد أخرج الدارقطني من طريق عبد الله بن محمَّد بن عمرو الغزي، عن الفريابي (¬3). ¬
وأخرجه أيضًا من طريق زيد بن أبي الورقاء (¬1). والبيهقي في السنن الكبرى من طريق أبي حذيفة (¬2). كلهم عن سفيان، عن يحيى بن سعيد به، عن أبي بكر به، بلفظ: من باع سلعة، فأفلس صاحبها، فوجدها بعينها فهو أحق بها دون الغرماء. فهنا نص الثوري على ذكر الحديث بلفظ البيع. وخالفهم عبد الرزاق فرواه في مصنفه، عن الثوري، عن يحيى بن سعيد به، بلفظ: أيّما رجل أفلس، وعنده سلعة بعينها، فصاحبها أحق بها دون الغرماء. وهذا موافق للفظ الجماعة في عدم التنصيص على ذكر البيع (¬3). وهو اللفظ الثاني لسفيان. وهناك لفظ ثالث، أعتقد أن الثوري قد انقلب عليه الحديث فيه. (ح-502) فقد روى هذا الحديث عن يحيى بن سعيد، عن ابن عمرو ابن حزم به بلفظ: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا ابتاع الرجل سلعة، ثم أفلس، وهي عنده بعينها، فهو أحق بها من الغرماء. أخرجه الثوري في جامعه (¬4)، ومن طريقه أخرجه ابن خزيمة (¬5)، وابن حبّان في صحيحه (¬6)، والبيهقي في السنن الكبرى (¬7). ¬
فجعل المشتري أحق بها من الغرماء، وإنما الشأن في البائع لأنه هو الذي ينازعه الغرماء استحقاق السلعة أو ثمنها. والذي يجري وفق القواعد الحديثية، أن لفظ البيع ليس محفوظًا في طريق يحيى بن سعيد، وأن رواية الثوري للحديث، ورواية ابن أبي حسين التي في مسلم ليست محفوظة، وقد رواه جمع غفير عن يحيى بن سعيد، ولم يذكروا ما ذكره الثوري وابن أبي حسين عنه، وقد وقفت على خمسة عشر حافظًا، بعضهم في الصحيحين، وبعضهم في أحدهما، وبعضهم خارج الصحيح (¬1). ¬
الجواب الثاني للحنفية
الجواب الثاني للحنفية: قالوا: لو سلمنا أن حديث أبي هريرة في البيع، فإنه محمول على ما إذا أفلس المشتري قبل قبضه للسلعة، فالبائع في هذه الحالة أحق بالرجوع في هذه السلعة، وهذا مما لا خلاف فيه، وعلى ذلك فلا دلالة في الحديث على أن المشتري إذا قبض السلعة ثم أفلس بالثمن أن البائع أحق بها من بقية الغرماء. وأجيب: أن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة المتفق عليه: من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس (¬1). فقوله (عند رجل قد أفلس) فالحديث يتكلم على مبيع عند مشتر مفلس أدركه البائع بعينه قبل تغيره. الجواب الثالث للحنفية: أن هذا الحديث خبر آحاد، مخالف للأصول، فلا يقبل، ووجه معارضته لذلك: أن السلعة بالقبض صارت ملكًا للمشتري، وداخلة تحت ضمانه، وحق ¬
ويناقش
البائع من الثمن إنما هو دين متعلق بالذمة، والذمة باقية بعد الإفلاس كبقائها قبله لم تتغير، فالقول بأن البائع يملك الفسخ بالإفلاس، ونقض البيع، وبالتالي نقض الملك الثابت بعقد صحيح مخالف للأصول. ويناقش: بأننا لا نسلم أولًا أن الحديث مخالف للأصول، وسيأتي في الدليل الثاني والثالث أن فسخ العقد هو مقتضى القياس الصحيح هذا من جهة، ومن جهة أخرى دعوى أن خبر الآحاد إذا خالف الأصول وجب رده قول مجانب للصواب، بل يجب العمل به كالخبر المتواتر، وحديث إنما الأعمال بالنيات من أعظم الأحاديث التي يعتمد عليها في الأحكام، ومع ذلك هو فرد غريب، ولم يمنع ذلك من صحته مع عظم الحاجة إليه، وتبليغ الرسالة من أعظم الأمور، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسل آحاد الصحابة لتبليغها عن طريق المكاتبة وغيرها، وكانت الحجة تقوم بذلك، وأكثر الأخبار التي تعم بها البلوى هي أخبار آحاد، والأخبار المتواترة قليلة، بل إن تقسيم الأحاديث إلى متواتر وآحاد هو تقسيم حادث، لا يعرف عند أئمة السلف المتقدمين، ثم الدعوى برد الحديث الصحيح بدعوى مخالفته للأصول دعوى واهية؛ لأنّ الحديث أصل بذاته، وحجة بنفسه، وإذا سلم أن هذا يعارض الأصول تكون المسألة الواردة بهذا الحديث مستثناة من الأصل لورود الحديث الصحيح بخصوصها، والله أعلم. الدليل الثاني: القياس على المسلم فيه إذا تعذر تسليمه، فإذا كان الفقهاء يرون فسخ عقد السلم إذا تعذر تسليم المسلم فيه، وهو أحد العوضين، فكذلك إذا تعذر تسليم الثمن يستحق البائع الفسخ.
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن البائع إذا شرط في البيع رهنًا، فعجز عن تسليمه استحق الفسخ، مع أن الرهن مجرد وثيقة بالثمن، فما بالك بالعجز عن تسليم الثمن نفسه ألا يكون أولى بالفسخ من العجز عن تسليم الرهن (¬1). ¬
مطلب في شروط الرجوع في عين مال البائع عند المفلس
مطلب في شروط الرجوع في عين مال البائع عند المفلس القائلون بجواز رجوع البائع في عين ماله إذا وجده عند المفلس يقولون ذلك إذا توفرت شروطه على خلاف بينهم في هذه الشروط، وسوف أسوق إن شاء الله تعالى الشروط المتفق عليها والمختلف فيها بين أهل المذاهب، مع بيان الراجح، مع التنبيه أن الخلاف لن يدخل فيه مذهب الحنفية لأنهم لا يقولون برجوع البائع على المفلس بعين ماله كما تقدم، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
الشرط الأول ألا يتعلق بالمبيع حق للغير
الشرط الأول ألا يتعلق بالمبيع حق للغير [م - 636] وهذا الشرط متفق عليه، فإن تعلق بالمبيع حق للغير من بيع، أو جناية أو رهن أو هبة ونحوها لم يكن للبائع فسخ العقد. قال ابن قدامة: "فإن رهنها المشتري، ثم أفلس، أو وهبها، لم يملك البائع الرجوع، كما لو باعها أو أعتقها. ولأن في الرجوع إضرارًا بالمرتهن، ولا يزال الضرر بالضرر؛ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس، فهو أحق به). وهذا لم يجده عند المفلس. ولا نعلم في هذا خلافًا" (¬1). ¬
الشرط الثاني في اشتراط كون المشتري لم ينقد من ثمنها شيئا
الشرط الثاني في اشتراط كون المشتري لم ينقد من ثمنها شيئًا [م - 637] اختلف الفقهاء في اشتراط رجوع البائع عن البيع كون المشتري المفلس لم ينقد من ثمنها شيئًا على قولين: القول الأول: ليس هذا بشرط، وهذا مذهب المالكية والشافعية. إلا أن المالكية قالوا: إن شاء رد الثمن المقبوض، وأخذ سلعته، وإن شاء أمسك المقبوض وشارك الغرماء بما بقي من الثمن (¬1). وقالت الشافعية: يثبت للبائع حق الرجوع بحصة ما بقي من الثمن (¬2). * وجه قول الشافعية: بأنه إذا جاز للبائع الرجوع في العين كلها عند عدم القبض، جاز له الرجوع في بعضها إذا لم يكن قبض كامل الثمن. القول الثاني: يشترط أن يكون المشتري لم ينقد من ثمنها شيئًا، فإن نقد بعض الثمن فليس للبائع حق الرجوع، وهذا مذهب الحنابلة (¬3). ¬
دليل الحنابلة
* دليل الحنابلة: الدليل الأول: (ح-503) ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أيّما رجل باع متاعًا، فأفلس الذي ابتاعه منه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا، فوجده بعينه، فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء (¬1). [رجاله ثقات إلا أنه مرسل] (¬2). (ح-504) ووصله أبو داود من طريق عبد الله بن عبد الجبار -يعني الخبايري- حدثنا إسماعيل -يعني ابن عياش- عن الزبيدي- قال أبو داود وهو محمَّد بن الوليد أبو الهذيل الحمصي- عن الزهري، عن أبي بكر ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أيما رجل باع سلعة، فأدرك سلعته بعينها عند رجل قد أفلس، ولم يقبض من ثمنها شيئًا فهي له، فإن كان قضاه من ثمئها شيئًا فما بقي فهو أسوة الغرماء، وأيّما امرئ هلك، وعنده متاع امرئ بعينه، اقتضى منه شيئًا أو لم يقتض، فهو أسوة الغرماء (¬3). [وصله إسماعيل بن عياش، وأرسله غيره، وهو المحفوظ] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وتابعه هشام، عن الحسن عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيّما رجل أفلس، فوجد رجل ماله عنده، ولم يكن اقتضى من ماله شيئًا، فهو له. ¬
الراجح
رواه أحمد في مسنده، ثنا يحيى بن آدم، ثنا أبو إدريس، عن هشام به (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). وحديث أبي هريرة في الصحيحين وفي غيرهما ليس فيه زيادة: (فإن كان قد قبض من ثمنها شيئًا فما بقي فهو أسوة الغرماء) وهذا هو المعروف. * الراجح: أرجح الأقوال مذهب مالك؛ لأنّ العقد إذا انفسخ رجع الثمن كله إلى المشتري، ورجع المبيع إلى البائع، وأما تفريق الصفقة كما يذهب إلى ذلك الشافعية، بحيث يستحق بعض الثمن، ويرجع إليه بعض المبيع فهذا قد يلحق ضررًا بالبائع أو بالمشتري؛ لأنّ المبيع إذا فرق قد لا يسلم من ضرر أو نقص، والله أعلم. ... ¬
الشرط الثالث هل يشترط أن يكون المفلس حيا
الشرط الثالث هل يشترط أن يكون المفلس حيًا [م - 638] اختلف الفقهاء فيما إذا مات المفلس، هل للبائع أن يفسخ العقد، أم يكون البائع كغيره من الغرماء. وللجواب على ذلك يقال: إما أن يكون المشتري قد قبض المبيع، أو يكون مات قبل قبضه. فإن مات قبل قبض المبيع فإن صاحب السلعة أحق بها، وحكى ابن رشد الاتفاق على هذا. قال ابن رشد: "فأما قبل القبض فالعلماء متفقون -أهل الحجاز وأهل العراق- أن صاحب السلعة أحق بها؛ لأنها في ضمانه" (¬1). وإن مات بعد قبض السلعة، فهل للبائع أن يسترده، أو يكون البائع أسوة الغرماء؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ليس للبائع أن يسترده، بل يكون أسوة الغرماء، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: للبائع حق الفسخ، وهذا مذهب الشافعية (¬1). * دليل الجمهور على امتناع الفسخ بموت المفلس: الدليل الأول: (ح-505) ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أيّما رجل باع متاعًا، فأفلس الذي ابتاعه منه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا، فوجده بعينه، فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء. [رجاله ثقات إلا أنه مرسل] (¬2). الدليل الثاني: (ح-506) ما رواه أبو داود من طريق عبد الله بن عبد الجبار -يعني الخبايري- حدثنا إسماعيل -يعني ابن عياش- عن الزبيدي- قال أبو داود ¬
الدليل الثالث
وهو محمَّد بن الوليد أبو الهذيل الحمصي -عن الزهري، عن أبي بكر ابن عبد الرحمن، عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه: وأيما امرئ هلك، وعنده متاع امرئ بعينه، اقتضى منه شيئًا أو لم يقتض، فهو أسوة الغرماء (¬1). [وصله إسماعيل بن عياش، وأرسله غيره، وهو المحفوظ] (¬2). الدليل الثالث: من النظر، ذكر أصحاب هذا القول وجهًا للتفريق بين حال الحياة وحال الموت، وذلك أن ذمة المفلس في موته خربت خرابًا كليًا، فإذا اختص البائع في المبيع تضرر بذلك الغرماء، بخلاف حال الحياة فإن ذمة المفلس ما زالت قائمة، فإذا رجع البائع بعين ماله تعلق الغرماء بذمة المفلس. * دليل الشافعية على أن الموت لا يمنع من الفسخ: الدليل الأول: (ح-507) ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي بكر بن محمَّد بن عمرو ابن حزم، أن عمر بن عبد العزيز أخبره، أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام أخبره أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره (¬3). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من أدرك ماله بعينه) عام يشمل الحي كما يشمل الميت. ¬
واعترض
واعترض: بأن المفلس لم يجد متاعه بعينه عنده، وإنما وجده عند ورثته. ويجاب: بأنه لا حق للورثة في التركة إلا بعد الوصية والدين، كما قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، وهذا من الدين. الدليل الثاني: (ح-508) استدل الشافعي بما رواه من طريق ابن أبي ذئب، عن أبي المعتمر بن عمرو بن رافع، عن عمر بن خلدة الزرقي قال: أتينا أبا هريرة في صاحب لنا أفلس، فقال: لأقضين فيكم بقضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أفلس أو مات، فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به. وفي رواية: أيّما رجل مات أو أفلس وذكر نحوه. [أبو المعتمر مجهول العين] (¬1). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن فسخ البائع البيع، والرجوع بعين ماله لا يتوقف على رضا المفلس حتى يكون موته مؤثرًا، فإذا كان هذا الحق ثابتًا له، رضي المفلس أو لم يرض، ورضي الغرماء أو لم يرضوا لم يكن هناك فرق بين حياة المفلس وموته، وحقوق العباد مقدمة على حق الورثة. * الراجح: الذي أميل إليه هو ما ذهب إليه الشافعية والظاهرية أن البائع له حق الرجوع بعين ماله في حال حياة المفلس، وفي حال موته؛ لأنّ الذي ورد من التفريق بين حال الحياة والموت إما مرسل، أو منكر مخالف لما هو أصح منه، وحديث أبي هريرة في الصحيحين لم تذكر فيه هذه الزيادة، والله أعلم.
الشرط الرابع أن تكون السلعة بحالها لم تتغير
الشرط الرابع أن تكون السلعة بحالها لم تتغير المسألة الأولى أن تتغير السلعة بتحويلها إلى عين أخرى [م - 639] إذا تغيرت السلعة كما لو كان المبيع حنطة فطحنت، فهل يملك الباب الرجوع بعين ماله؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يمتنع رجوع البائع بالمبيع، وهو مذهب المالكية (¬1)، والحنابلة (¬2). القول الثاني: للبائع الرجوع إن لم تزد قيمة المبيع بالطحن، فإن زادت فالأظهر أن المبيع يباع، ويصبح المفلس شريكًا للبيع بقدر الزيادة؛ لأنها زيادة حصلت بفعل متقوم، فوجب ألا يضيع عليه. وهذا مذهب الشافعية (¬3). قال النوويّ: "إذا اشترى حنطة فطحنها، أو ثوبًا فقصره، أو خاطه بخيوط من ¬
وسبب الخلاف
نفس الثوب، ثم فلس، فللبائع الرجوع فيه، ثم إن لم تزد قيمته فلا شركة للمفلس، وإن نقصت فلا شيء للبائع، وإن زادت فقولان: أحدهما: أن هذه الزيادة أثر، ولا شركة للمفلس؛ لأنها صفات متابعة كسمن الدابة بالعلف ... وأظهرهما: أنها عين، والمفلس شريك بها؛ لأنها زيادة بفعل محترم متقوم، ويجري القولان فيما لو اشترى دقيقًا فخبزه، أو لحمًا فشواه، أو شاة فذبحها، أو أرضا فضرب من ترابها لبنها ... " (¬1). وسبب الخلاف: أن الحديث شرط لاستحقاق الرجوع أن يجد البائع المبيع بعينه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من أدرك ماله بعينه) فهل طحنه يصدق عليه أنه لم يجد المبيع بعينه مع أن المشتري لم يضف إليه أي عين أخرى، وإنما طحنه فقط. فمن نظر إلى أن العين قد تحولت، قال: إن البائع إذا وجد الدقيق مطحونًا فهو لم يدرك ماله بعينه. ومن نظر إلى المعنى، وهم الشافعية، قالوا: إن كان الطحن قد زاد في قيمة المبيع فإن المشتري يصبح شريكًا بقدر الزيادة، وإن كان المبيع لم تتغير قيمته كان للبائع الرجوع فيه؛ لأنّ المبيع موجود من غير زيادة، والله أعلم. ¬
المسألة الثانية أن تتغير السلعة بخلطها بعين أخرى
المسألة الثانية أن تتغير السلعة بخلطها بعين أخرى [م - 640] إذا تغير المبيع لإضافة عين أخرى له، كما لو خلط المفلس المبيع بغير جنسه، كقمح بشعير، فهل يملك البائع الرجوع بعين ماله؟ فقيل: ليس للبائع الرجوع، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). جاء في مغني المحتاج: "ولو كان المختلط من غير جنس المبيع كزيت بشيرج، فلا رجوع لعدم جواز القسمة لانتفاء التماثل، فهو كالتالف" (¬3). وقيل: له الرجوع إذا خلط بمتميز كقمح بشعير، وهو مذهب الحنابلة (¬4). * وجه قول الحنابلة: أن الخلط تارة لا يتميز بعضه عن بعض كما لو خلط زيتًا بزيت، فهنا لا رجوع؛ لأنه لم يجد عين ماله. وإن خلطه بما يتميز كما لو خلط برًا بحمص، أو قمحًا بشعير فإن له الرجوع؛ لأنّ الخليطين يمكن تمييز بعضهما عن بعض. ¬
المسألة الثالثة أن يتغير المبيع بحصول زيادة فيه
المسألة الثالثة أن يتغير المبيع بحصول زيادة فيه [م - 641] إذا زاد المبيع زيادة منفصلة من غير عين المبيع كالكسب والغلة فإن هذا لا يمنع من رجوع البائع، وتكون الزيادة للمفلس في مقابل ضمانه (¬1). واختار أبو بكر من الحنابلة أن الزيادة للبائع قياسًا على المتصلة. قال ابن قدامة: "والفرق ظاهر؛ لأنّ المتصلة تتبع في الفسوخ دون المنفصلة" (¬2). وإن كانت الزيادة متصلة، كالسمن، والكبر وتعلم صنعة ونحوها، فقد اختلف الفقهاء على قولين: القول الأول: الزيادة المتصلة لا تمنع من رجوع البائع، وهو مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، ورواية للحنابلة (¬5). * وجه ذلك: أن هذه الزيادة لما لم يجز إفرادها بالعقد أصحبت جزءًا من عين المبيع المستحق للبائع، فلا تمنع من الرجوع. ¬
القول الثاني
وقياسًا على الرد بالعيب. القول الثاني: تمنع الرجوع، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). * وجه قول الحنابلة: أن الزيادة المتصلة حدثت في ملك المفلس فلم يستحق البائع أخذها كالمنفصلة. ولأن النماء لم يصل إليه من جهة البائع فلم يستحق أخذه منه كغيره من أمواله. وهناك فرق بين الرجوع بسبب العيب، وبين الرجوع بسبب الإفلاس: قال ابن قدامة: "وفارق الرد بالعيب لوجهين: أحدهما: أن الفسخ فيه من المشتري، فهو راض بإسقاط حقه من الزيادة، وتركها للبائع بخلاف مسألتنا. والثاني: أن الفسخ تم لمعنى قارن العقد، وهو العيب القديم، والفسخ هنا لسبب حادث، فهو أشبه بفسخ النكاح الذي لا يستحق به استرجاع العين الزائدة ... " (¬2). وبهذا أكون قد أنهيت مباحث انفساخ العقد؛ لأنتقل بعد ذلك إن شاء الله تعالى إلى مسائل فسخ العقد، وقد رأيت أخي الكريم أن بعض المسائل السابقة هي محل نزاع، فبعض الفقهاء يراها من مسائل الانفساخ، وبعضهم يرى أن العاقد يكون له حق الفسخ، فتكون من مسائل الفسخ، والخطب سهل. ¬
الباب الثاني في الفسخ الاختياري للعقد
الباب الثاني في الفسخ الاختياري للعقد تكلمنا في الباب السابق عن انفساخ العقد، وهو ما ينشأ عن سبب طارئ غير إرادي، وهو ما سماه ابن رجب: الانفساخ الحكمي: كما لو استحال تنفيذ العقد بهلاك المعقود عليه. ونتكلم في هذا الباب عن فسخ العقد، وهو الفسخ الاختياري، وهو ما يترتب عن سبب إرادي كما في خيار الشرط والعيب ونحوهما.
الفصل الأول فسخ العقد بسبب فوات شرط من شروط البيع
الفصل الأول فسخ العقد بسبب فوات شرط من شروط البيع هناك شروط للبيع إذا فاتت بطل العقد فلا يرد عليه الفسخ، وذلك مثل اشتراط أهلية العاقد، فلو كان العاقد سفيهًا، أو مجنونًا، أو صبيًا غير مميز لم ينعقد العقد أصلًا، وبالتالي لا يرد الفسخ بفوات مثل هذا الشرط. ومثل ذلك اشتراط أن يكون المعقود عليه مالاً عند الجمهور، وعند الحنفية مالًا متقومًا، فلو فات هذا الشرط بأن كان المعقود عليه ليس بمال، كما لو عقد على حر، أو على خمر، أو على ميتة لم يرد الفسخ بفوات مثل هذا الشرط، لعدم انعقاد العقد في مثل هذه الحالة. ومثل ذلك أن يكون المعقود عليه معلومًا، فلو فات هذا الشرط بأن كان المعقود عليه مجهولًا لم يرد الفسخ بفوات مثل هذا الشرط لعدم انعقاد العقد في مثل هذه الحالة؛ لأنّ فوات مثل هذه الشروط توجب بطلان العقد، والعقد الباطل ليس محلًا للفسخ. وهناك شروط إذا فاتت كان فواتها محل خلاف بين الفقهاء هل ينفسخ العقد بفواتها أو لا ينفسخ؟ مثال فوات الشرط: أن يكون العاقد غير مالك للمعقود عليه، ولا مأذونًا له في التصرف. ومثال فوات شرط الرضا، كما لو أكره العاقد على العقد.
المبحث الأول فسخ العقد لفوات شرط الرضا
المبحث الأول فسخ العقد لفوات شرط الرضا [م - 642] سبق لنا أن الرضا شرط لصحة البيع، فلو أكره إنسان غيره على بيع ماله، وهدده بالضرب المؤلم أو الحبس إن لم يفعل، فهل ينعقد البيع؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: ينعقد البيع فاسدًا، وينقلب صحيحًا بالإجازة، وهذا مذهب الحنفية (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: البيع ينعقد صحيحًا غير لازم، فللمكرَّه الخيار بين إمضائه وبين فسخه، وهذا مذهب المالكية (¬1)، واختيار زفر من الحنفية (¬2). القول الثالث: لا ينعقد مطلقًا، وهذا مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقد ذكرنا أدلتهم في أحكام العاقدين فأغنى عن إعادته هنا. ¬
المبحث الثاني فسخ العقد لفوات شرط الملك للمعقود عليه
المبحث الثاني فسخ العقد لفوات شرط الملك للمعقود عليه الفرع الأول فسخ عقد الفضولي لفوات الإذن بالتصرف [م - 643] يشترط في البيع أن يكون العاقد مالكاً للمعقود عليه أو مأذوناً له فيه، فإذا تصرف في ملك غيره بيعاً وشراء بدون إذنه فإنه يقع على نوعين من التصرف: النوع الأول: أن يتصرف فيه لمالكه، وهذا ما يسمى لدى الفقهاء (تصرف الفضولي)، وهو محل البحث هنا. النوع الثاني: أن يتصرف في ملك الغير لحظ نفسه، وليس لحظ المالك، وهذا هو الغاصب، وله أحكام مستقلة ليس هذا موضع بحثها. فإذا باع الفضولي ملك غيره، فهل ينعقد البيع مع فقد شرط الملك والإذن بالبيع؟ اختلف العلماء في ذلك: فقيل: ينعقد بيع الفضولي، ويكون موقوفًا على إجازة المالك، فإن شاء أجازه المالك وإن شاء فسخ البيع.
الشرط الثاني
وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعي في القديم (¬3)، وأحمد في رواية عنه (¬4)، اختارها ابن تيمية (¬5)، وابن القيم (¬6). ¬
وقيل: بيعه باطل، وهو قول الشافعي في الجديد (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2)، واختيار ابن حزم (¬3). وقد ناقشنا أدلة الأقوال في مسألة سابقة فأغنى عن إعادتها هنا. ¬
الفرع الثاني فسخ عقد الصبي لفوات الإذن بالتصرف
الفرع الثاني فسخ عقد الصبي لفوات الإذن بالتصرف [م - 644] إذا باع الصبي أو اشترى من غير أن يأذن له وليه بذلك، فهل يصح تصرفه مطلقًا، أو يبطل مطلقًا، أو يكون موقوفًا على إجازة الوليّ بحيث لا نفوِّت على الصغير البيع الذي فيه مصلحة ظاهرة له، ولا نصححه مطلقًا بحيث قد يكون البيع ليس من مصلحته؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم: فقيل: يصح تصرفه، ويكون لوليه حق الفسخ إذا رأى مصلحته في ذلك، وإن أجازة الوليّ نفذ، وهو مذهب أبي حنيفة (¬1)، والمالكية (¬2). وقيل: لا يصح تصرفه إلا أن يكون مبنيًّا على إذن سابق من الوليّ، وهو مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا يصح تصرف الصبي مطلقًا، سواء كان مأذونًا له أو غير مأذون له، وسواء كان مميزًا أو غير مميز، وسواء في بيع الاختبار وفي غيره، وهذا مذهب الشافعية (¬4)، ......................... ¬
ورواية عن أحمد (¬1). وقد تكلمنا على هذه المسألة في أحكام العاقدين من المجلد الأول فانظره هناك مشكورًا. ¬
المبحث الثالث فسخ العقد لفوات شرط العلم بالمعقود عليه
المبحث الثالث فسخ العقد لفوات شرط العلم بالمعقود عليه [م - 645] هل يفسخ العقد إذا فات شرط العلم بالمعقود عليه؛ اختلف العلماء في ذلك. فقيل: يشترط أن يكون كل واحد من المتعاقدين عالمًا بالمعقود عليه قدرًا وصفة، فإن جهل أحدهما المبيع أو الثمن فسد البيع، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة (¬1). وأجاز بعض الحنفية أن يكون المبيع مجهولًا للبائع إذا كان المشتري عالمًا به، كما لو باع رجل حصته، وهو لا يعرف مقدارها، صح البيع، إلا أنه إن كان في البيع غبن ثبت له خيار الغبن (¬2). ¬
واختار بعض المالكية أنه لا يفسد البيع إلا إذا جهلاه معًا، أو جهله أحدهما وعلم الآخر بجهله، وأما إذا لم يعلم الآخر بجهله فلا يفسد البيع، ولكن يخير الجاهل بين إمضاء البيع وبين الفسخ (¬1). وقد اختار بعض الحنفية، والباجي من المالكية جواز بيع الشيء، ولو لم يعلم المشتري جنس المبيع فضلًا عن معرفة صفته، كما لو قال: بعتك ما في كمي إذا كان الخيار للمشتري بعد رؤيته للمبيع (¬2). وقد ذكرنا أدلة كل قول في الشرط الثالث من شروط المعقود عليه. فأغنى عن إعادته هنا. ¬
الفصل الثاني فسخ البيع بسبب عدم لزوم العقد
الفصل الثاني فسخ البيع بسبب عدم لزوم العقد المبحث الأول فسخ العقد بسبب وجود خيار في العقد [م - 646] إذا عرفنا الخيار في العقد: بأنه حق العاقد في فسخ العقد أو إمضائه لظهور مسوغ شرعي، أو بمقتضى اتفاق عقدي (¬1). فإننا نعرف بذلك الارتباط الوثيق بين الخيار والفسخ، فالخيار ما شرع إلا لأجل التحلل من رابطة العقد، فهو يحول العقد اللازم كعقد البيع إلى عقد جائز. وقولنا: الخيار في العقد: بأنه حق العاقد في فسخ العقد أو إمضائه يعني ذلك أن الخيار راجع إلى إرادة العاقد. والخيار بأنواعه المختلفة إنما شرع لدفع الضرر عن العاقد، وهذا الضرر تارة يكون متوقعًا، وتارة يكون واقعًا. أما دفع الضرر المتوقع، فشرع الله له خيار المجلس وخيار الشرط، وذلك لدفع ضرر يتوقع العاقد حصوله، فيستدركه في مجلس العقد، أو في مدة الخيار، ويتخلص منه، وذلك أن العقد قد يقع بغتة من غير ترو ولا نظر في القيمة، فاقتضت محاسن الشريعة أن يجعل للعقد خيار يتروى فيه العاقدان، ويعيدان النظر، ويستدرك كل واحد منهما ما فاته بأن يفسخ العقد قبل لزومه. ¬
وإما لدفع ضرر واقع، كخيار العيب، والتدليس، والنجش وتلقي الركبان، والشفعة ونحوهما، فإن الإنسان بطبيعته البشرية -كما أخبر الله عنه- ظلوم جهول، فقد يتعرض أحد العاقدين من الآخر للغش والتدليس أو غيرهما من أنواع الظلم، فجعل الشرع للعاقد الذي وقع تحت تأثير الغش والتدليس أن يدفع عنه هذا الضرر بثبوت الخيار له في هذه الحالة، فيفسخ العقد، ويتحلل من لزوم العقد، فكان ثبوت الخيار من محاسن التشريع التي لا بد منها لدفع الضرر، والله أعلم. فالغاية من مشروعية الخيار يرجع إلى سببين: إما التروي وجلب المصلحة، وإما تكملة النقص ودرء الضرر؛ لأنّ الخيار إما أن يكون من جهة العاقد، أو من جهة المعقود عليه. فإن كان الخيار من جهة العاقد: فهو خيار التروي: ويقال له: خيار النظر والتفكر في الأمر والتبصر في إمضاء البيع أو رده، وله سببان: أحدهما: المجلس. والثاني: الشرط، وهذا القسم هو الذي ينصرف إليه بيع الخيار عند إطلاقه في عرف الفقهاء. وإن كان من جهة المعقود عليه فهو خيار النقيصة: وهو ما موجبه ظهور عيب أو استحقاق، فيثبت بفوات أمر مظنون، نشأ الظن فيه من التزام شرعي، أو قضاء عرفي، أو تغرير فعلي. أو ظهور استحقاق في المبيع كتمه البائع (¬1). [م - 647] فمثلًا خيار المجلس: يرى الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، والظاهرية ¬
إلى أن كل واحد من العاقدين يملك فسخ العقد والرجوع عن البيع ما دام العاقدان في مجلس البيع لم يتفرقا بأبدانهما بمقتضى خيار المجلس. وقيل: البيع لازم، ولا يملك أحد العاقدين الرجوع عن العقد إلا برضا صاحبه، ولا يشرع خيار المجلس، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وقد تكلمنا عن أدلة الأقوال في كتاب الخيار فأغنى عن إعادتها هنا. [م - 648] وأما خيار الشرط، وهو خيار يشترطه أحد العاقدين أو كلاهما، بموجبه يكون لمن له الخيار الحق في فسخ العقد في خلال مدة معينة، فإن لم ينقضه نفذ (¬3). وقد ذهب الأئمة الأربعة إلى القول بخيار الشرط، وأن من اشترط الخيار له ¬
الحق في فسخ العقد بعد إبرامه (¬1). وقيل: لا يصح اشتراط الخيار للبائع، أو لهما، ويجوز اشتراطه للمشتري وحده، وهو قول ابن شبرمة، والثوري (¬2). وقيل: لا يصح اشتراط الخيار مطلقًا في عقد البيع إلا أن يقول أحدهما حين يبيع أو يبتاع: لا خلابة، ثم هو بالخيار ثلاثة أيام، وهذا اختيار ابن حزم (¬3). وقد تكلمنا عن أدلة الأقوال في كتاب الخيار فأغنى عن إعادتها هنا. [م - 649] وأما خيار العيب، فهو خيار متفق عليه بين أهل العلم. قال ابن قدامة: "متى علم -يعني المشتري- بالمبيع عيبًا، لم يكن عالمًا به، ¬
فله الخيار بين الإمساك والفسخ، سواء كان البائع علم العيب وكتمه، أو لم يعلم، لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافًا" (¬1). وإنما اختلفوا فيما لو رغب المشتري إمساك السلعة، فهل له أن يطالب بالأرش دون رضا البائع، فالجمهور على أنه ليس للمشتري أن يطالب بأرش العيب بدون رضا البائع، وهو رواية عن أحمد اختارها ابن تيمية (¬2). واختار الحنابلة في المشهور من المذهب أن المشتري غير بين الرد، وبين إمساك المبيع مع أخذ الأرش (¬3)، وبه قال إسحاق (¬4). وقد تكلمنا عن أدلة المسألة في كتاب الخيار فأغنى عن إعادتها هنا. [م - 650] وأما خيار الغبن. وذلك أن يبيع السلعة بأكثر مما جرت العادة أن الناس لا يتغابنون بمثله، أو يشتريها كذلك (¬5). والغبن إن كان يسيرًا فلا يؤثر في صحة المعاملة، وإن كان كثيرًا فهو محرم، وهل يعطي الحق للمغبون أن يفسخ العقد؟ ¬
أما إذا كان المشتري عالمًا بالغبن، وقد دخل على بينة فليس له الحق في فسخ العقد، وحكي في ذلك الإجماع (¬1). أما إذا كان الغبن لم يقع تحت رضا المشتري، فهل يثبت للمشتري الخيار إذا ثبت أنه قد غبن في البيع؟ في هذا خلاف بين العلماء: فقيل: له الخيار مطلقًا، وبه يفتى في مذهب الحنفية (¬2)، واختاره البغداديون من المالكية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة. وقيل: ليس له الخيار مطلقًا، وهذا مذهب الشافعية. قال النوويّ في المجموع: "قال أصحابنا: لا يثبت الخيار بالغبن، سواء أتفاحش أم لا" (¬4). وقيل: ليس له خيار إذا غبن إلا إذا وجد تغرير من البائع، أو كان الغبن في مال اليتيم، أو مال الوقف. وحكم بيت المال حكم مال اليتيم. ¬
قال ابن نجيم الحنفي: وهو جواب ظاهر الرواية (¬1)، وهو قول في مذهب المالكية (¬2). وقيل: ليس له خيار إلا في صورتين في بيع الاستئمان والاسترسال، أو يكون البائع بالغبن أو المشتري به وكيلًا أو وصيًا، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬3). والاستئمان والاسترسال: هما شيء واحد، كما ذكر العدوي في حاشيته على الخرشي (¬4). وهو أن يقول البائع: أنا لا أعلم قيمة سلعتي فاشتر سلعتي كما تشتري من غيري، أو يقول المشتري: أنا لا أعلم قيمة السلعة فبعني كما تبيع غيري، فيغبنه الآخر (¬5). وقيل: ليس له خيار إلا في ثلاث صور: في بيع المسترسل: وهو الجاهل بقيمة السلعة من بائع أو مشتر، ولا يحسن المماكسة. وفي زيدة الناجش: وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، ليضر المشتري. ¬
والفرق بين الاسترسال عند المالكية والحنابلة
وفي تلقي الجلب: إذا اشترى منهم، أو باع لهم، فلهم الخيار إذا هبطوا السوق، وعلموا أنهم قد غبنوا، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة (¬1). * والفرق بين الاسترسال عند المالكية والحنابلة: أن الاسترسال عند المالكية: هو أن يطلب المشتري أو البائع من الآخر أن يكون البيع بسعر السوق، فيكذب فيه، فموجب الرد بالغبن عندهم: جهل المشتري أو البائع بالقيمة، وكذب الآخر (¬2). وأما الاسترسال عند الحنابلة: أن يكون جاهلًا بالقيمة، ولا يحسن المماكسة، ولو لم يحصل كذب صريح من الطرف الآخر، ويثبت جهله إما بالبينة، وإما بقوله مع يمينه (¬3). وقيل: الغبن يبطل العقد من أصله، وهو قول داود الظاهري (¬4). وقد تم مناقشة أدلة هذه الأقوال مع بيان الراجح في كتاب الخيار فارجع إليه مشكورًا. [م - 651] وأما خيار فوات الوصف أو الشرط: فهو حق الفسخ لتخلف شرط صحيح، أو وصف مرغوب فيه اشترطه العاقد في المعقود عليه. ¬
مثال فوات الشرط: أن يبيعه بشرط الأجل، أو الرهن، أو الكفيل. ومثال فوات الوصف: أن يشتري دابة بشرط أن تكون صغيرة، أو حصانًا بشرط أن يكون عربيًا، أو طيرًا بشرط أن يكون معلمًا. وقد ذهب عامة الفقهاء إلى أن فوات الشرط الصحيح يجعل الخيار لصاحب الشرط، إن شاء أمضى البيع، وإن شاء فسخ. قال في الهداية: "فوات الشرط بمنزلة العيب" (¬1). وإذا كان فواته بمنزلة العيب أصبح يوجب فواته ما يوجبه وجود العيب من ثبوت الخيار لصاحبه. وقد نص الحنفية والشافعية والحنابلة على أن البائع لو اشترط على المشتري رهنًا، فامتنع المشتري، فإن البائع بالخيار إن شاء رضي بترك الرهن، وإن شاء فسخ البيع، ولا يجبر من شرط عليه ذلك القيام بما شرط لزوال الضرر بالفسخ (¬2). وقال المالكية: توقف السلعة حتى يقبض الرهن. وأما فوات الوصف المرغوب فإن الفقهاء كلهم متفقون على ثبوت الخيار إذا فات على صاحبه. ¬
قال ابن قدامة: "إذا اشترط المشتري في المبيع صفة مقصودة مما لا يعد فقده عيبًا صح اشتراطه، وصارت مستحقة، يثبت له خيار الفسخ عند عدمها، فمتى بان خلاف ما اشترطه فله الخيار في الفسخ، والرجوع بالثمن، أو الرضا به، لا نعلم بينهم في هذا خلافًا؛ لأنه شرط وصفًا مرغوبًا فيه، فصار بالشرط مستحقًا" (¬1). قال ابن عابدين: "لو اشترط دابة، فوجدها كبيرة ليس له الرد، إلا إذا اشترط صغرها فله الرد؛ لفوات الوصف المرغوب" (¬2). وقال الكرابيسي: "فوت الصفة في المبيع يوجب خيارًا، ولا يوجب غرمًا" (¬3). وقال القراف: "مهما شرط وصفًا يتعلق بفواته نقصان مالية ثبت الخيار بفواته" (¬4). وقال في نهاية الزين: "إذا شرط العاقد وصفًا مقصودًا، ككون العبد كاتبًا، وكون الأمة حاملًا، أو ذات لبن .. فيصح العقد مع ذلك الشرط؛ لأنه شرط يتعلق بمصلحة العقد، وهو العلم بصفات المبيع التي تختلف بها الأغراض، ويثبت لمشتر الخيار فورًا إذا لم يوجد الشرط الذي شرطه" (¬5). [م - 652] وأما خيار التدليس فهو أن يكتم عيب السلعة، أو يفعل ما يزيد ¬
به ثمنها، وإن لم يكن عيبًا كتحمير وجه الجارية، وتسويد شعرها، وتجعيده (¬1). وجاء في مجلة الأحكام الشرعية: "التدليس فعل ما يتوهم به المشتري أن في المبيع صفة توجب زيادة الثمن، أو كتمان العيب" (¬2). وقد ذهب عامة أهل العلم إلى أن البيع لا يبطل بالتدليس، وأن العقد صحيح مع الإثم، وللمشتري الخيار، إن شاء أمضى البيع، وإن شاء فسخ العقد، وإن اختار الإمساك أمسكه بلا أرش (¬3). وذهب داود بن علي إلى أن البيع باطل بالتدليس (¬4). وقد ذكرنا أدلة هذه المسألة في كتاب الخيار، فأغنى عن إعادته. ¬
وأما خيار الرؤية: فهو حق يثبت به للتملك الفسخ، أو الإمضاء عند رؤية محل العقد المعين الذي عقد عليه ولم يره (¬1). ومن هنا يظهر ارتباط هذا الخيار في بيع السلعة المعينة الغائبة التي لم يسبق لها رؤية، فالقول بخيار الرؤية إيجابًا ونفيًا مرتبط كل الارتباط بجواز بيع الغائب المعين صحة وفسادًا، فالذين منعوا بيع الشيء المعين إذا كان غائبًا لا يثبتون خيار الرؤية، والذين أجازوه لم يمنعوا من ثبوت هذا الخيار [م - 653] وقد اختلف الفقهاء في إثبات خيار الرؤية للمبيع إذا اشترى المشتري شيئًا معينًا لم يره. فقيل: يثبت خيار الرؤية بحكم الشرع، دون حاجة إلى اشتراط، سواء بيع الغائب بلا وصف ولا رؤية، أو بيع بالوصف فقط، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، ورواية عن أحمد اختارها ابن تيمية (¬3). وقيل: إذا بيع المعين بلا وصف ولا رؤية، لم يصح العقد إلا بشرط خيار الرؤية. وإن بيع الغائب بالوصف صح، ولو لم يشترط الخيار، وإن جاء مطابقًا للموصوف فلا خيار للمشتري إلا أن يشترطه، وهذا مذهب المالكية (¬4). ¬
وقيل: يثبت الخيار للمشتري إن باعه بالوصف، وله الخيار إذا رآه وإن وجده كما وصف، وهو قول في مذهب الشافعية (¬1)، وعللوا ذلك: بأن الخبر ليس كالمعاينة. وقيل: لا يثبت خيار الرؤية مطلقًا، لا بحكم الشرع، ولا عن طريق الاشتراط، وهذا هو القول الراجح في مذهب الشافعية (¬2)، ومذهب الحنابلة (¬3)، واختار القاضي أبو محمَّد البغدادي من المالكية (¬4). وقد ذكرنا أدلتهم في كتاب الخيار، فانظره هناك مشكورًا. وهكذا بقية الخيارات تعطي الحق في الجملة لمن ثبت له الخيار حق فسخ العقد، وقد جعلت كتابًا خاصًا في الخيار في البيع، وتكلمت عن أنواع الخيار، وما يوجبه كل نوع، وما هي العقود التي يثبت فيها، فأغنى عن إعادتها هنا، ولله الحمد في الأولى والآخرة. ¬
المبحث الثاني الفسخ بسبب كون العقد من العقود الجائزة
المبحث الثاني الفسخ بسبب كون العقد من العقود الجائزة [م - 654] تكلمنا في المبحث السابق عن الخيار كسبب من أسباب الفسخ؛ لأنّ الخيار يحول العقد اللازم إلى عقد جائز بإرادة المتعاقد. وهناك عقود تكون طبيعتها الجواز وعدم اللزوم فهنا يجوز لأحد العاقدين أو كليهما أن يستقل بالفسخ مثل العارية، والقرض، والوديعة، والوكالة ونحوها من العقود غير اللازمة، وذلك لأنها مبنية على التبرع إلا أنه يشترط ألا يتضمن فسخ العقد إضرارًا بالطرف الآخر، فإن العقد الجائز قد يتحول إلى عقد لازم إذا تضمن فسخ العقد إضرارًا بالعاقد الآخر. يقول ابن رجب: "التفاسخ في العقود الجائزة متى تضمن ضررًا على أحد المتعاقدين أو غيرهما ممن له تعلق بالعقد لم يجز ولم ينفذ إلا أن يمكن استدراك الضرر بضمان أو نحوه فيجوز على ذلك الوجه" (¬1). ثم ساق أمثلة على تلك القاعدة: وقال الزركشي في المنثور: "العقود الجائزة إذا اقتضى فسخها ضررًا على الآخر امتنع، وصارت لازمة، ولهذا قال النوويّ: للوصي عزل نفسه، إلا أن يتعين عليه، أو يغلب على ظنه تلف المال باستيلاء ظالم من قاض (وغيره). قلت ويجري مثله في الشريك والمقارض ... " (¬2). ¬
وجاء في الموسوعة الكويتية: "العقود الجائزة (غير اللازمة) كالعارية، والوصية، والشركة، والمضاربة، والوكالة، الوديعة، عقود غير لازمة، وعدم لزومها يبيح الرجوع فيها إذا توافرت الشروط المعتبرة التي حددها الفقهاء كشرط نضوض رأس المال في المضاربة، وشرط علم الطرف الآخر بالفسخ، وشرط عدم الضرر في الرجوع، فمن استعار أرضا للزراعة، وأراد المعير الرجوع، فإن الرجوع الفعلي يتوقف حتى يحصد الزرع، ومن أعار مكانا لدفن، وحصل الدفن فعلا فلا يرجع المعير في موضعه حتى يندرس أثر المدفون، كما أن العارية المقيدة بأجل أو عمل عند المالكية لا رجوع فيها حتى ينقضي الأجل أو العمل" (¬1). ¬
الفصل الثالث فسخ البيع بسبب الاختلاف بين المتعاقدين
الفصل الثالث فسخ البيع بسبب الاختلاف بين المتعاقدين العقد الذي اختلف فيه المتبايعان، ولم يكن لأحدهما بينة توجب قوله، فإن ذلك الاختلاف قد يوجب فسخ العقد في الجملة، وحين نقول في الجملة؛ لأنّ الاختلاف الواقع بين العاقدين يأخذ أحكامًا مختلفة، فهناك من الاختلاف ما يكون القول فيه للبائع، وهناك من الاختلاف ما يكون القول فيه للمشتري، وهناك من الاختلاف ما يوجب تحالف المتعاقدين، ثم يفسخ العقد إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر، والقول بالفسخ تجده قولاً ضمن أقوال كثيرة في المسألة الواحدة، فالذي يريد أن يقف على مسائل الفسخ الذي يوجبها اختلاف المتعاقدين يجب عليه أن يراجع مسائل اختلاف المتعاقدين مسألة مسألة، وقد تم بحثها ولله الحمد والمنة، وإنما أسوق لك أمثلة تدل على المقصود. * المثال الأول: الاختلاف في صفة العقد. [م - 655] إذا اختلف المتعاقدان في صفة العقد، كأن يدعي أحدهما أن العقد على البت واللزوم، ويدعي الآخر أن العقد فيه خيار، فمذهب الشافعية (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2) يرون أنهما يتحالفان، ثم يفسخ البيع. فبناء على هذا القول يكون الاختلاف في هذه المسألة مما يوجب الفسخ. ¬
مثال الآخر: الخلاف في وجود أجل في عقد البيع.
بينما يرى الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3)، أن القول قول المنكر مع يمينه. وقال أشهب من المالكية: القول قول مدعي الخيار (¬4). وبناء على هذين القولين الأخيرين لا يكون هذا الاختلاف موجبًا للفسخ. وقد ذكرنا أدلة الأقوال في مباحث اختلاف المتبايعين. * مثال الآخر: الخلاف في وجود أجل في عقد البيع. [م - 656] إذا اختلف المتبايعان في اشتراط الأجل، فأحدهما يدعي أن الثمن مؤجل، والآخر يقول: بل حال، فقد اختلف الفقهاء: فمذهب الشافعية (¬5)، ..................... ¬
وقول زفر من الحنفية (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2)، أنهما يتحالفان، ثم يفسخ البيع، وهو مذهب المالكية إلا أنهم يشترطون أن تكون السلعة قائمة (¬3). وبناء على هذا القول يكون الاختلاف مما يوجب الفسخ. وذهب الحنفية، إلى أن القول قول من ينفيه (¬4)، وهو المذهب عند الحنابلة (¬5). وبناء على هذا القول لا يكون هذا الاختلاف موجبًا للفسخ. وهكذا بقية اختلاف المتبايعين، فالاختلاف مما يوجب الفسخ في الجملة، ولذا أشرت إليه ها هنا، ومن يحب أن يقف على مسائل الاختلاف، مع أدلتها التفصيلية فليراجع باب اختلاف المتبايعين في آخر كتاب الخيار، فيقف على كل مسأله بعينها، وهل هي مما يوجب الفسخ أولًا؟ والله أعلم. ¬
الفصل الرابع فسخ العقد بسبب ثبوت النهي عنه
الفصل الرابع فسخ العقد بسبب ثبوت النهي عنه [م - 657] إذا كان النهي عن العقد عائدًا إلى ذات المنهي عنه، وكان الحق فيه لله -سبحانه وتعالى- فإن البيع باطل، وهذا يعني أن العقد لم ينعقد أصلًا، فهو في حكم المعدوم، وقد سبق لي أن أشرت إلى الفرق بين البطلان والانفساخ. وأما إذا كان النهي لا يعود إلى البيع نفسه، وإنما النهي يتعلق بأمر خارج يعود إلى العاقدين أو أحدهما، أو يعود لأمر خارج عنهما فهل يفسخ العقد في هذه الحالة؟ هذا ما سوف نستكشفه إن شاء الله تعالى في هذا الفصل، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
المبحث الأول فسخ العقد بسبب بيع الرجل على بيع أخيه
المبحث الأول فسخ العقد بسبب بيع الرجل على بيع أخيه [م - 658] ذهب المالكية في أحد القولين إلى أن من باع على بيع أخيه، أو اشترى على شرائه فالبيع مفسوخ ما لم يفت (¬1)، وقد أنكر بعض أصحاب مالك هذه الرواية عنه (¬2). قال ابن عبد البر: "أنكر ابن الماجشون ذلك -يعني فسخ البيع ما لم يفت- أن يكون قاله مالك في البيع، وإنما قال ذلك في نكاح الذي يخطب على خطبة أخيه ... " (¬3). وجاء في الفواكه الدواني: "ولمالك قولان في النهي، هل على الكراهة، أو الحرمة؛ والفسخ على الثاني دون الأول؛ والمعتمد الحرمة ... " (¬4). ¬
وجه كون العقد صحيحا
وذهب الجمهور (¬1)، إلى تحريم البيع على بيع أخيه، والشراء على شرائه، والبيع صحيح. ونسب ابن عبد البر هذا القول للجمهور (¬2). * وجه كون العقد صحيحًا: أن النهي عنه لا يرجع إلى ذات البيع، وإنما لما يلحق هذا التصرف من الأذى والضرر، وهو أمر خارج عن العقد. قال الكاساني: "والنهي لمعنى في غير البيع، وهو الإيذاء، فكان نفس البيع مشروعًا، فيجوز شراؤه، ولكن يكره" (¬3). وعلل ابن عبد البر الصحة بأن البيع على البيع إنما يكون قبل أن يتم البيع الأول، وقد كان لكل واحد منهما ألا يتمه إن شاء، وكان ابن عبد البر يرى أن النهي عن البيع على بيع أخيه إنما يكون ذلك قبل لزوم البيع (¬4). وقد سبق لنا ذكر أدلة الأقوال في باب موانع البيع فأغنى عن إعادته هنا. ¬
المبحث الثاني فسخ العقد بسبب بيع الحاضر للبادي
المبحث الثاني فسخ العقد بسبب بيع الحاضر للبادي [م - 659] ثبت النهي عن بيع الحاضر للباد، فإذا باع هل يفسخ البيع؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: فقيل: يفسخ البيع ما لم يفت المبيع، فإن فات فالبيع ماض بالثمن وقت العقد. وهذا مذهب المالكية (¬1). القول الثاني: العقد صحيح، ولا يوجب النهي فساد البيع، ولا يقتضي ذلك فسخه، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، وقول في مذهب المالكية (¬4)، ورواية عن أحمد (¬5). ¬
القول الثالث
القول الثالث: العقد باطل، وعليه فلا يرد عليه فسخ، ولا تلحقه إجازة، وهذا مذهب الحنابلة (¬1)، والظاهرية (¬2). وقد سبق لنا الكلام في بيع الحاضر للباد في موانع البيع، وذكرنا أدلتهم، والقول الراجح، فأغنى عن إعادته هنا. ¬
المبحث الثالث فسخ العقد بسبب النجش
المبحث الثالث فسخ العقد بسبب النجش [م - 660] النجش: "أن يستام السلعة بأزيد من ثمنها وهو لا يريد شراءها بل ليراه غيره فيقع فيه" (¬1). وهو محرم بالإجماع (¬2). وإذا وقع هل يفسخ العقد بسبب النجش؟ اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: للمشتري فسخ العقد بشرط أن يكون وقع في الغبن بسبب النجش وله التمسك بالمبيع، وهذا مذهب الحنابلة (¬3)، واختاره ابن حزم (¬4). القول الثاني: إذا لم يعلم البائع بالناجش، فلا خيار للمشتري مطلقًا، وإن علم البائع بالناجش وسكت فللمشتري الفسخ إن كان المبيع قائمًا، وله التمسك به، وإن فات المبيع فالواجب القيمة، وهذا مذهب المالكية (¬5)، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬6). ¬
القول الثالث
القول الثالث: لا خيار له مطلقًا، سواء أكان فعل الناجش بمواطأة من البائع أم لا، وهذا ظاهر مذهب الحنفية (¬1)، والصحيح من مذهب الشافعية (¬2). القول الرابع: يبطل، وهو قول في مذهب الحنابلة، اختاره أبو بكر منهم (¬3). وقد تكلمنا عن أدلة هذه المسألة في باب موانع البيع فأغنى عن ذكرها هنا، ولله الحمد. ¬
المبحث الرابع فسخ العقد بسبب البيع بعد نداء الجمعة الثاني
المبحث الرابع فسخ العقد بسبب البيع بعد نداء الجمعة الثاني [م - 661] البيع بعد نداء الجمعة محرم، والعلماء مجمعون على تحريمه، والسؤال: لو أن البيع وقع، فهل نحكم على البيع بالبطلان، أو نقول: يحرم البيع مع صحة العقد ولزومه؟ فذهب المالكية إلى أن البيع يفسخ ما لم يفت، وهذا ذهاب منهم إلى أن العقد قد انعقد فاسدًا (¬1). وذهب الحنابلة بأن العقد لم ينعقد (¬2). وقيل: يصح العقد مع كون العقد محرمًا، وهذا القول هو مذهب الحنفية (¬3)، ¬
والشافعية (¬1)، وبعض المالكية (¬2). وقد سبق لنا ذكر أدلة الأقوال في كتاب موانع البيع فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله وحده. ¬
الباب الثالث انفساخ العقد بالإقالة
الباب الثالث انفساخ العقد بالإقالة تمهيد تعريف الإقالة تعريف الإقالة في الاصطلاح (¬1): تعريف الحنفية: عرفها الحنفية بأنها رفع العقد (¬2). فيدخل في ذلك رفع عقد البيع، وعقد الإجارة، ونحوهما. وهذا أحسن من قول بعض الحنفية: الإقالة: رفع البيع (¬3). ¬
فنأخذ من التعريف
وقد جاء في حاشية ابن عابدين: "واعترضه في النهر بأن مراده بالعقد: عقد البيع. قلت: تخصيصه بالبيع لكون الكلام فيه، وإلا فهو تعريف للإقالة مطلقًا؛ لأنّ حقيقتها في الإجارة لا تخالف حقيقتها في البيع ... ونظيره النية مثلًا، تذكر في باب الصلاة ونحوها، وتعرف بالقصد، الشامل للصلاة وغيرها، فافهم (¬1). كما جاء في البحر الرائق: "وأما معناها -يعني الإقالة: ... فهي رفع العقد، كذا ذكره في الجوهرة، وهو تعريف للأعم، من إقالة البيع، والإجارة، ونحوهما. وإن أردت خصوصها، فقل: رفع عقد البيع" (¬2). "والمراد بالعقد: القابل للفسخ بخيار ... بخلاف النكاح" (¬3). وقال في الجوهرة النيرة: "وخص البيع؛ لأنّ النكاح، والطلاق، والعتاق لا يقبلها" (¬4). قال في فتح القدير: "الإقالة: بيان كيف يرفع العقد، وهو يستدعي سابقة ثبوته" (¬5). فنأخذ من التعريف: أولًا: أن الإقالة: رفع العقد، والمقصود بالعقد القابل للفسخ. وهو عقد المعاوضة المالي. ¬
تعريف المالكية
ثانيًا: أن العقد هو العقد اللازم، سواء كان لازمًا للعاقدين أو أحدهما؛ لأنّ الرفع كما قال ابن الهمام: يستدعي سابقة الثبوت (¬1). ولأن العقد الجائز، أو اللازم قبل لزومه كما لو كان فيه شرط خيار، يكتفى بجوازه فلا حاجة إلى الإقالة فيه، وكذلك لا حاجة إلى الإقالة زمن خيار المجلس عند من يثبته؛ لأنّ الإقالة لا تكون إلا بعد تمام العقد ولزومه، ووقت خيار العقد لم يكن العقد لازمًا. ولابد من إضافة قيد آخر (أن يكون الرفع لغير موجب)؛ لأنّ الرفع إذا كان هناك ما يوجبه، كما في ثبوت عيب، أو غبن، أو حجر لا يسمى ذلك إقالة. تعريف المالكية: عرفها بعضهم: "ترك المبيع لبائعه بثمنه. قوله (ترك المبيع) هذا جنس للإقالة، وتأمل كيف تدخل فيه الإقالة من بعض المبيع، إلا أن يقال إنما حد الإقالة المطلقة، وفيه بحث. وقوله: (لبائعه) أخرج به ما إذا تركه لغير بائعه. قوله: (بثمنه) أخرج به ما لو تركه بثمن آخر، فإنه بيع آخر، وخرج أيضًا ما إذا تركه له هبة بغير عوض" (¬2). وقيل في تعريفها: " رجوع كل من العوضين لصاحبه، فيرجع الثمن للمشتري، والمثمون للبائع" (¬3). ¬
تعريف الإقالة عند الشافعية
تعريف الإقالة عند الشافعية: " الإقالة: وهي ما يقتضي رفع العقد المالي بوجه مخصوص" (¬1). تعريف الإقالة عند الحنابلة: عرفها ابن قدامة: بأنها الرفع والإزالة (¬2). وأكمل التعريفات، وأتمها هو تعريف الحنفية، والله أعلم. ¬
الفصل الأولى في مشروعية الإقالة
الفصل الأولى في مشروعية الإقالة أجمع العلماء على مشروعية الإقالة، وأنها مستحبة. ومستند الإجماع: (ح-509) ما رواه أبو داود في سننه، قال: حدثنا يحيى بن معين حدثنا حفص عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من أقال مسلما أقال الله عثرته (¬1). وفي رواية: من أقال نادمًا. [صحيح] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الفصل الثاني في حقيقة الإقالة
الفصل الثاني في حقيقة الإقالة الإقالة: رفع عقد البيع وإزالته (¬1). [م - 662] إذا تم إنهاء العقد السابق بلفظ الفسخ أو الرد، أو الترك، ولم يذكر لفظ الإقالة فإن الإنهاء بهذه الصور لا يكون بيعًا. وإن كان إنهاء العقد الأول بلفظ البيع، كما لو قال: بعني ما اشتريت مني، فهو بيع على الصحيح، وحكاه جمع من الحنفية إجماعًا (¬2). ويخرق دعوى الإجماع ما قاله السيوطي في الأشباه والنظائر، قال: "لو باع المبيع للبائع قبل قبضه بمثل الثمن الأول، فهو إقالة بلفظ البيع، ذكره صاحب التتمة، وخرجه السبكي على القاعدة. قال: ثم رأيت التخريج للقاضي حسين. قال: إن اعتبرنا اللفظ لم يصح، وإن اعتبرنا المعنى فإقالة" (¬3). وكذلك الحنابلة صححوا الإقالة بلفظ البيع، وبلفظ الصلح (¬4). وأجاز المالكية الإقالة في بعض الصور بغير لفظ الإقالة. جاء في مواهب الجليل: "وإن أسلمت إلى رجل في طعام، ثم سألك أن توليه ذلك، ففعلت جاز ذلك إذا نقدك، وتكون إقالة، وإنما التولية لغير البائع. ¬
قال أبو الحسن قال عياض: فأجاز الإقالة بغير لفظها، وهم لا يجيزونها بلفظ البيع ابن محرز؛ لأنّ لفظ التولية لفظ رخصة، ولفظ الإقالة مثله، فعبر بأحدهما عن الآخر بخلاف البيع" (¬1). [م - 663] أما إذا تم إنهاء العقد الأول بلفظ الإقالة، فقد اختلف العلماء في توصيف الإقالة إلى قولين: القول الأول: أن الإقالة فسخ، اختاره زفر من الحنفية (¬2)، وبعض المالكية (¬3)، والقول الجديد للشافعي، وهو المشهور عندهم (¬4)، والمذهب عند الحنابلة (¬5)، فإن تعذر حملها على الفسخ امتنعت. واختار أبو حنيفة أنها فسخ في حق العاقدين فقط، بيع جديد في حق شخص ثالث غيرهما (¬6). ¬
واختار محمَّد بن الحسن أن الإقالة فسخ إلا إذا تعذر حملها على الفسخ، فتجعل بيعًا للضرورة (¬1). القول الثاني: أن الإقالة بيع جديد، وهذا القول هو مذهب المالكية (¬2)، والقول القديم ¬
للشافعي (¬1)، ورواية عند الحنابلة (¬2)، وهو اختيار ابن حزم (¬3). واختار أبو يوسف أن الإقالة بيع في حق العاقدين وغيرهما إلا أن يتعذر جعلها بيعًا، فتكون فسخًا (¬4). * وجه من قال: الإقالة فسخ فإن لم يمكن الفسخ بطلت: الوجه الأول: أن لفظ الإقالة: هو رفع العقد وفسخه، فإذا كانت رفعًا فإنه لا يمكن أن تكون بيعًا؛ لأنّ البيع إثبات، والرفع نفي، وبينهما تناف. أو بعبارة أخرى: "ما يصلح للحل، لا يصلح للعقد، وما يصلح للعقد لا يصلح للحل، فلا تنعقد الإقاله بلفظ البيع، ولا البيع بلفظ الإقالة". الوجه الثاني: أن البيع والإقالة اختلفا اسمًا، فيجب أن يختلفا حكمًا، ولأن الأصل إعمال الألفاظ في حقائقها، فإن تعذر ذلك حملت على المجاز إن أمكن، وهنا لا ¬
يمكن أن يحمل لفظ الإقالة على ابتداء العقد؛ لأنه ضده، واللفظ لا يحتمل ضده، فتعذر بذلك جعلها بيعًا. الوجه الثالث: أن الإقالة لا تصح إلا مع البائع، ولو كانت بيعًا لصحت مع غيره. الوجه الرابع: أن المبيع يعود إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع، ولو كانت الإقالة بيعًا لانعقد البيع بلفظها. الوجه الخامس: أن الإقالة تصح في بيع السلم قبل قبض المسلم فيه، مع أنه لا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه. وقد بحثت مسألتي (بيع المسلم فيه قبل قبضه) في باب التصرف في الدين (والإقالة في بيع السلم) في عقد السلم، فالحمد لله. * وجه من قال: الإقالة فسخ فإن تعذر حملها على الفسخ كانت بيعًا: أن الإقالة تعني الرفع والفسخ، وهذا هو الأصل، إلا أنه إذا تعذر حملها على الحقيقة، فإنها تحمل على البيع ضرورة، كما لو كانت الإقالة بأكثر من الثمن الأول، فإنه لا يمكن أن تكون الإقالة هنا فسخًا؛ لأنّ من شأن الفسخ أن يكون بالثمن الأول، وهنا أقاله بأكثر من الثمن الأول، فتحمل على البيع ضرورة، فإن تعذر حملها عليهما -أي على الفسخ، وعلى البيع- امتنعت كما لو كانت الإقالة بعد هلاك المبيع، أو كانت الإقالة قبل قبض المبيع بأكثر من الثمن الأول.
* وجه من قال: الإقالة فسخ في حق العاقدين فقط، بيع في حق الثالث: لم نعتبر الإقالة بيعًا في حق المتعاقدين؛ لأنه لا يمكن إظهار معنى البيع في الفسخ في حق العاقدين للتنافي بين البيع والفسخ. وأما في حق ثالث فليس هناك منافاة، وكونه بيعًا في حق الثالث أمر ضروري؛ لئلا يفوت مقصود الشارع في بعض الصور، وذلك مثل الشفعة، فإنها تثبت في البيع، ولا تثبت في الفسخ، وإذا كانت الشفعة إنما شرعت لدفع ضرر الجوار، أو الخلطة، فإذا فرض ثبوت ذلك في عود المبيع إلى البائع، ولم يثبت حق الشفعة تخلف مقصود الشارع (¬1). * وجه من قال: إن الإقالة بيع مستأنف: أن معنى البيع موجود فيها، إذ حقيقتها مبادلة مال بمال، وهو أخذ بدل، وإعطاء بدل، فكانت الإقالة بيعًا، والعبرة بالعقود بالمعاني، لا بالألفاظ والمباني؛ ولهذا أعطيت حكم البيع في كثير من الأحكام: منها: اشتراط رضا المتعاقدين على الإقالة. ومنها: قيام المبيع وقت الإقالة، فإن هلك المبيع امتنعت الإقالة. ومنها: أن للبائع الرد بعد الإقالة بالعيب الحادث عند المشتري. ومنها: أن الإقالة لا تجوز في المبيع المنقول قبل قبضه. * وجه من قال: الإقالة بيع إلا أن يتعذر حملها على البيع فتكون فسخًا دليلهم على كونها بيعًا هي أدلة القول السابق، إلا أنه إذا تعذر حملها على البيع، كما لو كانت الإقالة في مبيع منقول قبل قبضه، فإنه لا يمكن حملها على ¬
البيع لأنّ ذلك يؤدي إلى بيع المنقول قبل قبضه، وهذا ممتنع على مذهب أبي يوسف، فتحمل على الفسخ في هذه الصورة، وفي أمثالها مما يكون البيع فيه غير جائز، والله أعلم. * الراجح: الذي أميل إليه أن الإقالة فسخ بشرط أن تكون بمثل الثمن الأول، فإن كانت بأكثر منه، أو بأقل، أو بثمن مختلف عن الثمن الأول فإنها بيع من البيوع يشترط فيها ما يشترط في البيع، فإن قيل: كيف تعتبر فسخًا في حال، وبيعًا في حال، وحقيقتها واحدة؟ فالجواب: أن الأصل أنها فسخ لما كان ذلك يؤدي إلى رفع العقد، ورجوع المبيع إلى البائع، والثمن إلى المشتري، ولكن لما اختلف الحال، بأن كان الثمن بأكثر من الثمن الأول علمنا أن العاقدين لم يريدا من لفظ الإقالة الفسخ، وإنما أرادا والله أعلم عقدًا آخر ولكنهما استعملا لفظ الإقالة، والعبرة في العقود بالمعاني، فلو قال: وهبتك هذا بعشرة كان بيعًا، وإن استعمل لفظ الهبة؛ لأنه حين ذكر العوض خرج من حقيقة الهبة إلى حقيقة المعاوضة، والله أعلم.
المبحث الأول ثمرة الخلاف في حقيقة الإقالة
المبحث الأول ثمرة الخلاف في حقيقة الإقالة عرفنا أن الخلاف بين العلماء في تكييف الإقالة راجع إلى قولين: أحدهما: يرى الإقالة بيعًا. والثاني: يرى الإقالة فسخًا. فإن قلنا: إن الإقالة بيع، فإنها يثبت لها ما يثبت للبيع من أحكام. وإن قلنا: إن الإقالة فسخ، لم يثبت لها أحكام البيع، وسوف نذكر بعض هذه الأحكام على وجه الإجمال؛ لأننا قد قدمنا أدلة من يرى أنها بيع، وأدلة من يرى أنها فسخ، فلا حاجة لإعادته في كل مسألة من هذه المسائل.
المبحث الثاني الإقالة هل هي رفع للعقد من أصله أو من حينه
المبحث الثاني الإقالة هل هي رفع للعقد من أصله أو من حينه [م - 664] الإقالة على القول بأنها بيع، كما هو مذهب المالكية، واختيار أبي يوسف من الحنفية. فهو بيع مستأنف وهذا ظاهر لا إشكال فيه، لكن على القول بأن الإقالة فسخ (رفع للعقد)، هل هي رفع للعقد من أصله، أو من حين الاتفاق على الإقالة؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: الإقالة رفع للعقد من أصله، وهو مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: رفع للعقد من حينه، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬2)، والمذهب عند الحنابلة، واختاره ابن تيمية (¬3). وقد ذكرت هذه المسألة بأدلتها في مبحث سابق، فأغنى عن إعادتها هنا. * والراجح: أن الفسخ من حين الإقالة، وليس من أصل العقد؛ لأنّ الإقالة لا ترد إلا على عقد صحيح، فيكون الفسخ طارئًا على العقد، فلا يعتد إلا من حدوثه. ¬
وثمرة الخلاف في هذه المسألة، هو استحقاق النماء المنفصل في المقال فيه: فمن قال: إن الإقالة فسخ للعقد من الأصل، رأى أن الزيادة المتصلة غير المتولدة، كالصبغ للثوب، وكذلك النماء المنفصل المتولد كالولد والثمرة يمنعان من الإقالة. ومن رأى أن الإقالة فسخ للعقد من حينه جعل النماء المنفصل غير تابع للمقال فيه في وجوب الرد؛ لأنه حدث في ملك المشتري، فيكون من حقه.
المبحث الثالث خيار المجلس في الإقالة
المبحث الثالث خيار المجلس في الإقالة [م - 665] من المعلوم أن خيار المجلس لا يقول به من فقهاء المذاهب إلا الشافعية والحنابلة، ولما كان الشافعية والحنابلة في المشهور عنهم: يرون أن الإقالة فسخ لم يثبتوا خيار المجلس في عقد الإقالة (¬1). قال في الإنصاف: "ومنها الإقالة، فلا يثبت فيها خيار المجلس على الصحيح من المذهب؛ لأنّها فسخ، وإن قلنا: إنها بيع ثبت" (¬2). وقال ابن رجب في القواعد: "هل يثبت فيها خيار المجلس؟ إن قلنا: هي فسخ لم يثبت الخيار، وإن قلنا: هي بيع، ففي التلخيص: يثبت الخيار كسائر البيوع، ويحتمل عندي ألا يثبت أيضًا؛ لأنّ الخيار وضع للنظر في الحظ، والمقيل قد دخل على أنه لا حظ له، وإنما هو متبرع، والمستقيل لم يطلب الإقالة بعد لزوم العقد إلا بعد ترو ونظر، وعلم بأن الحظ له في ذلك، وندم على العقد الأول، فلا يحتاج بعد ذلك إلى مهلة لإعادة النظر، والله أعلم" (¬3). ¬
المبحث الرابع البيع بلفظ الإقالة
المبحث الرابع البيع بلفظ الإقالة [م - 666] الحكم الثالث: قال ابن رجب: "تصح الإقالة بلفظ الإقالة والمصالحة إن قلنا: هي فسخ، ذكره القاضي وابن عقيل وإن قلنا هي بيع لم ينعقد بذلك صرح به القاضي في خلافه، قال: ما يصلح للحل لا يصلح للعقد، وما يصلح للعقد لا يصلح للحل، فلا ينعقد البيع بلفظ الإقالة، ولا الإقالة بلفظ البيع. وظاهر كلام كثير من الأصحاب انعقادها بذلك وتكون معطاة" (¬1). وسوف يأتي إن شاء الله مزيد بحث عند الكلام على صيغ الإقالة، فانظره هناك لمزيد من المعلومات. ¬
المبحث الخامس الإقالة قبل قبض المبيع
المبحث الخامس الإقالة قبل قبض المبيع [م - 667] سبق لنا الخلاف في حكم بيع الشيء قبل قبضه، فهناك من يمنع بيع كل شيء قبل قبضه، كما هو مذهب الشافعية. وهناك من يمنع بيع المنقول قبل قبضه بخلاف العقار، كما هو مذهب الحنفية. وهناك من يمنع بيع الطعام المكيل أو الموزون قبل قبضه، ويجيز بيع الجزاف قبل قبضه، وهو المشهور من مذهب المالكية، والحنابلة. وقد سبق تحرير ذلك ومناقشته، وبيان الراجح. فمن رأى أن الإقالة فسخ، لم يمنع من الإقالة قبل قبض المبيع، ولا بيع المقال فيه قبل قبضه. وهذا ما ذهب إليه أكثر الحنفية (¬1)، ومذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). ¬
قال النوويّ: "لو باع سلعة، وتقابضا، ثم تقايلا، وأراد البائع بيعها قبل قبضها من المشتري، فالمذهب صحته، قال صاحب البيان: قال أصحابنا البغداديون: يصح بيعه قطعًا؛ لأنه ملكها بغير عقد، وقال صاحب الإبانة: هل يصح بيعها؟ فيه قولان بناء على أن الإقالة بيع أو فسخ ... " (¬1). وقال السيوطي: "إذا تقايلا في عقود الربا يجب التقابض في المجلس بناء على أنها بيع، ولا يجب بناء على أنها فسخ، وهو الأصح" (¬2). وأما من رأى أنها بيع، فذهب إلى المنع فيما لا يصح بيعه قبل قبضه، حسب مذهبه في التصرف في المبيع قبل قبضه. فمنع أبو يوسف في أحد قوليه الإقالة في المنقول قبل قبضه، بناء على اختياره في المنع من بيع المنقول قبل قبضه (¬3). ومنع المالكية من الإقالة في عقد الصرف إلا مع التقابض قبل التفرق (¬4). ¬
وقد رجحنا أن الإقالة هي من قبيل الفسخ، وليست بيعًا مستأنفًا، والله أعلم. ¬
المبحث السادس الأخذ بالشفعة
المبحث السادس الأخذ بالشفعة [م - 668] اختلف العلماء في الأخذ بالشفعة بالإقالة في بيع العقار بناء على اختلافهم هل الإقالة بيع، أو حل للبيع (فسخ)؟ على قولين: القول الأول: ذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وقول قديم ¬
القول الثاني
للشافعي (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2)، إلى القول بثبوت حق الشفعة بالإقالة كما يثبت ذلك في عقد البيع. القول الثاني: لا يثبت حق الأخذ بالشفعة في الإقالة، وهو اختيار زفر، ومحمد ابن الحسن من الحنفية (¬3)، والمذهب عند الشافعية (¬4)، والمشهور في مذهب الحنابلة (¬5). ¬
بناء على أن الإقالة تعتبر فسخًا، وليست بيعًا، والشفعة إنما تثبت في البيع فقط. قال في كشاف القناع: "ولا شفعة بالإقالة؛ لأنّ المقتضي لها هو البيع، ولم يوجد" (¬1). وهذا هو الراجح. وانظر المسألة في عقد الشفعة، فقد بحثتها هناك، ولله الحمد. ¬
المبحث السابع اشتراط العلم في المقال فيه
المبحث السابع اشتراط العلم في المقال فيه [م - 669] من رأى أن الإقالة فسخ أجاز الإقالة مع الجهل بالمقال فيه، ومع عدم القدرة على تسليمه، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، ومذهب الحنابلة. قال في الإنصاف: "ومنها عدم اشتراط شروط البيع، من معرفة المقال فيه، والقدرة على تسليمه، وتمييزه عن غيره على المذهب" (¬2). وقال ابن رجب: "إذا قلنا: هي فسخ لم يشترط لها شروط البيع من معرفة المقال فيه، والقدرة على تسليمه، وتمييزه عن غيره، ويشترط ذلك على القول بأنها بيع، ذكره صاحب المغني في التفليس، فلو تقايلا العبد، وهو غائب بعد مضي مدة؛ يتغير في مثلها، أو بعد إباقه، أو اشتباهه بغيره، صح على الأول دون الثاني" (¬3). وأما من ذهب إلى أن الإقالة بيع، فإنه يشترط فيها ما يشترط في البيع. وقد قدمنا الأدلة على أن الإقالة فسخ، فأغنى عن إعادته هنا. ¬
المبحث الثامن الإقاله بعد نداء الجمعة الثاني
المبحث الثامن الإقاله بعد نداء الجمعة الثاني [م - 670] أبطل المالكية الإقالة بعد نداء الجمعة الثاني باعتبار أن الإقالة بيع. جاء في شرح الزرقاني على مختصر خليل: "والإقالة بيع، فيشترط فيها ما يشترط فيه، ويمنعها ما يمنعه، وإذا وقعت وقت نداء الجمعة فسخت" (¬1). وأما الحنابلة فقد نصوا على أن الإقالة صحيحة بعد نداء الجمعة كسائر الفسوخ؛ لأنّ الله إنما نهى عن البيع، والإقالة ليست بيعًا (¬2). وإذا علمنا العلة في النهي عن البيع بعد نداء الجمعة الثاني لما في ذلك من الانشغال عن ذكر الله، وعن الصلاة كان النهي شاملًا للإقالة أيضًا؛ لأنّ المعنى الذي من أجله نهي عن البيع موجود فيها. ¬
المبحث التاسع الإقالة مع تعيب المبيع عند المشتري
المبحث التاسع الإقالة مع تعيب المبيع عند المشتري [م - 671] إذا تعيب المبيع عند المشتري، ثم أقال أحدهما الآخر، فوجد البائع أن السلعة فيها عيب، فهل له حق الرد بالعيب؟ في هذا خلاف بين العلماء: ذهب أبو حنيفة إلى أن تعيب السلعة يمنع من الإقالة، وإن كان يرى أن الإقالة فسخ؛ لأنّ القاعدة عندهم تقول: ما يمنع الرد بالعيب يمنع من الإقالة، ومعلوم أن المشتري لو اشترى سلعة، فوجد بها عيبًا، ثم حدث بها عيب جديد عند المشتري سقط حقه في الرد عند الحنفية، فكذلك الإقالة إذا حدث بها عيب عند المشتري امتنعت الإقالة عند أبي حنيفة (¬1). أما من يرى أنها بيع كأبي يوسف، فله الرد بالعيب مطلقًا؛ لأنّ الإقالة بيع عنده، وكذلك له الرد بالعيب عند محمَّد كما لو تعذر حمل الإقالة على الفسخ وذلك فيما لو أقاله بأكثر من الثمن، فإنه يعتبرها بيعًا في هذه الحالة، فتعطى حكمه (¬2). وكذلك ذهب المالكية إلى أن له رد الإقالة بالعيب. جاء في شرح الزرقاني على مختصر خليل: "ولو حدث بالمبيع عيب وقت ضمان المشتري، ولو لم يعلم به البائع إلا بعد الإقالة، فله الرد به" (¬3). ¬
ورأى الشافعية أنه لو تعيب في يده غرم المشتري الأرش على اعتبار أن الإقالة فسخ، وهو الأصح، وعلى القول بأنها بيع: يتخير البائع بين أن يجيز ولا أرش له، أو يرد الإقالة ويأخذ الثمن (¬1). وأما الحنابلة فالمتأخرون منهم يرون أن الإقالة لا ترد بالعيب. قال في كشاف القناع: "ولا ترد الإقالة بعيب في المقال فيه؛ لأنّ الفسخ لا يفسخ" (¬2). وجاء في القواعد لابن رجب: "هل يرد بالمعيب؟ إن قلنا: هي بيع ردت به، وإن قلنا: هي فسخ فيحتمل ألا يرد به؛ لأنّ الأصحاب قالوا: الفسخ لا يفسخ. ويحتمل أن يرد به كما جوزوا فسخ الإقالة والرد بالعيب لأحد الشفيعين، وأفتى الشيخ تقي الدين بفسخ الخلع بالعيب في عوضه، وبفوت حقه فيه، وبإفلاس الزوجة به" (¬3). وعندي أن له الخيار حتى على القول بأن الإقالة فسخ؛ لأنّ المقيل إنما أقاله بناء على سلامة المبيع من العيب، فإذا حدث به عيب فإن الرضا بالإقالة الصادر من المقيل يكون غير متحقق؛ لأنه إنما رضي أن ترجع إليه سلعته كما كانت، فلما لم يطلعه المشتري بما أحدثه من عيب في السلعة فإنه قد يكون قد غره بذلك، فيثبت نه خيار الغرر، والله أعلم. ثم وقفت على كلام للسرخسي نحو ما ذكرت، أنقله بحروفه: ¬
قال -رحمه الله-: "فإذا باع المأذون جارية بألف وتقابضا، ثم قطع المشتري يدها أو وطئها أو ذهبت عينها من غير فعل أحد، ثم تقايلا البيع، ولا يعلم العبد بذلك، فهو بالخيار إن شاء أخذها، وإن شاء ردها؛ لأنه إنما رضي بالإقالة على أن تعود إليه كما خرجت من يده، وقد خرجت من يده غير معيبة، والآن تعود إليه معيبة، فلا يتم رضاه بها؛ فلهذا كان له الخيار، وحال البائع عند الإقالة كحال المشتري عند العقد، ولو حدث بالمبيع عيب بعد العقد، وقبل القبض يخير المشتري فهذا مثله" (¬1). ¬
المبحث العاشر الإقالة مع تلف المبيع
المبحث العاشر الإقالة مع تلف المبيع [م - 672] تصح الإقالة مع تلف الثمن، وهل تصح مع تلف المبيع، فيه خلاف: اختار الحنفية أن تلف المبيع يمنع من الإقالة، قال في الهداية: "هلاك الثمن لا يمنع صحة الإقالة، وهلاك المبيع يمنع منها" (¬1). ولأن الإقالة رفع العقد، وإنما يرفع الشيء من المحل الوارد عليه، ومحل العقد المعقود عليه، والمعقود عليه المبيع دون الثمن، فإن الثمن معقود به، ولهذا شرط قيام الملك في المبيع عند العقد دون الثمن، فإن كان المبيع هالكًا عند الإقالة فالإقالة باطلة لفوات محلها (¬2). واستثنى الحنفية مسألتين لا يعتبر فيهما الهلاك مانعًا من الإقالة: المسألة الأولى: هلاك البدلين في الصرف؛ لأنهما لا يتعينان بالتعيين، فلم تتعلّق الإقالة بعينهما. المسألة الثانية: لو كان البيع مقايضة، بيع معين بمعين، ثم هلك أحد العوضين جازت ¬
الإقالة؛ لأنّ كلًا منهما مبيع من وجه، فكان المبيع باقيًا ببقاء العين القائمة منهما (¬1). وقال المتأخرون من الحنابلة لا تصح الإقالة مع تلف المبيع، جاء في كشاف القناع: "وتصح الإقالة مع تلف ثمن، لا مع تلف مبيع لتعذر الرد فيه" (¬2). وخالف في ذلك الشافعية فقالوا: تلف المبيع لا يمنع من الإقالة كالفسخ، وهو وجه في مذهب الحنابلة. قال الشافعي-رحمه الله-: "ومن سلف رجلًا دابةً، أو عرضًا في طعام إلى أجل، فلما حل الأجل، فسأله أن يقيله منه، فلا بأس بذلك، كانت الدابة قائمة بعينها أو فائتة؛ لأنه لو كانت الإقالة بيعاً للطعام قبل أن يقبض لم يكن له إقالته، فيبيعه طعاما له عليه بدابة للذي عليه الطعام، ولكنه كان فسخ البيع، وفسخ البيع إبطاله لم يكن بذلك بأس، كانت الدابة قائمة أو مستهلكة، فهي مضمونة، وعليه قيمتها إذا كانت مستهلكة" (¬3). جاء في المجموع: "تلف المبيع لا يمنع جواز الفسخ، وقد جوز الشافعي الإقالة بعد التلف ... " (¬4). وجاء فيه أيضًا: "والإقالة بعد تلف المبيع جائزة على الأصح، إن قلنا؛ إنها فسخ" (¬5). ¬
وقال النوويّ: "ولا تجوز الإقالة بعد تلف المبيع إن قلنا: بيع، وإلا فالأصح الجواز كالفسخ بالتحالف، وعلى هذا يرد المشتري على البائع مثل المبيع إن كان مثليًا، أو قيمته إن كان متقوفًا" (¬1). وجاء في قواعد ابن رجب: "هل يصح -يعني الإقالة- مع تلف السلع؟ على طريقتين: أحدهما: لا يصح على الروايتين، وهي طريقة القاضي في موضع من خلافه وصاحب المغني. والثاني: إن قلنا هي فسخ صحت وإلا لم تصح، قال القاضي في موضع من خلافه: هو قياس المذهب ... " (¬2). وأما المالكية الذين يذهبون إلى أن الإقالة بيع مستأنف (¬3)، فمقتضى المذهب عندهم أن الإقالة لا تصح مع تلف المبيع؛ لأنه من قبيل بيع المعدوم، فلا يصح، والله أعلم. ¬
المبحث الحادي عشر الإقالة بزيادة أو بنقص أو بغير جنس الثمن
المبحث الحادي عشر الإقالة بزيادة أو بنقص أو بغير جنس الثمن الإقالة فسخ إلا أن يتعذر حملها على الفسخ فتكون بيعًا. [م - 673] إذا كانت الإقالة بزيادة على الثمن، أو كانت بأنقص منه، أو كانت بغير جنس الثمن، فهل تصح الإقالة؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: تصح الإقالة؛ لأنّ الإقالة بيع، وإذا كانت بيعًا صحت بأكثر أو بأنقص أو بغير جنس الثمن، وهو اختيار أبي يوسف (¬1)، ومذهب المالكية (¬2). وتصح أيضًا على رأي محمَّد بن الحسن، فإنه يرى أن الإقالة وإن كان الأصل فيها أنها فسخ إلا أنه إذا تعذر حملها على الفسخ جعلت بيعًا للضرورة، كما لو كانت الإقالة بأكثر من الثمن الأول (¬3). القول الثاني: لا تصح الإقالة بزيادة على الثمن، ولا بأنقص منه، ولا بغير جنس الثمن؛ لأنها فسخ للعقد، وليست بيعًا مستأنفًا. وإليه ذهب أبو حنيفة وزفر (¬4)، وهو القول الراجح في مذهب ¬
الشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). إلا أن أبا حنيفة يرى أنه إذا شرط زيادة على الثمن الأول، صحت الإقالة، وبطل شرط الزيادة؛ لتعذر الفسخ على الزيادة؛ لأنّ رفع ما لم يكن ثابتًا بالعقد الأول محال، فيبطل الشرط وحده، ولأن الإقالة لا تبطل بالشروط الفاسدة بخلاف البيع (¬3). وعلى قول الشافعية والحنابلة الإقالة باطلة؛ لأنهم أدخلوا فيها شرطًا فاسدًا (¬4)؛ وهو شرط التفاضل فيما يعتبر فيه التماثل، فبطل كبيع درهم بدرهمين. جاء في أسنى المطالب: "ولا تصح إلا به أي بذلك الثمن، فإن زاد فيه أو نقص عنه، أو شرط فيه أجلًا، أو أخذ صحاحًا عن مكسرة، أو عكسه بطلت، وبقي العقد بحاله" (¬5). وجاء في قواعد ابن رجب: "إذا تقايلا بزيادة على الثمن، أو نقص منه، أو بغير جنس الثمن، فإن قلنا: هي فسخ، لم يصح؛ لأنّ الفسخ رفع للعقد، فيترادان العوضين على وجههما كالرد بالعيب وغيره، وإن قلنا: هي بيع فوجهان، حكاهما أبو الخطاب ومن بعده: أحدهما: يصح وقاله القاضي في كتاب الروايتين كسائر البيوع. والثاني: لا يصح وهو المذهب عند القاضي في (خلافه)، وصححه السامري ¬
لأنّ مقتضى الإقالة رد الأمر إلى ما كان عليه، ورجوع كل واحد إلى ماله فلم يجز بأكثر من الثمن ... " (¬1). ¬
المبحث الثاني عشر الإقالة بعد أن نما البيع
المبحث الثاني عشر الإقالة بعد أن نما البيع [م - 674] إذا تقايل المتبايعان، وقد نما المبيع، فلمن يكون النماء، في ذلك خلاف بين العلماء: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن الزيادة المتصلة غير المتولدة، وكذلك النماء المنفصل المتولد يمنعان من الإقالة، أما الزيادة المتصلة المتولدة، والزيادة المنفصلة غير المتولدة فليستا من موانع الإقالة (¬1). مثال الزيادة المتصلة غير المتولدة: كأن يصبغ الثوب، أو يبني على الأرض، فهذا يمنع من الإقالة؛ لأنّ هذه الزيادة ليست بتابعة، بل هي أصل بنفسها، فلو رد المبيع فإنه لا يخلو: إما أن يرده وحده بدون الزيادة، وهذا لا سبيل إليه لتعذره. أو يرده مع الزيادة، وهذا أيضًا لا سبيل إليه لكون الزيادة ليست مبيعة، فامتنع أصلًا، والإقالة لا ترد على غير المبيع؛ فلو رده مع الزيادة لزم الربا، فإن الزيادة تكون فضلًا مستحقًا في عقد المعاوضة بلا مقابل، وهو معنى الربا أو شبهته، ولشبهة الربا حكم الربا، فلا جوز، فامتنع أصلًا، وليس للبائع أن يأخذه وإن رضي المشتري بترك الزيادة؛ لأنّ الامتناع لم يتمحض لحقه، بل لحقه وحق الشرع بسبب ما ذكرنا من لزوم الربا. ¬
وجه ذلك
ومثال الزيادة المنفصلة المتولدة: كأن يكون المبيع حيوانًا، فيلد، أو بستانًا فيثمر. فالزيادة هنا مانع من الإقالة عند الحنفية. * وجه ذلك: أن القول بالرد بالإقالة يتضمن محظورين؛ لأنها إما أن ترد الزيادة مع الأصل، أو يرد الأصل بدونها: فإن ردت مع الأصل ترتب على ذلك إعطاء ربح ما لم يضمن، وهو منهي عنه (¬1). وإن رد الأصل بدونها لزم منه الربا: لأنّ المشتري يكون أخذ الزيادة بدون مقابل، وذلك هو عين الربا، وما دام أن الفسخ يترتب عليه هذان المحظوران، فإننا نقول: يمتنع الرد (¬2). ويناقش: بأن المشتري إذا أخذ الزيادة لم يكن ذلك بلا مقابل، بل أخذ تلك في مقابل الضمان، ولذلك لم يعتبر الحنفية الغلة الحاصلة من كسب العبد إذا أخذها المشتري بأنها من قبيل الربا، مع أنها زيادة حاصلة من عين المبيع. وأما الزيادة التي لا تمنع من الرد عند الحنفية: فهي الزيادة المتصلة المتولدة: كالسمن في الحيوان، ومثل لو كان الحيوان مصابًا في عينه فيبرأ عند المشتري، فالإقالة في هذا الحيوان صحيحة؛ لأنّ الزيادة متصلة متولدة. ومثال الزيادة المنفصلة غير المتولدة: كما إذا اشترى رجل من آخر طاحونًا، ¬
القول الثاني
أو حصانًا، فأجر المشتري الطاحون، أو أكرى الحصان، وقبض الأجرة، ثم تقايل البائع والمشتري فالإقالة صحيحة والأجرة للمشتري. وحجة هذا القول إجماع الفقهاء على أن الزيادة المنفصلة غير المتولدة كالغلة الحاصلة من تأجير المبيع لا تمنع من رد المبيع بالعيب، والإقالة مقيسة عليه. جاء في تحفة الفقهاء: "أجمعوا أن الكسب والغلة التي تحدث بعد القبض لا تمنع فسخ العقد" (¬1). القول الثاني: التفريق بين النماء المتصل وبين النماء المنفصل، فالمتصل يتبع المبيع، والمنفصل يكون للمشتري. وهذا مذهب الشافعية (¬2)، ومذهب الحنابلة (¬3). وقال ابن رجب في القواعد: "إذا نما المبيع نماء منفصلًا، ثم تقايلا، فإن قلنا الإقالة بيع، لم يتبع النماء بغير خلاف. وإن قلنا: فسخ، فقال القاضي: النماء للمشتري، وينبغي تخريجه على وجهين، كالرد بالعيب، والرجوع للمفلس" (¬4). ¬
وقد تكلمنا في باب الرد بالعيب على حكم الزيادة المتصلة والمنفصلة بما يكفي، ولا يختلف الكلام في ذلك الباب عن الكلام في الإقالة، بجامع أن كلًا منهما فسخ للمعقود عليه. كما رجحنا هناك بأنه لا فرق بين الزيادة المتصلة، وبين الزيادة المنفصلة، بأن كلًا منهما للمشتري؛ لأنه نماء حدث في ملكه، إلا أن الزيادة المتصلة يكون المشتري فيها شريكًا للبائع بقدر الزيادة الحاصلة، وإذا لم يرغب البائع في شركة المشتري فعليه ألا يقبل الإقالة، وقد تغير المبيع. قال ابن رجب في القواعد: " (القاعدة الحادية والثمانون): النماء المتصل في الأعيان المملوكة العائدة إلى من انتقل الملك عنه بالمفسوخ تتبع الأعيان على ظاهر المذهب عند أصحابنا. والمنصوص عن أحمد: أنه لا يتبع، وهو الذي ذكره الشيرازي في المبهج، ولم يحك فيه خلافًا، وهو اختيار ابن عقيل، صرح به في كتاب الصداق، والشيخ تقي الدين ... ويتخرج على ذلك مسائل: منها: المردود بالعيب إذا كان قد زاد زيادة متصلة، كالسمن، وتعلم صناعة، فالمشهور عند الأصحاب أن الزيادة للبائع تبعًا لأصلها، ولا يستحق المشتري عليه شيئًا. وخرج ابن عقيل: بأن الزيادة للمشتري، وكذلك قال الشيرازي، وزاد أنه يرجع على البائع بقيمة النماء، وكذلك ذكر الشيخ تقي الدين إبهامه من عموم كلام أحمد في رواية أبي طالب: إذا اشترى غنمًا، فنمت، ثم استحقت، فالنماء له، قال: وهذا يعم المنفصل والمتصل.
قلت (القائل ابن رجب): وقد نص أحمد على الرجوع بقيمة النماء المتصل صريحًا كما قال الشيرازي في رواية ابن منصور: فيمن اشترى سلعة، فنمت عنده، وكان بها داء، فإن شاء المشتري حبسها، ورجع بقدر الدواء، وإن شاء ردها، ورجع عليه بقدر النماء، وتأولها القاضي على أن النماء المتصل يرده معها، وهو ظاهر الفساد؛ لأنّ الضمير في قوله رجع يعود إلى المشتري، وفي قوله عليه يعود إلى البائع، وإنما يرجع المشتري على [البائع بقيمة] النماء المنفصل، ووجه الإجبار هنا على دفع القيمة: أن البائع قد أجبر على أخذ سلعته، ورد ثمنها فكذلك نماؤها المتصل بها يتبعها في حكمها، وإن لم يقع عليه العقد، والمردود بالإقالة والخيار يتوجه فيه مثل ذلك، إلا أن يقال الفسخ للخيار وقع للعقد من أصله، بخلاف العيب والإقالة، وقد صرح بذلك القاضي وابن عقيل في خلافهما وفيه بعد" (¬1). هذه بعض الأحكام التي كان الخلاف فيها مبنيًا على الخلاف في حقيقة الإقالة، هل هي بيع أو فسخ، وقد رجحنا أن الإقالة فسخ، إلا أنها إذا كانت بأكثر من الثمن فتعتبر بيعًا، يثبت لها أحكام البيع، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في أركان الإقالة
الفصل الثالث في أركان الإقالة [م - 675] من رأى أن الإقالة بيع رأى أنها عقد من العقود، والعقد لا يقوم إلا بتوفر أركانه، وشروطه. وأركان الإقالة: هي أركان البيع، وقد تم بحثها فيما سبق. ومن رأى أن الإقالة فسخ لم يتعرض لأركان الإقالة، وهم الأكثر إلا أن بعضهم لما رأى أن الإقالة لا يستقل بها أحد العاقدين، بل لا بد فيها من إيجاب وقبول رأى أن لها شبهًا في العقود، فأصبح يدخل في مباحثها (أركان الإقالة) وهم قلة. وقد اختلف العلماء في أركان الإقالة: فالحنفية يرون أن أركان الإقالة: هي الإيجاب من أحد العاقدين والقبول من إلآخر فإذا وجد الإيجاب من أحدهما والقبول من الآخر بلفظ يدلّ عليه فقد تم الركن (¬1). لا فرق عندهم بين توصيف الإقالة بأنها بيع، أو أنها فسخ. وأما الجمهور: فأركان الإقالة عندهم إن اعتبرنا الإقالة فسخًا اثنان: الأول: العاقدان: وهما المستقيل: وهو الذي يطلب الإقالة: والمقيل، وهو الذي يملكها منهما. الثاني: الصيغة التي تعبر عن رضا المتعاقدين بالإقالة. ¬
وسبب الاختلاف
ويزاد عليه إن اعتبرنا الإقالة بيعًا (المقال فيه)، والسبب أننا إن اعتبرنا الإقالة فسخًا فلا يعد المقال فيه ركنًا في الإقالة؛ لأنّ الفسخ يرد على المعدوم كما يرد على الموجود. وإن اعتبرنا الإقالة بيعًا، فإن المقال فيه يعتبر ركنًا في العقد، فلا بد من وجود المقال فيه (محل العقد). وسبب الاختلاف: أن الحنفية يرون أن الركن: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءًا داخلًا في حقيقته، وهذا خاص في الإيجاب والقبول، أما العاقدان والمعقود عليه فهذه الأشياء من لوازم العقد، وليست جزءًا من حقيقة العقد، وإن كان يتوقف عليها وجوده. بينما الجمهور يرون أن الركن: ما توقف عليه وجود الشيء وتصوره عقلًا، سواء أكان جزءًا من حقيقته أم لم يكن، ووجود العقد يتوقف على العاقدين والمعقود عليه، وإن لم يكن هؤلاء جزءًا من حقيقته. ومذهب الحنفية أجود، وأدق، والجمهور لا يطردون في تحديد الأركان، فاللوازم تارة يعتبرونها من الأركان، وتارة لا يدخلونها، فهم يجعلون الفاعل ركنًا في مثل عقد البيع والنكاح، ولا يجعلونه ركنا في العبادات كالصلاة والحج، وإن كان لا يتصور قيام الحج والصلاة بدون فاعل. قال في المصباح المنير: "والفرق عسر، ويمكن أن يقال: الفرق أن الفاعل علة لفعله، والعلة غير المعلول، فالماهية معلولة، فحيث كان الفاعل متحدًا استقل بإيجاد الفعل كما في العبادات، وأعطي حكم العلة العقلية، ولم يجعل ركنًا، وحيث كان الفاعل متعددًا لم يستقل كل واحد بإيجاد الفعل، بل يفتقر إلى
غيره؛ لأنّ كل واحد من العاقدين غير عاقد بل العاقد اثنان، فكل واحد من المتبايعين مثلًا غير مستقل، فبَعُد بهذا الاعتبار عن شبه العلة، وأشبه جزء الماهية في افتقاره إلى ما يقومه، فناسب أن يجعل ركنًا" (¬1). ولا حاجة إلى هذا الفارق العسر كما وصفه، بل يقال: مذهب الحنفية أقوى، ومطرد في تحديد أركان الشيء من عبادات ومعاملات. ¬
الفصل الرابع في شروط الإقالة
الفصل الرابع في شروط الإقالة المبحث الأول في الشروط المتفق عليها الشرط الأول: رضا المتقايلين [م - 676] تختلف شروط الإقالة من مذهب لآخر بناء على اختلافهم في توصيف الإقالة، هل هي بيع، أو فسخ. وهناك شروط هي محل اتفاق بين القولين، سواء قلنا: إنها بيع، أو قلنا: إنها فسخ. فمن تلك الشروط رضا المتقايلين. فالرضا شرط لصحة الإقالة سواء اعتبرنا الإقالة بيعًا أو اعتبرناها فسخًا؛ لأنّ الكلام في رفع العقد اللازم، والعقد اللازم لا يمكن رفعه إلا برضا الطرفين. أما رفع العقد غير اللازم فعائد إلى صاحب الخيار، ولا يشترط فيه رضا الآخر، ولا يقال لرفع هذا العقد: إقالة. ولو أكره عليها المتقايلان، أو أحدهما لم تصح الإقالة.
الشرط الثاني: اتحاد المجلس
الشرط الثاني: اتحاد المجلس [م - 677] لما كان ركن الإقالة المتفق عليه كما سبق هو الإيجاب والقبول، فأشبهت الإقالة سائر العقود القائمة على الإيجاب والقبول، كعقد البيع، فالمراد: باتحاد المجلس: هو موافقة القبول للإيجاب في مجلس واحد. والذي حمل الفقهاء على اعتبار اتحاد المجلس شرطًا في عقد الإقالة، أننا إن قلنا باشتراط الفورية في القبول كان في ذلك تضييق على من وجه إليه الإيجاب، وعدم إعطائه فرصة للتدبر. فإن رفض فورًا ضاعت فرصة يتطلع لها الشارع، وهو إقالة النادم من العاقدين إلى الإقالة، وربما كان له في قبول الإقالة حقاله في الدنيا مع حظ الآخرة، وإن قبل فورًا ربما كان في الإقالة ضرر عليه، فيحتاج لفترة تأمل للموازنة بين ما يغنم، وبين ما يغرم. وإن قلنا: يسمح له أن يتأخر في صدور القبول حتى بعد التفرق، كان في ذلك إضرار بالموجب، وذلك بإبقائه مدة طويلة دون الرد على إيجابه، ومن هنا كان القول باتحاد المجلس قولًا وسطًا. وعن هذا قال الفقهاء: إن المجلس يجمع المتفرقات. يقول البابرتي: "ما وجه اختصاص خيار الرد والقبول بالمجلس، ولم لا يبطل الإيجاب عقب خلوه عن القبول؟ أو لمَ لا يتوقف على ما وراء المجلس؟ وتقرير الجواب: أن في إبطاله قبل انقضاء المجلس عسرًا بالمشتري، وفي إبقائه فيما وراء المجلس عسرًا بالبائع، وفي التوقف على المجلس يسرًا بهما
جميعًا، والمجلس جامع للمتفرقات ... فجعلت ساعاته ساعة واحدة، دفعًا للعسر، وتحقيقًا لليسر" (¬1). إذا علم ذلك، فإن اتحاد المجلس تارة يكون حقيقيًا بأن يكون الطرفان حاضرين معًا، فيكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد. وتارة يكون حكميًا: كما لو تفرق مجلس القبول عن مجلس الإيجاب كما لو كانت الإقالة عن طريق المكاتبة والمراسلة. والمراد بالمجلس: ما هو أعم من الجلوس، فقد يحصل اتحاد المجلس مع الوقوف، ومع تغير المكان (¬2). ومجلس الإقالة: هو الزمن الذي يظل فيه المتعاقدان مشتغلين بالإقالة، فإن أعرضا عنها واشتغلا عنها بما يقطعها عرفًا فقد انقطع المجلس، ومن الإعراض عن الإقالة انفضاض المجلس دون صدور القبول. جاء في البحر الرائق: "المجلس المتحد: ألا يشتغل أحد المتعاقدين بعمل غير ما عقد له ألمجلس، أو ما هو دليل الإعراض عن العقد" (¬3). وقال أيضًا: "القيام -يعني عن المجلس- دليل الإعراض" (¬4). فالعبرة هو الإعراض عن الإقالة، سواء كان ذلك بالقيام من المجلس، أو كان ذلك بالإعراض عنها والاشتغال بغيرها، ولو كان المجلس باقيًا، فلا ينبغي أن يؤثر انتقالهما من مجلس إلى مجلس آخر ما داما منشغلين بالإقالة. ¬
وجاء في درر الحكام: "وصورة اختلاف المجلس: أن يوجب أحدهما، فيقوم الآخر قبل القبول، أو يشتغل بعمل يوجب اختلاف المجلس" (¬1). ويترتب على القول باتحاد المجلس أحكام منها: الأول: تحديد أجل للقبول يكون للقابل فيه حق التروي، فيقبل في خلاله، أو بمعنى آخر أنه يجوز أن يتراخى القبول عن الإيجاب ما دام المتعاقدان في مجلس العقد، ولم يعرضا عنه. الثاني: أن للموجب خيار الرجوع عن إيحابه إلى أن يصدر القبول أو ينفض المجلس. قال الكاساني في بدائع الصنائع: "وأما شرائط صحة الإقالة فمنها ... المجلس لما ذكرنا أن معنى البيع موجود فيها، فيشترط لها المجلس كما يشترط للبيع" (¬2). وقال ابن عابدين: "اتحاد المجلس في الإيجاب والقبول شرط في الإقاله" (¬3). هذان الشرطان متفق عليهما سواء اعتبرت الإقالة فسخًا، أو اعتبرت بيعًا، أما باقي الشروط فإنه مختلف فيها لاختلافهم في تكييف الإقالة. ¬
المبحث الثاني في شروط الإقالة المختلف فيها
المبحث الثاني في شروط الإقالة المختلف فيها الشرط الأول اشتراط أن تكون الإقالة بمثل الثمن الأول [م - 678] هذا الاختلاف في هذا الشرط راجع إلى الاختلاف في تكييف الإقالة، وهل هي فسخ، أو بيع مستأنف، فمن رأى أنها فسخ أوجب أن تكون بالثمن الأول. وهذا مذهب أبي حنيفة وزفر (¬1)، والراجح في مذهب الشافعية (¬2). والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). ومن رأى أنها بيع لم يمنع من أن تكون الإقالة بمثل الثمن الأول، أو بأكثر منه، أو بأنقص، وهذا اختيار أبي يوسف من الحنفية (¬4)، والمالكية (¬5). وكذلك على رأي محمَّد بن الحسن، فإنه يرى أن الإقالة وإن كان الأصل فيها أنها فسخ إلا أنه إذا تعذر حملها على الفسخ جعلت بيعًا للضرورة، كما لو كانت الإقالة بأكثر من الثمن الأول (¬6). ¬
وقد تكلمنا على هذه المسألة مرتين، مرة عند الكلام على حقيقة الإقالة، ومرة عند الكلام على ثمرة الخلاف، فأغنى عن إعادة الكلام هنا.
الشرط الثاني اشتراط العلم بالمقال فيه والقدرة على تسليمه
الشرط الثاني اشتراط العلم بالمقال فيه والقدرة على تسليمه [م - 679] من الشروط المختلف فيها اشتراط العلم بالمقال فيه، واشتراط القدرة على تسليمه، والاختلاف في هذين الشرطين راجع إلى الاختلاف في توصيف الإقالة، هل هي فسخ، أو بيع مستأنف، فمن رأى أنها فسخ لم يوجب العلم بالمقال فيه، ولا القدرة على تسليمه. ومن رأى أن الإقالة بيع اشترط العلم بالمقال فيه، وتمييزه في غيره، والقدرة على تسليمه. وقد تكلمنا على هذه المسألة عند الكلام على ثمرة الخلاف في حقيقة الإقالة، فأغنى عن إعادة الكلام هنا.
الفصل الخامس في صيغ الإقالة
الفصل الخامس في صيغ الإقالة كثير من الفقهاء لم يتوجهوا للبحث في صيغ الإقالة اكتفاء بالكلام على صيغ الإيجاب والقبول في عقد البيع، فأحكام الإيجاب والقبول واحدة، لا فرق فيها بين عقد البيع، وبين عقد الإقالة. وأكثر ما بحثوا في صيغ الإقالة، هل تصح الإقالة بغير لفظ الإقالة، كلفظ التراد، والتفاسخ، والمصالحة، ونحوها، وأكثر من بحث صيغ الإقالة هم الحنفية، ولذلك سيكون الكلام في الإيجاب والقبول في عقد الإقالة مقيسًا على عقد البيع فيما لم أجد فيه نصًا عن الفقهاء في صيغ الإقالة. أسأل الله وحده عونه وتوفيقه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
المبحث الأول: الصيغة القولية
المبحث الأول: الصيغة القولية الفرع الأول الإقالة بغير لفظ الإقالة [م - 680] بينا سابقًا أن الرضا شرط في صحة الإقالة، وأن الإكراه على الإقالة بغير حق يبطلها. والتعبير عن الرضا تارة يكون بالصيغة القولية، وتارة يكون بالصيغة الفعلية. وأما الإقالة بالقول، فهذه الصيغة محل اتفاق، ولكن السؤال هل يشترط للإقالة أن تكون بصيغة الإقالة؟ فذهب الجمهور إلى صحة الإقالة بأي لفظ يؤدي المعنى، وأنه لا يتعين فيها لفظ معين. وذهب الحنفية إلى أن الإقالة إن كانت بلفظ البيع فهي بيع إجماعًا (¬1). وإن كانت الإقالة بلفظ المفاسخة، أو المتاركة، أو التراد لم تجعل بيعًا اتفاقًا، فهي فسخ عندهم قولًا واحدًا، وهذا يعني عدم حصر الإقالة بلفظ الإقالة. وإن كانت بلفظ الإقالة فهي على الخلاف، فقيل: هي فسخ، وقيل: هي بيع (¬2). جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "ولا ينحصر انعقاد الإقالة في لفظ ¬
الإقالة، بل تنعقد الإقالة بكل لفظ يفيد معنى الإقالة كألفاظ الفسخ والترك والرفع والترداد وأعد لي نقودي وخذ نقودك وبع من نفسك وأمثال هذه الألفاظ" (¬1). وقال السيوطي في الأشباه والنظائر: "لو باع المبيع للبائع قبل قبضه بمثل الثمن الأول، فهو إقالة بلفظ البيع، ذكره صاحب التتمة، وخرجه السبكي على القاعدة. قال: ثم رأيت التخريج للقاضي حسين. قال: إن اعتبرنا اللفظ لم يصح، وإن اعتبرنا المعنى فإقالة" (¬2). وكذلك الحنابلة صححوا الإقالة بلفظ البيع، وبلفظ الصلح (¬3). وذهب المالكية إلى أنه لا يشترط فيها لفظ معين كالبيع لا يشترط فيه لفظ معين إلا الإقالة في الطعام قبل قبضه، فإنه يشترط فيها أن تكون بلفظ الإقالة، لأنه إذا استعمل فيه لفظًا آخر ربما أدى ذلك إلى جعلها بيعًا، وبيع الطعام قبل قبضه باطل. جاء في مواهب الجليل: "وقع في كلام بعضهم أن الإقالة لا تكون إلا بلفظ الإقالة ومرادهم -والله أعلم- فيما إذا وقعت في الطعام قبل قبضه، وأما في غيره فهي بيع من البيوع ينعقد بما يدلّ على الرضا، فيظهر ذلك بجانب كلام المدونة، وكلام الشيوخ عليها. قال في السلم: الثالث من المدونة في ترجمة الشركة والتولية: وإن أسلمت إلى رجل في طعام، ثم سألك أن توليه ذلك، ففعلت جاز ذلك إذا نقدك، وتكون إقالة، وإنما التولية لغير البائع. ¬
قال أبو الحسن قال عياض: فأجاز الإقالة بغير لفظها، وهم لا يجيزونها بلفظ البيع ابن محرز؛ لأنّ لفظ التولية لفظ رخصة، ولفظ الإقالة مثله، فعبر بأحدهما عن الآخر بخلاف البيع. أهـ" (¬1). ¬
الفرع الثاني الإقالة بصيغة الماضي
الفرع الثاني الإقالة بصيغة الماضي [م - 681] لم يختلف العلماء أن الإقالة تنعقد بلفظ الماضي، كأن يقول أحدهما: أقلت البيع، فيقول الآخر: قبلت. قال الكاساني في بدائع الصنائع: "لا خلاف أنه ينعقد بلفظين يعبر بهما عن الماضي، بأن يقول أحدهما: أقلت. والآخر: قبلت، أو رضيت، أو هويت، أو نحو ذلك" (¬1). وجاء في روضة الطالبين: "وصيغتها -يعني الإقالة- تقايلنا، أو تفاسخنا، أو يقول أحدهما: أقلتك، فيقول الآخر: قبلت، وما أشبه ذلك" (¬2). وسبب الاعتداد بالماضي مطلقًا دلالة صيغته على الحال، فالفعل الماضي يدل على تحقق الوقوع، وذلك أنسب في الدلالة على إنشاء العقد حيث يدل على أن صاحبه قد تخطى مرحلة التفكير والتردد، والمفاوضة والمساومة إلى مرحلة الجزم والقطع والبت والحسم. فإن قيل: إن الماضي أقلتك، أو تقايلنا، أو تفاسخنا صيغ للإخبار عن الماضي، فهو خبر، وليس إنشاء وإحداثًا. قيل: وإن كانت صيغة الماضي صيغة إخبارية إلا أن المراد به الإنشاء قطعًا، لأن الرجل إذا قال: أقلتك لو كان يقصد الإخبار لكان كاذبًا حيث لم يقع التوافق والتراضي على الإقالة إلى الآن، فالإنشاء هو المتبادر إلى الذهن، ¬
والنكتة في هذا أن الماضي إذا سيق للإنشاء يكون من باب التوكيد على تحقق الفعل، وكون الفعل في إيجاده وتحقق وقوعه واقعًا كالماضي مستعمل في كتاب الله تعالى، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [يس: 51]. فعبر عن النفخ بالصور بصيغة الماضي للتوكيد على أن ذلك واقع لا محالة. ولذلك لا تجد في نفسك أن رجلًا لو قال لامرأته: "أنت طالق" أنه يحسن تصديقه أو تكذيبه، باعتبار الصيغة خبرية، وإنما يدرك بالضرورة أن الجملة إنشائية. فالعرف يقتضي أن يكون الماضي تعبيرًا صريحًا عن الإنشاء وإحداث العقد. يقول الكاساني: "هذه الصيغة وإن كانت للماضي وضعًا لكنها جعلت إيجابًا للحال في عرف أهل اللغة والشرع، والعرف قاض على الوضع" (¬1). ¬
الفرع الثالث الإقالة بلفظ المضارع
الفرع الثالث الإقالة بلفظ المضارع [م - 682] العقود تحتاج إلى صيغة تدل على إرادة إنشاء العقد في الحال، ولذا لم يختلف الفقهاء في دلالة الفعل الماضي على الرضا لكون صيغته متمحضة للحال. وأما المضارع غير المقترن بالسين وسوف فإنه يحتمل الحال ويحتمل الاستقبال، وقد اختلف النحاة في كونه حقيقة فيهما، أو في أحدهما، أو مشتركًا على أقوال ليس هذا مجال ذكرها. ولما كانت صيغة المضارع تحتمل الأمرين (الحال والاستقبال) اختلف الفقهاء هل يصح الإيجاب والقبول بها؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: ينعقد البيع بصيغة المضارع مع نية الحال، أو وجود قرينة تدل على الحال، نحو قوله: "أبيعك الآن". وهذا رأي جمهور الحنفية (¬1)، وجمهور الشافعية (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يصح الإيجاب والقبول بالفعل المضارع، ويلزم به، لكن لو قال: إنه لم يرد البيع، حلف، ولم يلزمه، فإن أبى أن يحلف لزمه. وهذا مذهب المالكية (¬1). القول الثالث: لا يصح الإيجاب والقبول بالفعل المضارع، اختاره بعض المتقدمين من الحنفية (¬2)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقد ذكرنا أدلة الأقوال في أول الكتاب. وإذا كان هذا الخلاف في عقد البيع، فإن الإقالة مقيسة عليه؛ لأن الكلام على دلالة اللفظ وصلاحيته للإيجاب والقبول بيعًا كان العقد أو إقالة أو غيرهما واحد. والراجح عندي أن مرد ذلك إلى العرف، فإذا كان العرف يستعمل المضارع في عقوده، بيعًا وإقالة، ونكاحًا وغيرها صح استعمال المضارع، وإن كان العرف لا يعتد بذلك استبعد لفظ المضارع من صيغ الإقالة، والله أعلم. ولذلك قد تجد صيغة الماضي صالحة لإنشاء بعض العقود، وغير صالحة لإنشاء عقود أخرى، والصيغة هي الصيغة، ومرد ذلك إلى العرف. يقول القرافي: "إن الشهادة تقع بالمضارع دون الماضي واسم الفاعل، فيقول الشاهد: أشهد بكذا عندك ... ولو قال: شهدت بكذا ... لم يقبل منه، والبيع يصح بالماضي دون المضارع عكس الشهادة، فلو قال: أبيعك بكذا، أو قال: ¬
أبايعك بكذا، لم ينعقد البيع عند من يعتمد على مراعاة الألفاط كالشافعي ... ". ثم بين القرافي سبب ذلك: "وسبب هذه الفروق بين الأبواب النقل العرفي من الخبر إلى الإنشاء، فأي شيء نقلته العادة لمعنى صار صريحًا في العادة لذلك المعنى بالوضع العرفي، فيعتمد عليه الحاكم لصراحته، ويستغني المفتي عن طلب النية معه لصراحته بالوضع ... " (¬1). ¬
الفرع الرابع الإقالة بصيغة الأمر
الفرع الرابع الإقالة بصيغة الأمر اختلف العلماء في الإقالة بصيغة الأمر، كما لو قال: أقلني: فقال: أقلتك. فالحنفية فرقوا بين البيع وبين الإقالة، فصححوا الإيجاب بلفظ الأمر، إذا كان القبول بالماضي في عقد الإقالة (¬1)، وأما في البيع فقالوا: لا ينعقد بصيغة الأمر (¬2). والسبب في جواز انعقاد الإقالة بصيغة الأمر، وامتناعه في البيع: أن صيغة الأمر في البيع تحمل على المساومة، فلا تدل على التحقيق، ولا تكفي لانعقاد البيع، أما الإقالة فتقع بعد النظر والتأمل في الأمر، وليس فيها مساومة، فصيغة الأمر فيها تحمل على التحقيق. وطرد هذا محمَّد بن الحسن، فقال: لا تنعقد الإقالة بلفظ الأمر كما لا ينعقد البيع (¬3). وأما المالكية (¬4)، والأظهر عند الشافعية (¬5)، والقول المشهور في مذهب الحنابلة (¬6)، أن البيع ينعقد بلفظ الأمر، والإقالة مقيسة عليه. ¬
والصحيح انعقادها بلفظ الأمر. (ح- 510) وقد روى البخاري من طريق عامر قال: حدثني جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه كان على جمل له قد أعيا، فمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فضربه، فدعا له، فسار يسير ليس يسير مثله، ثم قال: بعنيه بأوقية، فبعته ... الحديث (¬1). (ح- 511) كما روى البخاري من طريق سفيان، حدثنا عمرو، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر، فكان يغلبني فيتقدم أمام القوم فيزجره عمر ويرده، ثم يتقدم، فيزجره عمر ويرده، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: بعنيه. قال هو لك يا رسول الله. قال: بعنيه، فباعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت (¬2). وقد استوفينا أدلة هذه المسألة في أول الكتاب عند الكلام على أركان البيع، فأغنى عن إعادتها هنا. ¬
المبحث الثاني الإقالة بالصيغة الفعلية
المبحث الثاني الإقالة بالصيغة الفعلية [م - 683] هل تصح الإقالة بالتعاطي؟ هذا محل خلاف بين العلماء. فذهب الجمهور إلى صحة الإقالة بالتعاطي (¬1). وصرح المالكية بأن الإقالة بيع من البيوع تنعقد بما يدل على الرضا، والبيوع عندهم تنعقد بالفعل كما تنعقد بالقول، فالإقالة لها حكم البيع (¬2). ومنع من ذلك الشافعية، فلم يجيزوا العقود بالمعاطاة (¬3). والراجح أن الإقالة بالمعاطاة جائزة؛ لأن شرط الصحة، هو وجود التراضي بين المتعاقدين، فإذا وجد ما يدل على التراضي من قرينة حالية أو فعلية قامت مقام الألفاظ، وأجزأ ذلك، لعدم التعبد فيه. وقد ناقشنا ذلك في صيغ البيع، وبينا وجاهة قول الجمهور، فأغنى عن إعادته هنا. وبهذا أكون قد أنهيت دراسة صيغ الإقالة، وما لم يستوف هنا من المباحث ¬
فعلى المطلع أن يراجع أحكام الإيجاب والقبول في أول الكتاب، فإني قد استوفيته هناك، وإنما أشرف إليه إشارة هنا، للتذكير، والله الموفق، ولله الحمد.
الفصل السادس في محل الإقالة
الفصل السادس في محل الإقالة المبحث الأول في العقود التي تقبل الإقالة [م - 684] هناك عقود تقبل الإقالة، وهناك عقود لا تقبلها: فمن العقود التي لا تقبل الإقالة: الأول: العقود الجائزة. فالإقالة لا ترد على العقود الجائزة، وذلك مثل الوكالة، والوصية، والعارية. ولا تقبل الإقالة العقود اللازمة قبل لزومها، كالبيع بشرط الخيار للعاقدين، والبيع أثناء خيار المجلس عند القائلين به؛ لأن الإقالة كما سبق تعريفها: رفع العقد، اللازم، سواء كان لازمًا للعاقدين أو لأحدهما، ولأن العقد الجائز، أو اللازم قبل لزومه كما لو كان فيه شرط خيار، يكتفى بجوازه فلا حاجة إلى الإقالة فيه، وكذلك لا حاجة إلى الإقالة زمن خيار المجلس عند من يثبته؛ لأن الإقالة لا تكون إلا بعد تمام العقد ولزومه. وأما العقود الجائزة من طرف ولازمة من طرف آخر، وذلك مثل الرهن، فهو لازم من جهة الراهن، وجائز من جهة المرتهن، وكذلك الضمان جائز من جهة المضمون له دون الضامن، وكذلك عقد البيع فيما لو كان الخيار لأحد العاقدين دون الآخر فإن الإقالة ترد في حق من يكون العقد لازمًا في حقه خلافا للعاقد الآخر.
ومن هذه العقود
الثاني: عقد النكاح فلا تدخله الإقالة؛ لأن النكاح جعل له الشارع رافعًا خاصًا، وهو الطلاق (¬1). الثالث والرابع والخامس والسادس والسابع: الطلاق والوقف والعتق، واليمين والنذر؛ لأن هذه الأمور إذا وقعت لا يمكن رفعها. جاء في الجوهرة النيرة: "الإقالة جائزة في البيع بمثل الثمن الأول ... وخص البيع؛ لأن النكاح والطلاق والعتاق لا يقبلها" (¬2). الثامن: الإبراء، والصلح عن القصاص لا تدخله الإقالة؛ لأنه إسقاط حق، والساقط لا يعود (¬3). وأما العقود التي تدخلها الإقالة، فهي العقود اللازمة؛ لأن الإقالة كما سبق تعريفها: رفع العقد، اللازم، سواء كان لازمًا للعاقدين أو لأحدهما. والمقصود بالعقد هو العقد القابل للفسخ. وهو عقد المعاوضة المالي. ومن هذه العقود: الأول: عقد البيع، فإنه تدخله الإقالة سواء فسرنا الإقالة بأنها فسخ، أو بأنها بيع مستأنف، وسواء كانت الإقالة في جميع المبيع، أو في بعضه. وسواء كان عقد البيع لازمًا في حق العاقدين، أو في حق أحدهما، فإن الإقالة ترد على من يكون العقد لازمًا في حقه (¬4). ¬
وهل تجوز الإقالة في بعض المبيع؟ الجمهور على جوازها في بعض المبيع، قال الشافعية: هذا إذا لم تلزم جهالة (¬1). واستثنى المالكية الإقالة في الطعام قبل قبضه فاشترطوا أن تكون بجميع الطعام، فلا تجوز الإقالة في جزء منه دون جزء (¬2). الثاني: تدخل الإقالة في عقد الصرف مطلقًا عند من يرى أن الإقالة فسخ، وبشرط القبض في المجلس عند من يرى أن الإقالة بيع (¬3). الثالث: الإقالة في عقد السلم، فتدخل الإقالة في جميع المسلم فيه قبل القبض (¬4)، وهذا مجمع عليه، حكى الإجماع ابن قدامة (¬5)، وابن القيم في تهذيب السنن. وقال ابن عابدين: "اعلم أنه لا يرد على اشتراط قيام المبيع لصحة الإقالة، إقالة السلم قبل قبض المسلم فيه، فإنها صحيحة، سواء كان رأس المال عينًا، أو دينًا، وسواء كان قائمًا في يد المسلم إليه، أو هالكًا؛ لأن المسلم فيه، وإن كان دينًا حقيقة، فله حكم العين، حتى لا يجوز الاستبدال به قبل قبضه، وإذا ¬
صحت -يعني الإقالة- فإن كان رأس المال عينًا ردت، وإن كانت هالكة رد المثل إن كان مثليًا، والقيمة إن كان قيميًا ... " (¬1). وهل تصح الإقالة في بعض المسلم فيه؟ فيه خلاف بين أهل العلم: فقيل: تصح في بعضه كما تصح في جميعه، وهو ما ذهب إليه الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، وإحدى الروايتين عن الإِمام أحمد (¬4). وقيل: لا تصح الإقالة في بعض المسلم فيه، وهو مذهب المالكية (¬5)، ورواية عن الإِمام أحمد. الرابع: تدخل الإقالة في عقد الإجارة؛ لأنها نوع من البيوع، إلا أنها من قبيل بيع المنفعة مدة معلومة. الخاص: تدخل الإقالة في عقد المساقاة على القول بلزومها، وهو الصحيح، خلافًا للمشهور في مذهب الحنابلة (¬6). ¬
السادس: ذهب المالكية إلى القول بأن عقد المضاربة عقد لازم إذا شرع بالعمل، وعليه فإنها تدخلها الإقالة عندهم (¬1). وقد أدخلت الموسوعة الكويتية الإقالة في عقد المضاربة والمشاركة (¬2). السابع: الإقالة في عقد الحوالة. أشار صاحب مغني المحتاج إلى الخلاف في صحة الإقالة، وقال: "النقل فيها عزيز، وقد قال البلقيني: إنه كشف عن ذلك مصنفات كثيرة، فلم يجد التصريح بها، وأن الذي ظهر له الجواز؛ لأن الصحيح أنها بيع، والمعتمد عدم صحة الإقالة فيها، فقد جزم الرافعي بأنه لا تجوز الإقالة في الحوالة، ذكر ذلك في أوائل التفليس، في أثناء تعليل الكلام على موت المشتري مفلسًا قبل وفاء الثمن، وقال المتولي: الحوالة من العقود اللازمة، ولو فسخت لا تنفسخ" (¬3). ¬
المبحث الثاني إذا تقايلا وقد تعلق في المبيع حق للغير
المبحث الثاني إذا تقايلا وقد تعلق في المبيع حق للغير [م - 685] إذا تقايل المتعاقدان، وقد أنشأ المشتري حقوقًا للغير في المبيع كرهن، أو إجارة، فهل تعود الإقالة مثقلة بتلك الحقوق، أو لا تصح الإقالة مع وجود هذه الحقوق؟ بحث هذه المسألة بعض الشافعية، ولم أقف عليها فيما اطلعت عليه عند غيرهم، وهاتان مسألتان: الرهن، والإجارة. أما الرهن فيرى ابن حجر الهيتمي من الشافعية أن الرهن السابق على الإقالة مانع من صحتها (¬1). وإذا كان الرهن يبطلها، فينبغي أن تبطلها الإجارة من باب أولى؛ لأن الرهن بيد المرتهن أمانة، لا يتصرف فيها إلا بإذن الراهن؛ وهو من عقود التوثقة، أما الإجارة فهي من قبيل المعاوضات، والمستأجر يملك المنفعة، ويملك التصرف فيها، ومع ذلك اختلف الشافعية في الإجارة، ولم أقف على خلاف في الرهن. فقيل: إن تقايلا، وقد أجره المشتري، والبائع عالم بذلك، فليس له أن يرجع على المشتري بالأجرة؛ لأن الإقالة قد وقعت باختيارهما، وقد رضي بالإقالة، والعين مؤجرة (¬2). وإن كان البائع لم يعلم، فقيل: لا تصح الإقالة. ¬
وقيل: تصح الإقالة، والأجرة للمشتري، وللبائع أجرة المثل. جاء في حاشية الرملي "لو باعه المشتري، أو أجره، فهل تجوز الإقالة؟ الأقرب المنع ... وقوله: فهل تجوز؟ أشار إلى تصحيحه، وكتب أيضًا: لو أجر المشتري المبيع، ثم تقايلا، فله الأجرة المسماة، وعليه للبائع أجرة المثل. وكتب أيضًا: قال أبو زرعة: في مختصر المهمات: قال الشيخ سراج الدين البلقيني: لو أجره المشتري ثم تقايلا لم أقف فيها على نقل، وسئلت عنها، وترددت فيها، ثم استقر جوابي على إلحاقها بصورة الإجارة، ثم يحصل بعدها تحالف وانفساخ المبيع، والحكم في تلك: أن الأجرة المسماة للمشتري، وعليه للبائع أجرة المثل خلافًا لما في التتمة والبحر من إيجاب الأرش هناك: وهو ما بين قيمته مؤجرًا، وقيمته غير مؤجر، ولا يفترق الحال فيما أعتقد بين أن يعلم البائع بالإجارة وبين ألا يعلم؛ لأن صورة التلف تصح الإقالة فيها مع العلم، وإقامة البدل فيها مقامه، وفي العيب أطلق المصنف تبعًا لأصله غرامة الأرش، وقيد في التتمة: بألا يكون البائع عالمًا، وما أطلقه المصنف تبعًا لأصله أرجح كما في تلف المبيع، وكما في صورة التحالف ولكن يبقى في صورة الجهل كلام: وهو أنه إذا جهل البائع الإجارة، وحصلت الإقالة مع جهله بالإجارة، فإنه إذا علم بالإجارة له أن يفسخ الإقالة، وإن قلنا: إنها فسخ فهذا فسخ للفسخ. اهـ قلت -القائل الرملي- ما ذكره آخرًا مخالف لقوله في الروضة، وأصلها: أنه لو علم البائع بالمبيع عيبًا كان حدث في يد المشتري قبل الإقالة، فلا رد له: إن قلنا فسخ" (¬1). ¬
والذي يظهر لي أن البائع إذا كان جاهلًا بأن المبيع قد تعلق به حق الغير كان له الخيار، ثم إذا شاء أن يمضي الإقالة أمضاها، وإن شاء أن يردها ردها، فإن اختار الإقالة دخل مكان المشتري، وليس له إلا الأجرة المسماة، وليس له أجرة المثل؛ لأنه حين رضي بالإقالة، وهي مؤجرة فقد رضي أن يحل مكان المشتري، فلا يتحمل المشتري مع الإقالة إجارة أكثر مما أجرها به، سواء كانت بمثل أجرة المثل، أو أكثر، أو أقل، والله أعلم.
المبحث الثالث مئونة الرد في الإقالة
المبحث الثالث مئونة الرد في الإقالة [م - 686] اختلف العلماء فيمن يتحمل مئونة الرد، كنقل المبيع، وعده، ووزنه، وكيله. فقيل: مئونة الرد على البائع؛ لأن الإقالة تتوقف على رضاه، فيكون ذلك من باب الرضا بتحمل تبعة الإقالة، ولأن البائع رضي أن يبقى المبيع بيد المشتري، فهو أمانة في يده، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: مئونة الرد على من طلبها من العاقدين، سواء كان البائع أو المشتري، وهذا مذهب المالكية (¬3). لأن من وافق على الإقالة فقد فعل معروفًا وإحسانًا وإرفاقًا، وليس من المكافأة تحميله تبعات الرد. وقيل: مئونة الرد على المشتري، وهو مذهب الشافعية (¬4)، وقول في مذهب الحنابلة، وهذا محمول على أن الإقالة بيع، وليست فسخًا، أو على أن يد المشتري على المبيع يد ضمان، وليست يد أمانة (¬5). ¬
وأقرب الأقوال للصواب هو قول المالكية، وأن من طلب شيئًا لزمه مؤونته، لأنه فعل من أجله، والله أعلم.
المبحث الرابع في الإقالة من الإقالة
المبحث الرابع في الإقالة من الإقالة [م - 687] إذا حصلت الإقالة، فهل يملك العاقدان الرجوع عن الإقالة، في هذا خلاف بين أهل العلم: فقيل: تصح إقالة الإقالة بشرطها، وهو أن يكون ذلك برضا المتعاقدين، وألا يكون من باب الإقالة من المسلم فيه قبل قبضه، فإن الإقالة منه لا تقبل الإقالة لكون المسلم فيه دينًا سقط، والدين إذا سقط لا يعود وهذا مذهب الحنفية (¬1). قال في البحر الرائق: "وتصح إقالة الإقالة، فلو تقايلا البيع، ثم تقايلا الإقالة ارتفعت الإقالة، وعاد البيع ... إلا في مسألة، وهي إقالة السلم فإنها لا تقبل الإقالة" (¬2). ويتخرج على مذهب المالكية الذين يرون أن الإقالة بيع مستأنف، لا علاقة له في البيع الأول؛ لأن تكرار البيع لا يوجد ما يمنع منه، فكذلك الإقالة. واختار الحنابلة (¬3)، عدم إقالة الإقالة؛ وعللوا ذلك بأن الفسخ لا يفسخ. ¬
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد الثامن
(ح) دبيان بن محمَّد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمَّد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة / دبيان محمَّد الدبيان - الرياض، 1432 هـ 580 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجموعة) ج 8 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ. العنوان ديوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (8)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا هو المجلد الثامن من هذه الموسوعة، والعقد الثاني من عقود المعاوضات، وقد اخترت أن يكون عقد السلم هو العقد التالي لعقد البيع، وذلك لأن عقد السلم وإن أخذ اسمًا خاصًا إلا أنه بيع من البيوع، فهو بيع لشيء موصوف في الذمة، مؤجل التسليم، ويعتبر عقد السلم من أهم عقود المعاوضات؛ باعتباره البديل المتفق عليه للربا المحرم، ولم يختلف الفقهاء في جواز عقد السلم، وقد قال ابن عباس: لما حرم الله الربا أباح السلم (¬1). وقال الرازي: جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم (¬2). لهذا عقدت فصلًا خاصًا بينت أهمية هذا العقد للمصارف الإِسلامية. وقد ألحقت بعقد السلم بعض العقود المشابهة، من ذلك عقد الاستصناع، والمقاولة، والتوريد، والمناقصة. وإنما ألحقت هذه العقود بعقد السلم؛ لأن الجمهور يرون الاستصناع من بيع السلم، ويطبقون عليه شروط السلام خلافًا للحنفية. وعقد المقاولة هو عقد استصناع أيضًا إن كانت المواد من المقاول، لذا أتبعت عقد المقاولة بعقد الاستصناع، وما يقال في عقد المقاولة يقال في عقد التوريد، فعقد التوريد تارة يكون سلمًا، وتارة يكون استصناعًا كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ¬
وختمت هذا المجلد بعقد المناقصة باعتبار المناقصة طريقة يتم بها إنشاء عقد المقاولة وعقد التوريد. وقد انتظمت بحوث هذا المجلد وفق الخطة التالية: عقد السلم: وقد اشتمل على تمهيد، وأربعة أبواب، وثم تقسيم الأبواب إلى فصول ومباحث على النحو التالي: التمهيد: واشتمل على تعريف السلم. الباب الأول: في حكم السلم. الفصل الأول: في الأدلة على مشروعية السلم. الفصل الثاني: أهمية عقد السلم للمصارف الإِسلامية. الفصل الثالث: عقد السلم جاري على وفق القياس. الفصل الرابع: السلم لا يدخل في النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان. الباب الثاني: في أركان السلم. الفصل الأول: في الركن الأول (الصيغة). المبحث الأول: في شروط الإيجاب والقبول. المبحث الثاني: في انعقاد السلم بلفظ البيع. المبحث الثالث: في اشتراط أن تكون صيغة عقد السلم باتة لا خيار فيها. الفرع الأول: ثبوث خيار المجلس في عقد السلم. الفرع الثاني: في اشتراط الخيار في عقد السلم. الفرع الثالث: في اشتراط خيار الرؤية.
الفرع الرابع: خيار العيب في عقد السلم. الفصل الثاني: الركن الثاني (العاقدان). الفصل الثالث: في الركن الثالث (في المعقود عليه). الباب الثالث: في شروط المعقود عليه. الفصل الأول: في الشرط العائد على البدلين معًا. الشرط الأول: ألا يجري بين البدلين ربا النسيئة. الشرط الثاني: في كون المسلم فيه أو عوضه منفعة. الفصل الثاني: في الشروط العائدة إلى رأس مال السلم. الشرط الأول: أن يكون رأس المال معلومًا. المبحث الأول: أن يكون رأس المال موصوفًا في الذمة. المبحث الثاني: أن يكون رأس المال معينًا غير موصوف في الذمة. الشرط الثاني: أن يتم تسليم رأس المال في مجلس العقد. الفرع الأول: في قبض رأس المال وتأخير بعضه. الفرع الثاني: جعل ما في الذمة رأس مال لسلم. الفرع الثالث: جعل ما في يد المسلم إليه رأس مال لسلم. الفصل الثالث: في الشروط العائدة إلى المسلم فيه. الشرط الأول: أن يكون المسلم فيه دينًا. الشرط الثاني: العلم بالمسلم فيه. المبحث الأول: العلم بالمسلم فيه بضبط مقداره.
الفرع الأول: السلم في المعدود. المطلب الأول: السلم في المعدودات المتماثلة. المطلب الثاني: السلم في المعدود المتفاوت. المطلب الثالث: السلم في المعدود كيلًا أو وزنًا. الفرع الثاني: يجب أن تكون وحدة الكيل معلومة عند العامة. الفرع الثالث: الإِسلام بالكيل وزنًا والعكس. المبحث الثاني: العلم بالمسلم فيه بضبط صفاته. الفرع الأول: في اشتراط الأجود أو الأردأ. الفرع الثاني: إقامة الأنموذج مقام وصف السلم. الفرع الثالث: السلم في الجواهر. الفرع الرابع: السلم في الأواني المختلفة الرؤوس والأوساط. الفرع الخامس: السلم في اللحم. الفرع السادس: السلم في الأكارع والرؤوس. الفرع السابع: السلم في الحيوان. الفرع الثامن: السلم في العقار (الدور والمباني). الفرع التاسع: السلم في الدنانير والدراهم. الفرع العاشر: السلم فيما دخلته النار. الشرط الثالث: أن يكون مؤجلًا. الفرع الأول: أدني مدة الأجل في السلم وأكثره.
الفرع الثاني: أن يكون الأجل معلومًا. الفرع الثالث: السلم في الحصاد والجذاذ. الشرط الرابع: أن يكون المسلم فيه مقدورًا على تسليمه عند حلول أجله. الفرع الأول: السلم في المعدوم عند العقد. الفرع الأول: جواز السلم لمن ليس عنده أصل المسلم فيه. الشرط الخامس: في تعيين مكان الإيفاء. الباب الرابع: في الأحكام المترتبة على عقد السلم. الفصل الأول: في بيع المسلم فيه على غير من هو عليه قبل قبضه. الفصل الثاني: في بيع المسلم فيه على من هو عليه قبل قبضه. الفصل الثالث: في حكم الشركة والتولية في بيع المسلم فيه قبل قبضه. الفصل الرابع: في إيفاء المسلم فيه. الفرع الأول: حكم الاعتياض عن صفة الجودة والرداءة. الفرع الثاني: إذا تعذر المسلم فيه عند حلول الأجل. الفصل الخامس: توثيق الدين المسلم فيه برهن أو كفيل. الفصل السادس: الإقالة في عقد السلم. فرع: في استبدال رأس المال بغيره بعد الإقالة. الفصل السابع: في تقسيط المسلم فيه على نجوم. الفصل الثامن: في السلم الموازي. المبحث الأول: في تعريف السلم الموازي.
المبحث الثاني: في حكم السلم الموازي. الباب الخامس: في عقد الاستصناع. تمهيد: في تعريف الاستصناع وبيان مقوماته. الفصل الأول: في توصيف عقد الاستصناع. المبحث الأول: الفرق بين الاستصناع وبين السلم. المبحث الثاني: الاستصناع بين العقد والوعد. المبحث الثالث: الاستصناع عقد بيع أو إجارة. المبحث الرابع: الاستصناع عقد لازم أو جائز. الفصل الثاني: خلاف الفقهاء في عقد الاستصناع. الفصل الثالث: في شروط عقد الاستصناع. الشرط الأول: ذكر الجنس والنوع والقدر. الشرط الثاني: أن يكون مما يجري فيه التعامل بين الناس. الشرط الثالث: في ذكر الأجل فيه. عقد المقاولة: ويتكون من تمهيد وسبعة أبواب، والأبواب مقسمة إلى فصول، ومباحث وغيرها، على النحو التالي. التمهيد: ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: في تعريف المقاولة. المبحث الثاني: في خصائص عقد المقاولة. الباب الأول: في حقيقة المقاولة. ويشتمل على فصلين:
الفصل الأول: في التوصيف الفقهي لعقد المقاولة. المبحث الأول: في توصيف العقد إذا كان العمل والمواد من المقاول. المبحث الثاني: أن يقدم المقاول العمل فقط. الفصل الثاني: في الحكم الفقهي للمزاولة. الباب الثاني: في شروط المقاولة. الباب الثالث: في الالتزامات الناشئة عن عقد المقاولة. الفصل الأول: في التزام المقاول. المبحث الأول: التزام المقاول بإنجاز العمل. المبحث الثاني: التزام المقاول بشأن مواد العمل. المبحث الثالث: تسليم العمل بعد إنجازه. الفصل الثاني: في التزام رب العمل. المبحث الأول: تمكين المقاول من إنجاز العمل. المبحث الثاني: تسليم العمل بعد إنجازه. المبحث الثالث: في دفع الأجرة المستحقة للمقاول. الفرع الأول: في وقت امتلاك المقاول للأجرة. الفرع الثاني: في شروط الأجرة. الشرط الأول: في معرفة الأجرة. الشرط الثاني: في اشتراط تعجيل الأجرة إذا كانت معينة. الشرط الثالث: في تأجيل الأجرة إذا كانت الإجارة على عمل في الذمة.
الشرط الرابع: في أجرة المقاول إذا كانت منفعة. الباب الرابع: في ضمان المقاول. الفصل الأول: في ضمان المقاول إذا كان متعهدًا بالمواد. الفصل الثاني: في ضمان المقاول إذا كانت المواد من رب المال. المبحث الأول: أن تكون العين في يد المقاول. المبحث الثاني: في ضمان المقاول والعين في يد صاحبها. الفصل الثالث: في صفة العيب المضمون. الفصل الرابع: في كيفية الضمان إذا كانت المواد من المقاول. الفصل الخامس: في كيفية الضمان إذا كانت المواد من رب العمل. الفصل السادس: إذا حبس العين لاستيفاء الأجرة فتلفت. الفصل السابع: في البراءة من العيب. الباب الخامس: في المقاولة من الباطن. الفصل الأول: في تعريف المقاولة من الباطن. الفصل الثاني: في حكم عقد المقاولة من الباطن. الفصل الثالث: في ضمان المقاول من الباطن. الباب السادس: في الشرط الجزائي. الفصل الأول: حكم اشتراط مثل هذا الشرط في العقود. الفصل الثاني: في أخذ الشرط الجزائي على المقاول. الفصل الثالث: في أخذ الشرط الجزائي على صاحب العمل.
الباب السابع: في انتهاء عقد المقاولة. الفصل الأول: في انتهاء المقاولة بإنجاز العقد. الفصل الثاني: إنهاء عقد المقاولة عن طريق الإقالة. الفصل الثالث: انتهاء المقاولة بوجود ما يقتضي الفسخ. الفصل الرابع: في موت المقاول. عقد التوريد: ويشتمل على تمهيد، وبابين. التمهيد: ويشتمل على مباحث: المبحث الأول: التعريف بعقد التوريد. المبحث الثاني: خصائص عقد التوريد. المبحث الثالث: عقد التوريد وبيع ما ليس عند المورد. الباب الأول: في توصيف عقد التوريد. الفصل الأول: عقد التوريد والعقود المسماة. الفصل الثاني: التوريد بين العقد والوعد. الفصل الثالث: التوريد من العقود اللازمة. الفصل الرابع: التوريد عقد مركب من بيع وإجارة. الباب الثاني: حكم عقد التوريد في الفقه الإِسلامي. الفصل الأول: أن تكون السلعة الموردة معينة. المبحث الأول: أن تباع بلا رؤية ولا صفة. المبحث الثاني: أن تباع السلعة المعينة الغائبة بالوصف.
الفصل الثاني: أن تكون السلعة موصوفة في الذمة. المبحث الأول: أن تتطلب السلعة صناعة. المبحث الثاني: أن تكون السلعة لا تتطلب صناعة. المبحث الثالث: أن يتم توريد السلعة من دائم العمل. الفصل الثالث: تأثير الظروف الطارئة على التزامات المقاول. عقود المناقصات: ويشتمل على تمهيد، وثلاثة أبواب. التمهيد: ويشتمل على مباحث: المبحث الأول: تعريف المناقصة والعلاقة بينها وبين المزايدة. المبحث الثاني: في خصائص عقد المناقصة. المبحث الثالث: مقومات عقد المناقصة. الباب الأول: في الإجراءات المتبعة في عقد المناقصة. الباب الثاني: في الإيجاب والقبول. الفصل الأول: تحديد الإيجاب والقبول في عقد المناقصة. الفصل الثاني: في رجوع المتقدم بالعطاء عن إيجابه قبل رسو المناقصة. الفصل الثالث: في تقديم الإيجاب الأكثر على الإيجاب الأقل. الباب الثالث: في التوصيف الفقهي للمناقصة. الفصل الأول: في حكم بيع دفتر الشروط. الفصل الثاني: خطاب الضمان في عقد المناقصة. المبحث الأول: التعريف بخطابات الضمان.
المبحث الثاني: أنواع الضمان في عقد المناقصة. المبحث الثالث: في مصادرة مبلغ الضمان إذا سحب العارض عرضه قبل البت. الفرع الأول: في حكم مصادرة الضمان الابتدائي. الفرع الثاني: في حكم مصادرة الضمان النهائي. الفصل الثالث: في حكم إجراء عقد المناقصة. هذه آخر مسألة في خطة بحث المجلد الثامن، والحمد لله على عونه وتوفيقه، وسوف يلي هذه العقود إن شاء الله تعالى عقد الإجارة في المجلد التاسع، أسأل الله -سبحانه وتعالى- العون والسداد.
عقد السلم
عقد السلم تمهيد في تعريف السلم تعريف السلم اصطلاحًا (¬1): السلم نوع من البيوع، إلا أنه لما كان له شروط خاصة أعطي اسمًا خاصًا. وقد ذكر الفقهاء للسلم تعريفات عدة تختلف فيما بينها في بعض القيود تبعًا لاختلافهم في الشروط المعتبرة فيه. فالفقهاء متفقون على أن السلم عقد (¬2). وبعضهم يصرح بأنه عقد بيع (¬3). ومتفقون أيضًا أن المبيع موصوف. ¬
ومتفقون أيضًا أن الموصوف غير معين: أي دين في الذمة، فلا يجوز في السلم أن يكون العقد على عين معينة، ولو كانت موصوفة؛ لأن العين لا تسمى سلمًا. ويختلف الدين عن العين بأمرين هما: الأول: في المتعلق، فالدين متعلق في الذمة، وقد يكون حالًا، وقد يكون مؤجلًا. والعين يتعلق الحق بذاتها، وليس في الذمة، وقد تكون حاضرة، وقد تكون غائبة. وبناء على هذا الفرق: فإن ما تعلق بالذمة لا يبطل، ولو تلف مال صاحبه كله؛ لأن متعلقه بالذمة لم يتعلق حقه بعين معينة، بينما العين إذا تلفت بغير تعد، ولا تفريط فقد فاتتت على صاحبها؛ لأن حق صاحبها متعلق بعينها. وكذلك من عليه دين فإن له قضاءه من أي ماله شاء، وإن لم يدفع عينه. بخلاف العين، فإن الحق يتعلق بذاتها لا بأمثالها. الفارق الثاني: الحوالة والمقاصة لا تجري إلا في الديون؛ لأن الأعيان إنما تستوفى بذاتها لا بأمثالها. هذا ما يتفق عليه الفقهاء في عقد السلم، وأما ما يختلفون فيه فإنهم يختلفون فيما يلي: (1) يختلف الشافعية مع الجمهور: بأن الشافعية يصححون السلم حالًا ومؤجلًا بينما الجمهور يرون اشتراط الأجل في صحة السلم. وسيأتي إن شاء الله تعالى تحرير الخلاف في السلم الحال. (2) يختلف المالكية مع الجمهور في تسليم الثمن في مجلس العقد.
فالجمهور يشترطون تسليم رأس المال في مجلس العقد، بينما المالكية أجازوا تأجيله اليوم واليومين والثلاثة؛ لخفة الأمر. هذه هي الفروق، وواضح أن الحنفية والحنابلة متفقون على التعريف، وانفرد المالكية بجواز تأخير الثمن يومًا، أو يومين؛ لقرب الأمر، كما انفرد الشافعية بجواز أن يكون السلم حالًا. إذا عرف هذا، نأتي إلى ذكر التعريفات: عرفه الحنفية: بأنه بيع آجل بعاجل (¬1). فقوله: (بيع): أخرج القرض، فإنه مبادلة عاجل بآجل، ولكنه على سبيل الإرفاق والإحسان، وليس على سبيل التكسب والمعاوضة. وقوله (آجل) إشارة إلى أن الحنفية يشترطون الأجل في المسلم فيه، وقد خرج بهذا القيد كل بيع يجب فيه التقابض، كبيع الصرف، وبيع الأموال الربوية المتحدة في العلة، كبيع الذهب بالفضة، وبيع البر بالتمر، فإن هذه البيوع لا يجوز أن يسلم فيها؛ لأنه لا يجوز تأجيل المبيع. ويؤخذ على التعريف: أنه لم يذكر قيد أن يكون المؤجل متعلقًا بالذمة، فإن المعين قد يكون مؤجلًا، ولا يسمى سلمًا، بل لا بد أن يكون المؤجل متعلقًا بالذمة، أي غير معين. فمن اشترى سيارة زيد على أن يستلمها بعد شهر فهذا المبيع عين مؤجلة، ولا تتعلق بالذمة؛ لأن السلعة كما قلت معينة، ومن اشترى سيارة يستلمها بعد شهر صفتها كذا، وكذا، ولم يرد سيارة بعينها، فهذا المبيع دين مؤجل، ومحله ¬
تعريف المالكية
الذمة، وإن كان الحنفية لا يجيزون تأجيل المعين، بل يجب أن يكون حالًا عندهم. وقد نص العيني في عمدة القارئ على أن يكون المسلم فيه موصوفًا في الذمة (¬1). وقولهم (بعاجل) إشارة إلى وجوب تسليم الثمن في مجلس العقد؛ لأن تأجيل الثمن، والمبيع مؤجل يجعل العقد من باب بيع الدين بالدين المتفق على منعه، وهو ما يسمى ابتداء الدين بالدين. تعريف المالكية: عرفه القرطبي بقوله: "بيع معلوم في الذمة، محصور بالصفة، بعين حاضرة، أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم" (¬2). فهذا التعريف موافق لتعريف الجمهور إلا في قوله (أو ما هو في حكمها) أي في حكم العين الحاضرة، حيث يرى المالكية أنه يجوز تأخير قبض رأس مال السلم يومين، أو ثلاثة؛ لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه، بينما يرى الجمهور أنه لا يجوز التفرق قبل قبض الثمن في مجلس العقد. تعريف الشافعية: عرفه النووي بقوله: عقد على موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلًا (¬3). وعرفه بعض الشافعية: تسليم عاجل في عوض، لا يجب تعجيله (¬4). ¬
تعريف الحنابلة
وهذا التعريف أكثر تعبيرًا عن قيود الشافعية، فقوله: لا يجب تعجيله، إشارة إلى جواز السلم الحال، والمؤجل. وهذا التعريف موافق لتعريف الجمهور إلا أن الشافعية لم يشترطوا الأجل في المسلم فيه. تعريف الحنابلة: قال في المطلع: "عقد على موصوف في الذمة، مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد" (¬1). وبهذا يتبين لنا أن عقد السلم هو عكس بيع المرابحة المصرفية، فبيع المرابحة المصرفية يقوم على تسليم المبيع مقدمًا، وتأجيل الثمن في مقابل زيادة في الثمن نظير التأجيل، بينما عقد السلم يقوم على تسليم الثمن مقدمًا، وتأجيل المبيع، مقابل زيادة في مقدار المبيع، وفي صفته. ويتكون عقد السلم مما يلي: (1) مشتر ويسمى في لغة الفقهاء: (المسلم، أو يقال: رب السلم). (2) بائع، ويسمى: (المسلم إليه). (3) الثمن المقدم، ويسمى: (رأس مال السلم). (4) المبيع المؤجل ويسمى: (المسلم فيه، أو دين السلم). ¬
الباب الأول في حكم السلم
الباب الأول في حكم السلم الفصل الأول في الأدلة علي مشروعية السلم إذا جاز أن يثبت الثمن في الذمة، جاز أن يثبت المبيع في الذمة؛ لأنه أحد العوضين، فما جاز في الثمن جاز في المثمن. [م - 688] الأدلة على مشروعية السلم: الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، فالآية بعمومها تشمل جميع المداينات. (ث- 92) فقد روى ابن أبي شيبة من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس، قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله، وأذن فيه، ثم قرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] (¬1). [حسن] (¬2). ¬
الدليل الثاني
قال شيخ شيخنا عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: "فيها -يعني الآية- فوائد كثيرة، منها: جواز المعاملات في الديون، سواء كانت ديون سلم، أو شراء مؤجل ثمنه، فكله جائز؛ لأن الله أخبر به عن المؤمنين، فإنه من مقتضيات الإيمان، وقد أقرهم عليه الملك الديان" (¬1). الدليل الثاني: قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، أخذ بعض العلماء من عموم الآية جواز السلم؛ باعتبار السلم نوعًا من البيع (¬2). الدليل الثالث: (ح-512) ما رواه البخاري من طريق ابن أبي نجيح، عن عبد الله ابن كثير، عن أبي المنهال عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يسلفون بالتمر السنتين، والثلاث، فقال: من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم. ورواه مسلم (¬3). وفي رواية للبخاري: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم يسلفون في الثمار السنتين، ¬
الدليل الرابع
والثلاث، فقال: أسلفوا في الثمار في كيل معلوم، إلى أجل معلوم. ورواه مسلم (¬1). وفي رواية للبخاري: من أسلف في شيء ففي كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم (¬2). الدليل الرابع: (ح-513) روى البخاري بإسناده من طريق شعبة، عن ابن أبي المجالد قال: اختلف عبد الله بن شداد بن الهاد، وأبو بردة في السلف، فبعثوني إلى ابن أبي أوفى - رضي الله عنه -، فسألته فقال: إنا كنا نسلف على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر في الحنطة، والشعير، والزبيب، والتمر. وسألت ابن أبزى، فقال مثل ذلك (¬3). ورواه البخاري من طريق الشيباني، حدثنا محمَّد بن أبي المجالد، قال: بعثني عبد الله بن شداد، وأبو بردة إلى عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنهما - فقالا: سله، هل كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلفون في الحنطة، قال عبد الله: كنا نسلف نبيط أهل الشام في الحنطة، والشعير، والزيت، في كيل معلوم، إلى أجل معلوم. قلت: إلى من كان أصله عنده؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك، ثم بعثاني إلى عبد الرحمن بن أبزى، فسألته، فقال: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلفون على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم نسألهم، ألهم حرث، أم لا؟ (¬4). ¬
الدليل الخامس
وهذا يدل على أن تعاطي السلم لم يكن فيه خلاف بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في عصر التشريع وبعده. الدليل الخامس: من الإجماع، نقل الإجماع الشافعي، قال في الأم: "والسلف بالصفة والأجل ما لا اختلاف فيه عند أحد من أهل العلم حفظت عنه" (¬1). وقال القرطبي - رحمه الله-: "والسلم بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق، مستثنى من نهيه - عليه السلام -، عن بيع ما ليس عندك ... " (¬2). وقال النووي: "أجمع المسلمون على جواز السلم" (¬3). وممن حكى الإجماع الزيلعي في تبيين الحقائق (¬4)، وابن قدامة في المغني (¬5)، وابن رشد في بداية المجتهد (¬6)، وغيرهم. وقال ابن حجر: "اتفق العلماء على مشروعيته، إلا ما حكي عن ابن المسيب" (¬7). ولا أدري ما صحة ما ينسب عن ابن المسيب، ذلك أن في مدونة مالك، ومصنف ابن أبي شيبة ما يدل على أنه يرى جواز السلم في الجملة (¬8). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: من القياس، فإنه إذا جاز أن يثبت الثمن في الذمة جاز أن يثبت المبيع في الذمة؛ لأنه أحد العوضين، فما جاز في الثمن جاز في المثمن. الدليل السابع: حاجة الناس إلى جواز السلم، والشريعة إنما جاءت لتلبية حاجة الناس فيما لا ظلم فيه، فأرباب الثمار وأصحاب الصناعات ربما احتاجوا إلى السيولة النقدية لتمويل مشاريعهم، وإكمالها، وإصلاح ثمارهم، وربما أعوزتهم النفقة، فجوز لهم السلم؛ ليرتفقوا بذلك، ويرتفق به من لديه فائض مالي يبحث عن استثماره وذلك في حصوله على سلع بسعر رخيص، سواء كانت حاجته للسلع للتجارة، أو للاستهلاك.
الفصل الثاني أهمية عقد السلم للمصارف الإسلامية
الفصل الثاني أهمية عقد السلم للمصارف الإِسلامية قال ابن عباس: لما حرم الله الربا أباح السلم (¬1). وقال الرازي: جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم ... (¬2). [م - 689] السلم في أصله عقد ينهض بوظيفة التمويل، وهو بذلك بديل للربا المتفق على تحريمه، وصالح لعمل البنوك الإِسلامية من حيث مرونته، واستجابته لحاجات التمويل المختلفة، سواء أكان التمويل قصير الأجل، أم متوسطة، أم طويلة، ويستطيع أن يلبي حاجات شرائح مختلفة ومتعددة من العملاء، سواء أكانوا من المنتجين الزراعيين، أم الصناعيين، أم المقاولين، أم من التجار. جاء في تفسير البغوي: "قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لما حرم الله الربا أباح السلم" (¬3). وجاء في تفسير الرازي لآية المداينة: "جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم، ولهذا قال بعض العلماء: لا لذة، ولا منفعة، يوصل إليها بالطريق الحرام، إلا وضع الله - سبحانه وتعالى - لتحصيل مثل ذلك اللذة طريقًا حلالاً، وسبيلًا مشروعًا" (¬4). ¬
فالبنك الإِسلامي بإمكانه أن يشتري السلع المثلية، ويدفع الثمن حالًا، ويقبض الكمية التي اشترى بعد ستة أشهر، أو سنة، أو أكثر من ذلك، وتستطيع البنوك عند تسلم المسلم فيه (المبيع) أن تقوم ببيعه نقدًا، أو بالأجل، والبيع بالأجل ييسر على المشترين، ويحقق ربحًا جديدًا للبنك، ويستطيع البنك أن يبقى في إطار الوساطة المالية، ولا يعمل عمل التجار، فلا يضطر إلى استئجار مستودعات، ومخازن، وذلك بالدخول في عقد سلم موازٍ، يكون فيه المصرف بائعًا بعد أن كان مشتريًا في العقد الأول، ويبيع تلك السلعة المثلية بالوصف، وليس عين ما اشتراه؛ لأنه لا يجوز البيع قبل قبض السلعة، ويجعل أجل التسليم مماثلًا لما اشترى، وعندئذ يتمثل ربح البنك في الفرق بين سعر شرائه وسعر بيعه. جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي: "تعددت مجالات تطبيق عقد السلم، ومنها ما يلي: أ- يصلح عقد السلم لتمويل عمليات زراعية مختلفة، حيث يتعامل المصرف الإسلامي مع المزارعين الذين يتوقع أن توجد لديهم السلعة في الموسم من محاصيلهم، أو محاصيل غيرهم التي يمكن أن يشتروها، ويسلموها إذا أخفقوا في التسليم من محاصيلهم، فيقدم لهم بهذا التمويل نفعًا بالغًا، ويدفع عنهم مشقة العجز المالي عن تحقيق إنتاجهم. ب- يمكن استخدام عقد السلم في تمويل النشاط الزراعي، والصناعي، ولا سيما تمويل المراحل السابقة لإنتاج وتصدير السلع والمنتجات الرائجة، وذلك بشرائها سلمًا، وإعادة تسويقها بأسعار مجزية. ج- يمكن تطبيق عقد السلم في تمويل الحرفيين، وصغار المنتجين الزراعيين والصناعيين عن طريق إمدادهم بمستلزمات الإنتاج في صورة معدات، وآلات،
أو مواد أولية، كرأس مال سلم مقابل الحصول على بعض منتجاتهم، وإعادة تسويقها" (¬1). لهذا يجب على المصارف الإسلامية، والباحثين والمتخصصين في التمويل الإسلامي النظر إلى عقد السلم كبديل عملي للإقراض الربوي. فيتفق التمويل بالسلم مع التمويل الربوي بما يلي: أن الممول بعقد السلم يستطيع أن يدفع ما، حاضرًا (رأس مال السلم) ليحصل على مبيع بثمن أرخص من قيمته الحاضرة، فكأنه دفع مالًا أقل، ليأخذ أكثر مقابل التأجيل. وهو بهذا يتفق مع البنك الربوي الذي يدفع أقل، ليأخذ أكثر في مقابل التأجيل. إلا أنه يختلف عن التمويل الربوي بما يلي: (1) أن الواسطة في تمويل السلم هي السلع الموصوفة في الذمة، بينما الواسطة لدى البنوك التقليدية هي النقود، وليست السلع. وهذا فارق جوهري، فالتمويل في عقد السلم يؤدي إلى زيادة الطاقة الإنتاجية من سلع صناعية، أو زراعية، بخلاف الاتجار بالنقود، فهو لا يخدم سوى أصحاب رؤوس الأموال فقط، ليكون المال دولة بين الأغنياء. (2) إذا تعذر تسليم السلعة في عقد السلم، واختار البنك، أو المشتري عدم فسخ العقد، وإمهال البائع، فإنه لا يجوز له أن يأخذ مقابل التأجيل أية فوائد، أو زيادة في صفة المبيع، أو في كميته، بل ينظر البائع في إرفاق يشبه القرض إلى أن يتمكن من توفير السلعة، بخلاف التمويل الربوي فإنه يحسب فائدة على المدة التي يتأخر فيها عن التسديد، ولو كان التأخر لظروف خارجة عن إرادته. ¬
(3) التمويل في عقد السلم معرض للربح، والخسارة، فقد تهبط السلع في وقت التسليم، ويكون ثمنها أرخص من ثمنها وقت الشراء، ويكون ذلك من صالح البائع، وقد يحصل العكس، فقد ترتفع قيم السلع، فيتضاعف الربح، ويكون هذا من صالح المشتري، فالحصول على الربح أمر محتمل وليس مؤكدًا، وهذه طبيعة التجارة، بل طبيعة التمويل، والاستثمار في الاقتصاد الإِسلامي. وهذا يحقق العدل، والمساواة بين طرفي العقد، فليس هناك طرف يمكنه الحصول على ربح مضمون، بل كلا الطرفين معرض للربح والخسارة. أما التموبل الربوي فهو لا يعرض نفسه للمخاطر، فهو يدفع نقودًا ليأخذها مضافًا إليها الفائدة الربوية، سواء ربح متلقي التمويل، أم خسر. هذه أهم الفروق بين التمويل في عقد السلم، وبين التمويل في عقد الربا.
الفصل الثالث عقد السلم جار على وفق القياس
الفصل الثالث عقد السلم جار على وفق القياس [م - 690] بعد اتفاق الفقهاء على جواز عقد السلم، فقد اختلفوا هل هذه الإباحة متفقة مع القياس، وقواعد الشريعة، أم أنها مخالفة للقياس، وإنما شرع على سبيل الرخصة على قولين: القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة إلى أن عقد السلم شرع رخصة، وأنه مخالف للقياس، وأنه مستثنى من النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده (¬1). واستدلوا على ذلك بما يلي: الدليل الأول: (ح-514) ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن بيع ما ليس عند البائع، ورخص في السلم (¬2). [لا أصل له بهذا اللفظ، قال في العناية: هذا لا يثبت إلا من كلام الفقهاء] (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: السلم على خلاف القياس؛ لأنه من بيع المعدوم، وبيع المعدوم لا يجوز. قال ابن نجيم: "وأما شرائط المعقود عليه: فأن يكون موجودًا ... وأن يكون مقدور التسليم، فلم ينعقد بيع المعدوم" (¬1). ويقول الكاساني في الكلام على شروط انعقاد البيع: "وأما الذي يرجع إلى المعقود عليه فأنواع، منها أن يكون موجودًا، فلا ينعقد بيع المعدوم ... " (¬2). وفي الفتاوى الهندية: "وأما شرائط الانعقاد، فأنواع: منها في العاقد ... ومنها في المبيع، وهو أن يكون موجودًا، فلا ينعقد بيع المعدوم ... " (¬3). وقال القرافي المالكي في الفروق: "بيع المجهول الموجود باطل قطعًا، فيبطل بطريق الأولى بيع المعدوم" (¬4). ¬
ويناقش
وقال الشيرازي في المهذب: "ولا يجوز بيع المعدوم، كالثمرة التي لم تخلق ... " (¬1). وقال النووي في المجموع: "بيع المعدوم باطل بالإجماع ... " (¬2). ويقول ابن قدامة في الكافي: "ولا يجوز بيع المعدوم؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الغرر. رواه مسلم" (¬3). فلما جاز بيع السلم، وهو من بيع المعدوم، كان ذلك دليلًا على أنه على خلاف القياس. ويناقش: صحيح أن السلم قد يكون من بيع المعدوم؛ لأن المسلم فيه قد لا يكون موجودًا وقت العقد، لكن السلم ليس من بيع المعدوم الممنوع؛ لأن جمهور الفقهاء الذين جوزوا أن يكون المسلم فيه غير موجود وقت العقد، اشترطوا أن يكون المسلم فيه مما يغلب وجوده عند حلول الأجل، وهذا يخرجه من المعدوم الممنوع بيعه، ويدخله في المعدوم الجائز بيعه. قال ابن القيم: "ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا في كلام أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بلفظ عام، ولا بمعنى عام، وإنما في السنة النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة، كما فيها النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة؛ فليست العلة في المنع لا العدم، ولا الوجود، بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر، وهو: ما لا يقدر على تسليمه، سواء ¬
القول الثاني
كان موجودًا، أو معدومًا، كبيع العبد الآبق، والبعير الشارد، إن كان موجودًا ... " (¬1). وبيع المعدوم لا يخرج عن ثلاثة أحوال: إما أن يكون المبيع فيه محقق العدم، فليس في هذا البيع غرر، والبيع باطل بداهة؛ لاستحالة التنفيذ. وإما أن يكون المبيع محقق الوجود عند التسليم، فلا غرر أيضًا، والبيع صحيح. ومنه السلم، فإن الشارع أجازه؛ لأن المبيع فيه محقق الوجود عادة في المستقبل. وإما أن يكون المبيع مجهول الوجود؛ وهذا ممنوع لوجود الغرر. وعليه نقول: المعدوم الذي فيه غرر لا يجوز بيعه، ولكن ليس كل معدوم يخفى علينا عاقبته؛ لأن من المعدوم ما لا غرر في بيعه، ولا تخفى علينا عاقبته، كما في بيع الأشياء المعدومة وقت العقد، ولكنها متحققة الوجود في المستقبل بحسب العادة، كما في السلم، والاستصناع، وبيع الأشياء المتلاحقة الوجود (¬2). القول الثاني: ذهب ابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم بأن السلم جاء على وفق القياس. واختلفوا في توجيه ذلك: فابن حزم نزع -كعادته- إلى الظاهرية، ونفى أن يكون السلم بيعًا، لا من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى: ¬
أما اختلاف اللفظ بين البيع وبين السلم، والسلف فظاهر، وهو يرى أن الأسماء توقيفية، فالشارع لم يسمه بيعًا، وإنما سماه سلمًا أو سلفًا، فتسميته بيعًا مخالف للتسمية التوقيفية من لدن الشارع. وأما اختلاف السلم عن البيع من حيث المعنى: فالبيع يجوز حالًا، ويجوز مؤجلًا، والسلم عنده لا يجوز إلا مؤجلًا. والبيع لا يجوز فيما ليس عند البائع. والسلم يجوز فيما ليس عند البائع. والبيع لا يجوز إلا بشيء بعينه، والسلم لا يجوز بشيء بعينه أصلًا. وإذا كان السلم ليس بيعًا، فلا يكون داخلًا في النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان، حتى يستثنى منه السلم، بل السلم أصل قائم بنفسه، توافرت الأدلة على مشروعيته (¬1). ويرد على ابن حزم: بأن السلم ليس من البيع المطلق هذا صحيح، ولكنه نوع من البيع، فالصرف له اسم خاص، وله شروط خاصة، وليس من البيع المطلق، ومع هذا سماه الشارع بيعًا، فقال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل) وكون الشارع خصه باسم السلف؛ لأن السلف الذي هو تقديم الثمن شرط في صحته، بخلاف البيع المطلق، فلما كان من شروطه تقديم الثمن أعطي اسمًا خاصًا، وإلا فهو بيع، فالبيع جنس يدخل فيه أنواع كثيرة من البيوع، منها السلم، ومنها الصرف، وهو خاص في بيع الأثمان بعضها ببعض، ومنها المقايضة، وهي بيع العروض بعضها ببعض. وأدلة ابن حزم التي ساقها غاية ما فيها أنها توجد فرقًا بين البيع المطلق، وبين ¬
استدلال ابن تيمية وابن القيم
السلم، وهذا غير كاف؛ لكون السلم ليس بيعًا، كما أن الصرف سمي بيعًا، ويشترط له من الشروط ما لا يشترط في البيع المطلق. ولأن البيع، والسلم يتفقان على أن حقيقتهما مبادلة مال بمال، على سبيل التملك. وهذه حقيقة البيع الاصطلاحية. استدلال ابن تيمية وابن القيم: يرى ابن تيمية، وابن القيم أن السلم جار على وفق القياس، بل قالا: من رأى شيئًا من الشريعة مخالفًا للقياس، فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، وليس مخالفًا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر. نعم في الشريعة ما يخالف القياس الفاسد، وإن كان من الناس من لا يعلم فساده، فالسلم جار على وفق القياس، وذلك أن السلم المؤجل دين من الديون، فكما أن الثمن قد يؤجل في الذمة، وهو أحد العوضين، فكذلك المثمن قد يؤجل في ذمة البائع، فأي فرق بين كون أحد العوضين يصح أن يكون مؤجلًا في الذمة، ولا يصح أن يكون العوض الآخر مؤجلًا في الذمة. فالسلم بيع مضمون في الذمة، موصوف، مقدور على تسليمه غالبًا، فهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة، فقياس السلم على بيع العين المعدومة، لا يدرى أيقدر على تحصيلها، أم لا؟ والمشتري منها على غرر من أفسد القياس، وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه، ولا هو مقدور له، وبين السلم إليه في مغل مضمون في ذمته، مقدور في العادة على تسليمه، فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكى (¬1). ¬
واعترض على ذلك
واعترض على ذلك: قياس المبيع على الثمن قياس مع الفارق، يقول ابن الهمام: "الفرق ظاهر وهو أن المبيع هو المقصود من البيع والمحل لوروده، فانعدامه يوجب انعدام البيع، بخلاف الثمن، فإنه وصف يثبت في الذمة مع صحة البيع، فقد تحقق البيع شرعًا مع عدم وجود الثمن؛ لأن الموجود في الذمة وصف يطابقه الثمن، لا عين الثمن" (¬1). ويجاب: بأننا نتفق أنه لا يجوز أن يكون كل من الثمن والمثمن دينًا في الذمة، وإلا صار من باب بيع الدين بالدين، فالواجب في كل البيوع إذا كان أحد العوضين دينًا في الذمة أن يكون العوض الآخر متعينًا، وليس دينًا. فإذا تعين الثمن، وسلَّم في مجلس العقد، وصار المبيع دينًا في الذمة، كما هو في السلم كان على وفق القياس تمامًا، كما لو كان الثمن دينًا في الذمة، والمثمن متعينًا في مجلس العقد، والقول بأن المبيع هو المقصود في العقد ليس صحيحًا، فالمبيع مقصود للمشتري، كما أن الثمن مقصود للبائع. • الراجح من الخلاف: أعتقد أن الحق وسط بين قول الجمهور وقول ابن تيمية: فالسلم عقد يتجاذبه مبيح وحاظر، فالمبيح أن المبيع ليس شيئًا معينًا، وإنما هو في الذمة، وما يستقر في الذمة فليس عرضة للتلف، فهو دين من الديون. وأما المانع فهو كون المسلم فيه قد لا يوجد، وإن كانت العادة وجوده، ولكن ذلك أمر مستقبلي غيبي، ولهذا ¬
بحث الفقهاء عن خيارات المشتري فيما لو عجز البائع عن تقديم المبيع وقت التسليم، فليس بيع السلم بمنزلة بيع العين الحاضرة، ولكن كونه من عقود الغرر، لا يعني أن إباحته ليست على وفق القياس، فالغرر منه ما هو مباح مطلقًا، كالغرر اليسير، والغرر التابع، ومنه ما هو محرم تبيحه الحاجة، كالغرر الكثير إذا كانت هناك حاجة عامة إليه، والمقصود بالحاجة العامة أي حاجة عامة المزارعين، أو الحرفيين، وليس المقصود كافة الناس، ولا شك أن حاجة الناس إلى السلم اليوم أشد من حاجتهم إليه وقت التشريع، فقد كان المزارعون من الصحابة فقراء يحتاجون إلى المال لاستصلاح حرثهم ومزارعهم، وكان الأغنياء يسلفون منهم الثمار السنة، والسنتين، وكانت التجارة ميسرة، وبسيطة، وخالية من التعقيد، وتدخل الدولة في التجارة كان محدودًا جدًا بالقدر الذي يمنع من الغش، ويقيم العدل، أما اليوم ومع تعقيد التجارة، وفرض قيود، ومكوس على من يريد أن يمارسها، وأصبحت الدول تتدخل في جميع تفاصيلها، وانتشر الاحتكار، وتوفر التمويل الربوي في أصقاع الأرض، تكون الحاجة إلى مشروعية السلم حاجة لا تخص فئة خاصة من المزارعين، أو الصناعيين، بل تلبي حاجة قائمة لدى مختلف شرائح المجتمع، فغالب الناس اليوم بحاجة إلى تمويل مباح يفي بحاجاتهم دون الوقوع في محذور شرعي. والمعاملات المالية ليست كالعبادات، فقد يتنازع المعاملة الواحدة موجبان، أحدهما يبيحها، والآخر يمنعها، ويراعي الشارع أقوى الداعيين، فليس من شرط المعاملة المباحة أن تكون خالية من أي داع للتحريم، المهم ألا يكون هذا الداعي هو الأقوى، كما في الخمر، فإن فيها إثمًا كبيرًا، ومنافع للناس، وعندما كان الإثم أكبر لم ينظر إلى المنافع، ولو كانت المنافع أكثر لم ينظر إلى الإثم، وهكذا معاملات الناس، والله أعلم.
الفصل الرابع السلم لا يدخل في النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان
الفصل الرابع السلم لا يدخل في النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان [م - 691] ورد النهي عن بيع ما ليس عند البائع، وأصح هذه الأحاديث حديث عبد الله بن عمرو. (ح-515) فقد روى أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف، وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬1). [إسناده حسن] (¬2). وأما حديث حكيم بن حزام، وإن كان أشهر من حديث عبد الله بن عمرو إلا أن فيه اختلافًا في ألفاظه. (ح-516) فقد رواه أحمد من طريق أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن حكيم بن حزام، قال: قلت يا رسول الله يأتيني الرجل يسألني البيع ليس عندي ما أبيعه، ثم أبيعه من السوق؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك. [وهذا إسناد منقطع يوسف لم يدرك حكيم بن حزام]. ورواه أبو داود الطيالسي، من طريق يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عصمة، عن حكيم بن حزام، قال: قلت: يا رسول الله إني أشتري بيوعًا، فما يحل لي، وما يحرم علي؟ فقال لي: إذا بعت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه (¬3). ¬
وهذا مختلف في موضوعه عن اللفظ السابق، فاللفظ السابق في بيع ما ليس عنده، وهذا في التصرف في المبيع قبل قبضه، وإن كان عنده. [وفي إسناده عبد الله بن عصمة لم يوثقه إمام معتبر، فالإسناد ضعيف]. ورواه عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عصمة، عن حكيم بن حزام، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تبع طعامًا حتى تشتريه وتستوفيه. رواه الشافعي، وأحمد، والنسائي، والبيهقي وغيرهم، واللفظ للنسائي. وهذا اللفظ أخص من اللفظ السابق؛ لأن اللفظ السابق نهاه عن بيع الشيء قبل قبضه، وهنا نهاه عن بيع الطعام الذي فيه توفية حتى يستوفيه، أي حتى يكيله، ولكنه من المؤكد ليس في النهي عن بيع ما ليس عنده. وقد توبع عبد الله بن عصمة تابعه على هذا اللفظ عبد الله بن محمَّد ابن صيفي، وحزام بن حكيم، لهذا أرى أن هذا هو المحفوظ في إسناده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام حتى يستوفى، وله شواهد كثيرة بعضها في الصحيحين، وقد سبق تخريج كل هذه الطرق فأغنى عن إعادتها هنا (¬1). وقد اختلف الناس في تفسير حديث: (لا تبع ما ليس عندك) إلى ثلاثة أقوال، ذكرها ابن تيمية في مواضع من كتبه، ونقله عنه موافقًا له تلميذه ابن القيم في أحد قوليه (¬2)، خلاصتها: ¬
القول الأول
القول الأول: ذهب الشافعي إلى أن حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه - إنما ينهى عن بيع الأعيان المعينة، ليكون بيع الموصوف في الذمة ليس داخلًا تحته، وبناء على هذا القول لا يدخل السلم في النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان (¬1). قال الشافعي: "لما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكيمًا عن بيع ما ليس عنده، وأذن في السلف (السلم) استدللنا على أنه لا ينهى عما أمر به، وعلمنا أنه إنما نهى حكيمًا عن بيع ما ليس عنده إذا لم يكن مضمونًا عليه، وذلك بيع الأعيان" (¬2). ¬
اعتراض ابن تيمية
وهو أحد القولين عن ابن القيم، قال ابن القيم في تهذيب السنن: "ظن طائفة أن السلم مخصوص من عموم هذا الحديث -يعني حديث حكيم بن حزام- فإنه بيع ما ليس عنده، وليس كما ظنوه، فإن الحديث تناول بيع الأعيان، وأما السلم فعقد على ما في الذمة، بل شرطه أن يكون في الذمة، فلو أسلم في معين عنده كان فاسدا" (¬1). فهذا ذهاب من ابن القيم إلى أن حديث حكيم بن حزام في بيع الأعيان. وهذا القول هو أرجح الأقوال. اعتراض ابن تيمية: أجاب ابن تيمية على قول الشافعي بأن هذا التفسير ضعيف جدًا، فإن حكيم بن حزام ما كان يبيع شيئًا معينًا، هو ملك لغيره، ثم ينطلق فيشتريه منه، ولا كان الذين يأتونه يقولون له: نطلب عبد فلان، أو دار فلان، وإنما الذي يفعله الناس، أن يأتيه الطالب، فيقول: أريد طعام كذا، وكذا، وثوبًا صفته كذا وكذا، فيقول: نعم أعطيك، فيبيعه منه، ثم يذهب، فيحصله من عند غيره إذا لم يكن عنده، ولهذا قال: يأتيني، فيطلب البيع ليس عندي، لم يقل: يطلب مني ما هو مملوك لغيري. فالطالب قد طلب الجنس، ولم يطلب شيئًا معينًا، كما جرت عادة الطالب. ويجاب عن اعتراض ابن تيمية: كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يصح توجيهه لو كان حديث حكيم ابن حزام محفوظا باللفظ الذي استشهد به ابن تيمية -رحمه الله-، وإذا كان المحفوظ في حديث ¬
القول الثاني
حكيم -كما بينته عند تخريج الحديث- إنما هو بالنهي عن بيع الطعام حتى يستوفى، لم يكن فيه دليل على اشتراط وجود المسلم فيه مملوكًا عند البائع، وإنما النهي عن بيع ما ليس عندك ثبت من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وليس فيه القصة التي ذكرها حكيم، وهو مطلق، ويمكن حمله على النهي عن بيع شيء معين لا يملكه، كما حمله الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى. وسوف يأتي إن شاء الله تعالى مزيد بسط لهذه المسألة في بحث: خلاف العلماء في السلم الحال، في هذا البحث. القول الثاني: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن عموم حديث لا تبع ما ليس عندك يقتضي النهي عن بيع ما في الذمة إذا لم يكن عنده، وهو يتناول النهي عن السلم مطلقًا، لكن جاءت الأحاديث في جواز السلم المؤجل، وبقي النهي عن السلم الحال، وعليه يكون السلم المؤجل قد استثني من بيع ما ليس عند البائع. وبقي النهي عن بيع ما ليس عند البائع يشمل أمرين: بيع المعين مما ليس مملوكًا له. وبيع الموصوف في الذمة إذا كان حالًا، وهو ما يسمى بالسلم الحال (¬1). ¬
القول الثالث
قال الجصاص: "ومنه ما روي أن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله، إني أرى الشيء في السوق ثم يطلبه مني طالب، فأبيعه، ثم أشتريه، فأسلمه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا تبع ما ليس عندك. فهذا عموم في كل بيع لما ليس عند الإنسان سواء، كان عينًا، أو في الذمة" (¬1). القول الثالث: يرى ابن تيمية أن حديث: (لا تبع ما ليس عندك) يشمل النهي عن أمرين: الأول: النهي عن بيع المعين إذا لم يكن عنده. الثاني: يشمل النهي عن بيع السلم الحال إذا لم يكن عنده ما يوفيه؛ لأنه سيكون البائع غير قادر على تسليمه، فإن كان عنده وقت العقد جاز السلم الحال (¬2). ¬
• الراجح
وإذا كان النهي عن بيع ما ليس عند البائع يرجع إلى عدم القدرة على التسليم، فإن من شروط السلم أن يكون قادرًا على التسليم عند حلول أجله فلا يدخل في النهي عن بيع ما ليس عند البائع. • الراجح: أرى أن الراجح في ذلك قول الشافعي -رحمه الله-، وأن حديث حكيم ابن حزام بلفظ: الرجل يسألني البيع ليس عندي ما أبيعه، ثم أبيعه من السوق؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك، أن هذا اللفظ غير محفوظ، وأن السلم الحال والمؤجل غير داخل في النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان، وأن السلم عقد انقلب فيه الثمن إلى مبيع، والمبيع إلى ثمن. توضيح ذلك: أن من طبيعة المبيع أن يكون معينًا. ومن طبيعة الثمن عدم التعيين أي أن يكون في الذمة، كما لو كان الثمن نقودًا. هذا هو الأصل في البيع، وفي هذه الصورة لا خلاف أنه لو سلَّم المبيع، وأجل الثمن فلا حرج في ذلك، ولا يدخل في حديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان. وقد يأتي البيع على خلاف الأصل. فيتعين كلٌّ من المبيع، والثمن، كما في بيع المقايضة، فحين يكون البيع مبادلة عروض بعروض، سيارة بسيارة، أو بيت ببيت. فهنا كلٌّ من المبيع والثمن يجب تعيينهما، وكل منهما صالح لأن يكون ثمنًا، والآخر مبيعًا. وقد يكون كل من المبيع والثمن لا يقبلان التعيين، كما في عقد الصرف، لهذا وجب التقابض في مجلس العقد؛ لكي يتعين كل واحد منهما بالقبض، وكل منهما صالح لأن يكون مبيعًا، وثمنًا.
أما عقد السلم فقد انقلب إلى وجوب تعيين الثمن ليكون بمنزلة المبيع، لذا اشترط أن يكون التسليم في مجلس العقد، وعدم تعيين المبيع ليكون بمنزلة الثمن. ولهذا اشترطوا أن يكون المبيع مثليًا ليكون على صفة الثمن. هذا كل ما في الأمر، وتأجيل الثمن، وتقديم المثمن لا نزاع فيه، وعلى وفق القياس، فإذا لوحظ هذا في عقد السلم لم نكن بحاجة إلى أن نقول: إن السلم مستثنى من بيع ما ليس عند البائع. وقد بحثت هذه المسألة بشيء من التوسع عند الكلام على موانع البيع، وذلك عند الكلام عن مسائل الغرر التي تعود إلى عدم القدرة على تسليم المبيع، فارجع إليه إن شئت، وسيأتي بقية أخرى من الكلام على هذه المسألة عند الكلام عن السلم الحال، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
الباب الثاني في أركان السلم
الباب الثاني في أركان السلم [م - 692] السلم عقد من العقود، وكل عقد لا بد له من أركان يقوم عليها، وهو على الصحيح عقد بيع، فأركان البيع هي أركان السلم، وقد سبق الكلام عن أركان البيع. وقد وقع خلاف بين الحنفية، والجمهور في تحديد الركن. فالحنفية يرون أن الركن هو جزء الماهية (¬1). والجمهور يرون أن الركن ما لا يتم الشيء إلا به، سواء أكان جزءًا منه، أم لازمًا له (¬2). وبناء على هذا الاختلاف اختلفوا في أركان السلم: فقيل: أركان السلم هي الصيغة فقط (الإيجاب، والقبول)، وهذا مذهب الحنفية (¬3). وجهه: أن الركن: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءًا داخلًا في حقيقته، وهذا خاص في الإيجاب، والقبول، أما العاقدان، والمعقود عليه، فهي من لوازم العقد، وليست جزءًا من حقيقة العقد، وإن كان يتوقف عليها وجوده. ¬
وقيل: أركان السلم ثلاثة: (1) الصيغة (الإيجاب، والقبول). (2) والعاقدان (البائع، والمشتري). (3) والمحل (المعقود عليه من مبيع، وثمن)، وهذا مذهب الجمهور (¬1). ومذهب الحنفية أجود، وأدق، والجمهور لا يطردون في تحديد الأركان، فاللوازم تارة يعتبرونها من الأركان، وتارة لا يدخلونها، فهم يجعلون الفاعل ركنًا في مثل عقد البيع، والنكاح، ولا يجعلونه ركنًا في العبادات كالصلاة، والحج، وإن كان لا يتصور قيام الحج والصلاة بدون فاعل. قال في المصباح المنير: "والفرق عسر، ويمكن أن يقال: الفرق أن الفاعل علة لفعله، والعلة غير المعلول، فالماهية معلولة، فحيث كان الفاعل متحدًا استقل بإيجاد الفعل، كما في العبادات، وأعطي حكم العلة العقلية، ولم يجعل ركنًا، وحيث كان الفاعل متعددًا لم يستقل كل واحد بإيجاد الفعل، بل يفتقر إلى غيره؛ لأن كل واحد من العاقدين غير عاقد، بل العاقد اثنان، فكل واحد من المتبايعين مثلًا غير مستقل، فَبَعُد بهذا الاعتبار عن شبه العلة، وأشبه جزء الماهية في افتقاره إلى ما يقومه، فناسب أن يجعل ركنًا" (¬2). ولا حاجة إلى هذا الفارق العسر كما وصفه، بل يقال: مذهب الحنفية أقوى، ومطرد في تحديد أركان الشيء من عبادات، ومعاملات، وأهمية تحديد ¬
الأركان تأتي بحسب مصطلح الحنفية في التفريق بين البيع الفاسد، والباطل، فالباطل: هو الذي لحق الخلل فيه ركن البيع، والفاسد ما كان مشروعًا بأصله، دون وصفه، وقد سبق الكلام عليه عند الكلام على عقد البيع، ولله الحمد.
الفصل الأول في الركن الأول (الصيغة)
الفصل الأول في الركن الأول (الصيغة) المبحث الأول في شروط الإيجاب والقبول الصيغة: هي الإيجاب والقبول، وسبق تحرير الخلاف في تعريف الإيجاب والقبول بين مذهب الجمهور، والحنفية في المجلد الأول من عقد البيع فارجع إليه إن شئت. ويشترط في الإيجاب والقبول شروط، منها: الشرط الأول: توافق الإيجاب والقبول. [م - 693] جاء في الموسوعة الكويتية: "اتفق الفقهاء على أنه لا بد لانعقاد العقد من توافق الإيجاب والقبول" (¬1). فلو أوجب البائع مثلًا البيع بثمن قدره مائة، فقبل المشتري بتسعين، فهنا خالف الإيجاب القبول في الثمن. أو أوجب المؤجر بخمسين دينارًا نقدًا، فقبل المستأجر بخمسين مؤجلة، فهنا خالفه في صفة الثمن. أو أوجب البيع في الكتاب، فقبل في القلم، فهنا خالفه في عين المبيع (المثمن). أو قال: بعتكه بألف، فقال: اشتريته بشرط الخيار. ¬
أو جزأ الصفقة، بأن أوجب البيع في السيارتين بمائة ألف، فقال المشتري: قبلت في هذه السيارة بخمسين ألفًا لم ينعقد العقد؛ لأن ذلك رد للإيجاب، وليس قبولًا له. [م - 694] الشرط الثاني: اتحاد مجلس العقد. والمراد بالمجلس: هو الزمن الذي يظل فيه المتعاقدان مشتغلين بالتعاقد، فإن أعرضا عن العقد، واشتغلا عنه بما يقطعه عرفًا، فقد انقطع المجلس، ومن الإعراض عن العقد انفضاض المجلس. جاء في البحر الرائق: "المجلس المتحد: ألا يشتغل أحد المتعاقدين بعمل غير ما عقد له المجلس، أو ما هو دليل الإعراض عن العقد" (¬1). وقال أيضًا: "القيام -يعني عن المجلس- دليل الإعراض" (¬2). فالعبرة هو الإعراض عن العقد، سواء كان ذلك بالقيام من المجلس، أو كان ذلك بالإعراض عنه والاشتغال بغيره، ولو كان المجلس باقيًا، فلا ينبغي أن يؤثر انتقالهما من مجلس إلى مجلس آخر ما داما منشغلين بالعقد. الشرط الثالث: [م - 695] ألا يرجع الموجب قبل صدور القبول. وهذا الشرط مختلف فيه بين المالكية والجمهور، وسبق تحرير الخلاف في المجلد الأول من عقد البيع. وقد ذكرت مسائل كثيرة متفرعة عن هذه الشروط، وذلك عند الكلام عن أحكام الإيجاب والقبول في عقد البيع، فأغنى عن إعادته هنا. ¬
المبحث الثاني في انعقاد السلم بلفظ البيع
المبحث الثاني في انعقاد السلم بلفظ البيع العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني (¬1). [م - 696] اختلف الفقهاء هل ينعقد السلم بلفظ البيع؟ فقيل: ينعقد إذا بين فيه إرادة السلم، وتحققت شروطه، كأن يقول المسلم إليه: أبيع عليك خمسمين رطلًا زيتًا صفته كذا، إلى أجل كذا، بعشرة دنانير حالة، وقبل المسلم. وهذا مذهب الجمهور وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: لا ينعقد، وهذا قول زفر (¬3)، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬4). ¬
• دليل الجمهور
• دليل الجمهور: أن العبرة في العقود بالمعاني، وليس بالألفاظ والمباني، وجميع العقود لا يشترط لها لفظ معين لانعقادها، بل تنعقد بكل لفظ يفهمه المتعاقدان مما تعارفا عليه، وكان معبرًا عن إرادتهما بوضوح لا لبس فيه، ولا إشكال، ولذلك البيع ينعقد بلفظ التمليك، ولا يشترط له لفظ البيع، فكذلك السلم. • حجة زفر من الحنفية: القياس ألا ينعقد السلم أصلًا؛ لأنه بيع ما ليس عند الإنسان، وأنه منهي عنه، إلا أن النص جاء بجوازه بلفظ السلم، بقوله (ورخص في السلم)، فوجب الاقتصار عليه؛ لعدم إجزاء سواه. ويناقش: سبق مناقشة دعوى أن السلم على خلاف القياس، والصحيح أن جوازه كان على وفق القياس، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لو أخذنا بمقتضى الاستدلال لقلنا: لا ينعقد حتى بلفظ السلم؛ لأن لفظ السلم لم يرد في السنة، وما يروى منسوبًا إلى السنة بلفظ: (ورخص في السلم) سبق لنا أنه من كلام الفقهاء، وليس له أصل، واللفظ الوارد في السنة هو السلف، كما في حديث ابن عباس المتفق عليه (من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ...) الخ، وسبق تخريجه، ولم يقل أحد من الفقهاء: إن السلف لا ينعقد بلفظ السلم. ولذلك نقل بعض الفقهاء عن ابن عمر أنه كره تسميته بالسلم (¬1). وجاء في مواهب الجليل: "قال ابن عبد السلام: وكره بعض السلف لفظة ¬
• حجية بعض أصحاب الشافعية
السلم في حقيقته العرفية التي هي أحد أنواع البيع، ورأى أنه إنما يستعمل لفظ السلف، أو التسليف صونًا منه للفظ السلم عن التبذل في الأمور الدنيوية، ورأى أنه قريب من لفظ الإسلام، ثم قال: والصحيح جوازه، لا سيما وغالب استعمال الفقهاء إنما هو صيغة الفعل مقرونة بحرف في فيقول: أسلم في كذا، فإذا أرادوا الاسم أتوا بلفظة السلم، وقَلَّ ما يستعملون لفظة الإِسلام في هذا الباب" (¬1). قلت وفي التنزيل: {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} [النحل: 87]. وقال سبحانه: {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} [النساء: 90]. والمراد من هذه النصوص الإشارة إلى أن الاحتجاج بأن السلم لا ينعقد إلا بهذا اللفظ لاعتقاد أن هذا هو اللفظ الوارد شرعًا، فيه ما فيه، لا من جهة المعنى، ولا من جهة اللفظ. • حجية بعض أصحاب الشافعية: أن اللفظ مقدم في العقود على المعنى، فإذا استعمل لفظ البيع بدلًا من لفظ السلم انعقد بيعًا، تقديمًا للفظ على المعنى، ويشترط لصحته تعيين أحد العوضين، ولا يشترط فيه قبض رأس المال في المجلس؛ لأن السلم غير البيع. • الراجح: القول بجوازه بكل لفظ يدل على المراد؛ لأن الشارع لم يحد في ألفاظ العقود حدًا بل ذكرها مطلقة، ولم نتعبد بلفظ معين حتى نقتصر عليه، بل العبرة في العقود بما يدل عليها من أعراف المتعاقدين، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في اشتراط أن تكون صيغة العقد باته لا خيار فيها
المبحث الثالث في اشتراط أن تكون صيغة العقد باته لا خيار فيها الفرع الأول ثبوت خيار المجلس في عقد السلم جاء في الاعتناء للبكري: "كل عقد لازم وارد على عين (كالصرف، وبيع الطعام بالطعام، والسلم، والتولية، والتشريك، وصلح المعاوضة، وغيرها) يثبت فيه خيار المجلس لكل من المتبايعين" (¬1). [م - 697] هذا الفصل إنما يبحث بناء على قول الشافعية والحنابلة ممن يذهب إلى القول بثبوت خيار المجلس، وهو الراجح، ولا يتأتى هذا البحث على مذهب من لا يثبت خيار المجلس، كالحنفية، والمالكية. ولقد اختلف الشافعية، والحنابلة في ثبوت خيار المجلس في عقد السلم. فقيل: يثبت فيه خيار المجلس، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والصحيح من مذهب الحنابلة (¬3)؛ لتناول البيع له؛ ولأن خيار المجلس شرع للنظر في الحظ في المعاوضة، وهو موجود فيه. وقيل: لا يثبت فيه خيار المجلس، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4)، قياسًا على خيار الشرط. ¬
والأول أصح، والقياس على خيار الشرط على القول بمنعه لا يصح؛ وذلك لأن عقد السلم يفتقر إلى القبض في المجلس، فلو أثبتنا فيه خيار الشرط أدى إلى أن يفترقا قبل تمامه، وهذا لا يصح. وهذا المعنى غير موجود في خيار المجلس. وسيأتي مناقشة خيار الشرط إن شاء الله تعالى في المبحث التالي.
الفرع الثاني في اشتراط الخيار في عقد السلم
الفرع الثاني في اشتراط الخيار في عقد السلم خيار الشرط لا يمنع الانعقاد، وإنما يمنع اللزوم، وعليه فإن الخيار يثبت في كل عين ملكت بعقد يقبل الفسخ لا ربا فيه. [م - 698] علمنا في المبحث السابق حكم خيار المجلس في عقد السلم، فما حكم خيار الشرط فيه؟ وإذا كان الاشتراط غير جائز، فهل يفسد العقد، أو يبطل الشرط وحده؟ اختلف الفقهاء في اشتراط الخيار في عقد السلم: القول الأول: ذهب الجمهور إلى أن عقد السلم عقد بات، لا يدخله خيار الشرط (¬1). • دليل الجمهور على المنع: الدليل الأول: الإجماع، حكاه النووي، قال: "البيوع التي يشترط فيها التقابض في المجلس، كالصرف، وبيع الطعام بالطعام، أو القبض في أحد العوضين، كالسلم، لا يجوز شرط الخيار فيها بلا خلاف ... " (¬2). ¬
الدليل الثاني
والحق أن الخلاف محفوظ، كما سوف تعلم ذلك من خلال عرض أقوال المسألة. الدليل الثاني: كل عقد يشترط فيه قبض الثمن في مجلس العقد، لا يجوز اشتراط الخيار فيه، كالصرف، والسلم، وبيع الربوي بمثله؛ لأنه إذا كان لا يجوز أن يفترقا إلا وقد تم العقد، وقبض الثمن، كما جاء في أثر ابن عمر في الصرف (ما لم تفترقا وبينكما شيء) والثمن في السلم لا يجوز التفرق فيه قبل قبض الثمن؛ لوجوب إتمام العقد قبل التفرق، فاشتراط الخيار ينافي ذلك؛ لأن الخيار يجعل المتعاقدين يفترقان، ولم يلزم العقد. يقول الكاساني: "قبض رأس المال من شرائط الصحة ... ولا صحة للقبض إلا في الملك، وخيار الشرط يمنع ثبوت الملك، فيمنع المستحق صحة القبض" (¬1). وقدم الحنفية تعليلًا آخر، وهو أن مقتضى العقد في البيع اللزوم، واشتراط الخيار يمنع لزوم العقد، فهو مخالف لمقتضى العقد، مفسد للعقد في الأصل، إلا أنا عرفنا جوازه بالنص، والنص ورد في بيع العين، فبقي بيع الذمة على أصل القياس خصوصًا إذا لم يكن في معناه (¬2). يناقش: هذا الدليل مبني على القول بوجوب تسليم الثمن في مجلس العقد، وهي مسألة خلافية، وسيأتي مناقشة تلك المسألة في مسألة مستقلة إن شاء الله تعالى. ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب المالكية إلى جواز اشتراط الخيار في عقد السلم بمقدار المدة التي يجوز تأخير تسليم الثمن فيها: يومين، أو ثلاثة أيام، بشرط ألا ينقد رأس المال في مجلس العقد. جاء في المدونة: "هل يجيز مالك الخيار في التسليف (السلم) قال: إذا كان أجلًا قريبًا، اليوم واليومين، ولم يقدم رأس المال، فلا أرى به بأسًا، وهو قول مالك" (¬1). • دليل المالكية على مذهبهم: بني المالكية قولهم هذا على مسألة أخرى اختلفوا فيها مع الجمهور، وهي مسألة: تأخير تسليم الثمن عن مجلس العقد اليومين، والثلاثة، فلما رأى المالكية أن تأخير تسليم الثمن يومين، أو ثلاثة أيام لا يضر؛ لكونها مدة يسيرة، وأن المعقود عليه لا يلحقه بذلك تغير، وأن هذه المدة بحكم التسليم في المجلس؛ لقربها منه، وإنما يمنع من كثيره؛ لما في ذلك من مشابهة الكالئ بالكالئ، أجازوا اشتراط الخيار في عقد السلم بمقدار تلك المدة التي يجوز تأخير تسليم الثمن فيها: يومين، أو ثلاثة أيام، بشرط ألا ينقد رأس المال في مجلس العقد؛ لأن نقده، ولو كان طوعيًا يجعل العقد يتردد بين الثمنية والسلفية، وبين البيع، والسلف. ويناقش: يجاب على هذا التوجيه بما أجيب عن سابقه، وهو أن مسألة تأخير تسليم ¬
القول الثالث
الثمن عن مجلس العقد في عقد السلم مسألة خلافية، وسيأتي مناقشة تلك المسألة في مسألة مستقلة إن شاء الله تعالى. القول الثالث: ذهب ابن تيمية إلى جواز خيار الشرط في كل العقود، وظاهره دخول خيار الشرط في عقد السلم (¬1). ولم أقف على دليل ابن تيمية، ويمكن أن يستدل له بالآتي: الدليل الأول: أن الخيار لا ينافي الملك، فالبيع ينعقد بالإيجاب، والقبول، والملك يثبت بذلك، ووجود الخيار غاية ما فيه أن يعطي صاحبه حق الفسخ بعد ثبوته، وهذا لا يترتب عليه أي محذور شرعي. الدليل الثاني: جواز الخيار قياسًا على جواز الإقالة، فإذا كانت الإقالة جائزة في عقد السلم، كان الخيار جائزًا، ولا فرق. الدليل الثالث: القول بأن اشتراط الخيار ينافي استحقاق القبض الواجب غير دقيق، فقد يحصل القبض ويقوم الخيار، وقد لا يحصل القبض، ولا يكون في العقد خيار، فلا تلازم بينهما. • الراجح: إذا صحت حكاية الإجماع التي حكاها النووي في المنع من اشتراط الخيار ¬
في عقد السلم فهو حجة، وإن كان الإجماع لا يصح، فيمكن النظر في مدى جواز اشتراط الخيار. ففي مبادلة الربوي بمثله لا يصح اشتراط الخيار؛ لأن هذا يؤدي إلى التفرق قبل لزوم العقد، والحديث يقول: يدًا بيد، وأثر ابن عمر يقول: (على ألا تفترقا وبينكما شيء). وفي عقد السلم ليست المبادلة بين مال ربوي بمثله، فلا أرى حرجًا في اشتراط الخيار، والله أعلم.
الفرع الثالث في اشتراط خيار الرؤية
الفرع الثالث في اشتراط خيار الرؤية [م - 699] تكلمت في عقد البيع عن خيار الرؤية، وذكرت تعريفه اصطلاحًا: بأنه حق يثبت به للمتملك الفسخ، أو الإمضاء عند رؤية محل العقد المعين الذي عقد عليه ولم يره (¬1). فعلم من هذا أن خيار الرؤية هو في شراء شيء معين غائب، لم يسبق له رؤية. وقولنا: في شراء شيء معين: المقصود به ما ينعقد العقد على عينه، لا على مثله. فالمبيع الغائب تارة يتعلق بشيء موصوف في الذمة، فيكون من قبيل بيع السلم، حالًا كان، أو مؤجلًا، وهذا لا يحق للمشتري أن يفسخ العقد فيه بخيار الرؤية، بحجة أن البائع أعطاه شيئًا لم يكن مطابقًا للموصوف؛ لأن المبيع لم يتعين في عين ذلك الشيء المدفوع، وإنما تعلق بذمة البائع، ولم يتعلق بشيء معين، فيبقى العقد قائمًا، ويلزم البائع بدفع سلعة مطابقة للصفة المتفق عليها. وتارة يكون المبيع الغائب متعلقًا بشيء معين، فلا يقال له بأنه سلم، ولكن يقال له: كائب، وهذا الغائب: إما أن يكون قد شاهده البائع، ولم يمض على الرؤية وقت يخشى عليه من التغير، فهذا غير مقصود في خيار الرؤية. وإما أن يكون المبيع المعين موصوفًا، لم يره المشتري، وإنما وصف له، وهذا هو الذي يدخله خيار الرؤية. ¬
جاء في فتح القدير: " (وكذا لا يثبت فيه) أي في السلم (خيار الرؤية) بالإجماع؛ (لأنه غير مفيد) إذ فائدة خيار الرؤية رد المبيع، والمسلم فيه دين في الذمة، فإذا رد المقبوض عاد دينًا كما كان؛ لأنه لم يرد عين ما تناوله العقد، فلا ينفسخ العقد برده، بل يعود حقه في مثله ... " (¬1). ¬
الفرع الرابع: خيار العيب
الفرع الرابع: خيار العيب [م - 700] حق المسلِم (المشتري) أن يستلم المسلَم فيه (المبيع) خاليًا من العيوب. فإذا وجد المسلِم عيبًا في المسلَم فيه، فإن له خيار العيب، إن شاء تجوز به، وإن شاء رده، وأخذ بدله سليمًا؛ لأن المعقود عليه في الذمة بصفة السلامة، فإذا لم يرض بالمعيب رجع إلى ما في الذمة، فإن تعذر البدل ثبت للمسلم الخيار بين الفسخ، أو الصبر إلى أن يقدر على بديل سليم؛ لأن حقه في السليم دون المعيب (¬1). ¬
الفصل الثاني الركن الثاني (العاقدان)
الفصل الثاني الركن الثاني (العاقدان) إذا كنا تكلمنا عن الصيغة في الفصل الأول، فنتناول في الفصل الثاني أحكام العاقد الذي يباشر الإيجاب والقبول. والعاقدان في عقد السلم هما: 1 - رب السلم، أو المسلِم (المشتري). 2 - المسلَم إليه (البائع). ويشترط في العاقدين شروط منها: الشرط الأول: [م - 701] أهلية العاقد، فلا يصح بيع مجنون، وسكران، ومعتوه، وسفيه، وصبي غير مميز، أو مميز بغير إذن وليه. الشرط الثاني: [م - 702] أن يكون العاقد مختارًا (أي راضيًا)، وأن يكون هذا الرضا سالمًا من العيوب التي تنافي الاختيار أو تقدح فيه من إكراه، أو غلط، أو تدليس، أو غبن. الشرط الثالث: [م - 703] أن يكون العاقد مالكًا للمعقود عليه، أو مأذونًا له فيه، وفي بيع الفضولي وشرائه خلاف بين الفقهاء. وقد تناولت هذه المسائل، وما يتفرع عنها في عقد البيع، فأغنى عن إعادتها هنا.
الفصل الثالث في الركن الثالث (المعقود عليه)
الفصل الثالث في الركن الثالث (المعقود عليه) ويقصد بالمعقود عليه هنا: (1) الثمن، ويسمى رأس مال السلم. (2) المبيع، ويسمى المسلم فيه. وهذا أهم ما في عقد السلم؛ لأنه مقصود العقد، والغاية منه، ويشترط للمعقود عليه شروط كثيرة، ولما كان السلم نوعًا من البيع، فإن جميع الشروط التي تشترط في البيع تشترط في السلم، باستثناء شرط واحد يستثنيه الفقهاء، وهو شرط وجود المحل عند العقد، وذلك لأنهم يرون أن بيع المعدوم منهي عنه، والسلم مستثنى من بيع المعدوم، وقد ناقشت هذه المسألة فيما سبق. وقد ذكرت شروط المبيع والثمن على وجه التفصيل في عقد البيع، في الباب الرابع منه، وما يتفرع على تلك الشروط من مسائل، فأغنى عن إعادتها هنا. ويزيد عقد السلم على عقد البيع بشروط خاصة سوف أعقد لها بابًا خاصًا لأهميتها، وبيان وجوه الاتفاق والخلاف فيها، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
الباب الثالث في شروط المعقود عليه
الباب الثالث في شروط المعقود عليه الفصل الأول في الشرط العائد على البدلين معًا الشرط الأول ألا يجري بين البدلين ربا النسيئة قال ابن قدامة: كل مالين حرم النسأ فيهما، لا يجوز إسلام أحدهما في الآخر (¬1). [م - 704] يشترط في البدلين ألا يجري بينهما ربا النسيئة، ومن باب أولى ألا يجري بينهما ربا الفضل؛ لأن كل مالين حرم التفاضل بينهما، فإن النساء بينهما حرام أيضًا. ويحرم ربا الفضل في بيع كل مال ربوي اتفقا في الجنس والعلة. ويحرم ربا النسيئة في بيع كل مال ربوي اختلفا في الجنس، واتفقا في علة ربا الفضل. قال ابن رشد: "لا خلاف في امتناع السلم فيما لا يجوز فيه النساء، وذلك إما اتفاق المنافع على ما يراه مالك، وإما اتفاق الجنس على ما يراه أبو حنيفة، وإما اعتبار الطعم والجنس على ما يراه الشافعي في علة النساء" (¬2). ¬
وسبق تحرير ذلك في كتاب الربا فأغنى عن إعادة الكلام عليه هنا. فإذا كان يجري بين الثمن والمبيع ربا الفضل، أو ربا النسيئة لم يصح إسلام أحدهما في الآخر؛ لأن المالين إذا جرى فيهما ربا الفضل أو النسيئة اشترط فيهما التقابض في المجلس، والسلم يشترط فيه التأخير، وهذا من التضاد. فلو كان رأس المال من البر، لا يجوز أن يكون المسلم فيه من البر، أو من التمر، أو من الشعير، أو من الملح، أو من غيرها مما يتفق في علة ربا الفضل. وكذلك لو كان رأس المال من الذهب، لا يجوز أن يكون المسلم فيه من الذهب، أو من الفضة. أما لو اختلفا في الجنس، والعلة، فإنه يجوز إسلام أحدهما في الآخر. فيجوز إسلام الذهب في البر، أو في الشعير أو في التمر، أو في الملح أو في غيرها مما يختلف مع الذهب جنسًا، وعلة (¬1). ¬
الشرط الثاني في كون المسلم فيه أو عوضه منفعة
الشرط الثاني في كون المسلم فيه أو عوضه منفعة قال الخرشي: قبض الأوائل، كقبض الأواخر (¬1). [م - 705] سبق لنا عند الكلام على تعريف البيع ذكر صور البيع، من ذلك: (أ) بيع المقايضة: وهو بيع العروض بعضها ببعض. (ب) بيع الصرف: وهو بيع الأثمان بعضها ببعض. (ج) بيع الأعيان بالأثمان، كبيع السلعة بالدراهم، وهو البيع المشهور. ويصل التقسيم إلى تسع صور مشهورة سبق ذكرها، وضرب الأمثلة عليها. وأما الصور التي يكون عليها بيع المسلم، فمنها: (1) أن يكون رأس المال من الأثمان (الدراهم والدنانير)، وما يقوم مقامها من الأوراق النقدية، والمسلم فيه من العروض الموصوفة في الذمة كالحنطة، والشعير، والأرز. (2) عكس المسألة السابقة، أن يكون رأس المال من العروض، كالحيوان، والثياب، والمسلم فيه من الأثمان (الدراهم والدنانير) أو ما يقوم مقامها، وهذا جائز على الصحيح، وهو مذهب الجمهور كما سيأتي إن شاء الله بحثه في مسألة مستقلة. (3) أن يكون رأس المال من العروض كالحيوان، والثياب، والمسلم فيه من العروض الموصوفة في الذمة، كالحنطة، والشعير ونحوها. (4) أن يكون رأس المال أو عوضه من المنافع، فالمنافع كما يجوز أن تكون ¬
رأس مال في السلم، فإنه يجوز أن تكون مسلمًا فيها؛ لأن المنافع تثبت في الذمة كالأعيان. وهذا القسم هو موضع البحث في هذا الفصل. وعندما نقول: (كون المسلم فيه أو عوضه منفعة) لا نقصد بالمنفعة ثمرة الأعيان، كحليب الأنعام، وثمرة الأشجار، بل المقصود بالمنافع: هي المنافع المعنوية (الأعراض) التي تقوم بالأعيان، مثل سكنى الدار، وركوب الدابة، ونحوها. وقد أجاز المالكية، والشافعية، والحنابلة، كون المسلم فيه أو عوضه من المنافع. جاء في شرح الخرشي: "يجوز أن يكون رأس مال السلم منفعة ذات معينة، كخدمة عبده، أو دابته مدة معلومة، بناء على أن قبض الأوائل كقبض الأواخر ... واحترز بالمعينة من المنافع المضمونة، فلا يجوز أن تكون رأس المال؛ لأنه كالئ بكالئ، كما إذا قال المسلم للمسلم إليه: أحملك إلى مكة بإردب قمح في ذمتك، تدفعه لي في وقت كذا، إذا لم يشرع فيها، وإلا جاز؛ لأن قبض الأوائل كقبض الأواخر، كما في الإجارة" (¬1). وذكر صاحب مواهب الجليل عن ابن عرفة، أنه صحح كون رأس المال منفعة معينة، ولو حل أجل الطعام المسلم فيه قبل استيفاء المنفعة التي هي رأس المال (¬2). وجاء في أسنى المطالب: "ويجوز جعل المنفعة رأس مال كغيرها، وتسليمها بتسليم العين" (¬3). ¬
وجاء في مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الحنابلة، ما نصه: "السلم في المنافع صحيح بلفظ السلم، أو السلف، فلو قال: أسلمتك هذا الدينار في منفعة عبد، صفته كذا وكذا، لبناء حائط معلوم. أو أسلفتك هذه الدراهم في منفعة دابة، صفتها كذا، وكذا لحمل، أو ركوب معلومين، وقَبِل المؤجر صح سلمًا، ولزم فيه قبض الأجرة في المجلس، وتأجيل النفع إلى أجل معلوم" (¬1). ولم أقف على نص من كتب الحنفية يكشف لي مذهبهم في هذه المسألة، إلا أنه معروف في مذهبهم أن المنافع من قبيل الملك، ولا تعتبر مالًا؛ لأن المالية عندهم لا تتحقق إلا بتوفر أمرين: أحدهما: أن يكون الشيء مما يمكن حيازته وادخاره، والمنافع لا يمكن حيازتها، ولا ادخارها فلا تعتبر مالًا. الثاني: أن يكون الشيء مما له قيمة مادية بين الناس، فيخرج بذلك حبة القمح، والأرز، فإنه لا ينتفع بها وحدها عادة (¬2). والصواب مع قول الجمهور. ¬
الفصل الثاني في الشروط العائدة إلى رأس مال السلم
الفصل الثاني في الشروط العائدة إلى رأس مال السلم الشروط الأول أن يكون رأس المال معلومًا المبحث الأول أن يكون رأس المال موصوفًا في الذمة [م - 706] لا خلاف بين الفقهاء في أنه يشترط أن يكون رأس المال معلومًا، وذلك لأنه بدل في عقد معاوضة مالية، فلا بد من كونه معلومًا كسائر عقود المعاوضات. إلا أن رأس المال تارة يكون معينًا عند العقد، كأن يكون حاضرًا مشاهدًا، ثم يقع العقد على عينه، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في المبحث التالي. وتارة يكون موصوفًا في الذمة، ثم يعين في مجلس العقد عند التسليم، وقبل التفرق. فإن كان موصوفًا في الذمة فقد قال ابن قدامة: "لا خلاف في اشتراط معرفة صفته إذا كان في الذمة" (¬1). وإذا كان لا بد من معرفة صفته، فقد نص الحنفية على أن الصفة يجب بيانها بأمور: ¬
منها بيان الجنس، كقولنا: دراهم، أو دنانير، أو حنطة، أو تمر، وهكذا. ومنها بيان النوع كأن يقول: تمر برني، أو سكري، ونحو ذلك. ومنها بيان الصفة: كقولك: جيد، وسط، رديء. وعللوا ذلك بأن جهالة الجنس، والنوع، والصفة مفضية إلى المنازعة، ومانعة من صحة البيع. فإن قبل الطرف الآخر وجب تعيين رأس المال في مجلس العقد، وتسليمه إليه وفاء بالعقد (¬1). ¬
المبحث الثاني أن يكون رأس المال معينا غير موصوف في الذمة
المبحث الثاني أن يكون رأس المال معينًا غير موصوف في الذمة العوض المشاهد لا يحتاج إلى معرفة قدره، إلا إذا كان العقد يوجب المماثلة (¬1). جاء في القواعد والضوابط الفقهية: متى كان العوض معينًا -أي مشاهدًا- كفت معاينته من غير علم بقدره (¬2). [م - 707] إذا كان رأس المال معينًا غير موصوف في الذمة، فهل يصح إسلامه جزافًا، أم لا بد من معرفة القدر والصفة؟ اختلف الفقهاء في ذلك: فقيل: لا يشترط ذكر الصفة، ولا ذكر القدر مطلقًا، سواء أكان المال مثليًا، ¬
أم متقومًا. وهذا مذهب المالكية (¬1)، واختيار صاحبي أبي حنفية (¬2)، والأصح عند الشافعية (¬3) وقول في مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: يجب معرفة قدر رأس المال وصفته مطلقًا سواء أكان مثليًا، أم متقومًا. ولا تكفي مشاهدته. وهذا قول للشافعية (¬5)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬6). وقيل: بالتفريق بين ذكر الصفة، وذكر القدر. فذكر الصفة ليس بشرط مطلقًا، سواء أكان رأس المال مثليًا، أم متقومًا ما دام أنه حاضر مشاهد. ¬
• دليل من قال: تكفي المشاهدة مطلقا
وأما ذكر القدر فإن كان رأس المال مثليًا، وجب ذكر قدره، وإن كان متقومًا اكتفي بالإشارة إليه في مجلس العقد. وهذا مذهب أبي حنيفة (¬1)، واختيار القاضي عبد الوهاب البغدادي من المالكية (¬2). • دليل من قال: تكفي المشاهدة مطلقًا: (ح-517) استدل بظاهر حديث ابن عباس المتفق عليه: من أسلف في شيء ففي كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم. هذا لفظ البخاري (¬3). وجه الاستدلال: الحديث اشترط بيان قدر المسلم فيه، ولو كان بيان قدر رأس مال السلم شرطًا لبينه - صلى الله عليه وسلم - لقيام الحاجة إليه. الدليل الثاني: أن البائع إذا أحاط بصفات الثمن عن طريق العيان فقد ارتفعت الجهالة عن صفته، وأما العلم بمقداره فإنما يطلب إذا كان عقد البيع يوجب المماثلة، فإذا تخلفت المماثلة فسد البيع، فإذا لم تكن المماثلة مطلوبة كانت المشاهدة كافية في العلم بالمبيع، مغنية عن القدر والصفة. قال الشيرازي: "لا يجب ذكر صفاته ومقداره؛ لأنه عوض في عقد لا يقتضي رد المثل، فوجب أن تغني المشاهدة عن ذكر صفاته، كالمهر، والثمن في البيع" (¬4). ¬
• دليل من قال: لا تكفي المشاهدة مطلقا.
• دليل من قال: لا تكفي المشاهدة مطلقًا. قالوا: إنَّ عقد السلم لا يؤمن أن ينفسخ العقد فيه، كما لو تعذر تسليم المسلم فيه، فوجب معرفة رأس المال بالصفة والقدر ليرد بدله كالقرض. ومثله لو تبين أن بعض الثمن كان مستحقًا، فينفسخ العقد في قدره، فلا يدرى في كم بقي، وكم انفسخ (¬1). ونوقش: بأن تعذر المسلم فيه أمر موهوم، ومثله لا يعتبر في العقود، ولو وقع ذلك عمل بالقواعد، فإن القول عند التنازع في مقدار الثمن قول المسلم إليه؛ لأنه غارم. والقياس على القرض غير سديد؛ لأن مقتضى القرض أن يرد بدل ما اقترض، وليس مقتضى عقد السلم رد رأس المال، بل مقتضاه إيفاء المسلم فيه، ودليلهم ينتقض ببيع الأعيان، والإجارة، فإن المبيع قد يتلف قبل قبضه، وقد تتلف العين المؤجرة قبل استيفاء المنفعة، فينفسخ العقد فيهما، فيجب رد الثمن، ولو كان جزافًا، ومع ذلك قالوا بجواز الجزاف فيهما، فإذا كان ذلك لم يمنع من صحة البيع، والإجارة، لم يمنع كون الثمن جزافًا من صحة عقد السلم. • وجه من فرق بين الصفة والمقدار: أن من شاهد شيئًا فقد أحاط بصفته، لا فرق في ذلك بين المثلي، والقيمي. وأما المقدار فلا يوقف عليه بمجرد المشاهدة، ولأن العقد يتعلق على مقداره؛ وجهالة قدر رأس المال فيه قد تفضي إلى جهالة المسلم فيه، فلو أسلم مائة درهم بمائة إردب من القمح، فإن الثمن ينقسم على أجزائه، إذ كل درهم ¬
ويناقش
يقابل إردبًا، فلو كانت الدراهم جزافًا لا يعلم عددها لم يعلم ما يقابل كل درهم منها من القمح، فلو انتقض القبض في بعض الثمن، أو بان بعض الثمن مستحقًا، أو ظهر بعض الثمن معيبًا انفسخ العقد بمقداره، ومع الجهل بالثمن لا يدرى في كم انتقض، وفي كم بقي، فيصير المسلم فيه مجهول القدر. بخلاف الثمن إذا كان متقومًا، فإن الثمن لا يتعلق بمقداره كما لو كان الثمن ثوبًا، فإن رؤية الثمن تكفي في الإحاطة به، والله أعلم. ويناقش: احتمال أن يكون الثمن مستحقًا، أو احتمال أن يصح القبض في البعض ويبطل في البعض، هذه احتمالات لا تعتبر لصحة العقود؛ لأن الأصل سلامة العقود من المفسد، ولو اعتبر ذلك لبطلت معظم العقود؛ ولأن معرفة المبيع لا تتوقف على معرفة المقدار، ما دام أن المبيع مشاهد يحيط به البصر، وليس المال ربويًا بحيث يكون التماثل فيه معتبرًا لصحة العقد، نعم لو كان الثمن دراهم أو دنانير، أو نقودًا ورقية، لكانت المشاهدة لا تكفي لرفع الجهالة عن الثمن، والغرر قد يكون كثيرًا، أما ما عدا النقود، من مكيل، أو موزون، فإن المشاهدة ترفع الجهالة، والله أعلم. • الراجح: أرى أن مذهب المالكية هو أقوى؛ لقوة دليله، وللجواب عن أدلة الأقوال الأخرى، والله أعلم.
الشرط الثاني أن يتم تسليم رأس المال في مجلس العقد
الشرط الثاني أن يتم تسليم رأس المال في مجلس العقد هل تعيين رأس مال السلم يكفي عن قبضه؟ وهل المعين يعتبر دينًا بتأخيره، أو أن الدين خاص بما تعلق في الذمة؟ [م - 708] وقع خلاف بين المالكية والجمهور حول وجوب تسليم الثمن في مجلس العقد، بعد اتفاقهم على ما يلي: قال ابن عبد السلام من المالكية: "لم أعلم خلافًا في كون تسجيل رأس المال عزيمة، وأن الأصل التعجيل، وإنما الخلاف هل يرخص في تأخيره؟ " (¬1). وقال الغزالي: "لا خلاف أنه لو كان رأس المال نقدًا، ولم يعينه، ثم عينه في المجلس كفاه؛ لأن المجلس كالحريم، فله حكم الابتداء" (¬2). وقال في تهذيب الفروق: "اتفقوا على أنه لا يجوز تأخير نقد الثمن في المدة الكثيرة مطلقًا، لا باشتراط، ولا بدونه، واختلفوا في اشتراط تأخير نقده اليومين والثلاثة ... " (¬3). وقال ابن رشد في المقدمات: "وأما تأخيره فوق الثلاث بشرط، فذلك لا يجوز باتفاق، كان رأس المال عينًا أو عرضًا ... " (¬4). واتفقوا على أن عقد السلم ينعقد صحيحًا بدون قبض رأس المال، فليس ¬
قبض المال في العقد شرطًا للصحة، وإنما اختلفوا هل القبض في المجلس بعد انعقاد السلم شرط لبقاء العقد على الصحة بحيث يفسد العقد إذا تفرقا قبل القبض، أو يصح العقد، وإن تفرقا قبل القبض؟ (¬1). فقيل: يشترط القبض في المجلس لبقاء العقد على الصحة، ولا يجوز تأخيره عن المجلس مطلقًا، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، واختيار ابن عبد البر من المالكية (¬5). وقيل: يجوز تأخير القبض اليومين، والثلاثة مطلقًا بشرط وبغير شرط، وإن تأخر أكثر من ثلاثة أيام، وكان رأس مال السلم عينًا لم يجز مطلقًا بشرط أو بغير شرط. وإن كان رأس مال السلم عرضًا، وتأخر تسليمه أكثر من ثلاثة أيام جاز إذا لم يشترط تأخيره. هذا تحصيل مذهب مالك عند أكثر أصحابه (¬6). قال القرافي: "ومنشأ الخلاف، هل يسمى هذا التأخير دينًا، أم لا؟ وأن ما قارب الشيء هل يعطى حكمه أم لا؟ " (¬7). ¬
• دليل الجمهور على اشتراط القبض في المجلس: الدليل الأول: (ح-518) ما رواه البخاري من طريق ابن أبي نجيح، عن عبد الله ابن كثير، عن أبي المنهال، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يسلفون بالتمر السنتين، والثلاث، فقال: من أسلف في شيء ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: قال الشافعي في تفسير قوله (من أسلف فليسلف)، قال: "إنما قال: فليعط، ولم يقل: ليبايع، ولا يعطي، ولا يقع اسم التسليف فيه حتى يعطيه ما سلفه قبل أن يفارق من سلفه" (¬2). وقال الرملي: "ولأن السلم مشتق من تسليم رأس المال: أي تعجيلة، وأسماء العقود المشتقة من المعاني لا بد من تحقق تلك المعاني فيها" (¬3). الدليل الثاني: أنه إذا لم يسلم الثمن في مجلس العقد تحول إلى بيع الدين بالدين بالصورة المتفق على منعها. "قال أحمد: لم يصح منه -أي في النهي عن بيع الكالئ بالكالئ- حديث، ولكن هو إجماع، وهذا مثل أن يسلف إليه شيئًا مؤجلًا، فهذا الذي لا يجوز بالإجماع". ¬
ثم قال ابن تيمية: "والإجماع إنما هو بالدين الواجب كالسلف المؤجل من الطرفين" (¬1). ويجاب: بأن رأس المال في السلم قد يكون عينًا، وقد يكون دينًا، فإن كان دينًا في الذمة وجب تسليمه في مجلس العقد، حتى يكون عينًا، ومنه لو كان الثمن نقودًا فإنها لا تتعين بالتعيين على الصحيح، وإن كان رأس مال السلم معينًا فلا يلزم من تأخير تسليمه أن يتحول البيع إلى بيع دين بدين، فلو كان رأس المال ثوبًا معينًا، فإن عدم تسليمه في المجلس لا يجعل البيع من قبيل بيع الدين بالدين؛ لأن الدين ما تعلق في الذمة، والحق قد تعلق بثوب معين، فخرج من بيع الدين بالدين. وقد اعترف السرخسي، أن رأس السلم إذا كان معينًا أن القياس عدم وجوب التسليم، وأن وجوب التسليم فيه إنما هو من باب الاستحسان، لا أكثر. قال السرخسي: "فأما تعجيل رأس المال، فنقول: إذا كان رأس المال دراهم، أو دنانير، يكون التعجيل فيه شرطا قياسًا واستحسانًا؛ لأن الدراهم، والدنانير لا يتعينان في العقود، فيكون هذا من بيع الدين بالدين وذلك لا يجوز؛ لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الكالئ بالكالئ يعني: النسيئة بالنسيئة، فأما إذا كان رأس المال عروضًا، هل يكون التعجيل شرطًا؟ القياس ألا يكون شرطًا، وفي الاستحسان يكون شرطًا. وجه القياس: أن العروض سلعة تتعين في العقود، بخلاف الدراهم، فلو لم يشترط التعجيل، لا يؤدي إلى بيع الدين بالدين. ¬
وجه الاستحسان: أن السلم أخذ عاجل بآجل، والمسلم فيه آجل، فوجب أن يكون رأس المال عاجلًا، ليكون حكمه ثابتًا على ما يقتضيه الاسم لغة، كالصرف، والحوالة، والكفالة، فإن هذه العقود تثبت أحكامها بمقتضيات أساميها لغة" (¬1). وقال الكاساني: "والقياس ألا يشترط قبضه في المجلس، إذا كان عينًا" (¬2). وقال في شرح ميارة: "وأما غير النقدين فيجوز تأخيره لتعيينه، فليس دينًا بدين ... " (¬3). ويجاب: بأن العبرة في العقود بالمعاني دون الألفاظ والمباني، ولذلك لو ضَمِنه بشرط إبراء الأصيل كانت حوالة عند الحنفية، ولم تكن كفالة، ولم ينظر إلى ما يقتضيه الاسم، وكذلك لو شرط في الحوالة أن يطالب بالمال أيهما شاء، كانت ضمانًا عند الحنفية، وليست حوالة، وعللوا ذلك بأن المقصود هو المعنى، فلم ينظر الحنفية إلى ما يقتضيه الاسم لغة (¬4). الدليل الثالث: أن وجوب تسليم الثمن جارٍ على وفق القواعد، وذلك أن كلَّ بيع يتعين فيه المبيع والثمن معًا، لا يشترط فيه القبض أصلًا. ¬
وكل بيع لا يتعين فيه المبيع والثمن يشترط فيه قبض العوضين في الجملة، كبيع الأثمان بعضها ببعض، وهو ما يعرف بالصرف. وكل بيع يتعين فيه المبيع، فإنه لا يشترط قبض عوضه عدا الأموال الربوية. وكل بيع لا يتعين فيه المبيع، فإنه يشترط فيه قبض بدله، وهذا هو عقد السلم (¬1). ويجاب: بأن التعيين غير القبض، فقد يتعين رأس مال السلم، كما لو أشار إليه، أو كان الثمن معروفًا بعينه للبائع، ولا يتم التسليم في مجلس العقد، فهل يبطل العقد بمجرد عدم التسليم، مع أن رأس مال السلم قد تعين، وانتقل الحق من كونه في الذمة إلى ذات العين؟ هذا هو موضع الخلاف. الدليل الرابع: أن عقد السلم منطو على غرر احتمل للحاجة، فجبر ذلك بتعجيل قبض العوض الآخر، وهو الثمن، فإذا أخر الثمن زاد الغرر، وزيادة الغرر في العقد تبطله. ويناقش: بأن التأجيل لا يعتبر غررًا، ولو كان التأجيل غررًا لما صح عقد السلم؛ لأن المسلم فيه من شرطه التأجيل عند الجمهور. الدليل الخامس: أن سبب الرخصة في عقد السلم هو حاجة البائع إلى الارتفاق بالثمن؛ لاستصلاح حرثه، وزرعه، فإذا كان هناك تأخير في الثمن ذهبت الحكمة من مشروعية السلم. ¬
ويناقش: بأن عقد السلم كونه رخصة، وليس عزيمة، فيه خلاف بين أهل العلم، ولو قلنا: إن السلم رخصة أبيح للحاجة، لكان هذا يعني تحريم عقد السلم مع انتفاء الحاجة؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا، وعدمًا، والسلم عقد مباح مطلقًا، وإباحته ليست مشروطة بوجود الحاجة. الدليل السادس: قال ابن عبد البر: "لم يختلف قول مالك أنه لو أقاله في السلم بتأخير يوم أو يومين لم يجز، والابتداء أولى، كذلك في النظر إذ هو مثله قياسًا عليه بلا فرق" (¬1). ويجاب: بأن هذا دليل على ضعف قول مالك في وجوب التسليم في الإقالة، وليس دليلًا على وجوب تسليم الثمن في عقد السلم، وبينهما فرق. • دليل المالكية على جواز تأخير الثمن اليوم واليومين: الدليل الأول: المالكية يتفقون مع الجمهور على وجوب تعجيل رأس مال السلم، لكنهم لا يرون أن تأخير التسليم يومًا، أو يومين ينافي التعجيل، وقد احتج المالكية بالقاعدة التي تقول: "ما قارب الشيء له حكمه" (¬2). ¬
فالتأخير اليسير في حكم المعجل؛ لأن اليسير معفو عنه أشبه المقبوض في مجلس العقد. قال ابن رشد: "هذه القاعدة كثيرًا ما يذكرها الفقهاء، ولم أجد دليلًا يشهد لعينها، فأما إعطاؤه حكم نفسه، فهو الأصل، وأما إعطاؤه حكم ما قاربه، فإن كان مما لا يتم إلا به، كإمساك جزء من الليل، فهذا يتجه، وإن كان على خلاف ذلك، فقد يحتج له بحديث: مولى القوم منهم، وبقوله - عليه السلام -: المرء مع من أحب ... " (¬1). واستدل لهذه القاعدة الشنقيطي -رحمه الله- في أضواء البيان بقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]. قال الشيخ: "ظاهره أن الإمساك بمعروف إذا بلغن أجلهن، مع أنهن إذا بلغن إلى ذلك الحد خرجن من العدة، وانتهى وجه المراجعة، ولكن المراد هنا: إذا قاربن أجلهن، ولم يتجاوزنه، أو يصلن إليه بالفعل، والقاعدة: أن ما قارب الشيء يعطى حكمه، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. ومثل الآية: الحديث في قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، مع أنه عند الإتيان، أو أثناءه لا يحق له أن يقول ذلك، وإنما يقوله إذا قارب دخوله" (¬2). "ومن جهة الاعتبار: أن إلحاق ما قارب الشيء به دليل على أن هذا الشيء ¬
ليس تحديدًا، بل اجتهاد مقارب، فهو من منزلة العفو، وباب التقديرات الاجتهادية، لا من تحديدات الشرع" (¬1). الدليل الثاني: التأخير ليس بممنوع لمعنى في العوض، وإنما هو ممنوع لمعنى في العقد لئلا يكون من بيع الكالئ بالكالئ، فإذا عين الثمن لم يفسد العقد بتأخير القبض اليومين والثلاثة (¬2). • الراجح: أرى أن الراجح -والله أعلم- أن الثمن إن كان في الذمة وجب تسليمه في مجلس العقد؛ حتى لا نقع في بيع الدين بالدين ابتداء، وإن كان الثمن معينًا فإنه لا يشترط قبضه في مجلس العقد، وهل يجوز اشتراط التأجيل أكثر من ثلاثة أيام؟ هذا يتوقف على وجود قول فقهي في ذلك، ولم أقف على قول يرى جواز اشتراط التأجيل مطلقًا، وإنما أجاز المالكية اشتراط التأجيل في حدود اليومين والثلاثة، وجواز التأجيل في الثمن المعين بدون شرط كما سبق ذكره في الأقوال. وقد وقفت في مذهب الشافعية على جواز تأخير القبض مطلقًا بشرط ألا يذكر لفظ السلم في العقد. جاء في تحفة المحتاج: "ولو قال: اشتريت منك ثوبًا صفته كذا بهذه الدراهم، أو بدينار في ذمتي. فقال: بعتك، انعقد بيعًا عملًا بمقتضى اللفظ. وقيل: سلمًا نظرًا للمعنى. فعلى الأول: يجب تعيين رأس المال إذا كان في ¬
الذمة؛ ليخرج عن بيع الدين بالدين، لا قبضه، ويثبت فيه خيار الشرط، ويجوز الاعتياض عنه. وعلى الثاني ينعكس ذلك ... " (¬1). فهنا أجاز الشافعية على قولٍ: جواز تأخير القبض إذا تعين الثمن، ولم يشترطوا تسليم الثمن، إلا إذا كان في العقد لفظ السلم، وإذا قلنا: إن العبرة في العقود بالمعاني، لا للألفاظ والمباني، فإنه يؤخذ منه جواز تأخير القبض في السلم إذا كان الثمن معينًا، وليس دينًا، والله أعلم، وقولنا: إن الشافعية يجيزون تأخير القبض في الثمن المعين لا يعني أنهم يجيزون اشتراط التأجيل، فهم لا يجيزون اشتراط التأجيل في المعين، ثمنًا كان أو مثمنًا، وتأخير القبض غير اشتراط التأجيل (¬2). كما أجاز المالكية تأخير الثمن إذا شرع في أخذ المثمن كالسلم في الخبز، والفواكه تنزيلًا لقبض بعض العوض منزلة قبض الكل، فليس دينًا بدين، نظيره قبض أوائل المنافع المأخوذة في الديون .. وهذا يدل على أن المانع من التأخير هو الوقوع في بيع الدين بالدين، وفي تعيين الثمن مع تأخيره يزول هذا المحذور (¬3). وقد اختار فضيلة الشيخ الصديق الضرير جواز التأجيل بشرط أن يكون أقل ¬
من أجل المسلم فيه، قال فضيلته: "لا أرى ما يمنع تأجيل رأس المال إلى أجل قريب، أو بعيد، بشرط أن يكون أقل من أجل المسلم فيه ... " (¬1). واختار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي جواز تأخير الثمن عن مجلس العقد اليومين والثلاثة، جاء في القرار: "الأصل تعجيل قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، ويجوز تأخيره ليومين، أو ثلاثة، ولو بشرط، على ألا تكون مدة التأخير مساوية، أو زائدة عن الأجل المحدد للسلم" (¬2). ¬
الفرع الأول في قبض رأس المال وتأخير بعضه
الفرع الأول في قبض رأس المال وتأخير بعضه قال السرخسي: إذا بطل العقد في البعض بطل في الكل (¬1). جاء في موسوعة القواعد والضوابط الفقهية: أحد العاقدين لا ينفرد بتفريق الصفقة (¬2). يقابل هذا قول الحنفية: الفساد الطارئ على الصحة لا يشيع (¬3). [م - 709] إذا عجل بعض رأس المال في مجلس العقد، وأجل البعض الآخر، فما حكم عقد السلم؟ اختلف الفقهاء في ذلك: فقيل: يصح السلم فيما قبض، ويبطل فيما لم يقبض. وهذا مذهب الحنفية (¬4)، والشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). وقيل: يبطل عقد السلم كله، وهذا مذهب المالكية (¬7)، ورواية عن الإِمام ¬
• وجه قول الجمهور بصحة السلم فيما قبض
أحمد (¬1)، واختيار زفر من الحنفية (¬2)، وابن حزم من الظاهرية (¬3). • وجه قول الجمهور بصحة السلم فيما قبض: الوجه الأول: أن السلم وقع صحيحًا في الكل؛ لأن القبض ليس شرطًا للصحة، وإنما هو شرط لبقاء العقد على الصحة، ولهذا لو نقد الكل قبل الافتراق صح، فإذا تأخر القبض في البعض لم يبطل الجميع، ولا ينبغي أن يشيع الفساد؛ لأنه طارئ على الصحة، فلا وجه لبطلان الجزء الذي قبض. الوجه الثاني: أن القول بصحة ما قبض، وبطلان ما لم يقبض لا ضرر فيه على أحد من العاقدين، كالقول في تفريق الصفقة، ومثله لو اشترى رجل شاتين، وكانت قيمتهما سواء، فوجد في إحداهما عيبًا، كان له رد ما وجد معيبًا بحصته، ولم يبطل البيع في الأخرى. • وجه قول المالكية ومن معهم: الوجه الأول: علل المالكية بطلان العقد بأنه متى قبض البعض، وأخر البعض فسد العقد كله؛ لأنه اشتمل على ابتداء دين بدين. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: علل ابن حزم القول بالبطلان بأن العقد واحد، والصفقة واحدة، وكل عقد جمع فاسدًا وجائزًا، فيكون كله فاسدًا؛ لأن العقد لا يتبعض (¬1). • الراجح: إذا كان تفريق الصفقة يفوت على أحدهما غرضه من الصفقة لم يحل التفريق، وإن كان التفريق لا يفوت غرض واحد منهما، جاز تفريق الصفقة برضاهما، هذا إذا كان البعض الذي لم يقبض لم يتعين، أما إذا تعين فيكون فيه الخلاف السابق، هل الواجب القبض مطلقًا، تعين الثمن أو لم يتعين، أو الواجب التعيين ولو لم يقبض؛ ليخرج عن بيع الدين بالدين؟ والله أعلم. ¬
الفرع الثاني جعل ما في الذمة رأس مال لسلم
الفرع الثاني جعل ما في الذمة رأس مال لسلم جاء في موسوعة القواعد والضوابط الفقهية: الأصل أن ربح ما لم يضمنه الرابح حرام ... (¬1). [م - 710] إذا كان لرجل في ذمة آخر مائة ريال، فاتفقا على أن يكون هذا المبلغ سلمًا في طعام معلوم مؤجل، فهذه صورة من صور فسخ الدين بالدين، فما حكم ذلك؟ اختلف العلماء في هذه المسألة: القول الأول: لا يجوز، وهذا مذهب الأئمة الأربعة (¬2)، واختاره ابن تيمية في أحد قوليه. ¬
قال ابن تيمية في مختصر الفتاوى المصرية: "ومن اشترى قمحًا إلى أجل، ثم عوض البائع عن الثمن سلعة إلى أجل لم يجز، وكذلك إن احتال على أن يزيده في الثمن، ويزيده في الأجل بصورة يظهر رباها لم يجز، ولم يكن عنده إلا الدين الأول، فإن هذا هو الربا الذي أنزل الله فيه القرآن، يقول الرجل لغريمه عند محل الأجل: تقضي أو تربي" (¬1). وقال أيضًا: "إذا اشترى قمحًا بثمن إلى أجل، ثم عوض البائع عن ذلك الثمن سلعة إلى أجل لم يجز؛ فإن هذا بيع دين بدين" (¬2). وقال ابن تيمية أيضًا: "وأما احتجاج من منع بيع دين السلم بقوله: (من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره) فعنه جوابان: أحدهما: أن الحديث ضعيف. والثاني: المراد به ألا يجعل السلف سلمًا في شيء آخر، فيكون معناه: النهي عن بيعه بشيء معين إلى أجل، وهو من جنس بيع الدين بالدين، ولهذا قال: لا يصرفه إلى غيره، أي: لا يصرف المسلم فيه إلى مسلم فيه آخر، ومن اعتاض عنه بغيره قابضًا للعوض لم يكن قد جعله سلمًا في غيره" (¬3). فهذا القول من ابن تيمية نص صريح في أنه لا يجوز بيع الدين على من هو عليه بدين آخر، ويجوز بيع الدين بعوض مقبوض، وهو من قبيل بيع الدين بالعين. ¬
القول الثاني
القول الثاني: يجوز جعل ما في الذمة رأس مال لسلم، أي يجوز بيع الدين على من هو عليه بدين آخر، اختاره ابن القيم، وحكاه قولًا لابن تيمية (¬1). قال ابن القيم: "إذا كان الدين في ذمة المسلم إليه، فاشترى به شيئًا في ذمته، فقد سقط الدين من ذمته، وخلفه دين آخر واجب، فهذا من باب بيع الساقط بالواجب، فيجوز" (¬2). وقد سبق لنا في القول الأول النقل الصريح عن ابن تيمية بمنع هذه المعاملة، فإن صح ما حكاه ابن القيم عن شيخه فيكون لابن تيمية قولان في المسألة، وإلا كان وهمًا من ابن القيم في نسبة هذا القول لشيخه، وهو الأقرب. • دليل من قال: لا يجوز: الدليل الأول: (ح- 519) أنه من باب بيع الدين بالدين، وقد نهي عنه كما في حديث ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الكالئ يالكالئ (¬3). [ضعيف] (¬4). وأجيب: قال ابن القيم: "ليس عن الشارع نص عام في المنع من بيع الدين بالدين، وغاية ما ورد فيه حديث، وفيه ما فيه: أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، والكالئ ¬
الدليل الثاني
هو المؤخر، وهذا كما إذا كان رأس مال السلم دينًا في ذمة المسلم فيه، فهذا هو الممنوع منه بالاتفاق؛ لأنه يتضمن شغل ذمتين بغير مصلحة لهما، وأما إذا كان الدين في ذمة المسلم إليه، فاشترى به شيئًا في ذمته فقد سقط الدين من ذمته، وخلفه دين آخر واجب، فهذا من باب بيع الساقط بالواجب، فيجوز، كما يجوز بيع الساقط بالساقط في باب المقاصة" (¬1). وتعقبه بعض العلماء المعاصرين: يقول الدكتور نزيه حماد: "قَصْر شيخ الإِسلام، وتلميذه ابن القيم معنى بيع الكالئ بالكالئ على صورة السلف المؤجل من الطرفين غير مسلم؛ لافتقاره إلى دليل يقيده، ولوجود صورة أخرى يصدق عليها معناه، وتدخل تحت عمومه، وقد نقل الإجماع على حظر بعضها باعتبارها من أفواده، ومنها هذه الصورة" (¬2). الدليل الثاني: الإجماع على المنع حكاه ابن قدامة وغيره. قال ابن قدامة: "إذا كان له في ذمة رجل دينار، فجعله سلمًا في طعام إلى أجل، لم يصح. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم، منهم: مالك، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي، والشافعي، وعن ابن عمر، أنه قال: لا يصح ذلك، وذلك لأن المسلم فيه دين، فإذا جعل الثمن دينًا كان بيع دين بدين، ولا يصح ذلك بالإجماع" (¬3). ¬
الدليل الثالث
وقال السبكي في تكملة المجموع: "تفسير بيع الدين بالدين المجمع على منعه: وهو أن يكون للرجل على الرجل دين، فيجعله عليه في دين آخر، مخالف له في الصفة، أو القدر، فهذا هو الذي وقع الإجماع على امتناعه" (¬1). الدليل الثالث: هذه الصورة شبيهة بربا النساء المعروف، حيث إنَّ استبدال الدين الحال بدين مؤجل من غير جنسه مظنة الزيادة في الدين في مقابل الأجل الممنوح للمدين، وذلك في معنى ربا الجاهلية (تقضي أو تربي). الدليل الرابع: إذا كان ابتداء الدين بالدين مجمعًا على منعه، وقد حكى الإجماع جماعة منهم ابن تيمية وابن القيم، فإن فسخ الدين بالدين مثله حيث لا فرق. • دليل من قال بالجواز: الدليل الأول: الأصل في البيع الحل، ولا يوجد نص يدل على التحريم، يقول ابن القيم: "ليس عن الشارع نص عام في المنع من بيع الدين بالدين" (¬2). وقد أجاب فيما سبق عن حديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ. الدليل الثاني: استدل ابن القيم على الجواز بالقياس على الحوالة. قال - رحمه الله -: "قواعد الشرع تقتضي جوازه، فإن الحوالة اقتضت نقل الدين، ¬
ويناقش
وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فقد عاوض المحيل المحتال من دينه بدين آخر في ذمة ثالث، فإذا عاوضه من دينه على دين آخر في ذمته كان أولى بالجواز" (¬1). ويناقش: هناك فرق بين الحوالة وبين بيع الدين على من هو عليه بثمن مؤجل من وجهين: الأول: أن بيع الدين على من هو عليه بثمن مؤجل من قبيل البيع، والحوالة على الصحيح ليست بيعًا. قال ابن تيمية: "الحوالة من جنس إيفاء الحق، لا من جنس البيع، فإن صاحب الحق إذا استوفى من المدين ماله كان هذا استيفاء، فإذا أحاله على غيره كان قد استوفى ذلك الدين عن الدين الذي له في ذمة المحيل، ولهذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحوالة في معرض الوفاء، فقال في الحديث الصحيح: مطل الغني ظلم، وإذا اتبع أحدكم على ملئ فليتبع. فأمر المدين بالوفاء، ونهاه عن المطل، وبين أنه ظالم إذا مطل، وأمر الغريم بقبول الوفاء إذا أحيل على ملئ" (¬2). وقال القرافي: الحوالة تحويل الحق، وليس بتبديل ... لأن تبديل الدين بالدين لا يجوز، ولأن اسم الحوالة من التحويل، لا من التبديل (¬3). الوجه الثاني: يشترط في صحة الحوالة أن يحيله على جنس الدين، لا على جنس آخر، فإذا أحاله على جنس آخر لم تكن حوالة، وخرج العقد من الإرفاق والإحسان إلى المعاوضة والتكسب، فامتنعت. ¬
الدليل الرابع
قال ابن رشد: "وللحوالة عند مالك ثلاثة شروط: الثاني: أن يكون الدين الذي يحيله به مثل الذي يحيله عليه في القدر، والصفة؛ لأنه إذا اختلفا في أحدهما كان بيعًا، ولم يكن حوالة، فخرج من باب الرخصة إلى باب البيع، وإذا خرج إلى باب البيع دخله الدين بالدين" (¬1). بينما بيع الدين على من هو عليه بثمن مؤجل هو من قبيل بيع الدين بغير جنسه، فلم يصح القياس على الحوالة، يقول ابن القيم في توصيف بيع الساقط بالواجب: "كما لو باعه دينًا له في ذمته بدين آخر من غير جنسه" (¬2). فظهر الفرق بين الحوالة وبين بيع الدين على من هو عليه بثمن مؤجل. الدليل الرابع: لكل واحد من المتبايعين غرض صحيح، ومنفعة مطلوبة؛ إذ تبرأ ذمة المدين عن دينه الأول، وتنشغل بدين آخر، قد يكون وفاؤه أسهل عليه وأنفع لجلب منافع الناس، وتحصيل مصالحهم. ويناقش: نحن لا نمانع إذا كان ذلك من قبيل المنفعة للدائن والمدين، وذلك لا يكون إلا إذا كان هناك وفاء في محل العقد، فيتحول البيع إلى بيع دين بعين، ويسلمه المبيع في مجلس العقد، فتبرأ ذمة المدين، وينتفع الدائن بقبض ماله، أما إذا كانت ذمته ستنتقل من دين لدين آخر، فما الفائدة المرجوة من ذلك، فلم ينتفع الدائن، ولم ينتفع المدين، والمقصود من العقود القبض، فهو عقد لم يحصل ¬
الدليل الخامس
مقصوده أصلًا، وإذا كان المدين يراه أنه أسهل لوفاء دينه، فلينتظر حتى يكون المبيع معه، ثم يبيعه إياه، فيكون ذلك أسهل لوفاء دينه حقيقة لا دعوى. الدليل الخامس: استدل -رحمه الله- بالقياس على بيع العين بالدين. قال -رحمه الله-: "إذا جاز أن يشغل أحدهما ذمته، والآخر يحصل على الربح، وذلك في بيع العين بالدين، جاز أن يفرغها من دين، ويشغلها بغيره، وكأنه شغلها ابتداء بقرض، أو بمعاوضة، فكانت ذمته مشغولة بشيء، فانتقلت من شاغل إلى شاغل" (¬1). ويناقش: هذا الكلام مدخول من أكثر من وجه: الوجه الأول: لو صح قياس بيع الدين بالدين، على بيع العين بالدين، لم يكن هناك إجماع على النهي عن بيع المؤخر بالمؤخر، وقد اتفقوا على منع بيع المؤخر بالمؤخر، كما لو باع عليه موصوفًا مؤجلًا، بثمن مؤجل. الوجه الثاني: ذكر ابن القيم أن كل واحد منهما له منفعة من هذه المعاملة، فالمدين أفرغ ذمته من دين، وشغلها بآخر، والآخر حصل على الربح. والسؤال: كيف صحح ابن القيم أن يبيع الدين على من هو عليه بثمن مؤجل، وأذن له أن يربح فيه، مع أن بيع الدين على من هو عليه بثمن حال يشترط لجوازه ¬
الدليل السادس
ألا يربح فيه حتى لا يربح فيما لم يضمن، فبيعه بثمن مؤجل من باب أولى ألا يربح فيه. الدليل السادس: استدل ابن القيم على الجواز بالقياس على المقاصة، وهو بيع الساقط بالساقط. يقول ابن القيم: "إذا كان الدين في ذمة المسلم إليه، فاشترى به شيئًا في ذمته فقد سقط الدين من ذمته، وخلفه دين آخر واجب، فهذا من بيع الساقط بالواجب، فيجوز كما يجوز بيع الساقط بالساقط في باب المقاصة" (¬1). ويناقش: هناك فرق كبير بين بيع المقاصة وبين مسألتنا، ففي بيع المقاصة تبرأ الذمم، وينتهي الدين، فهو بمنزلة بيع عين بعين، بينما في مسألتنا تنشغل ذمة المدين بدين آخر بلا فائدة، وكان بالإمكان أن يمهل المدين إذا كان المقصود الإرفاق به لولا ما يرجوه الدائن من أخذ الربح في مقابل زيادة الأجل. • الراجح: القول بالمنع؛ لأن المسألة لا تخرج إما أن يراد من هذه المعاملة منفعة الدائن، أو منفعة المدين، أو لا يراد منفعة أي واحد منهما. فإن كان لا منفعة لهما كانت هذه المعامله عبثًا، فالعاقل لا يبيع أو يشتري ما لا منفعة فيه للمتعاقدين. وإن كان يرى أن المنفعة للدائن كان هذا من قبيل تقضي أو تربي، وتكون الزيادة في الأجل مقابل هذه المنفعة، وهي محرمة بالإجماع. ¬
وإن كانت المنفعة للمدين حيث يراه في الانتقال إلى المبيع الجديد أسهل لوفاء دينه، فلينتظر حتى يكون المبيع معه، ثم يبيعه إياه، فيكون ذلك أسهل لوفاء دينه حقيقة لا دعوى، ويكون من قبيل بيع دين بعين، وليس من قبيل بيع دين بدين، والله أعلم.
الفرع الثالث جعل ما في يد المسلم إليه رأس مال لسلم
الفرع الثالث جعل ما في يد المسلم إليه رأس مال لسلم [م - 711] لو كان عند المسلم إليه أمانة، أو عين مغصوبة، ونحوها، فأراد ربها أن يجعلها رأس مال لسلم بينهما، فهل يصح ذلك؟ هذه المسألة تختلف عن المسألة السابقة، ففي المسألة السابقة كان رأس مال السلم في ذمة المسلم إليه، وأما في هذه المسألة فإن رأس مال السلم عين معينة في يد المسلم إليه، سواء كانت يده يد ضمان كالغاصب، أو كانت يده يد أمانة كالوديعة ونحوها، فلا يرد في هذه المسألة الإشكال السابق بأنه بيع دين بدين، لأن المال إذا تعين في يد المسلم إليه صار البيع من قبيل بيع الدين بالعين. والسؤال هل ينوب القبض السابق للعقد مناب القبض المستحق في مجلسه، أم يحتاج الأمر إلى قبض جديد؟ في ذلك خلاف بين العلماء: فقيل: ينوب القبض السابق لرأس مال السلم عن القبض المستحق في مجلس العقد، إذا كانت يد المسلم إليه يد ضمان، كما لو كان المال في يده بغصب، أو مقبوضًا بعقد فاسد. فإن كانت يد المسلم إليه يد أمانة، كما لو كان المال في يده وديعة، أو عارية، لم ينسب القبض السابق عن القبض اللاحق. وهذا مذهب الحنفية (¬1). • وجه ذلك: أن القبض عند الحنفية ينقسم إلى قسمين: قبض ضمان، وقبض أمانة. ¬
وقبض الضمان: هو: ما كان فيه القابض مسئولًا عن المقبوض تجاه غيره، فيضمنه إذا هلك عنده، ولو بآفة سماوية، كالمغصوب في يد غاصبه، والمبيع في يد مشتريه. وقبض أمانة: وهو ما كان فيه القابض غير مسئول عن المقوض إلا بالتعدي، أو التقصير في الحفظ. ويرى الحنفية أن قبض الضمان أقوى من قبض الأمانة. وأن القبض السابق للعقد إذا كان مثل المستحق بالعقد، فإنه ينوب منابه، بمعنى: أن القبضين إذا تجانسا بأن كانا قبضي أمانة، أو كانا قبضي ضمان تناوبا؛ لأنه إذا كان مثله، أمكن تحقيق التناوب. فالقبض الواجب في عقد السلم قبض ضمان، فيجب أن يكون القبض السابق لعقد السلم قبض ضمان؛ لينوب القبض السابق عن القبض اللاحق. أما لو كان القبض السابق قبض أمانة، فإنه لا يصح أن ينوب هذا القبض عن الواجب لعقد السلم؛ لأن قبض الأمانة أضعف من قبض الضمان. وذهب الجمهور إلى أنه لا حاجة إلى تجديد القبض، بل ينوب القبض السابق للعين مقام القبض اللاحق المستحق مطلقًا، سواء كانت يد القابض عليه يد ضمان، أم يد أمانة؛ لأن المراد بالقبض المستحق: إثبات اليد، والتمكن من التصرف في المقبوض، فإذا تحقق هذا الأمر فقد وجد القبض، ولا علاقة لكون المقبوض مضمونًا، أو أمانة في حقيقة القبض، ولا يوجد دليل على أنه ينبغي أن يقع القبض ابتداء بعد العقد (¬1). ¬
جاء في كشاف القناع: "الشرط السادس للسلم: أن يقبض المسلم إليه، أو وكيله رأس ماله في مجلس العقد، أو ما في معنى القبض، كما لو كان عنده أي المسلم إليه أمانة، أو عين مغصوبة ونحوها، فجعلها ربها رأس مال سلم، فيصح؛ لأنه في معنى القبض" (¬1). ¬
الفصل الثالث في الشروط العائدة إلى المسلم فيه
الفصل الثالث في الشروط العائدة إلى المسلم فيه أوسع المذاهب في جواز ما يسلم فيه هو المذهب المالكي، حيث لم يمنعوا السلم إلا في أربعة أشياء: الأول: ما لا ينقل كالدور، والأراضين. والثاني: مجهول الصفة، كتراب المعادن، والجزاف. والثالث: ما يتعذر وجوده. والرابع: ما يمتنع بيعه (¬1). ولذلك أجاز المالكية وحدهم السلم في الجواهر، كما أجازوا السلم في كثير من المعدودات المتفاوتة، كالرمان، والبطيخ، وأجازوا أيضًا السلم في الأجود، والأردأ خلافًا لمذهب المجمهور، وسوف يتكشف لك عند الكلام على شروط المسلم فيه أن مذهب المالكية هو أوسع المذاهب، وأكثرها مرونة. ¬
الشرط الأول أن يكون المسلم فيه دينا
الشرط الأول أن يكون المسلم فيه دينًا قال القرافي: ما لا يكون في الذمة لا يكون دينًا (¬1). [م - 712] يشترط بالاتفاق أن يكون المسلم فيه دينًا، وإذا قلنا: (أن يكون دينًا) فإن ذلك يغني عن قولنا: (موصوفًا في الذمة) فهذه الجملة من باب التوكيد؛ لأن الدين لا يكون إلا موصوفًا في الذمة. فالديون لا تثبت إلا في الذمم، بخلاف الأعيان، فإنها تثبت في الأيدي القابضة لها، وليس محلها الذمة. قال القرافي: "ما لا يكون في الذمة لا يكون دينًا" (¬2). وما في الذمة لا يتعين لطالبه إلا إذا قبضه، فالديون في الفقه تقابل الأعيان، ومتى تعين الدين فقد خرج من كونه دينًا، وبناء عليه فإن الدين لا يكون أمانة؛ لأن الأمانة لا تكون مضمونة في الأصل، والديون مضمونة. ويتفرع عن ذلك أن ما كان في الذمة لا يكون إلا موصوفًا؛ لأنه حق متعلق بشيء غير معين، فمن كان عليه دين فله قضاؤه من أي ماله شاء، أما الأعيان فإنها تستوفى بذاتها. وكل حق ثابت في الذمة لا يبطل بتلف المال، كالدين، والقرض؛ لأنه لم يتعلق بعين معينة. وكل حق تعلق بالعين -كالوديعة، والمضاربة- فإنه يبطل بتلف المال. ¬
إذا علم فقد أجمع الفقهاء على أن المسلم فيه لا بد أن يكون دينًا موصوفًا. وقولنا (دينًا موصوفًا) أخرج المعين، ولو كان موصوفًا؛ لأنه ليس بدين. قال الباجي: "وأما السلم فلا بد أن يكون المسلم فيه موصوفًا؛ لأنه لا يصح أن يعرف إلا بالوصف؛ لأنه لا يجوز أن يكون معينًا، وإنما يكون متعلقًا بالذمة. وهذا لا خلاف فيه" (¬1). وجاء في شرح ميارة: "لا خلاف أن من شروط السلم أن يكون متعلقًا بالذمة" (¬2). وبناء عليه فلا يجوز أن يكون المسلم فيه معينًا؛ لأن السلم وضع لبيع شيء في الذمة، بثمن معجل، ومقتضاه ثبوت المسلم فيه دينًا في ذمة المسلم إليه، ومحله ذمة المسلم إليه، فإذا كان المسلم فيه معينًا تعلق حق رب السلم بذاته، وكان محل الالتزام ذلك الشيء المعين، لا ذمة المسلم إليه، ومن هنا كان تعيين المسلم فيه مخالفًا لمقتضى العقد. فإذا جعل السلم في شيء معين فلا يخلو: إما أن يكون هذا الشيء المعين مملوكًا لغيره، أو مملوكًا له وقت العقد. فإن كان مملوكًا لغيره وقت العقد لم يصح العقد؛ لأنه باع ما لا يملك، وهذا مجمع على بطلانه، وقد تكلمنا عنه في مسألة بيع ما ليس عند البائع فأغنى عن إعادة الكلام عليه هنا. وإن كانت السلعة مملوكة له، فإن كان التسليم حالًا فإن العقد صحيح، ولكن لا ينعقد سلمًا، وإنما هو بيع من البيوع. ¬
وإن كان التسليم مؤجلًا، فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز التأجيل في الأعيان؛ لأن من شرط المؤجل عند الجمهور أن يكون دينًا موصوفًا في الذمة، فلا يجوز التأجيل في المعقود عليه (ثمنًا، أو مثمنًا) إذا كان معينًا. لأن تأجيل الأعيان ينطوي على غرر، حيث من الممكن أن يهلك الشيء المعين قبل حلول وقت أدائه، فيستحيل تنفيذه، بخلاف ما لو كان المسلم فيه موصوفًا في الذمة، فإن الوفاء يكون بأداء آية عين يتحقق فيها الأوصاف المتفق عليها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. فالآية تدل على جواز التأجيل في الديون، ولم يرد في النصوص ما يشير إلى جواز تأجيل الأعيان، ولهذا قال الكاساني في البدائع "التأجيل يلائم الديون، ولا يلائم الأعيان" (¬1). وقال ابن عابدين: "الأعيان لا تقبل التأجيل" (¬2). ¬
وقال الرملي: "الأعيان لا تقبل التأجيل ثمنًا، ولا مثمنًا" (¬1). وقال ابن رشد في بداية المجتهد: "وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الأعيان إلى أجل، وأن من شرطها تسليم المبيع إلى المبتاع بأثر الصفقة" (¬2). وجاء في المدونة: "لما كره مالك أن أسلف في سلعة قائمة بعينها، وأضرب لأخذها أجلًا؟ قال: لأن ذلك عنده غرر، لا يدري أتبلغ تلك السلعة إلى ذلك الأجل أم لا، وهو يقدم نقده، فينتفع صاحب تلك السلعة بنقده، فإن هلكت تلك السلعة قبل الأجل كان قد انتفع بنقده من غير أن تصل السلعة إليه، فهذا مخاطرة وغرر" (¬3). وجاء في المجموع: "قال أصحابنا: إنما يجوز الأجل إذا كان العوض في الذمة، فأما إذا أجل تسليم المبيع، أو الثمن المعين، بأن قال: اشتريت بهذه الدراهم على أن أسلمها في وقت كذا، فالعقد باطل" (¬4). وعلل الحنفية والشافعية المنع من التأجيل في المعين، بأنه إنما شرع الأجل لتحصيل المبيع، فإذا كان معينًا فقد تم تحصيله، فلا حاجة له. قال في العناية: "الأجل في المبيع العين باطل؛ لإفضائه إلى تحصيل الحاصل، فإنه شرع ترفيهًا في تحصيله باتساع المدة، فإذا كان المبيع، أو الثمن حاصلًا كان الأجل لتحصيل الحاصل .. " (¬5). ¬
وقال السيوطي: "الأجل شرع رفقًا للتحصيل، والمعين حاصل" (¬1). وعلل السمرقندي بأن الأجل في المعين لا يفيد، فقال: "ومنها: أن يشترط الأجل في المبيع العين، أو الثمن العين؛ لأن الأجل في الأعيان لا يفيد، فلا يصح، فيكون شرطًا لا يقتضيه العقد، فيفسد البيع" (¬2). وهذا الكلام فيما أرى ليس على إطلاقه، وإذا جاز على الصحيح: أن يبيع الدار، ويستثني سكناها مدة معينة، وهذا يقتضي عدم تسليم المعين، جاز الأجل في المعين، وقد تكلمت عن هذه المسألة في باب الشروط في البيع، والحمد لله. كما تجوز على الصحيح الإجارة على مدة لا تلي العقد، وهذا يعني تأخير تسليم المعين، وسيأتي إن شاء الله تعالى بحث هذه المسألة في كتاب الإجارة، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
الشرط الثاني العلم بالمسلم فيه
الشرط الثاني العلم بالمسلم فيه المبحث الأول العلم بالمسلم فيه مقداره [م - 713] معرفة مقدار المسلم فيه من الشروط المتفق عليها عند الفقهاء؛ لأن السلم متعلق بالذمة، وما تعلق بالذمة يستحيل أن يكون جزافًا غير مقدر؛ لأن ما في الذمة لا يمكن معرفته إلا بالتقدير، بخلاف غيره، فإنه يمكن معرفته عن طريق الإشارة والتعيين. ودليل ذلك: (ح-520) ما رواه البخاري من طريق ابن أبي نجيح، عن عبد الله ابن كثير، عن أبي المنهال عن ابن عباس - رضي الله عنه -، قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يسلفون بالتمر السنتين، والثلاث، فقال: من أسلف في شيء ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم. ورواه مسلم (¬1). ويقاس على المكيلات، والموزونات غيرها. قال ابن قدامة: "ولا نعلم في اعتبار معرفة المقدار خلافًا" (¬2). ولأن العلم بالمبيع شرط من شروط صحة البيع، فإذا لم يعلم قدر المسلم فيه أفضى ذلك إلى جهالة المبيع، وهذا لا يجوز (¬3). ¬
الفرع الأول السلم في المعدود
الفرع الأول السلم في المعدود المطلب الأول السلم في المعدودات المتماثلة جاء في العناية: الضابط في معرفة العددي المتقارب عن المتفاوت تفاوت الآحاد في المالية، دون الأنواع (¬1). [م - 714] لا خلاف بين الفقهاء في السلم في المكيل، والموزون، وهما مالان، مثليان. واختلفوا في السلم في المعدودات المتماثلة، وفي المذروعات، هل يجوز السلم فيها؟ فقيل: يجوز، وهو مذهب الأئمة الأربعة في الجملة. قال ابن نجيم: "ويصح في العددي المتقارب، كالبيض، والجوز؛ لأنه معلوم مضبوط، مقدور التسيلم، وما فيه من التفاوت مهدر عرفًا. ولا خلاف في جوازه عددًا ... " (¬2). ¬
• وجه الجواز
• وجه الجواز: أن مناط الحكم إمكان ضبط الصفة، ومعرفة المقدار، فجاز إلحاقهما بالمكيل، والموزون؛ لأن الجهالة ترتفع بذلك بصرف النظر عن كونه قيميًا أو مثليًا. وقيل: لا يجوز السلم إلا في المكيل، والموزون، خاصة اختاره ابن حزم، ولا يجوز السلم في المعدود، والمذروع (¬1)، ووافقه الحنابلة في المذروع في أحد القولين (¬2). ¬
أجيب
استدلالًا بظاهر حديث ابن عباس المتفق عليه قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يسلفون بالتمر السنتين، والثلاث، فقال: من أسلف في شيء ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم (¬1). وأجيب: بأن الحديث خص الكيل، والوزن؛ لغلبتهما، وللتنبيه على غيرهما (¬2). ولو أخذنا بظاهر الحديث، لقلنا: ظاهره يوجب الجمع بين الكيل، والوزن، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (في كيل معلوم، ووزن معلوم)، ولم يقل بهذا أحد، فيكون تقدير الحديث من أسلم في مكيل فليكن الكيل معلومًا، ومن أسلم في موزون فليكن الوزن معلومًا. ولأن الكيل، أو الوزن، ليس مقصودًا في المعاوضة، وإنما هو معيار للوصول إلى معرفة مقدار المبيع، لذلك ينبغي أن يقاس على الكيل، والوزن كل معيار يمكن أن يؤدي نفس الوظيفة في معرفة مقدار المبيع. وهذا هو الراجح. ¬
المطلب الثاني السلم في المعدود المتفاوت
المطلب الثاني السلم في المعدود المتفاوت قال الزيلعي: "الأصل أن كل معدود تتفاوت آحاده في المالية، لا يجوز السلم فيه" (¬1). وقال في حاشية تبيين الحقائق: "ما اختلفت آحاده في القيمة، واتفقت أجناسه، فلا يجوز السلم فيه" (¬2). [م - 715] علمنا في المبحث السابق حكم السلم في المعدود المتماثل، وأما السلم في المعدود المتفاوت الآحاد، فقد اختلف العلماء في السلم فيه: فقيل: العددي المتفاوت لا يجوز السلم فيه عددًا، وهذا مذهب الحنفية (¬3). • وجه من قال: لا يجوز السلم في العددي المتفاوت. الوجه الأول: أن العددي المتفاوت لا يمكن ضبطه بالوصف؛ إذ يبقى فيه جهالة فاحشة ¬
الوجه الثاني
مفضية إلى المنازعة ولو بينا جنسه، ونوعه، وصفته، وقدره (¬1). الوجه الثاني: أن من شرط المسلم فيه أن يثبت دينًا في الذمة، والمتفاوت الآحاد لا يمكن أن يكون دينًا في الذمة، ولا يصح قرضه، فلا يصح السلم فيه. وقيل: يقدر بالعدد، أو بالوزن، تبعًا لعرف أهل بلد محل العقد، ويقاس بخيط لمعرفة محيطها، ويوضع هذا الخيط عند أمين. وهذا مذهب المالكية (¬2). أما كون التقدير بالعدد، أو بالوزن، فإن الرجوع فيه إلى ما تعارف عليه أهل بلد محل العقد، فما اعتادوا بيعه بالعدد، كان تقديره بالعدد، وما اعتادوا بيعه بالوزن، كان تقديره بالوزن. وأما القياس بالخيط بالإضافة إلى العدد، أو الوزن فلضبط الحجم من صغر، وكبر مما تختلف فيه أغراض الناس، وتتفاوت فيه القيمة. وقيل: يقدر بالوزن، وهذا مذهب الشافعية (¬3)، والراجح في مذهب الحنابلة (¬4). • وجه من قال: يقدر بالوزن فقط: أن العددي المتفاوت لا يمكن ضبطه بالعدد؛ لأن آحاده متفاوتة، فلا ينضبط ¬
الراجح
قدره بالعدد. ولا يمكن ضبطه بالمكيال؛ لأنه يتجافى بالمكيال، فلم يبق إلا الوزن. • الراجح: أن المعدود إذا كانت آحاده متفاوتة، ويشكل هذا التفاوت فرقًا مقصودًا، فإن السلم ينبغي أن يكون في الوزن، أو في الكيل، إن كان يمكن ضبطه بذلك مع وصف الحجم وصفًا يقطع النزاع، فإن لم يمكن ضبط صفاته بذلك لم يجز السلم فيه.
المطلب الثالث السلم في المعدود كيلا أو وزنا
المطلب الثالث السلم في المعدود كيلًا أو وزنًا [م - 716] إذا جاز السلم في المعدود؛ لكون آحاده متماثلة، أو متقاربة، فهل يجوز السلم فيه كيلًا، أو وزنًا؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: ما جاز السلم فيه عددًا جاز ضبطه كيلًا، ووزنًا، إن أمكن ضبطه بذلك، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). القول الثاني: اختار بعض الشافعية عدم جواز السلم في المعدود كيلًا، بل يقدر المعدود بالوزن فقط (¬4)، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬5). وجهه: أن المعدود لما كان يدخله التباين في حجمه، وفي وزنه، كان تقديره بالوزن أضبط، ولأنه يتجافى بالمكيال، فلا يمكن ضبطه بالكيل. ¬
القول الثالث
والجمهور يشترطون أن يمكن ضبطه بالكيل، فإذا كان يتجافى في المكيال لم يمكن ضبطه بالكيل، فلا بد من الوزن. القول الثالث: سبق لنا أن ابن حزم لا يرى السلم في غير المكيل، والموزون، وقد ذكرنا دليله، وأجبنا عليه في المسألة السابقة، فأغنى عن إعادته، والحمد لله.
الفرع الثاني يجب أن تكون وحدة الكيل معلومة عند العامة
الفرع الثاني يجب أن تكون وحدة الكيل معلومة عند العامة شرط صحة السلم أن يكون المسلم فيه معلوم القدر بمعيار يؤمن فقده (¬1). [م - 717] أشار الفقهاء إلى أن المعيار يجب أن يكون معلومًا، ومعتادًا عند عامة الناس، سواء أكان ميزانًا، أما مكيالًا، أم ذرعًا؛ لإمكان الرجوع إليه. ويفسد السلم بتقدير المسلم فيه بمقياس غير معتاد، ككوز، أو إناء، أو صنجة، أو غير ذلك مما هو غير معتاد؛ لأنه قد يهلك، أو يضيع، فيؤدي إلى المنازعة. قال ابن قدامة: "ويجب أن يقدره بمكيال، أو أرطال معلومة عند العامة، فإن قدره بإناء معلوم، أو صنجة معينة غير معلومة لم يصح؛ لأنه يهلك، فيتعذر قدر المسلم فيه، وهذا غرر لا يحتاج إليه العقد. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، على أن المسلم في الطعام لا يجوز بقفيز لا يعلم عياره، ولا في ثوب بذراع فلان؛ لأن المعيار لو تلف، أو مات فلان بطل السلم" (¬2). وقال في منح الجليل: "وفسد السلم إن ضبط فيه بشيء مجهول، من كيل، أو وزن، أو عدد، كملء هذا الوعاء حنطة، أو وزن هذا الحجر زيتًا، أو عدد هذا الحصى بيضًا" (¬3). وقال في نهاية المطلب: "إن وقعت الإشارة إلى قصعة ما، جرى العرف في الكيل بها، وبأمثالها، فقد اتفق الأئمة على بطلان السلم. والسبب فيه: أن ملأه ¬
مجهول ... وينضم إلى ذلك أن القصعة عرضة للتلف ... ولو تلفت القصعة لم يدر المتعاقدان إلى ماذا رجوعهما. وإن أشار إلى مكيال ملؤه معلوم، وشرط أن يقع الكيل به دون غيره، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما: أن العقد يفسد؛ لإلزام ما لا يلزم، مع تعرض ذلك المعين للتلف كما قدمناه. والوجه الثاني: أن السلم يصح، والمعقود عليه ملء ذلك الصالح، وتعيين ذلك فاسد لا يتعلق بغرض العقد، وقد ذكرنا أن الشرائط التي لا تتعلق بغرض العقد ملغاة، لا حكم لها" (¬1). وقال في كشف المخدرات: "ولا يصح شرط صنجة، أو مكيال، أو ذراع لا عرف له، لكن لو عين مكيال رجل بعينه، أو ميزانه، أو صنجته، أو ذراعه، صح العقد دون التعيين" (¬2). ¬
الفرع الثالث الإسلام بالمكيل وزنا والعكس
الفرع الثالث الإِسلام بالمكيل وزنًا والعكس ما كان اشتراط المعيار فيه لضبط القدر، لا لتحقيق المساواة، صح ضبط المكيل بالوزن، والموزون بالكيل، بخلاف الربويات. [م - 718] لا خلاف بين الفقهاء أن المكيلات تقدر بالكيل، والموزونات تقدر بالوزن، واختلفوا هل يقدر المكيل وزنًا، أو الموزون كيلًا؟ فقيل: يصح، وهو مذهب الحنفية، والشافعية (¬1)، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد (¬2). • وجه القول بالجواز: أن المطلوب في السلم هو معرفة المقدار، وهذا حاصل في كيل الموزون، أو وزن المكيل، بخلاف الربويات، فإن المطلوب تحقيق المماثلة، ولهذا اعتبر المعيار الشرعي. ¬
• وجه المنع
وقيل: يضبط المسلم فيه بما جرت العادة بضبطه في بلد السلم، بصرف النظر عن معياره الشرعي من كيل، أو وزن. وهذا مذهب المالكية (¬1). وقيل: لا يصح أن يسلم في المكيل وزنًا، ولا في الموزون كيلًا، وهو رواية في مذهب الحنفية (¬2)، وإحدى الروايتين عن الإِمام أحمد، وعليه أكثر الأصحاب، وهو المذهب (¬3). • وجه المنع: أن معرفة مقدار الشيء يجب أن تكون بمعياره الشرعي، كيلًا فيما يكال، ووزنًا فيما يوزن، فما يشترط معرفة قدره، لم يجز بغير ما هو مقدر به في الأصل، كبيع الربويات بعضها ببعض. وقيل: لا يجوز في الموزون كيلًا، يعني، ويجوز في المكيل وزنًا؛ لأن الوزن أضبط من الكيل. وهو وجه ضعيف عند الشافعية (¬4). والراجح مذهب الحنفية، والشافعية، وأن استخدام أي وحدة قياسية عرفية يتفق عليها المتعاقدان، ويمكن أن تضبط لنا مقدار المسلم فيه، ولو كانت غير مستعملة في زمن النبوة، فإن هذا كاف في رفع الجهالة عن المسلم فيه، والتفاوت اليسير لا يضر، والقياس على بيع الربوي بجنسه قياس غير صحيح؛ لأن الربوي إذا بيع بجنسه اشترط فيه التماثل، والتقابض، وهذا غير معتبر في عقد السلم، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني العلم بالمسلم فيه بضبط صفاته
المبحث الثاني العلم بالمسلم فيه بضبط صفاته قال القاضي عبد الوهاب المالكي: "ما تتعذر رؤيته تقوم الصفة فيه مقام الرؤية كالسلم" (¬1). [م - 719] علمنا من خلال الشرط الأول، أن المسلم فيه لا بد أن يكون دينًا، فلا يجوز السلم في شيء معين. وقد تكلمنا في الشرط السابق عن العلم بقدر المسلم فيه، وفي هذا المبحث نتكلم عن العلم بالمسلم فيه بضبط صفاته. فمن المعلوم أن العلم بالمبيع شرط لصحة البيع، ومنه عقد السلم، وطريق العلم بالمبيع: إما الرؤية، وإما الوصف. ورؤية المبيع في عقد السلم متعذرة؛ لكون المسلم فيه موصوفًا في الذمة، فيتعين الوصف طريقًا لمعرفة المسلم فيه. قال القاضي عبد الوهاب المالكي: "ما تتعذر رؤيته تقوم الصفة فيه مقام الرؤية، كالسلم" (¬2). وإذا كان بيع السلم من بيع الموصوف، فإنه يشترط فيه أن يكون مما ينضبط بالصفة التي يختلف الثمن باختلافها اختلافًا ظاهرًا، كالمكيلات، والموزونات، والمذروعات. وما لا يمكن ضبطه بالصفة لا يصح السلم فيه (¬3)؛ لأن البيع يقع فيه على مجهول، وبيع المجهول لا يجوز (¬4). ¬
(ح-521) لما رواه البخاري من طريق ابن أبي نجيح، عن عبد الله بن كثير، عن أبي المنهال عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يسلفون بالتمر الستتين، والثلاث، فقال: من أسلف في شيء ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم. ورواه مسلم (¬1). والصفات الواجب ذكرها بالاتفاق: هي الجنس، والنوع، والجودة، أو الرداءة، وهذه لا بد من ذكرها في السلم. قال ابن قدامة: "لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في اشتراطها" (¬2). واختلفوا في وجوب ذكر غيرها معها، كاللون، والبلد ونحو ذلك. فالحنفية نصوا في كتبهم على ذكر الأوصاف الثلاثة: الجنس، والنوع والصفة (جيد، رديء، وسط) ولم يذكروا غيرها اكتفاء بها (¬3). وأما غير الحنفية فذكروا أوصافًا أخرى زائدة على الأوصاف الثلاثة، وهي تختلف باختلاف المسلم فيه، كلونه، وبلده، وحداثته، وقدمه، وكل وصف يختلف به الغرض، والثمن، فيجب ذكره. وهذا مذهب المالكية (¬4)، ¬
والشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). • وجه قول الحنفية: بأن الأوصاف الثلاثة تكفي في ضبط المسلم فيه: فإذا ذكر الجنس، كأن يقول: حنطة، شعير، تمر. وذكر النوع، كأن يقول: تمر برني، سكري. وذكرت الصفة، كقولك: جيد، وسط، رديء. فهذه الأوصاف اشتملت على ما وراءها من الصفات. ولأن استقصاء جميع الصفات يتعذر، وربما يفضي الحال إلى عدم القدرة على تسليم المسلم فيه عند الأجل، فيجب الاكتفاء بالأوصاف الظاهرة التي يختلف الثمن بها اختلافًا ظاهرًا. • وجه قول الجمهور: أن هذا يختلف باختلاف المسلم فيه، فبعض المسلم فيه قد يكفي في وصفه ذكر الصفات الثلاث: الجنس، والنوع، والصفة. وبعض المسلم فيه لا بد فيه من ذكر اللون، والبلد، والحداثة، والقدامة، باعتبار أن هذه الأوصاف مؤثرة في قيمة المسلم فيه، وتختلف فيها أغراض المتعاقدين، وبناء عليه فلا بد من ذكر مثل هذه الصفات قطعًا للنزاع والاختلاف. ¬
فكل جنس لا أثر للحدوث والعتق فيه، لا حاجة إلى التعرض لذكره، وكل جنس يكون للحداثة، والقدامة أثر، فلا بد من التعرض لذلك، خذ مثلًا التمر، فإذا كان المسلم فيه تمرًا، فلا بد من ذكر كونه حديثًا أو عتيقًا؛ لاختلاف الثمن، والغرض. وأما لو أسلم في الرطب فلا حاجة للتعرض للحداثة، والعتق. ومثله العسل، فلا بد من ذكر كونه جبليًا، أو بلديًا، وهكذا. وأما دعوى أن استقصاء جميع الصفات متعذر، ويفضي إلى عدم القدرة على التسليم، فهذا غير مسلم، بل ذلك أضبط، وأبعد عن الاختلاف. وهذا القول هو الراجح، والله أعلم. وهذا بيان لبعض السلع مما اشترط فيه الجمهور بيان صفات زائدة على الجنس، والنوع، والجودة. ففي القمح: يوصف بذكر نوعه، وبلده، وجودته، ورداءته، ولونه، وجدته (¬1). وفي الحيوان: يذكر النوع، واللون، والذكورة، والأنوثة، والسن، والسمن، والهزل (¬2). وفي الثياب: يذكر النوع، والبلد التي نسجت فيه، والطول، والعرض، والدقة، والغلظة بالنسبة لغزله، والصفاقة، والرقة بالنسبة لنسجه، والنعومة والخشونة. وفي العسل: يذكر أنه جبلي، أو بلدي، ويذكر الزمان، ربيعي، أو خريفي، واللون، أبيض، أو أحمر (¬3). وهذه نماذج يقاس عليها غيرها، والله أعلم. ¬
الفرع الأول في اشتراط الأجود أو الأردأ
الفرع الأول في اشتراط الأجود أو الأردأ قال السرخسي: صفة الجودة لا تستحق إلا بالشرط (¬1). وقال السبكي: صفة الجودة لا تستحق بالعقد، إلا بالشرط (¬2). [م - 720] اختلف الفقهاء فيما إذا اشترط المسلم الأجود. فقيل: لا يصح اشتراط الأجود، ويصح اشتراط جيد، ورديء، ويجزئ ما يصدق عليه أنه جيد، ورديء. وهذا مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). • وجه المنع: عدم انضباط الوصف؛ لأنه ما من جيد إلا ويمكن وجود أجود منه. قال الشافعي: "ولا يجوز أن يقول: أجود ما يكون من الطعام؛ لأنه لا يوقف على حده ... " (¬5). وقيل: يصح اشتراط الأجود، والأردأ، وهو مذهب المالكية (¬6). • وجه القول بالجواز: أنه غير متعذر، بل معلوم، ومتيسر عند الناس. ¬
• وجه الصحة
واختلف الفقهاء في اشتراط الأردأ: فقيل: يصح. وهو قول في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). • وجه الصحة: قال الشيرازي: "لأنه إن كان ما يحضره هو الأردأ، فهو الذي أسلم فيه، وإن كان دونه أردأ منه، فقد تبرع بما أحضره، فوجب قبوله، فلا يتعذر التسليم" (¬2). وقال زفر: لا يجبر على قبوله؛ لأنه متبرع به، ولو تبرع عليه بزيادة قدر، كان له ألا يقبل تبرعه، فكذلك إذا تبرع بالجودة (¬3). ونوقش: بأن هذا من باب حسن القضاء، وإيفاء الحق بكماله، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: خيركم أحسنكم قضاء (¬4). وقيل: إن كانت رداءة النوع صح؛ لانضباط ذلك، وإن كانت رداءة العيب لم يصح؛ لأنها لا تنضبط. وهذا التفصيل لبعض الشافعية (¬5). وقيل: لا يصح، وهو نص الشافعي في الأم، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬6). • وجه المنع: أنه ما من رديء إلا ويوجد رديء آخر، أقل منه. ¬
الراجح
قال الشافعي: "ولا أردأ ما يكون (أي لا يجوز أن يقول: أردأ ما يكون) لأنه لا يوقف على حده، فإن الرديء يكون بالغرق، وبالسوس، وبالقدم، فلا يوقف على حده" (¬1). وقد ساق شيخنا ابن عثيمين في شرحه لنا لزاد المستقنع قولًا آخر، وهو أنه يصح شرط الأجود والأردأ، ويحمل على ما يكون في سوق البلد، أي أجود ما يكون في السوق، وأردأ ما يكون في السوق. وهذا معروف عند أهل العرف، والاختلاف الذي يمكن أن يقع فيه اختلاف لا يضر (¬2). • الراجح: بعد استعراض الأقوال والأدلة أجد أن القول الوسط هو القول بصحة شرط لأردأ دون شرط الأجود. قال شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله-: وهذا القول أقطعها للنزاع، وأقربها للصواب. ¬
الفرع الثاني إقامة الأنموذج مقام وصف السلم
الفرع الثاني إقامة الأنموذج مقام وصف السلم المشاهدة أبلغ من الوصف، وترفع الغرر. [م - 721] الأنموذج: هو مثال الشيء الدال على صفته، فهل يمكن أن يقوم الأنموذج مقام وصف المسلم فيه، خاصة أن مسألة الأنموذج مفروضة في المتماثلات، والتي آحاده متساوية كالمكيل، والموزون؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم: فقيل: لا يقوم الأنموذج مقام الوصف في السلم، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، والمذهب عند الحنابلة (¬2)، واختيار ابن القاسم من المالكية (¬3). وقيل: يصح، ويقوم مقام الوصف. وهو مذهب الحنفية (¬4)، وهو نص ¬
المدونة (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). والمسألة مبنية على مسألة سابقة سبق تحرير الخلاف فيها، فمن منع بيع الأنموذج في البيع المطلق، فهو سيمنعه في باب السلم؛ لأنه مثله، أو أولى منه، ومن صحح البيع برؤية الأنموذج، فقد اختلفوا في تصحيحه في وصف المسلم فيه، بناء على أن الأنموذج قد يتعرض للتلف فيحصل النزاع. قال النووي: "ولو قال: أسلمت إليك في ثوب كهذا الثوب، أو مائة صاع حنطة، كهذه الحنطة، قال العراقيون: لا يصح ... لأن هذه الحنطة، والثوب قد يتلفان. وقال في التهذيب: يصح، ويقوم مقام الوصف" (¬4). ولأنه من الممكن حفظ الأنموذج وضبطه، والمشاهدة أبلغ من الوصف، والله أعلم. وقد تكلمنا عن بيع الأنموذج في البيع المطلق في عقد البيع، فارجع إليه إن شئت. ¬
الفرع الثالث السلم في الجواهر
الفرع الثالث السلم في الجواهر [م - 722] اختلف الفقهاء رحمهم الله في السلم في الجواهر. فقيل: لا يجوز، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: السلم جائز إذا اشترط من ذلك شيئًا معروفًا، وصفة معروفة. وهذا مذهب مالك (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3)، واختيار أبي ثور (¬4). • وجه قول الجمهور: أن الجواهر لا يمكن أن تنضبط بالوصف؛ لأن آحادها تختلف اختلافًا متباينًا بالصغر، والكبر، وحسن التدوير، وزيادة الصفاء، وبعضها قد يحد وزنًا، ويختلف قيمة، وما كان هذا شأنه، لا يمكن أن يسلم فيه. • وجه قول المالكية: أن الجواهر يمكن لأهل الخبرة أن يضبطوا صفاتها، وما أمكن ضبط صفته جاز السلم فيه. ¬
الراجح
• الراجح: الخلاف بين الجمهور والمالكية هو في تحقيق المناط، هل الجواهر يمكن ضبط صفاتها أو لا يمكن؟ فإن قال أهل الخبرة: إن ذلك ممكن، ويعلمه غالب الناس، دون آحادهم جاز السلم، وما كان مختصًا بأهل الخبرة، ولا يضبطه آحاد الناس، لم يجز السلم فيه.
الفرع الرابع السلم في الأواني المختلفة الرؤوس والأوساط
الفرع الرابع السلم في الأواني المختلفة الرؤوس والأوساط [م - 723] اختلف الفقهاء في السلم في الأواني المختلفة الرؤوس: فقيل: يجوز السلم في هذه الأواني؛ لأنه يمكن ضبطها، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية، وقول في مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). • وجه القول بالجواز: أن ضبط صفاتها ممكن، وذلك ببيان ارتفاعها، ودور أسفلها وأعلاها ... وقيل: لا يجوز، وهو قول في مذهب الحنفية (¬4)، والمذهب عند الشافعية (¬5)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬6). • وجه المنع: قالوا: لأنه لا يمكن ضبط صفاتها؛ لاختلاف رؤوسها وأوساطها. • الراجح: الخلاف بين القولين هو اختلاف في تحقيق المناط، هل هذه الأواني يمكن ضبط صفاتها أو لا يمكن؟ والقول بأنه لا يمكن ضبط صفاتها، إذا كان ذلك ¬
يصدق في الوقت الماضي عندما كانت الصناعة يدوية، وليست متماثلة، فإنه لا يصدق في هذا الزمن، حين أصبحت الآلة هي التي تتحكم في صناعة الأواني، وأصبحت مثلية من كل وجه، حيث تصدر عن قالب واحد، لا تختلف طولًا، وعرضًا، ووزنًا، والله أعلم.
الفرع الخامس السلم في اللحم
الفرع الخامس السلم في اللحم [م - 724] اختلف العلماء في السلم في اللحم: فقيل: لا يجوز مطلقًا، وهذا مذهب أبي حنيفة (¬1). • وجه المنع: وجود الجهالة في المسلم فيه من وجهين: الوجه الأول: تفاوت اللحم بتفاوت الحيوان المأخوذ منه اللحم من ناحية الهزال والسمن، وذلك يختلف باختلاف فصول السنة، وبقلة الكلأ وكثرته، والسلم لا يكون إلا مؤجلًا، فلا يدرى عند حلول الحول على أي صفة تكون؟ وهذه الجهالة لا ترتفع بذكر الوصف. الوجه الثاني: أن اللحم يشتمل على ما هو المقصود منه، وعلى ما ليس بمقصود، وهو العظم، فيتفاوت، فيحصل المماكسة بين البائع والمشتري في ذلك، فالمشتري يطالب بالنزع، والبائع يدسه فيه؟ وهذا نوع من الجهالة، والمنازعة، لا ترتفع ببيان الموضع (¬2). وقيل: يجوز السلم في منزوع العظم، وهو رواية عن أبي حنيفة (¬3). ¬
• وجه القول بجواز السلم في اللحم
وقيل: يصح السلم في اللحم، وهو مذهب الجمهور (¬1)، واختيار أبي يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬2). • وجه القول بجواز السلم في اللحم: الوجه الأول: حديث ابن عباس المتفق عليه (فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم) وسبق تخريجه. وجه الاستدلال: أن الحديث دل على جواز السلم في الوزن المعلوم، واللحم مما يضبط بالوزن. الوجه الثاني: إذا كان السلم في الحيوان جائزًا، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فالسلم في اللحم من باب أولى. الوجه الثالث: أن وجود العظم لا يمنع من السلم فيه؛ لأن وجوده راجع إلى أصل الخلقة، كما لا يمنع النوى من السلم في التمر. وأجاز المالكية السلم في اللحم بوزن، وبغير وزن عن طريق التحري إن كان لذلك قدر قد عرفوه (¬3). ¬
• وجه القول بالجواز
• وجه القول بالجواز: أن اللحم يباع بعضه ببعض عن طريق التحري. واختلف المالكية في صورة التحري الجائزة، فقيل: هي أن يقول له: آخذ منك كل يوم ما إذا تحرى كان وزنه كرطل، أو رطلين مثلًا، ونحو ذلك كما قاله ابن يونس. وقال ابن زرب: معناه أن يعرض عليه قدرًا من اللحم، وبقول: آخذ منك كل يوم مثل هذا، ويشهد على المثال، وأما على التحري فلا يجوز؛ لأن إدراك الصواب بتحري موجود يشار إليه حسًا، أقرب من إدراكه مشارًا إليه في الذهن موصوفًا (¬1). بينما نص الإمام الشافعي، والحنابلة، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية، على اشتراط الوزن، وهذا أضبط (¬2). لأن جواز بيع اللحم بالتحري هذا مشروط في المعين المشاهد، أما ما يثبت في الذمة فلا بد من معرفة وزنه. ¬
وهل يذكر موضع اللحم من الحيوان أم لا؟ فقيل: ليس عليه ذلك، وهو اختيار ابن حبيب، وابن المواز من المالكية (¬1). وقيل: يعتبر موضع اللحم، وهذا مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: إن اختلفت الأغراض بمواضع من الشاة، من صدر، أو فخذ، أو جنب ذكره، وإلا فلا. وهو اختيار القاضي عبد الوهاب البغدادي من المالكية (¬3). وهذا أقرب، والله أعلم. ¬
الفرع السادس السلم في الأكارع والرؤوس
الفرع السادس السلم في الأكارع والرؤوس [م - 725] اختلف العلماء في السلم في الرؤوس، والأكارع: فقيل: لا يجوز، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والأظهر عند الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: يجوز، وهو مذهب المالكية (¬4)، ورواية عند الحنابلة (¬5)، وأجازه الشافعية على قول، بشرط أن تكون الرؤوس منقاة من الشعر، والصوف، وأن يسلم فيها وزنًا (¬6)، وهو اختيار أبي ثور (¬7). • وجه من قال بالمنع: الوجه الأول: عدم انضباط صفات الرؤوس، والأكارع، فلا يمكن ضبطها عن طريق العدد؛ لأنها متفاوتة، فيها الكبير، وفيها الصغير، ولا يمكن انضباط صفاتها بالوزن؛ لأنها غير موزونة. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أن العظم في الرؤوس، والأكارع أكثر من اللحم، أو مساو له، فلا يمكن أن يجعل تبعًا للحم فبقي معتبرًا، ولا يدرى قدره، فيصير قدر المسلم فيه -وهو اللحم- مجهولًا، بخلاف العظم الذي في اللحم فقليل، فأمكن جعله تبعًا للحم لقلته. • وجه من قال بالجواز: أن الرؤوس، والأكارع معلومة، والسلم فيها من باب السلم في اللحم، ووجود العظم في هذه الأشياء لا يمنع من السلم فيها، والتفاوت الموجود بينها ممكن ضبطه عن طريق الوصف. وهذا القول هو الراجح، والله أعلم.
الفرع السابع السلم في الحيوان
الفرع السابع السلم في الحيوان [م - 726] اختلف العلماء في السلم في الحيوان: فقيل: لا يجوز، وهو مذهب الحنفية (¬1)، ورواية عند الحنابلة (¬2)، واختيار ابن حزم (¬3). وقيل: يجوز، وهو مذهب المالكية (¬4)، والشافعية (¬5)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬6). • دليل من قال بالجواز: الدليل الأول: الأصل إباحة السلم في الحيوان، ولو كان السلم فيه محرمًا لنهى عنه الشارع، وما لم يثبت نهي عنه فالأصل جوازه، كيف وقد ثبت الدليل الإيجابي على صحة جعل الحيوان دينًا في الذمة؟ ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-522) ما رواه مسلم من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكرًا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع، فقال: لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيًا، فقال: أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء (¬1). وجه الاستدلال: إذا جاز بهذا الحديث قرض الحيوان، وجعله دينًا في الذمة، صح السلم فيه، وأنه يمكن ضبط صفته. الدليل الثالث: (ح-523) ما رواه أحمد من طريق جرير -يعني ابن حازم- عن محمَّد -يعني ابن إسحاق- عن أبي سفيان، عن مسلم بن جبير، عن عمرو بن حريش، قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت: إنا بأرض ليس بها دينار، ولا درهم، وإنما نبايع بالإبل، والغنم إلى أجل، فما ترى في ذلك؟ قال: على الخبير سقطت، جهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشًا على إبل من إبل الصدقة، فنفدت، وبقي ناس، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اشتر لنا إبلًا بقلائص من إبل الصدقة إذا جاءت، حتى نؤديها إليهم، فاشتريت البعير بالاثنين، والثلاث من قلائص، حتى فرغت، فأدى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إبل الصدقة (¬2). وفي لفظ أبي داود: فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة (¬3). ¬
وجه الاستدلال
[حسن] (¬1). وجه الاستدلال: أن معاوضة البعير بالبعيرين تعتبر سلمًا، وليست قرضًا؛ لما فيه من الأجل والفضل. الدليل الرابع: (ح-524) ما رواه البخاري من طريق منصور، عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تباشر المرأة المرأة، فتنعتها لزوجها، كأنه ينظر إليها (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل وصف المرأة يقوم مقام رؤيتها، وهذا دليل على أن وصف الحيوان يقوم مقام الرؤية، وأن الحيوان يمكن ضبطه بالوصف. الدليل الخامس: وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - إبل الدية في قتل الخطأ، وجعلها أخماسًا: هي عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة وعشرون جذعة .. وهذا دليل على إمكانية ضبط الحيوان بالصفة (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: وصف الله البقرة لبني إسرائيل حين أمر موسى أن يأمرهم بأن يذبحوا بقرة لمعرفة القاتل، ولو كان الحيوان لا ينضبط بالصفة، لما أمكن وصف البقرة. • دليل من قال: لا يجوز السلم في الحيوان: الدليل الأول: (ح-525) ما رواه البخاري من طريق ابن أبي نجيح، عن عبد الله ابن كثير، عن أبي المنهال عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن الحديث نص على اشتراط الكيل، أو الوزن في الشيء المسلم فيه، والحيوان ليس مما يكال، ولا يوزن. ويجاب عن الحديث: لا يؤخذ من الحديث اشتراط كون المسلم فيه مكيلًا، أو موزونًا، وإنما الحديث معناه: من أسلم في مكيل فليكن كيله معلومًا، ومن أسلم في موزون فليكن وزنه معلومًا، فالمراد ضبط صفة المسلم فيه قطعًا للنزاع، والحنفية لا يأخذون بظاهر الحديث، فهم يجيزون السلم في البيض، وهو غير مكيل، ولا ¬
الدليل الثالث
موزون، ويجيزون السلم في المعدود إذا كان مما ينضبط وصفه، ولو لم يكن من المكيلات، والموزونات. الدليل الثالث: (ح-526) ما رواه الدارقطني من طريق إسحاق بن إبراهيم بن جوني، أخبرنا عبد الملك الذماري، أخبرنا سفيان الثوري، حدثني معمر، عن يحيى ابن أبي كثير، عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن السلف في الحيوان (¬1). [ضعيف جدًا] (¬2). الدليل الرابع: الحيوان يتفاوت آحاده، فالضأن من الغنم إذا كانت قيمته غير متساوية فآحاده غير متماثلة، ورب حيوان زادت قيمته كثيرًا إما لسرعته، أو للونه، أو لكونه معلمًا، أو لجماله، أو لسمنه، أو لغير ذلك، فالحيوان عددي متفاوت، لا مقدار له، ولا ينضبط بالصفة، ويتفاوت بالسمن، والهزال، والسن، والنوع، وشدة العدو، والهملجة، وهو سير سهل للبراذين، وقد يجد فرسين مستويين في السن، والصفة، ثم يشترى أحدهما بأضعاف ما يشترى به الآخر للتفاوت بينهما في المعاني الباطنة، وهذا أيضًا في بني آدم لا يخفى، فإن العبدين، والأمتين يتساويان سنًا، وصفة، ويختلفان في العقل، والأخلاق، والمروءة. ¬
ويمكن أن يدفع هذا
ويمكن أن يدفع هذا: بأن الحيوان لا بد من ذكر كل صفة تزيد في قيمته، وليس المطلوب فقط هي الصورة الظاهرة، فالتعليم، والسمن، والسن، والجنس والنوع والذكورة والأنوثة، وذكر البلد إذا كان ذلك مما يزيد في قيمته، وبهذا تكون الصفة مضبوطة قدر الإمكان، كما قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152]. فأشار إلى أن التكليف قدر الاستطاعة • الراجح: أرى أن القول الراجح هو قول الجمهور، وأن الحيوان كما جاز استقراضه فإنه يجوز السلم فيه، ويجب ضبط كل صفة يمكن أن تؤثر في الثمن والله أعلم.
الفرع الثامن السلم في العقار (الدور والمباني)
الفرع الثامن السلم في العقار (الدور والمباني) [م - 727] لا يجوز السلم في العقار عند الأئمة الأربعة؛ لعدم ثبوت العقار في الذمة؛ لجهالة المعقود عليه (¬1). لأن العقار لا بد أن يبين موضعه لتفاوت قيمته باختلاف موضعه، وتبيين موضعه يعني تعيينه، وإذا تعين خرج من كونه في الذمة، كما أنه إذا عين المسلم فيه أمكن بيعه في الحال، ولا حاجة إلى بيعه عن طريق السلم. قال في الشرح الكبير: "وعين دار، وحانوت، وحمام، وخان، ونحوها إذ لا يصح أن يكون العقار في الذمة" (¬2). قال في حاشية الدسوقي معلقاً: "لأنه لا بد في إجارته إذا لم يعين بالإشارة إليه، أو بال العهدية من ذكر موضعه، وحدوده، ونحو ذلك مما تختلف به الأجرة، وهذا يقتضي تعيينه" (¬3). قال في الذخيرة: "يمتنع السلم في الدور، والأرضين؛ لأن خصوص المواضع فيها مقصود للعقلاء، فإن عين لم يكن سلمًا؛ لأن السلم لا يكون إلا في الذمة، وإن لم يعين كان سلمًا في مجهول" (¬4). وعلل الحنفية بأن عقد الإجارة لا بد له من محل، والمنافع معدومة وقت ¬
العقد، وليست مالًا في نفسها عندهم، وإنما ينعقد بإقامة العين مقام المنفعة، فإذا كانت العين غير موجودة لم يصح العقد، ولهذا منع الحنفية أن يكون العقد على المنافع، فلا يقول: أجرتك منافع هذه الدار، وإنما يصح بإضافته إلى العين، فيقول: أجرتك هذه الدار. ولأن المباني ليست مثلية، وإذا كانت كذلك لم تثبت في الذمة، فلا يجوز إلا أن تكون معينة، ولهذا منع الحنفية إجارة الحيوان إلا معينًا (¬1). * * * ¬
الفرع التاسع السلم في الدنانير والدراهم
الفرع التاسع السلم في الدنانير والدراهم [م - 728] اختلف العلماء في السلم في الدنانير، والدراهم على قولين: القول الأول: لا يجوز، وهو مذهب الحنفية (¬1)، ووجه مرجوح في مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وجه المنع عند الحنفية: الوجه الأول: أن من شروط المسلم فيه أن يكون مما يتعين بالتعيين، والدراهم، والدنانير لا تتعين بالتعيين. ويناقش: بأنه لا يوجد دليل على هذا الشرط من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قول صاحب. والأصل الجواز حتى يقوم دليل على المنع. الوجه الثاني: النقود لا تقع في عقد المعاوضة إلا على جهة الثمنية، فلا يصح أن تكون مثمنًا، وإذا صححنا أن تكون الدراهم، والدنانير مسلما فيها، فقد أصبحت مثمنًا. ¬
ويناقش
ويناقش: بأن النقود كما تقع ثمنًا تقع مثمنًا، ففي بيع الأثمان بعضها ببعض كما لو باع دراهم بدنانير، لا بد أن يقع أحدهما مثمنًا. القول الثاني: يجوز بشرط أن يكون رأس المال من غيرها، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وجه من قال بالجواز: الوجه الأول: أن كل ما جاز أن يكون في الذمة ثمنًا جاز أن يكون مثمنًا. الوجه الثاني: أن ما جاز اقتراضه جاز السلم فيه، والنقود تثبت في الذمة صداقًا، فتثبت سلمًا كالعروض (¬4). الوجه الثالث: أنه لا يوجد مانع شرعي يمنع من صحة السلم في النقود، فلا يوجد ربا بينهما لا من حيث التفاضل، ولا من حيث النساء، والأصل صحة السلم. وهذا القول هو الراجح، والله أعلم. ¬
الفرع العاشر السلم فيما دخلته النار
الفرع العاشر السلم فيما دخلته النار [م - 729] اختلف العلماء في السلم فيما دخلته النار، كالخبز، والشواء على قولين: القول الأول: لا يصح السلم فيه لا وزنًا، ولا عددًا، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، وعليه أكثر الشافعية (¬2). القول الثاني: يجوز، وهو قول في مذهب الحنفية، اختاره أبو يوسف (¬3)، والمذهب عند المالكية (¬4)، ووجه في مذهب الشافعية (¬5)، والمذهب عند الحنابلة (¬6). ¬
وجه من قال بالمنع
وجه من قال بالمنع: أن عمل النار لا يمكن ضبطه؛ إذ النار تختلف قوة وضعفًا، فالخبز مثلًا يختلف بالثخانة، والرقة، والنضج، وعادة الناس فيه مختلفة، فلا يمكن ضبط صفاته. وجه من قال بالجواز: أن عمل النار يمكن ضبط صفاته، فالخبز مثلًا يمكن ضبطه بالوزن وبالعدد، وعمل النار فيه معلوم بالعادة. والراجح: القول بالجواز؛ لقوة أدلته، والله أعلم. * * *
الشرط الثالث أن يكون مؤجلا
الشرط الثالث أن يكون مؤجلًا ما جاز في المعاوضة موجلًا جاز حالاً، وليس العكس. كل بيع صح مع التأجيل ينبغي أن يصح مع التعجيل. [م - 730] اختلف الفقهاء في اشتراط الأجل في السلم على أقوال: القول الأول: يشترط لصحة السلم أن يكون مؤجلًا، فإن كان حالًا لم يصح، وهذا مذهب الجمهور (¬1). ¬
القول الثاني: يجوز السلم مطلقاً، حالًا، ومؤجلًا، وسواء أكان المسلم فيه عنده، أم لم يكن عنده، وهذا مذهب الشافعية (¬1). القول الثالث: يجوز السلم الحال بشرط أن يكون المسلم فيه عنده، وهذا اختيار ابن تيمية (¬2). القول الرابع: يجوز السلم الحال بلفظ البيع، ولا يجوز بلفظ السلم، اختاره القاضي أبو يعلى من الحنابلة (¬3). دليل من قال: لا يجوز السلم حالاً: الدليل الأول: (ح -527) ما رواه البخاري ومسلم من طريق سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عبد الله بن كثير، عن أبي المنهال، عن ابن عباس، قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
المدينة، وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: من أسلف في تمر، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أوجب مراعاة الأجل في عقد السلم، كما أوجب مراعاة القدر فيه (في كيل معلوم ووزن معلوم)، فإذا كان القدر المعلوم شرطًا في عقد السلم، وجب أن يكون الأجل شرطًا فيه أيضًا. ويجاب: بأن ذكر الأجل في الحديث يحتمل أمرين: إما لأنه قيد أغلبي، إذ غالب ما يحتاج الناس في بيع الموصوف في الذمة (السلم) إلى العقد المؤجل؛ لأن العقد الحال غالباً ما يتوجه الناس إلى شراء الشيء المعين، وليس الموصوف، فلما كان الغالب على السلم التأجيل ذكر الأجل في الحديث. ويحتمل أن يكون ذكر الأجل في الحديث ليس من أجل اشتراط الأجل في العقد، وإنما معناه: إن كان هناك أجل، فليكن معلومًا، كما أن الكيل، والوزن ليسا بشرط، بل يجوز السلم في الثياب بالذراع، وإنما ذكر الكيل بمعنى: أنه إن أسلم في مكيل، فليكن كيله معلومًا، وإن كان في موزون، فليكن وزنه معلومًا، وإن كان مؤجلًا، فليكن أجله معلومًا، ولا يلزم من هذا اشتراط كون السلم مؤجلاً، بل يجوز حالاً (¬2). الدليل الثاني: السلم عقد لم يشرع إلا رخصة؛ لكونه بيع ما ليس عند الإنسان. ¬
لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن بيع ما ليس عند البائع، ورخص في السلم (¬1). فالسلم بيع غائب، ليس عند البائع وقت العقد؛ رخص به ليدفع به حاجة كل من المتعاقدين، فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري الثمرة بأرخص من قيمتها؛ ليربح فيها، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبانها لينفقه عليها، فظهر أن بيع السلم من المصالح الحاجية، وقد سماه بعض الفقهاء بيع المحاويج، فإذا جاز حالًا بطلت هذه الحكمة، وارتفعت هذه المصلحة، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عندك فائدة (¬2). يجاب عن ذلك: أما ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يصح، وقد سبق الكلام عن ذلك. وأما قولكم: بأن السلم لم يشرع إلا رخصة، إن كنتم تقصدون بذلك كما يقول بعضهم: إن السلم على خلاف القياس؛ لأنه بيع معدوم، وبيع المعدوم لا يجوز، وإذا كان الحال كذلك اقتصر بالسلم على صفته، فلم يجز حالاً، فقد أجبت على ذلك في فصل مستقل، وبينت أن السلم جار على وفق القياس، وذلك أن السلم المؤجل دين من الديون، فكما أن الثمن قد يؤجل في الذمة، وهو أحد العوضين، فكذلك المثمن قد يؤجل في ذمة البائع، فأي فرق بين كون أحد العوضين يصح أن يكون مؤجلًا في الذمة، ولا يصح أن يكون العوض الآخر مؤجلًا في الذمة (¬3). ¬
وأما قولكم: إذا جاز حالاً بطلت الحكمة من مشروعية السلم، فيقال: على التسليم بقولكم، فإن الحكمة إذا بطلت من مشروعية السلم، فلم تبطل حكمة الشرع من مشروعية المعاوضة، فإن البائع انتفع بالثمن، والمشتري انتفع بالمبيع بعد استلامه، وهذا هو المقصود الأعظم للشرع من إباحة تبادل الأموال عن طريق المعاوضة، وما جاز في المعاوضة مؤجلًا جاز حالًا، وليس العكس، فإن هناك من المعاملات ما لا تصح إلا حالة مقبوضة في مجلس العقد. الدليل الثالث: الحلول في السلم يخرج العقد عن اسمه ومعناه: أما إخراجه عن اسمه، فظاهر، فإن معنى السلم والسلف: أن يعجل أحد العوضين، ويتأخر الآخر، فإذا لم يكن هناك تأجيل، وكان حالاً خرج السلم عن اسمه. وأما خروجه بالتعجيل عن معناه: فإن الشارع إنما أرخص فيه للحاجة الداعية إليه، كما بينت فيما سبق، ومع حضور ما يبيعه حالاً لا حاجة إلى السلم، فإن البائع والحالة هذه لا يبيع إلا معينًا، لا يبيع شيئًا في الذمة، وهذا لا يقال له سلم (¬1). ويجاب عنه: بأن هناك أكثر من فائدة في العدول من البيع المعين إلى السلم الحال من ذلك: الفائدة الأولى: في باب الضمان، فإن المشتري إذا اشترى سلعة معينة، ولم تكن بحاجة إلى ¬
استيفاء من كيل، أو وزن، فهلكت قبل قبضها، فإنها تهلك على المشتري، وإذا اشترى شيئًا موصوفًا في ذمة البائع، فهلكت قبل قبضها كان ضمانها على البائع. الفائدة الثانية: أن الشافعية يمنعون بيع العين الغائبة، ولو كانت موصوفة ما دامت معينة، فإذا كانت السلعة المعينة غير حاضرة عند العقد لم يصح العقد عليها عندهم، لكنهم يجوزون السلم الحال مع غيبة المبيع؛ لأن المبيع في مثل هذا لا يكون متعلقًا بسلعة معينة، بل يكون موصوفًا، متعلقًا في ذمة البائع، مضمونًا عليه (¬1). دليل الشافعي على جواز السلم حالاً: الدليل الأول: قالوا: إذا جاز السلم مؤجلًا مع الغرر، فجواز الحال أولى؛ لأنه أبعد عن الغرر، أو نقول بلفظ آخر: كل بيع صح مع التأجيل، ينبغي أن يصح مع التعجيل؛ لأن التعجيل زيادة مطلوبة، تحقق الغرض من مقصود البيع، وهو انتفاع البائع بالثمن، وانتفاع المشتري بالمبيع. وأجاب الجمهور: لا نسلم عدم الغرر مع الحلول؛ لأنه إن كان عنده فهو قادر على بيعه حالاً، فعدوله إلى السلم قصد للغرر، وإن لم يكن عنده، فالأجل يعينه على تحصيله، والحلول يمنع ذلك، فبقي الغرر (¬2). ¬
ويرد على هذا: بأن يقال: قد أجبنا عن فائدة العدول إلى السلم في بيع الحال، فإن المشتري والبائع مستفيدان من هذه الصيغة، فالمشتري يريد أن يتعلق الضمان بعين موصوفة، ليكون ضمانها على البائع، والبائع إن كانت سلعته موجودة عنده، فقد لا تكون حاضرة في مجلس العقد، وإن كانت ليست عنده كان له من الوقت ما يذهب، ويحضرها، والحلول لا يعني وجوب التقابض في مجلس العقد، كما لو باعه عينًا معينة غائبة موصوفة، فإن البيع يعتبر حالاً، ويعطى من الوقت ما يمكنه من إحضار السلعة، وأخطر ما في ذلك أن يعجز البائع عن تحصيل المبيع، فإن عجز انفسخ العقد، كما أن العقد ينفسخ في السلم المؤجل إذا عجز البائع عن تحصيل المبيع، والضرر في السلم الحال أخف؛ لأن المشتري في السلم المؤجل قد ينتظر السنة والسنتين، ويعجز البائع عن تسليم المبيع، فيكون البائع مخيرًا بين فسخ العقد، أو الانتظار إلى حين تمكن البائع من تحصيل المبيع، ففي الحالة هذه يكون الضرر أبلغ على المشتري، ومع هذا الاحتمال لم يمنع ذلك من صحة البيع، فكذلك لا يمنع صحته في السلم الحال. الدليل الثاني: عقد السلم الحال عقد من عقود المعاوضات، وعقود المعاوضات ليس من شرط صحتها التأجيل كالبيع. الدليل الثالث: البيع نوعان: بيع عين، وبيع صفة، وبما أنه يصح بيع العين حالاً، فإنه يجب أن يصح بيع الصفة حالاً مثله، غاية ما في ذلك أن بيع الصفة لا يتعلق المبيع
بسلعة معينة، وإنما يكون تعلقها بذمة البائع، وهذا لا يوجب فرقًا مؤثرًا في صحة البيع. دليل ابن تيمية على اشتراط كون المسلم فيه مملوكًا: الدليل الأول: (ح-528) ما رواه أحمد من طريق أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن حكيم بن حزام، قال: قلت يا رسول الله يأتيني الرجل يسألني البيع ليس عندي ما أبيعه، ثم أبيعه من السوق؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك (¬1). وقد وجه ابن تيمية رحمه اللهُ هذا الحديث على تحريم السلم الحال إذا لم يكن عنده بالآتي: الأول: الحديث ورد في النهي عن بيع شيء في الذمة، وليس النهي عن بيع شيء معين، يملكه زيد، أو عمرو؛ لأن حكيم بن حزام لم يكن يبيع شيئًا معينًا يملكه غيره، ولا كان الذي يأتيه يقول: أريد سلعة فلان، أو سيارة فلان، وإنما كان الذي يأتيه يقول: أريد طعام كذا وكذا، ثم يذهب، فيحصله من غيره. الثاني: أن حكيم بن حزام رحمه الله كان يبيعه حالاً، وليس مؤجلاً، فإنه قال: أبيعه، ثم أذهب فأبتاعه، فقال له: لا تبع ما ليس عندك، فلو كان السلم الحال لا يجوز مطلقًا، لقال له: لا تبع هذا، سواء أكان عنده، أم لا، فلما قال له: لا تبع ما ليس عندك، كان هذا دليلًا على جواز السلم الحال إذا كان عنده، وكان الحديث دليلًا على اشتراط وجود المسلم فيه مملوكًا له وقت العقد، فهو نهي عن السلم الحال، إذا لم يكن عند المستسلف ما باعه، فيلزم ذمته بشيء حال، ويربح فيه، وليس هو قادرًا على إعطائه. ¬
المناقشة: كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يصح توجيهه لو كان حديث حكيم ابن حزام محفوظًا باللفظ الذي استشهد به ابن تيمية رحمه الله، وإذا كان المحفوظ في حديث حكيم -كما بينته عند تخريج الحديث- إنما هو بالنهى عن بيع الطعام حتى يستوفى لم يكن فيه دليل على اشتراط وجود المسلم فيه مملوكًا عند البائع، وإنما النهي عن بيع ما ليس عندك ثبت من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وليس فيه القصة التي ذكرها حكيم، وهو مطلق، ويمكن حمله على النهي عن بيع شيء معين لا يملكه، كما حمله الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى. وأما قوله "فيربح فيه، وليس هو قادرًا على إعطائه". فيقال: نحن نشترط ألا يسلم في شيء حال، إلا إذا كان يغلب على ظنه وجوده، وما غلب على الظن وجوده، كان قادرًا على تسليمه. ولذلك أجاز بعض الفقهاء السلم في الخبز، واللحم يأخذ منه كل يوم أجزاء معلومة، إذا غلب على الظن وجوده عنده، وهذا يمكن إلحاقه بالسلم الحال؛ لأنه يمكن له أن يشرع في قبض الحصة الأولى مع العقد. وأما قول الشيخ رحمه الله: "فيربح فيه، وليس هو قادرًا على إعطائه" وأما الربح فيه فليس منهيًّا عنه ما دام مضمونًا عليه؛ لأن المحذور أن يربح فيما لم يضمن، كما لو باعه شيئاً معينًا لم يدخل ملكه، فيربح فيه قبل أن يدخل في ضمانه، وأما السلم الحال، والمؤجل فهو بيع شيء موصوف في ذمته مضمون عليه، فلا حرج في الربح فيه. وأما قول الشيخ: "وليس هو قادرًا على إعطائه". إن كان المقصود ليس قادرًا على إعطائه في مجلس العقد فمسلم، وهذا لا يمنع صحة السلم؛ لأن حلول السلم لا يعني وجوب التقابض في مجلس العقد،
كما لو باعه عينًا معينة غائبة موصوفة، فإن البيع يعتبر حالاً، ويعطى من الوقت ما يمكنه من إحضار السلعة، وإن كان المقصود ليس قادرًا على إعطائه مطلقًا، فغير مسلم؛ لأننا نشترط في السلم الحال أن تكون السلعة موجودة في السوق، فلا يسلم حالاً في وقت الصيف، في فاكهة لا توجد إلا في الشتاء أو العكس. الدليل الثاني لابن تيمية: ذكر رحمه الله بأن السلعة إذا لم تكن عنده، فقد يحصل عليها، وقد لا يحصل عليها، وهذا نوع من الغرر، وإن حصله، فقد يحصله بثمن أعلى مما تسلفه، فيندم، وقد يحصله بسعر أرخص من ذلك، فيندم المسلف؛ لأنه كان يمكنه أن يشتريه هو بذلك الرخص، فصار هذا من نوع الميسر، والقمار، والمخاطرة، كبيع العبد الآبق، والبعير الشارد،، يباع بدون ثمنه، فإن حصل ندم البائع، وإن لم يحصل ندم المشتري. المناقشة: قول ابن تيمية -رحمه الله-: السلعة إذا لم تكن عنده فقد يحصل عليها، وقد لا يحصل عليها، وهذا نوع من الغرر: يقال: هذا الغرر موجود في السلم المؤجل من باب أولى، فإن البائع قد يحصل على المبيع، وقد لا يحصل عليه، والتأجيل: ليس مظنة الحصول عليه، ولأن الشأن في حال السلم المعجل قد يتصل البائع بالمورد، ويسأله عن وجود البضاعة، ويتأكد من وجودها قبل دخوله في الصفقة، بخلاف المؤجل فإنه غيب لا يعلمه إلا الله، وعلى كل حال نحن نشترط لصحة السلم الحال أن تكون البضاعة موجودة، وفرق بين اشتراط وجود البضاعة في السوق، وبين اشتراط وجودها في ملكه.
وأما قول الشيخ: بأنه قد يحصل عليها بثمن أقل، فيندم المشتري إذ كان يمكنه تحصيل السلعة من المصدر، وقد يحصل عليها بثمن أكثر من قيمتها، فيندم البائع، فيكون هذا كبيع العبد الآبق، والجمل الشارد. فيقال: قد يكون كلام الشيخ -رحمه الله- مناسبًا للعصر الذي كان فيه، أما اليوم فقد يحرص المشتري أن يحصل على البضاعة من خلال التاجر، ولا يرغب في الحصول عليها من خلال الموزع، وذلك ليستعين بخبرة التاجر من خلال معرفته للسلع الجيدة من السلع المقلدة، فهو يعرف السلع جيدًا والفروق بينها، ومدى جودة كل سلعة، وملاءمتها للظروف، كما يرغب المشتري أن يكون الضامن للسلعة رجلاً معروفاً في السوق يستطيع أن يرجع إليه، إذا تبين وجود عيب، أو خلل، أو قامت حاجة إلى قطع غيار ونحوه، كما أن في الناس من لا يعرف قيمة الأشياء، فيستعين بمن يعرفها، فالتاجر يستطيع أن يشتري البضاعة بأقل سعر ممكن مما لو اشتراها الرجل العادي، فيطيب المشتري نفساً أن يدفع ربحًا معلومًا فوق الثمن الذي دفعه البائع، ومع كل هذا فإن العرف التجاري اليوم، أن المنتج إذا باع بضاعته على الباعة أعطاهم إياها بسعر الجملة، وإذا باع على الأفراد كان لها سعر آخر، وهو سعر الاستهلاك، فلو رجع المستهلك إلى المصدر وجد تطابقًا بالسعر بين البائع، والمنتج، أو الموزع، وهذا عرف يحترمه التجار بينهم، لينتفع أهل السوق من جهة، ويكون سعر البضاعة موحدًا من جهة أخرى. دليل من قال: يصح بلفظ البيع، ولا يصح بلفظ السلم. ربما استدل صاحب هذا القول بأن الألفاظ لها دور كبير في تكييف المعاملة من الإباحة إلى التحريم، فمن دفع درهمًا، وأخذ درهماً بدلًا عنه: إن كان بلفظ البيع اشترط التقابض في مجلس العقد، وإن كان بلفظ القرض جاز التأجيل،
والذي فرق بينهما هو اللفظ، فالسلم اسمه ومعناه: أن يسلم الثمن، ويتأخر المثمن، فهو أخص من البيع، فإذا جرت المعاوضة بدفع الثمن، وكان المثمن حالًا، لم يصدق عليه أنه من باب السلَم، وصدق عليه أنه بيع، فنشترط أن يكون بلفظ البيع، ولا يكون بلفظ السلم. ويجاب عن ذلك: بأن هناك فرقًا بين عقد القرض، وعقد المعاوضة، فعقد القرض من عقود الإرفاق، والإحسان، لم يقصد به الربح، بخلاف عقود المعاوضات، والسلم والبيع من عقود المعاوضات، فما يشترط في البيع يشترط في السلم، وذلك من العلم في المبيع، والعلم بالثمن، وانتفاء الجهالة والغرر ... الخ شروط البيع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العبرة في ألفاظ العقود بمعانيها، لا بألفاظها، وقد قدمت فصلاً مستقلًا بأنه: إذا تعارض اللفظ والمعنى، قدم المعنى على الصحيح من أقوال أهل العلم، وقد انتقد ابن تيمية من فرق بين السلم الحال بلفظ البيع، وبين السلم الحال بلفظ السلم، فقال: "مستند هذا الفرق ليس مأخذًا شرعيًّا، فإن أحمد لا يرى اختلاف أحكام العقود باختلاف العبارات، كما يراه طائفة من أصحابه ... يُجَوزون بيع ما في الذمة بيعًا حالًا بلفظ البيع، ويمنعونه بلفظ السلم؛ لأنه يصير سلفا حالًا، ونصوص أحمد، وأصوله تأبى هذا كما قدمناه عنه بصيغ العقود، فإن الاعتبار في جميع التصرفات القولية بالمعاني، لا بما يحمل على الألفاظ، كما تشهد به أجوبته في الأيمان والنذور، والوصايا، وغير ذلك من التصرفات، وإن كان هو قد فرق بينهما، كما فرق طائفة من أصحابه، فيكون هذا التفريق رواية عنه مرجوحة ... " (¬1). ¬
الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأقوال أجد أن أقوى الأقوال في المسألة هو مذهب الشافعية، وهو جواز السلم الحال مطلقًا، سواء كان عند البائع، أو ليس عنده، بشرط أن يغلب على الظن وجوده في السوق، وإذا كان السلم المؤجل لا يدخل في قوله: لا تبع ما ليس عندك، لم يدخل السلم الحال من باب أولى، والله أعلم. *****
الفرع الأول أدنى مدة الأجل في السلم وأكثره
الفرع الأول أدنى مدة الأجل في السلم وأكثره [م - 731] أما أكثر الأجل فلا حد له، كبيوع الأعيان إلا ما لا يجوز البيع إليه للغرر. قال ابن جزي: ولا حد لأكثره إلا إن كان ما ينتهي إلى الغرر لطوله (¬1). [م - 732] وأما أدنى الأجل الذي لا يصح السلم بأقل منه فاختلف العلماء فيه إلى أقوال، أهمهما: القول الأول: قيل أدنى أجل السلم شهر، وهو الأصح في مذهب الحنفية، واختاره محمَّد ابن الحسن (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وجه ذلك: علل الحنفية ذلك بأن الأجل إنما شرط في السلم ترفيهًا وتيسيرًا على المسلم إليه؛ ليتمكن من الاكتساب في المدة، والشهر مدة معتبرة يتمكن فيها من الاكتساب، فيتحقق معنى الترفيه، فأما ما دونه ففي حد القلة، فكان له حكم الحلول. وعلل الحنابلة ذلك: بأن الأجل ينبغي أن يكون له وقع في الثمن، كالشهر، وما قاربه، وما دون الشهر ليس له وقع في الثمن. ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب بعض مشايخ الحنفية بأن أدنى الأجل ثلاثة أيام قياسًا على خيار الشرط (¬1). وردَّ: بأن أقل مدة الخيار ليس بمقدر، والثلاث أكثر المدة على أصل أبي حنيفة فلا يستقيم القياس. القول الثالث: قيل تقدير الأجل إلى العاقدين حتى لو قدرا نصف يوم جاز، بناء على أن الأجل في حديث ابن عباس مطلق، اختاره بعض الحنفية (¬2). القول الرابع: قدر المالكية أقل الأجل بخمسة عشر يوماً، فأكثر؛ لأنها مظنة اختلاف الأسواق غالباً، واختلافها مظنة لحصول المسلم فيه، وهذا هو المعتمد في المذهب (¬3). القول الخامس: روى ابن وهب عن مالك أنه يجوز اليومان، والثلاثة، وقال ابن عبد الحكم: لا بأس به إلى اليوم الواحد (¬4). ¬
القول السادس
القول السادس: اختار ابن حزم أن الأجل ساعة، فما فوقها. يقول ابن حزم: والأجل في السلم ما وقع عليه اسم أجل كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يحد أجلًا من أجل، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، فالأجل ساعة فما فوقها (¬1). الراجح: هذا الخلاف في أدنى الأجل دليل على أن اشتراط الأجل في السلم ضعيف، إذ لو كان الأجل شرطاً في السلم لبينت السنة مقدار الأجل الذي يصح فيه السلم، فلما لم تبين مقدار الأجل علم أن الصحيح جواز السلم الحال، والله أعلم. ... ¬
الفرع الثاني أن يكون الأجل معلوما
الفرع الثاني أن يكون الأجل معلومًا إذا اشترط الأجل في السلم فيجب أن يكون معلومًا (¬1). (ح -529) لما رواه البخاري من طريق ابن أبي نجيح، عن عبد الله ابن كثير، عن أبي المنهال عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يسلفون بالتمر السنتين، والثلاث، فقال: من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم. ورواه مسلم (¬2). ولأن جهالة الأجل تفضي إلى المنازعة. ¬
الفرع الثالث السلم إلى الحصاد والجذاذ
الفرع الثالث السلم إلى الحصاد والجذاذ [م - 733] اختلف الفقهاء في تأجيل المسلم فيه إلى الحصاد والجذاذ على قولين: القول الأول: لا يجوز، وهو مذهب الجمهور (¬1). واستدل هذا القول: الدليل الأول: (ث -93) ما رواه عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كره إلى الأندر، والعصير، والعطاء، أن يسلف إليه، ولكن يسمي شهراً (¬2). [صحيح] (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن الأجل يجب أن يكون معلومًا، ووقت الحصاد ليس منضبطًا، فقد يتقدم وقد يتأخر، والجهالة في الأجل مفسدة، ولو كانت يسيرة. القول الثاني: يجوز، وهو مذهب المالكية (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2). وجه القول بالجواز: أن وقت الحصاد معلوم، والتفاوت فيه يسير، والغرر اليسير معفو عنه. الراجح من الخلاف: أرى أن القول بالجواز هو القول الراجح؛ لقوة دليله، والله أعلم. * * * ¬
الشرط الرابع أن يكون المسلم فيه مقدورا على تسليمه عند حلول أجله
الشرط الرابع أن يكون المسلم فيه مقدورًا على تسليمه عند حلول أجله [م - 734] اتفق الفقهاء على اشتراط كون المسلم فيه مقدورًا على تسليمه عند حلول أجله، وذلك لأن المسلم فيه واجب التسليم عند الأجل، فلا بد أن يكون تسليمه مقدورًا عليه حينذاك، وإلا كان من الغرر الممنوع. قال الباجي: "أن يكون المسلم فيه موجودًا حين الأجل، فلا خلاف أن ذلك شرط في صحة السلم؛ لأن حلول الأجل يقتضي تسليم المسلم فيه، فإذا كان معدومًا حين الأجل لم يصح السلم فيه؛ لأن من شرط صحة السلم والبيع التمكن من التسليم" (¬1). وقال ابن قدامة: "الشرط الخامس: وهو كون المسلم فيه عام الوجود في محله، ولا نعلم فيه خلافًا، وذلك لأنه إذا كان كذلك أمكن تسليمه عند وجوب تسليمه، وإذا لم يكن عام الوجود لم يكن موجودًا عند المحل بحكم الظاهر، فلم يمكن تسليمه، فلم يصح بيعه، كبيع الآبق بل أولى، فإن السلم احتمل فيه أنواع من الغرر للحاجة، فلا يحتمل فيه غرر آخرة لئلا يكثر الغرر فيه" (¬2). فإن كان معدومًا عند حلول الأجل، أو نادر الوجود بطل السلم؛ لأنه لا يمكن تسليمه، ويلحق بذلك ما لا يؤمن انقطاعه عند حلول أجله، كالسلم في ثمر بستان بعينه، أو قرية صغيرة، وإنما يجوز فيما يؤمن انقطاعه كثمار إقليم أو ¬
قرية كبيرة، وألا يسلم في شيء نفيس عزيز الوجود، مثل درة موصوفة يعز مثلها؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى عدم القدرة على التسليم (¬1). * * * ¬
الفرع الأول السلم في المعدوم وقت العقد
الفرع الأول السلم في المعدوم وقت العقد [م - 735] لم يختلف الفقهاء في أن المسلم فيه لو كان موجودًا وقت العقد، ومنقطعًا عن أيدي الناس عند حلول الأجل، أن هذا لا يجوز السلم فيه؛ لأن مقتضى العقد يلتزم فيه التسليم عند حلول الأجل، فإذا لم يكن مقدورًا على التسليم عند ذلك فلا يجوز العقد، وقد سبق بيانه في المبحث السابق (¬1). وأما اشتراط كون المسلم فيه موجودًا عند العقد إلى وقت التسليم، فهذا محل خلاف بين العلماء على قولين: القول الأول: يجوز السلم في المعدوم وقت العقد، وفيما ينقطع من أيدي الناس قبل حلول الأجل. وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). واختيار ابن حزم (¬5). دليل الجمهور: الدليل الأول: (ح-530) ما رواه البخاري من طريق ابن أبي نجيح، عن عبد الله بن كثير، عن أبي المنهال عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون في ¬
وجه الاستدلال
الثمار السنتين والثلاث فقال: أسلفوا في الثمار في كيل معلوم، إلى أجل معلوم (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشترط وجود المسلم فيه عند العقد، ولو كان شرطاً لذكره، ولنهاهم عن السنتين والثلاث؛ لأنه من المعلوم أن الثمر لا يبقى طول هذه المدة. الدليل الثاني: أن التسليم قبل حلول الأجل غير مستحق، فلا يلزم وجود السلم فيه؛ إذ لا فائدة من اشتراط وجوده. القول الثاني: ذهب الحنفية (¬2)، والثوري (¬3)، والأوزاعي (¬4)، إلى أنه يشترط لصحة السلم وجود المسلم فيه من وقت العقد، إلى وقت الأجل. فلا يجوز السلم في: (1) ما كان منقطعًا وقت العقد، وموجودًا وقت حلول الأجل. (2) وما كان موجودًا عند العقد وعند حلول الأجل، ولكنه ينقطع فيما بينهما. ¬
دليل الحنفية ومن معهم
دليل الحنفية ومن معهم: الدليل الأول: (ح-531) ما رواه أبو داود من طريق سفيان، عن أبي إسحاق، عن رجل نجراني عن ابن عمر أن رجلاً أسلف رجلاً في نخل، فلم تخرج تلك السنة شيئًا، فاختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: بم تستحل ماله؟ اردد عليه ماله. ثم قال: لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). وأجيب عن الحديث بجوابين: الأول: أن الحديث في إسناده رجل مجهول، ومثل هذا لا تقوم به حجة. الثاني: أن هذا الحديث دليل على جواز السلم في النخل المعين من البستان المعين لكن بشرط أن يبدو صلاحه، وهو مذهب المالكية خلافًا لمذهب الجمهور (¬3)، ويدل لمذهب المالكية: (ح-532) ما رواه البخاري من طريق أبي البختري، قال: سألت ابن عمر عن السلم في النخل، فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع النخل حتى يصلح (¬4). ¬
الدليل الثاني
فهذا سلم في شيء معين من بستان معين، وهو من بيع المعين، وسمي سلمًا؛ لأنه يقدم الثمن، والمثمن قد يبقى إلى الجذاذ، وشرط جواز هذا أن يبدو صلاحه، وأما إذا كان السلم في شيء غير معين، فلا يشترط ذلك (¬1). (ح-533) ويؤيده ما رواه ابن حبان وغيره من طريق محمَّد بن حمزة بن محمَّد بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده في قصة إسلام زيد بن سعنة، أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل لك أن تبيعني تمرًا معلومًا من حائط بني فلان، قال: لا أبيعك من حائط مسمى، بل أبيعك أوسقًا مسماة، إلى أجل مسمى (¬2). [ضعيف] (¬3). الدليل الثاني: أن كل وقت يجوز أن يكون محلًا للتسيلم، وذلك لأن المسلم إليه قد يموت قبل حلول الأجل، فإذا مات حلت الديون التي في ذمته، ووجب عليه وفاؤها قبل قسمة التركة، فاقتضى أن يكون وجود المسلم فيه من حين العقد، إلى وقت التسليم، فلو لم يشترط ذلك ومات المسلم إليه قبل أن يحل الأجل، فربما يتعذر تسليم المسلم فيه، فيؤول ذلك إلى الغرر. ¬
ويناقش من وجهين
ويناقش من وجهين: الوجه الأول: القول بأن الدين يحل إذا مات المسلم إليه قول مختلف فيه: فالحنابلة يوون أن الدين لا يحل بموت المدين، بل تبقى إلى آجالها. قال ابن قدامة: "لا نسلم أن الدين يحل بالموت ... " (¬1). والمالكية يرون أن المسلم إليه إذا مات، وكان المسلم فيه غير موجود عند الوفاة فإن تركته توقف إلى أن يأتي إبان المسلم فيه، فيقضى، ثم تقسم التركة. يقول القرافي: "إن وقع الموت وقفت التركة إلى الإبان، فإن الموت لا يفسد البيع" (¬2). الوجه الثاني: لو سلمنا أن الدين يحل بموت المدين، فلا يلزم منه اشتراط دوام الوجود، إذ لو لزم ذلك لأفضى أن يكون للسلم آجال مجهولة، وهذا مبطل للعقد، فالمحل ما جعله المتعاقدان محلاً، وهاهنا لم يجعلاه (¬3). يقول القرافي: "لو اعتبر لكان الأجل في السلم مجهولًا؛ لاحتمال الموت، فيلزم بطلان كل سلم، وكذلك البيع بثمن إلى أجل، بل الأصل عدم تغير ما كان عند العقد، وبقاء الإنسان إلى حين التسليم" (¬4). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: إذا كان المسلم فيه معدومًا قبل الأجل وجب أن يكون معدومًا عنده عملًا بالاستصحاب، فيكون غررًا، فيمتنع إجماعًا. وأجيب: بأن هذا الاستصحاب معارض بالغالب، فإن الغالب وجود الأعيان في إبانها، ولولاه لما أقدم المسلم على دفع ماله، ولما قبل المسلم إليه إشغال ذمته في المسلم فيه. الدليل الرابع: أن ابتداء العقود آكد من انتهائها، وإذا كان معدومًا عند العقد فيمتنع، كما يمتنع بيع المعدوم. ويناقش: سبق وأن ناقشنا حكم بيع المعدوم، وبينا أنه لا يوجد دليل في النهي عن بيع المعدوم، فأغنى عن إعادته هنا. الراجح: هو قول الجمهور، وأن السلم جائز فيما ليس موجولًا عند العقد، وفيما ينقطع من أيدي الناس إذا كان عام الوجود عند حلول الأجل، والله أعلم.
الفرع الثاني جواز السلم لمن ليس عنده أصل المسلم فيه
الفرع الثاني جواز السلم لمن ليس عنده أصل المسلم فيه [م - 736] لا يشترط فيمن يسلم في التمر أن يكون عنده نخل، ولا يشترط فيمن يسلم في الحبوب، أن يكون عنده زرع، وهكذا. (ح-534) لما رواه البخاري في صحيحه من طريق محمَّد بن أبي المجالد، قال: بعثني عبد الله بن شداد، وأبو بردة إلى عبد الله بن أبي أوفى، - رضي الله عنه -، فقالا: سله هل كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلفون في الحنطة؟ قال عبد الله: كنا نسلف نبيط أهل الشام في الحنطة، والشعير، والزيت، في كليل معلوم، إلى أجل معلوم. قلت: إلى من كان أهله عنده؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك، ثم بعثاني إلى عبد الرحمن بن أبزى، فسألته فقال: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلفون على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم نسألهم، ألهم حرث أم لا؟ وفي رواية للبخاري، قال محمَّد بن أبي مجالد: أرسلني أبو بردة، وعبد الله بن شداد إلى عيد الرحمن بن أبزى، وعبد الله ابن أبي أوفى، فسألتهما عن السلف، فقالا: كنا نصيب المغانم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام، فنسلفهم في الحنطة، والشعير، والزبيب إلى أجل مسمى، قال: قلت: أكان لهم زرع، أو لم يكن لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك. وحديث ابن عباس المتفق عليه: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم) (¬1). ¬
فلما وردت السنة في السلم بالصفة المعلومة، والكيل والوزن والأجل المعلوم، كان هذا عامًا فيمن عنده أصل، ومن ليس عنده، فلا يشترط فيمن يسلم في التمر أن يكون عنده نخل، ولا يشترط فيمن يسلم في الحبوب أن يكون عنده زرع، وهكذا، إلا أن الحنفية وإن لم يشترطوا أن يكون الأصل مملوكًا للمسلم إليه، فقد اشترطوا وجوده في السوق على سبيل العموم، فيما بين العقد والأجل، وقد سبق بيان ذلك في المبحث السابق، وبيان الراجح.
الشرط الخامس في تعيين مكان الإيفاء
الشرط الخامس في تعيين مكان الإيفاء [م - 737] لما كان تسليم المسلم فيه مؤجلًا، وقد يعقد العاقدان عقد السلم في مكان ليس بلدهما الأصلي، فهل يشترط تعيين مكان الوفاء؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة إلى أقوال: القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجب على العاقدين تعيين مكان التسليم سواء أكان التسليم يحتاج إلى مئونة أم لا، ويكون موضع العقد هو موضع التسليم، فإن كان لا يصلح للتسليم كالبحر والصحراء فإن الوفاء يتعلق بأقرب الأماكن إلى موضع العقد. وهذا اختيار أبي يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬1)، والمذهب عند المالكية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، واختاره القاضي أبو يعلى من الحنابلة (¬4)، إلا أن المالكية قالوا يفضل تعيين المكان، ولا يجب. دليل هذا القول: الدليل الأول: حديث ابن عباس المتفق عليه، وفيه: من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم (¬5). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر مكان إيفاء المسلم فيه، مع أن الحديث وارد لبيان شروط السلم، فدل على عدم اشتراطه، وإذا لم يجب في المسلم فيه لم يجب في غيره من البيوع المؤجلة. الدليل الثاني: إطلاق العقد يقتضي التسليم في الموضع الذي تم به العقد، فتعين مكان العقد موضعًا للوفاء، فإذا كان موضع العقد لا يصلح للتسليم، انتقل الحق إلى أقرب مكان من موضع العقد. القول الثاني: ذهب الشافعية في المعتمد أنه لا يجب تعيين مكان التسليم، ويكون التسليم في موضع العقد إلا في حالتين: الحال الأولى: إذا كان التسليم لحمله مئونة، فيجب ذكر مكان الإيفاء، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة أيضًا (¬1). الحال الثانية: إذا كان موضع العقد لا يصلح للتسليم (¬2). ووافق الحنابلة الشافعية فيما إذا كان موضع العقد لا يصلح للتسليم، كالصحراء، والبحر، فيجب عندهم ذكر مكان الإيفاء (¬3). ¬
دليل هذا القول
جاء في الإنصاف: "ولا يشترط ذكر مكان الإيفاء إلا أن يكون موضع العقد لا يمكن الوفاء به" (¬1). دليل هذا القول: وجه اشتراط تعيين مكان الوفاء إذا كان التسليم له حمل مئونة: يرى الشافعية أن موضع العقد هو محل التسليم، ولكن اشترطنا بيان مكان الوفاء إذا كان لحمله مئونة قطعًا للمنازعة؛ لأن ما لحمله مئونة تختلف قيمته باختلاف الأمكنة، فوجب اشتراط تعيين مكان الإيفاء، بخلاف ما لا حمل له ولا مئونة، فيتعين موضع العقد موضعاً للتسليم. ويرى أبو حنيفة أن موضع العقد لا يتعين مكانا للوفاء ولو كان صالحًا للتسليم، فإذا كان المبيع لحمله مئونة وجب تعيين مكان الوفاء، فإذا لم يتعين بقي مكان الوفاء مجهولًا، فيؤدي ذلك إلى التنازع، فيفسد العقد. وجه اشتراط تعيين مكان الوفاء إذا كان موضع العقد لا يصلح للتسليم: إذا كان موضع العقد لا يصلح للتسليم كالصحراء والجبل تعذر الوفاء في موضع العقد، فيكون محل التسليم مجهولًا، وليس بعض الأماكن أولى من بعض، فاشترط تعيينه بالقول. القول الثالث: اختار ابن حزم أن المتعاقدين إذا اشترطا دفعه في مكان بعينه فقد فسد العقد، بناء على مذهبه في الشروط، وأن كل شرط لم ينص الشرع على جواز اشتراطه، ¬
الراجح
فاشتراطه باطل مفسد للعقد، وقد أجبنا على مذهبه في باب الشروط الجعلية، فأغنى عن إعادته هنا (¬1). الراجح: أرى أن تعيين مكان الوفاء ليس شرطاً يتوقف عليه صحة العقد؛ لأن مكان الإيفاء أمر خارج عن العقد، وإذا صح العقد تعين موضع العقد مكانًا للإيفاء، فإن كان غير صالح كان أقرب مكان لموضع العقد، على أن المبيع إذا كان لحمله مئونة ينبغي ذكر مكان الإيفاء قطعاً للنزاع، ولا يجب، والله أعلم. ¬
الباب الرابع في الأحكام المترتبة على عقد السلم
الباب الرابع في الأحكام المترتبة على عقد السلم الفصل الأول في بيع المسلم فيه على غير من هو عليه قبل قبضه [م - 738] يقسم الفقهاء الديون قسمين: (1) ديون مستقرة، وذلك مثل ثمن المبيع، وبدل القرض، وغرامة المتلف. وديون غير مستقرة: مثل دين الكتابة، والمهر قبل الدخول، والأجرة قبل استيفاء المنفعة، ويلحقون بها أيضاً المسلم فيه. فأما دين الكتابة، فلأنه معرض للسقوط بعجز الكاتب، ولا يملك السيد إجبار العبد على أدائه. وأما المهر قبل الدخول؛ فلأنه قد ينفسخ النكاح بسبب من جهة المرأة، فلا تستحق شيئاً. والأجرة قبل استيفاء المنفعة: غير مستقرة؛ لأن المنفعة قد تتلف، فتسقط الأجرة. وأدخلوا في الديون غير المستقرة المسلم فيه؛ لأنه قد لا يستطيع تسليمه، فينفسخ العقد. وإذا كان دين المسلم فيه من الديون غير المستقرة، فما حكم بيع المسلم فيه لغير من هو عليه قبل قبضه؟
[م - 739] هذه المسألة اختلف فيها العلماء: فقيل: لا يجوز بيعه، وهذا القول هو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: يجوز بيعه بمثل ثمنه، أو أقل، أو أكثر، بشرط أن يكون بيعه بالعين، وليس بالدين، واشترط المالكية ألا يكون المسلم فيه طعاماً، وأن يكون المأخوذ مما يباع بالمسلم فيه يدًا بيد، كما لو أسلم دراهم في ثوب مثلًا، فأخذ عنه طست نحاس، إذ يجوز بيع الطست بالثوب يدًا بيد. واحترز بذلك من أخذ اللحم عن الحيوان من جنسه، فإن ذلك لا يجوز؛ لامتناع بيعه يدًا بيد. وهذا مذهب المالكية (¬4). ¬
دليل الجمهور على منع بيع دين السلم.
دليل الجمهور على منع بيع دين السلم. الدليل الأول: (ح-535) ما رواه أبو داود من طريق عطية بن سعد عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره (¬1). [ضعيف] (¬2). الدليل الثاني: ذكر ابن قدامة الإجماع على التحريم، قال -رحمه الله-؛ "أما بيع المسلم فيه قبل قبضه، فلا نعلم في تحريمه خلافًا" (¬3). ويناقش: بأن الخلاف في المسألة محفوظ، والاجماع لم يثبت، وكيف تصح دعوى الإجماع مع مخالفة عالم المدينة مالك بن أنس. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: استدل الشافعية بأن دين السلم لم يقبض، وقد جاء النهي عن بيع ما لم يقبض، جاء في نهاية المحتاج: "ولا يصح بيع المثمن الذي في الذمة، نحو المسلم فيه، ولا الاعتياض عنه قبل قبضه، بغير نوعه، أو وصفه؛ لعموم النهي عن بيع ما لم يقبض" (¬1). ويناقش: بأن بيع ما لم يقبض قد وقع الإجماع على منعه في الطعام الذي يحتاج إلى استيفاء من كيل، أو وزن، واختلفوا فيما عدا ذلك -وقد سبق بحث هذه المسألة في فصل سابق من هذا الكتاب -وقياس مسألتنا هذه على مسألة بيع الدين على غير من هو عليه قياس مع الفارق. الدليل الرابع: علل بعضهم المنع لكون المبيع لم يدخل في ضمان بائعه، فلم يجز بيعه قبل قبضه. قال ابن قدامة: "ولا يجوز بيع السلم قبل قبضه ... لأنه مبيع، لم يدخل في ضمانه، فلم يجز بيعه" (¬2). ويناقش من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم أن المسْلِم إذا باع المسْلَم فيه على غير من هو عليه، أنه قد باع شيئاً ¬
الوجه الثاني
لم يدخل في ضمانه، ذلك أنه قد باع دينًا موصوفاً متعلقًا في ذمته، ولم يبع شيئًا معينًا. وإذا كان يصح من المسلم إليه أن تنشغل ذمته بالضمان في بيع الموصوف في الذمة، فما المانع أن يكون المسلم ضامنًا للدين اتجاه المشتري الجديد، كما أن المسلم إليه ضامن للدين اتجاه المسلم، وبهذا لا يوجد مانع من الربح فيه؛ لأن ذمته مشغولة بضمانه، ولهذا قال المالكية: إن باع المسلَّم دين السلم على غير من هو عليه جاز أن يبيعه بأقل، وبأكثر مما اشتراه؛ لأنهم يرون أن ذمته مشغولة بالضمان، فأذنوا له بالربح، وإذا باع دين السلم على من هو عليه، لا يتصور أن يكون ضامنًا له، فاشترطوا ألا يربح فيه. وهذا قوي جداً (¬1). الوجه الثاني: على فرض أن يكون دين السلم ليس مضمونًا على المسلم، فإن الحديث إنما تضمن النهي عن ربح ما لم يضمن، وليس فيه النهي عن التصرف فيه، وبينهما فرق، فإذا اشترطنا أن يبيعه بمثل ثمنه، أو أقل، لا أكثر، لم يربح فيما لم يضمن، ولا تلازم بين التصرف، والضمان، بدليل أن المنافع المستأجرة يجوز ¬
الدليل الخامس
أن يؤجرها المستأجر، وهي مضمونة على المؤجر الأول، والثمر المبيع على شجره، مبقىً إلى الجذاذ، يجوز بيعه، وهو مضمون على البائع الأول (¬1). الدليل الخامس: أن في بيع المسلم فيه قبل قبضه غررًا، وذلك أنه يحتمل حصول المبيع في المستقبل، وعدم حصوله، فهو مجهول العاقبة، وهذا حقيقة الغرر الممنوع في البيع. ويجاب: بأن بيع الشيء الموصوف في الذمة لا غرر فيه؛ لأنه لم يبع عليه شيئًا معينًا، ولو كان في ذلك غرر لم يصح بيع السلم كله مطلقًا. الدليل التاسع (*): بيع الدين على غير من هو عليه، يدخل في بيع ما ليس عند الإنسان، وقد نهي عنه. ويجاب: النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان، لا يدخل فيه النهي عن بيع الدين؛ بل المقصود: لا تبع معينًا ليس في ملكك، والدين غير معين، ولو كان بيع الدين يدخل في بيع ما ليس عند الإنسان منع بيع السلم كله، والله أعلم. دليل المالكية على جواز بيع المسلم فيه لغير من هو عليه إذا لم يكن طعامًا: (ح-536) ما رواه البخاري من طريق شعبة، حدثنا عبد الله بن دينار، قال: ¬
ويناقش
سمعت ابن عمر - رضي الله عنه - يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه. ورواه مسلم (¬1). فإذا كان الدين طعامًا، وباعه صاحبه على من هو عليه، أو على غيره، أدى ذلك إلى بيع الطعام قبل قبضه، وهذا منهي عنه. ومفهوم الحديث أن غير الطعام يجوز بيعه، ولو لم يقبضه. ويناقش: بأن المقصود بالنهي عن بيع الطعام، ذلك الطعام الذي تعلق به حق توفية، وليس الطعام الموصوف في الذمة، والروايات يفسر بعضها بعضا، فبعض الروايات نهت عن بيع الطعام حتى يقبض، وفي بعضها حتى يستوفى، والاستيفاء: هو كيل ما بيع بكيل، ووزن ما بيع بوزن. أما الطعام الموصوف في الذمة فلا مانع من بيعه مطلقًا، سواء كان بيعه على من هو عليه، أو على غيره؛ لأن صاحبه حين يبيعه يبيع دينًا في الذمة ليس معينًا، وذلك يعني أن البائع الثاني ذمته ستكون مشغولة بضمانه. الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأدلة أجد أن القول بجواز بيع الدين على غير من هو عليه، طعامًا كان، أو غير طعام، هو الأقوى دليلًا، ولا مانع من الربح فيه إن باعه على غير من هو عليه. * * * ¬
الفصل الثاني في بيع المسلم فيه على من هو عليه قبل قبضه
الفصل الثاني في بيع المسلم فيه على من هو عليه قبل قبضه [م - 740] هذه المسألة خلاف المسألة الماضية، فالمسألة الماضية في بيع المسلم فيه لغير من هو عليه. أما هذه المسألة فهي في بيع المسلم فيه على من هو عليه، كأن يسلم في قمح، فيأخذ من المسلم إليه حديدًا. فقيل: لا يجوز مطلقًا، سواء كان المسلم فيه موجودًا أو معدومًا، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والشافعية، والحنابلة (¬1). دليل الجمهور على تحريم بيع المسلم فيه على من هو عليه قبل قبضه: الدليل الأول: (ح-537) ما رواه أبو داود من طريق عطية بن سعد عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره (¬2). [ضعيف] (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: ذكر ابن قدامة الإجماع على التحريم، قال -رحمه الله-: "أما بيع المسلم فيه قبل قبضه، فلا نعلم في تحريمه خلافًا" (¬1). ويناقش: بأن الخلاف في المسألة محفوظ، والإجماع لم يثبت. قال ابن القيم: "كيف يصح دعوى الإجماع، مع مخالفة حبر الأمة ابن عباس، وعالم المدينة مالك بن أنس ... " (¬2). الدليل الثالث: استدل الشافعية بأن دين السلم لم يقبض، وقد جاء النهي عن بيع ما لم يقبض، جاء في نهاية المحتاج: "ولا يصح بيع المثمن الذي في الذمة نحو المسلم فيه، ولا الاعتياض عنه قبل قبضه، بغير نوعه، أو وصفه؛ لعموم النهي عن بيع ما لم يقبض" (¬3). ويناقش: بأن بيع ما لم يقبض قد وقع الإجماع على منعه في الطعام الذي يحتاج إلى استيفاء من كيل، أو وزن، واختلفوا فيما عدا ذلك -وقد سبق بحث هذه المسألة في فصل سابق من هذا الكتاب- وقياس مسألتنا هذه على مسألة بيع الدين على غير من هو عليه قياس مع الفارق، فهناك فارق بين بيع الدين وبين بيع العين، والله أعلم. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: علل بعضهم المنع لكون المبيع لم يدخل في ضمان بائعه، فلم يجز بيعه قبل قبضه. قال ابن قدامة: "ولا يجوز بيع السلم قبل قبضه ... لأنه مبيع، لم يدخل في ضمانه، فلم يجز بيعه" (¬1). ويناقش: بأن الحديث إنما تضمن النهي عن ربح ما لم يضمن، وليس فيه النهي عن التصرف فيه، وبينهما فرق، فإذا اشترطنا أن يبيعه بمثل ثمنه، أو أقل، لا أكثر، لم يربح فيما لم يضمن، ولا تلازم بين التصرف، والضمان، بدليل أن المنافع المستأجرة يجوز أن يؤجرها المستأجر، وهي مضمونة على المؤجر الأول، والثمر المبيع على شجره مبقىً يجوز بيعه، وهو مضمون على البائع الأول (¬2). الدليل الخامس: (ث-94) روى البيهقي من طريق حصين، عن محمَّد بن زيد بن خليدة، قال: سألت ابن عمر عن السلف، قلت: إنا نسلف، فنقول: إن أعطيتنا برًا فبكذا، وإن أعطيتنا تمرًا فبكذا، قال: أسلم في كل صنف ورقًا معلومة، فإن أعطاكه، وإلا فخذ رأس مالك، ولا ترده في سلعة أخرى. ¬
الدليل السادس
[حسن لغيره] (¬1). الدليل السادس: (ث-95) ما رواه ابن أبي شيبة، من طريق عطاء بن السائب عن عبد الله بن مغفل في رجل أسلم مائة درهم في طعام، فأخذ نصف سلمه طعامًا، وعسر عليه النصف، فقال: لا تأخذ إلا سلمك، أو رأس مالك جميعًا (¬2). [مغفل تصحيف والصواب معقل، وهو تابعي فلا يكون في هذا حجة] (¬3). الدليل السابع: (ث -96) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا محمَّد بن ميسرة (¬4)، عن ¬
الدليل الثامن
ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه شعيب أن عبد الله بن عمرو كان يسلف له في الطعام، فقال للذي كان يسلف له: لا تأخذ بعض مالنا، وبعض طعامنا، ولكن خذ رأس مالنا كله، أو الطعام وافيًا (¬1). [ضعيف جدًا] (¬2). الدليل الثامن: أن في بيع المسلم فيه قبل قبضه غررًا، وذلك أنه يحتمل حصول المبيع في المستقبل، وعدم حصوله، فهو مجهول العاقبة، وهذا حقيقة الغرر الممنوع في البيع. ويجاب: بأن الغرر إذا كان يتعلق بالقدرة على التسليم، فإن المشتري هو من عليه الدين، فهو في حكم المقبوض؛ لأن ما في ذمة المدين مقبوض له، فإذا دفع ثمنه للدائن، كان ذلك بيع مقبوض بمقبوض، وهو جائز شرعًا. الدليل التاسع: بيع الدين على من هو عليه، يدخل في بيع ما ليس عند الإنسان، وقد نهي عنه. ويجاب: النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان لا يدخل فيه النهي عن بيع الدين على من ¬
القول الثاني
هو عليه؛ بل المقصود لا تبع معينًا ليس في ملكك، وإذا جاز بيع المغصوب على غاصبه، جاز بيع الدين على من هو عليه من باب أولى، والله أعلم. القول الثاني: قيل: يجوز بيع المسلم فيه على من هو عليه بشروط، وهذا مذهب المالكية (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2)، اختارها ابن تيمية (¬3)، وابن القيم (¬4)، وهو قول ابن عباس - رضي الله عنه - (¬5). الشرط الأول: اشترط المالكية أن يكون المسلم فيه مما يجوز بيعه قبل قبضه، احترازًا من طعام السلم، فلا يجوز بيعه؛ لأنه يؤدي إلى بيع الطعام قبل قبضه، وقد سبق الجواب عن دليلهم ومناقشته في المسألة التي قبل هذه. الشرط الثاني: اشترط المالكية أن يعجل البدل، ويقبض في مجلس الاستبدال؛ ليسلم من فسخ الدين بالدين. واشترط ابن تيمية التقابض، إن كان العوضان مما يجري بينهما ربا النسيئة. ¬
الشرط الثالث
الشرط الثالث: اشترط المالكية أن يكون المأخوذ مما يباع بالمسلم فيه يداً بيد، كما لو أسلم دراهم في ثوب مثلاً، فأخذ عنه طشت نحاس، إذ يجوز بيع الطشت بالثوب يداً بيد. واحترز بذلك من أخذ اللحم عن الحيوان من جنسه، فإن ذلك لا يجوز؛ لامتناع بيعه يدًا بيد، وقد سبق مناقشة بيع اللحم بالحيوان في باب الربا، فأغنى عن إعادته هنا. الشرط الرابع: أن يكون المأخوذ مما يجوز أن يسلم فيه رأس المال، كما لو أسلم دراهم في حيوان، فأخذ عن ذلك الحيوان ثوبًا، فإن ذلك جائز؛ إذ يجوز أن يسلم الدراهم في الثوب، واحترز بذلك من أخذ الدراهم عن الذهب، وعكسه، إذ لا يجوز أن تسلم الدراهم في الدنانير، ولا عكسه؛ لأنه يؤدي إلى الصرف المستأخر. وسبق أن بينا أن هذا مجمع على منعه عند الكلام عن شروط المسلم فيه (¬1). الشرط الخامس: اشترط المالكية، وابن تيمية، وابن القيم: أن يبيعه بمثل ثمنه، أو أقل، لا أكثرة وعلل المالكية المنع: لأن بيع الدين على من هو عليه بزيادة يؤدي إلى سلف جر نفعًا، وهذا ممنوع. وعلل ابن تيمية المنع حتى لا يربح فيما لم يضمن (¬2). ¬
واستدلوا بأدلة منها
واستدلوا بأدلة منها: الدليل الأول: قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. فالأصل في البيع الحل إلا ما دل على تحريمه دليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع، ولا دليل على التحريم، ولم يرد في منع الاعتياض عن الدين المسلم فيه نص صحيح، ولا يتضمن بيعه على من هو عليه بمثل ثمنه، أو أقل محذور شرعي يقتضي المنع منه. الدليل الثاني: (ث-97) روى عبد الرزاق في المصنف، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس، قال: إذا أسلفت في طعام، فحَلَّ الأجل، فلم تجد طعامًا، فخذ منه عرضًا بأنقص، ولا تربح عليه مرتين (¬1). [صحيح]. قال ابن القيم: فهذا قول صحابي، وهو حجة ما لم يخالف (¬2). الدليل الثالث: ولأن المانع من بيع الدين، هو خوف العجز عن التسليم، ولا مانع هنا؛ لأن ما في ذمة المدين مقبوض له، فإذا دفع ثمنه للدائن، كان ذلك بيع مقبوض ¬
الدليل الرابع
بمقبوض، وهو جائز شرعاً، خاصة أن القبض لم يرد له في الشرع حد معين، وإنما مرد ذلك إلى العادة والعرف. الدليل الرابع: أن دين السلم دين ثابت في الذمة، فجاز الاعتياض عنه كغيره، فإذا جاز على الصحيح بيع الدين على من هو عليه، إذا كان المبيع بدل قرض، أو ثمن مبيع، ونحوهما، جاز ذلك في دين السلم. (ح-538) فقد روى أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فابيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يريد أن يدخل بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله، إني أبيع الابل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تتفرقا، وبينكما شيء (¬1). [اختلف في رفعه ووقفه، ورجح شعبة والدارقطني وقفه] (¬2). فالحديث دليل على جواز بيع ما في الذمة على من هو عليه، وإذا جاز ذلك في ثمن المبيع جاز ذلك في دين السلم، حيث لا فرق. وهو دليل أيضًا على أنه لا فرق بين كون الدين حالًا، أو كونه مؤجلًا؛ لأنه لما لم يسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدين، هل كان حالًا، أو مؤجلًا؟ ولو كان بينهما فرق في الشرع، لبينه عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك رد على المالكية الذين اشترطوا أن يكون الدين حالًا. ¬
الراجح
وهو دليل أيضًا على اشتراط أن يكون البيع بسعر يومه، بحيث لا يربح فيه؛ لئلا يربح فيما لم يضمن؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها. (ح-539) ولما رواه أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله عن ربح ما لم يضمن (¬1). [إسناده حسن] (¬2). وهو دليل أيضًا على اشتراط التقابض، إذا كان العوضان مما يجري فيهما ربا النسيئة؛ لأنه قال: ما لم تتفرقا وبينكما شيء. وعلى القول بأن الأثر موقوف، فإن ابن عمر صحابي جليل، من كبار فقهاء الصحابة، فيكون قوله حجة، ما دام لم يخالف الكتاب، ولا السنة، ولا قول صحالى أقوى منه، والله أعلم. الراجح: أن استبدال المسلم فيه بيع للمسلم فيه قبل قبضه، وقد تكلمنما عنه في المسألة السابقة، وما رجحناه هناك نرجحه هنا، والله أعلم. * * * ¬
الفصل الثالث في حكم الشركة والتولية في بيع المسلم فيه قبل قبضه
الفصل الثالث في حكم الشركة والتولية في بيع المسلم فيه قبل قبضه [م - 741] اختلف العلماء في حكم الشركة والتولية في بيع المسلم فيه قبل قبضه. فقيل: لا يجوز، وهو مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة. وقيل: يجوز بيع المسلم فيه شركة وتولية قبل قبضه، وهذا مذهب المالكية. والخلاف في ذلك راجع إلى الخلاف في تكييف الشركة والتولية. فذهب جمهور أهل العلم إلى أن عقد التولية والشركة بيع مبتدأ، لا يجوز في شيء منه إلا ما يجوز في سائر البيوع (¬1)، ورجحه ابن حزم (¬2). وذهب مالك وربيعة، وطاووس (¬3)، إلى أن عقد التولية والشركة من عقود الإرفاق، ويقصد بها المعروف كالإقالة، ولهذا ذهب الإمام مالك إلى جواز بيع الطعام تولية قبل قبضه، مع أن الإجماع على أن بيع الطعام قبل قبضه منهي عنه (¬4). ¬
قال مالك: "أجمع أهل العلم أنه لا بأس بالشركة، والتولية، والإقالة في الطعام قبل أن يستوفى إذا انتقد الثمن ممن يشركه، أو يقيله، أو يوليه" (¬1). وفي حكاية الإجماع نظر كبير، إذ لو قيل: إن أكثر أهل العلم يرى أن التولية بيع لم يكن ذلك بعيدًا. قال ابن عبد البر: "وقد قال بهذا القول -يعني قول الإِمام مالك- طائفة من أهل المدينة، وقال سائر الفقهاء، وأهل الحديث لا يجوز بيع شيء من الطعام قبل أن يستوفى، ولا تجوز فيه الإقالة، ولا الشركة، ولا التولية عندهم قبل أن يستوفى بوجه من الوجوه، والإقالة، والشركة، والتولية عندهم بيع ... " (¬2). وهذه شهادة من ابن عبد البر أن سائر الفقهاء -غير مالك- لا يرون بيع الطعام قبل قبضه شركة وتولية، وهو ينقض دعوى الإجماع، والله أعلم. وقال ابن حزم: "ما نعلم روي هذا إلا عن ربيعة، وعن طاووس فقط، وقوله عن الحسن في التولية قد جاء عنه خلافها ... " (¬3). قال ابن رشد في بداية المجتهد: العقود تنقسم أولاً إلى قسمين: قسم يكون بمعاوضة. وقسم يكون بغير معاوضة كالهبات والصدقات. والذي يكون بمعاوضة ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: يختص بقصد المغابنة والمكايسة، وهي البيوع، والإجارات، والمهور، والصلح، والمال المضمون بالتعدي وغيره. ¬
والقسم الثاني: لا يختص بقصد المغابنة، وإنما يكون على جهة الرفق، وهو القرض. والقسم الثالث: فهو ما يصح أن يقع على الوجهين جميعاً. أعني على قصد المغابنة، وعلى قصد الرفق كالشركة والإقالة والتولية ... وأما العقود التي تتردد بين قصد الرفق والمغابنة وهي التولية والشركة والإقالة. فإذا وقعت على وجه الرفق من غير أن تكون الإقالة أو التولية بزيادة أو نقصان، فلا خلاف أعلمه في المذهب أن ذلك جائز (يعني التولية والشركة) قبل القبضى وبعده. ... (¬1). وقد فصلت أدلة الأقوال في عقد البيع عند الكلام عن بيوع الأمانة، فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله. ¬
الفصل الرابع في إيفاء المسلم فيه
الفصل الرابع في إيفاء المسلم فيه إذا أحضر المسلم إليه المسلم فيه، ودفعه إلى ربه، تنفيذا للاتفاق القائم بينهما، وإبراء لذمته، فهل يجب على رب السلم قبوله وقبضه مطلقًا، أم أنه يجب عليه قبوله في حالات، ولا يجب في حالات. هذا ما سوف نكشف عنه من خلال البحث التالي. أولاً: الحالات التي يجب على المسلم قبول المسلم فيه: يجب على المسلم قبول المسلم فيه إذا أحضره المسلم إليه في الحالات التالية: الحال الأولى: [م - 742] إذا أحضر المسلم إليه المسلم فيه عند حلول الأجل وفق صفاته المشروطة في العقد والمتفق عليها بينهما في عقد السلم، فإنه يجب على المسلم قبوله، فإذا أسلم بطعام جيد فأتاه بطعام يقع عليه اسم الجيد، وإن كان غيره أجود منه لزمه قبوله، وإن تضمن ضررًا عليه في قبضه؛ لأنه حقه فوجب عليه قبوله كالوديعة، ولأن الضرر لا يزال بالضرر، ولأن في ذلك إبراء لذمة المسلم إليه، وهذا بالاتفاق (¬1). الحال الثانية: إذا تم تسليم المسلم فيه بصفة أجود من المتفق عليها، فلا خلاف بين الفقهاء في جواز قبوله، واختلفوا في وجوب ذلك على رب السلم: ¬
فقيل: يجب على المسلم قبوله. وهذا مذهب الجمهور (¬1). وعللوا ذلك: الأول: أنه من باب حسن القضاء. الثاني: أن الامتناع عن قبوله عنادة لأنه قد زاده خيرًا. الثالث: أن قبوله لا يفوت عليه أي غرض يبتغيه. وقيل: يجوز قبول الأجود عن الأدنى، ولا يجب؛ لما في ذلك من المنة. وقياسًا على زيادة العدد. وهو مذهب المالكية (¬2)، وقول مرجوح في مذهب الشافعية (¬3). ورد: بأن الجودة والرداءة لا يمكن فصلها، بخلاف الزيادة في العدد فإنها من قبيل الهبة فلم يلزمه قبولها. وقيل: إن دفع ذلك على وجه التفضيل لا يلزم المسلم القبول، وإن دفعه لأجل أن يدفع عن نفسه مشقة تعويضه بمثل ما اشترط لزم قبوله، وهذا قول في مذهب المالكية (¬4). الحال الثالثة: إذا أحضر المسلم إليه المسلم فيه على صفته المشروطة قبل حلول أجله، ¬
وليس في قبوله ضرر على رب السلم، وليس له غرض صحيح في تأخير استلامه، فهل يلزمه قبوله؟ قيل: يلزمه قبوله؛ لأن غرضه حاصل مع زيادة تعجيل المنفعة، فجرى مجرى زيادة الصفة، وتعجيل الدين المؤجل، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬1). وقيل: يجوز قبوله ولا يجب؛ بشرط أن يأتي به على صفته المتفق عليها لا أجود، ولا أردأ، ولا أقل، ولا أكثر؛ لأن الأجل حق لهما، وهذا مذهب المالكية (¬2). وهو الصحيح؛ لأنه خلاف ما اتفق عليه. الحالة الرابعة: إذا أحضر المسلم فيه بعد حلوله، ولكن في غير محل التسليم المتفق عليه، ولم يكن لحمله مؤونة، فهل يلزم المسلم قبوله؟ قيل: يلزمه وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬3). وقيل: إن كان المسلم فيه عينًا (دراهم أو دنانير) لزمه قبوله، وإن كان عرضًا، ولو لم يكن لحمله مئونة كجوهر لم يلزمه قبوله، وهو مذهب المالكية (¬4). وأرى أنه لا يلزمه قبوله مطلقًا؛ لأنه خلاف ما اتفق عليه في العقد. ¬
هذه هي الحالات التي قيل بأنه يلزم المسلم قبول المسلم فيه إذا أحضره المسلم إليه، وهي في أكثرها مختلف فيها. فإن امتنع المسلم من قبض حقه فيلزم بالقبض أو الإبراء فيقال له: إما أن تقبض، وإما أن تبرئ منه، فإن لم يفعل دفعه إلى الحاكم وبرئ لذلك، ويقوم الحاكم مقامه في القبض بحكم ولايته العامة (¬1). [م - 743] ثانيًا: الحالات التي يجوز قبول المسلم فيه، ولا يلزم: الحال الأولى: أن يأتي به قبل حلوله، ويكون في قبضه ضرر على ربه، أو كان له غرض صحيح في تأخير استلامه، فإنه يجوز له أن يقبضه ولكن لا يلزمه قبوله. الحال الثانية: أن يأتي به دون صفته المتفق عليها، فإنه يجوز أخذه إذا تراضيا على ذلك، ولا يلزمه القبول (¬2). الحال الثالثة: [م - 744] أن يكون أجود مما اتفق عليه، ولكنه من نوع آخر، كمن أسلم في تمر برني، فجاءه بمعقلي أجود منه، فإنه يجوز له قبوله، ولا يلزمه، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: يجب عليه قبوله، وهو أحد الوجهين في مذهب الإِمام الشافعي (¬4). ¬
وجهه: أنه أعطاه من جنس حقه، وفيه زيادة لا تتميز، فأشبه ما لو أسلم في نوع رديء فأعطاه من ذلك النوع جيداً، فإنه يلزمه قبوله. وقيل: يحرم، وهو الأظهر عند الشافعية (¬1). لأنه يشبه الاعتياض عن المسلم فيه، وهو غير جائز. والأظهر أن ذلك جائز، وليس بواجب. هذه هي الحالات التي يجوز لرب السلم قبول المسلم فيه، ولا يلزمه، والله أعلم. ¬
الفرع الأول حكم الاعتياض عن صفة الجودة والرداءة
الفرع الأول حكم الاعتياض عن صفة الجودة والرداءة [م - 745] إذا أحضر المسلم إليه المسلم فيه، وكان أعلى جودة مما اتفق عليه، وطلب المسلم إليه عوضًا عن زيادة الصفة، ومثله لو دفع المسلم إليه أردأ مما طلب، وقال للمسلم خذه وأعطيك عوضًا عن ما فقدته من الجودة، فهل يجوز الاعتياض عن صفة الجودة والرداءة؟ اختلف الفقهاء في ذلك: فقيل: يجوز الاعتياض عن الجودة والرداءة؛ وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وجه القول بالجواز: الأصل أن تكون الجودة متقومة في الأموال كلها؛ لأنها صفة مرغوبة يبذل الناس الأموال في طلبها والحصول عليها، ولم يسقط الشرع قيمتها إلا في الأموال الربوية عند مقابلتها بجنسها، فبقيت متقومة في غيرها على الأصل، فيصح الاعتياض عنها. ¬
وجه القول بالمنع
وقيل: لا يجوز الاعتياض عن الجودة، ويجوز الاعتياض عن الزيادة في المقدار، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وجه القول بالمنع: الوجه الأول: أن الجودة صفة، فلا يجوز إفرادها في العقد بخلاف الزيادة في القدر فإنه يجوز الاعتياض عنها؛ لأن الزيادة يجوز إفرادها بالبيع. الوجه الثاني: أن هذا من باب بيع المسلم فيه قبل قبضه، وهذا لا يجوز. والأول أصح بشرطين: الأول: ألا يوقع ذلك في ربا الفضل، فلا يجوز الاستعاضة عن صفة الجودة والرداءة بما هو من جنس المسلم فيه إذا كان مالًا ربويًا، فلو أسلم في قمح جيد، ولم يكن عند المسلم إليه إلا الرديء جاز أن يأخذ فرق الجودة من غير الجنس، كان يأخذ نقودًا مثلًا، أما إذا أعطاه القمح الرديء وزاده في الكمية مقابل الرداءة فلا يجوز منعًا لربا الفضل، فكأنه أبدل ما وجب له من القمح بقمح أكثر منه، وأخذ زيادة في مقابل الجودة. الشرط الثاني: أن تكون فروق الأسعار بين الجيد والرديء معلومة على سبيل القطع ¬
للمتعاقدين، أو يمكن الرجوع فيها إلى أهل الخبرة في معرفة درجة الجودة والرداءة، بحيث يأخذ مقدار ما نقصه من غير زيادة؛ لأن الربح في هذه المعاوضة غير جائز؛ لأنه لا يجوز أن يربح فيما لم يدخل ضمانه؛ لأن المسلم فيه لم يقبض بعد، فضمانه على البائع، وليس على المشتري، فلا يجوز للمشتري أن يربح فيه، والله أعلم.
الفرع الثاني إذا تعذر المسلم فيه عند حلول الأجل
الفرع الثاني إذا تعذر المسلم فيه عند حلول الأجل [م - 746] اختلف الفقهاء فيما إذا حان وقت تسلم المسلم فيه، ولم يوجد المسلم فيه لسبب من الأسباب، ولم يكن التأخير بسبب مطل المسلم إليه. فقيل: يخير المشتري بين فسخ العقد، والرجوع بالثمن إن كان موجودًا، وإن كان غير موجود رجع بمثله إن كان مثليًا، أو بقيمته إن كان قيميًا. أو الانتظار والتربص إلى وقت وجود المسلم فيه. ويختص الخيار بالمشتري وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والأرجح عند الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وجه القول بأن العقد لا ينفسخ: أن المعقود عليه ثابت في الذمة، وما ثبت في الذمة لا يلحقة تلف، وقد انعقد السلم صحيحًا مستجمعًا لشروطه، وتعذر التسليم لا يوجب الفسخ؛ لأن المسلم فيه قد يوجد فيما بعد، ولكن تأخر التسليم يعطي المشتري حق الفسخ، فإذا قبل بالانتظار فهو حقه. وقيل: إذا تعذر التسليم عند حلول الأجل انفسخ العقد، وهو اختيار زفر من ¬
وجه القائلين بالفسخ
الحنفية (¬1)، وقول أشهب من المالكية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، ووجه عند الحنابلة (¬4). وجه القائلين بالفسخ: قالوا ينفسخ السلم ضرورة، ولا يجوز التأخير، وكأنهم رأوا أن تأخيره من باب الكالئ بالكالئ (¬5). وقيل: ينفسخ العقد إلا أن يتفقا على الانتظار. وهو اختيار أصبغ من المالكية (¬6). وجهه: أننا اشترطنا الاتفاق على التأخير لشمول الضرر لهما. وقيل: من طلب التأخير منهما فله ذلك إلا أن يجتمعا على المحاسبة، وهو قول سحنون من المالكية (¬7). ولم يذكر المالكية دليل سحنون، ولم أقف له على ما يمكن أن يستدل له. واختار ابن حزم بأنه مخير بين أن يصبر حتى يوجد، وبين أن يأخذ قيمته لو وجد في ذلك الوقت (¬8). واشترطنا أن يكون التأخير بسبب انقطاع المسلم فيه أحترازًا من أن يكون ¬
التأخير بسبب من المسلم إليه كأن يكون موسرًا مماطلًا فإن حكمه حكم المدين المماطل. فلا يجوز شرعاً المطالبة بتعويض بسبب التأخر في السداد، وقد تكلمنا على هذه المسألة في مسألة مستقلة فأغنى عن إعادته هنا. وقول ابن حزم -عندي- أقوى؛ لأن الرجوع بالثمن فيه خسارة على المشتري بعد كل هذا الانتظار، وقد استفاد المسلم إليه في الثمن طيلة هذه المدة، ووجب في ذمته المسلم فيه دينًا عليه، وقد تعذر فيرجع إلى قيمة المسلم فيه عند التعذر، ويدفع إلى المسلم. هذا هو القول العدل عندي، والله أعلم. * * *
الفصل الخامس توثيق الدين المسلم فيه برهن أو كفيل
الفصل الخامس توثيق الدين المسلم فيه برهن أو كفيل [م - 747] أجاز جمهور الفقهاء جواز أخذ الرهن والكفيل في المسلم فيه، وهو رواية في مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: لا يجوز، وهو قول سعيد بن جبير (¬2)، وزفر (¬3)، والأوزاعي، وأبي ثور (¬4)، والرواية المشهورة في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: يجوز اشتراط الرهن، ولا يجوز اشتراط الكفيل، وهو اختيار ابن حزم (¬6). دليل القائلين بالجواز: الدليل الأول: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الآية إلى قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:282، 283]. ¬
الدليل الثاني
وقد ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه يرى أن الآية نزلت في السلم (¬1)، فالآية نص في جواز أخذ الرهن في دين السلم، وعمومها دليل على جواز أخذ الرهن في جميع المداينات. الدليل الثاني: (ح-540) روى البخاري ومسلم من طريق الأسود عن عائشة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى طعامًا من يهودي إلى أجل، ورهنه درعًا من حديد (¬2). وجه الاستدلال: إذا جاز أن يشتري الرجل طعاماً أو عرضًا بثمن إلى أجل، ويدفع في الثمن رهنًا، كذلك يجوز إذا دفع دراهم في طعام موصوف مؤجل أن يأخذ فيه رهنًا، ولا فرق بينهما، فلما جاز الرهن في الثمن بالسنة المجتمع عليها جاز في المثمن؛ وهو السلم؛ لأنه أحد العوضين. الدليل الثالث: (ث-98) روى ابن أبي شيبة من طريق سعيد بن أبي عروبة، وأيوب فرقهما عن قتادة، عن أبي حسان عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لا بأس بالرهن في السلم (¬3). [حسن]. الدليل الرابع: قال مالك: لا بأس بالرهن والكفيل في السلم، ولم يبلغني أن أحداً كرهه غير الحسن البصري (¬4). ¬
وتعقب
وتعقب: بأنه قد كره الرهن والكفيل في السلم علي بن أبي طالب، وسعيد بن جبير كما سيأتي إن شاء الله تعالى في أدلة المانعين. دليل من منع الرهن في السلم: الدليل الأول: (ث-99) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن أبي زائدة، عن أبي عياض أن عليًا كان يكره الرهن والكفيل في السلم (¬1). [ضعيف] (¬2). الدليل الثاني: (ث-100) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن محمَّد ابن قيس، قال: سئل ابن عمر عن الرجل يسلم السلم، وبأخذ الرهن، فكرهه، وقال: ذلك السلف المضمون. يعني الربح (¬3). [ضعيف] (¬4). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن المسلم فيه عرضة للانقطاع، فإذا استوفى من الرهن أو من الكفيل صار مستوفيًا لحقه من غير المسلم فيه، وذلك لا يجوز. والراجح قول الجمهور؛ لأنه لا فرق بين دين السلم وغيره من الديون. * * *
الفصل السادس الإقالة في عقد السلم
الفصل السادس الإقالة في عقد السلم [م - 748] تَرِدَ الإقالة على عقد السلم قبل قبض المسلم فيه وبعده، فترفع أثر العقد بين المتقايلين، وتوجب رد رأس المال إلى المشتري سواء أكان مثليًّا أم عينيًا إن كان الثمن في يد المسلم إليه (¬1)، وحكي فيه الإجماع، حكاه ابن عبد البر وابن قدامة (¬2)، وابن القيم في تهذيب السنن. قال ابن عبد البر: "قد أجمعوا أن الأقالة بيع جائز في السلف برأس المال" (¬3). فإن خرج عن يده بتلف أو غيره. فقيل: يرد مثله إن كان مثليًا أو قيمته إن كان قيميًا، وهذا مذهب الجمهور (¬4). قال ابن عابدين: "اعلم أنه لا يرد على اشتراط قيام المبيع لصحة الإقالة، إقالة السلم قبل قبض المسلم فيه، فإنها صحيحة، سواء كان رأس المال عينًا، أو دينًا، وسواء كان قائمًا في يد المسلم إليه، أو هالكًا؛ لأن المسلم فيه، وإن كان دينًا حقيقة، فله حكم العين، حتى لا يجوز الاستبدال به قبل قبضه، وإذا ¬
صحت -يعني الإقالة- فإن كان رأس المال عينًا ردت، وإن كانت هالكة رد المثل إن كان مثليًا، والقيمة إن كان قيميًا ... " (¬1). وذهب المالكية إلى أن الثمن إن خرج من يد المسلم إليه فإنه فوت يمنع الإقالة إلا أن يكون الثمن نقدًا فتصح الإقالة (¬2). لأن النقد لا يتعين رد عينه عندهم حتى مع وجوده، فإذا كان له أن يعطيك مثله ولو كان في يده، صح أن يعطيك مثله مع فواته على أن يرد المسلم إليه مثله معجلًا، ولا يؤخره اليومين والثلاثة. واختار ابن حزم عدم جواز الإقالة في السلم مطلقًا: واحتج بأن الإقالة بيع، وهي من بيع ما لم يقبض، وقد نهي عنه؛ لأنه غرر (¬3). وهل تصح الإقالة في بعض المسلم فيه؟ فيه خلاف بين أهل العلم: فقيل: تصح في بعضه كما تصح في جميعه، وهو ما ذهب إليه الحنفية (¬4)، والشافعية (¬5)، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد (¬6). ¬
لأن الإقالة مندوب إليها، وكل مندوب إليه جاز في الجميع جاز في البعض كالإبراء والإنظار. وقيل: لا تصح الإقالة في بعض المسلم فيه، إلا أن يكون رأس المال عرضًا يعرف بعينه، أو كان عينًا (دراهم أو دنانير) أو طعامًا لا يعرف بعينه ولم يقبضه المسلم إليه، أو قبضه ولم يغب عليه. وأما إن كان رأس المال عينًا، أو طعامًا وقبضه المسلم إليه، وغاب عليه لم تجز الإقالة في البعض، هذا مذهب المالكية (¬1). لأن الإقالة في البعض تأخذ حكم البيع، وبيع الشيء قبل قبضه لا يجوز، والأول أصح. وقد عقدت بابًا خاصًّا لأحكام الإقالة في المجلد السابع من هذه المنظومة فارجع إليه إن شئت. ¬
فرع في استبدال رأس المال بغيره بعد الإقالة
فرع في استبدال رأس المال بغيره بعد الإقالة [م - 749] إذا أقال أحد العاقدين الآخر، فأتاه المسلم إليه بشيء آخر من غير جنس رأس المال عوضًا عنه إبراء لذمته، فما حكم ذلك؟ فقيل: لا يجوز مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). وجه المنع: لما كان استبدال المسلم فيه ممنوعًا مطلقاً عند الحنفية والحنابلة، فإن أخذ عوض جديد برأس مال السلم قد يتخذ حيلة لبيع المسلم فيه قبل قبضه، فإذا أراد العاقدان استبدال المسلم فيه تقايلا، ثم اعتاض عن رأس مال السلم عوضًا آخر، وهو في حقيقته استبدال للمسلم فيه. وقد ذكرنا أدلة الجمهور في منع استبدال المسلم فيه قبل قبضه، فأغنى عن إعادته. وقيل: يجوز مطلقًا، وهو اختيار زفر من الحنفية (¬3)، ومذهب الشافعية (¬4)، واختاره أبو يعلى من الحنابلة (¬5). ¬
وجه القول بالجواز
وجه القول بالجواز: القياس على ثمن المبيع في غير السلم، وذلك أنه بالإقالة بطل السلم، وصار رأس مال السلم دينًا عند المسلم إليه، فيصح الاستبدال به كسائر الديون. وقيل: يجوز في المواضع التي يجوز فيها بيع المسلم فيه قبل القبض، ويمنع في المواضع التي يمنع فيها بيع المسلم فيه قبل القبض. وهذا مذهب مالك (¬1). وجهه: أن المسلم فيه إذا كان مما لا يصح بيعه قبل القبض كالطعام مثلاً، فإن استبدال رأس مال السلم يؤدي إلى الاعتياض عن المسلم فيه قبل قبضه، وهو الطعام، فكأنه باع الطعام قبل قبضه باستبداله بعوض آخر، أما إذا كان المسلم فيه مما يصح بيعه قبل قبضه كما لو كان المسلم فيه عرضًا كالحيوان مثلاً، فإنه يجوز استبدال رأس مال السلم بغيره؛ لأنه لا محذور هنا في بيع المسلم فيه قبل قبضه، وفقًا لمذهب المالكية، والله أعلم. الراجح: أرى أن مذهب الشافعية موافق للقياس، وهو أن رأس مال السلم بعد الإقالة صار دينًا في ذمة البائع، والاعتياض عنه جائز كسائر الديون، والأدلة المرفوعة التي تنهى عن بيع المسلم فيه قبل القبض ليست صحيحة، والله أعلم. * * * ¬
الفصل السابع في تقسيط المسلم فيه على نجوم
الفصل السابع في تقسيط المسلم فيه على نجوم قال البهوتي: كل بيع جاز إلى أجل جاز إلى أجلين وآجال إن بيَّن قسط كل أجل وثمنه (¬1). [م - 750] إذا أسلم الرجل في شيء يستلمه على أقساط معينة، قسط منه يحل في الشهر الأول، وآخر يحل في الشهر الثاني، وهكذا، فهل يجوز ذلك؟ اختلف العلماء فيه: فقيل: يجوز مطلقًا، وهو مذهب المالكية (¬2)، والأظهر عند الشافعية (¬3). وقيل: لا يجوز ذلك، وهو قول في مذهب الشافعية (¬4). وقيل: يصح إن بين قسط كل أجل وثمنه. وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). ¬
دليل من قال بالجواز
دليل من قال بالجواز: الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلى أجل معلوم)، ولم يفرق بين أجل وأجلين. الدليل الثاني: ولأن كل ما جاز أن يكون في الذمة إلى أجل جاز أن يكون إلى أجلين كالأثمان. الدليل الثالث: ولأنه سلم فيما يضبط صفته مما يجوز أن يسلم فيه إلى وقت معلوم يوجد فيه، فأشبه السلم في الشيء الواحد إلى الأجل الواحد. دليل من قال: لا يجوز مطلقًا: أن القسط الثاني إذا كان على صفة القسط الأول كان المستأخر منهما أقل قيمة من المتقدم قبله، وبالتالي لا يمكن معرفة حصة كل واحد منهما من الثمن، فيكون مجهولًا، ولأنه لا يؤمن الفسخ بتعذر أحدهما فلا يعرف بما يرجع، وهذا نوع من الغرر. دليل من قال بالجواز إذا بين قسط كل أجل وثمنه: أنه إذا بين قسط كل أجل وثمنه أمكن معرفة حصة كل واحد منهما، فلا يكون في ذلك غرر، فلو انفسخ العقد بتعذر أحدهما لم يؤد ذلك في القسط الآخر، والله أعلم. وقد أجاز المالكية (¬1)،. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الراجح
والحنابلة (¬1)، أن يسلم في شيء كلحم وخبز يأخذ كل يوم جزءًا معلومًا مطلقًا، سواء بين ثمن كل قسط أولاً، لدعاء الحاجة إليه. جاء في كشاف القناع: " (فإن قبض البعض) مما أسلم فيه، ليأخذ منه كل يوم قدرًا معلومًا (وتعذر قبض الباقي رجع بقسطه من الثمن، ولا يجعل الباقي فضلاً على المقبوض)؛ لأنه مبيع واحد متماثل الأجزاء، فقسط الثمن على أجزائه بالسوية كما لو اتحد أجله" (¬2). الراجح: القول بالجواز؛ لقوة دليله، والله أعلم. ¬
الفصل الثامن في السلم الموازي
الفصل الثامن في السلم الموازي المبحث الأول في تعريف السلم الموازي تعريف السلم الموازي: عرفه بعضهم: بأنه استخدام صفقتي سلم متوافقتين دون ربط بينهما (¬1). شرح التعريف: أن يقوم البنك الإِسلامي بالشراء سلمًا لسلعة موصوفة في الذمة بثمن مقدم في مجلس العقد، ثم يقوم بعقد سلم آخر فيما بين تاريخ عقد السلم وتاريخ قبض المسلم فيه دون أن يربط ذلك بالعقد الأول، فيتحول من مشتر إلى بائع، وذلك بأن يبيع سلعة موصوفة في الذمة لصالح تاجر آخر بشروط مماثلة لشروط عقد السلم الأول، وينوي أن يقبضه من تلك السلعة التي أسلم فيها، فإذا وقع البيع على موصوف في الذمة قام البنك بتوكيل المشتري بقبضه من البائع الأول، أو قام البنك بقبضه، ثم سلمه إلى المشتري. وبناء على هذا التعريف: فإن السلم الموازي يقوم على عقدين منفصلين، ومن خلالهما يتوصل إلى بيع المسلم فيه قبل قبضه دون الوقوع في خلاف العلماء في النهي عن بيع الشيء قبل ¬
قبضه، وذلك أن البيع الثاني هو بيع دين في الذمة، وليس بيعًا معينًا، فلم يقع البيع على المسلم فيه، وإنما كانت من نية البائع أن يكون الإيفاء من المسلم فيه. وقد ظن كثير من الباحثين أن هذه المعاملة محدثة. والحق أن الشافعي قد نص عليه، وأجازه، ففي كتابه الأم، قال رحمه الله: "ومن سلف في طعام، ثم باع ذلك الطعام بعينه قبل أن يقبضه لم يجز، وإن باع طعامًا بصفة، ونوى أن يقبضه من ذلك الطعام فلا بأس ... " (¬1). ¬
المبحث الثاني في حكم السلم الموازي
المبحث الثاني في حكم السلم الموازي [م - 751] أجاز الشافعي في الأم كما سبق السلم الموازي. واستدل الشافعي على الجواز: بأن حق المشتري في العقد الثاني لم يتعلق في عين المسلم فيه، وإنما تعلق في ذمة البائع، ولذلك كان له أن يقضيه من أي ماله شاء، فلو قضاه من غير المسلم فيه كان له ذلك، ولا يحق للمشتري أن يطالبه بعين المسلم فيه. ولأنه غير داخل في النهي عن ربح ما لم يضمن؛ لأن ضمانه على البائع، وليس على المشتري، فلو هلك المسلم فيه لم ينفسخ العقد، بل عليه أن يدفع سلعة تنطبق عليها الشروط، كل هذا دليل على أن حق المشتري لم يتعلق بالمسلم فيه، وإنما تعلق بذمة البائع. قال الشافعي: "ومن سلف في طعام ثم باع ذلك الطعام بعينه قبل أن يقبضه لم يجز، وإن باع طعاما بصفة، ونوى أن يقضيه من ذلك الطعام فلا بأس؛ لأن له أن يقضيه من غيره؛ لأن ذلك الطعام لو كان على غير الصفة لم يكن له أن يعطيه منه، ولو قبضه، وكان على الصفة كان له أن يحبسه، ولا يعطيه إياه، ولو هلك كان عليه أن يعطيه مثل صفة طعامه الذي باعه" (¬1). ورأى بعض العلماء المعاصرين أن السلم الموازي لا خلاف فيه بين الفقهاء في جوازه ومشروعيته (¬2). ¬
وخالف في ذلك الشيخ الصديق الضرير، فاختار المنع. واستدل على ذلك بقوله: "السلم المتوازي في رأي حيلة لبيع المسلم فيه قبل قبضه، وهي حيلة لا تخلو من شبهة الربا التي أشار إليها ابن عباس بقوله في بيع الطعام قبل قبضه: ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ، وبخاصة إذا اتخذ هذا الأسلوب من السلم المتوازي بقصد التجارة والربح، وتكرر السلم المتوازي للمعاملة الأولى، ويدخله مانع آخر: هو الضرر الذي يصيب المستهلك من ارتفاع سعر السلعة قبل أن تصل إليه بسبب انتقالها لأكثر من تاجر" (¬1). والراجح الأول، وكونه حيلة لبيع المسلم فيه قبل قبضه، فهي حيلة شرعية، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحيلة في استبدال التمر الرديء بتمر جيد، بأن يبيع التمر الرديء، ويشتري بثمنه تمراً جيدًا، فكذلك هنا، فالعقد لم يعقد على عين المسلم فيه حتى يقال: إن ذلك يؤدي إلى بيع المسلم فيه قبل قبضه، ولا يتأتى العقد على عينه، وهو دين، والله أعلم. * * * ¬
الباب الخامس في عقد الاستصناع
الباب الخامس في عقد الاستصناع تمهيد في تعريف الاستصناع وبيان مقوماته تعريف الاستصناع اصطلاحًا (¬1): قال الكاساني: هو عقد على مبيع في الذمة، شرط فيه العمل (¬2). شرح التعريف: فقوله: (عقد) أخرج الوعد، ومعنى ذلك أنه يشترط لانعقاده إيجاب وقبول صحيحان كما يشترط في سائر عقود المعاوضات. ¬
وفي تعريف آخر
وقوله: (على مبيع) إشارة إلى أنه من عقود البيع عند الحنفية، وليس من عقود الإجارة، فيشترط له ما يشترط في البيوع من كون المبيع معلومًا، والثمن كذلك، ورضا المتبايعين .. الخ شروط البيع. وهذه المسألة فيها خلاف سيأتي تحريرها إن شاء الله تعالى. كما يؤخذ منه أن هناك شيئًا يباع، وهو في الاستصناع: المواد الخام والتى يستعملها الصانع في صنعته. وقوله: (في الذمة) إشارة إلى أن المبيع في شكله النهائي متعلق بالذمة؛ لأن المواد الخام، وإن وقع عليها البيع إلا أنها مقصودة لغيرها، حيث يحال القماش إلى ثوب، والجلد إلى خف، والحديد إلى سيارة، والخشب إلى سفينة، وهكذا. وقوله (شرط فيه العمل) أخرج السلم، فإن السلم وإن كان عقدًا على مبيع في الذمة إلا أنه لا تدخله الصنعة. وفي تعريف آخر: جاء في مجلة الأحكام العدلية: "الاستصناع: عقد مقاولة مع أهل الصنعة، على أن يعمل شيئاً، فالعامل: صانع، والمشتري: مستصنع، والشيء: مصنوع" (¬1). يضاف إلى ذلك الثمن، لتكتمل مقومات الاستصناع: صانع: وهو من يقوم بتحضير المواد الخام، ويباشر العمل بنفسه، أو يكلف من ينوب عنه. ¬
مستصنع: وهو طالب الصنعة. مصنوع: وهو المبيع. ثمن: وهو المال الذي يدفعه المستصنع نظير المادة المصنعة. * * *
الفصل الأول في توصيف عقد الاستصناع
الفصل الأول في توصيف عقد الاستصناع حتى نتمكن من توصيف عقد الاستصناع لا بد من الكلام على ذلك من خلال بيان الفرق بينه وبين عقد السلم، وهل هو عقد، أو مجرد وعد؟ وإذا كان عقدًا، فهل هو عقد بيع أو عقد إجارة؟ وإذا كان بيعًا فهل هو بيع عين، أو بيع دين؟ وهل هو عقد لازم أو غير لازم؟ فمن خلال كشف هذه الأمور نستطيع أن نخرج بتصور صحيح عن عقد الاستصناع يكشف حقيقته للقارئ الكريم، وفقنا الله للصواب بمنه وكرمه.
المبحث الأول الفرق بين الاستصناع والسلم
المبحث الأول الفرق بين الاستصناع والسلم [م - 752] الجمهور لا يذكرون عقد الاستصناع بتعريف مستقل، وإنما يذكرونه في باب السلم: في بيع شيء موصوف في الذمة مما تدخله الصنعة، ويصرحون بعدم جوازه إذا لم تتوفر فيه شروط السلم. قال في الإنصاف: "ذكر القاضي وأصحابه: أنه لا يصح استصناع سلعة؛ لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم، واقتصر عليه في الفروع ... " (¬1). ¬
وثمرة الخلاف
أما الحنفية فهم يعتبرونه عقدًا مستقلًّا متميزًا بأحكامه كما يتميز الصرف والسلم، فكما أن الصرف والسلم نوعان من البيوع، وهما عقدان مستقلان، ولهما أحكام خاصة، لا تجري في البيع المطلق العادي، فكذلك الاستصناع (¬1). وثمرة الخلاف: تظهر ثمرة الخلاف بين قول الحنفية ولين قول الجمهور من وجوه: الأول: أن الجمهور يشترطون تقدم الثمن؛ لأن من شرط صحة السلم أن يقدم الثمن، بينما الحنفية لا يرون هذا الشرط لازمًا في عقد الاستصناع، باعتبار أنه ليس من بيوع السلم، وإنما هو عقد خاص جرى على خلاف القياس استحسانًا، وسيأتي مزيد بحث لهذه المسألة إن شاء الله تعالى. الثاني: التأجيل شرط في صحة عقد السلم عند الحنفية والمالكية والحنابلة، وأما في عقد الاستصناع فيرى الحنفية أن اشتراط الأجل فيه ليس بشرط، وسيأتي الكلام عن ذلك إن شاء الله في فصل مستقل. ¬
الثالث: السلم بيع دين في الذمة، وهو غالبًا ما يكون في المثليات فقط، وفي القيمي إذا كان مما يمكن ضبط صفاته، وأما في الاستصناع فإنه بيع عين في الذمة، ويكون في المثلي، وغير المثلي. الرابع: العقد في السلم عقد لازم، إذا توفرت شروطه، والعقد في الاستصناع عقد غير لازم قبل إتمام العمل، وإذا تم العمل كان عقدًا غير لازم في حق المستصنع، ولازمًا في حق الصانع إذا رآه المستصنع بحسب رأي أبي حنيفة؛ لأن المشتري اشترى ما لم يره، فكان له الخيار. وقيل إذا تم العمل يكون عقدًا لازمًا حتى في حق المستصنع بشرط أن يكون مطابقًا للمواصفات، وهذا رأي أبي يوسف. وقد اختارت مجلة الأحكام العدلية أن عقد الاستصناع عقد لازم من العقد. وسيأتي بيانه في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى. الخامس: السلم عقد بالاتفاق، والاستصناع جرى فيه خلاف، هل هو عقد أو وعد كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في مبحث مستقل. السادس: السلم عقد بيع، وأما الاستصناع فجرى فيه خلاف، هل هو بيع أو إجارة؟ وسيأتي تحرير الخلاف فيه إن شاء الله تعالى. ويتفق السلم والاستصناع فيما يأتي: أولاً: يتفق السلم والاستصناع بأن كلا منهما عقد على موصوف في الذمة. ثانيًا: لا بد من ضبط كل واحد منهما جنسًا ونوعًا وصفة وقدرًا، ضبطًا يمنع الجهالة المفضية إلى التنازع. ثالثًا: ألا يكون الثمن والمثمن في السلم والاستصناع مما يجري فيه ربا النسيئة؛ وذلك لأن التأجيل من طبيعة العقدين.
رابعًا: ذكر مكان الوفاء إن كان محل العقد لا يصلح للتسليم، وكذا إن كان لحمله مؤونة، فلا بد من تحديد مكان الوفاء منعًا للنزاع.
المبحث الثاني الاستصناع بين العقد والوعد
المبحث الثاني الاستصناع بين العقد والوعد سبق لنا تعريف العقد في المجلد الأول من هذه المنظومة، وبينا أن العقد بمعناه الخاص يطلق ويراد به معنى الربط، أي ربط الإيجاب بالقبول على سبيل الإلزام كالبيع والإجارة، وهذا هو الغالب عند الإطلاق. وأما الوعد، فهو معروف، يقال: وعدت الرجل أعده وعدًا حسنًا من مال وغيره (¬1). والفرق بينهما: أن العقد لازم، والوعد على الصحيح غير لازم. إذا علم ذلك نأتي إلى مسألتنا: فالراجح عند الحنفية أن الاستصناع عقد، وليس مجرد وعد غير لازم. جاء في تحفة الفقهاء: "الاستصناع عقد على مبيع في الذمة ... " (¬2). وقد فرق الكاساني بين السلم والاستصناع، بأن كلًا منهما عقد على مبيع في الذمة، إلا أن الاستصناع يشترط فيه العمل (¬3). فنص على أنه عقد، وليس مجرد وعد. وذهب الحاكم الشهيد والصفار ومحمد بن سلمة وصاحب المنثور من الحنفية إلى أنه مجرد وعد من شخص لآخر، وهو رآي مرجوح. ¬
دليل من قال: إنه عقد
قال في تبيين الحقائق: "الصحيح أن الاستصناع يجوز بيعًا، وقال الحاكم الشهيد: إنه وعد، وليس ببيع .. " (¬1). وقال الكاساني: "ثم هو بيع -يعني الاستصناع- عند عامة مشايخنا، وقال بعضهم: هو عدة، وليس بسديد ... " (¬2). دليل من قال: إنه عقد: الدليل الأول: أثبت فقهاء الحنفية في عقد الاستصناع خيار الرؤية، والخيار إنما يختص بالعقد. قال محمَّد بن الحسن كما في فتح القدير: "إذا رآه المستصنع فهو بالخيار؛ لأنه اشترى ما لم يره .. " (¬3). فأثبت الخيار، وسماه شراء، فدل على أنه عقد، وليس وعدًا. الدليل الثاني: قال ابن الهمام: "الصانع يملك الدراهم بقبضها، ولو كانت مواعيد لم يقبضها" (¬4). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: استدل الحنفية على أنه عقد عندهم بأن محمدًا ذكر في جوازه القياس والاستحسان، وهما لا يجريان في المواعدة (¬1). الدليل الرابع: أن الاستصناع يجري فيه التقاضي، والتقاضي إنما يجري في الواجب، لا الموعود (¬2). الدليل الخامس: أن شرط جواز الاستصناع أن يكون مما جرى فيه التعامل بين الناس؛ لأن ثبوته على خلاف القياس. وأما الوعد فيجري فيما تعامل فيه الناس، وفيما لا تعامل فيه، فدل على أن هناك فرقًا بين الاستصناع والوعد. وقولهم: على خلاف القياس باعتبار أنه من قبيل بيع المعدوم عندهم، ومن باب بيع الدين بالدين ابتداء، وهذا الأصل فيه المنع. وهذه الأدلة كلها أو أغلبها أدلة على أن الحنفية يرون أن الاستصناع عقد، وليست أدلة شرعية على أنه بيع، وبينهما فرق. دليل من قال: إنه وعد: الدليل الأول: يعتبر الحنفية الاستصناع قبل الصنع غير لازم، فلكل من الصانع والمستصنع ¬
ويجاب
الخيار في الفسخ والإمضاء، وهذا دليل على أنه وعد، وليس بعقد، إذ لو كان عقدًا لكان ملزمًا للطرفين، أو لأحدهما. ويجاب: كون العقد غير لازم راجع إلى طبيعة العقد عند الحنفية، فالمشتري قد اشترى ما لم يره، لذلك كان الاستصناع لا يعد عقدًا نافذًا إلى أن يتم الصانع ما طلب منه وفق المواصفات التي طلبها الصانع، فإذا جاء به الصانع إلى المستصنع سقط خيار الصانع، وبقي المستصنع على خياره، فإذا رآه وقبله، عند ذلك يلزم العقد، ولا يكون هناك خيار لواحد منهما، شأنه في ذلك شأن كل مبيع عقد عليه العاقد، وهو لم يره، فيثبت له الخيار إذا رآه، وعند الحنفية الخيار له مطلقًا حتى ولو جاء مطابقًا للمواصفات كما بيناه في خيار الرؤية (¬1). الدليل الثاني: أنه لو كان الاستصناع عقدًا لكان عقدًا على معدوم، وبيع المعدوم ممنوع. ولكان الاستصناع بيع دين بدين، فالثمن دين في ذمة المستصنع (المشتري)، والمبيع دين في ذمة الصانع (البائع)، وهذا لا يجوز. ويجاب: أجاب الحنفية عن ذلك: بأن المعدوم قد يعتبر موجودًا حكمًا للحاجة كطهارة المستحاضة، وقد تحققت الحاجة هنا، إذ كل واحد لا يجد خفًا مصنوعًا يوافق رجله، ولا خاتمًا يوافق أصبعه، وقد يجوز بيع المعدوم للحاجة، أصله بيع المنافع، وكان القياس فساده، ولكنه جوز لجريان العمل به، مثله إجارة الظئر، ¬
الدليل الثالث
ولذلك قلنا: إنه جائز استحسانًا لا قياسًا، كما جاز بيع السلم، وهو على خلاف القياس (¬1). وأما الجواب بناء على القول الراجح، فيقال: إن بيع المعدوم لما كان موصوفاً متعلقًا بالذمة ولم يكن في معين لم يمنع ذلك من بيعه، كما في عقد السلم، فإنه عقد على معدوم، ولكنه موصوف، ومتعلق بالذمة، وقد ناقشت الخلاف في بيع المعدوم، وبينت أنه لا يوجد نص في النهي عن بيعه، وإنما النص في النهي عن بيع الغرر، ومن المعدوم ما لا غرر في بيعه، لضبط أوصافه في العقد، ولوجوده عادة عند التسليم. نعم يوجد نص في النهي عن بيع بعض المعدومات، وليست العلة العدم، وإنما العلة الغرر، فإذا كان المعدوم لا غرر في بيعه، وكان قادرًا على تسليمه لم يمنع ذلك من بيعه، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى بحث بيع المعدوم، حيث فصلنا الخلاف هناك فأغنى عن إعادته هنا. وأما النهي عن بيع الدين بالدين، فالحديث لا يثبت، وبيع الدين بالدين له صور كثيرة، منها الممنوع، ومنها الجائز، وهذه الصورة تلحق بالصور الجائزة وقد بعثت مسائل بيع الدين بالدين القديم منها والمعاصر، وبينت كلام أهل العلم والراجح فيها، فأغنى عن إعادته هنا. الدليل الثالث: لو كان الاستصناع عقدًا لما بطل بموت الصانع، والعقود في المعاملات لا يبطلها موت أحد طرفيها. ويجاب: بأن الاستصناع إنما بطل بموت الصانع لشبهه بالإجارة، حيث إنه عقد مركب ¬
الراجح
من عين، وعمل، فهو لهذا الشبه قلنا: إنه يبطل بموت الصانع، وهذا لا يمنع أن يكون عقدًا. الراجح: بعد استعراض أدلة القولين أجد أن القول بأنه عقد أقوى دليلًا من القول بأنه مجرد وعد، وأقوى دليل للمخالفين قولهم: لو كان الاستصناع عقدًا لكان ملزمًا للطرفين؛ لأن عقد البيع من العقود الإلزامية، إلا أننا نقول: بأن القول بعدم اللزوم ليس محل اتفاق عند الحنفية، ففي مذهب الحنفية عدة أقوال: الأول: قول بعدم اللزوم للطرفين. والثاني: ملزم للطرفين بمجرد العقد، وهذا ما رجحته مجلة الأحكام العدلية، وقيل: إن أبا يوسف رجع إليه، واختاره مجمع الفقه الإِسلامي. والثالث: ملزم للطرفين بعد إتمام العمل، وهذا هو المشهور عن أبي يوسف. والرابع: بعد إتمام العمل ملزم للصانع، وغير ملزم للمستصنع باعتبار أنه مشتر لما لم يره، وسيأتي ذكر حجة كل قول إن شاء الله تعالى في مبحث مستقل. * * *
المبحث الثالث الاستصناع عقد بيع أو إجارة
المبحث الثالث الاستصناع عقد بيع أو إجارة [م - 754] اختلف الحنفية في عقد الاستصناع، هل يعتبر من عقود البيع، أو من عقود الإجارة بحيث يكون المعقود عليه العمل دون العين؟ أو هو يبتدئ بالإجارة، وينتهي بالبيع؟ والذين قالوا: إنه من عقود البيع اختلفوا: هل هو بيع لما في الذمة لا يشترط فيه العمل؟ أو أن المعقود عليه هو عين شرط فيها العمل؟ القول الأول: قالوا: هو عقد على مبيع في الذمة، والعمل ليس شرطًا فيه (¬1). ودليلهم: بأن الصانع لو أحضر عينا كان قد عملها قبل العقد، ورضي بها المستصنع جاز ذلك، ولو كان شرط العمل من نفس العقد لما جاز؛ لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل، لا في الماضي. ويناقش هذا من وجوه: الأول: أن هذا إنما جاز ليس بالعقد الأول، وإنما جاز ذلك بعقد جديد، وهو التعاطي بالتراضي. قال الكاساني: "إذا أتى الصانع بعين صنعها قبل العقد، ورضي بها المستصنع، فإنما جاز لا بالعقد الأول، بل بعقد آخر، وهو التعاطي بتراضيهما" (¬2). ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أن المصنوع إذا كان جاهزًا، لا يقال له: عقد استصناع، وإنما هو من قبيل البيع؛ لأن الفرق بين البيع والاستصناع: أن الاستصناع يدخله العمل بخلاف البيع المطلق، ثم إن الاستصناع لو كان بيعًا مطلقًا، لما بطل بموت أحد العاقدين عند الحنفية، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الوجه الثالث: إذا كان الاستصناع: هو عقدًا على موصوف في الذمة، فما الفرق بينه وبين السلم، ولوجب تسليم الثمن في مجلس العقد، فلما لم يجب تسليم الثمن، علم أنه يفارق السلم في الأحكام. القول الثاني: قالوا: إن المعقود عليه هو العمل (الإجارة) والعين فيه تبع (¬1). واستدلوا: بعدة أدلة منها: الدليل الأول: الاستصناع: اشتقاق من الصنع، وهو العمل، فتسمية العقد به دليل على أنه هو المعقود عليه، والمادة فيه بمنزلة الآلة للعمل. الدليل الثاني: بعض الأجراء العاملين (الأجير المشترك) أصحاب المهن تقتضي طبيعة عمله أن يضع من عنده المادة التي يستلزمها عمله المستأجر عليه كالصباغ، فإنه يدفع ¬
وأجيب على هذا
إليه الثوب، أو الغزل ليصبغه باللون المطلوب بصبغ يضعه من عنده، ولا يقدمه له صاحب الثوب، كما يفعل الصانع في الاستصناع، ولم يخرجه هذا عن أن يكون أجيراً، وعقد عمله إجارة (¬1). وأجيب على هذا: بأن هناك فرقًا بين الإجارة، وعقد الاستصناع، من وجهين: الوجه الأول: يشترط في عقد الاستصناع: أن تكون العين والعمل من الصانع، وفي الإجارة تكون العين من المستصنع. يقول في الفتاوى الهندية: "أن تكون العين والعمل من الصانع، فأما إذا كانت العين من المستصنع، لا من الصانع، فإنه يكون إجارة، لا يكون استصناعًا، كذا في المحيط" (¬2). وبهذا نعرف، لماذا إذا دفع ثوبه للصباغ، كان العقد عقد إجارة. الوجه الثاني: المعقود عليه في الإجارة هو العمل، أما في الاستصناع: فالمعقود عليه، هو عين موصوفة في الذمة. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: لو كان عقد الاستصناع من عقود البيع، لما بطل العقد بموت الصانع، كما هو مجمع عليه عند الحنفية. وأجيب: بأن الاستصناع لما كان فيه شبه بالإجارة، من حيث إن فيه طلب الاستصناع، وهو العمل، وفيه شبه بالبيع، من حيث إن المقصود فيه العين المستصنعة، فلشبهه بالإجارة قلنا: يبطل بموت أحد المتعاقدين، ولشبهه بالبيع أثبتنا فيه خيار الرؤية، وأجرينا فيه القياس، والاستحسان، وهذان الشبهان هما اللذان أوجبا أن يفرد الاستصناع بمسمى خاص، ويكون عقدًا مستقلًا له أحكامه الخاصة، ولا يلحق بالبيع المطلق، ولا بالصرف، ولا بالسلم، ولا بالإجارة، والله أعلم. القول الثالث: قالوا: إن عقد الاستصناع هو إجارة ابتداء، وبيع انتهاء، لكن قبل التسليم، لا عند التسليم، بدليل قولهم: إذا مات الصانع يبطل، ولا يستوفى المصنوع من تركته، ذكره محمَّد في كتاب البيوع (¬1). ويجاب:. بأن العقد كونه مركبًا من عين وعمل، لا يعني ذلك أن نجعله تارة إجارة، وتارة بيعًا، وأن العقد بدأ في إجارة، وانتهى في بيع، بل نجعله عقدًا مستقلاً، وهذا ما حملنا على إفراده في باب مستقل، كما استقل الصرف والسلم بأحكام ¬
القول الرابع
خاصة، وأطلقنا عليه مسمى خاصًا، وهو عقد الاستصناع، فتداخل العمل مع العين صيرهما شيئًا واحداً، وهو بيع عين موصوفة في الذمة يشترط لها العمل، والله أعلم. القول الرابع: قالوا: المعقود عليه هو العين دون العمل، وإنما العمل شرط فيه. وهذا هو المذهب عند الحنفية (¬1). وقولنا (عين) ليس معناه أنه معين، وإنما هي عين موصوفة في الذمة. يقول ابن عابدين: "قوله: والمبيع: هو العين لا عمله، أي أنه بيع عين موصوفة في الذمة، لا بيع عمل، أي لا إجارة على العمل .. " (¬2). فقوله: عين موصوفة في الذمة، يبين أن المراد بالعين: ليس ما يقابل الدين، وإنما المراد بالعين ما يقابل العمل، وأن المقصود بالعين ليس هي مواد الخام، وإنما عين سوف تتشكل بعد الاستصناع، والله أعلم. هذا هو عقد الاستصناع، والذي يتميز به عن عقد البيع، وعن عقد السلم، وعن عقد الإجارة، وأصبح له صورة مستقلة عن سائر هذه العقود: فحين يكون المصنوع جاهزًا، ويأتي به الصانع، فيبيعه، فهذا بيع مطلق، أو يكون المصنوع جاهزًا، ولكنه كائب عن مجلس العقد، فهذا من بيع العين الغائبة، وليس من الاستصناع في شيء. وكذلك لو صيغ العقد على أساس الإجارة، كما لو جاء شخص بالمواد ¬
الخام، واستأجر الصانع ليصنع له منها شيئًا، فهذه إجارة، وليست من الاستصناع في شيء. وكذلك لو طلب شخص من آخر ثمرًا أو حبوبًا موصوفة في الذمة، فهذا من قبيل السلم، يجب فيه تقديم الثمن، وسائر شروط السلم. فالاستصناع: هو أن يطلب شخص من آخر عينًا ليست موجودة، وسيعمل البائع على صنعها، وجميع مواد الخام من الصانع، فهذا العقد بهذه الصورة ليس بيعًا مطلقًا محضًا، ولا إجارة محضة، ولا سلمًا، وإنما هو عقد مستقل، له شروطه الخاصة. فالعقد: يقوم على تحويل مواد خام عن طريق العمل، وتحويلها إلى عين، تلك العين بعد الاستصناع هي المعقود عليها، وليس المواد الخام، والعمل في العين ليس معقودًا عليه، وإنما هو شرط في البيع، فما لم يشترط فيها العمل لا يكون استصناعًا، فكان مأخذ الاسم دليلًا عليه، ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلمًا، وهذا العقد يسمى استصناعًا، واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل (¬1). وقد أشكل على بعض الباحثين كون الحنفية تساءلوا في عقد الاستصناع: هل المعقود عليه العين، أم العمل؟ وقد رجحوا أن المعقود عليه: هو العين، وليس العمل، ووجه الإشكال: إذا كان المستصنع معدومًا، فهو ليس عينًا؛ لأن العين: هو المعين، وهو ما يمكن الإشارة إليه، ويكون له ذات، وحيز من الفراغ، كهذا الكرسي، والبيت، والحصان، بينما العين المستصنعة تعلقها ¬
بالذمة؛ لكونها ليست موجودة، ولم يتعلق الحق بشيء بعينه، وما كان متعلقًا بالذمة فهو دين، وليس عينًا. ولذلك لو استصنع النجار الشكل المطلوب، وباعه على آخر لم يمنع ذلك مانع؛ لأن حق المستصنع متعلق بذمة الصانع، وليس في عين المصنوع. جاء في العناية: "لو باعه الصانع قبل أن يراه المستصنع جاز. . ." (¬1). وقال السرخسي: "وإن باعه الصانع قبل أن يراه المستصنع، فبيعه جائز؛ لأنه باع ملك نفسه، فالعقد لا يتعين في هذا المصنوع قبل أن يراه المستصنع ... " (¬2). والحق أن هذا الإشكال قائم إلا إذا فهمنا مراد الحنفية بالعين في عقد الاستصناع، فقد يزول الإشكال. قال السرخسي: "والأصح أن المعقود عليه المستصنع فيه -يعني العين- وذكر الصنعة (العمل) لبيان الوصف ... " (¬3). وجاء في فتح القدير: "المعقود عليه العين دون العمل" (¬4). فالمراد: بالعين عندهم باعتبار ما سيكون، والذي حملهم على هذا: أن كلًا من العمل والعين متعلقان بالذمة، فحتى يبينوا أن المعقود عليه هو العين بعد الاستصناع، وأن العقد عقد بيع، وليس المعقود عليه هو العمل، فيكون العقد عقد إجارة أطلقوا كلمة (عين) على أمر متعلق بالذمة، وهو اصطلاح خاص. ¬
ولذلك يقول ابن عابدين عن عقد الاستصناع: "بيع عين موصوفة في الذمة، لا بيع عمل، أي لا إجارة على العمل ... " (¬1). فقوله: عين موصوفة في الذمة، هذا يفصح عن الموضوع، وأن المراد بالعين: ليس ما يقابل الدين، وإنما المراد بالعين ما يقابل العمل (المنفعة)، وأن المقصود بالعين ليس هي مواد الخام، وإنما عين سوف تتشكل بعد الاستصناع، والله أعلم. وهذا ما نص عليه قرار مجمع الفقه الإِسلامي، حيث جاء فيه: "عقد الاستصناع عقد وارد على العمل والعين في الذمة، ملزم للطرفين إذا توفرت فيه الأركان، والشروط ... الخ" (¬2). فلو كان المقصود بالعين: المعين لم يكن قوله (في الذمة) مناسبًا؛ لأن ما كان في الذمة لا يكون إلا دينًا، والدين يكون في مقابل العين، والله أعلم. * * * ¬
المبحث الرابع الاستصناع عقد لازم أو جانز
المبحث الرابع الاستصناع عقد لازم أو جانز [م - 755] يعتبر عقد الاستصناع قبل الصنع عقدًا غير لازم في مذهب الحنفية، فالصانع والمستصنع لهما حق الرجوع. وأما بعد إتمام العمل، ورؤية المشتري له: فذهب أبو حنيفة إلى أنه يسقط خيار الصانع، ويبقى الخيار للمستصنع باعتبار أنه مشتر لما لم يره. وذهب أبو يوسف إلى أنه إذا أتم الصانع صنع الشيء، وأحضره للمستصنع موافقًا للمواصفات، فليس لأحد منهما خيار، بل يلزم الصانع بتسليمه، ويلزم المستصنع بقبوله. وعلل ذلك أبو يوسف: أن الصانع لما أتى به موافقًا تعين حق المستصنع فيه بعينه، بعد أن كان حقه متعلقًا بذمة الصانع، فلم يبق له خيار. وقيل: إن الاستصناع إذا انعقد صحيحًا كان لازمًا منذ انعقاده، وهذا ما اختارته مجلة الأحكام العدلية. جاء في المادة (392): "إذا انعقد الاستصناع، فليس لأحد العاقدين الرجوع عنه، وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة". كان المستصنع مخيرًا" (¬1). وكنت أرى أن هذا القول ليس له مستند من مذهب الحنفية بناء على ما نقله الكاساني، وابن عابدين من مذهب أبي يوسف، ونص عليه فضيلة الشيخ ¬
مصطفى الزرقاء -رحمه الله- حتى أوقفت على كلام لبرهان الدين ابن مازة ذكره في كتابه المحيط البرهاني، وفيه ما يدل على أن أبا يوسف قد رجع عن قوله إلى القول باللزوم من انعقاد العقد، وهذا نصه: "قلنا: الروايات في لزوم الاستصناع وعدم اللزوم مختلفة" ثم ذكر الروايات، وقال: "ثم رجع أبو يوسف عن هذا، وقال: لا خيار لواحد منهما، بل يجبر الصانع على العمل، ويجبر المستصنع على القبول. وجه ما روي عن أبي يوسف، أنه يجبر كل واحد منهما: أما الصانع فلأنه ضمن العمل، فيجبر عليه، وأما المستصنع فلأنه لو لم يجبر على القبول يتضرر به الصانع؛ لأنه عسى لا يشتريه غيره منه أصلاً، أو لا يشتري بذلك القدر من الثمن، فيجبر على القبول دفعًا للضرر عن البائع. . ." (¬1). وبهذا نعرف خطأ ابن عابدين -رحمه الله- حين يقول: "ولكل منهما الامتناع عن العمل قبل العمل بالاتفاق" (¬2). وعليه أيضًا يمكننا أن نقول: إن مجلة الأحكام العدلية قد أخذت بهذه الرواية عن أبي يوسف، وهي تخالف ما ذكره ابن عابدين في رأي أبي يوسف، والله أعلم. وبهذه الأجوبة عن المسائل الأربع نكون قد انتهينا -ولله الحمد والمنة- من توصيف عقد الاستصناع، واتضح لنا، هل هو عقد، أو وعد، وهل هو عقد لازم، أو غير لازم، وهل هو بيع أو إجارة، وما الفرق بينه وبين عقد السلم، وننتقل في المبحث التالي للحديث عن حكم عقد الاستصناع. ¬
الفصل الثاني خلاف الفقهاء في عقد الاستصناع
الفصل الثاني خلاف الفقهاء في عقد الاستصناع [م - 756] اختلف العلماء في عقد الاستصناع. فذهب جمهور الحنفية إلى القول بجوازه، ولم يخالف في ذلك إلا زفر (¬1). وقيل: لا يجوز إلا بشروط السلم، وهذا مذهب الجمهور (¬2)، وهذا ذهاب منهم إلى عدم الجواز بالصيغة التي يجيزها الحنفية. ¬
ويمكن لي بإيجاز أن أبين أن الجمهور لا يوافقون الحنفية بالقول بعقد الاستصناع ليس من جهة الاسم، وإنما من جهة المعنى، فمثلًا: يجيز الحنفية أن يكون الثمن مؤجلًا كله أو بعضه في عقد الاستصناع، وبالتالي يكون العقد: بيع دين بدين، وفي السلم يشترط الجميع بما فيهم الحنفية تقديم الثمن، وهذا فرق جوهري جداً. العقد في السلم عقد لازم، إذا توفرت شروطه، والعقد في الاستصناع عقد غير لازم قبل إتمام العمل، وإذا تم العمل كان عقدًا غير لازم في حق المستصنع، ولازمًا في حق الصانع بحسب رأي أبي حنيفة؛ لأن المشتري اشترى ما لم يره، فكان له الخيار. ¬
دليل الحنفية على جواز عقود الاستصناع
وقيل: إذا تم العمل يكون عقدًا لازمًا حتى في حق المستصنع بشرط أن يكون مطابقًا للمواصفات، وهذا القول القديم من قولي أبي يوسف. وقيل: الاستصناع عقد لازم من العقد، وهو ما رجع إليه أبو يوسف، واختارته مجلة الأحكام العدلية، وبناء عليه لا يكون بينه وبين السلم فرق في هذه الجزئية، وهذا ما اختاره مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي، وسيأتي نص قراره إن شاء الله في نهاية البحث. الاستصناع لا يكون في الثمار والبقول والفواكه واللحوم وسائر الحبوب. فلا يجري الاستصناع إلا فيما تدخله الصنعة، بينما يدخل السلم في المنتوجات الزراعية مما سبق ذكره، ويدخل السلم في المصنوعات مما ينضبط بالصفة. إلا أن المنتوجات الطبيعية اليوم أصبح بعضها يحفظ معلبًا، وبعضها يحفظ مجمدًا، وتغلف إما في علب أو أكياس بلاستيكية، فربما يقول قائل: إنها إذا دخلتها الصنعة جاز أن تدخل في عقد الاستصناع، والله أعلم. دليل الحنفية على جواز عقود الاستصناع: الدليل الأول: (ح-541) ما رواه البخاري من طريق جويرية، عن نافع أن عبد الله حدثه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اصطنع خاتمًا من ذهب، فجعل فصه في بطن كفه إذا لبسه ... الحديث (¬1). وجه الاستدلال: قال ابن الأثير: "اصطنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا من ذهب، أي أمر أن يصنع ¬
ويناقش
له، كما تقول: اكتتب، أي أمر أن يكتب له ... " (¬1). وله شاهد من حديث أنس عند البخاري، بلفظ: (أنه رأى في يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا من ورق يوماً، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق فلبسوها) (¬2). ويناقش: هذا الدليل يتطرق إليه احتمال، وهو أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد دفع ثمنه مقدمًا، فيكون سلمًا، والسلم جائز عند الجميع، والاحتمال إذا ورد على الدليل لم يكن حجة، خاصة أن من هديه - صلى الله عليه وسلم - النهي عن بيع الدين بالدين، وابتداء الدين بالدين قد نقل الإجماع على منعه كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ويجاب: بأن تقديم الثمن لو كان شرطاً لصحة العقد لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو دفع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمن الخاتم مقدمًا لنقل ذلك إلينا باعتبار أن حفظ ذلك من حفظ الشريعة، والتي تعهد الله بحفظها، فلما لم ينقل علم أنه ليس بشرط. الدليل الثاني: (ح-542) ما رواه البخاري من طريق أبي حازم بن دينار، أن رجالًا أتوا سهل بن سعد الساعدي، وقد امتروا في المنبر، مم عوده؟ فسألوه عن ذلك، فقال: والله إني لأعرف مما هو، ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فلانة امرأة قد سماها سهل: مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادًا أجلس عليهن إذا كلمت الناس، فأمرته، ¬
الدليل الثالث
فعملها من طرفاء الغابة، ثم جاء بها، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بها فوضعت ها هنا ... الحديث (¬1). الدليل الثالث: استدل الحنفية بالإجماع العملي على جوازه، وعندي أن هذا الدليل من أقوى الأدلة على الجواز، فإن المسلمين اليوم حتى أولئك الذين يصرحون بعدم جواز عقد الاستصناع هم يمارسونه عمليًا في حياتهم، فيذهب الواحد منهم إلى الخياط، ويقاوله على خياطة ثوب، ويكون الثوب والعمل من لدن الخياط، ويذهب الرجل اليوم، فيقاول على أرضه ليبني له بيتًا، على أن المواد من المقاول، وهو ما يسمى في عصرنا اليوم بتسليم المفتاح، ويذهب الرجل إلى أصحاب المجالس والستائر، فيقاوله على أن يصنع له مجلسًا أو أكثر، وتكون المواد من المحل نفسه، ويذهب إلى الحذاء، ليصنع له حذاء، وهكذا تجد المعاملة منتشرة على مستوى الدول، والشركات والأفراد يمارس عقد الاستصناع يوميًا من غير نكير. قال الكاساني: "ويجوز -يعني الاستصناع- استحسانًا لإجماع الناس على ذلك؛ لأنهم يعملون ذلك في سائر الأعصار من غير نكير ... " (¬2). وقال ابن نجيم: "دليله -يعني على جواز الاستصناع- وهو الاجماع العملي" (¬3). وقال الزيلعي: "وأما الاستصناع فللإجماع الثابت بالتعامل من لدن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا، وهذا من أقوى الحجج" (¬4). ¬
الدليل الثالث
وكذا نقل الإجماع العملي على جوازه السرخسي في المبسوط (¬1). قال الزرقاء: "وقد أشرنا سابقًا إلى أن الحنفية يدعون الإجماع على جوازه للحاجة، ودعوى الحاجة مستفيضة في كتب المذهب الأساسية: المبسوط للسرخسي، والبدائع للكاساني، والهداية للمرغياني، وسواها، وقد تبدو هذه الدعوى غريبة، فأي إجماع مع أن مذاهب عديدة منها: الشافعي، والحنبلي لا تجيزه إلا بشروط السلم كاملة؟ ولكن الإجماع الذي يستند إليه الحنفية صحيح، ولا تتنافى مع هذا الخلاف بين المذاهب في جواز الاستصناع، فإن الإجماع الذي يدعيه الحنفية هو الإجماع العملي، فهم يقولون: إن العمل بالاستصناع فيما يحتاج إليه متعارف، ومستمر من عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون نكير" (¬2). الدليل الثالث: قال الكاساني: "الحاجة تدعو إليه؛ لأن الإنسان قد يحتاج إلى خف، أو نعل من جنس مخصوص، ونوع مخصوص، على قدر مخصوص، وصفة مخصوصة، وقلما يتفق وجوده مصنوعًا؛ فيحتاج إلى أن يستصنع، فلو لم يجز؛ لوقع الناس في الحرج" (¬3). الدليل الرابع: عقد الاستصناع فيه معنى عقدين جائزين، وهما السلم والإجارة، وذلك أن ¬
دليل من قال: بالمنع
السلم عقد على مبيع في الذمة، واستئجار الصناع يشترط فيه العمل، وما اشتمل على معنى عقدين جائرين كان جائزًا (¬1). دليل من قال: بالمنع: الدليل الأول: عقد الاستصناع يشتمل على تأجيل البدلين: المبيع والثمن، وهذا يعني: أنه بيع دين بدين ابتداء، وهذا مجمع على منعه. قال ابن قدامة في المغني "قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن بيع الدين بالدين لا يجوز، وقال أحمد: إنما هو إجماع ... " (¬2). فلو كان عقد الاستصناع صحيحًا لكان اشتراط تعجيل الثمن في السلم ليس بلازم، وهو مجمع عليه والشريعة لا يمكن أن تفرق بين متماثلين، ولا تجمع بين متفرقين، والنظير يجب أن يأخذ حكم النظير، والاستصناع فيه شبه جدًا بالسلم، اللهم إلا أن السلم غالباً في المطعومات، وهذا في المصنوعات، وهو ليس بالفارق الجوهري الذي يختلف معه الحكم. ويناقش: إذا كان الاعتراض على عقد الاستصناع إنما هو لعدم تقديم الثمن؛ لأنه بيع دين بدين، فالجواب على هذا من وجهين: الوجه الأول: أن عقد الاستصناع مركب من عقدين: بيع وإجارة. ¬
الوجه الثاني
والإجارة إذا كانت في الذمة لا يجب تسليم أجرة العامل حتى يتم تسلمه على الصحيح، ولم يمنع ذلك من صحة العقد، وعقد الاستصناع فيه شبه بالإِجارة حيث يتضمن العقد عمل الصانع مضافًا إليه العين المصنوعة، ولهذا جاز فيه الدين بالدين، وبه يفارق عقد الاستصناع عقد السلم، والله أعلم (¬1). الوجه الثاني: أن تأجيل الثمن اليوم قد يعد ضرورة؛ لحماية الأموال، فعقد الاستصناع لم يعد يتعلق بسيف يصنعه الحداد، أو سرج، أو باب يصنعه النجار، وإنما يتعلق اليوم بمصانع ضخمة مبالغها تتجاوز الملايين إن لم نقل البلايين من الدولارات، كما في صناعة الطائرات، والسفن الفضائية، والبحرية، والقطارات، والمطارات، والأبراج السكنية، وصناعة السلاح المتقدم، ومولدات الطاقة، ومصانع التكرير ونحوها، وهذه المصانع والمعدات لا يمكن أن يوقف على صلاحيتها إلا بعد إنتاجها، وهل كانت على وفق الشروط، أو مخالفة لما هو مطلوب، فكيف يجبر المستصنع على دفع الثمن كاملًا، مع احتمال أن يكون المنتج ليس مطابقًا للمواصفات، وقد يتعرض المنتج للغش والتزوير، وقد تكون الشركات وهمية، فإذا دفع المبلغ كاملاً ذهب المال هدرًا، وهذه المبالغ إن دفعت مقدمًا قد تؤذي ليس بنكًا واحداً، وإنما عدة بنوك، وقد تتسبب في خسارات جسيمة، إن لم تكن سببًا في الإفلاس، وقد يخضع الأمر إلى المرافعات الشرعية والمحاكمات التي تأخذ وقتًا طويلاً، تعطل فيها ¬
الدليل الثاني
المصالح، وتهدر فيها الأوقات، وتنفق عليها الأموال، مع ما فيها من حرج ومشقة، فإذا علم المستصنع أن ثمن صناعته يتوقف على التزامه بالعقد، ومدى مطابقته للمواصفات، والتزامه بتنفيذ العقد في حينه، كان أحرص من المستصنع على إتقان صنعته، ولهذا كان من المصلحة عدم تسليم كامل الثمن للمستصنع، ويستطيع المستصنع أن يطلب تعهدًا بنكيًا يحفظ حقه من الضياع، بعد الفراغ من الاستصناع، والله أعلم. الدليل الثاني: (ح-543) ما رواه أحمد من طريق أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن حكيم بن حزام، قال: قلت يا رسول الله يأتيني الرجل يسألني البيع ليس عندي ما أبيعه، ثم أبيعه من السوق؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك. [المحفوظ في إسناده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام حتى يستوفى] (¬1). وجه الاستدلال: أن الرجل في عقد الاستصناع يبيع شيئًا لم يصنع بعد، وقد تكون مواده الخام ليست عند البائع، فيذهب، ويبحث عنها، وقد يجدها في السوق، وقد لا يجدها، وكل هذا يدل على أن عقد الاستصناع ينطبق عليه أنه بيع ما ليس عند الإنسان، وهو منهى عنه. ويناقش: بأن الممنوع في بيع ما ليس عند الإنسان، هو بيع الأعيان التي ليست للبائع، وأما بيع شيء موصوف في الذمة، فلا حرج في ذلك، ولذلك جاز بيع السلم، ¬
الدليل الثالث
وهو ينطبق عليه أنه بيع ما ليس عند الإنسان، بل ربما لم يخلق بعد، وقد سبق لنا كلام أهل العلم في حديث حكيم، ونقلنا الخلاف في معناه، ورجحنا كلام الشافعي -رحمه الله-، وأن المقصود منه النهي عن بيع شيء معين، والله أعلم. الدليل الثالث: أن عقد الاستصناع يدخل في بيع المعدوم، وهو منهي عنه للغرر في حصوله، والنهي عن بيع الغرر ثابت في السنة من حديث أبي هريرة. قال النووي: "وأما النهي عن بيع الغرر، فهو أصل عظيم من أصول كتاب البيوع ... ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة، كبيع الآبق والمعدوم والمجهول ... " (¬1). وإذا كان بيع الموجود غير المملوك لا بجوز، فمن باب أولى لا يجوز بيع المعدوم؛ لأنه غير مملوك حتمًا. ويناقش: بأننا نسلم أن المعدوم الذي فيه غرر لا يجوز بيعه، ولكن ليس كل معدوم يخفى علينا عاقبته؛ لأن من المعدوم ما لا غرر في بيعه، ولا تخفى عليا عاقبته، كما في بيع الأشياء المعدومة وقت العقد، ولكنها متحققة الوجود في المستقبل بحسب العادة، كما في السلم والاستصناع، وبيع الأشياء المتلاحقة الوجود (¬2). وأما قياسكم بيع المعدوم على بيع الموجود غير المملوك فقياس مع الفارق، فإن في بيع غير المعدوم تعديًا على صاحبه المالك، ومن شروط ¬
الراجح من أقوال أهل العلم
البيع أن يكون صادرًا من مالك أو من يقوم مقامه، فهناك فرق كبير بين بيع ما لا يملكه الإنسان، ولا هو قادر على تسليمه، وبين بيع معدوم موصوف في ذمته، قادر في العادة على تسليمه في وقته، فالمعدوم إذا كان غير مقدور على تسليمه لم يجز بيعه كذلك، وأما إذا كان قادرًا على تسليمه جاز بيعه، ولا إشكال فيه. الراجح من أقوال أهل العلم: بعد استعراض أدلة الفريقين أجد أن مذهب الحنفية هو القول الراجح، إذا أخذنا بمذهب المجلة، وهو أن عقد الاستصناع عقد لازم من العقد، يضاف إليه أن ذكر الأجل فيه لازم قطعًا للنزاع، وهذا ما ذهب إليه مجمع الفقه الإِسلامي، فقد صدر قرار من مجمع الفقه الإِسلامي بجواز عقد الاستصناع، وهذا نصه: قرار رقم: 67/ 3/ 7: إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412 هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (عقد الاستصناع). ويعد استماعه للمناقشات التي دارت حوله، ومراعاة لمقاصد الشريعة في مصالح العباد والقواعد الفقهية في العقود والتصرفات، ونظرًا لأن عقد الاستصناع له دور كبير في تنشيط الصناعة، وفي فتح مجالات واسعة للتمويل والنهوض بالاقتصاد الإِسلامى، قرر: 1 - إن عقد الاستصناع -وهو عقد وارد على العمل والعين في الذمة- ملزم للطرفين إذا توفرت فيه الأركان والشروط.
2 - يشترط في عقد الاستصناع ما يلي: (أ) بيان جنس المستصنع، ونوعه، وقدره، وأوصافه المطلوبة. (ب) أن يحدد فيه الأجل. 3 - يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة. 4 - يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطاً جزائيًا بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان، ما لم تكن هناك ظروف قاهرة. والله أعلم. ومن خلال عقد الاستصناع تستطيع مراكز المال في السوق الإِسلامية أن تؤدي دورها في تنشيط الصناعة، والزارعة، والحرف، كما يجوز للمصارف الإِسلامية، والتي تتعاقد مع عميل ما لبناء مساكن، أو إقامة مصانع، أو توريد بضائع، حسب الشروط الموجودة بين الطرفين بالضوابط الشرعية، أن تقوم بعقد استصناع مواز، وذلك بالتقاول مع مقاول آخر بنفس الشروط السابقة على تنفيذ العقد، بسعر أقل، ويكون ربحها مقدار الفرق بين العقدين، والله أعلم.
الفصل الثالث في شروط عقد الاستصناع
الفصل الثالث في شروط عقد الاستصناع الشرط الأول ذكر الجنس والنوع والقدر [م - 757] هذا الشرط يرجع إلى اشتراط كون المبيع معلومًا، وهو شرط في كل مبيع، وليس خاصًا في عقد الاستصناع. جاء في درر الحكام: "يلزم في الاستصناع وصف المصنوع وصفًا يمنع حدوث أي نزاع لجهالة شيء من أوصافه، وتعريفه تعريفًا يتضح به جنسه ونوعه على الوجه المطلوب، ولما كان المصنوع بيعًا ... كان من اللازم العلم به تماما" (¬1). وقال الكاساني: "وأما شرائط جوازه، فمنها: بيان جنس المصنوع، ونوعه، وقدره، وصفته؛ لأنه لا يصير معلومًا بدونه" (¬2). ¬
الشرط الثاني أن يكون بما يجري فيه التعامل بين الناس
الشرط الثاني أن يكون بما يجري فيه التعامل بين الناس [م - 758] اشترط الحنفية أن يكون عقد الاستصناع في الأمور التي يجري فيها التعامل بين الناس، وهذا الشرط محل اتفاق بينهم. وعللوا ذلك: بأن جوازه كان على خلاف القياس، وإنما ثبت جوازه بتعامل الناس فيه، فيختص حكمه بما لهم فيه تعامل، وأما ما لا تعامل لهم فيه فيبقى على وفق القياس، وهو المنع إلا بصورة السلم وشروطه، والله أعلم. قال الكاساني في بدائع الصنائع: "وأما شرائط جوازه ... منها: أن يكون ما للناس فيه تعامل كالقلنسوة والخف ... لأن جوازه -مع أن القياس يأباه- ثبت بتعامل الناس، فيختص بما لهم فيه تعامل، ويبقى الأمر فيها وراء ذلك موكولًا إلى القياس" (¬1). وجاء في درر الحكام "يلزم أن يكون الاستصناع في الأشياء المتعامل فيها، أما التي لم يجر التعامل فيها، فالعقد فيها فاسد ... " (¬2). وجاء في الهداية: "بخلاف ما لا تعامل فيه؛ لأنه استصناع فاسد، فيحمل على السلم الصحيح" (¬3). وإذا كان مرد ذلك إلى تعامل الناس، فإن تعامل الناس يختلف من عصر إلى ¬
عصر، ومن بلد إلى آخر، وإذا كان الحنفية يمنعون الاستصناع في الثياب في عصرهم، فإنه لا يمكن أن يمنع من ذلك في عصرنا، لجريان التعامل بين الناس في عصرنا على الذهاب إلى الخياط، وتحديد القماش، ثم يقوم البائع بجاطة القماش إلى ثوب، أو إلى غيره مما يلبس، وهكذا إذا تعامل الناس فيما لم يجر فيه التعامل من قبل، أمكن أن يجري فيه عقد الاستصناع، والله أعلم، وهذا لا إشكال فيه بحسب مذهب الحنفية، والذين وضعوا هذا الشرط، وهو أن يجري الاستصناع بما جرى فيه التعامل بين الناس. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، كيف نفتح أمام الاستصناع هذا الباب الواسع في كل ما تدخله الصنعة، فإننا بهذا التوسع نكون قد خالفنا المذاهب الأربعة جميعًا: الثلاثة الذين لم يقبلوا عقد الاستصناع من الأصل إلا إذا توفرت فيه شروط السلم، وفي مقدمها: تعجيل الثمن، والحنفية الذين لم يجيزوه مستقلًا عن السلم إلا بشرط أن يجري فيما تعارف الناس على التعامل فيه؛ لأن العمل فيه من لدن الناس جعله مستثنى من الأصل، فما لم يتعارف الناس على التعامل فيه، لا يصح فيه الاستصناع، تمسكًا بالأصل، وهو عدم جواز بيع المعدوم، ومن ثم قيدوا القول بالجواز بالمتعارف؟ قال الشيخ مصطفى الزرقاء: هذه ملاحظة واردة بالنظر الفقهي، وتحتاج إلى جواب. ويبدو لنا في الجواب: أن تنوع الحاجات، والصناعات، واختلاف الأشكال، والأوصاف، والخصائص في أصناف النوع الواحد، إلى درجة كبيرة مما تفتقت عنه أذهان المخترعين في عصر الانفجار الصناعي هذا، قد أدى إلى أن يصبح طريق الاستصناع متعارفًا عليه في كل ما يصنع بوجه عام" (¬1). ¬
وعندي أن هذا الجواب لا يشفي الصدر، والجواب أن يقال: الأصل في المصانع اليوم أنها لا تقوم بصناعة شيء بناء على حاجة خاصة، أو على طلب مجموعة من الأفراد؛ لأن آلية المصانع إنما تقوم على أساس حاجة السوق إلى هذه الصناعة، فما لم تكن صناعته مربحة ومطلوبة بشكل واسع، فإن المصانع لا تتجه إلى العمل فيها؛ لأن بناء المصانع مكلف جداً، فإذا علم أن هناك طلبًا كبيرًا على تلك الصناعة، فإن هذا يعني: أن التعامل فيها يجري بشكل واسع، ومتعارف عليه، وبهذا يتحقق شرط الجواز عند الحنفية، والله أعلم.
الشرط الثالث في ذكر الأجل فيه
الشرط الثالث في ذكر الأجل فيه [م - 759] يذهب الجمهور إلى اشتراط الأجل في السلم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم) (¬1). فهل يشترط الأجل في عقد الاستصناع، باعتبار أنه عقد على مبيع موصوف في الذمة، يتطلب وقتًا؛ ليتمكن الصانع من صناعته، وتجهيزه، ومن ثم تسليمه؟ فهل يحتاج إلى اشتراط أن يذكر فيه أجل معلوم، بحيث لو لم يذكر الأجل أدى ذلك إلى الجهالة المفسدة للعقد، لعدم العلم بوقت التسليم، أو لا يشترط أن ينص فيه على الأجل ومدته؟ وللجواب على هذا يمكن أن يقال: إن كان الاستصناع مما لم يجر فيه التعامل فهو سلم قولًا واحداً، يحتاج إلى ذكر الأجل، وتسليم الثمن في مجلس العقد، والعقد فيه لازم، ويحتاج إلى ذكر جنسه، ونوعه وصفته، وقدره، وكل ما يؤدي إلى ضبطه كما هو الحال في شروط السلم (¬2). وإن كان المتعاقدان قد ذكرا الأجل، وكان المستصنع مما يجري فيه التعامل، فيرى أبو حنفية أنه لا يصح استصناعًا، وإنما يصح سلمًا، فيعتبر فيه شرائط السلم، وهو تقديم الثمن في المجلس، ولزوم العقد الخ ما ذكرناه من شروط السلم (¬3). ¬
وخالفه أبو يوسف ومحمد، وقالوا: هو استصناع، سواء ذكر فيه الأجل، أم لم يذكر (¬1). ¬
وجه قول أبي حنيفة
وجه قول أبي حنيفة: الوجه الأول: أن الأجل لا يثبت إلا في الديون، فلما ذكر فيه الأجل عرفنا أنه من قبيل بيع الدين، وبيع الدين لا يكون إلا سلمًا، وإن لم يذكر السلم صراحة، فالعبرة في العقود بالمعاني دون الألفاظ، ألا ترى أن الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة معنى، وإن لم يأت بلفظ الحوالة، كما أن البيع ينعقد بلفظ التمليك، وكذا الإجارة والنكاح، فالعبرة في العقود بمعانيها، بألفاظها (¬1). فإن قيل: كيف لا يكون الاستصناع دينًا، وهو عقد على موصوف في الذمة، فما تعلق بالذمة لا يكون عينًا، وإنما يكون دينًا. قيل: المقصود بالدين ما كشف عنه الكاساني، وهو كون العقد لازمًا. قال في بدائع الصنائع: "ولأن التأجيل يختص بالديون؛ لأنه وضع لتأخير المطالبة، وتأخير المطالبة إنما يكون في عقد فيه مطالبة، وليس ذلك إلا للسلم؛ إذ لا دين في الاستصناع، ألا ترى أن لكل واحد منهما خيار الامتناع من العمل قبل العمل بالاتفاق؟ " (¬2). فعلل عدم وجود الدين في الاستصناع؛ لأن لكل واحد منهما خيار الامتناع قبل العمل بالاتفاق. الوجه الثاني: إذا ذكر الأجل في عقد الاستصناع، كان العقد محتملاً للسلم، ومحتملًا ¬
وجه قول محمد وأبي يوسف
للاستصناع، وحمله على السلم مع الشك أولى؛ لأن جواز السلم ثابت بالسنة والإجماع بخلاف الاستصناع، فإن هناك من ينازع فيه (¬1). وجه قول محمَّد وأبي يوسف: الوجه الأول: أن العادة جارية بضرب الأجل في الاستصناع، وإنما يقصد به تعجيل العمل، لا تأخير المطالبة؛ فلا يخرج به عن كونه استصناعًا (¬2). الوجه الثاني: قد يقصد بضرب الأجل تأخير المطالبة، وقد يقصد به تعجيل العمل؛ فلا يخرج العقد عن موضوعه مع الشك والاحتمال، بخلاف ما لا يحتمل الاستصناع؛ لأن ما لا يحتمل الاستصناع لا يقصد بضرب الأجل فيه تعجيل العمل؛ فتعين أن يكون لتأخير المطالبة بالدين، وذلك بالسلم (¬3). الوجه الثالث: لو كان الاستصناع بذكر الأجل يحوله سلمًا، لصار السلم بحذف الأجل منه يصيره استصناعًا، ولو كان هذا الاستصناع سلمًا، لكان سلمًا فاسدًا؛ لأنه يشترط فيه صنعة صانع بعينه، وذلك مفسد للسلم (¬4). الراجح: الذي فهمت من خلاف الحنفية أنهم يتفقون على أن ذكر الأجل غير لازم، ¬
في عقد الاستصناع، ويختلفون في حال ذُكِر الأجل، هل يتحول إلى عقد سلم، أو يبقى استصناعًا؟ والذي أميل إليه أن ذكر الأجل لازم في العقد، وهو ما ذهب إليه مجمع الفقه الإِسلامي في قراره، حيث يقول: "يشترط في عقد الاستصناع ما يلي: (أ) بيان جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة. (ب) أن يحدد فيه الأجل ... " الخ ما ذكروا من الشروط، وسوف نسوق قرارهم كاملًا في فصل لاحق إن شاء الله تعالى. وإذا كان الخوف من ذكر الأجل: أنه يحوله إلى عقد لازم، ولا يكون لهما خيار الامتناع قبل الشروع في العمل، فإن ذلك الخوف لا مبرر له، إذا رجحنا أن عقد الاستصناع من الأصل عقد لازم من حين العقد، كما رجع إلى ذلك أبو يوسف، وكما مشت عليه مجلة الأحكام العدلية، والقول بأن الأجل يصيره إلى نوع من بيع الديون، فإنه كذلك -أعني أنه من قبيل بيع الدين- سواء ذكر الأجل، أو لم يذكر، ما دام أنه متعلق بالذمة؛ لأن الدين كما يكون مؤجلاً، يكون حالًا، وليس من لازم الدين أن يكون مؤجلًا، فإن حلوله أو تأجيله لا ينفي أنه دين، والقول بالأجل لا بد من الذهاب إليه، إذا عرفنا أن سوق الصناعة اليوم لا يمكن أن يقوم على القول بالخيار؛ لأن ذلك يضر بالصناع، فقد ينفقون أموالهم على الصناعة، ثم يرجع المستصنع، وقد لا يشتري السلعة أحد بناء على أن المواصفات التي طلبها الصانع هي طلبات خاصة، لا تناسب غالب الناس. ولا يلزم من كونه دينًا أن يكون سلمًا؛ لأن السلم عقد بيع محض، والاستصناع عقد مركب من إجارة وبيع، وهذا ما أخرجه عن عقد السلم، وليس ذكر الأجل، والله أعلم.
عقد المقاولة
عقد المقاولة تمهيد المبحث الأول في تعريف المقاولة تعريف المقاولة اصطلاحًا (¬1): لم يكن عقد المقاولة معروفاً بهذا الاصطلاح عند الفقهاء المتقدمين، حتى ولا معروفًا في القوانين كالقانون الفرنسي، والقانون المدني المصري القديم، فكانت أعمال المقاولات تندرج تحت عقد إجارة الأشخاص حتى جاء القانون المدني المصري الجديد لسنة 1948 م ففصل عقد المقاولة عن عقدين آخرين: هما عقد الإيجار، وعقد العمل. وتأثرت بذلك أغلب القوانين العربية بهذه التسمية (¬2). ¬
التعريف المختار
وقد عرفه مجمع الفقه الإِسلامي بتعريفه القانوني بأنه: "عقد يتعهد أحد طرفيه بمقتضاه بأن يصنع شيئًا، أو يؤدي عملًا مقابل بدل يتعهد به الطرف الآخر ... سواء قدم المقاول العمل والمادة، وهو المسمى عند الفقهاء بالاستصناع، أو قدم المقاول العمل، وهو المسمى عند الفقهاء بالإجارة على العمل" (¬1). التعريف المختار: المقاولة: عقد يلتزم أحد الطرفين بمقتضاه بصنع شيء، أو أداء عمل لقاء عوض دون أن يكون تابعًا له، أو نائبًا عنه. وهذا التعريف أضاف بعض القيود عن التعريف السابق، وهو أن المقاول ليس تابعًا لصاحب العمل، ولا نائبًا عنه، وقد أضاف هذا القيد القانون المدني الكويتي (¬2). فقولنا: (عقد) يخرج الوعد. وقولنا: (أن يصنع شيئًا) إشارة إلى ما يوجبه عقد المقاولة، فهو يوجب: أحد أمرين: الأول: التزام المقاول بصناعة شيء، كالأثاث المنزلي مثلًا، وهذا هو ما يسمى في الفقه الإِسلامي بعقد الاستصناع. الثاني: أداء العمل بإدارة المقاول، وهو ما يسمى بالفقه الإِسلامي: الأجير المشترك. ¬
وهو الذي يعمل لعامة الناس، كالصباغ والحداد، وليس لمن استأجره أن يمنعه عن العمل لغيره، فهو يعمل بإدارته مستقلًا عن صاحب العمل، وليس تابعًا له. وقولنا (دون أن يكون تابعًا له أو نائبًا عنه) فالمقاول لا يخضع لإدارة صاحب العمل، وإشرافه، بل يعمل مستقلًا طبقًا لشروط العقد المبرم بينهما، ومن ثم لا يعتبر المقاول تابعًا لصاحب العمل، ولا يكون صاحب العمل مسئولًا عن المقاول مسؤولية المتبوع عن التابع. وبهذا نعرف أن عقد المقاولة أعم وأشمل من عقد الاستصناع في الفقه الإِسلامي؛ لأن المقاولة تشمل صنع الأشياء، كما تشمل أداء الأعمال التي يستقل بها المقاول عن رب العمل، لذلك يشمل عقد المقاولة: التزام المرافق العامة، وعقود الأشغال العامة، وعقد النقل، وعقد النشر، وعقد التوريد، وعقد الإعلان، وعقود المهن الحرة، وعقد توريد النفط، والبحث عنه من خلال حفر الآبار، وكذلك توريد المياه والطاقة، والبحث عن مصادرها، وغيرها من التعهدات (¬1). فعقد المقاولة ضم عقدين مختلفين في الفقه الإِسلامي، وهما عقد الاستصناع، وأحكام الأجير المشترك، وضمهما إلى بعض في مسمى جديد، وهو عقد المقاولة، وأصبح عقد المقاولة شاملاً للعقدين السابقين الاستصناع والإجارة بصورة تستتبع الأخذ بهذا الاصطلاح الجديد تقريرًا للواقع، وتمشيًا مع العرف فيما لا يناقض آية قرآنية، أو سنة نبوية، مع إخضاع هذا العقد ¬
للأحكام الخاصة بعقد الاستصناع إذا كان من المقاول العمل والمواد معًا، أو بعقد الأجير المشترك إذا كان من المقاول العمل فقط (¬1). * * * ¬
المبحث الثاني في خصائص عقد المقاولة
المبحث الثاني في خصائص عقد المقاولة [م - 760] يتصف عقد المقاولة بالخصائص التالية: (1) أنه عقد رضائي، يشترط لانعقاده الرضا. (2) عقد المقاولة من عقود المعاوضات المالية. فقولنا (معاوضات) أخرج عقود التبرعات. وقولنا (مالية) أخرج النكاح، فإنه وإن كان من عقود المعاوضات إلا أن العوض فيه غير مالي. وإنما كان عقد المقاولة من عقود المعاوضة؛ لأن كلًا من طرفيه يأخذ مقابلًا لما يعطي، فالمقاول يتعهد بتقديم العمل، وقد يتعهد بتقديم المواد أيضًا مقابل عوض يدفعه الطرف الآخر. (3) عقد المقاولة يعتبر من العقود اللازمة. (4) عقد المقاولة عقد يرد على العمل في القانون، على خلاف بين الفقهاء فيما إذا كان تعهد المقاول بتقديم العمل والمواد معًا، سيأتي تحريره إن شاء الله تعالى. هذه تقريبًا أهم خصائص عقد المقاولة. * * *
الباب الأول في حقيقة المقاولة
الباب الأول في حقيقة المقاولة الفصل الأول في التوصيف الفقهي لعقد المقاولة [م - 761] اختلف العلماء المعاصرون في توصيف عقد المقاولة على قولين: القول الأول: هناك من يرى أن عقد المقاولة من العقود المستحدثة بصرف النظر عن التزام المقاول، هل يلتزم بتقديم العمل والمواد معًا، أو يلتزم بتقديم العمل دون المواد، ولا بد من الاعتداد بمشروعيته إذا توفرت فيه الأركان والشروط المعتبرة لمسيس الحاجة إليه في هذا الزمان. وكون عقد المقاولة يشبه الاستصناع، أو يشبه عقد الإيجار هذا شبه عارض لا يختلف في حقيقته عن ذلك الشبه الذي يجده المرء بين العقود القديمة ذاتها. فعلى سبيل المثال من الوارد أن يجد المرء ثمة تشابهًا بين شركة العنان، وشركة المفاوضة باعتبار أن كل واحدة منهما تقوم على الخلط بين المالين بيد أنه من المعروف أن لكل واحدة منهما كيانها الخاص، وأنهما تختلفان في قضايا أخرى متصلة بحقيقتهما وجوهرهما مما يحتم عدم إلحاق إحداهما بالأخرى في الحكم. فإذا أسقطنا عقد الاستصناع على عقد المقاولة كنا محكومين بالشروط التي وضعها الحنفية في عقد الاستصناع، من ذلك أن يجري العمل فيه بين الناس؛
لأن عقد الاستصناع جرى على خلاف القياس عندهم، بينما هذا الشرط ليس قائمًا في عقد المقاولة، كما يرى جمهور الحنفية أن عقد الاستصناع عقد غير لازم قبل البدء بالعمل من الجانبين، وعقد المقاولة ليس كذلك. وهكذا ... وإلى هذا القول ذهب الدكتور مصطفى سانو (¬1)، والدكتور محمَّد جبر الألفي (¬2)، وفضيلة الشيخ محمَّد النجيمي (¬3). واستشهد النجيمي بكلام لابن القيم حيث يقول: "إن الفقهاء قد أتعبوا أنفسهم وأضاعوا أوقاتهم في أنهم يحاولون تخريج العقود المستحدثة على عقود قديمة، ولو اعتبروها عقودًا جديدة وبحثوها من هذا الجانب لكان في ذلك اختصار للأوقات وحفظ للأوراق" (¬4). ¬
القول الثاني: يقابله قول آخر يرى أن عقد المقاولة هو استبدال لعقد الاستصناع من كل الوجوه، وليس ثمة فرق بين المقاولة والاستصناع سوى الاسم. وقد ذهب إلى هذا مجموعة من الباحثين منهم الدكتور أحمد يوسف، والدكتور محمَّد رواس قلعجي (¬1). يقول الدكتور محمَّد رواس قلعجي ما نصه: "ما يعرف اليوم بعقد المقاولة هو نفسه الذي كان يعرف في القديم عند الفقهاء بعقد الاستصناع" (¬2). وهذا الكلام مقبول حيث تكون المواد من الصانع، أما حيث تكون المواد من صاحب العمل فهي مقاولة وليست استصناعًا. جاء في بدائع الصنائع: "فإن سلم حديدًا إلى حداد ليعمل له إناء معلومًا بأجر معلموم، أو جلدًا إلى خفاف ليعمل له خفًا معلومًا بأجر معلوم، فذلك جائز، ولا خيار فيه؛ لأن هذا ليس باستصناع، بل هو استئجار" (¬3). القول الثالث: هناك فريق من العلماء ينظر في توصيف عقد المقاولة إلى طبيعة التزام المقاول، فإن كان تعهد المقاول على أن يقدم العمل والمادة معاً، فإن العقد يكون استصناعًا، وإن كان تعهد المقاول على أن يقدم العمل فقط، والمادة من رب العمل، فإن العقد سيكون من قبيل الأجير المشترك، وكلاهما يجتمعان تحت اسم عقد المقاولة. ¬
اختار هذا القول مجموعة من الباحثين، قال الشيخ الصديق الضرير: "عقد المقاولة قد يتعهد فيه المقاول بصنع شيء على أن يقدم رب العمل له المادة، ويقوم هو بالعمل فقط، وقد يتعهد فيه بالعمل والمادة معاً، فالعقد في الصورة الأولى إجارة في الفقه الإِسلامي، وفي الصورة الثانية استصناع" (¬1). وبه صدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي، رقم 129 (3/ 14) وفيه: "عقد المقاولة عقد يتعهد أحد طرفيه بمقتضاه بأن يصنع شيئًا، أو يؤدي عملًا مقابل بدل يتعهد به الطرف الآخر -وهو عقد جائز سواء قدم المقاول العمل والمادة، وهو المسمى عند الفقهاء الاستصناع، أو قدم المقاول العمل، وهو المسمى عند الفقهاء بالإجارة على العمل" (¬2). ¬
المبحث الأول في توصيف العقد إذا كان العمل والمواد من المقاول
المبحث الأول في توصيف العقد إذا كان العمل والمواد من المقاول [م - 762] إذا التزم المقاول بتقديم العمل والمواد. مثاله: أن يتعاقد شخص مع نجار على أن يصنع له مكتبًا، ويقدم النجار الخشب من عنده. أو تعهد الحائك بخياطة ثوب على أن يكون القماش من الحائك. فهذا ما يسمى عند الحنفية بعقد الاستصناع. ولذلك استعملت مجلة الأحكام العدلية لفظ المقاولة في تعريف الاستصناع، فقالت: "الاستصناع عقد مقاولة مع أهل الصنعة على أن يعمل شيئًا، فالعامل: صانع، والمشتري: مستصنع، والشيء مصنوع" (¬1). وقالت في نص آخر: "لو تقاول مع صاحب معمل أن يصنع له شيئًا كذا بندقية كل واحدة بكذا قرشًا، وبيَّن الطول والحجم وسائر أوصافها اللازمة، وقبل صاحب العمل انعقد الاستصناع" (¬2). ورجحه الشيخ الضرير (¬3). واختلف العلماء في توصيف العقد في هذه الصورة إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: أن العقد عقد بيع على عين موصوفة في الذمة، والعمل تبع. وهذا هو المشهور من مذهب الحنفية في توصيف عقد الاستصناع. ¬
قال الكاساني في تعريف عقد الاستصناع: هو عقد على مبيع في الذمة، شرط فيه العمل (¬1). قال السرخسي: "والأصح أن المعقود عليه المستصنع فيه -يعني العين- وذكر الصنعة (العمل) لبيان الوصف ... " (¬2). وجاء في فتح القدير: "المعقود عليه العين دون العمل" (¬3). وقال ابن عابدين عن عقد الاستصناع: "بيع عين موصوفة في الذمة، لا بيع عمل، أي لا إجارة على العمل .. " (¬4). فالمراد: بالعين عندهم باعتبار ما سيكون، وهو الثوب بالنسبة للحائك، والأثاث بالنسبة للنجار. وقد بينا هذا القول مع دليله في عقد الاستصناع. والسبب في اعتبار عقد الاستصناع من عقود البيع أمران: الأول: أنه من عقود الملكية. وهذا طبيعة عقد البيع فإنه ينقل الملكية، بحيث تنتقل ملكية العين المصنوعة من الصانع إلى المستصنع بخلاف عقد المقاولة فإنه يرد على العمل. الثاني: أن المستصنع يصنع الشيء لحسابه، ثم يبيعه على المستصنع بعد ذلك بدليل أن النجار لو استصنع الشكل المطلوب، وباعه على آخر لم يمنع ذلك. جاء في العناية: "لو باعه الصانع قبل أن يراه المستصنع جاز ... " (¬5). ¬
ونوقش هذا
وقال السرخسي: "وإن باعه الصانع، قبل أن يراه المستصنع، فبيعه جائز؛ لأنه باع ملك نفسه، فالعقد لا يتعين في هذا المصنوع قبل أن يراه المستصنع .. " (¬1) .. ونوقش هذا: بأن كون عقد الاستصناع يرد على الملكية لا يعني أنه خرج عن عقد المقاولة، فالعقود الواردة على الملكية لا تقتصر على البيع، فهناك الشركة، والقرض، والصلح كلها عقود ترد على الملكية، وليست بيعًا فكذلك المقاولة إذا اتخذت صورة الاستصناع بأن كان محلها صنع شيء من مواد يقدمها المقاول، فتبقى مقاولة وإن كانت قد ترد على الملكية. وأما كون الصانع يحق له أن يبيع الشيء الذي صنعه لغير من عمل له فهذا ليس لأنه ليس بيعًا، وإنما لكون حق المشتري قد تعلق بذمة الصانع، ولم يتعلق بعين معينة، ألا ترى أن المسلم فيه يستطيع المسلم إليه أن يبيعه قبل أن يتعين للوفاء باعتبار أن المسلم فيه في ذمة المسلم، والله أعلم. القول الثاني: أن عقد المقاولة مطلقًا وارد على العمل، والمادة متابعة للعمل، وهذا قول في مذهب الحنفية (¬2). قال السنهوري: " رأي يذهب إلى أن العقد عقد مقاولة دائمًا، والمادة ليست إلا متابعة للعمل، وتكون المقاولة في هذه الحالة ملزمة للصانع بصنع الشيء المطلوب، فتقع على العمل، وهي في الوقت ذاته تقع على الشيء المصنوع، ¬
واستدلوا: بعدة أدلة منها
فتنقل ملكيته إلى رب العمل، ولا تخرج مع ذلك عن نطاق المقاولة؛ إذ إن تملك رب العمل للشيء الذي صنعه المقاول ليس إلا نتيجة ضرورية لازمة لكون المقاول يقوم بالصنع لحساب رب العمل، والعقود الواردة على الملكية كما قلنا: لا تقتصر على البيع، فهناك الشركة، والقرض، والدخل الدائم، والصلح، وكذلك المقاولة إذا اتخذت صورة الاستصناع بأن كان محلها صنع شيء من مواد يقدمها المقاول" (¬1). واستدلوا: بعدة أدلة منها: أولاً: الاستصناع: اشتقاق من الصنع، وهو العمل، فتسمية العقد به دليل على أنه هو المعقود عليه، والمادة فيه بمنزلة الآلة للعمل. ثانيًا: بعض الأجراء العاملين (الأجير المشترك) أصحاب المهن تقتضي طبيعة عمله أن يضع من عنده المادة التي يستلزمها عمله المستأجر عليه كالصباغ، فإنه يدفع إليه الثوب، أو الغزل ليصبغه باللون المطلوب بصبغ يضعه من عنده، ولا يقدمه له صاحب الثوب، كما يفعل الصانع في الاستصناع، ولم يخرجه هذا عن أن يكون أجيراً، وعقد عمله إجارة (¬2). ثالثًا: لو كان عقد الاستصناع من عقود البيع، لما بطل العقد بموت الصانع، كما هو مجمع عليه عند الحنفية. ونوقش هذا: إذا وردت المقاولة على الملكية فنقلتها فذلك دليل على أن المقاولة قد ¬
اختلطت بعقد آخر، وهذا العقد الآخر الذي نقل الملكية في نظير مقابل لا يمكن إلا أن يكون بيعًا، وإذا كان صحيحًا أن المقاول له أن يتعهد بصنع شيء يقدم فيه العمل والمادة معًا، ويكون مسئولًا عن جودة المادة وعليه ضمانها لرب العمل فليس معنى ذلك أن المقاولة تبقى مقاولة محضة في هذه الظروف، ولا يوجد ما يمنع من أن تختلط المقاولة بعقد آخر، وهو الذي يقع على المادة دون العمل، ويصح مع ذلك أن المقاول هو الذي قدم المادة، ويكون له بذلك دوران: دور البائع الذي قدم المادة، ودور المقاول الذي قدم العمل (¬1). واجتماع البيع والإجارة فيه خلاف بين أهل العلم. فقيل: لا يجوز مطلقًا، وهو مذهب الحنفية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3). وقيل: يجوز مطلقًا، وهو مذهب المالكية، والراجح في مذهب الشافعية (¬4). جاء في المدونة: "أرأيت إن استأجرت رجلاً على أن يبني لي دارًا على أن الجنة والآجر من عند الأجير؟ قال: لا بأس بذلك. قلت: وهو قول مالك. قال: نعم. قلت: لم جوزه مالك؟ قال: لأنها إجارة، وشراء جص وآجر صفقة واحدة. ¬
القول الثالث
قلت: وهذا الآجر لم يسلف فيه، ولا هذا الجص، ولم يشتر شيئاً من الآجر بعينه، ولا من الجص بعينه، فلم جوزه مالك؟ قال: لأنه معروف عند الناس ما يدخل في هذه الدار من الجص والآجر، فلذلك جوزه مالك" (¬1). وقيل: يجوز الجمع بين عقد البيع والإجارة بعوض واحد، ولا يجوز أن يبيعه وأن يشترط عليه عقد الإجارة، وهذا مذهب الحنابلة (¬2). والصحيح جواز الجمع بين البيع والإجارة سواء كان الجمع بينهما بشرط أو بغير شرط؛ لأنه لا يوجد محذور شرعي من اجتماع البيع والإجارة بعقد واحد، والإجارة نوع من البيع إلا أنها بيع منافع، والله أعلم. وأما القول بأن عقد الاستصناع لو كان من عقود البيع لما بطل العقد بموت الصانع، فقد سبق الجواب عليه في عقد الاستصناع، وبينت أن عقد الاستصناع لما كان مركبًا من بيع وإجارة، ففي موت الصانع نظر إلى شبه العقد بالإجارة باعتبار أن العمل ركن أساسي في العقد، ولشبهه بالبيع في كونه ينقل الملكية، ويجري فيه خيار الرؤية كان له حكم البيع، لذا لا يمكن أن يكون بيعًا فقط، ولا إجارة فقط، بل هو مركب منهما. القول الثالث: هذا القول يذهب إلى أن العقد يكون مقاولة أو بيعًا بحسب نسبة قيمة المادة إلى قيمة العمل، استنادًا إلى أن الفرع يتبع الأصل، فإذا كان العمل هو الأصل ¬
القول الرابع
تبعته المادة، وكان العقد مقاولة، وإذا كانت المادة هي الأصل تبعها العمل، وكان العقد بيعًا. يتضح ذلك بالمثال: فالرسام الذي يتعهد بالرسم على أن يكون منه القماش والورق والألوان التي يرسم بها، فالعقد عقد مقاولة؛ لأن هذه الخامات أقل بكثير من قيمة عمل الرسام. وأما إذا تعهد شخص بتوريد سيارة بعد أن يقوم فيها ببعض إصلاحات طفيفة، فالعقد بيع. وهذا ما رجحه السنهوري (¬1). القول الرابع: أنه مقاولة ابتداء، وبيع انتهاء. اختار هذا بعض الحنفية (¬2). الراجح: أقوى الأقوال أن العقد وارد على العمل، والمواد متابعة له، والعقد بهذا التوصيف يحل لنا إشكالًا فقهيًا، كيف جاز عقد الاستصناع مع كون العقد من قبيل بيع الدين بالدين، حيث إن المبيع -وهو العمل- واجب في ذمة المقاول، والثمن إذا لم يسلمه المشتري وكان نقدًا فإنه يكون دينًا في ذمة المشتري، فيكون عقد الاستصناع من قبيل بيع الدين بالدين؟ وللجواب على ذلك يقال: لما كان العقد واردًا على العمل فقد أجاز الحنابلة والحنفية كما سيأتي عدم تسليم الثمن في الإجارة المعقودة في الذمة حتى يسلم العمل، وهذا أحد الأحكام التي تخالف فيها الإجارة حكم البيع، والله أعلم. وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى. ¬
المبحث الثاني أن يقدم المقاول العمل فقط
المبحث الثاني أن يقدم المقاول العمل فقط [م - 763] إذا التزم العامل (المقاول) بتقديم العمل دون المواد التي يحتاج إليها العمل. مثاله: أن يحضر صاحب العمل قماشًا، ويطلب من الخياط أن يصنع منه ثوبًا، أو يحضر خشبًا، ويطلب من النجار أن يصنع له غرفة نوم. ويلحق به فيما لو جرى العرف أن الأجير يضع مواد تافهة من عنده مما يحتاج إليه المصنوع، كالمسمار يكون من النجار، وكالخيط يكون من الخياط، وكالصبغ يكون من الصباغ. ومثله لو كان المقاول يشتري المواد بتفويض من صاحب العمل، ويقدم بها فواتير ليدفع ثمنها صاحب العمل، ثم يقوم المقاول بصنع شيء محدد من تلك المواد مقابل أجر معلوم، فالمواد في هذه الحالة تعتبر من صاحب العمل، وليست من المقاول. وقد اختلف العلماء في توصيف هذا العمل على قولين: القول الأول: يرى أن العقد من قبيل عقد الجعالة. وقد تفرد بهذا فضيلة الشيخ رفيق ابن يونس المصري. قال في كتابه الجامع في أصول الربا: "عقد المقاولة: اتفاق يتعهد بمقتضاه أحد المتعاقدين بأن يصنع للمتعاقد الآخر شيئاً، أو أن يؤدي عملاً بمقابل مالي
القول الثاني
يتعهد به هذا المتعاقد الآخر. فعقد المقاولة بهذا يشبه عقد الجعالة في الفقه الإِسلامي إذا كان المقاول يقدم العمل فقط ... " (¬1). ولعل ذلك من قبيل التسامح في العبارة، وإلا فإن هناك فرقًا بين الجعالة والإجارة؛ لأن الجعالة: هو أن يجعل جائز التصرف شيئًا معلومًا لمن يعمل له عملًا معلومًا أو مجهولًا في مدة معلومة أو مجهولة، فلا يشترط العلم بالعمل، ولا المدة، ولا تعيين العامل للحاجة. والجعالة: عقد جائز من الطرفين، لكل واحد من المتعاقدين فسخها بخلاف عقد المقاولة، فهو عقد لازم ولا بد من بيان العمل في عقد المقاولة بيانًا تنتفي معه الجهالة. وقد استخدم بعض الفقهاء لفظ الجعل مقام الأجرة، فيعتذر بمثل ذلك للأستاذ رفيق المصري، والله أعلم. قال ابن المنذر: أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الحمالة بجعل يأخذه الحميل لا تحل، ولا تجوز ... الخ كلامه ويقصد بالجعل الأجرة (¬2). وقال الدردير: "وأما صريح ضمان بجعل فلا خلاف في منعه ... " (¬3). ويقصدون بالجعالة هنا الأجرة. القول الثاني: يرى أن العقد يكون من قبيل الإجارة على العمل، اختاره جماعة من ¬
الوجه الأول
الباحثين، وبه صدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي. والأجير في عقد المقاولة أجير مشترك وليس خاصًا. وعرف الأجير المشترك: هو من يكون عقده واردًا على عمل معلوم ببيان محله، ويعمل للمؤجر ولغيره كالنجار، والحداد، والبناء، والقصار. والأجير الخاص: من يكون العقد واردًا على منافعه، ولا تفسير منافعه معلومة إلا بذكر المدة بحيث تكون منافعه مستحقة للمستأجر في تلك المدة (¬1). والفرق بين الأجير المشترك والخاص من وجوه: الوجه الأول: أن الأجير المشترك يشترك الناس في منفعته بخلاف الخاص حيث يختص المستأجر بمنفعته مدة العقد دون سائر الناس. الوجه الثاني: أن العقد في الأجير المشترك وارد على العمل، فمنافعه ليست مستحقة للمستأجر، بخلاف الخاص فإن العقد وارد على المنفعة، فمنافعه مستحقة للمستأجر خلال مدة الإجارة. وينبني على هذا الفرق التالي: الوجه الثالث: أن الأجير المشترك يستحق الأجرة بالعمل، لا بتسليم النفس؛ لأنه يعمل للعامة، ولأن المعقود عليه هو العمل فلا يستحق أجرة إذا لم يعمل، وأما ¬
الوجه الرابع
الأجير الخاص فيستحق الأجرة بالوقت دون العمل، فإذا سلم نفسه في الوقت وإن لم يعمل فقد استحق الأجرة؛ لأن المعقود عليه هو منفعته. الوجه الرابع: يضمن الأجير المشترك إذا كان التلف بسبب يرجع إلى الصنعة على الصحيح، سواء أكان متعديًا أم لم يكن، وسواء تجاوز المعتاد أم لم يتجاوز؛ لأن ما يدخل تحت عقد الإجارة هو العمل السليم، وأما العمل الفاسد فلا يدخل تحت الإجارة، وأما ما تلف بسبب لا يرجع إلى الصنعة كالحفظ ونحوه فلا يضمنه إن لم يكن منه تعد أو تفريط (¬1). وأما الأجير الخاص فلا يضمن مطلقاً إلا بالتعدي والتفريط؛ لأنه أمين، ولأن المنافع مملوكة للمستأجر، فإذا أمره بالتصرف في ملكه صح، ويصير فعله منسوبًا إلى المؤجر كأنه فعله بنفسه، فلهذا لا يضمن، وهذا بالاتفاق. الوجه الخامس: لا يجوز للأجير الخاص أن يستأجر غيره بإنجاز ما استؤجر عليه؛ لأن العقد وقع على منافعه نفسه، لا على عمل غيره، ويجوز للأجير المشترك إذا لم يشترط عليه العمل بنفسه أن يكلف غيره بذلك العمل. الوجه السادس: لا بد من بيان العمل المعقود عليه في المقاولة علمًا ينفي الجهالة، ويقطع النزاع، وأما الأجير الخاص فليس من شرطه أن يكون معلومًا من كل الوجوه، فيكفي أن يستأجره للبناء يومًا أو شهرًا، أو سنة، أو نحو ذلك دون بيان لمقدار ¬
ما سوف يبنيه، والأجراء يتفاوتون، فقد يبني أحدهم في يوم ما يبنيه الآخر في يومين أو في ثلاثة. وهكذا (¬1). ¬
الفصل الثاني في الحكم الفقهي للمقاولة
الفصل الثاني في الحكم الفقهي للمقاولة [م - 764] عقد المقاولة إما أن يعتبر عقدًا جديدًا، أو يعتبر من العقود المسماة. فإن اعتبرناه عقدًا جديد، فإن الصحيح من أقوال أهل العلم جواز إحداث عقود جديدة. لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]. ولأن "الأمور قسمان: عبادات ومعاملات، فالعبادات الأصل فيها التحريم؛ لأن التعبد لا بد فيه من الإذن الشرعي على فعله، ولهذا ذم الله سبحانه وتعالى المشركين الذين شرعوا لهم دينًا من قبل أنفسهم، فقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. وأما المعاملات فالأصل فيها الحل، حتى يأتي دليل شرعي يمنع من ذلك لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، فالبيع مطلق يشمل كل بيع إلا ما دل الدليل الخاص على تحريمه. وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. فلم يشترط إلا مجرد الرضا. فإذا كانت العقود والشروط من باب الأفعال العادية، فالأصل فيها عدم التحريم، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم، كما أن
الأعيان الأصل فيها عدم التحريم، وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]، عام في الأعيان والأفعال، وإذا لم تكن حراما لم تكن فاسدة؛ لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم، وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة، وأيضًا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط إلا ما ثبت حله بعينه" (¬1). وقد عقدت فصلاً في الأدلة على جواز إحداث عقود جديدة في كتاب عقد البيع فأغنى عن إعادته هنا. وإن اعتبرنا عقد المقاولة من العقود المسماة، فإنه سوف يأخذ حكم عقدين في الفقه الإِسلامي: الأول منهما: عقد الاستصناع إن كان المقاول قد تعهد بتقديم المواد من عنده، وقد ذكرنا الخلاف في جواز عقد الاستصناع، وبينا أن الراجح جوازه عند الكلام على عقد الاستصناع فلا حاجة إلى إعادته. الثاني: عقد الأجير المشترك إن كان صاحب العمل قد تعهد بتقديم المواد من عنده. والأدلة على جواز عقد الأجير المشترك من القرآن والسنة وإجماع الأمة. أما القرآن فقال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. وقال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 26، 27]. ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قوله تعالى: {اسْتَأْجِرْهُ} أي اجعله أجيرًا لك، وقوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} [القصص: 27]، أي تصير أجيرًا عندي. وقال تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77]. وقال تعالى: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94]. ومن السنة أحاديث كثيرة، أختار منها: (ح-544) ما رواه البخاري من طريق سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة وذكر منهم رجلاً استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعط أجره. (ح-545) ومنها ما رواه البخاري من طريق عروة عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: واستأجر رسول الله رجلاً من بني الديل هاديًا خريتًا، وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما، ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث. (ح-546) ومنها ما رواه البخاري من طريق مالك، عن حميد، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: حجم أبو طيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر له بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا من خراجه (¬1). وأما الإجماع فقد حكاه غير واحد من أهل العلم على جواز الإجارة، منهم العراقي في طرح التثريب (¬2)، وابن المنذر (¬3)، وغيرهم. ¬
وقال ابن قدامة: "أجمع أهل العلم في كل عصر وكل مصر على جواز الإجارة إلا ما يحكى عن عبد الرحمن بن الأصم أنه قال: لا يجوز ذلك؛ لأنه غرر، يعني أنه يعقد على منافع لم تخلق، وهذا غلط لا يمنع انعقاد الإجماع الذي سبق في الأعصار وسار في الأمصار ... " (¬1). ¬
الباب الثاني في شروط المقاولة
الباب الثاني في شروط المقاولة لما كانت المقاولة من عقود المعاوضات اشترط فيها العلماء ما اشترطوا في عقود المعاوضات من شروط عامة، سواء منها ما يتعلق بالانعقاد أو بالنفاذ، أو باللزوم، أو بالصحة، ومن ذلك: (1) [م - 765] أن يكون العاقد مختارًا، فيشترط في كل من العاقدين في عقد المقاولة أن يكون مختارًا للعقد، اختيارًا يدل على الرضا المنافي للإكراه. وإنما قلت: (اختيارًا يدل على الرضا المنافي للإكراه) لأنه قد جرى خلاف بين الحنفية والجمهور، في التفريق بين الرضا والاختيار كما سبق بيانه في عقد البيع. والدليل على اشتراط الرضا (الاختيار) في العقود. من القرآن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ". فقوله: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، الجملة صفة لتجارة، أي تجارة صادرة عن تراض بالعقد (¬1). وإذا كان الرضا شرطاً في صحة العقد، فلا بد أن يكون الرضا خاليًا من كل ما ينافيه، كالإكراه، والغلط، والتدليس، والغبن. فالإكراه، بحيث لو خلي المكره بينه وبين إرادته لم يرض بالعقد. ¬
والغلط بحيث لو علم من وقع في الغلط ما أقدم على التعاقد. والتدليس على المتعاقد بحيث لو تكشفت الحقيقة للمتعاقد المدلس عليه (المخدوع) ما أقدم على التعاقد. أو وقع في غبن فاحش، فهذه العيوب كلها تنافي الرضا، وقد سماها بعض القانونيين عيوب الإرادة، وبعضهم يسميها العيوب التي تلحق الرضا، وسبق أن تعرضت لها بالتفصيل في عقد البيع فأغنى عن إعادتها هنا. (2) [م - 766] أهلية المتعاقدين بحيث يكون كل واحد من المتعاقدين صالحًا لصدور الفعل منه على وجه يعتد به شرعًا، وهو ما يسمى بأهلية الأداء. والأهلية الكاملة: هي في حق المكلف الحر الرشيد. والمكلف: هو البالغ العاقل. فقيد العقل: أخرج المجنون والسكران حال سكره، والمعتوه. وقيد الحرية: أخرج العبد. وقيد البلوغ: أخرج الصبي. والمقصود بالرشد هو الرشد في المال، وذلك بحفظه وإصلاحه، ولا يدخل فيه الرشد في الدين، ولو كان صلاح الدين شرطًا في الرشد لوجب الحجر على المنافقين والمبتدعة، بل يجب الحجر على كل من اغتاب مسلمًا ولم يتب من هذه المعصية وذلك لارتكابه كبيرة من كبائر الذنوب، ويجب الحجر على كل من كذب في بيعه، أو غش فيه. فتلخص لنا أنه يشترط في العاقد أن يكون جائز التصرف، وهو الحر المكلف الرشيد، وهذا لا خلاف في نفوذ تصرفاته، كما أن المجنون لا خلاف في أنه لا يصح بيعه، وشراؤه، وسائر تصرفاته العقدية.
القسم الأول
واختلفوا في تصرف الصبي المميز، والسكران، والسفيه، والمعتوه، وقد سبق لنا تفصيل أحكامهم في عقد البيع، وغيره مقيس عليه، فأغنى عن إعادته هنا. (3) [م - 767] أن يكون القبول موافقًا للإيجاب. جاء في الموسوعة الكويتية: "اتفق الفقهاء على أنه لا بد لانعقاد العقد من توافق الإيجاب والقبول" (¬1). (4) [م - 768] ألا يفصل بين القبول والايجاب فاصل يدل على الإعراض. وعدم الرضا. (5) [م - 769] ألا يرجع الموجب قبل صدور القبول. وهذا الشرط مختلف فيه بين المالكية والجمهور، وسبق تحرير الخلاف في المجلد الأول من عقد البيع. (6) [م - 770] أن يكون المحل المعقود عليه مشروعًا في نفسه. فلا يجوز عقد المقاولة على ما لا نفع فيه. أو كان محرمًا، أو كان الغالب على منافعه التحريم. فلا يجوز إنشاء المقاولة على إنشاء وتعمير مصانع للخمور، أو على مراقص مختلطة، أو على إقامة نواد ليلية، أو على صالات للعب القمار ونحو ذلك. ويمكن تقسيم الأشياء المعقود عليها بحسب منافعها إلى أقسام: القسم الأول: ما لا منفعة فيه أصلًا، فلا يجوز عقد المقاولة عليه، وهذا ينبغي ألا يكون فيه خلاف. ¬
القسم الثاني
القسم الثاني: ما كان جميع منافعه محرمة، وهذا في الحكم بمنزلة ما لا منفعة فيه؛ لأن المنفعة المحرمة وجودها كعدمها. القسم الثالث: ما فيه منافع مباحة، ومنافع محرمة، وهذا القسم هو الذي يكثر فيه الخلاف، ويمكن تقسيمه إلى أقسام: (أ) أن يكون جل منافعه، والمقصود منها محرمًا، والحلال منها تبعًا، فهذا يلحق بالقسم المنهي عنه، ولذلك قال تعالى عن الخمر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. (ب) أن يكون جل المنافع والمقصود منها حلالاً، والمحرم تبعًا، فيلحق بالقسم الجائز، كما في بعض المقاولات التي فيها غرر يسير، أو غير مقصود. (ج) أن يكون فيه منافع مقصودة حلال، وفيه منافع مقصودة حرام، فهذا قد يختلف الحكم بحسب الباعث على العقد. فإن كان الباعث على العقد هو الغرض المحرم حرم العقد وإلا كان العقد مشروعًا. كالمقاولة على صنع السلاح. فقد يكون حرامًا وقد يكون حلالًا بحسب الباعث والغرض الذي من أجله حرر العقد (¬1). [م - 771] وقد اختلف الفقهاء باعتبار الباعث لحل العقد وحرمته، ولتحرير الخلاف في هذه المسألة نذكر محل الاتفاق، ثم نذكر محل الخلاف: ¬
الحال الأول
الحال الأول: أن تكون صيغة العقد (الإيجاب والقبول) قد تضمنت النص الصريح على ذكر الباعث على هذا العقد، وكان الباعث غير مشروع فعقد المقاولة غير مشروع. فإذا قال: اصنع لي سلاحًا؛ لأقتل به معصومًا، أو قال: أقاولك على بناء هذا المكان لأتخذه مكانًا لبيع الخمور، أو لأقيم عليه كنيسة، أو غير ذلك من الأمور غير المشروعة، فالمقاولة في مثل هذه الحالة لا تصح قولًا واحداً؛ لأن المقاولة لو صحت في مثل هذه الحالة، لكان ذلك مضافًا إلى الشارع من حيث إنه شرع عقدًا موجبًا للمعصية، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا (¬1). ¬
الحالة الثانية
ولأن تمكين العاقد من فعله المحرم إعانة له على ذلك الباطل، والإعانة على الحرام تجعله شريكًا له في الفعل. قال تعالى: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17]. وقال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. الحالة الثانية: إذا لم يذكر الباعث على العقد في صيغة العقد، ولكن علم البائع، أو غلب على ظنه من القرائن، وظروف الحال، أن المشتري يريد من عقد المقاولة العمل المحرم، كما لو كان العاقد مصرفًا ربويًا، فهل يصح العقد والحالة هذه. هذه المسألة إن كان الأمر من قبيل الشك، والاحتمال فلا يحرم العقد. وإن كان المقاول علم قصد صاحب العمل بذلك بقرائن خاصة، أو أخبار صحيحة، أو غلب على ظنه من حال الرجل (¬1)، ففي هذه المسألة خلاف بين الفقهاء: ¬
فقيل: العقد باطل، وهو مذهب المالكية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: العقد صحيح، وهل يحرم مع الصحة، قيل: إن تحقق أنه يشتري المباح لفعل المعصية حرم على الصحيح، وإلا كره، وهذا مذهب الشافعية (¬3)، وهو قول الحسن، وعطاء، والثوري (¬4). ¬
وجه التفريق
وقيل: يصح بيع العنب لمن يعصره خمرًا، ولا يصح بيع السلاح على أهل الفتنة، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وجه التفريق: أن العنب لا تقوم المعصية بعينه، بل بعد تغيره، فجاز بيعه، وأما السلاح في الفتنة فتقوم المعصية بعين السلاح، فمنع من بيعه، ولذلك لو اشترى حديدًا ليصنع منه سلاحًا، لجاز بيعه، ولم يكن هناك فرق بين العنب والحديد. وقد ذكرنا أدلة الفريقين في عقد البيع فأغنى عن إعادته هنا. (7) [م - 772] أن يكون المعقود عليه في المقاولة معلومًا للمتعاقدين، وذلك بذكر طبيعته وأوصافه وتبيين ذلك تبيانًا كافيًا بحيث لا يكون في العقد جهالة تؤدي إلى النزاع، فإذا كان التعاقد على ترميمات ذكر الشيء الواجب ترميمه، وإذا كان التعاقد على بناء كان الواجب بيانه من خلال التصميمات الموضوعة له، وهي الرسوم التي يضعها المهندس المعماري من مشروع ابتدائي، ورسوم نهائية تفصيلية، ويقترن بالتصميمات دفتر الشروط لبيان الأعمال المطلوبة وشروط تنفيذها، وتبيين جميع مقاسات البناء الوصفية والتقديرية (¬2). لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. فاشترطت الآية الرضا، والرضا لا يتعلق إلا بمعلوم. ولأن الإقدام على المجهول غرر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر، وهو أصل متفق عليه في الجملة. ¬
(ح-547) لما رواه مسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر (¬1). جاء في بدائع الصنائع: "ومنها -أي من شروط الصحة- بيان العمل في استئجار الصناع والعمال؛ لأن جهالة العمل في الاستئجار على الأعمال جهالة مفضية إلى المنازعة فيفسد العقد، حتى لو استأجر عاملًا ولم يسم له العمل من القصارة، والخياطة، والرعي ونحو ذلك لم يجز العقد، وكذا بيان المعمول فيه في الأجير المشترك، إما بالإشارة والتعيين، أو ببيان الجنس والنوع والقدر والصفة في ثوب القصارة والخياطة، وبيان الجنس والقدر في إجارة الراعي من الخيل، أو الإبل، أو البقر، أو الغنم وعددها؛ لأن العمل يختلف باختلاف المعمول، وعلى هذا يخرج ما إذا استأجر حفارا ليحفر له بئرًا أنه لا بد من بيان مكان الحفر، وعمق البئر، وعرضها؛ لأن عمل الحفر يختلف باختلاف عمق المحفور وعرضه ومكان الحفر من الصلابة والرخاوة فيحتاج إلى البيان ليصير المعقود عليه معلومًا" (¬2). (8) [م - 773] وأن يكون العمل المقاول عليه ممكنًا بحيث يكون المقاول قادرًا إما بنفسه أو بغيره على القيام بالمعقود عليه وتسليمه في الميعاد المتفق عليه؛ لأن الالتزام بالمستحيل باطل، والدخول في العقد حينئذ يكون من أكل أموال الناس بالباطل. وقولنا: إما بنفسه أو بغيره إشارة إلى أن المعقود عليه إذا كان مستحيلًا بالنسبة للعاقد، ولكنه ليس مستحيلًا في ذاته أمكن عقد المقاولة عليه؛ لأن المحل ممكن في ذاته. ¬
ويلحق بالاستحالة الحسية الاستحالة الشرعية، قال الغزالي: "والعجز شرعاً كالعجز حسًا، فلو استأجر على قلع سن صحيحة، وقطع يد صحيحة، أو استأجر حائضًا على كنس مسجد فهو فاسد؛ لأن تسليمه شرعاً متعذر" (¬1). * * * ¬
الباب الثالث في الالتزلمات الناشئة عن عقد المقاولة
الباب الثالث في الالتزلمات الناشئة عن عقد المقاولة الفصل الأول في التزام المقاول يلتزم المقاول بثلاثة أشياء: 1 - التزام المقاول بإنجاز العمل. 2 - التزام المقاول بشأن مواد العمل. 3 - التزام المقاول بتسليم العمل. وسوف نتعرض لهذه المسائل بشيء من التفصيل في المباحث التالية. * * *
المبحث الأول التزام المقاول بإنجاز العمل
المبحث الأول التزام المقاول بإنجاز العمل يجب على المقاول إنجاز العمل بالطريقة المتفق عليها في عقد المقاولة، وطبقًا للشروط الصحيحة الواردة في هذا العقد، فإذا لم تكن هناك شروط متفق عليها وجب اتباع العرف وبخاصة أصول الصنعة تبعًا للعمل الذي يقوم به المقاول، فالبناء له أصول معروفة، وكذا التجارة والحدادة والسباكة والحياكة كلها لها أصول وقوانين تجب مراعاتها دون حاجة لذكرها في العقد. وإذا كان العقد مؤقتًا وجب الالتزام بالمدة المتفق عليها؛ وفاء بالشرط، ولأن رب العمل ما ضرب الأجل إلا وله فيه مصلحة فلا يحق للمقاول تفويتها عليه. وإذا لم يذكر الوقت في إنجاز مثل هذا العمل كان على المقاول الالتزام بتنفيذ العمل في المدة المعقولة التي تسمح بإنجازه نظرًا لطبيعته ومقدار ما يقتضيه من دقة، وحسب عرف الحرفة، ولا يحق له التأخير بحجة أن الوقت لم يتعرض له في العقد. والالتزام بإنجاز العمل في المدة المتفق عليها أو في المدة المعقولة التزام بتحقيق غاية، وليس التزامًا ببذل عناية، فلا يكفي لإعفاء المقاول من المسئولية عن التأخر أن يثبت أنه بذل عناية الشخص المعتاد في إنجاز العمل في الميعاد، ولكنه لم يتمكن من ذلك، بل يجب عليه حتى تنتفي مسئوليته أن يثبت السبب الأجنبي، فإذا أثبت القوة القاهرة، أو الحادث الفجائي، أو فعل الغير انتفت مسئوليته بشرط ألا يكون ذلك مسبوقًا بخطأ منه، وإلا كان مسئولًا بقدر هذا الخطأ.
كذلك تنتفي مسئولية المقاول عن التأخر في إنجاز العمل إذا كان هذا التأخر راجعًا لخطأ رب العمل، فإذا تأخر رب العمل في تقديم المادة التي تعهد بتقديمها، أو تأخر في دفع أقساط الأجرة المستحقة للمقاول في مواعيدها، وكان هذا التأخر سببًا في تأخر المقاول في إنجاز العمل لم يكن هذا الأخير مسئولًا (¬1). وإذا كان العقد يقضي بتقديم المواد التزم بتوفيرها، وإذا كان العقد يقضي بتقديم العمل فقط لم يتأخر فيه. وإذا كان المقاول يحتاج في إنجاز عمله إلى أيد عاملة تعاونه، وتعمل تحت إشرافه جاز له ذلك ما لم يكن العمل منظورًا فيه إلى مهارة المقاول الشخصية كالطبيب والفنان، وفي جميع هذه الأحوال تكون أجور العمال والمعاونين على المقاول ما لم يقض الاتفاق أو عرف الحرفة بغير ذلك. وإذا كان التزام المقاول بإنجاز العمل يحقق غاية كان يكون محل عقد المقاولة إقامة بناء، أو ترميمه، أو صناعة ثوب فإنه لا يبرأ المقاول من التزامه إلا إذا تحققت الغاية، وأنجز العمل المطلوب. وإذا كان التزام المقاول إنما هو ببذل العناية المطلوبة كما هو الحال في التزامات الطبيب والمحامي فإنه لا يبرأ حتى يبذل العناية المعهودة من مثله طبقًا للأصول، وليس على الطبيب أن يشفي المريض، ولا على المحامي أن يكسب القضية. وإذا خالف المقاول الشروط والمواصفات المتفق عليها، أو الشروط التي تمليها أصول الصنعة وعرفها وتقاليدها، وأثبت رب العمل ذلك كان المقاول ¬
مخلًا بالتزامه ولم يقم بما يجب عليه، وترتب عليه الضمان الذي سوف نذكره ونفصله إن شاء الله تعالى في مبحث مستقل (¬1). ¬
المبحث الثاني التزام المقاول بشأن مواد العمل
المبحث الثاني التزام المقاول بشأن مواد العمل إذا اشترط رب العمل أن يقدم المقاول مادة العمل كلها أو بعضها كان مسئولًا عن جودتهما. طبقًا لشروط العقد إذا وجدت، وإلا تطبيقًا للعرف البخاري. وإذا كان صاحب العمل هو المتعهد بتوفير تلك وجب على المقاول أن يحرص عليها، وأن يرد لصاحبها ما بقي منها، فإن تلفت أو تعيبت أو فقدت فهل يضمنها مطلقًا، أو يضمنها في حال كان تلفها بسبب يرجع إلى الصنعة، أو لا يضمنها مطلقًا إلا إن تعدى أو فرط، في ذلك خلاف سيأتي تحريره إن شاء الله تعالى. وهل يجب على المقاول أن يحضر أدواته الخاصة التي تستعمل لإنجاز العمل كالآلات الضرورية لعمله وذلك مثل الرافعات والخلاطات، وأدوات الحفر، والهدم، ومكينة الخياطة، والخيوط اللازمة، وحبر الناسخ، أو أن هذا داخل في التزام صاحب العمل؟ وللجواب عن ذلك يقال: إن كان هناك شرط أو عرف وجب العمل به (¬1). جاء في البحر الرائق: "في الفتاوى الظهيرية الخيط والمخيط على الخياط، وهذا في عرفهم. أما في عرفنا فالخيط على صاحب الثوب" (¬2). وإن لم يكن هناك شرط ولا عرف فقد اختلف الفقهاء. ¬
فقيل: كل ما كان من توابع العمل فإنها تلزم الأجير (المقاول) ما لم يشترط غير ذلك. وهذا مذهب الحنفية (¬1)، وقول عند الشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). * وجه ذلك: أن هذه الآلات تابعة للعمل، فالنجار لا يكون نجارًا إلا ومعه المعدات الخاصة بذلك، والحداد لا يكون حداداً إلا ومعه آلة الحدادة. ولأنه لا يمكن أن يكلف رب العمل بشراء الآلات الرافعة والخلطات وأثمانها باهظة وهو لن يستعملها إلا لمشروع واحد، فتكون حينئذ خسائر رب العمل مضاعفة بخلاف المقاول فإنه لا يستغني عنها في مشاريعه المستمرة. وقيل: الآلات على رب العمل وهذا مذهب المالكية (¬4)، والمشهور في مذهب الشافعية (¬5)، وقول في مذهب الحنابلة (¬6). ¬
* وجه ذلك: أن المقاول إنما التزم بالعمل فقط فلا يلزمه غير ذلك. وقيل: إن كان العقد على الذمة وجب بيان من يجب عليه إحضار هذه الأشياء، فإذا لم يبين هذا في العقد بطلت الإجارة. وإن كان العقد على العين لم يجب غير نفس العمل. وهذا قول في مذهب الشافعي (¬1). ¬
المبحث الثالث تسليم العمل بعد إنجازه
المبحث الثالث تسليم العمل بعد إنجازه [م - 774] يجب على المقاول تسليم العمل فور الانتهاء منه؛ لأن هذا هو مقتضى العقد. ويكون التسليم بجعل موضع المقاولة تحت سلطة وتصرف صاحب العمل، وهو يختلف من عمل لآخر، فتسليم المنقولات يكون عن طريق المناولة يدًا بيد، وتسليم العقارات يكون بالتخلية بينها وبين صاحبها ليتمكن من ممارسة سلطته عليها، وإذا اتفق الطرفان على أن يكون التسليم في مكان معين وجب على المقاول نقل الشيء موضع المقاولة إلى المكان المحدد، وتسليمه فيه. وقد تكلمنا عن قبض المبيع وأقسامه فأغنى عن إعادته هنا. * إذا حان ميعاد التسليم، وكان للمقاول أجر مستحق في ذمة صاحب العمل ففي هذه الحالة يجوز للمقاول أن يحبس العمل حتى يستوفي أجره، وقد تكلمنا في عقد البيع عن حبس المبيع حتى يستوفي البائع الثمن وذكرنا أقسام المسألة، والمسألة في المقاولة مقيسة على حبس المبيع.
الفصل الثاني في التزام رب العمل
الفصل الثاني في التزام رب العمل يلتزم رب العمل بثلاثة أشياء: الأولى: تمكين المقاول من إنجاز العمل. الثانية: تسلم العمل بعد إنجازه. الثالثة: دفع البدل المستحق للمقاول. وسوف نتعرض بالتفصيل إن شاء الله تعالى لكل مسألة من هذه المسائل في المباحث التالية.
المبحث الأول تمكين المقاول من إنجاز العمل
المبحث الأول تمكين المقاول من إنجاز العمل [م - 775] يلتزم رب العمل ببذل ما في وسعه لتمكين المقاول من البدء في تنفيذ العمل، ومن المضي في تنفيذه حتى يتم إنجازه. لأن هذا هو موجب العقد، فالمقاول مطالب بالعمل بمقتضى العقد، ولا يمكنه البدء فيه، ولا المضي في تنفيذه إلا بتمكين ربه منه، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. ولأن المقاول لن يستحق الأجرة إلا بالعمل، فإذا منع من تنفيذ العمل كان في ذلك إهدار لمنفعة المقاول. فإن كان المقاول في حاجة إلى رخصة للبناء للبدء في العمل وجب على رب العمل أن يحصل له عليها في الميعاد المناسب حتى لا يتأخر البدء في تنفيذ العمل، وكذلك الحكم في جميع الترخيصات الإدارية الأخرى التي يكون العمل بحاجة إليها. وإذا كان رب العمل قد تعهد بتقديم المواد التي تستخدم في العمل أو بتقديم الآلات والمعدات اللازمة لإنجاز العمل وجب عليه أن ينفذ ما تعهد به في الوقت المتفق عليه، أو في الوقت المناسب حتى يتمكن المقاول من البدء في تنفيذ العمل ومن المضي في تنفيذه. وإذا كان العمل يحتاج إلى تدخل رب العمل شخصياً كأن يجرب الحائك عليه الثوب بعد أخذ مقاساته، أو يقوم بتصحيح مسودة الكتاب المقدم للطبع
وجب عليه أن يقوم بذلك في الوقت المتفق عليه، أو في الوقت الذي يتطلبه العمل (¬1). وإذا تأخر رب العمل في تمكين المقاول من إنجاز العمل فإن المقاول لا يتحمل ما يترتب على هذا التأخير من غرامات، كما لو كان في العقد شرط جزائي بأن يسلم المقاول العمل في مدة متفق عليها، بل للمقاول أن يطلب التعويض عن الضرر الذي أصابه من جراء عدم قيام رب العمل بالتزامه، أو من جراء تأخره في القيام به؛ لأن المقاول إذا منع من تنفيذ العمل فإنه يلحقه بذلك ضرر مالي في الوقت الذي لا يمكنه من الارتباط بعقود أخرى بسبب ارتباطه مع رب العمل مدة العقد. فإن أصر رب العمل على عدم تمكين المقاول من العمل فله أن يفسخ العقد (¬2). ... ¬
المبحث الثاني تسليم العمل بعد إنجازه
المبحث الثاني تسليم العمل بعد إنجازه [م - 776] يختلف قبض المبيع والعين المستأجرة عن قبض المعمول بعد فراغ المقاول منه، ذلك أن العين في البيع والإجارة تكون غالباً عيناً معينة بالذات، معروفة للمشتري أو للمستأجر، ولا يقتضي الأمر أكثر من تسلمها. بخلاف القبض في عقد المقاولة، وذلك أن المقاولة تقع على عمل لم يكن قد بدأ وقت إبرام العقد فوجب عند إنجازه أن يستوثق رب العمل من أنه موافق للشروط المتفق عليها، أو لأصول الصنعة، ويكون ذلك بفحصه، فالقبض فيه لا يكفي بل لا بد من تقبله والموافقة عليه، وهو معنى زائد على مجرد القبض. والتقبل والقبض قد يجتمعان، وقد ينفصلان: فقد يقبضه رب العمل ويتقبله في وقت واحد، وذلك بأن يفحصه عند قبضه، ويستوثق من أنه هو الذي قصد إليه بالتعاقد، فيوافق عليه. وقد ينفصل تقبل العمل عن القبض: كما لو فحص رب العمل عمل المقاول بعد إنجازه، وهو لا يزال في يد المقاول، وتقبله. وقد يتأخر التقبل عن القبض، كما لو قبضه قبل أن يفحصه، والمطلوب هو قبضه وتقبله، وليس قبضه فقط. إذا علم ذلك نأتي بالكلام عن تسلم العمل وقبضه. لما كان المقاول مطالباً بتسليم المعمول إلى ربه، وكان رب العمل مطالبًا بتسلم العمل من المقاول وجب مراعاة ما يلي:
الأول: أن يكون التسليم في الميعاد المتفق عليه، أو في الميعاد المعقول لإنجاز العمل وفقاً لطبيعته ولعرف الحرفة. ثانياً: يجب على رب العمل أن يقوم بتنفيذ التزامه من التسلم والتقبل بمجرد أن يفرغ المقاول من عمله ويضعه تحت تصرفه. ثالثاً: يجوز لرب العمل أن يمتنع عن تسلم العمل إذا كان المقاول قد خالف ما ورد في العقد من شروط، أو ما تقضي به أصول الصنعة (¬1). رابعاً: إذا كان العقد وارداً على العمل، والأدوات من المالك، فيكون العقد من قبيل إجارة الأجير المشترك. فهنا إما أن يكون المقاول ينجز العمل، والعين في يد صاحبها، كما لو قام سباك بتصليح مواسير المياه، وهي في مكانها، أو استأجر رجلاً ليبني له جداراً في ملكه، فإن تسليم موضع المقاولة يكون بفراغ المقاول من عمله؛ لأنه في هذه الحالة يكون المقاول قد سلم العمل شيئًا فشيئاً (¬2). وإما أن يكون موضع المقاولة في يد المقاول فلا بد حينئذ من تسلم العمل من قبل صاحب العمل. وتسليم العمل يكون برفع المقاول كافة الموانع والعوائق التي تمنع من قبض الشيء الذي وقع عليه العمل، ويكون صاحب العمل متمكناً منه، وتحت تصرفه، ومأذوناً له باستلامه، وبهذا يكون المقاول قد التزم بالتسليم. ¬
وهذا غاية ما يقدر عليه المقاول، وهو محتاج إلى إخراج نفسه من العهدة، فإذا أتى بما في وسعه فقد برئ، وليس في وسعه إلا ذلك، وأما القبض الذي هو التسلم، فهذا فعل صاحب العمل، فلا يكلف المقاول فعل غيره، فجُعِل تمكين صاحب العمل من القبض ورفع كافة الموانع التي تمنع من القبض قبضاً، وهو القبض الحكمي (¬1). رابعاً: إذا كان العقد وارداً على العمل والعين من المقاول، فيكون العقد استصناعاً. فهل يلزم رب العمل بتسلم العمل بعد إنجازه، هذه المسألة ترجع إلى مسألة أخرى وقع فيها خلاف بين أبي يوسف وجمهور الحنفية، هل عقد الاستصناع عقد لازم، أو عقد جائز. فمن رأى أن عقد الاستصناع عقد جائز لم ير أن صاحب العمل يجب عليه تسلم العمل، وهذا ما عليه جمهور الحنفية. ومن رأى أن عقد الاستصناع عقد لازم كما هو قول أبي يوسف من الحنفية، واختارته مجلة الأحكام العدلية فإنه يرى أنه يجب على رب العمل تسلم العمل، وقد بحثت هذه المسألة في عقد الاستصناع فأغنى عن ذكرها هنا. ¬
المبحث الثالث في دفع الأجرة المستحقة للمقاول
المبحث الثالث في دفع الأجرة المستحقة للمقاول الفرع الأول في وقت امتلاك المقاول للأجرة البدل: هو العوض الذي يقابل العمل، وكل ما يصلح أن يكون ثمناً في البيع يصلح أن يكون عوضاً في الإجارة؛ لأنه عقد معاوضة أشبه البيع. قال ابن نجيم: "وما صح ثمناً صح أجرة؛ أي ما جاز أن يكون ثمناً في البيع جاز أن يكون أجرة في الإجارة؛ لأن الأجرة ثمن المنفعة فتعتبر بثمن المبيع" (¬1). والأجرة من مقومات عقد الإجارة التي لا يقوم العقد إلا بها سواء اعتبرنا الأجرة ركناً من أركان عقد الإجارة كما هو مذهب الجمهور، أو لم نعتبرها ركناً كما هو مذهب الحنفية. قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. (ح- 548) وروى البخاري من طريق سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة وذكر منهم رجلاً استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعط أجره (¬2). والسؤال: متى يملك المقاول الأجرة، هل يملكها بالعقد أو بالفراغ من العمل. ¬
القول الأول
وللجواب على ذلك نقول: السؤال مفروض فيما إذا كان العقد مطلقاً، أما إذا كان هناك شرط في التعجيل فيعمل بمقتضى الشرط، وكذا إذا كان هناك عرف. [م - 777] فإن كان العقد مطلقاً, ولم يكن هناك عرف فقد اختلف العلماء متى يستحق المقاول المطالبة بالأجرة على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية وابن حزم من الظاهرية إلى أن الأجرة لا تملك بالعقد، وإنما تستحق إما بالفراغ من العمل في إجارة الذمة أو بالاستيفاء شيئاً فشيئاً في إجارة العين (¬1). وقد وافقهم المالكية في إجارة العين دون إجارة الذمة (¬2). القول الثاني: ذهب الحنابلة إلى أن الأجرة تملك بمجرد العقد، وتستحق بتسليم العين (¬3). وقد وافقهم الشافعية على ذلك في إجارة العين دون إجارة الذمة فإنه يجب تعجليها (¬4) ". ¬
وقد ذكرت أدلة الفريقين في عقد الإجارة فارجع إليه إن شئت، وقد رجحت فيه مذهب الشافعية والحنابلة. وإذا عرفنا متى يملك المقاول الأجرة، فإن عمل المقاول واجب في ذمته، وهذا يختلف عن إجارة العين، لهذا رأى المالكية والشافعية وجوب تقديم الأجرة حتى لا يكون ذلك من باب بيع الدين بالدين، فالعمل دين في ذمة المقاول، فإذا تأخر تسليم الأجرة كانت الأجرة دينًا في ذمة المالك، فأدى ذلك إلى بيع الدين بالدين، ولأهمية المسألة هذه سوف أفرد لها بحثًا مستقلًا إن شاء الله تعالى.
الفرع الثاني في شروط الأجرة
الفرع الثاني في شروط الأجرة الشرط الأول في معرفة الأجرة [م - 778] سبق لنا أن ذكرنا شروط الثمن في عقد البيع، وكل ما يشترط في ثمن المبيع يشترط في الأجرة. من ذلك معرفة الأجرة. وعقد المقاولة عقد معاوضة فالعمل من المقاول مقابل بالأجرة، ولا خلاف في وجوب معرفة عمل المقاول، فهل يجب في الأجرة أن تكون معلومة باعتبارها أحد العوضين؟ أو يجوز الدخول في عقد المقاولة دون بيان الأجرة، كما لو تمت المقاولة عن طريق المعاطاة بأن يعطي أحدهم قطعة قماش لآخر ليخيطها ثوباً, ولم يذكر الأجرة. أو أحال بالأجرة على ما هو متعارف عليه، كأن يقول: اصنع لي داراً بمثل ما تصنع للناس، أو يقول: اعمل لي كذا وكذا وسأرضيك؟ هذه المسألة اختلف العلماء فيها على أربعة أقوال: القول الأول: إذا كانت الأجرة مجهولة تصح المقاولة، وله أجر المثل مطلقاً، أي سواء كان منتصباً للعمل أم لا، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وقول في ¬
القول الثاني
مذهب الشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2) , واختاره ابن تيمية (¬3)، ونسبه ابن القيم إلى الجمهور (¬4). القول الثاني: ليس له أجر مطلقاً، سواء كان معروفاً بذلك العمل أم لا، وهو الأصح في مذهب الشافعية (¬5). القول الثالث: إن كان منتصباً للعمل فله أجر المثل، وإن لم يكن منتصباً فليس له أجرة، وهو قول في مذهب الحنفية (¬6)، .................. ¬
القول الرابع
وقول في مذهب الشافعية (¬1)، واختاره ابن قدامة من الحنابلة (¬2). القول الرابع: له أجرة المثل إذا لم يكن من أهل التبرع كالمحجور عليه لسفه، والعبد (¬3). * دليل من قال يصح وله أجرة المثل مطلقاً: الدليل الأول: قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وجه الاستدلال: قال ابن القيم: "أوجب الله -عز وجل- على الآباء إيتاء المراضع أجرهن بمجرد الإرضاع، وإن لم يعقدوا معهن عقد إجارة" (¬4). الدليل الثاني: (ح-549) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن حميد، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: حجم أبو طيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر له بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا من خراجه (¬5). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قوله (حجم .. فأمر له بصاع) ظاهر بأن أبا طيبة قد حجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر أجراً؛ لأن الأمر له بالصاع جاء بعد الحجامة. الدليل الثالث: إذا كان الشارع قد جوز النكاح بدون تسمية المهر، قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] الآية. قال ابن العربي: "لما قسم الله تعالى حال المطلقة إلى قسمين: مطلقة سمي لها فرض، ومطلقة لم يسم لها فرض، دل على أن نكاح التفويض جائز، وهو كل نكاح عُقِدَ من غير ذكر الصداق، ولا خلاف فيه" (¬1). ولها مهر مثلها، فكون الإجارة تجوز بثمن المثل من باب أولى؛ لأن المبيع في عقد المقاولة يوجد مثله كثيراً، بخلاف المرأة فإن وجود مثلها من نسائها في صفاتها المقصودة من كل وجه قد يتعذر. وقد يجاب: بأن النكاح لا يشبه الإجارة. قال ابن حزم: "ما ندري في أي وجه يشبه النكاح البيوع بل هو خلافه جملة؛ لأن البيع نقل ملك، وليس في النكاح ملك أصلاً ... والخيار جائز عندهم في البيع مدة مسماة، ولا يجوز في النكاح، والبيع بترك رؤية المبيع، وترك وصفه باطل لا يجوز أصلاً، والنكاح بترك رؤية المنكوحة وترك وصفها جائز ... فبطل تشبيه النكاح بالبيع جملة" (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: أن في المنع من ذلك فيه تضييقاً على الناس، وحرجاً في الدين، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (¬1). قال ابن القيم: "حتى عند المنكرين لذلك، فإنهم ينكرونه بألسنتهم، ولا يمكنهم العمل إلا به ... " (¬2). الدليل الخامس: القياس على الهبة بشرط الثواب، فهي عقد معاوضة عند الفقهاء، وقد قال بعضهم بصحتها مع أنه لم يذكر فيها الثمن. الدليل السادس: يقول ابن القيم: "هو أطيب لقلب المشتري من المساومة، يقول: لي أسوة بالناس، آخذ بما يأخذ به غيري" (¬3). الدليل السابع: أن عدم ذكر الثمن لا يؤدي إلى النزاع، ويمكن الوقوف عليه، فهو كما لو قال: بعت عليك هذه الصبرة كل صاع بدرهم يصح البيع، وإن كانت جملة الثمن في الحال مجهولة، لكن بالإمكان معرفتها بعد كيلها، وهذا بالإمكان معرفة الثمن بعد الرجوع إلى السوق، أو الرجوع إلى التاجر المعروف. ¬
دليل من قال: ليس له أجرة مطلقا
* دليل من قال: ليس له أجرة مطلقًا: الدليل الأول: (ح- 550) ما رواه الإِمام أحمد، قال: حدثنا أبو كامل، عن حماد، عن إبراهيم، عن أبي سعيد الخدري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره ... الحديث (¬1). [ضعيف، والمعروف عن إبراهيم، عن أبي سعيد من قوله، وهو مع ذلك منقطع] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: قالوا: إذا لم يشترط المقاول الأجرة كان متبرعاً، والمتبرع لا يستحق الأجرة. ويناقش: بأن البيع بالمعاطاة جائز على الصحيح، وليس فيه ذكر للثمن، ولم يعتبر البيع بهذه الصيغة تبرعاً، فكذلك هنا. * دليل من قال له الأجرة إن كان منتصبًا للعمل: أنه لما كان منتصباً للعمل كان العرف الجاري بذلك يقوم مقام القول، فصار كنقد البلد، وكما لو دخل حماماً، أو جلس في سفينة ملاح؛ لأن شاهد الحال يقتضيه, فصار كالتعويض، فإن لم يكن منتصباً لم يستحق الأجرة إلا بالشرط؛ لأنه لم يجر عرف يقوم مقام العقد، فصار كما لو تبرع به، أو عمله بغير إذن مالكه (¬1). ¬
دليل من قال: تثبت الأجرة للأجير إذا لم يكن من أهل التبرع
* دليل من قال: تثبت الأجرة للأجير إذا لم يكن من أهل التبرع: إذا عمل دون أن يذكر أجرة كان عمله متبرعًا إلا أنه يشترط لصحة التبرع أن يصدر من أهله، فإذا كان الأجير ليس أهلًا للتبرع لكونه مملوكًا، أو لكونه محجورًا عليه لسفه مثلًا استحق أجرة المثل؛ لأن تبرعه غير معتبر. * الراجح: جواز الإجارة من غير ذكر الأجرة؛ لأن المتعاقدين حين تعاقدا من غير ذكر الأجرة كان لسان حالهما أنهما قد تراضيا في الرجوع إلى أجرة المثل، فإذا تراضيا على ذلك جاز، والأجرة وإن لم تكن مقدرة هنا لكنها قابلة للتقدير، كما أن الرجوع إلى أجرة المثل أدعى للعدل مما لو تعاقدا على أجر مسمى، فقد يغبن أحدهما الآخر، ولا زال الناس يتعاملون في البيع بمثل ذلك، فيأخذ الرجل حاجته من البقال أو اللحام أو الفاكهي، ولا يتفقان على ثمن وقت الأخذ، ثم يحاسبه في آخر الشهر، وكان هذا البيع صورة من صور بيع المعاطاة، وما جاز في ثمن المبيع جاز في الأجرة. وقد سبق أن ناقشت البيع بدون ذكر الثمن، ورجحت جوازه، فارجع إليه إن شئت في عقد البيع، والله أعلم.
الشرط الثاني في اشترط الجمهور تعجيل الأجرة إذا كانت معينة
الشرط الثاني في اشترط الجمهور تعجيل الأجرة إذا كانت معينة [م - 779] اشترط الجمهور تعجيل الأجرة إذا كانت معينة، وليست في الذمة كما لو استأجر أجيرا بشيء بعينه من عين أو عرض، أو حيوان (¬1). وعللوا ذلك: بأنه يترتب على تأخيرها غرر، فالعين المعينة عرضة للتلف، أو لتغير أوصافها مما يفضي إلى النزاع. ولأن الله - عز وجل - قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. فالآية تدل على جواز التأجيل في الديون، ولم يرد في النصوص ما يشير إلى جواز تأجيل الأعيان، ولهذا قال الكاساني في البدائع "التأجيل يلائم الديون، ولا يلائم الأعيان" (¬2). وقال ابن عابدين: "الأعيان لا تقبل التأجيل" (¬3). ¬
وقال الرملي: "الأعيان لا تقبل التأجيل ثمناً, ولا مثمناً" (¬1). وقال ابن رشد في بداية المجتهد: "وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الأعيان إلى أجل، وأن من شرطها تسليم المبيع إلى المبتاع بأثر الصفقة" (¬2). والأجرة نوع من البيع؛ إلا أنها من قبيل بيع المنافع. وجاء في المجموع: "قال أصحابنا: إنما يجوز الأجل إذا كان العوض في الذمة، فأما إذا أجل تسليم المبيع أو الثمن المعين، بأن قال: اشتريت بهذه الدراهم على أن أسلمها في وقت كذا، فالعقد باطل" (¬3). وعلل الحنفية والشافعية المنع من التأجيل في المعين بأنه إنما شرع الأجل من أجل التحصيل، فإذا كان معيناً فقد تم تحصيله فلا حاجة له. قال في العناية: "الأجل في المبيع العين باطل لإفضائه إلى تحصيل الحاصل، فإنه شرع ترفيهاً في تحصيله باتساع المدة، فإذا كان المبيع أو الثمن حاصلاً كان الأجل لتحصيل الحاصل .. " (¬4). وقال السيوطي: "الأجل شرع رفقاً للتحصيل، والمعين حاصل" (¬5). وعلل السمرقندي أن الأجل في المعين لا يفيد، فقال: "ومنها: أن يشترط الأجل في المبيع العين، أو الثمن العين؛ لأن الأجل في الأعيان لا يفيد، فلا يصح، فيكون شرطاً لا يقتضيه العقد، فيفسد البيع" (¬6). ¬
وقد حكي في ذلك الإجماع، فإن صح الإجماع فهو حجة وإلا فالنظر لا يمنع من تأجيل المعين، وإذا جاز على الصحيح أن يبيع الدار ويستثني سكناها مدة معلومة، وهذا يقتضي عدم تسليم المعين، وما جاز في البيع جاز في الإجارة، كما تجوز الإجارة على مدة لا تلي العقد على الصحيح، وهذا يعني تأخير تسليم المعين. وقد بحثت هذا الشرط في كتاب الشروط في البيع (اشتراط التأجيل في العقد) فانظره هناك.
الشرط الثالث في تأجيل الأجرة إذا كانت الإجارة على عمل في الذمة
الشرط الثالث في تأجيل الأجرة إذا كانت الإجارة على عمل في الذمة يجوز تعجيل الأجرة، ويجب التعجيل بالشرط، وهذا مما لا خلاف فيه، وقد بحثت ذلك في عقد الإجارة. وهل يجوز اشتراط التأجيل مع أن عقد المقاولة عقد يرد على العمل، والعمل حين العقد متعلق في ذمة المقاول وليس في عين معينة؟ وللجواب عن ذلك يقال: [م - 780] إن قدم المقاول المواد والعمل فالعقد يوصف عند الحنفية بأنه عقد استصناع، ويجوز عند الحنفية تأخير الأجرة في عقد الاستصناع. ويوصف عند الجمهور بأنه سلم، ويشترطون لجوازه أن تتوفر فيه شروط السلم، ومن ذلك تعجيل الثمن. وسبق تحرير هذه المسألة في عقد الاستصناع فأغنى عن إعادته هنا. والراجح مذهب الحنفية، وأن عقد الاستصناع يختلف عن عقد السلم، والله أعلم. [م - 781] وإن قدم رب المال المواد، فالمقاول أجير مشترك، والإجارة على عمل في الذمة، فهل يصح تأجيل الأجرة والعمل دين في ذمة المقاول؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأول: يصح اشتراط تأجيل الأجرة، بل إن المقاول لا يستحق الأجرة إلا إذا فرغ من
واستدلوا بأدلة منها
العمل. وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة، وقول في مذهب الشافعية (¬1). واستدلوا بأدلة منها: الدليل الأول: قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. وجه الاستدلال: أن الآية تأمر بإيتاء الأجر بعد الإرضاع، فدل على جواز تأخير الأجرة. وأجيب: بأن الإيتاء في وقت لا يمنع وجوبه قبله؛ لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24]. والصداق يجب قبل الاستمتاع. الدليل الثاني: (ح- 551) ما رواه البخاري من طريق سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً، فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعط أجره (¬2). وجه الاستدلال: لو كان تقديم الأجرة شرطًا ما صح أن يستوفي منه حتى يعطيه أجره، فدل على صحة أن يستوفي المستأجر من الأجير قبل دفع الأجر. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ح-552) ما رواه الطحاوي في مشكل الآثار من طريق محمَّد بن عمار المؤذن، عن المقبري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه (¬1). [أكثر طرقه لا تخلو عن ضعف، وبعضها ضعيف جدًا، وأرجو أن يكون حسناً بمجموع طرقه] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: الإجارة في الذمة ترد على العمل، والعامل قبل تقديم عمله لا يستحق ما يقابله؛ لأن الأجرة عوض، فلا يستحق قبضها إلا مع تسليم المعوض، كالصداق، والثمن في المبيع، واستحقاقه إنما يكون بفراغه منه. القول الثاني: يجب تقديم الأجرة إذا كان المعقود عليه في ذمة المقاول، وهو مذهب المالكية، والأصح عند الشافعية (¬1). واستثنى المالكية إذا شرع المستأجر في استيفاء المنقعة في خلال ثلاثة أيام من تاريخ العقد فيجوز تأخير الأجرة. * وجه اشتراط المالكية والشافعية تعجيل الثمن: الإجارة في الذمة تعتبر من قبيل السلم في المنافع، والسلم يشترط له تعجيل الثمن حتى لا يكون ذلك من باب بيع الدين بالدين. ¬
الراجح
وأجاز المالكية تأخير الأجرة إذا شرع المستأجر باستيفاء المنفعة؛ لأن المستأجر بالشروع في الاستيفاء يعد مستوفياً لها، فخرج من كونه بيع دين بدين. الراجح: اختلاف الفقهاء سببه أن الإجارة إذا كانت على عمل في الذمة هل تعتبر من قبيل السلم في المنافع، والسلم يشترط له تعجيل الثمن حتى لا يكون ذلك من باب بيع الكالئ بالكالئ؟ أو لا يعتبر ذلك باعتبار أن الأجرة لا تستحق بالعقد، وإنما تستحق إما بالفراغ من العمل، أو بحسب استيفاء المنفعة شيئًا فشيئاً، فاختلف ذلك عن بيع السلم، ومسألة: متى تستحق الأجرة مسألة خلافية تعرضت لها في عقد الإجارة في مبحث مستقل، وحررت القول الراجح فيها. وما ذهب إليه الحنفية والحنابلة هو الراجح؛ لسببين: الأول: أن المالكية قالوا بتعجيل الأجرة قياساً على السلم، ومع ذلك لم يطبقوا عليها أحكام السلم من كل وجه، فالسلم الحال لا يجوز عند المالكية، وتعجيل الإجارة فيما إذا كانت على عمل في الذمة جائز عندهم، وهذا يبين أن الإجارة على الذمة لا تأخذ حكم السلم من كل وجه. قال الباجي في المنتقى: "فأما الكراء المضمون (ما كان في الذمة) فإنه يجوز أن يكون معجلَّا بخلاف السلم على المشهور من المذهب، ووجه ذلك أن المنافع هذا حكمها لا يجوز أن يعقد منها إلا على موجود مع الإجماع على جوازه فيمن يعتبر بقوله، ولذلك قال تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27]، فإذا ثبت ذلك فالتعيين في العين
المعقود على منافعها إنما هو تعيين لعين المعقود عليه، فإذا جاز العقد على منافع دابة معينة مؤجلة فكذلك على منافع دابة غير معينة" (¬1). الثاني: أن تأخير الأجرة هو الذي يقتضيه حال الناس اليوم لكون الإجارة لم تكن على ثوب يقدمه صاحبه إلى حائك، وإنما بلغت الإجارة اليوم على أعمال مكلفة جدًا، كإنشاء مطارات، وسكك حديدية، وأبراج ضخمة، فلو عجلت الأجرة لخيف من أن يتهاون الأجير في الالتزام بالعمل المطلوب، والله أعلم. ... ¬
الشرط الرابع في أجرة المقاول إذا كانت منفعة
الشرط الرابع في أجرة المقاول إذا كانت منفعة [م - 782] اختلف الفقهاء في جواز أن تكون أجرة المقاول منفعة على قولين: القول الأول: مذهب الحنفية: إن قدم المقاول المواد والعمل فالعقد يوصف عند الحنفية بأنه عقد استصناع، ولا يصح في عقد الاستصناع عندهم أن تكون الأجرة منفعة. * وجه ذلك: أن الاستصناع عند جمهور الحنفية نوع من البيع، والمنفعة لا تصح أن تكون ثمناً في البيع عندهم. وإن قدم المقاول العمل فقط، والمواد من صاحب العمل، فالمقاول أجير مشترك، فيجوز أن تكون المنفعة أجرة، ولكن يشترط فيها عند الحنفية ألا تكون من جنس المعقود عليه. فلا تصح المقاولة على حرث الأرض وزراعتها مقابل حرث أرض أخرى وزراعتها؛ لأن العوضين من جنس واحد، وتجوز المقاولة على زراعة الأرض بسكنى دار أخرى. * وجه ذلك: أن الحنفية يحرمون النسيئة في كل ما اتحد جنسه وإن لم يكن مكيلاً أو موزوناً، فإذا كان عمل المقاول والأجرة من جنس واحد، وكان عمل المقاول معدوماً وقت العقد، وذلك يعني عدم التقابض وهذا يوقع في ربا النسيئة؛ لذلك اشترط الحنفية أن تكون الأجرة مخالفة لجنس المعقود عليه في عقد المقاولة.
القول الثاني
وقد تكلمت عن أدلة الحنفية في جريان الربا في كل ما اتحد جنسه، وأجبت عنها فأغنى ذلك عن إعادتها هنا. جاء في تبيين الحقائق: "صح أجرة ما لا يصح ثمنًا أيضًا كالمنفعة فإنها لا تصلح ثمنًا، وتصلح أجرة إذا كانت مختلفة الجنس، كاستئجار سكنى الدار بزراعة الأرض، وإن اتحد جنسهما لا يجوز كاستئجار الدار للسكنى بالسكنى، وكاستئجار الأرض للزراعة بزراعة أرض أخرى؛ لأن المنافع معدومة فيكون بيعًا بالنسيئة على ما قالوا، فلا يجوز ذلك في الجنس المتحد ... " (¬1). القول الثاني: ذهب الجمهور إلى جواز أن تكون الأجرة منفعة مطلقًا من غير فرق بين أن تكون المواد من العامل أو من رب المال. قال القرافي في الذخيرة: "تجوز سكنى دار بسكنى دار أخرى، وكل ما جاز إجارته جاز أجره، وقاله أحمد وفاقًا للشافعي قياسًا للمنافع على الأعيان، وجوزه أبو حنيفة في اختلاف الجنس كالسكنى بالخدمة، ومنعه مع اتحاده ... " (¬2). وقال الشيرازي: "ويجوز إجارة المنافع من جنسها ومن غير جنسها؛ لأن المنافع في الإجارة كالأعيان في البيع، ثم الأعيان يجوز بيع بعضها ببعض فكذلك المنافع" (¬3). ¬
وقال العز بن عبد السلام: "جوز الشافعي رحمه الله إجارة المنافع بالمنافع، وإن كانتا معدومتين، كما جوزت الشريعة عقد النكاح بتعليم القرآن، وهو مقابلة منفعة التعليم بمنفعة البضع، والتقدير زوجتكها بتعليم ما معك من القرآن، أو بتلقين ما معك من القرآن، وكما أنكح شعيب ابنته من موسى برعي عشر حجج مقابل منافع البضع بالرعي، كما قابل - صلى الله عليه وسلم - منافع البضع بتعليم القرآن" (¬1). وقال ابن قدامة: "كل ما جاز ثمنًا في البيع جاز عوضاً في الإجارة؛ لأنه عقد معاوضة أشبه البيع. فعلى هذا يجوز أن يكون العوض عيناً ومنفعة أخرى، سواء كان الجنس واحداً، كمنفعة دار بمنفعة أخرى، أو مختلفاً، كمنفعة دار بمنفعة عبد. قال أحمد: لا بأس أن يكتري بطعام موصوف معلوم. وبهذا كله قال الشافعي، قال الله تعالى إخباراً عن شعيب أنه قال: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27]، فجعل النكاح عوض الإجارة ... " (¬2). ¬
الباب الرابع في ضمان المقاول
الباب الرابع في ضمان المقاول الفصل الأول في ضمان المقاول إذا كان متعهداً بالمواد [م - 783] إذا كان تعهد المقاول على صنع شيء معين، وكانت المواد من المقاول، فإن الشيء المقاول عليه ثابت في ذمة المقاول، وما ثبت في الذمة لا يلحقه عيب ولا تلف، وقد انعقد عقد المقاولة صحيحاً مستجمعاً لشروطه، وحق صاحب العمل أن يستلم الشيء المقاول عليه خالياً من العيوب. فإذا وجد رب العمل عيباً في المصنوع فإن له خيار العيب إن شاء تجوز به، وإن شاء رده، وطالب المقاول ببدله سليمًا؛ لأن المعقود عليه في الذمة بصفة السلامة، فإذا لم يرض بالمعيب رجع إلى ما في الذمة قياساً على ما قلناه في السلم والاستصناع (¬1). ¬
الفصل الثاني في ضمان المقاول إذا كانت المواد من رب المال
الفصل الثاني في ضمان المقاول إذا كانت المواد من رب المال المبحث الأول أن تكون العين في يد المقاول [م - 784] لا خلاف بين الفقهاء في تضمين المقاول (الأجير المشترك) إذا تعدى أو فرط، فإن تلف ما في يده بلا تعد ولا تقصير، وكان الأجير قد قبض العين فهل يضمن؟ اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: ذهب أبو حنيفة، والحنابلة في المشهور إلى أن الأجير المشترك يضمن إن كان التلف بسبب يرجع إلى فعله سواء أكان متعدياً أم لا، وسواء تجاوز المعتاد أو لم يتجاوز، وأما ما تلف بسبب لا يرجع إلى فعله بل يرجع إلى الحفظ مثلاً ونحوه فلا يضمنه إن لم يكن منه تعد أو تفريط (¬1). القول الثاني: ذهب أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة إلى أن الأجير المشترك يضمن بالقبض مطلقاً سواء كان الهلاك بفعله أو ¬
وجه الاختلاف بين قول أبي حنيفة وقول صاحبيه
بغير فعله، وسواء كان متعدياً أو غير متعد، إلا إذا وقع التلف بسبب لا يمكن الاحتراز عنه كحريق غالب، أو كان الأجير لم ينفرد باليد (¬1). * وجه الاختلاف بين قول أبي حنيفة وقول صاحبيه: يتفق هذا القول مع الذي قبله بتضمين الأجير ما كان بسبب فعله، وأدلتهم واحدة في هذا فلا نحتاج إلى إعادتها. ويتفقان على أن الأجير لا يضمن إذا كان التلف بسبب لا يمكن التحرز منه كحريق غالب. ويختلفان بالضمان إذا كان العيب لم يكن بسبب يرجع إلى الصنعة، وإنما يعود إلى الحفظ بسيب يمكنه التحرز منه. فأبو حنيفة يرى أن الأجرة إنما هي في مقابل الصنعة فقط، والحفظ ليس داخلًا في العقد، وبالتالي إذا سرقت العين أو لحقها تلف أو عيب من غير فعل الأجير لم يضمن؛ لأن العقد لم يكن على الحفظ، فيده في الحفظ يد أمانة لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط. وأما الصاحبان فيريان أن الحفظ مستحق على الأجير المشترك؛ لأنه لا يمكنه العمل إلا به، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فكان العقد وارداً ¬
القول الثالث
على الحفظ، ولأن عقد المعاوضة يقتضي سلامة المعقود عليه، فيضمن بالهلاك كما في الوديعة إذا كانت بأجر (¬1). القول الثالث: ذهب المالكية إلى أن الأصل في يد الأجير المشترك أنها يد أمانة، ولكن لما فسد الناس، وظهرت خيانة الأجراء ضمن الصناع، وكل من تقتضي المصلحة العامة تضمينه من الأجراء المشتركين حيث تقوم به التهمة. وهو من باب الاستحسان (¬2). "ووجه المصلحة فيه: أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط، وترك الحفظ، فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين: إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك سياق على الخلق، وإما أن يعملوا, ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة، فكانت المصلحة التضمين" (¬3). وعلى هذا فضمان الصناع عند المالكية ضمان تهمة لا ضمان أصالة، ولا يضمن عند المالكية إلا بشروط، منها: الأول: أن ينتصب للصنعة لدى عامة الناس، فلا ضمان على الصانع الخاص بجماعة. ¬
والصانع المنتصب: هو من أقام نفسه لعمل الصنعة التي استعمل فيها بسوقها أو داره، وغير المنتصب: هو من لم يقم نفسه لها, ولا منها معاشه (¬1). الثاني: أن يغيب ربها عن الذات المصنوعة، فإن عمل الصانع في بيت رب السلعة، فلا ضمان عليه، جلس معه ربها أم لا، عمل بأجر أم لا، وكذا لو صنعت بحضرة ربها, ولو في محل الصانع. الثالث: ألا تقوم بينة على ما ادعاه من تلف أو ضياع فإن قامت بينة بهلاكه بغير سببه فلا ضمان. وهذا يقوي أن ضمان الصناع عند المالكية ضمان تهمة ينتفي بإقامة البينة، لا ضمان أصالة (¬2). الرابع: أن يكون المصنوع مما يغاب عليه بأن يكون ثوباً، أو حلياً، فلا ضمان على معلم الأطفال، أو البيطار إذا ادعى الأول هروب الولد، والثاني هروب أو تلف الدابة. الخامس: ألا يكون في الصنعة تغرير، وإلا فلا ضمان، كنقش المنصوص وثقب اللؤلؤ، وتقويم السيوف، وحرق الخبز عند الفران، وتلف الثوب في قدر الصباغ، وما أشبه ذلك كالبيطار يطرح الدابة لكيها مثلاً فتموت، وكالخاتن لصبي يموت عند ختنه. السادس: ألا يكون الصانع أحضره لربه مصنوعاً على الصفة المطلوبة، ويتركه ربه اختياراً فيضيع (¬3). ¬
القول الرابع
القول الرابع: يرى أن يد الأجير المشترك يد أمانة مطلقاً فلا يضمن ما تلف بعمله ما لم يتعد، وهو اختيار زفر من الحنفية، والأظهر عند الشافعية، وصوبه في الإنصاف والله أعلم (¬1). وقد ذكرنا أدلة الأقوال في عقد الإجارة في باب تضمين الأجير المشتري، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وأرى أن مذهب أبي يوسف ومحمد بن الحسن هو أرجح الأقوال، وهو الذي يصلح للناس في هذه الأزمان مع خراب الذمم، وتهاون الناس في الحقوق، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في ضمان المقاول والعين في يد صاحبها
المبحث الثاني في ضمان المقاول والعين في يد صاحبها [م - 785] إذا كان المقاول يعمل والعين في يد صاحبها لم يقبضها، فتلفت العين، فهل يضمن؟ اختلف الفقهاء في تضمينه على قولين: القول الأول: قالوا: لا يضمن الأجير المشترك إذا حدث العيب، والعين في يد مالكها، وهو قول الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). القول الثاني: يضمن مطلقاً, ولو كان رب العمل شاهداً، وهو المذهب عند الحنابلة (¬2). وانظر أدلة الأقوال في عقد الإجارة، في تضمين الأجير المشترك، فقد تم تحريره هناك، ولله الحمد. ¬
الفصل الثالث في صفة العيب المضمون
الفصل الثالث في صفة العيب المضمون [م - 786] إذا أحدث المقاول عيباً فإن كان بالإمكان تدارك ما أحدثه من عيب، وذلك بالقيام بإصلاح ذلك الشيء ففي هذه الحالة يحق لرب العمل أن يطالب المقاول إما بالتنفيذ العيني للعقد، أو فسصح العقد ورد البدل مع التعويض إن كان له مقتضٍ، ويترتب على ذلك مسؤولية المقاول عن الأضرار المتولدة عن فعله وصنعه. وإن كان العيب ليس بالإمكان تداركه وإصلاحه، فإن المقاول يضمن بشرط أن يكون العيب مؤثراً، وهذا شرط لا بد منه، ولا يختلف الفقهاء في الضمان إذا كان النقص كثيراً، سواء كان ينقص العين، أو ينقص القيمة. وإن كان العيب لا ينقص العين ولا القيمة، ومنفعته تامة فليس لرب العمل خيار في رد العين (¬1). واختلفوا في النقص اليسير على ثلاثة أقوال: القول الأول: إن كان العيب ينقص القيمة أَثَّر ذلك مطلقاً، يسيراً كان، أو كثيراً. وهذا مذهب الحنفية (¬2)، .................... ¬
والمالكية (¬1)، وأحد القولين في مذهب الشافعية (¬2)، ومذهب الحنابلة (¬3). ¬
القول الثاني
قال في بدائع الصنائع: "فكل ما يوجب نقصان الثمن في عادة التجار نقصاناً فاحشاً أو يسيراً (¬1)، فهو عيب يوجب الخيار" (¬2). أضاف ابن الهمام: "وسواء كان ينقص العين، أو لا ينقصها ولا ينقص منافعها، بل مجرد النظر إليها كالظفر الأسود الصحيح القوي على العمل ... " (¬3). القول الثاني: ما نقص من القيمة إن كان يسيرًا مما يتغابن الناس في مثله، فلا يؤثر، وهو قول في مذهب الشافعية (¬4)، وقول في مذهب الحنابلة (¬5)، واختاره ابن حزم. ¬
القول الثالث
القول الثالث: النقص اليسير مؤثر مطلقاً، سواء نقص من القيمة، أم لا، اختاره بعض المالكية (¬1). وقد سبق أن ذكرنا أدلة هذه الأقوال في خيار العيب فأغنى عن إعادته هنا. ******* ¬
الفصل الرابع في كيفية الضمان إذا كانت المواد من المقاول
الفصل الرابع في كيفية الضمان إذا كانت المواد من المقاول [م - 787] إذا قلنا: إن المقاول ضامن، فكيف يكون الضمان؟ إذا كان تعهد المقاول على صنع شيء معين، وكانت المواد من المقاول، فالعقد يوصف بأنه عقد استصناع، والمصنوع في ذمة المقاول. وصاحب العمل غير بين أمرين: الأمر الأول: أن يرد الشيء المصنوع، وفي هذه الحال له أن يطالبه ببدله سليمًا، وذلك أن الشيء المقاول عليه ثابت في ذمة المقاول، وما ثبت في الذمة لا يلحقه عيب ولا تلف، وقد انعقد عقد المقاولة صحيحًا مستجمعاً لشروطه، وحق صاحب العمل أن يستلم الشيء المقاول عليه خاليًا من العيوب كما قلنا ذلك في المسلم فيه إذا تعذر (¬1). وله أن يفسخ العقد معه، فإن كان صاحب العمل قد سلم الثمن مقدمًا كما هو شرط الجمهور في عقد الاستصناع فإن ضمان المقاول بهذه الحال يعني أن يرد المقاول الأجرة إن كان قبضها، وإن لم يسلم الثمن مقدمًا كما هو مذهب ¬
الأمر الثاني
الحنفية فلا يستحق المقاول شيئاً لعمله؛ لعدم إتيانه بالمعقود عليه على الصفة المشروطة (¬1). الأمر الثاني: أن يقبل صاحب العمل الشيء المصنوع، ويرضى بالعيب فلا خيار له، ولا يكفي اطلاعه على العيب بل لا بد أن يعلم أنه عيب في السلعة، فلو اطلع على العيب ورضي به، ولم يعلم أن مثله يعتبر عيباً فلا يعتبر اطلاعه عليه رضا (¬2). والرضا بالعيب قسمان: صريح وكناية. فالرضا الصريح: كأن يقول بعد اطلاعه على العيب رضيت به، أو أجزت، أو أبرأت الأجير، أو أسقطت خياري، فإذا نطق بالرضا فلا خيار له، وهذا باتفاق الفقهاء (¬3). لأن الرد حق له، فإذا أسقطه برضاه سقط. ولأن الرد ثبت دفعاً للضرر عنه، فإذا رضي بالضرر جاز البيع. قال ابن تيمية: "إذا ظهر ما يدل على الرضا من قول أو فحل سقط خياره بالاتفاق" (¬4). ¬
الراجح
والرضا الضمني أو الكناية: بأن يصدر من صاحب العمل بعد العلم بالعيب فعل يدل على الرضا به، كما لو استغل المصنوع لغير ضرورة ولا تجربة (¬1)، أو عرضه للبيع. فإن حصل مثل ذلك، فقيل: يسقط خياره، وهذا قول عامة أهل العلم (¬2). وقيل: لا يسقط خياره، وهو اختيار ابن حزم (¬3). وقد ذكرنا أدلتهم في خيار العيب فأغنى عن إعادته هنا. * والراجح: ما ذهب إليه الجمهور، وأن التصرف في المبيع واستعماله دليل على رضاه به معيباً، إذ لو كان يرغب في رده لم يتصرف في مال غيره تصرف الملاك، فتصرفه في مال غيره مع رغبته في رده يعتبر من الاعتداء على مال الغير، فحماية لحق البائع اعتبر انتفاعه بمال غيره من قبيل الرضا بالعيب، وأن مثل هذا مسقط لخياره، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس في كيفية الضمان إذا كانت المواد من رب العمل
الفصل الخامس في كيفية الضمان إذا كانت المواد من رب العمل [م - 788] إذا كان تعهد المقاول على العمل فقط، والعين من رب العمل، فالمقاول في العقد أجير، وهو ما يسمى في الفقه الإِسلامي بالأجير المشترك. وقد اختلف العلماء في كيفية تضمين الأجير المشترك إلى ثلاثة أقوال. القول الأول: ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن المستأجر غير بين أن يضمن الأجير المأجور غير معمول، ولا أجر له، وبين أن يضمنه معمولًا وله الأجر. وهذا مذهب الحنفية والحنابلة (¬1). * وجه القول بالتخيير: أن الجناية جاءت من الأجير على مال صاحب العمل فكان الخيار له دون غيره بين تضمينه غير معمول، ولا أجرة له؛ لأن الأجرة إنما تجب بالتسليم، ولم يوجد. وبين تضمينه إياه معمولًا، ويدفع له أجرته؛ لأنه لو لم يدفع إليه الأجرة لاجتمع على الأجير فوات الأجرة وضمان ما يقابلها، ولأن المالك إذا ضمنه ذلك معمولاً يكون في معنى تسليم ذلك معمولاً، فيجب أن يدفع إليه الأجرة لحصول التسليم الحكمي. ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب مالك أن الفساد إن كان يسيراً فعليه قيمة ما أفسد، وإن كان الفساد كثيراً ضمن قيمة ما أفسده يوم قبضه، وليس عليه أن يضمن قيمة العين مصنوعة. جاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن استأجرت خياطاً يقطع لي قميصاً، ويخيطه لي فأفسده؟ قال: قال مالك إذا كان الفساد يسيراً، فعليه قيمة ما أفسد، وإن كان الفساد كثيراً ضمن قيمة الثوب، وكان الثوب للخياط ... " (¬1). وجاء في المدونة تحت عنوان (القضاء في تضمين الصناع) "قلت: أرأيت لو أني دفعت إلى قصار ثوباً ليغسله لي، فغسله، أو دفعت إلى خياط ثوبا ليخيطه لي ففعل، ثم ضاع بعد ما فرغ من العمل، فأردت أن أضمنه في قول مالك، كيف أضمنه؟ أقيمته يوم قبضه مني أم أدفع إليه أجره وأضمنه قيمته بعد ما فرغ منه؟ قال: سألت مالكاً أو سمعت مالكاً يسأل عن الرجل يدفع إلى القصار الثوب فيفرغ من عمله، وقد أحرقه، أو أفسده ماذا على العامل؟ قال: قيمته يوم دفعه إليه ... قلت: أرأيت إن قلت: أنا أضمنه قيمته مقصوراً وأؤدي إليه الكراء؟ قال: ليس لك أن تضمنه إلا قيمته يوم دفعته إليه أبيض؟ قال: وسألنا مالكاً عن الخياطين إذا أفسدوا ما دفع إليهم؟ قال: عليهم قيمة الثياب يوم قبضوها" (¬2). وجاء في المنتقى: "إذا أفسد الخياط، أو القصار الثوب فساداً يسيراً، فقد ¬
القول الثالث
قال مالك في الموازية والمختصر: عليه ما نقصه بعد أن يرفأه، يقال: ما قيمته يوم دفعه إليه صحيحاً وما قيمته ذلك اليوم مرفوًا فيغرم ما بين ذلك، وإن كثر ضمن قيمته كله يوم دفعه إليه. وروى ابن وهب عن مالك إذا أفسده بخياطة فله أن يضمنه قيمته يومه صحيحًا" (¬1). القول الثالث: اختلف الشافعية في كيفية تضمين تأجير المشترك بتاء على اختلافهم في تضمينه: جاء في المهذب: "فإن قلنا: إنه أمين فتعدى فيه، ثم تلف ضمنه بقيمته أكثر ما كانت من حين تعدى إلى أن تلف؛ لأنه ضمن بالتعدي، فصار كالغاصب. وإن قلنا: إنه ضامن لزمه قيمته أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف كالغاصب. ومن أصحابنا من قال: يلزمه قيمته وقت التلف كالمستعير، وليس بشيء" (¬2). وأرى أن مذهب المالكية هو أرجح الأقوال، وأنه لا وجه لتضمينه العين مصنوعة فهو لم يملك الصنعة حتى يمكن أن يطالب بضمانها، والترجيح إنما في وقت الضمان، هل يضمنها يوم قبضها، أو يضمنها يوم تلفها، والذي بسببه وجب الضمان، والثاني أرجح، وقد تكلمنا عنه في باب ضمان المبيع فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم. ... ¬
الفصل السادس إذا حبس العين لاستيفاء الأجرة فتلفت
الفصل السادس إذا حبس العين لاستيفاء الأجرة فتلفت [م - 789] إذا حبس المقاول العين من أجل استيفاء الأجرة فتلفت، فهل يضمن المقاول؟ اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن الأجير إذا أراد حبس العين بعد الفراغ من العمل نظر: فإن كان لعمله أثر ظاهر في العين كالخياط والصباغ ونحوهما، وكان الأجر حالًا ليس مؤجلًا، فإن له حبس العين حتى يقبض الأجرة. * وجه ذلك: أن ذلك الأثر في العين هو المعقود عليه، وهو صيرورة الثوب مخيطًا أو مصبوغًا، وهو عمل المقاول وملكه، والأجرة في مقابل ذلك الأثر، فحق للمقاول أن يحبس ملكه حتى يستلم عوضه، فكان كالمبيع له أن يحبسه لاستيفاء أجره (¬1). وهذا أحد الوجهين في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). فإن حبس العين فضاعت فاختار أبو حنيفة أن لا ضمان عليه؛ لأن العين أمانة في يده .. وفي حبسها لا يكون متعديًا فلا يجب عليه الضمان. ¬
القول الثاني
ولا أجرة له؛ لأن المعقود عليه هلك قبل التسليم. وذلك يوجب سقوط البدل كالمبيع إذا هلك قبل القبض. فإن لم يكن لعمله أثر، كالحمال، والملاح فلا يحق له حبس العين؛ لأن المعقود عليه وهو الحمل عرض لا يتصور بقاؤه، وليس له أثر في العين حتى يتصور حبسه (¬1). واختار أبو يوسف ومحمد بن الحسن بأنه يضمن إذا تلفت العين؛ ليس بسبب الحبس، وإنما لكونها مضمونة عليه بالقبض قبل الحبس، فلا يسقط ذلك بالحبس (¬2). فإن شاء ضمنه قيمته غير معمول، ولا أجر له، إن شاء ضمنه معمولاً, وله الأجر. القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن الأجير له أن يحبس ما في يده مطلقاً سواء كان له أثر في العين أو ليس له أثر في العين حتى يستوفي أجره، وإذا هلكت فعليه الضمان إلا أن تقوم له بينة على الضياع فيبرأ من الضمان، ولا أجر له؛ لأنه لم يسلم ما عمل إلى أربابه (¬3). ¬
القول الثالث
جاء في التاج والإكليل: "قال ابن القاسم: لكل صانع أو حمال على ظهر أو سفينة منع ما حمل أو عمل حتى يأخذ أجره، فإن هلك ذلك بأيديهم في منعهم فالصناع ضامنون، ولا أجر لهم إلا أن تقوم بينة على الضياع فلا ضمان عليهم، ولا أجر لهم؛ لأنهم لم يسلموا ما عملوا إلى أربابه ... " (¬1). القول الثالث: اختار الشافعية أن يوضع المستأجر عليه عند عدل حتى يقبض الأجير أجرته. جاء في حاشيتي قليوبي وعميرة: "وللخياط والقصار والصباغ والطحان الحبس بوضع المستأجر عليه عند عدل حتى تُقبَض أجرته، إن صحت الإجارة وزادت القيمة بما فعل، وإلا فلا حبس" (¬2). * وجه ذلك: بأنه لما وجب لكل واحد من المتعاقدين على الآخر ما قد استحق قبضه بموجب العقد، فالمقاول يستحق تسلم الأجرة، وصاحب العمل يستحق تسلم العين، وليس هناك أحد أولى من الآخر بالتسليم، فيجبر كل واحد منهما على قضاء صاحبه حتهه عن طريق العدل الذي ينصب لهذه المهمة. القول الرابع: ذهب زفر من الحنفية، ووجه في مذهب الشافعية، والمذهب عند الحنابلة ¬
وجه ذلك
بأنه لا يحق للأجير أن يحبس العين ليستوفي الأجرة (¬1). * وجه ذلك: لما كان عمل المقاول (المعقود عليه) متصلاً بملك المالك كالصبغ في الثوب، والخياطة فيه صار المعقود عليه مسلماً حكماً إلى صاحب العين لاتصاله بملكه، فسقط حق الحبس به. وهذا تعليل زفر (¬2). ورد الحنفية: بأن اتصال العمل بالمحل ضرورة إذ لا وجود للعمل إلا به فكان مضطرًا إليه، والرضا لا يثبت مع الاضطرار (¬3). وعلل الشافعية والحنابلة ذلك: بأنه إذا حبس الصانع الثوب بعد فراغه من العمل لاستيفاء الأجر، فتلف، ضمنه؛ لأنه لم يرهنه عنده، ولا أذن له في إمساكه، فلزمه الضمان كالغاصب. * الراجح: أن العامل إذا كان يخشى من المؤجر ألا يسلمه الأجر فإن له أن يحبس العين حتى يقوم رب العمل إما بتسليم الأجر، أو يقوم بتسليم عدل يرضى به الأجير، وقد تكلمنا عن حكم حبس المبيع على ثمنه في عقد البيع، وهذا الباب مثله، والله أعلم. ¬
الفصل السابع في البراءة من العيب
الفصل السابع في البراءة من العيب [م - 790] إذا طلب المقاول البراءة من العيب: فإن كان عقد المقاولة على العمل فقط، وكانت المواد من رب العمل فإن ضمان المقاول يجب أن يكون موجهاً إلى العيب العائد إلى عمل المقاول، ولا يضمن المقاول العيب الراجع إلى رداءة تلك المواد التي قدمها له صاحب العمل إلا أن يكون هناك تغرير من المقاول كما لو كان من مسؤوليته أن يبين رداءة تلك المواد لصاحب العمل ولم يبين ذلك، أو كان ضمان المقاول من قبيل التأمين التجاري ولا ينبغي الخلاف في جوازه، ولا ينزل الخلاف في التأمين التجاري على الخلاف في تأمين المقاول؛ لأنه ضمان تابع، وليس عقداً مستقلاً كالضمان الذي يأتي مع السلع مدة معينة. وإن كان المقاول ملتزماً بتقديم الأدوات منه، وهو ما يسمى بعقد الاستصناع في الفقه، فالمصنوع عملاً ومواداً من المقاول، فهل يصح من المقاول أن يطلب المقاول البراءة من العيب في شروط العقد؟ وللجواب على ذلك نقول: عقد الاستصناع (المقاولة) سواء اعتبرناه من عقود البيع كما عند الحنفية، أو اعتبرناه من عقود الإجارة باعتبار أن العقد وارد على العمل والمواد تبع، فالإجارة لا تخرج عن البيع باعتبارها من بيع المنافع والضمان في العقد على التوصيفين راجع لأحكام ضمان المبيع. وقد اختلف الفقهاء في اشتراط البراءة من العيب في عقد البيع على ثلاثة أقوال:
القول الأول
القول الأول: يجوز اشتراط البراءة من العيب مطلقاً سواء كان عالمًا بالعيب أم غير عالم به. وهذا مذهب الحنفية (¬1)، وأحد قولي الشافعي (¬2). القول الثاني: لا يصح اشتراط البراءة من العيب مطلقًا, ولا يبرأ إذا اشترط ذلك، سواء كان عالمًا بالعيب أو غير عالم به. وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). القول الثالث: لا يبرأ البائع إذا كان عالمًا بالعيب، وهذا مذهب المالكية (¬4)، وأحد قولي الشافعي (¬5)، وقول في مذهب الحنابلة اختاره ابن تيمية (¬6). ¬
وقد ذكرنا أدلة كل قول في باب الشروط في البيع، فأغنى عن إعادتها هنا، ولله الحمد. وأرى أن القول الراجح مع مذهب الحنابلة، ويختلف المقاول عن البائع فالبائع علاقته بالسلعة علاقة ملكية، وقد لا يكون خبيرًا فيها، بينما المقاول صانع يعرف أسرار صنعته، وهو خبير بما صنع، قال تعالى ولله المثل الأعلى {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. فإذا شرط الصانع البراءة من العيوب فلا يكون هذا الاشتراط إلا من سوء نية الصانع؛ لأنه لا يقصد بذلك إلا حماية نفسه من مسئولية الإهمال أو الخطأ أو الجهل بأصول الصنعة التي يمارسها والتي تعاقد على أساس أنه متقن لها، ويكون في ذلك ضرر على صاحب العمل. ولأن هذا الشرط يشجع على التدليس والغش في الصناعة (¬1). جاء في المنتقى: "ولو شرط الصانع أنه لا ضمان عليه ففي العتبية والموازية عن أشهب، عن مالك: لم ينفعه الشرط ... " (¬2). وجاء في الشرح الصغير: " ولو شرط الصانع نفيه: أي نفي الضمان عن نفسه، فإنه يضمن، ولا يفيده شرطه" (¬3). وعلل الدسوقي ذلك بأنه شرط مناقض لمقتضى العقد. وإذا كان جمهور العلماء يرون أن الأجير المشترك ضامن لصنعته، فاشتراط نفي الضمان لا ينفعه. ¬
جاء في القواعد الفقهية: "كل ما كان أمانة لا يصير مضموناً بشرطه، وما كان مضموناً لا ينتفي ضمانه بشرطه" (¬1). "وعقد المقاولة في هذا النطاق يتعلق بإنشاءات ذات مواصفات فنية دقيقة، لا يستطيع صاحب العمل كشف ما بها من عيوب خفية حتى لو استخدم في سبيل ذلك خبراء بشؤون الإنشاء والتعمير، وقد أظهر التطبيق العملي أن بعض المقاولين يشتري حديد تسليح قابلاً للصدأ، فإذا تراكم الصدأ عليه بفعل الرطوبة أو غيرها أدى إلى ظهور تصدعات في المبنى مما يطلق عليه فنياً (تخوخات) وأن البعض الآخر منهم يخلط إسمنت المباني بإسمنت التبليط ونحوه مما يجعله ضيقاً في تماسكه، ومثل تلك العيوب لا يحق لصاحب العمل براءة المقاول منها، فهي تتعلق بالمصالح العامة، وقد تؤدي إلى إزهاق أرواح سكان المباني أو مستخدمي الجسور، أو ركاب السيارات والقطارات ونحوها. ولا يشترط المقاول البراءة من العيب إذا كانت لديه الغش أو التقصير. وهذا مرفوض شرعاً، وقانوناً، وأخلاقاً" (¬2). وهذا ما صدر به قرار مجمع الفقه الإِسلامي: "لا يقبل في عقد المقاولة اشتراط البراءة من العيوب طيلة فترة الضمان المنصوص عليها في العقد" (¬3). وجاء فيه أيضًا: "لا يقبل في عقد المقاولة اشتراط نفي الضمان عن المقاول" (¬4). وقد توجهت القوانين العربية إلى اعتبار ضمان المقاول من النظام العام، ¬
الراجح
وقررت بأنه يقع باطلاً كل شرط يقصد به إعفاء المقاول أو المهندس من الضمان أو الحد منه. وحددت مدة الضمان خلال عشر سنوات من تسليم العمل. وإذا كان المهندس يضع تصميمه على أن ينفذه المقاول تحت إشرافه كانا متضامنين في التعويض. وإن اقتصر عمل المهندس على وضع التصميم دون الإشراف على التنفيذ كان مسئولاً فقط عن عيوب التصميم. وبناء عليه فإنه لا ينفع المهندس والمقاول أي شرط في عقود المقاولات تعفيهم من المسئولية أو تحد منها، كأن يشترط المهندس أو المقاول أن تبرأ ذمته من ضمان العيوب الظاهرة أو الخفية أو كليهما بمجرد تسلم صاحب العمل، أو أن يشترطا تخفيض مدة الضمان إلى أقل من عشر سنوات. والله أعلم. * الراجح: أن الضمان للشيء المصنوع إن كان موجهًا إلى سلعة قام بصنعها المقاول، وكانت المواد منه فإن الضمان لعشر سنوات أو أقل أو أكثر جائز شرعاً، ويمكن اعتباره نوعاً من التأمين والذي يضمن المقاول فيه جميع ما يحدث للسلعة مدة الضمان، ولا ينبغي أن ينزل الخلاف في التأمين على ضمان هذه السلعة فإن التأمين في هذا العقد يعتبر عقداً تابعًا لعقد البيع، ويجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالاً، وهو موجود في أسواقنا فإن الإنسان قد يشتري من السوق سلعة، ويكون الضمان (التأمين) من الشركة المصنعة مدة معينة كنوع من تسويق السلعة. ********
الباب الخامس في المقاولة من الباطن
الباب الخامس في المقاولة من الباطن الفصل الأول في تعريف المقاولة من الباطن تعريف المقاولة من الباطن: المقاولة من الباطن: هي اتفاق بين المقاول الأصلي ومقاول آخر على أن يقوم الثاني بتنفيذ الأعمال المسندة إلى الأول، أو جزء منها مقابل أجر (¬1). ولا يدخل في ذلك ما لو تنازل المقاول الأصلي عن عقد المقاولة إلى مقاول آخر برضا رب العمل فهذه إقالة من رب العمل، وإنشاء. مقاولة جديدة مع المقاول البديل. * علاقة المقاول الأصلي بالمقاول من الباطن: [م - 791] تكون العلاقة بين المقاول الأصلي والمقاول الثاني علاقة صاحب عمل بمقاول ينظمها عقد المقاولة من الباطن، فيحل فيها المقاول الأصلي محل صاحب العمل، وعليه جميع التزامات رب العمل من تمكين المقاول من الباطن من إنجاز العمل، وتسلم العمل بعد إنجازه، ودفع الأجرة المتفق عليها. ويكون المقاول من الباطن بالنسبة إلى المقاول الأصلي مقاولاً عليه جميع ¬
علاقة رب العمل بالمقاول من الباطن
التزامات المقاول، من ذلك: إنجاز العمل، وتسليمه بعد إنجازه، وضمانه بعد التسليم. فيقوم في الواقع عقدا مقاولة: عقد المقاولة الأصلي يحكم العلاقة بين رب العمل والمقاول الأصلي. وعقد المقاولة من الباطن يحكم العلاقة بين المقاول الأصلي والمقاول من الباطن. وليس من الضروري أن يكون العقدان متطابقين أو متقاربين، بل يغلب أن يكونا مختلفين من وجوه كثيرة، كمقدار الأجرة، وشروط العقد. * علاقة رب العمل بالمقاول من الباطن: لا تربط المقاول الثاني في الغالب علاقة مباشرة بصاحب العمل، وإن كان عمل المقاول الثاني مستفادًا من إذن صاحب العمل للمقاول الأصلي، سواء كان الإذن صريحًا أو ضمنيًا. فلا يحق لصاحب العمل التعامل المباشر مع ذلك المقاول من الباطن، ولا أن يطالبه بالتزاماته، وإنما عليه الرجوع إلى المقاول الأصلي الذي تعاقد معه. ولا يحق للمقاول الثاني أن يطالب صاحب العمل بشيء من التزاماته اتجاه المقاول الأول إلا إذا أحاله على رب العمل. وإنما تكون العلاقة بين رب العمل والمقاول علاقة غير مباشرة إذ يتوسطها المقاول الأصلي (¬1). ... ¬
الفصل الثاني في حكم عقد المقاولة من الباطن
الفصل الثاني في حكم عقد المقاولة من الباطن [م - 792] هل يجوز للمقاول أن يؤجر غيره بحيث يكل تنفيذ العمل كله أو بعضه إلى مقاول آخر؟ وللجواب عن ذلك يقال: لا يحق للمقاول أن يعهد بتنقيذ العمل إلى غيره بالحالات التالية: (1) إذا كان في العقد شرط يمنع المقاول من ذلك. جاء في مرشد الحيران مادة (621) ما يلي: "لا يجوز للصانع أو المقاول الذي التزم في العقد العمل بنفسه أن يستعمل غيره". وجاء في الهداية شرح البداية: "وإذا شرط على الصانع أن يعمل بنفسه فليس له أن يستعمل غيره؛ لأن المعقود عليه العمل في محل بعينه، فيستحق عينه كالمنفعة في محل بعينه" (¬1). (2) إذا كانت طبيعة العمل تقتضي أن يقوم به بنفسه، كما لو كانت كفاءة المقاول مقصودة في العقد كالخطاط والطبيب والمهندس فلا يحق لهم أن يقاولوا من الباطن حتى ولو لم يكن منصوصاً صراحة في عقد المقاول على المنع من المقاولة من الباطن. (3) ألا يكون المقاول تابعاً لرب العمل، يعمل تحت إدارته، ولا يستطيع أن يعمل لغيره. ¬
وللجواب عن ذلك نقول
فإذا كان المتعاقد الأصلي خاضعاً لإشراف رب العمل وإدارته، ويملك نفعه في الزمن المتفق عليه، وهو ما يسمى بالأجير الخاص، فليس له أن يتعاقد من الباطن؛ لأن العقد قد ورد على عمله بنفسه، فلا يقوم غيره مقامه، فأشبه ما لو اشترى شيئًا معيناً لم يجز أن يدفع إليه غيره، ولا يبدله، ولا يلزم المشتري قبوله فكذلك المستأجر (¬1). وأما إذا كان عقد المقاولة مطلقاً، وكان شخص المقاول غير مقصود في المقاولة، وإنما المقصود القيام بالعمل سواء قام به بنفسه أو بغيره، ولم يكن المقاول من الأجير الخاص فهل للمقاول أن يعهد إلى مقاول آخر للقيام بالعمل خاصة أن بعض الأعمال لا يمكن للمقاول أن يقوم بها بنفسه كما لو كانت المقاولة كبيرة متعددة الأعمال، كإنشاء الجسور، وتعبيد الطرق وأعمال البناء حيث تتطلب مجموعة من الحرف المختلفة التي تتطلب أن يقوم بها مجموعة من العمال، فما حكم أن يعهد المقاول إلى مقاول آخر يقوم بكل عمله أو بعضه؟ وللجواب عن ذلك نقول: يسري على عقد المقاولة من الباطن نفس الحكم الذي قيل في حق المقاول الأصلي. فإن كان المقاول الثاني يقدم العمل والمواد معاً كان العقد مع المقاول الثاني عقد استصناع، فيأخذ حكم عقد الاستصناع عند العلماء. وقد ذهب جمهور الحنفية إلى القول بجوازه، ولم يخالف في ذلك إلا زفر (¬2). ¬
وقيل: لا يصح إلا بشروط السلم، وهذا مذهب الجمهور، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: لا يصح مطلقا، وهو أحد الوجهين في مذهب الحنابلة. جاء في الإنصاف: "ذكر القاضي وأصحابه: أنه لا يصح استصناع سلعة؛ لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم، واقتصر عليه في الفروع ... " (¬2). ¬
وقد ذكرنا أدلة كل قول في عقد الاستصناع فأغنى عن إعادته، ورجحت مذهب الحنفية. وأما إذا كان التزام المقاول الباطن بتقديم العمل دون المواد، فقد يكون أجيرًا خاصًا، وقد يكون أجيرًا مشتركاً بحسب طبيعة العقد معه. فإن كان العقد واردًا على عمله، ومنافعه ليست مستحقة للمقاول الأصلي، فهو من قبيل الأجير المشترك. فإن كان العقد وارداً على منفعته، بحيث تكون منافعه مستحقة للمقاول الأصلي خلال مدة الإجارة فإن المقاول الثاني من قبيل الأجير الخاص، ولا مانع من عمل مجموعة من الأجراء الخاصين تحت يد الأجير المشترك، كالخياط يعمل عنده مجموعة من الخياطين كأجراء خاصين له. والأجير المشترك يستحق الأجرة بالعمل، لا بتسليم النفس؛ لأن العقد وارد عليه، فلا يستحق أجرة إذا لم يعمل، ويستحق من الأجرة بقدر ما عمل، وأما الأجر الخاص فيستحق الأجرة بالوقت دون العمل، فإذا سلم نفسه في الوقت استحق الأجرة، سواء أنجز العمل كله أو بعضه؛ وسواء عمل أو لم يعمل؛ لأن المعقود عليه هو منفعته. وقد ذهب الأئمة الأربعة إلى أن للأجير المشترك إنابة غيره ليقوم بعمله إذا لم يشترط عليه في العقد أن يعمل بنفسه، وكان المطلوب في الإجارة تحصيل العمل لا عين العامل. جاء في بدائع الصنائع: "وللأجير أن يعمل بنفسه وأجرائه إذا لم يشترط عليه في العقد أن يعمل بيده؛ لأن العقد واقع على العمل، والإنسان قد يعمل بنفسه، وقد يعمل بغيره؛ ولأن عمل أجرائه يقع له، فيصير كأنه عمل بنفسه إلا إذا شرط
عليه عمله بنفسه؛ لأن العقد وقع على عمل من شخص معين، والتعيين مفيد؛ لأن العمال متفاوتون في العمل فيتعين ... " (¬1). وذهب الشافعية إلى أن الإجارة إن كانت واردة على عين الأجير وجب عليه أن يقوم بالعمل بنفسه، وإن كانت الإجارة واردة على ذمته، فله تحصيل العمل بنفسه وبغيره، وهذا التفصيل غير مناف لكلام الأئمة. لأن الإجارة إن كان المقصود منها تحصيل العمل بغض النظر عن العامل فهي إجارة واردة على الذمة، وبالتالي له أن يقوم بنفسه وبغيره، وإن كانت عين الأجير محل اعتبار في العقد كالرسام، والطبيب كانت الإجارة واردة على عين الأجير، وتعين العمل عليه بنفسه، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في ضمان المقاول من الباطن
الفصل الثالث في ضمان المقاول من الباطن [م - 793] تحدثنا فيما سبق عن ضمان المقاول الأصلي، فهل المقاول من الباطن يأخذ حكمه في الضمان؟ وللجواب عن ذلك: نقول: ينظر في طبيعة العقد بين المقاول الأصلي والمقاول الباطن: فإن كان المقاول الباطن قد تعهد بالعمل والمواد فالعقد عقد استصناع، فيضمن المقاول من الباطن في هذا ما يضمنه المقاول الأصلي، فللمقاول الأصلي أن يطالبه ببدله سليماً باعتبار أن المعقود عليه في الذمة، وما في الذمة لا يلحقه تلف ولا عيب، ولا يبرأ المقاول من الباطن حتى يسلم سلعة مطابقة للمواصفات المتفق عليها. وللمقاول الأصلي أن يختار فسخ العقد مع المقاول من الباطن، فإذا كان قد سلمه الثمن فإنه يطالبه برده، وإن لم يسلمه الثمن فلا يطالبه المقاول من الباطن بأي شيء باعتبار أن المقاول من الباطن لم يلتزم بتعهداته. وله أن يقبل السلعة معيبة بشرط أن يوافق صاحب العمل على قبولها. وهل له أن يطالبه بأرش النقص؟ في المسألة قولان بيناهما في خيار العيب. وإن كان المقاول الباطن قد تعهد بتقديم العمل دون المواد، وكان العقد معه وارداً على العمل دون الزمن، ولم يكن خاضعًا لإشراف المقاول الأصلي، ولا إدارته، ويحق له أن يستقبل أعمالاً أخرى من مقاولين آخرين فهو يأخذ حكم المقاول الأصلي في الضمان.
وقد فصلنا ذلك في الكلام عن ضمان المقاول الأصلي، فالمقاول الباطن فرع عنه، فأغنى ذلك عن إعادته، وقد رجحت أنه يضمن إلا أن يكون التلف بسبب لا يمكنه التحرز منه كحريق غالب، والله أعلم. وإن كان الأجير الذي تعاقد معه المقاول الأصلي وارداً على منفعته مدة معينة، ويخضع لإشراف المقاول الأصلي وإدارته، ولا يحق له أن يستقبل أعمالاً أخرى مدة عقده، فهذا يأخذ في الضمان حكم الأجير الخاص. والأجير الخاص لا يضمن إلا إذا كان متعديًا أو مفرطًا؛ لأنه نائب عن المالك في صرف منافعه إلى ما أمر به، فلم يضمن كالوكيل، ولأن عمله غير مضمون عليه، وإنما يكون الضمان على المقاول الأصلي. قال ابن قدامة في الكافي: "وإن استأجر الأجير المشترك أجيراً خاصاً، فأتلف الثوب، فلا ضمان على الخاص، ويضمنه المشترك" (¬1). وجاء في مطالب أولي النهى: "إذا تقبل صاحب الدكان خياطة ثوب، ودفعه إلى أجيره فخرقه، أو أفسده بلا تعد ولا تفريط؛ لم يضمنه؛ لأنه أجير خاص، ويضمنه صاحب الدكان لمالكه؛ لأنه أجير مشترك" (¬2). ¬
الباب السادس في الشرط الجزائي
الباب السادس في الشرط الجزائي الفصل الأول حكم اشتراط مثل هذا الشرط في العقود [م - 794] لما كان الشرط الجزائي يوضع عادة كشرط ضمن شروط العقد الأصلي ألحقت الشرط الجزائي ضمن الشروط الجعلية في عقد البيع، وبينت هناك أحكامه وشروطه المتفق عليها والمختلف فيها، فأغنى عن إعادته هنا. ونستطيع أن نقول فيما يتعلق بحكم الشرط الجزائي: إن هذا الشرط يرجع إلى مسألة متقدمة، وهو هل الأصل في الشروط المنع والبطلان، أو الأصل الصحة والجواز؟ ففي المسألة قولان: القول الأول: يرى أن الأصل في الشروط المنع والبطلان، حتى يقوم دليل على جوازه وصحته، ومثل هذا المذهب لا يجيز مثل هذا الشرط جزماً، ومن هؤلاء ابن حزم رحمه الله (¬1). ويستدل بأدلة كثيرة، ذكرناها وأجبنا عنها فيما تقدم، من أهمها: (ح-553) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - في قصة شراء بريرة، وفي الحديث: "قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، ¬
فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق .. " (¬1). قال ابن حزم: فهذه الأخبار براهين قاطعة في إبطال كل عهد، وكل عقد، وكل وعد، وكل شرط ليس في كتاب الله الأمر به، أو النص على إباحة عقده؛ لأن العقود والعهود والأوعاد شروط، واسم الشرط يقع على جميع ذلك (¬2). وقيل: الأصل في الشروط الصحة والجواز حتى يقوم دليل شرعي على المنع والبطلان، وهذا يذهب إليه ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة (¬3)، ومثل هؤلاء يمكن لهم أن يذهبوا إلى جواز الشرط الجزائي. وقد ذهبت هيئة كبار العلماء بالسعودية (¬4)، والمجمع الفقهي التابع لمنظمة ¬
المؤتمر الإِسلامي (¬1) إلى جواز اشتراط مثل هذا الشرط. وقد ذكرنا أدلتهم في الشروط الجعلية في عقد البيع فأغنى عن إعادته هنا. وإذا أردنا أن نعرف حكم الشرط الجزائي بالنظر إلى قواعد كل مذهب وموقفه من الشروط الجعلية. فيمكن القول بأن مذهب الحنفية والشافعية لا يقولون بصحة الشرط الجزائي؛ لأن الأصل في مذهبهم النهي عن بيع وشرط، ويروون حديثًا ضعيفًا بهذا اللفظ، وقد سبق تخريجه. فالشافعية لا يستثنون من هذا إلا الشروط التي يقتضيها العقد، مثل التسليم، والانتفاع، والشروط التي فيها مصلحة للعقد كالرهن والتأجيل والكفيل، والخيار، ويلحق به إذا باعه بشرط العتق. وما سوى ذلك من الشروط فهي باطلة عندهم. ويدخل في ذلك الشرط الجزائي، إذا اعتبرنا أن الشرط الجزائي لا يقتضيه العقد، وليس بمنزلة الرهن والضمان، والأجل. يقول الغزالي: "الثامن (نهى عن بيع وشرط) فاقتضى مطلقه امتناع كل شرط في البيع، والمفهوم من تعليله أنه إذا انضم شرط إلى البيع بقيت معه علقة بعد ¬
العقد، يتصور بسببها منازعة، ويفوت بفواتها مقصود العاقد، وينعكس على أصل العقد، فيحسم الباب، ولم يكن محذور هذا النهي منفصلًا عن العقد، فيدل على فساده أو فساد الشرط لا محالة ... ثم ذكر ما يستثنى من حديث النهي عن بيع وشرط" (¬1). ويقول الشيرازي: "إذا شرط في المبيع شرطًا نظرت: فإن كان شرطًا يقتضيه البيع، كالتسليم، والرد بالعيب، وما أشبههما لم يبطل العقد؛ لأن شرط ذلك بيان لما يقتضيه العقد، فلم يبطله. فإن شرط ما لا يقتضيه العقد، ولكن فيه مصلحة: كالخيار، والأجل، والرهن، والضمين، لم يبطل العقد؛ لأن الشرع ورد بذلك على ما نبينه في مواضعه إن شاء الله، ولأن الحاجة تدعو إليه، فلم يفسد العقد، فإن شرط عتق العبد المبيع، لم يفسد العقد؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - اشترت بريرة لتعتقها ... فإن شرط ما سوى ذلك من الشروط التي تنافي مقتضى البيع، بأن باع عبدًا بشرط ألا يبيعه، أو لا يعتقه، أو باع دارًا بشرط أن يسكنها مدة، أو ثوبًا بشرط أن يخيطه له، أو نعلة بشرط أن يحذوها له، بطل البيع، لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع وشرط ... " (¬2). ولا يختلف مذهب الحنفية عن مذهب الشافعية في بطلان الشرط في البيع؛ لأنهم يذهبون مع الشافعية إلى اعتماد ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن بيع وشرط، إلا أن الحنفية يختلفون عن الشافعية في تقديم الشرط الذي جرى به العرف، وكان عليه عمل الناس، ويقدمونه على القياس، فإذا جرى العرف على ¬
اعتبار الشرط الجزائي في العقود، وجرى التعامل به بين الناس أمكن للمذهب الحنفي أن يتسع لقبول القول بالشرط الجزائي استحساناً وإن كان على خلاف القياس عندهم. وهذه مرونة في المذهب يختلف فيها عن المذهب الشافعي. فقد ذكر الكاساني أن الشرط الذي لا يقتضيه العقد، وليس بملائم له، ولكن للناس فيه تعامل، وفيه عرف ظاهر أن هذا الشرط فاسد بالقياس عندهم، ولكنهم يقولون بجوازه استحسانا؛ لأن العرف يقضي على القياس، ويسقط القياس بتعامل الناس كما سقط في الاستصناع (¬1). ولو أن مذهب الحنفية جعلوا عمل الصحابة يسقط القياس لكان هذا جيداً، أما عمل الناس من غير الصحابة فليس بحجة، وقد يتعامل الناس بما يخالف نصًّا شرعياً، أيكون ذلك حجة على أحد؟ وأما مذهب المالكية فإن الباحث لا يستطيع أن يخرج بقاعدة من تعاملهم مع الشروط يمكنه أن يتدمس صحة هذا الشرط أو بطلانه عندهم، وهذا ما عبر عنه ابن رشد الحفيد، حيث يقول في بداية المجتهد: "وأما مالك فالشروط عنده تنقسم ثلاثة أقسام: شروط تبطل هي والبيع معاً. وشروط تجوز هي والبيع معاً. وشروط تبطل هي، ويثبت البيع. وقد يظن أن عنده قسماً رابعاً: وهو أن من الشروط ما إن يمسك المشترط بشرطه بطل البيع، وإن تركه جاز البيع، وإعطاء فروق بَيِّنة في مذهبه بين هذه ¬
الأصناف الأربعة عسير، وقد رام ذلك كثير من الفقهاء، وإنما هي راجعة إلى كثرة ما يتضمن الشروط من صنفي الفساد الذي يخل بصحة البيوع: وهما الربا والغرر، وإلى قلته، وإلى التوسط بين ذلك، أو إلى ما يفيد نقصاً في الملك، فما كان دخول هذه الأشياء كثيراً من قبل الشرط أبطله، وأبطل الشرط، وما كان قليلاً أجازه، وأجاز الشرط فيها، وما كان متوسطاً أبطل الشرط، وأجاز البيع ... " (¬1). ويفهم من كلام ابن رشد أن يسير الربا يجوز كما يجوز يسير الغرر، والحق أن يسير الربا محرم، ويسير الغرر جائز بالإجماع. وأما مذهب الحنابلة فهم أوسع المذاهب في الشروط، ويمكن تخربج صحة الشرط الجزائي على قواعد المذهب، والله أعلم. هذا ما ظهر لي من خلال تقسيم الشروط في كل مذهب ما يصح منها، وما لا يصح. وقد خالف في هذا بعض الفضلاء، فرأى أن الشرط الجزائي مشروع وصحيح عند سائر أئمة المذاهب، يقول الشيخ الدكتور ناجي شفيق عجم، من جامعة الملك عبد العزيز: "الشرط الجزائي شرط جائز، ومشروع حتى إنه صحيح عند المذاهب؛ لأنه شرط مقترن بالعقد جرى به العرف، وفيه مصلحة للعقد، وهو شرط ملائم للعقد، ولذلك فهو صحيح عند الحنفية؛ لجريان العرف به، وصحيح عند الشافعية؛ لأن فيه مصلحة للعقد، وصحيح عند المالكية لأن فيه مصلحة للعقد، ولأنه شرط ملائم لم يرد بإلغائه وتحريمه أو جوازه نص خاص، فهو لائم ¬
مرسل، وهو جائز وصحيح من باب أولى عند الحنابلة الذين لا يحرمون إلا الشروط التي ورد بتحريمها نص، أو التي تنافي مقتضى العقد" (¬1). ¬
الفصل الثاني في أخذ الشرط الجزائي على المقاول
الفصل الثاني في أخذ الشرط الجزائي على المقاول [م - 795] لما كان محل التزام المقاول عملًا من الأعمال، كأن يلتزم المقاول أو المورد أو الصانع في عقود المقاولة أو التوريد أو الاستصناع أن يدفع مبلغًا معينًا عن كل يوم، أو عن كل أسبوع، أو عن كل مدة أخرى من الزمن يتأخر فيها المقاول أو المورد أو الصانع عن تسليم العمل المعهود إليه إنجازه. ولما كان الشرط الجزائي من شرطه أن يكون العقد لازمًا، وكان عقد المقاولة لا يخرج عن عقدين معروفين في الفقه الإِسلامي وهما عقد الاستصناع وعقد الأجير المشترك. وعقد الاستصناع على الصحيح عقد لازم، كما رجحته في كتاب الاستصناع. وعقد الأجير المشترك أيضاً عقد لازم، وهو مذهب الأئمة الأربعة. لهذا يرى أكثر الباحثين المعاصرين أنه لا مانع شرعًا في أن يتفق العاقدان على هذا الشرط الجزائي عند انعقاد العقد؛ لأن هذا الشرط لا يناقض مقتضى العقد، وفيه مصلحة لأحد الطرفين، ويحمل المقاول والصانع والمورد على الوفاء بالتزاماتهم، وهو أمر مطلوب شرعًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. وممن أخذ بهذا القول هيئة كبار العلماء في السعودية (¬1)، ومجمع الفقه ¬
الإِسلامي السابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (¬1). فإذا تحقق شرطه، وخلا من المانع وجب على المقاول أن يدفع ما تعهد به. فمن الشروط المتفق عليها: الأول: لا بد من الإخلال بالشرط المتفق عليه. الثاني: ألا يوجد عذر للمقاول والمورد والصانع معتبر شرعاً من عدم الالتزام بالوفاء في الوقت المحدد، فإذا كان تأخرهم عن التسليم ناتجاً عن ظروف قاهرة خارجة عن إرادتهم فلا يلزمهم التعويض. الثالث: هل يشترط أن يوجد ضرر فعلي من التأخير، أو لا يشترط، في ذلك خلاف بين أهل العلم: فمن أهل العلم من يرى أن الشرط الجزائي تعويض عن الضرر الحاصل، وبالتالي: لا يستحق شيئاً من شرط له إذا ثبت أن التأخير لم يترتب عليه أي ضرر، ولم يتسبب في فوات أي منفعة مالية. وهذا ما أخذ به مجمع الفقه الإسلامي، وظاهر قرار هيئة كبار العلماء. ففي قرار المجمع ما نصه: "لا يعمل بالشرط الجزائي إذا ثبت من شرط عليه أن إخلاله بالعقد كان بسبب خارج عن إرادته، أو أتبت أن من شرط له لم يلحقه أي ضرر من الإخلال بالعقد" (¬2). ومن أهل العلم من يرى أن الشرط الجزائي هو عقوبة مالية نظير الإخلال بالشرط، (غرامة تأخير) وليس تعويضاً عن الضرر. ¬
ومن هؤلاء فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع، ورفيق المصري (¬1)، والقاضي محمود شمام رئيس محكمة التعقيب الشرعي في تونس (¬2). وهذا القول هو الراجح، إلا أن يكون هناك نص بأن استحقاق الشرط الجزائي في مقابل التعويض عن الأضرار، وقد ذكرنا أدلة الفريقين في الشروط الجعلية في عقد البيع فأغنى عن إعادته هنا. وهذا القول يتفق مع ما جاء في نظام المناقصات والمزايدات السعودية، فقد جاء فيها ما يلي: إذا تأخر المقاول عن إتمام العمل وتسليمه كاملًا في المواعيد المحددة، ولم تر اللجنة صاحبة المقاولة داعيًا لسحب العمل منه توقع عليه كرامة عن المدة التي يتأخر فيها إكمال العمل بعد الميعاد المحدد للتسليم إلى أن يتم الاستلام المؤقت دون حاجة إلى تنبيه للمقاول، ويكون توقيع الغرامة على المقاول كما يلي: 1 % عن الأسبوع الأول. 1.5 % عن الأسبوع الثاني. 2 % عن الأسبوع الثالث. 2.5 % عما زاد عن ثلاثة أسابيع. 3 % عن أي مدة تزيد عن أربعة أسابيع (¬3). ¬
الرابع: ألا يكون المبلغ في الشرط الجزائي مبالغًا فيه، فلا يجوز أن يكون الشرط الجزائي يأتي على ربح المقاول كله، فضلاً أن يحمله خسائر، فهذه العقوبة المالية إنما تقلل من ربحه فقط، بحيث لا يتجاوز به ثلث الربح، أو عشرة بالمائة من مقدار العقد؛ لأن الشرط الجزائي يجب أن يكون قائماً على العدل، بحيث لا يأتي على نصيب المقاول كله فيكون عمله بلا مقابل، فهذا من الظلم الذي لا تقره الشريعة، بل يجب أن يكون متوازنًا، فإذا كان المبلغ في الشرط الجزائي مبالغاً فيه حمل ذلك على أن مراد العاقد هو التهديد وحمل المقاول على التنفيذ، ويسقط الشرط الجزائي إلا أن يكون هناك ضرر فيقدر بقدره؛ لأن الضرر مدفوع. القول الثاني: ذهب بعض الباحثين منهم الدكتور رفيق المصري، والشيخ حسن الجواهري، والدكتور علي محيي الدين القره داغي: أن الشرط الجزائي جائز في عقد الاستصناع والمقاولة والتوريد في حالة عدم التنفيذ، ولا يجوز في حالة التأخر عن التنفيذ. يقول الدكتور رفيق المصري: الشرط الجزائي إن كان لعدم التنفيذ فهو جائز، ويأخذ حكم العربون، وإن كان اشتراط الشرط لأجل التأخير في التنفيذ فإنه غير جائز؛ لأنه يكون في حكم ربا النسيئة. وحجتهم: أن المبيع المستحق التسليم في أجل محدد ضرب من الالتزام (الدين) فأخذ غرامة على التأخير فيه شبهة ربا النسيئة: تقضي أو تربي (¬1). ¬
ويقول الشيخ حسن الجواهري عن عقد الاستصناع: "المشْتَرَى دين في ذمة البائع، فإن تأخر البائع عن التسليم، وألزمناه بالشرط الجزائي فمعنى ذلك تأخر قضاء الدين في مقابل المال، هو الربا المحرم، ولذا أرى أن يقيد مثلاً صحة الشرط الجزائي في عقد الاستصناع بهذه الجملة: (إذا لم يف المستصْنَع بالعقد أصلاً) ولا تترك على إطلاقها ... " (¬1). ويتساءل الدكتور رفيق المصري: لماذا يجوز الشرط الجزائي في عقد التوريد، ولا يرى جوازه عند التأخر في السلم، فأي فرق ها هنا بين التوريد والسلم؟ (¬2). ويجيب الدكتور الصديق الضرر عن هذا القول: فيقول: استدلال الدكتور رفيق هو أن المبيع المستحق التسليم في أجل محدد ضرب من الالتزام (الدين). أقول: -القائل الصديق الضرير- كون المبيع المستحق التسليم في أجل محدد ضرباً من الالتزام لا خلاف فيه، وأما كون هذا الالتزام مساوياً للدين فغير مسلم؛ لأن الالتزام أعم من الدين، فكل دين التزام، وليس كل التزام ديناً، والالتزام في عقد المقاولة ليس ديناً، وإنما هو التزام بأداء عمل، والمقاول قد يكون دائناً لا مديناً في كثير من الحالات، فالبنوك العقارية تقوم ببناء المساكن مقاولة، وتتقاضى المقابل على أقساط بعد تسليم المبنى، وكذلك يفعل كبار المقاولين، والفرق كبير جداً بين التزام المقاول والمورد، والتزام المقترض والمشتري بثمن مؤجل، والمسلم إليه، فالتزام هؤلاء الثلاثة دين حقيقي ثبت في ¬
ذممهم، وأخذوا مقابله، أما التزام المقاول والمورد فهو التزام بأداء عمل، لا يستحق مقابله إلا بعد أدائه، والله أعلم (¬1). * الراجح بين القولين: الذي أميل إليه جواز الشرط الجزائي إذا كان محل الالتزام عملاً من الأعمال، وإن كنت لا أتفق مع فضيلة الشيخ الصديق الضرير بأن التزام العمل ليس ديناً، بل هو دين؛ لأن محله ذمة الأجير أو المقاول أو المورد، وسماها الفقهاء الإجارة في الذمة، لكن هناك فرقاً بين أن يكون الدين عملاً، وبين أن يكون الدين في ذلك، ولذلك أجاز الحنابلة والحنفية في الإجارة في الذمة تأخير العوضين، ومنعوا ذلك في البيوع إذا كان كل من المبيع والثمن ديناً في الذمة، مما يدل على أن هناك فرقاً بين الالتزامين، لذلك أرى أنه لا مانع من أخذ الشرط الجزائي إذا كان محل الالتزام عملاً من الأعمال، وإن كان هذا العمل يصح أن يقال: هو دين في ذمه الأجير والمقاول والمورد، والله أعلم. ******** ¬
الفصل الثالث في أخذ الشرط الجزائي على صاحب العمل
الفصل الثالث في أخذ الشرط الجزائي على صاحب العمل [م - 796] لما كان عقد المقاولة وعقد الاستصناع وعقد التوريد ذا وجهين فهو من جهة صاحب العمل يكون التزامه دينا (مبلغاً من النقود) ومن جهة المقاول والصانع والمورد يكون التزامه عملاً. وإذا كان لا يجوز في عقد القرض أن يشترط الدائن على المدين شرطاً جزائياً بدفع مبلغ معين من المال في حال تأخره عن السداد؟ ولا يجوز للبائع في عقد البيع بثمن مؤجل أو مقسط، أن يشترط على المشتري شرطاً جزائياً بدفع مبلغ من المال في حال تأخر عن سداد الدين؟ فكذلك لا يجوز الشرط الجزائي في العقود التي يكون الالتزام الأصلي فيها ديناً، فإذا اتفق الدائن مع المدين على تعويضه مبلغاً معيناً عن كل يوم تأخير، فإن هذا الشرط لا يجوز شرعاً باتفاق الفقهاء؛ لأنه صريح الربا. قال الحطاب: "إذا التزم المدعى عليه للمدعي أنه إذا لم يوفه حقه في كذا، فله عليه كذا وكذا، فهذا لا يختلف في بطلانه؛ لأنه صريح الربا، وسواء كان الشيء الملتزم به من جنس الدين أو غيره، وسواء كان شيئاً معيناً، أو منفعة .. " (¬1). ويقول الشيخ عبد الله بن منيع: "الذي يظهر لي أن الشرط الجزائي بالنسبة لسداد الديون، هو أخذ بالمنهج الجاهلي: (أتربي أم تقضي) بل قد يكون أشد ¬
من ذلك؛ لأن المنهج الجاهلي يبدأ عند حلول أجل السداد، وهذا يقر عند التعاقد، فهو إقرار بالربا الجاهلي عند التعاقد" (¬1). وقال الشيخ مصطفى الرزقا: "إن الاتفاق على مقدار ضرر الدائن عن تأخير الوفاء، له محذور كبير، وهو أنه قد يصبح ذريعة لربا مستور، بتواطؤ من الدائن والمدين، بأن يتفقا في القرض على فوائد زمنية ربوية، ثم يعقد القرض في ميعاده، لكن يستحق عليه الدائن تعويض تأخير متفق عليه مسبقاً يعادل سعر الفائدة، فلذلك لا يجوز في نظري" (¬2). وقد فرق المجمع الفقهي الإِسلامي بين الصانع والمستصنع، فأجاز الشرط الجزائي على الصانع، ومنع الشرط الجزائي على المستصنع. جاء في قرار المجمع رقم 109 (3/ 12): "يؤكد المجلس قراراته السابقة بالنسبة للشرط الجزائي الواردة في قراره في السلم رقم 85 (2/ 9)، ونصه: "لا يجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم فيه؛ لأنه عبارة عن دين. ولا يجوز اشتراط الزيادة في الديون عند التأخير". وقراره في الاستصناع رقم 65 (3/ 7) ونصه: يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطاً جزائياً بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة". وقراره في البيع بالتقسيط رقم 51 (2/ 6) ونصه "إذا تأخر المشتري المدين ¬
في دفع الأقساط بعد الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق، أو بدون شرط؛ لأن ذلك ربا محرم ... يجوز أن يشترط الشرط الجزائي في جميع العقود المالية ما عدا العقود التي يكون الالتزام الأصلي فيها دينًا فإن هذا من الربا الصريح. وبناء على هذا فيجوز هذا الشرط مثلاً في عقود المقاولات بالنسبة للمقاول، وعقد التوريد بالنسبة للمورد، وعقد الاستصناع بالنسبة للصانع إذا لم ينفذ ما التزم به أو تأخر في تنفيذه. ولا يجوز مثلاً في البيع بالتقسيط بسبب تأخر المدين عن سداد الأقساط المتبقية سواء كانت بسبب الإعسار أو المماطلة، ولا يجوز في عقد الاستصناع بالنسبة للمستصنع إذا تأخر في أداء ما عليه، انتهى نقلاً من قرار المجمع رقم 109 (3/ 12). فهنا المجمع فرق بين الصانع والمستصنع، ومثله المقاول وصاحب العمل، ومثله المورد والمستورد فيجوز الشرط الجزائي على الصانع والمقاول والمورد، ولا يجوز الشرط الجزائي على المستصنع وصاحب العمل والمستورد. وذهب بعض الباحثين منهم الدكتور رفيق المصري، والشيخ حسن الجواهري، والدكتور علي محيي الدين القره داغي: أن الشرط الجزائي جائز في عقد الاستصناع والمقاولة والتوريد في حالة عدم التنفيذ، ولا يجوز في حالة التأخر عن التنفيذ. يقول الدكتور رفيق المصري: الشرط الجزائي إن كان لعدم التنفيذ فهو جائز، ويأخذ حكم العربون، وإن كان اشتراط الشرط لأجل التأخير في التنفيذ فإنه غير جائز؛ لأنه يكون في حكم ربا النسيئة.
وحجتهم: أن المبيع المستحق التسليم في أجل محدد ضرب من الالتزام (الدين) فأخذ غرامة على التأجير فيه شبهة ربا النسيئة: تقضي أو تربي (¬1). ويقول الشيخ حسن الجواهري عن عقد الاستصناع: "المشْتَرَى دين في ذمة البائع، فإن تأخر البائع عن التسليم، وألزمناه بالشرط الجزائي فمعنى ذلك تأخر قضاء الدين في مقابل المال، هو الربا المحرم، ولذا أرى أن يقيد مثلاً صحة الشرط الجزائي في عقد الاستصناع بهذه الجملة: (إذا لم يف المستصْنَع بالعقد أصلاً) ولا تترك على إطلاقها .... " (¬2). ويتساءل الدكتور رفيق المصري: لماذا يجوز الشرط الجزائي في عقد التوريد، ولا يرى جوازه عند التأخر في السلم، فأي فرق ها هنا بين التوريد والسلم؟ (¬3). ويجاب: هناك فرق بين التزام العمل، وبين التزام الدين في حال كان الدين نقوداً، فالتزام العمل وإن كان ديناً إلا أنه يختلف عن دين الدراهم والدنانير، ولهذا يجوز تأخير العوضين إذا كانت الإجارة في الذمة، ولا يجوز تأخير العوضين في المبيع إذا كانا في الذمة كما لو كان المبيع سلماً، والله أعلم. ... ¬
الباب السابع في انتهاء عقد المقاولة
الباب السابع في انتهاء عقد المقاولة الفصل الأول انتهاء المقاولة بإنجاز العقد [م - 797] إذا أدى المقاول التزامه حسب شروط العقد دون أية مخالفة، وقام بتسليم العمل لصاحبه، وقام صاحب العمل بتسليم البدل المتفق عليه إلى المقاول لقاء إنجازه عمله فقد انتهى عقد المقاولة، وتحققت صورة من صور انقضاء عقد المقاولة، وهي صورة انقضاء المقاولة بالإنجاز؛ لأن إنجاز العمل هو الغرض من العقد، وإذا حصل غرض العقد لم يبق مسوغ لبقاء عقد المقاولة.
الفصل الثاني إنهاء عقد المقاولة عن طريق الإقالة
الفصل الثاني إنهاء عقد المقاولة عن طريق الإقالة [م - 798] إن كان إنهاء العقد بين المقاول وصاحب العمل جاء بلفظ الفسخ، كأن يطلب أحدهما فسخ العقد، والآخر يقبل ذلك. فالعقد ينفسخ بشرطه، وهو أن يكون الفسخ بالتراضي دون إكراه أو إلجاء. وإن كان إنهاء العقد بين المقاول وصاحب العمل جاء بلفظ الإقالة، فيأتي الخلاف الفقهي هل تعتبر الإقالة بيعاً مستأنفاً، أو تعتبر فسخاً للعقد؟ وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أقوال: فقيل: الإقالة فسخ، اختاره زفر من الحنفية (¬1)، وبعض المالكية (¬2)، والقول الجديد للشافعي، وهو المشهور عندهم (¬3)، والمذهب عند الحنابلة (¬4)، فإن تعذر حملها على الفسخ امتنعت. واختار أبو حنيفة أنها فسخ في حق العاقدين فقط، بيع جديد في حق شخص ثالث غيرهما (¬5). ¬
واختار محمَّد بن الحسن أن الإقالة فسخ إلا إذا تعذر حملها على الفسخ، فتجعل بيعاً للضرورة (¬1). وقيل: الإقالة بيع جديد، وهذا هو مذهب المالكية (¬2)، والقول القديم ¬
للشافعي (¬1)، ورواية عند الحنابلة (¬2)، وهو اختيار ابن حزم (¬3). واختار أبو يوسف أن الإقالة بيع في حق العاقدين وغيرهما إلا أن يتعذر جعلها بيعًا، فتكون فسخاً (¬4). وقد ذكرنا أدلتهم في عقد البيع من المجلد السابع فأغنى عن إعادة ذلك، ورجحنا أن الإقالة فسخ بشرط أن تكون بمثل الثمن الأول، فإن كانت بأكثر منه، أو بأقل، أو بثمن مختلف عن الثمن الأول فإنها بيع من البيوع يشترط فيها ما يشترط في البيع. فإن قيل: كيف تعتبر فسخًا في حال، وبيعًا في حال، وحقيقتها واحدة؟ فالجواب: أن الأصل أنها فسخ لما كان ذلك يؤدي إلى رفع العقد، ورجوع المبيع إلى البائع، والثمن إلى المشتري، ولكن لما اختلف الحال، بأن كان الثمن بأكثر من الثمن الأول علمنا أن العاقدين لم يريدا من لفظ الإقالة الفسخ، وإنما أرادا والله أعلم عقدًا آخر، ولكنهما استعملا لفظ الإقالة، والعبرة في العقود بالمعاني، فلو قال: وهبتك هذا بعشرة كان بيعًا، وإن استعمل لفظ الهبة، لأنه حين ذكر العوض خرج من حقيقة الهبة إلى حقيقة المعاوضة، والله أعلم. ¬
فإذا كانت الإقالة فسخاً بشرط أن تكون بمثل الثمن، فإن الفسخ يرد على عقد المقاولة؛ لأن عقد المقاولة إن كان على صورة الأجير المشترك، فإن الإقالة ترد عليه؛ لأن الفسخ يرد على العقود الصحيحة اللازمة، وهذا منها. وإن كان عقد المقاولة على صورة الاستصناع، فالفسخ يرد عليه: لأنه إن قيل: إن الاستصناع نوع من عقود السلم كما هو مذهب الجمهور، فعقد السلم يقبل الإقالة، وهو مذهب الأئمة الأربعة خلافًا لابن حزم، وقد تكلمنا عن ذلك في عقد السلم، فأغنى عن إعادته. وإن قلنا: إنه عقد قائم بذاته، كما هو مذهب الحنفية. فإن قلنا: إنه عقد لازم، كما اختارت ذلك مجلة الأحكام العدلية، والقول الأخير لأبي يوسف فإن الإقالة ترد عليه. وإن قلنا بالتفصيل كما هو رأي جمهور الحنفية: وأن عقد الاستصناع عقد جائز في حق المستصنع والصانع قبل تقديم المصنوع إلى الصانع، فلا ترد عليه الإقالة في هذه المرحلة. وأما بعد تقديم المصنوع إلى الصانع فإنه عقد لازم في حق الصانع، وجائز في حق المستصنع، فالإقالة ترد في حق الصانع دون المستصنع. وقد رجحت مذهب أبي يوسف، وهو اختيار مجمع الفقه الإِسلامي، وبالتالي ترد الإقالة على عقد الاستصناع مطلقًا، قبل التصنيع وبعده، وقد ذكرت هذا التفصيل بأدلته في عقد الاستصناع، فأغنى ذلك عن تكراره هنا، والله أعلم.
الفصل الثالث انتهاء المقاولة بوجود ما يقتضي الفسخ
الفصل الثالث انتهاء المقاولة بوجود ما يقتضي الفسخ [م - 799] قد تنتهي المقاولة بوجود ما يقتضي الرد، وذلك بأن يكون عمل المقاول مخالفاً للشروط والمواصفات المتفق عليها، فإذا كان المعقود عليه معيباً عيباً ينقص العين، أو ينقص القيمة، أو يفوت به غرض صحيح لصاحبه كان لصاحب العمل الخيار في رد المعقود عليه أو قبوله، وهذا باتفاق الفقهاء. وعقد المقاولة يدخله خيار الرد بالعيب. أولاً: لأن خيار العيب لا يدخل إلا العقود اللازمة، وعقد المقاولة من العقود اللازمة، أما العقود الجائزة فإنه يكتفى بجوازها عن المطالبة بالفسخ. الثاني: أن خيار العيب لا يتوقف على اتفاق أو اشتراط لقيامه، بل ينشأ لمجرد وقوع سببه الذي ربط قيامه به، وهو وجود العيب. يقول ابن عابدين في حاشيته: "خيار العيب يثبت بلا شرط" (¬1). فإذا اختار صاحب العمل الرد في عقد المقاولة، كان ذلك سبباً لانتهاء عقد المقاولة. وإن قبل صاحب العمل العيب فهذا له. لأن الحق له فإذا أسقطه سقط. وإن اتفقا على قبول العيب، وأن يعطيه المقاول قيمة العيب. فقيل: هذا جائز، وعليه عامة أهل العلم. ¬
قال ابن رشد: "فإن اتفقا على أن يمسك المشتري سلعته، ويعطيه البائع قيمة العيب، فعامة فقهاء الأمصار يجيزون ذلك" (¬1). وقيل: لا يصح، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية، وهو المذهب عندهم (¬2). وقد ذكرنا أدلتهم في خيار العيب، فأغنى ذلك عن إعادته. ¬
الفصل الرابع في موت المقاول
الفصل الرابع في موت المقاول [م - 800] إذا مات المقاول فهل ينتهي عقد المقاولة؟ الجواب فيه تفصيل: إذا كان رب العمل قد اشترط على المقاول أن يقوم بنفسه بالعمل، أو كانت شخصية المقاول ومؤهلاته محل اعتبار في التعاقد كالطبيب والرسام فإن العقد ينتهي بموته. لأن صاحب العمل حين شرط على المقاول مباشرة العمل بنفسه، أو كانت شخصيته محل اعتبار في التعاقد أصبحت شخصية المقاول معقوداً عليها، فبموت المقاول يكون قد فات المحل المعقود عليه، فينتهي العقد مثله تماماً لو كان عقد الإجارة على شيء معين فهلك (¬1). قال الشربيني في الإقناع: "وتنفسخ بموت الأجير المعين؛ لأنه مورد العقد، لا لأنه عاقد ... " (¬2). أما إذا خلا العقد من مثل هذا الشرط، أو كانت شخصية المقاول ليست محل اعتبار في التعاقد فقد اختلف العلماء في موته هل ينتهي بذلك عقد المقاولة؟ فقيل: ينتهي العقد بموته، وهذا مذهب الحنفية، والثوري والليث، واختيار ابن حزم من الظاهرية (¬3). ¬
وجه قول الحنفية ومن معهم
وقيل: لا ينتهي العقد بموت المقاول (الأجير المشترك)، وهو مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة (¬1). * وجه قول الحنفية ومن معهم: بأن عقد الإجارة قد يتجدد انعقاده ساعة فساعة حسب حدوث المنفعة، فالمنفعة التي يستحقها رب العمل بالعقد هي التي تحدث على ملك الأجير، فإذا مات فإن ما يحدث من المنافع يكون ملكاً لوارثه فلا ينفذ فيه عقده. وأجاب الجمهور: هذا الإيراد يرد على مذهب المالكية الذين يقولون بأن الأجرة تستحق شيئًا فشيئاً بقدر ما يقبض من المنفعة، أما الشافعية والحنابلة الذين يقولون: إن الأجرة تملك بالعقد فلا يرد عليهم هنا القول (¬2)؛ لأنهم يقولون: إن المقاول قد ملك الأجرة، وصاحب العمل قد ملك المنفعة بالعقد، وإذا كانت المنفعة مستحقة في ذمة الأجير لم تسقط بالموت كالدين، فيجب استيفاء المنفعة من تركة الأجير، ولا يحق لورثته الإعراض على عقود مورثهم، فإنها من جملة ما ورثوه. ¬
وجه قول الجمهور
* وجه قول الجمهور: أن الإجارة من العقود اللازمة كالبيع، فلا تتأثر بالوفاة. ولأن العقد لم يقع على عين المقاول، فعين المقاول ليست مقصودة، وإنما العقد وارد على العمل، وهو في الذمة، وقد استحق قبل موته فلا يسقطه الموت. * الراجح: مذهب الجمهور، وأن موت المقاول لا يوجب الفسخ إلا إذا كانت عين المقاول مقصودة بالعقد، كما لو اشترط صاحب العمل أن يباشر المقاول العمل بنفسه، إو كانت شخصيته ومؤهلاته محل اعتبار في التعاقد، إلا أنه يجوز لصاحب العمل المطالبة بفسخ العقد إذا لم تتوفر في الورثة الضمانات الكافية لحسن تنفيذ العمل (¬1). وفي حال الفسخ يدخل في التركة قيمة ما تم من الأعمال والنفقات بحسب شروط العقد، وبمقتضى العرف. ومثل الموت لو أصاب المقاول مرض، أو أصابه عجز عن إتمام العمل لسبب لا يد له فيه، فإن لم يكن هناك شرط أن يباشر العمل بنفسه، ولم تكن شخصيته محل اعتبار في التعاقد فإنه لا يفسخ العقد بمرضه أو عجزه، وإلا فسخ العقد. قال الزركشي: "فمتى مرض المؤجر والحال هذه لزمه أن يقيم مقامه من يعمل ذلك ليخرج من الحق الواجب في ذمته إيفاؤه أشبه المسلم فيه ... ¬
ويستثنى من ذلك ما إذا شرط عينه كأن تخيط لي هذا الثوب، فهاهنا لا يقيم غيره مقامه، بل يخير المستأجر بين الفسخ والصبر حتى يتبين الحال، والله أعلم" (¬1). **** ¬
عقد التوريد
عقد التوريد تمهيد المبحث الأول التعريف بعقد التوريد تعريف التوريد اصطلاحًا (¬1): عرف مجمع الفقه الإِسلامي التوريد بقوله: "عقد يتعهد بمقتضاه طرف أول بأن يسلم سلعاً معلومة مؤجلة بصفة دورية خلال فترة معينة لطرف آخر مقابل مبلغ معين مؤجل كله أو بعضه" (¬2). وعقد التوريد يمكن أن يكون مرة واحدة كما لو كان العقد يقضي بتوريد كمية من السلع دفعة واحدة. ويمكن أن يكون منجماً يتم بصفة متكررة. كما أن التوريد يمكن أن يكون لسلعة مصنعة وجاهزة، ويمكن أن يكون التوريد لشيء غير موجود يراد تصنيعه. وقد يكون عقد التوريد محلياً أو دولياً: أي قد يتم بين منشأتين في بلد واحد، أو في بلدين مختلفين، فهو لا يعني بالضرورة أنه عقد متعلق ¬
بالاستيراد والتصدير، وإن سمي البائع مورداً، والمشتري مستورداً، أو مورداً له (¬1). وقد يكون العقد في التوريد من العقود الإدارية، وهو ما كان أحد طرفيه شخصاً معنوياً من أشخاص القانون العام، وهذا هو الغالب على عقود التوريد، لذلك كانت أكثر تعريفات الباحثين لعقد التوريد تتناوله على أنه من العقود الإدارية. وقد يكون عقد التوريد عقداً خاصاً بين الأفراد، أو بين الأفراد والشركات الخاصة، أو بين الشركات الخاصة فيما بينها، والفقه الإِسلامي لا يفرق بين العقود الإدارية والعقود الخاصة. ... ¬
المبحث الثاني خصائص عقد التوريد
المبحث الثاني خصائص عقد التوريد [م - 801] خصائص عقد التوريد: (1) يعتبر عقد التوريد من العقود اللازمة للطرفين المورد والمورد له. (2) يعتبر عقد التوريد من عقود المعاوضات حيث يفضي إلى تمليك السلعة للمستورد، والثمن للمورد بصورة مؤبدة. (3) يعتبر عقد التوريد من أنواع البيع على الصفة حيث يكون المبيع غائباً عن مجلس العقد، وإنما يكتفى إما برؤية متقدمة، أو رؤية نموذج له، أو عن طريق وصفه وصفاً دقيقاً يميزه عما عداه. (4) تأجيل الثمن كله أو بعضه، مما يعني غياب العوضين عن مجلس العقد، وتأجيلهما جملة أو أقساطاً إلى زمن مستقبل. ويمكن تصنيف المبيع الغائب في عقود التوريد إلى ثلاثة أنواع: (1) أن يكون المبيع سلعة معينة موجودة لدى المورد إلا أنها غائبة عن مجلس العقد. (2) أن يكون المبيع سلعة موصوفة في الذمة وليست معينة، وهذا هو الغالب على عقود التوريد. وهذا ينقسم إلى قسمين: (أ) سلع تتطلب صناعة المورد. (ب) سلع جاهزة لا تتطلب صناعة المورد.
(3) أن يكون المبيع توريد خدمة من الخدمات، وهذا التوريد ينطبق عليه أحكام الأجير المشترك؛ لأنها خدمات في الذمة إلا أنها تستحصل شيئًا فشيئًا. فهذه الأنواع جمعت صورًا من العقود: من ذلك عقد البيع، كبيع سلعة معينة كائبة عن مجلس العقد. وعقد مقاولة: إذا كانت السلعة تحتاج إلى صناعة، أو في حال تقديم خدمة في الذمة تستحصل شيئًا فشيئًا. وعقد سلم إذا كانت السلعة المبيعة جاهزة إلا أنها موصوفة في الذمة.
المبحث الثالث عقد التوريد وبيع ما ليس عند المورد
المبحث الثالث عقد التوريد وبيع ما ليس عند المورد [م - 802] عقد التوريد هل يدخل في بيع ما ليس عند البائع؟ وللجواب عن ذلك نقول: عقد التوريد قائم على بيع سلعة غائبة. إلا أن هذه السلعة إن كانت معينة فإنه يشرط أن يكون المورد مالكاً لها، أو مأذوناً له في بيعها، وبالتالي لا يدخل في بيع ما ليس عند البائع. فإن باعها قبل تملكها، أو قبل أن يؤذن له في بيعها، فينظر: فإن باعها لحظ نفسه فقد باع ما لا يملك. وهذا منهي عنه بالإجماع. وإن باعها لحظ مالكها انطبق على هذا التصرف حكم بيع الفضولي، وهو بيع مختلف فيه، والصحيح أن بيع صحيح موقوف على إذن المالك، وسبق الكلام عنه في عقد البيع. وإن كانت السلعة غير معينة أي موصوفة في الذمة فإنه لا يشرط أن تكون عند البائع، ولا يدخل في النهي عن بيع ما ليس عند البائع. يقول الشافعي - رحمه الله-: "لما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكيماً عن بيع ما ليس عنده وأذن في السلم استدللنا على أنه لا ينهى عما أمر به، وعلمنا أنه إنما نهى حكيماً عن بيع ما ليس عنده إذا لم يكن مضموناً عليه، وذلك بيع الأعيان" (¬1). وبالتالي لا يدخل بيع السلع الموصوفة في الذمة في النهي عن بيع ما ليس عند البائع، ولا فرق في ذلك بين السلع التي تحتاج إلى صناعة وهو ما يعرف بعقد ¬
الاستصناع، والذي أجازه الحنفية ولو كان البدلان مؤجلين، وبين السلع الجاهزة كالقمح والأرز ونحوهما والذي يشترط فيه تعجيل الثمن عند الجميع، بل يكفي أن يغلب على الظن أن تكون السلعة عامة الوجود في وقت التسليم، وحينئذ يكون البائع قد باع ما يملك القدرة على تسليمه في الميعاد المطلوب، وهذا كاف في التصحيح. وبناء على هذا نستطيع أن نقول: إن عقد التوريد ليس داخلاً في النهي عن بيع ما ليس عند البائع.
الباب الأول في توصيف عقد التوريد
الباب الأول في توصيف عقد التوريد الفصل الأول عقد التوريد والعقود المسماة [م - 803] هل عقد التوريد يعتبر من العقود المسماة في الفقه الإِسلامي، والذي ينبغي أن يكون الاجتهاد في تكييف هذا العقد، هل هو من قبيل السلم، أو الاستصناع، أو الإجارة في الذمة، بحيث يطبق عليه شروط كل عقد من هذه العقود؟ أو يعتبر من العقود المستحدثة، وأن الأصل فيها الجواز والصحة إلا إذا كان هناك ما يوجب المنع من ربا أو غرر أو ظلم أو وقوع في محذور، كبيع الدين بالدين أو مخالفة للقواعد المسلمة؟ هذه المسألة فيها قولان لأهل العلم: القول الأول: يرى أن عقد التوريد من العقود المسماة في الفقه الإِسلامي. وهذا هو رأي مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (¬1)، واختاره مجموعة من العلماء منهم الشيخ عبد الله بن منيع (¬2)، والشيخ سعود الثبيتي (¬3). ¬
القول الثاني
فهم يرون أن عقد التوريد قد يكون سلمًا، وقد يكون استصناعًا، وقد يكون بيع سلعة معينة غائبة عن مجلس العقد، وحكمه في هذه الحال يأخذ حكم كل مسألة من هذه المسائل. وقد تكلمنا عنها فيما سبق. القول الثاني: يرى أن عقد التوريد من العقود المستحدثة والجديدة، والشريعة ترحب بالعقود الجديدة ما دامت قائمة على التراضي، وما دامت لا تحل حرامًا, ولا تحرم حلالاً، ولأن عقد التوريد يرجع إلى عقود المقاولات، وعقود المقاولات هي عقود مستجدة عرفت في هذا العصر، وكون عقد المقاولة يشبه الاستصناع أو يشبه عقد الإيجار هذا شبه عارض لا يختلف في حقيقته عن ذلك الشبه الذي يجده المرء بين العقود القديمة ذاتها. فعلى سبيل المثال من الوارد أن يجد المرء ثمة تشابهاً بين شركة العنان، وشركة المفاوضة، وذلك على مستوى كون كل واحد منهما اتفاقًا قائمًا على الخلط بين المالين، بيد أنه من المعروف أن لكل واحدة منهما كيانها الخاص، وأنهما تختلفان في قضايا أخرى متصلة بحقيقتهما وجوهرهما مما يحتم عدم إلحاق إحداهما بالأخرى في الحكم. فإذا أسقطنا عقد الاستصناع على عقد المقاولة كنا محكومين بالشروط التي وضعها الحنفية في عقد الاستصناع، من ذلك أن يجري العمل فيه بين الناس؛ لأن عقد الاستصناع جرى على خلاف القياس، بينما هذا الشرط ليس قائمًا في عقد المقاولة، كما يرى جمهور الحنفية خلافاً لأبي يوسف أن عقد الاستصناع عقد غير لازم قبل البدء بالعمل من الجانبين، وعقد المقاولة ليس كذلك.
وهكذا. وممن ذهب إلى أن عقد التوريد عقد جديد الشيخ عبد السلام العبادي، والشيخ عبد الوهاب أبو سليمان (¬1)، والشيخ عبد الستار أبو غدة (¬2). وقد تكملنا على هذه المسألة في عقد المقاولة فيما سبق فأغنى عن إعادته هنا. وإذا كان عقد المقاولة من العقود المستحدثة كان التوريد من العقود المستحدثة؛ لأنه جزء منه. والقائلون بذلك قد انقسموا في حكمه إلى فريقين: فريق يرى جواز عقد التوريد مطلقاً بناء على أن الأصل في العقود الصحة والجواز، ومن هؤلاء فضيلة الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان. وفريق يرى تحريم عقد التوريد؛ إما لأن فيه غرراً، أو لأن فيه تأجيل البدلين. وهذا ما سوف نتعرض له بشيء من التفصيل عند الكلام عن صور عقود التوريد إن شاء الله تعالى. ******* ¬
الفصل الثاني التوريد بين العقد والوعد
الفصل الثاني التوريد بين العقد والوعد [م - 804] اختلف الفقهاء المعاصرون هل بيع عقد التوريد عقد أو مواعدة. فأكثر الباحثين على أن التوريد عقد، وليس وعدًا بالعقد. وبهذا صدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي. جاء في قرار المجمع رقم 107 (1/ 12): "عقد التوريد عقد يتعهد بمقتضاه طرف أول بأن يسلم سلعًا معلومة مؤجلة بصفة دورية خلال فترة معينة لطرف آخر مقابل مبلغ معين مؤجل كله أو بعضه ... ". وقيل: عقد التوريد لا يعدو من الناحية الشرعية أن يكون تفاهماً ومواعدة من الطرفين، أما البيع الفعلي فلا ينعقد إلا عند تسليم المبيعات. وهذه المواعدة ملزمة للجانبين وليست عقداً باتًا. وهذا ما اختاره محمَّد تقي العثماني (¬1). والقول بلزوم المواعدة عند الحاجة له نظائر في الفقه الإِسلامي من ذلك ما جاء في الفتاوى الخانية عن بيع الوفاء. قال قاضي خان من الحنفية: "واختلفوا في البيع الذي يسميه الناس بيع الوفاء، أو البيع الجائز، قال أكثر المشايخ منهم السيد الإمام أبو شجاع، والقاضي الإِمام أبو الحسن السغدي حكمه حكم الرهن ... والصحيح أن العقد ¬
الذي جرى بينهما إن كان بلفظ البيع لا يكون رهناً، ثم ينظر إن ذكرا شرط الفسخ في البيع فسد البيع ... وإن ذكرا البيع من غير شرط، ثم ذكر الشرط على وجه المواعدة جاز البيع، ويلزمه الوفاء بالوعد؛ لأن المواعدة قد تكون لازمة، فتجعل لازمة لحاجة الناس" (¬1). فعبارة القاضي خان صريحة في أن المواعدة يمكن أن تجعل لازمة لحاجة الناس، ولا شك أن الحاجة في الإلزام بالمواعدة ظاهرة في عقود التوريد، فلو لم يكن وعد المشتري ملزماً لتضرر البائع والمشتري ضرراً بيناً. فضرر البائع يتمثل في الجهد والمال المبذولين في توفير السلعة بناء على طلب المشتري، فإنه لولا وعد المشتري بالشراء لم يتكبد البائع هذا الجهد، ولم ينفق هذه المبالغ الكبيرة، وربما لا يوجد من يشتري منه ذلك النوع من البضائع التي وفرها بناء على رغبة المشتري، فرفض المشتري شراءها يضيع مال البائع ووقته وجهده، ويسبب له خسائر لا تحتمل. وكذلك المشتري قد يتضرر بكون الوعد غير ملزم، وذلك أنه لما وعده البائع بتوفير هذه الكمية من السلع أمسك عن طلبها من تاجر آخر اعتماداً على وعد البائع، وربما فاته عروض مغرية بسبب احترامه للوعد القائم بينه وبين البائع، وربما لا يستطيع توفير السلعة في التاريخ المتفق عليه من غير البائع إذا أخل البائع بوعده، وامتنع من توفير السلعة (¬2). ¬
ونوقش هذا
ونوقش هذا: إذا تم الاتفاق على كون المواعدة ملزمة للطرفين فهذا يصير الوعد عقدًا؛ لأن الإلزام من أبرز خصائص العقد، وقد صرح الفقهاء بأن الوعد لا يعتبر عقدًا. وفي ذلك يقول ابن حزم: والتواعد على بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز تبايعاً بعد ذلك، أو لم يتبايعا؛ لأن الوعد ليس بيعًا" (¬1). فالقول بالإلزام بالوعد مع القول بأن البيع الفعلي لا ينعقد إلا عند تسليم المبيعات قول ينقض بعضه بعضاً، فإذا ألزمنا المشتري بالوعد السابق بالثمن السابق كان البيع منعقدًا بذلك الوعد؛ لأنه لا خيار لهما في إحداث إيجاب جديد، وسعر جديد، وكان الإيجاب والقبول الحادث عند التسليم لا حاجة إليهما، فهما إيجاب وقبول صوريان، والعبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني. وأجيب: بأن المواعدة ليست عقدًا باتًا، وإنما هي موافقة الطرفين على إنجاز العقد في تاريخ لاحق، وهو يحتاج إلى الإيجاب والقبول في التاريخ اللاحق. والفرق: أن إنجاز العقد ينقل المعقود عليه من ذمة إلى ذمة حالاً فور ما يتم ¬
ويجاب
الإيجاب والقبول، فيكون الثمن ديناً في ذمة المشتري، أو يكون المبيع ديناً في ذمة البائع كالسلم، وإذا أفلس المشتري فإن البائع أسوة الغرماء، ولا يسقط هذا الدين بموت المدين فيؤخذ من تركته. أما المواعدة فلا تنشئ ديناً على أحد من الطرفين، ولا يحق للواعد بالشراء أن يأخذ الشيء الموعود بيعه من تركة الواعد بالبيع بعد موته، أو بعد إفلاسه، فظهر أن المواعدة ليست عقداً, ولا تنتج عنها آثار العقد ولا المديونية إلا في التاريخ الموعود، ولا تحدث هذه النتائج بصفة تلقائية حتى في التاريخ الموعود، بل يجب عند ذلك أن يتم الإيجاب والقبول من الطرفين على أنه إن عرض لأحد الطرفين في المواعدة عذر حقيقي مقبول منعه من إنجاز الوعد فإنه يعد معذوراً, ولا يجبر على إنجاز العقد، ولا على دفع التعويض. أما أثر كون المواعدة لازمة فلا يتجاوز من أن يجبر الحاكم الفريقين بإنجاز العقد في التاريخ الموعود، وإن أخل أحدهما بالوفاء بوعده حمله الحاكم ما تضرر به الآخر من الضرر المالي الفعلي الذي حدث بسبب تخلفه عن الوفاء، وهذه النتيجة مختلفة تمامًا عن نتائج إنجاز العقد الذي ينقل المعقود عليه من ذمة إلى ذمة (¬1). ويجاب: بأن هذه الفروق ليست مستندة إلى قول فقهي، فالقول بالإلزام بالوعد لا يعرف عن الفقهاء المتقدمين، وبالتالي لا تكون فروقاً صحيحة، وقد كشفت عن ذلك عند بحث الإلزام بالمواعدة في بيع المرابحة للآمر بالشراء فأغنى عن إعادته هنا، والاستدلال في كلام قاضي خان لا يسعف ذلك أنه اشترط أن يكون ¬
الوعد متبرعًا به، وليس مشروطًا، فإن كان مشروطًا كجزء من المعاوضة يرى القاضي خان أنه يفسد العقد، فكان بينه وبين الإلزام بالوعد في التوريد فرق كبير، والله أعلم. ***
الفصل الثالث التوريد من العقود اللازمة
الفصل الثالث التوريد من العقود اللازمة [م - 805] رجحنا في المبحث السابق أن التوريد عقد من العقود، فهل هذا العقد هو من العقود اللازمة منذ صدور الإيجاب والقبول، أو هو عقد جائز غير لازم؟ قال الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان: "يظل العقد غير لازم حتى يوفي البائع بكافة الصفات المشروطة في المبيع" (¬1). ويقول أيضاً: "عقد التوريد ليس من قبيل بيع الدين بالدين ... وإنما هو في حدود الاتفاق والوعد لا يتجاوزهما العقد، فمن ثم يظل العقد جائزاً قابلاً للفسخ حتى يتم تسليم المبيع" (¬2). والصحيح أن العقد لازم من حين صدور القبول مطابقاً للإيجاب، ويطالب البائع بالالتزام بكافة الصفات المشروطة في المبيع على سبيل الإلزام، والإخلال بالصفات لا يجعل العقد غير لازم، وإنما للمشتري أن يطالبه ببدله مطابقاً للمواصفات على سبيل الإلزام. وجه ذلك: أن الشيء المتعاقد عليه ثابت في ذمة المورد، وما ثبت في الذمة لا يسقط إلا بالإبراء أو الأداء، وقد انعقد عقد التوريد صحيحاً مستجمعاً لشروطه، وحق المشتري أن يستلم الشيء المتعاقد عليه مطابقاً للمواصفات خاليًا من العيوب، فإذا دفع البائع سلعة غير مطابقة للمواصفات كان من حق ¬
المشتري أن يرجع إلى ما وجب في ذمة المورد، ويطالبه أن يدفع بدله سليمًا؛ لأن حقه لم يتعلق بعين المدفوع.
الفصل الرابع التوريد عقد مركب من بيع وإجارة
الفصل الرابع التوريد عقد مركب من بيع وإجارة [م - 806] من أهم الأمور التي ينبغي تحريرها في عقد التوريد هل هو عقد بيع، أو عقد إجارة، أو هو عقد مركب من بيع وإجارة؟ وأهمية ذلك ترجع إلى اشتراط تقديم الثمن. فإن قلنا: إن عقد التوريد عقد بيع، وكان المبيع موصوفاً في الذمة اشترطنا تقديم الثمن حتى لا نقع في بيع الدين بالدين. ولما كانت الممارسات القائمة في أسواق المسلمين لا تقوم على تقديم الثمن؛ لأن في ذلك مخاطرة كبيرة فقد لا يلتزم المورد بتسليم البضاعة، وإذا التزم بتسليمها فقد لا يلتزم بالمواصفات المتفق عليها. لذا رأى بعضهم أن يفتي بجواز هذه المعاملة بالرغم من كونه مخالفاً للأصول، وذلك على أساس أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة، ولأنه ليس في هذا العقد ما يؤدي إلى الربا أو القمار، أو الغرر الفاحش الذي هو علة لمنع بيع الكالئ بالكالئ. قال الشيخ القاضي محمَّد تقي العثماني: "ولكن هذا الرأي فيه نظر من وجوه، ولو فتحنا باب غض النظر عن هذه المبادئ التي استمر عليها الفقه الإِسلامي عبر القرون، فإن ذلك يفتح المجال لإباحة كثير من العقود الفاسدة التي ابتدعها السوق الرأسمالي مثل المستقبليات وغيرها" (¬1). ¬
ومنهم من حاول الهروب من هذا الإشكال بالقول: إن هذا ليس عقداً، وإنما هو من قبيل المواعدة الملزمة، أما البيع الفعلي فلا ينعقد إلا عند تسليم المبيعات ... وهذا رأي مجموعة من الباحثين، منهم الشيخ العثماني. وقريب من هذا القول رأي الشيخ وهبة الزحيلي: يقول الشيخ وهبة: "ما يتعلق بعقد التوريد هو في الواقع مجرد اتفاق أولي بين الجهة المستفيدة وبين الجهة المقدمة لهذه الخدمات، فهو اتفاق ينقلب في نهاية الأمر إلى عقود فردية متكررة، كلما تقدم المورد بصفتكة معينة يقدم فاتورة المبيعات ويذكر الثمن، ثم تأتي الجهة التي تستفيد من هذا التنفيذ بإقرار هذا العمل، وتدفع له الثمن على هذه الصفقة التي قدمها، فإذن هناك عدة عقود انفرادية من خلال اتفاق شامل، وهو الذي تسميه القوانين عقود التوريد، والأدق أن يقال له: اتفاق التوريد، فإذن ينقلب الأمر من اتفاق إلى عقد عند التنفيذ ... " (¬1). واضطرب الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان فتارة يسميه وعداً واتفافاً، وتارة يطلق عليه بأنه عقد جائز قابل للفسخ، وبينهما فرق، فالوعد ليس عقدًا حتى يقال: إنه عقد جائز. يقول الشيخ أبو سليمان: "عقد التوريد ليس من قبيل بيع الدين بالدين، ذلك أن الدين شغل ذمة أحد المتبايعين للآخر بدين، وليس هذا في عقد التوريد من الدين بشيء، وإنما هو في حدود الاتفاق والوعد لا يتجاوزهما العقد، فمن ثم يظل العقد جائزًا قابلًا للفسخ حتى يتم تسليم المبيع" (¬2). ¬
ويناقش
ويناقش: أما قول الشيخ العثماني فإنه يشكل عليه جعل المواعدة ملزمة، فإن الإلزام بالوعد في باب المعاوضات يجعل المواعدة عقدًا, ولا يعرف الإلزام في الوعد عند فقهائنا المتقدمين في باب المعاوضات، وقد قال به من قال من المعاصرين ليجد حلاً للبنوك الإِسلامية في عمليات المرابحة المصرفية. وأما قول الشيخ وهبة الزحيلي، فإنه يسأل هل هذا الاتفاق على التوريد له قوة الإلزام، فيكون عقداً، أو ليس ملزماً فيكون وعداً؛ فإن كان ملزماً كما هو مطبق في عقود التوريد فإن الاتفاق له حكم العقد، فيبقى لا فرق بين قوله وبين قول الشيخ العثماني. ومنهم من اعتبر عقد التوريد عقدًا جديداً، وإذا كان عقداً جديدًا لم يجب فيه تطبيق شروط عقد السلم، وبالتالي لا يلزم المشتري تقديم الثمن. يقول الشيخ عبد السلام العبادي: "ومن هنا أميل مع التوجه الذي عرضه لاحقاً الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان من أنه عقد جديد، وبالتالي نخرج من كل هذه الإشكالات" (¬1). وهذا المخرج لا يخرج فإن المبيع إذا كان في الذمة وجب تقديم الثمن حتى لا يؤخر العوضان قديمًا كان العقد أو جديدًا، وكون العقد جديدًا فإنه لا يكسر المسلمات الفقهية، فما كان محذوراً في العقد القديم كان محذوراً في العقد الجديد. ومن الفقهاء من حاول أن يقول: إن ابتداء الدين بالدين ليس كفسخ الدين بالدين، وأن ابتداء الدين بالدين لا مانع منه، واعتمد في هذا على مناقشة الإِمام ¬
رأيي في الموضوع
ابن تيمية في تحليله لا في أصل القضية، فالإمام ابن تيمية لما قال: إن ابتداء الدين بالدين حرام قال: "وذلك لأنه عمل لا فائدة منه، فناقشوا هذا التعليل، وقالوا: إن فيه فائدة، وأنه لولا أن فيه فائدة لما أقدم عليه كل واحد من الطرفين، فحتى لو فرض قبول هذه المناقشة لابن تيمية فإنما الذي يسقط هو تعليل ابن تيمية لا الحكم الشرعي الأصلي، وهو النهي عن بيع الكالئ بالكالئ" (¬1). واستدل الشيخ عبد الله بن بيه على جواز بيع الدين بالدين بجوازه في بيع السلم بشرط اليومين والثلاثة، وبجوازه بلا شرط مطلقاً، وبجواز ذلك في عقد الاستصناع. وأما عقد الاستصناع فلا حجة فيه؛ لأنه عقد وارد على عمل في الذمة وبيع عين موصوفة، والعمل في الذمة يجوز فيه تأجيل العوضين، فلذلك جاز عقد الاستصناع (¬2). وأما جوازه في اليومين والثلاثة فلأن المالكية رأوا أن ذلك لا ينافي وجوب تقديم الثمن لأن ما قرب من الشيء يعطى حكمه، فلا يقال: أجاز المالكية بيع الدين بالدين. رأيي في الموضوع: أرى أن عقد التوريد عقد وارد على عمل في الذمة وبيع سلعة موصوفة في الذمة. فهو ليس بيعاً محضاً، فالعقد وارد على عمل وبيع، وإذا كان كذلك لم يشترط فيه تقديم الثمن في مجلس العقد، بل يجوز فيه تأخير العوضين، وذلك ¬
مثل عقد الاستصناع، ومثل الأجير المشترك، حيث لا يستحق الأجرة إلا بعد فراغه من العمل، مع أن العمل حين العقد متعلق في ذمة الأجير مما يعني تأخير العوضين، وهو مذهب الحنفية والحنابلة وقول في مذهب الشافعية (¬1). فعمل المورد عنصر جوهري في التوريد، والمتمثل في إحكار وتقديم السلعة أو الخدمة إلى المورد إليه، ومن هنا جاءت التسمية؛ وسمي عقد التوريد بهذا الاسم من باب تسمية الشيء بأبرز ما فيه. والسلعة والعمل مقصودان في عقود التوريد وإذا دخل السلعة العمل جاز تأخير العوضين. والعمل من البائع تارة يكون استصناعاً، والبائع يكون صانعاً. وهذا لا إشكال فيه في تأخير العوضين بناء على مذهب الحنفية. وتارة يكون العمل ليس استصناعاً وإنما هو نقل للبضاعة من بلد إلى بلد، والقيام بشحنها إلى المستورد، ومراجعة البنك الضامن وتقديم مجموعة من المستندات إلى البنك لاستلام الثمن، وقد شرحنا هذه الخطوات في الاعتماد المستندي فأغنى عن إعادتها هنا. وكل هذا من البائع عمل مكلف ومقصود في السلعة، يخرج البيع من كونه بيعاً محضاً، ويجوز فيه تأخير العوضين، ولا يختلف هذا العمل عن عمل الصانع إلا أن عمل الصانع في المواد الخام، وعمل البائع كالأجير المشترك الذي يتعهد بإخراج البضاعة من المنتج إلى أن يقوم بشحنها إلى المستورد. ¬
وبهذا التخريج لا أكون قد كسرت القواعد والمسلمات الفقهية في النهي عن بيع الدين بالدين، وقدمت تخريجاً مقبولاً لعمل الناس اليوم، ولله الحمد على توفيقه.
الباب الثاني حكم عقد التوريد في الفقه الإسلامي
الباب الثاني حكم عقد التوريد في الفقه الإسلامي الفصل الأول أن تكون السلعة الموردة معينة المبحث الأول أن تباع بلا رؤية ولا صفة المبيع في عقد التوريد هو من قبيل بيع الغائب، إلا أن الغائب تارة يتعلق بالذمة، بحيث يكون البيع متوجهاً إلى سلعة غير معينة موصوفة في الذمة، فيكون هذا من قبيل بيع السلم، حالاً كان أو مؤجلًا. أو من قبيل عقد الاستصناع إن كانت السلعة تحتاج إلى عمل وصنعة. أو من الإجارة الواردة على الذمة إن كانت السلعة تحتاج إلى نقل وتوريد، أو كانت خدمة موصوفة في الذمة. وتارة يكون البيع متوجهاً إلى سلعة معينة، فلا يقال: بأنه سلم أو استصناع، ولكن يقال له غائب معين، وهذا الغائب إما أن يكون قد شاهده البائع، ولم يمض على الرؤية وقت يخشى عليه من التغير، أو يكون موصوفاً لم يره المشتري، وإنما وصف له، أو يباع بدون رؤية ولا صفة، ولا تخرج القسمة عن هذه. فإن كان العقد في التوريد واقعاً على سلعة موجودة معينة إلا أنها غائبة عن مجلس العقد، وكان المورد مالكاً لهذه السلعة أو مأذوناً له في بيعها فإن
القول الأول
الخلاف في جواز عقد التوريد راجع إلى الخلاف في بيع السلعة المعينة الغائبة عن مجلس العقد. والسلعة المعينة الغائبة عن مجلس العقد تارة تباع بلا وصف ولا رؤية، بل يكتفى بتعيين جنسها كسيارة، ومنزل، وتارة تباع بالوصف. [م - 807] فإن كان البيع في عقد التوريد على سلعة بعينها، وتم العقد عليها بلا رؤية ولا صفة، فقد اختلف العلماء في صحة البيع على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح البيع، وله الخيار بمقتضى العقد إذا رأى السلعة، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقول مرجوح في مذهب الشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد نقلها حنبل، واختارها ابن تيمية في موضع من كلامه (¬3). القول الثاني: يصح البيع بلا صفة، ولا رؤية إذا كان المشتري قد اشترط له الخيار إذا رآه، فإن لم يشترط الخيار لم يصح البيع، وهذا مذهب المالكية (¬4). والفرق بين مذهب الحنفية والمالكية: أن الحنفية أثبتوا للمشتري خيار الرؤية بمقتضى العقد بدون شرط، والمالكية اشترطوا لصحة البيع اشتراط المشتري خيار الرؤية. ¬
القول الثالث
القول الثالث: لا يجوز البيع بغير صفة، ولا رؤية متقدمة، وهذا اختيار القاضي أبي محمَّد البغدادي من المالكية (¬1)، وهو الأظهر في مذهب الشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). فصارت الأقوال ثلاثة: يصح مطلقًا وله خيار الرؤية إذا رآه. لا يصح مطلقًا. وهذان القولان متقابلان. يصح إن اشترط المشتري له الخيار إذا رآه، وإن لم يشترط الخيار فلا يصح. هذا ملخص الأقوال في المسألة، وهي مهمة جدًا لوقوع التجار فيها، وأحيانًا لو انتظر المشتري ليرى السلعة فقد تفوته الصفقة؛ لكثرة الطلب عليها، والذي أحبه في المعاملات. خاصة في المسائل التي لم يرد فيها نص صريح. أن ينظر إلى مقاصد الشريعة في إباحتها ومنعها، فمن مقاصد الشريعة في المعاملات: إقامة العدل بين الناس، ومنع الظلم، ودفع الغرر الكثير، وإغلاق كل باب يؤدي إلى التنازع والتباغض، ومفسدة الغرر أخف من مفسدة الربا، فلذلك رخص في الغرر فيما تدعو إليه الحاجة منه، كما رخص في اليسير، وفي الشيء غير المقصود والذي يدخل تبعًا. ¬
إذا عرفنا هذا يمكن القول: بأن بيع الغائب إن وقع بلا وصف ولا رؤية، فهو بيع جائز فيما أرى، ولكنه غير لازم، فللمشتري الخيار مطلقاً إذا رأى السلعة، وهنا نكون قد حققنا المصلحة لكل من المتعاقدين مصلحة البائع ومصلحة المشتري في من غير لحوق ضرر فيهما، ودفعنا خوف الوقوع في الغرر، يكون البيع لا يلزم إلا إذا رأى المبيع. وقد ذكرت هذه المسألة بأدلتها في عقد البيع فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، فارجع إلى أدلة الأقوال إن شئت في المجلد الثالث. إذا علم ذلك نستطيع القول بأن عقد التوريد على سلعة معينة موجودة في ملك البائع إذا تم عقد البيع على عينها بلا رؤية ولا صفة أن هذا عقد صحيح غير لازم، ولا مانع من تأخير تسليم العوضين؛ لأن أحد العوضين معين، وهو المبيع، فلا يكون من بيع الدين بالدين، والله أعلم. *******
المبحث الثاني أن تباع السلعة المعينة الغائبة بالوصف
المبحث الثاني أن تباع السلعة المعينة الغائبة بالوصف [م - 808] إذا كان البيع في عقد التوريد على سلعة معينة مملوكة للمورد، وكانت غائبة عن مجلس العقد، وتم البيع على عينها عن طريق الوصف، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال. القول الأول: يصح مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والقول القديم ¬
القول الثاني
للشافعية (¬1). وقال ابن تيمية في موضع: هو أعدل الأقوال (¬2). والحنفية يصححون العقد، ويجعلون للمشتري الخيار إذا رآه حتى ولو كان المبيع مطابقاً للوصف؛ لأن خيار الرؤية عندهم خيار حكمي مستحق بمقتضى العقد، ولو بدون شرط. والمالكية فرقوا بين بيع الغائب بلا رؤية ولا وصف، فلا يصححونه إلا إذا اشترط المشتري الخيار إذا رآه، وأما إذا باعه بالوصف فيصححونه، ولو لم يشترط الخيار، وإذا كان مطابقاً للوصف لزم المشتري، ولا خيار له. القول الثاني: لا يصح بيع السلع المعينة إلا عن طريق رؤيتها، وهو الجديد في مذهب الشافعي، وعليه الفتوى (¬3). القول الثالث: يصح البيع بالوصف إذا كانت السلع مما يصح السلم فيها، بحيث تكون السلعة مما يمكن ضبطها بالوصف، فما لا يصح السلم فيه، لا يصح بيعه بالصفة، وهذا مذهب الحنابلة (¬4). ¬
وقد ذكرت هذه المسألة بأدلتها في عقد البيع فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، وقد رجحت أن المشتري إذا اشترى البضاعة بالوصف فإن العقد صحيح لازم، فإن كان الوصف مطابقاً لم يكن للمشتري الخيار إلا بعرف، أو شرط، وإن وجد المشتري الصفة غير مطابقة فله الخيار بين القبول والرد. وأضعف الأقوال قول الشافعية، والذين يشترطون رؤية المبيع. وإذا عرفنا هذا نستطيع أن نقول: إذا كان عقد التوريد على سلعة معينة يملكها البائع وتم العقد على عينها عن طريق الوصف، فإن عقد التوريد عليها عقد صحيح وهو عقد لازم إن جاء الموصوف مطابقاً للوصف، فإن اختلف كان للمشتري الخيار، ولا حرج في تأخير العوضين حينئذ؛ لأنه لا غرر في ذلك، ولا يعتبر البيع من قبيل بيع الدين بالدين؛ لأن أحد العوضين وهو المبيع معين، والله أعلم. *******
الفصل الثاني أن تكون موصوفة في الذمة
الفصل الثاني أن تكون موصوفة في الذمة المبحث الأول أن تتطلب السلعة صناعة [م - 809] إذا تعهد شخص لآخر صناعة شيء على حسب المواصفات والمقاييس التي يتم الاتفاق عليها في العقد، ويتم تسليمها إلى العاقد الآخر بصفة دورية مقابل مبلغ معين، كما لو تقدمت دار نشر إلى صاحب مصنع لإنتاج الورق، فتتعاقد معه على صناعة الورق، ويتم الاتفاق على صفة الورق بصفات منضبطة من الحجم والمقاس والنوع بحيث يتم تسليمها إليه دفعة واحدة مقابل مبلغ معين (¬1). فالعقد في التوريد في حال قدم المورد المادة والعمل يكيف بأنه استصناع عند الحنفية. وأما المالكية والشافعية وقول في مذهب الحنابلة فإنهم يرونه سلماً. ولا مانع في عقد الاستصناع عند الحنفية من تأخير العوضين. بينما الجمهور يشترطون لجوازه أن تنطبق عليه شروط السلم، ومن ذلك تعجيل الثمن. وقد سبق تحرير هذه المسألة في عقد الاستصناع فأغنى عن إعادته هنا. ¬
والحق مع الحنفية، وأن عقد الاستصناع يختلف عن عقد السلم، وذلك أن عقد السلم بيع عين موصوفة في الذمة، وأما عقد الاستصناع فهو عقد مقاولة وارد على العمل والعين في الذمة، فيكون العقد قد جمع بين البيع والإجارة. وبيع الموصوف في الذمة وحده لا يجوز فيه تأخير العوضين، بينما الإجارة في الذمة يجوز فيه على الصحيح تأخير العوضين، إذ لا يستحق العامل الأجرة إلا إذا فرغ من العمل، وهو مذهب الحنفية، والحنابلة، وقول في مذهب الشافعية (¬1). ولما كان عقد الاستصناع مركباً من عمل وبيع في الذمة غلب جانب العمل، فجاز تأخير العوضين فيه. فهذه الصورة الثانية من صور التوريد جائزة أيضًا, ولا حرج فيها على الصحيح، ولو تأخر فيها تسليم العوضين. وقد اختار ذلك مجمع الفقه الإِسلامي: فقد صدر قرار من مجمع الفقه الإِسلامي بجواز عقد الاستصناع في القرار رقم: 67/ 3/ 7 وقد تضمن القرار ما يلي: 1 - إن عقد الاستصناع -وهو عقد وارد على العمل والعين في الذمة- ملزم للطرفين إذا توفرت فيه الأركان والشروط ... 2 - يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة ... الخ القرار. كما صدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي المتعلق بالتوريد رقم 107/ 1/ 12 ¬
وقد تضمن القرار ما يلي: "إذا كان محل عقد التوريد سلعة تتطلب صناعة، فالعقد استصناع تنطبق عليه أحكامه، وقد صدر بشأن الاستصناع قرار المجمع رقم 65 (3/ 7) ... " (¬1). والصحيح أن رقم القرار 67 (3/ 7) وليس 65 (3/ 7) فتنبه. والله أعلم. ¬
المبحث الثاني أن تكون السلعة لا تتطلب صناعة
المبحث الثاني أن تكون السلعة لا تتطلب صناعة [م - 810] إذا كان محل عقد التوريد سلعة موصوفة في الذمة لا تتطلب صناعة يلتزم بتسليمها عند الأجل، فاختلف العلماء فيها: القول الأول: لا يجوز العقد على توريدها إلا أن يعجل المستورد الثمن بكامله عند العقد؛ لأنه عقد يأخذ حكم السلم، فيجوز بشروطه المعتبرة شرعاً. وهذا ما توجه إليه مجمع الفقه الإِسلامي بقراره رقم 107 (1/ 12). القول الثاني: يجوز العقد على توريدها ولو لم يعجل الثمن. وهذا ما اختاره بعض الباحثين المعاصرين على اختلاف بينهم في تخريج هذا العقد. فيرى الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان بأن هذا العقد من عقود البيع، وقد نظر الشيخ إلى مشروعيته من خلال أصلين شرعيين، وتنزيله على أحدهما أو كليهما إن أمكن هذا. الأصل الأول: تنزيله على عقد أكثر شبهاً به، واتفاقًا معه في حقيقته وأخص صفاته، وهو عقد البيع على الصفة، إذ يتفق معه في الأهداف والوسائل وفي الطريقة بدءًا وتمامًا، من ذلك غياب العوضين (المبيع والثمن) عن مجلس العقد، وتأجيلهما جملة أو أقساطًا إلى زمن مستقبل. ويرى أن المذهب المالكي أكثر ملاءمة ومناسبة من بين المذاهب الأخرى لما
ويناقش
يتم إنجازه من عقود التوريد في الوقت الحاضر لما اشتمل عليه من مميزات وخصائص فقهية مجتمعة من دون تلفيق لم تتوافر مجتمعة في بقية المذاهب ..... (¬1). ويناقش: بأن تنزيل عقد التوريد على بيع السلعة الموصوفة مع تأجيل العوضين إنما يصح تخريجه على بيع الموصوف المعين لدى الفقهاء، أما إذا كانت السلعة موصوفة في الذمة فلا يمكن تنزيل عقد التوريد على بيع الموصوف؛ لأن الفقهاء بالاتفاق يوجبون في هذه الحالة تقديم الثمن، والبيع في عقود التوريد ليس بيعاً لسلعة معينة غائبة عن مجلس العقد، وإنما لسلعة موصوفة في الذمة غير معينة، ومن هنا لا يمكن أن يخرج عقد التوريد على بيع الموصوف لدى الفقهاء. الأصل الثاني: أن يعد عقداً جديداً في ذاته وصفاته، يخضع أولاً لقاعدة الأصل في المعاملات الإباحة. ومن أسباب الإباحة الشرعية وجود المقتضي لها فهو يحقق مصالح متعددة لأطراف متعددين: للبائع والمشتري والمجتمع، فبالنسبة للبائع يحقق له عقد التوريد أموراً ضرورية من أهمها: تسويق السلعة المنتجة دون الوقوع في الكساد، وضمان تشغيل الأيادي العاملة دون عجز أو تقصير في دفع الأجور، والمحافظة على مستوى معين من الإنتاج، كما أنه يضمن للمشتري الحصول على السلع التي يريدها في الموعد المحدد. ومن القواعد الأصولية للإباحة انتفاء المانع، إذ لا يكفي وجود المقتضي، بل لا بد من انتفاء المانع، وهو كل ما يتعارض مع القواعد الشرعية ومقاصدها. ولا يوجد مانع يمنع من صحة العقد كالوقوع في الربا أو في الغرر. ¬
ونوقش هذا
ونوقش هذا: يقول الشيخ عبد الله بن منيع: "إذا قلنا: إن عقود التوريد عقود مستجدة فيجب أن يكون في تصورها ما يقتضي اعتبارها كذلك، أما أن تكون هي صورًا لتعامل موجود مثله فيما ذكره الفقهاء السابقون، وذكروا أحكامه فكيف نعتبره تعاملاً جديدًا على سبيل التحكم والدعوى، حيث إن السلع المستوردة لا يخلو أمرها إما أن تكون موجودة أو معدومة، وفقهاؤنا السابقون رحمهم الله ذكروا أحكام البيوع على أعيان موصوفة موجودة غائبة، أو على أعيان معدومة وقت العقد، ذكروا هذا وذكروا هذا، فإذن لا يتصور أن يقال: بأن هذه من العقود المستحدثة التي يجب أن نأخذ بها على الأصل، في أن الأصل في العقود أو في المعاملات الإباحة ... " (¬1). وعلى فرض أن تكون عقوداً مستحدثة فإنه لا يجوز في العقود المستحدثة أن تخالف القواعد المتفق عليها في المعاملات المالية، فلا يجوز أن يكون العوضان في الذمة إلا بتقديم أحدهما، أو يكون أحدهما قد دخله مع البيع إجارة في الذمة، فيجوز حينئذ كما بينا سابقاً، والله أعلم. وقد ذهبت إلى جواز تأخير العوضين وإن كان المبيع موصوفاً في الذمة بشرط أن يدخل البيع عمل مقصود، من ذلك أن يقوم المورد بجلب البضاعة وشحنها إلى المستورد. فلا يكون العقد بيعًا محضاً، وإنما هو بيع وإجارة. فالعمل من البائع تارة يكون على سبيل الاستصناع، والبائع يكون صانعاً. وهذا لا إشكال فيه في تأخير العوضين بناء على مذهب الحنفية. ¬
وتارة يكون العمل ليس استصناعاً وإنما هو نقل للبضاعة من بلد إلى بلد، والقيام بشحنها إلى المستورد، ومراجعة البنك الضامن، وتقديم مجموعة من المستندات إلى البنك لاستلام الثمن، وقد شرحنا هذه الخطوات في الاعتماد المستندي. وكل هذا من البائع عمل مكلف ومقصود في السلعة، يخرج البيع من كونه بيعاً محضاً، ويجوز فيه تأخير العوضين، ولا يختلف هذا العمل عن عمل الصانع إلا أن عمل الصانع في المواد الخام، وعمل البائع كالأجير المشترك الذي يتعهد بإخراج البضاعة من المنتج إلى أن يقوم بشحنها إلى المستورد. وبهذا التخريج لا أكون قد كسرت القواعد والمسلمات الفقهية في النهي عن بيع الدين بالدين، ولله الحمد على توفيقه.
المبحث الثالث أن يتم توريد السلعة من دائم العمل
المبحث الثالث أن يتم توريد السلعة من دائم العمل قد يتم توريد السلعة من دائم العمل، كعقود الإعاشة والتغذية للمدارس وشركات الطيران والمستشفيات ونحوها، حيث يتم التسليم فيها على دفعات قد تكون يومية، أو شهرية على مدى عام أو أكثر أو أقل، ويتم دفع الثمن في نهاية العقد، أو أثناء التنفيذ على أقساط (¬1). فهذه الصورة إحدى صور عقد التوريد، حيث يؤجل فيها العوضان، والعوضان محلهما الذمة حيث لم يتعين في سلعة بعينها، فهل تأجيل العوضين في هذه الصورة سائغ؟ [م - 811] وللجواب على ذلك نقول: هذه المسألة معروفة في المذهب المالكي بـ (بيعة أهل المدينة) وهو الشراء من دائم العمل كالخباز والجزار والبقال واللبان، على أن تشتري منه كل يوم كذا وكذا من اللبن أو اللحم، أو الخبز، ويؤجل فيها الثمن. وقد ورد عن مالك وأصحابه روايتان فيها: الرواية الأولى: القول بالجواز، وقد اعتبروها بيعًا، ولم يعدوها سلماً اتباعاً لما جرى عليه العمل بالمدينة بشرطين: أحدهما: أن يشرع في قبض أوله، وأجازوا التأخير في قبض المبيع إلى ¬
خمسة عشر يوماً، واستخفوا ذلك، ولم يعتبروا ذلك ديناً بدين، ولا يجوز تأخير القبض إلى أبعد من خمسة عشر يوماً إلا بشروط السلم. الثاني: أن يكون المبيع موجولاً عند البائع، أو يكون من أهل حرفته لتيسره عنده. وليس ذلك محض سلم، ولذلك جاز تأخير الثمن، ولا شراء شيء بعينه حقيقة، ولذلك جاز أن يتأخر قبض جميعه إذا شرع في قبض أوله (¬1). (ح-554) والأصل في صحة هذه المعاملة: ما رواه ابن القاسم، عن مالك، عن عبد الرحمن المجمر، عن سالم بن عبد الله قال: كنا نبتاع اللحم من الجزارين بسعر معلوم نأخذ منه كل يوم رطلًا أو رطلين، أو ثلاثة ويشترط عليهم أن يدفعوا الثمن من المعطاء قال: وأنا أرى ذلك حسنًا (¬2). ¬
الرواية الثانية
قال مالك: ولا أرى به بأساً إذا كان العطاء مأموناً، وكان الثمن إلى أجل. الرواية الثانية: القول بالمنع، وأن ذلك من باب بيع الدين بالدين، وتأول حديث المجمر بأن يجب عليه ثمن ما يأخذ كل يوم إلى العطاء، وهذا تأويل سائغ في الحديث؛ لأنه إنما سمى فيه السوم وما يأخذ كل يوم، ولم يذكر عدد الأرطال التي اشترى منه، فلم ينعقد بينهما بيع على عدد مسمى من الأرطال، فكلما أخذ شيئاً وجب عليه ثمنه إلى العطاء، ولا يلزم واحداً منهما التمادي على ذلك إذ لم يعقدا بيعهما على عدد معلوم مسمى من الأرطال، فكلما أخذ شيئاً وجب عليه ثمنه إلى العطاء (¬1). حكم عقد التوريد تخريجاً على قول مالك في إحدى الروايتين عنه: جواز عقود توريد الإعاشة والتغذية للمدارس وشركات الطيران، والمستشفيات، ولو تأخر تسليم الثمن بشرطين: الأول: أن يشرع المشتري في أخذ القسط الأول خلال مدة لا تزيد عن خمسة عشر يوماً، وقد اعتبر المالكية هذا التأخير يسيراً لا يخرجه عن كونه مقبوضاً، واعتبروا قبض الأوائل قبضاً للأواخر. الثاني: أن يكون المبيع موجوداً عند البائع، أو أن البائع من أهل الحرفة لتيسره عنده. فإذا وجد هذان الشرطان فلا مانع من إجراء عقد التوريد عليهما، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث تأثير الظروف الطارئة على التزامات المقاول
الفصل الثالث تأثير الظروف الطارئة على التزامات المقاول [م - 812] إذا طرأ بعد إبرام عقد المقاولة أو التوريد أو نحوهما من العقود ذات التنفيذ المتراخي ما يوجب تغيرًا كبيرًا في الأسعار بأسباب طارئة عامة، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير أو إهمال من الملتزم، فإنه يحق للقاضي وحده في هذه الحال عند التنازع، وبناء على طلب المقاول أو المورد تعديل الحقوق والالتزامات العقدية بصورة توزع القدر الزائد والخسارة اللاحقة على الطرفين المتعاقدين، كما يجوز للقاضي أن يفسخ العقد فيما لم يتم تنفيذه إذا رأى أن فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له صاحب الحق في التنفيذ، يجبر له جانبًا معقولًا من الخسارة التي تلحقه من فسخ العقد. هذا ما صدر به قرار مجلس المجمع الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي، وهذا نص القرار في بحث ماتع لا مزيد عليه. الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمَّد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فقد عرض على مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي مشكلة ما قد يطرأ بعد إبرام عقود التعهد ونحوها من العقود ذات التنفيذ المتراخي في مختلف الموضوعات من تبدل مفاجئ في الظروف والأحوال ذات التأثير الكبير في ميزان التعادل الذي بني عليه الطرفان المتعاقدان حساباتهما فيما يعطيه العقد كلًّا منهما من
حقوق، وما يحمله إياه من التزامات، مما يسمى اليوم في العرف التعاملي بالظروف الطارئة. وقد عرضت مع المشكلة أمثلة لها من واقع أحوال التعامل وأشكاله توجب التفكير في حل فقهي مناسب عادل يقضي على المشكلة في تلك الأمثلة ونظائرها الكثيرة. فمن صور هذه المشكلة الأمثلة التالية: (1) لو أن عقد مقاولة على إنشاء بناية كبيرة يحتاج إنشاؤها إلى مدة طويلة تم بين طرفين، وحدد فيه سعر المتر المكعب من البناء وكسوته بمبلغ مائة دينار مثلاً، وكانت كلفة المواد الأولية من حديد وأسمنت وأخشاب وسواها وأجور عمال تبلغ عند العقد للمتر الواحد ثمانين دينارًا، فوقعت حرب غير متوقعة، أو حادث آخر خلال التنفيذ قطعت الاتصالات والاستيراد، وارتفعت بها الأسعار ارتفاعاً كبيرًا يجعل تنفيذ الالتزام مرهقًا جدًا. (2) لو أن متعهداً في عقد توريد أرزاق عينية يوميًا من لحم وجبن ولبن وبيض وخضروات وفواكه ونحوها إلى مستشفى، أو إلى جامعة فيها أقسام داخلية، أو إلى دار ضيافة حكومية، بأسعار اتفق عليها في كل صنف لمدى عام. فحدثت جائحة في البلاد أو طوفان أو فيضان أو زلزال أو جاء جراد جرد المحاصيل الزراعية، فارتفعت الأسعار إلى أضعاف كثيرة عما كانت عليه عند عقد التوريد، إلى غير ذلك من الأمثلة المتصورة في هذا المجال. فما الحكم الشرعي الذي يوجبه فقه الشريعة في مثل هذه الأحوال التي أصبحت كثيرة الوقوع في العصر الحاضر الذي يتميز بالعقود الضخمة بقيمة الملايين، كالتعهد مع الحكومات في شق الطرق الكبيرة، وفتح الأنفاق في الجبال، وإنشاء الجسور العظيمة، والمجمعات لدوائر الحكومة، أو للسكنى، والمستشفيات العظيمة، أو الجامعات. وكذا المقاولات التي تعقد مع
مؤسسات أو شركات كبرى لبناء مصانع ضخمة، ونحو ذلك مما لم يكن له وجود في الماضي البعيد؟ فهل يبقى المتعاقد الملتزم على حدود عقده وأسعاره قبل تبدل الظروف وطروء التغييرات الكبيرة المشار إليها مهما تكبد في ذلك من خسائر ماحقة، أو ساحقة، تمسكًا بمقتضى العقد وحدوده في الأسعار والكميات، أو له مخرج وعلاج من فقه الشريعة الحكيمة السمحة العادلة يعيد كفتي الميزان إلى التعادل، ويحقق الإنصاف بقدر الإمكان بين الطرفين؟ وقد نظر مجلس المجمع في النظائر الفقهية ذات الصلة بهذا الموضوع من فقه المذاهب، واستعرض قواعد الشريعة ذات العلاقة مما يستأنس به، ويمكن أن يوصي بالحكم القياسي والاجتهاد الواجب فقهًا في هذا الشأن كما رجع إلى آراء فقهاء المذاهب فوجد ما يلي: (1) إن الإجارة يجوز للمستأجر فسخها بالطوارئ العامة التي يتعذر فيها استيفاء المنفعة، كالحرب والطوفان ونحو ذلك، بل الحنفية يسوغون فسخ الإجارة أيضًا بالأعذار الخاصة بالمستأجر، مما يدل على أن جواز فسخها بالطوارئ العامة مقبول لديهم أيضاً بطريق الأولوية، فيمكن القول أنه محل اتفاق، وذكر ابن رشد في بداية المجتهد تحت عنوان: (أحكام الطوارئ) أنه: "عند مالك أن أرض المطر (أي البعلية التي تشرب من ماء السماء فقط) إذا كريت فمنع القحط من زراعتها، أو إذا زرعها المكتري، فلم ينبت الزرع لمكان القحط (أي بسببه) أن الكراء ينفسخ، وكذلك إذا استعذرت بالمطر حتى انقضى زمن الزراعة فلم يتمكن المكتري من زرعها" انتهى كلام ابن رشد (¬1). ¬
2 - وذكر ابن قدامة المقدسي في كتاب الإجارة من المغني (المطبوع مع الشرح الكبير (6/ ص 30) أنه: "إذا حدث خوف عام يمنع من سكنى ذلك المكان الذي فيه العين المستأجرة، أو تحصر البلد فامتنع الخروج إلى الأرض المستأجرة للزرع، أو نحو ذلك، فهذا يثبت للمستأجر خيار الفسخ؛ لأنه أمر غالب يمنع المستأجر من استيفاء المنفعة. فأما إذا كان الخوف خاصاً بالمستأجر، مثل أن يخاف وحده لقرب أعدائه لم يملك الفسخ؛ لأنه عذر يختص به لا يمنع استيفاء المنفعة بالكلية فأشبه مرضه". (3) وقد نص الإِمام النووي رحمه الله في روضة الطالبين (5/ 239) أنه لا تنفسخ الإجارة بالأعذار سواء أكانت إجارة عين أو ذمة، وذلك كما إذا استأجر دابة للسفر عليها فمرض أو حانوتاً لحرفة فندم، أو هلكت آلات تلك الحرفة، أو استأجر حماماً فتعذر الوقود، قال النووي: وكذا لو كان العذر للمؤجر بأن مرض، وعجز عن الخروج مع الدابة، أو أكرى داره، وكان أهله مسافرين فعادوا، واحتاج إلى الدار أو تأهل. قال: فلا فسخ في شيء من ذلك إذ لا خلل في المعقود عليه. اهـ (4) ما يذكره العلماء رحمهم الله في الجوائح التي تجتاح الثمار المبيعة على الأشجار بالأسباب العامة كالبرد والجراد، وشدة الحر والأمطار والرياح ونحو ذلك مما هو عام حيث يقررون سقوط ما يقابل الهالك بالجوائح من الثمن وهي قضية الجوائح المشهورة في السنة والفقه. (5) ذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله في مختصر الفتاوى (ص: 376) أن من استأجر ما تكون منفعة إجارته لعامة الناس، مثل الحمام، والفندق والقيسارية، فنقصت المنفعة المعروفة لقلة الزبون، أو لخوف أو حرب أو تحول سلطان ونحوه، فإنه يحط عن المستأجر من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة.
(6) وقال ابن قدامة أيضاً في الصفحة (29) من الجزء السابق الذكر نفسه: "ولو استأجر دابة ليركبها، أو يحمل عليها إلى مكان معين، فانقطعت الطريق إليه لخوف حادث، أو اكترى إلى مكة فلم يحج الناس ذلك العام من تلك الطريق فلكل واحد منهما فسخ الإجارة، وإن أحب إبقاءها إلى حين إمكان استيفاء المنفعة جاز". وقال الكاساني من فقهاء الحنفية في الإجارة من كتاب بدائع الصنائع (ج 4 ص: 197) "إن الفسخ في الحقيقة امتناع من التزام الضرر، وإن إنكار الفسخ عند تحقق العذر خروج عن العقد والشرع؛ لأنه يقتضي أن من اشتكى ضرسه، فاستأجر رجلاً لقلعها، فسكن الوجع يجبر على القلع، وهذا قبيح عقلاً وشرعاً". هذا وقد ذكر فقهاء المذاهب في حكم الأعذار الطارئة في المزارعة والمساقاة والمغارسة شبيه ما ذكروا في الإجارة. (7) قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من بعده، وقرر كثير من فقهاء المذاهب في الجوائح التي تجتاح الثمار ببرد أو صقيع أو جراد أو دودة، ونحو ذلك من الآفات، أنها تسقط من ثمن الثمار التي بيعت على أشجارها ما يعادل قيمة ما أتلفته الجائحة، وإن عمت الثمر كله تسقط الثمن كله. (8) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ثبت عنه (لا ضرر ولا ضرار) وقد اتخذ فقهاء المذاهب من قوله هذا قاعدة فقهية اعتبروها من دعائم الفقه الكبرى الأساسية، وفرعوا عليها أحكاما لا تحصى في دفع الضرر وإزالته في مختلف الأبواب. ومما لا شك فيه أن العقد الذي يعقد وفقاً لنظامه الشرعي يكون ملزماً لعاقديه قضاء؛ عملاً بقوله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، ولكن قوة العقد الملزمة ليست أقوى من النص الشرعي
الملزم للمخاطبين به كافة، وقد وجد المجمع في مقاييس التكاليف الشرعية، ومعايير حكمة التشريع أن المشقة لا ينفك عنها التكليف عادة بحسب طبيعته، كمشقة القيام في الصلاة، ومشقة الجوع والعطش في الصيام، لا تسقط التكليف، ولا توجب فيه التخفيف، ولكنها إذا جاوزت الحدود الطبيعية للمشقة المعتادة في كل تكليف بحسبه أسقطته أو خففته، كمشقة المريض في قيامه في الصلاة، ومشقته في الصيام، وكمشقة الأعمى والأعرج في الجهاد، فإن المشقة المرهقة عندئذ بالسبب الطارئ الاستثنائي توجب تدبيرًا استثنائيًا يدفع الحد المرهق منها، وقد نص على ذلك وأسهب في بيانه، وأتى عليه بكثير من الأمثلة في أحكام الشريعة الإِمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله في كتابه (الموافقات في أصول الشريعة). فيتضح من ذلك أن الخسارة المعتادة في تقلبات التجارة لا تأثير لها في العقود؛ لأنها طبيعة التجارة وتقلباتها التي لا تنفك عنها, ولكنها إذا جاوزت المعتاد المألوف كثيراً بمثل تلك الأسباب الطارئة الآنفة الذكر توجب عندئذ تدبيرًا استثنائيًا. ويقول ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين): "إن الله أرسل رسله، وأنزل كتبه بالعدل الذي قامت به السماوات والأرض، وكل أمر أخرج من العدل إلى الجور، ومن المصلحة إلى عكسها فليس من شرع الله في شيء، وحيثما ظهرت دلائل العدل، وسفر وجهه فثم شرع الله وأمره" (إعلام الموقعين). وقصر العاقدين إنما تكشف عنه وتحدده ظروف العقد، وهذا القص لا يمكن تجاهله، والأخذ بحرفية العقد مهما كانت النتائج، فمن القواعد المقررة في فقه الشريعة أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
ولا يخفى أن طريق التدخل في مثل تلك الأحوال المعروضة آنفاً في العقود المتراخية التنفيذ لأجل إيجاد الحل العادل الذي يزيل الجور إنما هو من اختصاص القضاء، ففي ضوء هذه القواعد والنصوص المعروضة التي تنير طريق الحل الفقهي السديد في هذه القضية المستجدة الأهمية، يقرر الفقه الإِسلامي ما يلي: (1) في العقود المتراخية التنفيذ (كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات) إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلًا غير الأوضاع والتكاليف والأسعار تغيرًا كبيرًا بأسباب طارئة عامة لم تكن متوقعة حين التعاقد، فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي يلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة من تقلبات الأسعار في طرق التجارة، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير، أو إهمال من الملتزم في تنفيذ التزاماته، فإنه يحق للقاضي في هذه الحال عند التنازع، وبناء على الطلب تعديل الحقوق والالتزامات العقدية بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين، كما يجوز له أن يفسخ العقد فيما لم يتم تنفيذه منه إذا رأى أن فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له صاحب الحق في التنفيذ، يجبر له جانبًا معقولًا من الخسارة التي تلحقه من فسخ العقد بحيث يتحقق عدل بينهما دون إرهاق للملتزم ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعًا رأي أهل الخبرة الثقات. (2) ويحق للقاضي أيضاً أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير، ولا يتضرر الملتزم له كثيراً بهذا الإمهال. هذا وإن مجلس المجمع الفقهي يرى في هذا الحل المستمد من أصول الشريعة تحقيقاً للعدل الواجب بين طرفي العقد، ومنعًا للضرر المرهق لأحد العاقدين بسبب لا يد له فيه، وأن هذا الحال أشبه بالفقه الشرعي الحكيم،
وأقرب إلى قواعد الشريعة ومقاصدها العامة وعدلها. والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد وآله وصحبه (¬1). ******** ¬
عقد المناقصات
عقد المناقصات * تمهيد* المبحث الأول تعريف المناقصة والعلاقة بينها وبين المزايدة تعريف المناقصة اصطلاحًا: المناقصة لم تعرف في الفقه الإِسلامي، فهي طريقة جديدة مستحدثة، وإنما عرفتها القوانين الإدارية، ويقابلها عقد المزايدة الوارد في السنة وفي كلام الفقهاء. وقد جاء في الموسوعة الكويتية: "لم نطلع على ذكر له (يعني بيع المناقصة) في كتب الفقه بعد التتبع، ولكن يسري عليه ما يسري على المزايدة مع مراعاة التقابل" (¬1). عرفها مجمع الفقه الإِسلامي بقوله: "المناقصة طلب الوصول إلى أرخص عطاء، لشراء سلعة أو خدمة تقوم فيها الجهة الطالبة لها دعوة الراغبين إلى تقديم عطاءاتهم وفق شروط ومواصفات محددة" (¬2). ويعترض على التعريف بأنه لم يتضمن سوى التزام أحد طرفي المناقصة، ولم يتضمن التزام الطرف الآخر، لذا أرى أن يضاف إلى التعريف النص التالي: "في ¬
الفرق بين المناقصة والمزايدة
مقابل ما التزم به مطابقًا للشروط والمواصفات". وبهذا يكون التعريف قد اشتمل على التزامات كل طرف. والمناقصة مفاعلة تقتضي المشاركة في أصل الفعل بين اثنين، أحدهما صاحب المناقصة، والطرف الآخر هم الموردون أو المقاولون ويسمون بالمناقصين أو المتناقصين. وسميت المناقصة عقدًا لأنها وسيلة إليه. * الفرق بين المناقصة والمزايدة: [ن-46] يفترق عقد المناقصة عن المزايدة فيما يلي: (1) من الناحية اللغوية نجد أن العلاقة بين عقد المناقصة والمزايدة علاقة تباين وتضاد، كما هي أيضًا من الناحية الموضوعية، فالزيادة ضد النقص. (2) المناقصة عقد مستحدث لم يعرف في الفقه الإِسلامي، وأما المزايدة فهو من العقود المسماة، حيث ورد ذكره في السنة، وفي كتب الفقهاء. (3) المناقصة قد تكون علنية وقد تكون سرية، وأما عقد المزايدة فهو علني دائمًا. (4) المناقصة تراد للتوريد عندما يتعلق الأمر بشراء سلعة، أو للمقاولة عندما يتعلق الأمر بعقد إجارة أو استصناع، فهي ترد على شراء الأصناف أو تنفيذ الأعمال، بينما المزايدة ترد على بيع الأصناف أو إجارتها. (5) المناقصة تستهدف اختيار من يتقدم بأقل عطاء، والمزايدة ترمي إلى التعاقد مع الشخص الذي يقدم أعلى عطاء. (6) المناقصة يجريها المشتري، ويطلب العرض الأقل من البائعين، والمزايدة يجريها البائع، ويطلب العرض الأكثر من المشترين.
ويشتركان فيما يلي: (1) أن عقد المناقصة والمزايدة في العصر الحديث من العقود الشائعة المنتشرة محلياً وعالمياً وتضاعفت أهميتهما نظراً لشدة الحاجة إليهما، بل أصبحا من عقود المؤسسات والإدارات الحكومية، لهما أنظمتهما وقوانينهما ولوائحهما الخاصة، ومن ثم انتظما قانوناً بين العقود الإدارية التي يكون أحد أطراف العقد شخصاً من أشخاص القانون العام، كالدولة مثلاً، أو الهيئات والمؤسسات العامة ذات الشخصية المعنوية. (2) أن المناقصة والمزايدة من عقود المنافسة الحرة والمساواة بين المتنافسين في إتاحة المعلومات المتوافرة لدى الجهة الإدارية وإتاحة الفرصة في الدخول في المنافسة. (3) يثبت للمناقصة من الإجراءات والتنظيمات ما يثبت للمزايدة في الجملة، ويخضع كل منهما لما يخضع له الآخر فيما عدا بعض الأمور والشروط التي تتلاءم وطبيعة كل واحد منهما على انفراد (¬1). ... ¬
المبحث الثاني في خصائص عقد المناقصة
المبحث الثاني في خصائص عقد المناقصة [ن-47] يتميز عقد المناقصة بمجموعة من الخصائص سواء قلنا: إن المناقصة وسيلة للعقد وطريقة للوصول إليه. أو قلنا: إن المناقصة هي عقد بذاتها، من ذلك: (1) يقوم عقد المناقصة على الرضا من الطرفين، لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. (2) يعتبر عقد المناقصة من عقود المعاوضات: إذ إن تمليك الشيء عن طريقها سواء كان ذاتاً أو منفعة لا يحصل إلا بعوض يبذله المناقص له للمناقص. (3) يعتبر عقد المناقصة من العقود اللازمة للطرفين المناقص والمناقص له، فلا يحق لأحد الطرفين الانفراد بالفسخ دون موافقة الطرف الآخر، أو وجود شرط في العقد يجعل العقد اللازم جائزاً. (4) يعتبر عقد المناقصة من العقود المركبة حيث يتضمن مجموعة من العقود المتداخلة، من ذلك عقد بيع دفتر الشروط، وهو عقد مستقل، وعقد الضمان، وهو عقد تابع لعقد المناقصة بالإضافة إلى عقد المناقصة والذي قد يكون بيعاً، وقد يكون إجارة، وقد يكون مركباً من كليهما كما لو كان العقد يتطلب استصناعاً، وكانت المواد من المناقِص. ************
المبحث الثالث مقومات عقد المناقصة
المبحث الثالث مقومات عقد المناقصة [ن-48] يقوم عقد المناقصة على المقومات التالية: الأول: الصيغة. وهي الإيجاب والقبول. وسوف يأتينا إن شاء الله تعالى بيان من الموجب ومن القابل في عقد المناقصة في مبحث مستقل. الثاني: العاقدان، وهما: المناقِص، وهو من يتقدم بالعطاء. والمناقص له: وهو الداعي للمناقصة. الثالث: المعقود عليه، وينقسم إلى: المناقص فيه: وهو عبارة عن سلع أو أعمال تعهد المناقص بتوريدها أو القيام بها .. العطاء (قيمة المناقصة): وهو ما يبذله المناقص له قيمة للسلع أو للأعمال التي تعهد المناقص بتقديمها للمناقص له. وقد اخترت أن يكون العنوان مقومات عقد المناقصة؛ لأخرج من الخلاف الدائر بين الحنفية والجمهور في تحديد أركان العقد: فالحنفية يرون أن ركن العقد هو الصيغة فقط. والجمهور يرون أن ركن العقد الصيغة، والعاقدان، والمعقود عليه. وقد بينت سبب الخلاف بين الحنفية والجمهور في عقد البيع عند الكلام على أركان العقد فأغنى عن إعادته هنا، أما مقومات العقد فتشمل كل ما ذكر دون دخول في الخلاف بين الحنفية والجمهور، والله أعلم.
الباب الأول في الإجراءات المتبعة في عقد المناقصة
الباب الأول في الإجراءات المتبعة في عقد المناقصة [ن-49] يمر التعاقد عن طريق المناقصة بمراحل أهمها: المرحلة الأولى: تقوم الجهة الداعية للمناقصة -بعد تقدير القيمة التقريبية للمشروع، والتأكد من توفر الاعتماد المالي اللازم الذي يمكنها من الوفاء بالتزاماتها- تقوم بوضع تفاصيل المشروع بكامله من مواصفات تفصيلية وشروط، وتصاميم ورسوم ومحل التسليم، وتضع كل ذلك في دفتر يسمى (دفتر الشروط)، وتقدمه للمشتركين في المناقصة متضمنًا بيان الجزاءات المترتبة على الإخلال بأحكام العقد وشروطه. المرحلة الثانية: مرحلة الإعلان عن المناقصة. تقوم الجهة الداعية للمناقصة بدعوة الموردين أو المقاولين عن طريق الإعلان في الجرائد والصحف لتقديم عروضهم، وهذا الإعلان ضروري لتأمين المنافسة العادلة، وحتى لا يكون التعاقد قاصرًا على طائفة معينة من المواطنين بحجة أنهم وحدهم الذين تقدموا. ويجب أن يتضمن الإعلان عن المناقصة الأمور التالية: (1) تحديد السلعة أو العمل المطلوب تنفيذه. (2) ثمن نسخة دفتر الشروط، والمبين فيه الشروط والمواصفات ومقدار الضمان الابتدائي والنهائي والغرامات.
المرحلة الثالثة: مرحلة تقديم العروض
(3) تحديد الجهة التي تقدم إليها العروض. (4) تحديد آخر موعد لتقديم العروض، ويجب أن تكون المهلة معقولة لكي يفكر فيها من يريد التقدم، وليزن عطاءه وظروفه جيداً قبل المتقدم. (5) تحديد تاريخ فض العروض (¬1). المرحلة الثالثة: مرحلة تقديم العروض: بعد دراسة الموردين أو المقاولين لدفتر الشروط، يمقدم الراغب في الدخول في المناقصة بتقديم عطائه للجهة الداعية للمناقصة ضمن الموعد المحدد بالشكل التالي. (1) تكتب الأسعار على نماذج مخصوصة معدة لهذا الغرض رقماً وكتابة بالمداد الأحمر دون كشط ولا محو، وتوقع جميع صفحاتها من قبل مقدميها، ويرفق معها الضمان الابتدائي (¬2). (2) تقدم هذه العروض في مظاريف مختومة بالشمع الأحمر، وترسل بالبريد المسجل، أو تقدم مناولة باليد مقابل إيصال. (3) توضع هذه العروض الواردة في صندوق العطاءات الذي له فتحة مناسبة تسمح بدخول العرض، ولا تسمح بخروجه منه. (4) لا يجوز للمناقصين بعد تقديم عروضهم تعديل أسعارها بالزيادة أو ¬
المرحلة الرابعة: فتح المظاريف ودراسة العروض.
بالنقصان؛ لما في هذا من إخلال بمبدأ المساواة بين المناقصين، ومبدأ السرية في المناقصات. (5) يبقى العرض ساريًا, ولا يجوز لصاحبه الرجوع فيه حتى تاريخ البت (¬1). المرحلة الرابعة: فتح المظاريف ودراسة العروض. تقوم الجهة الطالبة للمناقصة بفتح الظروف المختومة في موعده المحدد بحضور المشاركين في المناقصة أو ممثليهم، ويعلن اسم كل صاحب عرض وسعره، ويسجل كل ذلك في سجل خاص، ثم يتم فحص العروض للتأكد من توفر الشروط ومطابقة العروض للمواصفات المطلوبة، ويحق لهذه اللجنة استبعاد أي عطاء لم يكن مستوفيًا للشروط، أو جاء مخالفًا لأحكام المناقصة. بعد إتمام الإجراءات السابقة ترفع اللجنة توصياتها بشأن العرض الأقل سعرًا (¬2). المرحلة الخامسة: لجنة البت في العروض. تقوم لجنة البت بالمفاضلة بين العروض، واختيار العرض الأقل سعرًا، وتعد محضراً تبين فيها توصياتها بقبول هذا العرض، وأسباب هذه التوصية. ويحق للجنة الدخول في مفاوضة مع صاحب العرض الأقل في حالتين: (أ) إذا اقترن العطاء الأقل بتحفظ أو بتحفظات يريد منها صاحبها تعديل بنود ¬
المرحلة السادسة: مرحلة إبرام العقد
المناقصة فتفاوضه اللجنة لسحب تحفظاته كلها أو بعضها ليصبح عطاؤه متفقاً مع شروط المناقصة ما أمكن. (ب) إذا كان العطاء الأقل أعلى من مستوى سعر السوق، فتفاوضه اللجنة لتخفيض سعره؛ ليكون موافقًا لسعر السوق. وإذا تساوت الأسعار بين عرضين فأكثر، وكانت المناقصة غير قابلة للتجزئة بين أصحاب هذه العروض فإن على لجنة البت الدخول في مفاوضة علنية لاختيار الأفضل على أساس قواعد معينة كالكفاءة وحسن السمعة، فإن كانوا على درجة واحدة لجأت إلى القرعة في التفضيل بينهم. وفي حالة وجود عطاء وحيد تقدم به صاحبه مستوفياً للشروط والمواصفات المطلوبة فالأصل أن تلغى المناقصة لفقدانها مبدأ المنافسة الذي تقوم عليه، ويجوز للجنة البت بعد موافقة الجهة المختصة بإبرام العقد مع صاحب العطاء الوحيد بشرطين: (2) ألا تسمح حاجة العمل بإعادة طرح المناقصة، أو أنه لا فائدة من إعادتها. (3) أن يكون العطاء مطابقاً للشروط، ومناسباً من حيث السعر (¬1). المرحلة السادسة: مرحلة إبرام العقد: بعد أن تختار لجنة البت أصلح العطاءات تقوم برفع توصياتها بقبول التعاقد مع ذلك العطاء إلى الجهة المختصة بإبرام العقد، والتي بدورها تقوم بدعوة الفائز إلى مراجعة الجهة المختصة لتقديم الضمان النهائي، وتوقيع العقد معه ¬
خلال مدة محددة، ولا يعتبر من رست عليه المناقصة متعاقداً إلا بعد تقديمه الضمان النهائي، وفي حالة عدم حضوره في المدة المحددة يعتبر منسحبًا، ويفقد الضمان الابتدائي تلقائيًا من غير حاجة لإنذاره.
الباب الثاني في الإيجاب والقبول
الباب الثاني في الإيجاب والقبول الفصل الأول في تحديد الإيجاب والقبول في عقد المناقصة [ن- 50] قد يظن بعض الناس أن طرح الصفقة للمناقصة عن طريق الإعلان بالصحف هو الإيجاب، والتقدم بالعطاء هو القبول، وليس هذا صحيحاً؛ لأن الإعلان الصحفي لا يعدو أن يكون دعوة إلى التعاقد. فالصحيح أن تقديم العطاء: هو الإيجاب. وأما القبول فلا يتم إلا برسو المزاد. وهو يتفق مع مذهب الجمهور من أن الإيجاب: هو اللفظ الصادر من البائع. والقبول: هو اللفظ الصادر من المشتري (¬1). وإذا أردنا أن نحدد من البائع ومن المشتري في عقد المناقصة؟ فإن الجهة التي تقدم العطاء هي البائع، ويكون تقديم العطاء منها بمنزلة الإيجاب. والجهة الداعية للمناقصة هي المشتري، سواء كان موضوع المناقصة توريد سلعة من السلع، أو كانت المناقصة تنفيذ عمل من الأعمال. ويكون إرساء المزاد بمنزلة القبول من المشتري. ¬
وإنما لم نعتبر طرح الصفقة للمناقصة عن طريق الإعلان بالصحف إيجابًا للأسباب التالية. (1) لأن هذا الإعلان هو مجرد عرض خال من الثمن، والإيجاب لا بد له من تحديد السعر. (2) ولأن العقد لا يتم بمجرد فتح العرض الأقل، فقد يحق للجهة الطالبة أن تجري مفاوضة مع صاحب العرض الأقل إذا كان سعره المعروض أكثر من سعر السوق.
الفصل الثاني في رجوع المتقدم بالعطاء عن إيجابه قبل رسو المناقصة
الفصل الثاني في رجوع المتقدم بالعطاء عن إيجابه قبل رسو المناقصة [ن-51] اتضح لنا من خلال البحث السابق أن المتقدم بالعطاء هو الإيجاب، فهل يجوز له الرجوع عن إيجابه قبل رسو العطاء عليه؟ هذه المسألة ترجع إلى مسألة أخرى، هل يكون الإيجاب ملزماً قبل صدور القبول، أو يحق لمن صدر منه الإيجاب الرجوع عن إيجابه ما دام لم يقترن بالقبول؟ وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: للموجب حق الرجوع عن إيجابه قبل أن يتصل به القبول، وهذا مذهب الجمهور (¬1). ¬
القول الثاني
لأن الإيجاب وحده لا يفيد الحكم بدون قبول العاقد الآخر، وإذا كان الأمر كذلك فللموجب الرجوع عن إيجابه لخلوه عن إبطال حق غيره. وعلى هذا جرى القانون المصري كما ذكره الدكتور السنهوري حيث يقول: "فقد كان يعتبر المتقدم بالعطاء إيجاباً لا قبولاً، ويرتب على ذلك جواز الرجوع فيه قبل إرساء المزاد" (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن الموجب لا يملك حق الرجوع إذا صدر بصيغة الماضي، أو صدر بغير الماضي وكان هناك قرينة أنه أراد البيع (¬2). وقد طرد المالكية ذلك في بيع المزاد، فمن تقدم بالعطاء فيها لا يحق له الرجوع عن إيجابه إلى أن يرسو العطاء، وبيع المناقصة مقيس عليه. قال الحطاب: والذي "تحصل من كلام ابن رشد والمازري وابن عرفة في بيع المزايدة أن كل من زاد في السلعة فلربها أتى يلزمه إياها بما زاد, إلا أن يسترد البائع سلعته ويبيع بعدها أخرى، أو يمسكها حتى ينقطع مجلس المناداة، إلا أن يكون العرف اللزوم بعد الافتراق, أو يشترط ذلك البائع فيلزم المشتري البيع بعد الافتراق ... " (¬3). واستدلوا بأدلة منها: الدليل الأول: قال القرطبي: "ليس له أن يرجع حتى يسمع قبول المشتري أو رده؛ لأنه قد ¬
ورد هذا
بذل ذلك من نفسه، وأوجبه عليها" (¬1). ولأن الإيجاب إذا صدر من البائع أثبت ذلك للمشتري حق التملك، فامتنع الرجوع عن الإيجاب حتى لا يؤدي ذلك إلى إبطال حق المشتري. ورد هذا: بأن الموجب وإن أثبت للمشتري حق التملك، فإن حقيقة الملك للبائع، والحقيقة مقدمة على الحق (¬2). يقول الشيخ أحمد إبراهيم: "وليس للطرف الآخر المشتري مثلًا أن يدعي أنه صار له حق تملك المبيع بسبب إيجاب البائع، وذلك لأن حقيقة الملك في العين لا تزال ثابتة للبائع، وهي أقوى من حق التملك، فلو لم يجز الرجوع لزم تعطيل حق الملك بحق التملك، ونظير هذا أن للأب حق التملك لمال ولده عند الحاجة، ومع هذا فللولد أن يتصرف في ماله كيف شاء، مع أن حق تملك الأب إياه متعلق به" (¬3). التعليل الثاني: ممكن أن يستدل لهم بالقياس فإذا كان القبول يُلزِم المشتري بما صدر عنه، فالإيجاب يلزم البائع بما صدر عنه، فمن يتعاقد إنما يلتزم بالإرادة الصادرة عنه، لا بتوافق هذه الإرادة مع إرادة المتعاقد الآخر، ويترتب على ذلك أن الإيجاب وحده ملزم، فلا يستطيع من صدر عنه الإيجاب أن يعدل عنه. ¬
فالملتزم بالعقد إنما يلتزم بإرادته هو، لا بتوافق إرادته مع إرادة الطرف الآخر، فهو يوجد حقًا في ذمته لشخص آخر بمجرد إعلان إرادته، وموافقة الآخر لهذا الحق إنما هو مجرد انضمام تطلبناه؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يلزم غيره بشيء إلا برضاه، فلكي يكون الالتزام من الجانبين تطلب ذلك موافقة الطرف الآخر، بدلاً من كونه ملزمًا من جانب واحد، والدليل على ذلك أن الشيء إذا كان لا يتطلب موافقة الطرف الآخر صار ملزمًا ولو من جانب واحد، وهذا له نظائر في الفقه: فمن التصرفات التي تتم بإرادة منفردة في الفقه الإِسلامي: الجعالة، والوصية، والوقف، والإبراء، واستعمال خيار من الخيارات، كخيار الشرط، وخيار العيب، وخيار الرؤية، وأيضًا الكفالة والهبة والعارية وغير ذلك من التصرفات. وعلى قول المالكية جرت معظم قوانين المناقصة المعاصرة، على أنه يمكن تخريج الإلزام بالإيجاب وحده على قول الجمهور، ذلك أن الإيجاب إنما كان ملزمًا لصاحبه ليس بمقتضى العقد، ولكن عن طريق الشرط، فإذا اشترط في العقد أن يكون الإيجاب وحده ملزمًا لمن صدر منه مدة معينة لم يكن هذا مخالفًا لقول الجمهور، وإنما يدخل في باب الشروط في البيع، كاشتراط البائع أو المشتري ما له فيه منفعة. قال السنهوري: " على أنه لا خلاف في الأمر إذا كان من صدر منه الإيجاب قد اتفق مع الطرف الآخر على أن يبقى ملتزمًا بإيجابه لا يعدل عنه مدة معينة فيكون التزام الموجب مستندًا إلى عقد تم بينه وبين الطرف الآخر، وهو غير العقد المزمع إبرامه، فإن هذا لا يتم إلا إذا اقترن القبول بالإيجاب" (¬1). ¬
والعمل بهذا الشرط ليس قولًا ثالثًا، وإنما هو عمل بالشرط بين المتبايعين, فكل من ألزم نفسه شرطًا لا يخالف الشرع، ولا ينافي مقتضى العقد، وله فيه مصلحة، فيجب الوفاء به.
الفصل الثالث في تقديم الإيجاب الأكثر على الإيجاب الأقل
الفصل الثالث في تقديم الإيجاب الأكثر على الإيجاب الأقل [ن-52] المناقصة إنما أعلنت من أجل الحصول على أرخص الأسعار، والسؤال: هل يحق لصاحب المناقصة أن يفضل صاحب العطاء الأعلى مقدماً له على صاحب العطاء الأقل؟ وللجواب عن ذلك نقول: لما كانت المناقصة من العقود المستحدثة لم يمكن البحث فيها من خلال كلام الفقهاء المتقدمين، إلا أنه يمكن لنا أن نتلمس حكم هذه المسألة من كلامهم في بيع المزايدة، باعتبار أن أحكامهما متقاربة، وللفقهاء فيها قولان: القول الأول: للبائع أن يعطيها لمن شاء، ولو زاد غيره عليه، وهو مذهب المالكية .. قال ابن رشد في البيان والتحصيل: "وهو -يعني البائع- مخير في أن يمضيها لمن شاء، ممن أعطى فيها ثمناً، وإن كان غيره قد زاد عليه" (¬1). * وجه القول بذلك: لما عرض المتقدم عطاء لزمه ذلك العطاء، وليس وجود عطاء أكثر منه يعتبر إبراء له مما تقدم به، فإن قال المشتري: طلبت الزيادة وقد وجدتها فبع سلعتك من الذي زاد علي فيها. ¬
القول الثاني
قال له البائع: أنا لا أحب معاملة الذي زاد في السلعة عليك، وليس طلبي الزيادة فيها وإن وجدتها إبراء مني لك فيها (¬1). القول الثاني: إذا زاد عليه غيره سقط إيجابه، وهو اختيار الأبياني من المالكية، وكان العمل عليه في أكثر البلاد. قال الحطاب: "بيع المزايدة يلزم كل من زاد في السلعة، ولو زاد غيره عليه خلافًا للأبياني. وقد جرى العرف في مكة، وكثير من البلاد على ما قاله الأبياني" (¬2). * وجه هذا القول: أن العمل والعرف قد جرى في أكثر البلاد على أن البيع لا يلزمه إذا زاد غيره عليه، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً. فإذا قسنا على ذلك المناقصة قلنا: إن العطاء الأقل مسقط للعطاء الأكثر. * الراجح: في بيع المناقصة كان أطراف العقد فيها قد قبلوا بسقوط ما يسمى بخيار المجلس، وخيار المجلس يسقط بإرادة المتعاقدين سواء كان ذلك شرطاً أو عرفاً، ويبقى التفصيل أن يقال: إن كان المناقص له يمثل نفسه وليس من أشخاص القانون العام، فإن له الحق أن يشتري سلعته ممن يشاء، وذلك أن المناقص له قد لا يرغب في التعاقد مع ¬
صاحب العطاء الأقل إما لأنه مماطل، أو لأنه قليل الخبرة في القيام بالمعقود عليه كما لو كان المطلوب عملًا معينًا، أو كان عسرًا في تعامله، أو لغير ذلك من الأعمال. وأما إذا كان المناقص له وكيلًا فلا يجوز له أن يمضي البيع لصاحب العطاء الأكثر إلا بإذن الموكل. وكذلك الشأن فيما يتعلق في أملاك الدولة، فإن الشخص يتصرف فيها بالوكالة. فما يباع في المزاد من أملاك الدولة لا يجوز أن يباع على صاحب العطاء الأقل، وما يشترى بأموال الدولة عن طريق عقود المناقصة يجب أن يشترى من صاحب العطاء الأقل بشرط الالتزام بالشروط والمواصفات؛ لأن المتصرف وكيل عن المسلمين الممثلين في بيت المال، وإلا حصل في هذا الأمر تلاعب لا يخفى قد تضيع فيه الأموال العامة بحجة أنه يجوز أن يرسو المزاد على صاحب العطاء الأكثر (¬1). ¬
وما دام أن المنع من أجل سد الذريعة إلى الفساد فكلما اتخذت من الإجراءات ما يسد الفساد جاز ذلك. قال الشيخ مصطفى الزرقاء: "إذا كانت المزايدة أو المناقصة جارية بطريق الظرف المختوم، بأن يرسل المتزاحمون معروضاتهم في الأسعار دون أن يعلم أحدهم بما قدم الآخر، ثم تفتح هذه المعروضات فإنها تعتبر بحكم إيجابات متعددة، فيصح للطرف الآخر -أي البائع في حال المزايدة والمشتري في حال المناقصة- أن يبني قبوله على ما شاء منها، فيلزم صاحبه، ولو كان ما قد قبله هو الأقل في حال المزايدة، أو الأكثر في حال المناقصة. على أن هذا الاختيار لا يصح في المزايدات أو المناقصات التي تروجها الدوائر الرسمية من فروع الحكومة فيما تحتاج إلى بيعه وشرائه؛ لأنها لا يجوز لها أن تختار من الأسعار المعروضة إلا ما هو أوفق لمصلحة بيت المال العام، وهو السعر الأكثر في حال المزايدة، والأقل في حال المناقصة" (¬1). وقال الشيخ القاضي محمَّد تقي العثماني: "لو أجرينا المناقصة على أساس هذا القول -يعني مذهب المالكية - جاز لصاحب المناقصة أن يقبل أي عرض شاء، سواء كان أقل أو أكثر، وربما تضطر الجهة الطالبة للمناقصة إلى قبول عرض سعر أكثر لمصالح أخرى، مثل كون صاحب العرض أتقن، أو أوثق بالنسبة لمن عرض سعراً أقل، ولكن بما أن المناقصات تجري عموماً من قبل الجهات الحكومية أو المؤسسات الحكومية التي تمر فيها العملية من خلال أيدي كثير من الناس فإن قبول السعر الأكثر معرض لتهمة التواطؤ والرشوة ¬
وغيرها، فينبغي أن تكون مثل هذه المناقصات خاضعة لتشريعات تضمن شفافية العملية، ويؤمن معها التواطؤ والرشوة" (¬1). *********** ¬
الباب الثالث في التوصيف الفقهي للمناقصة
الباب الثالث في التوصيف الفقهي للمناقصة المناقصة تشتمل على كثير من العقود، فهو عقد مركب بين الجهة الداعية للمناقصة وبين المناقصين، فهي تشتمل على: حكم بيع دفتر الشروط، وهو عقد مستقل عن عقد المناقصة. حكم أخذ الضمان الابتدائي والنهائي وهو عقد تابع. حكم إجراء المناقصة نفسها. وسوف نتناول كل واحد من هذه المسائل في الفصول التالية. ***
الفصل الأول في حكم بيع دفتر الشروط
الفصل الأول في حكم بيع دفتر الشروط تقوم الجهة التي تجري المناقصة بتسجيل جميع تفاصيل العقد ومواصفاته في دفتر يطلق عليه (دفتر الشروط)، وقد يتضمن الدفتر دراسات فنية، ورسم خرائط دقيقة واستشارات هندسية مما يتطلب جهدًا ذهنيًا ومالًا مكلفاً. وبيع دفتر الشروط يعتبر عقدًا مستقلًا عن عقد المناقصة؛ لأنّ من يشتري الدفتر لا يشترط بالضرورة أن يدخل في المناقصة. [ن-53] والسؤال: هل يجوز بيع هذا الدفتر على المناقصين، أو يجب بذله مجاناً، أو بسعر التكلفة؟ اختلف: العلماء المعاصرون في هذة المسألة إلي ثلاثة أقوال: القول الأول:. يجب بذل دفتر الشروط بالمجان من قبل الجهة الداعية للمناقصة، ولا مانع من أن تأخذ تأمينًا قابلًا للرد ممن يطلبه ليكون الطالب يطلبه بجدية، وهذا قول الأستاذ رفيق المصري (¬1). وجه هذا القول: الوجه الأول: النفع في دفتر الشروط عائد على الجهة الإدارية، فإذا أخذت مقابلاً له كان هذا أشبه بالضريبة، ولهذا قال الشيخ: إذا كان في الدفتر نفع للمناقص فلا مانع ¬
الوجه الثاني
في أخذ قيمته، ولكن الغالب في دفاتر الشروط أن يكون النفع فيه عائدًا فقط إلى الجهة الداعية للمناقصة. الوجه الثاني: أن المناقصين إذا دفعوا قيمة الدفتر فإن واحدًا منهم فقط هو الذي سيفوز بالعقد، وترسو عليه المناقصة، فما وجه تحميل سائر المناقصين بالتكلفة أو بالثمن؟ (¬1). ويجاب: بأن هذا التعليل يصلح وجهًا لمن قال: يتحمل دفع تكاليف الدفتر من رسا عليه العطاء دون غيره، ولا يصلح أن يكون دليلًا أو تعليلًا لمن قال: يجب أن تتحمل الجهة الداعية للمناقصة قيمة الدفتر. القول الثاني: يجب أن يتحمل دفع تكاليف دفتر الشروط من وما عليه العطاء وحده دون غيره. وقد قال به مجموعة من المشايخ منهم فضيلة الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان (¬2). وجه هذا القول: الوجه الأول: أن المناقص الذي رست عليه المناقصة هو المستفيد الوحيد من هذا الدفتر دون غيره، فأخذ تكاليف الدفتر من غيره يعتبر أخذًا له بلا مقابل، وهذا يعد من ¬
الوجه الثاني
أكل أموال الناس بالباطل، فلا يوجد سبب شرعي في تحميل قيمة الدفتر من خرج من هذه المناقصة. الوجه الثاني: أن الجهة الداعية للمناقصة لو لم تقم بهذه الدراسة التفصيلية للمشروع لقام المناقص الذي رست عليه المناقصة بتكاليف إعدادها، لهذا يجب عليه وحده أن يدفع رسوم هذه التكاليف حيث وفر له الدفتر الجهد الكثير. القول الثالث: يجوز بيع دفتر الشروط لمن يطلبه من المشاركين، وقد قال بهذا القول الشيخ السلامي (¬1)، والشيخ عبد الله بن منيع (¬2)، والشيخ وهبة الزحيلي (¬3). وجه هذا القول: الوجه الأول: أن هذا الدفتر فيه منفعة ظاهرة، وذلك أن المناقص يطلع من خلاله على شروط العقد وضوابطه مما يجعله على بينة من أمره من اختيار المشاركة أو عدمها، وسيعرف من خلال هذا الدفتر مدى إمكانية تنجيزه للمطلوب، فلا يدخل مغامرًا دون معرفة قدراته وإمكاناته في تنفيذ مشروع معين، وسيساعده هذا على رفع كفاءته، وتطوير قدراته، وتحسين أدائه، وهذه منفعة مقصودة، وبذل المال في سبيلها جائز (¬4). ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: اشتراط الحصول على دفتر الشروط بثمن ليس القصد منه بيع دفتر الشروط؛ لأنّ تفاهة قيمته بالنسبة لقيمة المشروع لا تجعله مقصوداً في الثمن. ويناقش: بأن قيمة دفتر الشروط ليست تافهة خاصة أنه يقدم بقيمة تتجاوز قيمته الحقيقية، وقياس قيمته بالنسبة لقيمة الصفقة إنما يصح في حق من فاز بالصفقة لا في جانب من خسرها، حيث تجتمع عليه خسارتان: خسارة الصفقة، وخسارة قيمة الدفتر. القول الرابع: اختار الشيخ العثماني التفصيل: إن كان دفتر الشروط مشتملًا على دراسات فنية يحتاج إليها المشاركون في المناقصة لإعداد عروضهم فيجوز للجهة الداعية للمناقصة أن تأخذ على دفعه عوضًا يغطي تكاليف الجهة الإدارية في إعداده. وإن كان دفتر الشروط لا يتضمن دراسات فنية، وكان مشتملًا على مجرد شروط التعاقد فلا يجوز للجهة الداعية للمناقصة أن تتقاضى عليه ثمناً؛ لأنّ ذلك بمثابة بيان شروط العقد من أحد العاقدين (¬1). وبهذا صدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي في موضع بيع المزايدة ونصه ما يلي: "لا مانع شرعًا من استيفاء رسم الدخول (قيمة دفتر الشروط بما لا يزيد عن القيمة الفعلية) لكونه ثمنًا له" (¬2). وأرى أن هذا القول هو أعدل الأقوال، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني خطاب الضمان في عقد المناقصة
الفصل الثاني خطاب الضمان في عقد المناقصة المبحث الأول التعريف بخطاب الضمان تعريف خطابات الضمان: يمكن تعريفه بأنه تعهد كتابي يتعهد بمقتضاه المصرف بكفاله أحد عملائه (طالب الضمان) في حدود مبلغ معين تجاه طرف ثالث يسمى المستفيد، وذلك ضمانًا لوفاء هذا العميل المكفول بالتزامه تجاه الطرف الثالث خلال مدة معينة، وينص في الخطاب على أن يدفع المصرف المبلغ المضمون عند أول مطالبة من الطرف الثالث (المستفيد) خلال سريان خطاب الضمان دون التفات لما قد يبديه العميل من المعارضة (¬1). فخطاب الضمان هذا يعني أن المقاول أو المورد إذا تخلف عن الوفاء كان للجهة الداعية للمناقصة مطالبة البنك بدفع قيمة الضمان المحددة في خطاب الضمان مدة سريان مفعوله، ثم يرجع البنك على العميل في أخذ ما دفعه عنه. فهو على هذا صورة من صور الضمان المالي. ويعتبر خطاب الضمان عقدًا تابعًا لعقد المناقصة، وليس عقدًا مستقلاً، وهو بصوره الصحيحة أو الفاسدة لا يؤثر على العقد الصحيح. ¬
وأطراف خطاب الضمان ثلاثة: (1) البنك ويقدم نفسه ضامناً. (2) المستفيد: وهي الجهة الداعية للمناقصة وهي المضمون له. (3) المناقِص، وهو المضمون عنه. فالعلاقة بين المستفيد (الجهة الداعية للمناقصة) وبين المضمون عنه (المناقِص) هو الالتزام القائم بينهما والذي بسببه صدر خطاب الضمان، ويحكم هذه العلاقة عقد المقاولة أو عقد التوريد. والعلاقة بين المناقص (المضمون عنه) وبين البنك الذي يقدم الضمان، هو عقد اعتماد خطاب الضمان المحرر بين البنك وعميله. والعلاقة بين البنك الضامن وبين المستفيد (الجهة الداعية للمناقصة) هو خطاب الضمان نفسه، والتعهد الوارد به، والذي يلتزم بموجبه البنك بدفع قيمة الضمان للمستفيد عند أول مطالبة له مدة سريان خطاب الضمان.
المبحث الثاني أنواع الضمان في عقد المناقصة
المبحث الثاني أنواع الضمان في عقد المناقصة [ن-54] يقدم نوعان من الضمان في المناقصات: * الأول:- الضمان الابتدائي أو المؤقت: وهو خطاب مقدم بواسطة البنك نيابة عن أحد عملائه ممن يرغب في الدخول في مناقصة لتنفيذ عمل أو مشروع معين، وذلك عندما يطرح مشروع المناقصة في عطاء عام، فيقدم هذا الخطاب مع تقديم العطاء وتتراوح قيمته بين 1% إلى 2 % من قيمة العرض وذلك وفقًا لما تحدده الشروط والمواصفات. ويهمل كل عرض غير مصحوب بضمان، ويعتبر عرضًا غير جدي. ويصادر رب المناقصة الضمان الابتدائي كله إذا سحب العرض قبل ميعاد البت في العروض، أو إذا لم يقم المتعهد بإبرام العقد حال رسو المناقصة عليه. والغرض من خطابات الضمان الابتدائية هو: (أ) التأكد من جدية المتقدم للعرض لئلا تملأ خانات المزايدة أو المناقصة أو العطاء بأسماء أفراد غير جادين وغير مؤهلين لهذا المجال. (ب) إلزام المناقص بإبرام العقد إذا رست عليه المناقصة. ويرد الضمان الابتدائي إلى أصحاب العروض غير المقبولة ممن لم ترس عليهم المناقصة، أما الذين رست عليهم المناقصة فيقدم ضمانًا نهائياً، ويرد إليه الضمان الابتدائي، أو يستكمل الضمان الابتدائي باعتبار أن نسبته أقل من النهائي (¬1). ¬
الثاني: الضمان النهائي
* الثاني: الضمان النهائي: يصدر هذا النوع بواسطة البنك، ويقدمه المناقص بعد أن ترسو عليه المناقصة، ويقدر بما قيمته حوالي 5% من جملة العقد، أو 10 % منه. ويودع الضمان في مدة لا تتجاوز عشرة أيام من تاريخ اليوم التالي لإخطاره بخطاب مسجل بقبول عطائه. ويحل خطاب الضمان النهائي محل الخطاب الابتدائي الذي يصبح لاغيًا بمجرد تقديم صاحب العرض المقبول لخطاب الضمان النهائي. ويرد الضمان إلى المناقص بعد الوفاء بالتزاماته بصورة نهائية. وهذا الضمان إذا أصدره المصرف فإنه ملزم للبنك؛ لأنه لا يصدر إلا والعميل قد ارتبط بعقد مع المستفيد. والغاية من الضمان النهائي: هو إلزام المتعاقد بتنفيذ العقد دون تأخر ولا تخلف، ولا مخالفة، ويصادر الضمان النهائي كله إذا لم يقم المتعاقد بتنفيذ العقد، وقد ينفذ العقد على حسابه مع تحمله فوارق الأسعار، والتعويض عن الأضرار. وقد يصادر جزء من الضمان النهائي إذا ترتب على المتعهد غرامات تأخير (¬1). هذا الكلام فيما يتعلق بأنواع خطاب الضمان، وأما توصيف الضمان المصرفي، وبيان حكم أخذ العمولة عليه فقد حررت ذلك ولله الحمد عند الكلام عن أهم العقود المصرفية، فانظره هناك مشكورًا. ¬
المبحث الثالث في مصادرة مبلغ الضمان إذا سحب العارض عرضه قبل البت
المبحث الثالث في مصادرة مبلغ الضمان إذا سحب العارض عرضه قبل البت الفرع الأول في حكم مصادرة الضمان الابتدائي [ن-55] إذا قلنا: إن تقديم العطاء يعتبر إيجاباً، والبت: يعتبر قبولًا أو رفضًا للإيجاب، صارت مسألة مصادرة مبلغ الضمان الابتدائي ترجع إلى مسألة سبق بحثها في هذا العقد، وهو هل للموجب الرجوع عن إيجابه قبل صدور القبول؟ فعلى مذهب الجمهور الذين يقولون بجواز رجوع الموجب عن إيجابه قبل صدور القبول فإن مصادرة المبلغ ستكون غير مقبولة من الناحية الشرعية؛ لأنّ من يأخذ ذلك قبل انعقاد العقد يكون قد أخذه بلا مقابل، وهذا ما توجه إليه الشيخ القاضي محمَّد العثماني (¬1). وقيل: تجوز مصادرة الضمان. وهو اختيار رفيق بن يونس المصري (¬2)، والشيخ وهبة الزحيلي (¬3). ¬
وجه القول بالجواز
* وجه القول بالجواز: * الوجه الأول: يمكن تخريجه على مذهب المالكية القائلين بأنه لا يحق للموجب الرجوع عن إيجابه، وقد نصوا على ذلك في البيع المطلق (¬1)، وفي بيع المزايدة، وبيع المناقصة مقيس عليه (¬2). وأجيب عن هذا: بأن الأخذ بمذهب المالكية القائلين بإلزام الموجب لو أخذنا به غاية ما فيه أنه يجبر المناقص على العقد قضاء، أو يحمل الضرر المالي الذي تضررت به الجهة صاحبة المناقصة فعلًا، وإلا صارت هذه المصادرة عقوبة تعزيرية مالية وهي من حق القاضي وحده عند من يقول بجواز التعزير في المال، في حين أن المالكية إنما ألزموا بالإيجاب في المزاد العلني الذي يرسو فيه العطاء في مجلس ¬
ويجاب
المزاد، ولا ينطبق ذلك تمامًا على المناقصات التي يتم البت فيها بعد مدة قد تتقلب فيها الأسعار بصفة غير متوقعة (¬1). ويجاب: بأن الإلزام بالإيجاب عند المالكية ليس خاصاً في بيع المزايدة، فهم يقولون بالإلزام في كل إيجاب، وهذا ما قد بيناه في مسألة سابقة من هذا البحث، والعقوبة إذا اتفق عليها المتعاقدان لم يكن هناك حاجة إلى الرجوع إلى القاضي كالشرط الجزائي. الوجه الثاني: إذا لم يمكن تخريج مصادرة الضمان على مذهب المالكية أمكن تخريجه على أن الأصل في الشروط الصحة والجواز، فإذا صح اشتراط أن يبقى الموجب على إيجابه مدة معينة إلى حين البت في موضوع المناقصة كما ذكرنا ذلك في مسألة سابقة، ودخل المناقص على هذا الشرط قابلًا له، ملتزمًا إياه، ورتب على هذا النكول غرامة مالية قد قبلها المناقص، ودخل في المناقصة بناء على ذلك لم يكن في هذا ما يمنع من أخذها منه، ولم يكن ذلك من أكل أموال الناس بالباطل. الوجه الثالث: مصادرة الضمان تشبه العربون إذا نكل دافعه، وبيع العربون هو أن يشتري الرجل السلعة، ويدفع للبائع مبلغًا من المال على أنه إن أخذ السلعة يكون ذلك المبلغ محسوباً من الثمن، وإن تركها، فالمبلغ للبائع. ¬
ويناقش هذا من وجهين
ويناقش هذا من وجهين: الوجه الأول: تختلف مصادرة قيمة الضمان عن أخذ العربون إذا نكل المشتري، فالضمان الابتدائي يصادر قبل أن ترسو المناقصة، أي قبل انعقاد العقد، وأما أخذ العربون فهو يأخذه البائع مقابل فسخ العقد، أو مقابل أن يكون العقد جائزًا في حق المشتري مدة معينة، فالعقد منعقد في بيع العربون، فأخذه مقابل إقالته. وهذا فارق مهم. ونوقش: مصادرة الضمان الابتدائي قد تكون قبل العقد، وقد تكون بعده، والاعتراض يصح فقط فيما لو كانت مصادرة الضمان الابتدائي قبل رسو المناقصة، وإما إذا كانت مصادرة الضمان الابتدائي بعد أن رست المناقصة فهي لازمة في حقه، فإذا انسحب منها قبل توقيع العقد أصبحت مصادرة الضمان الابتدائي بعد لزوم المناقصة، وتكون حينئذ في مقابل فسخ العقد كما أن العربون في مقابل فسخ العقد. الوجه الثاني: أن بيع العربون يؤخذ من المشتري إذا نكل، وأما في المناقصة فالمناقص ليس مشتريًا، وإنما هو بائع للسلعة إن كان مورداً، أو بائع للعمل إن كان مقاولًا. ونوقش هذا: بأن قياس مصادرة الضمان على مصادرة العربون بجامع اشتراكهما في علة النكول والتخلف عن الوفاء بالالتزامات. * الراجح: القول بجواز مصادرة الضمان الابتدائي، سواء كان ذلك قبل رسو المناقصة، أو بعدها، والله أعلم.
الفرع الثاني في حكم مصادرة الضمان النهائي
الفرع الثاني في حكم مصادرة الضمان النهائي [ن-56] إذا كان هناك خلاف في مصادرة الضمان الابتدائي باعتبار أن مصادرته ربما تكون قبل انعقاد العقد، فإن مصادرة الضمان النهائي لا يكون إلا بعد انعقاد العقد ولزومه، فتكون المصادرة في مقابل فسخ العقد اللازم. فمن قال بجواز مصادرة الضمان الابتدائي سيقول بجواز الفسخ في الضمان النهائي من باب أولى. سواء قلنا: إن مصادرة الضمان بمنزلة بيع العربون كما هو رأي الشيخ رفيق المصري. أو قلنا: إنه بمنزلة الشرط الجزائي، سواء كان الشرط الجزائي من باب العقوبة المالية، أو من باب التعويض عن الضرر؛ لأنّ أي مناقصة تطرح مشروعاً كبيرًا سيتطلب ذلك إعداد وثائق وخرائط ورسوم، وسيتطلب إعداد مثل هذا جهدًا ومالًا ووقتًا فإذا جاء شخص غير جاد، ونكل عن المناقصة بعد أن أحيل عليه المشروع، ويعد أن وقع العقد فإن ذلك سيلحق ضررًا كبيرًا بالجهة الداعية للمناقصة، فلا مانع من تعويض مثل ذلك بجزء من قيمة العرض المتقدم به.
الفصل الثالث في حكم إجراء عقد المناقصة
الفصل الثالث في حكم إجراء عقد المناقصة [ن-57] لا يخرج عقد المناقصة في الحقيقة عن عقدين سبق بحثهما على وجه التفصيل، لذلك سنشير إليهما إشارة، ونكتفي بما سبق: الأول: أن يكون المناقص فيه توريدًا لسلع موصوفة في الذمة، سواء كانت هذه السلع موجودة عند المناقص، أو ليست موجودة عنده. وقد سبق لنا تحرير الخلاف في عقد التوريد فيما إذا كان المعقود عليه سلعة موصوفة في الذمة، هل يشترط في ذلك تقديم الثمن في مجلس العقد؛ لأنّ تأجيل البدلين يؤدي إلى الوقوع في بيع الدين بالدين؟ كما اختار ذلك مجمع الفقه الإِسلامي. أو لا يشترط ذلك كما اختاره جمع من الباحثين المعاصرين على اختلاف بينهم في تخريج هذا العقد؟ وقد رجحت أن العقد يختلف عن عقد السلم، فلا يشترط تقديم الثمن في مجلس العقد بشرط أن يدخل البيع عمل مقصود، من ذلك أن يقوم المورد بجلب البضاعة وشحنها إلى المستورد كما هو الغالب على عقود التوريد. فلا يكون العقد بيعًا محضًا، وإنما هو بيع وإجارة. وقد ذكرت أدلة كل قول في عقد التوريد فأغنى عن إعادته هنا. الثاني: أن يكون المناقص فيه عملًا يتعهد به المناقص، وهذا يشبه عقد المقاولة. فإن كان المقاول يتعهد بالعمل والأدوات معًا فهو عقد استصناع، وقد ذكرنا
الخلاف في الاستصناع عند الكلام عن عقد الاستصناع، وذكرنا فيه ثلاثة أقوال: الجواز مطلقًا، وهذا مذهب الحنفية. الجواز بشروط عقد السلم، وهو مذهب المالكية والشافعية، وقول في مذهب الحنابلة. المنع، وهو قول في مذهب الحنابلة. وكان الترجيح لمذهب الحنفية، وعليه عمل الناس. وقد ذكرنا أدلة كل قول من هذه الأقوال في عقد الاستصناع فأغنى عن إعادته هنا. وإن كان المقاول يتعهد بالعمل فقط، والأدوات من صاحب العمل، فهو من قبيل الأجير المشترك، وهو جائز في الفقه بالاتفاق، وذكرنا أدلته في عقد المقاولة فانظره هناك. الخلاصة: جواز عقد المناقصة؛ لأنه لن يخرج عن عقد التوريد وعقد المقاولة، وهما عقدان جائزان في الفقه الإِسلامي.
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد التاسع
(ح) دبيان بن محمَّد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمَّد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة./ دبيان محمَّد الدبيان. - الرياض، 1432 هـ 576 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجموعة) ج 9 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ. العنوان دبوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (9)
ويناقش: القول بأن الرضا لا يكون إلا مع الجزم دعوى بلا دليل، فالعاقدان في العقد المعلق قد تم برضا الطرفين، ولم يكره أحد منهما على العقد، ولو صحت هذه الدعوى لقيل إن الرضا لا يتحقق في العقود التي لا تقع إلا معلقة كالوصية، ولا قائل به. وأما قولكم: إن العقد المعلق يعترضه عدم الحصول، فهذا لا حرج فيه؛ لأنه إذا لم يحصل لم يترتب عليه أكل أموال الناس بالباطل، فإن مال كل واحد من العاقدين لم يخرج عن ملكه. القول الثاني: يجوز تعليق البيع على شرط مطلقًا، وبه قال أحمد، وقدماء أصحابه، وهو اختيار ابن تيمية، وابن القيم (¬1). قال ابن تيمية: "وذكرنا عن أحمد نفسه جواز تعليق البيع بشرط، ولم أجد عنه، ولا عن قدماء أصحابه نصًا بخلاف ذلك، بل ذكر من ذكر من المتأخرين أن هذا لا يجوز" (¬2). ¬
المبحث الأول: في ثبوت خيار المجلس في عقد الإجارة. المبحث الثاني: في ثبوت خيار الشرط في عقد الإجارة. المبحث الثالث: ثبوت خيار العيب في عقد الإجارة. الباب الثاني: في أركان الإجارة. الفصل الأول: في أحكام الصيغة. المبحث الأول: انعقاد الإجارة بلفظ البيع. المبحث الثاني: في تعليق الصيغة في عقد الإجارة. الباب الثالث: في شروط الإجارة. الفصل الأول: في شروط الإجارة المتعلقة بالعاقد. الشرط الأول: في أهلية العاقد. الشرط الثاني: أن يكون العاقد مختاراً المبحث الأول: في إكراه العاقد على الإجارة. الفرع الأول: في الإكراه على الإجارة بحق. الفرع الثاني: في الإكراه على الإجارة بغير حق. الشرط الثالث: أن يكون العاقد له ولاية على المعقود عليه. المبحث الأول: في إجارة الفضولى. المبحث الثاني: في تأجير المستأجر لما استأجره. الفصل الثاني: في شروط الإجارة المتعلقة في المنفعة. الشرط الأول: أن تكون المنفعة معلومة.
الشرط الثاني: أن تكون المنفعة متقومة. المبحث الأول: استئجار الأشجار لتجفيف الثياب. المبحث الثاني: استئجار المشمومات لشمها. المبحث الثالث: استئجار الرجل ما يجمل به حانوته وبيته. الشرط الثالث: إن تكون المنفعة مباحة الاستيفاء بلا حاجة. المبحث الأول: أستجار الكلب لصيد أو حراسة. المبحث الثاني: إجارة الدور والمحلات لغرض محرم. الشرط الرابع: أن تقع الإجارة على المنفعة لا على استهلاك العين. الفرع الأول: استهلاك العين في عقد الإجارة أصالة. الفرع الثاني: استهلاك العين في عقد الإجارة تبعاً. الشرط الخامس: أن تكون المنفعة مقدوراً على تسليمها. المبحث الأول: في إجارة الأراضي المغصوبة والأعيان المفقودة. المبحث الثاني: في إجارة المشاع. الشرط السادس: ألا تكون المنفعة طاعة واجبة على الأجير. المبحث الأول: الاستئجار على القربات الشرعية. المبحث الثاني: في استئجار دار للصلاة. المبحث الثالث: في استئجار الكافر الرجل المسلم. الفرع الأول: في استئجار الكافر المسلم للخدمة. الفرع الثاني: في استئجار الكافر مسلماً على عمل في الذمة.
الفرع الثالث: في استئجار الكافر المسلم ليحمل له خمراً. الفرع الرابع: عمل الكافر عند المسلم. المسألة الأولى: في استئجار الكافر لكتابة المصحف. المسألة الثانية: في استئجار الكافر لبناء المسجد. المسألة الثالثة: في استئجار الكافر في الخياطة والبناء. الفصل الثالث: في الشروط المتعلقة الأجرة. المبحث الأول: في تعريف الأجرة. المبحث الثاني: في شروط الأجرة. الشرط الأول: أن تكون الأجرة معلومة. المبحث الأول: إذا أجره ولم يذكر له مقدار الأجرة. المبحث الثاني: في استئجار الظئر بطعامها وكسوتها. المبحث الثالث: في استئجار الأجير بطعامه وكسوته. المبحث الرابع: في استئجار الدار بترميمها. المبحث الخامس: في الأجرة إذا كانت منفعة. المبحث السادس: في احتساب الأجرة بالحصة. الفرع الأول: في الأجرة تكون حصة معينة من الإنتاج. المسألة الثانية: في الأجرة تكون حصة شائعة من الإنتاج. الشرط الثاني: في اشتراط طهارة الأجرة. الشرط الثالث: أن تكون الأجرة فيها منفعة مباحة.
الشرط الرابع: في اشتراط القدرة على تسليم الأجرة. الشرط الخامس: في تعجيل الأجرة وتأجيلها. المبحث الأول: في اشتراط تعجيل الأجرة. المبحث الثاني: في اشتراط تأجيل الأجرة. الفرع الأول: في تأجيل الأجرة والمستأجر معين. الفرع الثاني: في تأجيل الأجرة والمستأجر موصوف في الذمة. الفرع الثالث: في استحقاق المؤجر الأجرة. الفصل الرابع: في بيان مدة الإجارة إذا كانت على مدة. المبحث الأول: في اشتراط بيان المدة في الإجارة الواردة على المنفعة. المبحث الثاني: في تعين ابتداء مدة الإجارة. المبحث الثالث: في الإجارة إذا كانت غير معلومة النهاية. المبحث الرابع: في أقصى مدة الإجارة. المبحث الخامس: في كيفية احتساب مدة الإجارة. المبحث السادس: في الجمع بين المدة والعمل. الباب الرابع: أنواع الإجارة بحسب ما يؤجر. الفصل الأول: في إجارة العقارات كالدور والأراضي. المبحث الأول: المراد من كلمة عقار. المبحث الثاني: في أحكام إجارة الدور والمباني. الفرع الأول: في إجارة دور مكة المكرمة.
الفرع الثاني: في تأجير العقار عن طريق الوصف. الفرع الثالث: في اشتراط بيان ما يستأجر العقار له. الفرع الرابع: في اشتراط ألا يسكنها غير المستأجر. المبحث الثالث: في إجارة الأراضي. الفرع الأول: إجارة الأراضي بالذهب والفضة. الفرع الثاني: إجارة الأراضي بالعروض سوى الطعام. الفرع الثالث: في إجارة الأرض بالطعام. المسألة الأولى: إجارة الأرض بطعام معلوم من غير الخارج منها. المسألة الثانية: إجارة الأرض بطعام معلوم من جنس الخارج منها. المسألة الثالثة: إجارة الأرض بجزء مشاع معلوم مما يخرج منها. المسألة الرابعة: في إجارة الأرض المشغولة بالزرع للغير. الفصل الثاني: في إجارة الحيوان. المبحث الأول: في إجارة الفحل للضراب. المبحث الثاني: في إجارة الكلب للصيد. الفصل الثالث: في إجارة الأشخاص. المبحث الأول: في أقسام إجارة الأشخاص. المبحث الثاني: في إجارة الظئر. الفرع الأول: في تعريف الظئر. الفرع الثاني: في حكم استئجار الظئر.
الفرع الثالث: العقد على الرضاع هل يدخل فيه الحضانة. الفرع الرابع: وجوب امتناع الظئر عما يفسد لبنها. الفرع الخامس: وجوب تعيين الرضيع. الفرع السادس: إذا سقت الظئر الرضيع لبن غيرها. المسألة الأولى: أن تدفعه إلى امرأة أخرى ترضعه. المسألة الثانية: في الظئر تسقي الرضيع لبن الغنم بدلًا من لبنها. الفرع السابع: في اتحاد الديانة بين الظئر والرضيع. المسألة الأولى: في استئجار الكافر ظئرًا مسلمة. المسألة الثانية: في استئجار الظئر الكافرة لإرضاع مسلم. الفرع الثامن: في مكان الأرضاع. الفرع التاسع: المعقود عليه في الرضاعة. المبحث الثالث: في إجارة الآدمي غير الظئر. الفصل الرابع: في إجارة وسائل النقل. المبحث الأول: في شروط استئجار الدواب ووسائل النقل. الفرع الأول: في اشتراط معرفة جنس المركوب. مسألة: في إجارة السفن في الذمة. الفرع الثاني: هل يشترط تعيين الراكب. الفرع الثالث: في اشتراط العلم بمقدار الحمولة. الفرع الرابع: في اشتراط معرفة المسافة أو المكان في إجارة الدواب.
الفصل الخامس: في إجارة المنقولات. المبحث الأول: في إجارة المصحف. المبحث الثاني: في إجارة الحلي بشيء من جنسه. الباب الخامس: أحكام الضمان في عقد الإجارة. تمهيد: في تعريف الضمان. الفصل الأول: في الأدلة على مشروعية الضمان. الفصل الثاني: الضمان في عقد الإجارة. المبحث الأول: في ضمان الأعيان المستأجرة. الفرع الأول: أن تتلف العين المستأجرة بغير فعل المستأجر. الفرع الثاني: إذا تلفت العين المستأجرة بفعل المستأجر. الفرع الثالث: في ضمان العين المستأجرة إذا تلفت بعد انتهاء الإجارة. الفرع الرابع: إذا أمسك المستأجر العين بعد انتهاء المدة ولم يردها. الفرع الخامس: إذا اشترط المؤجر رد العين فلم يرد حتى تلفت. المبحث الثاني: في اشتراط الضمان على المستأجر. المبحث الثالث: في ضمان الأجير. الفرع الأول: في ضمان الأجير الخاص. الفرع الثاني: في ضمان الأجير المشترك. المسألة الأولى: أن تكون العين في يد الأجير المشترك. المسألة الثانية: في ضمان الأجير والعين في يد المالك.
الفرع الثالث: في ضمان الأجير إذا حبس العين لاستيفاء الأجرة. الفرع الرابع: في كيفية تضمين الأجير المشترك. الفرع الخامس: في ضمان الأجير التابع. الفرع السادس: في ضمان الإجارة الفاسدة. المسألة الأولى: في تعريف الإجارة الفاسدة. المسألة الثانية: في حكم الإجارة الفاسدة. المطلب الأول: في استحقاق الأجرة في الإجارة الفاسدة. المطلب الثاني: في مقدار الأجرة الواجبة في الإجارة الفاسدة. المسألة الثالثة: الضمان في الإجارة الفاسدة. الباب السادس: في صيانة العين المستأجرة. الفصل الأول: في معرفة وظيفة كل من المؤجر والمستأجر. الفصل الثاني: في إلزام المؤجر والمستأجر في وظيفة كل منهما. الفصل الثالث: إجبار ناظر الوقف على إصلاح العين المستأجرة. الفصل الرابع: في الخلل إذا كان مقارناً للعقد. الفصل الخامس: في قيام المستأجر بصيانة العين المستأجرة. الباب السابع: في انتهاء عقد الإجارة. الفصل الأول: انتهاء الإجارة بانتهاء المدة أو انجاز العمل. الفصل الثاني: في إنهاء عقد الإجارة في إقالة أحدهما للآخر. الفصل الثالث: إنهاء عقد الإجارة بهلاك العين المستأجرة.
المبحث الأول: في هلاك المستأجر المعين. المبحث الثاني: في هلاك المستأجر والإجارة في الذمة. الفصل الرابع: في انتهاء عقد الإجارة بالموت. الفصل الخامس: انتهاء الإجارة بانتقالها إلى ملك المستأجر. المبحث الأول: في الإجارة المنتهية بالتملك. الفرع الأول: أن تنتهي الإجارة بالتملك بلا ثمن للبيع. الفرع الثاني: أن تنتهي الإجارة بالبيع الباب بثمن معلوم. المبحث الثالث: الإجارة المنتهية بالوعد بالبيع. المبحث الرابع: الإجارة المتتهية بالهبة. الفرع الأول: الإجارة المنتهية بالهبة. الفرع الثاني: الإجارة المنتهية بالوعد بالهبة هذا ما تيسر بحثه من المباحث المختارة، ولله الحمد، وسوف يلي عقد الإجارة إن شاء الله تعالى عقد الجعالة، أسأل الله وحده العون والتوفيق.
كتاب الإجارة
كتاب الإجارة تمهيد المبحث الأول في تعريف الإجارة تعريف الإجارة اصطلاحًا (¬1): عرف الفقهاء الإجارة بتعريفات متقاربة، لذا سنختار ما نراه أكملها، عن ذلك: جاء في كشاف القناع: "وهي عقد على منفعة مباحة معلومة تؤخذ شيئًا فشيئاً مدة معلومة من عين معينة أو موصوفة في الذمة، أو عمل معلوم بعوض معلوم" (¬2). ¬
شرح التعريف
شرح التعريف: فقوله: (عقد على منفعة) خرج بذلك البيع والهبة ونحوهما؛ فإنهما يفيدان تمليك الذات لا تمليك المنفعة. وقولنا: (مباحة) أخرج المنفعة المحرمة كالإجارة على البغي والكهانة، وينبغي أن تقيد الإباحة بكونها مطلقة من غير قيد، فإن قيدت الإباحة بالحاجة كاستئجار الكلب للحراسة، ففيها خلاف سيأتي تحريره إن شاء الله تعالى في مبحث مستقل من هذا الكتاب. وقوله: (معلومة) أخرج بذلك المنافع المجهولة كاستئجار الفحل للضراب، وفيه خلاف سيأتي تحريره إن شاء الله تعالى. وقوله: (توخذ شيئًا فشيئًا) إشارة إلى أن المعقود عليه عرض يحدث شيئًا فشيئا، ثم يتلاشى، وأن المستأجر له حق تحصيل تلك المنفعة المتجددة طيلة مدة العقد، وهو بهذا يخالف البيع الذي يحدث دفعة واحدة .. وقوله (مدة معلومة) فيه إشارة إلى وجوب تعيين المدة في عقد الإجارة، وهذا خاص بالإجارة على المنافع، ولا يشمل الإجارة على الأعمال إذ لا تشترط فيها المدة. واستثنى البهوتي من شرط المدة صورتين: الصورة الأولى: أن يصالحه على إجراء مائه في أرضه، أو سطحه، فلا يعتبر فيها تقدير المدة للحاجة. الصورة الثانية: ما فعله أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه فيما فتح عنوة، ولم يقسم، وما
فالنوع الأول
ألحق به كأرض مصر، والشام، وسواد العراق حيث وقفها، وأقرها بأيدي أربابها بخراج ضربه عليها في كل عام أجرة لها، ولم يقدر مدتها لعموم المصلحة (¬1). وقوله: (من عين معينة أو موصوفة في الذمة): فالعين المعينة: كأن يستأجر هذه الدار للسكنى لمدة عام. والموصوفة في الذمة كان يستأجر سيارة صفتها كذا وكذا للنقل لمدة سنة. قوله: (أو عمل معلوم) أشار بهذا إلى النوع الثالث من أنواع الإجارة. فالنوع الأول: إجارة الأعيان المعينة، وهو ما أشار إليها بقوله: (من عين معلومة). والنوع الثاني: إجارة الأعيان الموصوفة في الذمة، وهو ما أشار إليها بقوله: (أو موصوفة في الذمة). والنوع الثالث: إجارة الأشخاص، وهو ما أشار إليها بقوله: (أو عمل معلوم) (¬2). وقوله: (بعوض معلوم) أي يجب أن تكون الأجرة معلومة في توعي الإجارة: إجارة الأعيان وإجارة الأشخاص، وهذا القيد محل خلاف بين الفقهاء هل يشترط أن تكون الأجرة معلومة، أو يجوز بلا ذكر الأجرة، وله أجرة المثل؟ وسوف يأتي تحريره في مظانه من هذا البحث إن شاء الله تعالى عند الكلام على الأجرة. ¬
المبحث الثاني خصائص عقد الإجارة
المبحث الثاني خصائص عقد الإجارة [م - 813] خصائص عقد الإجارة: الأول: أنه عقد رضائي، لا ينعقد إلا برضا الطرفين. الثاني: أنه من عقود المعاوضات، فتبذل المنفعة في مقابل الأجرة كما يبذل المبيع في مقابل الثمن. الثالث: أنه عقد مؤقت سواء كان التوقيت بمدة معينة أو بإنجاز عمل معين. الرابع: أنه عقد لازم على الصحيح، لا ينفسخ إلا برضا الطرفين، وقيل: عقد جائز، وسيأتي التعرض له في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى. الخامس: أطلق بعض الفقهاء على عقد الإجارة أنه عقد بيع إلا أنه من قبيل بيع المنافع (¬1)، والصحيح أن البيع يختلف عن الإجارة في بعض أحكامه، منها: (1) أن البيع تمليك للرقبة والمنفعة تمليكًا مؤبدًا، والإجارة تمليك للمنفعة فقط تمليكًا مؤقتًا. (2) إذا ملك المشتري المبيع كان ضمانه عليه إذا قبضه مطلقًا، وكذا على الصحيح إذا لم يقبضه، ولم يكن فيه حق توفية من كيل أو وزن أو عد أو ذرع، وقد حررت الخلاف فيها في عقد البيع عند الكلام على ضمان المبيع. وأما العين المستأجرة إذا قبضها المستأجر فضمانها على المؤجر، فإذا تلفت العين انفسخ العقد فيما بقي. ¬
(3) الإجارة الموصوفة في الذمة يجوز فيها تأجيل العوضين على الصحيح، ولا يدخلها بيع الدين بالدين. والمبيع الموصوف في الذمة لا يجوز فيه تأجيل الثمن كالسلم. (4) العوض يملك في البيع بالقبض ملكًا مستقرًا، وأما في الإجارة فلا يستقر العوض إلا بمضي المدة، أو إنجاز العمل (¬1). (5) ليس كل ما يجوز إجارته يجوز بيعه، فالحر تجوز إجارته، ولا يجوز بيعه، وكذا الوقف تجوز إجارته دون بيعه، ومثلهما أم الولد. قال ابن حزم: "الإجارة ليست بيعًا ... ولو كانت بيعًا لما جازت إجارة الحر ... ولا يختلفون في أن الإجارة إنما هي الانتفاع بمنافع الشيء المؤجر التي لم تخلق بعد، ولا يحل بيع ما لم يخلق" (¬2). وبناء عليه فإن عقد الإجارة عقد مستقل له خصائصه وآثاره وأحكامه الخاصة، وهذا التشابه بينه وبين البيع لا يجعل الإجارة كالبيع المطلق. وقد يقال: كون الإجارة تختص ببعض الأحكام لا يخرجها ذلك عن عقد البيع، كالسلم والصرف لما اختصا بأحكام خاصة لا توجد في البيع المطلق أطلق عليهما الشارع اسمًا خاصاً، وإن كان عموم عقد البيع يشملها كلها. ¬
المبحث الثالث عقد الإجارة عقد لازم
المبحث الثالث عقد الإجارة عقد لازم [م - 814] هل عقد الإجارة عقد لازم أو جائز؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأول: ذهب عامة أهل العلم إلى أن عقد الإجارة عقد لازم مطلقًا فلا يملك أحد المتعاقدين الانفراد بفسخ العقد إلا برضا الطرف الآخر أو وجود ما يقتضي الفسخ (¬1). * وجه من قال: عقد الإجارة عقد لازم مطلقًا: الوجه الأول: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، ويدخل في ذلك عقد الإجارة؛ لأنه عقد من هذه العقود. الوجه الثاني: أن عقد الإجارة من عقود المعاوضة يقتضي عقدها تمليك المؤجر الأجرة، ¬
الوجه الثالث
وتمليك المستأجر المنافع فلا ينفرد أحد العاقدين فيها بالفسخ كالبيع، وإنما اختصت باسم كالصرف والسلم (¬1). الوجه الثالث: أن القول بعدم لزوم عقد الإجارة فيه ضرر للمتعاقدين أو لأحدهما؛ لأنّ ذلك لا يدعو إلى استقرار العقد فيهما، وهذا يلحق ضرراً كبيرًا بالمستأجر والمؤجر على حد سواء. القول الثاني: أن عقد الإجارة عقد جائز مطلقًا، اختاره القاضي شريح (¬2). واختار الشوكاني جواز العقد بالنسبة للأجير (¬3). * وجه من قال بأن عقد الإجارة عقد جائز: الوجه الأول: لما كان المعقود عليه معدوماً في الحال أشبهت العارية فلم يكن العقد لازمًا (¬4). ونوقش هذا: بأن القياس مع الفارق؛ لأنّ الإعارة بدون عوض، فهي إرفاق وإحسان في حين أن الإجارة معاوضة من الطرفين. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: تشبيه عقد الإجارة بعقد الجعالة، والجعالة في معنى الإجارة وليست عقدًا لازماً. وأجيب: بأن هناك فرقاً بين الجعالة والإجارة من وجوه: منها: أن عقد الإجارة عقد مؤقت بخلاف الجعالة فإنه عقد مطلق بلا توقيت (¬1). ومنها: أن الجعالة لا يشترط لصحتها العلم بالعمل المجاعل عليه، ولا مدة العمل بخلاف الإجارة. ومنها: أن الجعالة يجوز فيها الجمع بين العمل والمدة، كان يقول: من خاط هذا الثوب في يوم، فله كذا، فإن خاطه في يوم استحق الجعل وإلا فلا، بخلاف الإجارة فالفقهاء مختلفون في جواز الجمع فيها بين العمل والمدة، وسيأتي تحريره في مظانه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. * وجه قول الشوكاني بأن عقد الإجارة جائز بالنسبة للأجير: قال الشوكاني: "وأما المتكلم في لزوم العقد فمن فضول الكلام الذي لا يدعو إليه حاجة؛ لأنّ الأجير إن يرد الأجرة فلا يستحقها إلا بالوفاء بما تراضيا عليه، وإن رغب عن الأجرة فلا يلزمه الوفاء، ولهذا يقول شعيب -عليه السلام- لموسى -عليه السلام-: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27]، فذكر له القدر الذي يستحق به أن ينكحه إحدى ابنتيه، ثم ذكر له الزيادة على جهة المكارمة والتفضل، فمعلوم أنه ¬
القول الثالث
لا يلزم موسى -عليه السلام- الدخول في هذا العقد ابتداء، ثم لو رغب عن الأجرة، واختار الترك في وسط المدة لم يكن عليه التمام شاء أم أبى، وهكذا سائر الإجارات، فلزوم عقدها من هذه الحيثية، وهو مفوض إلى الأجير، إن شاء مضى فيه، واستحق الأجرة، وإن شاء تركه، وترك المطالبة بالأجرة" (¬1). القول الثالث: عقد الإجارة إن أضيف إلى المستقبل فهو جائز، وإلا كان لازماً، وهو أحد القولين في مذهب الحنفية (¬2). * التفريق بين الإجارة المضافة إلى المستقبل وغيرها: لم أقف على تعليل عند الحنفية يبين وجه كون الإجارة المضافة إلى المستقبل غير لازمة، ولعل وجه ذلك عند الحنفية أن العقد لما كان على منفعة، والمنافع عندهم ليست مالًا، وكان العقد غير ناجز، أي لم يشرع المستأجر بقبض العين، ليتمكن من الانتفاع جعلوا العقد جائزًا إلى حين قبض العين وابتداء العقد، والله أعلم (¬3). * الراجح: أرى أن القول الراجح هو القول بأن عقد الإجارة عقد لازم للطرفين، والصورة التي ذكرها الشوكاني تختلف عن إجارة المنافع كالسكنى ونحوها، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع عقد الإجارة على وفق القياس
المبحث الرابع عقد الإجارة على وفق القياس [م - 815] بعد اتفاق الفقهاء على جواز عقد الإجارة عدا خلافا شاذاً عن الأصم، فقد اختلفوا في هذه الإباحة، هل هي متفقة مع القياس؟ أم أن إباحتها مخالفة للقياس على قولين: القول الأول: يرى أن الإجارة مخالفة للقياس، وهذا مذهب الجمهور (¬1). * وجه قول الجمهور بأن جوازها مخالف للقياس: الوجه الأول: أن المعقود عليه هو المنفعة، والمنفعة ليست مالاً عند الحنفية. الوجه الثاني: أن المنفعة وقت العقد معدومة، والمعدوم لا يحتمل التمليك. قال الكاساني: "قال أبو بكر الأصم: إنها -أي الإجارة- لا تجوز، والقياس ما قاله؛ لأنّ الإجارة بيع المنفعة، والمنافع للحال معدومة، والمعدوم لا يحتمل البيع، فلا يجوز إضافة إلى ما يؤخذ في المستقبل كإضافة البيع إلى أعيان تؤخذ في المستقبل، فإذا لا سبيل إلى تجويزها لا باعتبار الحال، ولا باعتبار المآل، لكنا استحسنا الجواز بالكتاب والسنة والإجماع" (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يرى ابن تيمية وابن القيم بأن الإجارة موافقة للقياس، بل قالا: من رأى شيئًا من الشريعة مخالفًا للقياس، فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، وليس مخالفًا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر. نعم في الشريعة ما يخالف القياس الفاسد، وإن كان من الناس من لا يعلم فساده (¬1). وقد سبق أن عرضنا وجهة نظر الفريقين في عقد السلم، والخلاف بين القولين قريب من الخلاف اللفظي. ذلك أن من قال: إن الإجارة مخالفة للقياس لا يعني أن جوازها تجرد عن مراعاة المصلحة حتى خالف القيَاس، وإنما المراد به: أنه عدل به عن نظائره لمصلحة أكمل وأخص من مصالح نظائره على جهة الاستحسان الشرعي، فمن ذلك أن القياس عدم بيع المعدوم، وجاز ذلك في السلم والإجارة توسعة وتيسيرًا على المكلفين. ¬
الباب الأول في حكم الإجارة
الباب الأول في حكم الإجارة الفصل الأول في حكم الإجارة من الناحية الفقهية قال القرافي: قبضر الأوائل كقبض الأواخر (¬1). [م - 816] ذهب عامة الفقهاء إلى جواز الإجارة. وخالف في ذلك الاسم، فقال: لا تجوز. قال الشوكاني: " ثبوت الإجارة في هذه الشريعة قطعي لا يكاد ينكر أصل الجواز إلا من لا يعرف الكتاب والسنة، ولا يعرف ما كان الأمر عليه في أيام النبوة، وأيام الصحابة ... " (¬2). وقد دلّ الكتاب والسنة والإجماع على جواز الإجارة. أما القرآن فقال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. وقال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} الآية [القصص: 26]. ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قوله تعالى: {اسْتَأْجِرْهُ} أي اجعله أجيرًا لك، وقوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} أي تصير أجيرًا عندي. وقال تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77]. وقال تعالى: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94]. ومن السنة أحاديث كثيرة، أختار منها: (ح-555) ما رواه البخاري من طريق سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، وذكر منهم رجلًا استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعط أجره (¬1). (ح-556) ومنها ما رواه البخاري من طريق عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: واستأجر رسول الله رجلًا من بني الديل هادياً خريتًا، وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما، ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث (¬2). (ح-557) ومنها ما رواه البخاري من طريق مالك، عن حميد، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: حجم أبو طيبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر له بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا من خراجه (¬3). (ح-558) وروى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ما ¬
بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة (¬1). وأما الإجماع فقد حكاه غير واحد من أهل العلم على جواز الإجارة، منهم العراقي في طرح التثريب (¬2)، وابن المنذر (¬3)، وغيرهم. وقال الكاساني: "أجمعت الأمة قبل وجود الأصم حيث يعقدون الإجارة من زمن الصحابة - رضي الله عنهم - إلى يومنا هذا من غير نكير، فلا يعبأ بخلافه؛ إذ هو خلاف الإجماع" (¬4). وقال ابن قدامة: "أجمع أهل العلم في كل عصر وكل مصر على جواز الإجارة، إلا ما يحكى عن عبد الرحمن بن الأصم أنه قال: لا يجوز ذلك؛ لأنه غرر، يعني أنه يعقد على منافع لم تخلق، وهذا غلط لا يمنع انعقاد الإجماع الذي سبق في الأعصار وسار في الأمصار ... " (¬5). والعقل دال على جواز الإجارة. قال ابن قدامة: "أصحاب الصنائع يعملون بأجر، ولا يمكن كل أحد عمل ذلك، ولا يجد متطوعاً، فلا بد من الإجارة لذلك مما جعله الله طريقًا للرزق حتى إن أكثر المكاسب بالصنائع" (¬6). وقال في المبدع: "والحاجة داعية إليها إذ كل أحد لا يقدر على عقار يسكنه، ¬
حجة الأصم على منع الإجارة
ولا على حيوان يركبه، ولا على صنعة يعملها، وأرباب ذلك لا يبذلون ذلك مجاناً، فجوزت طلبًا لتحصيل الرزق" (¬1). * حجة الأصم على منع الإجارة: قال الكاساني: "وقال أبو بكر الأصم: إنها -أي الإجارة- لا تجوز، والقياس ما قاله؛ لأنّ الإجارة بيع المنفعة، والمنافع للحال معدومة، والمعدوم لا يحتمل البيع، فلا يجوز إضافة إلى ما يؤخذ في المستقبل كإضافة البيع إلى أعيان تؤخذ في المستقبل، فإذًا لا سبيل إلى تجويزها لا باعتبار الحال، ولا باعتبار المآل، لكنا استحسنا الجواز بالكتاب والسنة والإجماع" (¬2). ويناقش: القول بأن المعدوم لا يحتمل البيع هذا غير مسلم، وقد عقدت فصلًا خاصًا في حكم بيع المعدوم، ورجحت جواز بيع المعدوم إذا لم يكن في ذلك غرر، فارجع إليه إن شئت في موانع البيع. والقول بأن جواز الإجارة من باب الاستحسان، وأن القياس منع البيع قد أجبت عليه في المبحث السابق تحت عنوان: الإجارة على وفق القياس فأغنى عن إعادته، والحمد لله. ¬
الفصل الثاني في ثبوت الخيار في عقد الإجارة
الفصل الثاني في ثبوت الخيار في عقد الإجارة قال أبو الحسين القدوري: كل خيار ثبت في البيع يثبت في الإجارة (¬1). [م - 817] والخيار في العقد: هو حق العاقد في فسخ العقد أو إمضائه لظهور مسوغ شرعي، أو بمقتضى اتفاق عقدي (¬2). وهو نوعان: حكمي يثبت بالشرع، ولا يتوقف على اشتراط، بل ينشأ بمجرد وقوع سببه الذي ربط قيامه به، كخيار المجلس والعيب. وإرادي: ينشأ عن إرادة العاقد كخيار الشرط، وسوف نتكلم في المباحث التالية عن دخول الخيار باختلاف أنواعه في عقد الإجارة، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
المبحث الأول في ثبوت خيار المجلس في عقد الإجارة
المبحث الأول في ثبوت خيار المجلس في عقد الإجارة [م - 818] الذين قالوا بثبوت خيار المجلس في عقد البيع كالشافعية والحنابلة لم يختلفوا في ثبوته في عقد الإجارة إذا كانت الإجارة في الذمة. وأما إجارة العين فاختلفوا على قولين: القول الأول: يثبت فيها خيار المجلس؛ لأنها معاوضة لازمة كالبيع، بل هي ضرب من البيوع، وهذا أحد الوجهين في مذهب الشافعية، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). القول الثاني: لا يثبت فيها خيار المجلس؛ لأنّ عقد الإجارة مشتمل على الغرر؛ لأنه عقد على معدوم، والخيار غرر فلا يضم غرر إلى غرر، وهو الوجه الثاني في مذهب الشافعية (¬2). والصحيح الأول، ولا يوجد ما يمنع من دخول خيار المجلس في عقد الإجارة بنوعيها. وأما الحنفية والمالكية فلا يقولون بخيار المجلس مطلقًا، لا في عقد الإجارة، ولا في عقد البيع، بل لا يثبتون خيار المجلس في العقود كلها، وسبق مناقشة مذهبهم في عقد البيع فأغنى ذلك عن إعادته هنا. ¬
المبحث الثاني في ثبوت خيار الشرط في عقد الإجارة
المبحث الثاني في ثبوت خيار الشرط في عقد الإجارة [م - 819] اختلف الفقهاء في دخول خيار الشرط في عقد الإجارة على أقوال: القول الأول: أثبت الحنفية القول بخيار الشرط في عقد الإجارة مطلقًا (¬1). وجهه: أن خيار الشرط يدخل في كل عقد لازم، ولو من طرف واحد، قابل للفسخ، وليس القبض شرطًا لصحته (¬2). وهذا يشمل عقد الإجارة ويشمل غيره من العقود، ولا يدخل خيار الشرط عقود الصرف والسلم وبيع المال الربوي بجنسه؛ لأنّ هذه العقود، وإن كانت عقودًا لازمة قابلة للفسخ إلا أن القبض شرط في استدامة صحة البيع فيها. والحنفية من أوسع المذاهب في إثبات خيار الشرط (¬3). القول الثاني: يقايله مذهب الشافعية الذين قالوا: بأن خيار الشرط لا يدخل عقد الإجارة مطلقًا. ¬
القول الثالث
قال النوويّ: "وفي الإجارة طريق قاطع بأنه لا يثبت خيار الشرط، مع جريان الخلاف في ثبوته في خيار المجلس" (¬1). القول الثالث: اختار المالكية جواز خيار الشرط بشرط ألا ينقد الثمن. جاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن اكتريت راحلة بعينها إلى مكة، ونقدته على أني بالخيار يومًا، أو يومين؟ قال: لا يصلح ذلك في قول مالك: أن ينقد إذا كنت بالخيار في كراء أو بيع، إلا أن تشترطا الخيار ما دمتما في مجلسكما ذلك قبل أن تتفرقا" (¬2). القول الرابع: اختار الحنابلة جواز خيار الشرط بشرط أن تكون الإجارة على مدة لا تلي العقد. * وجه ذلك: أن دخول خيار الشرط على مدة تلي العقد يفضي إلى فوت بعض المنافع المعقود عليها، أو إلى استيفائها في مدة الخيار، وكلاهما لا يجوز (¬3). وقد تكلمنا على ذلك في عقد البيع عند الكلام على خيار الشرط في المجلد السادس من هذه المنظومة فارجع إليه إن شئت. ¬
المبحث الثالث ثبوت خيار العيب في عقد الإجارة
المبحث الثالث ثبوت خيار العيب في عقد الإجارة [م - 820] يدخل خيار العيب في عقد الإجارة بلا خلاف، وذلك أن عقد الإجارة عقد لازم، قابل للفسخ، ومقصود للمعاوضة، وليس للثواب والمكارمة. قال ابن رشد الحفيد: "أما العمود التي يجب فيها بالعيب حكم بلا خلاف، فهي العقود التي المقصود منها المعاوضة، كما أن العقود التي ليس المقصود منها المعاوضة لا خلاف أيضًا في أنه لا تأثير للعيب فيها، كالهبات لغير الثوأب، والصدقة، وأما ما بين هذين الصنفين من العقود، أعني: ما جمع قصد المكارمة والمعاوضة، مثل هبة الثواب، فالأظهر في المذهب أنه لا حكم فيها بوجود العيب، وقد قيل: يحكم به إذا كان العيب مفسداً" (¬1). ¬
الباب الثاني في أركان الإجارة
الباب الثاني في أركان الإجارة [م - 821] أركان عقد الإجارة هي نفس أركان عقد البيع، والخلاف في أركان البيع جار في أركان الإجارة. فقيل: أركان الإجارة هي الصيغة فقط (الإيجاب والقبول)، وهذا مذهب الحنفية. وقيل: أركان الإجارة: الصيغة (الإيجاب والقبول). والعاقدان (المؤجر والمستأجر). والمحل (المنفعة والأجرة)، وهذا مذهب الجمهور (¬1). وسبب الاختلاف: أن الحنفية يرون أن الركن: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءاً داخلًا في حقيقته، وهذا خاص في الإيجاب والقبول، أما العاقدان والمعقود عليه فهي من لوازم العقد، وليست جزءًا من حقيقة العقد، وإن كان يتوقف عليها وجوده. بينما الجمهور يرون أن الركن: ما توقف عليه وجود الشيء وتصوره عقلاً، ¬
سواء أكان جزءاً من حقيقته أم لم يكن، ووجود العقد يتوقف على العاقدين والمعقود عليه، وإن لم يكن هؤلاء جزءاً من حقيقته. ومذهب الحنفية أجود، وأدق، والجمهور لا يطَّردون في تحديد الأركان، فاللوازم تارة يعتبرونها من الأركان، وتارة لا يدخلونها، فهم يجعلون الفاعل ركنًا في مثل عقد البيع والنكاح، ولا يجعلونه ركنًا في العبادات كالصلاة والحج، وإن كان لا يتصور قيام الحج والصلاة بدون فاعل. قال في المصباح المنير: "والفرق عسر ... (¬1). ¬
الفصل الأول في أحكام الصيغة
الفصل الأول في أحكام الصيغة [م - 822] ذكرنا في الباب الثالث من عقد البيع أحكام الصيغة (الإيجاب والقبول) من ذلك: الخلاف في تحديد الإيجاب والقبول. وانقسام الإيجاب والقبول إلى صريح وكناية، وإلى صيغة قولية، وفعلية. وتكلمت عن الصيغة القولية للإيجاب والقبول في صيغه المختلفة، كصيغة الماضي، والمضارع، والأمر، والجملة الاسمية، وفي القبول بكلمة (نعم). وتكلمت عن الصيغة الفعلية كالإيجاب والقبول بالمعاطاة، والخلاف الفقهي في اعتبارها، وفي الإيجاب والقبول عن طريق الإشارة والكتابة، وعن صيغ الإيجاب والقبول بوسائل الاتصال الحديثة، وفي صدور الإيجاب والقبول من طرف واحد، وفي الإيجاب والقبول الصوري كبيع التلجئة، والهازل في البيع. وتعرضت لشروط الإيجاب والقبول، ولرجوع الموجب، وهل يشترط تقدم الإيجاب على القبول، وفي مبطلات الإيجاب. وبينت مواضع الاتفاق ومواضع الخلاف في كل هذه المسائل، مع بيان الراجح فيها، وما بينته في عقد البيع يجري على عقد الإجارة، ويغني عن تكراره هنا، ولله الحمد وحده، وقد بقي بعض المباحث مما يخص عقد الإجارة سيتوجه لها البحث في المباحث التالية، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
المبحث الأول انعقاد الإجارة بلفظ البيع
المبحث الأول انعقاد الإجارة بلفظ البيع [م - 823] اتفق الفقهاء على صحة انعقاد الإجارة باللفظ الصريح فيها، وجمهورهم على صحة انعقاد الإجارة بأي لفظ دال عليها. واختلفوا في صحة انعقاد الإجارة بلفظ البيع كما لو قال: بعني دارك لأسكنها سنة، أو قال للأجير: بعني عملك يومًا. تحرير محل الخلاف: الأصل في ألفاظ العقود أن تكون مطابقة للمعنى المراد من العاقدين؛ لأنّ اللفظ هو المعبر عن المعنى القائم في نفس المتعاقدين، والأصل حمل كلام المتعاقدين على ظاهره، واللغة ما جعلت إلا لتعبر عما في النفس، ولو حملنا الكلام على غير ظاهره بدون صارف بطلت فائدة اللغة، وفائدة التخاطب، وهذا مما لا خلاف فيه، ولكن الخلاف فيما لو تيقنا أن العاقد أراد معنى مخالفًا للفظ الصادر منه، فهل يغلب اللفظ، أو يغلب المعنى باعتباره هو المقصود، واللفظ مجرد دليل عليه؟ فلو قال العاقد: وهبتك هذه الدابة بألف، فهل ذكر العوض يجعل العقد من عقود المعاوضات فيكون بيعًا؟ أو نعتبر اللفظ، ونفسد العقد؛ لأنّ عقود التبرعات لا عوض فيها. [م - 824] الصحيح أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني. وعلى هذا مذهب الحنفية (¬1)، ........... ¬
والمالكية (¬1)، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬2)، ومذهب أحمد (¬3). والشافعية وحدهم هم الذين يقولون: إن العبرة بالعقود باللفظ لا بالمعنى، ¬
القول الأول
ومع ذلك قد يغلبون المعنى في بعض المسائل كما في هبة الثواب، فإنها بيع مع أنها بلفظ الهبة (¬1). قال في مغني المحتاج: "والأصحاب تارة يعتبرون اللفظ، وهو الأكثر، كما لو قال: بعتك هذا بلا ثمن لا ينعقد بيعًا، ولا هبة على الصحيح. وكما لو قال: اشتريت منك ثوبًا صفته كذا بكذا ينعقد بيعًا، لا سلمًا على الصحيح. وتارة يعتبرون المعنى، كما لو قال: وهبتك هذا الثوب بكذا ينعقد بيعًا على الصحيح ... وتارة لا يراعون اللفظ ولا المعنى، فيما إذا قال: أسلمت إليك هذا الثوب في هذا العبد، فإن الصحيح أنه لا ينعقد بيعًا، ولا سلمًا" (¬2). [م - 825] إذا عرفنا مخرج الخلاف نأتي إلى مسألتنا، فإذا وقعت الإجارة بلفظ البيع فهل تنعقد الإجارة؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: تنعقد الإجارة بلفظ البيع، وهو مذهب الجمهور وقول مرجوح في مذهب الشافعية، إلا أن الحنفية اشترطوا التوقيت، واشترط الحنابلة أن يضاف العقد إلى المنفعة (¬3). ¬
دليل من قال: بالجواز
* دليل من قال: بالجواز: الدليل الأول: (ح-559) ما رواه مسلم من طريق عبيد الله بن عبد المجيد، حدثنا سليم ابن حيان، حدثنا سعيد بن ميناء، قال سمعت جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: من كان له فضل أرض فليزرعها، أو ليزرعها أخاه، ولا تبيعوها. فقلت لسعيد: ما قوله ولا تبيعوها، يعني الكراء؟ قال: نعم (¬1). وجه الاستدلال: في الحديث دليل على صحة إطلاق لفظ البيع على الإجارة. الدليل الثاني: (ح-560) ما رواه البخاري من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرني محمَّد بن إبراهيم التيمي، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - على المنبر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه (¬2). الدليل الثالث: أن الإجارة بيع منافع قائمة على المعاوضة المحضة، فانعقدت بلفظ البيع كالصرف. الدليل الرابع: " الألفاظ مقصودة لغيرها، ومعاني العقود هي التي تراد لأجلها، فإذا ألغيت، ¬
الدليل الخامس
واعتبرت الألفاظ التي لا تراد لنفسها، كان هذا إلغاء لما يجب اعتباره، واعتباراً لما قد يسوغ إلغاؤه، وكيف يقدم اعتبار اللفظ الذي قد ظهر كل الظهور أن المراد خلافه" (¬1). قال ابن القيم: " ... من عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان، عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة أو كتابة أو بإيماءة، أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة له مطردة لا يخل بها" (¬2). الدليل الخامس: إذا كان السامع لا يفهم معنى الجملة إلا بحسب متعلقاتها، فكذلك اللفظ يتغير معناه بحسب ما يتعلق به، فإذا قال الإنسان: رأيت أسداً في الغابة فالمقصود به الأسد الحقيقي، وإذا قال: رأيت أسداً في ساحة الوغى فالمراد به الرجل الشجاع، وكلمة أسد لفظ واحد تغير معناه بحسب ما يتعلق به، فكذلك ألفاظ العقود، فإذا اشتهر لفظ في عقد، ثم أتى بعده بمتعلق يدلّ على عقد آخر، فإن السامع لا يفهم منه العقد الأول، بل العقد الثاني، فلا بد أن يقبل ما أراده المتكلم ودلت عليه القرينة؛ لأنّ المراد بالتخاطب أن يفهم المخاطب كلام المتكلم. الدليل السادس: معلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حداً في ¬
القول الثاني
كتاب الله، ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه عيَّن للعقود صفة معينة من الألفاظ أو غيرها، فإذا لم يكن لذلك حد في الشرع، ولا في اللغة، كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، فما سموه إجارة فهو إجارة. القول الثاني: لا تنعقد بلفظ البيع، وهو الأصح في مذهب الشافعية، ووجه مرجوح في مذهب الحنابلة (¬1). * وجه من قال: لا تنعقد الإجارة بلفظ البيع: الوجه الأول: أن لفظ البيع موضوع لملك الأعيان فلا يستعمل في المنافع، ولا يكون كناية فيها أيضًا؛ لأنّ لفظ البيع ينافي قوله (إلى سنة) فلا يكون صريحاً، ولا كناية (¬2). الوجه الثاني: أن لفظ الإجارة يخالف البيع في الاسم والحكم فلم ينعقد بلفظه كالنكاح (¬3). والراجح مذهب الجمهور لقوة أدلته. ¬
المبحث الثاني في تعليق الصيغة في عقد الإجارة
المبحث الثاني في تعليق الصيغة في عقد الإجارة قال ابن القيم: تعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات وغيرها بالشروط أمر قد تدعو إليه الضرورة، أو المصلحة، فلا يستغني عنه المكلف (¬1). أهـ العقد المنجز: هو الذي خلت صيغة العقد فيه عن التعليق أو الإضافة. ومثال التعليق: أن يقول: أجرتك داري إن قدم زيد. والمقصود بالإضافة: إضافة العقد إلى زمن مستقبل أن يقول: أجرتك داري إذا دخل شهر رمضان. والعقد المعلق: قيل في تعريفه: هو ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى بأداة من أدوات الشرط (¬2). مثاله: أن يعلق أحد المتعاقدين الصفقة على رضا أبيه، أو موافقة زيد من الناس، أو على قدومه. والأصل في عقد الإجارة أن يكون العقد منجزاً كغيره من العقود، فإذا لم يوجد ما يصرف الصيغة عن التتجيز فإن الإجارة تبدأ من وقت العقد، وتكون منجزة. ¬
القول الأول
[م - 826] إذا علم ذلك فما حكم التعليق في عقد الإجارة؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: لا يصح تعليق عقد الإجارة على شرط مطلقًا، وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية والحنابلة (¬1). بل يذهب الأئمة إلى أنه لا يصح تعليق جميع عقود المعاوضات المالية، وقد سبق لنا حكم تعليق عقد البيع عند الكلام على عقد البيع (¬2). * دليل الجمهور على منع التعليق: الدليل الأول: الأصل في عقد الإجارة وفي عقود المعاوضات المالية أن يترتب عليه أثره في ¬
ونوقش هذا
الحال، فتنتقل العين إلى المستأجر، وينتقل الأجر إلى المؤجر، والتعليق يمنع ذلك فيكون منافيًا لما يقتضيه العقد. ونوقش هذا: قولكم: إن عقود التمليك تقتضي انتقال الملكية في الحال، إن أردتم أن هذا مقتضى عقود التمليك المطلقة التي لم تقيد بشيء، فهذا مسلم، وإن أردتم أن هذا مقتضى العقد على كل حال فلا قائل بذلك، فإن شرط الخيار وهو مجمع على جوازه كما سبق بيانه في باب الخيار هو في الحقيقة تعليق للعقد؛ لأنّ المشترط إن اختار إتمام العقد انعقد، وإن اختار الرد انفسخ العقد، وما الفرق بين هذا وبين التعليق على شرط. الدليل الثاني: أن في التعليق معنى القمار والمخاطرة حيث يتردد العقد بين الوجود إذا تحقق الشرط، أو العدم إذا لم يتحقق. ونوقش هذا: العقد المعلق ليس فيه غرر ولا قمار، غاية ما فيه أن التعليق ينقل العقد من كونه لازمًا إلى كونه جائزًا، فإن وجد شرط لزومه لزم، وإن لم يوجد لم يلزم، وعلى كلا التقديرين لا يكون أجد المتعاقدين قد أكل مال الآخر بالباطل، ولا قمر أحدهما الآخر. الدليل الثالث: انتقال الملك يعتمد على الرضا، والرضا إنما يكون مع الجزم، ولا جزم مع التعليق؛ لأنّ الشأن في جنس المُعَلَّق عليه أن يعترضه عدم الحصول (¬1). ¬
ويناقش
ويناقش: القول بأن الرضا لا يكون إلا مع الجزم دعوى بلا دليل، فالعاقدان في العقد المعلق قد تم برضا الطرفين، ولم يكره أحد منهما على العقد، ولو صحت هذه الدعوى لقيل إن الرضا لا يتحقق في العقود التي لا تقع إلا معلقة كالوصية، ولا قائل به. وأما قولكم: إن العقد المعلق يعترضه عدم الحصول، فهذا لا حرج فيه؛ لأنه إذا لم يحصل لم يترتب عليه أكل أموال الناس بالباطل، فإن مال كل واحد من العاقدين لم يخرج عن ملكه. القول الثاني: يجوز تعليق البيع على شرط مطلقًا، وبه قال أحمد، وقدماء أصحابه، وهو اختيار ابن تيمية، وابن القيم (¬1). قال ابن تيمية: "وذكرنا عن أحمد نفسه جواز تعليق البيع بشرط، ولم أجد عنه، ولا عن قدماء أصحابه نصًا بخلاف ذلك، بل ذكر من ذكر من المتأخرين أن هذا لا يجوز" (¬2). ¬
دليل من قال بجواز التعليق في العقود
* دليل من قال بجواز التعليق في العقود: الدليل الأول: (ح-561) روى البخاري في صحيحه معلقًا بصيغة الجزم، قال البخاري: عامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا. [مرسل، وقد جاء من طريق آخر مرسلًا أيضًا، قال الحافظ: فيتقوى أحدهما بالآخر] (¬1). الدليل الثاني: أن الأصل في الشروط الصحة والجواز، ولا يبطل منها إلا ما دلّ الدليل على بطلانه، أو كان في التزام الشرط ما يؤدي إلى الوقوع في محذور شرعي من غرر، أو ظلم، أو أكل لأموال الناس بالباطل، وتعليق العقود لم يقم دليل في النهي عنه، ولم يكن في التزامه ما يؤدي إلى الوقوع في محذور شرعي، بل إن فيه مصلحة راجحة، فمثله لا يمكن أن ينهى الشارع عنه؛ لأنّ الشريعة جاءت في اعتبار مصالح العباد، والنهي عما يضر بها. بل إن المانعين للتعليق قد استثنوا صورًا من تعليق البيع بالشرط، فقد استثنى الحنفية والمالكية إذا علق البيع على رضا شخص أو مشورته (¬2). ¬
فما الفرق بين ما استثني وبين ما لم يستثن، فكان يلزمكم إما منع جميع صور التعليق، أو القول بالجواز مطلقًا، وهو الحق. ¬
الباب الثالث في شروط الإجارة
الباب الثالث في شروط الإجارة الفصل الأول في شروط الإجارة المتعلقة بالعاقد الشرط الأول في أهلية العاقد عند الكلام على شروط الإجارة تجد الفقهاء يحيلون تفاصيل شروط الإجارة على ما سبق لهم أن قرروه في عقد البيع (¬1). قال السيوطي: "ضابط كل ما جرى عليه عقد البيع في كتاب التبايع من الشروط يجري عليه عقد الإجارة، ويوصف في كتاب الإجارة بلفظ (الإجارة)، وفي كتاب التبايع بلفظ (التبايع)، ولا يخفى ذلك على الحذاق الممارسين لهذه الصنعة ووقائعها" (¬2). وقد فصلت الكلام على شروط البيع إلا أنني لم أجمع الشروط في مبحث واحد، فذكرت شروط البيع المتعلقة بالصيغة عند الكلام على الإيجاب والقبول. وذكرت شروط البيع المتعلقة بالعاقدين عند الكلام على أحكام العاقدين. ¬
وذكرت شروط البيع المتعلقة بالمعقود عليه عند الكلام على أحكام المبيع وأحكام الثمن، فجاءت شروط البيع مفرقة على هذه الأحكام الكثيرة والمختلفة، لذا سوف أذكر هنا بعض الشروط، وأحيل ما بقي منها على ما هو مقرر في عقد البيع. الشرط الأول: أهلية العاقد. [م - 827] وقد سبق لنا في عقد البيع تعريف الأهلية وأقسامها بما يغني عن إعادته هنا. والأهلية قد تكون كاملة، وقد تكون ناقصة، وقد تكون معدومة. فالكاملة: في حقه البالغ الحر الرشيد غير المحجور عليه. فمن اتصف بهذه الصفات تحققت به أهلية الأداء الكاملة، ويكون حرًا طليقًا في تصرفاته إلا فيما نهى عنه الشرع أو قيده. وتكون الأهلية ناقصة في حق الصبي المميز، والسفيه، والعبد. وتكون معدومة في حق الصبي غير المميز، والمجنون ونحوهما. [م - 828] فمن كانت أهليته معدومة كالمجنون والصبي غير المميز فإن إجارتهما لا تنعقد، ولا فرق في الصبي غير المميز بين أن يأذن له الوليّ أو لا يأذن. لأنّ أهلية العاقد شرط انعقاد التصرف، والأهلية لا تثبت بدون عقل ولا تمييز فلا يثبت الانعقاد بدونهما ... (¬1). ¬
ولأن المجنون وغير المميز أقوالهما وأفعالهما ملغاة لا اعتداد بها شرعاً، فلا تصح بهما عبادة، ولا تجب بهما عقوبة، ولا ينعقد معهما بيع ولا شراء، ولا إجارة. حتى تلك العبادات التي تصح من غير المميز كالحج والعمرة، لا تصح منه النية، وإنما ينوي عنه وليه. وإذا لم يصح منهما قصدٌ (النية)، فكيف يقع منهما إيجاب أو قبول، وكيف يتصور وقوع الرضا منهما، وهو شرط أساسي في صحة العقود، ومنها الإجارة. [م - 829] وأما البلوغ فهل يكون شرطاً للانعقاد؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: تصح إجارة الصبي المميز، ويكون موقوفًا على إجازة الوليّ، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية (¬1). قال الكاساني في بدائع الصنائع: "وأما الصبي العاقل فتصح منه التصرفات النافعة بلا خلاف، ولا تصح منه التصرفات الضارة المحضة بالإجماع، وأما الدائرة بيّن الضرر والنفع، كالبيع، والشراء، والإجارة، ونحوها فينعقد عندنا موقوفًا على إجازة وليه، فإن أجاز جاز، وإن رد بطل. وعند الشافعي -رحمه الله- لا تنعقد أصلاً ... " (¬2). ¬
القول الثاني: لا تصح إلا أن يكون مبنيًا على إذن سابق، وهذا مذهب الحنابلة (¬1). لأنّ الصبي إذا لم يؤذن له في التصرف كان محجورًا عليه، وتصرفات المحجور عليه باطلة غير صحيحة قياسًا على السفيه (¬2). القول الثالث: منع الشافعية الصبي من التصرف مطلقًا، سواء أكان مأذونًا له أم لا، وإنما الذي يباشر العقد عنه وليه. وقد فصلت أدلتهم في عقد البيع من المجلد الأول فأغنى عن إعادتها في كتاب الإجارة. إذا علم ذلك ترتب على هذا ما يلي: الأول: أن الصبي خير المميز والمجنون لو أجرا أنفسهما فلا أجرة لهما مطلقًا؛ لأنّ العقد لم ينعقد أصلًا عند الجمهور. واختار المالكية أن الإجارة إن وقعت فالأكثر من المسمى أو أجرة المثل. جاء في الذخيرة: "إذا استأجر صبيًا أو مجنونًا بغير إذن وليه امتنع، فإن وقع فالأكثر من المسمى أو أجرة المثل" (¬3). الثاني: إذا أجر الصبي المميز نفسه بإذن وليه فله الأجرة على مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة. ¬
وإن أجر نفسه بلا إذن، فأجازه الوليّ صحت الإجارة عند الحنفية والمالكية، ولم تصح عند الحنابلة. لأنّ الحنابلة يشترطون الإذن المسبق، والحنفية والمالكية يشترطون الأجازة، والفرق بينهما أن الإجازة تكون بعد انتهاء العقد، والإذن لا بد أن يكون سابقًا للعقد. وإن أجر نفسه بلا إذن وليه فلم يعلم الوليّ إلا بعد انقضاء المدة، فهل يستحق الصبي المميز الأجر لما عمل؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: له الأجر المسمى، وهذا مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: له الأكثر من الأجر المسمى وأجر المثل، وهذا مذهب المالكية (¬2). القول الثالث: إذا أجر الصبي نفسه لم تصح إجارته، فلا يستحق الأجر المسمى، وهل يستحق أجرة المثل؟ قولان في مذهب الشافعي: أحدهما: لا يستحق. والثاني: له أجر المثل، باعتبار أن الإجارة فاسدة، والشافعية يوجبون في ¬
الإجارة الفاسدة أجرة المثل بخلاف الإجارة الباطلة فلا يجب فيها شيء، وهذه من المواضع التي يفرق فيها الشافعية بين الفاسد والباطل (¬1). وجاء في الفتاوى الفقهية الكبرى للهيتمي: "سئل عما إذا رد الصبي العين المجعول عليها جعل، فهل يستحق الجعل؟ فأجاب بقوله: نعم يستحقه كما اقتضاه إطلاقهم، وأفتى به البارزي، وقاسه على ما لو قال له: خط هذا الثوب ولك أجرة. وله احتمال أنه يستحق أجرة المثل، كما لو عقد الإجارة مع الصبي على عمل .. ". (¬2). وأما الإجارة الباطلة فلا يجب فيها شيء عند الشافعية. قال في مغني المحتاج بعد أن بين أن الإجارة الفاسدة يجب فيها أجرة المثل، قال: "وخرج بالفاسدة الباطلة، كاستئجار صبي بالغًا على عمل فعمله، فإنه لا يستحق شيئًا" (¬3). والقائلون بأن له الأجر أقوى؛ لأنّ الحجر على الصبي المميز إنما هو من أجل مصلحته، وعدم أخذ الأجرة في مقابل عمله إضرار به، وليس من قبيل المحافظة على ماله، وأخذ الأجرة نفع محض لا ضرر فيه، والحجر عليه إنما كان من أجل حظه، فلا يحرم أجرة ما عمله، ولأنه بمثابة ما لو احتطب الصبي ملك ذلك بالاحتطاب. ¬
واعتبار الأكثر من الأجر المسمى أو أجر المثل أقوى من اعتبار أجر المثل؛ لأنّ الأجر المسمى إن كان أكثر من أجر المثل فقد رضي المؤجر ببذله، وما رضي ببذله وجب عليه، وإن كان الأجر المسمى دون أجر المثل فلا يقبل منه استغلاله للصبي، فيعطى له أجر المثل، والله أعلم. [م - 830] وفي إجارة المعتوه: صحح الحنفية إجارته إذا أجازه الوليّ. جاء في مجلة الأحكام: "المعتوه في حكم الصغير المميز" (¬1)، وقد علمنا حكم تصرف الصبي المميز عند الحنفية. وأما المالكية والحنابلة فلا يصححون إجارته. جاء في الشرح الصغير: "ولا تصح -يعني الإجارة- من مجنون ومعتوه ومكره" (¬2). وقال ابن قدامة في تعريف المعتوه: "وهو زائل العقل بجنون مطبق" (¬3). وإذا كان بحكم المجنون لم تصح إجارته. والمدار على التمييِز، فإن كان مع العته تمييز صار بمنزلة الصبي المميز، وإن كان ليس معه تمييز كان بمنزلة الصبي غير المميز، لا تصح إجارته، وقد فصلت الكلام على بيع المعتوه، والإجارة في حكم البيع، فأغنى عن الإعادة، والحمد لله. ¬
[م - 831] وفي إجارة السكران: لم يتكلم الفقهاء في إجارته، ولكن تكلموا عن بيعه وسائر تصرفاته، والإجارة مقيسة عليه، وقد اختلف في بيعه على قولين. القول الأول: يصح بيعه، وسائر تصرفاته، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة في المشهور (¬3)، واختيار ابن نافع من المالكية (¬4). ¬
القول الثاني: لا يصح شيء من تصرفاته، وهو قول أبي يوسف، وأبي الحسن الكرخي، وأبي جعفر الطحاوي من الحنفية (¬1)، وهو مذهب مالك، وعامة أصحابه (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4)، واختيار ابن حزم (¬5). وقد فصلت أدلة الأقوال في عقد البيع فأغنى عن إعادته هنا، والذي أميل إليه أن الذي لا يتأثر بالسكر مطلقًا؛ لكونه قد شرب قليلًا منه، أو لكونه قد اعتاد شربه حتى أصبح لا يؤثر في عقله، أنه لا فرق بينه وبين الصاحي؛ لأنّ الحكم يدور مع علته، فالعلة هي الخوف من تأثير السكر على العقل، فإذا انتفى التأثير انتفى الحكم. ولذلك قال تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، فجعل غاية النهي هي إدراك ما يقول. وأما من أثر فيه السكر - ولو لم يذهب عقله بالكلية، فإنه لا يصح تصرفه؛ لأنه معروف أن من يشرب الخمرة فقد تدفعه إلى الإقدام على الصفقة من غير إدراك لعواقبها، وإن كان لا يزال معه بقية من عقله، وقد تحول البخيل إلى كريم، والجبان إلى شجاع كما قال حسان: ونشربها فتتركنا ملوكا وأسدًا ما ينهنهنا اللقاء ¬
وقال آخر: فإذا شربت فإنني رب الخورنق والسدير ... وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير وفي إجارة السفيه: [م - 832] اختلف الفقهاء في إجارته على ثلاثة أقوال: فيرى أبو حنيفة أن تصرفه نافذ؛ لأنه لا يرى الحجر على الحر البالغ العاقل، وإن كان سفيهًا (¬1). وذهب المالكية والحنابلة إلى أن تصرفه لا يصح إلا بإذن وليه كالصبي المميز (¬2). ¬
ويرى الشافعية أن تصرفه باطل مطلقاً أذن له وليه، أو لم يأذن له (¬1). وقد تكلمنا على ذلك في عقد البيع، وذكرنا أدلة كل قول، فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله. ¬
الشرط الثاني أن يكون العاقد مختارا
الشرط الثاني أن يكون العاقد مختارًا [م - 833] يشترط في كل من العاقدين أن يكون مختارًا للعقد. والدليل على اشتراط الرضا (الاختيار) في العقود. من القرآن: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. فقوله: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، صفة للتجارة، أي تجارة صادرة عن تراض بالعقد (¬1). من السنة: (ح-562) ومن السنة ما رواه ابن ماجه، قال: ثنا مروان بن محمَّد، ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن داود. بن صالح المدني، عن أبيه، قال: سمعت أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنما البيع عن تراض (¬2). [حسن] (¬3). وإذا كان الرضا شرطًا في صحة العقد، فلا بد أن يكون الرضا خاليًا من كل ما ينافيه، كالإكراه، والغلط، والتدليس، والغبن. فالإكراه، بحيث لو خلي المكره وسبيله لم يرض بالعقد. والغلط بحيث لو علم من وقع في الغلط ما أقدم على التعاقد. ¬
والتدليس على المتعاقد بحيث لو تكشفت الحقيقة للمتعاقد المدلس عليه (المخدوع) ما أقدم على التعاقد. أو وقع في غبن فاحش، فهذه العيوب كلها تنافي الرضا، وقد سماها بعض القانونيين عيوب الإرادة، وبعضهم يسميها العيوب التي تلحق الرضا. وقد تكلمنا عن هذه العيوب بشيء من التفصيل في عقد البيع فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والحمد لله.
المبحث الأول في إكراه العاقد على الإجارة
المبحث الأول في إكراه العاقد على الإجارة الفرع الأول في الإكراه على الإجارة بحق قال ابن عابدين: "الإكراه بحق لا يعدم الاختيار شرعًا" (¬1). [م - 834] إن كان الإكراه على الإجارة بحق انعقدت الإجارة. والإكراه بحق لا يؤثر في صحة العقد، ولا يفسد الرضا، لإقامة رضا الشرع مقام رضا المالك، ويصح العقد عند أهل العلم، وحكي فيه الإجماع (¬2). ومثل له بعض الحنفية فيما لو انتهت مدة إجارة الظئر، والصغير لا يأخذ ثدي غيرها، ولم يستعن بالطعام، فإنها تجبر على إرضاعه بأجر المثل توقيًا من تضرر الصغير (¬3). وقال ابن تيمية: "ومن ذلك أن يحتاج الناس إلى صناعة ناس، مثل حاجة الناس إلى الفلاحة، والنساجة، والبناية، فإن الناس لا بد لهم من طعام يأكلونه، وثياب يلبسونها، ومساكن يسكنونها، فإذا لم يجلب لهم من الثياب ما يكفيهم، كما كان يجلب إلى الحجاز على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... احتاجوا إلى من ينسج لهم الثياب ... ¬
والمقصود هنا: أن ولي الأمر إن أجبر أهل الصناعات على ما تحتاج إليه الناس من صناعتهم، كالفلاحة، والحياكة، والبناية، فإنه يقدر أجرة المثل، فلا يمكن المستعمل من نقص أجرة الصانع عن ذلك، ولا يُمَكَّن الصانع من المطالبة بأكثر من ذلك، حيث تعين عليه العمل، وهذا من التسعير الواجب، وكذلك إذا احتاج الناس إلى من يصنع لهم آلات الجهاد، من سلاح، وجسر للحرب، وغير ذلك، فيستعمل بأجرة المثل، لا يمكن المستعملون من ظلمهم، ولا العمال من مطالبتهم بزيادة على حقهم، مع الحاجة إليهم، فهذا تسعير في الأعمال، وأما في الأموال: فإذا احتاج الناس إلى سلاح الجهاد، فعلى أهل السلاح أن يبيعوه بعوض المثل، ولا يمكنون من أن يحبسوا السلاح حتى يتسلط العدو، أو يبذل لهم من الأموال ما يختارون ... " (¬1). ¬
الفرع الثاني في الإكراه على الإجارة بغير حق
الفرع الثاني في الإكراه على الإجارة بغير حق الإكراه ينافي الرضا بالاتفاق، وهل ينافي الاختيار: [م - 835] اختلف الفقهاء في الإكراه هل ينافي الاختيار على قولين: القول الأول: إن كان الإكراه ملجئًا كما لو خاف المكره على نفسه، أو على تلف عضو من أعضائه، فإن هذا من الإكراه الكامل المنافي للاختيار، فلا ينعقد معه عقد؛ لأنّ الاختيار الذي هو شرط لانعقاد العقد لم يوجد، فضلًا أن يوجد الرضا الذي هو شرط لصحته. وإن كان الإكراه غير ملجئ، وهو الإكراه القاصر، كما لو أكرهه بما لا يخاف على نفسه، ولا على تلف عضو من أعضائه، كالإكراه بالضرب المحتمل، أو القيد، أو الحبس، فإنه يعدم الرضا، ولا يفسد الاختيار، وبالتالي ينعقد العقد فاسداً، وليس باطلًا. وهذا مذهب الحنفية (¬1). * والفرق بين الرضا والاختيار: أن الاختيار: هو ترجيح شيء على آخر (¬2). ¬
القول الثاني
والرضا: هو الرغبة بالفعل والارتياح إليه، والانشراح النفسي به (¬1)، ولا تلازم بينهما، فقد يختار المرء أمرًا لا يرضاه، ولا يحبه، ولكنه لا يرضى شيئًا إلا وهو يحبه، قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216]. القول الثاني: لم يقسم الجمهور الإكراه إلى ملجئ وغير ملجئ، ولكنهم تكلموا بما يتحقق به الإكراه، وما لا يتحقق. فما سماه الحنفية إكراهًا ملجئًا هو إكراه عندهم بالاتفاق. وما سماه الحنفية إكراهًا غير ملجئ، مختلفون في تَحقّق الإكراه فيه على قولين: قيل: يعتبر إكراهًا. وقيل: لا يعتبر إكراها، وهما قولان في مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬
[م - 836] إذا عرفت ذلك، فهل يصح عقد الإجارة مع الإكراه إذا كان الإكراه بغير حق؟ اختلف العلماء في ذلك في عقد البيع، والإكراه على الإجارة مقيس عليه. فقيل: ينعقد فاسدًا، وهذا مذهب الحنفية (¬1). ¬
وقيل: ينعقد صحيحًا غير لازم، فللمكره الخيار بين إمضائه ورده، وهذا مذهب المالكية (¬1)، واختيار زفر من الحنفية (¬2). وقيل: لا ينعقد مطلقًا، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقد ذكرنا أدلتهم في عقد البيع فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله. ¬
الشرط الثالث أن يكون العاقد له ولاية على المعقود عليه
الشرط الثالث أن يكون العاقد له ولاية على المعقود عليه المبحث الأول في إجارة الفضولي يشترط لصحة عقد الإجارة أن يكون العاقد له ولاية على العين المؤجرة بأي طريق من طرق الولاية كالملك أو الوكالة أو الوصاية أو نحوها. فإذا تصرف عاقد الإجارة في ملك غيره بدون ولاية، فإنه يقع على نوعين من التصرف: النوع الأول: أن يتصرف في ملك الغير لنفسه، وليس لحظ المالك، وهذا هو الغاصب، وله أحكام مستقلة سوف نبحثها إن شاء الله تعالى في بابها، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. النوع الثاني: أن يتصرف فيه لحظ مالكه، وهذا ما يسمى لدى الفقهاء في إجارة الفضولي، وهو المقصود هنا، فقد يحتاج الإنسان إلى إجارة ملك غيره قبل أن يرجع إلى المالك، بحيث لو انتظر، ورجع إلى المالك لفاتت الصفقة على المالك، ويكون الباعث على ذلك تحقيق مصلحة للمالك، بحيث يلحظ المتصرف غبطة للمالك في الإجارة، أو يغلب على ظنه أنه يسر بذلك. فما حكم هذا التصرف؟
القول الأول
[م - 837] اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: عقده صحيح، ويكون موقوفًا على إجازة المالك. وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والقديم من قول الإمام ¬
القول الثاني
الشافعي (¬1)، وأحمد في رواية عنه (¬2)، اختارها ابن تيمية (¬3)، وابن القيم (¬4). القول الثاني: عقده باطل، وهو قول الشافعي في الجديد (¬5)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬6)، واختيار ابن حزم (¬7). وقد ذكرنا أدلتهم في عقد البيع فأغنى عن إعادته هنا. ¬
المبحث الثاني في تأجير المستأجر لما استأجره
المبحث الثاني في تأجير المستأجر لما استأجره [م - 838] إذا اشترط المالك على المؤجر أن يستوفي المنفعة بنفسه وألا يؤجرها لغيره لم يملك المستأجر تأجير ما استأجره وفاء للشرط. [م - 839] أما إذا لم يشترط عليه، وكان المستأجر يملك المنفعة مدة الإجارة، فهل يملك أن يؤجرها بمقتضى العقد؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: للمستأجر الحق في تأجير العين المستأجرة للمالك ولغيره، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والمعتمد عند الحنابلة (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: له أن يؤجرها بمثل ما استأجرها به، أو أقل، ولا يؤجرها بأكثر حتى لا يربح فيما لم يضمن. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد. قال ابن رجب في القواعد: "ويتخرج له -أي للإمام أحمد- قول آخر: أن المنهي عنه حقيقة الربح دون البيع بالثمن الذي اشتراه به، فإنه منع في رواية من إجارة المنافع المستأجرة إلا بمثل الأجرة؛ لئلا يربح فيما لم يضمن" (¬1). قال ابن تيمية: "للمستأجر أن يؤجرها بمثل الأجرة، وإنما تنازعوا في إيجارها بأكثر من الأجرة؛ لئلا يكون ذلك ربحًا فيما لا يضمن، والصحيح جواز ذلك؛ لأنها مضمونة على المستأجر؛ فإنها إذا تلفت مع تمكنه من الاستيفاء كانت من ضمانه ولكن إذا تلفت قبل تمكنه من الاستيفاء لم تكن من ضمانه" (¬2). القول الثالث: لا يجوز للمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة مطلقًا، وهو قول مرجوح في مذهب الحنابلة. قال ابن قدامة: "ذكر القاضي فيه رواية أخرى أنه لا يجوز؛ لأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ربح ما لم يضمن، والمنافع لم تدخل في ضمانه. ولأنه عقد على ما لم يدخل في ضمانه، فلم يجز كبيع المكيل والموزون قبل قبضه" (¬3). وقد ذكرنا أدلة القوم في سندات الإجارة من المجلد الثالث عشر، فأغنى عن ¬
إعادته هنا، والحمد لله رب العالمين وقد رجحت جواز إجارة العين المستأجرة بشرطه، بحيث لا يتضمن العقد الثاني ضررًا على العين، ولو كان بأكثر مما استأجرها له؛ لأنّ من موجبات الإجارة تملك المنفعة المعقود عليها، والناس مسلطون على ما يملكون شريطة ألا يخل ذلك بأي من شروط الإجارة. والله أعلم.
الفصل الثاني شروط الإجارة المتعلقة في المنفعة
الفصل الثاني شروط الإجارة المتعلقة في المنفعة الشرط الأول أن تكون المنفعة معلومة قال السرخسي: "المنفعة عرض يقوم بالعين" (¬1). وهي تشمل أمرين: أحدهما: منفعة الأعيان كالسكنى والركوب. والثاني: منفعة الأشخاص، كالبناء والخياطة والتعليم. [م - 840] ويشترط في المنفعة ما يشترط في المبيع، فلابد من العلم بالمنفعة قدراً ووصفاً كسكنى الدار، أو خدمة الآدمي، فلا يجوز عقد الإجارة على منفعة مجهولة كما لو استأجر آلة لا يدري ما يعمل بها. قال الشيرازي: "ولا تصح الإجارة إلا على منفعة معلومة القدر؛ لأنا بينا أن الإجارة بيع، والبيع لا يصح إلا في معلوم القدر، فكذلك الإجارة، ويعلم مقدار المنفعة بتقدير العمل أو بتقدير المدة ... " (¬2). * والدليل على اشتراط ذلك، أدلة كثيرة، منها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ¬
فاشترطت الآية الرضا، والرضا لا يتعلق إلا بمعلوم. ومنها: النهي عن بيع الغرر، وهو أصل متفق عليه في الجملة (ح-563) لما رواه مسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر (¬1). ولمعرفة المنفعة طريقان: أحدهما: تقدير المنفعة بالمدة كاستئجار الدار سنة. والثاني: تقدير المنفعة بالعمل كخياطة ثوب معين، وحمل شيء معلوم إلى مكان معين (¬2). وهل يصح تقدير المنفعة بالزمن والعمل معًا، كأن يقول المستأجر للأجير: خط هذا الثوب في هذا اليوم؟ في ذلك خلاف بين العلماء سيأتي تحريره إن شاء الله تعالى عند الكلام على بيان مدة الإجارة. ¬
الشرط الثاني أن تكون المنفعة متقومة
الشرط الثاني أن تكون المنفعة متقومة [م - 841] جرى خلاف بين الحنفية والجمهور هل المنافع متقومة بنفسها أم لا؟ فالحنفية يرون أن المنافع ليست بأموال متقومة (¬1)، خلافًا لمذهب الجمهور، وقد فصلت أدلتهم في عقد البيع فأغنى عن إعادته. ويقصد الفقهاء بالمتقومة: أي ما لها قيمة شرعًا، واحترز بذلك من أمرين: (1) ما كانت منفعته محرمة؛ لأنّ المنفعة المحرمة لا قيمة لها شرعًا، فوجودها كعدمها، وقد جعلنا إباحة المنفعة شرطًا مستقلاً لأهميته. (2) ما لا قيمة له لقلته أو لتفاهته، فلا يجوز بذل المال في مقابلته. قال القرافي: "متى اجتمعتا في المنفعة ثمانية شروط ملكت بالإجارة ... الثالث: كون المنفعة متقومة احترازاً من التافه الحقير الذي لا يقابل بالعوض. . " (¬2). وقال في مغني المحتاج: "ويشترط كون المنفعة متقومة، لم يرد بالمتقومة هنا مقابلة المثلية، بل ما لها قيمة ليحسن بذل المال في مقابلتها، كاستئجار دار للسكنى والمسك والرياحين للشم، فإنها إذا لم تكن لها قيمة إما لحرمتها، أو لخستها، أو قلتها يكون بذل المال في مقابلتها سفهًا وتبذيراً" (¬3). ¬
وجاء في مطالب أولي النهى: "وأن يكون متقومًا بخلاف نحو تفاح لشم" (¬1). وقد يطلق الفقهاء بدلًا من كلمة المتقومة عبارة (منافع مقصودة)، وهما بمعنى واحد؛ لأنّ التقوم تارة يكون شرعياً، وتارة يكون عرفياً. جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "ولا يكفي لصحة الإجارة أن تكون المنفعة مقصودة للمستأجر، بل لا بد أن يكون فيها منفعة مقصودة في الشرع، وفي نظر العقلاء" (¬2). فالمنافع المحرمة ليست متقومة من جهة الشارع. والمنافع المهملة التي ترك الناس الانتفاع بها في عصر أو بلد ليست متقومة عرفاً. وسوف نتناول إن شاء الله تعالى بعضى المسائل الذي جرى فيها خلاف هل هي متقومة أو لا؟ في المباحث التالية. ¬
المبحث الأول استئجار الأشجار لتجفيف الثياب
المبحث الأول استئجار الأشجار لتجفيف الثياب [م - 842] الجمهور متفقون على اشتراط أن تكون المنفعة متقومة لكنهم يختلفون في جواز الإجارة ومنعها في فروع لاختلافهم هل المنفعة فيها متقومة أم لا؟ من ذلك: استئجار الشجر لتجفيف الثياب عليها: فإذا أستاجر شخص حبلًا ليجفف الثياب عليه صح قولًا واحدًا؛ لأنّ ذلك منفعة مقصودة منه (¬1). وإذا استأجر أحدهم شجرة ليجفف الثياب عليها، فقد اختلف العلماء في صحة هذه الإجارة على قولين: وسبب الاختلاف: اختلافهم في كون المنفعة متقومة أو غير متقومة. القول الأول: لا يجوز، وهو مذهب الحنفية (¬2)، وأحد القولين في مذهب المالكية اختاره ابن القاسم (¬3)، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية رجحه الشيرازي (¬4). ¬
القول الثاني
يقول الكاساني: "ومنها أن تكون المنفعة مقصودة يعتاد استيفاؤها بعقد الإجارة، ويجري بها التعامل بين الناس، فلا يجوز استئجار الأشجار لتجفيف الثياب عليها ... لأنّ هذه منفعة غير مقصودة من الشجر" (¬1). وقد علل الشيرازي المنع: بأن الأشجار لا تراد لذلك، فكان بذل العوض في ذلك من السفه، وأخذ العوض عنه من أكل أموال الناس بالباطل، ولأنه لا يضمن منفعتها بالغصب فلم يضمن بالعقد (¬2). القول الثاني: يجوز، وهو المعتمد عند المالكية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية، والمذهب عند الحنابلة (¬3). جاء في التاج والإكليل "في إجارة الأشجار لتجفيف الثياب قولان، ولا أعرف المنع، ومقتضى المذهب الجواز كإجارة مصب مرحاض، وحائط لحمل خشب" (¬4). وقال النوويّ: "وفي إجارة الأشجار لتجفيف الثياب عليها، والوقوف في ظلها، وربط الدواب فيها الوجهان. قال بعضهم: الأصح هنا الصحة؛ لأنها منافع مهمة" (¬5). ¬
وصحح ذلك الماوردي إن كان ذلك مقصوداً عرفاً. جاء في الحاوي الكبير: "وإن استأجر ذلك لمنفعة تستوفى مع بقاء العين كالاستظلال بالشجر، أو ربط مواش إليها، فذلك ضربان: أحدهما: أن يكون هذا غالبًا فيها، ومقصوداً من منافعها، فتصح الإجارة عليها. الثاني:- أن يكون نادرًا غير مقصود في العرف فيكون على ما مضى من الوجهين" (¬1). وجاء في أسنى المطالب: "ولو استأجر الشجرة لظلها ... الخ أو لتجفيف الثياب عليها قال الإسنوي: لقائل أن يقول كيف يتصور الخلاف في استئجار الشجرة للوقوف في ظلها؛ لأنّ الأرض التي يقف فيها المستأجر إن كانت رقبتها، أو منفعتها له فليس لصاحب الشجرة منعه من الوقوف فيها، وهو واضح، وإن كانت مباحة فكذلك، وإن كانت لصاحب الشجرة فالاستئجار في هذه الحالة صحيح بلا خلاف؛ لأنه استئجار على الاستقرار في هذه الأرض فما صورة الخلاف؟ وجوابه أن يقال: يتصور فيما إذا كانت الأرض المذكورة مباحة، أو للمستأجر وكانت الأغصان مائلة إلى ملك صاحب الشجرة، وأمكن تمييلها إلى الأرض المذكورة، فاستأجرها للوقوف في ظلها ليميلها إلى جهته، وكذلك إذا كانت الأغصان مائلة إلى الأرض التي يقف فيها المستأجر، فاستأجرها ليمتنع المالك من قطعها" (¬2). ¬
الراجح
وجاء في كشاف القناع: "ويجوز استئجار الشجرة ليجفف عليها الثياب أو لبسطها أي الثياب عليها أي الشجرة ليستظل بظلها؛ لأنه منفعة مباحة مقصودة يمكن استيفاؤها مع بقاء العين فجاز استئجارها لها كالحبال، والخشب والشجر المقطوع" (¬1). * الراجح: القول بالجواز، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني استئجار المشمومات لشمها
المبحث الثاني استئجار المشمومات لشمها [م - 843] اختلف الفقهاء في حكم استئجار المشمومات لشمها على قولين: القول الأول: لا يجوز، وهذا مذهب الحنفية والمالكية (¬1)، واختاره إمام الحرمين من الشافعية (¬2). وعلل الكاساني المنع يكون الشم ليس منفعة مقصودة، ولكونه لا يعتاد استيفاؤها بعقد الإجارة (¬3). وعلل السرخسي المنع بأن "من اشتم مسك غيره لا يضمن شيئاً؛ لأنّ الرائحة ليست بمنفعة، ولكنها بخار يقوح من العين كدخان الحطب، ولهذا لا يملك بعقد الإجارة حتى لو استأجر مسكًا ليشمه لا يجوز، ولا يضمن بالعقد صحيحاً كان أو فاسداً" (¬4). وعلل إمام الحرمين المنع بأن الشم وإن كان منفعة فليست من المنافع التي تبذل عليها الأموال (¬5). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يجوز، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة (¬1). وعللوا الجواز بكون شم الرائحة الطيبة منفعة مباحة مقصودة، فجاز بذل المال في تحصيلها. قال النوويّ: "نصوا على جواز استئجار المسك والرياحين للشم ... " (¬2). وجاء في نهاية الزين: "ولا يصح إلا في منفعة متقومة أي لها قيمة؛ ليحسن بذل المال في مقابلتها كاستئجار ريحان للشم وطائر للأنس بصوته أو لونه، وشجرة للاستظلال بظلها" (¬3). وجاء في كشاف القناع: "ويجيز استئجار ما يبقى من الطيب كالعنبر والصندل، وقطع الكافور ونحوه، كمسك للشم مدة معينة ثم يرده؛ لأنها منفعة مباحة أشبهت استئجار الثوب للبس مع أنه لا ينفك من إخلاق" (¬4). *والراجح: القول بالجواز؛ لأنّ التلذذ بشم الرائحة الطيبة منفعة مباحة مقصودة، فجاز بذل المال في مقابلها، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث استئجار الرجل مما يجمل به حانوته وبيته
المبحث الثالث استئجار الرجل مما يجمل به حانوته وبيته [م - 844] إذا استأجر الرجل ما يجمل به حانوته من دراهم أو دنانير أو ثياب أو أطعمة فهل في جوز ذلك؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأول: لا يجوز؛ لأنّ هذه المنافع ليست مقصودة من هذه الأعيان، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). جاء في البحر الرائق: "لو استأجر دابة ليجنبها، ولا يركبها، أو ليربطها على باب داره؛ ليري الناس أن له فرساً، فالإجارة فاسدة، ولا أجر له، وقيد باللبس في الثوب؛ لأنه لو استأجر ثوبًا ليزين بيته به، أو حانوته فالإجارة فاسدة، ومن هذا النوع ما إذا استأجر آنية يصفها في بيته يتجمل بها، ولا يستعملها، أو دارًا لا يسكنها لكن ليظن الناس أن له دارًا، أو عبدًا على ألا ¬
القول الثاني
يستخدمه، أو دراهم يضعها كذا في الخلاصة. ووجهه أن هذه المنفعة ليست مقصودة من العين" (¬1). وقال الجصاص: "لم يجيزوا استئجار الدراهم والدنانير؛ لأنها قرض، فكأنه استقرض دراهم على أن يرد عليه أكثر منها" (¬2). وقد يقال: هناك فرق بين القرض وبين الإجارة، فالقرض تمليك للعين على أن يرد بدلها، وفي الإجارة لم يملك العين. ولو قيل: إن المنع من أجل أن الباعث على الإجارة هو المفاخرة والمباهاة الكاذبة، وليس الانتفاع المشروع من هذه الأعيان، ولأن المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبى زور. وجاء في الإقناع في فقه الإمام أحمد: "ولا تصح إجارة ما يجمل به دكانه من نقد وشمع ونحوهما، ولا طعام ليتجمل به على مائدته ثم يرده؛ لأنّ منفعة ذلك غير مقصودة" (¬3). القول الثاني: يجوز الانتفاع بها، أجازه القاضي أبو بكر من المالكية (¬4)، وهو قول مرجوح في مذهبي الشافعية، والحنابلة (¬5). قال ابن رشد: "ومن هذا الباب اختلاف المذهب في إجارة الدراهم والدنانير ... فقال ابن القاسم: لا يصح إجارة هذا الجنس، وهو قرض. ¬
الراجح
وكان أبو بكر الأبهري وغيره يزعم أن ذلك يصح، وتلزم الأجرة فيه. وإنما منع من إجارتها؛ لأنه لم يتصور فيها إلا بإتلاف عينها. ومن أجاز إجارتها تصور فيها منفعة مثل أن يتجمل بها، أو يتكثر، أو غير ذلك مما يمكن أن يتصور في هذا الباب" (¬1). وقال في تكملة المجموع: "واختلفوا في استئجار الدراهم والدنانير ليجمل بها الدكان ... فمنهم من قال: يجوز؛ لأنه منفعة مباحة فجاز الاستئجار لها كسائر المنافع. ومنهم من قال: لا يجوز، وهو الصحيح؛ لأنّ الدراهم والدنانير لا تراد للجمال" (¬2). * الراجح: أن استئجار الشيء للتزين به، إن كان التزين مشروعًا كانت إجارة مثل هذه الأشياء مشروعة، ولذلك قال تعالى ممتنًّا على عباده: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]، وقال تعالى:- {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. وإن كان التزين للمفاخرة والمباهاة، وإظهار الملاءة والغنى فهذا لا يجوز، والله أعلم. ¬
الشرط الثالث أن تكون المنفعة مباحة الاستيفاء بلا حاجة
الشرط الثالث أن تكون المنفعة مباحة الاستيفاء بلا حاجة [م - 845] بينا في الشروط السابقة أنه يشترط في الإجارة أن تشتمل على منفعة ذات قيمة مقصودة، وهنا يضاف قيد آخر، وهو أن تكون المنفعة مباحة الاستيفاء بلا حاجة، وهذا القيد أخرج شيئين: الأول: أخرج الأعيان التي يباح الانتفاع بها بقيد الضرورة، فلا يجوز عقد الإجارة عليها. الثاني: كذلك أخرج الأعيان التي يباح الانتفاع بها بقيد الحاجة كالكلب للصيد والحراسة. فلا بد أن يكون الانتفاع مأذونا به شرعاً مطلقاً بلا قيد الحاجة ولا الضرورة، فإذا كانت الإجارة لا تصح على ما لا نفع فيه، فكذلك لا تصح على ما فيه نفع محرم، كالنياحة، وعصر الخمر، واستئجار القراء للقراءة على روح الميت، واستئجار السحرة والكهان والعرافين ونحوها. قال تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور: 33]. قال ابن كثير: "كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت، فلما جاء الإِسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك، وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة فيما ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف في شأن عبد الله بن أبي بن سلول، فإنه كان له إماء فكان يكرههن على البغاء طلبًا لخراجهن" (¬1). ¬
ولذلك قال تعالى: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور: 33]، أي أن هذا الفعل من الإكراه لأجل ما تكسبه هذه الأمة بفرجها، وهو متاع قليل يعرض، ثم يزول. (ح-564) وروى البخاري من طريق الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي مسعود - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب، وحلوان الكاهن، ومهر البغي (¬1). (ح-565) وروى البخاري في صحيحه من طريق أبي حازم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كسب الإماء (¬2). فدلّ على أن المنفعة المحرمة لا قيمة لها شرعًا، ولا يجوز للمسلم تحصيل المنافع المحرمة، ولا بذل المال في سبيل ذلك، فالخمر فيه منافع بنص القرآن: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219]، ومع ذلك يحرم تحصيل هذه المنافع؛ لأنّ الإثم أكبر من النفع. ¬
المبحث الأول استئجار الكلب الصيد أو حراسة
المبحث الأول استئجار الكلب الصيد أو حراسة قال الزركشي: ما جوز للحاجة لا يجوز أخذ العوض عليه (¬1). قال المرداوي: ما حرم بيعه حرم إجارته إلا الحر والحرة (¬2). وقال العمراني: كل منفعة لا تضمن بالغصب لا يصح الاستئجار عليها (¬3). [م - 846] اختلف العلماء في استئجار الكلب للصيد على قولين. القول الأول: لا يجوز، وهو مذهب الحنفية، والصحيح من مذهب الشافعية، والحنابلة (¬4). القول الثاني: يجوز استئجار الكلب للصيد، وهو مذهب المالكية، واختيار ابن حزم (¬5). ¬
تعليل من قال: لا يجوز
* تعليل من قال: لا يجوز: علل الحنفية المنع بأن المنفعة المطلوبة غير مقدورة الاستيفاء، إذ لا يمكن إجبار الكلب على الصيد (¬1). وعلل الشافعية المنع بأنها منفعة غير مملوكة، وإنما أبيحت للحاجة، كالميتة للمضطر. ولأنه لا قيمة لعين الكلب فكذا منفعته. وعلل الحنابلة المنع بأن الكلب حيوان محرم بيعه لخبثه، فحرمت إجارته، ولأن إباحة الانتفاع به لم تبح بيعه، فكذلك إجارته. وعلل الشافعية والحنابلة أيضًا يكون منفعة الكلب لا تضمن بالغصب، وكل منفعة لا تضمن بالغصب لا يصح الاستئجار عليها. * تعليل من قال بالجواز: أن منفعة الكلب منفعة مباحة، فجاز استئجارها كسائر المنافع المباحة. ولأن عقد الإجارة يختلف عن البيع: ففي البيع يكون العقد واردًا على العين، وبيع عينه محرم. وفي عقد الإجارة يكون العقد وارداً على المنفعة، وهي مباحة. قال في أسنى المطالب: "إجارة الكلب للحميد فيه وجهان: قال الجبيلي: هما مبنيان على أن مورد الإجارة ماذا؟ إن قلنا: العين امتنعت، أو المنفعة صحت" (¬2). ¬
الراجح
واستدل ابن حزم على الجواز بالطريقة الظاهرية، وهو أن البيع غير الإجارة، وإنما نهي عن بيع الكلب، ولم ينه عن إجارته، وقياس الإجارة على البيع قياس باطل لو كان القياس حقًا، فكيف وهو كله باطل!! لأنهم موافقون على إجارة الحر نفسه، وتحريمهم لبيعه (¬1). * الراجح: القول بالمنع، وذلك أن منفعته لا يجوز تملكها بالبيع، فلم يجز تملكها بالإجارة، غاية ما فيه أن التملك مؤبد في عقد البيع، ومؤقت في عقد الإجارة، وهذا ليس فرقًا جوهريًا يبيح بذل العوض في عقد الإجارة، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث فى إجارة الدور والمحلات لغرض محرم
المبحث الثالث فى إجارة الدور والمحلات لغرض محرم الأصل في كل عقد أن يكون الباعث عليه مباحًا ما لم يقم الدليل على غير ذلك، فإن قام الدليل على أن الباعث على العقد غير مشروع كان العقد محرمًا. [م - 847] إذا كان عقد الإجارة على عمل مباح، كأن تؤجر الدار لغرض السكنى، ثم يقوم المستأجر باتخاذ البيت للمعصية، فيشرب فيه الخمرة، أو يزني فيه، فالإجارة صحيحة؛ لأنّ الغرض من الإجارة مباح، وهو السكنى أو التجارة المباحة، فيملك المستأجر منفعة الدار، ولا تنفسخ بمعصية المستأجر؛ لأنّ العقد وارد على منفعة مباحة. وهذا بالاتفاق. جاء في حاشية ابن عابدين: "قال في لسان الحكام: لو أظهر المستأجر في الدار الشر، كشرب الخمر، وأكل الربا، والزنا، واللواطة يؤمر بالمعروف، وليس للمؤجر ولا لجيرانه أن يخرجوه، فذلك لا يصير عذرًا في الفسخ، ولا خلاف فيه للأئمة الأربعة. وفي الجواهر: إن رأى السلطان أن يخرجه فعل. اهـ" (¬1). وجاء في المبسوط: "ولا بأس أن يؤاجر المسلم داراً من الذمي ليسكنها، فإن شرب فيها الخمر، أو عبد فيها الصليب، أو دخل فيها الخنزير لم يلحق المسلم إثم في شيء من ذلك؛ لأنه لم يؤاجرها لذلك، والمعصية في فعل المستأجر، وفعله دون قصد رب الدار فلا إثم على رب الدار في ذلك ... (¬2). ¬
وجاء في التاج والإكليل: "إذا ظهرت من مكتري الدار خلاعة، وفسق، وشرب خمر لم ينتقض الكراء، ولكن الإمام يمنعه من ذلك، ويكف أذاه عن الجيران ... " (¬1). ويقول الخرشي: "الإجارة لا تنفسخ بظهور المستأجر فاسقًا يشرب فيها الخمر، أو يزني، أو نحو ذلك ... " (¬2). وجاء في تصحيح الفروع: "قال ابن أبي موسى: كره أحمد أن يبيع داره من ذمي، يكفر فيها، ويستبيح المحظورات، فإن فعل لم يبطل البيع، وكذا قال الآمدي ... " (¬3). ولا فرق بين البيع والإجارة. ملحوظة: هناك تنبيهان: الأول: أن القول بعدم الفسخ لا يعني أن المؤجر ليس له أن يمنعه من فعل المعاصي، فإن هذا يطالب به المؤجر كما يطالب به غيره، وهو من قبيل إنكار المنكر الواجب، ولكن الكلام على استحقاق الفسخ بهذا الفعل. ولذلك جاء في شرح منتهى الإرادات: "وإن استأجر ذمي من مسلم دارًا، وأراد بيع الخمر بها فله منعه؛ لأنه محرم" (¬4). وفي كشاف القناع: "ولو اكترى ذمي من مسلم دارًا ليسكنها، فأراد بيع الخمر فيها فلصاحب الدار منعه من ذلك؛ لأنه معصية" (¬5). ¬
القول الأول
التنبيه الثاني: إن كان المؤجر يعلم أن المستأجر يريد البيت لفعل المعاصي إما لمعرفته بحاله، أو لوجود القرائن، ففي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم، وهي ترجع إلى مسألة سبق بحثها في كتاب البيع، وهو ما إذا كان العقد في نفسه مشروعاً، وكان الباعث على العقد غير مشروع كبيع العصير لمن يتخذه خمراً، فاستئجار البيت مشروع، ولكن استئجاره ليباع فيه الخمر، أو يتخذ محلًا للدعارة غير مشروع، فهل تحرم الإجارة نظرًا لأنّ الباعث على هذا الفعل غير مشروع، أو لا تحرم باعتبار أن الإجارة أصلها مباح، والباعث نية في قلب العاقد، لا أثر لها في صحة العقد أو بطلانه. [م - 848] في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يصح العقد مطلقًا، وهذا مذهب المالكية (¬1)، والحنابلة (¬2). القول الثاني: يصح مطلقًا إذا لم ينص في العقد على الفعل المحرم، وأما العقد فهل يحرم أو يكره قولان في مذهب الشافعية (¬3). ¬
القول الثالث
القول الثالث: القول بالتفصيل: إن كانت العين المؤجرة أو المبيعة تستعمل للمعصية بعينها فإن العقد محرم، وإن كانت العين لا تستعمل للمعصية بعينها، وإنما بفعل المستأجر لم يحرم العقد. فبيع العنب لمن يعصره خمرًا حلال؛ لأنّ العنب نفسه لا معصية فيه، وإنما المعصية بفعل المستأجر. ومثله يجوز بيع الحديد في زمن الفتنة لمن يصنعه سلاحًا لقتل مظلوم. وأما بيع السلاح لمن يقتل به ظلمًا فلا يجوز؛ لأنّ المعصية تستعمل بعين السلاح. وعليه فقد اختار أبو حنيفة أن الشخص لو آجر نفسه ليعمل في بناء كنيسة، أو ليحمل خمر الذمي بنفسه، أو على دابته، أو ليرعى له الخنازير، أو آجر بيتًا ليتخذ بيت نار (معبد مجوسي)، أو كنيسة أو بيعة (¬1)، أو يباع فيه الخمر، جاز له ¬
ذلك عند أبي حنيفة؛ لأنه لا معصية في عين العمل، وإنما المعصية بفعل المستأجر، وهو فعل فاعل مختار كشربه الخمر وبيعها. وعلل الحنفية ذلك بأن الإجارة ترد على منفعة البيت ونحوه، ولهذا تجب الأجرة بمجرد التسليم، ولا معصية فيه، وإنما المعصية بفعل المستأجر، وهو مختار فيه، فقطع نسبته عنه. ويرى الصاحبان كراهة ذلك؛ لما فيه من الإعانة على المعصية. بل أجاز أبو حنيفة عفى الله عنه بيع الجارية لمن لا يستبرئها أو يأتيها من دبرها، وبيع الغلام من لوطي (¬1). وقد طرح بعض الحنفية هذا الضابط: وهو أن ما قامت المعصية بعينه، يكره بيعه تحريمًا (كبيع السلاح من أهل الفتنة) وما لم تقم بعينه يكره تنزيهاً (¬2). وقد ذكرنا أدلتهم في كتاب البيع تحت عنوان: بيع العنب لمن يعصره خمراً، وبيع السلاح في زمن الفتنة فأغنى ذلك عن تكراره هنا. ¬
الشرط الرابع أن تقع الإجارة على المنفعة لا على استهلاك العين
الشرط الرابع أن تقع الإجارة على المنفعة لا على استهلاك العين الفرع الأول استهلاك العين في عقد الإجارة أصالة جاء في الهداية: "عقد الإجارة لا ينعقد على إتلاف الأعيان مقصوداً". قال الماوردي: ما لم يصح الانتفاع به مع بقاء عينه لم تصح إجارته (¬1). وقال الحطاب: الأعيان تملك بالبيع والمنافع بالإجارة (¬2). وقال ابن القيم: ما جاز أن يستوفى بالعارية جاز أن يستوفى بالإجارة (¬3). وقال ابن تيمية: القوائد التي تستخلف مع بقاء أصولها تجري مجرى المنافع (¬4). [م - 849] إذا كان الستهلاك العين في عقد الإجارة مقصودًا بالأصالة وليس على وجه التبع، كأن يستأجر شاة للبنها، أو يستأجر شجرة لثمرتها، ومثله أن يستأجر الشمع ليستعمله، والصابون ليغسل فيه، فهل تصح الإجارة؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يصح، وهو قول جمهور الفقهاء، واختيار ابن حزم (¬5). ¬
القول الثاني
قال ابن حزم: ولا يجوز إجارة ما تتلف عينه أصلًا، مثل السمع للوقيد، والطعام للأكل، والماء للسقي به، ونحو ذلك؛ لأنّ هذا بيع لا إجارة، والبيع هو تملك العين، والإجارة لا تملك بها العين (¬1). القول الثاني: لا يصح أن يستأجر الشجر لأخذ ثمر، ولا استئجار شاة أو شاتين للبن، ويجوز إجارة القطيع من ذوات اللبن للحلب بشروطه (¬2)، ويجوز استئجار البقرة للحرث واشتراط لبنها، واستئجار الشجر للتجفيف، واشتراط ثمرتها، وهذا مذهب المالكية (¬3). والحق أن مذهب المالكية لا يختلف عن مذهب الجمهور: فهم لا يجيزون مطلقًا أن يستأجر الشجر من أجل الثمرة، وهذا متفق مع مذهب الجمهور. ولا يجيزون استئجار شاة أو شاتين من أجل اللبن، وهو متفق مع الجمهور أيضًا. ¬
القول الثالث
ويجيزون استئجار البقرة للحرث، واشتراط لبنها، فيكون اللبن تابعاً، وهو متفق مع الجمهور. أما جوازهم شراء اللبن من القطيع، في وقت الإبان إلى أجل لا ينقضي اللبن قبله، فهم يعدون هذا من السلم، وباب السلم هو بيع عين موصوفة، وليس من الإجارة في شيء. لذلك ستكون أدلة الجمهور في المنع هي أدلة المالكية، وسنذكرها قريبًا إن شاء الله تعالى. القول الثالث: يجوز استئجار الشجر من أجل الثمر، والشاة من أجل اللبن، واستئجار السمع ليوقده، والصابون ليغسل فيه، وهو قول ابن تيمية وابن القيم (¬1)، وأجاز الشافعية استئجار قناة أو بئر للانتفاع بمائها (¬2). * دليل من قال: لا يجوز: الدليل الأول: أن إطلاق الإجارة على هذا العقد فيه تجوز؛ لأنه ليس فيه بيع منفعة، وإنما فيه بيع عين. يقول الحطاب: "الأعيان تملك بالبيع والمنافع بالإجارة" (¬3). ¬
ونوقش هذا
ونوقش هذا: بأن هناك فرقًا بين بيع العين وبين إجارة منفعة العين وإن كانت المنافع أعيانًا، فاللبن إن كان يحصل بعلف المالك فهو من قبيل بيع الأعيان، وإن كان يحصل بعلف المستأجر والمستأجر هو الذي يقوم على الدابة فإنه من قبيل استئجار الدابة لا غير (¬1). الوجه الثاني: أن استئجار الشجر لثمرها والشاة للبنها يؤدي إلى بيع الشيء قبل وجوده، وهذا لا يجوز. ونوقش هذا: بأن هناك فرقًا بين بيع ثمرة الشجرة فالعقد واقع على بيع العين، وهي لم تخلق بعد، ولا علاقة للمشتري بالشجر، وبين استئجار الشجر للثمار فهو عقد على عين موجودة معلومة. لينتفع بها في سائر وجوه الانتفاع، وتدخل الثمرة تبعًا، وإن كان هو المقصود، كما قلتم في نقع البئر ولبن الظئر أنه يدخل تبعاً، وإن كان هو المقصود، فالمستأجر يتسلم الشجر، فيخدمها، ويقوم عليها، وفي البيع يقوم البائع على الشجر، ويخدمها، وليس للمشتري الانتفاع بظلها، ولا رؤيتها، ولا نشر الثياب عليها (¬2). * دليل من قال بالجواز: الدليل الأول: القياس على الظئر، فإجارة الظئر ثابتة بالنص، قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ ¬
ونوقش هذا الاستدلال
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فيقاس عليه جواز إجارة الشاة للبنها، والشجرة لثمرها. ونوقش هذا الاستدلال: بأن الجمهور يرى أن المعقود عليه هو الإرضاع لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} [الطلاق: 6]، فعلق الأجرة بفعل الإرضاع لا باللبن، واللبن مستحق تبعًا، فالمرضع تحمل الطفل، وتضعه في حجرها، وتلقمه ثديها، وتعصره بقدر الحاجة، ويدخل في ذلك اللبن الذي يمصه الصبي (¬1). وتعقب هذا: أنكر ابن القيم أن يكون المعقود عليه غير اللبن، وقال: الله يعلم ثم العقلاء قاطبة أن الأمر ليس كذلك، وأن وضع الطفل في حجرها ليس مقصوداً أصلًا، ولا ورد عليه عقد الإجارة لا عرفًا، ولا حقيقة، ولا شرعًا، ولو أرضعت الطفل، وهو في حجر غيرها أو في مهده لاستحقت الأجرة، ولو كان المقصود إلقام الثدي المجرد لاستؤجر له أي امرأة لها ثدي، ولو لم يكن فيها لبن، فهذا هو القياس الفاسد، فكيف يقال: إن إجارة الظئر على خلاف القياس، ويدعي أن هذا هو القياس الصحيح (¬2). وأجيب على هذا: ربما جوز هذا لمسيس الحاجة إلى هذه المعاملة، أو للضرورة، والله أعلم. ¬
ورد هذا
ورد هذا: بأن الجواز مطلق، وليس مقيدًا بالحاجة فضلًا أن يقيد بالضرورة. الدليل الثاني: أن الفوائد التي تستحق مع بقاء أصولها تجري مجرى المنافع وإن كانت أعيانًا كثمر الشجر، ولبن الآدميات، والصوف والماء العذب، فإنه كلما خلق من هذه شيء فأخذ، خلق الله بدله مع بقاء الأصل كالمنافع سواء. ونوقش هذا: بأن هناك فرقًا بين المنفعة والعين، فالمنفعة عرض لا تقوم بنفسها، ولا يتصور بقاؤها، بخلاف العين فإنها تقوم بنفسها، وتبقى، وكون العين تحدث شيئًا فشيئاً لا يلحقها بالمنافع. الدليل الثالث: القياس على إجارة الأرض لما نبت فيها من الكلأ والشوك، وهو عين. الدليل الرابع: أن حصول اللبن بعلف المستأجر وخدمته كحصول المغل ببذره وخدمته، ولا فرق بينهما، فإن تولد اللبن من العلف كتولد المغل من البذر. الدليل الخامس: إذا كان يجوز للمالك أن يمنح الشاة غيره مدة معلومة لأجل لبنها، وهي باقية على ملك المانح فتجري منحتها مجرى إعارتها، والعارية إباحة المنافع، وكذلك يجوز له أن يوقف الشجر للانتفاع بثمرته، وحق الواقف إنما هو في منفعة الموقوف، فإذا كان اللبن والثمر يجرى مجرى المنافع في العارية والوقف جرى مجراها في الإجارة.
الراجح من الخلاف
قال ابن القيم: ما جاز أن يستوفي بالعارية جاز أن يستوفى بالإجارة، فإن موردهما واحد، وإنما يختلفان في التبرع بهذا، والمعاوضة على الآخر (¬1). * الراجح من الخلاف: أرى أنه يفرق بين مسألتين: بين إجارة الشجر والشاة للبن، فيصح العقد إجارة، وبين إعطاء السمع ليستهلكه، والصابون ليغسل فيه، فهذا بيع، وليس إجارة، والفرق واضح بين المسألتين، فإن استهلاك الثمرة واللبن لا يؤدي إلى استهلاك الأصل، فالعين باقية، وتكون الثمرة بمنزلة المنافع، بخلاف الشمع، فإن العين تستهلك، وتفنى، فيكون العقد بيعًا، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني استهلاك العين في عقد الإجارة تبعا
الفرع الثاني استهلاك العين في عقد الإجارة تبعا جاء في الهداية: "عقد الإجارة لا ينعقد على إتلاف الأعيان مقصودًا". قوله (مقصوداً) قيد أخرج به إتلاف الأعيان تبعًا فيجوز. [م - 580] إذا كان استهلاك العين في عقد الإجارة تبعاً، وليس أصالة، كالتعاقد مع الصباغ أو الخياط ليصبغ، أو يخيط الثوب، ويكون الصبغ والخيوط من عنده، وكالتعاقد مع الناسخ لينسخ كتابًا على أن يكون الحبر من عنده. فهذه الأعيان وإن كانت تستهلك بالإجارة فقد جاز عقد الإجارة عليها لكونها غير مقصودة أصالة، وإنما تدخل في العقد تبعًا إما بالشرط أو بالعرف (¬1). وقد أجاز مالك أن يكتري البقرة للحرث، ويشترط حلابها (¬2). ¬
الشرط الخامس أن تكون المنفعة مقدورا على تسليمها
الشرط الخامس أن تكون المنفعة مقدوراً على تسليمها [م - 851] القدرة على التسليم في باب الإجارة يقصد منه أكثر مما يقصد منه في البيع، ففي البيع يكفي في التسليم التخلية، بينما في الإجارة تنقسم القدرة على التسليم إلى قسمين: القسم الأول: القدرة الحسية، وذلك يكون بأمور منها: (أ) التخلية: أي رفع الموانع بين المستأجر وبين العين المستأجرة على الوجه الذي يتمكن به من الانتفاع بها، فتسليم المنازل يكون بالتخلية بينه وبينها، وتسليم السيارات يكون بتسليم مفاتيحها. (ب) يلزم المؤجر أن يقوم يكل ما يلزم ليتم تمكين المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة، كإيصال الكهرباء، والتصريف الصحي. (ج) أن يمتنع عن كل ما يفضي إلى حرمان المستأجر من الانتفاع التام. (د) أن يستدام الانتفاع يعد التسليم إلى انتهاء العقد، فعلى المؤجر أن يمنع غيره من أن يتعرض للمستأجر فيحول بينه وبين الانتفاع، فلو تعرضت العين المؤجرة لآفة سماوية أفسدت المنفعة انفسخ العقد، أو تعرضت العين المؤجرة للغصب، كان المؤجر مطالباً برفع يد الغاصب، فإن لم يستطع كان للمستأجر حق الفسخ فيما بقي، وسوف يأتي بسط هذه المسألة في باب ضمان العين المؤجرة. قال ابن قدامة: "إذا اكترى أرضاً للزرع، فانقطع ماؤها، أو داراً فانهدمت
انفسخ العقد في أحد الوجهين؛ لأنّ المنفعة المقصودة منها تعذرت، فأشبه تلف العبد، والآخر لا ينفسخ؛ لأنه يمكن الانتفاع بها كالسكنى في خيمة، أو يجمع فيها حطبًا أو متاعًا لكن له الفسخ؛ لأنها تعيبت" (¬1). (هـ) لا يكفي تسليم المحل فقط، بل لا بد من القدرة على تسليم المنفعة المعقود عليها في عقد الإجارة. فلا يصح إجارة بهيمة زمنة لحمل، ولا أرض لا تنبت للزرع، ولا أمي للكتابة، ولا أعمى لما يشترط له الإبصار. لأنّ الإجارة عقد على المنفعة، ولا يمكن تسليم المنفعة من هؤلاء. جاء في حاشية تبيين الحقائق: "كل عقد لا تثبت القدرة فيه على تسليم المعقود عليه يفسد كإجارة العبد الآبق، والمبيع قبل القبض، وإجارة الأرض السبخة التي لا تنبت للزراعة" (¬2). وجاء في مواهب الجليل: " (قدر على تسليمها) قال القرافي: احترز من استئجار الأخرس للكلام، والأعمى للإبصار، وأرض الزراعة لا ماء لها قطعًا، ولا غالبًا" (¬3). وجاء في حاشيتي قليوبي وعميرة: "لا يصح استئجار ... أعمى للحفظ: أي حفظ المتاع، وأرض للزراعة لا ماء لها دائم، ولا يكفيها المطر المعتاد" (¬4). وجاء في المغني: "نقل إبراهيم الحربي، عن أحمد، أنه سئل عن الرجل ¬
يكتري الديك يوقظه لوقت الصلاة: لا يجوز؛ وذلك لأنّ ذلك يقف على فعل الديك، ولا يمكن استخراج ذلك منه بضرب ولا غيره، وقد يصيح، وقد لا يصيح، وربما صاح بعد الوقت" (¬1). كل ما ذكرناه سابقًا يتعلق بالقدرة الحسية على التسليم، وهي محل اتفاق بين الفقهاء كما نقلنا، وهناك قدرة أخرى لا بد منها، وهي ما سوف نذكره في القسم الثاني. القسم الثاني: القدرة الشرعية على التسليم، فالعجز الشرعي كالعجز الحسين: فلا يجوز استئجار حائض لكنس المسجد، لتعذر ذلك شرعًا عند عامة الفقهاء، ولا يجوز استئجار كافر لعمل في الحرم، ولا يجوز الاستئجار على إخراج الجان، وحل المربوط، لعدم تحقق المنفعة، ولو خرج لم يؤمن العود، وإذا عاد قد يدعي مخرج الجان أن هذا جان آخر غير الأول (¬2). وقد تنازع الفقهاء في بعض الصور، هل تعتبر مما يقدر على تسليمه أم لا؟ وسوف نبحث هذه المسائل في المباحث التالية إن شاء الله تعالى. ¬
المبحث الأول في إجارة الأراضي المغصوبة والأعيان المفقودة
المبحث الأول في إجارة الأراضي المغصوبة والأعيان المفقودة [م - 852] اختلف الفقهاء في إجارة الأراضي المغصوبة لغير غاصبها ممن لا يقدر على تخليصها، وكذا الأعيان المفقودة، كالشارد، والآبق على قولين: القول الأول: لا تصح الإجارة، وهو مذهب الجمهور (¬1). قال الكاساني في البدائع: "لا يجوز استئجار الآبق؛ لأنه لا يقدر على استيفاء منفعته حقيقة؛ لكونه معجوز التسليم حقيقة؛ ولهذا لم يجز بيعه، ولا تجوز إجارة المغصوب من غير الغاصب، كما لا يجوز بيعه من غيره؛ لما قلنا" (¬2). القول الثاني: صحح ابن حزم بيع الجمل الشارد، والعبد الآبق، فكان مقتضاه صحة إجارة العين المفقودة؛ لأنّ ما جاز في البيع جاز في الإجارة (¬3). وقد ذكرنا أدلة الجمهور، وأدلة ابن حزم في عقد البيع، عند الكلام على شروط المعقود عليه، فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله. ¬
المبحث الثاني في إجارة المشاع
المبحث الثاني في إجارة المشاع إجارة المشاع له ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يقوم الشركاء كلهم بتأجير المشاع لآخر. الصورة الثانية: أن يقوم أحد الشريكين بتأجير المشاع لشريكه. [م - 853] وهاتان الصورتان لا خلاف فيهما بين العلماء (¬1)؛ لأنّ مدار الجواز على إمكانية استيفاء المنفعة، وهو ممكن هنا، فالمعنى الذي لأجله منع بعض الفقهاء إجارة أحد الشريكين نصيبه لأجنبي، هو عدم القدرة على التسليم، وهو غير موجود في هاتين الصورتين؛ ففي الصورة الأولى الشركاء قد أجروها معًا، ويسلمون العين المؤجرة معًا، وهذا المعنى أيضًا موجود في الصورة الثانية؛ لأنه إذا أجر أحد الشريكين نصيبه للآخر؛ فإن منفعة كل الدار تحدث على ملك المستأجر، لكن بسببين مختلفين، بعضها بسبب الملك، وبعضها بسبب الإجارة. جاء في الفتاوى الهندية: "وأجمعوا على أنه لو آجر من شريكه يجوز، سواء كان مشاعاً يحتمل القسمة، أو لا يحتمل، وسواء آجر كل نصيبه منه، أو بعضه" (¬2). ¬
الصورة الثالثة
وإنما وقع الخلاف في الصورة التالية. الصورة الثالثة: [م - 854] هي أن يقوم أحد الشركاء بتأجير نصيبه المشاع لأجنبي، وهذه هي الصورة التي وقع فيها خلاف بين الفقهاء على قولين. القول الأول: لا تصح، وهذا قول أبي حنيفة، وهو المفتى به عندهم (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). القول الثاني: تصح إجارة المشاع لأجنبي. وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬3)، وإليه ذهب المالكية (¬4)، والشافعية (¬5)، ورواية عن أحمد، صوبها في الإنصاف (¬6). وانظر أدلة هذه الأقوال في مبحث سندات الإجارة، في المجلد الثالث عشر، فقد ذكرتها هناك، والحمد لله. ¬
الشرط السادس ألا تكون المنفعة طاعة واجبة على الأجير
الشرط السادس ألا تكون المنفعة طاعة واجبة على الأجير المبحث الأول الاستئجار على القربات الشرعية قال النوويّ: يجوز الاستئجار حيث تجوز النيابة (¬1). وقال في العناية: "كل طاعة يختص بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليها" (¬2). "كل عبادة مختصة بالمال فلا خلاف في صحة النيابة فيها كالزكاة". وقال الجصاص: "كل ما أريد به عوض من أعواض الدنيا فليس بقربة" (¬3). وقال السعدي: الجعالة أوسع من الإجارة؛ لأنها تجوز على أعمال القرب، ولأن العمل يكون معلومًا ومجهولًا، ولأنها عقد جائز بخلاف الإجارة (¬4). اختلف الفقهاء في الاستئجار على الطاعات، وقبل عرض الأقوال نحرر محل الاتفاق والخلاف: [م - 855] كل عبادة مختصة بالمال فلا خلاف في صحة النيابة فيها كالزكاة. [م - 856] كل عبادة مختصة بالجسد، ولا يتعدى نفعها فاعلها كالصلاة لا يجوز أخذ الأجرة عليها؛ لأنّ الأجر عوض الانتفاع، ولم يحصل لغيره انتفاع؛ ¬
ولأن من أتى بعمل واجب عليه لا يستحق عليه أجرة، إلا ما يروى في الميت إذا مات، وعليه صيام صام عنه وليه، وهو من باب صحة النيابة في عبادة بدنية، وهل صحة النيابة تجيز المعاوضة فيه بحث (¬1). قال ابن تيمية: "صلاة الفرض لا يفعلها أحد عن أحد، لا بأجرة ولا بغير أجرة باتفاق الأئمة، بل لا يجوز أن يستأجر أحدًا ليصلي عنه نافلة باتفاق الأئمة، لا في حياته، ولا في مماته، فكيف من يستأجر ليصلي عنه فريضة" (¬2). ¬
وقال ابن تيمية: "الاستئجار على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة" (¬1). [م - 857] ما يؤخذ من بيت المال على القربات التي لا يجوز أخذ الأجرة عليها لا يعتبر أجراً، ويجوز أخذه إجماعًا (¬2). قال ابن قدامة: "القضاء والشهادة والإمامة يؤخذ عليه الرزق من بيت المال، وهو نفقة في المعنى، ولا يجوز أخذ الأجرة عليها" (¬3). [م - 858] يجوز أخذ المكافأة والمثوبة بلا شرط؛ لأنّ هذا ليس داخلًا في المعاوضات على القربات. [م - 859] كل عبادة لها تعلق بالمال والبدن كالحج غير الواجب (¬4)، أو ¬
القول الأول
يتعدى نفعها للغير كالإمامة والأذان والإقامة، وتعليم القرآن والفقه والحديث فهذه محل خلاف بين أهل العلم في جواز المعاوضة على القيام بها، وإليك عرض الأقوال. القول الأول: ذهب الحنفية، والمشهور في مذهب الحنابلة إلى أن الأفعال التي يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة لا يجوز الإجارة عليها، كالصلاة والحج، والأذان، وتعليم القرآن، والإمامة وتغسيل الميت. وأما الأفعال التي تقبل أن تقع قربة، وتقع غير قربة فيجوز الاستئجار عليها كبناء المساجد والربط ونحوها (¬1). * دليل من قال: لا تصح الإجارة على الأفعال التي تختص بأهل القرب. الدليل الأول: (ح-566) ما رواه الإمام أحمد، عن عفان، عن حماد بن سلمة وحماد بن زيد، فرقهما، أخبرنا سعيد الجريري، عن أبي العلاء، عن مطرف، عن عثمان ¬
بن أبي العاص، قال: قلت: يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم، واتخذ موذنا لا يأخذ على أذانه أجرًا (¬1). [صحيح] (¬2). ¬
ونوقش هذا من وجهين
ونوقش هذا من وجهين: الوجه الأول: أن الحديث محمول على الندب (¬1). الوجه الثاني: أن هذا الحديث دليل على جواز أخذ الأجرة على الأذان؛ لأنه إنما فضل المؤذن المحتسب الذي لا يأخذ على أذانه أجرًا على غيره ممن يطلب المعاوضة، ولو كانت المعاوضة حرامًا على الأذان لكان جميع المسلمين لا يأخذون على أذانهم أجراً. ¬
ورد هذا النقاش
ورد هذا النقاش: بأن الأجر يطلق على معنيين: الأول: الأجر عن طريق الإجارات المعقودة قبل وجوبها، مما يأخذه المستأجر، كقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، ثم قال: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6]، والائتمار لا يكون إلا عند الاختلاف فيما تعقد الإجارات عليه. الثاني: الأجر المراد به المثوبة والمكافأة على الفعل بعد وقوعه، قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]. وهذا يأتي بعد الفعل، وليس على سبيل التعاقد. وحديث عثمان بن أبي العاص: (اتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا) المقصود بالأجر. المثوبة والمكافأة على الفعل بلا استئجار، فيكون من يأبى قبول المثوبة والمكافأة أفضل ممن يقبل ذلك منهم، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عثمان بن أبي العاص أن يتخذ أفضل المؤذنين، وأعلاهم رتبة على الثواب على الأذان (¬1). ويجاب: بأن الأجرة إذا أطلقت فالمراد بها الثمن، ولا يصار إلى غيرها إلا بقرينة، ولا قرينة هنا. الدليل الثاني: (ح-567) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا مغيرة بن زياد، عن عبادة بن نسي، عن الأسود بن ثعلبة عن عبادة بن الصامت، قال: علمت ناسًا ¬
من أهل الصفة الكتابة والقرآن، فأهدى إلي رجل منهم قوساً. فقلت: ليست لي بمال، وأرمي عنها في سبيل الله، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن سرك أن تطوق بها طوقًا من نار فاقبلها (¬1). [ضعيف، قال ابن عبد البر: ليس في هذا الباب حديث يجب به حجة من جهة النقل] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ح-568) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يونس وسريج بن النعمان قالا: حدثنا فليح، عن عبد الله بن عبد الرحمن أبي طوالة، عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة. قال سريج في حديثه: يعني ريحها (¬1). [اختلف في وصله وإرساله، ورجح الدارقطني إرساله] (¬2). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن الأفعال التي من شرطها أن تكون قربة إذا قصد بها المعاوضة أخرجها ذلك عن أن تكون قربة ففسدت، وإن وقعت تلك الأفعال قربة لله كانت للعامل، وعليه فلا يجوز أن يأخذ الأجر على عمل وقع له كما في الصلاة. ¬
ونوقش هذا من وجوه
ونوقش هذا من وجوه: الوجه الأول: أن الحديث لا يصح مرفوعًا. الوجه الثاني: أن الحديث لو صح لم يكن فيه دليل، ذلك أن الحديث قال: (لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا)، وهذا لا يفعله مسلم، ولا يدخل فيه ما إذا أراد الدنيا والآخرة معًا، أو كانت الآخرة هي الغالبة. قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12]. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]. وقال تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52]. الوجه الثالث: أن أخذ الأجرة ليس على الفعل، وإنما على التزامه مكاناً معينًا، وهو غير مأمور به عينًا (¬1). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (ح-569) ما رواه أحمد من طريق هشام الدستوائي، قال: حدثني يحيى ابن أبي كثير، عن أبي راشد الحبراني، قال: قال عبد الرحمن بن شبل: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: اقرؤوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به (¬1). [اختلف فيه على يحيى بن أبي كثير اختلافًا كثيرًا لم يتبين لي وجه الصواب فيه] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
أجيب
وأجيب: بأن الحديث على فرض صحته ليس صريحًا في الباب، ويحتمل التأويل، إذ يمكن حمل النهي فيه على أخذ الأجرة على قراءة القرآن، وهي غير التعليم، وحمل ما ثبت في الصحيحين: إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله على التعليم، وإذا أمكن الجمع تعين الأخذ به. الدليل الخامس: أن أخذ الأجرة من الناس على الطاعات كالإمامة والأذان ينفرهم عن فعل الطاعة، قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور: 40]. فكان أخذ الأجرة سببًا في تنفير الناس عن الطاعات. ويناقش: بأن أخذ الأجرة إذا كان عن طريق العقد فإن من شرط صحته أن يكون عن تراض، ودون إكراه، وعن رغبة وقبول من الطرفين، وأن يبذله الموسرون والراغبون في الأجر، وهذا يدفع هذه المفسدة. القول الثاني: أن كل ما لا يتعين على الأجير أداؤه يجوز الاستئجار عليه إذا كانت تجري فيه النيابة. وهذا مذهب المالكية، والشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). قال الثوري: "يجوز الاستئجار حيث تجوز النيابة" (¬2). وقال الشافعي في الأم: "ولا بأس بالإجارة على الحج، وعلى العمرة، ¬
وعلى الخير كله، وهي على عمل الخير أجوز منها على ما ليس بخير ولا بر من المباح" (¬1). جاء في الوسيط للغزالي: "لا يجوز استئجاره على العبادات التي لا تجري النيابة فيها، فإنها تحصل له بخلاف الحج، وغسل الميت، وحفر القبور، ودفن الموتى، وحمل الجنائز، فإن الاستئجار على جميع ذلك يجوز؛ لدخول النيابة" (¬2). وقال الخرشي: "الذي يتعين فعله على المكلف، سواء كان في نفسه واجبًا أو غير واجب لا يجوز له أن يكري نفسه فيه ... بخلاف فرض الكفاية فإن الإجارة تجوز على فعله؛ لأنه يقبل النيابة كالأذان وغسل الميت ما لم يتعين عليه، فحينئذ لا تجوز الإجارة عليه" (¬3). ¬
دليل الجمهور على جواز الإجارة على القرب التي تدخلها النيابة
وخلاصة هذا القول: أن كل عبادة تعينت على الشخص فلا يجوز الاستئجار عليها، كفروض الأعيان من صلاة وحج، وكل عبادة لم تتعين على الشخص كفروض الكفاية من إمامة وأذان وتعليم قرآن، وتجهيز الميت فإنه تصح الإجارة على فعله (¬1). * دليل الجمهور على جواز الإجارة على القرب التي تدخلها النيابة: الدليل الأول: (ح-570) ما رواه البخاري من طريق ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن نفرًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مروا بماء فيهم لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق، إن في الماء رجلًا لديغًا أو سليمًا؟ فانطلق رجل منهم، فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء، فبرأ فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرًا حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجرًا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله (¬2). وجه الاستدلال: قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله) هو عام يدخل فيه إباحة التعليم وغيره، وإذا جاز أخذ الأجرة على الرقية جاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن. ¬
واعترض
واعترض: قال الطحاوي: تجوز الأجرة على الرقى، وإن كان يدخل في بعضه القرآن؛ لأنه ليس على الناس أن يرقي بعضهم بعضاً، وتعليم الناس بعضهم بعضًا القرآن واجب؛ لأنّ في ذلك التبليغ عن الله. ورد هذا الاعتراض: بأن تعلم القرآن ليس بفرض، فكيف تعليمه، وإنما الفرض المتعين على كل أحد ما تقوم به الصلاة، وغير ذلك فضيلة ونافلة (¬1). الدليل الثاني: (ح-571) ما رواه البخاري من طريق شعبة، عن أبي بشر، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن ناسًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أتوا على حي من أحياء العرب، فلم يقروهم، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا: هل معكم من دواء أو راق؟ فقالوا: إنكم لم تقرونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلًا، فجعلوا لهم قطيعًا من الشاء، فجعل يقرأ بأم القرآن، ويجمع بزاقه ويتفل، فبرأ، فأتوا بالشاء، فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فسألوه فضحك، وقال: وما أدراك أنها رقية؟ خذوها، واضربوا لي بسهم (¬2). وجه الاستدلال: قال النوويّ "قوله - صلى الله عليه وسلم -: (خذوا منهم واضربوا لي بسهم معكم) هذا تصريح بجواز أخذ الأجرة على الرقية بالفاتحة والذكر، وأنها حلال لا كراهة فيها، وكذا الأجرة على تعليم القرآن" (¬3). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ح-572) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت لك من نفسي، فقال رجل: زوجنيها. قال: قد زوجناكها بما معك من القرآن. ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (زوجناكها بما معك من القرآن) فالباء في قوله (بما معك) للعوض، فلما جاز أن يأخذ الرجل في تعليم القرآن عوضًا في باب النكاح ويقوم ذلك مقام المهر جاز أخذ الأجر على تعليم القرآن. القول الثالث: اختار ابن حزم جواز الإجارة على القرب إذا كانت نفلًا من صلاة وصيام ولا تجوز الإجارة في أداء فرض إلا عن عاجز أو ميت. قال ابن حزم: "ولا تجوز الإجارة في أداء فرض من ذلك إلا عن عاجز، أو ميت ... وأما الصلاة المنسية، والمنوم عنها؛ والمنذورة فهي لازمة للمرء إلى حين موته، فهذه تؤدى عن الميت، فالإجارة في أدائها عنه جائزة؛ وأما المتعمد تركها فليس عليه أن يصليها، إذ ليس قادرًا عليها، إذ قد فاتت، فلا يجوز أن يؤدى عنه ما ليس هو مأمورًا بأدائه، وبالله تعالى التوفيق" (¬2). وقال أيضًا: "وجائز للمرء أن يأخذ الأجرة على فعل ذلك عن غيره، مثل أن ¬
واستدل ابن حزم بأدلة منها
يحج عنه التطوع، أو يصلي عنه التطوع، أو يؤذن عنه التطوع، أو يصوم عنه التطوع؛ لأنّ كل ذلك ليس واجبًا على أحدهما، ولا عليهما ... " (¬1). واستدل ابن حزم بأدلة منها: الدليل الأول: (ح 573) ما رواه البخاري من طريق عبيد الله بن أبي جعفر، أن محمَّد ابن جعفر حدثه عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: من مات وعليه صيام صام عنه وليه (¬2). الدليل الثاني: (ح-574) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس أنه قال كان الفضل بن عباس رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاءته امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر. قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه قال: نعم وذلك في حجة الوداع (¬3). وجه الاستدلال من الحديثين: إذا جازت النيابة في عبادة الصيام عن الميت، وهي عبادة بدنية، وجاز الحج عن الغير إذا كان معذوراً، فإذا صح أن يعمل الإنسان هذه العبادة عن غيره في ¬
ويناقش
العاجز والميت فالاستئجار على ذلك جائز؛ لأنه لم يأت عنه نهي، فهو داخل في عموم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمؤاجرة (¬1). ويناقش: بأن إلحاق الصلاة بالصيام هو من باب القياس، والظاهرية لا يرون القياس، هذا من جهة. ومن جهة أخرى لا يقال في باب العبادات: إنه لم يأت نهي عنها، بل يقال: عدم ورود النص دليل على عدم المشروعية. وأرى أن العبادات لا يمكن قياس بعضها على بعض، فالصيام عن الميت جائز، ولا يجوز الصيام عن الحي ولو كان عاجزاً؛ لأنه لم يرد نص في الصيام عن الحي. والحج يجوز عن الحي العاجز، وعن الميت، فافترق الحج عن الصيام. ولا يصلى عن الغير لا عن ميت، ولا عن عاجز، وهذا كله إعمال للنص حيث ورد النص، والله أعلم .. القول الرابع: ذهب المتأخرون من الحنفية إلى جواز أخذ الأجرة على الأذان والإمامة مع الحاجة (¬2)، وهو قول عند الحنابلة (¬3). * دليل هذا القول: الدليل الأول: قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن هذه الأعمال والقرب إذا قام بها دون أجرة ولا رزق من بيت المال تعطلت هذه المصالح العامة؛ ذلك أن القائم بها بحاجة إلى أن يقوم بالكسب لعياله، والكسب لعياله واجب متعين، فلا يجوز ترك الواجب المتعين لآخر غير متعين، فجاز أخذ الأجرة مع الحاجة، وأخذ الأجرة مع الحاجة لا يخرجها عن كونها عبادة (¬1). القول الخامس: ذهب قوم إلى أنه لا بأس بأخذ المال ما لم يشترط، وهو قول الحسن، وابن سيرين، والشعبي (¬2). ولعلهم اعتبروا أخذ المال بدون اشتراط من باب المثوبة والمكافأة، وليس من باب المعاوضة. * الراجح: بعد استعراض الأقوال أجد القول الراجح هو مذهب المالكية والشافعية، وهو قول وسط بين مذهب الحنفية والحنابلة، وبين مذهب الظاهرية، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في استئجار دار للصلاة
المبحث الثاني في استئجار دار للصلاة [م - 860] اختلف الفقهاء في استئجار مكان للصلاة فيه. فقيل: لا يجوز، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يجوز، وهو مذهب الجمهور (¬2). * دليل الحنفية على المنع: الدليل الأول: استدل السرخسي على المنع بالقياس، فرأى أن استئجار المسجد من المسلم للصلاة فيه كاستئجار مسلم يصلي له. ويناقش بأن هناك فرقًا بين المسألتين: فالصلاة عن الشخص هو عبادة متعلقة بقعل المكلف، فلا تدخله النيابة بخلاف استئجار دار للصلاة فيها، فالمكان ليس عبادة مقصودة لذاتها، فالقياس الصحيح أن يقال: إذا جاز استئجار الرجل لبناء مسجد يصلى فيه جاز تأجير هذا البناء للصلاة فيه، حيث لا فرق. الدليل الثاني: علل السرخسي المنع أيضًا بأنه استئجار على الطاعة، وهذا لا يجوز. ¬
ويناقش
ويناقش: بأن الاستئجار على الطاعة جائز فيما تدخله النيابة، وهذا منه. الدليل الثالث: علل ابن نجيم في البحر الرائق المنع بأن المسجد لا يملك (¬1). ويناقش: بأن المكان لا يتحول إلى مسجد لمجرد إقامة الصلاة فيه، وإنما يتحول إلى مسجد إذا نوى وقفه لذلك، كمن آجر حصانه لرجل ليغزو به غزوة في سبيل الله، ثم يرده إلى ربه، والمملوك في عقد الإيجار هو المنفعة فقط، ومن منافع الدار إمكانية الصلاة فيها، فجاز بذل العوض لذلك. * دليل الجمهور على الجواز: جاز استئجار مكان للصلاة فيه؛ لأنه منفعة مباحة يمكن استيفاؤها من الدار مع بقائها. وهذا هو القول الراجح لقوة دليله، والإجابة عن أدلة الحنفية، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في استئجار الكافر الرجل المسلم
المبحث الثالث في استئجار الكافر الرجل المسلم الفرع الأول في استئجار الكافر المسلم للخدمة [م - 861] اختلف الفقهاء في استئجار الذمي أو المستأمن مسلمًا لخدمته على قولين: القول الأول: يصح مع الكراهة، وهو مذهب الحنفية، والقول الأصح في مذهب الشافعية، ورجحه ابن قدامة من الحنابلة إلا أن الشافعية قالوا: يجبر على إزالة ملكه عن المنافع بأن يؤجره لمسلم (¬1). ¬
دليل القائلين بالجواز
* دليل القائلين بالجواز: الدليل الأول: أنه عمل في مقابلة عوض، أشبه العمل في ذمته. الدليل الثاني: إذا كان يجوز التعامل مع الكفار بالبيع والشراء، وهو عقد معاوضة، جازت الإجارة. القول الثاني: لا يجوز، وإن وقع ذلك فسخ الحاكم الإجارة، واستحق الأجير الأجر المسمى، وهو مذهب المالكية، والحنابلة (¬1). * دليل القائلين بالتحريم: الدليل الأول: ادعى بعض الفقهاء الإجماع على التحريم. ¬
جاء في الموسوعة الكويتية: اتفق الفقهاء على أنه يحرم على المسلم حراً كان أو عبداً أن يخدم الكافر، سواء أكان ذلك بإجارة، أو إعارة، ولا تصح الإجارة ولا الإعارة لذلك؛ لأنّ في ذلك إهانة للمسلم، وإذلالاً له، وتعظيماً للكافر، واحتجوا بقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] (¬1). والصحيح أن الخلاف محفوظ: ولا يوجد عندي فرق بين الأجير الخاص وبين الخادم؛ لأنّ كلايهما يعمل تحت يد المستأجر وسلطته، وإذا قام الأجير الخاص بعمل ما للكافر فإنما يقوم بذلك خدمة للمستأجر بخلاف الأجير المشترك. جاء في روضة الطالبين: "يجوز إعارة العبد المسلم لكافر قطعاً" (¬2). قلت: الإعارة تمليك للانتفاع، ومن ذلك خدمته. وجاء في شرح الوجيز: "ويصح استئجاره وارتهانه للعبد المسلم على أقيس الوجهين؛ لأنه لا ملك فيه كالإعارة والإيداع" (¬3). وجاء في المهذب: "واختلفوا في الكافر إذا استأجر مسلمًا إجارة معينة، فمنهم من قال: فيه قولان؛ لأنه عقد يتضمن حبس المسلم، فصار كبيع العبد المسلم منه. ومنهم من قال: يصح قولاً واحدًا؛ لأنّ عليًا كرم الله وجهه كان يستقي الماء لامرأة يهودية كل دلو بتمرة" (¬4). ¬
الدليل الثاني
وجاء في الإنصاف: "وأما إجارته لخدمته فلا تصح على الصحيح من المذهب ... وعنه يجوز، وقدمه في المحرر، والرعاية الصغرى، والحاوي الصغير، وجزم به في المنور" (¬1). الدليل الثاني: أن في إجارة المسلم للكافر حبس المسلم عنده، وإذلاله، والإِسلام يعلو ولا يعلى عليه. ويناقش: بأن الأمر ليس فيه إذلال للمسلم، ذلك أن المسلم بذل عمله مقابل عوض مالي راضيًا مختاراً، ولم يقدم عمله إكرامًا للكافر، والعمل الذي يقوم به المسلم عمل مباح في نفسه، فلم يستأجره على أن يقدم له الخمر. الدليل الثالث: القياس على البيع، فإذا كان لا يجوز بيع العبد المسلم للكافر، فلا تجوز إجارته له. وأجيب: قال ابن قدامة: الإجارة "لا يشبه الملك؛ لأنّ الملك يقتضي سلطاناً واستدامة، وتصرفا بأنواع التصرفات في رقبته بخلاف الإجارة" (¬2). * الراجح: أرى جواز عمل المسلم عند الكافر بثلاثة شروط: ¬
الأول: أن تكون الإجارة على عمل مباح للمسلم أن يفعله، أما إذا كانت الإجارة على عمل يتضمن تعظيم دينهم أو شعائره، أو كانت على عمل محرم في دين الإِسلام فلا يجوز له إجارة نفسه لذلك. الثاني: ألا يمنعه الكافر من أداء عبادة واجبة عليه أثناء العمل كالصلاة والصيام ونحوهما. الثالث: ألا يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين، والله أعلم.
الفرع الثاني في استئجار الكافر مسلما على عمل فى الذمة
الفرع الثاني في استئجار الكافر مسلماً على عمل فى الذمة [م - 862] إذا استأجر الكافر مسلمًا ليعمل له عملًا في ذمته، كخياطة الثوب، وقصارته جاز بالاتفاق. قال ابن قدامة في المغني: "إن آجر نفسه منه -أي من الكافر- في عمل معين في الذمة كخياطة ثوب وقصارته جاز بغير خلاف نعلمه؛ لأنّ عليًا - رضي الله عنه - آجر نفسه من يهودي يستقي له كل دلو بتمرة، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك فلم ينكره" (¬1). وجاء في مواهب الجليل: "إجارة المسلم نفسه من اليهودي والنصراني على أربعة أقسام: جائزة، ومكروهة، ومحظورة، وحرام، فالجائز كان يعمل له المسلم عملًا كالصانع الذي يعمل للناس. والمكروهة: أن يستبد بجميع عمله من غير أن يكون تحت يده، مثل أن يكون مقارضًا أو مساقيًا، والمحظورة: أن يؤاجر نفسه في عمل يكون فيه تحت يده، كأجير الخدمة في بيته، وإجارة المرأة لترضع له ابنته في بيته، وما أشبه ذلك، فهذه تفسخ إن عثر عليها، فإن فاتت مضت، وكانت لها الأجرة. والحرام أن يؤاجر نفسه منه فيما لا يحل من عمل الخمر، أو رعي الخنازير، فهذا يفسخ قبل العمل، فإن فات تصدق بالأجرة على المساكين ... " (¬2). وقال في الإنصاف: "تجوز إجارة المسلم للذمي إذا كانت الإجارة في الذمة بلا نزاع أعلمه" (¬3). ¬
الفرع الثالث في استئجار الكافر مسلما ليحمل له خمرا
الفرع الثالث في استئجار الكافر مسلما ليحمل له خمرًا [م - 863] إذا استأجر الكافر المسلم ليحمل له خمرًا، فإن كان الغرض من ذلك إراقتها جاز باتفاق الفقهاء. وإن كان حمل الخمر لشربها، فإن نُصَّ عليه في العقد حرم العقد، وإن كان العقد خاليًا من ذكر الشرب فقد اختلف الفقهاء على قولين: القول الأول: صحح العقد أبو حنيفة (¬1)، وصححه أحمد في رواية مع الكراهة (¬2). * دليل أبي حنيفة: الدليل الأول: (ث-101) روى عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة، قال: بلغ عمر بن الخطّاب أن عماله يأخذون الجزية من الخمر، فناشدهم ثلاثًا، فقال بلال: إنهم ليفعلون ذلك، قال: فلا تفعلوا، ولكن ولوهم بيعها، فإن اليهود حرمت عليهم الشحوم، فباعوها، وأكلوا أثمانه (¬3). ¬
وجه الاستدلال
ورواه أبو عبيد من طريق إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة، أن بلالًا قال لعمر بن الخطّاب: إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج، فقال: لا تأخذوا منهم، ولكن ولوهم بيعها، وخذوا أنتم من الثمن (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). وجه الاستدلال: فهذا الأثر يدلّ على أن الخمر ليس حرامًا على الذمي من ثلاثة أوجه: أحدها: أن أمر الإمام العادل بالبيع يدلّ على أن البيع صحيح. وثانيها: إيجاب العشر في ثمنها، ولا يجب إلا في كسب صحيح. وثالثها: تسمية ما يقابلها ثمنًا، وهو لا يكون إلا في بيع صحيح عند الإطلاق (¬3). وإذا لم تكن حرامًا عليه، لم يحرم حملها له. الدليل الثاني: أن حمل الخمر ليس بمعصية في نفسه بدليل أن حملها للإراقة مباح، وكذا الحمل ليس سببًا للمعصية، وهو الشرب؛ لأنّ ذلك يحصل بفعل فاعل مختار، وليس الحمل من ضرورات الشرب، فكانت سببًا محضاً فلا حكم له، كعصر العنب وقطفه (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يحرم، ولا يصح، وهذا اختيار الجمهور، ورجحه أبو يوسف ومحمد ابن الحسن من الحنفية (¬1). * وجه القول بالتحريم: الوجه الأول: قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. وحمل الخمر من الإعانة على الإثم والمعصية، وهو لا يجوز. وأجيب: بأن حمل الخصر ليس فيه إعانة على الشرب، وإنما الحمل سبب في الشرب؛ لأنّ الشرب هو فعل الفاعل، وليس الشرب متوقفاً على الحمل. الوجه الثاني: (ح-575) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حيوة، أخبرني مالك بن خير الزيادي، أن مالك بن سعد التجيبي حدثه، أنه سمع ابن عباس يقول سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: أتاني جبريل فقال يا محمَّد إن الله عز وجل قد لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها ومبتاعها، وساقيها ومستقيها (¬2). ¬
[صحيح بشواهده] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الراجح
* الراجح: مذهب الجمهور، والله أعلم وقد جاء في فتاوى الأزهر السؤال التالي: الدين الإِسلامي حرم نقل الخمر، وجعل حامل الخمر مثل الشارب، ولكن في إيطاليا يختلف الوضع، فالشعب كله مسيحي، فهم يحتسون الخمر، فهل يجوز للمسلم شرعًا أن ينقل أو يحمل الخمر، أو يوصل الخمر إليهم ليشربوها، أم أنه يحرم على المسلم شرعًا القيام بهذا العمل؟ وكان نص الجواب: إذا كان حمل الخمر ونقلها وتوصيلها لأهل الذمة ليشربوها تعين طريقًا لإعاشة المسلم، ولم يكن له طريق سواها، ولولاها لتضور جوعًا وهلك، جاز له شرعًا في هذه الحالة فقط أن يحملها، وينقلها، ويوصلها للمسيحيين ليشربوها؛ وذلك لأنّ الخمر مال متقوم في حق غير المسلمين من المسيحيين واليهود، يجوز لهم بيعها وشراؤها فيما بينهم، ولكن لا يحل لمسلم شرعًا حملها ونقلها، وتوصيلها لهم إلا للضرورة الملحة التي أسلفنا الإشارة إليها تطبيقًا لقاعدة الإِسلام العامة (الضرورات تبيح المحظورات) (¬1). ¬
وهذه الفتوى نص في تحريم نقلها، ولو كان ذلك إلى من يعتقد حلها؛ لأنّ الفتوى إنما أجازت ذلك للضرورة، والضرورة تبيح المحرم.
الفرع الرابع عمل الكافر عند المسلم
الفرع الرابع عمل الكافر عند المسلم المسألة الأولى في استئجار الكافر لكتابة المصحف [م - 864] اختلف الفقهاء في المسلم يستأجر كافرًا ليكتب له مصحفًا بأجر على قولين: القول الأول: العقد فاسد، وله أجر المثل لا المسمى، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة. جاء في الإنصاف: "قيل لأحمد: يعجبك أن تكتب النصارى المصاحف؟ قال: لا يعجبني. قال الزركشي: فأخذ من ذلك رواية بالمنع" (¬2). القول الثاني: العقد صحيح، وهو مذهب الحنفية والحنابلة. جاء في مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر: "والمذهب عندنا أن كل طاعة يختص بها المسلم فالاستئجار عليها باطل، كالأذان والحج والإمامة ... بخلاف بناء المساجد، وأداء الزكاة، وكتابة المصحف، والفقه وتعليم الكتابة والنجوم والطب ... فإن أخذ الأجرة في الجميع جائز بالاتفاق" (¬3). ¬
"وقال ابن عقيل الحنبلي في التذكرة: يجوز استئجار الكافر على كتابة المصحف إذا لم يحمله، قال أبو بكر: لا يختلف قول أحمد أن المصاحف يجوز أن يكتبها النصارى. قال القاضي في الجامع: يحتمل قول أبي بكر يكتبه (مكتباً) بين يديه، ولا يحمله، وهو قياس المذهب أنه يجوز؛ لأنّ مس القلم للحرف كمس العود للحرف" (¬1). والراجح جوازه؛ لأنّ الراجح جواز أخذ الأجرة على كتابة المصحف، وهو مذهب الأئمة الأربعة. قال الطحاوي: قال أصحابنا لا بأس بالاستئجار على كتابة المصحف والفقه وسائر العلوم ... (¬2). وجاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن استأجرت كاتبًا يكتب لي شعراً ... أو مصحفًا. قال مالك: أما كتابة المصحف فلا بأس بذلك" (¬3). وقال ابن قدامة: ويجوز أن يستأجر من يكتب له مصحفًا في قول أكثر أهل العلم. وروي ذلك عن جابر بن زيد، ومالك بن دينار، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وأبو ثور وابن المنذر. وقال ابن سيرين: لا بأس أن يستأجر الرجل شهرا، ثم يستكتبه مصحفًا. وكره علقمة كتابة المصحف بالأجر. ولعله يرى أن ذلك مما يختص فاعله بكونه من أهل القربة، فكره الأجر عليه، كالصلاة. ¬
ولنا أنه فعل مباح يجوز أن ينوب فيه الغير عن الغير فجاز أخذ الأجر عليه، ككتابة الحديث، وقد جاء في الخبر (أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) (¬1). والقول بالجواز هو القول الراجح، والله أعلم. ¬
المسألة الثانية في استئجار الكافر لبناء مسجد
المسألة الثانية في استئجار الكافر لبناء مسجد [م - 865] اختلف الفقهاء في استئجار الكافر لعمارة المسجد إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: أجاز الحنفية والحنابلة استئجار الكافر لبناء المسجد مطلقاً (¬1). جاء في الإنصاف: "يجوز استئجار الذمي لعمارة المساجد على الصحيح من المذهب، وجزم به المصنف وغيره. وكلام القاضي في أحكام القرآن يدل على أنه لا يجوز" (¬2). وجاء في مطالب أولي النهى: "ولا يجوز لكافر دخول حرم مكة، ولا المدينة، ولا مساجد الحل ولو بإذن مسلم، ويجوز دخولها للذمي والمعاهد والمستأمن إذا استؤجر لعمارتها" (¬3). القول الثاني: مذهب المالكية. أجاز المالكية استئجار الكافر لعمارة المسجد إذا لم يوجد نجار أو بناء غيره، أو وجد غيره ولكن كان الكافر أتقن للصنعة. ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية
جاء في شرح الخرشي: "يحرم على الكافر دخول أي مسجد كان، وإن أذن له المسلم فيه خلافاً للشافعية ما لم تدع ضرورة كبناء" (¬1). قال في حاشية الدسوقي: "ما لم تدع ضرورة لدخوله كعمارة: أي بأن لم يوجد نجار أو بناء غيره، أو وجد مسلم غيره، ولكن كان هو أتقن للصنعة، فلو وجد مسلم غيره مماثل له في إتقان الصنعة، لكن كانت أجرة المسلم أزيد من أجرة الكافر، فإن كانت الزيادة يسيرة لم يكن هذا من الضرورة وإلا كان منها على الظاهر. كذا قرر شيخنا" (¬2). قال ابن رجب: واختلفوا في تمكينهم من عمارة المسجد بالبنيان والترميم ونحوه على قولين: أحدهما: المنع من ذلك ... ذكر ذلك كثير من المفسرين، كالواحدي، وأبي فرج بن الجوزي، وكلام القاضي أبي يعلى في كتاب أحكام القرآن يوافق ذلك، وكذلك كيا الهراسي من الشافعية (¬3). القول الثالث: مذهب الشافعية: صحح الشافعية استئجار الكافر لبناء المسجد إلا أنهم جعلوا العقد غير لازم بالنسبة للمستأجر (¬4). قال الماوردي: "ما تصح فيه الإجارة، ويثبت فيه الخيار، وهو ما كان من الأعمال طاعة مقصودة، كبناء المساجد، ونحر الأضاحي، فإن كانت الإجارة ¬
الراجح
معينة فللمستأجر الخيار في المقام أو الفسخ؛ لأن قيام المسلم به أعظم ثوابًا، وإن كانت في الذمة قيل للأجير: إن استنبت فيها مسلمًا فلا خيار للمستأجر، وإن توليتها بنفسك فللمستأجر الخيار" (¬1). وقد أجاز الشافعية استئجار الذمية لكنس المسجد (¬2). * الراجح: الأعمال التي تأتي على وجه القربة بالنية، وتأتي على غير القربة إن قام بها مسلم فهو أفضل، وإن قام بها كافر صح إلا المسجد الحرام فلا يستأجر كافر لبنائه مع وجود غيره من المسلمين، لكونه ممنوعًا من دخول الحرم، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، والمراد بالمسجد الحرام: الحرم كله لقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] , وإنما أسري به من بيت أم هانئ من خارج المسجد. وأما بقية المساجد فلا بأس بدخول الكافر للحاجة والمصلحة، ومن ذلك حرم المدينة، فهو في هذه المسألة كغيره من المساجد، وقد ربط فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمامة في المسجد قبل إسلامه - رضي الله عنه- وأقر النبي -صلى الله عليه وسلم- وفد ثقيف حين دخلوا المسجد قبل أن يسلموا، وقدم عليه وفد النصارى فأدخلهم المسجد. وقال ابن نجيم: "الأعمال ثلاثة أنواع: ما يجوز فيه الأرزاق والإجارة كبناء المساجد، ونحوها. وما يمتنع فيه الإجارة دون الأرزاق كالقضاء والإفتاء، وما ¬
اختلف في جواز الإجارة فيه دون الأرزاق، كالإمامة والأذان والحج" (¬1) والله أعلم. ¬
المسألة الثالثة في استئجار الكافر في الخياطة والبناء
المسألة الثالثة في استئجار الكافر في الخياطة والبناء [م - 866] اختلف الفقهاء في استئجار الكافر في أعمال الصناعة كالخياطة والبناء مما ليس عبادة مقصودة في نفسه إلى قولين: القول الأول: ذهب عامة الفقهاء إلى القول بالجواز. قال ابن بطال: "استئجار المشركين عند الضرورة وغيرها جائز حسن؛ لأن ذلك ذلة وصغار لهم ... وعامة الفقهاء يجيزون استئجارهم عند الضرورة وغيرها" (¬1). وقال الكاساني في بدائع الصنائع: "وإسلامه ليس بشرط أصلاً, فتجوز الإجارة والاستئجار من المسلم والذمي، والحربي والمستأمن؛ لأن هذا من عقود المعاوضات، فيملكه المسلم والكافر جميعًا كالبياعات" (¬2). وقال في الفواكه الدواني: "ولا يشترط إسلام العاقد ... " (¬3). وقال الماوردي: "ما تصح فيه الإجارة، ولا خيار للمستأجر فيه، وهو أعمال الصناعات التي ليس فيها طاعة مقصودة، كبناء دار، أو عمارة أرض، أو رعي ماشية؛ لأن هذه أعمال يستوي فيها المسلم والكافر" (¬4). ¬
دليل الجمهور على الجواز
وقال الغزالي: "أما إسلام العاقد فغير مشروط إلا في شراء العبد المسلم، وفيه قولان ... " (¬1). وقال النووي: "إسلام المتعاقدين ليس بشرط في مطلق التبايع لكن لو اشترى كافر عبدًا مسلمًا، أو اتهبه، أو أوصي له به لم يملكه على الأظهر" (¬2). * دليل الجمهور على الجواز: الدليل الأول: (ح-576) ما رواه البخاري من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأجر النبي -صلى الله عليه وسلم-- وأبو بكر رجلاً من بني الديل، ثم من بني عبد بن عدي هاديًا خريتًا -الخريت الماهر بالهداية- قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث، فارتحلا وانطلق معهما عامر بن فهيرة، والدليل الديلي فأخذ بهم أسفل مكة وهو طريق الساحل (¬3). وجه الاستدلال: قال ابن حجر: "وفي الحديث استئجار المسلم الكافر على هداية الطريق إذا أمن إليه" (¬4). وقال ابن القيم: "وفي استئجار النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أريقط الديلي هاديًا ¬
الدليل الثاني
في وقت الهجرة، وهو كافر دليل على جواز الرجوع إلى الكافر في الطب، والكحل، والأدوية، والكتابة، والحساب، والعيوب، ونحوها، ما لم يكن ولاية تتضمن عدالة، ولا يلزم من مجرد كونه كافرًا ألا يوثق به في شيء أصلاً؛ فإنه لا شيء أخطر من الدلالة في الطريق، ولا سيما في مثل طريق الهجرة" (¬1). الدليل الثاني: إذا جاز للمسلم أن يودع ماله عند الكافر، جاز له أن يستأجره على حفظه. قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75]. وقد جاء في صحيح البخاري عن خزاعة: (وكانوا عيبة نصح لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). قال الحافظ تعليقًا: "العيبة: ... ما توضع فيه الثياب لحفظها، أي أنهم موضع النصح له، والأمانة على سره ... كأنه شبه الصدر الذي هو مستودع السر بالعيبة التي هي مستودع الثياب" (¬3). الدليل الثالث: (ح-577) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد عن سعد قال: مرضت مرضًا أتاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعودني، فوضع يده بين ثدي حتى وجدت بردها على فؤادي، ¬
وجه الاستدلال
فقال: إنك رجل مفئود، ائت الحارث ابن كلدة أخا ثقيف، فإنه رجل يتطبب، فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهن ثم ليلدك بهن (¬1). [ضعيف] (¬2). وجه الاستدلال: الحارث بن كلدة كان طبيب العرب في وقته، وأصله من ثقيف، ومات في أول الإسلام، ولم يصح إسلامه، كما ذكر ذلك ابن عبد البر (¬3)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (¬4). قال ابن أبي حاتم: دل على أن الاستعانة بأهل الذمة في الطب جائزة (¬5). ¬
القول الثاني
إذا جاز استطباب الكافر جاز استئجاره لذلك إذا كان من أهله. القول الثاني: اختار بعض أهل العلم ومنهم البخاري في صحيحه أنه لا يجوز استئجار الكافر إلا في حال الضرورة. فقد ترجم البخاري في صحيحه بقوله: (باب استئجار المشركين عند الضرورة، أو إذا لم يوجد أهل الإسلام، وعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- يهود خيبر) (¬1). قال الحافظ في الفتح: "هذه الترجمة مشعرة بأن المصنف يرى بامتناع استئجار المشرك حربيًا كان أو ذميًا إلا عند الاحتياج إلى ذلك كتعذر وجود مسلم يكفي في ذلك، وقد روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، قال: لم يكن للنبي -صلى الله عليه وسلم- عمال يعملون بها نخل خيبر، وزرعها، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم - يهود خيبر، فدفعها إليهم .. الحديث. وفي قصة استشهاده بقصة معاملة النبي -صلى الله عليه وسلم- يهود خيبر على أن يزرعوها، وباستئجاره الدليل المشرك لما هاجر على ذلك نظر؛ لأنه ليس فيها تصريح بالمقصود من منع استئجارهم، وكأنه أخذ ذلك من هذين الحديثين مضمومًا إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا نستعين بمشرك. أخرجه مسلم، وأصحاب السنن، فأراد الجمع بين الأخبار بما ترجم به" (¬2). ويجاب عن حديث: إنا لا نستعين بمشرك بأجوبة منها: الجواب الأول: حديث: إنا لا نستعين بمشرك، قيل في سياق الاستعانة بالكافر على الكفار، ¬
الجواب الثاني
في باب من أبواب الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، فهو يختلف عن موضوعنا، وهو استئجار الكفار على أمور البناء والخياطة والصناعات. وقد استعان الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنجاشي في هجرة أصحابه إلى الحبشة، واستعان الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله بن أريقط كدليل له في هجرته إلى المدينة، واستعان النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمطعم ابن عدي في إجارته له حين رجع من الطائف إلى مكة. الجواب الثاني:. قال بعضهم: إن هذا الحديث قيل في خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - لبدر، وهو منسوخ بالحوادث التي جاءت بعد ذلك في الاستعانة بهم. فقد تحالف النبي -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود على حماية المدينة من أي عدوان، ووافق الرسول - صلى الله عليه وسلم - على دخول خزاعة في الحلف الذي أبرمه مع قريش عام الحديبية، وشهد صفوان بن أمية حرب حنين، وهو مشرك، قال البيهقي: إنه معروف فيما بين أهل المغازي. الجواب الثالث: أن محل جواز الاستعانة بالمشرك إنما هو عند الحاجة أو الضرورة، ولا تجوز في غير ذلك، والرسول - صلى الله عليه وسلم - ما كان في بدر محتاجًا إلى من يساعده؛ لأن خروجه لم يكن للحرب، بل لاعتراض قافلة قريش، ولذلك أخذ معه نحو ثلاثمائة صحابي أو يزيدون قليلاً, ولو كان يريد الحرب لأخذ كثيرًا من المسلمين الذين تركهم في المدينة (¬1). وتبقى مسألة الاستعانة بالمشركين في باب الجهاد، وهو ليس موضوع البحث، وإنما البحث في مسألة الاستعانة بالمشرك على أمر من أمور الدنيا. ¬
الراجح من الخلاف
* الراجح من الخلاف: الراجح أن إسلام العاقد في الإجارة ليس بشرط، فتجوز الإجارة والاستئجار من المسلم والذمي، والحربي والمستأمن، والله أعلم.
الفصل الثالث في الشروط المتعلقة بالأجرة
الفصل الثالث في الشروط المتعلقة بالأجرة المبحث الأول في تعريف الأجرة تعريف الأجرة اصطلاحًا (¬1): عرف بعضهم الأجرة بأنها "العوض الذي يعطى مقابل منفعة الأعيان، أو منفعة الآدمي" (¬2). والأجرة في عقد الإجارة كالثمن في عقد البيع، ولذلك وضع الفقهاء قاعدة عامة لبيان ما يصلح أن يكون أجرة، فقالوا: كل ما جاز ثمنًا في البيع جاز عوضًا في الإجارة (¬3). وعللوا ذلك: بأنها عقد معاوضة فأشبه البيع، فعلى هذا يجوز أن يكون العوض في الإجارة عينًا معينة، أو عينًا موصوفة في الذمة، أو منفعة أخرى على الصحيح، سواء كان الجنس واحدًا كمنفعة دار بمنفعة أخرى، أو مختلقًا كمنفعة دار بمنفعة عبد. وسيأتي تحرير الخلاف في كون الأجرة منفعة إن شاء الله تعالى (¬4). ¬
المبحث الثاني في شروط الأجرة
المبحث الثاني في شروط الأجرة الشرط الأول أن تكون الأجرة معلومة [م - 867] سبق لي أن ذكرت في عقد البيع شروط الثمن، وكل ما يشترط في ثمن المبيع يشترط في الأجرة، ومن ذلك معرفة الأجرة، وذلك أن عقد الإجارة من عقود المعاوضة، والمنفعة إنما تبذل في مقابل الأجرة، وإذا كان يشترط أن يعلم المستأجر بالمنفعة والتي سوف يبذل المال في تحصيلها، فإنه يشترط في حق المؤجر أن يعلم بالأجرة والتي رضي أن يبذل منفعتة للمستأجر في مقابلها، فالعلم بالأجرة يأخذ حكم العلم بالمنفعة؛ لأنها أحد العوضين. جاء في المدونة: "قال مالك: كل ما جاز لك أن تبيعه فلا بأس أن تستأجر به، وما لا يجوز لك أن تبيعه فلا يجوز لك أن تستأجر به" (¬1). ويتوصل إلى معرفة الأجرة إما بالإشارة والتعيين كما لو كانت الأجرة عينًا معينة، وإما بالوصف والبيان كما لو كانت الإجارة على شيء موصوف في الذمة، وهذه لا بد من معرفتها وذلك ببيان الجنس والنوع والصفة والمقدار؛ لأن عدم العلم بالأجرة يجعل الأجرة مجهولة، وجهالة الأجرة مفسدة للعقد (¬2). قال في تبيين الحقائق: "وشرطها -يعني الإجارة- أن تكون الأجرة والمنفعة ¬
معلومتين؛ لأن جهالتهما تفضي إلى المنازعة" (¬1). وقال ابن حبيب المالكي كما في المنتقى للباجي: "لا ينبغي أن يستعمل الصانع إلا بأجر معلوم مسمى. ولعله أراد ما في الموازية وغيرها: أنه سئل عن العمل بالقيمة، فقال: لا أحبه، ولا يصلح في جعل ولا إجارة بغير تسمية، يريد أن يعقد بينهما بذلك عقد إجارة أو جعل، فأما إذا وقع ذلك بغير عقد فلا بأس" (¬2). وجاء في مغني المحتاج: "ويشترط كون الأجرة التي في الذمة معلومة جنسًا وقدرًا وصفة كالثمن في البيع، فإن كانت معينة كفت مشاهدتها إن كانت على منفعة معينة على المذهب، أو في الذمة على الأصح" (¬3). وقال ابن حزم: "ولا تجوز الإجارة إلا بمضمون مسمى محدود في الذمة، أو بعين معينة متميزة معروفة الحد والمقدار" (¬4). وقال ابن قدامة: "يشترط في عوض الإجارة كونه معلومًا. لا نعلم في ذلك خلافًا؛ وذلك لأنه عوض في عقد معاوضة، فوجب أن يكون معلومًا، كالثمن في البيع ... ويعتبر العلم بالرؤية أو بالصفة كالبيع سواء" (¬5). وقد تنازع الفقهاء في أنواع من الأجرة هل هي مجهولة أم لا، وهل الجهالة فيها تؤدي إلى المنازعة فتمتع، أو يمكن معرفتها ولو في المآل فتجوز، وسوف نعرض في المباحث التالية أمثلة لهذا النوع المختلف فيه، وما لم يذكر يكون مقيسًا على ما ذكر. ¬
المبحث الأول إذا أجره ولم يذكر له مقدار الأجرة
المبحث الأول إذا أجره ولم يذكر له مقدار الأجرة قال الكاساني: الأجرة في الإجارات معتبرة بالثمن في البياعات (¬1). وجاء في المبسوط: العقد المطلق يجب حمله على المتعارف (¬2). [م - 868] إذا استأجر الإنسان حمالاً أو خياطًا أو حلاقًا، ولم يتعرضا للأجرة، أو تعرضا لها دون أن يذكرا مقدارها، كما لو قال: احمل متاعي على ما هو متعارف، أو قال له: احمله وسأرضيك، فهل يصح ذلك؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: له أجر المثل مطلقًا، أي سواء كان منتصبًا للعمل أم لا، وهو مذهب الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، وقول في مذهب الشافعية (¬5)، والمشهور من مذهب ¬
القول الثاني
الحنابلة (¬1)، واختاره ابن تيمية (¬2)، ونسبه ابن القيم إلى الجمهور (¬3). القول الثاني: ليس له أجر مطلقًا، سواء كان معروفًا بذلك العمل أم لا، وهو الأصح في مذهب الشافعية (¬4). القول الثالث: القول بالتفصيل: إن كان منتصبًا للعمل فله أجر المثل، وإن لم يكن منتصبًا فليس له أجرة، وهو قول في مذهب الحنفية (¬5)، وقول في مذهب الشافعية (¬6)، ¬
القول الرابع
واختاره ابن قدامة من الحنابلة (¬1). القول الرابع: له أجر المثل إذا لم يكن من أهل التبرع كالمحجور عليه لسفه، والعبد (¬2). وقد ذكرنا أدلة الأقوال في عقد المقاولة عند ذكر شروط الأجرة من المجلد الثامن، ورجحت جواز الإجارة من غير ذكر الأجرة؛ لأن المتعاقدين حين تعاقدا من غير ذكر الأجرة كان لسان حالهما أنهما قد تراضيا في الرجوع إلى أجرة المثل، فإذا تراضيا على ذلك جاز، والأجرة وإن لم تكن مقدرة هنا لكنها قابلة للتقدير، كما أن الرجوع إلى أجرة المثل أدعى للعدل مما لو تعاقدا على أجر مسمى، فقد يغبن أحدهما الآخر، ولا زال الناس يتعاملون في البيع بمثل ذلك، فيأخذ الرجل حاجته من البقال أو اللحام أو الفاكهي، ولا يتفقان على ثمن وقت الأخذ، ثم يحاسبه في آخر الشهر، وكان هذا البيع صورة من صور بيع المعاطاة، وما جاز في ثمن المبيع جاز في الأجرة. وقد سبق أن ناقشت البيع بدون ذكر الثمن ورجحت جوازه، فارجع إليه إن شئت في عقد البيع، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في استئجار الظئر بطعامها وكسوتها
المبحث الثاني في استئجار الظئر بطعامها وكسوتها [م - 869] إذا استأجر الرجل الظئر بطعامها وكسوتها دون أن يبين مقدار الطعام وصفة الكسوة، فهل يصح عقد الإجارة؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأول: يصح ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة، والمالكية، والحنابلة (¬1). * دليل من قال بالجواز: الدليل الأول: قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6]. وقال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]. ومعلوم أن الرضاع يختلف، فيكون صبي أكثر رضاعًا من آخر، وامرأة أكثر ¬
الدليل الثاني
إرضاعًا من أخرى، ويختلف لبنها، فيقل أو يكثر، ومع ذلك جازت الإجارة على هذا. قال ابن قدامة: "ولم يفرق بين المطلقة وغيرها، بل في الآية قرينة تدل على طلاقها؛ لأن الزوجة تجب نفقتها وكسوتها بالزوجية، وإن لم ترضع؛ لأن الله تعالى قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]، والوارث ليس بزوج" (¬1). الدليل الثاني: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس يتعاملون به، فأقرهم عليه، وكانوا عليه في الجاهلية. الدليل الثالث: حاجة الناس إلى جوازه، والأم قد تعجز عن الإرضاع لمرض أو موت، أو تأبى الإرضاع، فلا طريق إلى تحصيل المقصود سوى استئجار الظئر. وترك تقدير الأجرة إلى ما يتعارف عليه الناس لا حرج فيه كما ترك تقدير نفقة الزوجة ومقدار الطعام في الكفارة إلى عرف الناس، والناس يستأجرون الحمام دون ذكر لمقدار ما يستعمل من الماء، والناس يتفاوتون في ذلك، ومع ذلك تساهل الناس في هذا المقدار من الجهالة، والله أعلم. القول الثاني: لا يصح، وهو اختيار أبي يوسف ومحمد بن الحسن، ومذهب الشافعية، ورواية عن أحمد، وبه قال أبو ثور (¬2). ¬
دليل من قال: لا يجوز
* دليل من قال: لا يجوز: العلم بالأجرة شرط في صحة عقد الإجارة، وإطلاق الطعام والكسوة دون وصفهما يجعل الطعام مجهول الجنس والمقدار والصفة، كما أن الناس يختلفون في الأكل اختلافًا متفاوتًا، وكذلك الشأن في الكسوة، فيؤدي ذلك إلى جهالة الأجرة، والجهالة به مفسدة للعقد؛ لأنها تفضي إلى التنازع. وأجيب من وجهين: الوجه الأول: القول بأن الأجرة مجهولة مسلم، والجهالة نوع من الغرر، والغرر والجهالة لا يمنعان صحه العقد لعينهما، بل لإفضائها إلى المنازعة أو الوقوع في المخاطرة؛ وجهالة الأجرة في هذا الباب لا تفضي إلى المنازعة ولا توقع في المخاطرة؛ لأن العادة جرت بالمسامحة مع الظئر والتوسيع عليها وعدم المماكسة معهن، وإعطائهن شهواتهن شفقة على الأولاد (¬1). الوجه الثاني: أن الجهالة لو كانت مؤثرة في هذا العقد لامتنع استئجار المرضعة مطلقًا حتى ولو كانت الأجرة من النقود لاختلاف الأطفال في مقدار الشرب، واختلاف المرضعات في كثرة الحليب وقلته، وقد تزيد حاجة الطفل إلى الرضاع وقد ¬
تنقص تبعًا لصحته ومرضه، والطفل عرضة للمرض خلال مراحل نموه الأولى، فدل على أن الشرع سهل في هذا العقد، ولم ينظر إلى ما يتطرق إلى العقد من جهالة يسيرة، لحاجة الناس إلى هذا العقد، والله أعلم.
المبحث الثالث في استئجار الأجير بطعامه وكسوته
المبحث الثالث في استئجار الأجير بطعامه وكسوته إذا استأجر الرجل الأجير مقابل طعامه وكسوته أو دابة بعلفها، فإما أن يوصف الطعام والكسوة وصفًا دقيقًا بحيث يعرف جنس كل منهما ومقداره، وترتفع الجهالة عن العوض، أو يذكر الطعام والكسوة دون أن يحدد العاقدان مقدار الطعام وصفة الكسوة. [م - 87] فإنْ وصف الطعام والكسوة بما يكفي في السلم صح ذلك، وحكي إجماعًا، حكاه جمع من أهل العلم منهم الزيلعي من الحنفية (¬1)، وابن المنذر من الشافعية (¬2)، وابن قدامة من الحنابلة (¬3)، وغيرهم. [م - 871]، أما إذا لم يبين العاقدان جنس ومقدار الطعام والكسوة فقد اختلف الفقهاء في حكم استئجار الأجير بطعامه وكسوته على قولين: القول الأول: لا يجوز، وهو مذهب الحنفية، والراجح عند الشافعية، ورواية في مذهب الحنابلة، واختاره ابن حزم (¬4). ¬
دليل من قال بالمنع
* دليل من قال بالمنع: العلم بالثمن شرط في صحة عقد الإجارة، وإطلاق الطعام والكسوة دون وصفهما يجعل الطعام مجهول الجنس والمقدار والصفة، كما أن الناس يختلفون في الأكل اختلافًا متفاوتًا، وكذلك الشأن في الكسوة، فيؤدي ذلك إلى جهالة الثمن، والجهالة به مفسد للعقد؛ لأنها تفضي إلى التنازع، فكل طرف يبحث عن مصلحته. (ح-578) وقد روى الإمام أحمد، قال: حدثنا أبو كامل، عن حماد، عن إبراهيم، عن أبي سعيد الخدري، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره ... الحديث (¬1). ويناقش من وجهين: الأول: أن الحديث ضعيف مرفوعًا، والموقوف منقطع، فلا حجة فيه. الثاني: على فرض صحته فإن من استأجر أجيرًا بنفقته وكسوته فقد بين له نوع أجره، والمرجع في مقداره عند التنازع إلى الوسط في عرف الناس، وما يوجد في ذلك من الغرر فهو من الغرر المعفو عنه؛ لأنه لا يفضي إلى التنازع. ¬
القول الثاني
القول الثاني: يجوز، وهو مذهب المالكية (¬1) ,والمذهب عند الحنابلة (¬2) ,واختيار ابن تيمية (¬3). * دليل من قال بالجواز. الدليل الأول: القياس على الظئر، قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6]. وقال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]. ومعلوم أن الرضاع يختلف، فيكون صبي أكثر رضاعًا من آخر، وامرأة أكثر رضاعًا من أخرى، ويختلف لبنها، فيقل أو يكثر، ومع ذلك جازت الإجارة على هذا. ¬
الدليل الثاني
قال ابن قدامة: "ولم يفرق بين المطلقة وغيرها، بل في الآية قرينة تدل على إطلاقها؛ لأن الزوجة تجب نفقتها وكسوتها بالزوجية، وإن لم ترضع؛ لأن الله تعالى قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] , والوارث ليس بزوج ... وإذا ثبت في الظئر بالآية، فيثبت في غيرها بالقياس عليها" (¬1). الدليل الثاني: قال تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]. فأطلق الطعام والكسوة على ما يعرف الناس، فقام العرف مقام التسمية كنفقة الزوجة، ولأن للكسوة عرفًا، وهي كسوة الزوجات، وللإطعام عرفًا، وهو الإطعام في الكفارات، فجاز إطلاقه كنقد البلد (¬2). الدليل الثالث: (ح-579) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن المصفى الحمصي، حدثنا بقية بن الوليد، عن مسلمة بن علي عن سعيد بن أبي أيوب، عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح قال: سمعت عتبة بن الندر يقول: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأ طس حتى إذا بلغ قصة موسى قال: إن موسى - صلى الله عليه وسلم -آجر نفسه ثماني سنين أو عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه (¬3). [ضعيف جدا] (¬4). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (ث-102) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا أبو عمر حفص بن عمرو، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سليم بن حيان سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول نشأت يتيما، وهاجرت مسكينا، وكنت أجيرًا لابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي، أحطب لهم إذا نزلوا، وأحدو لهم إذا ركبوا فالحمد لله الذي جعل الدين قوامًا وجعل أبا هريرة إمامًا (¬1). [حسن لغيره] (¬2). ¬
ونوقش هذا
ونوقش هذا: بأن الحديث يحتمل أن يكون ذلك قبل إسلام أبي هريرة، وقد ذكر ذلك في سياق ما أنعم الله عليه بالإسلام، ويحتمل أن يكون آجر نفسه على مقدار معلوم من الطعام (¬1). * الراجح: جواز إجارة الأجير بطعامه وكسوته، وعند النزاع رأى بعض العلماء أن له مدًا من الطعام قياسًا على إطعام المسكين في الكفارة، والذي أميل إليه أن له طعام مثله، وهو يختلف من حرفة إلى أخرى، فطعام المهندس يختلف عن طعام الحرفي. وبالنسبة للكسوة فنص ابن قدامة بأن له أقل لباس لمثله، ولو قيل: له الوسط من لباس مثله لكان أولى، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في استئجار الدار بترميمها
المبحث الرابع في استئجار الدار بترميمها [م - 872]، اختلف الفقهاء في الرجل يستأجر العين على أن يقوم بترميمها، فإن استأجر الدار بعمارتها، أو اشترط أنها إن احتاجت إلى ترميم فإن ترميمها عليه، أو استأجر الدار بدراهم معلومة واشترط عليه عمارتها خارجًا عن الأجرة، فهذا لا يجوز لدى جمهور الفقهاء (¬1). جاء في البحر الرائق: "لو استأجر الدار بكذا على أن يعمرها فالإجارة فاسدة" (¬2). وجاء في المدونة: "سألنا مالكًا عن الرجل يكتري الدار، ويشترط عليه أنه إن انكسرت خشبة، أو احتاجت الدار إلى مرمة يسيرة كان ذلك على المتكاري، قال مالك: لا خير في ذلك إلا أن يشترطه من كرائها" (¬3). وجاء في الوسيط للغزالي: "لو أجر الدار بعمارتها لم يجز، فإن العمارة مجهولة" (¬4). ¬
القول الأول
وأما إذا أجر الدار بدارهم معلومة على أن ينفق المستأجر ما تحتاج إليه محتسبًا ذلك من كرائها، فاختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأول: يصح، وهذا مذهب المالكية، والحنابلة. ومثله إذا كان الترميم مبينًا معلومًا، ولم يعلق بالحاجة، واستأجرها على أن يقوم بذلك مرة أو مرتين بالسنة. جاء في المدونة "قلت: أرأيت إن استأجرت دارًا على أن عليَّ تطيين البيوت؟ قال: هذا جائز إذا سميتم تطيينها كل سنة مرة أو مرتين، أو في كل سنة مرة، فهذا جائز، فإن كان إنما قال له ذلك: إذا احتاجت طينها، فهذا مجهول، ولا يجوز. قلت: وهذا قول مالك؟ قال: هذا رأيي" (¬1). وجاء في الروض المربع: "فإن أجره الدار بعمارتها، أو عوض معلوم، وشرط عليه عمارتها خارجًا عن الأجرة لم تصح، ولو أجره بمعين على أن ينفق المستأجر ما تحتاج إليه محتسبًا به من الأجرة صح" (¬2). القول الثاني: لا يصح، وهذا مذهب الشافعية. قال النووي في الروضة: "لو أجرها بدارهم معلومة على أن يصرفها إلى العمارة لم يصح؛ لأن الأجرة الدراهم مع الصرف إلى العمارة، وذلك عمل مجهول" (¬3). ¬
وأرى أن الراجح في ذلك مذهب المالكية والحنابلة، وذلك لأن الكراء دراهم معلومة، وصرفها إلى الترميم من قبيل الوكالة، وكونه يقوم بصرفها على الترميم عمل معلوم، وليس مجهولاً كما يقول الشافعية، وعلى التسليم بأن فيه جهالة فهو لا يتعلق بالأجرة، وإنما يتعلق بالوكالة، والوكالة تجوز بأجرة وبدون أجرة، ولن يباشر الترميم بنفسه غاية ما في ذلك أن يدفع تكاليف الترميم من المال المستحق للمؤجر، وهذا لا يؤدي إلى الجهالة، والله أعلم.
المبحث الخامس في الأجرة إذا كانت منفعة
المبحث الخامس في الأجرة إذا كانت منفعة قال القرافي: كل ما جازت أجرته جاز أجره (¬1). وقال ابن قدامة: كل ما جاز ثمنًا في البيع جاز عوضًا في الإجارة (¬2). وقال ابن عابدين: الأصل أن المنافع تجري مجرى الأعيان (¬3). [م - 873] إذا اتفق المتعاقدان على أن تكون أجرة الدار منفعة أخرى يقوم بها المستأجر للمؤجر، وهو ما يسمى مقايضة المنافع: فإن اختلفت المنفعتان كالسكنى بالركوب، والركوب بالتعليم فذلك جائز عند الأئمة، ولم أقف على خلاف في المسألة. وإن كانت الأجرة منفعة من جنس المعقود عليه كإجارة السكنى بالسكنى، والركوب بالركوب فاختلف الفقهاء فيها على قولين: القول الأول: متى كانت المنفعتان من جنس واحد بطل العقد، وهذا مذهب الحنفية (¬4). ¬
دليل من قال: لا يجوز
دليل من قال: لا يجوز: الدليل الأول: يذهب الحنفية إلى جريان ربا النسيئة في كل ما اتحد جنسه، سواء كان ذلك من الأعيان كمبادلة الثوب بثوب من جنسه نسيئة، أو من المنافع كمبادلة منفعة بأخرى من جنسها. فإذا أبدل منفعة بمنفعة من جنسها، وكانت المنافع بحكم المعدومة؛ لأنها تحدث شيئًا فشيئًا أدى ذلك إلى الوقوع في ربا النسيئة. وأجيب: قال ابن قدامة: "المنافع في الإجارة ليست في تقدير النسيئة، ولو كانت نسيئة ما جاز في جنسين؛ لأنه يكون بيع دين بدين" (¬1). فلما أجاز الحنفية ذلك في المنافع من أجناس مختلفة كالسكنى بالركوب دل على جوازها من جنس واحد. ولأن الدين هو ما تعلق في الذمة، ومنافع الأعيان تتعلق بأعيانها لا في الذمم، وقد شرع المستأجر في قبضها، وقَبْضُ العين قَبْضٌ للمنفعة فليست دينًا (¬2). وقد ناقشت هذا المذهب في كتاب الربا، وبينت أن ربا النسيئة لا يجري إلا في الأموال الربوية بشرط اتحاد العلة، سواء كانت من جنس واحد كالبر بالبر، أو كان جنسها مختلفاً كالبر بالشعير، والذهب بالفضة، فأغنى عن إعادته هنا. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن الإجارة أجيزت على خلاف القياس للحاجة، ولا حاجة إلى استئجار المنفعة بجنسها؛ لأنه يستغني بما عنده منها (¬1). ويجاب: قد يختلف المكان، فتكون حاجته إلى سكنى دار بمكة بسكنى دار في نجد، فلا تندفع حاجته بما عنده منها. القول الثاني: يصح العقد سواء اتفقت المنفعتان أو اختلفت، وهذا مذهب الجمهور، واختيار ابن حزم (¬2). دليل من قال بالجواز: الدليل الأول: الأصل الجواز، فمن ادعى المنع فعليه الدليل من كتاب الله، أو سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو إجماع الصحابة. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: قياس المنافع على الأعيان، فإذا جازت المقايضة في الأعيان التي من جنس واحد، جازت المقايضة في المنافع (¬1). وناقش الحنفية ذلك: بأنه لا خلاف في جواز بيع دار بدار، كجوازه بغير الدور إلا أن ذلك أعيان، وللمنافع أصل آخر في امتناع جواز الجنس بالجنس منه، وهو ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من النهي عن الشغار ... وهو عقد بضع ببضع، والأبضاع منافع، فالعقود عليها كعقود الإجارات على المنافع (¬2). ويجاب: بأن البضع ليس بمال، فالمنع ليس من قبيل أنه منفعة بمنفعة من جنسها، وإنما المنع؛ لأن النكاح يشترط لصحته وجود المهر، وأن يكون مالاً، قال تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]، وإذا طلب البضع في مقابل بضع آخر، فقد كان العقد خلوًا من المال. الدليل الثالث: أن المنافع نوع من أنواع المال، فما جازت إجارته جاز أجره. * الراجح: جواز إجارة المنافع بمنافع أخرى من جنسها, لعدم جريان الربا فيها، والله أعلم. ¬
المبحث السادس في احتساب الأجرة بالحصة
المبحث السادس في احتساب الأجرة بالحصة احتساب الأجرة بالحصة من الإنتاج تارة تكون تلك الأجرة حصة شائعة، كأن تكون الأجرة ثلث الإنتاج، أو ربعه، أو خمسه، وهكذا. وتارة تكون الأجرة مقدارًا محددًا، كأن يطحن الأجير الحنطة بقفيز من دقيقها. فهاتان مسألتان، وسوف نبحث كل واحدة منها في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى، نسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
الفرع الأول في الأجرة تكون حصة معينة من الإنتاج
الفرع الأول في الأجرة تكون حصة معينة من الإنتاج [م - 874] إذا كانت الأجرة حصة معينة من الإنتاج، كأن يدفع الحنطة لمن يطحنها بقفيز من دقيقها (¬1)، أو يعصر الزيتون بجزء معين معلوم منه، أو يدفع الغزل إلى حائك لينسجه بجزء معين منه، أو يسلخ الشاة في مقابل جلدها، أو ينقي تراب المعادن أو الصاغة بمقدار معين منه كأوقية منه مثلاً، فهل تصح الأجرة؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يصح مطلقاً، وهذا مذهب الجمهور (¬2). واستدل هذا القول: الدليل الأول: (ح-580) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا محمد بن الفضل بن الزيات، ¬
أخبرنا يوسف بن موسى، أخبرنا وكيع وعبيد الله بن موسى، قالا: أخبرنا سفيان، عن هشام أبي كليب، عن ابن أبي نعيم البجلي، عن أبي سعيد الخدري، قال: نهى عن عسيب الفحل. زاد عبيد الله: وعن قفيز الطحان (¬1). [اختلف في متنه وفي إسناده، قال الذهبي في الميزان: هذا منكر، وراويه لا يعرف، وقال ابن تيمية: باطل لا أصل له] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: رأى الطحاوي أن سبب المنع من استئجار الطحان بقفيز منه، أنه استأجره بمعين ليس عنده، فالقفيز معين، وليس في الذمة؛ لأن تعيين الحنطة تعيين للدقيق، وإذا كانت الأجرة معينة فإنه يشترط أن تكون موجودة وقت العقد، والدقيق ليس عند المستأجر يوم يستأجر؛ لأنه لم يطحنه بعد. ¬
الدليل الثالث
يقول الطحاوي: "ما يفعله أهل الجهل إلى يومنا هذا من دفع القمح إلى الطحان على أن يطحنه لهم بقفيز من دقيقه الذي يطحنه منه فكان ذلك استئجارًا من المستأجر بما ليس عنده إذ كان دقيق قمحه ليس عنده في الوقت الذي استأجر، وكان في ذلك ما قد دل أن الاستئجار لا يكون بما ليس عند المستأجر يوم يستأجر، كما لا يكون الابتياع بما ليس عند المبتاع يوم يبيع، وبما ليس عند المبتاع يوم يبتاع من الأشياء التي ليست عنده مما ليس معناها معنى الأثمان كالدراهم وكالدنانير، وكما سواها من ذوات الأمثال التي قد تكون دينا في الذمم وبالله التوفيق" (¬1). ويقول الزيلعي: "والمعنى فيه: أن المستأجر عاجز عن تسليم الأجر؛ لأنه بعض ما يخرج من عمل الأجير، والقدرة على التسليم شرط لصحة العقد، وهو لا يقدر بنفسه، وإنما يقدر بغيره، فلا يعد قادرًا ففسد، ولأنه جعل الأجر شيئًا لا يمكن تسليمه إلا بعمل الأجير، العمل الذي يجب عليه بحكم العقد، فتكون القدرة التي هي شرط العقد قائمة بحكم العقد، فتصير بمنزلة حكم العقد، والشرط لا يصلح حكمًا، فكذا لا يصلح قائمًا به" (¬2). الدليل الثالث: علل الشافعية المنع بما قاله الماوردي في الحاوي، قال: "وإذا استأجر طحانًا ليطحن له عشرة أقفزة بقفيز منها مطحونًا لم يجز؛ لأنه جعل المعقود عليه معقودًا به ... ولكن لو استأجر لطحن تسعة أقفزة بالقفيز العاشر منها جاز؛ لأنه جعل تسعة أعشاره معقودًا عليه، وعشره معقودًا به" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يصح مطلقًا، وهذا القول اختاره ابن قدامة، وصوبه المرداوي من الحنابلة، ورجحه ابن القيم (¬1)، وجوزه بعض مشايخ بلخ من الحنفية (¬2). استدل أصحاب هذا القول: الدليل الأول: احتج ابن القيم في الجواز بأن المؤجر إذا دفع حنطة إلى من يطحنها بقفيز منها، أو غزله إلى من ينسجه ثوبًا بجزء منه، أو زيتونه إلى من يعصره بجزء منه، ونحو ذلك أن الأجرة معلومة، ولا غرر فيها، ولا خطر، ولا قمار، ولا أكل مال بالباطل (¬3). وهذا ينازع فيه المالكية: بأنه لو استأجره بجلده لم يكن معلومًا، هل يخرج ¬
الدليل الثاني
الجلد سليمًا أو معيبًا، وكذا الزيتون لو كان بعضه جيدًا، وبعضه رديئًا لم يكن معلومًا هذا الجزء من الأجرة هل تخرج من الجيد، أو من الرديء. الدليل الثاني: استدل ابن القيم في الجواز بالقياس على المضاربة، قال رحمه الله: "هو نظير دفع ماله إلى من يتجر فيه بجزء من الربح، بل أولى، فإنه قد لا يربح المال فيذهب عمله مجانًا، وهذا لا يذهب عمله مجانًا، فإنه يطحن الحب، ويعصر الزيتون، ويحصل على جزء منه يكون به شريكًا لمالكه، فهو أولى بالجواز من المضاربة، فكيف يكون المنع منه موافقًا للأصول، والمزارعة التي فعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه الراشدون خلاف الأصول" (¬1). ويناقش: بأن القياس على المضاربة لا يصح؛ لأن الفقهاء مجمعون على أن المضارب لو ضارب بالمال واشترط أن يكون نصيبه دراهم معلومة كان العقد باطلاً. كما أن تسويته بين هذه المسألة وبين مسألة المزارعة ليست صائبة، فابن القيم يسوي بين الأجرة بمقدار محدد من الإنتاج، وهي مسألة قفيز الطحان، وبين الأجرة بجزء شائع من الإنتاج، وهي مسألة المزارعة، فلا يلزم من رد الأجرة بمقدار محدد من الإنتاج رد المزارعة التي كان العمل بها في وقت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، والتي كان النصيب فيها جزءًا مشاعًا. القول الثالث: القول بالتفصيل: إن كان الدقيق والزيتون نوعًا واحدًا، كله جيد أو كله رديء ¬
دليل المالكية على التفصيل
صح ذلك، وإن كان بعضه جيدًا وبعضه رديئًا لم يصح للجهالة، ومثله ما لو استأجره ليسلخ شاة في مقابل جلدها فهذا لا يصح؛ لأنه لا يعلم هل يخرج الجلد سليمًا أو معيبًا، وهذا مذهب المالكية (¬1). * دليل المالكية على التفصيل: المالكية لم ينظروا إلى تعليلات الجمهور، وإنما كان النظر منهم موجهًا إلى نوعية الأجرة، فإن كان يلحقها جهالة، كما لو كان الخارج من الزيت أو الدقيق من أنواع مختلفة يختلف باختلافها الخارج من الطحن أو العصر، أو كانت الأجرة جلد الشاة قد يلحقه عيب عند السلخ منعوا من ذلك، وإذا كان الدقيق أو الزيت نوعًا واحدًا لا يختلف الخارج منه أجازوا ذلك، والله أعلم. وأري أن قول المالكية أقرب إلى الصواب، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني في الأجرة تكون حصة شائعة من الإنتاج
الفرع الثاني في الأجرة تكون حصة شائعة من الإنتاج قال مالك: كل ما جاز لك أن تبيعه فلا بأس أن تستأجر به (¬1). وذكر الحنابلة بأن العين التي تنمى بالعمل يجوز العمل عليها ببعض نمائها (¬2). [م - 875] اختلف الفقهاء في حكم الإجارة إذا كانت الأجرة حصة شائعة من الإنتاج كالثلث والربع والنصف على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب الحنفية والشافعية (¬3) إلى أن عقد الإجارة لا يصح أن يكون بحصة شائعة منه مطلقًا، لا فرق في ذلك بين أن يكون عقد الإجارة على نسج الثياب وخياطتها، أو على حصد الزرع ودرسه، أو على جني الثمار وعصرها. * دليل الحنفية والشافعية: لم يفرق الحنفية والشافعية بين الأجرة بمقدار معين، أو الأجرة بحصة شائعة، وأدلتهم في منع هذه المسألة هي عين أدلتهم في المسألة التي قبلها، وقد ذكرت أدلتهم بالتفصيل في المسألة السابقة فأغنى ذلك عن إعادتها هنا. ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب الحنابلة وابن حزم من الظاهرية إلى جواز دفع الغزل لمن ينسجه بحصة شائعة منه، وكذا دفع الزيت لمن يعصره بحصة شائعة منه، وإعطاء الزرع لمن يحصده بحصة شائعة منه (¬1). وهو قول جماعة من أهل الحديث. قال البخاري في صحيحه: قال إبراهيم وابن سيرين وعطاء والحكم والزهري، وقتادة: لا بأس أن يعطى الثوب بالثلث، أو الربع أو نحوه (¬2). ¬
دليل القائلين بالجواز
* دليل القائلين بالجواز: فرق الحنابلة بين الأجرة بمقدار معين وبين الأجرة بحصة شائعة، فمنعوا الأولى، وصححوا الثانية، وكان عمدتهم في الاستدلال على صحة الإجارة بحصة شائعة: القياس على المساقاة والمزارعة، وكونها عينًا تنمى بالعمل فصح العقد عليها ببعض نمائها. قال ابن قدامة: "لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع لحديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى خيبر على الشطر، وهذا يدل على أنه قد صار في هذا ومثله إلى الجواز؛ لشبهة بالمساقاة والمزارعة لا إلى المضاربة ولا إلى الإجارة، ونقل أبو داود عن أحمد فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة: أرجو ألا يكون به بأس" (¬1). وقال في شرح منتهى الإرادت: "ويصح دفع عبد، أو قربة، أو قدر، أو آلة حرث ... لمن يعمل به بجزء من أجرته، ويصح خياط ثوب، ونسج غزل، وحصاد زرع، ورضاع قن، واستيفاء مال ونحوه كبناء دار وطاحون ونجر باب، وطحن نحو بر بجرء مشاع منه؛ لأنها عين تنمى بالعمل فصح العقد عليها ببعض نمائها كالشجر في المساقاة، والأرض في المزارعة، ولا يصح تخريجها على المضاربة بالعروض؛ لأنها إنما تكون بالتجارة والتصرف في رقبة المال، وهذا بخلافه" (¬2). وعلل ابن حزم الجواز بكون الإجارة محدودة في شيء موجود قائم (¬3). ¬
القول الثالث: مذهب المالكية
القول الثالث: مذهب المالكية: ذهب المالكية إلى التفصيل: فإن كان ما يخرج معلومًا حين العقد أجازوه، وإن كان ما يخرج مجهولاً حين العقد منعوه للجهالة بالأجرة. ولهذا منع المالكية أن يدفع الرجل غزله لينسجه بحصة شائعة منه، كما منعوا عصر الزيت والسمسم بحصة شائعة منه للجهالة بمقدار الخارج وصفته حين العقد (¬1). بينما أجاز المالكية أن يقول الرجل لآخر: احصد زرعي ولك نصفه؛ لأنه معلوم مشاهد فكان كبيع الجزاف، بينما لو قال: احصد وادرس زرعي، ولك نصف الحب فلا يجوز؛ لأن العقد لم يقع على كمية الزرع، وإنما على الحب، وهو مجهول المقدار والصفة حين العقد. يقول الخرشي: "وكذلك تجوز الإجارة إذا قال له: احصد في زرعي، وما حصدت فلك نصفه، فلو قال: احصد زرعي وادرسه، ولك نصفه لم يجز؛ لأنه ¬
الراجح من الخلاف
استأجره بنصف ما يخرج من الحب، فهو لا يدري كم يخرج، ولا كيف يخرج، ولأنك لو بعته زرعًا جزافًا قد يبس على أن عليك حصاده ودرسه لم يجز؛ لأنه اشترى حبًا فلم يعاين جملته" (¬1). وجاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن دفعت سفينتي إلى رجل فقلت له: أكرها فما كان فيها من كراء فهو بيني وبينك أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا يجوز هذا عند مالك، ولا يجوز أن يعطيه الدار أو الحمام فيقول: أكرها فما كان من كراء، فهو بيني وبينك؛ لأن الرجل قد آجر نفسه بشيء لا يدري ما هو. قلت: ولمن يكون جميع الكراء؟ قال: قال مالك: لرب السفينة والدار والحمام" (¬2). * الراجح من الخلاف: الذي أطمئن إليه القول بجواز الإجارة بحصه شائعة منه حتى ولو لم تكن الأجرة معلومة عند التعاقد فإن هذه الأجرة حين كانت مركبة من عين وعمل، أصبح لها شبه بعقد المساقاة والمزارعة أكثر من كونها إجارة محضة، والله أعلم. ¬
الشرط الثاني في اشتراط طهارة الأجرة
الشرط الثاني في اشتراط طهارة الأجرة [م - 876] سبق لنا اختلاف العلماء في اشتراط طهارة المعقود عليه في البيع، وكما اختلفوا في طهارة ثمن المبيع اختلفوا في اشتراط طهارة الأجرة في عقد الإجارة على قولين: القول الأول: لا يشترط الحنفية طهارة الأجرة، إنما يشترطون أن يكون مالاً متقومًا، وهو اصطلاح خاص. فالمال عندهم ينقسم إلى قسمين: (أ) مال غير متقوم لا يجوز أن يكون أجرة، لا فرق في ذلك وبين أن يكون نجسًا كالميتة والدم، أو يكون طاهرًا كلبن الآدمية المنفصل عنها، فإنهم منعوا بيعه وإن كان طاهرًا لعدم جريان تموله بين الناس. يقول ابن نجيم: "فما يكون مباح الانتفاع بدون تمول الناس لا يكون مالاً" (¬1). (ب) ومال متقوم يجوز أن يكون مبيعًا وثمنًا وأجرة، ولو لو يكن طاهرًا إذا جرى الانتفاع به بين المسلمين، واعتادوا تموله من غير نكير كالسرجين النجس. يقول ابن عابدين: "المال أعم من المتقوم (¬2)؛ لأن المال ما يمكن ادخاره، ولو غير مباح كالخمر، والمتقوم ما يمكن ادخاره مع الإباحة، فالخمر مال لا متقوم" (¬3). ¬
وجاء في تبيين الحقائق: "كره بيع العذرة لا السرقين، وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز بيع السرقين أيضًا؛ لأنه نجس العين ... ولنا: أن المسلمين تمولوا السرقين، وانتفعوا به في سائر البلدان والأعصار من غير نكير، فإنهم يلقونه في الأراضي لاستكثار الريع بخلاف العذرة؛ لأن العادة لم تجر بالانتفاع بها ... " (¬1). فجعل المدار على جريان الانتفاع به، وليس على طهارته أو نجاسته. وأجاز الحنابلة في قول بيع بعض الأعيان النجسة. قال ابن قدامة: كل مملوك أبيح الانتفاع به يجوز بيعه إلا ما استثناه الشرع من الكلب وأم الولد والوقف ... والمنفعة المباحة يباح له استيفاؤها فجاز له أخذ عوضها، وأبيح لغيره بذل ماله فيها توصلاً إليها، ودفعًا لحاجته كسائر ما أبيح بيعه، وسواء في هذا ما كان طاهرًا كالثياب والعقار وبهيمة الأنعام والخيل ¬
والصيود، أو مختلفاً في نجاسته كالبغل والحمار وسباع البهائم التي تصلح للصيد كالفهد والصقر والبازي والشاهين والعقاب ... وأشباه ذلك فكله يجوز بيعه. وقال أبو بكر عبد العزيز وابن أبي موسى: لا يجوز بيع الفهد والصقر ونحوهما؛ لأنها نجسة، فلم يجز بيعها كالكلب. ولنا أنه حيوان أبيح اقتناؤه، وفيه نفع مباح من غير وعيد في حبسه، فأبيح بيعه كالبغل، وما ذكراه يبطل بالبغل والحمار، فإنه لا خلاف في إباحة بيعها، وحكمها حكم سباع البهائم في الطهارة والنجاسة (¬1). والحقيقة أن مذهب الحنابلة غير مطرد في حكم النجاسة، فهم يمنعون بيع أشياء، ويعللون ذلك بالنجاسة، ويجيزون بيع أشياء مع حكمهم لها بالنجاسة. فالحنابلة يجوزن بيع الحمار والبغل وسباع البهائم والطير التي تقبل التعليم والقرد مع الحكم بنجاستها، ويمنعون بيع السرجين النجس. قال في المغني: "ولا يجوز بيع السرجين النجس, وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يجوز ... ولنا أنه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة" (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب الجمهور من المالكية والشافعية وبعض الحنابلة إلى اشتراط طهارة الثمن (¬1). جاء في شرح الخرشي: "وشرط الأجر في الإجارة كالثمن في المبيع من كونه طاهرًا" (¬2). وقال في حاشية الصاوي وهو يذكر شروط الأجرة: " (طاهرًا) فلا يصح بنجس, ولا متنجس لا يقبل التطهير، فإن قبله صح، ووجب البيان" (¬3). وجاء في إعانة الطالبين في ذكر شروط الأجرة: " أن يكون طاهرًا منتفعًا به" (¬4) ويعبر الحنابلة أحيانًا عن هذا باشتراط إباحة الانتفاع، ويقصدون به إخراج شيئين: ¬
الأول: ما يحرم الانتفاع لنجاسته، كالخمر والكلب والميتة والخنزير فلا يجوز أن يكون عندهم ثمنًا ولا أجرة، ولا مبيعًا. الثاني: ما يحرم الانتفاع به لحرمته، وإن كان طاهرًا كآلات اللهو، والأصنام. وأدلة المسألة هي أدلة اشترط طهارة المعقود عليه في المبيع، وقد ذكرتها على وجه التفصيل فأغنى عن إعادتها هنا، والحمد لله أولاً وآخرًا.
الشرط الثالث أن تكون الأجرة فيها منفعة مباحة
الشرط الثالث أن تكون الأجرة فيها منفعة مباحة [م - 877] يشترط في الأجرة أن تكون مشتملة على منفعة مباحة. واشتراط المنفعة في الأجرة يخرج ما لا نفع فيه، فلا يجوز أن يكون أجرة؛ لأنه لا يعتبر مالاً. قال الصاوي عند الكلام على شروط الأجرة: "فلا يصح بما لا نفع فيه أصلاً" (¬1). وقال النووي: "أن يكون منتفعًا به، فما لا نفع فيه ليس بمال" (¬2). وقال ابن قدامة: " لا يجوز بيع ما لا نفع فيه" (¬3). وما لا يجوز بيعه لا يجوز أن يكون أجرة. * والدليل على اشتراط المنفعة: أن بذل العين المستأجرة في مقابلة ما لا نفع فيه يعتبر من إضاعة المال، وقد نهينا عن إضاعة المال. (ح-581) لما رواه الشيخان من طريق الشعبي، عن كاتب المغيرة عن المغيرة قال: إن الله كره لكم قيل وقال: وإضاعة المال، وكثرة السؤال (¬4). كما أن أخذ أموال الناس في مقابل ما لا نفع فيه يعتبر من أكل أموال الناس بالباطل، وقد قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. ¬
ويكفي أصل المنفعة وإن قَلَّت قيمتها، كما في التراب والماء، ولا يقدح في المنفعة إمكانية تحصيلها بلا مئونة أو تعب (¬1). جاء في مواهب الجليل: "إذا تقرر اشتراط المنفعة فيكفي مجرد وجودها وإن قلت، ولا يشترط كثرة القيمة فيها، ولا عزة الوجود بل يصح بيع الماء، والتراب، والحجارة؛ لتحقيق المنفعة ... " (¬2). وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها؛ لأنه إذا لم يبد صلاحها لم يكن منتفعًا بها، فلا تكون مالاً، فلا يجوز بيعها (¬3). ويشترط في المنفعة أن تكون مباحة فإن كانت المنفعة محرمة لا يجوز أن تكون أجرة، كالميتة فإنها وإن كان يدهن بها السفن ويطلى بها الجلود فلا تجوز أن تكون أجرة، وكالخمر فإنه وإن كان فيه منافع كما ذكر الله لك في القرآن إلا أن منافعه محرمة، والمنافع المحرمة في الحكم بمنزلة ما لا نفع فيه؛ لأن وجودها كعدمها، ولأن فوات المنافع قد يكون حسيًا كالحشرات، وقد يكون شرعيًا كالميتة والخمر (¬4). ¬
وقال البهوتي: "المال شرعًا ما يباح نفعه مطلقا: أي في كل الأحوال، أو يباح اقتناؤه بلا حاجة. فخرج ما لا نفع فيه كالحشرات، وما فيه نفع محرم كخمر، وما لا يباح إلا عند الاضطرار كالميتة، وما لا يباح اقتناؤه إلا لحاجة كالكلب" (¬1). ... ¬
الشرط الرابع في اشتراط القدرة على تسليم الأجرة
الشرط الرابع في اشتراط القدرة على تسليم الأجرة [م - 878] المقصود بالعجز عن التسليم هو العجز الحسي، وأما العجز الشرعي عن التسليم لحق الآدمي كالمرهون فلا يدخل في هذا، فإنه يصح، ويقف اللزوم فيه على إجازة المرتهن؛ لأن الحق له، فيكون اشتراطه في اللزوم لا في الصحة؛ إذ هي حاصلة بدونه (¬1). ولا يعنون بالقدرة على التسليم هو وجوب التعجيل، فإن الأجرة يصح أن تكون حالة وأن تكون مؤجلة كما يصح ذلك في تأجيل ثمن المبيع، بل ويصح تأجيل المبيع كبيع السلم، فكذلك يصح تأجيل الأجرة خاصة إذا كانت الأجرة من الأموال المثلية، كالنقود والعروض المثلية من مكيل أو موزون، وسوف أخصص مبحثًا خاصًا عن تعجيل الأجرة، وإنما يقصدون بالقدرة على التسليم في الأجرة المعينة إذا لم تكن مملوكة، أو كان معجوزًا عن تسليمها كالشارد والضال والآبق، والمغصوب. والخلاف في العجز عن تسليم الأجرة كالخلاف في العجز عن تسليم ثمن المبيع، فإذا عجز عن تسليم الأجرة فقد اختلف العلماء في صحة عقد الإجارة على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب الجمهور إلى أنه يشترط في المعقود عليه من مبيع وثمن القدرة على تسليمه، فإن كان المبيع أو الثمن غير قادر على تسليمه لم يصح البيع (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب الحنفية في التفريق بين المبيع والثمن، فيشترطون القدرة على التسليم في المبيع، ولا يشترط ذلك في الثمن (¬1). القول الثالث: ذهب ابن حزم رحمه الله تعالى إلى أنه لا يشترط في البيع القدرة على التسليم مطلقًا أي لا في المبيع ولا في الثمن (¬2). وقد ذكرت أدلة هذه المسألة في عقد البيع عند الكلام على شروط المعقود عليه، الشرط الرابع فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله. ¬
الشرط الخامس في اشتراط تعجيل الأجرة وتأجيلها
الشرط الخامس في اشتراط تعجيل الأجرة وتأجيلها المبحث الأول في اشتراط تعجيل الأجرة [م - 879] يجوز اشتراط تعجيل الأجرة في قول عامة أهل العلم، ولم يخالف في ذلك إلا ابن حزم. قال الكاساني في بدائع الصنائع: إن شرط فيه تعجيل البدل فعلى المستأجر تعجيلها، والابتداء بتسليمها، سواء كان ما وقع عليه الإجارة شيئًا ينتفع بعينه كالدار والدابة وعبد الخدمة، أو كان صانعًا أو عاملاً ينتفع بصنعته أو عمله كالخياط والقصار والصياغ والإسكاف؛ لأنهما لما شرطا تعجيل البدل لزم اعتبار شرطهما لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون عند شروطهم) (¬1). وجاء في الجوهرة النيرة: "المؤجر إذا شرط تعجيل الأجرة في العقد كان له حبس الدار حتى يستوفي الأجرة؛ لأن المنافع كالمبيع، والأجرة كالثمن فكما وجب حبس المبيع إلى أن يستوفي الثمن فكذا يجب حبس المنافع حتى يستوفي الأجرة المعجلة" (¬2). وقال في مواهب الجليل: "اعلم أنه يقضى بتعجيل الأجرة إذا شرط التعجيل سواء كانت الأجرة شيئًا بعينه، أو شيئًا مضموناً في الذمة" (¬3). ¬
وجاء في كفاية الأخيار: "الإجارة عقد لو شرط في عوضه التعجيل أو التأجيل اتبع" (¬1). وجاء في شرح منتهى الإرادات: "ويصح شرط تعجيلها أي الأجرة" (¬2). وقد استدل الفقهاء على صحة اشتراط التعجيل بالقياس على الثمن، فإجارة العين كبيعها، وبيعها يصح بثمن حال، ويصح بثمن مؤجل (¬3). وخالف في ذلك ابن حزم بناء على مذهبه في الشروط، وأن الأصل في كل الشروط البطلان إلا شرطًا جاء النص على جوازه. قال ابن حزم: "ولا يجوز اشتراط تعجيل الأجرة، ولا تعجيل شيء منها، ولا اشتراط تأخيرها، ولا تأخير شيء منها كذلك ... لأنه شرط ليس في كتاب الله فهو باطل (¬4). وقد أجبت على قول ابن حزم، وبينت ضعفه في الكلام على الشروط الجعلية، وهل الأصل في الشروط الصحة والجواز، أو البطلان والتحريم، فأغنى عن إعادته، والحمد لله رب العالمين. ¬
المبحث الثاني في اشتراط تأجيل الأجرة
المبحث الثاني في اشتراط تأجيل الأجرة الفرع الأول في تأجيل الأجرة والمستأجر معين [م - 880] إذا كان المستأجر معينًا كدار معينة، أو دابة معينة، فإن كانت الأجرة نقودًا، أو عروضًا مثلية موصوفة في الذمة كالمكيل والموزون فإنه يجوز تأجيل الأجرة في قول عامة الفقهاء، ولم يخالف في ذلك إلا ابن حزم، وسبق ذكر مذهبه في المسألة التي قبل هذه. [م - 881] وأما إذا كانت الأجرة عروضًا معينة فقد اختلف الفقهاء في جواز التأجيل على قولين: القول الأول: يجوز التأجيل، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة. جاء في الفتاوى الهندية: "الأجر لا يملك بنفس العقد، ولا يجب تسليمه به عندنا عينًا كان أو دينًا" (¬1). وإذا كان لا يجب تسليم الأجرة ولو كانت عينًا فإن ذلك يعني جواز التأجيل للأجرة ولو كانت معينة. وقال المرداوي الحنبلي: "يجوز تأجيل الأجرة مطلقًا على الصحيح من ¬
القول الثاني
المذهب، وعليه الأصحاب، وجزم به في المغني ... وقيل: يجوز تأجيلها إذا لم تكن نفعًا في الذمة" (¬1). فعلى كلا القولين الحنابلة يجيزون تأخير الأجرة إما مطلقًا، أو إذا لم تكن منفعة في الذمة. وجاء في الكافي في فقه الإمام أحمد: "وتجوز -أي الإجارة- بأجرة حالة ومؤجلة؛ لأن الإجارة كالبيع، وذلك جائز فيه" (¬2). ولم يفرق بين أن تكون الأجرة معينة أو غير معينة. القول الثاني: لا يجوز شرط التأجيل إذا كانت الأجرة عينًا، وهذا مذهب المالكية والشافعية. جاء في حاشية الدسوقي: " (وعجل) الأجر وجوبًا فلا يؤخر لأكثر من ثلاثة أيام وإلا فسد العقد (إن عين) أي إن كان معينًا كثوب بعينه" (¬3). وإنما جواز التأجيل لثلاثة أيام فأقل بناء على قاعدتهم أن الثلاثة فأقل في حكم المعجل. وجاء في الإقناع للشربيني: "لو كان العوض منفعة عين فإنه لا يصح تأجيلها" (¬4). ¬
وسبب الاختلاف
وجاء في أسنى المطالب: "ويصح الإصداق بتعليم الفاتحة ... فلو لم يحسن الزوج التعليم لِمَا شرط تعليمه لم يجز إصداقه إلا في الذمة ... وإن شرط أن يتعلم ثم يعلمها لم يصح؛ لأن العمل متعلق بعينه، والأعيان لا تؤجل" (¬1). وسبب الاختلاف: هل الأعيان تقبل التأجيل، أو لا تقبل التأجيل، فإذا كانت الأجرة معينة فالحق يتعلق بعينها، وهي عرضة للتلف أو التغير بخلاف ما في الذمة فإنه ليس عرضة للسقوط؛ لأن الحق متعلق بشيء غير معين، فمن رأى أن المعين لا يقبل التأجيل؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. فالآية تدل على جواز التأجيل في الديون، ولم يرد في النصوص ما يشير إلى جواز تأجيل الأعيان. وقال السيوطي: "الأجل شرع رفقًا للتحصيل، والمعين حاصل" (¬2). والصحيح أن النظر لا يمنع من تأجيل المعين، وإذا جاز على الصحيح أن يبيع الدار ويستثني سكناها مدة معلومة، وباع جابر جمله على النبي -صلى الله عليه وسلم-، واستثنى ظهره إلى المدينة، وهو معين، وهذا يقتضي عدم تسليم المعين، وما جاز في البيع جاز في الإجارة، كما تجوز الإجارة على مدة لا تلي العقد على الصحيح، وهذا يعني تأخير تسليم المعين. وقد بحثت هذا الشرط في كتاب الشروط في البيع (اشتراط التأجيل في العقد) فانظره هناك. ¬
الفرع الثاني في تأجيل الأجرة والمستأجر موصوف في الذمة
الفرع الثاني في تأجيل الأجرة والمستأجر موصوف في الذمة [م - 882] إذا كانت الإجارة على عمل في الذمة، كخياطة الثوب، وبناء الجدار، فهل يصح تأجيل الأجرة؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأول: يجوز تأجيل الأجرة، وهو مذهب الحنفية، والحنابلة، وقول في مذهب الشافعية (¬1). القول الثاني: يجب تقديم الأجرة إذا كان المعقود عليه في ذمة الأجير، وهو مذهب المالكية، والأصح عند الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). واستثنى المالكية إذا شرع المستأجر في استيفاء المنفعة في خلال ثلاثة أيام من تاريخ العقد فيجوز تأخير الأجرة باعتبار أن شروعه في الاستيفاء بمثابة القبض، فلا يكون دينًا بدين. ¬
وسبب الاختلاف
وسبب الاختلاف: اختلافهم في الإجارة في الذمة، هل تعتبر من قبيل السلم في المنافع، والسلم يشترط له تعجيل الثمن حتى لا يكون ذلك من باب بيع الكالئ بالكالئ، أو لا يعتبر ذلك باعتبار أن الأجرة لا تستحق بالعقد، وإنما تستحق إما بالفراغ من العمل، أو بحسب استيفاء المنفعة شيئًا فشيئًا، فاختلف ذلك عن بيع السلم، وهي مسألة خلافية سنتعرض لها إن شاء الله في مبحث مستقل. وما ذهب إليه الحنفية والحنابلة هو الرجح للأسباب التالية: أولاً: أن المالكية قالوا بتعجيل الأجرة قياسًا على السلم، ومع ذلك لم يطبقوا عليها أحكام السلم من كل وجه، فالسلم الحال لا يجوز عند المالكية, وتعجيل الإجارة فيما إذا كانت على عمل في الذمة جائز عندهم، وهذا يبين أن الإجارة على الذمة لا تأخذ حكم السلم من كل وجه. قال الباجي في المنتقى: "فأما الكراء المضمون (ما كان في الذمة) فإنه يجوز أن يكون معجلاً بخلاف السلم على المشهور من المذهب، ووجه ذلك أن المنافع هذا حكمها لا يجوز أن يعقد منها إلا على موجود مع الإجماع على جوازه فيمن يعتبر بقوله، ولذلك قال تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27]، فإذا ثبت ذلك فالتعيين في العين المعقود على منافعها إنما هو تعيين لعين المعقود عليه فإذا جاز العقد على منافع دابة معينة مؤجلة فكذلك على منافع دابة غير معينة" (¬1). ثانيًا: أن تأخير الأجرة هو الذي يقتضيه حال الناس اليوم لكون الإجارة لم تكن على ثوب يقدمه صاحبه إلى حائك، وإنما بلغت الإجارة اليوم على أعمال ¬
مكلفة جدًا، كإنشاء مطارات، وسكك حديدية، وأبراج ضخمة، فلو عجلت الأجرة لخيف من أن يتهاون الأجير في الالتزام بالعمل المطلوب، وقد سبق بحث هذه المسألة ولله الحمد في عقد المقاولة فأغنى عن إعادة الأدلة، والله أعلم (¬1). ¬
الفرع الثالث في استحقاق المؤجر الأجرة
الفرع الثالث في استحقاق المؤجر الأجرة تجب الأجرة بالعقد، وتستحق بتسليم العين، وتستقر بمضي المدة. متى يستحق المؤجر الأجرة؟ هل يستحقها بالعقد، أو يستحقها بتسليم العين وقبل انقضاء المدة، أو بعد استيفاء المنفعة؟ وللجواب على ذلك نقول: [م - 883] السؤال مفروض فيما إذا كان العقد مطلقًا، أما إذا كان هناك شرط في تعجيل الأجرة فيجب العمل به، ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية (¬1)، وسبق التعرض لقولهم والجواب عن دليلهم في حكم اشتراط تعجيل الأجرة، فانظره هناك مشكورًا. [م - 884] كما يجب تعجيل الأجرة إذا كان هناك عرف في التعجيل؛ لأن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. وكذا يستحق التعجيل إذا عجلها المستأجر ابتداء. [م - 885] وأما تأجيل الأجرة فيجب كذلك إذا كان هناك شرط أو عرف، ولم يخالف في ذلك إلا ابن حزم من الظاهرية (¬2)، وكذا المالكية والشافعية في إجارة الذمة، فإنه يجب تعجيل الأجرة عندهم؛ لأنه من قبيل السلم في المنافع، وحتى لا يترتب على ذلك ابتداء دين بدين، وهذا منهي عنه، وقد سبق بحث كل ذلك في المباحث السابقة. ¬
القول الأول
[م - 886] فإن كان عقد الإجارة مطلقًا، ولم يكن هناك عرف، فقد اختلف العلماء متى يستحق المؤجر المطالبة بالإجارة؟ القول الأول: ذهب الحنفية وابن حزم من الظاهرية إلى أن الأجرة لا تملك بالعقد، وإنما تستحق بالاستيفاء شيئًا فشيئًا (¬1). وقد وافقهم المالكية في إجارة العين دون إجارة الذمة (¬2). جاء في العناية: "ومن استأجر دارًا فللمؤجر أن يطالبه بأجرة كل يوم؛ لأنه استوفى منفعة مقصودة" (¬3). وجاء في شرح الخرشي: "كلما استوفى منفعة يوم، أو تمكن من استيفائها لزمه أجرته، والمراد باليوم: القطعة المعينة من الزمن، لا حقيقة اليوم" (¬4). قال في منح الجليل: "ولا يجب عليه شيء قبله" (¬5). أي قبل اليوم. وفي الإجارة على المسافة يسلم أجر كل مرحلة إذا انتهى إليها، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن، ورجع إليه أبو حنيفة في قوله الثاني. ¬
الدليل الأول
جاء في الهداية: "ومن استأجر بعيرًا إلى مكة فللجمال أن يطالبه بأجرة كل مرحلة؛ لأن سير كل مرحلة مقصود ... وكان القياس يقتضي استحقاق الأجر ساعة فساعة لتحقيق المساواة إلا أن المطالبة في كل ساعة تفضي إلى ألا يتفرغ لغيره، فيتضرر به" (¬1). واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها: الدليل الأول: قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. الدليل الثاني: (ح-582) ما رواه البخاري من طريق سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا، فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه"، ولم يعط أجره (¬2). وجه الاستدلال: في الحديث وعيد على من امتنع عن دفع الأجر بعد العمل، فدل على أنها حالة الوجوب. الدليل الثالث: (ح-583) ما رواه الطحاوي في مشكل الآثار من طريق محمد بن عمار المؤذن, عن المقبري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه (¬3). ¬
وجه الاستدلال
[أكثر طرقه لا تخلو من ضعف، وبعضها ضعيف جدًا، وأرجو أن يكون حسنًا بمجموع طرقه] (¬1). وجه الاستدلال: أَمَر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإعطاء الأجرة بعد الفراغ من العمل وقبل أن يجف عرقه وفي هذا دليل على تأخير التسليم، وأن الأجرة لا تملك بمجرد العقد. * جواب ابن قدامة عن الأدلة السابقة: قال ابن قدامة: "فأما الآية فيحتمل أنه أراد الإيتاء عند الشروع في الإرضاع، أو تسليم نفسها، كما قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] , أي إذا أردت القراءة. ولأن هذا تمسك بدليل الخطاب، ولا يقولون به، وكذلك الحديث، يحققه أن الأمر بالإيتاء في وقت لا يمنع وجوبه قبله، كقوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24]، والصداق يجب قبل الاستمتاع، وهذا هو الجواب عن الحديث، ويدل عليه أنه إنما توعد على ترك الإيفاء بعد الفراغ من العمل، وقد قلتم: تجب الأجرة شيئًا فشيئا. ويحتمل أنه توعده على ترك الإيفاء في الوقت الذي تتوجه المطالبة فيه عادة. * جواب آخر: أن الآية والأخبار إنما وردت في من استؤجر على عمل، فأما ما وقعت الإجارة فيه على مدة، فلا تعرض لها به ... وأما إذا كانت الإجارة على عمل، فإن الأجر يملك بالعقد أيضًا، لكن لا يستحق تسليمه إلا عند تسليم العمل ... وإنما توقف استحقاق تسليمه على العمل؛ لأنه عوض، فلا يستحق تسليمه إلا ¬
الدليل الرابع
مع تسليم المعوض، كالصداق والثمن في المبيع، وفارق الإجارة على الأعيان؛ لأن تسليمها جرى مجرى تسليم نفعها، ومتى كان على منفعة في الذمة، لم يحصل تسليم المنفعة، ولا ما يقوم مقامها، فتوقف استحقاق تسليم الأجر على تسليم العمل" (¬1). وسبق لي في عقد المقاولة الكلام عن الإجارة على العمل متى يستحق الأجرة، وهو ما يسمى بالأجير المشترك، فأغنى عن إعادته هنا. الدليل الرابع: أن المعاوضة المطلقة إذا لم يثبت الملك فيها في أحد العوضين لا يثبت في العوض الآخر، إذ لو ثبت لا يكون معاوضة حقيقية؛ لأنه لا يقابله عوض. ولأن المساواة في العقود المطلقة مطلوب العاقدين، ولا مساواة إذا لم يثبت الملك في أحد العوضين، والملك لم يثبت في المنفعة؛ لأنه عمل في المستقبل، فلا يثبت في الأجرة في الحال. ويناقش: بأن هناك فرقًا بين ملك المنفعة وبين قبض المنفعة، فالملك قد ثبت بمجرد العقد، والعقد إنما ينعقد بصدور القبول مطابقًا للإيجاب كما ينعقد البيع والنكاح وسائر العقود اللازمة، والإجارة عقد لازم كالبيع، فهو ملزم للطرفين، وأما قبض المنفعة فهو الذي يحدث شيئًا فشيئًا، ولا يعتبر قبض العين المؤجرة شرطًا لبقاء العقد على الصحة كما هو في الصرف، بل يجري قبض العين مجرى قبض المنافع؛ لأن قبض المنافع جملة واحدة يستحيل فإذا مكن من العين وخلي بينه وبينها أصبح بمنزلة من قبض منافعها، والله أعلم. ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: أن المنفعة إنما يملكها المستأجر شيئًا فشيئًا على حسب حدوث الزمان، فكذلك استحقاق الأجرة تستحق شيئًا فشيئًا، ولا تستحق بمجرد العقد. والجواب عن هذا الدليل كالجواب عن هذا الذي قبله. القول الثاني: ذهب الحنابلة إلى أن الأجرة تملك بالعقد، وتستحق بتسليم العين (¬1). وقد وافقهم الشافعية على ذلك في إجارة العين دون إجارة الذمة فإنه يجب تعجليها كما بينت ذلك في المباحث السابقة (¬2). جاء في الحاوي الكبير: "وإذا دفع ما أكرى وجب له جميع الكراء كما إذا دفع جميع ما باع وجب له جميع الثمن" (¬3). وجاء في الفروع: "وتجب الأجرة بالعقد ... وتستحق بتسليم العين" (¬4). وقال ابن قدامة: "المؤجر يملك الأجرة بمجرد العقد إذا أطلق، ولم يشترط المستأجر أجلاً كما يملك البائع الثمن بالبيع" (¬5). وجاء في الإنصاف: "وتجب الأجرة بنفس العقد، هذا المذهب، سواء كانت ¬
وجه قول الشافعية والحنابلة
إجارة عين أو في الذمة ... وتستحق الأجرة كاملة بتسليم العين ... وله الطلب بالتسليم، ولا تستقر الأجرة إلا بمضي المدة بلا نزاع" (¬1). * وجه قول الشافعية والحنابلة: الوجه الأول: أن الإجارة عقد معاوضة وقد وجدت مطلقة، والمعاوضة المطلقة تقتضي ثبوت الملك في العوضين عقيب العقد كالبيع. واعترض: بأن الأجرة تسقط إذا تلفت المنافع قبل استيفائها، وهذا دليل على أنها لا تملك إلا بالاستيفاء. ويرد على هذا الاعتراض: بأن العين المستأجرة لما كان قبضها ليس قبضًا كاملاً باعتبار أن استيفاءها شرط، فكانت تملك بالعقد، ويملك المطالبة بها بتسليم العين، وتستقر الأجرة بمضي المدة, ولهذا كان ضمانها على المؤجر إذا تلفت بلا تعد، فإذا تلفت سقطت الأجرة الباقية بتلف المنفعة قبل الاستيفاء (¬2). أرأيت الثمرة إذا اشتريت مبقاة إلى الجذاذ فإن المشتري يملكها بالعقد، وينتفع بها، وإذا أصابتها جائحة كانت من ملك البائع؛ لأن ضمانها عليه؛ لأن قبضها لم يكن قبضًا كاملاً. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أن المستأجر قد مكن من الاستيفاء وقبض العين، وليس هناك شرط أو عرف بالتأجيل، فيتعجل قياسًا على الثمن في المبيع، والصداق في النكاح. * الراجح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها أجد أن مذهب الشافعية والحنابلة أقوى من مذهب الحنفية والمالكية، ولأن المستأجر قد يهرب بعد استيفاء المنفعة فيضيع حق المؤجر. ***
الفصل الرابع في بيان مدة الإجارة إذا كانت على مدة
الفصل الرابع في بيان مدة الإجارة إذا كانت على مدة المبحث الأول في اشتراط بيان المدة في الإجارة الواردة على المنفعة الإجارة الواردة على المنفعة يشترط فيها تحديد المدة بخلاف الإجارة الواردة على العمل. [م - 887] يختلف عقد الإجارة عن عقد البيع بأن البيع تمليك للعين على التأبيد، وأما عقد الإجارة فإنه عقد مؤقت، والإجارة فيه تارة ترد على منفعة، وتارة ترد على العمل. فأما ما يرد على العمل فلا يشترط فيه تحديد المدة، وإنما ينتهي بانتهاء ذلك العمل كاستئجار رجل على خياطة ثوب، أو بناء جدار. وأما ما يرد على المنفعة كسكنى الدار والحوانيت فلابد فيه من تحديد المدة. قال ابن حزم: "من الإجارات ما لا بد فيه من ذكر العمل الذي يستأجر عليه فقط، ولا يذكر فيه مدة كالخياطة، والنسج، وركوب الدابة إلى مكان مسمى، ونحو ذلك. ومنها ما لا بد فيه من ذكر المدة كسكنى الدار، وركوب الدابة ونحو ذلك، ومنه ما لا بد فيه من الأمرين معا كالخدمة ونحوها فلا بد من ذكر المدة
والعمل؛ لأن الإجارة بخلاف ما ذكرنا مجهولة وإذا كانت مجهولة فهي أكل مال بالباطل" (¬1). وقد حكي في اشتراط بيان المدة في مثل سكنى الدار وركوب الدابة الإجماع: قال الجصاص: "لا خلاف في أن الإجارات لا تجوز إلا على مدة معلومة" (¬2). وقال في الإنصاف: "ويشترط كون المدة معلومة بلا نزاع في الجملة" (¬3). وقال في المغني: "الإجارة إذا وقعت على مدة يجب أن تكون معلومة كشهر وسنة. ولا خلاف في هذا نعلمه؛ لأن المدة هي الضابطة للمعقود عليه، المعرفة له، فوجب أن تكون معلومة، كعدد المكيلات فيما بيع بالكيل" (¬4). ولأن عدم تحديد المدة يؤدي إلى الغرر والجهالة المفضية إلى المنازعة، وذلك أن المعقود عليه في الإجارة هو المنفعة، ولا بد من العلم بها، ولا يعلم قدر المنفعة إلا ببيان المدة، فلا يصح: أسكني دارك مدة حياتي أو مدة حياتك، أو إلى أن يقدم زيد، وقدومه غير معلوم. (ح-584) لما رواه مسلم من طريق أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة قال نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر (¬5). ¬
قال الكاساني في بدائع الصنائع: "ولا تصح الإجارة مع جهالة المدة" (¬1). وقال السبكي: "الإجارة إذا كانت المدة مجهولة كانت باطلة" (¬2). وقال الكاساني أيضًا في معرض كلامه عن شروط الإجارة: "ومنها بيان المدة في إجارة الدور والمنازل والبيوت والحوانيت ... لأن المعقود عليه لا يصير معلوم القدر بدونه، فترك بيانه يفضي إلى المنازعة" (¬3). ولأن الأجرة تختلف باختلاف المدة، فوجب العلم بها (¬4). ولأن المستأجر يختص بمنفعة العين المؤجرة دون غيره مدة الإجارة، فاشترط العلم بها، وإلا كان ذلك العقد بيعًا. ¬
وتحديد المدة تارة يكون بالنص عليها، كاستئجار الدار يومًا، أو شهرًا، أو سنة، وتارة يكون التحديد عرفًا، كاستئجار غرفة في فندق، فإن العادة جرت أن تحدد المدة بيوم متفق على بدايته ونهايته. وقد وردت نصوص من الكتاب والسنة تبين مدة الإجارة. فمن الكتاب قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27]. (ح-585) وروى البخاري في صحيحه من طريق نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: مثلكم ومثل أهل الكتاب كمثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط، فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط، فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين، فأنتم هم، فغضبت اليهود والنصارى فقالوا: ما لنا أكثر عملا وأقل عطاء؟ قال: هل نقصتكم من حقكم؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء (¬1). ... ¬
المبحث الثاني في تعيين ابتداء مدة الإجارة
المبحث الثاني في تعيين ابتداء مدة الإجارة الأصل في العقود المطلقة أن تكون ناجزة. الإجارة إما أن تكون على مدة تلي العقد، أو على مدة لا تلي العقد وإنما تكون مضافة إلى الزمن المستقبل. فإن كانت على مدة تلي العقد فلا يحتاج إلى ذكر ابتدائها. [م - 888] واختلف الفقهاء فيما إذا آجره وأطلق فهل يشترط بيان وقت الابتداء؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأول: إذا قال: آجرتك شهرًا أو سنة ولم يبين وقت ابتداء المدة، فإن ذلك يصح، ويكون ابتداء المدة من حين العقد؛ وهذا قول جمهور العلماء، ورجحه ابن قدامة من الحنابلة، وجزم به في الإقناع (¬1). ¬
القول الثاني
لأن الأصل في العقود المطلقة أن تكون ناجزة بحيث يترتب عليها أثرها في الحال، ولأنه لو لم تتعين عقيب العقد لصارت مجهولة, وبه تبطل الإجارة. ويدل لذلك قوله تعالى حكاية عن شعيب: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27]، ولم يذكر شعيب ابتداء المدة. القول الثاني: اختار العراقيون من الشافعية إلى أنه لا بد من اشتراط أن تكون المدة من حين العقد، ونقل بعض الحنابلة عن الإمام أحمد بأنه لا بد من النص على ابتداء المدة (¬1). قال ابن قدامة: "وإن أطلق. فقال: أجرتك سنة، أو شهرًا صح وكان ابتداؤه من حين العقد. وهذا قول مالك، وأبي حنيفة. وقال الشافعي وبعض أصحابنا: لا يصح حتى يسمي الشهر، ويذكر أي سنة هي؛ فإن أحمد قال في رواية إسماعيل بن سعيد: إذا استأجر أجيرًا شهرًا، فلا يجوز حتى يسمي الشهر. ولنا قول الله تعالى إخبارًا عن شعيب عليه السلام {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] [القصص: 27]، ولم يذكر ابتداءها. ¬
القول الأول
ولأنه تقدير بمدة ليس فيها قربة فإذا أطلقها وجب أن تلي السبب الموجب كمدة السلم والإيلاء، وتفارق النذر؛ فإنه قربة" (¬1). والراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء. [م - 889] وإن كانت الإجارة على مدة لا تلي العقد، بأن كانت مضافة إلى المستقبل كما لو قال المؤجر: أجرتك داري إذا دخل شهر رمضان، فهل تنعقد الإجارة؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح إضافة الإجارة إلى زمن مستقبل، ولا يصح ذلك في البيع، وهذا ما عليه جماهير أهل العلم (¬2). * وجه التفريق بين البيع والإجارة: أن المبيع المعين لا يقبل التأجيل وإذا لم يقبل التأجيل لم يصح إضافته إلى المستقبل، وأما الإجارة فتقبل التأجيل مطلقًا معينة كانت أو في الذمة؛ فتصح إضافتها إلى المستقبل؛ لأن التأجيل في عقد الإجارة ضرورة؛ لأن الإجارة تتضمن تمليك المنافع، والمنافع لا يتصور وجودها في الحال، فدعت الضرورة إلى الإضافة، ولا ضرورة في بيع العين. (ح-586) ولما رواه البخاري من طريق عروة عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ¬
القول الثاني
قالت: واستأجر رسول الله رجلاً من بني الديل هاديًا خريتًا، وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما، ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث (¬1). فدل هذا على جواز إضافة عقد الإيجار إلى الزمن المستقبل. القول الثاني: التفريق بين إجارة العين وإجارة الذمة، فلا يصح في إجارة العين إضافتها إلى المستقبل، ويصح ذلك في الإجارة إذا كانت في الذمة، وهذا مذهب الشافعية (¬2). وجه التفريق بين إجارة العين وإجارة الذمة: أن الشافعية لم يفرقوا بين البيع والإجارة، فالأعيان عندهم لا تقبل التأجيل مطلقًا بيعًا كان أو إجارة، وما في الذمة يجوز حالاً ومؤجلاً بيعًا كان أو إجارة كالسلم. قال الشيرازي: "وما عقد من الإجارة على منفعة موصوفة في الذمة يجوز حالاً، ومؤجلاً؛ لأن الإجارة في الذمة كالسلم والسلم يجوز حالاً، ومؤجلاً، فكذلك الإجارة في الذمة ... وما عقد على منفعة معينة لا يجوز إلا حالاً، فإن كان على مدة لم يجز إلا على مدة يتصل ابتداؤها بالعقد، وإن كان على عمل معين لم يجز إلا في الوقت ¬
القول الثالث
الذي يمكنه الشروع في العمل؛ لأن إجارة العين كبيع العين، وبيع العين لا يجوز إلا على ما يمكن الشروع في قبضها فكذلك الإجارة" (¬1). واستثنى الشافعية من إجارة العين ما لو أجرت العين مدة جديدة لنفس المستأجر قبل انقضائها لاتصال المدتين مع اتحاد العين المستأجرة. القول الثالث: اختار ابن حزم منع اشتراط الإضافة إلى المستقبل بناء على مذهبه الضيق في تحريم كل الشروط، ولو كان شرطًا لا محذور فيه إلا ما نص الشارع بعينه على جوازه. قال ابن حزم: "ولا يجوز تأخير الشيء المستأجر ولا تأخير العمل المستأجر له طرفة عين فما فوق ذلك؛ لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل" (¬2). * الراجح من الخلاف: الراجح أن التأجيل سائغ مطلقًا في البيع والإجارة عينًا كان أو في الذمة بشرط أن يكون في مدة لا يخشى على العين من التغير، والحاجة داعية إلى ذلك، فالمسافر يحتاج إلى حجز مقعد له للركوب برًا أو بحرًا أو جوًا قبل بدء السفر بفترة معينة، وقد تطول أو تقصر حسب الأحوال، فالمنع من ذلك فيه ضيق وحرج، وقد انتقض قول الشافعية فيمن استأجر دارًا بمكة، والمستأجر في مصر، ولا يمكنه الوصول إلى مكة إلا بعد شهر، وكما لو استأجره ليلاً لما يعمل نهارًا (¬3). ¬
وقد اشترى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جمل جابر، واستثنى جابر ظهره إلى المدينة، وهذا التأجيل في المبيع المعين، وأجاز الحنابلة بيع الدار واشتراط سكناها مدة معلومة مطلقًا، وقيده المالكية بمدة لا يتغير فيها المبيع، وما جاز في عقد البيع جاز في الإجارة. وقد فصلت كل ذلك في كتاب البيع فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله (¬1). ¬
المبحث الثالث في الإجارة إذا كانت غير معلومة النهاية
المبحث الثالث في الإجارة إذا كانت غير معلومة النهاية [م - 890] إذا أجره داره كل شهر بكذا، فما حكم هذه الإجارة؟ اختلف العلماء في هذا العقد، هل يصح، أو لا يصح، وإذا صح فهل يصح في شهر واحد أو في أكثر؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: قيل: يعتبر العقد لازمًا صحيحًا في الشهر الأول، وأما في الشهر الثاني فلا يلزم إلا إذا تلبس فيه من غير فسخ. وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2)، ورواية مطرف وابن الماجشون عن مالك (¬3)، واختيار ابن سريج من الشافعية (¬4). ¬
دليل هذا القول
واستثنى هؤلاء ما عدا الشافعية فيما إذا نقد المستأجر الأجرة فإن العقد يلزم في مقدار ما عجل من الأجرة، فإذا قال كل شهر بمائة، ونقد ألفًا لزم العقد في عشرة أشهر. * دليل هذا القول: الدليل الأول: (ح-587) ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أنبأنا أيوب، عن مجاهد قال: قال علي - رضي الله عنه - جعت مرة بالمدينة جوعا شديدًا، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة، فإذا أنا بامرأة قد جمعت مدرًا، فظننتها تريد بله، فأتيتها فقاطعتها كل ذنوب على تمرة فمددت ستة عشر ذنوبا حتى مجلت يداي، ثم أتيت الماء فأصبت منه، ثم أتيتها فقلت بكفي هكذا بين يديها وبسط إسماعيل يديه وجمعهما فعدت لي ستة عشر تمرة فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته فأكل معي منها (¬1). [منقطع مجاهد لم يسمع من علي] (¬2). الدليل الثاني: أن كلمة (كل) في قوله كل شهر بكذا إذا دخلت على مجهول، وأفراده معلومة ¬
القول الثاني
انصرفت إلى الواحد لكونه معلومًا، وتفسد في الباقي للجهالة، وترتفع الجهالة عن الباقي بأمرين (¬1): أحدهما: أن يعجله الأجر لمدة معلومة فترتفع الجهالة عندهم فيما عدا الشافعية؛ لأن تعجيل الأجرة دليل على الرضا بانعقاد العقد لتلك المدة. الثاني: أن يتلبس المستأجر في الشهر الثاني دون أن يفسخ أحدهما، فإن هذا يعني أنهما تراضيا على انعقاد العقد في الشهر الثاني، فصار كأنهما جددا العقد، ويعتبر هذا عند مضي كل شهر. فإن فسخ أحدهما بنهاية الشهر، أو ترك التلبس فقد انتتهى عقد الإجارة. القول الثاني: قيل: إن العقد غير لازم، ولكل منهما فسخه متى شاء، ويلزمه فيما سكن حصته من الكراء إلا أن ينقده، فما نقده من أجرة لزم العقد بمقدار ما عجل من الأجرة، وهذه رواية ابن القاسم عن مالك، وهو القول المشهور في المذهب (¬2). ¬
وجه القول بعدم اللزوم
* وجه القول بعدم اللزوم: أنهما لما حددا مقدار الأجرة، ولم يحددا مدة الإجارة، وإنما عبر بكلمة (كل شهر بكذا) من غير تحديد، ولم ينقد المستأجر الأجرة دل ذلك على أنهما أرادا بذلك عقد الإجارة على اعتبار خيار الفسخ لكل واحد منهما، فلا يملك المؤجر ولا المستأجر أن يلزم أحدهما الآخر مدة معينة لعدم الاتفاق عليها. القول الثالث: وقيل العقد فاسد، وهو المعتمد عند الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). * وجه القول بالفساد: أنه إذا قال له: كل شهر بدينار فقد ذكر مقدار الأجرة، ولم يذكر مدة الإجارة، ومن الخطأ اعتقاد أنه استأجر الشهر الأول؛ لأن قوله (كل شهر) دليل على أنه لم يعقد على الشهر الأول، فالشهر الأول كغيره، فرجع فساد العقد إلى الجهل بالمدة. * الراجح من الخلاف: الذي أميل إليه، وهو المعمول به عندنا أنه إذا استأجر منه كل شهر بكذا لم يلزم العقد إلا بالسكنى، وإذا باشر السكنى، فإذا سكن بعض الشهر لزمه بقيته، ولا يلزمه بقية الشهور, وكل شهر سكن بعضه لزمه بقيته، والله أعلم. ... ¬
المبحث الرابع في أقصى مدة الإجارة
المبحث الرابع في أقصى مدة الإجارة [م - 891] من المعلوم أن الإجارة تخالف البيع بأنها عقد مؤقت بوقت وليس على التأبيد، فهل لهذه المدة حد لا تتجاوزه؟ اختلف الفقهاء في أقصى مدة الإجارة على أقوال: القول الأول: ذهب الحنفية إلى صحة الإجارة على أي مدة طالت أو قصرت، وقيد ذلك المالكية والشافعية في المعتمد، والحنابلة في المشهور، وابن حزم أن تكون في مدة تبقى فيها العين غالبًا. زاد ابن حزم: ويبقى فيها العاقدان (¬1). ¬
واستثنى الحنفية إجارة الوقف، فلا يزاد فيها على ثلاث سنين، وعلل الحنفية ذلك كي لا يدعي المستأجر ملكها. ومنع المالكية النقد فيما لا يؤمن تغيره فيه لطول المدة، أو لضعف البناء فيجوز العقد دون النقد، فإن غلب على الظن أنها لا تبقى إلى المدة المعينة فلا يجوز كراؤها إليه (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يجوز أن يؤجرها إلى مدة لا تبقى فيها العين غالبًا، حكاه النووي في الروضة وجهًا في المذهب الشافعي، وعلل ذلك: بأن الأصل الدوام، فإن هلكت لعارض فكانهدام الدار ونحوه (¬1). القول الثالث: مدة الإجارة سنة واحدة، وهو قول في مذهب الشافعية (¬2). القول الرابع: قال الشافعي: له أن يؤجر عبده وداره ثلاثين سنة (¬3). واختلف أصحابه هل الثلاثين حد لا يجوز الزيادة عليها، فيكون قولاً ثالثًا في المذهب؟ قال إمام الحرمين: وهذا أضعف الأقوال (¬4). أو أنه ليس بحد، بل تجوز الإجارة على أكثر منها على ما يشاء العاقدان، فيرجع هذا القول إلى القول المشهور السابق (¬5). قال الشيرازي: "واختلف قوله في أكثر مدة الإجارة والمساقاة: فقال في موضع: سنة. وقال في موضع: يجوز ما شاء. وقال في موضع: جوز ثلاثين سنة. ¬
دليل من قال: لا حد لأكثر مدة الإجارة
فمن أصحابنا من قال فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تجوز بأكثر من سنة؛ لأنه عقد على غرر أجيز للحاجة، ولا تدعو الحاجة إلى أكثر من سنة؛ لأن منافع الأعيان تتكامل في سنة. والثاني: تجوز ما بقيت العين؛ لأن كل عقد جاز إلى سنة جاز إلى أكثر منها كالكتابة والبيع إلى أجل. والثالث: أنه لا تجوز أكثر من ثلاثين سنة؛ لأن الثلاثين شطر العمر، ولا تبقى الأعيان على صفة أكثر من ذلك. ومنهم من قال: هي على القولين الأولين، وأما الثلاثون فإنما ذكره على سبيل التكثير لا على سبيل التحديد، وهو الصحيح" (¬1). فخلصنا من هذا الخلاف إلى أن المسألة فيها أربعة أقوال: قول بأنه لا حد لأكثر مدة الإجارة بشرط أن يكون ذلك في مدة تبقى فيها العين غالبًا، وهو قول أكثر الفقهاء. يقابله قول آخر: بأنه يجوز تأجير العين إلى مدة لا تبقى فيها العين غالبًا. وقول يرى التحديد بالسنة. وآخر يرى التحديد بثلاثين سنة. * دليل من قال: لا حد لأكثر مدة الإجارة: لم يرد دليل من كتاب الله، ولا من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على تحديد المدة في عقد الإجارة، والأصل عدم التحديد بمقدار معين، فيكون التقدير بمدة معينة تقديرًا من غير دليل. ¬
تعليل من حدد المدة بالسنة
جاء في مغني المحتاج: "يصح عقد الإجارة مدة معلومة تبقى فيها العين المؤجرة غالبًا؛ لإمكان استيفاء المعقود عليه، ولا يقدر بمدة؛ إذ لا توقيف فيه، والمرجع في المدة التي تبقى فيها العين غالبًا إلى أهل الخبرة" (¬1). وجاء في المحلى: "أن بيان المدة واجب فيما استؤجر لا لعمل معين، فإذ هو كذلك فلا فرق بين مدة ما، وبين ما أقل منها، أو أكثر منها؛ والمفرق بين ذلك مخطئ بلا شك؛ لأنه فرق بلا قرآن، ولا سنة، ولا رواية سقيمة، ولا قول صاحب أصلا, ولا قول تابع نعلمه، ولا قياس، ولا رأي له وجه يعقل، والمخاوف لا تؤمن في قصير المدد كما لا تؤمن في طويلها. وأما إن عقدت الإجارة إلى مدة يوقن أنه لا بد من أن يخترم أحدهما دونها، أو لا بد من ذهاب الشيء المؤاجر دونها، فهوشرط متيقن الفساد بلا شك؛ لأنه إما عقد منهما على غيرهما، وهذا لا يجوز -وإما عقد في معدوم، وذلك لا يجوز- وبالله تعالى التوفيق (¬2). * تعليل من حدد المدة بالسنة: بأن عقد الإجارة عقد على غرر أجيز للحاجة، ولا تدعو الحاجة إلى أكثر من سنة، ولأن منافع الأعيان تتكامل في سنة (¬3). ونوقش هذا: بأن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] , وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يبطله، ولم يرد في شرعنا ما يدل على بطلان عقد الإجارة في أكثر من سنة. ¬
تعليل من حدد المدة بثلاثين سنة
* تعليل من حدد المدة بثلاثين سنة: علل الشافعية بأن الثلاثين هي شطر العمر غالبًا، فكان ما زاد عليه لغير العاقد (¬1). * الراجح: القول بعدم تحديد مدة الإجارة هو القول الراجح، فيجوز في كل مدة تبقى فيها العين غالبًا، واشتراطنا بقاء العين إنما يكون في إجارة الدار؛ لأن العقد وارد على منفعة الدار، وهو يختلف عن الحكرة والصبرة وهي الإجارة الواردة على منفعة الأرض، فإن فيها خلافًا في جواز أن تكون الإجارة فيها على مدة طويلة. ¬
المبحث الخامس في كيفية احتساب مدة الإجارة
المبحث الخامس في كيفية احتساب مدة الإجارة [م - 892] إذا قدرت مدة الإجارة بالسنين، ولم يبين نوعها، حمل على السنة الهلالية؛ لأنها المعهودة في الشرع. قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]، فوجب أن يحمل العقد عليها (¬1). وإذا كان العقد في غرة الشهر اعتبر بالأهلة بلا خلاف. قال ابن الهمام: "إذا استأجر ثلاثة أشهر في رأس الشهر اعتبرت بالأهلة اتفاقًا ناقصة كانت أو كاملة" (¬2). وإن وقع العقد بعد ما مضى بعض الشهر، فإن كانت المدة شهرًا اعتبر هذا الشهر ثلاثين يومًا؛ لتعذر اعتبار الأهلة، حكى الإجماع على ذلك الكاساني في بدائع الصنائع (¬3). وسيأتي عن ابن تيمية أن الشهر يكمل بحسبه، إن كان تامًا أكمل تامًا، وإن كان ناقصًا أكمل ناقصًا. [م - 893] أما إذا كانت المدة شهورًا، فهل تحسب المدة بالأهلة، أو تحسب بالأيام؟ ¬
القول الأول
اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: تعتبر الشهور كلها بالأيام، وهو قول أبي حنيفة، ورواية الإمام أحمد (¬1). * وجه هذا القول: أن الشهر الأول إذا وجب احتسابه ثلاثين يومًا من المعقد سيكون، الشهر الثاني ناقصًا، فيجب أن يكمل هو أيضًا، وهكذا يلزم تكميل الجميع ثلاثين يومًا. ونوقش هذا: بأن الله سبحانه وتعالى قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]، فنص الشارع على أن المعتبر الأهلة، أجمعنا على مخالفة النص في الشهر الأول لعدم انضباط النقص فيما قبل العقد أو بعده، فيبقى ما عداه على مقتضى النص (¬2). القول الثاني: يستوفى الشهر الأول بالعدد ثلاثين يومًا، وسائرها بالأهلة، وهذا القول رواية أخرى عن أبي حنيفة، وقول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وهو مذهب المالكية، والشافعية، والمشهور من مذهب الإمام أحمد (¬3). ¬
وجه هذا القول
جاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن أجرت دارًا سنة بعد ما مضى عشرة أيام من هذا الشهر، كيف تكون الإجارة؟ وكيف تحسب الشهور أبالأهلة أم على عدد المشهور؟ قال: تحسب هذه الأيام بقية هذا الشهر الذي قد ذهب بعضه، ثم يحسب أحد عشر شهرًا بعده بالأهلة، ثم يكمل مع الأيام التي كانت بقيت من الشهر الأول الذي استأجر الدار فيه ثلاثين يومًا، فيكون شهرًا واحدًا من إجارة هذه الدار على الأيام وأحد عشر شهرا على الشهور" (¬1). وجاء في المهذب: "وإن كان العقد. في أثناء الشهر عد ما بقي من الشهر، وعد بعده أحد عشر شهرًا بالأهلة، ثم كمل عدد الشهر الأول بالعدد ثلاثين يومًا؛ لأنه تعذر إتمامه بالشهر الهلالي، فتمم بالعدد" (¬2). * وجه هذا القول: أن الشهر الأول اعتبرنا فيه العدد لتعذر إتمامه بالهلال, وأما ما عداه فقد أمكن استيفاؤه بالهلال، فوجب؛ لأنه الأصل للآية الكريمة السابقة. ¬
القول الثالث
القول الثالث: يحسب الشهر الأول بحسب تمامه ونقصانه، فإن كان تامًا أكمل تامًا، وإن كان ناقصًا أكمل ناقصًا، وإن استأجره سنة فإنه يحسب إلى مثل تلك الساعة، وهذا اختيار ابن تيمية (¬1). وهذا ذهاب من الشيخ بأنه لم يتعذر العمل بالهلال في الشهر الأول، وقد يشكل عليه أن مدة العقد انقسمت على شهرين، حيث كان ابتداؤه في شهر وبقيته في شهر آخر، وليس اعتبار الابتداء بأحق من اعتبار الانتهاء، خاصة إذا كان نصيب الشهر الثاني أكثر من نصيب الشهر الأول، وإذا كان أحدهما ناقصًا والآخر تامًا فما الذي يعتبر الابتداء أم الانتهاء، لذا كان العمل بالعدد مع أنه قول عامة الفقهاء فهو أبعد عن النزاع، وقول ابن تيمية رحمه الله لم أقف عليه لغيره، والله أعلم. ... ¬
المبحث السادس في الجمع بين المدة والعمل
المبحث السادس في الجمع بين المدة والعمل [م - 894] الإجارة الواردة على الأعمال تارة تعين بالزمن، كاستئجار الأجير على البناء لمدة يوم أو أسبوع أو شهر، فإذا عينت الإجارة بالزمن استحق العامل الأجرة إذا سلم نفسه في ذلك الزمن، وإن قل عمله، أو لم يتهيأ له عمل. وتارة تعين بالعمل كالمقاولة علي بناء حائط معين، أو خياطة ثوب، ويستحق الأجرة بالفراغ من العمل طال الزمن أو قصر. فإن جمع بين الزمن والعمل، كأن يقول: خط هذا الثوب في هذا اليوم، فقد اختلف العلماء في صحة الإجارة على قولين: القول الأول: لا يصح الجمع بين تقدير المدة والعمل، فإن جمع بينهما فسد العقد. وهذا قول أبي حنيفة، وأصح الوجهين عند الشافعية، والمشهور عند الحنابلة (¬1). * وجه من قال: لا يصح الجمع بين المدة والعمل مطلقًا: الوجه الأول: أن العقد على المدة يقتضي وجوب الأجر ولو من غير عمل إذا سلم نفسه في ¬
الوجه الثاني
المدة؛ لأنه يكون أجيرًا خاصًا. والعقد على العمل يقتضي ألا يستحق الأجرة إلا بالفراغ من العمل؛ لأنه يصير أجيرًا مشتركًا, ولا يمكن أن يكون كلاهما معقودًا عليه لاختلاف أحكامهما، فكان المعقود عليه أحدهما، وليس أحدهما بأولى من الآخر فكان الجمع بينهما يؤدي إلى جهالة المعقود عليه، وجهالة المعقود عليه تفسد العقد. الوجه الثاني: أن الجمع بين المدة والعمل يزيد العقد غررًا؛ لأنه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء المدة، فإن استعمل في بقية المدة، فقد زاد على ما وقع عليه العقد، وإن لم يعمل كان تاركًا للعمل في بعض المدة. وقد لا يفرغ من العمل في المدة، فإن أتمه عمل في غير المدة، وإن لم يعمله لم يأت بما وقع عليه العقد، وهذا غرر أمكن التحرز عنه، ولم يوجد مثله في محل الوفاق، فلم يجز العقد معه (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أنه لا يصح الجمع إذا كان الزمان أنقص أو كان مساويًا للعمل، فإن كان الزمان أوسع من العمل، فقال ابن عبد السلام: يجوز اتفاقًا. وقال ابن رشد: بل تفسد على المشهور (¬2). * دليل من قال: يجوز إن كان الوقت أوسع من العمل: إذا كان الوقت أوسع من العمل أمكن الأجير أن يخلص من العمل في المدة، ¬
القول الثالث
فانتفى الغرر. وإذا كان الزمن مساويًا أو أنقص فقد لا يتمكن الأجير من الوفاء بالتزاماته لذا منع الجمع بينهما. القول الثالث: يصح الجمع بين المدة والعمل، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وهو قول في مذهب المالكية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية، ورواية في مذهب الحنابلة (¬1). * دليل من قال بالصحة: أن المعقود عليه هو العمل، وهو معلوم، وإنما ذكر الوقت للتعجيل لا لتعليق العقد به، فكأنه استأجره للعمل على أن يفرغ منه في أسرع الأوقات، وعلى هذا فإنه إذا فرغ العامل قبل انقضاء المدة لم يلزمه العمل في بقيتها؛ لأنه قام بما عليه قبل مدته، فدم يلزمه شيء آخر، وإن مضت المدة قبل فراغ العمل فعليه أن يعمله، ولو بعد انتهائها؛ لأنه المعقود عليه (¬2). * الراجح: القول بالصحة هو القول الراجح، وعليه عمل الناس اليوم، والله أعلم. ... ¬
الباب الرابع أنواع الإجارة بحسب ما يؤجر
الباب الرابع أنواع الإجارة بحسب ما يؤجر الفصل الأول في إجارة العقار كالدور والأراضي المبحث الأول المراد من كلمة عقار [م - 895] الفقهاء متفقون على أن ما لا يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر يسمى عقارًا، وأن ما يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر مع بقاء صورته وهيئته منقول. واختلفوا فيما يمكن نقله مع تغيير صورته عند النقل كالبناء والغراس، هل هو عقار أو منقول؟ فذهب الحنفية إلى اعتباره من المنقولات إلا إذا كانا تابعين للأرض فيسري عليهما حكم العقار بالتبعية (¬1) وذهب الجمهور إلى اعتبار ذلك من العقار (¬2). ¬
الاصطلاح العرفي
جاء في مجلة الأحكام الشرعية الحنبلية: "العقار هو الأرض وحدها، أو ما اتصل بها للقرار، كالدور والبساتين" (¬1). والراجح -والله أعلم- قول الجمهور، وهو أن العقار يشمل الأرض وما اتصل بها من بناء أو غرس. قال في مختار الصحاح: العقار بالفتح مخففاً: الأرض والضياع والنخل (¬2). وفي اللسان: العقار بالفتح: الضيعة، والنخل والأرض (¬3). الاصطلاح العرفي: يرى بعض الباحثين أن العقار أصبح له مدلول عرفي عام جرى استعماله على ألسنة الناس حيث أصبحوا يقصرون كلمة العقار على المباني، وأما الأرض غير المبنية سواء كانت زراعية أو سكنية فإنه يطلق عليها أرض، وتخص بالوصف، فيقال: أرض زراعية، أو أرض مباني ... الخ (¬4). وسوف أتناول إن شاء الله تعالى حكم إجارة العقار من خلال مبحثين: الأول: في إجارة الدور، وما يلحق بها من مرافق. الثاني: في إجارة الأراضي. أسأل الله الكريم عونه وتوفيقه. ... ¬
المبحث الثاني في أحكام إجارة الدور والمباني
المبحث الثاني في أحكام إجارة الدور والمباني [م - 896] يدخل بالدور المنازل المعدة للسكنى، والدكاكين، والمخازن، والمستودعات ونحوها. ولا خلاف بين العلماء في جواز استئجار الدور والمباني والمنازل والمخازن. قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن استئجار المنازل والدواب جائز" (¬1). ونقل الإجماع على ذلك ابن القطان في كتابه الإقناع على مسائل الإجماع (¬2). ولم يختلف في شيء من ذلك إلا في إجارة دور مكة، فقد اختلفوا في إجارتها كما اختلفوا في بيعها. ¬
الفرع الأول في إجارة دور مكة المكرمة
الفرع الأول في إجارة دور مكة المكرمة من المعلوم أن مكة شرفها الله فتحت عنوة. قال في التاج والإكليل: "لا خلاف أن مكة افتتحت عنوة، وأنها لم تقسم" (¬1). وإذا فتح المسلمون بلادًا كان الإمام مخيرًا بين أن يقسمها بين الغانمين كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين فتح خيبر، وإما أن يوقفها على المسلمين ويضرب عليها خراجًا مستمرًا، كما فعل عمر - رضي الله عنه - حين فتح أرض الشام، ومصر، والعراق، وكان الذي حمل عمر - رضي الله عنه - على وقفها أن ينتفع منها أجيال المسلمين. (ث-103) فقد روى البخاري في صحيحه, قال عمر: لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها كما قسم النبي -صلى الله عليه وسلم- خيبر. وتختلف مكة وأرض الحرم بأنها أماكن عبادة، قال تعالى: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]. [م - 897] وقد اختلف العلماء في إجارة دور مكة كما اختلفوا في بيعها على أقوال: القول الأول: يجوز بيع أراضيها، وإجارتها، بلا كراهة، وهو قول أبي يوسف ومحمد ابن الحسن، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة (¬2)، قال ابن رشد: وهو أشهر ¬
القول الثاني
الروايات، والمعتمد الذي به الفتوى، وعليه جرى العمل من أئمة الفتوى والقضاة بمكة (¬1)، وهو مذهب الشافعية (¬2). القول الثاني: لا يجوز البيع، ولا الإجارة، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وهذان قولان متقابلان. القول الثالث: يجوز بيع بناء بيوت مكة، ولا يجوز بيع أراضيها. وهذا أحد القولين عن أبي حنفية (¬5). القول الرابع: يجوز البيع دون الإجارة، وهو اختيار ابن تيمية، وابن القيم (¬6). ¬
القول الخامس
القول الخامس: يكره بيع دور مكة، وكراؤها، وهو مروي عن مالك، قال في الموازنة: فإن قصد بالكراء الآلات والأخشاب جاز، وإن قصد البقعة فلا خير فيه. قال الحطاب: وظاهره أن الكراهة على بابها: أي للتنزيه (¬1). القول السادس: يكره كراؤها في أيام الموسم خاصة، وهو قول لأبي حنيفة (¬2) وقول في مذهب المالكية (¬3). ¬
فخلاصة الأقوال
فخلاصة الأقوال: منع البيع والكراء مطلقًا. جواز البيع والكراء مطلقًا. كراهة البيع والكراء مطلقًا. منع بيع الأرض دون المباني. جواز البيع دون الإجارة. وقد ذكرت أدلة هذه الأقوال في كتاب البيع، في المجلد الخامس فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله. ¬
الفرع الثاني في تأجير العقار عن طريق الوصف
الفرع الثاني في تأجير العقار عن طريق الوصف [م - 898] تأجير العقار عن طريق الوصف له طريقان: إما أن يكون العقار الموصوف غير معين، أو يكون معينًا. فإن كان الوصف لعقار غير معين، بحيث يثبت في الذمة فهذا غير جائز لدى الأئمة الأربعة لعدم جواز ثبوت العقار في الذمة، فلا يصح أن يسلم في العقار، لجهالة المعقود عليه (¬1). ولأن العقار لا بد أن يبين موضعه لتفاوت قيمته باختلاف موضعه، وتبيين موضعه يعني تعيينه، وإذا تعين خرج من كونه في الذمة. قال في الشرح الكبير: "وعين دار وحانوت، وحمام، وخان، ونحوها؛ إذ لا يصح أن يكون العقار في الذمة" (¬2). قال في حاشية الدسوقى معلقًا: "لأنه لا بد في إجارته إذا لم يعين بالإشارة إليه، أو بأل العهدية من ذكر موضعه، وحدوده، ونحو ذلك مما تختلف به الأجرة، وهذا يقتضي تعيينه" (¬3). وقال في الذخيرة: "يمتنع السلم في الدور والأرضين؛ لأن خصوص المواضع فيها مقصود للعقلاء، فإن عين لم يكن سلمًا؛ لأن السلم لا يكون إلا في الذمة، وإن لم يعين كان سلمًا في مجهول" (¬4). ¬
القول الأول
وعلل الحنفية بأن عقد الإجارة لا بد له من محل، والمنافع معدومة وقت العقد، وليست مالاً في نفسها عندهم، وإنما ينعقد بإقامة العين مقام المنفعة، فإذا كانت العين غير موجودة لم يصح العقد، ولهذا منع الحنفية أن يكون العقد على المنافع، فلا يقول: أجرتك منافع هذه الدار، وإنما يصح بإضافته إلى العين، فيقول: أجرتك هذه الدار. ولأن المباني ليست مثلية، وإذا كانت كذلك لم تثبت في الذمة، فلا يجوز إلا أن تكون معينة، ولهذا منع الحنفية إجارة الحيوان إلا معينًا (¬1). [م - 899]، وأما تأجير العقار المعين عن طريق الوصف فهذا هو الذي اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح مطلقًا بلا وصف، وله خيار الرؤية إذا رآه، وهذا مذهب الحنفية. جاء في المبسوط: "إذا تكارى دارًا لم يرها فله الخيار إذا رآها؛ لأن الإجارة كالبيع يعتمد تمام الرضا فكما لا يتم الرضا في البيع قبل الرؤية، فكذلك في الإجارة" (¬2). وجاء في بدائع الصنائع: "لو استأجر دارًا لم يرها ثم رآها فلم يرض بها أنه يردها؛ لأن الإجارة بيع المنفعة فيثبت فيها خيار الرؤية كما في بيع العين فإن رضي بها بطل خياره كما في بيع العين" (¬3). ¬
حجة الحنفية على جواز تأجير العقار المعين بلا وصف ولا رؤية
* حجة الحنفية على جواز تأجير العقار المعين بلا وصف ولا رؤية: دليل الحنفية على استئجار العين بلا وصف ولا رؤية هو دليله في جواز بيع العين بلا وصف ولا رؤية، فما صح في البيع صح في الإجارة، وقد ذكرت دليلهم في كتاب البيع، فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله. القول الثاني: يصح تأجير العقار المعين إذا ضبط بالصفة. وهذا مذهب المالكية، وقول أبي ثور. فإن طابق الصفة الموصوف لزم العقد، وإلا كان له الخيار للخلف في الصفة. جاء في المدونة: "قال ابن القاسم: قال لي مالك: ولو اشترى رجل دارًا في بلدة غائبة عنه إذا وصفت فذلك جائز" (¬1). وجاء في المدونة: "يجوز لي أن أتكارى دارًا بإفريقية وأنا بمصر؟ قال: قال مالك: لا بأس أن تشتري دارًا بإفريقية وأنت بمصر، فكذلك الكراء، ولا بأس بالنقد في ذلك في قول مالك؟ قال: لأن الدار مأمونة. قلت: أرأيت لو أن رجلا من أهل المدينة اكترى دارًا بمصر فلما قدم مصر نظر إليها فقال: هذه حاشية، وهذه بعيدة من المسجد فلا أرضاها؟ قال: الكراء لا يصلح إلا أن يكون قد رأى الدار وعرف موضعها، أو على صفة الدار وموضعها وإلا فالكراء باطل" (¬2). ¬
القول الثالث
القول الثالث: لا يصح بالوصف مطلقًا، بل لا بد من رؤية الدار، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة. جاء في نهاية المحتاج: "إجارة العقار لا تكون إلا عينية، والإجارة العينية يشترط فيها لكل من العاقدين رؤية العين" (¬1). وجاء في أسنى المطالب: "وإجارة العقار لا تكون في الذمة؛ لأنه لا يثبت فيها بدليل منع السلم فيه" (¬2). وجاء في حاشية الجمل: "وإجارة العقار لا تكون إلا على العين، ومثل العقار السفينة؛ فإنه لا يصح السلم فيها، ولا يثبت في الذمة، فلا تكون إجارتها إلا على العين ... " (¬3). وجاء في المغني: "ولا خلاف بين أهل العلم في إباحة إجارة العقار، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن استئجار المنازل والدواب جائز ... ولا بد من مشاهدته وتحديده، فإنه لا يصير معلومًا إلا بذلك، ولا يجوز إطلاقه ولا وصفه" (¬4). وقول الحنفية قول قوي إلا أنه لا بد من اشتراط الخيار؛ لأن الخيار لا يثبت بالعقد إلا بنص صحيح، والحديث الوارد في الباب ضعيف، ولكن يمكن أن يثبت بالشرط، فإذا رآه، ولم يعجبه كان له الخيار، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث في اشتراط بيان ما يستأجر العقار له
الفرع الثالث في اشتراط بيان ما يستأجر العقار له [م - 900] هل يشترط على المستأجر بيان ما استأجرها له؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى جواز إجارة الدور والحوانيت دون أن يبين ما تستأجر له؛ لأن العمل المتعارف فيها أنها للسكنى (¬1). واعتبر الحنفية الجواز من باب الاستحسان، وإلا فالقياس ألا تجوز هذه الإجارة حتى يبين ما يعمل فيها. قال السرخسي: "إذا استأجر الرجل من الرجل دارًا سنة بكذا ولم يسم الذي يريدها له فهو جائز؛ لأن المقصود معلوم بالعرف، فإنما يستأجر الدار للسكنى ويبنى لذلك ألا ترى أنها تسمى مسكنًا، والمعلوم بالعرف كالمشروط بالنص" (¬2). وجاء في البحر الرائق: "والقياس ألا تجوز هذه الإجارة حتى يبين ما يعمل فيها؛ لأن الدار تصلح للسكنى ولغيرها، وكذا الحوانيت تصلح لأشياء مختلفة، فينبغي ألا تجوز حتى يبين ما يعمل فيها كاستئجار الأرض للزراعة والثياب للبس. ¬
وجه الاستحسان
وجه الاستحسان: أن العمل المتعارف فيها السكنى والمتعارف كالمشروط؛ ولأن إجارتها لا تختلف باختلاف العامل والعمل فجاز إجارتها مطلقا بخلاف الأراضي والثياب؛ لأنهما يختلفان" (¬1). وجاء في المهذب: "ولا يفتقر إلى ذكر السكنى ... لأن الدار لا تكترى إلا للسكنى، وذلك معلوم بالعرف، فاستغني عن ذكرها كالبيع بثمن مطلق فيه نقد معروف" (¬2). وقال العمراني في البيان: "إذا استأجر دارًا للسكنى فليس من شرطه أن يفسر السكنى؛ لأنه لا يمكن ضبطها بالوصف" (¬3). وقال ابن قدامة: "وإذا اكترى دارًا جاز إطلاق العقد, ولم يحتج إلى ذكر السكنى، ولا صفتها. وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي" (¬4). القول الثاني: قال أبو ثور: لا يجوز حتى يقول: أبيت تحتها أنا وعيالي، ولو اكتراها ليسكنها، فتزوج امرأة لم يكن له أن يسكنها معه (¬5). واختار بعض الحنابلة بأنه يجب ذكر السكنى، وصفتها، وعدد من يسكنها وصفتهم إن اختلفت الأجرة (¬6). ¬
ورد هذا
ورد هذا: بأن الدار لا تكترى إلا للسكنى، فاستغني عن ذكره، والتفاوت في السكنى يسير، فلم يحتج إلى ضبطه، وما ذكره أبو ثور لا يصح؛ فإن الضرر لا يكاد يختلف بكثرة من يسكن وقلتهم، ولا يمكن ضبط ذلك، فاكتفي فيه بالعرف، ولو اشترط ما ذكره لوجب أن يذكر عدد السكان، وألا يبيت عنده ضيف، ولا زائر، ولا غير من ذكره (¬1). [م - 901] إذا استأجر الرجل المحل للسكنى لم يعمل فيها حدادة، ولا قصارة، ولم يجعلها مخزنًا للطعام (¬2). لأن المستأجر ليس له أن يفعل ما يضر بالبناء ويوهنه؛ ولأن ذلك إتلاف للعين، ولم يدخل تحت العقد؛ إذ الإجارة بيع المنفعة، لا بيع العين. [م - 902] وهل يجوز أن يسكنها دابته، في ذلك خلاف بين العلماء: قيل: لا يسكنها دابته (¬3). والصحيح أن ذلك يختلف باختلاف العادة، فإن كانت الإجارة في موضع جرت العادة بذلك، كأن يكون في الدار مربط للدابة فله ذلك، وإلا فلا (¬4). قال في كشاف القناع: "ولا أن يسكنها دابة، قلت: إن لم تكن قرينة كالدار الواسعة التي فيها إسطبل معد للدواب عملاً بالعرف" (¬5). ¬
والخلاصة أن المستأجر له أن ينتفع بالعين المستأجرة بشرط ألا يتضرر العقار.
الفرع الرابع في اشتراط ألا يسكنها غير المستأجر
الفرع الرابع في اشتراط ألا يسكنها غير المستأجر [م - 903] إذا اشترط المؤجر ألا يسكنها غير المستأجر، فهل يصح الشرط، اختلف العلماء في ذلك على أقوال: القول الأول: العقد صحيح، والشرط لاغ، وهذا مذهب الجمهور. وجهه: أن التقييد لا يفيد؛ لعدم التفاوت في السكنى (¬1). جاء في مواهب الجليل: "إذا استأجر الرجل دارًا ليسكنها, أو دابة ليركبها، ونحو ذلك، لم يتعين عليه أن يسكنها، أو يركبها هو بنفسه، ولو عين نفسه للسكنى أو للركوب، بل له أن يسكنها، أو يكريها لمن شاء ممن هو في رفقه في السكنى، وفي خفته في الركوب، وحذقه في المسير، وذلك لأنه قد ملك المنفعة بالعقد فله أن يملكها لمن شاء كسائر أملاكه" (¬2). وجاء في المدونة: "قلت: أرأيت أن أكريت بيتي من رجل، وشرطت عليه ألا يسكن معه أحد، فتزوج، واشترى رقيقًا أيكون له أن يسكنهم معه إذا أبى عليه رب البيت ذلك؟ قال: ينظر في ذلك، فإن كان لا ضرر على رب البيت في سكنى هؤلاء معه فلا يكون له أن يمنعه ... " (¬3). ¬
القول الثاني
وجاء في المغني: "لو استأجر دارًا ليسكنها كان له أن يسكنها غيره" (¬1). القول الثاني: العقد والشرط صحيحان، وهذا قول في مذهب الحنابلة، واختيار أبي ثور والصيرمي من الشافعية، وابن حزم (¬2). قال أبو ثور: لو اكتراها ليسكنها وحده، فتزوج امرأة لم يكن له أن يسكنها معه. قال الصيرمي من الشافعية: وهو القياس (¬3). "وقيل لأحمد: يجيء إليه زوار عليه أن يخبر صاحب البيت بذلك؟ قال: ربما كثروا، وأرى أن يخبر، وقال: إذا كان يجيئه الفرد ليس عليه أن يخبره" (¬4). القول الثالث: لا يصح العقد ولا الشرط (¬5)، وهو قول في مذهب المالكية، والصحيح من مذهب الشافعية، ووجه في مذهب الحنابلة. جاء في حاشية الرملي: "لو أجره بشرط أن يستوفي المنفعة بنفسه لم يصح على الصحيح" (¬6). ¬
وفي حاشيتي قليوبي وعميرة: "فإن قال: على أن تسكنها، أو بشرط أن تسكنها، أو لتسكنها وحدك لم تصح" (¬1). يعني الإجارة. وعلل الشافعية بطلان العقد: بأن في هذا الشرط حجرًا على المستأجر فيما ملكه بالإجارة. وعلل بعضهم البطلان بأنه شرط يخالف مقتضى العقد، فكان كما لو شرط عليه ألا يستوفي المنافع. وقال ابن قدامة في المغني: "وقد ذكرنا فيما إذا شرط مكتري الدار أنه لا يسكنها غيره وجهًا في صحة الشرط، ووجهًا آخر في فساد العقد" (¬2). والراجح مذهب الجمهور، إلا أن يكون للشرط معنى مقصود، كما لو كان محل الإجارة لا يتحمل أكثر من واحد، وقد يرغب المؤجر حين يؤجر داره لشخص بعينه، ولولا هذا الشخص لم يرغب في تأجير داره لعلمه أن المستأجر حريص على سلامة ماله كحرص صاحبه أو أحسن، أما إذا كان يشترط هذا الشرط على كل مستأجر, سواء كان يعرفه أو لا يعرفه، فهو حجر وتقييد لا معنى له، والله أعلم. ... ¬
المبحث الثالث في إجارة الأراضي
المبحث الثالث في إجارة الأراضي الفرع الأول إجارة الأراضي بالذهب والفضة قال ابن عبد البر: كل ما جاز أن يكون ثمنًا لشيء فجائز أن يكون أجرة في كراء الأرض ما لم يكن مجهولاً أو غرراً (¬1). [م - 904] اختلف العلماء في إجارة الأرض بالذهب والفضة على قولين: القول الأول: تجوز إجارتها بالذهب والفضة، وهذا مذهب الأئمة الأربعة (¬2). * دليل من قال بالجواز: الدليل الأول: (ح-588) ما رواه مسلم من طريق حنظلة بن قيس الأنصاري، قال: سألت ¬
الدليل الثاني
رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم - على الماذيانات، وأقبال الجداول وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به. وقد رواه البخاري بنحوه (¬1). الدليل الثاني: الإجماع، حكى الإجماع جماعة من أهل العلم، منهم الطبري، وابن المنذر، وابن بطال وغيرهم. قال الطبري: "واختلفوا في كراء الأرض البيضاء بشيء من جنس المكترى له بعد إجماعهم على أنها إذا اكتريت بالذهب والورق فجائز" (¬2). وقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن اكتراء الأرض بالذهب والفضة وقتًا معلومًا جائز" (¬3). وقال الحافظ في فتح الباري: "وقد أطلق ابن المنذر أن الصحابة أجمعوا على جواز كراء الأرض بالذهب والفضة، قال: ونقل ابن بطال اتفاق فقهاء الأمصار عليه" (¬4). قال ابن بطال: "اتفقوا على أنه يجوز كراء الأرض بالذهب والفضة، قال ابن المنذر: وهذا إجماع الصحابة" (¬5). ¬
الدليل الثالث
وكأن من نقل الإجماع لم يتلفت إلى خلاف بعض السلف، وابن حزم. الدليل الثالث: (ح-589) ما رواه أحمد من طريق محمد بن عكرمة، عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة، عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص أن أصحاب المزارع في زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي من الزروع، وما سعد بالماء مما حول البئر، فجاؤوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاختصموا في بعض ذلك، فنهاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكروا بذلك، وقال: أكروا بالذهب والفضة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (ث-104) روى عبد الرزاق في المصنف، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، قال: قلت لسعيد بن جبير: إن عكرمة يزعم أن كراء الأرض لا يصلح، فقال: كذب عكرمة سمعت ابن عباس يقول: إن خير ما أنتم صانعون في الأرض البيضاء أن تكروا الأرض البيضاء بالذهب والفضة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الخامس: من النظر، فإن القياس يدل على جواز إجارة الأرض بالذهب والفضة، وذلك أن الأرض عين مباحة يمكن استيفاء المنفعة منها مع بقاء عينها فجازت إجارتها بالأثمان كغيرها. القول الثاني: لا تجوز إجارتها بالذهب والفضة، وهذا قول طاووس والحسن البصري، وعبد الرحمن بن كيسان ورجحه ابن حزم (¬3). ¬
دليل من قال: لا يجوز
* دليل من قال: لا يجوز: (ح-590) روى مسلم في صحيحه من طريق ابن وهب أخبرني عمرو -وهو ابن الحارث- أن بكيرًا حدثه، أن عبد الله بن أبي سلمة حدثه، عن النعمان ابن أبي عياش عن جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن كراء الأرض. قال بكير وحدثني نافع، أنه سمع ابن عمر يقول: كنا نكري أرضنا ثم تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خديج (¬1). وأجيب: بأن رافعًا- رضي الله عنه - قد أخبر بالعلة التي نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، وهو الجهل بالبدل، وأخبر أن كراءها جائز بكل شيء معلوم. (ح- 591) فقد روى البخاري من طريق حنظلة الزرقي، قال: سمعت رافع بن خديج - رضي الله عنه - يقول كنا أكثر الأنصار حقلاً، فكنا نكري الأرض، فربما أخرجت هذه ولم تخرج ذه، فنهينا عن ذلك ولم ننه عن الورق (¬2). وفي رواية للبخاري: كنا أكثر أهل المدينة حقلاً، وكان أحدنا يكري أرضه، فيقول: هذه القطعة لي، وهذه لك، فربما أخرجت ذه، ولم تخرج ذه، فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك (¬3). وفي رواية للبخاري: وأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ (¬4). وفي رواية عن رافع بن خديج، قال: حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض ¬
على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بما ينبت على الأربعاء، أو شيء يستثنيه صاحب الأرض، فنهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك. فقلت لرافع: فكيف هي بالدينار والدرهم؟ فقال رافع: ليس بها بأس بالدينار والدرهم. وقال الليث: وكان الذي نهي عن ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه لما فيه من المخاطرة (¬1). وفي رواية لمسلم: عن حنظلة بن قيس، أنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض فقال نهى - صلى الله عليه وسلم - عن كراء الأرض قال: فقلت: أبالذهب والورق؟ فقال: أما بالذهب والورق فلا بأس به (¬2) فإذا نظرنا إلى مجموع هذه الروايات خرجنا منها بالآتي: أن النهي عن كراء الأرض إنما كان متوجهًا إلى كرائها بجزء معين معلوم مما يخرج منها، فربما أخرجت هذه، ولم تخرج تلك، فلحق الأجرة جهالة، ولذلك قال الليث قوله السابق. أما الذهب والورق فجاء جوازه من قول رافع، واستدل رافع تارة بقوله: وأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ، وبلفظ آخر: فلم ننه عنه، واحتج رافع للجواز بكونه معلومًا. قال ابن حجر في فتح الباري: "يحتمل أن يكون رافع قال ذلك باجتهاده، ويحتمل أن يكون علم ذلك بطريق التنصيص على جوازه، أو علم أن النهي عن كراء الأرض ليس على إطلاقه، بل بما إذا كان بشيء مجهول، أو نحو ذلك، فاستنبط من ذلك جواز كراء الأرض بالذهب والفضة" (¬3). ¬
وتعقب هذا
وتعقب هذا: بأن رافعًا - رضي الله عنه - قد قال هذا اجتهاداً منه في فهم الحديث، وليس بالنص من المعصوم عليه الصلاة والسلام، وفهم الصحابي غير معصوم، وحديث رافع فيه اختلاف كثير في ألفاظه، ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى أن أحاديث رافع في ذلك مضطربة الألفاظ، مختلفة المعاني، وقد روي النهي عن كراء الأرض في حديث جابر، والنهي مطلق، لم يستثن شيئًا، ولم يختلف على جابر كما اختلف على رافع (¬1). "وكان أحمد بن حنبل يقول: أحاديث رافع في كراء الأرض مضطربة، وأحسنها حديث يعلي بن حكيم، عن سليمان بن يسار، عن رافع بن خديج" (¬2). ويجاب: بأن هذا ليس فهم رافع وحده، بل هو إجماع الصحابة على جواز كراء الأرض بالذهب والفضة. قال ابن بطال: "اتفقوا على أنه يجوز كراء الأرض بالذهب والفضة، قال ابن المنذر: وهذا إجماع الصحابة" (¬3). * الراجح: قول الجمهور، وهو جواز كراء الأرض بالذهب والفضة، والله أعلم. ... ¬
الفرع الثاني إجارة الأرض بالعروض سوى الطعام
الفرع الثاني إجارة الأرض بالعروض سوى الطعام قال السرخسي: كل ما يصلح ثمنًا في البيع يصلح أجرة في الإجارة (¬1). [م - 905] اختلف العلماء في إجارة الأرض بالعروض عدا الطعام: فذهب الأئمة الأربعة إلى القول بالجواز، وهو قول عامة أهل العلم (¬2). قال ابن قدامة: "تجوز إجارتها بالورق والذهب وسائر العروض سوى المطعوم في قول أكثر أهل العلم" (¬3). وقال ربيعة وسعيد بن المسيب: لا يجوز كراء الأرض إلا بالذهب والفضة (¬4). ¬
وقال بعض السلف، واختاره ابن حزم: لا يجوز كراء الأرض مطلقًا (¬1)، وسبق ذكر هذا القول. وأدلة هذه المسألة هي أدلة المسألة السابقة، ولذلك قال ابن قدامة: "والحكم في العروض كالحكم في الأثمان" (¬2). ¬
الفرع الثالث في إجارة الأرض بالطعام
الفرع الثالث في إجارة الأرض بالطعام المسألة الأولى إجارة الأرض بطعام معلوم من غير الخارج منها [م - 906] هل يصح إجارة الأرض بطعام معلوم من غير الخارج منها، اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: ذهب الجمهور إلى جوازه. قال ابن قدامة: وهو قول أكثر أهل العلم (¬1). * دليل الجمهور القائلين بالجواز: دليل القائلين بالجواز هي نفس الأدلة المتقدمة في حكم إجارة الأرض بالذهب والفضة، وقد سبق ذكرها. القول الثاني: لا يجوز إجارة الأرض بما تنبت سواء كان طعامًا كالقمح، أو غير طعام ¬
دليل المالكية على منع إجارة الأرض بالطعام مطلقا
كالكتان، ولا يجوز إجارة الأرض بطعام سواء كان ينبت فيها كالقمح، أو لا ينبت فيها كالعسل والسمن واللحم. وهذا قول مالك (¬1). * دليل المالكية على منع إجارة الأرض بالطعام مطلقًا: أن هذا الطعام إن كان مما سوف ينبته المكتري ويزرعه في الأرض فإن النهي عن ذلك للنهي عن المحاقلة. وإن كان الطعام من غيره مما لا تنبته الأرض كالعسل، واللحم، فإن النهي من أجل بيع الطعام بالطعام إلى أجل، وذلك أن المنفعة المقصودة من كراء الأرض هو الطعام، فكراؤها بالطعام يدخله بيع الطعام بالطعام نسيئة، وذلك منهي عنه (¬2). جاء في المنتقى: "قال ابن حبيب: قال مالك: فيما نهي عنه من المحاقلة: هو اكتراء الأرض بالحنطة. ووجه ذلك من جهة المعنى: أنه منفعة الأرض التي اكتريت لها، وهي ¬
المنفعة المقصودة منها إنما هو الطعام الخارج، فإذا اكتراها منه بطعام فهو طعام بطعام غير مقبوض ولا مقدر" (¬1). (ح-592) وقد روى الشيخان من طريق ابن جريج، عن عطاء، سمع جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - نهى النبي في عن المخابرة، والمحاقلة، وعن المزابنة، وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه ... الحديث (¬2). (ح-593) وروى الشيخان النهي عن المحاقلة من حديث أبي سعيد الخدري (¬3). وفي رواية مسلم زيادة: والمحاقلة: كراء الأرض. وفي رواية مالك في الموطأ: والمحاقلة: كراء الأرض بالحنطة. (ح-594) وروى الإمام البخاري بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنه -، قال: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المحاقلة والمزابنة (¬4). (ح-595) وروى البخاري أيضًا بإسناده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المحاقلة ... الحديث (¬5). (ح-596) وروى مسلم النهي من مسند أبي هريرة، من طريق سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه عنه (¬6). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: جاء في الأحاديث السابقة النهي عن المحاقلة والمخابرة. والمحاقلة لها تفسيران: أحدهما: في معنى المزابنة، وذلك شراء الزرع الذي استحصد بحب من جنسه. والثاني: كراء الأرض بما يخرج منها، وقد جاء في حديث أبي سعيد عند مسلم، والموطأ النهي عن المحاقلة، وفيه والمحاقلة كراء الأرض زاد مالك بالحنطة، قالوا: وفي معنى كراء الأرض بالحنطة كراؤها بجميع أنواع الطعام، سواء كان مما يخرج منها، أو من سائر صنوف الطعام (¬1). والمخابرة: هو كراء الأرض بما يخرج منها (¬2). (ح-597) وقد روى مسلم بسنده عن ابن المسيب مرسلاً، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع المزابنة، والمحاقلة، والمزابنة: ثمر النخيل بالتمر، والمحاقلة: أن يباع الزرع بالقمح، واستكراء الأرض بالقمح (¬3). فذكر ابن المسيب التفسيرين معًا في تعريف المحاقلة. ونوقش هذا: لم يرض الجمهور تفسير الإمام مالك المحاقلة بأنه كراء الأرض بالحنطة، وإنما فسروها كما فسرها جابر عند مسلم، المحاقلة في الزرع: بيع الزرع القائم ¬
الدليل الثاني
بالحب كيلاً (¬1). أو هو بيع الحنطة في سنبلها بحنطة صافية ومالك لا يمانع من أن هذا يطلق عليه محاقلة، ولكن لا يقصر المحاقلة على ذلك، بل يشمل هذا ويشمل كراء الأرض بالحنطة، كما ورد في حديث أبي سعيد عند مسلم والموطأ، ومرسل سعيد بن المسيب (¬2). وأجاب ابن قدامة عن حديث أبي سعيد بقوله: "حديث أبي سعيد يحتمل المنع من كرائها بالحنطة إذا اكتراها لزرع الحنطة" (¬3). ولو سلم أن كراء الأرض بالحنطة من قبيل المحاقلة، فإن مالكًا يمنع كراء الأرض بالسمن والعسل واللحم، وليس في ذلك محاقلة. الدليل الثاني: (ح-598) ما رواه مسلم من طريق يعلي بن حكيم، عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج قال: كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنكريها بالثلث، والربع، والطعام المسمى، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي، فقال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، نهانا أن نحاقل بالأرض، فنكريها على الثلث، والربع، والطعام المسمى، وأمر رب الأرض أن يزرعها، أو يزرعها وكره كراءها وما سوى ذلك (¬4). ¬
القول الثالث
قال ابن رشد: "وعمدة من أجاز كراءها بكل شيء ما عدا الطعام ... حديث يعلي بن حكيم، عن سليمان بن يسار، عن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكرها بثلث، ولا ربع، ولا بطعام معين، قالوا: وهذا هو معنى المحاقلة التي نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنها، وذكروا حديث سعيد بن المسيب مرفوعًا، وفيه: والمحاقلة استكراء الأرض بالحنطة ... " (¬1). القول الثالث: لا تكرى بالحنطة وأخواتها كالشعير والسلت، وتكرى بما سوى ذلك من مطعوم وغيره. وهذا قول ابن نافع (¬2). * وجه قول ابن نافع: يرجع قول ابن نافع إلى مذهب المالكية أن الحنطة والشعير والسلت جنس واحد في الربا، فكل ما يجوز فيه التفاضل بينه وبين القمح فإنه يجوز أن تكرى به الأرض كالذهب والفضة (¬3). القول الرابع: لا تكرى بشيء إذا أعيد فيها نبت، وتكرى بغير ذلك من طعام أو غيره مما لا تنبت. وهذا قول ابن كنانة (¬4). ¬
وجه قول ابن كنانة
* وجه قول ابن كنانة: أن إجارة الأرض بما لا ينبت فيها جائز قياسًا على إجارتها بالحطب والجذوع، وقد أجازه مالك (¬1). * الراجح: أرى أن قول الجمهور أقرب للصواب، فقد قال رافع بن خديج في صحيح مسلم: فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس (¬2). ¬
المسألة الثانية إجارة الأرض بطعام معلوم من جنس الخارج منها
المسألة الثانية إجارة الأرض بطعام معلوم من جنس الخارج منها [م - 907] في المسألة السابقة ناقشنا حكم إجارة الأرض بطعام معين معلوم من غير الخارج منها، وفي هذه المسألة نبحث حكم إجارتها بطعام معلوم في ذمة المكتري من جنس ما يزرع فيها إذا لم يشترط أن يكون مما يخرج منها، كإجارتها بمائة صاع من حنطة أو شعير، ويكون الزرع من جنس ذلك العوض المتفق عليه، فقد اختلف فيه الفقهاء على قولين: فقيل: يجوز، وهو قول الجمهور. وقيل: لا يجوز، وهو قول مالك، ورواية عن الإمام أحمد. وقد سبق لنا أن مالكًا لا يفرق في المنع بين كون الأجرة طعامًا من جنس ما يخرج من الأرض أو من غيره، وسواء كان مما تنبت الأرض أو مما لا تنبت كاللحم والعسل. قال ابن قدامة: "إجارتها بطعام معلوم من جنس ما يزرع فيها، كإجارتها بقفزان حنطة لزرعها، فقال أبو الخطاب: فيها روايتان: إحداهما: المنع. وهي التي ذكرها القاضي مذهبًا، وهي قول مالك؛ لما تقدم من الأحاديث؛ ولأنها ذريعة إلى المزارعة عليها بشيء معلوم من الخارج منها؛ لأنه يجعل مكان قوله زارعتك آجرتك، فتصير مزارعة بلفظ الإجارة، والذرائع معتبرة. والثانية: جواز ذلك. اختارها أبو الخطاب. وهو قول أبي حنيفة،
الراجح
والشافعي؛ لما ذكرنا في القسم الأول، ولأن ما جازت إجارته بغير المطعوم، جازت به، كالدور" (¬1). وهذه المسألة فرد من المسألة السابقة، وأدلتها هي أدلة المسألة السابقة، فارجع إليه إن شئت. والراجح: هو القول بالجواز، والمعاوضة هي بين الطعام وبين إجارة الأرض، وليست المعاوضة بين الطعام وما يخرج من الأرض لسببين: الأول: أن ما يخرج من الأرض مجهول، والإجارة يجب أن تكون على شيء معلوم، والمعلوم هو الأرض لا ما يخرج منها بالزرع. الثاني: أننا لو جعلنا المعاوضة بين الأجرة، وبين قصد المستأجر من الأرض، لقلنا بتطبيق أحكام الربا بين الثمن وسلع التجار، فإن التاجر عندما يشتري أو يبيع السلع إنما يقصد بذلك الثمن لا عين السلعة، فإذا كان الثمن في المبيع نقدًا وجب تطبيق أحكام الربا والصرف باعتبار أن مقصود التاجر من السلع هو النقد، والثمن نقد، والأثمان يجري فيها ربا الفضل والنسيئة، ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم، وإذا كنا لا ننظر إلى قصد التاجر من شراء السلع وبيعها، وأن المعاوضة في البيع بين عرض وثمن بصرف النظر عن قصد البائع، فكذلك عقد الإجارة هو بين إجارة أرض من جهة وبين الطعام كأجرة، وليس بين الطعام وما يقصده المستأجر من الأرض، بل إن المالكية قد أجازوا إجارة الظئر بطعامها، وسبق بحثها، وهو طعام في مقابل طعام، بل هو أبلغ من إجارة الأرض بالطعام، والله أعلم. ... ¬
المسألة الثالثة إجارة الأرض بجزء مشاع معلوم مما يخرج منها
المسألة الثالثة إجارة الأرض بجزء مشاع معلوم مما يخرج منها [م - 908] اختلف العلماء في إجارة الأرض بجزء مشاع معلوم مما يخرج منها كالثلث والنصف والربع: فقيل: لا يجوز، وهو قول أبي حنيفة، ومذهب المالكية، والشافعية، واختاره أبو الخطاب من الحنابلة، ورجحه ابن قدامة (¬1). وقيل: تجوز، وهو قول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية، وعليه الفتوى في المذهب، واختاره بعض المالكية، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، ورجحه ابن حزم (¬2). ¬
وقد اختلف في هذا العقد، هل هو إجارة، أو مزارعة، والراجح أنه مزارعة بلفظ الإجارة، ولهذا تجد أن صاحب الأرض والمزارع يشتركان في المغنم والمغرم، فإن حصل شيء اشتركا فيه، وإن لم يحصل اشتركا في الحرمان، ولا يجوز أن يشترط لأحدهما شيء مقدر من النماء كالمضاربة، وهذه أحكام المزارعة، وليست أحكام الإجارة، وما دام الشأن كذلك فسوف نذكر أدلة هذه المسألة إن شاء الله تعالى في باب المزارعة، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. ¬
المسألة الرابعة في إجارة الأرض المشغولة بالزرع للغير
المسألة الرابعة في إجارة الأرض المشغولة بالزرع للغير [م - 909] اختلف العلماء في إجارة الأرض المشغولة بالزرع، ومثله الدار المشغولة بمتاع الساكن على ثلاثة أقوال: القول الأول: إن كان وجود الزرع بحق فلا تجوز إجارتها ما لم يستحصد الزرع إلا أن يؤجرها مضافة إلى المستقبل. وإن كان وجود الزرع بغير مستند شرعي صحت الإجارة؛ لأن الزرع واجب القلع، والمؤجر قادر على تسليم ما أجره بأن يجبر صاحب الزرع بقلعه سواء أدرك أو لم يدرك؛ لأنه لا حق لصاحبه في إبقائه، وهذا مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: لا تصح إجارة الأرض المشغولة بالزرع والمتاع، وهذا مذهب الشافعية، وأحد القولين في مذهب الحنابلة (¬2). قال الشافعي في الأم: "وإذا تكارى الرجل من الرجل أرضًا فيها زرع لغيره لا يستطيع إخراجه منها إلى أن يحصده فالكراء مفسوخ لا يجوز حتى يكون المكتري يرى الأرض لا حائل دونها من الزرع، ويقبضها لا حائل دونها من الزارعين؛ لأنا نجعله بيعًا من البيوع، فلا يجوز أن يبيع لرجل عينًا لا يقدر ¬
القول الثالث
المبتاع على قبضها حين تجب له ويدفع الثمن، ولا أن نجعل على المبتاع والمكتري الثمن ولعل المكترى أن يتلف قبل أن يقبضه، ولا يجوز أن نقول له: الثمن دين إلى أن يقبض فذلك دين بدين" (¬1). القول الثالث: تصح إجارة الأرض المشغولة بالزرع والمتاع إذا كانت مضافة إلى زمن مستقبل يمكن فيها إخلاء الأرض من الزرع والمتاع. وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). قال ابن القيم: "لا تصح إجارة الأرض المشغولة بالزرع، فإن أراد ذلك فله حيلتان جائزتان: إحداهما: أن يبيعه الزرع ثم يؤجره الأرض، فتكون الأرض مشغولة بملك المستأجر، فلا يقدح في صحة الإجارة، فإن لم يتمكن من هذه الحيلة لكون الزرع لم يشتد أو كان زرعا للغير انتقل إلى الحيلة الثانية، وهي أن يؤجره إياها لمدة تكون بعد أخذ الزرع، ويصح هذا بناء على صحة الإجارة المضافة" (¬3). القول الرابع: اختار ابن تيمية الجواز مطلقًا، وهو أحد القولين في مذهب الحنابلة (¬4). ولعل دليله في هذا أن هذا حق للمستأجر فإذا علم بذلك، ورضي فقد تنازل عن حقه برضاه، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني في إجارة الحيوان
الفصل الثاني في إجارة الحيوان المبحث الأول في إجارة الفحل للضراب [م - 910] اختلف الفقهاء في إجارة الفحل للضراب على قولين: القول الأول: لا يجوز، وهو مذهب الجمهور (¬1). القول الثاني: تجوز إجارة الفحل للضراب مدة معلومة، وهو مذهب المالكية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). واختار ربيعة جواز ذلك إذا كان له أجل ينتهي إليه ضرابه، ولم يكن يضمن له اللقاح (¬5). ¬
دليل من قال: لا يجوز
* دليل من قال: لا يجوز: الدليل الأول: (ح-599) ما رواه البخاري من طريق علي بن الحكم، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه -, قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عسب الفحل (¬1). وجه الاستدلال: لا يمكن حمل النهي على نفس العسب، وهو الضراب؛ لأن ذلك جائز بالإعارة، فيحمل على إجارته للضراب إلا أنه حذف ذلك وأضمره فيه، كما في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. الدليل الثاني: أن المعقود عليه مجهول، وغير متقوم، ولا مقدور على تسليمه. قال ابن قدامة: "لأنه مما لا يقدر على تسليمه، فأشبه إجارة الآبق، ولأن ذلك متعلق باختيار الفحل وشهوته، ولأن المقصود هو الماء، وهو مما لا يجوز إفراده بالعقد، وهو مجهول" (¬2). وقال الزيلعي في تبيين الحقائق: "وإنما نهي عنه للجهالة التي فيه، ولا بد في الإجارة من تعيين العمل، ومعرفة مقداره" (¬3). وقال بعضهم: "بأن ثمرته المقصودة غير معلومة، فإنه قد يلقح، وقد لا يلقح، فهو غرر" (¬4). وهذا معنى التعليل بالجهالة. ¬
وأجاب المالكية
وأجاب المالكية: بأن النهي محمول على ما فيه غرر كما لو اشترط الحمل (¬1). ويجاب: بأن اشتراط الحمل لم يرد في شيء من النصوص، فحمل النهي على أمر لم يذكر في النص تأويل غير سائغ. الدليل الثالث: يرى الحنفية بأن منع إجارة الفحل للضراب لكون الضراب ليس مالاً (¬2). وهذا يصدق على مذهب الحنفية وحدهم باعتبار أن المنافع عندهم ليست من قبيل الأموال، أما الجمهور فلا يعللون بذلك؛ لأن المنافع عندهم أموال. الدليل الرابع: علل الحنفية النهي بكون المعقود عليه معدومًا عند العقد. قال في بدائع الصنائع: "عسب الفحل ضرابه، وهو عند العقد معدوم" (¬3). ويجاب: أن هذا شأن المنافع كلها عند العقد تكون معدومة، ولكن الفقهاء اعتبروا قبض العين بمثابة قبض المنفعة، والله أعلم. الدليل الخامس: علل الشيرازي بأن ماء الفحل لا قيمة له لكونه محرمًا. ¬
ويناقش
قال في المهذب: "نهى عن ثمن عسب الفحل؛ لأن المقصود منه هو الماء الذي يخلق منه، وهو محرم، لا قيمة له، فلم يجز أخذ العوض عليه، كالميتة والدم" (¬1). ويناقش: بأن هذا يصدق على مذهب الشافعية القائلين بنجاسة المني مطلقًا، واشتراط الطهارة في المعقود عليه، أما من يرى أن طهارة المعقود عليه ليس بشرط في المعقود عليه كما حررت ذلك في عقد البيع، أو يرى طهارة المني من الحيوان الطاهر فلا يصلح هذا تعليلاً للنهي عنده. الدليل السادس: قال ابن القيم: "النهي عن بيع عسب الفحل من محاسن الشريعة وكمالها، فإن مقابلة ماء الفحل بالأثمان، وجعله محلاً لعقود المعاوضات مما هو مستقبح، ومستهجن عند العقلاء" (¬2). * دليل من قال: تجوز إجارته لمدة معلومة. الدليل الأول: القياس على إجارة الظئر للرضاع، مع أنه ممنوع بيع لبنها. ويناقش: بأن هذا قياس فاسد؛ لأنه نظر في مقابل النص. الدليل الثاني: القياس على جواز الإجارة على تلقيح النخل. ¬
ويناقش
ويناقش: بأن تلقيح النخل أمر ظاهر معلوم، والإنسان قادر على تسليم المنفعة بخلاف ماء الفحل فإنه مجهول، وغير مقدور على تسليمه. الدليل الثالث: أن الضراب منفعة مقصودة، والحاجة تدعو إليه، ولولا ذلك لانقطع النسل، والعقد إنما هو على ضراب الفحل، وهي منفعة معلومة، والماء تابع، والغالب حصوله عقيب نزوه، فيكون كالعقد على الظئر. ويجاب عن ذلك: بأن قيام الحاجة إليه ليس مسوغًا لجواز بيعه، فهذا الكلب نهى الشارع عن أخذ ثمنه، مع قيام الحاجة إليه في الحراسة، والصيد، ونحوهما، والمقصود هو ماء الفحل، والضراب وسيلة إليه، وإذا كان الفقهاء قد منعوا من بيع اللبن في الضرع مع أن تحصيله أمر ممكن مقدور عليه، فالنهي عن بيع عسب الفحل من باب أولى؛ لأنه عين غائبة، غير مقدور على تسليمها، والله أعلم. الدليل الرابع: ذكر بعض المالكية بأن مالكًا إنما أجاز إجارة الفحل؛ لأن العمل عليه عند أهل المدينة، ومعروف رأي مالك في الاحتجاج بعمل أهل المدينة (¬1). ويجاب: بأن الحجة هو في الدليل الشرعي من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أما عمل أهل المدينة، فلم نؤمر عند النزاع بالرجوع إليه. ¬
الراجح
قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]. * الراجح: بعد استعراض أقوال العلماء أجد أن القول بالمنع أقوى دليلاً، خاصة مع صحة النهي عن المعصوم عليه الصلاة والسلام، وإذا لم يجد الإنسان فحلاً بالإعارة جاز له دفع الأجرة على ذلك، والإثم على المؤجر وحده بعد أن يبين له أنه لا يحل له أخذ العوض على الضراب، والله أعلم. ***
المبحث الثاني في إجارة الكلب للصيد
المبحث الثاني في إجارة الكلب للصيد [م - 911] اختلف العلماء في استئجار الكلب للصيد على قولين. القول الأول: لا يجوز، وهو مذهب الحنفية، والصحيح من مذهب الشافعية، والحنابلة (¬1). القول الثاني: يجوز استئجار الكلب للصيد، وهو مذهب المالكية، واختيار ابن حزم (¬2). وسبق تحرير الخلاف في المسألة مع ذكر الأدلة. ... ¬
الفصل الثالث في إجارة الأشخاص
الفصل الثالث في إجارة الأشخاص المبحث الأول في أقسام إجارة الأشخاص [م - 913] تنقسم إجارة الأشخاص إلى قسمين: القسم الأول: الأجير الخاص: وهو من يكون العقد واردًا على منافعه، ولا تصير منافعه معلومة إلا بذكر المدة بحيث تكون منافعه مستحقة للمستأجر في تلك المدة. ويسميه بعض الفقهاء (أجير الواحد) كالخادم، والموظف. القسم الثاني: الأجير المشترك: وهو من يكون عقده واردًا على عمل معلوم ببيان محله، ويعمل للمؤجر ولغيره كالنجار، والحداد، والبناء، والقصار. * والفرق بين الأجير المشترك والخاص من وجوه: أحدها: أن الأجير المشترك يشترك الناس في منفعته بخلاف الخاص حيث يختص المستأجر بمنفعته مدة العقد دون سائر الناس. الثاني: أن العقد في الأجير المشترك وارد على العمل، فمنافعه ليست مستحقة للمستأجر، بخلاف الخاص فإن العقد وارد على المنفعة، فمنافعه مستحقة للمستأجر خلال مدة الإجارة. وينبني على هذا الفرق التالي:
الثالث: أن الأجير المشترك يستحق الأجرة بالعمل، لا بتسليم النفس؛ لأنه يعمل للعامة، ولأن المعقود عليه هو العمل فلا يستحق أجرة إذا لم يعمل، وأما الأجير الخاص فيستحق الأجرة بالوقت دون العمل، فإذا سلم نفسه في الوقت، وإن لم يعمل فقد استحق الأجرة؛ لأن المعقود عليه هو منفعته. الرابع: يضمن الأجير المشترك إذا كان التلف بسبب يرجع إلى الصنعة على الصحيح، سواء أكان متعديًا أم لم يكن، وسواء تجاوز المعتاد أو لم يتجاوز؛ لأن ما يدخل تحت عقد الإجارة هو العمل السليم، وأما العمل الفاسد فلا يدخل تحت الإجارة، وأما ما تلف بسبب لا يرجع إلى الصنعة كالحفظ ونحوه فلا يضمنه إن لم يكن منه تعد أو تفريط (¬1). وأما الأجير الخاص فلا يضمن مطلقًا إلا بالتعدي والتفريط؛ لأنه أمين، ولأن المنافع مملوكة للمستأجر، فإذا أمره بالتصرف في ملكه صح، ويصير فعله منسوبًا إليه (المستأجر) كأنه فعله بنفسه، فلهذا لا يضمن، وهذا بالاتفاق. وسيأتي مزيد بحث للضمان في مباحث مستقلة إن شاء الله تعالى. الخامس: لا يجوز للأجير الخاص أن يستأجر غيره لإنجاز ما استؤجر عليه، لأن العقد وقع على منافعه نفسه، لا على عمل غيره، ويجوز للأجير المشترك إذا لم يشترط عليه العمل بنفسه أن يكلف غيره بذلك العمل. السادس: لا بد من بيان العمل المعقود عليه في الأجير المشترك علمًا ينفي الجهالة، ويقطع النزاع، وأما الأجير الخاص فليس من شرطه أن يكون معلومًا من كل الوجوه، فيكفي أن يستأجره للبناء يومًا، أو شهرًا، أو سنة، أو نحو ذلك ¬
دون بيان لمقدار ما سوف يبنيه، والأجراء يتفاوتون، فقد يبني أحدهم في يوم ما يبنيه الآخر في يومين أو في ثلاثة وهكذا (¬1). ¬
المبحث الثاني في إجارة الظئر
المبحث الثاني في إجارة الظئر الفرع الأول في تعريف الظئر [م - 913] الظئر: هي المرضعة لغير ولدها من الناس والإبل (¬1). ويقع لفظ الظئر على الأنثى والذكر، ولذا يقال لزوج المرضعة ظئر (¬2): (ح-600) ففي صحيح البخاري: دخلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أبي سيف القين، وكان ظئرًا لإبراهيم عليه السلام ... الحديث (¬3). قال العيني: الظئر زوج المرضعة، وتسمى المرضعة ظئرًا (¬4). وفي المصباح المنير: الظئر .. الناقة تعطف على غير ولدها، ومنه قيل للمرأة الأجنبية تحضن ولد غبرها ظئر، وللرجل الحاضن ظئر (¬5). وجاء في معجم مقاييس اللغة: الظاء والهمزة والراء أصل صحيح يدل على العطف والدنو. وإنما سميت بذلك لعطفها على من تربيه (¬6). ¬
الفرع الثاني في حكم استئجار الظئر
الفرع الثاني في حكم استئجار الظئر [م - 914] لم يختلف الفقهاء في جواز استئجار الظئر (¬1). قال ابن قدامة: "أجمع أهل العلم على جواز استئجار الظئر" (¬2)، وحكى الإجماع ابن نجيم والزيلعي وغيرهما (¬3). ومستند ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. وقوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق:6]. (ح-601) وما رواه مسلم من طريق أيوب، عن عمرو بن سعيد، عن أنس بن مالك قال: ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: كان إبراهيم مسترضعًا له في عوالي المدينة، فكان ينطلق، ونحن معه، فيدخل البيت وإنه ليدخن، وكان ظئره قينًا، فيأخذه فيقبله، ثم يرجع، قال عمرو: فلما توفي إبراهيم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة (¬4). وفي رواية لمسلم، قال: ولد لي الليلة غلام، فسميته باسم أبي إبراهيم، ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قين يقال له أبو سيف ... الحديث (¬5). ¬
وقد ذكر الحنفية أن جواز إجارة الظئر من باب الاستحسان، وأن القياس عدم جوازه؛ لأنها إجارة ترد على استهلاك العين، وقد حاول بعض الفقهاء الخروج من هذا إما بالقول بأن العقد جاز؛ لأن الضرورة تدعو إليه لبقاء الآدمي، ولا يقوم غيرها مقامها (¬1). وإما بالقول: إن العقد وارد على حضانة الصبي، وتلقيمه ثديها، وخدمته وتربيته، واللبن تابع (¬2). ويرى آخرون أن إجارة الظئر على وفق القياس، بل لا يوجد في الشريعة حكم على خلاف القياس الصحيح (¬3). وسبق بحث هذه المسألة في مبحث مستقل، والحمد لله. ¬
الفرع الثالث العقد على الرضاع هل يدخل فيه الحضانة
الفرع الثالث العقد على الرضاع هل يدخل فيه الحضانة [م - 915] إذا شرطت الحضانة على المرضع، أو كان العرف يقضي بذلك فإن الحضانة على المرضع؛ لأن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا (¬1). أما إذا أطلق العقد، ولم ينص على الحضانة، ولم يكن هناك عرف فهل تدخل الحضانة في العقد من تربية الصبي، وحفظه، وجعله في سريره، وربطه، ودهنه، وكحله، وتنظيفه، وغسل خرقه، وأشباه ذلك، أو لا تدخل؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: تدخل في العقد الحضانة، وهذا مذهب الحنفية، وأحد القولين في مذهب الشافعية والحنابلة، واختاره بعض المالكية (¬2). * وجه ذلك: علل بعض الشافعية دخولها باعتبار أن الحضانة تابعة للرضاع، فاستحقت بالعقد (¬3). قال في الحاوي: "فإن شرط عليها مع الرضاع حضانة الطفل وخدمته لزمها، ¬
القول الثاني
وإن أغفلا ذلك ففي لزومه لها وجهان من اختلاف أصحابنا في الحضانة، هل مقصودها الرضاع والخدمة أم الخدمة، والرضاع تبع. فأحد الوجهين: أن الخدمة تبع للرضاع في الحضانة، فعلى هذا لا تجبر على خدمته. والثاني: أن الرضاع تبع للخدمة، فعلى هذا تجبر على خدمته" (¬1). وعلل الحنفية دخولها لجريان العرف بذلك، فالعقود المطلقة تحمل فيما لا نص فيه على العرف والعادة، والعادة جارية بقيام المرضع على حضانة الطفل. القول الثاني: لا تدخل، بل تكون على أبيه وهو قول أبي ثور، ومذهب المالكية، وأحد القولين في مذهب الشافعية والحنابلة (¬2). جاء في منح الجليل: "لا يلزم الظئر حضانة، ولا الحاضنة إرضاع ... " (¬3). * وجه عدم دخولها: أن الحضانة والرضاعة منفعتان مقصودتان تنفرد إحداهما عن الأخرى، فلا يلزم من العقد على الإرضاع دخول الحضانة. قال ابن قدامة: "فيه وجهان: أحدهما: لا تدخل. وهو قول أبي ثور، وابن المنذر؛ لأن العقد ما تناولها. ¬
الراجح
والثاني: تدخل. وهو قول أصحاب الرأي؛ لأن العرف جار بأن المرضعة تحضن الصبي، فحمل الإطلاق على ما جرى به العرف والعادة، ولأصحاب الشافعي وجهان، كهذين" (¬1). * الراجح: أن الحضانة لا تدخل إلا بشرط أو عرف، والله أعلم. ¬
الفرع الرابع وجوب امتناع الظئر عما يفسد لبنها
الفرع الرابع وجوب امتناع الظئر عما يفسد لبنها [م - 916] صرح الحنفية والشافعية أن للمستأجر أن يمنع المرضع عن أكل كل ما يضر بلبنها. جاء في البحر الرائق: "ولا تأكل شيئًا يفسد لبنها، وتضمن به" (¬1). وقال الماوردي: "ولولي الطفل أن يمنعها من أكل ما يضر بلبنها" (¬2). قال في مغني المحتاج: "قال الماوردي ... والصيرمي والرويان: إن له منعها من أكل ما يضر بلبنها" (¬3). وقال بعض الشافعية والحنابلة: على المرضع أن تأكل وتشرب كل ما يكثر به اللبن، وللمكتري تكليفها بذلك. جاء في البهجة الوردية: "ويلزم المرضعة أن تأكل وتشرب ما يدر به اللبن، وللمكتري أن يكلفها ذلك، قاله الشيخان. قال ابن الرفعة: وفيه نظر، والذي قاله الماوردي أن للمكتري أن يمنعها من أكل ما يضر باللبن" (¬4). وجاء في المغني: "على المرضعة أن تأكل وتشرب ما يدر به لبنها، ويصلح به، وللمكتري مطالبتها بذلك؛ لأنه من تمام التمكين من الرضاع، وفي تركه ¬
إضرار بالصبي" (¬1). وبعض الشافعية جمع بين الأمرين، جاء في حاشية الجمل: "وتكلف المرضعة تناول ما يكثر اللبن، وترك ما يضره ... " (¬2). والذي يظهر لي أن الإكراه على نوع الطعام لكونه يكثر لبنها ليس ممكنًا؛ لأن الإنسان لا يأكل إلا ما يشتهي، وفي الوقت الذي يشتهي، والناس مختلفون في ذلك، وأما منع الظئر من أكل ما يضر بلبنها فهو قول وجيه جدًا؛ لأن الإنسان ممنوع من تعاطي ما يضر بالغير، ولو كان مباحًا في نفسه، والله أعلم. ... ¬
الفرع الخامس في وجوب تعيين الرضيع
الفرع الخامس في وجوب تعيين الرضيع [م - 917] اختلف العلماء في وجوب تعيين الرضيع على ثلاثة أقوال: القول الأول: يجب تعيين الرضيع إما بالمشاهدة أو بالوصف، وإن لم يجرب رضاعه؛ لأن الرضاع متقارب، وهو المشهور من مذهب المالكية، والمعتمد في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة صوبه المرداوي في الإنصاف وتصحيح الفروع (¬1). قال في الحاوي: "وإذا استأجر امرأة لرضاع طفل جاز إذا عرفت سنه مشاهدة، أو خبرًا، وكان زمان رضاعه معلومًا، فإن لم تشاهده، ولا أخبرت بسنه لم يجز؛ لاختلاف شربه باختلاف سنه" (¬2). القول الثاني: تشترط رؤية الرضيع، ولا يكفي وصفه عن رؤيته، وهو المعتمد عند الشافعية، والمذهب عند الحنابلة (¬3). ¬
القول الثالث
لأن الرضاع يختلف باختلاف الرضيع كبرًا، وصغرًا، ونهمة وقناعة، ولأن الوصف لا يأتي على المقاصد المتعلقة بالرضاع. القول الثالث: لا بد من معرفة رضاعه، وهذا اختيار سحنون من المالكية (¬1). * الراجح: أن وصف الرضيع وذلك بمعرفة سنه كافية عن تعيينه، والله أعلم. ... ¬
الفرع السادس إذا سقت الظئر الرضيع لبن غيرها
الفرع السادس إذا سقت الظئر الرضيع لبن غيرها المسألة الأولى أن تدفعه إلى امرأة أخرى ترضعه [م - 918] إذا دفعت الظئر الرضيع إلى امرأة أخرى ترضعه، ولم يشرط في العقد أنها ترضعه بنفسها، فهل تستحق الأجرة؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: لها الأجرة، وهذا مذهب الحنفية، واختاره أهل العراق من الشافعية (¬1). * وجه كون الأجرة لها: أن الظئر بمنزلة الأجير المشترك، وليست بمنزلة الأجير الخاص؛ لأنها لا تستحق الأجرة بتسليم نفسها، بل لا بد من قيامها بالإرضاع، قال تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. أما الأجير الخاص فهو يستحق الأجرة بمضي المدة، ولو لم يعمل إذا سلم نفسه في المدة المتفق عليها. جاء في بدائع الصنائع: "فإن استأجرت الظئر ظئرًا أخرى، فأرضعته، أو ¬
وجه الاستحسان
دفعت الصبي إلى جاريتها فأرضعته، فلها الأجر استحسانا، والقياس ألا يكون لها الأجر. وجه الاستحسان: أن إرضاعها قد يكون بنفسها وقد يكون بغيرها؛ لأن الإنسان تارة يعمل بنفسه، وتارة بغيره؛ ولأن الثانية لما عملت بأمر الأولى وقع عملها للأولى فصار كأنها عملت بنفسها. هذا إذا أطلق، فأما إذا قيد ذلك بنفسها فليس لها أن تسترضع أخرى؛ لأن العقد أوجب الإرضاع بنفسها، فإن استأجرت أخرى فأرضعته لا تستحق الأجر كما قلنا في الإجارة على الأعمال" (¬1). وعلل بعض الحنفية بأنها قد التزمت فعل الأرضاع، فلا يتعين عليها مباشرته بنفسها، فسواء أقامت بنفسها أو بخادمها فقد حصل مقصود أهل الصبي. القول الثاني: لا تستحق شيئًا من الأجرة، وهذا مذهب المالكية والحنابلة (¬2). لأنهم استأجروها بعينها على أن ترضع لهم، ولم تفعل. القول الثالث: إن كانت الإجارة في الذمة فلها الأجرة، وإن كانت معينة فلا أجرة لها. وهذا هو المذهب عند الشافعية (¬3)، وهو الراجح. قال في الحاوي: "وإذا سقت المرضعة الطفل من لبن غيرها فإن كانت ¬
الراجح
الإجارة في الذمة فلها الأجرة، وإن كانت معينة فلا أجرة لها. وقال أهل العراق: لها الأجرة" (¬1). * الراجح: إن كانت عين المرضع مقصودة في العقد كما لو كانت معروفة بكثرة الرضاع لم يقم غيرها مقامها، وإن كان غير مقصودة قامت غيرها مقامها, والله أعلم. ¬
المسألة الثانية في الظئر تسقي الرضيع لبن الغنم بدلا من لبنها
المسألة الثانية في الظئر تسقي الرضيع لبن الغنم بدلاً من لبنها [م - 919] إذا سقت الظئر الرضيع لبن الأغنام بدلاً من لبنها، فلا تستحق الأجرة، نص على ذلك الحنفية، والحنابلة (¬1). وعلل ذلك الحنفية: بأنها لم تأت بالعمل الواجب عليها، وهو الإرضاع، وهذا إيجار، وليس لإرضاع، وهو غير ما وقع عليه عقد الإجارة. وعلل الحنابلة بأنها لم توف بالمعقود عليه، أشبه ما لو اكتراها لخياطة ثوب فلم تخطه. ولأن لبن الجنس لا يقارن بلبن غيره، فكما لو طلب المشتري عينًا وأحضر له البائع أخرى أقل منها لم يلزمه قبولها. ولم أقف على نص عند المالكية، وأما الشافعية فقد وقفت على النص التالي، وليس صريحًا في المسألة فليتأمل، فقد تكلم الشافعية فيما لو استأجر المرأة للرضاع والحضانة، فانقطع اللبن فإن العقد لا ينفسخ في الحضانة، وينفسخ في الرضاع إلا أنهم قالوا: "لو أتت باللبن من محل آخر، ولم يتضرر الولد به جاز" (¬2). ¬
فقولهم: (من محل آخر) يحتمل أن يكون لبن آدمية، وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون لبنًا مغذيًا، ولو من غير الآدمية كلبن الغنم، فتأمله، والله أعلم.
الفرع السابع في اتحاد الديانة بين الظئر والرضيع
الفرع السابع في اتحاد الديانة بين الظئر والرضيع المسألة الأولى في استئجار الكافر ظئرًا مسلمة [م - 920] هل يجوز للمرأة المسلمة أن تؤجر نفسها لإرضاع ولد الكافر؟ نص الحنفية والحنابلة على جواز ذلك، واشترط الحنابلة أن يكون الكافر كتابيًا (¬1). جاء في حاشية ابن عابدين: "يجوز للمسلمة أن تؤجر نفسها لإرضاع ولد الكافر ... بخلاف ما إذا أجرت نفسها لخدمة الكافر فإنه لا يجوز" (¬2). وفي الإنصاف: "رخص الإمام أحمد - رضي الله عنه - في مسلمة ترضع طفلاً لنصارى بأجرة، لا لمجوسي. وقدمه في الفروع، وسوى أبو بكر وغيره بينهما لاستواء البيع والإجارة" (¬3). * والراجح: التسوية بين الكتابي وغيره إلا ما خص الدليل كالذبح والنكاح؛ ولأن الإجارة لا تختلف عن البيع، ولأن أهل الكتاب هم كفار مشركون بالله، وعقيدة النصارى قد ذكر الله تعالى في كتابه أنها تكاد أن تكون سببًا في خراب الكون، ¬
قال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 90، 91]. {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]. {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]. وكفرهم وشركهم بالله معلوم من الدين بالضرورة، لا ينكره إلا جاهل أو كافر بالإسلام.
المسألة الثانية في استئجار الظئر الكافرة لإرضاع مسلم
المسألة الثانية في استئجار الظئر الكافرة لإرضاع مسلم [م - 921] هل يصح للرجل المسلم أن يستأجر ظئرًا كافرة لإرضاع ولده؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح، وهو مذهب الحنفية (¬1). جاء في المبسوط: " ولا بأس بأن يستأجر المسلم الظئر الكافرة أو التي قد ولدت من الفجور؛ لأن خبث الكفر في اعتقادها دون لبنها، والأنبياء عليهم السلام، والرسل صلوات الله عليهم فيهم من أرضع بلبن الكوافر، وكذلك فجورها لا يؤثر في لبنها" (¬2). القول الثاني: يكره، وهو مذهب المالكية والحنابلة (¬3). ¬
وجه الكراهة
* وجه الكراهة: أن الكافرة تشرب الخمرة، وتأكل الخنزير، فيخشى أن يطعمن الرضيع من ذلك، ويتعذى عليه، ولأن المرضع تصبح أمًا له، فيكون لها حرمة الأم، وربما دعته إلى ذلك وأثرت عليه، وربما أحب دينها لحبه لها. القول الثالث: لا يجوز استرضاع كافرة غير الكتابية، وهو اختيار ابن حزم. * وجه التحريم عنده: أن الكافرة نجسة، ولبنها جزء منها، فيصير نجسًا، ولا يجوز التغذي على النجاسات. قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]. فالله تعالى أباح لنا نكاح الكتابية، وأوجب على الأم رضاع ولدها، وقد علم الله أنه سيكون لنا أولاد منهن {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، إلا أننا نقول: إن غير الكتابية لا يحل لنا استرضاعها؛ لأنها ليست مما أبيح لنا اتخاذهن أزواجًا، وطلب الولد منهن، فبقي لبنها على النجاسة جملة (¬1). ويجاب:. بأن نجاسة الكافي؛ نجاسة معنوية، ولذلك نلبس ثيابهم التي صنعوها، وقد أدخلهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسجده وبيته، ولم يكن الصحابة يتوقون ملامستهم، وقد ناقشت هذه المسألة في موسوعة أحكام الطهارة، في المجلد الثالث عشر، فانظره مشكورًا. ¬
الفرع الثامن في مكان الإرضاع
الفرع الثامن في مكان الإرضاع [م - 922] إذا كان هناك شرط أو عرف في مكان الرضاعة عمل به، فلو اشترط الرجل على الظئر أن ترضعه في بيته، أو اشترطت عليه أن ترضعه في بيتها، أوكان العرف يقضي بأن الظئر ترضعه في بيت أبيه، أو في بيتها عمل به، والمؤمنون على شروطهم، والعرف كالشرط. جاء في الفتاوى الهندية: "وإذا شرطوا عليها الإرضاع في منزلهم فليس للظئر أن تخرج من عندهم إلا بعذر كمرض أو غيره ... وإذا لم يشترط ذلك عليها صريحًا لكن كان العرف الظاهر فيما بين الناس أن الظئر ترضع الصبي في منزل أبيه لزمها ذلك" (¬1). [م - 923] أما إذا لم يكن هناك عرف أو شرط، فاختلف العلماء في العمل في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: هي بالخيار إن شاءت أرضعته في منزل الأب، وإن شاءت أرضعته في منزلها، وليس عليها أن ترضعه في منزل الأب، وهذا مذهب الحنفية (¬2). القول الثاني: ترضعه في بيت أبويه إلا أن يكون مثلها لا يرضع في بيوت الناس، وهذا نص المدونة. ¬
القول الثالث
جاء فيها: "قلت: فأين ترضع الظئر؟ قال: حيث اشترطوا. قلت: فإن لم يشترطوا موضعًا؟ قال: العمل عندنا أنها ترضع الصبي عند أبويه إلا أن تكون امرأة مثلها لا يرضع في بيوت الناس ... " (¬1). القول الثالث: يشترط لصحة الإجارة للرضاع معرفة مكان الرضاع، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة (¬2). القول الرابع: يعتبر موضع العقد هو محل الإرضاع إن كان صالحًا لذلك. قال ابن عجيل من الشافعية: إن كان الموضع الذي وقع فيه العقد يصلح للإرضاع لم يشترط على الصحيح -يعني تعيينه-، وإلا اشترط على الصحيح كالسلم وغيره (¬3). ¬
الفرع التاسع ما المعقود عليه في الرضاعة؟
الفرع التاسع ما المعقود عليه في الرضاعة؟ [م - 924] اختلف الفقهاء في حقيقة المعقود عليه في الرضاعة على قولين: القول الأول: إن المعقود عليه هو الحضانة، واللبن مستحق تبعًا، فالمرضع تحمل الطفل، وتضعه في حجرها، وتلقمه ثديها، وتعصره بقدر الحاجة، ويدخل في ذلك اللبن الذي يمصه الصبي، وهذا مذهب الجمهور، والأصح في مذهب الشافعية (¬1). القول الثاني: أن المعقود عليه هو اللبن. وهو قول في مذهب الحنفية، وقول مرجوح في مذهب الشافعية، ورجحه القاضي أبو يعلى الحنبلي (¬2). وجه ذلك: أن اللبن هو المقصود دون الخدمة، ولهذا لو أرضعته دون أن تخدمه استحقت الأجرة، ولو خدمته بدون الرضاع لم تستحق شيئًا, ولأن الله تعالى قال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] نجعل الأمر مرتبًا على الإرضاع. ¬
واعترض على هذا
وقال ابن القيم: الله يعلم ثم العقلاء قاطبة أن الأمر ليس كذلك، وأن وضع الطفل في حجرها ليس مقصودًا أصلًا, ولا ورد عليه عقد الإجارة، لا عرفًا، ولا حقيقة، ولا شرعًا، ولو أرضعت الطفل، وهو في حجر غيرها أو في مهده لاستحقت الأجرة، ولو كان المقصود إلقام الثدي المجرد لاستؤجر له أي امرأة لها ثدي، ولو لم يكن فيها لبن، فهذا هو القياس الفاسد، فكيف يقال: إن إجارة الظئر على خلاف القياس، ويدعي أن هذا هو القياس الصحيح (¬1). واعترض على هذا: بأن الإجارة لا تصح أن تكون على اللبن؛ لأنه يستهلك، والإجارة إنما تكون على المنافع دون الأعيان. أجيب على هذا الاعتراض بجوابين: أحدهما: يرى أن جواز الإجارة على استهلاك اللبن علي خلاف القياس، وإنأما جاز رخصة؛ لمسيس الحاجة إلى هذه المعاملة من أجل حفظ الآدمي والحاجة إلى إبقائه (¬2). ورد هذا: بأن الجواز مطلق، وليس مقيدًا بحاجة أو ضرورة. الجواب الثاني: يرى أن الفوائد التي تستحق مع بقاء أصولها تجري مجرى المنافع وإن كانت أعيانَا كثمر الشجر، ولبن الآدميات، والصوف واأماء العذب، فإنه كلما خلق من هذه شيء فأخذ خلق الله بدله مع بقاء الأصل كالمنافع سواء. ¬
ونوقش هذا
ونوقش هذا: بأن هناك فرقًا بين المنفعة والعين، فالمنفعة عرض لا تقوم بنفسها, ولا يتصور بقاؤها، بخلاف العين فإنها تقوم بنفسها، وتبقى، وكون العين تحدث شيئًا فشيئًا لا يلحقها بالمنافع. ***
المبحث الثالث في إجارة الآدمي غير الظئر
المبحث الثالث في إجارة الآدمي غير الظئر [م - 925] سبق لنا الكلام على هذا النوع مفرقًا في البحث، فقد سبق لنا تحرير الخلاف في الاستئجار على تعليم القرآن، واستئجار الطبيب، والاستئجار على كتابة المصحف، واستئجار المسلم للكافر، والعكس، واستجار الكافر لبناء مسجد، وخياطة الثوب، واستئجار الرجل بطعامه وكسوته. وكل هذا يدخل تحت إجارة الآدمي غير الظئر، وسبق لنا الكلام على الأجير وكونه ينقسم إلى خاص، ومشترك، وبينا الفرق بينهما من حيث الأحكام، فإذا أحببت أن تراجع هذه المسائل فانظرها في المباحث السابقة، فلله الحمد وحده على إعانته وتوفيقه.
الفصل الرابع في إجارة وسائل النقل
الفصل الرابع في إجارة وسائل النقل [م - 926] تكلم الفقهاء المتقدمون على استئجار وسائل النقل المتوفرة في عصرهم، فيقاس عليها الوسائل البديلة في هذا العصر، وليعذر القارئ إذا كنا نذكر الوسائل القديمة في الأمثلة فإن ذلك من أجل تحرير المذاهب، ولا يخفى على القارئ قياس الوسائل الحديثة عليها. وقد أجمع الفقهاء في الجملة على جواز استئجار الدواب والسفن للحمل والركوب، والحراثة، والاصطياد ونحو ذلك من الأغراض المباحة. قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن إجارة المنازل والدواب جائز إذا بين الوقت والأجر، وكانا عالمين بالذي عقدا عليه الإجارة، ويبينان سكنى الدار، وركوب الدابة وما يحمل عليها" (¬1). ومستند الإجماع قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8]، ولم يفرق في الركوب بين مالك ومستكر. ¬
المبحث الأول في شروط استئجار الدواب ووسائل النقل
المبحث الأول في شروط استئجار الدواب ووسائل النقل الفرع الأول في اشتراط معرفة جنس المركوب [م - 927] لا بد من معرفة جنس المركوب؛ هل هو سيارة، أو طائرة، أو قطار، وهل هو جمل، أو حصان، أو حمار؛ لأن الغرض يختلف باختلافه. ومعرفة جنس الدابة يكون إما برؤية أو صفة (¬1)، وسواء كانت إجارة عين، أو إجارة ذمة (¬2). والمقصود بإجارة العين: أن تعقد الإجارة على دابة معينة حاضرة كانت، أو غائبة عن طريق الوصف، وفي هذه الحال لا بد من إحضار الدابة التي وقع عليها العقد. والمقصود بإجارتها في الذمة أن تعقد الإجارة على دابة غير معينة، وسماه المالكية الكراء المضمون، أي في الذمة، فهذه الدابة لا طريق إلى معرفتها إلا بالوصف، فإذا أحضر أي دابة تنطبق عليها الصفات المتفق عليها فقد قام المؤجر بما التزم به؛ لأن العقد لم ينعقد على دابة بعينها. وقد اتفق الأئمة الأربعة على ذلك (¬3). ¬
وجه ذلك
جاء في المدونة في أقسام الكراء: "إما أن يكون كراء مضمونًا، وإما أن يكون الكراء في راحلة بعينها" (¬1). وجاء في المنتقى للباجي: "والإجارة على ضربين إجارة متعلقة بعين، وإجارة متعلقة بالذمة، فلما المتعلقة بالعين: فمثل أن يكتري منه دابة معينة، وأما المتعلقة بالذمة فمثل أن يكتري منه دابة يأتيه بها يعمل عليها عملًا متفقًا عليه. قال القاضي أبو محمَّد: وكل ذلك جائز ... إذا ثبت ذلك فلا يجوز أن يكتري الدابة المعينة كراء مضمونًا قاله مالك في المدونة. ووجه ذلك: أن التعيين ينافي الضمان، فإن المعينة يتعلق الضمان بها، والكراء بعينها، ومعنى ذلك: منافعها المختصة بها لا يقوم غيرها في ذلك مقامها، والكراء المضمون يتعلق. بذمة الكري، فلا يصح اجتماعهما فإذا هلكت الدابة المعينة انفسخت الإجارة بينهما، وكان للمكتري على الكري من ثمن المنافع بقدر ما بقي له منها فلا يجوز له أن يأخذ منافع دابة أخرى لأن ذلك فسخ دين في دين" (¬2). وجاء في حاشية قليوبي وعميرة: "الإجارة قسمان: واردة على عين كإجارة العقار ودابة وشخص معينين ... وواردة على الذمة كاستئجار دابة موصوفة (¬3). ¬
وقال ابن قدامة: "وأما المستأجر، فيحتاج إلى معرفة الدابة التي يركب عليها؛ لأن الغرض يختلف بذلك، وتحصل بأحد أمرين: إما بالرؤية، فيكتفى بها؛ لأنها أعلى طرق العلم ... وإما بالصفة، فإذا وجدت اكتفي بها؛ لأنه يمكن ضبطه بالصفة، فجاز العقد عليه، كالبيع" (¬1). وجاء في كشاف القناع: وإن غصبت العين المستأجرة، فإن كانت الإجارة على عين موصوفة في الذمة بأن أجره دابة صفتها كذا وكذا، ثم سلمه عينًا بتلك الصفات، فغصبت لزمه أي المؤجر بدلها؛ لأن العقد على ما في الذمة لا عليها" (¬2). ¬
مسألة في إجارة السفن في الذمة
مسألة في إجارة السفن في الذمة [م - 928] سبق لنا صحة إجارة الدواب معينة وموصوفة في الذمة، فهل يصح إجارة السفن في الذمة؟ فيه خلاف بين أهل العلم، فبعضهم ألحقها بالدواب، وعلى هذا تجوز إجارتها معينة وفي الذمة، وهذا مذهب المالكية، وإحدى القولين في مذهب الشافعية (¬1). وهناك من ألحقها بالعقار، فلم يجوز إجارتها في الذمة، بل لا بد أن تكون معينة، وهذا الخلاف قولان في مذهب الشافعية. جاء في أسنى المطالب: "والسفن هل تلحق بالدواب فتؤجر إجارة ذمة، أو بالعقار فلا تكون إلا إجارة عين؟ لم يتعرضوا له. قال جلال الدين البلقيني: الأقرب إلحاقها بالدواب. قال شيخنا لكن سئل الوالد رحمه الله تعالى عن ذلك، وأجاب بأنه لا تصح إجارتها إجارة ذمة؛ لأنها لا تثبت فيها لجهالتها, ولهذا لا يصح السلم فيها، فيتعين فيها إجارة العين كالعقار" (¬2). وقال في حاشية البجيرمي: "ومثل العقار السفينة، فإنه لا يصح السلم فيها، ولا تثبت في الذمة، فلا تكون إجارتها إلا على العين" (¬3). والراجح القول بالجواز، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني هل يشترط تعيين الراكب
الفرع الثاني هل يشترط تعيين الراكب [م - 929] اختلف الفقهاء في وجوب تعيين الراكب على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى وجوب تعيين الراكب على خلاف بينهم، هل يجب تعيينه بإطلاق، أو لا بد من تقييده براكب معين، والقائلون بوجوب تقييده براكب معين اختلفوا هل تشترط الرؤية للتعيين، أو يكفي تعيينه بالوصف (¬1). فقيل: تشترط الرؤية وحدها للتعيين، ولا يكفي الوصف لاختلاف حال الراكب في بدنه وحركاته التي لا تضبط بالصفة. وهو قول في مذهب الشافعية، ورجحه الشريف وأبو الخطاب من الحنابلة (¬2). وقيل: يصح التعيين بالوصف التام، وعليه أكثر الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة. جاء في السراج الوهاج: "ويشترط في إجارة دابة لركوب معرفة الراكب بمشاهدة أو وصف تام لجثته بأن يصفه حتى يعلم مقدار وزنه. ¬
القول الثاني
وقيل: لا يكفي الوصف، بل لا بد من المشاهدة" (¬1). وجاء في كشاف القناع: "ولا بد من معرفة راكب برؤية أو صفة كمبيع" (¬2). وجاز الاكتفاء بالوصف قياسًا على بيع الشيء المعين بالصفة. وأما الحنفية فقالوا بوجوب تعيين الراكب إما مطلقًا، أو مقيدًا. والإطلاق عندهم أن يقول: على أن تركب من تشاء، ويتعين أول من يركب سواء كان المستأجر أو غيره (¬3). جاء في تبيين الحقائق: "فإن أطلق الركوب جاز له أن يركب من يشاء عملًا بالإطلاق، ولكن إذا ركب بنفسه، أو أركب واحدًا ليس له أن يركب غيره؛ لأنه تعين مرادًا من الأصل، والناس متفاوتون في الركوب، فصار كأنه نص على ركوبه" (¬4). القول الثاني: لا يشترط تعيين الراكب، ويأتيه بالوسط من الناس، وإن أتاه بفادح: وهو العظيم الثقيل لم يلزمه ذلك. وهو مذهب المالكية (¬5). جاء في شرح ميارة: "لا يتعين الراكب، وإن عين لم يلزمه تعيينه" (¬6). ¬
القول الثالث
لأن أجسام الناس متقاربة في العادة، والتفاوت يسير، والغرر اليسير لا يؤثر، والمقياس أوساط الناس، فليس العبرة بالنحيف، ولا بالبدين، وإنما بالوسط. قال العدوي المالكي: "اعلم أنه لا يلزم تعيين الراكب عند عقد الكراء، بل يصح عقد الكراء مدة على حمل آدمي، ولم يلزمه الثقيل، ولا المريض ولا معروف بكثرة نوم، أو بعقر الدواب. فإذا وقع العقد على حمل آدمي، وأتى له بامرأة لزمه حملها حيث لم تكن ثقيلة وأما على حمل رجل فلا يلزمه المرأة بخلاف العكس" (¬1). القول الثالث: يجب تعيين جنس الراكب، هل هو رجل أو امرأة. استظهره ابن عرفة من المالكية (¬2). وعلل ذلك: بأن ركوب النساء أشق. قال في حاشية الدسوقي: وهو خلاف ظاهر المصنف كالمدونة (¬3). الراجح: أميل إلى اعتبار مذهب المالكية بالنسبة لاستئجار الدواب، ولولا أني أعلم أن هذه الدواب ما زالت تؤجر في كثير من البلدان الإسلامية ما ذكرتها؛ لأنها في بلادنا قد انقطعت منذ زمن بعيد بعد أن فتح الله لنا من خيراته ما جعل الناس في سعة من الرزق، وأما استئجار الوسائل الحديثة كالسيارات والطائرات ¬
والقطارات فلا حاجة إلى تعيين الراكب إلا أن تكون الأنظمة تشترط ذلك لاعتبارات أمنية ونحوها، فيكون اعتبار ذلك اعتبارًا للشرط، والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، والله أعلم.
الفرع الثالث في اشتراط العلم بمقدار الحمولة
الفرع الثالث في اشتراط العلم بمقدار الحمولة قال النووي: ما يتفاوت به الغرض، ولا يتسامح به في المعاملة يشترط تعريفه (¬1). [م - 930] الفقهاء متفقون في الجملة على وجوب معرفة ما تحمله الدابة إما برؤيته إن كان حاضرًا, ولو من غير بيان جنسه اكتفاء برؤيته، وإما بتقديره بالكيل أو الوزن أو العد -إن كان المعدود لا يتفاوت- إن كان المحمول غائبًا. قال ابن قدامة: "وأما الأحمال، فلا بد من معرفتها، فإن لم يعرفها لم يجز؛ لأن ذلك يتفاوت كثيرًا، ويختلف الغرض به، فإن شرط أن تحمل ما شاء بطل؛ لأن ذلك لا يمكن الوفاء به، ويدخل فيه ما يقتل البهيمة. وإن قال: احتمل عليها طاقتها لم يجز يضًا؛ لأن ذلك لا ضابط له" (¬2). والأئمة متفقون على أن الجهالة في جنس المحمول تفسد العقد (¬3). وهل يشترط معرفة القدر مع الجنس؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يجب معرفة مقدار الحمولة، ولا يكفي معرفة الجنس، وهذا مذهب ¬
القول الثاني
الجمهور، والقرويين من المالكية (¬1). قال العمراني في البيان: "وأما المتاع المحمول فلا بد من معرفة جنسه أنه طعام أو حديد أو قطن ... ولا بد من معرفة مقداره، فإن كان المتاع مشاهدًا وجب عليه بيانه" (¬2). وقال ابن قدامة: "تحصل المعرفة بطريقين: المشاهدة؛ لأنها من أعلى طرق العلم، والصفة. ويشترط في الصفة معرفة شيئين: القدر والجنس؛ لأن الجنس يختلف تعب البهيمة باختلافه مع التساوي في القدر، فإن القطن يضر بها من وجه، وهو أنه ينتفخ على البهيمة. فيدخل فيه الريح فيثقل، ومثله من الحديد يؤدي من جهة أخرى، وهو أنه يجتمع على موضع من البهيمة، فربما عقرها، فلا بد من بيانه" (¬3). القول الثاني: يكلفي معرفة الجنس دون القدر، وهذا مذهب الأندلسيين من المالكية، وللمستأجر أن يحمل على الدابة الحمل المعتاد لمثلهما مما تطيقه الدابة. ¬
الراجح
جاء في منح الجليل: "حاصل هذا أن القرويين قالوا: لا يجوز وإن سمى الجنس حتى يعرف القدر إما بنص أو عرف، ولا يكفي الاجتهاد. وقال الأندلسيون: إن سمى الجنس جاز، ويصرف القدر للاجتهاد" (¬1). وقال في حاشية الصاوي: "اعلم أن بيان النوع (¬2)، لا بد منه في صحة العقد اتفاقًا، وأما بيان قدر المحمول فلا بد منه أيضًا وهو مذهب ابن القاسم عند القرويين، وقال الأندلسيون: لا يشترط ويصرف القدر للاجتهاد، فإذا قال أكتري دابتك لأحمل عليها إردبا قمحًا أو قنطارًا زيتًا أو مائة بيضة جاز اتفاقا. ولو قال: أحمل عليها إردبًا، أو قنطارًا، أو مائة بطيخة منع اتفاقا؛ لعدم ذكر النوع في الأردب والقنطار، وللتفاوت البين في البطيخ، وأما لو قال: أحمل عليها قمحًا أو قطنا أو بطيخًا, ولم يذكر القدر فممنوع عند القرويين، وجائز عند الأندلسيين، ويصرف القدر الذي يحمل على الدابة إلى الاجتهاد" (¬3). الراجح: أرى والله أعلم أن القول بأن معرفة الجنس والمقدار شرط أقوى وأرجح لقطع النزاع، والله أعلم. ¬
الفرع الرابع في اشتراط معرفة المسافة أو المكان في إجارة الدواب ونحوها
الفرع الرابع في اشتراط معرفة المسافة أو المكان في إجارة الدواب ونحوها [م - 931] ذكر عامة الفقهاء أنه يشترط في استئجار الدابة والسفينة بيان المكان أو المدة. قال الكاساني: "وأما في إجارة الدواب فلا بد فيها من بيان أحد الشيئين: المدة أو المكان، فإن لم يبين أحدهما فسدت؛ لأن ترك البيان يفضي إلى المنازعة ... " (¬1). وجاء في شرح ميارة: "يجب في كراء السفن أمران: أحدهما: تعيين وقت السفر؛ لاختلاف الأزمنة بالنسبة لوقت السفر، وعظم الغرر في بعضها دون بعض، فلا بد من توقيته حتى يعلم كل واحد من المكري والمكتري الوقت الذي يسافر به، فيأخذ له أهبته ... الثاني: تعيين المحل الذي قصد السفر إليه، والاستقرار فيه ... وذلك لاختلاف الأمكنة بالقرب والبعد, والأمن والخوف، وذلك ظاهر" (¬2). وقال العمراني: "قال الطبراني: فإذا استأجر بهيمة ليركبها من بغداد إلى البصرة، وكان منزله في البصرة، فإن قال: إلى أطراف البصرة، أو إلى منزلي فيها صح العقد، وحملا على ذلك، وإن أطلقا، فهل تصح الإجارة فيه وجهان ... " (¬3). ¬
وجاء في مطالب أولي النهى: "ويصح استئجار غنم وغيرها لدياس زرع معلوم، أو أيامًا معلومة، فإن قدره بالمدة فلا بد من معرفة الحيوان الذي يدوس به؛ لأن الغرض يختلف بقوته وضعفه، وإن كان على عمل غير مقدر بمدة احتاج إلى معرفة جنس الحيوان؛ لأن الغرض يختلف، منه ما روثه طاهر، ومنه ما هو نجس, ولا يحتاج إلى معرفة عينه" (¬1). ... ¬
الفصل الخامس في إجارة المنقولات
الفصل الخامس في إجارة المنقولات المبحث الأول في إجارة المصحف قال الماوردي: كل عين صح الانتفاع بها مع بقائها صحت إجارتها (¬1). [م - 932] سبق لنا التعرض لحكم إجارة بعض المنقولات، وذلك مثل إجارة الدراهم والدنانير، واستئجار المشمومات لشمها، واستئجار ما يجمل به حانوته من ثياب، وأطعمة ونحوها، واستئجار السمع لاستعماله، والصابون للاغتسال به، ونناقش في هذا المبحث حكم إجارة بعض الأعيان المنقولة المختلف فيها، من ذلك حكم إجارة المصحف للقراءة فيه. وقد سبق لنا تحرير الخلاف في بيع المصحف، وقد اختلف العلماء في صحة إجارته على خمسة أقوال: القول الأول: يصح بيعه ولا تصح إجارته، وهو مذهب الحنفية، واختاره ابن حبيب من المالكية (¬2). ¬
وجه التفريق بين البيع والإجارة
وجه التفريق بين البيع والإجارة: أن البيع يعني تمليك العين، والقرآن فيه منفعة مطلوبة، فصح البيع، وأما إجارته فيعني ذلك النظر فيه، والقراءة منه، والنظر في مصحف الغير جائز بلا عوض. جاء في بدائع الصنائع: "لا يجوز -يعني استئجار المصحف- لأن منفعة المصحف النظر فيه والقراءة منه، والنظر في مصحف الغير والقراءة منه مباح، والإجارة بيع المنفعة، والمباح لا يكون محلا للبيع كالأعيان المباحة من الحطب، والحشيش، وكذا استئجار كتب ليقرأ فيها شعرًا أو فقهًا؛ لأن منافع الدفاتر النظر فيها، والنظر في دفتر الغير مباح من غير أجر، فصار كما لو استأجر ظل حائط خارج داره ليقعد فيه" (¬1). القول الثاني: عكس القول الأول: لا يصح بيعه وتصح إجارته، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). وجه ذلك: أن إجارته منفعة مباحة كالإعارة، ولا يلزم من عدم البيع عدم جواز الإجارة، كالحر، والوقف وأم الولد (¬3). القول الثالث: يصح بيعه وإجارته، وهو مذهب المالكية، والشافعية، ورواية عن الإمام أحمد (¬4). ¬
القول الرابع
وقد ذكرت أدلتهم على صحة البيع في عقد البيع، وهي الأدلة نفسها على صحة الإجارة. القول الرابع: لا يصح بيعه ولا إجارته. وهو الشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقد ذكرت أدلتهم على عدم جواز بيعه في عقد البيع، وهي الأدلة نفسها على عدم جواز الإجارة، فأغنى ذكرها هناك عن إعادتها هنا. القول الخامس: تكره إجارته، وهو رواية في مذهب الحنابلة. جاء في الإنصاف: "في جواز إجارة المصحف ليقرأ فيه ثلاث روايات: الكراهة، والتحريم والإباحة ... والخلاف هنا مبني على الخلاف في بيعه، أحدها: لا يجوز، وهو المذهب" (¬2). وحجة الكراهة: التعليل بالخلاف، أي لما كانت إجارة المصحف مختلفًا في جوازها كرهنا إجارتها خروجًا من الخلاف. وقد سبق لنا أن الكراهة حكم شرعي، تحتاج إلى دليل شرعي، ولا دليل هنا، والله أعلم. ¬
الراجح
والراجح: صحة البيع والإجارة، فما جاز بيعه صحت إجارته إلا ما ستثني كالحر والوقف وأم الولد، وهذا ليس منها، والله أعلم.
المبحث الثاني في إجارة الحلي بشيء من جنسه
المبحث الثاني في إجارة الحلي بشيء من جنسه [م - 933] اختلف العلماء في إجارة الحلي بشيء من جنسه على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح، وهو مذهب الجمهور (¬1). دليل من قال بالصحة: أن العقد في الإجارة وارد على المنفعة، وليس على العين، فالعين باقية على ملك صاحبها، واللبس والتزين لا يعتبر ذهبًا حتى يمنع من إجارته بالذهب، فالأجرة ليست من جنس الانتفاع، فالمنفعة عرض، والأجرة عين فلا وجه لمن منع خوفًا من الربا. قال الماوردي: "عقد الإجارة لا يدخله الربا, ولهذا يجوز إجارة حلي الذهب بدراهم مؤجلة بإجماع المسلمين، ولو كان للربا هنا مدخل لم يجز هذا" (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا يصح إجارته بشيء من جنسه، وهو وجه مرجوح في مذهب الشافعية، ورواية عن أحمد (¬1). جاء في المجموع: "لو أكرى الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة فوجهان: أحدهما: بطلانه حذرًا من الربا، والصحيح الجواز كسائر الإجارات ... " (¬2). دليل من قال بالمنع: الدليل الأول: يرجع المنع إلى القول بأن عقد الإجارة وارد على العين، والمنفعة تبع، وهي مسألة خلافية، وسبق تحرير القول فيها، والصحيح أن عقد الإجارة وارد على المنفعة، وليس على العين. الدليل الثاني: أن الذهب يحتك بالاستعمال، فيذهب منه أجزاء ولو كانت يسيرة، فتكون الأجرة في مقابل أمرين: الانتفاع بها، وما يذهب من عينها مقابل الاستعمال، فيؤدي ذلك إلى بيع ذهب بذهب وشيء آخر (¬3). ¬
ويناقش من وجهين
ويناقش من وجهين: الوجه الأول: لو فرض أن مثل هذا صحيح فإنه ليس معقودًا عليه، ولا مقصودًا في العقد، وإذا كان الربوي التابع لا يؤثر في العقد، ولو كان مقصولًا على وجه التبع، كبيع عبد معه مال بمال من جنس مال العبد، ولا يوقع ذلك في الربا، ولا يطبق عليه أحكام الصرف، فما بالك بشيء لم يكن مقصودًا البتة، ولا معقودًا عليه، ولا مقطوعًا به. قال ابن قدامة: "وما ذكروه من نقصها بالاحتكاك لا يصح؛ لأن ذلك يسير، لا يقابل بعوض، ولا يكاد يظهر في وزن، ولو ظهر فالأجر في مقابلة الانتفاع، لا في مقابلة الأجزاء؛ لأن الآخر في الإجارة، إنما هو عوض المنفعة، كما في سائر المواضع، ولو كان في مقابلة الجزء الذاهب لما جاز إجارة أحد النقدين بالآخر؛ لإفضائه إلى الفرق في معاوضة أحدهما بالآخر قبل القبض. والله أعلم" (¬1). الوجه الثاني: لو أن هذا المقدار الفائت معتبر لما جاز إجارة حلي الذهب بالفضة، وقد حكى الماوردي الإجماع على صحته، ونقلته عنه قبل قليل؛ لأن الإجارة من شرط صحتها عند المانعين أن تكون على المنفعة، ولا تؤدي إلى استهلاك العين أو شيء منها، وإذا أدت إلى استهلاك شيء من العين منعت، فلما جاز إجارة حلي الذهب بالفضة دل على أن هذا المقدار الفائت من العين لا عبرة به، والله أعلم. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن المقصود من إجارة الحلي هو الزينة والجمال، وليس ذلك من المقاصد الأصلية، فأشبه ذلك استئجار التفاح لشمه ونحو ذلك، وهذا غير جائز (¬1). ونوقش: بأن الزينة مقصودة، وتبذل في تحصيلها الأموال، قال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]. وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. القول الثالث: يكره، وهو الشهور من مذهب المالكية، واختاره المتأخرون من الحنابلة (¬2). جاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن استأجرت حلي ذهب بذهب أو فضة، أيجوز هذا أم لا؟ قال: لا بأس بذلك في قول مالك، وقد أجازه مالك مرة واستثقله مرة أخرى، وقال: لست أراه بالحرام البين، وليس كراء الحلي من أخلاق الناس، وأنا لا أرى به بأسًا" (¬3). ¬
وجه الكراهة
وجه الكراهة: أن الحلي المباح ليس فيه زكاة، وعللوا عدم وجوب الزكاة فيه بأن إعارته لمن يتزين به زكاته، وإذا كان كذلك صارت منفعته معدة للإعارة، فلا يكرى. وكما قال مالك فيما سبق: ليس كراء الحلي من أخلاق الناس. الراجح: بعد استعراض الأقوال أجد القول بالجواز أقوى حجة، والله أعلم.
الباب الخامس أحكام الضمان في عقد الإجارة
الباب الخامس أحكام الضمان في عقد الإجارة تمهيد في تعريف الضمان تعريف الضمان في اصطلاح الفقهاء (¬1): للضمان في الفقه الإِسلامي معنيان: الأول: إطلاق الضمان على الكفالة، وهو ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في المطالبة بالدين (¬2). وهذا المعنى غير مراد في هذا الباب. المعنى الثاني: إطلاق الضمان على تعويض الغير عن ضرر لحقه من آخر ماليًا كان أو غير مالي، وهذا هو المراد هنا. ¬
وقد عرفه فضيلة الشيخ على الخفيف - رحمه الله - بقوله: "شغل الذمة بما يجب الوفاء به من مال أو عمل" (¬1). وهذا هو المراد من هذا الباب. والأول له باب يجمع أحكامه، والثاني مفرق في أبواب الفقه، لاختلاف أبوابه وأسبابه، فهناك ضمان المال كضمان العقد من بيع وإجارة، وضمان اليد بسبب الحيازة كيد الغاصب. وضمان الإتلاف سواء كان بالتسبب أو المباشرة. وهناك ضمان آخر غير المال كضمان النفس، ويدخل فيها ضمان الأطراف ومنافعها، ويتمثل في الديات والأروش المقدرة وغير المقدرة. والكلام في الضمان في عقد الإجارة هو في الضمان المالي فقط، ولا يدخل فيه ضمان النفس، والله أعلم. ¬
الفصل الأول في الأدلة على مشروعية الضمان
الفصل الأول في الأدلة على مشروعية الضمان [م - 934] المسلم معصوم الدم والمال، والاعتداء عليهما محرم، وتحريمه معلوم من الدين بالضرورة. (ح -602) روى البخاري في صحيحه من حديث أبي بكرة، وفيه: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض (¬1). وقد شرع الضمان حفظًا للأموال والأنفس، وجبرًا للضرر، وردعًا للعدوان، وقد دل على هذا الكتاب والسنة، والإجماع، والنظر الصحيح. فمن الكتاب قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. وقال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]. وقال سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]. وقال تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]. فنص الله - سبحانه وتعالى - ضمان الصيد بمثله من النعم ... (¬2). ¬
وقوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 78، 79]. فقد ذكر المفسرون أن داود حكم بقيمة المتلف، فاعتبر الغنم فوجدها بقدر القيمة، فدفعها إلى أصحاب الحرث، وأما سليمان فقضى بالضمان على أصحاب الغنم، وأن يضمنوا ذلك بالمثل، بأن يعمروا البستان حتى يعود كما كان، ولم يضيع عليهم ثماره من الإتلاف إلى حين العود، بل أعطى أصحاب البستان ماشية أولئك ليأخذوا من نمائها بقدر نماء البستان، فيستوفوا من نماء غنمهم نظير ما فاتهم من نماء حرثهم، وهذا هو العلم الذي خصه الله به، وأثنى عليه (¬1). قال ابن القيم: "وما حكم به نبي الله سليمان هو الأقرب إلى العدل والقياس، وقد حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضمان على أهلها، فصح بحكمه ضمان النفش، وصح بالنصوص السابقة والقياس الصحيح، وجوب الضمان بالمثل، وصح بنص الكتاب الثناء على سليمان بتفهيم هذا الحكم، فصح أنه الصواب، وبالله التوفيق" (¬2). ¬
ومن السنة الصحيحة
ومن السنة الصحيحة: (ح-603) ما رواه البخاري من طريق ابن علية، عن حميد، عن أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة، فانفلقت، فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: غارت أمكم، ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت (¬1). "قال بعض أهل العلم: الصحفتان جميعًا كانتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتي زوجتيه، ولم يكن هناك تضمين، إلا أنه عاقب الكاسرة بترك المكسورة في بيتها، ونقل الصحيحة إلى بيت صاحبتها" (¬2). (ح- 604) وروى أحمد (¬3)، والنسائي (¬4)، وأبو داود (¬5)، وغيرهما (¬6)، من طريق فُلَيْت، عن جسرة بنت دجاجة، عن عائشة، قالت: ما رأيت صانعة طعام مثل صفية، أهدت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إناء فيه طعام، فما ملكت نفسي أن كسرته، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كفارته، فقال: إناء كإناء، وطعام كطعام. [ضعيف] (¬7). ¬
(ح-605) ومنها ما رواه أحمد، قال: حدثنا محمَّد بن مصعب، حدثنا الأوزاعي، عن الزهري، عن حرام بن محيصة عن البراء بن عازب أنه كانت له ناقة ضارية، فدخلت حائطًا فأفسدت فيه، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن ما أصابت الماشية بالليل فهو على أهلها (¬1). [في إسناده اختلاف والراجح أنه مرسل إلا أنه موافق لحكم سليمان في نص القرآن] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
قال ابن عبد البر: "الحديث من مراسيل الثقات ... وهو موافق لما نصه الله - عز وجل - في كتابه عن داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ... ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن ولغة أهل العرب أن النفش لا يكون إلا بالليل" (¬1). (ح-606) ومنها ما رواه البخاري من طريق محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان رجل في بني إسرائيل يقال له: جريج يصلي ... وذكر قصة هدم صومعته، ثم قالوا له: نبني صومعتك من ذهب، قال: لا، إلا من طين، ورواه مسلم (¬2). ¬
وجه الاستدلال
وترجم البخاري له: باب إذا هدم حائطًا فليبن مثله. قال الحافظ: أي خلافًا لمن قال: تلزمه القيمة من المالكية، وغيرهم (¬1). وجه الاستدلال: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، ولم يرد ما يرده، وقد هدموا صومعته ظلمًا، ففعلوا مثلها. ومن الإجماع: أجمع العلماء على ضمان المثلي بالمثل، وأما القيمي فهم مجمعون على وجوب الضمان في الجملة، والخلاف إنما هو في كيفية الضمان لا في وجوبه، وهل يضمن بالمثل أو بالقيمة. قال ابن عبد البر: "وقد أجمعوا على أن من استهلك مال غيره وأنفقه بغير إذنه غرمه، ومن استهلك لغيره شيئًا من المال ضمنه بأي وجه استهلكه، وهذا ما لا خلاف فيه، فأغنى ذلك عن الإكثار" (¬2). وقال أيضًا: "وأجمعوا على إيجاب المثل على مستهلك المكيلات والموزونات" (¬3). ¬
الفصل الثاني الضمان منه عقد الإجارة
الفصل الثاني الضمان منه عقد الإجارة المبحث الأول في ضمان العين المستأجرة الفرع الأول أن تتلف العين المستأجرة بغير فعل المستأجر قال ابن قدامة: الأمين لا يضمن ما لم يوجد منه تفريط أو عدوان (¬1). وقال شيخنا ابن عثيمين: الأمين كل من حصل في يده مال بإذن من الشارع، أو إذن من المالك (¬2). وقال الماوردي: "اليد الأمينة .. الوكيل والمضارب، والشريك، والمودَع، والمستأجر، والمرتهن فهولاء كلهم لا ضمان عليهم ما لم يتعدوا أو يفرطوا" (¬3). [م - 935] من المعلوم أن الإجارة تارة ترد على المنافع كإجارة الدور والدكاكين، وتارة ترد على الأعمال كالإجارة على البناء والخياطة ونحو ذلك، والكلام في هذا المبحث في ضمان الأعيان المستأجرة، كالدور والدواب ونحو ¬
ذلك، فإذا تلفت العين المستأجرة من غير فعل المستأجر، فهل يضمن المستأجر في هذه الحالة، أو لا يضمن؟ وللجواب على ذلك نقول: لا خلاف في أن العين المستأجرة أمانة في يد المستأجر، والأمانات لا تضمن إلا بالتعدي أو التفريط. قال الكاساني: "لا خلاف في أن المستَأجَر أمانة في يد المستأجر كالدار والدابة ... حتى لو هلك في يده بغير صنعه لا ضمان عليه؛ لأن قبض الإجارة قبض مأذون فيه، فلا يكون مضمونًا" (¬1). وقال ابن قدامة: "والعين المستأجرة أمانة في يد المستأجر إن تلفت بغير تفريط، لم يضمنها ... ولا نعلم في هذا خلافًا؛ وذلك لأنه قبض العين لاستيفاء منفعة يستحقها منها، فكانت أمانة ... " (¬2). قال مالك: "ولا ضمان على الرعاة إلا فيما تعدوا فيه أو فرطوا في جميع ما رعوا من الغنم والدواب لأناس شتى أو لرجل واحد، وإذا اشترط على الراعي الضمان فسدت الإجارة، ولا ضمان عليه فيما هلك" (¬3). ¬
وقال الشيرازي من الشافعية: "إذا تلفت العين المستأجرة في يد المستأجر من غير فعله لم يلزمه الضمان؛ لأنه عين قبضها ليستوفي منها ما ملكه، فلم يضمنها بالقبض، كالمرأة في يد الزوج، والنخلة التي اشترى ثمرتها" (¬1). وإنما كان المستأجر أمينًا؛ لأن الأمين: كل من حصل في يده مال بإذن من الشارع أو إذن من المالك. ¬
الفرع الثاني إذا تلفت العين المستأجرة بفعل المستأجر
الفرع الثاني إذا تلفت العين المستأجرة بفعل المستأجر الجواز الشرعي ينافي الضمان (¬1). قال السعدي: "التلف في يد الأمين غير مضمون إفا لم يتعد أو يفرط، وفي يد الظالم مضمون مطلقًا" (¬2). ¬
وقال الطحاوي: من كان له أن يفعل شيئًا ففعله معقولًا أن لا ضمان عليه فيه (¬1) [م - 936] إذا تلفت العين المستأجرة بفعل المستأجر فلا يخلو الأمر: إما أن يكون المستأجر قد تعدى بأن فعل ما ليس له فعله، أو فرط بأن ترك ما يجب عليه فعله، فإنه في هذه الحالة يجب عليه الضمان بلا خلاف. لأن العين المستأجرة أمانة في يده، والأمين يضمن بالتعدي والتفريط. جاء في القواعد والأصول الجامعة: "التلف في يد الأمين غير مضمون إذا لم يتعد أو يفرط، وفي يد الظالم مضمون مطلقًا" (¬2). [م - 937] وإن كان فعل المستأجر معتادًا أو مأذونًا له فيه بمقتضى عقد الإجارة فلا ضمان على المستأجر بلا خلاف؛ لأن من كان له أن يفعل شيئًا ففعله فلا ضمان عليه فيه. قال السرخسي: "إذا بني المستأجر في الدار تنورًا يخبز فيه بإذن رب الدار أو بغير إذنه، فاحترق بيت بعض الجيران من تنوره، أو بعض بيوت الدار فلا ضمان عليه؛ لأنه غير متعد في هذا التسبب، فإن اتخاذ التنور من توابع السكنى، وللساكن أن يضعه في موضعه بغير إذن رب الدار ففعله في ذلك كفعل رب الدار" (¬3). وقال الشافعي: "وإذا اكترى الرجل من الرجل الدابة فضربها، أو نخسها بلجام، أو ركضها فماتت، سئل أهل العلم بالركوب، فإن كان فَعَلَ من ذلك ما ¬
تفعل العامة، فلا يكون فيه عندهم خوف تلف، أو فعل بالكبح والضرب مثل ما يفعله بمثلها عندما فعله فلا أعد ذلك خرقة، ولا شيء عليه، وإن كان فعل ذلك عند الحاجة إليه بموضع قد يكون بمثله تلف، أو فعد في الموضع الذي لا يفعل في مثله ثُمِّن في كل حال من قبل أن هذا تعد" (¬1). قال الشيرازي في المهذب: "إذا تلفت العين المستأجرة في يد المستأجر من غير فعله لم يلزمه الضمان ... وإن تلفت بفعله نظرت: فإن كان بغير عدوان، كضرب الدابة وكبحها باللجام للاستصلاح لم يضمن؛ لأنه هلك من فعل مستحق، فلم يضمنه، كما لو هلك تحت الحمل، وإن تلفت بعدوان كالضرب من غير حاجة لزمه الضمان؛ لأنه جناية على مال الغير فلزمه ضمانه" (¬2). وقال ابن قدامة: "لا ضمان على الراعي فيما تلف من الماشية ما لم يتعد، ولا نعلم فيه خلافًا إلا عن الشعبي، فإنه روي عنه أنه ضمن الراعي، ولنا أنه مؤتمن على حفظها، فلم يضمن من غير تعد كالمودَع؛ ولأنها عين قبضها بحكم الإجارة، فلم يضمنها من غير تعد، كالعين المستأجرة. فأما ما تلف بتعديه فيضمنه بغير خلاف، مثل أن ينام عن السائمة، أو يغفل عنها، أو يتركها تتباعد منه، أو تغيب عن نظره وحفظه، أو يضربها ضربًا يسرف فيه، أو في غير موضع الضرب، أو من غير حاجة إليه، أو سلك بها موضعا تتعرض فيه للتلف، وأشباه هذا مما يعد تفريطًا وتعديًا، فتتلف به، فعليه ضمانها؛ لأنها تلفت بعدوانه، فضمنها كالمودع إذا تعدى" (¬3). ¬
الفرع الثالث في ضمان العين إذا تلفت بعد انتهاء الإجارة
الفرع الثالث في ضمان العين إذا تلفت بعد انتهاء الإجارة [م - 938] إذا انتهت مدة الإجارة وجب على المستأجر أمران: الأول: أن يرفع يده عن العين المستأجرة بحيث يقوم بتخلية العين لمالكها فلا يستعملها. الثاني: أن يسلمها إلى المؤجر بمجرد طلبه ذلك، ولا يجوز له أن يحبسها عن المؤجر. جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "يلزم المستأجر رفع يده عن المأجور عند انقضاء الإجارة ... لأنَّ تسلم المستأجر المأجور إنما هو بقصد استيفاء منافع معلومة، ومتى استوفيت تلك المنافع، فلا يبقى حكم لذلك العقد. فوضع اليد على المأجور بعد ذلك خارج عن رضاء المؤجر, ولا يجوز التصرف في ملك الغير بدون إذنه. ولذلك يلزم رفع يد المستأجر" (¬1). وجاء في مغني المحتاج: "يد المكتري على المستأجر من الدابة والثوب وغيرهما يد أمانة مدة الإجارة ... وكذا بعدها إذا لم يستعملها ... فلا يلزمه ردها , بل التخلية بينها وبين المالك كالوديعة" (¬2). وجاء في نهاية الزين: "لا يلزمه غير التخلية فلا يلزمه الرد ولا مئونته" (¬3). ¬
وجاء في المبدع: "فإذا انقضت المدة رفع يده عنها، ولم يلزمه الرد" (¬1). واعتبر المالكية حبس العين مدة كثيرة بعد انتهاء مدة الإجارة كالشهر مثلاً فأكثر أنه من التعدي المضمون، وهذا يدل على أنهم يرون وجوب رفع اليد عن العين المستأجرة، بخلاف ما لو حبسها يسيرًا كاليوم واليومين، والله أعلم (¬2). وجاء في الفواكه الدواني: "لا يجوز للمستأجر العدول عن المسافة المأذون فيها وإن سارت إلا بإذن المكري ... " (¬3). ¬
الفرع الرابع إذا أمسك المستأجر العين بعد انتهاء الإجارة
الفرع الرابع إذا أمسك المستأجر العين بعد انتهاء الإجارة [م - 939] إذا أمسك المستأجر العين المستأجرة بعد انتهاء الإجارة فهذا له ثلاث حالات: الحال الأولى: أن يترك الرد لعذر: فإذا كان المستأجر معذورًا في عدم الرد كان يكون المالك غائبًا ففي هذه الحال لا ضمان عليه، ولا أجرة، بشرط ألا يستعملها (¬1). لأن العين المستأجرة كانت أمانة في يده مدة الإجارة، وكان مسلطًا باستعمال العين بحكم ملكه للمنفعة، فإذا انتهت مدة الإجارة بقيت العين أمانة في يده استصحابًا للحال، ولم يعد يملك المنفعة فلا يحق له استعمالها، فالعين ومنفعتها ملك لصاحبها، وتبقى العين أمانة في يده، والأمانات تقصد للحفظ دون الاستعمال. جاء في نهاية الزين: "المكتري أمين على العين المكتراة مدة الإجارة ... وكذا بعدها إن لم يستعمل تلك العين استصحابًا لما كان؛ ولأنه لا يلزمه غير التخلية فلا يلزمه الرد ولا مئونته" (¬2). وجاء في كشاف القناع: "متى طلبها ربها وجب تمكيته منها، فإن منعه لغير عذر صارت مضمونة عليه كالمغصوبة" (¬3). فقوله (لغير عذر) يفهم منه أنه لو امتنع عن تسليمها لعدّر لم تكن مضمونة. ¬
الحال الثانية
ومثله في الحكم: لو أن المستأجر بذلها، فلم يأخذها المؤجر، فالمستأجر هنا معذور؛ لأنه قد فعل ما يجب عليه، ولا يملك المستأجر إجباره على استلام العين، وتكون العين المستأجرة في يده في حكم الوديعة، فلا يضمن الرقبة ولا الأجرة بشرط ألا يستعملها. جاء في الحاوي: "أن يبذلها المستأجر فلا يقبلها المؤجر، فهذا في حكم الوديعة، لا يضمن الرقبة ولا الأجرة إلا أن يركبها فيصير متعديًا فيضمن الأمرين" (¬1). فإن استعملها، فإن كان ذلك بعلم صاحبها، كان شهوده ذلك وسكوته عليه قبولًا منه لإجارتها مرة أخرى، فعلى المستأجر أجرتها, ولا ضمان عليه فيما لو تلفت؛ لأن المستأجر أمين. جاء في المنتقى للباجي: "وقال غيره -يعني غير ابن القاسم-: إن كان معه في مصر يقدر على أخذها فكأنه راض بذلك" (¬2). وإن كان بدون علم صاحبها كان ذلك تعديًا منه، فعليه الأجرة والضمان؛ لأن المقصود من الوديعة الحفظ، واستعمالها من غير إذن صاحبها يعتبر تعديًا فيها يوجب الضمان. الحال الثانية: أن يستنظر المستأجر المالك فينظره مختارًا، فإن كان ذلك بعوض فهي إجارة مبتدأة، لا يضمن إلا بالتعدي والتفريط، ومثله لو أمهله ولم يذكر عوضًا، فالأصل الإجارة؛ لأن الأصل أن الإنسان لا يبذل ماله إلا بمقابل، وقد بذلها في الإجارة الأولى بعوض، فيستصحب الحال في المدة الثانية. ¬
الحال الثالثة
وإن كان ذلك بغير عوض فهو في حكم المستعير، والخلاف في ضمان العين في هذه الحالة راجع إلى الخلاف في ضمان العارية، والصحيح أن العارية أمانة في يد المستعير، لا تضمن إلا بالتعدي أو التفريط، ولا أجرة عليه، وسوف يأتينا إن شاء الله حكم ضمان العواري، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. جاء في الحاوي: "أن يطالبه المؤجر بها، فيستنظره فيها، فينظره مختارًا، فهذا في حكم المستطير، يضمن الرقبة ضمان العارية، ولا يضمن الأجر" (¬1). الحال الثالثة: أن يمسك المستأجر العين المؤجرة بعد انتهاء الإجارة من غير عذر، وهذا له صورتان: الصورة الأولى: أن يطلب المالك العين فيمنعه المستأجر، فهذا غاصب عليه أجرة المدة التي بقيت فيها العين في يده. وإن تلفت العين فعليه ضمانها. [م - 940] وهل يجمع بين الضمان والأجرة، اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: لا يجتمع الأجر والضمان، وهذا مذهب الحنفية، وأخذ به المالكية في بعض الفروع (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يجتمع الأجر والضمان، وهو مذهب الجمهور، وقول شريح، وبه قال إسحاق وأبو ثور. قال ابن المنذر: وبه نقول (¬1). جاء في مختصر الخرقي: "ومن اكترى دابة إلى موضع فجاوز، فعليه الأجرة المذكورة، وأجرة المثل لما جاوز، وإن تلفت فعليه ضمانها" (¬2). ¬
دليل من قال: لا يجتمع الأجر والضمان
دليل من قال: لا يجتمع الأجر والضمان: بني الحنفية قاعدتهم: أن الأجر والضمان لا يجتمعان بناء على أن الضمان مرتبط بالاعتداء، والمعتدي غاصب، وعند الحنفية أن منافع المغصوب غير مضمونة؛ لأن المنافع عندهم كما بينت في كتاب البيع لا تعتبر مالًا, ولا يمكن حيازتها، وهي معدومة قبل وجودها، وإذا وجدت تلاشت، فهي أعراض غير باقية، وإنما كانت المنافع متقومة في عقد الإجارة على خلاف القياس لمكان الحاجة الضرورية إليها. وقد ناقشت مذهب الحنفية عند الكلام على مالية المنافع في عقد البيع، وبينت ضعف هذا القول فأغنى عن إعادته هنا. دليل الجمهور على جواز الجمع بين الأجرة والضمان: قاعدة: الضمان والأجرة لا يجتمعان هي قاعدة صاغها الحنفية خاصة، لذا لا تبحث أدلتها إلا عندهم، وإنما يمكن أن يستدل لهم: بأن موجب الأجرة في المدة التي زادها المستأجر هو عقد الإجارة، وموجب الضمان هو تلف العين، فالجهة منفكة، فلا مانع من اجتماعهما. وهذا هو القول الراجح، والله أعلم. الصورة الثانية: ألا يكون من المستأجر رد، ولا من المؤجر طلب، فهل يلزم المستأجر الضمان والأجرة إذا لم ينتفع بها؟ هذا الحكم مبني على مسألة خلافية: [م - 941] هل يجب على المستأجر الرد ومؤنته، أو لا يجب عليه؟
القول الأول
اختلف العلماء في ذلك قولين: القول الأول: لا يلزم المستأجر رد العين المستأجرة، وإنما عليه فقط التخلية بينه وبين مالكها، وتسليمها إذا طلبها صاحبها، وهذا مذهب الحنفية، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). لأن العين المستأجرة أمانة في يد صاحبها، وهذا يقتضي أن لا ضمان عليه، ولا يجب عليه الرد كالوديعة. قال الكاساني من الحنفية: "وقبض المستأجر على المؤاجر، حتى لو استأجر دابة ليركبها في حوائجه في المصر وقتًا معلومًا، فمضى الوقت، فليس عليه تسليمها إلى صاحبها بأن يمضي بها إليه، وعلى الذي أجرها أن يقبض من منزل المستأجر؛ لأن المستأجر وإن انتفع بالمستأجر، لكن هذه المنفعة إنما حصلت له بعوض حصل للمؤجر، فبقيت العين أمانة في يده كالوديعة، ولهذا لا يلزمه نفقتها فلم يكن عليه ردها كالوديعة، حتى لو أمسكها أيامًا فهلكت في يده لم يضمن شيئًا سواء طلب منه المؤاجر أم لم يطلب؛ لأنه لم يلزمه الرد إلى بيته بعد ¬
القول الثاني
الطلب، فلم يكن متعديًا في الإمساك فلا يضمن، كالمودع إذا امتنع عن رد الوديعة إلى بيت المودع حتى هلكت" (¬1). وقال ابن قدامة: "متى انقضت المدة كانت العين في يده أمانة كالوديعة إن تلفت من غير تفريط فلا ضمان عليه" (¬2). وقال ابن مفلح الصغير: "ولأنه لو وجب ضمانها لوجب ردها كالعارية" (¬3). وقال في الإنصاف: "إذا انقضت المدة رفع يده عن المأجور، ولم يلزمه الرد على المذهب مطلقًا، ولو تلف بعد تمكنه من رده لم يضمنه ... لأن الإذن في الانتفاع انتهى دون الإذن في الحفظ" (¬4). وبناء عليه فلا أجرة على المستأجر ولا ضمان ما دام أن مالك العين المستأجرة لم يطلبها, ولم يكن من المستأجر منع ولا استعمال. القول الثاني: يلزم المستأجر الرد إذا كان قادرًا عليه، ولو لم يطلبها صاحبها، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي، وقول عند الحنابلة (¬5). قال النووي في الروضة: "هل يضمن ما يتلف في يده بعد مضي المدة؟ ينبني على أنه هل على المستأجر الرد ومؤنته، وفيه وجهان: ... أقربهما إلى ¬
وجه ذلك
كلام الشافعي - رضي الله عنه - يلزمه الرد ومؤنته، وإن لم يطلب المالك؛ لأنه غير مأذون في الإمساك بعد المدة؛ ولأنه أخذه لمنفعة نفسه، فأشبه المستعير" (¬1). وعلى هذا إذا لم يقم المستأجر برد العين بعد انتهاء مدة الإجارة، ولو لم يطلبها صاحبها يكون بذلك في حكم الغاصب، ويكون عليه ضمانها إن تلفت، وأجرتها مدة بقائها في يده. وجه ذلك: أن المستأجر غير مأذون له في الإمساك بعد انتهاء المدة، فأصبح بقاء العين في يده في حكم المستعير، والمستعير يلزمه الرد، فكذلك المستأجر. ويناقش: بأن العارية قد قبضها المستعير لمصلحة نفسه بلا مقابل، والمعير محسن في هذا، فوجب على المستعير الرد، بخلاف العين المؤجرة فإن المستأجر قد قبضها في مقابل الأجرة، والمؤجر معاوض وليس محسنًا، فلم يجب الرد على المستأجر، وإنما الواجب التخلية بين العين وبين ماللها فاختلفت الإجارة عن الإعارة. القول الثالث: يلزم المستأجر رد العين بطلب المالك، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). وجه هذا القول: يمكن أن يقال: إن العين أمانة في يد المستأجر، فإذا طلبها صاحبها وجب ¬
الراجح
على المستأجر ردها لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. الراجح: أن المستأجر لا يجب عليه رد العين، وإنما الواجب عليه أن يخلي بين العين وبين ربها، ومؤنة الرد على المالك وحده دون المستأجر، إلا أن يكون هناك عرف، فالمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، والله أعلم.
الفرع الخامس إذا اشترط المؤجر الرد فلم يرد حتى تلفت
الفرع الخامس إذا اشترط المؤجر الرد فلم يرد حتى تلفت جاء في درر الحكام: تعود مئونة رد كل عين إلى من تعود إليه منفعة قبضها، فإذا كانت المنفعة للقابض فمئونة الرد تكون عليه، وإذا كانت للدافع فمئونة الرد تكون عليه أيضًا، وإذا كان لكل منها نفع في الرد فمئونة الرد على من تكون له المنفعة العينية (¬1). [م - 942] إذا اشترط المؤجر رد العين المستأجرة بعد انتهاء مدة الإجارة، فلم يرد حتى تلفت، فهل يضمن العين المستأجرة؟ هذا مبني على صحة اشتراط رد العين المستأجرة، فمن رأى أن الشرط صحيح، وأنه يلزمه الرد أوجب عليه الضمان، ومن رأى أن هذا الشرط غير صحيح، ولا يلزمه الرد لم يوجب عليه الضمان، وقد اختلف الفقهاء هل يلزم المستأجر الرد إذا شرط عليه؟ على قولين: القول الأول: لا يلزمه الرد. وهذا مذهب الحنفية وعليه أكثر الشافعية (¬2)، واستثنى الحنفية إذا كان الرد لا حمل له ولا مئونة فإنه يلزمه الرد بالشرط. جاء في درر الحكام: "ولا يجوز أن يشرط على المستأجر أن يرد العين إلى الآجر ولها حمل ومئونة، وإن لم يكن حمل ومئونة جاز" (¬3). ¬
تعليل من قال: لا يلزمه الرد وإن شرط
وجاء في أسنى المطالب: "فلو شرط عليه الرد فسدت الإجارة" (¬1). تعليل من قال: لا يلزمه الرد وإن شرط: إذا كان رد العين المستأجرة لا يضمن بدون شرط فلا يصير بالشرط مضمونًا، كما أن ضمان العين المستأجرة لا يوجبه العقد، فلا يوجبه الشرط. القول الثاني: يلزمه الرد بالشرط، اختاره بعض الشافعية وهو المذهب عند الحنابلة (¬2). جاء في روضة الطالبين: "قال القاضي أبو الطيب: ولو يشترط عليه الرد لزمه بلا خلاف، ومنعه ابن الصباغ، وقال: من لا يوجبه عليه ينبغي ألا يجوز شرطه، فإن قلنا: لا يلزمه الرد فلا ضمان. وإن قلنا: يلزمه الرد لزمه الضمان إلا أن يكون الإمساك بعذر" (¬3). جاء في كشاف القناع: "في التبصرة: يلزم المستأجر رد العين المؤجرة إذا يشترط عليه" (¬4). وجه القول باللزوم: أن هذا الشرط لا يخالف مقتضى العقد، وإذا التزمه المستأجر بالشرط لزمه، ووجب عليه الوفاء به؛ لأنه لا محذور في التزامه شرعًا، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. ¬
الراجح
الراجح: جواز اشتراط مثل هذا، والأصل في الشروط الصحة والجواز، والله أعلم.
المبحث الثاني في اشتراط الضمان على المستأجر
المبحث الثاني في اشتراط الضمان على المستأجر جاء في مجمع الضمانات: شرط الضمان على الأمين باطل (¬1). وذكر الحنابلة في قواعدهم الفقهية: "كل ما كان أمانة لا يصير مضمونًا بشرطه، وما كان مضمونًا لا ينتفي ضمانه بشرطه" (¬2). وفي مطالب أولي النهى: "ما لا يضمن بدون شرط لا يصير بالشرط مضمونًا" (¬3). [م - 943] بينا في المبحث السابق أن المستأجر أمين، فإذا تلفت العين المستأجرة فلا يضمنها إلا بالتعدي أو بالتفريط، والسؤال: ما حكم لو شرط المؤجر على المستأجر الضمان، فهل يكون الشرط صحيحًا أو فاسدًا؟ وإذا قلنا: إن الشرط فاسد، فهل تفسد الإجارة به، أو يبطل الشرط وحده؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: يفسد الشرط والعقد، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، وظاهر مذهب الشافعية، ووجه في مذهب الحنابلة (¬4). ¬
القول الثاني
إلا أن المالكية قالوا بصحة العقد إذا أسقط المؤجر الشرط قبل الفوات والفوات عندهم: انقضاء العمل. القول الثاني: يفسد الشرط وحده دون العقد، وهو مذهب الحنابلة (¬1). ¬
القول الثالث
القول الثالث: يصح الشرط والعقد في قول بعض المعاصرين، وهو مخرج على قول قتادة وداود الظاهري وأبي حفص العكبري وابن تيمية والسعدي في صحة اشتراط ضمان العارية. ومخرج على قول عبيد الله بن الحسن العنبري والشيخ ابن عثيمين في صحة اشتراط ضمان الوديعة. أو مأخوذ من كلام عام في صحة التزام ضمان الأمانات على وجه العموم، وهو قول في مذهب المالكية، ورواية عن الإِمام أحمد (¬1). جاء في شرح ميارة، تحت عنوان: فصل في العارية والوديعة والأمناء نقلًا عن ابن الحاجب: "وإذا اشترط إسقاط الضمان فيما يضمن، أو إثباته فيما لا يضمن، ففي إفادته قولان" (¬2). وجاء في الإنصاف عند الكلام على ضمان العارية، قال: "وكل ما كان أمانة لا يصير مضمونًا بشرطه، هذا المذهب، وعليه الأصحاب ... وعنه المسلمون على شروطهم كما تقدم" (¬3). ¬
والذي تقدم قول الإِمام أحمد في اشتراط نفي الضمان عن العارية، والمذهب أن العارية مضمونة مطلقًا، وعن الإِمام أحمد في رواية أنه حين ذكر ذلك له، قال: المسلمون على شروطهم (¬1). فما ورد عن الإِمام أحمد ليس نصًا في ضمان العين المستأجرة، والله أعلم. والنقاش: هل يصح تخريجه على الوديعة والعارية بجامع أن كلًا منهما من باب اشتراط ضمان الأمانات. هل يقال: إذا صح التزام الضمان في الوديعة، وهي مقبوضة لحظ صاحبها، والمودَع محسن، فالتزام الضمان في الإجارة من باب أولى؛ لأنه قد قبضها لمصلحتهما (المؤجر والمستأجر)؟ أو يقال: يختلف الضمان في الوديعة والعارية عن الضمان في الإجارة، فالعقدان الأولان ليسا من عقود المعاوضة، فالغرر فيهما مغتفر، وأما الإجارة فإنها من عقود المعاوضة، والتزامه يجعل الضمان جزءًا من الإجارة، والإجارة يجب أن تكون معلومة، والجهالة فيها يفسد العقد، فلا يصح التخريج. الذي أميل إليه هو الثاني، وأن التخريج على الوديعة والعارية لا يصح. وأما ما ورد عامًا عن بعض المالكية والحنابلة في صحة اشتراط الضمان في الأمانات، فيقال: إن الأمانات ليست معاملة واحدة، منها ما هو على سبيل المعاوضة، والتزامه يكون غررًا، فيؤثر في صحة العقد، ومن الأمانات ما ليس من عقود المعاوضات، والتزام الضمان لا يوجب غررًا، أو يوجبه، وهو مغتفر في باب التبرعات، فلا يؤثر في صحة العقد، فيحمل كلام الأئمة على الثاني ¬
دليل من قال: يفسد الشرط والعقد
دون الأول، والله أعلم، خاصة أن مذاهبهم صريحة في أن التزام الضمان في عقد الإجارة لا يصح، فيكون الحمل هذا متعينًا، والله أعلم. والقول الوحيد الذي وقفت عليه في صحة ضمان الإجارة بالشرط هو قول لابن نجيم في الأشباه والنظائر، قاله تفقهًا من عنده، وهو خلاف المذهب. قال ابن نجيم: "حين تأليف هذا المحل ورد علي سؤال فيمن آجر مطبخًا لطبخ السكر وفيه فخار، أذن للمستأجر في استعمالها، فتلف ذلك، وقد جرى العرف في المطابخ بضمانها على المستأجر؟ فأجبت بأن المعروف كالمشروط فصار كأنه صرح بضمانها عليه" (¬1). وانتقد ذلك الحموي في غمز عيون البصائر، وقال: "لا يحل الإفتاء من القواعد والضوابط، وإنما على المفتي حكاية النقل الصريح كما صرحوا به" (¬2). يعني أن صريح كلام الحنفية أن اشتراط الضمان غير صحيح، فلا يعدل عن ذلك إلى الاستدلال بالقواعد والضوابط الفقهية، والله أعلم. وإذ انتهيت من تحرير الأقوال نأتي على ذكر أدلة كل قول. دليل من قال: يفسد الشرط والعقد: الدليل الأول: أن اشتراط الضمان على الأمين شرط ليس في كتاب الله: أي في حكمه. (ح-607) وقد روى البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا في قصة عتق بريرة من حديث طويل، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ما بال أقوام يشترطون ¬
ونوقش هذا
شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق (¬1). وفي رواية: من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن شرط مائة شرط (¬2). ونوقش هذا: بأنه لم يثبت دليل من الكتاب أو السنة على تحريم اشتراط الضمان في الأمانات، وإذا لم يثبت فإن التزام مثل هذا الشرط لا يكون حرامًا. الدليل الثاني: استدل الحنفية والشافعية على بطلان اشتراط الضمان على المؤجر بموقفهم من الشروط المقترنة بالعقد، وذلك أنهم يرون بطلان كل شرط لا يقتضيه العقد، ولا ينافيه، ولا يعتبر من مصلحة العقد كالنهي عن اشتراط حمل الحطب، أو تكسيره، ومنه اشتراط الضمان على المؤجر. (ح-608) واستدلوا على ذلك بما رواه الطبراني في المعجم، الأوسط، قال: حدثنا عبد الله بن أيوب القربي، قال: أخبرنا محمَّد بن سليمان الذهلي، قال: أخبرنا عبد الوارث بن سعيد، عن أبي حنيفة، قال: حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط ... وفي الحديث قصة (¬3). ¬
الوجه الأول
وقد سبق الكلام على الحديث، والجواب عنه من عدة وجوه، ونعيدها هنا باختصار: الوجه الأول: أن الحديث ضعيف جدًا (¬1). الوجه الثاني: أن هذا الحديث مخالف للأحاديث الصحيحة الدالة على صحة الاشتراط، من ذلك: (ح-609) ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ابتاع نخلًا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدًا وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع (¬2). فهذا الشرط ليس من مصلحة العقد، ولكن لا ينافي مقتضى العقد، فصح الاستثناء، فغيره مقيس عليه. الوجه الثالث: أنه مخالف لما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده بسند أصح من هذا السند، وفيه: أنه نهى عن شرطين في بيع بما يدل بمفهومه على جواز الشرط الواحد. الوجه الرابع: أنه لا فرق بين أن يشترط الرهن أو الكفيل أو الأجل أو الخيار أو غيرها من الشروط الجائزة المجمع على جوازها، وبين أن يشترط حمل الحطب أو تكسيره أو الضمان أو غيرها من الشروط، فالجامع بين الصورتين أن في كل منها بيعًا وشرطًا. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: يد المستأجر يد أمانة، واشتراط الضمان على الأمين باطل؛ لأنه شرط يخالف مقتضى العقد، واشتراط ما يخالف مقتضى العقد يفسده تمامًا كما لو اشترط عليه في البيع ألا يتصرف فيه، وفي النكاح ألا يدخل بها، وهكذا. ويناقش من وجهين: الوجه الأول: أن اشتراط ما ينافي مقتضى العقد لا يصح، وأما اشتراط ما يخالف مقتضى العقد فلا مانع منه إذا كان له غرض صحيح. فالبيع عليه بشرط ألا يتصرف فيه يعتبر شرطًا ينافي مقتضى العقد بخلاف اشتراط الضمان في الأمانات فإنه شرط يخالف مقتضى العقد ولا ينافيه، وبينهما فرق مثله تمامًا ما ذكرته في مسألة: ما إذا باع عليه، واشترط ألا يبيعه، وقصد من الشرط نفع المشتري أو نفع السلعة، فالأول كما لو كان المشتري إذا ملك شيئًا باعه، ولم يحسن التصرف في ثمنه، وأراد البائع أن ينتفع المشتري من المبيع، ومثال الثاني كما لو باعه حيوانًا، وعلم أن المشتري يرفق به، ولم يرغب في بيعه لغيره فلا مانع من اشتراط مثل ذلك على الصحيح، وإن كان شرطًا يخالف مقتضى العقد، والله أعلم. الوجه الثاني: نسلم لكم أن عقود الأمانات المطلقة الأصل فيها عدم الضمان، ولكن إذا التزم الشخص الضمان بالشرط فإنه يلزمه؛ لأنه قد أوجب على نفسه بالشرط ما لا يجب عليه بدونه، والأصل في الشروط الصحة والجواز.
الدليل الرابع
الدليل الرابع: أن ضمان العين المستأجرة يعتبر عقدًا تابعًا لعقد الإجارة، والضمان جزء من الأجرة، وجهالة مقدار الضمان يؤول إلى جهالة الأجرة، وهذا مفسد للعقد، ولذلك منع الفقهاء اشتراط المؤجر على المستأجر صيانة العين المستأجرة متى احتاجت العين إلى الصيانة، وأجازوا صيانة المستأجر للعين واحتساب ذلك من الأجرة، أو تخصيص مبلغ معلوم معين للصيانة، أو تكون الصيانة دورية معلومة التكاليف كل ذلك حتى لا يؤدي إلى جهالة الأجرة، وسوف يأتينا إن شاء الله تعالى مناقشة اشتراط الصيانة على المستأجر في مبحث مستقل، فأسأل الله وحده عونه وتوفيقه. دليل من قال: العقد والشرط صحيحان: الدليل الأول: (ح-610) ما رواه الترمذي من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالًا أو أحل حرامًا. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح (¬1). [ضعيف] (¬2). الدليل الثاني: (ح-611) ما رواه الإِمام أحمد، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا ¬
وأجيب عن هذا الدليل
شريك، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أمية بن صفوان بن أمية، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعار منه يوم خيبر أدرعًا، فقال: أغصبا يا محمَّد؟ فقال: بل عارية مضمونة. قال: فضاع بعضها فعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضمنها له، فقال: أنا اليوم يا رسول الله في الإِسلام أرغب (¬1). [الحديث مضطرب من مسند صفوان، حسن من مسند جابر رضي الله عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬2). وأجيب عن هذا الدليل: بأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عارية مضمونة هو إعلام من النبي - صلى الله عليه وسلم - بحكم العارية، وأن المستعير ضامن، وليس هذا على سبيل الضمان بالشرط ما ليس بمضمون بدونه. ورد هذا الجواب: ضمان العارية فيه خلاف بين أهل العلم، والصحيح أن العارية أمانة في يد المستعير لا تضمن إلا بالتعدي أو التفريط، وقد ضمنها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشرط فدل على أن الأمانات تضمن بالشرط، ومنه ضمان العين المستأجرة، والله أعلم. واعترض على هذا: بأن هناك فرقًا بين ضمان العارية وبين ضمان العين المستأجرة، فالعارية ليست من عقود المعاوضات، والجهالة فيها مغتفرة، بينما التزام الضمان في العين المستأجرة يؤول إلى جهالة الأجرة، فيفسد العقد. على أنه قد يقال: إن العارية إذا شرط ضمانها تحولت إلى إجارة، ¬
دليل من قال: يصح العقد ويبطل الشرط
ولذلك اعتبر بعض الفقهاء بأن العارية المضمونة بالشرط إذا تلفت تحولت إلى إجارة فاسدة، ويجب فيها أجرة المثل؛ لأن الشرط يخرج العارية عن حكمها (¬1). دليل من قال: يصح العقد ويبطل الشرط: (ح-612) استدلوا بما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنهما -، قالت: بريرة، فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقالت عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة، وأعتقك فعلت، ويكون ولاؤك لي، فذهبت إلى أهلها فأبوا ذلك عليها ... فسمع بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألني، فأخبرته، فقال: خذيها، فأعتقيها، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق، قالت: عائشة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، ما بال رجال منكم يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، فأيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، فقضاء الله أحق, وشرط الله أوثق ... (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبطل الشرط وحده، وأبقى على العقد صحيحًا، فدل الحديث على أن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد يبطل الشرط وحده، ولا يبطل العقد، ومنه مسألتنا هذه حيث تطرق الخلل إلى الشرط الذي وضعه المتعاقدان، فيبطل الشرط وحده، فوجوده كعدمه، ويصح العقد. ¬
ويجاب عن ذلك
ويجاب عن ذلك: بأن قياس الشروط المالية على شرط غير مالي كالولاء قياس مع الفارق، ذلك أن اشتراط الضمان سيكون له قيمة في العقد، فالتزام المستأجر الضمان سوف يحمل المستأجر على تخفيض الأجرة في مقابل هذا الالتزام المالي، فإذا أبطلنا الشرط فلا بد أن نبطل عوضه، وإلا كيف يستحل المؤجر قيمة شرط لم يلتزمه المستأجر، وإذا جهلنا قيمة الشرط عاد ذلك على الثمن بالجهالة؛ لأن عود المجهول على المعلوم يصير المعلوم مجهولًا, ولو فرض أننا عرفنا قيمة هذا الشرط، فقد يقول المؤجر: أنا لم أرض بالأجرة الجديدة، ولم أرض بالإجارة إلا بالعوض الذي اتفقنا عليه، وهذا يعني أنه لا بد من اتفاق جديد على أجرة جديدة، فيعود البطلان إلى العقد. الراجح: بعد استعراض الخلاف أرى أن القول بتحريم صحة اشتراط الضمان هو القول الراجح، وأن الضمان إذا التزمه المؤجر أدى ذلك إلى جهالة الأجرة، والله أعلم.
المبحث الثالث في ضمان الأجير
المبحث الثالث في ضمان الأجير الفرع الأول في ضمان الأجير الخاص [م - 944] سبق لنا تعريف الأجير الخاص، والفرق بينه وبين الأجير المشترك، والبحث هنا في ضمان الأجير الخاص، متى يضمن، ومتى لا يضمن؟ فإذا تعدى الأجير الخاص بأن فعل ما ليس له فعله، من إتلاف أو إفساد. أو فرط بأن ترك ما يجب عليه فعله من حفظ فإنه ضامن بالاتفاق. أما إذا قام الأجير بما يجب عليه فلم يفرط، ولم يتعد فقد اختلف الفقهاء في ضمانه على قولين: القول الأول: لا يضمن، وهو مذهب عامة الفقهاء. قال الكاساني: "وإن كان الأجير خاصًا فما في يده يكون أمانة في قولهم جميعًا حتى لو هلك في يده بغير صنعه لا يكون ضامنًا" (¬1). ¬
القول الثاني
وقال ابن قدامة: "فأما الأجير الخاص فهو الذي يستأجر مدة، فلا ضمان عليه ما لم يتعد. قال أحمد، في رواية مهنا، في رجل أمر غلامه يكيل لرجل بزرًا، فسقط الرطل من يده، فانكسر: لا ضمان عليه. فقيل: أليس هو بمنزلة القصار؟ قال: لا، القصار مشترك" (¬1). القول الثاني: يضمن، وهو قول في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة اختاره ابن أبي موسى في الإرشاد (¬2). جاء في الأم "قال الشافعي - رحمه الله -: الأجراء كلهم سواء، وما تلف في أيديهم من غير جنايتهم ففيه واحد من قولين: أحدهما: الضمان؛ لأنه أخذ الأجر. والقول الآخر: لا ضمان إلا بالعدوان" (¬3). وذكر البيهقي في معرفة السنن بإسناده عن الشافعي قال: الأجراء كلهم سواء، فإذا تلف في أيديهم شيء من غير جنايتهم فلا يجوز أن يقال فيهم إلا واحد من قولين .. فذكرهما، وذكر وجه كل واحد منهما. قال: وليس في هذا سنة علمتها, ولا أثر يصح عند أهل الحديث عن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد روي فيه شيء عن عمر وعلي ليس يثبت عند أهل الحديث عنهما, ولو ثبت عنهما لزم من يثبته أن يضمن الأجراء كلهم من كانوا؛ لأن عمر ¬
القول الثالث
إن كان ضمن الصناع فليس في تضمينه لهم معنى إلا أن يكون ضمنهم بأنهم أخذوا أجر ما ضمنوا، فكل من أخذ أجرًا فهو من معناهم (¬1). القول الثالث: يضمن إذا تلف بأمر خفي لا يعلم إلا من جهته. وهو رواية عن الإِمام أحمد (¬2). والراجح، والله أعلم قول الجمهور؛ لأن الأجير الخاص أمين، والأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو بالتفريط، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني في ضمان الأجير المشترك
الفرع الثاني في ضمان الأجير المشترك المسألة الأولى أن تكون العين في يد الأجر المشترك [م - 945] لا خلاف بين الفقهاء في تضمين الأجير المشترك إذا تعدى أو فرط، فإن تلف ما في يده بلا تعد ولا تقصير فإن كان الأجير قد قبض العين فهل يضمن؟ اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: ذهب أبو حنيفة، والحنابلة في المشهور إلى أن الأجير المشترك يضمن إن كان التلف بسبب يرجع إلى فعله سواء أكان متعديًا أم لا، وسواء تجاوز المعتاد أو لم يتجاوز، وأما ما تلف بسبب لا يرجع إلى فعله بل يرجع إلى الحفظ مثلًا ونحوه فلا يضمنه إن لم يكن منه تعد أو تفريط (¬1). واستدلوا على ضمان ما تلف بفعله: الدليل الأول: (ح-613) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: على اليد ما أخذت حتى تؤديه (¬2). ¬
ونوقش هذا
[رجاله ثقات إلا أن في سماع الحسن من سمرة خلافًا] (¬1). ونوقش هذا: بأن الحديث قد ضعف، ولو صح فليس فيه إلا الأداء، والأداء غير الضمان في اللغة والحكم، ويلزم المحتج بهذا الحديث أن يضمنوا بذلك المرهون والودائع؛ لأنها مما قبضت اليد، ولذلك قال الحسن الذي روى هذا الحديث: أمينك لا ضمان عليه مما يدل على أن الأداء غير الضمان ولم يخالف الحسن الحديث ولم ينس كما توهم الراوي؛ لأن الحديث ليس فيه دلالة على الضمان (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ث-105) ما رواه عبد الرزاق، قال: أخبرنا يحيى بن العلاء، عن جعفر ابن محمَّد، عن أبيه، قال: كان علي يضمن الخياط والصباغ (¬1). [حسن لغيره] (¬2). الدليل الثالث: (ث-106) ما رواه عبد الرزاق قال: أخبرنا بعض أصحابنا، عن ليث ابن سعد، عن طلحة بن أبي سعيد، عن بكير بن عبد الله بن الألشج، أن عمر بن الخطاب ضمن الصباغ الدي يعمل بيده (¬3). ¬
وجه الاستدلال من الأثرين
[ضعيف] (¬1). وجه الاستدلال من الأثرين: دلت هذه الآثار على تضمين الأجير المشترك ما تلف بسبب فعله وصناعته، لأن وجوب الضمان عليه إنما كان بسبب جنايته. ونوقش هذا الاستدلال: بأن الأثر لم يثبت عن علي ولا عن عمر - رضي الله عنهما -، وهذا رأي الشافعي - رضي الله عنه -. قال في الأم: "ليس في هذا سنة أعلمها, ولا أثر يصح عند أهل الحديث عن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد روي فيه شيء عن عمر وعلي ليس يثبت عند أهل الحديث عنهما, ولو ثبت عنهما لزم من يثبته أن يضمن الأجراء من كانوا فيضمن أجير الرجل وحده والأجير المشترك والأجير على الحفظ والرعي وحمل المتاع والأجير على الشيء يصنعه؛ لأن عمر إن كان ضمن الصناع فليس في تضمينه لهم معنى إلا أن يكون ضمنهم بأنهم أخذوا أجرا على ما ضمنوا، فكل من كان أخذ أجرًا فهو في معناهم، وإن كان علي - رضي الله عنه - ضمن القصار والصائغ فكذلك كل صانع وكل من أخذ أجرة، وقد يقال للراعي صناعته الرعية وللحمال صناعته الحمل للناس" (¬2). الدليل الرابع: أن عمل الأجير المشترك مضمون عليه بدليل أنه لا يستحق العوض إلا بالعمل، وأن الشيء لو سرق من حرزه بعد عمله لم يكن له أجر فيما عمل فيه، وكان ذهاب عمله من ضمانه بخلاف الأجير الخاص. ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: أن ما يدخل تحت عقد الإجارة هو العمل السليم، وهو المأذون فيه، وأما العمل الفاسد فغير مأذون فيه فلا يدخل تحت الإجارة، فيكون مضمونًا عليه؛ أو بمعنى آخر: أن مطلق عقد المعاوضة يقتضي سلامة المعقود عليه من العيوب، وهو المأذون فيه، فإذا وجد تلف فقد صار بما ليس مأذونًا فيه، فيكون مضمونًا عليه (¬1). وأما أدلتهم على كون الأجير لا يضمن ما تلف بغير فعله: استدلوا بكون الأجير لا يضمن ما تلف بغير فعله بأدلة منها: الدليل الأول: قال تعالى: {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193]. وجه الاستدلال: " أن الأصل ألا يجب الضمان إلا على المتعدي .. ولم يوجد التعدي من الأجير؛ لأنه مأذون له في القبض، والهلاك ليس من صنعه، فلا يجب الضمان عليه، ولهذا لا يجب الضمان على المودع" (¬2). الدليل الثاني: أن العين أمانة في يد الأجير؛ لأنه لم يقبض العين لمصلحته فقط حتى تكون مضمونة عليه مطلقًا، وإنما قبضها لمصلحته ولمصلحة ربها، فكانت يده كيد المستأجر، لا يضمن ما كان بغير فعله، ولهذا لو هلكت بسبب لا يمكن التحرز ¬
الدليل الثالث
منه لم يضمنه، ولو كانت العين مضمونة عليه مطلقًا لضمنها من غير فرق بين ما يمكن التحرز منه، وما لا يمكن (¬1). الدليل الثالث: أن المعقود عليه الصنعة، وليس الحفظ، فإذا تلف شيء بسبب الصنعة ضمنه، وإذا تلف المصنوع بسبب يرجع إلى الحفظ يضمن إلا أن يتعدى أو يفرط؛ لأن القبض حصل بإذن المالك فلا يكون مضمونًا عليه. القول الثاني: ذهب أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة إلى أن الأجير المشترك يضمن بالقبض مطلقًا سواء كان الهلاك بفعله أو بغير فعله، وسواء كان متعديًا أو غير متعد، إلا إذا وقع التلف بسبب لا يمكن الاحتراز عنه كحريق غالب، أو كان الأجير لم ينفرد باليد (¬2). * وجه الاختلاف بين قول أبي حنيفة وقول صاحبيه: يتفق هذا القول مع الذي قبله بتضمين الأجير ما كان بسبب فعله، وأدلتهم واحدة في هذا فلا نحتاج إلى إعادتها. ¬
ونوقش هذا الاستدلال
ويتفقان على أن الأجير لا يضمن إذا كان التلف بسبب لا يمكن التحرز منة كحريق غالب. ويختلفان بالضمان إذا كان العيب لم يكن بسبب يرجع إلى الصنعة، وإنما يعود إلى الحفظ بسبب يمكنه التحرز منه. فأبو حنيفة يرى أن الأجرة إنما هي في مقابل الصنعة فقط، والحفظ ليس داخلًا في العقد، وبالتالي إذا سرقت العين أو لحقها تلف أو عيب من غير فعل الأجير لم يضمن؛ لأن العقد لم يكن على الحفظ، فيده في الحفظ يد أمانة لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط. وأما الصاحبان فيريان أن الحفظ مستحق على الأجير المشترك؛ لأنه لا يمكنه العمل إلا به، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فكان العقد واردًا على الحفظ، ولأن عقد المعاوضة يقتضي سلامة المعقود عليه، فيضمن بالهلاك كما في الوديعة إذا كانت بأجر (¬1). ونوقش هذا الاستدلال: بأن عقد الإجارة وارد على العمل، وليس على الحفظ، والحفظ تابع وليس بمقصود أصلي، ولهذا لا يقابله أجر، بخلاف المودع بأجر، فإن الحفظ مستحق مقصود، ويقابله أجر فافترقا. القول الثالث: ذهب المالكية إلى أن الأصل في يد الأجير المشترك أنها يد أمانة، ولكن لما فسد الناس، وظهرت خيانة الأجراء ضمن الصناع، وكل من تقتضي المصلحة ¬
العامة تضمينه من الأجراء المشتركين حيث تقوم به التهمة. وهو من باب الاستحسان (¬1). "ووجه المصلحة فيه: أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط، وترك الحفظ، فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين: إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك سياق على الخلق، وإما أن يعملوا, ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة، فكانت المصلحة التضمين" (¬2). وعلى هذا فضمان الصناع عند المالكية ضمان تهمة لا ضمان أصالة، ولا يضمن عند المالكية إلا بشروط، منها: الأول: أن ينتصب للصنعة لدى عامة الناس، فلا ضمان على الصانع الخاص بجماعة. والصانع المنتصب: هو من أقام نفسه لعمل الصنعة التي استعمل فيها بسوقها أو داره، وغير المنتصب: هو من لم يقم نفسه لها, ولا منها معاشه (¬3). الثاني: أن يغيب ربها عن الذات المصنوعة، فإن عمل الصانع في بيت رب السلعة، فلا ضمان عليه، جلس معه ربها أم لا، عمل بأجر أم لا، وكذا لو صنعت بحضرة ربها, ولو في محل الصانع. ¬
القول الرابع
الثالث: ألا تقوم بينة على ما ادعاه من تلف أو ضياع فإن قامت بينة بهلاكه بغير سببه فلا ضمان. وهذا يقوي أن ضمان الصناع عند المالكية ضمان تهمة ينتفي بإقامة البينة، لا ضمان أصالة (¬1). الرابع: أن يكون المصنوع مما يغاب عليه بأن يكون ثوبًا، أو حليًا، فلا ضمان على معلم الأطفال، أو البيطار إذا ادعى الأول هروب الولد، والثاني هروب أو تلف الدابة. الخامس: ألا يكون في المصنعة تغرير، وإلا فلا ضمان كنقش المنصوص وثقب اللؤلؤ، وتقويم السيوف، وحرق الخبز عند الفران، وتلف الثوب في قدر الصباغ، وما أشبه ذلك كالبيطار يطرح الدابة لكيها مثلًا فتموت، وكالخاتن لصبي يموت عند ختنه. السادس: ألا يكون الصانع أحضره لربه مصنوعًا على الصفة المطلوبة، ويتركه ربه اختيارًا فيضيع (¬2). القول الرابع: يرى أن يد الأجير المشترك يد أمانة مطلقًا فلا يضمن ما تلف بعمله ما لم يتعد، وهو اختيار زفر من الحنفية، والأظهر عند الشافعية، وصوبه في الإنصاف والله أعلم (¬3). ¬
دليل هذا القول
* دليل هذا القول: الدليل الأول: أن القول بعدم التضمين هو مقتضى القواعد، وذلك أن الأصول موضوعة على أن من أخذ مال غيره لمنفعة نفسه ضمنه كالمقترض، والمستعير، ومن أخذه لمنفعة مالكه لم يضمنه كالمودع. ومن أخذه لمنفعة مشتركة بينه وبين مالكه كالمضارب والمرتهن فلا يضمن إلا بالتعدي، فالأجير المشترك قد قبض العين لمنفعته ومنفعة المالك فلم يضمنه إلا بالتعدي أو التفريط. ونوقش: بأن الأجير قد أخذ المال لمنفعة نفسه ليأخذ الأجرة فوجب أن يضمن كالقرض. الدليل الثاني: أن هذا العمل لما كان مأذونًا له فيه، وعمل ما عمل بأمر المالك لم يضمن ما تلف بسبب ذلك، والأمر المطلق من المالك ينتظم الفعل بنوعيه المعيب والسليم. ويناقش: بأن المأذون فيه هو العمل الصحيح السليم، وأما العمل المعيب فليس مأذونًا فيه فلم يدخل في الضمان. الدليل الثالث: لما كان الفصاد والختان والحجام لا يضمنون إذا كان قد عرف حذقهم فكذلك الأجير المشترك مقيس عليهم.
الراجح
* الراجح: أرى أن مذهب أبي يوسف ومحمد بن الحسن هو أرجح الأقوال وهو الذي يصلح للناس في هذه الأزمان مع خراب الذمم، وتهاون الناس في الحقوق، والله أعلم.
المسألة الثانية في ضمان الأجير والعين في يد المالك
المسألة الثانية في ضمان الأجير والعين في يد المالك [م - 946] إذا كان الأجير يعمل والعين في يد صاحبها لم يقبضها الأجير، فتلفت العين، فهل يضمن؟ اختلف الفقهاء في تضمينه على قولين. القول الأول: قالوا: لا يضمن الأجير المشترك إذا حدث العيب، والعين في يد مالكها، وهو قول الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). وجه القول بعدم الضمان: الوجه الأول: أن العين إنما تضمن بالقبض، والمتاع ما زال في يد صاحبه فلا يضمن الأجير ما هلك في يد صاحبه. ويناقش: بأن القبض من أسباب الضمان، وليس الضمان محصورًا في القبض فجناية ¬
الوجه الثاني
اليد سبب في الضمان أيضًا، وقد حصل التلف بسبب جناية يده فيضمن. الوجه الثاني: أن الأجير المشترك لما سلم نفسه إلى رب العمل أصبح حكمه حكم الأجير الخاص، والأجير الخاص لا يضمن. ويجاب: بأن هناك فرقًا بين الأجير الخاص والأجير المشترك، ففي الأول العقد وارد على منافعه مدة معلومة، والثاني العقد وارد على إنجاز عمل معلوم، فعمله مضمون عليه بخلاف الأجير الخاص. القول الثاني: يضمن مطلقًا، ولو كان رب العمل شاهدًا، وهو المذهب عند الحنابلة (¬1). وجه القول بالضمان: أن الضمان كان بسبب جنايته، وإذا كان بسبب الجناية فليس هناك فرق بين أن يجني الأجير، ورب العمل شاهد، أو يجني ورب العمل غائب كالعدوان. ونوقش: بأنه وإن كان الهلاك بفعله إلا أن التهمة في حقه ضعيفة لكون العين في يد صاحبها، وإذا كانت التهمة ضعيفة رجعنا إلى الأصل، وهو أن الأجير مؤتمن. الراجح: القول بالتضمين إن كان بسبب فعله؛ لأن عمله مضمون عليه، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث في ضمان الأجير إذا حبس العين لاستيفاء الأجرة
الفرع الثالث في ضمان الأجير إذا حبس العين لاستيفاء الأجرة [م - 947] إذا حبس الأجير العين لاستيفاء الأجرة، فتلفت العين، فهل يضمن؟ اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: ذهب أبو حنيفة إلى أن الأجير إذا أراد حبس العين بعد الفراغ من العمل نظر: إن كان لعمله أثر ظاهر في العين كالخياط والصباغ ونحوهما، وكان الأجر حالًا، ليس مؤجلًا، فإن له حبس العين حتى يقبض الأجرة (¬1). فإن لم يكن لعمله أثر، كالحمال، والملاح فلا يحق له حبس العين؛ لأن المعقود عليه وهو الحمل عرض لا يتصور بقاؤه، وليس له أثر في العين حتى يتصور حبسه (¬2). وهذا أحد الوجهين في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). فإن حبس العين فضاعت فاختار أبو حنيفة أن لا ضمان عليه؛ لأن العين أمانة في يده .. وفي حبسها لا يكون متعديًا فلا يجب عليه الضمان. ¬
القول الثاني
ولا أجرة له؛ لأن المعقود عليه هلك قبل التسليم. وذلك يوجب سقوط البدل كالمبيع إذا هلك قبل القبض. واختار أبو يوسف ومحمد بن الحسن بأنه يضمن إذا تلفت؛ ليس بسبب الحبس، وإنما لكونها مضمونة عليه بالقبض قبل الحبس، فلا يسقط ذلك بالحبس. فإن شاء ضمنه قيمته غير معمول، ولا أجر له، كان شاء ضمنه معمولًا, وله الأجر. القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن الأجير له أن يحبس ما في يده مطلقًا سواء كان له أثر في العين، أو ليس له أثر في العين حتى يستوفي أجره، وإذا هلكت فعليه الضمان إلا أن تقوم له بينة على الضياع فيبرأ من الضمان، ولا أجر له؛ لأنه لم يسلم ما عمل إلى صاحبه (¬1). جاء في التاج والإكليل: "قال ابن القاسم: لكل صانع أو حمال على ظهر أو ¬
القول الثالث
سفينة منع ما حمل أو عمل حتى يأخذ أجره، فإن هلك ذلك بأيديهم في منعهم فالصناع ضامنون، ولا أجر لهم إلا أن تقوم بينة على الضياع فلا ضمان عليهم، ولا أجر لهم؛ لأنهم لم يسلموا ما عملوا إلى أربابه ... " (¬1). القول الثالث: اختار الشافعية أن يوضع المستأجر عليه عند عدل حتى يقبض الأجير أجرته (¬2). القول الرابع: ذهب زفر من الحنفية، ووجه في مذهب الشافعية، والمذهب عند الحنابلة بأنه لا يحق للأجير أن يحبس العين ليستوفي الأجرة (¬3). وقد ذكرنا أدلة هذا الأقوال في عقد المقاولة، فأغنى عن إعادته هنا، وقد رجحت هناك أن الأجير إذا كان يخشى من المؤجر أن لا يسلمه الأجر فإن له أن يحبس العين حتى يقوم رب العمل إما بتسليم الأجر، أو يقوم بتسليم عدل يرضى به الأجير، وقد تكلمنا عن حكم حبس المبيع على ثمنه في عقد البيع، وهذا الباب مثله، والله أعلم. ... ¬
الفرع الرابع في كيفية تضمين الأجير المشترك
الفرع الرابع في كيفية تضمين الأجير المشترك [م - 948] اختلف العلماء في كيفية تضمين الأجير المشترك على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن المستأجر مخير بين أن يضمن الأجير المأجور غير معمول، ولا أجر له، وبين أن يضمنه معمولًا, وله الأجر. وهذا مذهب الحنفية والحنابلة (¬1). القول الثاني: ذهب مالك بأن الفساد إن كان يسيرًا فعليه قيمة ما أفسد، وإن كان الفساد كثيرًا ضمن قيمة ما أفسده يوم قبضه، وليس عليه أن يضمن قيمة العين مصنوعة (¬2). القول الثالث: اختلف الشافعية في كيفية تضمين تأجير المشترك بناء على اختلافهم في تضمينه: جاء في المهذب: "فإن قلنا: إنه أمين فتعدى فيه، ثم تلف ضمنه بقيمته أكثر ما كانت من حين تعدى إلى أن تلف؛ لأنه ضمن بالتعدي، فصار كالغاصب. ¬
وإن قلنا: إنه ضامن لزمه قيمته أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف كالغاصب. ومن أصحابنا من قال: يلزمه قيمته وقت التلف كالمستعير، وليس بشيء" (¬1). وقد ذكرت أدلة هذه الأقوال في عقد المقاولة من المجلد الحادي عشر، ورأيت أن مذهب المالكية هو أرجح الأقوال، وأنه لا وجه لتضمينه العين مصنوعة فهو لم يملك الصنعة حتى يمكن أن يطالب بضمانها، والترجيح إنما في وقت الضمان، هل يضمنها يوم قبضها، أو يضمنها يوم تلفها، والذي بسببه وجب الضمان، والثاني أرجح، وقد تكلمنا عليه في باب ضمان المبيع فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم. ¬
الفرع الخامس في ضمان الأجير التابع
الفرع الخامس في ضمان الأجير التابع [م - 949] قد يعمل مجموعة من الأجراء الخاصين تحت يد الأجير المشترك، كالخياط يعمل عنده مجموعة من الخياطين كأجراء خاصين له، فإذا أتلف الأجير الخاص عند الأجير المشترك بلا تعد منه ولا تفريط، فمن الضامن؟ هل هو الأجير الخاص، أو الأجير المشترك، أو لا ضمان عليهما؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: الضمان على الأجير المشترك، ولا ضمان على الأجير الخاص إذا تلف ما تحت يده بلا تعد ولا تفريط، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة (¬1). ودليلهم: أما كون الأجير الخاص لا يضمن إلا بالتعدي فقد ذكرنا أدلته في ضمان الأجير الخاص، وأنه أمين، والأمين لا يضمن ما لم يتعد أو يفرط. وأما كون الضمان على الأجير المشترك فقد سبق أن ذكرنا الأدلة على أن ¬
القول الثاني
الأجير المشترك يضمن ما تلف بفعله وإن لم يتعد؛ وما يقوم به الأجير الخاص ينسب للأجير المشترك باعتبار أن هذا الخاص يعمل تحت إمرة الأجير المشترك، وبإذنه وتحت تصرفه. القول الثاني: لا يضمن إلا إن أخذ الأجير الخاص السلعة إلى بيته، وغاب بها عن حانوت أستاذه، فإنه يكون ضامنًا (¬1). لأن ضمان الأجير عند المالكية هو ضمان تهمة لا ضمان أصالة، فإذا أخذ الأجير الخاص العين وغاب بها قوي في جانبه التهمة، فيضمن بخلاف ما لو تلفت العين، والأجير المشترك شاهد فإنه لا ضمان على الأجير الخاص؛ لأنه لا تهمة في حقه حينئذ، والله أعلم. القول الثالث: لا ضمان على أحد منهما، أما الأجير الخاص فلأنه أمين، وهذا ظاهر، وأما الأجير المشترك فالشافعي في أحد قوليه يرى أنه لا ضمان عليه، وبالتالي فلا ضمان في هذه المسألة على أي واحد منهما. قال الماوردي: الأيدي في أموال الغير ثلاثة أقسام: يد ضامنة، ويد أمينة، ويد اختلف قول الشافعي فيها، هل هي ضامنة أو أمينة. فأما اليد الضامنة فيد الغاصب والمستعير والمساوم ... وأما اليد الأمينة فيد الوكيل، والمضارب، والشريك والمودع والمستأجر، والمرتهن ... ¬
وأما اليد المختلف فيها، فيد الأجير المشترك إذا هلك بيده ما استؤجر على عمله من غير تفريط، ولا تعد عليه، ففيه قولان: أحدهما: أنها يد ضامنة، يلزمها ضمان ما هلك فيها كالمستعير. والقول الثاني: أنها يد أمينة لا ضمان فيما هلك فيها كالمودع (¬1). وقد سبق مناقشة الشافعية في عدم تضمين الأجير المشترك فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله. ¬
الفرع الساس في ضمان الإجارة الفاسدة
الفرع الساس في ضمان الإجارة الفاسدة المسألة الأولى في تعريف الإجارة الفاسدة [م - 950] مر معنا الخلاف الدائر بين الحنفية والجمهور في التفريق بين الفاسد والباطل في عقد البيع، فيرى الجمهور أنهما لفظان مترادفان خلافًا للحنفية. وأما في الإجارة فيكاد يتفق الفقهاء على مصطلح الإجارة الفاسدة فرقًا بينها وبين الباطلة. فالإجارة الصحيحة: يجب فيها المسمى. والإجارة الفاسدة: يجب فيها أجرة المثل في الجملة ويبطل المسمى لفساد العقد. والإجارة الباطلة لا يجب فيها شيء، ولا تملك الأجرة، ويجب ردها، كالاستئجار على أن يصلي عنه، أو الاستئجار على النياحة، والكهانة، والغناء، وإجارة العبد للفجور ونحو ذلك (¬1). قال في مغني المحتاج بعد أن أوجب في الإجارة الفاسدة أجرة المثل دون ¬
المسمى، قال: "وخرج بالفاسدة الباطلة كاستئجار صبي بالغًا على عمل، فعمله فإنه لا يستحق شيئًا" (¬1). فواضح من هذا النص أن الشافعية يفرقون في الإجارة بين الإجارة الفاسدة والإجارة الباطلة، وإن كانوا لا يفرقون بينهما في عقد البيع. وقد تناول الجمهور الإجارة الفاسدة من خلال بيان أحكامها، فعرض المالكية أمثلة للإجارة الفاسدة منها. قال الخرشي: "تكون الإجارة فاسدة إذا قال له: اعمل على دابتي، أو اعمل على سفيتتي ... فما حصل من ثمن أو أجرة ذلك نصفه. وعلة الفساد: الجهل بقدر الأجرة " (¬2). ومثله لو استأجره على سلخ شاة، وجعل أجرتها جلدها، فالإجارة هنا فاسدة؛ لأنه لا يعلم هل يخرج الجلد سليمًا أو لا، وهل هو ثخين أو رقيق؟ (¬3). ¬
أما الحنفية فهم من وضع حدًا بينًا في التفريق بين الإجارة الفاسدة والباطلة وطردوا ذلك في كل أبواب الفقه. فيرى الحنفية أن الإجارة الفاسدة: هي كل عقد كان مشروعًا بأصله دون وصفه (¬1). وبتعبير آخر: الإجارة الفاسدة: هي الصحيحة أصلًا لا وصفًا، وهو ما عرض في شيء من جهالة أو اشترط فيه شرط لا يقتضيه العقد (¬2). وذهب المالكية في تعريف العقد الفاسد إلى أنه: كل عقد بيع أو إجارة، أو كراء بخطر أو غرر في ثمن أو مثمون أو أجل (¬3). وعرف الحنابلة العقد الفاسد والباطل تعريفًا واحدًا. قال ابن اللحام: عندنا كل ما كان منهيًا عنه إما لعينه، أو لوصفه ففاسد وباطل. ولم يفرق الأصحاب في صورة من الصورتين بين الفاسد والباطل في المنهي عنه، وإنما فرقوا بين الفاسد والباطل في مسائل (¬4). ثم سرد تلك المسائل. ¬
قلت: من ذلك: أن الإجارة الباطلة إذا قبض العين صاحبها كانت مضمونة عليه. وأما الإجارة الفاسدة فإذا قبض العين فإنها لا تكون مضمونة عليه قياسًا على عقد الإجارة الصحيح، فالفاسد من العقود كالصحيح في الضمان، والباطل مضمون مطلقًا (¬1). وسوف نتعرض لهذه المسألة إن شاء الله تعالى بشيء من التفصيل. ... ¬
المسألة الثانية في حكم الإجارة الفاسدة
المسألة الثانية في حكم الإجارة الفاسدة المطلب الأول في استحقاق الأجرة في الإجارة الفاسدة [م - 195] الإجارة الفاسدة قبل التخلية والتمكين من الانتفاع يجب فسخها قولًا واحدًا؛ لأن العقد الفاسد لا يجوز المضي فيه (¬1). جاء في حاشية الجمل: "يحرم على المستأجر إجارة فاسدة استعمال العين المؤجرة حيث علم بالفساد" (¬2). وقال ابن حزم: "والإجارة الفاسدة إن أدركت فسخت، أو ما أدرك منها" (¬3). وأما بعد التخلية والتمكين من الانتفاع فقد اختلف الفقهاء في استحقاق الأجرة على قولين: القول الأول: لا يستحق الأجرة بمجرد التمكين بل لا بد من استيفاء المنفعة بأن ينتفع بالعين انتفاعًا حقيقيًا. وهذا مذهب الحنفية، ورواية عن الإِمام أحمد (¬4). ¬
القول الثاني
جاء في الجوهرة النيرة: "الأجرة لا تجب في الإجارة الفاسدة بالتخلية، بل إنما تجب بحقيقة الانتفاع بخلاف الإجارة الصحيحة ... " (¬1). وجاء في قواعد ابن رجب: "والإجارة الصحيحة تجب فيها الأجرة بتسليم العين المعقود عليها سواء انتفع بها المستأجر أو لم ينتفع. وفي الإجارة الفاسدة روايتان: إحداهما كذلك. والثانية: لا تجب الأجرة إلا بالانتفاع، ولعلها راجعة إلى أن المنافع لا تضمن في الغصب ونحوه إلا بالانتفاع وهو الأشبه ... " (¬2). القول الثاني: تجب الأجرة بالتمكين، وذلك باستلامه للعين، سواء انتفع أو لم ينتفع، وهذا مذهب الجمهور (¬3). وهو الراجح: لأن الإجارة الفاسدة مقيسة على الإجارة الصحيحة, والإجارة الصحيحة تجب فيها الأجرة بالتخلية، سواء انتفع أو لم ينتفع، فكذلك الإجارة الفاسدة، ولأن فوات المنفعة عند المستأجر بمنزلة الانتفاع كالأجير الخاص إذا حبس نفسه للعمل، وسلَّم نفسه في المدة استحق الأجرة، وإن لم يعمل. والله أعلم. ¬
المطلب الثاني في مقدر الأجرة الواجبة في الإجارة الفاسدة
المطلب الثاني في مقدر الأجرة الواجبة في الإجارة الفاسدة [م - 952] اتفق الأئمة الأربعة على وجوب أجر المثل في الإجارة الفاسدة بالغًا ما بلغ إذا كانت الأجرة مجهولة، أو لعدم التسمية (¬1). واختلفوا في الواجب إذا كانت الأجرة معلومة على أربعة أقوال: القول الأول: للمستأجر أجرة المثل مطلقًا سواء أكانت أكثر من المسمى أم لا، وهو مذهب الجمهور، واختاره زفر من الحنفية، وابن حزم من الظاهرية (¬2). وجه ذلك: أن المؤجر لم يرض باستيفاء المنفعة إلا ببدل، ولا وجه إلى إيجاب المسمى لفساد التسمية، فيجب أجر المثل. ¬
القول الثاني
ولأن الأجر المسمى قد فسد بفساد العقد، فوجب الرجوع إلى الموجب الأصلي، وهو أجر المثل. القول الثاني: يجب أجر المثل ما لم يزد على المسمى، فإن زاد على المسمى وجب الأجر المسمى، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وجه ذلك: يرجع قول الحنفية إلى موقفهم من مالية المنافع، فيرى الحنفية أن المنافع غير متقومة بأنفسها، وإنما تتقوم بالعقد، فنأخذ بأجر المثل ما دام في حدود الأجر المسمى؛ لأن التقويم للمنافع حينئذ سيكون عن طريق العقد وأما إذا زاد أجر المثل عن القدر المسمى فنأخذ بالأجر المسمى؛ لأن الأجرة لو وجبت زيادة على المسمى لكان ذلك يعني تقويم المنافع بلا عقد، وهذا لا يصح عندهم. ويناقش: بأن ما بني على قول ضعيف فهو ضعيف، والصحيح أن المنافع مال متقوم بنفسها , لا بغيرها، وقد سبق الكلام على ذلك عند الكلام على مالية المنافع، والله أعلم. القول الثالث: يجب الأجر المسمى في الإجارة الفاسدة مطلقًا وإن زاد على أجر المثل، وهو رواية عن الإِمام أحمد، واختاره ابن تيمية (¬2). ¬
وجه ذلك
وجه ذلك: يجب في الإجارة الفاسدة ما يجب في الإجارة الصحيحة وقياسًا على الضمان، فالضمان في الإجارة الفاسدة كالضمان في الإجارة الصحيحة. وقياسًا على النكاح الفاسد، فإذا كان يجب المسمى في النكاح الفاسد فيجب أن نقول مثله في الإجارة الفاسدة، بل إن الإجارة أولى من النكاح الفاسد؛ لأن الإجارة القصد فيها العوض، وقد تراضيا على المسمى بخلاف النكاح فإنه ليس المقصود فيه المعاوضة، والله أعلم. القول الرابع: يجب له الأقل من المسمى وأجرة المثل، قال به المالكية في بعض صور الإجارة الفاسدة (¬1). الراجح من الخلاف: ليس في المسألة نص حاسم، وأرى أن أجر المثل أقرب إلى الصواب، فهو قول عدل، ولأن الأجر المسمى إنما وجب بالعقد، والعقد لا يمكن اعتباره مع فساده، والله أعلم. ¬
المسألة الثالثة الضمان في الإجارة الفاسدة
المسألة الثالثة الضمان في الإجارة الفاسدة قال الزركشي: فاسد كل عقد كصحيحه في الضمان وعدمه (¬1). [م - 953] ذهب عامة أهل العلم إلى أن كل عقد يقتضي صحيحه الضمان فيقتضي فاسده أيضًا الضمان، وما لا يقتضي صحيحه الضمان لا يقتضيه فاسده أيضًا. قال الزيلعي: "الفاسد معتبر بالصحيح لكونه مشروعًا من وجه؛ لأنه مشروع بأصله دون وصفه فلا يضمن ما لم يتعد، فإذا تعدى ضمن ولا أجر عليه" (¬2). وجاء في المدونة: "أرأيت إن اشترطوا على الأجير الراعي ضمانا فيما هلك من الغنم؟ قال: قال مالك: الإجارة فاسدة ويكون له كراء مثله ممن لا ضمان عليه ولا ضمان عليه فيما تلف" (¬3). وجاء في نهاية المحتاج: "فاسد كل عقد كصحيحه" (¬4). قال ابن قدامة: "إن كانت الإجارة فاسدة، لم يضمن العين أيضًا إذا تلفت بغير تفريط ولا تعد؛ لأنه عقد لا يقتضي الضمان صحيحه, فلا يقتضيه فاسده، كالوكالة والمضاربة. وحكم كل عقد فاسد في وجوب الضمان حكم صحيحه, ¬
فما وجب الضمان في صحيحه وجب في فايسله، وما لم يجب في صحيحه لم يجب في فاسده" (¬1). وجاء في شرح منتهى الإرادات: "حكم الإجارة الفاسدة حكم الصحيحة في أنه لا يضمن إذا تلفت العين من غير تفريط ولا تعد؛ لأنه عقد لا يقتضي الضمان في صحيحه؛ فلا يقتضيه فاسده" (¬2). ¬
الباب السادس في صيانة العين المستأجرة
الباب السادس في صيانة العين المستأجرة الفصل الأول في معرفة وظيفة كل من المؤجر والمستأجر [م - 954] الضابط في معرفة وظيفة كل من المؤجر والمستأجر: أن كل ما يتوقف عليه صلاحية المأجور ليتمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة فعلى المؤجر، كبناء حائط سقط , وتبليط حمام، وعمل الأبواب، ومجرى الماء. وما كان لاستيفاء المنافع فهو على عاتق المستأجر، كالحبل والدلو والبكرة في إجارة البئر. فالواجب على المؤجر أن يزيل كل العقبات أمام المستأجر لتمكينه من الانتفاع بما أجره على الوجه الذي هو مقصوده، أما ما يخص استيفاء المنفعة فهو على المستأجر. جاء في مجلة الأحكام العدلية: "إعمال الأشياء التي تخل بالمنفعة المقصودة عائدة على الآجر، مثلًا تطهير الرحى على صاحبها، وكذلك تعمير الدار، وطرق الماء، وإصلاح منافذه، وإنشاء الأشياء التي تخل بالسكنى وسائر الأمور التي تتعلق بالبناء كلها لازمة على صاحب الدار ... " (¬1). ¬
وجاء في المدونة: "أرأيت إن استأجرت دارًا على من مرمة الدار، وكنس الكنف وإصلاح ما وهي من الجدران والبيوت؟ قال: على رب الدار. قلت: وهذا قول مالك؟ قال: سألنا مالكا عن الرجل يكري الدار، ويشترط على أنه إن انكسرت خشبة أو احتاجت الدار إلى مرمة يسيرة كان ذلك على المتكاري، قال مالك: لا خير في ذلك إلا أن يشترطه من كرائها فهذا يدلك على أن المرمة كلها في قول مالك على رب الدار" (¬1). وجاء في المهذب: "وعلى المكري إصلاح ما تهدم من الدار، وإبدال ما تكسر من الخشب؛ لأن ذلك من مقتضى التمكين فكان عليه" (¬2). وقال ابن قدامة: "يجب على المكري ما يحتاج إليه من التمكين من الانتفاع كمفتاح الدار، وزمام الجمل، والقتب والحزام، ولجام الفرس، وسرجه؛ لأن عليه التمكين من الانتفاع، ولا يحصل إلا بذلك، وما تلف من ذلك في يد المكتري لم يضمنه كما لا يضمن العين، وعلى المكري بدله؛ لأن التمكين مستحق عليه إلى أن يستوفي المكتري المنفعة، فأما ما يحتاج إليه لكمال الانتفاع كالحبل، والدلو، والمحمل، والغطاء، والحبل الذي يقرن به بين المحملين فيهو على المكتري؛ لأن ذلك يراد لكمال الانتفاع فأشبه بسط الدار" (¬3). والذي يظهر لي أن هذا الكلام من الفقهاء تحكيم للعادة الجارية في زمانهم فالمحكم في ذلك العرف والعادة، تمامًا كما قلنا ذلك في عقد البيع فيما يدخل في المبيع وما لا يدخل فيه. ¬
قال السرخسي من الحنفية: "وعلى المؤاجر أن يمكن المستأجر من الانتفاع بما أجره على الوجه الذي هو مقصوده؛ ولأن المرجع في هذا إلى العرف ... " (¬1). وفي حاشية العدوي المالكي: "وعلى المكري تسليم ما العادة تسليمه معها من إكاف وبرذعة، وحزام، وسرج في الفرس وغير ذلك من المعتاد؛ لأن العرف كالشرط" (¬2). وجاء في روضة الطالبين: "وفي السرج إذا اكترى الفرس أوجه: ثالثها: اتباع العادة. قال النووي: صحح الرافعي في المحرر اتباع العادة" (¬3). وفي المهذب: "وعلى المكري إشالة المحمل وحطه وسوق الظهر وقوده؛ لأن العادة أنه يتولاه المكري فحمل العقد عليه" (¬4). ويقول ابن قدامة: "يلزم المكري كل ما جرت العادة أن يوطأ به المركوب للراكب من الحداجة للجمل والقتب، والزمام الذي يقاد به البعير والبرة التي في أنف البعير إن كانت العادة جارية بينهم بها، وإن كان فرسًا فاللجام والسرج، وإن كان بغلًا أو حمارًا فالبرذعة والإكاف؛ لأن هذا هو العرف فحمل الإطلاق عليه" (¬5). ¬
وقال شيخنا محمَّد بن عثيمين: "وكل هذا الذي قاله الفقهاء رحمهم الله يمكن أن يقال: إنه يرجع إلى العرف فيما جرت العادة أنه على المستأجر، أو على المؤجر، فإن تنازع الناس فربما نرجع إلى كلام الفقهاء، وأما بدون تنازع، وكون العرف مطردًا بأن هذا على المؤجر، وهذا على المستأجر فالواجب الرجوع إلى العرف، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] وهذا أمر بالوفاء بالعقد بأصله، وصفاته وشرطه" (¬1). فعلى هذا يكون المعيار لما يلزم المؤجر والمستأجر على النحو التالي: ما جرت العادة أن المؤجر يقوم به، وأنه من وظائفه فإن المستأجر لا يتحمل تصليحه. وما جرت العادة أن على المستأجر إصلاحه والقيام به فإن المؤجر لا يطالب بإصلاحه. وما لم يكن هناك عرف أو عادة: فإن أعمال الصيانة التي يتوقف عليها بقاء العين وأصل الانتفاع فهو على المالك؛ لأن عدمه مخل بالسكنى، كتطيين سطح الدار: أي إصلاحه لمنع تسرب مياه المطر إلى داخل الدار، وكذلك تعمير الدار، وطرق الماء، إصلاحه مجاريه، ووضع الزجاج للنوافذ، وإصلاح الأدراج، وسائر الأمور التي تتعلق بالبناء. أما ما يخص الصيانة التشغيلية، وما تستهلكه العين بسبب التشغيل فهو على المستأجر؛ لأنه معلوم ومنضبط، فيعتبر ذلك كأنه جزء من الأجرة التي يلتزم بها المستأجر كتغيير الزيت، وتعبئة العين بالوقود، وتغيير ما يتلف من شموع الإضاءة، ونحو ذلك، فهذه الأمور بمثابة العلف للدابة المستأجرة حيث يقع على المستأجر. ¬
الفصل الثاني إلزام المؤجر والمستأجر في وظيفة كل منهما
الفصل الثاني إلزام المؤجر والمستأجر في وظيفة كل منهما قال السرخسي: الإنسان لا يجبر على إصلاح ملكه (¬1). [م - 955] تحدث الفقهاء عن صيانة العين ضمن ما هو من وظيفة المؤجر وما هو من وظيفة المستأجر. والتعبير بالوظيفة أحسن من التعبير بالالتزامات، للاختلاف بين الفقهاء، هل الصيانة من الالتزامات أم لا؟ والمسألة فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: يرى جمهور الفقهاء أن الصيانة ليست من الالتزامات؛ لأن كل شيء قالوا فيه: إن ذلك وظيفة المؤجر فلا يعني أن المؤجر يجبر على القيام به، إنما يعني أن المؤجر إذا لم يقم به كان للمستأجر الخيار، والخروج من عقد الإجارة؛ لأن ذلك بمنزلة العيب في العين المؤجرة، فإذا رفض المؤجر إصلاحه لم يلزم المستأجر بقبول السلعة معيبة، وكان له الخيار في فسخ العقد. جاء في المبسوط: "لا يجبر رب الدار على ذلك -يعني على إصلاح العين- ولا المستأجر، وإن شاء المستأجر أن يصلح ذلك فعل، ولا يحتسب له من الأجر، وإن شاء خرج إذا أبى رب الدار أن يفعله؛ لأن الإنسان لا يجبر على ¬
إصلاح ملكه، ولكن العيب في عقود المعاوضات يثبت للعاقد حق الفسخ فيما يعتمد لزومه تمام الرضا" (¬1). جاء في شرح الخرشي: " (ولم يجبر آجر على إصلاح مطلقا) ... يعني أن مالك الرقبة لا يجبر على إصلاحها، سواء كان الذي يحتاج إلى الإصلاح يضر بالساكن أم لا، وسواء كان يمكن معه السكنى أم لا، وسواء حدث بعد عقد الكراء أم لا، ويخير المكتري بين أن يسكن بجميع الأجرة أو يخرج" (¬2). وجاء في إعانة الطالبين: "المراد يكون ما ذكر واجبًا على المكري أنه إن تركه ثبت الخيار للمكتري (¬3). وجاء في تحفة المحتاج: "ليس المراد يكون ما ذكر واجبًا على المكري أنه يأثم بتركه، أو أنه يجبر عليه، بل إنه إن تركه ثبت للمكتري الخيار" (¬4). وجاء في الإنصاف نقلًا من الترغيب: "لو احتاجت الدار تجديدًا، فإن جدد المؤجر وإلا كان للمستأجر الفسخ" (¬5). وحكى بعض العلماء الإجماع على أن الإصلاح إن كان كثيرًا فلا يلزم المؤجر إصلاحه (¬6). والصحيح أن الخلاف محفوظ حتى في إصلاح الكثير. ¬
القول الثاني
جاء في الذخيرة للقرافي: "وقوله: عليه إصلاح الواهي، معناه: لا يجبر، بل إن أصلح، وإلا فسخ. وقيل: يجبر توفية للعقد. وقال سحنون: يجبر على القليل دون الكثير" (¬1). فهنا القرافي حكى ثلاثة أقوال: أحدها: لا يجبر، والثاني: يجبر. والثالث: التفريق بين القليل والكثير. القول الثاني: ذهب بعض الفقهاء إلى أن المؤجر ملزم في إصلاح العين المستأجرة، وهو قول في مذهب المالكية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة، ورجحه ابن تيمية (¬3). جاء في الذخيرة للقرافي: "لا يجبر -يعني المؤجر- بل إن أصلح، وإلا فسخ. وقيل: يجبر توفية للعقد .... " (¬4). وجاء في الإنصاف: "وليس له إجباره على التجديد على الصحيح من المذهب، وقيل: بلى" (¬5). وجاء فيه أيضًا: "قال الشيخ تقي الدين - رحمه الله -: للمستأجر مطالبة المؤجر بالعمارة التي يحتاج إليها المكان المأجور" (¬6). ¬
القول الثالث
وهذا القول هو الصواب، وهو الذي يتمشي مع القواعد، فإن الإجارة عقد لازم، ولزوم العقد يعني إلزام كل من المؤجر والمستأجر بما عليه، وألا يتنصل من التزاماته، فلو قلنا: لا يلزم المؤجر لكان ذلك سبيلًا إلى عدم إلزامه بالعقد، وأن يتخذ المؤجر ذلك حيلة إلى فسخ العقد، أو الانتقاص من المنفعة المعقود عليها، وكلاهما لا يجوز، ولا يكفي أن نعطي المستأجر الخيار ما دام أن الإصلاح ممكن، أما لو كان الخلل لا يمكن إصلاحه فالقول بالخيار هو المتعين، والله أعلم. القول الثالث: ذهب بعض الفقهاء إلى التفريق بين القليل والكثير، فيجبر المؤجر على إصلاح القليل دون الكثير. وبه قال سحنون وابن حبيب من المالكية (¬1)، وبعض الحنابلة. ورجحه الغزالي والسرخسي من الشافعية (¬2)، وبعض الحنابلة (¬3) إذا كانت العين المستأجرة لا تحتاج إلى عين جديدة كإقامة جدار مائل، وإصلاح منكسر ونحو ذلك. جاء في الإنصاف: "حكى في التلخيص أن المؤجر يجبر على الترميم بإصلاح منكسر، وإقامة مائل. قال المرداوي: وهو الصواب" (¬4). الراجح من الخلاف: القول بإجبار المؤجر على إصلاح العين المؤجرة أقوى، فإن لم يكن معه مال أصلح ذلك المستأجر، واحتسب ذلك من أجرته، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث إجبار ناظر الوقف على إصلاح العين المستأجرة
الفصل الثالث إجبار ناظر الوقف على إصلاح العين المستأجرة [م - 956] إذا كانت العين المستأجرة موقوفة، فإنه يجبر الناظر على إصلاح العين المستأجرة؛ لأن المالك إذا لم يجبر على إصلاح ماله، فلأن هذا حقه، إن شاء أصلحه، وإن شاء لم يفعل، وأما الناظر في الوقف فليس مالكًا، وإنما هو مجبور على إصلاح الوقف؛ لأن المطلوب من الوقف هو الانتفاع بالموقوف على وجة الدوام، ولا يتحقق هذا إلا بالمحافظة عليه، ومن ذلك إصلاح الخلل الحادث. قال الحموي من الحنفية: "قوله: لأن المالك لا يجبر على إصلاح ملكه ... يفهم من هذا التعليل أن الدار لو كانت وقفًا جبر الناظر على ذلك" (¬1). وجاء في الفواكه الدواني: "قال خليل: ولم يجبر مؤجر على إصلاح مطلقًا ... إلا أن يكون المحل وقفا فيلزم المكري الإصلاح لحق الوقف، وإن اْصلحها المكتري من ماله كان له الرجوع بقيمة بنائه قائمًا, ولو أصلح غير مستند لإذن من الناظر حيث أصلح ما يحتاج للإصلاح؛ لأنه قام عنه بواجب، وينبغي أخذ النفقة من فائض الوقف، وإلا فمن غلته المستقبلة" (¬2). وقال في تحفة المحتاج: "وأما الوقف فيجب على الناظر عمارته حيث كان فيه ريع" (¬3). ¬
وقال ابن تيمية: "إن كان وققًا فالعمارة واجبة من وجهين: من جهة أهل الوقف، ومن جهة حق المستأجر" (¬1). ¬
الفصل الرابع في الخلل إذا كان مقارنا للعقد
الفصل الرابع في الخلل إذا كان مقارنًا للعقد [م - 957] الخلل في العين المؤجرة إما أن يكون مقارنًا للعقد، أو بعده: فإن كان متقارنًا للعقد، فإن كان جاهلًا به في ابتداء الحال كان إصلاحه على المؤجر، وإن كان عالمًا به، فإن ذلك يسقط خياره؛ لأن اطلاعه عليه، يعني أنه قد رضي بالعيب، قياسًا على البيع إذا اشترى السلعة المعيبة عالمًا بالعيب، فإن ذلك يسقط خياره. جاء في مجلة الأحكام العدلية: "إعمال الأشياء التي تخل بالمنفعة المقصودة عائدة على الآجر، مثلًا تطهير الرحى على صاحبها، وكذلك تعمير الدار، وطرق الماء، وإصلاح منافذه، وإنشاء الأشياء التي تخل بالسكنى، وسائر الأمور التي تتعلق بالبناء كلها لازمة على صاحب الدار، وإن امتنع صاحبها عن إعمال هؤلاء فللمستأجر أن يخرج منها إلا أن يكون حين استئجاره إياها كانت على هذا الحال، وكان قد رآها، فإنه حينئذ يكون قد رضي بالعيب فليس له اتخاذ هذا وسيلة للخروج من الدار بعد ... " (¬1). وجاء في مغني المحتاج: "وليس على المستأجر عمارتها بل هي على المؤجر سواء أقارن الخلل العقد كدار لا باب لها، أم عرض لها دوامًا، وسواء أكان لا يحتاج لعين زائدة كإقامة مائل، أم يحتاج كبناء وتطيين" (¬2). ¬
قال النووي: "وإنما يثبت الخيار ... إذا كان جاهلًا به في ابتداء الحال" (¬1). وقال الأنصاري: "إن كان الخلل مقارنًا للعقد، وعلم به فلا خيار له كما جزم به في أصل الروضة" (¬2). هذا فيما يتعلق بالخلل إذا كان مقارنًا للعقد، وأما إذا كان الخلل طارئًا على العين المؤجرة فنتكلم عنه إن شاء الله تعالى في الفصل التالي. ... ¬
الفصل الخامس في قيام المستأجر بصيانة العين المستأجرة
الفصل الخامس في قيام المستأجر بصيانة العين المستأجرة إذا قام المستأجر بصيانة العين المستأجرة، فذلك له حالات: الحال الأولى: [م - 958] أن يقوم المستأجر بصيانة العين وعمارتها دون أن يشرط عليه ذلك، ودون إذن من المؤجر فهذا جائز، وهل يحق له الرجوع على المؤجر؟ إن كان قد فعل ذلك متبرعًا فلا رجوع، وهذا ظاهر. وإن كان قد فعل ذلك بنية الرجوع، فهل له أن يرجع؟ هذا يرجع إلى مسألة سبق بحثها، وهو هل المؤجر ملزم بالصيانة، أو ليس ملزمًا، فمن رأى أن المؤجر ليس ملزمًا بالصيانة فإنه لا يرى أن المستأجر من حقه الرجوع. وهذا قول الأئمة الأربعة. جاء في المبسوط: "إن شاء المستأجر أن يصلح ذلك فعل، ولا يحتسب له من الأجر" (¬1). ومن رأى أنه ملزم بالإصلاح مطلقًا فإنه سيرى أن من حق المستأجر الرجوع على المؤجر؛ لأنه قد قام بما يجب على المؤجر القيام به، وهذا قول في مذهب المالكية، وقول في مذهب الحنابلة، واختاره ابن تيمية. ومن قال: إن المؤجر ملزم بإصلاح اليسير دون الكثير، سيكون من حق ¬
الحال الثانية
المستأجر الرجوع إذا كانت الصيانة لا تحتاج إلى إضافة عين جديدة، وإنما في حدود تعديل مائل، وإصلاح منكسر. والله أعلم. وقد سبق بحث مسألة إلزام المؤجر بالحيانة فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله. الحال الثانية: [م - 959] أن يؤجر الرجل الدار بدارهم معلومة على أن ينفق المستأجر ما تحتاج إليه من صيانة محتسبًا ذلك من كرائها، فذهب المالكية، والحنابلة إلى الجواز. جاء في المدونة: "سألنا مالكًا عن الرجل يكتري الدار، ويشترط عليه أنه إن انكسرت خشبة، أو احتاجت الدار إلى مرمة يسيرة كان ذلك على المتكاري، قال مالك: لا خير في ذلك إلا أن يشترطه من كرائها" (¬1). وجاء في الروض المربع: "ولو أجره بمعين على أن ينفق المستأجر ما تحتاج إليه محتسبًا به من الأجرة صح" (¬2). ومنع من ذلك الشافعية. قال النووي في الروضة: "لو أجرها بدارهم معلومة على أن يصرفها إلى العمارة لم يصح؛ لأن الأجرة الدراهم مع الصرف إلى العمارة، وذلك عمل مجهول" (¬3). وأرى أن الراجح في ذلك مذهب المالكية والحنابلة، وذلك لأن الكراء دراهم معلومة، وصرفها إلى الترميم من قبيل الوكالة، وكونه يقوم بصرفها على ¬
الحال الثالثة
الترميم عمل معلوم، وليس مجهولًا كما يقول الشافعية، وعلى التسليم بأن فيه جهالة فهو لا يتعلق بالأجرة، وإنما يتعلق بالوكالة، والوكالة تجوز بأجرة وبدون أجرة، ولن يباشر الترميم بنفسه غاية ما في ذلك أن يدفع تكاليف الترميم من المال المستحق للمؤجر، وهذا لا يؤدي إلى الجهالة، والله أعلم. الحال الثالثة: أن يشترط المكري على المكتري صيانة العين، فهذا له حكمان: الحكم الأول: [م - 960] أن يشترط مبلغًا معلومًا يضاف إلى الأجرة للصيانة لا يزاد عليه، أو كان الترميم مبينًا معلومًا, ولم يعلق بالحاجة، واستأجرها على أن يقوم بذلك مرة أو مرتين في السنة فإن ذلك جائز. جاء في المبسوط: "ولو اشترط عليه رب الحمام عشرة دراهم في كل شهر لمرمته مع الأجرة، وأذن له أن ينفقها عليه فهو جائر؛ لأنه معلوم المقدار، وقد جعله نائبًا عن نفسه في إنفاقه على ملكه" (¬1). وجاء في المدونة "قلت: أرأيت إن استأجرت دارًا على أن علي تطيين البيوت؟ قال: هذا جائز إذا سميتم تطيينها كل سنة مرة أو مرتين، أو في كل سنة مرة، فهذا جائز، فإن كان إنما قال له ذلك إذا احتاجت طينها، فهذا مجهول، ولا يجوز. قلت: وهذا قول مالك؟ قال: هذا رأيي" (¬2). وجاء في حاشية الدسوقي: "اعلم أنهما إن كانا مجهولين -يعني المرمة والتطيين- فلا يجوز اشتراطهما على المكتري إلا من الكراء، لا من عند نفسه، ¬
الحكم الثاني
كأن يقول: كلما احتاجت لمرمة أو تطيين فرمها، أو طينها من الكراء، وأما إن كانا معلومين كأن يعين للمكتري ما يرمه، أو يشترط عليه التطيين مرتين أو ثلاثة في السنة فيجوز مطلقًا، سواء كان من عند المكتري، أو من الكراء بعد وجوبه أو قبله" (¬1). الحكم الثاني: [م - 961] أن يشترط المكري على المكتري الصيانة كلما احتاجت العين إلى ذلك، فهذا قد اختلف العلماء فيه إلى قولين: القول الأول: لا يجوز، وهو مذهب الجمهور. وعللوا ذلك بأمرين: التعليل الأول: أن هذا شرط مخالف لمقتضى العقد؛ إذ الصيانة واجبة على المؤجر، وليست على المستأجر. والتعليل الثاني: أن هذه الصيانة جزء من الأجرة، وهي مجهولة، فتجعل الإجارة مجهولة. جاء في المبسوط: "فإن اشترط المرمة على المستأجر فسدت الإجارة؛ لأن المرمة على الآجر، فهذا شرط مخالف لمقتضى العقد، ثم المشروط من المستأجر من ذلك أجرة، وهو مجهول القدر والجنس والصفة، وجهالة الأجرة تفسد الإجارة" (¬2). ¬
القول الثاني
وجاء في البحر الرائق: "لو استأجر الدار بكذا على أن يعمرها فالإجارة فاسدة" (¬1). وجاء في المدونة: "سألنا مالكًا عن الرجل يكتري الدار، ويشترط عليه أنه إن انكسرت خشبة، أو احتاجت الدار إلى مرمة يسيرة كان ذلك على المتكاري، قال مالك: لا خير في ذلك إلا أن يشترط من كرائها" (¬2). وجاء في الشرح الكبير: "أو وقع العقد على أن ما تحتاج إليه الدار من المرمة والتطيين من عند المكتري فلا يجوز للجهالة" (¬3). وجاء في الوسيط للغزالي: "لو أجر الدار بعماتها لم يجز فإن العمارة مجهولة" (¬4). وجاء في كشاف القناع: "أو شرط المؤجر على المكتري النفقة الواجبة على المأجور لم يصح؛ لأنه يؤدي ذلك إلى جهالة الإجارة، أو جعلها أي النفقة على المأجور أجرة لم يصح؛ لأنها مجهولة" (¬5). القول الثاني: هل يمكن تخريج القول بجواز اشتراط الصيانة بناء على صحة اشتراط الضمان على المستأجر وإن لم يتعد أو لم يفرط. فالضمان يعني صحة اشتراط الصيانة؛ لأن الصيانة للعين وترميمها يعني المحافظة على العين والقيام بما يلحق العين من تلف. ¬
فنخلص من هذا
وصحة اشتراط ضمان العين المستأجرة سبق بحثه، وهو مخرج على صحة اشتراط ضمان العارية والوديعة، وقد سبق بيان الفرق بين ضمان العين المستأجرة، وبين صحة اشتراط ضمان العارية والوديعة، وإن كان الجميع يعتبر أمانة فيمن هي في يده، والله أعلم. فنخلص من هذا: أن صيانة العين المستأجرة من المستأجر تجوز في حالات، منها: الأول: أن يقوم المستأجر بذلك متبرعًا دون أن يكون ذلك مشروطًا عليه، فلا مانع من ذلك. الثاني: أن يكون مبلغ الصيانة معلومًا إما باشتراط المؤجر مبلغًا معينًا للصيانة، أو تكون الصيانة معلومة، بأن تكون دورية، كل شهر مرة، أو كل سنة مرتين، وهكذا، فإن هذا يجعل ما ينفق في الصيانة معلومًا، وهذا لا حرج فيه أيضًا. الثالث: هناك قول يراه بعض المعاصرين، ويرى جواز اشتراط الصيانة على المستأجر، ويخرجه على صحة اشتراط ضمان العين المؤجرة بالاشتراط، وقد سبق بحث صحة اشتراط ضمان العين المستأجرة في مبحث مستقل فأغنى ذلك عن إعادته، والحمد لله.
الباب السابع في انتهاء عقد الإجارة
الباب السابع في انتهاء عقد الإجارة الفصل الأول انتهاء الإجارة بانتهاء المدة أو إنجاز العمل [م - 962] سبق لنا أن عقد الإجارة عقد مؤقت إما بمدة معلومة، أو بإنجاز العمل المتفق عليه، وأنه عقد لازم، يقتضي تمليك المؤجر الأجرة، وتمليك المستأجر المنفعة مدة مؤقتة، ولا يحق لأحد منهما فسخه قبل انقضاء عقد الإجارة إلا برضاهما، فإذا انتهت مدة الإجارة، أو فرغ المستأجر من إنجاز العمل فقد انتهى عقد الإجارة، وللطرفين الخيار في تجديد العقد أو إنهائه، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء (¬1). جاء في الموسوعة الكويتية: "اتفق الفقهاء على أن الإجارة تنتهي بانتهاء المدة، أو بهلاك المعقود عليه المعين، أو بالإقالة" (¬2). وجاء في منحة الخالق على البحر الرائق: "يلزم المستأجر بعد انتهاء مدة الإجارة تسليم الأرض للمؤجر ... فليس للمستأجر أن يجبر المؤجر على أن يؤجرها منه مدة ثانية بدون رضاه" (¬3). وجاء في مطالب أولي النهى "وإذا انقضت مدة الإجارة أو استوفي العمل من ¬
العين المؤجرة رفع المستأجر يده عن العين المؤجرة" (¬1). وجاء في منار السبيل: "وتستقر الأجرة بفراغ العمل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه. رواه ابن ماجه" (¬2). وبانتهاء المدة إذا كانت الإجارة على مدة، وسلمت إليه العين بلا مانع، ولو لم ينتفع لتلف المعقود عليه تحت يده، فاستقر عليه عوضه .... (¬3). واستثنى بعض الفقهاء فيما لو استأجر دابة شهرًا، فمضت المدة في المفازة، أو استأجر سفينة فمضت المدة في وسط البحر، فإنه ينعقد عليها إجارة أخرى بأجر المثل، ولا يجبر المستأجر على إنهاء عقد الإجارة، واغتفر ذلك للضرورة، وكونه من البناء، وليس من الابتداء، والبناء أسهل من الابتداء. جاء في العناية: "من استأجر سفينة شهرًا، فمضت المدة في وسط البحر، فإنه ينعقد عليها إجارة أخرى بأجر المثل بغير رضا المالك" (¬4). وما يطلبه بعض المستأجرين من المالك بعد انتهاء عقد الإجارة بما يسمى بدل الخلو فإنه باطل. جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي: "إذا انقضت مدة الإجارة، ولم يتجدد العقد صراحة أو ضمنًا عن طريق التجديد التلقائي حسب الصيغة المفيدة له، فلا يحل بدل الخلو؛ لأن المالك أحق بملكه بعد انقضاء حق المستأجر" (¬5). ¬
الفصل الثاني في إنهاء عقد الإجارة في إقالة أحدهما للآخر
الفصل الثاني في إنهاء عقد الإجارة في إقالة أحدهما للآخر [م - 963] سبق الكلام على تعريف الإقالة، وبيان شروطها، وتوصيفها، هل هي فسخ، أو بيع مستأنف؟ ويجتمع البيع والإجارة بأنهما من عقود المعاوضات اللازمة، فما يصح في البيع يصح في الإجارة. وسواء كان التوصيف للإقالة بأنها بيع أو فسخ فإنه لا خلاف في أن عقد الإجارة يقبل الإقالة بشرط أن يكون ذلك بالاتفاق والتراضي (¬1). جاء في بدائع الصنائع: "وأما بيان ما ينتهي به عقد الإجارة، فعقد الإجارة ينتهي بأشياء منها الإقالة؛ لأنه معاوضة المال بالمال، فكان محتملًا للإقالة كالبيع" (¬2). وفي الشرح الكبير: "وجاز إقالة بزيادة من مكر أو مكتر قبل النقد وبعده بشرط تعجيل الزيادة" (¬3). وفي شرح الخرشي: "إن وقعت -يعني الإقالة- على رأس المال فجائزة من غير تفصيل سواء قبل النقد أو بعده، غاب المكري على النقد أم لا؛ لانتفاء علة المنع حينئذ، وهي التهمة على السلف بزيادة" (¬4). ¬
وفي فتاوى الرملي: "سئل عن الإقالة في الإجارة، هل تجوز؟ فأجاب: نعم تجوز بشرطها" (¬1). واستثنى بعض الفقهاء بعض الحالات فمنع الإقالة فيها، من ذلك: ناظر الوقف إذا أقال المستأجر دون أن يكون هناك مصلحة للوقف. جاء في تنقيح الفتاوى الحامدية: "سئل في ناظر وقف أجر حمام الوقف من زيد مدة معلومة بأجرة المثل لدى حاكم شرعي حكم بصحة الإجارة ثم قايل الناظر عقد الإجارة مع زيد وآجره من عمرو بدون الأجرة الأولى بغبن فاحش وبدون مصلحة للوقف، فهل تكون الإقالة المزبورة غير صحيحة؟ (الجواب): حيث قايل بدون مصلحة للوقف، وآجر بغبن فاحش، فكل من المقايلة والإجارة بالغبن الفاحش غير جائز" (¬2). واستثنى بعض الفقهاء مسأله أخرى يمتنع فيها الإقالة. جاء في القواعد: "وفي فتاوى ابن الصلاح: أن الورثة لو استأجروا من يحج عن مورثهم حجة الإِسلام الواجبة، ولم يكن أوصى بها، ثم تقايلوا مع الأجير لم تصح الإقالة لوقوع العقد لمورثهم، والظاهر أنه إن كان (لهم) فيه غرض صحيح كوجود من هو أوثق منه وأصلح جازت الإقالة لوقوع العقد لمورثهم، وإلا فإن لم يكن وضاق (الوقت) امتنع" (¬3). ¬
الفصل الثالث إنهاء عقد الإجارة بهلاك العين المستأجرة
الفصل الثالث إنهاء عقد الإجارة بهلاك العين المستأجرة المبحث الأول في هلاك المستأجر المعين [م - 964] إذا تلفت العين المستأجرة، فإما أن تكون الإجارة على شيء موصوف في الذمة غير معين، وإما أن تكون الإجارة لشيء معين. فإن كانت الإجارة لشيء معين، وكان التلف قبل القبض فالإجارة منفسخة بالاتفاق: قال ابن قدامة: "أن تتلف قبل قبضها -يعني المعين المستأجرة- فإن الإجارة تنفسخ بغير خلاف نعلمه؛ لأن المعقود عليه تلف قبل قبضه، فأشبه ما لو تلف الطعام المبيع قبل قبضه" (¬1). وإن تلفت العين المستأجرة بعد القبض، فاختلف الفقهاء فيها على أربعة أقوال: القول الأول: تنفسخ الإجارة فيما بقي مطلقًا، لا فرق بين العين المنقولة وبين العقار، وهذا قول عامة الفقهاء (¬2). ¬
وجه القول بالفسخ
وجه القول بالفسخ: أن العين المستأجرة تقبض فيها المنفعة شيئًا فشيئًا بحسب حدوثها وتجددها، فإذا تلفت العين أثناء المدة فقد فات بعض المعقود عليه قبل قبضه، وهلاك الشيء قبل قبضه يبطله. جاء في بدائع الصنائع: "ولو استأجر دارًا ليسكنها شهرًا، أو عبدًا يستخدمه شهرًا، أو دابة ليركبها إلى الكوفة، فسكن، واستخدم في بعض الوقت، وركب في بعض المسافة، ثم حدث بها مانع يمنع من الانتفاع من غرق أو مرض أو إباق أو غصب أو كان زرعًا فقطع شربه، أو رحى فانقطع ماؤه لا تلزمه أجرة تلك المدة؛ لأن المعقود عليه المنفعة في تلك المدة؛ لأنها تحدث شيئًا فشيئًا، فلا تصير منافع المدة مسلمة بتسليم محل المنفعة؛ لأنها معدومة، والمعدوم لا يحتمل التسليم، وإنما يسلمها على حسب وجودها شيئًا فشيئًا، فإذا اعترض مَنْعٌ، فقد تعذر تسليم المعقود عليه قبل القبض فلا يجب البدل كما لو تعذر تسليم المبيع قبل القبض بالهلاك والله - عز وجل - أعلم" (¬1). وجاء في الفروق للكرابيسي: "ولو استأجر عبدًا من إنسان، فقتل بطلت الإجارة، ولا يشتري بالقيمة عبدًا آخر يخدمه" (¬2). وجاء في المنتقى: "إذا هلكت الدابه المعينة انفسخت الإجارة بينهما، وكان للمكتري على الكري من ثمن المنافع بقدر ما بقي له منها، فلا يجوز له أن يأخذ منافع دابة أخرى؛ لأن ذلك فسخ دين في دين" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا تنفسخ الإجارة بهلاك العين المستأجرة مطلقًا بعد قبض المستأجر للعين، وبه قال أبو ثور، وقول في مذهب الشافعية (¬1). وجه ذلك: أن العقد استقر بالقبض، وللقياس على البيع، فالمبيع إذا تلف في يد المشتري بعد القبض لم ينفسخ العقد، وكان هلاكه من مال المشتري، فكذلك الإجارة؛ لأنه نوع من البيع. وأجيب: بأن هناك فرقًا بين البيع والإجارة؛ لأن المعقود عليه المنافع، وقبضها باستيفائها، أو التمكن من استيفائها؛ ولم يحصل ذلك، فأشبه تلفها قبل قبض العين. القول الثالث: إن كان بقي في العين المستأجرة نفع غير ما استأجرها له فلا تنفسخ فيما بقي، ويثبت الخيار فيها للمستأجر، وهو قول في مذهب الحنفية، ورواية عن الإِمام أحمد اختارها القاضي أبو يعلى من الحنابلة (¬2). وعلل ذلك: بأن المنفعة لم تبطل جملة؛ لأنه يمكن الانتفاع بعرصة الأرض بنصب خيمة، أو جمع حطب فيها، فأشبه ما لو نقص نفعها مع بقائه، فعلى هذا يخير المستأجر بين الفسخ والإمضاء، فإن اختار الفسخ انفسخت فيما بقي من ¬
القول الرابع
المدة دون ما مضى، ويكون للمؤجر بقدر ما استوفى من المنفعة، أو بقدر ما مضى من المدة، وإن اختار إمضاء العقد فعليه جميع الأجر؛ لأن ذلك عيب، فإذا رضي به سقط حكمه. القول الرابع: تنفسخ الإجارة فيما مضى وفيما بقي، وهو وجه في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). ولم أقف على دليل هذا القول، ويمكن أن يستدل لهذا القول بأن تفريق الإجارة على المدة بمنزلة تفريق الصفقة الواحدة، وإذا كان هناك قول محفوظ يمنع تفريق الصفقة في المبيع الواحد، فالإجارة مقيسة عليه. وإذا فسدت الإجارة فيما مضى صار للمؤجر أجرة المثل فيما مضى، ولا أجرة له فيما بقي. جاء في المجموع: "ولو اكترى دارًا وسكنها بعض المدة، ثم انهدمت انفسخ العقد في المستقبل، وفي الماضي الخلاف الذي ذكرناه في المقبوض التالف. المذهب: أنه لا ينفسخ، فعلى هذا هل له الفسخ؟ فيه الوجهان: ... وإن قلنا: بالانفساخ، أو قلنا: له الفسخ، فعليه أجرة المثل للماضي، ويسترد المسمى إن كان دفعه" (¬2). الراجح من الخلاف: القول بأن المستأجر له الخيار هو أعدل الأقوال فيما أرى؛ لأن الحق له، ¬
فإذا قبل الإجارة فلا وجه لانفساخ العقد، وإن اختار الفسخ كان عليه أجرة ما مضى بحسبه، والله أعلم.
المبحث الثاني في هلاك المستأجر والإجارة في الذمة
المبحث الثاني في هلاك المستأجر والإجارة في الذمة قال الباجي في المنتقى: "إذا جاز العقد على منافع دابة معينة مؤجلة فكذلك على منافع دابة غير معينة" (¬1). [م - 965] إذا هلك الشيء المستأجر فإن كان العقد على عينه فقد سبق بحثه في المسألة السابقة، وإن كان عقد الإجارة على شيء موصوف في الذمة، كأن يستأجره دابة موصوفة غير معينة، فإذا دفع إليه دابة مطابقة للموصوف، فهلكت الدابة، فهل ينفسخ العقد؟ ذهب عامة الفقهاء إلى القول بأن العقد لا ينفسخ، ويلزم المؤجر أن يقدم بدلها. جاء في بدائع الصنائع: "إن كانت الإجارة على دواب بغير أعيانها، فسلم إليه دوابًا فقبضها فماتت لا تبطل الإجارة، وعلى المؤاجر أن يأتيه بغير ذلك؛ لأنه هلك ما لم يقع عليه العقد؛ لأن الدابة إذا لم تكن معينة فالعقد يقع على منافع في الذمة، وإنما تسلم العين ليقيم منافعها مقام ما في ذمته، فإذا هلك بقي ما في الذمة بحاله فكان عليه أن يعين غيرها" (¬2). وجاء في شرح الخرشي: "من اكترى دابة غير معينة ليركبها لموضع كذا، فهلكت، فعلى المكري خلفها" (¬3). ¬
وجاء في الأم: "فإن تكارى إبلًا بأعيانها، فركبها، ثم ماتت رد الجمال مما أخذ منه بحساب ما بقي، ولم يضمن له الحمولة، وذلك بمنزلة المنزل يكتريه، والعبد يستأجره، وإنما تلزمه الحمولة إذا شرطها عليه غير إبل بأعيانها كانت لازمة للجمال بكل حال، والكراء لازم للمكتري" (¬1). ¬
الفصل الرابع في انتهاء عقد الإجارة بالموت
الفصل الرابع في انتهاء عقد الإجارة بالموت قال النفراوي: كل عين تستوفى منها المنفعة تنفسخ الإجارة بتعذر الانتفاع بها بخلاف الذوات التي تستوفى بها المنفعة كالراكب للدابة أو الساكن في الدار لا تنفسخ الإجارة بموته (¬1). [م - 966] إذا مات المؤجر أو المستأجر، هل ينتهي عقد الإجارة بذلك، أو يقوم الورثة مقام مورثهم؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأول: تنتهي الإجارة بالموت إذا عقدها لنفسه إلا لضرورة، كان يموت المؤجر والدابة في الطريق فتبقى الإجارة حتى يصل المستأجر إلى مأمنه، ومثله إذا مات أحد العاقدين والزرع في الأرض فإن العقد يبقى بالأجر المسمى حتى يدرك. وهذا مذهب الحنفية، واختيار ابن حزم (¬2). وقوله: (إذا عقدها لنفسه) ليخرج بذلك ما إذا عقدها لغيره، فلا تنفسخ بموته كالأب والوصي، والوكيل، وناظر الوقف؛ لأنه لا ملك لهم في الرقبة، فموتهم لا ينقل ملك الرقبة إلى ورثتهم. ¬
وجه ذلك
جاء في تنقيح الفتاوى الحامدية: "قال مشايخنا: الإجارة تنفسخ بموت أحد المتعاقدين إن عقدها لنفسه، وإن عقدها لغيره لا تنفسخ بموته، كالأب والوصي، والوكيل، والمتولي في الوقف" (¬1). وجه ذلك: أن المؤجر إذا مات، وكان قد عقد الإجارة لنفسه فإن الوارث يملك الرقبة بالإرث، والمنفعة تبع لها، وذلك أن عقد الإجارة عقد يتجدد ساعة فساعة حسب حدوث المنفعة، فإذا مات المؤجر فإن ما يحدث من المنافع يكون ملكًا لوارثه؛ لأنها حدثت في ملكه، والوارث لم يكن عاقدًا ولا راضيًا بالعقد، فلا ينفذ العقد بعد الموت. وكذلك إذا مات المستأجر؛ لأن الأجرة النبي تستحق بالعقد بعد وفاته لن تستوفى من ماله، بل من مال وارثه، واستيفاؤها من مال المورث باطل؛ لأن العقد إنما وقع للمستأجر، ولم يقع لورثته. وأما إذا عقد الإجارة لغيره، فلا تنفسخ بموته كالأب والوصي، والوكيل، وناظر الوقف؛ لأنه لا ملك لهم في الرقبة، فموتهم لا ينقل ملك الرقبة إلى ورثتهم. القول الثاني: لا تنفسخ الإجارة بموت أحد العاقدين، وهذا مذهب الجمهور (¬2)، وبه قال ¬
وجه ذلك
ابن سيرين والحسن البصري وإياس بن معاوية وغيرهم (¬1). وجه ذلك: أن المعقود عليه في الإجارة هي منفعة العين، وليس المعقود عليه ذات المؤجر أو المستأجر. قال البخاري في صحيحه معلقًا بصيغة الجزم: قال ابن عمر: أعطى النبي خيبر بالشطر، فكان ذلك على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر ولم يذكر أن أبا بكر وعمر جددا الإجارة بعد ما قبض النبي - صلى الله عليه وسلم -. الراجح: القول بعدم الانفساخ لقوة أدلته، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس انتهاء الإجارة بانتقالها إلى ملك المستأجر
الفصل الخامس انتهاء الإجارة بانتقالها إلى ملك المستأجر المبحث الأول في الإجارة المنتهية بالتملك الإجارة المنتهية بالتمليك من المعاملات المعاصرة، وهي ترجمة للعقد المعروف في القانون الفرنسي باسم (Vent location) وترجمتها: إيجار بيعي، والهدف منه: الحرص على بقاء العين المعقود عليها في ملك البائع إلى حين أداء كامل الأقساط المستحقة، وأن يأمن المالك من مزاحمة غيره من الغرماء في حالة إفلاس المشتري؛ لأن العقد إذا كان بصورة الإيجار مكن ذلك المالك من استرداد ملكه. وله صور كثيرة، منها الجائز، ومنها الممنوع، ومنها المختلف فيه، ويمكن حصر أهم الصور بالآتي: الصورة الأولى: الإجارة المنتهية بالتملك. وذلك بأن تنتهي الإجارة تلقائيا بتملك المبيع دون حاجة إلى إبرام عقد جديد، ودون أن يكون للتملك ثمن سوى الأقساط التي دفعها على أنها أجرة. الصورة الثانية: الإجارة المنتهية بالبيع. وذلك بأن ينص المؤجر على أنه قد باع هذه العين المؤجرة من المستأجر بيعًا باتًا معلقًا على تمام سداد جميع أقساط الإجارة، وثمن البيع هو كذا وكذا، سواء كان الثمن مبلغًا رمزيًا أم حقيقيًا.
الصورة الثالثة: الإجارة مع الوعد بالبيع. وهذه تنقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون الوعد بالبيع ملزمًا للمالك، بأن ينص المؤجر بأن يبيع له العين المستأجرة بشرط أن يتم تسديد جميع أقساط الإجارة، سواء أكان الثمن المرقوم ثمنًا حقيقيًّا أم رمزيًا، أو كان الرجوع في سعر البيع إلى سعر السوق في ذلك اليوم. الثاني: أن يكون الوعد بالبيع غير ملزم للمالك، بأن ينص المؤجر في العقد أنه يعد المستأجر وعدًا غير ملزم ببيع هذه السيارة منه بشرط سداد أقساط الإجارة في موعدها على أن يكون ثمن البيع كذا وكذا، سواء أكان هذا الثمن حقيقيًا أم رمزيًا، أو الرجوع إلى سعر السوق في ذلك اليوم. الصورة الرابعة: الإجارة المنتهية بالوعد بالهبة: الصورة الخامسة: اقتران الإجارة بوعد ملزم للمالك بين تخيير المستأجر بالبيع، أو مد مدة الإجارة. وذلك بأن ينص المؤجر بأنه يلتزم للمستأجر بأن يبيع له السلعة المؤجرة له بشرط سداد جميع الأقساط بثمن محدد، أو حسب سعر السوق، أو مد مدة الإجارة، ويكون الخيار للمستأجر إن شاء أخذ بأحدهما وإن شاء رد العين المستأجرة. وهذه الصورة ترجع إلى صورة الوعد بالبيع، كل ما هنالك أنه زاده حقًا آخر، وهو حق المستأجر في استئناف مدة أخرى للإجارة. ***
الفرع الأول أن تنتهي الإجارة بالتملك بلا ثمن للبيع
الفرع الأول أن تنتهي الإجارة بالتملك بلا ثمن للبيع صورة العقد: أن يصاغ العقد على أنه عقد إجارة ينتهي تلقائيًا بتملك الشيء المؤجر، وتنتقل الملكية تلقائيًا بأداء آخر قسط من هذه الأقساط دون دفع ثمن آخر، ولا وجود عقد آخر: بأن يقول المؤجر: أجرتك هذه السلعة بمبلغ كذا وكذا شهريًا على أنك إذا التزمت بسداد الأقساط في المدة المحددة فإن السلعة تنتقل ملكيتها إليك تلقائيًا دون الحاجة إلى إبرام عقد جديد، ودون ثمن سوى ما دفعته من أقساط الإجارة. والسؤال: هل هذا العقد عقد إجارة، أو عقد بيع؟ وإذا حمل العقد على أحدهما فهل هو عقد صحيح، توفرت له شروط الصحة، أو فيه ما يجعله فاسدًا حتى في حال توصيفه بأنه بيع أو إجارة؟ وللجواب على ذلك نقول: [م - 967] هل المعتبر في العقود اللفظ أو المحكم في هذا المعنى؟ هل نعتبر العقد إجارة نظرًا للفظ، أو نعتبر الإجارة هنا بيعًا نظرًا للمعنى، ونعتبر الأقساط المدفوعة ثمنًا للبيع؟ ويتفرع على هذه المسألة فروع كثيرة: من ذلك لو قال: وهبتك هذه بألف، فإن اعتبرنا المعنى انعقد العقد بيعًا، كان نظرنا إلى اللفظ نقول: هذه هبة فاسدة؛ لأن الهبة: هي بذل الشيء بلا مقابل.
ومثله لو قال: أسلمت إليك هذا الثوب بدينار، فإن اعتبرنا المعنى قلنا: هذا بيع، وليس سلمًا، وإن اعتبرنا اللفظ قلنا: هذا سلم فاسد؛ لأن المسلم فيه لا بد أن يكون غير معين. فإذا قلنا: أجرتك هذه السلعة بكذا، وإذا سددت الأقساط كانت السلعة مستحقة لك، فهل ننظر إلى اللفظ فنقول: إجارة، أو ننظر إلى المعنى فنقول: بيع. وقد سبق بحث هذه المسألة في مبحث مستقل، وبينت أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني. وعلى هذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وأحد الوجهين في مذهب ¬
الشافعية (¬1)، ومذهب أحمد (¬2). والشافعية وحدهم هم الذين يقولون: إن العبرة بالعقود باللفظ لا بالمعنى ومع ذلك قد يغلبون المعنى في بعض المسائل كما في هبة الثواب، فإنها بيع مع أنها بلفظ الهبة (¬3). قال في مغني المحتاج: "والأصحاب تارة يعتبرون اللفظ وهو الأكثر، كما لو قال: بعتك هذا بلا ثمن لا ينعقد بيعًا، ولا هبة على الصحيح. وكما لو قال: اشتريت منك ثوبًا صفته كذا بكذا ينعقد بيعًا لا سلمًا على الصحيح. وتارة يعتبرون المعنى كما لو قال: وهبتك هذا الثوب بكذا ينعقد بيعًا على الصحيح ... وتارة لا يراعون اللفظ ولا المعنى، فيما إذا قال: أسلمت إليك هذا الثوب في هذا العبد، فإن الصحيح أنه لا ينعقد بيعًا ولا سلمًا" (¬4). ¬
القول الأول
[ن-58] وقد اختلف المعاصرون في توصيف عقد الإجارة المنتهي بالتمليك إلى أقوال: القول الأول: قالوا بأن العقد عقد بيع بالتقسيط، وإلى هذا ذهب فضيلة الشيخ عبد الله محمَّد عبد الله (¬1)، والشيخ إبراهيم أبو الليل (¬2)، والشيخ سليمان بن تركي التركي (¬3). وجه ذلك: أنه لا بد من تحديد صفة هذا العقد، فهو إما أن يكون إيجارًا كما هو مسمى، أو أن يكون بيعًا كما هو الواقع، وذلك أن لكل من الإجارة والبيع أحكامًا وآثارًا مخالفة لما للآخر، فوجب تحديد ماهية العقد حتى يمكن ترتيب آثاره عليه، فإذا نظرنا إلى أن العقد من آثاره الملكية، والملكية لا يمكن أن تكون بلا ثمن، والأقساط التي دفعها لم تكن متناسبة مع أجرة المثل، بل روعي فيها قيمة المبيع موزعة على أقساط، وأن إرادة المتعاقدين في هذا العقد متجهة إلى تملك هذه السلعة وليس إجارتها، وقد دفعهما إلى جعل هذا العقد بهذه الصورة هو خوف المالك من عدم الحصول على ثمن السلعة إذا كان الثمن مؤجلًا، والمشتري يرغب في شراء هذه السلعة، ولا يملك الإمكانات لشرائها بالنقد، فصاغوا العقد بهذه الصورة لحماية حق المالك من نكول المشتري من دفع ثمن السلعة ¬
حكم العقد بناء على توصيف العقد بأنه بيع وليس إجارة
فلا يمكن أن يكيف العقد إلا على أنه عقد يتملك فيه العاقد الرقبة والمنفعة، وهذا هو حقيقة البيع. يقول الدكتور إبراهيم أبو الليل: "إذًا فالحقيقة أن هذا العقد ليس إلا تطبيقًا مطورًا للبيع بالتقسيط فرضه العمل التجاري، خاصة وأن سداد المشتري للثمن المتفق عليه يتم مقسطًا إلى دفعات" (¬1). كما ذهبت بعض القوانين العربية إلى توصيف هذا العقد بأنه عقد بيع، وليس عقد إجارة كالقانون المدني المصري، المادة (430)، والقانون التجاري الكويتي، المادة (140). حكم العقد بناء على توصيف العقد بأنه بيع وليس إجارة: [ن-59] اختلف العلماء في حكم العقد بناء على هذا التوصيف إلى قولين: القول الأول: ذهب بعض أهل العلم إلى أنه عقد جائز، وخرجوه على أنه عقد بيع معلق على شرط، وهو سداد جميع الثمن. وقد خرجوا ذلك على قول الإِمام أحمد بجواز تعليق البيع على شرط، ورجحه ابن تيمية. قال ابن قدامة: "فإن قال: بعتك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث، أو مدة معلومة، وإلا فلا بيع بيننا، فالبيع صحيح نص عليه ... " (¬2). فكأن المالك قال: بعتك هذه السلعة بثمن وقدره كذا وكذا فإن لم تسدد الأقساط فلا بيع بيننا. ¬
وقال الشيخ ابن بيه، وهو "أن يبيعه بشرط ألا يمضي البيع إلا بدفع الثمن، فيكون البيع معلقًا على دفع آخر الثمن، وحسبما يفيده الزرقاني عن أبي الحسن على المدونة هذه الصيغة جائزة، معمول بها، وسلمه البناني الدسوقي" (¬1). وقال الشيخ محمَّد بن إبراهيم بن جبير: "فقد دريست عقود الإيجار المنتهية بالتمليك، واطلعت على ما كتب حولها، واستمعت إلى المناقشة التي دارت بشأنها في عدة جلسات لهيئة كبار العلماء، وقد ظهر لي أن هذه العقود لا تخرج عن كونها عقود بيع ورهن، وهما عقدان صحيحان لازمان، وهذا هو تكييفهما الشرعي؛ لأن مالك السيارة ونحوها لا يقصدان إلا البيع، ذلك أن مستوردي السيارة إنما يستوردونها لبيعها لا لتأجيرها، والمستأجر حينما يلجأ إلى مستوردي السيارة إنما يريد شراءها، ولو كان يقصد الاستئجار لكان في إمكانه أن يلجأ إلى شركات ومؤسسات تأجير السيارات" (¬2). وشبه الشيخ حسن الشاذلي البيع مع اشتراط عدم نقل الملكية بالبيع مع اشتراط عدم التصرف في المبيع إلا بعد سداد جميع الثمن المؤجل باعتبار أن هذا البيع يحقق الهدف المقصود من الإيجار المنتهي بالتمليك: وهو اطمئنان البائع إلى الوصول إلى حقه قبل إباحة التصرف للمشتري في الشيء المبيع، فإن لم يوف انفسخ العقد. وقد نص المالكية على جواز أن يبيع المالك السلعة بشرط ألا يتصرف فيها ¬
ويجاب من وجهين
المشتري ببيع ولا هبة، ولا عتق حتى يعطي الثمن، فهذا بمنزلة الرهن وكان الثمن مؤجلًا (¬1). ويجاب من وجهين: الوجه الأول: تخريج العقد على مذهب المالكية لا يصح، فإن المالكية يقولون البيع لازم، والشرط باطل، والذين يصححونه لا يقولون ببطلان الشرط. جاء في المدونة: "قلت لمالك: فالرجل يبيع على أنه إن لم يأت بالثمن إلى أجل كذا وكذا يسميه فلا بيع بينهما؟ قال: شرطهما باطل والبيع لازم" (¬2). الوجه الثاني: لا إشكال في تخريج العقد على أنه عقد بيع، ولكن لهذا التخريج آثار يجب الأخذ بها؛ لأن عقد الإجارة يخالف عقد البيع في الأحكام والآثار: فالعين في عقد البيع مضمونة على المشتري بخلاف العين في عقد الإجارة فإنها أمانة في يد المستأجر. وخراج العين في عقد البيع يستحقه المشتري إذا ما فسخ العقد؛ لأن الخراج بالضمان، ويسترجع المشتري كامل الثمن، ولا يدفع شيئًا مقابل بقاء العين في يده قبل فسخ العقد. بينما خراج العين في عقد الإجارة مستحق للمؤجر؛ لأن العين غير مضمونة على المستأجر، وإذا فسخ العقد استحق المؤجر أجرة ما مضى. ¬
القول الثاني
إذا فهم ذلك: فإذا لم يسدد المشتري الأقساط باعتبار العقد من عقود البيع، فإنه سوف يفسخ البائع العقد، وهذا من حقه وهو ما يوجبه الشرط، ولكن ليس من حقه حبس الثمن، بل يجب رد جميع الأقساط التي استلمها ثمنًا للسلعة؛ لأن مقتضى الفسخ أن يرفع آثار العقد، ويرجع العاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد، فترجع العين إلى المالك، ويرجع الثمن المقبوض إلى المشتري، وسيكون استكمال المشتري للسلعة مقابل شغل ذمته بالضمان، فهل سيقبل البنك هذا الحكم باعتباره أثرًا من آثار توصيف العقد بأنه من عقود البيع، ولو قيل بالرجوع بالأجرة إذا فسخ العقد مع توصيف العقد بأنه عقد بيع كما يقول الشيخ حسن الشاذلي (¬1)، لقيل ذلك في كل عقد بيع يجب فسخه أن على المشتري أن يدفع أجرة ما قبض، ولا أعلم أحدًا قال به. وأما إذا وصف العقد بأنه عقد إجارة فإن من حق المؤجر أجرة ما مضى إذا ما فسخ العقد لعدم السداد. هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن الذي يشكل على هذا التوصيف أن المالك لا يدعي أنه باع السلعة، ولا يرى أن السلعة خرجت من ملكه بمجرد العقد، ولا يرى أن العقد يعطيه فقط حق الفسخ إذا لم يتم تسديد الثمن، بل يرى أن العقد لا ينعقد إلا بعد تسديد الثمن، وبين المسألتين فرق كبير. القول الثاني: يرى جمع من الفقهاء أن العقد بناء على هذا التوصيف أنه عقد باطل، وبهذا ¬
واستدل القائلون ببطلان العقد بأدلة منها
أخذ مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي فقد جاء في قراره رقم 110 (4/ 12) وفيه: "من صور العقد الممنوعة: أ- عقد إجارة ينتهي بتملك العين مقابل ما دفعه المستأجر من أجرة خلال المدة المحددة دون إبرام عقد جديد بحيث تنقلب الإجارة في نهاية المدة بيعًا تلقائيًا". واستدل القائلون ببطلان العقد بأدلة منها: الدليل الأول: أن هذا البيع قد تضمن شرطًا يجعل العقد باطلًا؛ لأن البيع بالتقسيط مع الاحتفاظ بالملكية للبائع إلى أن يسدد جميع الأقساط مخالف لمقتضى العقد، فإن مقتضى عقد البيع نقل الملك بمجرد العقد، فالمبيع يصبح ملكًا للمشتري، والثمن يصبح ملكًا للبائع، ولا يحق للبائع الاحتفاظ بملكية المبيع بعد العقد لمجرد أنه وافق على تأجيل الثمن. جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي رقم 53 (2/ 6) بشأن البيع بالتقسيط، وفيه: "لا حق للبائع في الاحتفاظ بملكية المبيع بعد البيع، ولكن يجوز للبائع أن يشترط على المشتري رهن المبيع لضمان حقه في استيفاء الأقساط المؤجلة" (¬1). الدليل الثاني: أن بيع التقسيط مع الاحتفاظ بالملكية فيه غرر مؤثر من وجهين: أحدهما: أن المشتري لو تخلف عن تسديد قسط من الأقساط ضاع عليه ¬
القول الثاني في توصيف هذا العقد
جميع ما دفعه من ثمن للسلعة، بحجة أن ما قدم كان أجرة، وليس ثمنًا، وأن شرط التملك لم يتحقق وهذا غرر بين. الثاني: أن العقد بهذه الصورة لم تتحدد ماهيته إلا بعد سداد آخر قسط واجب، فهو متردد بين البيع والإجارة، وقد يحصل البيع وقد لا يحصل. وهذا من الغرر البين. القول الثاني في توصيف هذا العقد: خرج بعض الفقهاء عقد الإجارة المنتهي تلقائيًا بالتملك أن التملك هذا يعني هبة العين المؤجرة إلى المستأجر، وإن لم يصرح بذلك بأنه هبة باعتبار أن المعتبر في العقود المفاسد والمعاني، وعلى هذا تكون الهبة هنا معلقة على شرط وهو الالتزام بسداد الأقساط المتفق عليها في المدة المحددة. ذلك أن الأقساط التي دفعها المستأجر دفعت باعتبارها أجرة، وانتقال الملكية إلى المستأجر كان تلقائيًا بلا ثمن، وإذا كان ذلك بغير ثمن لم يكن العقد يحتمل إلا أن يكون هبة. يقول الشيخ حامد ميرة: "التأجير المنتهي بالتمليك تلقائيًا وبلا ثمن ... التكييف الفقهي: الذي يظهر للباحث أن هذه الصورة إنما هي عقد إجارة اقترن به عقد هبة معلق على تمام سداد أقساط الإجارة " (¬1). ويرى الشيخ عبد الله بن منيع أن التسمية غير صحيحة، ولا يصح أن يقال: الإجارة المنتهية بالتمليك، فالإيجار لا ينتهي بالتمليك، وإنما ينتهي بانتهاء مدته، ثم يأتي دور التمليك بعد انتهاء مدة الإجارة، فإن كان بلا ثمن فهو هبة، وإن كان مقابل ثمن فهو بيع، ولا يؤثر على صحة الإجارة أن تكون الأجرة بأكثر ¬
حكم هذا العقد بناء على هذا التوصيف
من ثمن المثل حيث إن رضا المستأجر بارتفاع مقدار الأجرة عن أجرة المثل في مقابلة وعده بتمليكه العين المؤجرة هبة (¬1). وهذا يجعلنا نسأل فضيلة الشيخ: إذا كانت الزيادة في الأجرة مقابل الهبة، فهل يصح أن نقول: إن الهبة بلا مقابل، أو يقال: إن ما زاد على أجرة المثل فهو في مقابل ما يسمى هبة، والهبة إذا كانت بمقابل أصبحت من هبة الثواب، وهي لها أحكام البيع كما ذكر جمع من الفقهاء. * حكم هذا العقد بناء على هذا التوصيف: [ن-60] في المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب بعض أهل العلم إلى جوازها بشروط، سواء أكانت الأجرة أجرة المثل أم كانت الأجرة بأكثر من أجرة المثل، ومن القائلين بالجواز الشيخ عبد الله ابن منيع، والشيخ حامد الميرة (¬2). القول الثاني: هناك من يرى تحريم هذا العقد حتى ولو وصف العقد بأنه هبة. إما لأنه لا يجوز عنده الجمع بين عقد الإجارة والهبة، وفيه خلاف، والصحيح جوازه. أو لأنه لا يجوز عنده تعليق الهبة على شرط مستقبل، وفي المسألة خلاف، والصحيح جوازه. ¬
القول الثالث
القول الثالث: هناك من يشترط أن تكون الإجارة بأجرة المثل حتى يمكن توصيف العقد بأنه هبة، وإلى هذا ذهب الباحث الشيخ خالد الحافي (¬1). ولم يقبل مجمع الفقه الإِسلامي هذا التوصيف، وجعل صورة الإجارة المنتهية بالتمليك تلقائيًا، وصورة الإجارة المنتهية بالهبة صورتين، وليست صورة واحدة، وحرم الأولى كما سبق، وجوز الثانية بشروط كما سيأتي إن شاء الله تعالى. رأيي في الموضوع: الإجارة المنتهية بالهبة لا تجوز مطلقًا عندي فهو عقد بيع مستتر بعقد الإجارة من غير فرق بين أن تكون الأجرة بثمن المثل أو بأقل أو بأكثر. لأن الإجارة إن كانت بأكثر من ثمن المثل، وقدم الثمن باسم الأجرة، بينما هو في الواقع قيمة المبيع مؤجلًا جعل على شكل أقساط حماية لحق البائع، فإن العقد لا يجوز لما علمت سابقًا. فإن قيل: ألا يجوز أن تكون الأجرة بأكثر من ثمن المثل إذا كان هناك تراض بين العاقدين، ولم يكن هناك تغرير أو خداع من المؤجر قياسًا على البيع؟ فالجواب: نعم يجوز أن تكون الإجارة بأكثر من ثمن المثل لو كان عقد الإجارة منفردًا, ولم يقترن بعقد آخر، وهو الهبة، فالمستأجر لم يقبل أن تكون الأجرة أكثر من أجرة المثل إلا من أجل اقتران العقد بالهبة، وهذا يجعل عوض الهبة مستترًا بعقد الإجارة، فتكون الهبة ليست هبة محضة، وإنما من قبيل ما ¬
يسمى بهبة الثواب، وهي من معقود المعاوضات، وليست من عقود التبرع، ولها أحكام البيع. فتؤول هذه الصورة إلى إحدى صورتين: إما أن نقول: هي إجارة منتهية بالبيع، وليست منتهية بالهبة، والإجارة المقترنة بالبيع بثمن بات معلق على سداد الأقساط لا تجوز على الصحيح، وسوف تأتينا إن شاء الله تعالى هذه الصورة في مبحث مستقل، وأذكر أدلة المجيزين والمانعين، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. أو نقول: إنه بيع مستتر بعقد الإجارة، وهذا الأقرب. وإن كانت الأجرة بثمن المثل فإن الهبة جزء من عقد الإجارة، وليست هبة محضة. فالموهوب له لم يقدم على الإجارة، ولم يرغب فيها إلا لأنها جاءت مقرونة بعقد الهبة، فهذا الذي أغراه بالإجارة، وحمله عليها حتى ولو كانت الإجارة بثمن المثل، فأصبحت هذه العدة جزءًا من المعاوضة لا يجوز الخروج منها، أو التحايل على إسقاطها؛ لأن البنك عندما وعد ببذل السلعة لا يبذلها هدية للمشتري أو إحسانًا عليه. فالبنوك كل البنوك إسلامية أو ربوية ما قامت من أجل الأعمال الخيرية فالغاية من الهدية والباعث عليها ترويج السلع، وإغراء الناس في الشراء، وهذا يلحقها بعقود المعاوضات لا عقود التبرعات؛ لأن التبرع والهبة إذا رتب على عمل خرج من كونه تبرعًا إلى كونه معاوضة. قال ابن تيمية: "الواهب لا يهب إلا للأجر فتكون صدقة، أو لكرامة الموهوب له فتكون هدية، أو لمعنى آخر فيحتبر ذلك المعنى" (¬1). ¬
وجاء في القواعد لابن رجب: "تعتبر الأسباب في عقود التمليكات، كما تعتبر في الأيمان، ويتخرج على هذا مسائل متعددة ... " ذكر منها: هبة المرأة زوجها صداقها إذا سألها ذلك، فإن سببها طلب استدامة النكاح، فإن طلقها فلها الرجوع فيها، نص عليه أحمد في رواية عبد الله ... ومنها ما نص عليه أحمد في رواية ابن ماهان فيمن اشترى لحمًا، ثم استزاد البائع فزاده، ثم رد اللحم بعيب، فالزيادة لصاحب اللحم؛ لأنها أخذت بسبب اللحم، فجعلها متابعة للعقد في الرد؛ لأنها مأخوذة بسببه، وإن كانت غير لاحقة به (¬1). فأنت ترى أن المرأة أجاز لها الإِمام أحمد الرجوع بالهبة مع أن الرجوع بالهبة بعد القبض من كبائر الذنوب إعمالًا للسبب. ومنه ما يحصل في عصرنا، فيقول البائع: اشتر واحدًا، وخذ واحدًا مجانًا. فالهبة هنا ليست هبة محضة، ويستطيع المشتري أن يرد الموهوب بالعيب، ويأخذ بدلًا منه، وإذا فسخ البيع رد العين الموهوبة، ولا يصح له أن يقول: هذا كان هبة وقد لزمت بالقبض، وهذا يدل على أن الهبة أخذت أحكام البيع، ولم يطبق عليها أحكام الهبة المحضة؛ لأن الهبة هنا ارتبطت بسبب، وهو الشراء، فأخذت حكمة، وكان قصد البائع هو تخفيض المبيع إلا أنه أراد أن يحافظ على ثمن المبيع بلا تخفيض فلجأ إلى التخفيض عن طريق زيادة المبيع، أو أنه أراد أن يسوق قطعتين بدلا أن يكون التخفيض في قطعة واحدة، فيضمن نفاق البضاعة؛ لأن التخفيض لو كان للقطعة الواحدة فربما لا يأخذ المشتري إلا قطعة واحدة، فيبقى عنده قدر من المبيع. ¬
نعم لو وهبه العين بعد لزوم عقد الإجارة فإنه واضح أنها هبة محضة منفكة عن عقد الإجارة، ولم تكن سببًا في تسويق عقد الإجارة، ومرغبة فيه. ومما يدل على أن الهبة جزء من عقد المعاوضة: أن الإنسان لو وهبه أحد شيئًا وعلق ذلك على أمر مستقبل، ولم يتحقق الشرط لم تنفذ الهبة على الورثة. فلو قال رجل: إذا دخل الشهر الفلاني فقد وهبتك كذا وكذا، ثم مات الواعد قبل دخول اليسر لم يستحق الموعود الهبة من مال الوارث؛ لأن دخول الشهر كان بعد موته. أما المؤجر فلو مات قبل سداد الأقساط، فهل تسقط الهبة باعتبار أن الوعد بالهبة عقد مستقل، وقد توفي الواهب قبل سداد الأقساط فلا يستحق الهبة من مال الورثة. أو يكون هذا الوعد وعدًا نافذًا على الورثة إذا سدد المستأجر آخر قسط من أقساط الإجارة باعتبار أن الهبة جزء من عقد الإجارة. وإن كنت لم أقف على كلام لأهل العلم المتقدمين في هذه المسألة إلا أن الشيخ محمَّد المختار السلامي أشار إليها في بحث له، ورجح أن الورثة ملزمون بتنفيذ الوعد باعتبار أنهم وارثون للمورث فيما له، وفيما عليه من حقوق (¬1). فجعلها من الحقوق اللازمة مع أن الهبة معلقة على شرط لم يتحقق في حياة المورث، وإذا لم يتحقق الشرط لم يتحقق المشروط، وهذا دليل على أن الهبة جزء من عقد المعاوضة، وإن أعطيت اسم الهبة، والله أعلم. ¬
وعليه أرى أن عقد الإجارة إذا انتهى بالتمليك أنه عقد بيع استتر في عقد الإجارة، وأن ما يقدم على شكل أقساط هو في حقيقته ثمن، وليس أجرة، وإذا كان كذلك فلا أرى أنه قد توفر في العقد شروط البيع الصحيح؛ لوجود الشرط المفسد، وهو احتفاظ البائع بالملكية إلى حين سداد الأقساط، وهذا شرط مخالف لمقتضى العقد، والبديل عنه أن يبيعه السلعة ويشترط عليه رهنها إلى حين سداد الأقساط، وبهذا يتحقق مقصود البائع من ضمان حقه، والله أعلم.
الفرع الثاني أن تنتهي الإجارة بالبيع البات بثمن معلوم
الفرع الثاني أن تنتهي الإجارة بالبيع البات بثمن معلوم صورة العقد: أن يقول المؤجر سواء كان رجلًا أو بنكًا: أجرتك هذه السلعة بمبلغ كذا وكذا شهريًا، على أنك إذا التزمت بسداد الأقساط في المدة المحددة بعتك هذه السلعة بثمن كذا وكذا، سواء كان الثمن حقيقًا، أو كان الثمن رمزيًّا. فيقول المستأجر: قبلت. فثمن البيع يحدد عند بدء عقد الإجارة، وتملك العين لن يتم إلا بعد سنوات من استعمال العين، وبعد تغيرها المقطوع به بالاستعمال، ومعلق على شرط الالتزام بسداد جميع الأقساط بوقتها المحدد. ويكون عقد الإجارة المنتهي بالبيع قد اشتمل على عقدين: الأول: عقد إجارة ناجز قد تم فيه تحديد الأجرة، ومدة الإجارة، وتوزيع الأجرة على أقساط معلومة. الثاني: عقد بيع معلق على شرط، وهو سداد أقساط الإجارة في المدة المحددة. [ن -61] وقد اختلف الفقهاء في جواز هذه المعاملة على أقوال: القول الأول: ذهب بعض أهل العلم إلى تحريم عقد الإجارة المنتهية بالبيع، وبه أخذ غالب هيئة كبار العلماء في السعودية، ومجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي.
دليل من قال: لا يجوز
فقد ذكر مجمع الفقه الإِسلامي في قراره رقم 110 (4/ 12) صور العقد الممنوعة، وذكر منها: "إجارة عين لشخص بأجرة معلومة، ولمدة معلومة مع عقد بيع له معلق عدى سداد جميع الأجرة المتفق عليها خلال المدة المعلومة، أو مضاف إلى وقت مستقبل" (¬1). دليل من قال: لا يجوز: الدليل الأول: استدل هؤلاء على المنع بالقول الفقهي الذي يمنع عقد الإجارة إذا شرط فيه عقد البيع، كما هو مذهب الحنفية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وقول مرجوح في مذهب الشافعية (¬4)، واختيار سحنون من المالكية (¬5). (ح-614) وكان مستند المنع ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، ثنا محمَّد بن عمرو، ثنا أبو سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة (¬6). وفي رواية لأحمد: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة واحدة (¬7). [حسن] (¬8). ¬
وجه كون البيع بيعتين في بيعة
وجه كون البيع بيعتين في بيعة: أن عقد الإجارة من قبيل بيع المنافع، فإذا اجتمع مع البيع صار بيعتين في بيعة. وقد سبق لنا خلاف العلماء في تفسير حديث النهي عن بيعتين في بيعة عند الكلام على عقد البيع، وبيان الراجح في ذلك بما يغني عن إعادته هنا. وكان الراجح لي في العقود المشتركة: منع الجمع بين كل عقدين يترتب على الجمع بينهما الوقوع في محذور شرعي، وإنْ كان كل واحد منهما جائزًا بمفرده. من ذلك: أن يقول أبيعكها بمائة إلى سنة، على أن أشتريها منك بثمانين حالة، وهذا بيع العينة المنهي عنه (¬1). ومنه لو باع عليه ذهبًا، واشترط عليه أن يشتري منه بثمنه ذهبًا آخر، فإنه حيلة لمبادلة الذهب بالذهب مع التفاضل. ومنه لو باعه الجمع بالدراهم، ثم ابتاع بالدراهم جنيبًا، وكان ذلك عن مواطأة. وكذلك لو باع عليه سلعة بشرط أن يقرضه، فإنه يدخل في القرض إذا جر نفعًا، وهكذا, ولا يدخل في ذلك العقدان. اللذان لم يترتب على جمعهما محذور شرعي، كما لو أجره سيارته بشرط أن يبيعه إياها؛ لأنه لا مفسدة ولا محذور في جمع عقدين في عقد واحد من جهة الاجتماع، فلو فرض أنه استأجر السيارة ليوم واحد أو يومين في مدة لا تتغير فيها السيارة واشترط عليه أن يبيعها ¬
الدليل الثاني
إياه بعد ذلك بثمن معلوم لم يقع في ذلك حسب رأي أي محذور شرعي إلا أن المفسد للعقد في الإيجار المنتهي بالتمليك أن البيع يقع باتًا عند عقد الإجارة والسلعة لن تستحق بالبيع إلا بعد سنوات مما يعرض السلعة للتغير أثناء مدة الإجارة، وهذا غرر مؤثر والله أعلم، أما لو كان الاتفاق على البيع للسيارة والخيار لهما بعد انتهاء مدة الإجارة، أو كان البيع بحسب سعر السوق بعد انتهاء مدة الإجارة ولم يكن هذا الوعد ملزمًا لأي واحد من العاقدين فلا أرى مانعًا من جوازه، والله أعلم. الدليل الثاني: استدل بعض المانعين بموقف الحنفية والشافعية من الشروط في العقد، وأن كل شرط لا يقتضيه العقد، ولا ينافيه، ولا يعتبر من مصلحته أن الشرط لا يصح، واشتراط البيع في عقد الإجارة لا يقتضيه العقد، ولا ينافيه، ولا يعتبر من مصلحته فلا يصح القول به تخريجًا على مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2) وموقفهم من الشروط. قال ابن القيم: "وأما أصحاب الشافعي وأبي حنيفة فلم يفرقوا بين الشرط والشرطين، وقالوا: يبطل البيع بالشرط الواحد، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وشرط ... " (¬3). ¬
الراجح
والراجح: صحة تعدد الشروط مهما كثرت، ما دامت الشروط صحيحة، وهو رواية عن الإِمام أحمد, اختارها ابن تيمية وابن القيم (¬1). وقد تكلمنا في تعدد الشروط في مسألة مستقلة في عقد البيع وذكرنا الأقوال في المسألة، وبينت الراجح، فأغنى عن إعادته هنا. الدليل الثالث: استدل هؤلاء على المنع بالقول الفقهي في الذي يمنع تعليق العقود، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬2). واستثنى الحنفية والمالكية إذا علق البيع على رضا شخص أو مشورته؛ وعللوا ذلك بأن اشتراط الخيار إلى أجنبي جائز (¬3). ¬
وقيل: يجوز تعليق البيع على شرط مطلقًا، وبه قال أحمد، وقدماء أصحابه، وهو اختيار ابن تيمية، وابن القيم (¬1). وقد سبق بحث هذه المسألة في عقود البيع، وبينت أن الراجح صحة تعليق العقد على شرط مستقبل لأدلة كثيرة منها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]. فالآية الكريمة تدل على وجوب الوفاء بكل عقد وشرط لا يخالف الشرع؛ لأن إطلاق الاسم يتناول المتجز والمعلق، والحمريح والكناية ... ومن ادعى تقييدها بالمنجز دون المعلق فعليه الدليل. (ث -107) ولما رواه البخاري في صحيحه معلقًا بصيغة الجزم. ¬
قال البخاري: عامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر فله الشطر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا. [منقطع، وقد جاء من طريق آخر مرسلًا، قال الحافظ: فيتقوى أحدهما بالآخر] (¬1). وللقياس على الاشتراط في الحج. (ح - 615) فقد روى البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة بنت الزبير، فقال لها: لعلك أردت الحج؟ قالت: والله لا أجدني إلا وجعة، فقال لها: حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني، وكانت تحت المقداد بن الأسود (¬2). وإذا صح التعليق في العبادات صح ذلك في المعاملات من باب أولى. (ث - 108) ولما رواه ابن أبي شيبة من طريق جعفر بن برقان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن مسعود اشترى من زوجته زينب جارية، فاشترطت عليه: إن باعها، فهي أحق بالثمن، فسأل ابن مسعود عمر، فكره أن يطأها (¬3). وفي رواية: لا تقربها ولأحد فيها شرط (¬4). [صحيح] (¬5). ¬
فالراجح
فقد نص أحمد على جواز تعليق البيع بالشرط عملًا بهذه القصة، فإن زوجة ابن مسعود علقت بيع الجارية على زوجها بألا يبيعها لغيرها، وإذا باعها فإنما يبيعها بالثمن. فالراجح: القول بصحة تعليق العقد، وهو الذي يتمشى مع القاعدة التي رجحناها في الشروط والعقود: أن الأصل في الشروط والعقود الصحة والجواز، ولا يحرم منها إلا ما دل الدليل على بطلانه، ولا دليل على بطلان تعليق العقد بالشرط. وسبق بحث هذه المسألة بشكل مستفيض في عقد البيع فراجعه إن شئت، والحمد لله. الدليل الرابع: أن الإجارة المنتهية بالتمليك إما أن يتم عن طريق الوعد بالبيع بعد انتهاء مدة الإجارة، أو ينتهي بالبيع وليس عن طريق الوعد به. أما الصورة الأولى فسوف يأتي مناقشتها في مبحث مستقل. وأما الصورة الثانية فيعني أن عقد الإجارة وعقد البيع قد وردا على عين واحدة على التوالي: الإجارة أولًا يعقبه البيع ثانيًا, ولذا لا يحتاج العاقدان بعد انتهاء مدة الإجارة إلى عقد البيع؛ لأنهما قد عقداه مع الإجارة في وقت واحد إلا أنه عقد معلق، ولا يصح إيراد عقدين على عين واحدة. وهذا ما احتجت به هيئة كبار العلماء في البلاد السعودية على إبطال العقد، فقد ورد في قرار هيئة كبار العلماء: "رأى المجلس بالأكثرية أن هذا العقد غير جائز شرعًا لما يأتي:
القول الثاني
أولًا: أنه جامع بين عقدين على عين واحدة غير مستقر على أحدهما، وهما مختلفان في الحكم متنافيان فيه، فالبيع يوجب انتقال العين بمنافعها إلى المشتري، وحينئذ لا يصح عقد الإجارة على البيع؛ لأنه ملك للمشتري، والإجارة توجب انتقال منافع العين فقط إلى المستأجر، والبيع مضمون على المشتري بعينه ومنافعه ... والعين المستأجرة من ضمان مؤجرها، فتلفها عليه عينًا ومنفعة إلا أن يحصل من المستأجر تعد أو تفريط" (¬1). القول الثاني: ذهب جمع من العلماء إلى صحة الإجارة المنتهية بالبيع، وبه قال فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع (¬2)، والهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية (¬3) إذا توفرت له شروط منها. الشرط الأول: أن يكون عقد الإجارة عقدًا حقيقيًا مستجمعًا لأركان الإجارة وتوفر شروطه وانتفاء موانعه. ¬
من ذلك: أن تكون السلعة مملوكة للمصرف، ثم بعد ذلك تعبدًا الإجارة؛ لأن من شروط صحة الإجارة وجود العين المؤجرة في ملك المؤجر وقت الإجارة، وإن كان هناك مواعدة على الإجارة قبل التملك ألا تكون تلك المواعدة ملزمة على الصحيح من أقوال أهل العلم (¬1)، بل يكون الخيار للمستأجر بعد أن يتملكها البنك. وهذا الشرط لا يطبق في أكثر المصارف الإِسلامية، ذلك أن الإجارة المنتهية بالتمليك بصفتها عقدًا تمويليًّا تطبق في العادة عن طريق ما يعرف بالإجارة للآمر بها، وهذا يعني أن العميل يبدي رغبته في الاستئجار أولًا في وقت لا تكون العين مملوكة للمصرف، فيأمره بشرائها، ويعده باستئجارها، ويكون المستأجر ملزمًا باستئجارها بمقتضى الوعد، وهذا العقد مختلف فيه، وقد سبق تحريره في عقد الصرف. فإن عقد العاقدان الإجارة قبل تملك المصرف للعين فإن هذا لا يجوز قولًا واحدًا، وإن كان ذلك عن طريق الوعد بالاستئجار، فإن كان الوعد ملزمًا، كان هذا محرمًا على الصحيح؛ لأن الإلزام من طبيعة العقود، وإن كان الوعد غير ملزم كان عقد الإجارة عقدًا صحيحًا صادرًا من مالك للعين المؤجرة، ومستأجر، وعين مستأجرة. ومن ذلك أيضًا العلم بالأجرة، وتحديد مدة الإجارة، وأن تكون العين صالحة للإجارة، وغير ذلك من الشروط. ¬
الشرط الثاني
الشرط الثاني: أن تترتب على عقد الإجارة جميع آثاره المقررة شرعًا للمؤجر وللمستأجر، من ذلك أن تكون العين المؤجرة أمانة في يد المستأجر لا يضمنها إلا بالتعدي أو بالتفريط، فإذا لم يتعد ولم يفرط فإن ضمانها على المؤجر ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن يتحمل ذلك المستأجر، أو يشترط عليه ذلك في عقد الإجارة، وبناء عليه فإن الصيانة الأساسية للعين تكون من وظيفة المؤجر بخلاف الصيانة التشغيلية الدورية كتغيير الزيت والوقود، وتغيير الشموع ونحوها فإنها على المستأجر. وقد تكلمت على صيانة العين المؤجرة في بحث مستقل فأغنى عن إعادته هنا. الشرط الثالث: أن تكون نفقات التأمين على المؤجر إلا أن من يحرم التأمين التجاري يشترط أن يكون التأمين -إن وجد- تأمينًا تعاونيًا، وأما من يجيز التأمين التجاري فيرى أن نفقات التأمين على المؤجر من غير فرق بين أن يكون التأمين تعاونيًا أو تجاريًا. وإذا حصل التعويض فهو حق للمؤجر؛ لأن العين ملكه، له غنمها وعليه غرمها، وقد سبق بحث التأمين، وقسمته إلى عقدين: عقد غرر تبيحه الحاجة، وعقد ربا لا تبيحه الحاجة، فأغنى عن إعادته هنا. دليل من قال بالجواز: الدليل الأول: الأصل الشرعي في المعاملات حرية التعاقد، وصحة الشروط إلا ما أبطله الشرع، ولا يوجد ما يدل على تحريم الإجارة المنتهية بالبيع.
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن اجتماع الإجارة والبيع في عقد واحد اجتماع صحيح، لا محذور فيه، فعقد الإجارة وعقد البيع مبنيان على اللزوم، فلا منافاة بينهما، وكل عقدين لا تضاد بينهما، ولا يوجد نهي من الشرع عن اجتماعهما, ولا يترتب على اجتماعهما الوقوع في محذور شرعي فلا مانع من اجتماعهما. الدليل الثالث: كما يصح أن تكون الأجرة والثمن في البيع أقل من المثل فكذلك يصح أن تكون بأكثر من المثل، والعبرة في الجواز هو تراضي العاقدين واتفاقهما على مقدار الأجرة، وثمن البيع، وألا يكون هناك تغرير وخداع، فإذا دخل العاقد على بصيرة من أمره بمقدار الأجرة وبمقدار ثمن البيع فلا حرج في ذلك شرعًا، والله أعلم. القول الثالث: يرى جواز الإجارة المنتهية بالبيع بشرط أن يكون ثمن البيع حقيقيًا لا رمزيًا، أو أن تكون الإجارة بثمن المثل. وجه اشتراط ذلك: الوجه الأول: أن البيع لا بد أن يكون في مقابل ثمن، وفي حال كون الإجارة بأكثر من ثمن المثل، وثمن البيع ثمنًا رمزيًا فهذا يعني أن العاقدين أرادا أن يكون البيع مستتراً بعقد الإجارة، وأنهما دخلا من بداية العقد على إرادة البيع، ويدل على ذلك أنه احتسب قيمة المبيع، ووزعها على أقساط، وأسماها أجرة لكي يحتفظ بحقه في ملكية السلعة حتى نهاية المدة.
الوجه الثاني
وأما إذا كانت الأجرة بثمن المثل فلا حرج في أن يكون البيع ثمنًا رمزيًا ما دام أن المؤجر قد رضي بهذا الثمن لسلعته، ولم يتعرض لتغرير أو خداع؛ لأن العبرة حصول التراضي على ثمن البيع، وقد حصل. الوجه الثاني: اشتمال العقد على الغرر والمخاطرة، فإنه في حال عجز المستأجر عن سداد آخر قسط أو أكثر فسوف ينهي المالك العقد، ويأخذ العين بحجة أنه عقد إجارة مع أن ما يسمى مستأجرًا قد دفع أقساطًا لا تتناسب مع الإجارة، بل هي متناسبة مع قيمة المبيع، ولا يعاد له ما زاد عن أجرة المثل، فيكون بذلك قد خسر الثمن والمثمن (¬1). الراجح في هذا العقد: الصحيح أن العقد لا يجوز , وعلة ذلك ليس للنهي عن الجمع بين البيع والإجارة , ولا لكون البيع معلقًا على أمر مستقبل , ولكن علة المنع الجهالة والغرر، وذلك أن عقد البيع معلق على تمام سداد أقساط الإجارة، فإذا عقد البيع على عين، وكان نفاذ هذا البيع مؤجلًا إلى بعد انتهاء عقد الإجارة , وكانت مدة الإجارة طويلة بحيث تتغير فيها السلعة، وهذا التغير لا يمكن ضبطه؛ لأن الناس يتفاوتون في الاستخدام، فيكون عقد البيع على هذا قد أبرم على عين مجهولة غير معلومة الصفة معرضة للتلف كليًا أو جزئيًا من غير تعد ولا تفريط، وهذا التغير بالاستخدام لا يمكن ضبطه مما يجعل العين مجهولة الصفة، وهذا يبطل البيع، والله أعلم. ¬
ولهذا لو كانت السلعة عقارًا، وكانت مدة الإجارة سنة واحدة، فإنه يمكن القول بالجواز؛ لأن العقار لا يتغير عادة بهذه المدة بالاستعمال، وإن تغير فهو تغير طفيف غير مؤثر بخلاف السيارات ونحوها. جاء في مواهب الجليل: "يجوز للمؤاجر أن يبيع العين المستأجرة من المستأجر وغيره إن بقي من مدة الإجارة ما لا يكون غررًا يخاف تغيرها في مثله، خلافا لأبي حنيفة، ولأحد قولي الشافعي لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، ولأنه ليس في بيعها إبطال حق المستأجر؛ لأن المشتري إنما يتسلمها بعد انقضاء أمد الإجارة، وكل تصرف لا يبطل حق المستأجر لا يمنع" (¬1). فاشترط المالكية لصحة بيع العين المؤجرة من المستأجر وغيره أن لا تتغير السلعة بالاستعمال. ولا أرى أثرًا لكون الثمن رمزيًا أو حقيقيًا؛ لأنه لا حجر على الرشيد العالم بما يفعل في الثمن الذي يرضى به في البيع، خاصة أن البائع في الغالب يكون بنكًا له خبراؤه، وهو حريص على ما ينفعه حرصًا تسنده العلم والخبرة بمسار الاقتصاد لا في الدولة التي ينتسب إليها فقط، ولكن في العالم خصوصًا مع وسائل الاتصال الحديثة والنشرات المتتابعة عما يجري في الأسواق (¬2). فإن قيل: هل يمكن الخروج من الجهالة بأن يكون تحديد الثمن بحسب سعر السوق بعد انتهاء مدة الإجارة، بأن تعرض السلعة على مجموعة من الخبراء تحدد سعر السلعة، أو على عرض العين في سوق المزاد مثلًا، فيكون السعر الملزم للطرفين هو ما تحدده لجنة الخبراء أو ما ينتهي إليه المزاد؟ ¬
والجواب: لا أرى أن هذا يمكن أن يكون مخرجًا من الجهالة؛ لأن التزام الطرفيق بالبيع بعد انتهاء مدة الإجارة ولو بسعر السوق مع أن العين سوف تتغير، ولا يمكن الوقوف على مقدار هذا التغير قد يجعل المستأجر لا يرغب في التملك لو علم مقدار هذا التغير، فإذا كان البيع ملزمًا له بمقتضى عقد الإجارة، ولو بسعر السوق فإنه سوف يقترن في العقد ما يجعله فاسدًا؛ من كونه أقدم على شراء سلعة مجهولة، فلا يجوز أن يكون عقد الإجارة من مقاصده التملك لعين لا يدرى على أي صفة ستكون بعد سنوات. فإن قيل: ماذا لو جعلنا الخيار للمستأجر في التملك، وأن يكون السعر بحسب سعر السوق، هل ترتفع الجهالة عن هذا العقد؟ الجواب: قد ذهب مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي. إلى جواز مثل ذلك، فقد جاء في قرار المجمع رقم 110 (4/ 12)، وفيه: "من صور العقد: الجائزة ... عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية المستحقة خلال المدة في شراء العين المأجورة بسعر السوق بعد انتهاء مدة الإجارة". وإذا جعلنا الخيار للمستأجر دون المالك في عقد البيع بعد انتهاء مدة الإجارة فإن هذه الصورة ستكون من الإجارة المنتهية بالوعد بالبيع، وليست الإجارة المنتهية بالبيع، وسأعقد لها بحثًا مستفلًا في الفصل التالي.
المبحث الثالث الإجارة المنتهية بالوعد بالبيع
المبحث الثالث (*) الإجارة المنتهية بالوعد بالبيع [ن-62] الإجارة المنتهية بالوعد بالبيع: تختلف هذه الصورة عن الإجارة المنتهية بالتمليك سواء كان التمليك تلقائيًا أو كان التمليك عن طريق الإلزام بالبيع. ويأخذ هذا العقد إحدى صورتين: الصورة الأولى: أن يكون الوعد غير ملزم لكلا الطرفين، فإن شاءا أمضيا العقد، وإن لم يرغبا به رجعت العين إلى مالكها، وفي هذه الحال لا فرق بين أن يكون الثمن حقيقيًا أو رمزيًا، أو عن طريق سعر السوق ما دام أن عقد البيع لا ينعقد إلا بعد انتهاء مدة الإجارة، وعن طريق التراضي، فهذا عقد إجارة حقيقي اقترن به وعد بالبيع غير ملزم للطرفين، فإن تم البيع الموعود به كان بيعًا صحيحًا, ولا أعلم أي محذور شرعي يمنع من نفاذ العقد، ولا أعلم خلافًا في جوازها بين أهل العلم. لأن عقد الإجارة عقد مستقل بنفسه، توفرت فيه شروطه وأركانه، وانتفت موانعه. وعقد البيع عقد مستقل بنفسه ينعقد بالتراضي بعد انتهاء مدة الإجارة، وبعد أن يقف المؤجر والمستأجر على مقدار التغير الذي طرأ على العين بعد الاستعمال، ولا يجبر أحد منهما على عقد البيع، لذا أراه عقدًا قد توفرت شروطه وأركانه، وانتفت موانعه.
الصورة الثانية
الصورة الثانية: أن يكون الوعد ملزمًا للمالك (البنك) في بيع السلعة متى ما رغب المشتري في التملك بعد انتهاء مدة الإجارة. حكم هذه الصورة: [ن-63] اختلف الفقهاء في حكم العقد إذا اشتمل على وعد ملزم بالبيع من طرف المالك. فالذين ذهبوا إلى جواز الإجارة المنتهية بالبيع الملزم سوف يجيز الإجارة المنتهية بالوعد بالبيع من باب أولى. وكذا يجيز هذه المعاملة كل من يرى أن الوعد الملزم ليس عقدًا، ويجب الوفاء به. وقد ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى القول بجواز الإلزام بالوعد في بيع المرابحة، منهم: الدكتور يوسف القرضاوي (¬1)، والدكتور سامي حسن حمود (¬2)، وفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع (¬3)، والدكتور علي القره ¬
داغي (¬1)، والدكتور: أبراهيم فاضل الدبو (¬2). والتزمت بالأخذ بالإلزام أكثر المصارف الإِسلامية، من ذلك: مجموعة دلة البركة، وبيت التمويل الكويتي، ومصرف قطر الإسلامي (¬3). وهو رأي الأكثرية في مؤتمر المصرف الإِسلامي بدبي (¬4)، وقرار المؤتمر الثاني للمصرف الإِسلامي بالكويت (¬5). وقد منع الفقهاء المتقدمون الإلزام بالوعد كالحنفية (¬6)، والمالكية (¬7)، ¬
والشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، ورجح المنع جمع من العلماء المعاصرين منهم ¬
سماحة الشيخ ابن باز، والدكتور محمد الأشقر، والدكتور الصديق الضرير، والشيخ بكر أبو زيد، والشيخ سليمان بن تركي التركي، والدكتور رفيق بن يونس المصري وغيرهم (¬1)، وأفتت بالتحريم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬2). والصحيح أن الوعد الملزم المقترن بالعقد إنما هو في حكم العقد، وإن سمي وعدًا، وذلك لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني. فإذا تم الاتفاق على كون المواعدة ملزمة للطرفين، فهذا يصير الوعد عقدًا، لأن الإلزام من أبرز خصائص العقد. وقد صرح الفقهاء بأن الوعد لا يعتبر عقدًا. وفي ذلك يقول ابن حزم: "والتواعد على بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، وفي سائر الأصناف الأربعة، بعضها ببعض جائز تبايعًا بعد ذلك، أو لم يتبايعا؛ لأن الوعد ليس بيعًا" (¬3). ¬
وفي مذهب الحنفية: جاء في المادة 171 من مجلة الأحكام: "صيغة الاستقبال التي هي بمعنى الوعد المجرد، مثل: سأبيع، وأشتري، لا ينعقد بها البيع". قال في شرحها: "صيغة الاستقبال في اللغة العربية هي المضارع المقترن بالسين أو سوف، كأن يقال: سأبيعك، أو سوف أبيعك، وإنما لا ينعقد البيع بها؛ لأنها وعد مجرد ... " (¬1). وقال صاحب كشاف القناع: "لو قال البائع بعتك بكذا، فقال المشتري: أنا آخذه بذلك، لم يصح: أي لم ينعقد البيع؛ لأن ذلك وعد بأخذه" (¬2). فالقول بالإلزام بالوعد يجعل البيع منعقدًا بذلك الوعد؛ لأنه لا خيار لهما في إحداث إيجاب جديد، وسعر جديد. قال الشيخ نزيه حماد: "على أن المتواعدين لو اتفقا على أن يكون العقد الذي تواعدا على إنشائه في المستقبل ملزمًا للطرفين من وقت المواعدة، فإنها تنقلب إلى عقد، وتسري عليها أحكام ذلك العقد، إذ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني" (¬3). وإذا كان الوعد الملزم في حقيقته عقدًا فإن حكم هذا النوع كحكم التأجير المنتهي بالبيع، والخلاف فيها هو عين الخلاف في هذه المسألة، وقد سبق أن رجحت أن الإجارة المنتهية بالبيع لا تجوز إذا كانت العين المستأجرة عرضة للتغير زمن الإجارة، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع الإجارة المنتهية بالهبة
المبحث الرابع الإجارة المنتهية بالهبة [ن-64] الإجارة المنتهية بالهبة لها صورتان: الصورة الأولى: أن تشتمل صيغة الإجارة على هبة السلعة بعد انتهاء مدة الإجارة وسداد الأقساط المتفق عليها. الصورة الثانية: أن يعد المالك المستأجر بأن يهبه السلعة بعد انتهاء مدة الإجارة وسداد الأقساط، والفرق بين هذه الصورة والصورة الأولى، أن الأولى فيها إيجاب الهبة مع عقد الإجارة، والثاني الوعد بالهبة بعد فراغ عقد الإجارة. والوعد بالهبة يختلف عن الوعد بالبيع؛ لأن الأول قد اختلف العلماء المتقدمون في الإلزام به، ولم يختلف المتقدمون في منع الإلزام بالوعد في البيع أو في الشراء، وإنما الخلاف حادث من المعاصرين. وسوف أبحث كل مسألة من هذه المسائل في بحث مستقل، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
الفرع الأول الإجارة المنتهية بالهبة
الفرع الأول الإجارة المنتهية بالهبة [ن-65] هذه الصورة يجعلها بعضهم تكرارًا للصورة الأولى، وهي الإجارة المنتهية بالتمليك تلقائيا دون أن يكون للتمليك عوض يقابله، وإن لم يرد في العقد لفظ الهبة لا صراحة ولا ضمنا، وإنما كان التمليك معلقًا على سداد الأقساط. وسبق بحث هذه المسألة. وبعضهم يجعلها صورتين، سورة تنتهي بالتمليك تلقائيا، وصورة تنتهي بالهبة، وهذا ما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي. وقد نبهت إلى هذا عند الكلام على الصورة الأولى، ورجحت بأنه لا فرق بين التأجير المنتهي بالتمليك التلقائي بلا ثمن، وبين التأجير المنتهية بالهبة؛ لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني دون الألفاظ والمباني. ***
الفرع الثاني في الإجارة المنتهية بالوعد بالهبة
الفرع الثاني في الإجارة المنتهية بالوعد بالهبة [ن- 66] اختلف العلماء في حكم الإجارة المنتهية بالوعد بالهبة: فقيل: تجوز مطلقًا من غير فوق بأن تكون الإجارة بثمن المثل أو بأكثر منه، وسواء كان الوعد ملزمًا للمؤجر أو غير ملزم. وبه قال الشيخ عبد الله بن منيع، والدكتور الضرير، والشيخ عبد الله ابن بيه، والشيخ عبد الستار أبو غدة، والشيخ محمد المختار السلامي. وبه صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي. * دليل من قال: تجوز الإجارة المنتهية بالهبة مطلقا: إن الوعد بالهبة يختلف عن الوعد بالبيع أو بالشراء، فالصحيح من أقوال أهل العلم جواز الإلزام بالوعد بالهبة في حال كان العقد هبة محضة، وهو من الوعد في المعروف، بخلاف الوعد بالبيع فلم يقل به أحد من المتقدمين، وإن كان كثير من المعاصرين قد قالوا هذا على ذاك، ولا يصح القياس خاصة أن الذين قالوا بالإلزام بالوعد بالمعروف منعوا من الإلزام بالوعد بالبيع والشراء. يقول الدكتور الصديق الضرير: "الوعد الذي وقع الاختلاف فيه بين المالكية وغيرهم، فقال المالكية بالإلزام به ديانة وقضاء، وقال غيرهم: بالإلزام به ديانة لا قضاء، هو الوعد بالمعروف من جانب واحد، كأن يعد شخص آخر بأن يدفع له مبلغًا من المال ... " (¬1). ¬
ويقول الشيخ سليمان بن تركي التركي: "بنى بعض الباحثين القول بالإلزام بالمواعدة في المعاوضات على ما سبق من مذهب الإمام مالك في الإلزام بالوعد إذا دخل الموعود بسبب الوعد في كلفة، وهذا غير صحيح؛ لأن المقصود بالوعد لدى الفقهاء المتقدمين، وما سبق عرضه من الخلاف في الإلزام به إنما هو الوعد بالمعروف دون الوعد بالمعاوضة" (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . ¬
فإذا كان عقد الهبة والوعد به من المعروف كان الإلزام به جائزًا على مذهب المالكية، وبناء عليه يمكن القول بجواز الإلزام بالوعد في بيع الإجارة المنتهية بالوعد بالهبة. وعندي أن الوعد إن كان غير ملزم للمؤجر فإن الهبة تجوز مطلقًا حتى ولو كانت الإجارة بأكثر من ثمن المثل؛ لأننا إذا جوزنا الإجارة المنتهية بالبيع غير الملزم، فجوازها بالهبة غير الملزمة من باب أولى. وإن كان الوعد ملزمًا بالهبة فإن الهبة تأخذ حكم المعاوضة عندي من غير فرق بين أن تكون الإجارة بثمن المثل أو بأكثر منه. لأن هذا الوعد الملزم بالهبة يأخذ حكم الحوافز التجارية والتي ترتبط بالعقد من أجل تسويقه والترغيب فيه، لا من أجل الإحسان إلى المشتري، فتكون جزءًا من عقد المعاوضة، فلا أرى فرقًا بين الإجارة المنتهية بالهبة والإجارة المنتهية بالوعد الملزم بالهبة، فكأن العقد انتهى بالهبة مع إعطاء الموهوب الخيار في الرد، والخيار لا يمنع انعقاد العقد، وقد سبق بحث الإجارة المنتهية بالهبة في الفرع الأول فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والحمد لله. ... ¬
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد العاشر
(ح) دبيان بن محمَّد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمَّد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة / دبيان محمَّد الدبيان - الرياض، 1432 هـ 548 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجموعة) ج 10 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ. العنوان ديوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (10)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد، فهذا هو المجلد العاشر من عقود المعاوضات ولله الحمد، وقد انتظم به ثلاثة عقود: عقد الجعالة، وعقد الشفعة، وعقد الحوالة. وقد فضلت أن يكون عقد الجعالة بعد عقد الإجارة وذلك لوجود الشبه بينهما، ثم ثنيت بعد ذلك بعقد الشفعة لشبه الشفعة بعقد البيع، فإن الشريك وإن كان ينتزع حصة المشتري بغير رضاه إلا أنه ملزم بدفع العوض لشريكه البائع، وختمت ذلك بعقد الحوالة، وإن كان الراجح في عقد الحوالة أنها من عقود الإرفاق إلا أن الجمهور لما كانوا يرون أنها من قبيل بيع الدين بالدين ألحقتها بعقود المعاوضات. هذا وسوف تكون خطة البحث في هذا المجلد على النحو التالي: عقد الجعالة: التمهيد: ويشتمل على مباحث: المبحث الأول: تعريف الجعالة. المبحث الثاني: في مشروعية الجعالة. المبحث الثالث: الفرق بين الجعالة والإجارة. الباب الأول: في أركان الجعالة. الفصل الأول: في شروط الصيغة. المبحث الأول: في اشتراط الإيجاب دون القبول.
المبحث الثاني: إذا عمل العامل بلا إيجاب من الجاعل. الفرع الأول: أن يردها بلا إيجاب من المالك ولا من غيره. الفرع الثاني: أن يكون الإيجاب من غير المالك. الفرع الثالث: إذا لم يسمع العامل إيجاب الجاعل. المبحث الثالث: في اشتراط اللفظ في صيغة الجعالة. المبحث الرابع: التعليق في صيغة الجعالة. الفصل الثاني: في شروط العاقدين. المبحث الأول: في شروط الجاعل. المبحث الثاني: في شروط العامل. الفصل الثالث: فيما يشترط في العمل. الشرط الأول: أن يكون العمل مباحًا. الشرط الثاني: في اشتراط المنفعة للجاعل. الشرط الثالث: في اشتراط القدرة على التسليم. الشرط الرابع: في اشتراط أن يكون في العمل تعب وكلفة. الشرط الخامس: في اشتراط توقيت العمل. الفصل الرابع: في شروط الجعل (العوض). الشرط الأول: العلم بالجعل. الشرط الثاني والثالث: في اشتراط الطهارة والقدرة على التسليم. الشرط الرابع: في نقد الجعل.
فرع: في مقدار الجعل في رد الآبق. الباب الثاني: في أحكام الجعالة. الفصل الأول: حكم عقد الجعالة من حيث اللزوم وعدمه. الفصل الثاني: العامل في الجعالة أمين. الفصل الثالث: الزيادة والنقصان في الجعل قبل فراغ العمل. الفصل الرابع: ما يستحقه العامل إذا تلف الجعل. الفصل الخامس: في حبس المتعاقد لاستيفاء الجعل. الفصل السادس: في استحقاق الجعل قبل إتمام العمل. الفصل السابع: في اختلاف الجاعل والعامل. المبحث الأول: الاختلاف في أصل العقد. المبحث الثاني: إذا اختلفا في قدر الجعل. الفصل الثامن: في نفقة العامل على مال الجعالة. الفصل التاسع: في الجعل على إخراج الجان وحل السحر. الفصل العاشر: في مشارطة الطبيب على برء المريض. الفصل الحادي عشر: إذا تعذر التسليم للجاعل. الفصل الثاني عشر: في الجعالة الفاسدة. الفصل الثالث عشر: في مشاركة العامل في العمل. المبحث الأول: مشاركة العامل في العمل. المبحث الثاني: إذا اشترك اثنان ولم يعين العامل.
الباب الثالث: في الانتهاء من عقد الجعالة. الفصل الأول: انتهاء الجعالة بإتمام العمل. الفصل الثاني: انتهاء الجعالة بالفسخ. المبحث الأول: فسخ الجعالة قبل الشروع في العمل. المبحث الثاني: فسخ الجعالة بعد الشروع في العمل. المبحث الثالث: فسخ الجعالة بعد إتمام العمل. المبحث الرابع: فسخ الجعالة بالموت. الفرع الأول: انفساخ الجعالة بموت الجاعل. الفرع الثاني: انفساخ الجعالة بموت العامل. عقد الشفعة: تمهيد. المبحث الأول: في تعريف الشفعة. المبحث الثاني: الشفعة على وفق القياس. المبحث الثالث: الحكمة من مشروعية الشفعة. الباب الأول: في أركان الشفعة. الفصل الأول: في تحديد أركان الشفعة. الفصل الثاني: في صيغة طلب الشفعة. الفصل الثالث: في التراخي في طلب الشفعة. الفصل الرابع: في تقدير مدة التراخي.
الباب الثاني: في أحكام الشفيع. الفصل الأول: من يملك حق الشفعة. الفصل الثاني: الشفعة لغير المسلم. الفصل الثالث: الشفعة للبدوي. الفصل الرابع: الشفعة للغائب. مبحث: الواجب على الشفيع الغائب إذا علم بالبيع. الفصل الخامس: الشفعة للصغير. مبحث: حق الولي في العفو عن الشفعة. الفصل السادس: حق الحمل في الشفعة. الفصل السابع: في شفعة المريض والمحبوس. الفصل الثامن: في تعدد الشفعاء. المبحث الأول: تعدد الشفعاء مع اختلاف سبب الشفعة. المبحث الثاني: تعدد الشفعاء مع اتحاد سبب الشفعة. الفصل التاسع: في الشريك يشتري نصيب أحد الشركاء. الفصل العاشر: إذا أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري. الفصل الحادي عشر: ما يأخذه الشفيع إن كان الثمن مؤجلًا. الفصل الثاني عشر: إذا حط البائع أو زاد بعد البيع. الفصل الثالث عشر: إذا اختلف البائع والمشتري بالثمن. الفصل الرابع عشر: إذا اختلف المشتري والشفيع.
الباب الثالث: في أحكام المشفوع فيه. الفصل الأول: الشفعة في العقار. المبحث الأول: الشفعة في العقار الذي لا يقبل القسمة. المبحث الثاني: الشفعة في البناء المتعدد الأدوار. الفصل الثاني: الشفعة في المنقول. المبحث الأول: أن يباع المنقول منفردًا. المبحث الثاني: أن يباع المنقول مع العقار. الفرع الأول: أن يباع المنقول تبعًا للأرض. الفرع الثاني: أن يباع المنقول مع الأرض والمنقول ليس تابعًا. المسألة الأولى: أن يكون المنقول من الثمار والزرع. المسألة الثانية: أن يكون المنقول غير التابع ليس من الثمار. الفصل الثالث: الشفعة في شركة الوقف. المبحث الأول: في أخذ الوقف بالشفعة إذا بيع الوقف. المبحث الثاني: في أخذ الواقف الطلق بالشفعة. الفصل الرابع: الشفعة في شركة المضاربة. المبحث الأول: إذا كان الشفيع رب المال والمشتري هو المضارب. المبحث الثاني: أخذ المضارب الشفعة لنفسه ما اشتراه للمضاربة. الفصل الخامس: في الشفعة في عقارين بيعا صفقة واحدة. المبحث الأول: أن يكون الشريك شفيعًا فيهما.
المبحث الثاني: أن يكون الشريك شفيعًا في أحدهما. الباب الرابع: في أحكام المشفوع عليه. الفصل الأول: تعريف المشفوع عليه. الفصل الثاني: أن يكون ملك المشفوع عليه طارئًا. الفصل الثالث: أن يكون البيع لازمًا. المبحث الأول: الأخذ بالشفعة في زمن الخيار. الفرع الأول: الأخذ بالشفعة إذا كان الخيار للبائع أولهما. الفرع الثاني: في الأخذ بالشفعة إذا كان الخيار للمشتري. الفصل الرابع: أن يملك المشتري المبيع. المبحث الأول: أن يملكة بعوض مالي. الفرع الأول: أن يملكة عن طريق البيع. الفرع الثاني: أن يكون ملك المشتري له في معني البيع. المسألة الأولى: أن ينتقل عن طريق الصلح الذي بمعني البيع. المسألة الثانية: أن يملك المشتري المبيع عن طريق هبة الثواب. المبحث الثاني: أن يملك المشتري المبيع بعوض غير مالي. المبحث الثالث: أن يملك المشتري المشفوع فيه بغير عوض. الفصل الخامس: أن يملك المشتري المبيع بعقد صحيح. الفصل السادس: إذا تغير المبيع في يد المشتري. المبحث الأول: إذا تغير بزيادة.
الفرع الأول: إذا تغير بزيادة لا تدوم كالزراعة. الفرع الثاني: في استحقاق الشفيع الأجرة مقابل بقاء الزرع. الفرع الثالث: إذا تغير بزيادة تدوم كالبناء والغراس. المبحث الثاني: إذا تغير المبيع بنقص. الفرع الأول: إذا كان النقص بآفة سماوية. الفرع الثاني: إذا كان النقص بفعل آدمي. الفصل السابع: إذا انتقل المبيع من يد المشتري. المبحث الأول: إذا انتقل بما تستحق به الشفعة كالبيع ونحوه. المبحث الثاني: إذا انتقل بما لا تستحق به الشفعة كالوقف. المبحث الثالث: إذا انتقل المبيع من يد المشتري بالإقالة. المبحث الرابع: إذا رد المشتري المبيع بسبب العيب. الباب الخامس: في مسقطات الشفعة. الفصل الأول: في تنازل الشفيع عن الشفعة. المبحث الأول: في تنازل الشفيع قبل البيع. المبحث الثاني: في تنازل الشفيع عن الشفعة بعد البيع. الفرع الأول: إسقاط الشفيع شفعته صراحة. الفرع الثاني: إسقاط الشفيع شفعته دلالة وضمنا. الفصل الثاني: التنازل عن الشفعة في مقابل عوض. المبحث الأول: في المعاوضة على حق الشفعة.
المبحث الثاني: بقاء حق الشفعة بعد طلب العوض. الفصل الثالث: سقوط الشفعة بعجز الشفيع عن الثمن. الفصل الرابع: سقوط الشفعة بموت الشفيع. الفصل الخامس: إذا باع الشفيع أو وهب قبل أن يقضي له بالشفعة. المبحث الأول: إذا باع أو وهب نصيبه كله. الفرع الأول: أن يكون الشفيع عالمًا بتصرف شريكه. الفرع الثاني: أن يكون الشفيع غير عالم بتصرف شريكه. المبحث الثاني: إذا باع الشفيع أو وهب بعض نصيبه. الفصل السادس: إسقاط الشفعة بالتحايل على إسقاطها .. عقد الحوالة: التمهيد: ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: تعريف الحوالة. المبحث الثاني: أقسام الحوالة. الباب الأول: في حكم الحوالة. الفصل الأول: في الأدلة على مشروعية الحوالة. الفصل الثاني: في الحكم التكليفي للحوالة. المبحث الثالث: التوصيف الفقهي لعقد الحوالة. الباب الثاني: في أركان الحوالة. الباب الثالث: في شروط الحوالة.
الشرط الأول: في شروط الصيغة (الإيجاب والقبول). المبحث الأول: في اشتراط القبول في عقد الحوالة. المبحث الثاني: في اشتراط لفظ الحوالة. المبحث الثالث: في الحوالة بلفظ البيع. المبحث الرابع: انعقاد الحوالة بلفظ الكفالة. الشرط الثاني: اشتراط الرضا بعقد الحوالة. المبحث الأول: في اشتراط رضا المحيل. المبحث الثاني: في اشتراط رضا المحال. المبحث الثالث: في اشتراط رضا المحال عليه. المبحث الرابع: في فوات الرضا في عقد الحوالة. الشرط الثالث: في اشتراط أن يكون المحيل مدينًا للمحال. الشرط الرابع: في اشتراط أن يكون المحال عليه مدينًا للمحيل. الشرط الخامس: في اشتراط حضور أطراف الحوالة. المبحث الأول: في اشتراط حضور المحال مجلس الحوالة. المبحث الثاني: في اشتراط حضور المحال عليه. الشرط السادس: في اشتراط ملاءة المحال عليه. الشرط السابع: في الحوالة على الميت وعلى تركته. الشرط الثامن: أن يكون المحال به دينًا. الشرط التاسع: أن يكون المحال عليه دينًا.
الشرط العاشر: في اشتراط اللزوم والاستقرار في دين الحوالة. المبحث الأول: في اشتراط أن يكون دين المحيل لازما مستقرا. المبحث الثاني: في اشتراط أن يكون دين المحال عليه لازمًا مستقرًا. الشرط الحادي عشر: أن يكون الدين المحال به والمحال عليه معلومًا. الشرط الثاني عشر: كون المال المحال به أو عليه يصح الاعتياض عنه. الشرط الثالث عشر: في اشتراط تماثل الدين المحال به بالمحال عليه. الشرط الرابع عشر: في اشتراط اتحاد الدينين حلولا وأجلا. الشرط الخامس عشر: في اشتراط كون الدين المحال به أو عليه مثليًّا. الباب الرابع: في الشروط الجعلية في الحوالة. الفصل الأول: في اشتراط دوام يسار المحال عليه. الفصل الثاني: في اشتراط الضمان على المحيل. الفصل الثالث: في اشتراط الرجوع على المحيل عند التواء. الباب الخامس: في أحكام الحوالة. الفصل الأول: في لزوم عقد الحوالة. الفصل الثاني: دخول الخيار في عقد الحوالة. الفصل الثالث: في رجوع المحال على المحيل. المبحث الأول: رجوع المحال لفلس المحال عليه. المبحث الثاني: رجوع المحال لجحود المحال عليه. الفصل الرابع: سقوط حق حبس المبيع بالحوالة.
الفصل الخامس: في سقوط الضمان والرهن بالحوالة. الفصل السادس: إذا أحيل بثمن سلعة ثم تبين بطلان البيع. الفصل السابع: إذا أحيل بثمن سلعة ثم فسخ البيع. الفصل الثامن: في هلاك العين المحال عليها في يد المحال عليه. الباب السادس: في انتهاء الحوالة. الفصل الأول: انتهاء الحوالة بالوفاء. المبحث الأول: انتهاء الحوالة بدفع ما أحيل به عليه. المبحث الثاني: انتهاء الحوالة بدفع قيمتها. الفصل الثاني: انتهاء الحوالة بتملك المحال عليه دين الحوالة. الفصل الثالث: انتهاء الحوالة بالإقالة. الفصل الرابع: انتهاء الحوالة بالموت. المبحث الأول: انتهاء الحوالة بموت المحيل. المبحث الثاني: انتهاء الحوالة بموت المحال عليه. المبحث الثالث: انتهاء الحوالة بموت المحال. الفصل الخامس: انتهاء الحوالة بالتوى. الفصل السادس: انتهاء الحوالة بفوات المحال به أو عليه. هذا آخر مبحث في عقد الحوالة من المسائل المختارة، والحمد لله على عونه وتوفيقه، وأسأل الله أن يجعله خالصًا لوجهه، وأن ينفع به عبادة، إنه على كل شيء قدير.
عقد الجعالة
عقد الجعالة * تمهيد * المبحث الأول: تعريف الجعالة تعريف الجعالة اصطلاحا (¬1): تعريف الحنفية: لم يهتم المتقدمون من الحنفية بتعريف الجعالة؛ لأنها غير مشروعة عندهم كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام على مشروعية الجعالة. وقد عرفها علي حيدر بقوله: الجعالة هي عبارة عن التزام التصرف المطلق في عمل معلومًا كان أو مجهولًا لشخص معينًا كان أو غير معين (¬2). تعريف المالكية: عرف بعض المالكية الجعالة: بأنها معاوضة على عمل آدمي، يجب عوضه بتمامه لا بعضه ببعضه (¬3). ¬
تعريف الشافعية
فأخرج بقوله: (عمل آدمي) كراء الرواحل، والسفن، وكراء الأراضي. وقوله: (يجب عوضه بتمامه) أخرج به عقد المساقاة والإجارة لاستحقاق بعضه ببعض فيهما. وأخرج به عقد المضاربة؛ لعدم وجوب عوضه، لجواز أن يتجر ولا يوجد ربح. وعرفها الخرشي: أن يجعل الرجل للرجل شيئًا معلومًا، ولا ينقده إياه، على أن يعمل له في زمن معلوم أو مجهول مما فيه منفعة للجاعل ... على أنه إن أكمله كان له الجعل، وإن لم يتمه فلا شيء له مما لا منفعة للجاعل إلا بعد تمامه" (¬1). قوله: (أن يجعل الرجل للرجل) المراد به: عمل الآدمي، ولو كان غير معين كما سيأتي بيانه، فالعقد في حقيقتة التزام مال في مقابل عملي بصرف النظر عن العامل , فالعقد يرد على منفعة يظن حصولها، ولا يراد فيه عامل بعينه، كمن يلتزم بجعل لمن يرد عليه متاعًا ضائعًا، أو دابة شاردة، أو يبني له حائطًا، أو يحفر له بئرًا، ونحو ذلك. تعريف الشافعية: عرفها بعضهم: بأنها التزام عوض معلوم على عمل معين، أو مجهول يعسر عمله (¬2). ويؤخذ على هذا التعريف: قوله: (التزام عوض) يشعر أن العقد من العقود اللازمة، مع أنه ليس كذلك، ولعله أراد أن العقد يصبح لازمًا، ويستحق العوض إذا فرغ من العمل، لا قبله. ¬
تعريف الحنابلة
قوله: (يعسر عمله) هذا القيد أراد به أن العوض يستحق إن حصل به تعب، وإلا فلا. وهذا القيد لم يذكره بعض الشافعية، وسيأتي تحريره إن شاء الله تعالى عند الكلام على الشروط (¬1). تعريف الحنابلة: جاء في الروض المربع: بأن يجعل جائز التصرف شيئًا متمولًا معلومًا لمن يعمل له عملًا معلومًا كرد عبده من محل كذا، أو بناء حائط كذا، أو عملًا مجهولًا من مدة معلومة أو مجهولة (¬2). وتسمى عند القانونيين: الوعد بالجائزة. ¬
المبحث الثاني في مشروعية الجعالة
المبحث الثاني في مشروعية الجعالة [م - 968] اتفق الأئمة الأربعة على جواز الجعالة في رد الآبق. قال ابن قدامة: "لا نعلم فيه مخالفًا" (¬1). ولم يخالف في ذلك إلا ابن حزم. * وجه المنع عند ابن حزم: يرى ابن حزم أن الجعالة ليست عقدًا، وإنما هي مجرد وعد، ويستحب له الوفاء. قال ابن حزم: "لا يجوز الحكم بالجعل على أحد، فمن قال لآخر: إن جئتني بعبدي الآبق فلك دينار، أو قال: إن فعلت كذا وكذا علي درهم، أو ما أشبه هذا، فجاءه بذلك لم يقض عليه بشيء، ويستحب لو وفى بوعده ... إلا أن يستأجره على طلبه مدة معروفة، أو ليأتيه به من مكان معروف، فيجب له ما استأجره به" (¬2). وستأتي أدلة الجمهور في القول التالي إن شاء الله تعالى. [م - 969] واختلف الأئمة في غير الآبق على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية إلى منع الجعالة في غير الآبق، وأجازوها في الآبق استحسانًا، صيانة للمال من الضياع، فإن رده من مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا، فله عليه جعله ¬
دليل الحنفية في التفريق بين العبد وبين غيره
أربعون درهمًا، وإن رده لأقل من ذلك فبحسابه، وإن رده من أقصى المصر رضخ له قدر عنائه، ولا جعل للسلطان إذا رد آبقًا (¬1). * دليل الحنفية في التفريق بين العبد وبين غيره: استدل الحنفية في استحقاق الجعل على العبد: الدليل الأول: (ث-109) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن رباح، عن أبي عمرو الشيباني، أن رجلا أصاب عبدًا آبقًا بعين التمر، فجاء به، فجعل ابن مسعود فيه أربعين درهمًا (¬2). [صحيح، وهو أصح ما ورد في الباب] (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ث-110) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، وعمرو بن دينار، قالا: جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في العبد الآبق إذا جيء به خارج الحرم دينارًا. [رجاله ثقات إلا أنه مرسل، ويتقوى بأثر ابن مسعود] (¬1). الدليل الثالث: (ح-616) ما رواه البيهقي من طريق خصيف، عن معمر، عن عمرو ابن دينار، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العبد الآبق يوجد في الحرم بعشرة دراهم (¬2). قال البيهقي: [هذا ضعيف، والمحفوظ حديث ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، وعمرو بن دينار، قالا: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وذلك منقطع] (¬3). الدليل الرابع: (ث- 111) روى ابن أبي شيبة، من طريق حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، أن عمر جعل في الأبق دينارًا، أو اثني عشر درهمًا (¬4). ¬
الدليل الخامس
[إسناده ضعيف جدًّا، دلسه حجاج بن أرطأة عن العرزمي] (¬1). الدليل الخامس: (ث-112) روى ابن أبي شيبة من طريق حجاج، عن حصين، عن الشعبي، عن الحارث، عن علي مثله (¬2). [ضعيف، فيه حجاج، والحارث الأعور]. هذه تقريبًا أدلة الحنفية في القول بالجعل في العبد الآبق خاصة، ولم يقيسوا على الآبق غيره لسببين: الأول: أن القول في العبد الآبق جرى استحسانًا، وهو على خلاف القياس؛ لأن القياس ألا يكون له شيء إلا بالشرط (¬3). الثاني: أن الجعالة في غير العبد لا تخرج عن كونها: إما إجارة باطلة لا يترتب عليها أي أثر، وكان العقد لم ينعقد، وذلك إذا لم يعين العامل، بأن كانت الصيغة عامة، من دلني على كذا فله كذا؛ وقد بنى الحنفية القول بالبطلان على ثلاثة أشياء: ¬
(1) أنها عقد مع مجهول، وهذا لا يصح. (2) افتقار العقد بهذه الصيغة إلى قبول، والعقد لا يتم إلا بإيجاب وقبول. (3) تعليق استحقاق المال بالخطر (وهو وجود الضال)، وقد يجده، وقد لا يجده، وهو من القمار المحرم. وإما أن تكون الجعالة إجارة فاسدة وذلك إذا عين العامل. وفساد العقد جاء من كون العمل فيه غير مقدر بقدر. والعقد الفاسد يفسخ قبل التلبس بالعقد، ويستحق فيه العامل أجرة المثل بعد الشروع؛ ولا يستحق فيه المسمى؛ لفساد العقد. قال السرخسي: "هذا شيء يأباه القياس؛ لأن العقد مع المجهول لا ينعقد، وبدون القبول كذلك ... ثم هذا تعليق استحقاق المال بالخطر، وهو قمار، والقمار حرام في شريعتنا، ولهم يكن حراما في شريعة من قبلنا" (¬1). وجاء في حاشية ابن عابدين: "رجل ضل له شيء، فقال: من دلني على كذا فله كذا، فهو على وجهين: إن قال ذلك على سبيل العموم، بأن قال: من دلني، فالإجارة باطلة؛ لأن الدلالة والإشارة ليست بعمل يستحق به الأجر. وإن قال على سبيل الخصوص، بأن قال لرجل بعينه: إن دللتني على كذا فلك كذا، إن مشى له فدله فله أجر المثل للمشي لأجله؛ لأن ذلك عمل يستحق بعقد الإجارة، إلا أنه غير مقدر بقدر، فيجب أجر المثل، وإن دله بغير مشي، فهو والأول سواء" (¬2). أي لا يستحق شيئا. ¬
القول الثاني
وقال الكاساني: "أما أصل الاستحقاق فثابت عندنا استحسانًا، والقياس ألا يثبت أصلًا، كما لا يثبت برد الضالة ... لأن جعل الآبق طريق صيانة عن الضياع؛ لأنه لا يتوصل إليه بالطلب عادة. إذ ليس له مقام معلوم يطلب هناك، فلو لم يأخذه لضاع، ولا يؤخذ لصاحبه، ويتحمل مؤنة الأخذ والرد عليه مجانًا بلا عوض عادة، وإذا علم أن له عليه جعلًا يحمل مشقة الأخذ والرد طمعًا في الجعل، فتحصل الصيانة عن الضياع، فكان استحقاق الجعل طريق صيانة الآبق عن الضياع، وصيانة المال عن الضياع واجب ... بخلاف الضالة؛ لأن الدابة إذا ضلت، فمنها ترعى في المراعي المألوفة، فيمكن الوصول إليها بالطلب عادة، فلا تضيع دون الأخذ، فلا حاجة إلى الصيانة بالجعل" (¬1). القول الثاني: ذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة إلى جوازه مطلقًا في الآبق وغيره (¬2). واستدلوا على ذلك بأدلة من الكتاب والسنة: الدليل الأول: قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)} [يوسف: 72]. ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قال ابن كثير: قوله: " {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف: 72]، هذا من باب الجعالة، {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} هذا من باب الكفالة" (¬1). وشرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يات في شرعنا ما ينسخه، كيف وقد جاء فيه ما يؤيده كما في الدليل الآتي. وأجيب عن الآية: الجواب الأول: أجاب الحنفية عن هذه الآية بأن القمار كان حلالًا في شريعة من قبلنا، وقد حرم في شريعتنا. وأما ابن حرم فلا يرى الاحتجاج بشريعة من قبلنا، لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] الجواب الثاني: أن حمل البعير مجهول، والمخالف يشترط أن يكون العوض معلوما، فهذا الحمل لا يدرى مم هو؟ أمن اللؤلؤ، أو من ذهب، أو من رماد، أو من تراب؟ ولا أي البعران هو؟ ومن البعران الضعيف الذي لا يستقل بعشرين صاعا، ومنهم القوي الصحيح الذي يستقل بثلاثمائة صاع (¬2). ورد هذا الجواب: بأن حمل البعير كان معلوما عندهم، كالوسق، ولذلك قال إخوة يوسف: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} [يوسف: 65]. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-617) ما رواه البخاري من طريق أبي بشر، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أن ناسًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أتوا على حي من أحياء العرب، فلم يقروهم، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا: هل معكم من دواء أو راق؟ فقالوا: إنكم لم تقرونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلًا، فجعلوا لهم قطيعًا من الشاء، فجعل يقرأ بأم القرآن، ويجمع بزاقه ويتفل، فبرأ، فأتوا بالشاء، فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسألوه، فضحك، وقال: وما أدراك أنها رقية؟! خذوها، واضربوا لي بسهم (¬1). وجه الاستدلال: قوله: (حتى تجعلوا لنا جعلا) فدل الحديث على جواز الجعالة على أعمال القرب، فغيرها من باب أولى. وأجيب عن الحديث بجوابين: الجواب الأول: أجاب ابن حزم بأن هذا الحديث صحيح إلا أنه لا حجة لهم فيه؛ لأنه ليس فيه إلا إباحة أخذ ما أعطى الجاعل على الرقية فقط، وهكذا نقول، وليس فيه القضاء على الجاعل بما جعل إن أبى أن يعطيه (¬2). ويرد على هذا: لو كان دفع الجعل مكافأة وتبرعًا من القوم لم يكن في الدليل حجة، وصح اعتراض ابن حرم، وإنما كان الجعل عن عقد واشتراط قبل العمل، ولو كان ¬
الجواب الثاني
اشتراط الجعل حرامًا لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما لم يبين علم أن اشتراط الجعل جائز، والله أعلم. الجواب الثاني: قال ابن عرفة: "تمسك به غير واحد من أشياخ المذهب في جواز الجعل، وفيه نظر؛ لجواز كون إقراره - صلى الله عليه وسلم - لاستحقاقهم إياه بالضيافة، فأجاز لهم استخلاص ذلك بالرقية رخصة اتفاقًا" (¬1). ويرد على الاعتراض: لو كان الجواز لاستحقاقهم إياه بالضيافة لبين ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمة، ولو بينه لنقل، فلما أقرهم عليه، وكان ذلك مطلقًا حمل ذلك على الجواز. الدليل الثالث: (ح-618) ما رواه البخاري من طريق يحيى بن سعيد، عن ابن أفلح، عن أبي محمد، مولى أبي قتادة، عن أبي قتادة - رضي الله عنه -، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حنين، وفيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قتل قتيلًا له عليه بينة، فله سلبه (¬2). وجه الاستدلال: جازت الجعالة مع أن العوض مجهول هنا؛ والشرط في صحة الجعالة عند الجمهور أن يكون العوض معلومًا؛ لأنه من مال الكفار. قال ابن قدامة: "إن جعله من مال المسلمين لم يجز إلا معلومًا مقدرًا، ¬
الدليل الرابع
كالجعل في المسابقة، ورد الضالة، وإن كان من الكفار جاز مجهولًا؛ لأن النبي جعل الثلث والربع وسلب المقتول، وهو مجهول؛ ولأنه لا ضرر فيه على المسلمين، فجاز مع الجهالة، كسلب القتيل" (¬1). الدليل الرابع: احتج ابن قدامة بالإجماع على جواز الجعالة في رد العبد الآبق، قال ابن قدامة: "وهذا قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، ولا نعلم فيه مخالفًا" (¬2). فغيره إما مثله، أو مقيس عليه. ويجاب: هذا الدليل حجة على الحنفية حيث منعوا الجعالة؟ وأجازوها في رد العبد الآبق، حيث يقال في الرد عليهم: لا فرق في المال بين العبد وغيره، فصيانة المال مأمور بها الإنسان، ولا يعتبر هذا الدليل حجة على ابن حزم حيث يمنع الإلزام بالجعالة في العبد الآبق وغيره، وخلافه يخرق الإجماع، والله أعلم. الدليل الخامس: من النظر: فإن الحاجة تدعو إلى ذلك، فإن العمل قد يكون مجهولًا، كرد الآبق والضالة ونحو ذلك، ولا تنعقد الإجارة فيه، والحاجة داعية إلى ردهما، وقد لا يجد من يتبرع به، فدعت الحاجة إلى إباحة بذل الجعل فيه مع جهالة العمل. الدليل السادس: القياس على عقد المضاربة، قال إمام الحرمين: "وإذا كنا نحتمل جهالة ¬
الراجح
القراض (المضاربة) توصلًا إلى تحصيل الأرباح من غير اضطرار، وإرهاق إليها، فجهالة الجعالة أولى بالاحتمال" (¬1). * الراجح: جواز عقد الجعالة، لشدة الحاجة إليها، ولقوة أدلة القائلين بالجواز. ¬
المبحث الثالث الفرق بين الجعالة والإجارة
المبحث الثالث الفرق بين الجعالة والإجارة [م - 970] الجعالة نوع من الإجارة، فهي دفع عوض في مقابل عمل آدمي، إلا أنها تفترق عن الإجارة ببعض الفروق، ذكر العلماء منها: الأولى: الجعالة عقد جائز، ولا يكون لازمًا إلا بتمام العمل على الصحيح، بخلاف الإجارة فهي عقد لازم ليس لأحد المتعاقدين الفسخ إلا بالتراضي. الثاني: يشترط في الإجارة تعيين العامل، فلا تصح مع جهالة الأجير، بخلاف الجعالة فتصح مع إبهام العامل، كان يقول: من رد مالي فله كذا. الثالث: الجعالة لا يشترط لصحتها العلم بالعمل المجاعل عليه، بخلاف الإجارة فإنها يشترط أن يكون العمل فيها معلوما. الرابع: يشترط في الإجارة أن تكون مدة العمل معلومة، بخلاف الجعالة، فمنه لا يشترط فيها معرفة مدة العمل. الخامس: لا يستحق العامل في الجعالة إلا بتمام العمل، خلافا للإجارة فيستحق الأجر على قدر العمل إلا إذا شارطه على الإتمام. السادس: منع بعض الفقهاء في عقد الإجارة الجمع بين تقدير المدة والعمل، كأن يقول: من خاط هذا الثوب في يوم فله كذا، وأجاز الحنابلة في عقد الجعالة الجمع بين تقدير المدة والعمل. السابع: أجاز الفقهاء تقديم الأجرة في عقد الإجارة، ومنع المالكية تقديم دفع الأجرة في عقد الجعالة.
الثامن: ذكر الشافعية بأنه لا يشترط في عقد الجعالة قبول العامل، وإن كان العامل معينًا، فمن سمع النداء من الجاعل أو علم به، فله أن يباشر العمل دون أن يتلفظ بالقبول، وأما في عقد الإجارة فلا تنعقد عندهم إلا بالقبول المطابق للإيجاب كالبيع (¬1). ¬
الباب الأول في أركان الجعالة
الباب الأول في أركان الجعالة [م - 971]، يقع بين الحنفية والجمهور خلاف في تحديد أركان العقد، تكلمنا عليه فيما سبق في كل من عقد البيع، والإجارة، والسلم، وغيرها، فإذا خرج الحنفية من عقد الجعالة باعتبارهم لا يقولون بجوازها، فلا يوجد خلاف بين الجمهور في تحديد أركان الجعالة: والأركان عندهم أربعة: أحدها: الصيغة. الثاني: المتعاملان (الجاعل، والمجعول له). الثالث: العمل. الرابع: الجعل (¬1). قال في الشرح الصغير: "أركانها أربعة كالإجارة، العاقد، والمعقود عليه، وبه (العوض) وما يدل على الصيغة" (¬2). وجاء في نهاية المحتاج: "وأركانها أربعة: صيغة، ومتعاقدان، وعمل، وعوض" (¬3). ¬
ولكل واحد من هذه الأركان شروط سوف نتعرض لها في المباحث التالية إن شاء الله تعالى. ***
الفصل الأول في شروط الصيغة
الفصل الأول في شروط الصيغة المبحث الأول في اشتراط الإيجاب دون القبول [م - 972] الجعالة: التزام بإرادة واحدة من الجاعل، فلا تنعقد إلا بإيجاب من الجاعل، ولا يشترط قبول العامل، وإن عينه الجاعل. جاء في حاشية قليوبي وعميرة: "فلا يشترط قبول العامل، ولو كان معينا" (¬1). ويصح الإيجاب، سواء كان موجهًا لشخص معين، أو لغير معين. جاء في تهذيب المدونة: "ومن قال لرجل: إن جئتني، أو قال: من جاءني بعبدي الآبق، فله أو فلك عشرة دنانير، وسمى موضعا هو فيه، أو لم يسم، ولم يعرف السيد موضعه، جاز ذلك، ولمن جاء به العشرة" (¬2). ولم يشترط الفقهاء القبول؛ لما فيه من التضييق قي محل الحاجة (¬3). فلو سمع قائلاً يقول: من يأتيني بعبدي الآبق مثلًا، فله كذا، فأتاه به من غير تواطؤ معه، ولا حصول قبول منه، فإنه يستحق الجعل (¬4). ¬
ولما كان القبول ليس شرطًا في العقد لم يشترط تطابق الإيجاب والقبول، فلو قال الجاعل: إن رددت ضالتي فلك دينار. فقال العامل: أردها بنصف دينار، فالراجح القطع باستحقاقه للدينار؛ لأن القبول لا أثر له في الجعالة. ***
المبحث الثاني إذا عمل العامل بلا إيجاب من الجاعل
المبحث الثاني إذا عمل العامل بلا إيجاب من الجاعل الفرع الأول أن يردها بلا إيجاب من المالك ولا من غيره [م - 973] اختلف العلماء في الرجل يرد الضالة بلا إذن صاحبها على أقوال: القول الأول: لا يستحق العامل الجعل في رد الضال، ويستحق الجعل في رد العبد الآبق، سواء كان معروفا بطلب الإباق، أو لم يكن معروفا، إلا أن يكون الراد هو الإمام فلا يستحق شيئا؛ لانتصابه للمصالح. وهذا مذهب الحنفية (¬1). وسبق أن ذكرنا أدلتهم في التفريق بين العبد وبين غيره في مسألة حكم الجعالة عند الفقهاء. القول الثاني: ذهب المالكية إلى التفصيل: إن كان منتصبًا للعمل استحق جعل مثله، في الضال والآبق، وإن لم يكن منتصبا للعمل استحق النفقة فقط، وقيل: لا نفقة له اختاره بعضهم (¬2). * وجه قول المالكية: أن هذا عمل لم يتفق فيه على مقدار الجعل، وكل عمل لم يتفق فيه على ¬
القول الثالث
عوض مقدر، يرجع فيه إلى جعل المثل، أصله الإجارة، وما ورد في الأثر من التقدير بالدينار يؤخذ منه أن له الجعل، وإن لم يشترط، وذكر الدينار ليس على سبيل التقدير، بل لأنه جعل مثله في ذلك الوقت. واشترطنا أن يكون الجاعل منتصبًا للعمل؛ لأنه لما لم يكن هناك عقد واتفاق، كان العرف الجاري يقوم مقام القول، فصار كنقد البلد، وكما لو دخل حمامًا، أو جلس في سفينة ملاح؛ لأن شاهد الحال يقتضيه، فصار كالتعويض، فإن لم يكن منتصبًا لم يستحق الأجرة إلا بالشرط؛ لأنه لم يجر عرف يقوم مقام العقد، فصار كما لو تبرع به (¬1). القول الثالث: ذهب الشافعية إلى أن الجاعل لا يستحق شيئًا، لا في الضال، ولا في الآبق مطلقًا، سواء أكان الراد معروفًا برد الضوال والآبقين، أم لا. وهذا مذهب الشافعية (¬2). * وجه قول الشافعية: (ح-619) قال الماوردي: "دليلنا عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" (¬3). ¬
القول الرابع
ولأن العامل متبرع قد بذل منفعته دون أن يلتزم له أحد بدفع عوض، فلم يستحق شيئا. القول الرابع: ذهب الحنابلة إلى أنه لا يستحق شيئا في رد الضال، واستثنوا مسألتين: الأولى: في رد الإباق فإنه يستحق مطلقا ولو لم يأذن صاحبه، سواء أكان معروفا برد الإباق أم لا، إلا أن يكون الراد الإمام. الثانية: إذا قام العامل بتخليص متاع غيره من الهلكة، كإنقاذه من الغرق، أو من الحريق؛ فله أجرة مثله؛ لأن فيه حثا، وترغيبا في إنقاذ الأموال من الإتلاف (¬1). جاء في شرح منتهى الإرادات: "وإن عمل شخص -ولو المعد لأخذ أجرة على عمله- لغيره عملاً بلا إذن، أو بلا جعل ممن عمل له، فلا شيء له؛ لتبرعه ¬
الراجح
بعمله حيث بذله بلا عوض، ولئلا يلزم الإنسان ما لم يلتزمه، ولم تطب به نفسه، إلا في تخليص متاع، ولو كان المتاع قنًا من بحر، أو فم سبع، أو فلاة يظن هلاكه في تركه، فله أجرة مثله؛ لأنه يخشى من هلاكه، وتلفه على مالكه بخلاف اللقطة، وفيه حث وترغيب في إنقاذ الأموال من الهلكة، وإلا في رد آبق من قن، ومدبر، وأم ولد إن لم يكن الراد الإمام" (¬1). * الراجح: لعل قول الحنابلة أقرب الأقوال إلى الصواب، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني أن يكون الإيجاب من غير المالك
الفرع الثاني أن يكون الإيجاب من غير المالك [م - 974] إذا قال أجنبي: من رد عبد فلان فله كذا لزمه العوض، لا فرق بين أن يقول: فله عليَّ، أو فله كذا. قال النووي: "لو قال غير المالك: من رد عبد فلان، فله كذا، استحقه الراد على القائل" (¬1). وفي حاشية الجمل: "وظاهر كلام المصنف أنه يلزم غير المالك العوض, وإن لم يقل: علي" (¬2). وفي نهاية المحتاج: "قال الخوارزمي في الكافي، ولو قال: الفضولي: من رد عبد فلان فله علي دينار، أو قال: له دينار. فمن رده استحق على الفضولي ما سمى" (¬3). أما لو قال الفضولي: قال المالك فلان: من رد عبدي فله كذا، لم يستحق الراد على الفضولي شيئًا، وأما المالك فمن صدقه لزمه العوض، وإلا فلا. قال النووي: "ولو قال فضولي: قال فلان: من رد عبدي، فله كذا، لم يستحق الراد على الفضولي شيئًا؛ لأنه لم يلتزم به. وأما المالك: فإن كذب الفضولي عليه، فلا شيء عليه، وإن صدق، قال البغوي: يستحق عليه، وكأن هذا فيما إذا كان المخبر ممن يعتمد قوله، وإلا فهو كما لو رد غير عالم بإذنه" (¬4). ¬
الفرع الثالث إذا لم يسمع العامل إيجاب الجاعل
الفرع الثالث إذا لم يسمع العامل إيجاب الجاعل [م - 975] هل استحقاق العوض مرتب على التزام الجاعل به، علم به العامل أو لم يعلم؟ أو أن العوض لا يستحقه العامل إلا بأمرين: التزام من الجاعل بالعوض، واطلاع من العامل بهذا الالتزام. اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: إذا قال المالك: من وجد مالي فله كذا وكذا، فرده من لم يعلم بقوله لم يستحق شيئًا؛ لأنه متطوع بالرد من غير عوض. ومن بلغه الجعل في أثناء العمل فإنه يستحق من الجعل بنسبة ما أتمه من العمل بعد العلم بالإذن، ولا يستحق شيئًا عن العمل الحادث قبل علمه بالجعل. وهنا مذهب الشافعية، والحنابلة (¬1). واستثنى الحنابلة مسألتين سبق ذكرهما: الأولى: في رد الإباق فإنه يستحق مطلقا، أذن صاحبه أو لم يأذن. الثانية: إذا قام العامل بتخليص متاع غيره من الهلكة، كإنقاذه من الغرق، أو من الحريق؛ فله أجرة مثله (¬2). ¬
القول الثاني
وفي كشاف القناع: "ومن فعله: أي العمل المجاعل عليه قبل أن يبلغه الجعل لم يستحقه، أي الجعل، ولا شيئًا منه؛ لأنه متبرع بعمله، وحرم عليه أخذه، أي الجعل؛ لأنه من أكل المال بالباطل، وسواء رده قبل بلوغ الجعل، أو بعده، إذ الجعل في مقابلة العمل، لا التسليم" (¬1). وجاء في الإقناع: "فمن فعله بعد أن بلغه الجعل استحقه كدين، وفي أثنائه يستحق حصة تمامه" (¬2). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن العامل إن سمع المالك استحق المسمى، وإن لم يسمعه، وكان منتصبًا للعمل استحق جعل مثله، وإن كان لم يكن ذلك من عادته استحق النفقة فقط. هذا هو المشهور عند المالكية (¬3). القول الثالث: حكى ابن حبيب، عن ابن الماجشون وأصبغ من المالكية أن له الجعل المسمى، وإن لم يعلم به (¬4). وسبق ذكر أدلتهم في مسألة سابقة، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في اشتراط اللفظ في صيغة الجعالة
المبحث الثالث في اشتراط اللفظ في صيغة الجعالة الأصل في العقود من المعاملات المالية أنها تنعقد بكل ما دل على مقصودها، من قول، أو فعل (¬1). [م - 976] اختلف الفقهاء في اشتراط اللفظ في صيغة الجعالة على قولين: القول الأول: لا يشترط في الإيجاب اللفظ، بل تصح الجعالة بكل ما يدل على إذن بالعمل بعوض معلوم. قال الصاوي في الشرح الصغير: "وقوله: (من صيغة) ... ولا يشترط فيها اللفظ كالإجارة" (¬2). القول الثاني: طرد الشافعية مذهبهم فاشترطوا اللفظ، وجعلوا الكتابة والإشارة المفهمة من الأخرس قائمة مقام الصيغة. واشترطوا في الكتابة أن ينوي بها الجعالة؛ لأنها من ألفاظ الكنايات، والكنايات يشترط أن يقترن بها نية بخلاف الصريح. قال في تحفة المحتاج: "وأما الناطق إذا كتب ذلك، ونواه، فإنه يصح منه" (¬3). ¬
والراجح
وعللوا ذلك بأن الجعالة معاوضة، فافتقرت إلى صيغة تدل على المطلوب. والراجح: القول الأول.
المبحث الرابع التعليق في صيغة الجعالة
المبحث الرابع التعليق في صيغة الجعالة قال ابن القيم: تعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات وغيرها بالشروط أمر قد تدعو إليه الضرورة أو الحاجة أو المصلحة، فلا يستغني عنه المكلف (¬1). وقال السعدي: التعليق للعقود كلها بالشروط المعلومة غير المجهولة جائز لا محذور فيه (¬2). [م - 977] سبق لنا في عقد البيع أن الأئمة الأربعة لا يجيزون تعليق البيع على شرط، مثل: بعتك إن قدم زيد (¬3). واستثنى الحنفية والمالكية تعليق البيع على رضا شخص، أو مشورته (¬4). ¬
وأما تعليق صيغة الجعالة فذهب عامتهم إلى جوازها، كما لو قال: إن رددت عبدي فلك كذا، وعللوا ذلك: بأنها تعليق استحقاق بشرط كالوصية (¬1). قال الزركشي في القواعد: "وأما التعليق في الجعالة، والخلع، ونحوهما، فلأنه التزام يشبه النذر" (¬2). وقال في الفروع: "الجعالة: أن يجعل معلومًا كأجرة، كمن رد عبدي، أو بنى لي هذا فله كذا أو مائة؛ لأنه في معنى المعاوضة، لا تعليقًا محضًا" (¬3). وقال البهوتي: "أو جعله لغير معين بأن يقول: من رد لقطتي، أو وجدها, فله كذا ... فيصح العقد مع كونه تعليقاً؛ لأنه في معني المعاوضة , لا تعليقًا محضًا" (¬4). وخالف في ذلك ابن حجر الهيتمي من الشافعية، فقال تعليقًا على تشبيه ¬
والراجح
الجعالة بالقراض في عدم تأقيت الصيغة: "ويؤخذ من التشبيه بالقراض، أنه لا يصح تعليقها، وهو ظاهر، ولم أر من تعرض له" (¬1). * والراجح: صحة التعليق في العقود كلها، ومنه الجعالة، بل إن من العقود لا يقع إلا معلقًا كالوصية والجعالة، فالأول على الموت، والثاني على إنجاز العمل. قال ابن القيم: "ولا يمتنع تعليق الاختيار على الشرط، كما يصح تعليق الجعالة والولاية والوكالة والعتق والطلاق، وكذلك يصح تعليق الرجعة بالشرط ... " (¬2). على أن الجعالة من طبيعتها أن تكون الصيغة معلقة؛ لأن استحقاق الجعل معلق على القيام بالعمل والفراغ منه، والعامل فيه غالبًا غير معين، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني في شروط العاقدين
الفصل الثاني في شروط العاقدين المبحث الأول في شروط الجاعل [م - 978] يشترط في الجاعل: أهلية الاستئجار والعمل. قال في حاشية العدوي: "وشرط العاقد التأهل لعقد الإجارة صحة، ولزوما" (¬1). وقال في البهجة شرح التحفة: "أركان الجعل ثلاثة: عاقد، وشرطه: أهلية البيع، والعمل" (¬2). وكان اختلاف الفقهاء راجعًا إلى اختلافهم في تحقيق هذا الشرط، فهم متفقون على اشتراط أن يكون الجاعل جائز التصرف، مختلفون في الصبي المميز، هل تحققت فيه أهلية التصرف، وهل الإكراه يؤثر في الأهلية، وسوف نبحث هاتين المسألتين كل واحدة منها في مبحث مستقل. المسألة الأولى: [م - 979] اختلف الفقهاء في الجاعل إذا كان صبيًّا مميزًا على ثلاثة أقوال: ¬
القول الأول
القول الأول: ذهب المالكية إلى أن الصبي المميز له أهلية العقد، فالتمييز شرط لصحة العقد، والتكليف شرط للزومه، فيصح عقد الجعالة من الصبي المميز، ويكون موقوفًا على إجازة الولي (¬1). قال الخرشي: "وشرط عاقده تمييز ... ولزومه تكليف " (¬2). القول الثاني: مذهب الشافعية: يشترط في الجاعل عند الشافعية أن يكون صحيح التصرف فيما يجعله عوضًا. قال في مغني المحتاج: "يشترط في الملتزم للجعل مالكًا كان أو غيره أن يكون مطلق التصرف، فلا يصح من صبي، ومجنون، ومحجور وسفيه" (¬3). فالشافعية يمنعون الصبي من التصرف مطلقًا، سواء أكان مميزًا أم غير مميز، وسواء أكان مأذونًا له أم لا، وإنما الذي يباشر العقد عنه وليه. وسبق ذكر أدلتهم في عقد البيع، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. القول الثالث: مذهب الحنابلة: اشترط الحنابلة في الجاعل أن يكون جائز التصرف (¬4). ¬
المسألة الثانية: اشتراط الاختيار.
قال في مطالب أولي النهى: "وإن قال جائز التصرف لزيد مثلًا: إن رددت لقطتي فلك ذلك ... " (¬1). فاعتبر القول إذا كان صادرًا من جائز التصرف (¬2). إلا أنهم نصوا على أن الإجارة من الصبي المميز لا تصح إلا إذا كانت مبنية على إذن سابق (¬3). لأن الصبي إذا لم يؤذن له في التصرف كان محجورًا عليه، وتصرفات المحجور عليه باطلة غير صحيحة قياسًا على السفيه (¬4). هذا قولهم في الإجارة، والجعالة مقيسة عليه. فالمالكية اعتبروا الإجازة اللاحقة كالإذن السابق، وأما الحنابلة فصححوا تصرف الصبي المميز إذا كان الإذن سابقًا على التصرف. وأرى أن الراجح في هذا مذهب المالكية، وأن الإجازة اللاحقة كالإذن السابق. المسألة الثانية: اشتراط الاختيار. [م - 980] اتفق الفقهاء على اشتراط أن يكون الجاعل مختارًا، فإن كان مكرهًا، فهل يصح عقده؟ ¬
القول الأول
اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ذهب المالكية إلى أن المكره له أهلية الاستئجار، وبالتالي يصح عقد الجعالة منه إلا أن عقده غير لازم، فللمكره الخيار بين إمضائه ورده (¬1). هذا قولهم في عقد المكره على البيع، والجعالة مقيسة عليه؛ لأنها قائمة على المعاوضة. القول الثاني: لا ينعقد مطلقًا، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة. جاء في فتوحات الوهاب: "أركانها أربعة عمل وجعل وصيغة وعاقد، وشرط فيه اختيار ... فلا يصح التزام مكره" (¬2). وقد نص الحنابلة في عقد البيع والإجارة على بطلان عقد المكره، والجعالة مقيسة عليه (¬3). قال في الإنصاف: "الجعالة نوع إجارة، لوقوع العوض في مقابلة منفعة ... " (¬4). ¬
وقال في شرح منتهى الإرادات: "والجعالة نوع إجارة؛ لوقوع العوض في نظير النفع" (¬1). وأرى أن الراجح في هذا مذهب المالكية؛ لأن الحق للمكره، فإذا أجاز العقد مضى، والله أعلم. ... ¬
المبحث الثاني في شروط العامل
المبحث الثاني في شروط العامل [م - 981] اختلف الفقهاء فيما يشترط في المجعول له (العامل) على قولين: القول الأول: ذهب المالكية إلى أنه يشترط في العامل ما يشترط في الجاعل، وقد سبق لنا أنهم يشترطون في الجاعل أهلية الاستئجار والعمل. قال القرافي: "النظر الأول: في أركانها -وهي أربعة- الأول والثاني: المتعاقدان ... ولا يشترط فيهما إلا أهلية الاستئجار والعمل" (¬1). فقوله: (فيهما) الضمير يعني الجاعل والمجعول له. واقتصر خليل في مختصره بذكر شرط الجاعل، ولم يذكر شرط المجعول له، قال الخرشي في شرحه: "وإنما اكتفى بشرط الجاعل، عن شرط المجعول له؛ لأن ما كان شرطًا في الجاعل كان شرطًا في المجعول له، فاكتفى بأحد المتساويين عن الآخر" (¬2). وقال ابن عرفة: شرطه أهلية المعاوضة فيهما (¬3): أي في الجاعل والمجعول له، وأهلية المعاوضة: هي أهلية الاستئجار والعمل. القول الثاني: اشترط الشافعية في المجعول له شرطين هما: ¬
الشرط الأول
الشرط الأول: علمه بالالتزام، فلو قال: إن رد زيد آبقي، فله كذا، فرده غير عالم بذلك لم يستحق شيئًا (¬1). وهذه مسألة خلافية سبق التعرض لها بالبحث على وجه الاستقلال. الشرط الثاني: اشترط الشافعية في العامل المعين أهليته للعمل وقت النداء والعمل، بأن يكون قادرًا عليه، فلا يصح العقد من عاجز عن العمل، كصغير وضعيف لا يقدر عليه؛ لأن منفعته معدومة. أما إذا كان العامل غير معين، فلا تشترط أهليته للعمل وقت النداء، بل تشترط أهليته وقت الرد، فلو كان حال النداء غير أهل كصغير لا يقدر، ثم صار أهلًا بعد ذلك، فإذا رَدَّ بعد أن كان قادرًا صح ذلك. ولا يشترط في العامل بنوعيه معينًا كان أو غير معين بلوغ ولا عقل، فيصح الرد من الصبي والمجنون إذا كان لهما نوع تمييز، ولو بلا إذن من وليهما. قال الشافعية: وليس لنا عقد يصح مع الصبي المميز، والمجنون المميز إلا هذا. ويصح من العبد على الصحيح، ولو بلا إذن السيد، ويصح العقد من محجور عليه بسفه (¬2). قال في مغني المحتاج: "وهذا هو المعتمد خلافًا لما قاله في السير من عدم استحقاق الصبي والعبد إذا قام به بغير إذن سيده" (¬3). ¬
وقال الماوردي: "فلو قال: من جاءني بعبدي الآبق فله دينار، فأي الناس جاء به استحق الدينار، من رجل أو امرأة، حر أو عبد، مسلم أو كافر، صغيرًا أو كبيرًا عاقلًا أو مجنونًا، إذا كان قد سمع النداء، أو علم به؛ لدخولهم في عموم قوله: من جاءني" (¬1). ... ¬
الفصل الثالث ما يشترط في العمل
الفصل الثالث ما يشترط في العمل قال النووي: ما يعتبر في العمل لجواز الإجارة، يعتبر في الجعالة سوى كونه معلوما (¬1). [م - 982] نص المالكية والشافعية على أن شروط العمل في الجعالة، هي شروط العمل في الإجارة إلا شرطًا واحدًا، وهو كون العمل معلومًا، فهو شرط في الإجارة، وليس شرطًا في الجعالة. جاء في البهجة شرح التحفة: "أركان الجعل ثلاثة: عاقد، وشرطه: أهلية البيع، والعمل، وهو كعمل الإجارة من كونه منفعة، تتقوم، قُدِر على تسليمها، بلا استيفاء عين، ولا حظر" (¬2). وقال في عقد الجواهر الثمينة: "الركن الثالث: العمل، وهو كل عمل يجوز الاستئجار عليه، ولكن لا يشترط كونه معلوما" (¬3). وقال النووي في الروضة: "وما يعتبر في العمل لجواز الإجارة، يعتبر في الجعالة سوى كونه معلومًا" (¬4). وقال في الإقناع: "ما لا يجوز أخذ العوض عليه في الإجارة كالغناء، والزمر، وسائر المحرمات لا يجوز أخذ الجعل عليه" (¬5). ¬
وبناء على هذا النص نستطيع أن نتوصل إلى أن شروط العمل في الجعالة مما لم ينص عليه الفقهاء يمكن الرجوع فيها إلى شروط العمل في الإجارة، إلا شرطًا واحدًا: وهو كون العمل معلومًا، فإنه وإن كان شرطًا في الإجارة، فليس شرطًا في الجعالة. هذا الكلام في شروط العمل في الجعالة على سبيل الإجمال، وأما شروط العمل فيها على سبيل التفصيل، فسوف نذكرها إن شاء الله تعالى في المباحث التالية.
الشرط الأول أن يكون العمل مباحا
الشرط الأول أن يكون العمل مباحًا كل ما يحرم فعله لا يجوز أخذ الجعالة عليه. كل ما يلزم الجاعل فعله لا يجوز أخذ الجعالة عليه (¬1). [م - 983] اشترط الفقهاء في عمل الجعالة أن يكون مباحًا. وخرج بذلك شيئان: الأول: المحرم، فكل عمل لا يجوز للمجعول له فعله، يحرم أخذ الجعالة على فعله، كالجعالة على تعليم السحر، والغناء، وحمل الخمر لغير الإراقة، ونحو ذلك. قال في الإقناع: "وكل ما جاز أخذ العوض عليه في الإجارة من الأعمال جاز أخذه عليه في الجعالة، وما لا يجوز أخذ العوض عليه في الإجارة كالغناء، والزمر، وسائر المحرمات لا يجوز أخذ الجعل عليه" (¬2). الثاني: خرج بالمباح الواجب، فكل ما يلزم الجاعل فعله لا يجوز أخذ الجعالة عليه. قال ابن رشد في المقدمات: "أما ما لا يصح فيه الجعل ولا الإجارة فنوعان: أحدهما: ما لا يجوز للمجعول له فعله. والثاني: ما يلزمه" (¬3). ¬
فما لا يجوز له فعله من المحرمات سبق ضرب الأمثلة له، وأما الثاني: فهو ما يجب على الجاعل فعله فهذا لا يستحق الجعل عليه، وقد مثل له المالكية: في الدلالة على المال إذا كان العامل يعلم مكانه، فلا شيء له؛ لأن الدلالة على المال واجبة عليه؛ حيث علم مكانه، وربه لا يعلم. قال القرافي: "ويمنع -أي الجعل- في الدلالة على المال؛ لأنها واجبة شرعًا" (¬1). ومثل له الشافعية برد الغاصب والسارق العين المغصوبة والمسروقة لصاحبها بعد أن سمع إعلان المالك الجعل على الرد، فإن الغاصب والسارق لا يستحق شيئًا؛ لأن ما تعين عليه شرعًا لا يقابل بعوض (¬2). وخرج بقولهم: ما تعين على العامل: الواجب على الكفاية، فإنه لم يتعين على العامل بعينه، فمن حبس ظلمًا، فبذل مالًا لمن يتكلم في خلاصه بجاهه، أو بغيره، فإنه جائز (¬3). كما أجاز الشافعية أخذ الجعل على رد دابة دخلت داره لصاحبها بعد أن جاعل عليها، وعللوا ذلك بأن الواجب عليه التخلية بينها وبين صاحبها، وأما ردها فلا يجب عليه (¬4). ¬
الشرط الثاني في اشتراط المنفعة للجاعل
الشرط الثاني في اشتراط المنفعة للجاعل [م - 984] اختلف الفقهاء، هل من شروط صحة الجعالة أن يكون العمل فيه منفعة للجاعل على قولين: القول الأول: لا يشترط، فلو جعل له دينارًا على أن يصعد جبلًا مثلًا، استحقه بذلك. وهو قول في مذهب المالكية. قال ابن رشد: "وقد اختلف هل من شروط صحته أن يكون للجاعل فيه منفعة أم لا؟ على قولين" (¬1). القول الثاني: يشترط أن يكون العمل فيه منفعة للجاعل، وهذا مذهب الجمهور، وهو المشهور في مذهب مالك. قال خليل في مختصره: "وفي شرط منفعة الجاعل قولان" (¬2). قال الخرشي في شرحه "يعني: هل من شرط صحة الجعل أن يكون للجاعل فيه منفعة، أو لا يشترط ذلك؟ فيه خلاف، وينبني على ذلك، لو جاعل شخص شخصًا على أن يصعد لهذا الجبل، وينزل منه، من غير أن يكون للجاعل منفعة بإتيان حاجة منه، هل يصح أم لا؟ " (¬3). ¬
وجه اشتراط المنفعة في عقد الجعالة
وبهذا الشرط قال الشافعية والحنابلة، وإن اختلفت ألفاظهم، فالشافعية يشترطون في العمل أن يكون متقومًا، أي له قيمة ليحسن بذل المال في مقابلته، فخرج بذلك الأعمال التي لا قيمة لها إما لتحريمها، أو لخستها، أو لقلتها، فلا يصح بذل المال في تحصيلها. كما أن الشافعية والحنابلة اشترطوا حصول المنفعة للجاعل، فقال الشافعية في عقد الإجارة: لا يصح استئجار دابة ليركبها المؤجر، فإن العوضين يجتمعان له. وقالت الشافعية والحنابلة: لا يجوز الاستئجار على العبادات التي لا تجري فيها النيابة، كالصلاة، والصيام، فإنها تحصل للعامل وحده، بخلاف الحج، وغسل الميت، وحفر القبور، ودفن الموتى، وحمل الجنائز، فإن الاستئجار على جميع ذلك جائزة لدخوله النيابة (¬1). وما نص على اشتراطه في الإجارة فهو شرط في عمل الجعالة؛ كما حررنا سابقا. * وجه اشتراط المنفعة في عقد الجعالة: أن العمل إذا لم يكن فيه منفعة للجاعل كان ذلك من أكل أموال الناس بالباطل. * الراجح: الذي أراه أن عقود المبادلات كلها يشترط أن يكون فيها منفعة لمن يعقدها، ومنها عقد الجعالة، إلا أن يكون الجاعل أراد من عقد الجعالة أن يتوصل إلى ¬
منفعة المجعول له فقط، كما لو قال له: إن حضرت حلقة فلان فلك كذا، أو قال له: إن ذهبت إلى السوق مبكرا لطلب الرزق فلك كذا، فهذا عقد صحيح، وإن لم يكن فيه منفعة للجاعل؛ لأن غرضه من العقد صحيح، وقد صحح الفقهاء أن يقول الأجنبي: من رد دابة فلان له كذا، ويكون العوض واجبا على المنادي، وإن لم ينتفع بذلك، فيكفي في المنفعة أن تكون لأحد المتعاقدين، ويستأنس بقصة شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - لجمل جابر - رضي الله عنه - في الصحيح، فإن العقد كان على سورة البيع، وكان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أراد نفع جابر، فدفع إليه الجمل والثمن، أما إذا كان العمل خلوا من المنفعة فلا يجوز بذل العوض عليه، وقد سبق الكلام على هذه الصورة، والله أعلم.
الشرط الثالث في اشتراط القدرة على التسليم
الشرط الثالث في اشتراط القدرة على التسليم [م - 985]، اشترط المالكية والشافعية والحنابلة القدرة على تسليم العمل، فلا يصح الجعل لأعمى على حفظ المال، ولا لأخرس على التعليم، ولا لمغصوب لغير من هو بيده (¬1). جاء في البهجة شرح التحفة: "أركان الجعل ثلاثة: عاقد، وشرطه: أهلية البيع، والعمل، وهو كعمل الإجارة من كونه منفعة تتقوم، قدِر على تسليمها" (¬2). وأرى أن هذا قد يكون شرطًا في العامل المعين، وأما في العامل غير المعين فقد يلتزم الأعمى بالعمل، ويكون على الأعمى أن يبحث عن مبصر من جهته يقوم بالعمل، وهكذا والله أعلم. ... ¬
الشرط الرابع في اشتراط أن يكون في العمل تعب وكلفة
الشرط الرابع في اشتراط أن يكون في العمل تعب وكلفة قال الشافعية: ما لا كلفة فيه لا يقابل بعوض (¬1). [م - 986] اختلف الفقهاء في اشترط أن يكون في الحصول على الضال تعب وكلفة على قولين: القول الأول: ذهب المالكية إلى أن هذا ليس بشرط، فمن قال: من رد عبدي فله دينار، فمن أحضره استحقه، تكلف طلبه أو لم يتكلفه (¬2). القول الثاني: يشترط في العمل أن يكون فيه كلفة، وعللوا ذلك: بأن ما لا كلفة فيه لا يقابل بعوض (¬3). * الراجح من الخلاف: أرى أن مذهب المالكية هو الراجح، ولا دليل على اشتراط الكلفة والتعب، والله أعلم. ... ¬
الشرط الخامس في اشتراط توقيت العمل
الشرط الخامس في اشتراط توقيت العمل [م - 987] اختلف العلماء في صحة توقيت العمل في عقد الجعالة على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يجوز مطلقًا، وهو مذهب الشافعية (¬1). * وجه القول بالمنع: أن عقد الجعالة فيه غرر، فإذا قدر العمل بالزمن زاد الغرر فيه؛ لاحتمال انقضاء الزمن قبل تمام العمل، فيذهب جهد العامل باطلًا. القول الثاني: يجوز مطلقًا، وهو مذهب الحنابلة (¬2). * وجه القول بالجواز: لأن عقد الجعالة إذا صح مع جهالة المدة فمع العلم أولى. فإن قيل: لم منعتم الجمع بين تقدير المدة والعمل في عقد الإجارة، وأجزتم الجمع في عقد الجعالة؟ ¬
القول الثالث
قيل: الفرق بينهما من وجوه: أحدها: أن الجعالة يحتمل فيها الغرر، وتجوز جهالة العمل، والمدة، بخلاف الإجارة. الثاني: أن الجعالة عقد جائز، فلا يلزمه بالدخول فيها مع الغرر ضرر، بخلاف الإجارة، فإنها عقد لازم، فإذا دخل فيها مع الغرر لزمه ذلك. الثالث: أن الإجارة إذا قدرت بمدة لزمه العمل في جميعها، ولا يلزمه العمل بعدها، فإذا جمع بين تقدير المدة والعمل، فربما عمله قبل المدة، فإن قلنا: يلزمه العمل في بقية المدة فقد لزمه من العمل أكثر من المعقود عليه، وإن قلنا: لا يلزمه العمل فقد خلا بعض المدة من العمل ... بخلاف مسألتنا، فإن العمل الذي يستحق به الجعل هو عمل مقيد بمدة إن أتى به فيها استحق الجعل، ولا يلزمه شيءآخر، وإن لم يف به فيها فلا شيء له (¬1). وقد بحثت هذه المسألة في عقد الإجارة، ورجحت جواز الجمع بين تقدير المدة والعمل في عقد الإجارة، والله أعلم. القول الثالث: لا يجوز توقيت العمل إلا في مسألتين: المسألة الأولى: إذا اشترط العامل أن يترك العمل متى شاء، ويكون له من العوض بحسب ما عمل؛ لأن العامل إذا دخل في العقد ابتداء على أنه مخير، فغرره حينئذ خفيف. ¬
المسألة الثانية
المسألة الثانية: إذا جعل للعامل العوض مطلقًا بمضي الزمن المتفق عليه، سواء أتم العمل أم لا، فالتوقيت جائز، إلا أن العقد في هذه الحالة خرج من الجعالة إلى الإجارة. وهذا مذهب المالكية (¬1). * الراجح: أرى أن القول الراجح صحة عقد الجعالة المقدر بمدة معينة؛ لأن الأصل في الشروط الصحة والجواز، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع في شروط الجعل (العوض)
الفصل الرابع في شروط الجعل (العوض) الشرط الأول: العلم بالجعل [م - 988] يشترط في الجعل أن يكون معلوما، وهذا الشرط متفق عليه عند من قال بمشروعية الجعالة، كالمالكية، والشافعية، والحنابلة. واشتراط العلم بالجعل هذا من حيث الجملة فقد استثنى كل مذهب بعض المسائل مما يكون العوض فيه مجهولًا حال العقد، وإن كان الجهل في تلك المسائل يؤول إلى العلم، أو بعبارة أخرى لا يمنع التسليم. ففي مذهب المالكية: قال ابن رشد في مقدماته: "ومن شروط الجعل أن يكون الجعل معلوما" (¬1). وقال ابن جزي: "يجوز الجعل بثلاثة شروط: أحدها: أن تكون الأجرة معلومة" (¬2). وقال في التاج والإكليل: "شرط الجعل أن يكون معلومًا مقدرا كالإجارة، ومن المدونة: ما لا يجوز بيعه لا يجوز أن يكون ثمنًا لإجارة أو جعل" (¬3). والمجهول لا يجوز بيعه بالاتفاق. ¬
المسألة الأولى
واستثنى المالكية مسائل لا يجوز بيعها، ويجوز الجعل عليها، منها: المسألة الأولى: أن يجاعل غيره على أن يغرس له أصولًا حتى تبلغ حد كذا، ثم هي والأصل بينهما. فإن نصف هذا لا يجوز بيعه، والمجاعلة عليه جائزة. المسألة الثانية: أن يجاعله على حصاد زرعه، أو على جداد نخله، كأن يقول له: احصد من زرعي ما شئت، أو جد من نخلي ما شئت، وما حصدت من زرعي فلك نصفه، فهذا جائز عند المالكية بالاتفاق، وبيعه لا يجوز. واختلف قول المالكية في مسألتين: أحدهما: المجاعلة على لقط الزيتون بالجزء منه، والأظهر المنع؛ لأن أوله أهون من آخره. الثانية: المجاعلة على اقتضاء الدين بجزء منه، فقد منع ذلك أشهب، والأظهر الجواز؛ إذ لا فرق بين أوله وآخره في العناء. هذا ملخص مذهب المالكية في اشتراط كون العوض معلوما (¬1). وأما النقل عن مذهب الشافعية: فقال النووي في منهاج الطالبين: "ويشترط كون الجعل معلوما، فلو قال: من رده فله ثوب، أو أرضيه، فسد العقد" (¬2). وقال الغزالي: "الركن الرابع: الجعل، وشرطه أن يكون مالا معلوما، فلو ¬
وعللوا اشتراط كونه معلوما
شرط مجهولًا فسد العقد، واستحق العامل أجرة المثل، كما في المضاربة الفاسدة" (¬1). وعللوا اشتراط كونه معلومًا: بأنه عوض كالأجرة والمهر؛ ولأنه عقد جوز للحاجة، ولا حاجة لجهالة العوض، بخلاف العمل، ولأن جهالة العوض تفوت مقصود العقد؛ إذ لا يرغب أحد في العمل مع جهالة العوض، ويحصل العلم بالمشاهدة إن كان معينًا، وبالوصف إن كان في الذمة، فلو قال: من رد عبدي فله سلبه أو ثيابه، فإن كانت معلومة، أو وصفها بما يفيد العلم استحق المشروط وإلا فأجرة المثل. واستشكل بعض الشافعية اعتبار الوصف في المعين مع أن مذهب الشافعية قد تقرر في البيع والإجارة وغيرهما أن الشيء المعين لا يغني وصفه عن رؤيته. وأجيب: بأن عقود البيع والإجارة عقود لازمة، بخلاف الجعالة، فاحتيط لها ما لم يحتط للجعالة (¬2). واستثنى الشافعية من اشتراط المعلومية في الجعل مسائل: أحدها: إذا جعل الإمام أو نائبه لمن دله على فتح قلعة للكفار جعلًا منها كفرس ونحوه، فإن ذلك جائز مع جهالة العوض للحاجة. الثانية: إذا قال له: حج عني وعلي نفقتك. فإن هذا جائز، جزم به الرافعي، والنووي، وغيرهما. ¬
وأجيب
وأجيب: بأن هذه لا تستثنى؛ لأن هذا إرفاق لا جعالة، وإنما يكون جعالة إذا جعله عوضًا، فقال: حج عني بنفقتك. وقد صرح الماوردي بأن هذه جعالة فاسدة، ونص عليها في الأم (¬1). الثالثة: إذا قال: من رد عبدي فله نصفه، أو ربعه، قال النووي: "صححه المتولي، ومنعه أبو الفرج السرخسي" (¬2). وأما النقل عن مذهب الحنابلة: فقد قال ابن قدامة: "ولا بد أن يكون العوض معلوما" (¬3). ثم بين ابن قدامة لماذا اشترط في العوض العلم، ولم يشترط في العمل العلم، فقال: "والفرق بينه (العوض) وبين العمل من وجهين: أحدهما: أن الحاجة تدعو إلى كون العمل مجهولًا، بألا يعلم موضع الضالة والآبق، ولا حاجة إلى جهالة العوض. والثاني: أن العمل لا يصير لازمًا، فلم يجب كونه معلومًا، والعوض يصير لازمًا لإتمام العمل، فوجب كونه معلومًا" (¬4). واستثنى الحنابلة مسألتين: المسألة الأولى: إذا كان الجعل من مال الكفار، فتصح الجهالة بالعوض. ¬
المسألة الثانية
قال في الإقناع: "الجعالة، وهي جعل شيء معلوم كأجرة، لا من مال حربي فيصح مجهولًا" (¬1). ومثل له الحنابلة كما لو قال الإمام: من دلنا على طريق سهل، أو دل على فتح قلعة للكفار فله ثلث مال فلان الحربي، فهذا يصح (¬2). المسألة الثانية: إذا قال الجاعل: من رد عبدي فله نصفه، أو من رد ضالتي فله ثلثها. فاختلف الحنابلة في صحة مثل هذا. فقيل: لا يصح، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، ولذلك ساقه ابن قدامة في المغني احتمالًا، قال: "ويحتمل أن تصح الجعالة مع الجهل بالعوض إذا كان الجهل لا يمنع التسليم" (¬3). وقيل: يصح، وهو وجه في المذهب، وخرجوها على ما نص عليه الإمام أحمد في الثوب ينسج بثلثه، والزرع يحصد، والنخل يصرم بجزء مشاع منه، وعلى قوله في الغزو: من جاء بعشرة رؤوس فله رأس. واختلف القائلون بالصحة، هل العوض في هذه الصيغة مجهول، وصح لأن الجهالة لا تمنع التسليم؟ أو أن العوض في هذه الصيغة معلوم؛ لأن الجعل بجزء مشاع من الضالة لا يعتبر مجهولًا كالمزارعة، فإن العامل يزرع الأرض بجزء مما يخرج منها. ¬
وإذا كانت الجهالة في العوض تمنع التسليم لم تصح الجعالة وجها واحدا (¬1). هذا كلام الفقهاء فيما يتعلق بالشرط الأول، وهو كون العوض معلوما، والمسائل التي استثناها كل مذهب. والراجح فيما أراه أن العلم بالعوض شرط، وكون العوض جزءا مشاعًا من الضالة يجوز إذا علمت الضالة بالرؤية أو الوصف، أو كان العوض من مال حربي في زمن الجهاد، والله أعلم. ¬
الشرط الثاني والثالث في اشتراط الطهارة والقدرة على التسليم
الشرط الثاني والثالث في اشتراط الطهارة والقدرة على التسليم [م - 989] نص المالكية والشافعية والحنابلة على أنه يشترط في العوض طهارة عينه، والقدرة على تسليمه (¬1). وقد اقتصر خليل على اشتراط كون العوض معلومًا، ولم يذكر بقية الشروط، فقال الدسوقي في حاشيته: "وإنما نص على علم العوض دون غيره من بقية الشروط، مثل كونه طاهرًا، منتفعًا به، مقدورًا على تسليمه؛ لدفع توهم عدم اشتراط علمه، وحصول الصحة بالعوض المجهول" (¬2). وقال الخرشي في شرحه: "لا يخفى أن الجعل كما يشترط فيه العلم، يشترط أن يكون طاهرًا منتفعًا به ... مقدورًا على تسليمه" (¬3). وجاء في مغني المحتاج: "فلو كان مجهولًا -يعني العوض- كأن قال: من رده أي عبدي فله كذا ... فسد العقد لجهالة الجعل، أو نجاسة عينه، أو عدم القدرة على تسليمه" (¬4). وقال ابن قدامة: "والجعالة تساوي الإجارة في اعتبار العلم بالعوض، وما كان عوضًا في الإجارة جاز أن يكون عوضًا في الجعالة، وما لا فلا" (¬5). فأحال على شروط الأجرة في عقد الإجارة. ¬
واشتراط الطهارة عند الحنابلة في الثمن أو في المبيع غير مطرد، فهم يمنعون بيع أشياء، ويعللون ذلك بالنجاسة، ويجيزون بيع أشياء مع حكمهم لها بالنجاسة. فالحنابلة يجوزون بيع الحمار والبغل وسباع البهائم والطير التي تقبل التعليم والقرد مع الحكم بنجاستها، وما جاز بيعه صح أن يكون ثمنًا في المبيع، وثمنًا في الأجرة. وما كان ثمنًا في الأجرة صح أن يكون عوضًا في الجعالة. ويمنعون بيع السرجين النجس. قال في المغني: "ولا يجوز بيع السرجين النجس، وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يجوز ... ولنا أنه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة" (¬1). ويعبر الحنابلة أحيانًا عن هذا باشتراط إباحة الانتفاع، ويقصدون به إخراج شيئين: الأول: ما يحرم الانتفاع به لنجاسته، كالخمر والكلب والميتة والخنزير فلا يجوز أن يكون عندهم ثمنًا ولا أجرة ولا مبيعًا ولا عوضًا في الجعالة. الثاني: ما يحرم الانتفاع به لحرمته، وإن كان طاهرًا كآلات اللهو، والأصنام. وأما اشتراط القدرة على التسليم فهو شرط عندهم في الجعالة قياسًا على اشتراطه في الأجرة (¬2). والله أعلم. وقد حررنا الخلاف في طهارة المبيع والثمن في عقد البيع، وما كان الراجح ¬
هناك فهو الراجح هنا، فالمشترط في العوض أن يكون مالا، وقد توصلت إلى أن المالية ليس من شرطها الطهارة، وإنما يشترط للمالية شرطان: الأول: ألا ينهى الشرع عن الانتفاع به، فما نهى الشرع عن الانتفاع به فقد ماليته، كما ثبت النهي عن بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام والكلب. الثانية: أن يجري تموله والانتفاع به بين الناس، وعلى هذا فالعطور التي بين أيدي الناس هي مال حتى على القول بنجاستها؛ لأن الشارع لم ينه عن الانتفاع بها، وقد جرى تمولها والانتفاع بها، فدخلت في حقيقة المال، والله أعلم.
الشرط الرابع في نقد الجعل
الشرط الرابع في نقد الجعل [م - 990] من شروط صحة الجعل عند المالكية ألا يشترط العاقد نقد الجعل مقدما، فإن شرط فسد العقد عندهم، ولو لم يحصل نقد بالفعل؛ لتردد الأجرة المدفوعة بين السلفية إن لم يتم العمل، وبين الثمنية إن قام بالعمل وأتمه، فإذا حصل النقد تطوعا بدون شرط جاز؛ لأنه معروف، وإحسان (¬1). قال الخرشي: "من شروط صحة الجعل ألا يشترط النقد فيه، فإن شرط النقد فسد العقد، سواء حصل النقد بالفعل، أم لا؛ لدوران الجعل بين الثمنية إن وجد الآبق وأوصله إلى ربه، والسلفية إن لم يوصله إلى ربه، بأن لم يجده أصلاً، أو وجده وهرب منه في الطريق، وأما النقد تطوعا فجائز" (¬2). * والراجح: أن ذلك ليس بشرط؛ لأن الاشتراط لا يثبت إلا بدليل، ولا دليل على هذا، والله أعلم. ... ¬
فرع في مقدار الجعل في رد الآبق
فرع في مقدار الجعل في رد الآبق عرفنا في بحث سابق أن الفقهاء لهم ثلاثة أقوال في استحقاق العامل الجعل إذا رد العبد الآبق دون أن يأذن له المالك: فقيل: لا يستحق العامل شيئًا مطلقًا، لا في الضال ولا في الآبق. وقيل: لا يستحق شيئًا في الضال، ويستحق في رد الآبق مطلقًا، سواء أكان معروفًا برد الإباق أم لا. وقيل بالتفصيل: إن كان منتصبًا للعمل استحق جعل مثله، في الضال والإباق، وإن لم يكن منتصبًا للعمل استحق النفقة فقط، وهذا كله سبق بحثه. [م - 991] والقائلون في استحقاق العامل الجعل، ولو لم يأذن سيد الآبق، اختلفوا هل هو مقدر من الشرع، أو غير مقدر؟ وإذا كان مقدرًا، فهل يختلف التقدير بين رده من خارج المصر، أو رده من داخل المصر؟ وإليك بيان الأقوال: القول الأول: إن رده من مسيرة ثلاثة أيام فصاعدًا، فمقدار الجعل أربعون درهمًا، وإن رده لأقل من ذلك فبحسابه، وإن رده من أقصى المصر رضخ له قدر عنائه. وهذا مذهب الحنفية (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: مقدار الجعل دينار أو اثنا عشر درهما، سواء كانت المسافة قريبة أو بعيدة، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة (¬1). وفي رواية عن الإمام أحمد: إن رده من خارج المصر فله أربعون درهما، قربت المسافة أو بعدت، وإن رده من المصر فله دينار (¬2). القول الثالث: وذهب المالكية إلى أن الجعل غير مقدر، فمن كان معروفا برد الضوال فله جعل مثله، وإن لم يكن معروفا بذلك فليس له إلا نفقته، وهذا مذهب المالكية (¬3). القول الرابع: ذهب الشافعية إلى أنه لا يستحق العامل شيئا إلا بالشرط، وتقدم. وقد ذكرنا أدلتهم في مسألة سابقة، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، والحمد لله. ... ¬
الباب الثاني في أحكام الجعالة
الباب الثاني في أحكام الجعالة الفصل الأول حكم عقد الجعالة من حيث اللزوم وعدمه سبق لنا في مقدمة عقد البيع أن ذكرنا أقسام العقود من حيث اللزوم وعدمه، وبينا أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عقد لازم من الطرفين: كالبيع والسلم والإجارة. وعقد جائز من الطرفين، كالوكالة والعارية. وعقد لازم من طرف وجائز من طرف آخر، كالرهن والضمان. وإذا أردنا أن نعرف عقد الجعالة من أي الأقسام الثلاثة، نقول: نستطيع أن نقسم عقد الجعالة إلى ثلاثة مراحل: المرحلة الأولى: قبل الشروع في العمل. [م - 992] اختلف العلماء في عقد الجعالة قبل الشروع في العمل: القول الأول: الجعالة عقد لازم، ولو قبل الشروع في العمل قياسًا على الإجارة. وهذا قول مرجوح في مذهب المالكية (¬1). ¬
ويناقش
ويناقش: بأن هناك فرقًا بين الإجارة والجعالة: فالإجارة تقدر فيها المدة، ويعين فيها المستأجر، بخلاف الجعالة. القول الثاني: تلزم الجعالة بالقول من الجاعل دون المجعول له، وهو قول في مذهب المالكية (¬1). جاء في عقد الجواهر الثمينة: "أما أحكام الجعالة فخمسة: الأول: الجواز من الجانبين ما لم يشرع في العمل كالقراض ... وحكى أبو الحسن اللخمي قولين آخرين: أحدهما: أنها تلزم بالقول من الجاعل خاصة دون المجعول له. الثاني: أنها كالإجارة، تنعقد لازمة بالقول لهما جميعًا" (¬2). * وجه كونها لازمة من الجاعل دون المجعول له: أن الجاعل لما صدر منه الإيجاب بالجعل قد التزم به، فصار لازمًا في حقه، وأما المجعول له فلا يمكن أن يكون لازمًا في حقه؛ لأنه قد لا يجد الضال والمفقود، فناسب أن يكون العقد جائزًا في حقه. القول الثالث: الجعالة عقد جائز من الطرفين قبل الشروع في العمل، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، والقول الراجح عند المالكية (¬3). ¬
وجه القول بالجواز
قال الخرشي: "الجاعل والمجعول له يجوز لكل منهما أن يحل عن نفسه قبل الشروع في العمل ... لأن عقد الجعالة جائز غير لازم على المشهور" (¬1). فقوله على المشهور إشارة إلى خلاف في المذهب، سبق ذكره. وقال العدوي: "وأما الجعل قبل الشروع فلا يلزم واحدًا منهما" (¬2). * وجه القول بالجواز: قال الماوردي: "ما صح من عقود المعاوضات إذا قابل غير موثوق بالقدرة عليه عند استحقاقه، كان من العقود الجائزة دون اللازمة، كالجعالة ... لأنه لا يثق بالغلبة في السبق والرمي، كما لا يثق بوجود الضالة في الجعالة" (¬3). فإذا فسخ العامل قبل الشروع في العمل لم يستحق شيئا؛ لأن الجعل يستحق بالفراغ من العمل، وقد تركه فسقط حقه، وإن فسخ رب المال قبل الشروع في العمل لم يلزمه شيء أيضا؛ لأنه فسخ قبل أن يستهلك منفعة العامل، فلم يلزمه شيء، كما لو فسخ العامل المضاربة قبل العمل. قال القرافي: "العقود قسمان: منها ما يسلتزم مصالحها التي شرعت لأجلها، فشرعت على اللزوم، كالبيع والهبة والصدقة وعقود الولايات، فإن التصرف المقصود بالعقد يمكن عقيب العقد، وهذا القسم هو الأصل. ومنها: ما لا يستلزم مصلحته كالجعالة، فإن رد الآبق قد يتعذر، فشرعت ¬
تنبيه
على الجواز، ولكل واحد من المتعاقدين فسخ العقد على نفسه؛ لئلا يلزم ما لا يتعين مصلحته" (¬1). ولا يناسب عقد الجعالة اللزوم مع جهالة العمل والعامل. وهذا هو القول الراجح، والله أعلم. تنبيه: إنما يتصور الفسخ ابتداء من العامل المعين، وأما غيره فلا يتصور الفسخ منه إلا بعد الشروع في العمل (¬2). الحال الثانية: عقد الجعالة بعد الفراغ من العمل. [م - 993] عقد الجعالة بعد إتمام العمل، والفراغ منه يصبح العقد لازمًا؛ لأن الجعل قد استقر في ذمة الجاعل (¬3). الحال الثالثة: عقد الجعالة بعد الشروع في العمل، وقبل إتمامه: [م - 994] اختلف العلماء في حكم عقد الجعالة بعد الشروع في العمل، وقبل إتمامه على قولين: القول الأول: العقد جائز من الطرفين، فإن فسخ الجاعل كان للعامل أجرة مثله لما عمل؛ لأنه استهلك منفعته بشرط العوض، فلزمته أجرته كما لو فسخ المضاربة. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬4). قال النووي: "في أحكام الجعالة، فمنها: الجواز، فلكل واحد من المالك ¬
القول الثاني
والعامل فسخها قبل تمام العمل ... ثم إن اتفق الفسخ قبل الشروع في العمل، فلا شيء للعامل، وإن كان بعده، فإن فسخ العامل فلا شيء له؛ لأنه امتنع باختياره، ولم يحصل غرض المالك، وإن فسخ المالك، فوجهان: أحدهما: لا شيء للعامل، كما لو فسخه بنفسه. والصحيح أنه يستحق أجرة المثل لما عمل، وبهذا قطع الجمهور، وعبروا عنه بأنه ليس له الفسخ حتى يضمن للعامل أجرة مثل ما عمل" (¬1). القول الثاني: العقد لازم في حق الجاعل، جائز في حق العامل، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬2). * وجه القول باللزوم: ذهب المالكية إلى القول باللزوم بعد شروع العامل في العمل حتى لا يبطل الجاعل على العامل عمله بعد أن شرع فيه , ولأن فسخ الجعالة بعد تلبس العامل بالعمل فيه إضرار بالعامل، والعقد الجائز إذا تضمن فسخه ضررا على أحد العاقدين أصبح لازمًا. قال الصاوي: "وظاهره اللزوم للجاعل بالشروع، ولو فيما لا بال له" (¬3). * الراجح: أن العقد جائز مطلقًا، فإن فسخ الجاعل كان للعامل حصته من المسمى إن ¬
كان الجاعل يستفيد مما أنجزه العامل من العمل، كما لو كان الجعل على عمل فأنجز بعضه، وهذا ما اختاره شيخ شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله (¬1). وإن كان الجاعل لا يستفيد كما لو كانت الجعالة بحثًا عن ضال أو مفقود كان له أجرة المثل، وبهذا يحفظ حق العامل إذا كان الفسخ من قبل الجاعل، ولا يتعين الضرر في الفسخ أن يكون على العامل، بل يكون في فسخ العامل ضرر على الجاعل أيضًا؛ فإن الإعلان للجمهور عن عقد الجعالة يتطلب اليوم نفقات باهظة، فإذا أخذ عامل معين العقد ربما انصرف بقية الناس عن الجاعل لاكتفائه، فإذا فسخ العامل تطلب ذلك نفقات أخرى لإعلان جديد، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني العامل في الجعالة أمين
الفصل الثاني العامل في الجعالة أمين [م - 995] اتفق العلماء القائلون بالجعالة على أن يد العامل في الجعالة يد أمانة، لا يضمن ما تلف في يده إلا بالتعدي أو التفريط قياسًا على المضاربة (¬1). وكذلك قال الحنفية في العبد الآبق لو تلف في يد الراد، فإنه لا يضمن بشرط أن يشهد على أخذه؛ لأنهم لا يرون الجعالة في غيره. قال الزيلعي: "وإن أبق من الراد لا يضمن؛ لأنه أمانة في يده إذا أشهد وقت الأخذ ... ولا جعل له؛ لأنه لم يرده على مولاه" (¬2). وجاء في حاشية قليوبي: "ووضع العامل يده على العبد جائز، وهو أمانة؛ لرضا مالكه به إن كان بإذنه، ولا يضمنه ما لم يقصر، كتركه بمضيعة" (¬3). وجاء في كشاف القناع: "ومن أخذ الآبق، أو أخذ غيره من المال الضائع ليرده لربه، فهو أمانة في يده إن تلف قبل التمكن من رده من غير تفريط، ولا تعد، فلا ضمان عليه؛ لأنه محسن بأخذه" (¬4). ¬
وجه كونه أمانة في يده
* وجه كونه أمانة في يده: أن العامل قد وضع يده على الضال والآبق بإذن صاحبه، وما ترتب على المأذون فليس بمضمون. قال ابن قدامة: "لا نعلم فيه مخالفا" (¬1). وقياسا على المضاربة، فإن المال في يد المضارب أمانة بالاتفاق، مع أنه قبض المال لمصلحة كل من المالك والعامل. قال ابن عبد البر: "ولا خلاف بين العلماء أن المقارض مؤتمن، لا ضمان عليه فيما يتلفه من المال من غير جناية منه فيه، ولا استهلاك له ولا تضييع، هذه سبيل الأمانة وسبيل الأمناء" (¬2). وقال ابن قدامة: "والعامل أمين في مال المضاربة؛ لأنه متصرف في مال غيره بإذنه، فكان أمينا كالوكيل" (¬3). ¬
الفصل الثالث الزيادة والنقصان في الجعل قبل فراغ العمل
الفصل الثالث الزيادة والنقصان في الجعل قبل فراغ العمل [م - 996] إذا زاد الجاعل في العمل، أو نقص من الجعل أو غير جنس الجعل: فإن كان ذلك بعد الفراغ من العمل فلا أثر لهذا التصرف، ولا يترتب عليه شيء؛ لأن الجعل قد لزم الجاعل، واستقر عليه بتمام العمل. وإن كان ذلك قبل الشروع في العمل؛ ففيه خلاف يرجع إلى الخلاف في عقد الجعالة قبل الشروع في العمل، هل هي عقد لازم أو جائز؟ وقد اختلف الفقهاء فيها على قولين: القول الأول: تجوز الزيادة، والنقص قبل الشروع في العمل، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، والمعتمد في مذهب المالكية. وجهه: أن عقد الجعالة عقد جائز قبل الشروع في العمل. وقد سبق أن ذكرنا أدلتهم عند الكلام على حكم عقد الجعالة. قال ابن مفلح: "فإن زاد أو نقص في الجعل قبل الشروع في العمل جاز؛ لأنه عقد جائز، فجاز فيه ذلك كالمضاربة" (¬1). فإن عمل العامل بعد الزيادة، أو النقص، فإن كان العامل معينًا، وكان جاهلًا ¬
القول الثاني
بالتغيير، فله أجرة المثل؛ لأن التغيير فسخ للمسمى الأول، ومحله: أن يعلم العامل المعين بالتغيير، فلما لم يعلم به أعطي أجرة مثله. وإن كان العامل غير معين، فشرطُ فسخ الأول أن يعلن الجاعل بالتغيير، فإن لم يعلن، وشرع العامل بالعمل استحق أجرة مثله. وإن كان العامل عالمًا بالتغيير، سواء كان معينًا، أو غير معين، فله المسمى الثاني فقط (¬1). القول الثاني: لا يجوز للجاعل الزيادة في العمل، ولا النقص من الجعل، ولا تغيير جنس الجعل، ولو كان ذلك قبل الشروع في العمل. وهذا القول يمكن تخريجه على قولين حكاهما بعض المالكية خلافًا للمعتمد عندهم: أحدهما: أن الجعالة تلزم بالقول من الجاعل خاصة دون المجعول له. والثاني: أنها كالاجارة، تنعقد لازمة بالقول لهما جميعًا (¬2). فعلى هذين القولين لا يمكن للجاعل الزيادة، أو النقص إلا برضا المجعول له، والله أعلم. * والراجح: قول الجمهور، وهو أن الجعالة عقد جائز قبل الشروع في العمل، وسبق تحرير هذه المسألة، فأغنى ذلك عن إعادة الأدلة. والله أعلم. ¬
القول الأول
[م - 997] وإن زاد أو نقص بعد الشروع في العمل وقبل الفراغ منه فقد اختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول: ليس له الزيادة والنقص بعد الشروع في العمل، وهذا مذهب المالكية. القول الثاني: له أن يزيد أو ينقص، ولو كان ذلك بعد الشروع في العمل ما دام أن ذلك قبل إتمام العمل بناء على أن عقد الجعالة عقد جائز، وهذا قول الجمهور. قال القرافي المالكي: "تجوز الزيادة، والنقصان في الجعل قبل الفراغ من العمل" (¬1). وهذا القول من القرافي فيه ملحظان: أحدهما: أن عقد الجعالة في مذهب المالكية عقد لازم بالنسبة للجاعل بعد الشروع في العمل، وإذا كان العقد لازمًا في حقه لم يكن له الحق في تعديل العقد بعد لزومه؛ لأن تعديل العقد رجوع عن العقد الأول، وهو لا يملكه بإرادة منفردة، بناء على المشهور من المذهب. الملحظ الثاني: أن الكلام ليس على جواز الزيادة والنقص، وإنما الكلام على ما يترتب عليها في حال لم يرض المجعول له، وهذا لم يتعرض له القرافي، والله أعلم. وقد فصل الشافعية الكلام في هذه المسألة، فقالوا: إذا زاد الجاعل في العمل، كما لو زاد في البناء أو الحفر أو الهدم، فإن لم ¬
الراجح
يرض العامل بالزيادة ففسخ لذلك، فله أجرة المثل، وإن كان الفسخ يعتبر من العامل؛ لأن الجاعل هو الذي ألجأه إلى ذلك. وكذلك يجب للعامل أجرة المثل إذا نقص الجاعل من الجعل قبل الفراغ من العمل، ولم يرض العامل، إلا أن الفسخ هنا يعتبر من المالك، لا من العامل بخلاف مسألة الزيادة في العمل، فالفسخ من العامل (¬1). والقول بجواز الزيادة مبني على مسألة أخرى تقدمت: وهو أن عقد الجعالة عقد جائز، يجوز لكل واحد من المتعاقدين فسخه قبل الفراغ من العمل؛ فإن فسخه العامل فلا شيء له، وإن فسخه المالك وجب للعامل أجرة المثل، والله أعلم. وبقول الشافعية قالت الحنابلة (¬2). * الراجح: أن عقد الجعالة عقد جائز قبل فراغ العامل من العمل، وإذا كان ذلك كذلك فإن العقد يعطي صاحبه حق التعديل قبل الفراغ؛ إلا أن العامل إذا لم يرض استحق أجرة مثله؛ لأنه في حال فسخ العامل بسبب زيادة العمل، فإن الفسخ وإن كان من قبل العامل إلا أن الفسخ كان بسبب تصرف الجاعل، فاستحق أجرة المثل. وإن كان الفسخ بسبب نقص الجعل، فإن الفسخ من المالك، والمالك إذا فسخ استحق العامل أجرة مثله، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع ما يستحقه العامل إذا تلف الجعل
الفصل الرابع ما يستحقه العامل إذا تلف الجعل [م - 998] الجعل إما أن يكون معينًا، أو موصوفًا في الذمة. فإن كان موصوفًا في الذمة، فلا يمكن تصور تلفه؛ لأن ما في الذمة لا يتعرض للتلف، ولا يتعين إلا بالقبض، وإذا قبضه العامل، فتلف كان فواته من ماله. وإن كان الجعل معينًا، كما لو كان الجعل حيوانًا معينًا، أو سلعة معينة، فتلفت: فإن تلف قبل الشروع في العمل، وعلم العامل بتلفه، انفسخ عقد الجعالة. وإن كان العامل لم يعلم بتلفه، وشرع في العمل، أو كان تلفه بعد الشروع في العمل، فاختلف الفقهاء على قولين: القول الأول: يجب للعامل أجرة المثل. وهذا مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة. جاء في حاشية الرملي: "ولو تلف الجعل المعين بيد الملتزم، قبل الشروع، وعلم به العامل، فلا شيء له في الرد، وإن جهله أو تلف بعد الرد فله أجرة المثل" (¬1). وجاء في الإنصاف: "قال في التبصرة: إذا عين عوضًا ملكه بفراغ العمل، فلو تلف فله أجرة المثل" (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: إن كان الجعل مثليًّا فللعامل مثله، وإلا فله قيمته، وهذا مذهب الحنابلة. قال في الإنصاف: "فإن تلف الجعل كان له مثله، إن كان مثليًا، وإلا قيمته على الصحيح من المذهب" (¬1). * وهذا هو الراجح: لأن إتلاف الثمن لا يوجب فسخ العقد، وإن كان معينًا، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس في حبس المتعاقد لاستيفاء الجعل
الفصل الخامس في حبس المتعاقد لاستيفاء الجعل [م - 999] تكلمنا في عقد البيع عن حق البائع في حبس المبيع من أجل استلام الثمن الحال. فهل يحق للمجعول له حبس الضال والآبق حتى استلام الجعل؟ اختلف أهل العلم على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن للعامل أن يحبس الآبق حتى يأخذ الجعل، كما يحبس البائع المبيع بثمنه (¬1). ولا يقولون هذا في غير الآبق؛ لأنهم لا يرون عقد الجعالة مشروعًا في غيره، والله أعلم. القول الثاني: ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن العامل ليس له الحق في حبس المعقود عليه من أجل الجعل (¬2). قال النووي: "إذا رد الآبق لم يكن له حبسه لاستيفاء الجعل؛ لأن الاستحقاق بالتسليم، ولا حبس قبل الاستحقاق" (¬3). ¬
الراجح
زاد في مغني المحتاج: "وكذا لا يحبسه لاستيفاء ما أنفقه عليه بإذن المالك" (¬1). وقال في كشاف القناع: "وإذا رد العامل اللقطة أو العبد ونحوهما لم يكن له الحبس: أي حبس المردود على الجعل؛ فإن حبسه عليه، وتلف ضمنه" (¬2). * الراجح: أرى أن مذهب الحنفية أقوى، وأن من حق العامل حبس المعقود عليه حتى يأخذ حقه، والله أعلم. ... ¬
الفصل السادس في استحقاق الجعل قبل إتمام العمل
الفصل السادس في استحقاق الجعل قبل إتمام العمل [م - 1000] الأصل أن العامل لا يستحق شيئا من الجعل إلا بإتمام العمل، فإذا انقطع العمل قبل إتمامه فلا شيء له. واستثنى المالكية ثلاث مسائل: المسألة الأولى: أن يستأجر أو يجاعل رب العمل عاملاً آخر على إتمام العمل، وينتفع الجاعل بما عمل العامل الأول، فللثاني جميع جعله الذي جاعله به، وللأول بقدر ما انتفع به الجاعل مما حط عنه من جعل الثاني. المسألة الثانية: إذا أتى العامل بالعبد الآبق، فاستحقه شخص، بأن ظهر أنه ملك للغير، أو استحق بحرية، كما لو أعتقه ربه، فإنه يستحق الجعل على الجاعل، ولو لم يقبضه ربه؛ لأنه ورطه في العمل، ولولا الاستحقاق لقبضه، واستولى عليه. ولا يرجع الجاعل بالجعل على المستحق عند ابن القاسم، وهو المشهور. وموت الآبق قبل إيصاله يسقط جعله لعدم إتمام عمله. المسألة الثالثة: إذا طرأ على الشيء المجاعل عليه حادث يوجب نقصه، كأن يكون حيوانًا قطعت يده، أو فقئت عينه، أو تعرضت السيارة المفقودة لحادث أدى إلى نقصان قيمتها، بحيث صارت لا تساوي الجعل المسمى، أو جعل المثل، فللعامل
وأما مذهب الشافعية
جعله كاملًا، ولا ينظر لهذا النقصان، وسواء حدث ذلك قبل أن يعثر عليه، أو بعد أن عثر عليه العامل، وقبل أن يسلمه للجاعل (¬1). وأما مذهب الشافعية: فقالوا: لا يستحق العامل شيئًا من الجعل إن لم يقع عمله مسلمًا للجاعل، أو كان ذلك في حضرة الجاعل، أو في ملكه، وظهر أثره على المحل. فإذا تلف الثوب الذي خاط بعضه، أو انهدم الجدار الذي بنى بعضه، فإن كان ذلك قبل تسليمه إلى المالك لم يستحق شيئًا. وإن كان ذلك بعد تسليمه إلى المالك، أو كان احتراق الثوب أو انهدام الجدار بحضرة المالك أو في ملكه استحق أجرة ما عمل: أي بقسطه من المسمى. ولو قال له: إن علمت هذا الصبي القرآن، فلك كذا، فإن لم يتعلم الصبي لبلادته لم يستحق شيئًا. وإن علمه بعضه، ثم مات الصبي استحق أجرة ما علمه لوقوعه مسلمًا بالتعليم، مع ظهور أثر العمل على المحل (¬2). ولم أقف على نص في مذهب الحنابلة، والله أعلم. ... ¬
الفصل السابع في اختلاف الجاعل والعامل
الفصل السابع في اختلاف الجاعل والعامل المبحث الأول الاختلاف في أصل العقد سبق في عقد البيع أن عقدت بابًا كاملًا ذكرت فيه أحوال اختلاف المتعاقدين، ومن المقدم قوله عند التنازع؟ وما ذكر هناك يمكن تنزيله على جميع عقود المعاوضات، لهذا سوف أكتفي بذكر مسألتين في هذا الباب، وهو الاختلاف في أصل العقد، والاختلاف في مقدار المشروط، وما لم يذكر يمكن الرجوع فيه إلى ذلك الباب، فإن فيه الكفاية إن شاء الله تعالى. [م - 1001] إذا اختلف الجاعل والعامل في أصل العقد، فقال العامل: شرطت لي جعلًا، وأنكر الجاعل، فاختلف العلماء في استحقاق الجعل إلى أقوال: القول الأول: مذهب الحنفية: لا يستحق الجعل في رد الضال، ويستحق في رد العبد الآبق (¬1). وقولهم هذا مبني على أن الجعل مقدر من الشرع، وليس من الجاعل، فالعامل في رد الآبق يستحق مطلقًا، سواء كان ذلك بإذن من الجاعل، أو بغير إذنه، وسواء كان معروفًا بالرد، أو ليس معروفًا بالرد، وسبق أن ذكرنا أدلتهم في التفريق بين العبد وبين غيره في مسألة حكم الجعالة عند الفقهاء، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن العامل إن كان منتصبًا للعمل استحق جعل مثله، في الضال، والآبق، وإن لم يكن منتصبا للعمل استحق النفقة فقط، ولو كان الجاعل لم يأذن له (¬1). القول الثالث: ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن العامل إن كان له بينة فيما ادعاه سمعت. وإن لم يكن للعامل بينة فالقول قول الجاعل بيمينه؛ لأن العامل يدعي، والجاعل ينكر، والبينة على المدعي، واليمين على من أنكر. ولأن الجاعل غارم، والقول قول الغارم. ولأن الأصل براءة الجاعل، وعدم الاشتراط. قال الغزالي: "لو تنازعا في أصل شرط الجعل، فأنكره المالك ... فالقول في ذلك كله قول المالك، فإن العامل مدع فليثبت" (¬2). قال النووي في منهاج الطالبين: "ويصدق المالك إذا أنكر شرط الجعل، أو سعيه في رده" (¬3). وقال في نهاية المحتاج: "لأن الأصل عدم الرد والشرط، وبراءة ذمته" (¬4). ¬
الراجح
وجاء في الإنصاف: "وإن اختلفا في أصل الجعل، أو قدره، فالقول قول الجاعل" (¬1). * الراجح: إذا كنت رجحت في رد العبد الآبق أن الجعل مقدر من الشارع لقول ابن مسعود - رضي الله عنه -، وهو صحابي، ولا يعلم له مخالف، بل قد ورد مثل ذلك عن عمر وابن عمر وعلي وإن كان ذلك بأسانيد ضعيفة؛ إلا أنها شواهد قوية لأثر ابن مسعود - رضي الله عنه -، وقد قويت هذه الآثار بما جاء مرسلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بسند رجاله ثقات. وأما غير العبد فالأصل أن الإنسان لا يلزمه إلا ما التزمه، فإذا اختلف في أصل العقد فالقول قول من ينكره، وهو الجاعل، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني إذا اختلفا في قدر الجعل
المبحث الثاني إذا اختلفا في قدر الجعل [م - 1002] إذا اتفق العامل والجاعل على أصل الجعل، ولكنهم اختلفوا في مقداره أو في جنسه أو في صفته، فإن كان هذا الاختلاف قبل الشروع في العمل فسخ العقد، ولا شيء للعامل. وإن كان ذلك بعد الشروع في العمل، أو بعد الفراغ منه، فاختلف الفقهاء في ذلك على أقوال: القول الأول: يتحالفان، عند الشافعية مطلقا، وعند المالكية يتحالفان بشرط إذا لم يشبها، ومن أشبه فالقول قوله، ويحلف كل منهما على نفي ما ينكره، وعلى إثبات ما يدعيه، ثم يفسخ العقد، ويرجع العامل على المالك بجعل المثل عند المالكية، وبأجرة المثل عند الشافعية، وبعض الحنابلة (¬1). * والفرق بين جعل المثل، وبين أجرة المثل: أن أجرة المثل يستحقها العامل سواء أتم العمل، أم لا، أما جعل المثل فلا يستحقه العامل إلا إذا أتم العمل، فإن لم يتمه فلا شيء له، والله أعلم. ¬
وجه هذا القول
* وجه هذا القول: الوجه الأول: لأن كلاً منهما منكر لما يدعيه صاحبه، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عباس المتفق عليه (ولكن اليمين على المدعى عليه) (¬1). الوجه الثاني: القياس على البيع، فإن البيعين إذا اختلفا في قدر الثمن تحالفا، ثم فسخ العقد، لما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا اختلف المتبايعان، والسلعة قائمة تحالفا، وترادا (¬2). ويجاب: بأن لفظ التحالف لا يوجد في شيء من كتب الحديث، نص على ذلك ابن حجر (¬3)، وابن حزم (¬4). الوجه الثالث: القياس على الاختلاف في الثمن، بجامع أن كلاً منها أحد عوضي العقد (¬5). فإذا اختلف المتبايعان في قدر الثمن، ولا بينة لهما، فإنهما يتحالفان، ثم يفسخان العقد، وقد ذكرنا ذلك في عقد البيع. ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب الحنابلة بأن القول قول الجاعل (¬1). * وجه قول الحنابلة: أن العامل يدعي زيادة في قدر الجعل، والجاعل ينكره، والقول قول المنكر بيمينه، كما في حديث ابن عباس المتفق عليه (ولكن اليمين على المدعى عليه) (¬2). وأجيب: بأننا لا نسلم أن الجاعل هو المنكر وحده حتى يقال: إن القول قوله، بل العامل منكر أيضا، حيث ينكر وقوع العقد على القدر الذي يدعيه الجاعل. بأن المدعي هو المطالِب، ولو ترك دعواه لبطلت الدعوى، هذا هو ما يحدد المدعي والمدعى عليه، فالمدعي هو العامل حيث يدعي قدرا زائدا في الجعل، والجاعل ينكره، ولأن الغارم هنا هو الجاعل، والقول قول الغارم. * الترجيح: بعد استعراض الأدلة أجد أن قول الحنابلة أقوى من حيث موافقته لحديث ابن عباس المتفق عليه، والله أعلم. ¬
الفصل الثامن في نفقة العامل على مال الجعالة
الفصل الثامن في نفقة العامل على مال الجعالة [م - 1003] اختلف الفقهاء في نفقة العامل على مال الجاعل، هل يرجع بها على المالك، أو لا يرجع؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: مذهب المالكية: ذهب المالكية إلى أن العامل إذا كان من عادته رد الضال، والآبق، فإن نفقة الآبق والضال عليه، ولو استغرقت الجعل كله، سواء وجب له المسمى كما لو كان ردها بأمر المالك، أو وجب له جعل المثل كما لو ردها بلا إذن صاحبها. وإن كان ليس من عادته ذلك فليس له إلا نفقته فقط، على خلاف بين المالكية في المراد بالنفقة: فقيل: ما أنفقه على الآبق من مأكل، ومشرب، ومركب، ولباس، ولا يدخل فيه ما أنفقه العامل على نفسه، أو على دابته زمن تحصيله، فهذه على العامل لا يرجع بها على المالك، وهذا هو الراجح في مذهب المالكية. وقيل: المراد ما أنفقه العامل على نفسه وعلى العبد حال تحصيله، من أجرة مركب، أو دابة احتاجا لها، وأجرة من يقبضه له إن احتاج الحال إلى ذلك بحيث لم يكن الحامل على صرف تلك الدراهم إلا تحصيله؛ لأن تلك الدراهم بمثابة ما فدى به من ظالم، وأما ما شأنه أن ينفقه العامل على نفسه في الحضر، كالأكل والشرب فلا يرجع به على ربه (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب الشافعية إلى أن العامل يعتبر متبرعًا بالنفقة إلا أن ينفق بإذن الحاكم، أو يشهد على ذلك، فله الرجوع على المالك (¬1). القول الثالث: ذهب الحنابلة إلى أن العامل إذا أنفق على الضالة والآبق فله الرجوع مطلقًا، حتى ولو كان قادرًا على استئذان مالكه ولم يستأذنه، وسواء أكان العامل يستحق جعلًا أم لا، وسواء أكان المال بيد العامل، وسلمه للمالك أم لا، حتى لو هربت الضالة مثلًا منه، أو ماتت في الطريق، فله الرجوع على المالك بما أنفق عليها قبل هربها أو موتها؛ لأن الإنفاق مأذون فيه شرعًا فلم يتوقف على إذن المالك حرمة للنفس وحثًا على صيانة المال (¬2). * الراجح: أرى أن الراجح مذهب الحنابلة إلا إذا كانت النفقة ستزيد على قيمة الضالة والآبق فإن للعامل أن يستأذن الحاكم ببيعها، وردها إلى صاحبها، والله أعلم. ¬
الفصل التاسع في الجعل على إخراج الجان وحل السحر
الفصل التاسع في الجعل على إخراج الجان وحل السحر [م - 1004] اختلف الفقهاء في الجعل على إخراج الجان وحل السحر على قولين: القول الأول: نص المالكية والحنابلة إلى أنه لا يجوز الجعل على إخراج الجن؛ لأنه لا يعرف حقيقته، ولا يوقف عليه، ولا ينبغي لأهل الورع الدخول فيه، وكذلك الجعل على حل المربوط والمسحور (¬1). ولأنه لو خرج الجان لم يؤمن العود، وإذا عاد قد يدعي مخرج الجان أن هذا جان آخر غير الأول (¬2). القول الثاني: صحح الشافعية الاستئجار على إبطال السحر، وعلى حل ما يحصل للزوج من الانحلال المسمى عند العامة بالرباط. قال ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج: "يؤخذ منه صحة الإجارة على إبطال السحر؛ لأن فاعله يحصل له مشقة بالكتابة ونحوها من استعمال البخور وتلاوة الأقسام التي جرت عادتهم باستعمالها، ومنه إزالة ما يحصل للزوج من الانحلال المسمى عند العامة بالرباط، والأجرة على من التزم العوض، ولو ¬
الراجح
أجنبيًّا، حتى لو كان المانع بالزوج، والتزمت المرأة أو أهلها العوض لزمت الأجرة من التزمها، وكذا عكسه ... ثم إن وقع إيجار بعقد صحيح لزم المسمى وإلا فأجرة المثل" (¬1). * الراجح: لو أخذ ما يدفع له بلا مشارطة صح، ويحمل ذلك على المكافأة، أما المعاوضة فلا أرى جوازها، والله أعلم. ... ¬
الفصل العاشر في مشارطة الطبيب على برء المريض
الفصل العاشر في مشارطة الطبيب على برء المريض [م - 1005] هذا العقد متردد بين الإجارة والجعالة، فإن قلنا: جعالة صح، ولم يستحق العوض إلا بالبرء، والجهالة في الجعالة لا تضر. وإن قلنا: إجارة أشكل هذا؛ لأن البرء قد لا يكون تحت القدرة؛ لأنه من الله عز وجل. وقد اختلف العلماء في استئجار الطبيب بشرط البرء على قولين: القول الأول: يجوز، وهو مذهب المالكية، وقول في مذهب الحنابلة، على خلاف بينهم في توصيف العقد، هل هو إجارة، أو جعالة، أو متردد بينهما (¬1). فقد جزم ابن عبد السلام بأن العقد إجارة فقط (¬2). ونص سحنون على أن الأصل في مداواة المريض الجعالة (¬3). وذكر ابن شاس والقرافي بأن العقد متردد بين الإجارة والجعالة (¬4). جاء في المدونة: "قال مالك في الأطباء إذا استؤجروا على العلاج فإنما هو على البرء، فإن برأ فله حقه، وإلا فلا شيء له" (¬5). ¬
وجه القول بالجواز
واختار ابن قدامة والمتأخرون من الحنابلة إلى أن العقد جعالة، ولا يستحق شيئًا من الأجرة حتى يوجد البرء (¬1). * وجه القول بالجواز: إن كان العقد إجارة فوجه القول بالجواز؛ أن الطبيب لا يشارط على الشفاء إلا على مرض يغلب على ظنه حصول البرء، ولا يقدم الطبيب على المشارطة على البرء إذا كان المرض من شأنه أن يطول، أو لا يقبل الشفاء. وعلى القول بأن العقد جعالة فوجه القول بالجواز أن الجهالة في عقد الجعالة لا تضر بالاتفاق. القول الثاني: لا يجوز، وهو مذهب الجمهور، وقول في مذهب المالكية (¬2)، واختيار ابن حزم. * وجه القول بالمنع: أن الشفاء بيد الله، ولا يقدر عليه أحد من الخلق، ولأن في اشتراطه غررًا، فقد يطول العلاج، ولا يحصل الشفاء، وقد يقصر العلاج فيأخذ أكثر مما يستحق، لذلك كان اشتراط البرء من الغرر المنهي عنه. قال ابن حزم: "ولا تجوز مشارطة الطبيب على البرء أصلًا؛ لأنه بيد الله، لا بيد أحد، وإنما الطبيب معالج، ومقو للطبيعة بما يقابل الداء، ولا يعرف كمية قوة الدواء من كمية قوة الداء، فالبرء لا يقدر عليه إلا الله" (¬3). ¬
الراجح
"وقد رأينا الأطباء يعالج أحدهم اثنين علتهما واحدة، في زمن واحد وسن واحد وبلد واحد، وربما كانوا توأمين، فيعالجهما بعلاج واحد، فيصح أحدهما، ويموت الآخر أو تطول علته" (¬1). * الراجح: القول بصحته مطلقا، أو منعه مطلقا .. ... ¬
الفصل الحادي عشر إذا تعذر التسليم للجاعل
الفصل الحادي عشر إذا تعذر التسليم للجاعل [م - 1006] نص الشافعية والحنابلة على أن العامل إذا أتى بالمتعاقد عليه، فلم يجد المالك، ولا من ينوب عنه، سلم المردود للحاكم، واستحق الجعل، ويدفعه الحاكم له من مال الملتزم إن كان له مال، وإلا بقي الجعل دينا في ذمة الجاعل. فإن لم يكن حاكم أشهد، واستحق الجعل وإن مات أو هرب بعد ذلك، والله أعلم (¬1). قال في نهاية المحتاج: "ولو لم يجد العامل المالك سلم المردود إلى الحاكم، واستحق الجعل، فإن لم يكن حاكم أشهد واستحقه: أي وإن مات، أو هرب بعد ذلك" (¬2). ¬
الفصل الثاني عشر في الجعالة الفاسدة
الفصل الثاني عشر في الجعالة الفاسدة [م - 1007] اختلف العلماء في الجعالة إذا فسدت على ثلاثة أقوال: القول الأول: إذا فسدت الجعالة فإن أتم العمل فله جعل مثله، وإن لم يتم العمل فلا شيء له، إلا أن يجعل له العوض مطلقًا سواء أتم العمل أم لم يتمه، فللعامل جعل مثله حتى ولو لم يتم العمل. وهذا هو المشهور في مذهب المالكية (¬1). قال خليل في مختصره: "وفي الفاسد جعل المثل إلا بجعل مطلقًا". وفسر الخرشي مراده بالإطلاق أن يجعل له العوض سواء أتم العمل أم لم يتم (¬2). * وجه القول بوجوب جعل المثل: أن الأصول موضوعة على أن كل عقد فاسد مردود إلى صحيحه، كالنكاح، والبيع، والإجارة، فكذلك الجعالة. القول الثاني: للعامل أجرة مثله، وهو مذهب الشافعية، وقول في مذهب المالكية (¬3). ¬
وجه القول بوجوب أجرة المثل
قال الشيرازي: "لأن كل عقد وجب المسمى في صحيحه، وجب المثل في فاسده، كالبيع، والنكاح" (¬1). وقال الغزالي: "وشرطه أن يكون مالًا معلومًا، فلو شرط مجهولًا فسد، واستحق العامل أجرة المثل كما في المضاربة الفاسدة" (¬2). * وجه القول بوجوب أجرة المثل: أن العقد الفاسد لما فسد بطل المسمى؛ لأن المسمى إنما يستحق بالشرط، وقد فسد، فكان الرجوع إلى المسمى مع فساد العقد تصحيحًا للعقد، وهذا لا يصح، وإذا بطل المسمى لفساد العقد رجعنا إلى أجرة المثل؛ لأن العامل إنما بذل منافعه ليأخذ عوضه وذلك متعذر في العقد الفاسد فوجب له قيمته وهي أجر مثله. القول الثالث: يرد العقد الفاسد إلى جعل مثله في مسائل، وإلى أجرة المثل في مسائل. وهذا قول ثالث في مذهب المالكية (¬3). وسبب الخلاف: أن المستثنى من العقود إذا فسد هل يرد إلى صحيح نفسه كفاسد البيع، فالبيع الفاسد يرد إلى البيع الصحيح، فنقول: يجب جعل المثل، أو يرد إلى صحيح أصله، باعتبار أن الجعالة مستثناة من الإجارة، فيكون المستحق أجرة المثل؛ لأن الشرع إنما استثنى الصحيح لاشتماله على القوانين الشرعية، فإذا فسد ¬
القول الراجح
المستثنى رجعنا إلى أصله؛ لأن الشرع لم يستثن الفاسد، فهو مبقى على العدم، وما دام أن له أصلاً يرجع إليه، فيجب الرجوع إلى أصله وهو الإجارة، والفرق بينها وبين البيع: أن البيع ليس له أصل آخر يرجع إليه في ذلك. ولأن أسباب الفساد إذا تأكدت بطلت حقيقة الجعالة بالكلية، فتتعين الإجارة، وإن لم تتأكد اعتبرنا الجعالة، ثم النظر بعد ذلك في المفسد، هل هو متأكد أم لا وهو تحقيق مناط (¬1). والفرق بين قولنا: جعل المثل، وإجارة المثل: أن جعل المثل لا يلزم إلا لإتمام العمل، فإن لم يتمه فلا شيء له، بخلاف إجارة المثل فتجب له الأجرة، وإن لم يتم العمل. * القول الراجح: الذي أميل إليه هو القول بأن له جعل المثل إن أتم العمل، فإن لم يتم العمل فلا شيء له، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث عشر في مشاركة العامل في العمل
الفصل الثالث عشر في مشاركة العامل في العمل المبحث الأول مشاركة العامل في العمل [م - 1008] إذا عين الجاعل شخصًا في عمل الجعالة، فأعانه آخر، فما الحكم؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ذهب الشافعية إلى أن المشارك لا حق له في الجعل مطلقًا؛ لأن المالك لم يلتزم له بشيء، إلا أن لعمله تأثيرًا على العامل في استحقاق الجعل، وذلك بأن يسأل المشارك: ماذا أردت بعملك، ومن أردت به؟ فإن قال: قصدت إعانة العامل، فللعامل كل الجعل، سواء قصد إعانته بعوض، أو بغير عوض؛ لأن المشارك لما قصد إعانة العامل، أصبح عمل المشارك واقعًا عن العامل، ومقصود المالك رد الآبق بأي وجه أمكن، فلا يحمل لفظه على قصر العمل على المخاطب، فإذا استعان العامل بمن أراد بأجرة يبذلها، أو بأن يتبرع له المعين بالإعانة فقد حصل المقصود، وصار العمل كله مضافًا للعامل، فاستحق كامل الجعل. وإن قال المشارك قصدت العمل لنفسي، أو للمالك، أو لهما، أو مطلقًا بأن
القول الثاني
قال: لم أقصد شيئا، فللعامل قسطه، وهو النصف؛ إذ القسمة على عدد الرؤوس على الصحيح. وقيل: القسمة على قدر العمل. وإن قصد العمل لنفسه وللعامل، أو للعامل والجاعل، فللعامل المعين ثلاثة أرباع الجعل؛ لأنه استحق نصف الجعل بعمله، ورجع إليه نصف عمل المشارك. وإن قصد المشارك العمل للجميع: أي للجاعل، وللعامل، ولنفسه، استحق العامل المعين ثلثي الجعل؛ لأنه استحق النصف بعمله، ورجع إليه ثلث عمل المشارك، وهو السدس، فصار المستحق ثلثي الجعل. ولا شيء للمشارك كما قلنا في جميع هذه الصور؛ لأن المالك لم يلتزم له بشيء، نعم إن التزم العامل له بشيء لزمه. ولو شاركه اثنان في الرد، فلا شيء لهما في الجعل، لكن إن قصدا إعانته فله تمام الجعل، أو العمل للمالك فله ثلثه، أو أراد واحد إعانته، والآخر إعانة المالك فللعامل المعين ثلثاه. هذا ملخص مذهب الشافعية. وبمثل هذا قالت الحنابلة (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أنهما يشتركان في الأكثر من الجعل المسمى، وجعل المثل. ¬
الراجح
ذلك أن العامل المعين يستحق المسمى من المالك بمقتضى التسمية. والعامل المشارك يستحق جعل المثل إذا كان من عادته رد الإباق والضوال، ولا يستحق المسمى، حيث لم يسمعه من المالك، فلما اشتركا في الجعل، واختلفا في القدر، استحقا الأكثر من الجعل المسمى، وجعل المثل (¬1). * الراجح: أرى أن الراجح ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة حيث كان الرد في غير الآبق، وأما الرد في الآبق فإنه مقدر شرعًا لمن جاء به بصرف النظر هل كان ذلك بأمر ربه، أو بدونه، فيشتركان فيه على النصف، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني إذا اشترك اثنان ولم يعين العامل
المبحث الثاني إذا اشترك اثنان ولم يعين العامل [م - 1009] إذا اشترك اثنان في الرد، وكان الخطاب عاما، كأن يقول: من رد مالي فله كذا، فاشترك اثنان في العمل، فهل يقسم الجعل على عددهما، أو يقسم بحسب صعوبة العمل وسهولته، اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يشتركان في الجعل المسمى، ويقسم الجعل بينهما على عدد رؤوسهما، وإن تفاوتا في العمل؛ لأنه لا يمكن ضبط العمل حتى يوزع الجعل بينهما على قدر أعمالهما. وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة (¬1). قال النووي: "قال من رد عبدي، فله دينار، فاشترك جماعة، فالدينار مشترك بينهم" (¬2). وجاء في كفاية الأخيار: "واعلم أنه لو اشترك جماعة في الرد اشتركوا في الجعل؛ لأنهم اشتركوا في السبب، ويقسم بينهم بالسوية، وإن تفاوتت أعمالهم؛ لأن العمل في أصله مجهول، فلا يمكن رعاية مقداره في التقسيط، ¬
القول الثاني
وللإمام احتمال في توزيع الجعل على قدر أعمالهم؛ لأن العمل بعد تمامه قد انضبط، والله أعلم" (¬1). القول الثاني: يشتركان في الجعل بنسبة العمل صعوبة وسهولة، فإن استوى العملان فلكل نصف الجعل. وهذا مذهب المالكية (¬2). وسبق لنا أن هذا قول في مذهب الشافعية. والراجح: الأول، والله أعلم. ¬
الباب الثالث في الانتهاء من عقد الجعالة
الباب الثالث في الانتهاء من عقد الجعالة الفصل الأول انتهاء الجعالة بإتمام العمل [م - 1010] اتفق القائلون بالجعالة بأن العامل إذا أنجز العمل المعقود عليه، وسلمه للجاعل أنه يستحق بذلك الجعل، وبهذا يكون العقد قد تم إنجازه، وحصل المقصود منه، وهو حصول المالك على ما أراد، واستحقاق العامل العوض المسمى في العقد. وهذا أمر بين لا يحتاج إلى إيضاح. ***
الفصل الثاني انتهاء الجعالة بالفسخ
الفصل الثاني انتهاء الجعالة بالفسخ المبحث الأول فسخ الجعالة قبل الشروع في العمل [م - 1011] الفسخ إن كان برضا الطرفين فالجعالة تنفسخ قولًا واحدًا قبل الشروع في العمل أو بعده؛ لأن الحق لهما، فإذا اتفقا على فسخه انفسخ. وإن كان الفسخ بفعل أحدهما فهذا يتوقف على الخلاف في عقد الجعالة، هل هو عقد جائز، أو عقد لازم؟ وهل الفسخ كان قبل الشروع في العمل أو بعده؟ [م - 1012] فإن كان الفسخ قد انفرد به أحدهما، وكان قبل الشروع في العمل، فقد اختلف فيه الفقهاء إلى أقوال: القول الأول: لا تنفسخ الجعالة بالإرادة المنفردة باعتبار أن الجعالة عقد لازم، ولو قبل الشروع في العمل قياسًا على الإجارة. وهذا قول مرجوح في مذهب المالكية (¬1). وسبق مناقشة هذا القول في حكم عقد الجعالة، وبينا أن هذا القول ضعيف، وأن هناك فرقًا بين الإجارة والجعالة: فالإجارة تقدر فيها المدة، ويعين فيها المستأجر، بخلاف الجعالة. ¬
القول الثاني
القول الثاني: إن كان الفسخ من المجعول له صحت، وإن كان الفسخ من الجاعل لم تصح، وهذا على قول من قال: تلزم الجعالة بالقول من الجاعل دون المجعول له، وهو قول في مذهب المالكية (¬1). جاء في عقد الجواهر الثمينة: "أما أحكام الجعالة فخمسة: الأول: الجواز من الجانبين ما لم يشرع في العمل كالقراض ... وحكى أبو الحسن اللخمي قولين آخرين: أحدهما: أنها تلزم بالقول من الجاعل خاصة دون المجعول له. الثاني: أنها كالإجارة، تنعقد لازمة بالقول لهما جميعًا" (¬2). القول الثالث: لكل فسخها قبل الشروع في العمل، وهذا باعتبار أن الجعالة عقد جائز من الطرفين قبل الشروع في العمل، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، والقول الراجح عند المالكية (¬3). قال الخرشي: "الجاعل والمجعول له يجوز لكل منهما أن يحل عن نفسه قبل الشروع في العمل ... لأن عقد الجعالة جائز غير لازم على المشهور" (¬4). ¬
تنبيه
فقوله على المشهور إشارة إلى خلاف في المذهب، سبق ذكره. وقال العدوي: "وأما الجعل قبل الشروع فلا يلزم واحدًا منهما" (¬1). وهذا هو القول الراجح، وقد ذكرنا دليله في حكم عقد الجعالة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والحمد لله. تنبيه: إنما يتصور الفسخ ابتداء من العامل المعين، وأما غيره فلا يتصور الفسخ منه إلا بعد الشروع في العمل (¬2). ¬
المبحث الثاني فسخ الجعالة بعد الشروع في العمل
المبحث الثاني فسخ الجعالة بعد الشروع في العمل [م - 1013] إذا فسخ أحد العاقدين الجعالة بعد الشروع في العمل، وقبل إتمامه، فهل يصح الفسخ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأول: يصح الفسخ، فإن فسخ الجاعل كان للعامل أجرة مثله لما عمل؛ لأن المالك استهلك منفعته بشرط العوض، فلزمته أجرته كما لو فسخ المضاربة. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬1). وإن كان الفسخ من العامل فلا شيء له؛ لأنه امتنع باختياره، ولم يحصل غرض المالك، وهذا بناء على أن عقد الجعالة عقد جائز، وقد سبق بحث هذه المسألة، وذكرنا أدلتهم فيما سبق، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، والحمد لله. القول الثاني: إن فَسَخَ العامل صح الفسخ؛ لأن العقد جائز في حقه، وإن فسخ المالك لم يصح الفسخ؛ لأن العقد بعد الشروع في العمل لازم في حقه، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬2). ¬
الراجح
وقد ذكرنا دليلهم عند الكلام على توصيف عقد الجعالة، هل هو جائز أو لازم، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. * الراجح: أن الفسخ صحيح قبل إتمام العمل، سواء كان الفسخ من العامل، أو من المالك؛ لأن العقد جائز، فإن فسخ الجاعل كان للعامل حصته من المسمى، إن كان المالك قد استفاد من عمل العامل، وهذا ما اختاره شيخ شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه اللهُ (¬1)، وإلا كان له أجرة المثل، وبهذا يحفظ حق العامل إذا كان الفسخ من قبل الجاعل، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث فسخ الجعالة بعد إتمام العمل
المبحث الثالث فسخ الجعالة بعد إتمام العمل [م - 1014] لا يملك أحد العاقدين الانفراد في فسخ الجعالة بعد إتمام العمل، والفراغ منه؛ لأن العقد يصبح لازمًا؛ لأن الجعل قد استقر في ذمة الجاعل (¬1). وإن حصل فسخ فلا يسمى فسخًا، وإنما يسمى إبراء وإسقاطًا من العامل لحقه، ولرب العمل ألا يقبل؛ لأن فيه منة، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع فسخ الجعالة بالموت
المبحث الرابع فسخ الجعالة بالموت الفرع الأول انفساخ الجعالة بموت الجاعل جاء في كشاف القناع: كل عقد جائز من الطرفين ... يبطل بموت أحدهما وعزله (¬1). [م - 1015] إذا مات الجاعل قبل الشروع في العمل انفسخ العقد. وإذا مات الجاعل بعد إتمام العمل لزم الجعل، ولا يمكن فسخه بالموت، وهذا مما لم يختلف فيه أحد من الفقهاء. وأما إذا مات الجاعل في أثناء العمل؛ فاختلفوا في انفساخ الجعالة بالموت على قولين: القول الأول: إذا مات الجاعل في أثناء العمل، فلا يخلو إما أن يكون العمل مما لا يتبعض كطلب الآبق، وحفر الآبار؛ فهذا ليس للورثة أن يمنعوه من تمامه. وإما أن يكون مما يتبعض كالحصد، واللقط , واقتضاء الدين, فهذا لا يلزم ورثة الجاعل أن يبقوه على ذلك. وهذا مذهب المالكية (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: تنفسخ الجعالة بالموت، ولا شيء للعامل لما عمله بعد موت المالك، فلو رده إلى وارثه استحق من المسمى قسط ما عمله في الحياة، وهذا مذهب الشافعية (¬1). وبه قال الحنابلة، جاء في كشاف القناع: "كل عقد جائز من الطرفين ... يبطل بموت أحدهما وعزله" (¬2). وقال في شرح منتهى الإرادات: "ويبطل سباق بموت أحدهما كسائر العقود الجائزة" (¬3). فقوله: كسائر العقود الجائزة يدخل في ذلك الجعالة على رد الضال، والآبق، ونحوهما. ... ¬
الفرع الثاني انفساخ الجعالة بموت العامل
الفرع الثاني انفساخ الجعالة بموت العامل [م - 1016] اختلف العلماء فيما إذا مات العامل بعد الشروع في العمل على قولين: القول الأول: لا تنفسخ الجعالة بموت العامل؛ لأن عقد الجعالة عقد لازم بالنسبة للجاعل إذا شرع العامل في العمل، والموت لا يوجب فسخ العقود اللازمة، وعليه فإن للورثة أن يتموا العمل، وليس للجاعل أن يمنعهم من إتمامه. وهذا مذهب المالكية (¬1). القول الثاني: تنفسخ الجعالة بموت العامل، ويستحق من المسمى قسط ما عمله في الحياة، وهذا مذهب الشافعية، وبه قال الحنابلة (¬2). وبهذه المسألة أكون قد انتهيت من المباحث المختارة في عقد الجعالة، فلله الحمد والمنة على ما أنعم وتفضل. ... ¬
عقد الشفعة
عقد الشفعة * تمهيد * المبحث الأول في تعريف الشفعة تعريف الشفعة لدى الفقهاء (¬1): الاختلاف في تعريفها بين الفقهاء راجع إلى الاختلاف في الشفيع، هل يختص بالشريك وهو قول الجمهور؟ أو يشاركه من هو مثله كالجار، وهذا مذهب الحنفية؟ وهل يختص هذا الحق بالمسلم، أو يشاركه الكافر كالذمي؟ وهل تختص بالعقار، أو هي عامة في كل مال؟ إذا عرف ذلك نأتي على تعريفها لدى المذاهب الفقهية: ¬
تعريف الحنفية
تعريف الحنفية: عرفها ابن الهمام: هي تملك البقعة جبرًا على المشتري بما قام عليه (¬1). فقوله: (تملك البقعة) إشارة إلى أن الشفعة خاصة بالعقار. وسيأتي تحرير الخلاف فيها إن شاء الله تعالى. وقوله: (جبرًا) إشارة إلى أن طبيعة عقد الشفعة انتزاع الملك، فهي ليست كالبيع القائم على التراضي. وقوله: (بما قام عليه) أي بمثل الثمن الذي تملكه به المشتري. وانتقد التعريف بأنه لم يذكر سبب الشفعة، ولذلك صرح بعضهم بزيادة قيد في آخر التعريف كقولهم: (بشركة أو جوار). قال ابن الهمام: "وترك ذكره في الأكثر بناء على ظهوره" (¬2). وجاء في العناية: عبارة عن تملك المرء ما اتصل بعقاره من العقار على المشتري بشركة أو جوار (¬3). هذا التعريف وإن كان نص على سبب الشفعة، وهي الشركة والجوار إلا أنه لم يشر إلى طبيعة هذا التملك، وأنه ينتزع الملك انتزاعًا من المشتري، ولم يذكر الثمن الذي يتملكه فيه الشفيع، فينبغي أن يضم أحد التعريفين إلى الآخر ليكون التعريف معبرًا عن قيود الحنفية، والله أعلم. ¬
تعريف المالكية
تعريف المالكية: عرفها المالكية بقولهم: استحقاق شريك ولو ذميًّا أخذ مبيع شريكه بثمنه (¬1). وعرفها بعضهم: أخذ ما عاوض به شريكه من عقار بثمنه أو قيمته بصيغة (¬2). تعريف الشافعية: عرفوها بقوله: حق تملك قهري يثبت للشريك القديم على الشريك الحادث فيما ملك بعوض (¬3). تعريف الحنابلة: عرفها الحنابلة بقولهم: "استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقلة عنه من يد من انتقلت إليه" (¬4). من خلال عرض هذه التعريفات يظهر لنا ما يلي: (1) عامة العلماء متفقون على القول بالشفعة على وجه الإجمال، وفيها خلاف نادر للأصم، وستأتي مناقشة قوله إن شاء الله تعالى. (2) لا يختلف الأئمة الأربعة في ثبوت الشفعة للشريك المسلم، واختلفوا في ثبوتها للذمي، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحرير الخلاف في مبحث مستقل. (3) تكاد تتفق التعاريف بأن الشفعة استحقاق، وليست بيعًا، وذلك أن هناك فرقًا بين البيع والشفعة. ¬
فالبيع لا يتم إلا برضى الطرفين، بينما حقيقة الشفعة هي تملك البقعة جبرًا على المشتري. وأن البيع لا يتم إلا بما يرضى به البائع عوضًا عن المبيع، بينما عقد الشفعة يحل الشفيع محل المشتري، ويأخذ بمثل ما أخذ به من الثمن. وكون بعض الفقهاء قد يطلق البيع على الشفعة فلعله أراد أنه يترتب عليها من الآثار ما يترتب على البيع كالرد بخيار العيب، والرجوع بالثمن عند الاستحقاق، وحبس المبيع لاستيفاء الثمن، ونحو ذلك. (4) أن الشفعة سبب من أسباب التملك، فالشفيع يكسب بالشفعة ملكية العقار وذلك بإرادة منفردة صادرة من جانب واحد، وذلك عن طريق حلول الشفيع محل المشتري، ولا يعتبر بالاتفاق رضا الشريك والمشفوع عليه في انتزاع حصة شريكه من يد من انتقلت إليه. (5) لا تثبت الشفعة إلا إذا كان انتقال حصة الشريك عن طريق المعاوضة، فيخرج بذلك الأعيان التي انتقلت من الشريك بإرث باتفاق، أو بهبة أو صدقة، أو وصية على خلاف في ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى. قال في مواهب الجليل: "يدخل في قوله (بمعاوضة) البيع، وهبة الثواب، والمهر، والخلع، وجميع المعاوضات، والصلح، ولو كان على إنكار" (¬1). وفيما عدا المعاوضة بالبيع فيها نزاع بين العلماء سيأتي تحريره إن شاء الله تعالى. (6) أن ينتقل الملك إلى المشتري انتقالًا لازمًا، فلا شفعة في بيع يكون الخيار فيه للبائع إلا بعد بته. ¬
وأما إذا كان الخيار للمشتري ففيه خلاف سوف يأتي تحريره إن شاء الله تعالى. (7) إذا اشترى رجلان دارًا معًا، فلا شفعة لأحدهما على الآخر (¬1). قال ابن رشد: واتفقوا على أن من شرط الأخذ بالشفعة أن تكون الشركة متقدمة على البيع (¬2). (8) اتفاقهم في الجملة على ثبوت الشفعة في العقار، واختلفوا فيما عداه، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحرير الخلاف فيه. (9) اختلاف الفقهاء في سبب الشفعة، هل هي خاصة للشريك في المبيع، أو للشريك في حقوق الارتفاق، أو للجار الملاصق. وسيأتي تحرير الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى. (10) اختلافهم في ثبوت الشفعة في الشركة في عقار لا يقبل القسمة، كالحمام والدكان الصغيرين. (12) اختلافهم في الشفعة في المنقولات. وسيأتي تحرير الخلاف فيها إن شاء الله تعالى. وقد صرح العلماء بأن الشفعة كانت قبل الإسلام: جاء في اللسان: "قال القتيبي في تفسير الشفعة: كان الرجل في الجاهلية إذا أراد بيع منزل أتاه رجل فشفع إليه فيما باع، فشفعه، وجعله أولى بالمبيع ممن بعد سببه، فسميت شفعة، وسمي طالبها شفيعًا" (¬3). ¬
وقال ابن رشد في المقدمات: "الأصل في تسمية أخذ الشريك الشقص الذي باع شريكه من المشتري بالثمن الذي اشتراه به شفعة، وهو أن الرجل في الجاهلية كان إذا اشترى حائطًا أو منزلًا، أو شقصًا من حائط أو منزل أتاه المجاور أو الشريك فيشفع إليه في أن يوليه إياه ليتصل له الملك، أو يندفع عنه الضرر حتى يشفعه، فسمي ذلك شفعة، وسمي الآخر شفيعًا، والمأخوذ منه مشفوعًا عليه" (¬1). ¬
المبحث الثاني الشفعة على وفق القياس
المبحث الثاني الشفعة على وفق القياس [م - 1017] ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن الشفعة على خلاف القياس (¬1). * وجه مخالفتها للقياس: أنها قائمة على أخذ مال الغير بغير رضاه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ولأنه بالأخذ يدفع الضرر عن نفسه على وجه يلحق الضرر بالمشتري في إبطال ملكه عليه، وليس لأحد أن يدفع الضرر عن نفسه بالإضرار بغيره. جاء في الهداية: "حق الشفعة معدول به عن سنن القياس لما فيه من تملك المال على الغير بلا رضاه" (¬1). وقال ابن قدامة: "الشفعة تثبت على خلاف الأصل؛ إذ هي انتزاع ملك المشتري بغير رضا منه، وإجبار له على المعاوضة مع ما ذكره الأصم" (¬2). يشير ابن قدامة إلى ما نقله عن الأصم بأنه قال: "لا تثبت الشفعة؛ لأن في ذلك إضرارًا بأرباب الأملاك، فإن المشتري إذا علم أنه يؤخذ منه إذا ابتاعه لم يبتعه، ويتقاعد الشريك عن الشراء، فيستضر المالك" (¬3). القول الثاني: اختار المتأخرون من الحنابلة (¬4)، ورجحه ابن تيمية وابن القيم بأن الشفعة جارية على وفق القياس. قال ابن القيم: "من محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد ورودها بالشفعة، ولا يليق بها غير ذلك؛ فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن ¬
المكلفين ما أمكن، فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه بقَّاة على حاله، وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به، ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب، فإن الخلطاء يكثر فيهم بغي بعضهم على بعض فشرع الله سبحانه رفع هذا الضرر بالقسمة تارة وانفراد كل من الشريكين بنصيبه، وبالشفعة تارة وانفراد أحد الشريكين بالجملة إذ لم يكن على الآخر ضرر في ذلك؛ فإذا أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه كان شريكه أحق به من الأجنبي، وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيهما كان؛ فكان الشريك أحق بدفع العوض من الأجنبي، ويزول عنه ضرر الشركة، ولا يتضرر البائع؛ لأنه يصل إلى حقه من الثمن، وكان هذا من أعظم العدل، وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد. ومن هنا يعلم أن التحيل لإسقاط الشفعة مناقض لهذا المعنى الذي قصده الشارع ومضاد له" (¬1). وقال ابن تيمية: "لفظ القياس لفظ مجمل، يدخل فيه القياس الصحيح والقياس الفاسد، فالقياس الصحيح هو الذي وردت به الشريعة، وهو الجمع بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين، الأول قياس الطرد، والثاني قياس العكس، وهو من العدل الذي بعث الله به رسوله، فالقياس الصحيح مثل أن تكون العلة التي علق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها، ومثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه قط، وكذلك القياس بإلغاء الفارق، وهو ألا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الشرع فمثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه، وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأنواع بحكم يفارق به نظائره فلا بد أن يختص ذلك بوصف يوجب اختصاصه ¬
بالحكم، ويمنع مساواته لغيره، لكن الوصف الذي اختص به قد يظهر لبعض الناس وقد لا يظهر، وليس من شرط القياس الصحيح المعتدل أن يعلم صحته كل أحد، فمن رأى شيئًا من الشريعة مخالفًا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، وليس مخالفًا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر، وحيث علمنا أن النص جاء بخلاف قياس، علمنا قطعًا أنه قياس فاسد، بمعنى أن سورة النص امتازت عن تلك الصور التي يظن أنها مثلها بوصف أوجب تخصيص الشارع لها بذلك الحكم، فليس في الشريعة ما يخالف قياسًا صحيحًا، لكن فيها ما يخالف القياس الفاسد، وإن كان من الناس من لا يعلم فساده" (¬1). "وبالجملة ما عرفت حديثًا صحيحًا إلا ويمكن تخريجه على الأصول الثابتة، وقد تدبرت ما أمكنني من أدلة الشرع، فما رأيت قياسًا صحيحًا يخالف حديثًا صحيحًا، كما أن المعقول الصريح لا يخالف المنقول الصحيح، بل متى رأيت قياسًا يخالف أثرًا فلابد من ضعف أحدهما، لكن التمييز بين صحيح القياس وفاسده مما يخفى كثير منه على أفاضل العلماء فضلًا عمن هو دونهم، فإن إدراك الصفات المؤثرة في الأحكام على وجهها ومعرفة الحكم والمعاني التي تضمنتها الشريعة من أشرف العلوم، فمنه الجلي الذي يعرفه كثير من الناس، ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم، فلهذا صار قياس كثير من العلماء يرد مخالفًا للنصوص لخفاء القياس الصحيح عليهم، كما يخفى على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التي تدل على الأحكام" (¬2). ¬
رأيي فى الموضوع
* رأيي فى الموضوع: أعتقد أن من قال: الشفعة على خلاف القياس لا يعني أن جوازها تجرد عن مراعاة المصلحة حتى خالف القياس، وإنما المراد به: أنه عدل به عن نظائره لمصلحة أكمل وأخص من مصالح نظائره على جهة الاستحسان الشرعي، فمن ذلك أن القياس أن الشريك يبيع ماله على من يشاء، وأن من اشترى شيئًا فلا ينزع منه إلا بطيب نفس منه، وجاز مخالفة ذلك في الشفعة دفعًا لضرر الشريك والجار المشارك في حقوق الارتفاق، وحقهم مقدم على حق المشتري، والله أعلم.
المبحث الثالث الحكمة من مشروعية الشفعة
المبحث الثالث الحكمة من مشروعية الشفعة لما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب، وكان الخلطاء والجيران كثيرًا ما يبغي بعضهم على بعض شرع الله سبحانه وتعالى رفع هذا الضرر بأحد طريقين: (1) بالقسمة تارة، وانفراد كل من الشريكين بنصيبه. (2) وبالشفعة تارة أخرى، وانفراد أحدهما بالمبيع بالجملة. [م - 1018] وقد اختلف العلماء في الضرر الذي قصد الشارع رفعه بالشفعة على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن الشفعة شرعت لدفع أذى الدخيل وضرره، فتثبت للشريك كما تثبت للجار (¬1). قال علي حيدر: "سبب مشروعيتها دفع ما ينشأ من سوء الجوار على وجه التأبيد والقرار، كإيقاد النار وإعلاء أجدار وإثارة الغبار، ومنع ضوء النهار، وإيقاف الدواب والصغار. وقد قيل: أضيق السجود معاشرة الأضداد" (¬2). وسوف يأتي بحث الشفعة للجار في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى. ¬
القول الثاني
القول الثاني: سبب الشفعة هو دفع ضرر الشركة، وعلى هذا فلا تثبت للجار، وهذا مذهب الحنابلة، وأحد القولين في مذهب المالكية (¬1). جاء في شرح منتهى الإرادات "الشفعة على خلاف الأصل دفعًا لضرر الشركة" (¬2). وجاء في شرح ميارة: "الشفعة إنما شرعت لدفع الضرر، وهل ذلك لدفع ضرر الشركة، فتجب الشفعة في ذلك حتى لا يتضرر بشركة الداخل. أو إنما ذلك لدفع ضرر القسمة؛ لأن أحد الشركاء له طلب الباقين بالقسمة، فإذا اشترى أجنبي من أحدهم خشي الباقون أن يدعوهم إلى القسمة، وقد يكون ذلك مضرًّا بهم؛ لأن كل واحد منهم يحتاج إلى استحداث مرافق في نصيبه غالبًا فشرعت الشفعة لدفع هذا الضرر، فعلى هذا لا شفعة فيما لا ينقسم لعدم حصول هذا الضرر فيه. والأول أظهر" (¬3). قال ابن القيم: "قالت طائفة أخرى: إنما شرعت الشركة لدفع الضرر اللاحق بالشركة، فإذا كانا شريكين في عين من الأعيان بإرث أو هبة أو وصية أو ابتياع أو نحو ذلك لم يكن رفع ضرر أحدهما بأولى من رفع ضرر الآخر، فإذا باع نصيبه كان شريكه أحق به من الأجنبي؛ إذ في ذلك إزالة ضرره مع عدم تضرر ¬
القول الثالث
صاحبه، فإنه يصل إلى حقه من الثمن، ويصل هذا إلى استبداده بالمبيع، فيزول الضرر عنهما جميعا. وهذا مذهب من يرى الشفعة في الحيوان والثياب والشجر والجواهر والدور الصغار التي لا يمكن قسمتها، وهذا قول أهل مكة، وأهل الظاهر، ونص عليه أحمد في رواية حنبل. قال: قيل لأحمد: فالحيوان دابة تكون بين رجلين أو حمار أو ما كان من نحو ذلك؟ قال: هذا كله أوكد؛ لأن خليطة الشريك أحق به بالثمن، وهذا لا يمكن قسمته، فإذا عرضه على شريكه، وإلا باعه بعد ذلك" (¬1). القول الثالث: يرى فريق من العلماء أن سبب الشفعة لدفع ضرر القسمة، وهذا يتفق مع القول السابق في عدم ثبوتها للجار، ولا تثبت إلا فيما يقبل القسمة. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة والقول الثاني في مذهب المالكية (¬2). قال ابن رشد: "وعلى هذا يأتي اختلاف المتأخرين من أصحابنا في الضرر الذي من أجله جعلت الشفعة. فإن رأى أن الشفعة لا تكون إلا فيما ينقسم من الأصول لم يعلل بضرر الشركة؛ لإمكان انفصالهما عنه بالقسمة، وقال: إن العلة في ذلك ضرر القسمة ... ثم ذكر وجوه الضرر بالقسمة ... ¬
وجه ذلك
ومن رأى أن الشفعة تكون فيما ينقسم وفيما لا ينقسم، قال: إن العلة فيما لا ينقسم ضرر الشركة؛ إذ لا يقدر أحد من الشركاء أن يتصرف في المال المشترك بشيء من وجوه التصرف دون إذن شريكه" (¬1). وجه ذلك: أن القسمة قد تكون سببًا في نقص القيمة، وقد تضطره إلى استحداث مرافق جديدة، وإلى دفع أجرة القاسم، وإلى الضيق في مرافق المنزل، فإنه قبل القسمة ربما ارتفق بالدار والأرض كلها، وبأي موضع شاء منها، فإذا وقعت الحدود ضاقت به الدار، وقصر على موضع منها، وفي ذلك من الضرر عليه ما لا خفاء به. فمكنه الشارع بحكمته ورحمته من رفع هذه المضرة عن نفسه، بأن يكون أحق بالمبيع من الأجنبي الذي يريد الدخول عليه. * الراجح: هذه العلل الثلاث ليست متضادة، بل كل واحدة منها تصلح علة، ولا مانع من التعليل للحكم بأكثر من علة، فإذا انتفت كلها انتفى الحكم، وإذا وجد أحدها وجد الحكم، فالشفعة لدفع الضرر، وهذا الضرر يتنوع، قد يكون الضرر لدفع أذى الدخيل الطارئ، فيحق للجار أن يشفع لدفع أذاه إذا كان مشتركًا في مرافق المبيع، وقد يكون بسبب الشركة، وقد يكون بسبب القسمة، والضرر فيها جنس، وهي بمنزلة الأنواع، فلا مانع عندي من التعليل بها كلها مجتمعة، أو منفردة، والله أعلم. ... ¬
الباب الأول في أركان الشفعة
الباب الأول في أركان الشفعة الفصل الأول في تحديد أركان الشفعة [م - 1019] سبق لنا في العقود السابقة كعقد البيع والإجارة، خلاف الحنفية والجمهور في أركان العقد: فالحنفية يرون أن ركن العقد: هو الإيجاب والقبول (الصيغة) ويزيد عليها الجمهور: العاقدان والمعقود عليه. وفي الشفعة لما كان الأخذ جبرًا لا يحتاج إلى قبول المشتري ذكر الحنفية أن الصيغة فقط: هي أخذ الشفيع المشفوع من أحد المتعاقدين، والذي هو بمنزلة الإيجاب الذي لا يفتقر إلى قبول (¬1). وعليه يصح أن نقول: إن ركن الشفعة عند الحنفية هو الإيجاب فقط، حيث جعلوا الركن: هو الأخذ فقط، ولم يلحقوا به القبول؛ لجوازه مع الإكراه، كما لم يلحقوا به الشفيع والمشفوع به والمشفوع فيه والمشفوع عليه (وهو مشتري - العقار) طردًا لقاعدتهم. ¬
فأما الجمهور فمشوا على قاعدتهم من إدخال العاقدين والمعقود عليه في الأركان: فذكر الخرشي من المالكية: أركان الشفعة بأنها أربعة: آخذ: وهو الشفيع. ومأخوذ منه: وهو المشتري. وشيء مأخوذ: وهو الشقص المبتاع. وشيء مأخوذ به: وهو الثمن (¬1). وزاد بعضهم خامسًا: وهو الصيغة (¬2). وذكر الشافعية الثلاثة الأولى عدا الثمن (¬3). وأما الصيغة فأكثر الشافعية لم يعتبروها من الأركان، وقالوا: الصيغة إنما تجب في التملك، ولا تجب عند الاستحقاق فلا حاجة إلى عدها ركنًا، بل لا يصح. وانتقد ذلك في حاشية الجمل، وذكر أن الاستحقاق المذكور لا يتحقق ولا يثبت إلا بصيغة تدل عليه، فما صنعوه فيه تساهل (¬4). قال ابن قدامة: "ويملك الشفيع بأخذه بكل لفظ يدل على أخذه، بأن يقول: ¬
قد أخذته بالثمن، أو تملكته بالثمن، أو نحو ذلك، إذا كان الثمن والشقص معلومين" (¬1). ... ¬
الفصل الثاني في صيغة طلب الشفعة
الفصل الثاني في صيغة طلب الشفعة [م - 1020] ذهب جماهير أهل العلم إلى أنه لا يشترط في طلب الشفعة لفظ أو صيغة معينة على الصحيح بل تصح بكل ما يدل عليها من قول أو فعل. جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "ألفاظ الطلب لا تنحصر في الألفاظ المذكورة، فكل لفظ يفهم منه طلب الشفعة يصح طلب الشفعة به؛ لأن العبرة للمعاني" (¬1). وجاء في المغني: "ويملك الشفيع الشقص بكل لفظ يدل على أخذه بأن يقول: قد أخذته بالثمن، أو تملكته بالثمن، أو نحو ذلك" (¬2). وجاء في الهداية: "ويصح الطلب بكل لفظ يفهم منه طلب الشفعة، كما لو قال: طلبت الشفعة، أو أطلبها، أو أنا طالبها؛ لأن الاعتبار للمعنى" (¬3). وخالف في ذلك الشافعية فقالوا: لا تصح الشفعة بالمعاطاة. جاء في مغني المحتاج: "يشترط لفظ من الشفيع كتملكت أو أخذت بالشفعة، ونحو ذلك ... ويقوم مقام اللفظ إشارة الأخرس المفهمة، ولا يكفي المعاطاة كما مر في البيع، ولا أنا مطالب بالشفعة، ونحو ذلك" (¬4). وجاء في نهاية المحتاج: "ويشترط في حصول الملك بالشفعة لفظ أو نحوه ¬
والراجح
ككتابة، أو إشارة أخرس من الشفيع، كتملكت، أو أخذت بالشفعة ونحوها كاخترت الأخذ بها" (¬1). والراجح: قول الجمهور، والله أعلم. ... ¬
الفصل الثالث في التراخي في طلب الشفعة
الفصل الثالث في التراخي في طلب الشفعة [م - 1021] إذا علم الشفيع بالشفعة، فهل يجب أن يطلبها على الفور؟ أو له أن يتراخى في طلبها؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأول: يجب أن يطلبها على الفور بشرط العلم وإمكان الطلب، فإن علم وأمكن الطلب ولم يطلب بطلت شفعته. وهذا مذهب الحنفية، والقول الجديد للشافعي، والمذهب عند الحنابلة (¬1). قال الشيرازي: "نص عليه في الجديد أنه على الفور، وهو الصحيح" (¬2). وقال الغزالي: "وقد اختلفَ في مدته قولُ الشافعي، فالصحيح، وهو الجديد أنه على الفور ... " (¬3). وقال ابن قدامة: "الصحيح في المذهب أن حق الشفعة على الفور، إن طالب ¬
القول الثاني
بها ساعة يعلم بالمبيع وإلا بطلت، نص عليه أحمد في رواية أبي طالب، فقال: الشفعة بالمواثبة ساعة يعلم ... " (¬1). القول الثاني: الشفعة ليست على الفور، وهو مذهب مالك، والقول القديم للشافعي، ورواية في مذهب الحنابلة، وبه قال ابن حزم (¬2). * دليل من قال: الشفعة على الفور: الدليل الأول: (ح-620) ما رواه ابن ماجه من طريق محمد بن الحارث، عن محمد ابن عبد الرحمن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الشفعة كحل العقال (¬3). [ضعيف جدا] (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن في ثبوت الشفعة على التراخي ضررًا يلحق بالمشتري لكونه يمنعه من استقرار المبيع في ملكه، ومن التصرف فيه خشية أخذه منه. ونوقش هذا: حق المشتري ليس بأولى من حق الشفيع، وحقه متقدم عليه، وإيجاب الشفعة على الفور ضرر يلحق بالشفيع حيث يُقدِم على الشفعة دون تدبر وتأمل في الأحظ من الأخذ أو الترك. الدليل الثالث: حق الشفعة حق ضعيف لثبوته على خلاف القياس، حيث ينتزع الملك من صاحبه لدفع ضرر محتمل، قد يوجد وقد لا يوجد، فلا يستقر إلا بالطلب على الفور. ¬
ونوقش هذا
ونوقش هذا: الصحيح أن القول بالشفعة على وفق القياس، وقد ناقشت هذا في مبحث مستقل فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والحمد لله. الدليل الرابع: أن حق الشفعة ثبت لدفع الضرر فكان على الفور كالرد بالعيب. ونوقش هذا: لا نسلم أن خيار الرد بالعيب على الفور، ولا يوجد دليل على الفورية، وعلى التسليم فهناك فرق بين خيار الرد بالعيب وحق الأخذ بالشفعة؛ لأن ما فيه عيب قد وجب رده بخلاف الأخذ بالشفعة فإنه يحتاج إلى التأمل والنظر، والله أعلم. * دليل من قال: الشفعة على التراخي: الدليل الأول: ثبت حق الشفيع في السنة الصحيحة، والحقوق الثابتة بالأدلة الصحيحة لا تسقط إلا بأدلة صحيحة مثلها، أو بإسقاط أصحابها. الدليل الثاني: يحتاج الشفيع قبل الإقدام على الشفعة إلى التروي والتأمل قبل الأخذ بالشفعة، وإلزامه بالأخذ بها فورًا وإلا سقط حقه من الإضرار به، وهذا لا يجوز، والمشتري قد دخل بالعقد وهو يعلم أن المبيع شقص في شركة، وأن الشريك له الحق في الأخذ بالشفعة فكان كشرط الخيار في العقد، والله أعلم. * الراجح: القول بأن الشفعة على التراخي، والله أعلم.
الفصل الرابع في تقدير مدة التراخي
الفصل الرابع في تقدير مدة التراخي [م - 1022] اختلف القائلون بالتراخي في تقدير مدة التراخي على خمسة أقوال: القول الأول: يمتد حق الشفيع ما دام في المجلس وإن طال، ما لم يتشاغل عن طلب الشفعة بعمل أجنبي، فإن قام عن المجلس، أو تشاغل عن طلب الشفعة بعمل أجنبي بطلت شفعته. وهذا قول محمد بن الحسن من الحنفية، قال الكرخي: هذا أصح الروايتين، وهو رواية عن الإمام أحمد (¬1). وجهه: أن حالة المجلس كحالة العقد، بدليل أن القبض في مجلس العقد فيما يشترط لصحته القبض كالقبض حالة العقد، وقياسا على خيار القبول عند الحنفية. القول الثاني: لا يسقط إلا بإسقاطه أو بالعفو عنه، ولو امتد ذلك سنوات كثيرة، وهذا هو القديم من قولي الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، واختيار ابن حزم (¬2). وقد ذكرنا أدلته في المسألة السابقة. ¬
القول الثالث
القول الثالث: يمتد هذا الحق حتى يصل إلى سنة إلا أن يستعجل المشتري الشفيع عند الحاكم، فإذا استعجله لزم الشفيع الأخذ أو الترك، وهذا هو المشهور من مذهب الإِمام مالك (¬1). والقول بالاستعجال قول في مذهب الشافعية. جاء في المهذب: "وفي خياره -يعني الشفيع أربعة أقوال: والثاني: أنه بالخيار إلى أن يرفعه المشتري إلى الحاكم ليجبره على الأخذ أو العفو" (¬2). وجه القول بالتحديد بالسنة: أن السنة قد جعلت قدرا لقطع الأعذار في الغيبة وغيرها، فكذلك في المتمكن من القيام بالشفعة. القول الرابع: إذا لم يطلب الشفعة حتى مضت خمسة أعوام فقد بطل حقه، وهذا قول في مذهب المالكية (¬3). ولا أعلم دليلًا في التحديد بخمس سنوات، والله أعلم. ¬
القول الخامس
القول الخامس: يمتد حق الشفعة إلى ثلاثة أيام، وهو قول عند الشافعية، وحكي عن ابن أبي ليلى والثوري (¬1). وجه القول بالتحديد بالثلاثة: القياس على خيار الشرط، فإذا كانت الثلاث قد جعلت حدا فيه، فلتكن حدا في تحديد المدة في الخيار بين الأخذ والترك. والقول بتحديد مدة خيار الشرط بثلاثة أيام قول ضعيف، وسبق مناقشة هذه المسألة في عقد البيع. الراجح: أننا إذا اعتبرنا أن هذا الحق على التراخي فهو من غير تقدير بمدة معينة؛ لأن التقدير بمدة معينة يحتاج إلى توقيف، ولا نص في تقدير المدة والقول هذا لا يتعارض مع قول المالكية وقول في مذهب الشافعية بأن المشتري له الحق في استعجال الشفيع عند الحاكم، فإذا استعجله لزم الشفيع الأخذ أو الترك، كما قلنا في حق خيار المجلس بأنه يمتد إلى نهاية المجلس ولو طال، أو بقول البائع للمشتري اختر، فإذا اختار الصفقة لزمت ولو قبل التفرق، والله أعلم. ¬
الباب الثاني في أحكام الشفيع
الباب الثاني في أحكام الشفيع الفصل الأولى من يملك حق الشفعة [م - 1023] قال البغوي: أجمع العلماء في ثبوت الشفعة للشريك في الربع المنقسم (¬1)، إذا باع أحد الشركاء نصيبه قبل القسمة، فللباقين أخذه بالشفعة بمثل الثمن الذي وقع عليه البيع، وإن باع بشيء متقوم من ثوب أو عبد فيأخذه بقيمة ما باعه به (¬2). وحكى الإجماع على ما سبق ابن بطال في شرح البخاري (¬3)، وابن عبد البر في الاستذكار (¬4)، وابن المنذر في الإشراف (¬5)، وابن رشد في بداية المجتهد (¬6)، وابن قدامة في المغني (¬7)، وغيرهم. ¬
القول الأول
[م - 1024] واختلفوا في ثبوت الشفعة للشريك في حقوق الارتفاق وللجوار على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن الشفعة تثبت فيهما على الترتيب، فيقدم الشريك في المبيع، ثم الشريك في المرافق، ثم الجار الملاصق احترازًا من المحاذي، وهو قول الثوري (¬1). وأثبت الحنابلة في أحد القولين الشفعة للجار (¬2). قال العيني: قال أبو حنيفة: "الشفعة للشريك في نفس المبيع، ثم في حق المبيع، ثم من بعدهما للجار" (¬3). وإنما وجبت مرتبة عند الحنفية؛ لأنها شرعت لدفع الضرر الدائم الذي يلحقه، وكل ما كان أكثر اتصالاً كان أخص ضررًا وأشد، فكان أحق بها لقوة الموجب، فليس للأضعف أن يأخذه مع وجود الأقوى إلا إذا ترك. القول الثاني: ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلى أن الشفعة تثبت للشريك في المبيع ما لم يقاسم، ولا تثبت الشفعة في حقوق المبيع، ولا للجار (¬4). ¬
قال ابن رشد: "ذهب مالك والشافعي، وأهل المدينة إلى أن لا شفعة إلا للشريك ما لم يقاسم ... " (¬1). جاء في المدونة: "قلت -القائل سحنون- أرأيت السكة غير النافذة تكون فيها دار لقوم، فباع بعضهم داره، أيكون لأصحاب السكة الشفعة أم لا في قول مالك؟ قال -القائل ابن القاسم- لا شفعة لهم عند مالك. قلت: ولا تكون الشفعة في قول مالك بالشركة في الطريق؟ قال: نعم، لا شفعة بينهم إذا كانوا شركاء في طريق. ألا ترى أن مالكًا قال: لا شفعة بينهم إذا اقتسموا الدار وإن كانت الساحة بينهم لم يقتسموها" (¬2). وقال الشيرازي: "ولا تثبت الشفعة إلا للشريك في ملك مشاع، فأما الجار والمقاسم فلا شفعة لهما" (¬3). ¬
القول الثالث
وجاء في المغني: "ولا تجب الشفعة إلا للشريك المقاسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة" (¬1). وقال البهوتي: "ومن أرضه بجوار أرض لآخر، ويشربان من نهر أو بئر واحدة، فلا شفعة بذلك" (¬2). القول الثالث: تثبت الشفعة بين الجارين إذا كان بينهما حق مشترك من حقوق الأملاك، من طريق، أو ماء، أو نحو ذلك، فإن لم يكن بين الجارين حق مشترك، فلا شفعة بينهما. وهذا القول رواية عن أحمد نص عليها في رواية أبي طالب، فإنه سأله عن الشفعة لمن هي؟ فقال: إذا كان طريقهما واحداً، فإذا صرفت الطرق وعرفت الحدود، فلا شفعة. وهو قول القاضيين سوار بن عبيد الله، وعبيد الله بن الحسن العنبري، وبه قال ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، واختاره ابن حزم (¬3). قال ابن حزم: "الشفعة واجبة وإن كانت الأجزاء مقسومة إذا كان الطريق إليها واحداً متملكا نافذا أو غير نافذ لهم، فإن قسم الطريق، أو كان نافذا غير متملك لهم فلا شفعة حينئذ، كان ملاصقا أو لم يكن" (¬4). ¬
دليل من قال: الشفعة للشريك فقط
دليل من قال: الشفعة للشريك فقط: الدليل الأول: (ح-621) ما رواه البخاري من طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر - رضي الله عنه -، جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشفعة في كل مال لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة (¬1). ورواه البخاري من طريق عبد الواحد، عن معمر به، بلفظ: (قضى رسول - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم ...) وذكر بقية الحديث (¬2). ورواه البخاري من طريق هشام، عن معمر به، بلفظ: (إنما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الشفعة في كل ما لم يقسم ...) وذكر بقية الحديث (¬3). وإذا كانت لفظة (قضى) ولفظة (جعل) بمعنى، تبقى لفظة الحصر في رواية هشام بن يوسف قد يقال: إن فيها زيادة معنى، ولم ينفرد فيها هشام بن يوسف بل تابعه عليها خارج الصحيح عبد الرزاق الصنعاني، وعبد الرزاق وهشام من أثبت أصحاب معمر، فهما يمنيان، ومعمر يمني، ورواية من سمع من معمر باليمن أصح ممن سمع منه بالبصرة (¬4). ¬
وجه الاستدلال من الحديث
وجه الاستدلال من الحديث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) دل على أمرين: الأول: أن الشفعة في العقار المشترك الذي تمكن قسمته دون غيره لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (في كل ما لم يقسم) فنص على أنها في العقار المشاع مما يحتمل القسمة؛ لأن الذي لا يحتملها لا يحتاج إلى نفيه. الثاني: أن الجار ليس له حق في الشفعة؛ لقيام الحدود وتميزها، فإذا كانت الشفعة لا تثبت للشريك إذا قاسم وعرفت الحدود فالجار الملاصق الذي لم يقاسم أبعد من ذلك. الثالث: أن الحديث بلفظ (إنما جعل الشفعة في كل ما لم يقسم ...) فكلمة (إنما) تدل على نفي الشفعة لغير الشريك ... لأن كلمة الحصر تعمل بركنيها، فهي مثبتة للشيء نافية لما سواه، فثبت أن لا شفعة في المقسوم (¬1). ¬
وأجيب عن هذا الحديث بثلاثة أجوبة
وأجيب عن هذا الحديث بثلاثة أجوبة: الجواب الأول: ذهب أبو حاتم الرازي إلى أن قوله: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) مدرج من كلام جابر، وليس من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن لفظ الحديث مكون من جملتين: أحدهما حكاية من جابر عن قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم) فهذا اللفظ ليس لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو لفظ جابر حكاية عن حكم النبي - صلى الله عليه وسلم -. والجملة الثانية (فإذا وقعت الحدود ...) هذه جملة قولية، فالذين يرون أنها من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يرون الالتفات من حكاية جابر - رضي الله عنه - لقضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى نقل جابر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -، دون أن يكون هناك دليل على هذا الالتفات، ولو كان هذا القول صادرًا من النبي - صلى الله عليه وسلم - لاقتضى ذلك أن يقول جابر، وقال: فإذا وقعت الحدود، ليفصل جابر بين حكاية، وبين قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما لم يذكر القول للنبي صارت الجملة القولية من جابر أيضًا, وليس في الحديث ما يدل على أنه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). جاء في العلل لابن أبي حاتم: "سألت أبي عن حديث رواه معمر، عن ¬
ورد هذا الاعتراض
الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر، قال: إنما جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشفعة فيما لم يقسم ... وذكر الحديث. قال أبي: عندي أن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا القدر: (إنما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الشفعة فيما لم يقسم) قط. ويشبه أن يكون بقية الكلام هو كلام جابر: (فإذا قسم ووقعت الحدود فلا شفعة) والله أعلم. قلت له: بم استدللت على ما تقول؟ قال: لأنا وجدنا في الحديث: إنما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الشفعة فيما لم يقسم تم المعنى، فإذا وقعت الحدود فهو كلام مستقبل، ولو كان الكلام الأخير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: إنما جعل النبي الشفعة فيما لم يقسم، وقال: إذا وقعت الحدود, فلما لم نجد ذكر الحكاية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكلام الأخير استدللنا أن استقبال الكلام الأخير من جابر؛ لأنه هو الراوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث ... " (¬1). ورد هذا الاعتراض: بأن الإدراج لا يثبت بالاحتمال، والأصل أن كل ما ذكر في الحديث فهو منه حتى يثبت الإدراج بدليل، كمجيء رواية مبينة للقدر المدرج، أو استحالة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوله، وقد سئل الإِمام أحمد عن هذا الحديث، فلم ير الإدراج، وقد نقل صالح بن الإِمام أحمد أنه رجح رفعها (¬2). جاء في مسائل أحمد رواية أبي الفضل: "قلت: حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر: (إنما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم، ¬
الجواب الثاني
فإذا وقعت الحدود فلا شفعة، قوله: فإذا وقعت الحدود فلا شفعة في الحديث عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو هو من كلام أبي سلمة؟ قال: معمر يقول: عن أبي سلمة، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وصالح بن أبي الأخضر، كذا يقول أيضًا. ورواه مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة مرسلاً قالا: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة" (¬1). الجواب الثاني: الاختلاف في وصله وإرساله، فرواه عبد الرزاق وعبد الواحد بن زياد، وهشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر موصولا، وسبق تخريج هذه الطرق. وتابعه صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري به (¬2). وخالفهم صفوان بن عيسى فرواه عن معمر عن أبي سلمة مرسلاً (¬3)، ورجاله ثقات. وعبد الرزاق ومن معه مقدمون على صفوان بن عيسى، فالمحفوظ من رواية معمر أنها متصلة إلى جابر - رضي الله عنه -. ¬
ورواه مالك عن الزهري، واختلف على مالك فيه: فروي عن مالك، عن الزهري، عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة متصلًا (¬1). فجعله من مسند أبي هريرة، وقد رواه معمر عن الزهري من مسند جابر. وروي عن مالك، عن الزهري، عن أبي سلمة، وسعيد بن المسيب مرسلًا (¬2). ولم ينفرد مالك بإرساله، بل تابعه يونس بن يزيد، فرواه عن الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلًا ورجاله ثقات (¬3). وروي عن مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، أو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة بالشك. ¬
وأجيب
وكذا رواه ابن جريج، عن أبي سلمة أو عن سعيد بن المسيب، أو عنهما جميعًا، عن أبي هريرة (¬1). فتارة يروى مرسلاً، وتارة يروى موصولًا، وتارة من مسند جابر، وتارة من مسند أبي هريرة. وأجيب: صحح الإمام أحمد حديث جابر كما نقلناه عنه من رواية ابنه أبي الفضل وصحح البخاري والدارقطني أيضًا رواية مالك المتصلة إلى جابر - رضي الله عنه -، وصحح الدارقطني أيضًا رواية مالك المتصلة إلى أبي هريرة، ولم يعل هاتين الروايتين بالإرسال (¬2). والرواية المرسلة عن مالك صحيحة أيضًا ثابتة عنه، رواه كبار أصحابه، كالرواية المتصلة، وقد يرسل مالك الحديث، وهو متصل عنده، وهذا معروف عنه، خاصة أن الرواية المتصلة لم ينفرد بها عن مالك راو واحد حتى يمكن القول بشذوذها، كيف وقد توبع مالك في الحديث متصلًا إلى أبي هريرة. ¬
الجواب الثالث
وقد ضعف الحافظ ابن حجر حديث أبي هريرة، ولم ير من الحديث محفوظا إلا حديث جابر، ومرسل ابن المسيب. قال الحافظ: "اختلف على الزهري في هذا الإسناد، فقال مالك: عنه، عن أبي سلمة، وابن المسيب مرسلاً، كذا رواه الشافعي وغيره. ورواه أبو عاصم والماجشون عنه، فوصله بذكر أبي هريرة. رواه البيهقي. ورواه ابن جريج، عن الزهري كذلك، لكن قال: عنهما، أو عن أحدهما. رواه أبو داود. والمحفوظ روايته عن أبي سلمة، عن جابر موصولا, وعن ابن المسيب مرسلاً، وما سوى ذلك شذوذ ممن رواه" (¬1). ورأي الدارقطني أقرب للصواب، وعلى كل حال فإن رواية جابر في الصحيح، وهي كافية في الاحتجاج بالمقصود، والله أعلم. الجواب الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فيه نفى الشفعة بشرطين: وقوع الحدود، وتصريف الطرق، والمنفي بوجود شرطين لا ينتفي عند وجود أحدهما، بل لا بد من اجتماعهما، فإذا وقعت الحدود، ولم تصرف الطرق فالشفعة باقية، وهذا جواب من قال: إن الشفعة بين الجارين إذا كان بينهما حق مشترك، وهذا أقوى الأجوبة، والله أعلم. الدليل الثاني: (ح-622) ما رواه مسلم من طريق أبي خيثمة، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان له شريك في ربعة، أو نخل، فليس له أن يبيع حتى يوذن شريكه، فإن رضي أخذ، وإن كره ترك. ¬
وجه الاستدلال
ورواه مسلم من طريق عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج، عن أبي الزبير به، بلفظ: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شركة لم تقسم: ربعة، أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتى يوذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه، فهو أحق به. ورواه مسلم من طريق ابن وهب، عن ابن جريج، أن أبا الزبير أخبره، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الشفعة في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط، لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه، فيأخذ أو يدع، فإن أبى فشريكه أحق به حتى يوذنه (¬1). وجه الاستدلال: قوله: (الشفعة في كل شرك ...) فـ (أل) في كلمة (الشفعة) للمعهود، فإن لم ¬
وأجيب عن الحديث بجوابين
يكن فللجنس، وليس هنا معهود ينصرف إليه، فكان للجنس، ومعناه: أنه - عليه السلام - حصر جنس الشفعة في كل شرك، فخرج ما عداه، من جار ونحوه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: الأئمة من قريش، فدل على حصرها فيهم، والله أعلم (¬1). وأجيب عن الحديث بجوابين: الجواب الأول: ضعف ابن حزم الحديث جملة، قال: "قد جاء هذا الخبر من طريق أبي الزبير، عن جابر، وفيه: "لم يذكر فيه أبو الزبير سماعًا من جابر، وهو قد اعترف على نفسه بأن ما لم يذكر فيه سماعًا فإنه حدث به من لم يسمه عن جابر" (¬2). ويرد على هذا: بأن مسلمًا قد أخرجه من طريقين، عن أبي الزبير: أحدهما: عن أبي خيثمة، عن أبي الزبير، ولم يذكر سماعًا. والثاني: ابن جريج، عن أبي الزبير، رواه مسلم من طريقين عن ابن جريج أحدهما عبد الله بن إدريس، ولم يذكر سماعًا، والثاني عبد الله بن وهب، وقد صرح فيه أبو الزبير بالسماع من جابر، وقد نقلت كل هذه الطرق حين الاستدلال، والحمد لله. وقد رواه الحميدي في مسنده من طريق سفيان -يعني ابن عيينة- قال: حدثنا أبو الزبير غير مرة ولا مرتين أنه سمع جابر بن عبد الله (¬3). ¬
قلت هذا مع أن أبا الزبير ليس مدلسا، وإنما على التسليم بأنه مدلس وأنه مكثر من التدليس فالعلة مندفعة (¬1). واللفظة التي يمكن أن تكون غير محفوظة في الحديث من طريق أبي الزبير، وهي محفوظة من حدثنا أبي سلمة عن جابر، وإعلالها لا يكون إعلالا لجملة الحديث، هي لفظة (لم يقسم) في قوله: (في كل شرك لم يقسم) فلم يقل أحد في حديث أبي الزبير عن جابر (لم يقسم) إلا ابن إدريس، فيما رواه ابن جريج عنه. قال الدارقطني: "لم يقل: (لم يقسم) في هذا الحديث إلا ابن إدريس، وهو من الثقات الحفاظ" (¬2). وكونه من الثقات الحفاظ لا يعني أنه لا يقع في خطأ أو وهم، ولم يسلم من ذلك أحد، ولا يقدح ذلك في الثقة حتى يكثر ذلك منه (¬3)، وقد روى الحديث هذا جمع عن ابن جريج، وهم من الحفاظ أيضًا, ولم يذكروا ما ذكره ابن إدريس، كما رواه جمع من الحفاظ عن أبي الزبير ولم يذكروا هذه اللفظة في حديثه، واتفاقهم على عدم ذكرها، ومخالفة ابن إدريس لهم دليل على وهمه وحفظهم (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الجواب الثاني
وأرى أنه دخل على ابن إدريس حديث أبي سلمة، عن جابر الذي في البخاري، على حديث أبي الزبير عن جابر، ويبقى الحديث حجة في بابه، وهو الاحتجاج به على ثبوت الشفعة للشريك، والله أعلم. الجواب الثاني: أجاب الحنفية عن الحديث بأن ثبوت الشفعة لغير الشريك أفاده أحاديث أخرى، فظهر أن الحصر غير حقيقي (¬1). وسوف نأتي على ذكر هذه الأحاديث إن شاء الله تعالى عند ذكر أدلة الحنفية، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. الدليل الثالث: (ح-633) ما رواه ابن حبان في صحيحه من طريق الماجشون، عن مالك، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (¬2). قال ابن حبان: رفع هذا الخبر عن مالك أربعة أنفس، الماجشون، ¬
وجه الاستدلال
وأبو عاصم، ويحيى بن أبي قتيلة، وأشهب بن عبد العزيز، وأرسله عن مالك سائر أصحابه، وهذه كانت عادة لمالك، يرفع في الأحايين الأخبار، ويوقفها مرارًا، ويرسلها مرة، ويسندها أخرى على حسب نشاطه، فالحكم أبدًا لمن رفع عنه وأسند بعد أن يكون ثقة حافظًا متقنًا" (¬1). [صحيح] (¬2). وجه الاستدلال: حديث أبي هريرة في الدلالة كحديث جابر - رضي الله عنه -، وقد ذكرنا وجه الاستدلال منه بالدليل الأول، وما كان جوابا عن ذاك، كان جوابًا عن هذا، والله أعلم. الدليل الرابع: الشفعة ثبتت للشريك إجماعا على خلاف الأصل، لمعنى معدوم في محل النزاع، وهي الشفعة لغير الشريك، فلا تثبت فيه. وبيان انتفاء المعنى: هو أن الشريك ربما دخل عليه شريك، فيتأذى به، فتدعوه الحاجة إلى مقاسمته، أو يطلب الداخل المقاسمة، فيدخل الضرر على الشريك بنقص قيمة ملكه، وما يحتاج إلى إحداثه من المرافق (¬3). وأجيب: لو كانت الشفعة لدفع ضرر القسمة إذا طالب بها الشريك لثبتت الشفعة في العروض دفعًا لضرر القسمة، فلما لم تثبت في العروض دل على أن العلة ليست دفع ضرر القسمة. ¬
ويجاب عنه
ويجاب عنه: بأن الشفعة لدفع الضرر، وهذا الضرر تارة يأتي بسبب الشركة، وتارة يأتي بسبب المقاسمة، فالضرر جنس يشمل هذا وهذا, ولم يبين الشارع نوع الضرر المدفوع، وإنما المتفق عليه أن الشفعة شرعت لدفع الضرر، وهذا الضرر لا يوجد في العروض لأنها متنقلة، فلا ضرر في الشراكة بها, ولا في مقاسمتها بخلاف العقار، فإنه ثابت دائم، والله أعلم. دليل الحنفية على إثبات الشفعة في الجوار والشركة في الحقوق: الدليل الأول: (ح-624) ما رواه أحمد، قال: حدثنا هشيم، أنا عبد الملك، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحداً. [أعل الحديث ابن معين والبخاري وشعبة ويحيى بن سعيد القطان وابن عبد البر، وقال الإمام أحمد: هذا حديث منكر. قلت: علته تفرد به عبد الملك، عن عطاء عن جابر، والمحفوظ من حديث جابر أن الشفعة في الشريك وليس في الجار] (¬1). ¬
ورد هذا الجواب
ورد هذا الجواب: قال ابن عبد الهادي: "واعلم أن حديث عبد الملك حديث صحيح، ولا منافاة بينه وبين رواية جابر المشهورة، فإن في حديث عبد الملك إذا كان طريقهما واحداً، وحديث جابر المشهور لم ينف فيه استحقاق الشفعة إلا بشرط تصرف الطرق، قاله الحنابلة، فنقول: إذا اشترك الجاران في المنافع كالبئر أو السطح، أو الطريق فالجار أحق بصفقة جاره كحديث عبد الملك، وإذا لم يشتركا في شيء من المنافع فلا شفعة لحديث جابر المشهور، وهو أحد الأوجه الثلاثة في مذهب أحمد، وطعن شعبة في عبد الملك بسبب هذا الحديث لا ¬
الدليل الثاني
يقدح في عبد الملك، فإن عبد الملك ثقة مأمون، وشعبة لم يكن من الحذاق في الفقه، وطعن من طعن فيه إنما هو تبعًا لشعبة" (¬1). قلت: إذا كان شعبة ليس من الحذاق في الفقه فإن الإِمام البخاري من المقدمين فيه، وتراجمه تشهد لدقة استنباطه، وقد قال الإِمام البخاري: "لا أعلم أحدًا رواه عن عطاء غير عبد الملك بن أبي سليمان، وهو حديثه الذي تفرد به، ويروى عن جابر خلاف هذا". فأثبت مخالفة حديث عبد الملك لغيره ممن رواه عن جابر، وقد استنكره الإِمام أحمد، وهو إمام في الفقه كما هو إمام في الأثر، وضعفه ابن عبد البر في التمهيد، وهو محسوب على الفقهاء، واعتقاد أن الأئمة تابعوا شعبة في الطعن في عبد الملك ليس بسديد، فقد قال الإِمام أحمد كما في مسائل أبي داود: هو ثقة. قلت: يخطئ؟ قال: نعم، وكان من حفاظ أهل الكوفة إلا أنه رفع أحاديث عن عطاء" (¬2). فأثبت الإمام أحمد أنه يخطئ ويخالف ليس في حديث واحد، وإنما رفع أحاديث مخالفًا فيها غيره ممن رواها موقوفة على عطاء، وكونه ثقة لا يعني أنه لا يهم ولا يقع منه خطأ. الدليل الثاني: (ح-625) ما رواه البخاري من طريق ابن جريج، أخبرني إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد. قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور ابن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي، إذ جاء أبو رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬
وجه الاستدلال
فقال: يا سعد ابتع مني بيتي في دارك. فقال سعد: والله ما أبتاعهما، فقال المسور: والله لتبتاعنهما. فقال سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة، أو مقطعة. قال أبو رافع: لقد أعطيت بها خمس مائة دينار، ولولا أني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الجار أحق بسقبه ما أعطيتكها بأربعة آلات، وأنا أعطى بها خمس مائة دينار فأعطاها إياه (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الجار أحق بسقبه) فأثبت الحديث الشفعة للجار بسبب قربه من الدار. وأجيب عن هذا الحديث بجوابين: الجواب الأول: معنى قوله (أحق بسقبه) جاء في مختار الصحاح: السقب بفتحتين القرب (¬2)، فمعنى الحديث (الجار أحق بقربه) فالحديث ليس فيه ذكر الشفعة، فيحتمل أن يكون المراد منه الشفعة، ويحتمل أن يراد به الجار أحق بالبر والإحسان والمعروف والمعونة لقربه، وإذا كان الحديث محتملًا فلا يعارض به حديث جابر في البخاري الصريح في حصر الشفعة في الشريك، ولفظه: (إنما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الشفعة في كل ما لم يقسم ...) الحديث. ولذلك بَرَّ أبو رافع سعدًا بالثمن، وأعطاه إياه بأقل من ثمنه بكثير محتجًّا بهذا الحديث بأنه أحق بهذا البر من البعيد لقربه، والشفعة لا تعطي هذا الحق للشريك. ¬
قال ابن بطال في شرح البخاري "لا خلاف بين العلماء أنه لا يجب على الشريك أن يعطي شريكه الشقص الذي يريد بيعه بأقل من ثمنه" (¬1)، وإنما حرص أبو رافع على نفع جاره؛ مستدلا بهذا الحديث لا بحديث الشفعة؛ لأنه أحق بهذا البر من البعيد، وليس لأنه أحق بالشفعة؛ والكلام في حديث أبي رافع عن البيع والشراء، ولا علاقة له بالشفعة؛ لأنه قال: اشتر بيتي الذين هما في دارك، فقال: والله لا أشتريهما ... والشفعة هي انتزاع الملك بعد بيعه من المشتري بثمنه الذي اشتراه به، وقد حرص أبو رافع على إلزام سعد بالشراء طلبا لنفعه، والإلزام بالشفعة لمن لا يريدها ليس مستحبا فضلا أن يكون واجبا. لكن قال المحتجون به: إذا كان جاره أولى بأن يشتري منه، فكذلك جاره أولى بأن يشفع عليه، فتكون دلالة الحديث على الشفعة من باب القياس واللزوم، وليس عن باب النص. وهذا القياس فيه نظر؛ لأن البر جنس يشمل أمورا كثيرة، وهي من باب الإحسان غير الواجب، ومنه نفعه بالبيع والشراء بأقل من ثمن المثل، والشفعة واجبة لصاحبها وإن كره البائع والمشتري. ويدل على أن المراد أحق بالبر والمعونة أن الحنفية الذين قالوا بالشفعة للجار لا يأخذون بظاهر هذا الحديث، فإن الحديث يقول: (الجار أحق) والاتفاق منعقد على أن الشريك أحق من الجار، وأن الجار لا يقدم على الشريك. جاء في الفتح: "حديث أبي رافع مصروف الظاهر اتفاقًا؛ لأنه يقتضي أن يكون الجار أحق من كل أحد حتى من الشريك، والذين قالوا بشفعة الجار قدموا الشريك مطلقا، ثم المشارك في الطريق، ثم الجار على من ليس ¬
الجواب الثاني
بمجاور، فعلى هذا يتعين تأويل قوله: (أحق) بالحمل على الفضل والتعهد، ونحو ذلك" (¬1). والحنفية يقولون الشفعة إنما هي للجار الملاصق، وأما الجار المقابل فليس له شفعة، بينما عائشة - رضي الله عنها - روت أنها قالت: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي. قال: إلى أقربهما منك بابًا. يعني ولو كان غير ملاصق. الجواب الثاني: على التنزل أن يكون المراد بالحديث الشفعة، فيحمل الجار على الشريك جمعًا بين حديث جابر وهذا الحديث، واسم الجار يقع على الشريك؛ لأنه يجاور شريكه بأكثر من مجاورة الجار، فإن الجار لا يساكنه، والشريك يساكنه في الدار، خاصة أن هذين البيتين جزء من دار سعد، ولذلك دعاه إلى الشراء بأقل مما أعطاه غيره. وقد قيل لضرة المرأة (جارة) لأنها تشارك ضرتها في زوجها. وسميت امرأة الرجل جارته، للمصاحبة، قال الأعشى: أجارتنا بيني فإنك طالقة ... فكذلك الشريك يسمى جارًا لما بينهما من الاختلاط بالشركة. قال ابن بطال: "الجار أحق بصقبه عند أهل الحجاز على وجهين: أحدهما: أن يراد به الشريك، ويكون حقه الأخذ بالشفعة دون غيره، وهو أولى الوجهين لما تقدم من الدلائل. الوجه الثاني: يحتمل أن يراد به الجار غير الشريك، ويكون حقه غير ¬
الدليل الثالث
الشفعة، فيكون جار الرحبة يريد الارتفاق بها، ويريد مثل ذلك غير الجار، فيكون الجار أحق بصقبه ... فإذا اجتمع فيها الجار ومن ليس بجار وجب إيثار الجار على من ليس بجار من طريق مكارم الأخلاق وحسن الجوار، لا من طريق الفرض اللازم، فقد أوصى الله بالجار، فقال: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه. وإذا احتمل هذا كله الحديث المجمل، ثم فسره بحديث آخر بقوله: (فإذا وقعت الحدود فلا شفعة) كان المفسر أولى من المجمل" (¬1). الدليل الثالث: (ح-626) ما رواه أحمد من طريق همام، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جار الدار أحق بالدار من غيره (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأجيب عن الحديث بجوابين
وأجيب عن الحديث بجوابين: أحدهما: أن الحديث منقطع، الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة (¬1). الثاني: وعلى فرض سماعه فيجاب عنه بنفس الجواب عن الحديث السابق. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (ح-627) ما رواه أحمد من طريقين، عن عمرو بن شعيب، حدثني عمرو ابن الشريد، عن أبيه الشريد بن سويد الثقفي، قال: قلت يا رسول الله أرض ليس فيها شرك، ولا قسم إلا الجوار، قال: الجار أحق بسقبه (¬1). [في إسناده اختلاف، والمحفوظ من حديث عمرو بن الشريد أنه عن أبي رافع] (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: أن المعنى الذي من أجله شرعت الشفعة للشريك موجود في الجار، وذلك أن حق الشفعة إنما ثبت للشريك لدفع أذى الدخيل وضرره، وذلك موجود في الجوار، وتعليل النص بضرر القسمة غير سديد؛ لأن القسمة ليست بضرر، بل هي تكميل منافع الملك، وهي ضرر غير واجب الدفع؛ لأن القسمة مشروعة، ولهذا لم تجب الشفعة بسبب الشركة في العروض دفعا لضرر القسمة (¬1). ونوقش هذا الدليل من وجهين: الوجه الأول: أن هذا التعليل نظر في مقابل النص، فيكون فاسدا، والنص قد جاء صريحا في حديث جابر: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة)، فإثبات الشفعة للجار بعد يتميز حدوده وتصريف طرقه مخالف للحديث الصحيح، والمعارض لهذا الحديث ليس في درجته في الصحة، وهو قابل للتأويل وقد ذكرنا وجه التأويل فيما سبق، والله أعلم. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أن المعنى الذي من أجله شرعت الشفعة هو دفع الضرر اللاحق بالشركة، وهو ما توجبه من التزاحم في المرافق والحقوق، وما تحدثه القسمة من إنشاء مرافق جديدة، ونقص في قيمة الملك، وهذا المعنى غير موجود في الجوار، والله أعلم. دليل من قال: الشفعة للجار إذا كان بينهما حق مشترك: الدليل الأول: (ح-628) ما رواه البخاري، قال: حدثني محمود، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر - رضي الله عنه -، جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشفعة في كل مال لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة (¬1). وجه الاستدلال: بأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فالحديث نفى الشفعة بشرطين: وقوع الحدود، وتصريف الطرق، والمنفي بوجود شرطين لا ينتفي عثد وجود أحدهما، بل لا بد من اجتماعهما، فإذا وقعت الحدود، ولم تصرف الطرق فالشفعة باقية، وهذا دليل على قيام الشفعة للجار إذا كان بينهما حق مشترك. وهذا من أقوى الأدلة على ثبوت الشفعة للجار بشرط أن يكون بينهما حقوق مشتركة. الدليل الثاني: (ح-629) ما رواه أحمد، من طريق عبد الملك، عن عطاء، عن جابر بن ¬
وأجيب عن الحديث
عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحداً. [رجاله ثقات، والحديث معلول] (¬1). وأجيب عن الحديث: بأن الحديث وإن كان رجاله ثقاتًا إلا أنه معلول، وقد أعل الحديث ابن معين، والبخاري، وشعبة، ويحيى بن سعيد القطان، وابن عبد البر، وقال الإِمام أحمد: هذا حديث منكر. وسبق نقل كل ذلك عن هؤلاء الأئمة في القول الأول. وأجيب عن هذه العلة: قال ابن القيم: "والذين ردوا حديث عبد الملك بن أبي سليمان ظنوا أنه معارض لحديث جابر الذي رواه أبو سلمة عنه: (الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) وفي الحقيقة لا تعارض بينهما، فإن منطوق حديث أبي سلمة انتفاء الشفعة عند يتميز الحدود، وتصريف الطرق، واختصاص كل ذي ملك بطريق، ومنطوق حديث عبد الملك: إثبات الشفعة بالجوار عند الاشتراك في الطريق، ومفهومه: انتفاء الشفعة عند تصريف الطرق، فمفهومه موافق لمنطوق حديث أبي سلمة وأبي الزبير، ومنطوقه غير معارض له" (¬2). ويجاب: بأن العلماء الذين أعلوا الحديث كابن معين والبخاري وشعبة ويحيى ¬
ابن سعيد القطان وابن عبد البر والإمام أحمد لم يعلوه لاعتقادهم بالمخالفة الفقهية كما تصور ذلك ابن القيم، وإنما أعل بسببين: التفرد، والمخالفة. فالعلة الأولى: التفرد، حيث تفرد به عبد الملك بن سليمان عن عطاء، ولا يحتمل منه مثل هذا التفرد عن عطاء لتأخر منزلته في الحفظ من بين أصحاب عطاء، بل إن الإِمام أحمد قد تكلم في رواية عبد الملك عن عطاء خاصة، فلو كان هذا الحديث من أحاديث عطاء فأين أصحاب عطاء المهتمون بحديثه عن رواية مثل هذا الحديث. جاء في مسائل أبي داود: "قلت لأحمد: عبد الملك بن أبي سليمان؟ قال: ثقة. قلت: يخطئ؟ قال: نعم، وكان من حفاظ أهل الكوفة إلا أنه رفع أحاديث عن عطاء" (¬1). وقال أحمد: عبد الملك بن أبي سليمان من الحفاظ إلا أنه كان يخالف ابن جريج -يعني في روايته عن عطاء- وابن جريج أثبت منه عندنا" (¬2). ويحضرني من منكراته ما رواه الطحاوي من طريق عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة في الإناء يلغ فيه الكلب أو الهر، قال: يغسل ثلاث مرار، وهو يخالف الحديث المرفوع عن أبي هريرة في الصحيحين وغيرها مرفوعة، وفيه الأمر بغسلها سبعاً، ويخالف ما ثبت عن أبي هريرة من قوله بالغسل سبعاً. ¬
العلة الثانية
رواه ابن المنذر في الأوسط, والدارقطني، والبيهقي في السنن الكبرى من طريق حماد بن زيد. وأبو عبيد في كتاب الطهور من طريق إسماعيل بن علية كلاهما، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: إذا ولغ الكلب فاغسلوه سبع مرات، أولاهن بالتراب (¬1). وهذا يدل على خطأ من قال: لم ينكر عليه إلا حديث الشفعة، وهو يشهد لكلام الإمام أحمد في رواية عبد الملك عن عطاء، والله أعلم. العلة الثانية: المخالفة، وليست المخالفة من جهة الفقه كما ظن ابن القيم وابن عبد الهادي بل إن الأئمة رأوا أن حديث جابر حدثنا واحد، يرويه أبو سلمة وسعيد بن المسيب وأبو الزبير في الشفعة للشريك، ويرويه عبد الملك عن عطاء، عن جابر في الشفعة للجار، وانتظاره في حال الغيبة إذا كان طريقهما واحداً، ولا شك أن موضوعهما مختلف، والجمع بين الشفعة للجار والشفعة للشريك يذهب إليه لو كان ذلك في حديثين مختلفين، وأما إذا كان الحديث واحدا والرواة يتفقون على أنه في الشريك، ويخالفهم أحد الثقات فيجعله في الجار لا شك أن هذه مخالفة. وهذا ما أشار إليه البخاري، قال الترمذي كما في العلل: سألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: لا أعلم أحدًا رواه عن عطاء غير عبد الملك بن أبي سليمان، وهو حديثه الذي تفرد به، ويروى عن جابر خلاف هذا" (¬2). ¬
الدليل الثالث: من القياس.
فقول الإمام البخاري: "وهو حديثه الذي تفرد به، ويروى عن جابر خلاف هذا" إشارة من البخاري إلى العلتين: التفرد، والمخالفة. وإذا ثبتت المخالفة فإن الثقة إذا خالف غيره في لفظ الحديث وموضوعه اقتضى الحكم للأوثق، وللأكثر عددًا كما هو عمل الأئمة المتقدمين بصرف النظر عن الفقه، ولا أعتقد أن هؤلاء الأئمة وفيهم البخاري وأحمد، وهما إمامان في الفقه كما هما إمامان في العلل يغيب عنهما المعنى الفقهي الذي قال به ابن القيم وابن عبد الهادي، ولا يمنع أن يضعف الفقيه الأثر من جهة الإسناد، ويقول به من جهة المعنى، ذلك أن الفقه باب واسع، وهو غير معصوم، وكم من مسأله قال بها الإِمام أحمد من جهة الفقه مع تصريحه بأنه لا يثبت في هذا الباب شيء، فعمل الناس قد يكون مرده إلى القياس الصحيح، أو الاستصحاب، أو عمل الصحابة، أو غيره من الأدلة، والاحتياط للرواية ليس في قبولها، وإنما الأصل عدم الصحة حتى يثبت العكس، ومن الخطأ العلمي أن الباحث إذا توجه اختياره إلى قول من الأقوال الفقهية لم ينشط في كشف العلل الواردة على أدلة هذا القول، فليست صحة معنى الحديث كافية في صحة نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكم من مسألة ثبت الإجماع على صحتها, ولم يصح فيها أثر واحد، كمسألة الماء المتغير طعمه أو ريحه أو لونه بنجاسة، فإنه نجس بالإجماع، ولا يثبت فيه حديث صحيح، ومثلها مسألة بيع الكالئ بالكالئ، ومسألة كل قرض جر نفعا فهو ربا، وغيرها كثير، والله أعلم. الدليل الثالث: من القياس. قال ابن القيم: "والقياس الصحيح يقتضي هذا القول، فإن الاشتراك في حقوق الملك شقيق الاشتراك في الملك، والضرر الحاصل بالشركة فيها كالضرر الحاصل بالشركة في الملك أو أقرب إليه، ورفعه مصلحة للشريك من
الراجح
غير مضرة على البائع، ولا على المشتري، فالمعنى الذي وجبت لأجله شفعة الخلطة في الملك موجود في الخلطة في حقوقه" (1). الراجح: ثبوت الشفعة للجار بشرط الاشتراك في الحقوق، وحديث جابر قد دل على ذلك بمنطوقه، فإنه قال: فإذا وقت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. والمشارك في الحقوق لم تتميز فيه الطرق، والله أعلم.
الفصل الثاني الشفعة لغير المسلم
الفصل الثاني الشفعة لغير المسلم [م - 1025] لم يختلف العلماء في ثبوت الشفعة للمسلم على الذمي؛ لأنها إذا ثبتت الشفعة للمسلم على المسلم فثبوتها للمسلم على الذمي من باب أولى. وتجب للذمي على الذمي كوجوبها للمسلم على المسلم إذا تحاكموا إلينا. قال الماوردي: "لا خلاف بين الفقهاء أن الشفعة تجب للمسلم على الذمي كوجوبها له على المسلم، وتجب للذمي على الذمي كوجوبها للمسلم على المسلم (¬1). [م - 1026] واختلفوا في ثبوتها للذمي على المسلم على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية، والمالكية والشافعية إلى أن المسلم والذمي في أخذ الشفعة من المسلم سواء (¬2). واستدل الجمهور بالأدلة التالية: الدليل الأول: (ح-630) حديث جابر (قضى رسول - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم ...) (¬3). ¬
الدليل الثاني
فهو عام في كل ما لم يقسم سواء كان الشريك مسلمًا أو ذميًّا. الدليل الثاني: (ح-631) ما رواه مسلم من طريق أبي خيثمة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان له شريك في ربعة أو نخل فليس له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن رضي أخذ، وإن كره ترك (¬1). وجه الاستدلال: قوله (من كان له شريك) هذا لفظ عام يتناول المسلم والكافر والذمي، فتثبت للذمي الشفعة على المسلم كما تثبت للمسلم على الذمي (¬2). ويبقى العام والمطلق من الأدلة على عمومه وإطلاقه لا يخصص ولا يقيد إلا بدليل من الشارع، ولم يأت دليل من الشارع بإخراج الذمي، ومن أخرجه من النصوص فقد قيد نصوص الشارع أو خصصها بلا مخصص. الدليل الثالث: قال ابن بطال: "الشفعة حق من حقوق الآدميين كسائر الحقوق التي هي له مثل البيع والإجارة، وغيرها. والشفعة حق يتعلق بالمال، وضع لإزالة الضرر كالرد بالعيب، فما وجب للمسلم فيه وجب للذمي مثله، وليس الصغار يدل على بطلان حقه؛ لأنه لا فرق بين المسلم والذمي في الحقوق المتعلقة بالأموال، كخيار الشرط، والأجل، وإمساك الرهن" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب جمع من أهل العلم بأنه لا شفعة للذمي على المسلم، وبه قال أحمد ابن حنبل، والثوري، وهو قول الحسن البصري والشعبي، ونصره ابن القيم في أحكام أهل الذمة (¬1). دليل من قال: لا شفعة للذمي على المسلم: الدليل الأول: (ح-632) ما رواه الطبراني في الصغير, والعقيلي في الضعفاء من طريق نائل بن نجيح، عن سفيان، عن حميد، عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا شفعة لنصراني (¬2). [حديث منكر] (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-633) ما رواه مسلم من طرق عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل لهم حقا في الطريق المشترك عند تزاحمهم مع المسلمين، فكيف يجعل لهم حق في انتزاع ملك المسلم منه قهرا، بل هذا تنبيه على المنع من انتزاع الأرض من يد المسلم، وإخراجه منها لحق الكافر لنفي ضرر الشركة عنه، وضرر الشركة على الكافر أهون عند الله من تسليطه على إزالة ملك المسلم عنه قهرا (¬2). ويجاب: بأن الحديث يتكلم عن إكرام الكافر واحترامه، وقد أهانهم الله بالكفر، فذكر من ذلك النهي عن البداءة بالسلام، والتنحي لهم في الطريق الضيق إكراما واحتراما لهم، وليس في الحديث ما يدل على إسقاط حقوقهم أو أذيتهم، ولذلك إذا سلموا - عليهم السلام -، وإذا كان الطريق واسعا لم نضطرهم إلى أضيقه؛ ¬
الدليل الثالث
لأن ذلك من باب أذيتهم، وهي منهي عنها. وقد نقل ابن حجر عن القرطبي أنه قال: " (وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) معناه: لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكراما لهم، واحتراما" (¬1). أما حقوقهم فلا يعتدى عليها؛ إذا كان يحرم الاعتداء على أموالهم فكذلك لا يجوز الاعتداء على الحقوق المتعلقة بالمال؛ وإذا كنا نصحح مشاركتهم، فجميع الحقوق المتعلقة بالشركة مستحقة لهم ومنها استحقاق الشفعة عند قيام سببها. الدليل الثالث: أن الشفعة من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، فلا حق للذمي فيها، ونكتة هذا الاستدلال: أن الشفعة من حق المالك لا من حق الملك (¬2). ويناقش: نعم الشفعة من حقوق المالك لكنها بسبب الملك، ولذلك أثبت الحنابلة الشفعة للذمي على مثله، ولو كانت مستفادة بسبب الإسلام لم تثبت الشفعة للذمي على مثله؛ لأنه لا إسلام بينهما (¬3). الدليل الرابع: الشفعة معنى يختص بالعقار فأشبه الاستعلاء في البنيان، فإذا كان الكافر يمنع من الاستعلاء على المسلم مع أن ذلك تصرف في هواء ملكه المختص به، ¬
ويناقش
فأين هذا الاستعلاء من استعلائه عليه بإخراجه من ملكه قهرا. ولهذا حرم عليهم نكاح المسلمات إذ كان فيه نوع استعلاء عليهن، ولم يجر القصاص بينهم وبين المسلمين، ولا حد القذف، ولا يمكنون من تملك رقيق مسلم، وقد قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] ومن أعظم السبيل تسليط الكافر على انتزل أملاك المسلمين منهم، وإخراجهم منها قهرا (¬1). ويناقش: أما الجواب عن النهي عن استعلاء بنيان الكافر على المسلم فإن حق الذمي بالشفعة سابق على حق المشتري بالتملك، ذلك أن الشركة وهي سبب الشفعة قائمة قبل بيع الشريك، ولهذا لو كان بنيان الكافر أقدم من جاره المسلم لم يمنع من استعلاء بنائه على بناء جاره المسلم الحادث، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الاستعلاء ليس ممنوعا لذاته، وإنما لما في الاستعلاء من كشف العورات، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولذلك لو رضي المسلم لجاره الكافر أن يستعلي عليه لم يكن له ذلك؛ لأن الحق فيه لله، ولا يمنع الكافر على الصحيح من مساواة المسلم في البنيان، مع أن الكفر لا يساوي الإسلام، كما لا يمنع الكافر من استعلاء بنائه إذا لم يكن بجانبه جار يتضرر من استعلائه. وأما الجواب عن تحريم نكاح المسلمات للكفار فإن ذلك قد يؤدي إلى افتتان المرأة عن دينها، وهذا غير موجود في الشفعة، ومثله استرقاق الكافر للعبد المسلم. وأما سقوط حد القذف إذا قذف مسلم نصرانيًا فلا يعني أن قذف الذمي ¬
الراجح
حلال، بل يعزر القاذف بما يردعه، وإنما لم يحد حد القذف؛ لأن الحدود توقيفية لا اجتهاد فيها, ولذلك لو قذف الرجل عبده المسلم لم يحد به في الدنيا مع قيام الإِسلام. الراجح: ثبوت الشفعة للشريك مطلقاً مسلما كان أو ذميا، والأدلة التي ساقها المانعون ليست نصا في الموضوع، والله أعلم.
الفصل الثالث الشفعة للبدوي
الفصل الثالث الشفعة للبدوي [م - 1027] قال ابن قدامة: "وتثبت الشفعة للبدوي على القروي، وللقروي على البدوي في قول أكثر أهل العلم. وقال الشعبي والبتي: لا شفعة لمن لم يسكن المصر. ولنا عموم الأدلة، واشتراكهما في المعنى المقتضي لوجوب الشفعة" (¬1). وقول الشعبي والبتي قول ضعيف جداً، والمعنى الذي من أجله شوعت الشفعة موجود في حق القروي كما هو موجود في حق الحضري، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع الشفعة للغائب
الفصل الرابع الشفعة للغائب [م - 1028] إذا غاب الشريك عن البلد الذي فيها الشقص المشترك، فقام شريكه الآخر بالبيع أثناء غيابه. فإن كان الشريك الغائب لم يعلم بالبيع لم تسقط شفعته، ولو طالت غيبته، مثله مثل الحاضر إذا كتم البائع عنه البيع (¬1). وحكى المالكية الاتفاق على ذلك. قال في القوانين الفقهية: "فإن كان غائبا, ولم يعلم لم تسقط شفعته اتفاقا" (¬2). [م - 1029] وإن علم بالبيع، وهو غائب، فقد اختلف العلماء في ثبوت الشفعة له على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا شفعة للغائب مطلقا، وهو قول النخعي، والحارث العكلي (¬3). وجه هذا القول: بأن في ثبوت الشفعة للشريك الغائب ضررا يلحق بالمشتري لكونه يبقى ¬
ونوقش هذا
خائفاً، ولا يطمئن على استقرار ملكه للشقص، فهو لا يتصرف فيه تصرف الملاك تحسبا لانتزاعه منه بالشفعة. ونوقش هذا: بأن ضرر المشتري يندفع بإيجاب قيمة ما ينميه ويصلحه على الشفيع. القول الثاني: إن كانت غيبته قريبة فله الشفعة، وإن كانت غيبته منقطعة فلا شفعة له، وهذا قول البتي (¬1). ولعله يرى أن من كانت غيبته قريبة لا يتضرر المشتري بذلك بخلاف من كانت غيبته طويلة، والله أعلم. القول الثالث: للغائب الشفعة مطلقاً، وهو مذهب الأئمة الأربعة على خلاف بينهم، هل تجب المبادرة إلى المطالبة بالشفعة، أو لا تجب؟ وإذا لم يبادر بنفسه هل يجب عليه التوكيل أو لا يجب؟ وإذا لم يبادر ولم يوكل، هل يجب عليه الإشهاد أو لا يجب؟ (¬2). ¬
واستدلوا بأن الغائب له الشفعة بأدلة منها
واستدلوا بأن الغائب له الشفعة بأدلة منها: الدليل الأول: (ح-634) ما رواه أحمد، من طريق عبد الملك، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحداً. [رجاله ثقات، والحديث معلول] (¬1). الدليل الثاني: أن الشفعة من الحقوق المالية متى وجد سببه فللمستحق استيفاؤه، وإذا ثبت الحق لم يسقط إلا بإسقاطه، ولا تأثير للغيبة بإسقاط حق تقرر سببه كالإرث في حالة غيبة الوارث. الراجح: هو ما ذهب إليه الأئمة الأربعة، وهو أن الغائب له المطالبة بالشفعة، والغيبة ليست سبباً في إسقاط الشفعة. ... ¬
مبحث في الواجب على الشفيع الغائب إذا علم بالبيع
مبحث في الواجب على الشفيع الغائب إذا علم بالبيع [م - 1030] تقدم لنا في المبحث السابق القول بأن الشفيع الغائب له الشفعة في قول الأئمة الأربعة، إلا أنهم اختلفوا في الواجب على الشفيع الغائب لاستحقاق الشفعة، وهذا الاختلاف راجع إلى اختلافهم في طلب الشفعة، هل هي على الفور, أو على التراخي، وسبق لنا تحرير الخلاف فيها والحمد لله، فمن أوجب في الشفعة الفورية في الطلب كالجمهور أو جب على الشفيع المبادرة بالطلب والإشهاد على ذلك، ومن لم يوجب المبادرة كالمالكية لم يوجبوا عليه الإشهاد، وإليك تحرير الخلاف بين الفقهاء. القول الأول: ذهب المالكية بأن الغائب على شفعته ما لم يصرح بإسقاطها ولا تجب عليه المبادرة، ولا الإشهاد، ولا التوكيل (¬1). جاء في المدونة: "قلت: أرأيت الغائب إذا علم بالاشتراء، وهو شفيع، فلم يقدم يطلب الشفعة، حتى متى تكون له الشفعة؟ قال: قال مالك: لا نقطع عن الغائب الشفعة لغيبته. قلت: علم أو لم يعلم؟ قال ابن القاسم: ليس ذلك عندي إلا فيما علم، أما فيما لم يعلم فليس فيه كلام، ولو كان حاضرا" (¬2). ¬
واستدل المالكية
واستدل المالكية: بأن حق الشفعة ثبت للشفيع بالسنة الصحيحة, والحقوق الثابتة بالأدلة الصحيحة لا تسقط لمجرد غيبة صاحبها، فيبقى الغائب على شفعته حتى يحضر، فيأخذ أو يدع، والله أعلم. القول الثاني: القائلون بأن الشفعة على الفور اختلفوا فيما يجب على الشفيع الغائب إذا علم بالشفعة. فقال الحنفية إن لم يشهد ولم يوكل مع قدرته وسكت ساعة بطلت شفعته (¬1). جاء في الجوهرة النيرة: "وإن كان الشفيع حين علم بالبيع غائبًا عن البلد، فإن أشهد حين علم، أو وكل من يأخذ له بالشفعة فهو على شفعته، وإن علمه، ولم يشهد أو لم يوكل حين بلغه ذلك مع قدرته عليه، وسكت ساعة بطلت شفعته؛ لأن الغائب يقدر على الطلب كما يقدر عليه الحاضر" (¬2). وذهب الشافعية إلى أن الغائب إذا علم بالشفعة وجب عليه المبادرة بالتوجه إلى صوب المشتري، أو يبعث وكيلًا إلا أن يكون الطريق مخوفًا فيجوز التأخير إلى أن يجد رفقة أو يزول الخطر. وهل يكتفى بالبدار أو يجب معه الإشهاد قولان نقلهما العراقيون. أحدهما: أنه يتعين معه الإشهاد، وتركه يبطل الحق. الثاني: لا يتعين، ويكفي البدار في نحو الطلب. ¬
فإذا لم يستمكن من الخروج بنفسه، فله أن يوكل، فإن لم يوكل مع القدرة عليه ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: وهو قول القاضي أبي حامد -أنه تسقط شفعته؛ لأنه ترك الطلب مع القدرة، فأشبه إذا قدر على الطلب بنفسه فترك. والثاني: وهو قول أبي علي الطبري -أنه لا تسقط؛ لأن التوكيل إن كان بعوض لزمه غرم، وفيه ضرر. وإن كان بغير عوض احتاج إلى التزام منه، وفي تحملها مشقة، وذلك عذر فلم تسقط به الشفعة. ومن أصحابنا من قال: إن وجد من يتطوع بالوكالة سقطت شفعته؛ لأنه ترك الطلب من غير ضرر، فإن لم يجد من يتطوع لم تسقط؛ لأنه ترك للضرر. فإن عجز عن المبادرة، وعجز عن التوكيل، فليشهد على الطلب، فإن لم يشهد فقولان أو وجهان: أظهرهما: أنه يبطل حقه؛ لأن السكوت مع التمكن من الإشهاد مشعر بالرضا. والثاني: لا يبطل، وإنما الإشهاد لإثبات الطلب عند الحاجة (¬1). وذهب الحنابلة إلى أن الغائب يلزمه الإشهاد إذا علم بالبيع، ولا يضره تأخير المبادرة بعد الإشهاد. وإذا علم بالبيع، وبادر بالسير إلى المشتري ولم يشهد سقطت شفعته؛ لأن السير يكون لطلب الشفعة ولغيره، وقد قدر أن يبين كون السير لطلب الشفعة بالإشهاد عليه فإذا ترك سقطت شفعته. ولا يلزمه التوكيل ¬
الراجح
قدر عليه أو لم يقدر؛ لأن الوكيل إن كان بجعل ففيه غرم، وإن كان متبرعًا ففيه منة عليه (¬1). وأدلة الجمهور على هذا التفصيل هي أدلتهم في كون الشفعة تجب على الفور، وسبق ذكر أدلتهم والجواب عنها، والله أعلم. الراجح: أن الغائب على شفعته حتى يحضر فيأخذ أو يترك، ولا دليل على وجوب الفورية بالمطالبة، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس الشفعة للصغير
الفصل الخامس الشفعة للصغير [م - 1031] اختلف العلماء في الشفعة للصغير على قولين: القول الأول: له الشفعة، ويقوم وليه مقامه في الأخذ بها، وهو قول الأئمة الأربعة (¬1). وجه ذلك: أن الشفعة حق مبني على الملك، وهؤلاء من أهل ثبوت الملك، ويقوم الولي مقام الصغير واليتيم؛ لأنه تصرف في المال عن طريق التجارة، والولي والوصي والقاضي يملك ذلك لهم؛ ولأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء لهم من المشتري، والولي يملك ذلك كما يملك الشراء، ولأن في ذلك دفع الضرر عنهم، وتوفير المنفعة لهم. القول الثاني: لا شفعة للصغير، وبهذا قال ابن أبي ليلى، والنخعي، والحارث العكلي (¬2). ويروى في هذا حديث ضعيف جدًا. (ح-635) رواه ابن ماجه من طريق محمد بن الحارث، عن محمد بن ¬
والراجح
عبد الرحمن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا شفعة لشريك على شريك إذا سبقه بالشراء، ولا لصغير، ولا لغائب (¬1). [إسناده ضعيف جدا، بل هو مسلسل بالضعفاء] (¬2). والراجح: القول الأول، وهو ثبوت الشفعة للصغير. ¬
مبحث حق الولي في العفو عن الشفعة
مبحث حق الولي في العفو عن الشفعة [م - 1032] إذا لم يطالب الولي بالشفعة بعد علمه بها، أو صرح بتركها، هل ذلك يسقط حق الصبي في المطالبة بالشفعة إذا كبر؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن ذلك يسقط حق الصبي، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ومالك (¬1). وجه سقوطها: أن الولي بمنزلة الصبي والمجنون، وترك الشفعة منه بمنزلة ترك الشراء، وللولي ولاية الامتناع عن الشراء. القول الثاني: هو على شفعته إذا بلغ، وهو قول محمد بن الحسن، وزفر، والثوري، وقال في الإنصاف: "وهو المذهب، نص عليه، وهو ظاهر كلام الخرقي" (¬2). واختاره ابن المنذر والأوزاعي (¬3). قال ابن قدامة: "ظاهر قول الخرقي أن للصغير إذا كبر الأخذ بها، سواء عفا عنها الولي أو لم يعف، وسواء كان الحظ في الأخذ بها أو في تركها، ¬
وجه ذلك
وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور له الشفعة إذا بلغ فاختار، ولم يفرق" (¬1). وجه ذلك: أن حق الشفعة حق ثبت للصبي واليتيم فإبطاله لا يكون نظرًا في حقه، ومثل هذا لا يدخل تحت ولاية الولي كالعفو عن قصاص وجب للصبي، وكالإبراء والتبرع ونحو ذلك مما لا يدخل تحت ولاية الولي. القول الثالث: إن ترك الولي الشفعة، وكانت مصلحة الصبي في الأخذ بها بقيت، وإن كان في ترك الشفعة مصلحة للصبي لم يأخذها الولي، ولو أخذها كان أخذه مردودًا فإن التصرفات في مال الصبي تنحصر في رعاية المصلحة، فلو بلغ الطفل وأراد أن يأخذ بالشفعة، ففي المسألة وجهان: أظهرهما أنه لا يثبت له ذلك. وهذا مذهب الشافعي، واختيار ابن حامد وابن تيمية من الحنابلة، ورجحه ابن حزم (¬2). وجه ذلك: قال ابن حزم: "فإن ترك ولي الصغير أو المجنون الأخذ بالشفعة فإن كان ذلك نظرًا لهما لزمهما؛ لأنه فعل ما أمر به من النصيحة لهما، وإن كان الترك ليس نظرا لهما لم يلزمهما, ولهما الأخذ أبدا؛ لأنه فعل ما نهي عنه من غشهما" (¬3). ¬
الراجح
الراجح: هذه المسألة ترجع إلى توصيف الشفعة، هل هي حق، أو بمنزلة الشراء، فإن كانت الشفعة حقا للصبي لم يسقط هذا الحق إلا إذا كان في إسقاطه مصلحة للصبي، فلا يحق له أن يرجع ويطالب. وإن كانت الشفعة بمنزلة الشراء فإن الولي له الحق في ترك الشراء للصبي مطلقاً، ولو كان في الشراء غبطة؛ لأن الذي يؤاخذ به الولي ألا يفرط في مال الطفل، فأما أن يتجر بمال الطفل فلا يلزمه ذلك، ولو ألزمناه لأوجبنا عليه أن يبذل كنه المجهود في سلوك طرق المكاسب والمتاجر، وهذا بعيد، والشفعة إنما شرعت لينتفع بها الآخذ لنفي الضرر، فلا يضار المشتري بحيث يقال له: إذا بلغ الطفل كان له الحق في انتزاع الملك منك، وقد تتغير الأسعار ويحدث فيها المشتري من البنيان والزرع ما يكون في انتزاعها مضرة عليه، والذي أميل إليه أن الشفعة حق، فإن كان الولي قد تركها لحظ الصبي، أو كان الصبي ليس معه ما يشتري به في ذلك الوقت سقطت، وإن تركها الولي ولم يكن في ذلك مصلحة للصبي كان للصبي أن يضمن الولي إذا بلغ، والضمان مسألة غير المطالبة بالشفعة؛ لأن المطالبة بالشفعة بعد مرور سنوات كثيرة فيه إضرار بالمشتري، فأرى أن مثل هذا يعتبر فوتاً، ويبقى حق الصبي في تضمين الولي باعتبار أن هذا نوع من التفريط الذي كان يجب عليه أن يقوم به. ومثل الصبي المجنون الذي لا ينفك عنه جنونه، والله أعلم.
الفصل السادس حق الحمل في الشفعة
الفصل السادس حق الحمل في الشفعة [م - 1033] لو كانت دار بين رجلين، فمات أحدهما عن حمل، فباع الآخر نصيبه، فهل يأخذ ولي الحمل الشفعة للحمل؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: للحمل الشفعة، فيقوم بالطلب والأخذ من يقوم مقامه شرعًا في استيفاء حقوقه، وهذا مذهب الحنفية، وقول في مذهب الحنابلة إلا أن الحنفية اشترطوا أن يثبت وجوده وقت البيع وذلك بأن تضعه أمه لأقل من ستة أشهر منذ وقع الشراء (¬1). وجه ذلك: أن الحمل من أهل التملك، وإذا كان له حق الإرث من مورثه، فكذلك يثبت له تملك سائر الحقوق المالية. القول الثاني: لا شفعة للحمل. وهو مذهب الجمهور، وإذا ولد الحمل فله الأخذ بالشفعة (¬2). ¬
الراجح
جاء في المدونة: "قلت -القائل سحنون- أرأيت الوصي أيأخذ للعبد بالشفعة في قول مالك؟ قال -القائل ابن القاسم- لا يأخذ بالشفعة حتى يولد؛ لأنه لا ميراث له إلا بعد الولادة في رأيي، فكذلك لا شفعة له إلا بعد الولادة، وبعد الاستهلال صارخًا" (¬1). وجاء في قواعد ابن رجب: "ومنها الأخذ للحمل بالشفعة ... قال الأصحاب: لا يؤخذ له، ثم اختلفوا، منهم من علل بأنه لا يتحقق وجوده، ومنهم من علل بانتفاء ملكه، ويتخرج وجه آخر بالأخذ له بالشفعة بناء على أن له حكمًا وملكًا" (¬2). وجاء في المغني: "وإن بيع شقص في شركة حمل، لم يكن لوليه لأن يأخذ له بالشفعة؛ لأنه لا يمكن تمليكه بغير الوصية، وإذا ولد الحمل، ثم كبر، فله الأخذ بالشفعة كالصبي إذا كبر" (¬3). يقصد إذا لم يأخذ له الولي. وجاء في حاشيتي قليوبي وعميرة "ولا شفعة لحمل، فإن كان وارث غير الحمل أخذ الكل، ولا رجوع عليه لو انفصل الحمل حياً، ولو ورث الحمل شفعة لم يصح أن يأخذ له الولي إلا بعد انفصاله حيا" (¬4). الراجح: ثبوت الشفعة للحمل بشرط أن يولد حياً، لصحة تملك الحمل، والله أعلم. ¬
الفصل السابع في شفعة المريض والمحبوس
الفصل السابع في شفعة المريض والمحبوس [م - 1034] إن كان المرض لا يمنع من المطالبة كالصداع اليسير والألم القليل فهو كالصحيح. وإن كان المرض يمنع من المطالبة كالمرض الذي لا ينتظر زواله عن قرب، فإن كان لا يقدر على الطلب، ولا على التوكيل والإشهاد فهو على شفعته؛ لأنه معذور، أشبه ما لو لم يعلم (¬1). جاء في العناية شرح الهداية: "أجمعوا على أنه إذا تركه بمرض أو حبس أو غير ذلك ولم يمكنه التوكيل بهذا الطلب لا تبطل شفعته، وإن طالت المدة" (¬2). وجاء في المهذب: "وإن وجبت له الشفعة، وهو محبوس أو مريض أو غائب نظرت: فإن لم يقدر على الطلب، ولا على التوكيل، ولا على الإشهاد فهو على شفعته؛ لأنه ترك بعذر" (¬3). وإن كان يقدر على التوكيل والإشهاد فحكمه حكم الغائب، والعلماء مختلفون في حكم الغائب؛ لاختلافهم في الشفعة، هل هي على الفور أو على التراخي على قولين: القول الأول: أن المريض كالغائب على شفعته مطلقًا علم بالبيع أو لم يعلم، فإذا زال عذره ¬
القول الثاني
فهو كالحاضر، ولا يجب على المريض إشهاد ولا توكيل (¬1). ومبنى قولهم هذا أن المطالبة بالشفعة لا تجب على الفور، كسائر الحقوق. جاء في مواهب الجليل: "واختلف في المريض، فقيل: إنه كالغائب، ولو علم بالشفعة. وقيل: كالحاضر نقلهما ابن ناجي وغيره" (¬2). وقد تقدم لنا مذهب المالكية في الغائب وأنه على شفعته حتى يقدم، فإذا قدم فهو كالحاضر، وأن الحاضر لا يجب عليه المطالبة بالشفعة على الفور. القول الثاني: اختلف الجمهور القائلون بأن الشفعة على الفور ماذا يجب على المريض القادر على التوكيل والإشهاد. جاء في روضة الطالبين: "والعذر ضربان: أحدهما: ما لا ينتظر زواله عن قرب، كالمرض، فينبغي للمريض أن يوكل إن قدر، فإن لم يفعل بطلت شفعته على الأصح لتقصيره. والثاني: لا. والثالث: إن لم يلحقه في التوكيل منة ولا مؤنة ثقيلة بطلت، وإلا فلا. فإن لم يمكنه فليشهد على الطلب، فإن لم يشهد بطلت على الأظهر، أو الأصح، والخوف من العدو كالمرض" (¬3). ¬
الراجح
وقال ابن قدامة: "من كان مريضا مرضًا لا يمنع المطالبة، كالصداع اليسير، والألم القليل، فهو كالصحيح، وإن كان مرضا يمنع المطالبة، كالحمى وأشباهها، فهو كالغائب في الإشهاد والتوكيل" (¬1). والشفيع الغائب عند الحنابلة يجب عليه الإشهاد، ولا يلزمه التوكيل، وقد تقدم ذكر مذهبهم. الراجح: الذي أميل إليه أن الشفعة ليست على الفور، وأن المريض كغيره على شفعته، ولا يسقط حقه إلا بإسقاط، أو يطلب منه الحاكم أن يأخذ أو يدع، والله أعلم. ... ¬
الفصل الثامن في تعدد الشفعاء
الفصل الثامن في تعدد الشفعاء المبحث الأول تعدد الشفعاء مع اختلاف سبب الشفعة [م - 1035] سبق لنا أن الفقهاء متفقون في ثبوت الشفعة للشريك الذي لم يقاسم، واختلفوا في ثبوت الشفعة للشريك في حق من حقوق العقار، والشفعة للجار، فإذا تعدد الشفعاء سواء كان سبب الشفعة واحداً، أو كان سبب الشفعة مختلفًا عند من يثبت الشفعة لغير الشريك، فإن يجب تقديمه عند التزاحم؟ اختلف الفقهاء في هذه على أقوال: القول الأول: ذهب الحنفية وهو رواية عن أحمد إلى القول بتعدد سبب الشفعة على اختلاف بينهم في عددها. فالحنفية جعلوا الأسباب ثلاثة: (1) الشركة في عين العقار. (2) الشركة في المرافق. (3) الجوار الملاصق (¬1). ¬
وجعل الإِمام أحمد في رواية عنه للشفعة سببين: (1) الشركة في عين العقار. (2) الشركة في حق من حقوق العقار (¬1). فبناء على القول بتعدد سبب الشفعة يمكن أن يقع التزاحم بين الشفعاء. فذهب الحنفية إلى أن الشفعة تثبت فيهما على الترتيب، فيقدم الشريك في المبيع، ثم الشريك في المرافق، ثم الجار الملاصق احترازًا من المحاذي (¬2). فإن سلم الشريك، وجبت للخليط، وإن اجتمع خليطان قدم الأخص على الأعم، وإن سلم الخليط وجبت للجار بشرط أن يكون الجار قد طلب الشفعة مع الشريك إذا علم بالبيع؛ ليمكنه الأخذ إذا سلَّم الشريك. جاء في حاشية ابن عابدين: "واعلم أن كل موضع سلم الشريك الشفعة فإنما تثبت للجار إن طلبها حين سمع البيع، وإن لم يكن له حق الأخذ في الحال، أما إذا لم يطلب حتى سَلَّم الشريك فلا شفعة له" (¬3). ¬
واستدل الحنفية على الترتيب
وخالف في ذلك أبو يوسف، فقال: إذا وجد الشريك فلا حق لغيره في الشفعة، سواء أخذ ذلك الشريك أو لم يأخذ (¬1). واستدل الحنفية على الترتيب: الدليل الأول: (ح-636) ما رواه عبد الزراق (¬2)، وابن أبي شيبة (¬3)، من طريق وكيع، عن هشام ابن المغيرة الثقفي، قال: سمعت الشعبي يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الشفيع أولى من الجار، والجار أولى من الجنب. [رجاله ثقات إلا أنه مرسل، وروي مسندًا, ولا يعرف] (¬4). الدليل الثاني: أن المؤثر في ثبوت حق الشفعة هو دفع ضرر الدخيل وأذاه، وسبب وصول الضرر والأذى هو الاتصال، والاتصال بالشركة في عين المبيع أقوى من الاتصال بالخلط، والاتصال بالخلط أقوى من الاتصال بالجوار، والترجيح بقوة التأثير ترجيح صحيح (¬5). ¬
وجه قول أبي يوسف
وجه قول أبي يوسف: أن الحق عند البيع كان للشريك لا لغيره، ألا ترى أن غيره لا يملك المطالبة، فإذا سَلَّم سقط الحق أصلًا. القول الثاني: ذهب الشافعية في أصح القولين، والحنابلة في المشهور إلى القول بعدم التزاحم في الشفعة؛ لأنهم يرون أن سبب الشفعة سبب واحد، وهو الشركة في ملك العقار، فلا يحتمل عندهما التعدد في سبب الشفعة، فإذا تعدد الشفعاء اشتركوا في الأخذ بالشفعة (¬1). القول الثالث: ذهب المالكية، والشافعية في قول بأن التزاحم قد يقع وإن كان سبب الشفعة واحداً، فقالوا: يقدم الشريك الأخص، وهو المشارك في السهم على الشريك الأعم، فإذا مات إنسان، وترك ورثة كزوجتين، وجدتين، وأختين، وعاصب، فإذا باعت إحدى الزوجتين نصيبها من العقار فإن الزوجة تختص بالشفعة دون غيرها؛ لأنها هي المشاركة في السهم، وكذلك إذا باعت إحدى الجدتين نصيبها اختصت الجدة الأخرى بالشفعة دون غيرها من الورثة، وإذا باعت إحدى الأختين نصيبها اختصت الأخت الأخرى بالشفعة دون سائر الورثة، وهكذا (¬2). ¬
الراجح
الراجح: أن الشفعة إذا كان سببها واحدا فهم سواء في الاستحقاق، فالشركة في الميراث سببها واحد، وإذا كان سببها مختلفًا قدم الشريك على غيره على أنني لا أرى الشفعة للجوار إذا لم يكن بينهما حق مشترك، والله أعلم. ... ¬
المبحث الثاني تعدد الشفعاء مع اتحاد سبب الشفعة
المبحث الثاني تعدد الشفعاء مع اتحاد سبب الشفعة [م - 1036] إذا تعدد الشفعاء، وكان سبب الشفعة واحدا كالشركة في العقار، فكيف يوزع المشفوع فيه على الشفعاء: اختلف الفقهاء في ذلك على أقوال: القول الأول: إذا تعدد الشفعاء وتزاحموا في الشفعة وزع المشفوع فيه بينهم على عدد الرؤوس بالتساوي، ولا اعتبار لمقدار الحصص. وهذا مذهب الحنفية، والقول القديم للشافعي، ورواية عن أحمد اختارها ابن عقيل، ورجحه ابن حزم (¬1). وجه هذا القول: الوجه الأول: لا يوجد نص في المفاضلة بين الشركاء في الشفعة، ولو كان هناك مفاضلة بينهم لبينها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يجمل الأمر، فلما لم يبين بطلت المفاضلة. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أن سبب استحقاق الشفعة إما الجوار وإما الشركة، وقد استويا في أصل ذلك، فإنَّ صاحب القليل شريك كصاحب الكثير. الوجه الثالث: أن علة الاستحقاق أصل الملك لا قدر الملك، ألا ترى أن صاحب الكثير لو باع نصيبه كان لصاحب القليل أن يأخذ الكل بالشفعة، كما لو باع صاحب القليل نصيبه، والاستواء في العلة يوجب الاستواء في الحكم، ولا ترجيح بكثرة العلل، بل بقوتها، ألا ترى أن أحد الخصمين إذا أقام شاهدين والآخر أربعة فهما سواء. القول الثاني: يوزع المشفوع فيه على قدر حصصهم. وهذا مذهب المالكية، وأظهر القولين عند الشافعية، قال الغزالي: وهو القول الجديد، وذكر ابن قدامة أنه الصحيح في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في المدونة: "ما قول مالك في الشفعة، أتقسم على عدد الرجال، أم على قدر الأنصباء؟ قال: قال مالك: إنما الشفعة على قدر الأنصباء، وليس على عدد الرجال" (¬2). ¬
وجه هذا القول
وقال ابن قدامة: "الصحيح في المذهب أن الشقص المشفوع إذا أخذه الشفعاء قسم بينهم على قدر أملاكهم ... وعن أحمد رواية ثانية أنه يقسم بينهم على عدد رؤوسهم، اختارهما ابن عقيل" (¬1). وجه هذا القول: الوجه الأول: أن الشفعة إنما وجبت لشركتهم لا لعددهم، فوجب تفاضلهم فيها بتفاضل الشركة. الوجه الثاني: إن سبب الشفعة الملك, فتتبعه ككسب العبد، وثمر الشجر، وأرش الجناية، وأجرة الدار. الوجه الثالث: أن الشريك إذا باع ملكه سقطت شفعته، فدل على أن نصيبه هو الموجب لشفعته، فتقسم على قدر الأنصباء. الوجه الرابع: أن الشفعة شرعت لدفع الضرر، ويختلف الضرر باختلاف الأنصباء، فالأكثر يتضرر أكثر بالقسمة، وأجرة القاسم، فوجب أن يكون استحقاقهم لدفع الضرر على قدر أنصبتهم. الراجح: الذي أميل إليه أن الشفعة تتفاضل على قدر الأملاك؛ لأن الشفعة وإن ثبتت ¬
بسبب الشركة في العقار إلا أن مقدار ما يستحقه منها يرجع إلى مقدار نصيبه من هذا العقار كالربح يستحقه بسبب الشركة، ومقداره من الربح يرجع إلى نصيبه منها، والله أعلم.
الفصل التاسع في الشريك يشتري نصيب أحد الشركاء
الفصل التاسع في الشريك يشتري نصيب أحد الشركاء [م - 1037] إذا اشترى أحد الشركاء حصة من الشركة، فهل يسقط ذلك حقه وحق شركائه من الشفعة؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا شفعة للمشتري إذا كان شريكًا، بل للشريك أن يأخذ الجميع إذا أراد الشفعة دون المشتري. وهذا القول نسبه أبو حامد الإسفراييني لأبي العباس بن سريج الشافعي، لكن قال الماوردي: وجدت أبا العباس بن سريج قائلاً بخلافه، موافقًا لأصحابه، وحكاه أبو الحسن الماوردي عن أبي حنيفة وهو مخالف لما في كتب الحنفية كما سيأتي، وحكاه ابن حزم قولا ولم ينسبه، وحكاه ابن الصباغ للحسن والشعبي والبتي كما في المغني، وقد حكي عنهم قول آخر كما في القول الثاني (¬1). وجه هذا القول: أن الشفعة يستحقها الشريك على المشتري، فلا يستحقها المشتري على نفسه. ¬
ونوقش هذا
ونوقش هذا: بأن المشتري الشريك له صفتان: أحدهما: كونه مشتريًا، وهذا سبب قيام الشفعة للشركاء. والصفة الثانية: كونه شريكًا، فإذا انتزع منه المبيع بسبب الشراء، فقد استرد المشتري جزءًا منه بقدر شقصه لكونه شريكا وليس لكونه مشتريا، فسبب استحقاق الشفعة مختلف، فهو لم يستحق الشفعة لكونه مشتريا، وإنما استحق الشفعة لكونه شريكا، فإذا منعنا الشريك المشتري من الشفعة فقد أعطينا شريكه الحق بأن يأخذ مقداره ومقدار غيره من الشفعة دون رضي شريكه، وهذا لا يصح. قال ابن قدامة: "ولنا أنهما تساويا في الشركة فتساويا في الشفعة، كما لو اشترى أجنبي، بل المشتري أولى؛ لأنه قد ملك الشقص المشفوع" (¬1). القول الثاني: لا شفعة للشركاء على الشريك، وقد نسب هذا القول للحسن، والشعبي، وعثمان البتي (¬2). دليل هذا القول: الدليل الأول: (ح-637) ما رواه ابن ماجه من طريق محمد بن الحارث، عن محمد ابن عبد الرحمن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا شفعة لشريك على شريك إذا سبقه بالشراء، ولا لصغير، ولا لغائب (¬3). ¬
الدليل الثاني
[إسناده ضعيف جدا، بل هو مسلسل بالضعفاء] (¬1). الدليل الثاني: أن الشفعة إنما ثبتت لدفع ضرر الشريك الداخل، وهذا المشتري شركته متقدمة، فلا ضرر في شرائه. وأجيب: بأن الضرر يحصل بشراء هذا السهم المشفوع من غير نظر إلى المشتري، هل هو شريك أو أجنبي، وقد حصل شراؤه. القول الثالث: شراء الشريك لا يسقط حقه، ولا حق شركائه من الشفعة، بل يترك للشريك المشتري حصته من الشفعة، فلا يؤخذ منه الجميع بل يتقاسم مع الشركاء حصصهم منها، هذا مذهب الأئمة الأربعة (¬2). ¬
دليل هذا القول
دليل هذا القول: الدليل الأول: ثبتت الأدلة على استحقاق الشريك للشفعة من حديث جابر وغيره، وعمومها وإطلاقها تشمل كل شريك، سواء كان مشتريا أو غير مشتر، والمطلق والعام يحملان على عمومهما وإطلاقهما حتى يرد عليهما مخصص أو مقيد من الشارع لا غير؛ لأن كلام الشارع لا يقيده ولا يخصصه إلا نص مثله، فإن قال بإخراج الشريك إذا كان مشتريًا فعليه الدليل. الدليل الثاني: أن الشريك المشتري قد تساوى مع شريكه في الشركة، فيجب أن يتساويا في الشفعة، كما لو كان المشتري أجنبيا، بل المشتري أولى؛ لأنه قد ملك الشقص المشفوع. [م - 1038] وإن أسقط المشتري حقه من الشفعة. فقيل: يلزم الشريك أخذ الكل أو يسلمه إلى المشتري، هذا مذهب المالكية ووجه في مذهب الشافعية (¬1). ¬
الراجح
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن المشتري ليس له أن يلزم الشفيع بذلك (¬1). قال المزني: "ولو اشترى شقصاً، وهو شفيع، فجاءه شفيع آخر، فقال له المشتري: خذها كلها بالثمن أو دع، وقال هو: بل آخذ نصفها كان ذلك له؛ لأنه مثله، وليس له أن يلزم شفعته لغيره" (¬2). وقال ابن قدامة: "إن أسقط المشتري حق شفعته ليلزم شريكه أخذ الكل لم يملك ذلك؛ لأن ملكه استقر على قدر حقه، فلم يسقط بإسقاطه" (¬3). "فإن قيل: هذا تبعيض للصفقة على المشتري. قلنا: هذا التبعيض اقتضاه دخوله في العقد، فصار كالرضا منه به، كما قلنا في الشفيع الحاضر إذا أخذ جميع الشقص، وكما لو اشترى شخصاً وسيفا" (¬4). الراجح: ثبوت الشفعة للشفيع ولو كان مشتريا، والله أعلم. ¬
الفصل العاشر إذا أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري
الفصل العاشر إذا أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري [م - 1039] اختلف العلماء في الأخذ بالشفعة إذا أقر البائع بالبيع، وأنكر المشتري: القول الأول: لا لثبت الشفعة للشفيع، وهو مذهب المالكية، وبه قال ابن سريج من الشافعية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في المدونة: "أرأيت إن أقر البائع بالبيع، وجحد المشتري البيع، وقال: لم أشتر منك شيئًا، ثم تحالفا، وتفاسخا البيع، فقام الشفيع فقال: أنا آخذ الشفعة بما أقررت لي أيها البائع؟ قال: ما سمعت من مالك فيه شيئًا, ولا أرى فيه شفعة؛ لأن عهدته على المشتري، فإذا لم يثبت للمشتري ما اشترى فلا شفعة له" (¬2). وجه هذا القول: أن الشفعة فرع البيع، ولم يثبت فلم يثبت فرعه. ولأن الشفيع إنما يأخذ الشقص من المشتري، وإذا أنكر البيع لم يمكن الأخذ منه. ¬
القول الثاني
القول الثاني: للشفيع أن يأخذ المبيع من البائع، إذا أقر بالبيع وأنكر المشتري، وهذا مذهب الحنفية، والأصح عند الشافعية، والمذهب عند الحنابلة (¬1). جاء في الإنصاف: "وإن أقر البائع بالبيع، وأنكر المشتري، فهل تجب الشفعة؟ على وجهين: ... أحدهما: تجب، وهو المذهب" (¬2). وجه هذا القول: أن البائع أقر بحقين: حق للمشتري، وحق للشفيع، فإذا سقط حق المشتري بإنكاره بقي حق الشفيع، كما لو أقر بدار لرجلين، فأنكر أحدهما. ولأن البائع قد قام بأمرين: إقرار ودعوى. أما الإقرار فهو إقراره على نفسه بالبيع، وهذا حجة عليه، ويؤاخذ به، وقد أقر أن الشفيع مستحق لأخذ هذه الدار بالشفعة، والشفيع يطلب ذلك، فيجب قبوله كما لو أقر أنها ملكه. وأما الدعوى فهي في حق المشتري، فالبائع يدعي على المشتري بالبيع، والمشتري ينكر ذلك، فلا يؤاخذ المشتري بدعوى البائع، ويقال له: ألك بينة، فإن أقامها لزم المشتري، وإن لم يقم البينة كان على المشتري اليمين، فإذا حلف لم يلزمه شيء، والله أعلم. ¬
الراجح
الراجح: أرى أن القول بأن للشفيع أخذ الشفعة بإقرار البائع هو القول الراجح، وقد يتهم المشتري بإنكاره العقد حتى يحرم الشفيع من أخذ الشقص، والله أعلم.
الفصل الحادى عشر ما يأخذ به الشفيع إن كان الثمن مؤجلا
الفصل الحادى عشر ما يأخذ به الشفيع إن كان الثمن مؤجلًا [م - 1040] إذا بيع الشقص بثمن حال أخذه الشفيع بثمن حال، وهذا لا خلاف فيه. [م - 1041] واختلفوا فيما إذا أخذه المشتري بثمن مؤجل بم يأخذه الشفيع؟ على أربعه أقوال: القول الأول: يخير الشفيع بين أن يعجل الثمن، ويأخذ المبيع أو ينتظر إلى حلول الأجل، وليس له الحق في أخذ المبيع بالأجل. وهذا مذهب الحنفية، والقول الجديد للشافعي (¬1). وجه هذا القول: الوجه الأول: أن رضا البائع بذمة المشتري لا يوجب على المشتري أن يرضى بذمة الشفيع، ولذلك حل دين الميت؛ لأن رضا ربه بذمته لا يوجب عليه الرضا بذمة وارثه؛ لأن الذمم تتفاوت ملاءة وثقة وإعسارا. ¬
نوقش هذا بجوابين
نوقش هذا بجوابين: الجواب الأول: الشفعة تستحق بصرف النظر عن رضا البائع أو رضا المشتري، ومن أين وجب مراعاة رضاهما وسخطهما، وهب أن البائع والمشتري لم يرضيا معاملة الشفيع فكان ماذا؟ فالشريك (الشفيع) أحق بالمبيع، والشرع فضله على المشتري فله الأخذ بما يبيع به جملة (¬1). وحلول دين الميت إذا وجب مؤجلا فيه نزاع، وما فيه نزاع لم يكن حجة يلزم به المخالف، وإذا قدم الورثة ضمينا مليئا لم يجب تعجيل الدين المؤجل على الميت على الصحيح. الجواب الثاني: أن عدم قبول الشفيع بسبب التفاوت في الملاءة يندفع في وجود ضمين مليء، أو رهن. الوجه الثاني: لما كان في إلزام الشفيع بدفع الثمن حالا ضرر عليه؛ لأن الأجل يقابله قسط من الثمن لم نلزم الشفيع بالتعجيل، بل قلنا: يتخير بين التعجيل وأخذ المبيع، أو الانتظار إلى حلول الأجل. الوجه الثالث: أخذ الشفعة باستحقاق الأجل يدخل في عقود المراضاة، ولا يدخل في الاستحقاق ما لم يكن مراضاة. ¬
ويناقش
وبمعنى آخر: أن الأجل لم يجب بالبيع، وإنما وجب بالشرط، والشرط لم يوجد في حق الشفيع. ويناقش: الواجب على الشفيع دفع الثمن بقدره وصفته، والأجل من صفته. القول الثاني: إن كان مليئا أو كفله مليء فله أن يأخذه بما أخذ به المشتري، زاد المالكية: أو وثق ذلك برهن. وهذا مذهب المالكية والحنابلة، وقول في مذهب الشافعية حكاه حرملة (¬1). جاء في المدونة: "قال مالك في الرجل يبتاع الشقص من الدار إلى أجل: إن الشفيع إن كان مليا، فله أن يأخذها إلى ذلك الأجل، وإن لم يكن مليا فأتى بحميل مليء ثقة، فذلك له في قول مالك" (¬2). وجه ذلك: أما كون الشفيع يستحق أن يأخذه مؤجلا فلأن الشفيع تابع للمشتري في قدر الثمن وصفته، والتأجيل من صفته. وأما وجوب الضمين أو الرهن فلأن في تسليم المبيع إلى الشفيع مع تأجيل ¬
ونوقش هذا
الثمن فيه ضرر بالمشتري فاحتاج الأمر إلى ضامن مليء يضمن حق المشتري لدفع الضرر عنه. ونوقش هذا: بأن الواجب على المشتري ثمن المشفوع فيه، والضمين والرهن وثيقة بالثمن، وليسا من جملة الثمن، فلا يجب على المشتري، والاستحقاق: هو أخذ الشفيع الشفعة، وهذا لا يشترط له الرضا، وأما استحقاق الأجل فليس من الشفعة، ولا يستحق إلا بالرضا. القول الثالث: يأخذ الشفيع الشقص بأجله مطلقاً، وهو قول زفر من الحنفية، والقول القديم للشافعي، وبه قال ابن حزم (¬1). وجه هذا القول: الوجه الأول: أن الشفيع يدخل مدخل المشتري في قدر الثمن، وصفته، والتأجيل من صفته فله أن يأخذه بذلك. الوجه الثاني: أن تعجيل المؤجل استزادة في الثمن، والمشتري ممنوع من الاستزادة، ولا يمكن للمشتري أن يقول: أحط لك من الثمن بسبب التعجيل قدر ما بين الحال والمؤجل لأمرين: ¬
القول الرابع
أحدهما: أنه مفض إلى الربا كما لو كان الثمن نقودا؛ لأنه يفضي إلى مبادلة النقود بالنقود مع التفاضل. قلت: هي شبيهة بمسألة الصلح عن المؤجل ببعضه حالا، وفيها خلاف، وقد سبق بحث هذه المسألة، وهي عكس مسألة الربا. الثاني: أن ما استحق تأجيله لم يلزمه تعجيله. القول الرابع: يأخذ الشفيع المبيع بعرض يساوي الثمن المؤجل، وهذا القول حكاه ابن سريج من الشافعية (¬1). وجه هذا القول: أن المشتري لا يمكن أن يطالب الشفيع بالثمن حالا؛ لأن ذلك أكثر مما لزم المشتري، كما أنه لا يلزمه أن يقبل أن يأخذه الشفيع مؤجلا؛ لأن الذمم لا تتماثل، ولا يمكن أن يحط عنه من النقود بقدر التأجيل؛ لأن ذلك مفض إلى الربا، فوجب أن يعدل إلى جنس آخر بقيمته. الراجح: الخلاف في المسألة خلاف قوي، والأجل له وقع في الثمن، فاستحقاق الثمن معجلا لا يستحقه المشتري، وإجباره على قبول الأجل مطلقاً فيه ضرر عليه، فكان القول الوسط، وهو مقتضى العدل أن يطلب المشتري ضمينا مليئا، أو رهنا، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني عشر إذا حط البائع أو زاد بعد البيع
الفصل الثاني عشر إذا حط البائع أو زاد بعد البيع [م - 1042] إذا حط البائع أو زاد بعد البيع، فهل يثبت ذلك في حق الشفيع؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: يسقط عن الشفيع ما يحطه البائع عن المشتري مطلقاً، سواء كان ذلك قبل الأخذ بالشفعة أو بعده، بخلاف الزيادة على الثمن فإنها لا تلزم في حق الشفيع. وهذا مذهب الحنفية (¬1). دليل هذا القول: الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24]. وجه الاستدلال: أنه إذا جاز إلحاق الزيادة والحط من المهر بعد وجوبه، جاز ذلك في عقد البيع. ويناقش: ليس الكلام على جواز الزيادة والحط، وإنما الخلاف في توصيف هذه. ¬
الدليل الثاني
الزيادة والحط، هل هما تبرع باعتبار أن العقد أصبح لازما بالثمن الأول؟ أو رجوع عن الثمن الأول إلى ثمن آخر وذلك بتعديل العقد. الدليل الثاني: أن الحط قد غير العقد عن وجهه الأول، وهو كونه بذلك المقدار إلى كونه بهذا المقدار، ورأينا أن الشرع أثبت لهما ولاية تحويل العقد من صفة إلى صفة، فلهما أن يحولا العقد من عدم اللزوم إلى اللزوم بإسقاط الخيار، وعكسه بإلحاق الخيار، وكذا من كونه حالاً إلى مؤجل بإلحاق الأجل. ومن وجوده بعد تحققه في الوجود إلى إعدامه بلا سبب سوى اختيارهما، كما لو أقَالَ أحدهما الآخر، فأولى أن يثبت لهما تغيير الثمن والحط منه (¬1). ويناقش: إذا كان الفقهاء متفقين على أن الزيادة بعد لزوم العقد لا تلحق بأصل الثمن لمن أخذ بالشفعة، ولو كانت الزيادة تعديلًا للعقد الأول للحقت الزيادة لمن أخذ المبيع بالشفعة، فدل ذلك على أن الزيادة أو الحط إنما هما من قبيل التبرع، وليس تعديلًا للعقد الأول (¬2). ويناقش هذا: بأن النقص والزيادة كليهما تعديل للعقد الأول، وإنما لم تلحق الزيادة بتعديل العقد؛ لأن الشفعة استحقت قبل حصول الزيادة، فلم تلزم الشفيع. القول الثاني: إن حط عن المبتاع ما يشبه أن يحط في البيوع وضع ذلك عن الشفيع، بأن ¬
وجه هذا القول
يكون مقدار ما حطه البائع عن المشتري مما جرت العادة بحطه من الثمن بين الناس، وكان المتبقي من الثمن يشبه أن يكون ثمنا للشقص، وإن كان لا يحط مثله فهي هبة، ولا يحط عن الشفيع شيء. وهذا مذهب المالكية (¬1). وجه هذا القول: أن المتبقي من الثمن إن كان يشبه أن يكون ثمن مثله كان الحط من الثمن ليس تبرعا محضا من البائع، بل وصول إلى الثمن الحقيقي للشقص، فيسقط الحط عن الشفيع، وقد تكون الزيادة من أجل أن يترك الشفيع الشفعة. وإذا كان المتبقي لا يشبه أن يكون ثمنا قطعنا أن ذلك كان على وجه التبرع، فلا يسقط عن الشفيع. القول الثالث: إن كان الحط أو الزيادة بعد لزوم العقد لم يحط منه شيء عن الشفيع، وإن كان الحط أو الزيادة قبل لزوم العقد كما في خيار المجلس، أو في مدة خيار الشرط فإنه يحط عن الشفيع، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬2). وجه هذا القول: أن الزيادة والنقص قبل لزوم العقد يعتبر جزءاً من الثمن؛ لأن العقد قبل لزومه لم يستقر، فالثمن فيه قابل للزيادة والنقص، فما حط عن المشتري حط عن ¬
الراجح
الشفيع، وما زيد لزم الشفيع، وأما بعد لزوم العقد واستقرار الثمن فإنه هبة تعتبر لها شروط الهبة، ولا تحط عن الشفيع، ولا يلزمه ما زاده المشتري بعد لزوم العقد؛ لأنه تبرع محض. الراجح: الذي أميل إليه أن مذهب الشافعية والحنابلة أقوى؛ وإن كان مذهب المالكية فيه قوة، ويراعي المعنى الذي من أجله حط البائع أو زاد إلا أن القواعد تتمشى مع مذهب الشافعية والحنابلة، فالعقد قبل لزومه لا يعتبر ثمنه مستقرا، وأضعف الأقوال قول الحنفية، والله أعلم. ***
الفصل الثالث عشر إذا اختلف البائع والمشتري بالثمن
الفصل الثالث عشر إذا اختلف البائع والمشتري بالثمن [م - 1043] إذا اختلف البائع والمشتري في قدر الثمن، فهل يأخذ الشفيع المبيع بقول البائع، أو بقول المشتري؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: إذا ادعى البائع الأكثر يتحالفان، ويترادَّان، وأيهما نكل ظهر أن الثمن ما يقوله الآخر، فيأخذها الشفيع بذلك، وإن حلفا فسخ القاضي البيع، ويأخذها الشفيع بقول البائع إن كان لم يقبض الثمن، وإن كان قد قبض الثمن أخذها بما قال المشتري، ولم يلتفت إلى قول البائع، هذا مذهب الحنفية (¬1). وجه هذا القول: أن البائع إذا لم يكن قبض الثمن فالتملك يقع عليه بتمليكه، فيرجع مقدار ما ملك به إلى قوله بخلاف ما إذا قبض الثمن فإن القول قول المشتري؛ لأنه إذا قبض الثمن لم يبق له حق في المبيع أصلاً، وصار أجنبيا، فالتحق تصديقه بالعلم (¬2). القول الثاني: ذهب المالكية أن البائع والمشتري إذا اختلفا في قدر الثمن يتحالفان، ويتفاسخان، فإن حلفا أو نكلا فسخ البيع، وبطلت الشفعة (¬3). ¬
القول الثالث
وإن نكل المشتري، وحلف البائع على دعواه أخذ البائع ما حلف عليه من الثمن، فإذا قام الشفيع على المشتري ليأخذ الشقص، فقولان في مذهب المالكية: أحدهما: يأخذه بما ادعى به المشتري؛ لأنه الثمن الذي أقر به، وادعى أن البائع قد ظلمه في الزائد، فلا تلزم الشفيع، وبه قال ابن المواز. وقيل: يأخذه بما أدى المشتري للبائع؛ لأن من حجته أن يقول: إنما ملكت الشقص بها، فلم يتم لي الشراء إلا بها، ويه قال ابن عبد الحكم، وأصبغ (¬1). القول الثالث: يأخذه الشفيع بقول المشتري مطلقاً حتى لو ثبت قول البائع بالبينة، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة (¬2). جاء في فتح العزيز: "ولو اختلف البائع والمشتري في قدر الثمن، فإن ثبت قول المشتري فذاك، وإن ثبت قول البائع بالبينة أو باليمين المردودة، فعلى المشتري ما ادعاه البائع، والشفيع يأخذ بما ادعاه المشتري لاعترافه بأن البيع جرى بذلك، والبائع ظالم بالزيادة" (¬3). وجه هذا القول: أن الشفيع مقر له باستحقاقه بالثمن الذي ادعاه، ويدعي أن البائع ظلمه بالزيادة، فلا تلزم الشفيع. ¬
الراجح
الراجح: أرى أن الراجح أن المتداعيين إن تحالفا أو نكلا فسخ البيع، ولم تثبت حينئذ شفعة لعدم ثبوت البيع، وإن نكل أحدهما وحلف الآخر لزم الناكل ما حلف به صاحبه، فإن حلف المشتري ونكل البائع لزم البائع ما حلف عليه المشتري، والشفيع يأخذه في الحالة هذه بما أخذه به المشتري. وإن حلف البائع، ونكل المشتري لزم المشتري أخذ المبيع بما ادعى به البائع، وأما الشفيع فلا يأخذه إلا بما أقر به المشتري مطلقا، سواء لزمه ما أقر به، أو لزمه ما ادعاه عليه البائع، والله أعلم.
الفصل الرابع عشر إذا اختلف المشتري والشفيع
الفصل الرابع عشر إذا اختلف المشتري والشفيع [م - 1044] تقدم لنا الخلاف في مسألة: اختلاف البائع والمشتري في قدر الثمن، فهل يختلف الحكم فيما لو كان الخلاف بين المشتري والشفيع في قدر الثمن، ولم تكن هناك بينة لأحدهما؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: القول قول المشتري مع يمينه. وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة (¬1). قال في الحاوي: "إذا اختلف الشفيع والمشتري في قدر الثمن، فادعى المشتري أن الثمن ألف، وقال الشفيع: خمسمائة، ولا بينة لواحد منهما فالقول قول المشتري مع يمينه لأمرين: أحدهما: أنه مباشر للعقد، فكان أعلم به من غيره. الثاني: أنه مالك للشقص فلم ينزع منه إلا بقوله. فإن حلف المشتري على ما ادعى من الثمن أخذه الشفيع به إن شاء، وإن نكل المشتري ردت اليمين على الشفيع، فإن حلف أخذه بما قال" (¬2). ¬
القول الثاني
وجاء في المغني: "وإن اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري إلا أن يكون للشفيع بينة" (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية، وفيه ثلاثة أقوال: المشهور من المذهب أن القول قول المشتري مع يمينه فيما يشبه كونه ثمنًا معتادا لمثل الشقص سواء أشبه الشفيع أم لا. وإن لم يشبه المشتري فالقول قول الشفيع إن أشبه (¬2). "قال ابن القاسم: إذا اختلف الشفيع والمبتاع في الثمن صدق المبتاع؛ لأنه مدعى عليه، إلا أن يأتي بما لا يشبه مما لا يتغابن الناس بمثله فلا يصدق" (¬3). وجاء في المدونة: "قلت -القائل سحتون - أرأيت أن اختلف الشفيع والمشتري في الثمن الذي إشتريت به الدار, القول قول من في قول مالك؟ قال: قال مالك: القول قول المشتري، إلا أن يأتي بما لا يشبه فلا يصدق عندي، إلا أن يكون مثل هؤلاء الملوك، يرغب أحدهم في الدار لضيق داره فيثمنها، فالقول قوله إذا أتى بما يشبه. قلت: وما معنى قوله: إذا أتى بما يشبه؟ قال: يشبه أن يكون ثمنها فيما يتغابن الناس فيه. قلت: أرأيت إن أقاما جميعا البينة؟ ¬
الراجح
قال: إذا تكافأت البينتان في العدالة، فالقول قول المشتري في الثمن، وهما بمنزلة من لا بينة لهما؛ لأن الدار في يده وهذا رأيي" (¬1). القول الثاني في مذهب المالكية: أن القول قول المشتري مطلقًا، أتى بما يشبه أم لا. وهذا قول مطرف (¬2). القول الثالث: يقوم الشقص قيمة عدل، ويخير الشفيع بين أن يشفع بتلك القيمة أو يترك. وهذا القول لابن حبيب (¬3). الراجح: أن القول قول المشتري مع يمينه، والله أعلم. ¬
الباب الثالث في أحكام المشفوع فيه
الباب الثالث في أحكام المشفوع فيه الفصل الأول الشفعة في العقار المبحث الأول الشفعة في العقار الذي لا يقبل القسمة [م - 1045] أجمع العلماء القائلون بالشفعة على ثبوت الشفعة في العقارات التي تقسم قسمة إجبار (¬1). قال ابن تيمية: "اتفق الأئمة على ثبوت الشفعة في العقار الذي يقبل القسمة؛ قسمة الإجبار، كالقرية، والبستان، ونحو ذلك" (¬2). ¬
القول الأول
[م - 1046] واختلفوا في ثبوت الشفعة في العقار الذي لا يقبل القسمة على قولين: القول الأول: تثبت به الشفعة، وهو مذهب الحنفية، وأحد القولين عن مالك، والقول القديم للشافعي، اختاره بعض أصحابه كابن سريج، ورواية عن أحمد، رجحها ابن عقيل، وابن تيمية، وبه قال ابن حزم (¬1). القول الثاني: لا تثبت الشفعة فيما لا يقبل القسمة، وهو القول الثاني عن مالك، والقول الجديد للشافعي، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). مرجع الخلاف بين القولين: يرجع الخلاف في هذه المسألة إلى مسألة سابقة، هل شرعت الشفعة لدفع ضرر القسمة، أو لدفع ضرر الشركة؟ ¬
أدلة القائلين بمنع الشفعة فيما لا ينقسم
فمن قال: إن العلة لدفع ضرر الشركة رأى أن الشفعة تجري فيما ينقسم، وفيما لا ينقسم. ومن قال: إن العلة لدفع ضرر القسمة، رأى أن الشفعة لا تكون إلا فيما ينقسم من الأصول. أدلة القائلين بمنع الشفعة فيما لا ينقسم: الدليل الأول: (ح-638) ما رواه البخاري، من طريق عبد الواحد، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر - رضي الله عنه - قال: قضى رسول - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم ...) وذكر بقية الحديث (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (في كل ما لم يقسم) دليل على ثبوت الشفعة فيما ينقسم خاصة، أما ما لا يصح فيه القسمة فإنه لا يقال فيه: ما لم يقسم، كما لا يقال في إلإنسان. يثبت فيه حكم كذا وكذا ما لم يقسم (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) دليل على اختصاص الشفعة فيما يقسم في كل ما يتأتى فيه إيقاع الحدود، وذلك خاص بالأشياء الواسعة التي يمكن قسمتها. ويجاب: بأن الحديث بَيَّن انقطاع الشفعة عند وقوع الحدود وتصريف الطرق، وقبل ¬
ورد هذا الجواب
ذلك فالشفعة ثابتة في المشاع؛ لأنه يصح أن يقال في العقار الذي لا ينقسم: إنه لم تقع فيه الحدود ولم تصرف فيه الطرق فلا تنفى عنه الشفعة، فالحديث يوجب الشفعة في المشاع، ويبطلها في المقسوم، والمشاع يشمل ما يقسم وغيره، فالحديث غايته أنه أثبت الشفعة فيما نفى عنه القسمة، إما لأنها لا تقبل القسمة، وإما أنها تقبل، ولم تقع القسمة. ورد هذا الجواب: بأن النفي في الحديث جاء بلفظ (لم) في قوله: (في كل ما لم يقسم) ومقتضاها قبول المحل الفعل المنفي، وتوقع وجوده، ألا تراك تقول: الحجر لا يتكلم، ولو قلت: الحجر لم يتكلم لكان ركيكًا من القول لإفهامه قبوله للكلام، وتقول للبصير لم يبصر، لإمكان الرؤية منه، ولا تقول عنه: لا يبصر. ويجاب عن هذا الرد: بأن العقار كله يقبل القسمة، ولكن المانع من قسمة العقار الصغير يعود إلى أمر خارج عن العقار، وهو الضرر الناتج من القسمة، ولذلك قال شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله -: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا وقعت الحدود) يشمل كل ما يمكن قسمته، سواء أكانت قسمته قسمة إجبار أم اختيار، حتى الذي يمكن قسمته قسمة تراض يمكن أن تقع فيه الحدود، وتصرف فيه الطرق (¬1). جواب آخر: قال بعضهم: بأن حديث قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة فيما لم يقسم هذا القول من الرواي حكاية قضية من النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بها, وليس بعموم لفظ، ولا ¬
ويجاب عن ذلك
حكاية قول منه - صلى الله عليه وسلم -، والحجة إنما هي في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أو فعله، وليست في حكاية الراوي (¬1). ويجاب عن ذلك: بأن الصحابي إذا حكى فعلا من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - ظاهره العموم فهو على عمومه في قول أكثر العلماء؛ لأن الصحابي عدل ضابط، لا يروي ما يدل على العموم إلا وهو جازم بالعموم خلافًا لما اختاره كثير من الأصوليين فيما حكاه الآمدي عنهم، واختاره إمام الحرمين، والرازي من أنه لا عموم فيما حكاه الصحابي؛ لأن الحجة إنما هي في المحكي، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أو فعله، وليست في حكاية الراوي، والمحكي قد يكون خاصا فيتوهمه الراوي عاما، والأول أرجح لقوة مأخذه، والله أعلم. الدليل الثاني: (ح-639) ما رواه أبو عبيد بن سلام في كتابه غريب الحديث معلقًا بدون إسناد، قال أبو عبيد: في حديثه -عليه السلام- أنه قضى أن لا شفعة في فناء، ولا طريق، ولا منقبة، ولا ركح، ولا وهو (¬2). وجه الشاهد: قوله: (ولا منقبة) قال ابن الجوزي في التحقيق: والمنقبة: الطريق بين القوم لا يمكن قسمته (¬3). ¬
ويجاب عنه
ويجاب عنه: بأن الحديث معلق، والمعلق لا حجة فيه، وإنما الحجة في المسند. الدليل الثالث: (ث-113) ما رواه ابن الجوزي من طريق سعيد بن منصور، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، حدثني محمد بن عمارة، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمرو ابن حزم، قال: خطب عمر الناس، فقال: لا شفعة في بئر، ولا نخل (¬1). [منقطع، والمعروف أن الأثر عن عثمان - رضي الله عنه -] (¬2). الدليل الرابع: (ث-114) ما رواه ابن أبي شيبة، والإمام أحمد قالا: حدثنا ابن إدريس، عن محمَّد بن عمارة، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبان بن عثمان، قال: قال عثمان: لا شفعة في بئر، ولا فحل، والأرف يقطع كل شفعة (¬3). [صح عن عثمان موقوفًا، وروي مرفوعًا, ولا يصح] (¬4). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: أن الشفعة إنما شرعت لدفع ضرر مقاسمة الشريك، وهذا الضرر يتحقق بوجوه منها، أن العقار قد تنقص قيمته إذا قسم، وقد يحتاج كل واحد من المتقاسمين إلى إحداث مرافق جديدة في نصيبه، ومنها ما يلزم لقسمته من المؤن والأجر إذ ليس كل واحد يحسن قسمته، وهذه العلة علة صحيحة يشهد لصحتها ¬
دليل من قال بثبوت الشفعة فيما لا ينقسم
طردها وانعكاسها، ألا ترى أن العروض التي تنقسم بالكيل والوزن لا شفعة فيها إذ لا مؤونة في قسمتها (¬1). دليل من قال بثبوت الشفعة فيما لا ينقسم: الدليل الأول: (ح-640) ما رواه مسلم من طريق ابن وهب، عن ابن جريج، أن أبا الزبير أخبره، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الشفعة في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط، لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه، فيأخذ أو يدع، فإن أبى فشريكه أحق به حتى يؤذنه (¬2). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (في كل شرك) مطلق يشمل ما يقبل القسمة وما لا يقبلها. الدليل الثاني: (ح-641) ما رواه الترمذي من طريق أبي حمزة السكري، عن عبد العزيز ابن رفيع، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء (¬3). [المحفوظ أنه مرسل، والمرسل لا حجة فيه] (¬4). الدليل الثالث: (ح-642) ما رواه الطحاوي من طريق يوسف بن عدي، قال: ثنا ¬
الدليل الرابع
ابن إدريس، عن ابن جريج، عن عطاء عن جابر - رضي الله عنه -، قال: قضى رسول الله بالشفعة في كل شيء (¬1). [خالف فيه يوسف بن عدي غيره في إسناده ومتنه] (¬2). الدليل الرابع: أن الأرض التي لا يمكن قسمتها ولا تقسم إلا بالتراضي أولى بثبوت الشفعة من الأرض التي تقسم إجبارا؛ لأن ما لا يمكن قسمتها لا يمكن أن يتخلص من الشريك الجديد بخلاف الأرض التي يمكن قسمتها فيمكن التخلص منه بطلب القسمة. وأجيب: بأن هذا الدليل يصلح لمن قال: إن العلة في الشفعة لدفع ضرر الشركة، وأما من قال: إن الشفعة شرعت لدفع ضرر القسمة فلا يسلم لهذا الدليل. الراجح من الخلاف: بالنظر في الأدلة نجد أن الخلاف في هذه المسألة خلاف قوي، ولكل قول دليله، وإن كنت أميل إلى قول القائل بثبوت الشفعة فيما لا ينقسم، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني الشفعة في البناء المتعدد الأدوار
المبحث الثاني الشفعة في البناء المتعدد الأدوار [م - 1047] اختلف العلماء في الشفعة في البناء المتعدد الطوابق على أقوال: القول الأول: إذا بيع سفل عقار دون علوه، أو علوه دون سفله، أو بيعا جميعا ففيهما الشفعة، وهو مذهب الحنفية (¬1). وجه القول بالشفعة: أن أحدهما بالنسبة للآخر إما شريك في الحقوق إن كان طريق العلو يمر بالسفل، وإما جار ملاصق إن كان طريق العلو على الطريق العام مستقلا. وإن لم يأخذ صاحب العلو السفل بالشفعة حتى انهدم العلو فعلى قول أبي يوسف بطلت؛ لأن الجوار بالاتصال وقد زال، وعلى قول محمد تجب؛ لأنها ليست بسبب البناء، بل بالقرار، والقرار باق. وإن كانت ثلاثة أبيات بعضها فوق بعض، وباب كل إلى السكة مستقلا، فبيع الأوسط تثبت للأعلى والأسفل، وإن بيع الأسفل أو الأعلى فالأوسط الأولى. وسبق أن ذكرنا الخلاف في شفعة الجار، والشريك في الحقوق وذكرنا أدلة ¬
القول الثاني
الحنفية على ثبوت الشفعة للجار الملاصق والشريك في المرافق، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا. القول الثاني: لا شفعة لعلو على سفل وعكسه، وهذا مذهب المالكية، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية، ومذهب الحنابلة (¬1). جاء في المدونة: "أرأيت إن بعت عوالي لي، وتحته سفل لغيري، أو بعت سفليًا لي، وعليه عوالٍ لغيري، أتكون لبعضهم الشفعة فيما باع صاحبه في قول مالك؟ قال: لا شفعة لهم؛ لأن هؤلاء قد عرف كل واحد منهما حقه ما هو، وحيث هو" (¬2). وجه القول بعدم الشفعة: أن سبب الشفعة هو الاشتراك، ولا اشتراك بينهما هذا تعليل المالكية. بل إن الحنابلة والصحيح من مذهب الشافعية لا يقولون بالشفعة في علو، حتى ولو كان مشتركًا؛ لأنه لا أرض له فهو بمنزلة الأبنية المفردة، وأما السفل فإن كان مشتركًا، والعلو خالصًا لأحدهما ثبتت الشفعة في السفل دون العلو لعدم الشركة فيه. ¬
القول الثالث
جاء في شرح منتهى الإرادات: "وما بيع من علو مشترك دون سفله فلا شفعة فيه مطلقاً، وبالعكس إذا باع الشريك العلو، وحصتة من السفل فلشريك الشفعة في السفل فقط" (¬1). وجاء في مطالب أولي النهى: "فإن باع سفلا مشتركا بين اثنين فأكثر، والعلو خالص لأحد الشريكين، فباع رب العلو نصيبه من السفل ثبتت الشفعة في السفل فقط دون العلو لعدم الشركة فيه" (¬2). القول الثالث: قالوا: إن كان السفل مشتركا، والعلو لأحدهما فباع صاحب العلو نصيبه، فوجهان: أحدهما: أن للشريك أن يأخذ السفل ونصف العلو؛ لأن الأرض مشتركة، وعلوها تابعها. وأصحهما لا يأخذ إلا السفل (¬3). وإن كان السفل لواحد، وعلوها مشتركا، فإن كان السقف لصاحب السفل لم تثبت الشفعة في الحصة المبيعة من العلو؛ لأنه بناء مفرد. وإن كان السقف مشتركا ففيه. وجهان في مذهب الشافعية. أحدهما: لا تثبت فيه الشفعة؛ لأنه لا يتبع أرضا، وهو أصح الوجهين. الثاني: تثبت فيه الشفعة؛ لأن السقف أرض لصاحب العلو يسكنه، ويأوي إليه، فهو كالأرض، وساقه ابن قدامة احتمالا (¬4). ¬
الراجح
قال الغزالي: "دار سفلها لواحد، وعلوها مشترك، إن كان السقف لصاحب السفل، فلا شفعة في العلو؛ لأنه لا أرض له، فلا ثبات، وإن كان السقف لشركاء العلو، فوجهان: ووجه المنع: أنه لا أرض له، والسقف لا ثبات له" (¬1). الراجح: أرى أن الراجح مذهب الحنفية، وأن الشفعة لهما لأنه لا يخلو من اشتراك بين صاحب العلو والسفل، فلا يقوم العلو إلا معتمداً على السفل، وهذا نوع اشتراك، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني الشفعة في المنقول
الفصل الثاني الشفعة في المنقول المبحث الأول أن يباع المنقول منفردا المقصود بالمنقول: هو ما يمكن تحويله من مكان لآخر كالحيوان، والثوب والسيف، ويقابله الأرض والعقار. [م - 1048] وقد اتفق الفقهاء في ثبوت الشفعة في عقار يمكن قسمته ونحوه من البساتين. قال ابن المنذر: "لا اختلاف بين أهل العلم في إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم فيما يباع من أرض أو دار أو حائط" (¬1). [م - 1049] ولم يختلف الفقهاء فيما أعلم في ثبوت الشفعة في البناء والغرس تبعا للأرض (¬2). (ح-643) ومستندهم ما رواه مسلم من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط، ¬
وجه الاستدلال
لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به (¬1). وجه الاستدلال: أن لفظ (ربعة) يتناول الأبنية، ولفظ (حائط) يتناول الأشجار. [م - 1050] وأما الشفعة في المنقول فيما لم يقسم كما لو باع أحد الشريكين نصيبه في حيوان أو ثمرة، فهل للشريك أن يأخذ نصيب شريكه بالشفعة؟ اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: لا شفعة في المنقولات، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وقول في مذهب المالكية (¬5). أدلة الجمهور على عدم ثبوت الشفعة في المنقولات: الدليل الأول: (ح-644) ما رواه البخاري من طريق معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة ¬
وجه الاستدلال
ابن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، قال: قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل مال لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (¬1). وجه الاستدلال: دل الحديث بمفهومه على عدم الشفعة في المنقولات؛ لتعذر الحدود والطرق فيها. فقوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق" يدل على اختصاص الشفعة بما له حدود وطرق، وهو العقار خاصة. قال ابن عبد البر: "وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: الشفعة فيما لم يقسم، دليل على أن ما لا يقسم ولا يضرب فيه حدود لا شفعة فيه، وهذا ينفي الشفعة في الحيوان وغيره مما لا يقسم" (¬2). وأجيب عن هذا الدليل بجوابين: الأول: أن قوله: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) مدرج من كلام جابر، وليس مرفوعا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، قاله ابن أبي حاتم في العلل لابنه (¬3)، وسبق الجواب عنه. الجواب الثاني: أن قوله: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) لا يقتضي تخصيصًا حسب القاعدة التي تقول: إذا ذكر فرد من أفراد العموم يوافق العموم في حكمه لا يقتضي تخصيصًا، ¬
وذلك مثل قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] يشمل جميع الصلوات، ثم قال: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فهذا فرد من أفراد الصلاة، يوافق العموم في الحكم، فلا يقتضي تخصيص المحافظة على الصلاة الوسطى خاصة، فكذلك قوله: (قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم) هذا حكم عام يشمل جميع ما لم يقسم، ثم قال: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق) هذا فرد من أفراد العام، لا يقتضي تخصيص العام به. وهذا الجواب أقوى من القول بالإدراج؛ لأن الدليل الذي ساقه أبو حاتم -رحمه الله- ليس كافيا في الجزم بإدراجها، والتفات الخطاب من الغائب إلى المتكلم أو العكس أسلوب عربي، وكثير منه في القرآن. وقد صحح الإِمام أحمد رفعها، وجاءت من مسند أبي هريرة مما يرجح عدم إدراجها (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-645) ما رواه مسلم من طريق عبد الله بن إدريس، حدثنا ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به (¬1). وأجيب: بأن الحديث يثبت الشفعة في الربع والحائط، ولا ينفي الشفعة عن غيرهما. الدليل الثالث: (ح-646) ما رواه البزار في مسنده, قال: ثنا عمرو بن علي، ثنا أبو عاصم، ثنا ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا شفعة إلا في ربع أو حائط. قال البزار: لا نعلم أحدا يرويه بهذا اللفظ إلا جابر (¬2). قلت: لفظ الحصر (لا شفعة إلا في ربع أو حائط) غير محفوظ، والمحفوظ فيه لفظ مسلم المتقدم: (قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط) (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (ح-647) ما رواه البيهقي في السنن من طريق محمد بن إبراهيم بن داود، ثنا أبو أسامة عبد الله بن محمد بن أبي أسامة، ثنا الضحاك بن حجوة بن الضحاك المنبجي، ثنا أبو حنيفة، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا شفعة إلا في دار أو عقار (¬1). وأجيب: بأن الحديث إسناده ضعيف (¬2). ¬
الدليل الخامس
ولو صح لم يكن فيه حجة، وذلك أن قوله: (لا شفعة إلا في دار أو عقار) يدل بمفهومه على عدم ثبوت الشفعة في غير الدور والعقار، وحديث ابن عباس الآتي (الشفعة في كل شيء) يدل بمنطوقه على إثبات الشفعة في كل شيء، ودلالة المنطوق مقدمة على دلالة المفهوم. الدليل الخامس: (ح-648) ما رواه ابن أبى شيبة، والإمام أحمد قالا: حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن عمارة، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبان بن عثمان، قال: قال عثمان: لا شفعة في بئر، ولا فحل، والأرف يقطع كل شفعة (¬1). [المعروف أنه موقوف على عثمان] (¬2). وهو معارض بما استُدَّل به من أدلة القول الثاني والتي سوف نذكرها إن شاءالله تعالى. ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (ث-115) ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، قال: قلت لأيوب: أتعلم أحدًا كان يجعل في الحيوان شفعة؟ قال: لا. قال معمر: ولا أعلم أحدًا يجعل في الحيوان شفعة. [إسناده صحيح] (¬1). ويجاب: بأن نفي العلم بالقول ليس نفيا للوجود. فقد روى ابن حزم من طريق وكيع، قال: أخبرنا أبان، عن عبد الله البجلي، قال: سألت عطاء عن الشفعة في الثوب، فقال: له شفعة، وسألته عن الحيوان، فقال له شفعة، وسألته عن العبد، فقال: له شفعة. قال ابن حزم: "فهذان عطاء وابن أبي مليكة بأصح إسناد عنهما" (¬2)، يعني: يريان الشفعة في المنقول من غير العقار كالحيوان والعبد والثوب. وهذا الإمام أحمد، والذي كان ينهى أن يقول قولا ليس له فيه إمام كان يذهب في أحد أقواله إلى القول بالشفعة في الحيوان، كما أنه قول طائفة من أهل العلم. فقد ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين من يرى الشفعة في الحيوان وذكر بأنه قول أهل مكة، وأهل الظاهر، ونص عليه أحمد في رواية حنبل، قال: "قيل لأحمد: فالحيوان دابة تكون بين رجلين أو حمار، أو ما كان من نحو ذلك؟ ¬
الدليل السابع
يعني فهل فيه شفعة؟ قال: هذا كله أوكد؛ لأن خليطة الشريك أحق به بالثمن، فإذا عرضه على شريكه، وإلا باعه بعد ذلك" (¬1). الدليل السابع: الأصل أن من اشترى شيئًا بعقد صحيح فقد ملك، ومن ملك ملكاً صحيحا فلا يجوز انتزاع ماله من يده إلا برضاه أو حجة قاطعة، وإلا كان من أكل أموال الناس بالباطل، ولا يجوز للشريك أن يدفع الضرر عن نفسه على وجه يلحق الضرر بالمشتري، وذلك بإبطال ملك المشتري، فليس لأحد أن يدفع الضرر عن نفسه بالإضرار بغيره، وإنما تركنا هذا الأصل في العقار والأرض لثبوت النص فيه، وأما الآثار المتضمنة لثبوت الشفعة في المنقول فضعيفة معلولة، والشفعة إنما ثبتت في العقار على خلاف القياس فلا يجوز إلحاق غير العقار بالعقار؛ لأن المنقول ليس في معنى العقار؛ وذلك لأن الشفعة إنما شرعت لدفع ضرر الشريك على الدوام، وما ينقل ويحول لا يدوم الضرر فيه كما يدوم في العقار؛ لأن المنقول يشترى للبيع عادة ولمصلحة المعاش، ثم يخرجه عن ملكه إذا قضى وطره، وليس كذلك العقار (¬2). وأجيب عن هذا: أولاً: إنما كان الأصل عدم انتزاع ملك الإنسان إلا برضاه لما فيه من الظلم له والإضرار به، فأما ما لا يتضمن ظلما ولا إضرارا، بل مصلحته محفوظة وذلك بإعطائه كامل الثمن، في الوقت الذي يدفع الشريك ضرر الشركة عنه، ¬
فليس الأصل عدمه، بل هو مقتضى أصول الشريعة فإن أصول الشريعة تأبى إلحاق الضرر بالشريك، خاصة أن حق شراكته سابقة ملك المشتري، وقد دخل المشتري وهو يعلم أن المال فيه شراكة، فإذا باع شريك نصيبه على غير شريكه، مع رغبة الشريك بالشراء، فإن هذا قد يلحق ضررا كبيرا بالشريك، ومن تأمل مصادر الشريعة ومواردها تبين له أن الشارع لا يُمَكِّن هذا الشريك من نقل نصيبه إلى غير شريكه، وأن يلحق به من الضرر مثل ما كان عليه أو أزيد منه، مع أنه لا مصلحة له في ذلك. ثانيًا: لا يسلم بأن الشفعة ثبتت على خلاف القياس، بل القياس الصحيح يقتضيها، فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن، فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه تركه على حاله، وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به، ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب لأن الخلطاء يكثر فيهم بغي بعضهم على بعض، كما قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] لذلك شرع الله - صلى الله عليه وسلم - رفع هذا الضرر: بالقسمة تارة وانفراد كل شريك بنصيبه، وبالشفعة تارة، وانفراد أحد الشريكين بالجمل إذا لم يكن على الآخر ضرر في ذلك، فإذا أراد بيع نصيبه، وأخذ عوضه كان شريكه أحق به من الأجنبي، وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيهما كان، فكان الشريك أحق بدفع العوض من الأجنبي، ويزول عنه ضرر الشركة، ولا يتضرر البائع؛ لأنه يصل إلى حقه من الثمن، وكان هذا من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد، وبهذا يتبين أن القياس الصحيح يدل على ثبوت الشفعة وأنه ليس في الشريعة ما يخالف القياس (¬1). ¬
القول الثاني
وعلى التنزل أن تكون الشفعة ثبتت في العقار على خلاف القياس، فإن ما خص بحكم على خلاف القياس إن كان الحكم معللا فالراجح من أقوال أهل العلم أنه يقاس عليه إذا وجدت العلة في الفرع، وهذه مسألة أصولية تراجع فيها كتب الأصول. ثالثًا: لا يسلم أن الضرر يدوم ويتأبد في العقار دون غيره، وأن هذا الفرق هو الموجب للشفعة، وذلك أن من المنقول ما يكون تأبده كتأبد العقار، كالجوهر، والسيف والكتاب، والبئر، وإن لم يتأبد ضرره مدى الدهر فقد يطول ضرره كالعبد والحيوان، ولو بقي ضرره مدة، فإن الشارع مريد لدفع الضرر بكل طريق، ولو قصرت مدته، بل إن بعض العقار يمكن رفع ضرره بالقسمة بخلاف بعض المنقولات مما سبق ذكره فلا يمكن قسمتها أبداً. القول الثاني: تثبت الشفعة في المنقول، وهو رواية عن أحمد (¬1)، ونسب إلى ابن أبي مليكة، وعطاء وفقهاء مكة (¬2)، واختاره ابن حزم (¬3)، وابن عقيل من الحنابلة، ورجحه ابن تيمية (¬4)، وابن القيم (¬5). ¬
دليل من قال بثبوت الشفعة في المنقول
دليل من قال بثبوت الشفعة في المنقول: الدليل الأول: (ح 649 -) ما رواه الترمذي من طريق الفضل بن موسى، عن أبي حمزة السكري، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء. [رفع الحديث غير محفوظ، والمحفوظ إرساله] (¬1). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-650) ما رواه الطحاوي من طريق يوسف بن عدي، قال: ثنا ابن إدريس، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر - رضي الله عنه -، قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شيء (¬1). [خالف يوسف بن عدي غيره في إسناده ومتنه] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ح-651) ما رواه البخاري من طريق معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، قال: قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل مال لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (¬1). وجه الاستدلال: قوله: (قضى بالشفعة في كل مال لم يقسم) فقوله "في كل مال" عام يشمل جميع الأموال التي لم تقسم، ولا يجوز تخصيص بعض الأموال دون بعض إلا بنص من كتاب أو سنة، وأما قوله: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) لا يقتضي تخصيصا حسب القاعدة التي تقول: إذا ذكر فرد من أفراد العموم يوافق العموم في حكمه لا يقتضي تخصيصًا. وقد شرحنا هذه القاعدة في مناقشة أدلة القول الأول، وهذا من أقوى أدلتهم، والله أعلم. الدليل الخامس: النظر الصحيح يقتضي ثبوت الشفعة في المنقول، وذلك لأن الشفعة إنما شرعت لدفع الضرر عن الشريك، وإذا كانت هذه هي العلة لم يكن هناك فرق بين العقار والمنقول، أو بين ما يقبل القسمة وما لا يقبلها، بل إن الضرر فيما لا ¬
القول الثالث
ينقسم أبلغ من الضرر بالعقار الذي يقبل القسمة، إذ إن الضرر فيما يقبل القسمة يمكن رفعه بالمقاسمة بخلاف ما لا يقبل القسمة، وإذا كان الشارع أراد رفع الضرر الأدنى، فالأعلى من باب أولى، والله أعلم. القول الثالث: تثبت الشفعة في ثمرة تجنى مع بقاء أصلها، وما كانت ثمرته تجنى وليس له بقاء فلا شفعة فيه وهو قول في مذهب المالكية (¬1). دليل هذا القول: أدلة هذا القول بنحو أدلة من قال بثبوت العقار في المنقول، إلا أن بعضهم قد يقبل الشفعة في بعض المنقولات دون بعض، فبعضهم يرى الشفعة في الثمرة التي تجنى مع بقاء أصلها تبعا لأصلها، وبعضهم يرى الشفعة في الحيوان خاصة، وهذا كله يوجب إما القول بثبوت الشفعة في كل منقول، وبالتالي تكون أدلة من قال: بالشفعة في المنقولات هي أدلته، وإن فرق لزمه التناقض، ولا بد، وإلى هذا أشار ابن عبد البر في التمهيد (¬2). ¬
القول الرابع
القول الرابع: تثبت الشفعة في الحيوانات دون غيرها من المنقولات، وهو رواية عن أحمد (¬1). الراجح من الأقوال: بعد استعراض الأقوال والأدلة أرى أن الأقوى من أقوال أهل العلم: الأخذ بالشفعة في كل مال مشترك مشاع، سواء كان عقارًا أو منقولاً، والله أعلم. ... ¬
المبحث الثاني أن يباع المنقول مع العقار
المبحث الثاني أن يباع المنقول مع العقار الفرع الأول أن يباع المنقول تبعا للأرض [م - 1051] إذا بيع المنقول مع العقار، وكان المنقول متصلا بالعقار اتصال ثبات وقرار كالبناء والغراس، فالعلماء متفقون في ثبوت الشفعة فيهما تبعا للأرض (¬1). وهل يعتبر البناء والغراس منقولا أو يعتبر عقارا؟ فيه خلاف: فالفقهاء متفقون على أن ما لا يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر يسمى عقارا، وأن ما يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر مع بقاء صورته وهيئته منقول. [م - 1052] واختلفوا فيما يمكن نقله مع تغير صورته عند النقل كالبناء والشجر، هل هو عقار أو منقول؟ فذهب الحنفية إلى اعتباره من المنقولات إلا إذا كانا تابعين للأرض فيسري عليهما حكم العقار بالتبعية (¬2). ¬
والراجح
وذهب الجمهور إلى اعتبار ذلك من العقار (¬1). والراجح: - والله أعلم- قول الجمهور، وهو أن العقار يشمل الأرض وما اتصل بها من بناء أو شجر. قال في مختار الصحاح: العقار بالفتح مخففًا: الأرض والضياع والنخل (¬2). وفي اللسان: العقار بالفتح: الضيعة، والنخل والأرض (¬3). وعليه تثبت الشفعة في البناء والغراس تبعًا للأرض سواء سمينا ذلك عقارًا أو منقولاً، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني أن يباع المنقول مع الأرض والمنقول ليس تابعا
الفرع الثاني أن يباع المنقول مع الأرض والمنقول ليس تابعا المسألة الأولى أن يكون المنقول من الثمار والزرع [م - 1053] اختلف العلماء فيما إذا بيعت الأرض، وفيها ثمار أو زرع، هل يؤخذ بالشفعة؟ إلى قولين: القول الأول: فيها الشفعة بشرط أن تباع مع الأرض، فإن بيع الثمر وحده، أو الثمر والشجر دون الأرض فلا شفعة فيها. وهذا مذهب الحنفية. وجريان الشفعة من باب الاستحسان، وإن كان القياس القول بالمنع (¬1). جاء في الفتاوى الهندية: "وإذا اشترى نخلا ليقطعه فلا شفعة فيه، وكذلك إذا اشتراه مطلقًا، فإن اشتراها بأصولها، ومواضعها من الأرض ففيها الشفعة، وكذلك لو اشترى زرعا، أو رطبة ليجذها لم يكن في ذلك شفعة، وإن اشتراها مع الأرض وجبت الشفعة في الكل استحسانا، وفي القياس لا شفعة في الزرع، وإذا اشترى أرضا فيها شجر صغار، فكبرت، فأثمرت، أو كان فيها زرع فأدرك فللشفيع أن يأخذ جميع ذلك بالثمن" (¬2). ¬
وجه القياس
وجه القياس: أن الشفيع إنما يتملك ما يثبت له فيه حق الشفعة، وهو يثبت في العقار لا في المنقول، وهذه الأشياء منقولة فلم يثبت فيها الحق فلا تتملك بالشفعة، وخاصة الزرع والثمر؛ لأنهما مبيعان ومقصودان لا يدخلان في العقد من غير تسمية، فلم يثبت الحق فيهما لا أصلا ولا تبعا. ووجه الاستحسان: أن الحق إذا ثبت في العقار يثبت فيما هو تبع له؛ لأن حكم التبع حكم الأصل، وهذه الأشياء متابعة للعقار حالة الاتصال، أما البناء والغرس فظاهران؛ لأن قيامهما بالأرض، وكذلك الزرع والثمر؛ لأن قيام الزرع وقيام الثمر بالشجر وقيام الشجر بالأرض فكان تبعاً للأرض بواسطة الشجر فيثبت الحق فيهما تبعا، فيملكهما بالشفعة بطريق التبعية إلا أنهما لا يدخلان في العقد إلا بالتسمية مع وجود التبعية حقيقة بالنص (¬1). القول الثاني: ذهب مالك في رواية عنه إلى جواز الشفعة في الثمار سواء بيعت مع أصلها، أو بيعت منفردة ما لم تيبس بشرط أن يكون الأصل للشركاء أو بأيديهم في مساقاة، أو حبس، وألحق أصحابه بالثمار المقاثي والقطن والباذنجان، والقرع وكل ما تجيء ثمرته مع بقاء أصله (¬2). ¬
القول الثالث
جاء في المدونة: "وجعل مالك في الثمر الشفعة" (¬1). وجاء في الشرح الصغير: "أن أحد الشريكين في ثمر على أصوله إذا باع نصيبه لأجنبي أن يأخذه بالشفعة من المشتري إلحاقًا للثمرة وما بعدها بالعقار ما لم تيبس الثمرة، وينته طيبها، فإن يبست بعد العقد، وكذا إن اشتراها الأجنبي يابسة فلا شفعة فيها. واعلم أن مسألة الشفعة في الثمار وما عطف عليها إحدى مسائل الاستحسان الأربع التي قال فيها مالك: إنه لشيء أستحسنه، وما علمت أن أحدًا قاله قبلي" (¬2). وقال ابن عبد البر: "قال مالك: لا شفعة في بقل ولا في زرع ولا في تمر قد جذ وحصد في الأرض، وأما الشفعة في التمر المعلق قبل جذاذه إذا كان بين شركاء مالكين لأصله بابتياع أو مساقاة أو غير ذلك من أنواع الشركة في الثمرة فيبيع أحد الشركاء حصته خاصة منها، فلكل من تركه فيها الشفعة على قدر حصته، وهذا هو المشهور من قول مالك، وهو تحصيل مذهبه" (¬3). القول الثالث: لا يؤخذ الثمار والزرع في الشفعة إذا بيع مع الأرض لا تبعًا, ولا مفردًا، وإذا بيع الثمار مع الشجر فإن كان الثمار طلعًا غير مؤبر فإنه يتبع الشجر في ¬
وجه القول الأول
الأخذ بالشفعة، وإن كان مؤبرا لم يؤخذ بالشفعة مع الشجر كالبيع، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، ورواية ابن الماجشون عن مالك (¬1). جاء في المنتقى للباجي: "وأما الثمرة فعن مالك روايتان: روى عنه ابن القاسم، وأشهب، ومعظم أصحابه ثبوت الشفعة فيها ... وروى ابن المواز عن ابن الماجشون: لا شفعة في الثمار، وحكاه القاضي أبو محمد عن مالك. وجه القول الأول: أنها تبع للأرض بمجرد العقد، فثبت فيها الشفعة كالشجر. ووجه القول الثاني: أنها مما ينقل ويحول، فإذا ظهرت لم تتبع الأصل بمجرد العقد كالثياب" (¬2). وجاء في حاشية الجمل: "لو كان على النخل ثمر مؤبر وباعهما، وشرط دخول الثمر، فإنه لا شفعة فيه لانتفاء التبعية" (¬3). وقال ابن قدامة: "القسم الثاني: ما لا تثبت فيه الشفعة تبعا ولا مفردا، وهو الزرع والثمرة الظاهرة تباع مع الأرض، فإنه لا يؤخذ بالشفعة مع الأصل، وبهذا قال الشافعي" (¬4). ¬
والراجح
والراجح: ثبوت الشفعة في الثمار؛ لأنها إما أن تكون متابعة للأرض فيجري فيها الشفعة تبعا كما جرت الشفعة في النخل والبناء، وإما أن تكون غير متابعة فهي داخلة في الشفعة باعتبار صحة الشفعة في المنقول على الصحيح، وقد سبق لنا البحث في مسألة الشفعة في المنقول، ورجحت جريان الشفعة فيها، وذكرت أدلة هذا القول والجواب عن أدلة المخالف، فأغنى ذلك عن إعادة الأدلة، فالحمد لله وحده.
المسألة الثانية أن يكون المنقول غير التابع ليس من الثمار
المسألة الثانية أن يكون المنقول غير التابع ليس من الثمار [م - 1054] إذا جمعت الصفقة الواحدة بين عقار ومنقول، وكان المنقول غير تابع للعقار، وليس من الثمار والزروع، كالحيوان والسيف والثوب، فقد اختلف العلماء في أخذ الجميع بالشفعة إلى قولين: القول الأول: ذهب فريق من العلماء إلى جواز أخذ الجميع من عقار ومنقول بالشفعة، إما لأنه يرى جواز الشفعة في المنقول إذا بيع مضموما مع العقار، وهو قول عثمان البتي، وسوار بن عبد الله، وعبيد الله بن الحسن القاضيين (¬1). وإما لأنه يرى جواز الشفعة في المنقول، ولو كان مفردا، وما جاز مفردا جاز مضموما إلى غيره، وقد سبق لنا أن هذا القول هو رواية عن أحمد (¬2)، ونسب إلى ابن أبي مليكة، وعطاء وفقهاء مكة (¬3)، وبه قال ابن حزم الظاهري (¬4)، وابن عقيل من الحنابلة، ورجحه ابن تيمية (¬5)، وابن القيم (¬6). ¬
واستدل هؤلاء بأدلة منها
واستدل هؤلاء بأدلة منها: الدليل الأول: كل دليل استدلوا به على ثبوت الشفعة في المنقول على وجه الاستقلال يستدل به هنا على أخذ الشفعة في المنقول إذا بيع مع العقار، وقد ذكرنا أدلتهم في مسألة سابقة، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا, ولله الحمد. الدليل الثاني: أن في أخذ الشفيع الشقص دون ما بيع معه فيه إلزام للمشتري بأخذ بعض الصفقة، وهو لا يريد تبعيضها، أو فسخ البيع وقد وقع صحيحًا بدون موجب للفسخ، فأشبه ما لو أراد الشفيع أخذ بعض الشقص بالشفعة. الدليل الثالث: أن البائع لم يرض ببيع الشقص وحده دون تلك السلعة، فلا يجوز إجباره على بيع ما لا يرضى بيعه، ولو عرض عليه قبل البيع لم يكن للشريك إلا أخذ الكل أو الترك، فكذلك بعد البيع. ونوقشت هذه الأدلة: القول بأن في ذلك ضررًا يلحق بالمشتري فيقال: المشتري في جمعه بين العقار والمنقول في صفقة واحدة هو الذي ألحق الضرر بنفسه؛ لأنه دخل في شراء الشقص، وهو يعلم أنه مشاع، فاحتمال أخذ الشريك له بالشفعة احتمال قائم بسبب الشركة، فإذا دخل المشتري على بينة لم يكن في ذلك تغرير به، ولا خداع له، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد يقال أيضاً: إن أخذ الشفيع الصفقة كلها فيه ضرر بالمشتري، فربما أن المشتري جمع بين المنقول وبين العقار نزولًا عند رغبة البائع وإنما رغبته في المنقول دون غيره.
القول الثاني
القول الثاني: ذهب الأئمة الأربعة إلى عدم إجراء الشفعة في المنقول المستقل إذا بيع مع العقار، فيأخذ الشفيع العقار بحصته من الثمن، ويحط منه ما يساوي قيمة المنقول (¬1). جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "فلو باع أحد من آخر داره، وما فيها من الأمتعة بكذا دينارا فللشفيع أخذ الدار بحقها من الثمن، وليس له أخذ الأثاث والآنية وما أشبهها" (¬2). جاء في المدونة: "أرأيت لو أن رجلاً اشترى شخصاً من دار وعروضا صفقة واحدة، فقال الشفيع: أنا آخذ الشقص بشفعتي من الدار، ولا آخذ العروض، وقال المشتري: خذ الجميع أو دع؟ قال: قال مالك: ذلك للشفيع أن يأخذ الدار ويدع العروض لا يأخذها، ويقسم الثمن على قيمة الشقص من الدار وعلى قيمة العروض، فيأخذ الشفيع الشقص بما أصابه من الثمن" (¬3). ¬
دليل الجمهور
وجاء في مختصر المزني: "ولو كان مع الشفعة عرض، والثمن واحد، فإنه يأخذ الشفعة بحصتها من الثمن" (¬1). دليل الجمهور: الدليل الأول: كل دليل استدلوا به على عدم ثبوت الشفعة في المنقول يستدل به هنا، وما أجيب عنه هناك يجاب به عنه هنا. الدليل الثاني: ضم المنقول إلى العقار لا يوجب الشفعة في المنقول؛ لأن ما لا تجب فيه الشفعة بانفراده لا تجب فيه الشفعة بانضمامه مع غيره عند انفصاله؛ ولأن المنقول ليس تابعا للعقار حتى تثبت به الشفعة على وجه التبع كالغراس والبناء، مثله تماما لو باع رجل عقارين صفقة واحدة، وكان شريكا في أحدهما دون الآخر لم يأخذ الشفيع العقار الآخر بالشفعة بدعوى انضمامه لعدم قيام سبب الشفعة، وهو الشركة أو الجوار عند من يقول بالشفعة في الجوار. كما أن ضم المنقول إلى العقار لا يسقط الشفعة في العقار وحده؛ لأن الأدلة متفقة على ثبوت الشفعة في العقار فإسقاطها يحتاج إلى دليل، ولا دليل على إسقاط الشفعة في حال الضم، ولأن ما تجب فيه الشفعة منفردا تجب فيه الشفعة مضموما إلى غيره. ولأنه قد يتخذ ذلك حيلة لإبعاد الشفيع عن الأخذ بالشفعة، فيجمع البائع في الصفقة بين عقار ومنقول يثقل ثمنه على الشفيع، فيؤدي ذلك إلى ضياع حق الشفيع. ¬
الراجح من الخلاف
الراجح من الخلاف: إذا كان الترجيح قد مال إلى القول بثبوت الشفعة في المنقول، فإن ثبوت الشفعة فيه إذا ضم إلى العقار لا يزيده إلا توكيدا، والله أعلم.
الفصل الثالث الشفعة في شركة الوقف
الفصل الثالث الشفعة في شركة الوقف المبحث الأول في أخذ الوقف بالشفعة إذا بيع الوقف [م - 1055] أرض نصفها موقوف، ونصفها مملوك لم تقسم، وبيع الوقف على القول بجواز بيعه إذا تعطلت منافعه، فهل لمالك الطلق أن يأخذ الوقف بالشفعة؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: لا شفعة فيه. وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، ووجه في مذهب الحنابلة. جاء في الفتاوى الهندية نقلاً من التجريد: "ما لا يجوز بيعه من العقار كالأوقاف لا شفعة في شيء من ذلك عند من يرى جواز البيع في الوقف، كذا في الخلاصة" (¬1). ¬
وجه القول بالمنع
وجاء في حاشية الجمل: " (فلا شفعة لصاحب شقص) من أرض مشتركة (موقوف عليه) إذا باع شريكه نصيبه؛ لأن الوقف لا يستحق بالشفعة، فلا تستحق به الشفعة" (¬1). وجه القول بالمنع: أن الشفعة بيع، والوقف مما لا يجوز بيعه. ونوقش هذا: بأننا لا نقول بالشفعة إلا في حال جاز بيع الوقف كما لو تعطلت منافعه، أو أراد ناظر الوقف استبداله بأنفع منه على الصحيح، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الوقف مناقشة حكم بيع الوقف بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. القول الثاني: يؤخذ بالشفعة، وهو الأصح في مذهب الحنابلة، وقول في مذهب الحنفية. جاء في الفروع: "الأصح يوخذ بها موقوف جاز بيعه" (¬2). وجاء في الفواكه العديدة: "إذا بيع الوقف حيث جاز بيعه، هل يأخذ الشريك بالملك؟ على وجهين: المختار نعم" (¬3). وجاء في حاشية ابن عابدين: "وحاصله أن الوقف منه ما لا يملك بحال، فلا شفعة فيه لعدم صحة بيعه، ولا له: أي لقيِّمه ولا للموقوف عليه؛ لعدم الملك. ¬
واستدلوا بأدلة منها
ومنه ما قد يملك، كما إذا كان غير محكوم به، فلا شفعة له لعدم المالك، بل فيه الشفعة إذا بيع لجواز البيع" (¬1). واستدلوا بأدلة منها: الدليل الأول: عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم، وسبق تخريجه. وجه الاستدلال: أن هذا الحديث مطلق يشمل ما بيع في ملك مطلق، أو شركة وقف. الدليل الثاني: أن هذا الوقف قد انتقل بعوض مالي، وهو مال مشترك، فكونه ينتقل إلى الشريك بالشفعة أولى من انتقاله إلى أجنبي. الدليل الثالث: ولأن الضرر الذي من أجله شرعت الشفعة موجود في هذه الشركة الجديدة، فيشرع دفعه بالشفعة. الراجح: جواز أخذ الوقف بالشفعة في حال جاز بيع الوقف، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في أخذ الواقف الطلق بالشفعة
المبحث الثاني في أخذ الواقف الطلق بالشفعة قال القاضي حسين: ما لا يستحق بالشفعة لا يستحق به الشفعة (¬1). [م - 1056] إذا كان البعض وقفًا، والبعض ملكاً، فبيع الملك، فهل يؤخذ شفعة بالوقف؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يؤخذ المبيع شفعة بالوقف، وهو مذهب الحنفية، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة. جاء في الدر المختار: "ما لا يملك من الوقف بحال فلا شفعة فيه، وما يملك بحال ففيه الشفعة، وأما إذا بيع بجواره، أو كان بعض المبيع ملكاً، وبعضه وقفًا وبيع الملك، فلا شفعة للوقف" (¬2). وعلل الحنفية ذلك: بأن الشفعة تجب بحق الملك، والموقوفة ليست بمملوكة لأحد في الحقيقة (¬3). قال السبكي: "لو كان بعض الدار وقفا، فباع صاحب الطلق منها نصيبه، لم يكن للموقف عليه الشفعة على الأصح، وإن قلنا: إن الموقوف عليه يملك ¬
القول الثاني
الوقف، وأنه يقبل القسمة. ومن أصحابنا من علل المنع بأن الموقوف عليه لا يملك، وأن الوقف لا يفرز بالقسمة عن الطلق" (¬1). وقال أيضًا: "قال القاضي حسين: ما لا يستحق بالشفعة، لا يستحق به الشفعة، وجعل هذا علة قولهم: أرض نصفها وقف، ونصفها طلق، أنه لا يثبت للموقوف عليه الشفعة، وهو الصحيح، وتبعه الرافعي، فقال: إن الوقف لا يستحق الشفعة، فلا تستحق به الشفعة، والأصح عند الوالد -رحمه الله- أن علة الوقف كون الموقوف عليه لا يملك الوقف على المذهب، فليس بشريك في الملك، والشفعة إنما تثبت لشريك الملك، وهذه هي التي اختارها ابن الصباغ. ولو قلنا: إن الموقوف عليه يملك فشرط الشفعة قبول القسمة، والوقف لا يفرز بالقسمة عن الملك على أشهر الوجهين" (¬2). وقال ابن قدامة: "وإن كان بعض العقار وفقا، وبعضه طلقا، فذكر القاضي أنه لا شفعة لصاحب الوقف؛ لأنه ملك غير تام، فلا يستفيد به ملكًا تامًا. وقال أبو الخطاب: هذا ينبني على الروايتين في ملك الوقف، إن قلنا: هو مملوك فلصاحبه الشفعة؛ لأنه يلحقه الضرر من جهة الشريك، فأشبه الطلق، فإن قلنا: ليس بمملوك فلا شفعة له لعدم ملكه" (¬3). القول الثاني: ذهب المالكية إلى تفصيل في أخذ الواقف والموقوف عليه وناظر الوقف الشفعة. ¬
القول الثالث
أما الواقف فإن أخذه ليوقفه كان له ذلك، وإن أخذه له لم يكن له ذلك إلا أن يكون مرجع الوقف له، كأن يوقف على عشرة مدة حياتهم، أو يكون الوقف مدة معينة. وأما ناظر الوقف فليس له أن يأخذ لنفسه بالشفعة، وهل له أن يأخذه ليضيفه إلى الوقف، إن جعل الواقف ذلك له بأن نص في ولايته على الأخذ بالشفعة كان له ذلك، وإلا فلا. وأما الموقوف عليهم فلا يأخذون الشفعة بالوقف حتى ولو أخذوه ليوقفوا إلا أن يئول الوقف إلى الموقوف عليهم ملكًا، كمن حبس على جماعة على أنه إذا لم يبق فيهم إلا فلان فالوقف له ملكًا. هذا ملخص مذهب المالكية (¬1). القول الثالث: يؤخذ المبيع شفعة بالوقف، وهو أحد الوجهين في مذهب الحنابلة، اختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي وشيخنا ابن عثيمين، وقال به الشافعية في أحد الوجهين للموقوف عليه دون الواقف. قال الماوردي: "إن كانت حصة الخليط وقفا نظر في الوقف: فإن كان عامًا كالوقف على الفقراء والمساكين، أو على خاص لا يملك كالوقف على جامع، أو مسجد فلا يستحق به شفعة في المبيع. وإن كان خاصًا على مالك كالوقف على رجل بعينه، أو على جماعة بأعيانهم ¬
الراجح
فلا يملك به الواقف شفعة؛ لزوال ملكه عن الموقوف، وأما الموقوف عليه فقد اختلف قول الشافعي -رضي الله عنهم- هل يكون مالكاً لرقبة الوقف أم لا؟ على قولين: أحدهما: لا يكون مالكاً لرقبته، وإنما يكون مالكاً لغلته، فعلى هذا لا شفعة له لعدم ملكه. والقول الثاني: يكون مالكا لرقبة الوقف، فعلى هذا في استحقاقه للشفعة وجهان: أحدهما: يستحق به الشفعة لثبوت ملكه، واستضراره بسوء المشاركة. والوجه الثاني: لا شفعة له؛ لأنه ليس بتام الملك، ولا مطلق التصرف" (¬1). قال شيخنا ابن عثيمين عليه رحمه الله: "الشفعة في شركة الوقف أحق منها في شركة الطلق؛ لأن تضرر الشريك في الوقف أشد من تضرر صاحا الملك الطلق" (¬2). وذلك إن شريك الطلق لو وجد الشريك سيء المعاملة باع نصيبه وتخلص من الشركة بخلاف شريك الوقف. الراجح: أصل الخلاف في هذه المسألة راجع إلى مسألتين: الأولى سبب الشفعة، فإن قال: إن الشفعة شرعت لدفع ضرر القسمة، فلا شفعة هنا؛ لأن الوقف لا يدخله قسمة. ومن قال: إن الشفعة شرعت لدفع ضرر الشركة، فهنا يمكن أن يقال: يؤخذ المبيع شفعة بالوقف لدفع ضرر الشركة. ¬
السبب: اختلاف الفقهاء في الوقف على معين، هل يصير وقفه ملكا لله، أو ينتقل إلى الموقوف عليه، أو يكون باقيا على ملك الواقف على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. والمشهور من المذهب أن الوقف ملك للموقوف عليه يملكه، ولكن ملكه له ملك قاصر غير تام؛ لأنه لا يملك التصرف في رقبته. وإذا كان يملكه الموقوف عليه فإنه ينبغي أن يقال: له الشفعة، ولا يوجد دليل في الشفيع أن يكون ملكه تاما، فإذا ملك استحق الشفعة سواء كان ملكه تاما أو ناقصا؛ لأن تضرره بالشركة موجود في الحالين، والله أعلم. ***
الفصل الرابع الشفعة في شركة المضاربة
الفصل الرابع الشفعة في شركة المضاربة المبحث الأول إذا كان الشفيع رب المال والمشتري هو المضارب [م - 1057] أصل هذه المسألة راجع إلى مسألتين: أحدهما: حكم شراء رب المال من مال المضاربة. والثانية: متى يملك المضارب حصته من الربح، هل يملك الربح بمجرد الظهور، أو لا يملكه إلا بعد القسمة. إذا علم ذلك نأتي لتصوير مسألتنا وبيان الخلاف فيها: صورة المسألة: إذا كان رب المال له عقار بينه وبين رجل أجنبي، فباع هذا الأجنبي نصيبه على المضارب، وكان المضارب قد اشتراه للمضاربة لا لنفسه، فهل لرب المال أن يأخذ الشقص بالشفعة، ويخرج العقار من مال المضاربة، أو لا يستطيع أن يأخذ بالشفعة باعتبار أن المضارب يتصرف لرب المال، وهو وعامل في ماله بموجب عقد بينهما؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: لرب المال أن يأخذ العقار من المضارب بالشفعة، وهو مذهب الحنفية،
القول الثاني
والمالكية، وأحد القولين في مذهب الشافعية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في بدائع الصنائع: "لو اشترى المضارب دارًا، ورب المال شفيعها بدار أخرى بجنبها، فله أن يأخذ بالشفعة؛ لأن المشترى وإن كان له في الحقيقة، لكنه في الحكم كأنه ليس له، بدليل أنه لا يملك انتزاعه من يد المضارب، ولهذا جاز شراؤه من مال المضارب" (¬2). وقال ابن قدامة: "وإن اشترى المضارب شقصًا في شركة رب المال، فهل لرب المال فيه شفعة؟ على وجهين مبنيين على شراء رب المال من مال المضاربة" (¬3). القول الثاني: لا يستحق رب المال الأخذ بالشفعة، وهو أصح القولين في مذهب الشافعية، والمشهور عند الحنابلة (¬4). جاء في مغني المحتاج: "فلو اشترى العامل بمال القراض شقصًا من شريك المالك لم يشفع المالك؛ لأن الشراء وقع له، فلا يمكن الأخذ من نفسه لنفسه" (¬5). ¬
وقال في الإنصاف: "هل تجب الشفعة لرب المال على المضارب فيما يشتريه للمضاربة ... فأطلق المصنف فيه وجهين: أحدهما: لا تجب الشفعة، وهو الصحيح من المذهب ... " (¬1). جاء في كشاف القناع: "ولا شفعة لرب المال على مضارب، كأن يكون لرب المال شقص في دار، فيشتري المضارب بمالها أي مال المضاربة بقيتها؛ لأن الملك لرب المال، فلا يستحق الشفعة على نفسه" (¬2). ¬
المبحث الثاني أخذ المضارب الشفعة لنفسه ما اشتراه للمضاربة
المبحث الثاني أخذ المضارب الشفعة لنفسه ما اشتراه للمضاربة صورة المسألة: إذا اشترى المضارب من مال المضاربة شقصًا في شركة عقار وكان المضارب أحد الشركاء، فهل يملك أن يأخذ لنفسه ما اشتراه للمضاربة بالشفعة باعتباره يملك شقصًا في هذا العقار؟ [م - 1058] اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: له الأخذ بالشفعة، وهو مذهب الحنفية، والمالكية وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬1). جاء في تهذيب المدونة: "وإذا اشترى المقارض من المال شقصًا، هو شفيعه، فله الشفعة، ولا يمنعه رب المال، ولو كان رب المال هو الشفيع، فله القيام أيضًا" (¬2). وجاء في مغني المحتاج: "فإن كان العامل شريك البائع في الشقص المبيع، ¬
القول الثاني
كان له الأخذ بالشفعة، ولو ظهر في المال ربح؛ لأنه لا يملك شيئًا منه بالظهور" (¬1). القول الثاني: إن كان في المال ربح لم يكن للعامل أن يأخذ بالشفعة، وإن كان لم يكن فيه ربح فله الأخذ بالشفعة، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة. جاء في روضة الطالبين: "وإن كان العامل شريكا فيه، فله الأخذ إن لم يكن في المال ربح، أو كان، وقلنا: لا يملك بالظهور، فإن قلنا: يملك به فعلى الوجهين في المالك" (¬2). وقال في الإقناع: "ولا شفعة لمضارب على رب المال إن ظهر ربح، وإلا وجبت. وصورته: أن يكون للمضارب شقص في دار، فيشتري من مال المضاربة بقيتها" (¬3). وقال ابن قدامة: "وإن كان المضارب شفيعه، ولا ربح في المال، فله الأخذ بها؛ لأن الملك لغيره" (¬4). القول الثالث: ليس له الأخذ بالشفعة مطلقاً، وهو قول اللخمي من المالكية (¬5). ¬
وجهه
وجهه: أن العامل حين اشترى الشقص اشتراه للمضاربة، وبقصد الربح، والشفعة لا ربح فيها؛ لأنه يأخذها بالثمن، فكان هذا تصرفا منه في مال المضاربة لحظه هو دون حظ المالك. جاء في الذخيرة: "قال اللخمي: قيل: لا شفعة للعامل، قال: وهو أبين إذا قال اشتريت للقراض، وهو عالم بوجوب الشفعة للشريك؛ لأن ذلك إقرار منه أنه قصد الربح، والشفعة لا ربح فيها، فهو خلاف ما أقر به، وإن جهل، فأعلم بعد الشراء، حلف وأخذ، وإن قال: قصدت بالشراء نفسي، وتعديت على المال، كان لصاحب المال أن يباع له، ويأخذ جزءاً من ربحه ... " (¬1). ¬
الفصل الخامس في الشفعة في عقارين بيعا صفقة واحدة
الفصل الخامس في الشفعة في عقارين بيعا صفقة واحدة المبحث الأول أن يكون الشريك شفيعا فيهما [م - 1059] إذا بيع عقاران صفقة واحدة، وكان المشتري واحداً، وكان الشريك شفيعا فيهما، فهل يلزم أن يأخذ الجميع أو يدع الشفعة، أو له أن يأخذ أحدهما دون الأخرى؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يلزم الشفيع أخذ الجميع أو ترك الجميع، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، وأحد القولين عند الشافعية، وأحد الوجهين عند الحنابلة (¬1). جاء في المبسوط: "وإذا اشترى الرجل دارين صفقة واحدة، وشفيعهما واحد، فأراد أخذ أحدهما دون الأخرى فليس له ذلك" (¬2). ¬
وجه ذلك
وجاء في المدونة: "أرأيت لو أن رجلاً اشترى نصيبا من دارين صفقة واحدة، وشفيعهما واحد، فقال الشفيع: أنا آخذ إحدى الدارين وأسلم الأخرى، وقال المشتري: خذ الجميع أو دع. قال مالك: يقال للشفيع: خذ الجميع أو دع. قلت: فإن كان المشتري اشترى هذين النصيبين من رجلين مختلفين صفقة واحدة؟ قال: قال مالك: ليس للشفيع أن يأخذ حظ أحد الرجلين دون الآخر؛ لأن الصفقة واحدة، والمشتري واحد، فإما أن يأخذ الجميع وإما أن يدع" (¬1). وجه ذلك: أن المشتري ملكهما صفقة واحدة، وفي أخذ أحدهما تفريق للصفقة عليه، وكما لا يملك المشتري في حق البائع تفريق الصفقة بقبول أحدهما دون الأخرى، فالشفيع يحل محله. بخلاف ما إذا كان العقد في صفقتين. القول الثاني: له أن يأخذ أحدهما فقط، وله أخذهما جميعًا، وهو قول زفر من الحنفية، وأصح القولين في مذهب الشافعية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬2). وجه هذا القول: أما كونه يأخذهما جميعًا فلأنه شريك فيهما، وأما كونه يصح أن يأخذ أحدهما دون الأخرى فلأن الشقص لما تعدد وانفصل كل واحد منهما عن ¬
الراجح
الآخر، جاز له أن يأخذ بالشفعة أحدهما, ولأن اجتماع العقارين في عقد واحد لا يعني إلزام الشفيع في الجميع كما لو وقع العقد عليهما في عقدين مختلفين، ولأنه قد يتوصل به إلى إسقاط حق الشفيع فيجمع مع العقار عقارًا آخر في صفقة واحدة ليعجز الشفيع عن أخذهما، والله أعلم. الراجح: أن العقار المتعدد في الصفقة الواحدة ينظر إليه على أنه مبيع واحد، فإما أن يأخذ الجميع أو يدع الجميع، والله أعلم.
المبحث الثاني أن يكون الشريك شفيعا في أحدهما
المبحث الثاني أن يكون الشريك شفيعًا في أحدهما [م - 1060] إذا بيع عقاران صفقة واحدة، وكان الشريك شفيعا في أحدهما، فهل له أن يأخذ الجميع، أو لا يملك إلا أخذ العين الذي هو شريك فيها؟ اختلف العلماء في ذلك: فذهب عامة أهل العلم وبه قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن إلى أن الشفيع لا يملك إلا أخذ العين الذي هو شريك فيها دون الأخرى (¬1). وجه ذلك: أن الصفقة وإن وقعت مجتمعة ولكنها أضيفت إلى شيئين أحدهما ثبت فيه حق الشفعة، والآخر لم يثبت فيه حق الشفعة، فله أن يأخذ ما ثبت فيه الحق كما إذا اشترى عقارا ومنقولا صفقة واحدة فإنه يأخذ العقار خاصة كذا هذا (¬2). القول الثاني: روى الحسن عن أبي حنيفة أن للشفيع أن يأخذ العقارين جميعا، أو يتركهما؛ ¬
الراجح
لأنه لو أخذها دون الأخرى لتفرقت الصفقة على المشتري، فيثبت حقه في الأخرى حكمًا لدفع الضرر عن المشتري (¬1). الراجح: القول الأول، ويقال: إن أبا حنيفة رجع إلى قول محمد بن الحسن وأبي يوسف، والله أعلم. ¬
الباب الرابع في أحكام المشفوع عليه
الباب الرابع في أحكام المشفوع عليه الفصل الأول تعريف المشفوع عليه تكلمنا في الباب الأول عن أحكام الشفيع، ثم انتقلنا في الباب الثاني إلى أحكام المشفوع فيه، ونبحث في هذا الباب أحكام المشفوع عليه، والمقصود بالمشفوع عليه: هو المأخوذ منه المبيع بالشفعة، وهو المشتري. وقد عرفه بعض المالكية بقولهم: كل من تجدد ملكه اللازم باختياره زاد بعضهم بمعاوضة. فقيد التجدد: احتراز من رجلين اشتريا داراً معاً، فلا شفعة لأحدهما. وقيد: اللازم: احتراز من بيع الخيار. وقيد الاختيار: احتراز من الإرث (¬1). وقيد المعاوضة يدخل فيه هبة الثواب، والصلح، ويخرج به الإرث باتفاق، والهبة المحضة والصدقة، والوصية على خلاف سيأتي تحريره إن شاء الله تعالى. كما اشترط بعضهم أن يكون عقد المشتري عقدا صحيحا، فإن كان فاسدا لم تثبت فيه الشفعة، وفيه خلاف سيأتي تحريره إن شاء الله تعالى. ¬
وعرفه الشافعية: بأنه من كان ملكه طارئًا على ملك الآخذ، لازمًا بعوض (¬1). وهذا التعريف قريب من تعريف المالكية، والقيود والاحترازات على هذا التعريف هي نفس الاحترازات على التعريف السابق، والله أعلم. ... ¬
الفصل الثاني أن يكون ملك المشفع عليه طارئا
الفصل الثاني أن يكون ملك المشفع عليه طارئًا [م - 1061] يشترط أن يكون ملك المشفوع عليه (المشتري) طارئًا على ملك الشفيع، فإن اشترى رجلان داراً معاً، أو شقصا من دار فلا شفعة لواحد منهما على الآخر؛ لاستوائهما في وقت حصول الملك (¬1). قال ابن رشد: واتفقوا على أن من شرط الأخذ بالشفعة أن تكون الشركة متقدمة على البيع (¬2). ¬
الفصل الثالث أن يكون البيع لازما
الفصل الثالث أن يكون البيع لازما المبحث الأولى الأخذ بالشفعة في زمن الخيار الفرع الأول الأخذ بالشفعة إذا كان الخيار للبائع أو لهما [م - 1062] إذا جرى البيع بشرط الخيار: فإن كان الخيار للعاقدين، أو كان الخيار للبائع وحده فلا شفعة ما دام الخيار باقيا، وهذا قول الأئمة الأربعة، سواء قلنا: الملك في زمن الخيار للبائع أو قلنا: هو موقوف، أو قلنا: إن الملك للمشتري وهو الصحيح (¬1). وذكر أبو الخطاب من الحنابلة احتمالا بثبوت الشفعة مطلقاً إذا قلنا بانتقال الملك إلى المشتري؛ لأن الملك لما انتقل في مدة الخيار ثبتت فيه الشفعة كما بعد انقضائه (¬2). وجه القول بعدم ثبوت الشفعة: علل الحنفية وبعض الشافعية عدم ثبوت الشفعة في كون البيع ليس لازما. ولكون الأخذ بالشفعة يسقط حق البائع من الخيار، فخيار البائع يمنع خروج ¬
المبيع عن ملكه، وبقاء ملك البائع يمنع وجوب الشفعة؛ لأن شرط ثبوتها خروج المبيع عن ملك البائع (¬1). جاء في الفتاوى الهندية: "ومنها زوال ملك البائع عن المبيع، فإذا لم تزل فلا تجب الشفعة كما في البيع بشرط الخيار للبائع حتى لو أسقط خياره وجبت الشفعة ... ولو كان الخيار لهما لا تجب الشفعة" (¬2). وجاء في المدونة: "الخيار إذا كان للبائع فهذا لا شك فيه أنه لا شفعة" (¬3). وقال النووي: "فإن باع بشرط الخيار لهما أو للبائع فلا شفعة ما دام الخيار باقيًا" (¬4). وانتقد بعض الشافعية التعليل بعدم اللزوم، وعللوا عدم ثبوت الشفعة في حال كان الخيار للبائع بعدم الملك الطارئ. فقال: "ولا حاجة لقوله: لازمًا لثبوت الشفعة في مدة خيار المشتري، وعدم ثبوتها في مدة خيار البائع، أو خيارهما؛ لعدم الملك الطارئ لا لعدم اللزوم" (¬5). ¬
ورد بعض الشافعية
ورد بعض الشافعية: بأن الملك إذا تم العقد تبين أنه طرأ من حين العقد فظهر التعليل بعدم اللزوم له فائدة (¬1). وجاء في قواعد ابن رجب: "فأما الأخذ بالشفعة فلا يثبت في مدة الخيار على الروايتين عند أكثر الأصحاب، ونص عليه أحمد في رواية حنبل. فمن الأصحاب من علل بأن الملك لم يستقر بعد. ومنهم من علل بأن الأخذ بالشفعة يسقط حق البائع من الخيار، فلذلك لم تجز المطالبة بها في مدته. وهو تعليل القاضي في خلافه، فعلى هذا لو كان الخيار للمشتري وحده لثبتت الشفعة. وذكر أبو الخطاب احتمالا بثبوت الشفعة مطلقاً إذا قلنا بانتقال الملك إلى المشتري" (¬2). الراجح: الخلاف في المسألة راجع إلى الخلاف في ملك المبيع زمن الخيار: فمن قال: إن الملك زمن الخيار للبائع أو قال: هو موقوف فلم يتجدد ملك للمشتري زمن الخيار حتى يقال بثبوت الشفعة. ومن قال: إن الملك للمشتري وهو الصحيح اختلف في اشتراط أن يكون الملك لازما. ولا يوجد دليل على اشتراط أن يكون الملك لازما، والذي أميل إليه القول بثبوت الشفعة مع قيام الخيار؛ لأننا إذا قلنا: إن البيع بشرط الخيار ينعقد صحيحا إلا أنه عقد جائز، وليس بلازم، والملك في زمن الخيار ¬
للمشتري، وله النماء وقت الخيار، فلا مانع من القول بثبوت الشفعة، ويقال: للشفيع لك الحق في أخذ المبيع بالشفعة وتحل محل المشتري إلا أن العقد في حقك ليس لازما زمن الخيار كحال المشتري، فإن شاء البائع رجع، وإن أمضى البيع فأنت على شفعتك، فكما أن المشتري لا يملك بت البيع زمن الخيار فكذلك الشفيع لا يملك بت الأخذ بالشفعة زمن الخيار، وتكون مصلحة الشفيع هنا الاستفادة من نماء المبيع وقت الخيار، والله أعلم.
الفرع الثاني في الأخذ بالشفعة إذا كان الخيار للمشتري
الفرع الثاني في الأخذ بالشفعة إذا كان الخيار للمشتري [م - 1063] إذا كان الخيار للمشتري وحده فقد اختلف الفقهاء في ثبوت الشفعة زمن الخيار على قولين: القول الأول: تثبت الشفعة، وهو مذهب الحنفية، والصحيح من مذهب الشافعية، وقول عند الحنابلة (¬1). جاء في تبيين الحقائق: "وإن اشترى بشرط الخيار وجبت الشفعة، أما عندهما فظاهر؛ لأن المشتري يملكها، وأما عنده فلخروجه عن ملك البائع" (¬2). وجاء في مغني المحتاج: "وإن شرط -يعني الخيار- للمشتري وحده فالأظهر أنه يؤخذ بالشفعة إن قلنا: الملك في زمن الخيار للمشتري، وهو الراجح كما سبق في باب الخيار" (¬3). وجه القول بثبوت الشفعة: إذا كان الخيار للمشتري فقد خرج من ملك البائع وانتقل الملك إلى المشتري، ولا حق لغيره فيه، والشفيع يملك أخذه بعد لزوم البيع واستقرار ¬
القول الثاني
الملك، فلأن يملك ذلك قبل لزومه أولى، وعامة ما يُقدَّر ثبوت الخيار له وذلك لا يمنع الأخذ بالشفعة كما لو وجد به عيبًا (¬1). القول الثاني: لا تثبت الشفعة في زمن الخيار، لا فرق في ذلك بين أن يكون الخيار للبائع أو للمشتري، أو لهما، وهذا مذهب المالكية، والحنابلة، وقول في مذهب الشافعية (¬2). وجه القول بعدم ثبوت الشفعة: القول بثبوت الشفعة يلزم المشتري بالعقد من غير رضاه، ويوجب العهدة عليه، ويفوت حقه من الرجوع في عين الثمن فلم يجز كما لو كان الخيار للبائع، فإننا إنما منعنا من الشفعة لما فيه من إبطال خيار البائع، وتفويت حق الرجوع عليه في عين مالهما، وهما في نظر الشرع على السواء، وفارق الرد بالعيب فإنه إنما ثبت لاستدراك الظلامة بخلاف الشفعة (¬3). الراجح: القول بثبوت الشفعة لأن مدار الشفعة على خروج المبيع من ملك البائع، وقد خرج، ولذلك لو أقر البائع بالبيع، وأنكر المشتري كان للشفيع أن يأخذه من البائع، فلم يتعلق الأمر بلزوم العقد على المشتري، فكذلك هنا، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع أن يملك المشتري المبيع
الفصل الرابع أن يملك المشتري المبيع المبحث الأولى أن يملكه بعوض مالي الفرع الأول أن يملكه عن طريق البيع [م - 1064] لم يختلف الفقهاء في ثبوت الشفعة في المشفوع فيه إذا كان انتقاله من الشريك عن طريق البيع؛ لأن الأخذ بالشفعة يكون بمثل ما ملك، فإذا انعدمت المعاوضة تعذر الأخذ بالشفعة (¬1). جاء في المغني: "ما عوضه المال كالبيع فهذا فيه الشفعة بغير خلاف" (¬2). وحكى الإجماع على ذلك القاضي عبد الوهاب البغدادي من المالكية (¬3). (ح-652) ومستند الإجماع ما رواه مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان له شريك في ربعة أو نخل فليس له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن رضي أخذ وإن كره ترك (¬4). ¬
فإن كان المشفوع فيه قد بيع بمال مثلي فالشفعة فيه بمثل ثمنه، وإن بيع بمتقوم فبقيمته (¬1). قال ابن قدامة: "إذا ثبت هذا -يعني الأخذ بالشفعة- فإننا ننظر في الثمن، فإن كان دنانير أو دراهم أعطاه الشفيع مثله، وإن كان مما لا مثل له كالثياب والحيوان، فإن الشفيع يستحق الشقص بقيمة الثمن، وهذا قول أكثر أهل العلم، وبه يقول أصحاب الرأي والشافعي. وحكي عن الحسن وسوار أن الشفعة لا تجب ها هنا؛ لأنها تجب بمثل الثمن، وهذا لا مثل له، فتعذر الأخذ فلم يجب كما لو جهل الثمن. ولنا: أنه أحد نوعي الثمن، فجاز أن تثبت به الشفعة في المبيع كالمثلي، وما ذكروه لا يصح؛ لأن المثل يكون من طريق الصورة، ومن طريق القيمة كبدل المتلف" (¬2). وهذا هو الراجح. ¬
الفرع الثاني أن يكون ملك المشتري له في معنى البيع
الفرع الثاني أن يكون ملك المشتري له في معنى البيع المسألة الأولى أن ينتقل عن طريق الصلح الذي بمعنى البيع [م - 1065] إذا انتقل الشقص عن طريق الصلح نظر: فإن كان الصلح مع إنكار المدعى عليه لم يكن الصلح في حق المنكر بيعًا؛ بل كان صلحًا محضًا لقطع المنازعة فلا يثبت له ما يثبت في البيع من الرد بالعيب، ومن الأخذ بالشفعة لو كان عقارًا؛ لأنه بذل ماله في هذه الحالة افتداء ليمينه أو قطعًا لشغب خصمة. وإن كان الصلح مع إقرار المدعى عليه، كما لو أقر له بدين أو عين، ثم صالحه عنه بعوض فإن هذا الصلح بمنزلة البيع، يثبت له ما يثبت للبيع من الرد بالعيب، ومن الأخذ بالشفعة لو كان عقارًا. وبه قال الأئمة الأربعة (¬1). جاء في منهاج الطالبين: "باب الصلح، وهو قسمان: أحدهما: يجري بين المتداعيين، وهو نوعان: ¬
أحدهما: صلح على إقرار، فإن جرى على عين غير المدعاة فهو بيع بلفظ الصلح تثبت فيه أحكامه كالشفعة والرد بالعيب ... " (¬1). وقال في الحاوي الكبير: "والعقود على ثلاثة أقسام: قسم يجب فيه العوض، وقسم لا يجب فيه العوض، وقسم اختلف قوله في وجوب العوض فيه. فأما الموجب للعوض فخمسة عقود: البيع والإجارة، والصلح، والصداق، والخلع، فالشفعة بجميعها مستحقة كالبيع" (¬2). وجاء في المبدع: "ما انتقل بعوض مالي كالصلح بمعنى البيع ... فإنها تثبت فيها؛ لأن ذلك يثبت فيه أحكام البيع" (¬3). وجاء في شرح القواعد الفقهية: "وأما الصلح فإنه يعتبر بأقرب العقود إليه فحينئذ إما أن يكون المدعى عليه مقرًا. بالمدعى به، أو منكرًا. ففي حالة إقراره إن وقع الصلح عن مال بمال يدفعه المدعى عليه يعتبر بيعًا، فيجري في المدعى به الرد بالعيب، ويؤخذ بالشفعة إن كان عقارًا ... وفي حال إنكار المدعى عليه إذا تصالحا على بدل يدفعه للمدعي يكون ذلك في حقه صلحًا محضًا لقطع المنازعة، فلا يمكنه بعد عقد الصلح أن يرد المدعى به: أي المصالح عنه بالعيب، ولا يؤخذ بالشفعة لو كان عقارًا" (¬4). ¬
المسألة الثانية أن يملك المشتري المبيع عن طريق هبة الثواب
المسألة الثانية أن يملك المشتري المبيع عن طريق هبة الثواب القصد في العقد معتبر. [م - 1066] اختلف الفقهاء في الشرك إذا انتقل للغير عن طريق الهبة بشرط الثواب هل يثبت في ذلك شفعة أو لا يثبت؟ والخلاف فيه راجع إلى توصيف الهبة هل تكون بيعًا اعتبارًا بالقصد والمعنى، أو تكون هبة اعتبارًا للفظ؟ وهل يشترط أن يكون الثواب معلومًا حتى لا يكون الثمن مجهولاً، أو يصح العقد ولو مع جهالة الثمن، ويجعل العرف فيها بمنزلة الشرط، وهو ثواب مثلها (¬1). ¬
القول الأول
فمن قال: العبرة في العقود بالمعاني نظر إلى أن الهبة بشرط ثواب معلوم قد قصد فيها المعاوضة، فتكون بمنزلة البيع، فيجوز للولي أن يهب مال الصبي بشرط الثواب، ويثبت في الهبة الخيار، وترد بالعيب، ويؤخذ الموهوب بالشفعة، ومن قال: هي هبة لم يثبت فيها ما سبق، إذا عرف ذلك نأتي إلى مسألتنا، فقد اختلف العلماء في هبة الثواب هل تؤخذ بالشفعة على قولين: القول الأول: يؤخذ الموهوب بالشفعة، وهو مذهب الجمهور، والقول القديم للشافعي (¬1). لأن الهبة بشرط الثواب بمنزلة البيع، فهي قائمة على المعاوضة، إلا أن الحنفية -خلافًا لزفر- اشترطوا لثبوت الشفعة أن يتم التقابض بينهما. • وجه قول الحنفية: أن عقد الهبة بشرط العوض هبة ابتداء، معاوضة انتهاء، فلا يثبت الملك في كل واحد منهما قبل القبض، ولكل واحد منهما أن يرجع في سلعته ما لم يقبضا، وكذا إذا قبض أحدهما ولم يقبض الآخر حتى يتقابضا جميعًا، فإذا ¬
القول الثاني
تقابضا كان بمنزلة البيع، يرد كل واحد منهما بالعيب، ويرجع في الاستحقاق، وتجب به الشفعة. وقال غيرهم: إن العقد عقد بيع ابتداء وانتهاء؛ لأن معنى البيع موجود في هذا العقد؛ لأن البيع تمليك العين بعوض، وقد وجد، واختلاف العبارة لا يوجب اختلاف الحكم كلفظ البيع مع لفظ التمليك. القول الثاني: لا شفعة في هبة الثواب، وهو القول الجديد للشافعي، ورواية عن أحمد (¬1). ودليلهم: أن الهبة وإن قصد بها الثواب فإنها لا تسمى بيعًا، فلا تثبت فيها الشفعة. وقال ابن قدامة: "وحكي عن أحمد رواية ثانية أنه يغلب فيها حكم الهبة، فلا تثبت فيها أحكام البيع المختصة به" (¬2). والراجح قول الجمهور؛ لأن العبرة في العقود المقاصد والمعاني لا الألفاظ والمباني، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني أن يملك المشتري المبيع بعوض غير مالي
المبحث الثاني أن يملك المشتري المبيع بعوض غير مالي [م - 1067] إذا انتقل المشفوع فيه بعوض غير مالي، كما لو جعل الشقص مهرًا، أو عوضًا في الخلع، أو في الصلح عن دم العمد (¬1)، فهل تثبت فيه الشفعة؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: لا شفعة فيه، وهو مذهب الحنفية، والمشهور من مذهب الحنابلة، وبه قال ابن حزم (¬2). • دليل هذا القول: الدليل الأول: (ح-653) ما رواه مسلم من طريق أبي خيثمة، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان له شريك في ربعة، أو نخل، فليس له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن رضي أخذ، وإن كره ترك (¬3). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فليس له أن يبيع) فالأخذ بالشفعة ورد بالبيع، وهذه العقود ليست بيعًا، ولا بمعنى البيع، فلا تثبت بها الشفعة. ويناقش: لا إشكال بأن النص في الشفعة ثبت في البيع، ونحن نعمل به، وليس في الحديث دليل على نفي الشفعة فيما سوى البيع. الدليل الثاني: أن هذا شقص مملوك بغير مال فلم يؤخذ بالشفعة أشبه الموهوب والميراث. الدليل الثالث: أن هذه الأشياء لا مثل لها حتى يأخذها الشفيع بمثلها، فلم يمكن مراعاة شرط الشرع فيها: وهو التملك بما يملك به المشتري فلم يكن مشروعًا. ونوقش هذا: بأنه من الممكن أخذ الشقص بقيمته، سواء زاد على مثل مهر المرأة، أو نقص، أو ساوى، ومثله يقال: إذا كان عوضه خلعًا، أو صلحًا عن دم العمد، فالشفعة في هذه الحال تكون بقيمة الشقص، ويسأل أهل الخبرة، كم يساوي هذا الشقص، ويأخذه بقيمته، والله أعلم. القول الثاني: فيه الشفعة، وبه قال المالكية، والشافعية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬1). ¬
وجه هذا القول
• وجه هذا القول: أن هذا شقص مملوك بعوض فتثبت فيه الشفعة كالبيع، والعلة في مشروعية الشفعة دفع الضرر، لا نفس البيع، وهذه الأشياء متقومة بدليل العقد الصحيح والفاسد. واختلفوا كيف يأخذ بالشفعة: فقيل: يأخذ الشقص بقيمته، وهو مذهب المالكية. وقيل: يأخذه بقيمة مهر مثلها؛ لأن البضع متقوم، وقيمته مهر المثل. وبه قال الشافعي (¬1)، والأول أصوب. جاء في المنتقى للباجي: "ويأخذه الشفيع بقيمة الشقص خلافًا للشافعي في قوله: يأخذه بمهر المثل، والدليل على ما نقول: إن البضع ليس بمال، فيتقدر به ثمن المبيع فيه، وليس كل مهر المثل هو الثمن، فيلزم ذلك الشفيع كأخذه من دم العمد" (¬2). وجاء في المدونة: "أرأيت إن تزوجت على شقص في دار، أو خالعت امرأتي على شقص من دار، أتكون فيه الشفعة في قول مالك؟ قال: نعم، مثل النكاح، والخلع. قلت: فإن صالحت من دم عمد كان قد وجب علي بشقص لي في دار، أتكون فيه الشفعة في قول مالك؟ قال: نعم. ¬
الراجح
قلت: وبماذا يأخذ الشفيع في النكاح والخلع والصلح في دم العمد الشقص الذي يأخذه الشفيع؟ قال: أما في النكاح والخلع قال لي مالك: يأخذ الشفيع الشقص بقيمته. قال: وأرى الدم العمد مثل ذلك يأخذه بقيمته" (¬1). • الراجح: جريان الشفعة فيما ملك بعوض غير مالي؛ لأن انتقال الملك فيه كان اختياريًا وليس قهريًا؛ ولأن دفع ضرر الشركة موجود فيها، ويأخذه بقيمته على قول المالكية، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث أن يملك المشتري المشفوع فيه بغير عوض
المبحث الثالث أن يملك المشتري المشفوع فيه بغير عوض قال الشيخ محمَّد بن عثيمين: القاعدة التي تظهر لي من السنة أنه متى انتقل الملك على وجه اختياري ففيه الشفعة بأي حال من الأحوال (¬1). [م - 1068] إذا انتقل الشقص بغير عوض، فإن كان انتقاله عن طريق الإرث فلا شفعة فيه قولًا واحدًا. جاء في التلقين: "فأما الميراث فمجمع على أن لا شفعة فيه" (¬2). وقال ابن جزي: "أن يكون الحظ المشفوع فيه قد صار للمشفوع عليه بمعاوضة كالبيع ... فإن صار له بميراث فلا شفعة فيه اتفاقًا" (¬3). كما حكى الإجماع ابن رشد في بداية المجتهد (¬4). وإن انتقل الشقص عن طريق الهبة المحضة التي لم يقصد بها الثواب، ومثلها الصدقة، والوصية، فاختلف العلماء في ثبوت الشفعة فيها على قولين: القول الأول: لا شفعة فيها، وهذا قول الجمهور والمشهور عن الإِمام مالك (¬5). ¬
• وجه القول بعدم ثبوت الشفعة
• وجه القول بعدم ثبوت الشفعة: الوجه الأول: أن الشفعة ثبتت في عقد البيع نصًا، فيلحق به ما كان في معناه، والهبة والصدقة والوصية ليست بيعًا، ولا في معنى البيع، فلا تثبت الشفعة فيها. الوجه الثاني: القياس على الموروث، فقد سبق لنا أن العلماء مجمعون على أن الموروث لا شفعة فيه. قال ابن قدامة: "فأما الموهوب والموصى به فلا شفعة فيه؛ لأنه انتقل بغير بدل أشبه الموروث" (¬1). وجاء في الفتاوى الهندية: "وأما شرطها فأنواع: منها عقد المعاوضة، وهو البيع أو ما هو بمعناه، فلا تجب الشفعة بما ليس ببيع، ولا بمعنى البيع، حتى لا تجب بالهبة والصدقة والميراث والوصية؛ لأن الأخذ بالشفعة تملك على المأخوذ منه ما تملك هو، فإذا انعدم معنى المعاوضة فلو أخذ الشفيع إما أن يأخذ بالقيمة أو مجانًا، لا سبيل إلى الأول لأن المأخوذ منه لم يتملك بالقيمة. ولا إلى الثاني لأن الجبر على التبرع ليس بمشروع فامتنع الأخذ أصلًا" (¬2). ونوقش: بأن هناك فرقًا بين انتقال الملك عن طريق الهبة والصدقة والوصية، وبين ¬
القول الثاني
انتقاله عن طريق الإرث، فالأول ينتقل الملك فيها بالاختيار، والثاني ينتقل قهرًا بلا اختيار. جاء في التلقين: "وما يعتبر في انتقال الملك الذي تجب به الشفعة، فيه روايتان: إحداهما: أن يكون بعوض، وذلك كالبيع والصلح، والمهر، وغير ذلك. والأخرى أن يكون باختيار. وفائدة الفرق يتصور في الهبة والصدقة، فأما الميراث فمجمع على أن لا شفعة فيه" (¬1). وقال شيخنا ابن عثيمين يرحمه الله: "القول الراجح: أنه إذا انتقلت بغير عوض، فإن كان قهريًا فلا شفعة، وإن كان اختياريًا ففيه الشفعة" (¬2). القول الثاني: فيها الشفعة، وهو رواية عن مالك، وحكي عن ابن أبي ليلى، ورجحه شيخنا محمَّد ابن عثيمين يرحمه الله (¬3). • وجه القول بثبوت الشفعة: الوجه الأول: بأن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر الشركة، وهذا موجود في انتقال الملك عن طريق الهبة والصدقة، والوصية. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أن ثبوت الشفعة في الهبة أولى من ثبوتها في البيع، وجه ذلك: أن الضرر اللاحق بالمتهب والمتصدق عليه أقل من الضرر اللاحق للمشتري؛ لأن إقدام المشتري على شراء الشقص وبذل ماله فيه دليل على حاجته إليه، فانتزاعه منه أعظم ضررًا ممن آل إليه عن طريق الهبة والصدقة حيث لم يقم دليل الحاجة. الوجه الثالث: أننا نوجب على الشفيع أن يدفع قيمة المشفوع كما وجبت القيمة في المشفوع إذا كان متقومًا (¬1). وهذا القول هو الأقرب، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس أن يملك المشتري المبيع بعقد صحيح
الفصل الخامس أن يملك المشتري المبيع بعقد صحيح [م - 1069] إذا ملك المشتري المبيع بعقد صحيح فلا إشكال في ثبوت الشفعة فيه، وإذا ملكه بعقد باطل فلا إشكال أيضًا في عدم ثبوت الشفعة فيه؛ لأن العقد الباطل لا يفيد الملك، ولا ينقلب إلى عقد صحيح (¬1). وأما إذا ملكه المشتري بعقد فاسد فهذا هو الذي يجري فيه الخلاف بين الفقهاء. والفاسد يختلف عن الباطل عند الحنفية والمالكية خلافًا للشافعية والحنابلة الذين يرون أن العقد الفاسد مرادف للعقد الباطل، وسبق تحرير الخلاف في التفريق بينهما في عقد البيع. [م - 1070] فإذا باع الشريك شقصه بيعًا فاسدًا، فإن كان المبيع ما زال قائمًا فإنه يجب رده بالاتفاق. قال ابن رشد: "اتفق العلماء على أن البيوع الفاسدة إذا وقعت، ولم تفت بإحداث عقد فيها، أو نماء، أو نقصان، أو حوالة سوق أن حكمها الرد -أعني أن يرد البائع الثمن والمشتري المثمون" (¬2). وقال الكاساني: "فلا تجب الشفعة في المشترى شراء فاسدًا؛ لأن للبائع حق النقض، والرد إلى ملكه ردًا للفساد، وفي إيجاب الشفعة تقرير الفساد" (¬3). ¬
وسبب الخلاف
[م - 1071] وإن فات المبيع، كما لو قبضه المشتري بإذن البائع، وباعه بيعًا صحيحًا، فقد اختلف الفقهاء في أخذه بالشفعة: وسبب الخلاف: هل فوات المبيع يسقط حق الفسخ في البيع الفاسد، فإن قال: إن الفوات يسقط حق الفسخ، ويمضي البيع صحيحًا رأى وجوب الشفعة، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، واختيار ابن تيمية (¬1). جاء في المدونة: "قلت: أرأيت البيع الفاسد، أفيه الشفعة أم لا؟ قال: لم أسمع من مالك فيه شيئًا، ولكن إن كان لم يفت البيع الفاسد رد بعينه، وإن فات حتى تفسير الدار على المشتري بالقيمة رأيت الشفعة للشفيع" (¬2). وقال الكاساني: "ولو باعها المشتري شراء فاسدًا بيعًا صحيحًا، فجاء الشفيع فهو بالخيار إن شاء أخذها بالبيع الثاني؛ لأن حق الشفيع ثابت عند كل واحد من البيعين لوجود سبب الثبوت" (¬3). ومن قال: البيع الفاسد مردود أبدًا، ولو تصرف فيه المشتري لم ير فيه حق الشفعة، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬4). قال النووي: "إذا اشترى شيئًا شراء فاسدًا إما لشرط فاسد، وإما لسبب آخر، ¬
ثم قبضه لم يملكه بالقبض، ولا ينفذ تصرفه فيه، ويلزمه رده، وعليه مؤنة رده كالمغصوب، ولا يجوز حبسه لاسترداد الثمن" (¬1). وقال ابن قدامة: "وكل موضع فسد العقد لم يحصل به ملك، وإن قبض؛ لأنه مقبوض بعقد فاسد، فأشبه ما لو كان الثمن ميتة، ولا ينفذ تصرف المشتري فيه، وعليه رده بنمائه المنفصل والمتصل، وأجرة مثله مدة مقامه في يده، ويضمنه إن تلف أو نقص بما يضمن به المغصوب؛ لأنه ملك غيره حصل في يده بغير إذن الشرع، أشبه المغصوب" (¬2). وإذا لم يستفد من العقد الملك لم تثبت الشفعة؛ لأن الشفعة فرع عن انتقال الملك من الشريك إلى أجنبي، والله أعلم. ¬
الفصل السادس إذا تغير المبيع في يد المشتري
الفصل السادس إذا تغير المبيع في يد المشتري المبحث الأول إذا تغير بزيادة الفرع الأول إذا تغير بزيادة لا تدوم كالزراعة [م - 1072] إذا أخذ الشفيع الأرض من المشتري وفيها زرع للمشتري فهو محترم؛ لأن المشتري زرعه في ملكه، أشبه ما لو قام الشفيع بشراء الأرض، وفيها زرع، ولا يجبر المشتري على قلعه؛ لأنه لا يدوم، فضرره لا يبقى، ولأن المشتري زرع في ملكه، وما كان يتيقن بأن الشفيع يطلب الشفعة قبل إدراك زرعه، فلا يكون متعديًا فيما صنع، ولأن لإدراك الزرع نهاية معلومة فلو انتظر ذلك لم يبطل حق الشفيع وإن تأخر قليلاً، وإذا قلع الشفيع زرع المشتري تضرر بإبطال ملكه وضرر التأخير أخف من ضرر الإبطال، وهذا قول عامة العلماء، وحكي إجماعًا. وقال الحنفية بهذا القول استحسانًا، وكان القياس أن يقلع الزرع؛ لأنه زرع في أرض غيره، فهو أحق بها منه، ولأن المشتري كما لا يتمكن من إبطال حق الشفيع لا يتمكن من تأخير حقه (¬1). ¬
قال الكاساني: "وأجمعوا على أن المشتري لو زرع في الأرض، ثم حضر الشفيع أنه لا يجبر المشتري على قلعه ولكنه ينتظر إدراك الزرع، ثم يقضى له بالشفعة، فيأخذ الأرض بجميع الثمن" (¬1). ¬
الفرع الثاني في استحقاق الشفيع الأجرة مقابل بقاء الزرع
الفرع الثاني في استحقاق الشفيع الأجرة مقابل بقاء الزرع [م - 1073] إذا كان المشتري يستحق إبقاء الزرع إلى الحصاد، فهل يستحق الشفيع أجرة المثل على المشتري، اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: له الأجرة من حين أخذه، وهذا مذهب الحنفية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬1). القول الثاني: لا يستحق شيئًا، وهو مذهب الشافعية، وأصح الوجهين في مذهب الحنابلة (¬2). جاء في الإنصاف: "وإن أخذه الشفيع، وفيه زرع أو ثمرة ظاهرة، فهي للمشتري مبقاة إلى الحصاد والجداد، يعني بلا أجرة، وهذا المذهب، قال المجد في شرح الهداية: هذا أصح الوجهين لأصحابنا" (¬3). القول الثالث: إن أخذ الشفيع بشفعته في موسم زراعة الأرض فيلزم المشتري أن يدفع ¬
وجه هذا القول
الأجرة للشفيع، وإن أخذ في غير موسم زراعة الأرض فلا أجرة له، وهذا مذهب المالكية (¬1). جاء في الذخيرة: "في الكتاب إن زرع المشتري الأرض أخذها الشفيع والزرع للزارع ... ولا كراء للمستحق في الزرع إلا أن يكون في إبان الزراعة فله كراء المثل" (¬2). ولعل وجه هذا القول: أن الشفيع إذا أخذ بالشفعة وقت الزراعة أمكنه أن يزرع الأرض، فإذا منعه زرع المشتري استحق الأجرة، وأما إذا أخذ الشفعة في غير وقت الزراعة فلم يفوت المشتري على الشفيع شيئًا، فلم يستحق أجرة الأرض، والله أعلم. • الراجح: هل يقاس بقاء الزرع في الأرض على بيع النخل، وعليه ثمرة مؤبرة فإن الثمرة للبائع، ويستحق بمقتضى العقد أن تبقى إلى أن تطيب بلا أجرة، فيقال: إذا أخذت بالشفعة، والأرض فيها زرع فإن الزرع يبقى إلى الحصاد قياسًا على ذلك. أو يقال: إن المشتري كونه زرع الأرض في ملك تعلق به حق للغير من غير إذن من صاحب الحق، وقبل أن يقف على رغبة الشريك في الشفعة يجعل بقاء الزرع في الأرض ليس مستحقًا بلا مقابل؛ لأن استعمال مال الغير الأصل فيه أنه بعوض، فيستحق الشفيع أجرة المثل، المسألة محتملة عندي، وإن كنت أميل إلى القول بأخذ أجرة المثل، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث إذا تغير بزيادة تدوم كالبناء والغراس
الفرع الثالث إذا تغير بزيادة تدوم كالبناء والغراس [م - 1074] إذا أحدث المشتري في الشقص بناء أو غرسًا، ثم طلب الشفيع الشفعة، فما حكم البناء والغرس؟ هذه المسألة مفروضة على أن المشتري لم يتعد بالبناء والغرس؛ لأنه لا يحق للشريك أن يبني أو يغرس قبل القسمة، وإذا بني أو غرس فهو متعد، وبعد القسمة لا يكون فيه مجال للشفعة؛ لأنه جار وليس بشريك، إلا أن هناك صورًا قد تصح فيها القسمة ويبقى حق الشفعة: منها: أن يخبر كاذب بأن الأرض ملكت عن طريق الهبة، أو يخبر بثمن فيبالغ فيه، فيتنازل الشفيع عن شفعته، ويكون المخبر غير المشتري؛ لأن كذب المشتري في دعوى الثمن يصيره متعديًا، فيقاسم، ثم يتبين خلاف ذلك. ومنها أن يشتري الأرض كلها فيعمر فيها، وهو يعتقد أنها له، ثم يتبين أن رجلاً يستحق شقصًا منها، ويريد أن يأخذ الباقي بالشفعة (¬1). ¬
القول الأول
فالخلاف في المسألة مفروض فيما إذا كان المشتري لم يتعد حين بنى أو غرس، فما العمل مع المشتري حينئذ؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يجبر المشتري على قلع البناء والغرس، وتسليم الساحة إلى الشفيع، إلا إذا كان في القلع نقصان للأرض فللشفيع الخيار إن شاء أخذ الأرض بالثمن والبناء والغرس بقيمته مقلوعًا، وإن شاء أجبر المشتري على القلع. هذا مذهب الحنفية (¬1). • وجه قول الحنفية بأن المشتري يجبر على قلعه: الوجه الأول: أن حق الشفيع كان متعلقًا بالأرض قبل البناء والغرس، وحقه آكد من حق المشتري، فلم يبطل بالبناء والغرس، فإذا أخذ بالشفعة كان المشتري ملزمًا بتسليمه ملكه، ولا يمكن تسليمه إلا بالقلع فيؤمر بالقلع كالغاصب. ¬
ونوقش هذا
ولأن المشتري بني في محل تعلق به حق متأكد للغير من غير تسليط من جهة من له الحق، فينقض. ونوقش هذا: بأن المشتري بني في ملكه، بدليل أن النماء المنفصل له قبل الأخذ بالشفعة، فلا يقلع مجانًا، فهناك فرق بين الغاصب المتعدي، وبين المشتري، والله أعلم. الوجه الثاني: أن تصرف المشتري فيه إضرار بالشفيع فيكون باطلًا؛ لأن في إلزام الشفيع بأخذ ما أحدثه المشتري بالقيمة فيه ضرر كزيادة القيمة، وإذا كان تصرف المشتري في البيع والهبة والوقف ينقض بالشفعة فكذلك ينقض ما يحدثه في العين من بناء وغرس بها. ويجاب: بأن دفع الضرر عن الشفيع ليس بأولى من دفع الضرر عن المشتري، خاصة أنه تصرف في وقت كان المشفوع فيه ملكًا له، والقاعدة الفقهية تقول: لا ضرر ولا ضرار، فلا يمنع الشفيع من الشفعة بسبب البناء والغرس، ولا يقلع الغرس والبناء مجانًا، بل يأخذ الشفيع البناء والغرس بقيمته، وهذا هو العدل، فما دفعه الشفيع لا يأخذه بلا مقابل، أو يقلعه المشتري ويجبر ضرره، والله أعلم. القول الثاني: للمشتري الحق في أخذ ما أحدثه من بناء وغراس، ولا يحق للشفيع منعه؛ لأنه ماله: وإن تركه المشتري كان الشفيع مخيرًا بين ثلاثة أشياء:
• دليل من قال بالتخيير
إما أن يترك الشفعة، وإما أن يأخذ البناء والغرس بقيمته، وإما أن يقلعه ويضمن للمشتري ما نقص بسبب القلع. هذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬1). وذهب المالكية أنه مخير بين أمرين فقط: إما أن يأخذ بالشفعة ويغرم قيمة البناء والغرس، وإما أن يترك الشفعة، وبه قال أبو يوسف من الحنفية (¬2). • دليل من قال بالتخيير: (ح-654) ما رواه الدارقطني من طريق عثمان بن محمَّد بن عثمان ابن ربيعة، حدثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضاره الله، ومن شاق شق الله عليه. [المعروف من حديث أبي سعيد أنه مرسل، وهو حسن بشواهده] (¬3). ¬
• وجه الاستدلال بالحديث
• وجه الاستدلال بالحديث: أن الضرر لا يمكن أن يزول عن المشتري والشفيع على حد سواء إلا على القول بالتخيير. الدليل الثاني: إذا كان الشفيع لم يكن متعديًا في فعله كان ماله محترمًا، واحترام المال يعني إعطاء المشتري عين ماله إن أحب أن يأخذ ما بناه أو غرسه، وإن تركه كان الشفيع مخيرًا بين أخذه بقيمته، وبين قلعه وضمان ما يصيبه من نقص للمشتري، وبين ترك الشفعة. • الراجح: أرى أن قول الجمهور أقوى من مذهب الحنفية، وهو يحفظ حق الشفيع وحق المشتري في آن واحد، والله أعلم.
المبحث الثاني إذا تغير المبيع بنقص
المبحث الثاني إذا تغير المبيع بنقص الفرع الأول إذا كان النقص بآفة سماوية [م - 1075] إذا حدث في المبيع نقص، وكان هذا النقص بفعل قاهر كتلف بعض المبيع بآفة سماوية، فقد اختلف العلماء في ذلك إلى أقوال هي: القول الأول: يلزم الشفيع بأخذ ما تبقى من العين بكل الثمن أو يترك الشفعة، من غير فرق بين أن يكون التلف في الأصل أو التابع، وهذا مذهب المالكية، واختاره أبو عبد الله بن حامد من الحنابلة (¬1). • وجه هذا القول: أن في إسقاط ما تلف من العين بآفة سماوية يلحق الضرر بالمشتري بما لا صنع له فيه، كما لو أخذ البعض مع بقاء البعض الآخر. ويناقش: بأن العين لم تكن أمانة في يده حتى لا يضمن ما تلف فيها، فإذا كان الضمان على المشتري كان عليه قيمة ما تلف في يده، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن ¬
القول الثاني
إلزام الشفيع بأن يأخذ بعض المبيع بجميع الثمن فيه إضرار بالشفيع أيضًا، والعدل أن يؤخذ المبيع بحصته من الثمن، فلا إضرار بالشفيع ولا إضرار بالمشتري. القول الثاني: للشفيع أن يأخذ الباقي بحصته من الثمن مطلقًا من غير فرق بين تلف الأصل أو التابع، وهذا مذهب الحنابلة (¬1). قال ابن قدامة: "إن أراد الشفيع بعد تلف بعضه أخذ الموجود بحصته من الثمن، سواء كان التلف بفعل الله تعالى، أو بفعل آدمي، وسواء تلف باختيار المشتري كنقضه للبناء، أو بغير اختياره ... هذا ظاهر كلام أحمد في رواية ابن القاسم" (¬2). • وجه هذا القول: أن المبيع لما تعذر أخذه كله بسبب التلف، وقدر الشفيع على أخذ بعضه بالحصة كان له ذلك، كما لو تلف بفعل آدمي، وكما لو كان هناك شفيع آخر. القول الثالث: قالوا: إن كان التلف يعود إلى تابع من غراس أو بناء فإن الشفيع يأخذ المشفوع فيه بجميع الثمن أو يترك، وأما إذا كان التلف يعود إلى الأصل، كما لو غرق نصف الأرض مثلاً، فإن الشفيع يأخذ الباقي بحصته من الثمن. وهذا مذهب الحنفية (¬3). ¬
وجه هذا القول
• وجه هذا القول: بأن التابع يدخل في المبيع من غير تسمية، فإذا هلك بآفة سماوية لم يكن له حصة من الثمن بخلاف التلف في غير التابع، ولهذا يجوز في هذه الصورة بيعه مرابحة بكل الثمن. وأما مذهب الشافعي، فله قولان في المسألة: أحدهما: يأخذه بجميع الثمن كمذهب المالكية، وهذا هو القول الجديد للشافعي. والثاني: يأخذه بحصته من الثمن كمذهب الحنابلة، وهو القول القديم للشافعي (¬1). واختلف أصحاب الشافعي في تفسير القولين: فمنهم من حكى في المسألة قولين مطلقًا، قال الشيرازي: وهو الصحيح. ومنهم من قال: يأخذ الباقي بحصتة من الثمن قولًا واحدًا، وغلط من حكى القول الآخر، وأنه لا يوجد نص من الشافعي في القول بأنه يأخذ المبيع بجميع الثمن. وهذا مذهب ابن سريج وأبي إسحاق المروزي. ¬
ومنهم من حمل كل قول على حال: فقال بعضهم: إن كانت العرصة باقية أخذ بالجميع؛ لأن العرصة هي الأصل، وهي باقية، فإن ذهب بعض العرصة أخذ بالحصة لأنه تلف بعض الأصل، فأخذ الباقي بالحصة، وحمل القولين على هذين الحالين كمذهب الحنفية، وقد تقدم (¬1). ومنهم من قال: إن حصل التلف، ولم يذهب من الأجزاء شيء أخذ بالجميع؛ لأن الذي يقابله بالثمن أجزاء العين، وهي باقية، فإن تلف بعض الأجزاء من الآجر والخشب أخذه بالحصة؛ لأنه تلف بعض ما يقابله الثمن، فأخذ الباقي بالحصة، وحمل القولين في المذهب على هذين الحالين. ومنهم من قال: إن كان التلف بآفة سماوية أخذه بحصته من الثمن، وإن كان الهدم بفعل آدمي أخذه بجميع الثمن لإمكان الرجوع على الهادم بأرش النقص. وهذا ملخص الأقوال في مذهب الشافعية (¬2). وبناء عليه فمذهب الشافعية لا يخرج عن الأقوال الثلاثة السابقة: فقيل: يأخذه الشفيع بجميع الثمن مطلقًا. وقيل: يأخذه بحصته من الثمن مطلقًا. أو التفريق بين أن يكون التلف في الأصل (الأرض) أو يكون التلف في التابع من بناء وغراس. ¬
الراجح
أو التفريق بين أن يكون التلف يذهب بجزء من العين، أو لا يذهب كما لو انشق الجدار، والجدار باق، هذا ملخص الأقوال. • الراجح: الذي أميل إليه هو القول بأن الشفيع يأخذ المبيع بحصته من الثمن، ولا يتحمل تلف ما حصل في يد غيره من غير فعله، والله أعلم.
الفرع الثاني إذا كان النقص بفعل آدمي
الفرع الثاني إذا كان النقص بفعل آدمي [م - 1076] إذا كان تلف بعض المبيع بفعل آدمي، فهل يأخذه الشفيع بحصته من الثمن، أو يأخذه بجميع الثمن؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يأخذ الشفيع ما تبقى بحصته من الثمن، وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة، واختاره بعض الشافعية (¬1). • وجه هذا القول: الوجه الأول: ما هدمه المشتري بيده ليس له الحق في أخذ قيمته لسببين: السبب الأول: أن البناء في نفسه منقول لا يستحق بالشفعة، وإنما كان ثبوت حقه فيه لاتصاله بالأرض، فإذا أزال ذلك لم يستحق قيمته. السبب الثاني: أن ما أتلفه في يده فهو من ضمانه، فإذا أراد الشفيع أخذ الباقي أخذه بحصته من الثمن. الوجه الثاني: أنه تعذر على الشفيع أخذ الجميع، وقدر على أخذ البعض، فكان له الأخذ بالحصة من الثمن. ¬
الوجه الثالث
الوجه الثالث: أنه متى كان النقص بفعل آدمي رجع بدله إلى المشتري فلا يتضرر بأخذه بحصته من الثمن. القول الثاني: يأخذ الشفيع ما تبقى بجميع الثمن أو يترك الشفعة بشرط أن يكون ما أتلفه المشتري من المبيع راجع لمصلحته (¬1). • وجه هذا القول: أن المشتري قد تصرف في ملكه بما يجوز له، فلم يكن عليه ضمان لسلامته من التعدي (¬2). • القول الراجح: أن الشفيع يأخذه بحصته من الثمن، فما فات من المبيع لا يلزم الشفيع أن يدفع ثمنه، والله أعلم. ¬
الفصل السابع إذا انتقل المبيع من يد المشتري
الفصل السابع إذا انتقل المبيع من يد المشتري المبحث الأول إذا انتقل بما تستحق به الشفعة كالبيع ونحوه [م - 1077] إذا باع المشتري المبيع، فإن كان تصرفه هذا بعد مطالبة الشفيع له بالشفعة، فإن تصرفه يعتبر باطلاً؛ لأنه يعتبر متعديًا على حق الغير. قال ابن مفلح: "وتصرف مشتر بعد طلب الشقص منه باطل مطلقًا، ويصح قبله" (¬1). وإن كان تصرف المشتري قبل مطالبة الشفيع بالشفعة، ففيه قولان: القول الأول: أن تصرفه يعتبر تصرفًا صحيحًا؛ لأنه تصرف في ملكه، فإذا طالب الشفيع بالشفعة كان له الخيار إن شاء أخذ بالبيع الأول الذي استحق بموجبه الشفعة، وإن شاء أمضى تصرف المشتري الأول، وأخذ بالشفعة من المشتري الثاني؛ لأن كل واحد من العقدين سبب تام لثبوت حق الأخذ له بالشفعة. وهذا قول عامة الفقهاء، وحكي إجماعًا (¬2). ¬
القول الثاني
قال ابن قدامة في المغني: "ولا نعلم في هذا خلافًا" (¬1). القول الثاني: تصرفه يعتبر باطلاً، وهو وجه في مذهب الحنابلة. قال ابن رجب: "لو باع المشتري الشقص المشفوع قبل المطالبة بالشفعة، ففيه وجهان: أحدهما: أن البيع باطل؛ لأن ملكه غير تام، وهو ظاهر كلام أبي بكر في التنبيه. الثاني: أن البيع صحيح، وهو قول الخرقي، والمشهور من المذهب؛ لأن أخذ الشفيع من المشتري الثاني ممكن، فإن اختار ذلك فعل، وإلا فسخ البيع الثاني، وأخذ من الأول لسبق حقه عليه" (¬2). • الراجح: أن تصرفه صحيح، والشفيع بالخيار إن شاء أخذه بالبيع الأول، وإن شاء أخذه بالبيع الثاني، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني إذا انتقل بما لا تستحق به الشفعة كالوقف
المبحث الثاني إذا انتقل بما لا تستحق به الشفعة كالوقف [م - 1078] إذا تصرف المشتري بالمبيع بما لا تستحق به الشفعة كالوقف والهبة بلا عوض، فهل يبطل بذلك حق الشفيع؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: للشفيع إبطال تصرف المشتري، والأخذ بالشفعة، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية (¬1). جاء في بدائع الصنائع: "ولو جعل المشتري الدار مسجدًا، أو مقبرة، فللشفيع أن يأخذها بالشفعة، وينقض ما صنع المشتري" (¬2). وجاء في مجمع الأنهر: "وله أن ينقض المسجد، وينبش الموتى" (¬3). ¬
وجه هذا القول
وقال الغزالي: "أما تصرفات المشتري بالوقف والهبة والوصية فكلها منقوضة" (¬1). • وجه هذا القول: أن للشفيع نقض تصرف المشتري؛ لأن حقه سابق على تصرف المشتري، وثابت بأصل العقد، فلا يتمكن المشتري من إبطاله، فيكون تصرف المشتري في ملك تعلق به حق للغير، فلا ينفذ. ولأن القاعدة تقول: إذا تزاحمت الحقوق أخذ بالأسبق، وحق الشفيع سابق على حق المشتري. القول الثاني: إذا أوقف المشتري أو وهب سقط حق الشفيع، وهذا هو المذهب عند الحنابلة. وفي وجه عند الشافعية: تصرفات المشتري تبطل حق الشفيع مطلقًا. وفي وجه آخر عندهم: لا ينقض الوقف، وينقض ما سواه (¬2). • وجه هذا القول: أن أخذ الشفيع بالشفعة بعد أن أوقفه المشتري، أو وهبه، أو تصدق به فيه إضرار بالموقوف عليه، والموهوب له، والمتصدق عليه. لأن ملكه يزول عنه بغير عوض؛ لأن الثمن إنما يأخذه المشتري، والضرر لا يزال بالضرر. ¬
ويناقش
ولأن المشتري إذا تصرف فيما اشتراه تصرفًا ينقل الملك على وجه لا تثبت فيه الشفعة ابتداء كالوقف والهبة والصدقة فإن الشفعة تسقط. ويناقش: بأن الثمن في الموهوب له، والمتصدق عليه يرجع إليهما لا إلى المشتري؛ لأن المشتري لما وهبه أو تصدق به، وهو يعلم أن فيه حق الشفعة للشفيع علم أنه قصد بذلك إعطاءه العين إن لم يأخذ بالشفعة، أو الثمن إن أخذ الشفيع بها، وكذلك يقال بالوقف، بأن يشترى بثمنه بدله. وأما الجواب عن القاعدة: بأن المشتري قد تصرف في المبيع تصرفًا لا تثبت فيه الشفعة ابتداء فسقطت الشفعة، هذه القاعدة تسلم لو كان حق الشفيع مستفادًا من تصرف المشتري، فيقال: إن كان تصرف المشتري يستفاد منه الشفعة ثبت حقه وإلا سقط، وأما إذا كان حق الشفيع مستفادًا من تصرف الشريك البائع كان حق الشفيع سابقًا لتصرف المشتري، ومستفادًا من غير جهته، فلا يبطلها تصرفه، والله أعلم. • الراجح: بعد استعراض الأدلة أجد أن قول الجمهور أقوى لقوة مأخذه، والله أعلم.
المبحث الثالث إذا انتقل المبيع من يد المشتري بالإقالة
المبحث الثالث إذا انتقل المبيع من يد المشتري بالإقالة [م - 1079] إذا باع الشريك شقصه على رجل، ثم تقايلا البيع، فإن كان ذلك بعد أن تنازل الشفيع عن شفعته، فلا شفعة بالإقالة؛ لأنه لما تنازل عن حقه سقط، والإقالة وحدها لا توجب الشفعة؛ لأنها فسخ للعقد، وليست بيعًا (¬1). وخالف في ذلك أبو حنيفة، فقال: يتجدد للشفيع الشفعة وإن كان قد عفا عنها؛ لأن الإقالة عنده فسخ في حق العاقدين، بيع جديد في حق شخص ثالث (¬2)، والشفيع شخص ثالث، فالإقالة بالنظر إليه بيع جديد، أي يعتبر البائع مشتريًا للعقار من المشتري بالنسبة للشفيع، فتثبت الشفعة للشفيع بالإقالة (¬3). وهذا قول في مذهب الشافعية، جاء في الشرح الكبير للرافعي: "فإن كان الشفيع قد عفا فتجدد الشفعة ينبني على أن الإقالة فسخ أم بيع. إن قلنا: بيع، تجدد وأخذه من البائع، وإن قلنا: فسخ لم يتجدد" (¬4). والصواب القول الأول؛ لأن الإقالة فسخ، وحق الشفيع قد تنازل عنه فلم يتجدد له ما يقضى له بالشفعة. ¬
القول الأول
[م - 1080] وإن كان الشفيع لم يتنازل عن الشفعة، فهل يسقط حق الشفيع بالإقالة؟ أو له أن يشفع باعتبار أن حقه ثبت بعقد البيع قبل الإقالة، فلا تسقطه الإقالة سواء فسرنا الإقالة بأنها فسخ، أو على أنها بيع مستأنف (¬1). اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: الإقالة لا تبطل حق الشفعة، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والصحيح من مذهب الحنابلة (¬2). وحكى ابن رشد الإجماع على أن الإقالة لا تبطل الشفعة (¬3)، وفيه نظر. وعلل الحنفية بأن الإقالة وإن كانت فسخًا في حق العاقدين فهي بيع في حق شخص ثالث، والشفيع شخص ثالث، فكان مقتضى هذا أن له الأخذ بأي بيع شاء. وهو أحد القولين في مذهب الشافعية. ¬
القول الثاني
جاء في فتح العزيز: "وإن جرت الإقالة قبل علم الشفيع، فإن جعلنا الإقالة بيعًا فالشفيع بالخيار بين أن يأخذ بها، وبين أن ينقضها حتى يعود الشقص إلى المشتري، فيأخذ منه. وإن جعلناها فسخًا فهو كطلب الشفعة بعد الرد بالعيب" (¬1). وعلل الجمهور بأن حق الشفيع سابق للإقالة، فليس للعاقدين التصرف في إبطال حق الشفيع، وقد يتهم العاقدان بمحاولة إبطال حق الشفيع بالإقالة. وهذا التعليل هو الصواب، والله أعلم. القول الثاني: الإقالة تبطل الشفعة، وهو رواية عن الإِمام أحمد، وقول زفر من الحنفية (¬2). لأن حقيقة الإقالة ترد العاقدين إلى الحال التي كانا عليها قبل العقد، فلا يقوم حق للشفيع. القول الثالث: إنْ استقاله قبل المطالبة بها لم تكن له شفعة. وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3). وجه هذا القول: لعله رأى أنه إذا لم يطالب بها لم يثبت حق الشفيع بالشفعة، فإذا تقايلا قبل المطالبة لم يكن حق الشفيع سابقًا لها، والله أعلم. ¬
الراجح
• الراجح: بعد استعراض الأدلة أجد أن القول بأن الإقالة لا تسقط حق الشفيع هو الأقوى، والله أعلم.
المبحث الرابع إذا رد المشتري المبيع بسبب العيب
المبحث الرابع إذا رد المشتري المبيع بسبب العيب [م - 1081] إذا اشترى الرجل شركًا في عقار، ثم أراد المشتري رد المبيع بسبب وجود عيب فيه، فهل للشفيع أن يأخذ المبيع، ويبطل الرد؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: إن رد المشتري المعيب بقضاء قاضٍ فلا شفعة للشفيع؛ لأنه فسخ من كل وجه، وإن رده بعد القبض بغير قضاء فللشفيع الشفعة. وهذا مذهب الحنفية (¬1). • وجه ذلك: أن الرد بالعيب إذا كان بغير قضاء وإنما بتراضيهما فإنه فسخ في حق العاقدين، بيع جديد في حق ثالث، لوجود حد البيع: وهو مبادلة المال بالمال بالتراضي، والشفيع ثالث، ومراده الرد بالعيب بعد القبض؛ لأن قبله فسخ من الأصل وإن كان بغير قضاء. القول الثاني: يحق للشفيع إبطال الرد، وأخذه بالشفعة مطلقًا، وهذا قول ابن القاسم من المالكية، وأظهر القولين عند الشافعية، والمذهب عند الحنابلة (¬2). ¬
• وجه القول بثبوت الشفعة
قال في الحاوي: "لو حضر الشفيع وقد رده المشتري بالعيب كان للشفيع إبطال رده، واسترجاع الشقص من بائعه؛ لأن الرد بالعيب قطع للعقد، وليس برافع للأصل، فلم يكن للمشتري إبطال حق الشفيع، كما لو باعه المشتري وأراد الشفيع إبطال بيعه كان له ليتوصل إلى شفعته" (¬1). • وجه القول بثبوت الشفعة: أن حق الشفيع ثبت بالعقد، وهو سابق على الرد بالعيب، فلا يبطله. القول الثالث: تسقط الشفعة مع الرد بالعيب، اختاره أشهب من المالكية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). • وجه القول بسقوط الشفعة: أن الرد بالعيب نقض للعقد من أصله، فيسقط حق الشفيع بالأخذ. • الراجح: أن الرد بالعيب لا يسقط حق الشفيع من الأخذ بالشفعة، والله أعلم. ¬
الباب الخامس في مسقطات الشفعة
الباب الخامس في مسقطات الشفعة الفصل الأول في تنازل الشفيع عن الشفعة المبحث الأول في تنازل الشفيع قبل البيع [م - 1082] إذا تنازل الشفيع عن الشفعة قبل البيع، فهل يسقط ذلك شفعته؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ليس ذلك مما يقطع شفعته، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). جاء في المبسوط: "ولو سلم الشفعة قبل الشراء كان ذلك باطلًا؛ لأن ¬
• وجه من قال بعدم سقوط الشفعة
وجوب حقه بالشراء، والإسقاط قبل وجود سبب الوجود يكون لغوًا كالإبراء عن الثمن قبل البيع" (¬1). وجاء في المدونة: "أرأيت إن قال رجل: يا فلان اشتر هذا النصف من هذه الدار، فقد سلمت لك شفعتي، وأشهد له بذلك، فاشتراها ثم طلب شفعته، وقد كان سلمها له قبل الاشتراء؟ قال: قال مالك: له أن يأخذ بالشفعة، وليس تسليمه -وإن أشهد على ذلك قبل الاشتراء- بشيء، وليس ذلك مما يقطع شفعته" (¬2). وقال ابن قدامة: "وإن أذن الشريك بالبيع، ثم طلب بالشفعة بعد وقوع البيع فله ذلك" (¬3). • وجه من قال بعدم سقوط الشفعة: أن إسقاط الشفعة قبل البيع هو من باب إسقاط الحق قبل وجوبه، وذلك لا يصح. القول الثاني: إذا تنازل الشفيع عن الشفعة قبل البيع سقطت شفعته، وهو قول إسحاق ابن راهويه، ورواية عن الإمام أحمد، وبه قال الحكم والثوري وأبو عبيد، وأبو خيثمة، وطائفة من أهل الحديث، ورجحه ابن تيمية وابن القيم (¬4). ¬
• دليل من قال: بصحة الإسقاط
• دليل من قال: بصحة الإسقاط: (ح-655) ما رواه مسلم من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به) مفهومه أنه إن باعه وقد آذنه فلا حق له. قال الزركشي: وهذا ظاهر (¬2). وأجيب: بأن الحديث محمول على الندب إلى إعلام الشريك، وكراهة بيعه قبل إعلامه كراهة تنزيه، وليس فيه تعرض لإسقاط الشفعة بعد العرض (¬3). وقد فهم ابن حزم من الحديث وجوب إعلام الشريك مع القدرة عليه (¬4). وقال ابن القيم في بدائع الفوائد: "حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - على الشريك البيع قبل استئذان شريكه" (¬5). وذهب جمهور العلماء على أن في الحديث قرينة على أن المراد بقوله: (لا ¬
يحل له أن يبيع) ليس معناه التحريم، إذ لو كان محرمًا لم يقل في آخر الحديث: فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به، ويكون معنى لا يحل له: أي يكره له، ويصدق على المكروه أنه ليس بحلال، ويكون الحلال: بمعنى: المباح: وهو مستوي الطرفين، والمكروه ليس بمستوي الطرفين، بل هو راجح الترك (¬1). واعترض الشوكاني على هذا التأويل بأن المكروه من أقسام الحلال كما تقرر في الأصول (¬2). قلت: ما تقرر في اصطلاح الأصول لا يلزم أن يكون مسلمًا في لغة الشرع، فالمكروه عند الأصوليين ليس هو المكروه عند السلف. وقال القرطبي في شرح مسلم: "هو محمول على الإرشاد إلى الأولى بدليل قوله: (فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به) ولو كان ذلك على التحريم لذم البائع، ولفسخ البيع، لكنه أجازه وصححه، ولم يذم الفاعل، فدل على ما قلناه، وقد قال بعض شيوخنا: إن ذلك يجب عليه" (¬3). ويمكن أن يقال: إن التحريم والصحة غير متلازمين لكن القرينة عندي في صرف النهي عن التحريم: كون النهي عن البيع قبل إعلام الشريك ليس لحق الله، وإنما هو لحق الشريك، وحق الشريك محفوظ سواء أخبره قبل البيع أو لم يخبره حتى باع، وما دام أن حقه قد حفظ لم يبلغ النهي التحريم، كما في النهي عن تلقي الجلب، وإذا تلقاه كان صاحبه بالخيار، والنهي عن تلقي الجلب للكراهة، وليس للتحريم، والله أعلم. ¬
الراجح من الخلاف
• الراجح من الخلاف: إسقاط ما لم يجب ولا جرى سبب وجوده، هل يعتبر إسقاطًا، أو مجرد وعد بالإسقاط لا يلزم منه الإسقاط مستقبلًا، ويجوز الرجوع فيه والعود إلى المطالبة بالحق. والوعد بالشيء إن كان على سبيل المعاوضة كالمواعدة على بيع شيء أو على شرائه لا يعتبر بيعًا، ولا يلزم الواعد قولًا واحدًا عند فقهائنا المتقدمين، وفيه خلاف حادث للمعاصرين حررته في بيع المرابحة للآمر بالشراء. وإن كان الوعد على سبيل التبرع كما هو في مسألتنا هذه ففيه خلاف بين الفقهاء المتقدمين، والجمهور على أن الوعد بالتبرع لا يلزم، وذهب المالكية في قول إلى لزومه إن كان هذا الوعد قد أدخل الموعود في كلفة ومشقة، وسبق تحرير هذه المسألة أيضًا في عقد المرابحة للآمر بالشراء فأغنى ذلك عن إعادة هذه المسألة هنا. وبناء على تخريج المسألة على مذهب المالكية قد يختلف الأمر بين أن يعد البائع بأنه لا يأخذ بالشفعة، وبين أن يعد الشفيع المشتري بذلك، فالبائع لم يدخل في أي كلفة بوعده بعدم الأخذ؛ لأن رغبته بالبيع ليست متوقفة على ترك الشفيع الشفعة، بخلاف المشتري فإنه ربما حمله وعد الشفيع بعدم الأخذ بالإقبال على الشراء، وهذا التخريج قد يعد مقبولًا لو لم يكن هناك قول صريح للمالكية في المسألة، وما دام لهم قول صريح فلا أرى حاجة إلى هذا التخريج، والله أعلم.
المبحث الثاني في تنازل الشفيع عن الشفعة بعد البيع
المبحث الثاني في تنازل الشفيع عن الشفعة بعد البيع الفرع الأول إسقاط الشفيع شفعته صراحة [م - 1083] إذا صرح الشفيع بإسقاط حقه سقطت شفعته، وهذا لا نزاع فيه. فالتنازل الصريح: نحو أن يقول الشفيع: أبطلت الشفعة، أو أسقطتها، أو أبرأتك عنها، أو نحو ذلك؛ لأن الشفعة خالص حقه، فيملك التصرف فيها استيفاء وإسقاطًا كالإبراء عن الدين، سواء علم الشفيع بالبيع أو لم يعلم بشرط أن يكون بعد البيع (¬1). قال ابن جزي: "وتسقط الشفعة إذا أسقطها بعد الشراء" (¬2). ¬
الفرع الثاني إسقاط الشفيع شفعته دلالة وضمنا
الفرع الثاني إسقاط الشفيع شفعته دلالة وضمنًا [م - 1084] إذا تصرف الشفيع بما يدل على رضاه بالبيع، وعدم الأخذ بالشفعة فهل تسقط شفعته؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: إذا تصرف بما يدل على رضاه بالبيع سقطت شفعته ضمنًا عند جماهير العلماء (¬1). قال السرخسي: "وإذا اشترى الرجل أرضًا، فاستأجرها الشفيع منه، أو أخذها مزارعة، أو كان فيها نخيل فأخذها معاملة بعد علمه بالشراء، أو ساوم بها، فقد بطلت شفعته؛ لأن إقدامه على هذه التصرفات دليل الرضا بتقرر ملك المشتري فيها، ودليل الرضا كصريح الرضا، والاستيام دليل إبطال حق الشفعة؛ لأنه طلب التملك منه بسبب يباشره باختياره ابتداء، وذلك يتضمن تقرره على مباشرة هذا السبب، فيكون إسقاطا للشفعة دلالة" (¬2). وقال الكاساني: "وأما بطلان الشفعة من طريق الدلالة فهو أن يوجد من الشفيع ما يدل على رضاه بالعقد، وحكمه للمشتري، وهو ثبوت الملك له؛ لأن حق الشفعة مما يبطل بصريح الرضا، فيبطل بدلالة الرضا أيضًا ... ". ¬
ثم ذكر أمثلة مما يدل على إسقاط الشفعة عن طريق الدلالة منها: "إذا ساوم الشفيع الدار من المشتري، أو سأله أن يوليه إياها، أو استأجرها الشفيع من المشتري، أو أخذها مزارعة، أو معاملة، وذلك كله بعد علمه بالشراء؛ لأن ذلك كله دليل الرضا، أما المساومة؛ فلأنها طلب تمليك بعقد جديد وأنه دليل الرضا بملك المتملك، وكذلك التولية؛ لأنها تملك بمثل الثمن الأول من غير زيادة ولا نقصان، وأنها دليل الرضا بملك المتملك. وأما الاستئجار والأخذ معاملة أو مزارعة؛ فلأنها تقرير لملك المشتري فكانت دليل الرضا بملكه" (¬1). وقال ابن جزي: "وتسقط الشفعة إذا أسقطها بعد الشراء ... وكذلك تسقط إذا ساوم المشتري في الشقص أو اكتراه منه، وسكت حتى أحدث فيه غرسًا أو بناه" (¬2). وجاء في شرح الخرشي: "الشفيع إذا طلب مقاسمة المشتري في الشقص فإن شفعته تسقط بذلك، وإن لم تحصل مقاسمة بالفعل، وسواء كانت المقاسمة في الذات أو في منفعة الأرض للحرث، أو الدار للسكنى، وأما قسمة الغلة فلا تسقطها عند ابن القاسم خلافا لأشهب، وكذلك تسقط الشفعة إذا اشترى الشفيع الشقص من المشتري؛ لأن شراءه دليل على إسقاط شفعته، وظاهره ولو جاهلا بحكم الشفعة، وهو كذلك؛ لأن المذهب أن الشفعة لا يعذر فيها بالجهل، وفائدة سقوط الشفعة بشراء الشقص مع أن الشفيع قد ملكه بالشراء تظهر فيما إذا كان الثمن المشترى به أكثر من ثمن الشفعة، وأيضًا الشراء قد يقع بغير جنس الثمن الأول، وكذلك تسقط الشفعة إذا ساوم الشفيع في الحصة المشتراة، وأما ¬
القول الثاني
لو أراد الشراء أو المساومة فإنه لا تسقط شفعته، وكذلك تسقط الشفعة إذا أخذ الشفيع الحصة التي له فيها الشفعة مساقاة، أي جعل نفسه مساقيا عند المشتري للحصة، ومثله إذا استأجر الشفيع الحصة من المشتري ومقتضى حمل المساقاة على هذا المعنى أن الشفيع لو دفع حصته للمشتري مساقاة أن شفعته لا تسقط، ولا فرق بين أن يستأجر بالفعل أو يدعو إليه" (¬1). القول الثاني: ذهب الشافعية في قول عندهم إلى أن الشفعة لا تسقط إلا بالصريح دون التعريض، وحجتهم في هذا أن الله فرق في خطبة النساء بين التعريض والتصريح، فحرم التصريح، وأباح التعريض فدل على وجود فرق بينهما (¬2). قال تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235]. وأما سكوته بعد علمه بالبيع فهل يعتبر تسليمًا للشفعة، وإسقاطًا لحقه؟ فيه خلاف، وهو راجع إلى مسألة سابقة سبق تحريرها، هل طلب الشفعة على الفور أو على التراخي؟ فمن قال: الشفعة على الفور اعتبر سكوته مسقطًا لشفعته، ومن قال: هي على التراخي لم يسقط الشفعة بالسكوت، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني التنازل عن الشفعة في مقابل عوض
الفصل الثاني التنازل عن الشفعة في مقابل عوض المبحث الأول في المعاوضة على حق الشفعة حقوق الآدميين تقبل من المعاوضة والبدل ما لا يقبلها حقوق الله تعالى (¬1). حق الشفعة حق آدمي محض يتعلق بالمال فيجوز إسقاطه بعوض (¬2). وهذا أصح من قول الحنفية: الحقوق لا تحتمل الإفراد بالبيع (¬3). [م - 1085] إذا صالح المشتري الشفيع على مال ليتنازل عن الشفعة، فهل يصح أخذ العوض عن حق الشفعة، أو لا يصح؟ وقبل الجواب على ذلك نقول: الحقوق تنقسم إلى قسمين: حق مالي: وهي الحقوق التي تقوم بالمال، وتقبل التنازل عنها، والانتقال من شخص إلى آخر، كحق القصاص، وحق المرور، وحق المسيل، وحق الشرب فهذه يجوز المعاوضة عليها. وحق غير مالي: لا يقوم بالمال كحق الولاية، وحق حرية التنقل، وحق الحضانة. ¬
القول الأول
وحق الشفعة متردد بين الحقين: فمنهم من اعتبره حقًا ماليًا يقبل المعاوضة اعتبارًا بأصله؛ لأنه تنازل عن مال، وقياسًا على المعاوضة على الخلع، والمعاوضة على حق رد السلعة المعيبة. قال ابن رشد: "فإن اتفقا -أي العاقدان- على أن يمسك المشتري سلعته، ويعطيه البائع قيمة العيب، فعامة فقهاء الأمصار يجيزون ذلك" (¬1). لأن خيار الرد بالعيب حق للمشتري، وهذا الحق له أن يستوفيه برد السلعة، وله أن يأخذ العوض على هذا المال بشرط أن يكون ذلك بالتراضي بين العاقدين، فإذا تراضيا على دفع عوض مقابل إسقاط هذا الحق جاز. وإذا جازت المعاوضة على خيار الرد جازت المعاوضة على خيار الترك. ومنهم من اعتبر حق الشفعة ليس حقًا ماليًا؛ لأن حق الشفعة غاية ما فيه أنه يعطي صاحبه حق التملك، وحق التملك ليس حقًا ماليًا حتى يعاوض عليه الإنسان، وإن كان يتعلق بالمال. ومثله لو طلب رجل من إنسان ترك الشراء في بيع المزايدة مقابل مقدار معين من المال، هل له أن يأخذ هذا؟ أو يعتبر هذا من أكل مال الناس بالباطل. إذا علم هذا فقد اختلف الفقهاء في الصلح عن حق الشفعة مقابل عوض مالي على قولين: القول الأول: لا يصح الصلح، ولا يثبت العوض، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة (¬2). ¬
• وجه القول ببطلان الصلح
جاء في الحاوي: "وإذا صالح الشفيع المشتري على ملك يأخذه منه عوضًا على ترك الشفعة لم يجز، وكان صلحًا باطلًا وعوضًا مردودًا كما لا يجوز أن يعاوض على ما قد استحقه من دين أو خيار مجلس، أو شرط ... " (¬1). • وجه القول ببطلان الصلح: أن ترك الشفعة ليس بمال، ولا يؤول مالًا بحال، فالاعتياض عنه بمال لا يجوز. القول الثاني: يجوز أخذ العوض في مقابل التنازل عن حق الشفعة، وهو مذهب المالكية، وبه قال أبو إسحاق المروزي من الشافعية، وخرج ابن رجب صحة المعاوضة على حق الشفعة على صحة المعاوضة على ترك وضع الخشب على جدار ونحوه، ورجحه شيخنا ابن عثيمين (¬2). جاء في المدونة: "قال مالك: إذا أسلم الشفعة بعد وجوب الصفقة بمال أخذه فذلك جائز" (¬3). ¬
الراجح
وقال ابن رجب: "وتجوز المعاوضة بعوض على إسقاط حقه من وضع الخشب على جدار ونحوه، ذكره في المجرد ... قال أحمد في رواية ابن منصور: الشفعة لا تباع ولا توهب، وحمل القاضي قوله: لا تباع على أن المشتري ليس له أن يصالح الشفيع عنها بعوض، قال: لأنه خيار لا يسقط إلى مال، فلم يجز أخذ العوض عنه كخيار الشرط والمجلس، بخلاف خيار القصاص والعيب؛ لأنه يسقط إلى الدية والأرش، والأظهر حمل قول أحمد: لا تباع ولا توهب على أن الشفيع ليس له نقلها إلى غيره بعوض ولا غيره، فأما مصالحته للمشتري فهو كالمصالحة على ترك وضع الخشب على جدار ونحوه" (¬1). • الراجح: القول بجواز المعاوضة على التنازل عن حق الشفعة؛ لأنه حق آدمي يتعلق بالمال، ولم يكن في المعاوضة عليه محذور شرعي فلم يمنع من أخذ العوض عليه، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني بقاء حق الشفعة بعد طلب العوض
المبحث الثاني بقاء حق الشفعة بعد طلب العوض [م - 1086] إذا طلب الشفيع عوضًا ماليًا مقابل التنازل عن الشفعة، فهل يسقط ذلك حقه من الشفعة عند القائلين بعدم صحة أخذ العوض على حق الشفعة؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: إذا طلب الشفيع عوضًا مقابل التنازل سقط حقه من الشفعة، وهذا مذهب الحنفية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). واشترط الشافعية في أحد الوجهين لسقوط الشفعة علمه ببطلان المعاوضة عليها، فإن كان لا يعلم لم يسقط حقه في الشفعة. قال الغزالي: "لو صالح الشفيع بطلت شفعته، ولم يثبت العوض إن كان عالمًا بالبطلان، فإن ظن الصحة فوجهان، والأولى ألا يبطل" (¬2). ¬
وجه هذا القول
وقال في مغني المحتاج: "لا يصح الصلح عن الشفعة بحال ... وتبطل شفعته إن علم بفسادها" (¬1). • وجه هذا القول: الوجه الأول: أن الإعراض عن الشفعة يسقطها سواء كان ذلك صراحة أو دلالة، فإذا طلب المعاوضة عليها فقد أعرض عن الأخذ بالشفعة دلالة، فسقطت. ونوقش هذا: بأن الترك مشروط بعوض، فلما بطل العوض بطل الترك. الوجه الثاني: أن الواجب على الشفيع أن يطالب بالشفعة فورًا من حين علمه بها، فإذا طلب المعاوضة عليها فاتت الفورية في طلب الشفعة، فسقطت. ويناقش: بأن الراجح أن الشفعة لا تجب على الفور، بل على التراخي. القول الثاني: لا تسقط الشفعة، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية، واختاره القاضي وابن عقيل من الحنابلة (¬2). جاء في الحاوي: "وإذا صالح الشفيع المشتري على ملك يأخذه منه عوضًا على ترك الشفعة لم يجز، وكان صلحًا باطلًا وعوضًا مردودًا ... ¬
الراجح
وفي بطلان شفعته بذلك وجهان: أحدهما: قد بطلت؛ لأنه تارك لها. والوجه الثاني: أنها لا تبطل؛ لأن الترك مشروط بعوض، فلما بطل العوض بطل الترك" (¬1). • الراجح: إذا كنت رجحت في المسألة السابقة جواز المعاوضة بمال على حق الشفعة باعتباره حقًا آدميًا محضًا متعلقًا بالمال فإذا جاز ذلك لم يسقط حق الشفيع بالشفعة بمجرد طلبه الصلح على إسقاطه، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث سقوط الشفعة بعجز الشفيع عن الثمن
الفصل الثالث سقوط الشفعة بعجز الشفيع عن الثمن [م - 1087] يشترط في الشفيع أن يكون قادرًا على دفع الثمن، فإن عجز عن الثمن أو عجز عن بعضه فلا شفعة له، ومثل العاجز الممتنع مع قدرته، والمماطل. فإن أخذ بالشفعة ولم يكن معه ثمن، فقد اختلف العلماء في سقوط الشفعة بذلك على قولين: القول الأول: ذهب جمهور العلماء بأن الشفيع إذا أخذ بالشفعة، ولم يكن معه ثمن أمهل إلى ثلاثة أيام، فإن أحضر الثمن خلالها وإلا فسخت شفعته، وهل يفتقر الفسخ إلى حكم حاكم على قولين. جاء في البحر الرائق: "الشفيع إذا طلب الشفعة، فقال المشتري: هات الدراهم، وخذ شفعتك، فإن أمكنه إحضار الدراهم في ثلاثة أيام، وإلا بطلت شفعته" (¬1). وجاء في مغني المحتاج: "وإذا ملك الشفيع الشقص بغير الطريق الأول، وهو تسليم العوض، لم يكن له أن يتسلم الشقص حتى يؤدي الثمن، وإن تسلمه ¬
القول الثاني
المشتري قبل أداء الثمن، ولا يلزم المشتري أن يؤخر حقه بتأخير البائع حقه، فإن غاب أمهل ثلاثة أيام، فإن مضت، ولم يحضر الثمن فسخ الحاكم التملك، وقيل: يبطل بلا فسخ" (¬1). وجاء في كشاف القناع: "وإن طلب الشفيع الإمهال لتحصيل الثمن أمهل يومين أو ثلاثة أيام؛ لأنها حد جمع القلة، فإذا مضت الأيام الثلاثة، ولم يحضره: أي يحضر الشفيع الثمن، فللمشتري الفسخ؛ لأنه تعذر عليه الوصول إلى الثمن، فملك الفسخ كبائع بثمن حال، من غير حاكم؛ لأن الأخذ بالشفعة لا يقف على حكم حاكم، فلا يقف فسخ الأخذ بها عليه" (¬2). قال ابن قدامة: "أن يكون الشفيع قادرًا على الثمن؛ لأن أخذ المبيع من غير دفع الثمن إضرار بالمشتري، وإن عرض رهنًا أو ضمينًا أو عوضًا عن الثمن لم يلزمه قبوله؛ لأن في تأخير الحق ضررًا، وإن أخذ بالشفعة لم يلزم تسليم الشقص حتى يتسلم الثمن، فإن تعذر تسليمه قال أحمد: يصبر يومًا أو يومين، أو بقدر ما يرى الحاكم، فأما أكثر فلا، فعلى هذا إن أحضر الثمن وإلا فسخ الحاكم الأخذ، ورده إلى المشتري" (¬3). القول الثاني: ذهب المالكية إلى تفصيل في المسألة، على النحو التالي: الحال الأولى: أن يقول الشفيع بلفظ المضارع: أنا آخذ، أو اسم الفاعل ولا يقول: قد أخذت. ¬
الحال الثانية
فالحكم في هذه الحالة: بأن يؤجل الشفيع لإحضار الثمن ثلاثة أيام، فإن أحضره، وإلا سقطت شفعته؛ لأن كلًا من المضارع، واسم الفاعل محتمل للوعد، وليس صريحًا في الأخذ. الحال الثانية: أن يقول الشفيع: أخذت بالشفعة بصيغة الماضي، فإن لم يكن عالمًا بالثمن فلا يلزمه الأخذ إذا عرفه، فله الرجوع عن الأخذ إذا عرف الثمن، وإن قال: أخذت بالشفعة، وهو عالم بالثمن فهنا المشتري له ثلاثة أحوال: إما أن يسلم له، أو يسكت، أو يمتنع. فإن قال المشتري: قد سلمت لك الشقص بعد أن قال الشفيع: أخذت بالشفعة فهنا قد انعقد البيع بينهما، فلا رجوع لأحدهما إلا برضاهما، فإن عجز عن الثمن بيع الشقص من مال الشفيع، إلا أن يشترط عليه إن أتاه بالثمن وإلا فلا شفعة، فيعمل بشرطه. وإن سكت المشتري بعد أن قال الشفيع أخذت بالشفعة فإنه يؤجله الحاكم باجتهاد ليأتي بالثمن فإن ذهب الأجل ولم يأت بالثمن خير المشتري في بيع الشقص، وفي إسقاط الشفعة. وإن قال المشتري: أخذت بالشفعة، وأبى المشتري فإن عجل له الشفيع الثمن أجبر على دفعه للشفيع، وإن لم يعجل له ذلك فإن الحاكم يبطل شفعته حيث أراد المشتري ذلك. هذا ملخص مذهب المالكية (¬1). وتفريق المالكية بين صيغة المضارع وبين صيغة الماضي تفريق جيد باعتبار أن ¬
المضارع وعد بالأخذ بخلاف صيغة الماضي إلا أن يكون هناك عرف من كون المضارع يعني الجزم بالأخذ فلا يصح التفريق. وأما تفريق المالكية بين أن يقول المشتري قد سلمت، أو يسكت أو يمتنع فلا أرى وجهًا لهذا التفريق؛ لأن الشفعة قائمة على الإيجاب فقط دون القبول، فلا يراعى قبول المشتري في حكم الشفعة؛ لأنها انتزاع لا يقوم على الرضا أصلًا، فإذا قال الشفيع: قد أخذت بالشفعة لزمته الشفعة إلا أن المبيع يحبس عند المشتري إلى حين أن يدفع الثمن، فإن لم يسلم الثمن فسخت الشفعة كما لو عجز عن دفع ثمن المبيع، ولا يقال: يباع المبيع من مال الشفيع هذا ما ترجح لي، والله أعلم.
الفصل الرابع سقوط الشفعة بموت الشفيع
الفصل الرابع سقوط الشفعة بموت الشفيع الشفعة من حقوق الملك فإذا انتقل الملك انتقل بحقوقه (¬1). وقال الزركشي: الضابط: أن ما كان تابعًا للملك يورث عنه كخيار المجلس، وسقوط الرد بالعيب، وحق الشفعة ... بخلاف ما يرجع للشهوة والإرادة ... لا يقوم الوارث مقامه في التعيين (¬2). [م - 1088] إذا مات المشتري لم يبطل حق الشفيع؛ وله أن يأخذ المبيع من وارثه؛ لأن حق الشفيع لم يكن مرتبًا على قبول المشتري في حياته، فلم يكن هناك فرق في الحكم بعد وفاته. [م - 1089] وإن مات الشفيع فقد اختلف الفقهاء في سقوط الشفعة بذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: تسقط الشفعة بموت الشفيع مطلقًا، سواء طالب بها قبل موته أو لم يطالب. وهذا مذهب الحنفية، وبه قال الثوري، وإسحاق (¬3). القول الثاني: لا تسقط الشفعة بموت الشفيع مطلقًا، وحق الشفعة ينتقل بعده للورثة، وهو ¬
القول الثالث
مذهب المالكية، والشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). القول الثالث: إن مات الشفيع قبل المطالبة سقطت، وإن مات بعد المطالبة لم يسقط حقه، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وبه قال ابن حزم (¬2). جاء في الإنصاف: "وإن مات الشفيع بطلت شفعته إلا أن يموت بعد طلبها، فتكون لوارثه" (¬3). والخلاف في هذه المسألة راجع إلى الخلاف فى مسأله أخرى: هل الأصل في الحقوق أن تورث، أو الأصل فيها أنها لا تورث؟ قال ابن رشد: "وعمدة المالكية والشافعية أن الأصل: هو أن تورث الحقوق والأموال إلا ما قام دليل على مفارقة الحق في هذا المعنى للمال. وعمدة الحنفية: أن الأصل: هو أن يورث المال دون الحقوق إلا ما قام دليله من إلحاق الحقوق بالأموال" (¬4). وأما الحنابلة فلهم مأخذان في التفريق بين المطالبة وعدمها: الأول: أن خيار الشفعة لا يثبت للشفيع حتى يطالب به، فإذا مات ولم يطالب به لم يثبت له، وإذا لم يثبت له لم يورث عنه، أما إذا اختار الشفعة قبل ¬
الراجح
موته فقد ثبت له الحق، فانتقل إلى وارثه بالموت؛ لأن الموت كان بعد ثبوت الحق له، يشبه في هذا من أوجب البيع ثم مات قبل قبول المشتري، فإن الإيجاب يبطل، وكذلك الشفعة تبطل إذا مات قبل أن يطالب بها. فإن علمت رغبته من غير مطالبته كفى ذلك في الإرث عنه، ذكره القاضي في خلافه. الثاني: أن حقه فيها قد سقط بتركه وإعراضه، لا سيما على القول بأنها على الفور، فعلى هذا لو كان غائبًا فلهم المطالبة، وليس لهم ذلك على الأول (¬1). • الراجح: أن الشفعة تثبت للشفيع بمجرد بيع الشريك ما لم يتنازل عنها، فصارت بذلك حقًا ثابتًا له، وهي متعلقة بالمال لا ببدنه، فتبقى لمن ورث المال بعده، ونظير ذلك خيار العيب، فإنه لو مات قبل أن يطالب به كان للوارث حق المطالبة؛ لأنه لما لم يسقط حقه انتقل حقه للوارث بعده، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس إذا باع الشفيع أو وهب قبل أن يقضي له بالشفعة
الفصل الخامس إذا باع الشفيع أو وهب قبل أن يقضي له بالشفعة المبحث الأول إذا باع أو وهب نصيبه كله الفرع الأول أن يكون الشفيع عالمًا بتصرف شريكه هل تسقط الشفعة فيما إذا باع الشفيع نصيبه كاملًا أو وهبه كله قبل أن يقضى له بالشفعة باعتبار أن سبب الشفعة قد ارتفع سواء قلنا: إن سبب الشفعة هو دفع ضرر الشركة، أو لدفع ضرر المقاسمة؟ أو يقال: الشفعة ثبتت له قبل البيع فثبت له حق المطالبة بها. وللجواب على ذلك نقول: إذا باع الشفيع نصيبه فإما أن يكون عالمًا ببيع شريكه أو لا يعلم. [م - 1090] فإن باع الشفيع، وهو عالم ببيع شريكه فقد اختلف العلماء في سقوط حق الشفيع على قولين: القول الأول: تسقط شفعته، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). ¬
وجه هذا القول
وقال في الإنصاف: "لا خلاف فيه أعلمه" (¬1). وجاء في حاشية الصاوي: "وظاهر المصنف أيضًا سقوط الشفعة ببيع حصته، ولو غير عالم ببيع شريكه، وهو ظاهر المدونة، وقيل: محل السقوط إذا باع عالمًا ببيع شريكه، فإن باع غير عالم ببيع شريكه فلا تسقط شفعته. قال بعضهم: وهو أظهر" (¬2). وفي الشرح الكبير للرافعي: "إذا باع الشفيع نصيب نفسه من العقار، أو وهب عالمًا بثبوت الشفعة له بطل حقه. أما إذا جعلنا الشفعة على الفور فظاهر، وأما إذا جعلناها على التراخي؛ فلأن الشفعة إنما ثبتت لدفع ضرر سوء المشاركة والمقاسمة، وإنما يلزمه ذلك من الشركة، فإذا باع نصيب نفسه فقد أزال سبب الشفعة" (¬3). قال ابن قدامة: "فإن باع الشفيع حصته عالمًا بالبيع بطلت شفعته؛ لأنها ثبتت لإزالة ضرر الشركة، وقد زال بيعه" (¬4). • وجه هذا القول: الوجه الأول: أن استحقاق الشفعة إما بالشركة وهذا بالاتفاق، أو بالجوار على قول، فإذا ¬
الوجه الثاني
باع الشريك أو الجار نصيبه فقد أزال سبب الشفعة. الوجه الثاني: أن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر سوء المشاركة أو المقاسمة، وقد انتفى كل ذلك بالبيع. الوجه الثالث: إذا باع الشريك نصيبه بعد أن علم ببيع شريكه، ولم يطالب بالشفعة، وقلنا: إن الشفعة تجب على الفور فإنها تسقط لوجود التراخي في طلب الشفعة. القول الثاني: لا يسقط حقه من الشفعة ولو كان عالمًا ببيع شريكه، وهو قول في مذهب المالكية (¬1)، وبه قال ابن حزم (¬2). قال في المحلى: "لو أن الشريك بعد بيع شريكه قبل أن يؤذنه باع أيضًا حصته من ذلك الشريك البائع، أو من المشتري منه، أو من أجنبي، علم بأن له الشفعة أو لم يعلم، علم بالبيع أو لم يعلم، فالشفعة له كما كانت؛ لأنه حق قد أوجبه الله تعالى له فلا يسقطه عنه بيع ماله، ولا غير ذلك أصلًا، وبالله تعالى التوفيق" (¬3). • الراجح من الخلاف: سبب الخلاف بين القولين يرجع إلى: هل المعتبر في الأخذ بالشفعة بوقت وجوبها، وهو وقت شراء المشتري، أو الاعتبار بوقت الأخذ دون وقت ¬
الوجوب، فإن قال: المعتبر وقت وجوب الشفعة، قال: له الشفعة، ولو باع نصيبه بعد ذلك؛ لأن الشفعة قد ثبتت له بشراء المشتري، فبيعه بعد ذلك لا يسقط ما وجب له من الشفعة. ومن قال: المعتبر وقت الأخذ، فإن بيعه لحصته التي يستحق بها الشفعة ترك لشفعته؛ لأن الشفعة إنما ثبتت لإزالة الضرر، فإذا باع حصته من الملك لم يبق ما يأخذ بالشفعة لنفي الضرر عنه، فكان بيعه لحصته يقتضي ترك الأخذ بالشفعة (¬1). وهذا ما أميل إليه، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني أن يكون الشفيع غير عالم بتصرف شريكه
الفرع الثاني أن يكون الشفيع غير عالم بتصرف شريكه [م - 1091] إذا باع الشفيع نصيبه كاملًا وكان جاهلًا ببيع شريكه، فهل يحق له الشفعة إذا علم؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: إذا باع الشفيع نصيبه كاملًا جاهلًا ببيع شريكه سقط حقه من الشفعة. وهذا مذهب الحنفية، وقول في مذهب المالكية، وأصح الوجهين عند الشافعية، واختاره القاضي أبو يعلى من الحنابلة (¬1). جاء في الهداية: "وإذا باع الشفيع ما يشفع به قبل أن يقضى له بالشفعة بطلت شفعته ... وإن لم يعلم بشراء المشفوعة" (¬2). وجاء في حاشية الصاوي: "وظاهر المصنف أيضًا سقوط الشفعة ببيع حصته، ولو غير عالم ببيع شريكه، وهو ظاهر المدونة" (¬3). جاء في الشرح الكبير للرافعي: "إذا باع نصيبه جاهلًا بالشفعة، قال أكثرهم: فيه وجهان، وقال صاحب الكتاب قولان ... أشبههما أنها تبطل ¬
القول الثاني
لزوال سبب الشفعة، ولهذا لو زال عيب المبيع قبل التمكن من الرد سقط حق الرد" (¬1). وقال ابن قدامة: "إن باع الشفيع ملكه قبل علمه بالبيع الأول، فقال القاضي: تسقط شفعته أيضًا لما ذكرناه؛ ولأنه زال السبب الذي يستحق به الشفعة، وهو الملك الذي يخاف الضرر بسببه، فصار كمن اشترى معيبًا فلم يعلم عيبه حتى زال" (¬2). القول الثاني: لا تسقط شفعته، وهو قول ثان في مذهب المالكية، وقول مرجوح في مذهب الشافعية، وبه قال أبو الخطاب من الحنابلة (¬3). جاء في حاشية الصاوي: "وقيل محل السقوط إذا باع عالمًا ببيع شريكه، فإن باع غير عالم ببيع شريكه فلا تسقط شفعته. قال بعضهم: وهو أظهر" (¬4). وقال ابن قدامة: "إن باع الشفيع ملكه قبل علمه بالبيع الأول فقال القاضي: تسقط شفعته ... وقال أبو الخطاب: لا تسقط شفعته؛ لأنها ثبتت له، ولم يوجد منه رضا بتركها، ولا ما يدل على إسقاطها، والأصل بقاؤها، فتبقى، وفارق ما إذا علم فإن بيعه دليل على رضاه بتركها" (¬5). ¬
الراجح
• الراجح: الخلاف في هذه المسألة كالخلاف في التي قبلها؛ وهو راجع إلى ما هو المعتبر في الأخذ بالشفعة، هل هو وقت وجوب الشفعة، أو وقت الأخذ بالشفعة، فعلى الأول لا تسقط إذا باع، سواء علم أو لم يعلم، وعلى الثاني: تسقط؛ لأن سبب الاستحقاق وقت الأخذ لم يكن قائمًا، والله أعلم.
المبحث الثاني إذا باع الشفيع أو وهب بعض نصيبه
المبحث الثاني إذا باع الشفيع أو وهب بعض نصيبه الشفعة تستحق بقليل الملك كما تستحق بكثيره. [م - 1092] إذا باع الشفيع بعض نصيبه قبل أن يقضى له بالشفعة، فهل هذا البيع يسقط حقه بالشفعة، أو يبقى حقه باعتباره ما زال شريكًا؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: إن باع أو وهب البعض لم يسقط حقه من الشفعة. وهذا مذهب الحنفية، وقول في مذهب المالكية، ووجه في مذهبي الشافعية والحنابلة (¬1). جاء في الإنصاف: "لو باع بعضة عالمًا ففي سقوط الشفعة وجهان: أحدهما: تسقط. والثاني: لا تسقط؛ لأنه قد بقي من ملكه ما يستحق به الشفعة في جميع المبيع لو انفرد، فكذلك إذا بقي" (¬2). ¬
وجه هذا القول
• وجه هذا القول: الوجه الأول: بأن ما بقي يصلح لاستحقاق الشفعة ابتداء، فأولى أن يصلح للبقاء؛ لأن البقاء أسهل من الابتداء. الوجه الثاني: أن الشفعة ثبتت للشريك بسبب الشركة، والشركة ما زالت قائمة. الوجه الثالث: أن الشفعة تستحق بقليل الملك كما تستحق بكثيره، وقد بقي من نصيب الشركة ما تستحق به الشفعة. القول الثاني: يسقط حقه في الشفعة، وهو قول ثان في مذهب المالكية، وأظهر الوجهين في مذهب الشافعية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬1). قال النووي: "ولو باع بعضه بطلت على الأظهر" (¬2). • وجه هذا القول: أن الشفعة استحقت بجميع المبيع، فإذا باع بعضه سقط ما تعلق بذلك من استحقاق الشفعة فيسقط باقيها؛ لأنها لا تتبعض، فيسقط جميعها بسقوط بعضها كالنكاح والرق، وكما لو عفى عن بعضها. ¬
الراجح
• الراجح: الراجح بقاء الشفعة ما بقيت الشركة بصرف النظر عن مقدار نصيب الشريك؛ فالشركة سبب في الشفعة، وليس للاستحقاق نصاب معين إذا نقص سقطت الشفعة، والله أعلم.
الفصل السادس إسقاط الشفعة بالتحايل على إسقاطها
الفصل السادس إسقاط الشفعة بالتحايل على إسقاطها قال ابن حجر: "الحيل: جمع حيلة، وهي ما يتوصل به إلى مقصود خفي، وهي عند العلماء على أقسام: فإن توصل بها بطريق مباح إلى إبطال حق، أو إثبات باطل، فهي حرام، أو إلى إثبات حق، أو دفع باطل فهي واجبة أو مستحبة، وإن توصل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع في مكروه، فهي مستحبة أو مباحة، أو إلى ترك مندوب، فهي مكروهة" (¬1). [م - 1093] والتحايل لإسقاط الشفعة، إن كان بعد ثبوت البيع فهو حرام بالاتفاق؛ لأنه إبطال لحق واجب فلا يجوز التحايل لإسقاطه، وممن حكى الإجماع الزيلعي والكاساني من الحنفية، وابن تيمية من الحنابلة. قال في تبيين الحقائق: "لاختلاف بينهما -يعني بين أبي يوسف وبين محمَّد في حكم الحيلة- قبل الوجوب، وأما بعده فمكروه بالإجماع" (¬2). وقال ابن تيمية: "الاحتيال على إسقاط الشفعة بعد وجوبها لا يجوز بالاتفاق، وإنما اختلف الناس في الاحتيال عليها قبل وجوبها، وبعد انعقاد السبب" (¬3). [م - 1094] وأما التحايل لدفع ثبوت الشفعة ابتداء، فاختلف فيه الفقهاء على ثلاثة أقوال: ¬
القول الأول
القول الأول: يجوز التحايل لإسقاط الشفعة قبل ثبوتها، وبه قال أبو يوسف من الحنفية، واختاره من الشافعية أبو بكر الصيرفي والبندنيجي (¬1). جاء في الهداية: "ولا تكره الحيلة في إسقاط الشفعة عند أبي يوسف، وتكره عند محمَّد - رحمه الله -؛ لأن الشفعة إنما وجبت لدفع الضرر، ولو أبحنا الحيلة ما دفعناه. ولأبي يوسف أنه منع من إثبات الحق فلا يعد ضررًا" (¬2). • وجه هذا القول: إذا تحايل الشفيع لإسقاط الشفعة قبل وجوبها جاز ذلك لأنه إنما فعل ذلك لدفع الضرر عن نفسه، والحيلة لدفع الضرر عن نفسه جائزة، وإن كان غيره قد يتضرر منه، وإن كان التحايل بعد وجوب الشفعة حرم ذلك؛ لأن الإنسان لا يجوز له أن يدفع الضرر عن نفسه بإلحاق الضرر بغيره. القول الثاني: دفع الشفعة بالحيلة مكروه، وهذا هو اختيار محمَّد بن الحسن من الحنفية، والأصح في مذهب الشافعية (¬3). ¬
• وجه القول بالكراهة
• وجه القول بالكراهة: لم يحرم التحايل؛ لأن التحايل كان قبل وجوب الشفعة ومن أجل أن يدفع الشفيع الضرر عن نفسه، وتكره لأن الشفيع يتضرر بذلك. القول الثالث: لا يحل الاحتيال لإسقاط الشفعة، وإن فعل لم تسقط، اختاره بعض الشافعية، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). قال في الإنصاف: "ولا يحل الاحتيال لإسقاطها بلا نزاع في المذهب" (¬2). وأما المالكية فلم يتوجهوا في بحث التحايل لإسقاط الشفعة بدليل أن القرافي في الذخيرة عندما تعرض لهذه المسألة عرض فيها الخلاف بين أبي يوسف ومحمد بن الحسن، ولو كانت المسألة مسطورة عند أصحابه لنقلها عنهم، والله أعلم (¬3). • دليل من قال: بتحريم الحيل: الدليل الأول: (ح-656) ما رواه مسلم من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، قإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به (¬4). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الشريك حتى يعرض على شريكه ليأخذ أو يدع مع أن حق الشفيع ثابت ولو باع بدون أن يؤذنه، فأولى أن ينهى عما يسقط حقه بالكلية. الدليل الثاني: قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} إلى قوله سبحانه: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 20]. وجه الاستدلال: أن هؤلاء لما قصدوا من وقت الصرام الاحتيال على حق المساكين عاقبهم الله لإهلاك مالهم، فكذلك الشفيع إذا قصد في فعله إبطال الشفعة حرم ذلك عليه. الدليل الثالث: (ح-657) ما رواه البخاري من طريق ثمامة، أن أنسًا - رضي الله عنه - حدثه، أن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب له التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن جمع المتفرق، أو تفريق المجتمع لإسقاط الزكاة أو تقليلها من غير فرق بين أن يكون ذلك بعد وجوب الزكاة، أو قبل وجوبها، فدل على تحريم التحايل لإسقاط ما قد يجب. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (ح-658) ما رواه البخاري ومسلم من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ (¬1). وجه الاستدلال: لما كان الكلأ المباح لا يجوز منع الناس منه، وربما كان حول الكلأ ماء في أرض مملوكة، فإن منع صاحب الماء الناس سقي بهائمهم لحاجته إلى الماء لم يحرم ذلك عليه، وإن منعهم فضل الماء ليتوصل إلى منعهم من الكلأ المباح حرم ذلك عليه، وهذا الحديث دليل على منع الحيل. الدليل الخامس: أن الشفعة شرعت لدفع الضرر، فلو شرع التحايل لإبطالها لكان عودًا على مقصود الشريعة بالإبطال، وللحق الضرر الذي قصد إبطاله (¬2). • الراجح: أن الباعث على الفعل إذا لم يكن مشروعًا كان الفعل نفسه غير مشروع، وقد تكلمنا على اعتبار القصد في العقود، حول بيع العنب لمن يعصره خمرًا، وبيع السلاح في زمن الفتنة، وأن القصد يجب أن يكون مباحًا ليصح العقد، فإذا قصد منع الشفيع من الشفعة كان القصد غير مباح، فحرم الفعل. والله أعلم. ¬
عقد الحوالة
عقد الحوالة * التمهيد المبحث الأول: تعريف الحوالة تعريف الحوالة اصطلاحًا (¬1): تعريف الحنفية: عرفها الحنفية بأنها نقل الدين من ذمة إلى ذمة. واختلف الحنفية في توصيف هذا النقل: فقيل: نقل للدين والمطالبة جميعًا، فهي توجب براءة المحيل، وهذا قول أبي يوسف، وهو المعتمد في المذهب. وقيل: إنها نقل المطالبة فقط، وأما أصل الدين فباق في ذمة المحيل، وهذا قول محمَّد بن الحسن (¬2). ¬
تعريف المالكية
ويظهر الخلاف بين القولين في صحة إبراء المحال للمحيل بعد الحوالة، فأبو يوسف يرى أنه باطل بناء على أن الحوالة قد نقلت الدين، وصحيح عند محمَّد بناء على أن الحوالة نقلت المطالبة بالدين (¬1). تعريف المالكية: عرفها الدردير بقوله: "نقل الدين من ذمة بمثله إلى أخرى تبرأ بها الأولى" (¬2). تعريف الشافعية: جاء في مغني المحتاج: "عقد يقتضي نقل دين من ذمة إلى ذمة" (¬3). تعريف الحوالة عند الحنابلة: قال ابن قدامة: هي نقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه (¬4). وقيل: نقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه (¬5). فمن خلال التعريفات السابقة نلحظ ما يلي: الأول: أن أكثر التعريفات تجعل الحوالة هي في نقل الدين. وأحسن منه من قال: الحوالة نقل الحق؛ لأن الحق أعم من الدين، فيدخل فيه الدين ويدخل ¬
غيره من وديعة، ومال مغصوب على القول بصحة الحوالة على العين، وسيأتي تحرير الخلاف في الحوالة على الأعيان إن شاء الله تعالى. الثاني: لا يختلف الفقهاء بأن الحوالة قد نقلت الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وهذا يعني براءة المحيل، ولم يخالف في ذلك إلا زفر والقاسم ابن معن حيث جعلا الحوالة كالضمان، لا توجب براءة المحيل، والحق في ذمته بعد الحوالة على ما كان عليه قبل كالكفالة سواء (¬1). ويرى محمَّد بن الحسن أن الحوالة لا تنقل الدين، وإنما تنقل المطالبة به، وأما أصل الدين فهو باق على المحيل، وقد تقدم. والحق قول الجمهور؛ لأن الحوالة مشتقة من التحويل، وهو النقل، فكان معنى الانتقال لازمًا فيها، والحق إذا انتقل لم يبق في المحل الذي انتقل منه. ولا بد في عقد الحوالة من أطراف، هي: المحيل: هو المدين. والمحال: هو الدائن. والمحال عليه: هو الذي قبل الحوالة. واختار الجمهور وجود المحال به. وهو مبلغ الدين. ¬
المبحث الثاني: أقسام الحوالة
المبحث الثاني: أقسام الحوالة يدخل في تعريف الحوالة بيان أقسامها، ويمكن تقسيم الحوالة باعتبارات كثيرة، وأكثر من توجه إلى تقسيم الحوالة هم الحنفية. القسم الأول: تقسيم الحوالة باعتبار التقييد والإطلاق. انفرد الحنفية إلى تقسيم الحوالة إلى مطلقة ومقيدة. يقول الكاساني: "الحوالة نوعان: مطلقة، ومقيدة، فالمطلقة: أن يحيل بالدين على فلان، ولا يقيده بالدين الذي عليه. والمقيدة أن يقيده بذلك" (¬1). والمطلقة عند الحنفية لها صورتان: الصورة الأولى: أن يكون المحال عليه ليس مدينًا للمحيل. [م - 1095] وهذه الصورة وقع في جوازها خلاف بين الفقهاء على قولين: القول الأول: تصح الحوالة، وإن كان المحال عليه ليس مدينًا للمحيل، وهذا مذهب الحنفية، واختاره ابن الماجشون من المالكية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يشترط في صحة الحوالة، أن يكون المحال عليه مدينًا للمحيل، وهذا مذهب المالكية، والأصح في مذهب الشافعية، وهو مذهب الحنابلة (¬1). وسيأتي إن شاء الله تعالى تحرير الخلاف في هذه الصورة في مبحث مستقل، وإنما الكلام هنا عن أقسام الحوالة. الصورة الثانية: يدخل في الحوالة المطلقة: أن يكون المحال عليه عنده دين أو عين للمحيل، ولكن الحوالة لم تقيد بما عنده، بل أرسل المحيل الحوالة، ولم يطلب من المحال عليه أن يؤديها من الدين أو من العين التي عنده للمحيل، فهذه تعتبر عند الحنفية حوالة مطلقة. فإن قيد الحوالة بما عند المحال عليه من عين أو دين، فهي حوالة مقيدة. جاء في الفتاوى الهندية: "وهي نوعان: مطلقة، ومقيدة. فالمطلقة منها: أن يرسل الحوالة، ولا يقيدها بشيء مما عنده من وديعة أو غصب أو دين أو يحيله على رجل ليس له عليه شيء مما ذكرنا" (¬2). ¬
والمقيدة عند الحنفية لها صورتان
والمقيدة عند الحنفية لها صورتان: الصورة الأولى: أن يحيله على الدين الذي في ذمة المحال عليه. الصورة الثانية: أن يحيله على العين التي في يد المحال عليه. وتنقسم الحوالة على العين إلى قسمين: الحوالة المقيدة بعين هي أمانة، كالوديعة، والعارية. مثاله: أن يقول شخص لآخر: أحلت زيدًا عليك بالألف التي له علي على أن تؤديها إليه من الدراهم التي أودعتكها. الحوالة المقيدة بعين هي مضمونة كالمغصوب وبدل الخلع ونحوها، وهي التي تضمن بمثلها إن كانت مثلية، أو بقيمتها إن كانت قيمية. مثاله: أن يقول شخص لآخر: أحلت زيدًا عليك بالألف التي له عليَّ على أن تؤديها من الدراهم التي اغتصبتها. قال في الفتاوى الهندية: "والمقيدة على نوعين: أحدها أن يقيد المحيل الحوالة بالدين الذي له على المحتال عليه، والثاني: أن يقيد الحوالة بالعين التي له في يد المحتال عليه بالغصب أو الوديعة" (¬1). وقال ابن عابدين: "اعلم أن الحوالة نوعان: مطلقة، ومقيدة. فالمقيدة: أن يقيدها بدين له عليه أو وديعة أو عين في يده وديعة أو غصب أو نحوه. ¬
القول الأول
والمطلقة: أن يرسلها، ولا يقيدها بواحد مما ذكر، سواء كان له دين على المحال عليه أو عنده عين له أو لا، بأن قبلها متبرعًا، والكل جائز؛ لأنه في المقيدة وكيل بالدفع، وفي المطلقة متبرع" (¬1). [م - 1096] ولم يختلف الفقهاء في جواز الحوالة على الدين. واختلفوا في جواز الحوالة على العين من أمانة، كالوديعة، ومال المضاربة، ومال الشركة، وتركة الميت، ونحوها على قولين: القول الأول: تصح، وتكون حوالة. وهذا مذهب الحنفية (¬2). القول الثاني: إذا لم تكن الحوالة على دين، وإنما كانت على عين فإن العقد يصح، ويكون العقد وكالة بقبض العين ممن هي عنده، وليس حوالة، وهذا مذهب الجمهور (¬3). وسيأتي إن شاء الله تعالى تحرير الخلاف في مبحث مستقل، وإنما الكلام هنا عن أقسام الحوالة. القسم الثاني: تقسيم الحوالة بالنسبة للحلول والتأجيل. قسم الحنفية الحوالة المطلقة إلى قسمين: حالة ومؤجلة. جاء في الفتاوى الهندية: "ثم المطلقة على نوعين: حالة ومؤجلة" (¬4). [م - 1097] وقد أجاز الفقهاء أن يكون دين المحال عليه مؤجلًا. ¬
القول الأول
[م - 1098] واختلفوا في جواز أن يكون دين المحال مؤجلًا على قولين: القول الأول: يشترط حلول دين المحال (¬1). والقول الثاني: يشترط اتفاق الدينين حلولًا وأجلًا، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، وبه قال ابن حزم (¬2). وسوف يأتينا إن شاء الله ذكر حجة كل فريق في مبحث خاص، وإنما أشرنا إلى هذا في معرض الكلام على أقسام الحوالة. القسم الثالث: تقسيم الحوالة باعتبار اللزوم وعدمه: ذكر ابن نجيم في البحر الرائق نقلًا من الخلاصة والبزازية: "أنها على ثلاثة أوجه: لازمة، وجائزة، وفاسدة. فاللازمة: أن يحيل الطالب على رجل، ويقبل الحوالة، سواء كانت مقيدة، أو مطلقة. والجائزة: أن يقيدها بأن يعطي المحال عليه الحوالة من ثمن دار نفسه، أو ثمن عبده، فلا يجبر المحال عليه على البيع، وهو بمنزلة ما لو قبل الحوالة على أن يسدد عند الحصاد، فإنه لا يجبر على أداء المال قبل الأجل. والفاسدة: أن يقيد بإعطائه من ثمن دار المحيل، أو ثمن عبده؛ لأنها حوالة ¬
بما لا يقدر على الوفاء به، وهو بيع الدار، والعبد، فإن الحوالة بهذا الشرط لا تكون توكيلا ببيع دار المحيل" (¬1). ¬
الباب الأول في حكم الحوالة
الباب الأول في حكم الحوالة الفصل الأول في الأدلة على مشروعية الحوالة [م - 1099] الحوالة من المعاملات الثابتة بالسنة، والإجماع، والقياس. (ح-659) أما السنة فما رواه الشيخان من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مطل الغني ظلم، فإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع (¬1). وجه الاستدلال: أن الأمر بالاتباع دليل الجواز، ولولا ذلك لما أمر به. وأما الإجماع، فقد نقل الإجماع طائفة من أهل العلم: قال ابن الملقن في التوضيح شرح الجامع الصحيح: "وهي مجمع عليها" (¬2). وجاء في التاج والإكليل: "لم يختلف في جواز الحوالة" (¬3). وقال الماوردي: "الأصل في جواز الحوالة السنة والإجماع" (¬4). ¬
وأما دليل الحوالة من القياس
وقال النووي: "أصلها مجمع عليه" (¬1). وقال ابن قدامة: "أجمع أهل العلم على جواز الحوالة في الجملة" (¬2). وحكى الإجماع ابن مفلح في المبدع، والبهوتي في شرح منتهى الإرادات (¬3). وأما دليل الحوالة من القياس: قياس الحوالة على الكفالة (الضمان) بجامع أن كلًا منهما فيه التزام عن الغير (¬4). ¬
الفصل الثاني في الحكم التكليفي للحوالة
الفصل الثاني في الحكم التكليفي للحوالة (ح-660) الأصل في الحوالة ما رواه الشيخان من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مطل الغني ظلم، فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع (¬1). فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإتباع إذا أحيل على مليء، واختلف العلماء هل الأمر للوجوب، أو للندب، أو للإباحة؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: الأمر للإباحة، وهو مذهب الحنفية، واختاره بعض المالكية، وبعض الشافعية (¬2). قال الشلبي في حاشية تبيين الحقائق: "أكثر أهل العلم على أن الأمر المذكور أمر استحباب، وعن أحمد للوجوب، والحق الظاهر أنه أمر إباحة" (¬3). وقال القاضي عياض: "معظم شيوخنا حملوا قوله (فليتبع) على الندب. وقد ذهب بعضهم إلى أنه على الإباحة" (¬4). ¬
• وجه القول بالإباحة
وقال الماوردي: "أما الخبر فمحمول على الإباحة؛ لأنه وارد بعد حظر، وهو نهيه عن بيع الدين بالدين" (¬1). • وجه القول بالإباحة: الأصل في المعاوضات الإباحة، فكذلك نقل الحق من ذمة إلى ذمة أخرى مباح مثله، فإذا أمر الشارع بأمر مباح كان ذلك دليلًا على الجواز، وليس على الاستحباب. ولأن المحال عليه وإن كان مليئًا فإما أن تعلم حاله في المطالبة أو لا تعلم. فإن جهلت حاله كان الأمر بالاتباع أمر إباحة؛ لأنه قد يكون مليئًا ولكنه مماطل يعسر معه أخذ الحق منه، ومثل هذا لا يأمر الشارع باتباعه، فلما جهل حاله كان الأمر للإباحة. وإن علم حاله، فإن كان لدودًا في الخصومة لم يأمر الشارع باتباعه؛ لأن مثل هذا تكثير للخصومة وليس قطعًا لها. وإن علم منه حسن القضاء استحب اتباعه، ولما كان هذا التفصيل لا يمكن إضافته إلى النص كان الأمر المطلق في الحديث محمولًا على الجواز، والله أعلم. قال ابن الهمام: "والحق الظاهر أنه أمر إباحة، وهو دليل جواز نقل الدين شرعًا أو المطالبة به، فإن بعض الأملياء عنده من اللدد في الخصومة والتعسير ما تكثر به الخصومة والمضارة، فإن علم حاله هذا لا يطلب الشارع اتباعه بل عدمه لما فيه من تكثير الخصومات والظلم، وأما من علم منه الملاءة وحسن ¬
ويناقش
القضاء فلا شك في أن اتباعه مستحب لما فيه من التخفيف على المديون والتيسير عليه، ومن لا يعلم حاله فمباح، لكن لا يمكن إضافة هذا التفصيل إلى النص؛ لأنه جمع بين معنيين مجازيين للفظ الأمر في إطلاق واحد، فإن جعل للأقرب أضمر معه القيد، وإلا فهو دليل الجواز؛ للإجماع على جوازها دفعًا للحاجة" (¬1). ويناقش: بأن اشتراط القبول بأن يكون المحال عليه مليئًا، وهذا الشرط يستوعب كل هذه التفاصيل التي أشار إليها ابن الهمام. فقد فسر الإمام أحمد المليء: هو من كان مليئًا بماله وقوله وبدنه (¬2). فكونه مليئًا بماله: أخرج بذلك المعسر، فإن كان المحال عليه معسرًا لم يكن مأمورًا بالإتباع. وكونه مليئًا بقوله: أخرج الكذاب والمماطل، فإذا كان المحال عليه لدودًا في الخصومة، عسرًا في القضاء لم يؤمر بالإتباع. وكونه مليئًا ببدنه بحيث يمكن إحضاره عند المحاكمة إلى مجلس الحكم، فإن كان لا يمكن إحضاره للمحاكمة شرعًا كالأب، أو لا يمكن عادة كالسلطان لم يكن مأمورًا بالإتباع، فتبين أن تفصيل الحنفية يمكن إضافته للنص، فبقي الأمر فيها ليس على الإباحة؛ لأن المباح على التخيير وليس مأمورًا به، ويبقى دائرًا بين الوجوب والاستحباب، والله أعلم. ¬
القول الثاني
القول الثاني: الأمر في الحديث للاستحباب. وهذا مذهب المالكية، والشافعية، ورواية عن الإِمام أحمد. ونسبه ابن عبد البر لأكثر الفقهاء، وقال ابن حجر والعيني: هو قول الجمهور (¬1). قال ابن الملقن: "مذهب الشافعي وغيره أنه إذا أحيل على مليء استحب له قبول الحوالة، وحملوا الحديث على الندب؛ لأنه من باب التيسير على المعسر" (¬2). وأجاب الجمهور بأن الصارف له عن الوجوب إلى الندب: أولًا: أنه راجع إلى مصلحة دنيوية لما فيه من "الإحسان إلى المحيل بتحصيل مقصوده من تحويل الحق عنه، وترك تكليفه التحصيل، والإحسان مستحب. قال القرطبي: "وهذا الأمر عند الجمهور محمول على الندب؛ لأنه من باب المعروف والتيسير على المعسر" (¬3). ثانيًا: أن الأمر فيه معنى المعاوضة، من مبادلة دين بدين، وإذا كان أصل المعاوضة ليس واجبًا فكذلك ما في معناها. قال الأنصاري: "الأمر فيها للندب، وصرفه عن الوجوب: القياس على سائر المعاوضات" (¬4). ¬
القول الثالث
وقال القاضي عياض: "ولأن أحدًا لا يجبر على بيع سلعته، وهذا مَلَكَ ثمنه في هذه الذمة، فلا يجبر على بيعه بذمة أخرى" (¬1). وقال القرطبي: "ملك الذمم كملك الأموال، وقد أجمعت الأمة على أن الإنسان لا يجبر على المعاوضة بشيء من ملكه بملك غيره، فكذلك الذمم" (¬2). وقال الماوردي: إذا كان "نقله إلى العين لا يلزم إلا بالتراضي فنقله إلى الذمة أولى ألا يلزم إلا بالتراضي؛ لأنه بنقله إلى عين أخرى قد وصل إلى حقه، وبنقله إلى ذمة أخرى لم يصل إلى حقه" (¬3). ثالثًا: أن الحوالة مستثناة من منهي عنه، وهو بيع الدين بالدين، والأمر بعد النهي يكون للإباحة والندب على المرجح في الأصول (¬4). وسوف يأتي إن شاء الله تعالى بحث مستقل في توصيف الحوالة من الناحية الفقهية، ونناقش فيه: هل عقد الحوالة عقد إرفاق أو بيع دين بدين، أو استيفاء للحق في المبحث التالي، فانظره مشكورًا. القول الثالث: الأمر في الحديث للوجوب، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو مذهب الظاهرية، وبه قال أبو ثور (¬5). ¬
واستدلوا على ذلك
واستدلوا على ذلك: الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فليتبع) هذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة. فترك الأمر خشية المشقة، وبقي الاستحباب. ويناقش: نسلم أن الأصل في الأمر الوجوب، وقد قال الأصوليون بأن الأمر يصرف عن الوجوب إلى الاستحباب لأدنى صارف، وقد ذكرنا ثلاثة صوارف للأمر عن الوجوب إلى الاستحباب. الدليل الثاني: أن للمحيل أن يوفي الحق الذي عليه بنفسه أو بوكيله، وقد أقام المحال عليه مقام نفسه في التقبيض، فلزم المحال القبول. ويناقش: بأن المحال عليه ليس وكيلًا نائبًا عن المحيل، بل سيتحول المحال عليه إلى أصيل في الدين والمطالبة، ويبرأ المحيل بمجرد الحوالة، وهذا ليس شأن الوكالة. • الراجح: القول بأن الأمر للاستحباب، والله أعلم.
المبحث الثالث التوصيف الفقهي لعقد الحوالة
المبحث (*) الثالث: التوصيف الفقهي لعقد الحوالة قال القرافي: الحوالة تحويل الحق، وليس بتبديل ... لأن تبديل الدين بالدين لا يجوز، ولأن اسم الحوالة من التحويل، لا من التبديل (¬1). [م - 1100] اختلف الفقهاء في توصيف عقد الحوالة إلى ثلاثة أقوال: منهم من يرى أنها من قبيل البيع، ومنهم من يرى أنها عقد إرفاق ومعونة، ومنهم من يرى أنها استيفاء. وإليك بيان الأقوال منسوبة إلى أصحابها. القول الأول: أن الحوالة عقد إرفاق ومعونة. وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة. أما الحنفية فهم يرون صحة الحوالة ولو كان المحال عليه ليس مدينًا للمحيل، وبهذا يعلم أن الحوالة عند الحنفية ليست معاوضة؛ إذ لو كانت بيعًا لم تصح على من لا دين عليه لعدم الاعتياض (¬2). بل صرح ابن الهمام في فتح القدير بأن الحوالة لا يقصد منها المعاوضة، فهي كالقرض (¬3). ¬
وجاء في العناية شرح الهداية: "البيع معاوضة من كل وجه، والوصي يملكها إذا لم يكن فيها غبن فاحش، فأما الحوالة فليست كذلك لجوازها بالمسلم فيه، وبرأس مال السلم، ولو كانت معاوضة من كل وجه كان استبدالًا بالمسلم فيه، وبرأس المال، وهو لا يصح" (¬1). وأما المالكية فهم وإن صرح بعضهم بأن الحوالة من باب بيع الدين بالدين إلا أن هذا لا يعني أن الحوالة عندهم خرجت عن الإرفاق والإحسان. فابن رشد الذي يقول في بداية المجتهد: "الحوالة معاملة صحيحة مستثناة من الدين بالدين" (¬2). يقول في الكتاب نفسه: "وللحوالة عند مالك ثلاثة شروط: ... الثاني: أن يكون الدين الذي يحيله به مثل الذي يحيله عليه في القدر، والصفة؛ لأنه إذا اختلفا في أحدهما كان بيعًا، ولم يكن حوالة فخرج من باب الرخصة إلى باب البيع، وإذا خرج إلى باب البيع دخله الدين بالدين" (¬3). فقوله: (كان بيعًا ولم يكن حوالة) صريح في التفريق بين البيع والحوالة. وجاء في البهجة شرح التحفة: "قال عياض: الأمر فيها للندب عند أكثر شيوخنا، وحملها بعضهم على الإباحة لما أشبهت بيع الدين بالدين" (¬4). فقوله: لما أشبهت دليل على أنها تشبه الشيء وليست هي الشيء نفسه. وقال فيها أيضًا: "وهي عند شيوخنا مستثناة من الدين بالدين ... كما خصت ¬
الشركة والتولية والإقالة من بيع الطعام قبل قبضه ... لما كان سبيل هذه التخصيصات المعروف" (¬1). فهذا النص دليل على أن المالكية اعتبروها من باب بيع الدين بالدين في الصورة، وليس في الحقيقة، كما يقال عن عقد القرض إرفاق في الابتداء معاوضة في الانتهاء وإن كان هذا في الصورة فقط، وهذا ما اقتضاه نص البهجة لأمرين: الأول: أنه جعل حكمها حكم التولية والإقالة في بيع الطعام قبل قبضه. وقد ذهب مالك وربيعة، وطاووس (¬2)، إلى أن عقد التولية من عقود الإرفاق، ويقصد بها المعروف كالإقالة، ولهذا ذهب الإِمام مالك إلى جواز بيع الطعام تولية قبل قبضه، مع أن المالكية يشددون في المنع من بيع الطعام قبل قبضه (¬3). واستدل المالكية على جواز بيع الطعام تولية قبل قبضه بأثر، ونظر (ح-661) أما الأثر، ما رواه أبو داود في مراسيله، قال: حدثنا محمَّد بن إبراهيم البزار، حدثنا منصور بن سلمة، حدثنا سليمان ابن بلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن. قال سعيد بن المسيب في حديث يرفعه كأنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس بالتولية ¬
في الطعام قبل أن يستوفى، ولا بأس بالإقالة في الطعام قبل أن يستوفى، ولا بأس بالشركة في الطعام قبل أن يستوفى (¬1). [مرسل] (¬2). وأما النظر، فقد قال ابن رشد في بداية المجتهد: "إن هذه إنما يراد بها الرفق، لا المغابنة" (¬3). وإذا كان يراد بها الرفق خرجت عن البيع، وإذا كانت الحوالة مقيسة على التولية والإقالة كانت الحوالة يراد بها الرفق كذلك. الثانية: أنه نص على أن سبيل الحوالة والتولية والإقالة المعروف، ومعلوم أن البيع ليس سبيله المعروف، وإنما يقوم على المكاسبة. جاء في التاج والإكليل: "وهي في الحقيقة بيع دين بدين، فاستثنيت منه؛ لأنها معروف". فإذا كانت خرجت من بيع الدين بالدين؛ لأنها معروف فهي خرجت لمعنى، وهو كون العقد يراد به المعروف، والمعاوضة ليست من المعروف. وكل ما قال المالكية بأن العقد يراد به المعروف فإنه لا يعتبر بيعًا عندهم. يقول الباجي: "مقتضى البيع المغابنة، والمكايسة" (¬4). ¬
وقال ابن رشد في بداية المجتهد: "العقود تنقسم أولًا إلى قسمين: قسم يكون بمعاوضة. وقسم يكون بغير معاوضة كالهبات والصدقات. والذي يكون بمعاوضة ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: يختص بقصد المغابنة والمكايسة، وهي البيوع، والإجارات، والمهور، والصلح، والمال المضمون بالتعدي وغيره. والقسم الثاني: لا يختص بقصد المغابنة، وإنما يكون على جهة الرفق وهو القرض. والقسم الثالث: فهو ما يصح أن يقع على الوجهين جميعًا. أعني على قصد المغابنة وعلى قصد الرفق كالشركة، والإقالة والتولية ... وأما العقود التي تتردد بين قصد الرفق والمغابنة، وهي التولية والشركة والإقالة. فإذا وقعت على وجه الرفق من غير أن تكون الإقالة، أو التولية بزيادة، أو نقصان، فلا خلاف أعلمه في المذهب أن ذلك جائز (يعني التولية والشركة) قبل القبض وبعده ... فعمدة من اشترط القبض في جميع المعاوضات أنها في معنى البيع المنهي عنه، وإنما استثنى مالك من ذلك التولية والإقالة والشركة للأثر والمعنى، ثم ساق أثر سعيد بن المسيب المتقدم ذكره في باب التولية. وأما من طريق المعنى، فإن هذه إنما يراد بها الرفق لا المغابنة، إذا لم تدخلها زيادة أو نقصان" (¬1). ¬
فقول ابن رشد: "أحدها يختص بقصد المغابنة والمكايسة، وهي البيوع" دليل على أن البيع لا يقصد به الإرفاق والمعروف بخلاف الحوالة. وأجاز المالكية الزيادة اليسيرة في مبادلة الدرهم والدنانير بمثلها إذا كان ذلك عن طريق العدد، فإذا عمل به على العدد جوز يسير الوزن زيادة على سبيل المعروف ما لم يكن في ذلك وجه من المكايسة والمغابنة، فيمنع منه (¬1). فظهر بذلك أن المالكية لا يرون أن عقد الحوالة بيع حقيقة، وإن كانت الحوالة في الصورة مبادلة دين بدين. وإذا تحرر هذا من مذهب المالكية فإن القول بأن عقد الحوالة من عقود الإرفاق هو أحد الوجهين في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة. جاء في أسنى المطالب: "الحوالة ليست على حقيقة المعاوضات، وإنما هي معاوضة إرفاق جوزت للحاجة، فاعتبر فيها الإرفاق كما في القرض" (¬2). وجاء في الحاوي: "اختلف أصحابنا هل هي بيع، أو عقد إرفاق ومعونة؟ على وجهين: ... والوجه الثاني: أنها عقد معونة وإرفاق؛ لأنها تخرج من البيوع بما يتعلق بها من الأحكام" (¬3). وقال ابن قدامة: "والصحيح أنها عقد إرفاق منفرد بنفسه، ليس بمحمول على غيره؛ لأنها لو كانت بيعًا لما جازت، لكونها بيع دين بدين، ولما جاز التفرق ¬
• دليل من قال: الحوالة عقد إرفاق
قبل القبض؛ لأنه بيع مال الربا بجنسة، ولجازت بلفظ البيع، ولجازت بين جنسين كالبيع كله" (¬1). وجاء في شرح منتهى الإرادات: "وهي عقد إرفاق منفرد بنفسه، ليس محمولًا على غيره" (¬2). • دليل من قال: الحوالة عقد إرفاق: الدليل الأول: أن الحوالة لا خيار فيها، ولو كانت بيعًا لدخلها خيار المجلس. ويناقش: بأن القائلين بأنها بيع لا يمنعون من دخول خيار المجلس؛ لأن خيار المجلس موضوع لاستدراك الغبن في عقود المعاوضات. الدليل الثاني: لا تصح الحوالة بلفظ البيع، ولو كانت الحوالة بيعًا لصحت بلفظه. ونوقش هذا: بأن هذه المسألة فيها خلاف، وسيأتي تحرير الخلاف فيها إن شاء الله تعالى. الدليل الثالث: نص المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5) على اشتراط تساوي الدينين ¬
القول الثاني
قدرًا وصفة، وعقد البيع لا يشترط فيه ذلك، فيجوز الاعتياض عن الدين بجنسه وبغير جنسه كما جاء في حديث ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير (¬1)، إلا أنه في حال كانت المعاوضة من جنس الدين وكان المال ربويًا اشترط فيه شرطان، هما التماثل والتقابض، وفي حال اختلف الجنس لا يشترط التماثل، فيجوز التفاضل ويشترط التقابض، ولا يصح أن يربح فيه، بل يجب أن يأخذه بسعر يومه حتى لا يربح فيما لم يضمن، فلما اشترط في الحوالة تساوي الدينين جنسًا، وقدرًا وصفة كان ذلك من أجل ألا تكون الحوالة معاوضة. وهذا من أقوى الأدلة. القول الثاني: الحوالة من قبيل البيع، وبه قال بعض المالكية كما سبق في القول الأول، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية، وبعض الحنابلة (¬2). ثم اختلفوا في توصيف هذا البيع، فقيل: بيع دين بدين وهذا أصحها. وقيل: بيع عين بعين. وقيل: عين بدين، وقيل غير ذلك. قال ابن الملقن: "والأصح عندنا أنها بيع دين بدين استثني للحاجة" (¬3). قال في الحاوي: "اختلف أصحابنا هل هي بيع أو عقد إرفاق ومعونة؟ على وجهين: ¬
• وجه القول بأن الحوالة بيع
أحدهما: وهو ظاهر نص الشافعي في كتاب السلم أن الحوالة بيع؛ لأن المحتال قد عاوض على ذمة بذمة" (¬1). وقال السيوطي: "في حقيقتها عشرة أوجه أصحها بيع دين بدين جوز للحاجة" (¬2). وجاء في حاشية قليوبي وعميرة: "فهي بيع دين بدين في الأصح جوزها الشارع للحاجة" (¬3). • وجه القول بأن الحوالة بيع: حقيقة الحوالة: هي تحول من دين إلى دين، فهي من باب بيع الدين بالدين، لأن كل واحد منهما ملك بها ما لم يملكه من قبل، فكأن المحيل باع المحتال ماله في ذمة المحال عليه بما للمحتال في ذمته، فهي مبادلة مال بمال على سبيل التمليك، وهذا هو حقيقة البيع. وأجيب على هذا: قول الشافعية بأنه بيع دين بدين لا يناقض عندهم أنها عقد إرفاق ومعروف، فهي عندهم بمنزلة القرض، صورتها مبادلة مال بمال، فهي معاوضة، والقصد منها الإرفاق والإحسان، فلم تطبق عليها أحكام المعاوضات من وجوب التقابض بين المالين الربويين. جاء في البيان للعمراني: "ولا تصح الحوالة إلا إذا كان الحقان من نوع لجنس واحد لما ذكرناه في الجنس، فإن كان له على رجل ألف درهم صحاح، ¬
الوجه الثاني
فأحاله بها على من له عليه ألف درهم مكسرة، أو كان بالعكس من ذلك لم تصح الحوالة؛ لأن الحوالة في الحقيقة بيع دين بدين، وبيع الدراهم بالدراهم صرف من شرطه القبض في المجلس إلا أنه جوز تأخير القبض في الحوالة؛ لأنه عقد إرفاق ومعروف، فإذا دخل فيه الفضل سار بيعًا وتجارة، وبيع الدين بالدين لا يجوز، ألا ترى أن القرض في الحقيقة صرف؛ لأنه يعطي درهما بدرهم، وكنا جوزنا تأخير القبض فيه؛ لأنه إرفاق" (¬1). فأنت ترى في هذا النص أنه مع جزم العمراني بأن حقيقة الحوالة بيع دين بدين، فهو يجزم أيضًا بأنها عقد إرفاق ومعروف، وشبه عقد الحوالة بعقد القرض. وبهذا نفهم أن القول بأنها بيع دين بدين مأخوذ من المبادلة الحاصلة وانتقال الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، ولا يعني هذا أن المبادلة في الحوالة تأخذ حكم البيع المطلق، فلا يحق لهما في عقد الحوالة تغيير جنس الدين أو نوعه، أو مقداره أو صفته بخلاف بيع الدين إذا قصد به البيع المطلق طبق عليه أحكام البيوع، وليس أحكام الإرفاق والمعروف، والله أعلم. ويقول العمراني أيضًا: "اختلف أصحابنا في الحوالة هل هي بيع، أو رفق؟ على وجهين: ... الوجه الثاني: منهم من قال: إن الحوالة بيع، إلا أن البيع ضربان، ضرب بلفظ البيع، فيدخله الربح والفضل والمغابنة، وضرب منه بغير لفظه، فيكون القصد منه الرفق، فلا يدخله الفضل والمغابنة؛ ولأنها تقتضي التمليك كالبيع؛ لأن المحيل يملك المحتال ما له في ذمة المحال عليه إلا أنهما اختلفا في الاسم ليعرف به المطلوب من كل واحد منهما. ¬
القول الثالث
فإذا قلنا: إنها رفق لم يدخلها خيار المجلس كالقرض. وإذا قلنا: إنها بيع دخلها خيار المجلس كالصرف، وأما خيار الثلاث -يعني خيار الشرط- فلا يدخلها بالإجماع" (¬1). فانظر كيف اعتبر العمراني بأنها بيع قصد منه الإرفاق، فإذا كان هذا هو القصد منه فقد خرجت عن حكم البيع، والله أعلم. القول الثالث: الحوالة من باب استيفاء الحق، وليست بيعًا. وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم. قال ابن تيمية: "الحوالة من جنس إيفاء الحق، لا من جنس البيع، فإن صاحب الحق إذا استوفى من المدين ماله كان هذا استيفاء، فإذا أحاله على غيره كان قد استوفى ذلك الدين عن الدين الذي له في ذمة المحيل، ولهذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحوالة في معرض الوفاء، فقال في الحديث الصحيح: مطل الغني ظلم، وإذا اتبع أحدكم على ملئ فليتبع. فأمر المدين بالوفاء، ونهاه عن المطل، وبين أنه ظالم إذا مطل، وأمر الغريم بقبول الوفاء إذا أحيل على مليء" (¬2). وقولنا: الحوالة بمعنى الاستيفاء، المراد أن المحال بقبوله الحوالة، يكون قد استوفى دينه من المحيل حكمًا، بدليل أن المحيل تبرأ ذمته من الدين بمجرد الحوالة، بحيث لا يرجع عليه المحال بحال، ولهذا اعتبر الفقهاء الحوالة بمنزلة القبض وإلا فالحوالة بمجردها لا يحصل بها استيفاء من المحال عليه حقيقة، والله أعلم. ¬
ونوقش هذا
ونوقش هذا: لو كانت الحوالة استيفاء لوجبت على المحال بدون رضاه، ولما توقفت على الإيجاب والقبول، وهذا كالمطروح عند جماهير العلماء. ورد هذا: بأن القائلين بأنها استيفاء كالحنابلة لا يرون رضا المحال شرطًا في الحوالة إذا كان على مليء، فالحوالة لا تفتقر إلى قبول من المحال عندهم، والله أعلم. • القول الراجح: ثمرة الخلاف بين القول بأنها بيع أو أنها عقد إرفاق أو استيفاء: على القول بأنها بيع يدخل فيها خيار المجلس ويصح اشتراط الرهن والضمان فيها، ولا تصح الحوالة إلا إذا كان المحال عليه مدينًا للمحيل. وعلى القول بأنها عقد إرفاق أو استيفاء لا يدخلها شيء من ذلك (¬1). والذي أميل إليه أن عقد الحوالة ليست من عقود البيع؛ لأن لفظ الحوالة يشعر بالتحول، ولا يشعر بالبيع، ولا يقصد منه الربح والتكسب، بل يقصد منها التيسير على المدين بنقله من ذمته إلى ذمة أخرى، وعمدة القائلين بأنها بيع بأن فيها مبادلة مال بمال يقصد منه التملك، وهذا لا يكفي فالقرض فيه مبادلة مال بمال ويقصد فيه التملك، وليس بيعًا، ولا يجوز فيه التكسب بالإجماع، فالحوالة تشبه البيع، وليست بيعًا، وتشبه الوكالة، وليست وكالة، وتشبه الكفالة (الضمان) وليست ضمانًا، فأرى أنها عقد مستقل بنفسه له أحكام متنوعة، يختلف عما سواه من العقود، وأقرب الأقوال أنها عقد إرفاق وإحسان، والله أعلم. ¬
الباب الثاني في أركان الحوالة
الباب الثاني في أركان الحوالة أركان الحوالة هي أركان العقد، والخلاف في أركان الحوالة كالخلاف في أركان العقد: [م - 1101] فالعلماء متفقون على اعتبار الصيغة من أركان الحوالة. [م - 1102] واختلفوا في غير الصيغة. فذهب الحنفية إلى اعتبار الصيغة وحدها ركنًا فقط (¬1). وزاد الجمهور على الصيغة أطراف الحوالة، من محيل، ومحال، ومحال عليه. وكذا الدين: المحال به، والدين المحال عليه (¬2). جاء في الشرح الصغير: "وأركانها خمسة: محيل: وهو من عليه الدين. ومحال: وهو من له الدين. ومحال عليه: وهو من عليه دين مماثل للمدين الأول. ومحل به: وهو الدين الممثل. ¬
وسبب الاختلاف
وصيغة تدل على التحول والانتقال، ولو بإشارة أو كتابة" (¬1). وسبب الاختلاف: أن الحنفية يرون أن الركن: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءًا داخلًا في حقيقته، وهذا خاص في الإيجاب والقبول، أما العاقدان والمعقود عليه فهي من لوازم العقد، وليست جزءًا من حقيقة العقد، وإن كان يتوقف عليها وجوده. بينما الجمهور يرون أن الركن: ما توقف عليه وجود الشيء وتصوره عقلًا، سواء أكان جزءًا من حقيقته أم لم يكن، ووجود العقد يتوقف على العاقدين والمعقود عليه، وإن لم يكن هؤلاء جزءًا من حقيقته. ومذهب الحنفية أجود، وأدق، والجمهور لا يطردون في تحديد الأركان، فاللوازم تارة يعتبرونها من الأركان، وتارة لا يدخلونها، فهم يجعلون الفاعل ركنًا في مثل عقد البيع والنكاح، ولا يجعلونه ركنًا في العبادات كالصلاة والحج، وإن كان لا يتصور قيام الحج والصلاة بدون فاعل. قال في المصباح المنير: "والفرق عسر ... " (¬2). ¬
الباب الثالث في شروط الحوالة
الباب الثالث في شروط الحوالة الشرط الأول في شروط الصيغة (الإيجاب والقبول) ذكرت في الباب الثالث من عقد البيع أحكام الصيغة (الإيجاب والقبول). وأحكام الإيجاب والقبول في عقد المبيع لا تختلف عن أحكام الإيجاب والقبول في سائر العقود اللازمة. وقد تعرضت فيها لشروط الإيجاب والقبول، ولرجوع الموجب، وهل يشترط تقدم الإيجاب على القبول؟ وهي مبطلات الإيجاب. كما تعرضت لأحكام الصيغة في جملة من الأحكام كالخلاف في تحديد الإيجاب والقبول. وانقسام الإيجاب والقبول إلى صريح وكناية، وإلى صيغة قولية، وفعلية. وتكلمت عن الصيغة القولية للإيجاب والقبول في صيغه المختلفة كصيغة الماضي، والمضارع، والأمر، والجملة الاسمية، وفي القبول بكلمة (نعم). وتكلمت عن الصيغة الفعلية كالإيجاب والقبول بالمعاطاة، والخلاف الفقهي في اعتبارها، وفي الإيجاب والقبول عن طريق الإشارة والكتابة، وعن صيغ الإيجاب والقبول بوسائل الاتصال الحديثة، وفي صدور الإيجاب والقبول من طرف واحد، وفي الإيجاب والقبول الصوري كبيع التلجئة، والهازل في البيع. وبينت مواضع الاتفاق ومواضع الخلاف في كل هذه المسائل، مع بيان
الراجح فيها، وما بينته في عقد البيع يجري على عقد الحوالة، ويغني عن تكراره هنا، والحمد لله وحده. وما بقي من المباحث الخاصة المتعلقة بصيغة الحوالة نبحثه في المباحث التالية إن شاء الله تعالى.
المبحث الأول في اشتراط القبول في عقد الحوالة
المبحث الأول في اشتراط القبول في عقد الحوالة [م - 1103] اختلف الفقهاء في اعتبار القبول شرطًا في انعقاد الحوالة على قولين: القول الأول: ذهب الحنابلة بأن الحوالة تنعقد بمجرد إيجاب المحيل إذا كانت على مليء، ولا تحتاج إلى قبول؛ لأنهم لا يرون رضا المحال، ولا رضا المحال عليه. جاء في مجلة الأحكام الشرعية: "تنعقد الحوالة بمجرد إيجاب المحيل، ولا تحتاج إلى قبول أو رضي من المحتال، ولا المحال عليه" (¬1). وسيأتي إن شاء الله ذكر دليلهم في مبحث مستقل بعنوان حكم قبول الحوالة، فانظره هناك مشكورًا. القول الثاني: ذهب الجمهور إلى أن الحوالة لا تنعقد إلا بإيجاب وقبول. [م - 1104] واختلف القائلون باشتراط القبول لانعقاد الحوالة، من المعتبر قبوله؟ على قولين: القول الأول: يرى الحنفية بأن الحوالة الناجزة تنعقد بإيجاب وقبول صادرين من أطراف الحوالة: المحيل، والمحال، والمحال عليه (¬2). ¬
الصورة الأولى
وقد يجري الإيجاب والقبول بين اثنين من أطرافها الثلاثة إلا أنها في غالب صورها لا تنعقد ناجزة، وهذه صورها: الصورة الأولى: أن يجري الإيجاب والقبول بين المحيل والمحال بغيبة المحال عليه. حكمها: تنعقد موقوفة على إجازته، فإن قبلها صحت، وإلا بطلت. جاء في درر الحكام في شرح مجلة الأحكام: "الحوالة التي أجريت بين المحيل والمحال له للمحال عليه، إذا قبل المحال عليه تكون صحيحة، وتامة، وإن لم يقبل تكون باطلة" (¬1). الصورة الثانية: أن يجري الإيجاب والقبول بين المحال والمحال عليه بغيبة المحيل. حكمها: تنعقد ناجزة، ولا تتوقف على رضا المحيل خلافًا للقدوري من الحنفية. جاء في الجوهرة النيرة: "وأما المحيل فالحوالة تصح بدون رضاه؛ لأن التزام الدين من المحال عليه تصرف في حق نفسه، وهو لا يتضرر به، بل فيه منفعة؛ لأنه لا يرجع عليه إذا لم يكن بأمره" (¬2). وجاء في الفتاوى الهندية: "فأما رضا من عليه الدين وأمره فليس بشرط لصحة الحوالة" (¬3). ¬
الصورة الثالثة
وقد عقدت مبحثًا خاصًا في مناقشة اشتراط رضا المحيل، فانظره مشكورًا. الصورة الثالثة: أن يجري الإيجاب والقبول بين المحيل والمحال عليه بغيبة المحال. حكمها: اختلف الحنفية في حكمها: فقيل: تنعقد موقوفة على إجازة المحال، فاتحاد المجلس ليس شرطًا في انعقادها، بل هو شرط في نفاذها، وهذا قول أبي يوسف. وقيل: لا تنعقد أصلًا، وهو قول أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن؛ لأن قبول المحال في المجلس شرط انعقاد عندهما. وهو المصحح في المذهب. جاء في البحر الرائق: "لو كان المحتال غائبًا عن المجلس، فبلغه الخبر، فأجاز، لم ينعقد عندهما، خلافًا له -يعني أبا يوسف- والصحيح قولهما" (¬1). وسيأتي الكلام على اشتراط المجلس، وبيان دليله إن شاء الله تعالى. القول الثاني: ذهب المالكية، والشافعية، وبعض الحنابلة إلى أن الحوالة لا تنعقد إلا بإيجاب وقبول بين المحيل والمحال فقط دون المحال عليه، وإن اشترط المالكية حضور المحال عليه، وإقراره بالدين إلا أنهم لا يشترطون رضاه. وسيأتي ذكر أدلتهم حين الكلام على شرط الرضا، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. • الراجح: الصحيح أن القبول شرط لانعقاد الحوالة، فمذهب الحنابلة بأنها تنعقد بإيجاب وحده قول مرجوح كما بينت ذلك في حكم قبول الحوالة. ¬
ويبقى الترجيح بين مذهب الحنفية من جهة القائلين باشتراط القبول من أطراف الحوالة الثلاثة: المحيل، والمحال، والمحال عليه، وبين مذهب المالكية والشافعية القائلين بأنه لا يعتبر قبول المحال عليه، وإنما تنعقد بإيجاب وقبول من المحيل، والمحال، وهذا هو الصواب؛ لأن المحال عليه ذمته مشغولة بالدين يؤديه لصاحبه، أو لمن يرتضيه إلا أن يكون هناك عداوة بين المحال والمحال عليه فهنا قد يكون اعتبار قبول المحال عليه من باب السياسة الشرعية، كما هو مذهب المالكية، والله أعلم.
المبحث الثاني في اشتراط لفظ الحوالة
المبحث الثاني في اشتراط لفظ الحوالة [م - 1105] اختلف العلماء في اشتراط أن تكون الصيغة بلفظ الحوالة على قولين: القول الأول: لا يتعين في الصيغة لفظ الحوالة، بل يكفي ما يؤدي معناها، كنقلت الحق إلى فلان، أو جعلت ما استحقه فلان علي لك، أو ملكتك الذي عليه. وهذا ما عليه جماهير أهل العلم، وهو إحدى القولين في مذهب المالكية، اختاره ابن رشد الجد، وظاهر كلام ابن عرفة (¬1). جاء في البهجة في شرح التحفة: "وقع لابن رشد في البيان أنها تكون بلفظها، أو ما يقوم مقامه كخذ من هذا حقك، وأنا بريء من دينك، واستظهره الحطاب، وهو ظاهر قول ابن عرفة: الصيغة: ما دل على ترك المحال دينه من ذمة المحيل بمثله في ذمة المحال عليه" (¬2). وجاء في كشاف القناع: "وتصح الحوالة بلفظها، كأحلتك بدينك على فلان، أو معناها الخاص كأتبعتك بدينك على فلان، ونحوه ة لدلالته على المقصود" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: اختار بعض المالكية وبعض الشافعية اشتراط لفظ الحوالة في الصيغة، وهو ظاهر كلام خليل في مختصره. قال الخرشي "من شروطها الصيغة، وظاهره أنه لا بد من لفظها الخاص بها، قال أبو الحسن: وأن تكون بلفظ الحوالة" (¬1). وجاء في البهجة في شرح التحفة: "قال في الشامل: وشرطها صيغة بلفظها أي الخاص بها، كأحلتك بحقك على فلان، أو أنت محال به عليه ... وعليه لو قال: خذ حقك من هذا، أو يأمره بالدفع ليس بحوالة؛ لأنه يقول: ليس هذا احتيالًا بالحق، وإنما أردت أن أكفيك التقاضي، وإنما الحوالة أن تقول: أحيلك بالحق على هذا، وهو نص سماع يحيى عن ابن القاسم ... وعلى اشتراط الصيغة اقتصر ابن يونس واللخمي، وأبو الحسن والفشتالي في وثائقه، وأبو محمَّد صالح في شرح الرسالة وابن الفاكهاني" (¬2). وقال الغزالي: "وأما لفظ الحوالة فلابد منه" (¬3). والصحيح الأول، وإذا رجحنا أنه لا يتعين لفظ الحوالة في الصيغة فلابد أن تدل على انتقال الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه بحيث يبرأ المحيل من الدين، ولا تلتبس بالوكالة. قال ابن عرفة: "الصيغة ما دل على ترك المحال دينه من ذمة المحيل بمثله في ذمة المحال عليه ... " (¬4). ¬
• وجه من قال: لا يشترط في الصيغة لفظ الحوالة
• وجه من قال: لا يشترط في الصيغة لفظ الحوالة: الوجه الأول: أن المعتبر في العقود المقاصد والمعاني، وليس الألفاظ والمباني، ولهذا اعتبر الحنفية أن الحوالة بشرط مطالبة الأصيل كفالة (ضمان)؛ لأنه لما أراد بالحوالة ضم ذمة إلى أخرى صار ذلك قرينة على أنه أراد حقيقة الضمان ولم يرد الحوالة. واعتبر الحنفية أن الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة للقرينة نفسها، وهو أنه لما أراد بالكفالة براءة الأصيل صار العقد حقيقة في الحوالة (¬1). قال الكاساني: "الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة معنى، وإن لم يأت بلفظ الحوالة" (¬2). واعتبر المالكية أن المحال عليه إذا لم يكن عليه دين للمحيل فهي حمالة (أي ضمان) سواء كانت بلفظ الحوالة أو الحمالة (¬3). الوجه الثاني: أن الحوالة عقد ينتقل بها الدين عن ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فلا يكون ذلك إلا بيقين، وهو التصريح بلفظ الحوالة، أو ما ينوب منابه، مثل أن يقول له: خذ من هذا حقك، وأنا بريء من دينك، وما أشبه ذلك (¬4). ¬
الوجه الثالث
الوجه الثالث: ولأنه إذا أتى بلفظ يحتمل الحوالة ويحتمل الوكالة كما إذا قال: خذ الذي لك علي من الدين الذي على فلان، فقال ابن القاسم: للمحال أن يرجع على المحيل، ويقول: إنما طلبت منه نيابة عنك، لا على أنها حوالة أبرأتك منها (¬1). وعليه فلا بد في الصيغة أن يفهم منها أن ذمة المحيل قد برئت من الدين وأن الحق قد انتقل إلى المحال عليه بأي لفظ كان. قال في الشرح الصغير: "أركانها خمسة ... وذكر منها: "صيغة تدل على التحول والانتقال ولو بإشارة أو كتابة" (¬2). قال الصاوي شارحًا:، قوله: تدل على التحول: أي فلا يشترط أن يكون فيها لفظ الحوالة، وما اشتق منها خلافًا لمن يقول ذلك. قوله: (ولو بإشارة أو كتابية) ظاهره أنها تكفي الإشارة أو الكتابة ولو من غير الأخرس، وهو المأخوذ من كلام ابن عرفة، وقال بعضهم: لا يكفيان إلا من الأخرس" (¬3). وجاء في الأشباه والنظائر للسيوطي: "قال الماوردي والروياني: لو كتب له في ورقة بلفظ الحوالة، ووردت على المكتوب له لزمه أداؤها إذا اعترف بدين الكاتب، وأنه خطه، وأراد به الحوالة، وبدين المكتوب له، فإن أنكر شيئًا من ذلك لم يلزمه. ومن أصحابنا من ألزمه إذا اعترف بالكتاب والدين اعتمادًا على العرف، ولتعذر الوصول إلى الإرادة -يعني إرادة الحوالة-" (¬4). ¬
المبحث الثالث في الحوالة بلفظ البيع
المبحث الثالث في الحوالة بلفظ البيع [م - 1106] اختلف العلماء فيما إذا أحاله بلفظ البيع، هل تصح الحوالة؟ وقد تكلم على هذه المسألة الشافعية والحنابلة، ولهم فيها قولان: القول الأول: لا تنعقد الحوالة بلفظ البيع، ولو نوى بذلك الحوالة، وهذا هو المعتمد عند الشافعية، والمذهب عند الحنابلة (¬1). • وجه ذلك: أن لفظ البيع ليس صريحًا ولا كناية لعقد الحوالة. ولأن الاعتبار في العقود عند الشافعية باللفظ لا بالمعنى. جاء في حاشية البجيرمي: "ولابد في الإيجاب ألا يكون بلفظ البيع، وقياسه ألا يكون القبول بلفظ الشراء، فلو قال: اشتريت مالك على زيد من الدين بما لي عليك لم يصح، وإن نوى به الحوالة" (¬2). وجاء في تحفة المحتاج: "المعتمد عدم الانعقاد بلفظ البيع" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: اختار بعض الشافعية انعقاد الحوالة بلفظ البيع إن نواها (¬1). وذلك لأن الحوالة من قبيل بيع الدين بالدين على الصحيح من مذهب الشافعية، وإذا كان توصيف الحوالة على أنها بيع لم يمنع ذلك من انعقادها بلفظ البيع إذا نوى بذلك الحوالة، والله أعلم. • الراجح: أما الذي يرى أن عقد الحوالة ليس من قبيل البيع، وإنما هو عقد إرفاق ومعروف، أو استيفاء للحق فلا يرى صحة الحوالة بلفظ البيع؛ لأن الحوالة عقد غير البيع. وأما من يرى أن الحوالة هي في حقيقتها بيع دين بدين رخص به للحاجة، فهل يقال: تجري بلفظ البيع؟ أو يقال: إنها لما استثنيت من بيع الدين بالدين صار لها شروط خاصة، منها اتفاق الدينين جنسًا ونوعًا وقدرًا، فلم تصح بلفظ البيع المطلق؛ لأن البيع المطلق للدين يشترط فيه تعيين أحد العوضين حتى لا يكون ذلك من باب بيع الدين بالدين، ويشترط القبض فيهما إن كان العوضان مما يجري فيهما ربا النسيئة، بينما الحوالة تجوز بدون هذين الشرطين، لهذا تعين أن يكون العقد بلفظ الحوالة أو ما يدل على معناها لا بلفظ البيع، هذا هو الصواب، وإن كان هذا لا يلغي أن الاعتبار في العقود للمقاصد والمعاني؛ لأن اللفظ إذا كان يؤدي إلى فساد المعنى وجب اجتنابه، ألا ترى أنه يجوز لك أن تقرض الرجل درهمًا ¬
ليرد لك درهمًا إلى أجل، ولا يجوز بيع الدرهم بالدرهم إلى أجل، وإن كانت صورة المبادلة واحدة، ولا يحمل البيع على القرض، فكذلك إذا كان عقد الحوالة بلفظ البيع لا ينبغي أن يصح وليس هذا إلغاء للمعنى، وإنما لأن بيع الدين يشترط له شروط لا يشترط مثلها في عقد الحوالة، لهذا وجب استبعاد لفظ البيع عن عقد الحوالة، والله أعلم.
المبحث الرابع انعقاد الحوالة بلفظ الكفالة
المبحث الرابع انعقاد الحوالة بلفظ الكفالة [م - 1107] هل تنعقد الحوالة بلفظ الكفالة؟ هذه المسألة ترجع إلى مسألة سبق بحثها، هل يتعين في الصيغة لفظ الحوالة، أو يكفي ما يؤدي معناها، كنقلت الحق إلى فلان، أو جعلت ما استحقه فلان علي لك، أو ملكتك الذي عليه، وللعلماء في ذلك قولان: القول الأول: تنعقد الحوالة بلفظ الكفالة إذا تضمن اللفظ معنى الحوالة، فقد صرح الحنفية أن الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة. قال الكاساني: "الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة معنى، وإن لم يأت بلفظ الحوالة" (¬1). لأنه لما أراد بالكفالة براءة الأصيل صار العقد حقيقة في الحوالة (¬2). واعتبر المالكية أن المحال عليه إذا لم يكن عليه دين للمحيل فهي حمالة (أي ضمان) سواء كانت بلفظ الحوالة، أو الحمالة (¬3). القول الثاني: لا تنعقد الحوالة بلفظ الكفالة، وهذا قول من يشترط أن تكون الحوالة بلفظها. ¬
قال الشيخ أبو الحسن الصغير من المالكية: من شرط الحوالة أن تكون بلفظ الحوالة (¬1)، وهو ظاهر كلام خليل في مختصره. وقال الخرشي "من شروطها الصيغة، وظاهره أنه لا بد من لفظها الخاص بها، قال أبو الحسن: وأن تكون بلفظ الحوالة". وقال الغزالي: "وأما لفظ الحوالة فلابد منه" (¬2). والصحيح أن المعتبر في العقود المقاصد والمعاني، وليس الألفاظ والمباني، فإذا كان اللفظ يدل على الحوالة لفظًا أو معنى حمل على ذلك، ولا تعبد بصيغة معينة، والله أعلم. ¬
الشرط الثاني في اشتراط الرضا بعقد الحوالة
الشرط الثاني في اشتراط الرضا بعقد الحوالة المبحث الأولى في اشتراط رضا المحيل لن أتكلم عن الشروط التي تتعلق بأهلية المحيل؛ لأنه قد سبق لي في عقد البيع الكلام على أهلية العاقد على وجه التفصيل، وتكلمت عن أقسام الأهلية، وعن عقد الصبي والسفيه والمجنون، والسكران فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وسوف أتكلم في هذا الفصل عن اشتراط رضا المحيل. [م - 1108] فقد اختلف العلماء في اشتراط رضاه على قولين: القول الأول: يشترط رضا المحيل، وهو مذهب الجمهور، واشترطه القدوري من الحنفية، وحكي فيه الإجماع (¬1). جاء في بدائع الصنائع: "ومنها -أي من الشروط- رضا المحيل، حتى لو كان مكرهًا على الحوالة لا تصح؛ لأن الحوالة إبراء فيها معنى. التمليك، فتفسد بالإكراه كسائر التمليكات" (¬2). ¬
• وجه القول باشتراط رضا المحيل
قال ابن حجر: "ويشترط في صحتها رضا المحيل بلا خلاف" (¬1). وقال ابن قدامة: "ويشترط في صحتها رضا المحيل بلا خلاف؛ فإن الحق عليه، ولا يتعين عليه جهة قضائه" (¬2). • وجه القول باشتراط رضا المحيل: الوجه الأول: أن ذوي المروءات لا يرضون أن يقوم غيرهم بسداد ديونهم بلا رضاهم. الوجه الثاني: أن الحوالة إبراء فيها معنى التمليك، فتفسد بالإكراه. الوجه الثالث: أن المحيل إذا لزمه الحق فالمستحق عليه أداؤه لا نقله، ألا ترى أنه إذا سئل نقل الحق إلى عين يعطيها بدلًا من الحق الذي عليه لم يلزمه، وكدا لو سئل نقله إلى ذمة أخرى لم يلزمه. الوجه الرابع: أن الدين متعلق في ذمة المدين، فهو مال موصوف غير معين، فله أن يقضيه من أي ماله شاء، ولا يتعين عليه قضاؤه من محل بعينه، ومنه مال الحوالة، بخلاف الأعيان فإنها لا تتعلق بالذمة، وتقضى بذواتها. القول الثاني: لا يشترط رضا المحيل، وهو قول محمَّد بن الحسن في الزيادات (¬3)، ووجه ¬
في مذهب الشافعية، حكاه الخراسانيون. جاء في الجوهرة النيرة: "وأما المحيل فالحوالة تصح بدون رضاه؛ لأن التزام الدين من المحال عليه تصرف في حق نفسه، وهو لا يتضرر به، بل فيه منفعة؛ لأنه لا يرجع عليه إذا لم يكن بأمره" (¬1). وجاء في الفتاوى الهندية: "فأما رضا من عليه الدين وأمره فليس بشرط لصحة الحوالة" (¬2). قال العمراني في البيان. "وأما المحيل فإن البغداديين من أصحابنا قالوا: يعتبر رضاه؛ لأن الحق عليه فلا تتعين عليه جهة قضائه ... وأما الخراسانيون فقالوا: هل يعتبر رضا المحيل؟ فيه وجهان. وصورتها: أن يقول المحال عليه لرجل: أحلتك على نفسي بالحق الذي لك على فلان، فإذا قال: قبلت، فهل يصح على الوجهين بناء على الوجهين فيما لو قال: ضمنت عنه بشرط أن يبرئه. وعندي -أي عند العمراني- أن هذين الوجهين إنما يتصوران في المحال عليه، إذا لم يكن عليه حق للمحيل، وقلنا: تصح الحوالة على من لا حق له عليه برضاه، فأما إذا كان للمحيل على المحال عليه حق فلا يصح بغير رضا المحيل وجهًا واحدًا" (¬3). وقد وفَّق الحنفية بين رواية القدوري وبين المشهور من المذهب: فقالوا: إن القدروي اشترط رضا المحيل من أجل رجوع المحال عليه على ¬
الراجح
المحيل، فإذا دفع المحال عليه دين الحوالة برضا المحيل رجع المحال عليه على المحيل بما أداه من الدين. وعليه فلا اختلاف في الرواية عند الحنفية. فالمشهور من المذهب؛ إن تمت الحوالة برضا المحيل سقط دين المحال عليه إن كان عليه دين، أو رجع على المحيل إن لم يكن عليه دين. وعلى هذا يحمل قول القدوري. وإن تمت الحوالة بدون رضا المحيل لم يكن للمحال عليه الرجوع على المحيل، حتى ولو كان عليه دين للمحيل؛ لأن الحوالة تمت بدون رضاه، وعلى هذا يحمل ما ورد عن محمَّد في الزيادات (¬1). • الراجح: أن الحوالة لا بد فيها من رضا المحيل، ولا خلاف بين الفقهاء فيها فيما إذا كان للمحيل دين في ذمة المحال عليه، وعقدت الحوالة بين المحال عليه والمحال له حوالة مقيدة بأن يعطي المحال عليه المحال به من المال الذي بذمته للمحيل فهنا رضا المحيل شرط لصحة الحوالة؛ لأن ثبوت الحوالة وصحتها يعني سقوط حق المطالبة للمحيل على المحال عليه، وهذا لا يجوز بدون رضاه؛ لأنه تصرف في حقه. وما قاله الحنفية من جواز الحوالة بدون رضا المحيل لا يعتبر مخالفًا لما ذهب إليه الجمهور فإنهم يتحدثون عن التزام المحال عليه بالسداد دون رضا المحيل، وهذا باب آخر غير الحوالة التي نتكلم عنها، وقد لا يكون المحال ¬
عليه مدينًا للمحيل، وإن كان مدينًا فإن الحوالة لم تكن على ما في ذمته للمحيل، ولذلك جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "الحوالة بغير إذن المحيل ليست حوالة من كل وجه؛ لأن الحوالة هي الإحالة الحاصلة بفعل المحيل، وهذا المعنى في هذه منتف، بل فيها شطر الحوالة، وهو عبارة عن اللزوم على المحال، وأما الشطر الآخر الذي هو انتقال الدين من المدين فهو مفقود" (¬1). إذا علم ذلك من مذهب الحنفية فإنه يبقى عندي سؤال: هل التزام المحال عليه بالوفاء بدون رضا المحيل يجوز كما قال الحنفية؟ أو ينبغي أن يقيد ذلك برضا المدين حتى ولو كان التزامه تبرعًا دفعًا للمنة؟ الصواب الثاني، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في اشتراط رضا المحال
المبحث الثاني في اشتراط رضا المحال [م - 1109] تكلمنا في فصل سابق عن اشتراط رضا المحيل، فهل يشترط رضا المحال؟ اختلف الفقهاء في ذلك، وسبب اختلافهم: اختلافهم في الأمر بالحوالة الوارد في حديث أبي هريرة. (ح-662) فقد روى الشيخان من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مطل الغني ظلم، فإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع (¬1). فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاتباع إذا أحيل على مليء، واختلف العلماء هل الأمر للوجوب، أو للندب، أو للإباحة؟ على ثلاثة أقوال: فمن قال: إن الأمر للوجوب لم يشترط رضا المحال، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، ومذهب الظاهرية، وبه قال أبو ثور، وابن جرير الطبري (¬2). ومن قال: إن الأمر ليس للوجوب اشترط رضاه، سواء قال: إن الأمر للإباحة كالحنفية وبعض المالكية، وبعض الشافعية (¬3)، أو قال: إن الأمر ¬
للندب، كالجمهور (¬1). جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "رضا المحال له وقبوله شرط؛ لأن الدين حقه، والناس متفاوتون في إيفاء الدين" (¬2). وقال الدردير: "شرط صحة الحوالة رضا المحيل والمحال فقط، لا المحال عليه على المشهور" (¬3). وجاء في المهذب: "ولا تصح الحوالة من غير رضا المحتال؛ لأنه نقل حق من ذمة إلى غيرها، فلم يجز من غير رضا صاحب الحق، كما لو أراد أن يعطيه بالدين عينًا" (¬4). وجاء في شرح ميارة: "وأما رضا المحال فهو مبني على مذهب الجمهور من عدم وجوب قبول الحوالة، وأما على مذهب أهل الظاهر فلا؛ لوجوب ذلك عليه" (¬5). وقد ناقشت ولله الحمد أدلة الأقوال في مبحث مستقل تحت عنوان (الحكم التكليفي للحوالة) ورجحت أن الأمر ليس للوجوب، وإنما هو للندب، وذكرت القرائن الدالة على صرف الأمر إلى الاستحباب، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، ¬
وبالتالي يصح القول بأنه يشترط رضا المحال كما يشترط رضا المحيل على الصحيح؛ فعقد الحوالة عقد رضائي لا بد فيه من الاتفاق بين المحيل والمحال، والله أعلم.
المبحث الثالث في اشتراط رضا المحال عليه
المبحث الثالث في اشتراط رضا المحال عليه المحال عليه إما أن يكون مدينًا للمحيل أولًا. [م - 1110] فإن لم يكن مدينًا اشترط رضاه بلا نزاع، وسوف يأتينا بحث خاص، هل تصح الحوالة على من ليس عليه دين للمحيل؟ وإذا صحت هل تكون حوالة، أو تكون عقدًا آخر؟ [م - 1111] وإن كان مدينًا للمحيل فقد اختلف الفقهاء في اشتراط رضا المحال عليه على قولين: القول الأول: يشترط رضاه، وهو مذهب الحنفية، وقول في مذهب المالكية، وقول في مذهب الشافعية، وبه قال داود الظاهري (¬1). جاء في الشرح الكبير للدردير: "شرط صحة الحوالة رضا المحيل والمحال فقط، لا المحال عليه على المشهور" (¬2). فقوله (على المشهور) يفهم منه أن ما يقابل المشهور يشترط رضاه. وفي مغني المحتاج: "يشترط لها لتصح رضا المحيل والمحتال ... ¬
• وجه من قال: يشترط رضا المحال عليه
لا المحال عليه في الأصح فلا يشترط رضاه ... والثاني: يشترط رضاه بناء على أن الحوالة استيفاء" (¬1). وجاء في الحاوي الكبير: "قال أبو إبراهيم المزني وأبو عبد الله الزبيري وأبو سعيد الإصطخري وأبو حفص بن الوكيل: الحوالة لا تتم إلا برضا المحال عليه، فإن لم يقبلها، ولم يرض بها لم تصح ... " (¬2). • وجه من قال: يشترط رضا المحال عليه: لما كان الناس متفاوتين في طلب الدين، فبعضهم يمهل ويتسامح، وبعضهم يتعجل ويتشدد، وربما كان صاحب الدين أسهل اقتضاء وأسمح قبضًا كانت الحوالة موقوفة على قبول المحال عليه؛ لأنه قد يقبل أن يكون مدينًا لفلان ولا يقبل أن يكون مدينًا لغيره، لهذا اشترط رضا المحال عليه، والله أعلم (¬3). القول الثاني: لا يشترط رضا المحال عليه، وهو المشهور من مذهب المالكية، والأصح في مذهب الشافعية، وهو مذهب الحنابلة (¬4). جاء في الحاوي الكبير: "ظاهر مذهب الشافعي أن رضاه غير معتبر في صحة الحوالة بل تتم برضا المحيل والمحتال، سواء رضي بذلك المحال عليه أم لم ¬
• وجه القول بأنه لا يشترط رضاه
يرض، وبه قال من أصحابنا أبو العباس بن سريج، وأبو إسحاق المروزي، وأبو علي ابن أبي هريرة ... " (¬1). • وجه القول بأنه لا يشترط رضاه: الوجه الأول: أن الحق للمحيل، فله أن يستوفي الحق بنفسه، وله أن يستوفيه بغيره كما لو وكل غيره بالاستيفاء. ونوقش هذا: بأن هناك فرقًا بين الحوالة وبين الوكالة، فالحوالة تصرف على المحال عليه بنقل الحق إلى ذمته، فلا يتم إلا بقبوله ورضاه، بخلاف التوكيل بقبض الدين؛ فهو تصرف بأداء الواجب، وليس تصرفًا بنقله فلا يشترط قبوله ورضاه. الوجه الثاني: بالحوالة يزول ملكه عن الدين كالإبراء، فلما لم يكن رضا المبرأ معتبرًا في صحة البراءة لم يكن رضا المحال عليه معتبرًا في صحة الحوالة (¬2). واستثنى المالكية فيما إذا كانت هناك عدواة بين المحال والمحال عليه. جاء في البهجة في شرح التحفة "ومحل عدم اشتراط رضا المحال عليه على المشهور إذا لم تكن هناك عداوة بين المحال والمحال عليه، وإلا فلا بد من رضاه (¬3). ¬
الراجح
• الراجح: أن رضا المحال عليه ليس بشرط، والله أعلم.
المبحث الرابع في فوات الرضا في عقد الحوالة
المبحث الرابع في فوات الرضا في عقد الحوالة تبين لنا من خلال البحوث السابقة اختلاف الفقهاء فيمن يشترط رضاه لعقد الحوالة. فالجمهور يشترطون رضا المحيل والمحال فقط دون المحال عليه. واشترط الحنفية رضا المحال والمحال عليه دون المحيل. واشترط الحنابلة رضا المحيل فقط دون المحال والمحال عليه. هذا ملخص أقوال الأئمة في اشتراط الرضا بين أطراف الحوالة، والله أعلم. [م - 1112] فإذا انتفى الرضا ممن يشترط رضاه في الحوالة، ووقع عقد الحوالة على الإكراه، فقد اختلف الفقهاء في أثر ذلك على الحوالة على ثلاثة أقوال، ترجع إلى اختلافهم في عقد المكره على سبيل العموم: القول الأول: إذا أكره من يشترط رضاه على الحوالة فهي حوالة فاسدة، فرقًا بينها وبين الحوالة الباطلة، وهذا مذهب الحنفية، ولهم مصطلح خاص في التفريق بين الفاسد والباطل سبق تحريره في عقد البيع. قال علي حيدر: "رضا المحال والمحال عليه شرط في صحة الحوالة ... بناء عليه إذا أخذ رجل حوالة بالإكراه المعتبر أو قبلها لا تكون صحيحة" (¬1). ¬
وجه ذلك
• وجه ذلك: أن الحوالة إبراء فيها معنى التمليك، فتفسد بالإكراه كسائر التمليكات (¬1). القول الثاني: الإكراه على عقد الحوالة ينعقد موقوفًا، وللمكره الخيار بين إمضائه ورده. وهذا قول زفر من الحنفية (¬2)، ومذهب المالكية (¬3). • وجه ذلك: أن النهي عن الإكراه في العقود ليس لحق الله، وإنما هو لحق الآدمي، فإذا أجازه صاحبه بعد رفع الإكراه ارتفع المفسد، فصح العقد، مثله عقد الفضولي، فإنه لما كان الفضولي قد باع ملك غيره بغير إذنه، كان ذلك موقوفًا على إجازة صاحبه (¬4). القول الثالث: العقد مع الإكراه لا ينعقد، وهذا مذهب الشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). ¬
الدليل الأول
واستدلوا على ذلك بأدلة، منها: الدليل الأول: قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. • وجه الدلالة: إذا كان الرضا شرطًا في صحة البيع، والبيع عقدًا من العقود، فكذلك الحوالة مقيسة عليه، وإذا عدم الشرط عدم المشروط؛ لأنه يلزم من عدمه العدم. الدليل الثاني: إذا كان الإكراه محرمًا، وفيه اعتداء على حق الغير، فإن الحرام لا ينبغي أن يترتب عليه أي أثر شرعي. وقد استوفينا الأدلة ومناقشتها في حكم عقد المكره في عقد البيع، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، والحمد لله. • الراجح: أرى أن القول بأن الحوالة تكون موقوفة على إجازة المكره، فإن الحق له، إن شاء أمضاه، وإن شاء رده، لكن بشرط أن يرتفع الإكراه قبل الإجازة.
الشرط الثالث في اشتراط أن يكون المحيل مدينا للمحال
الشرط الثالث في اشتراط أن يكون المحيل مدينًا للمحال [م - 1113] ذهب الأئمة الأربعة إلى اشتراط أن يكون المحيل مدينًا للمحال (¬1). [م - 1114] فإن أحال المحيل رجلًا ليس له عليه دين على من له عليه دين فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: تصح، وتكون وكالة بقبض الدين اعتبارًا للمعنى؛ لأن المعتبر في العقود المقاصد والمعاني، وليست الألفاظ والمباني. وهذا مذهب الجمهور (¬2). قال ابن نجيم: "إذا أحال رجلًا وليس للمحتال دين على المحيل، فهذه وكالة، وليست حوالة" (¬3). وقال الدسوقي في حاشيته: "وكذا يشترط ثبوت دين للمحال على المحيل" (¬4). وجاء في البيان للعمراني: "قال أبو العباس: إذا كان لرجل عند رجل ألف، فقال من له الدين لرجل لا شيء عليه له: أحلتك على فلان بألف، فهذا توكيل ¬
وجه ذلك
منه بالقبض، وليس بحوالة؛ لأن الحوالة إنما تكون لمن له حق، ولا حق للمحتال عليه ها هنا، فثبت أن ذلك توكيل" (¬1). • وجه ذلك: قال ابن قدامة: "لأن الحوالة مأخوذة من تحول الحق وانتقاله، ولا حق ها هنا ينتقل ويتحول، وإنما جازت الوكالة بلفظ الحوالة؛ لاشتراكهما في المعنى؛ وهو استحقاق الوكيل مطالبة من عليه الدين، كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه، وتحول ذلك إلى الوكيل كتحوله إلى المحيل" (¬2). القول الثاني: لا تصح لا حوالة ولا وكالة، اختاره بعض الشافعية (¬3). أما كون العقد لا يصح حوالة؛ فلأن الحوالة مأخوذة من تحول الحق وانتقاله، ولا حق هنا ينتقل ويتحول. وأما كونه لا ينعقد وكالة فاعتبارًا للفظ، فإن لفظ الحوالة غير لفظ الوكالة، وهذا القول اختاره بعض الشافعية، وهو يتفق مع أصول مذهبهم بأن المقدم في العقود الألفاظ على المعاني. وقد سبق عقد مبحث مستقل في مناقشة المعتبر في العقود، هل هو المقاصد والمعاني، أو الألفاظ والمباني في مقدمة عقد البيع وبينت فيه ضعف مذهب الشافعية، وأنهم لم يطردوا في ذلك، ففي أحيان كثيرة يقدمون اللفظ على المعنى، وفي عقود أخرى يقدمون المعنى على اللفظ. فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والله أعلم. ¬
الشرط الرابع في اشتراط أن يكون المحال عليه مدينا للمحيل
الشرط الرابع في اشتراط أن يكون المحال عليه مدينًا للمحيل [م - 1115] في البحث السابق علمنا اتفاق الأئمة الأربعة على اشتراط أن يكون المحيل مدينًا للمحال، فهل يشترط أن يكون المحال عليه مدينًا للمحيل؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: تصح الحوالة وإن كان المحال عليه ليس مدينا للمحيل، وتسمى بالحوالة المطلقة، بشرط أن يتضمن العقد براءة المحيل، وهذا مذهب الحنفية، واختاره ابن الماجشون من المالكية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬1). فإن لم يتضمن العقد براءة المحيل كان العقد عند الحنفية كفالة. جاء في البحر الرائق: "الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة، والحوالة بشرط عدم براءة المحيل كفالة" (¬2). قال ابن عابدين: "وأما الدين على المحال عليه فليس بشرط" (¬3). وقال السيوطي: "لو أحال على من لا دين عليه برضاه، فالأصح بطلانها بناء على أنها بيع. والثاني: يصح بناء على أنها استيفاء" (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يشترط في صحة الحوالة أن يكون المحال عليه مدينًا للمحيل، وهذا مذهب المالكية، والأصح في مذهب الشافعية، ومذهب الحنابلة (¬1). فإن أحاله صح العقد على خلاف بينهم في توصيف هذا العقد. فقيل: هي حمالة عند المالكية. واقتراض عند الشافعية والحنابلة. جاء في شرح الخرشي: "ومن شروطها ثبوت دين للمحيل في ذمة المحال عليه وإلا كانت حمالة عند الجمهور، قاله الباجي، ولو وقعت بلفظ الحواله" (¬2). وجاء في المدونة: "إذا لم يكن على المحتال عليه للذي أحال عليه دين فإنما هي حمالة" (¬3). وجاء في أسنى المطالب: "لو أحال على من لا دين عليه لم تصح الحوالة، ولو رضي بها؛ لعدم الاعتياض، إذ ليس عليه شيء يجعله عوضًا عن حق المحتال، فإن تطوع بأداء دين المحيل كان قاضيًا دين غيره، وهو جائز" (¬4). وفي مغني المحتاج: "ولا تصح على من لا دين عليه بناء على الأصح من ¬
القول الثالث
أنها بيع؛ إذ ليس للمحيل على المحال عليه شيء يجعله عوضًا عن حق المحتال. وقيل: تصح برضاه ... وعلى الأول لو تطوع بقضاء دين المحيل كان قاضيًا دين غيره، وهو جائز" (¬1). وقال ابن قدامة: وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه فليست حوالة نص عليه أحمد، فلا يلزم المحال عليه الأداء، ولا المحتال قبول ذلك؛ لأن الحوالة معاوضة، ولا معاوضة هنا، وإنما هو اقتراض" (¬2). وجاء في كشاف القناع: "وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه فهو وكالة في اقتراض" (¬3). والقول بأنها قرض أو وكالة باقتراض لا يخالف عندي توصيف من قال: بأنها حمالة؛ لأنها حمالة بالنظر إلى علاقة المحال بالمحال عليه، ووكالة بالاقتراض بالنظر إلى علاقة المحيل بالمحال، واقتراض بالنظر إلى علاقة المحيل بالمحال عليه. القول الثالث: العقد باطل، وهو قول في مذهب الشافعية. قال الماوردي: "فأما وجوب الحق على المحال عليه فقد اختلف أصحابنا هل هو شرط في صحة الحوالة؟ على وجهين: أحدهما: أنه شرط في صحة الحوالة، فمتى لم يكن للمحيل على المحال عليه ذلك الحق الذي أحال به عليه فالحوالة باطلة؛ لأن الحوالة من تحول ¬
الراجح
الحق، فلا بد من أن يكون الحق واجبًا على المحال عليه كما كان واجبًا للمحتال. والوجه الثاني: تصح، وتجرى مجرى الضمان؛ لأنها وثيقة، فعلى هذا لا تتم إلا بقبول المحال عليه" (¬1). • الراجح: الذي يظهر لي أن المحال عليه إذا لم يكن مدينًا للمحيل، ورضي بالحوالة فإنها تصح، ولكن لا تكون حوالة مطلقة كما يقول الحنفية، بل يمكن توصيف الحوالة على أنها وكالة في الاقتراض بالنظر إلى علاقة المحيل بالمحال، واقتراض بالنظر إلى علاقة المحيل بالمحال عليه، وضمان بالنظر إلى علاقة المحال بالمحال عليه، فيكون المحيل مضمونًا عنه، والمحال عليه ضامنًا، والمحال مضمونًا له، وذلك أن المحال عليه عندما رضي بالحوالة أصبح ملتزمًا بأداء قيمتها للمحال، وهذا هو حقيقة الضمان، فإن دفعها بأمر المحيل وبنية الرجوع إلى صاحبها أصبح مقرضًا للمحيل، وإن دفعها بدون أمره، أو نوى عدم الرجوع كان متبرعًا، فإن دفعها إكرامًا للمحيل كانت هدية، وإن دفعها طلبًا للأجر والثواب كانت صدقة، والله أعلم. قال العمراني: "فإن وزن المحال عليه الحق فإن كان بغير إذن المحيل لم يرجع على المحيل بشيء؛ لأنه متطوع، وإن وزن بإذنه رجع عليه" (¬2). وقال الماوردي: "ولا رجوع له بالحوالة قبل أدائها، فإن أداها بأمر رجع بها، وإن كان بغير أمر لم يرجع بها" (¬3). ¬
الشرط الخامس في اشتراط حضور أطراف الحوالة
الشرط الخامس في اشتراط حضور أطراف الحوالة المبحث الأول في اشتراط حضور المحال مجلس الحوالة [م - 1116] اختلف الفقهاء في اشتراط حضور المحال مجلس الحوالة على قولين: القول الأول: يشترط حضور المحال مجلس الحوالة، وهو قول أبي حنيفة، ومحمد ابن الحسن (¬1). قال في فتح القدير: "ولا تصح الحوالة في غيبة المحتال في قول أبي حنيفة، ومحمد" (¬2). وفي حاشية ابن عابدين: "والشرط حضرة المحتال فقط حتى لا تصح في غيبته" (¬3). القول الثاني: لا يشترط، وهو قول أبي يوسف، والمذهب عند الحنابلة (¬4). ¬
الراجح من الخلاف
جاء في حاشية ابن عابدين: "خلاف أبي يوسف في المحتال فقط، فعنده لا تشترط حضرته، بل يكفي رضاه كالمحال عليه" (¬1). وفي بدائع الصنائع: "المحتال لو كان غائبًا عن المجلس، فبلغه الخبر، فأجاز لا ينفذ عندهما، وعند أبي يوسف ينفذ" (¬2). جاء في مطالب أولي النهى: "ولا يشترط حضوره أي المحتال" (¬3). • الراجح من الخلاف: الذي أراه صحة الحوالة إذا أجازها المحال، ولو كان غائبًا؛ لأن البيع وهو الأصل في عقود المعاوضات ينعقد بالكتابة، ولو كان المتعاقدان غائبين فالحوالة أولى؛ لأنه عقد استيفاء، والعجيب في مذهب الحنفية أنهم يشترطون حضور المحال مع أنهم لم يعتبروا رضاه في الحوالة؛ كما إنهم أجازوا الحوالة إذا حضر فضولي مجلس الحوالة فقبل عن المحال، فإذا بلغ المحال عليه وأجازه نفذ، مع أن الفضولي لم يكن نائبًا عن المحال؛ لأنه تصرف له بدون إذنه، فتبين بهذا ضعف مذهب الحنفية، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في اشتراط حضور المحال عليه
المبحث الثاني في اشتراط حضور المحال عليه [م - 1117] اختلف الفقهاء في اشتراط حضور المحال عليه على قولين: القول الأول: لا يشترط حضوره، وهو مذهب الحنفية والحنابلة، واختاره من المالكية ابن سلمون (¬1). وجاء في رد المحتار: "لا خلاف في المحال عليه في أن حضرته غير شرط" (¬2). وفي فتح القدير: "وكذا لا يشترط حضرة المحتال عليه، حتى لو أحال على غائب، فبلغه الخبر، صحت" (¬3). وجاء في الشرح الكبير للدردير: "ولا يشترط حضوره وإقراره على أحد القولين المرجحين" (¬4). وجاء في البهجة شرح التحفة: "لا يشترط حضور المحال عليه، ولا إقراره بالدين، وهو الذي شهره ابن سلمون" (¬5). • وجه من قال: لا يشترط حضوره: أن الحوالة ليست بيعًا، وإنما هي عقد إرفاق فلا يشترط حضور المحال ¬
القول الثاني
عليه؛ ولأن رضاه غير معتبر في عقد الحوالة عند جمهور العلماء فلا يشترط حضوره. القول الثاني: يشترط حضوره، اختاره ابن القاسم من المالكية، وهو المعتمد في مذهبهم، وبه قال أكثرهم. جاء في البهجة شرح التحفة: "وقيل: لا بد من حضوره وإقراره، وصدر به في الشامل، وعزاه لابن القاسم ... وصرح ابن رحال ... بأن تشهير ابن سلمون خلاف الراجح، وتبعه على ذلك الشيخ بناني وغيره" (¬1). وعندما قال الدردير في الشرح الكبير: "ولا يشترط حضوره وإقراره على أحد القولين المرجحين" (¬2). تعقبه الدسوقي في حاشيته، فقال: "قوله على أحد القولين المرجحين فيه نظر، بل الراجح اشتراط الحضور، وأما عدم اشتراطه فقد انفرد بتشهيره ابن سلمون، وهو متعقب" (¬3). • وجه من قال: يشترط حضوره: الوجه الأول: اشتراط حضوره وإقراره وإن كان رضاه غير معتبر لاحتمال أن يبدي مطعنًا في البينة إذا حضر، أو يثبت براءته من الدين ببينة على الدفع، أو على إقراره به (¬4). ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أن اشتراط الحضور والإقرار مبني على أن الحوالة من قبيل بيع الدين بالدين، فيشترط فيها شروطه، غاية الأمر أنه رخص فيها جواز بيع الدين بدين آخر (¬1). وأجيب: ذكر الشيخ الرهوني بأنهم عللوا اشتراط الحضور بأن الغائب قد يكون له براءة من ذلك، وهذا التعليل يقتضي أن في حضوره تقليلًا للغرر، وقد علمت أن الحوالة من ناحية المعروف، والمعروف لا يؤثر فيه الغرر (¬2). ورد هذا الجواب: بأن الحوالة وإن كانت معروفًا فإنما يغتفر فيها على قول ابن القاسم ما اغتفره الشارع - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها بيع، فما وردت الرخصة فيه كعدم المناجزة في العين اغتفر، وما لم ترد به فهو على أصل البيع فيه، وعدم اشتراط المناجزة مصرح به في الحديث الكريم، حيث قال: (ومن أتبع منكم) الخ إذ الاتباع لا مناجزة فيه ... وأيا ما كان فهو غرر كثير، وليست هي متمحضة للمعروف كالهبة حتى يغتفر فيها الجهل بحصول العوض، بل هي معاوضة حقيقية روعي فيها جانب المعروف بعدم اعتبار بعض شروط البيع فيها ... (¬3). فتبين بهذا أن الخلاف عند المالكية راجع إلى الخلاف في الحوالة، هل هي بيع، أو عقد إرفاق؟ فمن رأى أنها بيع اشترط الحضور، ومن رأى أنها عقد إرفاق لم يشترط. ¬
الراجح
قال الصاوي في حاشيته: "الحاصل: أن الفقهاء من الأندلسيين اختلفوا: هل يشترط في صحة الحوالة حضوره وإقراره أو لا يشترط ذلك؟ رجح كل من القولين؛ وإن كان الأول أرجح كما قال الشارح؛ لأنه مبني على أن الحوالة من قبيل بيع الدين، فيشترط فيها شروطه، غاية الأمر أنه رخص فيها جواز بيعه بدين آخر. وأما القول الثاني فمبني على أنها أصل مستقل بنفسه فلا يسلك بها مسلك بيع الدين من اشتراط الحضور والإقرار" (¬1). • الراجح: إذا كان الراجح في مذهب المالكية أنه لا يشترط رضا المحال عليه، فكذلك لا يشترط حضوره، وإذا تبين أن المحيل خدعه، أو أن المحال عليه أنكر الدين، أو ذكر براءته منه قبل الحوالة رجع المحال على المحيل، وإذا كان القول باشتراط حضوره عند المالكية مبنيًا على أن الحوالة من قبيل بيع الدين بالدين فقد تبين لنا من خلال البحث أن الراجح في الحوالة أنها ليست من عقود البيع، ولا تصح بلفظ البيع، لهذا لا أرى وجهًا لاشتراط حضور المحال عليه، والله أعلم. ¬
الشرط السادس في اشتراط ملاءة المحال عليه
الشرط السادس في اشتراط ملاءة المحال عليه [م - 1118] اختلف الفقهاء في اشتراط الملاءة لصحة الحوالة على قولين: القول الأول: ذهب الأئمة الأربعة إلى صحة الحوالة على غير مليء إذا علم المحال بحال المحال عليه، وقبل الحوالة؛ لأن الحق للمحال، وقد رضي بذلك (¬1). جاء في الذخيرة: "أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتبر وصف الملاءة مع جواز الحوالة على المعسر إجماعًا" (¬2). وقال أيضًا: "بينا أن اشتراط الملاءة لنفي الضرر، لا مشروعية الحوالة ... بدليل جوازها على المعسر إجماعًا" (¬3). وحكاية الإجماع مع خلاف الظاهرية، فيه نظر. وقال زكريا الأنصاري في بيان فائدة ذكر الملاءة في الحديث: "لا يقال: فائدته عدم صحة الحوالة على غير المليء؛ لأنا نقول: تلك صحيحة بالإجماع، نعم قد يقال: من فوائده عدم ندب قبولها حينئذ" (¬4). وهذا عند الجمهور القائلين بأن الأمر بقوله: (ومن أحيل على مليء فليتبع) أن الأمر للندب، ومن قال: إن الأمر للوجوب، قال: لا يجب على المحال ¬
القول الثاني
قبول الحوالة إذا كان المحال عليه غير مليء، ونفي الندب أو الوجوب لا يعني: نفي الجواز؛ لأن الحق للمحال، فإذا رضي فقد أسقط حقه. وقال في تقويم النظر: "والملاءة ليست شرطَ صحةِ الحوالة بدليل أنها تصح على غير مليء، وإنما ذكر الملاءة بناء على الغالب" (¬1). وقال العراقي في طرح التثريب: "لو كان مفلسًا حال الحوالة فالصحيح الذي نص عليه الشافعي، وقال به جمهور أصحابه: أنه لا خيار له، سواء شرط يساره، أم أطلق ... " (¬2). القول الثاني: قال ابن حزم: لا تصح الحوالة إلا على مليء بنص الخبر. قال في المحلى: "فإن غره وأحاله على غير مليء، والمحيل يدري أنه غير مليء، أو لا يدري، فهو عمل فاسد؛ وحقه باق على المحيل كما كان؛ لأنه لم يحله على مليء، ولا تجوز الحوالة إلا على مليء بنص الخبر" (¬3). وجهه: أن الحوالة لم توافق محلها الذي ارتضاه الشارع، وهو الملاءة. • الراجح: أن الملاءة ليست شرطًا في صحة الحوالة؛ لأن الحق للمحال فإذا رضي بالحوالة على غير مليء فقد أسقط حقه. وقد أجاز الأئمة الحوالة مع الجهل بذمة المحال عليه أموسر هو أو معسر (¬4). ¬
وإنما اختلف الفقهاء في حق المحال في الرجوع على المحيل إذا قبل الحوالة ظانًا منه أنه مليء، فبان معسرًا، أو أنكر المحال عليه الحق، أو مات المحال عليه معدمًا، أو اشترط المحال ملاءة المحال عليه فبان غير ذلك، ومسألة رجوع المحال على المحيل مسألة أخرى غير مسألتنا، وسواء قلنا: له الرجوع أو قلنا: لا رجوع له فإن ذلك لا ينافي صحة الحوالة؛ لأن الرجوع نقض للحوالة بعد صحتها. فتبين من هذا أن الملاءة ليست شرطًا لصحة الحوالة، وإنما الخلاف في اعتبار الملاءة شرطًا للزوم الحوالة في حال اشترط المحال ملاءة المحال عليه، أو كان المحيل يعلم حال المحال عليه، ولم يبين، أو مات المحال عليه معدمًا، هل يملك المحال الرجوع على المحيل أم لا؟ وسوف يأتي بحث رجوع المحال على المحيل إن شاء الله تعالى عند الكلام على أحكام الحوالة، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. ¬
الشرط السابع في الحوالة على الميت وعلى تركته
الشرط السابع في الحوالة على الميت وعلى تركته [م - 1119] اختلف الفقهاء في الحوالة على الميت، وعلى تركته على أقوال: القول الأول: ذهب الحنفية والشافعية إلى أن الحوالة لا تصح على التركة، على خلاف بينهم في علة المنع، فعلة المنع عند الحنفية كون الشخص المحال عليه غير موجود فيها. وبه علل صاحب مغني المحتاج. وعلة المنع عند الشافعية أن الحوالة على التركة حوالة على الأعيان، ومن شرط الحوالة أن تكون على دين. جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "ويفهم من هذه الشروط أن الحوالة على التركة غير جائزة؛ لأن الشخص المحال عليه غير موجود فيها" (¬1). وقال في مغني المحتاج: "ولا تصح على التركة لعدم الشخص المحال عليه" (¬2). وجاء في أسنى المطالب: "أن تكون -يعني الحوالة- بدين لازم، فلا تصح الحوالة على التركة؛ لأنها أعيان" (¬3). ويفهم من هذا التعليل أن الحوالة لو كانت على دين للميت صح؛ لأنها حينئذ لا تكون الحوالة على عين، وإنما على دين، لكن قال البجيرمي في حاشيته: ¬
القول الثاني
"ولا تصح الحوالة على التركة، وإن كانت ديونًا، نعم تصح من الوارث على التركة إن كانت دينًا" (¬1). زاد في حاشية قليوبي وعميرة: "وتصح عليه إن تصرف في التركة؛ لأنها صارت دينًا عليه" (¬2). وسيأتينا إن شاء الله تعالى بحث الحوالة على الأعيان في مبحث مستقل، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. القول الثاني: صحح الحنابلة الحوالة على تركة الميت بشرط أن يكون دينًا مستقرًا. قال البهوتي: "وتصح الحوالة على ما في ذمة الميت من دين مستقر ... " (¬3). والصحيح صحة الحوالة مطلقًا على التركة، لكن إن كانت دينًا فهي حوالة، وإن كانت عينًا كانت وكالة في القبض، والله أعلم. [م - 1120] هذا الكلام في الحوالة على تركة الميت، وأما الحوالة على الميت، فاختلفوا فيها أيضًا على قولين: القول الأول: لا تصح الحوالة على الميت، وهذا مذهب المالكية والحنابلة. قال في مواهب الجليل: "ولا يجوز أن يحال به على ميت بعد موته ... لأن ذمة الميت قد فاتت، وذمة الحي موجودة". ¬
القول الثاني
وجاء في مطالب أولي النهى: "إن قال: أحلتك بما عليه: أي الميت، صح، لا أحلتك به عليه؛ أي الميت؛ فلا تصح؛ لأن ذمته خربت" (¬1). القول الثاني: تصح الحوالة على الميت، وهذا مذهب الشافعية، وعللوا صحتها بعدم اشتراط رضا المحال عليه. قال في مغني المحتاج: "وتصح على الميت؛ لأنه لا يشترط رضا المحال عليه، وإنما صحت عليه مع خراب ذمته؛ لأن ذلك إنما هو بالنسبة للمستقبل: أي لا تقبل ذمته شيئًا بعد موته، وإلا فذمته مرهونة بدينه حتى يقضى عنه" (¬2). ¬
الشرط الثامن أن يكون المحال به دينا
الشرط الثامن أن يكون المحال به دينًا [م - 1121] اشترط الأئمة الأربعة أن يكون المحال به دينًا للمحال في ذمة المحيل، فلا تصح الحوالة بالأعيان القائمة؛ لأنها لا تثبت في الذمة. قال الكاساني في معرض كلامه في شروط المحال به: "أن يكون دينًا، فلا تصح الحوالة بالأعيان القائمة؛ لأنها نقل ما في الذمة، ولم يوجد" (¬1). وقال ابن عابدين: "للشرط كون الدين للمحتال على المحيل، وإلا فهي وكالة، لا حوالة" (¬2). وقال الدسوقي في حاشيته: "وكذا يشترط ثبوت دين للمحال على المحيل" (¬3). وقال في أسنى المطالب: "أن تكون الحوالة بدين مثلي أو متقوم ... فلا تصح بالعين" (¬4). وقال ابن قدامة: "وإن أحال من لا دين عليه فهي وكالة في اقتراض، وليست حوالة؛ لأن الحوالة إنما تكون بدين على دين، ولم يوجد واحد منهما" (¬5). فتبين من هذا اتفاق الأئمة الأربعة على اشتراط أن يكون المحال به دينًا في ¬
ذمة المحيل، وقد سبق لنا في بحث مستقل أن المحال إذا لم يكن مدينًا للمحيل، وأحاله على شخص مدين: فقيل: يصح، ويكون العقد عقد وكالة في الطلب والقبض، وتثبت فيها أحكام الوكالة، وهذا مذهب الجمهور، وقول في مذهب الشافعية. قال ابن نجيم: "إذا أحال رجلًا وليس للمحتال دين على المحيل، فهذه وكالة، وليست حوالة" (¬1). وجاء في البيان للعمراني: "قال أبو العباس: إذا كان لرجل عند رجل ألف، فقال من له الدين لرجل لا شيء عليه له: أحلتك على فلان بألف، فهذا توكيل منه بالقبض، وليس بحوالة؛ لأن الحوالة إنما تكون لمن له حق، ولا حق للمحتال عليه ها هنا، فثبت أن ذلك توكيل" (¬2). وقيل: لا تصح لا حوالة ولا وكالة، وهو قول في مذهب الشافعية بناء على مذهبهم في تقديم الألفاظ على المعاني في العقود، ولفظ الحوالة غير لفظ الوكالة (¬3). والصواب الأول، وأن المعتبر في العقود المقاصد والمعاني دون الألفاظ والمباني، والله أعلم. ¬
الشرط التاسع أن يكون المحال عليه دينا
الشرط التاسع أن يكون المحال عليه دينًا [م - 1122] تبين لنا في المبحث السابق اتفاق الأئمة الأربعة على اشتراط أن يكون المحال به دينًا في ذمة المحيل، فالحوالة بالعين لا تصح، إذ لا يتصور فيها النقل الحكمي؛ فالحق يتعلق في الأعيان بذاتها، لا بأمثالها، والحوالة مثل المقاصة لا تجري إلا في الديون؛ لأن الوفاء يجري في الحوالة بمثلها، وليس بعينها، وهذا شأن الديون خاصة. أما الحوالة على العين فاختلف الفقهاء فيها على قولين: القول الأول: تصح الحوالة على العين من أمانة، وغصب. وهذا مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: لا تكون الحوالة إلا على دين، فإن كانت على عين كانت وكالة بقبض العين ممن هي عليه، وليست حوالة. وهذا مذهب الجمهور (¬2). والخلاف في توصيف العقد لا في صحته. ¬
فالحنفية يرون أن العقد حوالة مقيدة، ينتقل فيها الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه. والجمهور يرون أنه وكالة بالقبض، يكون فيها المحال (الوكيل) نائبًا عن الموكل (المحيل)، وليس بديلًا عنه، فإذا قبض العين، تم تسليط الوكيل على ملكها بعد قبضها عن الدين الذي له في ذمة الموكل. وهذا أقرب، قال السرخسي: "حقيقة الحوالة هي المطلقة، فأما المقيدة من وجه فتوكيل بالأداء والقبض" (¬1). وهذا الكلام من السرخسي يتفق مع توصيف الجمهور، وقد يرفع الخلاف بينهما لو كان هذا على إطلاقه، لكن ما أعرفه من مذهب الحنفية أنهم يقولون هذا عند اختلاف المحيل والمحال عليه، هل قصد بالعقد الحوالة أو الوكالة؟ وأيضًا في مسألة ما إذا أدى الحوالة المحال عليه، ثم رجع على المحيل، فقال المحيل: إنها حوالة بالدين الذي لي عليك، وقال المحال عليه: لست مدينًا لك بشيء. ولو كان الحنفية يرون أن المحال على العين هى وكالة في القبض لم يضمِّنوا المحال عليه إذا دفع العين للمحيل بدلًا من المحال، مع أن دفع المال للموكل يسقط حق الوكيل بالمطالبة بالقبض؛ لأن دفع المال للأصيل يعتبر دفعًا لنائبه، وهذا لا يقول به الحنفية في الحوالة على العين. جاء في حاشية ابن عابدين: "لو دفع المحال عليه العين أو الدين إلى المحيل ضمنه للطالب (المحال)؛ لأنه استهلك ما تعلق به حق المحتال" (¬2). وهذا صريح أنهم لا يرون الحوالة بالعين بمنزلة الوكالة بالقبض، والله أعلم. ¬
الشرط العاشر في اشتراط اللزوم والاستقرار في دين الحوالة
الشرط العاشر في اشتراط اللزوم والاستقرار في دين الحوالة المبحث الأولى في اشتراط أن يكون دين المحيل لازمًا مستقرًا قال الكاساني: كل دين لا تصح الكفالة به لا تصح الحوالة به (¬1). وقال الماوردي: ما لم يجب قبل الحوالة لم يصر واجبًا بالحوالة (¬2). [م - 1123] الدين في الحوالة اثنان: دين على المحيل، ودين على المحال عليه، والكلام في هذا المبحث إنما هو في دين المحيل، فهل يشترط في الدين المحال به أن يكون لازمًا (¬3) مستقرًا؟ ¬
القول الأول
اختلف الفقهاء في هذا على قولين: القول الأول: يشترط أن تكون الحوالة بدين لازم، وهو مذهب الحنفية، والشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). زاد الشافعية: أو مصيره إلى اللزوم كالإحالة بالثمن في زمن الخيار. جاء في فتح العزيز بشرح الوجيز: "أن يكون الدين لازمًا، أو مصيره إلى اللزوم" (¬2). قال الكاساني في بدائع الصنائع: "وأما الذي يرجع إلى المحال به، فنوعان: أحدهما: أن يكون دينًا ... والثاني: أن يكون لازمًا؛ فلا تصح الحوالة بدين غير لازم كبدل الكتابة، وما يجري مجراه؛ لأن ذلك دين تسمية، لا حقيقة؛ إذ المولى لا يجب له على عبده دين، والأصل أن كل دين لا تصح الكفالة به، لا تصح الحوالة به" (¬3). وقال الماوردي في الحاوي: "وأما المحال به، تعريفه، وأحواله، فهو الحق الذي يتحول من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وللحق ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون لازمًا مستقرًا. ¬
والثاني: أن يكون غير لازم ولا مستقر. والثالث: أن يكون لازمًا غير مستقر. فإن كان الحق لازمًا مستقرًا كأروش الجنايات، وقيم المتلفات ... فالحوالة به إذا كانت على مثل صفته جائزة ... فإن كان الحق غير لازم، ولا مستقر كمال الجعالة، وعوض الكتابة، فالحوالة به لا تصح؛ لأن ما لم يجب قبل الحوالة لم يصر واجبًا بالحوالة. وإن كان لازمًا غير مستقر، كالثمن في مدة الخيار، ففي جواز الحوالة وجهان: أحدهما: أنه تجوز إن قيل إنما عقد إرفاق. والثاني لا تجوز إن قيل: إنها عقد بيع" (¬1). وقال الغزالي: "الشرط الثاني للدين: أن يكون لازمًا، أو مصيره إلى اللزوم، فتجوز الحوالة بالثمن، وعلى الثمن في مدة الخيار على الصحيح، ثم إن فسخ انقطعت الحوالة. وفي نجوم الكتابة ثلاثة أوجه: أحدها: المنع؛ لأنه ليس بلازم عليه. والثاني: نقل عن ابن سريج جواز الحوالة به وعليه جميعًا لثبوته، وتأكده. والثالث: أنه لا تجوز الحوالة عليه؛ إذ لو صح لعتق العبد، ولصار الدين لازمًا على العبد، وتصح حوالة العبد به، فيبرأ العبد، ويعتق، ويلزم الدين في ذمة المحال عليه، فلا بعد فيه" (¬2). ¬
القول الثاني
وجاء في الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع في معرض كلامه على شروط صحة الحوالة، قال: "الثالث: كون الحق: أي الدين المحال به، وعليه لازمًا" (¬1). وقال المرداوي الحنبلي في الإنصاف: "وقيل: يشترط كون المحال به مستقرًا كالمحال عليه، اختاره القاضي في المجرد، وجزم به الحلواني، قال في الهداية، والمذهب، ومسبوك الذهب والمستوعب، والخلاصة: يشترط لصحتها أن تكون بدين مستقر، وعلى دين مستقر ... قال في التلخيص: فلا تصح الحوالة بغير مستقر، ولا على غير مستقر. فلا تصح في مدة الخيار، ولا في الأجرة قبل استيفاء المنفعة، ولا في الصداق قبل الدخول. وكذلك دين الكتابة. على ظاهر كلام أبي الخطاب" (¬2). وأما المالكية فقال خليل في مختصره: "شرط الحوالة رضا المحيل والمحال فقط، وثبوت دين لازم" (¬3). فيشمل كلمة (دين لازمًا) الدين المحال به، والدين المحال عليه، إلا أن غالب شراح خليل مثلوا له في دين المحال عليه. القول الثاني: ذهب الحنابلة في المشهور، إلى أنه لا يشترط استقرار المحال به. قال في الإنصاف: "وإن كانت الحوالة بمال لم يشترط استقراره، وتصح الحوالة به على الصحيح من المذهب" (¬4). ¬
وقال ابن قدامة في الكافي: "ولا يعتبر استقرار المحال به؛ لجواز أداء غير المستقر ... ولو أحال الزوج زوجته قبل الدخول بصداقها صح" (¬1). وفي تصحيح الفروع: "ولا يعتبر استقرار المحال به، فلو أحال الزوج زوجته قبل الدخول بصداقها، أو أحال المشتري البائع بثمن البيع في مدة الخيار، أو أحال المكاتب سيده بنجم قد حل صح ذلك" (¬2). وقال في كشاف القناع: "ولا يشترط للحوالة استقرار المحال به" (¬3). وفي شرح منتهى الإرادات: "ولا يشترط استقرار محال به، فتصح بجعل قبل عمل؛ لأن الحوالة به بمنزلة وفائه، ويصح الوفاء قبل الاستقرار" (¬4). ولأن اشتراط استقرار المحال به لا يثبت إلا بدليل من كتاب أو سنة، أو إجماع، ولا دليل على اشتراط استقرار المحال به، وإذا صح في عقد البيع أن يقبض البائع الثمن، ويقبض المشتري المبيع زمن الخيار، وقبل لزوم العقد صح أن يقبض المحال دينه غير المستقر، فإن لم يثبت الدين انتقضت الحوالة، وإن استقر بعد القبض لزمت الحوالة، غاية ما فيه أنه وفاه حقه قبل استقراره، وهذا ليس بحرام، وإذا صح أن يحال من لا دين له على من عليه دين، ويكون العقد وكالة بالقبض صح أن يحال من له دين غير مستقر من باب أولى، وهذا هو الراجح، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في اشتراط أن يكون دين المحال عليه لازما مستقرا
المبحث الثاني في اشتراط أن يكون دين المحال عليه لازمًا مستقرًا [م - 1124] سبق لنا أن الحنفية والشافعية في أحد الوجهين وابن الماجشون من المالكية لا يشترطون أن يكون المحال عليه مدينًا لصحة الحوالة، وبالتالي لا يتأتى هذا الشرط على هذا المذهب، كما سبق لنا أن الحنفية لا يصححون الحوالة إلا برضا المحال عليه، فإذا رضي بالحوالة فقد التزم الحق، سواء أكانت ذمته مشغولة بدين أم لا، فلا يكون الحق على المحال عليه عرضة للسقوط. وأما الذين يشترطون أن يكون المحال عليه مدينًا للمحيل. وهم الجمهور فاختلف موقفهم من هذا الشرط على قولين: القول الأول: ذهب المالكية والصحيح من مذهب الشافعية، والحنابلة في المشهور إلى اشتراط أن يكون الدين المحال عليه لازمًا. زاد الشافعية: أو صائرًا إلى اللزوم (¬1). قال خليل في مختصره: "وثبوت دين لازم" (¬2). قال الدردير: "واحترز بقوله: لازم عن دين صبي، وسفيه، ورقيق بغير إذن ولي وسيد، فلا تصح الإحالة عليهم به" (¬3). ¬
المسألة الثانية
قال الصاوي في حاشيته: "فلا تصح الحوالة عليهم: أي لعدم لزوم ذلك الدين؛ لأن لولي الصغير والسفيه، وسيد الرقيق طرح الدين عنهم " (¬1). وفي منح الجليل: "ووصف دين بلازم فلا تصح الحوالة على دين على صبي، أو سفيه تداينه بغير إذن وليه، أو رقيق بغير إذن سيده" (¬2). قال النووي في الروضة: "والدين ضربان: لازم، وغيره، أما غيره ففيه مسائل: إحداها: الثمن في مدة الخيار تصح الحوالة به، وعليه على الأصح ... أما الحوالة بالثمن بعد انقضاء الخيار، وقبل قبض المبيع فالمذهب الذي عليه الجمهور القطع بجوازها , وللمسعودي إشارة إلى منعها؛ لكونه غير مستقر. وقد اشتهر في كتب الأصحاب اشتراط استقرار ما يحال به وعليه. المسألة الثانية: إذا أحال السيد على مكاتبه بالنجوم لم يصح على الأصح، وقال الحليمي: يصح ... الثالثة: مال الجعالة، القياس أن يجيء في الحوالة به وعليه الخلاف المذكور في الرهن به وفي ضمانه. وقطع المتولي بجوازها به وعليه. بعد العمل، ومنعها قبله. قال النووي: قطع الماوردي بالمنع مطلقًا. والله أعلم. قال المتولي: لو أحال من عليه الزكاة الساعي جاز: إن قلنا: إنها استيفاء. وإن قلنا: إنها اعتياض فلا, لامتناع أخذ العوض عن الزكاة. ¬
القول الثاني
الضرب الثاني: الدين اللازم فتجوز الحوالة به وعليه سواء اتفق الدينان في سبب الوجوب، أو اختلفا" (¬1). وقال ابن قدامة: "ولا تصح إلا بشروط خمسة: أحدها: أن يحيل على دين مستقر؛ لأن مقتضاها إلزام المحال عليه الدين مطلقًا, ولا يثبت ذلك فيما هو بعرض السقوط؛ ولا يعتبر استقرار المحال له؛ لجواز أداء غير المستقر" (¬2). القول الثاني: لا يشترط لزوم دين المحال عليه ولا استقراره، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬3)، واختاره بعض الحنابلة. قال في الإنصاف: "الحوالة تارة تكون على مال وتارة تكون بالمال -يشير إلى المحال به والمحال عليه- فإن كانت الحوالة على مال: فيشترط أن يكون المال المحال عليه مستقرًا على الصحيح من المذهب. نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم. وقيل: تصح الحوالة على مال الكتابة بعد حلوله. وفي طريقة بعض الأصحاب: أن المسلم فيه منزل منزلة الموجود، لصحة الإبراء منه، والحوالة عليه وبه. وقال الزركشي: لا يظهر لي منع الحوالة بالمسلم فيه، وظاهر ما قدمه في ¬
الراجح
المحرر: صحة الحوالة على المهر قبل الدخول، وعلى الأجرة بالعقد، وإن كانت الحوالة بمال (المال المحال به) لم يشترط استقراره" (¬1). وقال في كفاية الأخيار: "قد اتفقا على تصحيح الحوالة بثمن في زمن الخيار وعليه، مع أنه غير لازم فضلًا عن الاستقرار، إلا أنه يؤول إلى اللزوم، وأما بعد مضي الخيار، وقبل قبض المبيع فالمذهب الذي قطع به الجمهور: أنه تصح الحوالة به وعليه، مع أنه غير مستقر؛ لجواز تلف المبيع، فلا يستقر إلا بقبض المبيع، وكذا تجوز الحوالة بالأجرة، وكذا الصداق قبل الدخول، والموت ونحو ذلك ... " (¬2). يعني وإن كانت غير مستقرة. * الراجح: إذا كان المحال عليه غير مدين صحت الحوالة عليه، وصار المحال عليه ضامنًا دين المحيل بقبوله الحوالة، وله الرجوع، وهذا لا يحتاج فيه إلى استقرار الدين ولزومه. وإن كانت الحوالة مبنية على دين على المحال عليه، وكانت الحوالة تنقل الحق نقلًا مطلقاً بحيث لا يحق للمحال أن يرجع على المحيل فقد يكون القول بلزوم دين المحال عليه متجهًا حفظًا لحق المحال. وإن قلنا: إنْ تعرض دين المحال عليه للسقوط فللمحال الرجوع بدينه على المحيل كما لو كانت الإحالة بزمن الخيار، أو كانت الإحالة على أجرة قد انفسخت لم يكن اشتراط لزوم الدين واستقراره ضرورة، والله أعلم. ... ¬
الشرط الحادي عشر أن يكون الدين المحال به والمحال عليه معلوما
الشرط الحادي عشر أن يكون الدين المحال به والمحال عليه معلومًا [م - 1125] نص الحنفية والشافعية والحنابلة على اشتراط أن يكون المحال به معلومًا، ونص المالكية على اشتراط تساوي الدينين قدرًا وصفة، والعلم بذلك ينافي الجهالة. جاء في مجلة الأحكام العدلية: "يلزم أن يكون المحال ببما معلومًا، فلا تصح حوالة الدين المجهول" (¬1). وقال الشيرازي: "ولا تجوز إلا بمال معلوم؛ لأنا بينا أنه بيع، فلا تجوز في مجهول" (¬2). وقال ابن قدامة: "أن تكون بمال معلوم؛ لأنها إن كانت بيعًا فلا تصح في مجهول، وإن كانت تحول الحق، فيعتبر بها التسليم، والجهالة تمنع منه" (¬3). وقال في الكافي: "أن يكون بمال معلوم على مال معلوم؛ لأنه يعتبر فيها التسليم والتماثل، والجهالة تمنعها" (¬4). وقد نص المالكية (¬5)، والشافعية (¬6)، والحنابلة (¬7) على اشتراط تساوي ¬
الدينين قدرًا وصفة. قال ابن رشد في بداية المجتهد: وللحوالة عند مالك ثلاثة شروط: ... الثاني: أن يكون الدين الذي يحيله به مثل الذي يحيله عليه في القدر، والصفة" (¬1). ويلزم من اشتراط تماثل الدينين في الصفة والمقدار إحاطة العلم بهما، لهذا أجد أن هذا الشرط معتبر عند الأئمة الأربعة. واعتبار هذا الشرط مما تختلف فيه الحوالة عن الكفالة، فيستثنى من قاعدة: كل ما تصح الكفالة به تصح الحوالة به، وكل ما لا تصح الكفالة به لا تصح به الحوالة، يستثنى من هذه القاعدة: أن الكفالة بالمال المجهول تصح على الصحيح، وإن كانت لا تصح الحوالة به، فلو قال: أنا كفيل بما يثبت لك على فلان، صحت الكفالة، ولكن لو قال: قبلت الحوالة بما يثبت لك من فلان لم تصح الحوالة (¬2). ... ¬
الشرط الثاني عشر كون المال المحال به أو عليه يصح الاعتياض عنه
الشرط الثاني عشر كون المال المحال به أو عليه يصح الاعتياض عنه [م - 1126] اختلف الفقهاء في اشتراط أن يكون المال المحال به أو عليه مما يصح الاعتياض عنه على قولين: القول الأول: يشترط أن يكون المال المحال به أو عليه مما يصح الاعتياض عنه وهذا مذهب الجمهور إلا أنهم اختلفوا في تحديد المال الذي يصح الاعتياض عنه قبل قبضه (¬1)، ولذلك اخترت دين السلم مثالاً لاتفاقهم عليه. فلا تصح الحوالة بدين السلم وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية والمذهب عند الحنابلة؛ لأن دين السلم لا يصح بيعه عندهم قبل قبضه. وصورته: أن يكون لرجل طعام من سلم، وعليه مثله من قرض، أو سلم آخر، أو بيع، فيحيل بما عليه من الطعام على الذي له عنده السلم. جاء في حاشية قليوبي وعميرة: "ويستثنى دين السلم فإنه لازم، ولا تصح الحوالة به، ولا عليه على الصحيح" (¬2). ¬
وجاء في تصحيح الفروع: "فلا تصح الحوالة بدين السلم، ولا عليه" (¬1). وقال ابن قدامة: "فلا تجوز الحوالة بدين السلم، ولا عليه؛ لأنه لا تجوز المعاوضة عنه به، ولا عنه" (¬2). ويوافقهم المالكية على اعتبار هذا الشرط، وهو أن يكون المال المحال به أو عليه مما يصح الاعتياض عنه، إلا أنهم يخصون المنع فيما إذا كان دين السلم طعامًا؛ فقد نص المالكية خلافًا لأشهب على امتناع أن يكون الدينان المحال به، والمحال عليه طعامين من بيع سلم؛ لأنه هو الذي لا يصح بيعه عندهم قبل قبضه. جاء في الشرح الكبير: "وألا يكون الدينان المحال به، وعليه طعامًا من بيع سلم؛ لئلا يدخله بيع الطعام قبل قبضه" (¬3). وأما إذا كان المسلم فيه ليس طعامًا، وكان المأخوذ مما يباع بالمسلم فيه يدًا بيد فإنه يجوز بيعه قبل قبضه، وبالتالي تصح الحوالة به (¬4). ¬
وجه اعتبار هذا الشرط
وسبق بحث هذه المسألة في باب السلم، وبيان الراجح. * وجه اعتبار هذا الشرط: هذا القول مبني على أن الحوالة من قبيل بيع الدين، ودين السلم لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه مطلقًا عند الشافعية والحنابلة، وعند المالكية بشرط أن يكون المسلم فيه طعامًا؛ لأنه من بيع الطعام قبل قبضه، وقد نهي عن ذلك. وحجتهم: (ح-663) ما رواه أبو داود من طريق عطية بن سعد عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره (¬1). [ضعيف] (¬2). ويناقش: سبق أن بينا أن الراجح في الحوالة أنها عقد إرفاق ومعروف، وليس من قبيل بيع الدين بالدين، فهي قائمة على تحويل الدين، وليس تبديله، ولو كانت الحوالة بيعًا لمنعت؛ لأنها من قبيل بيع الدين بالدين المجمع على منعه، والله أعلم. والغريب أن الحنابلة لا يرون أن الحوالة من قبيل بيع الدين، ثم يمنعون من الحوالة بدين السلم أو عليه؛ بناء على أنه من قبيل أخذ العوض عنه قبل قبضه. قال ابن قدامة: "السلم لا تصح الحوالة به ولا عليه" (¬3). ¬
القول الثاني
ثم علل ذلك كونه لا تصح الحوالة به بقوله: "لأنها لم تصح إلا فيما يجوز أخذ العوض عنه، والسلم لا يجوز أخذ العوض عنه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره" (¬1). وعلل كونه لا تصح الحوالة عليه بقوله: "لأن دين السلم ليس بمستقر؛ لكونه بعَرَض الفسخ؛ لانقطاع المسلم فيه" (¬2). وهذا لا يتفق مع ما قاله ابن قدامة في توصيفه عقد الحوالة، قال: "والصحيح أنها عقد إرفاق منفرد بنفسه، ليس بمحمول على غيره؛ لأنها لو كانت بيعًا لما جازت، لكونها بيع دين بدين، ولما جاز التفرق قبل القبض؛ لأنه بيع مال الربا بجنسه، ولجازت بلفظ البيع ولجازت بين جنسين كالبيع كله" (¬3). وجاء في شرح منتهى الإرادات: "وهي عقد إرفاق منفرد بنفسه، ليس محمولًا علي غيره" (¬4). القول الثاني: تصح الحوالة بدين السلم وعليه، وهو مذهب الحنفية، وقول في مذهب الشافعية، واختاره بعض الحنابلة. جاء في العناية شرح الهداية: "البيع معاوضة من كل وجه، والوصي يملكها إذا لم يكن فيها غبن فاحش، فاما الحوالة فليست كذلك لجوازها بالمسلم فيه، ¬
وبرأس مال السلم، ولو كانت معاوضة من كل وجه كان استبدالًا بالمسلم فيه، وبرأس المال، وهو لا يصح" (¬1). وجاء في الفتاوى الهندية: "وتصح الحوالة والكفالة والارتهان برأس المال ... وتجوز الحوالة بالمسلم فيه وكذلك الكفالة" (¬2). وفي بدائع الصنائع: "وتجوز الحوالة بالمسلم فيه لوجود ركن الحوالة مع شرائطه" (¬3). وفي حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: "وتجوز الحوالة والكفالة بالمسلم فيه؛ لأنه دين مضمون كسائر الديون، وقبضه من المسلم إليه بعينه ليس بشرط ... وتصح الحوالة والكفالة والارتهان برأس المال، ثم إن وجد قبض رأس المال ... في مجلس المتعاقدين جاز، وإلا بطل" (¬4). وجاء في حاشية البحر الرائق: "خمسة أشياء تجوز في السلم: الوكالة، والحواله، والكفالة، والإقالة، والرهن" (¬5). وقال في بدائع الصنائع: "ولو اشترى شيئًا بثمن دين، ولم يضف العقد إلى الدين حتى جاز، ثم أحال البائع على غريمه بدينه الذي له عليه جازت الحوالة، سواء كان الدين الذي أحيل به دينًا يجوز بيعه قبل القبض، أو لا يجوز كالسلم ونحوه. وذكر الطحاوي - رحمه الله - أنه لا تجوز الحوالة بدين لا يجوز بيعه قبل القبض، ¬
وجه القول بالجواز
وهذا غير سديد؛ لأن هذا توكيل بقبض الدين، فإن المحال له يصير بمنزلة الوكيل للمحيل بقبض دينه من المحتال له" (¬1). وفي مذهب الشافعية، قال الماوردي: "وإن كان مما لا تجوز المعاوضة عليه قبل قبضه كالسلم، فقد خرج أبو العباس بن سريج في جواز الحوالة به وجهين، من اختلاف الوجهين في الحوالة، هل هي بيع، أو عقد إرفاق؟ فجوز الحوالة به إن قيل إنها عقد إرفاق. وأبطلها إن قيل إنها بيع" (¬2). وجاء في الإنصاف: "وفي طريقة بعض الأصحاب: أن المسلم فيه منزل منزلة الموجود لصحة الإبراء منه، والحوالة عليه وبه، وقال الزركشي: لا يظهر لي منع الحوالة بالمسلم فيه" (¬3). * وجه القول بالجواز: هذا القول مبني على أن الراجح في توصيف عقد الحوالة أنه من عقود الإرفاق، وليس بيعًا، وقد بعثت هذه المسألة في فصل خاص، وذكرت الأدلة على أن عقد الحوالة لا يمكن أن تنزل عليه أحكام البيع، وليس مقصودًا به الربح والتكسب والمغابنة، وإذا كان كذلك لم يمنع من صحة الحوالة بدين السلم وعليه، وهذا هو القول الراجح، والله اعلم. ¬
الشرط الثالث عشر في اشتراط تماثل الدين المحال به بالمحال عليه
الشرط الثالث عشر في اشتراط تماثل الدين المحال به بالمحال عليه [م - 1127] الذين ذهبوا إلى اشتراط أن يكون المحال عليه مدينًا للمحيل اشترطوا تماثل الدينين في الجنس. فيحيل المدين بالذهب على ذهب مثله، والمدين بالفضة على فضة مثلها. وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة؛ لأن الحوالة عقد إرفاق لا يراد للمعاوضة، فاعتبر فيها الاتفاق في الجنس كالقرض. [م - 1128] واختلفوا في اشتراط تساويهما في الصفة على ثلاثة أقوال: القول الأول: يشترط تساويهما في الصفة فيحيل بالجيد على جيد مثله، وبالرديء على رديء مثله. وهذا أحد القولين في مذهب المالكية اختاره ابن رشد الجد والحفيد (¬1)، وهو الأصح في مذهب الشافعية (¬2)، وقول واحد في مذهب الحنابلة (¬3). قال ابن رشد الحفيد: "أن يكون الدين الذي يحيله به مثل الذي يحيله عليه في القدر والصفة؛ لأنه إذا اختلفا في أحدهما كان بيعًا, ولم يكن حوالة، فخرج من باب الرخصة إلى باب البيع، وإذا خرج إلى باب البيع دخله الدين بالدين" (¬4). ¬
وقال ابن رشد الجد: "لجواز الحوالة ثلاثة شروط: ... الثاني: أن يكون الدين الذي يحيل به مثل الدين الذي يحيله عليه في القدر والصفة، لا أقل، ولا أكثر ولا أدنى ولا أفضل؛ لأنه إن كان أقل أو أكثر، أو مخالفًا له في الجنس والصفة لم تكن حوالة، وكان بيعًا على وجه المكايسة، فدخلها ما نهي عنه من الدين بالدين أيضًا" (¬1). وقال النووي في الروضة: "الشرط الثالث: اتفاق الدينين، فيشترط اتفاقهما جنسًا وقدرًا ... وصحة وتكسرًا، وجودة ورداءة" (¬2). وفي حاشية قليوبي وعميرة: "ويشترط تساويهما أي المحال به وعليه جنسًا وقدرًا" (¬3). وقال ابن قدامة: "من شروط صحة الحوالة ... أحدها: تماثل الحقين؛ لأنها تحويل للحق، ونقل له، فينقل على صفته، ويعتبر تماثلها في أمور ثلاثة: الجنس، فيحيل من عليه ذهب بذهب، ومن عليه فضة بفضة، ولو أحال من عليه ذهب بفضة، أو من عليه فضة بذهب لم يصح. الثاني: الصفة فلو أحال من عليه صحاح بمكسرة، أو من عليه مصرية بأميرية لم يصح" (¬4). وقال في الإنصاف: " الثاني: اتفاق الدينين في الجنس والصفة والحلول، والتأجيل بلا نزاع في الجملة" (¬5). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يجوز التحول بالأعلى على الأدنى، وهو قول اللخمي والمازري، وابن شاس والمتيطي من المالكية (¬1). ومقتضى هذا القول أنهم يشترطون تماثل الدينين في الجنس والمقدار، ويجيزون التفاوت في الصفة بشرط أن يكون المحال عليه أدنى من المحال به وليس العكس. جاء في مواهب الجليل: "نص اللخمي مع المازري والمتيطي، وقال: شروطها -يعني الحوالة- ستة، كونها على دين، واتحاد جنس الدينين، واتحاد قدرهما، وصفتهما، أو كون المحال عليه أقل أو أدنى" (¬2). وجهه: أنه موافق لمقتضى عقد الحوالة بكونها عقد إرفاق وإحسان، فإذا أحاله بالأعلى على الأدنى والأقل جودة، كان هذا زيادة في المعروف. القول الثالث: تجوز الحوالة بالقليل على الكثير، وبالرديء على الجيد، وبالمكسر على الصحيح، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3). قال الرافعي في الشرح الكبير: وكأن المحيل تبرع بالزيادة (¬4). ومقتضى هذا القول: أنهم يشترطون تماثل الدينين في الجنس، ويجيزون تفاوتهما في المقدار والصفة بشرط أن يكون المحال به أقل قدرًا أو صفة من المحال عليه. على عكس مذهب المالكية في التفاوت في الصفة. ¬
الراجح
* الراجح: أما اتفاق الجنس فإن اعتباره صحيح؛ لأن العقد ينقلب إلى معاوضة، والحوالة لا تقوم على استبدال الدين وإنما على تحويله وانتقاله، فإذا انتقلت إلى المعاوضة فيجب أن يطبق عليها أحكام بيع الدين (¬1). وأما الحوالة بالجيد على الرديء وبالصحيح على المكسر إذا كانا من جنس واحد فهذا جائز؛ لأنه موافق لمقتضى عقد الحوالة القائم على المعروف والإحسان, وهذا منه، حتى على القول بأن الحوالة بيع فإن الإِسلام قد ألغى الجودة في استبدال الربوي بمثله. وأما الحوالة بالقليل على الكثير إذا كانا من جنس واحد، فهنا اختلاف في مقدار الدين، فالذين يرون أن الحوالة بيع يمنعونه، ولا أرى مانعًا شرعيًا من صحته ونقول: إن المحيل (المدين) قد تبرع بالزيادة، وهو داخل في حسن القضاء المأمور به المدين، خاصة إذا لم يكن هناك شرط واتفاق، وقلنا: إن عقد الحوالة قائم على المعروف والإحسان. وأما الحوالة بالكثير على القليل إذا كانا من جنس واحد فكذلك الصحيح جوازه، وكأن المحال أبرأ المحيل وأسقط عنه مقدارًا من دينه، ولا محذور في ذلك. والله أعلم. ¬
الشرط الرابع عشر في اشتراط اتحاد الدينين حلولا وأجلا
الشرط الرابع عشر في اشتراط اتحاد الدينين حلولا وأجلاً [م - 1129] من لا يشترط مديونية المحال عليه كالحنفية لا يتأتى مثل هذا الشرط في مذهبهم؛ لأن اشتراط اتحاد الدينين يلزم منه اشتراط وجود دينين محال به، ومحال عليه، وهذا ليس بشرط عند الحنفية، فتصح الحوالة على المحال عليه عندهم، ولو لم يكن مدينًا. وأما من يشترط وجود دين على المحال عليه فاختلفوا في اشتراط اتحاد الدينين على ثلاثة أقوال: القول الأول: يشترط حلول الدين المحال به، وأما الدين المحال عليه فيصح مؤجلاً ومعجلًا. فإن كان الدين المحال به غير حال فلا تجوز إلا أن يكون الدين الذي ينتقل إليه حالًا، ويقبض ذلك مكانه قبل أن يفترقا مثل الصرف فيجوز، وهذا مذهب المالكية (¬1). * وجه هذا القول: أما وجه اشتراط حلول الدين المحال به؛ فلأنه إذا كان الدين المحال به مؤجلاً، وكان الدين المحال عليه مؤجلًا، كان هذا يعني الوقوع في بيع الدين بالدين، وهذا لا يجوز. ¬
القول الثاني
وإن كان الدين المحال به مؤجلاً، والدين المحال عليه حالاً، كان هذا من قبيل ضع وتعجل، وهي لا تجوز على أصول المالكية (¬1). بخلاف ما إذا كان الدين المحال به حالًا، فإن الدين المحال عليه إن كان حالاً كان حالاً بحال، وهذا جائز. وإن كان الدين المحال عليه مؤجلاً، وقبل المحال كان هذا من تأجيل الحال، وهو معروف منه محض، فيجوز (¬2). القول الثاني: يشترط اتفاق الدينين حلولًا وأجلاً، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، وبه قال ابن حزم (¬3). جاء في أسنى المطالب: "الشرط الثالث: اتفاق الدينين جنسًا وقدرًا، وحلولًا وتأجيلًا ... ولو في غير الربوي؛ لأن الحوالة ليست على حقيقة المعاوضات، وإنما هي معاوضة إرفاق جوزت للحاجة، فاعتبر فيها الارتفاق كما في القرض" (¬4). وقال ابن حزم: "وتجوز الحوالة بالدين المؤجل على الدين المؤجل إلى مثل أجله، لا إلى أبعد، ولا إلى أقرب، وتجوز الحوالة بالحال على الحال، ولا ¬
القول الثالث
تجوز بحال على مؤجل، ولا بمؤجل على حال، ولا بمؤجل على مؤجل إلى غير أجله؛ لأن في كل ذلك إيجاب تأجيل حال، أو إيجاب حلول مؤجل. ولا يجوز ذلك؛ إذ لم يوجبه نص ولا إجماع. وأما المؤجل بالمؤجل إلى أجله فلم يمنع منه نص، ولا إجماع، فهو داخل في أمره -عليه السلام -: من أَتبع على مليء أن يتبعه" (¬1). وجه اشتراط اتحاد الدينين بالأجل: أنه إذا أحاله بحال على مؤجل فإن هذا يعني تأجيل الحال، والحال لا يتأجل. ولأن عقد الحوالة عقد إرفاق، لا مجال فيه للتكسب والربح، وإذا أحاله بحال على مؤجل يكون المحال قد انتقص حقه؛ لأن المعجل خير من المؤجل، وما نقص في حق المحال كان زيادة في حق صاحبه، فيخرج عقد الإرفاق عن موضوعه. القول الثالث: تجوز الحوالة بالمؤجل على الحال دون العكس، وتجوز بالأبعد أجلًا على الأقرب، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬2). وجهه: لا تجوز بالحال على المؤجل؛ لأنه تأجيل للحال، والحال لا يتأجل عند الشافعية. وأما الحوالة بالمؤجل على الحال، فجاز على أحد الوجهين عند الشافعية؛ لأنه يمكن تعجيل المؤجل. والوجه الثاني: لا تصح، وهو قول البغداديين من الشافعية؛ لأن المحيل قد زاد المحال في حقه كما لو كان له ألف حالة فزاده فيها ليجعله مؤجلًا. ¬
الراجح في هذه المسألة
* الراجح في هذه المسألة: أن تأجيل المعجل أو تعجيل المؤجل كل ذلك لا محذور فيه شرعًا، وهو متفق مع مقتضى عقد الحوالة القائم على الإرفاق والمعروف فلا منافاة بينهما، والله أعلم.
الشرط الخامس عشر في اشتراط كون الدين المحال به أو عليه مثليا
الشرط الخامس عشر في اشتراط كون الدين المحال به أو عليه مثليًّا جاء في الموسوعة الكويتية: كل ما لا يصح السلم فيه لا تصح الحوالة به. مر معنا عند الكلام على أقسام المال في عقد البيع أن المال ينقسم إلى مثلي وقيمي. فالمثلي هو: "كل ما يوجد له مثل في الأسواق بلا تفاوت يعتد به" (¬1). والقيمي: "ما لا يوجد له مثل في السوق، أو يوجد لكن مع التفاوت المعتد به" (¬2). واعتمد هذا التعريف صاحب مجلة الأحكام الشرعية الحنبلية (¬3). [م - 1130] ولم يختلف الفقهاء في الدين المثلي على صحة الحوالة به وعليه. [م - 1131] واختلفوا في غير المثلي من المتقومات، وهذه المسألة ترجع إلى مسأله أخرى: هل يثبت المال القيمي دينًا في الذمة؟ فمن رأى أن الدين يثبت في كل مال يمكن ضبط صفاته مما يصح السلم فيه، سواء كان مثلياً أو متقومًا؛ لأن الأصل في المعاملات الحل والصحة، ولا يوجد دليل يمنع من ثبوت المال القيمي في الذمة من رأى هذا لم يمنع من الحوالة بالدين القيمي إذا كان مما يمكن ضبط صفاته. ¬
القول الأول: مذهب الحنفية.
وهذا مذهب جماهير أهل العلم (¬1). ومن قال: إن الدين لا يثبت إلا في المال المثلي؛ لأن ما في الذمة يجب رد مثله، والمتقوم لا مثل له، لم ير الحوالة في المال القيمي. إذا علم هذا نأتي إلى مسألتنا، فنقول: اختلف العلماء في الحوالة بالمال القيمي: القول الأول: مذهب الحنفية. يشترط الحنفية أن يكون المحيل مدينًا للمحال، وقد مر معنا، وعليه فالحوالة عندهم لا تكون إلا في الديون، والدين هو ما ثبت في الذمة إلا أنهم يقسمون ما يثبت في الذمة إلى قسمين: القسم الأول: ما يثبت في الذمة مطلقاً سواء كان ذلك عن طريق المعاوضة، أو عن طريق القرض. وهذا خاص بالمثليات كالمكيلات، والموزونات، والعدديات المتقاربة، فهذه الديون تصح الحوالة بها وعليها مطلقاً، سواء كانت ناشئة عن دين، أو قرض، أو إتلاف أو غير ذلك (¬2). قال ابن نجيم: "ويجوز القرض فيما هو من ذوات الأمثال كالمكيل، والموزون والعددي المتقارب كالبيض والجوز. لأن القرض مضمون بالمثل، ولا يجوز في غير المثلي؛ لأنه لا يجب دينا في الذمة" (¬3). فقوله عن القرض بأنه لا يجوز في غير المثلي؛ لأنه لا يجب دينًا في الذمة، ¬
القسم الثاني
والحوالة إنما هي في دين ثابت في الذمة، فهذا يعني أن الدين الناشئ عن قرض لا يكون في المتقوم، فلا تصح الحوالة به ولا عليه. وقال ابن عابدين في حاشيته: "لا يصح القرض في غير المثلي؛ لأن القرض إعارة ابتداء، حتى صح بلفظها، معاوضة انتهاء؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاك عينه، فيستلزم إيجاب المثلي في الذمة، وهذا لا يتأتى في غير المثلي" (¬1). القسم الثاني: ما يثبت دينًا في الذمة عن طريق المعاوضة، ولا يثبت دينًا من جهة القرض كالثياب، والعروض التي يمكن ضبط صفاتها. كما لو باع عبده بثوب موصوف في الذمة إلى أجل، أو أجر داره بثوب موصوف في الذمة إلى أجل صح البيع، فهذه لا تثبت دينًا في الذمة إلا من جهة البيع والسلم، ولا تثبت دينًا في الذمة من جهة القرض (¬2). فإن كان الدين فيها ناشئًا عن معاوضة صحت الحوالة بها وعليها، وإن كان الدين فيها ناشئًا عن قرض، كان القرض فاسدًا، وبالتالي لا تصح الحوالة بها ولا عليها. هذا ملخص ما فهمته من مذهب الحنفية عند مراجعة أحكام الدين والمسلم فيه. القول الثاني: تصح الحوالة بالدين القيمي كالثياب والحيوان إذا كان مما يمكن ضبطه بالصفات. وهذا هو الراجح في مذهب الشافعية، والحنابلة. ¬
وجه القول بالصحة
جاء في فتح العزيز بشرح الوجيز: "وإن كان متقومًا -يعني دين الحوالة- كالثياب والعبيد فوجهان: أصحهما، وبه قال ابن سريج: أنه كالمثلي لثبوته في الذمة، ولزومه (¬1). وجاء في الإنصاف: "قال القاضي في المجرد: تجوز الحوالة بكل ما صح السلم فيه، وهو ما يضبط بالصفات، سواء كان له مثل، كالحبوب والأدهان، أو لا مثل له كالحيوان والثياب، وقد أومأ إليه الإِمام أحمد في رواية الأثرم. والوجه الثاني: لا تصح. قال الشارح: ويحتمل أن يخرج هذان الوجهان على الخلاف فيما يقضى به قرض هذه الأموال" (¬2). * وجه القول بالصحة: أن المدار على إمكانية ضبط صفاته، فالمال المتقوم إذا كانت صفاته يمكن ضبطها أصبح كالمال المثلي في صحة الحوالة به وعليه؛ لأنه دين لازم يثبت في الذمة فتصح الحوالة به وعليه. ولأن الحوالة عقد إرفاق وإحسان، فاغتفر التفاوت اليسير بين المتقومات. وهذا المذهب ليس بعيدًا عن أصول المالكية؛ لأن المالكية من أوسع المذاهب في جواز أن يكون المسلم فيه مالًا قيميًا فصححوا السلم في الرؤوس ¬
القول الثالث
والأكارع، والجواهر والأواني كما مر معنا في باب السلم (¬1)، فإذا صح المال القيمي أن يكون دينًا في الذمة، صحت الحوالة به وعليه. القول الثالث: يشترط كونه مثليًا، وهو وجه في مذهب الشافعية، ووجه في مذهب الحنابلة. قال ابن قدامة: "فأما ما يثبت في الذمة سلمًا غير المثليات، كالمذروع، والمعدود، ففي صحة الحوالة به وجهان: أحدهما: لا تصح؛ لأن المثل فيه لا يتحرر، ولهذا لا يضمنه بمثله في الإتلاف. وهذا ظاهر مذهب الشافعي. والثاني: تصح، ذكره القاضي؛ لأنه حق ثابت في الذمة، فأشبه ما له مثل" (¬2). القول الرابع: لا تصح الحوالة إلا بالأثمان خاصة. وهذا أضعف الأقوال (¬3). * الراجح: معلوم أن الحوالة تحويل للحق على مثله، وإنما يكون ذلك بين مالين يمكن المقاصة بينهما، فما ثبت دينًا في الذمة صحت الحوالة به وعليه، وكل ما صح السلم فيه من مال مثلي أو قيمي فهو يقبل أن يكون دينًا في الذمة، وبالتالي فإن الحوالة به وعليه حوالة صحيحة، والله أعلم. ¬
الباب الرابع في الشروط الجعلية في الحوالة
الباب الرابع في الشروط الجعلية في الحوالة الفصل الأول في اشتراط دوام يسار المحال عليه تقدم البحث في شروط الحوالة، هل ملاءة المحال عليه شرط لصحة الحوالة؟ وتبين لنا أن الملاءة ليست شرطاً لصحة الحوالة على الصحيح. [م - 1132] ونبحث هنا في صحة اشتراط الملاءة من المحيل كشرط جعلي في صلب عقد الحوالة، وقد اختلف العلماء في صحة هذا الشرط على قولين: القول الأول: يصح اشتراط ملاءة المحال عليه، اختاره الباجي، وابن رشد من المالكية، وقال به بعض الشافعية، وهو المذهب عند الحنابلة (¬1). ¬
دليل هذا القول
* دليل هذا القول: الدليل الأول: الأصل في الشروط الصحة والجواز، واشتراط المحال ملاءة المحال عليه شرط فيه مصلحة، ولا محذور في اشتراطه، ولا يخالف مقتضى العقد، فكان اشتراطه صحيحًا، وفواته موجبًا لفسخ العقد، كما لو اشترط المشتري صفة في المبيع، فإنه يثبت له الفسخ بفواتها، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. الدليل الثاني: فوات الشرط من باب التغرير بالمحال، والتغرير يوجب الخيار. القول الثاني: لا يصح اشتراط ملاءة المحال عليه، ولا يلزم، اختاره بعض المالكية كابن عرفة، وهو المذهب عند الشافعية (¬1). * دليل هذا القول: الدليل الأول: أنه شرط مناقض لعقد الحوالة، فعقد الحوالة يقتضي براءة المحيل من دين المحال، وانتقاله إلى ذمة المحال عليه. ويجاب: القول بأن شرط الرجوع يناقض عقد الحوالة إن كان المقصود به يناقض عقد ¬
الدليل الثاني
الحوالة المطلق فهذا صحيح، وهكذا كل الشروط لا تجب بمقتضى العقد، ولولا أن العاقد اشترطها لم يستحقها بدون اشتراط، وهذا لا يوجب بطلان الشرط، وإن كان المقصود أنه يناقض عقد الحوالة مطلقاً فغير مسلم، والله أعلم. الدليل الثاني: لا يعتبر الإعسار عيبًا يوجب الرجوع؛ لأن هناك فرقًا بين الإعسار وبين العيب في المبيع: فالعيب في البيع يوجب الرجوع على البائع سواء غر البائع المشتري أو كان ذلك بدون تغرير. وأما الإعسار فلا يوجب الرجوع مطلقاً عند الشافعية حصل تغرير من المحيل أو لا، وكذا لا يوجب الرجوع عند المالكية إفا لم يكن هناك تغرير، بأن علم المحيل بإعسار المحال عليه، وكتمه عن المحال. قال الشيرازي: "وإن أحاله على رجل بشرط أنه مليء، فبان معسرًا، فقد ذكر المزني أنه لا خيار له، وأنكر أبو العباس هذا ... وقال عامة أصحابنا لا خيار له؛ لأن الإعسار نقص، فلو ثبت به الخيار لثبت من غير شرط كالعيب في المبيع" (¬1). قال الماوردي: "إذا أحاله بالحق على رجل، فكان وقت الحوالة معسرًا لم يرجع المحتال، كما لو حدث الإعسار، سواء غره بذكر يساره، أو لم يغره. وقال مالك: إن غره بذكر يساره يرجع عليه، وإن لم يغره لم يرجع عليه، وبه ¬
الراجح
قال أبو العباس بن سريج وحده من بين أصحابنا كلهم، قال: لأنه لما رجع المشتري في المبيع بالغرور، وجب أن يرجع المحتال بالغرور في اليسار. وهذا خطأ؛ لأنا قد دللنا على أن الإعسار لا يستحق به الرجوع إذا لم يكن غرورًا، وكذا لا يستحق الرجوع مع الغرور، والعيوب لما رجع بها مع عدم الغرور بها رجع بها مع الغرور بها. والفرق بينهما: أن إعسار المحتال عليه قد يصل إليه من غير المحيل، فلم يكن له الرجوع بها مع الغرور، والعيوب قد لا يصل إليها من غير جهة البائع، فلذلك رجع بها مع الغرور، فصح أن لا رجوع للمحتال بإعسار المحال عليه، سواء كان إعسارًا حادثًا، أو سالفًا مغرورًا به، أو غير مغرور" (¬1). * الراجح: أن للمحال أن يشترط ملاءة المحال عليه، فإذا فاته ذلك وجب له الخيار، فإن شاء فسخ العقد، وإن شاء صبر على المحال عليه، والله أعلم. ... ¬
الفصل الثاني في اشتراط الضمان على المحيل
الفصل الثاني في اشتراط الضمان على المحيل إذا اشترط المحال الضمان، فإما أن يشترط الضمان من المحال عليه أو من المحيل. [م - 1133] فإن اشترط الضمان على المحال عليه، فاختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول: إذا اشترط المحال الضمان من المحال عليه ووافق المحال عليه صح ذلك (¬1). * وجه القول بالصحة: أن المحال عليه مدين، وذمته مشغولة بالدين، وقد شرع الإِسلام الرهن والضمان توثقة للدين، قال تعالى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. قال الماوردي: "إذا كان على رجل ألف، فأحال بها على رجل، انتقلت الألف بالحوالة من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وجاز أن يأخذ رهنًا من المحال عليه؛ لأنها دين مستقر عليه" (¬2). القول الثاني: لا تصح الحوالة بشرط أن يعطيه المحال عليه رهنًا أو ضامنًا. ¬
القول الأول
جاء في نهاية المحتاج: "لو أحال غيره بشرط أنه ضامن للحوالة، أو أن يعطيه المحال عليه رهنًا، أو كفيلا لم تصح الحوالة" (¬1). وجاء في الأشباه والنظائر: "لو احتال بشرط أن يعطيه المحال عليه رهنًا، أو ضامنًا فوجهان: إن قلنا: إنها بيع جاز، أو استيفاء فلا. والأصح الثاني" (¬2). هذا في حكم اشتراط الضمان من المحال عليه. [م - 1134] وأما اشتراط الضمان على المحيل فاختلف الفقهاء فيه على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن الحوالة إذا اشترط فيها ضمان المحيل تحولت إلى كفاله، لا حوالة؛ لأن المعتبر في العقود المقاصد والمعاني، وليس الألفاظ والمباني. فالكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة، والحوالة بشرط ضمان الأصيل كفالة. "قال قاضي خان -رحمه الله -: رجل له على رجل مال، فقال الطالب للمطلوب: أحلني بما لي عليك على فلان، على أنك ضامن لذلك، فهو جائز، وله أن يأخذ المال من أيهما شاء؛ لأنه لما شرط الضمان على المحيل، فقد جعل الحوالة كفالة؛ لأن الحوالة بشرط عدم براءة المحيل كفالة" (¬3). ¬
القول الثاني
وجاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "الحوالة بشرط عدم براءة المحيل كفالة، فلو قال أحد للمدين: أحل بمالي عليك من الدين على فلان، بشرط أن تكون أنت ضامنًا أيضًا، فأحاله المدين على هذا الوجه، فللطالب أن يأخذ طلبه ممن شاء. وهذا العقد عقد كفالة مجازًا، والمحال عليه هو الكفيل" (¬1). وجاء في الفتاوى الهندية: "الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة، والحوالة بشرط مطالبة الأصيل كفالة، كذا في السراجية" (¬2). القول الثاني: إذا شرط الضمان على المحيل لم تصح الحوالة، وهو الراجح في مذهب الشافعية. جاء في نهاية المحتاج: "لو أحال غيره بشرط أنه ضامن للحوالة، أو أن يعطيه المحال عليه رهنًا، أو كفيلا لم تصح الحوالة" (¬3). * دليل الشافعية على بطلان الحوالة: أن اشتراط الضمان في الحوالة ينافي مقتضى العقد؛ لأن الحوالة تقتضي براءة المحيل من الدين، وأشتراط ما ينافي مقتضى العقد يجعله باطلًا. وهذا التعليل يقتضي صحة اشتراط الرهن والكفيل على المحال عليه؛ لانشغال ذمته بالدين. ¬
القول الثالث
القول الثالث: يجوز اشتراط الضمان والرهن في الحوالة، وهو وجه مرجوح في مذهب الشافعية. جاء في الأشباه والنظائر: "لو احتال، بشرط أن يعطيه المحال عليه رهنًا، أو يقيم له ضامنًا، فوجهان، إن قلنا: بانها بيع، جاز، أو استيفاء، فلا، والأصح الثاني" (¬1). * وجه من قال: يجوز اشتراط الضمان على المحيل: الوجه الأول: الأصل في الشروط الصحة والجواز، واشتراط الضمان في الحوالة، لا يخالف نصًا ,ولا يترتب على القول به محذور شرعي. الوجه الثاني: القول بأن اشتراط الضمان في الحوالة ينافي مقتضى عقد الحوالة غير مسلم، فهناك فرق بين أن يشترط عدم براءة المحيل، وبين أن يشترط ضمانه , فالأول هو الذي ينافي مقصود العقد وحقيقته؛ لأن المقصود من الحوالة براءة المحيل، وإذا شرط عدم براءته كان ذلك منافيًا لمقصود العقد، وأما شرط الضمان فلا ينافي مقصود العقد؛ لأنه لا يمنع براءة المحيل من الدين، وانتقاله إلى ذمة المحال عليه بناء على عقد الحوالة، غاية ما في الأمر، أنه يقتضي اشتغال ذمته بالدين مرة أخرى بعد براءته منه وانتقاله إلى ذمة المحال عليه،، صحيح أن المحيل بقي مطالبًا بالدين، لكن نوع المطالبة اختلف، فقبل الحوالة: كان ¬
مطالبًا بالدين باعتباره أصيلاً، وبعد الحوالة التي اشترط فيه ضمانه، أصبح مطالبًا بالدين باعتباره ضامنًا، لا باعتباره أصيلاً، إذ أصبح المدين الأصيل هو المحال عليه، يوضح ذلك: أن المحال -في هذه المسألة- لو أبرأ المحال عليه من الدين برئ المحيل؛ لأنه أصبح ضامنًا، وبراءة الأصيل توجب براءة الضامن، بخلاف ما لو أبرأ المحيل، حيث لا يبرأ المحال عليه؛ لأنه أصبح المدين الأصيل، وبراءة الضامن لا توجب براءة الأصيل. والله أعلم. ***
الفصل الثالث في اشتراط الرجوع على المحيل عند التواء
الفصل الثالث في اشتراط الرجوع على المحيل عند التواء [م - 1135] من الشروط الفاسدة عند الحنفية ما لو قال: أحلتك على فلان بشرط ألا ترجع علي عند التواء. قال ابن نجيم في البحر الرائق: "تصح الحوالة، ويبطل الشرط، فيرجع عليه عند التواء" (¬1). وسيأتي معنى التوى إن شاء الله تعالى عند الكلام على رجوع المحال على المحيل بفلس أو جحود. * والراجح: أنه إذا شرط المحيل ألا يرجع عليه المحال عند التوى أنه شرط صحيح موافق لمقتضى العقد بعدم رجوع المحال على المحيل. ¬
الباب الخامس في أحكام الحوالة
الباب الخامس في أحكام الحوالة اختلف العلماء في عقد الحوالة هل عقد لازم أو جائز؟ وثمرة الخلاف أن من قال: إن الحوالة عقد لازم فإن ذلك يعني إبراء ذمة المحيل من دين المحال، ولا يحق له الرجوع، ومن قال جائز فإن ذمة المحيل لا تبرأ بالحوالة، ويحق للمحال الرجوع على المحيل. قال البخاري في صحيحه: "باب في الحوالة، وهل يرجع في الحوالة؟ ". قال العيني: وإنما لم يجزم بالحكم؛ لأن فيه خلافًا، وهو أن الحوالة عقد لازم عند البعض وجائز عند أخرين، فإن قال: عقد لازم، فلا يرجع فيها، ومن قال: عقد جائز فله الرجوع" (¬1). وسوف ندرس إن شاء الله في المباحث القادمة المسائل التالية: المسألة الأولى: في لزوم عقد الحوالة. المسألة الثانية: في اشتراط الخيار في عقد الحوالة. المسألة الثالثة: في رجوع المحيل على المحال، ويشمل: رجوع المحال لفلس المحال عليه. رجوع المحال لجحود المحال عليه. في رجوع المحال إذا أحيل بثمن مبيع ثم بطل البيع. ¬
في رجوع المحال إذا أحيل بثمن مبيع، ثم فسخ البيع. إذا أحيل على عين في يد المحال عليه ثم تلفت قبل القبض. نسأل الله وحده - سبحانه وتعالى - عونه وتوفيقه.
الفصل الأولى في لزوم عقد الحوالة
الفصل الأولى في لزوم عقد الحوالة [م - 1136] هل الحوالة عقد لازم، فإذا تم لم يرجع المحال على المحال عليه، أو أنها عقد جائز يرجع فيه المحال على المحيل ولو تمت بشروطها، وانتفت موانعها؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: عقد الحوالة يقتضي إبراء ذمة المحيل من دين المحال، وإبراء المحال عليه من دين المحيل. وهذا مذهب الأئمة الأربعة (¬1). قال الكاساني في بدائع الصنائع: "الحوالة لها أحكام منها: براءة المحيل، وهذا عند أصحابنا الثلاثة" (¬2). وجاء في شرح ميارة: "وأما حكمها فهو براءة المحيل من دين المحال، وتحول الحق إلى المحال عليه، وبراءة المحال عليه من طلب المحيل" (¬3). ¬
وجه هذا القول
وجاء في فتح العزيز بشرح الوجيز: "أما حكمها فبراءة المحيل عن دين المحال، وتحول الحق إلى المحال عليه، وبراءة المحال عليه من دين المحيل" (¬1). وجاء في المغني: "ومن أحيل بحقه على من عليه مثل ذلك الحق، فرضي، فقد برئ المحيل أبدًا" (¬2). * وجه هذا القول: الوجه الأول: قال ابن الجوزي: "لنا حديث حزن جد سعيد بن المسيب أنه كان له دين على علي بن أبي طالب، فسأله أن يحيله على رجل، ويمضي له به عليه، ثم أتاه، فقال له: قد مات، فقال له: اخترت علينا أبعدك الله، ولم يقل له: لك الرجوع علي (¬3). وجه الاستدلال: قال الماوردي: "لو كان له الرجوع لما استجاز علي أن يمنعه منه، وهو فعل انتشر في الصحابة لا نعرف له مخالفًا" (¬4). وأجيب على هذا: هذه القصة لا يعلم لها إسناد، فلا حجة فيها. "قال ابن عبد الهادي في التنقيح: هذه القصة ذكرها غير واحد من أصحاب أحمد بغير إسناد. قال شيخنا: ولم أجد لها إلى الآن سندًا، والله أعلم" (¬5). ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: الإجماع على أن المحال لو أبرأ المحال عليه من الدين أو وهبه منه صح، ولو أبرأ المحيل أو وهب منه لم يصح، ولولا أن الدين انتقل إلى ذمة المحال عليه، لصح الإبراء والهبة؛ لأنه دين ثابت (¬1). الوجه الثالث: من المعقول: فإن الحوالة تعني نقل الدين وتحويله؛ لأنها مشتقة من التحويل، وهو النقل، فيقتضي نقل ما أضيف إليه، وقد أضيف إلى الدين، لا إلى المطالبة؛ لأنه إذا قال: أحلت بالدين، أو أحلت فلانًا بدينه، فيوجب انتقال الدين إلى المحال عليه، إلا أنه إذا انتقل أصل الدين إليه تنتقل المطالبة؛ لأنها متابعة (¬2). القول الثاني: ذهب محمَّد بن الحسن من الحنفية بأن المحيل لا يبرأ إلا من المطالبة فقط، ولا يبرأ من الدين (¬3). ثمرة الخلاف بين هذا القول وبين الذي قبله: أن المحال لو أبرأ المحيل من الدين أو وهبه لم يصح؛ لأن الحق قد انتقل من ذمته إلى ذمة المحال عليه. وعلى قول محمَّد بن الحسن يصح الإبراء والهبة (¬4). ¬
وجه هذا القول
* وجه هذا القول: أن المحيل إذا قضى دين الدائن بعد الحوالة وقَبْلَ أن يؤدي المحال عليه لا يكون متطوعًا، ويجبر على القبول، ولو كانت ذمته قد فرغت من الدين لكان متطوعًا، والمتطوع لا يجبر على القبول، كما إذا تطوع أجنبي بقضاء دين إنسان على غيره (¬1). القول الثالث: أن عقد الحوالة لا يبرئ المحيل، وإنما هو ضم ذمة إلى أخرى، وإلى هذا ذهب زفر من الحنفية. قال الكاساني: "وقال زفر: الحوالة لا توجب براءة المحيل، والحق في ذمته بعد الحوالة على ما كان عليه قبلها كالكفالة سواء" (¬2). * وجه قول زفر: أن الحوالة شرعت وثيقة للدين كالكفالة، وليس من الوثيقة براءة الأول، بل الوثيقة في مطالبة الثاني مع بقاء الدين على حاله في ذمة الأول من غير تغيير، كما في الكفالة سواء. ونوقش هذا: بأن الحوالة مشتقة من التحويل، وهو النقل فكان معنى الانتقال لازمًا فيها، والشيء إذا انتقل إلى موضع لا يبقى في المحل الأول ضرورة، بخلاف الكفالة (الضمان) فهي مشتقة من الضم، أي ضم ذمة إلى أخرى. والله أعلم. ¬
الراجح
* الراجح: بعد الاطلاع على الأقوال والأدلة أرى أن قول جماهير أهل العلم أقوى، وهو أن الحوالة تعني نقل الحق إلى ذمة المحال عليه، والله أعلم.
الفصل الثاني دخول الخيار في عقد الحوالة
الفصل الثاني دخول الخيار في عقد الحوالة [م - 1137] انتهينا في المبحث السابق إلى أن عقد الحوالة عقد لازم، والبحث الآن هل يكون جائزاً عن طريق الخيار؟ اختلف العلماء في قبول الحوالة للخيارات، على قولين: القول الأول: مذهب الحنفية. لا يثبت الحنفية خيار المجلس مطلقاً، لا في البيع، ولا في غيره. وأما خيار الشرط فقالوا بثبوته في عقد الحوالة لمن يشترط رضاه، وهو المحال والمحال عليه على الصحيح في مذهبهم، ومدته ثلاثة أيام عند أبي حنيفة، وأي مدة معلومة عند صاحبيه. والقول بثبوت خيار الشرط في عقد الحوالة هو مذهب الحنابلة، واختيار ابن تيمية (¬1). قال في البحر الرائق: "ويصح اشتراطه -يعني الخيار- في الحوالة" (¬2). وقال ابن تيمية: "يجوز خيار الشرط في كل العقود" (¬3). * وجه هذا القول:. الضابط في خيار الشرط أنه يجري في كل العقود اللأزمة التي تقبل الفسخ، ومنها عقد الحوالة. ¬
القول الثاني: مذهب المالكية
جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "وخيار الشرط ليس خاصًا بالبيع ... أي يجري في كل العقود اللازمة التي تقبل الفسخ، وكذلك يجوز شرط الخيار في الرهن للراهن ... وفي الحوالة للمحال له، وللمحال عليه" (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية: يتفق المالكية مع الحنفية بأنهم لا يثبتون خيار المجلس مطلقًا في سائر العقود، ومنه عقد الحوالة. وأما خيار الشرط، وهو ما يسمى (خيار التروي) فلم أقف على نص عنهم في عقد الحوالة، ومن خلال دراسة مذهب المالكية في خيار الشرط نرى أنهم نصوا على دخول خيار الشرط في عقد البيع بأنواعه. جاء في الشرح الصغير: " (الخيار قسمان: ترو ونقيصة). أي خيار ترو: أي نظر وتأمل في إبرام البيع وعدمه. وخيار نقيصة: وهو ما كان موجبه وجود نقص في المبيع من عيب أو استحقاق. (فالأول) أي خيار التروي (بيع وقف بته): أي لزومه (على إمضاء) ممن له الخيار من مشتر أو بائع أو غيرهما (يتوقع) في المستقبل. (وإنما يكون) أي يوجد ويحصل (بشرط) من المتبايعين ولا يكون بالمجلس .. " (¬2). وجاء في مواهب الجليل: "خيار التروي: وهو الذي ينصرف إليه بيع الخيار عند الإطلاق في عرف الفقهاء" (¬3). ¬
وأثبت المالكية خيار الشرط في بيع التولية (¬1)، وفي قسمة التراضي (¬2)، وفي الإجارة (¬3). وسبق لنا أن المالكية يرون عقد الحوالة كعقد التولية أنهما من قبيل البيع المقصود بهما الإرفاق والمعروف، وإذا كانت التولية يدخلها خيار الشرط عندهم لم يمنع دخول خيار الشرط عقد الحوالة، وبناء عليه يمكن القول بأن المالكية يثبتون خيار الشرط في عقد الحوالة، والله أعلم. ¬
القول الثالث
القول الثالث: ذهب الشافعية، والحنابلة في المشهور إلى أن الحوالة لا تقبل خيار الشرط، وفي خيار المجلس وجهان، أصحهما أنه لا يثبت فيها (¬1). جاء في المهذب: "ولا يجوز شرط الخيار فيه -يعني عقد الحوالة- لأنه لم يبن علي المغابنة، فلا يثبت فيه خيار الشرط" (¬2). وقال الماوردي: "القسم الثاني: ما لا يدخله خيار الشرط، واختلف أصحابنا في دخول خيار المجلس فيه على وجهين، وذلك ثلاثة عقود: الإجارة، والمساقاة، والحوالة. وهل تبطل باشتراط خيار المجلس؟ على وجهين" (¬3). قال النووي: "لا يثبت خيار المجلس في صلح الحطيطة ... ولا يثبت في الحوالة إن قلنا: إنها ليست معاوضة، وإن قلنا: معاوضة لم يثبت أيضاً على أصح الوجهين؛ لأنها ليست على قاعدة المعاوضات" (¬4). وجاء في كشاف القناع: "ولا يثبت خيار المجلس في بقية العقود والفسوخ كالمساقاة، والمزارعة، والحوالة ... " (¬5). وقال في المقنع عن العقود التي يدخلها خيار الشرط: "ولا يثبت إلا في البيع والصلح بمعناه والإجارة في الذمة أو على مدة لا تلي العقد" (¬6). ¬
وجه هذا القول
فلم يذكر الحوالة في العقود التي يثبت فيها خيار الشرط، وحكى وجهين في ثبوت خيار المجلس في عقد الحوالة (¬1). * وجه هذا القول: تعليل الشافعية: علل الشافعية عدم ثبوت خيار الشرط في عقد الحوالة بأن الحوالة إن كانت بيعًا، فهي بيع دين بدين، وهو منهي عنه، ولكن جوزت هنا للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، فلا يثبت فيها خيار الشرط. وإن كانت الحوالة استيفاء فإن استيفاء الحقوق لا خيار فيها، فلا يثبت فيها خيار الشرط. وأما خيار المجلس: فوجة القول بالجواز: أن الراجح في الحوالة أنها بيع، وخيار المجلس يثبت في البيع، وفي الصلح؛ لأنه بمعنى البيع. وأما وجه القول بالمنع: أن الحوالة فيها معنى الاستيفاء، واستيفاء الحقوق لا خيار فيها. وأما تعليل الحنابلة، فقد قال ابن قدامة، وهو يذكر أنواع العقود التي يدخلها الخيار: "الضرب السادس: لازم يستقل به أحد المتعاقدين، كالحوالة، والأخذ بالشفعة، فلا خيار فيهما؛ لأن من لا يعتبر رضاه، لا خيار له، وإذا لم يثبت في أحد طرفيه لم يثبت في الآخر كسائر العقود" (¬2). ¬
الراجح
* الراجح: أما خيار المجلس فأرى أن الراجح أنه لا يثبت فيها؛ لأنها ليست قائمة على المعاوضة، وإن كان فيها شبه المعاوضة. وأما خيار الشرط فالراجح القول بجوازه فيها، وهو أولى بالجواز من خيار المجلس، قاله ابن تيمية: جاء في النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر: " الوجه الثاني: يثبت الخيار للمحيل، والشفيع؛ لأن العوض مقصود، فأشبه سائر عقود المعاوضة، وقال الشيخ تقي الدين: خيار الشرط في هذه الأشياء أقوى من خيار المجلس بدليل أن النكاح والصداق، والضمان لنا فيها خلاف في خيار الشرط، دون خيار المجلس، ولأن خيار المجلس ثابت بالشرع، فلا يمكن أن يلحق بالمنصوص ما ليس في معناه بخلاف خيار الشرط، فإنه تابع لرضاهما، والأصل عندنا أن الشرط يتبع رضا المتشارطين، والأصل صحتها في العقود، وإنما يناسب البطلان من يقول: إن خيار الشرط ثابت على خلاف القياس، وليس ذلك قولنا" (¬1). ¬
الفصل الثالث في رجوع المحال على المحيل
الفصل الثالث في رجوع المحال على المحيل المبحث الأول رجوع المحال لفلس المحال عليه [م - 1138] إذا أحاله على رجل، فتبين أنه مفلس، فهل يملك المحال الرجوع على المحال عليه؟ وللجواب على ذلك نقول: إن كان المحال عالماً بإفلاس المحال عليه، فلا حق له في الرجوع؛ لأنه بمنزلة من يشتري معيبًا عالماً بعيبه، ويرضى بذلك. وإن كان لا يعلم بأنه مفلس، أو تجدد له فلس فقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال، منها: القول الأول: ذهب أبو حنيفة بأن المحال لا يرجع إلا إن مات المحال عليه مفلسًا, ولم يترك مالًا ولا دينًا ولا كفيلًا. وزاد أبو يوسف ومحمد: أو يحكم الحاكم بإفلاسه في حال حياته (¬1). ¬
دليلهم على رجوع المحال بموت المحال عليه مفلسا
* دليلهم على رجوع المحال بموت المحال عليه مفلسًا: الدليل الأول: أن إفلاس المحال عليه، وهو حي لا يكفي للرجوع على المحيل؛ لأنه عجز يتوهم ارتفاعه بحدوث المال؛ لأن مال الله غاد ورائح، فلا يعود إلى المحيل كما قبل التفليس بخلاف إذا مات مفلسًا؛ فإنه عجز لا يتوهم ارتفاعه. وقال صاحبا أبي حنيفة: إذا حكم عليه الحاكم بالإفلاس بمنزلة من مات مفلسًا؛ لأنه بالحكم بالإفلاس صار المحال عاجزًا عن أخذ حقه، مقطوعًا عن ملازمته. ولأبي حنيفة: أن الدين باق، وبتعذر الاستيفاء لا يوجب الرجوع، ألا ترى أنه لو تعذر بغيبة المحال عليه لا يرجع على المحيل. الدليل الثاني: (ث-116) ما رواه البيهقي من طريق أبي الوليد، ثنا شعبة، أخبرني خليد ابن جعفر، قال: سمعت أبا إياس، عن عثمان بن عفان، قال: ليس على مال امرئ مسلم نوى. بعني حوالة (¬1). [ضعيف، إياس لم يسمع من عثمان]. وجه الاستدلال: أن معنى توى هلك، فإذا مات المحال عليه مفلسًا كما هو رأي أبي حنيفة، أو حكم الحاكم بإفلاسه في حال حياته كما هو رأي صاحبيه لم يبق ذمة يتعلق بها الحق، وثبت عجز المحال عن الوصول إلى حقه، وهذا هو التوى المذكور في الأثر، وثبت للمحال الرجوع على المحيل؛ لأن براءة المحيل كانت براءة نقل واستيفاء، لا براءة إسقاط، فلما تعذر الاستيفاء وجب الرجوع. ¬
ورد هذا
وأجيب عن الحديث بعدة أجوبة، منها: أحدها: أنه رواية خليد، وهو مجهول. ذكره البيهقي في السنن (¬1). ورد هذا: بأن خليدًا وثقه شعبة، وكان يعظمه ويثني عليه، وقال: كان من أصدق الناس، وأشدهم إتقانًا، ووثقه ابن معين، وقال أبو حاتم الرازي: صدوق. ووثقه الذهبي في الكاشف. الجواب الثاني: أنه منقطع؛ لأن أبا إياس معاوية بن قرة لم يلق عثمان، والمنقطع ليس بحجة. الجواب الثالث: أن لفظ الأثر عن عثمان أنه قال: ليس على مال امرئ مسلم توى. يعني حوالة. لم يقل: يعني حوالة إلا أبو الوليد، وقد رواه غيره عن شعبة مطلقًا، ليس فيه يعني حوالة. قاله البيهقي (¬2). وفي مختصر المزني، قال: واحتج محمَّد بن الحسن بأن عثمان - رضي الله عنه - قال في الحوالة أو الكفالة ... " (¬3). والشك يمنع من صحة الاستدلال؛ لأن في الكفالة يرجع، وفي الحوالة لا يرجع، والشك يمنع من تعيينه في الحوالة ... (¬4). ¬
الدليل الثالث للحنفية
وأجيب عن هذا: بأن الأثر قد رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن خليد بن جعفر، عن أبي إياس، عن عثمان في الحوالة يرجع، ليس على مسلم توى (¬1). وقال ابن التركماني في الجوهر النقي: "الذي في كتب الحنفية أن محمدًا ذكره في الأصل عن عثمان في الحوالة من غير شك، كما أخرجه البيهقي أولًا، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن وكيع، عن شعبة بسنده، وكيف يقال ذلك في الكفالة، والرجوع فيها على الأصيل لا يتوقف على شرط موت الكفيل مفلسًا" (¬2). الجواب الرابع: أن قول عثمان على افتراض ثبوته مخالف لما روي عن علي في قصة حزن جد سعيد بن المسيب، أنه كان له دين على علي بن أبي طالب، فسأله أن يحيله على رجل، ويمضي له به عليه، ثم أتاه، فقال له: قد مات، فقال له: اخترت علينا أبعدك الله، ولم يقل له: لك الرجوع علي (¬3). فإن قيل: إن أثر علي لم يوقف على إسناده، فهو ضعيف. قيل: وكذلك أثر عثمان منقطع، والمنقطع ضعيف. الدليل الثالث للحنفية: قال الكاساني: "الأصل أن الدين لا يسقط إلا بالقضاء، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬
الدين مقضي (¬1). وألحق الإبراء بالقضاء في السقوط. والحوالة ليست بقضاء ولا إبراء، فبقي الدين في ذمته على ما كان قبل ¬
الدليل الرابع
الحوالة، إلا أنه بالحوالة انتقلت المطالبة إلى المحال عليه لكن إلى غاية التوى؛ لأن حياة الدين بالمطالبة، فإذا توى لم تبق وسيلة إلى الأحياء فعادت إلى محلها الأصلي، ولا حجة في الحديث؛ لأنه عليه الصلاة والسلام علق الحكم بشريطة الملاءة، وقد ذهبت بالإفلاس" (¬1). الدليل الرابع: الحقوق المستقرة في الذمم قد تنتقل تارة إلى ذمة أخرى بالحوالة، وتارة إلى عين بالمعاوضة، فلما كان تلف العين قبل قبضها يوجب عود الحق إلى الذمة الأولى، وجب أن يكون تلف الذمة قبل قبض الحق منها يوجب عود الحق إلى الذمة الأولى، وتحريره قياسًا أنه حق انتقل من الذمة إلى جهة فات استيفاؤه منها، فوجب أن يعود إلى الذمة التي كان ثابتًا فيها، كالأعيان التالفة قبل قبضها (¬2). الدليل الخامس: أن خراب الذمم لا يخلو أن يجري مجرى العيب أو الاستحقاق، فإن جرى مجرى الاستحقاق فقد عاد الحق إلى الذمة الأولى، وإن جرى مجرى العيب كان مخيرًا في الرجوع إلى الذمة الأولى (¬3). الدليل السادس: أنه لما كان خراب الذمة بالفلس يوجب عندكم عود الحق إلى العين المبيعة كان ما يوجب عوده إلى الذمة الأولى أولى (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب المالكية بأن المحال لا يرجع إلا إن غره المحيل بأن كان يعلم بإفلاسه، ولم يبين للمحال. أما إذا كان لا يعلم بإفلاسه وقت الإحالة، أو تجدد له الإفلاس فلا رجوع (¬1). قال ابن عبد البر: "والذي عليه مالك وأصحابه في الحوالة ما ذكره في الموطأ ... إذا غره من فلس علمه فإنه يرجع عليه كالحمالة" (¬2). قال الخرشي: "حق المحال يتحول على المحال عليه بمجرد عقد الحوالة، وإن أفلس المحال عليه ... وسواء كان الفلس سابقًا على عقد الحوالة، أو طارئًا عليها إلا أن يعلم المحيل بإفلاسه فقط" (¬3). * دليل المالكية على أن المحال لا يرجع على المحيل إلا بالتغرير: أدلتهم هي نفس أدلة الشافعية والتي سوف نذكرها إن شاء الله تعالى في القول ¬
القول الثالث
التالي في كون الحوالة تنقل الحق إلى ذمة المحال عليه، فلا يرجع المحال على المحيل، إلا أنهم قالوا: إن كان المحيل يعلم إفلاس المحال عليه، ولم يخبر المحال فإن له الرجوع؛ لأن هذا خداع وتغرير منه للمحال بمنزلة البائع يدلس عيب المبيع. القول الثالث: ذهب الشافعية بأن المحال لا يملك الرجوع على المحيل مطلقًا إذا تمت الحوالة، سواء كان الفلس قبل الحوالة أم بعدها، وسواء غره أم لم يغره، وسواء اشترط عليه ملاءته أم لم يشترط. * دليلهم على عدم الرجوع: الدليل الأول: أن الحوالة إما أن يتحول بها الحق عن المحيل، أو لا يتحول. فإن تحول فقد برئت ذمته، فوجب ألا يعود إليه، كما لو أبرأه، وإن لم يتحول فلتدم المطالبة كما في الضمان. والحوالة اسم مشتق من معناه، وهو تحول الحق به كما أن الضمان مشتق من انضمام ذمة إلى أخرى فلم يجز أن يعود الحق بعد تحوله إلا بمثل ما انتقل به. الدليل الثاني: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) فلو كان له الرجوع لما كان لاشتراط الملاءة فائدة؛ لأنه إن لم يصل إلى حقه رجع، فلما شرط الملاءة علم أن الحق قد انتقل بها انتقالًا لا رجوع له فيه، فاشتراط الملاءة حراسة لحقه. الدليل الثالث: قال ابن الجوزي: "لنا حديث حزن جد سعيد بن المسيب أنه كان له دين على
وجه الاستدلال
علي بن أبي طالب، فسأله أن يحيله على رجل، ويمضي له به عليه، ثم أتاه، فقال له: قد مات، فقال له: اخترت علينا أبعدك الله، ولم يقل له: لك الرجوع علي (¬1). وجه الاستدلال: قال الماوردي: "لو كان له الرجوع لما استجاز علي أن يمنعه منه، وهو فعل انتشر في الصحابة لا نعرف له مخالفًا" (¬2). وأجيب عن هذا: سبق الجواب عن هذه القصة في المسألة التي قبل هذه، وبينت أنه لا يعلم لها إسناد، فلا حجة فيها، وقول علي - رضي الله عنه - على ضعفه قد خالفه عثمان في أثر ضعيف أيضاً عنه. الدليل الرابع: تعذر استيفاء الحق من المحال عليه لا يوجب فسخ الحوالة، كما لو أفلس حيًا. الدليل الخامس: من لزمه حق في ذمته فموته لا يوجب فسخ العقد الذي ثبت الحق لأجله كالمشتري بثمن مؤجل إذا مات لم يوجب موته فسخ الشراء. القول الرابع: ذهب الحنابلة بأن المحال إن ظن أن المحال عليه مليء أو جهل ملاءته، فبان مفلسًا، فإما أن يكون المحال قد رضي بالحوالة أو لا. ¬
وجه قول الحنابلة
فإن كان لم يرض بالحوالة رجع عليه. وإن كان المحال قد رضي بالحوالة مع الجهل بحاله، ففيه روايتان: أحدهما: لا يرجع إلا إن كان شرط عليه ملاءة المحال عليه، وهذا هو المشهور من المذهب. والثانية: يرجع؛ لأن الفلس عيب في المحال عليه، فكان له الرجوع كما لو اشترى معيبًا، ثم علم بعيبه (¬1). * وجه قول الحنابلة: أن المحيل لا يملك إلزام المحال عليه بالحوالة إلا إذا كان المحال عليه مليئًا لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: (ومن أحيل على مليء فليتبع). فإذا كان المحال لم يرض بالحوالة، وألزمه المحيل بها، وكان المحال عليه مفلسًا فإنه يرجع؛ لأن حقه باق على المحيل؛ لأن المحيل لا يملك إلزام المحال بالحوالة والمحال عليه مفلس. وهذا التفصيل مبني على أن المحال لا يشترط رضاه بالحوالة إذا أحيل على مليء. وإن كان قد رضي بالحوالة فإنه لا يملك الرجوع؛ لأنه كان بإمكانه أن يشترط ملاءة المحال عليه، فلما لم يشترط ذلك لم يملك الرجوع. فإن اشترط ملاءة المحال عليه، عمل بشرطه، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]؛ ولأن الأصل في الشروط الصحة والجواز، وهو قول في مذهب الشافعية. ¬
الراجح من الخلاف
قال السيوطي: "ولو خرج المحال عليه مفلسًا، وقد شرط يساره فالأصح لا رجوع له بناء على أنها استيفاء. والثاني: نعم، بناء على أنها بيع" (¬1). * الراجح من الخلاف: الذي أميل إليه أن الحوالة تنقل الحق من ذمة المحال إلى ذمة المحال عليه ولا يرجع المحال إلى المحيل إلا في حالتين: الأولى: أن يكون المحيل قد علم إفلاس المحال عليه، وكتمه، فإن هذا تدليس يعطي المحال حق الرجوع إن شاء. الثانية: أن يشترط ملاءة المحال عليه، فإنه شرط صحيح فإذا فات كان له حق الرجوع، والله أعلم. ... ¬
المبحث الثاني رجوع المحال لجحود المحال عليه
المبحث الثاني رجوع المحال لجحود المحال عليه [م - 1139] إذا جحد المحال عليه الحوالة، ولم يكن هناك بينة للمحال ولا للمحيل، فهل يرجع المحال على المحيل؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: إذا جحد المحال عليه الحوالة، وحلف، ولم يكن بينة، فإن المحال يرجع إلى المحيل، وهذا مذهب الحنفية (¬1). * دليلهم على رجوع المحال: (ث-117) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن خليد ابن جعفر، عن أبي إياس، عن عثمان في الحوالة: يرجع، ليس على مسلم توى (¬2). وجه الاستدلال: أن معنى توى هلك، فإذا جحد المحال عليه الدين، وحلف، ولم يكن هناك بينة ثبت عجز المحال عن الوصول إلى حقه عن طريق المحال عليه، وهذا هو التوى المذكور في الأثر، فإنه يثبت للمحال الرجوع على المحيل؛ لأن الحق ¬
القول الثاني
لا بد له من ذمة يتعلق بها, ولأن براءة المحيل كانت براءة نقل واستيفاء، لا براءة إسقاط، فلما تعذر الاستيفاء وجب الرجوع. القول الثاني: لا يرجع إلا إذا كان المحيل يعلم جحود المحال عليه، ولم يخبر المحال. وهذا مذهب المالكية، وهو نفس قولهم في الحوالة على المفلس وقد تقدم؛ لأن الجحد مقيس على الإفلاس. قال الخرشي: "وعلم الجحود كعلم الفلس ... " (¬1) وقال العدوي: "وعلم الجحود كعلم العدم، والظن القوي كالعلم فيما يظهر، كما لبعض الشراح، وكذا علمه بلدده، أو أنه سيء القضاء" (¬2). وهناك من المالكية من فرق بين العلم بالجحود والعلم باللدد. جاء في البهجة شرح التحفة: "العلم بالإفلاس كالعلم باللدد، فيفصل فيه: بين أن يعلم به المحيل فقط، فيرجع عليه، وإلا فلا. وأما علمه بأنه سيء القضاء، ففيه قولان: أحدهما: أنه كاللدد. والآخر أنه لا يضر. وأما علمه بأنه يجحد فإن كان معناه: أنه علم من حاله أنه بعد تمام الحوالة، يجحد إقراره الحاصل حين الحوالة، فهذا لا يوجب رجوعه على المحيل فيما يظهر، قاله (ز). وإن كان معناه: أنه لم يوجد الدين في ذمته ولا بينة ولا بتصديق المحال، فإنه لا حوالة حينئذ لاختلال شرطها" (¬3). ¬
وجه قول المالكية بأنه يرجع إذا كان المحيل يعلم باللدد ولم يبين
وهذا الكلام هو المتفق مع مذهب المالكية؛ لأنه يشترطون حضور المحال عليه وإقراره بالدين، وهذا يعني أنه إذا جحد يكون التقصير من المحال حيث لم يشهد عليه حين إقراره بالحوالة ما يحفظ حقه، والله أعلم. * وجه قول المالكية بأنه يرجع إذا كان المحيل يعلم باللدد ولم يبين: الأصل في الحوالة أنها تنقل الدين من ذمة إلى أخرى فلا يملك المحال الرجوع إلى المحيل إذا تمت الحوالة برضاهما، لكن إن كان المحيل يعلم أن المحال عليه لدود في الخصومة، ولم يخبر المحال فإن له الرجوع؛ لأن هذا خداع وتغرير منه بمنزلة البائع يدلس عيب المبيع، والله أعلم. القول الثالث: إذا جحد المحال عليه الحوالة وحلف لم يكن للمحال الرجوع على المحيل، وهو مذهب الشافعية (¬1). وجه قولهم: أن الحوالة إذا تمت فإن ذلك يعني انتقال الدين وبراءة المحيل، فلا يرجع إليه بحال حتى لو أفلس، أو جحد لم يكن له الرجوع كما لو أخذ عوضًا عن الدين، ثم تلف العوض في يده (¬2). القول الرابع: لا يرجع المحال إذا جحد المحال عليه الحوالة إن كان المحال يعلم الدين، ¬
الراجح من الخلاف
أو صدق المحال المحيل، أو ثبت الدين ببينة ثم ماتت، أو أقر المحال عليه أولًا، ثم أنكر، وإلا فلا يقبل قول محيل بمجرده فلا يبرأ بها. وهذا مذهب الحنابلة (¬1). قال في الإنصاف: "يبرأ المحيل بمجرد الحوالة، ولو أفلس المحال عليه، أو جحد، أو مات على الصحيح من المذهب، ونقله جماعة عن الإِمام أحمد -رحمه الله -، وصححه القاضي يعقوب. قال الناظم وصاحب الفائق: هذا المشهور عن الإمام أحمد ... " (¬2). * الراجح من الخلاف: أن الحوالة لا تتم إلا إذا توفرت شروطها وانتفت موانعها، وإذا كان المحال عليه لم يعترف بالدين، ولا وجود لبينة، وحلف بأنه ليس مدينًا للمحيل لم تصح الحوالة أصلاً، فيملك الرجوع، باعتبار أن الحوالة لم تنعقد، وإذا ثبت حق المحيل على المحال عليه بإقراره، أو ببينة عدل، فهي حوالة صحيحة، فلا رجوع للمحال على المحيل إذا جحد بعد ذلك إلا أن يكون المحال يجهل حال المحال عليه، وكان المحيل يعلم بأنه لا يؤدي الحقوق، ويجحدها, ولم يبين ذلك فهذا نوع من التدليس والخداع فيعطي المحال حق الرجوع عليه، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع سقوط حق حبس المبيع بالحوالة
الفصل الرابع سقوط حق حبس المبيع بالحوالة [م - 1140] إذا أحال المشتري البائع على شخص لأخذ ثمن المبيع، فهل يسقط حق البائع في حبس المبيع؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يسقط حق البائع في حبس المبيع، وهو مذهب أبى حنيفة، وأبي يوسف (¬1)، ومذهب الشافعية (¬2). * وجه هذا القول: بأن البائع لما قبل الحوالة، فقد برئت ذمة المشتري من دين البائع، فالحوالة بمنزلة القبض، فكأن البائع قد قبض الثمن؛ لأن الحوالة بمنزلة القبض حكمًا، فكان من حق المشتري استلام المبيع. القول الثاني: إذا أحال المشتري البائع بالثمن لم يبطل حقه بالحبس، وهذا رأي محمَّد ¬
ابن الحسن من الحنفية (¬1). قال في بدائع الصنائع: "أبو يوسف أراد بقاء الحبس على بقاء الدين في ذمة المشتري، وذمته برئت من دين المحال بالحوالة، فيبطل حق الحبس، ومحمد اعتبر بقاء حق المطالبة لبقاء حق الحبس، وحق المطالبة لم يبطل بحوالة المشتري" (¬2). [م - 1141] إذا علمنا الخلاف فيما لو أحال المشتري البائع على شخص، لأخذ الثمن، فهل يختلف الحكم فيما لو أحال البائع رجلاً على المشتري بالثمن، فهل يسقط حق البائع في حبس المبيع؟ قال في الجوهرة النيرة: "ولو أحال البائع وجلًا على المشتري بالثمن سقط الحبس إجماعًا ... لأن مطالبته سقطت كما لو استوفى" (¬3). وقال في البحر الرائق: "ويسقط بحوالة البائع على المشتري بالثمن اتفاقًا" (¬4). والخلاف في حبس المبيع يجري في حق الزوجة في حبس نفسها إذا أحالها الزوج بصداقها، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس في سقوط الضمان والرهن بالحوالة
الفصل الخامس في سقوط الضمان والرهن بالحوالة الحوالة تعني النقل والتحويل، فإذا تمت الحوالة فإن ذلك يعني انتقال الحق من ذمة المحال إلى ذمة المحال عليه. [م - 1142] فإذا كان المحيل قد أعطى رهنًا أو كفيلًا في دينه، فإذا أحاله بدينه على آخر، فهل يسقط الرهن والكفالة بالحوالة؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: إذا أحال الرجل غريمه, وكان في الدين كفيل أو رهن، فإن الكفيل يبرأ، وللراهن أن يسترد الرهن، وهذا قول أبي يوسف من الحنفية، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة (¬1). * وجه ذلك: أن الرهن والكفالة عقدان تابعان، فإذا برئ المحيل من الدين سقط الرهن والضمان؛ ولأن الحوالة تعني فراغ ذمة المحيل من الدين، ولا قيام للرهن والضمان مع براءته من الدين، هذا مقتضى عقد الحوالة. قال ابن عابدين: "لو أحال الراهن المرتهن بالدين لا يحبس الرهن، ولو أحالها بصداقها لم تحبس نفسها" (¬2). ¬
القول الثاني
وجاء في البحر الرائق: "الراهن إذا أحال المرتهن بالدين، فله أن يسترد الرهن عند أبي يوسف، وكذا لو أبرأه عنه" (¬1). وقال الكاساني: "إذا أحال الراهن المرتهن بدينه على رجل، أو أحال المرتهن غريمًا له بدينه على الراهن، حوالة مطلقة، أو مقيدة، أنه يبطل حق المرتهن في حق حبس الرهن عند أبي يوسف. وعند محمَّد: لا يبطل في حوالة الراهن، وكذا في حوالة المرتهن إذا كانت مطلقة، وإن كانت مقيدة تبطل" (¬2). وقال في أسنى المطالب: "لو أحاله بدين، أو على دين به رهن أو ضامن انفك الرهن، وبرئ الضامن؛ لأن الحوالة كالقبض بدليل سقوط حبس المبيع، والزوجة فيما إذا أحال المشتري بالثمن، والزوج بالصداق" (¬3). القول الثاني: إذا أحال الراهن المرتهن بدينه على رجل لم يبطل حق المرتهن في حبس الرهن. وكذا في حوالة المرتهن إذا كانت مطلقة، فإن كانت مقيدة بطل حقه في الحبس. وهذا قول محمَّد بن الحسن من الحنفية" (¬4). وفي تبيين الحقائق: "الراهن إذا أحال المرتهن بالدين على إنسان، كان للراهن أن يسترد الرهن عند أبي يوسف، كما لو أبرأه من الدين. وعند محمَّد ليس له ذلك، كما لو أجل الدين" (¬5). ¬
والقول الراجح
والخلاف بين أبي يوسف ومحمد راجع إلى توصيف الحوالة، هل هي نقل للدين، أو نقل للمطالبة مع بقاء الدين، فأبو يوسف يرى أن الحوالة نقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وهذا هو رأي الجمهور، فيبطل حقه في الحبس وقد انتقل دينه إلى ذمة أخرى. ومحمد يرى أن الحوالة هي نقل المطالبة فقط، والدين باق في ذمة المحيل، ولهذا التوصيف رأى محمَّد أن الراهن لا يسترد الرهن إلا إذا قبض المحال دينه من المحال عليه. والقول الراجح: هو قول الجمهور، وأن الحوالة نقل للدين، وليس للمطالبة. وما يقال في الرهن يقال في الكفالة. فإذا أحال الرجل الدائن بدينه على غريمه برئ المحيل، وإذا برئ المحيل برئ الكفيل؛ لأنه تبع للأصيل (¬1). جاء في الموسوعة الكويتية: "المحال إذا قبل الحوالة، ورضي المحال عليه بها برئ المحيل وكفيله -إن كان له كفيل- من الدين ومن المطالبة معًا؛ لانقضاء الدين بالحوالة، ويثبت للمحال حق مطالبة المحال عليه غير أن براءة المحيل وكفيله المشار إليها مقيدة بسلامة حق المحال لدى المحال عليه عند الحنفية" (¬2). ¬
الفصل السادس إذا أحيل بثمن سلعة ثم تبين بطلان البيع
الفصل السادس إذا أحيل بثمن سلعة ثم تبين بطلان البيع [م - 1143] إذا أحال المشتري البائع بثمن مبيع، أو أحال البائع رجلاً يأخذ الثمن من المشتري، ثم استحقت السلعة، بطل البيع، وهل تبطل الحوالة؟ تحرير محل الخلاف: هذا الخلاف إنما يتنزل على حال ما إذا باع البائع السلعة، وهو يظن أنها ملكه، فأحال على ثمنها، ثم تبين أنه لم يكن يملك السلعة، أما لو كان يعلم من البداية أنه لا يملك السلعة، فباعها، ثم أحال على ثمنها، فلا خلاف في أن الحوالة باطلة، ويرجع المحال على المحيل (¬1). فإن كان البائع يعتقد أن السلعة ملكه، فإما أن يكون ثمن السلعة المستحقة محالًا به، أو محالاً عليه. فإن كان ثمن السلعة محالاً به، كما لو أحال المشتري البائع بالثمن على ثالث، ثم تبين أن المبيع مستحق، ففي هذه الحالة تبطل الحوالة بلا خلاف؛ لأنه ثبت أن المحيل (وهو المشتري) غير مدين للمحال، وهو البائع. ومن شروط صحة الحوالة أن يكون المحيل مدينًا للمحال (¬2). ¬
القول الأول
[م - 1144] أما إذا كان ثمن السلعة محالًا عليه، وليس محالًا به، كما لو أحال البائع ثالثًا على المشتري بقيمة السلعة، ثم تبين أن المبيع مستحق، فقد اختلف الفقهاء في حكم الحوالة على قولين: القول الأول: تبطل الحوالة بفوات المال المحال عليه، وهو قول الحنفية في الحوالة المقيدة دون المطلقة، ومذهب الشافعية، والحنابلة، واختيار أشهب وابن المواز من المالكية، قال الدردير: وعليه الأكثر (¬1). قال ابن نجيم: "لو ظهرت براءة المحال عليه من الدين الذي قيدت به الحوالة به، بأن كان الدين ثمن مبيع، فاستحق المبيع تبطل الحوالة" (¬2). وفي المبسوط: "وإذا باع الرجل رجلاً عبدًا بألف درهم ثم أحال البائع غريمه على المشتري بالمال الذي باع به العبد، ثم استحق العبد، أو وجد حرًا فإن القاضي يبطل الكفالة والحوالة؛ لأنه ظهر أنه أحال عليه بمال، ولا مال" (¬3). وفي البحر الرائق: "ولو استحق المبيع، أو استحق الدين الذي قيد به الحوالة من جهة الغرماء، أو ظهر أن العبد المبيع كان حرًا بطلت الحوالة إجماعًا" (¬4). ¬
وجه القول ببطلان الحوالة
لعله يقصد بالإجماع أئمة الحنفية، وإلا فالخلاف محفوظ في مذهب المالكية كما سيأتي إن شاء الله تعالى. * وجه القول ببطلان الحوالة: لما بطل البيع تبين أنه لم يكن هناك ثمن يمكن الإحالة عليه هذا تعليل الجمهور الذين يشترطون أن يكون المحال عليه مدينًا للمحيل، وأما تعليل الحنفية بالبطلان فإن الحوالة على الثمن تعتبر حوالة مقيدة، وليست مطلقة، فإذا تبين أنه لا يوجد ثمن في ذمته بطلت الحوالة. أما الحوالة المطلقة فهي لم تكن حوالة على الثمن، وإنما تعلقت بذمة المحال عليه، فلا تبطل الحوالة. القول الثاني: لا تنفسخ الحوالة، وهو اختيار ابن القاسم من المالكية (¬1). جاء في مختصر خليل: "فلو أحال بائع على مشتر بالثمن، ثم رد بعيب، أو استحق لم ينفسخ، واختير خلافه" (¬2). قال الحطاب في شرحه: "يعني إذا أحاله بثمن ما باعه، ثم رد المبيع بعيب، أو استحق، فإن الحوالة لا تنفسخ عند ابن القاسم، وتنفسخ عند أشهب، واختاره الأئمة ابن المواز وغيره ... " (¬3). جاء في المدونة: "أرأيت إن بعت عبدًا لي بمائة دينار، ولرجل علي مائة ¬
وجه هذا القول
دينار، فأحلت الذي له علي الدين على هذا الذي اشترى العبد مني، فاستحق العبد، أيكون على المشتري أن يغرم المائة للذي أحلته عليه بها؟ قال: نعم، ويرجع بها عليك؛ لأن العبد قد استحق من يديه. قلت: ولم جلعته يغرمها، وقد استحق العبد من يديه؟ قال: لأنها صارت دينًا للطالب حين أحاله على المطلوب. قلت: وهذا قول مالك؟ قال: كذلك بلغني عن مالك" (¬1). * وجه هذا القول: الوجه الأول: أن الحوالة من قبيل المعروف، فلا تنتقض باستحقاق المحال عليه. الوجه الثاني: أن الحوالة عقد لازم، وقد صارت دينًا للمحال حين أحاله على المحال عليه، فلا ينقض حق المحال باستحقاق سلعة لم يعاوض عليها بدين الحوالة. * والراجح: القول الأول، لقوة أدلته، والله أعلم. ¬
الفصل السابع إذا أحيل بثمن سلعة ثم فسخ البيع
الفصل السابع إذا أحيل بثمن سلعة ثم فسخ البيع إذا بنيت الحوالة على باطل فهي باطلة، وإن بنيت على صحيح، ثم فسخ لم تبطل (¬1). [م - 1145] في المسألة السابقة تكلمنا على ما إذا أحال بائع على ثمن سلعة، ثم تبين بطلان البيع، وفي هذا المبحث نتكلم على مسألة مشابهة، وهي ما إذا أحال على ثمن سلعة، ثم فسخ البيع، والفسخ لا يكون إلا لما هو منعقد، بخلاف البطلان، فإن البطلان يرد على العقد الذي لم ينعقد أصلاً. مثاله: أحال على ثمن سلعة، ثم ردت السلعة بسبب عيب فيها، فهل تبطل الحواله؟ اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال: القول الأول: من الفقهاء من فرق بين البطلان والفسخ في حكم الحوالة، فقال: تبطل الحوالة إن بطل البيع، ولا تبطل إن فسخ البيع بسبب عيب ونحوه، وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة (¬2). قال ابن نجيم: "إذا باع عبدًا من رجل بألف درهم، ثم إن البائع أحال غريمًا بالثمن على المشتري، فمات العبد قبل القبض، أو رد بخيار من ¬
القول الثاني
الخيارات الثلاث قبل القبض أو بعده لم تبطل، ولو استحق المبيع، أو استحق الدين الذي قيد به الحوالة من جهة الغرماء، أو ظهر أن العبد المبيع كان حرًا بطلت الحوالة إجماعًا. والفرق أن في الأول سقط الدين بعد الوجوب مقصودًا فلم تبطل الحوالة، وفي الثاني ظهر عدم الوجوب وقت الحوالة فبطلت" (¬1). وجاء في شرح منتهى الإرادات: "وإذا بطل بيع كأنْ بَانَ مبيعُ مستحقًا، أو حرًا، وقد أحيل بائع بالثمن، أي أحاله مشتر به على من له عنده دين مماثل له بطلت، أو أحال بائع مدينًا له على المشتري بالثمن بطلت الحوالة؛ لأنا تبينا أن لا ثمن على المشتري لبطلان البيع ... ولا تبطل الحوالة إن فسخ البيع بعد أن أحيل بائع، أو أحال بالثمن على أي وجه كان الفسخ بعيب، أو تقايل، أو غيرهما ... لأن البيع لم يرتفع من أصله، فلم يسقط الثمن" (¬2). القول الثاني: لا تبطل الحوالة في الحالين، سواء بطل البيع، أو فسخ، وهذا مذهب ابن القاسم من المالكية. جاء في مختصر خليل: "فلو أحال بائع على مشتر بالثمن، ثم رد بعيب، أو استحق لم ينفسخ، واختير خلافه" (¬3). فسوى بين استحقاق المبيع الموجب لبطلان البيع، وبين فسخ البيع بسبب عيب ظهر فيه، ولم يفسخ الحوالة في الحالين. ¬
وجه قوله
وجه قوله: أن الحوالة لما تمت صارت دينًا للمحال على المحال عليه، ويرجع المحال عليه إلى المحيل فيما دفعه. القول الثالث: تبطل الحوالة في الحالين: سواء بطل البيع أو فسخ. وهذا مذهب الشافعية، واختيار أشهب وابن المواز وغيرهما من المالكية (¬1). قال الحطاب في شرحه: "يعني إذا أحاله بثمن ما باعه، ثم رد المبيع بعيب، أو استحق، فإن الحوالة لا تنفسخ عند ابن القاسم، وتنفسخ عند أشهب، واختاره الأئمة ابن المواز وغيره ... " (¬2). جاء في مغني المحتاج: "ولو أحال المشتري بالثمن، فرد المبيع بعيب بطلت ... ولو باع عبداً، وأحال بثمنه، ثم اتفق المتبايعان والمحتال على حريمته , أو ثبتت ببينة بطلت الحوالة" (¬3). فسوى بين فسخ المبيع بالعيب، وبين بطلان المبيع بأن باع عبداً فبان حرًا. لأن الثمن في الحالين لا يستحقة المحيل على المحال عليه سواء كان ذلك بسبب فسخ، أو بطلان. * الراجح: أن الحوالة إذا كانت مبنية على باطل فهي باطلة، وإن كانت مبنية على صحيح، ولكن فسخ، فالحوالة لا تنفسخ، وتكون صحيحة. ¬
الفصل الثامن في هلاك العين المحال عليها في يد المحال عليه
الفصل الثامن في هلاك العين المحال عليها في يد المحال عليه تكلم الحنفية في الحوالة على العين، وجعلوها من الحوالة المقيدة (¬1). وقال الجمهور: لا تكون الحوالة إلا على دين، فإن كانت على عين كانت وكالة بقبض العين ممن هي عليه، وليست حوالة (¬2). [م - 1146] فإذا أحاله على عين في يد المحال عليه، فهلكت تلك العين، نظر: فإن كانت العين الموجودة في يد المحال عليه أمانة في يده، كما لو أودعه دراهم فضاعت بلا تعد، ولا تفريط، بطلت الحوالة، ويرجع الدين إلى ذمة المحيل. وإن كان المبلغ المعين مضمونًا كالمغصوب، فإن الحوالة لا تنفسخ بفواتها؛ لأنها تفوت إلى خلف من مثل أو قيمة، فتتعلق الحوالة بهذا الخلف. جاء في مجمع الضمانات: "وتصح الحوالة في الدين لا في العين، وتصح بدراهم الوديعة، فلو أودع رجلاً ألفاً، وأحال بها عليه، فهلكت قبل التسليم، برئ المحتال عليه، وهو المودَع للحوالة؛ لتقيدها بها، فإنه ما التزم الأداء إلا منها، بخلاف ما إذا كانت مقيدة بالمغصوب؛ لأن الفوات إلى خلف كلا فوات" (¬3). ¬
وقال في تبيين الحقائق: "ولو أحال بما عند زيد وديعة صحت، فإن هلكت برئ ... بخلاف ما إذا كانت مقيدة بالمغصوب حيث لا يبرأ به؛ لأنه يخلف القيمة، والفوات إلى خلف كلا فوات" (¬1). ... ¬
الباب السادس في انتهاء الحوالة
الباب السادس في انتهاء الحوالة الفصل الأول انتهاء الحوالة بالوفاء المبحث الأول انتهاء الحوالة بدفع ما أحيل به عليه [م - 1147] تنتهي الحوالة بقيام المحال عليه بالوفاء، وذلك بدفع ما أحيل به عليه، وهذا بالاتفاق؛ لأن الحوالة لم تعقد إلا من أجل هذا. وسواء قام المحال عليه بنفسه، أو قام عنه فضولي بذلك، وسواء كان الفضولي متبرعًا، أو قام بذلك بنية الرجوع إلى المحال عليه. قال في بدائع الصنائع في بيان ما يخرج به المحال عليه من الحوالة: "ومنها أداء المحال عليه المال إلى المحال، فإذا أدى المال خرج عن الحوالة؛ إذ لا فائدة في بقائها بعد انتهاء حكمها" (¬1). ¬
المبحث الثاني انتهاء الحوالة بدفع قيمتها
المبحث الثاني انتهاء الحوالة بدفع قيمتها إذا اتفق المحال عليه والمحال على أن يؤدي المحال عليه شيئًا آخر عوضًا عن المال المحال به، كما لو كان المحال به نقودًا: دنانير، أو ريالات، فاعتاض عنها دولارات، أو سلعة. أو كان المحال به عرضًا من بر، أو شعير، فأراد أن يدفع بدلًا من ذلك نقودًا، ونحو ذلك، فما حكم هذه المسألة؟ [م - 1148] هذه المسألة تدخل في بيع الدين على من هو عليه، وقد اختلف الفقهاء فيه على قولين، وجمهورهم على صحته، والأصل في ذلك: (ح-664) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يريد أن يدخل بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا، وبينكما شيء (¬1). [اختلف في رفعه ووقفه، ورجح شعبة والدارقطني وقفه] (¬2). وقد ذهب إلى جواز بيع الدين على من هو عليه جماهير الفقهاء من ¬
الشرط الأول
الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وهو الصواب، ويشترط لصحته شروط منها: الشرط الأول: اشترط المالكية، والإمام أحمد في قول له، وإسحاق بن راهويه (¬5)، وبه قال عثمان البتي (¬6) وابن تيمية، وابن القيم، أن يبيعه بمثل ثمنه، أو أقل، لا أكثر؛ وعلل المالكية المنع: لأن بيع الدين على من هو عليه بزيادة يؤدي إلى سلف جر نفعًا، وهذا ممنوع. وعلل ابن تيمية المنع حتى لا يربح فيما لم يضمن (¬7)؛ لأن المال في ذمة المحال عليه ضمانه على المحال عليه، فإذا ربح فيه المحال فقد ربح فيما لم ¬
الشرط الثاني
يدخل ضمانه، والدليل على هذا الشرط من أثر ابن عمر السابق، قوله: (لا بأس أن تأخذها بسعر يومها). الشرط الثاني: اشترط المالكية أن يعجل البدل، ويقبض في مجلس الاستبدال ليسلم من فسخ الدين بالدين. واشترط ابن تيمية التقابض إن كان العوض مما يجري فيه ربا النسيئة. القول الثاني: ذهب الإِمام أحمد في رواية (¬1)، وهو قول ابن حزم (¬2)، إلى أنه لا يجوز بيع الدين ولو كان على من هو عليه، وحكي هذا القول عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن شبرمة (¬3). وقد ذكرنا أدلة هذه المسألة في موضعين من هذه الموسوعة، الأولى في عقد البيع في المجلد الثالث، والموضع الثاني: في عقد السلم، فأغنى عن إعادتها هنا، والحمد لله. ¬
الفصل الثاني انتهاء الحوالة بتملك المحال عليه دين الحوالة
الفصل الثاني انتهاء الحوالة بتملك المحال عليه دين الحوالة [م - 1149] تنتهي الحوالة بتمليك المحال عليه دين الحوالة، سواء كان ملك المحال عليه اختياريًّا كما في الإسقاط، والهبة، والصدقة؛ لأن الحق هنا للمحال، وقد أسقطه باختياره فسقط. أو كان تملك المحال عليه لدين الحوالة إجباريًا، كما في الإرث، فلو ورث المحال عليه مال الحوالة من المحيل انتهت الحوالة. قال الكاساني في بيان ما يخرج به المحال عليه من الحوالة: "ومنها: أن يهب المحال المال للمحال عليه ويقبله. ومنها: أن يتصدق به عليه، ويقبله؛ لأن الهبة والصدقة في معنى الإبراء. ومنها: أن يموت المحال، فيرثه المحال عليه. ومنها: أن يبرئه من المال" (¬1). ¬
الفصل الثالث انتهاء الحوالة بالإقالة
الفصل الثالث انتهاء الحوالة بالإقالة [م - 1150] اختلف العلماء في انتهاء عقد الحوالة بالإقالة على قولين. القول الأول: إذا اتفق المحال والمحيل على إنهاء الحوالة بالإقالة صح ذلك، وهذا مذهب الحنفية، وبه قال من الشافعية البلقيني والخوارزمي (¬1). وأما المحال عليه فإنه لا اعتبار لقبوله أو رفضه إذا تراضى المحال والمحيل؛ لأن الحق لهما فيها دونه. قال ابن نجيم: "والمحيل والمحتال يملكان النقض: أي نقض الحوالة" (¬2). وقال علي حيدر: "تنفسخ الحوالة بفسخ المحيل، والمحال له، وإقالتهما إياها، ويعود الدين إلى المحيل" (¬3). قال السيوطي: "باب الإقالة، تجوز في ... الحوالة فيما صححه البلقيني تبعًا للخوارزمي" (¬4). ¬
وجه القول بدخول الإقالة عقد الحوالة
* وجه القول بدخول الإقالة عقد الحوالة: علل الكساني من الحنفية دخول الإقالة عقد الحوالة؛ لأن العقد فيه معنى معاوضة المال بالمال، فكانت محتملة للفسخ. وعلل بعض الشافعية بأن الراجح في توصيف الإقالة بأنها من قبيل البيع، والبيع تدخله الإقالة، فكذلك الحوالة. وأجيب عن هذا: قال ابن حجر الهيتمي: "التحقيق كما في الروضة، أنه لا يطلق القول فيها بأنها بيع، ولا بأنها استيفاء؛ لأن بعض فروعها يقتضي الأول، وبعضها يقتضي الثاني، لكن فروع الأول أكثر، فإن ثم اشتهر أنها بيع، لا استيفاء، ونظير ذلك الخلاف في الإبراء، هل هو إسقاط، أو تمليك. وفي الرجعة، هل هي ابتداء نكاح، أو استدامته. وفي النذر، هل يسلك به مسلك واجب الشرع، أو جائزه" (¬1). القول الثاني: لا تنتهي الحوالة بالإقالة، ولا تنفسخ بها، وهو المعتمد في مذهب الشافعية (¬2). * وجه هذا القول: أن الإقالة لا تدخل الحوالة بناء على أنها استيفاء، وليست بيعًا. ¬
الراجح
* الراجح: أرى أن عقد الحوالة تدخله الإقالة سواء رجحنا في توصيف العقد بأنه بيع، أو رجحنا بأنه استيفاء، أو قلنا: إنه عقد إرفاق منفرد بنفسه؛ لأن عقد الحوالة عقد لازم، ينعقد باتفاق الطرفين، وينحل باتفاقهما،، الله أعلم.
الفصل الرابع انتهاء الحوالة بالموت
الفصل الرابع انتهاء الحوالة بالموت المبحث الأولى انتهاء الحوالة بموت المحيل [م - 1151] اختلف الفقهاء في أثر موت المحيل على عقد الحوالة على قولين: القول الأول: يرى الحنفية أن الحوالة قسمان: مطلقة ومقيدة. فالحوالة المطلقة، هي التي لم تقيد بدين على المحال عليه، بأن قال: أحلتك بدينك الذي لك عليَّ على هذا الرجل، ولم يقل: على أن يؤديها من المال الذي لي عليه، فلو كان عنده وديعة، أو دين، كان للمحيل أن يطالبه بالحوالة؛ لأنه لا تعلق للمحال بذلك الدين، أو العين؛ لوقوع الحوالة مطلقة، فإذا مات المحيل قبل أن يستوفي الحوالة، فإن هذه الحوالة المطلقة لا تنفسخ بموت المحيل؛ لأن حق المحال في الحوالة المطلقة لم يتعلق بالدين الذي على المحال عليه، وإنما تعلق بذمة المحال عليه، فلا يعود إلى المحيل. وأما في الحوالة المقيدة فتنفسخ بموت المحيل؛ لأن المال الذي قيدت به الحوالة قد استحق قبل أن يستوفي المحال، فأصبح من جملة تركة المحيل المتوفى، فصار مملوكًا للورثة، وبالتالي يعود المحال بدينه على تركة المحيل مشاركًا سائر غرمائه الدائنين (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب جمهور الفقهاء وزفر من الحنفية إلى أن الحوالة إذا تمت بشروطها فقد برئ المحيل، فلا تنفسخ بموت المحيل، ولا رجوع عن الحوالة، ويكون المحال أولى من غرماء المحيل، وليس لسائر غرماء المحيل أن يشاركوه بالدين (¬1). * وجه القول بأنها لا تبطل الحوالة بالموت: الوجه الأول: سبق أن ذكرت في مبحث سابق أن الجمهور يرون أن مقتضى عقد الحوالة يعني براءة المحيل من دين المحال، وبراءة المحال عليه من دين المحيل، وإذا كان ذلك كذلك فالموت لا يوجب فسخ العقود اللازمة التي تمت في حال الحياة قياسًا على البيع، كما لا يبطل عقد البيع بموت البائع، فكذلك لا تبطل الحوالة بموت المحيل. الوجه الثاني: استدل زفر بالقياس على تعلق حق المرتهن بالمرهون بعد وفاة الراهن، فكما أن المرتهن يصير أحق من سائر الغرماء، فكذلك المحال. * الراجح: ما ذهب إليه الجمهور، وهو أن الموت لا ينهي الحوالة؛ لأن الحق قد انتقل إلى ذمة المحال عليه، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني انتهاء الحوالة بموت المحال عليه
المبحث الثاني انتهاء الحوالة بموت المحال عليه [م - 1152] ذهب عامة العلماء إلى أن الحوالة لا تنتهي بموت المحال عليه، واستثنى الحنفية: ما إذا مات المحال عليه مفلسًا, ولم يترك كفيلًا، فإن الحوالة تنتهي ويرجع المحال على المحيل. واستثنى المالكية ما إذا كان المحال عليه مفلسًا وقت الحوالة، وكان المحيل يعلم بإفلاسه، وكتم ذلك عن المحال (¬1). جاء في كشاف القناع: "ويبرأ المحيل بمجرد الحوالة قبل الأداء ... فلا رجوع له على المحيل لو مات المحال عليه، أو أفلس، أو جحد" (¬2). * وجه القول بأن الحوالة لا تنتهي بموت المحال عليه: أن من لزمه الحق في ذمته فموته لا يوجب فسخ العقد الذي ثبت الحق لأجله، كالمشتري بثمن مؤجل إذا مات لم يوجب موته فسخ الشراء. ... ¬
المبحث الثالث انتهاء الحوالة بموت المحال
المبحث الثالث انتهاء الحوالة بموت المحال [م - 1153] لا تنتهي الحوالة بموت المحال، وإنما يقوم وارثه مقامه في مطالبة المحال عليه بالدين الذي لمورثهم، ويستثنى من ذلك ما لو كان الوارث الوحيد للمحال هو المحال عليه، فهنا تنتهي الحوالة. قال علي حيدر: "إذا توفي المحال له، وكان المحال عليه وارثه فقط، فلا يبقى حكم للحوالة، ولا يطالب المحال عليه بشيء من طرف أحد، ويصير المحال عليه بريئًا من الدين؛ لأنه لم يبق من يطالب المحال عليه بالمحال به، وطلب الإنسان نفسه لا معنى له ... وعلى هذا التقدير ... حينما يكون للمحال وارث غير المحال عليه، يكون المحال عليه بريئًا من الدين بمقدار حصته الإرثية، ويطالب بحصص الورثة الباقية ... مثلاً لو كان ورثة المحال له ابنه (المحال عليه)، وولدًا آخر. يبرأ المحال عليه من نصف المحال به، ويجب على المحال عليه أن يعطي النصف الثاني إلى الوارث الثاني، وهو أخوه الآخر" (¬1). ¬
الفصل الخامس انتهاء الحوالة بالتوى
الفصل الخامس انتهاء الحوالة بالتوى التوى: الهلاك، وذهاب مال لا يرجى، من توى المال يتوى توى. واصطلاحا: عرفه الحنفية: بالعجز عن الوصول إلى المال، والمقصود به في الحوالة: عجز المحال عن الوصول إلى حقه من المحال عليه، وذلك بجحود المحال عليه ولا بينة، أو موته مفلسًا ولم يترك كفيلًا. وزاد صاحبا أبي حنيفة: أن يحكم القاضي بإفلاس المحال عليه في حياته؛ لأنه بالحكم بالإفلاس صار المحال عاجزًا عن أخذ حقه، مقطوعًا عن ملازمته. والذي حمل الحنفية على هذا التفسير أن الدين لا يتصور هلاكه حقيقة؛ لأنه حق يتعلق بالذمة، فإذا أفلس المدين فقد بقيت ذمته صالحة لالتزام الحقوق، فقد يعود إليه اليسار مرة أخرى، لهذا اشترطوا أن يموت مفلسًا حتى يتحقق التوى، وهو هلاك المال. وألحقوا به إذا جحد، وحلف، ولم يكن بينة فقد صار المال تاويًا حكمًا (¬1). هذه المسألة سبق أن بحثتها في أحكام الحوالة مفرقة على مسألتين: انتهاء الحوالة بالفلس، وانتهاء الحوالة بالجحود. وأشير إلى الأقوال فيها في مبحث انتهاء الحوالة، وأحيل على الأدلة على البحث السابق. ¬
الحالة الأولى
فقيل: تنتهي الحوالة بالتوى، ويرجع المحال على المحيل، وهذا مذهب الحنفية. وقيل: لا تنتهي الحوالة بالتوى، فلا رجوع للمحال على المحيل، لبراءة المحيل من الدين بالحوالة براءة مؤبدة، وهذا مذهب الشافعية، والمالكية، والحنابلة. واستثنوا في ذلك حالتين: الحالة الأولى: استثنى المالكية ما إذا كان المحال عليه مفلسًا وقت الحوالة، وعلم المحيل، وكتم ذلك عن المحال؛ لأن المحيل يكون قد غره بذلك. الحال الثانية: استثنى الحنابلة، واختاره أبن رشد من المالكية، وابن سريج. من الشافعية: فيما إذا اشترط المحال عليه الرجوع على المحيل في حالة التوى, فإن له شرطه. وقد ذكرنا العزو إلى كتب المذاهب وأدلتها في مبحث أحكام الحوالة، فانظره مشكورًا، فقد أغنى ذكره هناك عن إعادته هنا.
الفصل السادس انتهاء الحوالة بفوات المحال به أو عليه
الفصل السادس انتهاء الحوالة بفوات المحال به أو عليه إذا أحال المشتري البائع بثمن مبيع، أو أحال البائع رجلاً يأخذ الثمن من المشتري، ثم استحقت السلعة، بطل البيع، ولا يستحق البائع الثمن سواء كان محالًا بالثمن، أو كان محيلًا على الثمن؛ لفوات المحال به في الأولى، وفوات المحال عليه في الثانية. والسؤال: هل تنتهي الحوالة بفوات المحال به أو عليه؟ فيه تفصيل: [م - 1154] إن كان ثمن السلعة المستحقة محالًا به بطلت الحوالة قولًا واحدًا؛ لأن من شرط صحة الحوالة كون المحيل مدينًا للمحال (¬1)، وفي استحقاق السلعة تبين أن المشتري ليس مدينًا. قال ابن نجيم: "إذا أحال رجلاً وليس للمحتال دين على المحيل، فهذه وكالة، وليست حوالة" (¬2). وقال الدسوقي في حاشيته: "وكذا يشترط ثبوت دين للمحال على المحيل" (¬3). ¬
القول الأول
وجاء في البيان للعمراني: "قال أبو العباس: إذا كان لرجل عند رجل ألف، فقال من له الدين لرجل لا شيء عليه له: أحلتك على فلان بألف، فهذا توكيل منه بالقبض، وليس بحوالة؛ لأن الحوالة إنما تكون لمن له حق، ولا حق للمحتال عليه ها هنا، فثبت أن ذلك توكيل" (¬1). وقال ابن قدامة: "وإن أحال من لا دين له عليه رجلاً على آخر له عليه دين فليس ذلك بحوالة؛ بل هي وكالة تثبت فيها أحكامها؛ لأن الحوالة مأخوذة من تحول الحق وانتقاله، ولا حق ها هنا ينتقل ويتحول، وإنما جازت الوكالة بلفظ الحوالة؛ لاشتراكهما في المعنى؛ وهو استحقاق الوكيل مطالبة من عليه الدين، كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه، وتحول ذلك إلى الوكيل كتحوله إلى المحيل" (¬2). [م - 1155] وإن كان ثمن السلعة محالًا عليه، وليس محالاً به، كما لو أحال البائع رجلاً يأخذ الثمن من المشتري، فاختلف العلماء ببطلان الحوالة باستحقاق المبيع على قولين. القول الأول: تبطل الحوالة بفوات المال المحال عليه، وهو قول الحنفية في الحوالة المقيدة دون المطلقة، ومذهب الشافعية، والحنابلة، واختيار أشهب وابن المواز من المالكية، قال الدردير: وعليه الأكثر (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا تنفسخ الحوالة، وهو اختيار ابن القاسم من المالكية (¬1). وقد تكلمت على المسألة في مبحث سابق فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وإنما اقتضى الكلام على انتهاء الحوالة التذكير بهذه الصورة لعلاقتها بالباب، والله أعلم. وبهذا أكون قد فرغت من بحث الحوالة في المسائل المختارة، فلله الحمد من قبل ومن بعد. ¬
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد الحادي عشر
(ح) دبيان بن محمَّد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمَّد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة / دبيان محمَّد الدبيان - الرياض، 1432 هـ 524 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجمرعة) ج 11 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ. العنوان ديوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (11)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، وأثني بالصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى من اتبعهم بإحسان من الأولين والآخرين، أما بعد: فهذا هو المجلد الحادي عشر، وهو مخصص لعقد الربا، وهو العقد الحادي عشر، وقد سبقه البيع، والسلم، والاستصناع، والمقاولة، والتوريد، والمناقصة، والإجارة، والجعالة، والشفعة، والحوالة، وقد تعمدت تأخير عقد الربا عن عقود المعاوضات؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - نفى عنه أنه من البيع، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فقدمت عليه سائر عقود المعاوضات، وجعلته بينها وبين عقود الشركات؛ ذلك أن عقود الشركات ليست من عقود المعاوضات المحضة، وإنما فيها شوب معاوضة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى عند الكلام على عقود الشركة. وعقد الربا من أخطر العقود، وهو مقام زلل زل فيه كثير من الكتاب المتأخرين تقصيرًا أو قصورًا. ومن رزق الانضباط في عقد الربا فقد رزق الانضباط في سائر عقود المعاوضات، وأرجو الله -سبحانه وتعالى- أن يجنبني الزلل في هذه البحوث، وأن أكون قد أغلقت فيه أبوابا قد اقتحمها بعض إخواني تحت ضغط الحاجة وطلب التيسير على الناس، وبسبب سيطرة الهيمنة الغربية على اقتصاد المسلمين غير منتبهين إلى ما ينتجه هذا التساهل وعدم الانضباط على الأمة من شر كبير وخطر جلل، وقد كانت خطة البحث في عقد الربا على النحو التالي: خطة البحث: الباب الأول: في حكم الربا.
الفصل الأول: هل عقد الربا عقد باطل أو فاسد يمكن تصحيحه. الفصل الثاني: في جريان الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب. الفصل الثالث: في ارتكاب الربا للحاجة. الفصل الرابع: إطلاق الربا على كل معاملة محرمة. الباب الثاني: في أنواع الربا. الفصل الأول: في ربا الديون. المبحث الأول: في ربا القرض. الفرع الأول: في التعريف في ربا القرض. الفرع الثاني: في حكم ربا القروض. المبحث الثاني: في ربا الجاهلية. الفصل الثاني: في ربا البيوع. المبحث الأول: في ربا الفضل وربا النسيئة. الفرع الأول: التعريف في ربا الفضل وربا النسيئة. الفرع الثاني: حكم ربا الفضل. الفرع الثالث: حكم ربا النسيئة. الباب الثالث: في بيان الأموال الربوية. الفصل الأول: في الكلام على علة الربا. المبحث الأول: العلة في الذهب والفضة. المبحث الثاني: علة الربا في الأصناف الأربعة.
المبحث الثالث: ثمرة اختلاف الفقهاء في علة الربا. الفصل الثاني: في جريان ربا النسيئة في غير الأموال الربوية. الفصل الثالث: في تحديد الجنس. المبحث الأول: اللحم هل هو جنس واحد أو أجناس. الفرع الأول: في بيع اللحم باللحم مع العظام. الفرع الثاني: في الشحم والكبد ونحوهما هل هي جنس أو أجناس. المبحث الثاني: في اللبن هل هو جنس واحد أو أجناس. المبحث الثالث: في أدقة الأصول المختلفة وأدهانها. المبحث الرابع: في بيع البر بالدقيق أو بالسويق. المبحث الخامس: في بيع خبز البر بالبر وخبز الشعير بالشعير. المبحث السادس: في بيع الخبز بالخبز. المبحث السابع: في الربا بالتمرة والتمرتين والحفنة والحفنتين. المبحث الثامن: في بيع المكيل وزنًا أو العكس. المبحث التاسع: في بيع المال الربوي بجنسه مجازفة. المبحث العاشر: بيع الربوي الرطب بيابس من جنسه. المبحث الحادي عشر: في بيع الرطب بالرطب. المبحث الثاني عشر: في بيع مصوغ الذهب بذهب خالص متفاضلاً. الباب الرابع: في اجتماع الربوي مع غيره. الفصل الأول: بيع الربوي بغير جنسه ومعه من جنس ما بيع به.
المبحث الأول: كون الربوي تابعًا غير مقصود. الفرع الأول: كون الربوي التابع غير المقصود لا يباع مفردًا. المسألة الأولى: بيع السيف المموه بالذهب بذهب. المسألة الثانية: بيع شاة ذات لبن أو شاة ذات صوف بصوف. الفرع الثاني: كون الربوي التابع غير المقصود يمكن إفراده بالبيع. الفصل الثاني: بيع ربوي بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه. المبحث الأول: إذا كان ما بيع مع الربوي مقصودًا وليس تابعًا. المبحث الثاني: في اجتماع عقد البيع مع عقد القرض. الفرع الأول: أن يكون اجتماع البيع والقرض بالشرط. الفرع الثاني: أن يكون اجتماع البيع والقرض بدون شرط. المبحث الثالث: بيع أسهم الشركات إذا كانت تمثل عروضًا ونقودًا. الفصل الرابع: في بيع حق المتقدم العقاري. الباب الخامس: في بعض البيوع المختلف فيها. الفصل الأول: في بيع العينة. المبحث الأول: في تعريف العينة وبيان صورها. المبحث الثاني: في حكم بيع العينة. المبحث الثالث: في حكم العقد الأول من عقدي العينة. المبحث الرابع: في شروط تحريم العينة. الشرط الأول: أن يكون المشتري الثاني هو البائع الأول.
الفرع الأول: إذا اشترى السلعة من لا تجوز شهادته للبائع الأول. الفرع الثاني: في بيع وارث المشتري على البائع الأول. الشرط الثاني: أن يشتري ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن. الشرط الثالث: أن يشتريها بجنس الثمن الأول. الشرط الرابع: ألا يتغير المبيع بنقص أو عيب. المبحث الخامس: في عكس مسأله العينة. الفصل الثاني: في التورق. المبحث الأول: في تعريف التورق. المبحث الثاني: في حكم التورق. المبحث الثالث: في حكم التورق المصرفي. الفرع الأول: في تعريف التورق المصرفي. الفرع الثاني: في خلاف العلماء في التورق المصرفي. الفصل الثالث: الاعتياض عن ثمن الربوي المؤجل بما لا يباع به نسيئة. الفصل الرابع: الاعتياض عن ثمن المؤجل ببعضه حالاً. أسأل الله -سبحانه وتعالى- بأسمائه وصفاته أن يجعل العمل خالصًا لوجهه صوابًا على سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يتجاوز به عن سيئاتي، وأن يرزقني به عفوه وعافيته لي ولوالدي ولأهل بيتي، ولمن له فضل علي، وللمسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عقد الربا
عقد الربا * تمهيد * تعريف الربا اصطلاحًا (¬1): تعريف الحنفية: عرف الحنفية الربا: بأنه فضل خال عن عوض بمعيار شرعي شُرِط لأحد ¬
شرح التعريف
العاقدين في المعاوضة (¬1) شرح التعريف: فقولهم: (فضل) أي زيادة أحد المتجانسين على الآخر. وقولهم: (خال عن عوض) أي أن تلك الزيادة لا يقابلها عوض. وقولهم: (بمعيار شرعي) أي أن فضل أحد الجنسين على الآخر بالمعيار الشرعي: أي الكيل أو الوزن. وقولهم (شرط لأحد العاقدين في المعاوضة) أي في عقد البيع؛ لأن البيع قائم على المعاوضة. وانتقد التعريف بكونه حصر الربا في عقود المعاوضات، دون ربا القروض، مع أن الزيادة المشروطة في ربا القرض ربا، وهذه الزيادة ليست في مقابلة عوض، إلا أن يقال: إن الزيادة المشروطة في ربا القرض تخرج القرض عن بابه، وهو الإرفاق والإحسان إلى المعاوضة والتكسب، فيكون في حقيقته بيعًا في صورة قرض. تعريف المالكية: لم يتوجه كثير من المالكية إلى تعريف الربا بعمومه، وإنما عرفوا الربا بحسب ¬
تعريف الشافعية
نوعه، وما وقفت عليه من تعريفهم للربا على وجه العموم هو قول ابن العربي في تفسيره: "كل زيادة لم يقابلها عوض" (¬1). تعريف الشافعية: عرفه الروياني كما في المجموع "الربا في الشرع: اسم لمقابلة عوض بعوض مخصوص، غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد، أو تأخر في البدلين أو في أحدهما" (¬2). شرح التعريف: قوله (مقابلة عوض بعوض مخصوص) أخرج عقود التبرعات فإنها ليست بمقابلة عوض. والمراد بالعوض المخصوص: أنواع الربويات. وقوله (غير معلوم التماثل) اشتراط هذا القيد خاص بما إذا اتحد الجنس، أما إذا اختلف الجنس فإن التماثل ليس شرطًا, ولذلك اعترض بعض الشافعية بأن هذا الحد غير مانع ولا جامع؛ أما كونه غير مانع فلأنه يدخل فيه بيع صبرةِ بُرِّ بصبرة شعير جزافًا مع الحلول، والتقابض؛ لأنه يصدق على الصبرتين أنه عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع، مع أنه لا ربا في ذلك وليس في الحد ما يدل على تقييد اعتبار التماثل باتحاد الجنس. وأجاب بعضهم بأن (أل) في التماثل للعهد أي: التماثل المعتبر شرعًا وذلك عند اتحاد الجنس، وليس حمل أل على العهد بأبعد من حمل العوض المخصوص على الأنواع المخصوصة التي هي محل الربا فليتأمل. ¬
ويمكن أن يجاب عنه
وأما كونه غير جامع؛ فلأنه يخرج عنه ما لو أجلا العوضين أو أحدهما وتقابضا في المجلس لقصر الأجل، أو للتبرع بالإقباض مع أن فيه الربا. ويمكن أن يجاب عنه: بأن المراد بالتأخير في العوضين أو في أحدهما أعم من تأخير استحقاق القبض، أو تأخير نفس القبض فليتأمل. (قوله: أو مع تأخير) يمكن عطفه على غير معلوم التماثل أي: أو واقع مع تأخيره، وإن كان معلوم التماثل (¬1). تعريف الحنابلة: عرفه الحنابلة بأنه تفاضل في أشياء، ونساء في أشياء، مختص بأشياء. فقوله (تفاضل في أشياء) وهي الأموال الربوية من المكيلات بجنسها، والموزونات بجنسها. وقوله (ونساء في أشياء) هي المكيلات بالمكيلات، ولو من غير جنسها. (مختص بأشياء) وهي المكيلات والموزونات. التعريف المختار: يمكن أن يقال: الربا هو الزيادة المشروطة أو المتعارف عليها في مبادلة كل ربوي بجنسه، وتأخير القبض في الأموال التي يجب فيها التقابض. * الفرق بين المعنى اللغوي والاصطلاحي: [م - 1156] يرى بعض العلماء أن المعنى الاصطلاحي لم يبعد عن المعنى ¬
اللغوي، فكلاهما يدور حول الزيادة، وإن كان المعنى الاصطلاحي قيدها بكونها زيادة في أشياء مخصوصة، وهذا شأن كل تعريف اصطلاحي مع المعنى اللغوي. ويرى آخرون: أن الربا أصبح له حقيقة شرعية تختلف عن المعنى اللغوي، ودليلهم على هذا: (ث-118) قول عمر إن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبض قبل أن يبينه، فدعوا الربا والريبة. [حسن لغيره] (¬1). ¬
(ث-119) ويشهد له ما رواه الشيخان من طريق أبي حيان، عن الشعبي، عن ابن عمر قال: سمعت عمر بن الخطاب على منبر رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ... وثلاث وددت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عهد إلينا فيهن عهدًا ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا (¬1). قال الجصاص: "فثبت بذلك أن الربا قد صار اسمًا شرعيًا؛ لأنه لو كان باقيًا على حكمه في أصل اللغة لما خفي على عمر؛ لأنه كان عالمًا بأسماء اللغة، لأنه من أهلها. ويدل عليه أن العرب لم تكن تعرف بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة نساء ربا، وهو ربا في الشرع، وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر الأسماء المجملة المفتقرة إلى البيان، وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع لمعان لم يكن الاسم موضوعًا لها في اللغة، نحو الصلاة والصوم والزكاة؛ فهو مفتقر إلى البيان، ولا يصح الاستدلال بعمومه في تحريم شيء من العقود إلا فيما قامت دلالته أنه مسمى في الشرع بذلك ... " (¬2). وقال أيضًا: "كان عمر من أهل اللسان، ولم يكن محتاجًا إلى البيان فيما كان ¬
وخالفه آخرون
طريق معرفة استدراكه اللغة، وأخبر مع ذلك أن لفظ الربا كان مفتقرًا إلى البيان؛ إذ كان لفظا شرعيًا قد أريد به ما لا ينتظمه الاسم من طريق اللغة" (¬1). وخالفه آخرون: قال ابن عاشور في تفسيره: التحرير والتنوير: "ليس مراد عمر أنّ لفظ الربا مجمل؛ لأنّه قابله بالبيان وبالتفسير، بل أراد أنّ تحقيق حكمه في صور البيوع الكثيرة خفي لم يعمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتنصيص ... " (¬2). وهذا أقرب؛ لأن عمر قال بعد ذلك: فاتقوا الربا واتقوا الريبة. بمعنى: ما فيه شبهة فاتقوه، فربما كان من الربا دون أن تعلموا ذلك لخفائه، وعدم وضوحه. ¬
الباب الأول في حكم الربا
الباب الأول في حكم الربا [م - 1157] الربا من كبائر الذنوب، بل هو من أسباب الهلاك، قال - صلى الله عليه وسلم -: (اجتنبوا السبع الموبقات) (¬1). ومن أسباب محق البركات، {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، ومتعاطيه قد أعلن الحرب على الله {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] وأهله من أهل الظلم: ظلموا أنفسهم، وظلموا عباد الله، وظلموا مجتمعاتهم {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة: 279]. وقد قرن الربا بأعظم الذنوب جرمًا حيث قرن بالشرك بالله وقتل النفس بغير حق، والسحر والزنا، وقذف المحصنات الغافلات، ومن فعله لم يكن من المتقين قال سبحانه: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]. فعلق صفة الإيمان على ترك ما بقي من الربا. والأدلة على تحريمه كثيرة: فمن الكتاب قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. قال القرطبي: "والألف واللام -يعني في لفظ (الربا) - للجنس، لا للعهد، إذ لم يتقدم بيع مذكور يرجع إليه، كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} ثم استثنى {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 1 , 2 , 3] " (¬2). فالآية دليل على أن الربا حرام مطلقًا، لا فرق بين قليله وكثيره. ¬
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)} [البقرة: 278] إلى قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة: 279]. فأمر بترك ما بقي من الربا قليلاً كان أو كثيرًا، وأن أخذه منافيًا للتقوى، وأن أي زيادة يأخذها المرابي على رأس المال فهي من الربا المحرم، كما دل قوله تعالى: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة: 279] (¬1)، فدل على أن كل زيادة على رأس المال فهي داخلة في الظلم، قليلة كانت الزيادة أم كثيرة. ¬
وأما تحريمه من السنة، فالأحاديث كثيرة، نكتفي منها بما ورد في الصحيح، من ذلك: (ح-664) ما رواه الشيخان من طريق سليمان بن بلال، عن ثور بن زيد المدني، عن أبي الغيث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اجتنبوا السبع الموبقات؟ قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات (¬1). (ح-665) وما رواه مسلم من طريق هشيم بن بشير، أخبرنا أبو الزبير، عن ¬
جاير قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء (¬1). (ح-666) وروى البخاري في صحيحه من طريق شعبة، عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه، أنه اشترى غلامًا حجامًا، فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الدم، وثمن الكلب، وكسب البغي، ولعن آكل الربا وموكله، والواشمة، والمستوشمة، والمصور (¬2). ¬
الفصل الأول في إمكانية تصحيح عقد الربا
الفصل الأول في إمكانية تصحيح عقد الربا قال ابن نجيم: الربا ... من قبيل ما كان مشروعًا بأصله دون وصفه (¬1). [م - 1158] هل عقد الربا عقد باطل، أو فاسد يمكن تصحيحه؟ هذه المسألة ترجع إلى مسألة سابقة، هل لفظ (الباطل) ولفظ (الفاسد) مترادفان، أو أنهما لفظان مختلفان؟ فذهب الجمهور إلى أن لفظ الباطل والفاسد مترادفان (¬2). وخالفهم الحنفية: فقالوا: الباطل: ما لم يشرع بأصله، ولا بوصفه، وذلك كبيع الميتة، والخمر، والخنزير. أو ما تطرق الخلل فيه إلى ركن البيع، كبيع المجنون، والصبي غير المميز. والفاسد: ما شرع بأصله دون وصفه، أو ما كان الخلل فيه لم يتطرق إلى ركن البيع، وإنما اقترن بوصف منهي عنه شرعًا (¬3). ¬
وجه ذلك
وعقد الربا هو عقد مشروع بأصله، وهو البيع، دون وصفه، وهو الزيادة أو التأجيل. قال ابن نجيم: "الربا وسائر البيوع الفاسدة من قبيل ما كان مشروعًا بأصله دون وصفه" (¬1). فإذا وقع البيع، واشتمل على الربا، فما هو الحكم الوضعي للعقد؟ فقيل: يسقط الربا ويصح البيع. وهذا مذهب الحنفية (¬2). * وجه ذلك: أن بيع الربا جائز بأصله من حيث إنه بيع، ممنوع بوصفه من حيث كونه ربا. فعلى هذا يسقط الربا ويصح البيع؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فإذا فسد لوجود هذا المفسد، فينبغي أن يصح إذا زال المفسد، والله أعلم. القول الثاني: يجب رده إلا إن فات فيجب فيه القيمة دون الثمن المسمى لفساده، وهذا مذهب المالكية (¬3). ¬
وجه ذلك
* وجه ذلك: قال ابن رشد في بداية المجتهد: "مالك يرى أن النهي في هذه الأمور إنما هو لمكان عدم العدل فيها -أعني بيوع الربا والغرر- فإذا فاتت السلعة فالعدل فيها هو الرجوع بالقيمة؛ لأنه قد تقبض السلعة وهي تساوي ألفًا، وترد وهي تساوي خمسمائة، أو بالعكس ولذلك يرى مالك حوالة الأسواق فوتا في المبيع الفاسد ... " (¬1). القول الثالث: ذهب الشافعية والحنابلة، ورواية ابن وهب عن مالك إلى إبطال العقد مطلقًا، ولا يفرقون بين الفاسد والباطل في وجوب الرد (¬2). ويستدلون بأدلة منها: (ح-667) ما رواه مسلم من طريق أبي قزعة الباهلي، عن أبي نضرة عن أبي سعيد، قال: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمر، فقال: ما هذا التمر من تمرنا، فقال الرجل: يا رسول الله، بعنا تمرنا صاعين بصاع من هذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا الربا فردوه، ثم بيعوا تمرنا، واشتروا لنا من هذا (¬3). [اختلف على أبي نظرة في ذكر رد المبيع، وكل من رواه عن أبي سعيد لم يذكرها] (¬4). ¬
قال ابن عبد البر: "وأما سكوت من سكت من المحدثين في الحديث عن ذكر فسخ البيع الذي باعه العامل على خيبر، فلأنه معروف في الأصول: أن ما ورد التحريم به لم يجز العقد عليه، ولا بد من فسخه، وقد جاء الفسخ فيه منصوصًا في هذا الحديث ثم ساق حديث مسلم بإسناد مسلم، ثم قال: ولو لم يأت هذا ¬
الدليل الثاني
منصوصًا احتمل ما ذكرنا، واحتمل أن يكون عامِلُ خيبر فَعَلَ هذا على أصل الإباحة التي كانوا عليها، ثم نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - تحريم الربا بعد عقد صفقته على أصل ما كان عليه، كما قال سعيد بن جبير: كان الناس على أمر جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا. يريد فما لم يؤمروا ولم ينهوا نفذ فعلهم وبالله التوفيق" (¬1). الدليل الثاني: (ح- 668) ما رواه البخاري من طريق سليمان بن أبي مسلم، قال: سألت أبا المنهال عن الصرف يداً بيد، فقال: اشتريت أنا وشريك لي شيئاً يداً بيد، ونسيئة، فجاءنا البراء بن عازب فسألناه، فقال: فعلت أنا وشريكي زيد ابن أرقم وسألنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: ما كان يدًا بيد فخذوه، وما كان نسيئة فردوه (¬2). وفي بعض النسخ (فذروه). ويناقش: بأن الشيء إذا لم يقع فيه تقابض، فإنه بالإجماع يجب رده، وإنما الخلاف بين الحنفية والجمهور فيما قبض من البيوع الفاسدة التي وقع فيها ربا. ويدل لهذا الرواية الأخرى للبخاري فقد رواه البخاري من طريق عمرو، سمع أبا المنهال عبد الرحمن بن مطعم، قال: باع شريك لي دراهم في السوق نسيئة ... وفيه: فسألت البراء بن عازب فقال قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتبايع هذا البيع فقال: ما كان يدًا بيد فليس به بأس وما كان نسيئة فلا يصلح ... (¬3). ¬
الدليل الثالث
قال الحافظ في الفتح: "فعلى هذا فمعنى قوله: (ما كان يداً بيد فخذوه) أي ما وقع لكم فيه التقابض في المجلس فهو صحيح، فأمضوه، وما لم يقع لكم فيه التقابض، فليس بصحيح فاتركوه" (¬1). الدليل الثالث: (ح-669) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يعلى، حدثنا فضيل -يعني ابن غزوان- عن أبي دهقانة، عن ابن عمر، قال: كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - أناس فدعا بلالاً بتمر عنده، فجاء بتمر أنكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما هذا التمر؟ فقال: التمر الذي كان عندنا أبدلنا صاعين بصاع، فقال: رد علينا تمرنا (¬2). [ضعيف من مسند ابن عمر، حسن لغيره من مسند بلال] (¬3). ¬
...................................................... ¬
.......................................................... ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (ح-670) ما رواه البزار في مسنده من طريق روح بن عبادة، عن كثير ابن يسار، عن ثابت عن أنس، قال: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمر الريان، فقال: أنى لكم هذا التمر؟ قالوا: كان عندنا تمر بعلاً، فبعناه، صاعين بصاع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ردوه على صاحبه. قال البزار: ردوه على صاحبه، هذا الحديث لا نعلم رواه عن ثابت إلا كثير ابن يسار (¬1). [انفرد به كثير بن يسار عن ثابت البناني] (¬2). الدليل الخامس: (ح-671) ما رواه الحاكم من طريق حيان بن عبيد الله العدوي، عن أبي مجلز عن أبي سعيد أنه لقي ابن عباس فقال له: يا ابن عباس ألا تتقي الله إلى متى تؤكل الناس الربا، أما بلغك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم، وهو عند زوجته أم سلمة: إني لأشتهي تمر عجوة، فبعثت صاعين من تمر إلى رجل من الأنصار فجاء بدل صاعين صاع من تمر عجوة، فقامت فقدمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رآه أعجبه، فتناول تمرة، ثم أمسك، فقال: من أين لكم ¬
وجة الاستدلال
هذا؟ ... فأخبرته أم سلمة، فقال: فألقى التمرة بين يديه، فقال: ردوه، لا حاجة لي فيه، التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة يدًا بيد، عينًا بعين، مثلًا بمثل، من زاد فهو ربا، ثم قال: كذلك ما يكال وبوزن ... الحديث (¬1). وجة الاستدلال: قوله في الحديث: (ردوه، لا حاجة لي فيه). [الحديث انفرد فيه حيان بن عبيد الله، عن أبي مجلز، وفي حيان ضعف من قبل حفظه] (¬2). الدليل السادس: (ح-672) ما رواه مسلم من طريق ليث، عن سعيد بن يزيد، عن خالد ابن أبي عمران، عن حنش الصنعاني عن فضالة بن عبيد قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً، فيها ذهب وخرز، ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تباع حتى تفصل. ورواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن يزيد به، وفيه: (فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فقال: لا حتى يتميز ما بينهما. قال: إنما أردت الحجارة. قال: لا حتى يتميز ما بينهما. قال: فرده حتى ميز) (¬3). ¬
الدليل السابع
[رواية مسلم ليست صريحة في رد البيع، وإنما فيها النهي عن هذا البيع، ورواية ابن أبي شيبة صريحة في الرد، إلا أن هذين اللفظين مدارهما على حنش الصنعاني وقد اضطرب في حديثه] (¬1). الدليل السابع: (ح-673) قال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ... وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله) (¬2). قال الشافعي: فلما رد الناس إلى رؤوس أموالهم كان ذلك فسخًا للبيع الذي وقع على الربا (¬3). * الراجح: أن البيع الذي وقع على الربا إن كان المبيع قائمًا لم يتغير، ولم يتصرف فيه المشتري، فإنه يجب رده، فإذا تناقلت الأيدي المبيع، أو تغير في يد المشتري فإن رده ونقض البيع فيه ضرر على أحد العاقدين، والذهاب إلى إمكانية تصحيح العقد بعد أن يصحح ويرفع منه ما يوجب فساده أولى من الحكم ببطلانه، خاصة مع تغير المبيع أو انتقاله، أو ذهاب عينه، وإذا كان العاقدان لم يعلما بالتحريم، وكانا يعتقدان صحتة لم يحتج الأمر إلى تصحيح، قال تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 275] والله أعلم. ¬
الفصل الثاني في جريان الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب
الفصل الثاني في جريان الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب قال الماوردي: كل ما كان حرامًا في دار الإِسلام، كان حرامًا في دار الشرك (¬1). [م - 1159] اختلف الحنفية مع الجمهور في حكم الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب. فقيل: لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب، وهذا مذهب أبي حنفية، وصاحبه محمَّد بن الحسن (¬2)، وهو رواية عن أحمد (¬3). وحكم من أسلم في دار الحرب، ولم يهاجر كالحربي عند أبي حنيفة (¬4). وقيل: يحرم الربا مطلقًا، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، واختيار أبي يوسف من الحنفية (¬5). ¬
دليل الحنفية
دليل الحنفية: الدليل الأول: (ح-674) قال أبو يوسف: وإنما أحل أبو حنيفة هذا؛ لأن بعض المشيخة حدثنا عن مكحول، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا ربا بين أهل الحرب، أظنه قال: وأهل الإِسلام (¬1). ونوقش هذا: أولاً: أنه مرسل، وإسناده غير قائم. [قال ابن قدامة: خبر مجهول، لم يرد في صحيح، ولا مسند، ولا كتاب موثوق به، وهو مع ذلك مرسل] (¬2). ثانيًا: لو صح لهم هذا الدليل لم يكن لهم فيه حجة؛ لأن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ربا) يحتمل أن يكون نفيًا لتحريم الربا، ويحتمل أن يكون نفيًا لجواز الربا فيكون معناه (لا ربا) أي مباح بين المسلم وبين الحربي، بل إن حمله على نفي الجواز أولى لموافقته عموم النصوص الدالة على تحريم الربا. الدليل الثاني: (ح- 675) قال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ... وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله) (¬3). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: هذا الاستدلال مبني على مقدمتين: الأولى: أن العباس كان مسلمًا إبان إقامته في مكة (¬1). الثاثية: أن مكة حين كانت دار حرب كان الربا فيها بين العباس وبين أهل مكة قائمًا حتى بعد تحريم الربا، وبعد علم العباس بالتحريم. النتيجة: لو كان حكم مكة، وهي دار حرب، حكم دار الهجرة لكان الربا فيها موضوعًا قبل أن يضعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن هناك حاجة إلى أن يضع النبي - صلى الله عليه وسلم - الربا، وهو في حقيقة الأمر كان موضوعًا قبل ذلك، فإسقاط الساقط لغو، ولكن حين انتقلت مكة إلى كونها دار إسلام وضعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك بعد تحريم الربا بين المسلمين بزمن، فدل على قيام الربا بين المسلم وبين الحربي، وأنه لا يوضع حتى تتحول دار الحرب إلى دار إسلام، والله أعلم. ويناقش: بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يضع ربا العباس - رضي الله عنه - وحده، بل وضع كل ربا كان في الجاهلية، عقد بين كافر وكافر، ولم يتم القبض فيه حتى دخلا في الإسلام، وأما العباس - رضي الله عنه - فربما كان له ربا في الجاهلية قبل أن يسلم، ولم يقبضه إلى زمان إعلان وضعه، وقد يكون جاهلاً بالتحريم، فالأحكام لا تلزمه إلا بعد ¬
الدليل الثالث
البلاع، فما وقع من ربا من العباس قبل أن يعلم بالتحريم يعتبر قائمًا, ولذلك وضعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس لأن الربا كان مباحًا في دار الحرب. الدليل الثالث: أن أموالهم يجوز استباحتها بغير عقد، ودون رضاهم فكان أولى أن تستباح بعقد، وبرضاهم. ويجاب: بأن المسلم إن كان قد دخل إليه دارهم بأمان لم يجز استباحة أموالهم بغير عقد، فكذا لا تستباح بعقد فاسد. وإن كان قد دخل إليهم مع ارتفاع الأمان فكذلك أيضاً قياسًا على الحربي إذا دخل دار الإِسلام دون أمان فإنه يجوز استباحة ماله بغير عقد، ولا يجوز استباحته بعقد فاسد، فكذلك إذا دخل المسلم دار الحرب. ثم نقول: ليس كل ما استبيح منهم بغير عقد يجوز أن يستباح منهم بالعقد الفاسد، ألا ترى أن الفروج يجوز استباحتها منهم بالفيء من غير عقد، ولا يجوز استباحتها بعقد فاسد، فكذا الأموال (¬1). دليل الجمهور على تحريم الربا: الدليل الأول: النصوص الدالة على تحريم الربا من القرآن والسنة مطلقة، وإطلاقها يدل على تحريم الربا مطلقاً، سواء كان بين مسلم ومسلم، أو كان بين مسلم وحربي، ولا فرق بين كونه في دار إسلام أو دار حرب، ولا يجوز تقييد النصوص الشرعية إلا بنص شرعي مثله. ¬
الدليل الثاني
قال تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278]. (ح-676) وروى مسلم من حديث عبادة قوله - صلى الله عليه وسلم -: من زاد أو ازداد فقد أربى (¬1). الدليل الثاني: أن ما كان ربا في دار الإِسلام كان ربا محرما في دار الحرب، كما لو تبايعه مسلمان مهاجران، وكما لو تبايعه مسلم وحربي في دار الإِسلام. الدليل الثالث: كما أنه لا يجوز للمسلم أن يبيع عليه الخمور، وإن كانت مباحة لهم؛ لأنها محرمة عليه، فكيف يجوز له أن يرابي معهم، وهو محرم عليهم وعليه كما لو كان الحربي من أهل الكتاب. وهذا القول هو الراجح، وإذا كنا نعد ذلك من اليهود عنصرية مقيتة، كونهم يحرمون الربا فيما بينهم، ويستحلونه في التعامل مع الأميين، ويقولون: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75] فاعتقاد حل التعامل بالربا مع الحربي فيه نفس النزعة، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في ارتكاب الربا للحاجة
الفصل الثالث في ارتكاب الربا للحاجة قال الشافعي: "وليس يحل بالحاجة محرم إلا في الضرورات" (¬1). وقال ابن تيمية: مفسدة الغرر أقل من الربا فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه (¬2). يعني: ولم يرخص ذلك في الربا. [م - 1160] ارتكاب الربا في سد الحاجات العامة والخاصة، كشراء بيت، أو سيارة، أو إصدار الدولة سندات في مشروعات حيوية ضرورية للبلد إذا لم تجد الدولة من يقرضها قرضاً حسناً، فهل يجوز ارتكاب الربا بحجة أن الضرورة تبيح الحرام، وأن هذه المشاريع ضرورية للبلد، وأن الشخص محتاج إلى سكن له ولعائلته. وإذا قدر أن هذا الأمر ليس من قبيل الضرورة، فإنه لا شك بأنه حاجة، فهل تنزل الحاجة منزلة الضرورة؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم: جاء في البحر الرائق: "يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح" (¬3). المقصود بالحاجة هنا الضرورة، والفقهاء يعبرون بالحاجة تارة ويقصدون بها ¬
الضرورة. وذلك أن مجرد الحاجة لا تبيح المحرم، خاصة إذا كان محرمًا لذاته كربا النسيئة، وإنما الذي تبيح المحرم الضرورة (¬1). قال الشافعي - رحمه الله -: "وليس يحل بالحاجة محرم إلا في الضرورات" (¬2). ويحتمل أن تكون الحاجة هنا على ظاهرها، وبناء عليه تنزل الحاجة منزلة الضرورة، وهل هذا مطلقًا في كل حاجة، أو في الحاجات العامة دون الخاصة، اتجاهان. جاء في غمز عيون البصائر: "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة" (¬3). بينما قال الزركشي: "الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق آحاد الناس" (¬4). وجاء في الموسوعة الكويتية "ومعنى كون الحاجة عامة: أن الناس جميعًا يحتاجون إليها فيما يمس مصالحهم العامة، من تجارة، وزراعة، وصناعة، وسياسة عادلة، وحكم صالح. ومعنى كون الحاجة خاصة: أن يحتاج إليها فرد أو أفراد محصورون أو طائفة خاصة كأرباب حرفة معينة. ¬
والمراد بتنزيلها منزلة الضرورة: أنها تؤثر في الأحكام فتبيح المحظور وتجيز ترك الواجب وغير ذلك، مما يستثنى من القواعد الأصلية" (¬1). والربا وإن كان حرامًا فإنه تبيحه الضرورة إذا لم يجد الرجل من يقرضه، أو قامت بالأمة حاجة إلى مشاريع يكون فيها قوامها، وديمومتها، والمشقة تجلب التيسير. قال أبو بكر بن العربي المالكي عند ذكر القاعدة السابعة من قواعد البيوع في القبس: "اعتبار الحاجة في تجويز الممنوع كاعتبار الضرورة في تحليل المحرم ... ومن ذلك حديث العرايا، وبيع التمر فيها على رؤوس النخل بالتمر الموضوع على الأرض، وفيه من الربا ثلاثة أوجه: بيع الرطب باليابس. والعمل بالحزر والتخمين في تقدير المالين الربويين. وتأخير القبض. إن قلنا: إنه يعطيها له إذا حضر جذاذ التمر" (¬2). ويقول ابن تيمية: "يجوز للحاجة ما لا يجوز بدونها، كما جاز بيع العرايا بالتمر استثناء من المزابنة للحاجة ... " (¬3). ويقول ابن تيمية في معرض كلامه على إباحة الغرر اليسير: "والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم" (¬4). ¬
ويقول الدكتور محمَّد يوسف موسى: "إنني أرى وجوب التفرقة بين ضروب الأعمال المختلفة التي يحتاج القائمون بها إلى الاقتراض بفوائد ثابتة، في شكل سندات يصدرونها لأصحاب الأموال. إنني أرى -والعلم لله وحده- أنه لا يجوز شرعاً أن يتوسع تاجر، أو صانع، أو صاحب مؤسسة، أو شركة في أعماله، معتمداً على الاقتراض بفائدة، ولكن هناك مشاريع عمرانية، لا بد منها للبلد، تقوم بها الدولة، أو بعض الأفراد، وهناك شركات صناعية تقوم بأعمال حيوية للأمة لا تستغني عنها بحال، ويتوقف على هذه الأعمال كثير من المرافق العامة القومية، فهذه المشروعات والشركات والمؤسسات العامة وأمثالها أن يسندها القادرون بالمساهمة فيها على الوجه الذي لا خلاف في جوازه شرعًا، أي بأن يكونوا أصحاب أسهم لا سندات، فإن لم يكن هذا ممكنًا، وكان من الضروري أن تظل قائمة بأعمالها التي لا غنى للأمة عنها، كان لها شرعاً إصدار سندات بفائدة مضمونة تدفع من الأرباح التي لا شك في الحصول عليها من المشروع، ما دام لا وسيلة غير هذه تضمن لها البقاء، وما دام وجودها وبقاؤها ضروريًا للأمة. إن هذا لا يكون من الربا المحرم شرعًا، الربا الذي يكون تجارة لمن يقوم به، ولفائدته وحده، على أنه إن كان ربا، أو فيه شبهة من الربا الذي لا شك في أنه حرام شرعًا، فهو يجوز للضرورة كما قلنا، فالضرورة تبيح المحظورات، وما ضاق أمر إلا واتسع حكمه، رحمة من الله بالناس، والمشقة تجلب التيسير، وكل هذه قواعد كلية عامة، يعرفها الفقه والفقهاء، بل إن الفقه قام عليها في كثير من أحكامه" (¬1). ¬
ويناقش ما سبق بما يلي: الجواب: عن إباحة الربا للضرورة: نسلم أن الضرورة تبيح الحرام، ومنه الربا, ولكن ما حد الضرورة التي تبيح المحرم: لقد تكلم الفقهاء في حد الضرورة التي تبيح المحرم وهو أن يبلغ الإنسان "حدًا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب، كالمضطر للأكل واللبس، بحيث لو بقي جائعًا أو عريانًا لمات أو تلف منه عضو" (¬1). ولو ترك المقترض بالربا قرضه لم يهلك ولم يقارب، فالتعامل بالربا من أجل بناء بيت، أو إنشاء مصنع ونحو ذلك بعيد كل البعد عن وقوعه في الضرورة التي تبيح المحرم. ولا يعتبر إفلاس الشركة ضرورة؛ لأن إفلاس الشركة لا يلزم منه إفلاس الشركاء، وإذا أفلست شركة أمكن أن تقوم شركة أخرى مقامها. كما أن من شرط الضرورة التي تبيح الحرام أن لا تندفع ضرورته إلا بارتكاب الحرام، أو ترك الواجب، وهذا الشرط لا يتحقق في هذه القروض؛ لأن وسائل الاستثمار المباحة لا تكاد تحصى كثرة، من ذلك الشراء بالتقسيط، أو عن طريق السلم، وإذا لم يجد الإنسان من يقرضه فربما يمكنه العمل بيده حتى يحصل ما يسد حاجته، أو يسافر إلى بلاد أخرى طلبًا للعمل. فيشترط لجواز تناول المحرم في حال الضرورة أن يعلم يقينًا أن فعل المحرم يرفع الضرورة، ويحصل به المقصود، وربما لو أذن للشخص أنه كل ما احتاج أبيح له الاقتراض بالربا كثرت بذلك ديونه، وأصبح دخله كله يصرف على هؤلاء ¬
الجواب عن الاحتجاج بمسألة العرايا
المرابين، وأصبح لديه عجز في القيام بحاجاته الضرورية بسبب الربا، كما أن الشركات التي تقترض بالربا عن طريق إصدار السندات عند تعرضها للإفلاس مثلًا لا يعلم على وجه اليقين أن ذلك يقيها من الإفلاس، بل عساه أن يزيدها إفلاسًا. يقول ابن تيمية في بيان عدم جواز التداوي بالخمر: "والذين جوزوا التداوي بالمحرم قاسوا ذلك على إباحة المحرمات، كالميتة والدم للمضطر، وهذا ضعيف لوجوه: أحدها: أن المضطر يحصل مقصوده يقينًا بتناول المحرمات، فإنه إذا أكلها سدت رمقه، وأزالت ضرورته، أما الخبائث بل وغيرها فلا يتيقن حصول الشفاء بها، فما أكثر من يتداوى بها فلا يشفى، ولهذا أباحوا دفع الغصة بالخمر، لحصول المقصود بها، وتعيينها له، بخلاف شربها للعطش، فقد تنازعوا فيه. فإنهم قالوا: إنها لا تروي. الثاني: أن المضطر لا طريق له إلى إزالة ضرورته إلا الأكل في هذه الأعيان، وأما التداوي فلا يتعين تناول هذا الخبيث طريقاً لشفائه" (¬1). فثبت بذلك أن لا ضرورة أصلًا إلى التعامل بالربا طريقًا لحل المشكلات المالية، والله أعلم. الجواب عن الاحتجاج بمسألة العرايا: أما الاحتجاج بمسألة العرايا للتوصل بها إلى إباحة الربا للحاجة، فالجواب عنه: ¬
أولاً: العرايا مقيدة بما دون خمسة أوسق، وليست مطلقة. ثانيًا: أن العرايا: هو بيع الرطب بالتمر، ولا يقاس عليه غيره، فلم يبح مثلاً بيع الزبيب بالعنب، وإن كان هناك حاجة؛ لأن التمر كان القوت الأساسي في زمن النبوة. (ح-677) فقد روى الشيخان من طريق عروة عن عائشة - رضي الله عنهما -، أنها قالت لعروة: ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نار. فقلت: يا خالة ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء .. الحديث. (ح-678) ورواه أحمد من مسند أبي هريرة من طريق داود بن فراهيج، قال: سمعت أبا هريرة قال: ما كان لنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعام إلا الأسودان، التمر والماء (¬1). وإسناده حسن. ثالثًا: حتى في العرايا فإن الشارع لم يأذن بالفاضل المتيقن، بل سوغ المساواة بالخرص من أهل الخبرة بالخرص في مقدار قليل تدعو إليه الحاجة، وهو قدر النصاب خمسة أوسق فما دون، والخرص معيار شرعي للتقدير في أمور كثيرة، منها الزكاة بخلاف من يبيح الربا للحاجة. رابعًا: هو استثناء من ربا الفضل وليس من ربا النسيئة. واعلم أن ربا النسيئة يختلف حكمه عن ربا الفضل من حيث: - أن ربا النسيئة مجمع على تحريمه، لا خلاف فيه بين الفقهاء، وأما ربا الفضل فقد علمت ما فيه من الخلاف. ¬
وجه كونه ذريعة إلى ربا النسيئة
جاء في حاشية العدوي: "اتفق المسلمون على تحريم ربا النسيئة، والجمهور على تحريم ربا الفضل" (¬1). وقال ابن قدامة: "والربا على ضربين: ربا الفضل وربا النسيئة، وأجمع العلماء على تحريمهما، وقد كان في ربا الفضل اختلاف بين الصحابة ... " (¬2). ولا يقاس ما أجمع على تحريمه على ما اختلف فيه. - أن ربا الفضل قد استثني منه العرايا بشروطها، بينما ربا النسيئة قال ابن القيم: لم يبح شيء من ربا النسيئة (¬3). وإذا لم يثبت الاستثناء من ربا النسيئة على مر العصور لا يجوز لأحد أن يستثني منه شيئًا في هذا العصر، لا في بناء بيت، ولا في إنشاء مصنع، ولا في إصدار سندات ونحوها. - أن الزيادة شرط في ربا الفضل، وليست شرطًا في ربا النسيئة، فبيع الذهب بالذهب مثلًا بمثل مع التأجيل من ربا النسيئة فقط، وليس فيه من ربا الفضل، وقد يجتمعان كما لو باع الذهب بالذهب مع التفاضل والتأجيل. - ذكر بعض أهل العلم أن ربا النسيئة محرم تحريم مقاصد، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه من حديث أسامة: لا ربا إلا في النسيئة (¬4). وأما تحريم ربا الفضل فإنه حرم حتى لا يكون ذريعة إلى ربا النسيئة. وجه كونه ذريعة إلى ربا النسيئة: يقول ابن القيم: "منعهم من ربا الفضل؛ لما يخاف عليهم من ربا النسيئة، ¬
الجواب عن الاحتجاج بجواز يسير الغرر
وذلك أنهم إذا باعوا درهمًا بدرهمين، ولا يفعل هذا إلا للتفاوت الذي بين النوعين إما في الجودة، وإما في السكة، وإما في الثقل والخفة، وغير ذلك تدرجوا بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر، وهو عين ربا النسيئة، وهي ذريعة قريبة جدًا، فمن حكمة الشارع أن سد عليهم هذه الذريعة، ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقدًا ونسيئة، فهذه حكمة معقولة مطابقة للمعقول، وهي تسد عليهم باب المفسدة" (¬1). ويقول شيخنا ابن عثيمين: وجه ذلك أنه إذا جازت الزيادة من أجل الوصف، انتقل الذهن إلى جواز الزيادة من أجل التأجيل فوقع في ربا النسيئة (¬2). اهـ ولا يعني ذلك أنه ليس من المحرمات، فإن الخمرة حرمت من أجل الإسكار، وحرم القليل منه وإن لم يسكر لكونه ذريعة إليه؛ لأن المرء إذا اعتاد القليل خلص إلى الكثير، فالكل حرام في شريعة الله، بل حرم تصنيعها، وترويجها، والمساعدة فيها. فلا يجوز قياس ما حرم تحريم مقاصد كالاقتراض من البنوك الربوية، على ما حرم تحريم وسائل، قد تبيحه الحاجة. وعندي أن الصحيح في تحريم ربا الفضل أنه محرم تحريم مقاصد، وسوف يأتي بسط ذلك في موضعه من هذا البحث. الجواب عن الاحتجاج بجواز يسير الغرر: وأما الاحتجاج بجواز يسير الغرر على جواز الربا للحاجة، فهناك فرق كبير بين الغرر والربا من وجوه. ¬
الأول: أن يسير الغرر مباح بالإجماع، وأما قليل الربا فهو محرم بالإجماع، فكيف يقاس الربا المجمع على تحريمه على الغرر اليسير المجمع على إباحته، فهذا كقول الكفار: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]. الثاني: أن مفسدة الغرر محتملة، ومفسدة الربا متيقنة، فلذلك رخص في جانب الغرر ما تدعو الحاجة إليه؛ لأن تحريم الغرر اليسير والتابع أشد ضررًا على الناس من منعهم من هذه المعاملة. يقول ابن تيمية: "مفسدة الغرر أقل من الربا فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة، فإن تحريمه أشد ضررًا من ضرر كونه غررًا، مثل: بيع العقار وإن لم تعلم دواخل الحيطان والأساس، ومثل بيع الحيوان الحامل أو المرضع، وإن لم يعلم مقدار الحمل واللبن، وإن كان قد نهى عن بيع الحمل منفردا ... وجوز - صلى الله عليه وسلم - لمن باع نخلا قد أبرت، أن يشترط المبتاع ثمرتها، فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها لكن على وجه البيع للأصل، فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنًا وتبعًا ما لا يجوز من غيره، ولما احتاج الناس إلى العرايا أرخص في بيعها بالخرص، ولم يجوز الفاضل المتيقن، بل سوغ المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه الحاجة، وهو قدر النصاب خمسة أوسق أو ما دونه على اختلاف القولين للشافعي وأحمد، وإن كان المشهور عن أحمد ما في دون النصاب ... والإمام أحمد موافق لمالك في ذلك في الأغلب يحرمان الربا ويشددان فيه حق التشديد لما تقدم من شدة تحريمه، وعظم مفسدته ويمنعان الاحتيال عليه بكل طريق، حتى قد يمنعا الذريعة التي تفضي إليه وإن لم تكن حيلة ... " (¬1). ¬
الثالث: أن يسير الغرر لا تخلو منه أكثر معاملات المسلمين، ولا يمكن التحرز منه، والربا يمكن الابتعاد عنه. الرابع: أن الغرر المحرم أخف من الربا، وذلك أن النصوص الواردة في الربا تدل على أن الربا تحريمه أشد، قال تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278، 279]. وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]. وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: اجتنبوا السبع الموبقات، فذكر منها الربا (¬1). وإنك تعجب إلى هذا النفس في السعي إلى إباحة الربا في هذه العصور المتأخرة، حتى لو أدى الأمر إلى التناقض أحياناً، فيستدلون بدليل في موضع، وينقضونه في موضع آخر فتجد الساعين إلى إباحة الربا تارة يبررون ذلك بالضرورة، فيبيحون للمحتاج الفقير إلى أخذ الربا لدفع حاجته كما هو الحال هنا، وتارة ينقضون ذلك، فيحرمونه على الضعيف لأن ذلك من باب استغلال حاجته، وأن هذا لا يجوز بخلاف القوي، كالدولة والشركات الكبيرة، فيجوز لهم الاقتراض بالفائدة، وقد تقدم نقل كلامهم في الكلام على ربا الاستهلاك، وربا الإنتاج، وهذا عكس ذلك تماما، وهو من باب تناقض الباطل، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. ¬
الفصل الرابع في إطلاق الربا على كل معاملة محرمة
الفصل الرابع في إطلاق الربا على كل معاملة محرمة (ح-679) روى البخاري في صحيحه من طريق مسروق عن عائشة، قالت: لما أنزلت الآيات من سورة البقرة في الربا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد، فقرأهن على الناس، ثم حرم تجارة الخمر (¬1). ومن المعلوم أن تحريم الخمر لم يتأخر إلى نزول آيات الربا، فإن آيات الربا من آخر ما نزل من القرآن. (ث- 120) كما روى البخاري من طريق الشعبي، عن ابن عباس، قال: آخر آية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية الربا (¬2). ومعلوم أن آية الربا ليس فيها ذكر للخمر، فكيف ذكر تحريم التجارة في الخمر مع إعلان تحريم الربا؟ [م - 1161] قال ابن رجب في الفتح: "إنما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم- بتحريم التجارة في الخمر مع الربا ليعلم بذلك أن الربا الذي حرمه الله يشمل جميع أكل المال مما حرمه الله من المعاوضات، كما قال سبحانه {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فما كان بيعًا فهو حلال، وما لم يكن بيعًا فهو ربا حرام: أي زيادة على البيع الذي أحله الله، فدخل في تحريم الربا جميع أكل المال بالمعاوضات الباطلة المحرمة، مثل ربا الفضل فيما حرم فيه التفاضل، وربا النسيئة فيما حرم فيه النسأ، ومثل أثمان الأعيان المحرمة، كالخمر، ¬
والميتة، والخنزير، والأصنام، ومثل قبول الهدية على الشفاعة، ومثل العقود الباطلة، كبيع الملامسة، والمنابذة، وبيع حبل الحبلة، وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، والمخابرة، والسلف فيما لا يجوز السلف فيه، وكلام الصحابة في تسمية ذلك ربا كثير، وقد قالوا: القبالات ربا، وفي النجش أنه ربا، وفي الصفقتين في صفقة أنه ربا، وفي بيع الثمرة قبل بدو صلاحها أنه ربا، وروي أن غبن المسترسل ربا، وأن كل قرض جر نفعاً فهو ربا ... وإنما أشرنا هنا إلى ما يبين كثرة أنواع أبواب الربا، وأنها تشمل جميع المعاوضات المحرمة، فلذلك لما نزل تحريم الربا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الربا، وعن بيع الخمر، ليبين أن جميع ما نهى عن بيعه داخل في الربا المنهي عنه" (¬1). (ح-680) من ذلك ما رواه مسلم من طريق سليمان بن يسار عن أبي هريرة أنه قال لمروان: أحللت بيع الربا؟ فقال مروان: ما فعلت. فقال أبو هريرة: أحللت بيع الصكاك وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام حتى يستوفى. قال: فخطب مروان الناس، فنهى عن بيعها. قال سليمان: فنظرت إلى حرس يأخذونها من أيدي الناس (¬2). (ح-681) ومنه ما رواه أحمد حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن عبد الله ابن عبد الرحمن بن أبي حسين، قال: حدثنا نوفل بن مساحق عن سعيد بن زيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق ... الحديث. [صحيح] (¬3). ¬
............................................................. ¬
................................................... ¬
............................................................ ¬
........................................................ ¬
وإن كان تحريم الربا في المعاوضات المالية والذي نص على أنه ربا، والمذكور من السبع الموبقات، والمقرون بالشرك بالله وقتل النفس أشد من غيره من المحرمات كالغرر، والله أعلم. ¬
الباب الثاني في أنواع الربا
الباب الثاني في أنواع الربا الربا نوعان: الأول: ربا الديون، ويشمل نوعين: ربا القرض، وربا الجاهلية. الثاني: ربا البيوع، ويشمل ربا النسيئة، وربا الفضل. قال ابن رشد: "واتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين: في البيع، وفيما تقرر في الذمة من بيع أو سلف ... " (¬1). فجعل ابن رشد الربا نوعين: ربا البيوع. والنوع الثاني: ربا الديون، وهو ما عبر عنه بقوله: ما تقرر في الذمة. وستتكلم إن شاء الله تعالى على كل نوع في مبحث خاص، نسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
الفصل الأول في ربا الديون
الفصل الأول في ربا الديون المبحث الأول في ربا القرض الفرع الأول تعريف ربا القرض قال ابن عبد البر: كل زيادة من عين أو منفعة يشترطها المسلف على المستسلف فهي ربا، لا خلاف في ذلك (¬1). [م - 1162] قلت: ربا الديون من إضافة الشيء إلى سببه، وهو نوعان: ربا الجاهلية، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه. وربا القرض: وهو كل زيادة مشروطة أو متعارف عليها في بدل القرض. والفرق بين ربا الديون وبين ربا البيوع: أن ربا البيوع يكون في الأموال الربوية خاصة، وهي الذهب، والفضة، والبر، والتمر، والشعير، والملح، المنصوص عليها في حديث أبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت، وسيأتي تخريجهما عند الكلام على ربا البيوع. وألحق الفقهاء فيها ما شابهها في العلة. وأما ربا الديون فيجري في الأموال الربوية وفي غيرها باتفاق الفقهاء، وقد ¬
أخطأ من المعاصرين من جوز القرض بفائدة ظنا منه أن الأوراق النقدية ليست من الأموال الربوية، فأدخل ربا القرض في ربا البيوع. يقول ابن حزم رحمه الله تعالى: "والربا لا يجوز -أي لا يقع- في البيع، والسلم إلا في ستة أشياء ... وهو في القرض في كل شيء، فلا يحل إقراض شيء ليرد إليك أقل ولا أكثر، ولا من نوع آخر أصلاً، لكن مثل ما أقرضت في نوعه ومقداره ... وهذا إجماع مقطوع به" (¬1). ويرى بعض العلماء بأن ربا القرض هو من ربا البيوع، وأن تسميته ربا القرض هي تسمية اصطلاحية من لدن الفقهاء، وهو في حقيقته نوع من ربا البيوع مشتملاً على ربا الفضل والنسيئة؛ لأن القرض: هو عقد إرفاق وإحسان، فإذا اشترط زيادة على قرضه خرج العقد من كونه عقد إرفاق وإحسان إلى كونه من عقود الربح والمعاوضة، فأصبح حقيقته بيع دراهم بدراهم مع التفاضل والنسأ، فجمع الربا بنوعيه، والعياذ بالله، والعقود العبرة فيها بالمعاني وليست بالألفاظ. وقد يقال: بأن من أطلق عليه ربا القرض نظر إلى ظاهر العقد، ومن ألحقه بربا البيوع نظر إلى المعنى. وقد يقال: بأن هناك فرقًا بين ربا القرض وربا البيع. فربا القرض لا يختص بمال معين، فكل زيادة من عين أو منفعة على القرض فهي حرام بصرف النظر عن جنس المال. أما ربا البيوع فلا يجري إلا في أموال خاصة تتفق في علة الربا، فإذا اختلف العلة بين العوضين جاز التفاضل وجاز النساء. ¬
والمراد من كل هذا: أن القرض يجب رد مثله دون اشتراط زيادة، فإذا اشترط المقرض على المقترض زيادة فإن هذا من الربا بصرف النظر هل هذه الزيادة تخرج القرض من حقيقته إلى حقيقة المعاوضة، أو هو من ربا البيوع، والله أعلم.
الفرع الثاني في حكم ربا القروض
الفرع الثاني في حكم ربا القروض قال ابن عبد البر: "كل زيادة من عين أو منفعة يشترطها المسلف على المستسلف فهي ربا، لا خلاف في ذلك" (¬1). فقوله (كل زيادة) من ألفاظ العموم، لا فرق بين زيادة في قرض استهلاكي، أو قرض إنتاجي. [م - 1163] وقد ذهب عامة العلماء (¬2)، والمجامع الفقهية (¬3)، إلى تحريم ربا ¬
وقد استدلوا على تحريم ربا القروض بأدلة منها
القروض من غير فرق بين قرض يقصد به الاستثمار والإنتاج، وبين قرض يقصد به الاستهلاك. وقد استدلوا على تحريم ربا القروض بأدلة منها: الدليل الأول: عموم نصوص الشريعة التي تحرم الربا، فلم تستثن منه شيئًا، وما كان ربك نسيًا، فلو كانت الزيادة على القروض إذا كانت بغرض الإنتاج حلالًا لجاءت النصوص تستثنية، كما استثنت النصوص العرايا من ربا الفضل، وكما استثنى النص الرباني من جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف. قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. وقال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]. (ح-682) وروى مسلم من حديث جابر قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء (¬1). (ح-683) وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي جحيفة لعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا (¬2). فمن قيد هذه النصوص المطلقة بأن المقصود بها ربا الاستهلاك دون ربا الإنتاج فقد خصص النصوص الشرعية بفهمه من غير مخصص، والفهم غير معصوم، فلا يخصص النصوص الشرعية إلا نصوص مثلها، وإلا حصل تلاعب بالنصوص الشرعية لا يمكن ضبطه. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]، فمن أخذ زيادة على رأس ماله فقد ظلم وتعدى، سواء كانت الزيادة في قرض استهلاكي، أو قرض إنتاجي، فإن أراد الخروج من ظلم الربا فليس له إلا مخرج واحد أن يأخذ المرابي رأس ماله، هذا هو طريق النجاة لمن أراد التوبة من الربا. الدليل الثالث: حكى الفقهاء من كافة المذاهب على تحريم اشتراط زيادة في بدل القرض للمقرض، وأن ذلك من الربا من غير فرق بين ربا الإنتاج وربا الاستهلاك. ففي المذهب الحنفي: قال العيني: "أجمع المسلمون بالنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اشتراط الزيادة في السلف ربا حرام" (¬1). وفي مذهب المالكية قال ابن عبد البر: "كل زيادة من عين أو منفعة يشترطها المسلف على المستسلف فهي ربا، لا خلاف في ذلك" (¬2). فقوله - رحمه الله - " (كل زيادة) من ألفاظ العموم تشمل كل زيادة، وقوله (من عين أو منفعة) بيان لهذه الزيادة، وأن الزيادة ليست محصورة في أعيان معينة كربا البيوع، بل ولا في جنس الأعيان حتى لو اشترط زيادة منفعة كانت المنفعة محرمة. وقال أيضاً: "وقد أجمع المسلمون نقلا عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أن اشتراط الزيادة في ¬
السلف ربا ولو كان قبضة من علف، أو حبَّة، كما قال ابن مسعود: أو حبَّة واحدة" (¬1). ونقله عنه القرطبي المالكي في تفسيره (¬2). وفي المذهب الشافعي قال ابن المنذر: "أجمعوا على المسلف إذا شرط على المستسلف هدية أو زيادة، فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة ربا" (¬3). وفي مذهب الحنابلة: قال ابن تيمية: "وقد اتفق العلماء على أن المقرض متى اشترط زيادة على قرضه كان ذلك حرامًا" (¬4). وقال ابن قدامة: "كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف" (¬5)، ثم ساق كلام ابن المنذر، والذي نقلنا آنفًا. وقال ابن مفلح الصغير الحنبلي: "كل قرض شرط فيه زيادة فهو حرام إجماعًا؛ لأنه عقد إرفاق وقربة، فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه، ولا فرق بين الزيادة في القدر أو الصفة، مثل أن يقرضه مكسرة فيعطيه صحاحًا، أو نقدًا ليعطيه خيرا منه ... " (¬6). وفي المذهب الظاهري، قال ابن حزم: "لا يحل إقراض شيء ليرد إليك أقل ولا أكثر، ولا من نوع آخر أصلاً، لكن مثل ما أقرضت في نوعه ومقداره ... وهذا إجماع مقطوع به " (¬7). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (ث-121) روى البخاري من طريق شعبة، عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه، أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -، فقال: ألا تجيء فأطعمك سويقًا وتمرًا ... ثم قال: إنك بأرض الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق، فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قت، فلا تأخذه فإنه ربا (¬1). الدليل الخامس: (ح-684) ما رواه أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬2). [إسناده حسن] (¬3). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل سلف وبيع) والمراد بالسلف: هو القرض في لغة الحجاز، فنهى عن الجمع بين البيع والقرض، وإنما نهى عن الجمع بين البيع والقرض وإن كان كل واحد منهما صحيحًا بانفراده لأنه ربما حاباه في البيع على القرض، فيؤدي إلى أن يجر القرض نفعًا للمقرض، فلما كانت الفائدة على القرض ربما تستتر بعقد البيع نهى عنها الشارع، وإذا كان هذا حكم الشرع بالفائدة المستترة فكيف بالفائدة الظاهرة المشروطة. ¬
قال ابن تيمية: "نهى -يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع الرجل بين سلف وبيع، وهو حديث صحيح، ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح، وإنما ذاك؛ لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفًا، ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفًا، وسلعة بثمانمائة، ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا" (¬1). وقد حكى الإجماع غير واحد من أهل العلم على تحريم اشتراط البيع مع عقد القرض. قال الباجي في المنتقى: "لا يحل بيع وسلف، وأجمع الفقهاء على المنع من ذلك ... " (¬2). قال القرافي: "وبإجماع الأمة على جواز البيع والسلف مفترقين، وتحريمهما مجتمعين لذريعة الربا" (¬3). وقال في مواهب الجليل: "واعلم أنه لا خلاف في المنع من صريح بيع وسلف" (¬4). وقال الزركشي في البحر المحيط: "وبالإجماع على جواز البيع والسلف مفترقين، وتحريمهما مجتمعين للذريعة إليها" (¬5). كما حكى الإجماع على التحريم ابن قدامة في المغني (¬6) وغيرهم. ¬
القول الثاني: مع وضوح تحريم ربا القروض مطلقًا، واتفاق علماء السلف عليها إلا أن هناك من خالف في هذه المسألة من المحدثين، وخلافهم فيها من قبيل الخلاف الشاذ، المخالف للإجماع، ويلتمس العذر لهم لكونهم متأولين، ولا يعتبر القول عندي خارقًا للإجماع لكون هذا القول في نفسه مخالفًا للإجماع كما سبق، والله أعلم. وأستطيع أن أرجع الأقوال المخالفة لإجماع السلف إلى مذهبين: الأول: يرى جواز اشتراط القرض بفائدة عند ابتداء العقد، (وهو ما يسمى بالفائدة البسيطة) ويحرم الفائدة المركبة، وهو أن يقول إذا حل الأجل: إما أن تقضي وإما أن تربي. ويحصر التحريم بهذا النوع من الربا، وبالتالي فإن ما تمارسه البنوك من إقراض بفائدة لا يكون محرمًا بناء على هذا القول، إلا إذا ضاعفوا الربا من أجل التأخير في السداد، وممن قال بذلك الشيخ محمَّد رشيد رضا، وعبد الرزاق السنهوري وغيرهما، وسيأتي توثيق هذا القول، ومناقشته عند الكلام على ربا الجاهلية. الثاني: يرى تحريم القرض بفائدة للاستهلاك، ويجوزه للإنتاج، فكما قسم الفريق الأول الربا إلى نوعين: مضاعف وبسيط، وحرم الأول دون الثاني. قسم هذا الفريق الربا أيضًا إلى نوعين: ربا استهلاكي: هو الزيادة التي تؤخذ على القروض المستعملة في شراء الحاجات الاستهلاكية. وربا إنتاجي: هو الزيادة التي تؤخذ على القروض المستعملة في عمليات إنتاجية كإقامة مشروع تجاري أو صناعي، أو زراعي، وزعموا أن مقاصد
الشريعة تقضي بتحريم الربا فيما أخذ للاستهلاك فقط، وأن هذا هو ربا الجاهلية الذي وردت النصوص بتحريمه، دون ربا التنمية والإنتاج. وبناء على هذا القول يكون أخذ الربا على الودائع البنكية حلالاً؛ لأن المقترض، وهو البنك إنما اقترض هذه الأموال من المودعين للتنمية والإنتاج، ولم يقترضها للاستهلاك في أكل وشرب ولبس، وسداد للديون ونحوها (¬1). ¬
والمجيزون لذلك بعضهم يكيف الودائع على أنها عقد مضاربة، مع ضمان رأس المال وربح معلوم (¬1)، ومعلوم أن ضمان رأس المال في عقد المضاربة، أو تحديد مقدار الربح لرب المال يجعله باطلاً بالاتفاق، وسيأتي إن شاء الله النقل عن ذلك. وبعضهم يكيفها على أنها ديون، ولكن جاز أخذ الفائدة عليها؛ لأن آخذها قد أخذها للتنمية والإنتاج، فهو سيربح منها أمولًا طائلة، فلا مانع من أخذ زيادة معينة ما دام أن القرض لم يكن من القروض الاستهلاكية، وإنما هي قروض إنتاجية. ¬
وقد استدل أصحاب هذا القول بأدلة، منها
كما أنه بناء على هذا القول يجوز أن تقترض من البنك بفائدة إذا كان الغرض من ذلك الإنتاج وليس لغرض الاستهلاك. وقد استدل أصحاب هذا القول بأدلة، منها: الدليل الأول: أن الربا الذي حرمه القرآن الكريم هو ما كان سائدًا في الجاهلية قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو مقصور على الربا الاستهلاكي، والذي يستغل فيه المرابون حاجة المعوزين والفقراء، ويرهقونهم بما يفرضون عليه من ربا فاحش، وأن العصر الجاهلي لم يكن أهله على علم بالقروض الإنتاجية، وأثرها في النشاط الاقتصادي، وأما اليوم فقد تطورت النظم الاقتصادية، وانتشرت الشركات، وأصبح المقترض اليوم هو الجانب الأقوى، وأصبح المقرض هو الجانب الأضعف الذي تجب له الحماية، فليس من المعقول أن نعتبر المقرض الضعيف في هذه الحالة هو المرابي الظالم. ويناقش هذا الدليل من أربعة وجوه: الوجه الأول: أن هذا الاستدلال قائم على فرضيتين: الفرضية الأولى: أن ما لم يكن موجودًا في عهد نزول القرآن لا يمكن أن يكون حرامًا في الشريعة. وهذا الكلام دعوى باطلة؛ لأن القرآن حينما يحرم شيئًا إنما يحرم حقيقته، وإن كانت تلك الحقيقة خارجة عن النهي والحرمة، بل تكون الحرمة واقعة على تلك الحقيقة مهما تغيرت صورتها في الأزمنة التالية.
الفرضية الثانية
ومثاله: أن القرآن الكريم لما حرم الخمر فقد حرم حقيقتها دون صورها الموجودة في عهد نزوله بخصوصها، فهل يجوز لعاقل أن يقول: إنما الحرام تلك الصور المخصوصة من الخمر التي كانت موجودة في عهد نزول القرآن؟ والتي كانت تصنع بالأيدي، ولا تحرم هذه الخمور الحديثة التي تصنع بالمكينات والطرق الكيماوية. وكذلك لما حرم القرآن الربا فقد حرم حقيقته، وهي الزيادة المشروطة، ولم يحرم الصور الموجودة منه في عهد نزوله بخصوصها، فتدخل في الحرمة كل صورة تصدق عليها هذه الحقيقة، سواء كانت تلك الصورة موجودة عند نزول القرآن، أو كانت محدثة فيما بعد من الزمان، فالأساليب والصور قد تتغير من عصر إلى آخر، وهذا لا يغير شيئاً من حقيقة الربا (¬1). الفرضية الثانية: أن قروض الاستثمار لم تكن موجودة في عهد نزول القرآن. وهذا الكلام دعوى بلا برهان، فإن القروض الإنتاجية بمختلف أنواعها التجارية والزراعية كانت سائدة في الجاهلية: فالسنة النبوية تنقل لنا حال المزارعين في المدينة حال مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان أهل يثرب أهل زراعة، فيحتاجون الأموال لاستصلاح الزراعة، وربما أخذوا القروض المؤجلة لسنة أو لسنتين، إلى ثلاث سنين وهي ليست قروضًا استهلاكية: (ح-685) فقد روى البخاري من طريق أبي المنهال عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال: أسلفوا في الثمار في كيل معلوم، إلى أجل معلوم (¬2). ¬
فكلمة (وهم يسلفون في الثمار) تعبير عن جميع المزارعين أو غالبهم، وهذا لا يكون إلا في الأمور الإنتاجية؛ لأن الأمور الاستهلاكية لا يمكن أن يعبر عنها بلفظ الجمع؛ لأنها حاجة خاصة، وكان سبيل المزارعين في ذلك هو اللجوء إلى بيع السلم، زيادة المبيع في مقابل تقديم الثمن. وأما مكة فمن المعلوم أنها لم تكن أرضا زراعية، وكان أهلها يعتمدون على التجارة، وكانت لهم رحلتين امتن الله بها عليهم: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، وكانت القوافل تخرج من مكة لتعود محملة بمختلف البضائع، وكانت قريش كلها تساهم في تمويلها، والتمويل يحتاج إلى رأس مال، ومن لم يكن لديه رأس مال لجأ إلى الاقتراض بالربا. (ث-122) ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه في دين الزبير بن العوام - رضي الله عنه -، يقول ابنه عبد الله: "وإنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكنه سلف، فإني أخشى عليه الضيعة ... قال عبد الله: فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف، ومائتي ألف" (¬1). وعمل الزبير يشبه عمل البنوك الإِسلامية اليوم، حيث تودع الأموال فيها على شكل قروض مضمونة، فهذا الدين الضخم الذي على الزبير لا يمكن أن يعتبر من قبيل القروض الاستهلاكية. (ث-123) وروى مالك في الموطأ، عن زيد بن أسلم، عن أبيه أنه قال: خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق، فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري، وهو أمير البصرة، فرحب بهما وسهل، ثم قال: ¬
لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى هاهنا مال من مال الله، أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكماه فتبتاعان به متاعًا من متاع العراق، ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المومنين، ويكون الربح لكما، فقالا: وددنا ذلك، ففعل، وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا، فأربحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر، قال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا. فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين، فأسلفكما، أديا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المومنين هذا، لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه. فقال عمر: أدياه، فسكت عبد الله، وراجعه عبيد الله. فقال رجل من جلساء عمر يا أمير المومنين: لو جعلته قراضًا، فقال عمر قد جعلته قراضا فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه, وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال (¬1). [إسناده صحيح]. فهنا أسلفهما, ولم يكن هذا القرض عن حاجة، وإنما قرض استثماري، حيث أسلفهما بقصد التجارة، والغرض منه أن يربحا، فهذا دليل على أن القروض الإنتاجية لم تكن معدومة في الصدر الأول. (ث-124) وروى الطبري في تفسيره، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن هند ابنة عتبة قامت إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فاستقرضته من بيت المال أربعة آلاف، تتجر فيها، وتضمنها، فأقرضها ... (¬2). ¬
الوجه الثاني
وفي إسناده سيف بن عمر، وهو ضعيف. فكل هذه النصوص تثبت أن العصر الأول كان يعرف القرض الإنتاجي، بل الأصل في القروض في وقتهم. الوجه الثاني: " أن هذا القول مبني على مقدمتين ونتيجة: المقدمة الأولى: أن الحكمة من تحريم الربا منع استغلال الفقير. والمقدمة الثانية: أن هذه الحكمة منتفية في قروض الإنتاج. والنتيجة: ينبغي أن ينتفي تحريم الربا في قروض الإنتاج. والجواب: أن هذا الافتراض مبني على تصور مخالف للقاعدة الأصولية؛ فأين الدليل على أن ما ذكر هو كل الحكمة من تحريم الربا؟ ولو فرضنا أن هذا هو كل الحكمة من تحريم الربا، فإن القاعدة الأصولية تقول: إن الأحكام تدور مع العلة لا مع الحكمة. فمثلاً: الحكمة من قصر الصلاة في السفر -كما قيل- منع المشقة عن المصلي، ولكن وجود هذا الأمر في غير حالات السفر لا يبيح القصر، فلا يجوز للمريض قصر الصلاة، ولو كان إتمامها يشق عليه أكثر من المسافر، ويباح قصر الصلاة للمسافر، ولو انتفت المشقة كما في حالة المترفه في سفره. إن القول بأن الحكمة من تحريم الربا منع استغلال الفقير، فإذا انتفى الاستغلال جاز الربا، هو تماما مثل أن يقول قائل: إن الحكمة من تحريم الزنا
الوجه الثالث
هو حفظ النسب، فإذا انتفى ضياع النسب بالزنا كما في حالة التعقيم انتفى التحريم (¬1). الوجه الثالث: أن هذا السبب المزعوم لتحريم الربا، وهو منع استغلال حاجة الفقير لا يدور وجودًا وعدمًا مع كون القرض الربوي قرض إنتاج أو استهلاك، فاستغلال الحاجة منتف في بعض القروض الاستهلاكية، كما في اقتراض الرجل الغني لشراء يخت للنزهة مثلا، وهو هنا قرض مستهلك. واستغلال الحاجة موجود في بعض القروض الإنتاجية حالة اقتراض الحرفي الفقير لشراء ورشة يستغلها لكسب عيشه، وهو هنا قرض إنتاج (¬2). الوجه الرابع: أن الشارع الحكيم حرم ربا الفضل، ومن صوره ما لا يكون ظلمًا، كما باع صاعًا من البر الجيد بصاعين من البر الرديء، وتحريم مثل هذا رغم انتفاء الظلم فيه قادح في التعليل بالظلم نظرًا لوجود الحكم (التحريم) مع تخلف الحكمة (الظلم) (¬3). وقد يكون الظلم الذي عناه الشارع أعم من الظلم الواقع على المقترض، فإن الظلم قد يطال المقرض والمقترض، والمجتمع الذي انتشر فيه الربا؛ لأن تكدس الأموال في أيدي قليلة من الناس، وتحكمهم في اقتصاد الناس يؤدي إلى مفاسد سياسية واقتصادية، واجتماعية لا تخفى، وليس هذا موضع بحثها. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن المقترض في ديون الاستثمار يكونون رجالًا أثرياء، ويحصلون بها على أرباح كثيرة، فلو طالبهم المقرض بزيادة على رأس المال فلا يكون ذلك ظلمًا ولا استغلالًا (¬1). والجواب من وجهين: الوجه الأول: أن الربح في هذه القروض مظنون، وليس مقطوعًا به، فقد يربح، وقد يخسر. ودعوى أن المشاريع اليوم مضمونة النتائج؛ لأنها قائمة على دراسات اقتصادية دقيقة، هذه الدعوى يخالفها الواقع، فليس هناك في التجارة شيء مضمون. "فهذه اليابان تعلن فيها مئات البنوك إفلاسها. وهذه الأزمة الآسيوية التي عصفت بدول جنوب آسيا برمتها، فلم تغن عتهم حساباتهم ولا دراساتهم، بل إن صندوق النقد الدولي، وهو أعلى مؤسسة مالية في العالم توقع في تقريره قبل حلول الأزمة الآسيوية ببضعة أشهر، أن يكون معدل النمو في دول النمور الآسيوية يزيد على 8 %، وهو أعلى معدلات النمو في العالم، وها هو الآن لا يزيد على 0.2 % فهل يصح بعد هذا أن يقال: إن الدراسات المحاسبية تقدر بدقة نتائج الاستثمار؟ أو لا يعلم هؤلاء أن في أمريكا وحدها مجلات دورية أسبوعية، أو شهرية، متخصصة بالإعلان عن الشركات والبنوك التي تعلن إفلاسها" (¬2). ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: على فرض أن الربح في المشاريع الإنتاجية مضمون فإن الربح إنما هو ثمرة الجهد الذي بذله المستدين، وهذا يجعل الربح خالصًا له، والناس يتفاوتون في هذا فقد يأخذ القرض شخص ويخسر، ويأخذه آخر لنفس المشروع ويربح، فالربح بعد توفيق الله هو متعلق بجهد المقترض، بل إن الشرع يذهب أبعد من هذا، فلو أن غاصبًا اغتصب دراهم ثم استثمرها، وربح منها ربحًا عظيمًا لم يكن عليه أن يرد إلا ما اغتصبه، ويكون الربح للغاصب في مقابل ضمانه لما اغتصب، فإذا كان هذا في معاملة المعتدي الغاصب، فكيف في معاملة المقترض المأذون له. والإنصاف أن ينظر الدائن في دينه، هل يقرض ذلك إعانة للمستقرض، أو يريد أن يشاركه في أرباحه؟ فإن كان المقصود هو الأول فلا حق له إلا في رأس المال، وليتحمل المقترض وحده الخسارة في مقابل أن يتمتع بالربح وحده. وإن كان المقصود هو الثاني، فالإنصاف أن يشاركه في أخطار التجارة أيضًا، ولا يطالبه بالربح إلا إذا ربحت تجارته، وإنما يكون ذلك في عقد المضاربة بشروطها (¬1). الدليل الثالث: يدعي بعض من يبيح أخذ الربا على الودائع البنكية أن البنك الربوي يأخذ الودائع ليضارب بها نيابة عن أصحابها، فهي ثمرة استثمار أموالهم. ¬
ويجاب عن ذلك
ويجاب عن ذلك: أن هذه الدعوى مخالفة للواقع، ومخالفة للأنظمة، فإن البنوك ممنوعة بمقتضى أنظمتها من ممارسة الاستثمار في التجارة؛ لأنها قائمة على الإقراض والاقتراض بفائدة (¬1). ولو فرض أن هذه الأنظمة قابلة للمراجعة والتغيير فإن تحديد نسبة الفائدة يجعل المعاملة محرمة، ويبطل المضاربة. وهناك فرق بين المضاربة وبين الاقتراض بفائدة من ذلك: - المضاربة شركة بين صاحب المال، وصاحب العمل، تطبق عليها أحكام الشركات، أما أخذ المال من البنوك الربوية فهو اقتراض بفائدة، بمعنى أن البنك يتملك المال، ويتصرف فيه تصرف الملاك، وله مطلق الحرية، إن شاء أقرضه بفائدة، كما هي وظيفة البنك الأساسية، وإن شاء جمده على شكل أرصدة في البنك المركزي، ولا يطالب صاحب المال البنك في العمل فيه، ولا له حق مطالبته في الإشراف على طريقة استثمار البنك للمال. ¬
- أن البنك يأخذ فائدة ثابتة، بصرف النظر عن الربح والخسارة، ومقدار هذه الفائدة يتناسب مع مقدار القرض، ومدة القرض، وسعر الفائدة السائد في السوق، بينما المضاربة معرضة للربح والخسارة. - أن صاحب القرض يضمن رجوع رأس المال كاملاً في كل الأحوال، بينما تكون الخسارة في المضاربة على الربح، ولو أتى على جميعه، ثم على رأس المال، والعامل يخسر عمله وجهده. فاشتراط الضمان في المضاربة على العامل باطل، يفسد عقد المضاربة. يقول ابن رشد: "وأجمعوا على أن صفته: أن يعطي الرجل الرجل المال، على أن يتجر به، على جزء معلوم يأخذه العاهل من الربح ... وأنه لا ضمان على العاهل فيما تلف من رأس المال إذا لم يتعد" (¬1). وقال ابن قدامة: "متى شرط على المضارب ضمان المال، أو سهمًا من الوضيعة، فالشرط باطل، لا نعلم فيه خلافًا" (¬2). وفي هذا نعلم أن اشتراط الفقهاء في المضاربة، ألا يكون المال والربح مضمونًا على العامل، مرده إلى أن هذا الشرط يخرج العقد من كونه قراضًا إلى كونه قرضا. هذه تقريباً شبه القائلين بجواز ربا القرض إذا كان من قبيل الإنتاج والاستهلاك والجواب عليها. ¬
المبحث الثاني في ربا الجاهلية
المبحث الثاني في ربا الجاهلية قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وما ورد في السنة إما تفسير لما أجمل في كتاب الله، أو زيادة عليه، وكلاهما من الربا المحرم {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. [م - 1164] من ربا الديون ربا الجاهلية: وهو الزيادة في الدين نظير الأجل. وهو المعني بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130]. يقول ابن جرير في تفسير هذه الآية: "إن الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل, فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه، فيقول له الذي عليه المال: أخر عني دينك وأزيدك على مالك، فيفعلان، فذلك هو الربا أضعافًا مضاعفة، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه". ثم روى هذه التفسير عن مجاهد, وقتادة، وعطاء (¬1). ولا شك أن الزيادة في الدين نظير الأجل، أنه من الربا المحرم، وأنه أشد أنواع الربا تحريمًا. وقد غلط بعض المعاصرين في قصر التحريم على هذا النوع من الربا، وأن ما عداه من الربا لا يحرم، وأول من قال بهذا هو الشيخ محمَّد رشيد رضا خارقًا بذلك إجماع العلماء, ثم تبعه بعد ذلك جماعة من المثقفين المعاصرين (¬2). ¬
وقد حمل الشيخ محمَّد رشيد رضا المطلق في قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] على المقيد في قوله سبحانه تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] وأن (أل) في قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] للعهد، أي الربا المعهود الذي كان فاشيًا في الجاهلية، وأن المحرم هو ربا الجاهلية الوارد في القرآن، وهو ما يؤخذ من المال لأجل تأخير الدين المستحق في الذمة إلى أجل آخر مهما يكن أصل ذلك الدين من بيع أو قرض، أو غيرهما، هذا هو المحرم تحريم مقاصد. وهذا يعني: لا يدخل في الربا عنده كل قرض بفائدة مشروطة عند العقد، وهو ما تتعامل به البنوك الربوية في عصرنا إذا لم يترتب على تأخير السداد فوائد أخرى. ولا يدخل في الربا عنده كل قرض جر نفعاً. ولا يدخل في الربا عنده بيع أحد الأجناس الستة بمثله متفاضلًا نقدًا أو نسيئة، ولا فيما يلحق بالستة بمقتضى القياس. وإنما يظهر سبب النهي عن هذه البيوع أنه سد لذريعة الربا المحرم القطعي، فيباح للحاجة والمصلحة، إذ تحريمه تحريم وسائل كيلا يؤدي إلى ربا الجاهلية. فخلاصة مذهبه: أن الربا ثلاثة أنواع: الأول: ربا الجاهلية الوارد في القرآن، وهذا محرم تحريم مقاصد، ولا يباح إلا في حال الضرورة الملحة التي تبيح الميتة والدم. ¬
والثاني والثالث: ربا الفضل وربا النسيئة الواردين في الحديث النبوي الشريف، فتبيحهما الحاجة، وأن المنع منهما من قبيل سد الذريعة حتى لا يفضي ذلك إلى الربا المحرم القطعي. وممن اتجه إلى هذا فضيلة الشيخ محمَّد رشيد رضا (¬1)،. . . . . . ¬
دليل من قال بهذا القول
وعبد الرزاق السنهوري (¬1). دليل من قال بهذا القول: الدليل الأول: أن الربا الوارد في القرآن هو ربا الجاهلية، وقد فسره مجاهد، وعطاء، وقتادة كما نقله ابن جرير عنهم في تفسيره، واقتصروا عليه، وهو أن ربا الجاهلية أن يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه، فيقول له الذي عليه المال: أخر عني دينك وأزيدك على مالك، فيفعلان، فذلك هو الربا أضعافًا مضاعفة، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه. ويناقش من وجوه: الوجه الأول: بأن ربا الجاهلية المذكور في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا ¬
الصورة الأولى
أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] والذي نزل القرآن بتحريمه له صورتان في مفهوم العرب. الصورة الأولى: الزيادة على أصل الدين عند حلول الوفاء مقابل تأجيله مدة أخرى، وهي المشهورة بقوله: (إما أن تقضي وإما أن تربي). الصورة الثانية: الزيادة على دين القرض عند العقد ابتداء. وكون بعض المفسرين اقتصر على الصورة الأولى منهما ربما كان ذلك لشهرتها، وكثرة جريانها عند العرب. قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن: "والربا الذي كانت العرب تعرفه، وتفعله، إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به، ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد إذا كان متفاضلاً من جنس واحد. هذا كان المتعارف المشهور بينهم، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39] فأخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال العين؛ لأنه لا عوض لها من جهة المقرض ... ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع شرط الزيادة" (¬1). قال الألوسي: "وليس هذه الحال -يعني أضعافًا مضاعفة - لتقييد المنهي عنه، ليكون أصل الربا غير منهي عنه، بل لمراعاة الواقع فقد روى غير واحد أنه ¬
الوجه الثاني
كان الرجل يربي إلى أجل، فإذا حل الأجل قال للمدين: زدني في المال حتى أزيدك بالأجل، فيفعل، وهكذا عند كل أجل. . ." (¬1). وقد ذكر مثل ذلك أبو السعود، والبيضاوي في تفسيرهما (¬2). ففهم من ذلك أن ربا الجاهلية كان يأخذ شكل القرض بزيادة كما يأخذ شكل الزيادة في الدين عند حلول الأجل. وقد نقل علماء المسلمين الإجماع على أن الزيادة على دين القرض من الربا المحرم، ونقلت كلامهم عند الكلام على دين القرض، منهم العيني، وابن عبد البر، وابن المنذر، وابن تيمية، وابن قدامة، وابن مفلح وغيرهم، ولم أقصد الاستيعاب، وإنما قصدت تنوع الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، فكلامهم مقدم على كلام الشيخ محمَّد رشيد رضا، وفهمهم أولى لاتفاقهم، ومخالفة محمَّد رشيد رضا لهم على كثرتهم. الوجه الثاني: على فرض أن يكون ربا الجاهلية محصورًا في الدين إذا حل، ولم يكن المدين قادرًا على السداد، فيقول له: إما أن تقضي وإما أن تربي، فإنه لا يوجد فرق بين الزيادة عند حلول الأجل أو الزيادة المشروطة عند العقد، فالمعنى الذي من أجله حرمت الزيادة موجودة في الصورتين، فلا فرق في المعنى بين رجل أراد أن يقرض رجلاً مبلغًا من المال قدره مائة ألف ريال، فاشترط عليه عند العقد زيادة مائة ريال، وبين أن يشترط عليه الزيادة عند حلول الأجل، فكلا المعاملتين في مال متحد الجنس مع أجل، وربح مقابل الأجل (¬3). ¬
الوجه الثالث
الوجه الثالث: أن النهي عن أكل الربا أضعافًا مضاعفة لا يعني أنه يجوز أكل الربا إذا لم يكن أضعافًا مضاعفة، ولكن هذا أسلوب قرآني للتنفير عن أكل الربا، كما قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41] وإن كان الكفر به داخلًا في النهي حتى ولو لم يكن أول الكافرين، وكذلك قوله تعالى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60] فالفساد منهي عنه وإن لم يكن المفسد متماديًا أشد الفساد، فكان من أسلوب القرآن إذا نهى عن صورة ذكر أقبح الصور، وإن كان القبيح داخلًا في الأقبح، وإذا أمر بأمر أمر بأحسن صوره، وإن كان الحسن داخلًا في الأحسن. يقول أبو حيان في تفسير البحر المحيط عن النهي عن أكل الربا أضعافًا مضاعفة: "هذه الحال لا مفهوم لها, وليست قيدًا في النهي، إذ ما لا يقع أضعافًا مضاعفة مساو في التحريم لما كان أضعافًا مضاعفة" (¬1). الوجه الرابع: أننا لو أخذنا بظاهر الآية الكريمة {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] فإن معنى ذلك: أن الزيادة إذا لم تكن أضعافًا مضاعفة لم تكن داخلة في النهي، وهذا يعني تحليل حتى الصورة المتفق عليها أنها من الربا، أرأيت لو أن لرجل على رجل دينًا مقداره ألف ريال مؤجلًا إلى سنة، فلما بلغ الأجل قال له: اجعلها خمسة وألفًا وأزيدك في الأجل لم يكن هذا الرجل قد أكل الربا أضعافًا مضاعفة؛ لأن الزيادة التي أخذها، وهي أصل الربا لم تضاعف فضلاً عن أن تكون أضعافًا مضاعفة، ومع ذلك هذه ¬
الوجه الخامس
الصورة من الربا المتفق عليه، فعلم أن المفهوم من قوله تعالى: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] ليس معتبرًا في تقييد النهي مثله قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ} [الإسراء: 31] فذكر هذا القيد لحاجة المخاطبين إليه، إذ هو الحامل على قتلهم لا لاختصاص الحكم به. الوجه الخامس: أن معنى قول الله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] أي لا تضاعفوا أموالكم بالربا. الوجه السادس: أن النهي عن أكل الربا أضعافًا مضاعفة لا يعني حصر الربا في هذه الصفة، ونفيه عما عداها، فتخصيص الشيء بالذكر لا يعني قصره عليه, بل الربا فيها وفي غيرها مما ثبت أنه من الربا بدليل منفصل، فإذا ثبت تحريم (إما أن تربي وإما أن تقضي) بدلالة القرآن، فقد ثبت تحريم ربا البيوع بدلالة السنة المتفق عليها، وفهم ذلك عامة الصحابة، والمنازع ممن يؤمن بحجة السنة (¬1). "والقرآن الكريم والسنة النبوية مصدران أساسيان للتشريع، وما تحرمه السنة فهو محرم قطعيًا، وتحريمه ليس في الحقيقة قاصرًا على السنة، بل هو محرم في القرآن، وبالقرآن أيضاً، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن: 12] {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: احتج الشيخ محمَّد رشيد رضا، والأستاذ السنهوري: (ح-686) بما رواه الشيخان، عن ابن عباس أنه قال: حدثني أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ربا إلا في النسيئة (¬1). وقد أخطأ محمَّد رشيد رضا والسنهوري رحمهما الله حين فهما أن ابن عباس لا يحرم من الربا إلا ربا الجاهلية في صورته (أتقضي أم تربي) (¬2)، ولم ينسب أحد من أهل العلم فيما أعلم إلى ابن عباس ما نسبه إليه الشيخ محمَّد رشيد رضا، والسنهوري، فهو فهم مدخول، وغلط بين لا شك فيه، وإنما الخلاف المعروف عن ابن عباس إنما هو في ربا الفضل إذا كان يدًا بيد، وأما ربا النسيئة فإنه يحرمه مطلقًا، سواء كان ذلك في صورة ربا الجاهلية، أو كان ذلك في الأصناف الستة، من بيع وصرف، داليك النصوص التي تؤيد ما ذكرنا. (ح-687) أولاً: روى مسلم من طريق ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس عن أسامة بن زيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ربا فيما كان يدًا بيد (¬3). (ث-125) وجاء في صحيح مسلم من طريق أبي نضرة أنه قال: سألت ابن عباس عن الصرف؟ فقال: أيدًا بيد؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس به (¬4). ¬
فهذا واضح أن ابن عباس كان يعتقد أنه لا ربا فيما كان يدًا بيد، وأنه يجوز بيع درهم بدرهمين، ودينار بدينارين، وصاع تمر بصاعين، وكذا الحنطة وسائر الربويات، وأن الربا لا يحرم في شيء من الأشياء إلا إذا كان نسيئة، وهذا معنى قوله في الرواية الثانية (لا ربا إلا في النسيئة)، وقد قال الثوري نحو هذا في شرحه لهذا الحديث (¬1). وقال ابن رشد: "وأما الربا في البيع فإن العلماء أجمعوا على أنه صنفان: نسيئة، وتفاضل إلا ما روي عن ابن عباس من إنكاره الربا في التفاضل لما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا ربا إلا في النسيئة" (¬2). وقال ابن قدامة: "والربا على ضربين: ربا الفضل، وربا النسيئة، وأجمع أهل العلم على تحريمهما، وقد كان في ربا الفضل اختلاف بين الصحابة، فحكي عن ابن عباس، وأسامة بن زيد، وزيد بن أرقم، وابن الزبير أنهم قالوا: إنما الربا في النسيئة لقوله عليه السلام: (لا ربا إلا في النسيئة) " (¬3). ثانيًا: من المعلوم أن ربا الجاهلية نص عليه القرآن، ولو كان ابن عباس لا يقول إلا بربا الجاهلية لكان معنى ذلك أنه أخذه من كتاب الله، كيف لا، وهو ترجمان القرآن، وقد نص ابن عباس أن رأيه الذي قاله في الربا لم يأخذه من كتاب الله، وبناء عليه فالقول الذي قاله ابن عباس ليس هو ربا الجاهلية المذكور في كتاب الله. (ح-688) روى مسلم في صحيحه من طريق سفيان، عن عمرو، عن أبي صالح، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: الدينار بالدينار، والدرهم ¬
بالدرهم مثلًا بمثل، من زاد أو ازداد فقد أربى. فقلت له: إن ابن عباس يقول غير هذا، فقال: لقد لقيت ابن عباس فقلت: أرأيت هذا الذي تقول أشيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو وجدته في كتاب الله عز وجل؟ فقال: لم أسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم أجده في كتاب الله، ولكن حدثني أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الربا في النسيئة. وفي رواية لمسلم: قال ابن عباس كلا لا أقول، أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنتم أعلم به، وأما كتاب الله فلا أعلمه، ولكني حدثني أسامة بن زيد ... وذكر الحديث (¬1). أيكون رأي ابن عباس هو ربا الجاهلية المنصوص عليه في القرآن، ثم يقول: إن قولي لم أجده في كتاب الله؟! وانظر فقه ابن عباس في جوابه، فحين تكلم عن السنة قال: أنتم أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - توفي، وهو لم يبلغ الحلم، وحين تكلم عن القرآن، قال: لا أعلمه يعني في كتاب الله، ولم يقل: أنتم أعلم مني؛ لأنه كان من أفقه الصحابة في كتاب الله. والنتيجة: أن قول ابن عباس الذي قاله إذًا ليس هو ربا الجاهلية المنصوص عليه في كتاب الله، وإلا لقال: نعم موجود في كتاب الله، فسقطت دعوى أن ابن عباس لا يقول إلا بتحريم ربا الجاهلية المنصوص عليه في كتاب الله، ومعلوم أن ربا الفضل لم يرد في كتاب الله، وإنما ثبت في السنة، وهو الذي خالف فيه ابن عباس - رضي الله عنه -. وسيأتي إن شاء الله تعالى الجواب عن مذهب ابن عباس في تحرير الخلاف في ربا الفضل، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
الدليل الثالث
ثالثًا: ابتدع الشيخ محمَّد رشيد رضا قولًا في ربا النسيئة لا توافقه عليه لغة، ولا سنة، ولا قول من عالم متقدم، فهو يذهب إلى أن الزيادة الأولى في الدين المؤجل ليس من ربا النسيئة، ليتوصل بذلك إلى حل الفوائد البنكية البسيطة على القروض، وأن الزيادة بعد حلول الأجل من النسيئة. بينما الشرع اعتبر بيع النسيئة ربا لمجرد تأجيل التقابض لا تأجيل الأجل ففي حديث أبي المنهال في الصحيحين، وفيه: (ما كان يدًا بيد فلا بأس، وما كان نسيئة فهو ربا). وفي القرآن: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] إشارة إلى تأخير العرب الشهر المحرم إلى صفر. وقال ابن منظور: النسيء التأخير يكون في العمر والدين، والنسأة: التأخير، ونسًا الشيء نسأ باعه بتأخير، والاسم نسيئة. فتبين لك أن قول الشيخ محمَّد رشيد رضا لا يعتمد لا على لغة، ولا على نص، ولا على قول معتبر. فهو فهم لم يسبق إليه، وبالتالي فهو رد عليه (¬1). الدليل الثالث: احتج الشيخ محمَّد رشيد رضا بكلمة رويت عن الإِمام أحمد: وقد سئل أحمد بن حنبل عن الربا الذي لا شك فيه، فذكر هذا: وهو أن يكون له دين، فيقول له: أتقضي في أم تربي، فإن لم يقضه زاده في المال، وزاده هذا في الأجل (¬2). ¬
الترجيح
ويتفق كلام الشيخ محمَّد رشيد رضا مع كلام الإِمام أحمد بأن ربا الجاهلية محرم لا نزاع فيه، ولا يتفق معه لا من قريب ولا من بعيد أنه لا يحرم من الربا إلا هذه الصورة فقط، إما أن تقضي وإما أن تربي، ومذهب الإِمام أحمد معروف في ربا الفضل وفي ربا النسيئة، مع أن الإِمام أحمد لم يقل ابتداء: الربا الذي لا أشك فيه: هو كذا وكذا، وإنما وجه له سؤال: ما هو الربا الذي لا تشك فيه، فذكر أغلظ صور الربا، وهو قلب الدين، وأعجب من الإنسان عندما يريد أن يحتج لقوله فهو يذهب إلى آحاد العلماء، ولو لم يكن كلامه حجة على مخالفيه، ويسوقه في معرض الاستدلال، ويترك الأحاديث المتفق على صحتها في تحريم بيع الذهب بالذهب مع التفاضل أو مع النساء، ولو كان يرويه مثل عمر، وعثمان، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وعبادة بن الصامت وغيرهم، ويتهم مخالفيه بأنهم يتعبدون بآراء وأقوال ممن لا تعد آراؤهم وأقوالهم حجة بإجماعهم، وها هو ذا يسوق كلمة الإِمام أحمد محتجًا بها مع أن كلمة الإِمام أحمد ليس فيها كل ما يريده، وهكذا الإنسان يحتاج إلى أن يكون منصفًا حين الاستدلال، وحين الجواب عن أدلة مخالفيه، وهكذا تجد غالب طلبة العلم إلا من رحم الله حين يتعامل في المسائل الخلافية التي تقع بينه وبين طلبة العلم تجده يَصِم استدلاله بالحجج، والأدلة، والبراهين، واستدلال مخالفيه: بالشبهات، والأوهام، والتقليد ونحوها. الترجيح: أعتقد أن الترجيح في هذه المسألة بين ما هو أقوى، وبين ما هو شاذ، وذلك أن ربا القرض لم يختلف فيه كما اختلف في ربا البيوع، فالقرض بشرط الفائدة لم يقع فيه خلاف بين أهل الفقه أنه محرم بينما ربا البيوع وقع خلاف في ربا الفضل، ووقع خلاف في تلمس العلة في ربا البيوع، وهل هو محصور في
الأصناف الستة التي نص عليها حديث عبادة، وأبي سعيد أو هو يتعداها إلى غيرها مما يشاركها في العلة، وبناء عليه فإن قول الشيخ محمَّد رشيد رضا قول لم يسبق إليه فيما أعلم، وإن كان قد تبعه من تبعه بعد، ومع ذلك نلتمس العذر للشيخ، وتبقى المسألة من مسائل الإجماع التي لا خلاف فيها أن القرض متى جر فائدة مشروطة إلى المقرض أو متعارفًا عليها فإن ذلك من الربا المجمع على تحريمه، والله أعلم. وقد أعجبتني كلمة لصاحب المعالي فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في هذه المسألة بخصوصها أحببت أن أنقلها بحروفها لينظر فيها الطالب، ويتعلم منها أدب الخلاف، يقول معاليه: "حسب علمي فإنَّ أول من أباح الفوائد الربوية يعني فوائد البنوك الربوية والقرض - القرض الصناعي ونحوه - الشيخ محمَّد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المعروف. وهو رَجُلٌ يميل إلى مذهب السلف ونصر التوحيد والعقيدة في مواطن كثيرة، وله إلمام بالحديث والسنة والتخريج، لكنه غلط في المسائل الفقهية، فلم يكن من صناعته الفتوى، فأباح أشياء تبعه عليها عدد. وله رسالة في هذا الموضوع بخصوصه وهو (الربا والمعاملات المالية) أجاز فيها هذه الفوائد لِشُبَهٍ عنده في ذلك، ثم تبعه عليها عدد من المشايخ في مصر ما بين مُقَصِّرِ وما بين [. . .] في هذه المسائل. ومعلومٌ أنَّ الخلاف - كما ذكرت لك في هذا - خلاف شاذ وضعيف وليس له حظ من الدليل لكن وجود الخلاف في هذه المسألة يفيد فائدتين: الأولى: أَنَّ مسألة الفوائد، والقرض الصناعي، ونحو ذلك ليس من مسائل الربا المُجْمَعْ عليها، فاعتقاد إباحتها، والإفتاء بذلك، أو إجازتها, لا يدخل في
إجازة واستحلال الربا؛ لأنَّ استحلال الربا المُجْمَعْ عليه كفر، والربا المجمع عليه هو ربا الجاهلية، أما ربا الفوائد وربا القرض وما أشبه ذلك فهذه محرمة، ولا تجوز، ويجب إنكارها, لكن لا تدخل في الربا المتفق عليه" (¬1)، ولم يذكر معاليه الفائدة الثانية. وعندي أن هناك فرقًا بين التماس العذر لقائله؛ لأنه ربما قال ذلك بتأويل، أو لم تتضح له الحجة، وبين أن نعتبر أن القرض بفائدة من الربا المختلف فيه، فإن الخلاف الحادث لا يخرق الإجماع المنعقد، وقد نقل الإجماع طوائف من أهل العلم على اختلاف عصورهم ومذاهبهم، ولو كل خلاف حادث سوف نخرق به الإجماع المنعقد لم يبق لنا إجماع، ولم يكن في الإجماع حجة، فربما جاء من يخرقه، فيسقط الاحتجاج به، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني في ربا البيوع
الفصل الثاني في ربا البيوع المبحث الأول في ربا الفضل وربا النسيئة الفرع الأول التعريف في ربا الفضل وربا النسيئة تعريف ربا الفضل: سبق لنا تعريف الربا، ويبقى علينا تعريف الفضل. تعريف ربا الفضل اصطلاحًا: عرفه الكاساني من الحنفية: زيادة عين مال شرطت في عقد البيع على المعيار الشرعي، وهو الكيل أو الوزن في الجنس (¬1). وعرفه بعض المالكية: بيع الجنس الربوي بجنسه مع زيادة أحدهما (¬2). وعرفه الشافعية بأنه: زيادة أحد العوضين على الآخر (¬3). وعليه فبيع ربا الفضل: يقع في كل بيع اتحد فيه العوضان جنسًا وعلة، فبيع الشيء من الذهب أو الفضة، أو البر، أو الشعير، أو التمر أو الملح، أو ما ¬
تعريف ربا النسيئة في الاصطلاح
شارك هذه الأصناف في العلة بنظيره مع زيادة أحد المبيعين على الآخر، أو مع جهل التماثل فيهما فهو من ربا الفضل. تعريف ربا النسيئة في الاصطلاح (¬1): يختلف تعريف ربا النسيئة بين المذاهب الفقهية لاختلافهم في علة ربا الفضل، لذا سأعرف ربا النسيئة بحسب ما أراه، وما يختلف فيه أهل المذاهب سيأتي تفصيله عند الكلام على فروع تلك المسائل. فربا النسيئة: هو تأخير قبض العوضين أو أحدهما في تبادل الأموال الربوية المتفقة في علة ربا الفضل، ومنه الزيادة في مقدار الدين مقابل الزيادة في الأجل. فقولنا: (تأخير قبض العوضين أو أحدهما) يشمل ما إذا كان الجنس متفقًا، أو كان الجنس مختلفًا إذا كانت علتهما واحدة. فمبادلة صاع بر بمثله مع التأجيل لا يجوز، ومثله مبادلة صاع بر بصاع شعير مع التأجيل لاتفاقهما في علة ربا الفضل. واشتراط الاتفاق في العلة يخرج مبادلة البر بالذهب، فيجوز التأخير؛ لأن علة الربا في البر مختلفة عن علة الربا في الذهب على الصحيح، وسيأتي تحرير الخلاف في علة الربا في جنس الذهب. ¬
أقسام ربا النسيئة
ومن ربا النسيئة الزيادة في الدين مقابل التأجيل، فإذا وجب على المدين مقدار معين من المال، عرضًا كان أو نقودًا، من بيع أو قرض، فإذا حل الدين فلا يجوز الزيادة على مقدار هذا الدين في مقابل الزيادة في الإمهال، وهذا قسم آخر من أقسام ربا النسيئة سبق الكلام عليه عند الكلام على ربا الجاهلية. أقسام ربا النسيئة: ينقسم ربا النسيئة إلى قسمين: الأول: ربا النسيئة الواقع في الديون: وهو الزيادة المشروطة في الدين مقابل الأجل. ومنه قلب الدين على المعسر، وصورته: أن الرجل يكون له على الرجل دين مؤجل من بيع أو قرض، فإذا حل الأجل قال له: أتقضي أم تربي؟ فإن وفاه وإلا زاد هذا في الأجل، وزاد هذا في المال، وقد سبق لنا الكلام في هذا النوع من الربا. الثاني: ربا النسيئة الواقع في البيوع: وهو تأخير القبض عند مبادلة الربوي بالربوي سواء كان من جنسه أو من غير جنسه إذا اتحدا في العلة. وهذا هو المراد هنا. وقد ذهب بعض أهل العلم أن حقيقة ربا النسيئة الواقع في الديون هي عين ربا النسيئة الواقع في البيوع، لا فرق بينهما. وجه ذلك: أنه إذا أقرض رجل رجلاً مائة ريال على أن يسددها مائة وعشرة. فهذا في الحقيقة معاوضة بصورة قرض، والعبرة بالعقود بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، ولذلك لو قال له: وهبتك هذه السلعة بعشرة كان بيعًا, وليس هبة؛ لأن الهبة لا عوض فيها، وإذا كان الشأن كذلك فهو في الحقيقة بيع بلفظ القرض: باع مائة
الأصل في تحريم ربا البيوع (فضلا كان أو نسيئة) أحاديث كثيرة، منها
بمائة وعشرة مع التأجيل، فكان بيع نقد بنقد مع التفاضل والنساء، وأصبحت حقيقة هذا القرض أنه من ربا البيوع، وليس من ربا الديون؛ لأن الأصل: أن الدراهم بالدراهم يشترط فيها التماثل والتقابض، اغتفر التأجيل في عقد القرض؛ لأنه عقد إرفاق وإحسان لم يقصد فيه المعاوضة، فإذا قصد صاحبه الربح والتكسب خرج عن كونه قرضًا، وإنما هو بيع في صورة قرض، والله أعلم. وأرى أن بينهما فرقًا واحدًا، وهو: أن الزيادة في البيع لا تحرم إلا في أموال مخصوصة فقط. وأما في الزيادة المشروطة في القرض فتحرم مطلقًا، سواء كانت الزيادة عينًا أو منفعة، وبصرف النظر عن طبيعة جنس المال المقترض، والله أعلم. وقد سبق التنبيه على هذا، والله أعلم. الأصل في تحريم ربا البيوع (فضلاً كان أو نسيئة) أحاديث كثيرة، منها: (ح-689) ما رواه مسلم من طريق أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، من زاد أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء (¬1). (ح-690) ومنها أيضاً: ما رواه مسلم من طريق أبي الأشعث، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والقصة بالفضة، والبر ¬
بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد (¬1). فالأصناف الستة التي وردت في الحديث هي أموال ربوية. والعلماء يقسمون الأموال الربوية الستة إلى فئتين: الفئة الأولى: الذهب والفضة. الفئة الثانية: البر والشعير والتمر والملح. وسبب التقسيم: أن الفئة الأولى علتها متحدة، تختلف عن علة الفئة الثانية، فصار مرد التقسيم إلى اختلاف العلة. فإذا وقع البيع بين الفئة الأولى والفئة الثانية فإن المبادلة لم تعد ربوية؛ لأن العلة مختلفة، فليس هناك أي شرط أو قيد، مع أن كلا البدلين ربويان، فإذا بيع الذهب بالقمح أو بيع التمر بالفضة، فقد اختلف الجنس واختلفت العلة، فجاز التفاضل وجاز النساء، فيجوز أن يعجل القمح ويؤجل الذهب، ليكون الثمن مؤجلًا. ويجوز أن يعجل الذهب ويؤجل القمح ليكون البيع من قبيل السلم. وهذا إجماع لا خلاف فيه. قال السبكي: "الأمة أجمعت على أن الستة المذكورة في الحديث جملتان منفصلتان: هما النقدان، والأشياء الأربعة، تنفرد كل جملة بعلتها، والمراد بالحديث اختلاف الجنسين من جملة واحدة، كالذهب بالفضة، والحنطة بالشعير" (¬2). ¬
وإذا وقع البيع بين أموال الفئة الواحدة، فإن كانا من جنس واحد، كذهب بذهب، أو فضة بفضة، أو تمر بتمر، أو حنطة بمثلها. فيجب أن يتحقق شرطان: الأول: التماثل. والثاني: التقابض. وقيل: يكفي التعيين في الأصناف الربوية الأربعة إلا في الذهب والفضة فيجب التقابض. وسيأتي في باب الصرف تحرير الخلاف. فالجنس واحد، والعلة واحدة، فيجري بينهما ربا الفضل وربا النسيئة، فلا يجوز أن يزاد أحدهما على الآخر. ولا يجوز أن يعجل أحدهما ويؤجل الآخر، بل يجب التقابض في مجلس العقد، امتثالًا لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق: (مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد). وإن كانت الأموال ذات الفئة الواحدة من جنسين مختلفين: كذهب بفضة، أو بر بشعير، فالجنس مختلف، والعلة واحدة، فلا يجري بينهما ربا الفضل، فلا يشترط التماثل لاختلاف الجنس. ويجري بينهما ربا النسيئة؛ لاتفاقهما في العلة، فلا يجوز تأجيل أحدهما، فلا بد من التقابض في مجلس العقد، امتثالًا لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد). هذا ملخص ما يجري فيه ربا الفضل وربا النسيئة في الجملة على الصحيح، وسيأتي مزيد بحث في حكم كل نوع، وما وقع فيه من اختلاف، وبيان العلة في كل فئة، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
الفرع الثاني حكم ربا الفضل
الفرع الثاني حكم ربا الفضل أحاديث الربا في الصحيح تجمع ربا الفضل وربا النسيئة في النهي، قال في - صلى الله عليه وسلم -: مثلًا بمثل يدًا بيد، وقال: من زاد أو استزاد فقد أربى. وقال ابن قدامة: كل ما حرم فيه التفاضل حرم ليه النساء بغير خلاف نعلمه (¬1). [م - 1165] بعد أن عرفنا ما هو ربا الفضل، وما هو ربا النسيئة، كان من المناسب أن نعرف حكم ربا الفضل، فأقول: اختلف العلماء في ربا الفضل: فذهب الأئمة الأربعة، وأهل الحديث إلى تحريم ربا الفضل (¬2). وقال ابن عباس: لا ربا إلا في النسيئة (¬3)، وأخذه عنه طلابه في مكة (¬4). وهو مروي عن ابن مسعود - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬
دليل الجمهور على القول بتحريم ربا الفضل
ونسب هذا القول إلى البراء بن عازب وزيد بن أرقم، ولم يثبت عنهما (¬1). كما نسب هذا القول إلى معاوية - رضي الله عنه -، وليس صريحًا (¬2). دليل الجمهور على القول بتحريم ربا الفضل: الدليل الأول: (ح-691) روى مسلم من طريق أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، من زاد أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-692) ما رواه مسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد (¬1). الدليل الثالث: (ح-693) روى مسلم من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فإن زاد، أو استزاد فقد أربى، إلا ما اختلفت ألوانه (¬2). الدليل الرابع: (ح-694) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن نافع عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز. ورواه مسلم (¬3). (ح-695) ولمسلم من طريق أبي نضرة، قال: سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسًا فإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري، فسألته عن ¬
الدليل الخامس
الصرف، فقال: ما زاد فهو ربا، فأنكرت ذلك لقولهما، فقال: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جاءه صاحب نخلة بصاع من تمر طيب، وكان تمر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا اللون، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنى لك هذا؟ قال: انطلقت بصاعين، فاشتريت به هذا الصاع، فإن سعر هذا في السوق كذا، وسعر هذا كذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ويلك أربيت، إذا أردت هذا فبع تمرك بسلعة، ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت. قال أبو سعيد: فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا، أم الفضة بالفضة؟ قال: فأتيت ابن عمر بعد، فنهاني، ولم آت ابن عباس، قال: فحدثني أبو الصهباء: أنه سأل ابن عباس عنه بمكة، فكرهه (¬1). الدليل الخامس: (ح-696) ما رواه مسلم من طريق ابن أبي نعم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب وزنًا بوزن، مثلًا بمثل، والفضة بالقضة وزنًا بوزن، مثلًا بمثل، فإن زاد أو استزاد فهو ربا (¬2). الدليل السادس: (ح-697) ما رواه البخاري من طريق عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: قال أبو بكرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء، والفضة بالفضة إلا سواء بسواء، وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم (¬3). ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: (ح-698) ما رواه مسلم من طريق مالك بن أبي عامر يحدث، عن عثمان بن عفان، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين (¬1). الدليل الثامن: (ح-699) ما رواه مسلم من طريق أبي النضر، أن بسر بن سعيد حدثه عن معمر بن عبد الله أنه أرسل غلامه بصاع قمح، فقال: بعه، ثم اشتر به شعيرًا، فذهب الغلام، فأخذ صاعاً وزيادة بعض صاع، فلما جاء معمرا أخبره بذلك، فقال له معمر: لم فعلت ذلك؟ انطلق فرده ولا تأخذن إلا مثلاً بمثل، فإني كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الطعام بالطعام مثلًا بمثل، قال: وكان طعامنا يومئذ الشعير. قيل له: فإنه ليس بمثله. قال: إني أخاف أن يضارع (¬2). الدليل التاسع: (ح-700) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن مالك بن أوس أخبره أنه التمس صرفا بمائة دينار، فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني، فأخذ الذهب يقلبها في يده، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع ذلك، فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء. ورواه مسلم (¬3). ¬
الدليل العاشر
الدليل العاشر: (ح-701) ما رواه البخاري من طريق عقبة بن عبد الغافر أنه سمع أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: جاء بلال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمر برني، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: من أين هذا؟ قال بلال: كان عندنا تمر ردي، فبعت منه صاعين بصاع، لنطعم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: أوَّه أوَّه، عين الربا، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتره. ورواه مسلم (¬1). الدليل الحادي عشر: (ح-702) ما رواه مسلم من طريق علي بن رباح اللخمي، يقول: سمعت فضالة بن عبيد الأنصاري يقول: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب، وهي من المغانم تباع، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب وزنًا بوزن. ورواه مسلم من طريق حنش الصنعاني عن فضالة بن عبيد، قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارًا، فيها ذهب وخرز، ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تباع حتى تفصل (¬2). هذه بعض الأدلة في ربا البيوع، ومنها ربا الفضل، وقد اكتفيت بأحاديث الصحيحين ففيها غنية لطالب الحق، وهي متكاثرة، وصريحة، وفي أعلى درجات الصحة. ¬
دليل ابن عباس على أنه لا ربا إلا في النسيئة
دليل ابن عباس على أنه لا ربا إلا في النسيئة: الدليل الأول: (ح-703) بما رواه البخاري ومسلم، عن ابن عباس أنه قال: حدثني أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ربا إلا في النسيئة (¬1). (ح-704) ورواه مسلم من طريق طاووس، عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ربا فيما كان يدًا بيد. جواب الجمهور عن حديث أسامة بن زيد: الجواب الأول: أن معنى قوله: (لا ربا إلا في النسيئة) أن هذا التعبير هو من باب التوكيد، وليس من باب الحصر، أي لا ربا أعظم، ولا أشد من ربا النسيئة، وهو أسلوب عربي متبع. قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. وإنما: أداة حصر، فكأنه قال: ما يخشى الله من عباده إلا العلماء. والمقصود تمام الخشية وكمالها. (ث-126) وقد روى البخاري عن عمران بن الحصين موقوفًا عليه ورواه مسلم من قول بريدة، أنهما قالا: لا رقية إلا من عين أو حمة (¬2). يريد والله أعلم لا رقية أنفع من رقية العين والحمة، وإلا فإن فالرقية تنفع من غير العين والحمة, ولكن أنفع ما يشفى بالرقية هذان المرضان: العين والحمة. ¬
قال النووي: "قال العلماء: لم يرد حصر الرقية الجائزة فيهما، ومنعها فيما عداهما، وإنما المراد: لا رقية أحق وأولى من رقية العين والحمة لشدة الضرر فيهما" (¬1). وقال ابن حجر: "وقيل: المعنى في قوله: (لا ربا. . .) الربا الأغلظ الشديد التحريم، المتوعد عليه بالعقاب الشديد، كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل، لا نفي الأصل" (¬2). وهذا القول اختاره ابن تيمية رحمه الله (¬3)، ورجحه شيخنا ابن عثيمين رحمه الله (¬4). ¬
يقول ابن دقيق العيد: "كلمة إنما للحصر، على ما تقرر في الأصول، فإن ابن عباس رضي الله عنهما فهم الحصر من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الربا في النسيئة) وعورض بدليل آخر يقتضي تحريم ربا الفضل، ولم يعارض في فهمه للحصر، وفي ذلك اتفاق على أنها للحصر. ومعنى الحصر فيها: إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما عداه. وهل نفيه عما عداه: بمقتضى موضوع اللفظ، أو هو من طريق المفهوم؟ فيه بحث ... إذا ثبت أنها للحصر: فتارة تقتضي الحصر المطلق، وتارة تقتضي حصرًا مخصوصًا. ويفهم ذلك بالقرائن والسياق. كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ} [النازعات: 45] وظاهر ذلك: الحصر للرسول - صلى الله عليه وسلم - في النذارة. والرسول لا ينحصر في النذارة، بل له أوصاف جميلة كثيرة، كالبشارة وغيرها ... وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلى) معناه: حصره في البشرية بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن الخصوم، لا بالنسبة إلى كل شيء. فإن للرسول - صلى الله عليه وسلم - أوصافًا أخر كثيرة. وكذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ} [محمد: 36] يقتضي - والله أعلم - الحصر باعتبار مَنْ آثرها. وأما بالنسبة إلى ما هو في نفس الأمر: فقد تكون سبيلا إلى الخيرات، أو يكون ذلك من باب التغليب للأكثر في الحكم على الأقل" (¬1). وعليه فالحصر في الحديث: (لا ربا إلا في النسيئة) الحصر في شيء مخصوص، وهو لا ربا أعظم، ولا أشد من ربا النسيئة، وليس الحصر على الإطلاق، والله أعلم. ¬
الجواب الثاني
الجواب الثاني: أن حديث أسامة بن زيد له منطوق ومفهوم: أما منطوقه فإنه يثبت الربا في النسيئة، وهذا المنطوق موافق لمنطوق أحاديث تحريم ربا الفضل، ولا تعارض بينها، فإنها أيضًا تثبت ربا النسيئة. وأما مفهوم حديث أسامة بن زيد فإنه ينفي تحريم ربا الفضل، فيعارض مفهومه منطوق أحاديث الصحيحين الكثيرة، والتي تنص على تحريم ربا الفضل، والمنطوق إذا تعارض مع المفهوم قدم المنطوق؛ لأن المفهوم أضعف من المنطوق. فالمفهوم لا عموم له، قال تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]. مفهومه: وإذا لم يردن تحصنًا فلا بأس. وقال تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة: 61]. والمفهوم غير مراد؛ لأنه لا يوجد قتل للنبيين بحق. وإذا كان حديث أسامة بن زيد محتملًا من جهة المفهوم هل هو مراد أو لا يراد، فإن أحاديث ربا الفضل منطوقها نص في تحريم ربا الفضل، فيجب تأويل حديث أسامة على وجه يجمع بينه وبين أحاديث ربا الفضل (¬1). الجواب الثالث: حمل حديث أسامة بن زيد على جنسين مختلفين كالذهب بالورق، بدليل الروايات الصحيحة المصرحة بأن ذلك هو محل جواز التفاضل، وأما في ¬
الجواب الرابع
الجنس الواحد فإنه ممنوع. وسيأتي مزيد بحث لهذه المسألة في الدليل الثاني إن شاء الله تعالى (¬1). الجواب الرابع: أن حديث إباحة ربا الفضل منسوخة، ومما يدل على النسخ: (ح-705) ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي المنهال، قال: باع شريك لي ورقًا بنسيئة إلى الموسم، أو الحج، فجاء إلى فأخبرني، فقلت: هذا أمر لا يصح، قال: قد بعته بالسوق، فلم ينكر ذلك علي أحد، فأتيت البراء بن عازب، فسألته، فقال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ونحن نبيع هذا البيع، فقال: ما كان يدًا بيد فلا بأس به، وما كان نسيئة فهو ربا، وائت زيد بن أرقم فإنه أعظم تجارة مني، فأتيته، فسألته، فقال مثل ذلك (¬2). وفيه التصريح بأن إباحة ربا الفضل المذكورة في حديث البراء بن عازب، وزيد بن أرقم كانت مقارنة لقدومه - صلى الله عليه وسلم - المدينة مهاجرًا، وفي بعض الروايات الصحيحة المصرحة بتحريم ربا الفضل أنه صرح بتحريمه يوم خيبر. (ح-706) كما في حديث فضالة بن عبيد، قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً، فيها ذهب وخرز، ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تباع حتى تفصل (¬3). (ح-707) ومثله حديث أبي هريرة وأبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أخا بني عدي الأنصاري، فاستعمله على خيبر، فقدم بتمر جنيب، فقال له ¬
الجواب الخامس
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَكُلُّ تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنشتري الصالح بالصاعين من الجمع، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تفعلوا, ولكن مثلًا بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا (¬1). قال الشنقيطي رحمه الله: "فقد اتضح لك من هذه الروايات الثابتة في الصحيح أن إباحة ربا الفضل كانت زمن قدومه - صلى الله عليه وسلم - المدينة مهاجرًا، وأن الروايات المصرحة بالمنع صرحت به في يوم خيبر بعده، فتصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريم ربا الفضل بعد قدومه المدينة بنحو ست سنين، وأكثر منها، يدل دلالة لا لبس فيها على النسخ، وعلى كل حال فالعبرة بالمتأخر، وقد كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث" (¬2). الجواب الخامس: قال ابن عبد البر: "لم يتابع ابن عباس على تأويله في قوله في حديث أسامة هذا أحد من الصحابة، ولا من التابعين، ولا من بعدهم من فقهاء المسلمين إلا طائفة من المكيين أخذوا ذلك عنه، وعن أصحابه، وهم محجوجون بالسنة الثابتة التي هي الحجة على من خالفها وجهلها, وليس أحد بحجة عليها، وقد روي عن ابن عباس أنه رجع عن ذلك، وقال: لا علم لي بذلك، إنما أسامة ابن زيد أخبرني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما الربا في النسيئة) (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني لابن عباس رضي الله عنهما ومن قال بقوله
الدليل الثاني لابن عباس رضي الله عنهما ومن قال بقوله: (ح-708) ما رواه البخاري من طريق أبي المنهال، قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف، فقالا: كنا تاجرين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصرف؟ فقال: إن كان يدًا بيد، فلا بأس، وإن كان نساء فلا يصلح. ورواه مسلم (¬1). ¬
ويجاب عن ذلك من وجهين
ويجاب عن ذلك من وجهين: الوجه الأول: مسلك الجمع: أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بجواز الفضل ومنع النسيئة فيما رواه عنه أسامة والبراء وزيد بن أرقم إنما هو في جنسين مختلفين لا يجري بينهما ربا الفضل، وليس ذلك في الجنس الواحد، وممن ذهب إلى هذا الطبري (¬1)، والبيهقي (¬2)، وابن عبد البر في الاستذكار (¬3)، وسليمان بن حرب (¬4)، والسبكي في تكملة المجموع (¬5)، والشنقيطي في أضواء البيان (¬6)، وغيرهم. واستدلوا لذلك باللفظ الآخر للحديث. (ح-709) فقد رواه البخاري ومسلم من طريق أبي المنهال، قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهما عن الصرف، فكل واحد منهما يقول: هذا خير مني، فكلاهما يقول: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب بالورق دينًا (¬7). ¬
وعلى هذا يكون الجمع بين الأحاديث الصحيحة, فحديث أسامة وزيد ابن أرقم والبراء بن عازب مما ظاهرها يفيد جواز ربا الفضل، ويمنع ربا النسيئة إنما هي في أجناس ربوية مختلفة يجوز فيها التفاضل ويحرم فيها النسأ. وحديث عبادة، وأبي سعيد الخدري، وعمر بن الخطاب وأبي هريرة، وأبي ذر وغيرها من الأحاديث المجمع على صحتها مما تحرِّم التفاضل إنما هي في الجنس الواحد، ولا بد من الجمع أو الترجيح؛ لأن الأحاديث جميعها أحاديث صحيحة ثابتة عن المعصوم، والجمع مقدم على الترجيح، فكيف إذا ¬
كان الجمع قد استند إلى ألفاظ أخرى للأحاديث التي توهم أنها لا تحرم إلا ربا النسيئة، والجمع شأن الراسخين في العلم، ولأن ترجيح حديث لا ربا إلا في النسيئة ورد الأحاديث الكثيرة المتكاثرة الثابتة في الصحيحين وفي غيرها يؤدي إلى إبطال قسم من السنة بلا مرجح، بخلاف الجمع، فإنه إعمال لكل الأدلة، فضلاً عن أن القول في ربا الفضل هو قول السواد الأعظم من الأمة، من لدن الصحابة إلى يومنا هذا. قال ابن عبد البر: "حديثه -يعني ابن عباس- عن أسامة صحيح، ولكنه وضعه غير موضعه، وحمله على غير المعنى الذي له أتى، ومعنى الحديث عند العلماء أنه خرج على جواب سائل سأل عن الذهب بالورق، أو البر بالتمر، أو نحو ذلك مما هو جنسان فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ربا إلا في النسيئة)، فسمع أسامة كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع سؤال السائل، فنقل ما سمع والله أعلم، والدليل على صحة هذا التأويل: إجماع الناس ما عدا ابن عباس عليه وما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)، وقوله عليه السلام: (لا تبيعوا الذهب بالذهب، والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل، يدًا بيد، ولا تبيعوا بعضها على بعض) (¬1). ومن الناحية العلمية أرى لو اكتفي بهذا الوجه للجواب عن حديث البراء وزيد بن أرقم؛ لأنه مبني على رد الروايات المجملة إلى الروايات المبينة المفسرة، وأما محاولة الترجيح فإني أذكرها على سبيل الرصد العلمي لما قيل في المسألة وإن كنت لست على قناعة منها؛ لأن الترجيح سوف يلغي بعض الأدلة على حساب بعض، والله أعلم. ¬
الجواب الثاني مسلك الترجيح
الجواب الثاني مسلك الترجيح: للترجيح وجوه كثيرة، ذكرت بعضها في الجواب عن حديث أسامة ابن زيد، وأذكر هنا ما لم أذكره هناك، من ذلك: الوجه الأول: اعتبار الكثرة، فحديث الصحابة التي تحرم ربا الفضل كثيرة، منها في الصحيح فقط حديث أبي سعيد الخدري، وعبادة بن الصامت، وعمر بن الخطاب، وأبي هريرة، وعثمان بن عفان، وأبي بكرة، ومعمر بن عبد الله، وفضالة بن عبيد وغيرهم، فلا يعارضها حديث أسامة بن زيد، وهو حديث، وإن كان صحيحًا إلا أنه فرد. الوجه الثاني: من وجوه الترجيح: أن البراء وزيدًا رضي الله عنهما كانا غير بالغين في وقت تحملهما الحديث المذكور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلاف الجماعة من الصحابة، الذين رووا عنه تحريم ربا الفضل، فإنهم بالغون وقت التحمل، ورواية البالغ وقت التحمل أرجح من رواية من تحمل، وهو صبي، للخلاف فيها دون رواية المتحمل بالغًا. وإن كان هذا الوجه فيه ما فيه. الدليل الثالث للقائلين بقول ابن عباس: أن الأحاديث الواردة في تحريم ربا الفضل وفي نفي التحريم متعارضة، وكلها أحاديث صحيحة، ولا نعلم التاريخ بينها لنعمل بالمتأخر، ولا سبيل إلى القول بالنسخ على سبيل الظن. قال ابن حجر: "اتفق العلماء على صحة حديث أسامة، واختلفوا في الجمع
ومعنى ذلك
بينه وبين حديث أبي سعيد الخدري. فقيل: منسوخ، ولكن النسخ لا يثبت بالاحتمال" (¬1). فانتقلنا إلى العمل بالترجيح، فرأينا أن حديث أسامة أرجح. فإن أحاديث ربا الفضل قد دخلها التخصيص، بينما حديث أسامة لم يدخله التخصيص، وهذا من أسباب الترجيح لدى الفقهاء. ومعنى ذلك: أن أحاديث ربا الفضل جاء فيها: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد). ومقتضاه: أنه لا يجوز بيع البر بالذهب أو الفضة إلا يدًا بيد، ومثله الشعير والتمر والملح لا يجوز أن تباع بالذهب أو بالفضة إلا إذا كان ذلك يدًا بيد، مع أن العلماء قد أجمعوا على أنه يجوز بيعها مع النساء. قال النووي: "أجمع العلماء على جواز بيع الربوي بربوي لا يشاركه في العلة متفاضلًا ومؤجلًا، كبيع الذهب بالحنطة، وبيع الفضة بالشعير وغيره من المكيل" (¬2). ومقتضى هذا الدليل أن النص قد دخله التخصيص، ودخول التخصيص على النص يضعف دلالته على العموم، بخلاف النص الذي لم يجر فيه التخصيص (¬3). ويجاب: بـ "أن الأمة أجمعت على أن الستة المذكورة في الحديث جملتان منفصلتان: ¬
الراجح
هما النقدان والأشياء الأربعة، تنفرد كل جملة بعلتها، والمراد بالحديث اختلاف الجنسين من جملة واحدة، كالذهب بالفضة، والحنطة بالشعير" (¬1). الراجح: الحق الذي لا أشك فيه القول بتحريم ربا الفضل، ومن المتعين أن أقول: إن الخلاف في ربا الفضل أصبح مهجورًا، وأن الأمة تكاد تجمع على تحريمه. قال ابن عبد الهادي في التنقيح: "قال شيخنا ابن تيمية رحمه الله: ومعلوم أن أهل الحديث مجمعون على تحريم أنواع الربا، وفي ذلك من الأحاديث الصحاح الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم بسنة رسول الله في تحريم الربا، ومنع التحيل على استحلاله، وسد الذريعة المفضية إليه. فأما ربا الفضل فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة, واتفاق الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة: على أنه لا يباع الذهب بالذهب، والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير، والتمر بالتمر بجنسه إلا مثلاً بمثل، إذ الزيادة على المثل أكل مال بالباطل" (¬2). ويقول ابن عبد البر: "ولا أعلم خلافًا بين أئمة الأمصار بالحجاز، والعراق، وسائر الآفاق في أن الدينار لا يجوز بيعه بالدينارين، ولا بأكثر منه وزنًا, ولا الدرهم بالدرهمين، ولا بشيء من الزيادة عليه إلا ما كان عليه أهل مكة قديمًا وحديثًا من إجازتهم التفاضل في ذلك إذا كان يدًا بيد، أخذوا ذلك عن ابن عباس ... " (¬3). ويقول السبكي في تكملة المجموع: "قال ابن المنذر أجمع عوام الأمصار ¬
مالك بن أنس، ومن تبعه من أهل المدينة، وسفيان الثوري ومن وافقه من أهل العراق، والأوزاعي ومن قال بقوله من أهل الشام، والليث بن سعد ومن وافقه من أهل مصر، والشافعي وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، والنعمان، ويعقوب، ومحمد بن علي أنه لا يجوز بيع ذهب بذهب، ولا فضة بفضة، ولا بر ببر، ولا شعير بشعير، ولا تمر بتمر، ولا ملح بملح متفاضلًا يدًا بيد ولا نسيئة، وأن من فعل ذلك فقد أربى والبيع مفسوخ. قال: وقد روينا هذا القول عن جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجماعة يكثر عددهم من التابعين. قلت (القائل السبكي): وممن قال بذلك من الصحابة أربعة عشر ذكر منهم أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًا، وسعدًا، وطلحة، والزبير ... وذكر أيضًا منهم عبد الله ابن عمر، وأبا الدرداء، وفضالة بن عبيد وأبا سعيد الخدري، وأبا أسيد وعبادة ابن الصامت والله أعلم (¬1). ويقول الشيخ محمَّد الأمين الشنقيطي: "وكذلك حكى غير واحد الإجماع على تحريم ربا الفضل ... " (¬2). ¬
الفرع الثالث حكم ربا النسيئة
الفرع الثالث حكم ربا النسيئة بعد أن عرفنا ربا النسيئة، وأن منه ما يقع في الدين، ومنه ما يقع في البيع، وعلمنا حكم ربا الفضل، وما وقع فيه من الخلاف، ناسب أن نعرف حكم ربا النسيئة: واعلم أن ربا النسيئة مجمع على تحريمه، لا خلاف فيه بين الفقهاء المتقدمين، ولا عبرة بخلاف المتأخر ممن قال برأيه، مخالفًا بذلك النصوص، وإجماع الأمة. جاء في حاشية العدوي: "اتفق المسلمون على تحريم ربا النسيئة، والجمهور على تحريم ربا الفضل" (¬1). وقد نقل الإجماع على تحريم ربا النسيئة ابن عبد البر (¬2)، وابن القطان الفاسي (¬3). وقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن الستة الأصناف متفاضلاً يدًا بيد، ونسيئة لا يجوز ... وهو حرام" (¬4). وقال في الإشراف: "وقد أجمع عوام الأمصار، منهم مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة، وسفيان الثوري، ومن وافقه من أهل العراق، والأوزاعي، ومن قال لقوله من أهل الشام، والليث بن سعد ومن وافقه من أهل العلم، والشافعي وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، والنعمان، ¬
ويعقوب، ومحمد، على أنه لا يجوز بيع ذهب بذهب، ولا فضة بفضة، ولا بر ببر، ولا شعير بشعير، ولا تمر بتمر، ولا ملح بملح متفاضلًا يدًا بيد، ولا نسيئة، وأن من فعل ذلك فقد أربى، والبيع مفسوخ" (¬1). وقال ابن قدامة: "والربا على ضربين: ربا الفضل وربا النسيئة، وأجمع العلماء على تحريمهما، وقد كان في ربا الفضل اختلاف بين الصحابة ... " (¬2). واعلم أن ربا النسيئة يختلف حكمه عن ربا الفضل من حيث: الأول: أن ربا النسيئة مجمع على تحريمه، لا خلاف فيه بين الفقهاء، وأما ربا الفضل فقد علمت ما فيه من الخلاف. الثاني: ذكر ابن القيم: أن ربا الفضل قد أستثني منه العرايا بشروطها، بينما ربا النسيئة: لم يبح شيء منه (¬3). قلت: ينبغي أن يعلم أن إباحة العرايا لا تعني إباحة يقين التفاضل، فإنه هذا لا يجوز حتى في العرايا، وإنما قبل الشارع معيار الخرص من أهل الخبرة للعلم بالتماثل في بيع الرطب بالتمر. والخرص طريق شرعي في معرفة الواجب في كثير من الأحكام كمعرفة مقدار الواجب في الزكاة، والقسمة. ولهذا لا أرى أن يؤخذ من إباحة العرايا دليل على إباحة ربا الفضل بإطلاق، فإن جواز العرية قد لا يعني الوقوع في يقين التفاضل، وإنما فيه تسامح في قبول الخرص كمعيار للتماثل الواجب، بينما لو أخذنا بظاهر كلام ابن القيم لقلنا: إنه يجوز التفاضل مطلقًا في العرايا، وهذا لا يقول به ابن القيم. ¬
وجه كونه ذريعة إلى ربا النسيئة
الثالث: أن الزيادة شرط في ربا الفضل، وليست شرطًا في ربا النسيئة، فبيع الذهب بالذهب مثلاً بمثل مع التأجيل من ربا النسيئة فقط، وليس فيه من ربا الفضل، وقد يجتمعان كما لو باع الذهب بالذهب مع التفاضل والتأجيل. الرابع: ذكر بعض أهل العلم أن ربا النسيئة محرم تحريم مقاصد، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه من حديث أسامة: (لا وبا إلا في النسيئة) (¬1). وأما تحريم ربا الفضل فإنه حرم حتى لا يكون ذريعة إلى ربا النسيئة. وجه كونه ذريعة إلى ربا النسيئة: يقول ابن القيم: "منعهم من ربا الفضل؛ لما يخاف عليهم من ربا النسيئة، وذلك أنهم إذا باعوا درهمًا بدرهمين، ولا يفعل هذا إلا للتفاوت الذي بين النوعين إما في الجودة، وإما في السكة، وإما في الثقل والخفة، وغير ذلك تدرجوا بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر، وهو عين ربا النسيئة، وهي ذريعة قريبة جدًا، فإن حكمة الشارع أن سد عليهم هذه الذريعة، ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقدًا ونسيئة، فهذه حكمة معقولة مطابقة للمعقول، وهي تسد عليهم باب المفسدة" (¬2). ويقول شيخنا ابن عثيمين: وجه ذلك أنه إذا جاز الزيادة من أجل الوصف، انتقل الذهن إلى جواز الزيادة من أجل التأجيل فوقع في ربا النسيئة (¬3). اهـ ¬
وعندي أن ربا الفضل تحريمه من تحريم المقاصد، وليس من تحريم الوسائل، وأرى أن هذا القول لبعض الفضلاء قد استغله بعض الباحثين المعاصرين ليدخل منه إلى أن المحرم هو ربا الجاهلية فقط، والعلماء لا يقولون بذلك، والدليل على أن تحريم ربا الفضل من تحريم المقاصد أدلة كثيرة، منها: (ح- 710) ما رواه البخاري الشيخان من طريق معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، قال: سمعت عقبة بن عبد الغافر أنه سمع أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: جاء بلال بتمر برني، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: من أين هذا؟ قال بلال: كان عندنا تمر ردي، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: أوه أوه عين الربا عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتره به (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (عين الربا) وتكرار ذلك، والنهي عن الفعل كل ذلك يدل صراحة على أن ربا الفضل تحريمه تحريم مقاصد، وليس تحريمه من باب الوسائل، كما قال بعض أهل العلم والفضل. وقال القاضي عياض: "قوله (عين الربا) أي هو الربا المحرم نفسه من الزيادة، لا ما يشبهه ويغامر عليه" (¬2). وقال الحافظ في الفتح: "مراده بعين الربا: نفسه" (¬3). وقال العيني: "أي هذا البيع نفس الربا حقيقة" (¬4). ¬
وقال النووي: "أوه عين الربا. قال أهل اللغة: هي كلمة توجع وتحزن، ومعنى عين الربا: أنه حقيقة الربا المحرم" (¬1). وفي حاشية السندي: "أي هذا العقد نفس الربا الممنوعة، لا نظيرها وما فيه شبهتها" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم - عمن وقع في ربا الفضل: (ويلك أربيت)، وهو في صحيح مسلم (¬3)، وقال أيضاً (من زاد أو استزاد فقد أربى)، وهذا أيضاً في صحيح مسلم (¬4). فقوله (أربيت) (أربى) هذه الألفاظ لها حقائق شرعية، تدل على أن من وقع في ربا الفضل وقع في جنس الربا، وشمله أحاديث الوعيد الواردة في المرابي، وأن ربا الفضل من كبائر الذنوب. ولقد بينت ورجحت أن تحريم ربا الفضل تحريم مقاصد، وليس تحريم وسائل عند الكلام على بيع الذهب بالحلي، فانظره هناك، وفقك الله. ¬
الباب الثالث في بيان الأموال الربوية
الباب الثالث في بيان الأموال الربوية جاء في موسوعة القواعد الفقهية: الأصل التعليل حتى يتعذر (¬1). قال جمع من الفقهاء: الشارع لا يفرق بين متماثلين؛ لأن حكمته وعدله تأبى هذا، كما أنه لا يسوي بين مختلفين، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35] وقال سبحانه {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ} [ص: 28] (¬2). [م - 1166] نص الشارع في حديثي عبادة وأبي سعيد على أعيان بعينها، فأجرى فيها ربا الفضل وربا النسيئة. (ح-711) فقد روى مسلم من طريق أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، من زاد أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء (¬3). (ح-712) وروى مسلم أيضاً من طريق أبي الأشعث، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر ¬
بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد (¬1). فالأصناف الستة التي وردت في الحديث هي أموال ربوية، لا شك فيها، وقد اختلف القائلون بربا الفضل، هل يقاس عليها غيرها، أو يقتصر عليها. فقيل: يلحق بهذه الأصناف الستة غيرها مما وافقها في العلة، وهذا مذهب عامة أهل العلم، ومنهم الأئمة الأربعة (¬2). وقيل: الربا مقصور على هذه الأصناف الستة المنصوص عليها، وهو قول طاووس، وقتادة، ومسروق، والشعبي، وعثمان البتي من السلف (¬3)، وهو مذهب الظاهرية (¬4)، واختاره من الحنابلة ابن عقيل (¬5)، ومن المتأخرين الصنعاني (¬6)، والشوكاني وصديق حسن خان (¬7). ¬
دليل الجمهور على تحريم الربا في غير الأصناف الستة: الدليل الأول: التحريم في المعاملات المالية معلل، وتحريم الربا منه معلل أيضًا حيث يبعد أن يكون تعبدًا خاليًا من العلة، وإذا كان التحريم إنما ثبت في الأصناف الستة لمعنى، فإذا عرف ذلك المعنى ألحق بها ما يشاركها فيه، فالحكم إذا ثبت بعلة ثبت بنظيرها؛ لأن القياس دليل شرعي، ولأن الشريعة لا تفرق بين متماثلين، بل تعطي النظير حكم نظيره؛ وعليه يجب استخراج علة هذا الحكم وإثباته في كل موضع وجدت العلة فيه. الدليل الثاني: (ح-713) ما رواه مسلم من طريق أبي النضر، أن بسر بن سعيد حدثه، عن معمر بن عبد الله أنه أرسل غلامة بصاع قمح، فقال: بعه، ثم اشتر به شعيرًا، فذهب الغلام، فأخذ صاعًا وزيادة بعض صاع، فلما جاء معمرا أخبره بذلك، فقال له معمر: لم فعلت ذلك؟ انطلق فرده ولا تأخذن إلا مثلًا بمثل، فإني كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الطعام بالطعام مثلًا بمثل، قال: وكان طعامنا يومئذ الشعير. قيل له: فإنه ليس بمثله. قال: إني أخاف أن يضارع (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الطعام بالطعام مثلًا بمثل)، فإن هذا اللفظ أعم من الأصناف الأربعة المذكورة في حديث عبادة وأبي سعيد الخدري، فإذا جرى الربا في بلد طعامة الشعير جرى الربا في بلد طعامه الأرز، ولا فرق. ¬
الدليل الثالث: (ح-714) ما رواه البخاري من طريق الليث، عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عن المزابنة: أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلًا بتمر كيلاً، وإن كان كرمًا أن يبيعه بزبيب كيلاً، وإن كان زرعًا أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع العنب بالزبيب، وهذا ليس من الأصناف الستة، فدل على أن الربا ليس محصورًا في الأصناف الستة. الدليل الرابع: (ح-715) ولمسلم من طريق أبي نضرة، قال: سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسًا فإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري، فسألته عن الصرف، فقال: ما زاد فهو ربا، فأنكرت ذلك لقولهما، فقال: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جاءه صاحب نخلة بصاع من تمر طيب، وكان تمر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا اللون، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنى لك هذا؟ قال: انطلقت بصاعين، فاشتريت به هذا الصاع، فإن سعر هذا في السوق كذا، وسعر هذا كذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ويلك أربيت، إذا أردت هذا فبع تمرك بسلعة، ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت. قال أبو سعيد: فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا، أم الفضة بالفضة؟ قال: فأتيت ابن عمر بعد، فنهاني، ولم آت ابن عباس، قال: فحدثني أبو الصهباء: أنه سأل ابن عباس عنه بمكة، فكرهه (¬2). ¬
وجه الاستدلال: قول أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: (فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا، أم الفضة بالفضة؟) ففي هذا ما يدل على أن أبا سعيد - رضي الله عنه - استعمل القياس في إشارته إلى أن الفضة بالفضة أحق بالربا من التمر بالتمر، وهذا يدل على أنه معلل. الدليل الخامس: (ح-716) ما رواه البخاري ومسلم من طريق عبد المجيد بن سهيل ابن عبد الرحمن بن عوف، أنه سمع سعيد بن المسيب يحدث أن أبا سعيد الخدري وأبا هريرة حدثاه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أخا بني عدي الأنصاري واستعمله على خيبر فقدم بتمر جنيب فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تفعلوا, ولكن مثلًا بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا, وكذلك الميزان (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وكذلك الميزان) إشارة إلى أن الحكم يتعدى الأصناف الستة إلى كل ما يوزن. وهذا دليل على عدم الاقتصار على الأصناف الستة، ولفظ (وكذلك الميزان) اختلف فيها وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. دليل من قال: الربا مقصور على الأصناف الستة: أدلة أصحاب هذا القول منهم من لا يحتج بالقياس كالظاهرية، ومنهم من يحتج بالقياس وهم بقية من قال بهذا القول من السلف كقتادة، ومسروق، ¬
والشعبي، وابن عقيل، والشوكاني وغيرهم، لذا لن يتفقوا على كل هذه الأدلة وإن كانوا متفقين على أصل القول. الدليل الأول: استدل نفاة القياس بأن الأصناف الستة يجري فيها الربا بالاتفاق، وما عداها فمختلف فيه، أيقع فيه الربا أم لا؟ والربا من الكبائر، فإذ أحل الله لنا البيع وحرم الربا، فواجب طلب معرفته ليجتنب، وقد قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]. فصح أن ما فصل لنا بيانه على لسان رسول - صلى الله عليه وسلم - فهو من الربا، وما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال؛ لأنه لا يجوز أن يكون في الشريعة حرام لم يفصل لنا، ولم يبينه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما عدا الأصناف الستة لا نجد في الشريعة ما يدل على أنها من الربا، فوجب الاقتصار على ما بينه لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويناقش: بأن الشارع إذا نص على تحريم شيء، فإنه يحرم نظيره؛ لأن تحريمه كان لداع اقتضى التحريم، وحكمة بالغة اقتضت منع الناس منه، فإذا وجد ذلك المعنى في عين أخرى لم ينص عليها الشارع وجب يعطى النظير حكم نظيره، وقد ذكرنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه النهي عن بيع العنب بالزبيب، وهو خارج الأصناف الستة، فبطل دعوى حصر الربا في الأصناف الستة. الدليل الثاني: استدل مثبت القياس بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطي جوامع الكلم، وأختصر له الكلام اختصارًا، فلما ذكر أربعة أصناف يدعى أن علتها واحدة: وهي البر والشعير والتمر والملح فإما أن يكون هذا من قبيل التكرار الذي ينافي كمال البلاغة، أو يكون ذلك دليلاً على أنها مقصودة لذاتها, يتعداها الحكم إلى
غيرها, ولو كان الربا يجري في غيرها من المكيلات والموزونات لقال: لا تبيعوا المكيل بالمكيل، ولا الموزون بالموزون إلا مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد؛ لأن ذلك أجمع للكلام، وأدل على المراد، فلما كرر الأصناف المكيلة علم أن المراد أعيان هذه الأصناف الستة. ويناقش من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن النصوص لم تقتصر على الأصناف الستة، فقد ذكرنا ضمن أدلة القول الأول: النهي عن بيع الطعام بالطعام، وهو أعم، وكذلك ذكرنا النهي عن بيع العنب بالزبيب، وهو خارج الأصناف الستة. الوجه الثاني: أن طعام الصحابة كان محصورًا على أصناف محدودة، فكان عدها أيسر عليهم في الفهم مما لو جرى نص عام، ولأن التعامل كان مقصورًا عليها. ويشهد لذلك: (ح-717) ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: كنا نخرج في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر صاعاً من طعام، قال أبو سعيد: وكان طعامنا الشعير والزبيب، والأقط والتمر. فطعام الصحابة - رضي الله عنهم - لم يتجاوز هذه الأصناف الأربعة وقت التشريع، ومعلوم أن الملح كان من مطعومهم أيضاً. الوجه الثالث: أن هناك فرقًا بين أن تذكر الأصناف الستة على سبيل العد كما هو الحال في حديث عبادة وأبي سعيد، وبين أن تذكر على سبيل الحصر، فالأول لا يدل على
حصر الأصناف الربوية في الأصناف المذكورة بخلاف الثاني، ولذلك جاء ما يدل على تعدية الحكم إلى غيرها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وكذلك الميزان). الدليل الثالث: أن الأحاديث نصت على أن الربا يجري في أصناف ستة، فلو اشتغلنا بالتعليل لعاد ذلك على النص بالإبطال للمنصوص؛ لأن معنى ذلك يؤدي إلى أن العدد لا مفهوم له. كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم) فلو اشتغلنا بالتعليل كان الفواسق أكثر من خمس، فيكون ذلك إبطالًا للمنصوص، وهو لا يجوز، فكذلك الشأن في الأصناف الستة. ويجاب عن ذلك بعدة أجوبة: الجواب الأول: أن أحاديث الربا ليس فيها الحصر الذي في حديث (خمس فواسق) فأحاديث الربا ذكرت حكم الربا في أموال معينة، ولم يأت أي تعرض للعدد مطلقًا، وإنما يجد العاد أن الأصناف المذكورة عددها ستة، في بعض الأحاديث، كحديث عبادة، وفي بعضها عددها أربعة كحديث أبي هريرة في مسلم (¬1)، وحديث عمر بن الخطاب في الصحيحين (¬2)، وفي بعضها ذكر فقط الذهب والفضة كحديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين (¬3)، وحديث أبي بكرة فيهما (¬4)، فالعدد ليس ¬
موجودًا في الأحاديث، وبالتالي لا يكون الاشتغال بالتعليل هنا يؤدي إلى إبطال المنصوص عليه؛ لأن الحصر لم يرد أصلاً في الحديث. الجواب الثاني: قال ابن الهمام: "وأما إبطال العدد فهو بناء على اعتبار مفهوم المخالفة، وهو ممنوع، ولو سلم فالقياس مقدم عليه باتفاق القائلين به" (¬1). الجواب الثالث: قال ابن الهمام "الإبطال الممنوع هو الأبطال بالنقص -يعني عن العدد المذكور بالنص- أما بالزيادة بالعلة فلا ... " (¬2). الدليل الرابع: علة الربا ليست منصوصة، وإنما هي مستنبطة بالاجتهاد، ووجود الاختلاف الكثير عند القائلين بالعلة يدلك على ضعف هذا القول، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. وقال ابن عقيل: "علل القياس في مسألة الربا علل ضعيفة، وإذا لم يظهر فيه علة امتنع القياس" (¬3). وقال الصنعاني: " ... ولكن لم يجدوا علة منصوصة اختلفوا فيها اختلافًا كثيرًا يقوى للناظر العارف أن الحق ما ذهبت إليه الظاهرية" (¬4). ¬
ويناقش: بأن تخصيص النصوص بالعلة المستنبطة هو الذي فيه نقاش، وأما التماس العلة لتعدية الحكم فهذا شأن الراسخين في العلم؛ لأن النصوص محدودة، والحوادث متجددة، والتحليل والتحريم في باب المعاملات قائم على تحقيق مصالح العباد، وتحريم الظلم ودفع الضرر، فهي أحكام معللة لا تخفى على أهل العلم، ورد التعليل لوجود الاختلاف قول ضعيف جدًا؛ لأن مسائل الإجماع قليلة جدًا، وإنما الاختلاف يجعل الباحث لا يتعجل في ترجيح قول على آخر، ويتأنى في النظر في كافة الأقوال، حتى يتبين له أقربها إلى الصواب وقواعد الشرع، ليأخذ بأحسنها، ويعذر المخالف ممن لم يوفق للصواب، والله أعلم. الراجح: بعد استعراض الأدلة أجد أن قول الجمهور هو الأقرب إلى الصواب، والله أعلم.
الفصل الأول الكلام على علة الربا
الفصل الأول الكلام على علة الربا اتفق القائلون بالعلة أن الأصناف الستة تنقسم إلى قسمين: الفئة الأولى: الذهب والفضة. والفئة الثانية: البر والشعير والتمر والملح. قال ابن قدامة: "اتفق المعللون على أن علة الذهب والفضة واحدة، وعلة الأعيان الأربعة واحدة، ثم اختلفوا في علة كل واحد منهما ... " (¬1). كما اتفقوا أن بيع الفئة الثانية بالفئة الأولى لا يجري فيها الربا مطلقًا، لا ربا الفضل، ولا ربا النسيئة، وإن كانت في أصلها أموالًا ربوية، لعدم تطابق العلة فيهما, ولثبوت الإجماع على جواز السلم، كما لو أسلم قمحًا بدنانير (ذهب) أو أسلم تمرًا بدراهم (فضة)، والسلم يقتضي تقديم الثمن وتأخير المثمن، فلو كان الربا يجري بينهما لما جاز السلم بحال. وسوف نعرض كلام أهل العلم في علة كل فئة على انفراد حتى يسهل الفهم، ولا يتداخلان فيتشعب الكلام. ¬
المبحث الأول العلة في الذهب والفضة
المبحث الأول العلة في الذهب والفضة إذا كان العدد لا يعتبر جزءًا من العلة بالاتفاق مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبيعوا الدينار بالدينارين)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا درهمين بدرهم) لم يعتبر الوزن جزءًا من العلة كذلك. [م - 1167] اختلف العلماء في علة الربا في الذهب والفضة: فقيل: العلة هي الوزن مع الجنس. فيجري الربا في كل موزون من جنس، كالحديد والرصاص، والزنك، والذهب، والفضة، واللحم. فلا تباع بجنسها إلا بشرطين التماثل والتقابض ولا يباع موزون بموزون من غير جنسه إلا بشرط واحد وهو التقابض في المجلس. وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2)، وبه قال النخعي، والزهري، والثوري، وإسحاق (¬3). وقيل: العلة هي غلبة الثمنية، أي كونهما جنس الأثمان غالبًا، وبعضهم يعبر ¬
بجوهرية الأثمان (¬1)، وهذه علة قاصرة لا تتعداهما. وهذا مذهب مالك (¬2)، والشافعي (¬3). ومعنى كون العلة قاصرة: أي لا تتعدى العلة جنس الذهب والفضة، فلا يجري الربا في الفلوس، والنقود الورقية ولو كانت أثمانًا. كما أن الربا يجري في أواني الذهب والفضة، وإن لم تكن أثمانًا. وقيل: العلة مطلق الثمنية، فكل ما كان ثمنًا فإنه يجري فيه الربا، وهو رواية عن مالك، وأحمد في غير المشهور عنهما (¬4)، واختاره من الحنابلة ابن تيمية، وابن القيم (¬5). والفرق بين قولنا (العلة غلبة الثمنية، وبين قولنا: العلة مطلق الثمنية): أن التعليل بغلبة الثمنية يؤدي إلى قصر الربا على الذهب والفضة، فلا يقاس غير الذهب والفضة عليهما، فلا يجري الربا في الفلوس، ولا في الأوراق النقدية حتى ولو اكتسبت القوة نفسها، وراج استعمالها بين الناس. ¬
دليل من قال: العلة الجنس مع الوزن
وأما التعليل بمطلق الثمنية فإنه لا يجعل العلة قاصرة على النقدين (الذهب والفضة) وإنما تتعدى العلة إلى غيرهما مما اتخذه الناس سكة بينهم، وأصح معيارًا لتقييم السلع وتقديرها. يقول الخرشي: "واختلف على أنه معلل، هل هو علته غلبة الثمنية؟ وهو المشهور، فتخرج فلوس النحاس وغيرها، أو مطلق الثمنية؟ وهو خلاف المشهور، فتدخل فلوس النحاس وغيرها" (¬1). دليل من قال: العلة الجنس مع الوزن: الدليل الأول: (ح-718) ما رواه البخاري، حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلاً على خيبر، فجاءهم بتمر جنيب، فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة فقال: لا تفعل، بيع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا، وقال في الميزان مثل ذلك (¬2). وجه الاستدلال: فقوله (وقال في الميزان) يعني: الموزون؛ لأن نفس الميزان ليس من أموال الربا، فهذا دليل على أن كل موزون يجري فيه الربا. ¬
وأجيب بجوابين
وأجيب بجوابين: الجواب الأول: أن قوله (وكذلك الميزان) أي عند بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة فلا بد من التساوي بالمعيار الشرعي وهو الميزان, لا أن الميزان علة في الحكم، فإنه لما ذكر التمر الرديء والجيد، وأنه لا بد في المبادلة من التساوي بينهما بالمعيار الشرعي، وهو الكيل، ناسب أن يذكر أن التساوي في الذهب والفضة هو بالمعيار الشرعي، وهو الوزن، لا أن الربا يجري في كل موزون. كما قال - صلى الله عليه وسلم -: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن، ولا الفضة بالفضة إلا ورنًا بوزن. وليس الوزن علة في الحكم. الجواب الثاني: قال البيهقي: "قوله (وكذلك الميزان) في الحديث ... أنه من جهة أبي سعيد" (¬1). أي موقوفاً عليه. قلت: تفرد عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، في هذا الطريق، وكان تفرده بأمرين. الأول منهما: قوله (وكذلك الميزان) على اختلاف عليه في ذكرها، فتارة يذكرها، وتارة يهملها. وله شاهد من حديث حيان بن عبيد الله، عن أبي مجلز، عن ابن عباس، وفي حيان ضعف من قبل حفظه. الثاني: نسب الحديث إلى مسند أبي سعيد وأبي هريرة، والمحفوظ أن الحديث من مسند أبي سعيد، ولا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الطريق (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الإشكال الأول
ولأن القول بأنها غير محفوظة يحل لنا إشكالًا فقهيًا، فإننا لو قلنا: إن العلة في الذهب والفضة هي الوزن لكان ذلك يعني أمرين مشكلين. الإشكال الأول: أنه لا يجوز إسلام الذهب والفضة بالموزونات؛ لأن كل شيئين جمعتهما علة واحدة في الربا لا يجوز إسلام أحدهما في الآخر، كما لا يجوز إسلام الشعير بالبر، فلما جاز إسلام الموزونات بالذهب أو بالفضة علم أن العلة في الذهب والفضة ليست الوزن. قال ابن القيم: "وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة العلة فيهما كونهما موزونين وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة وطائفة قالت العلة فيهما الثمنية وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى وهذا هو الصحيح بل الصواب، فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدًا، فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها، وأيضاً فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض" (¬1). الإشكال الثاني: لو قلنا: إن العلة في الذهب والفضة هي الوزن لكان ذلك يعني عدم جريان الربا في النقود الورقية؛ لأنها لا توزن، فلا حرج في بيع الأوراق النقدية بعضها ببعض مع التماثل والنسأ، وبهذا نكون قد فتحنا بذلك باب الربا على مصراعيه ¬
الدليل الثاني
للمرابين، فإذا قلنا: إن كلمة (وكذلك الميزان) ليست محفوظة وفقًا للقواعد الحديثية انحل لنا هذا الإشكال، والله أعلم. الدليل الثاني: (ح-719) ما رواه الحاكم من طريق حيان بن عبيد الله العدوي، قال: سألت أبا مجلز عن الصرف، فقال: كان ابن عباس رضي الله عنهما لا يرى به بأسًا زمانًا من عمره، ما كان منه عينًا، يعني يدًا بيد، فكان يقول: إنما الربا في النسيئة، فلقيه أبو سعيد الخدري، فقال له: يا ابن عباس ألا تتقي الله إلى متى تؤكل الناس الربا، أما بلغك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم، وهو عند زوجته أم سلمة: إني لأشتهي تمر عجوة، فبعثت صاعين من تمر إلى رجل من الأنصار فجاء بدل صاعين صاع من تمر عجوة، فقامت فقدمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رآه أعجبه، فتناول تمرة، ثم أمسك، فقال: من أين لكم هذا؟ ... فأخبرته أم سلمة، فقال: فألقى التمرة بين يديه، فقال: ردوه، لا حاجة لي فيه، التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة يدًا بيد، عينًا بعين، مثلًا بمثل، من زاد فهو ربا، ثم قال: كذلك ما يكال ويوزن ... الحديث (¬1). وجه الاستدلال: قوله (وكذلك ما يكال أو يوزن) فدل على أن كل ما يوزن يجري فيه الربا. [الحديث انفرد فيه حيان بن عبيد الله، عن أبي مجلز، وفي حيان ضعف من قبل حفظه] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ح-720) ما رواه الدارقطني من طريق أبي بكر بن عياش، عن الربيع ابن صبيح، عن الحسن عن عبادة وأنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعًا واحداً، وما كيل فمثل ذلك، فإذا اختلف النوعان فلا بأس ¬
قال الدارقطني: لم يروه غير أبي بكر، عن الربيع هكذا، وخالفه جماعة، فرووه عن الربيع، عن ابن سيرين، عن عبادة وأنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ غير هذا اللفظ (¬1). [الربيع بن صبيح ضعيف، المعروف أن الحديث يروى بغير هذا اللفظ] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (ح-721) ما رواه مسلم من طريق أبي الأشعث، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد. . . (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (مثلاً بمثل، سواء بسواء) يدل على وجوب التماثل، وذلك إنما يعلم بالقدر، والقدر في الذهب والفضة إنما يعتبر فيه الوزن فإذا كان العقد مما يراعى فيه التساوي، وجب أن يعتبر الوزن الذي هو أصل اعتباره. فكان هو الوصف المتحقق في هذه الأصناف، والمؤثر في الحكم فيها؛ لأن المقصود من تحريم الربا هو منع الغبن الذي يقع في المعاملات، وتحقيق العدل في المعاملات إنما يكون بوجود التساوي، فإذا لم يتحقق هذا المعيار فإن ذلك يعني وجود فضل مال في أحدهما على الآخر، وإذا وجد فإنما يوجد، وهو خال عن العوض مع إمكان التحرز عنه، فيقع في الربا، فكان الوزن في الحقيقة هو العلة (¬2). ويناقش من وجوه: الوجه الأول: علة التحريم لا تؤخذ من أداة التقدير للشيء، إنما علة التحريم تكون في ذات ¬
الوجه الثاني
الشيء، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خص بعض الأشياء بمنع التفاضل فيها عند اتحاد جنسها، وضرورة قبضها عند بيع بعضها ببعض، فلا بد أن يكون ذلك التحريم لأوصاف أو منافع خاصة في هذه الأموال، لا لكونها تكال أو توزن. الوجه الثاني: أن الوزن والكيل ليسا وصفين ملازمين للأموال، بل هما أمور عارضة، ومن الأشياء ما تعين مقاديرها في بلد بالكيل، وفي آخر بالوزن، وإن ذلك قد يؤدي إلى أن يكون قد تتحقق فيه علة الربا في بلد، ولا تتحقق فيه علة الربا في بلد آخر، ويكون للشارع في أمر واحد حكمان متناقضان" (¬1). وقد يخرج من هذا الإشكال بأن يقال: إن العبرة بالميزان ميزان مكة، والمكيال مكيال المدينة، وهي مسألة خلافية سيأتي بحثها في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى. الوجه الثالث: الإجماع على جواز إسلام النقدين في الموزونات دليل على أن الوزن ليس هو العلة؛ إذ لو كانت العلة في النقدين الوزن لم يجز إسلامهما في الموزون. قال ابن القيم: "والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها". وقال أيضًا: "التعليل بالوزن ليس فيه مناسبة، فهو طرد محض" (¬2). الوجه الرابع: أن علة تحريم الربا ليست مقصورة على ما يوزن، بل هي متعدية إلى غيره مما ¬
وجه من قال: العلة غلبة الثمنية
يعد ثمنًا, ولا يتعامل به وزنًا، كالفلوس، والورق النقدي (¬1)، فإن الظلم الذي راعى الشارع إبعاده في تحريم الربا في النقدين (الدراهم والدنانير) واقع في التعامل بالورق النقدي. وجه من قال: العلة غلبة الثمنية: أن الذهب والفضة جوهران متعينان لثمنية الأشياء، فالثمنية لا تنفك عنهما، ورائجان عند جميع الناس لخصائص ومزايا اعتبرت فيهما, ولا يشبههما غيرهما وهذا الوصف قاصر عليهما، لا يتعداهما إلى غيرهما، ومعنى كون العلة قاصرة: أن الربا لا يجري في الفلوس والأوراق النقدية ولو كانت رائجة رواج النقدين؛ لأن الثمنية طارئة عليهما, ولأن المعنى القائم في الذهب والفضة لا يوجد فيهما من كل وجه، ويجري الربا في الأواني والتبر والحلي وإن لم تكن قيمًا للأشياء (¬2). ويناقش من وجوه: الوجه الأول: أن العلة القاصرة إذا كانت غير منصوصة، ولا مجمعًا عليها، كما هو الحال ¬
الوجه الثاني
هنا فإنه لا يصح التعليل بها فإن النص يغني عنها؛ لأن الحكم ثابت بالنص؛ ولأن العلة إنما تستنبط وتستثار لفوائدها، فكما أن البيع يراد للملك، والنكاح يراد للحل، فإذا تخلفت فائدتهما حكم ببطلانهما، فكذلك العلة إذ تخلفت فائدتها عن إثبات الحكم بها في غير محل النص بطلت العلة، فيكون التعليل بالعلة القاصرة عبث لا فائدة فيه (¬1). الوجه الثاني: أن هذا التعليل بغلبة الثمنية سيؤدي إلى قصر الربا على الذهب والفضة، وهذا يعني عدم جريان الربا في الفلوس والأوراق النقدية مع العلم أن علة تحريم الربا في النقدين ينبغي أن تتعداهما إلى غيرهما في كل ما يعتبر ثمنا للمبيعات وقيمًا للمتلفات، وهذا القول سيؤدي إلى فتح الباب على مصراعيه للبنوك الربوية أن تمارس الربا باسم البيع بدلًا من اسم القرض بفائدة المجمع على تحريمه مما يؤدي إلى الوقوع في نتائج تتنافى مع مقاصد الشريعة، وتخالف حكمة التشريع الذي من أجله شرع الله تعالى تحريم الربا. ¬
الوجه الثالث
الوجه الثالث: إذا عللنا بغلبة الثمنية فإن معنى ذلك جريان الربا بالحلي وأواني الذهب والفضة، وهي ليس فيها أي معنى للثمنية (¬1). وجه من قال: العلة مطلق الثمنية: الوجه الأول: المحافظة على استقرار الأثمان في السوق، حتى لا تضطرب قيم العملات ارتفاعًا وهبوطًا مما يؤدي إلى كساد التجارة، وإفلاس التجار، وفساد المعاملات، وانتشار الظلم. قال ابن تيمية: "التعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارًا للأموال يتوصل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بها بعينها، فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية" (¬2). قال ابن القيم: "الثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع. وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تُقوَّم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوَّم هو بغيره؛ إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف، ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم ¬
الوجه الثاني
حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر، وحصل الظلم ولو جعلت ثمنًا واحداً لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به الأشياء ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس" (¬1). الوجه الثاني: أن الأثمان إذا قصد بها التجارة بأعيانها، وصارت سلعة أدى ذلك إلى قلتها في أيدي الناس، فيتضرر بذلك عموم الناس (¬2). الوجه الثالث: إذا كانت الأثمان لا ينبغي أن تكون سلعًا تعد للربح يباع بعضها ببعض إلى أجل، فإن هذا الوصف ينطبق على الدراهم والدنانير كما ينطبق على الأوراق النقدية والفلوس إذا راجت، وصارت معيارًا يعرف به قيم الأشياء؛ لأن حقيقة النقد: هو كل شيء يجري اعتباره في العادة، ويلقى قبولًا عامًا كوسيط للتبادل، كما قال ابن تيمية رحمه الله: "وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي، ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارًا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها بل هي وسيلة إلى التعامل بها, ولهذا كانت أثمانًا بخلاف سائر الأموال، فإن المقصود بها الانتفاع بها بنفسها، فلهذا كانت مقدرة بالأمور الطبعية أو الشرعية، والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض، لا بمادتها، ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت" (¬3). ¬
واعترض
وجاء في المدونة "قلت: أرأيت إن اشتريت فلوسًا بدرهم، فافترقنا قبل أن يقبض كل واحد منها؟ قال: لا يصلح هذا في قول مالك، وهذا فاسد. قال لي مالك في الفلوس: لا خير فيها نظرة بالذهب ولا بالورق، ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة" (¬1). واعترض: بأن الربا يجري في سبائك الذهب والفضة مع أنهما في حال كونهما سبائك ليسا ثمنًا، وكذلك يجري الربا في الحلي، وهو ليس ثمنًا (¬2). ويجاب: أما جريان الربا في الحلي فهذه مسألة خلافية سيجري إن شاء الله تعالى تحرير الخلاف فيها، وأسأل الله وحده العون والتوفيق. وأما السبائك من الذهب والفضة فإنه يجري فيها الربا وإن لم تكن أثمانًا؛ لأن الثمنية موغلة في الذهب والفضة بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدًا قبل سكها نقودا، وقد كان تقدير ثمنيتها بالوزن. (ح-722) فقد روى البخاري ومسلم في قصة شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - جمل جابر وفيه، قال جابر: فاشتراه مني بأوقية ... فأمر بلالاً أن يزن لي أوقية، فوزن لي بلال، فأرجح لي في الميزان (¬3). ¬
الراجح
وفي رواية لمسلم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبلال: أعطه أوقية من ذهب، وزده، قال: فأعطاني أوقية من ذهب، وزادني قيراطًا. والقيراط: هو جزء من أجزاء الدينار. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن حرمة الربا في الذهب والفضة ثابتة بالنص، وكون العلة في التحريم هي الثمنية أمر مستنبط، وقد نص العلماء على أن العلة المستنبطة لا يمكن أن تعود على الحكم بالإبطال؛ لأن النص دلالته قطعية وهي دلالتها ظنية، والله أعلم. الراجح: الذي أميل إليه أن العلة فيها هو مطلق الثمنية، لقوة أدلته، ولمراعاة حكمة التشريع الذي من أجله حرم الربا، فلا فرق بين الدراهم والدنانير، وبين النقود الورقية باعتبارها معيارًا للأموال يتوصل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بها بعينها، والله أعلم.
المبحث الثاني علة الربا في الأصناف الأربعة
المبحث الثاني علة الربا في الأصناف الأربعة إذا كان العدد لا يعتبر جزءًا من العلة مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبيعوا الدينار بالدينارين)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا درهمين بدرهم) لم يعتبر الكيل جزءاً من العلة كذلك. [م - 1168] اختلف الفقهاء في علة الربا في الأصناف الأربعة: البر والشعير والتمر والملح إلى أقوال كثيرة، نذكر أشهرها، ونشير إلى الباقي: فقيل: العلة هي الكيل أو الوزن مع الجنس، فيجري الربا في كل مكيل أو موزون من جنس واحد، سواء كان مطعومًا كالأرز، أو غير مطعوم كالحناء والأشنان، والنورة، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمشهور من مذهب أحمد (¬2)، وبه قال إسحاق والنخعي والزهري والثوري (¬3). ¬
وقيل: العلة هي الاقتيات والادخار، وبعضهم يزيد كونه للعيش غالبًا، وهو قول مالك (¬1). وهذه علة ربا الفضل عندهم. وأما علة ربا النسأ فالطعم على غير جهة التداوي. وقيل: العلة فيها الطعم، سواء كان اقتياتًا، أو تفكهًا، أو تداويًا، فيجري الربا في كل مطعوم سواء كانت مكيلة أو غير مكيلة كالثمار، والفواكه، والبيض، والأدوية، وغيرها من المطعومات. وهذا مذهب الشافعي في الجديد (¬2)، ورواية عن الإِمام أحمد (¬3)، واختاره ابن المنذر (¬4). وقيل: العلة هي الطعم مع الكيل أو الوزن. وبه قال سعيد بن المسيب (¬5)، وهو قول الشافعي في القديم (¬6)، ورواية عن أحمد، رجحها ابن تيمية (¬7). ¬
دليل من قال: العلة: الكيل مع الجنس
وهناك أقوال أخرى خارج المذاهب المشهورة والمعتمدة تركت ذكرها لعدم قوتها (¬1). دليل من قال: العلة: الكيل مع الجنس: الدليل الأول: (ح-723) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: كنا نرزق تمر الجمع، وهو الحائط من التمر، وكنا نبيع صاعين بصاع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا صاعين بصاع، ولا درهمين بدرهم (¬2). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قوله (لا صاعين بصاع) فهذا عام في كل مكيل، مطعومًا كان أو غير مطعوم، فدل هذا على أن الكيل علة في التحريم. وأجيب بثلاثة أجوبة: الجواب الأول: أن في الحديث اختصارًا، وأن الحديث بتمامه (لا صاعي تمر بصاع، ولا صاعي حنطة بصاع) (¬1). ¬
الجواب الثاني
الجواب الثاني: على فرض أن لا يكون في الحديث اختصار، فإن هذا مفهوم من السياق، فإنه حين أخبر الصحابي - رضي الله عنه - أنه يبيع الجمع من التمر الصاعين بالصاع، قال: لا تبيعوا الصاعين بالصاع يعني من التمر؛ لأن التمر كله جنس واحد. الجواب الثالث: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث: (لا درهمين بدرهم) فهذا لم يكن العدد علة في الربا لم يكن ذكر الكيل علة فيه. الدليل الثاني: (ح-724) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حسين بن محمَّد، حدثنا خلف - يعني ابن خليفة - عن أبي جناب عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرماء، والرماء هو الربا، فقام إليه رجل فقال: يا ¬
رسول الله، أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل؟ قال: لا بأس إذا كان يدًا بيد (¬1). [ضعيف، ولفظة (إني أخاف عليكم الرماء) رواها ابن عمر تارة موقوفة عليه، وتارة عن عمر موقوفًا عليه، وليس فيه لفظ ولا الصاع بالصاعين موضع الشاهد] (¬2). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أنه لما نهى عن الصاع بالصاعين دل بإطلاقه على النهي عن كل مكيل، سواء كان مطعومًا أو غير مطعوم، مما يدل على أن الكيل علة في التحريم. ¬
وأجيب
وأجيب: بأن ذكر معيار التساوي لا يلزم أن يكون هو العلة في الحكم، وسوف نناقش هذا في موضع الترجبح إن شاء الله تعالى. الدليل الثالث: (ح-725) ما رواه البخاري، حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلاً على خيبر، فجاءهم بتمر جنيب، فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا، وقال في الميزان مثل ذلك (¬1). وجه الاستدلال: قوله (وكذلك الميزان) الكذلكة هنا إشارة إلى ما تقدم من وجوب بيع الصاع بالصاع في بيع التمر، فكأنه قال: قال في الميزان مثل ما قال في المكيل، فالحديث تضمن الإشارة إلى علة تحريم التفاضل في بيع التمر. لأنه مكيل، ثم أخبر أن مثله في الحكم كل موزون. ويجاب: بأن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف قد تفرد، في هذا الطريق بقوله (وكذلك الميزان) على اختلاف عليه في ذكرها، فتارة يذكرها، وتارة يهملها. كما تفرد في جعل الحديث من مسند أبي سعيد وأبي هريرة، والمحفوظ ¬
الدليل الرابع
أن الحديث من مسند أبي سعيد، ولا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الطريق (¬1). الدليل الرابع: (ح-726) ما رواه الحاكم من طريق حيان بن عبيد الله العدوي، عن أبي مجلز عن أبي سعيد أنه لقي ابن عباس فقال له: يا ابن عباس ألا تتقي الله إلى متى تؤكل الناس الربا، أما بلغك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم، وهو عند زوجته أم سلمة: إني لأشتهي تمر عجوة، فبعثت صاعين من تمر إلى رجل من الأنصار فجاء بدل صاعين صاع من تمر عجوة، فقامت فقدمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رآه أعجبه، فتناول تمرة، ثم أمسك، فقال: من أين لكم هذا؟ ... فأخبرته أم سلمة، فقال: فألقى التمرة بين يديه، فقال: ردوه، لا حاجة لي فيه، التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة يدًا بيد، عينًا بعين، مثلًا بمثل، من زاد فهو ربا، ثم قال: كذلك ما يكال ويوزن ... الحديث (¬2). وجه الاستدلال: قوله (وكذلك ما يكال ويوزن). [والحديث انفرد فيه حيان بن عبيد الله، عن أبي مجلز، وفي حيان ضعف من قبل حفظه] (¬3). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (ح-727) ما رواه الدارقطني من طريق أبي بكر بن عياش، عن الربيع ابن صبيح، عن الحسن عن عبادة وأنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعًا واحداً، وما كيل فمثل ذلك، فإذا اختلف النوعان فلا بأس به. قال الدارقطني: لم يروه غير أبي بكر، عن الربيع هكذا، وخالفه جماعة، فرووه عن الربيع، عن ابن سيرين، عن عبادة وأنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ غير هذا اللفظ، وليس فيه موضع الشاهد (¬1). [الربيع بن صبيح ضعيف، المعروف أن الحديث يروى بغير هذا اللفظ] (¬2). الدليل السادس: (ح-728) ما رواه مسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد. . . (¬3). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (مثلًا بمثل، سواء بسواء) يدل على وجوب التماثل، وذلك إنما يعلم بالقدر، والقدر في الأصناف الأربعة إنما يعتبر فيه الكيل فإذا كان العقد مما يراعى فيه التساوي، وجب أن يعتبر الكيل الذي هو أصل اعتباره. فكان هو ¬
الدليل السابع
الوصف المتحقق في هذه الأصناف، والمؤثر في الحكم فيها؛ لأن المقصود من تحريم الربا هو منع الغبن الذي يقع في المعاملات، وتحقيق العدل في المعاملات إنما يكون بوجود التساوي، فإذا لم يتحقق هذا المعيار فإن ذلك يعني وجود فضل مال في أحدهما على الآخر، وإذا وجد فإنما يوجد، وهو خال عن العوض مع إمكان التحرز عنه، فيقع في الربا، فكان الكيل في الحقيقة هو العلة (¬1). وسوف نناقش إن شاء الله تعالى عند الترجيح وجه اعتبار الكيل علة في التحريم، فانظره في آخر البحث. الدليل السابع: (ث-127) ما رواه الطحاوي في مشكل الآثار, قال: حدثنا يحيى بن عثمان، قال: ثنا موسى بن هارون البردي، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن صدقة ابن المثنى، عن جده رياح بن الحارث، قال: قال عمار بن ياسر - رضي الله عنه -: العبد خير من العبدين، والأمة خير من الأمتين، والبعير خير من البعيرين، والثور خير من الثورين، فما كان يدًا بيد فلا بأس، إنما الربا في النسأ لا ما كيل أو وزن (¬2). [انفرد به شيخ الطحاوي، وفيه كلام] (¬3). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قال الطحاوي: "فلما كان أوكد الأشياء في دخول الربا عليها: الذهب والفضة، وليسا بمأكولين، ولا مشروبين، عقلنا بذلك أن العلة التي لها دخول الربا إلى الوزن فيما يوزن، والكيل فيما يكال، مأكولًا كان ذلك، أو مشروبًا، أو غير مأكول، أو مشروب، والله نسأل التوفيق" (¬1). دليل من قال: العلة الاقتيات والادخار: الأصناف الأربعة يجمعها وصفان: الوصف الأول: أن كلًا منها مقتات، والاقتيات: هو ما تقوم به بنية الآدمي، وتتغذى به الأجسام على سبيل الدوام. وفي معنى الاقتيات ما يصلح القوت، ووصف الاقتيات وصف شريف إذ به يتم حفظ الأجساد التي هي سبب مصالح الدنيا والآخرة. ولذلك أجمع الفقهاء على وجوب الزكاة في الزروع والثمار إذا كانت مما يقتات، واتفق الفقهاء على منع احتكار الأقوات دون غيرها، مما يجعل وصف القوت من أخص أوصاف الأصناف الأربعة المذكورة. ¬
ونوقش
الوصف الثاني: الادخار: هو عدم فساده بالتأخير المعروف فيه، وأن يكون الادخار معتادًا، وإنما كان الاقتيات والادخار علة حرمة الربا في الطعام لخزن الناس له حرصًا على طلب وفور الربح فيه لشدة الحاجة إليه. ونوقش: بأن التعليل بالادخار منتقض بالرطب، فإنه يجري فيه الربا, وليس مدخرًا. فإن قيل: إنه يؤول إلى الادخار. فالجواب: أن الربا جار في الرطب الذي لا يصير تمرًا، وفي العنب الذي لا يصير زبيبًا (¬1). فيقال: الاعتبار بالغالب. كما أن الملح ذكر من الأصناف الأربعة، وليس قوتًا، فإن قيل: إنه مما يصلح به القوت، فالجواب: أنه لو جاز الربا فيما يصلح به القوت لجاز الربا في الماء، والحطب، وغيرهما مما يصلح به القوت (¬2). ويجاب: قال القرافي: "جوابه أنا لا نقتصر على مطلق الإصلاح، بل نقول: هي قوت مصلح، وهذه ليست قوتًا" (¬3). دليل من قال: العلة: هي الطعم: (ح-729) ما رواه مسلم من طريق أبي النضر، أن بسر بن سعيد حدثه عن ¬
وجه الاستدلال
معمر بن عبد الله، قال: كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الطعام بالطعام مثلًا بمثل، قال: وكان طعامنا يومئذ الشعير. الحديث وفيه قصة (¬1). وجه الاستدلال: فكان عموم هذا الخبر إشارة إلى أن علة الربا الطعم: لأن الحكم إذا علق على اسم مشتق دل على أن ذلك المعنى الذي اشتق منه الاسم هو علة الحكم كالجلد في الزنا في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فعلم أن الزنا هو علة الجلد، وقطع يد السارق لأن اسمه مشتق من السرقة، فالحكم بالربا على الطعام يدل على أن كونه طعامًا هو العلة لذلك؛ لأن اسم الطعام يتناول كل مطعوم في اللغة والشرع، سواء كان مكيلًا أو غير مكيل قال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93]. وقال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] يريد به ذبائحهم. (ح-730) وروى الإِمام أحمد من طريق محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: لقد كان يأتي على آل محمَّد الشهر ما يرى في بيت من بيوته الدخان، قلت: يا أمه، وما كان طعامهم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء (¬2). [إسناده حسن، وهو في الصحيحين بنحوه] (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-731) استدل البيهقي بما رواه مسلم من طريق إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا ومؤكله ... الحديث (¬1). الدليل الثالث: (ث-128) ما رواه إسحاق بن راهوية كما في إتحاف الخيرة المهرة، قال: أنبأ أبو عامر العقدي، عن موسى بن علي بن رباح اللخمي، عن أبيه، عن أبي قيس أن أبا بكر الصديق كتب إلى أمراء الأجناد بالشام: إنكم هبطتم أرض الربا، فلا تبتاعوا الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن، ولا الورق بالورق إلا وزنًا بوزن، ولا الطعام بالطعام إلا مكيالا بمكيال. قال البوصيري في إتحاف المهرة: هذا إسناد صحيح (¬2). وهو كما قال. وجه الاستدلال: قول أبي بكر - رضي الله عنه - (ولا الطعام بالطعام) إشارة إلى أن علة الربا الطعم. الدليل الرابع: (ث-129) ما رواه عبد الرزاق في المصنف، قال: أخبرنا معمر، عن ¬
الدليل الخامس
الزهري، عن سالم عن ابن عمر قال: ما اختلفت ألوانه من الطعام فلا بأس به يدًا بيد، البر بالتمر، والزبيب بالشعير، وكرهه نسيئة (¬1). [صحيح، وهو شاهد للأثر الذي قبله]. ووجه الاستدلال به كالاستدلال بالأثر الذي قبله. الدليل الخامس: أن علة الشيء في ثبوت حكمه ما كان مقصودًا من أوصافه، ومقصود البر هو الأكل فاقتضى أن يكون علة الحكم. مناقشة تعليل الشافعية: بأن العلة لو كانت هي الطعم وحده لاكتفى بالتنبيه على ذلك بالنص على واحد من تلك الأصناف الأربعة المذكورة، فلما ذكر منها عددًا علم أنه قصد بكل واحد منها التنبيه على ما في معناه، وهي كلها يجمعها الاقتيات والادخار، أما البر والشعير فنبه بهما على أصناف الحبوب المدخرة، ونبه بالتمر على جميع أنواع الحلاوات المدخرة كالسكر والعسل والزبيب، ونبه بالملح على جميع التوابل المدخرة لإصلاح الطعام، وأيضاً فإنهم قالوا: لما كان معقول المعنى في الربا: إنما هو أن لا يغبن بعض الناس بعضاً، وأن تحفظ أموالهم، فواجب أن يكون ذلك في أصول المعايش وهي الأقوات (¬2). ورد على هذه المناقشة: بأنه لو كان المقصود ما ذكر لاستغني بذكر الذهب عن ذكر الفضة أو ¬
دليل من قال: العلة الطعم مع الكيل
العكس؛ إذ علتهما واحدة بالاتفاق، ولاستغني بذكر البر عن الشعير أو العكس؛ لأنهما من أصناف الحبوب المدخرة. ويرد الباجي بقوله: "لا خلاف أنه قصد بذكر هذه الأربع المسميات إلى التنبيه على علة الربا فيها، فأتى بألفاظ مختلفة الجنس والمعنى، وهذا يقتضي أن العلة أخص صفة توجد فيها، ووجدنا التمر يؤكل قوتا ويؤكل حلاوة وتفكهًا، فلولا اقتران الحنطة والشعير به للحقت به الحلاوات والفواكه خاصة، ووجدنا الشعير يؤكل من أدنى الأقوات، ويكون علفًا، فلولا اقتران الحنطة والتمر به لجاز أن يلحق به أدنى الأقوات خاصة دون أعلاها, ولجاز أن يلحق به العلف من القضب، والقرط، ووجدنا الملح مما يصلح الأقوات ويطيبها، فلولا اقتران القمح والشعير به لجاز أن يلحق به الأقوات المصلحة، ولجاز أن يلحق به الماء والبقول، التي يصلح بها الطبيخ، ووجدنا البر أرفع الأقوات وما يقتات عامًا فلولا اقتران التمر والشعير به لقصرنا حكمه على رفيع الأقوات، ومنعنا الربا أن يجري في أدونها، أو يجري في الأرز وغيره مما لا يعم اقتياته، ولو أراد عموم العلة لاكتفى باسم واحد منها؛ لأنه لا خلاف في أنه كلما كثرت أوصاف العلة كانت أخص وكلما قلت كانت أعم" (¬1). دليل من قال: العلة الطعم مع الكيل: الدليل الأول: هذا القول جمع بين أدلة الحنفية وأدلة الشافعية، ورأى أن لكل واحد من هذه الأوصاف أثرًا، والحكم مقرون بجميعها في المنصوص عليه، فلا يجوز حذفه، بل يجب الجمع بين هذه الأحاديث الواردة في الباب، وتقييد أحدها بالآخر. ¬
فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام بالطعام. (ح-732) كما في الحديث الذي رواه مسلم من طريق أبي النضر، أن بسر ابن سعيد حدثه عن معمر بن عبد الله، قال: كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الطعام بالطعام مثلًا بمثل، قال: وكان طعامنا يومئذ الشعير. الحديث وفيه قصة (¬1). فهذا الحديث نص على اعتبار الطعم، إلا أنه يجب تقييده بما فيه معيار شرعي، من كيل أو وزن. (ح-733) لما رواه البخاري من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: كنا نرزق تمر الجمع، وهو الحائط من التمر، وكنا نبيع صاعين بصاع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا صاعين بصاع، ولا درهمين بدرهم (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد المتفق عليه: (وقال في الميزان مثل ذلك) (¬3)، أي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الميزان مثل ما قال في المكيل. فتبين بذلك أن الطعم بمجرده لا تتحقق المماثلة به؛ لعدم المعيار الشرعي فيه، وإنما تجب المماثلة في المعيار الشرعي وهو الكيل والوزن؛ ولهذا وجبت المساواة في المكيل كيلاً، وفي الموزون وزنًا، فوجب أن يكون الطعم معتبرًا في المكيل والموزون دون غيرهما، وبهذا نكون قد جمعنا بين الأحاديث الواردة في هذا الباب، وقيدنا كل واحد منها بالآخر، فنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثل، يتقيد بما فيه معيار شرعي، وهو الكيل والوزن، ونهيه عن بيع الصاع بالصاعين، يتقيد بالمطعوم المنهي عن التفاضل فيه. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-734) ما رواه مسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالثمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد. . . (¬1). فإن الأصناف الأربعة مطعومة مكيلة. الدليل الثالث: (ح- 735) ما رواه الدارقطني في سننه من طريق المبارك بن مجاهد، عن مالك بن أنس، عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ربا إلا في ذهب، أو فضة، أو مما يكال، أو يوزن، ويؤكل ويشرب. قال الدارقطني: [هذا مرسل، ووهم المبارك على مالك برفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو من قول سعيد بن المسيب مرسل] (¬2). الترجيح: من خلال تحرير الخلاف السابق نجد أن الفقهاء - فيما عدا الظاهرية وعدد ¬
قليل من أهل القياس - يقولون: بأن جزء العلة الاتفاق في الجنس، ويختلفون في تعيين الجزء الآخر: هل هو الكيل أو الوزن وحده كالحنفية. أو الطعم، وحده كالشافعية. أو الاقتيات والادخار وحده كالمالكية. أو الطعم مع كونه مكيلًا أو موزونًا كما هو قديم قول الشافعية، ورواية عن أحمد. فاستبعدنا مذهب الحنفية للحديث الصحيح (الطعام بالطعام مثلا بمثل)، وإن قيل: إن هذا فرد من أفراد لا يقتضي تخصيصًا، إلا أننا إذا نظرنا في الأصناف الأربعة وجدناها كلها مطعومة، لذلك أبعدنا غير المطعوم من جريان الربا فيه. وبقي الخلاف: هل العلة الطعم، أو الاقتيات والادخار وحدهما، أو أن العلة مركبة: بين الطعم والكيل. والذي أميل إليه أن الكيل غير معتبر في كونه علة في جريان الربا، وإن كان الكيل أو الوزن معيارًا يتوصل فيه إلى ضبط التساوي مما يحرم فيه التفاضل للأسباب التالية. الأول: أن العلة في الذهب والفضة مطلق الثمنية، وألحقنا بها الأوراق النقدية، وكذلك الفلوس مع أن الحديث يقول: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن، ولا الفضة بالفضة إلا وزنًا بوزن. فالذهب بالذهب، والفضة بالفضة يحرم فيه التفاضل، والمعيار الشرعي فيه هو الوزن، ومع ذلك لم يكن الوزن هو العلة في جريان الربا فيهما، فليكن الكيل معيارًا يتوصل فيه إلى ضبط التساوي بين بيع البر بالبر والشعير بالشعير،
والتمر بالتمر، والملح بالملح وليس علة في جريان الربا في هذه الأصناف الأربعة. قال النووي: "لا يلزم من كون الكيل معيارًا كونه علة، والله سبحانه أعلم" (¬1). (ح-736) الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في رواه البخاري من حديث أبي سعيد عليه السلام: لا صاعين بصاع، ولا درهمين بدرهم (¬2). فقوله (ولا درهمين بدرهم) إشارة إلى طلب التساوي، ومع ذلك لم يعتبر أحد من العلماء أن العدد جزء من العلة مع اعتبار الشارع له كما في رواية أبي سعيد هذه، وحديث عثمان عند مسلم: (لا تبيعوا الدينار بالدينارين). الثالث: أن الأكل أو الاقتيات والادخار صفة لازمة لذات المعلول والكيل صفة زائدة عن المعلول، والصفة اللازمة أولى أن تكون علة من الصفة الزائدة. الرابع: القبض والكيل كلاهما شرط في صحة البيع، فإذا كان القبض ليس علة في الربا فليكن الكيل كذلك. (ح-737) الخامس: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -، قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم (¬3). ولم يقل جمهور الفقهاء: إن الوزن والكيل علة في جواز ما يسلم فيه، فلا ¬
يجوز في غيرهما، وإنما قالوا: يجوز السلم في كل ما يضبط وصفه، سواء أكان ذلك بالكيل، أم الوزن، أم الذرع، أم العد. السادس: "علة التحريم لا تؤخذ من أداة التقدير للشيء، إنما علة التحريم تكون في ذات الشيء، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خص بعض الأشياء بمنع التفاضل فيها عند اتحاد جنسها، وضرورة قبضها عند بيع بعضها ببعض، فلا بد أن يكون ذلك التحريم لأوصاف أو منافع خاصة في هذه الأموال، لا لكونها تكال أو توزن. السابع: أن الوزن والكيل ليسا وصفين ملازمين للأموال، بل هما أمران عارضان، ومن الأشياء ما تعين مقاديرها في بلد بالكيل، وفي آخر بالوزن، وإن ذلك قد يؤدي إلى أن يكون قد تتحقق فيه علة الربا في بلد، ولا تتحقق فيه علة الربا في بلد آخر، ويكون للشارع في أمر واحد حكمان متناقضان" (¬1). قال الماوردي: "التمر يكال بالحجاز، ويوزن بالبصرة والعراق، والبر يكال تارة في زمان، ويوزن أخرى، والفواكه قد تعد في زمان، وتوزن في زمان، فلم يجز أن يكون الكيل علة؛ لأنها تقتضي أن يكون الجنس الواحد فيه الربا في بعض البلدان، ولا ربا فيه في بعضها، وفي بعض الأزمان، ولا ربا فيه في غيرها، وعلة الحكم يجب أن تكون لازمة في البلدان، وسائر الأزمان، وهذا موجود في الأكل" (¬2). فإن قيل: إن العبرة بالمعيار في وقت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالجواب: أن المكيال والميزان أمران عرفيان لم يحدث فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - تغييرًا عما كان يعمل في الجاهلية. ¬
الثامن: أن الربا يجري بين التمرتين والثلاث، مع العلم أنها لا تكال. ذكر القرافي في معرض استدلاله على عدم التعليل بالكيل، بقوله: "لا يخفاك أن الكيل ليس بصفة ثابتة، بل عارض، وليس بصفة مختصة، بل غير مختص، وليس بصفة مقصودة عادة من هذه الأعيان، وليس بصفة جامعة للأوصاف المناسبة كلها، بل ليس هو بصفة سابقة على الحكم، وإنما هو لاحق مخلص من الربا كالقبض، فلا يصلح أن يكون علته على أنه يمتنع في القليل كالتمرة والتمرتين ونحوهما بخلاف علة مالك" (¬1). وذكر الماوردي: أن الأكل علة يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها، والكيل علة يوجد الحكم مع عدمها، ويعدم الحكم مع وجودها، وهو أن الزرع إذا كان حشيشًا أو قصيلًا لا ربا فيه؛ لعدم الأكل عندنا، وعدم الكيل عندهم، فإذا صار سنبلًا ثبت فيه الربا عندنا؛ لأنه مأكول، وثبت فيه الربا عندهم، وهو غير مكيل. فإن قيل يصير مكيلًا. قيل: وكذلك إذا كان حشيشًا. فإذا صار السنبل خبزًا ثبت فيه الربا عندنا: لأنه مأكول، وثبت فيه الربا عندهم، وهو غير مكيل، فإن قيل: يحصل فيه الربا لأنه موزون. قيل: ما ثبت فيه الربا لا تختلف علته باختلاف أوصافه، فإذا صار الخبز رمادًا فلا ربا فيه عندنا: لأنه غير مأكول، ولا ربا فيه عندهم وهو مكيل، فثبت أن علتنا يوجد الحكم بوجودها، ويعدم بعدمها، وعلتهم يوجد الحكم مع عدمها في السنبل، ويعدم الحكم مع وجودها في الرماد، فثبت أن التعليل بالأكل أصح لهذه الدلائل الأربعة" (¬2). ¬
لهذه الأسباب المذكورة أبعدت اعتبار الكيل أو الوزن علة في جريان الربا في هذه الأموال، وبقي النظر: هل العلة: الطعم، أو العلة الاقتيات والادخار، فالترجيح لدي بين هذين القولين: فمن نظر إلى أن القوت أشرف من مطلق الطعم، وأن الشارع أوجب الزكاة في الأقوات خاصة، ولم يوجبها في كل مطعوم، وأن الفقهاء أجمعوا على تحريم الاحتكار في الأقوات خاصة، وأن الأصل في البيع الحل، فيبقى المتيقن: هو اعتبار القوت والادخار، وأما غيره فمحتمل، والاحتياط في جانب المعاملات ليس في التحريم، بل الاحتياط عكسه تمامًا، لهذا أجدني ميالًا إلى قول المالكية، وإن كان في قول الشافعية قوة، والله أعلم.
المبحث الثالث ثمرة اختلاف الفقهاء في علة الربا
المبحث الثالث ثمرة اختلاف الفقهاء في علة الربا قال ابن قدامة: كل ما حرم فيه التفاضل حرم فيه النساء بغير خلاف نعلمه (¬1). وقال البهوتي في كشاف القناع: التماثل في الجنسين غير معتبر (¬2). وقال الباجي: "كل شيئين جمعتهما علة واحدة في الربا فإنه لا يجوز بيع أحدهما بالآخر نسأ كالذهب والورق" (¬3). [م - 1169] بعد أن استعرضنا علة ربا الفضل والنسيئة في الأصناف الأربعة، وعلة ربا النسيئة في الأموال غير الربوية نريد أن نعقد مقارنة بين المذاهب من خلال الأمثلة حتي يتبين الفروق بين المذاهب المختلفة في تحديد العلة. أولاً: أن ما عدا الأصناف الستة المذكورة في حديث عبادة بن الصامت، وحديث أبي سعيد الخدري كالقول والأرز، والعدس، والحمص لا يجري فيها الربا مطلقًا على قول الظاهرية، وبعض السلف، فيجوز بيع الأرز بعضه ببعض متفاضلًا، حالًا ونسيئة. ويجري فيها الربا مطلقًا ربا الفضل والنسيئة على اختيار الأئمة الأربعة. ثانيًا: في المطعوم، فإن كان يكال أو يوزن وكان قوتًا مدخرًا جرى فيه الربا مطلقًا ربا الفضل وربا النسيئة عند جميع الأئمة الأربعة. ¬
وإن كان مطعومًا مكيلًا أو موزونًا جرى فيه الربا مطلقًا ربا الفضل والنسيئة عند الحنفية والشافعية. ولم يجر فيه ربا الفضل عند المالكية، وجرى فيه ربا النسيئة عند المالكية، ولو اختلف الجنس. وإن كان مطعومًا فقط ولم يكن مكيلًا ولا موزونًا، كالجوز الهندي، والتين الشوكي فإنه يدخله الربا مطلقًا (ربا الفضل وربا النسيئة) عند الشافعية، وقول لأحمد. ولا يدخله ربا الفضل عند مالك وأبي حنيفة. ويدخله ربا النسيئة عند أبي حنيفة بشرط اتحاد الجنس. ويدخله ربا النسيئة عند مالك، ولو اختلف الجنس. ثالثًا: ما ليس بمطعوم. فإما أن يكون مما يكال أو يوزن، أو لا: فإن كان مما يكال أو يوزن كالحديد والرصاص والمعادن فإنه يدخله الربا مطلقًا (ربا الفضل وربا النسيئة) عند أبي حنيفة بشرط اتحاد الجنس. ويدخله ربا النسيئة عند اختلاف الجنس. ويدخله ربا النسيئة فقط دون ربا الفضل عند مالك بشرط التفاضل، واتحاد الجنس والمنفعة. ولا يدخله الربا مطلقًا عند الشافعي ورواية عن أحمد. وإن كان مما لا يكال ولا يوزن، مثل الأقمشة. فإنه يدخله ربا النسيئة عند أبي حنيفة دون ربا الفضل بشرط اتحاد الجنس.
ويدخله ربا النسيئة عند مالك بشرط اتحاد الجنس والتفاضل، واتحاد المنفعة. ولا يدخله الربا مطلقا عند الشافعية والحنابلة. هذا ملخص أقوال الأئمة فيما يجري فيه ربا الفضل وربا النسيئة.
الفصل الثاني جريان ربا النسيئة في غير الأموال الربوية
الفصل الثاني جريان ربا النسيئة في غير الأموال الربوية عرفنا حكم التفاضل في الأموال الربوية من خلال حديث عبادة، ومن خلال كلام أهل العلم في تلمس علة الربا في الأصناف الستة، ونريد أن نعرف هل ربا النسيئة يجري فقط بين تلك الأموال، أو يجري حتى في غير الأموال الربوية، في ذلك خلاف بين أهل العلم. [م - 1170] قذهب الحنفية إلى تحريم النسيئة في كل ما اتحد جنسه، وإن لم يكن مكيلاً، أو موزونًا فذهبوا إلى تحريم النسيئة في بيع الثوب بالثوب، وفي بيع الحيوان بالحيوان إذا كانا من جنس واحد (¬1). ومنع المالكية التأجيل في الجنس الواحد في العروض والحيوان وسائر التمليكات، وإن لم يكن من الأموال الربوية، إذا جمع بين ثلاثة أوصاف: وهي التفاضل، والنسيئة، واتفاق الأغراض والمنافع: فيحرم بيع ثوب بثوبين إلى أجل، وبيع فرس للركوب بفرسين للركوب إلى أجل. فإن كان أحدهما للركوب دون الآخر جاز؛ لاختلاف المنافع. فخلاصة مذهب المالكية: أنه لا يجوز الجمع بين التفاضل والنساء في ¬
استدل الحنفية بأدلة منها
الجنس الواحد، والجنس عند المالكية: ما اتفقت منافعه وأغراضه، فإن اتحدت حقيقته، واختلفت أغراضه ومنافعه اعتبر جنسين (¬1). كما أن ربا النسيئة عندهم يجري في كل مطعوم، ولو لم يكن قوتًا، كالفواكه والخضروات، فلا يجوز بيع شيء منه بآخر إلى أجل، ولو كان من غير جنسه، فلا يجوز بيع تفاح برمان، وخيار بباذنجان إلى أجل، ولا يدخله ربا الفضل، فيجوز بيع شيء منه بصنفه متفاضلاً، فيجوز بيع تفاحة بتفاحتين. وهذا لا يسمى في الاصطلاح عندهم طعامًا ربويًا؛ لأنه لا يدخله ربا الفضل (¬2). وأجاز الشافعية والحنابلة التفاضل والنساء في غير الأموال الربوية (¬3). استدل الحنفية بأدلة منها: الدليل الأول: (ح-738) ما رواه أحمد من طريق سعيد، عن قتادة، عن الحسن عن سمرة، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة (¬4). [إسناده ضعيف] (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح-739) ما رواه عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة عن ابن عباس قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة (¬1). [اختلف في وصله وإرساله ورجح البخاري وأبو حاتم والبيهقي الإرسال على الوصل] (¬2). ¬
وجه الاستدلال من الحديثين
وجه الاستدلال من الحديثين: دل الحديثان السابقان على منع بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، فدل على أن الجنس إذا اتحد فقد حرم النسأ. وأجيب بجوابين: الجواب الأول: أن ما ورد من أحاديث ضعيفة لا يمكن الاحتجاج بمجموعها مع معارضتها لما هو أصح منها كما سيأتي في أدلة الجمهور. الجواب الثاني: أننا لو أخذنا بالأحاديث لكان مقتضاها النهي عن بيع الحيوان بالحيوان مطلقًا، اتحد الجنس أو اختلف؛ لأن الأحاديث مطلقة، فتقييدها بالجنس الواحد تقييد بلا دليل. دليل الجمهور: الدليل الأول: (ح-740) ما رواه عبد الرزاق، قال أخبرنا ابن جريج، عن عمرو ابن شعيب، [عن أبيه] قال: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عمرو أن يجهز جيشًا، ¬
الدليل الثاني
فقال: ليس عندنا ظهر. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ابتاع لي ظهرًا إلى خروج المصدق، فابتاع عبد الله البعير بالبعيرين والأبعرة إلى خروج المصدق (¬1). [حسن] (¬2). الدليل الثاني: (ح-741) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حسين -يعني ابن محمَّد - حدثنا جرير -يعني ابن حازم - عن محمَّد -يعني ابن إسحاق - عن أبي سفيان، عن مسلم بن جبير عن عمرو بن الحريش، قال سألت: عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: إنا بأرض ليس بها دينار ولا درهم، وإنما نبايع بالإبل والغنم إلى أجل، فما ترى في ذلك؟ قال على الخبير سقطت، جهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشًا على إبل من إبل الصدقة حتى نفدت، وبقي ناس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اشتر لنا إبلًا من قلائص من إبل الصدقة إذا جاءت حتى نؤديها إليهم، فاشتريت البعير بالاثنين والثلاث قلائص حتى فرغت، فأدى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إبل الصدقة (¬3). [حسن لغيره بالحديث السابق] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ث-130) روى مالك في الموطأ، عن نافع أن عبد الله بن عمر اشترى راحلة بأربعة أبعرة، مضمونة عليه، يوفيها صاحبها بالربذة (¬1). [إسناده في غاية الصحة، وهو موقوف على ابن عمر] (¬2). الدليل الرابع: (ث-131) روى عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن بديل العقيلي، عن ¬
الدليل الخامس
مطرف بن عبد الله بن الشخير أن رافع بن خديج اشترى منه بعيرًا ببعيرين، فأعطاه أحدهما، وقال: آتيك غدًا بالآخر رهوًا (¬1). [إسناده صحيح]. الدليل الخامس: (ث-132) روى مالك، عن صالح بن كيسان، عن حسن بن محمَّد ابن علي بن أبي طالب أن علي بن أبي طالب باع جملًا له يدعى عصيفيرًا بعشرين بعيرًا إلى أجل (¬2). [رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعًا] (¬3). فرجح الحنفية الأحاديث التي تنهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة مع التأويل لظاهرها؛ لأن ظاهرها يقتضي أنه لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة اتفق الجنس، أو اختلف. وممن رجح ذلك الشوكاني رحمه الله، حيث يقول: "لا شك أن أحاديث النهي، وإن كان كل واحد منها لا يخلو من مقال، لكنها ثبتت من طريق ثلاثة من الصحابة: سمرة، وجابر بن سموة، وابن عباس، وبعضها يقوي بعضًا، فهي أرجح من حديث واحد غير خال من المقال، وهو ¬
حديث عبد الله بن عمرو ... وقد تقرر في الأصول أن دليل التحريم أرجح من دليل الإباحة، وأما الآثار عن الصحابة فلا حجة فيها، وعلى فرض ذلك فهي مختلفة" (¬1). ورجح الشافعية والحنابلة: حديث عبد الله بن عمرو، خاصة أنه مؤيد بعمل بعض الصحابة كابن عمر وابن عباس ورافع بن خديج، وعلي بن أبي طالب. يقول ابن القيم: "وأما الإِمام أحمد فإنه كان يعلل أحاديث المنع كلها، قال: ليس فيها حديث يعتمد عليه، ويعجبني أن يتوقاه -يعني أحاديث المنع من بيع الحيوان بالحيوان نسيئة- وذكر له حديثا ابن عباس وابن عمر، فقال: هما مرسلان، وحديث سمرة، عن الحسن، قال الأثرم: قال أبو عبد الله: لا يصح سماع الحسن من سمرة ... وقد قال أبو داود: إذا اختلفت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظرنا إلى ما عمل به أصحابه من بعده، وقد ذكرنا الآثار عن الصحابة بجواز ذلك متفاضلًا، ونسيئة، وهذا كله مع اتحاد الجنس ... " (¬2). وجمع المالكية بين هذه الأحاديث، فحملوا حديث سمرة على اتفاق الأغراض والمنافع، وحديث عبد الله بن عمرو على اختلافهما. فمنع المالكية التأجيل في الجنس الواحد في العروض والحيوان وسائر التمليكات، وإن لم يكن من الأموال الربوية، إذا جمع بين ثلاثة أوصاف: وهي التفاضل، والنسيئة، واتفاق الأغراض والمنافع: فيحرم بيع ثوب بثوبين ¬
الراجح
إلى أجل، وبيع فرس للركوب بفرسين للركوب إلى أجل. فإن كان أحدهما للركوب دون الآخر جاز؛ لاختلاف المنافع. فخلاصة مذهب المالكية: أنه لا يجوز الجمع بين التفاضل والنساء في الجنس الواحد، والجنس عند المالكية: ما اتفقت منافعه وأغراضه، فإن اتحدت حقيقته، واختلفت أغراضه ومنافعه اعتبر جنسين. وكأنهما بهذا أرادوا الجمع بين الأحاديث التي تنهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وبين حديث عبد الله بن عمرو، فحملوا الأولى على الجنس الواحد إذا اتفقت أغراضها ومنافعها وكان متفاضلاً، وحديث عبد الله بن عمرو على اختلاف الأغراض والمنافع، والله أعلم. الراجح: المسألة كما وصفها ابن القيم من المسائل المعضلة، وإذا كان لا بد من الترجيح فسيكون ميلًا إلى أحد الأقوال، لا حسمًا في موضع النزاع. والسؤال الذي يطرح نفسه، لو أخذنا بأحاديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان، فهل يعني هذا أن النهي خاص بالحيوان، أو أنه عام في كل ما يتحد جنسه كما يقول الحنفية، فالحديث ليس فيه العموم الذي يقول به الحنفية. ولو أخذنا بظاهر الحديث لكان معنى ذلك أن النهي عن بيع الحيوان بالحيوان، وإن اختلف الجنس، هذا ما يقتضيه إطلاق النهي، وليس خاصًا بما يتحد جنسه كما يقول الحنفية. هذا ما يضعف عندي مذهب الحنفية، وأما مذهب المالكية فإن أحاديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان ليس فيها ما قيده به المالكية من اشتراط التفاضل، بحيث يجوزون بيع الحيوان بالحيوان نسيئة إذا لم يوجد فيها تفاضل، ويمنعونه مع التفاضل.
كما أن اشتراط اتفاق الأغراض والمنافع ليس منصوصًا عليه في الأحاديث، فالبعير حقيقته واحدة، وجنسه واحد، سواء كان للركوب، أو للسقي، أو للزينة، أو للجهاد، كما أن البر حقيقته واحدة، وإن اختلفت أغراضه ومنافعه، لهذا كله أجدني ميالًا إلى مذهب الشافعية، والحنابلة، والله أعلم.
الفصل الثالث في تحديد الجنس
الفصل الثالث في تحديد الجنس قال الشيرازي: "كل شيئين اتفقا في الاسم فهما جنس، وإذا اختلفا في الاسم فهما جنسان" (¬1). وقال السيوطي: "كل شيئين اتفقا في الاسم الخاص من أصل الخلقة فهما جنس واحد، وكل شيئين اختلفا فهما جنسان" (¬2). [م - 1171] ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، وبعض المالكية إلى أنّ كلّ شيئين اتّفقا في الاسم الخاصّ من أصل الخلقة كالتّمر البرنيّ والتّمر المعقليّ فهما جنس واحد، وكلّ شيئين اختلفا في الاسم من أصل الخلقة كالحنطة والتّمر فهما جنسان. واحترز بالخاص عن العام كالحب، فإنه يتناول سائر الحبوب. واستدلوا بحديث عبادة وحديث أبي سعيد حيث اعتبر الذهب جنسًا، والفضة جنسًا، والبر جنسًا، والشعير جنسًا، والتمر جنسًا، والملح جنسًا. فقال - صلى الله عليه وسلم -: فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد (¬3). ¬
وذهب مالك في المنصوص عنه، وهو قول معظم علماء المدينة والشام أن ما اتحدت منافعه من الأشياء والسلع كأصناف الحنطة، أو تقاربت كالقمح والشعير يعد جنسًا واحدًا، وما اختلفت منافعه وتباينت يعد جنسين كالقمح مع التمر (¬1). والمشهور في مذهبه أيضاً: أن الدخن، والذرة، والأرز أجناس متباينة، يجوز التفاضل فيما بينها، وأنها لا تلحق بالقمح. وهو قول اللّيث والأوزاعيّ ومعظم علماء المدينة والشَّام حيث اعتبروا القمح والشعير جنسًا واحداً (¬2)، وهو رواية عن أحمد (¬3). وقال الليث: السلت والدخن والذرة صنف واحد (¬4). وأنكر القرطبي قول مالك ومن وافقه، وقال في الجامع لأحكام القرآن: "إذا ثبتت السنة فلا قول معها، قال عليه السلام: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد). ¬
وقوله: (البر بالبر والشعير بالشعير ...) دليل على أنهما نوعان مختلفان كمخالفة البر للتمر؛ ولأن صفاتهما مختلفة، وأسماءهما مختلفة ... " (¬1). والراجح: قول الجمهور. ¬
المبحث الأول اللحم هل هو جنس واحد أو أجناس
المبحث الأول اللحم هل هو جنس واحد أو أجناس قال البابرتي: "اختلاف الأصل يوجب اختلاف الفرع ضرورة" (¬1). وقال ابن عبد البر: "كل ما اختلفت أسماؤه وألوانه اختلافًا بينًا فهي أصناف مختلفة ... " (¬2). [م - 1172] اختلف العلماء، هل اللحم كله جنس واحد، أو أنه يختلف باختلاف أصوله. فقيل: اللحم أجناس باختلاف أصوله، فلحم الإبل جنس، ولحم البقر جنس، لا فرق فيه بين الجواميس والعراب، ولحم الغنم جنس، لا فرق فيه بين الضأن منه والماعز، فيجوز بيع لحم الإبل بلحم البقر متفاضلاً إذا كان ذلك يداً بيد، وهذا مذهب الحنفية (¬3)، والقول الجديد للشافعي (¬4)، ومذهب الحنابلة (¬5)، ورجحه ابن قدامة (¬6). وقيل: اللحم ثلاثة أجناس: لحم ذوات الأربع صنف، ومنه لحم الوحوش، ¬
ولحم الطيور صنف، ولحم الحيتان صنف، وهذا مذهب مالك (¬1)، ورواية عن أحمد إلا أنه جعل الأنعام جنس، والوحوش جنس (¬2). وقيل: اللحم كله جنس واحد. وهو القول القديم للشافعي (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4)، وهو قول أبي ثور (¬5). وجه قول الجمهور: أن اللحم فرع أصول هي أجناس فكان أجناسًا، كالأدقة، والأخباز، فإذا كنا نعتبر الغنم جنسًا، والبقر جنسًا، فكذلك ما يتفرع عنهما، والله أعلم. ¬
حجة من قال: إن اللحوم ثلاثة أجناس: أن لحم هذه الحيوانات تختلف المنفعة بها، والقصد إلى أكلها، فكانت أجناسًا. ولأنه لو حلف لا يأكل لحمًا فأكل لحم السمك لم يحنث. قال ابن قدامة: وهذا ضعيف جدًا؛ لأن كونها أجناسًا لا يوجب حصرها في أربعة أجناس، ولا نظير لهذا فيقاس عليه. قلت: الصحيح أن من حلف ألا يأكل لحمًا فأكل لحم سمك أنه يحنث، إلا أن يكون هناك حقيقة عرفية في بلد ما؛ لأن الله سبحانه وتعالى سماه في كتابه لحمًا، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14]. وجه من قال: اللحم جنس واحد: بأن اللحم على اختلاف أنواعه يجمعه اسم خاص، فيكون جنسًا واحداً وإنما يختلف باختلاف أنواعه، فلحم الطير نوع، ولحم ذوات الأربع نوع، ولحم الحيتان نوع، وهكذا، فالجميع يجمعه اسم اللحم. ويناقش: لو كان اللحم جنسًا للزم من ذلك أن يقال: الحبوب كلها جنس، فالبر والشعير جنس واحد؛ لأنه يجمعها اسم الحبوب، كما يلزم أن يقال: الثمار كلها جنس واحد، فيجعل الزبيب والتمر وغيرهما من الثمار جنسًا واحداً؛ لأنه يجمعها اسم الثمار. الراجح: الراجح من الخلاف هو قول الجمهور، وأن اللحم أجناس باختلاف أصوله،
فلحوم الطير أجناس: فلحم الحمام جنس، ولحم الدجاج جنس، ولحم البط جنس. ولحوم الحمر الوحشية جنس، ولحوم الأرانب جنس، ثم إن لحوم السمك أجناس، فدوابه جنس، وحيتانه جنس، وكل ما اختص باسم يخالف غيره فهو جنس، والله أعلم.
الفرع الأول في بيع اللحم باللحم مع العظام
الفرع الأول في بيع اللحم باللحم مع العظام كل شيء تابع لغيره بأصل الخلقة إذا بيع بجنسه لا يشترط نزعه، كالنوى في التمر، والعظم في اللحم (¬1). [م - 1173] وقد اختلف العلماء، هل يشترط نزع العظم عند بيع اللحم باللحم؟ فقيل: يجوز، ولو لم ينزع، وهو مذهب المالكية (¬2)، ووجه في مذهب الشافعية (¬3)، وظاهر كلام الإِمام أحمد، ورجحه ابن قدامة (¬4). وقيل: لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا منزوع العظم، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬5)، واختاره القاضي من الحنابلة (¬6). وجه من قال بالجواز: أن العظم تابع للحم بأصل الخلقة، فلم يشترط نزعه كالنوى في التمر. قال الباجي: "بيع اللحم باللحم الذي يعتبر فيه التساوي، أو التفاضل، هو اللحم على هيئته التي يستعمل عليها في بيع وطبخ، وغير ذلك مما يشتمل عليه من عظم وغيره، ما لم يكن العظم مضافًا إليه، وذلك كنوى التمر حكمه حكم التمر ما لم يكن مضافًا إليه" (¬7). ¬
وجه من قال: لا يجوز
وجه من قال: لا يجوز: احتج من قال بعدم الجواز بالقياس على العسل، فكما أن العسل لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا بعد التصفية، فكذلك اللحم بالعظم. وأجيب: بأن اختلاط العظم باللحم من أصل الخلقة بخلاف العسل، فإن اختلاط الشمع بالعسل من فعل النحل، لا من أصل الخلقة. والراجح: الراجح القول بالجواز ولو لم ينزع العظم، ولا مانع من كون الجنس الواحد يتكون من شيئين ماداما متصلين، فإذا انفصلا اعتبرا جنسين, كاللبن يشتمل على المخيض والزبد، وهما جنس واحد في حال اتحادهما، فإذا انفصلا صارا جنسين.
الفرع الثاني في الشحم والكبد ونحوهما هل هي جنس أو أجناس
الفرع الثاني في الشحم والكبد ونحوهما هل هي جنس أو أجناس جاء في مجلة الأحكام العدلية: "يختلف الجنس باختلاف الأصل، أو المقصد، أو الصنعة" (¬1). [م - 1174] اختلف العلماء في الشحم والكبد هل هما جنس أو أجناس؟ فقيل: الشحم، والكبد، والقلب، والمخ، والكرش، والمصران، كل واحد منها جنس، يجوز بيع بعضه ببعض تفاضلاً، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬
وجه كون كل واحد منها جنسا
وجه كون كل واحد منها جنسًا: أن هذه الأشياء مختلفة في الاسم، والخلقة (الصورة)، والمعنى، فكانت أجناسًا، كما أن التمر جنس، والنوى جنس. وقيل: الشحم، والكرش والكبد، والقلب، والرئة، والطحال، والخصيتان، والرؤوس، والأكارع كلها جنس واحد، فلا يصلح شيء من ذلك باللحم إلا مثلًا بمثل، وهذا مذهب المالكية (¬1). وجه كون كل ذلك جنسًا واحداً: أن ذلك كله داخل في مسمى اللحم، فهي أنواع له، متولدة منه، وليست جنسًا مختلفًا، بدليل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] وقد دخل في لحم الخنزير كل ذلك من شحم، وكبد، وطحال، وكرش، ومصران، فإن اسم اللحم يتناوله، بل أدخل المالكية حتى الجلد المأكول في مسمى اللحم، والعظم إن كان متصلًا باللحم، أو كان منفصلًا وكان مما يؤكل كالقرقوشة، فإن لم يمكن أكله فإنه يصير أجنبيًا بانفصاله كالنوى للتمر. الراجح: أن الكبد واللحم جنس واحد إذا كانت من حيوان واحد، وأجناس إذا كانت من حيوانات مختلفة، فالكبد من الغنم جنس، والكبد من الإبل جنس، وأما الكبد واللحم من الإبل فهما جنس واحد. ¬
المبحث الثاني في اللبن هل هو جنس واحد أو أجناس
المبحث الثاني في اللبن هل هو جنس واحد أو أجناس [م - 1175] اختلف العلماء في اللبن، هل هو جنس واحد أو أجناس؟ فقيل: اللبن أجناس باختلاف أصوله، فلبن الغنم جنس، ولبن الإبل جنس، ولبن البقر جنس، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: اللبن كله جنس واحد، وهو مذهب المالكية (¬4)، ورواية عن أحمد (¬5). فمن نظر إلى الاسم الخاص الجامع الذي يجمعها، وهو اللبن، قال: اللبن جنس واحد. ومن نظر إلى اختلاف طبيعتها، وكونها من أصول مختلفة جعل كل واحد منها جنسًا تبعاً لأصله، وهذا هو الأقرب. ¬
المبحث الثالث في أدقة الأصول المختلفة وأدهانها
المبحث الثالث في أدقة الأصول المختلفة وأدهانها قال ابن الشاص المالكي وجمع من الحنابلة: "فروع الأجناس أجناس" (¬1). [م - 1176] أدقة الأصول المختلفة الجنس وأدهانها أجناس؛ لأن الفرع يتبع أصله، فلما كانت أصول هذه أجناسًا كانت هذه الفروع أجناسًا، إلحاقًا للفروع بأصولها، فيجوز بيع دقيق البر بدقيق الشعير، وخل التمر بخل العنب, وزيت الزيتون بزيت السمسم متفاضلين، ولا يجوز بيع دقيق البر بمثله إلا مثلاً بمثل، ولا دقيق الشعير بمثله إلا مثلاً بمثل، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: لا يباع دقيق البر بمثله، ولا دقيق الشعير بمثله وهذا مذهب الشافعية (¬5). ووجهه: أن التساوي إنما معتبر في حالة الكمال، وهي حال كونها حنطة، وقد فات ¬
ذلك، ولأن أحد الدقيقين قد يكون من حنطة رزينة، والآخر من حنطة خفيفة، فيستويان دقيقًا, ولا يستويان حنطة. والصحيح الأول، وعلى فرض أن يكون هناك مقدار يسير جدًا فلا يؤثر في التساوي، ولأن المساواة بالكيل مساواة بالجملة، ولكن ربما لو وزن هذا بذاك لوجد بينهما تفاوت يسير خفف فيه الشارع، فلم يعتبره، فهذا مثله، والله أعلم.
المبحث الرابع في بيع البر بالدقيق أو بالسويق
المبحث الرابع في بيع البر بالدقيق أو بالسويق قال جمع من الفقهاء: الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل (¬1). [م - 1177] اختلف العلماء في بيع البر بالدقيق، وبيع البر بالسويق (¬2)، من جنسه. فقيل: لا يجوز، وهذا مذهب الحنفية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5) , ورواية عن مالك رجحها القرافي في الفروق (¬6). وجه القول بالمنع: أن المعيار في البر والدقيق هو الكيل، وهو لا يمكن أن تتحقق المساواة بينهما؛ لأن الحب بالطحن تنتشر أجزاؤه، وإن لم يتحقق التفاضل فقد جهل التماثل، والجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل، فيما يشترط التماثل فيه، ولذلك لم يجز بيع بعضها ببعض جزافًا. ¬
وأجاب أصحاب القول الأول
وقيل: يجوز بيع البر بالدقيق، والمعيار للتساوي هو الوزن، وبهذا قال مالك (¬1)، وهو رواية عن أحمد (¬2)، وحكاه ابن قدامة مذهبًا لربيعة، والنخعي، وقتادة، وابن شبرمة، وإسحاق، وأبي ثور. وجهه: أن المطلوب هو التساوي، وإذا تعذر ذلك في المكيل لم يتعذر ذلك في الوزن، بل إن المساواة في الوزن أدق من المساواة بالكيل، وهذا ظاهر معلوم. وأجاب أصحاب القول الأول: أن الوزن ليس معيارًا للبر والدقيق، وإذا تعذر تحقق المساواة بالمعيار الشرعي، الذي هو الكيل، امتنع البيع. والصحيح اعتبار الوزن معيارًا للتساوي لكن بشرط أن يكون بين جنس واحد، أما الدقيق والبر فهما كالجنسين باعتبار اختلاف صفاتهما، وهما جنس واحد باعتبار الأصل، والله أعلم. ¬
المبحث الخامس في بيع خبز البر بالبر وخبز الشعير بالشعير
المبحث الخامس في بيع خبز البر بالبر وخبز الشعير بالشعير [م - 1178] اختلف العلماء في بيع خبز البر بالبر، وخبز الشعير بالشعير. فقيل: يجوز بيع ذلك متفاضلاً، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، واختيار ابن تيمية من الحنابلة (¬3). وجهه: أن البر معياره الكيل، والخبر معياره الوزن. ولأن الخبز بالصنعة صار جنسًا آخر، فلم يجمعهما القدر (المعيار)، ولا الجنس، فجاز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً، ونسيئة إذا كانت الحنطة هي المتأخر؛ لإمكان ضبطها (¬4). ¬
وقيل: لا يجوز، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). واستدلوا بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة (البر بالبر والشعير بالشعير ... مثلًا بمثل) وهذا يعم البر على أي حال كان. فإذا قال: أنا ما عندي إلا خبز، وأنا أريد برًا، قيل له: بيع الخبز، واشتر بثمنه برًا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق من أراد تمرًا جيدًا, وليس عنده إلا تمر ردئ، والله أعلم. ¬
المبحث السادس في بيع الخبز بالخبز
المبحث السادس في بيع الخبز بالخبز [م - 1179] اختلف العلماء في الخبز هل هو جنس واحد، أو أجناس؟ فقيل: الخبز أجناس باعتبار أصوله، فخبز البر جنس، وخبز الشعير جنس، وهكذا. وهذا مذهب الحنابلة (¬1). وجه اعتبار الخبز أجناس، أنها فروع لأجناس مختلفة، فكانت أجناسًا كأصولها. وقيل: خبز البر والشعير والحمص والفول كلها جنس واحد وهذا مذهب المالكية (¬2). وأما جريان الربا فيه: فقيل: يجوز في بيع قرص بقرصين من الخبز يدًا بيد، وهذا مذهب أبي حنيفة (¬3). وجهه: أن الخبز خرج بالصنعة من كونه مكيلًا، فلم يحرم التفاضل فيه. وقيل: لا يجوز بيع الخبز بعضه ببعض مطلقًا، وهذا مذهب الشافعية (¬4). ¬
وجه المنع
وجه المنع: أن الخبز مكيل يجب التساوي فيه، ولا يمكن كيله فتعذرت المساواة فيه. ولأن في كل واحد منهما من غير جنسه. وقيل: يجوز بيع الخبز بالخبز فإن كانا من جنس واحد فيشترط أن يستويا جفافًا لتحقيق المماثلة. وإذا اختلف جنسهما، جاز التفاضل وحرم النساء، وهذا مذهب الحنابلة (¬1). وقال النووي: "وحكي قول في جواز بيع الخبز الجاف المدقوق بمثله كيلًا" (¬2). وقيل: الخبز جنس واحد، وإن اختلفت أصوله، ويجوز بيع بعضه ببعض بالتحري من غير وزن. والتحري فيهما: إن كان الأصل يجوز فيه التفاضل كخبز قمح وخبز أرز، فإنما يراعى وزن الخبزين، لا تماثل الدقيقين. وإن كان الأصل لا يجوز فيه التفاضل كخبز قمح بخبز قمح أو شعير، فإنما يراعى فيه تماثل الدقيقين. قال ابن رشد: إن كانت أصول الأخباز مما يجوز فيه التفاضل فلا خلاف أن المماثلة تعتبر بالوزن، وإن كان أصول الأخباز مما لا يجوز فيه التفاضل كأخباز القمح والشعير والسلت فإنما تكون المماثلة باعتبار أصولها. وذهب ابن دحون إلى أن الخبز يجوز أن يباع وزنًا بوزن؛ لأنه قد صار صنفًا على حدة، فوجب ألا تراعى أصوله. ¬
قال المواق في التاج والإكليل: "ولعمري إن لقوله وجهًا، وهو القياس على الإطلاق، والأنبذة إنما تجوز مثلًا بمثل، ولا يراعى ما دخل في كل واحد منها من التمر أو الزبيب، أو العنب. وقال الباجي: ظاهر الموطأ في جواز بيع الخبز بالخبز تحريًا أن يتحرى الوزن، لا الدقيق ولو كثر القول بهذا في المذهب عندي لكان أصح" (¬1). وجاء في بداية المجتهد: "واختلفوا من هذا الباب فيما تدخله الصنعة مما أصله منع الربا فيه، مثل الخبز بالخبز. فقال أبو حنيفة: لا بأس ببيع ذلك متفاضلاً، ومتماثلا؛ لأنه قد خرج بالصنعة عن الجنس الذي فيه الربا. وقال الشافعي: لا يجوز متماثلًا، فضلا عن متفاضل؛ لأنه قد غيرته الصنعة تغيرًا جهلت به مقاديره التي تعتبر فيها المماثلة. وأما مالك: فالأشهر في الخبز عنده أنه يجوز متماثلًا، وقد قيل فيه أنه يجوز فيه التفاضل، والتساوي ... وسبب الخلاف، هل الصنعة تنقله من جنس الربويات، أو ليس تنقله؟ وإن لم تنقله فهل تمكن المماثلة فيه أو لا تمكن؟ فقال أبو حنيفة: تنقله، وقال مالك والشافعي: لا تنقله. واختلفوا في إمكان المماثلة فيهما، فكان مالك يجيز اعتبار المماثلة في الخبز، واللحم بالتقدير، والحزر فضلا عن الوزن ... " (¬2). والذي أميل إليه هو مذهب الحنابلة: أن بيع الخبز بالخبز يجوز بشرط النشاف، وأن المماثلة تكون فيه بالوزن لتعذر كيله، والله أعلم. ¬
المبحث السابع الربا في التمرة والتمرتين والحفنة والحفنتين
المبحث السابع الربا في التمرة والتمرتين والحفنة والحفنتين قال الباجي: "كل جنس حرم التفاضل في كثيره فإنه محرم في قليله" (¬1). وقال ابن عبد البر: "ما جرى فيه الربا في التفاضل دخل قليله وكثيره في ذلك" (¬2). [م - 1180] يتفق الحنفية مع الجمهور بأنه لا يجوز النساء في بيع التمرة بالتمرتين، والحفنة بالحفنتين لوجود علة الجنس (¬3). وأختلف الحنفية مع الجمهور في حكم التفاضل. فأجاز الحنفية التفاضل في بيع الْحَفْنَة من الطعام المكيل بالحفنتين، والتمرة بالتمرتين، والذَّرَّة من الذهب بالذّرَّتين، وما دون نصف الصاع بمنزلة الحفنة (¬4). ومنع من ذلك الجمهور، وهو اختيار محمد بن الحسن من الحنفية (¬5). ¬
دليل الحنفية
دليل الحنفية: (ح-742) ما رواه مسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلقت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد (¬1). فالحديث اشترط المساواة في بيع كل جنس بمثله، والمساواة إنما تكون بالمعيار (التقدير)، والمعيار: هو الوزن في الذهب والفضة. والكيل في الأصناف الأربعة، فما يتأتى فيه الكيل أو الوزن فيجب فيه المساواة، ويحرم التفاضل، وأما الذي لا يتأتى كيله لقلته فلا يجري فيه ربا التفاضل. وكذا الحكم في الذهب والفضة إذا لم يمكن وزنهما لقلتهما كالذَّرَّة منهما. ولأن التمر والبر مال مثلي يجب على متلفه المثل، وإذا أتلف إنسان تمرة أو تمرتين أو حفنة أو حفنتين وجبت عليه القيمة، ولم يجب عليه المثل؛ وهذا دليل على أن مثل ذلك لا يعتبر مكيلًا ولا موزونًا. قالوا: وما دون نصف الصاع في حكم الحفنة؛ فلو باع خمس حفنات من الحنطة بست حفنات منها، وهما لم يبلغا حد نصف الصاع جاز البيع؛ لأنه لا تقدير في الشرع بما دون نصف الصاع. هذا إذا باع ما دون نصف الصاع بما دون نصف الصاع، وإن باع ما دون نصف الصاع بنصف صاع أو أكثر لم يجز إلا مثلًا بمثل، لوجود المعيار من أحد الجانبين. ¬
وإنما جعل المعيار نصف صاع فأكثر؛ لأن الشارع لم يقدر بعض المقدرات الشرعية في الواجبات المالية كالكفارات، وصدقة الفطر بأقل من نصف الصاع. فلو قدر أن هناك مكاييل أصغر من نصف الصاع فإن المماثلة شرط على الصحيح، اختاره بعض الحنفية، كابن الهمام، والزيلعي. يقول ابن الهمام في فتح القدير: "أما إن كانت مكاييل أصغر منها كما في ديارنا من وضع ربع القدح، وثمن القدح المصري فلا شك، وكون الشرع لم يقدر بعض المقدرات الشرعية في الواجبات المالية كالكفارات وصدقة الفطر بأقل منه لا يستلزم إهدار التفاوت المتيقن، بل لا يحل بعد تيقن التفاضل مع تيقن تحريم إهداره، ولقد أعجب غاية العجب من كلامهم هذا. وروى المعلى عن محمد أنه كره التمرة بالتمرتين، وقال: كل شيء حرم في الكثير فالقليل منه حرام" (¬1). وسبق لنا مناقشة هل الكيل أو الوزن لهما أثر في علة الربا، أو أنهما وسيلة إلى منع التفاضل بين الأموال الربوية، فإذا لم يتأت معرفة التساوي عن طريق الكيل أمكن ذلك عن طريق الوزن، والكيل والوزن إنما هما لمنع التفاضل، وضبط التساوي، وليسا لهما أي أثر في علة الربا، كما قلنا: إن الذهب بالذهب المعيار الشرعي لمنع التفاضل هو الوزن، والعلة فيهما هي مطلق الثمنية. ¬
المبحث الثامن في بيع المكيل وزنا أو العكس
المبحث الثامن في بيع المكيل وزنًا أو العكس قال ابن تيمية: "ما لم يكن له حد في اللغة، ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس" (¬1). والمكاييل والموازين أقرها الإسلام على ما كانت عليه في الجاهلية اعتبارًا لعرفها. [م - 1181] اختلف العلماء فيما إذا بيع المكيل وزنًا، أو بيع الموزن كيلاً. القول الأول: أن ما نص على أنه مكيل فلا يجوز أن يباع وزنًا، وكذا ما نص على أنه موزون، فلا يجوز أن يباع كيلًا. وهذا مذهب الأئمة الأربعة (¬2). ¬
وحجة هذا القول
قال في الإفصاح: "اتفقوا على أن المنصوص عليها: وهي البر والشعير، والتمر، والملح مكيلة أبدًا. ولا يجوز بيع بعضها ببعض إلا كيلًا والموزونات المنصوص عليها موزونة أبدًا" (¬1). وحجة هذا القول: أن كل شيء نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تحريم التفاضل فيه كيلاً، فهو مكيل أبدًا، وإن ترك الناس الكيل فيه؛ لأن النص أقوى من العرف، والأقوى لا يترك للأدنى. القول الثاني: ذهب أبو يوسف من الحنفية أن المعتبر هو العرف مطلقًا، في المنصوص عليه وفي غيره؛ وأن ذلك يتبدل بتبدل العرف، كما في سائر الأموال الربوية الأخرى التي لم يرد نص خاص بشأن مقيسها (¬2). ويرى أن النص إنما ورد بلزوم التساوي فيها كيلًا أو وزنًا؛ لأن هذا مقياسها المتعارف عليه في عهد النبوة، فلو كان العرف فيها على مقياس آخر لورد النص معتبرًا فيها ذلك المقياس الآخر. ¬
وأرى أن هذا أقوى حجة من الأول، خاصة أن المكاييل والموازين أقرها الإسلام على ما كانت عليه في الجاهلية، اعتبارًا لعرفها, ولم يقدر فيها معيارًا خالف فيه العرف القائم حتى يقال: إن الشرع كان له قصد في تقدير هذا المعيار عن ذاك، والله أعلم. ولأنهم ربما تعاملوا بالعدد مع أن الفضة معيارها الشرعي هو الوزن (ح-743) لما رواه مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: الذهب بالذهب والفضة بالفضة وزنًا بوزن مثلًا بمثل فمن زاد أو استزاد فقد أربى. ولم يمنع من التعامل بها عددًا، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20]. وقالت عائشة لبريرة: إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة فعلت. تريد الدراهم. وكانت بريرة قد كاتبت أهلها على تسع أواق، في كل عام أوقية، وكانت قيمة الأوقية أربعين درهمًا، فذكرت عائشة العدد، وإن كان أصل الدين هو الوزن (¬1). (ح-744) وروى البخاري في صحيحه زكاة الفضة، وفيه: (وفي الرقة ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها) (¬2). إلا أن هذه الأدلة جرى التعامل بها بالعدد؛ لأنها إما في مبادلة فضة بسلعة، وهذا ليس فيه ما يوجب معرفة معيارها الشرعي، أو في معرفة مقدار الزكاة، وهو من هذا الباب أيضًا. ¬
القول الثالث
القول الثالث: أن ما أصله الوزن فلا يجوز بيعه كيلًا، وأما ما أصله الكيل فيجوز بيعه وزنًا. اختاره بعض الشافعية. قال السبكي: "وقد اتفق أكثر العلماء على هذه الجملة، وأن المساواة المعتبرة هي المساواة في المكيل كيلاً، وفي الموزون وزنًا ... فأما ما أصله الوزن فلا يجوز بيعه كيلًا بكيل، نقل الشيخ أبو حامد الإجماع فيه. وأما ما أصله الكيل، فنقل الفوراني من أصحابنا أنه يجوز بيعه وزنًا، حكاه عنه جماعة منهم: ابن يونس ... وقال الشيخ أبو حامد: يجوز أن يبيع المكيل كيلًا بكيل، ووزنًا بوزن، قال: لأن الاعتبار فيه بالتساوي، فإذا وجد بالوزن جاز، ولأنه لا خلاف أنه لو أسلم في مكيل بالوزن جاز. ولنا: أنه يؤدي إلى التفاضل في الكيل بأن يكون أحد التمرين، فيؤدي إلى بيع صاع بأكثر من صاع، ولأنه لا خلاف في الموزون لا يجوز بيع بعضه ببعض كيلاً، والمساواة المعتبرة هي المأمور بها، وهو الكيل في المكيل، والوزن في الموزون، وإنما جاز في السلم؛ لأن القصد فيه أن يصير مضبوط القدر، وليس كذلك هنا؛ لأنه تراعى المماثلة على ما أمرنا بها في الشرع" (¬1). [م - 1182] وأما ما لم ينص على معياره: فقيل: يحمل على عادات الناس وهذا مذهب أبي حنفية، ومحمد ابن الحسن (¬2) وهو مذهب المالكية (¬3). ¬
وجهه
وجهه: أن ما لم ينص عليه من قبل الشارع كان الرجوع فيه للعرف؛ لأن معرفة ما ليس له حد في اللغة، ولا في الشرع يرجع فيه إلى عرف الناس كالقبض والحرز ونحوهما. وقيل: المرجع في ذلك إلى العرف بالحجاز في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وحجتهم: (ح-745) ما رواه النسائي من طريقين عن أبي نعيم، عن سفيان، عن حنظلة، عن طاووس عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المكيال على مكيال أهل المدينة، والوزن على وزن أهل مكة. [صحيح] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأما ما لا عرف له في الحجاز، فإن كان مما لا يمكن كيله بحيث يتجافى في المكيال عند كيله، بحيث يرى ممتلئًا وبطنه غير ممتلئ فالمعتبر فيه بالوزن (¬1). وإن كان مما يمكن كيله: فقيل: يعتبر عرفه في موضعه، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، وقول في مذهب الشافعية (¬4)، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: يرد إلى أقرب الأشياء شبهًا به في الحجاز، وهو مذهب الشافعية (¬6)، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬7)، والله أعلم بالصواب. ¬
المبحث التاسع في بيع المال الربوي بجنسه مجازفة
المبحث التاسع في بيع المال الربوي بجنسه مجازفة قال ابن عبد البر: "كل ما لا يجوز فيه التفاضل لم يجز بيع بعضه ببعض جزافًا بكيل، ولا جزافًا بجزاف؛ لعدم المماثلة المأمور بها في ذلك، وما جهلت حقيقة المماثلة فيه لم يؤمن فيه التفاضل" (¬1). وقال أيضاً: "كل ما حرم فيه التفاضل لا يباع منه كيل بجزاف، ولا معلوم بمجهول، ولا مجهول بمجهول" (¬2). وقال في بدائع الصنائع: "كل ما جاز فيه المفاضلة جاز فيه المجازفة" (¬3). [م - 1183] لا يجوز بيع المال الربوي بجنسه مجازفة؛ لأن التفاضل في الجنس الواحد ممنوع، والمماثلة واجبة، ولا يمكن أن تتحقق المماثلة في البيع الجزاف، وما جهلت فيه حقيقة المماثلة لا يؤمن فيه الوقوع في التفاضل الممنوع. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن ذلك غير جائز إذا كانا من صنف واحد (¬4). ومستند الإجماع أدلة كثيرة، منها: (ح-746) ما رواه مسلم من طريق أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد ¬
الخدري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، من زاد أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء (¬1). فدل الحديث على أنه لا يباع الربوي بجنسه إلا بتحقق المماثلة بينهما، وإلا بالتقابض. ولا يمكن أن تتحقق المماثلة في البيع الجزاف؛ لأنه قائم على التخمين والتقدير، فيبقى احتمال الربا قائمًا. (ح-747) ومنها ما رواه البخاري ومسلم من طريق ابن جريج، عن عطاء سمع جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المخابرة، والمحاقلة، وعن المزابنة. وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها وأن لا تباع إلا بالدينار والدرهم إلا العرايا. ورواه مسلم (¬2). فنهى عن المخابرة: وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض. ونهى عن المزابنة: وهي بيع التمر بالرطب. ونهى عن المحاقلة: وهي بيع الحب في سنبله بحب صاف كيلًا. قال ابن كثير: "إنما حرمت هذه الأشياء -يعني: المخابرة، والمزابنة، والمحاقلة- وما شاكلها حسمًا لمادة الربا؛ لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة، ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا، والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم ... " (¬3). ¬
(ح-748) ومنها ما رواه البخاري من طريق الليث، عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة: أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلًا بتمر كيلًا، وإن كان كرمًا أن يبيعه بزبيب كيلاً، وإن كان زرعًا أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله. ورواه مسلم (¬1). وإنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأنه ينقص إذا جف، فيكون مجهول المقدار. والقاعدة في الربويات: أن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل. قال ابن جزي: "الجهل بالتماثل ممنوع كتحقيق التفاضل ... " (¬2). وجاء في تكملة المجموع للسبكي: "كل جنس اعتبر التماثل في بيع بعضه ببعض، فالجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل، بدليل النهي عن التمر بالتمر جزافًا" (¬3). وقال ابن قدامة: "الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل فيما يشترط التماثل فيه، ولذلك لم يجز بيع بعضها ببعض جزافًا" (¬4). وقال ابن تيمية: "فإن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في بيع الأموال الربوية بعضها بجنسه، فإن لم نعلم المماثلة كان كما لو علمنا المفاضلة" (¬5). (ح-749) ومنها ما رواه مسلم من طريق ابن جريج، أن أبا الزبير أخبره ¬
قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلتها بالكيل المسمى من التمر (¬1). قال النووي: "هذا تصريح بتحريم بيع التمر بالتمر حتى يعلم المماثلة، قال العلماء: لأن الجهل بالمماثلة في هذا الباب كحقيقة المفاضلة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إلا سواء بسواء، ولم يحصل تحقق المساواة مع الجهل، وحكم الحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، وسائر الربويات إذا بيع بعضها ببعض حكم التمر بالتمر" (¬2). ¬
المبحث العاشر بيع الربوي الرطب بيابس من جنسه
المبحث العاشر بيع الربوي الرطب بيابس من جنسه العبرة في التماثل في الأموال الربوية هو التماثل الحقيقي المتيقن لا التماثل الصوري، ولا المظنون. جاء في الموسوعة الكويتية: "لا يباع مكيل بمكيل من جنسه مع احتمال عدم المساواة بينهما بالكيل" (¬1). وقال الخطابي: "كل شيء من المطعوم مما له نداوة، ولجفافه نهاية فإنه لا يجوز رطبه بيابسه" (¬2). [م - 1184] اختلف العلماء في بيع الربوي الرطب بيابس من جنسه: فقيل: بالجواز، وهذا مذهب أبي حنيفة (¬3). وقيل: لا يجوز، وهذا مذهب المالكية (¬4)، والشافعية (¬5)، ¬
دليل من قال: بالجواز
والحنابلة (¬1)، واختاره أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬2)، وابن حزم (¬3). دليل من قال: بالجواز: الدليل الأول: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. وقوله عز شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. فظاهر النصوص يقتضي جواز كل بيع إلا ما خص بدليل، ولم يخص بالنهي إلا البيع في حالة التفاضل، فبقي البيع المتساوي على ظاهر العموم (¬4). ويجاب عن ذلك: بأن هذا النظر في مقابل النص، وقد ورد النص في النهي عن بيع الرطب بالتمر كما سيأتي ذكره، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن التماثل بين الرطب والتمر تماثل صوري، لما هو معلوم من أن الرطب ينقص إذا يبس، والمطلوب هو التماثل الحقيقي، وهو متعذر. الدليل الثاني: (ح-750) رواه مسلم من طريق أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد ¬
ويناقش
الخدري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، من زاد أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء (¬1). وروى مسلم مثله من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - (¬2). قال الكاساني: "وأما السنة المشهورة فحديث أبي سعيد الخدري، وعبادة ابن الصامت - رضي الله عنهما - حيث جوز رسول الله بيع الحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والتمر بالتمر مثلاً بمثل عامًا مطلقًا من غير تخصيص وتقييد، ولا شك أن اسم الحنطة والشعير يقع على كل جنس الحنطة والشعير على اختلاف أنواعهما وأوصافهما، وكذلك اسم التمر يقع على الرطب والبسر؛ لأنه اسم لتمر النخل لغة فيدخل فيه الرطب، واليابس، والمذنب، والبسر، والمنقع. وروي أن عامل خيبر أهدى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمرًا جنيبًا فقال عليه الصلاة والسلام: أو كل تمر خيبر هكذا؟ وكان أهدى إليه رطبًا، فقد أطلق عليه الصلاة والسلام اسم التمر على الرطب. وروى أنه نهى عليه الصلاة والسلام عن بيعه التمر حتى يزهو أي يحمر أو يصفر وروى حتى يحمار، أو يصفار. والاحمرار والاصفرار من أوصاف البسر فقد أطلق عليه الصلاة والسلام اسم التمر على البسر فيدخل تحت النص" (¬3). ويناقش: أولاً: لم يثبت أن عامل خيبر أهدى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رطبًا. ¬
قال الزيلعي: "قد كشفت طرق الحديث وألفاظه فلم أجد فيه ذكر الرطب" (¬1). ثانيًا: قوله: "وروى أنه نهى عليه الصلاة والسلام عن بيعه التمر حتى يزهو: أي يحمر أو يصفر ... والاحمرار والاصفرار من أوصاف البسر". فيقال: الحديث ليس فيه النهي عن بيع التمر، وإنما فيه النهي عن بيع الثمر (¬2)، والثمر: هو حمل الشجر، وهو أعم من الرطب، ولكن لا يطلق على التمر. ¬
(ح-751) ولذلك روى البخاري ومسلم من طريق ابن شهاب، عن سالم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه، ولا تبيعوا الثمر بالتمر (¬1). والمقصود بالنهي عن بيع الثمر بالتمر: النهي عن بيع الرطب بالتمر. قال النووي: "ومعناه الرطب بالتمر، وليس المراد كل الثمار بالثاء، فإن سائر الثمار يجوز بيعها بالتمر" (¬2). وجاء في اللسان "لا قطع في ثمر ... وهو الرطب في رأس النخلة، فإذا كبر فهو التمر" (¬3). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: واحتج بعض الحنفية بأنهم أجمعوا على جواز بيع الرطب بالرطب، مثلاً بمثل، مع أن رطوبة أحدهما ليست كرطوبة الآخر، بل تختلف اختلافاً متباينًا، فدل هذا على جواز بيع التمر بالرطب. ويناقش من وجوه: الوجه الأول: حكاية الإجماع فيها نظر، فإن الشافعية يمنعون من بيع الرطب بالرطب، وسيأتي إن شاء الله تعالى بحث هذه المسألة في عنوان مستقل. الوجه الثاني: أن هذا قياس في مقابل النص، فيكون فاسدًا. الوجه الثالث: أن الرطب بالرطب وإن تفاوت لكنه تفاوت يسير، فعفي عنه لقلته، بخلاف الرطب بالتمر فإن تفاوته تفاوت كثير (¬1). الدليل الرابع: قال الحنفية: الرطب لا يخلو إما أن يكون تمرًا، أو لا. فإن كان الرطب تمرًا جاز العقد عليه لقوله عليه السلام: (التمر بالتمر مثلًا بمثل) وإن لم يكن تمرًا جاز أيضًا لقوله عليه السلام: (إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم) (¬2). ¬
ويناقش
ويناقش: بما أجاب به بعض الحنفية، بأن الحنطة المقلية إن كانت حنطة فينبغي أن يجوز بيعها بغير المقلية كيلًا بكيل، لقوله عليه السلام: (الحنطة بالحنطة مثلا بمثل)، وإن لم تكن حنطة فينبغي أن تجوز لقوله عليه السلام: (إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم) وقد منع الحنفية بيع الحنطة المقلية بالنيئة. ويقال مثل ذلك في بيع الحنطة بدقيقها، حيث منع منه الحنفية، مع أن الدقيق إن كان حنطة فقد قال عليه السلام: (الحنطة بالحنطة مثلًا بمثل) وإن كان غير حنطة جاز للاختلاف، وبيع الرطب بالتمر مقيس عليه، ولهذا قال القاضي الإمام في الأسرار (أبو يوسف) وشمس الأئمة في المبسوط ما ذكر أبو حنيفة رحمه الله حسن في المناظرات لدفع الخصم، ولكن الحجة لا تتم به لجواز أن يكون الرطب قسمًا ثالثًا، لا يكون تمراً مطلقًا لفوات وصف اليبوسة عنه، ولا يكون غيره مطلقًا لبقاء أجزائه، عند صيرورته تمرًا كالحنطة المقلية ليست عين الحنطة على الإطلاق لفوات وصف الإثبات عنها بالمقلي، وليست غيرها أيضًا لوجود أجزاء الحنطة فيها، وكذا الحنطة مع الدقيق وإذا كان ذلك كذلك كان الاعتماد على ما ذكرنا أولاً (¬1). دليل القائلين بالمنع: الدليل الأول: (ح-752) ما رواه مالك في الموطأ عن عبد الله بن يزيد، أن زيداً أبا عياش أخبره أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسلت، فقال له سعد: أيتهما أفضل؟ قال البيضاء، فنهاه عن ذلك، وقال سعد: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل ¬
عن اشتراء التمر بالرطب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أينقص الرطب إذا يبس، فقال: نعم. فنهى عن ذلك (¬1). [حديث حسن] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وقد أجاب الحنفية على هذا الاستدلال من وجهين
وقد أجاب الحنفية على هذا الاستدلال من وجهين: الوجه الأول: أن الحديث مدراه على زيد أبي عياش، قال أبو حنيفة: لا يقبل حديثه. وقد ترجمت له عند تخريج الحديث, وبينت أن الدارقطني قال في: ثقة، وصحح حديثه الترمذي وابن خزيمه وابن حبان والحاكم، وأخرج حديثه مالك في الموطأ، وقال في ابن حجر: صدوق. الخ ما ذكرناه عنهم. الوجه الثاني: أن الحديث قد رواه أبو داود في السنن (¬1)، والشاشي في مسنده (¬2) , والطبراني في مسند الشاميين (¬3)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (¬4)، وفي مشكل الآثار (¬5)، والدارقطني في سننه (¬6)، والحاكم في المستدرك (¬7)، والبيهقي في السنن الكبرى (¬8)، وابن عبد البر في التمهيد (¬9)، والدولابي في الكنى ¬
وأجيب
والأسماء (¬1)، والمقدسي في الأحاديث المختارة (¬2)، كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير، أخبرنا عبد الله بن يزيد، أن أبا عياش أخبره أنه سمع سعد بن أبي وقاص يقول: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرطب بالتمر نسيئة. فصار الحديث في النهي عن بيع الرطب بالتمر نسيئة، وليس في النهي عن بيع الرطب بالتمر مطلقًا. وأجيب: بأن المحفوظ في الحديث عدم زيادة قوله نسيئة. قال الدارقطني: "خالفه مالك وإسماعيل بن أمية والضحاك بن عثمان وأسامة بن زيد رووه عن عبد الله بن يزيد ولم يقولوا فيه نسيئة، واجتماع هؤلاء الأربعة على خلاف ما رواه يحيى يدل على ضبطهم للحديث، وفيهم إمام حافظ وهو مالك بن أنس" (¬3). قلت: قد أخرجت جميع هذه الطرق فيما سبق. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لو كان النهي عن بيع الرطب بالتمر نسيئة لما كان لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أينقص الرطب إذا يبس)؟ فائدة، وذلك أن الاستفهام إنما سيق للتنبيه على علة المنع. قال الخطابي: "لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه التقرير والتنبيه على نكتة الحكم وعلته ليعتبروها في نظائرها وأخواتها، وذلك أنه لا يجوز أن يخفى عليه - صلى الله عليه وسلم - أن ¬
الدليل الثاني
الرطب إذا يبس نقص وزنه، فيكون سؤاله عنه سؤال تعرف واستفهام، وإنما هو على الوجه الذي ذكرته، وهذا كقول جرير: ألستم خير من ركب المطايا. . . وأندى العالمين بطون راح ولو كان هذا استفهامًا لم يكن فيه مدح، وإنما معناه أنتم خير من ركب المطايا. وهذا الحديث أصل في أبواب كثيرة من مسائل الربا، وذلك أن كل شيء من المطعوم مما له نداوة، ولجفافه نهاية فإنه لا يجوز رطبه بيابسه ... ولفظ الحديث عام، لم يستثن فيه نسيئة من نقد، والمعنى الذي نبه عليه في قوله: أينقص الرطب إذا يبس يمنع من تخصيصه، وذلك كأنه قال: إذا علمتم أنه ينقص في المتعقب فلا تبيعوه، وهذا المعنى قائم في النقد والنسيئة معًا ... " (¬1). الدليل الثاني: قال النووي: "قد اتفق العلماء على تحريم بيع الرطب بالتمر في غير العرايا، وأنه ربا" (¬2). وقال ابن نجيم: "أجمعوا على أن بيع الرطب بالتمر متفاضلًا لا يجوز" (¬3). والرطب بالتمر لا يمكن المماثلة بينهما، لانفراد الرطب بالنقصان إذا جف, فتقع المفاضلة المحرمة، ولذلك منع الحنفية بيع الحنطة المقلية بغير المقلية (النيئة)، وبيع الحنطة بدقيقها لعدم التماثل في الكيل، وإن حصل التماثل في الصورة، فكذا الرطب بالتمر لا يتماثلان في الكيل، وإنما التماثل المعتبر في حال اعتدال البدلين. ¬
وناقش الحنفية
وناقش الحنفية: بأن المعتبر التماثل في حال العقد حالة الرطوبة، ولا يلتفت إلى النقصان في المآل، وعروض النقص بعد ذلك لا يمنع من المساواة في الحال، إذا كان موجبه أمرًا خلقيًا، وهو زيادة الرطوبة، بخلاف المقلية بغيرها، والحنطة بدقيقها فإننا نحكم في الحال بعدم التساوي، لاكتناز أحدهما بالكيل بخلاف الآخر لتخلخل كثير (¬1). ويجاب: ربما أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أينقص الرطب إذا جف) ليس إشارة إلى عدم التماثل في المآل، وإنما تنبيه إلى وجود عدم تماثل في الحال، فإن التمر، وهو أحد العوضين قد نقص عندما جف بحيث لو كان رطبًا لكان أقل كمية من الحاصل، وقد عوض نقصه بزيادة في عينه، ليحصل التماثل في الصورة بينه وبين الرطب، فالتماثل القائم ليس حقيقيًا. والله أعلم. الدليل الثالث: (ح-753) روى البخاري ومسلم من طريق ابن شهاب، عن سالم عن ابن عمر - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه، ولا تبيعوا الثمر بالتمر (¬2). (ح-754) وروى البخاري، ومسلم من طريق يحيى بن سعيد، عن بشير ابن يسار عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمر بالتمر ورخص في العرية. . . (¬3). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قال ابن حجر: "استدل بأحاديث الباب، ومنها حديث ابن عمر وسهل ابن أبي حثمة على تحريم بيع الرطب باليابس منه، ولو تساويا في الكيل والوزن؛ لأن الاعتبار بالتساوي إنما يصح حالة الكمال، والرطب قد ينقص إذا جف عن اليابس نقصًا لا يتقدر" (¬1). وأجاب الحنفية على هذا الاستدلال: بأن المراد في الحديث: بيع المزابنة، وهو بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر، وليس المراد بيع الرطب بعد القطع بالتمر (¬2). (ح-755) لما رواه البخاري ومسلم من طريق مالك، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى بن أبي أحمد عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزابنة، والمزابنة: اشتراء الثمر بالتمر في رؤوس النخل (¬3). ولأنه لما جاز عندكم بيع العرايا، وهي تمر برطب على رؤوس النخل، لا يقدر على تماثلهما كيلًا إلا بالخرص، كان بيع التمر بالرطب المقدور تماثلهما بالكيل أجوز، وهو من الربا أبعد. ¬
وأجيب
وأجيب: بأن بيع الرطب بالتمر على رؤوس النخل من المزابنة، وهو محرم إلا ما استثني كالعرايا, ولا يصح حصر المزابنة في هذه الصورة، بل المزابنة تشمل بيع الرطب بالتمر مطلقًا، ومنه بيعه وهو على رؤوس النخل، وذكر فرد من أفراد العموم بحكم يوافق العموم لا يقتضي تخصيص العموم، كما ذكره أهل الأصول، وكما في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] فذكر الصلاة الوسطى لا يقتضي تخصيص الأمر بالمحافظة وقصره عليها. (ح-756) واستدل بعضهم لهذا بما رواه البخاري من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزابنة، والمزابنة: بيع الثمر بالتمر كيلًا، وبيع الزبيب بالكرم كيلًا (¬1). فلما نهى عن المزابنة، وفسرها: بأنها بيع الثمر بالتمر كيلًا, ولما كان كيل ما على رؤوس النخل غير ممكن، علم أن النهي في هذا الحديث وارد فيما الكيل فيه ممكن، وهو بعد أن يقطع الرطب، فصح أن المزابنة: هو بيع الرطب بالتمر مطلقًا، سواء كان على رؤوس النخل، أو كان بعد القطع (¬2). لكن قد يقال: إن المقصود في الحديث (بيع الثمر بالتمر كيلًا) أن كلمة (كيلًا) عائدة على الثمن، وليست عائدة على الرطب، أي بيع الثمر بكيل مسمى من التمر، ويدل عليه لفظ الليث عن نافع: (ح-757) فقد روى البخاري ومسلم من طريق الليث، عن نافع عن ¬
الراجح
ابن عمر - رضي الله عنهما -: قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة: أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلًا بتمر كيلاً، وإن كان كرمًا أن يبيعه بزبيب كيلًا، وإن كان زرعًا أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله (¬1). فقوله: (إن كان نخلًا بتمر كيلًا .. وإن كان زرعًا أن يبيعه بكيل طعام) واضح أن المقصود بالنخل: هو الرطب على رؤوس النخل، وليس بعد القطع، وهذا لا يتأتى كيله. وما يقال في يقال بالزرع. وأفضل جواب ما ذكرنا سابقًا أن المزابنة تشمل بيع الرطب بالتمر مطلقًا، ومنه بيعه وهو على رؤوس النخل، وذكر صورة من صور المزابنة لا تعني حصر التحريم فيها فقط. قال ابن حزم: لم ننازعهم -يعني الحنفية- في تحريم بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر في كيلًا، وأن هذا مزابنة، وليس في شيء من هذه الأخبار ولا غيرها أنه لا يحرم من بيع والثمر بالتمر إلا هذه الصفة فقط، ولا في شيء من هذا أن ما عدا هذا فحلال، لكن كل ما في هذه الأخبار فهو بعض ما في حديث ابن عمر, وبعض ما في حديث سهل بن أبي حثمة، ورافع، وأبي هريرة، وتلك الأخبار جمعت ما في هذه وزادت عليها، فلا يحل ترك ما فيها من زيادة الحكم من أجل أنها لم تذكر في هذه الأحاديث" (¬2). الراجح: أنه لا يجوز بيع الرطب بالتمر لعدم إمكانية التساوي بينهما، والله أعلم. ¬
المبحث الحادي عشر في بيع الرطب بالرطب
المبحث الحادي عشر في بيع الرطب بالرطب [م - 1185] اختلف العلماء في بيع الرطب بالرطب. فقيل: يجوز، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، ومالك (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: لا يجوز، وهذا مذهب الشافعية (¬4)، واختاره ابن الماجشون (¬5). وجه من قال بالجواز: أن المطلوب في مبادلة الربوي بجنسه هي المماثلة، وذلك يتحقق بأن يستوي المالان الربويان رطوبة أو نشافًا، ليتحقق المماثلة المطلوبة شرعًا, ولو كان بيع الرطب بالرطب لا يجوز لجاء المنع منه، كما جاء النهي عن بيع الثمر بالتمر. وجه من قال بالمنع: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما نهى عن بيع الرطب بالتمر بين العلة بقوله: أينقص الرطب إذا يبس كما في حديث سعد بن أبي وقاص، وقد سبق تخريجه، فنهى عنه نظرًا ¬
ويناقش
إلى عدم التماثل في المآل، فكذلك لا يجوز بيع الرطب بالرطب؛ لأنهما في المآل مجهولا المثل تمرًا. قال الشافعي في اختلاف الحديث: "لا يجوز رطب برطب؛ لأن نقصهما يختلف لا يدرى كم نقص هذا، ونقص هذا، فيصير مجهولًا بمجهول، وسواء كان الرطب بالرطب من الطعام من نفس خلقته، أو رطبًا بل بغير مبلول" (¬1). ويناقش: بأن الرطب بالرطب وإن تفاوت لكنه تفاوت يسير، فعفي عنه لقلته، بخلاف الرطب بالتمر فإن تفاوته تفاوت كثير (¬2). وقد يقال: إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أينقص الرطب إذا جف) ليس إشارة إلى عدم التماثل في المآل، وإنما تنبيه إلى وجود عدم تماثل في الحال، فإن التمر، وهو أحد العوضين قد نقص عندما جف بحيث لو كان رطبًا لكان أقل كمية من الحاصل، وقد عوض نقصه بزيادة في عينه، ليحصل التماثل في الصورة بينه وبين الرطب، فالتماثل القائم ليس حقيقيًا، بخلاف الرطب بالرطب فإن التماثل بينهما حقيقي. والله أعلم. وهذا هو الراجح. ¬
المبحث الثاني عشر بيع مصوغ الذهب بذهب خالص متفاضلا
المبحث الثاني عشر بيع مصوغ الذهب بذهب خالص متفاضلًا قال السرخسي: لا قيمة للجودة والصنعة في الأموال الربوية عند المقابلة بجنسها (¬1). وقال أبو يعلى: كل ما دخله الربا فإنه يجري في معموله كالذهب والفضة. وقال ابن قدامة: الجيد والرديء، والتبر والمضروب، والصحيح والمكسور سواء في جواز البيع مع التماثل، وتحريمه مع التفاضل (¬2). وقال البهوتي: الصنعة المحرمة لا قيمة لها شرعًا (¬3). [م - 1186] بيع الذهب بالذهب يشترط فيه شرطان: التماثل والتقابض، لا فرق في ذلك بين جيده ورديئه، ولكن المال الربوي تارة تدخله الصنعة، كالقمح حين يتحول إلى خبز، والذهب إلى حلي، فإذا دخلت المال الربوي الصنعة، فهل يخرج بذلك عن كونه مالًا ربويًا، ويصبح سلعة من السلع، ويخرج بذلك عن الثمنية، أو لا تأثير للصنعة فيه كما أنه لا تأثير للجودة فيه، لكون الذهب والفضة جوهران متعينان لثمنية الأشياء، لا تنفك الثمنية عنهما, وليست طارئة عليهما كالفلوس، ولهما رواج عند جميع الناس، فيجري الربا في الأواني والتبر والحلي وإن لم تكن قيمًا للأشياء؟. ¬
وأما الدليل على عدم اعتبار الجودة، فأحاديث كثيرة، منها
في ذلك خلاف بين أهل العلم، وقبل الجواب أنبه على بعض المسائل، فأقول: لا خلاف بين أهل العلم في أن جيد الذهب ورديئه سواء، فيشترط التماثل، ويحرم التفاضل، ولا اعتبار للجودة عند مقابلة الذهب بالذهب، سواء كان تبرًا، أو سبائك، أو مضروبًا، نقودًا صحيحة أو مكسرة (¬1). قال النووي: "قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق إلا سواء بسواء). قال العلماء: هذا يتناول جميع أنواع الذهب والورق من جيد ورديء، وصحيح ومكسور، وحلي وتبر، وغير ذلك، وسواء الخالص والمخلوط بغيره، وهذا كله مجمع عليه" (¬2). أما الدليل على وجوب التماثل فجملة من الأحاديث التي تحرم الفضل بين الأموال الربوية من جنس واحد، منها حديث أبي سعيد الخدري، وحديث عبادة وغيرها، وسبق ذكر أكثرها عند الكلام على ربا الفضل. وأما الدليل على عدم اعتبار الجودة، فأحاديث كثيرة، منها: (ح-758) ما رواه البخاري من طريق عقبة بن عبد الغافر أنه سمع أبا سعيد ¬
الخدري - رضي الله عنه - قال: جاء بلال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمر برني، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: من أين هذا؟ قال بلال: كان عندنا تمر ردي، فبعت منه صاعين بصاع، لنطعم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: أوَّه أوَّه، عين الربا، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتره. ورواه مسلم (¬1). فإذا كان رديء التمر وجيده لا يجوز إلا مثلًا بمثل، فكذلك سائر الأموال الربوية، فرديء البر وجيده ورديء الورق وجيدها ورديء الذهب وجيده لا يجوز إلا مثلًا بمثل. (ح-759) وروى أبو داود من طريق أبي الخليل (صالح بن أبي مريم) عن مسلم بن يسار المكي، عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها ... فمن زاد أو ازداد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرهما يدًا بيد، وأما نسيئة فلا ... الحديث. [الحديث رجاله ثقات، وهو في مسلم وليس فيه زيادة تبرها وعينها] (¬2). ¬
فدل حديث عبادة على وجوب التساوي عند اتحاد الجنس ذهبًا بذهب، أو فضة بفضة سواء كان تبرًا، وهو الذهب أو الفضة قبل ضربه، أو عينًا، وهو الذهب أو الفضة بعد أن يضرب. كما أن الذهب المصوغ إذا كان ثمنًا تقوَّم به الأشياء فإنه يجري فيه الربا، ويجب التماثل في مبادلته بجنسه؛ لأن الصياغة في الحالة هذه لم تخرجه عن علة الربا، وهي الثمنية. وكذلك إذا كانت الصياغة في الذهب محرمة، فإنه يحرم بيعه بجنسه وبغير جنسه (¬1). إذا علم ذلك، فما حكم بيع مصوغ الذهب بالذهب الخالص متفاضلًا؟ اختلف العلماء في ذلك. فقيل: لا يجوز، وهذا مذهب الأئمة الأربعة (¬2)، وممن قال به من العلماء ¬
المعاصرين: محمَّد الأمين بن المختار الشنقيطي (¬1)، والشيخ محمَّد بن إبراهيم (¬2)، والشيخ ابن باز (¬3)، وشيخنا ابن عثيمين (¬4)، وصدر به قرار من هيئة كبار العلماء بالبلاد السعودية (¬5)، وأفتت به اللجنة الدائمة (¬6)، وصدر به قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (¬7). وحكى الإجماع عليه طائفة من العلماء وسوف يأتي ذكرهم عند الكلام على الأدلة. وقيل: يجوز التفاضل في مبادلة المصوغ بجنسه، من غير اشتراط التماثل، ويجعل الزائد في مقابل الصنعة، ما لم تكن الحلي ثمنًا، أو تكون الصياغة غير مباحة. وهذا القول منسوب في الجملة لمعاوية - رضي الله عنه - (¬8)، واختاره من الحنابلة ¬
ابن تيمية وابن القيم (¬1)، ومن المعاصرين فضيلة الشيخ عبد الله ابن منيع (¬2). وخرج بعضهم القول بالجواز على مذهب الحنفية بناء على مذهبهم في جواز بيع الخبز بالخبز متفاضلًا؛ لأنهم عللوا ذلك بأن الخبز خرج بالصنعة من كوف مكيلًا، فلم يحرم التفاضل فيه (¬3). فليكن الحلي خرج بالصنعة من كونه ربويًا، ولا يصح هذا التخريج. ونسب إلى مالك رحمه الله أنه قال بجوازه للمضطر، وأنكره أصحابه (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ثمرة الخلاف: إذا قلنا باختيار ابن تيمية وابن القيم: جاز بيع حلي الذهب بالذهب متفاضلا ونسيئة، وجوازه بالفضة من باب أولى، وجاز بيع حلي الذهب بالأوراق النقدية حالا ونسيئة؛ لأن الحلي حينئد ستكون سلعة من السلع، لا تختلف عن الثياب وسائر العروض. يقول ابن تيمية في الاختيارات: "ويجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه من غير اشتراط التماثل، ويجعل الزائد في مقابلة الصنعة، سواء كان البيع حالا أو مؤجلا، ما لم يقصد كونها ثمنا". وإذا أخذنا بمذهب الجمهور: حرم بيع حلي الذهب بالذهب مع التفاضل، وحرم بيع حلي الذهب بالفضة مع النسيئة. وحرم بيع الحلي بالأوراق النقدية مع النسيئة. • دليل من قال: لا يجوز
ثمرة الخلاف: إذا قلنا باختيار ابن تيمية وابن القيم: جاز بيع حلي الذهب بالذهب متفاضلاً ونسيئة، وجوازه بالفضة من باب أولى، وجاز بيع حلي الذهب بالأوراق النقدية حالاً ونسيئة؛ لأن الحلي حينئد ستكون سلعة من السلع، لا تختلف عن الثياب وسائر العروض. يقول ابن تيمية في الاختيارات: "ويجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه من غير اشتراط التماثل، ويجعل الزائد في مقابلة الصنعة، سواء كان البيع حالاً أو مؤجلاً، ما لم يقصد كونها ثمنًا" (¬1). وإذا أخذنا بمذهب الجمهور: حرم بيع حلي الذهب بالذهب مع التفاضل، وحرم بيع حلي الذهب بالفضة مع النسيئة. وحرم بيع الحلي بالأوراق النقدية مع النسيئة. • دليل من قال: لا يجوز: الدليل الأول: الأدلة العامة التي تفيد وجوب التماثل في بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة وهي كثيرة، أذكر بعضها، وقد ذكرت كثيراً منها في مسألة حكم ربا الفضل، منها: ¬
(ح-760) ما رواه مسلم من طريق أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة ... مثلاً بمثل، يداً بيد، من زاد أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء (¬1). (ح- 761) ومنها أيضاً: ما رواه مسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة ... مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد (¬2). (ح-762) ومنها: ما رواه البخاري من طريق مالك، عن نافع عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفهوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز. ورواه مسلم (¬3). (ح-763) ومنها: ما رواه مسلم من طريق ابن أبي نعم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب ورناً بوزن، مثلاً بمثل، والفضة بالفضة وزناً بوزن، مثلاً بمثل، فإن زاد أو استزاد فهو ربا (¬4). (ح-764) ومنها: ما رواه البخاري من طريق عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: قال أبو بكرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء، والفضة بالفضة إلا سواء بسواء، وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم (¬5). ¬
وجه الاستدلال من هذه الأحاديث
(ح-765) ومنها: ما رواه مسلم من طريق مالك بن أبي عامر يحدث عن عثمان بن عفان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين (¬1). وجه الاستدلال من هذه الأحاديث: قوله: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة مثلاً بمثل ...) وفي بعضها وزناً بوزن. ف (أل) في الذهب للجنس، فتعم جميع أنواع الذهب، مثله مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} [العصر: 2] عام لجميع الناس ولذلك صح الاستثناء منه بقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 3]. وإذا كان ذلك كذلك فمن أراد إخراج فرد من أفراد الذهب فعليه الدليل من الشارع، فإن النص الشرعي إذا جاء عاماً، أو مطلقاً لا يخصصه ولا يقيده إلا نص شرعي مثله. الدليل الثاني: النصوص الخاصة والتي تعتبر نصاً في الموضوع. (ح-766) من ذلك، ما رواه مسلم من طريق علي بن رباح اللخمي يقول: سمعت فضالة بن عبيد الأنصاري يقول أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب، وهي من المغانم تباع، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب وزنا بوزن (¬2). [رواه حنش الصنعاني وعلي بن رباح اللخمي عن فضالة، والأول اختلف ¬
عليه، والثاني لم يختلف عليه في الحديث، فيقبل من رواية حنش ما وافق رواية علي، وما خالفها، فقد اختلف عليه فيها فيحكم بشذوذها] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن القلادة حلية، وقد اشتريت بذهب، ولو كانت القلادة سلعة من السلع لم يشترط الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينزع الذهب الذي في القلادة، وأن لا يباع إلا وزناً بوزن. جواب القائلين بجواز بيع الحلي بالذهب متفاضلاً: حاول القائلون بجواز بيع الحلية بالذهب متفاضلاً أن يخرجوا من حديث فضالة إما بضعف الحديث للاضطراب، وإما بالتأويل. وقد أجبت عن دعوى أن الحديث مضطرب بأن الاضطراب لم يرد إلا في رواية حنش الصنعاني، عن فضالة، ولم يرد الاضطراب مطلقاً في رواية علي ابن رباح اللخمي عن فضالة. وهي في مسلم، ومن الظلم أن يجنى على رواية علي ابن رباح اللخمي باضطراب غيره، بل المنهج العلمي يقتضي أن ترد رواية المضطرب فقط وتقبل رواية من جوَّد الحديث وأتقنه، وقد ناقشت دعوى الاضطراب بتوسع ولله الحمد، وجعلت هذا الكلام في مسألة (مد عجوة ودرهم) تخفيفًا وحرصًا حتى لا يطول الكلام في هذه المسألة، فانظره هناك. وأما من حاول أن يرد الحديث بالتأويل فقد وقع فيما حاول الخروج منه. فقد رأى ابن تيمية وابن القيم بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما منع من هذه المعاملة لأن الذهب الذي في القلادة أكثر من الذهب الذي دفع ثمناً لها، فصارت المبادلة ذهباً بذهب مع التفاضل. ¬
وإذا كان ذلك كذلك كان هذا نصاً منهما على أن الحلية التي في القلادة مال ربوي، ولو كانت القلادة سلعة من السلع لم ينظر إلى مقدار الثمن، سواء كان أقل أو أكثر؛ لأن المعيار بالوزن إنما يشترط في مبادلة الربوي بمثله، وأما غير الربوي فيكفي رؤيته لتنتفي جهالته، مثله مثل الحنطة إذا بيعت جزافاً بدراهم جاز، ولا يشترط أن يعلم مقدارها بالكيل، وإذا بيعت بالحنطة اشترط التماثل بالمعيار الشرعي الذي هو الكيل. قال ابن تيمية: "إذا لم يعلم مقدار الربوي بل يخرص خرصاً مثل القلادة التي بيعت يوم حنين، وفيها خرز معلق بذهب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تباع حتى تفصل، فان تلك القلادة لما فصلت كان ذهب الخرز أكثر من ذلك الذهب المفرد فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا بهذا حتى تفصل؛ لأن الذهب المفرد يجوز أن يكون أنقص من الذهب المقرون، فيكون قد باع ذهباً بذهب مثله، وزيادة خرز وهذا لا يجوز، وإذا علم المأخذ فإذا كان المقصود بيع دراهم بدراهم مثلها وكان المفرد أكثر من المخلوط كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة بحيث تكون الزيادة في مقابلة الخلط لم يكن في هذا من مفسدة الربا شيء إذ ليس المقصود بيع دراهم بدراهم أكثر منها, ولا هو بما يحتمل أن يكون فيه ذلك، فيجوز التفاوت" (¬1). وهذا القول من ابن تيمية رحمه الله يهدم دعوى أن القلادة سلعة، ويجعل الحلية التي في القلادة مالاً ربويا, ولذلك اشترط أن يكون الذهب المفرد أكثر من الذهب الذي في القلادة، حتى يكون الذهب بالذهب مثلاً بمثل، وما زاد في مقابلة الخرز، كمسألة مد عجوة ودرهم تماماً، ومسألة مد عجوة ودرهم لم يقل ¬
وجه الاستدلال
أحد ممن أجازها أو ممن منعها: إنها ليست مالاً ربوياً. فصار قولهما حجة عليهما. ألا ترى إلى قول ابن تيمية "إذا لم يعلم مقدار الربوي بل يخرص خرصًا مثل القلادة التي بيعت يوم حنين ... الخ كلامه، فهذا نص منه على أن الحلية التي مع الخرز هي مال ربوي. ولم يستطع أحد ممن قرأت له في هذه المسألة ممن صحح حديث فضالة أن يخرج من هذا الحديث بجواب مقنع. ومن الأحاديث التي احتج بها الجمهور، والتي تعتبر نصا في الموضوع. (ح-767) ما رواه مسلم من طريق أيوب، عن أبي قلابة قال: كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث قال: قالوا: أبو الأشعث، أبو الأشعث، فجلس فقلت له: حدث أخانا حديث عبادة ابن الصامت، قال: نعم، غزونا غزاة، وعلى الناس معاوية، فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من فضة، فأمر معاوية رجلاً أن يبيعها في أعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك فبلغ عبادة بن الصامت فقام، فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا سواء بسواء، عيناً بعين، فإن زاد أو ازداد فقد أربى. فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا، فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه، فقام عبادة بن الصامت، فأعاد القصة ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية -أو قال: وإن رغم- ما أبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء. وجه الاستدلال: احتج عبادة في المنع من بيع الآنية من الفضة بالفضة متماثلاً من نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل. ولم ير رضى الله عنه إلى أن الآنية من
الفضة قد خرجت بالصنعة من كونها مالاً ربوياً، وفهم الصحابي أولى من فهم غيره، كيف وقد وافقه غيره من الصحابة كما سيأتي عن ابن عمر رضى الله عنهما، وأبي الدرداء. وأما رأي معاوية فهو لم يحتج لقوله إلا أنه لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً في النهي، كما قال: (ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده، ونصحبه فلم نسمعها منه)، وكونه لم يسمع ليس حجة على من حفظ وسمع، وعمر وأبو بكر قد تغيب عنهم سنة، ويحفظها غيرهم ممن هو دونهم فكيف بمعاوية رضي الله عن الجميع، فكيف إذا كان معاوية إنما قال ذلك برأيه واجتهاده، وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء كما سيأتي احتجا عليه بالسنة المرفوعة، ولذلك أغلظا له في الإنكار، وليس رأي معاوية صريحاً في أنه يرى أن الفضة تخرج بالصنعة من كونها مالًا ربوياً. فقد يكون رأي معاوية من رأي ابن عباس في أن الربا لا يجري إلا في النسيئة، ولذلك أجاز بيع الآنية من الفضة بأكثر من وزنها يداً بيد. ويحتاج من يريد أن يجعل رأي معاوية في الحلية إلى كلام صريح من معاوية رضى الله عنه في المسألة، فالقصة ليست صريحة في الباب. (ح-768) يؤيد ذلك ما رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار، حدثنا يحيى ابن حمزة، حدثني برد بن سنان، عن إسحاق بن قبيصة، عن أبيه، عن عبادة ابن الصامت بنحوه وفيه قال معاوية: يا أبا الوليد ما أرى الربا في هذا إلا ما كان من نظرة (¬1). ¬
وأجيب عن هذا الحديث
[منقطع قبيصة لم يلق عبادة] (¬1). وأجيب عن هذا الحديث: حمل ابن تيمية وابن القيم بأن إنكار عبادة على معاوية إنما هو لبيعه الآنية من الفضة، فهي صياغة محرمة، والصياغة المحرمة يحرم بيعها بجنسها أو بغير جنسها (¬2). ويرد على هذا الاعتراض: بأن عبادة لم يحتج على معاوية بأحاديث النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وإنما احتج عليه بالنهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلاً، فهو يقول في معرض إنكاره على معاوية كما في صحيح مسلم: ¬
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة ... إلا سواء بسواء، عيناً بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى. فالكلام كله في إنكار بيع الفضة بجنسها متفاضلاً، وليس في بيع آنية محرمة، يُنْهَى عن بيعها مطلقاً كيفما بيعت، وبصرف النظر عن الثمن الذي بيعت به، وقد كان بعض الصحابة ربما اتخذ آنية الذهب والفضة، ولم يأكل بها، والنص إنما ورد في النهي عن الأكل في آنية الذهب والفضة، فقد جاء في الصحيحين أن الصحابي حذيفة رضى الله عنه اقتنى آنية من فضة مع كونه يرى تحريم الشرب فيها. (ح-769) فقد روى البخاري ومسلم من طريق سيف بن أبي سليمان، قال: سمعت مجاهداً يقول: حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى أنهم كانوا عند حذيفة، فاستسقى، فسقاه مجوسي، فلما وضع القدح في يده رماه به، وقال: لولا أني نهيته غير مرة، ولا مرتين، كأنه يقول: لم أفعل هذا, ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ... لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة (¬1). ففي هذا الحديث دليل على اقتناء حذيفة لإناء الفضة (¬2). ومن الأحاديث التي احتج بها الجمهور، والتي تعتبر نصاً في الموضوع، (ح-770) ما رواه مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلاً بمثل، فقال له معاوية: ما أرى ¬
بمثل هذا بأساً. فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية، أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أنت بها. ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب، فذكر ذلك له، فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أن لا تبع ذلك إلا مثلاً بمثل، وزناً بوزن (¬1). [منقطع عطاء بن يسار يروي القصة، وهي قد حدثت زمن عمر ولم يدرك في ذلك الوقت] (¬2). ¬
ومن الأحاديث التي احتج بها الجمهور، والتي تعتبر نصاً في الموضوع (ح- 771) ما رواه مالك في الموطأ، عن حميد بن قيس المكي عن مجاهد، أنه قال: كنت مع عبد الله بن عمر، فجاءه صانع، فقال له: يا أبا عبد الرحمن إني أصوغ الذهب، ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل من ذلك قدر عمل يدي، فنهاه عبد الله عن ذلك، فجعل الصائغ يردد عليه المسألة، وعبد الله ينهاه، حتى انتهى إلى باب المسجد أو إلى دابة يريد أن يركبها، ثم قال عبد الله: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا إلينا، وعهدنا إليكم (¬1). [سنده صحيح] (¬2). ¬
(ح-772) ومنها ما رواه أبو داود من طريق أبي الخليل (صالح بن أبي مريم) عن مسلم بن يسار المكي، عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها ... فمن زاد أو ازداد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرهما يدًا بيد، وأما نسيئة فلا ... الحديث. [الحديث رجاله ثقات، وهو في مسلم وليس فيه زيادة تبرها وعينها] (¬1). فالعين من الذهب: ذهب مسكوك (دراهم ودنانير)، والسكة نوع من الصنعة، وهي عمل آدمي، ولو أعطيت ذهبك وفضتك لرجل يضربها دراهم ودنانير لم ¬
الدليل الثالث: من الإجماع. فقد ساق الإجماع طائفة من العلماء
يضربها إلا بالأجرة، فإذا كانت الدراهم والدنانير لا تقوَّم فيها الصنعة بالإجماع، وهي من عمل الإنسان وكسبه، فالحلي مثلها. والله أعلم. ومن الآثار التي احتج بها الجمهور، وتعتبر نصاً في الموضوع: (ث-133) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا نصر ابن عائذ الجهضمي (¬1)، عن قيس بن رباح الحداني عن مليكة بنت هانئ (¬2)، قالت: دخلت على عائشة، وعلي سواران من فضة، فقلت: يا أم المومنين، أبيعها بدراهم؟ فقالت: الفضة بالفضة وزناً بوزن، مثلاً بمثل (¬3). [ضعيف] (¬4). الدليل الثالث: من الإجماع. فقد ساق الإجماع طائفة من العلماء: قال القاضي عياض: "قوله: (لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق ¬
بالورق ...) الحديث عام في جميع أجناسها من مشكول، ومصنوع، وتبر، وجيد، ورديء، ولا خلاف في هذا" (¬1). قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق إلا سواء بسواء). قال العلماء: هذا يتناول جميع أنواع الذهب والورق من جيد ورديء، وصحيح ومكسور، وحلي وتبر، وغير ذلك، وسواء الخالص والمخلوط بغيره، وهذا كله مجمع عليه" (¬2). قال ابن عبد البر: "والسنة المجتمع عليها أنه لا يباع شيء من الذهب عيناً كان أو تبراً، أو مصوغاً، أو نقراً، أو جيداً، أو رديئاً بشيء من الذهب إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، وكذلك الفضة: عينها، ومصوغها، وتبرها، والسوداء منها والبيضاء، والجيدة والرديئة سواء، لا يباع بعضها ببعض إلا مثلاً بمثل يداً بيد، من زاد أو نقص في شيء من ذلك كله، أو أدخله نظرة فقد أكل الربا" (¬3). وقال ابن عبد البر: "أجمع العلماء على أن الذهب تبره وعينه سواء لا يجوز التفاضل في شيء منه، وكذلك الفضة بالفضة تبرها وعينها، ومصنوع ذلك كله ومضروبه لا يحل التفاضل في شيء منه، وعلى ذلك مضى السلف من العلماء والخلف إلا شيئاً يسيراً يروى عن معاوية من وجوه، أنه كان لا يرى الربا في بيع العين بالتبر، ولا بالمصنوع وكان يجيز في ذلك التفاضل، ويذهب إلى أن الربا ¬
الدليل الرابع
لا يكون في التفاضل إلا في التبر بالتبر، وفي المصنوع بالمصنوع، وفي العين بالعين" (¬1). وقال ابن هبيرة: "أجمع المسلمون على أنه لا يجوز بيع الذهب بالذهب منفرداً، والورق بالورق منفرداً، تبرها، ومضروبها، وحليها، إلا مثلاً بمثل، وزناً بوزن، يداً بيد، وأنه لا يباع شيء منها غائب بناجز" (¬2). كما حكى الإجماع ابن حجر في الفتح (¬3). ولا تسلم دعوى الإجماع مع خلاف معاوية رضي الله عنه، وخلاف ابن تيمية وابن القيم، ومن أخذ بقولهم إلا أن يستفاد من حكاية الإجماع أن القول بالتحريم هو قول العامة مؤيدًا بنصوص عامة وخاصة. الدليل الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من التفاضل مع اختلاف الصفة كما في مبادلة الجيد بالرديء، فالصنعة صفة أيضاً إلا أنها من صنع الآدمي. (ح-773) فقد روى البخاري من طريق عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر، فجاءهم بتمر جنيب، فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: إنا لنأخذ الصالح من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً، وقال في الميزان مثل ذلك (¬4). ¬
جواب ابن تيمية وابن القيم
جواب ابن تيمية وابن القيم: أجاب ابن تيمية وابن القيم في التفريق بين الجودة والصنعة أن الجودة من خلق الله تعالى، فأمر ببذلها بدون مقابل، وأما الصنعة فهي من فعل الآدمي، فيعتبر من الظلم أن يقال: بعها واخسر الأجرة (¬1). وهذا التفريق غير دقيق لثلاثة أوجه: أحدهما: أن الجودة والصنعة كلها ملك لآدمي معصوم، وهي بالإتلاف متقومة، ولم تلغ بحجة أنها من خلق الله، فأموالنا كلها من خلق الله، ونحن مستخلفون فيها، فإذا أهدرت الجودة في الربويات مع كونها مالاً متقوماً مقصوداً، أهدرت الأخرى؛ لأن المعيار هو التماثل في المعيار الشرعي، وهو الكيل. ثم إن هذا قد ينتقض إذا ملكت الجودة والصنعة عن طريق المعاوضة بالأوراق النقدية، فكيف يقال للأول: لا مقابل لما اشتريت إذا بعته بجنسه وإن كنت قد دفعت مالاً كثيراً قيمة للجودة، ويقال للثاني: لا نضيع عليك الصنعة إذا بعته بجنسه، وكلاهما قد دفع عوضاً مالياً سواء للجودة أو للصنعة. الثاني: أن مبادلة الدراهم والدنانير بالسبائك من مثلها لا يجوز فيه التفاضل مع أن ضرب الدراهم أو الدنانير صنعة، وهو من عمل آدمي، ولا يعمل إلا بأجرة، ومع ذلك ألغي حين تبادل الذهب بمثله، فكذلك الحلي. الثالث: أن الجودة وإن كانت من صنع الله إلا أنها تتفاوت تفاوتاً كبيراً بحسب جهد الآدمي وتعاهده لما زرع، وقيامه على مصالحه بقطع ما يضره، وتزويده ما ينفعه من سماد ونحوه، فالمزارع يصرف الأموال الطائلة في إصلاح الثمار تخلية وتحلية، فالآدمي له كسب مؤثر في جودتها، وهذا لا يعرفه إلا من ¬
دليل من قال: يجوز بيع الحلي بالذهب متفاضلا
اشتغل بالزراعة، بل ربما ما يصرفه المزارع من جهد ومال يفوق بكثير ما يصرفه الصائغ على ذهبه وفضته، فالمزارع يذهب عليه فصل كامل من السنة أو أكثر، وهو يشتغل على ثماره من قبل ظهورها إلى أوان جذاذها، فإذا قيل للمزارع بالإجماع: بيع الثمار بمثلها، واخسر جهدك ومالك، فيجب أن يقال له: إذا بعت الحلي من الذهب بالذهب، فاخسر جهدك. وإذا أراد المزارع أن يأخذ قيمة الجودة، فلا يقبل مبادلة الجيد بتمر رديء، بل يبيع صاحب التمر الرديء تمره بالدراهم ويشتري بقيمته تمراً جيداً، وإذا أراد الصائغ أن يأخذ قيمة الصنعة، فلا يبيع الحلي من الذهب بالذهب، بل يبيع الحلي من الذهب بالدراهم، والحلي من الفضة بالدنانير، أو يبيعهما بالأوراق النقدية. هذا هو سبيل الفكاك من الوقوع في الربا، وهو مطلب يسير غير متعذر. هذه تقريباً أهم الأدلة التي استدل بها الجمهور في تحريم ببيع الحلي بالذهب متناضلاً. دليل من قال: يجوز بيع الحلي بالذهب متفاضلاً: الدليل الأول: أن علة الربا في الذهب والفضة هي الثمنية، فإذا كانا حلياً فقد أصبحا مجرد سلعة كسائر السلع، لا من جنس الأثمان، ولهذا لا تجب فيهما الزكاة، ولا يحرم بيعهما بالدنانير والدراهم التفاضل. ويناقش من وجوه: الوجه الأول: أن جريان الربا في الذهب والفضة ثابت بالنص، وكون العلة فيهما هي الثمنية أمر مستنبط مختلف فيه، وقد نص العلماء على أن العلة المستنبطة لا يمكن أن
الوجه الثاني
تعود على الحكم بالإبطال؛ لأن النص دلالته قطعية وهي دلالتها ظنية، والله أعلم. الوجه الثاني: أن الربا يجري في سبائك الذهب والفضة مع أنهما في حال كونهما سبائك لا تعتبر من الأثمان (¬1). وهذا دليل على أن الثمنية موغلة في الذهب والفضة لا تنفك عنهما وليست طارئة عليهما، سواء كانت تبراً، أو عيناً، أو مصوغاً. الوجه الثالث: القول بأن الحلي لم تدخل في نصوص الربا؛ لأنها من جنس السلع، وليست من جنس الأثمان، ولهذا لم يجب فيها الزكاة. فيقال في الجواب: أولاً: ليس هناك علاقة بين الزكاة وبين الربا، فالثمنية التي هي العلة في الذهب والفضة، ليست هي العلة في غيرها من الأموال الربوية، وليست هي العلة في وجوب الزكاة في الأموال الزكوية، فلا تلازم بين الزكاة وبين الربا، حتى يمكن أن يقال: ما لم تجب فيه الزكاة لم يجر فيه الربا. وما جرى فيه الربا وجبت فيه الزكاة، فالبيوع باب، والصدقة باب آخر. وعدم وجوب الزكاة في الحلي ليس راجعاً لكونها بالصناعة خرجت عن جنس الأثمان، بل لأن من شروط الزكاة أن يكون ملك النصاب خالياً من الحوائج الأصلية، والحلية تعتبر من الحاجات الأصلية للنساء (¬2). ¬
يقول أبو عبيد القاسم بن سلام: "اختلف في هذا الباب صدر هذه الأمة وتابعوها ومن بعدهم -يعني في وجوب الزكاة في الحلي- فلما جاء هذا الاختلاف أمكن النظر فيه والتدبر لما تدل عليه السنة، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد سن في الذهب والفضة سنتين: إحداهما في البيوع، والأخرى في الصدقة. فسنته في البيوع قوله: الفضة بالفضة مثلاً بمثل، فكان لفظه بالفضة مستوعباً لكل ما كان من جنسها مصوغاً وغير مصوغ، فاستوت في المبايعة ورقها، وحليها، ونقرها. وكذلك قوله الذهب بالذهب مثلاً بمثل فاستوت فيه دنانيره وحليه وتبره. وأما سنته في الصدقة فقوله إذا بلغت الرقة خمس أواقي ففيها ربع العشر فخص رسول الله بالصدقة الرقة من بين الفضة وأعرض عن ذكر سواها، فلم يقل: إذا بلغت الفضة كذا ففيها كذا, ولكنه اشترط الرقة من بينها, ولا نعلم هذا الاسم في الكلام المعقول عند العرب يقع إلا على الورق المنقوشة ذات السكة السائرة في الناس، وكذلك الأواقي ليس معناها إلا الدراهم، كل أوقية أربعون درهماً، ثم أجمع المسلمون على الدنانير المضروبة أن الزكاة واجبة عليه كالدراهم وقد ذكر الدنانير أيضاً في بعض الحديث المرفوع يحدثونه عن ابن أبي ليلى عن عبد الكريم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب، ولا في أقل من مائتي درهم صدقة، فلم يختلف المسلمون فيهما، واختلفوا في الحلي، وذلك أنه يستمتع به ويكون جمالاً وأن العين والورق لا يصلحان لشيء من الأشياء إلا أن يكونا ثمناً لها, ولا ينتفع منهما بأكثر من الإنفاق لهما، فبهذا بأن حكمهما من حكم الحلي الذي يكون زينة ومتاعاً فصار هاهنا كسائر الأثاث والأمتعة، فلهذا أسقط الزكاة
الدليل الثاني
عنه من أسقطها, ولهذا المعنى قال أهل العراق: لا صدقة في الإبل والبقر العوامل؛ لأنها شبهت بالمماليك والأمتعة، ثم أوجبوا الصدقة في الحلي. وأوجب أهل الحجاز الصدقة في الإبل والبقر العوامل، وأسقطوها من الحلي، وكلا الفريقين قد كان يلزمه في مذهبه أن يجعلها واحداً: إما إسقاط الصدقة عنهما جميعاً، وإما إيجابها بهما جميعاً، وكذلك هما عندنا سبيلهما واحد لا تجب الصدقة عليهما لما قصصنا من أمرهما" (¬1). الدليل الثاني: أن العاقل لا يمكن أن يبيع الصياغة بوزنها فإن هذا سفه وإضاعة للصنعة، والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك فالشريعة لا تأتي به ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إليه فلم يبق إلا أن يقال: لا يجوز بيعها بجنسها البتة بل يبيعها بجنس آخر، وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تتقيه الشريعة، فإن أكثر الناس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك والبائع لا يسمح ببيعه ببر وشعير وثياب، وتكليف الاستصناع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر، والحيل باطلة في الشرع، فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع، فلو لم يجز بيعه بالدراهم فسدت مصالح الناس". ويناقش: الفرق بين جيد التمر ورديئه في القيمة بون شاسع في عصرنا، فتجد السطل من التمر الردئ بعشرة ريالات، بينما تجده من التمر السكري الجيد بمائتي ريال. وهو هكذا في عصر النبوة حيث قال: نأخذ الصاع بالصاعين، فمعنى ¬
ذلك أن الزيادة بلغت مائة بالمائة، ولم يكن ذلك مسوغاً لأخذ الزيادة، ولم يقل أحد: إن ذلك سفه، والشريعة لا تأتي به، ولم يقل أحد: لماذا نأمره أن يبيع التمر الرديء، وهو لا يريد الدراهم، أليس في ذلك حرج ومشقة عليه، وهو سوف يشتري بقيمته من التمر الجيد، فهذا هو أمر الشارع، حيث أراد بحكمته عند اشتراط التماثل إلى تضييق المقاصة في بيع الربوي بجنسه. ونحن لا نقول: لزاماً عليك أن تبيعها بمثلها من الذهب وأن تخسر جهدك، بل نقول له: لك أن تبيع الحلية من الذهب بالدراهم، والحلية من الفضة بالدنانير، فهل في إيجاب ذلك حرج ومشقة وعسر لا يمكن أن تأتي به الشريعة، أليس هذا من باب التهويل والمبالغة. وقد يقبل كلام ابن القيم في عصره عندما كان تعامل الناس في النقدين (الدراهم والدنانير) أما اليوم فإن تعامل عامة الناس بالأوراق النقدية، وهي أثمان الناس اليوم، وليس هناك أثمان غيرها، فلك أن تشتري بها ما شئت من حلي الذهب والفضة، فمن كان معه قلادة استغنى عنها، وأراد أن يبيعها فلا يبعها بقلادة أخرى مع التفاضل، بل يبيع القلادة بالريالات، ولا يشترط في ذلك إلا التقابض، ويشتري بالريالات القلادة التي يريد، وليس في ذلك سفه، ولا عنت، وعمل عامة الناس عليه في بلادنا. وقول ابن تيمية وابن القيم: إن العاقل لا يمكن أن يبيع الصياغة بوزنها فإن هذا سفه وإضاعة للصنعة، ممكن أن يقال لهم أيضاً لو فتح باب الاعتراض العقلي أن يقال: إن العاقل لا يمكن أن يبيع الذهب، ولو لم يكن حلياً بمثله وزناً بوزن؛ لأن البائع حين يبيع يبحث عن مقدار من الربح، ولو كان يسيراً، فأي ربح في بيع الذهب بمثله بلا فضل، بل يمكن أن يقال أشد من هذا: هل
الدليل الثالث
يمكن لعاقل أن يبيع التمر الجيد بتمر رديء إلا إذا خرج الموضوع من باب المعاوضات إلى باب الهبات. الدليل الثالث: أن ربا الفضل يباح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا حيث جوز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه بجنسه متفاضلاً؟ ويناقش من وجوه: الوجه الأول: أن الناس في عصر الصحابة أحوج إلى بيع الرطب بالتمر منهم إلى بيع الحلي بالذهب، وذلك أن مجتمع الصحابة في عصر النبوة كان أغلبهم من الفقراء، وكان طعامهم الأسودين التمر والماء، بخلاف الحلي والذي لا يستعمله إلا بعض النساء الميسورات، فكيف يقال: أين بيع الرطب بالتمر من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه. (ح-774) فقد روى الشيخان من طريق عروة عن عائشة رضى الله عنهما، أنها قالت لعروة: ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقلت: يا خالة ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء .. الحديث (¬1). (ح-775) وروى أحمد من طريق داود بن فراهيج، قال: سمعت أبا هريرة قال: ما كان لنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام إلا الأسودان، التمر والماء. ¬
الوجه الثاني
[وإسناده حسن] (¬1). فالرخصة في العرايا وردت في قوت الناس وطعامهم، وهي عامة لجميع الناس، ينتفع منها كافتهم، بخلاف الحلي، فهو ليس من حاجات الناس الضرورية، ولا ينتفع منها إلا خاصتهم. الوجه الثاني: لا يسوغ شرعاً أن نحتج بالقياس على جواز بيع الحلي بجنسه مع التفاضل وقد ورد النص الخاص في المنع من ذلك، فهذا ابن عمر يقول بالحديث الصحيح للصائغ (هذا عهد نبينا إلينا، وعهدنا إليكم). وحديث فضالة في القلادة نص في الموضوع، وحديث عبادة وإنكاره على معاوية، وهو في صحيح مسلم حيث احتج على معاوية بالعموم من النهي عن بيع الذهب بالذهب مع التفاضل، ولم يخالف أحد من الصحابة إلا ما ورد عن معاوية، وهو ليس صريحاً في الباب. الوجه الثالث: أن العرايا قد نص على أنه لا يقاس عليها، وأنه لم يرخص في غيرها، فتعميم الرخصة مخالف للنص الشرعي. (ح-776) فقد روى البخاري ومسلم من طريق سالم بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر عن زيد بن ثابت رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بعد ذلك -أي بعد نهيه عن بيع الرطب بالتمر- في بيع العرية بالرطب أو بالتمر، ولم يرخص في غيره (¬2). ¬
الوجه الرابع
فقوله (ولم يرخص في غيره) دليل على قصر الرخصة على العرايا خاصة، ومما يدل على قصر الرخصة في العرايا نهيه صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمزابنة. الوجه الرابع: أنه لو لم ينص على أن العرايا لم يرخص في غيرها، فإنه لا ينبغي القياس عليها؛ لأن العرية رخصة، والرخص يأتي استثناؤها بدليل خاص بما يخالف الأصل والحكم العام، فالأصل أن الشارع نهى عن بيع الرطب بالتمر، خالفنا ذلك في العرايا بدليل خاص، وبقي ما عداها على المنع. (ح-777) فقد روى البخاري، ومسلم من طريق يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر ورخص في العرية ... (¬1). فإذا جعلنا العرية أصلاً يقاس عليه لم تكن العرية رخصة. وقد ذهب عامة الحنفية، وهو مذهب المالكية، ونص الشافعي في الرسالة إلى أن الرخص لا يقاس عليها. قال الشافعي في الرسالة: "فما الخبر الذي لا يقاس عليه؟ قلت: ما كان لله فيه حكم منصوص، ثم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بتخفيف في بعض الفرض دون بعض، عمل بالرخصة فيما رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ¬
الوجه الخامس
ما سواها, ولم يقس ما سواها عليها، وهكذا ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حكم عام بشيء، ثم سن فيه سنة تفارق حكم العام" (¬1). وقال أيضاً: "فما مثل هذا في السنة؟ قلت: نهى رسول الله عن بيع التمر بالتمر إلا مثلاً بمثل، وسئل عن الرطب بالتمر، فقال: أينقص الرطب إذا يبس؟ فقيل: نعم فنهى عنه، ونهى عن المزابنة وهي كل ما عرف كيله مما فيه الربا من الجنس الواحد بجزاف لا يعرف كيله منه، وهذا كله مجتمع المعاني ورخص أن تباع العرايا بخرصها تمرا يأكلها أهلها رطباً، فرخصنا بالعرايا بإرخاصه ... فأثبتنا التحريم محرماً عاماً في كل شيء من صنف واحد مأكول، بعضه جزاف، وبعضه بكيل للمزابنة، وأحللنا العرايا خاصة بإحلاله من الجملة التي حرم، ولم نبطل أحد الخبرين يالآخر، ولم نجعله قياساً عليه" (¬2). الوجه الخامس: أن الشارع لم يأذن بالفاضل المتيقن في العرايا، وإنما سوغ الشارع المساواة بالخرص من أهل الخبرة بالخرص في مقدار قليل تدعو إليه الحاجة، وهو قدر النصاب خمسة أوسق فما دون، والخرص معيار شرعي للتقدير في أمور كثيرة منها الزكاة، بينما أنتم في بيع الحلي بجنسة متفاضلاً قد أذنتم بيقين التفاضل مطلقاً لجميع الناس، وفي القليل والكثير، ومع الحاجة وبدونها، فاختلف حكم المقيس عن حكم المقيس عليه، فلم يصح القياس. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: أن الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتخذون الحلية وكان النساء يلبسنها، وكن يتصدقن بها في الأعياد وغيرها، والمعلوم بالضرورة أنه كان يعطيها للمحاويج، وبحلم أنهم يبيعونها، ومعلوم قطعاً أنها لا تباع بوزنها، فإنه سفه، ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفتخة لا تساوي ديناراً، ولم يكن عندهم فلوس يتعاملون بها، وهم كانوا أتقى لله وأفقه في دينه وأعلم بمقاصد رسوله من أن يرتكبوا الحيل أو يعلموها للناس. ويناقش: القول بأنه لا يمكن أن تباع بوزنها، وأن مثل الحلقة لا تساوي ديناراً، فيقال: هناك ما هو أقل من الدينار عند الصحابة، هو القيراط، والدرهم. (ح-778) فقد روى البخاري ومسلم في صحيحة قصة شراء النبي صلى الله عليه وسلم جمل جابر. وفي رواية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: أعطه أوقية من ذهب، وزده، قال: فأعطاني أوقية من ذهب، وزادني قيراطاً (¬1). والقيراط: هو جزء من أجزاء الدينار وكانت الفلوس موجودة في الصدر الأول. (ث-134) فقد روى الإمام أحمد حدثنا يزيد، أخبرنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن عن عبد الله بن الصامت، قال: كنت مع أبي ذر، وقد خرج عطاؤه معه، ومعه جارية له، فجعلت تقضي حوائجه، وقال مرة: نقضي. ¬
قال: ففضل معه فضل، قال: أحسبه، قال: سبع، قال: فأمرها أن تشتري بها فلوساً ... (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). وأما الدليل على وجود الفلوس في زمن التابعين. (ح-779) ما رواه ابن خزيمة في صحيحه من طريق محمد بن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله المزني، قال: كان أول أهل مصر يروح إلى المسجد، وما رأيته داخلاً المسجد قط إلا وفي كمه صدقة، إما فلوس، وإما خبز، وإما قمح، حتى ربما رأيت البصل يحمله، قال: فأقول يا أبا الخير إن هذا ينتن ثيابك، فقال فيقول: يا ابن حبيب، إما أني لم أجد في البيت شيئاً أتصدق به غيره، إنه حدثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ظل المؤمن يوم القيامة صدقته (¬3). [إسناده حسن] (¬4). ¬
الدليل الخامس
(ث-135) وروى ابن أبي شيبة في المصنف من طريق جعفر ابن برقان، قال: سألت الزهري عن رجل يشتري الفلوس بالدراهم، هل هو صرف؟ قال: نعم، فلا تفارقه حتى تستوفيه. [إسناده صحيح] (¬1). وعلى فرض أن تكون الفلوس غير موجودة، فإنه يمكن أن تشترى حلية الذهب بالدراهم، وحلية الفضة بالدينار، فإن لم يكن اشتريت بالعروض، وهل يعقل أن تكون المسألة بهذه العسر، وابن عمر رضى الله عنه يقول للصائغ: (هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم). الدليل الخامس: قال ابن تيمية: "لا يعرف عن الصحابة أنهم أمروا في مثل هذا أن يباع بوزنه، ¬
ويناقش
وإنما كان النزاع في الصرف، والدرهم بالدرهمين، فكان ابن عباس يبيح ذلك، وأنكره عليه أبو سعيد وغيره، والمنقول عن عمر إنما هو في الصرف" (¬1). ويناقش: هذا القول مردود بالأحاديث الخاصة، والتي هي نص في الموضوع، فحديث القلادة لم يضعفه ابن تيمية وابن القيم، ولم يخرجا منه بجواب مقنع، بل كان جوابهما حجة عليهما حيث اعتبروا ما في القلادة مالاً ربوياً مع أنهم يرون أن الحلية سلعة من السلع. وحديث ابن عمر في موطأ مالك، وسنن النسائي صريح في الباب؛ لأن السائل كان من الصاغة، وهو مرفوع، وليس موقوفاً على ابن عمر حتى يعارض برأي معاوية. وحديث عبادة وإنكاره على معاوية في صحيح مسلم. وحكي الإجماع عليه إلا خلافاً يروى عن معاوية، وليس صريحاً في الباب، فكيف يقال بعد ذلك إن المسألة لا تعرف عن الصحابة. الدليل السادس: قال ابن تيمية: "تحريم ربا الفضل إنما كان لسد الذريعة، وما حرم لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كالصلاة بعد الفجر والعصر لما نهي عنها لئلا يتشبه بالكفار الذي يعبدون الشمس، ويسجدون للشيطان أبيح للمصلحة الراجحة، فأبيح صلاة الجنازة، والإعادة مع الإمام ... وكذلك ركعتا الطواف، وكذلك على الصحيح ذوات الأسباب ... وكذلك النظر للأجنبية لما حرم سدًّا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيح للخطاب وغيره، وكذلك ¬
ويناقش
بيع الربوي بجنسه لما أمر فيه بالكيل والوزن لسد الذريعة أبيح بالخرص عند الحاجة، وغير ذلك كثير في الشريعة. كذلك هنا: بيع الفضة بالفضة متفاضلاً لما نهي عنه في الأثمان لئلا يفضي إلى ربا النساء الذي هو الربا، فنهي عنه لسد الذريعة، كان مباحاً إذا احتيج إليه للمصلحة الراجحة، وبيع المصوغ مما يحتاج إليه، ولا يمكن بيعه بوزنه من الأثمان، فوجب أن يجوز بيعه بما يقوم به من الأثمان، وإن كان الثمن أكثر منه تكون الزيادة في مقابلة الصنعة" (¬1). ويناقش: مدار هذا الدليل على أن تحريم ربا الفضل إنما كان لسد الذريعة، وما حرم لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة. هذا القول قاله ابن تيمية عليه رحمة الله تفقهاً وفهماً, وليس هناك نص من الشارع بأن ربا الفضل تحريمه من باب تحريم الوسائل، وسد الذرائع، ولو تأمل الباحث في النصوص الواردة في ربا الفضل لم يجد ما يدعم هذا الفهم. والفهم غير معصوم، فإذا جاء النص من الشارع على أن المنع إنما كان من باب سد الذرائع سلم الباحث ذلك بلا نزاع، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. فهنا نص الشارع على أن النهي عن سب الأصنام حتى لا يفضي ذلك إلى مفسدة أكبر، وهي سب الذات الإلهية تنزه ربنا وتقدس. فإذا تأملت نصوص ربا الفضل وجدت أن تحريمه تحريم مقاصد، وأنه محرم تحريم أصالة، وليس محرماً لغيره. ¬
(ح-780) لما رواه البخاري، ومسلم من طريق معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، قال: سمعت عقبة بن عبد الغافر أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: جاء بلال بتمر برني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين هذا؟ قال بلال: كان عندنا تمر ردي، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: أوه أوه عين الربا عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتره به (¬1). فقوله صلى الله عليه وسلم: (عين الربا) وتكرار ذلك، وقوله (لا تفعل) كل ذلك يدل صراحة على أن ربا الفضل تحريمه تحريم مقاصد، وليس تحريمه من باب الوسائل، كما قال بعض أهل العلم والفضل. قال القاضي عياض في إكمال المعلم: "قوله (عين الربا) أي هو الربا المحرم نفسه من الزيادة، لا ما يشبهه ويغامر عليه" (¬2). وقال الحافظ في الفتح: "مراده بعين الربا: نفسه" (¬3). وقال العيني في عمدة القارئ: "أي هذا البيع نفس الربا حقيقة" (¬4). وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: "أوه عين الربا. قال أهل اللغة: هي كلمة توجع وتحزن، ومعنى عين الربا: أنه حقيقة الربا المحرم" (¬5). ¬
وفي حاشية السندي على النسائي: "أي هذا العقد نفس الربا الممنوعة، لا نظيرها وما فيه شبهتها" (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم عن ربا الفضل كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: (ويلك أربيت) (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً كما في حديث أبي هريرة في مسلم (من زاد أو استزاد فقد أربى) (¬3). ومن حديث أبي سعيد الخدري في مسلم: من زاد أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء (¬4). فإذا كان ربا الفضل هو عين الربا، ومن وقع فيه فقد أربى، والربا له حقيقة شرعية، فإذا قيل: هذا عين الربا لم يكن لمسلم أن يقول: إن ربا الفضل ليس تحريمه تحريم مقاصد. وكون ربا النسيئة أشد تحريما من ربا الفضل لا يعني أن ربا الفضل ليس من الكبائر، فإنه داخل في جنس الربا وعمومه، ولا يعني أيضاً أن تحريمه من باب سد الذرائع، وآيات وأحاديث الوعيد التي وردت في الربا تصدق على ربا الفضل كما تصدق على ربا النسيئة؛ لأن الشرع أطلق عليه أنه ربا، وأنه عينه وذاته ونفسه. وكون العرايا استثنيت منه فلا يعني ذلك أبداً أن تحريمه من باب تحريم ¬
الوسائل؛ لأن إباحة بيع الرطب بالتمر إنما خص ذلك بالرطب لكونه قوت الناس وطعامهم، والشارع لم يأذن بالفاضل المتيقن في العرايا، وإنما سوغ الشارع المساواة بالخرص من أهل الخبرة بالخرص في مقدار قليل تدعو إليه الحاجة، وهو قدر النصاب خمسة أوسق فما دون، والخرص معيار شرعي للتقدير في أمور كثيرة منها الزكاة، والمالكية يجيزون العمل بالتحري في بيع كثير من الأموال الربوية بعضها ببعض حتى ولو لم تكن من العرايا. قال الباجي: "وبدل الدنانير بالدنانير، والدراهم بالدراهم على وجهين: أحدهما وزناً والثاني: عدداً. فأما الوزن فلا يجوز فيه إلا التساوي، ولا يجوز فيه زيادة على وجه معروف، ولا بمسامحة ... وأما المبادلة بالعدد فإنه يجوز ذلك وإن كان بعضها أوزن من بعض في الدينار والدينارين على سبيل المعروف والتفضل، وليس ذلك من التفاضل؛ لأنهما لم يبنيا على الوزن، ولهذا النوع من المال تقديران: الوزن والعدد، فإن كان الوزن أخص به، أولى فيه إلا أن العدد معروف، فإذا عمل به على العدد جوز يسير الوزن زيادة على سبيل المعروف ما لم يكن في ذلك وجه من المكايسة والمغابنة، فيمنع منه. وهذا عندنا مبني على مسألة العرية، وذلك أن العرية لما كان للثمرة تقديران: أحدهما: الكيل، والآخر الخرص، والتحري، جاز العدول عن أولهما إلى الثاني للضرورة على وجه المعروف، فكذلك الدنانير والدراهم" (¬1). والاستثناء من المحرم لا يعني أبدًا أن تحريمه ليس تحريم مقاصد، فالشرك أعظم المحرمات، ومع ذلك يباح إذا خاف الإنسان على نفسه. ¬
وجه الاستدلال
واستدل بعضهم على أن ربا الفضل من باب المحرمات لغيره: (ح- 781) بما رواه أحمد من طريق أبي جناب عن أبيه عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرماء، والرماء هو الربا، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل؟ قال: لا بأس إذا كان يداً بيد (¬1). [ضعيف، ولفظة (إني أخاف عليكم الرماء) رواها ابن عمر تارة موقوفة عليه، وتارة عن عمر موقوفاً عليه] (¬2). وجه الاستدلال: أخذ بعض أهل العلم من قوله صلى الله عليه وسلم: (إني أخاف عليكم الرماء) أن تحريمه من باب تحريم الوسائل، لكونه يفضي إلى ربا النسيئة. ويجاب من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن قوله: (إني أخاف عليكم الرماء أي (الربا) دليل على أن من فعل ذلك وقع في الربا لا أن من فعل ذلك يخاف عليه أن يقع في الربا. الوجه الثاني: أن الحديث ضعيف، ولفظة (إني أخاف عليكم الرماء) الصحيح أنها لا تثبت مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي موقوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد سبق تخريج هذا الأثر ولله الحمد. ¬
الوجه الثالث
الوجه الثالث: على القول بأن كلام عمر رضى الله عنه حجة، فإنه لا يعارض به كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من زاد أو استزاد فقد أربى، وقال: ويلك أربيت، وتوجع النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الفعل قائلاً: أوه أوه عين الربا. وكل هذه الألفاظ في الصحيح، وقد سبق تخريجها قبل قليل، فكيف تعارض هذه الأحاديث بكلمة ليست صريحة من عمر رضي الله عنه. الدليل السابع: المعاوضة إذا جازت على هذه الصياغة مفردة جازت عليها مضمومة إلى غير أصلها وجوهرها, ولا فرق بينهما في ذلك (¬1). فإذا كان يسوغ لصاحب الذهب أن يذهب إلى الصائغ، ويستأجره على الصياغة منفردة، ويعطيه أجره على عمله، جاز أن تكون أجرة الصياغة مضمومة إلى مبادلة الذهب بالذهب. المناقشة: ليس كل عقد جاز منفردًا جاز مضموماً إلى غيره، فهذا عقد القرض جائز بالإجماع، وعقد البيع جائز بالإجماع، وإذا باعه بشرط أن يقرضه حرم ذلك بالإجماع. (ح-782) لما رواه أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬2). ¬
[إسناده حسن] (¬1). والمراد بالسلف: هو القرض في لغة الحجاز، فنهى عن الجمع بين البيع والقرض، وإنما نهى عن الجمع بين البيع والقرض وإن كان كل واحد منهما صحيحاً بانفراده لأنه ربما حاباه في البيع لأجل القرض، فيؤدي إلى أن يجر القرض نفعاً للمقرض، فلما كانت الفائدة على القرض ربما تستتر بعقد البيع نهى عنها الشارع. قال ابن تيمية: "نهى -يعني النبى صلى الله عليه وسلم- أن يجمع الرجل بين سلف وبيع، وهو حديث صحيح، ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح، وإنما ذاك؛ لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفاً، ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفاً، وسلعة بثمانمائة، ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا" (¬2). وقد حكى الإجماع غير واحد من أهل العلم على تحريم اشتراط البيع مع عقد القرض. قال الباجي في المنتقى: "لا يحل بيع وسلف، وأجمع الفقهاء على المنع من ذلك ... " (¬3). قال القرافي: "وبإجماع الأمة على جواز البيع والسلف مفترقين، وتحريمهما مجتمعين لذريعة الربا" (¬4). ¬
الدليل الثامن
وقال في مواهب الجليل: "واعلم أنه لا خلاف في المنع من صريح بيع وسلف" (¬1). وقال الزركشي في البحر المحيط: "وبالإجماع على جواز البيع والسلف مفترقين، وتحريمهما مجتمعين للذريعة إليها" (¬2). كما حكى الإجماع على التحريم ابن قدامة في المغني (¬3) وغيرهم. الدليل الثامن: الذهب والفضة في هذا العصر لم يعودا أثماناً، ولا علاقة لهما بالنقود، فعلة الثمنية قد زالت عنهنا، وصارا سلعة كباقي السلع، لا يجري فيهما أحكام الربا؛ لأن العلة هي مناط الحكم، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدماً (¬4). ويناقش: بأن صاحب هذا القول يريد أن يذهب إلى أوسع من مبادلة الحلي بجنسه متفاضلاً، بل يريد أن يذهب إلى جواز مبادلة الذهب بالذهب مع التفاضل، ومبادلة الفضة بالفضة مع التفاضل. وقد بينت فيما سبق أن جريان الربا في الذهب والفضة ثابت بالنص، وكون العلة فيهما هي الثمنية أمر مستنبط مختلف فيه، وقد نص العلماء على أن العلة المستنبطة لا يمكن أن تعود على الحكم بالإبطال؛ لأن النص دلالته قطعية وهي دلالتها ظنية، والله أعلم. ¬
الدليل التاسع
ولأن الربا يجري في سبائك الذهب والفضة مع أنهما في حال كونهما سبائك لا تعتبر من الأثمان. الدليل التاسع: إذا كان أرباب الحيل يجيزون بيع عشرة بخمسة عشر في خرقة تساوي فلساً، فيجعلون العشرة دراهم في مقابل العشرة، ويقولون الخمسة في مقابلة الخرقة، فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصناعة، وكيف تأتي الشريعة الكاملة الفاضلة التي بهرت العقول حكمة وعدلا ورحمة وجلالة بإباحة هذا وتحريم ذلك وهل هذا إلا عكس للمعقول والفطر (¬1). ويناقش: بأن هذا القول قد قال به أبو حنيفة، وضعفه ظاهر، وهو يفتح باب التحايل على الربا, ولكن هذا القول الضعيف ليس مسوغاً للقول جواز بيع الحلي بجنسه متفاضلاً. ولم يكن من أدلة الشرع أبداً لا المتفق عليها, ولا المختلف فيها أن نبحث عن الأقوال الأشد ضعفاً ونسوقها كأدلة على مسألة أخرى هي أخف ضعفاً، وهذا الأسلوب كثيراً ما يصنعه ابن حزم، عفا الله عن الجميع. بل يسعنا أن نقول بتحريم التحايل على الربا في مسألة مد عجوة ودرهم، وفي الوقت نفسه نقول بتحريم بيع الحلي بجنسه متفاضلاً لمخالفته الأدلة الصحيحة الصريحة. الدليل العاشر: الصياغة لها قيمة مالية مقصودة في حكم الشرع، وهي متقومة في حال التلف وغيره، فإذا أتلف إنسان بتعد منه أو تفريط حلياً ضمنه بوزنه مع قيمة صياغته، ¬
ويناقش
فإذا جاز ذلك في باب الضمان جاز ذلك في بيعه بجنسه مضافًا له قيمة الصياغة (¬1). ويناقش: لا يلزم من القول بجواز الضمان القول بجواز البيع، فإن أتلف حراً أو أتلف منافعه لزمه ديته وقيمة تلك المنافع، ولو باع حراً لم يصح البيع، بل ربما صح اعتبار قيمة الشيء في البيع، ولم يصح اعتبار تلك القيمة في المبادلات الربوية، فهذا التمر الجيد إذا باعه بالأثمان، وأخذ قيمة الجودة جاز ذلك بلا نزاع، وإذا بادل التمر الجيد بالرديء حرم بالإجماع أخذ قيمة الجودة. • الترجيح: بعد استعراض الأقوال والأدلة أجد أن القول بجواز بيع الحلي بجنسه متفاضلاً هو قول ضعيف، ولكن استتر ضعفه حين تبنى هذا القول رجل بقوة ابن تيمية وابن القيم، ولذلك تجد القول القوي يضعف حين يحتج له رجل ضعيف علمياً بينما تجد القول الضعيف يستتر ضعفه إذا تبناه رجل بمثل ابن تيمية وابن القيم، وقد رزقهما الله قوة في الحجة والبيان، وأرجو أن أكون قد وفقت في كشف غموض هذه المسألة والتي اختلف فيها بعض أهل العلم في عصرنا بين مجيز ومانع، والله أسأل أن يجعل العمل خالصاً لوجهه، على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ¬
الباب الرابع اجتماع الربوى مع غيره
الباب الرابع اجتماع الربوى مع غيره في اجتماع الربوي مع غيره له صور كثيرة، ويدخل بعض مسائله فيما يعرف عند الفقهاء بمد عجوة ودرهم، وسوف نختار أهم الصور، ونناقشها، وسوف أستبعد بعض الصور اقتصاراً واختصاراً حتى لا يطول البحث، وتتشعب المسائل على القارئ.
الفصل الأول بيع ربوي بغير جنسه ومعه من جنس ما بيع به
الفصل الأول بيع ربوي بغير جنسه ومعه من جنس ما بيع به المبحث الأول كون الربوي تابعًا غير مقصود معنى كون الربوي تابعا غير مقصود: أي غير مقصود بالأصالة، وإنما مقصود بالتبع. مثاله: ورد النهي عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، وجاز بيع الشجر، وعليه ثمر لم يبد صلاحه، وقد عللوا ذلك بأن الثمر غير مقصود بالأصالة، وإنما المقصود في الأصل الشجر، والثمر مقصود تبعاً ولذلك كان له وقع في الثمن. ومثله: بيع الشاة الحامل، فالحمل وحده لا يجوز بيعه منفرداً بالإجماع، وسبق بحثه، ويجوز بيع الشاة الحامل، والحمل تبع، ويكون المقصود بالأصالة هو الشاة، والحمل مقصود تبعاً وليس أصالة، ولذلك كان له وقع في الثمن (¬1). وهذه المسألة: أعني كون الربوي تابعاً غير مقصود تنقسم إلى أقسام، وسوف نتعرض إن شاء الله تعالى إلى حكم كل مسألة على انفراد، أسأل الله عونه وتوفيقه. ¬
الفرع الأول كون الربوي التابع غير المقصود لا بياع مفردا
الفرع الأول كون الربوي التابع غير المقصود لا بياع مفرداً المسألة الأول بيع السيف المموه بالذهب بذهب وقال ابن رجب: "ما لا يقصد عادة، ولا يباع منفرداً ... فلا يمنع من البيع بجنسه بالاتفاق" (¬1). [م - 1187] إذا باع سيفاً مموهاً بذهب بذهب، أو اشترى داراً مموهة بفضة، بفضة فهذا يجوز بيعه، وحكي فيه الإجماع. جاء في المبسوط: "وإذا اشترى لجاماً مموهًا بفضة بدراهم، بأقل مما فيه، أو أكثر فهو جائز؛ لأن التمويه لون الفضة، وليس بعين الفضة، ألا ترى أنه لا يتخلص منه شيء، فلا يجري الربا باعتباره. وعلى هذا لو اشترى داراً مموهة بالذهب بثمن مؤجل فإنه يجوز، وإن كان بسقوفها من التمويه بالذهب أكثر من الفضة أو الذهب؛ لأنه لا يتخلص منه شيء، فلا يعتبر ذلك في حكم الربا, ولا في وجوب التقابض في المجلس" (¬2). وقال ابن قدامة: "وإن باع ما فيه الربا بغير جنسه، ومعه من جنس ما بيع به، إلا أنه غير مقصود كدار مموه سقفها بالذهب، جاز لا أعلم فيه خلافاً. (¬3) وكذلك لو باع دارا بدار مموه سقف كل واحدة منها بذهب أو فضة جاز؛ لأن ¬
ما فيه الربا غير مقصود بالبيع" (¬1). وقال ابن رجب: "ما لا يقصد عادة، ولا يباع مفرداً، كتزويق الدار، ونحوه فلا يمنع من البيع بجنسه بالاتفاق" (¬2). وهذا إنما يجوز بشرط أن يكون الذهب أو الفضة في المبيع مجرد تمويه، ليس له عين قائمة بذاته (¬3)، وهذا ما عبر عنه السرخسي في الكلام السابق بقوله: "ألا ترى أنه لا يتخلص منه شيء". وأصرح منه عبارة ابن عابدين: "يجب تقييد المسألة بما إذا لم تكثر الفضة أو الذهب المموه أما إذا كثر بحيث يحصل منه شيء يدخل في الميزان بالعرض على النار يجب حينئذ اعتباره، ولم أره لأصحابنا لكن رأيته للشافعية، وقواعدنا شاهدة به فتأمل" (¬4). وقال الخرشي: "فإن كان لا يخرج منه شيء إن سبك فإنه لا عبرة بما فيه من الحلية, ويكون كالمجرد منها" (¬5). وجاء في حاشية قليوبي: " ... ما لو باع بناء دار مموه بذهب لا يحصل منه شيء بالعرض على النار بذهب، فإنه صحيح، فإن حصل فباطل" (¬6). وقال في أسنى المطالب: "إن اشترى داراً موهت: أي مموهة بذهب تمويهاً ¬
يتحصل منه شيء بذهب، فلا يصح للربا" (¬1). فإن كان السيف محلى بذهب، وليس مموهاً: فقيل: لا يجوز مطلقاً. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2) , واختيار ابن حزم (¬3). وبه قال ابن سيرين (¬4). وقيل: يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، وهذا مذهب ¬
الحنفية، ورواية عن أحمد (¬1). وقيل: يجوز مطلقاً. وبه قال ابن عباس (¬2)، وطارق بن شهاب (¬3)، والحسن، والشعبي، والنخعي (¬4). وقيل: يجوز بشروط: أن تكون الحلية مباحة، كتحلية في سيف، أو مصحف، أو عبد له أنف أو سن من أحد النقدين. فإن كانت الحلية محرمة فلا يجوز بيع ما هي فيه لا بجنس ما حلي فيه، ولا بغيره، بل بالعروض إلا أن تقل عن صرف دينار كاجتماع البيع والصرف (¬5). مثال التحلية المحرمة: كما لو كانت التحلية في دواة، وسكين، وثوب رجل. وأن لا يمكن نزع الحلية. أو يمكن نزعها, ولكن ينتج عن نزعها فساد أو غرم. ¬
وأن يعجل الثمن والمثمن، فلا يجوز أن يكون البيع إلى أجل. وأن يكون ما فيه من الفضة تبعاً، كالثلث فأدنى، واختلف المالكية في تقدير الثلث: هل يكون بالقيمة، فتكون الحلية ثلث قيمة المحلى بحليته، وهو المعتمد، أو يقدر الثلث بالوزن. هذا مذهب المالكية (¬1). جاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن اشتريت سيفًا على بفضة، حليته أقل من ثلث السيف، بفضة إلى أجل، أو بذهب إلى أجل، أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: قال مالك: لا يجوز بيعه بفضة ولا بذهب إلى أجل. قلت: أفيبيعه بفضة أو بذهب نقداً في قول مالك؟ قال: نعم. قلت: لماذا جوزه مالك بالنقد بالفضة، لم يلتفت إلى الفضة التي في السيف وهي عنده ملغاة، وجعلها تبعاً للسيف، فلم لا يجوزه بفضة إلى أجل، وقد جعل الفضة التي في السيف ملغاة، وجعلها تبعاً للسيف، ولم لا يبيعه بفضة إلى أجل. قال: قال مالك: لأن هذا لم يجز إلا على وجه النقد" (¬2). وقد انتقد ابن حزم مذهب المالكية بأمرين: الأمر الأول: جوازهم التفاضل في بيع المحلى بجنس حليته بحجة أن الحلية تبع، وتحريمهم النسيئة فيه، فإذا كانت الحلية ملغاة في جواز التفاضل فلماذا لا تكون الحلية ملغاة في جواز النسيئة أيضاً. الأمر الثاني: اعتبار الثلث فأدنى من الذهب والفضة يسيرًا. فقد تعجب منه ابن حزم، وقال: لا دليل على صحته من قرآن، ولا سنة، ولا رواية سقيمة، ولا ¬
قول لأحد قبله نعلمه، ولا قياس، ولا رأي له وجه، ولا احتياط. وقال أيضاً: ما عقل قط أحد أن وزن عشرة أرطال فضة تكون ثلث قيمة ما هي فيه يكون قليلاً، ووزن درهم فضة، يكون نصف قيمة ما هي فيه يكون كثيراً (¬1). فتبين من هذا أن هناك فرقاً بين السيف المموه بالذهب، وبين السيف المحلى بالذهب، فالأول يجوز بشرط أن يكون المموه لا يمكن أن يحصل منه شيء إذا عرض على النار. وهذا بالاتفاق. والثاني: وهو المحلى بالذهب فيه خلاف، وسوف نذكر أدلة هذه المسألة إن شاء الله تعالى، في مسألة مد عجوة ودرهم؛ لأن أدلة هذه المسألة هي عين أدلة مسألة (مد عجوة ودرهم) فخوفًا من تكرار الأدلة والمسألة أخرت ذكر الأدلة إلى هناك، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه، ويستحسن قراءة ما كتبه ابن عبد البر في الاستذكار، فإنه قد عرض خلاف العلماء في هذه المسألة مع بيان مذهب الإمام مالك (¬2). ¬
المسألة الثانية بيع شاة ذات لبن بلبن أو شاة ذات صوف بصوف
المسألة الثانية بيع شاة ذات لبن بلبن أو شاة ذات صوف بصوف قال ابن قدامة: قد يدخل في البيع تبعاً ما لا يجوز إفراده (¬1). وقال السيوطي: يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها (¬2). قال الزركشي: يغتفر في الشيء إذا كان تابعاً ما لا يغتفر إذا كان مقصوداً (¬3). [م - 1188] الفرق بينه وبين المسألة التي قبلها: تجتمع هذه المسألة والمسألة التي قبلها: أن كلاً من المال الربوي التابع متصلاً بالمبيع. ويفترقان: أن السيف المموه بالذهب إذا بيع بذهب أن التمويه لا يمكن أن يستخرج منه شيء من الذهب حتى ولو عرض على النار، أما الشاة ذات اللبن أو ذات الصوف فيمكن أن يستخرج اللبن، ويجز الصوف، ونحصل منهما على مال ربوي قائم بذاته. هذا وجه إفراد هذه المسألة عن التي قبلها، وأما حكم المسألة: فإذا باع رجل شاة لبوناً بلبن، أو باع شاة ذات صوف بصوف. فقيل: يجوز بشرط أن يكون اللبن المنفصل أكثر مما في الضرع، وأن يكون الصوف المجزوز أكثر مما على ظهر الشاة. وهذا مذهب الحنفية (¬4) ,وقول في مذهب الحنابلة. ¬
• وجه من قال: يشترط أن يكون اللبن المفرد ونحوه أكثر
وقيل: يجوز مطلقاً. وهو مذهب مالك (¬1)، والمذهب عند الحنابلة (¬2). وقيل: لا يجوز. وهو مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). • وجه من قال: يشترط أن يكون اللبن المفرد ونحوه أكثر أنظر أدلة الحنفية في المسألة التي بعد هذه، فقد ذكرته هناك، وناقشته، فيغنى عن إعادته هنا، والحمد لله. • وجه من قال: يجوز مطلقاً: أن المقصود في العقد هو الشاة، وأن اللبن الذي في الشاة تابع غير مقصود، وقد تكلمنا على أثر القصد في التحليل والتحريم في المسألة التي قبل هذه. ¬
دليل من قال: لا يجوز
قال ابن رجب: "وقد حكي في المسألة روايتان عن أحمد، ولعل المنع يتنزل على ما إذا كان الربوي مقصوداً، والجواز على عدم القصد. وقد صرح باعتبار عدم القصد: ابن عقيل وغيره، ويشهد له تعليل الأصحاب كلهم الجواز بأنه تابع غير مقصود" (¬1). وقال ابن قدامة في الكافي: "ويجوز بيع شاة ذات صوف بمثلها، وجهاً واحداً؛ لأن ذلك لو حرم لحرم بيع الغنم بالغنم" (¬2). دليل من قال: لا يجوز: الدليل الأول: (ح-783) ما رواه البخاري من طريق جعفر بن ربيعة، عن الأعرج قال أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصروا الإبل والغنم، فإن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين يعد أن يحتلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعَ تمرٍ، ورواه مسلم (¬3). وجه الاستدلال: دل الحديث على أن اللبن في الضرع يدخل في البيع، ويقابله قسط من الثمن، والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في مقابلة لبن المصراة صاعاً من تمر، فلولا أن العقد يتناول الشاة ولبنها الذي في الضرع كما يتناوله إذا كان محلوباً في إناء لأسقط عليه السلام غرمه في استهلاكه مع قضائه أن الخراج بالضمان (¬4). ¬
ويناقش
ويناقش: بأنه لا نقاش بأن له قسطاً من الثمن، ولكنه دخل في المبيع تبعاً , وليس عن طريق الأصالة، فلم يقصد بالبيع أصالة، كما أن العبد الذي له مال، قد يكون المال الذي معه ربوياً، ويباع بثمن من جنس هذا المال، ومع ذلك لا يطبق عليه أحكام الصرف فيما لو اشترطه المشتري؛ لأنه ليس مقصوداً في العقد، ويجوز بيع الشاة الحامل، ويكون الحمل له وقع في الثمن، ولو أفرد الحمل لما جاز بيعه، وإنما جاز تبعاً، وقد يقال: إن جزء الثمن الذي يقابل لبن الشاة إنما قدر بعد انفصاله، فصار عيناً مستقلة، أما ما دام متصلاً بالشاة فليس له حكم مستقل، والله أعلم. الدليل الثاني: (ح-784) ما رواه البخاري ومسلم من طريق مالك، عن نافع عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحلبن أحد ماشية امرئ بغير إذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته، فتكسر خزانته، فينتقل طعامه، فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل اللبن في الضرع كاللبن في الإناء، فلما كان لبن الإناء مقصوداً يتقسط عليه الثمن، وجب أن يكون اللبن في الضرع كذلك. ويناقش: بأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه اللبن في الضرع باللبن في الإناء من جهة عصمته، وحرمة ¬
الراجح
الاعتداء عليه إلا بإذن صاحبه، ولم يرد أن يجعل حكم المشبه حكم المشبه به في جميع صوره، بدليل أن اللبن في الضرع لا يجوز بيعه منفردا بخلاف اللبن في الإناء. الراجح: الراجح فيما أرى، والله أعلم جواز بيع الشاة ذات اللبن بلبن، وبيع الشاة ذات الصوف بصوف، وبيع التمر فيه النوى بنوى؛ لقوة أدلته، والله أعلم.
الفرع الثاني كون الربوي التابع غير المقصود يمكن إفراده بالبيع
الفرع الثاني كون الربوي التابع غير المقصود يمكن إفراده بالبيع مثاله: بيع نخلة عليها رطب برطب. مثال آخر: أن تضع بعض الشركات في بعض السلع حوافز تجارية (¬1)، على شكل نقود يسيرة، كما لو وضع خمس ريالات في سلعة قيمتها مائة ريال، فإن المشتري لن يقدم على شراء مثل هذه السلعة بقصد الحصول على مثل هذه الهدية اليسيرة. [م - 1189] اختلف العلماء في حكم هذه المسألة: فقيل: يجوز البيع بشرط أن يكون الربوي المفرد أكثر من الربوي الذي مع العروض، وهذا مذهب أبي حنيفة (¬2). وقيل: يجوز البيع بشرط أن يكون الربوي تابعاً غير مقصود بالنسبة للمبيع. وهو قياس مذهب الشافعية (¬3). ¬
وقيل: يجوز مطلقاً، اختاره أبو بكر من الحنابلة (¬1)، وهو المشهور في المذهب عند المتأخرين (¬2). وقيل: يحرم البيع، اختاره القاضي أبو يعلى من الحنابلة (¬3). ¬
وجه من قال: يشترط أن يكون الربوي المفرد أكثر.
وجه من قال: يشترط أن يكون الربوي المفرد أكثر. أن الرطب يجعل بإزاء مثل وزنه، والزيادة التي في الرطب المفرد تكون بإزاء النخلة، بناء على قاعدة أصلية إجماعية، وهي أنه مهما أمكن أن يصحح تصرف المسلم العاقل فلا بد من تصحيحه. ترجيحاً لجهة الجواز على جهة الفساد؛ لإحسان الظن بالمسلم. ويجاب: بأن هذه الصورة لا يمكن أن تأخذ حكماً واحداً، فإن ما بقي من الرطب المفرد، قد يكون مساوياً في القيمة للنخلة، وقد يكون أقل من قيمة النخلة، وقد يكون أكثر. فإذا كان مساوياً بالقيمة للنخلة فإن القول بالجواز متوجه، ومثله لو باع صاعين من التمر بصاع ودرهم، والصاع الزائد يساوي فعلاً درهماً، فهذا ليس فيه حيلة على الربا، والحاجة قد تدعو إلى ذلك، أما إذا كان أقل من قيمة النخلة أو أكثر لم يتوجه القول بالجواز، فقد يتخذ حيلة للوصول إلى الربا، فإنه لا يعجز أحد رغب في مبادلة ربوي بجنسه مع زيادة في أحدهما أن يضيف على القليل شيئاً يسيراً يجعله في مقابلة الزيادة، فوجب سد الباب في هاتين الصورتين. ¬
وجه من قال: يجوز إذا كان الربوي تابعا غير مقصود
والمشهور من مذهب أبي حنيفة عدم التفريق بين هذه الصور الثلاث (¬1). وأما جمهور أصحابه فقالوا: إن بلغت قيمة غير الجنس ما بقي من المفرد جاز من غير كراهة. وإن كان شيئاً قليلاً له قيمة، كفلس وجوزة، جاز مع الكراهة، ولو لم تبلغ قيمته قيمة ما بقي. وإن كان شيئاً لا قيمة له، ككف من تراب، لم يجز البيع؛ لأن الزيادة لا يقابلها عوض (¬2). والتفريق بين أن يكون معه شيء قليل له قيمة حقيرة كفلس، وبين أن يكون معه شيء لا قيمة له ككف من تراب تفريق ضعيف؛ لأن ما فضل عن قيمة القليل مما بقي من المفرد زيادة لا يقابلها عوض أيضاً. وسوف يأتي مزيد بحث إن شاء الله تعالى في مسألة بيع الربوي ومعه أو معهما من غير جنسهما، فانظره هناك، غير مأمور. وجه من قال: يجوز إذا كان الربوي تابعاً غير مقصود: إذا باع نخلة عليها رطب، برطب كان الربوي الذي على النخلة تابعاً غير مقصود في البيع فصح البيع؛ لعدم توجه القصد إليه غالباً، ولأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره. (ح-785) لما رواه البخاري ومسلم من طريق سالم عن ابن عمر: رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن ¬
دليل من قال: يجوز مطلقا
يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبداً, له مال، فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع (¬1). فجاز للمشتري أن يشتري الشجرة، وعليها ثمرة لم تؤبر، ومعلوم أنها قبل ذلك لم يبد صلاحها، وهو منهي عن بيعها حتى يبدو صلاحها، وإنما جاز بيع الثمر في مثل هذه الحالة لكونه تبعًا لغيره. كما جاز للمشتري أن يشترط الثمرة بعد أن تؤبر، وإن لم يبد صلاحها، وجاز له ذلك للعلة نفسها، وكذلك المال الذي في حوزة العبد قد يكون ذهباً كما لو كان على الجارية حلي، وثمن العبد قد يكون ذهباً أيضاً، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم للمشتري أن يشترط المال دون مراعاة لقواعد الصرف، وإنما جاز ذلك؛ لأنه تابع غير مقصود (¬2). دليل من قال: يجوز مطلقاً: لعل صاحب هذا القول قاس بيع النخلة عليها الرطب بالرطب، قاس ذلك على بيع العبد يكون له مال، ويشترطه المشتري، ويكون ثمنه من جنس المال الذي معه، فإن الحديث جعله للمشتري بالشرط مطلقاً , ولم يشترط في الحديث أن يكون مقصوداً أو غير مقصود (¬3). دليل من قال: لا يجوز: أن الرطب القائم بالنخلة يعتبر مالاً مستقلاً بنفسه، فوجب اعتبار أحكامه بنفسه منفرداً عن حكم الأصل. ¬
الراجح
الراجح: القول بالجواز، وأن الرطب على النخلة يعتبر تابعاً غير مقصود، وكما قيل في مال العبد إذا باعه صاحبه واشترط ماله المشتري جاز؛ لأنه تابع غير مقصود، فكذلك أقول هنا، والله أعلم.
الفصل الثاني بيع ربوي بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه
الفصل الثاني بيع ربوي بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه المبحث الأول إذا كان ما بيع مع الربوي مقصوداً وليس تابعاً قال ابن الهمام: التبع يقابله شيء إذا كان مقصوداً (¬1). العقد إذا جمع عوضين مختلفي الجنس، وجب أن يقسط الثمن على قدر قيمتهما، فإن اختلفت القيمة أدى ذلك إما إلى يقين التفاضل وإما إلى الجهل بالتماثل، وكلاهما مبطل للعقد في أموال الربا (¬2). [م - 1190] بيع ربوي بنجسه، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه، تارة يكون هذا المضاف غير مقصود. مثاله: مبادلة الخبز بمثله، فالخبز مال ربوي، وقد ضم إلى كل واحد منهما ملح، والملح ربوي أيضاً ولكنه مستهلك، وليس له تأثير في كيل أو وزن. فهذه المبادلة جائزة عند من يجيز مبادلة الخبز بمثله، وقد سبق بحث هذه المسألة في بحث سابق، والذي منع هذه المسألة لم يمنعها بسبب وجود الملح، وإنما منعها لأن الخبز لا يمكن كيله. وتارة يباع الربوي بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه، ويكون كلاهما مقصوداً. ¬
الصورة الأولى
مثاله: أن يبيع مداً ودرهماً بمد ودرهم، أو بمدين، أو بدرهمين. فهذه المسائل الثلاث ترجع إلى صورتين: الصورة الأولى: أن يكون المضاف ربوياً لطرفي العقد (مثل مد ودرهم بمد ودرهم). الصورة الثانية: أن يكون المضاف ربوياً لأحد طرفي العقد (مثل مد ودرهم بمدين، أو مد ودرهم بدرهمين). ويلحق بهذه الصور بعض الحوافز التجارية المقصودة، كما لو جعل التاجر هدية ذات قيمة مقصودة مع بعض السلع بأن وضع ما قيمته (ألف ريال) والسلعة قيمتها (500) خمسمائة ريال مثلاً. ونحن هنا لا نتكلم عن حكم الحوافز التجارية من حيث الأصل، وإنما يعنينا عرض صور (مد عجوة ودرهم) القديم منها والمعاصر. ومثلها لو باع رجل محلاً تجارياً يشتمل على عروض (سلع) ونقود في الخزانة، وديون على بعض العملاء تشكل مبلغاً مقصوداً بنقود من جنس الذي في الخزانة ومن جنس الديون المستحقة، فيكون باع ربوياً بجنسه، ومعهما من غير جنسه. وللجواب على حكم المسألة نقول: أما إذا كان الربويان مستويين في المقدار ومع أحدهما عين أخرى؛ كمد ودرهم بمد، فقد اتفق الجميع على المنع؛ لأنها تقابل من أحدهما جزءاً، فيبقى أحدهما أكثر من الآخر.
القول الأول
قال القرافي في الفروق: "اتفق الجميع على المنع إذا كان الربويان مستويين في المقدار، ومع أحدهما عين أخرى؛ لأنها تقابل من أحدهما جزءاً، فيبقى أحدهما أكثر من الآخر بالضرورة" (¬1). أما إذا كان الربويان مختلفين في المقدار، وهذه الصور مشهورة بمسألة مد عجوة ودرهم، فقد اختلف الفقهاء فيها على ثلاثة أقوال: القول الأول: يجوز بيع الربوي بجنسه، ومعه أو معهما من غير جنسه بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، أو يكون مع كل منهما من غير جنسه. وهذا مذهب الحنفية (¬2). وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها ابن تيمية بشرط أن يكون ما بقي من المفرد مساوياً بالقيمة لما أضيف من غير الجنس (¬3). وقيل: لا يجوز بيع الربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما. اختاره الإمام زفر من الحنفية (¬4)، وهو مذهب المالكية (¬5)، ومذهب ¬
الشافعية (¬1)،. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من اشترط أن يكون المفرد وأكثر، أو يكون مع كل منهما من غير جنسه.
والراجح في مذهب الحنابلة (¬1)، واختاره من الظاهرية ابن حزم (¬2). وقيل: يجوز بشرط أن يكون الربوي تبعاً لغيره. وقد فصلت الخلاف في مسائل المال الربوي إذا كان تابعاً لغيره، كما في بيع السيف المحلى بثمن من جنس الحلية، والشاة ذات اللبن إذا بيعت بلبن، والنخلة عليها رطب إذا بيعت برطب، فلا حاجة في إعادة ذكر هذه المسائل، لأن البحث في هذه المسألة إنما هو في المال الربوي المقصود، وليس في التابع. وإنما أشرت إليه خوفاً من الاستدراك. دليل من اشترط أن يكون المفرد وأكثر، أو يكون مع كل منهما من غير جنسه. الدليل الأول: (ح-786) روى البخاري ومسلم من طريق سالم عن ابن عمر: رضي الله عنه قال: ¬
وجه الاستدلال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدًا، وله مال، فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز بيع العبد الذي معه مال إذا اشترطه المبتاع، مع احتمال أن يكون المال الذي مع العبد ربوياً من جنس الثمن الذي اشتري به، ومعلوم أن المال الذي مع العبد لا يمكن أن يبلغ الثمن الذي اشتري به؛ لأن الرجل حين يبذل سلعته يتطلع إلى أن يستفيد من الثمن الذي حصل عليه عوضاً عن سلعته، فإذا أعطى المشتري عبدًا ومالاً قدره ألف ريال مقابل مال أقل من المال الذي مع العبد كما لو كان الثمن (900) ريال اعتبر ذلك سفهاً؛ لأن العبد سيأخذه المشتري بلا عوض، فعلم أن الثمن المبذول في مقابل العبد لا بد أن يكون أكثر من المال المصاحب للعبد. وأجيب: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز إلحاق مال العبد بالعبد من باب التبع، فهو غير مقصود بالعقد، ولذلك صح اشتراطه ودخل في البيع تبعاً مع أن مال العبد قد يكون مجهولًا وقد يكون معلوماً، وقد يكون من جنس الثمن، وقد يكون من غيره، فلم يشترط الحديث شيئاً لكونه من التوابع غير المقصودة، وقد تكلمنا على مسألة ما إذا كان المال الربوي تابعاً غير مقصود، ومسألتنا هذه في المال المقصود. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن المضاف إن كان ربوياً لأحد طرفي العقد (مثل مد ودرهم بمدين، أو مد ودرهم بدرهمين) فنجعل أحد الدرهمين في مقابلة الدرهم، والآخر في مقابلة المد. وإن كان المضاف ربوياً لطرفي العقد (مثل مد ودرهمين بمد ودرهم) فنجعل المد في مقابلة الدرهم، والدرهمين في مقابلة المد. وذلك لأن المقابلة المطلقة تحتمل مقابلة الجنس بالجنس على سبيل الشيوع من حيث القيمة، وتحتمل مقابلة الجنس بخلاف الجنس؛ لأن كل ذلك مقابلة للجملة بالجملة، وحمله على الاحتمال الأول يقتضي فساد العقد، وحمله على الثاني يقتضي صحته، فالحمل على ما فيه الصحة أولى، بناء على قاعدة أصلية إجماعية، وهي أنه مهما أمكن أن يصحح تصرف المسلم العاقل فلا بد من تصحيحه. ترجيحاً لجهة الجواز على جهة الفساد؛ لإحسان الظن بالمسلم (¬1). ولأن المماثلة فيما يدخله الربا معتبرة في الكيل والوزن، فأما القيمة فلا اعتبار بها، يدل على ذلك أنه لو باع كيلة من حنطة تساوي عشرة دنانير بكيلة من حنطة تساوي عشرين ديناراً، فإن العقد يصح، ويبطل اعتبار القيمة. ويناقش: أما الجواب عن مبادلة الجنس بخلاف جنسه: فيقال: إن تصحيح العقد بمجرد صرف كل جنس إلى خلاف جنسه مطلقاً، بصرف النظر هل هذا الجنس مساو في القيمة لخلاف جنسه، أو أقل، أو أكثر فتح لباب الاحتيال على الربا الصريح، فإنه لا يعجز أحد رغب في مبادلة ربوي ¬
بجنسه مع زيادة في أحدهما أن يضيف على القليل شيئاً يسيراً يجعله في مقابلة الزيادة، كبيع مائة درهم في كيس بمائتين جعلاً للمائة في مقابلة الكيس، وقد لا يساوي الكيس فلساً، والمشهور من مذهب أبي حنيفة جواز مثل هذه الصورة، حتى ولو كان المضاف لا قيمة له على الإطلاق (¬1). وأما جمهور أصحابه فقالوا: إن بلغت قيمة غير الجنس ما بقي من المفرد جاز من غير كراهة. وإن كان شيئاً قليلاً له قيمة، كفلس وجوزة، جاز مع الكراهة، ولو لم تبلغ قيمته قيمة ما بقي. وإن كان شيئاً لا قيمة له، ككف من تراب، لم يجز البيع؛ لأن الزيادة لا يقابلها عوض (¬2). والتفريق بين أن يكون معه شيء قليل له قيمة حقيرة كفلس، وبين أن يكون معه شيء لا قيمة له ككف من تراب تفريق ضعيف؛ لأن ما فضل عن قيمة القليل مما بقي من المفرد زيادة لا يقابلها عوض أيضاً. وأما الجواب عن قولهم بأن المماثلة معتبرة في الكيل والوزن وليس بالقيمة. فيقال: نعم التماثل في القيمة غير معتبر فيما يدخله الربا إذا كانت من جنس واحد، وإنما تماثل القدر هو المعتبر، وأما في الأجناس المختلفة فلا يعرف تماثل القدر إلا في القيمة حتى لا يتخذ ذلك حيلة على الربا. وأما الجواب عن قولهم: يجب تصحيح تصرف المسلم العاقل ما أمكن. ¬
فيقال: ينتقض هذا القول بمسألة العينة، كما لو باع رجل سلعة إلى أجل، ثم اشتراها نقداً بأقل من الثمن الأول، فإنه لا يجوز عند الحنفية، مع إمكان حمله على الصحة، وهما عقدان يجوز كل واحد منهما على الانفراد، ولم يجعلوا العقد الواحد ها هنا عقدين ليحملوه على الصحة، فكان هذا إفساداً لقولهم، ولو كان هذا أصلاً معتبراً لكان بيع مد تمر بمدين جائزاً: ليكون تمر كل واحد منهما بنوى الآخر، حملاً للعقد على وجه يصح فيه، ولا يفسد ... " (¬1). ويمكن أن يدفع هذا الاعتراض بأن القصد إلى الربا جلي في مسألة العينة، فإن الرجل لما اشترى السلعة بثمن مؤجل، ثم باعها على نفس الرجل الذي باعها نقداً بثمن أقل، كان ذلك حيلة ليتوصل إلى القرض بفائدة، بخلاف مسألتنا هذه، والله أعلم. ولذلك وافق الإمام أحمد الحنفية ولكن اشترط أن لا يتخذ ذلك حيلة على الربا في بيع ربوي بجنسه متفاضلاً بحيث يكون ما ضم إلى أحدهما مساوياً في القيمة لما ضم إلى الآخر. قال ابن رجب: "ومن المتأخرين ... من شرط فيما إذا كان مع كل واحد من غير جنسه من الجانبين التساوي، جعلاً لكل جنس في مقابلة جنسه، وهو أولى من جعل الجنس في مقابلة غيره، لا سيما مع اختلافهما في القيمة، وعلى هذه الرواية فإنما يجوز ذلك ما لم يكن حيلة على الربا، وقد نص أحمد على هذا الشرط في رواية حرب، ولا بد منه" (¬2). ¬
دليل الجمهور على المنع
دليل الجمهور على المنع: الدليل الأول: (ح-787) ما رواه مسلم من طريق أبي شجاع سعيد بن يزيد، عن خالد ابن أبي عمران، عن حنش الصنعاني عن فضالة بن عبيد، قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً, فيها ذهب وخرز، ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تباع حتى تفصل. [رواه حنش الصنعاني وعلي بن رباح اللخمي عن فضالة، والأول اختلف عليه، والثاني لم يختلف عليه في الحديث، فيقبل من رواية حنش ما وافق رواية علي، وما خالفها حكم بشذوذه] (¬1). وجه الاستدلال: قال النووي: "في هذا الحديث: أنه لا يجوز بيع ذهب مع غيره بذهب حتى يفصل، فيباع الذهب بوزنه ذهباً، ويباع الآخر بما زاد. وكذا لا تباع فضة مع غيرها بفضة، وكذا الحنطة مع غيرها بحنطة، والملح مع غيره بملح، وكذا سائر الربويات، بل لا بد من فصلها، وسواء كان الذهب في الصورة المذكورة أولاً قليلاً أو كثيراً، وكذلك باقي الربويات" (¬2). وقد اعترض على هذا الاستدلال باعتراضين: الاعتراض الأول: أن الحديث مضطرب. ¬
وقد أجاب بعض أهل العلم عن دعوى الاضطراب بجوابين
قال الطحاوي: "اضطرب هذا الحديث فلم يوقف على ما أريد منه فليس لأحد أن يحتج بمعنى من المعاني التي روي عليها إلا احتج مخالفه عليه بالمعنى الآخر" (¬1). قلت: من هذا الاضطراب: أن في بعض الروايات: قال فضالة: اشتريت يوم خيبر قلادة فيها ذهب وخرز باثني عشر ديناراً. وفي بعضها: اشتراها رجل بسبعة أو تسعة دنانير، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي بعضها: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، نبايع اليهود: الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزناً بوزن. وهذا ليس فيه أي إشارة للقلادة. وفي بعضها: عن حنش، أنه قال: كنا مع فضالة بن عبيد في غزوة، فطارت لي ولأصحابي قلادة فيها ذهب وورق، وجوهر، فأردت أن أشتريها، فسألت فضالة بن عبيد. ففي هذه الرواية ما يدل على أن القصة وقعت لتابعي، وفي غيرها أن القصة وقعت للصحابي. وفي بعضها: قلادة فيها خرز وذهب، وفي بعضها ذهب وورق، وجوهر. وقد أجاب بعض أهل العلم عن دعوى الاضطراب بجوابين: أحدهما: القول بتعدد الأحاديث، ذهب إلى ذلك البيهقي، والسبكي، وابن حجر في أحد قوليه. قال البيهقي: "سياق هذه الأحاديث مع عدالة رواتها تدل على أنها كانت ¬
بيوعًا شهدها فضالة كلها، والنبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، فأداها كلها، وحنش الصنعاني أداها متفرقًا، والله أعلم" (¬1). وقال ابن حجر متعقباً: "بل هما حديثان لا أكثر، رواهما جميعاً حنش بألفاظ مختلفة، وروي عن علي بن رباح أحدهما" (¬2)، ثم بين ابن حجر أن أحد الحديثين في قصة وقعت للصحابي، وحديث آخر في قصة وقعت للتابعي. فوضح أنهما حديثان لا أكثر. الجواب الثاني: ما اختاره ابن حجر في تلخيص الحبير، قال: "والجواب المسدد عندي أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفاً، بل المقصود من الاستدلال محظوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل، وأما جنسها، وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحالة ما يوجب الحكم بالاضطراب، وحينئذ فينبغي الترجيح بين رواتها، وإن كان الجميع ثقات، فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم، ويكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة" (¬3). وقال ابن حجر في النكت: "هذا كله (يعني الاختلاف في الحديث) لا ينافي المقصود من الحديث، فإن الروايات كلها متفقة على المنع من بيع الذهب بالذهب ومعه شيء آخر غيره، فلو لم يمكن الجمع لما ضر الاختلاف والله أعلم" (¬4). وقد يقال: إن قول الحافظ: إن الروايات كلها متفقة على المنع من بيع ¬
الذهب بالذهب ومعه شيء آخر غيره، فلو لم يمكن الجمع لما ضر الاختلاف. هذا الإطلاق فيه نظر: فإن مسلماً رواه من طريق الجلاح أبي كثير، عن حنش الصنعاني عن فضالة بن عبيد، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، نبايع اليهود: الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزناً بوزن. وهذه ليس فيه أي إشارة للقلادة، وأن المسألة في بيع الذهب بالذهب، وليس معه شيء آخر. وليس في النهي عن بيع ما لم يفصل، وقد رجحت في تخريج الحديث أن هذا الطريق شاذ, والله أعلم. ثانياً: قول الحافظ رحمه الله: ينبغي الترجيح بين رواتها، وإن كان الجميع ثقات، فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم، ويكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة. قد يقال: كيف يمكن الترجيح بين رواية ابن المبارك، ورواية الليث ابن سعد، وكلاهما إمام حافظ، وليس مع أحدهما ما يستوجب ترجيحه على الآخر من كثرة عدد، أو اختصاص بشيخ، وتغليط أحديث بلا موجب مخالف للمنهج العلمي، إلا أن الخلاف بينهما يمكن حصره، فابن المبارك زاد في الحديث (إنما أردت الحجارة) ولم يذكرها الليث. والثمن عند ابن المبارك بالشك (سبعة أو تسعة) والثمن عند الليث بالجزم: اثنا عشر ديناراً. على أنه يمكن أخذ كلام ابن حجر وتطبيقه في المقارنة بين رواية حنش الصنعاني، وعلي بن رباح اللخمي، وكلاهما ثقة، وقد اختلف على الأول اختلافاً كثيراً، ولم يختلف على الثاني، فكانت القواعد الحديثة تقضي بترجيح طريق من لم يختلف عليه في الحديث على طريق من اختلف عليه؛ ويقبل من رواية حنش ما وافق رواية علي بن رباح، وهما قد اتفقا على أن المبيع قلادة، وأن فيها خرزًا وذهباً، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع حتى تفصل، وما زاده حنش
الاعتراض الثاني على الاستدلال بحديث فضالة
على هذا، أو انفرد به مما يخالفه فهو مختلف عليه فيه، فيحكم بشذوذه، هذا ما ترجح لي في حديث فضالة، والعلم عند الله الاعتراض الثاني على الاستدلال بحديث فضالة: يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أمر بأن لا تباع القلادة حتى تفصل لإحاطة علمه أن تلك قلادة لا يوصل إلى علم ما فيها من الذهب ولا إلى مقداره إلا بعد أن يفصل منها، ويعلم مقداره، أو يكون ما في القلادة من الذهب أكثر من الثمن، ويؤيد ذلك ما رواه مسلم، عن فضالة بن عبيد قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً، ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً. فتبين أنه لم يستطع أن يعلم ما فيها حتى فصلها، وأن ما فيها من الذهب كان أكثر من الثمن. والذهب إذا بيع بذهب لا بد من الوقوف على مقداره، فلو كان مقدار الذهب المفرد أكثر من الذهب الذي مع الخرز لجاز البيع (¬1). وقال ابن تيمية: "إذا لم يعلم مقدار الربوي بل يخرص خرصاً مثل القلادة التي بيعت يوم حنين، وفيها خرز معلق بذهب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تباع حتى تفصل، فإن تلك القلادة لما فصلت كان ذهب الخرز أكثر من ذلك الذهب المفرد فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا بهذا حتى تفصل؛ لأن الذهب المفرد يجوز أن يكون أنقص من الذهب المقرون، فيكون قد باع ذهباً بذهب مثله، وزيادة خرز وهذا لا يجوز، وإذا علم المأخذ فإذا كان المقصود بيع دراهم بدراهم مثلها وكان المفرد أكثر من المخلوط كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة بحيث تكون الزيادة في مقابلة الخلط لم يكن في هذا من مفسدة الربا شيء إذ ليس ¬
ورد هذا الاعتراض
المقصود بيع دراهم بدراهم أكثر منها, ولا هو بما يحتمل أن يكون فيه ذلك، فيجوز التفاوت" (¬1). ورد هذا الاعتراض: بأن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تباع حتى تفصل) يدل على أن علة المنع: هي عدم الفصل، وعمومه يدل على عدم الفرق بين الأقل والأكثر والمساوي حيث أطلق النبي صلى الله عليه وسلم الجواب من غير استفسار، فدل على عموم المنع؛ لأن ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، وهذا ما فهمه راوي الحديث صاحب القصة، فإنه لما سئل عن شراء قلادة فيها ذهب، وورق، وجوهر، قال: انزع ذهبها فاجعله في كفة، واجعل ذهبك في كفة، ثم لا تأخذن إلا مثلاً بمثل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذن إلا مثلاً بمثل. رواه مسلم. ويجاب على هذا الرد: قد يقال: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تباع حتى تفصل) في حال كان الذهب الذي في القلادة لا يمكن الوصول إلى معرفة مقدراه إلا بالفصل ليتمكن من معرفة مقداره عن طريق الوزن، وإلا فإن الجزم بأن الذهب المفرد كان أقل من الذهب الذي معه القلادة إنما تفرد به الليث بن سعد، عن أبي شجاع سعيد بن يزيد، عن خالد أبي عمران، عن حنش، عن فضالة. وقد رواه ابن المبارك عن أبي شجاع، ولم يذكر هذه الزيادة، بل ذكر أن الثمن سبعة أو تسعة، وهي أقل من الذهب المفرد الذي اشتري به القلادة على رواية الليث. ¬
كما رواه جلاح أبو كثير، وعامر بن يحيى المعافري، عن حنش الصنعاني، ولم يذكرا هذه الزيادة. كما رواه من جود الحديث، وأتقنه، ولم يختلف عليه في لفظه علي بن رباح اللخمي، عن فضالة بن عبيد، ولم يذكر زيادة الليث، فلا يبعد أن تكون زيادة الليث بأن الذهب الذي في القلادة كان أكثر من الذهب المفرد زيادة شاذة، والله أعلم. ولكن إذا أخذنا الصور الثلاث في مقدار الذهب المفرد من الناحية الفقهية فإنها لا يمكن أن تأخذ حكمًا واحداً. فإذا كان الذهب المفرد مساوياً للذهب الذي في القلادة، والقلادة فيها ذهب وخرز، فإن ذلك ممنوع؛ لأن الخرز سوف لا يقابله شيء، وقد ذكرنا في صدر هذه المسألة: بأنه إذا كان الربويان مستويين في المقدار ومع أحدهما عين أخرى؛ كمد ودرهم بمد، فقد اتفق الجميع على المنع؛ لأنها تقابل من أحدهما جزءاً، فيبقى أحدهما أكثر من الآخر (¬1)، فكيف يقال: يشترط أن يكون الذهب الذي في القلادة مساوياً للذهب الذي هو الثمن؟ ومن باب أولى إذا كان الذهب المفرد أقل من الذهب الذي مع الخرز. أما إذا كان الذهب المفرد أكثر من الذهب الذي مع القلادة، فإما أن يكون الذهب الباقي من الذهب المفرد مساوياً في القيمة للخرز الذي في القلادة، أو أقل منه، فإن لم يكن مساوياً جاز على مذهب الحنفية، وليس بجائز على مذهب أحمد واختيار ابن تيمية؛ لأن ذلك قد يتخذ حيلة على بيع الذهب بالذهب مع التفاضل، فإنه لا يعجز أحد رغب في مبادلة ربوي بجنسه مع زيادة في أحدهما أن يضيف على القليل شيئاً يسيراً يجعله في مقابلة الزيادة. ¬
الدليل الثاني
وإن كان الباقي من الذهب المفرد مساوياً في القيمة للخرز الذي في القلادة فإن القول بالجواز متجه، مثله تماماً لو باع صاعين من التمر بصاع ودرهم، والصاع الزائد يساوي فعلاً درهماً، فهذا ليس فيه حيلة على الربا، والحاجة قد تدعو إلى ذلك. الدليل الثاني: (ح - 788) ما رواه مسلم من طريق أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، من زاد أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء (¬1). وجه الاستدلال: أن الصفقة إذا اشتملت على شيئين مختلفي القيمة يقسط الثمن على قيمتهما، وهذا يؤدي في مسألة (مد عجوة) إما إلى يقين التفاضل، وإما إلى الجهل بالتساوي، وكلاهما مبطل للعقد في أموال الربا. وبيان ذلك: أنه إذا باع درهمًا ومداً (يساوي درهمين) بمدين يساويان ثلاثة دراهم، فإن الدرهم يكون في مقابلة ثلثي مد، والمد الذي مع الدرهم في مقابلة مد وثلث، وهنا تفاضل متيقن. وأما إن فرض التساوي كمد ودرهم بمد ودرهم، والمد في كل من العوضين يساوي درهماً، فإن التقويم ظن وتخمين لا تتيقن معه المساواة، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في باب الربا. ¬
ويناقش
ويدل لاعتبار القيمة في هذه الحال: أنها المرجع فيما إذا ظهر أحد جنسي الصفقة مستحقاً، أو رد بعيب، أو تلف عند البائع. مثال ذلك: أن من اشترى عبدًا وثوباً بألف، ثم استحق الثوب، أو تلف، كان العبد مأخوذاً بحصته من الألف، ولا يكون مأخوذاً بنصف الألف (¬1). ويناقش: أن اختلاف القيمة غير مؤثر في باب الربا، فالمماثلة فيما يدخله الربا معتبرة في الكيل والوزن، فأما القيمة فلا اعتبار بها، يدل على ذلك أنه لو باع كيلة من حنطة تساوي عشرة دنانير بكيلة من حنطة تساوي عشرين ديناراً، فإن العقد يصح، ويبطل اعتبار القيمة. وأما الرجوع إلى القيمة عند التلف أو الاستحقاق فهذه حاجة، وليست هي الأصل، يدل على ذلك أن الجودة لا اعتبار لها في الأموال الربوية بالاتفاق، وتعتبر عند الإتلاف، فلا يجوز بيع صاع جيد بصاعين أقل جودة، بل يجب التساوي، أما لو أتلف صاعاً جيداً لم يجزئه أن يدفع عنه رديئاً. قال ابن تيمية عن قولهم بأن الصفقة إذا اشتملت على عوضين مختلفين انقسم الثمن عليهما بالقيمة، قال: "هذه علة ضعيفة، فإن الانقسام إذا باع شخصاً مشفوعاً، وما ليس بمشفوع كالعبد والسيف والثوب ... فأما انقسام الثمن لغير حاجة فلا دليل عليه" (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن هذا العقد يجب أن يمنع من باب سد الذرائع؛ لئلا يتخذ ذلك حيلة على الربا الصريح، كما باع مائة درهم في قرطاس، بمائتي درهم باعتبار أن المائة الزائدة في مقابلة القرطاس، مع أنه قد لا يساوي فلساً. وأجيب: بأننا إذا قيدنا الجواز بأن يكون ما مع الربوي له قيمة حقيقية، وأن يكون ما بقي من الفرد مساوياً في القيمة لما ضم إلى الربوي فقد منعنا اتخاذ ذلك حيلة على الربا الصريح، والله أعلم. الراجح من الخلاف: أرى أن مذهب الإِمام أحمد والذي اختاره ابن تيمية أقوى، وأصلح للناس، فإن فتح الباب بالجواز مطلقاً فيه فتح لباب الربا، وإغلاق الباب مطلقاً فيه تضييق، وإباحته بشروط، وهو أن لا يكون في ذلك حيلة على الربا، فيه تيسير على الناس مع سد باب المفسدة، والله أعلم.
المبحث الثاني في اجتماع البيع مع القرض
المبحث الثاني في اجتماع البيع مع القرض صورته: أقرض رجل آخر عشرة آلاف ريال وباع عليه بيتاً بمائة ألف. علاقته بمسألة (مد عجوة ودرهم) صورة المسألة: أنه أبدل ربوياً بآخر، ومع أحدهما من غير جنسه. حيث أبدل (عشرة الآف ريال وبيتاً بمائة وعشرة) وجعل العشرة في مقابل العشرة، والمائة في مقابل البيت. وقد نص ابن تيمية في مجموع الفتاوى على أن هذه المسألة داخلة في مسألة (مد عجوة ودرهم). قال رحمه الله: "فإن من أقرض رجلاً ألف درهم، وباعه سلعة تساوى خمسمائة بألف لم يرض بالإقراض إلا بالثمن الزائد للسلعة، والمشتري لم يرض ببذل ذلك الثمن الزائد إلا لأجل الألف التي اقترضها، فلا هذا باع بيعا بألف ولا هذا أقرض قرضاً محضًا بل الحقيقة أنه أعطاه الألف والسلعة بألفين، فهي مسألة مد عجوة" (¬1). والمسألة لها صورتان: الأولى: أن يكون اجتماع البيع والقرض مشروطاً. الثانية: أن يكون اجتماعهما من غير شرط. وسوف نبحث إن شاء الله تعالى كل مسألة على حدة، ونبين كلام أهل العلم فيها، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
الفرع الأول أن يكون اجتماعهما مشروطا
الفرع الأول أن يكون اجتماعهما مشروطاً قال القرافي: "إجماع الأمة على جواز البيع والسلف مفترقين وتحريمهما مجتمعين لذريعة الربا" (¬1). [م - 1191] اتفق العلماء في الجملة على أنه لا يجوز اشتراط عقد البيع في عقد القرض، كأن يقول رجل لآخر: أقرضك بشرط أن تبيعني بيتك بكذا وكذا، فهذا الشرط جرى صريحاً في العقد. وقد يكون الشرط حكماً دون أن ينصا عليه في العقد كما لو كان الشرط جرى به عرف، فلا فرق، فالمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً. دليل القول بالتحريم: الدليل الأول: (ح-789) ما رواه أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬2). [إسناده حسن] (¬3). وجه الاستدلال: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل سلف وبيع) والمراد بالسلف: هو القرض في لغة ¬
الدليل الثاني
الحجاز، فنهى عن الجمع بين البيع والقرض، وإنما نهى عن الجمع بين البيع والقرض، وإن كان كل واحد منهما صحيحاً بانفراده؛ لأنه ربما حاباه في البيع لأجل القرض، فيؤدي إلى أن يجر القرض نفعاً للمقرض، فلما كانت الفائدة على القرض ربما تستتر بعقد البيع نهى عنها الشارع، وإذا كان هذا حكم الشرع بالفائدة المستترة فكيف بالفائدة الظاهرة المشروطة. قال ابن تيمية: "نهى -يعني النبي صلى الله عليه وسلم - أن يجمع الرجل بين سلف وبيع، وهو حديث صحيح، ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح، وإنما ذاك؛ لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفاً، ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفاً، وسلعة بثمانمائة، ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا" (¬1). وقال ابن القيم: "وأما السلف والبيع، فلأنه إذا أقرضه مائة إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة، فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك" (¬2). الدليل الثاني: حكى الإجماع غير واحد من أهل العلم على تحريم اشتراط البيع مع عقد القرض. قال الباجي في المنتقى: "لا يحل بيع وسلف، وأجمع الفقهاء على المنع من ذلك ... " (¬3). ¬
الدليل الثالث
قال القرافي: "وبإجماع الأمة على جواز البيع والسلف مفترقين، وتحريمهما مجتمعين لذريعة الربا" (¬1). وقال في مواهب الجليل: "واعلم أنه لا خلاف في المنع من صريح بيع وسلف" (¬2). وقال الزركشي في البحر المحيط: "وبالإجماع على جواز البيع والسلف مفترقين، وتحريمهما مجتمعين للذريعة إليها" (¬3). كما حكى الإجماع على التحريم ابن قدامة في المغني (¬4) وغيرهم. الدليل الثالث: أن اشتراط البيع في عقد القرض، أو العكس كاشتراط القرض في عقد البيع يخرج القرض عن موضوعه، وذلك أن القرض من عقود الإحسان والإرفاق، يجوز فيه ما لا يجوز في البيع من مبادلة الربوي بمثله مع عدم التقابض، فإذا ارتبط بعقد البيع عن طريق الشرط أصبح له حصة من العوض، فحصلت بذلك مفسدتان: المفسدة الأولى: إخراج عقد القرض عن موضوعه ومقتضاه، وهو الإرفاق والإحسان, وهذا يؤدي إلى بطلانه، وبطلان عقد البيع. ¬
المفسدة الثانية
المفسدة الثانية: أن القرض إذا أصبح له حصة من العوض أفضى ذلك إلى جهالة الثمن، وذلك لأن مقدار هذه الحصة مجهولة، فتعود بالجهالة على الثمن كله.
الفرع الثاني أن يكون اجتماع البيع والقرض من دون شرط
الفرع الثاني أن يكون اجتماع البيع والقرض من دون شرط [م - 1192] إذا اجتمع البيع والقرض من دون شرط، لا صريحاً, ولا حكماً، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة. فقيل: يجوز مع الكراهة. اختاره بعض الحنفية، وقيد بعضهم الكراهة فيما لو كان العقدان في مجلس واحد، وإلا فلا بأس به (¬1). وهذا هو المفهوم من اجتماع البيع والقرض. وقيل: يحرم، اختاره الحلواني من الحنفية (¬2)، وهو قول في مذهب المالكية (¬3)، والمشهور في مذهب الحنابلة (¬4). ¬
وقيل: لا بأس به، اختاره محمَّد بن الحسن، والكرخي من الحنفية (¬1)، وهو المعتمد عند المالكية (¬2)، ومذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: إن كان فيه محاباة في الثمن فيمنع، وهذه إحدى الصور الممنوعة عند المالكية (¬5). ¬
دليل من قال: لا يجوز جمع البيع مع القرض ولو بدون شرط
دليل من قال: لا يجوز جمع البيع مع القرض ولو بدون شرط: (ح-790) ما رواه أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬1). [إسناده حسن] (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول نهى عن سلف وبيع، فالحديث بإطلاقه يدل على النهي عن مطلق الجمع بين سلف وبيع، سواء كان ذلك بالشرط أو بدون شرط، فالنفس مجبولة على محاباة من أحسن إليها. الدليل الثاني: (ث-136) روى البخاري من طريق شعبة، عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه، أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فقال: ألا تجيء فأطعمك سويقاً وتمراً ... ثم قال: إنك بأرض الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق، فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قت، فلا تأخذه فإنه ربا (¬3). وجه الاستدلال: فإذا كانت المحاباة قد توجد فيما سبيله التبرع، ولو كانت بدون شرط، ولم تجتمع مع القرض بعقد واحد، فما بالك بالمحاباة بالمعاوضة ببعض الثمن، ¬
دليل من قال يجوز إذا كان بغير شرط
وليس بكل الثمن، وقد اجتمع عقد البيع وعقد القرض بصفقة واحدة، والتي قد يراعي فيها البائع صاحب الإحسان عليه، فتعود المسألة إلى قرض جر نفعاً. دليل من قال يجوز إذا كان بغير شرط: المحذور من اجتماع البيع والقرض بالشرط أن تكون هناك منفعة مشروطة في القرض استترت بعقد البيع، فإذا لم يكن هناك شرط فالمنفعة التي قد تأتي بسبب القرض ليست حراماً، أرأيت لو أنه أقرضه بشرط أن يقضيه خيراً مما أعطاه حرم بالاتفاق، ولو قضاه خيراً مما أعطاه بلا شرط لم يحرم على الصحيح. (ح- 791) يدل لذلك ما رواه مسلم من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء ابن يسار عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً، فقال: أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء (¬1). قال ابن عبد البر: "في حديث أبي رافع هذا ما يدل على أن المقرض إن أعطاه المستقرض أفضل مما أقرضه جنساً، أو كيلاً، أو وزناً، أن ذلك معروف، وأنه يطيب له أخذه منه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أثنى فيه على من أحسن القضاء، وأطلق ذلك، ولم يقيده بصفة" (¬2). قال الصنعاني: "ولا يدخل في القرض الذي يجر نفعاً؛ لأنه لم يكن مشروطا من المقرض وإنما ذلك تبرع من المستقرض ... " (¬3). ¬
دليل من قال: يجوز إذا لم يكن فيه محاباة لانتفاء التهمة
دليل من قال: يجوز إذا لم يكن فيه محاباة لانتفاء التهمة: صاحب هذا القول ربما نظر إلى المعنى الذي من أجله نهى الشارع عن سلف وبيع، وهو خوف أن يكون هناك منفعة بسبب القرض مستترة بعقد البيع، فإذا لم يكن هناك محاباة لم يكن هناك حيلة ليتوصل إلى المنفعة بسبب القرض، وكانت التهمة بعيدة، أما إذا حاباه فإن التهمة قائمة، والخوف من اتخاذ ذلك ذريعة إلى الحرام موجود، فيسد الباب. الراجح: أميل إلى القول بالتحريم، والقياس على المنفعة الحاصلة بالقرض إذا لم تكن مشروطة قياس مع الفارق، فإن المنفعة التي أجازها جمهور الفقهاء إنما أجازوها عند السداد، ومنعوها وقت القرض، أو بعده وقبل السداد، بينما مسألتنا هذه يجتمع البيع والقرض وقت العقد، وكان يمكنه أن يجعل كل واحد في عقد مستقل، ويكون القرض قبل البيع، وفي مجلس آخر أبعد للتهمة. والله أعلم.
المبحث الثالث بيع أسهم الشركات إذا كانت تمثل عروضا ونقودا
المبحث الثالث بيع أسهم الشركات إذا كانت تمثل عروضاً ونقوداً [م - 1193] هذه المسألة لها علاقة وثيقة في المسائل السابقة، وهي مسألة (مد عجوة ودرهم). فالسهم في مسألتنا: يتكون من نقود وعروض، والثمن نقود، فصار كأنه باع ربوياً بربوي من جنسه، ومع أحدهما من غير جنسه. إلا أن هذا التكييف ليس محل وفاق بين الباحثين والفقهاء المعاصرين نظراً لاختلافهم في تكييف السهم. فهناك من يكيف السهم على أنه عروض مطلقاً بصرف النظر عما يمثله من موجودات الشركة. وبناء على هذا التكييف لا يدخل في مسألة (مد عجوة ودرهم)؛ لأن المقابلة ستكون بين عروض ودراهم. وهناك من يرى أن للسهم حكم ما يمثله من موجودات الشركة أياً كانت تلك الموجودات. وبناء على هذا التكييف يكون بيع السهم إذا كان يمثل نقوداً وعروضًا صورة من صور (مد عجوة ودرهم). ومثل أسهم الشركات المساهمة بيع الأسهم العقارية إذا كانت تمثل نقوداً وعقاراً، وبيع الوحدات الاستثمارية إذا كانت موجوداتها عروضاً ونقوداً. وسوف أفرد إن شاء الله تعالى مباحث خاصة للأسهم، أتعرض فيها إن
شاء الله تعالى إلى كلام الباحثين والفقهاء المعاصرين، وبيان أدلتهم ومناقشتها، وبيان الراجح، وإنما أردت هنا فقط الإشارة إلى علاقة مثل هذه المسائل بمسألة (مد عجوة ودرهم)، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
الفصل الرابع بيع حق التقدم في البنك العقاري
الفصل الرابع (*) بيع حق التقدم في البنك العقاري [م - 1194] تمنح الحكومات العربية الغنية، ومنها البلاد السعودية لكل مواطن قرضا مالياً لبناء سكن له، بشروط خاصة، ولكثرة المتقدمين لطلب الحصول على حقهم ينتظر المتقدم سنوات تصل أحياناً إلى أكثر من خمس عشرة سنة ليحصل على هذا الحق، وربما استغنى المتقدم للحصول على هذا الحق قبل الحصول على حقه، وربما احتاج فباع الأرض التي يملكها، والتي بموجبها منح هذا القرض، فيأتي رجل تنطبق عليه شروط الاستحقاق إلا أن ترتيبه لازال متأخراً، فيشتري من هذا الرجل حق المتقدم ليأخذ محله في الترتيب بدلاً من انتظاره سنوات كثيرة حتى يصله الاستحقاق، فما حكم أخذ العوض على هذا؟ وهل يعتبر باع عليه دراهم (وهي قيمة القرض) بدراهم، أو باع عليه حق المتقدم فقط، في هذه المسألة خلاف بين أهل العلم. فقيل: لا يجوز، وهذا قول شيخنا ابن عثيمين رحمه الله (¬1)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (¬2). ويمكن أن يخرج هذا القول على مذهب الحنفية القائلين بأن المال هو ما يمكن حيازته وادخاره وتموله، وحق الترتيب لا يمكن حيازته وتموله وادخاره فلا يكون مالاً عند الحنفية، وبالتالي لا تجوز المعاوضة عليه، بناء على مذهبهم بأن المنافع لا تعد مالاً. ¬
حجة من منع بيع حق التقديم
وقد ناقشت أدلة الحنفية في عدم اعتبارهم المنافع أموالاً، فأغنى عن إعادته هنا، وسنذكر أدلة شيخنا رحمه الله، وأدلة اللجنة الدائمة وفقها الله فيما ذهبوا إليه عند الكلام على ذكر الأدلة. وقيل: يجوز أن يبيع حق المتقدم في البنك العقاري، وإلى هذا ذهب مجموعة من طلبة العلم منهم فضيلة الشيخ خالد بن علي المشيقح (¬1)، وفضيلة الشيخ سعود بن عبد الله الفنيسان، عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام سابقاً (¬2). حجة من منع بيع حق التقديم: الدليل الأول: (ح-792) ما رواه مسلم من طريق سليمان بن يسار عن أبي هريرة أنه قال لمروان: أحللت بيع الربا؟ فقال مروان: ما فعلت. فقال أبو هريرة: أحللت بيع الصكاك وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفى. قال: فخطب مروان الناس، فنهى عن بيعها. قال سليمان: فنظرت إلى حرس يأخذونها من أيدي الناس (¬3). فالمراد بالصكاك هنا ورقة تخرج من ولي الأمر بالرزق لمستحقه، بأن يكتب فيها للإنسان كذا وكذا من طعام أو غيره، فيبيع صاحبها ذلك لإنسان قبل أن يقبضه. فإذا كانت هذه الصكاك قد أخذت حكم الطعام؛ لأنها نابت عن ¬
ويناقش
الطعام، ولم يخرج هذا البيع بأنه باع حق تقدمه في هذا الاستحقاق، فكذلك بيع هذا الاستحقاق لا يخرج عن بيع الصكاك. ويناقش: بأن هناك فرقاً بين بيع حق الترتيب في استحقاق مالي، وبين بيع المال نفسه، فالصك في حديث أبي هريرة عبارة عن ورقة بدين يثبت أن لصاحب السند حقاً مالياً معلوماً، فإذا باعه الإنسان فقد صدق عليه أنه باع ديناً له على بيت مال المسلمين، فيصدق عليه أنه باع طعاماً قبل قبضه، وهو منهي عنه بالإجماع بخلاف حق الترتيب فإنه باع حق المتقدم بدليل: أولاً: أن المال الذي يأخذه المشتري من البنك العقاري يأخذه باسمه هو، لا باسم البائع، ويسقط بذلك حقه في هذا الاستحقاق، فلا يحق له المطالبة بقرض آخر باعتبار أنه استخدم حقه، ولو كانت المعاوضة على المال لكان حق المشتري باقياً؛ لأن القرض كان باسم البائع. ثانياً: أن من شروط صحة المعاوضة أن يكون المشتري لم يسبق له أن منح قرضاً عقارياً، فلا يقبل النظام أن يكون المشتري سبق له أن استخدم هذا الحق، مما يدل على أن المعاوضة لم تكن على الحق المالي، وإنما على حق الترتيب. الدليل الثاني: أن ذلك من باب بيع ما لا يملك الإنسان؛ لأن المال المباع هو عند الدولة، وقد ثبت النهي عن بيع ما ليس عند البائع كما في حديث عبد الله بن عمرو. (ح-793) فقد روى أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وجه الاستدلال
عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬1). [إسناده حسن] (¬2). وجه الاستدلال: قوله صلى الله عليه وسلم: (وعن بيع ما ليس عندك)، وبيع الحق الذي لك عند الدولة هو بيع ما ليس عندك. ويجاب على هذا بما أجيب به على الدليل السابق: أن المعاوضة ليست على الحق المالي؛ لأن الحق المالي سيأخذه المشتري باسمه هو، وهو مستحق له بموجب النظام، وإنما المعاوضة على حق المتقدم، والذي يملكة البائع بموجب عمله، ومبادرته بالتسجيل. الدليل الثالث: أن ذلك يوقع في ربا الفضل والنسيئة، فالقرض الممنوح من بيت مال المسلمين مقداره ثلاثمائة ألف ريال، يتنازل عنه مقابل خمسين ألف ريال، فصار الشأن مبادلة دراهم بدراهم مع التفاضل والنساء، وهذا لا يجوز. ويناقش: ما قيل في الجواب عن الدليلين السابقين يقال هنا، وأن حقيقة المعاوضة ليست دراهم بدراهم، وإنما دراهم في مقابل التنازل عن حقه في الترتيب. الدليل الرابع: أن المعاملة لا تسلم من الغرر؛ لأن الاستحقاق قد يخرج وقد لا يخرج، فقد ¬
الدليل الخامس
تعطيه الدولة، وقد تمنعه، فهذه جهالة، وإن أعطته الدولة فربما تعطيه الدولة في الوقت المقدر، وقد يتأخر، وجهالة الأجل جهالة أخرى، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر كما في حديث أبي هريرة في مسلم. وما قيل في الجواب عن الأدلة السابقة يقال هنا، فالمعاوضة ليست على القرض حتى يقال: إن في ذلك غرراً، وإنما المعاوضة على حق الترتيب، وقد استحقه فعلاً، بمجرد المعاوضة عليه، فلا غرر فيه. الدليل الخامس: أن في المعاوضة اعتداء على حق الغير، وذلك أنه يأتي المعاوض المتأخر ترتيباً ليتقدم على غيره ممن سبقه سنوات. ويجاب عن ذلك: بأن الترتيب لم يتغير، فكل باق على ترتيبه، وإنما نزل حق شخص ليقوم مكانه آخر، والباقون ما زالوا على ترتيبهم، فلم يتقدم أحد على أحد. هذه أهم الأدلة تقريباً الذي استدل بها من يرى تحريم هذه المعاملة. وأما حجة من قال بالجواز فهو مبني على أمور: أولاً: أن حقيقة المعاوضة ليست على المال المدفوع، وإنما المدفوع عن حق المتقدم، فهو أخذ عوض عن اختصاص اختص به شخص ما، فالمشتري سيأخذ هذا المال بصفته مستحقاً لهذا المال بشخصه، لكون الشروط منطبقة عليه، وليس لكونه اكتسبه عن طريق الشراء، وبهذا يتبين أن العقد كان منصباً على تمكنه من الانتظام في سلم أعداد المتقدمين، والتمكن من هذا الحق، عن طريق شراء اسم المتقدم الأول. ثانياً: أن حق المتقدم يمكن تكييفه على أنه مال؛ لأن استحقاقه مبني على عمل
عمله صاحب الحق في سعيه ومبادرته في التسجيل في طلب الاستحقاق، وقيامه بجميع الشروط المطلوبة لقبوله ضمن أعداد المنتظرين، ومنها امتلاكه أرضاً بمواصفات معينة. وهذه حقيقة المال. ثالثاً: أن التمول يثبت بتمول الناس له، قال ابن عابدين: "والمالية تثبت بتمول الناس كافة أو بعضهم" (¬1). رابعاً: وأن مرد التمول إلى العرف. قال المرداوي في الإنصاف: "لا ربا في الماء مطلقاً على الصحيح من المذهب؛ لإباحته أصلاً، وعدم تموله عادة" (¬2). وقال في موضع آخر: "إن لم يتمول عادة كماء وكلأ محرز فلا قطع -يعني على سارقه- في إحدى الروايتين" (¬3). وقال في كشاف القناع: "ويلزمه قبول الماء إذا بذل له هبة؛ لسهولة المنة فيه، لعدم تموله عادة" (¬4). فإذا ثبت هذا فإنه يمكن القول بأنه قد جرت أعراف الناس بتمول هذا الحق، والمعاوضة عليه، وأصبح لهذا الحق قيمة مادية عندهم، يجوز بمقتضاه بذل المال لتحصيله. خامساً: قد أجاز بعض الفقهاء النزول عن حق الوظيفة بعوض. ¬
جاء في مجمع الضمانات: "قد تعارف الفقهاء بالقاهرة النزول عن الوظائف بمال يعطى لصاحبها، وتعارفوا على ذلك، فينبغي الجواز، وأنه لو نزل له وقبض منه المبلغ، ثم أراد الرجوع عليه لا يملك ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" (¬1). قال الشيخ خالد بن علي المشيقح: هذا الحق يمكن تصنيفه ضمن الحقوق غير المجردة (المتقررة)؛ لأنه يتعلق بعين مادية قائمة، وهي الأرض التي تقدم صاحب الطلب بتقديم اسمه عليها، والحقوق المقررة تجوز المعاوضة عنها إما ببيعها، أو المصالحة عنها، مثل: حق أولياء المجني عليه في رقبة الجاني وغيرها من الحقوق. ثم على القول بأن هذا من الحقوق التي هي في واقعها مصالح أو اختصاصات، أباح الشارع للمكلفين الاحتفاظ بها أو عدمه، وهو أمر موكول إلى رغباتهم، وأنه يجوز حمل المكلف الذي وقعت من نصيبة على التنازل عنها بمبلغ مالي، على القول بأنها من هذا النوع فإنه تجوز المعاوضة عنها، وتكيف على أنها مصالحة عن حق بمبلغ مالي حملاً لصاحبه على التنازل عنه" (¬2). وهذا القول هو الراجح، لقوة أدلته، إلا أنه ينبغي أن يقيد الجواز بأن تكون الأنظمة في البلاد المانحة لمثل هذه الحقوق لا تمانع من نقل الحق من شخص لآخر، وأن يطلع البنك على نقل هذا الحق من شخص لآخر، فإن كانت الدولة المانحة لهذا الحق تمنع من الانتقال منع احترافاً للشروط بين المتعاقدين، ولأن ¬
الغالب أن مثل هذه الأنظمة لم توضع إلا مراعاة لمصلحة الناس، فيجب التقيد بها ما دامت لا تعارض نصاً، والله أعلم.
الباب الخامس في بعض البيوع المختلف فيها
الباب الخامس في بعض البيوع المختلف فيها الفصل الأول فى بيع العينة المبحث الأول في تعريف العينة وبيان صورها تعريف العينة لغة واصطلاحاً (¬1): عرف الفقهاء العينة بتعريفات عدة يختلف كل تعريف منها عن الآخر لاختلاف صور العينة لدى الفقهاء. ¬
الصورة الأولى
قال ابن رشد الجد: "العينة منها ما يجوز الاتجار بها، ومنها ما يكره أو يحرم" (¬1). وقال القرافي: "والعينة ثلاثة أقسام: جائزة، ومكروهة، ومحظورة" (¬2). ونستطيع إن شاء الله تعالى أن نذكر أهم هذه الصور: الصورة الأولى: وهو أن يبيع سلعة بثمن مؤجل، أو بثمن لم يقبضه، ثم يشتريها نفسها ممن باعها عليه نقداً بثمن أقل من جنس الثمن الذي باعها به قبل حلول الأجل، والفرق بين الثمنين يعتبر ربا للبائع الأول. وتتول العملية إلى قرض عشرة ليرد خمسة عشر، والبيع وسيلة صورية إلى الربا. وهذه الصورة هي أشهر صور العينة، وهي التي تتبادر إلى الذهن عند الإطلاق، وهي التي نص عليها جماهير أهل العلم، ورتب عليها الحكم (¬3). ¬
الصورة الثانية
الصورة الثانية: أن يبيعه بثمن مؤجل، ثم يشتريها منه بأكثر من ذلك الثمن إلى أجل أبعد من الأجل الأول. نص المالكية على هذه الصورة، وهي عندهم من صور العينة المحرمة (¬1). "قال مالك في الرجل يبيع من الرجل الجارية بمائة دينار إلى أجل، ثم يشتريها بأكثر من ذلك الثمن الذي باعها به إلى أبعد من ذلك الأجل الذي باعها إليه: إن ذلك لا يصلح، وتفسير ما كره من ذلك أن يبيع الرجل الجارية إلى أجل، ثم يبتاعها إلى أجل أبعد منه يبيعها بثلاثين ديناراً إلى شهر، ثم يبتاعها بستين دينارا إلى سنة أو إلى نصف سنة، فصار إن رجعت إليه سلعته بعينها، وأعطاه صاحبه ثلاثين ديناراً إلى أشهر بستين دينارًا إلى سنة أو إلى نصف سنة فهذا لا ينبغي" (¬2). قال الباجي: "وهذا كما قال مالك رحمه الله: إن من باع جارية بثلاثين إلى أجل، فإنه لا يجوز أن يشتريها بأكثر من ذلك الثمن إلى أبعد من ذلك الأجل، إذا كان على وجه غير المقاصة؛ لأنه يقبض عنه عند الأجل الأول ثلاثين، ويدفع إليه عند الأجل ستين، وما تقدم من بيع الجارية وابتياعها لغو توصلا به إلى بيع ثلاثين ديناراً بستين ديناراً، وذلك ممنوع. وبهذا قال أبو حنيفة، والثوري والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وطاوس، وسعيد بن جبير" (¬3). ¬
الصورة الثالثة
الصورة الثالثة: عكس العينة: وهو أن يبيع سلعة بنقد، ثم يشتريها بأكثر منه نسيئة (¬1). وقد نص أحمد في رواية حرب على أن هذه الصورة لا تجوز إلا أن تتغير السلعة، فهي كمسألة العينة سواء وهي عكسها صورةً، وفي الصورتين قد ترتب في ذمته دراهم مؤجلة بأقل منها نقداً، لكن في إحدى الصورتين البائع هو الذي اشتغلت ذمته، وفي الصورة الأخرى: المشتري هو الذي اشتغلت ذمته، قال ابن القيم: لا فرق بينهما ... وليس في النص ما يدل على اختصاص العينة بالصورة الأولى حتى تتقيد به نصوص مطلقة على تحريم العينة (¬2). الصورة الرابعة: إطلاق العينة على التورق: وهو أن يأتي الرجل المحتاج إلى آخر، ويستقرضه عشرة دراهم، ولا يرغب المقرض في الإقراض طمعاً في فضل لا يناله بالقرض، فيقول: أبيعك هذا الثوب إن شئت باثني عشر درهماً نسيئة، وقيمته في السوق عشرة، ليبيعه في السوق بعشرة حالة. وهذه مسألة التورق، وقد ذكر بعض الحنفية هذه الصورة في معرض تفسير العينة (¬3). وقد نص الإمام أحمد في رواية أبي داود على أنها العينة، وأطلق عليها اسمها (¬4). وانتقد بعض الحنفية إطلاق العينة على التورق. ¬
الصورة الخامسة
لأن العينة مأخوذة من العين المسترجعة، لا العين مطلقاً، وما لم ترجع إليه العين التي خرجت منه لا يسمى بيع العينة، وإلا فكل بيع بيع العينة، وفي التورق لا ترجع العين إلى بائعها الأول (¬1). الصورة الخامسة: أن يدخل المتعاقدان بينهما ثالثاً، كأن يبيع المقرض ثوبه من المستقرض باثني عشر درهماً نسيئة، ويسلمه إليه، ثم يبيع المستقرض من الثالث بعشرة، ويسلمه إليه، ثم يبيعه الثالث إلى صاحبه المستقرض بعشرة، ويسلمه إليه، ويأخذ منه العشرة، ويدفعها للمستقرض، فيحصل للمستقرض عشرة، ولصاحب الثوب اثنا عشر درهماً (¬2). الصورة السادسة: جاء في الشرح الكبير: "وأهل العينة قوم نصبوا أنفسهم لطلب شراء السلع منهم وليست عندهم، فيذهبون إلى التجار فيشترونها منهم ليبيعوها لمن طلبها منهم، فهي بيع من طلبت منه سلعة قبل ملكه إياها لطالبها بعد شرائها، سميت بذلك لاستعانة البائع بالمشتري على تحصيل مقصده من دفع قليل ليأخذ عنه كثيراً، وهي ثلاثة أقسام: جائز، ومكروه، وممنوع" (¬3). فالجائز منها عندهم: أن يسأله عن السلعة، فيقول: ليست عندي، ثم يذهب، فيشتريها بغير أمره، ثم يخبره بأنه قد اشتراها، فيجوز أن يبيعها عليه ¬
نقداً أو نسيئة، بمثل ما اشتراها به، أو أقل، أو أكثر. هذه هي الصورة الجائزة. وأما الصورة المحرمة: أن يقول له: اشتر سلعة كذا بعشرة، وأربحك فيها خمسة إلى أجل. فكان هذا الرجل أعطى عشرة دنانير، وأخذ منه خمسة عشر إلى أجل، والسلعة واسطة ملغاة. وأما الصورة المكروهة: أن يقول له: اشتر لي سلعة كذا، وأنا أربحك فيها، من غير تعيين لمقدار الربح (¬1). وسوف يأتي إن شاء الله تعالى الكلام على هذه الصور في باب المواعدة على الشراء، وحكم الإلزام به عند الكلام على المعاملات المصرفية، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. هذه بعض صور العينة، وهذه الصور ليست محل اتفاق بين المذاهب، وليست في حكم واحد، فمنها ما هو محرم على الصحيح، ومنها ما هو جائز، والصورة الأولى تكاد تكون أشهر صور العينة، وهي التي تعنينا في هذا الباب، وهو في حقيقته قرض دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل استتر بعقد بيع، عن طريق جعل سلعة بينهما محللة سواء كان هذا بقصد أو هذا ما يؤول إليه الحال، ولو بغير قصد. كما قال ابن عباس: دراهم بدراهم بينهما حريرة (¬2). وسوف نجعل كلامنا مقتصراً على هذه الصورة، أما صور المواعدة على الشراء، أو التورق، فهي أنواع أخرى من البيوع لها أحكام تخصها، سوف نعرض لها إن شاء الله تعالى في بابها من هذا الكتاب. ¬
المبحث الثاني في حكم بيع العينة
المبحث الثاني في حكم بيع العينة قال ابن تيمية رحمه الله: "الذرائع حرمها الشارع وإن لم يقصد بها المحرم خشية إفضائها إلى المحرم، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع، وبهذا التحرير يظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها وإن لم يقصد البائع الربا" (¬1). قال البهوتي: "إنما حرم الله تعالى المحرمات لمفسدتها، والضرر الحاصل منها, ولا يزول ذلك مع بقاء معناها" (¬2). ويقول الدكتور حسن حامد حسان: "المعمول عليه في سد الذرائع ليس هو النية، أو القصد إلى المفسدة الممنوعة، ولكن ما يترتب على الفعل من المفاسد ... وإن لم يثبت قصد خاص للفاعل بل وإن ثبت القصد الحسن والنية الخالصة" (¬3). وقال ابن قدامة: "الحيل كلها محرمة، غير جائزة في شيء من الدين، وهو أن يظهر عقداً مباحاً يريد به محرماً، مخادعة وتوسلاً إلى فعل ما حرم الله، واستباحة محظوراته ... قال أيوب السختياتي: إنهم ليخادعون الله، كأنما يخادعون صبياً، لو كانوا يأتون الأمر على وجهه كان أسهل عليَّ " (¬4). ¬
[م - 1195] الخلاف في حكم العينة إنما هو بحسب الصورة المشهورة، وهو أن يبيع سلعة بثمن مؤجل، أو بثمن لم يقبضه، ثم يشتريها نفسها ممن باعها عليه نقداً بثمن أقل من جنس الثمن الذي باعها به قبل حلول الأجل. فإن اشتراها بمثل الثمن، جاز؛ لأنه لا ربا مع التماثل، وكذا من باب أولى إن اشتراها بأكثر مما باعها به؛ لأنه لا أحد يؤخذ منه دراهم ليعطي أكثر منها. قال الجصاص: "لا خلاف أن شراءه بمثله، أو أكثر منه جائز" (¬1). وعلل الباجي ذلك بأنه إذا دفع أكثر من الثمن أو مثله لم يتهم أحد (¬2). كما اتفق الفقهاء رحمهم الله على المنع من بيع العينة إذا كان البيع الثاني مشروطاً في العقد الأول نصاً (¬3). ¬
دليل القائلين بالتحريم
وأما إن كان العقد الثاني غير منصوص على اشتراطه في العقد الأول، فقد اختلف العلماء في حكمه. فقيل: لا يجوز، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وقد روي ذلك عن بعض الصحابة كابن عباس وابن عمر وأنس، وعائشة (¬4). وقيل: يجوز البيع. وهذا مذهب الشافعية (¬5)، واختيار ابن حزم الظاهري (¬6). وقيل: يكره، كراهة تنزيهية، اختاره بعض الشافعية (¬7). دليل القائلين بالتحريم: الدليل الأول: (ح-794) ما رواه الإمام أحمد، قال: حدثنا الأسود بن عامر، أخبرنا أبو بكر، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر، قال: سمعت ¬
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا -يعني ضن الناس بالدينار والدرهم- تبايعوا بالعين، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء لم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم. [روي من طرق كلها ضعيفة، وهل يتقوى بالمجموع فيه بحث] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
واعترض على هذا الحديث رواية ودراية
واعترض على هذا الحديث رواية ودراية: أما الرواية فإن الحديث قد انفرد به الضعفاء، وهذه علة توجب ضعفه. وأما من جهة الدراية، فإن دلالة الحديث على التحريم غير واضحة؛ لأن العينة قرنت بالأخذ بأذناب البقر، والاشتغال بالزرع، وهذه غير محرمة، وتوعده على ذلك بالذل لا يدل على التحريم. وأجيب: أما القول بأن الحديث قد انفرد به الضعفاء, فإن من يحتج به يذهب إلى أن كثرة طرقه تدل على أن لهذا الحديث أصلاً. فالطرق الضعيفة إذا كثرت شد بعضها بعضاً. والحديث قد صححه ابن القطان الفاسي، في بيان الوهم والإيهام (¬1). وابن عبد الهادي في المحرر (¬2)، وقوى إسناده ابن تيمية (¬3)، وابن القيم (¬4)، والشوكاني (¬5)، وغيرهم، هذا هو الجواب عن ضعف الحديث رواية. وأما الجواب عن ضعف الحديث من حيث الدلالة: الاعتراض على تحريم العينة لكونها قرنت بما ليس بمحرم بالاتفاق كالأخذ بأذناب البقر، والاشتغال بالزرع، فيقال في الجواب عنه: بأن الاشتغال بالمباح عن الواجب يجعل المباح محرماً، والحديث -إن صح- يعتبر من دلائل نبوته ¬
عليه الصلاة والسلام، حيث ربط الذل بترك الجهاد، فهو لم يذم الاشتغال بالأرض مطلقاً، وإنما ذم الاشتغال بالزرع إذا شغل عن واجب، وهذا محل وفاق، يقول الشوكاني: "وقد حمل هذا على الاشتغال بالزرع في زمن يتعين فيه الجهاد" (¬1). وعلى التسليم بأنه قرن بما ليس بمحرم، فإن هذا لا يدل على أن العينة ليست حراماً؛ لأن دلالة الاقتران دلالة ضعيفة، قال تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] والإتيان: واجب، والأكل ليس بواجب. (ح-795) ومنها ما رواه مسلم في صحيحه من طريق يحيي بن أبي كثير، حدثني إبراهيم بن قارظ، عن السائب بن يزيد حدثني رافع بن خديج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث (¬2). ومهر البغي حرام بالإجماع، وأجرة الحجام ليست حراماً بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وأعطى الحجام أجره، ولو كان حراماً لم يعطه. (ح-796) وروى البخاري من طريق عمرو بن سليم الأنصاري، قال: أشهد على أبي سعيد، قال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيباً إن وجد. قال عمرو: أما الغسل فأشهد أنه واجب، وأما الاستئان والطيب فالله أعلم أواجب هو أم لا (¬3). ¬
الدليل الثاني
فغسل الجمعة واجب على الصحيح من أقوال أهل العلم، وشهد بذلك الراوي عن أبي سعيد عمرو بن سليم الأنصاري. وأما الاستنان والطيب فهما مسنونان. وقد قرنهما الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث. وأما القول بأن التوعد بالذل لا يدل على التحريم: فالجواب بأن التوعد بضرب الذل على مجموع الأمة عقوبة إلهية تدل على أن الذنب يلحق بالكبائر، وليس بصغائر الذنوب، كما قال تعالى عن بني إسرائيل لما عتوا {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61] وقال تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]. ويقول الشوكاني: "لا نسلم أن التوعد بالذل لا يدل على التحريم؛ لأن طلب أسباب العزة الدينية، وتجنب أسباب الذلة المنافية للدين واجبان على كل مؤمن، وقد توعد على ذلك بإنزال النبلاء، وهو لا يكون إلا لذنب شديد، وجعل الفاعل لذلك بمنزلة الخارج من الدين المرتد على عقبه" (¬1). الدليل الثاني: (ح-797) ما رواه عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر والثوري، عن أبي إسحاق، عن امرأته أنها دخلت على عائشة في نسوة، فسألتها امرأة، فقالت: يا أم المومنين: كانت لي جارية، فبعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة إلى أجل، ثم اشتريتها منه بستمائة، فنقدته الستمائة، وكتبت عليه ثمانمائة، فقالت عائشة: بئس والله ما اشتريت، وبئس والله ما اشترى، أخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب، فقالت المرأة لعائشة: أرأيت إن ¬
ونوقش هذا الحديث
اْخذت رأس مالي، ورددت عليه الفضل، قالت: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى} [البقرة: 275]، أو قالت: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] (¬1). ونوقش هذا الحديث: بأن الحديث ضعيف من جهة الإسناد (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأجيب عن هذا
ومنكر من جهة المتن؛ وذلك أن الأعمال الصالحة لا يحبطها الاجتهاد، وإنما يحبطها الارتداد، ومحال أن تلزم عائشة زيداً التربة برأيها واجتهادها، فهذا ما لا ينبغي أن يظن بها, ولا يقبل منها (¬1). وما ذكرته عائشة قد خالفها فيه صحابي آخر، وهو زيد بن أرقم، وإذا اختلف الصحابيان فلا حجة في قول أحدهما على الآخر. وأجيب عن هذا: أما الجواب عن ضعف الحديث، فقد علمت الجواب عنه بما نقلته من كلام ابن الجوزي وابن عبد الهادي أثناء التخريج في امرأة أبي إسحاق، وعندي أن كلام الدارقطني والشافعي وابن عبد البر وابن حزم أقوى من كلامهما، وأن جهالة الحال لم ترتفع يكون ابن سعد ذكرها في طبقاته، أو أن ابن حبان قد ذكرها في ثقاته. وأما الجواب عن نكارة المتن: فيقال: نعم "ليس في حديث الباب ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا ¬
البيع، ولكن تصريح عائشة بأن مثل هذا الفعل موجب لبطلان الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أنها قد علمت تحريم ذلك بنص من الشارع، إما على جهة العموم كالأحاديث القاضية بتحريم الربا الشامل لمثل هذه الصورة، أو على جهة الخصوص ... ولا ينبغي أن يظن بها أنها قالت هذه المقالة من دون أن تعلم بدليل يدل على التحريم؛ لأن مخالفة الصحابي لرأي صحابي آخر لا يكون من الموجبات للإحباط" (¬1). وكون العمل يبطل الجهاد لا يمكن إدراكه بالاجتهاد (¬2). ولا يمكن أيضاً أن يقال: إن زيداً خالف عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما؛ لأن زيداً لم يقل: هذا حلال، بل فعله، وفعل المجتهد لا يدل على قوله على الصحيح لاحتمال سهو، أو غفلة، أو تأويل، أو رجوع ونحوه، وكثيراً ما يفعل الرجل الشيء، ولا يعلم مفسدته فإذا نبه له انتبه، ولم ينقل عن زيد أنه أصر على ذلك (¬3). وأما الجواب عن كون الإحباط لا يكون إلا بالشرك، فـ"جوابه: أن الإحباط إحباطان، إحباط إسقاط: وهو إحباط الكفر للأعمال الصالحة فلا يفيد شيء منها معه. وإحباط موازنة: وهو وزن العمل الصالح بالسيئ، فإن رجح السيئ فأمه هاوية، والصالح فهو في عيشة راضية كلاهما معتبر غير أنه يعتبر أحدهما بالآخر ومع الكفر لا عبرة البتة فالإحباط في الأثر إحباط موازنة بقي كيف يحبط هذا الفعل جملة ثواب الجهاد قلت له معنيان: ¬
الدليل الثالث
أحدهما: أن المراد المبالغة في الإنكار لا التحقيق. وثانيها: أن مجموع الثواب المتحصل من الجهاد ليس باقياً بعد هذه السببية، بل بعضه، فيكون الإحباط في المجموع من حيث هو مجموع وظاهر الإحباط والتوبة أنه معصية إما بترك التعلم لحال هذا العقد قبل الإقدام عليه؛ لأنه اجتهد فيه، ورأت أن اجتهاده مما يجب نقضه، وعدم إقراره، فلا يكون حجة له، أو هو ممن يقتدى به، فخشيت أن يقتدي به الناس، فينفتح باب الربا بسببه، فيكون ذلك في صحيفته، فيعظم الإحباط في حقه، ومن هذا الباب في الإحباط قوله صلى الله عليه وسلم: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) أي بالموازنة (¬1). الدليل الثالث: (ح- 798) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، ثنا محمد ابن عمرو، ثنا أبو سلمة عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة (¬2). ورواه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن عمرو به، بلفظ: من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا. [إسناده حسن إلا قوله فله أو كسهما أو الربا فهي زيادة شاذة] (¬3). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قوله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيعتين في بيعة) ومعناه "أن يقول أبيعكها بمائة إلى سنة، على أن أشتريها منك بثمانين حالة، وهذا معنى الحديث الذي لا معنى له غيره، وهو مطابق لقوله: فله أوكسهما أو الربا، فإنه إما أن يأخذ الثمن الزائد فيربي، أو الثمن الأول فيكون هو أوكسهما، وهو مطابق لصفقتين في صفقة فإنه قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة، ومبيع واحد، وهو قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها؛ ولا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الصفقتين فإن أبي إلا الأكثر، كان قد أخذ الربا ... " (¬1). ونوقش هذا الحديث من وجوه: الأول: أن كلمة (فله أوكسهما أو الربا) ليست محفوظة في الحديث كما تبين من التخريج. وقد قال الخطابي في معالم السنن: "لا أعلم أحداً قال بظاهر هذا الحديث، وصحح البيع بأوكس الثمنين، إلا شيء يحكى عن الأوزاعي، وهو مذهب فاسد، وذلك لما تتضمنه هذه العقدة من الغرر والجهل" (¬2).اهـ ¬
الوجه الثاني
قلت: صح القول كذلك عن شريح. (ث-137) فقد روى عبد الرزاق في المصنف أخبرنا معمر والثوري، عن أيوب، عن ابن سيرين عن شريح، قال: من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (¬1). [وسنده صحيح]. وقال بذلك ابن تيمية وابن القيم (¬2). وإن لم تثبت لفظة (فله أوكسهما أو الربا) فقد ثبت النهي عن بيعتين في بيعة، وهو موضع الاحتجاج. الوجه الثاني: أن النهي عن بيعتين في بيعة، وإن كان محفوظاً إلا أنه لم يرد في الشرع ما يفسر معنى الحديث، وليس هناك في اللغة أو في العرف تفسير له يمكن التحاكم إليه، وقد اختلف العلماء في تفسيرها على أقوال كثيرة، وصلت إلى أكثر من ستة أقوال، واختلافهم يدل على أنه ليس في المسألة نص عن الشارع، وتفسير السلف، والذي عليه جماهير أهل العلم لم يفسروها بالعينة، وحملها على العينة إنما جاء متأخراً عن بعض متأخري المالكية، وعن بعض متأخري الحنابلة كابن تيمية وابن القيم، وإليك الأقوال في معنى بيعتين في بيعة. فقيل: هو أن يبيع الرجل السلعة بعشرة نقداً، أو بعشرين نسيئة، فيفترق المتبايعان دون تعيين أحد الثمنين. وبهذا فسره السلف، وأكثر أهل العلم، ونقل ذلك الترمذي في سننه (¬3)، وهي ¬
صورة من صور بيعتين في بيعة عند الحنفية (¬1)، وهو أشهر التأويلين في مذهب الشافعية (¬2)، وقول طاووس والثوري وإسحاق (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). (ث-138) وروى ابن أبي شيبة في المصنف، قال: أخبرنا وكيع، أخبرنا سفيان، عن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه: صفقتان في صفقة ¬
ربا، أن يقول الرجل: إن كان بنقد فبكذا، وإن كان بنسيئة فبكذا (¬1). ورجاله ثقات. (ث-139) وبهذا أيضاً فسره سماك بن حرب، رواه أحمد من طريق شريك عن سماك بن حرب، قال: الرجل يبيع البيع، فيقول: هو بنسأ بكذا وكذا، وهو بنقد بكذا وكذا (¬2). [وشريك سيء الحفظ]. (ث-140) وروى ابن أبي شيبة في المصنف، حدثنا الثقفي، عن أيوب عن محمد أنه كان يكره أن يستام الرجل السلعة يقول: هي بنقد بكذا، وبنسيئة بكذا (¬3). وسنده صحيح. وقال النسائي في المجتبى: شرطان في بيع: وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة إلى شهر بكذا، وإلى شهرين بكذا. وقال أيضاً: بيعتين في بيعة: وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمائة درهم نقداً، وبمائتي درهم نسيئة (¬4). ¬
وقد قال الحكم، وحماد، وإبراهيم النخعي حين سئلوا عن الرجل يشتري الشيء بكذا نقد، وإن كان إلى أجل فبكذا، قالوا: لا بأس إذا تفرقا على أحدهما. والإسناد إليهم صحيح (¬1)، وهذا رواه عبد الرزاق بسند صحيح عن الزهري وقتادة (¬2). قال ابن القيم: "وهذا التفسير ضعيف، فإنه لا يدخل الربا في هذه الصورة، ولا صفقتين هنا، وإنما هي صفقة واحدة بأحد الثمنين" (¬3). وقد ناقشت هذه المسألة في أكثر من عنوان من ذلك مبحث: (إبهام الثمن على وجه التخيير)، ومبحث: (الزيادة في الثمن مقابل التأجيل) فأغنى عن إعادتها هنا. وقيل: بيعتين في بيعة: أن يقول الرجل: هذا بعشرة نقداً، أو بعشرين نسيئة، ويكون البيع لازماً بأحد الثمنين، فإن وقع على وجه التخيير فلا حرج، وهذا قول مالك (¬4)، ورييعة، ويحيى بن سعيد (¬5). ¬
وقيل: بيعتان في بيعة هو أن يبيعه الشيء ويشترط عليه عقداً آخر من بيع أو سلف، أو قرض، أو صرف، أو إجارة، أو شركة، وكذا كل ما كان في معنى ذلك، مثل أن يقول: بعتك داري بكذا على أن تزوجني ابنتك، أو على أن أزوجك ابنتي، وكذا على أن تنفق على عبدي، أو دابتي، ونحو ذلك، وهذا هو مذهب الحنفية (¬1)، وقول للشافعي (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3)، وقول لابن حزم (¬4). وقيل: معنى بيعتين في بيعة أن يبيعه إحدى سلعتين مختلفتين بثمن واحد، كثوب وشاة بدينار على اللزوم، فشرط المنع كون البيع على اللزوم للمتبايعين أو ¬
الدليل الرابع
لأحدهما للغرر، إذ لا يدري البائع بم باع، ولا المشتري بم اشترى، فإن لم يكن على اللزوم جاز (¬1). وقيل: معنى بيعتين في بيعة أن يقول رجل لآخر: اشتر لي هذه السلعة التي بعتها له بخمسة عشر لأجل بعشرة نقداً، وأنا أخذها منك بها، أو بربح دينار. وهذا التفسير صورة من صور بيع العينة، وهو قول عند المالكية (¬2). والذي أرى أن البيعتين في بيعة ليست محصورة في صورة واحدة، بل يدخل في ذلك: كل عقدين جمعا في عقد واحد وترتب على جمعهما محذور شرعي، ومنه ما ذكره ابن تيمية وابن القيم في صورة بيع العينة، ومنه لو باع عليه ذهباً، واشترط عليه أن يشتري منه بثمنه ذهباً آخر، فإنه حيلة لمبادلة الذهب بالذهب مع التفاضل، ومنه كذلك لو باع عليه سلعة بشرط أن يقرضه، فإنه يدخل في القرض إذا جر نفعاً، وهكذا, ولا يدخل في ذلك العقدان الذي لم يترتب على جمعهما محذور شرعي، كما لو باعه سيارته بشرط أن يبيعه داره؛ لأنه لا مفسدة ولا محذور في جمع العقدين في عقد واحد، كما لا يدخل في ذلك إذا عرض عليه السلعة بنقد بكذا، وبنسيئة بكذا؛ لأن العقد في الحقيقة واحد، والله أعلم. فحديث النهي عن بيعتين في بيعة صالح للحجة في منع بيع العينة، كما هو صالح في منع كل عقدين جمعا في عقد واحد وترتب على جمعهما محذور شرعي. الدليل الرابع: (ث- 141) ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا معاذ بن معاذ، عن ابن عون، قال: ¬
ذكروا عند محمد العينة، فقال: نبئت أن ابن عباس كان يقول: دراهم بدراهم بينهما حريرة. [صحيح عن ابن عباس وإن كان في هذا الإسناد من لم يُسَمَّ] (¬1). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: أن العقود بمقاصدها, وليست بألفاظها. والربا لم يحرم لمجرد صورته ولفظه، وإنما حرم لحقيقته ومعناه، (ح-799) وقد روى البخاري في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ... الحديث متفق عليه. وقد ترجم له البخاري: باب في ترك الحيل، وأن لكل امرئ ما نوى في الأيمان وغيرها (¬1). "قال ابن المنير: اتسع البخاري في الاستنباط، والمشهور عند النظار حمل الحديث على العبادات، فحمله البخاري عليها وعلى المعاملات، وتبع مالكاً في القول بسد الذرائع، واعتبار المقاصد، فلو فسد اللفظ وصح القصد ألغي اللفظ وأعمل القصد تصحيحاً وإبطالاً قال: والاستدلال بهذا الحديث على سد الذرائع وإبطال التحيل من أقوى الأدلة ... " (¬2). ¬
وفي هذا يقول ابن القيم: "إذا حرم الرب تعالى شيئاً , وله طرق ووسائل تفضي إليه، فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقاً لتحريمه، وتثبيتاً له، ومنعاً أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضاً للتحريم، وإغراء للنفوس به، وحكمته تعالى وعمله يأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته، أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضاً , ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده، وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذارئع الموصولة إليه وإلا فسد عليهم ما يرمون إصلاحه، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال" (¬1). ويقول ابن تيمية: "يا سبحان الله العظيم، أيعود الربا الذي قد عظم الله شأنه في القرآن، وأوجب محاربة مستحله، ولعن أهل الكتاب بأخذه، ولعن آكله وموكله وشاهديه وكاتبه، وجاء فيه من الوعيد ما لم يجيء في غيره إلى أن يستحل جميعه بأدنى سعي من غير كلفة أصلاً إلا بصورة عقد هي عبث ولعب يضحك منها، ويستهزئ بها؟ أم يستحسن مؤمن أن ينسب نبياً من الأنبياء فضلاً عن سيد المرسلين. بل أن ينسب رب العالمين إلى أن يحرم هذه المحارم العظيمة، ثم يبيحها بضرب من العبث والهزل الذي لم يقصد ولم يقصد له حقيقة وليس فيه مقصود المتعاقدين قط" (¬2). والمتعامل بالعينة قد توصل إلى أخذ دراهم بدارهم إلى أجل مع التفاضل، والسلعة كانت واسطة للتوصل إلى المعاملة المحرمة، والوسيلة إلى الحرام حرام. ¬
واعترض على هذا الاستدلال
واعترض على هذا الاستدلال: بأن الأحكام لا تناط بالمقاصد، بل يجب ربط الأحكام بمظان ظاهرة، فقد يوجد القصد الفاسد في عقد يتفق الفقهاء على صحته، وقد يعدم القصد الفاسد في عقد يتفق الفقهاء على فساده، فلا نحتكم إلى المقاصد الخفية، بل يجب الاعتماد على ظواهر العقود الشرعية (¬1). ويجاب عن هذا: أولاً: لا نسلم أن الأحكام لا تناط بالمقاصد، فالمقاصد والنيات معتبرة في التحليل والتحريم، مقدمة على ظواهر الألفاظ، فإذا كان قصده من هذا العقد محرمًا حرم عليه العقد، وإن كان ظاهر العقد السلامة والصحة. يقول ابن القيم في ذلك: "هل الاعتبار بظواهر الألفاظ والعقود، وإن ظهرت المقاصد والنيات بخلافها، أم للقصود والنيات تأثير يوجب الالتفات إليها ومراعاة جانبها؟ وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصود في العقود معتبرة، وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده وفي حله وحرمته، بل أبلغ من ذلك، وهي أنها تؤثر في الفعل الذي ليس بعقد تحليلا وتحريماً، فيصير حلالاً تارة، وحراماً تارة باختلاف النية والقصد، كما يصير صحيحاً تارة، وفاسداً تارة باختلافها, وهذا كالذبح فإن الحيوان يحل إذا ذبح لأجل الأكل، ويحرم إذا ذبح لغير الله، وكذلك الحلال يصيد الصيد للمحرم فيحرم عليه، ويصيده للحلال فلا يحرم على المحرم، وكذلك الرجل يشتري الجارية ينوي أن تكون لموكله فتحرم على المشتري، وينوي أنها له فتحل له، وصورة العقد واحدة، وإنما اختلفت النية ¬
والقصد، وكذلك صورة القرض وبيع الدرهم بالدرهم إلى أجل صورتهما واحدة وهذا قربة صحيحة وهذا معصية باطلة بالقصد، وكذلك عصر العنب بنية أن يكون خمراً معصية ملعون فاعله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصره بنية أن يكون خلاً أو دبساً جائز، وصورة الفعل واحدة، وكذلك السلاح يبيعه الرجل لمن يعرف أنه يقتل به مسلماً حرام باطل؛ لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان، وإذا باعه لمن يعرف أنه يجاهد به في سبيل الله، فهو طاعة وقربة ... وكذلك ألفاظ الطلاق صريحها وكنايتها ينوي بها الطلاق فيكون ما نواه وينوي به غيره فلا تطلق، وكذلك قوله: "أنت عندي مثل أمي" ينوي بها الظهار فتحرم عليه وينوي به أنها مثلها في الكرامة فلا تحرم عليه، وكذلك من أدى عن غيره واجباً ينوي به الرجوع ملكه، وإن نوى به التبرع لم يرجع. وهذا كما أنها أحكام الرب تعالى في العقود فهي أحكامه تعالى في العبادات والمثوبات والعقوبات؛ فقد اطردت سنته بذلك في شرعه وقدره، أما العبادات فتأثير النيات في صحتها وفسادها أظهر من أن يحتاج إلى ذكره؛ فإن القربات كلها مبناها على النيات، ولا يكون الفعل عبادة إلا بالنية والقصد، ولهذا لو وقع في الماء ولم ينو الغسل، أو دخل الحمام للتنظيف أو سبح للتبرد لم يكن غسله قربة ولا عبادة بالاتفاق، فإنه لم ينو العبادة فلم تحصل له، وإنما لامرئ ما نوى، ولو أمسك عن المفطرات عادةً واشتغالاً , ولم ينو القربة لم يكن صائماً، ولو دار حول البيت يلتمس شيئاً سقط منه لم يكن طائفاً , ولو أعطى الفقير هبة أو هدية، ولم ينو الزكاة لم يحسب زكاة، ولو جلس في المسجد ولم ينو الاعتكاف لم يحصل له. وهذا كما أنه ثابت في الإجزاء والامتثال فهو ثابت في الثواب والعقاب؛ ولهذا لو جامع أجنبية يظنها زوجته أو أمته لم يأثم بذلك وقد يثاب بنيته، ولو جامع في ظلمة من يظنها أجنبية فبانت زوجته أو أمته أثم على ذلك بقصده ونيته
للحرام، ولو أكل طعاماً حراماً يظنه حلالاً لم يأثم به، ولو أكله وهو حلال يظنه حراماً وقد أقدم عليه أثم بنيته ... " (¬1). وجاء في القواعد لابن رجب: "تعتبر الأسباب في عقود التمليكات، كما تعتبر في الأيمان، ويتخرج على هذا مسائل متعددة، ذكر منها: هبة المرأة زوجها صداقها إذا سألها ذلك، فإن سببها طلب استدامة النكاح، فإن طلقها فلها الرجوع فيها نص عليه أحمد في رواية عبد الله ... ومنها ما نص عليه أحمد في رواية ابن ماهان فيمن اشترى لحماً، ثم استزاده البائع، فزاده، ثم رد اللحم بعيب، فالزيادة لصاحب اللحم؛ لأنها أخذت بسبب اللحم، فجعلها متابعة للعقد في الرد؛ لأنها مأخوذة بسببه، وإن كانت غير لاحقة به" (¬2). ثانياً: بأنه وإن كان هناك خلاف معتبر بين الفقهاء في قاعدة اعتبار المقاصد في الحكم على المعاملات، وقد ناقشت ذلك في مسألة بيع السلاح في الفتنة، والعصير لمن يتخذه خمراً، فإن مسألتنا هنا قد جاء النص على اعتبار القصد فيها، بالنهي عن بيع العينة، وما جاء النص فيه لا ينبغي إدخاله في مسائل اختلاف الفقهاء في اعتبار المقاصد. ثالثاً: على التسليم أن الحكم لا يناط بمجرد القصد، فإن الحكم هنا قد أنيط بالقرائن والدلائل الظاهرة، فإن أحداً لا يبيع العين نسيئة بثمن، ثم يشتري العين نفسها بأقل نقداً إلا وهو يريد التوصل إلى مبادلة الدراهم بالدراهم؛ لأن بيعه العين ثم استرجاعها دل على أن بيع العين لم يكن مقصوداً. ¬
يقول ابن العربي: "فإن قيل: إنما حرمت هذا خوفاً من القصد، وأنت لم تعلم قصده؟ قلنا: هذه نكتة المسألة وسرها الأعظم، وذلك أنه لما كان هذا أمراً مخوفاً حسم الباب فيه، ومنع من صورته لتعذر الوقوف على القصد فيه، والشريعة إذا علقت الأحكام بالأسباب الباطنة أقامت الظاهر مقامه كالمشقة في السفر التي علقت عليه الرخص لما لم تنضبط علقت على صورة السفر، والعدة لما وضعت لبراءة الرحم علقت على وجود الوفاة والطلاق، ولم يعتبر بصورة الزوجة في إمكان الوطء وعدمه وخوف الحمل والأمن منه؛ لأن ذلك ما لا يتحصل للخلق" (¬1). رابعاً: وهو أهمها أن الذرائع إلى الحرام حرمها الشارع وإن لم يقصد بها الفاعل الحرام خشية أن تفضي إلى المحرم، فإن انضم إلى ذلك قصد الحرام كان ذلك أولى بالتحريم. يقول في هذا ابن تيمية: "الذرائع حرمها الشارع وإن لم يقصد بها المحرم خشية إفضائها إلى المحرم، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع وبهذا التحرير يظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها وإن لم يقصد البائع الربا؛ لأن هذه المعاملة يغلب فيها قصد الربا فيصير ذريعة فيسد هذا الباب لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا" (¬2). خامساً: لا يحل لمسلم أن يعتقد أن زيد بن أرقم قد واطأ أم ولده على شراء الذهب بالذهب متفاضلاً إلى أجل، فإنكار عائشة له يدل على أن البيع محرم، سواء اتخذ ذلك حيلة إلى مبادلة الربوي بالربوي مع التفاضل والنسأ، أو لم يقصد التحايل. ¬
دليل من أباح بيع العينة
دليل من أباح بيع العينة: الدليل الأول: قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. وجه الاستدلال: أن (الألف واللام) في البيع للجنس، لا للعهد إذ لم يتقدم بيع مذكور يرجع إليه، كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1، 2] فإذا ثبت أن البيع عام، فهو يشمل جميع أنواع البيوع، ومنها بيع العينة. ويناقش: بأن الألفاظ العامة يدخلها التخصيص، فإذا كان بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام قد خصت من هذا العموم بالإجماع، فكذلك بيع العينة قد خص من هذا العموم بالنصوص الواردة بالنهي عنها. قال الجصاص في أحكام القرآن: "لا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية وإن كان مخرجها مخرج العموم فقد أريد به الخصوص؛ لأنهم متفقون على حظر كثير من البياعات، نحو بيع ما لم يقبض، وبيع ما ليس عند الإنسان، وبيع الغرر، والمجاهيل، وعقد البيع على المحرمات من الأشياء" (¬1). ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] من المجمل الذي لا يعقل منها صحة بيع من فساده إلا ببيان النبي صلى الله عليه وسلم (¬2). والأول أقوى. ويحتمل أن تكون الآية جواباً للكفار حين قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] فلا يكون فيها العموم المراد. وأياً كان معنى الآية فإن بيع العينة ¬
الدليل الثاني
قد خرج من هذا النص إما بتخصيص إن قلنا: إنها عامة، وهو الصحيح، أو بتفسير إن قلنا: إنها مجملة، والله أعلم. الدليل الثاني: (ح-800) ما رواه البخاري، حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله رضي الله عنه استعمل رجلاً على خيبر، فجاءهم بتمر جنيب، فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً، وقال في الميزان مثل ذلك (¬1). وجه الاستدلال: قال النووي: "وموضع الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا, ولم يفرق بين أن يشتري من المشتري، أو من غيره، فدل على أنه لا فرق، وهذا كله ليس بحرام" (¬2). فلو كان الابتياع من المشتري حراماً لنهى عنه. وأجيب: بأن مقصوده صلى الله عليه وسلم إنما كان بيان الطريق التي بها يحصل شراء التمر الجيد لمن عنده رديء، وهو أن يبيع الرديء بثمن، ثم يبتاع بالثمن جيداً. ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه؛ لأن المقصود ذكر الحكم على وجه الجملة. ¬
أو لأن المخاطب يفهم البيع الصحيح فلا يحتاج إلى بيان، فلا معنى للاحتجاج بهذا الحديث على نفي شرط مخصوص، كما لا يحتج به على نفي سائر الشروط. فقوله صلى الله عليه وسلم: (بع الجمع بالدراهم) إنما يفهم منه البيع المقصود الخالي عن شرط يمنع كونه مقصوداً بخلاف البيع الذي لا يقصد، والدليل عليه أنه لو قال: بع هذا الثوب لم يفهم منه بيع المكره، ولا بيع الهازل، وإنما يفهم منه البيع الذي قصد به نقل الملك، فإذا جاء إلى تمار فقال: أريد أن أشتري منك بالتمر الرديء تمراً جيداً، فيشتريه منه بكذا درهماً ويعني بالدراهم كذا تمراً جيداً لم يكن قصده ملك الثمن الذي هو الدراهم البتة، وإنما القصد بيع تمر بتمر، فلا يدخل في الحديث. يبين هذا: أن مثل هذين قد يتراضيان أولاً على بيع التمر بالتمر ثم يجعلان الدراهم محللاً. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، ومتى تواطأ على أن يبيعه بالثمن، ثم يبتاع به منه فهو بيعتان في بيعة فلا يكون داخلاً في الحديث. يبين ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال: بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً، وهذا يقتضي بيعاً ينشئوه ويبتديه بعد انقضاء البيع الأول. ومتى واطأه من أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك فقد اتفقنا على العقدين معاً فلا يكون داخلا في حديث الأمر بل في حديث النهي ... اهـ ملخصاً من كلام ابن تيمية (¬1). والبيع إذا كان فيه مشارطة ومواطأة على عود السلعة إلى البائع ليس في تحريمه نزاع، وقد نقلنا الإجماع على التحريم في صدر هذه المسألة، وإنما نزاع ¬
الدليل الثالث
الشافعية مع الجمهور إذا تم ذلك بدون مشارطة ولا مواطأة، فهل يمنع مثل هذا سداً للذرائع المفضية إلى الحرام، أو لا يمنع. يقول ابن القيم: "في مسألة العينة إنما جوز الشافعي أن يبيع السلعة ممن اشتراها منه جرياً على ظاهر عقود المسلمين، وسلامتها من المكر والخداع، ولو قيل للشافعي: إن المتعاقدين قد تواطئا على ألف بألف ومائتين وتراوضا على ذلك، وجعلا السلعة محللا للربا لم يجوز ذلك ولأنكره غاية الإنكار" (¬1). وقال الزرقاني: "الحديث مطلق لا يشمل ما ذكر، فإذا عمل به في صورة سقط الاحتجاج به فيما عداها لإجماع الأصوليين، وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل: وابتع ممن اشترى الجمع، بل خرج الكلام غير متعرض لعين البائع من هو؟ فلا يدل على المدعى" (¬2). وقال ابن عبد البر: "بيع التمر الجمع بالدراهم وشراء الجنيب بها من رجل واحد يدخله ما يدخل الصرف في بيع الذهب بدراهم والشراء بتلك الدراهم ذهباً من رجل واحد في وقت واحد، والمراعاة في ذلك كله واحدة، فمالك يكره ذلك على أصله، وكل من قال بالذرائع كذلك، وغيره يراعي السلامة في ذلك لا يفسخ بيعاً قد انعقد إلا بيقين وقصد، وبالله التوفيق" (¬3). الدليل الثالث: (ث-142) ما رواه عبد الرزاق من طريق ليث، عن مجاهد قال: سئل ¬
الدليل الرابع
ابن عمر عن رجل باع سرجاً بنقد، ثم أراد أن يبتاعه بدون ما باعه، قبل أن ينتقد، قال: لعله لو باعه من غيره باعه بدون ذلك، فلم ير به بأساً (¬1). [إسناده ضعيف، فيه ليث بن أبي سليم]. وهو مخالف لما روي مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومخالف لما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما، وهو أصح منه سنداً. الدليل الرابع: " واستدل -يعني على جواز بيع العينة- بالاتفاق على أن من باع السلعة التي اشتراها ممن اشتراها منه بعد مدة، فالبيع صحيح، فلا فرق بين التعجيل في ذلك والتأجيل، فدل على أن المعتبر في ذلك وجود الشرط في أصل العقد وعدمه، فإن تشارطا على ذلك في نفس العقد فهو باطل" (¬2) وإن لم يتشارطا لم يبطل. ويجاب: بأن شراءه إياها بعد مدة يبعد التهمة بأن المقصود مبادلة ربوي بمثله مع التفاضل، والدراهم حيلة. الدليل الخامس: إذا جاز بيع السلعة على من باعها بعد قبض الثمن بالإجماع، جاز ذلك قبل قبض الثمن بالقياس عليه. وأجيب: بأن هذا قياس فاسد الاعتبار؛ لأنه في مقابلة النص، ولأننا منعنا ذلك قبل قبض الثمن لوجود شبهة الربا، بخلاف ما إذا قبض الثمن. ¬
دليل من قال: يكره بيع العينة.
دليل من قال: يكره بيع العينة. استدلوا بأن كل ما لا يجوز شرطه في العقد، يكره أن يدخلا عليه (¬1). ولعلهم كرهوا ذلك أيضاً لأنه لا يؤمن من وقوع المواطأة، فكرهت خوفاً من وقوعها, ولمضارعتها للربا، وخروجاً من خلاف العلماء، ولأن الآثار المرفوعة لا تخلو من كلام، فلم نبلغ بها التحريم. الراجح: بعد استعراض الأقوال أجد أن الآثار المرفوعة لا تقوى على تحريم بيع العينة، ويكفي في التحريم دليلان: الأول: ما صح عن ابن عباس رضي الله عنه. الثاني: يكفي في التحريم النظر الصحيح، فإن العقد لا يشك أحد بكونه ذريعة للوصول إلى الربا المحرم، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في حكم العقد الأول من عقدي العينة
المبحث الثالث في حكم العقد الأول من عقدي العينة [م - 1196] لم يختلف القائلون بتحريم بيع العينة بأن العقد الثاني بيع فاسد. قال الحطاب في مواهب الجليل: "أما فسخ الثانية فباتفاق على ما قاله ابن الحاجب وغيره وحكى اللخمي فيه خلافاً ضعيفاً" (¬1). إلا أن الحنفية يختلفون مع الجمهور في حكم العقد القاسد تفريقاً بينه وبين العقد الباطل، فالجمهور يرون أن العقد الفاسد مرادف للباطل. وأما الحنفية فيرون أن العقد الباطل: ما لم يشرع بأصله، ولا بوصفه، وذلك كبيع الميتة، والخمر، والخنزير. أو ما تطرق الخلل فيه إلى ركن البيع، كبيع المجنون، والصبي غير المميز. والفاسد: ما شرع بأصله دون وصفه، أو ما كان الخلل فيه لم يتطرق إلى ركن البيع، وإنما اقترن بوصف منهي عنه شرعاً (¬2). ¬
وعقد الربا هو عقد مشروع بأصله، وهو البيع، دون وصفه، وهو الزيادة أو التأجيل (¬1). قال ابن نجيم: "الربا وسائر البيوع الفاسدة من قبيل ما كان مشروعاً بأصله دون وصفه" (¬2). جاء في العناية: "من اشترى شيئاً بألف درهم حالة أو نسيئة، فقبضه، ثم باعه من البائع بخمسمائة قبل نقد الثمن، فالبيع الثاني فاسد" (¬3). فقوله (فاسد) إشارة إلى أنه ليس بالباطل. وقد بحثت هذه المسألة في مبحث خاص تحت عنوان: هل عقد الربا عقد باطل، أو عقد فاسد يمكن تصحيحه، وذكرت دليل الحنفية، فأغنى عن إعادته هنا. [م - 1197] واختلفوا في العقد الأول من حيث الصحة والبطلان. فقيل: العقد الأول صحيح، وهو مذهب الحنفية (¬4)، وقول في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: يصح العقد الأول ما دامت السلعة قائمة عند البائع الأول، وهو المشتري الثاني، فإن فاتت بيده فسخ العقدان جميعاً. ¬
وجه من قال: يصح البيع الأول
وعليه جماهير المالكية (¬1). وقيل: العقد الأول باطل، اختاره ابن الماجشون من المالكية، ورجحه ابن رشد في المقدمات (¬2)، وقال به بعض الحنابلة، ورجحه ابن تيمية (¬3)، وقال ابن القيم: وهو الصحيح من المذهب (¬4). وقيل: يصح البيع الأول إن كان بلا مواطأة، فإن كان البيع عن اشتراط أو مواطأة مسبقة فيبطل العقدان جميعاً وهذا هو المذهب عند الحنابلة (¬5)، واختاره ابن القاسم من المالكية (¬6)، وصححه الحطاب في مواهب الجليل (¬7). وجه من قال: يصح البيع الأول: أن العقد الأول لم يتطرق إليه الفساد، فيكون صحيحاً؛ لأنه عقد قد تم أركانه وتوفرت شروطه، وتفسخ البيعة الثانية؛ لأن الفساد إنما جاء منها، وهو دائر معها. وضعفه ابن القيم بقوله: "وهذا ضعيف؛ فإنه لم يكن مقصودا لذاته، وإنما جعله وسيلة إلى الربا، فهو طريق إلى المحرم، فكيف يحكم بصحته" (¬8). ¬
ويجاب
ويجاب: بأنه لا يكون وسيلة إلى الربا إلا إذا كان هناك مواطأة واتفاق، فإن لم يكن هناك مواطأة واتفاق فالعقد لم يكن وسيلة إلى الربا. وجه من قال: ببطلان العقد الأول: قول عائشة رضي الله عنه لأم ولد زيد بن أرقم: (بئس ما شريت، وبئسما اشتريت). فهذا دليل على بطلان العقدين معاً ... [وسبق تخريجه وأنه ضعيف الإسناد]. ولأن الثاني عقد ربا، والأول وسيلة إليه. ولأن البيعتين لما ارتبطت إحداهما بالأخرى صارا فى معنى العقد والواحد, فصار فساد أحدهما يسرى إلى الأخرى. وأجبب: بأن قول عائشة من باب التوكيد، وقد ورد في بعض روايات الحديث: (بئس ما اشتريت أو بئس ما اشترى) على الشك. وجه من قال: يصح العقد الأول ما دامت السلعة قائمة: قالوا: إن بيوع الآجال إذا وقعت على الوجه الممنوع كما لو باعه سلعة إلى شهر ثم اشتراها بثمانية نقداً فإن اطلع على ذلك والسلعة قائمة لم يفت فإن البيعة الأولى صحيحة، وتفسخ الثانية؛ لأن الفساد إنما جاء منها وهو دائر معها ... فإن فاتت السلعة بحوالة سوق أو غيرها فتفسخ البيعتان معاً، ويكون للبائع على المشتري الثمن الذي دفعه إليه، كما في البيع الفاسد، وعللوا فساد البيع الأول في حال فوات السلعة بعدم إمكان فسخ الثاني وحده، وحينئذ لا مطالبة
وجه من قال: يبطل الأول إن كان هناك مواطأة
لواحد منهما على الآخر بشيء؛ لأن المبيع فاسد قد رجع لبائعه، فضمانه منه وسقط الثمن عن ذمة المشتري الأول برجوع المبيع لبائعه، وسقط الثمن الثاني عن المشتري الثاني لفساد شرائه باتفاق (¬1). وجه من قال: يبطل الأول إن كان هناك مواطأة: أن العقد الأول إن كان مقصوداً لذاته، ولبم يكن هناك مواطأة ولا احتيال فهو عقد صحيح. وطريان العقد الثاني لا يبطله؛ لأن النهي كان في العقد الثاني لكونه يفضي إلى الربا أو ذريعة إليه، وسد ذريعة الربا متحقق في إبطال العقد الثاني. وإن كان العقد الأول حيلة إلى الربا، بأن كان غير مقصود لذاته، فهو باطل، يفسخ كما يفسخ العقد الثاني. وهذا القول هو أقرب الأقوال. والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في شروط تحريم العينة
المبحث الرابع في شروط تحريم العينة الشرط الأول أن يكون المشتري الثاني هو البائع الأول والبائع الثاني هو المشتري الأول [م - 1198] يشترط في تحريم العينة أن يبيع المشتري السلعة على بائعها الأول. فإن باعها المشتري على أجنبي، واشتراها البائع الأول منه صح البيع؛ لانتفاء علة المنع؛ لأن منع البائع الأول من شرائها إنما كان ذلك سداً لذريعة الربا، وهو منتف في هذه الحال. [م - 1199] أما إذا باعها المشتري على وكيل البائع الأول، فهل يأخذ حكم البائع الأول، أو يأخذ حكم الأجنبي في ذلك خلاف بين أهل العلم: فقيل: إذا اشتراها وكيل البائع الأول صح البيع، وهذا قول أبي حنيفة (¬1). وقيل: لا يصح، وبه قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬2)، وهو مذهب المالكية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬
وجه قول أبي حنيفة: أن تصرف الوكيل عند أبي حنيفة يقع لنفسه، ثم ينتقل الملك إلى الموكل حكماً كانتقاله بالإرث؛ ولهذا يجوز عند أبي حنيفة أن يوكل ذمياً بشراء خمر، وبيعها (¬1). وجه قول الجمهور: أن الوكيل قائم مقام الموكل، نائب عنه، فهو بمنزلته. ولأن عائشة رضي الله عنه لم تستفصل عن حال أم ولد زيد بن أرقم، أهي مالكة، أو وكيلة، ولو كان الحكم يختلف لاستفسرت، والقاعدة الأصولية تقول: إن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال. الراجح: الراجح من الخلاف هو قول الجمهور؛ لأن الوكيل قائم مقام الموكل، ولكن هل يحرم مطلقاً أن يشتريها البائع الأول، أو يمكن أن نقول: إذا وجد البائع الأول السلعة معروضة للبيع على الناس، ولم تعرض عليه قصداً، ودخل هو كغيره في شراء السلعة أن ذلك جائز لبعد التهمة عن الربا؛ ولأن الأصل حل البيع، ولأنها إذا عرضت على عموم الناس أصبح البائع كأنه اشتراها من أجنبي، إذا روعيت هذه القيود لعل القول بالجواز ليس ببعيد، والله أعلم. ¬
الفرع الأول إذا اشترى السلعة من لا تجوز شهادته للبائع الأول كابنه وكأبيه
الفرع الأول إذا اشترى السلعة من لا تجوز شهادته للبائع الأول كابنه وكأبيه [م - 1200] علمنا في المسألة السابقة أنه يشترط في تحريم بيع العينة أن يشتريها البائع الأول أو وكيله على الصحيح، فهل يختلف الحكم لو اشتراها لنفسه أبو البائع الأول، أو ابنه، أو زوجته، أو من لا تقبل شهادته له؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم: فقيل: لا يجوز، وهذا قول أبي حنيفة (¬1). تنزيلاً لهؤلاء منزلة البائع؛ لأن أملاكهم كالملك الواحد من جهة المعنى، فكان عقد الواحد لنفسه كعقده لأبيه أو لابنه، ولهذا لا تقبل شهادة أحدهما للآخر. وقيل: يجوز، واختار ذلك صاحبا أبي حنيفة (¬2)؛ لأن كل واحد منهما أجنبي عن ملك صاحبه لتمايز الأملاك. وقيل: يكره إن كان ابنه صغيراً، وإن كان كبيراً فيجوز؛ لأنه بمنزلة الأجنبي، وهذا مذهب المالكية (¬3). ¬
ولعل وجه الكراهة
ولعل وجه الكراهة: أن الابن الصغير لا يستقل بالتصرف، فصار تصرف الأب فيه شبه بتصرفه لنفسه. وقيل: يجوز بشرط ألا يكون ذلك حيلة، وهذا هو مذهب الحنابلة (¬1)، وهذا أقوى الأقوال؛ لأن الأصل أن تصرف الأب أو الابن تصرفه لنفسه على وجه الاستقلال، فإذا كان حيلة منع كما تمنع العينة إذا كانت ثلاثية ولو من أجنبي إذا كان عن مواطأة واتفاق. ¬
الفرع الثاني في بيع وارث المشتري على البائع الأول
الفرع الثاني في بيع وارث المشتري على البائع الأول [م - 1201] علمنا في الشرط السابق أنه يشترط في تحريم العينة أن يكون البائع الثاني هو المشتري الأول أو وكيله، فإذا اشتراها البائع الأول من وارث المشتري، فهل يعتبر الوارث بمنزلة المورث، فيحرم، أو يعتبر بمنزلة الأجنبي فيصح؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم: فقيل: لا يجوز أن يشتريها البائع من وارث المشتري، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وجه قول الحنفية: أن الملك لم يختلف، وإنما قام الوارث مقام مورثه، وهو المشتري، بدليل أن حقوقه ثابتة للوارث كثبوتها للمورث، فله الرجوع على البائع في خيار العيب، وظهور استحقاق المبيع. وقيل: يجوز أن يشتريها من الوارث، وهو مذهب المالكية (¬2)، ¬
الراجح
والحنابلة (¬1). وجهه: أن الوارث بمنزلة الأجنبي لمباينة ملكه لملك مورثه، فيكون اختلاف سبب الملك كاختلاف الملك. الراجح: النفس تميل إلى القول بالجواز، خاصة أن التحريم كان من باب سد الذرائع، وقد انتقل الملك إلى آخر كما لو انتقل إلى أجنبي، والله أعلم. ¬
الشرط الثاني أن يشتري ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن
الشرط الثاني أن يشتري ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن [م - 1202] هذا الشرط متكون من شرطين: الأول: أن يشتري البائع ما باعه بأقل مما باعه. الثاني: أن يكون ذلك قبل نقد الثمن. قال الكاساني في بدائع الصنائع: "ولو اشترى ما باع بمثل ما باع قبل نقد الثمن جاز بالإجماع؛ لانعدام الشبهة -يعني شبهة الربا- وكذا لو اشتراه بأكثر مما باع قبل نقد الثمن؛ ولأن فساد العقد معدول به عن القياس، وإنما عرفناه بالأثر، والأثر جاء في الشراء بأقل من الثمن الأول، فبقي ما وراءه على أصل القياس (¬1). وذكر الحنفية صورتين تلحق بالشراء بأقل. الصورة الأولى: قال في الهداية: "ومن اشترى جارية بخمسمائة، ثم باعها وأخرى معها من ¬
الصورة الثانية
البائع قبل أن ينقد الثمن بخمسمائة فالبيع جائز في التي لم يشترها من البائع، ويبطل في الأخرى؛ لأنه لا بد أن يجعل بعض الثمن بمقابلة التي لم يشترها منه، فيكون مشترياً للأخرى بأقل مما باع، وهو فاسد عندنا, ولم يوجد هذا المعنى في صاحبتها ولا يشيع الفساد؛ لأنه ضعيف فيها لكونه مجتهداً فيه، أو لأنه باعتبار شبهة الربا، أو لأنه طارئ؛ لأنه يظهر بانقسام الثمن أو المقاصة فلا يسري إلى غيرها" (¬1). ولسنا بصدد مناقشة تفريق الصفقة، المهم في هذه المسألة أن صورة الثمن كأنه اشتراها بمثل الثمن الذي باعها به، وهو في الحقيقة قد اشتراها بأقل مما باعها، هذا الذي يعنينا في هذا البحث. الصورة الثانية: قال الكاساني: "ولو باع بألف دراهم حالة، ثم اشتراه بألف دراهم مؤجلة فالشراء فاسد؛ لأنه اشترى ما باع بأقل مما باع من حيث المعنى؛ لأن الحالة خير من المؤجلة" (¬2). وهذا بعيد جداً. كما يشترط لتحريم البيع في العينة أن يكون الثمن إما مؤجلاً، أو يكون البيع الثاني قبل قبض ثمن البيع الأول. فإن اشترى ما باع بأقل مما باعه به بعد نقد الثمن، فإن البيع جائز بالإجماع (¬3). ¬
لأن التحريم إنما هو لسد ذريعة الربا، فإذا كان الثمن في البيع الأول مؤجلاً يصير الثمن الثاني قصاصاً بالثمن الأول، فيبقى من الثمن الأول زيادة لا يقابلها عوض في عقد المعاوضة، وهو تفسير الربا، إلا أن الزيادة ثبتت بمجموع العقدين، فكان الثابت بأحدهما شبهة الربا، والشبهة في هذا الباب ملحقة بالحقيقة بخلاف ما إذا نقد الثمن؛ لأن المقاصة لا تتحقق بعد نقد الثمن (¬1). ¬
الشرط الثالث أن يشتريها بجنس الثمن الأول
الشرط الثالث أن يشتريها بجنس الثمن الأول [م - 1203] قال ابن قدامة في المغني: "وإن اشتراها بعرض، أو كان بيعها الأول بعرض، فاشتراها بنقد جاز، وبه قال أبو حنيفة، ولا نعلم فيه خلافاً" (¬1). وظاهر كلام ابن قدامة أن الجواز مقيد بما إذا كان أحد الثمنين من العروض والآخر من النقد، أما إذا باعها بنقد، واشتراها بنقد، ولو كان مختلفاً كما لو باعها بدراهم واشتراها بدنانير، فإن ظاهر كلام ابن قدامة أن ذلك لا يجوز. وهذا الشرط صريح عند الحنفية. قال ابن نجيم: "ولا بد من اتحاد جنس الثمنين؛ لأنه حينئذ يظهر النقصان، فإن اختلف الجنس جاز مطلقاً، والدراهم، والدنانير هنا جنس واحد احتياطاً، وقدمنا أنهما جنسان إلا في ثمانية في أول البيوع" (¬2). وقال الكاساني: "فإن اشتراه بخلاف الجنس جاز؛ لأن الربا لا يتحقق عند اختلاف الجنس إلا في الدراهم، والدنانير خاصة استحسانا، والقياس أن يجوز؛ لأنهما جنسان مختلفان حقيقة، فالتحقا بسائر الأجناس المختلفة. وجه الاستحسان: أنهما في الثمنية كجنس واحد، فيتحقق الربا بمجموع العقدين، فكان في العقد الثاني شبهة الربا، وهي الربا من وجه" (¬3). وأما مذهب المالكية فلهم تفصيل في هذا ملخصه، إن باع السلعة بنقد مؤجل، ثم اشتراها بنقد آخر مختلف: ¬
فإن كان النقدان إلى أجل لم يجز قولاً واحداً، كما لو باعه سلعة بدراهم مؤجلة، واشتراها بدنانير مؤجلة. وكذا إن كان أحدهما معجلاً، والآخر مؤجلاً، والمعجل أقل من صرف المؤخر. وإن كان مثله أو أكثر فقولان: قال أشهب: لا يجوز مطلقاً. ومذهب ابن القاسم أنه إن كان مثل المؤخر، أو أكثر بشيء قليل لم يجز، وإن كان أكثر بشيء كثير جاز (¬1). كما لو كان المعجل يزيد على المؤخر بقدر نصف المؤخر؛ لإبعاد التحايل على الصرف. وإن باع شيئاً بنقد أو عرض لأجل، ثم اشتراه بعرض مخالف ثمنه امتنع فقط ما أجل فيه الثمنان؛ لأنه بيع دين بدين، وأما إذا نقد الثمن فإنه يجوز سواء كانت قيمة العرض الثاني مساوية لقيمة المبيع الأول، أو أقل، أو أكثر. هذا ملخص مذهب المالكية (¬2). وفي التأمل أن تحريم العينة لخوف الوقوع في الربا، فإذا كان الثمن الأول والثمن الثاني يجري بينهما ربا النسا أو ربا الفضل لم يجز ذلك، خشية أن تكون السلعة حيلة في مبادلة الربوي بمثله مع التفاضل، إن كان الجنس واحداً، أو مع النسأ، إن كان الجنس مختلفاً، والعلة واحدة، أما إذا كان الثمن الأول والثاني لا يجري بينهما الربا مطلقاً، لا ربا الفضل، ولا ربا النسيئة، كما لو كان أحدهما من العروض، والآخر من النقد، جاز ذلك كما قال ابن قدامة بالإجماع، لانتفاء شبهة الربا، والله أعلم. ¬
الشرط الرابع ألا يتغير المبيع بنقص أو عيب
الشرط الرابع ألا يتغير المبيع بنقص أو عيب [م - 1204] يشترط في تحريم العينة أن لا تتغير السلعة تغيراً مؤثراً في قيمتها، فإن تغيرت السلعة بنقص أو عيب، فاشتراها البائع بأقل مما باعها به فلا بأس بذلك. قال في تبيين الحقائق: "وشرطنا أن يكون المبيع على حاله لم ينتقص؛ لأنه إذا تعيب في يد المشتري، فباعه من البائع بأقل من الثمن الأول جاز؛ لأن المانع ربح ما لم يضمن. وإنما يظهر الربح إذا صار إليه المبيع كما خرج عن ملكه فإذا لم يعد إليه كما خرج عن ملكه جعل النقصان بمقابلة العيب الحادث عند المشتري فكان مشترياً ما باع بمثل الثمن الأول معنى. وشرطنا أن يكون النقصان من حيث الذات؛ لأنه لو نقصت قيمته بتغير السعر لم يجز شراؤه بأقل مما باع؛ لأن تغير السعر غير معتبر في حق الأحكام كما في حق الغاصب وغيره، فعاد إليه المبيع كما خرج عن ملكه فيظهر الربح" (¬1). وقال ابن رشد: "وأما إذا حدث بالمبيع نقص عند المشتري الأول، فإن الثوري وجماعة من الكوفيين أجازوا لبائعه بالنظرة أن يشتريه نقداً بأقل من ذلك الثمن، وعن مالك في ذلك روايتان" (¬2). وقال ابن قدامة: "فإن نقصت -يعني السلعة- مثل أن هزل العبد، أو نسي صناعة أو تخرق الثوب، أو بلي جاز له شراؤها بما شاء؛ لأن نقص الثمن لنقص المبيع لا للتوسل إلى الربا" (¬3). ¬
وجه الجواز
وجه الجواز: أن نقص الثمن ليس في مقابل الأجل، وإنما هو في مقابل تغير صفة المبيع، فلا يتحقق فيه ربح ما لم يضمن، ولأن نقصان الثمن يكون بمقابلة نقصان العيب فيلتحق النقصان بالعلم، كأنه باعه بمثل ما اشتراه به، فلا تتحقق شبهة الربا. واشترط شيخنا ابن عثيمين أن يكون الفرق بين الثمنين: هو ما نقصت به العين بسبب التغير، لا من أجل التأجيل والنقد، فلا بد أن يكون نقص الثمن بمقدار نقص الصفة (¬1). وإن كان قد يعسر ضبط ذلك، المهم ألا يتخذ ذلك حيلة على الربا ليتوصل إلى أخذ زيادة مقابل الأجل. ¬
المبحث الخامس عكس مسألة العينة
المبحث الخامس عكس مسألة العينة قال ابن رشد: الربا أحق ما حميت مراتعه ومنع منها؛ لئلا يستباح الربا بالذرائع (¬1). [م - 1205] اختلف العلماء القائلون بتحريم العينة في عكس مسألة العينة المشهورة: وهو أن يبيع السلعة بثمن حال، ثم يشتريها ممن باعها عليه بأكثر منه إلى أجل. فقيل: يجوز، وهو مذهب الحنفية. قال الكاساني: "ولو باع بألف دراهم حالة، ثم اشتراه بألف حدراهم مؤجلة فالشراء فاسد؛ لأنه اشترى ما باع بأقل مما باع من حيث المعنى؛ لأن الحالة خير من المؤجلة" (¬2). وهذا يعني جوازه إن اشتراه بأكثر مؤجلاً. وقيل: لا يجوز، وهو قول في مذهب المالكية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4)، رجحه ابن تيمية وابن القيم (¬5). ¬
دليل من قال بالجواز
وقيل: يجوز ما لم يكن العاقدان أو أحدهما من أهل العينة، فيتهمان لذلك، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬1). وقيل: يجوز إذا لم يتخذ حيلة، وهو رواية أبي داود عن أحمد (¬2). ولم نتعرض لمذهب الشافعية لأنهم يقولون بجواز العينة مطلقاً. دليل من قال بالجواز: الدليل الأول: الأصل حل البيع، وإنما حرم في مسألة العينة بالأثر الوارد فيها؛ وليس هذا في معناها. ونوقش: أن أحاديث المنع مطلقة لم تقيد بصورة معينة، قال ابن القيم: "ليس في النص ما يدل على اختصاص العينة بالصورة الأولى حتى تتقيد به نصوص مطلقة على تحريم العينة" (¬3). الدليل الثاني: أن قياس مسألة عكس العينة على مسألة العينة قياس مع الفارق، وذلك لأن التوسل بالعينة إلى الربا أكثر فلا يلحق بها ما دونها. ¬
ويناقش
ويناقش: بأن المعيار في التحريم ليس الكثرة أو القلة، وإنما المعتبر هو إفضاؤها إلى الوقوع في الحرام من مبادل دراهم بدراهم مع التفاضل والنسأ، والسلعة ملغاة. دليل من قال: تجوز إن لم تكن حيلة: استدلوا بأدلة القول السابق القائل بالجواز مطلقاً إلا أنهم قيدوا ذلك بأن لا يتخذ حيلة، فإن اتخذ حيلة، وكان المقصود مبادلة دراهم بدراهم مع التفاضل، وأدخلوا السلعة للتحايل على ذلك كان ذلك حراماً. ويناقش: بأنكم إذا قيدتم المنع في هذه المسألة بتوفر القصد إلى التحايل لزمكم طرد ذلك في الصورة المشهورة في بيع العينة، حيث لا فرق بين المسألتين، وأنتم لا تلتزمون ذلك في الصورة المشهورة. يقول ابن القيم: "المعتبر في هذا الباب هو الذريعة، ولو اعتبر فيه الفرق من الاتفاق والقصد لزم طرد ذلك في الصورة الأولى، وأنتم لا تعتبرونه" (¬1). دليل من قال: يحرم إن كان العاقدان أو أحدهما من أهل العينة: قال ابن رشد الجد: "أهل العينة يتهمون فيما لا يتهم فيه أهل الصحة لعلمهم بالمكروه" (¬2). ¬
دليل من قال بالتحريم
وقال ابن رشد الحفيد: "إن كان البيع الأول نقداً فلا خلاف في جواز ذلك؛ لأنه ليس يدخله بيع ذهب بذهب نسيئة، إلا أن مالكا كره ذلك لمن هو من أهل العينة، أعني الذي يداين الناس؛ لأنه عنده ذريعة لسلف في أكثر منه يتوصلان إليه بما أظهر من البيع من غير أن تكون له حقيقة" (¬1). دليل من قال بالتحريم: أدلته هي نفس الأدلة التي ساقها على تحريم العينة في الصورة المشهورة، وعمدته في ذلك أن العينة لم يأت في الشرع لها حقيقة واحدة حتى يصار إلى منعها، وإباحة الباقي، بل كل ما يؤدي إلى الربا، ويكون وسيله إليه فتلحق به. يقول ابن القيم: "نص أحمد في رواية حرب على أن هذه الصورة لا تجوز إلا أن تتغير السلعة، فهي كمسألة العينة سواء وهي عكسها صورةً، وفي الصورتين قد ترتب في ذمته دراهم مؤجلة بأقل منها نقداً، لكن في إحدى الصورتين البائع هو الذي اشتغلت ذمته، وفي الصورة الأخرى: المشتري هو الذي اشتغلت ذمته، قال ابن القيم: لا فرق بينهما ... وليس في النص ما يدل على اختصاص العينة بالصورة الأولى حتى تتقيد به نصوص مطلقة على تحريم العينة (¬2). الترجيح: إن نظرنا إلى أن البيع الثاني كان بعد انتهاء علاقة البيعة الأولى، حيث نقد الثمن فيها قلنا بالجواز مطلقاً. ولأن صورة العينة المشهورة يشترطون للتحريم أن تكون البيعة الثانية قبل نقد الثمن، وهذه قد نقد الثمن في البيعة الأولى، فكان القياس جوازها. ¬
ولأن الثمن في البيع الأول إذا كان مؤجلاً يصير الثمن الثاني قصاصاً بالثمن الأول، فيبقى من الثمن الأول زيادة لا يقابلها عوض في عقد المعاوضة، وهو تفسير الربا، بخلاف ما إذا نقد الثمن؛ لأن المقاصة لا تتحقق بعد نقد الثمن (¬1). وإذا نظرنا إلى المعنى وجدنا أن الصورتين فيهما مبادلة مال ربوي بمثله مع التفاضل والنسأ، وبينهما سلعة، فإذا كانت السلعة ملغاة في الصورة المشهورة، كانت السلعة ملغاة هنا، وإذا ألغيت السلعة كان الربا ظاهراً كل ما هنالك أن في مسألة العينة: المشتري هو الغارم. وفي عكسها: البائع هو الغارم، وهذا لا تأثير له في محل النزاع. فالصورة تجمعهما أن النقد أقل من النسيئة، والمبيع في البيعتين واحد، والسلعة عادت إلى صاحبها. وأما تقييد ذلك بالقصد، واتخاذ ذلك حيلة إلى الربا، فإن المعلوم أن صورة العينة المشهورة النزاع فيها فيما إذا لم يكن هناك مواطأة واشتراط، أما في حال المواطاة فإن التحريم بالإجماع، وينبغي من لا يشترط القصد في المسألة الأولى أن لا يشترط القصد في المسألة الثانية، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني: في التورق
الفصل الثاني: في التورق المبحث الأول في تعريف التورق تعريف التورق اصطلاحاً (¬1): لم يعرف التورق في الاصطلاح الفقهي بهذا الاسم إلا عند الحنابلة، وأما غير الحنابلة فإنهم يذكرونه ضمن صور العينة، أو يذكرون صورته دون أن يعطوه اصطلاحاً خاصاً (¬2). قال ابن تيمية في تعريف التورق: أن يشتري السلعة إلى أجل ليبيعها، ويأخذ ثمنها، فهذه تسمى مسألة التورق؛ لأن غرضه الورق لا السلعة (¬3). ¬
وقد تضمن التعريف شرطين مهمين
وهذا التعريف غير جامع ولا مانع؛ لأنه يدخل فيه بيع العينة، حيث لم يشترط التعريف أن يبيعها على غير بائعها. وعرفت اللجنة الدائمة للإفتاء في البلاد السعودية التورق: "أن تشتري سلعة بثمن مؤجل، ثم تبيعها بثمن حال على غير من اشتريتها منه بالثمن المؤجل من أجل أن تنتفع بثمنها" (¬1). وعرفه المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، بقوله: "وشراء سلعة في حوزة البائع وملكه بثمن مؤجل، ثم يبيع المشتري بنقد لغير البائع للحصول على النقد" (¬2). وسميت بمسألة التورق: لأن المشتري يشتري سلعة لا يريدها لذاتها، وإنما يريد أن يتوصل بها إلى الورق (النقد). وقد تضمن التعريف شرطين مهمين: الأول: يشترط تملك السلعة وحيازتها بعينها لدى البائع قبل البيع، فإن باع التاجر السلعة قبل تملكها فقد باع ما لا يملك، وهذا لا يجوز. الثاني: أن يبيع السلعة المشتري على غير البائع أو من ينزل منزلته، بعد قبض المشتري السلعة القبض الشرعي. فإن اشترى البائع السلعة رجعت إلى مسألة العينة. ¬
المبحث الثاني في حكم التورق
المبحث الثاني في حكم التورق من اشترى سلعة بثمن موجل بعقد صحيح، فقد ملكها، وحق الملك إطلاق التصرف فيها بشرطه: وهو قبضها، وبيعها على غير بائعها. قال الشيخ عبد العزيز بن باز: "كون المقصود من التورق هو النقد فليس ذلك موجباً لتحريمها؛ ولا لكراهتها؛ لأن مقصود التجار غالباً من المعاملات هو تحصيل نقود أكثر بنقود أقل". إذا جاز بيع التمر الرديء ليشتري جيدًا؛ ولم يكن قصده الدراهم، وإنما قصده الجيد بردئ، جاز أن يشتري السلعة، وهو لا يريدها، وإنما بريد الدراهم. ومن فرق بينهما فقد تكلف الفرق. [م - 1206] اختلف العلماء في حكم التورق: فقيل: يجوز التورق. وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2)، والمذهب عند الشافعية (¬3)،. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
والحنابلة (¬1). وبه أفتى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (¬2)، والشيخ ابن باز (¬3)، والشيخ عبد الرحمن السعدي (¬4)، وقال بجوزاه شيخنا ابن عثيمين بشروط (¬5)، وصدر بجوازه قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي (¬6). ¬
وقيل: لا يجوز، وبه قال عمر بن عبد العزيز، واختاره بعض الحنفية حيث فسروا العينة بالتورق (¬1). وقد نص الإمام أحمد في رواية أبي داود على أنها العينة، وأطلق عليها اسمها (¬2)، وقال بتحريم التورق كل من ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة (¬3). وقيل: يكره، وهو قول في مذهب الحنفية (¬4)، ورواية في مذهب أحمد (¬5). وقيل: يكره إذا اتخذ ذلك حيلة على الربا. ¬
دليل من قال بالجواز مطلقا
وهذا هو المذهب عند المالكية (¬1). فتحصل لنا في حكم التورق أربعة أقوال: الجواز مطلقاً. المنع مطلقاً. الكراهة مطلقاً. الكراهة إذا اتخذت حيلة على الربا. دليل من قال بالجواز مطلقاً: الدليل الأول: قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. ¬
الدليل الثاني
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. والتورق بيع دخله التأجيل، وقد تم بأركانه وشروطه، فهو داخل في عموم ما أحل الله من البيع والمداينة، وليس في ذلك أي حيلة على الربا. الدليل الثاني: الأصل حل جميع المعاملات إلا ما قام الدليل على منعه، ولا دليل على منع التورق، فالمطالب بالدليل الصحيح الخالي من النغ هو المانع، وليس المبيح. الدليل الثالث: (ح- 801) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن عبد المجيد بن سهيل ابن عبد الرحمن بن عوف، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر، فجاءهم بتمر جنيب، فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: إنا لنأخذ الصالح من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً، وقال في الميزان مثل ذلك (¬1). وجه الاستدلال: أن هذا الرجل لديه تمر رديء يريد الحصول على تمر جيد، فإن باع الصاعين منه بالصاع وقع في عين الربا, ولكن إن باعه بدراهم، وهو لا يريد الدراهم أصبح البيع صحيحاً؛ لأنه قد توفرت فيه أركانه وشروطه، وإن كان قصده من ¬
الدليل الرابع
هذا البيع هو الحصول على التمر الجيد، فهذا القصد لا يقدح في صحة البيع ما دام أنه قد اشترى التمر الجيد من رجل آخر غير الذي اشترى منه التمر الرديء. وهذا كالنص في الموضوع، فإن المتورق يشتري السلعة وهو لا يريد السلعة، وإنما قصده الدراهم، وهذا لا يقدح في صحة البيع، ثم يبيع السلعة على رجل آخر غير الرجل الذي باع عليه السلعة، فإن أراد أن يفرق بين الصورتين فسيتكلف الفرق. الدليل الرابع: التورق يدل على جوازه القياس الصحيح، فقد جاء في مجموع الفتاوى لابن تيمية رحمه الله: "سئل عن رجل عنده فرس، شراه بمائة وثمانين درهماً، فطلبه منه إنسان بثلاثمائة درهم إلى مدة ثلاثة شهور، فهل يحل ذلك؟ فأجاب: الحمد لله، إن كان الذي يشتريه لينتفع به، أو يتجر به، فلا بأس في بيعه إلى أجل ... وأما إذا كان محتاجاً إلى دراهم، فاشتراه ليبيعه في الحال، ويأخذ ثمنه، فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء" (¬1). فهل يجوز للتاجر أن يشتري السلعة بثمن مؤجل، ويبيعها من أجل تكثير الدراهم، لا من أجل حاجته، ولا من أجل السلعة، ولا يجوز للمحتاج أن يشتريها ليبيعها ويقضي بها حاجته، أليس كل من التاجر والمحتاج قد اشترى السلعة من أجل الدراهم، ولكن هذا من أجل المكاثرة، وهذا من أجل دفع الحاجة. الدليل الخامس: مسيس الحاجة إلى هذه المعاملة، فإن المسلم قد تشتد حاجته إلى النقد، ولا يجد من يقرضه بدون ربا، وهذه المعاملة ليس فيها مفسدة الربا، فالبائع يبيعه ¬
دليل من قال بمنع التورق
السلعة بثمن مؤجل، وهو لا يعلم نيته، هل يريد السلعة نفسها أو يريد الدراهم، وفعل البائع جائز بالإجماع لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] والمشتري يشتري منه السلعة، وهو لا يعلم قصده من ذلك، هل باعها بنية التورق، أو بنية التخلص والاستغناء عن السلعة، وفعل المشتري جائز بالإجماع؛ لأنه اشترى سلعة من مالكها، وهي في حوزته، فهذان طرفان في المعاملة لا إشكال في فعلهما، بقي المتورق، فالمتورق قد باع سلعة ثبت ملكه عليها بعقد صحيح، ومن ملك عيناً ملك التصرف فيها، ومنه البيع، فالقياس صحة فعله. دليل من قال بمنع التورق: الدليل الأول: (ح-802) ما رواه أحمد من طريق هشيم، أخبرنا أبو عامر المزني، حدثنا شيخ من بني تميم، قال: خطبنا علي، وفيه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطرين، وعن بيع الغرر (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن الرجل لا يلجأ إلى التورق إلا في حال الاضطرار إذا لم يجد من يقرضه، فيضطر إلى شراء سلعة بأكثر من ثمنها مؤجلًا، ليبيعها، ويحصل على النقد. قال ابن تيمية: هذا الحديث "من دلائل النبوة، فإن عامة العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة يضن عليه الموسر بالقرض ... فيبيعونه ثمن المائة بضعفها، أو نحو ذلك، ولهذا كره العلماء أن يكون أكثر بيع الرجل، أو عامته نسيئة؛ لئلا يدخل في اسم العينة، وبيع المضطر" (¬1). ¬
ونوقش هذا الاستدلال من ثلاثة وجوه
ونوقش هذا الاستدلال من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن الحديث ضعيف، ولا حجة في الحديث الضعيف. الوجه الثاني: " لا نسلم أن كل من لجأ إلى التورق مضطر، وذلك لاختلاف ذلك باختلاف الدواعي إلى تحصيل النقد، فإن أراد تحصيله لتأمين أمر ضروري فتعذر عليه إلا بهذه الوسيلة فهو مضطر، وإن أراده لتأمين أمر حاجي فهو محتاج، وإن أراده لتأمين أمر كمالي فهو متوسع في المباح، والواقع شاهد على لجوء الناس إلى هذه المعاملة لتحقيق الأمور الثلاثة، فلم يصح طرد حكم الاضطرار لي في جميع الصور" (¬1). الوجه الثالث: أن الفقهاء قد اختلفوا في تعريف بيع المضطر، إلى ثلاثة أقوال: أحدها: الإكراه على العقد، وهذا لا يجوز إلا أن يكون الإكراه عليه بحق لوفاء دين ونحوه. وقال الخطابي: "بيع المضطر يكون على وجهين: أحدهما: أن يضطر إلى العقد عن طريق الإكراه عليه، فهذا فاسد لا ينعقد (¬2). والتورق غير داخل في هذا التعريف؛ لأنه لا يوجد إكراه على العقد. ¬
التعريف الثاني
التعريف الثاني: أن يكره على البيع بدون ثمن المثل، أو الشراء بأكثر من ثمن المثل. قال ابن عابدين من الحنفية في تعريف بيع المضطر: "بأن يضطر إلى بيع شيء من ماله، ولم يرض المشتري إلا بشرائه بدون ثمن المثل، بغبن فاحش (¬1). ومثال شراء المضطر، قال: "أن يضطر الرجل إلى طعام، أو شراب، أو لباس، أو غيره، ولا يبيعه البائع إلا بأكثر من ثمنه" (¬2). وهاتان الصورتان ليستا داخلتين في التورق؛ لأن الرجل لو اشترى سلعة بأكثر من ثمنها مؤجلة للاستخدام جاز، هذا على قول عامة السلف، وسيأتي بحثها إن شاء الله تعالى. التعريف الثالث لبيع المضطر: أن يحتاج إلى المال، فيبيع ماله بأقل من ثمنه؛ لأجل حاجته، ويقاس عليه إذا احتاج إلى المال فاشترى سلعة بأكثر من ثمنها، وهذا التعريف تدخل فيه مسألة التورق. قال الحطاب في مواهب الجليل: "سئل السيوري ... عمن يتعدى عليه الأعراب، فيسجنونه، فيبيع هو أو وكيله، أو من يحتسب له ريعاً لفدائه، هل يجوز شراؤه أم لا؟ ... فأجاب: بيع المضطر لفدائه جائز ماض، باع هو، أو وكيله بأمره، وكذا أخذه معاملة، أو سلفاً، ومن فعل ذلك معه أجر على قدر نيته في الدنيا والآخرة" (¬3). ¬
وبهذا عرفه الحنابلة أيضاً: بأن يكره على دفع مال، فيبيع ملكه لذلك، قال في الإنصاف: وهو بيع المضطر" (¬1). وقال الخطابي: "بيع المضطر يكون على وجهين: أحدهما: أن يضطر إلى العقد عن طريق الإكراه عليه، فهذا فاسد لا ينعقد. والوجه الآخر: أن يضطر إلى البيع لدين يركبه، أو مؤنة ترهقه، فيبيع ما في يده بالوكس من أجل الضرورة" (¬2). وهاتان الصورتان اللتان ذكرها الخطابي، سبق لنا خلاف العلماء في حكم البيع فيهما. سواء ما كان فيه الإكراه على البيع. أو كان الإكراه على سبب البيع، كما لو طلب شخص ظالم من آخر مالاً، فاضطره إلى بيع ماله ليدفع له لئلا يناله أذى، أو يمنع من حق من حقوقه، فقيل في هذه الصورة: البيع لازم. وهو المعتمد في مذهب المالكية (¬3)، ومذهب الشافعية (¬4)، واختيار ابن تيمية من الحنابلة (¬5). وقيل: البيع غير لازم، وهو قول في مذهب المالكية. ¬
الدليل الثاني
فقوله: غير لازم، يعني أنه صحيح، وللمكره الخيار إن شاء أمضاه، وإن شاء رده. وقيل: لا يصح، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يصح البيع، ويكره الشراء منه، وهو مذهب الحنابلة (¬3). وسبق لنا ذكر أدلة كل قول في الركن الثاني من أركان البيع، فأغنى عن إعادته هنا. فدل هذا على أن بيع المضطر إذا لم يكره على البيع، وإنما كان الإكراه على سبب البيع، وذلك بغرض الحصول على المال أن بيعه صحيح لازم حتى على قول ابن تيمية، فكذلك الحال في المتورق فإنه يشتري لغرض الحصول على المال ولم يتوجه الإكراه على عقد الشراء، وإنما دفعته الحاجة إليه، فينبغي أن يكون شراؤه صحيحاً حتى على قول ابن تيمية، وأي فرق بين أن يصحح ابن تيمية أن يبيع الرجل ماله إذا أكره على سبب البيع، ويرى البيع صحيحاً لازماً وبين أن يبطل شراءه إذا أكره على سبب الشراء، وهل حكم الشراء إلا حكم البيع. الدليل الثاني: أن المعنى يقتضي تحريم التورق، قال ابن تيمية: "المعنى الذي من أجله حرم ¬
ويناقش
الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة، وبيعها، والخسارة فيها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى، وتبيح ما هو أعلى منه" (¬1). وقال أيضًا: "التورق أصل الربا، فإن الله حرم أخذ دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل لما في ذلك من ضرر المحتاج، وأكل ماله بالباطل، وهذا المعنى موجود في هذه الصورة" (¬2). ويناقش: قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز: "وأما تعليل من منعها أو كرهها لكون المقصود منها هو النقد فليس ذلك موجبًا لتحريمها، ولا لكراهتها؛ لأن مقصود التجار غالباً في المعاملات هو تحصيل نقود أكثر بنقود أقل، والسلع المبيعة هي الواسطة في ذلك، وإنما يمنع مثل هذا العقد إذا كان البيع والشراء من شخص واحد كمسألة العينة، فإن ذلك يتخذ حيلة على الربا" (¬3). وإذا كان تحريم التورق من أجل رفع الظلم عن المحتاج ومنع الإضرار به، فهل تقولون: لو اشتراها بأكثر من قيمتها مؤجلًا، وهو يريد السلعة، هل زيادة الثمن عليه في مقابل التأجيل حرام؟ الجواب: لا. ولا يضع جمهور الفقهاء حدًّا للزيادة في مقابل التأجيل، فالصورة هنا خالية تمامًا من التحريم عند القائلين بتحريم التورق، والقول بتحريمها قول شاذ. وأما بيع المتورق السلعة فهو يبيعها بسعر مثلها حالة، ولا يغبن في ¬
الدليل الثالث
بيعها، فكيف تحول البيع الأول الحلال الذي هو مظنة الاستغلال والغبن كيف تحول إلى حرام بمجرد أن باعها صاحبها بسعر مثلها، أليس هذا خلاف القياس. الدليل الثالث: (ث-143) وروى عبد الرزاق في مصنفه، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو ابن في دينار، عن عطاء عن ابن عباس قال إذا استقمت بنقد وبعت بنقد فلا بأس به، وإذا استقمت بنقد فبعت بنسيئة فلا، إنما ذلك ورق بورق ... (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). وجه الاستدلال: يقول ابن تيمية في تفسير كلام ابن عباس: "يعني إذا قومتها بنقد، ثم بعتها نسيئًا، كان مقصود المشتري اشتراء دراهم معجلة بدراهم مؤجلة، وهذا شأن المورقين، فإن الرجل يأتيه فيقول: أريد ألف درهم، فيخرج له سلعة تساوي ألف درهم، وهذا هو الاستقامة -يقول أقمت السلعة وقومتها واستقمتها بمعنى واحد، وهي لغة مكية معروفة بمعنى التقويم- فإذا قومتها بألف، قال: اشتريها بألف ومائتين، أو أكثر أو أقل ... " (¬3). ويناقش: لا أرى كلام ابن عباس ينزل على المتورقين، فالقسمة ثلاث، نص ابن عباس على اثنتين منها، وترك الثالثة: ¬
أما القسم الثالث
فالأولى التي نص عليها ابن عباس: أن يقوم السلعة بنقد، ويشتريها بنقد، فهذا الذي قال فيه: إنه جائز. والثانية: أن يقوم السلعة بنقد، ويشتريها بنسيئة، فهذا الذي منعه ابن عباس، ولعل ذلك على سبيل الكراهة لمشابهته صورة التعاقد المحرم، سدًّا لذريعة المشابهة للربا. أما القسم الثالث والتي لم ينص ابن عباس عليها: أن يقوم السلعة بنسيئة، ويشتريها بنسيئة، فهذا لا حرج فيه، حتى ولو زادت قيمت السلعة عن ثمنها معجلة، وعامة الأمة على جوازه إلا خلافًا شاذا، لانتفاء المشابهة بينها وبين الصورة المحرمة. وهذا ما يفعله المتورق، ولذلك قال ابن سيرين فيما نقله ابن تيمية عنه: "إذا أراد أن يبتاعه بنقد فليساومه بنقد، وإن كان يريد أن يبتاعه بنسأ فليساومه بنسأ" (¬1). وهناك من حمل كلام ابن عباس على حديث النهي عن بيعتين في بيعة، في الصورة التي فسرها أكثر السلف، وهي ما إذا قال: هذه بمائة الآن وبمائة وعشر إلى سنة فإذا باعها بمائة الآن فهو جائز وأما إذا باعها بمائة وعشر إلى سنة فمعنى ذلك أنه داينه مائة دينار إلى أجل بمائة وعشر (¬2). وقد سبقت مناقشة النهي عن بيعتين في بيعة، والمراد منها. الدليل الرابع للقائلين بتحريم التورق: أن الزيادة في مقابل التأجيل من الربا المحرم؛ لأنها زيادة في مقابل الأجل والإمهال، وهذه الزيادة لا يقابلها عوض إلا الأجل، فتكون من الربا الصريح. ¬
ويناقش
ويناقش: هذا الدليل يستدل به من يذهب إلى تحريم الزيادة في ثمن السلعة مقابل التأجيل، ولو كان المشتري يشتري السلعة من أجل حاجته إليها، وليس من أجل حاجته إلى النقود، فيخرج عن موضوع مسألتنا، وهي مسألة أخرى غير مسألة التورق. والزيادة في مقابل الأجل ليست كلها حرامًا. فالزيادة في مبلغ القرض في مقابل الزيادة في الأجل فهذا حرام بالإجماع. وقد سبق نقل الإجماع عليه. والزيادة في الأجل في مقابل الزيادة في الدين الثابت في الذمة سواء كان بسبب بيع أو قرض، فهذا مجمع على تحريمه أيضًا. وهو من ربا الجاهلية. وأما الزيادة في ثمن السلعة مقابل التأجيل ابتداء عند ابتداء العقد فهذا جائز بمقتضى النص الشرعي، قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة في مسلم: فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد. وسوف تأتي هذه المسألة ومناقشتها في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى. وجه من قال بالكراهة مطلقًا: لعل الذي كره التورق إنما كرهه لما فيه من استغلال حاجة المضطر، وحمله على شراء السلعة بأكثر من سعر يومها، ولوجود خلاف قوي في جواز التورق، وخشية أن تكون فيه مضارعة للصور المحرمة. ويناقش: سلمنا أن التورق مكروه، فإن الحاجة الشديدة ترفع الكراهة، كما ترفع الضرورة حكم المحرم، والله أعلم.
وجه من قال بالكراهة إن اتخذت حيلة
وجه من قال بالكراهة إن اتخذت حيلة: إذا اتفق معه قبل شراء السلعة على أن تكون المائة مائة وعشرة فقد ضارعت هذه الصورة صورة الربا، ومشابهة الربا أقل أحواله أن تكون مكروهة. الراجح: لما كان إقراض المحتاج ليس بواجب، وكانت الزيادة في الثمن مقابل التأجيل أمرًا جائزًا في حالة ما إذا أراد المشتري السلعة لذاتها، أو أراد السلعة للتجارة، والخلاف فيها من الخلاف الشاذ، قال ابن تيمية: "المشتري تارة يشتري السلعة لينتفع بها، وتارة يشتريها ليتجر بها، فهذان جائزان باتفاق المسلمين ... ". لهذا لا أرى حرجًا في بيع السلعة بعد أن يشتريها صاحبها لدفع حاجته على أن القول بالجواز لا بد فيه من مراعاة شروط البيع الأخرى، ولا يستغل البنوك جواز التورق للتهاون في مراعاة شروط البيع الصحيح، وذلك مثل: الشرط الأول: أن تكون السلعة قد ملكها البائع ملكًا حقيقيًا، وقبضها القبض الشرعي. الشرط الثاني: أن يقوم المشتري بقبض السلعة القبض الشرعي قبل بيعها. الشرط الثالث: إذا أراد المشتري أن يبيع السلعة فليبعها على شخص ثالث لا علاقة له بالبائع، فإن عادت السلعة إلى ملك البائع كان هذا الشخص الثالث مجرد محلل للربا. كما يجب مراعاة شروط المرابحة للواعد بالشراء إن كان هناك مفاهمة على الشراء قبل تملك البائع للسلعة، وسوف تأتي مناقشة شروط المرابحة إن شاء الله تعالى ضمن الكلام على المعاملات المصرفية، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه، وعونه وتوفيقه.
المبحث الثالث في حكم التورق المصرفي
المبحث الثالث في حكم التورق المصرفي الفرع الأول في تعريف التورق المصرفي عرفنا في المقال السابق أن التورق نوعان: تورق بسيط. وتورق منظم، وهو ما اصطلح عليه بتسميته بالتورق المصرفي، وعرضنا في المقال السابق خلاف العلماء في التورق البسيط، وانتهى البحث بأن القول الراجح هو جواز التورق البسيط، ونريد أن نستكمل البحث في هذا المقال عن التورق المصرفي، وذلك بتعريفه، وتكييفه، وبيان خلاف العلماء فيه. فالتورق المصرفي: يمكن تعريفه بأنه: الحصول على النقد عن طريق شراء سلعة مخصوصة من مكان مخصوص بثمن آجل من البنك وتوكيل البنك في بيعها لحساب العميل. فقولنا: (الحصول على النقد) إشارة إلى أن الغرض من شراء السلعة هو الحصول على النقد، وهذا يلتقي فيه التورق البسيط مع التورق المنظم. وقولنا (شراء سلعة مخصوصة) إشارة إلى أن السلعة المباعة ليست أي سلعة بل لا بد أن يتوفر فيها شروط مخصوصة، من ذلك: ألا تكون السلعة من الذهب أو الفضة، حتى لا يؤدي ذلك إلى بيع الذهب والفضة بالأوراق النقدية مع التأجيل، وهذا لا يجوز.
وغالبًا ما تكون السلعة من المعادن كالزنك، أو النيكل، أو البرونز، أو الصفيح، أو النحاس، أو غيرها من المعادن الأساسية التي يجري فيها التبادل يوميًّا. وهذا قيد يفترق فيه التورق المنظم عن التورق البسيط؛ لأن السلعة في التورق البسيط لا يشترط أن تكون من المعادن، وإنما غالباً ما تكون سيارة، أو منزلًا أو أثاثًا أو نحوها من العروض المعروضة في الأسواق العادية، ولدى تجار التجزئة. وقولنا: (من مكان مخصوص) إشارة إلى أن هذه السلعة لا تباع في الأسواق العادية، وإنما تعرض في أسواق السلع العالمية، والمسماة بالبورصة. وهذا فارق آخر بين التورق المنظم والتورق المصرفي. وقولنا (بثمن آجل) هذا القيد يلتقي فيه التورق البسيط مع التورق المنظم. وقولنا (توكيل البنك في بيعها) هذا فارق ثالث يتميز به التورق المنظم عن التورق البسيط، فالسلعة في التورق البسيط يتولى المشتري بنفسه قبض السلعة، والبحث عن مشتر لها، بينما التورق المنظم يتولى البنك قبض السلعة وبيعها نيابة عن صاحبها، وما على العميل إلا قبض نقود أقل، ودفع نقود أكثر بدلًا منها، والواسطة سلعة يتولى البنك شراءها، وقبضها، وبيعها لصاحبها. هذا هو التورق المنظم، والفرق بينه وبين التورق البسيط. فالمعاملة في التورق المنظم تقوم على أكثر من عقد، منها ما يمكن الاطلاع عليه، والوقوف على حقيقته، ومنها ما لا يمكن الاطلاع على حقيقته. فالعقود المكشوفة في هذه المعاملة: هي تلك العقود التي تقوم بين البنك وبين عملائه المتورقين من أفراد وشركات.
وعقود مستترة، وهي تلك العقود المتعلقة بالسوق الدولية، وأطرافها (البنك وما يتعامل معه من شركات يبيع عليها، ويشتري منها، وفق عقود واتفاقات مسبقة قبل عقد البيع مع العميل، ولا يحق للعميل الاطلاع عليها، وهي جزء مشروط في العملية، وتدخل ضمن ما يعرف بسرية العمل المصرفي. ويهدف البنك من ذلك أن يضمن وجود بائع، ووجود مشتر للصفقة، بحيث لا يتحمل البنك أجور تخزين السلع، ولا يتحمل تبعات الصفقات الكبيرة، والحرص قدر الإمكان على توفير استقرار أسعار السلع؛ لأن سوق البورصة من طبيعته تقلب الأسعار في كل لحظة. وهذا التعريف هو أحسن ما يقال فيه، وإن كان هذا التعريف قد لا يكون مانعًا، فإن التورق بالأسهم يصدق عليه أنه تورق مصرفي، مع أن السلعة في الأسهم يمكن تملكها حقيقة، ويقبضها المشتري قبضا حكميًّا صحيحًا، وله الحرية في التصرف بها، إن شاء باعها، وإن شاء احتفظ بها ليتربص بها ارتفاع الأسعار، وإن شاء أيقاها في ذمته للاستثمار، فلا تدخل في التورق المصرفي الممنوع، وهو التورق في المعادن. إذا عرفنا التورق المصرفي وما يحتف به من العقود نأتي على كلام أهل العلم في حكمه.
الفرع الثاني خلاف العلماء في التورق المصرفي
الفرع الثاني خلاف العلماء في التورق المصرفي قال الشيخ علي السالوس: التورق المصرفي دراهم بدراهم ليس بينهما شيء (¬1). قلت: التورق المصرفي أقرب إلى تمويل نقدي بفائدة منه إلى التورق الحقيقي. [م - 1207] الذين يذهبون إلى تحريم التورق الفقهي القديم سيمنعون التورق المصرفي، إما لأنه مثله، أو لكونه أولى بالمنع منه. وأما الفقهاء القائلون بجواز التورق البسيط فقد اختلفوا في التورق المصرفي إلى قولين: القول الأول: يرى تحريم التورق المصرفي. وبه صدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي (¬2)، وأكثر الباحثين في ندوات البركة (¬3)، وكثير من الباحثين المعاصرين، كالشيخ علي السالوس (¬4)، والأستاذ رفيق يونس ¬
ويستدلون بأدلة منها
المصري (¬1)، والدكتور عبد الله السعيدي، والدكتور سامي السويلم (¬2)، والدكتور خالد بن علي المشيقح (¬3)، وطائفة كثيرة من الباحثين الاقتصاديين. ويستدلون بأدلة منها: الدليل الأول: (ح-803) روى أبو داود الطيالسي من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬4). [إسناده حسن] (¬5). وجه الاستدلال: نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عن بيع ما ليس عند البائع، وحقيقة التورق المصرفي إنما هو بيع مستندي في سوق البورصة، لسلع لم يتم استلامها، ولا تملُّكها، وإنما هي بيوعات آجلة يتم المضاربة فيها، فيصدق عليه أنه بيع ما ليس عند البائع. كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق عن الربح فيما لم يضمن. وهذه المعادن يربح فيها البنك، وهي لم تدخل ضمانه؛ لأنها في حقيقتها بيوع آجلة، لم يتم تملكها، ولا قبضها القبض الشرعي، ولا وجود لهذه السلع ¬
حقيقة إلا على الحاسب الآلي، وما يقوله بعض البنوك بأن العميل يمكنه استلام السلعة بنفسها كلام يخالف الحقيقة. ولنوضح ذلك من خلال تصوير تداول المعادن عن طريق البورصة: "البضائع التي يراد بيعها عن طريق البورصة ترسل أولاً إلى أحد المخازن، وبعد التفريغ، واتخاذ الإجراءات اللازمة تعبداً عملية الوزن لوحدات متساوية تقريبًا، وكل وحدة تزن خمسة وعشرين طنًا، أي خمسة وعشرين ألف كيلو جرام. وبعد الوزن تكتب البيانات الكاملة المتصلة بهذه الوحدة، فيكتب الجنس والصفات والوزن الحقيقي فقد يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً عن الخمسة والعشرين طنًا ومكان التخزين الذي يوضع فيه ... الخ. هذه الورقة المكتوبة هي إيصال المخازن، وهي التي تتداول في البورصة، وتنتقل من يد إلى يد إلى أن تنتهي ليد مستهلك يستطيع أن يتسلم بها ما اشتراه، والبيانات المكتوبة في الإيصال نرى مثلها في مكان التخزين، ومسجلة على الحاسب الآلي" (¬1). هذه طبيعة تداول المعادن في سوق البورصة، فالسلع فيها لا يتم تسلمها إلا عن طريق إيصالات المخازن الأصلية، وكل إيصال يقابله خمسة وعشرون طنًا، والإيصال لا يتجزأ. والسؤال: هل المصارف التي تمارس التورق تملك إيصالات المخازن؟ يقول الشيخ علي السالوس: "لا أعلم أي مصرف منها تسلم سلعة من السلع، أو تسلم الإيصالات الأصلية واحتفظ بها ليبيع في الوقت المناسب، سواء هو أو وكيله، وحينما حاولت مع بعضهم أن يقوم بهذا كان الرد: إننا لا نستطيع أن ¬
نتحمل مخاطر تغير الأسعار، ولا قدرة لنا لمجارات البنوك والشركات العملاقة ... ويقول الشيخ: وما عرفناه من خلال زياراتنا المتكررة، وما اعترف به بعض البنوك والشركات العالمية، هو أن عدم وجود إيصالات مخازن أصلية يعني عدم وجود سلع؛ فالأمر هنا لا يعدو أن يكون قيودًا لا يقابلها شيء في الواقع العملي" (¬1). وإذا كان واقع الحال كذلك، فلا إيصالات مخازن تدل على تملك السلعة، ولا إمكانية تقسيم الإيصال إلى وحدات صغيرة يمكن تداولها بين صغار المتورقين، فكيف تجري عملية التورق المصرفي داخل البنوك؟ يقول الشيخ علي السالوس: "يعقد البنك ... اتفاقيتين، إحداهما مع شركة باعتبارها بائعًا، والأخرى مع شركة باعتبارها مشتريًا، وكل اتفاقية تمثل الإطار العام الذي ينظم العلاقة بينهما. وما يثبت الملكية هو ورقة من الشركة التي تقوم بدور البائع، وليس إيصالات مخازن، وتسجيل الكمية على الحاسب الآلي ليتم البيع منها للعملاء المتورقين الذي وكلوا البنك ليقوم هو ببيع ما اشتروه، ومن هنا يبدأ العمل بالاتفاقية مع الشركة التي تقوم بدور المشتري، وما يسجل بأن هذه الشركة اشترته من البنك تقوم الشركة الأولى بنقله من حساب البنك إلى حساب الشركة الثانية ... وعدم وجود إيصالات مخازن أصلية يعني عدم وجود سلع؛ فالأمر هنا لا يعدو أن يكون قيودًا لا يقابلها شيء في الواقع العملي" (¬2). وإذا كانت العملية تجري على هذا النحو، فالسؤال: هل يمكن للمتورق أن يتسلم السلعة؟ ¬
يقول الشيخ علي السالوس: "البنك يقول: يمكنه أن يتسلم السلعة. وأقول: هذا ليس متعذرًا بل هو من المستحيلات، وإليك البيان: لا يتم تسلم السلع إلا بإيصالات المخازن الأصلية، وكل إيصال يقابله خمسة وعشرون طنًا، والإيصال لا يتجزأ. ولا يستطيع أي أحد أن يأخذ الإيصالات ليتسلم السلع من المخازن إلا إذا كان من المسموح لهم بالتعامل مع البورصة، فهل من يبيع له البنك (...) من المتورقين يشتري خمسة وعشرين طنًّا ومضاعفاتها؟ وهل هذا المتورق من أصحاب الملايين أو المليارات المسموح لهم بالتعامل مع البورصة. وهل سيسافر من السعودية إلى أوروبا ليتسلم ما اشتراه قبل أن يبيعه؟ ألم أقل: إن التسلم المذكور من المستحيلات؟ والواقع العملي أن العميل طالب القرض إذا أراد (تيسير ...) يذهب إلى البنك، وبعد دراسة حالته، والضمانات التي يقبلها البنك، وتقدير المبلغ الذي يتفق مع هذه الدراسة، يقوم العميل بتوقيع عقدين. الأول: عقد شراء بثمن مؤجل بالمبلغ الذي حدد. الثاني: وكالة للبنك لبيع ما اشتراه بثمن حال. ويكتب الشيكات أو الكمبيالات المطلوبة ثم يوضع المبلغ بعد ذلك في حسابه يقابله دين مثقل بالفوائد التي يأخذها الأطراف الثلاثة المشتركون في الاتفاقات والعقود!! فقول ابن عباس - رضي الله عنه - في بيان التحريم: (دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة) لا ينطبق على التورق المصرفي؛ فحتى هذه الحريرة غير موجودة،
الدليل الثاني
وإنما دراهم بدراهم ليس بينهما شيء إلا ورقة مكتوبة!! " (¬1). اهـ كلام الشيخ علي السالوس وفقه الله. الدليل الثاني: (ح-804) ما رواه أحمد من طريق محمَّد بن عمرو، ثنا أبو سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة (¬2). [إسناده حسن] (¬3). وجه الاستدلال: أن التورق المصرفي قد اشتمل على بيعتين في بيعة، أحدهما نسيئة، والأخرى نقد، في صفقة واحدة، والمبيع واحد، بل إن التورق المصرفي لا يقوم على بيعتين في بيعة، بل على جملة من العقود، مرتبطة ببعضها، من ذلك. الأول: اتفاق بين البنك وبين شركتين أحدهما بائعة، وأخرى مشترية، وهذه الاتفاقات تحصل قبل عقد البيع على العميل المتورق، وقبل توكيل البنك في البيع، والإلزام بهذه الاتفاقات يجعلها عقودًا على ديون لم توجد بعد، فهي من قبيل بيع الدين بالدين المتفق على منعه، وفي أقل الأحوال أن تكون من باب الإلزام بالوعد على البيع، والوعد على الشراء، وهو محرم لدى الأئمة الأربعة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الثاني: عقد بيع بين البنك وبين الشركة البائعة عليه تنفيذًا للاتفاق السابق، ¬
الدليل الثالث
وهذه الصفقة يدخلها ما يدخلها من الإلزام بالوعد؛ لأن كلًّا من الشركة البائعة والبنك ضامن للآخر بإتمام العقد. الثالث: عقد بيع بين البنك وبين المستورق. الرابع: عقد وكالة بين البنك وبين العميل، ولولا هذه الوكالة لما قبل العميل بالشراء منه بأجل ابتداء. الخامس: عقد بيع بين البنك بصفته وكيلًا عن المستورق وبين الشركة المشترية تنفيذًا لاتفاق سابق بين البنك وبين الشركة المشترية، وهذا الشراء يدخله ما يدخله من الإلزام بالوعد لأن كلًّا من المشتري النهائي والبنك ضامن للآخر بإتمام العقد، وكيف يسوغ للبنك قبل توكيله أن يجري مواعدة ملزمة بينه وبين المشتري. الدليل الثالث: إن التزام البائع في عقد التورق بالوكالة في بيع السلعة لمشتر آخر وترتيب من يشتريها باتفاق سابق على عملية التورق يجعلها من بيع العينة الممنوعة بالاتفاق، وليس من بيع العينة المختلف فيه، سواء أكان الالتزام مشروطًا صراحة، أم بحكم العرف والعادة المتبعة. فالفقهاء رحمهم الله متفقون على تحريم بيع العينة إذا كان البيع الثاني مشروطًا في العقد الأول نصًّا (¬1). فالمصرف هو الذي يبيع السلعة للمتورق نسيئة بأكثر من ثمنها نقدًا، وهو الذي رتب بيعها لشركة أخرى نقدًا بأقل من ثمنها باتفاق سابق، وهذا الاتفاق ¬
كما قلت: اتفاق سابق لعقد البيع على العميل كما هو سابق أيضًا لعقد الوكالة (تفويض العميل للبنك بعملية البيع) مما يجعل العقد مشتملًا على تواطؤ سابق يجعل التورق المصرفي أخبث من بيع العينة؛ لأن بيع العينة المختلف فيه يشترطون ألا يكون هناك اشتراط بين البيعة الأولى والبيعة الثانية، فإن كان هناك اشتراط حرمت العينة إجماعًا بخلاف التورق المصرفي حيث تكون البيعة الثانية مشروطة في البيعة الأولى، مما يجعل هذا التواطؤ السابق حصيلته: صناعة القرض الربوي. يقول قرار المجمع الفقهي برابطة العالم الإِسلامي: "إن التزام البائع في عقد التورق بالوكالة في بيع السلعة لمشتر آخر أو ترتيب من يشتريها يجعلها شبيهة بالعينة الممنوعة شرعًا، سواء أكان الالتزام مشروطًا صراحة، أم بحكم العرف والعادة المتبعة" (¬1). وجاء في المدونة: "سألت مالكًا عن الرجل يبيع السلعة بمائة دينار إلى أجل، فإذا وجب البيع بينهما قال المبتاع للبائع: بعها لي من رجل بنقد فإني لا أبصر البيع. قال: لا خير فيه، ونهى عنه. قلت: فإن سأل المشتري البائع أن يبيعها له بنقد فباعها له بنقد أكثر مما اشتراها به المشتري؟ قال: هذا جائز؛ لأنه لو اشتراها لنفسه بأكثر من عشرة دنانير جاز، فكل شيء يجوز للبائع أن يشتريه لنفسه فهو جائز أن يشتريه لغيره إذا وكله" (¬2). وهذا الشرط من المالكية يجعل مسألة توكل البائع عن المشتري في بيع السلعة يطبق عليه شروط بيع العينة. لأن الفقهاء الذين منعوا بيع العينة أجازوا ¬
ونوقش هذا
العقد إذا اشتراها البائع نسيئة بمثل الثمن؛ لأنه لا ربا مع التماثل، وكذا من باب أولى إن اشتراها بأكثر مما باعها به؛ لأنه لا أحد يؤخذ منه دراهم ليعطي أكثر منها. قال الجصاص: "لا خلاف أن شراءه بمثله، أو أكثر منه جائز" (¬1). وعلل الباجي ذلك بأنه إذا دفع أكثر من الثمن أو مثله لم يتهم أحد (¬2). ونوقش هذا: بأن توكّل البنك عن العميل غير مشروط في عقد البيع، والمشتري فيه بالخيار، إن شاء وكل البنك، وإن شاء لم يفعل، حتى لو كان مشروطا، فماذا فيه، فإنه شرط لا ينافي مقتضي العقد، وفيه مصلحة لأحد طرفيه، وهو يتكرر في كثير من البيوع دون إشكال، كمن يشتري حطبًا، ويشترط تكسيره، وليست الوكالة من عقود الإرفاق المحضة التي لا يجوز الأجر أو الاعتياض عنها، كي يمنع ضمها إلى عقد معاوضة لتهمة اعتبار دخول الاعتياض عنها في مجمل الثمن، فإذا لمس المشتري في التوكيل مصلحة له، فماذا في ذلك إذا كان المشتري قد ملك السلعة ملكا صحيحًا. ورد هذا: بأن هذا الكلام كلام نظري لا يمت للواقع بصلة، فالبيع بسوق البورصة لا يستطيع المشتري أن يتولى بنفسه القبض والبيع كما هو معلوم، هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد قدمنا أن البنك نفسه لا يستطيع أن يقبض السلعة فكيف يقبضها ¬
الدليل الرابع
العميل؟ مع أن توكيل البنك يدخله ما يدخله من التصرفات المنافية للوكالة، فالوكيل في الفقه أمين على سلعة العميل، ولا يضمن له بيعها، ولا الثمن الذي تباع به، ويجب أن يتصرف لمصلحة موكله، فإذا تصرف تصرفًا يضر بالموكل بطلت الوكالة، فالبنك ومن خلال الاتفاقات السابقة مع الشركات الملتزمة بالبيع والشراء يبيع عليها بأقل من سعر السوق، ولا يحق له أن يبيع السلع في السوق، حتى ولو ارتفع سعرها في السوق عن السعر المتفق عليه مع المشتري الثاني. وهذا ما يفسر للباحث كيف يكون سعر هذه المعادن ثابتًا لدى البنوك، مع أن سعرها متقلب في سوق البورصة (¬1). الدليل الرابع: يدخل التورق المصرفي الإلزام بالوعد، فالمتورق إذا واعد البنك على شراء المعدن، فإن البنك يقوم بإلزام العميل بتنفيذ هذا الوعد بعد تملك البنك المعدن المتفق عليه والإلزام بالوعد مخالف لمذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة (¬2)، وبه أخذ مجمع الفقه الإِسلامي، وهيئة كبار العلماء في ¬
السعودية، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية، ورجحه جمع ¬
من العلماء المعاصرين منهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رضي الله عنه -، والدكتور: محمَّد الأشقر، والدكتور الصديق الضرير، والشيخ سليمان بن تركي التركي، والشيخ بكر أبو زيد، والدكتور: رفيق يونس المصري (¬1). ¬
وأحسب أن المسألة مجمع على منعها، والخلاف فيها حادث لبعض العلماء المعاصرين. وقد سبقني إلى هذه النتيجة الدكتور محمَّد الأشقر حيث يقول وفقه الله: "ولم نجد أحداً من العلماء السابقين قال بهذا القول بعد التمحيص، وبعد التعب في البحث، ونسب إلى المالكية وإلى ابن شبرمة القاضي، ولا تصح هذه النسبة" (¬1). ويقول الشيخ نزيه حماد: "لم ينقل عن أحد منهم -يعني من الفقهاء- قول بأن في المواعدة قوة ملزمة لأحد المتواعدين، أو لكليهما؛ لأن التواعد على إنشاء عقد في المستقبل ليس عقدًا" (¬2). وفي ذلك يقول ابن حزم: "والتواعد على بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، وفي سائر الأصناف الأربعة، بعضها ببعض جائز، تبايعًا بعد ذلك، أو لم يتبايعا؛ لأن الوعد ليس بيعًا" (¬3). ¬
الدليل الخامس
وسيأتي إن شاء الله تعالى بحث مستقل عن حكم الإلزام بالواعد في مسألة المرابحة للآمر بالشراء، فانظره هناك. الدليل الخامس: تعتبر سياسة التمويل التي تنتهجها البنوك الإِسلامية، ومنها عملية التورق المصرفي من أعظم الأسباب التي أن إلى انحراف هذه البنوك عن الغايات التي من أجلها قامت هذه المصارف، حيث لم تعد هناك فوارق كبيرة بين البنوك الربوية وبين المصارف الإِسلامية حيث اكتفت البنوك الإِسلامية بهذه الصيغ التمويلية الاستهلاكية عن صيغ الاستثمارات الأخرى، ذات الفائدة الاجتماعية، والجدوى الاقتصادية: كالسلم، والمشاركة الأمر الذي أوقعها في بعض المحاذير الشرعية، كبيع السلع قبل تملكها، والتصرف فيها قبل قبضها، والإلزام بالوعد، وإحداث صيغ تمويلية عليها إشكالات كثيرة كالتورق المصرفي. القول الثاني: ذهب فريق من أهل العلم إلى جواز التورق المصرفي، ولم يفرقوا بينه وبين التورق البسيط. وقد اختار الجواز بعض لجان الفتوى والمراقبة في بعض المصارف التي لها لجان شرعية ترجع إليها (¬1). ¬
الدليل الأول
وقد اعتمدوا على القول بالجواز بأدلة منها: الدليل الأول: التورق الفقهي البسيط قد ذهب إلى جوازه جمهور الفقهاء، وقد سقنا أدلتهم في العدد الماضي، فكل دليل ذكرناه هناك على جواز التورق البسيط فهو دليل على جواز التورق المصرفي، والفرق بين المعاملتين أن التورق الحديث منظم، ووسائله حديثة، وتكلفته أقل، فإن أجاز التورق في السيارات، والأراضي، فيجب عليه أن يجيز التورق في المعادن حيث لا فرق. ونوقش هذا: بأن هناك فرقًا بين التورق القديم والتورق المصرفي من وجوه. الوجه الأول: وهو أهمها، أن التورق القديم يلتزم العميل بشراء السلعة من سيارة أو عقار، وقبضها القبض الشرعي، والقيام بحيازتها، ومن ثم بيعها على رجل أجنبي لا علاقة له بالبائع، وهذا يرهق المصرف الذي يعتمد على الاتجار بالنقود دون حيازة السلع. ¬
الوجه الثاني
أما شراء المعادن في سوق البورصة فإن المصارف تشير في عقودها إلى أن ما يتم يكون على أوراق، وليس حيازة وتملكًا للسلع، وقد شرحت كيف يتم تداول تلك المعادن في سوق البورصة، وكيف يتم التورق داخل البنوك. الوجه الثاني: في التورق المصرفي يتفق البائع (المصرف) مع المشتري النهائي، وهذا لا يوجد في التورق البسيط حيث يقوم المشتري بنفسه ببيع السلعة على طرف أجنبي لا علاقة له بالمصرف. وهذا فارق مؤثر جدًا، فكون البنك في التورق المصرفي هو الذي يتولى شراء السلعة من سوق البورصة، ثم بيعها على المشتري المتورق، ثم يبيعها البنك مرة ثانية على المشتري النهائي في سوق البورصة باتفاق سابق بقصد توفير المال للمتورق والذي من أجله تمت صياغة هذا العقد، وأما دور المتورق فهو قبض نقود أقل حاضرة مقابل نقود أكثر آجلة، هذا التصرف يجعل واقع بيع المرابحة وإن تم تحت مسمى التورق فإنه في حقيقته إنما هو بيع ريالات بريالات بينهما بيع مستندي لسلع لم يتم استلامها، ولا تملُّكها، وإنما هي بيوعات مستقبلية في سوق بورصة البضائع، لا يتم فيها قبض للسلع ولا تسليم، وإنما هي بيوع آجلة يتم المضاربة فيها. الوجه الثالث: هناك خلاف فقهي في صحة توكيل البائع في قبض السلعة نيابة عن المشتري، بينما لا يوجد هذا في التورق الفقهي القديم (¬1). ¬
الوجه الرابع
الوجه الرابع: من الفروق بين التورق القديم والتورق المصرفي أن التورق الفقهي يطلع المشتري على السلعة، ويحيط علمه بها، بينما السلعة في التورق المصرفي هو مبيع لسلعة معدومة أو غائبة موصوفة، وبيع السلع الغائبة الموصوفة محل خلاف بين الفقهاء. الوجه الخامس: استلام النقود الحاضرة في التورق المصرفي يأخذها المتورق من (البنك) والذي صار مدينًا بالثمن الآجل، في حين أن الثمن في التورق البسيط يأخذه المشتري من رجل أجنبي لا علاقة له بالبنك. بل إن الحصول على النقد العاجل أمر منصوص عليه في هذه العقود مصرح به، وهذا يجعل من السلعة حيلة للتواصل على بيع الدراهم بالدراهم مع التفاضل والتأجيل. فأحد البنوك المحلية يقول عن برنامجه (التيسير ...): أول تمويل نقدي إسلامي. ¬
الوجه السادس
وبنك آخر يقول: ويستفيد من التورق المبارك الذين يرغبون في الحصول على سيولة نقدية من خلال آلية شرعية ويقول: احصل في حسابك على السيولة التي تحتاجها وانعم براحة البال مع تمويل التورق من البنك (....). وبنك آخر يقول: احصل على السيولة بكل يسر وسهولة ويقول: يوفر لك بنك (......) السيولة النقدية التي تحتاجها من خلال تورق الخير. وبنك آخر يقول: (مال) يمكنك من الحصول على السيولة النقدية لتلبية احتياجاتك مهما كانت. فواضح من هذه العبارات أن الحصول على النقد العاجل أمر منصوص عليه في هذه العقود، وإنما اتخذت السلعة وسيلة للوصول إلى السيولة، وهذا لا يوجد في التورق البسيط. الوجه السادس: في التورق القديم قد لا يعرف البائع أن المشتري يريد التورق، بل ربما ظن به أنه يريد السلعة لينتفع بها، وإذا قبضها باعها على طرف ثالث لا يعلم أن السلعة المبيعة قد اشتراها صاحبها يريد ثمنها، بينما التورق المصرفي البيعة الثانية مشروطة في قبول البيعة الأولى، ولولا أن المصرف قد التزم أن يكون وكيلًا للمشتري في بيعها لم يقبل المشتري الصفقة. فالقول بأن التورق في السيارات كالتورق في المعادن قول ينقصه الدقة، والفهم السليم لما يتم في سوق البورصة، والله أعلم. الدليل الثاني لمن قال بالجواز: استندت اللجان الشرعية في المصارف التي تبنت عملية التورق المصرفي وبنت فتواها على الجواز استنادًا على قرار المجمع الفقهي الإِسلامي التابع
لرابطة العالم الإِسلامي في دورته الخامسة عشرة، والمنعقدة بمكة المكرمة، ومع أن قرار المجمع ليس دليلاً، وإنما هو قول واجتهاد يتطرق إليه الخطأ والصواب فإن قرار المجمع إنما هو في التورق البسيط، ولو كان المجمع لم يصدر إلا هذا القرار لقيل: إن هذه اللجان لم تجد فرقًا بين التورق البسيط والتورق المصرفي، ورأت أن الفتوى باجتهاد منها تشمل بعمومها التورق المصرفي، ولكن حين يكون للمجمع قراران: أحدهما: الجواز، وذلك فيما يتعلق في حكم التورق البسيط. وقرار آخر: التحريم فيما يتعلق بالتورق المصرفي، فلا يجوز أن ينسب إلى المجمع الموقر أنه يقول بصحة التورق المصرفي، ولولا حسن الظن بالمشايخ الفضلاء لقلت: إن هذا التصرف خلاف الأمانة العلمية، فالمجمع الفقهي لا يجيز التورق المصرفي، وعلى فرض أن تكون فتوى اللجان الشرعية سابقة لقرار المجمع الفقهي الإِسلامي فيما يتعلق بالتورق المصرفي، فينبغي أن يقال: أجاز المجمع التورق البسيط، ونرى أن التورق المصرفي مقيس عليه حتى يفهم القارئ أن كلام المجمع أنما هو في جواز التورق الفقهي البسيط، ولا يجوز للبنوك أن تطرح في إعلاناتها التسويقية بأن التورق المصرفي جائز بناء على فتوى اللجنة الشرعية المستندة إلى قرار المجمع الفقهي الإِسلامي. وإليك نص قرار المجمع الفقهي الإِسلامي والمتعلق بالتورق المصرفي: "الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي لرابطة العالم الإِسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في المدة من 19 - 23/ 10/ 1424 هـ الذي يوافقه 13 - 17/ 12/ 2003 م، قد نظر في موضوع: (التورق كما تجريه بعض المصارف في الوقت الحاضر).
وبعد الاستماع إلى الأبحاث المقدمة حول الموضوع، والمناقشات التي دارت حوله، تبين للمجلس أن التورق الذي تجريه بعض المصارف في الوقت الحاضر هو: قيام المصرف بعمل نمطي يتم فيه ترتيب بيع سلعة (ليست من الذهب أو الفضة) من أسواق السلع العالمية أو غيرها على المستورق بثمن آجل، على أن يلتزم المصرف -إما بشرط في العقد أو بحكم العرف والعادة- بأن ينوب عنه في بيعها على مشتر آخر بثمن حاضر، وتسليم ثمنها للمستورق. وبعد النظر والدراسة، قرر مجلس المجمع ما يلي: أولاً: عدم جواز التورق الذي سبق توصيفه في التمهيد للأمور الآتية: (1) أن التزام البائع في عقد التورق بالوكالة في بيع السلعة لمشتر آخر أو ترتيب من يشتريها يجعلها شبيهة بالعينة الممنوعة شرعًا، سواء أكان الالتزام مشروطًا صراحة، أم بحكم العرف والعادة المتبعة. (2) أن هذه المعاملة تؤدي في كثير من الحالات إلى الإخلال بشروط القبض الشرعي اللازم لصحة المعاملة. (3) أن واقع هذه المعاملة يقوم على منح تمويل نقدي بزيادة لما سمي بالمستورق فيها من المصرف في معاملات البيع والشراء التي تجري منه، والتي هي صورية في معظم أحوالها، هدف البنك من إجرائها أن تعود عليه بزيادة على ما قدم من تمويل .. وهذه المعاملة غير التورق الحقيقي المعروف عند الفقهاء، وقد سبق للمجمع في دورته الخامسة عشرة أن قال بجوازه بمعاملات حقيقية وشروط محددة بينها قراره .. وذلك لما بينهما من فروق عديدة فصلت القول فيها البحوث المقدمة .. فالتورق الحقيقي يقوم على شراء حقيقي لسلعة بثمن آجل تدخل في ملك.
الراجح من الخلاف
المشتري، ويقبضها قبضًا حقيقيًّا، وتقع في ضمانه، ثم يقوم ببيعها هو بثمن حال لحاجته إليه، قد يتمكن من الحصول عليه وقد لا يتمكن، والفرق بين الثمنين الآجل والحال لا يدخل في ملك المصرف الذي طرأ على المعاملة لغرض تبرير الحصول على زيادة لما قدم من تمويل لهذا الشخص بمعاملات صورية في معظم أحوالها، وهذا لا يتوافر في المعاملة المبينة التي تجريها بعض المصارف. ثانيًا: يوصي مجلس المجمع جميع المصارف بتجنب المعاملات المحرمة، امتثالًا لأمر الله تعالى. كما أن المجلس إذ يقدر جهود المصارف الإِسلامية في إنقاذ الأمة الإِسلامية من بلوى الربا، فإنه يوصي بأن تستخدم لذلك المعاملات الحقيقية المشروعة دون اللجوء إلى معاملات صورية تؤول إلى كونها تمويلًا محضًا بزيادة ترجع إلى الممول" اهـ. الراجح من الخلاف: القول بالتحريم هو القول المتعين، وأن التورق المصرفي هو حيلة ظاهرة للتعامل بالربا، ومع احترامي الكامل للجان الشرعية والدور الذي تلعبه في محاولة منها لأسلمة الاقتصاد في البلاد الإِسلامية إلا أن بعض هذه اللجان هي لجان استشارية لا تمارس الدور الرقابي على تصرفات البنوك، وربما كُيِّف لهم بصورة تجعل المفتي لا يرى فارقًا بينه وبين التورق البسيط والدليل على ذلك بأنه قد عرض على فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع عضو هيئة كبار العلماء السؤال التالي: فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع -حفظه الله- هل تتم عمليات البيع والشراء بنظام التورق تحت إشرافكم كهيئة شرعية؛ لأني قمت بتعبئة البيانات في
فرع أحد البنوك الذي تشاركون في هيئته الشرعية، ثم تم إبلاغي بأن المبلغ قد نزل في حسابي دون أن أرى بيعًا أو شراء، ولكن أخبرت آنذاك أن ذلك يتم بمتابعة منكم. أرجوا إفادتي، وجزاكم الله خيرًا. فأجاب فضيلته: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: عليكم السلام ورحمه الله وبركاته، ما ذكره الأخ السائل بأنه صدر منا جواز التورق، نقول: نعم، والتورق لم يصدر جوازه منا فقط، وإنما هو رأي جمهور أهل العلم .... ولكن التورق الذي ذكر السائل طريقته في سؤاله بأنه جاء البنك، وقال لهم: أنا بحاجة إلى مبلغ خمسين ألف ريال مثلًا، وأنهم قاموا بإجراء التورق بأنفسهم، ولم يعلم إلا والمبلغ مسجل في حسابه، نقول: هذا باطل، وليس صحيحًا، فهو لم يتول لا بيعًا، ولا شراء، ولا مقابلة شيء من ذلك، ولا مباشرة أي شيء من هذا، فهذا أشبه ما يكون بشخص احتاج مبلغ خمسين ألف، فقالوا: لا بأس فنحن نعطيك الخمسين ألف، ونضعها في حسابك، ونقيدها عليك بستين ألفاً أو سبعين ألفاً، أو أقل أو أكثر، نقول: هذا باطل، ولا يصح، وليس هذا هو التورق، وإنما التورق أن يأتي المزيد للمبلغ، ويقول: أيها البنك أنا أريد أن أشتري منكم سلعة بمبلغ كذا وكذا، ثم بعد أن يقوم البنك المعروض عليه البيع بتملك هذه السلعة يقوم ببيعها على هذا العميل، والعميل يتولى قبول البيع، والأول يتولى الإيجاب في البيع، ثم تتم العملية بيعًا وشراء، وتنتقل السلعة إلى ملكية العميل، وتستقر في ذمته المديونية، أي قيمة هذه السلعة، ثم يقوم العميل بالتصرف بسلعته، سواء كانت سيارة، أو كانت أسهمًا، أو كانت إسمنتًا، أو أي سلعة من السلع التي يجوز بيعها وشراؤها بعد ذلك يتسلم سلعته، ويتصرف فيها ببيعها، أو يوكل من يبيعها، أو نحو ذلك. هذه هي الطريقة التي أفتينا بها، أما أن يكون الأمر مثل ما ذكره السائل فنبرأ إلى الله من ذلك، ولا يمكن أن تكون هناك جهة شرعية تقول بجواز هذا التصرف
الشرط الأول
الذي ذكره السائل ..... ، ولا يمكن أن يتم تحت إشرافنا، وإذا تم ذلك من موظف جاهل لا يعرف فهو الذي يتحمل إثم هذا العمل مع العميل الذي يساعده على إتمام هذه العملية الصورية التي ليس لها علاقة بالتورق ... الخ كلامه نقلاً من فتاوى موقع الإِسلام اليوم في تاريخ 30/ 3/ 1425 هـ. فهذا يعطي القارئ الكريم أن بعض اللجان الشرعية تمارس دور الاستشارة فقط، وليس لها دور رقابي يستطيع المسلم أن يطمئن إلى أن المعاملات المصرفية سوف تجري وفق الفتوى الشرعية، وإن كان هناك لجان شرعية تمارس دور الرقابة، ولا ينكر أحد دورها المتميز في التفتيش على معاملات البنك، وإلزام البنك بكل ما يصدر منها، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن اللجان الشرعية التي قالت بجواز التورق المصرفي تضع شروطًا لا يتحقق بعضها في التورق المصرفي، من ذلك: الشرط الأول: أن يقبض المصرف كمية المعادن التي اشتراها من سوق البورصة القبض الشرعي، والقبض الشرعي نوعان: قبض حقيقي، وهو القبض باليد، وقبض حكمي وهو أن يدخل في حساب البنك، ويستلم أصل شهادة التخزين، بعد أن يضبط المعدن بالوزن، وهذا ما ليس موجودًا في واقع الأمر. الشرط الثاني: ألا يبيع المشتري السلعة على المصرف وهذا الشرط متحقق. الشرط الثالث: أن يكون المعدن المباع حالاً، فإن كان مؤجلًا بثمن مؤجل فهو بيع الدين بالدين ابتداء، وهو محرم بالإجماع.
الشرط الرابع
وقد بينا من خلال البحث أن ما يُطلق عليه "شهادة التخزين" لا تمثل تملكًا للسلعة، ولا حيازة لها، بل لعل السلعة لم تصنع بعد، وإنما هناك وعد ملزم بتسليمها في موعد محدد، وأن واقع التعامل كله في سوق البورصة إنما هو بالمعاملات الآجلة، ولا وجود الآن فيما يعرف بالسوق الحاضرة (السوق النقدية). الشرط الرابع: ألا يكون المعدن ذهبًا أو فضة؛ لأن علة الربا في النقود هي غلبة الثمنية، فلا يصح بيعهما بالنقود مع التأجيل. وهذا الشرط متحقق. الشرط الخامس: أن يكون المبيع معلومًا إما بالمشاهدة، أو بالوصف، ولا أظن أن المتورق يهمه نوع المعدن، وصفته، بل ربما لا يعرف المتورق من المعدن إلا اسمه، فهو لا يسأل عن صفة المبيع حتى يتوفر الشرط الصحيح للبيع، المهم عنده أنه سوف يقبض من النقود كذا وكذا، وسيكون عليه في ذمته أن يدفع زيادة على ما أخذه مقداره كذا وكذا، هذا هو ما يدور بين البنك وبين العميل، والله أعلم. فهذه الشرروط لا بد من توفرها عند القائلين بجواز التورق المصرفي، وبعضها يجزم الباحث بأنه لا يمكن توفره كما قد علمت، لهذا كله أرى تحريم التورق المصرفي، وأن تسميته بالتورق اصطلاح لا يدل على المسمى. وأن تسمية البنوك له بالتمويل النقدي أقرب إلى الحقيقة منه إلى التورق، وأهل مكة أدرى بشعابها، والله أعلم.
الفصل الثالث الاعتياض عن ثمن الربوي المؤجل بما لا يباع به نسيئة
الفصل الثالث الاعتياض عن ثمن الربوي المؤجل بما لا يباع به نسيئة رجح ابن قدامة بأن كل شيئين حرم النسأ فيهما يجوز أن يأخذ أحدهما عوضًا عن ثمن الآخر المؤجل قبل قبضه إذا كان ذلك على من عليه الدين ولم يفعل حيلة، ولم يقصد ذلك في ابتداء العقد (¬1). [م - 1208] إذا باع رجل على آخر حنطة بمائة ريال مؤجلة إلى عام، فلما حل الأجل اشترى البائع بالمائة قبل قبضها تمرًا، أو شعيرًا مما يجري فيه ربا النسيئة بينه وبين الحنطة، فهل يجوز ذلك؟ أو نقول: لا يجوز لأن الأمر تحول إلى مبادلة ربوي بربوي يوافقه في العلة مع تأخير في أحدهما، والثمن في حكم العدم لعدم خروجه من ملك صاحبه، والمسألة مفروضة فيما إذا جرى قبض العوض؛ لأن بيع الربوي إنما يوافقه في العلة يشترط فيه التقابض. وهذه المسألة هي فرع عن مسألة أشمل منها، وهي حكم بيع الدين على من هو عليه بثمن حال. وقد تكلمنا عن هذه المسألة في حكم التصرف في الدين، وكانت الأقوال فيها كالتالي: فقيل: يجوز، وهو قول الجمهور من الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، ¬
الشرط الأول
والشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، بشروط، منها: الشرط الأول: ألا يكون البيع في بدل صرف، أو رأس مال لسلم، فلا يجوز بيع أي منهما قبل قبضه؛ لأن القبض شرط لصحة العقد، وانتفاء القبض يبطل العقد، فلم يثبت ملكه عليه، فلا يصح ورود عقد آخر عليه قبل انبرامه؛ لعدم ثبوت الملك فيه (¬3). الشرط الثاني: اشترط الإِمام أحمد في قول له، وإسحاق بن راهوية (¬4)، وهو قول عثمان البتي (¬5)، ورجحه ابن تيمية وابن القيم (¬6)، أن يكون البيع بسعر يومه أو دونه، لا أكثر منه، حتى لا يربح فيما لم يضمن. ¬
الشرط الثالث
الشرط الثالث: اشترط المالكية أن يكون الدين حالاً (¬1). الشرط الرابع: يشترط القبض فيما إذا كان العوضان مما يجري فيهما ربا النسيئة، كالبر بالشعير، أو الذهب بالفضة، ونحو ذلك. الشرط الخامس: اشترط ابن قدامة ألا يفعل ذلك حيلة، وألا يقصد ذلك في ابتداء العقد، واحتج بما يرويه عبد الله بن زيد، قال: قدمت على علي ابن الحسين، فقلت له: إني أجذ نخلي، وأبيع ممن حضرني التمر إلى أجل فيقدمون بالحنطة وقد حل ذلك الأجل فيوقفونها بالسوق، فأبتاع منهم، وأقاصهم. قال: لا بأس بذلك إذا لم يكن منك على رأي، وذلك لأنه اشترى الطعام بالدراهم التي في الذمة بعد انبرامه العقد الأول ولزومه، فصح كما لو كان المبيع الأول حيوانًا أو ثيابًا (¬2). ¬
وقيل: لا يجوز بيع الدين ولو كان على من هو عليه، وهو قول ابن حزم (1)، ورواية عن أحمد (2)، وحكي عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن شبرمة (3). وقد ذكرنا أدلة هذه المسألة فيما سبق فأغنى عن إعادتها هنا.
الفصل الرابع الصلح عن المؤجل ببعضه حالا
الفصل الرابع الصلح عن المؤجل ببعضه حالاً قال الحافظ ابن حجر: يغتفر في القضاء من المعاوضة ما لا يغتفر ابتداء (¬1). [م - 1209] الصلح عن المؤجل ببعضه حالاً، والمعروف لدى الفقهاء بقولهم: (ضع وتعجل)، وذلك أن يكون لرجل على آخر دين مؤجل، فيصطلحان على أن يعجله هذا الدين مقابل أن يضع عنه الدائن قسطًا من الثمن، وقد اختلف الفقهاء في صحتها، وسبب الاختلاف فيها: هل يعتبر هذا من قبيل المعاوضة، وبيع دراهم بدراهم أقل منها، أو يعتبر ذلك من حسن الاقتضاء، ويغتفر في الاقتضاء ما لا يغتفر في الابتداء؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم: فقيل: لا يجوز الصلح عن المؤجل ببعضه حالاً، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والمشهور عند الحنابلة (¬5). ¬
دليل من قال: لا يجوز أن يقول: ضع وتعجل.
وقيل: يجوز، وهو رواية عن أحمد، اختارها ابن تيمية، وابن القيم (¬1). وقيل: لا يجوز إلا في دين المكاتب، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). دليل من قال: لا يجوز أن يقول: ضع وتعجل. الدليل الأول: (ث-144) ما رواه عبد الرزاق من طريق أبي المنهال (عبد الرحمن بن مطعم)، قال: سألت ابن عمر، عن رجل لي عليه حق إلى أجل، فقلت: عجل لي، وأضع لك، فنهاني عنه، وقال: نهانا أمير المؤمنين أن نبيع العين بالدين (¬3). ¬
ويجاب
[إسناده صحيح]. فهذا ابن عمر - رضي الله عنه - ينهى عن مثل ذلك، ويستدل بأن أمير المؤمنين كان ينهى عن ذلك، وأمير المؤمنين له سنة متبعة. ويجاب: بأن الصحابة مختلفون فيما بينهم في جواز مثل ذلك، وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول أحدهم حجة على الآخر، فقد رأى ابن عباس جواز مثل هذا كما سيأتي النقل عنه في أدلة المجيزين، وكما اختلف الصحابة اختلف التابعون من بعدهم، فلا بد من طلب مرجح، وذلك بالنظر في الأدلة ليعلم أي القولين أقرب إلى الصواب، والله أعلم. الدليل الثاني: (ح-805) ما رواه البيهقي من طريق محمَّد بن يونس، ثنا غانم بن الحسن ابن صالح السعدي، ثنا يحيى بن يعلى الأسلمي، عن عبد الله بن عباس، عن أبي النظر، عن بسر بن سعيد عن المقداد بن الأسود، قال: أسلفت رجلاً مائة دينار، ثم أخرج سهمي في بعث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: عجل لي تسعين دينارًا، وأحط عشرة دنانير، فقال: نعم، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أكلت ربا يا مقداد وأطعمته (¬1). [إسناده ضعيف جدًّا] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ث-145) ما رواه مالك، عن أبي الزناد، عن بسر بن سعيد، عن عبيد أبي صالح، مولى السفاح، أنه قال: بعت بزًّا لي من أهل دار نخلة إلى أجل، ثم أردت الخروج إلى الكوفة، فعرضوا علي أن أضع عنهم بعض الثمن، وينقدوني، فسألت عن ذلك زيد بن ثابت، فقال: لا آمرك أن تأكل هذا، ولا تؤكله (¬1). ¬
الدليل الرابع
[إسناده ضعيف] (¬1). الدليل الرابع: أن المعجل خير من المؤجل، وهو غير مستحق بالعقد، فيكون بإزاء ما حطه عنه، وذلك اعتياض عن الأجل، وهو حرام، ألا ترى أن ربا النسيئة حرام لشبهة مبادلة المال بالأجل. فأي فرق بين أن يقول: حط من الأجل، وأحط من الدين؟ أو يقول: زد في الأجل، وأزيدك في الدين، فهو في الصورتين جعل للزمن ثمنًا لزيادته ونقصه. وأجيب: بأن الوضع في مقابل التعجيل ضد الربا، فإن الربا يتضمن الزيادة في الأجل والدين، وذلك إضرار محض بالغريم، وهذه المسألة تتضمن براءة ذمة الغريم من الدين، وانتفاع صاحبه بما يتعجله، فكلاهما حصل له الانتفاع من غير ضرر، بخلاف الربا المجمع عليه فإن ضرره لاحق بالمدين، ونفعه مختص برب الدين، فهذا ضد الربا صورة ومعنى (¬2). الدليل الخامس: أن الصلح عن المؤجل ببعضه حالاً من باب المعاوضة، فلا يجوز إلا مثلاً بمثل، ومن صالح عن مائة مؤجلة بتسعين حالة مثلاً، فقد باع مائة بتسعين، فكان ذلك ربا لعدم التماثل. ¬
ويجاب
ويجاب: " لا يعتبر هذا من قبيل المعاوضة، وبيع دراهم بدراهم أقل منها، وإنما هو من باب حسن الاقتضاء، ويغتفر في القضاء من المعاوضة ما لا يغتفر ابتداء. (ح-806) ويدل لذلك حيث جابر بن عبد الله أن أباه قتل يوم أحد شهيدًا، وعليه دين، فاشتد الغرماء في حقوقهم، قال: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسألهم أن يقبلوا ثمرة حائطي، ويحللوا أبي، فأبوا، فلم يعطهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حائطي ... الحديث (¬1). وفي لفظ: "أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقًا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر، فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشفع له إليه، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلم اليهودى ليأخذ ثمر نخله بالذي له، فأبي ... الحديث (¬2). فإن هذا الحديث دل بعمومه على جواز المصالحة مع جهالة أحد العوضين، وإن كان المصالح به، والمصالح عنه ربويين، وذلك لأن بيع الرطب في رؤوس النخل، وهو غير معلوم الوزن بالثمر لا يجوز في غير العرايا، ويجوز في المصالحة، وهو عند الوفاء، ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل الغريم أن يأخذ ثمر الحائط، وهو مجهول القدر في الأوساق التي له، وهي معلومة، وكان ثمر الحائط دون الذي له، حيث جاء فيه، أنهم لم يروا أن فيه وفاء" (¬3). دليل من قال بالجواز: الدليل الأول: (ح-807) ما رواه الطبراني من طريق مسلم بن خالد، قال: سمعت علي ¬
ابن محمَّد، يذكر عن عكرمة عن ابن عباس لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراج بني النظير من المدينة، أتاه أناس منهم، فقالوا: إن لنا ديونًا لم تحل، فقال: ضعوا وتعجلوا. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عكرمة إلا علي بن محمَّد بن طلحة ابن يريد بن ركانة، تفرد به مسلم بن خالد (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬
ويرد على ذلك
ومع ضعفه فإنه يحتمل أن يكون ذلك قبل تحريم الربا، فإن إجلاء بني النظير كان في السنة الرابعة من الهجرة، وقد نسخ ذلك بآيات الربا لكون آيات الربا من آخر ما نزل من القرآن. ويرد على ذلك: بما قاله ابن عباس: إنما الربا أخر لي وأنا أزيدك، وليس عجل لي، وأضع عنك (¬1)، وإذا لم يكن من الربا لم يصح دعوى النسخ. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ث-146) ما رواه عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاؤوس، عن أبيه عن ابن عباس، سئل عن الرجل يكون له الحق على الرجل إِلى أجل، فيقول: عجل لي، وأضع عنك، فقال: لا بأس بذلك (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثالث: أن الوضع والتعجيل ضد ربا الجاهلية المحرم، وهو الزيادة في الدين لقاء تمديد الأجل (¬3). الدليل الرابع: أن هذا الفعل (ضع وتعجل) ليس فيه أثر صحيح ينهى عنه، والنظر الصحيح يقتضيه، وذلك أن فيه خلاص ذمة المدين من الدين، وانتفاع الدائن بالتعجيل، والشارع له تطلع إلى براءة الذمم من الديون. دليل من قال: يجوز في دين المكاتب. قالوا: إنه ليس بينه وبين سيده ربا؛ لأن العبد مال للسيد (¬4). ¬
الراجح من الخلاف
وقد انتقد ابن القيم هذا القول، قائلًا: "إن المكاتب مع سيده كالأجنبي في باب المعاملات، ولهذا لا يجوز أن يبيعه درهما بدرهمين، ولا يبايعه بالربا، فإذا جاز له أن يتعجل بعض كتابته، ويضع عنه باقيها، لما له في ذلك من مصلحة تعجيل العتق، وبراءة ذمته من الدين، لم يمنع ذلك في غيره من الديون" (1). الراجح من الخلاف: الراجح هو القول بالجواز؛ ولأن في منع الناس من هذا إضرارًا بهم فيما لا محذور فيه بين، والأصل في معاملة الناس الحل حتى يتبين التحريم، والله أعلم. جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي: "الحطيطة من الدين المؤجل لأجل تعجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين (ضع وتعجل) جائزة شرعاً، لا تدخل في الربا المحرم، إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق، وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية، فإذا دخل بينهم طرف ثالث لم تجز؛ لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية" (2).
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد الثاني عشر
(ح) دبيان بن محمد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة / دبيان محمد الدبيان - الرياض، 1432 هـ 636 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجموعة) ج 12 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ. العنوان ديوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (12)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطاهرين، وصحابته الأكرمين. وبعد: فهذا هو المجلد الثاني عشر من هذه الموسوعة، وهو يمثل أيضًا العقد الثاني عشر، وقد ألحقت بهذا العقد أهم المعاملات المصرفية باعتبار أن الصرف جزء من المعاملات المصرفية، ولما كان هناك تداخل لبحوث الصرف في عقد الربا، فقد يقع المتصارفان في ربا الفضل كما قد يقعان في ربا النسيئة رأيت أن أجعل هذا البحث امتدادًا لعقد الربا لهذا كانت أبوابه امتدادًا لأبواب الربا، فلما كان الربا قد ختم في خمسة أبواب، افتتحت عقد الصرف في الباب السادس لارتباط العقدين وتداخلهما كما هو معلوم لدى طلبة العلم. وقد كانت خطة البحث في عقد الصرف على النحو التالي: الباب السادس: في عقد الصرف. التمهيد: وفيه ثلاث مباحث: المبحث الأول: في تعريف الصرف. المبحث الثاني: في علاقة الصرف بالبيع. المبحث الثالث: في حكم الصرف. الفصل الأول: في جريان الربا في الفلوس. المبحث الأول: في تعريف الفلوس. المبحث الثاني: خلاف العلماء في جريان الربا في الفلوس.
الفصل الثاني: الربا في الأوراق النقدية. المبحث الأول: الكلام في حقيقة النقود. المبحث الثاني: خلاف العلماء في جريان الربا في النقود الورقية. ملحق. الفصل الثالث: في شروط الصرف. الشرط الأول: وجوب التماثل عند اتحاد الجنس. الفرع الأول: في بيع الذهب بمثله جزافًا. الفرع الثاني: إذا باع الربوي من جنسه جزافًا ثم علم تساويهما. الفرع الثالث: بيع الدنانير بالدراهم جزافا وخرصًا. الفرع الرابع: الصرف بتصديق أحد العاقدين للآخر في مقدار الصرف. الشرط الثاني: اشتراط التقابض وإن اختلف الجنس. الفرع الأول: في اشتراط التقابض والحلول في صرف الأثمان بعضها ببعض. الفرع الثاني: إذا تم قبض البعض في الصرف. الفرع الثالث: حد القبض بالصرف. الفرع الرابع: في اشتراط الفورية في القبض. الفرع الخامس: إذا تأخر التقابض غلبة. الفرع السادس: الوكالة في قبض الصرف. الشرط الثالث: خلو العقد من شرط الخيار. الفرع الأول: إذا شرط المتعاقدان خيار الشرط ثم أسقطاه في المجلس.
الفرع الثاني: شرط خيار المجلس في عقد الصرف. الفصل الرابع: المواعدة على الصرف. الفصل الخامس: في أنواع من الصرف. المبحث الأول: في صرف النقود المغشوشة كذهب مغشوش بذهب خالص. المبحث الثاني: في كساد الأثمان وانقطاعها. المبحث الثالث: في صرف ما ثبت في الذمة. الفرع الأول: أن يكون أحد العوضين في الذمة والآخر عينًا. الفرع الثاني: أن يكون كل من بدلي الصرف دينًا ثابتًا في الذمة. المبحث الرابع: المصارفة بالوديعة. الفرع الأول: المصارفة في الوديعة غير المصرفية. الفرع الثاني: المصارفة في الوديعة المصرفية. المبحث الخامس: الصرف عن طريق القيد في حساب العميل. المبحث السادس: هل ينوب استلام الشيك عن قبض بدل الصرف. المبحث السابع: شراء الذهب وصرف العملات في أسواق العملات. الفرع الأول: الحكم الشرعي في شراء العملات والذهب بالأسعار الحاضرة. الفرع الثاني: المتاجرة بالعملات الأجنبية والذهب بالأسعار الآجلة. المبحث الثامن: الصرف عن طريق البطاقات المصرفية. الفرع الأول: شراء الذهب والفضة عن طريق البطاقات الائتمانية. الفرع الثاني: صرف العملات عن طريق استخدام بطاقات الائتمان.
الفصل السادس: في اجتماع البيع والصرف. الفصل السابع: التصرف بثمن الصرف قبل قبضه. فرع: شراء الحلي بثمن الحلي المبيع قبل قبضه. الفصل الثامن: إذا تصارفا في الذمة ثم اقترض ما وجب عليه. المبحث الأول: أن يستقرضا أو أحدهما من رجل أجنبي. المبحث الثاني: أن يقترض أحد المتصارفين من الآخر. الفصل التاسع: اجتماع الصرف والحوالة. تمهيد: التعريف باجتماع الصرف والحوالة. المبحث الأول: التكييف الفقهي لاجتماع الصرف والحوالة. الفصل العاشر: في بيع تراب الصواغين. الباب السابع: في أهم المعاملات المصرفية الفصل الأول: في الودائع المصرفية. المبحث الأول: في التعريف بالودائع المصرفية وبيان خصائصها. المبحث الثاني: في أقسام الودائع المصرفية. الفرع الأول: في الودائع المصرفية الجارية. المسألة الأولى: في تكييف الودائع الجارية. المسألة الثانية: في حكم الودائع الجارية. المطلب الأول: أن يأخذ المودع مقدار ما دفعه من غير زيادة ولا نقصان. المطلب الثاني: أخذ الزيادة غير المشروطة على مبلغ الإيداع.
المطلب الثالث: الموقف من فوائد الودائع غير المشروطة. الفرع الثاني: الودائع الآجلة (الحسابات الاسثتمارية). المسألة الأولى: تعريف الودائع الآجلة. المسألة الثانية: أنواع الودائع الآجلة. المسألة الثالثة: تكييف الودائع الآجلة. الفرع الثالث: ضمان الودائع المصرفية. المسألة الأولى: الودائع المصرفية المضمونة. المسألة الثانية: الودائع المصرفية غير المضمونة. المبحث الثالث: في الحوالة المصرفية. الفرع الأول: التعريف بالحوالة المصرفية. الفرع الثاني: الفرق بين الحوالة المصرفية والحوالة الحقيقية (الفقهية). الفرع الثالث: التكييف الفقهي للحوالة المصرفية. المبحث الرابع: في بيع المرابحة المصرفية. الفرع الأول: تعريف بيع المرابحة. الفرع الثاني: حكم بيع المرابحة للآمر بالشراء. الفرع الثالث: في بيع المصرف السلعة قبل تسجيلها باسمه. الفرع الرابع: في بيع المصرف السلعة بعد تملكها وقبل قبضها. الفرع الخامس: في الزيادة في الثمن مقابل التأجيل. المسألة الأولى: إذا عرضت السلعة نقدًا بكذا ونسيئة بكذا.
المسألة الثانية: أن يكون العقد من الأصل مؤجلًا. المبحث الخامس: في الاعتماد البسيط. الفرع الأول: تعريف فتح الاعتماد البسيط. الفرع الثاني: انعقاد فتح الاعتماد البسيط وبيان خصائصه. الفرع الثالث: آثار عقد فتح الاعتماد. الفرع الرابع: الخلاف في تكييف عقد فتح الاعتماد البسيط. الفرع الخامس: الحكم الفقهي لعقد فتح الاعتماد البسيط. المسألة الأولى: الحكم الفقهي لدفع العمولة مقابل فتح الاعتماد البسيط. المسألة الثانية: الحكم الفقهي لأخذ الفائدة على مبلغ فتح الاعتماد. الفرع السادس: انتهاء عقد فتح الاعتماد. المبحث السادس: في الاعتماد المستندي. الفرع الأول: تعريف الاعتماد المستندي. الفرع الثاني: أنواع الاعتمادات المستندية. الفرع الثالث: انعقاد الاعتماد المستندي. الفرع الرابع: خصائص الاعتماد المستندي. الفرع الخامس: الفوائد التي يحققها الاعتماد المستندي. الفرع السادس: الآثار التي تترتب على فتح الاعتماد. الفرع السابع: التكييف الشرعي لفتح الاعتمادات المستندية. المبحث السابع: في الضمان المصرفي.
الفرع الأول: التعريف بالضمان المصرفي. الفرع الثاني: التكييف الشرعي لخطاب الضمان. الفرع الثالث: في أخذ العمولة في مقابل الضمان. المبحث الثامن: في البطاقات الائتمانية. الفرع الأول: في التعريف بالبطاقات الائتمانية. الفرع الثاني: لمحة تاريخية عن نشأة البطاقة وتطورها. الفرع الثالث: الفرق بين بطاقة السحب من الرصيد وبين بطاقات الائتمان. الفرع الرابع: في أنواع البطاقات الائتمانية. الفرع الخامس: الفرق بين بطاقة الدين المتجدد والمؤقت. الفرع السادس: في المنظمات العالمية المصدرة لبطاقة الائتمان. الفرع السابع: الحكم الفقهي للبطاقات البنكية. المسألة الأولى: أطراف البطاقة الائتمانية وبيان آلية عمل البطاقة. المسألة الثانية: في تكييف عقد الائتمان بين مصدر البطاقة وبين حاملها. المسألة الثالثة: في تكييف العلاقة بين التاجر وحامل البطاقة. المسألة الرابعة: في تكييف العلاقة بين مصدر البطاقة (البنك) وبين التاجر. المسألة الخامسة: في تكييف العلاقة بين التاجر وبين البنك. المسألة السادسة: في تكييف العلاقة بين المنظمة الراعية للبطاقة وبقية أطراف البطاقة. المسألة السابعة: في أخذ الرسوم على عملية السحب النقدي.
المسألة الثامنة: في أخذ الرسوم على الإصدار والتجديد والاستبدال. المسألة التاسعة: اشتراط فتح حساب لدى البنك مصدر البطاقة. المسألة العاشرة: في الخدمات المقدمة لصاحب البطاقة. المسألة الحادية عشر: في شراء الذهب عن طريق بطاقة الائتمان. المسألة الثانية عشر: في صرف العملات عن طريق استخدام بطاقات الائتمان. المسألة الثالثة عشر: الدخول في العقد الربوي لمن ينوي أن يدفع في الوقت. المسألة الرابعة عشر: في أضرار البطاقة. هذا وأسأل الله - صلى الله عليه وسلم - بأسمائه وصفاته أن يجعل العمل خالصًا لوجهه صواباً على سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يتجاوز به عن سيئاتي، وأن يرزقني به عفوه وعافيته لي ولوالدي ولأهل بيتي، ولمن له فضل علي، وللمسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الباب السادس: في الصرف
الباب السادس: في الصرف تمهيد المبحث الأول في التعريف الصرف تعريف الصرف اصطلاحًا (¬1): هناك تعريفان للصرف: تعريف الجمهور، وتعريف المالكية وبعض الشافعية. ¬
أولا: تعريف الجمهور للصرف
أولاً: تعريف الجمهور للصرف: عرف الجمهور الصرف بتعريفين: أحدهما: بأنه بيع الثمن بالثمن جنسًا بجنس، أو بغير جنس، فيشمل بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، كما يشمل بيع الذهب بالفضة. والمراد بالثمن: ما خلق للثَّمنيَّة، فيدخل فيه بيع المصوغ بالمصوغ أو بالنّقد (¬1). وثانيهما: بأنه بيع النقد بالنقد. زاد بعضهم اختلف الجنس أو اتحد (¬2). اختاره بعض الحنفية، والشافعية، والحنابلة (¬3). ¬
والفرق بين التعريفين
والفرق بين التعريفين: بأن تعريف الصرف بأنه بيع الأثمان بعضها ببعض أشمل من قولنا: بيع النقد بالنقد؛ لأن النقد كما جاء في تعريف الشافعية والحنابلة إذا أطلق أريد به المضروب على هيئة الدينار والدرهم، والصرف أعم من المضروب (¬1). وأما التعبير بالثمن فيشمل التبر والمسكوك، والمصوغ. (ح-808) لما رواه أبو داود من طريق أبي الخليل (صالح بن أبي مريم) عن مسلم بن يسار المكي، عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها ... فمن زاد أو ازداد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرهما يدًا بيد، وأما نسيئة فلا ... الحديث (¬2). قال ابن عبد البر: "أجمع العلماء على أن الذهب تبره وعينه سواء لا يجوز ¬
التعريف الثاني للصرف: تعريف المالكية، وبعض الشافعية
التفاضل في شيء منه، وكذلك الفضة بالفضة تبرها وعينها، ومصنوع ذلك كله ومضروبه لا يحل التفاضل في شيء منه ... " (¬1). التعريف الثاني للصرف: تعريف المالكية، وبعض الشافعية: ذهب المالكية إلى أن الصرف: هو بيع الذهب بالفضة فقط. وأما بيع النقد بمثله وزنًا، كبيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة وزنًا فيسمى المراطلة. وأما بيع النقد بمثله عددًا فيسمى المبادلة (¬2). فعلى هذا لا يطلق المالكية الصرف إلا على بيع الذهب بغير جنسه، كبيع الذهب بالفضة. وألحق بعض المتأخرين من المالكية الفلوس بالذهب والفضة. قال النفرواي في الفواكه الدواني: "بيع العين بالعين على ثلاثة أقسام: إما مراطلة، وإما مبادلة، وإما صرف. ¬
ثمرة تقسيم المالكية بيع العين بالعين إلى ثلاثة أقسام
فالمراطلة: بيع النقد بمثله وزنًا. والمبادلة: بيع النقد بمثله عددًا. والصرف: بيع الذهب بالفضة أو أحدهما بفلوس" (¬1). وقال مثله العدوي في حاشيته (¬2). ونزع بعض الشافعية إلى تبني تعريف المالكية. قال النووي: "وإذا بيع الذهب بذهب، أو الفضة بفضة سميت مراطلة، وإذا بيعت الفضة بذهب سمي صرفًا ... " (¬3). وقال الحافظ ابن حجر: "البيع كله أما بالنقد أو بالعرض، حالاً، أو مؤجلًا فهي أربعة أقسام: فبيع النقد أما بمثله، وهو المراطلة، أو بنقد غيره وهو الصرف ... " (¬4). ثمرة تقسيم المالكية بيع العين بالعين إلى ثلاثة أقسام: إن باع الذهب بالذهب وزنًا بوزن فيجب فيه التساوي في الوزن، وإن تفاضل في العدد، ولا يجوز فيه الزيادة ولو كانت على وجه المعروف والمسامحة. وإن باع الذهب بالذهب عددًا، فيجوز فيه الزيادة اليسيرة على وجه المعروف والمسامحة. ولذلك شروط عندهم سنأتي على ذكرها إن شاء الله تعالى عند الكلام على شروط الصرف، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه (¬5). ¬
الراجح
الراجح: تعريف الجمهور إذا أضفنا إليه قول النفرواي من المالكية هو الأقرب للصواب؛ لأنه لا يقصر الصرف على مبادلة الذهب بالفضة، بل يطلق على مبادلة الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، كما يطلق على مبادلة الذهب بالفضة، ويلحق بهما كل ما يتعارف عليه الناس ويصطلحون أنه ثمن. (ح-809) روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -، أنه لقي أبا سعيد، فقال: يا أبا سعيد، ما هذا الذي تُحَدِّثُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال أبو سعيد: في الصرفِ، سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الذهب بالذهب مثلًا بمثل، والورِق بالورق مثلًا بمثل" (¬1). ¬
فهنا أطلق الصرف، وشمل بيع الذهب بجنسه، والفضة بجنسها، فدخل فيه ما يسميه المالكية بالمراطلة والمبادلة. (ح-810) وأخرج الشيخان من طريق أبي المنهال، قال: سألت زيد بن أرقم، والبراءَ بنَ عازب عن الصَّرْف، فكل واحد منهما يقول: هذا خير منِّي، وكلاهما يقول: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب بالورِق دَيْنًا (¬1). فهنا أطلق الصرف على بيع الذهب بالفضة. وأما جواز الزيادة بالمبادلة بالشروط التي ذكرها المالكية، فهو قول مرجوح. (ح- 811) لما رواه مسلم من حديث أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما. وأما القياس على العرايا، فالعرايا رخصة، وقد ورد في النص أنه رخص فيها ولم يرخص في غيرها (¬2). ¬
المبحث الثاني في علاقة الصرف بالبيع
المبحث الثاني في علاقة الصرف بالبيع [م - 1210] قبل الكلام على علاقة الصرف بالبيع أريد أن أنبه أن مسائل الصرف متداخلة بشكل كبير مع مسائل ربا الفضل وربا النسيئة، ولذلك جاءت كثير من الأحاديث تقرن بيع الذهب بالذهب مع بيع البر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح كحديث عبادة، وحديث أبي سعيد الخدري. فإذا بعت درهمًا بدرهمين مع التقابض كان في ذلك ربا الفضل، ومع الأجل يجتمع ربا الفضل والنسيئة. وإذا بعت درهمًا بدرهم مع التأجيل كان في ذلك ربا النسيئة، تماما كما لو بعت صاعًا من البر بصاعين منه، مع النساء، أو مع التقابض. وإن بعت صاعًا ودرهمًا بصاعين، لم يكن لذلك علاقة في الصرف. وإن بعت درهمًا وعجوة بدرهمين، كان لذلك علاقة بالصرف، وكلاهما من صور (مد عجوة ودرهم)، ومنها لو باع قلادة فيها ذهب وخرز، بذهب، ومثل ذلك سقوط اعتبار الجودة في بيع التمر بالتمر، يقابله في الصرف سقوط اعتبار الصنعة، ولهذا التداخل أريد أن أنبه القارئ الكريم أن المسائل التي ذكرتها في باب ربا الفضل أو ربا النسيئة، ولها علاقة في الصرف فسوف أكتفي في ذكرها هناك؛ لأن المسائل كما ترى متداخلة جدًا، إذا عرف هذا نأتي للكلام على علاقة الصرف بعقد البيع، فأقول: الصرف داخل في عقود المعاوضات، إلا أن المعقود عليه في عقد الصرف يختص ببيع الأثمان بعضها ببعض، بخلاف غيره من البيوع، وإذا أردنا أن نعلم علاقة بيع الصرف في غيره من البيوع فعلينا أن
الصورة الأولى
نستذكر صور البيع التي مرت علينا في كتاب البيع، عند الكلام على تعريف البيع، من ذلك. الصورة الأولى: أن يبيعه عينًا بثمن، وهو البيع المشهور الذي إذا أطلق انصرف الذهن إليه: بأن يكون المبيع من العروض، والعوض من الأثمان، كبيع السيارة بدارهم. الصورة الثانية: بيع المقايضة. وله ثلاث حالات: الحال الأولى: مقايضة عين بعين، كأن يبيع سيارته مثلًا ببيته. الحال الثانية: مقايضة منفعة بمنفعة، كأن يبيع عليه حق الانتفاع بممر في أرضه بمثله من الجهة الأخرى. الحال الثالثة: مقايضة عين بمنفعة، وذلك أن يعطيه عروضًا مقابل الانتفاع بممر في أرضه. الصورة الثالثة: بيع الصرف: وهو بيع الأثمان بالأثمان، وذلك كبيع الدولار بالريال أو بالدينار. الصورة الرابعة: بيع السلم: أن يبيعه دينًا، والعوض مقدم في مجلس العقد، وله صورتان: دين بعين أو دين بثمن. الصورة الخامسة: بيع المرابحة، وهو عكس بيع السلم، وهو أن يبيعه عينًا حالة بدين.
فإذا عرفنا هذا علمنا الفرق بين بيع الصرف وبين غيره من البيوع، فالصرف يتميز بأن كلاًّ من المبيع والثمن يصدق عليه أنه مبيع من وجه، وثمن من وجه، كما أنه يتميز أن له أحكامه الخاصة التي لا تشترط في غيره من البيوع، كاشتراط التقابض في مجلس العقد، وخلوه من خيار الشرط، كما يشترط التماثل عند اتحاد الجنس، إلى غير ذلك من الشروط التي سوف نأتي على ذكرها، وهذا ما جعل الفقهاء يعطون له اسمًا خاصًا يميزونه عن بقية البيوع، كما أعطوا السلم اسمًا خاصًا، وهو ما يسمى لدى أهل القانون بالعقود المسماة، والله أعلم.
المبحث الثالث في حكم الصرف
المبحث الثالث في حكم الصرف [م - 1211] عرفنا علاقة الصرف بالبيع في المبحث السابق، وأن الصرف داخل في عقود المعاوضات، مختص ببيع الأثمان بعضها ببعض، لذا حكم الصرف هو حكم البيع؛ لكونه نوعًا منه إذا توفرت شروط صحته. وقد كره مالك العمل بالصرف إلا لمن يتقي الله في ذلك. قال ابن رشد: "باب الصرف من أضيق أبواب الربا، فالتخلص من الربا على من كان عمله الصرف عسير، إلا لمن كان من أهل الورع والمعرفة بما يحل فيه، ويحرم منه، وقليل ما هم، ولذلك كان الحسن يقول: إذا استسقيت ماء فسقيت من بيت صراف فلا تشربه، وكان أصبغ يكره أن يستظل بظل صيرفي، قال ابن حبيب: لأن الغالب عليهم الربا. وقيل لمالك -رحمه الله-: أتكره أن يعمل الرجل بالصرف؟ قال: نعم إلا أن يتقي الله في ذلك" (¬1). وكلام مالك وأصبغ لا يحمل على الكراهة مطلقاً، وإنما يدل على أن كثيراً ممن يعملون بالصرف إما يجهلون أحكامه، أو لا يبالون مما قد يوقعهم ذلك في الوقوع في الربا من التأجيل فيما يجب قبضه، ونحو ذلك. وقد جاءت السنة صريحة في جواز الصرف: (ح-812) من ذلك ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن مالك ¬
ابن أوس أخبره أنه التمس صرفا بمائة دينار، فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني، فأخذ الذهب يقلبها في يده، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع ذلك، فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء. ورواه مسلم (¬1). (ح-813) ومن ذلك: ما رواه البخاري من طريق سليمان بن أبي مسلم، قال: سألت أبا المنهال عن الصرف يدًا بيد، فقال: اشتريت أنا وشريك لي شيئاً يدًا بيد، ونسيئة، فجاءنا البراء بن عازب فسألناه، فقال: فعلت أنا وشريكي زيد ابن أرقم وسألنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: ما كان يدًا بيد فخذوه، وما كان نسيئة فردوه (¬2). (ث-147) وجاء في صحيح مسلم من طريق أبي نضرة أنه قال: سألت ابن عباس عن الصرف؟ فقال: أيدًا بيد؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس به (¬3). وقد أخذ صرف النقود من عملة إلى أخرى في هذا الزمن حكم الضرورة، فالحجاج والمعتمرون مضطرون إلى تحويل نقودهم إلى عملة البلاد السعودية، وكذلك شأن التجارة في هذا العصر حيث يضطر التجار إلى تحويل نقودهم إلى عملة البلاد التي يستوردون منها بضائعهم، فكانت الضرورة تقتضيه، والله أعلم. ¬
الفصل الأول في جريان الربا في الفلوس
الفصل الأول في جريان الربا في الفلوس المبحث الأول في تعريف الفلوس تعريف الفلوس في الاصطلاح (¬1): الفلوس: كل ما يتخذه الناس ثمنًا من سائر المعادن عدا الذهب والفضة. وقيل في تعريفه: "عملة مضروبة من غير الذهب والفضة كانت تقدر في الماضي بسدس الدرهم، وهي اليوم 1/ 1000 من الدينار في الدول التي تعتمد الدينار وحدتها النقدية كالعراق والأردن" (¬2). ويتفق الفقهاء والمؤرخون على أنها أدنى ما يتعامل به من المال، ولهذا قال الشيخ محمَّد بخيت المطيعي: "يسمى في الشام قرشًا، وفي العراق فلسًا، وفي مصر والسودان مليمًا، وفي الحجاز هللة، وفي اليمن بقشة. وفي المغرب والجزائر بيزا أو بسيطة، وفي اليونان دراخما، وفي اليابان ينًّا، وفي إنجلترا وأمريكا بنسا (¬3). ¬
والتعامل بالفلوس قديم، بدليل وجود أصل لغوي للكلمة مما يدل على وجودها ومعرفة العرب لها. (ث-148) وقد روى الإِمام أحمد حدثنا يزيد، أخبرنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن عن عبد الله بن الصامت، قال: كنت مع أبي ذر، وقد خرج عطاؤه معه، ومعه جارية له، فجعلت تقضي حوائجه، وقال مرة: نقضي. قال: ففضل معه فضل، قال: أحسبه، قال: سبع، قال: فأمرها أن تشتري بها فلوسًا ... (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). (ح-814) وروى ابن خزيمة في صحيحه من طريق محمَّد بن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله المزني، قال: كان أول أهل مصر يروح إلى المسجد، وما رأيته داخلًا المسجد قط إلا وفي كمه صدقة، إما فلوس، وإما خبز، وإما قمح، حتى ربما رأيت البصل يحمله، قال: فأقول يا أبا الخير إن هذا ينتن ثيابك، فقال فيقول: يا ابن حبيب، أما أني لم أجد في البيت شيئًا أتصدق به غيره، إنه حدثني رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ظل المؤمن يوم القيامة صدقته (¬3). [إسناده حسن] (¬4). ¬
(ث-149) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عمر بن أيوب، عن جعفر ابن برقان، قال: سألت الزهري عن رجل يشتري الفلوس بالدراهم، هل هو صرف؟ قال: نعم، فلا تفارقه حتى تستوفيه. [إسناده صحيح] (¬1). (ث- 150) وروى الشافعي في الأم، قال: أخبرنا القداح، عن محمَّد بن أبان، عن حماد عن إبراهيم -يعني النخعي- أنه قال: لا بأس بالسلم في الفلوس (¬2). ¬
[ضعيف] (¬1). وفي هذا دليل على وجودها في التعامل من العصر الأول. ¬
المبحث الثاني خلاف العلماء في جريان الربا في الفلوس
المبحث الثاني خلاف العلماء في جريان الربا في الفلوس قال مالك في الفلوس (¬1): " ... لو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهت أن تباع بالذهب والورق نظرة" (¬2). قال السرخسي: الفلوس الرائجة بمنزلة الأثمان (¬3). حقيقة النقد: كل شيء جري اعتباره في العادة، واصطلح عليه ولقي قبولًا عامًا كوسيط للتبادل. [م - 1212] الخلاف في جريان الربا في الفلوس مبني على الخلاف في علة الربا في الذهب والفضة، فإن رأى أن العلة هي الوزن لم يجر فيها الربا؛ لأنها خرجت عن أصلها حين تحولت إلى فلوس، وكذا من رأى أن العلة هي غلبة ¬
ومرجع الخلاف
الثمنية، أما من رأى أن العلة هي مطلق الثمنية، فلم يقصر الربا على الذهب والفضة بل عداه إلى الفلوس والنقود الورقية. ومرجع الخلاف: هل النحاس إذا ضرب على شكل فلوس خرج من كونه عروضًا إلى كونه أثمانًا، أو أنه يبقى على حاله عروضًا وإن ضرب على شكل فلوس؟ فمن قال: إن الفلوس عروض (سلع) لم يجر الربا فيها، ومن قال: إنها تحولت إلى أثمان أجرى الربا فيها، وإليك الأقوال فيها وحجة كل قول. القول الأول: ذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أن ربا الفضل يجري في الفلوس إذا لم تتعين في العقد، فإن تعينت فلا يجري فيها ربا الفضل، فيجوز أن يباع فلس بفلسين بأعيانهما. ووجهه: أن الفلوس ليست أثمانًا خلقة، وإنما كانت ثمنًا بالاصطلاح، فيمكن إلغاؤها، وقد اصطلحا على إبطال الثمنية بتعيينهما في العقد، فتكون كالعروض (¬1). وأما إذا لم تتعين، فإنه يصبح لها حكم النقود عند رواجها. ويناقش: بأنه لا يجوز للمتعاقدين أن يبطلا ثمنيتها؛ لأن ثمنيتها ثبتت باصطلاح الكل، فلا تسقط باصطلاح البعض، ولأن إبطال ثمنية الفلوس لا يتصور له مقصود ¬
القول الثاني
صحيح، فقلما يوجد من يطمع في خصوص مادة الفلوس من حيث كونها قطعات صفر أو حديد، وإنما يرغب فيها من حيث ثمنيتها، ولأن قيمتها الثمنية أكبر بكثير من قيمتها الذاتية، فلو تصالحا على إبطال ثمنيتها لا يكون ذلك إلا حيلة مصطنعة لتحليل التفاضل، ومثل ذلك لا يقبله الشرع (¬1). القول الثاني: أن الفلوس لا يجري فيها الربا. وهذا مذهب مالك (¬2)، والشافعي (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). بناء على أن العلة في النقدين عند المالكية والشافعية: هي غلبة الثمنية، أي كونهما جنس الأثمان غالبًا، وبعضهم يعبر بجوهرية الأثمان (¬5)، وهذه علة قاصرة لا تتعداهما. ومعنى كون العلة قاصرة: أي لا تتعدى العلة جنس الذهب والفضة، فلا يجري الربا في الفلوس ولو كانت أثمانًا. كما أن الربا يجري في أواني الذهب والفضة، وإن لم تكن أثمانًا. لأن الثمنية في الذهب والفضة خلقة لا يستطيع أحد أن يلغي ثمنيتها، بخلاف ¬
القول الثالث
الثمنية في الفلوس فإنها اصطلاحية، يمكن إلغاؤها، وقد تكون ثمنًا في مكان دون آخر، ولهذا لا تعطى حكم الذهب والفضة. وأما التعليل عند الإِمام أحمد فلأن العلة في الذهب والفضة الوزن، والفلوس ليست مكيلة ولا موزونة (¬1). القول الثالث: أن الربا يجري في الفلوس إذا راجت رواج النقدين. وبه قال محمَّد بن الحسن من الحنفية، وعليه الفتوى (¬2)، وقول في مذهب المالكية (¬3)، وهو المنصوص عن الإِمام أحمد (¬4)، اختارها من الحنابلة أبو الخطاب (¬5)، وابن تيمية، وابن القيم (¬6). وذلك أن العلة في الذهب والفضة مطلق الثمنية، والأوراق النقدية والفلوس إذا راجت صارت معيارًا يعرف به قيم الأشياء؛ لأن حقيقة النقد: هو كل شيء ¬
يجري اعتباره في العادة، ويلقى قبولًا عامًا كوسيط للتبادل، كما قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي، ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارًا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها، ولهذا كانت أثمانًا بخلاف سائر الأموال، فإن المقصود بها الانتفاع بها بنفسها، فلهذا كانت مقدرة بالأمور الطبعية أو الشرعية، والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض، لا بمادتها، ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت" (¬1). وجاء في المدونة "قلت: أرأيت إن اشتريت فلوسًا بدرهم، فافترقنا قبل أن يقبض كل واحد منها؟ قال: لا يصلح هذا في قول مالك، وهذا فاسد. قال لي مالك في الفلوس: لا خير فيها نظرة بالذهب ولا بالورق، ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة" (¬2). وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "صرف الفلوس النافقة بالدراهم هل يشترط فيها الحلول، أم يجوز فيها النسأ؟ على قولين مشهورين، هما قولان في مذهب أبى حنيفة وأحمد بن حنبل ... والأظهر المنع من ذلك، فإن الفلوس النافقة يغلب عليها حكم الأثمان وتجعل معيار أموال الناس" (¬3). ¬
القول الرابع
القول الرابع: يرى كراهية بيع فلس بفلسين يدًا بيد، أو إلى أجل، وليس يحرم كتحريم الدنانير والدراهم. وهذا قول في مذهب المالكية. "قال ابن القاسم: قال مالك لا يصلح الفلوس بالفلوس جزافًا، ولا وزنًا مثلا بمثل، ولا كيلا مثلًا بمثل، يدًا بيد، ولا إلى أجل، ولا بأس بها عددًا فلس بفلس يدًا بيد، ولا يصلح فلس بفلسين يدًا بيد، ولا إلى أجل، والفلوس ها هنا في العدد بمنزلة الدراهم والدنانير في الورق. وقال مالك أكره ذلك في الفلوس ولا أراه حرامًا كتحريم الدنانير والدراهم" (¬1). الراجح: بعد استعراض الأقوال أجد أن أقوى الأقوال وأقربها للصواب القول بجريان الربا في الفلوس إذا راجت، وأصبحت ثمنًا للأشياء؛ لأن الثمنية في الحقيقة اصطلاحية، وليست خلقة، ولذلك اليوم لا يستعمل الناس الذهب والفضة أثمانًا، وإن كانت في القديم تضرب على هيئة دنانير ودراهم، فقامت الأوراق النقدية مقامها، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني الربا في الأوراق النقدية
الفصل الثاني الربا في الأوراق النقدية المبحث الأول الكلام في حقيقة النقود تعريف بتطور النظام النقدي في العالم: مر النظام النقدي القائم الآن بمراحل تاريخيه، تطور فيها من حال إلى حال حتى وصل إلى ما نحن عليه الآن، وما زال يتطور حتى يتنبأ بعض رجال الاقتصاد أن نصل في وقت قريب إلى الحال التي لا نحتاج أن نحمل نقودًا حين تتسوق، ونستطيع أن ندون هذه المراحل باختصار شديد: المرحلة الأولى: في بداية الحياة البشرية شعر الناس بحاجة إلى تبادل السلع، ولما كان الإنسان بطبعه يضن ببذل ما لديه إلا بعوض نشأت الحاجة إلى ما يسمى بالمقايضة؛ لأن الناس في تلك الحقبة من التاريخ كانت معاملاتهم المالية بسيطة، والسلع كانت محدودة، ومع نمو السكان، وكثرة السلع وجد الناس أن هذه الطريقة فيها من المشقة ما تمنع من استعمالها كطريق عام يصلح في كل زمان ومكان، فانتقلوا إلى المرحلة الثانية. المرحلة الثانية: اختار الناس بديلًا للمقايضة ما يسمى نظام النقود السلعية، وذلك أن الناس قد اختاروا بعض السلع لتستعمل استعمال الأثمان في معظم عقود المبادلة،
المرحلة الثالثة
وانتقيت من أجل ذلك سلع يكثر استعمالها، وتشتد الحاجة إليها في بيئة خاصة، كالحبوب الغذائية، والملح، والجلود، وما إلى ذلك. ولكن استعمال هذه السلع في التبادل كان فيه من مشاكل الحمل والنقل ما لا يخفى، فلما كثر العمران، وازدادت الحاجة، وكثرت المبادلات شعر الناس بحاجة إلى اختيار نقد يخف حمله، ويتوفر ثقة الناس فيه، وبهذه انتهت المرحلة الثانية في تاريخ النظام النقدي لتبدأ المرحة الثالثة. المرحلة الثالثة: في هذه المرحلة توجه الناس إلى استخدام الذهب والفضة كأثمان في المبادلات لقيمتها الذاتية في صنع الحلي، والأواني، ولسهولة حملها، وادخارها، حتى أصبح هذان المعدنان عيارًا للقيمة يعتمد الناس عليها في جميع البلاد والأقطار، وقد مر على هذا النظام تطورات كثيرة، نستطيع أن نلخصها بما يلي: في بداية استخدام الذهب والفضة كأثمان كان الناس يستعملونهما على شكل قطع متباينة الحجم، والوزن، والنقاء، سواء كانت تبرًا، أو مصوغة في صورة الحلي، أو الأواني وغيرها، وكان التعامل بها يتم بالوزن. ثم شرع الناس في سبك النقود من الذهب في بعض البلاد، ومن الفضة في بلاد أخرى، كوحدات متساوية في الحجم والوزن والنقاء، مختومة بختم رسمي يشهد بسلامتها، وقابليتها للتداول، وكانت قيمة القطعة الاسمية مساوية لقيمة ما تحتويه من ذهب أو فضة. وجد الناس أن القطع النقدية سواء كانت من الذهب أو الفضة، وإن كان يخف حملها بالنسبة إلى السلع النقدية، ولكنها في جانب آخر يسهل سرقتها في
نفس الوقت، فكان من الصعب على الأثرياء أن يخزنوا كميات كبيرة من هذه القطع في بيوتهم، فبدأ الناس في أوربا في القرن السابع عشر يودعون هذه الكميات الكبيرة عند بعض الصاغة على أساس أن هؤلاء الصياغ يملكون خزائن بعيدة عن السرقة والضياع في نظير أن يعطيهم هؤلاء الصاغة شهادة، أو إيصالًا بما أودعوه بدقة، ويتعهدوا برد هذه المعادن عند الطلب. ولما ازدادت ثقة الناس بهؤلاء الصاغة صارت هذه الإيصالات تستعمل في دفع الثمن عند البيعات، فكان المشتري بدل أن يدفع القيمة نقدًا يسلم إلى البائع سندًا من هذه الإيصالات بعد تظهيره للغير وكان البائع يقبلها ثقة بالصاغة الذين أصدروها. ثم تطور الأمر وأصبحت هذه الإيصالات متشابهة بحيث انتفى تدوين اسم مودع السبائك عليها، فأصبحت تتداول بدون تظهير، بل بمجرد التسليم مع بقاء تعهد الصاغة بالوفاء بها عند الطلب بسبائك ذهبية. هذه هي بداية الأوراق النقدية، فهي في بداية أمرها لم تكن لها صورة رسمية، ولا سلطة تلزم بقبولها، وإنما كان المرجع في قبولها وردها إلى ثقة البائع أو الدائن بمن أصدرها. وحين كثر تداول الإيصالات في السوق في مطلع القرن السابع عشر الميلادي تطورت هذه الأوراق إلى صورة رسمية تسمى (البنكنوت) ويقال: إن بنك استاك هوم بالسويد أول من أصدرها كأوراق نقدية. وكانت هذه الأوراق النقدية آنذاك مغطاة بغطاء كامل عند البنك الذي أصدرها، ومدعومة بالذهب بنسبة مئة في مئة، وكان البنك يلتزم ألا يصدر هذه الأوراق إلا بقدر ما عنده من الذهب، وكان لكل من يحمل هذه الأوراق أن يذهب بها متى شاء إلى البنك، ويحول ما شاء منها إلى سبائك الذهب.
وفي مرحلة ثالثة تبين لأصحاب الصاغة أن الإيصالات التي أصدروها لم تكن في غالب الأحيان ترجع إليهم ليصرفوا قيمتها بالمعادن، وإنما جزء يسير من حملة هذه الأوراق يقوم بذلك، وهذا ما دفع أصحاب الصاغة رغبة في الربح أن يصدروا من الأوراق ما يجاوز قيمة العملة المعدنية المحتفظ بها لديهم كغطاء. وحينئذ اضطرت السلطات العامة للتدخل، وتكليف مؤسسات ذات طبيعة خاصة (مؤسسات الإصدار أو المصارف المركزية) باحتكار إصدار هذه النقود، وإحكام رقابتها. وقد تبين للسلطات في ذلك الوقت أنه من الصعوبة المحافظة على مثل هذه التغطية الذهبية الكاملة للنقود الورقية في المدى الطويل، فاحتياجات النمو الاقتصادي وتمويل المشاريع في السلم والحرب تتطلب زيادة مستمرة وملموسة في كمية النقود المتداولة، بينما الرصيد الذهبي ينمو بمعدلات ضئيلة بفعل القيود الطبيعية، فلجأت إلى طبع كميات كبيرة من النقود الورقية تزيد عن كمية الذهب الموجودة عندهم لتستعملها في سد حاجاتها، فصار غطاء الأوراق النقدية يتناقص شيئاً فشيئًا، وهبطت نسبة دعمها بالذهب الحقيقي عن المئة بالمئة إلى نسبة أدنى بكثير، وذلك لأن البنوك التي تصدر الأوراق النقدية كانت تستيقن بأن جميع هذه الأوراق لا يطلب تحويلها إلى الذهب في وقت واحد، وقد قبلها الناس رغم أن هذه الأوراق لم تكن مدعومة بالكامل بالذهب نتيجة ثقتهم بأن مصدرها يقدر على تحويلها إلى الذهب كلما طلب منه ذلك، بفضل الذهب الموجود عنده، وإن كانت كمية الذهب أقل من كمية الأوراق الصادرة من عنده، وإن هذه الأوراق النقدية كانت تسمى نقود الثقة. بدأت نقود الثقة تتزايد إلى حد أن الأوراق بلغت أضعاف مقدار الذهب الموجود في البلاد، مما حمل إنكلترا إلى تعطيل تحويل هذه الأوراق إلى
الذهب بعد حرب عام 1914 م. ثم عادت إلى جواز التحويل في سنة 1925 ولكن بشرط أن ما يطلب من البنك تحويله لا يكون أقل من ألف وسبعمائة جنيه بما جعل عامة الناس لا يقدرون على تحويل أوراقهم إلى الذهب، ولكنهم لم يحتفلوا بذلك لشيوع الأوراق كنقد قانوني، تنفعهم في متاجراتهم الأهلية. وفي عام 1931 م منعت حكومة بريطانيا من تحويل الأوراق إلى الذهب إطلاقًا، حتى لو كان الطلب أكثر من ألف وسبعمائة جنيه، وألزمت الناس أن يقتنعوا بهذه الأوراق كبديل للذهب، ويتعاملوا بها في سائر مداولاتهم، ولكن الحكومات استمرت في احترام حق بعضها لبعض، فإن تحويل الأوراق وإن كان ممنوعًا داخل البلاد، ولكن كانت كل دولة ملتزمة بتحويل عملتها إلى الذهب لدولة أخرى إن تقدمت إليها بعملة الدولة الأولى، فلو شاءت أمريكا مثلًا أن تتقدم بأوراق جنيهات استرلينية إلى إنكلترا، فإن إنكلترا ملتزمة بتحويل تلك الأوراق إلى الذهب، وإن هذا النظام يسمى: قاعدة التعامل بالذهب. ظل هذا العمل بهذه القاعدة مستمرًا إلى أن واجهت الولايات المتحدة أزمة شديدة في سعر دولارها، وتدفق الذهب منها في سنة 1971 م فاضطرت إلى إيقاف تحويل الدولار إلى ذهب حتى للدول، وذلك في تاريخ 15 من شهر أغسطس، سنة 1973، وبهذا قضي على آخر شكل من دعم الأوراق بالذهب. وأصبحت هذه النقود مجرد قصاصة ليست لها قيمة ذاتية كسلعة، وإنما تعتبر قوة شرائية بناء على ثقة الأفراد فيها، وأَمْرِ القانون، فاكتمل بذلك تطور النقود الورقية، حتى أصبحت نقودًا ائتمانية خالصة، بحيث أصبحت النقود الورقية تمثل الصورة العامة للنقود في الاقتصاد المعاصر. فهي نقود قانونية، يصبغ عليها القانون صفة الشرعية، ولها القدرة على تسوية الديون، والإبراء منها، وهي تمثل قمة السيولة، حيث يمكنها أن تتحول مباشرة إلى سلع وخدمات
بحسب قوتها الشرائية، أو يحتفظ بها كما هي، وهي أيضًا نقود نهائية أي لا تتحول إلى ذهب، فلا يجوز لحاملها تقديمها إلى المصرف المركزي لتحويلها إلى ذهب أو فضة، وإنما ذلك هو مجرد أثر تاريخي فحسب، والشكل الأساسي لهذه النقود يتمثل في أوراق البنكنوت التي تصدرها البنوك المركزية، ولها وحدة قياس خاصة بكل قطر، وتخضع لرقابة المصرف المركزي والحكومة، وتحدد كميتها طبقًا للسياسة النقدية المتبعة، واتفاقًا مع حاجة المعاملات والمبادلات، وهذا يعني القدرة على تغير كميتها حسب ظروف الزمان والمكان (¬1). وبهذا نكون قد عرفنا أن النظام النقدي في العالم لم يكن قائمًا على طور واحد في حقيقتها، ومكانتها النظامية، وإنما مرت عليها أدوار وأطوار شتى، تنقلت فيها من كونها سندات للديون في مبدأ أمرها إلى أن تحولت إلى أثمان عرفية وبهذا نعرف أن الخلاف الفقهي في تكييفها لا يرجع إلى خلاف حقيقي، وإنما يرجع إلى الحكم عليها من خلال مراحل نموها وتطورها، فالذي يقول مجرد وثيقة بدين فذلك يرجع إلى بداية نشأتها، ومثله الذي يقول: إنها قائمة مقام الذهب والفضة باعتبار أنها كانت في مرحلة من تاريخه مغطاة بالذهب والفضة، وأما الذي يرى أنها أثمان عرفية قائمة بذاتها، حكم عليها بالنسبة لمآلها التي آلت إليه. وبعد هذا الموجز التاريخي للأوراق النقدية نريد أن نعرف حكم جريان الربا فيها بناء على فهم حقيقتها، وهذا ما سوف نتعرض له إن شاء الله تعالى في المبحث التالي، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
المبحث الثاني جريان الربا في النقود الورقية
المبحث الثاني جريان الربا في النقود الورقية قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي، ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح" (¬1). [م - 1213] بالنسبة إلى ربا القرض فإنه يجري في النقود الورقية قولًا واحداً، لأن ربا القرض لا يختص بمال دون آخر، بل كل منفعة مشروطة، أو متعارف عليها يأخذها المقرض على المقترض فهي من الربا المجمع على تحريمه، [م - 1214] وإنما الخلاف في جريان الربا في الأوراق النقدية إنما هو في البيوع خاصة، وقد بينت ذلك عند الكلام على ربا القرض فليراجعه من شاء. كما أن هذه الأوراق النقدية لم تكن معروفة عند قدماء فقهاء الإِسلام لعدم تداولها في زمنهم (¬2)، ولذا سيكون العزو في البحث إلى أقول المتأخرين من الفقهاء حين توجهوا لها بالبحث بعد أن كثر تداولها، وقامت الأسئلة الملحة في أحكامها، من حيث وجوب الزكاة فيها، وجعلها رأس مال في عقد السلم، ¬
القول الأول
وجريان الربا فيها إلى غير ذلك من المباحث التي تصدوا لها بالبحث، ويرجع الخلاف فيها إلى خمسة أقوال: القول الأول: أن الأوراق النقدية إسناد بدين على جهة إصدارها، وهي مؤسسة النقد، أو البنك المركزي. وبه قال الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان (¬1)، وعبد القادر أحمد بن بدران، وأحمد الحسيني (¬2)، وبعض مشيخة الأزهر، وبه أفتى معظم علماء الهند وباكستان (¬3). وقد استند أصحاب هذا القول على ما يأتي: الأول: أن هذه الأوراق ليس لها قيمة في ذاتها، وإنما قيمتها في التعهد المسجل على كل ورقة نقدية بتسليم قيمتها لحاملها عند طلبه ثانيًا: ضرورة تغطيتها بذهب أو فضة، أو بهما معًا في خزائن مصدريها. ثالثًا: ضمان سلطات الإصدار قيمتها عند إبطالها، ومنع التعامل بها، ¬
الأحكام المترتبة على هذا القول
بخلاف الذهب والفضة فإن قيمتهما في ذاتهما، ولا تلتزم الحكومة بدفع بدلهما عند هلاكهما. كما استند أصحاب هذا القول إلى ما نص عليه لاروس، أكبر وأشهر قاموس للغة الفرنسية في تعريف أوراق (بنكنوت) حيث يقول: "ورقة البنك عملة قابلة لدفع قيمتها عينًا لدى الاطلاع لحاملها، وهي يتعامل بها كما يتعامل بالعملة المعدنية نفسها، غير أنه ينبغي أن تكون مضمونة ليثق الناس بالتعامل بها" (¬1). الأحكام المترتبة على هذا القول: يترتب على القول بأن الأوراق النقدية سندات بدين نتائج وأحكام شرعية من ذلك: (أ) منع كل المعاملات التي يشترط لصحتها التقابض في مجلس العقد. من ذلك: لا يصح جعلها رأس مال في عقد السلم؛ لأن من شروط صحة السلم قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، والأوراق النقدية تعتبر سندًا بدين، فلا يعتبر قبضها قبضًا لما تحتويه. كما لا يجوز صرفها بنقد معدني من ذهب أو فضة، ولو كان يدًا بيد؛ لأن من شروط الصرف التقابض في مجلس العقد، والورقة النقدية على رأي أصحاب هذا القول وثيقة بدين غائب عن مجلس العقد. ومن ذلك لا يجوز بيع ما في الذمة بهذه الأوراق حتى لا يؤدى ذلك إلى بيع الكالئ بالكالئ: أي بيع الدين بالدين. ¬
مناقشة هذا القول
(ب) عدم زكاتها على قول من يرى أن الدين لا تجب زكاته قبل قبضه، حتى يقبض ما يقابل هذه السندات. مناقشة هذا القول: الحق أن هذا القول يصدق على الأوراق النقدية في مرحلة من مراحل تطورها، فهي كانت وثائق للديون في مبدأ أمرها، وليست أموالًا، ولا أثمانًا، وأما الآن لا يصدق عليها ذلك بعد أن أصبح لها قيمة ذاتية؛ لأن التعهد القاضي بتسليم المبلغ المرقوم على الورقة والذي كان مطبوعًا على هذه السندات في مرحلة من تاريخها قد سحب ذلك، ولم يعد مطبوعًا، وقد تحولت إلى نقود إلزامية لا تقبل الاستبدال بذهب أو فضة، كما أن الاستدلال على سنديتها بضرورة تغطيتها جميعًا بذهب أو فضة، أو بهما معاً كان ذلك أيضًا في مرحلة من تاريخها، ولم يعد ملحًا الآن، فلم تقم حاجة إلى تغطيتها جميعها، وإنما قد يغطى بعضها، ولا يلزم أن يكون الغطاء ذهباً، بل ربما كان من أمور عدة، وذلك مثل الذهب، والعملات الورقية القوية، وهذه التغطية ليست نتيجة للتعهد الصادر من مصدريها، ولكن حاجة الاقتصاد إلى وجود غطاء داعم يوفر الاستقرار للاقتصاد، ويدعم حركة تبادل المال ويوفر التزامًا سلطانيًّا بضمان قيمة النقد في حال تعرضه للبطلان. وأما انتفاء القيمة الذاتية لهذه الأوراق فليس في هذا دليل على سنديتها؛ لأن النقد قد سبق لنا تعريفه بأنه ينطبق على كل شيء يلقى قبولًا عامًا، ويكون وسيطًا للتبادل، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن النقود المعدنية لها قيمة أكبر من قيمتها الذاتية، ومع ذلك لم يقل أحد: إن الزيادة على قيمتها الذاتية يعتبر سندًا على الدولة. وأما ضمان سلطات إصدارها قيمتها وقت إبطالها، ومنع التعامل بها فهذا سر
القول الثاني
اعتبارها والثقة بتمولها، وتداولها، إذ إن قيمتها ليست في ذاتها، وإنما هي في ضمان السلطات لها؛ وليس في هذا دلالة على اعتبارها سندًا بدين على مصدريها (¬1). القول الثاني: أن الأوراق النقدية عرض من العروض، لها ما للعروض من الخصائص والأحكام. وبهذا قال الشيخ عليش المالكي، وعليه كثير من متأخري المالكية (¬2)، واختاره شيخ شيخنا عبد الرحمن السعدي (¬3)، والشيخ يحيى آمال (¬4)، والشيخ سليمان بن حمدان (¬5)، والشيخ علي الهندي، والشيخ حسن أيوب (¬6). ¬
- وجه كون الورق النقدي عروضا
- وجه كون الورق النقدي عروضًا: أولاً: تخريج الورق النقدي باعتباره مالاً متقومًا مدخرًا، يباع ويشترى كالسلع، فيأخذ حكمها. ثانيًا: أن حقيقة الورق النقدي ليس ذهبًا ولا فضة، لا في شرع، ولا في لغة، ولا في عرف، فلا يثبت له أحكام الذهب والفضة، وأدلة التحريم في جريان الربا إنما هو في جنس الذهب والفضة، ولا تتناول هذه الأوراق. ثالثًا: أن الورق النقدي يخالف الذهب والفضة في المعيار، ويخالفها في الجنس، وأما المعيار فإن الذهب والفضة معياره الوزن، بخلاف الأوراق النقدية حيث لا تكال ولا توزن. فانتفى إمكان المماثلة في القدر بين الأوراق وبين الذهب والفضة، كما أن جنس كل منهما مختلف عن الآخر، فالنقود أوراق، والذهب والفضة معدن، فانتفى الجامع بين الورق النقدي وبين الذهب والفضة من كل وجه، وعليه فلا يمكن اعتباره جنسًا من الأجناس الربوية المنصوص عليها، وكون الورق النقدي يتصف بالثمنية كالنقدين فلا يكفي لجريان الربا، لكونه يخالف النقدين في ذاته ومعدنه، فلا يعطى حكم الذهب والفضة، كما أن أنواع الجواهر الثمينة لا يحكم لها بأحكام النقدين، وإلا أدخلنا في كلام الشارع ما ليس منه. رابعًا: أن الأصل في المعاملات الحل حتى يرد دليل المنع، وليس عندنا دليل يمنع من التفاضل والنساء في تبادل الأوراق النقدية بعضها ببعض. الأحكام المترتبة على هذا القول: عدم وجوب الزكاة فيها ما لم تعد للتجارة؛ لأن من شروط وجوب الزكاة في العروض إعدادها للتجارة.
ويناقش هذا القول
أنه لا يجري فيها لا ربا الفضل، ولا ربا النسيئة، فيجوز بيع بعضها ببعض متفاضلاً، كما يجوز بيع بعضها ببعض نسيئة، فلا تجري عليها أحكام الصرف؛ لأنها ليست ذهبًا، ولا فضة. كما أنه لا يجوز أن تكون رأس مال في عقد السلم لدى من يقول باشتراط أن يكون رأس مال السلم نقدًا من ذهب أو فضة أو غيرهما من أنواع النقد؛ لأن الأوراق النقدية بمقتضى هذا القول عروض، وليست أثمانا. ويناقش هذا القول: بأن هذا القول خطير جدًا حيث يفتح باب الربا على مصراعيه للبنوك الربوية، وبدلًا من تقديم القروض بفوائد مجمع على تحريمها تستبدل ذلك بأن تبيع الدراهم بدارهم أكثر منها نسيئة، دون أن تغير شيئًا في حقيقة المعاملة، كما أنه سيحرم الفقراء كثيرًا من أموال الزكاة. وأما القول بأن الورق النقدي يخالف الذهب والفضة في المعيار، حيث إن التقدير في الذهب والفضة الوزن، وأما الأوراق النقدية فليست مكيلة ولا موزونة، فهذا يقال لمن يقول: إن علة الربا في الذهب والفضة الوزن، وأما من يرى أن علة الربا هي مطلق الثمنية كما رجحنا عند الكلام على علة الربا في الذهب والفضة فلا يعترض عليه بذلك، وسنزيد الأمر إيضاحًا إن شاء الله تعالى عند الكلام على بيان الراجح. القول الثالث: أنها ملحقة بالفلوس. - وجه هذا القول: أن الأوراق النقدية تشبه الفلوس من حيث: رواجها، وطروء الثمنية عليها، فكلاهما نقد اصطلاحي، وكلاهما ليسا ذهبًا ولا فضة.
إلا أنهم اختلفوا في مقتضيات هذا القول كما اختلفوا في الفلوس: فمن اعتبر الفلوس عروضًا اعتبر النقود عروضًا، فيكون هذا القول يرجع إلى القول السابق بأنها عروض. ومن اعتبر الفلوس أثمانًا ألحق الأوراق النقدية بالنقدين في وجوب الزكاة، وجريان ربا النسيئة فيها، إلا أنه لم يلحقها بالنقدين في ربا الفضل، فأجاز بيع بعضها ببعض متفاضلًا إذا كان يدًا بيد؛ وهذا ما ذهب إليه شيخنا ابن عثيمين عليهما رحمه الله (¬1). وقد استند أصحاب هذا القول في التفريق بين ربا الفضل وربا النسيئة إلى مبررات منها: (أ) أن ربا الفضل حرم تحريم وسائل، لكونه وسيلة إلى ربا النسيئة. (ب) أن الأوراق غير منقودة حقيقة. (ج) أن بعض العلماء أجاز بيع الفلوس بعضها ببعض، أو بأحد النقدين مع التفاضل إذا كان يدًا بيد، ومنع ذلك مؤجلًا؛ والأوراق إلى الفلوس أقرب منها إلى النقدين. ¬
ويناقش هذا القول
(د) أن ربا الفضل أبيح ما تدعو الحاجة إليه كمسألة العرايا. (هـ) أن بعض العلماء أجاز بيع الحلي من الذهب بالدنانير، وبيع الحلي من الفضة بالدراهم متفاضلًا يدًا بيد، فجعلوا للصنعة أثرًا (¬1). (و) أن الريال المعدني السعودي يختلف عن الريال الورقي السعودي، وإن كانت جهة الإصدار واحدة؛ لأن حقيقة الأمران هذا جنس مقصود بنفسه، وذلك جنس مقصود بنفسه أيضًا، وكوننا نقول: إن هذا الريال الورقي يقابل هذا الريال المعدني في قيمته النظامية لا يلزم أن يكون مساويًا له في قيمته الحقيقية. ويناقش هذا القول: بأن قياس الورق النقدي على الفلوس من القياس الفاسد لسببين: الأول: يشترط في المقيس عليه -الأصل- أن يكون له حكم ثابت بنفسه، فإن لم يوجد له حكم ثابت من الكتاب أو السنة، أو الإجماع فلا يصح جعله أصلًا يقاس عليه، لعدم وجود حكم الأصل. الثاني: من شروط حكم الأصل أن يثبت بغير القياس في أشهر أقوال الأصوليين، أما الحكم الثابت بالقياس فلا يقاس عليه؛ لاستلزامه وجود قياسين: أحدهما: لإثبات حكم الأصل. والثاني لإثبات حكم الفرع، فإذا اتحد القياسان في العلة، فلا حاجة للقياس الثاني، فالفلوس مقيسة على النقدين، والورق النقدي يجب أن يقاس عليهما، لا على الفلوس بجامع الثمنية. ¬
وحكم الفلوس ثابت عند المالكية بقياسها على الذهب والفضة، فيمكن قياس الورق النقدي على الأصل المقيس عليه، وهو الذهب والفضة (¬1). هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هناك فرقًا كبيرًا بين الأوراق النقدية والفلوس يجعل من القياس قياسًا مع الفارق، من ذلك: أن الأوراق النقدية تتمتع بقوة إبراء غير محدودة، فهي موغلة في الثمنية إيغالًا شديدًا، حتى تغلب الورق النقدي على الذهب والفضة حيث لم يعد الناس يتعاملون بالذهب والفضة كأثمان، واستبدلوهما بهذه الأوراق بخلاف الفلوس، فإنها لا تتمتع إلا بقوة إبراء محدودة، ولذلك من صار أكثر ماله من الفلوس عد مفلسًا، ولا يتعامل بالفلوس إلا في المحقرات دون الأشياء الثمينة. يقول المقريزي: إن الفلوس لم يجعلها الله سبحانه نقدًا في قديم الدهر وحديثه حتى راجت في أيام الناصر فرج بن برقوق 808 هـ وكان قبيح السيرة وقد حدث من رواج الفلوس خراب الإقليم وذهاب نعمة أهل مصر، فإن الفضة هي النقد الشرعي، أما الفلوس فهي أشبه شيء بلا شيء فيصير المضاف مضافًا إليه. إلى أن يقول: ولا يعلم في خبر صحيح ولا سقيم عن أمة من الأمم اتخذوا نقدًا غير الذهب والفضة، أما السفاسف والمحقرات والتوافه فقد احتاج الناس لشرائها بأقل من الدرهم وأجزائه، فكانت الفلوس وسيلة هذه المبادلات ولكنها لم تكن نقدًا البتة ولم يوجد منها إلا اليسير، ولم تقم في إقليم ما بمنزلة النقدين (¬2). ¬
فهذه الفروق لها أثرها الواضح في تمييز الأوراق النقدية عن الفلوس، فلا يصح أن تكون هذه الأوراق مقيسة على الفلوس. وعلى التسليم بأن هناك شبهًا بين الفلوس وبين النقود، فإن القول بجواز التفاضل دون ربا النسيئة تفريق لا يقوم على دليل؛ لأننا إذا حرمنا فيها النسيئة في الأوراق النقدية فيلزم أن نحرم التفاضل فيها؛ لأنه وسيلة إلى ربا النسيئة بناء على قاعدة سد الذرائع، والمعروف في الشرع أن الجنس الواحد من الربويات يحرم فيه ربا الفضل وربا النسيئة كالذهب بالذهب، والفضة بالفضة فهكذا الورق النقدي إذا كان صادرًا من بلد واحد؛ لأنه جنس واحد، والعلة فيه واحدة، والمبررات التي ذكرها -خصوصا دعوى الحاجة إلى جريان التفاضل في الأوراق- لا تكفي؛ لأن مجرد دفع الحاجة لا يكفي مبررًا لإباحة الشيء دون نظر إلى الضرر المترتب عليه، إذ من المعلوم أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وقوله: إن ربا الفضل أبيح منه ما تدعو الحاجة إليه كمسألة العرايا، وأجاز كثير من أهل العلم بيع الحلي من الذهب أو الفضة بمثله متفاضلاً، فيجاب عنه بأن العرايا قد استثناها النبي - صلى الله عليه وسلم - مما نهى عنه من المزابنة، وهي أن يشتري الرطب في الشجر بخرصه من التمر؛ لأنه إذا لم يعلم التماثل في ذلك لم يجز البيع، ولهذا يقول الفقهاء: الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، والتماثل يعلم بالوزن والكليل، وأما الخرص فيعمل به عند الحاجة، فالعرايا رخصة رخص فيها الشارع تقدر بما ورد به النص فقط، ولا يقاس على الرخص؛ لأنها استثناء من النهي، وليس فيها تفاضل محقق بل يجتهد في خرصها وتماثلها، فإن حصل بعد ذلك فيها تفاضل فهو غير متعمد، ثم هل بلغت الحاجة إلى التفاضل في الأوراق النقدية مبلغ الحاجة إلى العرايا التي رخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما مسألة إجازة بعض العلماء بيع الحلي المصوغ من الذهب أو الفضة بمثله
القول الرابع
متفاضلاً فهي مسألة اجتهادية تفتقر إلى دليل، والراجح المنع، وقد حكي في منعها الإجماع، فلا يصح أن تتخذ دليلاً لما نحن فيه، والله أعلم (¬1). نعم لو أنه قيل بالتفاضل بين الجنس المعدني من الريالات، والجنس الورقي كان الأمر قد يقبل، باعتبار أن المسوغ للتفاضل ليس كونها بمنزلة الفلوس، وإنما المسوغ للتفاضل اختلاف الجنس، كما قيل باختلاف التفاضل عند اختلاف جهة الإصدار بين الريال السعودي والريال القطري، وإن كان كل منهما يسمى ريالًا. فالريالات المعدنية السعودية جنس، والريالات الورقية السعودية جنس، ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة، لو كان هذا هو المسوغ للتفاضل كان الأمر أهون من كون المسوغ للتفاضل بين الريالات السعودية كونها ملحقة بالفلوس، والله أعلم. القول الرابع: أن الأوراق النقدية بدل عن الذهب والفضة، وقد ذهب إلى هذا القول جماعة من أهل العلم منهم فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي، عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية في وقته (¬2)، والشيخ حسنين مخلوف (¬3)، واختار هذا القول الشيخ ¬
دليل هذا القول
أحمد الساعاتي في بلوغ الأماني شرح الفتح الرباني (¬1)، ومحمد رشيد رضا (¬2)، والشيخ يوسف القرضاوي (¬3). - دليل هذا القول: الدليل الأول: (ح-815) ما رواه مسلم من طريق سليمان بن يسار عن أبي هريرة: أنه قال لمروان أحللت بيع الربا؟ فقال مروان: ما فعلت؟ فقال أبو هريرة أحللت بيع الصكاك، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفى، قال فخطب مروان الناس، فنهى عن بيعها. قال سليمان فنظرت إلى حرس يأخذونها من أيدي الناس (¬4). فالمراد بالصكاك هنا ورقة تخرج من ولي الأمر بالرزق لمستحقه، بأن يكتب فيها للإنسان كذا وكذا من طعام أو غيره، فيبيع صاحبها ذلك لإنسان قبل أن يقبضه. فإذا كانت هذه الصكاك قد أخذت حكم الطعام؛ لأنها ثابت عن الطعام، فكذلك هذه الأوراق النقدية لها حكم الذهب والفضة؛ لأنها نابت مناب الذهب والفضة، وقد تقرر شرعاً أن البدل له حكم المبدل منه. الدليل الثاني: المقصود من هذه الأوراق أن تكون أثمانًا نائبة عن الذهب أو الفضة، ¬
الدليل الثالث
والأمور الشرعية بمقاصدها ومعانيها، لا بألفاظها ومبانيها، ومن نظر إلى المعاني الشرعية، وعرف الواقع لم يكن لديه أدنى شك أن الأوراق النقدية حالها حال الذهب والفضة (¬1). الدليل الثالث: يقول الشيخ عبد الرزاق عفيفي في معرض استدلاله لما يراه من كون الأوراق النقدية بديلًا عن الذهب أو الفضة: يقول عليه رحمه الله: "لما كانت الأوراق النقدية لا قيمة لها في نفسها ولم تكن قيمتها مستمدة من مجرد إصدار الدولة لها وحمايتها إياها، وإنما قيمتها فيما أكسبها ثقة الدول بها، وجعلها مع سن الدولة لها قوة شرائية وأثمانًا للسلع ومقياسًا للقيم، ومستودعًا عامًا للادخار، ولما كان الذي أكسبها ذلك وجعلها صالحة للحلول محل ما سبقها من العملات المعدنية هو ما استندت إليه من الغطاء ذهباً أو فضة أو ما يقدر بهما من ممتلكات الدولة أو إنتاجها أو احتياطها، أو أوراق مالية أو أوراق تجارية .. لما كان الأمر كذلك كانت الأوراق النقدية بدلًا عما حلت محله من عملات الذهب أو الفضة التي سبقتها في التعامل بها، وكانت متابعة لهما، فما كان منها متفرعًا عن ذهب فله حكم الذهب، وما كان منها متفرعًا عن فضة فله حكم الفضة، وعلى هذا تجب فيها الزكاة كأصلها، ويقدر فيها النصاب بما قدر به في أصلها، ويجري فيها ربا الفضل والنسيئة مع اعتبار أن ما كان منها متفرعًا عن فضة حسب الأصل جنس، وما كان متفرعًا عن ذهب في الأصل جنس، ولا يجوز بيع الورقة النقدية بما تفرعت عنه من الذهب أو الفضة مع التفاضل، ويعتبر قبض الأوراق النقدية في ¬
حكم قبض ما حلت محله من الذهب أو الفضة، هذا، وليس بلازم أن يكون في خزينة الدولة ذهب أو فضة بالفعل، ما دامت خاماتها وسائر إمكانياتها التي تقدر بوحدتها السابقة من الذهب أو الفضة قائمة محققة تقوم مقامها في استمرار الثقة بالأوراق النقدية في دولة الإصدار وغيرها من الدول، وليس بلازم أيضاً أن تسلم مؤسسة النقد ذهبًا أو فضة لحامل الورقة النقدية مقابل ما فيها ما دامت الأوراق النقدية تؤدي وظيفتها وتقوم بما أنشئت من أجله، فإن لولي الأمر أن يتصرف في غطاء الأوراق النقدية، أيًّا كان الغطاء فيما يعود على أمته بالمصلحة من وجوه تنمية الثروة، والترفيه عن الرعية حتى لا تبقى معطلة في خزينة الدولة أو معرضة للتبديد والتهريب في أيدي الأفراد. وبهذا يعرف أن عدم وجود الغطاء في خزينة الدولة بالفعل وعدم رد المقابل لحاملها لا يعتبر إلغاء للغطاء، ولا إبطالًا مادام الغطاء الذي هو روح العملة، وسر الثقة بها موجودًا قائمًا ممثلًا فيما يثبت ملاءة الدولة وقوة إمكانياتها، ويكسب الثقة بها في الداخل والخارج من كل ما يقدر بوحدتها التي كانت الدولة تتعامل بها قبل إصدار الأوراق النقدية. وإن وجود وحدة متفق عليها كالذهب مثلاً تقاس بها موجودات وإمكانيات الدول ليعرف بها مدى ملاءة كل دولة بالنسبة للأخرى، لا ينافي وجود غطاء لأوراق الدولة النقدية وإن تنوع، كما أنه لا ينافي وجود وحدة خاصة بكل دولة تتصل بعملتها المعدنية السابقة ... " (¬1). ¬
- الأحكام المترتبة على هذا القول
- الأحكام المترتبة على هذا القول: يترتب على هذا القول أحكام منها: (أ) إذا بودل بين نوعين من الورق النقدي متفرعين عن ذهب، أو فضة امتنع التفاضل بينهما ولو كانت من بلدين مختلفين، وإذا بودل بين جنسين من الورق أحدهما متفرع عن ذهب، والثاني متفرع عن فضة جاز فيهما التفاضل، وامتنع فيهما التأخير ولو كانت من بلد واحد. (ب) جريان الربا في الأوراق النقدية بنوعيه، وثبوت الزكاة فيها، وجواز جعلها رأس مال في عقد السلم، ونحو ذلك. يناقش هذا القول: هذا القول مبني على أن الأوراق النقدية إنما كانت بديلًا للذهب والفضة؛ لأنها مغطاة تغطية كاملة بذهب أو فضة، وهذا إنما كان في مرحلة من تاريخها، وأما واقعها الآن فهذا الغطاء قد ألغي منذ زمن بعيد، ولم يعد إصدار الأوراق النقدية وقبولها مستندًا إليه، وإنما تستمد قوتها من قوة اقتصاد الدولة المصدرة لها، وملكيتها لمختلف وسائل الإنتاج، وتنوع ثروتها، نعم القليل منها قد يغطى، ولا يلزم أن يكون مغطى بذهب أو فضة. القول الخامس: أن الأوراق النقدية ثمن مستقل قائم بذاته، ويعتبر كل نوع منها جنسًا مستقلًا، فتتعدد الأجناس بتعدد جهات الإصدار، فالورق النقدي السعودي جنس، والدولار الأمريكي جنس، والجنيه المصري جنس، والدينار الكويتي جنس، وهكذا. وبهذا القول صدرت فتوى هيئة كبار العلماء بالبلاد
- وجه قول من قال بهذا
السعودية (¬1)، وقرار المجمع الفقهي الإِسلامي بمكة المكرمة (¬2)، وعليه أكثر الباحثين المعاصرين (¬3). - وجه قول من قال بهذا: الوجه الأول: أن الراجح في علة جريان الربا في الذهب والفضة مطلق الثمنية، وهذا يعني أن الحكم ليس مقصورًا على الذهب والفضة يل يتعداه إلى كل ما يتخذه الناس ثمنًا للأشياء. الوجه الثاني: أن حقيقة النقد: هو كل شيء يجري اعتباره في العرف والعادة، ويلقى قبولًا عامًا كوسيط للتبادل، كما قال ابن تيمية رحمه الله: "وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي، ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارًا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها، ولهذا كانت أثمانًا بخلاف سائر الأموال، فإن المقصود بها الانتفاع بها بنفسها، فلهذا كانت ¬
مقدرة بالأمور المطبعية أو الشرعية، والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض، لا بمادتها، ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت" (¬1). وجاء في المدونة "قلت: أرأيت إن اشتريت فلوسًا بدراهم، فافترقنا قبل أن نتقابض؟ قال: لا يصلح هذا في قول مالك، وهذا فاسد. قال لي مالك في الفلوس: لا خير فيها نظرة بالذهب ولا بالورق، ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة" (¬2). وهذا القول هو أقوى الأقوال، وأقربها إلى الصواب، والله أعلم. ¬
ملحق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من قرارات هيئة كبار العلماء قرار رقم (10) بشأن الأوراق النقدية. الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد: فبناء على توصية رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، والأمين العام لهيئة كبار العلماء بدراسة موضوع الورق النقدي من قبل هيئة كبار العلماء، استنادًا إلى المادة السابعة من لائحة سير العمل في الهيئة، التي تنص على أن ما يجري بحثه في مجلس الهيئة يتم بطلب من ولي الأمر، أو بتوصية من الهيئة، أو من أمينها، أو من رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، أو من اللجنة الدائمة المتفرعة عن الهيئة، فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة لدورتها الثالثة المنعقدة فيما بين 1/ 4/ 1393 هـ و17/ 4/ 1393 هـ وفي تلك الدورة جرى دراسة الموضوع بعد الاطلاع على البحث المقدم عنه من اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء. وبعد استعراض الأقوال الفقهية التي قيلت في حقيقة الأوراق النقدية من اعتبارها أسنادًا، أو عروضًا، أو فلوسًا، أو بدلًا عن ذهب أو فضة أو نقدًا مستقلًا بذاته، وما يترتب على تلك الأقوال من أحكام شرعية، جرى تداول الرأي فيها، ومناقشة ما على كل قول منها من إيرادات، فنتج عن ذلك عديد من التساؤلات التي تتعلق بالإجراءات المتخذة من قبل الجهات المصدرة لها. وحيث إن الموضوع من المسائل التي تقضي المادة العاشرة من لائحة سير عمل الهيئة بالاستعانة بخبير أو أكثر في شئونها حيث نصت على أنه لدى بحث الهيئة
مسائل تتعلق بالشئون الاقتصادية والاجتماعية والأنظمة العامة بما في ذلك القضايا البنكية والتجارية والعمالية، فإن عليها أن تشرك في البحث معها واحداً أو أكثر من المتخصصين في تلك العلوم. فقد جرى استدعاء سعادة محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي الدكتور أنور علي، وحضر معه الدكتور عمر شابريه، أحد المختصين في العلوم الاقتصادية، ووجهت إلى سعادته الأسئلة التالية: س 1: هل تعتبر مؤسسة النقد ورق النقد السعودي نقدًا قائمًا بذاته، أم تعتبره سندات تتعهد الدولة بدفع قيمتها لحاملها كما هو مدون على كل فئة من فئات أوراق النقد السعودي، وإذا لم يرد معنى هذه العبارة، فما معنى الالتزام بتسجيلها على كل ورقة، وهل يعني ذلك التعهد أن ورق النقد السعودي مغطى بريالات فضية أم لا؟ س 2: هل لكل عملة ورقية غطاء مادي محفوظ في خزائن مصدريها؟ وإذا كان كذلك فهل هو غطاء كامل؟ أم غطاء للبعض فقط؟ وإذا كان غطاء للبعض فما هو الحد الأعلى للتغطية؟ وما هو الحد الأدنى لها؟ س 3: ما نوع غطاء العملات الورقية؟ وهل توجد عملة لأي دولة ما مغطاة بالفضة؟ وهل هناك جهات إصدار تخلت عن فكرة التغطية المادية مطلقاً؟ س 4: المعروف أن الورقة النقدية لا قيمة لها في ذاتها وإنما قيمتها في أمر خارج عنها فما هي مقومات هذه القيمة؟ س 5: نرغب شرح نظرية غطاء النقد بصفة عامة، وما هي مقومات اعتبار العملة الورقية على الصعيدين الدولي والمحلي؟ س 6: هل الغطاء لا يكون إلا بالذهب وإذا كان بالذهب وغيره فهل غير
الذهب فرع عن الذهب باعتبار أنه قيمة له، وهل يكفي للغطاء ملاءة ومتانة اقتصادها وقوتها ولو لم يكن لنقدها رصيد؟ س 7: ما يسمى بالدينار، والجنيه هل هو مغطى بالذهب، ولذا سمى ديناراً أو جنيهًا رمزًا لما غطي به؟ ومثله الريال السعودي هل هو مغطى بفضة، أم أن هذه التسميات يقصد بها المحافظة على التسميات القديمة للعملة المتداولة فيما مضى بغض النظر عما هي مستندة عليه من ذهب أو فضة؟ س 8: ما السبب في عدم الثقة في النقد المتداول اليوم مما أدى إلى ارتفاع الذهب ارتفاعًا لم يسبق له نظير؟ وأجاب سعادته عنها بواسطة المترجم القائد الدكتور أحمد المالك إجابة جرى رصد خلاصتها في محضر الجلسة مع سعادته، وقد توصلت بها الأكثرية من الهيئة إلى الاقتناع بما ارتأته فيها من رأي. ثم بعد إعادة النظر في الأقوال الفقهية التي قيلت فيها على ضوء الإيضاحات التي ذكرها سعادة المحافظ قرر المجلس بالأكثرية ما يلي: بناء على أن النقد هو كل شيء يجري اعتباره في العادة أو الاصطلاح، بحيث يلقى قبولًا عامًا كوسيط للتبادل، كما أشار إلى ذلك شيخ الإِسلام ابن تيمية حيث قال: وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به بل الغرض أن يكون معيارًا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها بل هي وسيلة إلى التعامل بها، ولهذا كانت أثمانًا .. إلى أن قال: والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت. اهـ (¬1). ¬
وذكر نحو ذلك الإِمام مالك في المدونة من كتاب الصرف حيث قال: ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نسيئة. اهـ. وحيث إن الورق النقدي يلقى قبولًا عامًا في التداول، ويحمل خصائص الأثمان من كونه مقياسًا للقيم، ومستودعًا للثروة، وبه الإبراء العام. وحيث ظهر من المناقشة مع سعادة المحافظ أن صفة السندية فيها غير مقصودة، والواقع يشهد بذلك ويؤكده، كما ظهر أن الغطاء لا يلزم أن يكون شاملًا لجميع الأوراق النقدية، بل يجوز في عرف جهات الإصدار أن يكون جزء من عملتها بدون غطاء، وأن الغطاء لا يلزم أن يكون ذهباً، بل يجوز أن يكون من أمور عدة كالذهب والعملات الورقية القوية وأن الفضة ليست غطاء كليًا أو جزئيًا لأي عملة في العالم .. كما اتضح أن مقومات الورقة النقدية قوة وضعفًا مستمدة مما تكون عليه حكومتها من حال اقتصادية فتقوى بقوة دولتها وتضعف بضعفها، وأن الخامات المحلية كالبترول والقطن والصوف لم تعتبر حتى الآن لدى أي من جهات الإصدار غطاء للعملات الورقية. وحيث إن القول باعتبار مطلق الثمنية علة في جريان الربا في النقدين هو الأظهر دليلًا والأقرب إلى مقاصد الشريعة وهو إحدى الروايات عن الأئمة مالك وأبي حنيفة وأحمد. قال أبو بكر: روى ذلك عن أحمد جماعة كما هو اختيار بعض المحققين من أهل العلم كشيخ الإِسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما، وحيث إن الثمنية متحققة بوضوح في الأوراق النقدية لذلك كله؛ فإن هيئة كبار العلماء تقرر بأكثريتها أن الورق النقدي يعتبر نقدًا قائمًا بذاته كقيام النقدية في الذهب
والفضة وغيرهما من الأثمان، وأنه أجناس تتعدد بتعدد جهات الإصدار؛ بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، وأنه يترتب على ذلك الأحكام الشرعية الآتية: أولاً: جريان الربا بنوعيه فيها كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة، وفي غيرهما من الأثمان كالفلوس، وهذا يقتضي ما يلي: أ- لا يجوز بيع بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما نسيئة مطلقاً، فلا يجوز مثلا بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريلة سعودية، أو أقل أو أكثر نسيئة. ب- لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلًا، سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد، فلا يجوز مثلا بيع عشرة أريلة سعودية ورق بأحد عشر ريالًا سعوديا ورقًا. ج- يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقًا إذا كان ذلك يدا بيد فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ورقًا كان أو فضة، أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة أريلة سعودية، أو أقل، أو أكثر، إذا كان ذلك يدًا بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة أريلة سعودية ورق، أو أقل أو أكثر يدًا بيد؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه، ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة. ثانيا: وجوب زكاتها إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة، أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها.
ثالثا: جواز جعلها رأس مال في السلم والشركات. والله أعلم، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء في السعودية
الفصل الثالث في شروط الصرف
الفصل الثالث في شروط الصرف الشرط الأول وجوب التماثل عند اتحاد الجنس [م - 1215] اختلف العلماء في وجوب التماثل عند اتحاد الجنس: فقيل: يشترط في عقد الصرف التماثل في القدر عند اتحاد الجنس، وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم (¬1). (ح-816) لما رواه البخاري من طريق مالك، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز. ورواه مسلم (¬2). (ح-817) وروى مسلم من طريق ابن أبي نعم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب وزنًا بوزن، مثلاً بمثل، والفضة بالفضة وزنًا بوزن، مثلًا بمثل، فإن زاد أو استزاد فهو ربا (¬3). ¬
(ح-818) وروى البخاري من طريق عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: قال أبو بكرة - رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء، والفضة بالفضة إلا سواء بسواء، وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم (¬1). (ح-819) ما رواه مسلم من طريق مالك بن أبي عامر يحدث عن عثمان بن عفان، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين (¬2). (ح-820) كما روى مسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة ... مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد ... الحديث (¬3). القول الثاني: ذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - إلا أنه لا يجب التماثل عند اتحاد الجنس، وقال: لا ربا إلا في النسيئة (¬4)، وأخذه عنه طلابه في مكة (¬5). وهو مروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - (¬6). ¬
وقد سبق أن حررنا أدلة ابن عباس وأجبنا عنها، وإنما اقتضى التذكير في الخلاف عند الكلام على شروط الصرف. القول الثالث: ذهب المالكية إلى أنه إن باع الذهب بالذهب وزنًا بوزن فيجب فيه التساوي في الوزن ولو تفاضل في العدد، ولا يجوز فيه الزيادة ولو كانت على وجه المعروف والمسامحة. وإن باع الذهب بالذهب عددًا، فيجوز فيه الزيادة اليسيرة على وجه المعروف والمسامحة. قال مالك في الموطأ: "الأمر عندنا في بيع الذهب بالذهب، والورق بالورق مراطلة أنه لا بأس بذلك أن يأخذ أحد عشر ديناراً بعشرة دنانير يدًا بيد، إذا كان وزن الذهبين سواء عينًا بعين، وإن تفاضل العدد. والدراهم أيضاً في ذلك بمنزلة الدنانير" (¬1). قال الباجي: "وبدل الدنانير بالدنانير، والدراهم بالدراهم على وجهين: أحدهما وزنًا، والثاني: عددًا. فأما الوزن فلا يجوز فيه إلا التساوي، ولا يجوز فيه زيادة على وجه معروف، ولا بمسامحة ... وأما المبادلة بالعدد فإنه يجوز ذلك وإن كان بعضها أوزن من بعض في الدينار والدينارين على سبيل المعروف والتفضل، وليس ذلك من التفاضل؛ لأنهما لم يبنيا على الوزن، ولهذا النوع من المال تقديران: الوزن والعدد، فإن كان الوزن أخص به، أولى فيه إلا أن العدد معروف، فإذا عمل به ¬
على العدد جوز يسير الوزن زيادة على سبيل المعروف ما لم يكن في ذلك وجه من المكايسة والمغابنة، فيمنع منه. وهذا عندنا مبني على مسألة العرية، وذلك أن العرية لما كان للثمرة تقديران: أحدهما: الكيل، والآخر الخرص، والتحري، جاز العدول عن أولهما إلى الثاني ضرورة على وجه المعروف، فكذلك الدنانير والدراهم" (¬1). والحاصل أن المبادلة عند المالكية إما أن تكون الدراهم والدنانير فيها من أحد الجانبين مساوية للجانب الآخر، وإما أن تكون غير مساوية، بل فيها زيادة من أحد الجانبين، فإن كانت مساوية جازت المبادلة مطلقًا بلا شرط، وإن كان فيها زيادة من أحد الجانبين فلا يجوز إلا بشروط سبعة: الأول: أن تقع بلفظ المبادلة. الشرط الثاني: أن يكون التعامل بها عددًا، فإن تعامل بها وزنًا وجب التساوي، قال ابن عبد السلام: "فلا تجوز إلا في الدنانير والدراهم إذا كان التعامل بها عددًا، وأما إذا كان كالمجموعة وشبهها، أو كان الذهب أو الفضة تبرًا، أو مصوغًا فلا يجوز إلا بالوزن، فتعود مراطلة؛ لأنه إذا كان التعامل عددًا صار البعض اليسير يجري مجرى الرداءة والكمال مجرى الجودة بخلاف التبر ونحوه" (¬2). الشرط الثالث: أن تتحد السكة، وقال في حاشية العدوي: ولا يشترط اتحاد السكة على الراجح. الشرط الرابع: أن تكون الدراهم والدنانير التي تقع فيها المبادلة قليلة. ¬
الشرط الخامس: وأن تكون في العدد ستة فما دون، فإن زاد العدد على ستة، أو كانت الزيادة في كل واحد منها أو بعضها أكثر من السدس وجب التساوي. الشرط السادس: أن تكون الزيادة في الوزن لا في العدد، بحيث تكون المبادلة واحداً بواحد، لا واحداً باثنين. الشرط السابع: وأن يقصد بالزيادة المعروف (¬1). - الراجح: بعد استعراض الأدلة أجد أن القول الراجح هو قول الجمهور، وهو أنه يجب التماثل عند اتحاد الجنس، وأما مذهب المالكية في جواز الزيادة بالمبادلة بالشروط التي ذكرها المالكية، فهو قول مرجوح. (ح-821) لما رواه مسلم من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما. وأما القياس على العرايا، فالعرايا رخصة، وقد ورد في النص أنه رخص فيها ولم يرخص في غيرها. (ح-822) فقد روى البخاري ومسلم من طريق سالم بن عبد الله ابن عمر، عن عبد الله بن عمر عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر، ولم يرخص في غيره (¬2). ¬
الفرع الأول بيع الذهب بمثله جزافا
الفرع الأول بيع الذهب بمثله جزافًا قال الباجي: ما حرم فيه التفاضل يحرم فيه الجزاف؛ لأنه لا يعلم معه التساوي، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في التحريم والمنع من صحة العقد (¬1). [م - 1216] علمنا في المسألة السابقة أن من شروط الصرف وجوب التماثل عند اتحاد الجنس، فيحرم التفاضل في بيع الذهب بالذهب، وفي بيع الفضة بالفضة، والبحث في هذه المسألة، ماذا لو تراضى المتبايعان على أن يتم البيع بينهما جزافًا أو خرصًا بدون وزن، أو عد، أو صرفت النقود بمثلها عن طريق الخرص، هل يجوز ذلك؟ والجواب على ذلك أن يقال: إذا بيع النقد بجنسه، أو الذهب بجنسه فلا بد من العلم بالتماثل، فلا يجوز بيعه جزافًا ولا خرصًا باتفاق الفقهاء (¬2)، والقاعدة في الربويات: أن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل. قال ابن جزي: "الجهل بالتماثل ممنوع كتحقيق التفاضل ... " (¬3). ¬
وجاء في تكملة المجموع للسبكي: "كل جنس اعتبر التماثل في بيع بعضه ببعض، فالجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل، بدليل النهي عن التمر بالتمر جزافًا" (¬1). وقال ابن قدامة: "الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل فيما يشترط التماثل فيه، ولذلك لم يجز بيع بعضها ببعض جزافًا" (¬2). وقال ابن تيمية: "فإن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في بيع الأموال الربوية بعضها بجنسه، فإن لم نعلم المماثلة كان كما لو علمنا المفاضلة" (¬3). (ح-823) ولما رواه مسلم من طريق ابن جريج، أن أبا الزبير أخبره، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلتها بالكيل المسمى من التمر (¬4). قال النووي: "هذا تصريح بتحريم بيع التمر بالتمر حتى يعلم المماثلة، قال العلماء: لأن الجهل بالمماثلة في هذا الباب كحقيقة المفاضلة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إلا سواء بسواء، ولم يحصل تحقق المساواة مع الجهل، وحكم الحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، وسائر الربويات إذا بيع بعضها ببعض حكم التمر بالتمر" (¬5). ¬
الفرع الثاني إذا باع الربوي بجنسه جزافا ثم علم تساويهما
الفرع الثاني إذا باع الربوي بجنسه جزافًا ثم علم تساويهما قال الحافظ ابن حجر: المعاملات على الظواهر، والمعلوم الباطن خفي لا يعلق عليه الحكم (¬1). وقال الزيلعي: "ساعات المجلس كساعة واحدة دفعًا للعسر وتحقيقًا لليسر" (¬2). زاد الشلبي في حاشيته: "العلم بالمماثلة في المجلس كالعلم بها في حال العقد" (¬3). [م - 1217] إذا صرف الرجل الذهب بالذهب جزافًا، ثم علهم تساويهما، فما حكم العقد؟ فقيل: إذا علهم تساويهما في المجلس قبل الافتراق، فإن الصرف يصح استحسانًا. وهذا مذهب الحنفية (¬4). - وجه قولهم: أن المجلس وإن طال له حكم حالة العقد، فما علم في مجلس العقد كأنه ¬
- وجه القول بعدم الصحة
علم حالة العقد؛ لأن ساعاته كساعة واحدة، وإن علم بعد الافتراق لم يجز. وقيل: لا يصح، وهذا مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). - وجه القول بعدم الصحة: لما كانت المساواة شرط، فإن شرط العقد يعتبر العلم به عند العقد لا بعده، فلما كان الجهل بالمماثلة موجودًا عند البيع لم يصح البيع، وإن خرجا متساويين من غير قصد. وقيل: يجوز مطلقًا، علم قبل الافتراق أو بعده، وهو قول زفر من الحنفية (¬4). - وجه قوله: أن شرط الجواز هو التماثل، وقد تبين أن المساواة كانت موجودة حالة العقد، فالعلم بها كونه وجد في المجلس أو بعده لا يضر. ¬
الراجح
- الراجح: أرى أن مذهب الحنفية يتسق مع القواعد، وهو أرجح الأقوال، وهو وسط بين قول زفر وبين قول الجمهور، وإذا كانت حالة المجلس معتبرة في تراخي القبول عن الإيجاب فلتعتبر مقبولة فيما إذا علم التماثل قبل التفرق، والله أعلم.
الفرع الثالث بيع الدنانير بالدراهم جزافا وخرصا
الفرع الثالث بيع الدنانير بالدراهم جزافًا وخرصًا ما جاز فيه المفاضلة جاز فيه المجازفة بشرط ألا ينطوي على قمار أو مخاطرة. [م - 1218] ذهب الأئمة الأربعة إلى جواز بيع الذهب بالفضة جزافًا وخرصًا إذا كان تبرًا أو حليًا (¬1). لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة في مسلم: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد). وبناء على أن ما جاز فيه التفاضل جاز فيه الجزاف، فليس في الجزاف معنى أكثر من أن يكون أحدهما أكثر من الآخر، وهذا غير ممنوع مع اختلاف الجنس. ومنع المالكية بيع الدنانير بالدراهم جزافًا إذا كانت تباع بالعد، وليس بالوزن، واعتبروا ذلك من القمار والمخاطرة. لأن الغرر يدخلها من وجهين: من جهة خفة الدراهم. ومن جهة المبلغ، فلم يجز ذلك لكثرة الغرر (¬2). ¬
وجه الاستدلال
وقال ابن أبي موسى: لا خير فيما يكال بما يكال جزافًا، ولا فيما يوزن بما يوزن جزافًا اتفقت الأجناس أو اختلفت، ولا بأس ببيع المكيل بالموزون جزافًا، وقال ذلك القاضي والشريف أبو جعفر، نقل ذلك عنهم ابن قدامة في المغني (¬1). (ح-824) وحجتهم ما رواه مسلم من طريق أبي النضر، أن بسر ابن سعيد حدثه عن معمر بن عبد الله أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الطعام بالطعام مثلاً بمثل ... " (¬2). وجه الاستدلال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام إلا مثلًا بمثل، والطعام مكيل، فإذا بيع المكيل بالمكيل مجازفة لم تتحقق المماثلة، والموزون مقيس عليه. الدليل الثاني: ولأن بيع المكيل بالمكيل والموزون بالموزون يشبه الجنس الواحد. - الراجح: أما قول ابن أبي موسى فهو قول ضعيف جدًا؛ لأن الأحاديث متكاثرة على ¬
جواز بيع الذهب بالفضة كيف شئنا إذا كان يدًا بيد، وكذلك في بيع التمر بالحنطة. هذا من جهة جواز التفاضل، وأما في بيعها جزافًا فأكثر العلماء على الجواز، قال ابن عبد البر: "أجاز أكثر العلماء بيع الذهب بالورق جزافًا عينًا كان ذلك أو تبرًا، دراهم كانت أو دنانير، والمصوغ وغيره في ذلك سواء؛ لأن التفاضل بينهما حلال جائز، وإذا جاز الدينار بأضعافه دراهم جاز الجزاف في ذلك يدًا بيد كما يجوز القصد إلى المفاضلة بينهما يدًا بيد" (¬1). وعندي أن الإِمام مالك لم يحرم ذلك من أجل منع التفاضل، وإنما منع من ذلك من أجل الجهل بالمبيع والثمن، ومن شروط صحة البيع العلم بالمبيع والعلم بالثمن، ولذلك إذا علم عدد كل واحد منهما جاز بيع بعضهما ببعض وإن وجد التفاضل، بينما إذا تم الصرف بينهما جزافًا: أي كومة من الدنانير بكومة من الدراهم فإنه يدخلها الجهل بحقيقة مقدار المبيع والثمن، فيأتي الغرر من هذا الباب خلاف ما إذا كان البيع قطعة من الذهب بقطعة من الفضة، وقد أحاط بها علم المشتري والبائع عن طريق الرؤية، فلا حرج في بيعهما، وإن لم يعلم وزنهما، والله أعلم. ¬
الفرع الرابع الصرف بتصديق أحدهما للآخر في مقدار الصرف
الفرع الرابع الصرف بتصديق أحدهما للآخر في مقدار الصرف قال الزركشي: الأصل في العقود بناؤها على قول أربابها (¬1). قال ابن القيم: كل أحد مؤتمن على ما يخبر به مما هو في يده (¬2). [م - 1219] إذا تبايع المتصارفان، وكان الصرف دراهم بدارهم من جنس واحد، وأخبر أحدهما عن مقدار ما معه، فهل يجوز له أن يأخذه دون عده أو وزنه بناء على تصديقه لصاحبه، أو يجب أن يتم عده أو وزنه؟ فقيل: يصح أن يصدق صاحبه، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وقول في مذهب المالكية (¬5). وقيل: يحرم تصديقه، بل لا بد من عده أو وزنه، وهو قول ثان في مذهب المالكية، وعده ابن جزي هو المشهور (¬6). وقال في الشرح الكبير: "ولا يجوز الصرف بتصديق فيه أي في وزنه، أو عدده، أو جودته ... " (¬7). ¬
الراجح
ووجهه: أنه قد يختبره بعد التفرق، فيجده ناقصًا، فإن رجع عليه أدى ذلك إلى الصرف مع التأخير. وإن اشترط عدم الرجوع لزم من ذلك أكل أموال الناس بالباطل، ويلزم منه أيضًا عدم التماثل في بيع ربوي بجنسه، وهذا لا يجوز. قال ابن قدامة: "إذا علم المصطرفان قدر العوضين، جاز أن يتبايعا بغير وزن. وكذلك لو أخبر أحدهما الآخر بوزن ما معه، فصدقه، فإذا باع ديناراً بدينار كذلك، وافترقا، فوجد أحدهما ما قبضه ناقصًا، بطل الصرف؛ لأنهما تبايعا ذهبا بذهب متفاضلًا، فإن وجد أحدهما فيما قبضه زيادة على الدينار نظرت في العقد، فإن كان قال: بعتك هذا الدينار بهذا. فالعقد باطل؛ لأنه باع ذهبًا بذهب متفاضلًا. وإن قال: بعتك ديناراً بدينار، ثم تقابضا، كان الزائد في يد القابض مشاعًا مضمونا لمالكه؛ لأنه قبضه على أنه عوض، ولم يفسد العقد؛ لأنه إنما باع ديناراً بمثله، وإنما وقع القبض للزيادة على المعقود عليه، فإن أراد دفع عوض الزائد، جاز سواء كان من جنسه، أو من غير جنسه؛ لأنه معاوضة مبتدأة، وإن أراد أحدهما الفسخ، فله ذلك؛ لأن آخذ الزائد وجد المبيع مختلطا بغيره معيبًا بعيب الشركة، ودافعه لا يلزمه أخذ عوضه، إلا أن يكون في المجلس، فيرد الزائد، ويدفع بدله" (¬1). - الراجح: أن البيع صحيح إذا صدق أحدهما صاحبه بمقدار ما باعه؛ لأن الأصل أن خبر المسلم على الصدق. (ح-825) وأما ما يرويه ابن ماجه من طريق وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن ¬
أبي الزبير، عن جابر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري (¬1). [فإسناده ضعيف] (¬2). هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هناك فرقًا بين أن يشتري الإنسان الطعام بكيل، فقبضه لا يكون إلا بكيله، وبين أن يصرف الدراهم بالدراهم، ويصدق صاحبه، ولذلك فرق الجمهور بينهما، فتجد أن الجمهور قبلوا التصديق في الصرف، ولم يقبلوا في الطعام إذا اشتري بكيل إلا أن يكال مرة أخرى للمشتري، ولا يكتفى بعلم البائع بكيله. قال ابن حجر: "ومن اشترى مكايلة، وقبضه، ثم باعه لغيره لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيًا، وبذلك كله قال الجمهور. وقال عطاء: يجوز بيعه بالكيل الأول مطلقًا" (¬3). ففرق الجمهور في الربوي بين الطعام إذا اشتري بكيل، فلا بد من إعادة كيله، ولا يكتفى بعلم البائع، وبين خبر البائع في مقدار الصرف إذا صارفه دراهم بدراهم من جنسها، وصدقه المشتري، وإن كان الجميع يجب فيهما التماثل. ¬
الشرط الثاني في اشتراط التقابض وإن اختلف الجنس
الشرط الثاني في اشتراط التقابض وإن اختلف الجنس الفرع الأول في اشتراط التقابض والحلول في صرف الأثمان بعضها ببعض قال الكرابيسي: التفريق عن المجلس لو طرأ على عقد الصرف قبل القبض أبطله (¬1). [م - 1220] لم يختلف الفقهاء في وجوب التقابض في مجلس العقد قبل التفرق في عقد الصرف، وإن اختلف الجنس. قال الحافظ في الفتح: "شتراط القبض في الصرف متفق عليه" (¬2). وقال ابن عبد البر: "وهذا أمر مجتمع عليه، لا خلاف فيه والحمد لله" (¬3). وقال ابن قدامة: "الصرف: بيع الأثمان بعضها ببعض، والقبض في المجلس شرط لصحته بلا خلاف. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد، والأصل فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء ... " (¬4). ¬
كما حكى الإجماع أيضًا ابن الهمام في فتح القدير (¬1)، وابن تيمية (¬2)، والنووي في شرح مسلم (¬3). ¬
الفرع الثاني إذا تم قبض البعض في الصرف
الفرع الثاني إذا تم قبض البعض في الصرف قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: التحقيق في عقود الربا إذا لم يحصل فيها القبض أن لا عقد، وقول بعض الفقهاء بطل العقد، فهو بطلان ما لم يتم لا بطلان ما تم (¬1). وأصح منه قول الحنفية: التقابض في الصرف شرط لبقاء العقد على الصحة، لا شرط لانعقاده (¬2). [م - 1221] إذا حصل التقابض في بعض الثمن دون بعضه، وافترقا بطل الصوف فيما لم يقبض باتفاق الفقهاء، واختلفوا فيما قبض: فقيل: يصح الصرف فيما قبض. وهذا مذهب جمهور العلماء من الحنفية (¬3)، والشافعية (¬4)، والراجح لدى الحنابلة (¬5)، وقول في مذهب المالكية (¬6). ¬
وجه قول الجمهور
- وجه قول الجمهور: أن القبض شرط في بقاء العقد على الصحة، فيصح البيع فيما قبض لوجود شرطه، ويبطل البيع فيما لم يقبض، ولا يشيع الفساد في الكل لأنه طارئ بعد صحة العقد في الكل بناء على ما هو المختار من أن القبض قبل الافتراق شرط البقاء على الصحة لا شرط الانعقاد، فيصح العقد، ثم بالافتراق يبطل فيما فقد فيه الشرط (¬1). ولو كان يجب حمل مقتضى أحدهما على الآخر لم يكن حمل الصحة على البطلان بأولى من حمل البطلان على الصحة كالانفراد، فوجب أن يسقط اعتبار أحدهما بالآخر لتكافؤ الأمرين، ويحمل كل واحد منهما على مقتضاه في الحالين (¬2). وقيل: يبطل العقد في الكل، وهو مذهب المالكية (¬3)، ووجه عند الحنابلة (¬4). - وجه من قال: يبطل الكل: أن الصفقة واحدة، خالطها حلال وحرام، فتبطل الصفقة كلها. ¬
الراجح
ولأن الصرف وقع على الجميع في عقد واحد، فإذا تطرق إلى العقد خلل عاد على جميع الصفقة، ولا يصح تفريق الصفقة. - الراجح: ما رجحناه في تفريق الصفقة نرجحه هنا، وهو أن التفريق إن كان يضر بأحدهما، وله مقصود صحيح من جميع الصفقة بطل البيع في الكل، وإلا صح فيما قبض، وبطل فيما لم يقبض، والله أعلم.
الفرع الثالث حد القبض بالصرف
الفرع الثالث حد القبض بالصرف جاء في بلغة الساغب: قبض جميع الأشياء: التخلية مع التمييز (¬1). [م - 1222] اختلف الفقهاء في حد القبض في الصرف، فذهب عامتهم إلى أن القبض بالصرف هو القبض الحقيقي باليد (¬2). قال ابن الهمام نقلًا من فوائد القدوري: "المراد بالقبض هنا القبض بالبراجم، لا بالتخلية، يريد باليد" (¬3). والمراد باليد: أن يتم القبض بالفعل، لا خصوص البراجم، حتى لو وضع الدراهم في جيبه صار قابضًا (¬4). إلا أن الحنفية قالوا: إن القبض يكفي فيه التعيين، ولكن لما كانت الدنانير والدراهم لا تتعين بالتعيين، وإنما تتعين بالقبض، شرطنا التقابض للتعيين (¬5). وأما الجمهور فرأوا أن قبض الأثمان يدخل في قبض ما يتناول باليد، وقبضه يكون بتناوله. قال النووي: "ما يتناول باليد كالدراهم والدنانير، والمنديل، والثوب، والإناء الخفيف، والكتاب ونحوها فقبضه بالتناول بلا خلاف" (¬6)، يعني في المذهب. ¬
- دليل من قال: يجب القبض باليد
وقال ابن مفلح: "وقبض ما ينقل بنقله، وما يتناول بتناوله" (¬1). - دليل من قال: يجب القبض باليد: الدليل الأول: (ح-826) روى مسلم من طريق أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبرّ بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، من زاد أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء (¬2). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يدًا بيد) فهذا نص في وجوب التقابض في بيع الربوي بمثله. الدليل الثاني: (ح-827) ما رواه مسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد (¬3). وجه الاستدلال: أوجب الحديث التماثل ووجوب التقابض إذا بيع ربوي بجنسه، كما أوجب التقابض فقط دون التماثل إذا اختلف الجنس في الربويات، واتحدت العلة. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ح-828) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن نافع عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز) فيه إشارة إلى وجوب التقابض. الدليل الرابع: (ح-829) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن مالك بن أوس أخبره أنه التمس صرفا بمائة دينار، فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني، فأخذ الذهب يقلبها في يده، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع ذلك، فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء. ورواه مسلم (¬2). القول الثاني: ذهب هذا القول إلى أن القبض في كل شيء يكون بالتخلية، وهذا مطلقه يدخل فيه عقد الصرف. جاء في الإنصاف: "وعنه أن قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز" (¬3). ¬
وقال ابن قدامة: "وقد روى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى: أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز؛ لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل" (¬1). وقال ابن رجب: "والتخلية قبض في المعينات على روايتين" (¬2). ¬
والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في المذهب الحنبلي، فيكون التعيين قبضًا لها في قول. - حجة هذا القول: أن التخلية إنما جعلت تسليمًا؛ لأن البائع إذا خلى بين المشتري وبين المبيع فقد رفع الموانع عن القبض. وهذا غاية ما يقدر عليه، وهو محتاج إلى إخراج نفسه من عهدة المبيع، فإذا أتى بما وسعه فقد برئ، وليس في وسعه إلا التخلية، وأما القبض الذي هو التسلم، فهذا فعل المشتري، فلا يكلف البائع فعل غيره، فجعل التمكن من القبض قبضًا، وهو القبض الحكمي، وهو القبض بطريق التخلية ... (¬1). وانظر بقية الأدلة في باب قبض المبيع، في كيفية قبض المنقول الذي ليس فيه حق توفية، فقد استوفينا الأدلة هناك، فأغنى عن إعادتها هنا. ¬
الفرع الرابع في اشتراط الفورية في القبض
الفرع الرابع في اشتراط الفورية في القبض وقال الزيلعي: "ساعات المجلس كساعة واحدة دفعًا للعسر وتحقيقًا لليسر" (¬1). قلت: في الأثر: (ما لم تتفرقا وبينكما شيء) دليل على جواز التراخي. [م - 1223] وأما اشتراط الفورية في القبض، فقد اختلف مالك مع الجمهور، فرأى مالك أن القبض في عقد الصرف يجب أن يكون فورًا، ولا يجوز التراخي فيه، ولو كان العاقدان في المجلس (¬2). وذهب الجمهور إلى جواز التراخي في القبض ما دام العاقدان في مجلس العقد (¬3). وسبب الخلاف الاختلاف في فهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الذهب ربا إلا هاء وهاء) ففهم المالكية من هذا النص وجوب الفورية، وعدم التراخي، فيعطي بيد، ويأخد بالأخرى. وفهم الجمهور منه أن يقول كل واحد من المتعاقدين لصاحبه (هاء)، فيتقابضان في المجلس، ولا يضر التراخي ما دام أن التقابض قد حصل في المجلس. ¬
- دليل المالكية على اشتراط الفورية
- دليل المالكية على اشتراط الفورية: (ح-830) ما رواه البخاري ومسلم من طريق الزهري، عن مالك بن أوس سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء (¬1). - دليل الجمهور: الدليل الأول: (ح-831) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن مالك بن أوس أخبره، أنه التمس صرفا بمائة دينار، فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني، فأخذ الذهب يقلبها في يده، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع ذلك، فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء. ورواه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: لما قال عمر - رضي الله عنه -: (والله لا تفارقه حتى تأخذ منه) مع استشهاده بقول النبي: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء)، دل على أن المقصود هو التقابض قبل مفارقة المجلس. الدليل الثاني: (ح-832) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ¬
وجه الاستدلال
سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يريد أن يدخل بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتقرقا، وبينكما شيء (¬1). [اختلف في رفعه ووقفه، ورجح شعبة والدارقطني وقفه] (¬2). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما لم تتفرقا وبينكما شيء) حيث اشترط التقابض قبل التفرق. - الراجح: بعد ذكر الخلاف وأدلته أجد أن مذهب الجمهور أقوى من حيث الاستدلال، وفي رأي المالكية حرج وتضييق، وقد نفى الله الحرج عن هذه الملة. ¬
الفرع الخامس إذا تأخر التقابض غلبة
الفرع الخامس إذا تأخر التقابض غلبة قال الكربيسي: "التفريق عن المجلس لو طرأ على عقد الصرف قبل القبض أبطله" (¬1). وقال الزركشي: "الطارئ هل ينزل منزلة المقارن" (¬2). [م - 1224] إن افترق المتصارفان غلبة، وليس اختيارًا قبل التقابض، كما لو غشيهما ليل، أو حال بينهما سيل، أو غلب عليه أحدهما بهروب صاحبه منه، ولو كان قاصدًا هروبه، فهل يفسخ العقد لتأخير القبض، أو لا يفسخ للعجز؟ هذه المسألة بحثها المالكية، ولهم فيها قولان: الأول: يفسخ العقد، قال الباجي: وهو ظاهر المذهب (¬3). والثاني: أنه لا يفسخ، ورجح ابن يونس هذا القول، وقال: الصواب أنه لا يفسخ؛ لأن أصل البيع وقع على الصحة، وإنما أراد المبتاع بالتأخير فسخ البيع، فوجب أن يحرمه؛ لأن ذلك ذريعة إلى حل العقود اللازمة فلا يريد أحد استغلى شيئاً أو ندم في شرائه إلا جَرَّ ذلك ليفسخه فوجب أن يحرم ذلك كمنع القاتل الميراث، ومنع المتزوجين في العدة أن يتناكحا أبدًا (¬4). ¬
الراجح
- الراجح: أن المتعاقدين إذا افترقا غلبة وقهرًا أن العقد لا يفسخ، ولا يصبح لازمًا بل يعود حكم المجلس بين المتعاقدين بعد زوال العذر، ويتم التسليم، وتبقى أحكام المجلس بين المتعاقدين كما لو أراد أحدهما الرجوع عن العقد لخيار المجلس فإن له ذلك، والله أعلم.
الفرع السادس الوكالة في قبض الصرف
الفرع السادس الوكالة في قبض الصرف من تولى عقد الصرف من أصيل أو وكيل يجب أن يتم القبض بحضوره. [م - 1225] إذا وكلت رجلاً في الصرف والقبض، فهذا جائز بالإجماع. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الوكالة في الصرف جائزة ... (¬1). وأما إذا قمت بالصرف، ووكلت في القبض، أو وكلت رجلاً بالصرف على أن تقوم بالقبض فإن قبض بحضور من عقد الصرف صح القبض. وإن قبض غير الذي عقد الصرف بعد ذهاب عاقده، فاختلف العلماء: فقيل: يبطل الصرف. وهذا مذهب الخنفية (¬2)، والراجح من مذهب المالكية (¬3) ومذهب الشافيعة (¬4)، والحنابلة (¬5). ¬
وجهه: أن حقوق العقد تتعلق بالعاقد، والوكيل هنا لم يعقد العقد، فالقبض متعلق بحضور عين العاقد. وللمالكية ثلاثة أقوال: الأول: التوكيل على القبض يضر مطلقًا، فالقبض حق العاقد، فإن تولى العقد يتولى القبض، سواء كان الوكيل شريكًا، أو أجنبيًا، قبض في حضرة موكله أو في غيبته. الثاني: التوكيل لا يضر مطلقًا. الثالث: إن كان الموكل شريكًا فلا يضر، ولو قبض في غيبة موكله؛ لأنه لما كان لكل واحد منهما حصة من الثمن، كان كل واحد منهما وكأنه قد باع جميعه، فجاز لكل واحد منهما قبض الثمن، ولم يفسده مفارقة صاحبه. وإن كان الوكيل غير شريك ضر إن كان قبضه في غيبة موكله، وإن قبض في حضرته لم يضره (¬1). وقال الحطاب: "لو حضر الموكل والوكيل العقد، وعقدا جميعا الصرف، جاز أن يذهب الموكل، ويأمر الوكيل بالقبض ولو لم يكن وكيلًا إلا أنه حضر العقد وتكلم فيه، وراوض الصراف لجاز على قول ابن القاسم" (¬2). ¬
والراجح
- والراجح: ما ذهب إليه الجمهور، وأن القبض يتعلق بالعاقد، فإن تولى عقد الصرف سواء كان أصيلًا أو وكيلًا يجب أن يتم القبض بحضوره، فإن غاب عن المجلس قبل القبض بطل العقد، والله أعلم.
الشرط الثالث خلو العقد من شرط الخيار
الشرط الثالث خلو العقد من شرط الخيار [م - 1226] ذهب عامة الفقهاء إلى أنه يشترط في عقد الصرف أن يكون باتًّا لا خيار فيه (¬1). وجاء في المدونة: "قلت: أرأيت، هل يجيز مالك الخيار في الصرف؟ قال: لا" (¬2). وقال النووي: البيوع التي يشترط فيها التقابض في المجلس كالصرف وبيع الطعام بالطعام، أو القبض في أحد العوضين كالسلم، لا يجوز شرط الخيار فيها بلا خلاف ... " (¬3). - وجه ذلك: أن كل عقد يكون القبض شرطاً في بقاء العقد على الصحة لا يصح اشتراط الخيار فيه، وذلك مثل عقدي الصرف والسلم، وذلك لأن الخيار يمنع انعقاد العقد، فيمنع صحة القبض. قال الشيرازي: "فأما في البيوع التي فيها الربا، وهي الصرف، وبيع الطعام بالطعام، فلا يجوز فيها شرط الخيار؛ لأنه لا يجوز أن يتفرقا قبل تمام البيع، ولهذا لا يجوز أن يتفرقا إلا عن قبض العوضين، فلو جوزنا شرط الخيار لتفرقا ولم يتم البيع بينهما" (¬4). ¬
وقال ابن قدامة: "ما يشترط فيه القبض في المجلس كالصرف، والسلم، وبيع مال الربا بجنسه، فلا يدخله خيار الشرط رواية واحدة؛ لأن موضوعها على أن لا يبقى بينهما علقة بعد التفرق، بدليل اشتراط القبض، وثبوت الخيار يبقي بينهما علقة" (¬1). القول الثاني: اختار ابن تيمية من الحنابلة: جواز خيار الشرط في كل العقود. قال -رحمه الله-: "ويثبت خيار الشرط في كل العقود، ولو طالت المدة" (¬2)، واختاره الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي (¬3)، وشيخنا ابن عثيمين - رضي الله عنه - (¬4). - وجه القول بالجواز: خيار الشرط لا يمنع انعقاد العقد، والملك في المبيع للمشتري، والملك في الثمن للبائع مدة الخيار، وإنما الخيار يجعل العقد جائزا، وليس بلازم، والأحاديث في الصرف إنما توجب القبض، والقبض لا يعني لزوم العقد حتى يقال: إن الخيار يمنع القبض الواجب، بل يبقى المعقود عليه مقبوضًا، وإن كان العقد غير لازم بحسب ما اشترطاه، فإن أمضيا البيع لزم، وإلا فسخ. وإذا كانت الإقالة في الصرف تجوز، وهي تعطي حق الفسخ، فالخيار كذلك، والله أعلم. وهذا القول هو الراجح. ¬
فإن شرطه المتعاقدان أو أحدهما على القول بمنع الخيار: فقيل: يفسد العقد، وهذا هو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: يصح العقد، ويبطل الشرط، كسائر الشروط الفاسدة في البيع، وهذا مذهب الحنابلة (¬4). - وجه قول الحنابلة: أن هذا الشرط ينافي مقتضى العقد، وكل شرط ينافي مقتضى العقد فإنه يبطل الشرط وحده، ويصح العقد، واستند الحنابلة في هذا إلى قصة بريرة، حيث صحح النبي - صلى الله عليه وسلم - العتق، وأبطل شرط الولاء، حين كان منافيًا لمقتضى العقد، وهو كون الولاء لمن أعتق. ¬
(ح-833) وحديث بريرة رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنه -، قالت: جاءت بريرة، فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقالت عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة، وأعتقك فعلت، ويكون ولاؤك لي، فذهبت إلى أهلها فأبوا ذلك عليها ... فسمع بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألني، فأخبرته، فقال: خذيها، فأعتقيها، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق، قالت: عائشة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، ما بال رجال منكم يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، فأيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، فقضاء الله أحق، وشرط الله أوثق ... " (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبطل الشرط وحده، وأبقى على العقد صحيحًا، فدل على أن الشرط إذا كان مخالفًا للشرع صح البيع، وبطل الشرط، وقاس الحنابلة على اشتراط الولاء جميع الشروط التي تخالف مقتضى العقد، وذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع، فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع. وقد ذكرت الجواب عن حديث عائشة في كتاب الشروط في البيع، تحت مسألة: إذا باعه بشرط ألا يبيعه ولا يهبه، وناقشت موقف أهل العلم من حديث بريرة. والذي أراه أن الأخذ بلفظ هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بلفظ (خذيها واشترطي لهم الولاء) على القول بأن هذه الزيادة محفوظة يقتصر على ما ورد في ¬
القضية التي سيق فيها الحديث: كما لو باع رجل عبده بشرط أن يكون له ولاؤه، أما قياس جميع الشروط التي تخالف مقتضى العقد على اشتراط الولاء فإنه قياس غير صحيح، وذلك أن الولاء ليس من الحقوق المالية، لما رواه الشيخان من حديث ابن عمر (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء، وعن هبته) (¬1). وروى ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر مرفوعًا: (الولاء لحمة كلمة النسب) (¬2)، فلا يقاس على الولاء غيره من الشروط المالية ولو كانت تخالف مقتضى العقد، وذلك أن كل شرط مالي، ولو كان مخالفًا للعقد قد قابله جزء من الثمن، فإذا بطل الشرط فهل يحق للمشتري أن يأخذ ما يقابله من الثمن بلا عوض، فمثلًا: إذا اشترط المشتري أن لا خسارة عليه، فشرطه هذا شرط يخالف مقتضى العقد، وإذا قبل البائع هذا الشرط فإن المشتري سوف يشتري المبيع بقيمة أكثر مما لو اشترها بدون هذا الشرط، وهذا معلوم، فيكون البائع قد قبض قيمة هذا الشرط الباطل، فإذا بطل الشرط، ولزم البيع بنفس الثمن، فقد أخذ البائع قيمة هذا الشرط الباطل بلا مقابل، فهل يحق له أن يأخذ قيمة هذا الشرط إذا صححنا العقد، أو نقول: يلزم البيع، وما زاد من الثمن مقابل هذا الشرط يرد إلى المشتري، وهذا هو مقتضى القواعد؛ لأن عوض الحرام حرام. وإذا قلنا: بخصم قيمة الشرط، فإن البائع له أن يقول: لم أرض بإخراج المبيع من ملكي في بهذا الثمن بعد الخصم، ومن شروط صحة البيع: رضا البائع بالثمن، ورضا المشتري بالمبيع، وهو ما لم يتحقق هنا، فإذا تراضيا على الثمن الجديد فليتعاقدا عليه بعد إبطال العقد بالصورة الأولى، وبهذا نكون قد توجهنا إلى الأخذ بقول الجمهور، وهو إبطال البيع وإبطال الشرط. ¬
الفرع الأول إذا شرط المتعاقدان خيار الشرط ثم أسقطاه في المجلس
الفرع الأول إذا شرط المتعاقدان خيار الشرط ثم أسقطاه في المجلس قال السرخسي: حالة المجلس كحالة العقد (¬1). وقال أيضًا: المفسد متى زال قبل تقرره جعل كأن لم يكن (¬2). [م - 1227] عرفنا من خلال البحث السابق أن خيار الشرط لا يصح في عقد الصرف، فإذا اشترط المتعاقدان أو أحدهما خيار الشرط، وتم إسقاطه في المجلس قبل تفرقهما، فهل يصح الصرف؟ اختلف الفقهاء في ذلك: فقيل: يصح عقد مطلقًا، أي سواء كان الخيار لهما، أو لأحدهما. وهذا مذهب الحنفية (¬3). وجهه: أنه إذا أسقط الخيار في المجلس عاد العقد صحيحًا لأنهما قد تفرقا بعد قبض تام، وهذا مبني على الأصل عندهم: أن المفسد إذا زال قبل تقرره يصير كأن لم يكن (¬4). ¬
وجهه
وقيل: عكسه، أي لا يصح العقد مطلقاً، أي سواء كان الخيار لهما، أو لأحدهما، وهذا قول زفر من الحنفية (¬1). وجهه: أن العقد وقع فاسدًا، وما وقع على الفساد لا يمكن تصحيحه. وقيل: إن كان الخيار لهما، ثم أسقطاه في المجلس صح، وأما إن كان الخيار لأحدهما، أو لغيرهما فإن العقد يفسخ. وهذا مذهب المالكية (¬2). - وجه التفريق: أن الخيار إن كان لهما، لم يكن العقد لازمًا لواحد منهما، فإذا أسقطاه فكأنما انعقد بينهما ابتداء يوم أمضياه. وإن كان الخيار لأحدهما فسخ؛ لأن العقد أصبح لازمًا للذي لم يشترط له الخيار، وغير لازم للذي اشترط له الخيار، فيؤثر ذلك في صحة القبض (¬3). وأما مذهب الحنابلة فقد بينا في المسألة السابقة أنهم يقولون: العقد صحيح، ويلزم بالتفرق، ويبطل الشرط وحده، وذكرت دليلهم ومناقشته في تلك المسألة، فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله. - الراجح: أرى -والعلم عند الله- أن مذهب الحنفية أقوى دليلاً؛ لأن تصحيح العقد ¬
وقع قبل لزومه، فما دام أن العقد لم يلزم إلا وقد وقع على الوجه الصحيح فيكون نافذًا، والله أعلم.
الفرع الثاني شرط خيار المجلس في عقد الصرف
الفرع الثاني شرط خيار المجلس في عقد الصرف [م - 1228] عرفنا فيما سبق حكم خيار الشرط في عقد الصرف، فهل يختلف الحكم في ثبوت خيار المجلس للصرف؟ قد اختلف العلماء في ثبوت خيار المجلس في عقد الصرف. فقيل: يثبت فيها خيار المجلس، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والصحيح من مذهب الحنابلة (¬2). - وجه ذلك: أن عقد الصرف وإن أخذ اسمًا خاصًا فهو يصدق عليه أنه بيع. ولأن خيار المجلس شرع للنظر في الحظ في المعاوضة، وهو موجود فيهما. وقيل: لا يثبت فيه خيار المجلس، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3)، قياسًا على خيار الشرط فإنه لا يصح فيه. والأول أصح، وامتناع خيار الشرط فيه على القول بصحته لأنه يفتقر إلى القبض في المجلس، فلو أثبتنا فيه خيار الشرط أدى إلى أن يفترقا قبل لزوم العقد. وهذا المعنى غير موجود في خيار المجلس. ولم أتعرض لمذهب الحنفية والمالكية لأنهما لا يقولان بخيار المجلس مطلقًا لا في الصرف، ولا في غيره من العقود، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع المواعدة على الصرف أو بعنوان آخر أخذ الذهب للمشاورة على شرائه
الفصل الرابع المواعدة على الصرف أو بعنوان آخر أخذ الذهب للمشاورة على شرائه قال ابن حزم: التواعد ليس بيعًا (¬1). وقال السرخسي: المواعيد لا يتعلق بها اللزوم، ولكن يندب إلى الوفاء بالوعد (¬2). [م - 1229] إذا أخذ الذهب ليريه أهله، فإن أعجبهم اشتراه، وإن لم يعجبهم رده، إن كان قد أخذ الذهب قبل أن يتم العقد، فإن صلح لأهله رجع إلى صاحب السلعة، وباع معه واشترى ففي هذه المسألة خلاف بين العلماء، وقد تعرض المالكية لها، وذكروا فيها ثلاثة أقوال، كما تعرض لها ابن حزم، وأما بقية المذاهب الثلاثة فلم يتوجهوا لها بالبحث، وإن كانوا قد تعرضوا للمواعدة على البيع على سبيل العموم، وستأتي إن شاء الله تعالى في صيغ المرابحة للواعد بالشراء. يقول الشيخ الصديق الضرير: "الواقع أن المواعدة في الصرف، أو المواعدة على الصرف ليس للجمهور فيها رأي فعلى قدر ما بحثت في هذا الموضوع لم أجد نصًّا للحنفية، ولا للشافعية، ولا للحنابلة، الذين تكلموا صراحة في المواعدة في الصرف من الأئمة الأربعة هم المالكية" (¬3). ¬
القول الأول
والأقوال في المسألة كالتالي: القول الأول: القول بالكراهة، وهو قول مالك، فإن وقع العقد بناء على المواعدة، ولم يستأنفا إنشاءه من جديد لم يفسخ عند ابن القاسم (¬1). "قال ابن المواز: من اشترى سوارين ذهباً بدراهم على أن يريهما لأهله، فإن أعجباهم رجع إليه فاستوجبهما وإلا ردهما، فقد خففه مالك وكرهه أيضًا" (¬2). القول الثاني: القول بالمنع، وهو المشهور في مذهب المالكية، ورجحه أصبغ (¬3). ووجهه: أولاً: قياس المواعدة على الصرف على المواعدة في زواج المعتدة. ويناقش: أولاً: أن هذا القياس قياس مع الفارق؛ لأن زواج المعتدة يجب تأجيله حتى انتهاء العدة، وعقد الصرف لا يجوز تأجيله، بل يجب تنجيزه، فافترقا. وثانيًا: أن الصرف ينافي الخيار؛ لأنه مبني على المناجزة والنقد في المجلس والخيار لا يكون إلا فيما يدخله التأخير؛ لأنه إنما يكون في مدة تتأخر عن حال العقد، فامتنع. ¬
الجمع بين القولين
الجمع بين القولين: قال الحطاب في الجمع بين قول ابن القاسم وقول أصبغ: "ولعل قول ابن القاسم إذا لم يتراوضا على السوم، وإنما قال له: اذهب معي أصرف منك، وقول أصبغ: إذا راوضه على السوم، فقال له: اذهب معي أصرف منك ذهبك بكذا وكذا ... " (¬1). وقال الباجي: "ويحتمل أن يريد به المواعدة في الصرف وتقرير الثمن دون عقد، ولذلك قال: إنه إن رضيهما أهله رجع فاستوجبهما منه، فذكر أن الإيجاب لم يوجد بعد، وإنما كان ذلك على سبيل تقرير الثمن، ومعرفة ما يتبع الصرف إن رضيها أهله لما كلف الطلب ومعرفة الثمن فلم يجعل إليه عقده، والله أعلم" (¬2). القول الثالث: القول بالجواز، وهو اختيار ابن نافع، وهو قول ثالث في مذهب المالكية (¬3)، ورجحه ابن حزم. يقول ابن حزم: "والتواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة، وفي بيع الفضة بالفضة، وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا؛ لأن التواعد ليس بيعًا" (¬4). وهو الصواب بصرف النظر عن نوعية الذهب؛ هل هو حلي أو تبر؛ لأن هذا ¬
من قبيل المواعدة على الشراء، وليس من قبيل البيع والشراء. وهذا ما أفتى به شيخنا ابن عثيمين يرحمه الله (¬1)، وأفتت به اللجنة الدائمة للبحوث في البلاد السعودية (¬2). وإن كانت المشاورة بعد أن باع معه واشترى، واشترط له الخيار إن صلحت لأهله وإلا رده، فإن كان الذهب من الحلي ففي ذلك خلاف بين أهل العلم: فذهب ابن تيمية وابن القيم إلى جواز ذلك، وحجتهما في ذلك أن الحلي قد خرج بالصنعة عن كونه مالاً ربويًا. وقد ناقشت هذه المسألة في بحث مستقل، واستعرضت أدلتهما، وأجبت عنها بشيء من التوسع، وبينت أن الصنعة لا تخرج الذهب والفضة عن كونه مالاً ربويًا، وهذا مذهب الأئمة الأربعة. وإن كان الذهب من التبر، ودفع قيمته قبل التفرق فإنه لا يجوز عند عامة أهل العلم؛ لأنه يفضي إلى قبول اشتراط الخيار في عقد الصرف. وقد ذهب ابن تيمية والشيخ السعدي وشيخنا ابن عثيمين إلى جواز اشتراط الخيار في عقد الصرف؛ لأن الخيار لا يمنع انعقاد العقد، وإنما يمنع لزومه، ¬
والنصوص قد اشترطت التقابض، وقد حصل، وقد سبق بحث هذه المسألة في مسألة سابقة. ومثله في الصرف، إن حصلت المواعدة على الصرف على أن يتم الصرف والتقابض مستقبلًا بسعر الصرف عند إبرام العقد، فهذه المواعدة غير ملزمة، ولا تضر العقد إن حصلت. وأما إن حصلت المواعدة على الصرف على أن يتم العقد فيما بعد، ويكون القبض بعد مدة زمنية متفق عليها بسعر الصرف الذي سبق الاتفاق عليه، ويكون الاتفاق ملزمًا للطرفين فهذا لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى جواز التفرق قبل التقابض. وهذا لم يقل بجوازه أحد من أهل العلم.
الفصل الخامس في أنواع من الصرف
الفصل الخامس في أنواع من الصرف المبحث الأول صرف النقود المغشوشة بذهب خالص يلحق الذهب ومنه النقود ما يسمى بـ (الزيف) وهو وصف غالبًا ما يطلق على النقود المغشوشة من الذهب والفضة، وهو نوعان: أحدهما: الزيف الطبعي، وهو ما لا بد منه ليسهل عملية تحويل الذهب من سبائك إلى حلي أو نقود أو نحوهما، وذلك أن الذهب لما كان من المعادن المرنة، فإنه لا يمكن تحويله إلى أي مصوغات أخرى إلا إذا كان معه معدن آخر كالنحاس، أو الرصاص؛ ليكسبه صلابة، فيسهل تحويله، وتقل نسبة هذا الخلط بين القلة والكثرة، وتقاس نقاوة الذهب كمادة كيماوية على أسالس (1000/ 1000) معادلًا 24/ 24، وهذا أجود عيار في الذهب. وإذا كانت نقاوته (875 جزءًا من الألف 1000) فإنه يعادل بـ (21) قيراطًا. وإذا كانت نقاوته (833/ 1000) فإنه يعادل بـ (20) قيراطًا. وإذا كانت نقاوته (750/ 1000) فإنه يعادل بـ (18) قيراطًا. وإذا كانت نقاوته (583/ 1000) فإنه يعادل بـ (14) قيراطًا. وكلما زادت نسبة الخلط قلت نقاوة الذهب (¬1). ¬
القول الأول
النوع الثاني: أسباب غير طبيعية، وإنما الهدف منه مكاسب غير مشروعة، وهذا النوع محرم، ولا يجوز. والبحث إنما هو في النوع الأول منه، وهو ما كان التزييف منه بأسباب مشروعة، ومبادلة الذهب المغشوش بذهب خالص يدخل تحت مسألة تقدم ذكرها، وهي مسألة (مد عجوة ودرهم)؛ لأن حقيقته أنه أبدل ربويًّا (وهو الذهب) بربوي من جنسه، ومع أحدهما شيء من غير جنسه، كالنحاس أو الرصاص. [م - 1230] وقد اتفق الفقهاء على جواز صرف النقود المغشوشة عند اتحاد الجنس إذا كان الغش يسيرًا لا يقصد، وضبطوا اليسير: بما لا يؤثر في الوزن ولا القيمة، وذلك بكونه لا يخلص بالسبك، نص على ذلك بعض المالكية، والشافعية، وبه قال ابن عابدين من الحنفية، وقال: "لم أره لأصحابنا لكن رأيته للشافعية، وقواعدنا شاهدة به، فتأمل". وذلك لأن اليسير جداً ملحق بالعلم، ولا يمكن يخلو منه نقد (¬1). وقد تكلمنا على ذلك بشيء من التفصيل عند الكلام على بيع السيف المموه بالذهب بذهب، فأغنى عن إعادته هنا. وأما إذا كان الغش له تأثير في الوزن، فقد اختلف العلماء في حكمه: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن الغش في النقود لا يخلو من ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يباع النقد المغشوش بنقد مغشوش، وفي هذه الحالة يجوز بيعه متساويًا ومتفاضلًا. ¬
وجهه
وجهه: أن يصرف الجنس إلى خلاف الجنس، بحيث نجعل الفضة في مقابلة المغشوش، ولا نجعل الفضة في مقابلة الفضة؛ وذلك لأن المقابلة المطلقة تحتمل مقابلة الجنس بالجنس، وتحتمل مقابلة الجنس بخلاف الجنس؛ لأن كل ذلك مقابلة للجملة بالجملة، وحمله على الاحتمال الأول يقتضي فساد العقد، وحمله على الثاني يقتضي صحته، فالحمل على ما فيه الصحة أولى، بناء على قاعدة أصلية إجماعية، وهي أنه مهما أمكن أن يصحح تصرف المسلم العاقل فلا بد من تصحيحه. ترجيحًا لجهة الجواز على جهة الفساد؛ لإحسان الظن بالمسلم (¬1). وقد ناقشت هذا الدليل في مسألة (بيع الربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسه". الحالة الثانية: أن يباع النقد المغشوش بنقد خالص، وهذا له ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يكون النقد هو الغالب، بأن يكون النقد هو الثلثين، والغش هو الثلث مثلاً، فحكمها حكم الخالصة، لا يجوز بيعه بنقد خالص إلا مع تماثل النقدين، ولا يعتبر الغش في هذه الحالة لكونه يسيرًا. وجهه: أن الأصل في الأحكام الشرعية الاعتبار بالغالب، والمغلوب له حكم ¬
الصورة الثانية
المستهلك، ولأن الجيدة منها لا تخلو من قليل غش إذا لا تنطبع بدونه، فلا يمكن التحرز منه (¬1). الصورة الثانية: أن يكون الغش هو الغالب، والنقد أقل منه: فإن كان النقد لا يخلص عن طريق الإذابة والسبك، فإن حكمها حكم النحاس الخالص؛ لأن الفضة إذا كانت مستهلكة يكون حكمها حكم العدم. ولأن النقد ما دام أنه ليس له عين قائمة فهو في حكم العدم، وفي حكم بيع البيت المموه بذهب بذهب مع التفاضل، وقد أجازه ابن قدامة بالإجماع (¬2). وإن كان النقد يخلص عن طريق الإذابة، فيعتبران كأنهما جنسان منفصلان، ولا يجعل أحدهما تبعاً للآخر، وفي هذه الحالة لا يجوز بيعه بنقد خالص من جنسه إلا إذا كان النقد الخالص أكثر من الذي معه غيره، حتى يكون صرف النقد بما يماثله من النقد الخالص، وما زاد من النقد الخالص يقابل المادة المغشوشة في النقد المغشوش، تمامًا كما قلنا: في بيع الحلي بالذهب، وفي مسألة مد عجوة. وأخذ بهذا القول ابن تيمية من الحنابلة، حيث أجاز بيع الخالص بالمغشوش إن كان الغش يسيرًا، وكذلك إذا كان النقد الخالص أكثر من النقد المغشوش بحيث يقابل الغش بالزيادة. أما إذا كان المغشوش أكثر من الخالص فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين، قاله ابن تيمية (¬3). ¬
الصورة الثالثة
وأدلة ابن تيمية وأدلة الحنفية هي الأدلة نفسها التي ذكرناها في مسألة (مد عجوة ودرهم)؛ لأن حقيقته مبادلة ربوي بجنسه، ومع أحدهما من غير جنسه. وأما متأخرو الحنفية، وهم مشايخ ما وراء النهر فقالوا: الدراهم المضروبة التي غالبها الغش يجب أن تعامل معاملة الخالصة في بابي الربا والصرف، فلا يجوز فيها التفاضل (¬1). الصورة الثالثة: أن يكون الغش والنقد متساويين، فلم يقطع محمَّد بن الحسن الجواب فيه في الجامع، ولكنه بناه على قول الصيارفة، فألحقه بالقسم الأول؛ لأن الصيارفة يقولون: إن الفضة لا تتميز إلا إذا احترق الصفر؛ لأنه أسرع ذهابًا منها، فوجوده كعدمه (¬2). ¬
القول الثاني
وفيه قول آخر، ذهب إليه صاحب كنز الدقائق: أن الغش والنقد إذا تساويا فحكمه كغالب الفضة في التبايع والاستقراض، وفي الصرف كغالب الغش (¬1). قال الزيلعي في بيان ذلك: "يعني الذي استوى غشه وفضته، أو غشه وذهبه، حكمه في التبايع والاستقراض كحكم الدراهم التي غلب عليها الفضة، حتى لا يجوز البيع بها، ولا إقراضها إلا بالوزن، بمنزلة الدراهم الرديئة؛ لأن الفضة موجودة فيها حقيقة، ولم تصر مغلوبة فيجب اعتبارها بالوزن شرعًا، كالحنطة في سنبلها، إلا أن يشير إليها في المبايعة فيكون بيانًا لقدرها، ووصفها كما لو أشار إلى الدراهم الجيدة، ولا ينتقض العقد بهلاكها قبل التسليم، ويعطيه مثلها؛ لأنها ثمن فلم تتعين. وفي الصرف حكمه كحكم فضة غلب عليها الغش، حتى إذا باعها بجنسها جاز على وجه الاعتبار، ولو باعها بالفضة الخالصة لا يجوز حتى تكون الخالصة أكثر مما فيه من الفضة؛ لأنه لا غلبة لأحدهما على الآخر، فيجب اعتبارهما ... " (¬2). هذا ملخص مذهب الحنفية مع أدلته. القول الثاني: أجاز المالكية بالاتفاق بيع النقود المغشوشة بالخالصة إذا كانت تلك النقود رائجة، ويجري التعامل بها (¬3). وإن كان لا يجري التعامل بها، فإن بيعت لمن يغش بها كان البيع ممنوعًا، وإن بيعت لمن لا يغش بها، كما لو كان يكسرها، ويجعلها حليًا أو غيره فاختلفوا في حكم بيعها. ¬
القول الثالث
فقيل: يمنع مطلقًا، واختاره ابن رشد. وقيل: يجوز مطلقًا. وقيل: لا يجوز بيع المغشوش بالصافي، ويجوز بيعه بالمغشوش مطلقًا (¬1). القول الثالث: ذهب الشافعية إلى تحريم بيع المغشوش بمثله، أو بالصافي مطلقًا (¬2). وأدلتهم هي الأدلة نفسها التي ذكروها في منع مسأله (مد عجوة ودرهم)، وقد ذكرتها تحت مبحث (بيع ربوي بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه، فأغنى عن إعادتها هنا. القول الرابع: ذهب الحنابلة إلى جواز بيع النقود المغشوشة بالمغشوشة من جنسها بشرط أن يتساوى ما فيهما من الغش، أو كان المعدن الذي حدث به الغش غير مقصود فيها، كالجنيهات الذهبية إذا خلطت بالنحاس أو الصفر؛ لأنها لا تخلو عن قليل غش، ووجود مقدار من الغش فيها غير مقصود، فلا يكون من قاعدة (مد عجوة) أما إذا تفاوت ما فيهما من الذهب ومن الغش، أو جهل مقدار كل فإنه لا يجوز بيع بعضها ببعض، للعلم بالتفاضل في الأولى، والجهل بالتماثل في الثاني (¬3). ¬
الراجح من الخلاف
- الراجح من الخلاف: يختلف حكم الغش في النقود عن الغش في الذهب، فالغش في النقود إذا راجت وتعامل الناس بها أجرينا عليها أحكام الربا والصرف؛ لأنها نقود ثبتت فيها علة الثمنية، فيجب التقابض والتماثل إذا بيع بعضها ببعض من جنس واحد، ويجب التقابض إذا بيعت بنقود من غير جنسها. وأما الذهب غير النقود إذا دخله غش، فأرى أن الغش إن كان يسيرًا فلا حكم له، وإن كان كثيراً طبق عليه حكم مسألة (مد عجوة ودرهم) فإن كان الذهب الخالص أكثر من الذهب المغشوش، وكان ما زاد يساوي في قيمته العين المضافة أو قريبًا منه، جاز، وإن كان الذهب الخالص يساوي الذهب المغشوش، أو كان أقل منه لم يجز، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في كساد الأثمان وانقطاعها
المبحث الثاني في كساد الأثمان وانقطاعها [م - 1231] إذا اشترى الرجل سلعة بفلوس نافقة، ثم كسدت قبل تسلمها (¬1)، فهل يتفسخ العقد؟ فقيل: إن كان النقد وجب ثمنًا لبيع، فإن العقد ينفسخ، وإن كان النقد واجبًا عن قرض فيجب عليه مثله، حتى إن كان كاسدًا لتعلقه بالذمة بعينه. وهذا رأي أبي حنيفة رحمه الله تعالى (¬2). وقيل: لا ينفسخ، والبائع بالخيار، إن شاء فسخ، وإن شاء أخذ قيمة الفلوس، وهذا رأي أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬3). ¬
وقيل: يجب رد المثل ما دامت الفلوس موجودة، ولو رخصت أو غلت، فإن عدمت بالكلية فله قيمتها، وهو المعتمد في مذهب المالكية (¬1)، ومذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يجب على المدين عند الكساد أو الانقطاع المثل، وليس للدائن سواه، ولا يثبت للبائع الخيار في الفسخ، ويعتبر الكساد أو الانقطاع كجائحة نزلت به، وهو مذهب المدونة، وما أفتى به ابن رشد (¬3)، وعليه جمهور الشافعية (¬4). وقيل: إن رخصت فليس له إلا مثلها، وإن منع السلطان التعامل بها وجب رد القيمة، وهذا مذهب الحنابلة. هذه الأقوال في المسألة، وقد ذكرنا أدلتهم في المجلد السابع، في مسألة: (انفساخ البيع بسبب كساد الثمن). ¬
المبحث الثالث في صرف ما ثبت في الذمة
المبحث الثالث في صرف ما ثبت في الذمة الفرع الأول أن يكون أحد العوضين في الذمة والآخر عينًا قال ابن رشد: ما في الذمة كالعين الحاضرة (¬1). وجاء في المغني: الثابت في الذمة بمنزلة المقبوض (¬2). [م - 1232] إذا كان لأحد العاقدين دينًا على الآخر كما لو كان عليه دين بالريال السعودي، فيقضيه دولارات حاضرة، أو العكس، ويتم التقابض بينهما في المجلس، فما حكم صرف ما ثبت في الذمة؟ اختلف العلماء في صحة هذا الصرف: فقيل: يصح مطلقًا، سواء أكان الدين حالاً أم لا، وهو مذهب الحنفية (¬3)، والشافعية (¬4)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬5). ¬
- دليل من قال: يصح مطلقا
وقيل: لا يصح مطلقاً، وهو اختيار ابن حزم (¬1)، وهذا عكس القول الأول. وقيل: إن كان الدين حالاً فيصح الصرف، وإن كان الدين لم يحل لم يصح، وهذا مذهب المالكية (¬2). وقيل: إن صارفه بعشرة مطلقة، ثم تقاصا فلا يجوز، وإن صارفه على ما في ذمته مباشرة جاز، وهو قول زفر (¬3). - دليل من قال: يصح مطلقًا: الدليل الأول: (ح-834) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يريد أن يدخل بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا، وبينكما شيء (¬4). ¬
وجه الاستدلال
[اختلف في رفعه ووقفه، ورجح شعبة والدارقطني وقفه] (¬1). وجه الاستدلال: في الحديث إن صح مرفوعًا، أو في الأثر إن كان الأصح وقفه دليل على جواز صرف ما في الذمة مطلقًا حيث لم يفرق النص بين كون البيع حالاً، أو مؤجلًا، ولو كان هناك فرق لجاء مبينًا في الحديث أو في الأثر. الدليل الثاني: أن ما في الذمة بمنزلة المقبوض، فإن كان حالاً فهو واضح، وإن كان مؤجلًا فهو قد رضي بتعجيل المؤجل، وهذا لا يؤثر في صحة الصرف. ولأن المانع من بيع الدين، هو خوف العجز عن التسليم، ولا مانع هنا؛ لأن ما في ذمة المدين مقبوض له، فإذا دفع ثمنه للدائن، كان ذلك بيع مقبوض بمقبوض، وهو جائز شرعًا، خاصة أن القبض لم يرد له في الشرع حد معين، وإنما مرد ذلك إلى العادة والعرف. الدليل الثالث: أن غاية ما في المسألة أن يكون ذلك من قبيل بيع الدين على من هو عليه، ولا حرج في ذلك، وإنما الحرج في بيع الدين بدين على غير من هو عليه. وقد سبق أن ذكرت أدلة جواز بيع الدين على من هو عليه، فأغنى عن إعادتها هنا. - دليل من قال: يجوز إن كان الدين حالاً: أن من عجل ما حقه التأجيل يعتبر مسلفًا، فيجتمع سلف وصرف، وهذا ممنوع (¬2). ¬
- وجه من قال: لا يجوز صرف ما في الذمة
وبعضهم يوجه المنع: أن المؤجل لا يتعجل ولو قبضه، وبناء عليه لا يوصف بأنه قبضه إلا بعد مضي أجله، فيقتضيه من نفسه، ويكون بذلك قد تأخر قبضه عن صرفه، وهذا ممتنع (¬1). وهذا توجيه فيه بعد، إذ كيف يقبض المؤجل، ويقال: لا يستحق قبضه إلا بعد مضي أجله، فإذا حل الأجل استحق القبض، فيقبضه من نفسه، ويكون قبضه للمعجل كما لو لم يقبضه؟! - وجه من قال: لا يجوز صرف ما في الذمة: (ح-835) ما رواه مسلم من طريق أبي الأشعث، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، ... مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد (¬2). (ح-836) ولما رواه البخاري من طريق مالك، عن نافع عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز. ورواه مسلم (¬3). وجه الاستدلال: أن الواجب في صرف الأثمان أن تكون يدًا بيد، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: يدًا بيد، ¬
ويناقش
ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز، وصرف ما في الذمة ليس يداً بيد، بل أحدهما غائب فلا يجوز. ويناقش: بأننا سبق أن دللنا على أن ما في الذمة في حكم المقبوض. - وجه من قال: إن تصارفا، ثم تقاصا لم يجز: قال زفر: أنه إن صارفه وأطلق، ثم تقاصا فلا يصح لأن الذي وجب عليه بالصرف غير الذي كان عليه، والذي وجب بالصرف دين يجب تعيينه بالقبض، احترازًا عن الربا، والتصرف فيه قبل تعيينه بالقبض لا يجوز، وبالمقاصة يفوت القبض الواجب حقيقة، بدليل أن المقاصة لا تقع في نفس العقد، ولهذا لم تصح. وأما إذا صارفه على ما في ذمته فإن المقاصة تقع بنفس العقد، فالذي وجب عليه بالصرف هو نفس الذي كان عليه، فتصح المقاصة (¬1). - الراجح: بعد استعراض الأدلة أجد أن القول بالجواز هو القول الصحيح، لقوة أدلته، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني أن يكون كل من بدلي الصرف دينا ثابتا في الذمة
الفرع الثاني أن يكون كل من بدلي الصرف دينًا ثابتًا في الذمة جاء في المغني: الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة (¬1). وقال ابن عبد البر: الذمة تقوم مقام العين الحاضرة ... وقال: الدين في الذمة كالمقبوض (¬2). وقال أيضًا: إذا اجتمع المتصارفان فالذمم كالعين إذا لم يتفرقا (¬3). [م - 1233] إذا كان لرجل في ذمة آخر دنانير، وللآخر عليه دراهم، فاصطرفا ما في ذميتهما فهل يصح الصرف، ويقوم القبض السابق مقام القبض اللاحق، ويغني القبضى السابق عن وجوب القبض اللاحق؟ في هذه المسألة خلاف بين العلماء: فذهب الحنفية والمالكية، والسبكي من الشافعية، وابن تيمية من الحنابلة إلى صحة الصرف من غير حاجة إلى قبض جديد (¬4)، إلا أن المالكية في المذهب ¬
وحجتهم
المشهور عندهم اشترطوا أن يكون الدينان قد حلا معًا، وفي قول عندهم يجوز مطلقًا (¬1). وحجتهم: أولاً: أن ما في الذمة بحكم المقبوض، وأن الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة، وبأن الدين في الذمة كالمقبوض، فأغنى ذلك عن إحضار كلا البدلين أو أحدهما في مجلس العقد. وقيل: لا يجوز، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وقول في مذهب المالكية (¬4). ¬
وجه الاستدلال
(ح - 837) واستدلوا بما رواه الشيخان من طريق مالك، عن نافع عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز)، فإذا كان النهي قد ثبت عن بيع الغائب بالناجز، فالغائب بالغائب أحرى أن لا يجوز. ولأن هذا من باب بيع الدين بالدين، وهو غير جائز. الراجح: الراجح فيما ظهر لي هو القول الأول؛ لأن ما في الذمة بحكم الحاضر، والنهي عن بيع الدين بالدين سبق بحثه، وقد بينت أن هناك صورًا من بيع الدين جائزة، منها بيع الدين على من هو عليه كما في هذه المسألة. ¬
المبحث الرابع المصارفة بالوديعة
المبحث الرابع المصارفة بالوديعة الفرع الأول الصرف بالوديعة غير المصرفية جاء في الموسوعة الكويتية: "القبض الحكمي عند الفقهاء يقوم مقام القبض الحقيقي" (¬1)، فالقبض الحسي أولى أن يقوم مقامه. [م - 1234] تختلف الوديعة المطلقة عن الوديعة المصرفية، فالوديعة المطلقة: هي أمانة في يد المودَع، وأما ما يسمى بالوديعة المصرفية فإن هناك خلافًا بين الفقهاء في تكييفها، والراجح أنها قرض؛ لأن الوديعة إذا أذن صاحبها بالتصرف فيها فقد تحولت إلى قرض مضمون على من هي في يده، وسيأتي إن شاء الله تعالى تخصيص فصل في كلام أهل العلم بالتفصيل حول تكييف الوديعة المصرفية. فإذا أودع رجل آخر مبلغًا من الريالات، ثم صارفه بها دولارات، وقبض الدولارات دون أن تكون الوديعة حاضرة، ودون أن يجدد قبضًا للوديعة، فهل يعتبر المصارفة صحيحة، ويعتبر قبض الوديعة يقوم مقام القبض المستحق في عقد المصارفة، أو أن الوديعة لما لم تكن مضمونة، وكان حق صاحب الوديعة متعلقًا بعين الوديعة، ولم يتعلق حقه بذمة المودَع، لم تكن المصارفة لما في الذمة، وبالتالي لا تصح المصارفة مع غياب عينها، في ذلك خلاف بين الفقهاء: ¬
دليل الحنفية على بطلان الصرف إذا لم يجدد القبض
فقيل: الصرف لا يجوز، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمشهور في مذهب المالكية (¬2)، ومذهب الشافعية (¬3). وقيل: يصح الصرف، وهو قول في مذهب المالكية (¬4)، والمذهب عند الحنابلة (¬5). دليل الحنفية على بطلان الصرف إذا لم يجدد القبض: استدلال الحنفية مبني على تقسيمهم القبض إلى قسمين: قبض ضمان، وقبض أمانة. فقبض الضمان: هو: ما كان فيه القابض مسئولًا عن المقبوض تجاه غيره، فيضمنه إذا هلك عنده، ولو بآفة سماوية. كالمغصوب في يد غاصبه، والمبيع في يد مشتريه. ¬
دليل من قال بصحة الصرف في الوديعة
وقبض أمانة: وهو: ما كان فيه القابض غير مسئول عن المقبوض إلا بالتعدي، أو التقصير في الحفظ. ويرى الحنفية أن قبض الضمان أقوى من قبض الأمانة. والقبض في الوديعة هو قبض أمانة، والقبض المستحق بالصرف هو قبض ضمان، وقبض الأمانة لا ينوب عنه؛ لأنه دونه، فلا بد من تجديد القبض، فإذا افترقا قبل تجديد القبض، أو كانت الوديعة ليست حاضرة بطل الصرف. واستدل غيرهم: بأنه لما كان حق المودع بكسر الدال متعلقًا بعين الوديعة ولم يتعلق حقه بذمة المودَع، لم تقع المصارفة على ما في ذمة المودع حتى يقال: إن ما في الذمة بحكم العين الحاضرة، أو بحكم المقبوض، وإنما وقعت المصارفة على عين الوديعة، وهي غائبة عن مجلس العقد، فكانت حقيقة المصارفة: صرف عين غائبة بعين حاضرة، وهذا لا يجوز في الصرف. يقول الباجي: "لآن حق المودع متعلق بعين ماله، ولم يتعلق بذمة الشخص المودع، فلا يجوز أن يصارف به إلا عند حضوره" (¬1). دليل من قال بصحة الصرف في الوديعة: أن المطلوب من القبض ليس الضمان، وإنما المطلوب من القبض أن تكون تحت يده، ويتمكن من التصرف فيها، والوديعة حقيقة في يد المودع، وتحت تصرفه، ولذلك لو تعدى في حفظها وقصر لضمن الوديعة مما يدل على أنها تحت يده، وإذا كان القبض الحكمي كالقيد المصرفي ينوب مناب القبض الحقيقي مع أنه لا يوجد تقابض في اليد، فقبض الوديعة أولى بالاعتبار؛ لأن ¬
قبض الوديعة قبض حقيقي وليس حكميًا وإذا كان الشأن كذلك فإن الصرف صحيح، وقد تحقق شرط الصرف من وجود التقابض من الطرفين، حيث لم يتفرقا إلا وكل واحد منهما في يده وتحت تصرفه بدل الصرف.
الفرع الثاني الصرف بالوديعة المصرفية
الفرع الثاني الصرف بالوديعة المصرفية عرفنا في المسألة السابقة حكم المصارفة في الوديعة المطلقة غير المصرفية، فهل يختلف الحكم في الوديعة المصرفية؟ قبل الجواب على ذلك: نبين الفرق بين الوديعة المطلقة والوديعة المصرفية: الوديعة المطلقة: أمانة في يد صاحبها, لا يتصرف بها, ولا يخلطها بماله، ويقبضها لمصلحة صاحبها فقط. الوديعة المصرفية: يملكها المصرف، ويتصرف بها، ويتاجر، ويخلطها بماله، ويقبضها لمصلحته هو. الوديعة المطلقة: إذا تلفت من غير تعد ولا تفريط لا يضمنها المودَع. الوديعة المصرفية: مضمونة على المصرف حتى ولو تلفت بآفة سماوية، ولوجود هذا الفرق بين الوديعة المصرفية والوديعة الفقهية يذهب كثير من الباحثين إلى تكييف الوديعة المصرفية على أنها قرض، وهو الصحيح. [ن - 67] إذا عرفنا ذلك فما حكم المصارفة بالوديعة المصرفية؟ أما من أجاز المصارفة بالوديعة المطلقة كالحنابلة (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2)، فهو سيجيز المصارفة بالوديعة المصرفية، إما لأنها من جنسها، أو لأنها من باب أولى. ¬
وأما من منع المصارفة بالوديعة المطلقة كالحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، فينبغي أن يقول بالجواز بالوديعة المصرفية؛ لأن تعليل الحنفية للمنع: هو عدم ضمان الوديعة؛ لأن القبض في الوديعة المطلقة هو قبض أمانة، والقبض المستحق بالصرف هو قبض ضمان، وقبض الأمانة أضعف من قبض الضمان، فلا ينوب الأضعف عن الأقوى، فإذا علم أن قبض المصرف لما يسمى بالوديعة المصرفية هو قبض ضمان، اقتضى ذلك جواز الصرف عندهم. وكذلك تعليل المالكية بالمنع من المصارفة بالوديعة المطلقة يقتضي جواز المصارفة بالوديعة المصرفية؛ لأن تعليل المالكية أن حق صاحب الوديعة متعلق بعين الوديعة ولم يتعلق حقه بذمة المودَع، فلم تقع المصارفة على ما في ذمة المودَع حتى يقال: إن ما في الذمة بحكم العين الحاضرة، أو بحكم المقبوض، وإنما وقعت المصارفة على عين الوديعة، وهي غائبة عن مجلس العقد، فإذا علم أن حق المودِع في الوديعة المصرفية متعلق بذمة المودَع، اقتضى ذلك جواز الصرف عندهم. فالتعاليل التي احتج بها الفقهاء لمنع المصارفة بالوديعة، هي غياب الوديعة، أو عدم ضمانها من قبل المودَع، والوديعة المصرفيه مضمونة على المصرف. نعم يتنزل الخلاف فيها كالخلاف في المصارفة على ما في الذمة، وقد سبق بحث هذه المسألة، والحمد لله وبيان الخلاف فيها، والراجح من الخلاف، فأغنى عن تكراره. والله أعلم. ¬
المبحث الخامس الصرف عن طريق القيد في حساب العميل
المبحث الخامس الصرف عن طريق القيد في حساب العميل قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: " ... كل عقد اشترط له القبض، فالقبض راجع إلى العرف" (¬1). في قرارات المجامع الفقهية: أن القيد المصرفي قبض حكمي يقوم مقام القبض الحقيقي (¬2). اتحاد يد القابض والمقبض لا يمنع صحة القبض. [ن - 68] إذا قام الرجل ودفع للمصرف مبلغًا من النقود بالريال السعودي، على أن يقيده لحسابه الخاص بالدولار، ويعطيه إيصالًا بذلك دون أن يقبض الدولارات قبضًا حقيقيًا، فهل يعتبر هذا القيد المصرفي كاف في حصول القبض، وهل يغني هذا القبض الحكمي عن القبض الحقيقي؟ في ذلك خلاف بين أهل الفقهاء المعاصرين: فقيل: القيد المصرفي يقوم مقام القبض الحقيقي، وبه أخذ أكثرية المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي (¬3)، ومجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإِسلامي (¬4)، وعليه أكثر الباحثين في هذا العصر (¬5). ¬
دليل من قال: يكتفى بالقيد المصرفي في قبض الصرف
وقيل: الواجب القبض الحقيقي، ولا يكفي القيد المصرفي في حصول القبض الواجب شرعًا، وهذا رأي شيخنا محمد بن عثيمين - رحمه الله - (¬1). دليل من قال: يكتفى بالقيد المصرفي في قبض الصرف: الدليل الأول: أن القبض مرده إلى العرف، قال السيوطي: "كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له فيه، ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف، ومثلوا له بالحرز في السرقة، والتفرق في البيع، والقبض ... " (¬2). وقال ابن قدامة: "القبض مطلق في الشرع، فيجب الرجوع فيه إلى العرف" (¬3). وقال ابن تيمية: "المرجع في القبض إلى عرف الناس وعاداتهم من غير حد يستوي فيه جميع الناس في جميع الأحوال والأوقات" (¬4). ¬
ونوقش هذا
وقال الخطابي: "القبوض تختلف في الأشياء حسب اختلافها في نفسها، وحسب اختلاف عادات الناس فيها" (¬1). وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: "العرف والعادة يرجع إليه في كل ما حكم الشارع به، ولم يحده وهذا أصل واسع موجود منتشر في المعاملات والحقوق وغيرها ... ومن الفروع: أن كل عقد اشترط له القبض، فالقبض راجع إلى العرف" (¬2). وإذا كان المحكم هو العرف، فالعرف في هذا العصر يعتبر القيد المصرفي قبضا حكميًا معتبرًا، حيث إنه يُمَكِّن العميل من سحبه، أو سحب بعضه، وبإمكانه الإحالة عليه، والتصرف فيه متى ما أراد. ونوقش هذا: بأن القبض الحكمي غير معتبر في الصرف، والواجب في الصرف هو القبض الحقيقي الحسين، حتى الحنفية الذين يقولون: إن التخلية كافية لتحقيق القبض في المبيعات لم يعتبروا ذلك في الصرف. قال ابن الهمام نقلًا من فوائد القدوري: "المراد بالقبض هنا -يعني في الصرف- القبض بالبراجم، لا بالتخلية، يريد باليد" (¬3). ولأن الشارع قد بين كيفية التقابض في الصرف، فقال: (يدًا بيد) وما ثبت بالنص فإنه لا يتغير بتغير العرف. ¬
الدليل الثاني
وسوف نجيب على هذا الاعتراض إن شاء الله تعالى عند الكلام على أدلة القول الثاني. الدليل الثاني: الإذن للمصرف أن يقوم بالنيابة عن الآمر بالقبض في مسألة الصرف، وتقييده لحسابه عن طريق القيد المصرفي غاية ما فيها أن يد القابض والمُقْبِض قد اتحدت حسًا، وهذا وحده لا يمنع صحة القبض، جاء في كشاف القناع: "فإن أذن له - أي في مصارفة نفسه - جاز، فيتولى طرفي عقد المصارفة" (¬1). فدل على أن التقابض باليد لا يلزم منه أن يكون بيد الأصيل. الدليل الثالث: أن القيد المصرفي يتحقق فيه تعيين حق المستفيد، والتعيين بمنزلة القبض. وقد اعتبر التعيين عند الحنفية بمنزلة القبض في بيع الربوي بمثله ولم يستثنوا إلا الصرف من الربويات. جاء في الدر المختار: "والمعتبر تعيين الربوي في غير الصرف، ومصوغ ذهب وفضة، بلا شرط تقابض، حتى لو باع برًّا ببر بعينهما، وتفرقا قبل القبض جاز" (¬2). قال ابن عابدين: لأن غير الصرف يتعين بالتعيين، ويتمكن من التصرف فيه، فلا يشترط قبضه" (¬3). ¬
ونوقش
ولو قال: لأن غير الصرف يعتبر تعيينه قبضًا له لكان أدق؛ لأن قوله: فلا يشترط قبضه مخالف للحديث من اشتراط القبض. وحتى مذهب المالكية والحنابلة الذين يعتبرون قبض ما فيه توفية من كيل أو وزن، يعتبرون قبضه: هو أن يكال أو يوزن، والكيل والوزن ليس قبضًا حقيقيًا، وإنما الذي يتم من خلال الكيل والوزن هو تعيين حق المشتري، وإفرازه من غيره، ومع هذا اعتبروا ذلك قبضًا له مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: (حتى يقبضه)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (حتى يستوفيه) وسبق لنا الكلام على قبض ما فيه حق توفيه في مسألة مستقلة. ونوقش: القول بأن التعيين بمنزلة القبض غير صحيح؛ لأن القبض أخص من التعيين، فكل شيء مقبوض فهو معين، وليس كل معين مقبوضًا. الدليل الرابع: ألحق الحنفية والمالكية، والسبكي من الشافعية، وابن تيمية من الحنابلة بالقبض في مجلس العقد ما كان مستقرًا في الذمة من قبل بقبض متقدم (¬1)، فلو كان لرجل في ذمة آخر دنانير، وللآخر عليه دراهم، فاصطرفا بما في ذميتها، فإنه يصح ذلك الصرف، ويسقط الدينان من غير حاجة إلى التقابض الحقيقي، ¬
دليل من قال: لا يقوم القيد المصرفي مقام القبض الواجب
مع أن التقابض في الصرف شرط لصحته بالإجماع، وذلك لوجود التقابض الحكمي الذي يقوم مقام التقابض الحسي، وقد عللوا ذلك بأن الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة، وبأن الدين في الذمة كالمقبوض، وإذا كان ذلك كذلك دل على أن التقابض باليد لا يعني إحضار كلا البدلين في مجلس العقد. دليل من قال: لا يقوم القيد المصرفي مقام القبض الواجب: الدليل الأول: (ح - 838) ما رواه البخاري ومسلم من طريق الزهري، عن مالك ابن أوس سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلا هاء وهاء) قال الخليل: كلمة تستعمل عند المناولة، والمقصود من قوله (هاء وهاء) أن يقول كل واحد من المتعاقدين لصاحبه: هاء، فيتقابضان في المجلس (¬2). الدليل الثاني: (ح - 839) ما رواه مسلم من طريق أبي قلابة، عن أبي الأشعث عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء ¬
وجه الاستدلال
بسواء، يدًا. بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد (¬1). وجه الاستدلال: أن الشارع عين كيفية القبض في الصرف، وهو أن يكون قبضًا حسيًا عن طريق اليد، وإذا نص الشارع على كيفية القبض تعين، فلا يجوز غيره، وأما القيد المصرفي فلا يعتبر قبضًا حسيًا؛ لأن المبلغ المقيد المستحق للقبض زال في حوزة البنك حسًا فلم يحصل القبض. ويجاب عن هذا من عدة وجوه: الوجه الأول: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: يدًا بيد، وقال: (إلا هاء وهاء) قالها في الصرف في بيع الدراهم والدنانير بمثلها، كما قالها في بيع البر والشعير والتمر والملح بمثلها، فلماذا خصيتم الصرف عن غيره بوجوب القبض الحسي، ولم تقولوا مثل ذلك في بقية الأموال الربوية، والحديث واحد، وقد أعطاها حكمًا واحدًا، ومع ذلك اكتفى الحنفية في بيع الربويات ما عدا الصرف في التعيين، ولو لم يقبضها بيده (¬2)، واكتفى المالكية والحنابلة بجواز التصرف في المبيع إذا اشتري بكيل، أو وزن، إذا كيلت أو وزنت ولو لم يقبضها قبضًا حسيًا مع أن هذا مخالف للأحاديث التي تقول (فلا تبعه حتى تقبضه) فهذا دليل على أن كلمة (يدًا بيد) أو كلمة (إلا هاء وهاء) يستلزم منها، وجوب القبض، ولا يستلزم القبض الحسي، ¬
الوجه الثاني
وإلا لكان القبض الحسي واجبًا في جميع هذه الأموال، لا فرق بين الصرف وبين غيره. الوجه الثاني: أن قوله (إلا هاء وهاء) وقوله (يدًا بيد) إشارة إلى تحريم النسأ, وليس نصًا في وجوب القبض الحسي، بأن يكون يدًا بيد، يدل على ذلك فعل ابن عمر - رضي الله عنه -، حيث كان يجب له في ذمة المشتري دراهم، فيستبدلها بدنانير ويصرفها قبل قبضها قبضًا حسيًا، وقد يجب له دنانير فيستبدلها بدراهم ويصرفها قبل قبضها، وقد صحت هذه المعاملة مع أن ابن عمر لم يقبض الدراهم ولا الدنانير قبضًا حسيًا. قال في الفواكه الدواني: "كونه يدًا بيد: أي مناجزة" (¬1). الوجه الثالث: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يدًا بيد) المراد به القبض، وكنى باليد عن القبض؛ لأنها آلته غالبًا، وهذا التعبير لا يدل على حصر القبض باليد، فلو أن المشتري حاز المبيع بأي وسيلة كانت، ولو لم يكن عن طريق اليد لصح القبض. يقول الكاساني: "ظاهر قوله - عليه السلام -: (يدًا بيد) غير معمول به؛ لأن اليد بمعنى الجارحة ليس بمراد بالإجماع" (¬2). وإذا كان المقصود من قوله (يدًا بيد) هو القبض، حكميًا كان أو حسيًا فلا مانع من اعتبار القيد المصرفي قبضًا شرعيًا يتحقق به المقصود، فمعنى ¬
الوجه الرابع
قوله - صلى الله عليه وسلم -: يدًا بيد: أي حاضرًا بحاضر، احترازًا من الناجز بالغائب، وليس شرطًا في القبض الحسي. الوجه الرابع: ذهب الحنفية خلافًا للجمهور إلى أن قوله (يدًا بيد) أن المراد منه: عين بعين؛ لأن التعيين يكون بالإشارة باليد، فذكر اليد كناية عن التعيين، ولو كان المراد به القبض لقال: من يد إلى يد؛ لأنه يقبض من يد غيره، فعرفنا أن المراد التعيين، إلا أن النقود لما كانت لا تتعين بالتعيين اشترط لها القبض؛ لتحقيق التعيين المنصوص عليه (¬1). واعترض عليهم: بأن القول بأن المراد هو التعيين، وليس القبض غير مسلم، بدليل أن القبض شرط في المصوغ من الذهب والفضة بالإجماع، وإن كان مما يتعين بالإشارة، ولأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يدًا بيد) لفظ واحد، لا يجوز أن يراد به القبض في حق النقدين، والتعيين في حق غيرهما؛ مع أن الأموال الربوية قد ذكرت في نص واحد، وقيل فيها كلها (يدًا بيد)، فهو إما حقيقة فيهما، أو مجاز فيهما، وأما أن يقال: إنه حقيقة في أحدها مجاز في الآخر فهذا تحكم (¬2). رد هذا الاعتراض: بأننا لا نقول: إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: يدًا بيد يعني القبض في النقود، والتعيين في غيرها، بل نقول: إن الشرط هو التعيين مطلقًا في النقود وفي غيرها من الربويات، لا فرق بين الصرف وبين غيره، إلا أنه قام الدليل عندنا أن الدراهم ¬
الدليل الثالث
لا تتعين بالتعيين، وإنما تتعين بالقبض، فشرطنا التقابض للتعيين لا للقبض، وأما كون القبض شرطًا في المصوغ من الذهب والفضة، وإن كان يتعين بالإشارة فذلك نظر فيه باعتبار أصل خلقته، وهو الثمنية؛ لأن الثمنية لا تتعين بالتعيين، فيشترط قبضه، ولا يسقط اشتراط القبض بالصنعة لبقاء شبهة عدم التعيين باعتبار الأصل، إذ الشبهة في المحرمات ملحقة بالحقيقة (¬1). الدليل الثالث: أن تقييد المصرف للمبلغ المستحق، وإقباضه إيصالًا بذلك يعتبر قبضًا لوثيقة تثبت استحقاق المستفيد للمبلغ المقيد، وفرق بين قبض وثيقة تثبت الحق، وبين قبض الحق نفسه، والمطلوب هو قبض الحق، وليس قبض ما يثبت الحق. ويجاب: بأن القيد المصرفي ليس إثبات استحقاق فقط، كالوثيقة التي تثبت حق الدائن على المدين، وإنما هو إثبات استحقاق مع إطلاق يد المستحق في التصرف في المبلغ المقيد بكل أنواع التصرف المشروعة من بيعه، واستلامه، والحوالة عليه، ورهنه، وغير ذلك، وانقطاع حق البائع انقطاعًا نهائيًا، فهو نقل حكمي للمبلغ المقيد من ذمة البنك العامة إلى حساب المستفيد، ولذلك سماها بعضهم: نقودًا قيدية. الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأدلة أجد أن قول عامة الباحثين في هذا العصر أقرب إلى الصواب، وأن القيد المصرفي قبض حكمي معتبر يقوم مقام القبض الحقيقي ولكن بشروط منها: ¬
الأول: أن يتم القيد قبل التفرق، وأما قبض الإيصال الذي يثبت استحقاقه لقيمة الصرف فليس بشرط؛ لأن السند الذي يقبضة العميل إنما هو وثيقة لإثبات حصول التسجيل في الحساب، فلو حصل التفرق قبل أن يقبض السند، وقد تم التقييد، وقبضه في وقت لاحق فلا يؤثر ذلك في صحة العقد، وكذلك الشأن لو حصل الافتراق من المجلس قبل أن يسجل موظف المصرف المبلغ في الحساب لاعتبر ذلك افتراق قبل حصول التقابض، فيبطل الصرف (¬1). الثاني: أن يكون لدى البنك العملة التي باعها على العميل، ولا تكفي الملاءة هنا، فلا بد من حيازة البنك للعملة التي باعها على العميل سواء في صناديقه المحلية، أو في الصندوق المركزي في مقره الرئيسي. وقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي ما يلي: " ... يعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى، سواء كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف، أو يعملة مودعة فيه" (¬2) ¬
وجاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ما نصه: "أولًا: قبض الأموال كما يكون حسيًا في حالة الأخذ باليد، أو الكيل أو الوزن في الطعام، أو النقل والتحويل إلى حوزة القابض، يتحقق اعتبارًا وحكمًا بالتخلية مع التمكين من التصرف ولو لم يوجد القبض حسًا. وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضًا لها. ثانيًا: إن من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعًا وعرفًا. 1 - القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات التالية: (أ) إذا أودع في حساب العميل مبلغ من المال مباشرة أو بحوالة مصرفية. (ب) إذا عقد العميل عقد صرف ناجز بينه وبين المصرف في حالة شراء عملة بعملة أخرى لحساب العميل ... " (¬1). ¬
المبحث السادس هل ينوب استلام الشيك عن قبض بدل الصرف
المبحث السادس هل ينوب استلام الشيك عن قبض بدل الصرف قالت اللجنة الدائمة: قبض البائع للشيك في حكم قبضه للثمن إذا كان الشيك مصدقًا (¬1). الصفقات الكبيرة في اقتصاد اليوم تتم بواسطة النقود الائتمانية أو المصرفية، والتي ليس لها أداة غير الشيك (¬2). [ن - 69] إذا باع أحدهم ذهبًا بعملة ورقية، أو صرف عملة ورقية بأخرى، فسلم أحدهما شيكًا بقيمة الذهب أو الفضة، أو بقيمة العملة الورقية، فهل يعتبر قبض الشيك قبضًا لمحتواه، بحيث يتحقق القبض الشرعي لصحة المعاملة أولًا؟ اختلف العلماء على النحو التالي: فقيل: يعتبر تسلم الشيك قبضًا لمحتواه مطلقًا, وعلى هذا الرأي كثير من الباحثين المعاصرين (¬3). ¬
وقيل: لا يعتبر تسلم الشيك قبضًا لمحتواه مطلقًا، وهذا القول منسوب لشيخنا ابن عثيمين (¬1)، واختاره بعض الباحثين (¬2). وقيل: التفريق بين الشيك المصدق وبين غيره، فقبض الشيك المصدق يعتبر قبضًا لمحتواه، بخلاف غير المصدق، وبه قال مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (¬3)، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية (¬4)، ......................... ¬
دليل من قال: قبض الشيك قبض لمحتواه
واختاره شيخنا ابن عثيمين (¬1). دليل من قال: قبض الشيك قبض لمحتواه: الدليل الأول: أن قبض الشيك يعتبر قبضًا حكيمًا لمحتواه، وهو كاف في حصول القبض الواجب شرعًا، وإنما اعتبرنا القبض الحكمي في الشيكات ولم نشترط القبض الحسي؛ لأن القبض مرده إلى العرف، والشيكات تعتبر في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية، وأنه يجري تداولها بينهم كالنقود تظهيرًا وتحويلًا، ومما يؤيد ذلك أن الأوراق النقدية كانت في بداية نشأتها سندات لحاملها حتى شاعت بين الناس، وكان يدفع للراغب في استبدالها ذهبًا أو فضة حسب الغطاء، ويعتبر قبض تلك الأوراق بمثابة قبض غطائها من الذهب أو الفضة، وقد تلاشى ذلك شيئًا فشيئًا مع انتشارها، وثقة الناس بها، فكذلك الحال بالنسبة ¬
الدليل الثاني
للشيكات، فما هي إلا سندات تعبر عن محتواها من المبالغ النقدية، ولذلك يعتبر تسلمها قبضًا لمحتواها (¬1). الدليل الثاني: أن الشيك يحاط بضمانات كبيرة، وذلك من أجل دعم الثقة به، فهو محمي في قوانين جميع الدول من حيث إن سحب الشيك على جهة ليس للساحب فيها رصيد يفي بقيمة الشيك المسحوب يعتبر جريمة شديدة تعاقب عليها قوانين العقوبات في الدول جميعًا، بل يمكن القول بأن الأوساط التجارية تثق بالشيك أكثر مما تثق بالنقود؛ لأن الشيك يغني عن توثيق استلام النقود حال النزاعات. يقول الدكتور يوسف إبراهيم: "إن النقود في اصطلاح الاقتصاديين: هي كل ما يستخدم وسيطًا في تبادل السلع والخدمات، ويلقى القبول العام من الناس، دون نظر إلى الشكل الذي تكون عليه، فقد تتخذ النقود الشكل المعدني، مثل النقود الذهبية، والنقود الفضية التي عرفتها البشرية منذ فترة ليست بالقصيرة، ولا زالت تعرف بعضها حتى اليوم في صورة ضيقة، وقد تتخذ النقود الشكل الورقي، مثل النقود الورقية الإلزامية التي تصدرها البنوك المركزية، وقد تتخذ شكل النقود الائتمانية (المصرفية) التي تقدمها البنوك التجارية، وبالشكل الأخير من أشكال النقود (النقود الائتمانية) تجري معظم المعاملات الاقتصادية الحديثة، والتي يقتصر دور النقود المعدنية فيها على استخدامها نقودًا مساعدة فقط، بينما تستخدم النقود الورقية في الصفقات ذات القيم الصغيرة، أما ¬
الدليل الثالث
الصفقات والمعاملات الأساسية في هذه الاقتصاديات فإنها تتم بواسطة النقود الائتمانية أو المصرفية، والتي ليس لها أداة غير الشيك" (¬1). الدليل الثالث: أن الشيك لا يقبل التأجيل، بل يتم صرفه بمجرد تقديمه، بخلاف الأوراق التجارية الأخرى كالكمبيالة والسند لأمر، وإذا كان حالًا فقبضه يعتبر قبضًا لمحتواه. الدليل الرابع: رأى بعض المشايخ والباحثين قياس الشيك على السفتجة (¬2)، وأن عبد الله ابن الزبير كان يأخذ من قوم بمكة دراهم (سفتجة)، ثم يكتب لهم بها إلى أخيه مصعب بالعراق، فسئل ابن عباس عن ذلك فلم ير به بأسًا (¬3). قالوا: فالسفتجة هنا قد قامت مقام القبض، فالشيك يقوم بدور السفتجة أو أكثر، ولا يمكن أن يكون أقل منها في أداء وظيفة القبض. ¬
ويجاب
ويجاب: بأن القياس غير مسلم، وذلك أن السفتجة: هي قرض محض، والقرض لا يجب فيه التقابض، فلا علاقة لها بمسألة البحث، والله أعلم. دليل من قال: قبض الشيك لا يعتبر قبضًا لمحتواه: الدليل الأول: الشيك لا يعتبر قبضًا، وإنما هو وثيقة حوالة فقط، بدليل أن الذي أخذ الشيك لو ضاع منه لرجع على الذي أعطاه إياه، ولو كان قبضًا لم يرجع عليه، وبيان ذلك: أن الرجل لو اشترى ذهبًا بدراهم، واستلم البائع الدراهم فضاعت منه لم يرجع على المشتري، ولو أنه أخذ من المشتري شيكًا، ثم ذهب ليقبضه من البنك، ثم ضاع منه، فإنه يرجع على المشتري بالثمن، وهذا دليل على أن الشيك ليس بقبض، وإذا لم يكن قبضًا لم يصح بيع ما يشترط فيه القبض، كبيع الذهب بالنقود، وبيع النقود بعضها ببعض. ويناقش: بأن الرجوع على المشتري عند قيام سببه لا يمنع من صحة القبض، فقد يوجد القبض الحسي ومع ذلك يوجد في الثمن ما يدعو البائع من الرجوع على المشتري كما لو بأن في الثمن عيب، وأما رجوع البائع على المشتري عند فقد الشيك فليس سببه عدم القبض، ولكن النقود إذا فقدت لا يمكن إلغاؤها، بينما الشيك إذا فقد فإنه لا يستفيد منه إلا من حرر له الشيك، ويمكن إلغاؤه وإصدار بديل له، ويمكن التحقق من فقده بمراجعة البنك، لهذا كله أمكن الرجوع على المشتري من هذه الناحية، فلا علاقة له في صحة القبض.
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن الصرف لا يكفي فيه القبض الحكمي، وإنما الواجب فيه القبض الحسي، يدًا بيد. ويناقش: بأن هذا الدليل قد تمت مناقشته في مسألة القبض عن طريق القيد المصرفي بما يغني عن إعادته هنا. الدليل الثالث: أن إمكانية صرف الشيك محفوفة بمخاطر كثيرة، فقد يعارض صاحب الرصيد في صرف الشيك، فلا يتم القبض أو يتأخر، وقد يحرر الشيك شخص وليس له رصيد، وقد يقوم بسحب الرصيد قبل استيفاء الشيك، وربما يفلس الساحب، أو يفلس المسحوب عليه (المصرف)، وكل هذه الأمور تدل على أن قبض الشيك ليس بمنزلة قبض محتواه، وذلك لأن القابض لمحتوى الشيك له التصرف فيه تصرفًا نهائيًا، بينما المستلم للشيك يتوقف بعض تصرفاته على الوفاء الفعلي للشيك. ويناقش ذلك: بأن هذه الاعتراضات لا تمنع من القول بأن قبض الشيك بمنزلة قبض محتواه، فمخاطر الشيك لا تقل عن مخاطر النقود، حيث تتعرض النقود اليوم إلى التزوير، وإذا كانت النقود مزورة فإنه لا يمكن معرفة أول من قام بذلك، لكثرة تداولها، بينما الشيكات تتدوال بطريقة يمكن معرفة من انتقلت إليه، مما يسهل ضبط العيب إذا ظهر فيها، إلا أن النقود والشيكات مما يحد من التلاعب بها العقوبات الكثيرة التي تعرض من يقوم بتزوير النقود، أو إصدار شيكات بدون رصيد مما عزز ثقة الناس بها.
الدليل الرابع
يقول الدكتور يوسف إبراهيم: "وإذا كان بعض الناس في بعض المجتمعات لا يثقون في النقود الائتمانية ثقتهم في النقود الورقية فإن ذلك راجع إلى إِلْفِهم التعامل بهذه النقود، وعدم إلفهم التعامل بالنقود الائتمانية، وذلك أن النقود الورقية تحمل من المخاطر أكثر مما تحمله النقود الائتمانية، بل والنقود المعدنية التي ربما تكون زيوفًا، فليس هناك نوع من النقود يخلو من المخاطر، بل ربما تكون النقود الائتمانية من أقلها مخاطر، الأمر الذي يجعلها تغطي الجزء الأكبر من المعاملات في المجتمعات المتقدمة اقتصاديًا، وستحتل نفس المكانة في بقية المجتمعات في المستقبل، بل لعل القبول بها لقي استجابة أكثر من الاستجابة التي قوبلت بها النقود الورقية عند نشأتها" (¬1). أما القول بأن صاحب الرصيد قد يعارض في صرف الشيك، فلا يتم القبض أو يتأخر، فإن هذا قد يتم حتى بعد قبض النقود أو السلعة لأسباب كثيرة، كما في حالات اختلاف المتبايعين حول فقد صفة، أو وجود عيب، كما كان ذلك يتم في القديم في بيع الذهب بالذهب عندما يكتشف أحد المتعاقدين أن في بعضها زيوفًا, ولم يمنع هذا الاحتمال من العمل بالقبض، وقد عمل الفقهاء في ذلك الزمن على حل مثل هذه الإشكالات التي قد تعترض البيوع التي يجب فيها التقابض قبل التفرق، ولم يمنعوا القبض لوجود مثل هذا الاحتمال (¬2). الدليل الرابع: إن الشيك لا يعتبر مبرئًا لمحرره إبراء تامًا من قيمته حتى يتم سداده. ¬
ويناقش
ويناقش: بأن من الفقهاء من اعتبر الحوالة بمنزلة القبض، قال ابن قدامة: "الحوالة بمنزلة القبض" (¬1). وقال أيضًا: "الحوالة كالتسليم" (¬2). مع أن المحال عليه لو كان مفلسًا لرجع المحال على المحيل على الصحيح من أقوال أهل العلم (¬3)، ورجوعه لا يمنع من صحة الحوالة حين أحاله، فكذلك رجوع المستفيد على محرر الشيك عند قيام سببه لا يمنع من صحة القبض وقت إقباضه للشيك. دليل من فرق بين الشيك المصدق والشيك غير المصدق: هذا القول جمع بين أدلة القولين، فهم لم يغفلوا قيمة الشيك، وجريان تداوله بين الناس، خاصة التجار منهم، وحماية الدول للشيك من التلاعب، وفي نفس الوقت عالجوا المحاذير والعيوب التي ذكرها من يعتبر قبض الشيك ليس قبضًا لمحتواه عن طريق اشتراط أن يكون الشيك مصدقًا، من أجل ألا يرد على قبض الشيك أن يكون الشيك بدون رصيد، أو الخوف من قيام الساحب من سحما رصيده قبل الاستيفاء، أو الخوف من اعتراض محرر الشيك على صرفه ... الخ المحاذير التي ذكرها أصحاب القول الأول. ¬
الراجح
الراجح: لا شك أن الشيك المصدق سالم من العيوب والمخاطر التي يتعرض لها الشيك غير المصدق، إذ يعتبر التصديق للشيك حجز لمحتوى الشيك لصالح المستفيد، فإذا استلم الشيك كان ذلك بمنزلة القبض لما يحتويه، فلا يستطيع الساحب التصرف فيه، ولا الرجوع فيه إلا بموافقة المستفيد. أما إذا كان الشيك غير مصدق، فهل يعتبر قبضه قبضًا لمحتواه؟ الذي أميل إليه هو ما اختاره الشيخ سعد الخثلان: أن الشيك إذا قرب من الشيك المصدق، بحيث يكون في دولة تتوفر فيها حماية كبيرة جدًا له من الناحية التشريعة، والتنفيذية بحيث لا يجرؤ أحد على كتابة شيك بدون رصيد، فإن الشيك وإن لم يكن مصدقًا فإنه بمنزلة القبض لما يحتويه، أما إذا لم تتوفر للشيك الحماية المطلوبة فإنه لا يكون في معنى القبض لما يحتويه، ولا تكفي الحماية من الناحية التشريعية، بل لا بد أن تكون الجهات التنفيذية فيها من الإجراءات الصارمة والحازمة والرادعة ما تعزز ثقة الناس في الشيك، فعلى سبيل المثال بلغت قيمة الشكاوى المقدمة للغرفة التجارية بالرياض للشيكات بدون رصيد فقط عام 1417 ص أكثر من مليار، و 200 مليون ريال (¬1)، ورغم ضخامة هذا العدد إلا أنه نادرًا ما نسمع بتنفيذ عقوبة في حق مصدر شيك بدون رصيد، ولهذا الوضع لا نستطيع أن نقول: إن استلام الشيك غير المصدق يعتبر قبضًا لما يحتويه خاصة في بلادنا وقت تحرير البحث، والله أعلم (¬2). ¬
المبحث السابع شراء الذهب وصرف العملات في أسواق العملات
المبحث السابع شراء الذهب وصرف العملات في أسواق العملات سوق العملات الأجنبية: هي سوق تنفذ خلالها عمليات بيع وشراء العملات الأجنبية، ولا يوجد مكان محدد لها، بل تتم هذه العمليات بين البنوك بواسطة أجهزة تداول إكترونية متطورة، ومرتبطة بالأقمار الصناعية، تم إنشاؤها من قبل شركات الخدمات المالية، مثل رويتر، وتلريت، ويتم تداول العملات والذهب على أساس السعر الحاضر، أو على أساس السعر الآجل، وإليك كلام الباحثين في كل منهما (¬1). ¬
الفرع الأول شراء العملات والذهب بالأسعار الحاضرة
الفرع الأول شراء العملات والذهب بالأسعار الحاضرة تأخير القبض في القيد المصرفي بسبب إجراء عملية إنهاء متطلبات التسوية مغتفر. [ن - 70] المتتبع لسير العمليات التبادلية في أسواق العملات يجد أن المتبايعين سواء أكانا مصرفين، أو مصرفًا وشخصًا لا يتم بينهما قبض فعلي للنقود محل العقد في نفس اليوم الذي يجري فيه التعاقد، وإنما يقوم على قواعد، ثم تبايع، ثم استلام العوضين، على الشكل التالي: (1) الاتفاق بين الطرفين عن طريق الهاتف على بيع أو شراء كمية من الذهب أو من العملات، ثم تبادل مراسلي كل من الطرفين، وعنوانهما، وأرقام حساباتهما لديهما. (2) يقوم كل من الطرفين بتأييد الاتفاق الذي تم بينهما بالهاتف برسالة تلكس لتأكيد الأمر وإثباته. (3) يطلب بائع الذهب أو العملة تحويل الكمية المشتراة من حسابه إلى حساب الطرف الآخر إما في نفس المصرف، أو في مصرف آخر بحسب رغبة الطرف الآخر، ويطلب المشتري تحويل مبلغ معين من حسابه -وهو قيمة الذهب أو العملة- إلى حساب الطرف الآخر، إما في نفس المصرف، أو في مصرف آخر بحسب رغبة الطرف الآخر. (4) عند وصول كمية الذهب إلى حساب المشتري، ووصول قيمته إلى حساب البائع يصل إلى كل من الطرفين إشعار من مراسله بوصول المبلغ إلى حسابه.
وللجواب على هذا السوال نقول
هذه خطوات الصرف، وشراء الذهب عن طريق أسواق العملات، ومن المعلوم أنه لا يتم بينهما تقابض فعلي للنقود، ولا للذهب محل العقد في نفس اليوم الذي يجري فيه التعاقد، وإنما يقتصر الأمر وقت التعاقد على تقييد الحقوق حسابيًا لدى كل منهما، أما التسليم والتسلم للنقود فإنه يتأخر لمدة لا تقل عن يومين بعد تنفيذ العملية، فإذا كان التعاقد يوم الثلاثاء فإنه يكون التسليم والتسلم هو يوم الخميس، ويكون تاريخ هذا اليوم هو تاريخ الاستحقاق، ولا تحسب أيام العطلات الرسمية في حساب تواريخ الاستحقاق (¬1). فهل هذا الإجراء يتماشى مع أحكام الصرف الإِسلامي في الشريعة الإِسلامية؟ وللجواب على هذا السوال نقول: أما من يرى جواز الاتجار بالعملات شراء وبيعًا، فالحكم عنده مبني على حكم مسألة أخرى سبق بحثها في المسألة السابقة، هل القيد المصرفي يعد قبضًا في الصرف أم لا؟ فمن قال: إن القيد المصرفي لا يعد قبضًا، وأن المطلوب هو القبض الحقيقي، وليس القبض الحكمي، فهو يرى تحريم مثل هذه المعاملة. ومن اعتبر القيد المصرفي يقوم مقام القبض الحقيقي، رأى صحة هذه المعاملة، وبه أخذ أكثرية المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي (¬2)، ومجمع ¬
الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإِسلامي (¬1)، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (¬2)، وندوة البركة الثانية عشرة (¬3)، وعليه أكثر الباحثين في هذا العصر (¬4). وقد ذكرنا أدلة كل قول من هذه الأقوال في المسألة التي قبلها، فأغنى عن إعادته هنا، وقد رجحت أن القيد المصرفي يعتبر قبضًا بشروط: الأول: أن يكون الذهب أو العملة التي تم شراؤها موجودة في البنك بقدر المبلغ المقيد للطرف الآخر، وذلك لئلا يكون من بيع ما لا يملك، وقد يقع كثيرًا أن تبيع المصارف كميات من الذهب أو العملات الأخرى دون أن يكون عندها المقدار المشترى، وذلك لعلمها أن المشتري لا يطلب استلام ذهبه، أو عملته التي اشتراها؛ لأنه يعتمد على القيد المصرفي فقط، فعلى هذا تكون المصارف قد باعت ذهبًا أو عملة غير مملوكة لها، فضلًا عن أن يكون موجودًا لديها. وعلى هذا لا يعتبر القيد المصرفي قبضًا شرعيًا، بل هو وسيلة خداع. ¬
الثاني: أن يتم التقييد قبل مفارقة أحد طرفي العقد الآخر. الثالث: ألا يكون هناك تأجيل في التسليم الفعلي للذهب أو للنقود بأكثر مما يتطلبه إجراء عملية إنهاء متطلبات التسوية، فإذا كان من الممكن إنهاء التسوية خلال يومين فلا يؤخرها أكثر من ذلك، أما إذا كان التأجيل بسبب إنهاء متطلبات التسوية فلا يضر، ولو تأخرت المدة؛ لأن القبض قد تحقق بالقيد، لا بتسليم النقود أو الذهب، وإلى هذا أشار قرار مجمع الفقه الإسلامي، فقد ورد فيه ما نصه: "ويغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من التسليم الفعلي للمدد المتعارف عليها في أسواق التعامل" (¬1). وأما من يرى كراهية الاتجار في العملات بيعًا وشراء فإن المنع عنده لا يقوم على أساس حكم القبض، وهل يقوم القبض الحكمي في القيد المصرفي مقام القبض الحقيقي، وإنما مأخذ الكراهة عنده وهو: تغير طبيعة وظيفة النقود، فالنقود ليست سلعة يتجر فيها مثل بقية السلع، وخاصة النقود الورقية التي لا يمكن تحويلها إلى سلعة اقتصادية مثل الذهب والفضة اللذين يمكن شراؤهما كسلع لاستخدامهما موادًا أولية لصناعات مختلفة، وبالتالي: الخروج بالنقود عن طبيعتها التي جعلت لها، والتي من أجلها تم قبولها، وهي: أنها أداة للدفع ووسيلة للتبادل. يقول ابن القيم: "الثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع. وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف ¬
به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره؛ إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف، ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر، وحصل الظلم ولو جعلت ثمنًا واحداً لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به الأشياء ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس" (¬1). ولأن الأثمان إذا قصد بها التجارة بأعيانها، وصارت سلعة أدى ذلك إلى قلتها في أيدي الناس، فيتضرر بذلك عموم الناس (¬2). يقول الدكتور محمد بن عبد الله الشباني: الاتجار في العملات بيعًا وشراءً بقصد الربح، وليس بقصد استخدامها من أجل تمويل الاستيراد والتجارة في السلع: مكروه، وقد يصل إلى الحرمة؛ للأمور التالية: 1 - التوسع في البيع والشراء في أسواق العملات العالمية أدى إلى هروب أموال المسلمين إلى الدول الكافرة، وهذا الاتجار لا يهدف إلى الحصول على سلع وخدمات يحتاجها المسلمون، ولكنه بقصد المضاربة لتحقيق الربح؛ مما أدى إلى ضياع فرصة الاستفادة من هذه المدخرات التي يتم استخدامها في الاتجار في العملات الأجنبية، والقاعدة الشرعية تقول: عند اجتماع المصالح مع المفاسد، فإذا كانت المفسدة أعظم من المصلحة: درأنا المفسدة، ولو تأتى ذلك بفوات المصلحة، والمصلحة الفائتة هي ما يمكن أن يحققه المتاجر في العملات في أسواق العملات الأجنبية من أرباح، لكن مفسدة تسرب أموال ¬
المسلمين من بلاد المسلمين وعدم استغلالها فيما فيه منفعة ومصلحة للاقتصاد يحقق مفسدة أكبر من المصلحة التي قد يحققها المتاجر في العملات، يقول تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] فحرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما. 2 - أن خروج الأموال من بلاد المسلمين بقصد الاتجار بالعملات الأجنبية للدول الكافرة يحدث أضرارًا بميزان المدفوعات للبلاد الإِسلامية؛ حيث إن هذا الخروج لا يقابله سلع ولا خدمات تفيد اقتصاد الدول الإِسلامية، بل إن ذلك يمثل تهريبًا لفائض الإنتاج المحلي وضخه لصالح القوى الأجنبية، وفي هذا تعاون على الإثم بإضعاف اقتصاديات الدول الإِسلامية وحرمانها من الأموال التي يمكن لو تم استثمارها في مجالات إنتاجية أن تزيد الناتج القومي وتسهم في تشغيل القوى العاملة العاطلة ... ثم بين الشيخ أن شراء العملات من المصارف بقصد تمويل عمليات الاستيراد، وليس بقصد تحقيق الربح من خلال الاتجار فيها: فهذا أمر جائز؛ لأن ذلك بقصد تحقيق التبادل السلعي والخدمي، وهي الوظيفة الأساسية التي من أجلها جعلت النقود، ويدل على ذلك حديث ابن عمر - رضي الله عنه -، الذي رواه أبو داود والنسائي، جاء فيه: (أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت حفصة، قلت: يا رسول الله: رويدك، أسألك، إني أبيع بالبقيع؛ فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء)، فهذا الحديث يوضح دور التصارف وتبادل النقود بعضها ببعض من أجل تيسير التجارة؛ حيث إن القصد من ذلك: إتمام عمليات التبادل السلعي، وبالتالي: فإن شراء العملة الأجنبية بسعر يومها عند فتح الاعتماد، أو سداد قيمة السلعة
الواردة عند وصول البضاعة بسعر فتح الاعتماد وبسعر سداد قيمة الاعتماد: هو ما يمكن أن يقاس على حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - (¬1). ولا شك أن القول بالكراهة متجه للأسباب التى سبق ذكرها, ولأن الاتجار اليوم في العملات بيعًا وشراء عن طريق البورصة فيه محاذير لا يحسن السلامة منها إلا رجل أعطي فقهًا وورعًا. ¬
الفرع الثاني المتاجرة بالعملات الأجنبية والذهب بالأسعار الآجلة
الفرع الثاني المتاجرة بالعملات الأجنبية والذهب بالأسعار الآجلة ما يشترط له التقابض في العوضين أو في أحدهما لا يجوز بيعه ولا شراؤه في السوق الآجلة. [ن - 71] يتم بيع وشراء الذهب أو العملات بطريقة العمليات الآجلة، وذلك بتحرير عقود كتابية يتبادلها الطرفان، يتم فيها الاتفاق على أسعار هذه العملية عند التعاقد، بينما لا يتم التقابض للذهب أو للعملة إلا في وقت لاحق في المستقبل، وتكون الأسعار فيها قد تغيرت غالبًا. وهناك تواريخ تكاد تكون ثابتة للعمليات الآجلة، وهي لمدة شهر، وشهرين، وثلاثة أشهر، وستة أشهر، وسنة، والعمليات التي تقل عن ستة أشهر هي الأكثر تداولًا، وسوقها دائمًا نشطة. ومما لا ريب فيه أن المتاجرة بالعملات في الأسواق الآجلة محرم، وذلك لما يلي: 1 - أن المتبايعين في جميع أنواع البيوع الآجلة لا يقبضان العوضين، ومن شروط الصرف المجمع عليها التقابض قبل التفرق، قال - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد) رواه مسلم. 2 - أن هذه الأسعار مرتبطة بشكل مباشر بالفائدة، حيث تدخل هذه الفائدة كفرق سعر بين السعر الحاضر، والآجل (¬1). ¬
وبهذا صدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي: ففي قرار المجمع رقم 63 (1/ 7) بشأن السوق المالية، والذي قد تضمن جملة من القرارات. جاء فيه: "التعامل بالعملات: يتم التعامل بالعملات في الأسواق المنظمة بإحدى الطرق الأربع المذكورة في التعامل بالسلع. ولا يجوز شراء العملات وبيعها بالطريقتين الثالثة والرابعة". والطريقة الثالثة والرابعة هي: أن يكون العقد على موصوف في الذمة في موعد آجل، ودفع الثمن عند التسليم، سواء تضمن شرطًا يقتضي أن ينتهي فعلًا بالتسليم والتسلم، أو لم يتضمن ذلك، بأن يمكن تصفيته بعقد معاكس. وجاء في قرار المجمع الفقهي الإِسلامي التابع للرابطة: "إن العقود الآجلة بأنواعها التي تجري على المكشوف: أي على الأسهم والسلع التي ليست في ملك البائع بالكيفية التي تجري في السوق المالية (البورصة) غير جائزة شرعاً؛ لأنها تشتمل على بيع الشخص ما لا يملك، اعتمالًا على أنه سيشتريه فيما بعد، ويسلمه في الموعد، وهذا منهي عنه شرعًا لما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا تبع ما ليس عندك) وكذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) (¬1). وسوف يأتي إن شاء الله تعالى نقل القرار بكامل نصه عند الكلام على سوق المال في المجلد العاشر بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. ¬
المبحث الثامن الصرف عن طريق البطاقات الائتمانية
المبحث الثامن الصرف عن طريق البطاقات الائتمانية الفرع الأول شراء الذهب والفضة عن طريق البطاقات الائتمانية القبض عن طريق بطاقة الائتمان بمثابة القبض بالشيك المصدق باعتبار أنها واجبة الدفع على مصدرها. القبض ببطاقة الائتمان قبض حكمي يقوم مقام القبض الحقيقي. [ن - 72] اختلف العلماء في هذه المسألة: فقيل: لا يصح شراء الذهب أو الفضة ببطاقة الائتمان مطلقًا، أي سواء كانت البطاقة مغطاة، أو غير مغطاة. وهذا اختيار الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير (¬1). وقيل: يصح مطلقًا، لا فرق بين كون البطاقة مغطاة، أو ليست مغطاة (¬2)، اختاره بعض الباحثين، كالشيخ عبد الستار أبو غدة (¬3)، والشيخ نزيه حماد (¬4)، ¬
وجه من قال: لا يجوز شراء الذهب والفضة مطلقا
والشيخ يوسف الشبيلي (¬1)، وغيرهم. وقيل: يجوز شراء الذهب والفضة إن كانت البطاقة مغطاة، ولا يجوز إن كانت البطاقة غير مغطاة، وبه صدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي الدولي (¬2)، واختاره بعض الباحثين (¬3). وجه من قال: لا يجوز شراء الذهب والفضة مطلقًا: يقول الشيخ الصديق محمد الضرير: "الفورية المطلوبة شرعًا في شراء الذهب والفضة غير متحققة في الشراء بالبطاقة؛ لأن حامل البطاقة عندما يقدم البطاقة للتاجر يتسلم الذهب، ويوقع على القسيمة، لا يدفع الثمن للتاجر، والذي يدفع الثمن للتاجر هو بنك التاجر، أو البنك المصدر للبطاقة عندما يقدم التاجر إليهما القسيمة بعد فترة يتفق عليها، وهذه الفترة في حالة بنك التاجر تصل إلى ثلاثة أيام من تسلمه قسيمة البيع. وهذا مختلف عما جاء في فتوى بيت التمويل الكويتي من أن القسيمة تصرف فورًا حال تقديمها إلى بنك التاجر. وحتى لو صح ما فى الفتوى من أن بنك التاجر يدفع ثمن الذهب فورًا عندما تقدم إليه القسيمة، فإن شرط التقابض في المجلس لا يكون متحققًا؛ لأن المجلس الذي يجب أن يتحقق فيه التقابض، هو مجلس الشراء الذي يتم بين حامل البطاقة والتاجر الذي يبيع الذهب، وليس مجلس تقديم القسيمة لبنك التاجر. ¬
دليل من قال: يصح شراء الذهب ببطاقة الائتمان مطلقا
وقياس بطاقة الائتمان على الشيك؛ لأن كلًا منهما أداة وفاء، قياس مع الفارق. والفارق: هو أن الشيك أداة وفاء في الحال، فيكون قبضه حكميًا لمحتواه، وبطاقة الائتمان أداة وفاء في المآل؛ لأن التاجر لا يستطيع أن يحصل على ثمن الذهب الذي اشترى بها إلا بعد فترة من الزمن، وهذا هو المأخذ الشرعي" (¬1). دليل من قال: يصح شراء الذهب ببطاقة الائتمان مطلقًا: الدليل الأول: " أن فواتير البطاقة الائتمانية تعتبر واجبة الدفع من قبل البنك المصدر، ولا يتوقف ذلك على وجود رصيد للعميل لدى البنك من عدمه، ولا على الوفاء الفعلي من قبل العميل، فالفاتورة تعتبر ملزمة، وحتمية في حق البنك. والشرط الأساسي فيها هو تثبت البائع من شخصية العميل، ومطابقتها للمدون في البطاقة، ومطابقة توقيعه على القسيمة، وتوقيعه على البطاقة، والتأكد من سريان صلاحية البطاقة، فإن تثبت من هذه الأشياء فالفاتورة تعتبر ملزمة للبنك، وواجبة الدفع، حتى ولو لم يكن البائع قد حصل على تفويض خاص بهذه العملية من البنك إذا كان ذلك ضمن الحدود المتفق عليها. وعلى هذا فالفاتورة ليست مجرد شيك، بل هي في قوة الشيك المصدق، أو الشيك المحرر من البنك، لذا فالقبض في البطاقة الائتمانية ينبغي أن يلحق بالقبض بواسطة الشيك المصدق، أو الشيك المحرر من قبل البنك، وقد ذهب عامة الباحثين المعاصرين كما تقدم إلى أن الشيك إذا كان مصدقًا، أو محررًا من قبل البنك فإنه يقوم مقام قبض محتواه" (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: " البطاقة الائتمانية أصبح لها من القبول عند الناس ما يضاهي أو يفوق الأوراق النقدية والتجارية، والقبض يستند في كثير من أحكامه إلى العرف، فإن يلزم الناس بشكل معين من أشكال القبض فعليه الدليل، فإن تعلل بأن العرف قاض بعدم اعتباره فهذا بحسب علمه واطلاعه، وإلا فإن العالم برمته يتجه إلى عصر اللا نقد، والبائع يفضل بلا تردد قبض الثمن عن طريق البطاقة على قبضه نقدًا؛ لكونه أحوط وأضبط، وأضمن، وأسلم، وأحفظ لماله، وليس أدل على ذلك من الكم الهائل بعدد الصفقات التي تجرى سنويًا بالبطاقات الائتمانية والتي تتجاوز تريليونات الدولارات، فدعوى أن العرف جار بعدم قبولها دعوى مردودة، وغير سائغة، بل وحتى في البلاد الإِسلامية بدأت هذه البطاقات تكتسح الساحة، وتستحوذ على النصيب الأكبر من قيمة الصفقات. ولا شك أن مصدر هذا القبول هو الضمان البنكي لأي قيمة يتم الشراء بها وفق الشروط والضوابط المتفق عليها، فالبائع سواء كان بنكًا أم غيره حين يقبض القسيمة فقد عد نفسه قابضًا للقيمة، ولا يكترث لعملية صرف هذه القسيمة أو تحويلها لحسابه، ولا يخشى من عدم قبولها لدى البنك المصدر، حتى إن من الشروط المتفق عليها أن البطاقة لو فقدت أو سرقت، واستخدمها غير صاحبها الشرعي، فالبائع لا يتحمل تبعة لهذا الاستخدام، وحقه ثابت له في محله، حتى ولو ثبت أن مستخدمها غير صاحبها ما دام قد قام بالواجب عليه، وإنما الذي يتحمل التبعة هو البنك المصدر إذا تمت الصفقة بعد إخطاره بضياع البطاقة، وأما قبل الإخطار فالذي يتحملها العميل؛ لأنه قد فرط بعدم التبليغ" (¬1). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: " وجود الأجل في صرف قسيمة البيع لا يؤثر في الحكم؛ لأننا إذا اعتبرنا قبض القسيمة كقبض المحتوى، فلا فرق بين أن يتم الصرف آنيًا، أو بعد حين؛ لأننا نعتبر أن القبض قد تم باستلام قسيمة البيع، فالشرط هو أن يتم تحرير القسيمة حالة، وأما صرف قيمتها فلا فرق بين أن يكون آنيًا أو مؤجلًا؛ لأن هذا الاعتراض وارد على كلا الحالين ففي الأولى ينتفي التقابض، وفي الثانية ينتفي الحلول، ولذا فإن من التناقض ما ذهب إليه بعضهم من التفرقة بين البطاقات التي يشترط مصدرها مهلة لتأمين تغطية قيمة القسيمة، والبطاقات التي لا يشترط مصدرها ذلك، فإما الإباحة في الجميع، وهو الصحيح، أو المنع في الجميع. ومثل هذا الاعتراض يرد على الشيك المصدق، فإن أوجب على قابضه أن يصرفه حالًا لزم على قوله أن ينتفي القبض في المجلس حتى مع الحلول، وإلا كان تناقضًا. والتأجيل قد يكون ملازمًا للشيك، ولو كان مصدقًا، أو محررًا من قبل البنك في كثير من الأحيان، فعلى سبيل المثال: لو حرر الشيك بعد ساعة إقفال البنك، أو في نهاية الأسبوع، أو في بلد لا يوجد فيها فرع للبنك المسحوب عليه، أو تماهل التاجر في صرف الشيك، أو كان التاجر يتعامل مع غير البنك المسحوب عليه، ورغب في إيداع الشيك في حسابه (إذ المقاصة بين البنوك تستلزم عدة أيام). وقد اعتبر كل من مجلسي مجمع الفقه التابع للرابطة، ومجمع الفقه التابع للمنظمة أن قبض الشيك في الحوالات المصرفية يقوم مقام قبض محتواه، مع
الدليل الرابع
أن صرف الشيكات في الحوالات يستلزم وجود أجل لانتقال المستفيد إلى البلد الذي يرغب تحويل النقد إليه" (¬1). الدليل الرابع: ما أشكل على بعض الباحثين من كون حامل البطاقة قد يشتري وليس لديه رصيد لدى البنك المسحوب عليه، فيكون تحريره للقسيمة بلا رصيد، فهذا لا إشكال فيه؛ لأن المقصود من قبض البائع هو تسلمه للقيمة سواء كان الدافع هو المشتري أو غيره، فلو أن شخصًا اشترى ذهبًا، وسدد عنه القيمة في مجلس الشراء شخص آخر، صح الصرف لوجود التقابض. قال الشافعي: "من صرف من رجل دراهم بدنانير، فعجزت الدراهم، فتسلف منه دراهم فاتمه جميع صرفه، فلا بأس" (¬2). فما دام البنك المصدر ملتزمًا بتسديد قيمة الفاتورة للبائع فتوقيع العميل على القسيمة يقوم مقام مباشرته التسليم (¬3). وجه من اشترط أن تكون البطاقة الائتمانية مغطاة: يرى هذا الفريق أن شراء الذهب ببطاقة الائتمان غير المغطاة لا يجوز؛ لعدم تحقق القبض في مجلس العقد. ولأن البطاقة عندما تمرر على الجهاز لا يخصم من رصيده، وإنما يحصل التاجر على الموافقة على إتمام البيع، وهو ما يعرف بالخصم من السقف الائتماني، فليس هذا بقبض لا حقيقة ولا حكمًا، أما القول أن وجود قسيمة ¬
الدفع الموقعة من قبل حامل البطاقة قبض حكمي، وأن التاجر سيأخذ حقه، فهذا لا يعني الجواز؛ لأن التاجر بهذه القسيمة ضمن حقه فقط، ولم يقبض المال، إنما يقبضه بعد فترة، وضمان الحق لا يعني القبض؛ لأن التاجر لو وثق من العميل، فباعه الذهب، أو الفضة بالأجل لما جاز ذلك لعدم تحقق قبض الثمن في المجلس، حتى لو أن العميل كتب في ورقة أن عليه لزيد كذا لم يعتبر هذا قبضًا وإن كان التاجر قد ضمن حقه بهذه الورقة ولو تأملنا حقيقة معاملة البطاقة غير المغطاة لوجدناها مبنية على الدين والضمان، فحاملها إذا قبض السلعة كالذهب مثلًا يصبح مدينًا للتاجر، ثم يبرز البطاقة، وبذلك يقدم كفيله للتاجر، وهو البنك المصدر، أو شركة الفيزا مثلًا، والتاجر يثق في هذه الجهات؛ لأنها تضمن له الوفاء، وضمان الوفاء ليس وفاء وبذلك نعلم أن قبض الثمن لم يتحقق بالبطاقة إذا كانت غير مغطاة لا حقيقة ولا حكمًا (¬1). وقد تضمن قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي، في قراره رقم: 108 (2/ 12) بشأن موضوع بطاقات الائتمان، وفيه: "لا يجوز شراء الذهب والفضة، وكذا العملات النقدية بالبطاقة غير المغطاة" (¬2). وعندي أبي هذا القول هو أضعف الأقوال الثلاثة؛ لأننا إما أن نقبل بالقبض عن طريق البطاقة أو لا نقبل، أما التفريق بين أن تكون البطاقة مغطاة أو غير مغطاة فهذا لا تأثير له في حقيقة القبض، فالبنك في الرصيد المغطى لم يكن وكيلًا بالدفع فقط؛ لأنه ليس نائبًا في الأداء فقط، بل هو كفيل ووكيل بالدفع، ¬
الراجح
والوقت الذي يستغرقه دفع المبلغ إلى التاجر لا يختلف بين أن يكون الرصيد مغطى أو غير مغطى، وإنما الأمر يتعلق برجوع البنك بعد الدفع، فبعد أن يسدد البنك للتاجر من ماله يقوم بعد ذلك بالاستيفاء من العميل، فإن كان للمشتري رصيد كان الرجوع إلى رصيده، وإن لم يكن له رصيد رجع البنك إلى العميل نفسه، وطالبه بالسداد، أما البائع فهو قد استلم حقه من مال البنك في الحالين. الراجح: الذي أميل إليه أن القبض ببطاقة الائتمان قبض حكمي صحيح لا يختلف عن القبض بالشيك المصدق، ولا عن القبض بالشيك المحرر من لدن المصرف، إن لم تكن أقوى منها، ويبقى النظر في المنع من التعامل ببطاقة الائتمان لموانع أخرى غير قضية القبض، والله أعلم، وسوف أتناول إن شاء الله تعالى بشيء من البسط أنواع البطاقات، وتاريخها، وتكييفها التكييف الشرعي في باب المعاملات المصرفية، بلغنا الله ذلك بحوله وقوته.
الفرع الثاني صرف العملات عن طريق بطاقات الانتمان
الفرع الثاني صرف العملات عن طريق بطاقات الانتمان [ن - 73] عرفنا في البحث السابق حكم شراء الذهب والفضة عن طريق دفع الثمن ببطاقات الائتمان، ونريد أن نبحث في هذه المسألة حكم ما إذا ترتب على هذا الشراء صرف عملة بأخرى، وفي أحيان كثيرة تكون عملية الصرف من لازم الشراء، وإن لم يقصد المتعامل ببيعه وشرائه صرف نقود بأخرى، وذلك أن البطاقة لما كان لها صفة العالمية، وكان صاحبها يستطيع أن يستخدمها في معظم دول العالم، فإذا اشترى سلعًا فإن بنك التاجر يسدد عن حاملها فورًا بعملة البلد المستخدمة فيه، ثم يعود على المنظمة الراعية للبطاقة والتي تدفع له بالدولار، ثم تعود على مصدر البطاقة لتأخذ منه ما دفعته بالدولار، ثم يعود مصدر البطاقة على حاملها ليسدد له بعملة بلده بالريال مثلًا، خلال مدة السماح المجانية، فهذه عملية صرف المقصود منها استيفاء ما وجب على المستفيد، وليس المقصود منها المعاوضة، فما حكم هذه العملية؟ أما من منع شراء الذهب والفضة ببطاقة الائتمان منع الصرف فيها، حيث لا فرق عنده بين المسألتين. وهناك من أهل العلم من أجاز المسألتين، فلم يفرق بينهما، وفي الحالين أدلتهم في هذه المسألة هي أدلتهم في مسألة بيع وشراء الذهب ببطاقة الائتمان، وسبق بحثها في المسألة السابقة، فأغنى عن إعادتها هنا. وهناك فريق ثالث من أهل العلم أجاز شراء الذهب والفضة ببطاقة الائتمان، كما أجاز السحب النقدي بالبطاقة ولو لم يكن هناك تغطية في رصيده إذا لم يتقاض المصدر فوائد أو عمولة على الاقتراض زائدة عن النفقات الفعلية لتقديم
وجه من منع الشراء بالبطاقة إذا ترتب على هذا الشراء مصادفة
هذه الخدمة، ومنع من الشراء بها سلعًا إذا ترتب على هذا الشراء صرف عملة بأخرى، وهذا القول هو الذي يعتبر فيه إضافة على المسألة السابقة، ونريد في هذا المبحث أن نطلع على وجهة نظر من يرى هذا القول، ومقدار وجاهة هذا القول، ومن هؤلاء الدكتور نزيه حماد. وجه من منع الشراء بالبطاقة إذا ترتب على هذا الشراء مصادفة: اعتمد القائلون بالتحريم على ثلاثة محاذير: المحذور الأول: في التأخر في قبض بدل الصرف. وذلك أن مصدر البطاقة يجري الصرف مع حاملها إلى العملة المحلية بمجرد سداده بالعملة الأخرى، ولا يطالب حاملها ببدل الصرف إلا عند إصدار الفاتورة لاحقًا مع إعطائه مهلة سماح مجانية للسداد ... وهذا التراخي غير جائز شرعًا في قول سائر أهل العلم؛ لأنه من ربا النسيئة (ربا البيوع) الذي هو ذريعة إلى ربا النسيئة (ربا الديون) الذي هو صلب الربا وأساسه (¬1). ¬
المحذور الثاني: في وقت سعر الصرف. يقول الشيخ عبد الستار أبو غدة: "في حالات عديدة يقوم العميل حامل البطاقة باستخدام بطاقته لسداد قيمة مشتريات أو خدمات تختلف عن عملة حساب البطاقة التي يتعامل بها مع البنك المُصْدِر، وحيث إن هذا الأخير يدفع تلك المبالغ لمستحقيها بالدولار عادة، فإن تسوية المعاملة تحتاج إلى عملية صرف أو تحويل المستحقات من الدولار إلى العملة المحلية. ¬
فبعض البنوك المصدرة تقوم بعملية الصرف على أساس السعر المعلن لديها في يوم قيد قيمة تلك المشتريات أو الخدمات على حساب العميل حامل البطاقة، أو بزيادة نسبة معلومة. وبعض البنوك يعتمد سعر الصرف السائد في التاريخ الذي تم فيه سداد القيمة من جانب البنك نيابة عن العميل حامل البطاقة. وبعضها يعتمد سعر الصرف السائد في تاريخ استلام بيان المبالغ المستحقة من المنظمة العالمية" (¬1). مع أن الواجب أن يعتمد سعر الصرف في يوم سداد المستفيد للقرض الذي عليه. (ح - 840) كما في حديث ابن عمر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا، وبينكما شيء (¬2). المحذور الثالث: اجتماع الصرف والقرض. يقول الشيخ عبد الله بن محمد العمراني: "عقد الصرف نوع من البيوع، فلا يجوز اجتماعه مع القرض، لحديث: (لا يحل سلف وبيع) لئلا يؤدي إلى المحاباة في سعر الصرف من أجل القرض. والواقع يدل على أن سعر الصرف في العمليات التي تجري ببطاقة الائتمان أعلى من سعر الصرف السائد في ذلك الوقت في العمليات التي تجري بدونها، ¬
وعلى هذا التركيب في هذه الحالة -فيما يظهر- يؤدي إلى المنع خروجًا من شبهة الربا" (¬1). وأرى أن هذا لا يدخل في النهي عن سلف وبيع؛ لأن الأصل في بطاقة الائتمان القرض وحده، وأما الصرف فيأتي تبعًا، وهو من باب الاستيفاء، وليس من باب المعاوضة وطلب الربح، ولذلك نشترط أن يكون ذلك بسعر يوم الصرف حتى لا يكون هناك محاباة في الصرف، ولو كان ذلك من باب سلف وبيع لما صح فعل ابن عمر حيث كان يبيع ويصارف، فهو يبيع الإبل بالدراهم، ثم عند الاستيفاء يأخذ الدنانير، فهو جمع بين دين، وصرف، وبيع. فالبيع جاء من قول ابن عمر (كنا نبيع الإبل ...). وأما الدين: فلأن الثمن يبقى دينًا في ذمة المشتري؛ لأنه لو كان حالًا لما احتاج أن يبيع ابن عمر بالدراهم ويأخذ الدنانير؛ لأنه كان بالإمكان أن يبيع مباشرة بالدنانير، ولا يحتاج ألى عملية المصارفة ما دام أنه لن يربح فيها, ولكن ابن عمر كان يترك الثمن دينًا في ذمة المشتري. ولا فرق بين أن يكون الدين جاء من قرض أو من بيع (¬2). وأما الصرف: فلأنه إذا جاء وقت الاستيفاء، ولم يكن مع المشتري جنس الثمن المطلوب منه صارفه ليستوفي حقه، فكانت المصارفة هنا من باب الاستيفاء، وليست من باب المعاوضة، ولهذا كان هذا مشروطًا بحيث لا يربح عليه، وأن يكون مقبوضًا في مجلس العقد. ¬
وجه من رأى جواز الشراء بالبطاقة ولو ترتب على الشراء مصارفة.
وجه من رأى جواز الشراء بالبطاقة ولو ترتب على الشراء مصارفة. عمدة من يرى جواز ذلك حديث ابن عمر: (ح - 841) فقد روى أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هو يريد أن يدخل بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا، وبينكما شيء (¬1). [اختلف في رفعه ووقفه، ورجح شعبة والدارقطني وقفه] (¬2). فالمطلوب في صرف ما وجب في الذمة أمران: الأول: أن يتم التقابض في المجلس، بحيث لا يتفرقا وبينهما شيء. الثاني: ألا يربح في عملية الصرف؛ لأن المراد من الصرف هو الاستيفاء، وليس المعاوضة حتى لا يربح فيما لم يضمن. (ح - 842) فقد روى أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬3). ¬
[إسناده حسن] (¬1). فإذا علم هذا، فإن تنزيل مسألة الصرف في بطاقة الائتمان على حديث ابن عمر لا يخلو من حالين: يقول الدكتور عبد الله السعيدي: "الأول: أن يكون للعميل رصيد في البنك يقابل مصروفاته. والثاني: أن لا يكون له رصيد في البنك يقابل مصروفاته. فإن كان الأول فإن سعر الصرف الذي ينبغي الاعتبار به: هو سعره يوم أداء البنك للطرف الثالث (المستفيد) إذ هو اليوم الذي قامت فيه الحاجة إلى المصارفة، فكان الاعتبار بسعره لحديث ابن عمر السابق. وإن كان الثاني: وهو أن العميل ليس له رصيد يقابل مصروفاته، والفرض أن المصرف قام بالأداء عنه فإن المصرف حينئذ يكون مقرضًا له، فإذا استدعى الأمر المصارفة فإن سعر الصرف الذي ينبغي الاعتبار به: هو سعر يوم أداء العميل للبنك، إذ هو اليوم الذي قامت فيه الحاجة إلى المصارفة، فكان الاعتبار بسعره عملًا بحديث ابن عمر المتقدم" (¬2). وفي الحالين لا يعتبر هناك عملية تأخر في قبض بدل الصرف؛ لأنه في الحال الأولى يكون البنك لديه رصيد للعميل، فهو في ذمته مال للمستفيد، وما في الذمة في حكم المقبوض. وفي الحال الثانية لم تجر عملية الصرف إلا عند حضور المستفيد ليؤدي ما وجب عليه في ذمته من قرض للبنك أو لمصدر البطاقة، وبالتالي تكون عملية ¬
الصرف قد تمت في حضوره مع حصول القبض الحقيقي الواجب شرعًا، فليس في المسألة عملية تأخير. فإن كان واقع الحال كما ذكره الدكتور عبد الله السعيدي فالقول بالجواز متجه؛ لأنه لا محذور شرعًا في عملية الصرف، والله أعلم. وإن كان واقع الحال غير ما ذكره الدكتور فلا مانع من اشتراط ذلك بين مصدر البطاقة والمستفيد، والأمر ليس صعبًا خاصة أن الشيخ عبد الستار أبو غدة نقل اختلاف التعامل بين بطاقة وأخرى كما نقلناه عنه، فلا مانع من اشتراط ذلك، وأن يتولى بنك المستفيد وضع هذا الشرط ضمن العقد، ولن يتضرر أحد منهما. وقد أثبت الشيخ الشبيلي أن كثيرًا من المصارف الإسلامية لا تراعي الضوابط الشرعية في عملية المصارفة، وإذا كان هذا شأن المصارف الإِسلامية فكيف بغيرها. يقول الشيخ يوسف الشبيلي: "لو كان العميل من حاملي بطاقة الفيزا، واستخدمها في معاملة تجارية بالمارك، فإذا أراد البنك تحويل فاتورة الشراء التي بالمارك إلى العملة المحلية، أو إلى الدولار، فيجب أن يكون الصرف على أساس السعر الأدنى بالنسبة للمارك ... وذلك لئلا يربح فيما لم يضمن، ولقوله عليه الصلاة والسلام لابن عمر لما سأله عن المصارفة بين الدينين: (لا بأس أن تأخذها بسعر يومها) فيكون الصرف بالسعر الأدنى، أو أقل، ولا يربح فيه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا اعتاض عن ثمن المبيع، أو القرض، فإنما يعتاض عنه بسعر يومه، كما في السنن عن ابن عمر - رضي الله عنهما - وذكر الحديث السابق - فيجوز الاعتياض بالسعر لئلا يربح فيما لم يضمن أهـ كلام شيخ الإِسلام.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (بسعر يومها) المقصود به سعر يوم الأداء، لا يوم الاقتراض، أو البيع. والواقع أن هذه القضية ليست بتلك الدرجة من الوضوح عند كثير من المصارف الإِسلامية، فنجد أنها في عملية صرف العملات للديون الثابتة في ذمم عملائها - سواء أكانوا مصدرين أو مستوردين، أو حاملي البطاقات الائتمانية ترتكب خطاين: الأول: أنها تصرف العملات بالسعر الأعلى لها، وفي بعض الأحيان تضيف إلى المبلغ الذي يتم تحويله نسبة معينة 1% مثلًا. الثاني: أن سعر الصرف لا يحدد في يوم الأداء، بل يحدد في يوم الاقتراض، أو بعده بيسير، وفي بعض الأحيان تتحين اليوم الذي يكون فيه الصرف مناسبًا لها، مع أن مفهوم حديث ابن عمر السابق يجب أن يكون الصرف ملازمًا للقبض، والقبض لا يكون إلا في يوم الأداء، فإذا تصارفا من غير قبض فقد وقعا في ربا النسيئة". اهـ كلام الشيخ (¬1). وقد صدرت فتوى في شأن هذه المسألة في ندوة البركة الثانية عشرة، ونصها: "يجوز اتفاق البنك المصدر مع حامل البطاقة على تحويل قيمة المبالغ المستحقة، باستخدام السعر المعلن لدى البنك يوم إجراء قيد العملية لصالح التاجر (يوم السداد) وذلك بالحسم من حساب حامل البطاقة إن كان فيه رصيد، أو بإقراض البنك له بدون فوائد بإضافة المبلغ إلى حسابه المكشوف، ثم الحسم منه إن كان البنك قد وافق على إقراضه في هذه الحالة. ويعتبر شرط التقابض ¬
متوفرًا، وهو من قبيل القبض الحكمي؛ لأن هذا صرف ما في الذمة، وهو جائز عند جمهور العلماء" (¬1). وفي خلاصة البحث أهيب بالمصارف عمومًا، وخاصة الإِسلامية منها أن تضع الشروط بينها وبين مصدري البطاقة الائتمانية ضمن العقد الموقع بينهما، بحيث يراعى في الصرف أمران مهمان لسلامتها من الربا: الأول: مراعاة أن يكون سعر الصرف ملازمًا للقبض، والقبض لا يكون إلا في يوم الأداء، حتى لا نقع في ربا النسيئة. الثاني: أن يكون سعر الصرف على أساس السعر الأدنى، أو أقل منه، لئلا يربح فيما لم يضمن، والله أعلم. ¬
الفصل السادس في اجتماع البيع الصرف
الفصل السادس في اجتماع البيع الصرف قال ابن العربي: "كل عقدين يتضادان وصفًا ويتناقضان حكمًا، فإنه لا يجوز اجتماعهما، أصله البيع والسلف" (¬1). قلت: اختلاف حكم العقدين لا يمنع اجتماعهما ما لم يترتب على ذلك محذور شرعي. [م - 1235] اختلف العلماء في الجمع بين البيع والصرف: فقيل: لا يجوز الجمع بين البيع والصرف مطلقًا، وهذا مذهب المالكية (¬2)، وأحد القولين في مذهب الشافعية (¬3)، .............. ¬
دليل من قال: لا يجوز الجمع بين البيع والصرف
وقول في مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: يجوز مطلقًا، وهو أصح القولين في مذهب الشافعية (¬2)، وظاهر مذهب الحنفية (¬3). وقيل: يجوز إن لم يشرط في العقد، وهذا مذهب الحنابلة (¬4). دليل من قال: لا يجوز الجمع بين البيع والصرف: قال ابن العربي: "كل عقدين يتضادان وصفًا ويتناقضان حكمًا، فإنه لا يجوز اجتماعهما، أصله البيع والسلف، فركبه على جميع مسائل الفقه، ومنه البيع ¬
وجه من قال: يجوز الجمع بين البيع والصرف
والنكاح ... ومن هذا الباب الجمع بين العقد الواجب والجائز، ومثله بيع وجعالة ... وأمثال ذلك لا تحصى" (¬1). وأما وجه منافاة أحكام البيع لأحكام الصرف: فإن "الصرف مبني على غاية التضييق، حتى شرط فيه التماثل الحقيقي في الجنس، والتقابض الذي لا تردد فيه، ولا تأخير، ولا بقاء علقة، وليس البيع كذلك" (¬2). وجه من قال: يجوز الجمع بين البيع والصرف: الأصل في العقود الإباحة والصحة، واختلاف حكم العقدين لا يمنع صحة العقد، ولأن كل واحد من العقدين جائز على انفراد، فجازا مع الاجتماع، خاصة أن اجتماعهما لا يترتب عليه محذور شرعي. دليل من قال: يجوز الجمع بين البيع والصرف إن لم يشترط: (ح - 843) استدلوا بما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، ثنا محمد بن عمرو، ثنا أبو سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة (¬3). [إسناده حسن] (¬4). وقد سبق لنا خلاف العلماء في تفسير حديث النهي عن بيعتين في بيعة، والراجح في ذلك، بما يغني عن إعادته هنا. ¬
الراجح في الجمع بين العقود المشتركة
الراجح في الجمع بين العقود المشتركة: أن يمنع الجمع بين كل عقدين يترتب على الجمع بينهما محظور شرعي، وإن كان كل واحد منهما جائزًا بمفرده. من ذلك: أن يقول أبيعك هذه السلعة بمائة إلى سنة، على أن أشتريها منك بثمانين حالة، وهذا بيع العينة المنهي عنه (¬1). ومنه لو باع عليه ذهبًا، واشترط عليه أن يشتري منه بثمنه ذهبًا آخر، فإنه حيلة لمبادلة الذهب بالذهب مع التفاضل. ومنه لو باعه الجمع بالدراهم، ثم ابتاع بالدراهم جنيبًا، وكان ذلك عن مواطأة أو شرط. وكذلك لو باع عليه سلعة بشرط أن يقرضه، فإنه يدخل في القرض إذا جر نفعًا، وهكذا, ولا يدخل في ذلك العقدان الذي لم يترتب على جمعهما محذور شرعي، كما لو باعه سيارته بشرط أن يصارفه الدراهم التي معه بدنانير مثلًا، فإنه لا مفسدة ولا محذور في جمع العقدين في عقد واحد، والله أعلم. ¬
الفصل السابع التصرف بثمن الصرف قبل قبضه
الفصل السابع التصرف بثمن الصرف قبل قبضه قال ابن رجب: ما اشترط القبض لصحة عقد لا يصح التصرف فيه قبل القبض لعدم ثبوت الملك (¬1). [م - 1236] اختلف الفقهاء في جواز التصرف في بدل الصرف قبل قبضه. فقيل: لا يجوز، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬
دليل من قال: لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه
وقيل: يجوز التصرف ببدل الصرف قبل قبضه، وهو قول زفر من الحنفية (¬1)، والإمام مالك (¬2). دليل من قال: لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه: الدليل الأول: القياس على الطعام الذي فيه حق توفيه، بجامع أن كلًا منها يعتبر قبضه شرطًا لبقاء العقد على لصحة. (ح - 844) فقد روى الشيخان من طريق نافع عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه (¬3). وفي رواية للشيخين من طريق عبد الله بن دينار، قال: سمعت ابن عمر - رضي الله عنه - يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن التصرف ببدل الصرف قبل قبضه تصرف بشيء لم يثبت ملكه عليه؛ لأن القبض شرط لصحة العقد، أو لبقاء العقد على الصحة، وانتفاء القبض يبطل العقد، فلا يصح ورود عقد آخر عليه قبل انبرامه، وإذا تصرف فيه قبل قبضه فقد تصرف في ملك غيره. الدليل الثالث: أن الأثمان في الصرف كل واحد منها يصدق عليه أنه مبيع، وتجويز التصرف فيها قبل قبضها تجويز للتصرف في المبيع قبل قبضه، وهذا ممنوع. وجه من قال: بصحة التصرف في الثمن: لما كانت النقود لا تتعين بالتعيين، فإذا عقد على بدل الصرف لم يتعين عليه أن يدفع بدل الصرف ثمنًا لها، وكان له أن يدفع من أي ماله شاء، فالواجب أن يدفع مثل بدل الصرف، ويكون تسميته بدل الصرف من باب الحاجة إلى تقدير ثمن السلعة: فإضافة العقد إلى بدل الصرف كعدم إضافته، فيجوز كما يجوز شراء ثوب بدراهم لم يصفها (¬1). ويناقش: بأن الذي لا يتعين بالتعيين هو الثمن، وليس المبيع، فإن المبيع يتعين بالتعيين، وبدل الصرف يصدق على كل واحد منهما أنه مبيع وثمن، وإذا كان كل عقد لا بد له من مثمن (مبيع) كان التصرف في بدل الصرف تصرفًا في المبيع قبل قبضه، وهذا لا يجوز (¬2). ¬
الراجح
الراجح: أرى أن مذهب الجمهور أقوى من حيث الاستدلال، وهو واضح إن كان التصرف بثمن الصرف مع شخص أجنبي، ولكن إن تصرف بثمن الصرف مع من هو عليه، فهل هذه المسألة يمكن تخريجها على بيع الدين على من هو عليه، فينبغي أن يجوز إلا أنه يشترط ألا يربح فيه؛ لأنه إن ربح فيه فقد ربح بشيء لم يدخل ضمانه، وقد ثبت النهي عن ربح ما لم يضمن. أو نقول: إن هذه المسألة لا تدخل في بيع الدين على من هو عليه عند من يجيزه؛ لأن الدين حتى الآن لم يثبت على من هو عليه، فإن القبض في دين الصرف يختلف عن القبض في العقود الأخرى غير الربوية، حيث إن القبض فيها شرط لبقاء العقد على الصحة، والتصرف فيه قبل قبضه يفوت هذا القبض، ولا يمكن الاستدلال بأثر ابن عمر - رضي الله عنه -، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يريد أن يدخل بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا، وبينكما شيء (¬1). وذلك أن الدنانير أو الدراهم كانت قيمة للإبل، وهي من العروض، وليست من الأثمان، فكان الدين من الدين الثابت المستقر في الذمة، ولم يكن قبض الثمن شرطًا في صحة البيع، أو شرطًا في بقاء العقد على الصحة، والله أعلم. ¬
فرع شراء الحلي بثمن الحلي المبيع قبل قبضه
فرع شراء الحلي بثمن الحلي المبيع قبل قبضه [م - 1237] يتخرج على المسألة السابقة (التصرف بثمن الصرف قبل قبضه) مسألة مشهورة في وقتنا، بحيث تذهب المرأة بذهبها القديم إلى الصاغة، وتسأله عن سعر شراء الجرام من الذهب، ويكون للمحل تسعيرتان، سعر للشراء، وسعر للبيع، فتطلب منه أن يزن الذهب الذي معها، ثم قبل قبض ثمنه يشترون منه ذهبًا جديدًا، وتجري المقاصة بين الثمنين. فيتخرج للفقهاء في هذه المسألة قولان، بناء على أقوالهم في التصرف بثمن الصرف قبل قبضه، والتي تم بحثها في المسألة السابقة. فالجمهور على أنه لا يجوز، وبه قال شيخنا محمد بن عثيمين - رحمه الله - (¬1). وذهب الإمام مالك، وهو قول زفر من الحنفية إلى الجواز. جاء في المدونة: "أرأيت إن صرفت دينارًا بعشرين درهمًا، فأخذت منه عشرة دراهم، وأخذت بعشرة منها سلعة. قال مالك: لا بأس بذلك، وكذلك لو صرفت دينارًا بدراهم، فلم أقبض الدراهم حتى أخذت بها سلعة من السلع، قال مالك: لا بأس بذلك" (¬2). وظاهره أنه يجوز مطلقًا، لكن جاء في مواهب الجليل ما يفيد أنه إن اشترى ببدل الصرف عرضًا جاز مطلقًا قبل القبض، وإن صارفه بها لم يجز حتى يطول الفصل بين الصفقتين. ¬
جاء في مواهب الجليل: "وقال في المسائل الملقوطة في المسائل التي انفرد بها مالك: من باع من رجل دراهم بدنانير، وقبض الدنانير، ثم باعه بالدراهم عرضا جاز انتهى. بخلاف ما إذا أراد أن يصرف منه الدنانير بدراهم، فإنه لا يجوز حتى يطول الفصل بين الصفقتين" (¬1). وقد ذكرنا أدلة هذه المسألة في المسألة السابقة، فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله. وما رجحته هناك أرجحه هنا، وهو أن التصرف بثمن الصرف قبل قبضه الراجح فيه المنع، لا فرق في ذلك بين أن يكون الثمن دينًا على من هو عليه، أو على غيره، وذلك أن الدين لم يثبت على من هو عليه قبل قبضه، والله أعلم. ¬
الفصل الثامن إذا تصارفا في الذمة ثم اقترض ما وجب عليه
الفصل الثامن إذا تصارفا في الذمة ثم اقترض ما وجب عليه المبحث الأول أن يستقرضا أو أحدههما من رجل أجنبى قال البهوتي: القبض بالمجلس كالقبض حال العقد (¬1). [م - 1238] إذا تصارف المتعاقدان، وليس في أيديهما شيء، ثم اقترض كل واحد منهما من رجل أجنبي عن العقد ما وجب عليه، وسلمه إلى صاحبه في المجلس، فقد اختلف العلماء في ذلك: القول الأول: إن كانت المصارفة دراهم بدنانير صح الصرف؛ وإن كان البيع تبرًا بتبر، ففيه قولان، وهذا مذهب الحنفية (¬2). وجه التفريق بين النقد وبين التبر: الفرق أن الدراهم والدنانير لا يتعينان في العقد، إذ لو عينا لم يتعينا؛ لأن ¬
ويناقش
للعاقد أن يدفع مثل ما عين، وإذا لم يتعينا لم يمنع صحة العقد، فانعقد العقد بمضمون في ذمتهما، إلا أن عقد الصرف يحتاج إلى القبض في المجلس، فإن وجد القبض فقد تم العقد، وليس كذلك التبر بالتبر؛ لأنهما يتعينان في العقد، بدليل أنه لو باع تبرًا بتبر بعينه ثم أراد أن يمسكه ويسلم تبرًا مثله، لم يكن له ذلك، وكان حكم بيعه قبل استقراضه حكم بيع الشيء المعين قبل تملكه، وهذا غير جائز (¬1). ويناقش: بأنه إن باع تبرًا معينًا قبل استقراضه لم يصح؛ لأنه باع ما لا يملك، ولكن ما المانع أن يبيع تبرًا موصوفًا في الذمة، ثم يستقرضه، ويسلمه في مجلس العقد، فلا يكون حق المشتري قد تعلق بشيء معين. القول الثاني: يصح الصرف إذا اقترض في المجلس، هو مذهب الشافعية (¬2)، ومذهب الحنابلة (¬3)، وأحد القولين في مذهب الحنفية (¬4). ¬
وجه القول بالصحة
وجه القول بالصحة: أن الشرط هو القبض في مجلس العقد؛ فإذا حصل فقد صح العقد؛ لأن القبض في مجلس العقد كالقبض حالة العقد. القول الثالث: إن كان الاستقراض من الطرفين فالصرف باطل، وهو مذهب المالكية وقول زفر من الحنفية (¬1). وإن كان الاستقراض من طرف واحد، فاختلف المالكية. فقيل: يصح، وهو المشهور من المذهب (¬2). وقيل: لا يصح، وهو اختيار أشهب من المالكية (¬3). دليل المالكية على التفريق بين أن يكون القرض منهما أو من أحدهما: أن من شرط الصرف المناجزة وعدم التراخي، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء. ¬
وجع قول زفر في التفريق بين أن يكون القرض منهما أو من أحدهما
فإذا كان كل واحد منهما سوف يقترض عوض الصرف كان ذلك مظنة التراخي. فلم يصح، وأما إذا كان الاستقراض من أحدهما, ولم يطل فإن ذلك جائز؛ لأن ذلك بمنزلة حل الصرة. وقد بينا في مسألة سابقة: أن المناجزة في الصرف ليست واجبة، وإنما الواجب التقابض في مجلس العقد، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما لم تفترقا وبينكما شيء) (¬1). وجع قول زفر في التفريق بين أن يكون القرض منهما أو من أحدهما: أن الصرف لا يجوز حتى تظهر إحدى العينين وتعين، فإن لم يكن ذلك لم يجز، نحو أن يقول: اشتريت منك ألف درهم بمائة دينار، وسواء كان ذلك عندهما أم لم يكن، فإن عين أحدهما جاز. وإنما منع من ذلك حتى يعين أحدهما حتى لا يكون بيع دين بدين (¬2). ويناقش: بأننا إذا قلنا: إن الدراهم لا تتعين بالتعيين، لم يكن تعيين أحد العوضين في العقد لازمًا لصحة العقد، فالواجب سيتعلق بالذمة، وهذا يجعل المسألة لا فرق بين تعيين أحدهما، وبين عدم التعيين. دليل أشهب على المنع حتى ولو كان القرض من أحدهما: (ح - 845) استدل أشهب على المنع بما رواه البخاري من طريق مالك، عن نافع عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا الذهب ¬
وجه الاستدلال
بالذهب إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز) وقد تم العقد قبل الاستقراض، فكان أحدهما غائبًا. ويناقش: بأن حديث: (لا تبيعوا منها غائبًا بناجز) معناه: لا يباع عاجل بآجل، أو مقبوض بغير مقبوض، والقبض بالمجلس كالقبض حال العقد القول الرابع: القول بالجواز ما لم يكن ذلك عن شرط، وهذا قول ابن حزم (¬2). واستدل ابن حزم بأنه لا يوجد دليل من قرآن، ولا من سنة يمنع من صحة الصرف، فإن كان هناك شرط لم يصح بناء على مذهب ابن حزم في الشروط، وأن الأصل فيها التحريم والبطلان إلا ما دل الدليل على صحته. والراجح: ما ذهب إليه الجمهور من صحة الصرف، وأن الشرط في الصرف هو القبض في المجلس قبل التفرق، وقد وجد، ولا يؤثر في صحة العقد لو شرط ذلك. ¬
المبحث الثاني أن يقترض أحد المتصارفين من الآخر
المبحث الثاني أن يقترض أحد المتصارفين من الآخر [م - 1239] إذا صارف رجل آخر دينارًا بعشرين درهما، وكان معه عشرة دراهم، فدفعها له، ولما قبض الدينار تسلف منه ما دفعه إليه، ثم ردها إليه في صرف ديناره. فقيل: لا يصح مطلقًا وهذا مذهب المالكية (¬1). وقيل: يصح الصرف إن استقرضه غير الذي دفعه إليه، فإن استقرضه عين المال الذي دفعه إليه فوجهان: أحدهما: لا يجوز، وهو وجه في مذهب الشافعية. وقيل: يصح الصرف، وهذا القول هو مذهب الشافعية (¬2)، واختيار ¬
وجه من قال: لا يجوز مطلقا
ابن حزم (¬1)، والمذهب عند الحنابلة إلا أنهم اشترطوا أن يكون ذلك بدون حيلة (¬2). وجه من قال: لا يجوز مطلقًا: علل المالكية ذلك: بأنه إذا صرف دنانير بدراهم، ثم اقترض منه الدراهم فقام برد الدراهم التي استقرضها، صار الأمر كانه أخذ دنانير بدراهم إلى أجل، وهذا لا يجوز (¬3). وجه من قال: يصح بشرط أن لا يقرضه عين المال الذي دفعه: علل الشافعية عدم الجواز إن استقرضه عين المال الذي دفعه بأمرين: أحدهما: أن القرض لا يملك إلا بالتصرف، وهذه الدراهم لم يتصرف فيها، وإنما ردها بحالها، فكان ذلك فسخًا للقرض (¬4). ونوقش: بأن رده للدراهم يعتبر نوعًا من التصرف فيها. ¬
وجه من قال بالجواز إن كان ذلك بدون حيلة
الأمر الثاني: أن التصرف فيها بإقراضها كان ذلك قبل انبرام العقد بينهما، وهذا باطل؛ لأن الصرف لا ينعقد قبل التقابض (¬1). وجه من قال بالجواز إن كان ذلك بدون حيلة: إن اتخذ القرض حيلة لمبادلة الربوي بالربوي مع التفاضل فإن هذا لا يجوز فإن الحيل لا تبيح المحرمات، ولا تسقط الواجبات، ويكون حكمه حكم ما لو اشترط القرض في البيع، واشتراط القرض في البيع مبطل للعقد بالإجماع، وقد سبق بحثه، وإن كان ذلك بدون حيلة، فالأصل فيه الحل والصحة، حيث لم يتفرقا إلا وقد تقابضا، والله أعلم. الراجح: أرى -والعلم عند الله- أن مذهب الحنابلة. القائل بجواز ذلك بشرط ألا يكون ذلك من باب التحايل لمبادلة الربوي بالربوي مع التفاضل هو الراجح، والله أعلم. ¬
الفصل التاسع اجتماع الصرف والحوالة المصرفية
الفصل التاسع اجتماع الصرف والحوالة المصرفية تمهيد التعريف باجتماع الصرف الحوالة المصرفية إذا تقدم رجل بنقوده أو شيكه الذي يمثل ريالات سعودية مثلًا إلى أحد المصارف في البلاد السعودية، وهو يريد أن يحول هذه النقود إلى البلاد المصرية، أو يريد أن يستلمها هناك جنيهات مصرية هو أو وكيله، فيقوم المصرف بإجراء صرف الريالات إلى جنيهات مصرية، ويسلم العميل شيكًا يتضمن المبلغ من الجنيهات المصرية قيمة لريالاته، ثم يحوله إلى فرع له في القاهرة، أو يحوله إلى مصرف آخر يعتبر وكيلًا له، ويمكن أن يرسل برقية، أو فاكسًا، أو تلكسًا، أو مكالمة تلفونية إلى المصرف المذكور، تتضمن تسليم المبلغ المذكور، ويحصل المصرف في هذه الحالة على أجرة، وعلى مصاريف البرقية، أو التلكس، أو نحوهما. ويجب أن تجري عملية الصرف قبل التحويل؛ لأن الصرف يجب فيه التقابض قبل التفرق، وذلك بأن يقوم العميل بتسليم المبلغ للبنك، ويقوم البنك بتقييد ذلك له في دفاتره بعد الاتفاق على سعر الصرف المثبت في المستند المسلم للعميل قبل التفرق. كما يجب أن يكون لدى البنك فعلًا العملة التي صارفه بها العميل، ولا يكفي ملاءته، وقد سبق لنا أن القيد المصرفي يقوم مقام القبض الشرعي. وبعد إنهاء عملية الصرف تجري الحوالة.
وتتم التحويلات المصرفية المعاصرة بواحدة من الطريقتين: الأولى: حوالة عاجلة، يأمر بها المصرف المحلي فرعه، أو المصرف الأجنبي الذي يراسله عن طريق الإبراق، أو الهاتف، أو غيرها من وسائل الاتصال الفوري الحديثة، فيضع المبلغ المتفق عليه تحت تصرف المستفيد (المحول إليه) في الحال. الطريقة الثانية: حوالة كتابية لدى الاطلاع، بأن يسلم المصرف المحلي أمرًا كتابيًا يسلمه المصرف للعميل ليتولى إرساله للمستفيد، أو يرسله المصرف بالبريد إلى فرعه أو مراسله ويطلب فيه دفع المبلغ المطلوب إلى المستفيد. والحوالة إما أن تكون بنفس العملة المحلية، وهذه لا علاقة لها في بحثنا، لأن هذه المعاملة لا علاقة لها بعقد الصرف. وإما أن تكون بعملة مغايرة، وهذه هي محل البحث. وقبل الجواب على هذا نقوم بتعريف مفردات الباب (الصرف والحوالة). ولما كان الصرف قد سبق تعريفه، فما هو تعريف الحوالة اصطلاحًا: ذكر الفقهاء بأن الحوالة: هي نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه (¬1). وقيل: هي نقل دين من ذمة إلى ذمة (¬2). ¬
واختلفوا: هل هي بيع دين بدين، أو عقد إرفاق: فقيل: هي بيع دين بدين رخص فيه على خلاف القياس، فاستثني من النهي عن بيع دين بدين. وهذا مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: هي عقد إرفاق وإبراء ذمة، لا بيع، وهذا أحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬4)، وهو الأصح في مذهب الحنابلة (¬5)، وهو المعتمد في مذهب الحنفية (¬6)، أنها عقد إرفاق منفرد بنفسه، ليست بيعًا، بدليل جوازها في الدين بالدين، وجواز التفرق قبل القبض، واختصاصها بالجنس الواحد، واختصاصها باسم خاص، ولا يدخلها خيار؛ لأنها ليست بيعًا ولا في معناه؛ لعدم العين فيها، ولكونها لم تبن على المغابنة. ويشترط في صحتها رضا المحيل بلا خلاف، والمحتال عند الأكثر والمحال عليه عند بعض من شذ (¬7). ¬
وسوف يأتي تفصيل كل ذلك إن شاء الله في باب مستقل للحوالة، نذكر فيه شروطها، المتفق عليه، والمختلف فيه، وحجة كل قول، وبيان الراجح بلغنا الله ذلك بعونه وتوفيقه.
المبحث الأول التوصيف الفقهي لاجتماع الصرف الحوالة المصرفية
المبحث الأول التوصيف الفقهي لاجتماع الصرف الحوالة المصرفية [ن-74] اختلف العلماء المعاصرون في التكييف الفقهي لاجتماع الصرف والحوالة: القول الأول: قيل: هذة المعاملة سفتجة (¬1)، فالعميل يعتبر قد أقرض المصرف (البنك) المبلغ المحول، والإيصال الذي يستلمه أو الشيك يعتبر صك السفتجة الذي يُمَكِّن العميل من استيفاء حقه إما بنفسه، أو يمكن وكيله من استيفاء المبلغ نيابة عنه، وقد قال بهذا القول فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء، والشيخ عبد الله ابن منيع (¬2). ¬
حكم الحوالة على هذا التخريج
حكم الحوالة على هذا التخريج: إذا اعتبرنا الحوالة سفتجة، وهي قرض، ففي جواز الحوالة إشكال من جهتين: الإشكال الأول: أننا إذا كيفنا العملية بالقرض، والمصرف (البنك) سوف يأخذ عمولة على هذه العملية، فيكون هناك اشتراط نفع للمقترض، فكأن المقرض الذي هو العميل سوف يأخذ أقل مما دفع إلى المصرف، وقد نص بعض الفقهاء على أنه لا يجوز اشتراط الوفاء بالأقل؛ لأن ذلك خلاف مقتضى العقد، فإن مقتضى عقد القرض أن يرد مثل ما أخذ (¬1). ويجاب على هذا: بأن هناك من الفقهاء من أجاز اشتراط النفع للمقترض، وإنما المحذور أن يكون النفع خاصًا بالمقرض. [م - 1240] فقد أجاز المالكية في المشهور عندهم أن تكون المنفعة خالصة للمقترض (¬2). وأجاز الشافعية انتفاعهما معًا بشرط أن يكون نفع المقترض أقوى (¬3). ¬
الإشكال الثاني
وأجاز الحنابلة أن يكون النفع مشتركًا بين المقرض والمقترض كما في السفتجة، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في بحث مستقل. فبناء على ما سبق يجوز اشتراط دفع المقترض أقل مما أخذ، كما لو قال: أقرضك مائة ريال على أن تردها إلى تسعين؛ لأن ذلك زيادة إرفاق، فهو تأييد لمقصود عقد القرض الذي هو الإرفاق بالمقترض، وقد التزمه المقرض فيلزمه، وليس للإرفاق حد يجب الوقوف عنده، لا سيما أن هذا الشرط مضاد للربا، ففي التزامه توكيد للبعد عن الربا (¬1). والقول بأن شرط النقصان في رد القرض ينافي القرض غير مسلم؛ لأن القرض مبني على الإرفاق والإحسان، وشرط النقصان لا يخرجه عن موضوعه. الإشكال الثاني: اجتماع الصرف، وهو عقد من عقود البيع مع القرض في عقد واحد، وهذا لا يجوز عند كافة العلماء. (ح - 846) لما رواه أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬2). [إسناده حسن] (¬3). ¬
ونوقش هذا التخريج
وقد حكى الإجماع غير واحد من أهل العلم على تحريم اشتراط البيع مع عقد القرض. قال الباجي في المنتقى: "لا يحل بيع وسلف، وأجمع الفقهاء على المنع من ذلك ... " (¬1). قال القرافي: "وبإجماع الأمة على جواز البيع والسلف مفترقين، وتحريمهما مجتمعين لذريعة الربا" (¬2). وقد يجاب عن ذلك بأن يقال: إن الممنوع هو اشتراط القرض في عقد البيع، أما اجتماع القرض في عقد البيع من غير شرط فالحنابلة يرون جوازه (¬3)، وقد بعثت هذه المسألة في مبحث مستقل، فأغنى عن إعادته هنا. وقد يرد على هذا: بأنه لما كان غالب الحوالات المصرفية يتم فيها الصرف، كان ذلك كالمتعارف عليه، والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. ونوقش هذا التخريج: بأن هناك فرقًا بين السفتجة وبين الحوالة: أولًا: أن المقترض في السفتجة لا يتقاضى أجرًا على هذه العملية، بينما المصرف في التحويلات المصرفية يتقاضى أجرًا يسمى عمولة، وقد ناقشت هذا الفرق في أثناء الكلام على حكم الحوالة. ثانيًا: أن المبلغ الذي يستوفيه المقرض في السفتجة هو من جنس المدفوع ¬
القول الثاني
عند الإقراض، فالذي اقترض ريالات سعودية يوفيها بقدرها من نفس النوع، بخلاف الحوالة المصرفية، فإنه قد يسلم ريالات، ويستلم جنيهات مثلًا. وهذا فرق آخر مؤثر في التفريق بين السفتجة وبين الحوالة المصرفية. ثالثًا: أن العميل الذي يتقدم بطلب الحوالة ليس في نيته أن يقرض المصرف، وإنما ينوي أن ينقل نقوده من مكان إلى آخر، والقصد في العقود معتبر شرعًا، أما في السفتجة فنية القرض موجودة عند الطرفين. رابعًا: أن السفتجة القديمة لا بد أن تكون بين بلدين، والتحويل المصرفي تارة يكون كذلك، وتارة يكون بين مصرفين في بلد واحد، وإن كان هذا الفرق غير مؤثر في الحكم، فالذي يجيز السفتجة بين بلدين لن يمنع من جوازها بين مكانين في بلد واحد، بل إن حجة من كره السفتجة أو منعها كونها بين بلدين. القول الثاني: ذهب قوم إلى تخريجها على أنها حوالة فقهية (¬1). وجه ذلك: أن المصرف حين يستلم المبلغ من العميل يصبح مدينًا له، فيكون محيلًا. والمستفيد يكون محالًا. والمصرف الثاني أو فرع المصرف الأول محالًا عليه، وبذلك يتوفر أركان الحوالة. ¬
حكم الحوالة المصرفية بناء على هذا التخريج
حكم الحوالة المصرفية بناء على هذا التخريج: اجتماع الصرف، وهو نوع من البيوع مع الحوالة جائز عند الجمهور إذا كان اجتماعهما بدون شرط؛ لأنه ليس فيه أكثر من اختلاف حكم العقدين، وهذا لا يمنع صحة العقد، كما لو جمع في البيع بين ما فيه شفعة وبين ما لا شفعة فيه، ولم يترتب على اجتماعهما محذور شرعي (¬1). وقد اعترض على هذا التخريج بما يلي: أولًا: أن الحوالة الفقهية لا يجوز أخذ الأجرة عليها، بينما الحوالة المصرفية يأخذ المصرف أجرة عليها، وسوف يأتي إن شاء الله الكلام على هذه المسألة بالتفصيل عند بحث بطاقات الائتمان فانظرها هناك، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ثانيًا: أن من أركان الحوالة محيلًا، ومحالًا عليه، ومحتالًا، وكثير من الحوالات المصرفية المعاصرة قد يقوم المحيل بالحوالة إلى نفسه، مثل أن يحيله إلى حسابه في مصرف آخر، وإذا كان التحويل إلى فرع له فإنه لا يوجد المحال عليه، ومن المعلوم أنه إذا لم يوجد أحد أركان العقد فإن العقد لا ينعقد. ثالثًا: أن من شروط الحوالة الشرعية أن يكون ما على المحال عليه مجانسًا لما على المحيل قدرًا وصفة، والحوالات المصرفية تكون في الغالب بين نقدين مختلفين. وهذا الاعتراض إنما هو بناء على قول الجمهور، والذي يشترط وجود دين ¬
القول الثالث
في ذمة المحال عليه، أما الحنفية والذين أجازوا الحوالة المطلقة، فلم يشترطوا أن يكون في ذمة المحال عليه دين أصلًا، لا من جنس المحال به، ولا من غيره، وا لله أعلم. رابعًا: أن عقد الحوالة: هو نقل دين من ذمة إلى أخرى، بينما الحوالات المصرفية قد لا يوجد هناك دين أصلًا. وأجيب عن هذا الاعتراض بما أجيب به الاعتراض السابق، والله أعلم. خامسًا: أن اشتراط الحوالة في عقد القرض يمنعه الإِمام مالك، جاء في المدونة: "لو أقرضته دنانير على أن يحيلني على غريم له بدنانير مثلها إلى أجل من الآجال، وإنما أردت أن يضمن لي دنانيري إلى ذلك من الأجل؟ قال: لا خير في ذلك، كانت المنفعة للذي أسلف، أو للذي يسلف، وكذلك بلغني عن مالك أنه قال: أراه بيع الذهب بالذهب إلى أجل" (¬1). سادسًا: أن الحوالة الفقهية ثمرتها براءة ذمة المحيل من الدين، وليست للتحويل المصرفي هذه الثمرة؛ لأن المصرف الآخذ يبقى مدينًا بدين القرض، ولا يبرأ منه إلا بتوفية المصرف الآخر. القول الثالث: تخريجها على أنها عقد وكالة، فالعميل يوكل المصرف على نقل النقود، والمصرف الأول يوكل المصرف الثاني في دفعها، وقد صدر بهذا قرار مجمع الفقه الإِسلامي (¬2). ¬
حكم الحوالة المصرفية بناء على هذا التخريج
وبه قال الشيخ عبد الله العبادي، والأستاذ سامي حسن حمود (¬1). حكم الحوالة المصرفية بناء على هذا التخريج: إذا قلنا: إن الحوالة وكالة، وهي عقد جائز، والصرف بيع، وهو عقد لازم، فالخلاف فيها يرجع إلى حكم الجمع بين عقد جائز وعقد لازم. [م - 1241] فالجمهور على الجواز إذا كان ذلك بدون شرط (¬2)، كما قلنا: في اجتماع الصرف والحوالة. ومنع المالكية والشافعية الجمع بين عقد جائز وبين عقد لازم (¬3). قال ابن العربي: "كل عقدين يتضادان وصفًا ويتناقضان حكمًا، فإنه لا يجوز ¬
ونوقش هذا التخريج
اجتماعهما، أصله البيع والسلف، فركبه على جميع مسائل الفقه، ومنه البيع والنكاح ... ومن هذا الباب الجمع بين العقد الواجب والجائز" (¬1). ونوقش هذا التخريج: بأن الوكالة عقد جائز، بينما الحوالة المصرفية لا يملك الوكيل (المصرف) التراجع عن عقد الوكالة، فهو ملزم بتوصيل المبلغ للمستفيد في البلد الآخر. وأجيب: بأن العقود الجائزة يجوز لأحد العاقدين أو كليهما أن يستقل بالفسخ كعقد الوكالة، وذلك لأنها مبنية على التبرع، إلا أنه يشترط أن لا يتضمن فسخ العقد إضرارًا بالطرف الآخر، فإن العقد الجائز قد يتحول إلى عقد لازم إذا تضمن فسخ العقد إضرارًا بالعاقد الآخر. يقول ابن رجب: "التفاسخ في العقود الجائزة متى تضمن ضررًا على أحد المتعاقدين أو غيرهما ممن له تعلق بالعقد لم يجز ولم ينفذ ... " (¬2). ثم ساق أمثلة على تلك القاعدة: وقال الزركشي في المنثور: "العقود الجائزة إذا اقتضى فسخها ضررًا على الآخر امتنع، وصارت لازمة ... " (¬3). فإذا علم ذلك فإن الوكالة في الحوالة ليست قائمة على التبرع، وإنما هي وكالة بأجر، وقد تعلق بها حق شخص ثالث، ويلزم من الفسخ وقوع ضرر ¬
القول الرابع
بالشخص الآخر، ومتى لزم من فسخ العقد الجائز وقوع ضرر على أحدهما تحول إلى عقد لازم كما بينا، والله أعلم. القول الرابع: تخريج الحوالة المصرفية على أنها عقد إجارة على نقل النقود. وقد قال بهذا القول جماعة، منهم الشيخ أحمد إبراهيم بك، وستر الجعيد، وصالح بن زابن المرزوقي (¬1). حكم الحوالة بناء على هذا التخريج: [م - 1242] إذا كان الصرف بيعًا، والحوالة المصرفية إجارة، فما حكم الجمع بين البيع والإجارة. اختلف العلماء في الجمع بين البيع والإجارة. فمنع الجمهور من ذلك إذا كان مشروطًا في العقد، وأجازوه بدون شرط. ومنع من ذلك المالكية؛ لأن الإجارة بيع، وقد منعوا اجتماع الصرف مع البيع (¬2). واعترض على هذا التخريج بأمور: الأمر الأول: أن اجتماع الصرف مع الإجارة في عقد واحد يشمله نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة. ¬
أجيب
أجيب: بأن المنهي عنه عند الجمهور إذا كان أحد البيعتين شرطًا للآخر، مثل أن يقول: أبيعك بشرط أن تؤجرني، أو لا أصرف لك إلا أن تحول المبلغ لي، وهذا كله غير موجود في العقد، فإن دافع النقود يستطيع أن يصرف دون أن يلزمه المصرف بالتحويل له، والإجارة عليه. فليس أي من العقدين متوقفًا على الآخر، بل كل منهما مستقل عن الآخر. أو يقال: إن معنى النهى عن بيعتين فى بيعة: هو بيع العينة، كما حمله على ذلك ابن تميمة وابن القيم. وقد سبق لنا كلام أهل العلم في معنى بيعتين في بيعة، وبيان الراجح، وأن الصحيح إذا كان العقدان لا محذور من اجتماعهما فلا مانع، سواء كان ذلك بشرط، أو بغير شرط، ويمنع من اجتماع العقدين إذا ترتب على ذلك محذور شرعي، ولو لم يكن ذلك بشرط، والله أعلم. الأمر الثاني: أن الأجير أمين، والأمين لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط، بينما المصرف يضمن مطلقًا, ولو بدون تعد أو تفريط. أجيب: بأن المصرف أجير مشترك، والأجير المشترك عليه الضمان عند الفقهاء. جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي ما نصه: "إذا كان القائمون بتنفيذ الحوالات يعملون لعموم الناس فإنهم ضامنون للمبالغ، جريًا على تضمين الأجير المشترك" (¬1). ¬
الأمر الثالث: أننا إذا قلنا إن المال الذي في يد المصرف هو أمانة في يده، فإن ذلك يمنعه من التصرف في المال المدفوع إليه، فإذا تصرف فيه كان آثمًا وغاصبًا. فإن قيل: إنه تصرف بالإذن فلا يكون آثمًا. قيل: إن الأمانات إذا أذن أصحابها في التصرف فيها، انقلبت إلى قروض مضمونة إلى حين الوفاء، ولا يبقى أجيرًا يعمل لقاء أجر. وأجيب: بأن تصرف الأجير المشترك (المصرف) في النقد بناء على أن النقود لا تتعين بالتعيين، وقد قبضها بقصد تقديمها أو تقديم مثلها في المكان الذي عينه المحول طالب التحويل، وتصرف المصرف فيها لا يجعله مقترضًا؛ لأنه لم يقبضها أمانة. الأمر الرابع: أن الأجير، وهو المصرف لن يقوم بما استؤجر عليه، وهو إيصال المبلغ الذي دفعه إليه المستأجر إلى البلد المطلوب، بل سيحتفظ به ليقبض المستأجر بدلًا عنه في البلد الآخر، والإجارة لا بد في انعقادها من أجرة ليتحقق معناها، فبماذا يستحق الأجرة إذا لم يقم الأجير بالعمل. وأجبيب: بأن المنفعة المقصودة من العمل قد تحققت وذلك بتهيئة النقود، وتحقق وجودها في المكان الذي يريده المؤجر، وذلك كما يكون بنقلها حسيًا يكون أيضًا بتوفير مثلها هناك في فرعه، أو لدى وكيله؛ لأن النقود لا تتعين بالتعيين، كما هو الراجح من قولي العلماء (¬1). ¬
القول الخامس
القول الخامس: تخريجها على أنها عقد جديد مستحدث، مركب من عدة عقود (¬1). ويترتب على هذا التخريج جواز هذه المعاملة؛ لأن القول الصحيح أن الأصل في العقود المركبة هو الحل ما لم يكن في اجتماعها محذور شرعي من ربا، أو غرر، أو ظلم لأحد المتعاقدين، وهذه المعاملة خالية من ذلك كله. جاء في الموسوعة الكويتية: "والنتيجة ... أن التحويل المصرفي أو البريدي عملية مركبة من معاملتين أو أكثر، وهو عقد حديث بمعنى أنه لم يجر العمل به على هذا الوجه المركب في العهود السابقة، ولم يدل دليل على منعه، فهو صحيح جائز شرعا من حيث أصله بقطع النظر عما يحيط به من مواد قانونية يجب لمعرفة حكمها استقصاؤها تفصيلا ودراستها للحكم فيها" (¬2). الراجح من أقوال أهل العلم: بعد استعراض الأقوال أجد أن أقوى قولين قيلا في تخريجها: هما: الأول: أنه عقد صرف مع وكالة بأجر في نقل المبلغ المصروف إلى مكان آخر، ولم يعترض على هذا القول باعتراض سالم من الرد، فقولهم إن الوكالة عقد جائز، والمصرف لا يستطيع أن يفسخ عقد الحوالة قد أجيب عنه بأن ¬
الوكالة إذا ترتب على فسخها ضرر فقد تحولت إلى عقد لازم، خاصة أن الوكالة هنا ليست من قبيل التبرع المحض، وإنما هي بأجرة. والقول الآخر: أنه عقد جديد مستحدث، والأصل فيه الجواز، ما عدا هذين القولين تجد أنها لا تسلم من اعتراضات وجيهة، وبناء على هذا التخريج فإن المعاملة أراها سائغة شرعًا إن شاء الله تعالى بشرط أن تجري عملية الصرف قبل التحويل؛ لأن الصرف يجب فيه التقابض قبل التفرق، وذلك بأن يقوم العميل بتسليم المبلغ للبنك، ويقوم البنك بتقييد ذلك له في دفاتره بعد الاتفاق على سعر الصرف المثبت في المستند المسلم للعميل قبل التفرق، وأن يكون لدى البنك فعلًا العملة التي صارفه بها العميل، ولا يكفي ملاءته, وقد سبق لنا أن القيد المصرفي يقوم مقام القبض الشرعي. وبعد إنهاء عملية الصرف تجرى الحوالة, وإذا كان يحب أن تكون عملية الصرف من قبل المستفيد، فلنتجر الحوالة بنفس العملة التى سلمها العميل، وبعد استلام المستفيد للمبلغ المحول يقوم هو بعملية المصارفة، ويستلم كل طرف بدل الصرف قبل التفرق، ولا مانع من أخذ عمولة على الحوالة المصرفية؛ لأن "المصرف الذي اعتبر مقترضا في عملية التحويل يختلف عن المقترض في السفتجة، فهو شخصية اعتبارية تجمع موظفين وعمالًا يتقاضون رواتب شهرية غير مرتبطة بالعمل قلة وكثرة، ويتخذ مقرًا مجهزًا بأثاث وأدوات، وآلات كثيرة لاستقبال العملاء وقضاء حاجاتهم، ثم إن العملية ليست كتابة ورقة فحسب، وإنما هي إجراءات كثيرة ذات كلفة مالية، فلو لم يأخذ عمولة لما استطاع تغطية النفقات الطائلة التي ينفقها فاشتراط العمولة محقق للعدالة، ومتفق مع أصل التشريع الإِسلامي، وليس هناك نص أو إجماع على منع مثل
ذلك" (¬1)، ولا تقاس هذه الحوالة على الحوالة المعروفة لدى الفقهاء، وإن تطابقت معها بالاسم، كما أن الوديعة المصرفية لا تشبه الوديعة في الفقه، وإن تطابقت معها في الاسم، والله أعلم. ¬
الفصل العاشر في بيع تراب الصواغين
الفصل العاشر في بيع تراب الصواغين يقصد بتراب الصاغة: ما يسقط من برادة ناتجة عن صناعة الذهب والفضة، والتي تختلط بتراب أرضية الحانوت. وعرف المالكية تراب الصاغة: بأنه الرماد الذي يوجد في حوانيتهم لا يدرى ما فيه (¬1). [م - 1243] وقد اختلف العلماء في حكم بيعه: فقيل: لا يجوز شراء تراب الصاغة بحال من الأحوال. وهذا مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4)، واختيار ابن حزم (¬5). ¬
وجه المنع
وجه المنع: أن من شروط صحة البيع العلم بالمبيع، وما في تراب الصاغة من المعدن ليس معلومًا لا للبائع ولا للمشتري، والمشتري إنما اشتراه لما فيه من الذهب أو الفضة، وهو مجهول، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر كما في حديث أبي هريرة في مسلم (¬1). وقيل: إن كان ما فيه من تراب الذهب خالصًا غير مخلوط بتراب فضة، أو كان تراب فضة غير مخلوط بتراب الذهب، فإنه لا يجوز بيعه إن اشتراه بجنسه؛ لعدم العلم بالتماثل، وهو شرط الصحة. وإن اشتراه بغير جنسه جاز بشرط التقابض، لجواز التفاضل مع اختلاف الجنس، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد). وإن كان التراب فيه ذهب وفضة مخلوطان، فيجوز أن يشتريه بعروض، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وبه قال الحسن والنخعي، وربيعة، والليث (¬4). وإن اشتراه بذهب فقط، أو بفضة فقط فالحنفية يمنعون ذلك؛ لاحتمال أن ¬
وجه المنع
يكون ما في التراب من الذهب أو من الفضة أكثر، أو مثله، فيتحقق الربا؛ لأنه يشترط للصحة أن يكون الربوي المفرد (الثمن) أكثر من الربوي المخلوط، وهذا غير معلوم. وأما إن اشتراه بذهب وفضة، فيجوز عند الحنفية فيصرف الجنس إلى خلاف الجنس، فتكون الدراهم مقابل ما فيه من الذهب، والدنانير مقابل ما فيه من الفضة، وهذا لا يشترط فيهما التساوي، تمامًا كما قالوه في مسألة: مد عجوة ودرهم (¬1)، وقد سبق ذكر حجتهم ومناقشتها فيما سبق (¬2). وجه المنع: أنه إن اشتراه بذهب فقط أو بفضة فقط، أنه يخشى أن يكون ما في التراب من الذهب مثل ما في المفرد أو أكثر منه، وهذا لا يجوز لأنه إن كان ما في التراب من الذهب مثل ما في المفرد حرم؛ لأن الربويين إذا كانا مستويين في المقدار، ومع أحدهما عين أخرى كما لو باع درهما ومدًا بدرهم فقد اتفق الجميع على المنع؛ لأنها تقابل من أحدهما جزءًا، فيبقى أحدهما أكثر من الآخر (¬3). وقد يناقش هذا: بأن التراب الذي مع الذهب ليس مقصودًا، وبالتالي يكون وجوده وعدمه سواء، نعم لو كان مع الذهب غير التراب مما هو مقصود يكون له جزء من الثمن، فيبقى أحدهما أكثر من الآخر، ولذلك أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - إلحاق مال العبد ¬
الراجح من الخلاف
بالعبد من باب التبع (¬1)؛ لأنه غير مقصود بالعقد، ولذلك صح اشتراطه ودخل في البيع تبعًا مع أن مال العبد قد يكون مجهولًا وقد يكون معلومًا، وقد يكون من جنس الثمن، وقد يكون من غيره، فلم يشترط الحديث شيئًا لكونه من التوابع غير المقصودة، وقد تكلمنا على مسألة ما إذا كان المال الربوي تابعًا غير مقصود، في عقد الربا فانظره هناك. وإن كان ما في التراب من الذهب أكثر مما في المفرد حرم البيع؛ لأنه يؤدي إلى مبادلة الذهب بالذهب مع التفاضل، وهذا محرم. ولذلك منع الحنفية بيع تراب الصاغة إذا كان فيه ذهب وفضة مخلوطان، وبيع بذهب فقط، أو بفضة فقط، والله أعلم. الراجح من الخلاف: أرى أن قول الجمهور أقوى؛ لأن المنع جاء من جهة الجهالة في المبيع، فلا بد من معرفة مقدار ما في تراب الصاغة من معدن؛ لأنه هو المقصود بالشراء، والله أعلم. ¬
الباب السابع فى أهم المعاملات المصرفية
الباب السابع فى أهم المعاملات المصرفية لا يمكن للباحث أن يتناول دراسة الربا دون أن يتعرض لبعض أحكام المعاملات المصرفية، باعتبار أن أكثر المصارف في العالم اليوم تتعامل بالربا. ولقد كانت المعاملات المصرفية فيما مضى معاملات محدودة تعتمد على الإقراض والاقتراض بفائدة، أما اليوم فقد توسعت وتشعبت، وكثير من معاملاتها هي معاملات نشأت في بيئة رأس مالية، ونتيجة لهيمنة الحضارة المادية الغربية فقد نقلت تلك المنظومات المالية الغربية إلى مجتمعات المسلمين دون تعديل، فجاءت مع مصطلاحاتها إلينا، وكثير من هذه المصطلحات لا يحمل دلالة فقهية، أو له دلالة ولكنها لا تتفق مع المصطلحات الفقهية المعروفة إلا بالاسم، بل ربما شكلت هذه المصطلحات عائقًا لدى البعض في فهم هذه المعاملات، وتخريجها التخريج الصحيح، فغالب المعاملات المالية في مجتمعنا ومؤسساتنا المالية اليوم لا تخرج عن أمرين: إما معاملات مصدرها التاريخي القوانين الغربية، كالتأمين والأوراق التجارية والأوراق المالية، ونظام سوق البورصات، وقيام شركات الأموال ذات المسؤولية المحدودة. أو معاملات تستمد أنظمتها من القوانين الغربية كالاستيراد عن طريق الاعتمادات المستندية، وبطاقات الائتمان. والمطلوب اليوم هو الفحص الفقهي لهذه المعاملات، والنظر في مدى توافقها مع القواعد الشرعية، فما كان منها مقبولًا شرعًا رحبنا به، واستفدنا منه
باعتبار أن المعاملات المالية هي حاجة إنسانية تحقق الرفاه، والنمو الاقتصادي للإنسان، وهذه حاجات بشرية إنسانية مطلوبة لمختلف الشعوب. وأن نبذل كل ما في وسعنا، ونستفرغ كل جهدنا للوصول إلى بديل إسلامي لما هو محرم منها، بعد التوصل إلى تصور صحيح نقطع من خلاله، أو يغلب على ظننا بأنه محرم، وأن نجمع لمجتمعنا الحديث بين الأصالة وبين التجديد، وأن يكون تدخلنا في رفض هذه المعاملات أو تعديلها إن أمكن إنما هو لتحقيق العدل، ومنع الظلم، والاحتكار، والاستغلال. وقد اخترت من المعاملات المصرفية أهمها وتركت الكثير؛ لأن استيعابها يحتاج إلى كتاب يكون موضوعه هذا الفن خاصة، وقد كتب فيها كثير من العلماء الأفاضل، ولا زالت المكتبة الإِسلامية تحتاج المزيد. ومن أهم هذه المعاملات التي اخترتها: (1) الودائع المصرفية. (2) الحوالات المصرفية. (3) المرابحة للآمر بالشراء. (4) الاعتماد البسيط. (5) الاعتماد المستندي. (6) الضمان المصرفي. (7) بطاقات الائتمان. (8) الأوراق التجارية. (9) سوق المال والأوراق المالية.
وسبق أن تطرقنا لبعض المعاملات المصرفية: (10) صرف العملات. (11) ربا القروض. (12) القبض الحكمي في أنواع من المعاملات المصرفية. كالشيك المصدق، والقيد الدفتري.
الفصل الأول في الودائع المصرفية
الفصل الأول في الودائع المصرفية المبحث الأول في الودائع المصرفية وبيان خصائصها تعريف الودائع المصرفية: الودائع المصرفية هي كلمة مركبة من كلمتين: أحدهما كلمة (الودائع) والثانية (المصرفية) ولم نتعرض لتعريف الوديعة في الفقه الإِسلامي ولا بيان حكمها التكليفي، وأركانها، وشروطها لأسباب منها: الأول: أن أحكام الوديعة ستكون محل دراسة في كتاب خاص من هذه المنظومة. الثاني: أن تسمية الودائع المصرفية بالوديعة ليست تسمية فقهية يمكن تطبيق أحكام الوديعة عليها، وإنما أخذت الوديعة هذا الاصطلاح من العرف البخاري كما سيتضح ذلك إن شاء الله من خلال دراسة تكييف الودائع المصرفية. الثالث: أن ما يسمى ودائع مصرفية منها ما هو من الربا الصريح المجمع على تحريمه، خاصة تلك الودائع المصرفية الاستثمارية في البنوك الربوية، لهذه الأسباب ناسب أن نذكر الوديعة المصرفية في مباحث الربا. إذا علمنا ذلك نأتي على تعريف الوديعة المصرفية: عرفها بعضهم: بأنها عقد بمقتضاه يسلم أفراد أو هيئات مبلغًا من النقود إلى مصرف (بنك) على أن يتعهد الأخير برده، أو برد مبلغ مماثل دفعة واحدة أو
خصائص الودائع النقدية المصرفية
على دفعات لدى الطلب، أو بالشروط المتفق عليها، ويكون للمصرف حق استعمال هذه النقود واستثمارها (¬1). وعرفها الصدر بقوله: "هي مبلغ من النقود يودع لدى البنوك بوسيلة من وسائل الإيداع، فينشئ وديعة تحت الطلب، أو لأجل محدد اتفاقًا، ويترتب عليه من ناحية البنك الالتزام بدفع مبلغ معين من وحدات النقد القانونية للمودع أو لأمره، أو لدى الطلب، أو بعد أجل" (¬2). والتعريفان متقاربان. خصائص الودائع النقدية المصرفية: [ن - 75] الأول: أنها مختصة بالنقود، بينما الوديعة العادية تشمل النقود وتشمل غيرها من الأموال والوثائق وغيرهما. الثاني: أن المصرف يتملكها ويتصرف بها، ويتكسب منها، ويخلطها بأمواله عمدًا، ويرد بدلها. بينما الوديعة العادية لا يملك المودع التصرف بها، وإنما هو موكل بحفظها، وحراستها، ونماؤها لصاحبها, ولا يجوز له خلطها بماله. الثالث: أنها مضمونة مطلقًا، بينما الوديعة العادية لا تضمن إلا في حالتي التعدي والتفريط؛ لأنها أمانة في يد المودع. وقد تعارفت البنوك على تسمية ما تتلقاه من الجمهور باسم الودائع. ¬
وسبب هذه التسمية
وسبب هذه التسمية: أن وظيفة البنوك كانت في مرحلة من تاريخها مقتصرة على قبول الودائع من معادن ثمينة، وعملات مقابل حصولها على عمولة لقيامها بالحراسة، والمحافظة على الوديعة، ولكن البنوك قد تغيرت وظيفتها فلم تعد تتقبل الودائع من الناس من أجل حفظها، وإنما أصبحت تتملك تلك الودائع، وتتصرف فيها وذلك حين رأى أصحاب المصارف أن نسبة ضئيلة من المودعين هي التي تسترد ودائعها كاملة في آن واحد، وأن لديهم حصيلة كبيرة من نقود الودائع عاطلة، وأن من المفيد لهم إقراضها بفائدة، فأصبحوا يقرضون ما أودع الناس لديهم بعد تقديم ضمانات كافية، وتوسعوا في ذلك حتى أصبحت تلك المصارف تقرض من نقود ليس لها وجود، أي أنها تخلق هذه النقود خلقًا، ومع تغير وظيفة المصارف من حفظ الودائع إلا الاقتراض بفائدة والإقراض بفائدة إلا أنها أبقت على التسمية الأولى، وهي اسم الوديعة لكل ما تتلقاه من الجمهور (¬1). ¬
المبحث الثاني أقسام الودائع المصرفية
المبحث الثاني أقسام الودائع المصرفية [ن - 76] تنقسم الودائع المعمول بها في البنوك على اختلاف مسمياتها إلى نوعين من الحسابات: النوع الأول: ودائع مصرفية لا تساهم في النشاط الاستثماري للمصرف. وهذه تنقسم إلى ثلاثة أنواع: (أ) الوديعة المستندية: وهو أن يقوم البنك بحفظ الصكوك والأوراق المالية لعملائه ثم يردها عينًا, ولا يملك المصرف التصرف فيها إلا بإذن أصحابها، ويتقاضى مقابل ذلك عمولة مقدرة، وهذه الودائع تأخذ حكم الوديعة الفقهية من كل وجه. (ب) الودائع المخصصة لغرض معين. وهي أن يودع شخص لدى المصرف مبلغًا معينًا نقديًا، ويوكله بشراء أوراق مالية، أو الاكتتاب في أسهم معينة، أو الوفاء بكمبيالة مثلًا، ويتقاضى البنك مقابل ذلك عمولة مقدرة، وأخذها جائز من الناحية الفقهية؛ لأنه من قبيل الوكالة بأجر، حيث يعتبر البنك هو الوكيل، والمودع هو الموكل, والنقود هي الوديعة. وقد تخصص الوديعة لضمان ائتمان أو قرض قدمه البنك للمودع، فتكون في حكم الرهن. (جـ) وديعة الخزائن الحديدية، وهو عقد يلتزم المصرف بمقتضاه بوضع خزانة
معينة تحت تصرف عميله المستأجر، وتمكينه من الانتفاع بها لمدة معينة لقاء أجرة معلومة. ويستخدم العملاء هذه الخزائن لحفظ أماناتهم النقدية، ووثائقهم الشخصية، ومستنداتهم التجارية، أو بعض الأموال العينية كالمجوهرات، وما شابه. ويسمح للعميل بالدخول إلى الخزانة التي استأجرها في مواعيد العمل الرسمية للمصرف أو حسب الاتفاق ليسحب منها ما يريد، أو يضع فيها ما يريد حفظه بشرط ألا يكون هذه الشيء مضرًا، أو مخالفًا للقانون. ولا يسمح بدخول الصالة إلا لأصحاب الخزائن وحدهم، أو وكيله المفوض بذلك، ولكل صندوق منها مفتاحان مختلفان يعملان معًا بحيث يحتفظ المصرف بالمفتاح الأول، والذي يكون مفتاحًا مشتركًا في الغالب لكل الصناديق الموجودة فى الخزانة الواحدة ويسمى (Master) بينما يسلم المفتاح الآخر للعميل. وبهذا يكون العقد قد تضمن أمرين: (1) الانتفاع الدائم بالخزانة طوال فترة العقد. (2) حفظ الوديعة عندما تودع في الخزانة. فالعقد يجمع بين عقد الوديعة والإجارة بشكل متداخل. فيرى آخرون أن عقد الإجارة هو الأقرب لكون العميل يتمتع بنوع من الحيازة الخاصة للأشياء التي يضعها بنفسه في الخزانة، فهو وحده الذي يعلم مقدار وبيان هذه الأشياء، بل يستطيع أن يترك الخزانة فارغة دون أن يؤثر ذلك في صحة عقد إيجار الخزانة، فلو كان العقد عقد وديعة لما سمح المصرف للعميل بالتصرف بمحتويات الخزانة إلا بعد اطلاع المصرف على كل تعديل يجري في محتويات الخزانة، إذ هو المسئول عنها، ويده يد أمانة، فالمصرف ليس له إلا
تسهيل مرور العميل من أجل الوصول إلى خزانته، ثم يأتي دور العميل ليتصرف بخزانته كما يشاء دون رقابة من المصرف. بينما يرى آخرون أن عقد الوديعة أقرب منه إلى الإيجار، فجوهر ما فيه هو فكرة الحفظ والصيانة، لا فكرة الاستئجار، ووجود الخزانة في حيازة المصرف أمر جوهري في العقد فالعميل لا يستأجر الخزانة لمجرد ملئ ما بداخلها من فراغ بأشيائه الخاصة، كما يفعل مستأجر البيت والسيارة، وإنما يستأجر العميل الخزانة لكونها في حفظ المصرف وحراسته (¬1). النوع الثاني: ودائع مصرفية تساهم في النشاط الاستثماري للمصرف، وهذه تنقسم إلى أقسام. (1) ودائع تحت الطلب، وتسمى بـ (الحسابات الجارية). (2) الودائع الآجلة، وتنقسم إلى ثلاثة أقسام: (أ) ودائع ذات أجل ثابت معين. (ب) حسابات التوفير (الودائع الادخارية). (جـ) ودائع بشرط الإخطار. وسوف نعرف كل واحدة من هذه الودائع، وبيان تكييفها، وحكمها الشرعي في المباحث التالية. ¬
الفرع الأول في الودائع المصرفية الجارية
الفرع الأول في الودائع المصرفية الجارية المسألة الأولى في توصيف الودائع الجارية إعطاء الشخص ماله للغير: إن كان على سبيل التمليك، فإن كان عن معاوضة، فهو بيع، وإن كان بلا عوض، فهو هبة، وإن كان ليملكه وبرد مثله، فهو قرض. وإن كان دفع المال للغير ليس على سبيل التمليك، فإن كان للحفظ فقط، فهو وديعة، وإن كان للانتفاع مع بقاء العين، فهو عارية، وإن كان للانتفاع مع استهلاك العين فهو قرض. [ن - 77] إذا نص في عقد الإيداع بأن الحساب البخاري قرض يأخذه البنك من عميله المقرض فإنه لا خلاف بأن النص يقضي على الخلاف الدائر بين المعاصرين في تكييف الودائع المصرفية الجارية، لذلك كثير من البنوك الإِسلامية تورد في عقد فتح الحساب النص التالي: "الحساب البخاري هو قرض تحت الطلب، لا يستحق المتعامل مع المصرف بمقتضاه أية أرباح، كما لا يتحمل آية خسارة، ويلتزم المصرف بناء على ذلك بدفع الرصيد كاملًا عند طلبه من المتعامل". أما إذا لم ينص على ذلك في العقد الموقع بين البنك وبين العميل، أو نص على أنه وديعة، أو على أي تكييف آخر غير القرض، فما حكم هذا التكييف إذا علمنا أن البنك يتملك الحساب البخاري، ويخلطه بأمواله، ويتصرف فيه،
ويستأثر بأرباحه، ولا يرد عين ما أخذ بل يرد بدله، فهل ننظر إلى ظاهر اللفظ، أو ننظر إلى المعنى، هذا محل اختلاف بين الباحثين المعاصرين. فقيل: إن الودائع الجارية قرض، وتسميتها بالودائع تسمية تاريخية حيث كانت في بدايتها كذلك. وبهذا صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي (¬1)، والهيئة الشرعية في شركة الراجحي المصرفية (¬2)، والباحثين في ندوة البركة (¬3)، وأكثر العلماء المعاصرين (¬4). ¬
وقيل: الحسابات الجارية تأخذ حكم الوديعة الفقهية على خلاف بينهم: هل أخذت حكم الوديعة لأنها مأذون باستعمالها، من جهة أن المودع يعلم أن المصرف سوف يتصرف فيها وفق العرف المصرفي، كما رجحه الأستاذ الدكتور حمد الكبيسي (¬1). أو أخذت حكم الوديعة؛ لأنه لا يوجد إذن بالاستعمال كما هو نص النظام الأساسي لبنك دبى الإسلامى (¬2)، واختيار فضيلة الدكتور عيسى عبده (¬3)، وحسن الأمين (¬4). ¬
وجه من قال: إن الوديعة المصرفية الجارية عقد قرض.
وقيل: عقد وديعة ناقصة أو شاذة (¬1). وهذا التوصيف قانوني، لا يسأل عنه الفقه الإِسلامي، ولولا أن الباحثين المعاصرين ذكروه لما ذكرته. وقيل: إنها عقد مستقل بذاته، يدخل ضمن العقود غير المسماة في الفقه الإسلامى (¬2). وقيل: الوديعة الجارية إن أخذ عليها فوائد فهي عقد بيع، وإلا كانت قرضًا (¬3). وجه من قال: إن الوديعة المصرفية الجارية عقد قرض. الوجه الأول: أن العبرة في العقود بالمعاني لا للألفاظ والمباني، وحقيقة الوديعة لا ينطبق على الوديعة المصرفية؛ لأن الوديعة بالمعنى الشرعي الذي حدده الفقهاء يعني دفع المال من أجل حفظه ورد عينه، دون تملكه أو استخدامه، وإذا هلك بدون تعد ولا تفريط لم يضمنه. بينما المصرف يملك الوديعة المصرفية، ويتصرف فيها, ولا يرد عينها، وإنما يرد مثلها، ويضمنها مطلقًا حتى ولو لم يتعد أو يفرط، وهذا لا يتفق مع طبيعة عقد الوديعة. فإعطاء الشخص ماله للغير إن كان على سبيل التمليك، فإن كان عن معاوضة، فهو بيع، وإن كان بلا عوض، فهو هبة، وإن كان ليملكه ويرد مثله، فهو قرض. ¬
الوجه الثاني
وإن كان دفع المال للغير ليس على سبيل التمليك، فإن كان للحفظ فقط، فهو وديعة، وإن كان للانتفاع مع بقاء العين، فهو عارية، وإن كان للانتفاع مع استهلاك العين فهو قرض، والحساب البخاري هو دفع المال للغير على سبيل التمليك، ورد بدله، فلا يصح إلا أن يكون قرضًا. الوجه الثاني: أن القوانين الوضعية قد نصت على اعتبار الحسابات الجارية قروضًا يقدمها أصحابها إلى المصارف. جاء في القانون المدني المصري، ما نصه: "إذا كانت الوديعة مبلغًا من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال، وكان المودع عنده مأذونًا له في استعماله، اعتبر العقد قرضًا" (¬1). وهو يتفق مع القانون المدني السوري (¬2)، والأردني (¬3)، والعراقى (¬4). دليل من قال: الوديعة المصرفية وديعة إذا أذن صاحبها باستعمالها: الدليل الأول: أن التصرف في الوديعة دون إذن صاحبها ليس حرامًا إذا تحقق شرطان: أن يكون المال مثليًا، وأن يكون المتصرف مليئًا. فالمالكية يرون أنه يحرم على الوديع أن يستلف الوديعة إن كان فقيرًا، سواء ¬
أكانت الوديعة من القيميات أم من المثليات، وذلك لتضرر مالكها بعدم الوفاء نظرًا لإعدامه. وأما إن كان موسرًا، فإن كانت الوديعة عرضًا قيميًا فيحرم على الوديع اقتراضها؛ لانعدام المثل هنا. وإن كانت الوديعة مثلية، فإن كانت نقودًا فيكره على الوديع اقتراضها؛ لأن المثل هنا يقوم مقام العين. وقيل يجوز بلا كراهة. وعلل بعض المالكية الجواز بتعليلات منها: (أ) أن المودع قد ترك الانتفاع بها مع القدرة عليه فجاز للمودَع الانتفاع بها، ويجري ذلك مجرى الانتفاع بظل حائطه، وضوء سراجه. (ب) أن المودَع لم يبطل على المودِع غرضه؛ لأنه إنما أمر بحفظها، وهذا حاصل. (جـ) أن الدراهم لا تتعين بالتعيين، ولذلك كان للمودَع أن يرد مثلها، ويتمسك بهامع بقاء عينها (¬1). وإن كانت الوديعة المثلية ليست نقودًا، فإن كانت مما يكثر اختلافه، ولا يتحصل أمثاله، فيحرم اقتراضها كالقيميات، وإلا فيجوز تسلفها كالدراهم والدنانير في ظاهر المدونة (¬2). ¬
ويناقش
ويناقش: بأن هذا القول من المالكية ليس في موضع النزاع، فالخلاف بين الجمهور والمالكية في الحكم التكليفي في استقراض الوديعة دون إذن صاحبها، فمنعه الجمهور، وكرهه المالكية بالشروط السابقة، ومنهم من أجازه، ونحن لا نحرم على البنك أن يستقرض ما سلمه إليه العميل؛ لأن صاحبه إن لم يأذن في التصرف لفظًا فقد أذن بحكم العرف، والشرط العرفي كالشرط اللفظي. وأما التكييف الفقهي للوديعة فالمالكية يتفقون مع الجمهور بأن الوديعة بعد استقراضها تحولت من وديعة إلى قرض، ولم تبق وديعة، وأنتم إنما تريدون أن تحتجوا بأن مسمى الوديعة ما زال باقيًا مع استقراض المودَع، وأن استقراض المودع عندكم لا يحولها إلى قرض، وهذا لا يتفق مع مذهب المالكية، فلا يسوغ لكم الاحتجاج بمذهب المالكية، ولا يتفق مع طبيعة عقد الوديعة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الخلاف في كون الدراهم لا تتعين بالتعيين إنما يجري في باب المعاوضات، أما في باب الوديعة فإن الرد متعلق ¬
الدليل الثاني
بعين الوديعة، وليس في ذمة المودَع؛ لأن الحق ليس فيه ثمن ومثمن، فالدراهم هنا تتعين بالتعيين، ولا يجري فيها الخلاف الذي يجري في المعاوضات، ولذلك لو تلفت الوديعة بدون تعد ولا تفريط لم يضمن المودَع، ولو كانت الوديعة متعلقة بذمة المودَع لضمن. الدليل الثاني: أن الإذن بالاستعمال يخرج المستودَع من حكم الخيانة في التصرف في الوديعة. يقول الأستاذ الدكتور حمد الكبيسي: "إن تهمة خيانة الأمانة مندفعة بأن المودع رضي باستخدامها، ومن جهة أنه يعلم أن المصرف سوف يتصرف بهذه الأموال وفق العرف المصرفي" (¬1). ويجاب عن هذه: أما القول بأن الإذن بالاستعمال يخرج المستودَع عن تهمة الخيانة بالأمانة فهذا صحيح، ولا إشكال في أن الوديعة إذا أذن صاحبها في استعمالها فإن للمودَع أن يستعملها, ولكن إذا استعملها هل تبقى وديعة وقد استعملها، أم يزول عنها اسم الوديعة، هذا هو محل الخلاف، فأنتم تقولون: إنها لا تزال وديعة، والفقهاء يقولون: إن كانت الوديعة عرضًا، وكان استعمالها لا يؤدي إلى استهلاكها، فقد انتقلت من كونها وديعة إلى حكم العارية، وإن كانت الوديعة نقودًا تهلك بالاستعمال فقد انتقلت من كونها وديعة إلى كونها قرضًا، لوجوب مثلها في ذمة المستودَع. ¬
قال السرخسي في المبسوط: "كل ما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاك لعينه يكون قرضاً" (¬1). وقال الكاساني في بدائع الصنائع: "ولو قال له عندي ألف درهم عارية، فهو قرض؛ لأن عندي تستعمل في الأمانات، وقد فسر بالعارية، وعارية الدراهم والدنانير تكون قرضًا؛ إذ لا يمكن الانتفاع بها إلا باستهلاكها، وإعارة ما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه يكون قرضًا في المتعارف" (¬2). وقال في اللباب في شرح الكتاب: "وعارية الدراهم والدنانير والمكيل والموزون قرض" (¬3). وجاء في كشاف القناع: "فإن استعارها أي الدراهم والدنانير لينفقها، أو أطلق ... فقرض تغليبًا للمعنى" (¬4). وقد بين الفقهاء لماذا كانت إعارة الدراهم والدنانير قرضًا. فقد ذكروا أن إعارتها إذن بالانتفاع بها، والانتفاع بها إنما يكون باستهلاك أعيانها، والاستهلاك يتوقف على الملك، فيقتضي بالضرورة تمليك العين، وتمليك العين إما أن يكون من باب الهبة، وإما أن يكون من باب القرض، فلما كان صاحب المال يطالبه برد مثله لم يبق حمل العقد إلا على القرض. ولو كان يمكن الانتفاع بالدراهم والدنانير مع بقاء العين لكان العقد عارية بلا ¬
الدليل الثالث
اشتباه، فلو استعار أحد دينارًا ليزن به دنانيره اعتبر ذلك عارية حقيقية، فليس للمستعير استهلاكه، والانتفاع به بصورة غير الصورة المعينة (¬1). الدليل الثالث: أننا إذا قلنا: إن الوديعة المصرفية هي قرض في ذمة المصرف، فإن ذلك سيمنع من استخدام الوديعة أداة لوفاء الديون؛ لأنه سيؤدي إلى بيع الدين بالدين. فلو أن رجلًا اشترى بضاعة مؤجلة، وأحال على ذلك بما له من مال لدى بنك من البنوك، فإذا اعتبرنا الوديعة قرضًا فإن هذا العقد لن يكون صحيحًا إلا إذا استلم البضاعة مباشرة؛ لأن الصفقة ستكون من باب بيع الدين بالدين. وهذا لا يرد مع اعتبار الحساب وديعة حقيقية (¬2). ويناقش: القول بأننا إذا كيفنا الوديعة بأنها قرض فسوف يمنع ذلك من استعمال الوديعة كأداة لوفاء الديون. هذا الإشكال لا يحله تكييف الوديعة بأنها وديعة؛ لأنه إذا أُذِن للبنك بالتصرف في الوديعة فسوف تنتقل الوديعة من أمانة المصرف إلى ذمته، وتتحول الوديعة إلى دين من الديون، فيبقى الإشكال عندكم قائمًا. فالصحيح أن المبيع المعين المؤجل لا يدخل في باب بيع الدين بالدين؛ لأن الدين هو ما تعلق بالذمة، والمعين المؤجل لم يتعلق بالذمة، ولذلك بيع الغائب المعين الموصوف لا يسمى سلمًا. لأنه معين، وليس من باب بيع الديون هذا ¬
الدليل الرابع
فيما يتعلق بالمبيع المعين المؤجل، وفيما يتعلق باستخدام الوديعة كأداة لوفاء الدين كذلك لا يعتبر من قبيل بيع الدين بالدين؛ لأن استخدام الوديعة كأداة لوفاء الدين إنما يتم عن طريق الحوالة عليها، والحوالة على الدين يعتبر من عقود الإرفاق، وليس من عقود المعاوضات، والله أعلم. الدليل الرابع: أن غاية المودع من الوديعة هو الحفظ، واستردادها متى يشاء، وهذا كل ما يطلب في الوديعة الحقيقية وهو موجود في الوديعة المصرفية. ويناقش: كون الغرض الأساسي لدى المودع هو حفظ الوديعة فإن هذا لا يجعل القرض وديعة، فإن المقرض تارة يقرض الشخص، ويكون غرضه الأساسي الإرفاق والإحسان بالمقترض، وهذا هو الأصل في عقد القرض، وتارة يقرض الشخص، ويكون غرضه الأساسي نفع نفسه، ومنه حفظ المال، ومع ذلك يبقى المال قرضًا. (ث - 151) فقد روى البخاري في صحيحه في قصة دين الزبير، أن الدين الذي كان عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكنه سلف، فإني أخشى عليه الضيعة. قال عبد الله بن الزبير: فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف، ومائتي ألف ... وبعد أن قام عبد الله بن الزبير بسداد دينه، وأراد عبد الله بن الزبير أن يقسم ميراثه، فكان له أربع نسوة، فأصاب كل امرأة ألف ومائتا ألف، فجميع ماله خمسون ألف ألف، ومائتا ألف (¬1). ¬
الدليل الخامس
فيؤخذ من هذا النص أن القرض كما يكون للفقير يكون للغني، وأن الإقراض يجوز بقصد حفظ المال، ولا يشترط أن يكون القرض بقصد الإرفاق والإحسان. وقد ذكر الفقهاء أن ولي اليتيم إذا خاف على ماله من السرقة فإنه أفضل في حقه أن يقرضه شخصًا أمينًا مليئًا على أن يودعه لدى شخص أمين؛ لأنه في حال القرض يكون المال مضمونًا على المقترض بخلاف الوديعة فإنها ليست مضمونة، ومع كون الباعث على الإقراض هو حفظ المال لم يخرج العقد إلى الوديعة، بل بقي قرضًا، وإن كان غرضه الأساسي هو حفظ مال اليتيم، وليس نفع المقترض. الدليل الخامس: أن التكييف بأن الودائع الجارية هي وديعة حقيقية فيه مصلحة للعميل؛ لأننا إذا كيفنا الودائع الجارية بأنها قرض، ففيه مخاطرة بماله، وتعريض للضياع وذلك في حالة إفلاس المصرف لأي سبب من الأسباب؛ لأنه إذا اعتبر العميل مقرضًا للمصرف فإنه يدخل بحصته منافسًا مع بقية الغرماء الآخرين من أصحاب القروض وغيرهم، بخلاف ما لو اعتبرناها وديعة حقيقية، فإنه في مثل هذه الحالة يكون له الحق بأخذ وديعته أولًا باعتبارها أمانة، وذلك من غير أن يدخل منافسًا بحصته مع غرماء المصرف الآخرين (¬1). ويناقش: هذه المصلحة لا يمكن اعتبارها لسببين: ¬
دليل من قال الوديعة المصرفية وديعة إذا لم يأذن صاحبها باستعمالها
الأول: إذا كيفنا الوديعة على أنها أمانة من أجل هذه المصلحة كان في ذلك اعتداء على حق الآخرين المقرضين أيضًا، والعدل في المساواة بين جميع المقرضين من أصحاب الحقوق. السبب الثاني: أن من شرط تقديم صاحب الوديعة على أصحاب القروض أن يجد صاحب الوديعة عين ماله، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة المتفق عليه: من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره (¬1). وهذا غير متحقق في الودائع الجارية؛ لأن المصرف يخلط أموال الودائع الجارية بغيرها من الأموال، كأموال الودائع لأجل، والتي لا خلاف فيها أنها قرض فلا يمكن معرفة عين الودائع الجارية؛ من بين سائر الأموال. دليل من قال الوديعة المصرفية وديعة إذا لم يأذن صاحبها باستعمالها: الدليل الأول: أن التصرف في الوديعة المثلية جائز مع الضمان، بل ربما بالغ بعضهم فرأى أن التصرف واجب؛ لأن حبس المال دون الانتفاع منه خلاف المصلحة العامة. يقول الدكتور عيسى عبده: "إذا كانت الوديعة من المثليات فالتصرف فيها جائز مع الضمان. هذا في زمن المعاملات الفردية المحدودة، أما وقد تغيرت الحال، وقامت منشآت متخصصة تشتغل بجمع الودائع وتسخيرها لنفع المجتمع، فنرى أن التصرف في جانب من الودائع (النقدية مثلًا) واجب جلبًا للمصالح" (¬2). ¬
الدليل الثاني
وقد ناقشت في القول السابق أن حكم التصرف في الوديعة يتعلق بالحكم التكليفي، وأن الخلاف في هذه المسألة ليس في جواز التصرف في الوديعة، ولكن الخلاف هل تبقى وديعة بعد التصرف فيها، أم تتحول إلى قرض. الدليل الثاني: نحن نشترط في الوديعة الجارية ألا يوجد إذن بالاستعمال أو تفويض من صاحب المال، فإن وجد إذن أو تفويض بالاستعمال تحول المال إلى مال مضاربة، وهذا عكس القول السابق. يقول الدكتور عيسى عبده: "وفي ممارسة الأعمال المصرفية في زماننا هذا يتعين على المودِع أن يحدد قصده، يمعنى ألا يأذن بالتصرف، أو يأذن ويفوض، فإن كانت الأولى فإن تصرف البنك تحت مسئوليته وحده، وإن كانت الثانية أخذ الوديعة حكم القراض (المضاربة) الشرعي" (¬1). اهـ وإذا كان البنك قد اعتاد أن يتصرف فيها حسبما جرت به عادة المصارف فإن هذا التصرف المنفرد من جانب البنك لا يمكن أن يحسب على المودِع، وينسحب على إرادته، فيفسرها على الاتجاه من الإيداع إلى الإقراض، فإرادة المودع لم تتجه أبدًا في هذا النوع من الإيداع نحو القرض، كما أن البنك لم يتسلم هذه الوديعة على أنها قرض، بدليل أنه يتقاضى أجرة على حفظ الوديعة تحت الطلب بعكس الوديعة لأجل التي يدفع هو عليها فائدة (ربا) وبدليل الحذر الشديد في استعمالها والتصرف فيها من جانبه، ثم المبادرة الفورية بردها عند ¬
ويناقش من وجوه
الطلب مما يدل على أن البنك حينما يتصرف فيها إنما يفعل ذلك من موقف انتهازي لا يستند إلى مركز كمركز المقترض (¬1). وعلى فرض أن البنك يتصرف فيها بموجب الإجازة الضمنية الذي دل عليه العرف المصرفي، فإن مثل هذا الإذن لا يغير من إرادة المودع في الوديعة، وأن غرضه الأساسى هو طلب حفظها فلا يصرف هذا إلى غرض آخر تابع للغرض الأول أوجده العرف المصرفي لمصلحة المصارف نفسها. ويناقش من وجوه: الوجه الأول: أن العميل قد أذن باستعمال الوديعة بحكم العرف المصرفي، والأذن العرفي كالإذن اللفظي. فالعميل عندما سلم أمواله للبنك يعلم أن البنك لن يحفظ عين ماله، وأنه سوف يخلط ماله بغيره من الودائع، وأن يد البنك مطلقة باستثماره بمختلف وجوه الاستثمار ما يحل منها وما يحرم، وأن البنك ضامن لهذا المال، ولو قيل للعميل: المصرف سوف يحفظ مالك، وضمانه عليك لم يقبل، فهو يريد أن يكون المال قد دخل ضمان البنك من حين تسليمه له. الوجه الثاني: أن المال قبل الإيداع هو ملك لصاحبه، وبعد الإيداع إن كان ملكه ما زال باقيًا على عين المال، وأن تصرف البنك لا ينقل ملكية عين المال عن صاحبه، فإن البنك بهذه الحالة يكون وكيلًا عن صاحب المال، وربحه يجب أن يكون ¬
وجه من قال: هي وديعة ناقصة أو شاذة
لصاحبه، وضمانه عليه. وإن كان ملك المودِع قد زال نهائيًا عن عين المال، وانتقل الملك إلى البنك، وأصبح البنك يملك السلطة الكاملة في التصرف في عين المال، وربح المال للبنك وحده، وضمانه عليه وإذا رد البنك المال على صاحبه فإنه سوف يرد بدله لا عينه فإن هذا لا يتفق أبدًا مع عقد الوديعة. فالملك للمال يحدد أمرين مهمين: المال والضمان. فالوديعة: يملك صاحبها عينها، وربحها له، وضمانها عليه. والقرض: يملك المقترض عين المال، وربحه له، وضمانه عليه. أما أن يوجد وديعة، لا يملك صاحبها عينها، وربحها ليس له، وضمانها ليس عليه، وتبقى وديعة فإن هذا لا يعرف في الفقه الإسلامي، والله أعلم. وجه من قال: هي وديعة ناقصة أو شاذة: هذا الاصطلاح لا يعرف في الفقه الإِسلامي، وإنما عرف هذا المصطلح في الفقه الوضعي (القانون الفرنسي). والفرق بين الوديعة التامة والوديعة الناقصة عندهم: أن الحفظ إن كان موجهًا لعين الوديعة، فهي الوديعة التامة، وإن كان الحفظ ليس لذات الوديعة، وإنما يكون الحفظ موجهًا لحق المودِع في استرداد مثل ما أودعه متى ما طلب ذلك أعطوها اسم الوديعة الناقصة، والفرق بين الوديعة الناقصة وبين القرض، أن الوديعة الناقصة لصاحبها أن يطلبها في أي وقت يشاء مما يجعل المودع يحتفظ دائما بما يساوي الشيء المودع نوعًا ومقدارًا. والفقه الإسلامي يستبعد هذا المصطلح، ولا يتفق معه؛ لأن حق الاسترداد لا يسمى حفظًا، وما دام أن الوديعة تهلك بالاستعمال فهي قرض محض، بل إن القوانين العربية، وهي في غالبها خرجت من رحم القانون الفرنسي لم تتفق معه
على هذا المصطلح، فاعتبرت الوديعة التي تستهلك بالاستعمال إذا أذن صاحبها باستعمالها من قبل المودَّع صارت قرضًا، وقد نقلنا النصوص عن القانون المصري، والسوري وغيرهما في القول الأول. والقول بأن البنك يحتفظ بما يماثل المودع نوعًا وقدرًا يخالف واقع نظام الإيداع المصرفي، وإنما يحتفظ البنك بنسبة معينة منها، وهو ما يعرف بالاحتياطي القانوني لمواجهة احتمالات طلبات الرد؛ لأن المودعين لا يأتون في وقت واحد يستردون ما أودعوه، وما يسترد في وقت يأتي آخرون ويودعون مثله أو أكثر، فالبنك إنما يحتفظ بجزء من هذه المبالغ، والباقي يتصرف فيها، بل إنه يستغل وجودها لإقراض الآخرين كمية من النقود تفوق ما في أرصدته، اعتمادًا على كون الدائنين لن يسحبوا النقود مرة واحدة، فيقرض هذه الودائع عدة مرات لعدة أشخاص، مع أن النقود واحدة، وهو ما يسمى بخلق الائتمان. وجه من قال: الحساب البخاري عقد جديد، يدخل ضمن العقود غير المسماة. ربما يرى صاحب هذا القول بأن الحساب البخاري مرتبط بفكرة فتح حساب للعميل، وفتح الحساب للعميل ليس مجرد عقد وديعة نقود لصالح البنك، بل يدخل فيه عمليات حسابية مختلفة بين البنك وبين العميل قبضًا ودفعًا، سواء كان ذلك مباشرة، أو نقلًا مصرفيًا، أو مبالغ يقبضها البنك لحساب عميله، كقيمة إسناد، أو تحصيل شيكات، أو عائدات أسهم مالية يفوض العميل البنك في استحصالها، أو عبارة عن ودائع مشتقة (ائتمانية) أنشأتها المصارف من أجل إقراض عملائها، أو منحهم ائتمانًا على شكل وديعة، أو حسابًا جاريًا يقيد باسمهم، ويكون من حقهم السحب عليه بشيكات تمامًا كما لو كانوا أودعوا لدى المصرف نقودًا.
ويناقش
وإذا كانت الودائع الجارية مرتبطة بعقد فتح حساب للعميل، ولا توجد نصوص خاصة تحكم عقود فتح الحساب، وهو عقد جديد يتخلله عمليات مختلفة، فما المانع من كون هذا الودائع الجارية تنتظم تحت ما يسمى بالعقود غير المسماة في الفقه الإسلامي. ويناقش: إذا كان إطلاق هذه التسمية (عقد غير مسمى) على مجموعة هذه العمليات المجتمعة فلا إشكال في هذا, ولا مشاحة في الاصطلاح، وإن كان بعض مفردات هذه العقود لها مسمى فقهي. إذا كان إطلاق هذه التسمية على الودائع الجارية مفردة فإن هذا العقد هو من العقود المسماة، وذلك بالنظر إلى معناه، وما يترتب عليه من أحكام. دليل من قال: الودائع الجارية مع الفوائد عقد بيع: الوديعة الجارية لا يمكن أن تكون وديعة حقيقية ولا شاذة؛ لأن ما دفعه العميل يملكه المصرف، ويتصرف فيه، ويضمن مثله، ويدفع عليه فائدة، وهذه الخواص ليست من سمات الودائع، بل هي على العكس من ذلك: ولا يمكن أن تكون عقد قرض؛ لأن أخص خواص القرض الإرفاق المحض، والمعروف الخالص ابتغاء الثواب، ولهذا جاز في القرض مبادلة الريال بالريال مع التفرق، ولا يجوز ذلك في البيع. لهذا يصح أن يقال عنه إنه عقد بيع؛ لأنه قائم على المعاوضة والتكسب، وهذه الأمور من خصائص عقد البيع، وليست من خصائص عقد القرض. فالتكسب يتمثل في حق العميل بالفائدة الربوية التي يأخذها. والتكسب في حق البنك يتمثل في تملك المال من أجل إقراضه بفائدة أعلى.
الراجح
ولذلك سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيعًا كما في حديث: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل ... الحديث. يقول الشيخ صالح الحصين: "لو أقرضه لأجل، بشرط أن يرد إليه مبلغ القرض بزيادة فهذا لا خلاف بين الفقهاء على تحريمه؛ لأن العقد ينقلب في هذه الحال من قرض بالاصطلاح الفقهي الإسلامي إلى بيع ربوي" (¬1). الراجح: أرى أن القول الراجح أن الوديعة الجارية إن كانت بفوائد مشروطة أو متفق عليها، وكانت مقصودة للمودع فهي عقد معاوضة: أي بيع دراهم بدراهم مع التفاضل والنساء، وهذا يجمع الربا بنوعيه، ربا الفضل وربا النسيئة، وإن كانت بلا فوائد أو كانت الفوائد غير مشروطة وغير مقصودة فهي قرض يكون المقترض فيه هو البنك، والمقرض هو صاحب الوديعة، وأن تسميتها ودائع جارية هي تسمية غربية، وليست تسمية فقهية، وإذا كانت قرضًا ترتب على ذلك الأحكام التالية: (1) لا يجوز إعطاء فائدة مقابل الإيداع في الحسابات الجارية؛ لأنها ستكون من الربا المحرم. (2) تقاضي المصرف أجرًا في الحساب البخاري على الخدمات التي يقدمها جائز؛ لأنه يستحق هذا الأجر مقابل الأعمال التي يقوم بها؛ لأن المستفيد هنا المقترض، وليس المقرض. (3) يجوز انتفاع صاحب الحساب البخاري بدفتر الشيكات، وبطاقة الصرف ¬
الآلي دون مقابل؛ لأن المنفعة الإضافية هنا مشتركة للطرفين، وسيأتي بحثها إن شاء الله تعالى. (4) القروض المتبادلة بين البنك وعميله إذا كانت مشروطة فهي محرمة، وأما إذا كانت غير مشروطة فإنها جائزة. (5) الإيداع في الحساب البخاري في البنوك الربوية مختلف فيه، فهناك من اعتبره محرمًا؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، وهناك من أجازه بشروط، ولأهمية هذه المسألة أحببت أن أفرد الكلام فيها في مبحث مستقل، والله أعلم.
المسألة الثانية في حكم الودائع الجارية
المسألة الثانية في حكم الودائع الجارية المطلب الأول أن يأخذ المودع مقدار ما دفعه من غير زيادة ولا نقصان قال ابن تيمية: "الإعانة على الحرام حرام" (¬1). وقال ابن دقيق العيد: وسيلة الطاعة طاعة، ووسيلة المعصية معصية، ويعظم قبح الوسيلة بحسب عظم المفسدة ... " (¬2). وقال ابن عابدين: ما قامت المعصية بعينه ... كره تحريمًا، وإلا فتنزيهًا (¬3). وقال الشيخ محمد العثماني قاضي باكستان: ما لم تقم المعصية بعينه لم يكن من الإعانة حقيقة، بل من التسبب، ومن أطلق عليه لفظ الإعانة فقد تجوز (¬4). [ن - 78] إذا أخذ المودِع مقدار ما دفعه من غير زيادة ولا نقصان. فهذا إن كان الإيداع في المصارف الإسلامية فهو جائز إن لم يكن مطلوبًا؛ لأن إقراض الغير إذا كان في ذلك إعانة على الخير ودعم للمشاريع الإسلامية، وحث للبنوك ¬
الأخرى للتوجه إلى نظام إسلامي بديل، واستقلال من التبعية الاقتصادية الغربية من الأمور المستحبة. وإن كان الإيداع في البنوك الربوية، وكان الإنسان مضطرًا للإيداع خوفًا من السرقة، ولا يوجد مصارف إسلامية يمكن الإيدل فيها، فالإيداع جائز بالاتفاق؛ إن لم يكن مطلوبًا لقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: إن الله كره لكم ثلاثًا، قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال (¬1). وإن كان الإيداع في البنوك الربوية مع وجود مصارف إسلامية، ولكن يفضل المودع البنوك الربوية إما لكونها أكثر تنظيمًا وأيسر له في سرعة الوصول إلى الخدمات المباحة والتي تقدم لصاحب الحساب البخاري، أو لقربها من موضع سكنه، أو لغيرها من المبررات، فهل يكون الإيداع جائزًا باعتبار أن إقراض البنك لا يأخذ عليه أي فوائد محرمة، أو يكون محرمًا؛ لأنه إعانة على الإثم والعدوان في ذلك خلاف بين أهل العلم. فقيل: الإيداع لا يجوز، وبه صدر قرار المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي (¬2)، وأفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية (¬3)، ومال ¬
إلى التحريم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (¬1)، وجزم به شيخنا محمد ابن عثيمين (¬2). وقيل: يجوز، والقائلون بالجواز، إما لأنهم يرون أن الودائع الجارية هي ودائع حقيقية المقصود منها حفظ المال، فلا يكون في ذلك إعانة على الربا أصلًا كما هو رأي فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف (¬3)، وفضيلة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق (¬4). أو يرون أن الودائع الجارية قرض إلا أنهم أجازوا إقراض البنك بشروط: الأول: أن يكون الباعث على إقراض البنك أمرا مشروعًا في نفسه كحفظ المال، فإن كان الباعث على الإقراض إعانة البنك أو تضمن عقد القرض ما يدل على ذلك حرم الإيداع. ¬
دليل القائلين بالجواز باعتبار أن الوديعة قرض
الثاني: أن يكون القرض في نفسه مباحًا بحيث لا يشترط فيه أي زيادة أو منفعة لا تجوز. الثالث: ألا تتوقف معاملات البنك الربوية على عين مال القرض. وممن ذهب إلى هذا القول فضيلة الشيخ القاضي محمد تقي العثماني قاضي محكمة النقض بباكستان (¬1)، والمفتي محمد شفيع الباكستاني (¬2) وبه صدرت الفتوى من قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية في وزارة الأوقات والشئون الإِسلامية في دولة الكويت (¬3). دليل القائلين بالجواز باعتبار أن الوديعة قرض: الدليل الأول: أن الحسابات الجارية هي حسابات متحركة غير مستقرة، لهذا غالب البنوك الربوية لا يعطي عليها فوائد؛ لأنه لا يمكن للبنك من استثمارها في وظيفته الأساسية، وهي الإقراض بفائدة بسبب طبيعتها المتحركة، لهذا يجزم الباحث ¬
الدليل الثاني
أن المعمول به في جميع المصارف أن البنك لا يصرف جميع ودائع الحساب البخاري في إنجاز أعماله، وإنما يمسك النسبة الأكبر منها ليتمكن من التجاوب مع متطلبات المودعين اليومية، وبما أن الودائع كلها مختلطة بعضها ببعض، فلا يمكن الجزم لمودع واحد أن ودائعه مصروفة في معاملة ربوية. الدليل الثاني: أن الحرام في مال البنك الربوي هو الزيادة، وهي نسبة ضئيلة بالنسبة لمجموع المال، ولذلك قال سبحانه: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279]، فرأس المال حلال بمقتضى الآية، كما أن للبنك مصاريف كثيرة متنوعة، وليست جميع هذه المصاريف محظورة شرعًا، فإنها ما لا حرمة فيه بالإجماع، كالحوالات، وبيع العملات الحالة المقبوضة، وودائع مال الاكتتاب في الشركات المشروعة، وودائع شراء الأوراق المالية النقية، ومال الودائع التي يودعها أصحابها لتغطية ما يمنح من ائتمان بلا فوائد، ومال الودائع التي تودع بسبب أن أصحابها مدينون للبنك في عمليات مرابحة مشروعة، وما يأخذه البنك من أجرة على التوكيلات المباحة، وما يحتفظ به البنك من احتياطي في خزانته ونحوها لتيسير أعماله اليومية، فإذا اختلط هذا القرض، مع مجموع تلك الأموال، وكان استعمال هذا المال مختلطًا منه ما هو حلال، ومنه ما هو حرام لم يكن بمقدور أحد الجزم بأن قرض المودع قد استخدم في قرض ربوي، خاصة إذا علمنا أن نسبة الودائع الجارية إلى نسبة الودائع الآجلة هي نسبة قليلة جدًا. ولهذا أجاز ابن قدامة بيع العنب لمن يعمل النحل والخمر معًا, ولم يلفظ بما يدل على الخمر. قال في المغني: "إنما يحرم البيع ويبطل إذا علم البائع قصد المشتري ذلك، إما بقوله، وإما بقرائن مختصة به تدل على ذلك، فأما إذا كان الأمر محتملًا،
الدليل الثالث
مثل أن يشتريها من لا يعلم حاله، أو من يعمل النحل والخمر معًا، ولم يلفظ بما يدل على إرادة الخمر، فالبيع جائز" (¬1). وأجازه الحنفية حتى مع العلم، جاء في الدر المختار: "وجاز بيع عصير عنب ممن يعلم أنه يتخذه خمرًا؛ لأن المعصية لا تقوم بعينه، بل بعد تغيره. وقيل: يكره؛ لإعانته على المعصية" (¬2). وقال الشافعي في الأم: "أكره للرجل أن يبيع العنب ممن يراه أنه يعصره خمرًا, ولا أفسد البيع إذا باعه ... " (¬3). فإذا كان مال البنك مختلفًا، منه ما هو حلال، ومنه ما هو حرام، وكانت معاملات البنك كذلك، منها الحلال ومنها الحرام لم يكن إقراضه حرامًا. الدليل الثالث: تصرف البنك في مال القرض لا يمكن أن ينسب إلى المودع، وذلك لأن القرض الخالي من الربا عقد صحيح، والملك فيه ينتقل من المقرض إلى المقترض، فإذا قبض البنك هذا المال لم يعد المال ملكًا لصاحبه، وإنما صار ملكاً للبنك بحكم الإقراض، وإذا تصرف البنك في تلك النقود فإنه قد تصرف في ملكه، ولم يتصرف في ملك المودع، فلا ينسب هذا التصرف إلى المودع، وعلى التنزل بأن يكون الإيداع مكروهًا لكون بعض المودعين لا كلهم ربما يكون سببًا غير مباشر في بعض العقود الربوية فإن الكراهة ترفعها الحاجة، ومن الحاجة إلى الإيداع في البنوك الربوية أن تكون أكثر تنظيمًا، وأيسر في تقديم ¬
الدليل الرابع
الخدمات المباحة لصاحب الحساب البخاري، وأكثر انضباطًا في مراجعة كشف الحسابات اليومية والشهرية. الدليل الرابع: أن المصارف الإِسلامية تتعامل مع البنوك الربوية المحلي منها والأجنبي، وجزء من هذا التعامل يدخل فيه الإيداعات المتبادلة، والمقاصات التي لا بد منها, ولا يمكن للبنوك الإِسلامية أن تؤدي رسالتها إلا عن طريق هذا التعامل، فإذا كان يحرم على الفرد الإيداع في البنوك الربوية كان لزامًا على المصارف الإِسلامية ألا تتعامل مع هذه البنوك، وهذا ما لا يمكن تحقيقه. الدليل الخامس: إذا كان يجوز التعامل مع البنوك الربوية بيعًا وشراء في المعاملات المباحة وذلك عن طريق بيوع المرابحة بالشروط الشرعية، مع أن أرباح تلك المعاملات ستقوي الجانب المالي للبنك، وتعينه عني البقاء ليمارس وظيفته المحرمة في السوق، كما تعامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام في المدينة مع اليهود بيعًا وشراء مع أخذهم الربا وقد نهوا عنه بنص القرآن، وأكلهم السحت، وصدهم عن سبيل الله كثيراً، وكما عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - يهود خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع على أن يعمروها من أموالهم، مع العلم بأن ما يربحه اليهود من هذه المعاملات سيقوي جانبهم المالي في التعاملات الربوية وغيرها من المعاملات المحرمة، فإذا كانت المعاوضة مع البنوك الربوية جائزة مع تضمنها إعانة هذه البنوك فإن الإيداع عندهم جائز من باب أولى. الدليل السادس: أن مدار الحكم في المسألة هو الباعث على المعاملة، فإن كان الباعث ليس
دليل القائلين بجواز الإيداع باعتبار أن الوديعة أمانة
إعانة المقترض، وإنما هو حفظ مال المقرض، وكان عقد القرض خاليًا من أي نص يدل على أن المقرض أراد نفع المقترض، وتصرف البنك بمال القرض جاء بعد أن ملكه بسبب مباح، ولم يتعين قيام الربا بعين مال القرض فإن المعاملة جائزة. ولذلك رأى الحنفية أن من اشترى جارية، وكشف عن غرضه منها، وهو كونها مغنية فإن هذا الباعث غير مشروع، وبالتالي يكون العقد فاسدًا، فإن كان ذكر الغناء ليس لبيان الغرض من العقد، وإنما هو لبيان العيب، فأراد البائع أن يبرأ من العيب، فاشترط البراءة على المشتري فإن العقد صحيح؛ لأن العقد لم يكن الباعث عليه كونها مغنية، فدل على أن الباعث على العقد له أثر في صحته وفساده، والله أعلم (¬1). دليل القائلين بجواز الإيداع باعتبار أن الوديعة أمانة: سبق أن ذكرنا خلاف العلماء في تكييف الودائع الجارية، وبينا ضعف القول بأن الوديعة الجارية وديعة حقيقية، وقام الدليل على اعتبار أنها قرض، لذلك أرى أن جميع هذه الأدلة لهذا القول قد سيقت في غير محلها، وإنما أذكرها من باب الأمانة في النقل، واستكمال أدلة البحث. الدليل الأول: قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75]. وجه الاستدلال: إذا جاز إيداع أهل الكتاب مع أنهم أكالون للسحت بنص القرآن فيجوز ¬
الدليل الثاني
الإيداع لدى البنوك الربوية من باب أولى؛ لأن أخذهم الربا لا يخرجهم من الإِسلام، وإن كان الربا من الموبقات. الدليل الثاني: (ح - 847) ما رواه البخاري ومسلم من طريق إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل، ورهنه درعه (¬1). والرهن أمانة في يد المرتهن، فإذا جاز ائتمان أهل الكتاب على الرهن، جاز ائتمانهم على غيره من الأموال. ويناقش هؤلاء: الوديعة والرهن أمانة في يد المودَع والمرتهن، فهو لا يتصرف فيها ويستعين بها على الحرام، والكلام إنما هو في إقراض البنك، وليس في وضع أمانة عنده للحفظ لا يتصرف فيها. دليل القائلين بالتحريم: إقراض المصارف الربوية فيه إعانة على الإثم والعدوان، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]. وقال تعالى: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17]. ويناقش من وجهين: الوجه الأول: القرض عقد مباح، وما دام أن عقد القرض بنفسه لم يتطرق إليه الفساد لم ¬
الوجه الثاني
يحرم القرض، وكون المقترض بعد تملكه للقرض قد يفعل به ما حرم الله هذا لا يسأل عنه المقرض، وإنما يسأل عنه المقترض، وهذا يمكن تخريجه على مذهب الشافعي الذي ينظر إلى ظاهر العقود دون ما ينويه العاقدان. قال الشافعي: "أصل ما أذهب إليه: أن كل عقد كان صحيحًا في الظاهر لم أبطله بتهمة، ولا بعادة بين المتبايعين، وأجزته بصحة الظاهر، وأكره لهما النية إذا كانت النية لو أظهرت كانت تفسد البيع. وكما أكره للرجل أن يشتري السيف على أن يقتل به، ولا يحرم على بائعه أن يبيعه ممن يراه أنه يقتل به ظلمًا؛ لأنه قد لا يقتل به، ولا أفسد عليه هذا البيع، وكما أكره للرجل أن يبيع العنب ممن يراه أنه يعصره خمرًا, ولا أفسد البيع إذا باعه إياه؛ لأنه باعه حلالًا، وقد يمكن أن لا يجعله خمرًا أبدًا، وفي صاحب السيف، أن لا يقتل به أحدا أبدًا" (¬1). وهذا القول من الشافعي - رحمه الله - مطرد مع أصل مذهبه من تقديم ظاهر اللفظ على النية في العقود، وهذا القول من الشافعي مرجوح، وقد ناقشته في مسألة مستقلة في باب موانع البيع. الوجه الثاني: أن الإعانة على المعصية حرام ولكن الإعانة الحقيقية هي ما قامت المعصية بعين فعل المعين، ولا يتحقق إلا بنية الإعانة أو التصريح بها، أو تعينها في استعمال هذا الشيء بحيث لا يحتمل غير المعصية، وما لم تقم المعصية بعينه لم يكن من الإعانة حقيقة، بل من التسبب، ومن أطلق عليه لفظ الإعانة فقد تجوز. ثم التسبب على قسمين: بعيد وقريب. أما البعيد فلا حرمة فيه؛ ولو اعتبر ذلك لم يبق عمل مباح على وجه الأرض، ¬
فإن زراعة الحبوب الغذائية والثمار يسبب النفع لأعداء الله، وكذلك من ينسج الثياب فإنه يهيئ لباسًا للبر والفاجر، وربما يستعمله الفاجر في فجوره. وأما السبب القريب فهو على قسمين: الأول: ما كان باعثًا للإثم بمعنى كونه محركًا له، بحيث لولا هذا السبب لما صدرت المعصية، وإن إحداث مثل هذا السبب حرام كارتكاب المعصية سواء بسواء، وفي هذا القسم من السبب قال فيه الشاطبي في الموافقات: "إن إيقاع السبب بمنزلة إيقاع للمسبب. ... " (¬1). قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. فلما كان لسب الأصنام يؤدي إلى سب الله نهى الله - سبحانه وتعالى - عن سب الأصنام؛ سدًا للذريعة. القسم الثاني: من السبب القريب ما ليس بمحرك للمعصية في نفسه، بل تصدر المعصية بفعل فاعل مختار، مثل بيع العنب لمن يعصره خمرًا، فالعنب لم تقم المعصية بعينه، بل بعد تغيره ومثله إجارة الدار لمن يتعبد فيها للأصنام. وجاء في التاج والإكليل: "إذا ظهرت من مكتري الدار خلاعة، وفسق، وشرب خمر لم ينتقض الكراء، ولكن الإمام يمنعه من ذلك، ويكف أذاه عن الجيران ... " (¬2). ويقول الخرشي: "الإجارة لا تنفسخ بظهور المستأجر فاسقًا يشرب فيها الخمر، أو يزني، أو نحو ذلك ... " (¬3). ¬
الحال الأولى
فهذه البيوع والإجارات وإن كانت سببًا قريبًا للمعصية إلا أنها ليست جالبة أو محركة لها، وهذا النوع من السبب القريب إن كان البائع أو المؤجر قد قصد بذلك إعانة المشتري أو المستأجر على معصية فهو حرام قطعًا، وإذا لم ينو بذلك الإعانة فله حالتان: الحال الأولى: أن لا يعلم بنية المشتري، وفي هذه الحال يجوز البيع بلا كراهة. الحال الثانية: أن يعلم بنية المشتري فإن البيع مكروه، فإن كان المبيع يستعمل للمعصية بعينه فالكراهة تحريمية، وإلا فهي تنزيهية. وإذا نظرنا في الودائع المصرفية على هذا الأساس وجدنا أن إيداع رجل أمواله في الحساب البخاري ليس سببًا محركًا أو داعيًا للمعاملات الربوية، بحيث لو لم يودع هذا الرجل لم يقع المصرف في معصية، فدخل في القسم الثاني. ولا يقصد المودع إعانة البنك بل يقصد بذلك حفظ ماله. ولا يعلم بيقين أن ماله سوف يستخدم في معاملة ربوية، بل يحتمل أن يبقى عند المصرف، أو يستخدم في معاملة مشروعة، ولو استخدمه البنك في معاملة ربوية فإن النقود لا تتعين بالتعيين في عقود المعاوضات المشروعة فلا تنسب هذه المعاملة إلى النقود التي أودعها، وإنما تنسب إلى النقود التي صارت ملكًا للبنك، وغاية ما في الباب أن يكون هذا الإيداع مكروها كراهة تنزيهية، ولا شك أن كثيرًا من المعاملات المشروعة اليوم أصبحت مرتبطة بالبنوك، ويحتاج
الراجح من الخلاف
الإنسان لإنجازها أن يكون له حساب مفتوح في إحدى البنوك، فالحاجة ظاهرة مشاهدة، وترتفع مثل هذه الكراهة التنزيهية بمثل هذه الحاجة (¬1). الراجح من الخلاف: الذي أميل إليه أن الإيداع في البنوك الربوية مكروه، وإذا كان هناك حاجة إلى الإيداع ارتفعت الكراهة؛ لأن الحاجة ترفع الكراهة كما ترفع الضرورة التحريم، والله أعلم. ¬
المطلب الثاني أخذ الزيادة غير المشروطة على مبلغ الإيداع
المطلب الثاني أخذ الزيادة غير المشروطة على مبلغ الإيداع قال ابن عابدين: المنفعة في القرض إذا كانت غير مشروطة تجوز بلا خلاف (¬1). [ن - 79] إذا دفع المصرف زيادة غير مشروطة على مبلغ الإيداع من باب المكافأة، ولم يكن هناك اتفاق مسبق على هذه المكافأة، ولم يكن الإيداع من أجل هذه المكافأة، فهل يجوز أخذ هذه الزيادة باعتبارها من باب حسن القضاء، أو لا يجوز؟ وإذا كانت لا تجوز فهل يتركها للبنك؟ يرى بعض أهل العلم جواز أخذ هذه الزيادة بثلاثة شروط: الشرط الأول: ألا يكون هناك عرف في إعطاء هذه المكافأة، فإن كان هناك عرف في دفع مثل هذه الزيادة لم يجز أخذها؛ لأن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. ويناقش: بأن هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم: فقيل: يكره أخذ الزيادة إن كان هناك عرف أو عادة، وهذا مذهب الحنفية (¬2). ¬
الشرط الثاني
وقيل: يحرم، وهذا مذهب المالكية (¬1)، واختيار القاضي أبي يعلى من الحنابلة (¬2). وقيل: يجوز أخذ الزيادة، وهو المذهب عند الشافعية (¬3)، وقول عند الحنابلة، صححه في الإنصاف (¬4)، وبه قال ابن حزم (¬5). وهو الراجح: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معروفًا بحسن القضاء، ولم يكن إقراضه مكروهًا، ولا محرمًا. وإذا كان خيار الناس أحسنهم قضاء كما جاء في الحديث، فإن هذا ينبغي أن يكون أولى الناس بقضاء حاجته، وإجابة مسألته، وتفريج كربته، وفي كراهة إقراضه أو تحريم ذلك تضييق عليه، فلا يقابل إحسانه وفعله للخير بالتضييق عليه. وإذا جازت الزيادة عند الوفاء من غير شرط مرة واحدة جازت هذه الزيادة ألف مرة من غير فرق. الشرط الثاني: أن يكون البنك له معاملات حلال وأخرى حرام، ولا يدري الآخذ أنه يأخذ ¬
الشرط الثالث
المكافأة من المال المحرم بعينه، فإن كان البنك كل ماله حرام، أو علم أنه يأخذ عين المال الحرام ولو كان بعض معاملاته حلالًا لم يجز له أخذ هذه المكافأة. الشرط الثالث: أن يكون ذلك عند سحب الرصيد، أي عند الوفاء، وليس أثناء الدين، فما دام الرصيد مفتوحًا، والمداينة قائمة فلا يجوز له أخذ هذه المكافأة على الصحيح؛ وهو مذهب المالكية (¬1)، والحنابلة (¬2). قال ابن تيمية: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المقرض عن قبول هدية المقترض قبل الوفاء؛ لأن المقصود بالهدية أن يؤخر الاقتضاء، وإن كان لم يشرط ذلك ولم يتكلم به، فيصير بمنزلة أن يأخذ الألف بهدية ناجزة، وألف مؤخرة وهذا ربا. ولهذا جاز أن يزيد عند الوفاء ويهدي له بعد ذلك لزوال معنى الربا. ومن لم ينظر إلى المقاصد في العقود أجاز مثل ذلك وخالف بذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا أمر بين ... " (¬3). ولأن هذه المكافأة أعطيت له من أجل القرض بدليل أنه لم تكن بينهما عادة سابقة في إعطاء مثل هذه المكافأة. ولأن إعطاء مثل هذا قبل الوفاء يكون مدعاة لبقاء القرض مدة أطول. ¬
(ث - 152) وقد روى البخاري من طريق أبي بردة، قال: أتيت المدينة، فلقيت عبد الله ابن سلام - رضي الله عنه -، فقال: ألا تجيء فأطعمك سويقًا وتمرًا، وتدخل في بيت، ثم قال: إنك بأرض الربا فيها فاش، إذا كان لك على جل حق، فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قت، فلا تأخذه فإنه ربا (¬1). وقد خالف في ذلك الشافعية، وقالوا بالجواز (¬2)، هو وراية عن أحمد (¬3)، وعبر الحنفية بأن الأفضل أن يتورع المقرض عن قبول ذلك (¬4). والراجح عندي هو القول الأول، والله أعلم. ¬
المطلب الثالث الموقف من فوائد الودائع غير المشروطة
المطلب الثالث الموقف من فوائد الودائع غير المشروطة التصرف فرع الملك، قال الرحيباني: من ملك شيئًا ملك التصرف فيه (¬1). لا تترك الفوائد المحرمة لأصحابها. قال القرافي: لا يجمع له بين العوض والمعوض (¬2). [ن - 80] تكلمت في المبحث السابق على الخلاف في الفوائد غير المشروطة إذا أعطيت للمودع، وذكرت الشروط في جواز أخذ هذه الزيادة، وعلى القول بأنه لا يجوز أخذها مطلقًا حتى ولو تحققت تلك الشروط فما هو الموقف الفقهي من هذة الزيادة، هل يدعها للبنك، أو يأخذها ويتخلص منها بإنفاقها على وجوه الخير؟ وهل يختلف الحكم بين البنوك الربوية في بلاد المسلمين عنها في بلاد الغرب، والتي قد تستفيد من هذة الزيادة إما في دعم اقتصاديات هي محاربة للمسلمين، أو في صرف هذه الزيادة على المبشرين، وأعداء الإِسلام. في المسألة خلاف بين العلماء: فقيل: يحرم أخذ فوائد الودائع مطلقًا، وهذا هو رأي شيخنا محمد ابن عثيمين يرحمه الله، وبه أفتى الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، والشيخ أحمد هريدي من الأزهر الشريف (¬3). ¬
دليل من قال: لا يجوز
وقيل: إن كان قبضها وهو يعلم حكم الله فيها فيجب صرفها في وجوه الخير، وإن كان لم يقبضها فليس له إلا رأس ماله، وهو أحد القولين عن الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله (¬1). وقيل: يأخذها ويتخلص منها بإنفاقها على المضطرين، وعلى وجوه البر العامة، وهو القول الثاني لسماحة الشيخ ابن باز (¬2)، والشيخ عبد الله ابن جبرين (¬3)، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (¬4)، وبه صدرت الفتوى من قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة الكويت (¬5). دليل من قال: لا يجوز: الدليل الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ} [البقرة: 278, 279]. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: قال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ... وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله) (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول وضع الربا الذي كان معقودا في الجاهلية قبل تقرر الأحكام في الإِسلام، فما بالك بربا حصل بعد تقرر الأحكام في الإسلام؟! الدليل الثالث: منع المسلمين من أخذ تلك الزيادة سوف يضطرهم إلى أن يبحثوا عن مصارف إسلامية وبنوك إسلامية يستغنون بها عن هذه البنوك الربوية؛ لأن الأزمات والحاجات والضرورات لا بد أن تبرز شيئًا ما، فإذا قيل للناس: هذا الربا الذي تدعون أنه فوائد لا يحل لكم، وأنتم إذا أخذتموه فقد أكلتم الربا حين أكلتموه، وإن تصدقتم به تقربًا إلى الله لم يقبل منكم، وإن تصدقتم به تخلصًا منه، فما الفائدة من أن يلوث الإنسان يده بالنجاسة ثم يذهب ليغسلها. فنقول: إنه إذا منع هذا، فإنه لا شك أنه سيكون سببًا لكون الناش يبحثون عن مصادر إسلامية، ويكونون بنوكا إسلامية يستغنون بها عن هذه البنوك الربوية، ولذلك لما منع الفقهاء التعامل مع البنوك الربوية، ولم يستسلموا للضغوط أنتج هذا أن توجه المسلمون إلى إنشاء مصارف إسلامية تزاحم المصارف الربوية، بل ¬
تعليل من قال بالجواز
إن المصارف الربوية بدأت بالتآكل حيث أخذت تتحول إلى مصارف إسلامية حرصًا على مراعاة المسلمين لكسب أموالهم (¬1). تعليل من قال بالجواز: التعليل الأول: أن معاملات البنك قائمة على الاقتراض من العملاء بفائدة، وإقراضها عملاء آخرين بفائدة أعلى، والفارق بين الزيادتين هو كسب البنك، فترك الزيادة للبنك يعني أن يرابي بها البنك مع عميل آخر، ويتقوى بها على معاملاته المحرمة. ويناقش: هذه الزيادة لا بد من معرفة من يملكها أولًا، لننظر في جواز التصرف فيها، لأن التصرف هو فرع عن الملك، فإن يملك الشيء يملك التصرف فيه، فإذا رأينا أن عقد القرض هو من عقود التمليك، والمال الذي اقترضه البنك قد ملكه البنك بمقتضى عقد القرض، ونماؤه من حرام أو حلال هو من كسب البنك وفعله محسوب عليه، ولذلك لو كان نماء هذا المال حلالًا لم يجز الاعتداء عليه، فإذا تركت هذه الزيادة فأنت لم تترك مالك للبنك لكي يقرضه شخصًا آخر، وإنما تركت مال البنك الحرام للبنك، فلا تسأل عنه شرعًا، وإذا أخذته ¬
ورد هذا
فقد أخذت ما لا يحل لك أخذه، وإذا كان لا يحل لك أخذه لم يحل لك التصرف فيه، ومنه إنفاقه في وجوه الخير. ورد هذا: بأن الوديعة الجارية مع الفائدة لا يمكن أن يقال عنها إنها عقد قرض؛ لأن القرض من عقود الإرفاق والإحسان, وإنما هي من عقود المعاوضات، وإذا كان العقد كذلك كانت الزيادة تبعًا للمال، وليست منفصلة عنه. وأجيب: بأن المسألة مفروضة في فوائد غير مشروطة بين البنك وبين المودع، فيبقى العقد فيها لم يخرج عن القرض، أما إذا كانت الفوائد مشروطة فإن العقد يخرج عن عقود الإرفاق إلى عقود المعاوضات، وحينئذ يكون العقد من أساسه عقدًا باطلًا، والعقد الباطل يجب فسخه، وفسخه يكون برد رأس المال إلى صاحبه دون زيادة، ولا يجوز بحال أخذ الزيادة؛ لأن ما ترتب على الباطل فهو باطل. التعليل الثاني: أن ترك الزيادة للبنك يعتي أن نجمع للبنك بين العقد المحرم وبين عوضه، ونكون بذلك قد كافأنا البنك على معصيته. ويجاب: الجزم بأن هذه الزيادة هي عوض المال المودع لا دليل عليه؛ لأن البنك ملتزم بدفع هذه الزيادة مطلقًا سواء ربح المال أو خسر، فقد يكون البنك قد تصرف في هذه الوديعة في الوجوه المشروعة، وهي كثيرة، وربما أبقى المال في الخزانة كجزء من المال الاحتياطي لتيسير معاملاته اليومية، وإجابة طلبات أصحاب الودائع الجارية، وربما تأخر استثمارها في القروض المحرمة، وإذا
التعليل الثالث
قام هذا الاحتمال لم يمكن الجزم بأن هذه الزيادة هي عوض مال الوديعة حتى يقال: لا يجمع للبنك بين العقد المحرم وبين عوضه، وعلى التنزل أن تكون هذه الزيادة جاءت من مال المودع، فهي جاءت بعد تملك البنك لهذا المال، وردها يجب أن يكون ممن أخذت منه هذه الزيادة، وهو المقترض من البنك، فإذا ردت للمودع فقد ردت لغير صاحبها، فلا يعالج التعدي بتعد آخر. التعليل الثالث: أن قوانين البنوك في البلاد الأجنبية أن المال الذي يتركه صاحبه يصرف على المؤسسات التبشيرية، وبناء الكنائس فيحارب الإِسلام بأموال أهله، ويُنَصَّر به أولاد المسلمين في البلاد الفقيرة، ويدعم به اقتصاد تلك البلاد والتي في غالبها هي بلاد محاربة للإسلام وأهله. ويجاب: بأن هذه القوانين إنما هو في المال الذي يتركه صاحبه، وسبق لنا التدليل على أن هذه الزيادة هي ملك للبنك، وليست ملكًا للمقرض، وإذا كانت ليست ملكًا للمودِع لم يصح أن يقال: يحارب الإِسلام بأموال أهله، واعتقاد البنك بأن الزيادة حق للمقرض لا يغير من الحكم الشرعي، وأن المقرض لا يملك إلا المال الذي أقرضه فقط. والله أعلم. الراجح: القول بتحريم أخذ الزيادة على القرض أقوى من القول بالجواز، وإذا كان أخذها من البنك جائزًا فيجب أن يكون من باب التعزير للبنك، وهو مبني على القول بجواز التعزير بالمال، وهي مسألة خلافية، وقد سبق بحثها والكلام فيها وحتى على القول بجواز أخذ هذه الزيادة من باب التعزير فإنه لا يسلم من
إشكال؛ لأن السؤال: من الذي يتولى التعزير، هل هو المودع، وقد أودع في البنك دون إكراه، أو هو ولي الأمر في تلك البلاد، وأنظمة وقوانين تلك البلاد تسمح لممارسة مثل هذا النشاط.
الفرع الثاني الودائع الآجلة (الحسابات الاستثمارية)
الفرع الثاني الودائع الآجلة (الحسابات الاستثمارية) المسألة الأولى تعريف الودائع الآجلة الودائع الآجلة: هي المبالغ التي يودعها أصحابها في المصرف لأجل معين قد يكون سنة، أو ستة أشهر، أو ثلاثة شهور، ويحق للعميل سحب الفوائد أو الأرباح المتحققة إما شهريًا، أو على فترات دورية، أو في نهاية مدة الإيداع. وتختلف هذه الودائع عن الودائع الجارية في أن الهدف منها الربح والنماء، بخلاف الودائع الجارية التي تكون لأغراض الحفظ وتسوية المدفوعات. وتسمى هذه الودائع لدى البنوك الربوية (الحسابات لأجل) بينما تسمى في المصارف الإسلامية (حسابات الاستثمار). وسميت هذه الحسابات آجلة؛ لأن العميل لا يحق له سحب الوديعة أو جزء منها قبل حلول الأجل المتفق عليه بين العميل وبين البنك. إذا حدث وطلب صاحب الودائع الآجلة سحب وديعته كلها أو بعضها قبل موعد الاستحقاق المتفق عليه فإن البنك له كامل الحق في الامتناع عن ذلك أو إجابة طلبه، وفي الغالب أن البنك يتنازل عن حقه في هذا الشأن حيث لا يمانع من رد الوديعة مقابل حرمان المودع من الفوائد نظرًا لعدم بقاء الوديعة إلى تاريخ الاستحقاق، وقد يقرض البنك المودع مبلغًا مساويًا لوديعته بضمان تلك الوديعة، وبفائدة أعلى من سعر فائدة الإيداع، ويترك المصرف للعميل حق اختيار أحد هذين الأمرين.
[ن - 181] خصائص الودائع الآجلة
[ن - 181] خصائص الودائع الآجلة: (1) تخلط أموال الودائع الآجلة مع أموال المساهمين باعتبار أن المساهمين في البنوك التقليدية هم مقترضون لهذه الأموال، وفي البنوك الإِسلامية هم مضاربون مما يعني أن هذه الأموال لا تتمتع بكيان قانوني، أو ذمة مالية مستقلة كالصناديق الاستثمارية. (2) حدود الاشتراك في هذه الودائع مرتفعة جدًا؛ لأن المصارف تشترط ألا يقل المبلغ المودع عن حد معين، كما أن البنك يشترط أن يحتفظ بالوديعة مدة طويلة نسبيًا مما جعل هذه الودائع لا يقبل عليها صغار المودعين. (3) تحتسب الفائدة على الودائع الآجلة في المصارف الربوية من اليوم الأول للإيداع، إلا أن الفائدة قد تكون ثابتة غير متغيرة، وهي الحالة الغالبة فيستمر العمل بذلك المعدل من الفائدة بصرف النظر عن التغيرات التي تحدث في ذلك المعدل فيما بعد، وتستحق الفائدة في نهاية المدة، فإذا كان سعر الفائدة في يوم الإيداع 6 % وكانت الوديعة لمدة ستة أشهر، ثم انخفض السعر في السوق إلى 4 % لم يتأثر العميل بذلك، واستحق من البنك 6 %، وعكس ذلك صحيح، وقد تكون الفائدة متغيرة (معومة) تعتمد على معدل سعر الفائدة السائد في السوق، وما يستحقه العميل هو الفائدة الجارية أو معدل فائدة معتمد على الفائدة الجارية ويحسب على أساس يومي لمدة بقاء الوديعة، ويحدد البنك المركزي في كثير من البلدان سعر الفائدة على الودائع الآجلة إلا أن الاتجاه عالميًا هو نحو التحرر من القيود، وترك الأسعار تتحدد بتفاعل قوى العرض والطلب، بينما المصارف الإسلامية لا تدفع أية فوائد على هذه الودائع، وإنما تقوم بمشاركة صاحب المال باستثمارها في المشاريع المباحة ويشتركان معًا في الأرباح، ويتحملان معًا الخسارة، كما هو الشأن في عقد المضاربة.
(4) لا يحمل العميل دفتر شيكات لعدم جواز السحب من أمواله قبل أجلها، فإذا حان الأجل، وركب في السحب منها حولت إلى حسابه البخاري. (5) تعتبر الودائع الآجلة أداة توثيق إذ يحق لصاحبه أن يرهنه أو يرهن جزءًا منه لضمان وفائه بالتزاماته الواجبة أو التي تؤول إلى الوجوب للمصرف أو لمؤسسة أخرى. وتأتي أهمية هذا النوع من الودائع من كونها توفر استقرارًا أكبر لعمليات البنوك الربوية والإسلامية، إذ بإمكان البنك التصرف فيها وهو مطمئن من أن العميل لن يقوم بسحبها منه بشكل مفاجئ لهذا تمثل هذه الحسابات أهم الأرصدة التي ترتكز عليها البنوك، فهي أكبر مصدر مالي يمد البنوك الربوية ويساعدها على التوسع في منح الائتمان؛ لأنها منخفضة السيولة؛ إذ لا تتطلب توفير قدر من الاحتياطي النقدي، بخلاف الودائع الجارية التي تتطلب قدرًا أكبر من السيولة لمواجهة متطلبات السحب المستمر من قبل المودعين، ولذلك تتنافس البنوك للحصول على أكبر قدر من هذه الحسابات، ولإبقائها أكبر مدة ممكنة (¬1). ¬
المسألة الثانية أنواع الودائع الآجلة
المسألة الثانية أنواع الودائع الآجلة تنقسم الودائع الآجلة إلى ثلاثة أقسام: النوع الأول: ودائع ذات أجل ثابت معين. وتتميز هذه الودائع بأنها ثابتة لا يجوز السحب منها طوال المدة المتفق عليها، ويعطي البنك العميل وثيقة بالمبلغ المودع، وفي نهاية المدة المتفق عليها يقدم العميل الوثيقة إلى البنك، ويسيتلم المبلغ المدون فيها مضافًا إليه الفوائد عن المدة المذكورة. وتنقسم هذه الودائع الثابتة من حيث الحصول على فوائدها إلى ثلاثة أقسام: (أ) الودائع ذات القيمة المتزايدة، وتصنف من فئة (أ). (ب) الودائع ذات العائد جاري، وتصنف من فئة (ب). وهاتان الفئتان يتحصل أصحابها على فوائد مستحقة كل ستة أشهر، والفرق بين فئة (أ) وبين فئة (ب) أن الأولى لا يحصل صاحبها على فوائدها أولًا بأول، وتحسب الفائدة على أصل الوديعة وعلى فوائدها، بينما فئة (ب) يتحصل صاحبها على فوائدها كل ستة أشهر، وتظل قيمة الشهادة ثابتة كما هي إلى نهاية المدة، وتحسب الفوائد على أصل الوديعة أي المبلغ الأساسي فقط دون الفوائد. كما أن المبلغ المدفوع لفئة (أ) أكبر عادة من المبلغ المدفوع لفئة (ب)، ونسبة الفوائد الربوية المدفوعة على فئة (أ) أكبر من نسبة الفوائد المدفوعة على فئة (ب).
النوع الثاني
(جـ) الودائع ذات الجوائز وهذه الفئة لا يحصل أصحابها على فوائد دورية، ولا على فوائد في نهاية مدتها، والتي قد تصل إلى عشر سنوات أيضًا، وإنما يجري سحب علني بالقرعة على أرقام الشهادات، ويصرف لأصحاب الشهادة الفائزة جوائز سخية، وهذا النوع يجمع بين الربا والميسر، ويلجأ إلى هذه المجموعة كثير من الناس الذين لا يجدون إغراء في سعر الفائدة على المجموعتين (أ) و (ب) لضآلة مدخراتهم (¬1). النوع الثاني: الودائع بشرط الإخطار، وهي ودائع يكون لأصحابها حق استردادها دون انتظار أجل معين لكن بشرط إشعار المصرف بذلك قبل استردادها بمدة معينة. وتعطي المصارف الربوية فائدة أقل من الفائدة التي تعطيها للحسابات المقترنة بأجل ثابت ومحدد؛ لأن البنك يحتفظ بجزء كبير من هذه الحسابات على شكل سيولة نقدية لمواجهة السحوبات على هذا الحساب. وأما المصارف الإسلامية فلا تعطي على هذا النوع ولا على غيره أية فوائد مضمونة، وإنما تقوم باستثمار هذا النوع من الحساب بالاتفاق مع أصحابها على استثمارها بالمشاركة في ناتج الاستثمار إنْ غنمًا أو غرمًا إما مباشرة بواسطته، أو بدفعها إلى من يعمل فيها بإذن أصحابها، والأول يكون المصرف مضاربًا، والثاني يكون نائبًا أو وكيلًا عن صاحب الحساب (¬2). ¬
النوع الثالث
النوع الثالث: الودائع الادخارية (حسابات التوفير والادخار). حسابات التوفير: أحد أنواع الودائع المصرفية، وقد عرفها بعضهم: بأنها "المبالغ التي يودعها أصحابها في المصرف، وينشئون بها حسابًا في دفتر خاص، توضح به إيداعات وسحوبات صاحبه، والعوائد المستحقة على هذه الودائع، وحدود السحب اليومي من الرصيد، ولا يمكن لصاحبه سحب كامل رصيده دفعة واحدة". وهذا النوع من الودائع يشبه الحساب البخاري من حيث إنه يمكن لصاحب الوديعة أن يسحب قدرًا منها متى شاء دون انتظار أجل معلوم، ويشبه الودائع الثابتة من حيث إنه لا يمكن سحب كاملها دفعة واحدة, ويرتبط افتتاح حساب التوفير بإصدار دفتر شخصي يسمى (دفتر التوفير) يسجل فيه المبالغ المودعة والمسحوبة، والعوائد المستحقة، والرصيد، والحد الأقصى للسحب إلى غير ذلك من معلومات ضرورية كما يدون عليه لائحة نظام التوفير، وهي لوائح وإن اختلفت فيما بين البنوك من حيث الشكل إلا أنها تتفق من حيث المضمون، ومن أبرز ملامح هذا النظام: (1) تخليط أموال المودعين إلى أموال المساهمين، بمعنى أن حساب التوفير ليس له كيان مستقل، ولا ذمة مالية منفصلة عن البنك، فميزانيته مدرجة ضمن ميزانية البنك .. (2) دفتر التوفير غير قابل للتحويل، أو التظهير، أو التداول، ولا يجوز السحب منه بشيكات، فالتعامل بهذا الدفتر يستلزم حضور العميل بنفسه أو وكيله إلى البنك. (3) صندوق التوفير قابل للسحب متى شاء المودع وفق نظام متفق عليه، لا يحق له سحب الرصيد كاملًا.
(4) العوائد المحتسبة على حساب التوفير إنما أن تكون على شكل فوائد كما في البنوك التجارية، حيث يضمن البنك الوديعة الادخارية وفائدة مقدرة محدودة وهذا من الربا الصريح المحرم شرعًا، أو على شكل أرباح كما في المصارف الإسلامية حيث لا ضمان لا لأصل الوديعة، ولا للعائد المتوقع منها. (5) العوائد المحسوبة على ودائع التوفير أقل بكثير من تلك المحسوبة على الودائع الثابتة، وذلك بسبب حرية المودع بسحب ما شاء من حساب التوفير بخلاف الودائع الثابتة إلى أجل معين، ولذلك تحتاط البنوك في الاحتفاظ بنسبة محددة لا تدخل في الاستثمار لمواجهة طلبات السحب (¬1). ¬
المسألة الثالثة توصيف الودائع الآجلة
المسألة الثالثة توصيف الودائع الآجلة الودائع الآجلة على اختلاف أنواعها لدى البنوك الربوية هي من الربا الصريح الجامع بين ربا الفضل وربا النسيئة. [ن - 82] يختلف توصيف الودائع الآجلة وحسابات التوفير في البنوك الربوية من توصيفها في المصارف الإسلامية تبعًا لاختلاف طبيعة العلاقة بين المصرف والعميل. ففي المصارف الإسلامية تكون العلاقة بين صاحب الوديعة وبين المصرف الإِسلامي هو عقد مضاربة فصاحب الوديعة: هو رب المال. والمصرف الإسلامي: هو المضارب إن باشر العمل بنفسه، وإن لم يباشر العمل بنفسه بل دفع بمال المضاربة لعامل آخر، أصبحت المضاربة متعددة، وكان من حق المضارب (المصرف) أن يدفع المال إلى مضارب آخر بإذن رب بالمال. وإن شارك البنك بجزء من مال المساهمين تحول العقد إلى عقد شركة ومضاربة. ويختلف المصرف الإِسلامي عن البنوك الربوية أن المصرف الإسلامي لا يدفع آية فوائد على هذه الودائع، وإنما يقوم بتشغيل واستثمار هذه الودائع بنفسه أو مع شركاء آخرين، ويحقق الأرباح نتيجة لذلك، ثم يقوم في نهاية مدة الإيداع بتوزيع العوائد المستحقة لأصحاب هذه الودائع طبقًا لما حققه البنك من أرباح بعد خصم المصاريف الإدارية المختلفة، وتكاليف المجهودات والدراسات التي يتحملها البنك في سبيل استثمار أموال المودعين من عملائه.
وهو لا يضمن الأرباح ففي حالة عدم تحقق أرباح فإن العميل لا يحصل على أي عائد، كما لا يضمن رد أصل الودائع ففي حالة الخسارة فإن البنك لا يضمن رد قيمة الحساب الاستثماري بالكامل، ولكن يشارك صاحب الحساب في الخسائر التي تتعرض لها عمليات الاستثمار، وذلك انطلاقًا من قاعدة (الغنم بالغرم). وإذا كانت العلاقة بين المصرف الإسلامي والعميل عقد مضاربة فإن الأرباح التي يحصل عليها العميل هي أرباح مباحة إذا روعي في ذلك تطبيق شروط المضاربة. وأما العلاقة بين البنك التجاري (الربوي) وبين العميل فإنها علاقة قرض بفائدة مضمونة. وإذا كنا قد توصلنا في البحث السابق أن الودائع الجارية هي من باب القرض، وأشرنا إلى خلاف بعض الباحثين المعاصرين ممن ذهب إلى أنها وديعة حقيقية، وكانت الشبهة في ذلك أن المودع في الحسابات الجارية قد قصد الإيداع، ويملك استرداها في أي وقت يشاء، ولا يأخذ على ذلك آية فوائد، فإن الودائع لأجل على اختلاف أنواعها لدى البنوك الربوية ينبغي ألا يكون فيها خلاف بأنها ليست وديعة حقيقية، فهي إما قروض بفائدة، أو بيع دارهم بدراهم مع التفاضل والنساء، وذلك أن صاحب المال حين سلمه للبنك لم يكن الهدف منه هو حفظ عينه، بل قصد النماء والربح، ولا يملك رده متى يشاء؛ لأن العقد مشتمل على اشتراط أجل صريح لا يحق لصاحب المال أن يسترده قبل حلول الأجل، ويأخذ على ذلك فوائد ربوية مضمونة بحسب طول الأجل وقصره بصرف النظر هل ربح البنك من الوديعة أو خسر، ويمتلك البنك إذنًا صريحًا بامتلاك هذا المال والتصرف فيه.
لذلك فالفوائد التي تعطى على هذه الودائع هي من الربا الصريح الجامع بين ربا الفضل وربا النسيئة، وبناء على ذلك يحرم أخذ الفوائد وإعطاؤها؛ لأنها زيادة مشروطة أو في حكم المشروطة للمقرض مقابل القرض. قال ابن عبد البر: "وكل زيادة من عين أو منفعة يشترطها المسلف على المستسلف فهي ربا، لا خلاف في ذلك" (¬1). فقوله - رحمه الله - (كل زيادة) من ألفاظ العموم تشمل كل زيادة، وقوله (من عين أو منفعة) بيان لهذه الزيادة، وأن الزيادة ليست محصورة في أعيان معينة كربا البيوع، بل ولا في جنس الأعيان حتى لو اشترط زيادة منفعة كانت المنفعة محرمة. وقال أيضًا: "وقد أجمع المسلمون نقلا عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف، أو حبة، كما قال ابن مسعود: أو حبة واحدة" (¬2). (ث - 153) وروى البخاري من طريق شعبة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -، فقال: ألا تجيء فأطعمك سويقًا وتمرًا ... ثم قال: إنك بأرض الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق، فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قت، فلا تأخذه فإنه ربا (¬3). وقال العيني الحنفي: "وقد أجمع المسلمون بالنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اشتراط الزيادة في السلف ربا حرام" (¬4). ¬
وقال ابن المنذر: "أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف هدية أو زيادة، فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة ربا" (¬1). وقال ابن تيمية: "وقد اتفق العلماء على أن المقرض متى اشترط زيادة على قرضه كان ذلك حرامًا" (¬2). وقال ابن قدامة: "كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف" (¬3)، ثم ساق كلام ابن المنذر، والذي نقلنا آنفًا. وقال ابن مفلح الصغير الحنبلي: "كل قرض شرط فيه زيادة فهو حرام إجماعًا؛ لأنه عقد إرفاق وقربة، فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه، ولا فرق بين الزيادة في القدر أو الصفة، مثل أن يقرضه مكسرة فيعطيه صحاحًا، أو نقدًا ليعطيه خيرا منه ... " (¬4). وهناك خلاف غير معتبر أحدثه بعض الباحثين من تقسيم الربا إلى ربا استهلاك، وربا إنتاج، وأن الربا المحرم هو الربا الذي يؤخذ للاستهلاك دون ربا الإنتاج، وقد ناقشنا ذلك في حكم الربا، وبينا ضعف هذا القول، فأغنى عن إعادته هنا. ¬
الفرع الثالث ضمان الودائع المصرفية
الفرع الثالث ضمان الودائع المصرفية المسألة الأولى الودائع المصرفية المضمونة [ن - 83] هي تلك الودائع التي تصنف على أنها قروض، من ذلك: الودائع الجارية مطلقًا، سواء أكانت لدى المصارف الإسلامية، أو البنوك التقليدية. وكذلك جميع الودائع المصرفية الآجلة في البنوك التقليدية (الربوية) سواء أكانت ودائع ثابتة، أم ودائع التوفير، فجميع هذه الودائع مضمونة على البنك؛ لأن هذه الودائع بمثابة قروض يقدمها أصحابها إلى البنك بحيث يجب عليه ردها إلى المودعين، سواء ربح البنك في عملياتها أو خسر؛ لأن القرض مضمون على المقترض في كل حال. والبنوك التقليدية (الربوية) تختلف عن البنوك الإسلامية من ناحيتين: الأولى: أنها تتحاشى المخاطرة الكامنة في الاستثمارات الحقيقية، فما تقترضه بفائدة من المودعين تذهب لتقرضه بفائدة أعلى، وتأخذ الضمانات الكافية على المقترضين لسداد قروضهم، والفارق هو الفائدة التي يجنيها البنك، وهذه الطريقة لا تتعامل بها البنوك الإسلامية لقيامها على الربا الصريح. الثانية: أن البنوك الربوية تلجأ في حال تعرضها لنقص في السيولة إما إلى البنك المركزي والاقتراض منه بفائدة، أو تلجا إلى الاقتراض الداخلي بين
(1) الاحتياطي النقدي القانوني.
المصارف ممن يملك فائضًا نقديًا، فتقترض منه بفائدة، وهذه الطريقة أيضًا لا تلجأ إليها المصارف الإسلامية لاعتمادها على الربا المحرم. ويتخذ البنك المركزي تدابير عامة لحماية الودائع المصرفية على جميع المصارف الخاضعة لرقابته وإشرافه بما في ذلك المصارف الإسلامية ومن هذه التدابير: (1) الاحتياطي النقدي القانوني. يفرض البنك المركزي على جميع المصارف أن تحتفظ بأرصدة نقدية لديه، وهذه الأرصدة النقدية عبارة عن نسبة من الودائع لكل مصرف تحتسب على أساس شهري، وتتفاوت البنوك المركرية في تحديد نسب الاحتياطي القانوني، ولكن في معظم الدول النامية التي ليست لديها أسواق مالية متطورة تكون هذه النسبة عالية بحيث لا تقل عن 20%. وتتكون الودائع التي يؤخذ بموجبها الاحتياطي القانوني من الودائع الجارية، والودائع الادخارية، والأموال المخصصة لخطابات الاعتماد. ففي السعودية مثلًا نصت المادة (7) من نظام مراقبة البنوك على أنه "على كل بنك أن يحتفظ لدى مؤسسة النقد في جميع الأوقات بوديعة نظامية لا تقل عن 15 % من التزامات ودائعه، ويجوز للمؤسسة تعديل هذه النسبة وفقًا لمقتضيات الصالح العام" (¬1). وقد عدلت هذه النسبة بتعميم مؤسسة النقد العربي السعودي رقم م / 2/ 71 فأصبحت 7 % من الودائع الجارية، و 2 % من ودائع التوفير والادخار. ¬
(2) نسبة السيولة الداخلية.
(2) نسبة السيولة الداخلية. يطلب البنك المركزي من المصارف الاحتفاظ بنسبة من السيولة الداخلية بالنقد المحلي، وذلك لمقابلة طلبات السحب اليومي من أرصدة العملاء (المودعين) في هذه المصارف، وعادة ما تكون في حدود 10 % إلى 15 % حسب درجة تطور القطاع المالي في البلد. (3) الرصيد الاحتياطي. حيث يطلب البنك المركزي من المصارف التجارية أن تحتفظ برصيد احتياطي لدعم المركز المالي لكل مصرف، وللتحوط في مقابل المصاعب المالية التي قد تتعرض لها المصارف، وفي العادة تحدد المصارف المركزية نسبة الاحتياطي المطلوبة بحيث تكون في حدود 25 % في البلدان التي بها أنظمة مالية ومصرفية متواضعة. (4) نسب التمويل والتسهيلات. يضع البنك المركزي سقفًا أعلى للتمويلات والتسهيلات لا يجوز للمصارف الخاضعة لإشرافه أن تتجاوزه. فعلى سبيل المثال حظرت المادة الثامنة من نظام مراقبة البنوك في المملكة "على أي بنك أن يمنح تسهيلات ائتمانية أو أن يقدم كفالة، أو ضمانًا، أو أن يتحمل أي التزام مالي آخر لصالح أي شخص طبيعي أو اعتباري بمبالغ تتجاوز 25 % من مجموع احتياطيات البنك ورأس ماله المدفوع، أو المستثمر، ويجوز لمؤسسة النقد لمقتضيات المصلحة العامة وبالشروط التي تحددها أن تزيد هذه النسبة إلى 50 %". والهدف من هذا الحظر هو حماية أموال المودعين، وتجنيبها مخاطر التوسع
(5) الحد من استثمار البنوك في بعض القطاعات التجارية.
في الائتمان، والحد من التوسع في توليد النقود بما لا يسمح بمزيد من التضخم في العملة المحلية. (5) الحد من استثمار البنوك في بعض القطاعات التجارية. تمنع المصارف من الاستثمار في أي عمل يستلزم امتلاك أصول أو موجودات عينية، أو مزاولة التجارة لحسابها أو لغيرها، أو امتلاك أصول طويلة الأجل. فعلى سبيل المثال حظرت المادة (10) من نظام مراقبة البنوك بالمملكة العربية السعودية "يحظر على كل بنك الاشتغال لحسابه، أو بالعمولة بتجارة الجملة، أو التجزئة مما في ذلك الاستيراد والتصدير أو أن تكون له مصلحة مباشرة كمساهم أو شريك أو كمالك أو أي صفة أخرى في أي مشروع تجاري، أو صناعي، أو زراعي، أو أي مشروع آخر، أو امتلاك العقارات، أو استئجارها إلا إذا كان ضروريًا لإدارة أعمال البنك، أو لسكن موظفيه، أو للترفيه عنهم، أو وفاء البنك قبل الغير بشرط ألا تزيد قيمتها عن عشرين في المائة من رأس مال البنك المدفوع واحتياطياته". وهذا الحظر له أهداف عدة منها؛ حماية أموال المودعين، ومنع المصارف من مزاحمة الشركات التجارية الأخرى لأن المنافسة حينئذ ستكون غير عادلة، فالمصرف يتمتع بصلاحيات لا تملكها شركات الاستثمار الأخرى فهو من جهة يحتكر صلاحية تجميع الأموال والمدخرات التي بأيدي الناس مما يعطيه إمكانات مادية هائلة، ومن جهة أخرى فهو مطلع على أسرار عملائه التجارية عند فتح اعتماداتهم المستندية مما يجعله قادرًا على استخدم هذه المعلومات لمصلحته الشخصية وينافس بها عملاءه الذين يحتاجون إلى خدماته (¬1). ¬
المسألة الثانية الودائع المصرفية غير المضمونة
المسألة الثانية الودائع المصرفية غير المضمونة [ن - 84] الودائع الاستثمارية في المصارف الإسلامية ليست مضمونة على البنك؛ لأن العقد فيها عقد مضاربة يكون المضارب فيها (البنك) أمينًا على رأس المال، ولا يمكن تضمينه إلا في حالات التعدي أو التقصير، أو تجاوز شروط عقد المضاربة. لأن طبيعة عقد المضاربة يقتضي المشاركة في الربح والخسارة، والالتزام بضمان رأس المال في عقد المضاربة يخرج العقد عن مقصوده أيًا كانت جهة الالتزام فمتى اشترط ضمان ودائع الاستثمار على البنك (عامل المضاربة) فسد عقد المضاربة، وهذا مجمع عليه بين الفقهاء. يقول ابن رشد: "وأجمعوا على أن صفته: أن يعطي الرجل الرجل المال على أن يتجر به على جزء معلوم يأخذه العامل من الربح ... وأنه لا ضمان على العامل فيما تلف من رأس المال إذا لم يتعد" (¬1). وقال ابن قدامة: "متى شرط على المضارب ضمان المال، أو سهمًا من الوضعية، فالشرط باطل، لا نعلم فيه خلافًا" (¬2). وفي هذا نعلم أن اشتراط الفقهاء في المضاربة ألا يكون المال والربح مضمونًا على العامل مرده إلى أن هذا الشرط يخرج العقد من كونه قراضًا إلى كونه قرضًا. ¬
وقد أجاز المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإسلمي التأمين على الحسابات الاستثمارية تأمينًا تعاونيًا بهدف حمايتها: جاء في قرار المجمع الفقهي الإِسلامي في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في المدة من 21 - 26/ 10/ 1422 قد نظر في موضوع حماية الحسابات الاستثمارية في المصارف الإسلامية، وبعد استعراض البحوث التي قدمت، والمناقشات المستفيضة حول الموضوع قرر ما يأتي: خامسًا: يجوز لأرباب الأموال أصحاب الحسابات الاستثمارية التأمين على حساباتهم الاستثمارية تأمينًا تعاونيًا بالصيغة الواردة في القرار الخامس للمجمع في دورته الأولى من عام 1398.
المبحث الثالث في الحوالة المصرفية
المبحث الثالث في الحوالة المصرفية الفرع الأول التعريف بالحوالة المصرفية تعريف الحوالة المصرفية: الحوالة المصرفية هي "عملية نقل نقود، أو أرصدة الحسابات من حساب إلى حساب, أو من بنك إلى بنك، أو من بلد لآخر، وما يستتبع ذلك من تحويل العملة المحلية بالأجنبية، أو الأجنبية بأجنبية أخرى" (¬1). تعريف الحوالة الحقيقية: ذكر الفقهاء بأن الحوالة: هي نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه (¬2). وقيل: هي نقل دين من ذمة إلى ذمة (¬3). واختلفوا: هل هي بيع دين بدين، أو عقد إرفاق: ¬
فقيل: هي بيع دين بدين رخص فيه على خلاف القياس، فاستثني من النهي عن بيع دين بدين. وهذا مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: هي عقد إرفاق وإبراء ذمة، لا بيع. وهذا هو المعتمد في مذهب الحنفية (¬4)، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬5)، والأصح في مذهب الحنابلة (¬6). بدليل جوازها في الدين بالدين، وجواز التفرق قبل القبض، واختصاصها بالجنس الواحد، واختصاصها باسم خاص، ولا يدخلها خيار؛ لأنها ليست بيعًا ولا في معناه؛ لعدم العين فيها, ولكونها لم تبن على المغابنة. ويشترط في صحتها رضا المحيل بلا خلاف، والمحتال عند الأكثر، والمحال عليه عند بعض من شذ (¬7). ¬
وسوف يأتي تفصيل كل ذلك إن شاء الله في باب مستقل للحوالة، نذكر فيه شروطها، المتفق عليه، والمختلف فيه، وحجة كل قول، وبيان الراجح بلغنا الله ذلك بعونه وتوفيقه.
الفرع الثاني الفرق بين الحوالة المصرفية والحوالة الحقيقية (الفقهية)
الفرع الثاني الفرق بين الحوالة المصرفية والحوالة الحقيقية (الفقهية) قد تكون الحوالة المصرفية لا تختلف عن الحوالة الحقيقية في بعض صورها، وإن كانت هذه الصور نادرة في واقع التعامل المصرفي، وقد تختلف الحوالة المصرفية عن الحوالة الفقهية وهذا هو الغالب عليها, لذلك نعرض صور الحوالة المصرفية، لنعرف ما يتفق فيها مع الحوالة الحقيقية، وما يختلف منها: الصورة الأولى: [ن - 85] وأطراف العقد فيها ثلاثة: أن يكون المحيل المصرف (أ) مدينًا للمحال. والمحال عليه: المصرف (ب) مدينًا للمصرف (أ) والمحال: شخص دائن للمصرف (أ). فيقوم المصرف (أ) بإحالة الدائن على المصرف (ب) بالحق الذي له عليه. وهذه الصورة من الحوالة المصرفية إن وجدت فهي لا تختلف عن الحوالة الحقيقية. الصورة الثانية: [ن - 86] صورة مختلف فيها هل تكون حوالة حقيقية، أو كفالة، أو وكالة باقتراض، وأطراف هذه الصورة ثلاثة أيضًا: المحيل: المصرف (1) مدين للمحال. المحال عليه: المصرف (ب) غير مدين للمصرف (أ).
ووجهه
المحال: شخص دائن للمصرف (أ). فهنا المصرف (أ) المدين يحيل على المصرف (ب) وهو غير مدين للمحيل، فإذا رضي المحال عليه وقبل الحوالة، فهل يكون العقد حوالة، في ذلك خلاف بين أهل العلم: فقيل: تعتبر حوالة صحيحة، وهذا مذهب الحنفية. وذلك لأنهم لا يشترطون لصحة الحوالة مديونية المحال عليه للمحيل، ويسمونها بالحوالة المطلقة (¬1). وقيل: تعتبر حوالة فاسدة (غير صحيحة)، وهذا مذهب الشافعية (¬2). ووجهه: أن الحوالة عندهم بيع، وإذا كانت الحوالة بيعًا، لم تصح الحوالة على من لا دين عليه؛ لعدم الاعتياض، إذ ليس عليه شيء يجعله عوضًا عن حق المحتال (¬3). وقيل: بل تعتبر كفالة، وهذا القول هو مذهب المالكية (¬4)، وقول عند الشافعية (¬5). ¬
الصورة الثالثة
وقيل: تعتبر وكالة بالاقتراض، فإذا قبض المحال رجع المحال عليه على المحيل. وهذا مذهب الحنابلة (¬1) وإنما لم تكن حوالة؛ لأنه ليس فيها تحويل حق من ذمة إلى أخرى. [ن - 87] الصورة الثالثة: وأطرافها ثلاثة أيضًا: المحيل: مصرف (أ) غير مدين. والمحال عليه: مصرف (ب) مدين للمصرف (أ). والمحال: شخص غير دائن. وهذه الصورة من الحوالة المصرفية نادرة، وإن وجدت فهي لا تعتبر حوالة حقيقية؛ لأن الحوالة تعني تحويل الحق وانتقاله من ذمة إلى أخرى، ولا حق هنا ينتقل، وإنما فيه عقد وكالة، حيث فوض المصرف (أ) شخصًا نيابة عنه في قبض حقه من المصرف (ب) المحال عليه. الصورة الرابعة: وهي الشائعة: [ن - 88] المحيل: المصرف (أ) وهو غير مدين للمحال. والمحال عليه: فرع للمصرف السابق، أو وكيل عنه. والمحال: شخص غير دائن للمصرف (أ). هذه الصورة هي الصورة الشائعة في الحوالة المصرفية، وهي التي ينصرف إليها الذهن عند الكلام على الحوالات المصرفية، وهي ليست حوالة حقيقية؛ لأن أطرافها ثنائية، فالمصرف المحيل غير مدين للمحال، والمحال بطلبه قد تم ¬
[ن - 89] وتختلف هذه عن الحوالة الحقيقية بما يلي
نقل نقوده ليقبضها هو أو وكيله من المحال عليه، وهو بمثابة الأصل؛ لأنه فرع للمحيل أو وكيل عنه. [ن - 89] وتختلف هذه عن الحوالة الحقيقية بما يلي: أولًا: أن الحوالة الحقيقية لا يجوز أخذ الأجرة عليها؛ لأنها على الراجح عقد إرفاق واستيفاء بينما الحوالة المصرفية يأخذ المصرف أجرة عليها، وسوف يأتي إن شاء الله الكلام على هذه المسألة بالتفصيل عند بحث بطاقات الائتمان فانظرها هناك، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ثانيًا: أن من أركان الحوالة محيلًا، ومحالًا عليه، ومحتالًا، وكثير من الحوالات المصرفية المعاصرة قد يقوم المحيل بالحوالة إلى نفسه، مثل أن يحيله إلى حسابه في مصرف آخر، وإذا كان التحويل إلى فرع له فإنه لا يوجد المحال عليه، ومن المعلوم أنه إذا لم يوجد أحد أركان العقد فإن العقد لا ينعقد. ثالثًا: أن من شروط الحوالة الشرعية أن يكون ما على المحال عليه مجانسًا لما على المحيل قدرًا وصفة، والحوالات المصرفية تكون في الغالب بين نقدين مختلفين. وهذا الفرق إنما هو بناء على قول الجمهور، والذي يشترط وجود دين في ذمة المحال عليه، أما الحنفية والذين أجازوا الحوالة المطلقة، فلم يشترطوا أن يكون في ذمة المحال عليه دين أصلًا، لا من جنس المحال به، ولا من غيره، والله أعلم. رابعًا: أن عقد الحوالة: هو نقل دين من ذمة إلى أخرى، بينما الحوالات المصرفية قد لا يوجد هناك دين أصلًا.
[ن - 90] وتتم التحويلات المصرفية المعاصرة بواحدة من الطريقتين: الأولى: حوالة عاجلة، يأمر بها المصرف المحلي فرعه، أو المصرف الأجنبي الذي يراسله عن طريق الإبراق، أو الهاتف، أو غيرها من وسائل الاتصال الفوري الحديثة، فيضع المبلغ المتفق عليه تحت تصرف المستفيد (المحول إليه) في الحال. الطريقة الثانية: حوالة كتابية لدى الاطلاع، بأن يسلم المصرف المحلي أمرًا كتابيًا يسلمه المصرف للعميل ليتولى إرساله للمستفيد، أو يرسله المصرف بالبريد إلى فرعه أو مراسله ويطلب فيه دفع المبلغ المطلوب إلى المستفيد. والحوالة إما أن تكون بنفس العملة المحلية. وإما أن تكون بعملة مغايرة، وفي هذا يجتمع عقدان: هما الحوالة والصرف. وقد سبق الكلام عليهما في كتاب الصرف.
الفرع الثالث التوصيف الفقهي للحوالة المصرفية
الفرع الثالث التوصيف الفقهي للحوالة المصرفية [ن - 91] اختلف العلماء المعاصرون في التوصيف الفقهي للحوالة المصرفية: القول الأول: قيل: هذه المعاملة سفتجة (¬1)، فالعميل يعتبر قد أقرض المصرف (البنك) المبلغ المحول، والإيصال الذي يستلمه أو الشيك يعتبر صك السفتجة الذي يُمَكِّن العميل من استيفاء حقه إما بنفسه، أو يمكن وكيله من استيفاء المبلغ نيابة عنه، وقد قال بهذا القول فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا، والشيخ عبد الله ابن منيع (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب قوم إلى تخريجها على أنها حوالة حقيقية (¬1). وجه ذلك: أن المصرف حين يستلم المبلغ من العميل يصبح مدينًا له، فيكون محيلًا. والمستفيد يكون محتالًا. والمصرف الثاني أو فرع المصرف الأول محالًا عليه، وبذلك يتوفر أركان الحواله. القول الثالث: تخريجها على أنها عقد وكالة، فالعميل يوكل المصرف على نقل النقود، والمصرف الأول يوكل المصرف الثاني في دفعها، وقد صدر بهذا قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي (¬2)، وبه قال الشيخ عبد الله ¬
القول الرابع
العبادي، والأستاذ سامي حسن حمود (¬1). القول الرابع: تخريج الحوالة المصرفية على أنها عقد إجارة على نقل النقود. وقد قال بهذا القول جماعة، منهم الشيخ أحمد إبراهيم بك، وستر الجعيد، وصالح بن زابن المرزوقي (¬2). القول الخامس: تخريجها على أنها عقد جديد مستحدث، مركب من عدة عقود (¬3). ويترتب على هذا التخريج جواز هذه المعاملة؛ لأن القول الصحيح أن الأصل في العقود المركبة هو الحل ما لم يكن في اجتماعها محذور شرعي من ربا، أو غرر، أو ظلم لأحد المتعاقدين، وهذه المعاملة خالية من ذلك كله. جاء في الموسوعة الكويتية: "والنتيجة ... أن التحويل المصرفي أو البريدي عملية مركبة من معاملتين أو أكثر، وهو عقد حديث بمعنى أنه لم يجر العمل به على هذا الوجه المركب في العهود السابقة، ولم يدل دليل على منعه، فهو ¬
الراجح من أقوال أهل العلم
صحيح جائز شرعا من حيث أصله بقطع النظر عما يحيط به من مواد قانونية يجب لمعرفة حكمها استقصاؤها تفصيلا ودراستها للحكم فيها" (¬1). الراجح من أقوال أهل العلم: بعد استعراض الأقوال أجد أن أقوى قولين قيلا في تخريجها: هما: الأول: أنه عقد صرف مع وكالة بأجر في نقل المبلغ المصروف إلى مكان آخر، والقول الآخر: أنه عقد جديد مستحدث، والأصل فيه الجواز، ما عدا هذين القولين تجد أنها لا تسلم من اعتراضات وجيهة. هذه هي الأقوال في تخريج الحوالة المصرفية، وإذا أردت أن تعرف أدلة هذه التخريجات وحكم الحوالة المصرفية بناء عليها، وما قيل من اعتراضات على هذه التخريجات فأرجع إليها في مسألة: اجتماع الصرف والحوالة من هذا المجلد، فقد ناقشنا هذه التخريجات، وذكرنا الاعتراضات عليها هناك، فأغنى عن إعادتها هنا. ¬
المبحث الرابع في بيع المرابحة المصرفية
المبحث الرابع في بيع المرابحة المصرفية الفرع الأول تعريف بيع المرابحة الإلزام بالوعد يصير الوعد عقدًا؛ لأن الإلزام من أبرز خصائص العقد. قال الونشريسي: "الأصل منع المواعدة بما لا يصح وقوعه في الحال حماية" (¬1). المرابحة المصرفية منتج مصرفي قائم على فكرتين: الأولى: الأمر بالشراء. والثانية: الإلزام بالوعد، وهي صيغة جرى تطويرها لكي تتلاءم مع أغراض البنك وطبيعة نشاطه باعتباره وسيطًا ماليًا. [ن-92] سبق لنا تعريف المرابحة الفقهية (البسيطة) في الاصطلاح الفقهي، والذي هو أحد بيوع الأمانة، كالتولية والمواضعة، والمشاركة، وهذه البيوع جائزة لدى عامة الفقهاء، وفيها خلاف ضعيف، فقد ذهب إلى منعها إسحاق بن راهوية، وابن حزم الظاهري، وبعضهم اعتبرها خلاف الأولى، وليس هذا موضع ذكر هذه المسألة، ولا تحرير الخلاف فيها. أما المرابحة المصرفية، أو المرابحة للآمر بالشراء، ويقال: للواعد بالشراء فيقصد بها نوع آخر من البيوع له صور كثيرة، منها المتفق على جوازها، ومنها ¬
المختلف فيها، فهي تتفق مع الصورة الأولى أنه يشتري السلعة ويبيعها بربح معلوم ويختلف عنها أن البائع ربما لا تكون السلعة عنده، ويبيعها نسيئة. وتعتبر المرابحة للآمر بالشراء أحد أهم صيغ التمويل للمصارف الإِسلامية باعتبار أن البنك وسيط مالي بين فئة تملك فائضًا ماليًا، وفئة أخرى لديها عجز مالي، وحتى ينهض المصرف بوظيفته يحتاج إلى صيغ بديلة عن صيغة الإقراض بالفائدة والتي تقوم عليها البنوك التقليدية، ويمكن تقسيم هذه الصيغ التي يلجأ إليها المصرف الإِسلامي إلى مجموعتين رئيسيتين: الأولى: الصيغ المعتمدة على الاشتراك في الربح والخسارة كالمضاربة، والمشاركة، وهذه لا تزال ضعيفة لدى المصارف الإِسلامية؛ لأن الاستثمار فيها ينبني على مخاطر عالية. الثانية: الصيغ المعتمدة على الديون، ويقصد بها تلك التي تتمخض في دفاتر البنك عن التزامات مطلقة بالدفع من قبل المستفيدين من التمويل. وأصول المصرف الإِسلامي فيها شبيهة باصول المصرف التقليدي مع فارق مهم: الأول: أن هذه الديون محلها السلع، وليست النقود كما هي البنوك الربوية. الثانية: أنه في حال أن أعسر المدين فإن قيمة السلعة لا تتضاعف بل يؤجل الثمن إلى ميسرة في إرفاق يشبه القرض. وهذا فارق مهم. وصيغة المرابحة تعتبر من أهم هذه الصيغ المعتمدة على الديون. وصورته: أن يطلب المشتري من المصرف (البنك) سلعة ليست عنده، سواء كانت معينة أو موصوفة، ويعده بشرائها نسيئة مع ربح معلوم، فيقوم المصرف بشرائها ثم يبيعها إياه.
وهي غالبًا ما تتم بين ثلاثة أطراف: عميل يريد شراء البضاعة. وبنك ليس لديه هذه البضاعة. ومورد يملك البضاعة. وتبدأ هذه العملية من تقدم العميل للمصرف طالبًا الحصول على سلعة لا يملك ثمنها، فيعقد مواعدة على الشراء من المصرف نسيئة بربح يتحدد كنسبة مئوية من تكاليف الحصول عليها، فإذا قام المصرف بدارسة ملاءة العميل وطلب الضمانات الكافية قام بشراء هذه السلعة وعند ورود مستندات ملكية البنك للسلعة يوقع مع العميل عقد بيع يتضمن الثمن الفعلي وكافة المصاريف الأخرى، والربح المتفق عليه، ثم يذهب العميل ليتسلم السلعة من المورد. والأصل في البيع أن تكون السلعة المباعة حاضرة عند البيع لدى البائع، ولكن هذا غير متاح بالنسبة للمصرف؛ لأنه بحكم وظيفة الوساطة المالية التي يتميز بها عن التاجر لا يتمكن من الجاد المستودعات المليئة بالسلع والأصول كالسيارات، والطائرات والسفن والمنازل والأثاث ونحوها، لذلك أدخلت في العقد فكرة (الأمر بالشراء) أي أن المصرف لا يشتري السلعة إلا إذا أمره العميل بذلك. والمصرف سيتعرض لمخاطرة عالية لو أنه استجاب لأمر كل عميل يطلب سلعة معينة لا سيما وأن وقتا وجهدًا ليس بالقليل ربما يفصل بين أمر العميل وإتمام البنك لعملية الشراء وتوفير السلعة، ولذلك أدخلت في هذه الصيغة فكرة الإلزام بالوعد، وأن العميل الذي يعد البنك يجب أن يكون جادًا ملتزمًا بتنفيذ الوعد، وإذا نكل عن الشراء فقد أجاز بعض الفقهاء المعاصرين أن يلزم
المصرف العميل بالتعويض عن الضرر الذي يلحق المصرف من جراء عدم الوفاء، وهذا الضرر يتمثل في الخسارة التي ربما لحقت بالبنك عندما يبيع السلعة إلى عميل آخر، فإذا باعها بنفس التكلفة أو بربح فليس له أن يطالب ذلك العميل بأي تعويض، وهو إن خسر لا يطالبه إلا بالخسارة الحقيقية. هذه تقريبًا الصورة الشائعة لبيع المرابحة المصرفية، وفكرة الإلزام بالوعد عن طريق تحمل الخسائر.
الفرع الثاني حكم بيع المرابحة للآمر بالشراء
الفرع الثاني حكم بيع المرابحة للآمر بالشراء الإلزام بالوعد في بيع المعين من قبيل بيع ما لا يملك، وربح ما لم يضمن، وفي بيع غير المعين من قبيل بيع الدين بالدين .. بيع المرابحة للآمر بالشراء تأخذ صورًا كثيرة، منها ما هو متفق على إباحتها، ومنها ما هو متفق على منعها، ومنها ما هو مختلف فيها، وسوف نحاول في هذا المبحث استكشاف هذه الصور وعرض أقوال أهل العلم فيها. الصورة الأولى: [ن-93] أن يمر الرجل بالبنك أو بالتاجر، فيقول له: هل عندك سلعة كذا ابتاعها منك، فيقول له: لا، فينقلب عنه على غير مراوضة، ولا عدة، فيشتري تلك السلعة التي سأله عنها، ثم يلقاه، فيخبره أنه قد اشترى السلعة التي سأله عنها، فيبيعها بما يشاء نقدًا أو نسيئة (¬1). حكم هذا الصورة: هذه الصورة جائزة بالاتفاق إذا كانت بلا مواعدة أو عادة. قال مالك: "لا بأس به -يعني البيع بمثل هذه الصورة- إن لم يكن مواعدة أو عادة يعرض له بها، ولا أحب أن يقول له: ارجع إلى ... " (¬2). ¬
ووجهه
وجاء في مواهب الجليل: "قال في التنبيهات: الجائز لمن لم يتواعدا على شيء، ولا يتراوض مع المشتري، كالرجل يقول للرجل: أعندك سلعة كذا؟ فيقول: لا، فينقلب على غير مواعدة ويشتريها ثم يلقاه صاحبه فيقول تلك السلعة عندي، فهذا جائز أن يبيعها منه بما شاء من نقد وكالئ ونحوه ... قال ابن حبيب: ما لم يكن تعريض، أو مواعدة، أو عادة" (¬1). ووجهه: أن المصرف (البنك) قد اشترى البضاعة لنفسه، ولم يكن بينه وبين المشتري مواعدة، ولا عادة، فهو بمنزلة من يشتري سلعة عرف نفاقها، ورجا حرص الناس على شرائها (¬2). واشترط في هذه الصورة ألا يكون بينهما عادة؛ لأن حكم العادة حكم المواعدة؛ لأن العادة والعرف في أحكام البيوع كالصريح (¬3). ¬
الصورة الثانية
الصورة الثانية: [ن-94] أن يقول المشتري للمصرف (البنك) أو للتاجر أعندك سلعة كذا وكذا؟ فيقول: لا، فيقول: ابتع ذلك، وأنا ابتاعه منك بدين، وأربحك فيه، ولا يذكر مقدار الربح، فيشتري ذلك، ثم يبيعه منه على ما تواعدا عليه. قال في التنبيهات: "المكروه: أن يقول: اشتر سلعة كذا وكذا، وأنا أربحك فيها، وأشتريها منك من غير مراوضة، ولا تسمية ربح، ولا يصرح بذلك، ولكن يعرض به" (¬1). فهو هنا ذكر الربح، لكن لم يتفقا على مقداره، فالبيع مكروه عند المالكية. ووجه الكراهة: أننا لم نقل بالتحريم؛ لأن المتبايعين لما لم يتفقا على مقدار الربح، لم يكن بينهم بيع، ولم يكن الوعد ملزمًا لأحدهما. ¬
والراجح
وقلنا بالكراهة: خوفاً أن تكون هناك عادة بين المتعاقدين على لزوم مثل ذلك، أو خوفاً من وقوع المواعدة. قال في المنتقى لبيان وجه الكراهة: "لما فيه من مضارعة الحرام ومشابهته، وخوف المواعدة أو العادة فيه، فهذا يكره ابتداء، وإن وقع لم يفسخ؛ لأنه لم يوافقه قبل ذلك، ولم يعقد معه عقدًا يلزمه أحدهما لما لم يقررا ربحًا" (¬1). والراجح: جواز ذلك بلا كراهة، كما سيأتي بيانه في الصور التالية مما ذكر فيها مقدار الربح، ولم يكتب هناك إلزام يالوعد. الصورة الثالثة: [ن-95] أن يقول المشتري للبنك: اشتر سلعة كذا وكذا يصفها من غير تعيين، وأنا أربحك فيها، ويسلم الثمن في مجلس العقد. فهنا البيع جائز على الصحيح، ولكن بشرط أن يستلم البنك الثمن، حتى يكون سلمًا حالاً، وقد ذكرت خلاف العلماء في السلم الحال، ولأنه إذا لم يسلم الثمن، نكون قد وقعنا في بيع الدين بالدين؛ فالمبيع دين في ذمة البائع؛ لأنه لم يشتريه بعد، والثمن دين في ذمة المشتري؛ لأنه لم يسلمه بعد، وهذا محرم كما سبق بيانه في مبحث بيع الدين بالدين. الصورة الرابعة: [ن-96] أن يقول المشتري للبنك: اشتر سلعة فلان (لسلعة معينة)، أو سلعة صفتها كذا وكذا، وأنا أربحك فيها كذا وكذا، ويذكر مقدار الربح، ولا يسلم الثمن في مجلس العقد. ¬
ففي هذه الصورة وعده بالشراء مع ربح معلوم، وهذه الصورة هي ما تسمى في عصرنا (بيع المرابحة للآمر وقيل: للواعد بالشراء)، وهي معاملة ذكرها الفقهاء المتقدمون، وليست معاملة محدثة كما ظنها بعض الفضلاء، وهذا العقد يتم على طريقتين: الطريقة الأولى: أن يكون الوعد غير ملزم لأحد من الطرفين، فإذا اشترى البنك البضاعة، ودخلت ملكه، أخبر المشتري بذلك، وخيره، إن شاء اشترى، وإن شاء ترك، وهذا ما تطبقه شركة الراجحي المصرفية. وهذا البيع بهذه الطريقة مختلف فيه. فقيل: يجوز البيع، وهو مذهب الحنفية (¬1)، ومذهب الشافعية (¬2)، ومذهب الحنابلة (¬3). وذهب المالكية، إلى تحريم هذا البيع مطلقًا إذا ذكر مقدار الربح (¬4). وهو ظاهر قول ابن تيمية (¬5)، ورجحه شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله - (¬6). يقول الدردير من المالكية في الشرح الكبير: "ويكره أن يقول شخص لبعض أهل العينة إذا مرت عليك السلعة الفلانية فاشترها، ويومئ لتربيحه ... فإن صرح بقدر الزيادة حرم ... " (¬7). ¬
دليل الجمهور على الجواز
فحرم المالكية ذكر مقدار الربح، ومعلوم أن بيع المرابحة يختلف عن بيع المساومة، فالتفاوض بين البنك والمشتري في بيع المرابحة يدور على نسبة الربح، مما يعني ضرورة كشف البائع للمشتري عن ثمن شرائه أو أي تكاليف أخرى (مثل النقل والتخزين) إن وجدت. دليل الجمهور على الجواز: إذا كان الوعد غير ملزم، وجعل الخيار لهما تحققت عدة مصالح: الأولى: خرجت المعاملة من كونها قرضاً بفائدة، إلى كونها بيعًا وتجارة، ومن كون المصرف مجرد ممول، إلى مشتر حقيقة. الثانية: يكون البائع حينئذ قد باع ما يملك؛ لأن العقد لم ينعقد إلا بعد تملك المصرف للبضاعة، وكان الإيجاب والقبول بعد تملك البضاعة حقيقيًا، وليس صوريًا. الثالثة: أن المصرف إذا ربح بعد ذلك يكون قد ربح فيما كان عليه ضمانه؛ لأن السلعة إذا هلكت فقد هلكت على ملك البائع (المصرف). دليل المالكية على التحريم: اعتبر المالكية ذلك من باب سد الذرائع حتى لا يكون حيلة في بيع دراهم بدارهم أكثر منها إلى أجل، بينهما سلعة محللة (¬1). وعلل ابن تيمية التحريم بأن اشتراط الربح قبل شراء البضاعة يجعل المقصود دراهم بدراهم إلى أجل. واشترط شيخنا ابن عثيمين لصحة هذه المعاملة بأن يكون البنك تاجراً لديه ¬
ويناقش
السلع مملوكة له قبل طلب المشتري، فإن اشترى السلعة بناء على رغبة المشتري فإن ذلك حيلة على الربا. قال شيخنا - رحمه الله - كما في اللقاء الثلاثين من لقاءات الباب المفتوح: " إذا كانت السيارة ليست عند البائع، ولكن باع عليك سيارة على أساس أنه يشتريها لك ثم يبيعها فهذا حرام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لحكيم بن حزام: لا تبع ما ليس عندك. أما إذا كان وعدًا ولم يعقد معك عقدًا إلا بعد أن اشتراها، فإن باعها عليك بما اشتراها به فلا بأس؛ لأنه ليس هناك ربا إذا باعها برأس ماله، أما إذا باعها عليك بربح فإن هذا الربح ربا، لكنه ليس ربًا صريحًا، بل هو ربا مغلف بصورة عقد ليس بمقصود، فإن البائع لم يقصد الشراء لنفسه من الأصل، إنما قصد الشراء لك، فيكون كالذي أقرضك القيمة بزيادة، وهذا هو الربا بعينه ... وأما قول بعضهم: إني لا ألزمك بالسيارة إن شئت فاتركها فهذا كلام فارغ؛ لأن الرجل لم يأت ويقول أريد السيارة بعينها ثم بعد ذلك يتراجع أبدًا. فالذي نرى: أن هذه الطريقة حرام، وإذا أردت بدلها فاذهب إلى صاحب معرض عنده سيارات وقيل له: أنا أريد أن تبيع لي هذه السيارة مقسطة وآتي لك بكفيل يغرم لك الثمن عند حلول الأجل، وإن شئت ارهن السيارة، وهكذا تسلم من هذه الحيل. اهـ كلام شيخنا محمَّد بن عثيمين عليه رحمه الله. ويناقش: بأننا إذا اعتبرنا أن الإلزام غير موجود، وأن العقد حقيقة يكون بعد تملك البضاعة، وأن كل واحد من المتبايعين بالخيار، انتفت الحيلة. والتجار كلهم بلا استثناء لا يشترون السلع لأنفسهم، وإنما يشترون السلع من أجل بيعها للناس بزيادة ربح، فهم يقصدون بشراء السلع الدراهم ولا شيء غير الدراهم،
يشترون بأقل ليبيعوا بأكثر، ولا فرق عندي بين تاجر يشتري السلعة لشخص غير معين فيكون ذلك حلالًا بلا خلاف، وبين تاجر يشتري السلعة لشخص أو أشخاص معينين، المهم ألا تكون المبادلة بين دراهم ودراهم، ولو كان البيع حرامًا إذا اشتراها لشخص بعينه باعتبار أن السلعة ملغاة، فكأنه باع دراهم بدراهم مع التفاضل والنسأ، لقلنا: لا يجوز البيع ولو كان بمثل الثمن الذي اشتراها به إذا كان البيع نسيئة؛ لأننا إذا ألغينا السلعة واعتبرنا البيع دراهم بدرهم حرم النسأ ولو لم يكن هناك تفاضل، وشيخنا قد نص على جواز هذه الصورة مما يضعف حجة هذا القول، والله أعلم. الطريقة الثانية: أن يكون الوعد ملزمًا للمتواعدين، والإلزام بالوعد تارة يكون بلزوم البيع، وتارة يكون بتحمل الخسارة التي لحقت بالبنك بسبب نكول الآمر بالشراء عندما يبيع البنك سلعته على عميل آخر ويتعرض لخسارة حقيقية. فهذا البيع بهذه الصورة منعه الفقهاء المتقدمون كالحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، ................ ¬
والشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، ورجح المنع جمع من العلماء المعاصرين منهم سماحة الشيخ ابن باز، والدكتور محمَّد الأشقر، والدكتور الصديق الضرير، والشيخ بكر أبو زيد، والشيخ سليمان بن تركي التركي، والدكتور رفيق بن يونس المصري وغيرهم (¬3)، وأفتت بالتحريم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية ¬
والإفتاء في السعودية (¬1). وحرم مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي المواعدة الملزمة للطرفين. جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي رقم (2، 3): "المواعدة (وهي التي تصدر من الطرفين) تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز. لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكًا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الإنسان ما ليس عنده" (¬2). وأحسب أن المسألة مجمع على منعها، لولا خلاف لبعض العلماء المعاصرين. وقد سبقني إلى هذه النتيجة الدكتور محمَّد الأشقر حيث يقول وفقه الله: "ولم نجد أحداً من العلماء السابقين قال بهذا القول بعد التمحيص، وبعد التعب في ¬
البحث، ونسب إلى المالكية وإلى ابن شبرمة القاضي، ولا تصح هذه النسبة" (¬1). يقول الشيخ نزيه حماد: "لم ينقل عن أحد منهم -يعني من الفقهاء- قول بأن في المواعدة قوة ملزمة لأحد المتواعدين، أو لكليهما؛ لأن التواعد على إنشاء عقد في المستقبل ليس عقدًا" (¬2). اهـ وذهب بعض العلماء المعاصرين إلى القول بجواز الإلزام بالوعد في بيع المرابحة، من ذلك: الدكتور يوسف القرضاوي (¬3)، والدكتور سامي حسن حمود (¬4)، وفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع (¬5)، وفضيلة الدكتور علي القره ¬
الأدلة على تحريم الإلزام بالوعد
داغي (¬1)، والدكتور: إبراهيم فاضل الدبو (¬2). والتزمت بالأخذ بالإلزام أكثر المصارف الإِسلامية، من ذلك: مجموعة دلة البركة، وبيت التمويل الكويتي، ومصرف قطر الإِسلامي (¬3). وهو رأي الأكثرية في مؤتمر المصرف الإِسلامي بدبي (¬4)، وقرار المؤتمر الثاني للمصرف الإِسلامي بالكويت (¬5). الأدلة على تحريم الإلزام بالوعد: الإلزام بالوعد يجعلنا نتساءل: متى انعقد البيع؟ فمن المتفق عليه بين أهل ¬
الدليل الأول
العلم أن البيع لا ينعقد إلا بإيجاب وقبول، وهما ركنا البيع المتفق عليه بين أهل العلم. فهل انعقد البيع بمجرد الوعد وقبل شراء البضاعة، أو انعقد بعد شراء البضاعة؟ فإن قلنا: إن البيع انعقد بمجرد الوعد وقبل شراء البضاعة، فهذا لا يصح، والأدلة على بطلان هذا العقد، ما يلي: الدليل الأول: أن المبيع إن كان معينًا كما لو قال المشتري أريد أن أشتري هذا البيت، فقد قد باع البنك ما لا يملك لِحَظِّ نفسة (¬1)، وهذا لا يجوز، بل مجمع على بطلان البيع؛ لأن من شروط البيع أن يكون المبيع مملوكًا للبائع أو مأذونًا له فيه. ونقل الإجماع على المنع الزيلعي في تبيين الحقائق (¬2)، وابن الهمام في فتح القدير (¬3). وذكر ابن عبد البر أن بيع ما ليس عند الإنسان من الأصول المجتمع على تحريمها (¬4). وقال ابن القيم - رحمه الله -: "إذا باعه شيئًا معينًا، وليس في ملكه، ثم مضى ليشتريه ¬
الدليل الثاني
ويسلمه له كان مترددًا بين الحصول وعدمه، فكان غررًا يشبه القمار، فنهي عنه ... " (¬1). وإن كان المبيع موصوفاً، وليس معينًا، كما لو قال: أريد سيارة جديدة صفتها كذا وكذا، فإن هذا من باب بيع الدين بالدين في الصورة المجمع على منعها؛ لأن المبيع موصوف في الذمة غير مملوك للبنك، والثمن دين على المشتري لم يسلم في مجلس العقد حتى يكون سلمًا، بل سوف يسلم على شكل أقساط، ويسميه بعض الفقهاء ابتداء الدين بالدين. وهذا مجمع على تحريمه حيث لم يختلف أحد في منعه. قال الشافعي: "المسلمون ينهون عن بيع الدين بالدين" (¬2). "وقال أحمد: لم يصح منه -أي في النهي عن بيع الكالئ بالكالئ- حديث، ولكن هو إجماع، وهذا مثل أن يسلف إليه شيء مؤجل، فهذا الذي لا يجوز بالإجماع" ثم قال ابن تيمية: والإجماع إنما هو بالدين الواجب كالسلف المؤجل من الطرفين" (¬3) الدليل الثاني: أن البيع قبل تملك البضاعة لا يصح لنهي الشارع عن ربح ما لم يضمن، فالبنك يربح في البضاعة المعينة قبل تملكها، وقبل أن تدخل في ضمانه. (ح-848) وقد روى أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
الدليل الثالث
عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬1). [إسناده حسن] (¬2). والمقصود نهى عن ربح ما لم يضمن، معناه: أن الربح يستحقه من يلزمه ضمان السلعة لو هلكت، فما لم يدخل في ضمانه لا يستحق منافعه، واستحقاق الربح يكون مقابل تحمل خسارة هلاكه. الدليل الثالث: قياس عقد البيع على سائر العقود، فإذا كان عقد الطلاق لا يقع بمجرد الوعد به، ولا يلزم بذلك، وكذلك عقد النكاح لا يقع بمجرد الوعد به، ولا يلزم، فكذلك لا يقع البيع بمجرد الوعد به. وإن قلنا: إن البيع قد انعقد بعد شراء البضاعة، ولكن بالوعد الملزم المتقدم على تملك البضاعة؛ فهذا البيع لا يصح أيضًا؛ للتعاليل الآتية: التعليل الأول: إذا تم الاتفاق على كون المواعدة ملزمة للطرفين، فهذا يصير الوعد عقدًا؛ لأن الإلزام من أبرز خصائص العقد. وقد صرح الفقهاء بأن الوعد لا يعتبر عقدًا. وفي ذلك يقول ابن حزم: "والتواعد على بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، وفي سائر الأصناف الأربعة، بعضها ببعض جائز تبايعا بعد ذلك، أو لم يتبايعا؛ لأن الوعد ليس بيعًا" (¬3). ¬
وفي مذهب الحنفية: جاء في المادة 171 من مجلة الأحكام: "صيغة الاستقبال التي هي بمعنى الوعد المجرد، مثل: سأبيع، وأشتري، لا ينعقد بها البيع". قال في شرحها: "صيغة الاستقبال في اللغة العربية هي المضارع المقترن بالسين أو سوف، كأن يقال: سابيعك، أو سوف أبيعك، وإنما لا ينعقد البيع بها؛ لأنها وعد مجرد ... " (¬1). وقال صاحب كشاف القناع: "لو قال البائع بعتك بكذا، فقال المشتري: أنا آخذه بذلك، لم يصح: أي لم ينعقد البيع؛ لأن ذلك وعد بأخذه" (¬2). فالقول بالإلزام بالوعد مع القول بأن البيع لم يتم إلا بعد تملك المصرف للبضاعة قول ينقض بعضه بعضًا، فإذا ألزمنا المشتري بالوعد السابق، بالربح السابق، كان البيع منعقدًا بذلك الوعد؛ لأنه لا خيار لهما في إحداث إيجاب جديد، وسعر جديد، وكان الإيجاب والقبول الحادث بعد تملك البضاعة، لا حاجة إليهما، فهما إيجاب وقبول صوريان والعبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني. قال الشيخ نزيه حماد: "على أن المتواعدين لو اتفقا على أن يكون العقد الذي تواعدا على إنشائه في المستقبل ملزمًا للطرفين من وقت المواعدة، فإنها تنقلب إلى عقد، وتسري عليها أحكام ذلك العقد، إذ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني" (¬3). ¬
التعليل الثاني
التعليل الثاني: أنه لا يوجد فرق مؤثر بين أن يبيع الإنسان ما لا يملكه، أو أن يعد شخصًا وعدًا لازمًا ببيعه ما لا يملكه. يقول الشيخ الصديق الضرير: "بيع المرابحة للآمر بالشراء مع إلزام الآمر بوعده، يؤدي إلى بيع الإنسان ما ليس عنده؛ لأنه لا فرق بين أن يقول شخص لآخر: بعتك سلعة كذا بمبلغ كذا، والسلعة ليست عنده، وبين أن يقول شخص لآخر: اشتر سلعة كذا، وأنا ملتزم بشرائها منك بمبلغ كذا، وبيع الإنسان ما ليس عنده منهي عنه بحديث: "لا تبع ما ليس عندك"، ولا يغير من هذه الحقيقة كون البنك والآمر بالشراء سينشئان عقد بيع من جديد بعد شراء البنك السلعة، وتقديمها للآمر، ما دام كل واحد منهما ملزمًا لإنشاء البيع على الصورة التي تضمنها الوعد" (¬1). التعليل الثالث: إذا ألزمنا الآمر بالشراء فإن كان البيع قد انعقد قبل تملك البضاعة، فقد باع ما لا يملك، وإن أكرهنا المشتري على الشراء بعد تملك البضاعة بطل البيع؛ لأن البيع لا يكون إلا عن رضا وطيب نفس من العاقدين. دليل من قال: إن البيع لازم بمجرد الوعد. الدليل الأول: الأصل في المعاملات الإباحة، فلا يحرم منها شيء إلا بدليل صحيح صريح، ولا دليل هنا على التحريم. ¬
ويناقش
ويناقش: لا خلاف في أن الأصل في المعاملات الإباحة، قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] إلا أن هذه المسألة (أعني الإلزام بالوعد) قد قامت الأدلة على منعها كما ذكرنا ذلك مدعومًا بفهم الفقهاء المتقدمين. الدليل الثاني: أن البنك (المصرف) لا يبيع البضاعة إلا بعد تملكها، فربحه فيها يكون قد ربح فيما استقر عليه ضمانه. ويجاب: القول بأن المصرف لا يبيع البضاعة إلا بعد تملكها قول غير صحيح؛ لأن اعتبار البيع لازم بالاتفاق الأول وقبل تملك البضاعة، يجعل الاتفاق الجديد بعد تملك البضاعة صوريًا؛ لأنه لا أثر له في لزوم البيع، ولا أثر له في قيمة السلعة، وإيجاب وقبول هذا شأنهما، لا قيمة لهما، فإن الإيجاب والقبول من طبيعتهما أنهما يحددان السلعة ويحددان قيمتها، ويعبران عن رضا المتعاقدين، ويكون المشتري بالخيار قبل صدور القبول، وهذا غير موجود في الإيجاب والقبول الحادثين بعد تملك المصرف للبضاعة. ولذلك اعتبر الشافعي - رحمه الله - المواعدة على وجه الإلزام بيعًا، فقال في الأم: "إذا أرى الرجل الرجل السلعة، فقال: اشتر هذه، وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، والذي قال: أربحك فيها بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعًا، وإن شاء تركه ... فإن جدداه جاز، وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما الأمر الأول فهو مفسوخ" (¬1). ¬
الدليل الثالث
فجعل الشافعي الإلزام بالتواعد الأول بيعًا، وأنه داخل في بيع ما لا يملكه البائع. وعلى التسليم بأن البيع قد جرى بعد تملك البضاعة، فإن إتمام العقد سيتم تحت ضغط الإلزام، والمساءلة القضائية، فلا يتحقق شرط الرضا الواجب في العقود. الدليل الثالث: الشارع لم يمنع من المعاملات إلا ما كان مشتملًا على ظلم، وهو أساس تحريم الربا، والاحتكار، والغش، أو خشي منه أن يؤدي إلى نزاع، وعداوة بين الناس، وهو أساس تحريم الميسر والغرر. والقول بالإلزام بالمواعدة فيه مصلحة للعاقدين: من جهة الاطمئنان إلى إتمام العقد، وفيه مصلحة عامة من جهة استقرار المعاملات وضبطها، وتقليل النزاع والخلاف، ومع هذه المصلحة فلا محظور في القول بالإلزام. ويناقش: لا نسلم بأن الإلزام بالوعد فيه مصلحة للعاقدين ومصلحة للسوق من جهة استقرار المعاملات وضبطها، وعلى التسليم بأن فيه مصلحة فقد عارضها ما يجعلها ملغاة في نظر الشارع، وهو نهيه عن بيع الإنسان ما لا يملكه، وعن ربحه فيما لم يضمن. الدليل الرابع:. أن قواعد الشريعة جاءت بمنع الإضرار بالآخرين، وبرفعه إن وقع، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرار ولا ضرار"، وفي القول بعدم الإلزام بالمواعدة فيه إضرار بالمصرف، فقد يأتي المصرف بالسلعة على الوصف المرغوب، ثم يبدو للواعد
ويجاب من وجهين
ألا يأخذها؛ ولا يجد البنك من يشتريها منه لكونها جاءت حسب مواصفات محددة، وهذا مما يوقع الضرر الشديد بالمصرف. فإلزام العميل بوعده، لا يعني إطلاقًا إلزامه بإتمام عملية الشراء؛ لأن البيع لا يتم إلا عن تراض، ولكن ذلك يقتضي إلزام العميل بجبر الضرر المترتب على البنك من جراء دخول البنك بناء على وعد العميل في عملية شراء ما كان له أن يدخل فيها لولا وعد العميل بشرائها منه، وفي حال عدم رغبة العميل الوفاء بوعده، وإتمام العملية، يقوم البنك ببيع السلعة إلى طرف ثالث، حسب السعر البخاري في السوق، فإن ترتب على عملية البيع خسارة عن التكلفة الفعلية للشراء فيجب على العميل حينئذ تعويض البنك عن تلك الخسارة، عملاً بالقاعدة الفقهية: لا ضرر ولا ضرار، حيث نهت الشريعة الإِسلامية عن إضرار الإنسان بنفسه، ناهيك عن إضراره بغيره (¬1). ويجاب من وجهين: الوجه الأول: إن كان البنك قد اشترى السلعة للعميل فهو مجرد وكيل، وما يأخذه من فائدة على القرض فإنما هو من باب الإقراض بفائدة، وهو صريح الربا، وإن كان الشراء سيتم للبنك لا للعميل، فلا يجب أن يتحمل العميل ما يلحق البنك من خسائر بسبب هذه العملية، للأمور التالية: (أ) التعويض عن الضرر على القول به يجب أن يكون عن ضرر حقيقي، وليس بما جرت عادة التجار باحتماله في التجارة، فلا يكون مجرد نكول العميل عن الشراء ضررًا يسوغ للمصرف المطالبة بالتعويض، ولا يكون بيع البضاعة ¬
عند نكول العميل بسعر أقل من المتفق عليه مع العميل ضررًا يسوغ للمصرف مطالبته بتعويضه؛ لأن من طبيعة التجارة التعرض للربح والخسارة. (ب) إذا باع البنك البضاعة بعد نكول العميل على عميل آخر وربح فيها فإن الربح سيكون للمصرف وحده، وفي المقابل إذا باعها بخسارة فعليه أن يتحمل ذلك؛ لأن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، فإن الظلم أن يأخذ البنك الربح إذا باع البضاعة بزيادة، بينما يرجع على العميل إذا تعرض لخسارة. (جـ) على التسليم بأن ما لحق البنك بسبب التجارة يعتبر ضررًا فإنه لا يزال بمثله؛ لأن القول بالزام المشتري إكراه له، وفي تحميله للخسارة ضرر عليه أيضًا لا يقل عن ضرر البنك، ولا تقبل دعوى العكس، فإن البنك جهة مقصودة مما يجعل سلعته مظنة الرواج. (د) إذا كان البنك لا يتعرض لأي مخاطر، أصبحت العملية مجرد صيغة تمويل مالي يعود على البنك بما يسمى بالربح دون أي مخاطر، وأصبح الأمر مثل أن يوكل شخص البنك بشراء السلعة له، ويطلب منه دفع ثمنها للبائع، على أن يقوم هو بتسديد الثمن بزيادة على أقساط، فما الفرق بين هذه الصورة وبين صورة بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا انقلب إلى مجرد تمويل بزيادة، وبلا مخاطر. إن أساس جواز معاملة بيع المرابحة للآمر بالشراء: هو تعرض المصرف لاحتمالات الربح والخسارة، فإذا أفرز التطبيق صورًا نقطع معها بالربح في جميع الأحوال، ولا يتصور فيه أي مخاطرة، انقلبت هذه المعاملة إلى تمويل ربوي (¬1). ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أي فرق بين أن يطلب البنك التعويض عن الخسارة، أو أن يشترط التاجر إذا اشترى البضاعة عدم الخسارة، فإذا كان التاجر لا يحل له أن يشترط ذلك، فكذلك البنك لا يحل له أن يطلب التعويض عن الخسارة جراء شراء بضاعة ما، فإن اشتَرَطَ ذلك فهو شرط باطل؛ لأن ذلك يخالف مقتضى العقد، فإن طبيعة التجارة أن يتحمل المشتري للبضاعة الغرم، مقابل أن يكون الغنم حلالًا إذا حصل عليه. قال الشافعي: "إذا اشترى جارية على أن لا يبيعها، أو على أن لا خسارة عليه من ثمنها، فالبيع فاسد ... " (¬1). وقال في كشاف القناع: " (الثاني) من الشروط الفاسدة (شَرَطَ في العقد ما ينافي مقتضاه، نحو أن يشترط أن لا خسارة عليه) " (¬2). وعلى البنك إذا أراد أن يدفع الضرر عن نفسه، فليتخذ لذلك الطرق الشرعية، كما أرشد إلى ذلك محمَّد بن الحسن وابن القيم عليهما رحمه الله، فلا يتعين الإلزام بالمواعدة طريقاً وحيدًا لرفع الضرر، بل يمن رنع الضرر المتوقع بطرق أخرى مشروعة، كأن يشتري المصرف السلعة بشرط الخيار له وحده دون البائع، وتحدد مدة كافية، وأثناء المدة يبيع المصرف ما اشتراه، فإن لم يتمكن المصرف من البيع أبلغ البائع الأول بفسخ العقد، ورد المبيع، وهذا جيد في البيوع المحلية (الداخلية) ويراعي في هذا بأن لا يصدر من المصرف إيجاب يسقط خياره، وإنما يخبر الآمر بالشراء بوجود البضاعة، فإن أصدر المشتري إيجابًا كان القبول من المصرف بيعًا للآمر بالشراء بعد تملك البضاعة، وسلم من ¬
خطر نكول المشتري وإلا رد البضاعة، وأما في البضائع التي تحتاج إلى استيراد، فإن المصرف يمكنه أن يكلف الآمر بالشراء باستلام البضاعة قبل تصديرها، إما بنفسه، أو عن طريق وكيله، فإذا رأى البضاعة قبل تصديرها، ووافق عليها، كان ذلك بيعًا لازمًا، وتكون في يد البنك بمنزلة الأمانة. قال في إعلام الموقعين: "رجل قال لغيره: اشتر هذه الدار -أو هذه السلعة من فلان- بكذا وكذا، وأنا أربحك فيها كذا وكذا، فخاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يريدها، ولا يتمكن من الرد، فالحيلة أن يشتريها على أنه بالخيار ثلاثة أيام، أو أكثر، ثم يقول للآمر: قد اشتريتها بما ذكرت، فإن أخذها منه، وإلا تمكن من ردها على البائع بالخيار ... " (¬1). قال محمَّد بن الحسن: "قلت: أرأيت رجلاً أمر رجلاً أن يشتري داراً بألف درهم، وأخبره أنه إن فعل، اشتراها الآمر بألف درهم، ومائة درهم، فأراد المأمور شراء الدار، ثم خاف إن اشتراها، أن يبدو للآمر فلا يأخذها، فتبقى في يد المأمور، كيف الحيلة في ذلك؟ قال: يشتري المأمور الدار على أنه بالخيار فيها ثلاثة أيام، ويقضيها، ويجيئ الآمر، ويبدأ فيقول: قد أخذت منك هذه الدار بألف ومائة درهم، فيقول المأمور: هي لك بذلك، فيكون ذلك للآمر لازمًا، ويكون استيجابًا من المأمور للمشتري، أي ولا يقل المأمور مبتدئًا: بعتك إياها بألف ومائة؛ لأن خياره يسقط بذلك، فيفقد حقه في إعادة البيت إلى بائعه، وإن لم يرغب الآمر في شرائها تمكن المأمور من ردها بشرط الخيار، فيدفع عنه الضرر بذلك" (¬2). اهـ ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: إذا سلمنا أن البيع كان قبل تملك البضاعة، فإن تحريم البيع قبل التملك إنما هو من خشية الغرر، فقد يحصل، وقد لا يحصل، وباب الغرر يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره، ولذا جاز منه اليسير، والتابع، وما يحتاج إليه حاجة عامة؛ لأن منع الناس مما يحتاجون إليه حاجة عامة، ضرره أشد من ضرر الوقوع في الغرر. فإذًا الحاجة داعية إلى الإلزام بالوعد، كما دعت الحاجة إلى جواز بيع السلم، وجواز عقد الاستصناع، واغتفر ما يعتريهما من الغرر تقديرًا للحاجة، والحاجة هنا داعية لاتساع رقعة التعامل، وتضخم رؤوس الأموال، وحاجة المنشآت إلى دعمها بالآلات والمباني التي لا قوام لها إلا بها، فإن لم تتم تلك المعاملة وقع المسلم في حرج ومشقة الفوات لمصالح يريد تحقيقها، فإن لم تكن من هذا الباب اضطر إلى القرض بفائدة، ودينه يعصمه من هذا الربا المحرم، فليقرر هذا التعامل تحت وطأة الحاجة والانتشال من المحرم، وتحقيق مصالح المسلمين (¬1). ويجاب: لو لم تكن النصوص صريحة في الباب لقيل بجوازه بناء على هذه الحاجة أو المصلحة، ولكن إذا كانت النصوص صريحة في منع الإنسان من بيع ما لا يملكه، ومن بيع الدين بالدين في الصورة المجمع عليها، ومن النهي عن الربح في ما لم يضمن دل على أن هذه المصلحة ملغاة في حكم الشارع، وكان الأخذ بها تغييرًا لحكم الشرع، فأي مصلحة ممكن أن تطلب في مخالفة الحكم الشرعي. ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: جاءت توصية مؤتمر المصرف الإِسلامي بدبي 1399 هـ 1979 م ما نصه: "يرى المؤتمر أن هذا التعامل يتضمن وعدًا من عميل المصرف بالشراء ... ووعدًا آخر من المصرف بإتمام هذا البيع بعد الشراء، طبقًا لذلك الشرط، إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء، طبقًا لأحكام المذهب المالكي، وهو ملزم للطرفين ديانة، طبقًا لأحكام المذاهب الأخرى، وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك، وأمكن للقضاء التدخل فيه ... ". ويناقش: لوْ كان الخطأ في حكم المسألة لم أنبه على ذلك بالاسم، إجلالًا للمشايخ الفضلاء المشاركين في المؤتمر؛ ولأنه لا أحد معصوم من الخطأ؛ ولأن مسائل الاجتهاد غالبًا ما يكون الحكم فيها من قبيل الظن، وقد يكون الصواب خلافه، ولكن أن يكون مستند الفتوى في نسبة قول إلى غير أهله واعتماد ذلك دليلًا على جواز مثل هذه المعاملة، فهذا خطأ علمي يجب تصحيحه، والرجوع عنه. فقول المشاركين "إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقًا لأحكام المذهب المالكي". فالمالكية قد نصوا على تحريم هذه المعاملة، بل إن المالكية من أشد المذاهب تحريمًا لهذه المسألة فالمالكية قد نصوا على تحريم هذه المعاملة، وقد نقلت ذلك عنهم من كتبهم حين عرض الأقوال، من ذلك ما ذكره مالك في الموطأ (¬1)، وابن رشد في المقدمات (¬2)، والباجي- في المنتقى (¬3)، وابن عبد البر ¬
في الاستذكار (¬1)، وفي الكافي (¬2)، وخليل في مختصره، ووافقه عليه شراح المختصر على كثرتهم منهم الحطاب في مواهب الجليل (¬3)، والخرشي (¬4)، وغيرهم، ولا مانع من عرض شيء منها مرة أخرى ليتبين للقارئ أن نسبة هذا القول إلى المذهب المالكي خطأ علمي، ففي القوانين الفقهية لابن جزي جعل العينة ثلاثة أقسام، وذكر منها: أن يقول رجل لآخر: اشتر لي سلعة بعشرة، وأنا أعطيك خمسة عشر إلى أجل، فهذا يؤول إلى الربا (¬5). ويقول الدردير في الشرح الكبير: "وكره: اشتره، ويومئ لتربيحه ... فإن صرح بقدر الزيادة حرم ... " (¬6). فكيف يقال بعد ذلك: إن الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقًا لأحكام المذهب المالكي، وقد أنكر هذه النسبة جملة من العلماء الأفاضل ممن بحث هذه المسألة، منهم الدكتور محمَّد الأشقر، حيث يقول بعد أن نقل جملة من نصوص المالكية على تحريم هذه المعاملة، قال: "فهذه نصوص المالكية صريحة في تحريم هذا النوع من التعامل ... ومن هنا ينبغي مراجعة ما ينسب إلى المالكية من ذلك، وتصحيح المقال في تلك النسبة عند من كتب في مسألة الوعد، سواء في ما تنشره البنوك الإِسلامية، أو ما يكتب عنها، وذلك لتصحيح المسيرة وإصلاح الزلل، والمؤمنون رجاعون إلى الحق، وقافون عنده، والله يتولى ¬
الصالحين، وينبغي أن يتولى تصحيح تلك النسبة علماء هذا المؤتمر الثاني للمصارف الإِسلامية" (¬1). ويقول الدكتور رفيق المصري: "قالوا: إن الواعد بالشراء يمكن إلزامه قضاء حسب قواعد المذهب المالكي ... الجواب: لا، ذلك أن المالكية أنفسهم يشاركون الإمام الشافعي في حرمة العملية صراحة" ثم نقل لنا كلام ابن جزي في القوانين الفقهية في تحريم مثل هذه المعاملة (¬2). ويقول الشيخ ربيع محمود الروبي: "يلاحظ على هذا القرار -يعني قرار المؤتمر الأول للمصرف الإِسلامي- كثير من المآخذ، فالمالكية -على ما رأينا- لا يجيزون وعد المرابحة، ولا يلزمون به، فهو يخرج من دائرة الوعود الملزمة عندهم، وثانيًا: أن الشافعية كما أوضحنا لا يلزمون بهذا الوعد ديانة، ولا قضاء ... " (¬3). ويقول الشيخ الصديق الضرير: " ... لا يصح القول بالإلزام بالوعد في هذه المعاملة اعتمادًا على رأي المالكية أو غيرهم، ويؤيد هذا أن الإمام مالك، وفقهاء المالكية من بعده نصوا على منع هذه المعاملة إذا وقعت على الإلزام" (¬4). والسؤال: إذا كان هذا مذهب المالكية فكيف وقع الخطأ في نسبة المذهب للمالكية من المشايخ الفضلاء، وهم جمع، وهم من هم في الفضل والعلم؟ ¬
والجواب على ذلك
والجواب على ذلك: التبس الأمر على المشايخ مسألة الإلزام بالوعد بالمعروف في مسألة الإلزام بالمواعدة في باب المعاوضة، والمسألة الأولى مختلف فيها، بينما المسألة الأخرى متفق على منعها بين المذاهب. يقول الدكتور الصديق الضرير: "الوعد الذي وقع الاختلاف فيه بين المالكية وغيرهم، فقال المالكية بالإلزام به ديانة وقضاء، وقال غيرهم: بالإلزام به ديانة لا قضاء، هو الوعد بالمعروف من جانب واحد، كأن يعد شخص آخر بأن يدفع له مبلغًا من المال، ومسألتنا هذه ليست من هذا القبيل؛ لأن الوعد فيه من أحد الطرفين، يقابله وعد من الطرف الآخر، فهو أقرب إلى العقد منه إلى الوعد، وينبغي أن تطبق عليه أحكام العقد. ثم إن الوعد الملزم الذي يجب الوفاء به ديانة وقضاء، أو ديانة فقط هو الوعد الذي لا يترتب على الإلزام به محظور، والإلزام بالوعد في بيع المرابحة يترتب عليه محظور، وهو بيع الإنسان ما لا يملك" (¬1). ويقول الشيخ سليمان بن تركي التركي: "بني بعض الباحثين القول بالإلزام بالمواعدة في المعاوضات على ما سبق من مذهب الإمام مالك في الإلزام بالوعد إذا دخل الموعود بسبب الوعد في كلفة، وهذا غير صحيح؛ لأن المقصود بالوعد لدى الفقهاء المتقدمين، وما سبق عرضه من الخلاف في الإلزام به إنما هو الوعد بالمعروف دون الوعد بالمعاوضة" (¬2). ¬
جاء في القاعدة التاسعة والستين من قواعد الونشويسي: "الأصل منع المواعدة بما لا يصح وقوعه في الحال حماية" (¬1). وجاء في شرح هذه القاعدة: "ومن ثم منع مالك المواعدة في العدة، وعلى بيع الطعام قبل قبضه، ووقت نداء الجمعة، وعلى ما ليس عندك" (¬2). وأما الإلزام بالوعد عند بعض المالكية فهو ما كان من قبيل المعروف، ولذلك قال الحطاب - رحمه الله -: "مدلول الالتزام لغة: هو إلزام الشخص نفسه ما لم يكن لازمًا، وهو بهذا المعنى شامل للبيع والإجارة، والنكاح وسائر العقود، وأما في عرف الفقهاء: هو إلزام الشخص نفسه شيئًا من المعروف مطلقًا، أو معلقاً على شيء، فهو بمعنى العطية، وقد يطلق في العرف على ما هو أخص من ذلك، وهو: إلزام المعروف بلفظ الالتزام، وهو الغالب في عرف الناس اليوم" (¬3). فإذا صح ذلك لم يكن سائغًا أن يجعل كلام بعض المالكية في وجوب الوفاء بالوعد في باب المعروف بوجوبه في المواعدة، وفي باب المعاوضات، والوعد الملزم المتفق عليه بين المشتري والمصرف لا يسمى وعدًا، بل مواعدة؛ لأنه بين اثنين (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وقد رأى بعض العلماء المعاصرين بأنه إذا جاز الإلزام بالوعد بالمعروف، والقضاء به إذا تم على سبب، ودخل الموعود في السبب، مع أنه تبرع محض، فلأن يلزم به في المعاوضات أولى وأحرى. وهذا القول في الحقيقة قلب للقاعدة الفقهية المعروفة: وهي أن الغرر يغتفر في باب التبرعات، أكثر منه في باب المعاوضات. ولهذا اغتفر في عقود التبرعات هبة المجهول، والوصية به، وعدم القدرة على تسليمه، وكل هذه الأمور لا يجوز بيعها. ¬
القول الراجح في هذه المسألة
القول الراجح في هذه المسألة: أرى أن بيع المرابحة للواعد بالشراء جائزة بشرط عدم الإلزام، وأن يكون الخيار للبائع والمشتري على حد سواء، وإذا اشترى التاجر أو المصرف البضاعة، وتحقق الواعد من مطابقتها، ورغب في شرائها كان له ذلك بإيجاب وقبول جديدين.
الفرع الثالث بيع المصرف السلعة قبل تسجيلها باسمه
الفرع الثالث بيع المصرف السلعة قبل تسجيلها باسمه الكتابة في البيع لا يتوقف عليها ثبوت البيع، ولا صحته، ولا لزومه وإنما يحتاج إليها في إثباته عند النزاع، وفي متطلبات الإجراءات الإدارية. [ن-197] تسجيل السلعة باسم البنك من سيارة أو عقار هو إجراء قانوني لا يتوقف عليه ثبوت البيع، فالبيع هو الإيجاب والقبول الصادران بالاعتبارات الشرعية، أما تسجيل السلعة لدى الدوائر الحكومية فإنه يأتي لاحقًا بعد ثبوت البيع كنوع من التوثيق، وليس شرطًا في ثبوت البيع، ولا في صحته، ولا في لزومه شأنه في ذلك شأن كتابة الدين وتوثيقه برهن ونحوه، وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا حرج على المصرف (البنك) أن ببيع السيارة إذا ملكها قبل تسجيلها لدى الدوائر المعنية بذلك، وفي هذا مصلحة للمتعاقدين خاصة إذا كانت المكوس المدفوعة مرتفعة، كما أن فيه اختصارًا لوقت المتعاقدين، والله أعلم.
الفرع الرابع في بيع المصرف السلعة بعد تملكها وقبل قبضها
الفرع الرابع في بيع المصرف السلعة بعد تملكها وقبل قبضها يقول ابن تيمية: "القبض في البيع ليس هو من تمام العقد ... ولكن أثر القبض إما في الضمان، واما في جواز التصرف" (¬1). [ن- 98] جاء في مجلة الأحكام العدلية: "القبض ليس بشرط في البيع إلا أن العقد متى تم كان على المشتري أن يسلم الثمن أولًا، ثم يسلم البائع المبيع إليه" (¬2). قال ابن تيمية: "القبض في البيع ليس هو من تمام العقد، كما هو في الرهن، بل الملك يحصل قبل القبض للمشتري تابعًا، ويكون نماء المبيع له بلا نزاع، وإن كان في يد البائع، ولكن أثر القبض إما في الضمان، وإما في جواز التصرف" (¬3). والذي يعنينا في هذا الباب أن البنك أحياناً يبيع السلعة بعد تملكها، وقبل قبضها، فهل يصح البيع، أو لا بد من قبضها وحيازتها؟ وللجواب على ذلك نقول: تارة يكون القبض من تمام العقد كقبض الثمن في السلم، والتقابض يدًا بيد في الأموال الربوية، فإذا تفرق العاقدان بدون القبض بطل العقد؛ لأن تأخير ¬
القبض يوقع في محذور شرعي لا يمكن دفعه إلا بالقبض، ومثل هذا لا يجوز فيه للبنك أن يبيع السلعة قبل قبضها، ويجب عليه إقباضها قبل التفرق. وتارة يكون القبض أثرًا من آثار العقد وواحدًا من موجباته، ولا يلزم من تأخر القبض الوقوع في أي محذور شرعي، ولذلك لا مانع من اشتراط الخيار فيه، واشتراط الأجل كالعقارات والسيارات ونحوها. فإذا كان المبيع من هذا النوع فقام البنك بامتلاك هذه السلعة من سيارة أو عقار فهل يجب عليه أن يقبضها قبل أن يبيعها، أو له أن يبيعها قبل أن يقبضها ويحوزها. هذه المسألة ترجع إلى خلاف فقهي قديم في حكم التصرف في السلعة قبل قبضها: فقيل: يجوز بيع العقار قبل القبض في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى، ولا يجوز بيع المنقول حتى يقبض (¬1). وقيل: لا يجوز التصرف في المبيع قبل القبض مطلقًا، عقارًا كان أو منقولاً، وهو قول محمَّد بن الحسن، وزفر من الحنفية (¬2)، ومذهب الشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4)، وهو قول ابن حزم (¬5)، ورجحه ابن تيمية وابن القيم (¬6). ¬
وقيل: لا يجوز بيع الطعام المكيل أو الموزون قبل قبضه، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬1). وقيل: لا يجوز بيع المكيل أو الموزون أو المعدود أو المذروع، وكذا ما اشتري بصفة أو رؤية متقدمة قبل قبضه، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: لا يجوز بيع الطعام الربوي فقط قبل قبضه، وأما غير الربوي من الطعام فيجوز بيعه قبل قبضه، وهو رواية عن مالك (¬3). ¬
وقد ذكرنا أدلة هذه الأقوال في مسألة: (جواز التصرف في المبيع قبل قبضه) فأغنى عن إعادته هنا. وبناء على هذا الخلاف وقع خلاف بين المعاصرين في تصرف البنك في بيع السلع بعد تملكها، وقبل قبضها. جاء في فتوى المستشار الشرعي للبنك الإِسلامي الأردني: "يجوز إتمام البيع مرابحة على أساس بوليصة الشحن عن طريق تظهيرها تظهيرًا ناقلًا للملكية وذلك دون معاينة البضاعة الموضوعة في البوليصة" (¬1). وجاء في جواب المستشار الشرعي لبيت التمويل الكويتي عن سؤال بهذا الخصوص "الاستلام إما أن يكون فوريًّا بمعاينة المبيع وعزله عن غيره وتحديده بحيث تكون البضاعة تحت حيازتك، وأنت المسئول عما يحدث لها من وقت استلامك، وإما أن يكون استلامًا مؤجلاً بأن تشترى البضاعة، وتمتلكها ولكن يؤجل الاستلام إلى حين بيعها للغير عندئذ تذهب إلى مخازن البائع، وتستلمها منه كليًا أو جزئيًا لتسلمها إلى المشتري، ويمكن تسلمها عند البيع، وعزلها في مخازن البائع بصورة مميزة، وتكون حينئذ مضمونة على المشتري، وهو بيت التمويل، وأمانة لدى البائع في مخازنه، وعلى العموم فإن الإمام مالك قال بجواز بيع ما عدا الأطعمة، فيجوز عنده للمالك أن يبيع البضاعة التي يمتلكها، ولو لم يحزها إذا لم تكن طعاماً" (¬2). والذي رجحناه في التصرف في المبيع قبل قبضه نرجحه هنا، وأن المبيع إذا كان عقارًا أو سيارة فإن المشتري يملكه بالعقد، ويدخل في ضمانه، وإذا هلك ¬
هلك من ماله إلا أن يمنعه البائع من قبضه، وبالتالي يجوز التصرف فيه قبل قبضه، أما المبيع إذا كان القبض شرطًا في صحته، أو شرطًا في لزومه كما لو كان فيه حق توفية من كيل أو وزن أو عد أو ذرع فلا بد من قبضه قبل التصرف فيه، والله أعلم.
الفرع الخامس في الزيادة في الثمن مقابل التأجيل
الفرع الخامس في الزيادة في الثمن مقابل التأجيل يشتمل بيع المرابحة على زيادة في الثمن مقابل التأجيل، فهل الأجل له قيمة في العقد؟ وللجواب على ذلك: أما في عقد القرض فلا يجوز أن يكون للأجل أي قيمة، بل يجب في القرض أن يرد مثل ما أخذ بدون اشتراط أي زيادة، وهذا مجمع عليه، وسبق بيانه. وأما الزيادة في عقد البيع مقابل التأجيل فهي محل خلاف. وللجواب على كلك نقول: للمسألة صورتان: الصورة الأولى: أن يقول البائع للمشتري: السملعة بمائة نقدًا، أو بمائة وخمسين نسيئة. الصورة الثانية: أن يكون العقد من الأصل مؤجلاً دون أن يتعرض العاقدان لقيمة السلعة في حال التعجيل، ولكن من نظر إلى قيمة السلعة علم أن قيمتها قد زيد فيها مقابل التأجيل. وسوف نبحث كل مسألة على انفراد إن شاء الله تعالى.
المسألة الأولى إذا عرضت السلعة نقدا بكذا ونسيئة بكذا
المسألة الأولى إِذا عرضت السلعة نقدًا بكذا ونسيئة بكذا [م - 1244] إذا قال الرجل للرجل: بعتك هذه السلعة بعشرة نقدًا، أو بعشرين نسيئة، فإن تفرقا دون القطع بأحد الثمنين فقد اختلف العلماء في حكم البيع. فقيل: البيع لا يصح، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: إن وقع االبيع على وجه اللزوم فالبيع باطل، وإن وقع على وجه الاختيار فالبيع صحيح، وهذا مذهب مالك في المدونة (¬4) ¬
وقيل: البيع صحيح، وهو اختيار ابن القيم (¬1)، وخرجه بعضهم وجهًا في مذهب الحنابلة (¬2). وسبب الاختلاف عندهم: هو جهالة الثمن؛ لأنهم لا يدرون هل الثمن هو النقد، أو الثمن هو النسيئة. وسبق لنا تحرير هذه المسألة مع ذكر أدلتها في باب الجهالة بالثمن، في حكم إبهام الثمن على وجه التخيير، فأغنى عن إعادته هنا. [م - 1245] وإن وقع البيع على إحدى الثمنين قبل التفرق. فقيل: البيع صحيح، وهو قول عامة أهل العلم (¬3)، وقد قال الحكم وحماد ¬
وجه القول بالجواز
وإبراهيم النخعي حين سئلوا عن الرجل يشتري الشيء بكذا نقد، وإن كان إلى أجل فبكذا، قالوا: لا بأس إذا تفرقا على أحدهما. والإسناد إليهم صحيح (¬1). وكذا رواه عبد الرزاق بسند صحيح عن الزهري وقتادة (¬2). وقال الخطابي: "إذا باته على أحد الأمرين في مجلس العقد فهو صحيح لا خلف فيه، وذكر ما سواه لغو لا اعتبار له" (¬3). وهذه حكاية للإجماع. وجه القول بالجواز: إذا عرض البائع قيمتين للسلعة أحدهما حالة، والأخرى نسيئة، وكان ذلك في مرحلة سوم السلعة، فاختار المشتري أحد العرضين قبل التفرق لم يؤد ذلك إلى جهالة الثمن؛ لأن البيع سيقع بثمن بات قبل التفرق. وقيل: لا يصح، وهو ظاهر قول ابن مسعود - رضي الله عنه - (¬4). دليل هذا القول: (ح-849) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، ثنا محمَّد ابن عمرو، ثنا أبو سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة (¬5). وقد فسره ابن مسعود - رضي الله عنه - بأن البيعتين في بيعة أن يقول: إن كان بنقد فبكذا، وإن كان نسيئة فبكذا. ¬
(ث-154) فقد روى ابن أبي شيبة في المصنف، قال: أخبرنا وكيع، أخبرنا سفيان، عن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه (عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -)، قال: صفقتان في صفقة ربا، أن يقول الرجل: إن كان بنقد فبكذا، وإن كان بنسيئة فبكذا (¬1). [ورجاله ثقات]. والراجح القول بالجواز، وسيأتي إن شاء الله تعالى توجيه قول ابن مسعود - رضي الله عنه - في المسألة التالية فانظره هناك. ¬
المسألة الثانية أن يكون العقد من الأصل مؤجلا
المسألة الثانية أن يكون العقد من الأصل مؤجلًا إذا جازت الزيادة في المبيع مقابل تأجيله كلما في السلم جازت الزيادة في الثمن مقابل تأجيله؛ لأنه أحد العوضين. قال ابن الهمام: إن للأجل شبهًا بالمبيع، ألا يرى أنه يزاد في الثمن لأجل الأجل (¬1). قد تحرم الزيادة وإن قابلها عوض كالزيادة في مقابل الجودة، وقد تجوز وإن لم يقابلها عوض كالشراء بأكثر من ثمن المثل مع علم المشتري ورضاه. [م - 1246] إذا دخل العاقدان من ابتداء العقد على أن الثمن مؤجل، ولم يتعرضا لقيمة السلعة حالة، ولكن قيمتها قد روعي فيه كون الثمن مؤجلاً، فزيد فيه من أجل ذلك، فما حكم هذه الزيادة؟ ذهب عامة أهل العلم إلى جواز مثل تلك المعاملة (¬2)، إلا خلافًا شاذا قال به بعض أهل العلم (¬3)، وهو قول مرجوح. ¬
دليل القائلين بجواز الزيادة في مقابل التأجيل
دليل القائلين بجواز الزيادة في مقابل التأجيل: الدليل الأول: قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. وجه الاستدلال: أن الآية دلت بعمومها على جواز البيع مطلقًا إلا ما نص الشارع على تحريمه، ولم يرد نص بتحريم الزيادة في ثمن المبيع مقابل التأجيل فيكون حلالًا. الدليل الثاني: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. وجه الاستدلال: دلت الآية على جواز المداينة، ومن حرم هذه الصورة فعليه الدليل على إخراجها من عموم الآية. الدليل الثالث: (ح-850) ما رواه أحمد من طريق جرير -يعني ابن حازم- عن محمَّد -يعني ابن إسحاق- عن أبي سفيان، عن مسلم بن جبير، عن عمرو بن حريش، قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت: إنا بأرض ليس بها دينار، ¬
وجه الاستدلال
ولا درهم، وإنما نبايع بالإبل والغنم إلى أجل، فما ترى في ذلك؟ قال: على الخبير سقطت، جهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشًا على إبل من إبل الصدقة، فنفدت، وبقي ناس، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اشتر لنا إبلاً بقلائص من إبل الصدقة إذا جاءت حتى نؤديها إليهم، فاشتريت البعير بالاثنين، والثلاث من قلائص، حتى فرغت فأدى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إبل الصدقة (¬1). وفي لفظ أبي داود: فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة (¬2). [حسن] (¬3). وجه الاستدلال: دل الحديث عني جواز الزيادة في مقابل التأجيل، فالأصل أن الثمن الحال أن يكون البعير في مقابل البعير، فلما أجل الثمن صار البعير في مقابل بعيرين إلى ثلاثة. واعترض على هذا الاستدلال: لا يلزم من بيع البعير بالبعيرين أن يكون ذلك في مقابل التأجيل، فالواقع يدل على أن بعض الحيوانات أفضل. من بعض، فليست الحيوانات متساوية القيم حتى يقال: إن الزيادة في الثمن كانت في مقابل التأجيل، فقد يكون البعير الواحد خيرًا من الاثنين ومن الثلاثة في الوصف. وأجيب: حمل الزيادة في الثمن على أن ذلك بسبب اختلاف الوصف حمل على سبب ¬
الدليل الرابع
لم يذكر مطلقًا في الحديث، وتجاهل لسبب قد نص عليه في الحديث، وهو التأجيل، وهذا غير سديد، فلو كان الباعث على الزيادة غير الأجل لذكر في البيع، فلما لم تذكر الجودة مطلقًا في الحديث، وذكر الأجل في العقد تبين أنه هو السبب في الزيادة. هذه من جهة، ومن جهة أخرى فإن الثمن في هذه الصفقة موصوف في الذمة، وليس مشاهدًا حتى يقال: إن البعير المبيع أجود من البعيرين ومن الثلاثة، فالأصل أن الثمن سيكون على صفة المبيع في الجودة مع زيادة في العدد مقابل التأجيل. الدليل الرابع: القياس على جواز الزيادة في مقدار المبيع مقابل التأجيل كما في السلم. (ح-851) لما رواه مسلم من طريق أبي المنهال عن ابن عباس قال قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم (¬1). وجه الاستدلال: دل الحديث على أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يسلفون في الثمار السنة والسنتين، وكان الارتفاق للمزارعين بأن يستفيدوا من تقديم الثمن لإصلاح حرثهم وزرعهم، وكان التجار ينتفعون من الزيادة في المبيع مقابل تأجيله، وقد أقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فما جاز في المبيع جاز في الثمن؛ لأنه أحد العوضين. الدليل الخامس: الزيادة في ثمن السلعة مقابل التأجيل غاية ما فيه أنه قد باع السلعة بأكثر من ¬
الدليل السادس
ثمنها، وهذا لا يقتضي التحريم ما دام أن العاقدين قد رضيا بذلك، فهو لو باعها بأكثر من ثمنها والثمن حال وكان المشتري عالماً لم يبطل البيع بمجرد الزيادة، فمن باب أولى إذا باعها مع التأجيل. الدليل السادس: حكى بعض العلماء الإجماع على جواز الزيادة في مقابل التأجيل، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الشيعة، وبعض المعاصرين. فقد نقل الخطابي في معالم السنن في مسألة ما إذا قال: هذا الثوب نقدًا بعشرة، وإلى شهر بخمسة عشر، قال: ... إذا باته على أحد الأمرين في مجلس العقد فهو صحيح لا خلف فيه، وذكر ما سواه لغو لا اعتبار له" (¬1). دليل القائلين بالتحريم: الدليل الأول: أن الزيادة في مقابل التأجيل من الربا المحرم لأنها زيادة في مقابل الأجل والإمهال، وهذه الزيادة لا يقابلها عوض إلا الأجل فيكون من الربا الصريح. ويجاب من وجهين: الوجه الأول: أن الزيادة في الأجل ليست كلها محرمة، بل هي على ثلاثة أنواع: النوع الأول: الزيادة في الأجل في مقابل القرض، وهذا محرم بالإجماع؛ لأن القرض قصد به الإرفاق والإحسان، واشتراط الزيادة فيه تجعل الغرض من القرض ¬
النوع الثاني
التكسب والمعاوضة، وهذا يخرج القرض عن موضوعه، ولذلك لو زاده المقترض عند الوفاء بلا اشتراط ولا عادة لم تحرم الزيادة؛ ولا تعتبر من قبيل الربا؛ لأن هذه الزيادة لم تكن مقصودة في العقد، ولم تكن هي الباعث عليه ولذلك لم يوفق من قاس تحريم الزيادة في ثمن المبيع على الزيادة في مقدار القرض؛ لاختلاف عقد القرض عن عقد البيع. النوع الثاني: الزيادة في الأجل في مقابل الدين الثابت في الذمة، كما لو باع الإنسان سلعة بمائة ربال مؤجلة، وثبت واستقر هذا الدين في ذمته، فلما حان وقت السداد زاده في مقدار الدين من أجل زيادة التأجيل، وهذا من الربا المجمع عليه، وهو من ربا الجاهلية. وقد تكلمنا عليه في ربا الديون، وقياس الزيادة في ثمن المبيع ابتداء على الزيادة في قدر الدين بعد العجز عن السداد بسبب التأجيل قياس مع الفارق: فالأولى زيادة تابعة للثمن مندمجة معه لا تتميز عن أصله، ولا تحسب هذه الزيادة في البيوع إلا مرة واحدة عند إبرام العقد، ولا تتضاعف هذه الزيادة في التأجيل إن أعسر المدين بل يؤجل الثمن إلى ميسرة في إرفاق يشبه القرض بينما الزيادة الثانية زيادة منفصلة عن الثمن انفصالًا تامًا وإنما أضيفت على قدر الدين بعد ثبوت مقداره في الذمة بسبب العجز عن السداد، فكيف يصح قياس هذه على تلك؟ النوع الثالث: الزيادة في ثمن المبيع مقابل التأجيل ابتداء عند عقد البيع فهذا جائز بمقتضى النص الشرعي.
الوجه الثاني
(ح-852) فقد روى مسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد (¬1). فالحديث تضمن أحكامًا منها: (أ) أن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة: يحرم فيه الزيادة كما يحرم فيه التأجيل، فالزيادة محرمة، والتأجيل كذلك. (ب) أن بيع الذهب بالفضة، والبر بالتمر: يجوز فيه الزيادة، وليس هناك حد للزيادة الجائزة شرعًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فبيعوا كيف شئتم) ولكن لا يجوز فيه التأجيل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كان يدًا بيد). (ج) أن بيع الذهب بالبر، يجوز فيه اجتماع الزيادة والتأجيل، والزيادة علقها بالمشيئة (فبيعوا كيف شئتم) وهذا دليل على جواز اجتماع الزيادة مع التأجيل. ولو قلنا: لا تجوز الزيادة في مقابل التأجيل مع اختلاف الجنس والعلة لكان ذلك يعني تحريم اجتماع الزيادة والتأجيل في مثل هذه البيوع، وهذا خلاف مقتضى الحديث. فالشارع الذي حرم الزيادة والتأجيل في بيع الذهب بالذهب، وأجاز الزيادة وحدها دون التأجيل في بيع الذهب بالفضة، هو الذي أجاز اجتماع الزيادة والتأجيل في بيع البر بالذهب، والسيارة بالنقود. الوجه الثاني: أن القول بأن كل زيادة لا يقابلها عوض تكون من الربا المحرم غير مسلم، ¬
الدليل الثاني
فهناك زيادة محرمة وإن قابلها عوض، وهناك زيادة لا يقابلها عوض، وهي حلال. فالشارع منع من التفاضل في مبادلة المال الربوي الجيد بالرديء، وإن كانت الزيادة في مقابلة الجودة. وإذا اشترى الرجل سلعة بأكثر من ثمن المثل راضيًا بذلك جازت الزيادة، وإن كان لا يقابلها شيء. الدليل الثاني: (ح-853) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، ثنا محمَّد ابن عمرو، ثنا أبو سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة (¬1). ورواه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن محمَّد بن عمرو به، بلفظ: من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا. [حسن، وزيادة فله أوكسهما زيادة شاذة] (¬2). وجه الاستدلال: أن البيعتين في بيعة: هو أن يبيع الرجل السلعة بعشرة نقدًا، أو بعشرين نسيئة، فله أوكسهما، وهو البيع بعشرة، فإن أخذ العشرين مقابل التأجيل وقع في الربا. وبهذا فسره ابن مسعود - رضي الله عنه - وكثير من السلف. ¬
(ث-155) فقد روى ابن أبي شيبة في المصنف، قال: أخبرنا وكيع، أخبرنا سفيان، عن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه (عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -)، قال: صفقتان في صفقة ربا، أن يقول الرجل: إن كان بنقد فبكذا، وإن كان بنسيئة فبكذا (¬1). [ورجاله ثقات]. كما فسره أيضًا بذلك سماك بن حرب. (ث-156) رواه أحمد من طريق شريك، عن سماك بن حرب، قال: الرجل يبيع البيع، فيقول: هو بنسأ بكذا وكذا، وهو بنقد بكذا وكذا. رواه أحمد. [وشريك سيء الحفظ] (¬2). (ث-157) وروى ابن أبي شيبة في المصنف، حدثنا الثقفي، عن أيوب، عن محمَّد أنه كان يكره أن يستام الرجل السلعة يقول: هي بنقد بكذا، وبنسيئة بكذا (¬3). [وسنده صحيح]. وقال النسائي في المجتبى: شرطان في بيع: وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة إلى شهر بكذا، وإلى شهرين بكذا. وقال أيضًا: بيعتين في بيعة: وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمائة درهم نقدًا، وبمائتي درهم نسيئة (¬4). ¬
وأجيب عن ذلك من وجهين
وأجيب عن ذلك من وجهين: الوجه الأول: أن حدثنا النهي عن بيعتين في بيعة حدثنا حسن إلا أن قوله: (فله أوكسهما أو الربا) قد تفرد بها يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة، وهي زيادة شاذة، وقد سبق بيان ذلك في مسألة: حكم بيع العينة، فأغنى عن إعادته هنا. وأما كلام ابن مسعود - رضي الله عنه - فهو محتمل، ويحمل على أن المراد أن يبيع الرجل السلعة بعشرة نقدًا، أو بعشرين نسيئة، فيفترق المتبايعان دون تعيين أحد الثمنين. وبهذا فسره أكثر أهل العلم، ونقل ذلك الترمذي في سننه (¬1)، وهي صورة من صور بيعتين في بيعة عند الحنفية (¬2)، وهو أشهر التأويلين في مذهب الشافعية (¬3)، ¬
وقال به من السلف طاووس والثوري وإسحاق (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). وقد قال الحكم وحماد وإبراهيم النخعي حين سئلوا عن الرجل يشتري الشيء بكذا نقد، وإن كان إلى أجل فبكذا، قالوا: لا بأس إذا تفرقا على أحدهما. والإسناد إليهم صحيح (¬3). وكذا رواه عبد الرزاق بسند صحيح عن الزهري وقتادة (¬4). وقال الخطابي: "إذا باته على أحد الأمرين في مجلس العقد فهو صحيح لا خلف فيه، وذكر ما سواه لغو لا اعتبار له" (¬5). وهذه حكاية للإجماع. وعلى كل فإن النهي عن بيعتين في بيعة، وإن كان محفوظًا إلا أنه لم يرد في الشرع ما يفسر معنى الحديث، وليس هناك في اللغة أو في العرف تفسير له يمكن التحاكم إليه، وقد اختلف العلماء في تفسيرها على أقوال كثيرة وصلت إلى أكثر من ستة أقوال، وقد ذكرت أقوالهم فيما سبق وأدلتهم في مسألة ¬
الوجه الثاني
مستقلة، واختلافهم يدل على أنه ليس في المسألة نص عن الشارع، والذي أميل إليه أن البيعتين في بيعة ليست محصورة في صورة واحدة، بل يدخل في ذلك: كل عقدين جمعا في عقد واحد وترتب على جمعهما محذور شرعي، وإذا باع الرجل السلعة بعشرة نقدًا، أو بعشرين نسيئة، واختار المشتري أحد الأمرين قبل التفرق فلا محذور فيه شرعًا، فإن المبيع معلوم، والثمن معلوم أيضًا، ولا يصدق عليه أبدًا أنه بيعتين في بيعة، وإنما هي بيعة واحدة عرضت على المشتري بأحد الثمنين فاختار أحدهما، والله أعلم. الوجه الثاني: سلمنا أن تفسير الحديث في النهي عن بيعتين في بيعة يعني النهي بيع الرجل السلعة بكذا نقدًا أو بكذا نسيئة، فإن غاية ما فيه الدلالة على المنع من البيع إذا وقع على هذه الصورة، ولا يدل على المنع إذا وقع البيع من أول الأمر نسيئة بكذا فقط، وكان أكثر من سعر يومه، فإن العقد في هذه الصورة ليس فيه إلا بيعة واحدة جزمًا مع أن المحتجين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة، ولا يدل الحديث على ذلك فالدليل أخص من الدعوى. الراجح: أن الزيادة في مقابل التأجيل لا حرج فيها، وأنه لا دليل صحيح في المنع من الزيادة في مقابل التأجيل. لكن يجب أن يتنبه إلى أن إفراد الزيادة في الذكر قد يكون سائغًا، وقد يكون حرامًا، فإن كان الثمن الذي وقع عليه العقد هو الثمن الحال في ذمة المشتري، ثم أراد المشتري تأجيل الثمن مقابل زيادة مقدرة، فهذا من الربا المحرم، والزيادة هنا ليست مقابل تأجيل ثمن السلعة، وإنما الزيادة هنا مقابل تأجيل الدين الثابت في الذمة، وهذا لا يجوز.
وإن كان إفراد الزيادة في مرحلة المساومة لبيان الثمن النقدي، وما سيلحق الثمن من زيادة إن وقع عقد البيع على تأجيل الثمن، ويكون الثمن واحدًا باتًا، غير قابل للزيادة عند تأخر الأداء. فلا مانع من ذلك.
المبحث الخامس فتح الاعتماد البسيط
المبحث الخامس فتح الاعتماد البسيط الفرع الأول تعريف فتح الاعتماد البسيط في الاعتماد البسيط لا يتحمل العميل دفع آية فوائد على المبلغ الائتماني إذا لم يتم سحبه فعلاً عدا عمولة فتح الاعتماد. فتح الاعتماد يعطي القدرة على الاقتراض، وقد يوجد القرض وقد لا يوجد. تعريف فتح الاعتماد البسيط: " هو عقد يتعهد به البنك أن يضع تحت تصرف العميل -بطريق مباشر أو غير مباشر- أداة من أدوات الائتمان في حدود مبلغ نقدي معين لمدة محدودة أو غير محدودة ... ". وأهم الأدوات التي يقدمها البنك للعميل أربع: القرض، والخصم (¬1)، والقبول (¬2)، والضمان. ¬
فيتفق القرض والخصم في أن البنك يتعهد فيهما أن يضع تحت تصرف العميل مبلغًا نقديًا متفقًا عليه لا يمكنه تجاوزه، ويسمى بحد الائتمان. ويتفق القبول والكفالة في أنهما على خلاف الصورتين السابقتين لا يتجرد البنك فيهما فورًا من أي مبلغ، فهما مجرد تعهد من البنك. وقد يضطر البنك إلى الدفع إذا تخلف العميل عن تنفيذ التزاماته التي تحملها قبل الغير (¬1). وكثيرًا ما يلجأ التجار إلى فتح الاعتماد بدلاً من القرض؛ لأن القرض العادي تسري عليه الفوائد بمجرد إتمام العقد، ويتم الحصول على المبلغ المقترض دفعة واحدة، أما في فتح الاعتماد فإن للعميل أن يسحب المبلغ المعتمد على دفعات، والفوائد لا تسري إلا على المبلغ المسحوب فقط، وليس على كامل المبلغ الذي يضعه البنك تحت تصرف العميل، فإذا دخل التاجر في مفاوضات ¬
لإبرام صفقة ما احتاج إلى فتح الاعتماد البسيط، فإذا قدر عدم إتمام الصفقة فإنه يمكن للتاجر ترك الاعتماد دون دفع أي فوائد ما عدا العمولة التي دفعها عند فتح الاعتماد. كما أن فتح الاعتماد يجنب التاجر مخاطر تقلب أسعار العملات، أو خسارة التحويل من عملة إلى عملة؛ بخلاف القرض. وقد يلجأ إلى فتح الاعتماد التاجر أو السائح الذي يرغب في زيارة عدة بلدان، وله مصالح متعددة، ولا يعرف مسبقًا مقدار ما يحتاجه في كل بلد سيزوره، أو لا يرغب في تحويل عملته إلى عملة أجنبية قبل التأكد من إنجاز معاملته. وهكذا.
الفرع الثاني انعقاد فتح الاعتماد البسيط وبيان خصائصه
الفرع الثاني انعقاد فتح الاعتماد البسيط وبيان خصائصه [ن-99] ينعقد فتح الاعتماد البسيط كاي عقد تبادلي بين طرفين بالتراضي، وذلك من خلال تلاقي إرادة الإيجاب بالقبول. وهو عقد لازم من طرف واحد، وهو البنك، وجائز في حق العميل، فقد يستعمله العميل، وقد لا يستعمله، ولا يملك البنك إجبار العميل على استعمال حقه في استغلال الاعتماد. وهو حق مؤقت بمدة معينة يحق للعميل استعمال المبلغ خلالها، وتتراوح عادة من ستة أشهر إلى سنة، وينتهي الاعتماد بانتهائها سواء استفاد منه العميل أو لم يستفد منه. كما أن المبلغ الذي يضعه البنك تحت تصرف العميل محدد، فلا يمكن للعميل تجاوزه، ويسمى بحد الائتمان. كما أن حق الاعتماد يعتبر حقاً شخصيًا للمستفيد، فلا يلتزم فيه المصرف إلا اتجاه شخص العميل ذاته، فلا يجوز للعميل أن يحيل حقه إلى شخص آخر بدون رضا البنك، ولا ينتقل حق العميل إلى الورثة. كما أن المطالبة بتنفيذ الاعتماد شخصية، ترجع إلى تقدير شخص المستفيد، فلا يجوز لدائنيه أن يحلوا محله في طلبها، ولا أن يحجزوا على هذا الحق تحت يد البنك (¬1). ¬
الفرع الثالث آثار عقد فتح الاعتماد
الفرع الثالث آثار عقد فتح الاعتماد [ن-100] لعقد فتح الاعتماد آثار هي ما يقتضيه من التزامات كل من العميل والبنك، وفيما يلي بيان ما يلزم كل منهما. التزامات العميل: (1) يلتزم العميل دفع عمولة للبنك مقابل تعهد البنك بإقراض العميل، سواء استعمل العميل هذا الاعتماد أو لم يستعملة، فالعمولة يستحقها البنك بمجرد تقديمه هذا التعهد بفتح الاعتماد، وقد لا يأخذ البنك عمولة على فتح الاعتماد اكتفاء بالفوائد التي يأخذها على القرض، وبالعمولات الأخرى المختلفة، كان يأخذ البنك عمولة نظير فتح حساب للاعتماد لدى البنك. (2) يلتزم العميل للمصرف بتقديم ضمانات معينة مقابل فتح الاعتماد له، وقد تكون هذه الضمانات شخصية أو عينية بحسب الاتفاق ... وإذا وقع نقص هام في الضمانات العينية أو الشخصية المقدمة من العميل المعتمد له جاز للمصرف فاتح الاعتماد وفقا لمقتضيات الحال، إما أن يطلب من العميل تقديم ضمانات إضافية، وإما أن يخفض مبلغ الاعتماد إلى الحد الذي يتناسب مع الضمانات الباقية، وإما أن يقفل الاعتماد. (3) يلتزم العميل برد كافة المبالغ التي استعملها في الميعاد المتفق عليه. (4) يلتزم العميل بدفع فوائد على المبالغ المسحوبة فعليًا من الاعتماد المخصص للعميل، وليس على كامل المبلغ الموضوع تحت تصرف العميل، وهذه الفوائد غير العمولة؛ لأن العمولة تستحق بمجرد التعهد كما مر سابقًا، وإذا لم يسحب العميل أية مبالغ من الاعتماد فلا يتحمل دفع أية فوائد.
التزامات البنك
التزامات البنك: يلتزم البنك بحكم عقد فتح الاعتماد البسيط أن يضع تحت تصرف العميل أداة الائتمان المتفق عليها من نقد، أو قبول، أو خصم، أو ضمان. ولا يجوز للبنك الرجوع في الوعد قبل الأجل المحدد هذا هو الأصل قانونًا، إلا أن فتح الاعتماد لما كان يستند إلى ثقة البنك بالعميل، وله لذلك طابع شخصي واضح، فالرأي مستقر على أن البنك له أن يفسخ العقد أو ينهيه ليس فقط عند وفاة العميل، أو إفلاسه، أو نقص أهليته (كما هو الأمر في سائر العقود التي تقوم على الاعتبار الشخصي) وإنما يكون له ذلك أيضًا إذا حدث تغيرات هامة في سمعة العميل، أو في إمكانياته، كما إذا أدين في جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة، أو ثبت دخوله في عمليات خطرة لها طابع المقامرة. ولكي يتجنب البنك ما قد يثيره العميل من منازعات قضائية في هذه الظروف، فإنه يعمد عادة إلى وضع شرط صريح في العقد، يسمح لنفسه فيه بأن يطلب -في أي وقت يشاء- إنهاء العقد فورًا، واسترداد ما يكون العميل قد أخذه من المبلغ المفتوح به الاعتماد، دون تقيد بمدة محدودة، وبديهي أن البنك لا يقدم على استعمال هذا الشرط إلا في الحالات التي تختل فيها ثقته في العميل، إذ إنه يفضل في الظروف العادية أن يحصل على الفوائد المتفق عليها خلال مدة فتح الاعتماد (¬1). وأرى أن صحة هذا الشرط ينبني على الخلاف في الإلزام بالوعد، هل يجب ¬
الوفاء به، أو لا يجب، أو يجب في حال إذا كان الوعد معلقاً على سبب، ودخل الموعود بالسبب بكلفة من أجل الوعد، وسيأتي تحريره إن شاء الله تعالى عند الكلام على توصيف هذا العقد.
الفرع الرابع الخلاف في توصيف عقد فتح الاعتماد البسيط
الفرع الرابع الخلاف في توصيف عقد فتح الاعتماد البسيط فتح الاعتماد يشكل وعدًا بالقرض، ويتحول إلى قرض بات عند تنفيذ الوعد. [ن-101] اختلف الباحثون في توصيف عقد فتح الاعتماد إلى أقوال منها: القول الأول: يرى بعض الباحثين بأن فتح الاعتماد يعتبر من عقود القرض (¬1). وأجيب: بأن هناك فرقًا كبيرًا بين عقد القرض، وعقد فتح الاعتماد من وجوه: الوجه الأول: أن عقد القرض يتم التسليم فيه بإعطاء المبلغ للعميل نقدًا دفعة واحدة، أو قيده في حسابه الدائن لدى المصرف، وأما في فتح الاعتماد فإن العميل غير ملزم بقبض المبلغ؛ إذ هو مجرد تعهد من البنك بوضع المبلغ تحت تصرف العميل، إن شاء أخذ المبلغ كله، أو بعضه، وإن شاء تركه، وفي حال تركه لا يكون العميل مدينًا للبنك. الوجه الثاني: أن القرض من البنك يدفع العميل فوائد القرض كاملة، وأما في فتح الاعتماد فإن العميل لا يدفع أية فوائد على كامل المبلغ الذي يضعه البنك تحت تصرفه، وإنما يتحمل فقط فوائد المبالغ التي يتم سحبها فعليًا. ¬
الوجه الثالث
الوجه الثالث: أن في عقد فتح الاعتماد البسيط يحق للعميل أن يرد ما سحبه ثم يسحبه مرة أخرى إذا كان الاعتماد مرتبطًا بحساب جار، وكان ذلك خلال مدة الاعتماد، وفي حدود مبلغه؛ لأن الدفع في الحساب البخاري لا يعتبر وفاء بخلاف القرض (¬1). القول الثاني: ذهب بعضهم إلى أن عقد الاعتماد قرض معلق على شرط واقف، وهو استفادة العميل من الاعتماد فعلاً. وأجيب: بأن عقد الاعتماد ليس عقدًا معلقاً، بل هو عقد بات منذ إبرامه، كما أنه لا يعتبر قرضًا لوجود الفارق الكبير بينه وبين القرض كما قدمنا. القول الثالث: رأى بعضهم بأنه عقد غير مسمى، يدخل ضمن العقود الحديثة. القول الرابع: أنه عقد مركب من قرض ووديعة (¬2). وجه ذلك: أن العميل يهدف من فتح الاعتماد تحقيق غرضين متتاليين: أولاً: أن يطمئن إلى الحصول على هذا المبلغ النقدي. ¬
ويناقش
ثانيًا: أن يطمئن إلى أن هذا المبلغ موجود في مكان أمين حتى يستفيد منه عندما يحتاج إليه في عملياته التجارية المختلفة، فلو أن العميل أراد أن يصل إلى هذين عن طريق العقود المدنية فإنه لا بد أن يلجأ إلى عقدين لا إلى عقد واحد، يلجأ أولاً إلى اقتراض المبلغ الذي يكفيه، ثم يلجأ إلى إيداع هذا المبلغ عند أمين، إذ لا بد له من عقد قرض يتبعه عقد وديعة، ولما كان العميل يقترض من البنك ثم يقوم بالإيداع في ذات البنك فلا مناص من اندماج هذين العقدين في عملية واحدة هي بلا شك عملية فتح الاعتماد (¬1). ويناقش: بأن فتح الاعتماد يعني القدرة على الاقتراض، والتمكن من الاقتراض لا يعني القرض، فقد ينتهي الاعتماد دون أن يكون العميل قد اقترض شيئًا، وإذا لم يقترض لم تقم حاجة إلى إيداع القرض، وقد يقترض ولا يوجد حاجة إلى الإيداع؛ لأن الاعتماد لا يرتبط بفتح حساب للعميل، وبالتالي لا يصح التكييف بأن الاعتماد عقد مركب من قرض ووديعة. القول الخامس: التوصيف القانوني، وما عليه أكثر الباحثين أن العقد يشكل وعدًا بالقرض، ويتحول إلى قرض بات عند تنفيذ الوعد (¬2). وجه كونه وعدًا بالقرض: لما كان فتح الاعتماد هو تعهد من البنك لعميله، وكان مرضوع هذا التعهد ¬
ويناقش
هو وضع أداة من أدوات الائتمان السابق ذكرها تحت تصرف العميل عند حاجته إليها، وهذا يعني أن التعهد غير ناجز؛ لأن ظرف تنفيذه الزمن المستقبل، وهو وقت حاجة العميل، وعليه فإن تعهد البنك أقرب ما يكون إلى حقيقة الوعد، إذ تتوفر فيه أركانه من (واعد - موعود له - موعود به - زمن مستقبل). أما بعد تنفيذه كأن يقدم البنك لعميله مبلغًا من النقود، أو يسحب عميله عليه شيكًا، وما شاكل ذلك فإن هذا يخرج على أنه قرض بفائدة (¬1). ويناقش: بالرغم من أن هذا التخريج هو أقوى التخريجات إلا أنه لا يسلم من بعض الانتقادات. الانتقاد الأول: أن فتح الاعتماد مقصوده المعاوضة والتكسب، والوعد بمفرده ليس محلًا للمعاوضة. وفتح الاعتماد يعتبر عقدًا طرفاه البنك والعميل، ويشترط له ما يشترط للعقود من التراضي بين طرفيه، وأهليتهما، والوعد لا يعتبر عقدًا. ويجاب: بأن عقد الاعتماد البسيط لما كان مركبًا من وعد وعقد تداخلا، لذلك اشتبهت صورة الوعد بصورة العقد. فالوعد تتجلى صورته عندما يرى العميل أنه لا حاجة إلى سحب المبلغ ¬
الانتقاد الثاني
الموضوع تحت تصرفه، فهنا لا يمكن أن نقول: إن هناك قرضًا أصلاً، وكون البنك أخذ عمولة مقابل هذا التعهد (الالتزام بالوعد) فهذه المعاوضة باطلة شرعًا؛ لأنها من أكل أموال الناس بالباطل، وهذه المخالفة لا تخرج المسألة عن كونها وعدًا ملزمًا. وقد يقال: إن مجرد الوعد لا يكلف الواعد شيئًا قبل التنفيذ بخلاف تعهد البنك للعميل فإنه يكلفه بتجميد مبلغ معين تحت الطلب ليس البنك بالتزاماته عند التنفيذ. الانتقاد الثاني: أن الهدف من القرض أو الوعد بالقرض هو مجرد الحصول على مبلغ معين من المال، أما في فتح الاعتماد فطالبه قد لا يعرف مدى حاجته إلى القرض، ولا مواعيد هذه الحاجة، وقد لا يعرف أن ثمة حاجة مقبلة تلجئه إلى استعمال الاعتماد المفتوح، وإنما يقصد من عقد الاعتماد إلى الحصول على مجرد الاطمئنان إلى قوة مركزه الائتماني إزاء ديون قد تحل وقد لا تحل، أو عمليات تجارية قادمة قد يبرمها، وقد لا يبرمها، لذلك قد تكون الاستفادة من فتح الاعتماد المفتوح عن طريق سحب شيكات، أو تحرير أوراق تجارية، أو تكليف البنك بالقيام بعمليات معينة لصالح العميل، وإذا اقترن فتح الاعتماد بفتح الحساب البخاري كما هو الغالب في العمل فإن كل هذه العمليات بما فيها عملية فتح الاعتماد تصبح مدفوعات متبادلة متشابكة لا يمكن أن نصف أحدها بأنه قرض، أو بأنه وفاء لهذا القرض (¬1). ¬
الراجح من هذه الأقوال
الراجح من هذه الأقوال: أرى أن أقوى الأقوال وأقربها إلى الصواب تكييف العقد بأنه وعد بالقرض قد يتحول إلى قرض بات، وإن كان هذا القول قد لا يسلم من الاعتراض، ولو قيل: إن فتح الاعتماد يعني منح الائتمان للعميل مدة محدودة وذلك في حدود مبلغ نقدي محدود. وقد فسر العلماء الائتمان بأنه يطلق ويراد به قدرة الشخص أو الشركة أو الحكومة على الحصول على الأموال عن طريق الاقتراض. كما يطلق الائتمان على الأموال المقترضة، وهنا يكون مرادفًا أو معادلًا لكلمة (قرض). كما يطلق الائتمان على المهلة الممنوحة من الوقت يلتزم المدين عند انتهائها بدفع قيمة الدين. وهذه كلها تنطبق على عقد فتح الاعتماد، فإن صاحبه يمتلك القدرة على الحصول على القرض، ويستطيع أن يحول هذه القدرة إلى قرض فعلي، وخلال مدة معينة يكون مطالبًا بدفع قيمة القرض مع فوائده. والله أعلم.
الفرع الخامس الحكم الفقهي في لعقد فتح الاعتماد البسيط
الفرع الخامس الحكم الفقهي في لعقد فتح الاعتماد البسيط مما تقدم تبين لنا أن فتح الاعتماد هو عقد يتعهد البنك بمقتضاه أن يضع تحت تصرف العميل بطريق مباشر أو غير مباشر أداة من أدوات الائتمان في حدود مبلغ نقدي معين ولمدة محدودة أو غير محدودة، وأن العميل بمقتضى هذا العقد يستطيع أن يسحب من البنك بالتدريج كلما احتاج إلى مبلغ منها وأنه يدفع للبنك ما أخذه في الوقت المحدد ويدفع ما اتفقا علية من عمولة وفائدة. والحكم على هذا العقد من الناحية الفقهية يجب أن يشمل حكم العمولة، وحكم الفائدة المدفوعة للبنك، وسوف نناقش كل مسألة في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى.
المسألة الأولى في دفع العمولة مقابل فتح الاعتماد البسيط
المسألة الأولى في دفع العمولة مقابل فتح الاعتماد البسيط " ... يعتبر في حكم الفائدة كل منفعة أو عمولة أيا كان نوعها اشترطها الدائن على المدين إذا ما ثبت أن ذلك لا يقابله خدمة حقيقة متناسبة يكون الدائن قد أداها فعلًا" (¬1). "كل عمولة أو منفعة -أيا كان نوعها- اشترطها الدائن ... تعتبر فائدة مستترة، وتكون قابلة للتخفيض إذا ما ثبت أن هذه العمولة أو المنفعة لا تقابلها خدمة حقيقية يكون الدائن قد أداها، ولا منفعة مشروعة" (¬2). [ن-102] أخذ العمولة لقاء استعداد البنك لتلبية احتياج العميل يبررها البنك بأنها في مقابل ما يبذله من جهد وعمل ومتابعة، وخدمة، ونحو ذلك. ويناقش: أخذ العمولة في مقابل الخدمات المباحة يجوز إذا كانت مفردة، أما إذا ضمت إلى عقد القرض فلا يجوز أخذ العمولة، ولكن يجوز استرداد التكاليف الحقيقية فقط التي تكبدها البنك بسبب هذه المعاملة من مصاريف واتصالات إدارية ولا يجوز أن يزيد عليها، لهذا يشترط في أخذ التكاليف شروط، منها: ¬
الشرط الأول
الشرط الأول: أن يوجد نفقات فعلية تحملها المصرف بسبب القرض، ويستردها من المقترض دون زيادة. الشرط الثاني: أن يجري تحديد مبلغ العمولة بشكل مقطوع، وليس نسبيًا. وإنما كان الواجب في العمولة أن تكون محددة بمبلغ مقطوع، وليس على أساس نسبي؛ لأن الجهد الذي يبذله المصرف في إعداد عقد القرض الذي تكون قيمته ألف وحدة نقدية، لا يختلف عن الجهد المبذول في إعداد عقد قيمته عشرة آلاف وحدة نقدية أو أكثر، فالمعيار الذي يفصل بين العمولة كأجر، وأنها ليست ربا أن يكون المبلغ محددًا بشكل مقطوع، وليس نسبيًا. الشرط الثالث: عدم تكرار هذه العمولة (¬1). فإذا نظرنا في العمولة المأخوذة في عقد فتح الاعتماد البسيط وجدنا ما يلي: الأول: أن مقدار العمولة ليس مبلغًا مقطوعًا، وإنما تقدر بنسبة مئوية من مقدار القرض. الثاني: أنها تستوفى تكرارًا كل سنة دون أن يكون هناك مقابل من جهد أو منفعة معتبرة بالنسبة للمقترض. وفي هذا يقول الدكتور سامي حمود: "العمولة التي يتقاضاها المصرف في الاعتماد بالحساب البخاري على وجه الخصوص هي عمولة نسبية من ناحية (5، ¬
ففي الحكم الشرعي
%) مثلاً، وهي عمولة متكررة مع الزمن من ناحية ثانية، وذلك بمعنى أنها تستوفى تكرارًا في كل سنة دون أن يكون هناك مقابل من جهد أو منفعة معتبرة بالنسبة للمقترض" (¬1). فإذا كانت العمولة لا يقابلها تكاليف حقيقية، وضمت مع عقد القرض وصار تقديرها خاضعًا لمقدار المبلغ المدفوع وطول الأجل صارت فائدة على القرض مستترة باسم العمولة ليس في النظر الشرعي فحسب وإن كان ذلك كافيًا وإنما حتى في التكييف القانوني. ففي الحكم الشرعي: (ح-854) روى أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬2). [إسناده حسن] (¬3). وفي عملية فتح الاعتماد الجمع بين (عقد القرض) وهو عقد تبرع وبين عقد معاوضة، وهي أخذ العمولة في مقابل فتح الاعتماد، فنكون بذلك قد جمعنا بين السلف (القرض) وبين البيع، وهذا ما نهى عنه الشارع. وقد نص القانون المدني السوري على أن "كل عمولة أو منفعة -أيا كان ¬
نوعها- اشترطها الدائن إذا زادت هي والفائدة المتفق عليها على الحد الأقصى المتقدم ذكره تعتبر فائدة مستترة، وتكون قابلة للتخفيض إذا ما ثبت أن هذه العمولة أو المنفعة لا تقابلها خدمة حقيقية يكون الدائن قد أداها، ولا منفعة مشروعة" (¬1). والنص نفسه جاء في القانون المدني المصري (¬2). وكذلك اعتبرها القانون الفرنسي فائدة ما لم تكن مقابلة بخدمة للعميل المقترض (¬3). وكان من الخطأ أن يقوم البنك وهو جهة متهمة أن يقوم بتقدير النفقات الفعلية بل يجب أن يخضع تقدير النفقات الفعلية لجهات اقتصادية محايدة، ومعايير تكون دقيقة للخروج من شبهة الربا، أو أن يقوم المستفيد من الاعتماد بتغطية المبلغ بحيث لا يكون في العملية عقد قرض. وقد بين رئيس قسم القانون التجاري في كلية الحقوق بجامعة دمشق الأستاذ رزق الله أنطاكي الفكرة التي يقوم على أساسها احتساب ما تأخذه المصارف من عملائها بمقابلة الاعتمادات، فقد كشف لنا أن ذلك المقابل قد احتسب فيه تجميد مال المصرف لدى العميل في فترة الاعتماد مما قد يجعل المصرف عاجزًا عن تلبية طلبات المودعين في استرداد أموالهم بعضها أو كلها، وقد يجعله كذلك عاجزًا عن فتح اعتمادات لأشخاص آخرين مما قد يفقده عددًا من العملاء. ¬
كما احتسب به خطر ضياع مال المصرف إما بإعسار المدين، أو بظروف طارئة من كساد تجاري، وانهيار اقتصادي ونحو ذلك. ولأن الأموال التي يقدمها المصرف لصاحب الاعتماد هي في أصلها أموال ودائع عملاء آخرين يدفع لهم البنك فوائد أقل مقابل الإيداع. ومنها نفقات عامة ينفقها المصرف لتسيير أعماله، والتي يجب أن يتحمل المستفيد من الاعتماد نصيبه منها. فهذا يوضح أن ما تأخذه البنوك من عمولة على فتح الاعتماد غير الفائدة لا يقابله في الحقيقة جهد أو خدمة يقدمها البنك للعميل، وإنما هو خاضع لاعتبارات تجارية واقتصادية يقدرها البنك، وهو رافد للفائدة، وإذا كانت كذلك فإن حكم العمولة من الناحية الشرعية لا يخرج عن حالين: الأولى: ألا يستفيد العميل من الاعتماد، وفي هذه الحال تكون العمولة لا مقابل لها، فتكون من أكل أموال الناس بالباطل. الثانية: أن ينفذ الاعتماد، وفي هذه الحال تكون العمولة جزءًا من الفائدة على القرض، فتكون من الربا. هذا فيما يتعلق بحكم العمولة.
المسألة الثانية الحكم الفقهي لأخد الفائدة على مبلغ فتح الاعتماد
المسألة الثانية الحكم الفقهي لأخد الفائدة على مبلغ فتح الاعتماد [ن-103] إن قلنا: إن البنك يقرض العميل، فحينئذ يكون أخذ الفائدة على القرض لا يجوز؛ لأنه من القرض الذي جر نفعًا للمقرض، وهو مجمع على تحريمه، وقد نقل الإجماع طائفة من العلماء المتقدمين نقلناه عنهم عند الكلام على أخذ الفوائد على ودائع الاستثمار، فارجع إليه إن شئت. وهو بين واضح لا يحتاج إلى بسط. وإن قلنا: أن أخذ الفائدة على القرض يجعل العقد بيعًا؛ لأن القرض عقد إرفاق وإحسان، فإذا طلب القرض للتكسب والمعاوضة تحول إلى عقد بيع، لأنه مبادلة مال بمال على وجه التأبيد فكذلك العقد محرم، لكونه جمع بين ربا الفضل وربا النسيئة، فمبادلة الربوي بمثله يشترط فيه شرطان: التقابض والتماثل، وهذا العقد فيه التأجيل والتفاضل. والله أعلم.
الفرع السادس انتهاء عقد فتح الاعتماد
الفرع السادس انتهاء عقد فتح الاعتماد انتهاء عقد فتح الاعتماد: [ن-104] ينتهي العقد بأمور منها: (1) انتهاء مدة العقد، فكما سبق أن فتح الاعتماد محدد بمدة معينة، فإذا انتهت تلك المدة انتهى العقد تلقائيًا سواء استفاد منه العميل أو لم يستفد، (2) قيام البنك بالتزاماته ينهي العقد إلا أن يكون الاعتماد البسيط ضمن حساب جار فإنه لا ينتهي بذلك؛ لأن الحساب البخاري له صفة التجدد كما تقدم، فلا ينتهي إلا بقفل الحساب. (3) ينتهي العقد بوفاة العميل، أو بفقده الأهلية، أو بإفلاسه، وإن كان العميل شركة فبإبطالها وحلها. (4) للبنك أن ينهي العقد إذا حدث تغيرات هامة في سمعة العميل كما إذا أدين في جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة، أو ثبت دخوله في عمليات خطرة لها طابع المقامرة، أو قام بتحرير شيكات بدون رصيد أو غير ذلك (¬1). ¬
المبحث السادس في الاعتماد المستندي
المبحث السادس في الاعتماد المستندي الفرع الأول تعريف الاعتماد المستندي [ن-105] عرف الاعتماد المستندي بأنه تعهد من قبل المصرف للمستفيد (البائع) بناء على طلب فاتح الاعتماد وهو المشتري، ويقرر المصرف للمستفيد في هذا التعهد بأنه قد اعتمد تحت تصرف المستفيد (البائع) مبلغًا من المال يدفع له مقابل مستندات محددة تبين شحن سلعة معينة خلال مدة معينة (¬1). وعلى هذا يكون الاعتماد المستندي عبارة عن ترتيب خاص بين الزبون وبنكه يفوضه بموجبه أن يسدد قيمة بضائع واردة من الخارج، فيقوم البنك بإبلاغ مراسله أو فرعه في الخارج (حيث يقيم البائع) أنه يلتزم بأداء مبلغ كذا وكذا، خلال مهلة محددة، لقاء بضاعة معينة وبدون الرجوع للمشتري بشرط أن يثبت البائع أن البضاعة المطلوبة قد شحنت إلى المشتري، ثم يقوم بدفع المطلوب. وبناء على هذا فالاعتماد المستندي أطرافه ثلاثة وقد يكون أطرافه أربعة في حال كان الاعتماد معززًا: (1) المستورد، ويسمى الآمر والعميل: وهو الذي فتح الاعتماد بناء على طلبه لصالح الطرف الآخر (البائع). ¬
وسمي آمرًا لكونه يأمر البنك بفتح الاعتماد، وعميلاً لكونه يتعامل مع البنك، وسمي مستوردًا لكونه يستورد بضاعة من الخارج. (2) المصرف: وهو الذي يصدر منه الاعتماد، ويلتزم بالوفاء بموجبه عند تحقق شرطه. (3) المستفيد: ويسمى البائع، وهو الذي فتح الاعتماد لصالحه. (4) المصرف الخارجي إذا كان الاعتماد معززًا، وذلك أن بنك العميل يطلب من بنك البائع (المستفيد) إبلاغه بخطاب الاعتماد، وهذا المصرف المبلَّغ لا يخلو من حالين: إما أن تكون مهمته تبليغ المستفيد فقط دون أن يتحمل أدنى مسئولية مترتبة عليه باستثناء التأكد من أن الاعتماد صادر على الوجه الصحيح، وذلك من خلال مطابقة توقيعات المسئولين المدونة بكتيب توقيعات مصدر الاعتماد، ويسمى الاعتماد غير المعزز. وإما أن يطلب منه مع التبليغ تعزيز وتأييد الاعتماد، فيتحمل تجاه المستفيد ما يتحمله البنك فاتح الاعتماد، ويسمى الاعتماد المعزز. لهذا أصبحت الاعتمادات المستندية هي أصلح وسائل الدفع، وأكثرها انتشارًا في العمليات التجارية الخارجية ذلك أنه يتولد عنها ثقة لا حد لها بسبب الضمانات التي تنطوي عليها، والعلاقة في هذا النوع لا تقتصر على المصرف والعميل كما في الاعتماد البسيط فهي تتناول شخصًا ثالثًا إذا كان الاعتماد المستندي غير معزز، ورابعًا إذا كان الاعتماد المستندي معززًا من البنك الخارجي.
الفرع الثاني أنواع الاعتمادات المستندية
الفرع الثاني أنواع الاعتمادات المستندية [ن-106] ينقسم الاعتماد المستندي إلى أقسام مختلفة: الأول: تقسيم الاعتماد بالنسبة إلى لزومه: ينقسم الاعتماد بالنسبة إلى لزومه إلى قسمين: (أ) اعتماد قابل للإلغاء. (ب) واعتماد قطعي أو نهائي. ويقصد بالاعتماد القابل للإلغاء الاعتماد الذي يجوز للبنك أن يرجع فيه دون مسئولية عليه قبل الآمر أو المستفيد، فلا يترتب على هذا الاعتماد أي التزام على البنك ولا أي حق للمستفيد، ولذلك يخطر البنك المستفيد بأنه فتح لصالحه اعتمادًا في حدود مبلغ كذا، ولكنه يصرح أنه قابل للإلغاء في أي وقت. ولا يلزم البنك إذا سحب الاعتماد أن يخطر المستفيد بذلك ولو سبق أن أخطره بفتحه، ومتى طلب العميل الآمر من البنك إنهاء الاعتماد وجب عليه سحبه فوراة لأنه وكيل عن الآمر فضلا على أنه لم يلتزم أمام غيره بشيء. أما الاعتماد القطعي أو النهائي فهو الذي لا يجوز للبنك أن يرجع فيه أو يلغيه؛ وذلك لأنه متى أخطر به المستفيد ترتب في ذمة البنك التزاما شخصيًا مباشرًا أمام المستفيد بتنفيذ ما جاء في خطاب الإخطار (¬1). الثاني: تقسيم الاعتماد من حيث قوته: ينقسم الاعتماد من حيث قوته إلى قسمين: (أ) اعتماد معزز. (ب) اعتماد غير معزز. ¬
وذلك أن البائع (المستفيد) قد لا يقنع من بنك المشتري (العميل) فيطلب المستفيد أن يكون هذا الاعتماد معززًا من بنك في بلده (بلد البائع) بحيث يتحمل بنك البائع ما يتحمله بنك المشتري، ويسمى الاعتماد المعزز، وإذا كان غير مؤيد من بنك البائع سمي ذلك الاعتماد بالاعتماد غير المعزز. الثالث: تقسيم الاعتماد بالنسبة للمستفيد: ينقسم الاعتماد بالنسبة للمستفيد إلى قسمين: (أ) اعتماد غير قابل للتحويل، بحيث لا يمكن للمستفيد أن يحوله لصالح مستفيد آخر. (ب) اعتماد قابل للتحويل، بحيث يستطيع المستفيد أن يحول حقه من الاعتماد جزئيًا أو كليًا لمصلحة مستفيد أو أكثر (¬1). ¬
الفرع الثالث انعقاد الاعتماد المستندي
الفرع الثالث انعقاد الاعتماد المستندي [ن-107] انعقاد الاعتماد يتوقف على طرفين هما (الآمر والمصرف) وأما لزوم الاعتماد فلا يلزم إلا إذا وصل خطاب الاعتماد إلى علم المستفيد، ولا يطلب من وصول الخطاب البحث عن قبول المستفيد، وإنما يفيد فقط أن البنك يستطيع الرجوع في التزامه طالما لم يصل الخطاب إلى المستفيد، ولم يعلم به، حيث لا يتعلق حقه به إلا بعلمه بما فيه (¬1). ¬
الفرع الرابع خصائص الاعتماد المستندي
الفرع الرابع خصائص الاعتماد المستندي [ن-108] فكرة الاعتماد المستندي تقوم على إنشاء التزام في ذمة البنك مستقل تمامًا عن عقد البيع وتنفيذه، فخطاب الاعتماد هو وحده الذي يحكم علاقة البنك بالبائع، وليس عقد البيع، والمستندات وحدها هي التي ينظر فيها المصرف دون البضاعة، إذ البضاعة محل عقد البيع، والاعتماد مستقل عن البيع، فلا يتوقف وفاء البنك للبائع على تنفيذ البائع التزاماته الناشئة من عقد البيع، فالبنك ملزم بالدفع للمستفيد أيًّا كان مصير عقد البيع، فحق المستفيد ليس ناشئًا من عقد البيع؛ لأن البنك ليس طرفًا فيه، وإنما حقه ناشئ من تعهد البنك الصادر في خطاب الاعتماد، ولهذا لا يكون للمبلغ المطلوب وصف الثمن، وإنما المطلوب من البائع هو تقديم المستندات الدالة على تنفيذه التزاماته، والبنك مطالب بالوفاء للبائع بمجرد تقديمه تلك المستندات أيًا كان موقف المشتري، بل إن المصرف ليس مسئولًا عن صحة المستندات في نفس الأمر، ولا عن مطابقتها لواقع البضاعة، بل ولا عن وجود البضاعة أصلاً، وكل مما هو مسئول عنه هو سلامة المستندات ظاهريًا فقط.
الفرع الخامس الفوائد التي يحققها الاعتماد المستندي
الفرع الخامس الفوائد التي يحققها الاعتماد المستندي [ن-109] يحقق الاعتماد المستندي فوائد للبائع بشكل أكثر؛ لأن الاعتماد فتح لصالحه، وللمصرف بدرجة ثانية؛ لأن فتح الاعتماد بالنسبة له يدر له عمولات وفوائد، ولولا هذه لم يكن الأمر مغريًا له بقبول فتح الاعتماد، ويحقق للمشتري فوائد وإن كان بشكل أقل من المستفيد والمصرف. وهذه بعض الفوائد التي يحققها فتح الاعتماد المستندي لكل من أطراف العقد. الفوائد المتعلقة بالمستفيد (البائع): (1) توفير الأمان للبائع (المستفيد) من خلال طمأنته بأنه سيقبض الثمن أيًا كان مصير البيع أو حال المشتري، فهو يغني البائع من القيام بالتحري عن المشتري، وعن بذل الجهد في الحصول على المعلومات والبيانات عن مركزه المالي؛ لأن البنك سيدفع له ثمن بضاعته بمجرد تسليمه السندات المطلوبة. كما يقدم له الاطمئنان من تسلم الثمن حتى في أثناء الأزمات والحروب، وأوقات انخفاض الأسعار وتدهورها، وبوفر له حماية من إعسار المشتري أو إفلاسه، أو عدم أمانته. ولا تتحقق هذا الأمور إلا بتعهد البنك شخصيًا بالوفاء للبائع بمجرد تقديمه المستندات أيًا كان موقف المشتري. (2) يعطي خطاب الاعتماد المستفيد سرعة في تحصيل قيمة بضاعته بحيث لا يتعرض المستفيد إلى الصعوبات الكبيرة في تسوية المدفوعات أو مخاطر التأخير في السداد، مما يعطي سرعة في تداول رؤوس الأموال المستثمرة، وعدم تجميدها لمدة طويلة، والاستفادة منها في عملياته الأخرى.
فوائد المصرف
فوائد المصرف: (1) العمولات والفوائد التي يأخذها المصرف من العميل، وهي متنوعة، منها: (أ) عمولة على فتح الاعتماد. (ب) عمولة على تبليغ الاعتماد وتعزيزه، من ذلك رسوم البريد، ورسوم البريد المختصر، ورسوم التلكس المفصل. (ج) فوائد على الائتمان وتحتسب بطريق النسبة بحسب طول المدة وقصرها، وكلما زاد مقدار الائتمان زادت الفائدة، وهذه العمولات يحددها البنك المركزي ومؤسسة النقد. (2) أنه وسيلة لكسب العملاء وزيادة الودائع، مما يزيد في سيولة المصرف. (3) استفادة المصرف من نسبة التأمين النقدي التي يدفعها العملاء مقدمًا عند فتح الاعتماد، ومن ثم تبقى لدى المصرف مدة طويلة تمكنه من استثمارها. (4) فوائد المصرف من فروق الأسعار الناجمة عن تحويل مبالغ الاعتماد للمستفيدين (¬1). فوائد الاعتماد المستندي بالنسبة للمشتري: الفوائد بالنسبة للمشتري وإن كانت أقل مقارنة بالمستفيد أو بالمصرف إلا أن الأمر لا يخلو من بعض الفوائد، من ذلك: ¬
(1) تأكد المشتري بأنه لن يضطر إلى دفع الثمن إلا بعد استلامه لجميع المستندات التي طلبها، والتحقق من مطابقتها لشروط الاعتماد. (2) الاطمئنان من أن البائع سوف يسلم البضاعة في الوقت والمكان المتفق عليهما. (3) يستطيع المشتري من بيع البضاعة والتصرف فيها قبل وصولها عن طريق مستنداتها. (4) الاستفادة من خبرة المصرف وتجاربه، وعلاقاته الخارجية، مما يوفر عليه الوقت والمال، والاستفادة من التسهيلات المصرفية المالية التي يؤمنها له المصرف كالقرض والضمان اللازمين لإتمام الصفقة بينه وبين البائع (¬1). ¬
الفرع السادس الآثار المترتبة على فتح الاعتماد
الفرع السادس الآثار المترتبة على فتح الاعتماد [ن-110] يترتب على عقد فتح الاعتماد المستندي التزامات في ذمة كل من العميل (الآمر) والمصرف (القابل لفتح الاعتماد) والمستفيد (البائع) الذي فتح الاعتماد لصالحه، وفي حال وجود المصرف المراسل أو الوسيط فإنه يترتب عليه التزامات أيضًا، وفيما يلي بيان للالتزامات المترتبة على أطراف العقد. التزامات المشتري (العميل): (1) يعتبر الاعتماد لازمًا في حق العميل منذ وصول خطاب الاعتماد إلى علم المستفيد فليس للعميل الرجوع بعد ذلك حتى لا يضر ذلك بالمصرف الذي التزم أمام غيره. (2) دفع العمولة للمصرف مقابل فتح الاعتماد فقط، ويصبح الاعتماد مقبولاً من وقت تصدير خطاب الاعتماد إلى المستفيد مباشرة أو إلى المصرف الوسيط، أو من وقت تصدير البرقية المتضمنة فتح الاعتماد، وتصبح العمولة مستحقة سواء استفاد العميل من الخدمة المقدمة أو لم يستفد. (3) تقديم الضمانات المتفق عليها بين العميل والمصرف والتي يطلبها المصرف لحفظ حقوقه. (4) الالتزام بتلقي المستندات بعد أن تكون في عهدة البنك، وأن أي تأخر من العميل في استلام تلك المستندات فإن العميل هو الذي يتحمل المسئولية عند تلف البضاعة، أو هلاكها، أو احتساب رسوم جمركية إضافية نتيجة التأخر. (5) دفع قيمة الائتمان بمجرد أن ينفذ المصرف التزاماته أمام المستفيد،
التزامات المصرف
ويشمل رد المبالغ التي دفعها المصرف للمستفيد، والمصاريف التي تحملها في سبيل ذلك. (6) دفع الفوائد الربوية المتفق عليها على جميع القروض التي قدمها المصرف نيابة عن العميل. (7) استكمال جميع الإجراءات المطلوبة التي يتطلبها قانون البلد للموافقة على استيراد البضاعة. التزامات المصرف: (1) يلتزم المصرف بإبلاغ البائع بخطاب الاعتماد، وخصائصه وشروطه، ولا يحق للعميل تعديل أي شرط بعد قيام المصرف بإبلاغ البائع بمعلومات الاعتماد. (2) - يلتزم المصرف بدفع قيمة خطاب الاعتماد للمستفيد إذا قدم المستفيد المستندات المطلوبة في مدة سريان مفعول الخطاب، وإذا لم يقدم المستفيد المستندات المطلوبة في المدة المحددة فإن الاعتماد يكون منتهيًا، ولا يلتزم المصرف بدفع أي شيء من قيمة الاعتماد. وإذا وجد اختلاف في القيمة بين المستندات والاعتماد المستندي فإن المصرف ملتزم بدفع قيمة الاعتماد، أو قيمة البضاعة إذا كانت أقل من قيمة الاعتماد. (3) يلتزم المصرف بفحص المستندات المقدمة من قبل المستفيد، وليس بفحص البضاعة ذاتها، فليس من شأن المصرف البحث عن كمية البضاعة، أو نوعها، أو تغليفها، أو تسليمها، حتى ولو كان ذلك ممكنًا، بل يكتفي بالتحقق من توفر المستندات ظاهريًا على الشروط المحددة في خطاب الاعتماد.
(4) بعد وصول المستندات إلى يد المصرف فإن عليه أن يقوم بإبلاغ العميل بذلك، وأن يمكنه من الاطلاع عليها على وجه السرعة، وعلى العميل أن يفحصها، وله أن يرفضها أو يقبلها مع التحفظ إذا وجد بها مخالفة. والمستندات التي يطلبها المشتري (المستورد) كثيرة، وتختلف كمًا وكيفًا باختلاف طبيعة ونوع البضاعة المطلوبة، والنظام الاقتصادي المعمول به في بلد الاستيراد أو التصدير. وأهم هذه المستندات المطلوبة هي: (أ) الكمبيالة، وهي محرر مكتوب وفق أوضاع شكلية حددها القانون تتضمن أمرًا من الساجب (المشتري)، موجهًا للمسحوب عليه (المصرف) بأن يدفع للمستفيد (البائع) مبلغًا من النقود بمجرد الاطلاع، أو في ميعاد معين، أو قابل للتعيين، وتتضمن توقيع الساحب. (ب) بوليصة الشحن البحري. وهو عقد مبرم بين الشاحن وبين الناقل البحري لنقل بضاعة معينة من ميناء الإقلاع أو التحميل إلى ميناء الوصول أو التفريغ. وتعتبر بوليصة الشيحن من أهم مستندات الاعتماد. (جـ) وثيقة التأمين على البضاعة ليتمكن المشتري من الحصول على التعويض في حال تلف البضاعة أو نقصها. (د) الفاتورة التجارية، وهي مستند محاسبي يوضح فيه البائع قيمة البضاعة، والأسس التي على ضوئها تم احتساب القيمة. وأهم بيانات الفاتورة التجارية: اسم البائع، وعنوانه، واسم المشتري، وعنوانه، وتاريخ إصدار الفاتورة، ورقمها، وذكر كمية البضاعة، ومواصفاتها، وسعر الوحدة، والسعر الإجمالي، والخصومات، ووزن البضاعة، وعدد الطرود.
التزامات البائع (المستفيد).
(هـ) شهادة المنشأ، وهي المستند الذي يوضح هوية البضاعة، ومكان صناعتها، وعادة ما يكون هذا الطلب تنفيذًا لقانون بلد المستورد. (و) من حق المصرف حبس المستندات تحت يده، ولا يسلمها للمشتري حتى يستوفي قيمتها. وهو ما يسمى (برهن المستندات). التزامات البائع (المستفيد). (1) يلزم البائع (المستفيد) بمجرد علمه بخطاب الاعتماد بتنفيذ ما يتضمنه الضمان من شروط وتعليمات في المدة المحددة حتى يتمكن من الإفادة من الاعتماد. (2) تقديم كافة السندات المطلوبة في خطاب الاعتماد للمصرف والتي سبق ذكرها، ومن ذلك استكمال كافة الإجراءات اللازمة للموافقة على تصدير البضاعة (¬1). ¬
الفرع السابع التوصيف الفقهي لفتح الاعتماد المستندي
الفرع السابع التوصيف الفقهي لفتح الاعتماد المستندي حقيقة الوكالة: تفويض بالأداء دون التحمل. إذا ناب المصرف عن العميل في الأداء فقط فهو وكالة غطي المبلغ أو لم يغط، وإن ناب عنه في التحمل، فهو ضمان غطي المبلغ أو لم يغط. ليس كل عقد جاز منفردًا جاز مضمومًا إلى غيره كالبيع والقرض. [ن-111] هذه المسألة من أهم مسائل خطاب الاعتماد المستندية؛ لأنه ينبني عليها حكم أخذ العمولة والفوائد التي تفرضها البنوك التقليدية على خطاب الاعتماد، وقد اختلف الباحثون المعاصرون في التكييف الشرعي لفتح الاعتماد المستندي إلى أقوال، هي: القول الأول: أن العقد بين المستفيد وبين والبنك عقد ضمان (كفالة) مطلقا سواء غطي مبلغ الاعتماد أو لم يغط. وأما العقد بين العميل والبنك فهو عقد توكيل ورهن مطلقًا غطي مبلغ الاعتماد أو لم يغط (¬1). مستند هذا التخريج: أن العميل قد فوض البنك نيابة عنه بأداء الدين (حق المستفيد)، وفي تسلم ¬
حكم ما يأخذه المصرف على العميل
مستندات البضاعة وفحصها، والتأكد من مطابقتها للشروط قبل أداء الدين. واستنابة جائز التصرف مثله في الحياة فيما تدخله النيابة يعد وكالة في النظر الفقهي. ويتضمن هذا التوكيل رهن البضاعة لدى الوكيل إلى أن يستوفي الثمن الذي وكل بأدائه من ماله، وهو رهن ضمني مستنده العرف، وتثبته نصوص القوانين. ويستحق أجرته لقيامه بنقل (تحويل) المال وتسلم المستندات، ومتابعة الإجراءات المختلفة للاعتماد. وأما وجه كون العقد بين البنك والمستفيد علاقة ضمان (كفالة) أن المصرف بموجب خطاب الاعتماد يتحمل حق المستفيد مطلقًا، سواء قدم العميل الغطاء أو لم يقدمه، فحق المستفيد متعلق بذمة المصرف، لا بما يقدمه العميل للمصرف. وهذا هو حقيقة الكفالة. حكم ما يأخذه المصرف على العميل: ما يأخذه المصرف من العميل بناء على التوكيل جائز مطلقًا؛ لأن ذلك مقابل عقد الوكالة، وعقد الوكالة يجوز بعوض وبدون عوض (¬1). ¬
ويناقش
ويناقش: القول بأن العقد بين العميل والبنك عقد وكالة غير صحيح؛ لأن العقد بينهما لا تنطبق عليه أحكام الوكالة للأمور التالية: (أ) أن الوكالة تفويض بالأداء دون التحمل، والبنك ليس مفوضًا بالأداء فقط، وإنما هو يتحمل الحق الذي وجب للمستفيد، وذمته مشغولة بأداء هذا الحق مطلقًا، سواء قام العميل بالغطاء أو لم يقم بذلك. (ب) أن المستفيد لم يقبل البنك كنائب عن العميل في الأداء، فإن هذا الأمر لا يضمن له حقه، وإنما قبل البنك كضامن للحق، فإن هذا هو الذي يحفظ له حقه، ويوفر له قدرًا من الأمان بأن حقه لن يضيع. القول الثاني: أن العقد بين المستفيد وبين البنك عقد ضمان (كفالة) مطلقا سواء غطي مبلغ الاعتماد أو لم يغط كالقول السابق. وأما العقد بين العميل والبنك فهو عقد وكالة إن كان مبلغ الاعتماد مغطى، وعقد ضمان إن كان غير مغطى (¬1). مستند هذا التخريج: أما كون العقد بين المستفيد وبين المصرف (البنك) عقد كفالة؛ فلأن المستفيد يشعر بأن ذمة المصرف قد شغلت بالدين الأصلي الذي على العميل، وهذا حقيقة الضمان فهو ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في الدين. ¬
حكم أخذ العمولة والفوائد
وأما اعتبار العقد بين المصرف وبين العميل الذي قدم غطاء ماليًا كليًا عقد وكالة؛ فلأن العميل أعطى المصرف مالاً، وطلب من المصرف أن يدفع هذا المال نيابة عنه عندما يطالب به، وهذا حقيقة الوكالة، ولا يستنكر أن يكون للتصرف الواحد اعتباران، فهناك كثير من العقود تعتبر لازمة بالنسبة لطرف، وغير لازمة بالنسبة لطرف آخر. حكم أخذ العمولة والفوائد: في حال كان الاعتماد مغطى كليًا فما يأخذه المصرف على هذه العملية يعتبر مشروعًا مطلقًا؛ لأن المصرف لا يدفع من ماله شيئًا، وإنما يدفع المبلغ من مال العميل الموجود لديه نيابة عن العميل، فلا يرد المحذور الذي من أجله حرم أخذ الأجرة على الضمان، لكونه لا يؤدي إلى قرض جر نفعًا، وما يأخذه المصرف في هذه الحالة مقابل خدماته جائز أيضًا كالعمولة التي تؤخذ من قبله في عملية التحويل بالشيكات ونحوها. كما أن العملية خالية من القرض فلا يوجد قرض أصلاً. وأما إن كان الاعتماد غير مغطى كليًا أو جزئيًا، فلا يجوز أخذ الفوائد مطلقًا سواء قلنا: إن الفائدة في مقابل القرض. أو قلنا: إن الفائدة في مقابل ضمار الدين؛ لأن ضمان الدين سيئول إلى أن يكون قرضًا جر نفعًا، فإن البنك إذا سدد للمستفيد أصبح العميل مدينًا للمصرف، وتكون أجرة الضمان في مقابل إقراض العميل، فيكون القرض قد جر نفعًا للضامن. وأما العمولة على فتح الاعتماد فقد اختلف في جواز أخذها بناء على هذا التوصيف. فقيل: يجوز أخذ الأجرة في مقابل ما قام به المصرف من الخدمات الفعلية،
والتكاليف الإدارية من الاتصال بالمصدر، ومطالبته بتسليم مستندات الشحن، وإيصالها إلى المشتري فهذه خدمة مصرفية جائزة، وأخذ الأجرة عليها جائز شرعًا، ولا تعتبر هذه في حكم الفائدة الربوية بوجه من الوجوه. وهذا اختيار معالي الشيخ عمر المترك يرحمه الله (¬1). وقيل: لا يجوز؛ لأن المعاوضة على تلك الخدمات المباحة تجوز لو قدمت بشكل منفرد مستقل عن عقد القرض والضمان، أما إذا ضمت تلك الخدمات إلى عقد القرض والضمان حرم التكسب من وراء تلك الخدمات، وجاز فقط استرداد المصاريف الإدارية والتكاليف الحقيقية حتى لا يكون هناك فائدة مستترة باسم العمولة مقابل تقديم القرض والضمان في فتح الاعتماد. ولهذا نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجمع بين القرض والبيع. (ح-855) لما رواه أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬2). [إسناده حسن] (¬3). وإنما نهى عن الجمع بين البيع والقرض، وإن كان كل واحد منهما صحيحًا بانفراده؛ لأنه ربما حاباه في البيع لأجل القرض، فيؤدي إلى أن يجر القرض نفعًا للمقرض، فلما كانت الفائدة على القرض ربما تستتر بعقد البيع نهى عنها ¬
ويناقش
الشارع، ولذلك لما كان من الممكن أن تكون الفائدة تستتر بهذه الخدمات المصرفية فإنها إذا جمعت مع الضمان أو مع القرض وجب أن لا يأخذ المصرف إلا التكاليف الحقيقية التي صرفها على تلك الخدمات. ويناقش: الراجح أن العقد عقد ضمان حتى في حال كان مبلغ الاعتماد مغطى لما يلي: (أ) الوكيل أمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط، والمال الذي أخذه البنك من العميل يضمنه مطلقًا حتى ولو لم يتعد أو يفرط. (ب) أن غطاء الضمان يأخذه البنك ويتملكه، ويستثمره، فيكون التكييف حقيقة: أن الضامن مدين للمضمون عنه بمثل مال الضمان إن كان خطاب الضمان مغطى كليًّا، أو مدين ببعضه إن كان جزئيًا، ثم تحدث المقاصة بين الدينين إن تحمل المصرف دفع قيمة الضمان؛ لأن المال المغطى لا يكون مجمدًا لا يتصرف فيه البنك حتى يكون وكيلًا نائبًا عن المالك، وإنما هو مقترض لقيمة الغطاء. (ج) أنه لا تلازم بين الغطاء وجودًا وعدمًا من جهة وبين الكفالة والوكالة مين جهة ثانية، فقد يكون العقد كفالة رغم وجود الغطاء، وقد يكون وكالة رغم عدم الغطاء، والذي يقتضي هذا أو ذاك حقيقة العقد، فإن كان المصرف نائبًا عن الشخص في الأداء فقط، ولا يستطيع المستفيد أن يطالب المصرف بالتحمل كان العقد وكالة حتى ولو لم يوجد الغطاء، وإن كانت ذمة المصرف مشغولة في تحمل الحق، وليس لكونه نائبًا في الأداء فان العقد عقد ضمان، ولو وجد الغطاء (¬1). ¬
القول الثالث
القول الثالث: تخريج هذه المعاملة على أنها حوالة: فالعميل (المشتري) محيل. والبائع (المستفيد) محال. والمصرف محال عليه. وقيمة خطاب الاعتماد محال به (¬1). ويناقش: تخريج العقد على أنه حوالة لا يسلم من إشكالات: الإشكال الأول: أن البنك (المحال عليه) غير مدين للمحيل، وقد اختلف الفقهاء في صحة الحوالة إذا كان المحال عليه غير مدين للمحيل. فالحنفية يرونها حوالة صحيحة؛ وذلك لأنهم لا يشترطون لصحة الحوالة مديونية المحال عليه للمحيل، ويسمونها بالحوالة المطلقة (¬2)، ولكن إذا اشترط ضمان المحيل كما في خطاب الاعتماد تحول العقد عندهم إلى كفالة (¬3). ¬
ووجهه
والمالكية (¬1)، وقول عند الشافعية (¬2) يعتبرون الحوالة كفالة إذا كان المحال عليه غير مدين، حتى ولو يشترط ضمان المحيل. وإنما لم يعتبروها حوالة؛ لأنه ليس فيها تحويل حق من ذمة إلى أخرى. والحنابلة يعتبرونها وكالة بالاقتراض (¬3) والشافعية يعتبرونها حوالة غير صحيحة (¬4). ووجهه: أن الحوالة عندهم بيع، وإذا كانت بيعًا، لم تصح الحوالة على من لا دين عليه؛ لعدم الاعتياض، إذ ليس عليه شيء يجعله عوضًا عن حق المحتال (¬5). الإشكال الثاني: مقتضى عقد الحوالة براءة المحيل من الدين، وفي خطاب الاعتماد لا يبرأ المشتري من الدين بمجرد الحوالة، بل يظل ظامنًا للوفاء بقيمة البضاعة في ¬
مواجهة المستفيد في حال امتنع المصرف من الأداء لسبب من الأسباب حتى لو اشترط المشتري عدم الضمان. كما لا يبرأ المحيل من جهة المصرف؛ إذ يطالبه بتسديد الدين الذي أداه نيابة عنه للمستفيد. وقد اختلف الفقهاء في حكم الحوالة إذا اشترط فيها ضمان المحيل. فذهب الحنفية إلى أن الحوالة إذا اشترط فيها ضمان المحيل تحولت إلى كفالة، لا حوالة. جاء في الفتاوى الهندية: "الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة، والحوالة بشرط مطالبة الأصيل كفالة، كذا في السراجية" (¬1). وقيل: إذا شرط الضمان بطلت الحوالة، وهو الراجح في مذهب الشافعية. جاء في نهاية المحتاج: "لو أحال غيره بشرط أنه ضامن للحوالة، أو أن يعطيه المحال عليه رهنًا، أو كفيلا لم تصح الحوالة" (¬2). ودليلهم: أن اشتراط الضمان في الحوالة ينافي مقتضى العقد؛ لأن الحوالة تقتضي براء المحيل من الدين، واشتراط ما ينافي مقتضى العقد يجعله باطلاً. وهناك وجه مرجوح عند الشافعية، يقول بجواز أخذ الضمان على الحوالة، بناء على أن الحوالة بيع، وليست استيفاء. جاء في الأشباه والنظائر: "لو احتال، بشرط أن يعطيه المحال عليه رهنًا، أو ¬
يقيم له ضامنًا، فوجهان، إن قلنا؛ بأنها بيع، جاز، أو استيفاء، فلا، والأصح الثاني" (¬1). وهذا الوجه المرجوح عند الشافعية، هو الراجح والله أعلم؛ لأن شرط الضمان لا يترتب عليه محذور شرعي، ولا يسلم أن شرط الضمان ينافي مقتضى عقد الحوالة، فهناك فرق بين أن يشترط عدم براءة المحيل، وبين أن يشترط ضمانه، فالأول هو الذي ينافي مقصود العقد وحقيقته؛ لأن المقصود من الحوالة براءة المحيل، وإذا شرط عدم براءته كان ذلك منافيًا لمقصود العقد، وأما شرط الضمان فلا ينافي مقصود العقد؛ لأنه لا يمنع براءة المحيل من الدين، وانتقاله إلى ذمة المحال عليه بناء على عقد الحوالة، غاية ما في الأمر، أنه يقتضي اشتغال ذمته بالدين مرة أخرى بعد براءته منه وانتقاله إلى ذمة المحال عليه، صحيح أن المحيل بقي مطالبًا بالدين، لكن نوع المطالبة اختلف، فقبل الحوالة: كان مطالبًا بالدين باعتباره أصيلاً، وبعد الحوالة التي اشترط فيه ضمانه، أصبح مطالبًا بالدين باعتباره ضامنًا، لا باعتباره أصيلاً، إذ أصبح المدين الأصيل هو المحال عليه، يوضح ذلك: أن المحال -في هذه المسألة- لو أبرأ المحال عليه من الدين برئ المحيل؛ لأنه أصبح ضامنًا، وبراءة الأصيل توجب براءة الضامن، بخلاف ما لو أبرأ المحيل، حيث لا يبرأ المحال عليه؛ لأنه أصبح المدين الأصيل، وبراءة الضامن لا توجب براءة الأصيل. واشتغال ذمة المحيل بعد براءته، لا يقتضي بطلان العقد، مثله تمامًا لو تعذر استيفاء الحق من المحال عليه لفلس ونحوه، رجع المحال على المحيل. ¬
الأشكال الثالث
ولكن في موضوعنا هنا قد يقال: وإن كان قد برئ المشتري من دين المستفيد فإنه لم يبرأ من دين المصرف؛ لأن المصرف يطالبه بسداد الدين الذي أداه عنه، فصارت الحوالة لم تحقق له البراءة من الدين، وإنما انتقل دين المشتري من كونه مدينًا للمحال إلى كونه مدينًا للمحال عليه. الأشكال الثالث: أخذ العوض على الحوالة الفقهية لا يجوز مطلقًا، سواء قلنا في توصيف الحوالة: إنها من قبيل بيع الدين بالدين، أو قلنا: إن الحوالة هي استيفاء للحق، وليست بيعًا. فإن كيفت الحوالة بأنها بيع: كان المنع من أخذ العوض يرجع إلى أمرين: الأول: أن الحوالة إذا كانت بيعًا لم تصح على من لا دين عليه لعدم الاعتياض، إذليس عليه شيء يجعله عوضًا عن حق المحتال (¬1). الثاني: أن الحوالة في حال توصيفها بأنها بيع، يبقى إشكال آخر، فإن الشارع وإن رخص بعدم التقابض في بيع الدراهم بمثلها في عقد الحوالة، كما رخص في عقد القرض، فإن التفاضل في بيع الدراهم بالدراهم لا يجوز، وفي حال أخذ العوض على الحوالة سيكون هناك تفاضل قطعًا، فالبنك سيدفع (98) ويأخذ مائة من العميل. أما إن قلنا: إن الحوالة هي استيفاء للحق، وليست بيعًا، وهو مذهب الجمهور، وهو الراجح، فلا يجوز أخذ العوض عليها أيضًا. فقد صرح الحنابلة والشافعية بأن الحوالة عقد إرفاق منفرد بنفسه، ليس ¬
الإشكال الرابع
بمحمول على غيره، وليست الحوالة بيعًا؛ لأنها لو كانت بيعًا لما جاز التفرق قبل القبض؛ لأنها بيع دراهم بدراهم، وإذا كانت من عقود الإرفاق لم يجز أخذ العوض عليها. وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة إن شاء الله تعالى في بطاقات الائتمان فانظره هناك حتى لا نعيد الكلام هنا وهناك. الإشكال الرابع: أن الاعتماد المستندي يكون مؤقتًا بوقت ينتهي عنده، وهذا ينافي مقتضى عقد الحوالة إذا الحوالة تقتضي انتقال الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه. الإشكال الخامس: أن الحوالة الفقهية تبطل إذا تبين بطلان البيع الذي بنيت عليه، بينما في خطاب الاعتماد لا علاقة للمصرف (المحال عليه) بصحة البيع أو بطلانه، وهذا فارق آخر سبقت الإشارة إليه. القول الرابع: تخريج هذا المعاملة على أنها عقد خاص قائم بذاته، مستحدث، لا يندرج تحت أي مسمى من العقود الفقهية المعروفة. وقد تقدم بأن الأصل في العقود الصحة والإباحة فلا يبطل ولا يحرم من العقود إلا ما قام الدليل على تحريمه وبطلانه، والناس بحاجة إلى هذه المعاملة فتكون جائزة (¬1). ¬
ويناقش
ويناقش: بأن خطاب الاعتماد ليس فيه شيء جديد إلا اسمه، فالعلاقة بين المستفيد والعميل علاقة بيع، والعلاقة بين المستفيد وبين البنك علاقة ضمان، وهذا ليس جديدًا، وإنما الجديد في العقد هو فصل الضمان عن سببه وهو عقد البيع، وهذه مسألة لم تبن على حكم فقهي، والفصل فيها ليس عادلاً كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وهو خروج عن الأحكام الشرعية، بل وخروج عن القوانين المدنية. القول الخامس: تخريج العقد بأنه عقد ضمان لحق المستفيد (البائع) بكل حال سواء غطي الاعتماد أو لم يغط. وهذا ما ذهب إليه الشيخ عبد الله السعيدي (¬1)، وهو الراجح، وذلك لوجوه منها: الوجه الأول: أن تغطية الاعتماد لا تجعل المصرف وكيلًا لما تقدم من أن الوكيل أمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط، والمال الذي أخذه البنك من العميل يضمنه مطلقًا حتى ولو لم يتعد أو يفرط. الوجه الثاني: أن غطاء الضمان يأخذه البنك ويتملكه، ويستثمره، فيكون التكييف حقيقة: أن الضامن مدين للمضمون عنه بمثل مال الضمان إن كان خطاب الضمان مغطى ¬
الوجه الثالث
كليًا، أو مدين ببعضه إن كان جزئيًا، ثم تحدث المقاصة بين الدينين إن تحمل المصرف دفع قيمة الضمان؛ لأن المال المغطى لا يكون مجمدًا لا يتصرف فيه البنك حتى يكون وكيلًا نائبًا عن المالك، وإنما هو مقترض لقيمة الغطاء. الوجه الثالث: إذا كنا نقر بأن علاقة المستفيد بالمصرف هي علاقة ضمان مطلقًا، فإن المعلوم أن المصرف إنما ضمن العميل لصالح المستفيد، فرجع إلى أن العميل مضمون عنه ولا بد؛ لأن عقد الضمان أطرافه ثلاثة، ضامن، وهو المصرف، ومضمون له وهو المستفيد، ومضمون عنه، وهو العميل، فسقط التكييف بأن خطاب الضمان بالنسبة للمستفيد كفالة، وبالنسبة للعميل هو عقد وكالة. الوجه الرابع: أن البنك متعهد بإعطاء المستفيد المبلغ مطلقًا إذا قام المستفيد بالتزاماته سواء أعطى العميل الأمر بالدفع أو لم يعطه، وهذا حقيقية الضمان بخلاف الوكالة فإن الموكل إذا أعطى أمره بعدم الدفع لم يحق للوكيل أن يدفع؛ لأنه نائب عنه. واعترض على هذه الوجوه: الذي حملنا على فصل توصيف العقد بين البنك والعميل فاعتبرنا العقد بينهما وكالة، وبين البنك والمستفيد فاعتبرنا العقد بينهما كفالة أن القانون التجاري قد فصل بين العقدين حيث جعل علاقة البنك بالمستفيد مستقلة عن علاقة العميل بالمستفيد. فالحق الذي التزمه المصرف للمستفيد سببه عقد الاعتماد، ولا دخل للبنك في عقد البيع. والحق الذي استقر في ذمة العميل للمستفيد سببه عقد البيع، فلما كان
ورد هذا الاعتراض من وجهين
العقدان مستقلين عن بعضهما، وأسبابهما مختلفة أمكن تكييف كل عقد على حدة. ورد هذا الاعتراض من وجهين: الوجه الأول: أن هذا الفصل وضعته المنظمات التجارية استنادًا إلى قانون التجارة الدولي مخالفًا لأحكام الشرع، بل ومخالفًا للقوانين المدنية الوضعية، وهي لا تلزم الفقيه؛ لأن الحق الذي تحمله المصرف بموجب الاعتماد المستندي إنما هو الحق الذي تحمله المشتري بموجب عقد البيع، والمستندات المطلوبة من المصرف لاستيفاء الحق كلها مستندات تتعلق بالمبيع إن في شحنه أو في وصفه، أو في كميته، فكيف يجعل العقد التابع للبيع، وهو عقد الضمان عقدًا مستقلًا بنفسه مجردًا عن سببه. الوجه الثاني: أن المبررات التي ساقها واضعو هذا النظام لفصل عقد الضمان عن سببه (عقد البيع) أن الكفالة في الفقه الإِسلامي وفي القوانين المدنية لا تستطيع أن تحمي الدائن (البائع) من سوء نية المدين (المشتري)، فيستطيع المشتري أن يدعي بأن البائع لا يستحق الثمن المضمون بسبب إخلاله في شروط العقد، وبالتالي يحق للكفيل أن يتخلف عن الدفع حتى يثبت له أنه قد قام بجميع التزاماته؛ لأن الضمان تابع لعقد البيع، والتابع يتأثر بمتبوعه صحة وبطلانًا، وبقاء وانتهاء، فعمدوا إلى فصل الضمان عن عقد البيع بحيث لا يتعطل حق البائع في مواجهة البنك لأي سبب ناشئ من تنفيذ العقد يدعيه المشتري، ومن هنا وجب أن يستقل ضمان البنك عن عقد البيع، وعمليات تنفيذه.
حكم أخذ العمولة والفوائد بناء على تخريج العقد بأنه عقد ضمان
وفي الحقيقة أن هذا القانون صيغ ليخدم طائفة معينة (وهم طائفة الباعة المصدرون على حساب طائفة المشترين (وهم المستوردون). وإذا كان هدفهم حماية الدائن من سوء نية المدين، فأين هذا القانون من حماية المدين من سوء نية الدائن. والبيع عقد بين طرفين يلتزم أحدهما بالثمن والآخر بالمثمن، ويفترض أن الثمن إنما يستحق في مقابلة المثمن، ورعاية استحقاق الثمن للبائع ليست بأولى من رعاية استحقاق المبيع للمشتري. لهذا يعتبر الفصل ليس عادلاً، ولا يقبل شرعاً حيث جعل البائع يستحق قيمة البضاعة بمجرد ظاهر المستندات بصرف النظر عن مطابقتها أو مخالفتها لواقع البضاعة، وهذا يجعل حق المشتري عرضة للانتقاص والضياع مما يضر به، ومعلوم أن الضرر ممنوع شرعاً (¬1). حكم أخذ العمولة والفوائد بناء على تخريج العقد بأنه عقد ضمان: إذا كان الضمان مغطى غطاء كليًّا فإن ما يأخذه البنك بسبب خطاب الاعتماد جائز مطلقًا دون قيود، أي سواء كانت هذه العمولة تحدد بالنسبة، كما هو واقع التعامل المصرفي، أو كانت هذه العمولة مبلغًا مقطوعًا. وجواز أخذ العوض على الضمان إذا كان مغطى بالكلية ليس لأنه خرج عن كونه من عقود الضمان، وإنما لأن الضمان فيه ليس من قبيل ضمان الديون فيؤدي في حال عجز المضمون عن السداد أن يقوم البنك بالسداد للمستفيد، ويصبح العميل مدينًا للمصرف، وتكون أجرة الضمان في مقابل إقراض العميل، ¬
فيكون القرض قد جر نفعًا للضامن، فهذا المحذور غير موجود في حال كان الضمان مغطى. وأما إذا كان الضمان غير مغطى كليًا أو جزئيًا فإن أخذ المصرف فوائد على ذلك سيكون محرمًا سواء قيل إن هذه الفوائد في مقابل الإقراض أو قيل إن هذه الفوائد في مقابل الضمان، فكل ذلك يعتبر من الربا الصريح؛ لأن أخذ العوض على ضمان الديون سيؤدي إلى قرض جر نفعًا، وهذا لا يجوز، وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد بحث لأخذ العوض على الضمان في مبحث مستقل لأهميته. كما أن الضمان إذا كان غير مغطى لا يجوز أخذ الأجرة مطلقًا (سواء كانت بالنسبة أو كانت مبلغًا مقطوعًا، وسواء كانت لمرة واحدة أو تتجدد) على ما يعتبره البنك خدمات مصرفية كالخدمات الفعلية من اتصال بالمصدر، ومطالبته بتسليم مستندات الشحن، وإيصالها إلى المشتري، وإن كان يجوز للبنك أن يسترد من العميل جميع ما يصرفه على هذه الخدمات بشرط أن تكون تكاليف حقيقية، وأما أخذ الأجرة عليها والتكسب بسببها فيجوز لو أن هذه الخدمات قدمت بشكل منفرد، أما إذا جمعت مع الضمان فإنه لا يجوز أخذ العوض على هذه الخدمات (عدا استرداد المصاريف الفعلية) حتى لا يؤدي ذلك إلى أخذ العوض على القرض والضمان بالاختباء وراء ستار أجرة الخدمات المصرفية كما سبق بيانه. فالراجح في العقود المشتركة منع الجمع بين كل عقدين يترتب على الجمع بينهما محظور شرعي، وإن كان كل واحد منهما جائزًا بمفرده، فليس كل عقد جاز منفردًا جاز مضمومًا إلى غيره، فهذا عقد القرض جائز بالإجماع، وعقد البيع جائز بالإجماع، وإذا باعه بشرط أن يقرضه حرم ذلك بالإجماع.
فإذا كان أخذ العوض على القرض وعلى ضمان الدين محرمًا كما هو في حال كان خطاب الاعتماد غير مغطى فإن أخذ العوض على الخدمات المصرفية إذا ضمت إلى عقد فتح الاعتماد مع اشتماله على القرض والضمان يكون محرمًا حينئذ خشية أن يؤدي ذلك إلى أخذ العوض على القرض وعلى الضمان بعقد مستتر باسم الأجرة على تلك الخدمات، وفي نفس الوقت لا نمانع من أخذ التكاليف الفعلية التي أنفقها الضامن لإصدار خطاب الاعتماد دون أن يربح في ذلك، وفي هذا حماية للمعاملة من الوقوع في الربا. يقول الشيخ محمَّد الزحيلي: "خطابات الضمان من المعاملات المصرفية المعاصرة التي عرضت عدة مرات على مجمع الفقه الإِسلامي بجدة، والمؤتمرات الفقهية، وندوات الاقتصاد الإِسلامي، وصدر فيها عدة قرارات توضح الجوانب الجائزة، وتحذر من الوقوع في الربا، ومنعت أجر الضمان، وأجازت للمصارف استرداد المصاريف الإدارية. وإن أصر المصرف الإِسلامي على أخذ أجرة فيتم في حالة التمويل، وتحويل القرض إلى قراض (مشاركة في الربح) ويحصل المصرف على حصته من الربح الجائز والمشروع بالنص والإجماع" (¬1). ويمكن للمصرف الإِسلامي أن يشتري البضاعة التي يريدها العميل، ويبيعها إياه عن طريق المرابحة للآمر بالشراء وفق الضوابط الشرعية لهذه العملية (¬2). ¬
وإذا كان المصرف الإِسلامي يتعامل مع بنوك أجنبية كما لو كان الاعتماد معززًا من قبل بنك في بلد البائع فإنه يجب على المصرف الإِسلامي أن يبحث عن بنوك تقبل المقاصة والتعامل بالمثل بحيث لا يدفع البنك أية فوائد في مقابل تعزيز خطاب الاعتماد، وإذا لم يجد المصرف الإسلامى من يتعاون معه فعليه أن يودع لدى تلك البنوك ما يكفي ليتفادى دفع فوائد ربوية لتلك البنوك، وإذا استحق المصرف الإِسلامى فوائد على تلك الأموال، ورأى أنه لا يتركها لهم فإنه يجب ألا تدخل هذه الأموال ضمن موارد المصرف وأرباحه، وأن يتخلص منها في المشاريع الخيرية. والله أعلم. كما لا يجوز للمصرف أن يشترط الغطاء للاعتماد المستندي إلا إذا كان هذا المبلغ سوف يجمده المصرف، ولا يتصرف فيه باعتباره رهنًا، فإن قدم الغطاء المستندي دون شرط فلا أرى مانعًا من جواز انتفاع المصرف بهذا الغطاء؛ لأنه إذا اشترط المصرف الغطاء، وتصرف فيه: فإن قيل: إن الغطاء رهن، فلا يجوز الانتفاع بالمرهون خاصة إذا لم يكن مركوبًا ولا محلوبًا كالنقود، فإذا انتفع أصبح القرض قد جر نفعاً وهذا لا يجوز. وإن قيل: إن الغطاء قرض؛ لأن المصرف سوف يملكه، ويتصرف فيه، ويرد ¬
وأجيب
بدله، وهذه حقيقة القرض، وما يدفعه المصرف للمستفيد نيابة عن العميل سيكون قرضًا أيضًا ثم تحدث المقاصة بين الدينين، وإذا كانت المسألة كذلك، فإن جواز اشتراط مثل هذا يرجع إلى حكم مسألة أخرى: [م - 1247] وهي حكم اشتراط عقد القرض في عقد القرض، وهو ما يسمى (أسلفني أسلفك). قال في مواهب الجليل: "لا خلاف في المنع من أن يسلف الإنسان شخصًا ليسلفه بعد ذلك" (¬1). وقال عليش: "ولا خلاف في منع أسلفني وأسلفك، وبحث ابن عبد السلام بأن العادة المكافأة بالسلف على السلف، فقصده لا بعد فيه. وأجيب: بأن العادة قصد السلف عند الاضطرار إليه، وأما الدخول على أن يسلفه الآن ليسلفه بعد شهر مثلا فليس معتادًا، فقصده بعيد" (¬2). وأصل ذلك القاعدة الفقهية المتفق عليها بين الفقهاء كل قرض جر نفعًا فهو وبا. كما نص على ذلك الشافعية، فإنع الشافعية أن يقرض المقترض المقرض، وعللوا ذلك بأنه قرض جر نفعًا (¬3). وكذلك منع منها الحنابلة، جاء في المغني: "وإن شرط في القرض ... أن يقرضه المقترض مرة أخرى لم يجز" (¬4). ¬
وحجتهم
وذهب فريق من المعاصرين إلى جواز القروض المتبادلة مطلقًا (¬1). وحجتهم: (2) أن المنفعة متماثلة لا تخص المقرض وحده، وليست من ذات القرض وإنما من الإقدام على التعامل مع من يعاملك، وهذا شأن التجارة. (2) القياس على السفتجة من حيث كونها لا تخص المقرض وحده، بل تعم الطرفين. (3) أن الربا إنما حرم شرعًا؛ لأنه ظلم من المقرض للمقترض، أما الاتفاق على الإقراض المتبادل بين المقرض والمستقرض بمبالغ متساوية ولمدة متماثلة فليس فيه شيء من الظلم لأحد الطرفين. (4) أن فيها بديلًا عن القرض الربوي القائم على الفائدة. وأرى أن الإجماع المحكي في المسألة إن صح كان حجة، وإن لم يصح فالقول بالجواز متجه؛ لأن النفع متبادل، وليس خاصًا بالمقرض، والقرض ذاته لا زيادة فيه، ولكن خروجًا من مخالفة الإجماع فإن على البنك ألا يشترط الغطاء، بحيث يكون دفعه إلى المصرف بلا اشتراط، والله أعلم. ¬
المبحث السابع في الضمان المصرفي
المبحث السابع في الضمان المصرفي الفرع الأول التعريف بالضمان المصرفي وبيان أركانه وأنواعه تعريفه: خطاب الضمان: "هو تعهد كتابي يتعهد بمقتضاه البنك بكفالة أحد عملائه في حدود مبلغ معين تجاه طرف ثالث بمناسبة التزام ملقى على عاتق العميل المكفول، وذلك ضمانًا لوفاء هذا العميل بالتزامه تجاه ذلك الطرف، خلال مدة معينة على أن يدفع البنك المبلغ المضمون عند أول مطالبة خلال سريان الضمان بغض النظر عن معارضة المدين أو موافقته في ذلك الوقت ... " (¬1). أركان خطاب الضمان هي: 1 - الكفيل، وهو المصرف الذي يصدر التعهد الخطي بدفع مبلغ معين نيابة عن العميل خلال مدة معينة. 2 - المكفول عنه، وهو العميل، طالب خطاب الضمان. 3 - المكفول له (المستفيد) وهو الشخص أو الجهة التي صدر خطاب الضمان لصالحها. ¬
يضاف إلى ذلك
4 - المكفول به: وهو مبلغ الضمان الذي التزم المصرف بدفعه، وصدر الخطاب به. يضاف إلى ذلك: 5 - مدة الضمان، وهي الفترة الزمنية التي يكون فيها المصرف ملتزمًا بتنفيذ ما ورد في الخطاب. 6 - الغرض من الضمان. بحيث يجب النص صراحة في خطاب الضمان على الغرض الذي صدر من أجله الضمان، والعملية المتعلقة به. ومما تقدم يتبين أن هناك ثلاثة أطراف أساسية لخطاب الضمان: 1 - البنك الكفيل. 2 - العميل (المكفول). 3 - المستفيد. أنواع خطاب الضمان: تختلف خطابات الضمان باختلاف الغرض الذي تعد من أجله، كما يلي: أ- خطاب الضمان الابتدائي: وهو خطاب مقدم بواسطة البنك نيابة عن أحد عملائه ممن يرغب في الدخول في مناقصة لتنفيذ عمل أو مشروع معين، وذلك عندما يطرح مشروع المناقصة في عطاء عام، فيقدم هذا الخطاب مع تقديم العطاء ويتراوح قيمته بين 1 %إلى 2%من قيمة العرض وذلك وفقًا لما تحدده الشروط والمواصفات.
ب- خطاب الضمان النهائي
والغرض من خطابات الضمان الابتدائية هو: (1) التأكد من جدية المتقدم للعرض لئلا تملأ خانات المزايدة أو المناقصة أو العطاء بأسماء أفراد غير جادين وغير مؤهلين لهذا المجال. (2) إلزام المناقص بإبرام العقد إذا رست عليه المناقصة وإلا أخذ منه قيمة الضمان. ويرد الضمان الابتدائي إلى أصحاب العروض غير المقبولة ممن لم ترس عليهم المناقصة، أما الذين رست عليهم المناقصة فيقدم ضمانًا نهائيًا، ويرد إليه الضمان الابتدائي، أو يستكمل الضمان الابتدائي باعتبار أن نسبته أقل من النهائي (¬1). ب- خطاب الضمان النهائي: ويصدر هذا النوع بواسطة البنك نيابة عن أحد عملائه (المضمون عنه) بعد أن يتم اختيار الجهة أو الهيئة الحكومية لأفضل المناقصات للقيام بتنفيذ العملية أو المقاولة حسب العقد المبرم. ويقدر خطاب الضمان بما قيمته حوالي 5% من جملة العقد، أو 10 %منه. ويودع الضمان في مدة لا تتجاوز عشرة أيام من تاريخ اليوم التالي لإخطاره بخطاب مسجل بقبول عطائه. ويحل خطاب الضمان النهائي محل الخطاب الابتدائي الذي يصبح لاغيًا بمجرد تقديم صاحب العرض المقبول لخطاب الضمان النهائي. ويرد الضمان إلى المناقص بعد الوفاء بالتزاماته بصورة نهائية. وهذا الضمان إذا أصدره المصرف فإنه ملزم للبنك؛ لأنه لا يصدر إلا والعميل قد ارتبط بعقد مع المستفيد. ¬
جـ- خطابات ضمان الدفعة المقدمة.
والغاية من الضمان النهائي: هو إلزام المتعاقد بتنفيذ العقد دون تأخر ولا تخلف، ولا مخالفة، ويصادر الضمان النهائي كله إذا لم يقم المتعاقد بتنفيذ العقد، وقد ينفذ العقد على حسابه مع تحمله فوارق الأسعار، والتعويض عن الأضرار. وقد يصادر جزء من الضمان النهائي إذا ترتب على المتعهد غرامات تأخير (¬1). جـ- خطابات ضمان الدفعة المقدمة. وتصدر هذه الضمانات عندما يرغب العميل في استلام دفعة مقدمة مقابل عمل ملتزم بالقيام به، أو توفير بضاعة، ولا يتم دفعها إلا بموجب خطاب ضمان يتعهد فيه البنك وإعادة دفع المبلغ للمستفيد إذا لم ينفذ العميل العمل حسب الشروط المتفق عليها بالوجه المطلوب أو في حالة اختلاف البضاعة عن المواصفات المطلوبة، ويترك تقدير هذا الأمر مطلقًا للجهة المستفيدة، وتكون نسبة الدفعة المقدمة غالباً أقل من 20% كحد أقصى. وهذا حكمه حكم خطاب الضمان النهائي؛ لأنه صورة منه. ¬
الفرع الثاني التوصيف الفقهي لخطاب الضمان
الفرع الثاني التوصيف الفقهي لخطاب الضمان [ن-112] توصيف خطاب الضمان المصرفي مختلف فيه، ويكاد أكثر الباحثين يعترفون بأن الأمر يفتقر إلى عناية من البحوث التخصصية التي تكشف حقيقته. ففي ندوة البركة الثالثة للاقتصاد الإِسلامي المنعقد بأسطنبول، جاء فيه: "أما أخذ الأجر على خطاب الضمان غير المغطى بنسبة مبلغ الضمان كما هو معمول به في البنوك فقد رأت اللجنة بأغلبية الآراء أنه يحتاج إلى مزيد من الدراسة والتمحيص والاطلاع على النماذج المستعملة في مختلف الحالات والتي طلب من المختصين في البنوك تقديمها للنظر فيها" (¬1). وقالت الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية بعد أن ذكرت رأيها في خطاب الضمان المغطى وغير المغطى، وحكم أخذ العوض في الحالين فقد ختمت قرارها بقولها: "على أن المسألة تحتاج إلى مزيد من التأمل والبحث، وأن الهيئة تأمل في تحقيق ذلك" (¬2). وإذا كان أطراف الضمان ثلاثة: هم المصرف والعميل والمستفيد، فإن الباحثين لا يختلفون بأن علاقة المصرف بالمستفيد هي علاقة ضمان، وإنما الخلاف في علاقة المصرف بالعميل. ¬
القول الأول
القول الأول: قيل: إن خطاب الضمان هو كفالة محضة، سواء كان بأمر المكفول أو بدون أمره (¬1). وجه ذلك: أن خطاب الضمان المصرفي: هو تنفيذ للالتزام الذي ترتب في ذمة المكفول، فهو بهذا يعني: ضم ذمة إلى ذمة أخرى. وهذا هو حقيقة الضمان. ونوقش هذا التخريج: بأن هناك فرقًا بين الكفالة في خطاب الضمان، وبين الكفالة في الفقه الإِسلامي: فالتزام الكفيل في الفقه الإِسلامي تابع لالتزام المدين المكفول من حيث صحته وبطلانه، فالضامن فرع عن الأصيل، فإذا بطل الدين المكفول به بطل الضمان، وإذا صح وثبت الدين ثبت الضمان، بينما التزام الكفيل (المصرف) في خطاب الضمان يحكمه خطاب الضمان وحده تجاه المستفيد، فالمصرف ملتزم بما نص عليه خطاب الضمان، وما تضمنه من شروط، ولا شأن له بالشروط التي بين العميل والمستفيد فهو يلتزم بالدفع أيا كان مصير العقد بين العميل والمستفيد. ويجاب: بأن هذا الفارق القانوني لا يخرج الخطاب من كونه نوعًا من الكفالة، فالتزام ¬
وجه ذلك من ثلاثة وجوه
المصرف بالدين الذي على العميل هو في حقيقته كفالة لا غير، سواء كان هذا الالتزام مشروطًا بثبوت الدين كما هو معروف في الفقه الإِسلامي، أو كان هذا الالتزام مطلقًا غير مشروط. وكون التزام المصرف في خطاب الضمان يحكمه خطاب الضمان، ولا شأن للبنك بسبب الضمان القائم بين العميل والمستفيد، هذا الفصل بين الضمان وسببه هذه مسألة لم تبن على حكم فقهي، والفصل فيها ليس عادلاً؛ لأن الضمان هو عقد تابع، وليس مستقلاً، وهو خروج عن الأحكام الشرعية، وقد بينت خطأه عند الكلام على الضمان في عقد فتح الاعتماد المستندي فأغنى عن إعادته هنا. وقيل: إن خطاب الضمان وكالة. اختار ذلك جماعة منهم سامي حمود (¬1). وجه ذلك من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن الكفالة بالأمر يرجع فيها الكفيل بما يدفع على من أمره بذلك تمامًا كما يرجع الوكيل؛ لأن الكفالة بالأمر ما هي إلا وكالة بالأداء. ويجاب: الحقيقة أن الكفالة بالأمر لا تتغير فيها الحقيقة الشرعية للضمان: وهي شغل ذمتين بحق واحد، فالحق قبل الكفالة كان واجبًا في ذمة الأصيل، فبوجود الكفالة انضمت ذمة أخرى إلى الذمة الأصلية لتوثيق هذا الحق، ومعظم الكفالة ¬
الوجه الثاني
التي تتم إنما تتم بالأمر من المكفول عنه، وهذا الأمر لا يغير من الطبيعة الشرعية التي تقوم عليها الكفالة (¬1). فالوكالة عقد استنابة، فالوكيل نائب عن الموكل وليست ذمته مشغولة بدين الموكل بخلاف الكفالة، والوكالة عقد جائز، والكفالة عقد لازم في حق الكفيل، وأما رجوع الكفيل على المكفول إذا دفع عنه بغير أمره ففيه خلاف بين أهل العلم، وليس مرد هذا إلى الخلاف في تكييف العقد، فهو عندهم عقد كفالة مطلقًا سواء قلنا يرجع، أو قلنا بعدم الرجوع، إلا أن من قال: لا يرجع إلا إذا كانت الكفالة بأمر المكفول رأى أن الضامن هنا متبرع، والمتبرع لا يرجع بما تبرع، ومن قال يرجع مطلقًا إلا إذا نوى التبرع بأن الإنسان إذا دفع عن الغير ما وجب عليه فإنه محسن، والأصل عدم التبرع. الوجه الثاني: أن الكفيل يحل محل المكفول في الوفاء بالتزاماته، فهو غير بين أن يقوم بالعمل الذي كفله، أو أن يدفع المال بينما البنك الذي يقدم خطاب الضمان إلى مقاول مثلاً لا يطلب منه أن يقوم بالأعمال المطلوبة من المقاول، وإنما عليه أن يقوم بتعهده بدفع المال المتفق عليه سواء كان التزام المقاول أعلى أو أقل كثيرًا من خطاب الضمان. ويجاب: بأن الكفالة بخطاب الضمان لم تتوجه إلى القيام بالعمل، وإنما هي موجهة إلى شيء محدد، وهذا سائغ في الكفالة، فلا يشترط أن يحل الضامن محل المكفول في كل أعماله. ¬
الوجه الثالث
الوجه الثالث: أن الكفالة عقد قائم على التبرع ابتداء، والمعاوضة انتهاء إذا كانت بناء على طلب المكفول، وهذا بخلاف حال الضمان حيث إن نية التبرع ليست قائمة لا في الحال ولا في المآل. ويناقش: بأن هذا استدلال في محل النزاع، فنحن لا نقبل أبداً أن يكون الضمان المصرفي محلاً للمعاوضة ابتداء، وأما المعاوضة انتهاء فإنْ آل الضمان إلى القرض تحول إلى معاوضة انتهاء وإلا بقي الضمان التزامًا مجردًا، وهذا لا فرق فيه بين خطاب الضمان وبين عقد الكفالة. القول الثاني: قيل: إن خطاب الضمان يجمع بين الكفالة والوكالة، فهو يتضمن معنى الضمان؛ لأنه التزام من المصرف للمستفيد، كما يتضمن معنى الوكالة حيث يقوم المصرف نيابة عن عميله بإجراءات إتمام ما يشتمل عليه كتاب الضمان، وتسهيلها، ويستحق ما يدفعه المصرف على الآمر في دفعه للمستفيد. ويجاب: بأن العقد إما عقد كفالة أو عقد وكالة، ولا يمكن أن يكون خطاب الضمان مجموع العقدين في آن واحد؛ لاختلاف أحكامهما، وقيام المصرف نيابة عن عميله بإجراعات إتمام ما يشتمل عليه كتاب الضمان لا يخرجه عن الضمان. القول الثالث: قيل: إن خطاب الضمان إذا كان غير مغطى من العميل فإن العقد عقد
ضمان، وعلى هذا فالضامن هو المصرف، والمضمون هو العميل، والمضمون له: هو الطرف الثالث (المستفيد). أما إِذا كان العميل قد أودع لدى المصرف ما يغطي الخطاب فإن العلاقة بينهما علاقة وكالة، حيث وكل العميل المصرف ليقوم بالأداء عنه، فلا توجد كفالة بين الطرفين غير أنها تكون بين المصرف والطرف الثالث (المستفيد) فالمستفيد يقبل خطاب الضمان من المصرف باعتبار المصرف كفيلاً، لا وكيلًا. وإن كان الخطاب مغطى جزئيًا، فما غطي يأخذ معنى الوكالة، وما لم يغط يأخذ معنى الضمان. وبهذا أخذت الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية (¬1)، وبه صدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (¬2)، ¬
وجه هذا القول
واختاره جمع من الباحثين، منهم الشيخ علي السالوس (¬1). وجه هذا القول: أن خطاب الضمان إن كان بدون غطاء فهو كفالة؛ لأن فيه ضم ذمة إلى أخرى من أجل توثيق الحق. وأما إذا كان خطاب الضمان بغطاء فهو يمكن تشخيصه وتكييفه إلى اعتبارين: فهو بين المستفيد وبين المصرف (البنك) عبارة عن كفالة؛ لأن المستفيد يشعر بأن ذمة المصرف قد شغلت بالدين الأصلي. وأما العلاقة بين المصرف وبين طالب الضمان، والذي قدم مقابلاً لهذا الضمان فإنها عبارة عن وكالة؛ لأنه أعطى مالًا، وطلب من الضامن أن يدفع هذا المال عندما يطالب به، ولا يستنكر أن يكون للتصرف الواحد اعتباران، فهناك كثير من العقود تعتبر لازمة بالنسبة لطرف، وغير لازمة بالنسبة لطرف آخر. ثمرة الخلاف: إذا قلنا: إن خطاب الضمان هو عقد كفالة مطلقًا لم يجز أخذ العوض على الضمان، وسيأتي بحث أخذ العوض على الضمان في مبحث مستقل، وبيان الخلاف فيه إن شاء الله تعالى. ¬
مناقشة هذا التخريج
وإن قلنا: إنه عقد وكالة مطلقًا جاز أخذ العوض على خطاب الضمان؛ لأن الوكالة تجوز بأجر وبدون أجر. وإن قيل: إنه عقد مركب من عقد وكالة وضمان إما مطلقًا أو في حال كان الضمان قد غطي جزء منه، فهناك من يجيز أخذ العوض على الوكالة، ولا يجيز أخذ العوض على الضمان، كما هو رأي المجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي، ورأي الهيئة الشرعية في شركة الراجحي المصرفية. مناقشة هذا التخريج: الذي أميل إلى أن خطاب الضمان هو عقد كفالة مطلقًا، سواء كان بغطاء كلي أو جزئي، أو كان بغير غطاء لعدة أسباب: السبب الأول: أن الوكالة تفويض بالأداء دون التحمل، والبنك في خطاب الضمان ليس مفوضًا بالأداء فقط، وإنما ذمته مشغولة بالحق الذي وجب للمستفيد، مطلقًا، سواء قام العميل بالغطاء أولم يقم بذلك. السبب الثاني: أن المستفيد لم يقبل البنك كنائب عن العميل في الأداء، فإن هذا الأمر لا يضمن له حقه، وإنما قبل البنك كضامن للحق، فإن هذا هو الذي يحفظ له حقه، ويوفر له قدرًا من الأمان بأن حقه لن يضيع. وإذا كان المخالف يقر بأن علاقة المستفيد بالمصرف هي علاقة ضمان مطلقًا، فإن المعلوم أن المصرف إنما ضمن العميل لصالح المستفيد، فرجع إلى أن العميل مضمون عنه ولا بد؛ لأن عقد الضمان في خطاب الضمان أطرافه
السبب الثالث
ثلاثة فسقط التكييف بأن خطاب الضمان بالنسبة للمستفيد كفالة، وبالنسبة للعميل هو عقد وكالة. السبب الثالث: أن عقد الوكالة عقد جائز، وعقد الضمان عقد لازم، ونحن هنا أمام عقد لازم، وليس عقدًا جائزًا إلا أن يقال: إن عقد الوكالة بالشرط يصبح لازمًا. السبب الرابع: أن المصرف لو كان وكيلًا لم يضمن المال الذي قبضه من العميل غطاء للضمان فيما لو هلك بلا تعد ولا تفريط؛ لأن الوكيل أمين، والواقع أن المصرف ضامن للمال الذي استلمه، فليست يده يد أمانة. السبب الخامس: أن هذا الغطاء هو قرض في ذمة المصرف؛ لأن المصرف لا يجمده، بل يأخذه ويتملكه، ويستثمره، فيكون التوصيف حقيقة: أن الضامن مدين للمضمون عنه بمثل مال الضمان إن كان خطاب الضمان مغطى كليًا، أو مدين ببعضه إن كان جزئيًا، ثم تحدث المقاصة بين الدينين إن تحمل المصرف دفع قيمة الضمان؛ لأن المال المغطى لا يكون مجملًا لا يتصرف فيه البنك حتى يكون وكيلًا نائبًا عن المالك، ولذا أرى أن خطاب الضمان هو عقد كفالة مطلقًا غطي أو لم يغط، وجواز أخذ العوض على الضمان إذا كان مغطى بالكلية جائز ليس لأنه خرج عن كونه من عقود الضمان، وإنما لأن الضمان فيه لا يؤول إلى قرض جر نفعًا، والله أعلم. ولو قيل: إن عقد الضمان عقد وكالة وضمان فيما لو غطي بعض قيمة الضمان لم يجز فيما أرى أخذ. العوض على خطاب الضمان؛ لأن العقد المركب من عقدين:
عقد وكالة يجوز أخذ العوض عليه. وعقد ضمان للدين غير مغطى لا يجوز أخذ العوض عليه. فلو قدم عقد الوكالة بشكل منفرد لجاز أخذ العوض عليه وطلب الربح من ذلك، أما إذا اجتمع مع الضمان فإنه لا يجوز أخذ العوض على الوكالة حتى يفصل عن الضمان؛ حتى لا يؤدي ذلك إلى أخذ العوض على الضمان بالاختباء وراء ستار عقد الوكالة. فالراجح في العقود المشتركة منع الجمع بين كل عقدين يترتب على الجمع بينهما محظور شرعي، وإن كان كل واحد منهما جائزًا بمفرده، فليس كل عقد جاز منفردًا جاز مضمومًا إلى غيره، فهذا عقد القرض جائز بالإجماع، وعقد البيع جائز بالإجماع، وإذا باعه بشرط أن يقرضه حرم ذلك بالإجماع. فإذا كان أخذ العوض على ضمان الدين محرمًا فإن أخذ العوض على الوكالة إذا ضمت إلى الضمان يكون محرمًا حينئذ خشية أن يؤدي ذلك إلى أخذ العوض على الضمان بعقد مستتر باسم الأجرة على الوكالة، وفي نفس الوقت لا نمانع من أخذ التكاليف الفعلية التي أنفقها الضامن لإصدار خطاب الضمان دون أن يربح في ذلك، وفي هذا حماية للمعاملة من الوقوع في الربا. يقول الشيخ محمَّد الزحيلي: "خطابات الضمان من المعاملات المصرفية المعاصرة التي عرضت عدة مرات على مجمع الفقه الإِسلامي بجدة، والمؤتمرات الفقهية، وندوات الاقتصاد الإِسلامي، وصدر فيها عدة قرارات توضح الجوانب الجائزة، وتحذر من الوقوع في الربا، ومنعت أجر الضمان، وأجازت للمصارف استرداد المصاريف الإدارية. وإن أصر المصرف الإِسلامي على أخذ أجرة فيتم في حالة التمويل، وتحويل
القرض إلى قراض (مشاركة في الربح) ويحصل المصرف على حصته من الربح الجائز والمشروع بالنص والإجماع" (¬1). ¬
الفرع الثالث أخذ العمولة في مقابل الضمان
الفرع الثالث أخذ العمولة في مقابل الضمان [م - 1248] قبل أن أتكلم في حكم المسألة أحرر محل النزاع: لا مانع شرعًا من أخذ الضامن للتكاليف والنفقات الفعلية التي تكبدها في سبيل تقديم الضمان؛ لأنه إذا جاز أخذ نفقات القرض من المقترض فلأن يجوز أخذ ذلك في الضمان من باب أولى؛ ولأن أخذ الضامن لهذه التكاليف لا يعتبر من باب المعاوضة، وإنما استحقاق وجب في ذمة المضمون عنه للضامن وأخذ الضامن لها إنما هو من باب دفع الضرر عنه، فهو محسن، وما على المحسنين من سبيل، ويمكن أن نطلق على ذلك: استرداد المصاريف الإدارية حتى لا يفهم منه أن ذلك أجر على الضمان. (ح-856) ويدل على هذا ما رواه البخاري من طريق زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الرهن يركب بنفقته) والرهن قد يكون موجبه القرض، ويكون المرتهن: هو المقرض، والانتفاع بالرهن ركوبًا وشربًا للبنه يعتبر منفعة للمقرض، ولكن حين كانت هذه المنافع في مقابل النفقة، وليس بسبب القرض جاز ذلك، وإذا جاز ذلك في باب القرض جاز ذلك في باب الضمان (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ومثل ذلك ما نص عليه الفقهاء من تحمل المقترض كيل مال القرض، أو وزنه. فالمقصود في هذه المسألة حكم أخذ العمولة (عوض مالي) في مقابل الالتزام بالدين، وتقديم الضمان. وقد اختلف العلماء في هذا: فقيل: لا يجوز أخذ العوض على الضمان وهو مذهب الأئمة الأربعة على خلاف بينهم هل يبطل العوض وحده، ويصح الضمان، أو يبطلا معًا (¬1)، وبه ¬
قال مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (¬1)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (¬2)، وقال به جمع من العلماء المعاصرين (¬3). وقيل: يجوز أخذ العوض على الضمان، وهو قول منسوب لإسحاق ابن راهوية (¬4)، وقال به من العلماء المتأخرين شيخ شيخنا عبد الرحمن بن ناصر السعدي (¬5)، والشيخ علي الخفيف (¬6)، والشيخ عبد الرحمن عيسى (¬7)، والشيخ ¬
دليل من قال: لا يجوز أخذ العوض على الضمان
أحمد علي عبد الله (¬1)، والدكتور حسن الأمين (¬2)، والدكتور زكريا البري (¬3)، والشيخ نزيه حماد (¬4)، والشيخ عبد الله بن منيع (¬5)، والدكتور محمَّد مصطفى الشنقيطي (¬6). وقيل: إذا كان العميل قد أودع لدى المصرف ما يغطي قيمة الضمان، فإنه يجوز أخذ العمولة عليه. وبهذا أخذت الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية (¬7)، وصدر بذلك قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (¬8)، واختاره جمع من الباحثين، منهم الشيخ علي السالوس (¬9). دليل من قال: لا يجوز أخذ العوض على الضمان: الدليل الأول: الإجماع، قال ابن المنذر: "أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم على أن ¬
ونوقش دعوى الإجماع
الحمالة بجعل (¬1) يأخذه الحميل لا تحل، ولا تجوز، واختلفوا في صحة الضمان على هذا الشرط. فكان الثوري يقول: إذا قال الرجل للرجل: اكفل عني، ولك ألف درهم، فإن الكفالة جائزة، وترد إليه الألف درهم. وقال أحمد: ما أرى هذا يأخذ شيئًا بحق. وقال إسحاق: ما أعطاه من شيء فهو حسن" (¬2). وقال الدردير: "وأما صريح ضمان بجعل فلا خلاف في منعه؛ لأن الشارع جعل الضمان والجاه والقرض لا تفعل إلا لله تعالى، فأخذ العوض عليها سحت" (¬3). وجاء في مواهب الجليل: "حكى ابن عرفة عن اللخمي ... : الضمان بجعل لا يجوز، قال: ابن القطان عن صاحب الأنباء إجماعًا" (¬4). أي بعدم الجواز. ونوقش دعوى الإجماع: قال ابن منيع: "إن القول بمنع الأجرة على الضمان ليس محل إجماع بين ¬
ويجاب على ذلك
أهل العلم، وإن ذكر ذلك ابن المنذر رحمه الله، فقد قال بجوازه الإمام إسحاق ابن راهوية أحد مجتهدي فقهائنا الأقدمين، وهو سابق لابن المنذر، وقال بجوازه من فقهائنا في العصور المتأخرة من علماء الأزهر الشيخ علي الخفيف، والشيخ عبد الرحمن عيسى، والشيخ عبد الحليم محمود، ومن علماء المملكة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، والشيخ عبد الله البسام ... " (¬1). ويجاب على ذلك: الذي حكى الإجماع ليس ابن المنذر فقط، فقد حكاه ثلاثة من العلماء كما نقلت في الاستدلال، وأما خلاف المتأخرين فهو محفوظ، ولا يخرق به الإجماع، وأما القول المنسوب للإمام إسحاق فلو صح لخرق الإجماع، وكنت أتمنى أن أجد عبارة عن الإمام إسحاق تقول: إن أخذ العوض في مقابل الضمان صحيح، أو أي عبارة تؤدي نفس المعنى بوضوح ودون احتمال، والعبارة المأثورة عن الإمام إسحاق حكاها ثلاثة من العلماء إسحاق بن منصور في مسائل إسحاق، وابن المنذر، والماوردي في الحاوي الكبير، والأول والثاني حكيا عبارة الإمام إسحاق بنصها، والثاني ساق فهمه لعبارة الإمام إسحاق، ولنتأمل هذه العبارة هل تعطينا ذلك الجزم بأن الإمام إسحاق يرى جواز أخذ العوض على الضمان: جاء في مسائل الإمام أحمد وإسحاق رواية إسحاق بن منصور: "قال سفيان: إذا قال رجل لرجل: اكفل عني، ولك ألف درهم: الكفالة جائزة، ويرد عليه ألف درهم. قال أحمد: ما أرى هذا يأخذ شيئًا بحق. ¬
قال إسحاق: ما أعطاه من شيء فهو حسن" (¬1). ونقل هذه العبارة ابن المنذر. فهذا النص في الحقيقة لا يجعل الباحث يجزم بأن مذهب إسحاق جواز أخذ المعاوضة على الضمان؛ لأن قوله: ما أعطاه من شيء فهو حسن يدخل -كما قلنا- في باب المكافأة غير المشروطة، وليس على سبيل المعاوضة. وإذا كانت المكافأة على القرض من غير شرط ولا عرف مقبولة، فكيف بالضمان، فتأمل. ويؤيد ذلك أن ابن المنذر - رحمه الله - قال في المسألة: أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الحمالة بجعل يأخذه الحميل لا تحل، ولا تجوز، ثم نقل عبارة الإمام إسحاق، فلو كان رأي الإمام إسحاق خارقًا للإجماع ما صح من ابن المنذر أن يحكي الإجماع في الوقت الذي ينقل فيه الخلاف عن إسحاق والثوري، فصح أن رأي إسحاق محمول على رأي آخر لا يخرق الإجماع، وهو المكافأة الضمان. وأما نقل الماوردي لمذهب إسحاق فلم ينقل لنا عبارة الإمام إسحاق، وإنما نقل فهمه لعبارة إسحاق، جاء في الحاوي: "فلو أمره بالضمان عنه بجعل جعله له لم يجز، وكان الجعل باطلاً، والضمان إن كاْن بشرط الجعل فاسدًا، بخلاف ما قاله إسحاق بن راهوية؛ لأن الجعل إنما يستحق في مقابلة عمل، وليس الضمان عملًا فلا يستحق به جعلاً" (¬2). وهذه العبارة ليست صريحة؛ لأن كلمة بخلاف ما قاله إسحاق رجع إلى المسألة المتأخرة، فالماوردي قد ذكر مسألتين: ¬
المسألة الأولى
المسألة الأولى: بطلان الجعل وحده دون الضمان إذا كان الجعل غير مشروط في الضمان. المسألة الثانية: بطلان الضمان مع الجعل إذا كان الضمان بشرط الجعل. وهي التي أعقبها بمذهب إسحاق، فقوله: (بخلاف ما قاله إسحاق) يفهم منه رجوع الكلام إلى المسألة الأخيرة، وأن إسحاق يرى عدم بطلان الضمان إذا كان بشرط الجعل، وإنما يفسد الجعل وحده. والكلام يحتمله جدًا، وهو قول الثوري كما نقلت ذلك عنه قبل قليل. وإذا كان كلام إسحاق محتملاً فإنه لا يترك الإجماع المتيقن لعبارة محتملة، بل يحمل كلام الإمام إسحاق على ما يوافق الإجماع إذا كان تأويل الكلام يحتمله بدون تكلف، وهو ما أراه هنا، خاصة بعد أن وقفنا على عبارة الإمام إسحاق بنص عال جدًا في مسائله رواية تلميذه بلا واسطة، فهي مقدمة بكل حال على فهم الماوردي وغيره لو سلم هذا الفهم، والله أعلم. الدليل الثاني: أن الضمان قد يؤول. إلى أن يكون قرضاً جر نفعاً، وذلك أنه في حال أداء الضامن للمضمون له يكون الضامن مقرضًا للمضمون عنه، وبهذا يكون ما أخذه من عمولة من قبيل القرض الذي جر نفعاً، وهذا من الربا. جاء في المغني: "لو قال: اقترض لي من فلان مائة، ولك عشرة فلا بأس، ولو قال: اكفل عني، ولك ألف لم يجز؛ وذلك لأن قوله: اقترض لي، ولك عشرة جعالة على فعل مباح، فجازت، كما لو قال: ابن لي هذا الحائط، ولك عشرة. وأما الكفالة، فإن الكفيل يلزمه الدين، فإذا أداه وجب له على المكفول
ونوقش هذا
عنه، فصار كالقرض، فإذا أخذ عوضًا صار القرض جارًا للمنفعة، فلم يجز" (¬1) ونوقش هذا: بأن هذا الاستدلال وجيه لو كان التكييف الفقهي للأجر على الضمان بأنه عوض عن الدين المكفول به إذا أداه الضامن لرب الدين، أما إذا كان العوض في الضمان عن الالتزام بالدين، سواء أدَّاه الكفيل فيما بعد أم أدَّاه المكفول فلا يقال: إنه قرض جر نفعاً. وذلك أن الكفالة بالمال فيها ثلاثة أمور: - التزام الكفيل بالدين أو المطالبة به. - أداء الكفيل بالدين المكفول به إلى ربه. - رجوع الكفيل على المكفول بما أدى عنه إن وقع ذلك. فأخذ العوض إنما هو في مقابل الالتزام، وليس في مقابل أداء الكفيل للدين بدليل أن العوض مستحق مطلقًا، سواء أدى الكفيل الدين أو أداه صاحبه، فلو قام المكفول بأداء دينه للمكفول له برئت ذمته منه، ولم تنشأ مداينة أصلاً بينه وبين الضامن، وعندئذ فلا حرج شرعاً في استحقاق الضامن الجعل المشروط عوضًا عن مجرد الالتزام بالدين لانتفاء الربا وذرائعه وشبهته، وكذا لو كان الكفيل مدينًا للمكفول بمثل المال المضمون، وهو ما يسمى بالضمان المغطى، فإنه لا يوجد قائل بأنه لا يجوز أخذ العوض في هذه الحال، وكل ذلك يدل على ¬
ويجاب بثلاثة أجوبة
أن أخذ العوض لم يكن في مقابل أداء الكفيل للدين، وإنما هو في مقابل الالتزام. جاء في الهداية في تعريف الكفالة، قال: "هي ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة، وقيل: في الدين. والأول أصح" (¬1). وعلل الحنفية ذلك بتعاليل منها: أن الكفالة كما تصح بالمال تصح بالنفس، مع أن الكفالة بالنفس لا يوجد فيها دين، وإنما فيها مجرد الالتزام. ولأنه لو ثبت الدين في ذمة الكفيل، ولم يبرأ الأصيل صار الدين الواحد دينين (¬2). ويجاب بثلاثة أجوبة: الجواب الأول: لو قلنا بانفكاك أخذ العوض على الالتزام بالدين عن تحمل الدين نفسه لقلنا بجواز أخذ العوض على الالتزام بالقرض في حالة الوعد الملزم بالقرض، وانفكاكه عن القرض نفسه، وهذا لا قائل به. فلا يمكن القول بأن الالتزام بالدين منفك عن الدين، إذ لا يوجد التزام بالدين بلا وجود دين؛ لأن الالتزام فرع الدين، فلا يتصور الفرع بدون الأصل، فلزم من ثبوت الالتزام بالدين ثبوت الدين في ذمة الكفيل، وأخذ العوض عن الالتزام بالدين، هو عين أخذ العوض عن أداء الدين؛ لأن الالتزام فرع الدين. ¬
الجواب الثاني
الجواب الثاني: بأن أخذ العوض عن مجرد الالتزام لا يجوز؛ وهو من أكل أموال الناس بالباطل؛ لأنه في غير مقابل، وهذا ما سوف نذكره ونناقشه في الدليل القادم إن شاء الله تعالى. الجواب الثالث: أن الإِسلام لم يحرم الربا الصريح فقط، يل حرم كل طريق يؤدي إليه، فقد حرم العينة مع أن البيع الثاني قد لا يكون مشروطًا في البيع الأول، وقد يقع ذلك من غير اتفاق وإنما حرم ذلك خشية أن يؤدي ذلك إلى الربا الصريح، وعندما نهى الشارع عن الجمع بين سلف وبيع، حرم ذلك لئلا يكون هناك محاباة في البيع، فيكون النفع من القرض مستترًا في عقد البيع، مع أنه في البيع المنفرد له أن يحابي من يشاء لعدم الوقوع في المفسدة، فكذلك الشأن هنا، فإذا كان ذلك قد يؤدي إلى أن ينتفع الضامن بسبب القرض قطع الشارع الطريق إلى ذلك، والله أعلم. الدليل الثالث: أن أخذ العوض على الضمان إذا لم يؤد إلى إقراض المضمون عنه فإنه من أكل أموال الناس بالباطل؛ لأنه مال أخذ دون مقابل، وهذا لا يجوز. جاء في الشرح الصغير: "وعلة المنع أن الغريم إذا أدى الدين لربه كان الجعل باطلاً فهو من أكل أموال الناس بالباطل، وإن أداه الحميل لربه، ثم رجع به على الغريم كان من السلف بزيادة ... " (¬1). ¬
ويناقش
وجاء في الحاوي: "الجعل إنما يستحق في مقابل عمل، وليس الضمان عملاً، فلا يستحق به جعلاً" (¬1). ويناقش: بأن الضمان له قيمة شرعية، فالمال ليس محصورًا في الأعيان فقط، وإنما يشمل الأعيان والمنافع، والضمان مشتمل على منفعة مقصودة، بدليل حديث الخراج بالضمان، وهو حديث وإن كان فيه كلام إلا أن العمل عليه، وسبق تخريجه، وقد دل هذا الحديث بأن الضمان له قيمة مالية، فقوله - صلى الله عليه وسلم - (الخراج) يراد به: ما يخرج ويحصل من غلة العين، وذلك بأن يشتري الرجل سلعة، فيستغلها زمنًا، ثم يظهر أن السلعة مستحقة لآخر فيتبين أن العقد باطل، فيجب عليه رد العين، وأخذ الثمن، ويكون للمشتري ما استغله؛ لأن المبيع لو تلف في يده لكان من ضمانه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (بالضمان) الباء سببية، أي أن استحقاق الخراج كان بسبب الضمان. وهذا التلف احتمالي، وقد يكون نادرًا، ومع ذلك فالخراج مستحق له بسبب أنه شغل ذمته بالضمان لهذا الخطر الاحتمالي النادر. وهو ضمان مجرد ما دام أن السلعة قد تحقق، وهو يردها أنها تتعرض لأي نقص، ومع ذلك فقد استحق هذا الخراج بمجرد هذا الضمان، فدل على أن التزام الضمان له قيمة مالية مقصودة، وأنه يسوغ بذل العوض في مقابل تحصيله إذا لم يترتب على ذلك محذور شرعي آخر غير العوض على الضمان. ومع قولي ذلك فإن الخراج بالضمان مشروط بأن لا يترتب على ذلك محذور ¬
الدليل الرابع
شرعي من كون أخذ العوض على الضمان يؤدي إلى قرض جر نفعًا، فإذا لم يؤد إلى ذلك فلا أرى مانعًا كما سيتضح ذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام على القول الراجح. الدليل الرابع: أن الضمان والجاه والقرض من صنف القرب، وأبواب المعروف التي لا تفعل إلا لله فلا يجوز أخذ العوض عليه. قال الدردير: "وأما صريح ضمان بجعل فلا خلاف في منعه؛ لأن الشارع جعل الضمان والجاه والقرض لا تفعل إلا لله تعالى، فأخذ العوض عليها سحت" (¬1). وجاء في التاج والإكليل نقلاً عن الأبهري أنه قال: "لا يجوز ضمان بجعل؛ لأن الضمان معروف، ولا يجوز أن يؤخذ عوض عن معروف وفعل خير، كما لا يجوز على صوم ولا صلاة؛ لأن طريقها ليس لكسب الدنيا" (¬2). ويناقش: أما ما نقله الدردير - رحمه الله - من أن الضمان والجاه والقرض لا تفعل إلا لله، فنأخذها واحداً واحدا: أما القرض، فإنه يجوز أن يفعل لله، ويجوز أن يفعل لغير وجه الله، ولكن لا يجوز أخذ العوض عن القرض لأن ذلك يؤدي إلى الربا. (ث-158) فقد روى مالك في الموطأ بلاغًا عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: السلف على ثلاثة وجوه: سلف تسلفه تريد به وجه الله، فلك وجه الله، ¬
وسلف تسلفه تريد به وجه صاحبك، ذلك وجه صاحبك، وسلف تسلفه لتأخذ خبيثًا بطيب فذلك الربا. .. (¬1). [الأثر ضعيف، ومعناه صحيح]. وإذا كان القرض يجوز ألا يراد به وجه الله، كما لو أراد المقرض بذلك وجه صاحبه فالضمان يجوز ألا يراد به وجه الله من باب أولى. وأما أخذ العوض عن الجاه ففيه خلاف بين أهل العلم، وقد رجح الإمام أحمد - رحمه الله - جواز أخذ العوض عنه مطلقًا، ومنهم من أجازه إن بذل فيه مجهودًا ولو يسيرًا. وسيأتي مزيد كلام عليه ضمن أدلة المجيزين، فيؤجل الكلام عليه. وأما قياس الضمان على الصوم والصلاة بكونه لا يجوز أخذ العوض عليهما فلا أدري ما وجه الشبه بين الضمان وبين الصوم والصلاة، فلا توجد علة أو حكمة مشتركة بينهما حتى يصح القياس، بل الظاهر أن بينهما قياسًا عكسيًا لا طرديًا، فإذا منع الأجر في الصلاة والصوم؛ لأنهما واجبان، فينبغي أن يجوز في الضمان؛ لأنه غير واجب (¬2). يقول الدكتور نزيه حماد: "قياس الأبهري من المالكية عدم جواز أخذ الأجر على الضمان على عدم جوازه على الصوم والصلاة غير سديد، وهو قياس مع الفارق، إذ الصوم والصلاة من أركان الإِسلام، والفرائض العينية على المكلف، وإنها لتجب حقًا محضًا لله - عز وجل -، ولا تقبل عند الله إلا إذا أديت خالصة لوجهه، أما كفالة الغير بالمال فليست كذلك بيقين، ولا يجب على المسلم شرعًا أن يضمن ديون الناس كلما طلب منه ذلك" (¬3). ¬
الدليل الخامس
والقول بعدم جواز أخذ العوض عن المعروف والقرب فيه نظر، فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جواز اشتراط الأجر على الرقية بالقرآن (¬1)، وهي قربة من القرب، وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أنكح أحد أصحابه بما معه من القرآن. (ح-857) فقد روى البخاري من طريق مالك، عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله إني قد وهبت لك من نفسي فقال رجل زوجنيها قال: قد زوجناكها بما معك من القرآن. ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬2). وتعليم القرآن قربة، وقد جعله صداقًا للمرأة في مقابل منفعة بضع المرأة، وهو عرض دنيوي. الدليل الخامس: استدل المانعون بأن الأصل في الكفالة أنها من عقود التبرعات، واشتراط الجعل فيها للضامن يخرجها من باب التبرعات إلى المعاوضات، فكان ذلك غير جائز. وقد ناقش ذلك الدكتور نزيه حماد، وبين أن الفقهاء قد اختلفت تفسيراتهم بقولهم: إن الكفالة تبرع، وذلك على اتجاهين: الاتجاه الأول: فسر التبرع بأن الكفيل متبرع لا بالالتزام فحسب، وإنما بالمال الذي دفعه نيابة عن المكفول، فلا يرجع على المكفول بما أداه عنه، كما فعل أبو قتادة - رضي الله عنه - في كفالته لدين المتوفى حين امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على ¬
الميت (¬1)، فإنه لو كان يستحق الرجوع لكانت ذمة الميت مشغولة بدينها كاشتغالها بدين المضمون له (¬2). وتفسير الضمان بأنه تبرع بأداء الدين غير صحيح، فإن جماهير العلماء يقولون بأن الكفيل إذا أدى الدين بأمر المكفول، أو أداه بنية الرجوع فإن له أن يرجع، ولا يعتبر بهذه الحال متبرعًا. وقال النووي في الروضة: "لا يصح ضمان المحجور عليه لسفه وإن أذن الولي؛ لأنه تبرع، وتبرعه لا يصح بإذن الولي. كذا قال الإمام والغزالي: إن الضمان تبرع، وإنما يظهر هذا حيث لا رجوع، وأما حيث ثبت الرجوع فهو قرض محض" (¬3). وجاء في فتح العزيز: "واعلم أن القول يكون الضمان تبرعًا إنما يظهر حيث لا يثبت الرجوع، فأما حيث ثبت فهو إقراض، لا محض تبرع" (¬4). ¬
الاتجاه الثاني
الاتجاه الثاني: أن المراد بالتبرع أن يكون متبرعًا بالالتزام، وليس بما يؤدي من مال. وهذا الاتجاه ظاهر في كلام الجمهور (¬1). قال ابن قدامة في تعريف الضمان: بأنه "تبرع بالتزام مال" (¬2). وعلى فرض أن الضمان الأصل فيه التبرع، فإن التبرع ليس ضربًا لازمًا، فإنه يجوز أن يعطي الضامن الضمان ويريد به التبرع، ويجوز له أن لا يريد به ذلك، فالهبة وهي أساس عقود التبرعات قد أجاز الجمهور فيها العوض، وهو ما يعرف بهبة الثواب. يقول ابن رشد: "وأما هبة الثواب فاختلفوا فيها، فأجازها مالك، وأبو حنيفة، ومنعها الشافعي، وبه قال أبو داود وأبو ثور" (¬3). فإذا صح ذلك في الهبة، وهي أصل تصرفات التبرع. ففي سواها ينبغي أن يكون الشأن أجوز (¬4). الدليل السادس: أن اشتراط الأجر على الضمان يؤدي إلى الوقوع في الغرر، وهو ممنوع شرعًا. وجه ذلك ما قاله التاودي: "إذا تحمل بمائة على أن يعطيه عشرة، قد يعدم المدين فيخسر الضامن تسعين، وقد يؤدي فيربح العشرة" (¬5). ¬
ويجاب عن ذلك
ويجاب عن ذلك: بأن المضمون إذا أعسر لم يسقط الدين، وإنما يكون مؤجلاً إلى ميسرة، وهذا بأمر الشارع، قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ولو كان مثل ذلك يمنع المعاملة لمنع الدين مطلقًا؛ لأن الديون كلها يتطرق إليها هذا الاحتمال، فإذا أعسر المدين ذهبت على صاحبها. دليل من قال: يجوز أخذ العوض على الضمان: الدليل الأول: لا يوجد دليل صحيح صريح من كتاب، أو من سنة يحرم أخذ العوض على الضمان، ولا يوجد محذور شرعي في أخذ العوض على الضمان، كما لا توجد مصلحة شرعية في تحريمه، بل إن المصلحة في إباحته وحله، وصحته، والأصل في المعاملات الإباحة والصحة، ولا يحرم منها إلا ما يقوم الدليل الخاص على تحريمه. ويقول الشيخ علي الخفيف: "ليس هناك دليل من الكتاب أو السنة يبين ما يجوز أخذ العوض فيه، وما لا يجوز أخذ العوض فيه، ومرجع الفقهاء في هذا المجال هو الاجتهاد. وللعرف في ذلك أثر كبير، ومن ثم كان اختلافهم في أمور كثيرة جوز بعضهم أخذ العوض فيها، فأجازوا فيه المعاوضة، وخالفهم غيرهم فلم يجيزوا أخذ عوض عنها، ورأوا فساد المعاوضة فيها، وقد نص الفقهاء على أن المالية تثبت بتمويل الناس، فلا حرج من أن نجوّز ذلك تأسيسًا على أنه أمر تدعو إليه المصلحة، ولم يرد نص شرعي يمنعه، فهو على الإباحة الأصلية، فكيف إذا دعت إليه المصلحة، فهو إذن إلى المندوب أقرب منه إلى المباح" (¬1). ¬
ويناقش
"والذي دفع الفقهاء المتقدمين إلى القول بتحريم أخذ العوض على الضمان هو العرف العملي، فالمعاملات كانت بسيطة، وتتم في أسواق محصورة، وبين أناس يعرف بعضهم بعضًا، ولم تتسع المعاملات وتتعقد بالصورة التي عليها اليوم من حيث حجم العمل، ومن حيث المدى الجغرافي بحيث يضطر الإنسان إلى أن يتعامل مع أشخاص ومؤسسات في الداخل والخارج، وهو لا يعرفهم، بل يتم عن طريق المراسلات في كثير من الأحيان" (¬1). ويناقش: بأن المعترض يرى أن الإجماع قد قام على تحريم أخذ العوض على الضمان خاصة في الضمان إذا كان يؤول إلى القرض، ولم يكن مستند القائلين بالتحريم هو العرف، بل نصوا على أن ذلك يؤدي إلى الوقوع في الربا، نعم بعض التعاليل في التحريم لم تكن قوية، كالتعليل بأن الضمان معروف يقصد به القربة، أو أنه تبرع، ولكن رد بعض هذه التعاليل لا يحمل الباحث على رد كل التعاليل؛ لأن التعليل بالوقوع في الربا ظاهر. ولم يعتمد القائل بالجواز على قول أحد من أهل العلم المتقدمين حتى يمكن النظر فيه، وليست هذه المسألة من النوازل حتى يعتبر خلاف المتأخر، وإنما هي معاملة قديمة قد تكلم فيها الفقهاء، ولا يجوز الخروج عن إجماعهم. الدليل الثاني: القياس على جواز أخذ العوض على الجاه، فإذا جاز أخذ العوض على الجاه جاز أخذ العوض على الضمان؛ لأن الجاه شقيق الضمان. ¬
وقد ذهب الحنابلة والشافعية إلى جواز أخذ العوض على الجاه مطلقًا. جاء في المغني: "لو قال: اقترض لي من فلان مائة، ولك عشرة فلا بأس ... لأن قوله: اقترض لي، ولك عشرة جعالة على فعل مباح، فجازت، كما لو قال: ابن لي هذا الحائط، ولك عشرة" (¬1). وجاء في المبدع: "إذا قال: اقترض لي مائة، ولك عشرة صح؛ لأنه في مقابلة ما بذل من جاهه" (¬2). وجاء في فتاوى النووي: "أنه سئل عمن حبس ظلمًا، فبذل مالاً فيمن يتكلم في خلاصه بجاهه وبغيره، هل يجوز؟ وهل نص عليه أحد من العلماء؟ فقال: نعم يجوز، وصرح به جماعة منهم القاضي حسين، ونقله عنه القفال المروزي، قال: وهذه جعالة مباحة، وليس هو من باب الرشوة، بل هذا العوض حلال كسائر المباحات" (¬3). وفي مذهب المالكية لهم تفصيل في أخذ العوض على الجاه: جاء في المعيار "سئل أبو عبد الله القوري عن ثمن الجاه، فأجاب بما نصه: اختلف علماؤنا في حكم ثمن الجاه، فإن قائل بالتحريم بإطلاق، ومن قال بالكراهة بإطلاق، ومن مفصل فيه: وأنه إن كان ذو الجاه يحتاج إلى نفقة أو مشقة، أو مسعى، فأخذ أجر مثله، فذلك جائز، وإلا حرم" (¬4). ولا شك أن الضمان اليوم خاصة الضمان المصرفي يحتاج إلى نفقة ومشقة، ¬
ويناقش
حيث أصبح الضمان اليوم له مؤسساته القائمة والتي ينفق عليها الأموال الطائلة باستخدام أحدث الأساليب الفنية والتنظيمية، وأحدث الأدوات والآلات لتوفير متطلبات الدقة والسرعة، وتوظيف الطاقات من الرجال الأكفاء القائمين على إدارة مثل هذه الخدمات، فأخذهم الأجر على الضمان مقابل ما أنفقوه من أموال وجهود مع زيادة ربح يليق بمثل هذا العمل، ويدفعهم للاستمرار فيه من الأمور الجائزة. ويناقش: لا شك عندي أن جواز أخذ العوض على الجاه دليل على جواز أخذ العوض على الضمان في حال لم يؤد أخذ العوض على الضمان إلى قرض جر نفعاً، كما سيأتي بيان ذلك عند الترجيح؛ لأن أخذ العوض على الجاه لا يؤول إلى أخذ زيادة على القرض؛ لأنه ليس فيه مدين أصلاً. وأما حاجة الناس اليوم إلى الضمان، وخاصة الضمان المصرفي فإن فيه مخرجاً شرعيًا لقيام مثل هذه المصلحة، وهو أن يكون الضمان مغطى، سواء قلنا: إن العقد في هذه الحال وكالة، وأخذ الأجر على الوكالة لا حرج فيه، أو قلنا: إن العقد هو عقد ضمان، ولكنه لا يؤول إلى قرض، فلا يخشى منه الوقوع في الربا. يقول الشيخ المترك: "والذي أرى أنه إذا كان الضمان مسبوقًا بتسليم جميع المبلغ المضمون للمصرف، أو كان له غطاء كامل، فلا يظهر في أخذ الجعالة عليه شيء؛ لأن العمولة التي يأخذها المصرف في هذه الحالة مقابل خدماته كالعمولة التي تؤخذ من قبله في عملية التحويل بالشيكات؛ لأن هذه العمليات ليست مقابل عملية قرض، ولا ما يؤول إلى قرض؛ لأن المصرف لا يدفع من ماله شيئًا، وإنما يدفع ما التزمه بموجب الضمان من مال المضمون عنه الموجود
الدليل الثالث
لديه، أما إذا كان خطاب الضمان غير مغطى، فلا أرى جواز أخذ الجعالة عليه؛ لأن هذا الضمان قد يؤدي إلى قرض جر فائدة، والربا أحق ما حميت مراتعه، وسدت الطرائق المفضية إليه" (¬1). الدليل الثالث: أجاز الحنفية والحنابلة أخذ الربح مقابل الضمان، حيث أجازوا شركة الوجوه، وهي شركة على الذمم من غير صنعة ولا مال، حيث يتعاقد اثنان فأكثر بدون رأس مال على أن يشتريا نسيئة، ويبيعا نقدًا، ويقتسما الربح بينهما بنسبة ضمانهما للثمن (¬2)، ويتخرج على مذهبهم أنه لو اشترك وجيه مع آخر على الضمان، والربح مناصفة، ولم يشتر الثاني ولم يبع شيئًا، فإنه يستحق الربح لمجرد الضمان (الذي هو مجرد التزام مال في الذمة) بدون بذل مال أو عمل، وقد جاء في مجلة الأحكام العدلية: "استحقاق الربح في الوجوه إنما هو في الضمان" (¬3). ويناقش: بأن الضامن لو دخل شريكًا للمضمون عنه، وصار شريكًا في الأرباح والخسائر، فإنه لا حرج في ذلك، وإنما الحرج في أخذ العوض في مقابل الضمان سواء ربح المضمون عنه أو خسر فإن ذلك يترتب عليه محذور شرعي في حال قام الضامن بالسداد، وكما لو قال: اضمني وأضمنك؛ لأنه في الحالتين يؤول إلى قرض جر نفعاً. وعليه يحمل الإجماع الوارد عن الفقهاء. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: ذهب المالكية على المشهور في المذهب أنه يجوز شرعًا أن يجعل رب الدين أو غيره للمدين جعلًا إن جاءه بضامن يكفل دينه. قال في الشرح الكبير: "وإن كان الجعل من رب الدين أو من أجنبي للمدين على أن يأتيه بحميل فإنه جائز" (¬1). فلولا أن مجرد التزام الكفيل بالدين له قيمة مالية في ذاته لما جاز أن يبذل رب الدين أو الأجنبي الجعل للمدين في مقابل تقديم كفيل بدينه، صحيح أن آخذ الجعل في هذه الصورة هو المدين، وليس الكفيل، ولكنها تشهد لكون الالتزام في عقد الكفالة مما يصح بذل المال في مقابلته، والجعل من أجله (¬2). ويناقش: لا شك عندي أن المال الذي دفعه الدائن أو الأجنبي للمدين إنما مقصوده وكل سعيه أن يشتري الضمان، وهو المقابل لما دفعه من أجر، وليس هو شيئًا عند المدين؛ لأنه لو رضي بالمدين فلا حاجة له بدفع العوض؛ لأن الحق متعلق بذمته ابتداء، لكن قيمة الضمان الذي اشتراه هنا لم يذهب إلى الضامن، وهو دليل على جواز دفع الأجر على الضمان إذا لم يؤد إلى الربا، بأن يؤول إلى قرض يجر نفعًا. دليل من قال: يجوز العوض على الضمان بشرط أن يغطى كله أو بعضه. القول بهذا التفصيل بناء على أن خطاب الضمان إن كان بغطاء كلي فهو ¬
الراجح من الخلاف
وكالة، أو كان بغطاء جزئي فهو ضمان ووكالة، ويجوز أخذ الأجر على الوكالة، وإن كان بغير غطاء فهو كفالة (ضمان)، ولا يجوز أخذ العوض على الكفالة. وقد ناقشت هذا القول بالمبحث السابق فأغنى عن إعادته هنا. الراجح من الخلاف: أرى أن أخذ العوض على الضمان إذا لم يترتب على ذلك محذور شرعي لا مانع من جوازه، وإذا ترتب على ذلك محذور شرعي منع لا من أجل الضمان، ولكن لأن المعاملة تؤدي إلى الوقوع في ذلك المحذور، كما لو كان الضمان للدين، فإنه قد يؤدي إلى أن يكون قرضًا جر نفعًا في حال عجز المدين عن السداد، وأدى الضامن الدين نيابة عن المضمون. وينبغي أن يكون المنع في هذه الصورة محل اتفاق بين الفقهاء حيث لم يخالف في ذلك أحد من العلماء المتقدمين، ومن حكا من المتأخرين جوازه فهو محجوج بالإجماع، وما حكي عن إسحاق بن راهوية فلا أظن أنه يخرق الإجماع لعدم فهم المتأخرين لقول إسحاق، وربما كان العذر للمشايخ أنهم لم يقفوا على عبارة إسحاق، أما وقد طبع كتاب مسائل الإمام أحمد وإسحاق رواية الكوسج فأعتقد أن كثيراً منهم سوف يراجع قوله. وهذا هو الظن فيهم. وبناء على هذا فيجوز أخذ العوض على الضمان إذا كان الضمان تبعًا، ولم يكن مفردًا بالذكر، ولا مخصوصًا بالأجر. كما لو اشترى الإنسان سلعة، وكانت مضمونة لمدة معينة مقابل زيادة في القيمة، فإن الضمان هنا تابع، وليس مستقلًا فلا أرى مانعًا من جواز تلك الزيادة مقابل الضمان. كذلك يجوز أخذ العوض على الضمان إذا لم يكن ناشئًا عن دين أصلاً،
وذلك مثل تغطية الإصدار في طرح الاكتتاب، ومثل الضمان في عقود التأمين القائم على جبر الأضرار، فإن الضمان في هذه الصور لم يكن ناشئًا عن دين. كذلك يجوز أخذ العوض على الضمان فيما لو كان الكفيل مدينًا للمكفول بمثل المال المضمون، وهو ما يسمى بالضمان المغطى، فإن هذا لا يؤول إلى قرض جر نفعاً. سواء سمينا هذه الصورة بالضمان، أو اعتبرناها وكالة بالدفع، وإن كنت أميل إلى اعتبار العقد من عقود الضمان؛ لأن الضمان في حالة كون قيمته مغطاة لا يخرج عن الضمان لسببين: أحدهما: أن الوكالة عقد جائز، وهذا عقد لازم. الثاني: أن العلاقة بين المستفيد وبين البنك علاقة ضمان، وليست علاقة وكالة، بدليل أن المبلغ الذي دفع إلى المصرف لو أنه هلك بدون تعد ولا تفريط لم يسقط حق المستفيد، ويبقى البنك مطالبًا بالدفع، بينما لو هلك المال في يد الوكيل بدون تعد ولا تفريط لم يكن الوكيل مطالبًا بالدفع. والله أعلم.
المبحث الثامن في البطاقات الائتمانية
المبحث الثامن في البطاقات الائتمانية الفرع الأول في التعريف بالبطاقات الائتمانية الائتمان: يطلق على الثقة التي يمكن أن تنتج قرضًا، وعلى القرض نفسه، وعلى المهلة الممنوحة لهذا القرض. تعريف بطاقات الائتمان (¬1): أدعو القارئ الكريم أن يتعرف معي على البطاقة الائتمانية من حيث الشكل، ¬
الأول: التعريف بالبطاقة الائتمانية من حيث الشكل
ثم نأتي إلى تعريف الائتمان كمفردة، وكمصطلح مصرفي. الأول: التعريف بالبطاقة الائتمانية من حيث الشكل: البطاقة من حيث الشكل عبارة عن قطعة من البلاستيك مستطيلة الشكل مصنوعة من مادة كلوريد الفينيل المتعدد وغير المرن، مقاساتها طبقًا للقواعد الدولية كالتالي: (8.572) سم للطول 403 , 5 سم للعرض، سمكها 0.8 مم ولها خصائص طبيعية منها: عدم قابليتها للاشتعال، ومقاومة للمواد السامة والمنتجات الكيماوية، وتثبت في وجه العوامل الجوية، مثل الرطوبة، والضوء (¬1). والبطاقة ذات وجهين: الوجه الأول: ويبرز عليه اسم الجهة المصدرة، وعلامتها، واسم حال البطاقة، ولقبه، وغالبًا صورته أيضًا، وتاريخ إصدار البطاقة، ونهاية صلاحيتها، ورقم البطاقة الذي يشتمل على ثلاثة عشر رقمًا، أو ستة عشر رقمًا من اليسار إلى اليمين: ¬
الوجه الثاني للبطاقة
من (1 - 5) رقم البنك في عضوية البطاقة، وهو رقم ثابت في كل البطاقات. والرقم (6) لنوع البطاقة. ومن (7 - 9) كود رقم الفرع. ومن (10 - 15) الرقم المسلسل للبطاقة، وبحسب كل فرع. والرقم (16) لعملية الإدخال على الحاسب الآلي لمركز البطاقات. وفي بطاقة المستر كارد تدل الأرقام (1 - 6) على الجهة المصدرة. ومن (7 - 10) تشير إلى المنطقة والفرع. ومن (11 - 15) تشتمل على بيانات حامل البطاقة. والرقم الأخير (16) رقم الأمن. الوجه الثاني للبطاقة: وهو الوجه الخلفي للبطاقة، وتسجل عليه البيانات المشفرة الخاصة بالحساب بشريط ممغنط أسود اللون، يليه شريط ورقي أبيض اللون مخصص لتوقيع حامل البطاقة للتحقق من صحتها عن طريق الآلات المعدة لذلك الغرض، ويعطى العميل مع البطاقة رقم سري خاص به في مظروف مغلق، ويسمى الـ (PLN) أي رقم التعرف الشخصي (¬1). وبهذا نكون قد عرفنا البطاقة من حيث اللغة، ومن حيث الشكل. ¬
الثاني: التعريف بالائتمان اصطلاحا
الثاني: التعريف بالائتمان اصطلاحًا (¬1): لا أعرف تعريفًا للائتمان في لغة الفقهاء المتقدمين، وإنما ورد إلينا من خلال ترجمة كلمة (Credit) ، وهي كلمة ذات أصل لاتيني، يدور معناه على الثقة والتصديق. وأصبح لهذه الكلمة مصطلح اقتصادي له دلالته. فالائتمان يطلق في الاقتصاد ويراد به أكثر من معنى: فتارة يطلق ويراد به الثقة التي يضعها الدائن في المدين والتي يمكن أن تنتج قرضاً (¬2). وهو بهذا المعنى يطلق على حساب مكشوف يمنحه البنك لشخص ما. ويطلق الائتمان أيضًا ويراد به قدرة الشخص أو الشركة أو الحكومة على الحصول على الأموال عن طريق الاقتراض عند الحاجة، ولو لم يقترض. كما يطلق الائتمان على الأموال المقترضة، وهنا يكون مرادفًا أو معادلاً لكلمة (قرض). كما يطلق الائتمان على المهلة الممنوحة من الوقت يلتزم المدين عند انتهائها بدفع قيمة الدين. فصار الائتمان يطلق على الثقة التي يمكن أن تنتج قرضاً، وعلى القرض نفسه، وعلى المهلة الممنوحة لهذا القرض (¬3). ¬
اعتراض وتعقيب
وقد عرفه بعضهم: بأن الائتمان: هو تمويل نفقات الآخرين بطريق مباشر، أو بطريق غير مباشر، مقابل سداد في المستقبل. ويقصد بالتمويل المباشر: الإقراض النقدي، وغير المباشر: تقديم السلع مقابل دفع القيمة في وقت لاحق (¬1). اعتراض وتعقيب: انتقد الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان إطلاق الائتمان على هذه البطاقات، ويرى أن الترجمة الصحيحة لهذه البطاقات أن تسمى (بطاقات الإقراض البنكية والسحب المباشر من الرصيد). ويستند في هذا على أمرين: الأول: أن من البطاقات ما لا تستخدم للائتمان، مثل بطاقة السحب المباشر من الرصيد إذ ليس فيها أي اقتراض، وإنما هي بطاقات أعدت للوفاء والسحب المباشر من الرصيد، وهذا النوع لا يمكن اعتباره من بطاقات الائتمان لاشتراط المصرف وجود رصيد عنده. وتعقب: بأن بطاقات السحب المباشر من الرصيد لا تعد من بطاقات الائتمان في الاصطلاح المصرفي، ولا تطبق عليها أحكام بطاقات الائتمان. الثاني: أن بطاقات الائتمان يجب أن تسمى بطاقات القرض لأن البطاقة تسمى في اللغة الإِنجليزية (Credit) وعند الرجوع إلى معنى كملة (Credit) في المعجم الانجليزي نجد أن لها عدة معان: ¬
"تطلق غالباً على: شرف الشخص، واعتزازه، وانتمائه. الاعتراف بكفاءته. سمعته الطيبة. المبدأ والثقة. ملاءته ورصيده في البنك مما هو تحت تصرفه. قدرته على الحصول على حاجياته قبل دفع الثمن بناء على الثقة بوفائه بالدفع. كما استند الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان إلى ترجمة (Credit Card) بمعناها المركب، فقد ورد في قاموس أكسفورد، بأنها: البطاقة الصادرة من بنك أو غيره تخول حاملها الحصول على حاجياته من البضائع دينًا. كما استند في ذلك على قانون الحكومة الفدرالية حيث فسرت معنى، Credit بأنها تعني منح دائن لشخص قرضاً مؤجل التسديد. كما أن أطراف عقد هذا النوع من البطاقات يسمى مقرضًا ومقترضًا، لذا يرى الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان أن العنوان السليم المناسب لهذا النوع من البطاقات هو بطاقات (الإقراض) وتسمية القرض بالائتمان في الواقع لا تدل على حقيقة الوصف الذي يجب أن توصف به هذه البطاقة، ولا تلفت الانتباه إلى القرض الذي يتحمله حاملها والفوائد الربوية التي تؤخذ عليه مقابل إقراضه (¬1). وينتقد الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان المصطلح الاقتصادي العربي لكونه تفادى استعمال كلمة قرض التي هي أدل على المعنى والحقيقة إلى عنوان أقل ما ¬
وتعقب هذا
يقال فيه: إن معناه ملتبس على كثير من الناس ولا يدْرَك المقصود منه في الاستعمال اليومي، ولا يعلم السبب في هذا العدول، وأما قول بعضهم بأن لكل علم مصطلحاته، ولا مشاحة في الاصطلاح، فيقال: لا ينبغي أن يخرج المصطلح عن معاني اللغة وطرائقها، وإذا أضفنا إلى هذا أن لكلمة (القرض) منطوقًا ومفهومًا دلالتها وأحكامها الشرعية التي ينبغي أن يحافظ عليها تفاديًا للبس المفاهيم، واختلاطها لتبينت أهمية تقيد المصطلح باللغة وطرائقها. وعندما يذكر القرض باسمه وعنوانه الصريح المألوف فإن أحكامه معلومة لدى المسلم من الدين بالضرورة، فينبغي الالتزام به، وبخاصة من فئة علماء الاقتصاد الإِسلامي. يقول العلامة ابن القيم - رحمه الله -: الاصطلاحات لا مشاحة فيها إذا لم تتضمن مفسدة. وتحقق المفسدة هنا جلي واضح في صرف أنظار الأمة عن أحكام الإقراض وآثاره الشرعية، وأضراره الاجتماعية والاقتصادية بما يترتب عليه من زيادات وعمولات ربوية محرمة، أقل ما يقال فيه: إنه يزيل لقباً شرعيًا اصطلح عليه، ويكون من قبيل تسمية الأشياء بغير أسمائها حتى لا يلتفت إلى حكمها الشرعي (¬1). وتعقب هذا: بأن هناك فرقًا بين القرض والائتمان: فالمقترض يعطى المال مباشرة، وفي الائتمان يعطى الشخص القدرة على الاقتراض، فإن احتاج اقترض وإلا ترك. ¬
الثاني: يحصل المقترض على القرض دفعة واحدة بخلاف الائتمان فإنه يأخذ منه على دفعات حسب حاجاته المتجددة. الثالث: أن القرض يثبت في ذمة المقترض كاملاً من حين القرض وتسري على جميعه الفوائد بمجرد إتمام العقد بخلاف الائتمان فإنه لا يثبت في ذمة من منح الائتمان إلا ما تم صرفه، وإن كان هناك فوائد فلا تسري إلا على المبلغ المسحوب فقط ولا تسري فوائد على الحد الائتماني الممنوح. الرابع: يقابل القرض في الإِنجليزية (Loan) ويقابل الائتمان (Credit) (¬1) . واختار بعض الباحثين أن يسميها البطاقات البنكية: لتشمل جميع أنواع البطاقات: بطاقة السحب، وبطاقة الائتمان، وغيرها من البطاقات (¬2). فتبين بهذا أن الائتمان ليس هو القرض، وإنما معناه الثقة التي يمنحها المصرف لعميله والتي يمكن أن تنتج قرضاً، نتيجة لسمعتة الطيبة، وشرفه، والثقة به، وملاءته، وكل هذه المعاني وردت في ترجمة كلمة (Credit) ولذلك كان القرض تابعًا لتلك الثقة ونتيجة لها، وليس هو الائتمان، فالبنك يعتمد في إصدار البطاقة على الثقة في العميل وسمعته الطيبة، وشرفه وفضله، فإذا أمعنا النظر في هذه المعاني ترى أن لها صلة وثيقة ببطاقة الائتمان (¬3). ¬
التعريف الاصطلاحي لبطاقة الائتمان كجملة مركبة
التعريف الاصطلاحي لبطاقة الائتمان كجملة مركبة: للبطاقة تعريفات كثيرة، وقد عرفتها بما استفدته من مجموع تلك التعريفات بما يلي: بأنها أداة دفع وسحب ائتماني غير إلزامية وذات صلاحية محددة وسقف محدود، وغير قابلة للتحويل يصدرها بنك تجاري أو مؤسسة مالية تمكن حاملها من الشراء بالآجل على ذمة مصدرها، ومن الحصول على النقد اقتراضًا من مصدرها، أو من غيره بضمانه، وتمكنه من الحصول على خدمات خاصة. فقولي: (أداة دفع وسحب) يخرج بذلك البطاقات التي تستخدم لغير الدفع، كالبطاقات الشخصية، وبطاقات العضوية الخاصة بالمحلات التجارية والنوادي وغيرها. وقولنا (دفع وسحب ائتماني) أي أن الدفع والسحب قائم على الاقتراض على الذمة، أو كما يسمى على الحساب، وبهذا القيد خرجت بطاقات السحب الفوري من الرصيد، فإنها ليست بطاقات ائتمانية؛ لأنها ليست قائمة على الاقتراض لاشتراط المصرف وجود رصيد عتده. وقولي: (غير إلزامية) أي أن حامل البطاقة لا يستطيع إلزام البائع بها مثل استطاعته إلزامه بالأوراق النقدية. وقولي (ذات صلاحية محدودة) أي أن مدتها محدودة، وقابلة للإلغاء، أو للتعليق من مصدرها. وقولي (ذات سقف محدود) أن الائتمان فيها له حد لا يمكن لحامل البطاقة تجاوزه. وقولي (غير قابلة للتحويل) أي أن البطاقة حق شخصي لحاملها، فلا يلتزم فيه المصرف إلا اتجاه شخص العميل ذاته، فلا يستطيع العميل أن يجير هذا الحق إلى شخص آخر، ولا ينتقل هذا الحق إلى الورثة.
وقولي: (تمكن حاملها من الشراء بالآجل، ومن الحصول على النقد اقتراضًا، وتمكنه من الحصول على خدمات خاصة ...) إشارة إلى العقود التي تجري بها البطاقات الائتمانية، ويمكن حصر هذه العقود بالاستقراء بما يلي: (أ) عقود الشراء. (ب) وعقود الاقتراض. (جـ) وعقود الاستئجار. وإذا كان الرصيد مغطى يضاف إليها. (د) عقود السحب من الرصيد. وإذا تمت هذه العقود أو بعضها في بلد أجنبي أضيف إلى هذه العقود عقد آخر، (هـ) وهو عقد (الصرف). وعرفها المجمع الفقهي الإِسلامي بأنها "مستند يعطيه مصدره (البنك المصدر) لشخص طبيعي أو اعتباري (حامل البطاقة) بناء على عقد بينهما يمكنه من شراء السلع أو الخدمات ممن يعتمد المستند (التاجر) دون دفع الثمن حالاً لتضمنه التزام المصدر بالدفع، ويكون الدفع من حساب المصدر، ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية، وبعضها يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع بعد فترة محددة من تاريخ المطالبة، وبعضها لا يفرض فوائد، ومن أنواع هذا المستند ما يمكن من سحب نقود من المصارف" (¬1). ¬
الفرع الثاني لمحة تاريخية عن نشأة البطاقة وتطورها
الفرع الثاني لمحة تاريخية عن نشأة البطاقة وتطورها إن تاريخ البطاقات الائتمانية هو جزء من تاريخ التطور النقدي للمجتمعات الإنسانية، فهو يعبر عن مرحلة من مراحل تطور النقد، فكما اخترع الناس النقدين بديلاً لصيغة المقايضة والتي كان الناس يتعاملون بها قبل ذلك، ثم اخترع الناس الأوراق النقدية كبديل للنقدين (الدنانير والدراهم) وكانت في بادئ الأمر مغطاة بالذهب أو بالفضة، ثم انتقلوا إلى قبولها دون حاجة إلى هذا الغطاء اعتمادًا على ثقة الناس بمصدرها، ثم جاء عصر هيمنة البنوك على الحياة الاقتصادية، وتوسع الناس في استخدام الائتمان لتوفير السلع والحاجات التي قد لا يستطيع محدودو الدخل شراءها نقدًا، وإنما يتم شراؤها بالآجل أو التقسيط أي بالائتمان، وفي كل يوم تخرج علينا البنوك بأنواع من الإغراءات للحصول على الدين ومن ذلك البطاقات الائتمانية، موضوع البحث. ولقد تنبأ الكاتب الأمريكي " EdWard BeLaMy في عام 1888 م في كتابه (LOOkING BaCKward) أنه بحلول عام 2000 م سوف يحل محل النقود بطاقات للشراء محددة القيمة، وسوف تسمح لحاملها بالحصول على الائتمان دون الحاجة إلى حمل النقود، ليكون المجتمع يستغني بها عن النقود. وقد مرت البطاقة بمراحل نستطيع إيجازها بالآتي: المرحلة الأولى: البطاقات ثنائية العلاقة. بدأت هذه البطاقات بالظهور في عام 1914، وكان العقد طرفاه اثنان: (1) الجهة المصدرة للبطاقة، وهي المحل التجاري. (2) المستهلك: وهو المستفيد من البطاقة.
المرحلة الثانية: ظهور البطاقات ثلاثية العلاقة
وقد تولى إصدار مثل هذا النوع من البطاقات المحلات التجارية الكبرى ذات الفروع الكثيرة، وكانت تلك البطاقات تمنح عملاءها المميزين فرصة الشراء بالتقسيط لمدة أربعة أشهر، أو ستة أشهر بنفس الثمن الفوري في محاولة منها لاستقطاب الزبائن المتميزين بدخول مرتفعة، وربطهم بالمحل التجاري. وكانت البطاقة مفيدة لكل من مصدرها وحاملها: أما مصدرها فكانت فائدته ارتباط هؤلاء الزبائن المتميزين بتلك المحلات، والتي سوف تحملهم البطاقة على تخصيص أكثر مشترياتهم منها. وأما حاملها فكان يستفيد من البطاقة باعتبارها أداة مالية حديثة تسهل عليه الشراء بالتقسيط دون دفع نقد حال، أو دون دفع كامل المبلغ في وقت الشراء. وقد دخلت قطاعات أخرى مع المحلات التجارية، مثل قطاع شركات النفط، وقطاع شركات الطيران في إصدار بطاقات لعملائها، وكان الهدف من البطاقات في تلك المرحلة ليس الربحية بالدرجة الأولى، بل تثبيت ولاء الزبون لتلك المحلات (¬1). المرحلة الثانية: ظهور البطاقات ثلاثية العلاقة: وترجع فكرة إنشاء بطاقة الدفع إلى موقف طريف حدث لرجل الأعمال الأمريكي (فرانكلين مكنمارا) حيث كان يتناول الطعام مع صديقه في إحدى المطاعم، وحين فرغا من الطعام فوجئا بأنهما نسيا النقود في البيت، وحصل بينهما وبين صاحب المطعم نقاش انتهى باقتناع صاحب المطعم بكلامهما، وتركهما دون دفع الحساب، والتقى بعد ذلك مكنمارا برجل يدعى بلومنجديل في كالفورنيا، وقررا إنشاء مؤسسة تكفل سداد فواتير الزملاء المشتركين فيها ¬
المرحلة الثالثة
لدى المطاعم فقط، وكانت لدى الأخير فكرة (كل ووقع) الأمر الذي أدى فيما بعد إلى طرح بطاقة الداينرز كلوب (DINeRS CLYP) وذلك في لوس أنجلوس سنة 1948 م مقابل حصول عمولة تقدر بـ 7 %على تقديم هذه الخدمة، وهكذا كانت ولادة الداينرز كلوب، واشترى ستي بنك هذه البطاقة عام 1980 م، ثم قامت شركة سياحية بطرح بطاقتها باسمها، وهو أمريكان ايكسبريس، ولها 400 فرع حول العالم، واستخدمت هذه الشركة خبرتها الطويلة في مجال السياحة لترويج بطاقاتها لأغراض سياحية أولاً كتسهيل شراء التذاكر، وحصول التخفيض عليها، وحجز الفنادق، وتأجير السيارات، وغيرها من الأمور المتعلقة بالسياحة. المرحلة الثالثة: يمكن أن يكون عنوان هذه المرحلة هو دخول البنوك التجارية في نظام البطاقة باعتبار أن الائتمان عنصر هام من العمل المصرفي، فأول بنك طرح بطاقة الائتمان سنة 1951 هو بنك فرنكلين في نييورك باسم بطاقة الائتمان الوطنية. ثم دخل بعد ذلك أكبر بنكين تجاريين في الولايات المتحدة، وهما بنك أمريكا، وبنك تشيس منهاتن، وإصدار كل منهما بطاقة خاصة به عام 1958 م وكان دخولهما يعتبر حجر الزاوية في التطور التاريخي للبطاقات الائتمانية، حيث تحولت البطاقة إلى أداة لتحصيل الفوائد الربوية، وعرف من خلالها مصطلح ما يسمى بتدوير الدين، ولم يكن ذلك معروفاً قبل دخول البنوك التجارية .. وكانت من أكبر العوائق في تلك المرحلة هو عدم وجود شبكة اتصالات حاسوبية وهاتفية متطورة على مستوى الولايات المتحدة، ذلك أن المشتركين في الولايات المتحدة فاق عددهم الملايين، ولا حصر للأماكن التي يترددون
المرحلة الرابعة
عليها، ويشترون منها، ومع تطور الحاسوب قام بنك أمريكا في عام 1966 م بطلب ترخيص استخدام بطاقته على مستوى الولايات المتحدة كلها، ومعها نظام إلكتروني للاتصالات خاص بها، على أن من أراد من البنوك التجارية الأخرى الاشتراك كعضو فله ذلك على أن يكون شعار البطاقة واسمها واحدًا نفس الاسم السابق، ويكون دور البنك المشترك تقديم خدمة البطاقة للمحلات التجارية، وذلك بقبول الإيصالات التي توقع من الزبائن حملة البطاقات، ونظرًا لشهرة هذا البنك في الولايات المتحدة قام كثير من البنوك التجارية والتي زادت على عشرة الآف بنك بالاشتراك مع البنك الأمريكي في إصدار بطاقته في المناطق التي يوجدون بها. وفي عمل منافس قامت مجموعة من البنوك التجارية بإنشاء نظام إلكتروني منافس اسمه الاتحاد البنوكي، وإصدار بطاقة أخرى منافسة سميت البطاقة البنوكية، وقد تغير اسم البطاقة فيما بعد إلى ما ستر تشارج، ثم إلى ماستركارد، وقد شكل هذان النظامان الإلكترونيان مع البطاقتين اللتين تعملان عن طريقهما نواة للعمل المصرفي الإلكتروني في العالم ككل. المرحلة الرابعة: لما كان النجاح الذي فاق كل التوقعات لبطاقة كل من البنك الأمريكي، وبطاقة الاتحاد البنوكي، ورغبة منهما في الانتشار عالميًا، وخارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية، وحرصًا على إلغاء الإيحاء غير المقصود من كون البطاقة خاصة بالبنك الأمريكي أو الولايات المتحدة استقلت شركة بطاقة البنك الإمريكي منه عام 1977 م وأصبحت تحمل الاسم الجديد فيزا، وهذه المنظمة الجديدة تعنى بكل شؤون إصدار البطاقة داخل الولايات المتحدة، وأما خارجها فقد أنشئ لها منظمة أخرى سميت فيزا انترناشنال (أي فيزا الدولية).
ثم تبعه على نفس العمل نظام البنوك الأخرى، والذي غير اسم بطاقته (البطاقة البنوكية) إلى اسم ماستر تشارج، ثم غيره إلى ماستركار عام 1980 م، كذلك قام هذا التجمع بإنشاء منظمة أخرى تدير أعمال البطاقة للبنوك الأعضاء من خارج الولايات المتحدة الأمريكية، سميت ماستركارد انترناشنال. (أي ماستركارد الدولية) (¬1). ودخلت البطاقة إلى الدول العربية في بداية الثمانينات، وأول بطاقة أصدرها البنك العربي الأفريقي في مصر كانت سنة 1982، ثم في بداية التسعينات أصدر بنك مصر بطاقة الفيزا، ثم دخل البنك الأهلي المصري في مجال البطاقة، وتبعه فيها بنك القاهرة سنة 1996 م وتوجد الآن ثلاث شركات منافسة في الساحة، هي الفيزا، والماستركارد، والأمريكان ايكسبريس إلى جانب بطاقة النخبة الداينرز كلوب. هذه لمحة سريعة موجزة عن تطور البطاقات الائتمانية، ووصوبها إلى المناطق العربية. ¬
الفرع الثالث الفرق بين بطاقة السحب من الرصيد وبين بطاقات الائتمان
الفرع الثالث الفرق بين بطاقة السحب من الرصيد وبين بطاقات الائتمان قبل أن نتكلم عن الفرق بين بطاقة السحب من الرصيد وبين بطاقة الائتمان نقوم بالتعريف ببطاقة السحب من الرصيد لكي يتضح الفرق. تسمى بطاقة السحب من الرصيد في اللغة الإِنجليزية (Debit Card) ويشترط لإصدار هذه البطاقة أن يكون العميل له حساب في البنك فيه رصيد، يستطيع البنك (مصدر البطاقة) أن يخصم منه ما يحصل عليه حامل البطاقة عند استعمالها، والبنك لا يقدم قرضًا لحامل هذه البطاقة، ولا يسمح له باستعمال البطاقة إلا في حدود رصيده بالبنك، ويستطيع حامل البطاقة من الحصول على النقد، أو الحصول على السلع والخدمات، مع خصم المبلغ من حسابه فورًا، ولا تعتبر هذه البطاقة بطاقة ائتمان، وليست المقصودة عند الحديث عن بطاقات الائتمان، وتسمى هذه البطاقات بطاقة أجهزة الصرف الآلي (A. T.M.) وهذه البطاقة نوعان: النوع الأول: بطاقات الصرف الآلي الداخلية: وهي البطاقات التي تؤدي وظائفها عبر أجهزة حاسوبية مرتبطة بشبكة تغطي منطقة بعينها، وتضم عددًا من البنوك التجارية داخل دولة واحدة فقط، وقد انحسر التعامل بها بعد ظهور النوع الثاني، بل إن كثيرا من المصارف توقفت عن إصدارها. النوع الثاني: بطاقات الصرف الآلي الدولية، وهي نفس البطاقة السابقة إلا أن هذا النوع
وتتميز هذه البطاقة بنوعيها بخصائص من أهمها
يتم ربطه بالشبكات الدولية التابعة للمنظمات الكبيرة الراعية للبطاقات الائتمانية مثل الفيزا، والماستر كارد، وذلك لتسهيل الحصول على النقود والخدمات في الأسفار بحيث يستطيع حاملها استخدامها في جميع أنحاء العالم، ومن أمثلتها (إلكترون) التابعة لشركة فيزا، وبطاقة (ما يسترو) التابعة لماستركارد، وتتميز هذه البطاقات بإمكانية استعمالها في أجهزة الصرف الآلي، ونقاط البيع في المحلات التجارية (S.O.P) كما أنها ترتبط مباشرة بالحساب البخاري سحبًا وشراء، ولذا لا تصدرها إلا البنوك غالبًا، وتعتمد على قدرة أجهزة الاتصال الإلكتروني، ولا يمكن أن تعمل بطريقة يدوية (¬1). وتتميز هذه البطاقة بنوعيها بخصائص من أهمها: (1) يصدر البطاقة البنك بالاشتراك مع الشركات العالمية لاستخدامها عالميًا, ولا يمكن أن تعمل البطاقة إلا بوجود اتصال الكتروني بشبكة أو حاسب مركزي، ولا يمكن أن تعمل بطريقة يدوية كبطاقات الائتمان. (2) لا تصدر إلا للعملاء الذين لهم رصيد دائن بالبنك، فهي لا يوجد فيها ائتمان أو قرض. (3) لكل بطاقة رقم سري شخصي (PIN) يعطيه البنك للعميل لسحب النقود من أجهزة الصرف الآلي، ويمكن للعميل تغييره عن طريق الصراف الآلي، أو عن طريق المصرف نفسه. ¬
الفرق بين بطاقة السحب من الرصيد، وبين بطاقة الائتمان
(4) يمكن لصاحبها سحب النقود وإيداع الأموال. (5) يقوم صاحبها بتحويل المال من حساب إلى حساب آخر. (6) إعطاء المعلومات عن الرصيد الموجود. (7) القيام بتسديد فواتير الكهرباء والاتصالات والماء ونحوها. (8) العمل بهذه البطاقة على مدار الساعة. إذا عرفت هذا نأتي إلى الفرق بين بطاقة السحب من الرصيد، وبين بطاقة الائتمان. الفرق بين بطاقة السحب من الرصيد، وبين بطاقة الائتمان: أبرز الفروق بين بطاقة السحب من الرصيد وبين بطاقة الائتمان هي ما يلي: (1) لا يستطيع صاحب بطاقة السحب من الرصيد أن يسحب أو يشتري بأكثر من رصيده؛ لأن بطاقته مرتبطة برصيده ارتباطًا مباشرًا، وقيمة شراء السلع أو الخدمات تحول رأسًا من حساب العميل إلى حساب التاجر، بخلاف البطاقة الائتمانية فهي لا ترتبط برصيد حاملها، بل قد لا يكون له رصيد في البنك المصدر للبطاقة وإنما يعتمد على ثقة المصدر بالملاءة المالية لحامل البطاقة، وقدرته على السداد وقت الدفع. (2) صاحب بطاقة السحب من الرصيد إذا سحب أو اشترى ببطاقته لا يعتبر مدينا للبنك بقيمة ما سحب أو اشترى، وإنما يعتبر مستوفيًا لدينه أو بعضه بخلاف صاحب البطاقة الائتمانية فإنه يعتبر مدينا للبنك بمقدار ما سحب أو اشترى، ويعد البنك المصدر مقرضًا لحامل البطاقة بذلك المبلغ. (3) بطاقة السحب من الرصيد تعتبر من بطاقات السداد الفوري، أما
البطاقات الائتمانية فهي من بطاقات السداد المؤجل، سواء كان السداد دفعة واحدة، أو كان السداد على شكل أقساط وذلك بتدوير الدين. (4) لا يدفع التاجر أي رسوم إذا استخدم المشتري بطاقة السحب من الرصيد، بخلاف البطاقات الائتمانية فإن التاجر (البائع) يدفع عمولة للبنك، تقدر بنسبة مئوية من قيمة الفاتورة (¬1). هذه أهم الفروق تقريبًا. ¬
الفرع الرابع في أنواع البطاقات الائتمانية
الفرع الرابع في أنواع البطاقات الائتمانية تنقسم البطاقات الائتمانية إلى نوعين: النوع الأول: بطاقة الائتمان المتجدد أو الدوار (Evolving Credit Eard) وهذه أشهر أنواع البطاقات الائتمانية، وأكثرها شيوعًا وبخاصة في الدول المتقدمة، وإليها ينصرف الاسم عند الإطلاق، ومن أمثال هذه البطاقة: الفيزا بأنواعها المختلفة، والماستر كارد، والأمريكان ايكسبريس، والداينرز كلوب. وتسمية هذا النوع من البطاقات ببطاقة الائتمان المتجدد بمعنى أن هذه البطاقة تمكن حاملها من الحصول على القرض النقدي المتجدد، وتمكنه من شراء السلع والخدمات، ويخير حامل البطاقة بين سداد الدين كاملاً في فترة السماح المجاني لأداء الدين الناشئ عن شراء السلع والخدمات، وبين دفع جزء قليل من المستحقات 10 % مثلاً، وتدوير الباقي إلى شهور تالية، مع زيادة الفائدة الربوية المقررة من قبل مصدر البطاقة، ويقال لهذا النوع في النشرات التجارية (الاعتماد الدائم) (Permanent Credit) وتختلف مدة السماح لأداء الديون من مصدر لآخر، وتتراوح (30 - 45 - 60) يومًا. وتتميز هذه البطاقة بخصائص من أهمها: (1) تعتبر هذه البطاقة أداة حقيقية للحصول على القرض. (2) لا يشترط لحصولها وجود الرصيد الدائن بالبنك. (3) يمكن معها طلب البطاقات الإضافية لأفراد الأسرة.
(4) يمكن لحاملها شراء الحاجيات والخدمات بالبطاقة، أو برقم الحساب. (5) يمكن لصاحبها السحب النقدي من جهاز الصرف الآلي (M.T.A) وإذا انتهى الحد الائتماني فإن الماكينة ترفض طلب البطاقة للسحب النقدي. (6) تفرض الفوائد على السحب النقدي من أول يوم إلى حين السداد بالكامل، وأما الدين الناشئ عن شراء السلع والخدمات فإن حاملها يخير بين سداد الدين كاملاً في فترة السماح المجانية (Interest Free Period) وبين دفع جزء قليل من المستحقات، وتدوير الباقي إلى فترات لاحقة للتسديد بالأقساط مع الفائدة. (7) تتسم هذه البطاقة بفرض الفوائد المركبة مع غرامة التأخير على سداد المبلغ المدين، وقد تصل هذه الفوائد إلى ضعف فوائد الديون المصرفية العادية، وهي تزيد بزيادة المدة، فتفرض لكل شهر متأخر فوائد على المبلغ الأصلي، وعلى الفوائد نفسها، فكلما زاد الأجل زادت الفوائد، وقد يصل المجموع من هذه النسبة إلى 28 % أو أكثر في البنوك التقليدية. (8) في حالة عدم سداد المبلغ المستحق لمدة معينة يتم إيقاف البطاقة، وملاحقة حامل البطاقة بالوكالات المختصة، أو بالقضاء. هذه أهم خصائص بطاقات الدين المتجدد، وقد يتم التعديل فيها من حين لآخر حسب ما يراه المصدر لمصلحته (¬1). ¬
القسم الثاني من بطاقات الائتمان
القسم الثاني من بطاقات الائتمان: بطاقة الدين المؤقت (Card Charge) ، أو بطاقات الائتمان المحدد، ويقال لها: بطاقات الخصم الشهري، أو الاعتماد الشهري، وتعتبر هذه البطاقة ثاني أشهر بطاقة منتشرة في العالم، وغالبًا ما تصدرها المصارف التقليدية والإِسلامية، وتتميز هذه البطاقة بأنه لا يلزم لإصدارها أن يودع حاملها رصِيدًا في المصرف أو المؤسسة المصدرة لها، كما تتميز هذه البطاقات بأنها لا تشتمل على تقسيط الدين، بل يجب تسديد الدين كاملاً دفعة واحدة خلال فترة لا تزيد غالباً على ثلاثين يوماً من تاريخ استلامه لها, ولكل عميل حد أعلى للقرض يحدده العقد، ويسمى خط الائتمان. خصائص هذه البطاقة: تتميز هذه البطاقة بخصائص من أهمها: (1) يمكن للمصارف الإسلامية أن تصدر مثل هذا النوع من البطاقات لإمكانية توافقها مع الشريعة الإِسلامية إذا جرى تعديل بعض الشروط، وكان صدورها مرتبطًا بقرارات الهيئات الشرعية، ومن البنوك الإِسلامية التي تصدر مثل هذا النوع من البطاقات، شركة الراجحي المصرفية، وبيت التمويل الكويتي، وبنك البلاد وبطاقة البنك الأهلي التجاري السعودي. (2) لا يقتضي إصدارها أن يكون لحاملها رصيد دائن لدى المصدر. (3) لهذه البطاقة رسوم اشتراك، وإصدار، وتجديد، وقد تعفي بعض البنوك عملاءها منه. (4) لكل عميل حد أعلى للائتمان يحدده العقد، ويسمى خط الائتمان. (5) تكون مدة الدفع في نظام هذه البطاقة محددة، فلا تمديد فيها من قبل
المصدر، ولا يدور المبلغ المستحق إلى شهور تالية، بل يتم إخطار العميل، وإيقاف التعامل بالبطاقة، وملاحقة الحامل بطرق مختلفة لاسترداد المبلغ. (5) يمكن التسوق بها عبر التليفون، والانترنت مع إدخال الرقم السري لكن هذه العملية من الخطورة بمكان من الناحية الأمنية حيث يجب الحفاظ على سرية الرقم الخاص. (6) يمكن استخدام البطاقة محليًا ودوليًا (¬1). ¬
الفرع الخامس الفرق بين بطاقة الدين المتجدد والمؤقت
الفرع الخامس الفرق بين بطاقة الدين المتجدد والمؤقت لا تكاد تجد فرقًا من حيث الشكل بين بطاقة الدين المتجدد وبطاقة الدين المؤقت، فالبيانات المسجلة على كل واحدة منهما واحدة، وشعار الشركة المنظمة واحد، لكنهما تفترقان في أمور منها: (1) تستطيع أن تقول: إن بطاقة الدين المؤقت كانت تمثل مرحلة من مراحل تطور البطاقات الائتمانية، فالبطاقات الائتمانية ظهرت للناس على شكل بطاقات دين مؤقتة، ثم أخذت في التطور والتوسع إلى أن بلغت طورها الأخير، وهي مرحلة الائتمان المتجدد. (2) بطاقة الدين المؤقت تصدر عن الشركات والمؤسسات كما تصدر عن البنوك، أما بطاقة الدين المتجدد فهي بطاقة مصرفية في الدرجة الأولى؛ لأن منح الائتمان وتدويره من صميم الأعمال المصرفية. (3) في بطاقة الدين المتجمد يخير حامل البطاقة بين السداد الكامل في فترة معينة، وبين دفع بعض المستحق وتدوير الباقي إلى فترات لاحقة، بينما بطاقة الدين المؤقت يطالب بضرورة تسديد كامل المبلغ المستحق خلال فترة السماح (شهر واحد عادة) دون تجديد المدة، ويتم إيقاف البطاقة إذا تأخر عن السداد، وإذا تكرر التأخير تم إلغاء البطاقة، ومتابعة صاحبها بالطرق القانونية ليتم التسديد. (4) تفرض غرامة التأخير على حامل بطاقة الدين المؤقت، بينما تفرض على حامل بطاقة الدين المتجدد فائدتان إذا تأخر عن السداد في الموعد المحدد، الأولى: لقاء التأخير. والثانية على المبلغ غير المسدد. أما إذا قام بسداد جزء من الدين في الموعد المحمد فإنه يفرض عليه فائدة واحدة على المبلغ المؤجل.
(5) يكون حد الائتمان منخفضًا في بطاقة الدين المؤقت، بينما يكون حد الائتمان أعلى نسبيًا، وقد يكون بدون سقف ائتماني معين، بل يصرف الحامل حسبما شاء وفقًا لمقدرته على السداد، وذلك في البطاقة الذهبية والبلاتينية غالباً. (6) رسوم الاشتراك والتجديد في بطاقة الدين المؤقت مرتفعة؛ لأن هذه الرسوم تعتبر دخلًا فعليًا للمصدر، بينما بطاقات الدين المتجدد مجانية غالبًا؛ لأن المصدر يحصل على فوائده من الديون المؤجلة (¬1). ¬
الفرع السادس في المنظمات العالمية المصدرة لبطاقة الائتمان
الفرع السادس في المنظمات العالمية المصدرة لبطاقة الائتمان يقتسم سوق بطاقات الائتمان في العالم أربع بطاقات أمريكة عالمية، وهي الفيزا، والماستركارد، والأمريكان اكسبرس، والداينرز كلوب. والأولى والثانية منظمات عالمية، والثالثة والرابعة مؤسسات مصرفية عالمية. الأولى: فيزا العالمية (Visa International). وهي أكبر شركة دولية تعمل في مجال البطاقات الائتمانية، ومقرها الأصلي (سان فرانسسكو بالولايات المتحده الأمريكية، وتعتبر صاحبة الترخيص (الامتياز) للبطاقات الائتمانية التي تحمل اسم فيزا. ولا تقوم فيزا بإصدار هذه البطاقات، وإنما البنك هو من يقوم بإصدار هذه البطاقات وفقًا لسياسته المالية ومتطلبات عملائه دون تدخل من الفيزا، كما أن فيزا ليست مؤسسة مصرفية، وإنما يمكن اعتبارها جمعية أو ناديًا يساعد البنوك الأعضاء بتسوية المعاملات المتعلقة بالبطاقة، وإدارة خدماتهم فيما بينهم عن طريق ربط كل الأطراف ذات الصلة (حامل البطاقة، البنك المصدر للبطاقة - التاجر قابل البطاقة - بنك التاجر) ربط كل هؤلاء بشبكة اتصالات حاسوبية ضخمة، وتقوم بالعديد من المهام كالتأكد من صحة معلومات البطاقة، ووجود السقف الكافي لعملية السحب النقدي أو أثمان المشتريات، والمقاصة بين البنوك، وتقسيم العمولات المستحقة لكل منهم، وغير ذلك من المهام، ومقابل خدماتها لأعضائها تتقاضى الفيزا رسوم عضوية من البنوك الأعضاء، ورسومًا على دورها في عمليات المقاصة والتفويض، والخدمات التي تقدمها لتغطية إدارة نشاطاتها.
(أ) بطاقة فيزا الذهبية
وتمنح منظمة الفيزا العالمية تراخيص إصدار ثلاثة أنواع من بطاقاتها هي: (أ) بطاقة فيزا الذهبية: وهي ذات حدود ائتمانية عالية، وتمنح للعملاء ذوي الملاءة العالية، إضافة إلى الخدمات السابقة، وتقدم هذه البطاقة لحاملها تأمينًا على الحياة، وخدمات أخرى دولية فريدة، كأولوية الحجز في مكاتب السفر والفنادق، والتأمين الصحي، والخدمات القانونية. (ب) بطاقة فيزا الفضية: وهي ذات حدود ائتمانية منخفضة نسبيًا، وتمنح لأغلب العملاء عند انطباق الحد الأدنى من المتطلبات عليهم، وتقدم هذه البطاقة جميع أنواع الخدمات المتوفرة من قبل منظمة الفيزا، كالسحب النقدي من البنوك، أو أجهزة الصرف الآلي، أو شراء السلع من التجار .. الخ. (ج) بطاقة فيزا الكترون: وهي ليست بطاقة ائتمانية، وإنما تستخدم في أجهزة الصرف الآلي الدولية، أو في الأجهزة القارئة للشريط الممغنط للسحب من الرصيد. الثانية: بطاقة الماستركلارد. وهي ثاني أكبر شركات بطاقات الائتمان في العالم، ومقرها الولايات المتحدة الأمريكية (نيويورك)، وهي منظمة عالمية، وليست مؤسسة مصرفية، وقد سادت هذه المنظمة في السبعينات حتى ظهرت منظمة الفيزا، فتفوقت عليها، وهي تحاول جاهدة أن تستعيد مكانتها في السوق عن طريق تطوير أنظمتها وتحديثها. وتشبه بطاقتها بطاقة الفيزا من حيث إن الذي يقوم بإصدارها هم مجموعة
الأعضاء (البنوك والمؤسسات المالية) المرخص لها في إصدار بطاقة الماستركارد بموجب اتفاق مبرم بينها وبين منظمة (ماستركارد العالمية) صاحبة الامتياز للبطاقات المصرفية التي تحمل اسم ماستركارد. وقد بلغ عدد أعضائها سنة 1990 م 163 مليون استخدموها في تسوية معاملات بلغت قيمتها أكثر من 200 بليون دولار 46 % منها تمت في أمريكا، و 29 % في أوربا، و 12 % في آييا والباسفيك، و 6 % في كندا، و 4 % في أمريكا اللاتينية، و 1 % في الشرق الأوسط وأفريقيا (¬1). وتمنح منظمة ماستركارد العالمية تراخيص إصدار أربعة أنواع من بطاقاتها هي: (أ) ماستركارد الذهبية. (ب) ماستركارد الفضية. (ج) ماستركارد لرجال الأعمال (Business card). (د) بطاقة ماستركارد المدينة (Debt card). < رمز>الثالثة: أمريكان اكسبرس. في بداية الأمر كانت أمريكان اكسبرس شركة سياحية تهتم. بإصدار الشيكات السياحية باسمها، ثم تطورت وتوسعت حتى صارت الآن مؤسسة مالية كبيرة، وتشرف مؤسسة الأمريكان اكسبرس مباشرة على عملية إصدار بطاقاتها دون أن تمنح تراخيص إصدارها لأي بنك أو مؤسسة مصرفية أخرى، وهي التي تتولى موضوع استيفاء حقوق التجار والمؤسسات التي تقبل البطاقة، ولا تلزم حملة البطاقة فتح حساب لديها. ¬
ويصدر بنك أمريكان اكسبرس ثلاثة أنواع من البطاقات، تناسب كل منها نوع العميل، وحجم التسهيلات المقدمة له. (أ) بطاقة أمريكان اكسبرس الخضراء (Amex Green card) . (ب) بطاقة أمريكان اكسبرس الذهبية (Amex Golden card) . (ج) بطاقة أمريكان اكسبرس الماسية (Optima) . < رمز>الرابعة: الداينرز كلوب (Diners Club) . يملك مصرف (سيتي بنك) الأمريكي والذي يعتبر واحداً من أكبر المصارف في العالم شركة داينرز كلوب، وتعتبر بطاقة النخبة، حيث لا تمنح إلا لذوي كفاءة مالية عالية، وتؤدي نفس وظائف الائتمان كغيرها من البطاقات، وقد دخلت منذ فترة قريبة إلى الدول العربية. وهي تصدر ثلاثة أنواع من البطاقات هي: (1) بطاقة (Charge Card) لعامة الناس. (2) بطاقة الأعمال التجارية لرجال الأعمال وموظفي الشركات. (3) بطاقة خاصة بالتعاون مع شركات كبرى مثل شركة الطيران البريطانية، وشركة سيارات فلفو وغيرها (¬1). ¬
الفرع السابع الحكم الفقهي للبطاقات الائتمانية
الفرع السابع الحكم الفقهي للبطاقات الائتمانية المسألة الأولى أطراف البطاقة الائتمانية وبيان آلية عمل البطاقة لا يمكن الوقوف على حكم البطاقة الائتمانية قبل فهم العلاقة التعاقدية بين أطراف البطاقة الائتمانية، فإذا فهمت العلاقة التعاقدية بين أطراف البطاقة الائتمانية أمكن بعد ذلك الحكم على البطاقة بالجواز أو عدمه اعتمادًا على صحة التعاقد وسلامة الشروط، وخلوها من الربا والغرر وغيرها من مفسدات العقد. ويدور جوهر التعامل ببطاقة الائتمان بين ثلاثة أطراف رئيسية هي: الطرف الأول: مصدر البطاقة، وهو البنك أو المؤسسة التي تصدر البطاقة بناء على ترخيص معتمد من المنظمة العالمية بصفته عضوًا فيها، ويرتبط مصدر البطاقة مع حاملها بعقد يلتزم بمقتضاه إصدار بطاقة مقبولة كوسيلة للوفاء لذى عدد كبير من المحلات التجارية، ويقوم بالسداد والضمان نيابة عن حامل البطاقة للتاجر. الطرف الثاني: حامل البطاقة، وهو عميل البنك الذي صدرت البطاقة باسمه، ويلتزم لمصدرها بالوفاء بكل ما ينشأ عن استعماله لها. الطرف الثالث: التاجر، وهو قابل البطاقة، بحيث يلتزم مع مصدر البطاقة على تقديم السلع والخدمات التي يطلبها حامل البطاقة مقابل التزام مصدر البطاقة بتقديم الضمان لهم بقيمة المشتريات التي ينفذها حامل البطاقة.
آلية عمل البطاقة
وقد ينظم إلى العلاقة الثلاثية المذكورة طرفان آخران هما: الطرف الرابع: المنظمة الراعية للبطاقة، وهي التي تملك العلامة التجارية للبطاقة، وتقوم بالإشراف على إصدار البطاقات وفق اتفاقيات خاصة مع البنوك المصدرة، ومن أشهرها منظمة فيزا، ومنظمة ماستركارد. الطرف الخامس: بنك التاجر، ولا تكون العلاقة خماسية الأطراف إلا في حالة واحدة فيما إذا كان شراء السلع والخدمات من تاجر يتعامل مع بنك غير مصدر البطاقة فيقوم هذا البنك بدفع قيمة فواتير البيع للتجار، ثم يقوم بمتابعة تحصيلها من البنوك المصدرة للبطاقة مقابل عمولة مقررة متفق عليها بين الطرفين (بنك التاجر، والتجار المتعاملين بالبطاقة) ولا يمكن أن يقوم بنك التاجر بهذه المهمة إلا بعد اعتماده رسميًا كبنك تاجر من قبل المنظمة الراعية للبطاقة (¬1). وقد تكون العلاقة التي تجري بالبطاقة ثنائية فقط، كما لو كان التعامل بين مصدر البطاقة وحاملها، وذلك في حالة واحدة: هي حالة السحب النقدي عن طريق مصدر البطاقة. آلية عمل البطاقة: [ن-113] إذا عرفنا الأطراف المتعلقة بالبطاقة، فإن آلية العمل بالبطاقة كالآتي: (أ) عندما يشتري حامل البطاقة سلعة أو منفعة أو خدمة ما من تاجر فإنه يقوم بتقديم كفيله الملتزم بالوفاء، وذلك بإبراز بطاقة الائتمان، حيث إن البنك ¬
المصدر هو الكفيل، والبائع الدائن هو المكفول له، والمشتري المدين حامل البطاقة هو المكفول. (ب) يقوم التاجر الذي يقبل التعامل بالبطاقة بالتأكد من صحة المعلومات المتعلقة بتاريخ صلاحيتها، وأنها تخص حاملها، وأن قيمة المشتريات أو الخدمات لم تتجاوز الحد الائتماني الممنوح لحاملها، وكذلك الحد المسموح للتاجر بالبيع في حدوده بموجب البطاقة في المرة الواحدة. (جـ) يقوم التاجر بتمرير البطاقة في جهاز الكتروني قارئ للشريط المغناطيسي المثبت خلفها، وهذا الجهاز متصل عبر خط هاتفي بمركز المصْدِر، وعن طريقه يتم تسجيل مبلغ الشراء، وخلال ثوان معدودة تخرج الفاتورة بالموافقة على العملية، أو رفضها. (د) بعد مجيء إشارة الموافقة يكمل البائع إجراءات البيع، فينطبع رقم البطاقة واضحًا على الفاتورة التي أعدت من ثلاث صور، واحدة للمشتري، والثانية للمحل التجاري، والثالثة للبنك المصدر للبطاقة أو من ينوب عنه، ويقوم حامل البطاقة بالتوقيع على تلك الفاتورة التي تبين ثمن السلعة أو الخدمة، وتاريخ تقديمها، وتكون قيمتها مطابقة للسعر العادي دون زيادة. وعلى الفور يستلم حامل البطاقة ما اشتراه ويحتفظ التاجر بأصل الفاتورة، ويسلم صورة منها للعميل. (هـ) يصبح البنك المصدر للبطاقة بموجب الكفالة المترتبة على إصدارها كفيلًا بالدين الذي لزم ذمة المشتري، وتبرأ ذمة المشتري من الدين. (و) يقوم التاجر بإيداع أصل فاتورة البيع لدى البنك الذي يتعامل معه (بنك التاجر أو مصدر البطاقة نفسه) لتحصيل قيمتها.
(هـ) يقوم البنك بإيداع قيمة الفاتورة في حساب التاجر محسومًا منها عمولته خلال فترة لا تتجاوز ثلاثة أيام قبل تحصيل قيمة الفواتير. (ز) إذا كان بنك التاجر غير مصدر البطاقة فإنه يقوم بالرجوع إلى البنك المصدر للبطاقة إن كان بنكًا محليًا لتحصيل قيمة الفاتورة بعد أن يخصم منها البنك المصدر للبطاقة نسبة زهيدة من قيمة الفاتورة كرسم تحويل. وإن كانت الفواتير تخص بطاقة صادرة من بنك أجنبي عضو في نفس البطاقة فإن العملية تقيد على حساب المنظمة الراعية للبطاقة، والتي ترجع بدورها على البنك الأجنبي. (ح) من خلال نظام (BASE II) المتخصص في إجراء عملية التسوية والمقاصة بين مختلف البنوك وبصورة عالية الدقة والكفاءة تتم إجراءات المقاصة بين البنوك من حيث الإيداع والخصم على حساباتهم المختلفة يوميًا، فلو افترضنا أن عملية شراء بالبطاقة حدثت، وأودع التاجر قسيمة البيع في حسابه لدى البنك الذي يتعامل معه (بنك التاجر) لتحصيل قيمتها، فإن نظام (BASE II) سيقوم في نهاية ذلك اليوم بالخصم من حساب البنك المصدر للبطاقة، والإيداع في حساب بنك التاجر، ويحصل التاجر من البنك المصدر للبطاقة على ثمن مبيعاته بالبطاقة مطروحًا منه رسم متفق عليه يمثل نسبة تتراوح ما بين 1 - 8%. (ط) وفي حال استخدام البطاقة للسحب النقدي، فإن العميل يقوم بإدخال البطاقة من خلال أجهزة الصراف الآلي، ويدخل الرقم السري إن وجد، ويطلب المبلغ النقدي المطلوب أو الخدمات الأخرى الموجودة، فيقوم الجهاز بطلب التفويض آليًا، فإن قبلت العملية حصل الحميل على المبلغ الذي يحتاجه، ثم ترسل هذه الحركة المالية عبر نظام إلى البنك المصدر للبطاقة
الذي يقوم بتسجيل المبلغ على حساب العميل مع احتساب نسبة على هذا الاستخدام. (ي) بعد أن يقوم البنك المصدر للبطاقة بتسديد الفواتير المطلوبة يقوم هو بدوره بالرجوع على حساب حامل البطاقة، ومن عادة البنوك المصدرة للبطاقة أن ترسل في نهاية كل دورة فاتورية كشفًا بالحساب الدائن على حامل البطاقة، يظهر في هذا الكشف ما يلي: - المبالغ التي اشترى بها حامل البطاقة سلعًا أو خدمات من بداية هذه المدة وأسماء البائعين. - المبالغ التي تم سحبها من أجهزة الصرف الآلي. - آخر موعد للتسديد. ويمنح مصدرو البطاقة حامليها فترة سماح تكون في حدود خمسة عشر يومًا -غالبًا- فيصدر كشف حساب في اليوم الخامس عشر من كل شهر مثلاً، ويجب التسديد خلال خمسة عشر يومًا، فيكون آخر موعد للسداد هو آخر يوم من الشهر، وتسمى مدة السماح، ولكن الأجل الفعلي ما بين شراء السلعة أو السحب النقدي، وبين السداد يتراوح ما بين خمسة عشر يومًا إلى خمسة وأربعين يومًا، وذلك أن من اشترى في اليوم الرابع عشر قبل صدور كشف الحساب بيوم واحد يجب عليه السداد آخر الشهر، فتكون المهلة خمسة عشر يومًا، أما من اشترى في اليوم السادس عشر بعد صدور كشف الحساب بيوم واحد يجب عليه السداد آخر الشهر القادم؛ لأن كشف الحساب لن يصدر إلا في اليوم الخامس عشر من الشهر التالي، وبعده خمسة عشر يومًا مدة السماح، فيكون المجموع خمسة وأربعين يومًا.
وهذه العملية تسمى التعويم المجاني. (ك) إذا دفع حامل البطاقة كامل الرصيد كان بها، وسلم من الفائدة المفروضة على المشتروات من السلع والخدمات، أما المبلغ النقدي فإنه يلزم بدفع فوائده مطلقاً، وإن لم يدفع كامل المبلغ فهو ملزم بدفع جزء من الرصيد الدائن، يسمى المبلغ الواجب دفعه فقط، ثم تبدأ الشركة بفرض الفائدة على الرصيد الباقي حتى ينتهي حامل البطاقة من دفع المبلغ كاملاً حسب الطريقة التي تتبعها البطاقة في حساب الفائدة. وإذا عرفنا الأطراف المتعلقة بالبطاقة، وآلية العمل بها أمكن دارسة هذه العلاقة، وما ينشأ عنها من خلال دراسة التزامات كل طرف ما له، وما عليه، وهذا ما سوف نعمله إن شاء الله تعالى في المباحث التالية (¬1). ¬
المسألة الثانية في توصيف عقد الائتمان بين مصدر البطاقة وبين حاملها
المسألة الثانية في توصيف عقد الائتمان بين مصدر البطاقة وبين حاملها تمنح بطاقة الائتمان حاملها القدرة على ثلاثة أمور: الأمر الأول: القدرة على الشراء بالآجل من أي تاجر في العالم يقبل التعامل بالبطاقة، وهذه وظيفة كل البطاقات الائتمانية. الأمر الثاني: تقديم بعض الخدمات والتسهيلات الخاصة لحامل البطاقة، وهذا متوفر في جميع البطاقات. الأمر الثالث: القدرة على الاقتراض من مصدر البطاقة، أو من أي بنك في العالم يكون عضوًا في المنظمة الراعية للبطاقة، وهذه الميزة لا تتوفر في كل البطاقات بل في بعضها. [ن-114] وقد اختلف الباحثون في توصيف عقد الائتمان بين مصدر البطاقة وبين حاملها إلى أقوال: القول الأول: أن هذا العقد يندرج تحت مسمى (العقود غير المسماة) (¬1)، وقد سبق لنا أن العقود تنقسم من حيث التسمية إلى قسمين: عقود مسماة: وهي العقود التي نص الشارع على تسميتها، وجعل لها أحكامًا خاصة كالبيع، والإجارة، والرهن، والزواج، والخلع، والهبة، والوصية. ¬
وعقود غير مسماة
وعقود غير مسماة: وهي العقود التي لم ينص الشارع على تسميتها، وإنما استحدثت تبعًا لحاجة الناس، ولم تكن موجودة زمن التشريع، كعقود التأمين، والإجارة المنتهية بالتمليك، وعقود النشر والدعاية ونحوها (¬1). وهذه العقود غير المسماة قد اختلف الناس في جوازها تبعًا لاختلافهم في حرية العاقد في إحداث العقود والشروط، فالظاهرية لا يجيزون عقدًا أو شرطًا إلا إذا نص الشارع بخصوصه على جوازه، بينما نجد الحنابلة يجيزون إحداث العقود والشروط التي لا تخالف نصوص الشريعة، وقد سبق لي أن أفردت مبحثًا خاصًا، هل الأصل في العقود الجواز والصحة، أو الأصل في العقود المنع والتحريم؟ وجه كون هذا العقد من العقود غير المسماة: أن المتأمل لعقد البطاقة البنكية بأقسامه وأنواعه وإجراءاته وأهدافه عقد جديد على الفقه الإِسلامي، لا يندرج في صورته الكلية تحت عقد واحد من عقود المعاملات الشرعية المعروفة في المدونات الفقهية حيث تتعدد الأطراف، وتتنوع العلاقات والالتزامات، وتتباين الأقسام والأنواع، ومن الصعب تكييفه في صورته الكلية بعقد واحد، حوالة، أو جعالة، أو ضمان، أو وكالة، أو عقدين معاً: كالوكالة والكفالة، أو الوكالة والجعالة. وإذا صح تصوير عقد بطاقة الائتمان بواحد من تلك العقود من جانب، فإنه يختل من طرف وجانب آخر، إذ من غير الممكن تنزيل صورة كلية مركبة متشعبة ¬
حكم أخذ العمولة بناء على هذا التوصيف
متعددة الأطراف والاتفاقات والأغراض على عقد واحد، له تكوين معين، وشكل لا يختلف. حكم أخذ العمولة بناء على هذا التوصيف: لا حرج شرعاً في أخذ العمولة بناء على هذا التكييف؛ لأن العقد جديد، ولا يدخل تحت أي عقد من العقود المسماة. مناقشة هذا التخريج: أرى أن عقد الائتمان إن كان السبب في إطلاق كونه عقدًا غير مسمى نظراً لكونه عقدًا مركبًا من عقود مسماة مختلفة فهذا ربما يكون مسلمًا، وهو أمر نسبي، وأما أن يقال: إنه عقد جديد بالنظر إلى كل عقد فيه على حدة فهذا غير مسلم إذ يمكن رد كل عقد فيه إلى العقود المسماة في الفقه الإِسلامي، وسيتضح ذلك إن شاء الله تعالى من خلال البحث حين استكمال بقية الأقوال مع أدلتها. القول الثاني: يرى أن عقد الائتمان بأنه عقد قرض، سواء استلم حامل البطاقة القرض بنفسه، كما في السحب النقدي، أو كان قرضاً لحامل البطاقة يستحقه طرف ثالث مقابل أثمان مبيعاته وخدماته التي قدمها لحامل البطاقة، ويقترح أن تسمى بطاقات الائتمان: بطاقات القروض، فهذه هي التسمية الصحيحة لها (¬1). حكم أخذ العمولة بناء على هذا التخريج: لا يجوز أخذ أي عمولة على القرض زائدًا عن التكاليف الفعلية الحقيقية ¬
ويناقش هذا التخريج في أكثر من وجه
الذي تكبدها المقرض عند إقراضه، وأخذ أي عمولة زائدة عن التكاليف الفعلية يوقع في حقيقة الربا. ويناقش هذا التخريج في أكثر من وجه: الوجه الأول: سبق الجواب على هذا القول عند الكلام على تعريف بطاقات الائتمان، وأن هناك فرقًا بين الائتمان والقرض فارجع إليه إن شئت. الوجه الثاني: أن حقيقة القرض: هو دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله، بينما عقد الائتمان قد يوجد ولا يوجد القرض، كما لو استصدر شخص بطاقة الائتمان ولم يحتج إلى استخدام البطاقة طيلة مدة الصلاحية، أو استخدم البطاقة في شراء السلع والخدمات من المحال التجارية، ولا يتحقق القرض الفعلي إلا في حالة سحب النقود، فلو استبدل لفظ القرض بالدين لكان أشمل وأدق. الوجه الثالث: أن عقد القرض من عقود الإرفاق والإحسان, والبنوك ليست محلًا لمثل ذلك، بل تهدف جميع البنوك والمؤسسات المالية المصدرة للبطاقة الائتمانية إلى الحصول على أرباح تفوق الأرباح على القروض الربوية إلا أن هذه الفوائد منها ما هو صريح كغرامات التأخير، وفوائد التأجيل، ومنها ما هو مستتر داخل ضمن الرسوم المبالغ فيها في عضوية الاشتراك والتجديد، والسحب النقدي وغير ذلك. الوجه الرابع: أن بطاقات الائتمان المغطاة لا يمكن تكييفها على أنها قروض، حيث لا يوجد فيها إقراض أصلاً.
القول الثالث
القول الثالث: تخريج العقد بأن مصدر البطاقة وكيل لحاملها (¬1). وجهه: أن حامل البطاقة قد وكل المصدر بأن يسدد عنه لدى التجار الذي سيشتري منهم على أن يعيد إليه ما دفع خلال فترة لاحقة. وأخذ العوض على الوكالة جائز، ويتمثل العوض على الوكالة عن طريق الرسوم السنوية للاشتراك والتجديد. حكم أخذ العمولة بناء على هذا التوصيف: التوكيل بعوض جائز بلا خلاف، وهو من باب الإجارة، وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبعث عماله لقبض الصدقات، ويجعل لهم جعلاً (¬2). مناقشة هذا التخريج: هذا التخريج مقبول في حالتين: الحال الأولى: أن يكون الائتمان مغطى، بحيث يكون للعميل رصيد لدى مصدر البطاقة، وقد فوض العميل البنك للسحب من رصيده الذي لديه عند استعمال البطاقة. ¬
الحال الثانية
الحال الثانية: إذا رضي التاجر بتأخير السداد إلى حين تحصيل البنك لديونه من العميل، ثم سدادها للتاجر، وهذا غير معمول به في الواقع، فالتجار لا يقبلون التأخير في استلام الاستحقاقات الواجبة. أما في حالة أن يكون الرصيد مكشوفًا، فإن البنك يسدد نيابة عن العميل، ثم يرجع على العميل خلال فترة معينة، وهو في هذا مقرض للعميل، وليس وكيلًا له، فالعلاقة بين حامل البطاقة ومصدر البطاقة علاقة مداينة، وليست علاقة وكالة. وكيف يكون العقد عقد وكالة وذمة حامل البطاقة قد برئت من دين التاجر بمجرد تقديم العميل بطاقة الائتمان وقبول التاجر لها، وأصبح المطالب بقيمة المشتريات هو البنك وحده، فلو كان العقد عقد وكالة لكانت ذمة حامل البطاقة مشغولة بدين التاجر فلا يمكن اعتبار العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها بأنها وكالة. القول الرابع: تكييف العقد بأنه حوالة، ويذهب إلى هذا الشيخ عبد الله بن منيع (¬1)، والشيخ الصديق الضرير وغيرهما (¬2). وجه هذا القول: بأن تكييف البطاقة يجب أن يتناول جميع أطرافها الثلاثة: مصدر البطاقة، وحاملها، والتاجر. وهذه هي الأطراف الرئيسية في بطاقة الائتمان، والتكييف ¬
حكم أخذ العمولة بناء على هذا التخريج
يجب أن يعم هذه الأطراف الثلاثة، فلا نكيف كل طرفين وحدهما، هذا لا يؤدي إلى الغرض. فحامل البطاقة عندما يشتري السلعة أو الخدمة يقول للتاجر: أحلتك على البنك مصدر هذه البطاقة بالثمن. والبنك المصدر يقول لحامل البطاقة: خذ هذه البطاقة، واشتر بها, ولا تدفع الثمن، وأحل من اشتريت منه علي، وأنا أدفع له. ويقول مصدر البطاقة للتاجر: بايع حامل هذه البطاقة، وأنا سأدفع لك الثمن. فإذا حصل الشراء فقد تمت الحوالة مستوفية لأركانها وشروطها. أركانها: محيل، ومحال، ومحال عليه. حكم أخذ العمولة بناء على هذا التخريج: الحوالة هنا حوالة فقهية، وليست حوالة مصرفية، وأخذ العمولة عليها لا يجوز سواء كيفت الحوالة الفقهية بأنها بيع، أو أنها عقد إرفاق. وسيأتي توضيح أكثر إن شاء الله تعالى عند الكلام على العلاقة بين التاجر وبين مصدر البطاقة. ويناقش هذا التخريج: أنه لو صح أن يقال: إن المعاملة بين التاجر وحامل البطاقة هي من قبيل الحوالة لم يصح هذا التخريج في العلاقة بين مصدر البطاقة وبين حاملها إذ أن إحالة التاجر كانت مبنية وقائمة على عقد سابق بين مصدر البطاقة وبين حاملها، وهو ضمان ما يجب عليه من دين للمحلات التجارية.
وعلى التنزل أن تكون حوالة، فإنه يصح هذا التخريج في حالة واحدة، وهو ما إذا كان المصدر للبطاقة مدينًا لحامل البطاقة، بحيث يكون له رصيد لدى البنك. أما في حالة أن يكون الحساب مكشوفًا فالبنك في هذه الحالة ليس مدينًا لحامل البطاقة، فلا يصح تخريجها على أنها حوالة إلا على مذهب الحنفية الذي لا يشترط أن يكون المحال عليه مدينًا للمحيل. وقد اختلف العلماء في صحة الحوالة إذا كان المحال عليه غير مدين للمحيل إلى ثلاثة أقوال: فقيل: الحوالة صحيحة، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2)، واختاره ابن الماجشون من المالكية. وذلك لأنهم لا يشترطون لصحة الحوالة مديونية المحال عليه للمحيل، ويسمونها بالحوالة المطلقة. وقيل: تعتبر الحوالة غير صحيحة، وهذا مذهب الشافعية (¬3). ووجهه: أن الحوالة عندهم بيع، وإذا كانت الحوالة بيعًا، لم تصح الحوالة على من لا دين عليه؛ لعدم الاعتياض، إذ ليس عليه شيء يجعله عوضًا عن حق المحتال (¬4). ¬
والراجح
وقيل: تعتبر كفالة، وهذا مذهب المالكية (¬1)؛ لأن المحال عليه احتمل سداد الدين عن المحيل، وهذا حقيقة الكفالة. وقيل: تعتبر وكالة في الاقتراض، وهذا مذهب الحنابلة (¬2). والراجح: أنه لا بد من وجود دين مستقر لدى المحال عليه؛ لأن مقتضى عقد الحوالة براءة المحيل، وهنا المحيل وإن كان قد برئ بالنسبة للتاجر إلا أن ذمته مشغولة بالنسبة لمصدر البطاقة، إذ أنه يطالبه بتسديد الدين الذي أداه نيابة عنه، ومصدر البطاقة ملزم بسدد دين حامل البطاقة، وليس متبرعًا، وهذا يدل على أنه ضامن. وسوف يأتينا إن شاء الله مزيد بحث لهذه المسألة في باب الحوالة، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. القول الرابع: أنها من قبيل ضمان ما لم يجب (¬3)، وعلى هذا أكثر المشايخ والباحثين منهم ¬
الشيخ عبد الستار أبو غدة (¬1)، والشيخ نزيه حماد (¬2)، والشيخ محمَّد بن علي القري (¬3)، والشيخ عبد الوهاب أبو سليمان (¬4). وجه كون العقد بينهما عقد ضمان: أن مصدر البطاقة قد التزم بأداء أثمان المشتريات بالبطاقة، وسداد النقود المسحوبة بالبطاقة، وذلك بموجب الاتفاق المبرم بينه وبين حامل البطاقة. وهذا الضمان من قبيل ضمان الحق قبل وجوبه، وهو ضمان صحيح، ولم يخالف فيه إلا الشافعية (¬5). وهو من قبيل ضمان المعلوم؛ لأن الضمان مقتصر على مبلغ السقف الائتماني الممنوح لحامل البطاقة، وهو معلوم القدر. قال السرخسي: "لو قال: بعه ما بينك وبين ألف درهم وما بعته من شيء فهو علي إلى ألف درهم فباعه متاعا بخمسمائة ثم باعه حنطة بخمسمائة لزم الكفيل المالان جميعًا" (¬6). وجاء في السراج الوهاج: "ولو قال: ضمنت مالك على زيد من درهم إلى عشرة فالأصح صحته" (¬7). ¬
وحتى لو قيل: إن ضمان البطاقات الائتمانية من قبيل ضمان المجهول وهذا يقال على التنزل فإن مثل هذا جائز أيضًا لدى جمهور الفقهاء من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والحنابلة (¬3)، والقديم من قول الشافعي -رحمه الله - (¬4). وحجتهم: أن الضمان من قبيل التبرع، والتبرع يصح مع الجهالة. وذهب الشافعي في الجديد إلى عدم صحة الكفالة بالدين المجهول، وهو ما ذهب إليه الثوري، والليث، وابن أبي ليلى، وابن المنذر وغيرهم (¬5). وجهه: أن الكفالة التزام دين في الذمة؛ والتزام المجهول غرر ينهى عنه الشارع، فوجب أن يكون الدين معلومًا حتى يكون الكفيل على بينة من أمره، ومن قدرته على الوفاء بما التزم به. ¬
حكم أخذ العمولة على الضمان: لا يجوز أخذ عمولة في مقابل الضمان للديون عدا النفقات والتكاليف الفعلية التي تكبدها الضامن، وقد بعثت مسألة أخذ العوض على الضمان في مبحث مستقل لأهميته، فانظره مشكورًا من هذا الكتاب. ونوقش هذا: أن هذا التكييف يرد عليه إشكالان: الأشكال الأول: وجود عملية خالية من الضمان في صلب العقد، وهي عملية السحب النقدي من مصدر البطاقة، فإن هذه العملية خالية من الضمان تمامًا، والتكييف يجب أن يشمل جميع مفردات العقد دون استثناء. ويجاب عنه: بأن أصحاب البطاقات الائتمانية أكثر ما يستعملونها في الشراء بالآجل وإذا كان هنا هو الغالب على معاملاتها فلا مانع من تكييفها بحسب الغالب. وأما القدرة على الاقتراض فإن كان من غير مصدر البطاقة فهي لا تخرج عن الضمان أيضًا؛ لأنه قد ضمن أن يسدد الدين الذي عليه للغير. وإن كان القرض من مصدر البطاقة كان العقد وعدًا بالقرض، وهذه الصورة لا تدخل في الضمان، ولكن فيه شبه بالضمان من حيث كون الضمان في حقيقته قد يؤول إلى القرض، والله أعلم. الإشكال الثاني: أن الأصل في عقد الضمان أن المضمون له (التاجر) له أن يطالب الأصيل
(حامل البطاقة)، وله أن يطالب الضامن (البنك)، وفي هذا العقد ليس للتاجر أن يطالب المضمون عنه، وإنما الحق انتقل إلى ذمة البنك (مصدر البطاقة). ويجاب عن ذلك من وجوه: الوجه الأول: أن هذه المسألة خلافية، فقد اختلف الفقهاء في عقد الضمان هل يبرأ المضمون عنه بالضمان، أو لصاحب الحق مطالبة من شاء منهما، على أربعة أقوال: فقيل: لا يبرأ المضمون عنه بالضمان، وله مطالبة من شاء منهما، وهو قول الجمهور، وأحد الأقوال عن مالك (¬1). وقيل: يبرأ المضمون عنه بالضمان، وهو قول ابن أبي ليلى (¬2)، وابن شبرمة (¬3)، وأبي ثور (¬4)، وداود وأصحابه (¬5). وقيل: لا يُطالَب الضامنُ إن حضر المضمون عنه، وكان موسرًا، أو غاب وكان له مال حاضر. ¬
وهذا مذهب المالكية (¬1). وقيل: يبرأ المضمون عنه بالضمان إن كان ميتاً، أما إذا كان حياً فلا يبرأ، وهذا القول رواية عن أحمد (¬2). الوجه الثاني: أن هذا الخلاف فيما إذا لم يشترط في العقد براءة المضمون عنه بالضمان، أما إذا اشترط براءة المضمون عنه بالضمان والتزم الضامن وفاء الدين مطلقاً، وإن لم تتعذر مطالبة المضمون عنه فإن هذا الالتزام من الشروط الصحيحة؛ لأن الأصل في الشروط الصحة والجواز، ولا يوجد محذور شرعي من هذا الالتزام، وهذا ما نص عليه الحنفية والمالكية. جاء في المبسوط: "إذا كان لرجل على رجل مال, فضمنه له على إبراء الذي عليه الأصل، فهو جائز، والكفيل ضامن للمال، ولا يأخذ الطالب المكفول عنه بشيء ... " (¬3). وجاء في الفواكه الدواني: "لا يغرم ضامن المال إلا إذا غاب الغريم ... أو شرط عليه صاحب الدين الغرم ولو مع حضور الغريم مليًا" (¬4). الوجه الثالث: قال الشيخ عبد الرحمن الأطرم: "بأنه ليس في العقود المنظمة للبطاقات ما ¬
ينص على أنه ليس للقابل أن يطالب حاملها، وقد تتبعت ذلك ولم أعثر على شرط يدل على ذلك الأمر، ومن هنا جاء اختلاف القانونيين في هذه المسألة فيما لو لم يسدد المصدر المبلغ لقابل البطاقة، هل له أن يرجع على حاملها أو لا؟ " (¬1). وسوف نتكلم عن أدلة هذه المسألة إن شاء الله تعالى في باب الضمان، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأقوال أجد أن أقواها من يكيف العلاقة بين مصدر البطاقة وحامل البطاقة على أنها من قبيل الضمان لحاملها، وهو من ضمان المعلوم؛ لأن الضمان مقتصر على مبلغ السقف الائتماني الممنوح لحامل البطاقة، وهو معلوم القدر. ومن ضمان الحق قبل وجوبه، وهو سائغ لدى جمهور الفقهاء. والله أعلم. ¬
المسألة الثالثة في توصيف العلاقة بين التاجر وحامل البطاقة
المسألة الثالثة في توصيف العلاقة بين التاجر وحامل البطاقة [ن -115] العلاقة بين حامل البطاقة وبين التاجر لا يخرج عن أحد عقدين: إما أن يكون العقد عقد بيع أو يكون العقد عقد إجارة، فإن كان العقد عقد تمليك للسلع فهو من عقود البيع، أو كان من قبيل تقديم خدمات معلومة فهو من عقود الإجارة. فحامل البطاقة: هو المشتري أو المستأجر. وقابل البطاقة: هو البائع أو المؤجر. ولا بد لصحة البيع والإجارة من اكتمال شروطهما وانتفاء موانعهما. فلا يجوز استخدام البطاقة في شراء المحرمات، ولا استئجار ما لا يجوز تأجيره. وإذا أراد حامل البطاقة الشراء عن طريق البطاقة فإن التاجر يطلب من مصدر البطاقة تفويضه بإتمام العملية عن طريق جهاز إلكتروني فإذا تمت الموافقة على هذا الطلب استلم التاجر مستند البيع وعليه توقيعان هما: الأول: توقيع إلكتروني من مصدر البطاقة يتمثل في رقم التفويض المتضمن للإقرار بالموافقة على عملية الشراء. الثاني: توقيع يدوي من حامل البطاقة يتضمن الإقرار باستلام السلعة أو الخدمة بمقدار المبلغ المثبت على المستند. فإن كان التاجر يتعامل مباشرة مع مصدر البطاقة ويودع أمواله لديه فإن الفواتير سوف تقيد على حساب حامل البطاقة مباشرة. وإن كان التاجر يتعامل
مع فرع شقيق للبنك المصدر للبطاقة، أو بنك محلي آخر عضو في نفس البطاقة فتقيد على حساب أي منهما، ثم تتم تسوية العملية عن طريق الحسابات المتبادلة بينهما من خلال نظام (BASE II) المتخصص في إجراء عملية التسوية والمقاصة بين مختلف البنوك وبصورة عالية الدقة والكفاءة. وإن كانت الفواتير تخص بطاقة صادرة من بنك أجنبي عضو في نفس البطاقة فإن العملية تقيد على حساب المنظمة الراعية للبطاقة، والتي ترجع بدورها على البنك الأجنبي. ويأخذ البنك المصدر للبطاقة عمولة من التاجر إن كان يتعامل مع التاجر مباشرة، أو يتقاسمها مع بنك التاجر مقابل ما بذله من تكاليف فعلية، ومقابل ما قدمه من ضمان للسداد، ومن خدمات غير مباشرة، وسوف نناقش إن شاء الله تعالى حكم أخذ هذه العمولة في دراسة العلاقة بين التاجر وبين مصدر البطاقة في المبحث التالي.
المسألة الرابعة في توصيف العلاقة بين مصدر البطاقة (البنك) وببن التاجر
المسألة الرابعة في توصيف العلاقة بين مصدر البطاقة (البنك) وببن التاجر يبرم البنك (مصدر البطاقة) اتفاقية مع التجار الذين يرغبون في التعامل مع البطاقات البنكية، وتبين هذه الاتفاقية التزامات الطرفين تجاه الآخر، ويتعهد مصدر البطاقة بموجب الاتفاق بالوفاء بجميع المبالغ المستحقة لطرف التاجر مقابل رسوم مقطوعة، ومبالغ مخصومة، فما حكم أخذ البنك مصدر البطاقة لهذه العمولة؟ وللجواب على ذلك أقول: الرسوم التي يأخذها البنك من التاجر تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: [ن -116] رسوم مقطوعة يأخذها البنك مقابل نقاط البيع التي يدفعها البنك للتاجر، وما يلزم لتجهيزها من أوراق، وأحبار، وأدوات، ونحو ذلك، فهذه الرسوم لا خلاف في أخذها وطلب الربح في تقديمها؛ لأنها مقابل خدمات معلومة مباحة، وهي مفصولة عن عملية الضمان، ومفصولة عن فاتورة البيع والشراء. القسم الثاني: رسوم متعلقة في عملية البيع والشراء عن طريق بطاقات الائتمان، وذلك بخصم نسبة معينة من قسائم البيع لصالح مصدر البطاقة إن كان التاجر يتعامل مباشرة مع البنك الذي أصدر البطاقة، أو يتقاسمها مصدر البطاقة مع بنك التاجر
القول الأول
إن كان لدى التاجر بنك آخر يعمل على تحصيل المبلغ من البنك الذي قام بإصدار البطاقة، وهذا المبلغ يتراوح ما بين (1 % إلى 7 %) وغالبًا ما يكون (3 %) من مجموع مبلغ الفاتورة، ويعتبر هذا الدخل من أهم مصادر الربح لمصدري البطاقة، فما تكييف هذا المبلغ الذي يأخذه البنك من التاجر، وهل يعتبر أخذه من قبيل المال المشروع أو المحرم؟. [ن -117] اختلف العلماء في تكييف العلاقة بين مصدر البطاقة وبين أصحاب المحلات التجارية التي قبلت التعامل مع حاملي البطاقات الائتمانية إلى أقوال: القول الأول: أن العقد هو تكملة عقد الضمان؛ فقد تقدم أن العلاقة بين مصدر البطاقة (البنك) وبين حامل البطاقة هو عقد ضمان لما سوف يجب عليه من الديون بحدود مبلغ معين متفق عليه. ومعلوم أن الضمان أطرافه الرئيسية ثلاثة. فالتاجر: هو المضمون له. والبنك (مصدر البطاقة) هو الضامن. وحامل البطاقة (العميل) هو المضمون عنه. فالبنك ضامن للتاجر سداد ما يجب على حامل البطاقة من الديون، وقد تضمن نص الاتفاقية بين مصدري البطاقة وبين التاجر على حقيقة الضمان، فقد جاء في الاتفاق ما نصه: "تعهد الطرف الثاني قابل البطاقة أن يقدم إلى الطرف الأول مصدر البطاقة كشفًا رسميًا بكل الحسابات والمصاريف المترتبة على استخدام بطاقة الفيزا، سواء كان الاستخدام على شكل بضائع، أو خدمات،
حكم أخذ الزيادة بناء على هذا التوصيف
وتعد تلك الكشوف نافذة بحق الطرف الأول مصدر البطاقة بمجرد اعتمادها وقبولها، وترتيبًا على ذلك يتم قيد القيمة الواردة بها لحساب الطرف الثاني، أو دفعها إليه بالكيفية التي يقبلها الطرفان بعد خصم النسبة المتفق عليها" (¬1). حكم أخذ الزيادة بناء على هذا التوصيف: اختلف العلماء في حكم أخذ الزيادة بناء على هذا التوصيف: فقيل: لا يجوز؛ لأن المبلغ الذي يأخذه الضامن من التاجر إنما هو في مقابل التزامه بالضمان، وأخذ العوض على ضمان الدين لا يجوز. لا فرق في ذلك بين أن يأخذ الضامن العوض من رب الدين، أو من المدين، أو من رجل أجنبي؛ لأن الضمان سوف يؤدي إلى أن يكون فائدة على القرض، والفائدة على القرض لا تجوز، إلا أن يكون الضامن مدينًا للمضمون عنه بمثل المبلغ الذي ضمنه أو أكثر، وهو ما يسمى بالضمان المغطى، فهنا لا يؤدي الضمان إلى قرض جر نفعًا، والله أعلم. جاء في شرح الخرشي: "تبطل الحمالة إذا فسدت نفسها كما إذا أخذ الضامن جعلًا من رب الدين، أو من المدين، أو من أجنبي؛ لأنه إذا غرم رجع بما غرمه مع زيادة الجعل، وذلك لا يجوز؛ لأنه سلف بزيادة" (¬2). وقيل: يجوز أخذ هذا العوض. ويمكن تخريجه على صورة نص عليها الحنفية في مدوناتهم على الصحيح المفتى به في المذهب من أن الكفيل بأمر المدين إذا صالح المكفول له على أنه ¬
إن وهب له بعض الدين أو أكثره فإنه يعود على المكفول بما ضمن، لا بما أدى (¬1). كما يمكن تخريجه على مذهب المالكية والحنابلة بأن المضمون له إذا وهب ¬
القول الثاني
الدين للضامن فهو تمليك له، ويرجع الضامن على المكفول بما كفل، فكذا إذا وهبه بعضه (¬1). وتخريج العمولة على أنها نوع من صلح الإسقاط، أو أنها من قبيل الهبة للضامن لا يصح. أما كون لا يصح تخريجه على صلح الإسقاط فلأن صلح الإسقاط لا يثبت إلا بعد ثبوت الحق وحين الوفاء، مع الإقرار بجميع الدين، وهو إسقاط اختياري لا جبر فيه، وليس في مقابل شيء، بينما الخصم في بطاقات الائتمان متفق عليه بين التاجر وبين البنك قبل نشوء الحق، والتاجر مجبر عليه لا يملك المطالبة بجميع الحق، وهو مقابل الضمان للدين. وأما كونه لا يصح تخريجه على أنه هبة؛ فلأن الهبة أيضاً من عقود التبرع لا إلزام فيها، وهي ليست في مقابل شيء، بينما الخصم واجب على التاجر، وفي مقابل ضمان الدين الذي على المشتري. القول الثاني: أن العلاقة بين قابل البطاقة (التاجر) وبين مصدرها (البنك) هي وكالة في تحصيل الدين من المدين (حامل البطاقة). فالتاجر (قابل البطاقة) هو الموكل. ومصدر البطاقة (البنك أو المؤسسة المالية) هو الوكيل. ¬
حكم أخذ الزيادة بناء على هذا التوصيف
والخدمات التي يقدمها مصدر البطاقة هو القيام بقبض الدين من حامل البطاقة وإيداعه في حساب قابل البطاقة مقابل عمولة متفق عليها، مثله في ذلك مثل توكيل مكاتب تحصيل الديون (¬1). حكم أخذ الزيادة بناء على هذا التوصيف: التوكيل بعوض جائز بلا خلاف، وهو من باب الإجارة، وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبعث عماله لقبض الصدقات، ويجعل لهم جعلًا (¬2). ويناقش هذا التخريج: بأن مصدر البطاقة (البنك أو المؤسسة المالية) قد التزمت بالتسديد الفوري للدين قبل تحصيله من المدين، وإذا التزم البنك أن يؤدي للدائن من ماله لم يصح أن يقال: إن العقد عقد وكالة، وإنما هو عقد كفالة. وقد أجيب عن ذلك: بأنه معلوم أن الوكيل لا يلزمه أن يدفع من ماله، ولكن الجهات التي تصدر هذه البطاقة ترى أن هذا المسار يسبب بطئًا وتعقيدًا في الأمور، ولا يحقق السهولة واليسر في استخدام هذه البطاقة، لهذا رأت أن تقوم بتسديد المبلغ المستحق، ثم تذهب وتطالب العميل بما دفعته، والغاية منه هو ضبط التزامات البنك مع أصحاب المحلات التجارية والخدمات، إذ لا يستطيع البنك ضبط مواعيد التحصيل من العملاء لكثرتهم، في حين أنه يمكنه التحكم فيما يدفعه ¬
ويجاب
إليهم، ثم يقوم هو بعد ذلك بتحصيل الدين، والتاجر قد لا يصبر فيما لو طلب منه أن ينتظر أو يتربص إلى حين أن تحصل ديونه على هذا العميل، فمصدر البطاقة إنما قام بالدفع لاختصار الإجراءات، وهذا الأمر موجود في كثير من مجالات الوكالات والسمسرة، فكثير من الذين يستقبلون البضائع للبيع بالعمولة لصالح أصحابها مجرد أن يتسلموا هذه البضائع إذا كانت سهله التسويق يقدمون الثمن لأصحاب هذه البضائع، ويقطعون صلتهم بهم، ثم يبيعونها هم، ويأخذون الثمن ممن يشتري منهم (¬1). ويجاب: ما دام أن البنك قد قام بالسداد من ماله، والتزم بذلك للمحال التجارية، فإن العقد قد خرج من كونه توكيلًا في تحصيل الدين إلى كونه ضامنًا له، بغض النظر عن الدافع الذي دفع البنك إلى قبول هذا الالتزام، وقد سبق أن العقد بين مصدر البطاقة وحاملها هو من قبيل الضمان، فإذا كان كذلك فإن التاجر هو المضمون له في هذا العقد إذ لا يتصور عقد ضمان دون وجود مضمون له، والله أعلم. القول الثالث: بأن العلاقة بين التاجر ومصدر البطاقة يشبه عملية خصم الأوراق التجارية، فلو كانت السلعة قيمتها مائة ريال مثلاً، فإن التاجر حين يقدمها للبنك يخصم 2 % مثلاً من قيمتها، فيدفع إليه 98 ريالًا فقط، ثم يحصل المبلغ من العميل، وبهذا يكون البنك مشتريًا للقسيمة التي ثمنها 100 بـ (98)، وبهذا تكون فواتير الشراء بمثابة سند الدين، وتقديم قابل البطاقة هذا السند إلى مصدرها كما يقدم باقي الأوراق التجارية بقصد بيعه بأقل من قيمته مقابل تعجيل محتواه. ¬
حكم العمولة بناء على هذا التوصيف
حكم العمولة بناء على هذا التوصيف: إذا اعتبرنا أن العمولة من باب خصم الأوراق التجارية، فإن خصم الأوراق التجارية لا يجوز؛ لأنه من باب بيع دين بنقد أقل منه. وذلك أن التاجر يبيع الدين الثابت له على حامل البطاقة بموجب فاتورة الشراء يبيعه على مصدر البطاقة البنكية، بثمن أقل من ثمن الدين، على أن يقبض المصرف قيمة الدين كاملاً من حامل البطاقة، فيقع في محذورين: الأول: بيع الدراهم بدراهم أقل، وهذا وقوع في ربا الفضل، فبيع الدراهم بالدراهم من جنسها بجب فيه التماثل. الثاني: أن التقابض غير موجود في العقد، فإن البنك مصدر البطاقة يسلم ثمن الدين للتاجر، ثم يستلم البنك من حامل البطاقة فيما بعد، وهذا وقوع في ربا النسيئة. يقول الشيخ المترك - رحمه الله -: "إن قلنا: إن هذه العملية (يعني خصم الأوراق التجارية) من باب بيع الدين على غير من هو عليه، فهو بيع غير صحيح حتى عند من يجيز بيع الدين على غير من هو عليه؛ لأن العوضين هنا من النقود، ولا يجوز بيع النقود بجنسها مع التفاضل، وعند اختلاف الجنس يجب التقابض، ومن شروط بيع الدين ألا يؤدي إلى محظور شرعي، ومن المحظورات اشتمال عقد البيع على الربا بنوعيه: التفاضل والنسأ، وهما متحققان فيما بينا من المثال؛ لأن الدين والثمن من الأموال الربوية، والمصرف يدفع قليلاً، ليقبض أكثر منه بعد مدة" (¬1). ¬
ويناقش هذا التوصيف من وجهين
ويناقش هذا التوصيف من وجهين: الوجه الأول: لو كان الشراء بالبطاقات الائتمانية من قبيل الشراء بالآجل لأمكن قبول هذا التكييف، وأصبح البنك مقابل تعجيل هذه الديون يأخذ مقابلاً بما يشبه عملية خصم الأوراق التجارية، أما ما دام أن قسائم البيع التي يقدمها التجار إلى البنوك للحصول على قيمتها تعتبر مستحقة الدفع حالاً ومعجلاً لم يصح هذا التكييف، والله أعلم. الوجه الثاني: في صورة الأوراق التجارية لا التزام من المصرف لقبول تلك الأوراق بخلاف قسائم الشراء بالبطاقات الائتمانية فإن البنك ملزم بالوفاء بمستحقاتها بموجب الاتفاق المبرم بينه وبين التجار قبل نشوء الدين. القول الرابع: أن مصدر البطاقة هو المشتري للسلع والخدمات، ثم يبيعها على حامل البطاقة بعقد جديد. صورة التوصيف: أن مصدر البطاقة (البنك) هو المشتري الحقيقي للسلع والخدمات؛ لأنه هو الذي يدفع أثمان السلع والخدمات؛ ولأن التاجر لا يعرف حامل البطاقة، ولا يطمئن إليه، بل يعرف مصدرها (البنك)؛ ولأن التاجر لا يحق له الرجوع إلى حامل البطاقة عند امتناع مصدرها عن السداد، فتبين بذلك أن المشتري الحقيقي هو البنك، وأن حامل البطاقة وكيل له في القبض، ثم يقوم مصدر البطاقة ببيعها
ويناقش
على حاملها بعقد جديد (¬1). ويناقش: بأن حامل البطاقة هو العاقد حقيقة، وقد اشترى لنفسه وانتفع بالخدمات بنفسه، وليس في العقود المبرمة بين أطراف البطاقة ما يدل على هذا التخريج أو يقتضيه، فهو متصور في ذهن صاحبه بعيدًا عن واقع بطاقات الائتمان، وإذا أمكن تسويق هذا التصور على بعده في السلع، فكيف يتصور في الخدمات المقدمة لحامل البطاقة مباشرة، وكون التاجر لا يعرف حامل البطاقة ولا يطمئن إليه فلأن الضامن معلوم للتاجر، وهو ملتزم بالسداد. القول الخامس: أن العقد بين التاجر وبين مصدر البطاقة هو عقد حوالة، فيكون التاجر: محالًا. والبنك محال عليه، وحامل البطاقة هو المحيل. وقد نص الحنفية على مثل هذه الصورة. قال السرخسي: "إذا كان لرجل على رجل مال، فضمنه له على إبراء الذي عليه الأصل فهو جائز، والكفيل ضامن للمال، ولا يأخذ الطالب المكفول عنه بشيء؛ لأنهما أتيا بمعنى الحوالة، وإن لم يصرحا بلفظها، والألفاظ قوالب المعاني. والمقصود هو المعنى دون اللفظ كان العقد الذي جرى بينهما حوالة لتصريحهما بموجب الحوالة، كمن يقول لغيره: ملكتك هذا الشيء بألف درهم فيكون بيعًا، وإن لم يصرح بلفظ البيع. ¬
حكم أخذ العوض بناء على هذا التكييف
والكفالة والحوالة يتقاربان من حيث إن كل واحد منهما إقراض للذمة والتزام على قصد التوثق، فكما أنه لو شرط في الحوالة أن يطالب بالمال أيهما شاءة كانت الكفالة فإذا شرط في الكفالة أن يكون الأصيل بريئا؛ كانت الحوالة" (¬1). حكم أخذ العوض بناء على هذا التكييف: أخذ العوض على الحوالة الفقهية (استثناء من الحوالة المصرفية) لا يجوز مطلقاً، سواء قلنا في تكييف الحوالة: إنها من قبيل بيع الدين بالدين، أو قلنا: إن الحوالة هي استيفاء للحق، وليست بيعًا. فإن كيفت الحوالة بأنها بيع: كان المنع من أخذ العوض يرجع إلى أمرين: الأول: أن الحوالة إذا كانت بيعًا لم تصح على من لا دين عليه لعدم الاعتياض، إذ ليس عليه شيء يجعله عوضًا عن حق المحتال (¬2). الثاني: أن الحوالة في حال تكييفها بأنها بيع، يبقى إشكال آخر، فإن الشارع وإن رخص بعدم التقابض في بيع الدراهم بمثلها في عقد الحوالة، كما رخص في عقد القرض، فإن التفاضل في بيع الدراهم بالدرهم لا يجوز، وفي حال أخذ العوض على الحوالة سيكون هناك تفاضل قطعاً، فالبنك سيدفع (98) ويأخذ مائة من حامل البطاقة. أما إن قلنا: إن الحوالة هي استيفاء للحق، وليست بيعًا، وهو مذهب الجمهور، وهو الراجح، فلا يجوز أخذ العوض عليه أيضًا. فقد صرح الحنابلة والشافعية بأن الحوالة عقد إرفاق منفرد بنفسه، ليس بمحمول على غيره، وليست الحوالة بيعًا؛ لأنها لو كانت بيعًا لما جاز التفرق ¬
قبل القبض؛ لأنها بيع دراهم بدراهم، وإذا كانت من عقود الإرفاق لم يجز أخذ العوض عليها. جاء في أسنى المطالب: "الشرط الثالث -يعني لصحة الحوالة- اتفاق الدينين جنسًا وقدرًا وحلولاً، وتأجيلاً، وصحة، وتكسرًا، وجودة، ورداءة، ولو في غير الربوي؛ لأن الحوالة ليست على حقيقة المعاوضات، وإنما هي معاوضة إرفاق جوزت للحاجة، فاعتبر فيها الإرفاق كما في القرض" (¬1). ولذلك نص المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4) على اشتراط تساوي الدينين قدرًا وصفة. وقال ابن رشد في بداية المجتهد: وللحوالة عند مالك ثلاثة شروط: الثاني: أن يكون الدين الذي يحيله به مثل الذي يحيله عليه في القدر، والصفة؛ لأنه إذا اختلفا في أحدهما كان بيعًا, ولم يكن حوالة فخرج من باب الرخصة إلى باب البيع، وإذا خرج إلى باب البيع دخله الدين بالدين" (¬5). ويقول ابن القيم: "مما يبين أن الحوالة على وفق القياس: أن الحوالة من جنس إيفاء الحق، لا من جنس البيع، فإن صاحب الحق إذا استوفى من المدين ماله كان هذا استيفاء، فإذا أحاله على غيره كان قد استوفى ذلك الدين عن الدين الذي في ذمة المحيل، ولهذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحوالة في معرض الوفاء، فقال في الحديث الصحيح: (مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على ملي فليتبع) فأمر ¬
ويناقش
المدين بالوفاء، ونهاه عن المطل، وبين أنه ظالم إذا مطل، "وأمر الغريم بقبول الوفاء إذا أحيل على مليء، وهذا كقوله تعالى: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] فأمر المستحق أن يطالب بالمعروف، وأمر المدين أن يؤدي بإحسان، ووفاء الدين ليس هو البيع الخاص وإن كان فيه شوب المعاوضة" (¬1). ويناقش: تخريج العقد بأنه عقد حوالة هذا يصح على مذهب الحنفية فقط، وابن الماجشون من المالكية، وذلك لأنهم لا يشترطون لصحة الحوالة مديونية المحال عليه للمحيل، ويسمونها بالحوالة المطلقة (¬2). وأما الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة أن المحال عليه إذا لم يكن مدينًا للمحيل فإن العقد ليس من قبيل الحوالة، حتى ولو استعمل لفظ الحوالة. فالمالكية يعتبرونه من باب الضمان (¬3). والشافعية يعتبرونها حوالة فاسدة (¬4). والحنابلة يعدون ذلك وكالة في الاقتراض (¬5). ¬
القول السادس
يقول الباجي في المنتقى: "وأما إذا لم ينعقد بسببه عقد، ولم يكن للمحيل على المحال عليه شيء، فهو على الإطلاق حمالة عند جميع أصحابنا سواء كانت بلفظ الحوالة، أو الحمالة، إلا ما قاله ابن الماجشون أنها إن كانت بلفظ الحوالة فلها حكم الحوالة، وإن لم تكن بلفظ الحوالة فهي حمالة ... " (¬1). القول السادس: علل بعض الباحثين جواز أخذ العمولة من التاجر بأن هذا في حقيقته خصم، وليس زيادة، فليس فيه ما يلحقه بالربا. كما أنه لا يندرج تحت مسألة ما يسمى (ضع وتعجل) إذ صفة هذا أن يكون على رجل دين لم يحل، فيقول لصاحبه: تأخذ بعضه معجلاً، وتبرئني من الباقي. وهذا رأي الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان (¬2). ويناقش: الواقع أن فيه زيادة؛ لأن الضامن مصدر البطاقة يدفع للتاجر أقل مما يستوفي من حامل البطاقة، فيعود العقد عليه بالزيادة، وإذا كان يحرم على الضامن للدين أن يأخذ عوضًا في مقابل ضمانه فلا فرق في التحريم بين أن يدفع الزيادة المضمون عنه، أو المضمون له، فالتحريم من أجل ألا يعود عقد الضمان على الضامن بالنفع؛ لأنه سيؤدي في حقه إلى قرض جر نفعًا، وهذه علة التحريم. القول السابع: يمكن اعتبار هذه النسبة أجور سمسرة، فإن الجائز أن أرسل إليك زبائن على أن أتقاضى منك أجرًا مقطوعًا عن كل زبون يصل إليك، أو عن كل زبون يشتري ¬
حكم أخذ العوض بناء على هذا التوصيف
منك حسب الشرط. وهذا ما يؤديه مصدر البطاقة للتاجر. إضافة إلى بعض الخدمات المقدمة مثل تحصيل فواتير الشراء، وخدمة الإيداع المباشر في الحساب، ونحو ذلك وبناء على ذلك فإنه يستحق عوضا مقابل هذه الخدمات، وقد تم الاتفاق على أن يؤخذ هذا العوض عن طريق خصم نسبة معلومة من قيمة مبيعات قابل البطاقة (¬1). حكم أخذ العوض بناء على هذا التوصيف: يجوز أخذ هذا العوض بناء على هذا التكييف سواء كانت هذه العمولة في صورة مبلغ مقطوع، أبو نسية من قيمة المبيعات؛ المبيعات فهذا لا يؤثر شرعًا على صحتها، ويمكن لمصدر البطاقة وبنك التاجر أن يتقاسما هذه العمولة لاشتراكهما في تقديم الخدمة للتاجر. ونوقش هذا التوصيف: لا يشك أحد في جواز عقد السمسرة بانفراده لو لم يكن ذلك مشروطًا في عقد الضمان، فالبنك قد التزم للتاجر بالسداد مقايل خصم هذه العمولة من قيمة فاتورة الشراء، فأصبحنا أمام عقدين: أحدهما: يجوز أخذ العوض عليه، وهو السمسرة. والثاني: لا يجوز أخذ العوض عليه، وهو ضمان الدين. فإذا اجتمعا فإما أن تقدم السمسرة مجانية فيزول المحذور الشرعي، وإما أن يبطل العقدان معًا؛ لأن اجتماعهما قد يؤدي إلى أخذ العوض على الضمان في ¬
موقف المصارف الإسلامية والهيئات الشرعية من أخذ العمولة على التاجر
عقد مستتر هو السمسرة، وسيأتي مزيد بيان لأدلة هذا القول عند الكلام على الترجيح. موقف المصارف الإِسلامية والهيئات الشرعية من أخذ العمولة على التاجر: أجازت أخذ هذه العمولة الهيئة الشرعية في شركة الراجحي في فتواها رقم (47) "حيث لا ترى مانعًا من الحصول على نسبة من قيمة ما يشتريه حامل البطاقة ما دامت هذه النسبة تستقطع من ثمن خدمة أو سلع، وقد تم التعارف على استقطاعها من البائع لصالح البنك الذي أصدر البطاقة وشركة الفيزا العالمية". كما ذهبت إلى الجواز أيضًا الفتوى الصادرة عن الهيئة الشرعية لبيت التمويل الكويتي (¬1). كما أجازت الهيئة الشرعية لبنك البلاد أخذ العمولة من التاجر في قرارها رقم (16) وموضوعه ضوابط البطاقات الائتمانية، ففي الوقت الذي رأت الهيئة أن تكييف العلاقة بين البنك المصدر للبطاقة وقابل البطاقة (التاجر) أنها علاقة ضمان وسمسرة، رأت أن الرسوم المأخوذة من التاجر جائزة مطلقًا سواء أكانت نسبة، أم مبلغًا مقطوعًا؛ لأن تكييف هذا المبلغ أجرة على السمسرة، وهي جائزة، وغضت الطرف عن اجتماع السمسرة مع عقد الضمان، وأحدهما يجوز أخذ العوض عليه، والآخر يحرم أخذ العوض عليه، فإذا كان لا يجوز اجتماع البيع أو الإجارة مع القرض، لم يجز اجتماع الإجارة (السمسرة) مع الضمان. ¬
كما أجاز ذلك البنك الإِسلامي الأردني. وأفتت ندوة البركة الثانية عشرة للاقتصاد الإِسلامي بجواز أخذ العمولة من التاجر، ونص الفتوى: "يجوز للبنك المصدر لبطاقة الائتمان وبنك التاجر تقاضي عمولة من التاجر القابل للبطاقة في بيع السلع أو تقديم الخدمة, وذلك مقابل الخدمات المقدمة للتاجر في منح البطاقة، وقبول الدفع بها، وتوفير العملاء، وتحصيل المستحقات بالوكالة عن التاجر، ولا مانع من اقتسام هذه العمولة بين البنك المصدر وبنك التاجر لاشتراكهما في تقديم الخدمات المشار إليها" (¬1). كما صدر قرار من مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي يجيز أخذ العمولة من التاجر. ففي قرار المجمع رقم 108 (2/ 12) جاء فيه: "جواز أخذ البنك المصدر من التاجر عمولة على مشتريات العميل منه شريطة أن يكون بيع التاجر بالبطاقة بمثل السعر الذي يبيع به بالنقد". ومع تقديري لجميع الهيئات الشرعية العاملة في المصارف، وتثمين الجهود المبذولة في سبيل أسلمة المصارف وحرصها التام في ضبط تلك العمليات بما يوافق الشرع إلا أن إطلاقها للجواز غير سديد. فالراجح أن خصم المبلغ على التاجر مقابل ثلاثة أمور: الأول: تكاليف فعلية يقدمها مصدر البطاقة للتاجر. وهذه يجوز تحميلها المستفيد منها, ولا يسمى هذا معاوضة؛ لأن البنك يأخذ ما أنفقه من هذه ¬
الجهود على المستفيدين دون أن يربح عليهم من جراء ذلك، سواء كان المستفيد حامل البطاقة أو كان المستفيد هو التاجر، وإذا كانت تكاليف القرض يجوز أخذها من المقترض، فتكاليف الضمان كذلك، وهذه ينبغي أن يعلم أنها لا تدخل في باب المعاوضات أصلًا. ولا شك أن البنك يحتاج في عملية تحصيل قيمة المبيعات وما يتبع ذلك من أعمال وإجراءات إدارية إلى توظيف كفاءات متخصصة يتقاضون أجورًا عالية على مثل هذه الأعمال التي تحتاج إلى الكثير من التعب والتكلفة والمعاناة فإنه من غير المعقول أن يقدم البنك مصدر البطاقة مثل هذه الخدمات نيابة عن التاجر مجانًا إلا أن هذا المبلغ يجب أن يكون مقطوعًا, ولا يحتسب بنسبة مئوية من مبلغ الفاتورة؛ لأن إجراءات العملية ذات المبلغ الكبير هي نفس إجراءات العملية ذات المبلغ القليل. الثاني: أخذ مبلغ مقابل التزام البنك بالسداد للتاجر. وهذا لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى أخذ العوض على ضمان الدين. وهو محرم بالإجماع. الثالث: أخد مبلغ مقابل خدمات غير مباشرة للتاجر، مثل السمسرة والإيداع في الحساب واحتساب ذلك بنسبة مئوية من مبلغ الفاتورة. وهذه يجوز أخذ الحوض عليها وطلب الربح من جراء تقديمها للتاجر لو كانت تقدم بشكل منفرد، أو مع خدمات مباحة، أما إذا اجتمعت مع الضمان فإنه لا يجوز أخذ العوض عليها حتى تفصل عن الضمان: حتى لا يؤدي ذلك إلى أخذ العوض على الضمان بالاختباء وراء ستار هذه الخدمات. فالراجح في العقود المشتركة منع الجمع بين كل عقدين يترتب على الجمع بينهما محظور شرعي، وإن كان كل واحد منهما جائزًا بمفرده.
من ذلك
من ذلك: أن يقول أبيعكها بمائة إلى سنة، على أن أشتريها منك بثمانين حالة، وهذا بيع العينة المنهي عنه، فاجتماعهما أدى إلى المنع، وإن كان كل منها جائزاً بانفراده. ومنه لو باع عليه ذهباً، واشترط عليه أن يشتري منه بثمنه ذهباً آخر، فإنه حيلة لمبادلة الذهب بالذهب مع التفاضل. ومنه لو باعه الجمع (التمر الرديء) بالدراهم، ثم ابتاع بالدراهم جنيبًا (تمراً طيبًا) وكان ذلك عن مواطأة. فليس كل عقد جاز متفردًا جاز مضمومًا إلى غيره، فهذا عقد القرض جائز بالإجماع، وعقد البيع جائز بالإجماع، وإذا باعه بشرط أن يقرضه حرم ذلك بالإجماع. (ح -857) لما رواه أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬1). [إسناده حسن] (¬2). والمراد بالسلف: هو القرض في لغة الحجاز، فنهى عن الجمع بين البيع والقرض، وإنما نهى عن الجمع بين البيع والقرض وإن كان كل واحد منهما صحيحًا بانفراده لأنه ربما حاباه في البيع لأجل القرض، فيؤدي إلى أن يجر ¬
القرض نفعاً للمقرض، فلما كانت الفائدة على القرض ربما تستتر بعقد البيع نهى عنها الشارع. وقد حكى الإجماع غير واحد من أهل العلم على تحريم اشتراط البيع مع عقد القرض". قال الباجي في المنتقى: "لا يحل بيع وسلف، وأجمع الفقهاء على المنع من ذلك ... " (¬1). وقال القرافي: "وبإجماع الأمة على جواز البيع والسلف مفترقين، وتحريمهما مجتمعين لذريعة الربا" (¬2). وقال في مواهب الجليل: "واعلم أنه لا خلاف في المنع من صريح بيع وسلف" (¬3). وقال الزركشي في البحر المحيط: "وبالإجماع على جواز البيع والسلف مفترقين، وتحريمهما مجتمعين للذريعة إليها" (¬4). كما حكى الإجماع على التحريم ابن قدامة في المغني (¬5) وغيرهم. إذا علم ذلك نأتي إلى مسألتنا، فإذا كان تقديم الضمان للتاجر مشروطًا في أخذ العوض على تلك الخدمات فإن أخذ العوض على تلك الخدمات حينئذ يكون محرمًا خشية أن يؤدي ذلك إلى أخذ العوض على الضمان بعقد مستتر باسم الأجرة على تقديم تلك الخدمات، والله أعلم. ¬
ولا فرق في تحريم أخذ العوض على الضمان أن يكون الدافع للعوض هو المضمون عنه (المدين)، أو المضمون له (الدائن) في الحكم الشرعي؛ لأن ذلك في كلا الحالين سيؤدي إلى قرض جر نفعاً. جاء في شرح الخرشي: "تبطل الحمالة إذا فسدت نفسها كما إذا أخذ الضامن جعلاً من رب الدين، أو من المدين، أو من أجنبي؛ لأنه إذا غرم رجع بما غرمه مع زيادة الجعل، وذلك لا يجوز؛ لأنه سلف بزيادة" (¬1). وهذا هو القول هو الراجح فيما أرى، والله أعلم. ¬
المسألة الخامسة في توصيف العلاقة بين التاجر وبين البنك
المسألة الخامسة في توصيف العلاقة بين التاجر وبين البنك في الفصل السابق تكلمنا عن العلاقة بين التاجر وبين مصدر البطاقة، إذا كان بنك التاجر هو نفس البنك الذي أصدر البطاقة، ولكن في حالات كثيرة يكون بنك التاجر ليس هو البنك الذي أصدر البطاقة، فقد يكون البنك الذي أصدر البطاقة بنكًا محليًا أو بنكًا أجنبيًا في بلد آخر، وبالتالي فإن التاجر سوف يقدم فاتورة البيع إلى البنك الذي يتعامل معه، والذي بدوره يقدم هذه الأوراق إلى البنك الذي في أصدر البطاقة إن كان بنكًا محليًا، أو إلى المنظمة الراعية إن كان بنكًا إجنبيًا، وسوف يتقاسم بنك التاجر مع البنك المصدر للبطاقة العمولة التي تؤخذ من التاجر. [ن -118] والسؤال: ما حكم أخذ بنك التاجر هذه العمولة من التاجر إذا لم يكن هو مصدر البطاقة؟ اختلف أهل العلم في ذلك على قولين: القول الأول: يرى جواز أخذ العمولة. إلى هذا ذهب أكثر العلماء المعاصرين. وجه القول بالجواز: الوجه الأول: أن بنك التاجر لا يضمن للتاجر سداد قيمة الفاتورة، فلا تكون العمولة في
الوجه الثاني
مقابل الضمان، فلو امتنع مصدر البطاقة أو أفلس فإن الدين لا يدخل في ضمان البنك المحصل، بل يرجع البنك على التاجر بما دفع، وهذا ما نصت عليه اتفاقية فيزا التاجر حيث جاء فيه: "ثانيًا: في حال رفض البنك مصدر البطاقة دفع أوراق المبيعات المقدمة من التاجر فإن على التاجر رد جميع الدفعات المسددة له إلى البنك فوزا". وهذا يدل على أن البنك لا يضمن عملية السداد، مما يجعل حكمه مختلفًا عن حكم بنك مصدر البطاقة، والذي يقوم بعملية الضمان، والله أعلم (¬1). الوجه الثاني: أن حقيقة عمل بنك التاجر هو الوكالة في تحصيل الدين وتوصيله، وإذا كان دوره يقتصر على الوكالة في التحصيل فإن المال الذي يأخذه إنما هو أجرة على الوكالة في تحصيل الدين وتوصيله، والوكالة باجر جائز، وقد يتخلل هذه العملية قرض ليس من طبيعتها، بل هو خدمة من البنك المحصل لعميله التاجر، فقد يودع البنك المحصل في حساب التاجر قبل تحصيله، ويكون الفرق بين الإيداع والتحصيل إن كان البنك محليًا ساعات محدودة، وإن كان بنكًا أجنبيًا قد يستغرق ذلك ثلاثة أيام على الأكثر (¬2). القول الثاني: ذهب بعض الباحثين إلى تحريم ما يأخذه بنك التاجر من عمولة. وجه التحريم: أن بنك التاجر إذا قام بتسديد المبالغ المستحقة للتاجر حالًا، ثم رجع بها ¬
على المصدر مع خصم عمولته وعمولة المصدر فقد قام بإقراض التاجر بالفائدة المئوية؛ لأنه يحصل هذه المبالغ كاملة من المصدر، وهو بدوره يحصلها من الحامل، فالعملية تفسير قرضًا جر نفعًا، وهو حرام، وليس مجرد وكالة من التاجر. وإذا كانت العملية تستغرق ثلاثة أيام فالأجل موجود والفائدة كذلك، فتتحول العملية إلى إقراض بفائدة (¬1). ¬
المسألة السادسة في توصيف العلاقة بين المنظمة الراعية للبطاقة وبقية أطراف البطاقة
المسألة السادسة في توصيف العلاقة بين المنظمة الراعية للبطاقة وبقية أطراف البطاقة [ن -119] يعتقد بعض الباحثين أن المنظمات الراعية لبطاقات الائتمان كالفيزا والمستركارد وغيرها منظمات غير ربحية (¬1)، وهذا يخالف الواقع؛ لأنك حين تقدر هذه الرسوم التي تأخذها المنظمة على بلايين البطاقات المصرفية، إضافة إلى رسوم العضوية في المنظمة، ورسوم عمليات التفويض والمقاصة التي تجريها بين الأطراف المتعددة تدرك حجم الأرباح التي تجنيها تلك المنظمات من وراء هذه العمليات. ويمكن تكييف عمل هذه المنظمات كأجير مشترك يعمل لمصلحة أعضاء متعددين، ويأخذ على خدمته أجرًا متفقًا عليه، وهو نسبة معينة من كل عملية تقوم بها. فإن كانت البطاقات بطاقات ربوية تعتمد الفائدة مقابل تقسيط الدين، وتعتمد غرامة التأخير على حاملي البطاقات فإن عمل تلك المنظمات سيكون محرمًا؛ لأن عملها حينئذ سيقوم على تيسير عملية الإقراض بالفائدة، فعملها وأجرتها على ذلك حرام. أما إذا لم يترتب على وساطتها فوائد ربوية محرمه كما في بطاقات الائتمان المنضبطة فأجرتها صحيحة، ولا حرج في دفع الرسوم لها. والله أعلم. ¬
المسألة السابعة في أخد الرسوم على عملية السحب النقدي
المسألة السابعة في أخد الرسوم على عملية السحب النقدي [ن -120] كثير من بطاقات الائتمان لا تتوفر فيها إمكانية السحب النقدي، وإنما يتوفر فيها إمكانية شراء السلع والخدمات، وبعض بطاقات الائتمان تتوفر فيها إمكانية السحب النقدي، ولهذه العملية حالتان: الأولى: السحب النقدي من مصدر البطاقة. وتكييف هذه العملية بأنها عملية قرض من مصدر البطاقة تنفيذًا لعقد الائتمان الذي يشمل وعدًا بالقرض. الحال الثانية: أن يكون السحب النقدي من غير مصدر البطاقة. وهذه العملية يتحصل منها عقدان: العقد الأول: عقد قرض بين حامل البطاقة والبنك المسحوب منه النقد. العقد الثاني: عقد ضمان بين البنك المسحوب منه النقد، وبين مصدر البطاقة؛ لأن القرض لن يتم إلا بعد موافقة مصدر البطاقة وتفويضه بإتمام العملية. أخد رسوم على عملية السحب النقدي: هذه الرسوم إن كانت تكاليف فعلية تكبدها المقرض في سبيل تقديم القرض فهذه لا بأس بتحميلها المقترض؛ لأن من يستفيد من هذه الخدمات يجب أن يدفع تكاليفها، والمقرض محسن في قرضه لا يجب عليه أن يتحمل نفقات القرض، إلا أن هذه التكاليف يجب أن تحسب بدقة؛ لأن أي زيادة فيها ستؤدي إلى الوقوع في الربا، ويجب أن تكون مبلغا مقطوعًا لا أن تكون العمولة نسبية؛ لأن تكاليف نفقات القرض واحدة مهما اختلف مقدار القرض، وما زاد على التكاليف الفعلية فأخذها يعتبر محرفا؛ لأنه من قبيل الفائدة على القرض، وهذا محرم بالإجماع.
الموقف الأول
وقد نص قرار مجمع الفقه الإِسلامي رقم 13 (1/ 3): في دورته الثالثة بعمان بخصوص أجور خدمات القروض حيث جاء فيه: "أولًا: يجوز أخذ أجور عن خدمات القروض على أن يكون ذلك في حدود النفقات الفعلية. ثانيًا: كل زيادة على النفقات الفعلية محرمة؛ لأنها من الربا المحرم شرعاً". بقي إشكال آخر: أن المنظمة الراعية للبطاقة تقوم باحتساب رسوم السحب لصالح البنك المسحوب منه النقد حتى لو كان بنكًا إسلاميًا؛ لأنها تقوم بذلك بشكل تلقائي، ولا يمكن التعديل فيه، فلا يستطيع مصدر البطاقة أن يطلب من المنظمة الراعية ألا تحتسب له الفائدة، وقد أخذت البنوك الإسلامية من هذه النسبة المحسوبة موقفين. الموقف الأول: يرى جواز أخذ هذه النسبة، مثل بيت التمويل الكويتي، وندوة البركة على أساس أنها مقابل خدمات يقدمها البنك. ففي الأسئلة الموجهة إلى هيئة الفتوى والرقابة الشرعية في بيت التمويل الكويتي جاء في السؤال السادس: "ما هو الرأي الشرعي في العمولة التي يتقاضاها بيت التمويل من البنوك الخارجية لقاء دفع مبالغ نقدية لحملة بطاقة فيزا عملاء هذه البنوك؟ الجواب: إن العمولة التي يأخذها بيت التمويل كمبلغ مقطوع إضافة إلى نسبة مئوية عن إجمالي المبلغ المسحوب هي عبارة عن أجر على الخدمة المصرفية التي يقدمها
ويناقش
بيت التمويل بما فيها من تكلفة نقل الأموال واستخدام وسائل الاتصالات التي تختلف تكلفتها من بلد إلى بلد لتمكين حامل بطاقة فيزا البنك الخارجي من سحب النقود. وإن أخذ هذا الأجر جائز شرعًا سواء أكان مبلغًا مقطوعًا، أو بنسبة مئوية أو كليهما؛ لأن إعطاء المبلغ هو على سبيل القرض الحسن، والمعاملة بالمثل بين بيت التمويل الكويتي والبنوك الأخرى المنضمة إلى منظمة فيزا" (¬1). ويناقش: بأن هذا العقد عقد مركب من عقدين: أحدهما: القرض. والثاني: الإجارة. ولا يجوز الجمع بين القرض وبين عقد الإجارة، وهذا النهي مجمع عليه كما سبق بيانه في الجمع بين البيع والقرض، والإجارة نوع من البيع إلا أنها بيع منافع، كما أن أخذ العمولة بالنسبة دليل على أن الأخذ لا يتعلق بالنفقات الفعلية، وإذا كانت هيئة الفتوى في بيت التمويل ترى أن إعطاء المبلغ هو من قبيل القرض الحسن، فإن أخذ العمولة على هذا القرض، وتحديد العمولة حسب النسبة المئوية للقرض لا يجعله من قبيل القرض الحسن، بل من قبيل الربا المحرم. الموقف الثاني: رأت بعض الهيئات الشرعية أن تضع صندوقًا خاصًا لهذه الفوائد المحتسبة، ثم تتخلص منها (¬2). ¬
يقول الشيخ مصطفى الزرقاء - رحمه الله -: "هذه المشكلة قد تدوركت بأن البنك الإِسلامي الذي يريد أن يصدر بطاقة يشترط عليه أن ينشئ صندوقًا خاصًا لديه لتلك الفوائد التي تحتسب له رغمًا عنه، وليس بطلب منه، وتأتيه على المبالغ التي استعملت فيها البطاقة، وهذا الصندوق ما يتجمع فيه يوجه إلى جهات الخير الإِسلامية شأن سائر الفوائد التي تحتسب لبعض المودعين في البنوك، ولا يريدون أن يقعوا في المحرم، فهم يصرفونها كما في فتوى المجمع الفقهي في مكة" (¬1). ¬
المسألة الثامنة أخذ الرسوم على الإصدار والتجديد والاستبدال
المسألة الثامنة أخذ الرسوم على الإصدار والتجديد والاستبدال المقصود برسوم الإصدار أو الاشتراك: المبلغ الذي يدفعه العميل عند منحه البطاقة، ويدفع مرة واحدة فقط. أما رسوم التجديد: فهو رسم سنوي يدفعه العميل كل سنة إذا رغب في استمرار عضويته في البطاقة. وأما رسوم الاستبدال: فهو المبلغ الذي يدفعه العميل عند إصداره بطاقة جديدة عوضًا عن بطاقته الضائعة أو المسروقة، أو التالفة. وهذه الرسوم يأخذها البنك المصدر للبطاقة نتيجة تحملة نفقات فعلية مباحة، من ذلك: رسوم العضوية في المنظمة الدولية، وهي رسوم باهظة التكاليف. ومنها رواتب الموظفين العاملين في مجال البطاقات. ومنها تكاليف استئجار مواقع أجهزة الصرف الآلي، ومواقع الإدارات الخاصة بالبطاقة. ومنها تكاليف الاتصال الهاتفي أثناء تنفيذ العمليات. ومنها ما تنفقه على تصنيع مختلف بطاقات الائتمان. ومنها نفقات إرسال الرسائل بالبريد إلى حامل البطاقة بالكشوف الشهرية، وإذا عرفنا أن المشتركين تصل أعدادهم بالملايين فإن التكاليف ستكون عالية جدًا.
القول الأول
ومنها نفقات خدمات مركز البطاقات على مدار الساعة، وخدمة الهاتف المجاني على مدار الساعة. والسؤال: ما حكم أخذ العوض في مقابل هذه الرسوم: [ن -121] هناك قولان لأهل العلم في أخذ العوض على هذه الرسوم: القول الأول: هناك من يجيز أخذ العوض على هذه الرسوم مطلقاً، سواء كان ذلك يقدر التكلفة أو أكثر، بشرط أن يكون مبلغًا مقطوعًا (¬1). وجه القول بالجواز: أن هذه العمولة لا تخرج عن كونها أجرة محددة مقطوعة على خدمة معلومة، وتسري عليها أحكام الأجرة في إجارة الأعمال ... ولأن اقترانها بضمان مصدرها لحاملها لا يلوثها بشبهة الربا ولا حقيقته، إذ لا فرق في فرضها ومقدارها بين ما إذا استخدمها حاملها بمبالغ كثيرة أو قليلة أو لم يستخدمها بتاتًا. وقد صدر عن ندوة البركة (الثانية عشرة) الفتوى التالية: يجوز للبنك المصدر لبطاقة الائتمان أن يأخذ من طالب البطاقة رسوم العضوية، ورسوم الاشتراك والتجديد، ورسوم الاستبدال، على أن تكون تلك الرسوم مقابل الخدمات المقدمة لحامل البطاقة، ولا مانع من اختلاف الرسوم باختلاف الخدمات أو ¬
ويناقش هذا
المزايا, وليس باختلاف مقدار الدين (المبلغ المستخدمة له البطاقة) أو أجله (مقدار مهلة السداد) (¬1). ويناقش هذا: إذا أجزنا اعتبار الرسوم أجرة بمبلغ مقطوع مقابل الخدمة حتى ولو زادت على التكاليف الفعلية، فإن العقد في هذه الحالة سيكون من العقود المركبة، وذلك أنه يجتمع في هذا العقد عقدان: عقد إجارة وعقد قرض: في حالة السحب المباشر ببطاقة الائتمان. وعقد إجارة وعقد ضمان يؤول إلى قرض في حالة الشراء بواسطة نقاط البيع ببطاقة الائتمان. والجمع بين عقد الإجارة والقرض لا يجوز بالإجماع؛ لأن الإجارة نوع من البيع، وهو في حكم المشروط في عقد الائتمان، وكذا الجمع بين عقد الضمان وعقد الإجارة للسبب نفسه. القول الثاني: يجوز أخذ النفقات والتكاليف الفعلية التي أنفقها البنك، ولا يجوز أن يربح في ذلك، بل يجب أن يتم حساب هذه التكاليف بدقة وعدل، وأي زيادة عليها يعتبر زيادة محرمة، يوقع في الربا؛ لأنها ستؤدي إلى أخذ العوض على ضمان الدين، وهذا يؤول بالنهاية إلى قرض جر نفعًا. فإن قيل: إن هذه الخدمات خدمات مباحة، فلماذا لا يجوز أخذ الأجر على تقديمها زائدًا على النفقات الفعلية. ¬
فالجواب
فالجواب: أن هذه الخدمات لا شك أنها خدمات مباحة، فلو قدمت هذه الخدمات بشكل منفرد أو مع خدمات أخرى لجازت المتاجرة بها، وطلب الربح من وراء تقديمها، أما إذا اجتمعت مع الضمان فإنه لا يجوز أخذ العوض عليها حتى تفصل عن الضمان: حتى لا يؤدي ذلك إلى أخذ العوض على الضمان بالاختباء وراء ستار هذه الخدمات، فتؤدي إلى قرض جر نفعاً. فالراجح في العقود المشتركة منع الجمع بين كل عقدين يترتب على الجمع بينهما محظور شرعي، وإن كان كل واحد منهما جائزاً بمفرده، فليس كل عقد جاز منفردًا جاز مضمومًا إلى غيره، فهذا عقد القرض جائز بالإجماع، وعقد البيع جائز بالإجماع، وإذا باعه بشرط أن يقرضه حرم ذلك بالإجماع. فإذا كان أخذ العوض على ضمان الدين محرمًا فإن أخذ العوض على تلك الخدمات حينئذ يكون محرمًا خشية أن يؤدي ذلك إلى أخذ العوض على الضمان بعقد مستتر باسم الأجرة على تقديم تلك الخدمات، وفي نفس الوقت لا نمانع من أخذ التكاليف الفعلية التي أنفقها الضامن دون أن يربح فيها، فهذا هو مقتضى العدل. جاء في الشرح الكبير: "فمن اقترض إردبًا مثلًا فأجرة كيله على المقترض، وإذا رده فأجرة كيله عليه بلا نزاع" (¬1). وعلق على ذلك الدسوقي في حاشيته: "قوله: (فأجرة كيله على المقترض) أي لا على المقرض؛ لأنه فعل معروفًا، وفاعل المعروف لا يغرم" (¬2). ¬
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الثالث بعمان (الأردن): "بخصوص أجور خدمات القروض في البنك الإِسلامي للتنمية، قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية: أ - جواز أخذ أجور عن خدمات القروض. ب - أن يكون ذلك في حدود النفقات الفعلية. ج - كل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة؛ لأنها من الربا المحرم شرعاً" (¬1). كما جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي رقم: 108 (2/ 12) بشأن موضوع بطاقات الائتمان غير المغطاة. جاء فيه: "يجوز إصدار البطاقة غير المغطاة إذا لم تتضمن شرط زيادة ربوية على أصل الدين. ويتفرع على ذلك: أ - جواز أخذ مصدرها من العميل رسومًا مقطوعة عند الإصدار أو التجديد بصفتها أجرًا فعليًا على قدر الخدمات المقدمة منه". وإذا جاز احتساب التكاليف الفعلية السابق ذكرها والمتمثلة في تكاليف صناعة البطاقة وتكاليف الاتصالات، والكهرباء، وتكاليف الموظفين، واستئجار مواقع أجهزة الصرف والطباعة والبريد، وهي تكاليف حقيقية، فلا يجوز احتساب تكاليف غير حقيقية، مثل تكاليف الديون المعدومة أو المتعثرة، أو تكاليف احتمال التزوير والاحتيال، أو تكاليف متابعة المتأخرين عن السداد، ¬
وتحميل هذه المبالغ على حملة البطاقات ضمن رسوم الإصدار، كما لا يجوز احتساب رسوم الاشتراك في بطاقات التخفيض ضمن رسوم الإصدار. وإذا عرفنا أنه من السائغ شرعاً دفع النفقات الفعلية التي أنفقها المصدر للبطاقة، واحتساب ذلك على شكل رسوم إصدار وتجديد واستبدال، قياسًا على نفقات التسليم والوفاء والوزن في عقد القرض والتي يتحملها المقترض فإن السؤال الذي يطرح نفسه: من يقدر التكلفة الحقيقية لهذه المصروفات؟ إن نفقات القرض والتي يتحملها المقترض مثل كيل مال القرض، أو وزنه تكاليف معروفة ومحسوبة بدقة، ولا يتحكم في تحديدها المقرض، بل هى متعارف عليها في سوق التعامل، وقد يدفعها المقترض مباشرة للوازن أو الناقل دون أن يباشر ذلك المقرض، بينما الواقع في بطاقات الائتمان المعاصرة أن تحديد التكلفة الفعلية يصدر من المصرف (المقرض) وهو الذي يتحكم فيها، وهو المستفيد منها، والبنوك الربوية ليست محل ثقة في تقدير مثل ذلك خاصة أننا نرى أن التكلفة الفعلية قد تزيد من وقت لآخر زيادة ليست يسيرة من غير مبرر في السوق الاقتصادي. لذلك يجب على المؤسسات المالية الإِسلامية أن تتبنى معيارًا معلومًا لتحديد التكلفة الفعلية يحدد بشكل جماعي، أو من قبل جهة محايدة موثوقة حتى لا يطرأ على ذلك شبهة الزيادة الربوية المستترة في التكلفة الفعلية (¬1). "ومما يدل على أن هذه الرسوم يحتسب فيها أمور أخرى غير الجهد والعمل، وما تبع ذلك ما ذكرته مجلة المجلة في شؤونها الاقتصادية في دراسة حول بطاقة الائتمان، جاء فيها: ¬
"توضح البنوك من ناحيتها أن أسباب ارتفاع رسوم البطاقات هي: حجم السوق السعودي المحدود، وانخفاض عدد البطاقات المستخدمة داخل هذه السوق، وارتفاع تكاليف التشغيل والصيانة، بالإضافة إلى بعض الديون الرديئة". وقد ذكرت هذه الدارسة أن من بين أسباب ارتفاع رسوم البطاقات المستخدمة: 1 - انخفاض عدد البطاقات المستخدمة، ومقصوده أن كثيرًا ممن يحملون بطاقات الائتمان لا يستخدمونها في الائتمان. 2 - كما ذكرت من بينها الديون الرديئة، والمقصود بذلك الديون التي يشك في تحصيلها، أو قد يكون من الصعب تحصيلها. وعليه فقد ارتأت البنوك تعويض النقص الناجم من تلك الأسباب بما يكتسبه من رسوم لقاء إصدار بطاقة الائتمان، أو تجديدها، فدل ذلك على أن هذه الرسوم تخضع لمعايير تجارية، وقد اعتبر فيها أمور أخرى غير ما يبذله البنك من جهد وعمل، وما يلزم ذلك من تبعات" (¬1). ¬
المسألة التاسعة في اشتراط فتح حساب لدى البنك مصدر البطاقة
المسألة التاسعة في اشتراط فتح حساب لدى البنك مصدر البطاقة [ن -122] اختلف العلماء في اشتراط فتح حساب لدى البنك المصدر. فقيل: يجوز مطلقاً اشتراط فتح حساب كنوع من الرهن، ليكون بمثابة توثيق لحقوقها وأمانًا لها، وهذا الاشتراط لا حرج فيه شرعًا؛ لأنه من قبيل الرهن. جاء في فتوى ندوة البركة الثانية عشرة: (يجوز للبنك المصدر لبطاقة الائتمان أن يشترط على طالب البطاقة تقديم ضمان (كفيل أو رهن) أو رهن حساباته لدى البنك، وذلك في مقابل منح حامل البطاقة مهلة سداد محدودة بدون فوائد، مع مراعا الشروط والأحكام الشرعية للكفالة والرهن والمقاصة) (¬1). وهناك من قسم اشتراط فتح الحساب لمن يرغب في الحصول على بطاقة ائتمان إلى ثلاث حالات: الحال الأولى: اشتراط غطاء معين يكون رهنًا، وتجميده دون أن يتصرف فيه المصرف إلا عند تعذر السداد. والسؤال: هل للضامن أن يأخذ رهنًا من المضمون عنه، وهل يصح رهن النقود؟ ¬
والراجح القول بالجواز.
جاء في البحر الرائق: "فإن قلت: هل للكفيل أخذ الرهن من الأصيل قبل أن يؤدي عنه؟ قلت: نعم" (¬1). وجاء في المدونة: "قلت: أرأيت الرجل يتكفل عن الرجل بحق عليه، ويأخذ بذلك رهنًا من الذي تكفل عنه، أيجوز هذا أم لا في قول مالك؟ قال: نعم هذا جائز؛ لأنه إنما تكفل بالحق" (¬2). وجاء في عقد الجواهر: "وليس من شرط الدين أن يكون ثابتًا قبل الرهن به، ولا مقارنًا له، بل لو قال: رهنت عندك عبدي هذا على أن تقرضني غدًا ألف درهم، أو على أن تبيعني هذا الثوب، ثم استقرض أو ابتاع، فإن الرهن يلزم، ويجب تسليمه إليه، وإن كان قد أقبضه إياه في الحين صار بذلك القبض رهنًا" (¬3). ومنع من ذلك الشافعية في أصح الوجهين، وعللوا ذلك بأنه لا يجوز عقد الرهن قبل ثبوت الحق (¬4). والراجح القول بالجواز. الحالة الثانية: اشتراط فتح حساب، والاذن لصاحبه أن يسحب منه دون ¬
الحالة الثالثة
قيود، وهذا أيضًا لا حرج في جوازه؛ لأن فتح الحساب هنا ليس المقصود منه القرض بدليل أن صاحبه له أن يسحبه متى شاء، وإنما الداعي لذلك هو فتح حساب يتمكن المصرف من خلاله القيد لصاحبه وعليه تسهيلًا وضبطًا للمعاملات المصرفية. الحالة الثالثة: فتح حساب برصيد معين، وللبنك الحق في الانتفاع من هذا الرصيد وحده دون صاحبه. وإذا كان البنك يتملك الرصيد وينتفع به، لم يعد وديعة، وإنما هو قرض، يجري عليه أحكام القروض، وهذا التكييف يتفق عليه الفقهاء وأهل القانون. جاء في القانون المدني المصري في مادته (726): "إذا كانت الوديعة مبلغًا عن النقود، أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال، وكان المودع عنده مأذونًا له في استعماله اعتبر قرضًا". فإذا كان هذا المبلغ يعتبر قرضاً، فإن جواز اشتراط مثل هذا يرجع إلى حكم مسألة أخرى: وهي حكم اشتراط عقد القرض في عقد القرض، وهو ما يسمى (أسلفني وأسلفك). قال في مواهب الجليل: "لا خلاف في المنع من أن يسلف الإنسان شخصًا ليسلفه بعد ذلك" (¬1). وقال عليش: "ولا خلاف في منع أسلفني وأسلفك، وبحث ابن عبد السلام بأن العادة المكافأة بالسلف على السلف، فقصده لا بعد فيه. ¬
وأجيب
وأجيب: بأن العادة قصد السلف عند الاضطرار إليه، وأما الدخول على أن يسلفه الآن ليسلفه بعد شهر مثلا فليس معتادًا، فقصده بعيد" (¬1). وأصل ذلك القاعدة الفقهية المتفق عليها بين الفقهاء كل قرض جر نفعاً فهو ربا. كما نص على ذلك الشافعية، فإنع الشافعية أن يقرض المقترض المقرض، وعللوا ذلك بأنه قرض جر نفعاً (¬2). وكذلك منع منها الحنابلة، جاء في المغني: "وإن شرط في القرض ... أن يقرضه المقترض مرة أخرى لم يجز" (¬3). وذهب فريق من المعاصرين إلى جواز القروض المتبادلة مطلقًا (¬4). وقد سبق ذكر حجج هؤلاء بما يغني عن إعادته عند الكلام على الاعتمادات المستندية. ¬
المسألة العاشرة في الخدمات المقدمة لصاحب البطاقة
المسألة العاشرة في الخدمات المقدمة لصاحب البطاقة يمنح مصدر البطاقة حامليها بعض الخدمات، وسوف نذكر هذه الخدمات، ونذكر حكمها الشرعي. (1) تقديم التأمين إذا استخدم بطاقة الائتمان في تسديد ثمن تذكرة الطيران بقيمة محددة، ويشمل التأمين نوعين منه: التأمين على الحياة. والتأمين التجاري القائم على جبر الأضرار كالتأمين الطبي حال السفر، والتأمين على الأمتعة في السفر. حكم تقديم هذه الخدمة منع الناحية الفقهية: [ن -123] الحكم الفقهي لهذه الخدمة هو نفس الحكم فيما لو اشترك حامل البطاقة في هذه الخدمة مباشرة، وقد بحثت حكم التأمين في مبحث مستقل، واشهيت فيه إلى أن التأمين التجاري القائم على جبر الأضرار يعتبر من عقود الغرر، تبيحه الحاجة الملحة، وأما التأمين على الحياة فهو من عقود الربا، فلا يجوز بحال، وهذا ما توجهت له الهيئة الشرعية بشركة الراجحي المصرفية. فقد جاء في قرارها ما نصه: "لا يظهر للهيئة حتى الآن ما يوجب تحريم التأمين المسئول عنه، ومن ثم لم تر ما يوجب الاعتراض على أن تمارس شركة الراجحي إجراء تأمين تجاري في معاملاتها الشرعية التي تحتاج فيها إلى تأمين،
وغني عن البيان أن الكلام عن التأمين التجاري هنا لا يشمل التأمين على الحياة " (¬1). (ب) التخفيض والجوائز. [ن -124] بحيث يتمتع صاحب البطاقة عند الشراء من بعض المحلات على بعض السلع والخدمات، كما يحصل على بعض الجوائز والهدايا. فإن كان لهذه التخفيضات رسوم، فإما أن يدفعها مصدر البطاقة، وأما أن يدفعها حاملها. فإن دفع الرسوم حاملها فإن هذه الرسوم مشتملة على غرر، فتكون محرمة؛ لأن دافع هذه الرسوم قد يغنم أكبر مما دفع، وقد يغرم، ولا يأخذ شيئًا، وهذا نوع من القمار. وإن دفعها مصدر البطاقة أو كانت مجانًا بلا رسوم مطلقاً فإن الخلاف في جوازها يرجع إلى الخلاف في الهبة المشتملة على غرر. فالجمهور على منع الهبة المشتملة على غرر (¬2). وذهب المالكية (¬3)، إلى صحة عقد الهبة المشتمل على غرر، وأن باب ¬
التبرعات أوسع من باب المعاوضات، وأن الموهوب له إن غنم فهو من قبيل التبرع، وإن لم يغنم لم يخسر شيئاً، وهذا اختيار ابن تيمية (¬1). (ج) الحصول على بعض الخدمات المميزة، كالدخول لصالات الانتظار المخصصة لرجال الأعمال في المطارات ونحوها. وهذا لا حرج في دفع الرسوم لها, ولا فرق بين أن يدفعها مصدر البطاقة أو حاملها. ¬
المسألة الحادية عشرة في شراء الذهب أو الفضة عن طريق بطاقة الائتمان
المسألة الحادية عشرة في شراء الذهب أو الفضة عن طريق بطاقة الائتمان [ن -125] اختلف العلماء في هذه المسألة: فقيل: لا يصح شراء الذهب أو الفضة ببطاقة الائتمان مطلقًا، أي سواء كانت البطاقة مغطاة، أو غير مغطاة. وهذا اختيار الشيخ الصديق محمَّد الأمين الضرير (¬1). وقيل: يصح مطلقًا، لا فرق بين كون البطاقة مغطاة، أو ليست مغطاة (¬2)، أختاره بعض الباحثين، كالشيخ عبد الستار أبو غدة (¬3)، والشيخ نزيه حماد (¬4)، والشيخ يوسف الشبيلي (¬5)، وغيرهم. وقيل: يجوز شراء الذهب والفضة إن كانت البطاقة مغطاة، ولا يجوز إن كانت البطاقة غير مغطاة، اختاره بعض الباحثين (¬6). ¬
وقد سبق بحث هذه المسألة فيما سبق، ورجحت أن القبض ببطاقة الائتمان قبض حكمي صحيح لا يختلف عن القبض بالشيك المصدق، ولا عن القبض بالشيك المحرر من لدن المصرف، إن لم تكن أقوى منها، وأن البطاقة إذا كانت خالية من شروط محرمة فالبيع والشراء بها سائغ، وأن قبض قسيمة الشراء يعتبر قبضًا لما تحتويه، والله أعلم، وسوف نتناول إن شاء الله تعالى بشيء من البسط أنواع البطاقات، وتاريخها، وتكييفها التكييف الشرعي في باب المعاملات المصرفية، بلغنا الله ذلك بحوله وقوته.
المسألة الثانية عشرة صرف العملات عن طريق استخدام بطاقات الائتمان
المسألة الثانية عشرة صرف العملات عن طريق استخدام بطاقات الائتمان [ن -126] في أحيان كثيرة تكون عملية الصرف من لازم الشراء، وإن لم يقصد المتعامل ببيعه وشرائه صرف نقود بأخرى، وذلك أن البطاقة لما كان لها صفة العالمية، وكان صاحبها يستطيع أن يستخدمها في معظم دول العالم، فإذا اشترى سلعًا فإن بنك التاجر يسدد عن حاملها فورًا بعملة البلد المستخدمة فيه، ثم يعود على المنظمة الراعية للبطاقة والتي تدفع له بالدولار، ثم تعود على مصدر البطاقة لتأخذ منه ما دفعته بالدولار، ثم يعود مصدر البطاقة على حاملها ليسدد له بعملة بلدة بالريال مثلاً، خلال مدة السماح المجانية، فهذه عملية صرف المقصود منها استيفاء ما وجب على المستفيد، وليس المقصود منها المعاوضة، فما حكم هذه العملية؟ أما من منع شراء الذهب والفضة ببطاقة الائتمان منع الصرف فيها، حيث لا فرق عنده بين المسألتين. وهناك من أهل العلم من أجاز المسألتين، فلم يفرق بينهما، وأدلتهم في هذه المسألة هي أدلتهم في مسألة بيع وشراء الذهب ببطاقة الائتمان، وقد سبق بحث هذه المسألة، فأغنى عن إعادتها هنا. وهناك فريق ثالث من أهل العلم أجاز شراء الذهب والفضة ببطاقة الائتمان، كما أجاز السحب النقدي بالبطاقة ولو لم يكن هناك تغطية في رصيده إذا لم يتقاض المصدر فوائد أو عمولة على الاقتراض زائدة عن النفقات الفعلية لتقديم
هذه الخدمة، ومنع من الشراء بها سلعًا إذا ترتب على هذا الشراء صرف عملة بأخرى. وقد بحثت هذه المسألة فيما سبق، ورجحت أن ذلك جائز بشرط أن يراعى في الصرف أمران مهمان لسلامتها من الربا: الأول: مراعاة أن يكون سعر الصرف ملازمًا للقبض، والقبض لا يكون إلا في يوم الأداء، حتى لا نقع في ربا النسيئة. الثاني: أن يكون سعر الصرف على أساس السعر الأدنى، أو أقل منه، لئلا يربح فيما لم يضمن، والله أعلم.
المسألة الثالثة عشرة الدخول في العقد الربوي لمن ينوي أن يدفع في الوقت
المسألة الثالثة عشرة الدخول في العقد الربوي لمن ينوي أن يدفع في الوقت [ن -127] لو تضمن عقد إصدار البطاقة نصًا ربويًا، فهل يجوز الدخول في العقد لمن ينوي أن يدفع في الوقت، ولا يضطر إلى الوقوع في الربا؟ هذه المسألة ترجع إلى مسأله سابقة، وهي هل عقد الربا عقد باطل، أو عقد فاسد يمكن تصحيحه، وسبق بحثها في عقد الربا. فمن قال: إنه عقد باطل لم ير جواز الدخول فيه؛ لأن العقود الباطلة لا يمكن تصحيحها بحال. ومن رأى أنه عقد فاسد رأى أن بالإمكان تصحيح العقد، ومن تصحيحه أن يدفع المستحقات في الوقت، ولا يضطر إلى الوقوع في الربا، ويدخل في تصحيحه أيضًا إسقاط الزيادة الربوية، عملًا في قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة: 279]. وقد اختلف العلماء في هذه المسألة إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: يسقط الربا ويصح البيع، وهذا مذهب الحنفية مطلقاً في عقود الربا سواء كان ناتجًا عن بيع أو قرض (¬1)، ووافقهم الحنابلة في القرض خاصة (¬2). ¬
دليل هذا القول
دليل هذا القول: الدليل الأول: أن بيع الربا ليس من العقود الباطلة، وإنما يعتبر من العقود الفاسدة؛ لأن الخلل لم يتطرق إلى ركن البيع، فالبيع جائز بأصله من حيث إنه بيع، وإنما منع من أجل وصفه من حيث كونه ربا؛ لاشتماله على زيادة محرمة، فعلى هذا يسقط الربا ويصح البيع؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فإذا فسد لوجود هذا المفسد، فينبغي أن يصح إذا زال المفسد، والله أعلم. جاء في الدر المختار: "القرض لا يتعلق بالجائز من الشروط، فالفاسد منها لا يبطله" (¬1). وجاء في شرح منتهى الإرادات: "ولا يفسد القرض بفساد الشروط" (¬2). الدليل الثاني: (ح -858) يستدل لهم أيضًا بما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنهما -، قالت: جاءت بريرة، فقالت: إن كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقالت عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة، وأعتقك فعلت، ويكون ولاؤك لي، فذهبت إلى أهلها فأبوا ذلك عليها ... فسمع بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألني، فأخبرته، فقال: خذيها، فأعتقيها، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق، قالت: عائشة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، ما بال رجال منكم يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، فأيما شرط ليس في ¬
وجه الاستدلال
كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، فقضاء الله أحق, وشرط الله أوثق ... " (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبطل الشرط وحده، وأبقى على العقد صحيحًا، فدل على أن الشرط إذا كان مخالفًا للشرع صح البيع، وبطل الشرط. وقد ذهب إلى جواز الدخول في عقد الائتمان إذا كان الرجل يعلم من نفسه أنه يسدد في المهلة المحددة فضيلة الشيخ محمَّد تقي العثماني، وبهذا يقول: "نرى في كثير من المعاملات أن مثل هذه الغرامة يحملها رجل مسلم، والمعاملة في أصلها ليست ربوية، فقد رأيت في كثير من البلاد أن فركة الكهرباء مثلًا تفرض على مستهلك الكهرباء أنه إذا لم يسدد فواتير الكهرباء في مدة محددة فإنه يحمل غرامة، فهل نستطيع أن نقول: إن شراء هذه الكهرباء بسبب هذا الشرط حرام؟ لا نستطيع أن نقول: إن الدخول في هذه العملية حرام من أجل أن شركة الكهرباء تفرض كرامة في صورة عدم التسديد، فكذلك هنا إذا فرضت الشركة المصدرة على حامل البطاقة أنه إن لم يسدد في خلال تلك المدة فإنه يفرض عليه غرامة، فبمجرد هذا الشرط لا يقال: إنها عملية محرمة لا يجوز الدخول فيها لمسلم، فإذا كان من نيتي وعزمي الصادق أني سوف أؤدي هذا المبلغ في خلال المدة فإنه يحل لي شرعاً أن أدخل هذه العملية فإن العقد أصله ليس عقدًا ربويًا، وإنما جاءت الغرامة لعارض التأخير في السداد من غير أن يكون لحامل البطاقة أي خيار، فأظن أن هذا ليس مانعًا شرعيًا من الدخول في هذه المعاملة، ومن الحصول على هذه البطاقة" (¬2). ¬
وأجيب
وأجيب: بأن الاستدلال بحديث بريرة هو قياس مع الفارق، فالشرط في شراء بريرة شرط باطل، والمشتري يستطيع أن يبطله؛ لأن التحاكم بين المتنازعين سيكون إلى الشريعة، بينما الشرط في البطاقة الائتمانية الربوية لا يستطيع أحد أن يبطله، ولا يستطيع أن يمتنع حامل البطاقة عن دفع الفوائد إذا ما تأخر عن السداد في الموعد المحدد، وسيكون التحاكم عند التنازع إلى القوانين الوضعية والمحاكم التجارية الملزمة، وغير الملتزمة بالأحكام الشرعية، والركون إلى أنه مستعد للدفع بالوقت اللازم، ولن يضطر إلى دفع الفوائد والغرامات هذا أمر لا يمكن القطع به؛ لأنه أمر متعلق بالمستقبل، ولا يدري الإنسان ما يطرقه فيه. الدليل الثالث: استدل لهم بعض العلماء المعاصرين بأن عقود الائتمان ليس من عقود المعاوضات، وقد نص بعض العلماء على أن العقد إذا كان من التبرعات كالهبة، والقرض، أو من الإطلاقات كالكفالة والحوالة، والوكالة، أو من التقييدات كالحجر، أو من الاسقاطات كالطلاق والعتق، ففي هذه التصرفات إذا اقترن العقد بشرط فاسد صح العقد ولغي الشرط مطلقاً، بخلاف عقود المعاوضات المالية التي لم يرض المتعاقد فيه بمبادلة ماله بمال الآخر إلا بناء على قبول هذا الشرط، فإذا فات عليه هذا الشرط لفساده كان غير راض بالمبادلة، فيفسد العقد؛ لأن من أهم شروطه التراضي بين المتعاقدين. قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. ولهذا اختلف حكم الغرر في عقود المعاوضات عنه في العقود الأخرى، فلا يؤثر وجود الغرر في عقود التبرعات على الصحيح للسبب نفسه.
ويناقش
ويناقش: بأن عقود الائتمان تؤول إلى المعاوضة، فإن فيها إما قرضاً، أو وعدًا بالقرض، والقرض وإن كان تبرعًا في الابتداء إلا أنه معاوضة في الانتهاء، والله أعلم. القول الثاني: يجب فسخ العقد الربوي إلا إن فات فيجب فيه القيمة دون الثمن المسمى لفساده، وهذا مذهب المالكية (¬1). ووجهه: قال ابن رشد في بداية المجتهد: "مالك يرى أن النهي في هذه الأمور إنما هو لمكان عدم العدل فيها -أعني بيوع الربا والغرر- فإذا فاتت السلعة فالعدل فيها هو الرجوع بالقيمة؛ لأنه قد تقبض السلعة وهي تساوي ألفاً، وترد وهي تساوي خمسمائة، أو بالعكس ولذلك يرى مالك حوالة الأسواق فوتا في المبيع الفاسد ... " (¬2). القول الثالث: ذهب الشافعية والحنابلة، ورواية ابن وهب عن مالك إلى إبطال العقد مطلقًا، ولا يمكن تصحيحة، ولا يفرقون بين الفاسد والباطل في وجوب الرد (¬3). وقد تقدمت أدلتهم عند الكلام على الفرق بين العقد الفاسد والباطل في الشروط الجعلية في عقد البيع، فأغنى عن إعادته هنا. ¬
المسألة الرابعة عشرة في أضرار البطاقة
المسألة الرابعة عشرة في أضرار البطاقة [ن -128] للبطاقة أضرار اقتصادية كثيرة، منها: الأول: الوقوع في مشاكل اقتصادية كبيرة نتيجة منح الائتمان لأشخاص غير مؤهلين ائتمانيًا، وذلك نتيجة دخول المصارف فيما بينها على التنافس المحموم في كسب العملاء، وذلك بتقديم التسيهيلات والإغراءات بأساليب مغرية جدًا تقوم بتسهيل الحصول على البطاقة من خلال إيصالها إلى العميل في منزله أو في مقر عمله، بأقل قدر من الشروط لكسب أكبر شريحة من الشباب وتقديم فرص ائتمان تصل إلى أضعاف دخل هؤلاء الشباب، وتقديم الائتمان لأشخاص غير مؤهلين ائتمانيًا له ضرر مزدوج على المصارف وعلى الأفراد: أما ضرره على المصارف فإن مثل هذا قد يوقع البنوك في الديون المعدومة، وهذا له أضرار اقتصادية جمة. وأما ضرره على الأفراد فإن هؤلاء الشباب مع تواضع دخلهم وقلة خبرتهم وانعدام الثقافة المصرفية لديهم، وقلة الوعي بحقيقة البطاقات الائتمانية وجهلهم بالفوائد والغرامات المترتبة عليها، كل ذلك مما يفاقم المشاكل، فالشباب لا يعرف كيف يرتب أوضاعه المالية، ولا يعرف كيف يسيطر عليها، وإذا وجد أن لإمكانه الشراء لوجود الائتمان فإنه يشتري ما يحتاجه وما لا يحتاجه دون أن يدرك أن هذه المبالغ الإضافية التي أضيفت إلى دخله هي على شكل قروض عالية الفوائد، ولا يدرك هذا إلا بعد أن تأتيه الفاتورة من البنك، وبعد أن يقع الفأس في الرأس، وقلة من الناس من يستخدم هذه البطاقات للحالات الحرجة فقط.
الثاني: الدخول في دوامة الديون مما يستنزف دخل الأسرة، ويضطرها إلى التقشف في الأمور المعيشية الضرورية. فلا أحد يستفيد من إغراق المجتمع كافة بديون استنزافية تأتي على مدخرات رب الأسرة، ليكون ذلك على حساب دخل الأسرة وحاجاتها ورفاهيتها وأن تكون الأسرة كلها من رب الأسرة إلى أصغر فرد فيها مرهونين لهذه الديون ولوقت طويل جداً ليجد رب الأسرة أن راتبه يتبخر على شكل أقساط، قسط للبيت، وآخر للسيارة، وقسط ثالث للأثاث ليكون ذلك على حساب نفقات الأسرة الضرورية المعيشية. ولقد وصف مشاركون في استطلاع أجرته صحيفة (الاتحاد الإماراتية) في عددها الصادر يوم السبت 7/ 4/ 2007 البطاقات الائتمانية بأنها أسرع الطرق للسقوط في دوامة الديون التي يغرق فيها يوميًا المئات بل الآلاف، ويعجزون عن الخروج منها، مطالبين المصرف المركزي والجهات المعنية بتنظيم العمل في القطاع المصرفي بالدولة بالرقابة على البنوك فيما يخص العروض المغرية التي تقدمها للعملاء للحصول على بطاقات ائتمانية، خاصة الشباب الذين مازالوا في بداية حياتهم. "إن الأخبار الصادرة من شركة فيزا العالمية تشير إلى أن متوسط إنفاق حامل البطاقة المصدرة من السعودية يبلغ (3000) دولارًا، وهو يزيد قرابة الضعف عن المتوسط العالمي البالغ (1600) دولارًا، كما تشير الأخبار إلى أن السوق السعودية تستحوذ على أكثر من ثلث البطاقات التي أصدرتها شركة فيزا في الشرق الأوسط, ويمكن أن نتوقع الحال نفسها في الأنواع الأخرى من بطاقات الائتمان" (¬1). ¬
"وفي تقرير للتطورات الاقتصادية صدر عن مؤسسة النقد (ساما) يذكر أن قروض البطاقات الائتمانية استمرت في الارتفاع خلال عام 2006 م من 4، 6 مليارات في الربع الأول، إلى 5, 5 مليارات ريال في الربع الثاني، ثم إلى 6، 7 مليارات في الربع الثالث، وصولًا إلى 7، 3 مليارات ريال في الربع الأخير. أي بزيادة 600 مليون ريال عن سابقه" (¬1). فإذا علمنا أن 70% من التركيبة السكانية للمجتمع السعودي تقع في الفئة العمرية أقل من ثلاثين عامًا، وهذه الشريحة هي المستهدفة من هذه البنوك، لكثرة احتياجاتها للائتمان نتيجة قلة الدخل وقلة الخبرة، وانعدام الوعي المصرفي إذا علمنا هذا أدركنا حجم المشكلة التي نحن مقبلون عليها إن لم يتدارك الوضع من مؤسسة النقد بوضع القيود على مثل تلك البطاقات للحد من إصدارها بحيث يتطلب إصدارها ملاءة معينة وسنًا معينًا وذلك من خلال مراجعة دخله، وكشف حسابه لمدة سنة كاملة ليتضح بذلك قدرته على التعامل مع تلك البطاقة، كما أن الإعلام مطالب بلعب دور مهم جدًا في توعية الناس وترشيدهم في الإنفاق، وعدم بث الدعايات لبطاقات الائتمان من خلال وسائل الإعلام، أو على الأقل عمل دعايات مضادة تبين خطورة مثل هذه البطاقات. ويجب أخذ الاعتبار من تجارب الأمم ممن حولنا لتجنب أوضاع مماثلة نحن مقدمون عليها، "ففي تقرير اقتصادي وصفت صحيفة الفاينينشال تايمز اللندنية مديوني البطاقات بـ (عبيد البطاقات الائتمانية) وذلك خلال أزمة البطاقات الائتمانية في تايوان والتي تسببت في إفقار الشعب، وهددت النظام المصرفي التيواني بالانهيار جراء التساهل في الإقراض مما حدا بالحكومة إلى التدخل ¬
لمعالجة الأزمة بحلول جذرية وعاجلة، ومنها إعادة دفع القرض الأصلي فقط إذا ما وصل عَبء الفائدة إلى ضعف مبلغ القرض الأصلي" (¬1). وإن رب الأسرة خاصة إذا كان من أصاحب الدخول البسيطة مطالب أن يكون إنفاقه بحجم دخله وراتبه الشهري، وأن يكون البديل للائتمان المصرفي أن يتفق مع المحل التجاري القريب من المنزل أن يفتح له حسابًا بحيث يشتري منه ويسجل على الحساب إلى حين استلام الراتب ليكون ذلك بلا فوائد، وإذا بلغ الدين مبلغًا معينًا أوقف صاحب المحل الدين إلى حين السداد. الثالث: إن هذه البطاقات المنتشرة اليوم تعتبر من أكبر الأسباب في توجيه الديون إلى الحاجات الاستهلاكية غير الإنتاجية والتوسع فيها بسبب وجود هذه التسهيلات، بدلًا من صرفها على المجالات الاستثمارية المفيدة للاقتصاد والمجتمع. الرابع: إمكانية تزوير البطاقة واستخدامها استخدامًا غير قانوني يوقع المصارف في تكاليف باهظة، فقد نشرت جريدة الحياة اللندنية في يوم السبت الموافق 18/ 8/ 2007 م أن أربعة مصارف سعودية تعرضت لعملية احتيال على البطاقات الائتمانية المصدرة لعملائها إلى عدد من دول العالم أبرزها دول جنوب شرق آسيا، مما أدى إلى تكبدها خسائر تقدر بنحو 32 مليون دولار حسب ما ذكرته الصحيفة. والله أعلم. هذه إشارة إلى بعض أضرارها الاقتصادية على المجتمع والفرد، وبهذا أختم البحث عن البطاقات الائتمانية، سائلًا المولى - عز وجل - أن أكون قد ساهمت مع غيري في كشف ملابسات هذه المنظومة المتداخلة من المعاملات المالية الوافدة إلى مجتمعنا. ¬
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد الثالث عشر
(ح) دبيان بن محمد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة / دبيان محمد الدبيان - الرياض، 1432 هـ 656 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجموعة) ج 13 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ. العنوان ديوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (13)
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: هذا هو المجلد الثالث عشر من عقود المعاوضات المالية، وقد خصصت هذا الكتاب للكلام على أحكام سوق المال والأدوات المتداولة فيه، فبعد أن انتهيت من عقد الربا والصرف، وألحقت بعقد الصرف أهم المعاملات المصرفية، ناسب أن أتبع ذلك بدراسة سوق المال والأدوات المتداولة فيه باعتبار أن الاكتتاب في الأسهم وتداولها بيعًا وشراء منه ما هو حلال، ومنه ما هو من الربا، كما أن تداول الأسهم في بلادنا تديره المصارف، فيصدق عليه أنه من المعاملات المصرفية في البلاد السعودية نظرًا لأن السوق يعتبر سوقًا محليًا، وإن كانت الأسواق المالية الدولية في العالم قد لا ترتبط بالمصارف. وكانت خطة البحث في دراسة سوق المال تعتمد بعد الله -سبحانه وتعالى - على التفصيل التالي: الخطة التفصيلية للبحث: سوق المال: توطئة. الباب الأول: أنواع الأسواق المالية. الفصل الأول: أقسام السوق من حيث التعامل. المبحث الأول: السوق الأولية. الفرع الأول: تسويق الأوراق المالية في السوق الأولية.
الفرع الثاني: حكم التسويق إذا كان مصحوبًا بضمان الاكتتاب. الفرع الثالث: حكم قصر السمسرة على أناس مخصوصين. المبحث الثاني: السوق الثانوية. الفرع الأول: الأسواق المنظمة (البورصات). الفرع الثاني: الأسواق غير المنظمة. الفرع الثالث: طريقة تداول الأوراق المالية في السوق الثانوية. الفصل الثاني: أقسام السوق من حيث الأدوات المتداولة فيه. المبحث الأول: سوق رأس المال. المبحث الثاني: سوق النقد. المبحث الثالث: الحكم الفقهي للأسواق المالية من حيث الجملة. الباب الثاني: الأدوات المتداولة في سوق رأس المال. الفصل الأول: في الشركات المساهمة. المبحث الأول: التعريف بالشركات المساهمة. المبحث الثاني: في إجراءات تأسيس شركات المساهمة في النظام السعودي. المبحث الثالث: التوصيف الفقهي للاكتتاب. المبحث الرابع: التوصيف الفقهي لشركة المساهمة. المبحث الخامس: حكم شركات المساهمة من الناحية الفقهية. المبحث السادس: في الشخصية الاعتبارية للشركة. المبحث السابع: مبدأ المسئولية المحدودة للشركة من الناحية الفقهية.
الفصل الثاني: في مفهوم الأسهم وخصائصها. المبحث الأول: في التعريف بالأسهم وبيان خصائصها وحقوقها. المبحث الثاني: أنواع الأسهم وبيان حكم كل نوع. الفرع الأول: أقسام الأسهم من حيث طبيعة الحصة التي يدفعها الشريك؟ الفرع الثاني: أنواع الأسهم من حيث الشكل والتداول. الفرع الثالث: أنواع الأسهم من حيث الحقوق. الفرع الرابع: تقسيم الأسهم من حيث الاستهلاك وعدمه. المسألة الأولى: استهلاك الأسهم من الناحية الفقهية. المسألة الثانية: حكم إصدار أسهم التمتع. المبحث الثالث: القيم التي تمثلها الأسهم. المبحث الرابع: في حقيقة السهم. المبحث الخامس: الموقف الفقهي من إصدار الأسهم. فرع: حكم المساهمة في الشركات المختلطة. المبحث السادس: المضاربة في الأسهم (المتاجرة). الفرع الأول: في معني المضاربة والفرق بين المضارب والمستثمر. الفرع الثاني: في حكم المضاربة في الأسهم (المتاجرة). المبحث السابع: بيع الأسهم قبل التخصيص. المبحث الثامن: حكم استثمار أموال الاكتتاب قبل التخصيص. المبحث التاسع: في بيع الأسهم بعد التخصيص وقبل التداول.
المبحث العاشر: إشكال وجوابه عن تداول الأسهم. الفصل الثالث: في السندات. المبحث الأول: في تعريف السندات وعوامل إصدارها وشروطه. المبحث الثاني: في أنواع السندات. المبحث الثالث: حقوق حامل السند. المبحث الرابع: الفرق بين الأسهم والسندات. المبحث الخامس: خلاف العلماء في حكم إصدار السندات. المبحث السادس: حكم تداول السند. الفرع الأول: في بيع السندات على من تولى إصدارها. الفرع الثاني: في بيع السندات على غير الشركة المصدرة. المسألة الأولى بيع أصل السند بثمن موجل. المسألة الثانية: بيع أصل السندات على غير من هو عليه بثمن حال. المبحث السابع: البديل الشرعي للسندات. الفرع الأول: سندات المقارضة (المضاربة). المسألة الأولى: التعريف بسندات المقارضة. المسألة الثانية: الحكم الفقهي لسندات المقارضة. الفرع الثاني: سندات المقارضة لدي الأوقاف الأردنية. المسألة الأولى: التعريف بسندات المقارضة لدى الأوقاف الأردنية. المسألة الثانية: الحكم الفقهي لسندات القروض بحسب القانون الأردني.
الفرع الثالث: سندات الإجارة. المسألة الأولى: التعريف بسندات الإجارة. المسألة الثانية: سندات ملكية الأصول المؤجرة. المطلب الأول: التعريف بسندات ملكية الأصول المؤجرة وبيان خصائصها. المطلب الثاني: التوصيف الفقهي والحكم الشرعي لصكوك ملكية الإجارة. الحكم الأول: في بيع المشاع. الحكم الثاني: حكم بيع الحصة المشاعة في العين المؤجرة. الحكم الثالث: في إجارة المشاع. المسألة الثالثة: سندات ملكية المنافع. المطلب الأول: التعريف بسندات ملكية المنافع. المطلب الثاني: التوصيف الفقهي والحكم الشرعي لسندات ملكية منافع الأعيان المعينة. الحكم الأول: في تأجير المستأجر لما استأجره بعد قبضه. الحكم الثاني: تأجير المستأجر لما استأجره قبل قبضه. المطلب الثالث: توصيف سندات ملكية المنافع الموصوفة وحكمها الفقهي. المطلب الرابع: حكم تداول صكوك الأعيان الموصوفة في الذمة. المسألة الرابعة: سندات ملكية الخدمات. الفصل الرابع: في حصص التأسيس.
المبحث الأول: التعريف بحصص التأسيس وبيان خصائصها. المبحث الثاني: التوصيف الفقهي لحصص التأسيس. المبحث الثالث: الحكم الفقهي لحصص التأسيس. الباب الثالث: في عمليات سوق الأوراق المالية. الفصل الأول: في العمليات العاجلة والفورية وأحكامها الفقهية. المبحث الأول: بيع الأسهم والسندات في العمليات العاجلة. المبحث الثاني: التعامل بالهامش (الشراء بجزء من الثمن). الفرع الأول: الحكم الفقهي للشراء بالهامش. الفرع الثاني: إمكانية تصحيح الشراء بالهامش. الفرع الثالث: في رهن الأسهم. المبحث الثالث: البيع على المكشوف (البيع القصير). الفرع الأول: في تعريف البيع على المكشوف. الفرع الثاني: الأحكام الفقهية للبيع على المكشوف. المطلب الأول: حكم البيع على المكشوف. المطلب الثاني: في العقود المقترنة في البيع على المكشوف. المسألة الأولى: في إقراض الأسهم. الصورة الأولى: أن يكون اقتراض الأسهم من السمسار. الصورة الثانية: أن يكون اقتراض الأسهم من غير السمسار. المسألة الثانية: رهن الثمن عند المقرض وانتفاعه به.
المسألة الثالثة: البيع على المكشوف قبل اقتراض البائع الأسهم. المسألة الرابعة: في اشتراط تحمل المقترض أرباح الأسهم للمقرض. المسألة الخامسة: في اشتراط حلول القرض. المسألة السادسة: حكم هامش الضمان. الفصل الثاني: في المعاملات الآجلة وأحكامها الفقهية. توطئة: التعريف بالمعاملات الآجلة. المبحث الأول: الحكم الفقهي للمعاملات الآجلة الباتة. المبحث الثاني: حكم المرابحة والوضعية في البيوع الآجلة. المبحث الثالث: العمليات الآجلة الشرطية (الاختيارات). الفرع الأول: التعريف بالعمليات الآجلة الشرطية. الفرع الثاني: حكم العمليات الآجلة الشرطية. المطلب الأول: حكم المعاوضة على حق الخيار. المطلب الثاني: حكم العقود الآجلة بشرط الخيار. الباب الرابع: في الأدوات المتداولة في سوق النقد. الفصل الأول: في الأوراق التجارية. المبحث الأول: في تعريف الأوراق التجارية وبيان خصائصها وأنواعها. المبحث الثاني: في الكمبيالة. الفرع الأول: في تعريف الكمبيالة وبيان خصائصها. الفرع الثاني: في حكم إصدار الكمبيالة.
الفرع الثالث: في تداول الكمبيالة. الفرع الرابع: التخريج الفقهي للكمبيالة. المسألة الأولى: أن يكون المسحوب عليه مدينًا للساحب. المسألة الثانية: أن يكون المسحوب عليه غير مدين للساحب. المسألة الثالثة: أن يكون الساحب غير مدين للمستفيد. المبحث الثالث: السند الإذني (السند لأمر). المبحث الرابع: في الشيك. الفرع الأول: تعريف الشيك والفرق بينه وبين بقية الأوراق التجارية. الفرع الثاني: التوصيف الفقهي للشيك. المسألة الأولى: الشيك الموجه من العميل إلى مصرف له فيه حساب. المسألة الثانية: ألا يكون لمحرر الشيك رصيد في البنك. المبحث الخامس: الفرق بين الأوراق المالية والأوراق التجارية. المبحث السادس: أحكام التعامل بالأوراق التجارية. الفرع الأول: تحصيل الأوراق التجارية. الفرع الثاني: رهن الأوراق التجارية. الفرع الثالث: خصم الأوراق التجارية. الفرع الرابع: حكم خصم الأوراق التجارية. المطلب الأول: أن يتولى الخصم المصرف المدين بقيمة الكمبيالة. المطلب الثاني: الخصم من مصرف ثالث غير مدين بالكمبيالة.
وبهذه المسألة أكون قد انتهيت من المباحث المختارة من أحكام سوق المال، أسأل الله - سبحانه وتعالى - بأسمائه وصفاته أن يجعل العمل خالصًا لوجهه صوابًا على سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يتجاوز به عن سيئاتي، وأن يرزقني به عفوه وعافيته لي ولوالدي ولأهل بيتي، ولمن له فضل علي، وللمسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
سوق المال
سوق المال توطئة تعريف سوق المال: كلمة (سوق المال) مركب إضافي من كلمتين: سوق، وكلمة مال. أما مدلول كلمة المال كلفظة مفردة فقد سبق بحثها عند تعريف البيع. أما كلمة سوق، فتطلق في اللغة، ويراد بها موضع البيع والشراء. قال ابن سيده: السوق التي يتعامل فيها تذكر وتؤنث، والجمع أسواق، وجاء بهذا المعنى قوله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7]. يقول ابن خلدون: "اعلم أن الأسواق كلها تشتمل على حاجات الناس, فمنها الضروري، وهي الأقوات من الحنطة، وما في معناها، ومنها الحاجي، والكمالي، مثل الأدم، والفواكه، والملابس، والماعون". وأما تعريف كلمة (سوق المال) اصطلاحًا كمركب إضافي: هذا المصطلح هو من المفاهيم الجديدة المطروحة على بساط البحث الفقهي، فهي لم تكن معروفة لدى الفقهاء المتقدمين بالمفهوم الذي تعرفه المجتمعات في هذه الأيام. لذا كان الواجب على حملة العلم الشرعي أن يتوجهوا لدراسة نظم هذه الأسواق، ومحاولة ضبطها بقواعد الشريعة وأصوله. ويمكن تعريف سوق المال: بأنه إطار يتم من خلاله اجتماع المدخرين بالمستثمرين، من أجل إصدار
النوع الأول
أدوات معينة، للحصول على الأموال اللازمة للمشروعات التجارية، وتداول هذه الأدوات وفق سياسات معينة، وطرق متنوعة يتحقق بها هذا الجمع حيث تجعل الأثمان السائدة في لحظة زمنية معينة واحدة بالنسبة لأية ورقة مالية متداولة (¬1). فقولنا: (إصدار أدوات معينة) المقصود بالأدوات هي الأدوات المالية، طويلة كانت كالأسهم والسندات، أو قصيرة كالأوراق التجارية، وأذونات الخزانة، فالسوق المالية لا يمكن أن تؤدي وظيفتها، إلا من خلال هذه الأدوات المالية. وقولنا: (للحصول على الأموال اللازمة للمشروعات التجارية) في هذا بيان للغرض الذي من أجله أصدرت هذه الأدوات. وقولنا: إصدار أدوات معينة ... وتداول هذه الأدوات إشارة إلى أن السوق المالية تطلق على نوعين من السوق: النوع الأول: سوق إصدار الأوراق المالية، وهو ما يعرف بالسوق الأولية، وهي سوق تصنعه مؤسسة متخصصة تعرض فيها للجمهور لأول مرة أوراقًا مالية، تم إصدارها لحساب منشأة أعمال، أو جهة حكومية، يتم من خلالها توفير رأس المال اللازم لإنشاء هذه المنشأة المساهمة، وذلك عن طريق إصدار أدوات الملكية كالأسهم، وأدوات الدين كالسندات. ¬
النوع الثاني
النوع الثاني: سوق تداول هذه الأوراق، وهو ما يعرف بالسوق الثانوية. وهي السوق التي يتم فيها إعادة بيع الأوراق المالية التي سبق إصدارها، أي بعد أن ينتهي البنك المختص من توزيعها. فمصطلح (سوق المال) أعم من مصطلح (البورصة) وذلك أن البورصة هي المكان أو القاعة المخصصة لتداول الأوراق المالية، وأما سوق المال فيشمل سوق التداول، وسوق إصدار الأوراق المالية، فالبورصة: جزء من السوق المالية، وليست هي السوق المالية (¬1). إذا عرفنا هذا، عرفنا دور السوق المالي، وأنها تعلب دور الوسيط بين المدخرين، والمستثمرين، وتجمع بينهم كما تفعل البنوك، فهي تعمل على جذب المدخرات بوسائل مختلفة، وطرق شتى، ثم تعطيها للمستثمرين بشروط محددة (¬2). ويعمل في سوق المال ثلاث فئات مختلفة: الفئة الأولى: فئة المدخرين، وهم الفئة التي تملك فائضا ماليًا، سواء كانت قطاعات، أو مؤسسات، أو أفرادًا. الفئة الثانية: فئة المستثمربن، وهي الفئة التي تطلب المال، إما على جهة الاقتراض، أو عن طريق إصدار سندات ونحوها. الفئة الثالثة: الوسطاء، وهم القنوات الوسيطة التي تتدفق من خلالها المدخرات من فئة المدخرين، إلى فئة المستثمرين، وتضم السماسرة، ومصارف ¬
الاستثمار، كما تضم البنوك التجارية، وشركات التأمين، وصناديق الادخار، وبيوت الخصم (¬1). ¬
الباب الأول أنواع الأسواق المالية
الباب الأول أنواع الأسواق المالية تنقسم الأسواق المالية إلى عدة أقسام، فمن حيث التعامل. تنقسم السوق المالية: إلى سوق أولية. وسوق ثانوية. كما تنقسم السوق الثانوية إلى قسمين: أسواق منظمة (البورصة). وأسواق غير منظمة، ويطلق عليها عدة مسميات: السوق المفتوح، والسوق غير الرسمي، والسوق الموازية. كما تنقسم السوق المالية من حيث المدة الزمنية التي يرغب المدخر في التخلي فيها عن فائضه، إلى: أسواق رأس المال - وأسواق النقد. وسوف نتكلم بإيجاز عن هذه التقاسيم، وبعده ننتقل إلى الحديث عن أحكام الأوراق المالية المعروضة في هذه السوق.
الفصل الأول أقسام السوق من حيث التعامل
الفصل الأول أقسام السوق من حيث التعامل تنقسم السوق من حيث التعامل إلى سوقين: (أ) سوق أولية. (ب) سوق ثانوية. وتنقسم السوق الثانوية إلى قسمين: سوق منظمة، وسوق غير منظمة. وسوف نتكلم عن كل واحدة من هذه الأسواق.
المبحث الأول: السوق الأولية
المبحث الأول: السوق الأولية السوق الأولية: وتسمى بسوق الإصدار. وهي سوق تصنعه مؤسسة متخصصة تعرض فيها للجمهور لأول مرة أوراقًا مالية عن طريق الاكتتاب العام لأول مرة من قبل شركات تحت التأسيس، أو من قبل شركات قائمة بالفعل بغرض زيادة مواردها المالية، يتم من خلالها توفير رأس المال اللازم وذلك عن طريق إصدار أدوات الملكية كالأسهم، وأدوات الدين كالسندات. والعلاقة التي تنشأ عن هذه العقود: هي علاقة شريك بشريكه كما في أدوات الملكية (الأسهم). أو علاقة مقرض بمقترض كما في أدوات الدين (السندات).
الفرع الأول تسويق الأوراق المالية في السوق الأولية
الفرع الأول تسويق الأوراق المالية في السوق الأولية تتم عملية بيع الأوراق المصدرة بواسطة بنك الاستثمار، وفي بعض البلاد التي تتسم أوراقها المالية بالصغر تقوم المصارف التجارية بدور بنك الاستثمار. ويتم ذلك بواسطتها بإحدى طريقتين: الطريقة الأولى: أن يقوم بنك الاستثمار بدور الوسيط بين الشركة المصدرة والمكتتبين مقابل عمولة متفق عليها دون التزام بتغطية الاكتتاب (¬1). ويعتبر ما يتقاضاه البنك هو في مقابل السمسرة. ومعلوم أن السمسار إما أن يكون عمله مقدرًا بالزمن، يحيث تتعاقد اللجنة المصدرة للأوراق المالية مع بنك الاستثمار بتصريف إصداراتها من الأوراق المالية خلال مدة معينة، على أن يستحق أجرة مسماة بانقضاء المدة بصرف النظر عما تم تسويقه من هذه الأوراق. [م - 1249] والعقد بهذا التوصيف يعتبر من باب الإجارة، وهو جائز باتفاق الفقهاء إلا أن هذا التقدير تقدير افتراضي، فالعمل اليوم بين الجهة المصدرة وبين بنك الاستثمار لا يتم على أساس تقدير السمسرة بالزمن. أو يكون عمل السمسار مقدرًا بالعمل، وهو الغالب، وذلك بأن تعهد الجهة المصدرة إلى بنك الاستثمار بتصريف أوراقها المالية وله أجر مسمى عن كل ورقة يتم تصريفها، أو نسبة معينة من قيمة الورقة. ¬
القول الأول
[م - 1250] وقد اختلف الفقهاء في حكم عقد السمسرة المقدر بالعمل على قولين: القول الأول: لا يجوز، وهو مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: يجوز، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2)، والمشهور من مذهب المالكية (¬3)، ومذهب الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5)، وبه قال ربيعة ويحيى بن سعيد وغيرهم (¬6). ¬
وسبب الخلاف
وسبب الخلاف: أن عقد السمسرة إذا قدر بالعمل اشتمل على الغرر، والجهالة من وجهين: الوجه الأول: أن العمل مجهول، فالبيع قد يتم بكلمة واحدة، وقد يتعب في النداء، ولا يجد من يشتري. الوجه الثاني: أن غاية العمل في السمسرة مجهول أيضًا، وذلك لأن تمام عمل السمسار مرتبط بوجود من يتم معه التعاقد (وهو وجود مستثمر)، وهذا ليس بمقدور الوسيط. فمن أجازها جعل ذلك من باب الجعالة، والجهالة في الجعالة مغتفرة، أو من باب الأجير المشترك، ويكون توجيه الجواز: أن السمسرة مقابلةُ عملٍ بعوض، والعوض معلوم، والعمل معلوم نوعه، مجهول غايته، وهذه الجهالة يعفى عنها للحاجة. أو أن تمام العمل ممكن في الجملة؛ لأن السلع لا تنفك عن راغب غالبًا وفي منعها جعلها من باب الإجارة، والإجارة على عمل مجهول إجارة فاسدة. الراجح: الأرجح القول بالجواز سواء تم توصيف العقد على أنه جعالة، أو إجارة، فقد مضى عمل الناس منذ القدم على جواز أجرة السمسار من غير فرق بين أن يقدر ذلك بالزمن، أو بالعمل.
الطريقة الثانية لتسويق الأوراق المالية.
جاء في حاشية ابن عابدين "وفي الحاوي سئل محمَّد بن سلمة عن أجرة السمسار؟ فقال: أرجو أنه لا بأس به، وإن كان في الأصل فاسدًا؛ لكثرة التعامل، وكثير من هذا غير جائز فجوزوه لحاجة الناس إليه، كدخول الحمام" (¬1). الطريقة الثانية لتسويق الأوراق المالية. أن يكون التسويق مصحوبًا بتعهد من بنك الاستثمار بتصريف كامل الكمية المقرر إصدارها، أو حد أدنى منها، وهو ما يسمى بالتغطية بضمان النتيجة. " وله صور متعددة منها: 1 - أن يلتزم بنك الاستثمار (مدير الاكتتاب) بشراء ما تبقى من الأسهم المطروحة بعد اكتتاب عامة الناس فيها، بقيمتها الاسمية بدون مقابل على هذا الضمان. 2 - أن يلتزم البنك بشراء ما يتبقى من الأسهم المطروحة بعد اكتتاب عامة الناس فيها بقيمتها الاسمية، مقابل مبلغ مقطوع على هذا الالتزام. 3 - أن يلتزم البنك بشراء ما يتبقى من الأسهم المطروحة بعد اكتتاب عامة الناس بأقل من قيمتها الاسمية. 4 - أن يشتري البنك من الشركة المساهمة جميع الأسهم المطروحة للاكتتاب قبل طرحها للاكتتاب بسعر أقل من السعر المحدد ليبيعها على المكتتبين، ويمثل الفارق بين القيمتين المصروفات الإدارية للأعمال التي قام بها البنك إضافة إلى ربحه من شرائه للأسهم، ثم يبيعها على المكتتبين" (¬2). ¬
الفرع الثاني حكم التسويق إذا كان مصحوبا بضمان الاكتتاب
الفرع الثاني حكم التسويق إذا كان مصحوبًا بضمان الاكتتاب [ن - 129] اختلف القول في التخريج الفقهي إذا كان التسويق مصحوبًا بضمان الاكتتاب إلى قولين: التخريج الأول: تخريجه على أنه عقد ضمان. وإلى هذا ذهبت توصيات الندوة الثانية للأسواق المالية المنعقدة بدولة البحرين (¬1)، ومجمع الفقه الإِسلامي (¬2). ومستند هذا التخريج: أن التزام بنك الاستثمار في بيع ما يتبقى من الأسهم فيه معنى الضمان؛ لأن ¬
حكمه الفقهي بناء على هذا التخريج
بنك الاستثمار قد ضمن للشركة بيع أسهمها إما باكتتاب المستثمرين في كل الأسهم المطروحة، أو في شراء ما يتبقى منها بعد الاكتتاب. حكمه الفقهي بناء على هذا التخريج: الخلاف فيه يرجع إلى الخلاف في أخذ العمولة على الضمان، والأقوال فيه ثلاثة أقوال: القول الأول: يرى أن تعهد الملتزم بالاكتتاب في كل ما تبقى مما لم يكتتب فيه غيره يجب أن يكون بالقيمة الاسمية وبدون أن يأخذ مقابلًا على هذا الضمان، فلا يجوز له أن يأخذ عمولة على هذا الضمان. وإلى هذا ذهبت توصيات الندوة الثانية للأسواق المالية المنعقدة بدولة البحرين (¬1)، ومجمع الفقه الإِسلامي (¬2). ومستند القول بالتحريم: المستند الأول: أن القول بتحريم أخذ العمولة على الضمان حكي الإجماع على تحريمه. قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الجعالة بجعل ¬
المستند الثاني للتحريم
يأخذه الحميل لا تحل، ولا تجوز" (¬1). المستند الثاني للتحريم: أن الضمان عقد إرفاق وإحسان وأخذ العوض عليه يخالف مقتضاه. المستند الثالث: ولأن الجعل إنما يستحق في مقابلة عمل، وليس الضمان عملاً، فلا يستحق به جعلًا. وبهذا صدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي، وجاء في القرار: "إن الكفالة: هي عقد تبرع يقصد للإرفاق والإحسان، وقد قرر الفقهاء عدم جواز أخذ العوض على الكفالة؛ لأنه في حالة أداء الكفيل مبلغ الضمان يشبه القرض الذي جر نفعًا على المقرض، وذلك ممنوع شرعًا ... " (¬2). القول الثاني: يرى جواز أخذ الأجرة على الضمان مطلقًا، وبالتالي لا يرى مانعًا من أخذ العمولة على تغطية الاكتتاب. وقد نسب القول بجواز أخذ العمولة على الضمان إلى الإِمام إسحاق ابن راهوية، ولا يصح عنه (¬3)، وقال به من المعاصرين الشيخ عبد الرحمن السعدي (¬4)، والشيخ علي الخفيف، وعبد الرحمن عيسى، ومحمود ¬
القول الثالث
عبد الحليم، وعبد الله البسام، وعبد الله بن منيع (¬1)، والدكتور نزيه حماد (¬2). وقد ذكرنا أدلتهم بشيء من التفصيل عند الكلام على خطاب الضمان في المعاملات المصرفية، والحمد لله، وأجبنا عليها، فأغنى عن إعادتها هنا. القول الثالث: يرى جواز أخذ العمولة على الضمان إذا كان الضمان لا يؤول إلى قرض جر نفعاً، كما لو كان الالتزام لم يكن بسبب دين، فالضمان في تغطية الاكتتاب، لم يكن فيه مدين أصلًا، فهو مجرد التزام بشراء ما تبقى من الأوراق المالية، فليس كل تعهد يعد ضمانًا بالمعنى الذي يذكره الفقهاء، فالفقهاء يريدون بالضمان: التزام مكلف دينًا على غيره، والتزام بنك الاستثمار تغطية الاكتتاب ليس فيه التزام دين أصلًا، وإنما هو مجرد تعهد بشراء الأسهم المطروحة أو بعضها. والقول بأن الضمان لا يقابله عمل، فلا يستحق الأجرة عليه لا يصدق على ¬
الحال الأولى
ضمان تغطية الاكتتاب؛ فإن الضمان هنا مقرون بعمل يقوم به بنك الاستثمار من تسويق للأوراق المالية على الجمهور، وتحصيل أموال المستثمرين، فلا أرى أنه ينطبق عليه أحكام الضمان الفقهي. وانتقد الشيخ يوسف الشبيلي توصيف تسويق الأوراق المالية مصحوبًا بضمان الاكتتاب على أنه عقد ضمان مجرد، بل هو من قبيل ضمان الملك. واستدل لقوله: بأن الربح الذي يتحصل عليه البنك في مقابل امتلاك الأوراق المالية، ومن ثم بيعها، فالضمان ضمان ملك، وليس ضمانًا مجردًا. وقال الشيخ: يجب أن نفرق بين حالين: الحال الأولى: أن يلتزم بنك الاستثمار للجهة المصدرة بدفع كامل القيمة الاسمية، أو جزء منها في حال عدم شراء الورقة المالية في السوق الأولية، مع احتفاظ الجهة المصدرة بملكية الورقة. فهذه الحال لا شك في تحريمها، والغرر فيها ظاهر، ولا أعلم أن هذا النوع من التعهد معمول يه في الأسواق المالية. الحال الثانية: أن يلتزم البنك يشراء ما يتبقى من تلك الأوراق بعد التسويق بالقيمة المتفق عليها، أو يلتزم بشراء جميع الأوراق بتلك القيمة، ومن ثم تسويقها بقيمتها الاسمية. ففي هذه الحال لا يلزم أن يكون الأجر الذي يأخذه البنك بمقدار نفقاته الفعلية للتسويق؛ لأن البنك يشتري هذه الأوراق (¬1). ¬
التخريج الثاني: تخريج تسويق الأوراق على أنه من بيع الوضيعة
التخريج الثاني: تخريج تسويق الأوراق على أنه من بيع الوضيعة: بيع الوضيعة: خلاف بيع المرابحة. وقد عرف بيع الوضيعة اصطلاحًا: بأن يقول البائع: بعتك بمثل ما اشتريت به، أو بما قام علي مع نقصان شيء معلوم، كعشرة دراهم، أو حط درهم لكل عشرة (¬1). وسمي هذا مواضعة؛ لأنه أخذ بدون رأس المال. وجه كون التسويق المصحوب بالتعهد من بنك الاستثمار بشراء الأوراق كلها، أو جزء منها وضيعة: أن الجهة المصدرة للأوراق المالية تبيع بنك الاستثمار تلك الأوراق بقيمتها الاسمية ناقصة نسبة محددة. ويكون حكم الربح الذي يأخذه البنك، بناء على هذا التخريج، أنه حلال؛ لأنه جاء من شراء وبيع حقيقة، وبيع الوضيعة جائز عند كافة الفقهاء من حيث الجملة (¬2). اعترض على هذا التخريج بثلاثة اعتراضات: الاعتراض الأول: لا يلزم من البيع بالقيمة الاسمية أن يكون البيع بقيمة التكلفة، فلا يصح تخريجه على بيع الوضيعة؛ لأن بيع الوضيعة لا يصدق إلا على صورتين فقط: الصورة الأولى: البيع بما اشتراه يه مع نقص معلوم. الصورة الثانية: البيع بما قام عليه به مع نقص معلوم. وهذا قد لا يتوفر في البيع بالقيمة الاسمية. ¬
الاعتراض الثاني
الاعتراض الثاني: كون الجهة المصدرة تشترط على بنك الاستثمار، أن يبيع الأوراق المالية بالقيمة الاسمية، وليس من حقه الزيادة على ذلك، فهذا شرط يخالف مقتضى العقد، فإن مقتضى العقد أن يبيع المالك سلعته بما يريد. وقد ناقشت هذا الشرط ومثله فيما لو اشترط ألا يبيع السلعة في مبحث الشروط في البيع، ورجحت صحته إذا كان له غرض صحيح بهذا الشرط، فأغنى عن إعادته هنا. الاعتراض الثالث: أن العقد مشتمل على غرر، وذلك أن النسبة المتبقية بعد تصريف الإصدار، والتي يلتزم البنك بشرائها غير معلومة، فقد يتبقى النصف، أو الثلث، أو الربع، أو أقل أو أكثر. وأجيب: بأن العلم بقيمة الورقة الواحدة كاف في انتفاء الجهالة، وإن لم يتبين مقدار الأوراق المبيعة جملة؛ لأن ما يشترط في الثمن هو أن يكون معلومًا، سواء كان ذلك للجملة دون تفصيل، أو للتفصيل دون الجملة؛ لأن المراد تجنب الجهالة المقضية إلى نزاع (¬1). الراجح: الراجح أن البيع هنا ليس من قبيل بيع الوضيعة؛ لأن من شرط بيع الوضيعة العلم بالثمن الأول، وهو سر التكلفة على البائع، وهو ما لا يشترط في هذا ¬
العقد، وإنما يتم تحديد الثمن بالمساومة بين الطرفين، فهو بيع مساومة لا بيع أمانة، لكن إن كان البيع يتم على جميع الصفقة، ثم يقوم البنك بتسويقها فهذا لا حرج فيه. وإن كان البيع إنما يقع على المقدار المتبقي من الإصدار، فيكون وعدًا ملزمًا بالشراء من مالك حقيقي، مشروطًا ومقرونًا بتولي تسويق الأوراق المالية، وتحصيل أموال المستثمرين، فهو عقد مركب من عقدين: الأول: تسويق الأوراق المالية، وتحصيل أموال المستثمرين، وهذا لا حرج في أخذ العمولة في مقابله. الثاني: التزام بشراء ما يتبقى من تلك الأوراق المالية بنفس القيمة، وهذا الوعد يجب ألا يكون ملزمًا؛ لأن الإلزام بالوعد إلزام بما لا يلزم. صحيح أن الإلزام هنا يختلف عن الإلزام بالمرابحة؛ لأن الإلزام بالمرابحة فيها محذوران: المحذور الأول: أن السلعة غير مملوكة وقت الوعد، فيكون العقد من بيع ما لايملك. والمحذور الثاني: الإلزام بالوعد. بينما في مسألتنا ليس فيها إلا محذور واحد، وهو الإلزام بالوعد، والواعد يجب أن يكون بالخيار فإن التزم بوعده وشرع في تسويق الأوراق المالية فقد شرع في المعاملة، ويعتبر بهذا قد أوقع الوعد، فيقع صحيحًا، وإن رأى أن يرفض فله ذلك؛ لأن العقد لم ينعقد بعد فلا يلزم قبل انعقاده، لكن إن أراد ألا يُمضِي الوعد فيجب أن يكون ذلك قبل الشروع في تسويق الأوراق المالية، والله أعلم.
الفرع الثالث حكم قصر السمسرة على أناس مخصوصين
الفرع الثالث حكم قصر السمسرة على أناس مخصوصين [ن -130] تكاد تكون جميع الأنظمة والقوانين في العالم تنص على وجوب وساطة السماسرة المعتمدين في عمليات بيع، وشراء الأوراق المالية، وإبطال كل تعامل لا يتم من خلالهم. فهل يعتبر هذا امتيازًا واحتكارًا فيكون من الظلم والعدوان، أو يعتبر هذا تنظيمًا تمليه الضرورة لمهام يجب ألا يمارسها إلا المختصون لخطورتها، وانعكاساتها الخطيرة على مستوى النشاط الاقتصادي؟ وللجواب على ذلك يقال: إن كان قصر الوساطة علق على أشخاص بعينهم، أو على شركات بعينها، فهذا لا يجوز؛ لأن هذا من الاحتكار المحرم الذي قد يؤدي إلى رفع أجور السمسرة، ومنع المنافسة في السوق. وإن كان معلقًا بالوصف، بأن تقصر الوساطة على أشخاص أو شركات تتوفر فيها صفات معينة، مع تمكين كل من توفرت فيه هذه الصفات من ممارسة الوساطة فهو جائز، بل قد يكون واجبًا. يقول الأستاذ أحمد محيي الدين أحمد: "أرى أن قصر التعامل على الوسطاء أملته اعتبارات عملية، وفنية، ومصلحة قومية: فمن الناحية العملية فإن قصر تنفيذ أوامر ورغبات المستثمرين على مجموعة متخصصة، وملتزمة بقواعد وإجراءات تفهمها جيدًا، من شأنه أن ينظم مثل هذا النوع من التعامل، وينجز أكبر حجم من المعاملات في أقل زمن ممكن دون أي إخلال بأي رغبة ممكنة التحقيق لأي من العملاء، كما يسهل ذلك من عملية
إعداد البيانات، والإحصاءات عن حجم التداول، والأسعار التي تم بها. كما أن المدخرين ليس لهم الوقت الذي يتيح لهم فرصة الوجود بالسوق ليتفاوض كل منهم عما يود بيعه، أو شراعه. كما أنه توجد استحالة في تسجيل أسعار التعامل. ومن الناحية الفنية: فإن تحديد الأسعار لا يتم عن طريق التقاء كل الطلب مع كل العرض، بل يشكل كل متعامل طلبًا، أو عرضما قائمًا بذاته، ويقل في مثل هذه الحال المؤسسات التي تعنى بتحليل البيانات الصادرة عن الشركات، وتقويم أعمالها، وإرشاد المستثمرين نحو الفعاليات المنتجة. وفيما يختص بالمصلحة القومية، فإن قصر التعامل على الوسطاء الملتزمين بقواعد المهنة يحول دون الآثار الضارة المتمثلة في انعدام الرقابة المباشرة على معاملات السوق، وانطلاق الأسعار لتهدد أحيانًا استقرار السوق دون القدرة على تحديد حدود دنيا وعليا لتقلبات الأسعار. وقد ينتج عن التعامل مباشرة بدون الوسطاء اشتداد موجات المضاربة، والتي تخل بمبدأ التخصيص الأمثل للموارد المالية المتاحة، وبصفة عامة، فإن مزايا قصر التعامل على الوسطاء تصل لأن تكون هي نفسها مزايا وجود سوق الأوراق المالية المنظمة" (¬1). وقد نص قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي على جواز قصر السمسرة على أشخاص معينين، حيث جاء فيه: "يجوز للجهات الرسمية المختصة أن تنظم تداول بعض الأسهم بألا يتم إلا بواسطة سماسرة ¬
القول الأول
مخصوصين، ومرخصين بذلك العمل؛ لأن هذا من التصرفات الرسمية المحققة لمصالح مشروعة" (¬1). [م - 1251] وإذا توصلنا أن قصر الوساطة على أشخاص معينين لأوصافهم جائز، فهل نقول: ببطلان العقد إما تم من غير وساطة هؤلاء، أو يكون العقد صحيحًا لقيام أركانه، وتوفر شروطه، ويكون المتعدي مستحقًا للتعزير؛ لخرق النظام والحقوق السلطانية. هذه المسألة مبنية على مسألة مشابهة جرى تحرير الخلاف فيها، وهو أننا إذا قلنا: إن التسعير جائز، فإذا سعر الإمام، وجب على الناس الالتزام به. [م - 1252] فإن خالفوا التسعير، فهل يعتبر العقد باطلًا، أو يعتبر العقد صحيحًا؟ اختلف العلماء فيها على قولين: القول الأول: يصح البيع، وهذا القول هو مذهب الحنفية (¬2)، والأصح في المذهب عند ¬
القول الثاني
الشافعية (¬1)، وهو المتبادر من كلام المالكية، فإنهم يقولون: ومن زاد في سعر أو نقص منه أمر بإلحاقه بسعر الناس، فإن أبى أخرج من السوق (¬2). وفي مذهب الحنابلة: إن هُدِّد من خالف التسعير حرم البيع؛ وبطل العقد في الأصح؛ لأن الوعيد إكراه. القول الثاني: لا يبطل العقد باعتبار أن التهديد لا يأخذ حكم الإكراه (¬3). وقد ذكرنا أدلتهم فيما سبق فأغنى عن إعادتها هنا. ¬
والصحيح صحة البيع وإن تم بغير هؤلاء الوسطاء، لما يلي: لأننا إذا قلنا: إن قصر الوساطة على أشخاص معينين لأوصافهم غاية ما فيه أنه جائز، فإن مخالفة الجائز لا تجعله باطلاً. وإن قلنا: إن قصر الوساطة على السماسرة واجب، فإن الصحة والتحريم ليس بينهما تلازم، فقد يصح الشيء مع كونه حرامًا، خاصة أن التحريم لا يعود إلى ذات البيع، وإنما يعود لأمر خارج، وهو مخالفة الحقوق السلطانية، وهذه توجب التعزير وفقًا لما يراه الحاكم الشرعي، ولا تبطل العقد إذا توفرت أركانه، وشروطه، وتوفر الإيجاب والقبول المطلوبان، والله أعلم.
المبحث الثاني: السوق الثانوية
المبحث الثاني: السوق الثانوية تعريف السوق الثانوية: هي سوق تداول هذه الأوراق المالية بعد إصدارها: أي بعد توزيعها بواسطة بنوك الاستثمار. ومن خلال هذه السوق يتمكن حامل الووقة المالية من تحويلها إلى نقود: أي تسييلها، كما يتمكن من تسعيرها بالسوق وذلك عن طريق التقاء العرض والطلب، فسعر أي سهم يكون عرضة للارتفاع أو للانخفاض حسب ما تكون عروض البيع تفوق عروض الشراء، أو العكس وذلك في مدة التسعير التي تنظم بالسوق، من غير أن تكون الشركة المصدرة للورقة المالية طرفًا في هذه المعاملات، فالتعامل لا يعدو أن يكون نقلاً لملكية تلك الأوراق من مستثمر لآخر، فحاملو هذه الأوراق هم الذين يتحملون الخسارة في حال نقص سعر بيع الورقة عن سعر شرائهم، ويجنون المكاسب في حالة الزيادة (¬1). ولهذا تأتي أهمية هذه السوق من كونها سوقًا مستمرة يتمكن فيها حاملو الأوراق المالية من بيعها متى شاؤوا لأسباب كثيرة، إما للبحث عن السيولة، أو تحويل الوجهة إلى شركة أخرى أكثر ربحية، أو لغرض تحقيق الأرباح من فروق الأسعار، فيشتري الورقة لا ليحتفظ بها، بل ليبيعها عندما يرتفع سعرها في السوق، ليربح الفرق بين سعر شرائها، وسعر بيعها. وتعتبر السوق الثانوية بهذه الوظيفة من أكبر المشجعين على شراء الأوراق ¬
المالية من السوق الأولية؛ لأن كثيرًا من الراغبين في الاستثمار لو علموا عدم قدرتهم على بيعها لأحجموا عن المشاركة في المشروعات المختلفة من خلال السوق الأولية. وتنقسم السوق الثانوية كما قلنا: إلى قسمين: (أ) أسواق منظمة يحكم التعامل فيها قوانين وإجراءات رسمية. (ب) أسواق غير منظمة (سوق المفاوضة على الأسعار) يقوم بإدارة هذه السوق مجموعة من الوسطاء يتبادلون المعلومات عن الأوراق غير المقيدة في جدول أسعار الأسواق الرسمية (¬1). ويتفرع عن الأسواق غير المنضمة أسواق أخرى، منها ما اصطلح عليه بالسوق الثالث، والسوق الرابع. وسوف نتكلم على كل سوق منها من خلال المباحث التالية إن شاء الله تعالى. ¬
الفرع الأول الأسواق المنظمة (البورصات)
الفرع الأول الأسواق المنظمة (البورصات) تعريف الأسواق المنظمة: الأسواق المنظمة (البورصة): ويطلق عليها سوق المزاد، والسوق الرسمية، والسوق القارة. وهي سوق مستمرة لها مكان محدد، يجتمع فيها المشترون والبائعون الذين يرغبون في التعامل بشراء وبيع سندات الحكومة، وأسهم الشركات المقبولة، بتسعيرة البورصة، وتتم جميع الصفقات عن طريق السماسرة المعتمدين وفقًا لقوانين وإجراءات رسمية (¬1). [ن -131] الأشراف على البورصة: تدار أسواق البورصة العالمية بثلاث طرق مختلفة. الأولى: الطريق الحرة. والمقصود بالحرة: أي دون تدخل الدولة، وإنما يترك للأفراد حرية تكوين جمعية تحدد شروط عقد الاجتماعات، وتقوم بعملية البيع والشراء تحت ضمانة واحدة، هي التنظيم والتأديب التي تقررها لوائح جمعيات الوسطاء، بغير تدخل الحكومة. وهذه الطريقة متبعة في إنجلترا، وتسمى بالطريقة الإنجليزية، وعلى أساسها نظمت بورصة الأوراق المالية بلندن، وهي أشبه بناد خاص، فلا يمكن الانضمام إلى عضويتها إلا بأخذ الأصوات على ذلك، وبعد تزكية العضوية من أعضاء آخرين. ¬
الثانية: الطريقة الحكومية
الثانية: الطريقة الحكومية: وفيها توضع البورصات تحت إشراف الحكومة بواسطة مندوبين يقومون بمراقبة العمليات التي تجري بالبورصة، ومراقبة تنفيذ اللوائح، والاشتراك في وضع التسعيرة، كما تحدد في هذه الطريقة وبدقة الشروط الواجب توفرها في العمليات والمتعاملين، كما هو الحال في فرنسا، وإيطاليا، وبعض البلاد العربية. ولهذه الطريقة مضارها من حيث مغالاة الحكومة في التدخل الذي قد يؤدي إلى بعض القيود التي قد تشل حركة التعامل في البورصة. الثالثة: الطريقة المختلطة. وفيها لا تترك البورصة قاصرة على السماسرة المعينين من قبل الحكومة، كما هو الحال في بورصة الأوراق المالية بفرنسا. ولا يترك الأفراد فيها بالقيام بعمليات البيع والشراء، كما هو الحال في إنجلترا، وهذه هي الطريقة المتبعة في البورصات الأمريكية المنظمة، وتدار البورصة فيها من مجلس محافظين، ويتكون المجلس من ممثلين عن الشركات المسجلة أسهمها في السوق، وبيوت السمسرة، وممثلين عن الحكومة، ويقوم أعضاء البورصة بانتخاب مجلس المحافظين، والعضوية في البورصة ليست مجانية إذ ينبغي دفع مبلغ كبير للحصول عليها، ووصلت قيمة المبلغ المطلوب للحصول على العضوية إلى ما يزيد عن نصف مليون دولار، وللعضو الحق في التصويت لانتخاب مجلس المحافظين كما تقدم، كما أن له أن يتنازل عن عضويته لشخص آخر، ويوجد خمسة أنواع من الأعضاء: هم السماسرة الوكلاء (¬1)، وسماسرة ¬
أقسام الأسواق المنظمة (البورصات) من حيث التعامل الجغرافي
الصالة (¬1)، وتجار المسألة المتخصصون (¬2)، وتجار الطلبيات الصغيرة (¬3)، وممثلون عن الحكومة (¬4). وهذه هي أفضل الطرق لتنظيم البورصات. ومن مهام هذا المجلس البحث في طلبات العضوية، والبت في الموازنة المقترحة للبورصة، وتخصيص المنصات التي تتعامل في ورقة مالية معينة، هذا إلى جانب التأكد من التزام الأعضاء بالقواعد المعمول بها، وتوقيع العقوبات المناسبة على المخالفين (¬5). أقسام الأسواق المنظمة (البورصات) من حيث التعامل الجغرافي: [ن -132] يمكن تقسيم البورصات إلى قسمين: الأولى: بورصات مركزية: ويقصد به ذلك السوق الذي يتعامل في الأوراق المالية بصرف النظر عن ¬
الثاني: بورصات محلية
الموقع الجغرافي للمنشأة، أو المنظمة المصدرة لتلك الورقة، ومن أمثلتها بورصة لندن، وبورصة طوكيو، وبورصة نيويورك. الثاني: بورصات محلية: ويقصد به ذلك السوق الذي يتعامل مع منشآت صغيرة تهم جمهور المستثمرين في نطاق جغرافي للمنشأة، أو في المناطق القريبة منها. وتقدم هذه السوق خدمات جليلة لصغار المستثمرين والمضاربين، كما تتيح فرصة للسماسرة غير القادرين على الحصول على مقعد في إحدى البورصات المركزية تتيح لهم فرصة التعامل في الأوراق المالية المتداولة في البورصة المحلية (¬1). الفرق بين البورصة والأسواق العادية: [ن -133] البورصة وإن كانت سوقًا إلا أنها تختلف عن الأسواق العادية في كثير من الأمور، من أهم هذه الفروق: الأول: أن التعامل في السوق العادية على سلع منظورة فعلاً، بعكس البورصة فلا حاجة لوجود السلعة. في السوق، بل تعقد الصفقات، وتتم المضاربات دون وجودها. الثاني: يتم تسليم السلع في السوق العادية في الحال، بعكس البورصة حيث يكون الثمن، والتسليم في وقت لاحق، قد يتراوح بين يومين، أو أكثر، من تاريخ التعاقد في العقود الحاضرة، وأكثر من ذلك في العقود الآجلة. الثالث: يتم التعامل بين البائع والمشتري مباشرة في السوق العادية، وأما في البورصة فيتم ذلك من خلال وسطاء، وسماسرة. ¬
الرابع: في البورصة يكون التعاقد وفق أنظمة خاصة، وشروط معينة لا تتغير في كل العقود، وهذا بعكس ما يتم في السوق، إذ كل صفقة مستقلة عن غيرها. الخامس: التعامل في السوق العادية على جميع أنواع السلع، أما في البورصة فإنه لا يتم إلا على سلعة، أو سلع خاصة، وبشروط معينة (¬1). ¬
الفرع الثاني الأسواق غير المنظمة
الفرع الثاني الأسواق غير المنظمة تعريف الأسواق غير المنظمة: يطلق اصطلاح الأسواق غير المنظمة على المعاملات التي تجري خارج البورصات، ويطلق عليها السوق غير الرسمية، والسوق الموازية، ولا يوجد لها مكان محدد لتنفيذ الصفقات، فالصفقة تنفذ من خلال الاتصال بالسماسرة، كلٌّ في مقره، ويتم في هذه السوق تداول الأوراق المالية للشركات التي لم تستوف شروط إدراجها في قوائم البورصة، ويطلق عليها المعاملات على المنضدة. ويؤخذ على الأسواق غير المنظمة، أنه لا توجد آليات للحد من التدهور، أو الارتفاع الحاد في الأسعار، الذي قد يحدث بسبب عدم التوازن بين العرض والطلب، بخلاف الأسواق المنظمة، ويتم تحديد الأسعار بالتفاوض بين المتعاملين، وعادة ما يسبق عملية التفاوض هذه قيام المستثمر بالتعرف على الأسعار المختلفة التي تعرض عليه بواسطة السماسرة والتجار، وتوجد في معظم الدول خاصة المتقدمة منها شبكة قوية من وسائل الاتصال الحديثة، توفر لحظة بلحظة الأسعار لكل ورقة يتعامل فيها, ولعل هذا ما دعى بعضهم إلى اعتبار الأسواق غير المنظمة طرقًا لإجراء المعاملات أكثر من كونها مكانًا لإجراء تلك المعاملات. وتتعامل الأسواق غير المنظمة أساسًا في الأوراق المالية غير المسجلة في الأسواق المنظمة (البورصات) وعلى الأخص السندات، ذلك أن تعاملها في الأسهم عادة ما يكون على نطاق أضيق.
وينقسم السوق غير المنظمة وفقًا لأطراف التعامل إلى سوقين هما: السوق الثالث: يتكون السوق الثالث من بيوت سمسرة من غير أعضاء السوق المنظمة، ويتداول فيها أوراق مالية مسجلة في البورصة، وهذه البيوت تعتبر في الواقع أسواقًا مستمرة على استعداد دائم لشراء، أو بيع تلك الأوراق، وبأي كمية مهما كبرت، أو صغرت، وتمارس هذه البيوت دورًا منافسًا للمتخصصين أعضاء السوق المنظمة، لا سيما إذا علمنا أن أعضاء السوق المنظمة ليس لهم الحق في تنفيذ تعاملات أو عقد صفقات خارج السوق، بينما أعضاء هذه السوق، وإن لم يكونوا من أعضاء السوق المنظمة إلا أن لهم الحق في التعامل في الأوراق المالية المسجلة في تلك الأسواق المنظمة، ويتكون جمهور العملاء في هذه السوق من المؤسسات الاستثمارية الكبيرة: مثل صناديق المعاشات، والأموال المؤتمن عليها التي تديرها البنوك التجارية، إضافة إلى بيوت السمسرة الصغيرة التي ليس لها ممثلون في السوق المنظمة. السوق الرابع: وهو يشبه السوق الثالث في أن الصفقات تتم خارج السوق المنظمة، غير أن التعامل يتم عن طريق الاتصال المباشر، دون حاجة لأعضاء بيوت السمسرة، حيث يتم الاتصال بين المؤسسات الاستثمارية الكبيرة، والأفراد الأغنياء بعضهم ببعض، في شراء، وبيع الأوراق المالية دون حاجة لأعضاء بيوت السمسرة، وذلك من خلال شبكة اتصالات إلكترونية، وهاتفية مختلفة، وفي ظل السوق الرابع تبرم الصفقات بسرعة أكبر، وبأسعار مرضية للطرفين، وبتكلفة أقل نظرًا لانخفاض أتعاب إنهاء الصفقات، وبهذا يعتبر السوق الرابعة منافسًا قويًا للأسواق المنظمة وغير المنظمة الأخرى، خاصة أنه يمكنهم التعامل في
كافة الأوراق المالية المتداولة في تلك الأسواق، ومن المعتقد أن نمو هذا السوق سوف يترتب عليه إجبار السماسرة، والتجار في الأسواق الأخرى على تخفيض ما يتقاضونه من أتعاب، مما يؤدي في النهاية إلى رفع كفاءة أسواق المال (¬1). ¬
الفرع الثالث طريقة تداول الأوراق المالية في السوق الثانوية
الفرع الثالث طريقة تداول الأوراق المالية في السوق الثانوية [ن -134] إذا عرفنا الأسواق المالية، وانقسامها إلى قسمين: سوق إصدار الأوراق، وسوق تداول هذه الأوراق، نريد أن نتكلم عن طرق تداول هذه الأوراق في البورصة خطوةً خطوة. طرق تداول الأوراق المالية في السوق الثانوية: يجب أن تسبق تداول الأوراق المالية الخطوات التالية: الخطوة الأولى: أخذ الموافقة القانونية على إنشاء الشركة المساهمة، وهذه تختلف من بلد إلى آخر حسب الأنظمة المعمول بها (¬1). الخطوة الثانية: يتولى (بنك، شركة، حكومة ...) طرح أوراق الشركة المالية للاكتتاب لأول مرة في السوق الأولية بقيمتها الاسمية على الجمهور. ¬
الخطوة الثالثة
الخطوة الثالثة: تخصيص الشركة لكل مكتتب عددًا من الأسهم المكتتب بها، ورد الفائض المالي إلى أهله. وسوف يأتينا إن شاء الله تعالى على وجه التفصيل إجراءات تأسيس شركات المساهمة في بحوث تالية، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. الخطوة الرابعة: بعد الانتهاء من الاكتتاب والتخصيص، والفراغ من توفير المال اللازم لقيام الشركة، واعتماد تأسيس الشركة من الجهات المختصة يتم قيد الأوراق المالية وذلك بتقديم طلب من قبل الجهة المصدرة لتلك الأوراق (بنك، شركة) لقيدها في جدول الأسعار بالبورصة خلال مدة معينة تحددها لجنة البورصة اعتبارًا من تاريخ قفل باب الاكتتاب في تلك الأوراق. وعلى الجهة المصدرة تقديم جميع الوثائق اللازمة للقيد، وأن تؤدي رسوم الاشتراك، وغيرها من المبالغ المنصوص عليها في اللائحة الداخلية للبورصة، وبذلك تصبح الأوراق المالية للشركة جاهزة في السوق الثانوية لتدوير تلك الأوراق المالية، ونقل ملكيتها وحيازتها بين أكثر من شخص. الخطوة الخامسة: بعد قيدها، وعرضها للبيع والشراء، لا يمكن تدويرها بيعًا، وشراء، إلا بواسطة بنك أو سمسار، بحيث يتصل بهما المستثمر، ويبلغهما برغبته بشراء الأوراق المالية التي يرغب الاستثمار فيها، وسيقومان بكافة الإجراءات اللازمة بالنيابة عن العميل، وفي حدود التعليمات التي يتلقيانها منه بيعًا أو شراء. الخطوة السادسة: يقوم مندوبو شركات السمسرة بإدخال الأوامر التي كلفوا بها من قبل عملائهم إلى الحاسب الآلي بأنفسهم مباشرة دون وسيط، كما يقومون بمتابعة الشاشات الإلكترونية التي أمامهم، وتحديد ما يناسبهم من عروض، أو طلبات، وهم في مكاتبهم من خلال شبكة حاسبات تصل بين
وأنواع الأوامر التي يصدرها العميل للسمسار كثيرة منها
البورصة، ومقار شركات السمسرة من دون حاجة إلى ذهاب مندوب شركات السمسرة إلى البورصة لإجراء التعاملات. ثم يقومون بالاتصال بالموظف المختص لتلقي الأوامر لإدخالها الحاسب الآلي، وتتمثل هذه الأوامر إما في طلب على عدد محدد من أوراق معينة، أو في عرض عدد محدد من أوراق معينة، أو في قبول عرض، أو طلب عرضته الشاشة. يقوم الموظفون المختصون لتلقي أوامر مندوبي شركات السمسرة بتدوين هذه الأوامر في الحاسب الآلي، ثم يتم تنفيذها تلقائيًا حسب أسبقية تلقيهم لها (¬1). هذه هي الخطوات باختصار شديد، وبعض هذه الخطوات قد تكون متداخلة، وإنما فصلت بينها من أجل تسهيل عملية تصور هذه المراحل على القارئ الكريم. ولما كان التعامل في الأوراق المالية بيعًا، وشراء يتم بين العميل والسمسار، كان لا بد من أن يكون ذلك من خلال أوامر واضحة، تعبر عن رغبة العميل في نوع المعاملة من خلال ما يطلق عليه أوامر السوق المالية. وأنواع الأوامر التي يصدرها العميل للسمسار كثيرة منها: (1) أمر السوق: وهو أمر طلب تنفيذ الصفقة بأفضل سعر يمكن الحصول عليه في السوق بيعًا، أو شراء. ويعتبر أمر السوق أكثر الأوامر شيوعًا في أسواق الأوراق المالية، إذ يفوق استخدامه باقي أنواع الأوامر مجتمعة، وتشكل أوامر البيع في معظم أسواق الأوراق المالية الكبرى. ¬
(2) الأمر المحمد
(2) الأمر المحمد: وفيه يحدد العميل للوسيط مسبقًا السعر الذي يجب أن يبيع به، أو يشتري، فيحدد السعر الأدنى في حالة البيع، والسعر الأعلى في حالة الشراء. وتكون صورة الأمر كما يلي: اشتر عشرين سهمًا بسعر 50 دولارًا أو أقل. أو بع عشرين سهمًا بسعر 50 دولارًا، أو أكثر. (3) الأمر اليومي: أو الأمر ليوم واحد، وهو الأمر الذي تنتهي مدة سريانه تلقائيًا بنهاية يوم العمل الذي صدر خلاله، وما لم يحدد العميل مدة بعينها، فإن كل أوامر السوق عادة تعتبر ليوم واحد. (4) الأمر بالسعر المحدد مع التوقف: وهو عبارة عن أمر بالشراء إذا هبط السعر إلى حد معين، وأمر بالبيع إذا صعد السعر إلى مستوى معين. (5) الأوامر المرتبطة: في هذا النوع من الأوامر يطلب العميل من وسيطه أن يشتري أو يبيع له أوراقًا مالية معينة، إذا استطاع أن يبيع، أو يشتري له أوراقًا مالية من نوع آخر. (6) الأمر الساري المفعول حتى إلغائه: وهو الأمر المتعلق بشراء ما يعرض في السوق بسعر معين، دون تحديد نوع الورقة، ومدة التنفيذ. (7) الأمر بوقف التعامل: وينقسم إلى أمر وقف الشراء، أو وقف البيع. (8) الأوامر على المكشوف: في هذا النوع من الأوامر لا يتملك العميل الأوراق المالية موضوع الصفقة، وسيقوم عندما يحين موعد تنفيذها بشرائها أو استلافها من غيره من المضاربين (¬1). ¬
الفصل الثاني أقسام السوق من حيث الأدوات المتداولة فية
الفصل الثاني أقسام السوق من حيث الأدوات المتداولة فية [ن -135] تنقسم السوق المالية من حيث الأدوات المتداولة فيه، ومن حيث المدة الزمنية التي يرغب المدخر في التخلي فيها عن فائضه، إلى: أسواق رأس المال، وأسواق النقد. ويعتبر هذان السوقان هما أهم مكونات سوق المال، وسوف أتكلم إن شاء الله تعالى بإيجاز عن كل وأحد من هذين السوقين؛ لأنتقل بعد ذلك إلى الكلام على الأدوات المتداولة فيهما.
المبحث الأول سوق رأس المال
المبحث الأول سوق رأس المال تعريف سوق رأس المال: وهي السوق التي يتم فيها إصدار أدوات مالية ذات أجل متوسط، وطويل، سواء كانت أدوات ملكية كالأسهم، أو أدوات قروض كالسندات. على أنه لا يوجد فاصل دقيق بين الآجال المتوسطة والطويلة، ومن ثم فإن مفهومه يختلف من مؤسسة إلى أخرى، ومن سوق لآخر، بيد أنه في الغالب يراد بالأجل المتوسط: الفترة الزمنية التي تقع بين السنة والعشر سنوات، وبالأجل الطويل ما زاد عن عشر سنوات (¬1). وإنما سميت سوق رأس المال: لكونها السوق التي يلجأ إليها أصحاب المشروعات لتكوين رأس المال في مشروعاتهم المختلفة (¬2). ويتم توفير ذلك عن طريقين: الأول: الإقراض المباشر المتوسط والطويل الأجل, وتقوم بذلك البنوك المتخصصة في هذا النوع من الإقراض، وكذا الهيئات المتخصصة في ذلك. الثاني: التعامل في سوق الأوراق المالية، وذلك ببيع الأوراق المالية طويلة الأجل أو متوسطته كالأسهم والسندات، والتعامل بهذا النوع يسهل تمويل ¬
وتنقسم أسواق رأس المال إلى قسمين
المشروعات التجارية عن طريق تسهيل استثمارها على شكل أوراق مالية، وتسهيل عملية تداولها. وتنقسم أسواق رأس المال إلى قسمين: القسم الأول: أسواق حاضرة أو فورية. وهي على ثلاثة أنواع: (أ) بيوع عاجلة عادية. (ب) عمليات الشراء بالهامش. (ج) البيع على المكشوف. القسم الثاني: أسوق العقود الآجلة. وهي على نوعين: (أ) البيوع الباتة القطعية. (ب) بيوع الخيارات. وسوف نتكلم إن شاء الله تعالى لاحقًا عن حكم كل واحد من هذه البيوع سواء كانت الأدوات المتداولة في هذا البيوع أسهمًا أو سندات. أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
المبحث الثاني: سوق النقد
المبحث الثاني: سوق النقد تعريف أسواق النقد: هي السوق التي يتم فيها إصدار أدوات مالية ذات أجل قصير لا يزيد أجل استحقاقها عن سنة. ويتم توفير ذلك عن طريق القروض المباشرة قصيرة الأجل، أو عن طريق خصم الأوراق التجارية العادية (¬1)، وأذونات الخزانة العامة (¬2)، والقبولات البنكية، وشهادات الإيداع المصرفية القابلة للتداول (¬3). ¬
الفرق بين سوق رأس المال وسوق النقد
وإنما سميت هذه السوق بسوق النقد؛ لأنه ربما يمكن تحويل الأصول المادية المتداولة فيها إلى نقود بسرعة وسهولة، أو لأن هذه الأصول يمكن أن تقوم بوظيفة أو أكثر من وظائف النقود، أو لمجموع الأمرين (¬1). الفرق بين سوق رأس المال وسوق النقد: [ن -136] يختلف سوق رأس المال عن سوق النقد في أمور أهمها: الأول: الأصول المتداولة: الأصول المتداولة في سوق النقد تتميز بالسيولة المرتفعة، وانخفاض درجة المخاطر بخلاف سوق رأس المال، وذلك راجع لاختلاف الأدوات المالية المتداولة في كل سوق. ففي سوق النقد يتم تداول شهادات الإيداع، والأوراق التجارية، والقبولات المصرفية، وأذونات الخزانة، وغيرها، بينما في أسواق رأس المال يتم التداول على الأسهم والسندات بأنواعها. الثاني: المدة الزمنية: تختلف سوق رأس المال عن سوق النقد من حيث المدة الزمنية التي يرغب المدخر في التخلي فيها عن فائضه، حيث يتم التعامل في سوق النقد بأدوات مالية ذات أجل قصير، لا تزيد فترة استحقاقها عن سنة، بخلاف سوق رأس المال، فيتعامل فيها بالأدوات المالية ذات الأجل المتوسط والطويل. الثالث: الموسسات العاملة في كل منها: حيث تقوم سوق النقد بأداء وظيفتها من خلال الجهاز المصرفي ممثلًا في ¬
البنك المركزي، والبنوك التجارية، إضافة إلى بعض الوكلاء المتخصصين في التعامل في بعض الأوراق المالية ذات الأجل القصير، أما في سوق رأس المال فأهم هذه المؤسسات: مصارف الاستثمار وصناديق الاستثمار وصناديق التقاعد وشركات التأمين، وشركات السمسرة.
المبحث الثالث الحكم الفقهي للأسواق المالية من حيث الجملة
المبحث الثالث الحكم الفقهي للأسواق المالية من حيث الجملة [ن -137] بعد أن عرفنا الأسواق المالية، وأقسامها إلى سوق أولية، وثانوية، وسوق لرأس المال، وآخر للنقد، والأدوات المتداولة في كل سوق، هل يمكن أن نعطي حكمًا فقهيًا في مشروعية إنشاء مثل تلك الأسواق؟ وللجواب على ذلك نقول: لا شك أن الأسواق المالية هي غربية النشأة، جاءت إلى أسواقنا وجاء معها منظومة اقتصادية جديدة، الكثير منها إن لم يكن أكثرها من الأمور المستجدة، والتي تحتاج إلى تكييف فقهي معاصر يتبنى منهجًا وسطيًا في تناولها، والاستفادة منها، فرفض هذه الأسواق بحجة أنها تكرس التبعية للغرب الرأسمالي ليس بوجيه، ولا ينفع البلاد، ولا العباد، فإن هذه المنظومة هي تغزو أسواق المسلمين سواء أردنا ذلك أو رفضناه. وكذلك قبولها على ما هي عليه أكثر خطورة من القول السابق. فالأسواق المالية من حيث المبدأ تدخل تحت قاعدة المصالح المرسلة، والتنظيمات التي تعتبر من صلاحيات أولي أمر المسلمين. وكون الأسواق المالية اليوم لا تحقق المقاصد التي يتوخاها الإِسلام، فإن هذا لا يعني إغفالها، وتركها وشأنها، أو الحكم على ما فيها حكمًا مطلقًا بالتحريم، وإنما الأمانة تقتضي أن نبحث عن كل تفصيلاتها، وجزئياتها، ونقدم أدق تصور شرعي يحقق المراد الإلهي، وأن نقبل كل ما يمكن أن يكون مقبولًا منها شرعاً، ونرحب به، باعتبار أن المعاملات المالية هي حاجة إنسانية تحقق
الرفاه، والنمو الاقتصادي للبلاد، وأن التدخل الشرعي فيها إنما جاء ليحقق العدل، ويمنع الظلم، والاحتكار، والاستغلال، وهذه حاجات إنسانية، يشترك فيها المسلم مع غيره. وأن نبذل كل ما في وسعنا، ونستفرغ كل جهدنا للوصول إلى بديل إسلامي لما هو محرم منها، بعد التوصل إلى تصور صحيح نقطع من خلاله، أو يغلب على ظننا بأنه محرم، وأن نجمع لمجتمعنا الحديث بين الأصالة وبين التجديد، والتطوير، فان تخلقت الجهات التنفيذية عن القيام بدورها في ذلك نكون قد قمنا بواجب البلاغ، وهل علينا إلا البلاغ؟ وقد جاء قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي متوافقًا مع هذا الفهم، يقول المجمع في قراره رقم: (61/ 10/ 6): "إن الاهتمام بالأسواق المالية هو من تمام إقامة الواجب في حفظ المال، وتنميته باعتبار ما يستتبعه هذا من التعاون لسد الحاجات العامة، وأداء ما في المال من حقوق دينية، أو دنيوية. إن هذه الأسواق المالية مع الحاجة إلى أصل فكرتها، هي في حالتها الراهنة ليست النموذج المحقق لأهداف تنمية المال، واستثماره من الوجهة الإِسلامية، وهذا الوضع يتطلب بذل جهود علمية مشتركة، من الفقهاء، والاقتصاديين لمراجعة ما تقوم عليه من أنظمة، وما تعتمده من أليات، وأدوات، وتعديل ما ينيغي تعديله في ضوء مقررات الشريعة الإِسلامية. إن فكرة الأسواق المالية تقوم على أنظمة إدارية، وإجرائية، ولذا يستند الالتزام بها إلى تطبيق قاعدة المصالح المرسلة، فيما يندرج تحت أصل شرعي. عام، ولا يخالف نصًا، أو قاعدة شرعية، وهي لذلك من قبيل التنظيم الذي يقوم
به ولي الأمر في الحرف، والمرافق الأخرى، وليس لأحد مخالفة تنظيمات ولي الأمر أو التحايل عليها، ما دامت مستوفية الضوابط الشرعية، والأصول الشرعية" (¬1). وأما قرار المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي، فجاء فيه ما نصه: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمَّد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. وبعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي قد نظر في موضوع سوق الأوراق المالية والبضائع (البورصة)، وما يعقد فيها من عقود -بيعًا وشراء- على العملات الورقية، وأسهم الشركات، وسندات القروض التجارية، والحكومية، والبضائع، وما كان من هذه العقود على معجل، وما كان منها على مؤجل. كما اطلع مجلس المجمع على الجوانب الإيجابية المفيدة لهذه السوق في نظر الاقتصاديين المتعاملين فيها، وعلى الجوانب السلبية الضارة فيها. (أ) فأما الجوانب الإيجابية المفيدة فيها: أولاً: أنها تقيم سوقًا دائمة تسهل تلاقي البائعين والمشترين، وتعقد فيها العقود العاجلة، والآجلة على الأسهم والسندات، والبضائع. ثانيًا: أنها تسهل عملية تمويل المؤسسات الصناعية، والتجارية، والحكومية، عن طريق طرح الأسهم، وسندات القروض للبيع. ¬
ثالثًا: أنها تسهل بيع الأسهم، وسندات القروض للغير، والانتفاع بقيمتها؛ لأن الشركات المصدرة لا تصفي قيمتها لأصحابها. رابعًا: أنها تسهل معرفة ميزان أسعار الأسهم وسندات القروض والبضائع، وتموجاتها في ميدان التعامل عن طريق حركة العرض والطلب. (ب) أما الجوانب السلبية الضارة في هذا السوق، فهي: أولاً: أن العقود الآجلة التي تجري في هذه السوق ليست في معظمها بيعًا حقيقيًا, ولا شراء حقيقيًا؛ لأنه لا يجري فيها التقابض بين طرفي العقد فيما يشترط له التقابض في العوضين، أو في أحدهما شرعاً. ثانيًا: أن البائع فيها غالباً يبيع ما لا يملك من عملات، وأسهم، وسندات قروض، أو بضائع على أمل شرائه من السوق، وتسليمه في الموعد، دون أن يقبض الثمن عند العقد، كما هو الشرط في السلم. ثالثًا: أن المشتري فيها غالباً يبيع ما اشتراه لآخر قبل قبضه، والآخر يبيعه أيضًا لآخر قبل قبضه، وهكذا يتكرر البيع والشراء على الشيء ذاته قبل قبضه إلى أن تنتهي الصفقة إلى المشتري الأخير الذي قد يريد أن يتسلم المبيع من البائع الأول، الذي يكون قد باع ما لا يملك، أو أن يحاسبه على فرق السعر في موعد التنفيذ، وهو يوم التصفية، بينما يقتصر دور المشترين والبائعين -غير الأول والأخير- على قبض فرق السعر في حالة الربح، أو دفعه في حالة الخسارة، في الموعد المذكور، كما يجري بين المقامرين تمامًا. رابعًا: ما يقوم به المتمولون من احتكار الأسهم، والسندات، والبضائع في السوق، للتحكم في البائعين الذين باعوا ما لا يملكون؛ على أمل الشراء قبل موعد تنفيذ العقد بسر أقل، والتسليم في حينه، وإيقاعهم في الحرج.
خامسًا: أن خطورة السوق المالية هذه تأتي من اتخاذها وسيلة للتأثير في الأسواق بصفة عامة؛ لأن الأسعار فيها لا تعتمد كليًا على العرض والطلب الفعليين من قبل المحتاجين إلى البيع، أو إلى الشراء، وإنما تتأثر بأشياء كثيرة بعضها مفتعل من المهيمنين على السوق، أو من المحتكرين للسلع، أو الأوراق المالية فيها، كإشاعة كاذبة أو نحوها. وهنا تكمن الخطورة المحظورة شرعًا؛ لأن ذلك يؤدي إلى تقلبات غير طبيعية للأسعار، مما يؤثر على الحياة الاقتصادية تأثيرًا سيئًا. وعلى سبيل المثال لا الحصر: يعمد كبار الممولين إلى طرح مجموعة من الأوراق المالية من أسهم، وسندات قروض، ويهبط سعرها لكثرة العرض، فيسارع صغار حملة هذه الأوراق إلى بيعها بسعر أقل، خشية هبوط سعرها أكثر من ذلك، وزيادة خسارتهم، فيهبط سعرها مجددًا بزيادة عرضهم، فيعود الكبار إلى شراء هذه الأوراق بسعر أقل، بغية رفع سعرها بكثرة الطلب، وينتهي الأمر بتحقيق مكاسب للكبار، وإلحاق خسائر فادحة بالكثرة الغالبة، وهم صغار حملة الأوراق المالية، نتيجة خداعهم بطرح غير حقيقي لأوراق مماثلة، ويجري مثل ذلك أيضاً في سوق البضائع. ولذلك قد أثارت سوق (البورصة) جدلًا كييرًا بين الاقتصاديين، والسبب في ذلك أنها سببت -في فترات معينة من تأرجح العالم الاقتصادي- ضياع ثروات ضخمة في وقت قصير، بينما سببت غنى للآخرين دون جهد, حتى إنهم في الأزمات الكبيرة التي اجتاحت العالم طالب الكثيرون بإلغائها، إذ تذهب بسببها ثروات، وتنهار أوضاع اقتصادية في هاوية، في وقت سريع، كما يحصل في الزلزال والانخسافات الأرضية. ولذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي بعد اطلاعه على حقيقة
سوق الأوراق المالية، والبضائع (البورصة)، وما يجري فيها من عقود عاجلة، وآجلة على الأسهم وسندات القروض، والبضائع، والعملات الورقية، ومناقشتها في ضوء أحكام الشريعة الإِسلامية يقرر ما يلي: أولاً: أن غاية السوق المالية (البورصة) في إيجاد سوق مستمرة ودائمة يتلقى فيها العرض والطلب المتعاملون بيعًا وشراء، وهذا أمر جيد، ومفيد يمنع استغلال المحترفين للغافلين، والمسترسلين الذين يحتاجون إلى بيع أو شراء، ولا يعرفون حقيقة الأسعار، ولا يعرفون المحتاج إلى البيع، ومن هو محتاج إلى الشراء. ولكن هذه المصلحة الواضحة يواكبها في الأسواق المذكورة (البورصة) أنواع من الصفقات المحظورة شرعًا، والمقامرة، والاستغلال، وأكل أموال الناس بالباطل. ولذلك لا يمكن إعطاء حكم شرعي عام بشأنها؛ بل يجب بيان حكم المعاملات التي تجري فيها، كل واحدة منها على حدة. ثانيًا: أن العقود العاجلة على السلع الحاضرة الموجودة في ملك البائع التي يجري فيها القبض -فيما يشترط له القبض في مجلس العقد شرعًا- هي عقود جائزة، ما لم تكن عقودًا محرمة شرعًا، أما إذا لم يكن المبيع في ملك البائع فيجب أن تتوفر فيه شروط بيع السلم، ثم لا يجوز للمشتري بعد ذلك بيعه قبل قبضه. ثالثًا: العقود العاجلة على أسهم الشركات، والمؤسسات حيث تكون تلك الأسهم في ملك البائع جائزة شرعًا، ما لم تكن تلك الشركات، أو المؤسسات موضوع تعاملها محرم شرعًا، كشركات البنوك الربوية، وشركات الخمور، فحينئذ يحرم التعامل في أسهمها بيعًا وشراء.
رابعًا: أن العقود العاجلة والآجلة على سندات القروض بفائدة، بمختلف أنواعها غير جائزة شرعًا؛ لأنها معاملات تجري بالربا المحرم. خامسًا: أن العقود الآجلة بأنواعها، التي تجري على المكشوف، أي على الأسهم، والسلع التي ليست في ملك البائع، بالكيفية التي تجري في السوق المالية (البورصة) غير جائزة شرعًا؛ لأنها تشتمل على بيع الشخص ما لا يملك، اعتمادًا على أنه سيشتريه فيما بعد، ويسلمه في الموعد. وهذا منهي عنه شرعًا لما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا تبع ما ليس عندك. وكذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم). سادسًا: ليست العقود الآجلة في السوق المالية (البورصة) من قبيل بيع السلم الجائز في الشريعة الإِسلامية، وذلك للفرق بينهما من وجهين: (أ) في السوق المالية (البورصة) لا يدفع الثمن في العقود الآجلة في مجلس العقد، إنما يؤجل دفع الثمن إلى موعد التصفية، بينما الثمن في بيع السلم يجب أن يدفع في مجلس العقد. (ب) في السوق المالية (البورصة) تباع السلعة المتعاقد عليها، وهي في ذمة البائع الأول -وقبل أن يحوزها المشتري- الأول -عدة بيوعات- وليس الغرض من ذلك إلا قبض، أو دفع فروق الأسعار بين البائعين والمشترين غير الفعليين، مخاطرة منهم على الكسب والربح، كالمقامرة سواء بسواء، بينما لا يجوز بيع المبيع في عقد السلم قبل قبضه. وبناء على ما تقدم يرى المجمع الفقهي الإسلامي أنه يجب على المسؤولين في البلاد الإِسلامية ألا يتركوا أسواق (البورصة) في بلادهم حرة تتعامل كيف
تشاء في عقود وصفقات، سواء أكانت جائزة، أم محرمة، وألا يتركوا للمتلاعبين بالأسعار فيها أن يفعلوا ما يشاؤون، بل يوجبوا فيها مراعاة الطرق الشرعية في الصفقات التي تعقد فيها، ويمنعوا العقود غير الجائزة شرعاً ليحولوا دون التلاعب الذي يجر إلى الكوارث المالية، ويخرب الاقتصاد العام، ويلحق النكبات بالكثيرين؛ لأن الخير كل الخير في التزام طريق الشريعة الإِسلامية في كل شيء، قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153]. والله سبحانه هو ولي التوفيق، والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمَّد، وعلى آله، وصحبه، وسلم (¬1). وقد تضمن القرار حقائق مهمة، من أهمها: أن وجود السوق المالية تمليه الحاجة الملحة لإقامة سوق دائمة. وأنه لا يمكن إعطاء حكم شرعي عام بشأنها؛ بل يجب بيان حكم المعاملات التي تجري فيها، كل واحدة منها على حدة. وهذا ما سوف أتوجه له بالبحث في الأبواب التالية، فإذا عرفنا حكم الأسواق من حيث الجملة، فإننا سوف نتناول حكمها من حيث التفصيل، وذلك بتناول حكم الأدوات المتداولة فيها، من أسهم، وسندات، وأوراق تجارية، وغيرها في المباحث التالية نسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
الباب الثاني الأدوات المتداولة في سوق رأس المال
الباب الثاني الأدوات المتداولة في سوق رأس المال الأدوات المتداولة في سوق المال، ثلاثة: أسهم، وسندات، وحصص التأسيس. إلا أنه لا يمكنك أن تدرس الأسهم في معزل عن دراسة الشركات المساهمة، باعتبار أن السهم يمثل جزءًا من رأس مال الشركة، كما أنه لا يمكنك أن تدرس السندات، وهي قروض ربوية دون أن تذكر البدائل الشرعية المقترحة للسندات المحرمة، لذلك سيكون البحث في خلال فصول أربعة، هي كالتالي: الفصل الأول: عن الشركات المساهمة. الفصل الثاني: عن الأسهم. والفصل الثالث: عن السندات والبدائل المقترحة. والفصل الرابع: عن حصص التأسيس.
الفصل الأول في الشركات المساهمة
الفصل الأول في الشركات المساهمة المبحث الأول التعريف بالشركات المساهمة لما كان السهم يعتبر من أهم الأدوات المتداولة في سوق رأس المال، وكان السهم يمثل في حقيقته جزءاً من رأس مال الشركة المساهمة كان الحديث عن حكم الأسهم لا ينفك عن حكم الشركة التي تصدر مثل هذه الأسهم، فكان من الضروري أن نتكلم عن تعريف الشركة المساهمة، وحكم الاكتتاب فيها، وهل هي شركة مستحدثة أو لها نظير في الفقه الإِسلامي القديم ... إلى آخر المباحث المتعلقة بالشركة المساهمة على وجه الاختصار. تعريف الشركة المساهمة: لم يعبرف هذا النوع من الشركة عند المتقدمين من الفقهاء، وإنما عرف هذا في العصر الحديث، لذا سيكون التعريف من خلال الكتب المعاصرة. عرفت شركات الأسهم بعدة تعريفات، منها: عرفها الشيخ علي الخفيف بأنها "شركة يكون لها رأس مال، يقسم إلى أسهم متساوية القيمة، وتطرح هذه الأسهم في السوق لشرائها، وتداولها، فيكون لكل شريك عدد منها، بقدر ما يستطيع شراءه، ولا يكون كل شريك فيها مسئولاً، إلا في حدود أسهمه" (¬1). ¬
شرح التعريف
شرح التعريف: قول الشيخ: (شركة يكون لها رأس مال) هذا المال قد يكون عروضًا، وقد يكون نقودًا، وقد يكون حاضرًا، وقد يكون ديونًا، وقد يكون منافع، وقد يكون خليطًا منها كلها. وقوله: (يقسم إلى أسهم متساوية القيمة) إشارة إلى أن قيمة الأسهم في الشركة لا بد أن تكون متساوية، وغير قابل للتجزئة، بحيث يشارك كل واحد من الشركاء بسهم، أو أكثر. وبهذا تظهر فائدة الشركة المساهمة فالمشاريع الاقتصادية الكبرى التي تحتاج إلى رأس مال ضخم، لا يمكن أن يقوم بها فرد مهما بلغت ثروته، أما في الشركة المساهمة فإن القيام بمثل هذه المشاريع يكون سهلاً؛ لأن رأس المال مجزأ على أسهم، ويمكن لعدد كبير من الناس أن يدفع قيمة الاشتراك بها , ولو كانوا من أصحاب الدخل المحدودة، بحيث يصبح بمقدور رجال الأعمال جمع الأموال الطائلة للقيام باستثمارها في ميادين مختلفة، من صناعية، وزراعية، وتجارية، ولا يتم جمع هذه الأموال إلا عن طريق المساهمة، مما أدى إلى دفع عجلة الاقتصاد العالمي إلى الإمام. وقول الشيخ: (طرح هذه الأسهم في السوق لشرائها، وتداولها) أشار الشيخ بهذا أن أسهم الشركة قابلة للتداول بالطرق التجارية، أي بطريق المناولة، أو بطريق القيد في سجلات الشركة، حسب نوع السهم. وهذا القيد أخرج شركة التضامن؛ لأن الشريك المتضامن لا يحق له بيع حصته في الأسواق ممن شاء؛ لأنها شركة تقوم على العنصر الشخصي، جاء في المادة الثامنة عشرة من النظام السعودي عن شركة التضامن: "لا يجوز أن تكون حصص الشركاء ممثلة في أسهم قابلة للتداول".
وكذلك أخرج الشركات التعاونية؛ لأنها تؤسس وفقًا للمبادئ التعاونية بخلاف شركة المساهمة فإن القصد من تأسيسها هو الربح. وكذلك أخرج شركة المحاصة؛ لأنها لا تصدر صكوكًا قابلة للتداول (¬1). وقول الشيخ: (ولا يكون كل شريك فيها مسئولًا إلا في حدود أسهمه) هذا القيد جعل الشركة المساهمة من شركات الأموال، أي أنها تقوم على العنصر المالي، ولا تقوم على العنصر الشخصي، وذلك يعني أمورًا منها: الأول: أن أغلب الشركاء في الشركة المساهمة لا يعرف بعضهم بعضًا. الثاني: أن شركة المساهمة تتمتع بشخصية معنوية وذمة مالية مستقلة عن ذمم الشركاء. وهذا محل بحث سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره بشكل مستقل. الثالث: أن خسارة الشركة لا تعطي الحق لدائنيها بملاحقة المساهمين لتحصيل ديونهم من أموال المساهمين الخاصة، ورأس مال الشركة هو وحده الضامن للوفاء بديونها خلافًا لشركات الأشخاص، كشركة التضامن فإن الشركاء فيها مسئولون عن جميع ديون الشركة في أموالهم الخاصة. وهذا محل بحث سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره بشكل مستقل. الرابع: أن لكل واحد من الشركاء أن يبيع أسهمه لمن يشاء دون حاجة إلى إذن الشركاء، كما أن الشركة لا تنفسخ بموته، ولا بإفلاسه، ولا بالحجر عليه خلافًا لشركات الأشخاص التي تنفسخ بمثل ذلك. الخامس: أن استقلال الشركة عن الشركاء جعل الشركة تقوم على استثمار الأموال دون حاجة لوجود أصحابها مما يسمح للكثيرين بالمشاركة فيها برؤوس ¬
أموالهم مع احتفاظهم بعملهم الأصلي مما أدى إلى سهولة تداول الأموال واشتراكها في خدمة أهداف التنمية.
المبحث الثاني في إجراءات تأسيس شركات المساهمة في النظام السعودي
المبحث الثاني في إجراءات تأسيس شركات المساهمة في النظام السعودي [ن -138] سبق لنا الإشارة إلى إجراءات التأسيس بشكل موجز، نفصله هنا إن شاء الله تعالى، فأقول: أهم الإجراءات النظامية التي ألزم بها نظام الشركات السعودي كل من أراد تأسيس شركة مساهمة هي كالتالي: (1) تحرير العقد الابتدائي ونظام الشركة. تبدأ إجراءات التأسيس بأن يقوم عدد من الأشخاص يطلق عليهم المؤسسون على مشروع تكوين الشركة، وتحرير عقدها الابتدائي، ويشتمل العقد الابتدائي على البيانات التالية: بيانات عن المؤسسين: ويشمل أسماء الشركاء المؤسسين، ومهنتهم، وجنسيتهم، وعناوينهم. وبيانات عن الشركة: اسمها، وغرضها، ومركزها الرئيسي، ومدتها، ومقدار رأس مالها، وقيمة السهم ونوعه. كما يلتزم فيه المؤسسون بالقيام بالإجراءات اللازمة لتصبح الشركة نظامية. وهذا العقد ليس هو عقد شركة المساهمة؛ لأن المساهمين ليسوا الشركاء الوحيدين فيها, ولكن المقصود من هذا العقد الابتدائي هو تقرير التزام المؤسسين بالسعي لإنشاء شركة مساهمة، واتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لذلك. ولما كان المؤسس يقوم بالدعوة إلى الشركة، والترويج لها، فإنه قد يتعرض لمسئولية كبيرة إذا ما فشلت الشركة، أو تبين أنها وهمية.
ومن ثم فإنه يجب تعريف المؤسس بدقة. وقد نصت المادة (53) من نظام الشركات على أن المؤسس: "هو كل من وقع عقد الشركة المساهمة، أو طلب الترخيص بتأسيسها، أو قدم حصة عينية عند تأسيسها، أو اشترك اشتراكًا فعليًا في تأسيس الشركة". (2) تقديم طلب ترخيص لتأسيس الشركة موقع عليه من خمسة شركاء على الأقل، ويبين في الطلب كيفية الاكتتاب برأس مال الشركة، وعدد الأسهم التي قصرها المؤسسون على أنفسهم، ومقدار ما اكتتب به كل منهم، ويرفق به صورة من عقد الشركة ونظامها يكون موقعًا على كل صورة من الشركاء وغيرهم من المؤسسين. ولا بد أن يكون نظام الشركة مطابقًا لنموذج نظام الشركة المساهمة الذي يصدره وزير التجارة. (3) يصدر مرسوم ملكي ترخيصًا لتأسيس الشركة ينشر في الجريدة الرسمية إن كانت من الشركات التي يشترط لها صدور مرسوم ملكي، وهي: (أ) ذات الامتياز. (ب) التي تدير مرفقًا عامًا. (ج) التي تقدم الدولة لها إعانة. (د) التي تشترك فيها الدولة، أو غيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة. (هـ) التي تزاول الأعمال المصرفية. أما بالنسبة لباقي الشركات فيصدر الترخيص من قبل وزير التجارة، ولا يصدر الوزير الترخيص إلا بعد الاطلاع على دراسة تثبت الجدوى الاقتصادية لأغراض الشركة، ما لم تكن الشركة قد قدمت مثل هذه الدراسة لجهة حكومية أخرى مختصة رخصت بإقامة المشروع.
(4) الاكتتاب في رأس المال. إذا صدر الترخيص بتأسيس الشركة، فإنه ينشر في الجريدة الرسمية، فإذا كان المؤسسون قد اكتتبوا في كل رأس المال، فإن الشركة لن تطرح أسهمها للاكتتاب العام، ويجب في هذه الحالة، ألا يقل رأس مال الشركة عن مليوني ريال سعودي وفقًا (م 49). أما إذا اكتتب المؤسسون في جزء فقط من رأس المال فإنهم يطرحون للاكتتاب العام الأسهم التي لم يكتتب بها، ويجب في هذه الحال ألا يقل رأس مال الشركة عن عشرة ملايين ريال سعودي، ولا يقل المدفوع من رأس المال عند التأسيس عن نصف الحد الأدنى، ولا تقل القيمة الاسمية للسهم عن خمسين ريالاً سعوديًا (م 49)، ولا يقل المدفوع من قيمة كل سهم نقدي عند الاكتتاب عن ربع قيمته الاسمية، ويؤشر على السهم بالقدر المدفوع من قيمته (م 58). وقد عدلت القيمة الاسمية للسهم بقيمة عشرة ريالات. ويجب أن تطرح الأسهم للاكتتاب العام خلال ثلاثين يومًا من تاريخ نشر القرار المرخص بتأسيس الشركة في الجريدة الرسمية، ولوزير التجارة أن يأذن عند الضرورة بمد هذا الميعاد لمدة لا تتجاوز ثلاثين يومًا. ويتم طرح الأسهم للاكتتاب عن طريق البنوك التي يعينها وزير التجارة وفقًا (م 55). ويودع المؤسسون لدى البنوك المصرح لها بتلقي الاكتتاب نسخًا كافية من نظام الشركة، ويجوز لكل ذي شأن أن يحصل على نسخة منها بثمن معقول. ويجب أن تتضمن نشرة الدعوة للاكتتاب العام البيانات التالية: - أسماء المؤسسين، ومحل إقامتهم، ومهنهم، وجنسياتهم.
- اسم الشركة، وغرضها، ومركزها الرئيسي. - مقدار رأس المال المدفوع، ونوع الأسهم، وقيمتها، وعددها، ومقدار ما طرح منها للاكتتاب العام، وما اكتتب به المؤسسون، والقيود المفروضة على تداول الأسهم. - المعلومات الخاصة بالحصص العينية، والحقوق المقررة لها. - المزايا الخاصة الممنوحة للمؤسسين، أو لغيرهم. - طريقة توزيع الأرباح. - بيان تقديري لنفقات تأسيس الشركة. - تاريخ بدء الاكتتاب، ونهايته، ومكانه، وشروطه. - طريقة توزيع الأسهم على المكتتبين إذا زاد عدد الأسهم المكتتب بها على العدد المطروح للاكتتاب. - تاريخ صدور المرسوم الملكي المرخص بتأسيس الشركة، ورقم عدد الجريدة الرسمية الذي نشر فيه. ويوقع مؤسسو الشركة الذين وقعوا طلب الترخيص نشرة الاكتتاب، ويكونون مسئولين بالتضامن عن أي خطأ، أو نقص في بيانات نشرة الاكتتاب، فيلتزمون بتعويض من يصيبه ضرر من ذلك، وقد يتعرضون كذلك للعقوبة المنصوص عليها في المادة 229 من نظام الشركات (¬1). ¬
ويظل الاكتتاب مفتوحًا مدة لا تقل عن عشرة أيام، ولا تجاوز تسعين يومًا، وإذا لم يتم الاكتتاب في رأس المال بالكامل خلال المدة المذكورة جاز بإذن من وزير التجارة مد فترة الاكتتاب مدة لا تزيد على تسعين يومًا. ¬
ويحصل الاكتتاب بأن يوقع المكتتب، أو من ينوب عنه، على وثيقة تشتمل بصفة خاصة على اسم الشركة، وغرضها، ورأس مالها، وشروط الاكتتاب، واسم المكتتب، وعنوانه، ومهنته، وجنسيته، وعدد الأسهم التي يكتتب بها، وتعهد المكتتب بقبول نظام الشركة كما تقره الجمعية التأسيسية وفقًا (م 57) (¬1). ولا يصح من المكتتب أن يعلق اكتتابه على شرط، وكل ما يضعه المكتتب من شروط فإنه لا يعتد بها, ولا يلزم الشركة، ويبطل الشرط وحده، ويصح الاكتتاب. وأن يكون الاكتتاب بكل رأس المال وفقًا (م 56) وألا يقل المدفوع من قيمة كل نقدي عند الاكتتاب عن ربع قيمته الاسمية، وفقًا (م 58) (¬2). وتودع حصيلة الاكتتاب باسم الشركة تحت التأسيس أحد البنوك التي يعينها وزير التجارة، ولا يجوز تسليمها إلا لمجلس الإدارة بعد إعلان تأسيس الشركة وفقًا للمادة (63). ¬
(5) دعوة الجمعية العمومية التأسيسية إلى الاجتماع. بعد أن يتم الاكتتاب والدفع والإيداع يدعو المؤسسون جميع المكتتبين إلى الاجتماع في صورة جمعية تأسيسية للشركة، مهمتها استكمال إجراءات التأسيس، وتنعقد بعد خمسة عشر يومًا من تاريخ الدعوة، ولكل مكتتب أيًا كان عدد أسهمه حق حضور هذه الجمعية، ويشترط لصحة الاجتماع حضور عدد من المكتتبين يمثل نصف رأس المال على الأقل، فإذا لم تتوفر هذه الأغلبية من المكتتبين وجهت دعوة إلى اجتماع ثان بعد خمسة عشر يومًا من تاريخ الدعوة، ويكون هذا الاجتماع صحيحًا أيًّا كان عدد المكتتبين الممثلين فيه، وتصدر قرارات هذه الجمعية بالأغلبية المطلقة للأسهم الممثلة فيها وفقًا (م 61). وتختص هذه الجمعية بالتحقيق من صحة إجراءات التأسيس، وتقويم الحصص العينية إن وجدت (¬1)، والتصديق على نظام الشركة، ونفقات التأسيس، واعتماد ¬
المزايا الخاصة بالمؤسسين، وتعيين مجلس الإدارة الأول ومراقبي الحسابات (¬1). ¬
(6) القرار الوزاري بإعلان التأسيس. في خلال الخمسة عشر يومًا التالية لانعقاد الجمعية التأسيسية، يتقدم المؤسسون بطلب إلى وزير التجارة لاستصدار قرار بإعلان تأسيس الشركة، ويكون الطلب مصحوبًا بالمستندات الدالة على استيفاء وصحة إجراءات التأسيس السابقة، وبعد أن يتحقق الوزير من صحة إجراءات التأسيس فإنه يصدر قراره بإعلان تأسيس الشركة. ¬
وبصدور هذا القرار يصبح للشركة وجود قانوني، وتكتسب الشخصية المعنوية، ولا تسمع بعد ذلك الدعوى ببطلان الشركة لأية مخالفة لأحكام نظام الشركات، أو لنصوص عقد الشركة، أو نظامها. وكذلك تنتقل إلى ذمتها جميع التصرفات التي أجراها المؤسسون لحسابها، وجميع المصاريف التي أنفقها المؤسسون خلال فترة التأسيس (م 64/ 2). وإذا لم يتم تأسيس الشركة على النحو المبين في نظام الشركات كان للمكتتبين أن يستردوا المبالغ التي دفعوها، أو الحصص العينية التي قدموها، وكان المؤسسون مسئولين بالتضامن عن الوفاء بهذا الالتزام، وعن التعويض عند الاقتضاء، وكذلك يتحمل المؤسسون جميع المصاريف التي أنفقت في تأسيس الشركة، ويكونون مسئولية بالتضامن في مواجهة الغير عن الأفعال والتصرفات التي صدرت منهم خلال فترة التأسيس (م 64/ 3). هذه هي مراحل وإجراءات التأسيس للشركة المساهمة حسب الأنظمة السعودية المتبعة (¬1). ¬
المبحث الثالث التوصيف الفقهي للاكتتاب
المبحث الثالث التوصيف الفقهي للاكتتاب عرفنا من خلال المبحث السابق إجراءات التأسيس للشركة المساهمة، وكان من أهم مراحلها هي دعوة الجمهور للاكتتاب، ثم قبول المكتتب الاكتتاب بتعبئة المكتتب أو من ينوب عنه وثيقة الاكتتاب، ثم تخصيص الشركة لكل مكتتب عدداً من الأسهم المكتتب بها. ونريد أن نبحث في هذا الفصل التوصيف الفقهي لهذه المراحل: [ن -139] أما دعوة الناس للاكتتاب فهو يعتبر عرضًا للسلعة على الجمهور، مع بيان صفة هذه السلعة بذكر عدد الأسهم المطروحة، وصفتها، وقيمتها، والغرض من إنشاء الشركة، وبيان نظامها كما يعرض التاجر سلعته على المشتري، وتعد هذه الخطوة شرطًا أساسيًّا لصحة العقد؛ لأن من شروط صحة العقد العلم بالمعقود عليه، وانتفاء الجهالة عنه، ولا يعتبر هذا وحده إيجابًا، وإنما هو مجرد دعوة عامة للشراء أو للشراكة مثله تمامًا ما يعرض بوسائل الإعلام من دعاية عن سلعة من السلع، لا يعد وحده إيجابًا، وإنما هو دعوة عامة للجمهور. وأما إقبال المكتتب على الاكتتاب، وتسليمه الوثيقة الخاصة بذلك، وقيامه بتعبئتها فهو بمنزلة الإيجاب. وتخصيص الشركة عددًا من الأسهم لكل مكتتب بمنزلة القبول. وهل العقد بين المكتتب، والشركة، أو بين المكتتب، والمؤسسين؟ فالجواب على ذلك أن يقال: لا يخلو الاكتتاب في الشركة، إما أن يكون من
القول الأول
أجل تأسيس الشركة المساهمة، أو يكون الاكتتاب بعد تأسيس الشركة، كما لو كان الاكتتاب جاء من رغبة الشركة في زيادة رأس مالها. [ن -140] فإن كان الاكتتاب هو الاكتتاب التأسيسي للشركة، فقد اختلف القول في توصيف هذه الشركة إلى قولين: القول الأول: يرى أن الاكتتاب عقد بين المكتتب والشركة بوصفها شخصًا معنوياً في دور التكوين، يمثله المؤسسون باعتبارهم وكلاء عن الشركة (¬1). القول الثاني: أنه عقد بين المكتتب والمؤسسين بناء على أن الشركة لا يكون لها شخصية معنوية مستقلة عن المؤسسين حتى يتم تأسيسها. وهذا هو ما يفهم من نظام الشركات السعودي، حيث جاء فيه ما نصه: إذا لم يتم تأسيس الشركة على النحو المبين في نظام الشركات كان للمكتتبين أن يستردوا المبالغ التي دفعوها، أو الحصص العينية التي قدموها، وكان المؤسسون مسئولين بالتضامن عن الوفاء بهذا الالتزام، وعن التعويض عند الاقتضاء، وكذلك يتحمل المؤسسون جميع المصاريف التي أنفقت في تأسيس الشركة، ويكونون مسئولية بالتضامن في مواجهة الغير عن الأفعال, والتصرفات التي صدرت منهم خلال فترة التأسيس (م 64/ 3). وإذا كان المؤسسون ضامنين لجميع تصرفاتهم التي صدرت أثناء تكوين ¬
الشركة دل على أن النظام يصف عقد الاكتتاب على أنه عقد بين المكتتبين والمؤسسين. [ن - 141] وأما إذا كان الاكتتاب حصل بعد تأسيس الشركة، كما لو كان الاكتتاب يأتي من رغبة الشركة في زيادة رأس مالها، فإن هذا الاكتتاب حصل بعد أن اكتسبت الشركة شخصيتها المعنوية المستقلة عن الشركاء، فإنه يمكن لنا أن نصف هذا العقد بأنه عقد بين المكتتب وبين الشركة بوصفها شخصًا اعتباريًا مستقلًا. وإذا كان الشأن كذلك، كان عقد الاكتتاب عقد شراكة بالنسبة للاكتتاب التأسيسي، وعقد بيع بالنسبة للاكتاب اللاحق لتأسيس الشركة. [ن -142] وأما حكم الشراكة والبيع فهذا يتوقف على مدى موافقة الشركة ونظامها ونشاطها للشريعة الإِسلامية. فهناك شركات كان الغرض من إنشائها مشروعًا (مباحًا) ولا تتعامل بالربا، ولا بغيره من المحرمات، لا إقراضًا, ولا اقتراضًا. فهذه الشركة يجوز الاكتتاب بها بناء على أن الأصل في البيع والشركة الجواز والصحة. وهناك شركات يكون الغرض من إنشائها غير مشروع (محرمًا شرعًا) كالبنوك الربوية، وشركات الخمور، ونحوها، أو كان الغالب على أنشطتها محرمًا شرعًا. فهذه لا يجوز الاكتتاب بها؛ لأن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه. وهناك قسم ثالث من الشركات يكون الغرض من إنشائها مباحًا، وتمارس أعمالًا مباحة، ولكن لها بعض الممارسات المحرمة، كأن تقترض بالربا، أو تودع بالربا، فهذه محل نزاع بين الباحثين المعاصرين، فهناك من يمنع الاكتتاب
بها مطلقًا، وهم أكثر العلماء. وهناك من يجيز الاكتتاب بها بشروط وقيود سوف يأتي إن شاء الله تعالى تحرير الخلاف فيها في فصل مستقل، نسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
المبحث الرابع التوصيف الفقهي لشركة المساهمة
المبحث الرابع التوصيف الفقهي لشركة المساهمة [ن -143] اختلف المعاصرون في توصيف شركة المساهمة إلى أربعة أقوال: القول الأول: هناك من اعتبر شركة المساهمة من شركات المضاربة. وممن قال بهذا القول الشيخ على الخفيف رحمه الله. قال الشيخ: " ... وقيل وضع القانون قيودًا كثيرة في تأسيس شركات المساهمة قصد بها حماية المساهمين، وحماية المتعاملين معها, ولا يجوز تأسيسها إلا بأمر يصدر من السلطة العامة، والعمل في مالها يكون عادة لغير أرباب الأموال فيها, ولذلك فهي تعد من قبيل القراض في هذه الحال ... " (¬1). ويناقش:. بأنه قد يصدق هذا التوصيف على بعض الحالات، ولكن لا يصدق على ما إذا كان أعضاء مجلس الإدارة، العاملون فيها, لهم أسهم في الشركة، كما يوجبه النظام السعودي للشركات. القول الثاني: ذهب بعض الباحثين إلى أن شركة المساهمة تعد عنانًا، ومن هؤلاء الدكتور وهبة زحيلي (¬2). ¬
القول الثالث
القول الثالث: هناك من اعتبر شركات المساهمة شركة عنان ومضاربة معًا. وجهه: أنه قد تبين لنا من خلال الحديث عن إجراءات التأسيس أن شركة المساهمة يديرها مجلس إدارة. فإذا كان عضو مجلس الإدارة مساهما كما هو شرط النظام السعودي، فإن الشركة المساهمة والحالة هذه تجمع بين شركة العنان والمضاربة. فالعنان: لأن الشركة مكونة من مجموع المالين: مال مجلس الإدارة، ومال الشركاء. ومضاربة من حيث إن مجلس الإدارة سيعمل في مال الشركاء بالوكالة عنهم. وقد ذكر الحنابلة صورة قريبة جدا لصورة الشركة المساهمة: بحيث يكون من أحد الشركاء مال وعمل، ومن الآخر مال فقط. قال في الإنصاف: " ... شركة العنان: وهي أن يشترك اثنان بماليهما ... ليعملا فيه ببدنيهما بلا نزاع، والصحيح من المذهب، أو يعمل فيه أحدهما ... وقال في التلخيص: فإن اشتركا على أن العمل من أحدهما في المالين صح، ويكون عنانا ومضاربة. وقال في المغني: هذا شركة ومضاربة. وقاله في الكافي والشرح .. وقال الزركشي: هذا الشركة تجمع شركة ومضاربة، فإن حيث إن كل واحد منهما يجمع المال تشبه شركة العنان، ومن حيث إن أحدهما يعمل في مال صاحبه في جزء من الربح هي مضاربة" (¬1). ¬
فإذا كان عضو مجلس الإدارة مساهمًا كما هو الحال في نظام الشركات المساهمة في السعودية فإنه لا يجوز أن يكون أجره مبلغًا مقطوعًا؛ لأن اشتراط مبلغ مقطوع للعامل أو للشريك محرم بالإجماع. قال ابن المنذر: "وأجمعوا على إبطال القراض الذي يشترط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة" (¬1). وقال ابن تيمية: "لا يجوز أن يخص أحدهما بربح مقدر؛ لأن هذا يخرجهما عن العدل الواجب في الشركة، وهذا هو الذي نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - من المزارعة، فإنهم كانوا يشترطون لرب المال زرع بقعة بعينها ... فإن مثل هذا لو شرط في المضاربة لم يجز؛ لأن مبنى المشاركات على العدل بين الشريكين، فإذا خص أحدهما بربح دون الآخر لم يكن هذا عدلًا، بخلاف ما إذا كان لكل منهما جزء شائع، فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم، فإن حصل ربح اشتركا في المغنم، وإن لم يحصل ربح اشتركا في الحرمان" (¬2). وإن قلنا: إن مجلس الإدارة لا يساهم، فإما أن يكون أجره نسبة من الربح، أو يكون أجره مكافأة. فإن كان أجره مكافأة معينة، فإن الشركة تكون شركة عنان بحتة؛ لأن مجلس الإدارة حينئذ يعمل بالوكالة عن جميع الشركاء، فالشركاء دفعوا المال، وقاموا بالعمل أيضًا عن طريق استئجار مجلس الإدارة. ولم يصح أن يكون عمل مجلس الإدارة مضاربة؛ لأن عملهم حينئذ من قبيل ¬
القول الرابع
التوظيف، وليس من قبيل المشاركة، حيث لا يتحمل المجلس أي خسارة للشركة، ولا يناله أي ربح فيها. وإن كان مجلس الإدارة يأخذ أجره نسبة من ربح المساهمين، فهذه شركة مضاربة، ولا توجد شركة عنان؛ لأن عمله في الشركة يأخذ طابع المشاركة في الربح والخسارة. وممن قال بهذا القول الشيخ صالح بن زابن المرزوقي (¬1)، والشيخ خالد المشيقح (¬2)، والقول الأخير للشيخ وهبة الزحيلي (¬3). القول الرابع: أن شركة الأموال تعتبر من الشركات الحديثة التي لم يتناولها الفقهاء المتقدمون بالدراسة والتحقيق؛ لأنها لم تكن معروفة في عهدهم، مما يجعلها محل اجتهاد المتأخرين. والدليل على أنها نوع جديد لم يكن معروفًا أن الشركات التي ذكرها الفقهاء من شركة المضاربة، والعنان، والوجوه، والمفاوضة، والأبدان تكاد تتفق على اعتبار شخصية الشريك، بخلاف شركات الأموال (الشركات المساهمة) والتي لا يكون للشريك فيها، وشخصيته أي اعتبار، بل يكون قيامها على المال فقط، فتطرح أموالها على الجمهور، ويستطيع أن يحصل عليها كل من يقدر على دفع قيمتها، ويكون اهتمام الشركة موجهًا إلى جمع رأس المال اللازم لها، دون بحث في شخصية الشركاء (¬4). ¬
وكونها تشبه من بعض الوجوه شركة المضاربة، أو شركة العنان، فإن هذا الشبه من بعض الوجوه لا يعني أنها مطابقة لها من كل الوجوه؛ لأن التشابه بين الشركات في بعض الخصائص قائم حتى في تلك الشركات القديمة، فإن المعلوم أن بعض خصائص شركة العنان مشابهة لخصائص شركة المضاربة، ولم يجعل الفقهاء هذه الشركات شركات واحدة، ولا يعلم دليل شرعي يربط مشروعية الشركات الحديثة بكونها مشابهة للشركات القديمة المذكورة في كتب الفقهاء، بل القاعدة الشرعية تنص على أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه منها (¬1). وهذا القول ليس فيه تكلف، وينسجم مع القول بجواز إحداث عقود وشروط جديدة إذا كانت خالية من المحظور الشرعي. ¬
المبحث الخامس حكم شركات المساهمة من الناحية الفقهية
المبحث الخامس حكم شركات المساهمة من الناحية الفقهية [ن -144] ذكرنا في المبحث السابق اختلاف الباحثين المعاصرين في توصيف الشركات المساهمة، ويمكن أن نلخصه بالآتي: منهم من ألحقها بالشركات القديمة على خلاف بينهم، هل هي من شركات العنان، أو المضاربة، أو خليط منهما. وهؤلاء يذهبون إلى جواز المشاركة في الشركات المساهمة القائمة لتحقيق غرض مباح، ولم تمارس عملاً غير مشروع؛ بناء على إباحة شركات المضاربة والعنان. ومنهم من اعتبرها شركات حديثة على غير مثال سابق على خلاف بينهم في جوازها. وقد اختلف العلماء المعاصرون في حكم الشركة المساهمة على قولين: القول الأول: جواز المساهمة في الشركات المساهمة لتحقيق غرض مباح بناء على أن الأصل في العقود الحل والصحة. وقد ذهب إلى هذا القول كل من اللجنة الدائمة للإفتاء في البلاد السعودية (¬1)، وأعضاء مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (¬2)، وندوة ¬
البركة (¬1)، وهو قول عامة أهل العلم في هذا العصر، كسماحة الشيخ محمَّد بن إبراهيم رحمه الله (¬2)، وسماحة الشيخ ابن باز رحمه الله (¬3)، وفضيلة شيخنا ابن عثيمين رحمه الله (¬4)، .................... ¬
القول الثاني
والشيخ علي الخفيف رحمه الله (¬1)، والشيخ محمَّد شلتوت رحمه الله (¬2)، والشيخ محمَّد أبو زهرة رحمه الله (¬3)، والشيخ عبد الله بن منيع (¬4)، والدكتور عبد العزيز الخياط (¬5). وهذا القول بالجواز قد قيده أكثر هؤلاء العلماء بأن تكون هذه الشركات رأس مالها حلال، وتتعامل بالحلال، وينص نظامها التأسيسي على أنها تتعامل في حدود المباح، ولا تتعامل بالربا إقراضًا، واقتراضا؛ ولا تتضمن امتيازا خاصا، أو ضمانًا ماليًّا لبعض دون الآخر (¬6). القول الثاني: ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى تحريم شركات المساهمة مطلقاً، وبه قال الشيخ تقي الدين النبهاني (¬7)، والدكتور عيسى عبده (¬8)، والدكتور علي عبد العال ¬
دليل من قال بالجواز
عبد الرحمن (¬1)، والشيخ هارون خليف جيلي (¬2). دليل من قال بالجواز: الدليل الأول: هذا القول لا يحتاج إلى دليل إيجابي، بل يكفيه أنه لا يوجد دليل صحيح صريح سالم من النزاع يذهب إلى تحريم الشركات في الإِسلام، ومنها شركات الأموال، وإذا كان لا يوجد دليل على المنع فإن الأصل الإباحة والصحة. جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي: "بما أن الأصل في المعاملات الحل، فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز" (¬3). الدليل الثاني: أن الإِسلام أقر بمبدأ الشراكة، ولم يمنعه، فإن كانت توصيف الشركة المساهمة على أنها من شركة العنان، أو المضاربة كما نقلته عند الكلام على توصيف شركة المساهمة كان الإجماع نصًّا في جوازها. قال ابن عبد البر: "والقراض مأخوذ من الإجماع الذي لا خلاف فيه عند أحد من العلماء، وكان في الجاهلية، فأقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الإِسلام" (¬4). قال ابن قدامة عن شركة العنان: "وهي جائزة بالإجماع، ذكره ابن المنذر، وإنما اختلف في بعض شروطها" (¬5). ¬
دليل من قال بالتحريم
وإن كانت توصيف الشركة المساهمة على أنها من الشركات الحديثة كان القياس هو الحجة، فإن جواز شركة المضاربة والعنان دليل على جواز كل شركة مالية ليس فيها محذور شرعي، ومنها الشركات المساهمة المنضبطة، وإذا كان الفقهاء المتقدمون أجازوا الشركات التي كانت سائدة في عصرهم مما ليس فيها محظور شرعي فلا يعني ذلك حصرًا لأنواع الشركات الجائزة، وإنما أجازوها؛ لأنها هي التي كانت سائدة في عصرهم. (ح -859) روى البخاري من طريق سليمان بن أبي مسلم، قال: سألت أبا المنهال عن الصرف يداً بيد؟ فقال: اشتريت أنا وشريك لي شيئاً يداً بيد ونسيئة، فجاءنا البراء بن عازب، فسألناه فقال: فعلت أنا وشريكي زيد ابن أرقم، وسألنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: ما كان يدًا بيد فخذوه، وما كان نسيئة فذروه (¬1). دليل من قال بالتحريم: الدليل الأول: العلم بالمبيع شرط لصحة البيع، فإذا كان المبيع مشتملاً على جهالة بطل البيع، والجهالة موجودة في شركات المساهمة حيث لا يعلم المشتري علمًا تفصيليا بحقيقة السهم (¬2). وأجيب: قال سماحة مفتي الديار السعودية في عصره الشيخ محمَّد بن إبراهيم رحمه الله تعالى: ورد إلينا استفتاء عن هذه الشركات المساهمة، كشركة ¬
الكهرباء والأسمنت والغاز ونحوها مما يشترك فيه المساهمون، ثم يرغب بعضهم بيع شيء من سهامهم بمثل قيمتها، أو أقل أو أكثر، حسب نجاح تلك الشركة وضده، وذكر المستفتي أن الشركة عبارة عن رؤوس أموال، بعضها نقد، وبعضها ديون لها وعليها، وبعضها قيم ممتلكات وأدوات، مما لا يمكن ضبطه بالرؤية ولا بالوصف، واستشكل السائل القول بجواز بيع تلك السهام؛ لأن المنصوص: اشتراط معرفة المتبايعين للمبيع ... وذكر أن هذا مما عمت به البلوى، وهذا حاصل السؤال منه ومن غيره عن حكم هذه المسألة. والجواب: الحمد لله، لا يخفى أن الشريعة الإِسلامية كفيلة ببيان كل ما يحتاج الناس إليه في معاشهم ومعادهم، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] والكلام على هذا مبني على معرفة حكم عقد هذه الشركة، ومساهمة الناس فيها؛ ولا ريب في جواز ذلك، ولا نعلم أصلاً من أصول الشريعة يمنعه وينافيه، ولا أحدًا من العلماء نازع فيه. إذا عرف هذا فإنه إذا كان للإنسان أسهم في أية شركة، وأراد بيع أسهمه منها فلا مانع من بيعها، بشرط معرفة الثمن، وأن يكون أصل ما فيه الاشتراك معلومًا، وأن تكون أسهمه منها معلومة أيضًا. فإن قيل: إن فيها جهالة؛ لعدم معرفة أعيان ممتلكات الشركة وصفاتها، فيقال: إن العلم في كل شيء بحسبه، فلا بد أن يطلع المشتري على ما يمكن الاطلاع عليه بلا حرج ولا مشقة، ولا بد أن يكون هناك معرفة عن حال الشركة ونجاحها، وأرباحها، وهذا مما لا يتعذر علمه في الغالب؛ لأن الشركة تصدر في كل سنة نشرات توضح فيها بيان أرباحها وخسائرها، كما تبين ممتلكاتها من عقارات، ومكائن، وأرصدة، كما هو معلوم من الواقع، فالمعرفة الكلية ممكنة ولابد، وتتبع الجزئيات في مثل هذا فيه حرج ومشقة، ومن القواعد المقررة أن
المشقة تجلب التيسير، وقد صرح الفقهاء رحمهم الله باغتفار الجهالة في مسائل معروفة، في أبواب متفرقة، مثل جهالة أساس الحيطان، وغير ذلك ... (¬1). ويقول الدكتور عمر المترك رحمه الله: "إنه وإن كان يحصل في الشركات نوع من الجهالة، إلا أن مثل هذه الجهالة تغتفر، حيث إنها لا تفضي إلى النزاع، والجهالة التي تؤثر في صحة العقد: الجهالة التي تؤدي إلى عدم إمكان تنفيذ العقد، أو إلى نزاع فيه، كبيع شاة من قطيع تتفاوت آحاده دون تعيين، فإن البائع يرغب عادة في إعطاء المشتري أدناه، والمشتري يرغب في أن يأخذ منه أحسنه وأغلاه، فيتنازعان، ويؤدي ذلك إلى عدم التنفيذ، أما الجهالة في مثل هذه المسألة، فلا تؤدي إلى نزاع؛ لأن البيع والشراء يجري في جزء معين، وهو معلوم للبائع والمشتري. ولأن الناس محتاجون إلى هذه البيوع، والقول بعدم جوازها يؤدي إلى ضرر كبير، والشارع لا يحرم ما يحتاج إليه الناس، لأجل نوع يسير من الغرر، ولذا أباح بيع الثمار بعد بدء صلاحها مبقاة إلى الجذاذ، وإن كان بعض المبيع لم يخلق بعد، وأجاز بعض العلماء بيع المغيبات في الأرض، كالجزر، وما أشبهه، وبيع ما يكون قشره صونا له كالعنب، والرمان، والموز في قشره قولاً واحدا، فإذا رئي من المبيع ما يدل على ما لم ير جاز البيع باتفاق، فكذلك الشركات يستدل على نجاحها وفشلها بما ظهر منها، واشتهرت به، وبيع الغرر نهي عنه؛ لأنه يفضي إلى أكل المال بالباطل، فإذا عارض ذلك ضرر أعظم من ذلك أبيح دفعًا لأعظم الفسادين باحتمال أدناهما، وهذه قاعدة مستقرة في الشريعة الإِسلامية" (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: يرى بعض العلماء أن شركات الأموال (الشركات الحديثة) لا تتفق مع الشركات المعروفة في الفقه الإِسلامي لثلاثة أمور: الأمر الأول: عدم توفر أركان عقد الشركة فيها من إيجاب وقبول؛ لأن العقد هو إيجاب وقبول بين طرفين .. أو أكثر, أي أنه لا بد أن يكون هنالك طرفان في العقد، أحدهما يتولى الإيجاب ... كأن يقول: شاركتك. والآخر يتولى القبول كان يقول: قبلت، أو رضيت. فإن خلا العقد من وجود طرفين، أو من الإيجاب والقبول لم ينعقد، ولا يسمى عقدا شرعا. وأما في شركة المساهمة فإن الالتزام فيها هو تصرف بالإرادة المنفردة، وعقد الشركة بالإرادة المنفردة عقد باطل شرعا؛ لأن العقد شرعا: هو ارتباط الإيجاب الصادر من أحد العاقدين بقبول الآخر، على وجه يظهر أثره في المعقود عليه، وعقد شركة المساهمة لم يحصل فيه ذلك، بل إن المؤسسين يتفقون على شروط الاشتراك، ولا يباشرون الاشتراك بالفعل حين يتفقون على شروط الشركة، بل يتفاوضون ويتفقون على الشركة، ثم يضعون صكًّا هو نظام الشركة، ثم بعد ذلك يجري التوقيع على هذا الصك من كل من يريد الاشتراك، فيعتبر توقيعه قبولا به، وحينئذ شريكا، وهذا واضح فيه أنه لا يوجد فيه طرفان أجريا العقد معا , ولا يوجد فيه إيجاب، وقبول، وإنما هو طرف واحد يوافق ¬
ونوقش هذا
على الشروط، فيصبح بموافقته شريكًا، فشركة المساهمة ليست اتفاقًا بين اثنين، وإنما هي موافقة من شخص واحد على شروط (¬1). ويقول الدكتور عيسى عبده: المساهمة في حقيقتها, ولا نقول شركة المساهمة: هي منظمة مالية يلتحق بها من يشاء بإرادته المنفردة حين يكتتب في الأسهم، أو حين يشتريها من سوق الأوراق المالية، فيكون مساهمًا، ومن حقه أيضاً أن يبيع الأسهم بإرادته المنفردة، فيخرج من جماعة المساهمين بغير إذنهم بل بغير علمهم، وما هكذا الشركات ... ولا علم لنا بأن الفقه الإِسلامي يعترف بهذا النوع من الشركات (¬2). ونوقش هذا: لا نسلم أن عقد الشركة لا يتوفر فيه ركن العقد، وهو الإيجاب والقبول، فإن توقيع وثيقة الاكتتاب من المساهمين يعد إيجابًا، وتخصيص الأسهم يعد قبولًا من الشركة، غاية ما فيه أن الإيجاب والقبول ربما كان كتابيا بدلًا من كونه قوليا، وأن مجلس الإيجاب ومجلس القبول غير متحد، وقد بينا أنهما ليسا بشرط عند الكلام على الإيجاب والقبول، كما لو كان الإيجاب والقبول عن طريق المراسلة، والإيجاب والقبول في العقود يحكمه العرف، فما عده الناس إيجابا وقبولًا اعتبر ذلك. الأمر الثاني: عدم تحقق العنصر الشخصي في شركة المساهمة، فالشركة في الإِسلام ¬
ونوقش هذا
يشترط فيها وجود البدن، أي وجود الشخص المتصرف، فإذا لم يوجد كانت الشركة غير صحيحة، وشركة المساهمة لا يوجد فيها بدن مطلقا، بل تتعمد إبعاد العنصر الشخصي من الشركة، ولا تجعل له أي اعتبار؛ لأن عقد شركة المساهمة عقد بين أموال فحسب، ولا وجود للعنصر الشخصي فيها, ولذلك تعتبر الشركة شخصا معنويا يكون لها وحدها حق التصرفات الشرعية، من بيع، وشراء، وصناعة شكوى، وغير ذلك، ولا يملك الشركاء أي تصرف، وإنما التصرف خاص بشخصية الشركة، مع أن الشركة في الإِسلام إنما يصدر فيها التصرف عن الشركاء فقط، وبناء على ذلك تكون التصرفات التي تحصل من الشركة بوصفها شخصية معنوية باطلة شرعا. ونوقش هذا: القول بأن التصرف لا يصدر عن الشركاء، وإنما هو خاص بالشخصية المعنوية، وما يصدر عن الشركة بوصفها شخصا معنويا باطل شرعا. هذا قول غير مسلم؛ لأنه ليس هناك من قائل بأن هذه الأموال تنمو بنفسها، بل وراء هذا النمو مجهودات شخصية، سواء في الإدارة، أو في الإشراف، أو في المراقبة تسعى إلى تحقيق الربح، ولكن هذا المجهود منظم من أجل المحافظة على أموال الشركة، وعدم العبث بها، ثم إن اعتبار الشخصية المعنوية لا يمنع من الاشتراك بالمال والعمل، والشخصية المعنوية لها أصل في الشريعة الإِسلامية، وذلك كالوقف على المساجد والجند وجهات الخير (¬1). الأمر الثالث: من المعلوم أن الشركات في الإِسلام من العقود الجائزة شرعًا، تبطل بالموت ¬
ونوقش هذا
أو بالحجر أو بالجنون أو بالفسخ من أحد الشركاء، واستمرار شركات المساهمة مع وجود مثل هذه الحالات يعتبر باطلًا (¬1). ونوقش هذا: القول بأن كون العقد في الشركة عقدًا دائمًا يخالف الشرع فيه نظر، فليس من شروط صحة الشركة أن تكون مؤقتة، جاء في حاشية ابن عابدين: "والتوقيت ليس بشرط لصحة هذه المشاركة، والمضاربة" (¬2). فليس هناك ما يمنع شرعاً من اتفاق الشركاء على ديمومة الشركة، وإذا دخل الشريك مع علمه بهذا الواقع دل ذلك على رضاه به، إذ المعروف كالمشروط، وقد أجاز بعض الفقهاء أن يحل الوارث غير الرشيد محل وارثه إذا كان في استدامة الشركة مصلحة له. جاء في أسنى المطالب: "لو مات أحد الشريكين، وله طفل، ورأى الولي المصلحة في الشركة استدامها" (¬3). والقول بفسخ الشركة بأحد أسباب الفسخ إنما هو فيما إذا كانت الشركة بين اثنين، أما إذا كانت بين ثلاثة فأكثر فإن الشركة لا تنفسخ مطلقا، إنما تنفسخ في حق من قام به أحد هذه الأسباب. قال ابن نجيم: "ولو كان الشركاء ثلاثة، فمات أحدهم حتى انفسخت الشركة في حقه، لا تنفسخ في حق الباقين" (¬4). ¬
الراجح
وعلى فرض أن تكون شركات الأموال لا تشبه الشركات المعروفة في الفقه الإِسلامي، فإن هذا ليس كافيًا للقول بمنعها, ولا يعلم دليل شرعي يربط مشروعية الشركات الحديثة بكونها مشابهة للشركات القديمة المذكورة في كتب الفقهاء، بل القاعدة الشرعية تنص على أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه منها؛ ولا يوجد محظور شرعي في قيام مثل هذه الشركات، بل المصلحة العامة داعية إلى قبولها بالضوابط الشرعية. الراجح: لا أرى أن القول بالمنع قول وجيه، ولا المبررات التي ساقها من يطالب بمنع مثل هذه الشركات يمكن أن تكون أدلة شرعية باستثناء الدليل الأول، وقد أجبت عنه، وكل كده أن يوجد فرقًا بين هذه الشركات الحديثة، وبين الشركات القديمة في الفقه الإِسلامي، وهذا الفرق لا يحتاج إلى عناء، فهو ظاهر وواضح، ولكن ليس هذا كافيا في رد الشركات، وإنما النظر في أي معاملة مستحدثة إلى المحاذير الشرعية، فإن ترتب على هذه المعاملة معاملات محرمة، كالدخول في الربا، أو الدخول في الغرر، أو الدخول في التغرير، والخداع، والقمار، والميسر حرم من أجل ذلك، لا من أجل الشركة، وما دامت الشركة قد تبين فيها مقدار المال، وتبين فيها نوعية العمل، وأنه من الأعمال المباحة، وتبين فيها مقدار الربح والخسارة بطريقة عادلة، وهي الاستواء فيما يحصل للشركاء من كسب أو ربح، وتحملهما الخسارة معًا، فإن الإِسلام لا يمنع من قيام مثل هذه الشركات، وإن كانت شركات مستحدثة على غير مثال سابق، فالأصل في المعاملات الحل، ومع قولنا بالجواز إلا أن هذا من حيث الجملة، فلا يمنع أن يوجد في أنظمة الشركة المساهمة ما يمكن الاختلاف على جوازه،
وبالتالي يجب تعديله حذرا من الوقوع في محذور شرعي، ولا يكفي وجود مثل هذا للقول بالتحريم مطلقا، وهذا ما سوف نستكشفه عند الكلام على بعض خصائص شركات المساهمة، وبعض خصائص الأسهم وحكم تداولها، وبيان أنواعها، وما يجوز منها، وما لا يجوز. نسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
المبحث السادس في الشخصية الاعتبارية للشركة
المبحث السادس في الشخصية الاعتبارية للشركة تعريف الشخصية الاعتبارية: هو وصف يقوم بالشركة، أو المؤسسة، يجعلها أهلًا للإلزام والالتزام في الحقوق والواجبات المالية (¬1). "ولم تتوفر حتى الآن على هذا المفهوم المستحدث بأبعاده القانونية ندوات، أو مؤتمرات فقهية بغرض دراسته، واتخاذ الموقف الإِسلامي المناسب تجاهه، وإن لم يخل الموضوع من دراسة منفردة هنا، أو هناك في محاولة لاستكشاف جوانبه، والحكم له أو عليه" (¬2). [ن -145] والسؤال: هل يترتب على إنشاء شركات المساهمة نشوء ذمة مالية للشركة، مستقلة عن الشركاء، وهو ما يعرف بالشخصية المعنوية، أو الاعتباربة. نستطيع أن نقول إن هناك ثلاثة أقوال في هذا: القول الأول: يذهب إلى الاعتراف بالشخصية المعنوية للشركة، وأن لها ذمة مستقلة عن ذمم الشركاء، واسمًا، وموطنًا، وجنسية. ¬
ويترتب على هذا أمور منها
ويترتب على هذا أمور منها: الأول: أن يكون للشركة أهلية قانونية مستقلة يؤهلها بأن تكون أهلًا للإلزام والالتزام في الحقوق والواجبات، بحيث تتملك بعوض وبغير عوض، ويكون لها ذمة مالية مستقلة عن الذمة المالية للشركاء، بحيث يعتبر رأس المال ونماؤه ملكًا للشركة، وليس ملكًا شائعًا بين الشركاء، بحيث يتجرد الشريك من حصته المقدمة للشركة، ولا يكون له فيها إلا حق الحصول على أرباحها في أثناء استمرار نشاط الشركة، وأخذ نصيبه من موجوداتها عند انحلالها أو تصفيتها. وهذا يعطي الحق للشركة أن تكون شريكًا في شركة أو شركات أخرى دون أن يكون المساهمون فيها شركاء في تلك الشركات. الثاني: أن الشركاء في الشركة المساهمة مسئوليتهم محدودة، بحيث لا يسألون عن ديون الشركة إلا بمقدار الأسهم التي يملكها كل منهم، بحيث إذا أفلست الشركة، ولم تتمكن من سداد ديونها, لا يلزم الشركاء بسداد ديونها من أموالهم الخاصة. فإفلاس الشركة لا يعني إفلاس المساهمين فيها؛ لأن إفلاسها يتعلق برأس مالها, ولا يتعلق بأموال الشركاء المساهمين خاصة. الرابعة: للشركة حق التقاضي، باعتبارها شخصا معنويًا، فترفع الدعاوي على الغير، أو على الشركاء، كما ترفع عليها الدعاوي من الغير، أو من الشركاء (¬1). وبهذا أخذت عامة القوانين العربية، كالقانون المدني المصري (¬2)، والقانون ¬
ويستدلون لذلك بأدلة منها
المدني السوري (¬1)، والنظام السعودي (¬2)، وكثير من الباحثين. ويستدلون لذلك بأدلة منها: الدليل الأول: أنه ليس هناك نص من كتاب، أو سنة يمنع من أن تكون للشركة ذمة مستقلة، وإن كانت دون ذمة الشخص الطبيعي. والمصلحة بل الضرورة تقضي به لتستقيم معاملات الناس، والأصل في الأشياء الإباحة. الدليل الثاني: إذا كانت الذمة في الفقه والقانون: هي الصلاحية لأن يكون ذلك الشيء أهلًا للإلزام والالتزام في الحقوق والواجبات المالية، فإن هذا المعنى موجود في شركات المساهمة. الدليل الثالث: أن القول بالشخصية الاعتبارية تمليه الحاجة إلى تنظيم وتسهيل معاملات المؤسسات والشركات المالية الضخمة مع عملائها المختلفين، فالأنفع، والأفضل للعميل التعامل مع شخص اعتباري محدد، ومعروف بدلاً من مطالبته أن يتعامل مع مجموع مساهمي هذه المؤسسات، الأمر الذي قد يتعذر معه جمعهم كلهم في وقت واحد. ¬
الدليل الرابع
وقد يقال: إن التعامل مع وكلاء المساهمين كمجلس الإدارة، يغني عن التعامل مع مجموع المساهمين. الدليل الرابع: الشخصية الاعتبارية لها أصل في الفقه الإِسلامي، فبيت مال المسلمين له ذمة مستقلة، والمال المودع فيه ملك له، وليس ملكاً للسلطان، فما يملكه السلطان مستقل عما يملكه بيت المال، وإن كان السلطان نائبًا فيه عن الأمة الذي هو واحد منها؛ وليس للسلطان حق فيه إلا كفايته لقاء عمله، وليس له أن يأمر لأحد منه بشيء إلا بحق ومسوغ شرعي، ومثله الوقف في الإِسلام، فإنه مال محجور عن التمليك والتملك والإرث والهبة ونحوها، وهو مرصد لما وقف عليه، ومع ذلك فإن الوقف قد يستحق ويستحق عليه، وتجري العقود الحقوقية بينه وبين أفراد الناس، من إيجار وبيع وغلة واستبدال وغير ذلك (¬1). القول الثاني: القول بوجود هذه الشخصية الاعتبارية للشركة، وكونها ذات مسؤولية محدودة إلا أن هذا لا يخرجها عن حقيقة شركة العنان والمضاربة، وأنها مبنية على الوكالة، وأن المساهم شريك، ويملك حصة شائعة في الشركة وموجوداتها، فلا يلزم من القول به أن نتوسع بهذا المفهوم كما يتوسع أهل القانون بل نقول به بالقدر الذي يساعد على تسهيل معاملات الشركة، ونرفض بعض هذه الآثار القانونية المترتبة عنها، ونرى أنها مصادمة لروح الفقه الإِسلامي وعدالته (¬2). ¬
ويستدل أصحاب هذا القول بما يلي
ويستدل أصحاب هذا القول بما يلي: الدليل الأول: أنه يمكن القول بالشخصية الاعتبارية، ولا يلزم منه أن نقول بهذه الآثار القانونية، فالآثار التي رتبت على القول بالشخصية الاعتبارية ليست مبنية على لوازم فقهية، وإنما مبنية على أحكام قانونية، وهي لا تلزم الفقيه. يقول الشيخ مبارك آل سليمان: "من الغريب حقًا أن تكون للأحكام التي يقررها واضعو القوانين البشرية للشركات هذه الهيمنة على نظر الباحث في الأحكام الشرعية، بحيث يجعلها مصدرًا له في تصور حقيقة الشركة، وترتيب الأحكام على هذا التصور، والذي أريد أن ألفت النظر إليه في هذا الشأن هو وجوب التفريق بين الوصف الذي يبين طريقة إنشاء شركة المساهمة، ومراحل تكوينها، وصلاحيات المؤسسين لها والمساهمين فيها وكيفية إدارتها ونحو ذلك مما يمكن الاستفادة منه في معرفة ماهيتها وحقيقتها، وبين الأحكام التي تنص عليها تلك القوانين لهذه الشركة، وكذلك اجتهادات وتعليلات فقهاء تلك القوانين، وهي التي لا يحسن بالفقيه الشرعي أن ينظر فيها إلا لبيان مدى موافقتها أو مخالفتها للأحكام الشرعية، وليس لأخذها على أنها مسلمات يبنى عليها التوصيف الفقهي الشرعي" (¬1). وبناء عليه فإنه يمكن لنا أن نقول بأن للشركة شخصية اعتبارية، ولا يعني هذا الأخذ بتلك اللوازم القانونية، فلا نجعل ذمة الشركة مستقلة عن ذمة الشركاء من كل وجه، بل نأخذ به بالقدر الذي يساعد على تنظيم أعمال الشركة، والقيام ¬
الدليل الثاني
بنشاطها دون تدخل مباشر من المساهمين؛ لأن وجود الشخصية الاعتبارية ليس أمرا جوهريًّا تتغير به الحقيقة المقررة، وهي ملكية المساهمين للشركة، وموجوداتها. الدليل الثاني: لو سلمنا بأن وصف القانون التجاري حجة، وهذا نقوله من باب المناظرة، فإن كتب القانون ليست متفقة على ذلك، فقد ذكر الدكتور عبد العزيز خياط ثلاثة مذاهب لهم فيها، فإنهم من ينفيها, ولا يعتبر الشركة إلا بأشخاص مساهميها، ومنهم من يعتبرها مجازًا قانونيًّا، ومنهم من يعتبرها حقيقة قانونية، فإذا كان القول الفقهي لا يعتبر حجة بمجرده إذا لم يتفق عليه، فما بالك بآراء أهل القانون الوضعي. الدليل الثالث: شركة المساهمة لا تختلف عن طبيعة شركة العقود، حتى ولو لم تلحق بأي نوع من أنواع الشركات المعروفة لدى الفقهاء، ذلك أن جوهرها: هو اتفاق عدد كبير من الشركاء على أن يدفع كل واحد منهم مالًا لمن يتصرف فيه، سواء كان من الشركاء أنفسهم، أو من غيرهم بقصد الحصول على الربح، وهذا هو مضمون شركات العقود، أما اختلاف الطريقة التي يحصل بها الاشتراك، ويجمع بها المال، أو الطريقة التي تدار بها أموال الشركة، فهذه أمور تنظيمية لا تتعارض مع طبيعة شركة العقد. وإذا كان الشأن كذلك فكل ما يقال عن أحكام للشركات المساهمة تخالف فيه أحكام الشركات في الفقه الإِسلامي فهو من قبيل الدعوى، والتي تفتقر فيه إلى برهان من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح.
القول الثالث
القول الثالث: لا يعترف بالشخصية الاعتبارية مطلقًا, ولا يخرج شركات المساهمة عن شركات الفقه الإِسلامي. يقول الشيخ مبارك آل سليمان: "إن الناظر في شركة المساهمة من حيث طريقة إنشائها، والخطوات التي تتخذ لتكوينها لا يسعه إلا أن يقطع بكونها نوعًا من أنواع الشركات، سواء قلنا: إنها شركة عنان، أو مضاربة، أو قلنا إنها نوع جديد من أنواع الشركة، فهي لا تخرج عن جنس المشاركات، والواقع شاهد بذلك" (¬1). ويستدل أصحاب هذا القول بما يلي: أولاً: أن قيام شركة المساهمة لا يتوقف على اعتبار الشركة ذت شخصية اعتبارية، بل يمكن أن تقوم شركة المساهمة بكل ما هو مقرر لها من أحكام، وخاصة فيما يتعلق بتداول الأسهم، دون أن توصف بالشخصية الاعتبارية، ودون أن يحكم بنزع ملكية الشركاء لأموالهم، وإذا لم يكن هذا التوصيف ضروريًا لم يكن لازمًا. الثاني: يلزم من إثبات الشخصية الاعتبارية للشركة ألا يكون هناك فرق بين المساهمة في الشركات التي أصل نشاطها حلال، والشركات التي أصل نشاطها حرام فكلاهما تتصرفان بشخصية اعتبارية مستقلة عن المساهمين. الراجح: أرى أن القول الثاني وسط بين القولين، وأما القول الأول فهو ضعيف؛ لأنه ¬
مبني على حكم قانوني أكثر من كونه مبينًا على حكم فقهي، فلا منافاة بين قولنا: بالشخصية الاعتبارية، وفي نفس الوقت لا نجعل ذمة الشركة مستقلة عن ذمة الشركاء، أو أن الأسهم ملك للشركة، وليست ملكاً للمساهمين.
المبحث السابع مبدأ المسؤولية المحدودة للشركة من الناحية الفقهية
المبحث السابع مبدأ المسؤولية المحدودة للشركة من الناحية الفقهية [ن -146] من المعلوم أن الشركاء إذا اشترطوا في الشركات المساهمة عدم التعامل بالاستدانة من الغير بأكثر من قيمة رأس المال، فإن مسئولياتهم عن ديون الشركة تكون محدودة بطريقة تلقائية، ولا تتعدى في هذه الحالة قيمة حصصهم رأس المال بأي حال من الأحوال. وهذا هو المعمول به في الشركات المساهمة. أما إذا أجاز الشركاء التعامل بالاستدانة، أو الاقتراض، أو الشراء بالنساء زيادة على رأس مال الشركة، فهل يمكن أن يقال في مثل هذه الحال: إن الشركاء في الشركة المساهمة مسؤوليتهم محدودة، بحيث لا يسألون عن ديون الشركة إلا بمقدار الأسهم التي يملكها كل منهم، بحيث إذا أفلست الشركة، ولم تتمكن من سداد ديونها فلا يلزم الشركاء بسداد ديونها من أموالهم الخاصة، أو يقال: يجب أن تمتد في هذه الحالة مسؤوليتهم عن ديون الشركة إلى جميع أموالهم الخاصة؛ لأنهم هم من أذن في الاستدانة بأكثر من رأس مال الشركة، ومن أذن في شيء تحمل تبعاته؟ اختلف الباحثون في ذلك على قولين: القول الأول: يجوز تحديد مسئولية الشركاء بحيث لا يلزم الشركاء بدفع ديون الشركة من أموالهم الخاصة (¬1). ¬
القول الثاني
وأجاز مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي أن تكون مسئولية الشركة مسئولية محدودة. فجاء ضمن قراره ما يلي: "لا مانع شرعاً من إنشاء شركة مساهمة ذات مسئولية محدودة برأس مالها؛ لأن ذلك معلوم للمتعاملين مع الشركة، وبحصول العلم ينتفي الغرر عمن يتعامل مع الشركة ... " (¬1). وكان هذا القرار بنصه قد اتخذ من قبل الندوة الثانية للأسواق المالية المنعقد بدولة البحرين (¬2). القول الثاني: إن الشريك يجب أن يكون مسئولًا عن ديون الشركة في جميع أمواله الخاصة بنسبة مساهمته في رأس المال. وبهذا قال الدكتور حسين كامل فهمي (¬3). وجه قول من قال بجواز تحديد مسئولية الشريك: الوجه الأول: قال: إن هذا التحديد جائز شرعًا، وينطبق عليه الأساس الفقهي لعقد المضاربة، إذ لا يسأل رب المال فيها عن ديون العامل إلا بمقدار المال الذي قدمه للشركة. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: ولأنه كما لا يجوز لدائني الشريك النفوذ على أموال الشركة بسبب دين لحق الشريك، كذلك لا يجوز للشركة النفوذ على أموال الشريك بسبب ديون لحقت الشركة. الوجه الثالث: أن القول بأن مسئولية الشركاء مسئولية محدودة في غاية الأهمية؛ لأن تبني هذا القول هو الذي أدى إلى تطوير الشركات، ودفعت الناس إلى الدخول في هذه الشركات، وتوفرت رؤوس الأموال لقيام الشركات العملاقة بينما لو كانت المسئولية غير محدودة لا يمكن أن يقدم الناس في الدخول إلى مثل هذه الشركات خوفا من سوء التصرف الذي سوف يعود إلى جميع المساهمين، وربما عاد بالكوارث إلى مدخراتهم؛ إذ كيف يمكن أن أكتتب في سهم، أو سهمين، ثم أتحمل في كل أموالي أخطاء يقوم بها أعضاء مجلس الإدارة؟ جاء في المعايير الشرعية: "ولا نعلم بلدا مسلما معاصرا رأى من المصلحة أو بالإمكان إلغاء فكرة محدودية المسؤولية في الشركات الكبرى ذات المالكين الكثير، والقول بمنع ذلك يعني القول بوجوب تفكيك الشركات الكبرى المساهمة" (¬1). دليل من قال: يجب أن يكون الشريك مسئولًا عن جميع ديون الشركة: الدليل الأول: من القرآن، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]. ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن مال الدائن مال معصوم، لا يجوز أن يذهب عليه بلا مقابل، وإن عدم سداد الشركاء الأغنياء لما لحق شركتهم من ديون إذا لم تكف أصولها (أي ممتلكاتها) للوفاء بديونها يعتبر من أكل أموال الناس بالباطل. الدليل الثاني: أن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، فإذا كان الربح لهم يتقاسمونه على قدر حصصهم، كان الغرم عليهم يتقاسمونه على قدر حصصهم، هذا هو مقتضى العدل. الدليل الثالث: أن القول بتحديد مسئولية الشركاء بما لا يزيد عن قدر حصصهم في رأس المال مع السماح في نفس الوقت للشركة بالاستدانة من الآخرين أو الاقتراض بما يزيد عن قيمة رأس المال يعني احتمال وقوع ضرر عند التعاقد بصفة دائمة، بألا يسترد الدائنون أموالهم -أو على الأقل جزءًا منها- التي أقرضوها للشركة، وهذا الوضع ينطوي على غرر كبير للدائنين يتنافى مع المقاصد الأساسية للشريعة الإِسلامية التي ترفض الظلم، والخيانة في التعامل، ومن المعروف أن وجود الغرر يفسد العقد تلقائيًّا حتى لو كان معلنًا، ومتفقًا عليه من قبل، أو وقع بتراض ضمني بين المتعاقدين، أو منصوصًا عليه صراحة في العقد. الدليل الرابع: أن القول بتحديد مسئولية الشركاء له أضرار تعود على المساهمين، وأضرار تعود على الشركة، فهو يحمل فئة المدراء إلى التمادي في زيادة نسبة الديون،
الدليل الخامس
والقروض التي تتحملها الشركة، كما أنه يحمل المساهمين إلى عدم الاهتمام بتطور الأحوال الإدارية، والمالية للشركة بصفة عامة، نتيجة محدودية مسؤوليتهم، كما أنه يشجع فئات معينة من المساهمين على الدخول في عمليات مضاربة غير مشروعة على أسعار الأسهم سعيًا وراء تحقيق أرباح سهلة، بدلاً من الاهتمام بمتابعة نشاط الشركة، والتأكد من كفاءة أدائها، بينما الأخذ باقتراح المسئولية غير المحدودة سيمنع من تركز أعداد كبيرة من الأسهم في أيدي عدد قليل من فئة كبار المساهمين؛ لأن حرص أي مساهم من هذه الفئة على تجميع مزيد من الأسهم في يده سيرتب عليه زيادة المخاطرة عليه نتيجة تحمله بقدر كبير من الخسائر في حال وقوعها؛ ولا شك أن هذا يؤدي إلى إحجام هؤلاء عن اقتناء مزيد من الأسهم وتملكها. كما أن الأخذ باقتراح المسئولية غير المحدودة سيحارب حالات عدم الأمانة، والخيانة من جانب بعض الشركاء خاصة في مثل هذا العصر التي تعددت فيه أسباب الانحراف، وانتشار الفساد، وضيعت الأمانة (¬1). الدليل الخامس: الأخذ بمبدأ المسئولية غير المحدودة لن يؤثر على باقي المزايا التي تحققها الشركات المساهمة، لعدم ارتباط تلك المزايا بموضوع المسئولية المحدودة من الأصل، فيمكن استمرار تداول الأسهم في أسواق رأس المال بطريقة عادية، وكذلك لن يتغير شيء بالنسبة لقدرة المساهم على التخلص من السهم بالبيع في أي وقت في السوق، ولن تتأثر قدرة الشركة على تعبئة أحجام كبيرة من رؤوس ¬
الراجح
الأموال، كل ما هنالك سوف يكون مطلوبًا إضافة شرط بسيط جداً، وهو أن يتم تسجيل عملية الشراء الجديدة لأي سهم عن طريق الشركة، وهو شرط يتم تطبيقه في كثير من الشركات المساهمة في عصرنا الحالي. وهذا الشرط يتوافق مع أحد الشروط الهامة التي اشترطها الفقهاء في شركة العنان، وهو معرفة كافة الشركاء بعضهم لبعض (¬1). الراجح: لا يتصور أن المساهمين على كثرتهم يأذنون لمجلس الإدارة بالاستدانة بأكثر من رأس المال، كما لا يتصور أن التشريعات في أي بلد قد تعطي مثل هذا الحق لمجلس الإدارة، ولكن المسألة مبحوثة على سبيل الافتراض. والأصل أن شركة المساهمة مقيسة على عقد المضاربة فرب المال لا يسأل فيها عن ديون العامل إلا بمقدار المال الذي قدمه له، لكن لو سمح رب المال للعامل بالاستدانة، فإنه سوف يسأل عن هذا الدين؛ لأن هذا الإذن يعني زيادة رأس مال المضاربة، فإذا أذن مجموع المساهمين لمجلس الإدارة أن يستدينوا بأكثر من رأس المال كان هذا إذنًا منهم بزيادة رأس مال الشركة، وأصبح المساهمون مطالبين بتسديد هذا الدين بحسب ما يمتلكون من أسهم ليعود لهم ما دفعوه زيادة في مقدار ما يمتلكون من أسهم الشركة، وبالتالي ستكون مسؤوليتهم محدودة أيضاً بعد أن يغطى الدين من مال المساهمين؛ لأن الدين سيؤول إلى أن يكون بمقدار رأس مال المساهمة بعد تسديد الدين من مال المساهمين، لذا أجد أن الأخذ بمبدأ المسئولية المحددة قول وجيه جداً، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني في مفهوم الأسهم وخصائصها
الفصل الثاني في مفهوم الأسهم وخصائصها المبحث الأول في التعريف بالأسهم وبيان خصائصها وحقوقها يطلق السهم على حصة الشريك في الشركة، وعلى الورقة التي تثبت هذا الحق. في هذا المبحث سوف نتناول ثلاثة أشياء: التعريف بالأسهم، وبيان خصائصها، وحقوقها، فنأخذها واحداً واحداً. الأول: تعريف الأسهم: السهم اصطلاحًا (¬1): يطلق الاقتصاديون السهم، ويريدون به تارة: الصك، وتارة يريدون به النصيب. ¬
ثانيا: خصائص الأسهم
فباعتبار الأولى، قالوا: السهم: هو صك يمثل جزءًا من رأس مال الشركة. وقد يكون الصك اسميًا، أو لأمر، أو لحامله. وبالاعتبار الثاني، قالوا: السهم هو نصيب المساهم الذي يشترك به في رأس المال. وقد يكون سهمًا عاديًا، وقد يكون سهما ممتازًا، وقد يكون سهم تمتع. وكل واحد من هذه الأسهم له حكم خاص به، سيأتي إن شاء الله تعالى مناقشته عند الكلام على أنواع الأسهم. وقد تبين مما سبق أن كلمة سهم، تطلق في الاقتصاد على معنيين: على حصة الشريك في الشركة. وعلى الورقة المالية التي يحملها، وتثبت حقه في الشركة. [ن -147] ثانيا: خصائص الأسهم: 1 - أنها متساوية القيمة. وذلك يعني أنه لا يجوز إصدار أسهم عادية عن نفس الشركة بقيم مختلفة، وكما يلزم من ذلك أنها ترتب حقوقًا والتزامات متساوية. 2 - أنها قابلة للتداول بالطرق التجارية. وهذا ما يميز شركات الأموال عن شركات الأشخاص، ومعنى قابليته للتداول هو إمكان انتقال ملكيته من شخص لأخر بأي طريق من طرق انتقال الملك كالبيع والهبة، والوصية، والإرث. وهناك قيود قانونية على حرية تداول بعض الأسهم، من ذلك: (أ) عدم قابلية أسهم مؤسسي الشركة والأسهم التي تعطى مقابل الحصص
العينية للتداول لفترة معينة تحددها الأنظمة المحلية لكل دولة، لا تقل عادة في المتوسط عن سنتين ماليتين. ويهدف هذا القيد إلى تلافي قيام شركات وهمية، أو شركات غير جادة يتخلص مؤسسوها من أسهمهم بنقل ملكيتها إلى الآخرين. كما يهدف هذا القيد من الحد من المبالغة في تقدير الحصص العينية بأكثر من قيمتها ليحصل على أسهم عينية بما يساوي ذلك، ثم يعرض هذه الأسهم للبيع قبل انكشاف الأمر. (ب) لا يجوز تداول أسهم الضمان التي يقدمها عضو مجلس الإدارة لضمان إدارته طوال مدة العضوية وحتى تنقضي المدة المحددة لسماع دعوى المسئولية طبقًا للمادة (77) أو حتى يفصل في هذه الدعوى م (68). والحكمة من تجميد أسهم عضو مجلس الإدارة طوال مدة العضوية هو ضمان لحسن الإدارة، وعدم إساءة استعمال أموال الشركة، وحماية المساهمين من التصرفات الضارة لأعضاء مجلس الإدارة والتي قد تلحق أضرارًا بالمركز المالي للشركة وسمعتها. 3 - من خصائص الأسهم أنها لا تقبل التجزئة في مواجهة الشركة. فإذا تملك السهم أشخاص متعددون، سواء بطريق الشراء، أو الإرث، أو الوصية، أو الهبة، أو بأي طريق من طرق انتقال الملك وجب على هؤلاء أن يختاروا أحدهم، فيوكلوه لينوب عنهم في استعمال الحقوق المختصة بالسهم في مواجهة الشركة كحق حضور الجمعية العمومية والتصويت، ويكون الملاك المتعددون مسئولين بالتضامن عن الالتزامات الناشئة عن ملكية السهم. 4 - أن المسئولية محدودة للمساهم بمقدار قيمة السهم. فلا يسأل عن ديون الشركة إلا بمقدار أسهمه التي يملكها. وقد بينت لك الخلاف الفقهي في قبول مثل هذا.
ثالثا: حقوق السهم
هذه تقريباً خصائص الأسهم (¬1). ثالثًا: حقوق السهم: حقوق السهم هي حقوق مالكه، ومن هذه الحقوق: 1 - حق المساهم في الحصول على نصيبه من الربح. 2 - حق المساهم في توجيه ومراقبة نشاط الشركة، ويتمثل فيما يلي: (أ) حق مراجعة ميزانية الشركة، وحساب الأرباح والخسائر، وتقارير مجلس إدارة الشركة. (ب) حق طلب الأمر بالتفتيش على الشركة إذا تبين من تصرفات مجلس الإدارة أو مراقب الحسابات الداخلي ما يدعو إلى الريبة. (ج) حق رفع دعوى مسئولية على أعضاء مجلس الإدارة. (د) حق التصويت في الجمعية العمومية، وهو سبيل المساهم إلى الاشتراك في إدارة الشركة، ويجوز له التنازل عنه لغيره. 3 - حق المساهم في الحصول على نصيبه من موجودات الشركة عند تصفيتها. 4 - حق البقاء في الشركة، فلا يحق لأحد إلزام المساهم بالبقاء في الشركة، ولا يملك أحد طرده منها دون ارتكاب ما يستوجب ذلك نظامًا. 5 - حق الأولوية في الاكتتاب في الأسهم الجديدة. ¬
6 - حق التنازل عن السهم (¬1). ¬
المبحث الثاني أنواع الأسهم وبيان حكم كل نوع
المبحث الثاني أنواع الأسهم وبيان حكم كل نوع الفرع الأول أقسام الأسهم من حيث طبيعة الحصة التي يدفعها الشريك تنقسم الأسهم إلى أنواع مختلفة بحسب الوجهة التي تتخذ أساسًا للتقسيم: فمن حيث الحصة التي يدفعها الشريك تنقسم الأسهم إلى: أسهم نقدية - وأسهم عينية. (أ) أسهم نقدية، وهي التي يدفع المساهم قيمتها نقدًا. [م - 1253] وقد أجمع الفقهاء على جواز أن تكون حصص الشركاء من الأثمان (الدراهم والدنانير) ويقاس عليها النقود الرائجة: قال ابن قدامة: "ولا خلاف في أنه يجوز جعل رأس المال الدراهم والدنانير، فإنها قيم الأموال، وأثمان المبيعات، والناس يشتركون بها من لدن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى زماننا من غير نكير" (¬1). وجاء في أسنى المطالب: "وتجوز الشركة في الدراهم والدنانير بالإجماع" (¬2). ¬
القول الأول
وقال في الجوهرة النيرة: "ولا تنعقد الشركة إلا بالدراهم والدنانير والفلوس النافقة ... " (¬1). (ب) أسهم عينية: وهي الأسهم التي تمثل حصصًا عينية في رأس مال الشركة، مثل العقارات، والمصانع، والآلات، والاسم التجاري، وبراءة الاختراع). [م - 1254] وقد اختلف الفقهاء المتقدمون في جواز أن يكون رأس مال الشريكين أو أحدهما من العروض على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا تصح المشاركة بالعروض مطلقاً، سواء أكانت من المثليات أم من القيميات، وسواء أكانت من الطرفين أم من أحدهما، وهذا مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف (¬2)، والمشهور من المذهب عند الحنابلة (¬3)، واختيار ابن حزم (¬4). جاء في العناية شرح الهداية: "ولا تنعقد الشركة إلا بالدراهم والدنانير والفلوس النافقة" (¬5). ¬
القول الثاني
وجاء في الروض المربع: "ويشترط لشركة العنان والمضاربة أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين؛ لأنهما قيم الأموال، وأثمان البيعات فلا تصح بعروض" (¬1). القول الثاني: تصح الشركة في العروض، مثلية كانت أو قيمية، اتفقت جنسًا أم اختلفت، على أن تكون قيمتها المتفق عليها يوم العقد هي رأس مال الشركة. وهذا القول قد اختاره من الحنفية ابن أبي ليلى (¬2)، وهو مذهب المالكية (¬3)، ورواية في مذهب الحنابلة، اختارها أبو بكر الخلال، وأبو الخطاب، وصوبه في الإنصاف، ورجحه ابن تيمية (¬4). جاء في تهذيب المدونة: "ولا بأس أن يشتركا بعرضين مختلفين أو متفقين، أو طعام وعروض على قيمة ما أخرج كل واحد منهما يومئذ" (¬5). ¬
القول الثالث
القول الثالث: تصح الشركة بالعروض بشرط أن تكون مثلية، كالحبوب، والأدهان، ولا تصح الشركة بالعروض إن كانت متقومة، وبه قال محمَّد بن الحسن من الحنفية (¬1)، والأظهر عند الشافعية (¬2). جاء في مغني المحتاج: "وتصح الشركة في كل مثلي، أما النقد الخالص فبالإجماع ... وأما غير النقدين من المثليات كالبر، والشعير، والحديد فعلى الأظهر؛ لأنه إذا اختلط بجنسه ارتفع التمييز فأشبه النقدين ... " (¬3). وانظر أدلة الأقوال في عقد الشركة فقد ذكرتها هناك، وبينت أن الراجح صحة عقد الشركة في العروض مطلقًا إلا أن الشركة فيها لا تتم إلا بعد تقويمها، والاتفاق على القيمة، ثم تصبح القيمة هي محل الشركة، وإذا لم يتم الاتفاق على القيمة لم تنعقد. ¬
الفرع الثاني أنواع الأسهم من حيث الشكل والتداول
الفرع الثاني أنواع الأسهم من حيث الشكل والتداول تنقسم الأسهم من حيث الشكل والتداول إلى: أسهم اسمية، وأسهم لحاملها، وأسهم لأمر. (أ) الأسهم الاسمية: وهو السهم الذي يسجل فيه اسم صاحبه، وجنسيته على وجه الصك، وتثبت ملكيته له بقيد أسهمه في سجل المساهمين بالشركة. الحكم الفقهي لهذا النوع من الأسهم: [ن -148] لما كان السهم جزءًا من شركة المساهمة، كان القول بجواز الأسهم العادية راجعًا إلى القول بجواز شركة المساهمة، وقد بينت فيما سبق الخلاف في هذه المسألة، ويكاد يكون القول بالتحريم قولًا مهجورًا، إلا أن تكون الشركة المساهمة قد تطرق إليها التحريم لأمر آخر، كما لو كان الغرض من الشركة غير مشروع، أو كان لها ممارسات محرمة تدخل عليها كسبًا غير مشروع، فحينئذ يكون القول بتحريمها له ما يبرره. (ب) أسهم لحاملها: وهو صك لا يحمل اسم المساهم، وإنما يذكر فيه أن السهم لحامله، ويحمل رقمًا مسلسلًا. حكم إصدار الأسهم لحاملها: [ن -149] اختلف العلماء في حكم إصدار الأسهم لحاملها على قولين: القول الأول: لا يجوز، وهذا قول عامة الباحثين المعاصرين (¬1)، حتى حكي الإجماع على ¬
القول الثاني
منعه! (¬1)، وبه صدرت توصيات ندوة الأسواق المالية من الوجهة الإِسلامية المنعقدة بالرباط (¬2). قال الدكتور عطية فياض: "وأما الأسهم لحامليها فقد ذهب الفقهاء المعاصرون إلى عدم جوازها ... " (¬3). وقال الدكتور خورشيد إقبال: "وهو رأي غالبية العلماء المعاصرين" (¬4). القول الثاني: يجوز، وبه صدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (¬5). ¬
تعليل القائلين بالمنع
وبه صدرت توصيات الندوة الثانية للأسواق المالية المنعقدة بالبحرين (¬1)، ورجحه بعض الباحثين (¬2). تعليل القائلين بالمنع: التعليل الأول: أن عدم كتابة اسم صاحب السهم يؤدي إلى الجهل بالشريك، وبالتالي يفضي إلى النزاع والخصومة. والشرع يقطع كل ما يؤدي إلى ذلك، بل اعتقد بعضهم أن الجهل المحيط بالشريك الذي لا يتم التعاقد إلا به، ولا ينعقد الإيجاب والقبول إلا عن طريقه، وبه تكون الشركة أو لا تكون، وعن طريقه يتم تعيين مجلس الإدارة وعزلهم، أن الجهل بهذا الشريك يعتبر من الغرر الفاحش المفسد للعقد (¬3). ويناقش من أربعة وجوه: الوجه الأول: لا نسلم أن الشريك مجهول، وذلك لأن الاكتاب في الأسهم إنما يكون بالتوقيع على نشرة الاكتتاب المشتملة على بعض البيانات، ومنها اسم الشريك، والسهم إنما يصدر في وقت لاحق بعد إنهاء إجراءات الاكتتاب، وما يرتبط بذلك من تخصيص الأسهم ونحوه، وهذا المعنى يرفع جهالة الشريك، ثم إذا ¬
الوجه الثاني
سلم السهم للشريك بعد ذلك، وباعه لغيره، فإنه يكون أيضًا معروفًا لديه، وهذا يرفع جهالة الشريك أيضًا، كما أن حمل الصك وسيلة لمعرفة الشريك، فيعرف أنه شريك بكونه حاملًا له، فصار الشريك معروفًا على كل حال. الوجه الثاني: لا يلزم من عدم تدوين اسم الشريك في سجلات الشركة كون الشريك مجهولاً، فإن هذا المعنى موجود أيضًا في الأسهم لأمر؛ لكون بائعها يحولها باسم المشتري الجديد دون أن يشعر الشركة بذلك، فهو أيضاً غير معلوم لديها، وقد قلتم بجوازها (¬1). الوجه الثالث: على التسليم بأن الشريك مجهول، فإن طبيعة شركة الأموال قائمة على المال، وليس هناك اعتبار للأشخاص، ولذلك يدخل الشريك بدون موافقة الشركاء، بل وبدون معرفتهم، ويخرج من الشركة بدون رضاهم، فلا مانع من الجهل بالشريك؛ لأن أساس شركة الأموال لم يقم على اعتبار معرفة شخص الشريك، ولا رضاه، فلا ضير إذا لم تعرف عينه. الوجه الرابع: بعض الأنظمة لا تجعل لمالكي مثل هذه الأسهم من هذا النوع حقاً في التصويت على قرارات الجمعيات العامة للشركة، وبالتالي لا يؤدي جهالة الشريك إلى ضياع مثل هذا الحق الإداري، وليس المالي؛ لأنه لم يثبت هذا الحق في الأصل لهذا الشريك. وسيأتي مزيد نقاش حول هذه النقطة. ¬
التعليل الثاني
التعليل الثاني: أن عدم تحديد المساهم قد يؤدي إلى إضاعة الحقوق إذا سرقت هذه الأسهم أو ضاعت؛ حيث يكون حاملها هو المالك لها في مواجهة الشركة، ومن ثم يكون شريكًا بدون سبب صحيح، وفي هذا إهدار لحقوق العباد وضرر واقع بهم، ولا شك أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة. ويناقش: بأن الأصل والظاهر أن الشريك هو حامل السهم، وكونه قد يستولي على السهم غير الشريك عن طريق السرقة أو الغصب أو الضياع لا يلتفت إليه؛ لكونه خلاف الأصل والظاهر, وليس هذا خاصًا بالأسهم فإن جميع الأملاك التي ليس عليها ما يثبت ملكيتها إذا سرقت، أو غصبت، فإن غاصبها، أو سارقها، إذا لم يعلم كونه غاصبًا، أو سارقًا يكون مالكا لها في الظاهر، ومع ذلك لم يقل أحد بوجوب كتابة اسم المالك على أملاكه حفاظًا على الحقوق. وإذا تقدم أحد لدى الشركة، وادعى أن السهم له، وأقام بينة على ذلك عمل بالبينة، ولكن ليس قبل ذلك؛ لأن الأصل أن اليد دليل الملك. وعلى التسليم بوجود مثل هذا الاحتمال، فإن هذا لا يرجع إلى ذات السهم، فيمكن معالجة مثل ذلك باتخاذ بعض الإجراءات التي تمنع وقوع مثل هذه المفسدة، كاشتراط إظهار فاتورة الشراء عند تبادل السهم بالبيع. التعليل الثالث: أن عدم معرفة المساهم قد يؤدي إلى وجود حصص لا يوجد ملاك لها عند تصفية الشركة فيما لو ضاعت الأسهم أو لم تقدم.
ويناقش
ويناقش: بأن هذا الأمر مع أنه أمر محتمل، وليس متيقنًا، إلا أنه لا يعود بالتحريم على تملك مثل هذه الأسهم، فإن ضياع الأموال ليس خاصًّا بالأسهم، فقد يجد الرجل مالاً، ولا يتمكن من معرفة صاحبه، وتنزل عليه أحكام اللقطة، ولم يوجب مثل هذا الاحتمال كتابة اسم المالك على كل مال خشية أن يوجد مال لا يعرف مالكه. التعليل الرابع: أن جهالة الشريك قد تؤدي إلى جهالة أهليته، فيحتمل أن يكون حامله فاقد الأهلية، فيكون شريكًا، وفاقد الأهلية لا يصح اشتراكه بنفسه. ويناقش: بأننا قد ناقشنا جهالة الشريك في التعليل الأول، ومع ذلك فإن الأحكام التكليفية مرتبطة بالعلم، فمتى علمنا أن الشريك فاقد للأهلية فإنه لا يقبل منه؛ لأنه يشترط أن يكون الشريك أهلًا للتصرف، وقبل العلم بذلك لا تكليف. التعليل الخامس: بعض الأنظمة لا تجعل لمالكي (الأسهم لحاملها) حقًا في التصويت على قرارات الجمعيات العامة للشركة، وهذا لا يجوز؛ لأن الأصل المساواة بين أصحاب الأسهم في الحقوق، ومنها حق التصويت. ويناقش: بأن الفقهاء المعاصرين قد اختلفوا في جواز تخصيص بعض المساهمين بالتصويت، أو إعطاء بعضهم أكثر من صوت وهو ما يسمى بـ (الصوت المتعدد)، وسيأتي بحثه إن شاء الله تعالى، والذي أميل إليه أن ذلك لا يقدح في جواز
وجه من قال: يجوز إصدار الأسهم لحاملها
إباحة السهم لحامله، خاصة إذا كان الحامل على ذلك غرضًا صحيحًا يتعلق بكيفية إدارة الشركة، وكان ذلك منصوصًا عليه في نظام الاكتتاب، وبعيدًا عن المحاباة والاستغلال، وقد دخل الشريك على بينة بطبيعة السهم لحامله، وعرف ما يعطيه من الحقوق، وما يمنعه منها. وجه من قال: يجوز إصدار الأسهم لحاملها: جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي، رقم 65/ 1/ 7 ما نصه: "بما أن المبيع في السهم لحامله هو حصة شائعة في موجودات الشركة، وأن شهادة السهم هي وثيقة لإثبات هذا الاستحقاق في الحصة، فلا مانع شرعًا من إصدار أسهم في الشركة بهذه الطريقة وتداولها" (¬1). وقال الشيخ مبارك آل سليمان: "الذي يترجح لي - والله أعلم - القول بالجواز، وذلك أن الصك لا يعدو أن يكون وثيقة لإثبات الحق، ولما كانت الكتابة في أصلها غير واجبة شرعًا لم يلزم إذا وجدت أن تلزم صفة بعينها. ومع ذلك فإن الأولى عدم إصدار هذا النوع من الأسهم، لما قد يؤدي إليه من المحاذير المذكورة من استيلاء غير مالكها عليها، مع عدم قدرة المالك على إثبات حقه، وبخاصة أنه قد لا يعلم غاصبه، أو سارقه بعينه حتى يقيم عليه الدعوى، ولكن التحريم حكم شرعي، لا يصار إليه إلا بدليل واضح، والله أعلم" (¬2). ¬
الحكم الفقهي لهذا السهم
وهذا هو الراجح؛ لأن أدلة القائلين بعدم جواز الأسهم لحاملها لا تعود إلى الأسهم، وإنما لما قد تجره من مشكلات، ومنازعات، وأرى أن هذه الأسهم لو كانت تصدر بأرقام تسلسلية، وكان تبادلها مصحوبًا بورقة بفاتورة، أمكن معرفة السارق، أو الغاصب، وبالتالي لا يكون هناك تحفظ من جواز إصدارها، وتداولها، والله أعلم. (ج) أسهم لأمر: وهو السهم الذي يصدر لأمر، أو لإذن شخص معين، إذ ترد عبارة الأمر أو الإذن مقرونة باسم صاحب السهم، ويتم تداوله بالتظهير. أي الكتابة على ظهر السهم بما يفيد انتقال الملكية إلى المظهر إليه. وهذا النوع نادر الوقوع، وكذلك نادر في التشريعات حيث لم تتناوله أكثرها (¬1). الحكم الفقهي لهذا السهم: [ن - 150] ذهب عامة العلماء المعاصرين إلى جواز إصدار مثل هذا السهم، وندرة إصداره لا تمنع جوازه شرعا. وحجتهم في ذلك: أن هذا السهم في حقيقته يلحق بالأسهم الاسمية، لكونه يحدد اسم مالكه حتى بعد تظهيره، وإذا لم يحدد في التظهير اسم من انتقل إليه يبقى السهم على ملكية الأول حتى ولو حازه الثاني، وإذا كان الشأن كذلك فإن صاحب السهم يبقى معروفًا على كل حال، فالجهالة منتفية، كما لا يخشى عليه من الضياع، ولا من السرقة، ولا يؤدي تداوله إلى الوقوع في الخصومات. ¬
ويرى بعضهم أنها غير جائزة؛ لأنها تصدر سائبة لغير مالك معين يتأتى منه تظهيرها (¬1). والصحيح القول بالجواز؛ لأن الشريك الأول كان معروفًا لدى الشركة، وقد أجازت له حق نقل أسهمه عن طريق التظهير من خلال النظام التأسيسي لها، ثم تخلى هذا الشريك عن حقه، وقام بنقل ملكية السهم إلى شريك آخر حسب الشروط المتفق عليها، والمسلمون عند شروطهم، فلا مانع شرعًا من جوازه، ولأن باقي الشركاء قد ارتضوا شركة الثاني بموافقتهم على نظام الشركة الذي يبيح مثل ذلك. ¬
الفرع الثالث أنواع الأسهم من حيث الحقوق
الفرع الثالث أنواع الأسهم من حيث الحقوق نقسم الأسهم من حيث الحقوق التي تعطيها لصاحبها إلى: (1) أسهم عادية، وهي التي تتساوى في قيمتها، وتخول المساهمين حقوقًا متساوية، ولا يتقرر لها امتياز خاص على غيرها من الأسهم، سواء عند توزيع أرباح الشركة، أو عند قسمة صافي موجوداتها، وكذلك عند التصويت في الجمعيات العامة للشركة. [ن - 151] ولا يختلف العلماء القائلون بجواز شركة المساهمة بشرعية مثل هذه الأسهم ما دامت تمثل شركة مباحة قامت من أجل غرض مباح، ولا تتعامل بالربا إقراضًا، أو اقتراضًا، ولا في المحرمات بيعًا، وشراء (¬1). (ب) أسهم ممتازة: وهي الأسهم التي تختص بمزايا لا تتمتع بها الأسهم العادية. وتتنوع هذه المزايا إلى قسمين: (1) مزايا مالية: كحق الأولوية في الحصول على الأرباح، أو الحصول على نسبة أعلى في الربح، أو استيفاء فائدة سنوية ثابتة، سواء ربحت الشركة أم خسرت، ومنها حق استعادة قيمة الأسهم بكاملها عند تصفية الشركة قبل إجراء القسمة بين سائر المساهمين، والحامل على ذلك، أن الشركة قد ترغب في ¬
حكم هذه الأسهم من الناحية الفقهية
زيادة رأس مالها، فتعطي الأسهم الجديدة امتيازات لا تتمتع بها الأسهم القديمة، لتغري الجمهور بالاكتتاب بها. (ب) مزايا غير مالية. كأن يكون للسهم الممتاز أكثر من صوت واحد في الجمعية العمومية. حكم هذه الأسهم من الناحية الفقهية: [ن -152] قبل استعراض حكم هذه الأسهم، نعرض لأقوال الفقهاء في تفاضل بعض الشركاء على بعض في مقدار الربح في شركة العنان، فقد اختلف الفقهاء فيها على قولين: القول الأول: لا مانع من تفاضل بعض الشركاء على بعض في مقدار الربح، سواء تساويا في رأس المال، أو تفاضلا فيه. وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). وجه القول بالجواز: أن الربح لا يتعلق برأس المال وحده كالخسارة، وإنما يتعلق بالمال ¬
القول الثاني
والعمل، فالربح كما يستحق بالمال يستحق بالعمل أيضًا بدليل أن العامل في المضاربة يستحق الربح مقابل عمله. ولأن بعض الشركاء قد يكون أحذق من بعض وأعرف بوسائل التجارة فيستحق زيادة في الربح على ربح صاحبه. القول الثاني: الربح والخسارة بقدر المالين، وتفسد الشركة بشرط التفاوت، وهذا رأي زفر من الحنفية، ومذهب المالكية، والشافعية، واختيار ابن حزم (¬1). إلا أن المالكية جعلوا الربح والعمل على قدر المال، فإذا كان سهمه في الشركة الثلث كان عليه من العمل مقدار الثلث، وله من الربح مقدار الثلث، وجعل الشافعية الربح فقط على قدر المال، وإن تفاوتا في العمل. وجه هذا القول: أن الربح نماء المال فتكون قسمته على قدر المال، ولا يجوز التفاضل فيه. وللقياس على الخسارة، فإذا كانت الوضيعة على مقدار المال بالاتفاق فلا يتحمل الشريك خسارة أكثر من مقدار نصيبه في الشركة، فكذلك لا يستحق من الربح أكثر من مقدار ماله. ويناقش: يقال للمالكية: إذا جاز أن يتفاوتا في الشركة في المال، جاز أن يتفاوتا في ¬
الترجيح
العمل، فالشركة تقوم على مجموعي المال والعمل، وكلاهما يعتبر مالًا له قيمته، فالقول بأن العمل يجب أن يكون على قدر المال لم يقم دليل على اعتباره، والأصل القول بالجواز، فما جاز في مال الشركة جاز في العمل. ويقال للشافعية: إذا جاز التفاوت في العمل عندكم جاز التفاوت في الربح أيضًا، وإن تساويا في المال؛ لأن الربح كما يستحق بالمال يستحق بالعمل أيضًا فالعامل في عقد المضاربة يستحق نصيبه من الربح بسبب عمله، فدل على جواز التفاوت في الربح وإن تساويا في المال، والله أعلم. وأما القياس على الخسارة فهو قياس غير صحيح؛ لأن الخسارة عبارة عن نقصان رأس المال؛ لأنها اسم لجزء هالك من المال فتقدر الخسارة بحسب نصيب كل واحد منهما في هذا المال بخلاف الربح، فإنه لم يتعين أن يكون نماء للمال وحده، فقد يكون نماء للعمل أيضًا، والله أعلم. الترجيح: الراجح أن الربح بالشركة على ما اصطلحا عليه، ولا مانع من التفاوت فيه، والله أعلم. [ن -153] إذا علم ذلك فإن الأسهم الممتازة ممكن تقسيمها من حيث الحكم الفقهي إلى ثلاثة أقسام: قسم جائز بالاتفاق. وقسم ممنوع بالاتفاق. وقسم مختلف فيه. أما القسم الجائز بالاتفاق: فهو إعطاء امتياز لأصحاب الأسهم القدامى، بأن يكون لهم حق الأولوية في
وأما القسم الممنوع بالاتفاق
الاكتتاب في الأسهم الجديدة؛ لأنهم الشركاء الأولون، وهم أولى من غيرهم بأن تظل الشركة منحصرة فيهم، بل ولا يصح أصلاً أن تصدر أسهم جديدة إلا بموافقتهم في الجمعية العمومية (¬1). وأما القسم الممنوع بالاتفاق: فهو إعطاء فائدة سنوية ثابتة محسوبة كنسبة مئوية من رأس المال المدفوع، سواء ربحت الشركة أو خسرت، أو إعطاؤهم نسبة ثابتة من الأرباح يأخذها أصحاب الأسهم الممتازة أولاً، ثم توزع باقي الأرباح على الأسهم جميعًا بما فيها الأسهم الممتازة. فهذا الفعل غير جائز بإجماع المسلمين لما في هذه الزيادة من الظلم. وجه كون هذه الزيادة ظلما ما يلي: أولاً: أن هذه الزيادة لا يقابلها شيء. ثانيًا: يحتمل ألا تربح الشركة غير هذه النسبة، فيكون في ذلك ضرر على المساهمين الآخرين، وظلم لهم. ثالثًا: أن الشركة تقوم على المخاطرة، والمشاركة في الغنم والغرم على قدر الحصص، فإذا ضمن لهم نصيب معين، أو خسرت الشركة وتحمل الخسارة أصحاب الأسهم العادية وحدهم كان في ذلك ظلم ظاهر، فظهر بهذا أن هذا الامتياز مناف لمقتضى عقد الشركة في الإِسلام. ومثل هذا في الحكم أي امتياز مالي يعطى لأصحاب الأسهم الممتازة، كما لو أعطوا الأولوية في الحصول على الأرباح دون بقية الشركاء، وكذلك أسبقية ¬
وأما القسم المختلف فيه
الحصول على قيمة الأسهم الممتازة من الشركة عند تصفيتها؛ لأنه ليس لأصحاب الأسهم الممتازة أي زيادة مال أو عمل، أو ضمان يستحقون به هذا الاختصاص المالي (¬1). وأما القسم المختلف فيه: فهو في منح صاحب الأسهم الممتازة مزايا غير مالية، كمنحهم أكثر من صوت في الجمعية العامة للشركة، فقد اختلف العلماء فيها على قولين: القول الأول: ذهب عامة الباحثين المعاصرين إلى القول بالتحريم (¬2). وجه القول بالتحريم: الوجه الأول: أن استحواذ أقلية من المساهمين على أغلبية الأصوات في الجمعية العامة أمر ¬
ويجاب عنه
لا يخلو من الضرر، حيث يتحكم هؤلاء في فرض رأيهم على الشركة، وتغيير مجريات الأمور فيها، وهو أمر مرفوض شرعا. ويجاب عنه: بأن هذا المعنى موجود أيضاً في إعطاء المساهم أصواتا بعدد الأسهم التي يمتلكها، فإنه يؤدي إلى تحكم أقلية في قرارات الشركة، وهم الذين يملكون الأسهم الكثيرة، فلتقولوا بعدم الجواز، وإلا لزمكم التناقض. الوجه الثاني: طالما أن رأس مال الشركة يتجزأ إلى أسهم متساوية القيمة، فيجب أن تكون هذه الأسهم متساوية فيما لها من حقوق، وما عليها من واجبات. وأجيب على هذا بثلاثة أجوبة: الجواب الأول: لا نسلم أن التصويت من الحقوق التي تجب التسوية فيها، بل هو في الأصل من الأمور الإجرائية التي تتعلق بكيفية إدارة الشركة، والترجيح بين الآراء المختلفة. الجواب الثاني: على التسليم أن التصويت من الحقوق؛ فإن مقتضى القول بوجوب التساوي في الأصوات يلزم منه أن يقولوا بوجوب التساوي بينهم في الأصوات بحسب الرؤوس، لا بحسب عدد الأسهم، إذ هو مقتضى وجوب التساوي في الحقوق، وهم لا يقولون به؛ ذلك أن إعطاء بعض المساهمين ألف صوت مثلاً، وبعضهم مائة صوت بالنظر إلى عدد الأسهم التي يملكونها ليس فيه مساواة في الحقوق على الحقيقة، بل هو مفاضلة بينهم في الحقوق بناء على التفاضل بينهم في عدد
الجواب الثالث
الأسهم التي يملكونها، كما فوضل بينهم في الأرباح لتفاضلهم في ذلك، فليكن بينهم تفاضل في الأصوات بناء على تفاوتهم في الخبرة والدراية (¬1). الجواب الثالث: أن إصدار مثل هذه الأسهم لا يؤدي في حقيقته إلى إخلال بقاعدة المساواة بين الشركاء، طالما كان التفاوت بينهم يرجع إلى أنواع الأسهم، وليس الشركاء في السهم من النوع الواحد، بمعنى أن الشركة لا تقصر حق الاكتتاب في الأسهم الممتازة على أشخاص معينين، وإنما ينص مقدمًا في نظام الشركة على أنها تتضمن نوعين من الأسهم، وتضع مقدمًا مزايا وشروط كل نوع، ولكل مكتتب أن يختار ما يشاء من الأسهم بشرط أن يؤدي قيمة ما اكتتب فيه، ولا يجوز للشركة أن تصدر أسهمها إلا إذا كان نظامها يبيح ذلك (¬2). القول الثاني: ذهب بعض أهل العلم إلى القول بالجواز، وأنه لا مانع من منح بعض الأسهم الممتازة أكثر من صوت في الجمعية العمومية، اختار ذلك الدكتور علي محيي الدين القره داغي (¬3). وصوبه الشيخ مبارك آل سليمان، واشترطا أن يكون هذا الامتياز منصوصًا عليه في نظام الاكتتاب، وبعيدًا عن الاستغلال، وزاد الشيخ مبارك: وأن يكون صاحبه معروفاً بسداد الرأي، أو الخبرة في المجال المرتبط بنشاط الشركة، ونحو ذلك (¬4). ¬
وحجتهم
وحجتهم: أن هذا الامتياز لا يعود إلى الجوانب المالية، وإنما يعود إلى الجوانب الإدارية، والإشراف على العمل الذي يتحكم فيه الاتفاق، وليس فيه أي مخالفة لنصوص الشرع، ولا لمقتضى عقد الشركة. ونص قرار مجمع الفقه الإِسلامي على جواز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالأمور الإجرائية، أو الإدارية. جاء في قرار المجمع: "لا يجوز إصدار أسهم ممتازة لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال، أو ضمان قدر من الربح، أو تقديمها عند التصفية، أو عند توزيع الأرباح، ويجوز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالأمور الإجرائية، أو الإدارية" (¬1). وجاء في توصيات الندوة الثانية للأسواق المالية المنعقدة في البحرين، في الفترة ما بين 19 - 21 جمادى الأولى ما نصه: "لا يجوز إصدار أسهم ممتازة لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال، أو ضمان قدر من الربح، وذلك بتقديمها عند التصفية، أو تحديد ربح لأصحابها بصورة ثابتة منسوبة للسهم. وأما إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالتصويت ونحوه من الأمور الإجرائية أو الإدارية، فلا مانع منه شرعا" (¬2). وهذا ما أميل إليه، والله أعلم، والغريب أن الشركات في النظام السعودي ¬
أعطاها النظام الحق في إصدار أسهم ممتازة في الحقوق المالية، ومنعها في الحقوق الإدارية، مع أن الأولى أن يكون العكس تمامًا. ففي المادة: 103/ 1، 2 نص على أنه يحق حسب نظام الشركات للجمعية العامة إذا لم يوجد نص مانع في نظام الشركة أن تقرر إصدار أسهم ممتازة، أو أن تقرر تحويل الأسهم العادية إلى أسهم ممتازة. وإذا كان هناك أسهم ممتازة فلا يجوز إصدار أسهم جديدة تكون لها الأولوية إلا بموافقة جمعية خاصة مكونة وفقًا للمادة (86) من أصحاب الأسهم الممتازة الذين يضارون من هذا الإصدار، وبموافقة جمعية عامة مكونة من جميع فئات المساهمين، وذلك ما لم ينص نظام الشركة على غير ذلك، ويسري هذا الحكم أيضًا عند تعديل، أو إلغاء حقوق الأولوية المقررة للأسهم الممتازة. وجاء أيضًا في المادة (103). "يجوز أن ترتب الأسهم الممتازة لأصحابها أولوية في قبض ربح معين، أو أولوية في استرداد ما دفع من رأس المال عند التصفية، أو أولوية في الأمرين معًا، أو أية مزية أخرى ... ولا يجوز إصدار أسهم تعطي أصواتًا متعددة".
الفرع الرابع تقسيم الأسهم من حيث الاستهلاك وعدمه
الفرع الرابع تقسيم الأسهم من حيث الاستهلاك وعدمه تنقسم الأسهم من حيث الاستهلاك وعدمه إلى قسمين: (أ) أسهم رأس المال: وهي الأسهم التي يقدمها المساهم للشركة، ولا تعود إليه إلا عند فسخ الشركة، أو انقضائها بأي سبب من أسباب الانقضاء. [ن -154] وهذا النوع جائز شرعاً من حيث المبدأ، فهو الأصل والقاعدة في الشركات، وقد استقر الاجتهاد الفقهي المعاصر على جوازها بالشروط التي سوف نذكرها في حكم تداول الأسهم، والله أعلم (¬1). (ب) أسهم تمتع: وهي الأسهم التي تعطى للمساهم بعد رد القيمة الاسمية لأسهمه في أثناء قيام الشركة. ويسمى رد قيمة الأسهم الاسمية لصاحبها بالاستهلاك، أو إطفاء الأسهم (¬2). ¬
وتعود قيمة الأسهم إلى المساهم إما تدريجيًا، أو مرة واحدة إلى أن يسترد جميع ما دفعه من أسهم أثناء قيام الشركة. ولا يكون استهلاك الأسهم إلا من الأرباح، أو من الاحتياطي، ولا يجوز أن يكون الاستهلاك من رأس المال إذ يجب أن يكون رأس المال كاملًا لضمان حقوق الدائنين. ولا يتم الاستهلاك إلا إذا كان منصوصًا عليه في نظام الشركة، أو تقره الجمعية العامة غير العادية لما لها من حق في تعديل نظام الشركة، فلها أن تنص على استهلاك الأسهم ولو لم يكن منصوصًا عليه في نظام الشركة (¬1). الحامل على الاستهلاك: الأصل أن الأسهم لا تستهلك ما دامت الشركة قائمة؛ لأن من حق الشريك البقاء في الشركة إلا أن الاستهلاك قد يكون حتميًا كما لو كان مشروع الشركة يهلك تدريجيًا، أو يقوم على حقوق مؤقتة. فيحدث الاستهلاك مثلاً: (أ) إذا كانت موجودات الشركة مما يستهلك بالاستعمال بعد مدة من الزمن، ¬
كأن يكون موضوع الشركة استغلال منجم، أو محجر، أو سفن بحرية بحيث يفنى المنجم، أو المحجر، أو تبلى السفن. (ب) إذا كان مشروع الشركة يقوم على حقوق مؤقتة، كما إذا كانت حاصلة على امتياز حكومي تؤول بانتهائه جميع منشآتها إلى الدولة، مثل شركات الكهرباء والبترول والماء وسكك الحديد (¬1). الطرق التي يتم بها عملية الاستهلاك: يتم الاستهلاك بطرق منها: (أ) الاستهلاك الشامل. وذلك باستهلاك جميع الأسهم استهلاكا تدريجيا، وذلك بأن يرد إلى المساهمين كل سنة جزء من القيمة الاسمية حتى تستهلك جميعها عند انتهاء الشركة. (ب) الاستهلاك الجزئي. وذلك يكون بطريق القرعة السنوية لعدد من الأسهم، فترد على ملاك هذه الأسهم قيمة أسهمهم الاسمية. (ج) الاستهلاك بشراء الشركة لأسهمها، وإعدامها (¬2). ¬
ما يترتب على الاستهلاك: خروج المساهم الذي تستهلك أسهمه من الشركة، وانقطاع علاقته بها، ويجوز أن يعطى المساهم الذي يستهلك سهمه سهم تمتع يخوله حقاً في الأرباح السنوية التي تحققها الشركة، وحقا في موجودات الشركة عند تصفيتها، كما يكون له الحق في حضور الجمعية العامة للمساهمين، والتصويت على قراراتها، إلا أن إعطاء من استهلكت أسهمه سهم تمتع ليس بلازم، وإذا أعطي ذلك فلا بد أن يكون ما يأخذه صاحب سهم التمتع أقل مما يأخذه صاحب السهم الذي لم يستهلك (¬1). أوجه الشبه والاختلاف بين أسهم التمتع وبين أسهم رأس المال: أما أوجه الشبه: فإن سهم التمتع يمنح صاحبه صفة الشريك، والحقوق المتصلة بهذه الصفة، فيعطي سهم التمتع لحامله حق التصويت في الجمعيات العامة، وحقا في الأرباح السنوية، وحقا في موجودات الشركة عند تصفيتها بعد استيفاء أصحاب الأسهم التي لم تستهلك حقوقهم من الشركة. وأما أوجه الاختلاف: فهي أن نظام الشركة ينص في العادة على إعطاء أسهم رأس المال نسبة معينة من الأرباح (5 % من قيمتها مثلاً) وهو ما يسمى بالربح الثابت، ثم يوزع فائض الربح بالتساوي بين أسهم رأس المال، وأسهم التمتع. كما أن صاحب أسهم التمتع لا يشتركون في قسمة موجودات الشركة عند حلها إلا بعد أن يستوفي أصحاب أسهم رأس المال قيمة أسهمهم، نظرًا لأن القيمة الاسمية لأسهم التمتع قد دفعت من قبل (¬2). ¬
المسألة الأولى استهلاك الأسهم من الناحية الفقهية
المسألة الأولى استهلاك الأسهم من الناحية الفقهية مر معنا كما سبق أن الاستهلاك له أكثر من طريقة، والحكم يختلف تبعًا للطريقة المتبعة في استهلاك الأسهم، ونستطيع أن نقول: [ن -155] إن كان الاستهلاك لجميع الأسهم تدريجيًّا بنسبة معينة من قيمة الأسهم إلى أن يتم استهلاكها جميعًا في وقت واحد، وهو ما يطلق عليه (الاستهلاك الشامل، أو الاستهلاك الكلي)، أو كان استهلاك الأسهم عن طريق اقتطاع مبلغ معين من أرباح الشركة سنويًا، وإيداعه بأسم المساهمين إلى أن يبلغ قيمة الأسهم جمعيًا إلى حين انتهاء الشركة، أو انتهاء امتيازها فيأخذوه، فهذا لا مانع منه؛ لأن الاستهلاك سيكون على الجميع، وبطريقة متساوية، وبهذا تتم المساواة والعدل بين جميع الشركاء، ويتم صرف الأرباح بنسبة واحدة على أن يأخذ كل مساهم نصيبه من موجودات الشركة عند التصفية. وأن ذلك يوصف شرعاً على أن ما يعطى يمثل جزءاً من الأصول، والأرباح، أو بعبارة أخرى: أن ذلك كان بمثابة تصفية جزئية مستمرة في كل سنة إلى أن تنتهي، وتنتهي معها موجودات الشركة (¬1). إلا أنه في هذه الحالة لا يجوز أن يرتب على استهلاك الأسهم وجود أسهم ¬
القول الأول
تمتع، وإنما يبقى جميع المساهمين: مساهمين عاديين لهم كامل حقوق المساهم (¬1). [ن -156] وإن كان الاستهلاك عن طريق القرعة، فقد اختلف الباحثون المعاصرون في حكم الاستهلاك بهذه الطريقة إلى قولين: القول الأول: لا يجوز استهلاك الأسهم بطريق القرعة، وقد أخذ بهذا القول جماعة من الباحثين (¬2). القول الثاني: يجوز، وهو رأي الشيخ عبد الله السعيدي (¬3)، والشيخ مبارك آل سليمان (¬4). دليل المانعين للاستهلاك: الدليل الأول: القول بأن الاستهلاك صوري لا حقيقي، وذلك أن البائع قد أخذ ثمن أسهمه من عين ماله. ¬
ويناقش
يقول الدكتور عطية فياض: "إن استهلاك الأسهم بالصورة التي وضحها القانون هو استهلاك صوري لا حقيقي، وذلك لأن الذي يأخذه المساهمون في مقابل أسهمهم أو في مقابل أجزاء منها هو حقهم في الربح، وليس شيئا آخر، فهم يأخذون حقوقهم، وما يسمى في الاستهلاك لا وجود له في الحقيقة؛ لأن السهم يظل على ملك صاحبه، وليس هناك من طريق شرعية باعتباره مبيعا أو مسقطا, ولذلك فإن الحكم على الأسهم بالاستهلاك هو حكم قانوني، لا شرعي، وكل ما يأخذه الشركاء من الربح فهم حقهم، سواء أخذوه في سورة ربح، أو سورة من الإجراءات المستهلكة من الأسهم" (¬1). ويناقش: بأن القول بأن المساهم قد أخذ قيمة أسهمه من عين ماله قول تنقصه الدقة من وجهين: الوجه الأول: أن ما يأخذه المساهم، وإن كان من أرباح الشركة، إلا أنها مملوكة له، ولغيره من المساهمين، فما أخذه بعضه جزء من نصيبه من الربح، وبعضه الآخر جزء من نصيب بقية المساهمين. نعم قد يسلم لهم أن الاستهلاك صوري لو كان ما يعطى المساهم على أنه القيمة الاسمية لأسهمه بقدر نصيبه من الربح لا يتجاوزه، وقد أعطي بقية المساهمين نصيبهم من الأرباح مثله، والأمر ليس كذلك. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: على التسليم بأن ما أخذه هو نصيبه من الأرباح، فإن ذلك لا يعتبر مانعًا من الاستهلاك؛ لأن ما أخذه لم يأخذه بقية المساهمين، ومعلوم أن توزيع الأرباح في أثناء قيام الشركة غير لازم إلا برضا جميع الشركاء؛ إذ الربح وقاية لرأس المال، فإذا أعطي ذلك دونهم مقابل أن يسقط من حقه في الشركة بقدر ما أخذ كان ذلك حقيقيا, وليس صوريا. الدليل الثاني: أن الخشية من عدم وجود رأس مال الشركة حال انتهائها بسبب تلف الموجودات، أو انتهاء مدة امتيازها لا يكفي لجواز استهلاك الأسهم؛ لأن في ذلك إجحافًا بالشركاء الباقين الذين لم تستهلك أسهمهم، فإذا كانت المصلحة هي في استهلاك الأسهم كما تدعي الشركة، فلماذا اختص بها طائفة من الشركاء دون الآخرين، فالأصل أن يبقى السهم لأصحابه إلى أن تصفى الشركة، فيؤول إليه من موجودات الشركة عند التصفية سواء قلت، أم كثرت، أم انعدمت، أو يهبه للدولة إن شرط في نظام الشركة أنها تؤول إلى ملك الدولة. ويناقش: بأن الشريك قد دخل في الشركة، وهو يعلم نظام الشركة، وقد نص على أن الشركة سوف تستهلك بعض الأسهم قبل انتهائها فليس في ذلك غرر على الشريك، وما دام أن اختيار الشركاء الذين تستهلك أسهمهم سيكون عن طريق القرعة، وهي طريقة عادلة لا توجب تفضيل بعض الشركاء على بعض، لا يصح أن يقال: إن فيها تفضيلاً لبعض الشركاء على بعض.
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن استهلاك الأسهم لا يخلو من ضرر؛ لأن الشركة إما أن تكون رابحة فيكون الضرر قد لحق بالذين استهلكت أسهمهم، أو تكون الشركة خاسرة فيكون الضرر قد لحق بباقي الشركاء ممن لم تستهلك أسهمهم. وما دام أن استهلاك الأسهم قائم على الضرر بأحد الشركاء فلا يجوز. ويناقش: بأن الربح أو الخسارة إذا لم يكن متعلقًا بالاستهلاك نفسه لم يعد على الاستهلاك بالتحريم؛ لأن نظام الشركة قد نص على ذلك، وهو سابق لحصول الربح والخسارة. وفي حالة ما إذا كانت الشركة رابحة، واستهلك سهم أحد الشركاء لا يقال: إنه وقع عليه ضرر؛ لأن فوات الربح لا يسمى ضررًا، وقد تكون الشركة رابحة في وقت الاستهلاك، وتلحقها الخسارة فيما بعد، والعكس صحيح، فقد تكون الشركة خاسرة وقت الاستهلاك، ثم تربح فيما بعد. وجه من قال: يجوز استهلاك الأسهم عن طريق القرعة: الوجه الأول: أن الاستهلاك يمكن تخريجه على أنه إقالة، أو أنه شديد الشبه بها إن لم يكنها، وأوجه الاتفاق بين الاستهلاك والإقالة: أن الغرض من الإقالة تجنب الندم والخسارة، وأن تكون بنفس الثمن، لا أقل، ولا أكثر، وثمرتها فسخ العقد. والاستهلاك من هذه الوجوه لا يختلف شيئًا عن الإقالة. فقد تقدم لنا أن الاستهلاك يكون برد القيمة الاسمية التي دفعها, لا أقل، ولا
فالجواب عن ذلك
أكثر، وجاء في القانون التجاري: "الأصل أنه إذا استهلك السهم انقطعت كل علاقة بين المساهم وبين الشركة" (¬1). فإن قيل: إن كان علاقة المساهم بالشركة قد انقطعت، ورد نصيبه من الربح إلى بقية الشركاء، فما باله يناله نصيب من الربح بعد استهلاك أسهمه، وذلك بإعطائه أسهم تمتع. فالجواب عن ذلك: أن ذلك الاستحقاق جاء بعبارة (يجوز) وهي لا يفهم منها اللزوم، فقد يجوز الشيء استثناء، وإن كان على خلاف القاعدة والقياس، فلا يخرم القاعدة. الوجه الثاني: أن استهلاك الأسهم قد تم بالتراضي؛ إذ من شرطه أن يكون منصوصا عليه في نظام الشركة، ومعلوم أن الشركاء قد تراضوا على نظامها. الوجه الثالث: أنه قد تم بطريقة عادلة، وهي القرعة، والقرعة طريق شرعي معتبر في القسمة. الوجه الرابع: أن فيه مصلحة للشركاء، إذ يستغلون فتوة الشركة وقيامها في استرجاع ما بذلوه فيها. الوجه الخامس: أن المعاوضة فيه عادلة، فصاحب الأسهم المستهلكة يسترد رأس ماله الذي ¬
يناقش هذا الدليل
دفعه، وبمقابلة ذلك يؤول إلى الشركاء في الشركة نصيبه في الأرباح، وفي موجودات الشركة (¬1). يناقش هذا الدليل: مع أن الشيخ عبد الله المبارك قد اتفق مع الشيخ عبد الله السعيدي على جواز الاستهلاك عن طريق القرعة، إلا أنه لم يقبل منه أن يقال: إن الاستهلاك يعني أن المساهم قد استرد رأس ماله، وأن ذلك قد تم بطريق المعاوضة بين المساهم الذي استهلكت أسهمه، وبين بقية المساهمين. وأن صلة المساهم التي استهلكت أسهمه قد انقطعت بالشركة بذلك. فليس رأس مال المساهم يتمثل فقط في القيمة الاسمية للسهم، بل إن رأس مال المساهم يتمثل في القيمة الاسمية مضافًا إليه نصيبه من الربح والاحتياطيات. فإعطاؤه منه القيمة الاسمية إعطاء له لبعض حقه، وليس كل حقه. وعلى التسليم بأن ما أخذه هو رأس ماله (القيمة الاسمية) فأين حقه في أرباح الشركة، واحتياطياتها، فلا يصح أن يحكم بخروجه من الشركة قبل أن يستوفيه. فإن قيل: قد رضي بإسقاطه مقابل حصوله على قيمة أسهمه، وقد كان ذلك برضاه فيكون جائزًا، ويترتب على ذلك خروجه من الشركة. فالجواب: أن المساهم إنما رضي باستهلاك أسهمه مقابل أن يعطى سهم تمتع يخوله الحصول على نصيبه من الأرباح، ومن موجودات الشركة عند تصفيتها، فالقول بخروجه من الشركة بالاستهلاك الذي لا يسترد فيه إلا جزءا من حقه، يتمثل فيما يعادل القيمة الاسمية لأسهمه، وهي أقل من حقه قطعا؛ لأن ¬
الترجيح
الاستهلاك لا يكون إلا من الأرباح، لا من رأس المال، أقول: إن في ذلك ظلمًا له، وهضمًا لحقه، وفي هذا أكل للمال بالباطل، وهو محرم في شرع الله، وهذا كما قال العلماء في مسألة الصلح على الإقرار: إذا منع المقرُّ المقرَّ له من حقه حتى يضع عنه بعضه، فالصلح باطل. الترجيح: الذي أميل إليه هو جواز الاستهلاك، إذا كان ذلك منصوصًا عليه في نظام الشركة، وقد دخل المساهم على ذلك، إلا أن من استهلكت أسهمه لا يعتبر قد خرج من الشركة بذلك، أو انقطعت علاقته بها، وهو نفس ما رآه الشيخ مبارك آل سليمان حين مناقشته للدكتور عبد الله السعيدي، والله أعلم.
المسألة الثانية حكم إصدار أسهم التمتع
المسألة الثانية حكم إصدار أسهم التمتع [ن -157] اختلف العلماء في حكم إصدار أسهم التمتع على قولين: القول الأول: ذهب جمهور من الباحثين المعاصرين إلى أنه لا يجوز إصدار أسهم التمتع على اختلاف بينهم في الحامل على المنع: فبعضهم يرى أن إعطاء أسهم تمتع يؤدي إلى إعطاء المساهم ما لا يستحقه ومنهم الشيخ محمَّد عثمان شبير (¬1)، والشيخ علي القره داغي (¬2)، والأستاذ أحمد محيى الدين أحمد (¬3)، والشيخ عبد الله السعيدي (¬4). بينما يرى بعضهم أن إعطاء المساهم سهم تمتع يؤدي إلى حرمانه من كامل حقه، ومن هؤلاء الأستاذ عطية فياض (¬5)، والشيخ صالح بن زابن المرزوقي (¬6). والشيخ محمَّد عبد الغفار الشريف (¬7). ¬
دليل من قال: لا يجوز باعتبار أنه يأخذ ما لا يستحق
دليل من قال: لا يجوز باعتبار أنه يأخذ ما لا يستحق: الدليل الأول: " إذا كانت أسهم الشركة نوعين: أسهمًا عادية، يبقى أصحابها ملتزمين بالتزامات الشركة، وأسهم تمتع يستهلكها أصحابها، ويتخلصون من خسارتها، فهذا لا يجوز؛ لأنه مخالف لمقتضى عقد الشركة من المساواة بين الجميع، واحتمال المخاطرة للجميع، فلا يجوز أن ينجو مساهمون من تحمل الخسارة حين يأخذون قيمة أسهمهم، ويتحمل الباقون الخسارة كلها، فهذا ظلم، وإجحاف، وضرر لا يجوز شرعاً". ويناقش من وجهين: الوجه الأول: دعوى أن ما يأخذه أصحاب أسهم التمتع إنما هو ظلم وإجحاف وضرر وبلا وجه حق دعوى غير صحيحة، بل الظلم هو في حرمان صاحب أسهم التمتع من ربح ماله وإسقاط حقه في هذا المال؛ لأن ما يجنيه صاحب أسهم التمتع إنما هو في مقابل ما بقي له من مال في الشركة، وهو أقل مما يأخذه أصحاب الأسهم التي لم تستهلك، وقد بينت ذلك عند الكلام على حكم استهلاك الأسهم فأغنى عن إعادته هنا. الوجه الثاني: أن القول بأن من استهلك أسهمه فقد نجا من الخسارة، وهذا مخالف لمقتضى عقد الشركة، فالجواب عنه: إن أريد أنه نجا من الخسارة مطلقاً فغير صحيح؛ لأنه قد بقي له مال في الشركة، فلو حصلت خسارة لخسر هو أيضًا هذا المال.
الدليل الثاني
وإن أريد أنه نجا من أن يخسر ماله الذي دخل به في الشركة في حين أن بقية المساهمين عرضة لهذه الخسارة، فإنه من نافلة القول بأن المساهم الذي تستهلك أسهمه يقل نصيبه في الخسارة كما يقل نصيبه في الأرباح بقدر ما رد إليه من ماله؛ لأن الربح والخسارة على قدر مال كل منهم، وهذا هو تمام العدل، والمساواة في الربح والخسارة؛ وقد تم ذلك الاستهلاك برضا المساهمين من خلال قبولهم لنظام الشركة، وهو حق لجميع المساهمين، إلا أنه لما تعذر استهلاك جميع الأسهم مرة واحدة كان لا بد من تعيين من تستهلك أسهمه بطريق القرعة، والقرعة طريق شرعية في القسمة (¬1). الدليل الثاني: المساهم قد استوفى من الأموال ما يساوي حصته، فلا يستحق المشاركة في الأرباح؛ لأن الربح في الشركات يستحق بأحد أسباب ثلاثة: وهي المال، والعمل، والضمان. ولا يوجد أي سبب منها في صاحب سهم التمتع. ويناقش: بأن السهم بعد أن عملت الشركة لم يعد يمثل فقط (قيمته الاسمية) حتى يقال: إذا استرد قيمة السهم الاسمية فقد استرد رأس ماله، بل إن رأس مال المساهم يتمثل في القيمة الاسمية مضافًا إليه نصيبه من الربح، فإعطاؤه منه القيمة الاسمية إعطاء له لبعض حقه، وليس كل حقه. وعلى التسليم بأن ما أخذه هو رأس ماله (القيمة الاسمية) فأين حقه في أرباح الشركة واحتياطياتها، فلا يصح أن يقال: إن المساهم قد استوفى من الأموال ما يساوي حصته، فلا يستحق المشاركة في الأرباح. ¬
وجه من قال بمنعها باعتبار أنها تحرم المساهم من كامل حقه
وجه من قال بمنعها باعتبار أنها تحرم المساهم من كامل حقه: يقول الدكتور عطية فياض: "إنشاء أسهم التمتع غير جائز شرعًا؛ لأنه لا حقيقة له في الواقع؛ ولأنه يجحف بالذين أنشئت لهم هذه الأسهم حيث ينقص من ربح أسهمهم الحقيقية، والأصل أن يتساوى الشركاء جميعًا في الربح والخسارة، والمغنم، والمغرم" (¬1). يناقش: هذا الاستدلال تضمن أمرين: الأمر الأول: أن الاستهلاك لا حقيقة له، وهذا يعني أنه استهلاك صوري. الأمر الثاني: أن فيه إجحافًا في أصحاب أسهم التمتع، حيث ينقص من ربح أسهمهم الحقيقية. والجواب على ذلك أن يقال: أما القول بأن الاستهلاك صوري لا حقيقي فغير صحيح؛ لأن ما يأخذه المساهم، وإن كان من أرباح الشركة، إلا أنها مملوكة له ولغيره من المساهمين، فما أخذه، بعضه جزء من نصيبه من الربح، وبعضه الآخر جزء من نصيب بقية المساهمين. نعم قد يسلم لهم أن الاستهلاك صوري، لو كان ما يعطى المساهم على أنه القيمة الاسمية لأسهمه بقدر نصيبه من الربح لا يتجاوزه، وقد أعطي بقية المساهمين نصيبهم من الأرباح مثله، والأمر ليس كذلك. ¬
القول الثاني
وأما القول بأن في ذلك إجحافًا في أصحاب أسهم التمتع، حيث ينقص من ربح أسهمهم الحقيقية، فيقال: بأن النقص الذي دخل عليهم، سببه أنهم قد أخذوا جزءًا من حقهم، وأصبح حقهم في الربح يعادل ما بقي لهم من مال، وهذا لا يعتبر ظلمًا لأصحاب أسهم التمتع، ولا لأصحاب الأسهم التي لم تستهلك؛ بل هو مقتضى العدل؛ لأن الربح، والخسارة يجب أن يكون على قدر المال. القول الثاني: ذهب الأستاذ عبد العزيز خياط (¬1)، وفضيلة الشيخ خورشيد إقبال (¬2)، إلى أن أسهم التمتع منها ما هو جائز، ومنها ما هو غير جائز على التفصيل التالي. القيمة التي دفعت للشريك، إما أن تكون هي القيمة الحقيقية، أو لا. فإن كانت هي القيمة الحقيقية للسهم، فقد انتهت صلة المساهم بالشركة، سواء أكانت القيمة الحقيقية أقل من القيمة الاسمية، أم أكثر، وذلك لأن المساهم قد قام باستيفاء ماله كله، فلا يستحق شيئًا من ربح الشركة، ولا يتحمل خسارتها, ولا يجوز بناء على ذلك أن يعطى أي سهم تمتع. وإن كانت القيمة التي أعطيت للمساهم بقدر القيمة الاسمية، فينظر: فإن كانت القيمة الاسمية للسهم أعلى من القيمة الحقيقية، فلا يجوز أن يعطى سهم تمتع؛ لأن المساهم قد استوفى رأس ماله المدفوع كاملاً، ويجب أن تنقطع صلته بالشركة. ¬
الراجح
وإن كانت القيمة الاسمية للأسهم أقل من قيمتها الحقيقية، فيبقى له في موجودات الشركة، وفي رأس مالها الاحتياطي نصيب، فحينئذ يستحق أن يأخذ جزءا من أرباح الشركة حسب النسبة الباقية من قيمة أسهمه المستردة بصورة أسهم تمتع؛ لأن علاقة الشريك بالشركة لم تنقطع، والله أعلم. الراجح: بعد استعراض الأقوال أجد أن القول الثاني أقوى، وأنه يجوز إصدار أسهم تمتع في الحالة التي تكون القيمة الاسمية للأسهم أقل من القيمة الحقيقية، وأظن أن هذا شرط في صحة الاستهلاك؛ لأن الاستهلاك إنما يكون من الأرباح، لا من رأس المال، وإذا كانت القيمة الاسمية تمثل القيمة الحقيقية أو كانت أقل منها لم يكن هناك أرباح، فيمتنع الاستهلاك أصلاً، والله أعلم.
المبحث الثالث القيم التي تمثلها الأسهم
المبحث الثالث القيم التي تمثلها الأسهم [ن -158] هناك أربع قيم للأسهم: القيمة الأولى: القيمة الاسمية: وهي القيمة الاسمية التي تحدد للسهم عند إنشاء الشركة، وهو ما يتكون منه رأس مال الشركة عند إنشائها، وهذه القيمة في الواقع هي حصة الشريك المساهم. القيمة الثانية: القيمة الحقيقية: وهي ما يمثله السهم في صافي أصول الشركة وموجوداتها، وقد تختلف هذه القيمة عن قيمة السهم الاسمية زيادة، أو نقصانا، وذلك بحسب ما تحققه الشركة من ربح، أو خسارة. واعتبار القيمة الحقيقية للسهم أمر جائز شرعا؛ لأن الشركة تتعرض للربح والخسارة، وبالتالي تكون القيمة الحقيقية هي المقياس الحقيقي لأرباح الشركة، أو خسارتها، وتقدير أصولها، وهو المطلوب شرعا؛ ولكن بشرط أن تكون المضاعفة عن طريق حلال، وحسب نظام الشركة المتعارف عليه عند التجار، فإن لم يكن متعارفا عليه فلا بد من موافقة المساهمين في الجمعية العمومية للشركة. القيمة الثالثة: القيمة السوقية: وهي القيمة التي يباع بها السهم، وهي ترتبط بنجاح الشركة، أو فشلها، وبحسب رأس مالها الاحتياطي، وعوامل العرض والطلب، والظروف المالية والاقتصادية والسياسية، وما إلى ذلك.
القيمة الرابعة: القيمة الإصدارية للسهم.
ومراعاة هذه القيمة، وتداول الأسهم على ضوئها لا تتعارض مع الشريعة، فلصاحب السهم الحق في بيع سهمه بأقل، أو بأكثر من قيمته الاسمية؛ لأنه كالسلعة، تختلف قيمتها حسب العرض والطلب، بل ذلك هو المطلوب لتحديد السعر به. القيمة الرابعة: القيمة الإصدارية للسهم. ويطلق على معنيين: المعنى الأول: إطلاقه على نسبة محدودة تضيفها الشركة إلى القيمة الاسمية وذلك في مقابل مواجهة النفقات الإدارية، والدعائية لإصدار الأسهم، وذلك حتى تبقى قيمة الأسهم صافية لرأس مال الشركة. وهذا لا مانع منه شرعاً، إذا كانت علاوة الإصدار مقدرة تقديرًا مناسبًا، وكانت بقدر تلك النفقات التي تواجه الشركة. المعنى الثاني: إطلاق هذه التسمية على ما تصدره الشركة من أسهم لزيادة رأس مالها عندما تتوسع في المشاريع، وتحتاج الشركة إلى الحصول على سيولة نقدية، فتلجأ إلى إصدار أسهم جديدة للاكتتاب فيها، قد تكون مساوية لقيمة الأسهم وقد تكون أعلى أو أقل من ذلك. [ن -159] والحكم الشرعي في هذه المسألة: أن هذه القيمة لتلك الأسهم الجديدة، إن كانت مساوية لقيمة الأسهم الحقيقية، أو السوقية فهذا لا مانع منه شرعاً، سواء أكانت مساوية لقيمة الأسهم الاسمية، أو أعلى منها، أو أقل؛ لأن العبرة بالواقع وبسعر السوق؛ لأن الشركة قد تربح، وقد تخسر كما هو معلوم. أما إذا كانت هذه القيمة أقل من القيمة الحقيقية لأسهم الشركة فهذا لا يجوز؛ لأن ذلك يضر بحقوق المساهمين حيث يؤدي ذلك إلى أن تتساوى
الأسهم الإصدارية مع الأسهم الاسمية في اقتسام الأرباح، فتتسبب بإنقاص قيمة أسهم الشركاء، أو حرمانهم من حقهم في هذا المال، وكل ما يؤدي إلى الضرر محرم شرعًا (¬1). ¬
المبحث الرابع في حقيقة السهم
المبحث الرابع في حقيقة السهم السهم بحسب ما يمثله من مال مثلي أو قيمي أو منقول. [ن -160] اختلف العلماء في توصيف السهم بناء على اختلاف نظرة كل منهم إلى حقيقة السهم، والقيمة التي يمثلها إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: أن السهم جزء من رأس مال شركة المساهمة عند إنشائها، ثم هو بعد ذلك حصة شائعة في ممتلكات الشركة، من أثمان، وأعيان، ومنافع، وديون. وعليه فإن محل العقد عند بيع الأسهم هو هذه الحصة الشائعة في موجودات الشركة، ولذلك وجب مراعاة ذلك عند بيع الأسهم. وإلى هذا القول ذهب جمهور الفقهاء والباحثين المعاصرين (¬1). ¬
وبه صدرت توصيات البيان الختامي لندوة الأسواق المالية المنعقدة بالرباط بين 20 - 25 ربيع الآخرة من عام 1410 هـ جاء في التوصيات: انتهى المشاركون في الندوة إلى التوصيات والنتائج الآتية: السهم: هو الوثيقة التي تصدرها الشركة، وتمثل حق المساهم في الشركة, وملكيته لحصة مشاعة في موجوداتها ... (¬1). وقد تضمنت التوصيات إجابات كثيرة على أهم المسائل التي طرحت في الدراسات، أو المناقشات، والأجوبة الشرعية عنها، من ذلك جوابهم على السؤال: هل السهم مثلي، أو قيمي، منقول، أو بحسب ما يمثله؟ وكان جوابهم: السهم بحسب ما يمثله؛ لأنه حصة شائعة في الأموال التي هي محل الشركة (¬2). كما صدر بذلك توصيات الندوة الثانية للأسواق المالية المنعقدة بدولة البحرين، في الفترة: 19 - 21 جمادى الأولى، عام 1412 هـ. ¬
محل العقد في بيع السهم
محل العقد في بيع السهم: " إن المحل المتعاقد عليه في بيع السهم هو الحصة الشائعة من أصول الشركة، وشهادة السهم: عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة" (¬1). وبهذا أخذ قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي (¬2). القول الثاني: أن السهم حصة في شركة المساهمة باعتبار الشركة شخصا معنويا قائمًا بذاته، وليس جزءا من رأس مالها, ولا حصة شائعة في موجوداتها، والقيمة الاسمية للسهم في الحقيقة ثمن الشركة، لا جزء من رأس مالها، وعليه فالمساهمون شركاء في هذا الشخص المعنوي شركة ملك، لا شركة عقد. محل العقد في بيع السهم: بيع السهم بناء على هذا التوصيف يقع على الحصة الشائعة في كيان الشركة ذاتها، باعتبارها شخصية اعتبارية، لا في موجوداتها. وإلى هذا القول ذهب الدكتور محمَّد بنْ علي القري (¬3)، والدكتور حسين ¬
القول الثالث
حامد حسان (¬1)، والدكتور حسين كامل فهمي (¬2). القول الثالث: أن السهم يعتبر من عروض التجارة، أي سلعة قائمة بذاتها؛ لأن ملاك الأسهم في الغالب يتخذونها للاتجار بها، ويكسبون من المتاجرة بها كما يكسب كل تاجر من سلعته. محل العقد في بيع السهم: يقع البيع على السهم (الوثيقة) ذاته، وليس واقعا على ما يمثله السهم من أصول الشركة. وقد قال بهذا القول جماعة من العلماء المعاصرين، منهم أبو زهرة، والدكتور يوسف القرضاوي (¬3)، والشيخ حسن مأمون، والشيخ جاد الحق (¬4)، والشيخ يوسف الشبيلي (¬5)، والشيخ حسان السيف (¬6)، والأستاذ إبراهيم السكران (¬7). ¬
وجه من قال: السهم حصة شائعة في أصول الشركة.
وجه من قال: السهم حصة شائعة في أصول الشركة. الوجه الأول: أن السهم عبارة عن مستند لإثبات حق المساهم في الشركة، فلا قيمة له في نفسه، وإنما قيمته تتمثل فيما يمثله من حقوق الاشتراك في الشركة، ومن رأس مالها وموجوداتها. ويناقش: بأن السهم لو كان يمثل موجودات الشركة فحسب، لكانت أسهم الشركات لا تتغير قيمتها إلا بتغير قيم تلك الموجودات، بيد أن الواقع بخلاف ذلك، فالعامل الأساسي في ارتفاع أسهم الشركات المساهمة هو حجم العرض والطلب، لذلك نجد أن أسهم بعض الشركات الخاسرة أعلى سعرا من أسهم الشركات الرابحة، مما يدل على أن السهم لا يمثل موجودات الشركة فقط، وإنما موجودات الشركة عامل مساعد على ارتفاع السهم وانخفاضه (¬1). ورد هذا: بأن السهم كونه حصة مشاعة في الشركة لا يعني أنه حصة فقط في موجوداتها مجردا عن ارتباطه بالشركة، فهو مع كونه حصة شائعة في موجودات الشركة، فهو يشمل معنى أعم من ذلك باعتباره حصة في شركة غرضها تحقيق الربح، وهو معنى يكسب السهم قيمة أكبر من قيمته باعتباره مجرد حصة شائعة في موجودات الشركة، وهو الأمر الذي يفسر الاختلاف بين قيمة موجودات الشركة ¬
الدليل الثاني
عند بيعها مجردة، وبين قيمة أسهمها في السوق؛ لأن الذي يشتري السهم يصبح شريكا له حقوق الشركاء، ويستفيد من أرباحها وزيادة موجوداتها بخلاف من يشتري شيئاً من موجودات الشركة مجردا من هذا الحق (¬1). الدليل الثاني: اعتبار السهم جزءا من رأس مال الشركة هو المتفق مع تعريف شركة المساهمة، فقد اتفقت عباراتهم في تعريف شركة المساهمة بأنها الشركة التي يقسم رأس مالها إلى أسهم متساوية القيمة ... (¬2). كما أن تعريف السهم في كتب القانون - التي استفدنا منها تصور السهم والشركات المساهمة - هو أنه حصة شائعة (¬3). الدليل الثالث: شركة المساهمة لا تختلف عن طبيعة شركة العقود، حتى ولو لم تلحق بأي نوع من أنواع الشركات المعروفة لدى الفقهاء، ذلك أن جوهرها: هو اتفاق عدد كبير من الشركاء على أن يدفع كل واحد منهم مالًا لمن يتصرف فيه، سواء كان من الشركاء أنفسهم، أو من غيرهم بقصد الحصول على الربح، وهذا هو مضمون شركات العقود، أما اختلاف الطريقة التي يحصل بها الاشتراك، ويجمع بها المال، أو الطريقة التي تدار بها أموال الشركة، فهذه أمور تنظيمية لا تتعارض مع طبيعة شركة العقد. ¬
وجه من قال: السهم حصة في الشركة باعتبارها شخصية معنوية لا في موجوداتها
وجه من قال: السهم حصة في الشركة باعتبارها شخصية معنوية لا في موجوداتها: الوجه الأول: أن القانون التجاري بما يمنحه للشركة المساهمة من شخصية اعتبارية، يميز بين ملكية السهم، وملكية الأصول والأعيان التي يتضمنها السهم، فالسهم يملك على وجه الاستقلال عن ملكية الأصول والأعيان التي تملكها الشركة، بحيث إن الحصص المقدمة للمساهمة في الشركة تنتقل على سبيل التمليك إلى ملكية الشركة، ويفقد الشركاء المستثمرون كل حق عيني عليها. فالشخصية الاعتبارية للشركة قد جعلتها تملك، وتتصرف كالأفراد الطبيعيين، وتجب لها الحقوق، وتلزمها الواجبات، والشخصية الاعتبارية لها أصل في الفقه الإِسلامي كالدولة، وبيت المال، وملكية الوقف للمستحقين فيه أو لله تعالى، فهذه الجهات ليست عبارة عن أصول وموجودات، وإن كان الوقف وبيت المال يملكان أصولاً، وديونًا، ومنافع، فالسهم إذن حصة في الشركة، وليس حصة في مفردات أصولها؛ لأن الأصول مملوكة للشركة، وليس لحملة الأسهم بدليل أن المساهم لا يملك التصرف في أعيان الشركة، أو منافع أعيانها, لا بالبيع، ولا بالرهن، ولا بالانتفاع، ولا بغيرها، فالشركة لها شخصيتها الاعتبارية، وذمتها المالية التي تستقل تماما عن شخصيات وذمم الشركاء المكونين لها، والسهم بهذا الشكل جزء من الشخصية الاعتبارية للشركة، ويرغب الناس في بيعه وشرائه بقصد الاسترباح، وليس وعاء لما يمثله من موجودات الشركة. وأجيب عن هذا بخمسة أجوبة: الجواب الأول: أن هذا التصور القانوني لأحكام شركة المساهمة، وفي مقدمة هذه الأحكام
الجواب الثاني
أن أموال الشركة ليست ملكًا للشركاء، وإنما هو ملك للشركة ذاتها، هذا تصور قانوني لا يلزم الفقيه، ولا يستند إلى عرف واقعي، ولا إلى دليل شرعي، إذ من المعلوم أن هذه الأموال هي ملك للمساهمين قبل أن يكتتبوا في أسهم الشركة، وهي باقية على ملكهم بعد الاكتتاب، إذ لم يوجد ما يخرجها عن ملكهم، وكيف يتصور أن موجودات الشركة هي ملك للشركة ذاتها, وليست ملكاً للمساهمين. وعقد الشركة ليس هو من عقود التمليك، بل هو عقد يترتب عليه اشتراك الشركاء في تلك الأموال اشتراكًا مشاعًا، من غير أن يخرج مال كل واحد منهم عن ملكه. يقول الدكتور الصديق الضرير: "القول بأن الشركة هي المالك، وإن كان هذا رأي القانونيين إلا أنني لا أوافق عليه، بدليل أنهم أعطوا لصاحب هذا السهم حق التصرف كما يتصرف المالك، كل ما هنالك أنه ليس له حق في أن يطالب بالمال الذي دفعه، وعندما تنحل الشركة يأخذ نصيبه، فهو المالك الحقيقي" (¬1). الجواب الثاني: لو سلمنا بأن وصف القانون التجاري حجة، وهذا نقوله من باب المناظرة، فإن كتب القانون ليست متفقة على ذلك، فقد ذكر الدكتور عبد العزيز خياط ثلاثة مذاهب لهم فيها، فإنهم من ينفيها, ولا يعتبر الشركة إلا بأشخاص مساهميها، ومنهم من يعتبرها مجازا قانونيًا، ومنهم من يعتبرها حقيقة قانونية، فإذا كان القول الفقهي إذا لم يتفق عليه لا يعتبر حجة بمجرده، فما بالك بآراء أهل القانون الوضعي. ¬
الجواب الثالث
الجواب الثالث: أن قيام شركة المساهمة لا يتوقف على اعتبار الشركة ذات شخصية، اعتبارية، بل يمكن أن تقوم شركة المساهمة بكل ما هو مقرر لها من أحكام، وخاصة فيما يتعلق بتداول الأسهم، دون أن توصف بالشخصية الاعتبارية، ودون أن تكون مسئولية الشركاء فيها محدودة، ودون أن يحكم بنزع ملكية الشركاء لأموالهم، وإذا لم يكن هذا التكييف ضروريًا لم يكن لازما. الجواب الرابع: كون المساهمين لا يتصرفون في تلك الأموال طيلة مدة الشركة لا يعني أنها قد خرجت عن ملكهم، بل مرد ذلك إلى العرف الذي هو كالشرط، والمسلمون على شروطهم، وله نظير في الشرع، وهو المال المرتهن حيث يبقى على ملك الراهن، ولا يخرج عن ملكه، وليس له أن يتصرف فيه بالبيع مدة الرهن على القول الصحيح، وهو قول جماهير أهل العلم، فامتناع التصرف من أجل حق الغير لا يمنع ثبوت الملك لأصحابها. الجواب الخامس: إذا جاز لكم أن تقولوا: إن السهم لا يمثل حصة شائعة في موجودات الشركة بناء على أن قيمته لا تعبر عن قيمة تلك الموجودات، جاز لنا أن نقول: إن السهم أيضاً لا يمثل حصة في الشخص الاعتباري الذي هو الشركة، بناء على أن قيمته لا ترتبط بالشركة نفسها، بل بالعرض والطلب، فما جاز لكم أن تجيبوا به جاز لنا أن نجيب بمثله (¬1). ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: لو كان السهم هو حصة الشريك في رأس المال لكانت الشركة لا تقوم إلا بعد أن يدفع الشركاء رأس المال؛ لأنه بناء على ذلك يتحدد رأس مال الشركة، فلما كانت الشركة تولد في ظل القانون كشخصية اعتبارية قبل أن يتحدد رأس المال، دل على أن الشركة تبيع نفسها حصصًا لمن يشتري، وأن المساهم يصبح عند شرائه السهم مالكًا, وليس شريكًا. يقول الدكتور محمَّد بن علي القري: "لقد قام التصور المعاصر على أن الشركة تقوم باجتماع الشركاء لإنشائها، ودفعهم لحصصهم من رأس المال بالاكتتاب، وهذا غير صحيح، إذ الشركة تكتسب الشخصية القانونية قبل ذلك عند صدور الموافقة من الجهات الرسمية على إنشائها، بعد أن تمر بمرحلة الإشهار، وهي سابقة لمرحلة الاكتتاب في كل القوانين المعاصرة، ولذلك فإن الناس عند الاكتتاب لا ينشئون شركة، بل هم يشترون أسهمًا في شخصية اعتبارية قد أوجدها القانون، ثم هم بشراء هذه الأسهم يصبحون شركاء في ملكية شركة قائمة من الناحية القانونية" (¬1). وأجيب بجوابين: الجواب الأول: منح الشركة وصف الشخصية الاعتبارية يختلف من قانون لآخر، ففي بعض القوانين كالقانون المصري لا تكتسب الشركة هذا الوصف إلا بعد القيد في السجل التجاري، الذي لا يتم إلا بعد انتهاء مرحلة الاكتتاب. ¬
الجواب الثاني
وفي النظام السعودي لا تكتسب الشركة الشخصية الاعتبارية إلا بعد الاكتتاب، واجتماع الجمعية التأسيسية، بحيث تصدق على صحة إجراءات التأسيس، وتقويم الحصص العينية إن وجدت، والتصديق على نظام الشركة، ونفقات التأسيس، وتعيين الهيئات الإدارية الأولى اللازمة للشركة، كل ذلك يسبق قرار إعلان التأسيس، فإذا تم كل ذلك رفع طلب إلى وزير التجارة لاستصدار قرار بإعلان تأسيس الشركة، ويكون الطلب مصحوبا بالمستندات الدالة على استيفاء وصحة إجراءات التأسيس السابقة، وبعد أن يتحقق الوزير من صحة إجراءات التأسيس، فإنه يصدر قراره بإعلان تأسيس الشركة. وبصدور هذا القرار يصبح للشركة وجود قانوني، وتكتسب الشخصية المعنوية (¬1). وقد جاء في نظام الشركات السعودي: "ولا يتم تأسيس الشركة إلا إذا اكتتب بكل رأس المال" (¬2). فكيف يصح القول بأن المساهمين بالاكتتاب يصبحون شركاء في ملكية شركة قائمة من الناحية القانونية. الجواب الثاني: لا يلزم من اعتبار شركة المساهمة ذات شخصية اعتبارية أن يكون السهم مفصولاً عن موجودات الشركة، وكوننا نقر للشركة شخصية اعتبارية لا يعني هذا ¬
وجه من قال: السهم سلعة قائمة بذاته مهما كانت موجودات الشركة
أن نجعل ذمة الشركة مستقلة عن ذمة الشركاء من كل وجه، وإنما نأخذ به بالقدر الذي يساعد على تنظيم أعمال الشركة، والقيام بنشاطها دون تدخل مباشر من المساهمين مع بقاء أصحاب الأسهم يملكون حصة شائعة في رأس مال الشركة، وفي موجوداتها، وفي كافة حقوقها؛ لأن وجود الشخصية الاعتبارية ليس أمراً جوهريًّا تتغير به الحقيقة المقررة، وهي ملكية المساهمين للشركة وموجوداتها؛ لأنه من غريب القول أن يكون السهم يعبر عن حصة في الشركة، ثم هو لا يعبر عن حصة في مفردات أصولها، فما هي إذن هذه الشركة إن لم يكن تملكها تملكًا لما تمثله؟! وجه من قال: السهم سلعة قائمة بذاته مهما كانت موجودات الشركة: الدليل الأول: (ح -860) ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر: - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ... من ابتاع عبدًا, وله مال، فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع (¬1). وجه الاستدلال: أن هذه الصورة جاز فيها بيع المال تبعًا للعبد؛ لأن رغبة المبتاع في العبد، لا في المال الذي معه، فجاز ذلك؛ لأنه دخل في البيع تبعًا، فأشبه أساسات الحيطان، والتمويه بالذهب في السقوف. والمشتري للسهم كذلك، فإنه حين يشتري السهم ليس مقصوده ما يمثله السهم من موجودات الشركة، وإنما يقصد القيمة السوقية للسهم، يدل على ذلك ¬
ويجاب عن هذا الاستدلال بجوابين
أن السهم تكون قيمته أضعاف ما يمثله من موجودات الشركة، ورغم ذلك فإن مشتري السهم يرضى به؛ لأنه يعلم أن المؤثر الحقيقي في قيمة السهم: هو حجم العرض، والطلب، لا ما يمثله السهم من موجودات الشركة، ولذا تجد كثيرا من المضاربين ينظر عند الشراء إلى حجم العرض والطلب، لا إلى موجودات الشركة (¬1). ويجاب عن هذا الاستدلال بجوابين: الجواب الأول: أن العبد مال بذاته، مقصود بنفسه، وأما السهم فإنه ليس مالاً بنفسه، ولا يقصد لذاته، ولا قيمة له إلا بالشركة، وهذا فرق مؤثر جدا. الجواب الثاني: أن هذا ينطبق فقط على المتاجر بالأسهم (المضارب) وليس على المستثمر، والسهم إنما تكون بسبب الاستثمار، وليس بسبب الاتجار (المضاربة)، وإذا كان ذلك كذلك، فالمضارب قد حل محل المستثمر، فيأخذ حكمه. يقول الشيخ مبارك آل سليمان: "أما اعتبار الأسهم عروض تجارة كسائر عروض التجارة فإنه غير سديد؛ لأن التعامل بالأسهم كعروض تجارة شيء طارئ على السهم، وليس هو الأصل فيه، بل الأصل فيه أنه حصة شائعة في شركة من شركات العقود يخول مالكه حقوق الشركاء، ومنها ملكيته لموجودات الشركة، والتعامل به كعرض تجارة لا ينافي هذا الأصل، ولهذا ينقسم مالكو الأسهم إلى قسمين: قسم يساهم بقصد البقاء في الشركة، والحصول على ¬
الدليل الثاني
أرباحها الموزعة، وقسم يساهم بقصد المتاجرة، فإذا صح أن السهم في حق الثاني يعامل معاملة عروض التجارة، فليس كذلك في حق الأول ... على أن الراجح أيضًا عدم الجواز حتى في حق من يساهم بقصد المتاجرة؛ لأنه بشراء السهم قد حل محل الشريك السابق، فأصبح شريكًا كسائر الشركاء، يتعلق به من الأحكام ما يتعلق بهم، وكون السهم في حقه عرض تجارة حتى يجب عليه أن يزكيه زكاة عروض التجارة لا ينافي كون السهم حصة شائعة في موجودات الشركة كما تقدم، فيقع عليه البيع، لا على السهم مجردًا مما يمثله من تلك الموجودات، والله أعلم" (¬1). الدليل الثاني: أن هذه الأسهم تعتبر صكوكًا مالية قابلة للتداول، وتداولها منفصل عن نشاط الشركة، فلا ترتبط قيمة الأسهم بنشاط الشركة، وصاحب الأسهم يتجر فيها بالبيع والشراء، ويكسب منها كما يكسب كل تاجر من سلعته بصرف النظر عن قيمة موجودات الشركة، لذلك تجد أن أسهم بعض الشركات الخاسرة أعلى سعرًا من أسهم الشركات الرابحة، مما يدل على أن السهم له قيمة ذاتية، لا تمثل موجودات الشركة، كما أن ارتفاع قيمة الأسهم، أو انخفاضها لا يؤثر بشكل مباشر إيجابًا، أو سلبًا على نشاط الشركة؛ لأن ما يدفعه المساهم لشراء الأسهم بعد طرحها للتداول لا تأخذ منه الشركة ريالا واحدا, ولا يدعم به نشاط الشركة، بل يذهب جميعه للمساهم البائع، وكذلك المساهم البائع لا يأخذ ثمن أسهمه من الشركة، بل من المساهم المشتري. ¬
ويجاب عن هذا بثلاثة أجوبة
ويجاب عن هذا بثلاثة أجوبة: الجواب الأول: قد يصدق هذا التوصيف على من يتملك الأسهم بقصد الاتجار بها (المضاربة)، ولكنه لا يصدق أبداً على من ساهم بماله في الاكتتاب بالشركة بقصد الاستثمار، وذهب ماله مباشرة إلى خزينة الشركة، مع أن هذا العمل هو الأصل في تكوين السهم، ومبدأ نشأته، وبيان حقيقته، وقيام الحقوق المترتبة على تملكه، فإذا جاء المتاجر بالأسهم (المضارب) فاشترى من هذا أسهمه فقد حل محله في الشركة، وأخذ موقعه، واستحق على الشركة ما يستحقه المستثمر الأول، فكان المضارب امتدادا للمستثمر، وكان شريكًا ضرورة، فثبت أن المساهم، ولو كان مضاربًا، فإنه بملكيته للسهم أصبح شريكًا. الجواب الثاني: لا يصح أن يقال: إن المساهم يبيع الوثيقة؛ لأن الوثيقة لا قيمة لها إذا جردناها عما تدل عليه، ولا تشتمل الوثيقة على أي منفعة ذاتية، بحيث يقال: إنه يجوز بيعها وشراؤها لمنفعتها كالسلع، وإنما قيمة الوثيقة تتمثل فيما تمثله من حقوق الاشتراك في الشركة، ومن كونها حصة شائعة في رأس مال الشركة وفي موجوداتها، بدليل أن الشركة لو أفلست لعاد ذلك بالخسران على السهم، ولذهبت قيمته، كما أن مقدار استحقاقه من أرباح الشركة يرجع تقديره إلى عدد ما يملكه من هذه الأسهم، ولو صليت الشركة لم يستحق من موجودات الشركة إلا بمقدار ما يملكة من أسهمها، فامتلاك المساهم نصيبًا في موجودات الشركة عند تصفيتها دليل على أنه يملك حصة شائعة. الجواب الثالث: أن فصل السهم عما يمثله يؤدي إلى جواز المساهمة في البنوك الربوية،
الدليل الثالث
وشركات القمار، والخمور، وسائر الشركات المحرمة؛ لأن السهم سلعة بذاته، مفصول عن موجودات الشركة، وما تمثله، وهذا لم يقل به أحد. الدليل الثالث: أن القانون التجاري بما يمنحه للشركة المساهمة من شخصية اعتبارية يميز بين ملكية السهم، وملكية الأصول والأعيان التي يتضمنها السهم، فالسهم يملك على وجه الاستقلال عن ملكية الأصول والأعيان التي تملكها الشركة، بحيث إن الحصص المقدمة للمساهمة في الشركة تنتقل على سبيل التمليك إلى ملكية الشركة، ويفقد الشركاء كل حق عيني عليها, ولا يبقى لهم إلا حق في الحصول على نصيب من أرباح الشركة أثناء وجودها، وفي اقتسام قيمة بيع موجوداتها عند التصفية. ويناقش: بأن الكلام على الشخصية الاعتبارية للشركة سبق الكلام عليه، ومناقشته، فأغنى عن إعادته هنا، وقد أخذ بعض الباحثين المعاصرين بالشخصية الاعتبارية للشركة مع قوله: بأن السهم حصة شائعة، كما أن كثيرًا من كتب القانون قد قالت بالشخصية الاعتبارية مع تعريفها للسهم بأنه حصة شائعة، فلا تلازم بين اعتبار الشخصية المعنوية للشركة، وبين كون السهم حصة شائعة فيها. الدليل الرابع: اعتبار السهم حصة منقولة ومالًا مثليًا, ولو كانت موجودات الشركة من العقارات، أو من الأموال القيمية؛ كل ذلك دليل على أن السهم شيء قائم بذاته، لا علاقة له بموجودات الشركة.
ويناقش
ويناقش: بأنه لم يتفق على كون السهم مالا مثلياً، ولا على أنه منقول، وكون الوثيقة منقولة لا يعني أن ما تمثله مال منقول، فما هو الدليل على اعتبار السهم ما، منقولا، فليس فيه إلا مجرد الدعوى، أو ما نصت عليه بعض كتب القانون، وكل ذلك ليس بحجة. وقد جاء في توصيات البيان الختامي لندوة الأسواق المالية المنعقدة بالرباط بين 20 - 25 ربيع الآخرة من عام 1410 هـ. وفيما يلي أهم المسائل التي طرحت في الدراسات، أو المناقشات، والأجوبة الشرعية عنها: السؤال (1) هل السهم مثلي، أو قيمي، منقول، أو بحسب ما يمثله؟ الجواب (1) السهم بحسب ما يمثله؛ لأنه حصة شائعة في الأموال التي هي محل الشركة (¬1). الراجح من الخلاف: لا شك أن الخلاف في توصيف السهم من أهم المسائل المتعلقة بالسهم لما يترتب عليها من أحكام هي محل اختلاف بين الباحثين المعاصرين، وأهم هذه المسائل: حكم المساهمة في الشركات التي اصطلح على تسميتها بالمختلطة، ويجب على الباحث أن يبحث هذه المسائل في معزل عن تكييف أهل القانون, وإذا نظر فيها فليعرض هذا على القواعد الشرعية، ولا يأخذ تكييفهم وما تواضعوا عليه على أنه من المسلمات. ¬
وأريد أن ألفت الانتباه، وأنا أرجح أحد الأقوال بتكييف السهم بما رجحته في توصيف شركات المساهمة؛ لأن هذا مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتوصيف السهم، فالشركة عبارة عن أسهم متساوية القيمة، من ذلك: (أ) شركة المساهمة من شركات العقود، وليست من شركات الأملاك. (ب) لسنا مضطرين لقبول الشخصية الاعتبارية للشركة بالشكل الذي يقرره القانون، ولا يلزم من اعتبار شركة المساهمة ذات شخصية اعتبارية أن يكون السهم مفصولًا عن موجودات الشركة، فأكثر القائلين بالشخصية الاعتبارية للشركة، ومنها كتب القانون يعرفون السهم بأنه حصة مشاعة. (ج) أن السهم حصة شائعة في الشركة، وفي ما تملكه الشركة، فهو يمثل حقوقًا مالية، من ذلك: (1) قيمة السهم (اسمية كانت، أو سوقية، أو حقيقية). (2) نصيب السهم من أرباح الشركة حتى الاحتياطي منها. (3) نصيب السهم فيما تملكه الشركة، من اسم تجاري، وعلامة تجارية، وتراخيص ممنوحة. (4) حق الأولوية في الاكتتاب بالأسهم الجديدة. وهذا الذي جعل السهم تختلف قيمته عن قيمة موجودات الشركة، ولا أعتقد أن الذين قالوا: إن السهم حصة شائعة في موجودات الشركة، أرادوا أن المساهمين يملكون تلك الحصة الشائعة في هذه الموجودات بمعزل عن الشركة، ونشاطها، وما تعطيه الشركة للمشارك من حقوق وامتيازات. هذا هو ما ترجح لدي في توصيف السهم، والله أعلم بالصواب.
المبحث الخامس الموقف الفقهي من إصدار الأسهم
المبحث الخامس الموقف الفقهي من إصدار الأسهم [ن - 161] بعد أن استعرضنا الأقوال في تكييف السهم، وتم ترجيح أن السهم حصة شائعة يمنح حق المشاركة في الشركة مع ما يمثله من حصة شائعة في موجوداتها، نستطيع أن نتكلم من الناحية الفقهية في حكم إصدار الأسهم. النوع الأول: إصدار أسهم لشركات مباحة، يكون رأس مالها حلالاً، وتتعامل في مجالات مباحة، وينص عقدها التأسيسي على أنها لا تتعامل في المجالات المحرمة، ولا تتعامل بالربا إقراضًا، أو اقتراضًا. وهذا النوع من الأسهم لا خلاف بين العلماء القائلين بجواز شركات المساهمة من حيث الأصل في جواز الاكتتاب فيها، ودليله عموم الأدلة الدالة على جواز الشركات بأنواعها المعروفة في الفقه الإِسلامي، باعتبار أن شركة المساهمة نوع من أنواع الشركات، سواء خُرِّجت على أحد هذه الأنواع، أو قيل: إنها نوع جديد. وقد خالف بعض المعاصرين ممن لا يرون جواز شركات المساهمة أصلاً، وهو قول مهجور، ولم يبن على حجة واضحة، وقد ذكرت حجته وتمت مناقشتها في حكم شركات المساهمة، فأغنى عن إعادته هنا. النوع الثاني: إصدار أسهم لشركات يكون مجال استثمارها كله، أو غالبه في أمور محرمة،
مثل شركات الخمور، ولحوم الخنزير، والأفلام الخليعة، والمصارف الربوية، ونحوها. وهذا لا خلاف بين العلماء في تحريم إصدار مثل هذه الأسهم، والاكتتاب فيها. جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي: "لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم، كالتعامل بالربا، أو إنتاج المحرمات، أو المتاجرة بها" (¬1). النوع الثالث: إصدار أسهم لشركات يكون أصل نشاطها وغالبه حلالًا، مثل الشركات الصناعية، والتجارية، وشركات الخدمات، ولكنها لها معاملات محرمة، كالاقتراض، أو الإقراض بالربا، وقد اصطلح على تسميتها بالأسهم المختلطة. وفي هذا النوع وقع خلاف بين العلماء المعاصرين، ولأهمية هذه المسألة سوف أفردها بالبحث في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى. ¬
الفرع الأول حكم المساهمة في الشركات المختلطة
الفرع الأول حكم المساهمة في الشركات المختلطة جاء في التاج والإكليل: "بالنسبة للربا لا يجوز منه قليل ولا كثير، لا لتبعية ولا لغير تبعية" (¬1). وقال ابن عبد البر: "الربا لا يجوز قليله، ولا كثيره، وليس كالغرر الذي يجوز قليله، ولا يجوز كثيره" (¬2). أخذ الربا بنية التخلص منه مبني على عقد فاسد، وهو عقد الربا، وما بني على الفاسد فهو فاسد. الفقهاء متفقون على أن العقد الفاسد فضلاً عن الباطل يجب فسخه، وأخذ الربا بنية التخلص إمضاء له، وتكرار لفعله. لما كان القليل من الربا حرامًا كالكثير وهذا بالاتفاق صار أخذه بشرط التخلص حرامًا كالكثير. [ن -162] اتفق علي إطلاق مصطلح الأسهم المختلطة: على أسهم الشركات المباحة التي يكون أصل نشاطها وغالبه حلالاً، مثل الشركات الصناعية، والتجارية، وشركات الخدمات، ولكن لها معاملات محرمة كالاقتراض أو الإقراض بالربا. وفي هذا النوع وقع خلاف بين العلماء المعاصرين في حكم الاكتتاب في أسهمها وفي حكم تداولها، يعد اتفاقهم على ما يأتي: ¬
القول الأول
اتفقوا على تحريم الاشتراك في تأسيس مثل هذه الشركات التي ينص نظامها على تعامل محرم في أنشطتها، أو أغراضها. واتفقوا على أن من يباشر هذه العقود المحرمة في الشركة كأعضاء مجلس الإدارة والراضين بذلك أن عملهم محرم. واتفقوا على أن المساهم لا يجوز له بأي حال من الأحوال أن ينتفع بالكسب المحرم من السهم، بل يجب عليه إخراجه والتخلص منه. واتفقوا أيضًا على أن المساهمة في الشركات التي يغلب عليها المتاجرة بالأنشطة المحرمة محرم. وإنما الخلاف الواقع بين العلماء هو في حكم الاكتتاب في مثل هذه الشركات المختلطة، والمتاجرة في أسهمها إذا كان المحرم شيئاً يسيرًا. وهذه المسألة نظرا لخطورتها؛ ولكونها فتحت للمساهمين والمتداولين قبول عقود الربا، والمضي فيها، ووقفت الفتوى بجوازها حجر عثرة في طريق تنقية تلك الشركات أستبيح القارئ أن يلتمس لي العذر إذا أعدت بعض الكلام السابق حول توصيف شركات المساهمة، وتوصيف السهم، فإن الخلاف في هذه المسألة راجع إلى تلك المسألتين. وكان الخلاف في الشركات المختلطة راجعًا إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب بعض أهل العلم إلى جواز الاكتتاب في الأسهم المختلطة، وجواز تداولها بشروط وضوابط، مع وجوب التخلص من الكسب الحرام. وممن ذهب إلى هذا القول الهيئة الشرعية لشركة الراجحي (¬1)، والهيئة ¬
ضوابط القول بالجواز ومناقشتها
الشرعية للبنك الإِسلامي الأردني (¬1)، وندوة البركة السادسة (¬2)، وهو أحد القولين لشيخنا ابن عثيمين رحمه الله (¬3)، والشيخ عبد الله بن منيع (¬4)، والشيخ يوسف القرضاوي (¬5)، والشيخ تقي العثماني (¬6)، والشيخ نزيه حماد (¬7)، والشيخ علي محيي الدين القره داغي (¬8)، والشيخ يوسف الشبيلي (¬9). ضوابط القول بالجواز ومناقشتها: القائلون بالجواز وضعوا ضوابط وشروطًا للقول بالجواز، إذا اختل ضابط منها رجع القول إلى التحريم، فيستحسن قبل أن ندخل في ذكر أدلتهم، أن نعرف هذه الضوابط، ومدى وجاهتها: الضابط الأول: مناقشة تحديد نسبة الحرام المغتفر في الشركة. ففي تحديد نسبة الاقتراض الربوي من حجم الموجودات. ¬
وفي تحديد نسبة الإيرادات المحرمة من الإيرادات.
آخر ما استقرت عليه أكثر الهيئات الشرعية في البنوك السعودية ألا تزيد القروض المحرمة عن 30 % من إجمالي موجودات الشركة (¬1). وفي تحديد نسبة الإيرادات المحرمة من الإيرادات. أخذت الهيئة الشرعية لشركة الراجحي في قرارها 485 والأهلي وهيئة المعايير المحاسبية في البحرين إلى ألا يتجاوز مقدار الإيراد الناتج من عنصر محرم 5 % من إجمالي إيرادات الشركة، سواء كان هذا الإيراد ناتجًا عن الاستثمار بفائدة ربوية، أم عن ممارسة نشاط محرم، أم عن تملك لمحرم، أم عن غير ذلك، ونص قرار الراجحي بأنه إذا لم يتم الإفصاح عن بعض الإيرادات فيجتهد في معرفتها، ويراعى في ذلك جانب الاحتياط. وأشار الدو جونز الإِسلامي إلى ألا تتجاوز الإيرادات غير التشغيلية 9 % من الإيرادات التشغيلية (¬2). ¬
وفي تحديد حجم العنصر المحرم من حجم الموجودات.
ويبدو من التفريق بين الإقراض بفائدة، والاقتراض بفائدة أن الأول ينتج عنه كسب محرم، بينما الثاني تصرف محرم، لذا كان الأول 5 %، والثاني: 30%. وفي تحديد حجم العنصر المحرم من حجم الموجودات. نص قرار الراجحي رقم 485 على ألا يتجاوز حجم العنصر المحرم، استثمارا كان، أو تملكا لمحرم نسبة 15 % من إجمالي موجودات الشركة. ثم وجهت الهيئة الشرعية في مصرف الراجحي من خلال خطابها المبلغ من رئيسها الآنف الذكر إلى عدم اعتبار هذا الضابط. ولم يعتبر الداو جونز هذا الضابط، ولم يشر قرار الأهلي لهذا الضابط أيضاً. وفي تحديد نسبة المصروفات المحرمة لجميع مصروفات الشركة. حددت هذه النسبة ب 5 % من إجمالي المصروفات، وهذا الضابط توجهت إليه الهيئات أخيرا. مناقشة هذه الضوابط: " هذه النسب اجتهادية في تقدير اليسير، ولم يرد في القرارات ما يوضح المستند الشرعي لهذه النسب، غير أنه ورد في قرار الراجحي (310): (رأت الهيئة بنظر اجتهادي منها، واستنادا إلى دلائل في بعض النصوص الشرعية، وإلى المعقول، أن تعتمد الثلث هذا بين القلة والكثرة). ¬
وفي القرار رقم 485 (والهيئة توضح أن ما ورد من تحديد للنسب في هذا القرار مبني على الاجتهاد، وهو قابل لإعادة النظر حسب الاقتضاء) " (¬1). والسؤال الفقهي المشروع: من قال من أهل العلم من المتقدمين بأن الربا يفرق بين قليله وبين كثيره في قبوله والتعامل به، فإذا لم يثبت أن هناك فرقًا في التحريم بين القليل والكثير لم يكن هذا التفريق قائمًا على دليل شرعي، وإذا ثبت أن هناك فرقًا في التحريم بين القليل والكثير، فإن قال باعتبار الثلث حدًا بين القلة والكثرة؟ وللجواب على ذلك نقول: لا أعلم أن أحدًا من أهل العلم من المتقدمين قال بأن قليل الربا حلال. قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. فالآية لم تفرق بين قليل الربا وبين كثيره في التحريم. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة:268, 279]. فكل زيادة على رأس المال فهي داخلة في الظلم، قليلة كانت الزيادة أم كثيرة. (ح - 861) ومن السنة ما روه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب والفضة بالفضة ... مثلًا بمثل، يدًا بيد، من زاد أو استزاد فقد أربى، الآخد والمعطي سواء (¬2). ¬
وللجواب على ذلك يقال
فقوله: (من زاد أو استزاد فقد أربى) نص في شمول التحريم للقليل والكثير من الربا، فإذا ثبت التحريم لقليل الربا وكثيره سقط ما يقال في التفريق بين القليل والكثير. فإن قال المخالف: نحن نقول: إن يسير الربا حرام ككثيره، ولكن الجواز مشروط بأن يأخذه على أن يتخلص منه. قيل لهم: لم فرقتم بين الكثير والقليل؟ لما كان القليل من الربا حرامًا كالكثير وهذا بالاتفاق صار أخذه بشرط التخلص حرامًا كالكثير. وإذا تجاوزنا موضوع الربا، فإن قال من أهل العلم من المتقدمين باعتبار الثلث حدًّا بين القلة والكثرة؟ وللجواب على ذلك يقال: لا يعرف هذا إلا للمالكية وحدهم فهم من جعل الثلث فرقًا بين القليل والكثير، إلا أن اعتبار هذا التقدير مشروط بشرطين: الشرط الأول: أن لا يكون للأقل حكمه المنصوص عليه، فإذا كان للأقل حكمه المنصوص عليه لم يفرق بين القليل والكثير (¬1). مثال القليل الذي نص عليه: مثل كون يسير البول ناقضًا للوضوء، فالنقطة والنقطتان ناقضتان للوضوء، فالقليل له حكم الكثير هنا. ومثله يسير الخمر، فإنه حرام ككثيره، للحديث.: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) رواه أحمد وغيره، وهو حديث صحيح (¬2). ¬
ومثله لو كان الأقل مقيسًا على منصوص عليه: كما لو ترك الإنسان بقعة في غسل يده في الوضوء، فإن وضوءه غير صحيح، ولا يقال: هذا قليل بالنسبة لأعضاء الوضوء قياسا على قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ويل للأعقاب من النار). فإذا طبقنا هذا الشرط على يسير الربا، فيسير الربا لم يقل أحد إنه لم ينص على تحريمه، ولم يدع أحد أنه حلال، فقد أجمع العلماء على تحريم ربا النسيئة قليله وكثيره، وقد نقلت النصوص من القرآن والسنة على تحريم يسير الربا، وهو محل إجماع وسيأتي نقل ما تبقى من النصوص في معرض الاستدلال. وبالتالي لا يصح الاحتجاج بقول المالكية في الأخذ بالثلث فرقا بين القليل والكثير؛ لأنهم لا يقولون بهذا؛ لأن القليل ما دام قد نص على تحريمه لم يكن هناك مجال للتفريق بين القليل والكثير، بل إن المالكية قد نصوا على أن يسير الربا حرام. جاء في التاج والإكليل: "بالنسبة للربا لا يجوز منه قليل ولا كثير، لا لتبعية ولا لغير تبعية" (¬1). وقال ابن عبد البر: "الربا لا يجوز قليله، ولا كثيره، وليس كالغرر الذي يجوز قليله، ولا يجوز كثيره" (¬2). وإذا لم يقل به المالكية لم يقل به أيضاً أحد من الأئمة الأربعة. ¬
الشرط الثاني
والخلاصة: أن قول الهيئات الشرعية بالثلث في باب الربا فرقًا بين القليل والكثير هو قول لم يكن لهم فيه سلف، ولا يسوغ الاجتهاد فيه، بإحداث قول جديد. الشرط الثاني: أن المالكية جعلوا الثلث فرقا بين القليل والكثير في مسائل معدودة، ولم يعمموه في كل أبواب الفقه، جاء في الذخيرة: "الثلث في حد القلة في ست مسائل: الوصية، وهبة المرأة ذات الزوج إذا لم ترد الضرر، واستثناء ثلث الصبرة إذا بيعت، وكذلك ثلث الثمار والكباش، والسيف إذا كان حليته الثلث يجوز بيعه بجنس الحلية" (¬1). ويستدل المالكية بحديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. (ح -862) فقد روى البخاري من طريق عامر بن سعد عن سعد، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعودني، وأنا مريض بمكة، فقلت: لي مال، أوصي بمالي كله؟ قال: لا. قلت: فالشطر؟ قال: لا. قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ... الحديث، والحديث رواه مسلم (¬2). هذا هو قول المالكية، وهذا هو دليلهم، فإن كانت هذه الهيئات أخذت هذا التحديد من قول المالكية فلا أراه متوافقا مع مذهب الإِمام مالك، وإن كان هذا القول قد قالوه ابتداء من عندهم فلا أرى أنه يسوغ لهم إحداثه. ¬
وعلى التنزل أن يكون هذا القول متسقًا مع قول المالكية فإنه لا بد من النظر في دليله، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لو قال: الثلث والثلث كثير في أمور محرمة، لأمكن الأخذ بعموم اللفظ، أما والحديث وارد في باب الوصية، وهو عمل مشروع، فسحب هذا الحكم على كل شيء في أبواب الفقه، في العبادات والمعاوضات، بل حتى في المحرمات، فيجعل ما نقص عن الثلث يسيرًا في كل شيء فيه تكلف لا يخفى، وفيه قياس أمور على أخرى دون أن يكون هناك علة جامعة، فلا أعرف مسوغًا شرعيًا أن يقاس الربا الذي حرمه الشارع بنصوص قطعية، حتى جعله من الموبقات، وقرنه بالشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله، والزنا، أن يقاس مثل هذا على الوصية التي ندب إليها الشارع وأقرها وقدمها على الميراث في توزيع التركات. فكيف يقاس الخبيث على الطيب، ما لكم كيف تحكمون؟ هذا ما يمكن أن يقال في جعل الثلث فرقًا بين القليل والكثير في باب الاقتراض من الربا. أما التحديد بـ 5 % من الإيراد المحرم حدًا لليسير، فيقال في الجواب عليه: أولاً: جميع المقادير في الشريعة يحتاج الأمر فيها إلى توقيف، وذلك مثل تقدير خيار التصرية بثلاثة أيام حيث جاء فيه الحديث، وتقدير المسح للمقيم يوما وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام، فأين التوقيف في تقدير مثل ذلك، خاصة أن ذلك يقلب الحرام إلى حلال، والحضر إلى إباحة. ثانيًا: إن كان المرجع في تقدير مثل ذلك إلى العرف، فإن هذا العمل لم يكن موفقًا؛ لأنه لا يمكن الأخذ بالعرف فيما ورد فيه نص شرعي؛ لأن ذلك يؤدي حتمًا إلى تعطيل النص الشرعي.
الضابط أو الشرط الثاني
قال السرخسي: "كل عرف ورد الشرع بخلافه فهو غير معتبر" (¬1). ولأن الأمور العرفية تتغير بتغير العرف بخلاف النص الشرعي فإن حكمه ثابت لا يتغير. فالأخذ بالعرف إنما يكون مقبولاً في يسير لم يرد النص في تحريمه كيسير الغرر، ويسير النجاسة، أما إذا ورد نص في تحريم اليسير كما هو الشأن في يسير الربا لم يكن هناك مجال للفقيه للتفريق بين القليل والكثير استنادًا إلى العرف. الضابط أو الشرط الثاني: نصهم على ألا يجوز الاشتراك في تأسيس الشركات التي ينص نظامها على تحامل محرم في أنشطتها، أو أغراضها. وجه اعتبار هذا الشرط: أنه إذا نص على ذلك في نظام الشركة لم يكن بإمكان أحد من المساهمين الاعتراض على ذلك، بخلاف الأمر في حالة عدم النص، أو لأن الدخول في الشركة مع كون المحرمات منصوصا عليها في نظامها الأساسي يجعل المساهم بمنزلة الراضي بذلك. مناقشة هذا الشرط: أولاً: إذا كان الأمر معلقا على قدرة المساهم على الاعتراض على نظام الشركة لم يكن الدخول في المساهمة معلقا على تحديد نسبة المحرم بل يكون الحكم معلقا على القدرة على الاعتراض على نظام الشركة، وتغييره، سواء كان ¬
الحرام قليلاً أم كثيراً، فليعلق الحكم به، ويقال بالجواز بالنسبة لمن يقدر على تغيير هذا المنكر، والمنع لمن لا يقدر، كما قال به بعض أهل العلم، ولو علق به الحكم لكان معناه عدم جواز المساهمة في الشركات المختلطة إلا لقلة من أصحاب رؤوس الأموال التي يستطيعون بها تملك كميات كبيرة من الأسهم، بحيث يكون لهم ثقل في الشركة يقدرون معه على التغيير، وبشرط أن يسعوا إلى التغيير فعلاً، لا أن يتخذوا ذلك ذريعة للمساهمة مع عدم سعيهم، أو نيتهم في التغيير (¬1). ثانيًا: إذا كانت المساهمة تَحْرم في الشركات المختلطة إذا كان نظامها التأسيسي ينص على تعامل محرم في أنشطتها، فينبغي أن تحرم المساهمة إذا كانت الشركة تمارس المحرم فعلًا؛ لأن كتابة النظام إنما هو وسيلة إلى فعل الحرام، وليس هو ارتكابًا للحرام، فما بالك بارتكاب الحرام ذاته، أتكون الوسيلة أولى بالتحريم من الممارسة الفعلية!؟ ثالثًا: كتابة الممارسات المحرمة في نظام الشركة ليس لها تلك الأهمية خاصة إذا علمنا أن الجمعية العامة غير العادية لها الحق في تعديل نظام الشركة سلبًا أو إيجابًا، فيجب أن يعلق الأمر على الممارسة، وليس على مجرد نص في نظام شركة قابل للتغيير. رابعًا: إن كان سبب التحريم أنه إذا دخل في شركة ينص نظامها التأسيسي على فعل الحرام فإن ذلك يعتبر رضا منه بهذا الفعل، فإن الحكم لن يختلف إذا أقدم واشترى أسهم شركة، وهو يعلم أنها تمارس الحرام لكن لم ينص نظامها على ذلك. بل إن المحاسبة ستكون أوجب على المساهم مما لو دخل، وقد ¬
نص على ذلك في النظام التأسيسي؛ لأن هذا سيكون من باب تعدي مجلس الإدارة، ومخالفة نظام الشركة، ومعلوم أن آحاد المساهمين، ولو كان من صغارهم يعطيه الحق في التفتيش على الشركة إذا تبين من تصرفات مجلس الإدارة أو مراقب الحسابات الداخلي ما يدعو إلى الريبة، كما يعطيه حق رفع دعوى مسئولية على أعضاء مجلس الإدارة إذا تعدوا في مسئولياتهم، وأي تعد أعظم من أن يحول مجلس الإدارة الشركة إلى مؤسسة تعلن الحرب على الله وعلى رسوله دون أن يكون هناك نص في نظامها التأسيسي، فإن استطاع المساهم المحاسبة والتغيير، وإلا وجب عليه الخروج منها. قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68]. وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)} [النساء: 140]. خامسًا: لا يمكن فك الارتباط بين المكتتبين، وبين نظام الشركة، فإن الذي يتولى التصديق على نظام الشركة: هي الجمعية التأسيسية، ولا يمكن صدور قرار الوزير بإعلان تأسيس الشركة إلا بعد اجتماع الجمعية التأسيسية، والتي يدعو فيها المؤسسون جميع المكتتبين إلى الاجتماع لاستكمال إجراءات التأسيس، ومن ذلك التصديق على نظام الشركة، فكيف يفصل نظام الشركة وهو معلق بموافقة المكتتبين، أو أغلبهم عن الاكتتاب. هذه هي شروط وضوابط القول بالجواز، وأما أدلتهم على الجواز فهي كالتالي:
الدليل الأول
الدليل الأول: من أدلة هذا القول ما يرجع إلى الخلاف في توصيف شركة المساهمة، وقد سبق تحرير الخلاف فيها بشيء من التفصيل، وأنا مضطر إلى إعادته لأهمية هذه المسألة. فالقائلون بجواز المساهمة في الشركات المختلطة يرون فيما يتعلق في تكييف الشركة الآتي: الشركة بشخصيتها الاعتبارية مستقلة عن المساهمين، وتصرفاتها المحرمة لا تعد تصرفًا للمساهمين، فالشخصية الاعتبارية للشركة قد جعلتها تملك، وتتصرف كالأفراد الطبيعيين، وتجب لها الحقوق، وتلزمها الواجبات، فالشركة لها شخصيتها الاعتبارية، وذمتها المالية، وهي بهذا تستقل تمامًا عن شخصيات وذمم الشركاء المكونين لها، والسهم بهذا الشكل جزء من الشخصية الاعتبارية للشركة، ويرغب الناس في بيعه وشرائه بقصد الاسترباح، وليس وعاء لما يمثله من موجودات الشركة. والدليل على ذلك هو الاعتبار القانوني للشركة. والحصص المقدمة للمساهمة في الشركة تنتقل على سبيل التمليك إلى ملكية الشركة، ويفقد الشركاء المستثمرون كل حق عيني عليها. والدليل على أن الأصول مملوكة للشركة، وليس لحملة الأسهم أن المساهم لا يملك التصرف في أعيان الشركة، أو منافع أعيانها, لا بالبيع، ولا بالرهن، ولا بالانتفاع، ولا بغيرها، وأن القوانين تنص على أن أموال الشركة المساهمة ليست ملكًا لحملة أسهمها. والشخصية الاعتبارية لها أصل في الفقه الإِسلامي كالدولة، وبيت المال،
ونوقش هذا
وملكية الوقف فهذه الجهات ليست عبارة عن أصول وموجودات، وإن كان الوقف وبيت المال يملكان أصولاً، وديونًا، ومنافع. هذا هو توصيف الشركة بالنسبة إليهم، ويبنون بناء على هذا التوصيف جملة من الأحكام منها: تصرف مجلس الإدارة في أموال الشركة ليس مبنيًا على الوكالة، حتى يكون المساهمون مسئولين عن هذا التصرف. لا تتعدى تبعة الربا مجلس الإدارة؛ لأنهم هم المباشرون للعقود الربوية، وأما المساهم المستثمر فغير مباشر، فلا يكون مؤاخذا، ومع هذا فإنه لا يحل له أخذ الربح الناتج عن الربا، أو العنصر المحرم، بل يجب عليه أن يتحرى مقدار ما دخل على عائدات أسهمه من الإيرادات المحرمة، فيتخلص منها. ونوقش هذا: سبق لنا في فصل مستقل مناقشة القول بالشخصية الاعتبارية بما يكفي، ونبهت بأن القول بالشخصية الاعتبارية "لم تتوفر حتى الآن على هذا المفهوم المستحدث بأبعاده القانونية ندوات، أو مؤتمرات فقهية بغرض دراسته، واتخاذ الموقف الإِسلامي المناسب تجاهه، وإن لم يخل الموضوع من دراسة منفردة هنا، أو هناك في محاولة لاستكشاف جوانبه، والحكم له أو عليه" (¬1). فهناك من ينكر إثبات هذه الشخصية الاعتباربة للشركة مطلقا، ويرى أن قيام شركة المساهمة لا يتوقف على اعتبار الشركة ذات شخصية اعتبارية، بل يمكن ¬
أن تقوم شركة المساهمة بكل ما هو مقرر لها من أحكام، وخاصة فيما يتعلق بتداول الأسهم، دون أن توصف بالشخصية الاعتبارية، وإذا لم يكن هذا التكييف ضروريًّا لم يكن لازمًا. وهناك فريق آخر يذهب إلى القول بوجود هذه الشخصية الاعتبارية للشركة، بالقدر الذي يساعد على تسهيل معاملات الشركة، ويعترف لها بحق التقاضي لكنه يرفض بعض هذه الآثار القانونية المترتبة عنها، ويرى أنها مصادمة لروح الفقه الإِسلامي وعدالته، فالآثار التي رتبت على القول بالشخصية الاعتبارية ليست مبنية على لوازم فقهية، وإنما مبنية على أحكام قانونية، وهي لا تلزم الفقيه. وبناء عليه فيمكن القول بالشخصية الاعتبارية للشركة، ولا يعني هذا الأخذ بتلك اللوازم القانونية، فلا نجعل ذمة الشركة مستقلة عن ذمة الشركاء من كل وجه، بل نأخذ به بالقدر الذي يساعد على تنظيم أعمال الشركة، والقيام بنشاطها دون تدخل مباشر من المساهمين؛ لأن وجود الشخصية الاعتبارية ليس أمراً جوهريًّا تتغير به الحقيقة المقررة، وهي ملكية المساهمين للشركة، وموجوداتها. ولو سلمنا بأن وصف القانون التجاري حجة، وهذا نقوله من باب المناظرة، فإن كتب القانون ليست متفقة على ذلك، فقد ذكر الدكتور عبد العزيز خياط في كتابه الشركات في الشريعة الإِسلامية والقانون الوضعي: ثلاثة مذاهب لهم فيها، فإنهم من ينفيها, ولا يعتبر الشركة إلا بأشخاص مساهميها، ومنهم من يعتبرها مجازًا قانونيًا، ومنهم من يعتبرها حقيقة قانونية، فإذا كان القول الفقهي إذا لم يتفق عليه، لا يعتبر حجة بمجرده، فما بالك بآراء أهل القانون الوضعي. وشركة المساهمة لا تختلف عن طبيعة شركة العقود، حتى ولو لم تلحق بأي نوع من أنواع الشركات المعروفة لدى الفقهاء، ذلك أن جوهرها: هو اتفاق عدد
كبير من الشركاء على أن يدفع كل واحد منهما مالًا لمن يتصرف فيه، سواء كان من الشركاء أنفسهم، أو من غيرهم بقصد الحصول على الربح، وهذا هو مضمون شركات العقود، أما اختلاف الطريقة التي يحصل بها الاشتراك، ويجمع بها المال، أو الطريقة التي تدار بها أموال الشركة، فهذه أمور تنظيمية لا تتعارض مع طبيعة شركة العقد. وإذا كان الشأن كذلك فكل ما يقال عن أحكام للشركات المساهمة تخالف فيه أحكام الشركات في الفقه الإِسلامي فهو من قبيل الدعوى التي تفتقر فيه إلى برهان من كتاب، أو سنة، أو إجماع. وإذا تقرر بأن اعتبار الشخصية الاعتبارية للشركة لا يعني الأخذ بتلك اللوازم القانونية لم يلزم من القول بإثبات الشخصية الاعتبارية للشركة في جواز المساهمة في الأسهم المختلطة، وذلك لأمور منها: أولاً: أن تصرفات مجلس الإدارة في أموال الشركة: إما أن يكون التصرف منهم لمصلحتهم، أو لمصلحة المساهمين، أو لمصلحتهما معا, ولا يوجد قسمة غير هذه. فإن كانت تصرفاتهم في أموال الشركة لمصلحتهم، فما أخذوه من المساهمين بمنزلة القرض، ويجب عليهم أن يردوا مثله، فإن ردوا أكثر منه كان ذلك من الربا المحرم؛ لأنه من قبيل القرض الذي جر نفعًا. وإن كان تصرفهم لمصلحة المساهمين، أو لمصلحتهما معا، فإن تصرفهم في أموال المساهمين من قبيل الوكالة، وقول غير هذا قول لا برهان عليه، ولا دليل عليه لا من الواقع، ولا من الشرع، وإذا كان تصرفهم من قبيل الوكالة كانت التصرفات المحرمة من مجلس الإدارة منسوبة إلى جميع المساهمين.
ثانيًا: إذا كانت حصتي في الشركة هي حصة ملك، وليست حصة اشتراك، فإذا تصرف أحد في حصتي فإما أن يتصرف بدون تفويض مني، فيعتبر تصرفه باطلاً؛ لأنه تصرف فيما لا يملك، أو يتصرف بتفويض، فيكون نائبًا عني، وهذا هو التوكيل، فكل تصرفاته المحرمة أنا مسئول عنها؛ لأنه نائب عني. ثالثًا: أن الذي عين مجلس الإدارة، وفوض إليه التصرف، هو المسئول عن تصرفاتها، فمجلس الإدارة إما أن يكون قد عينه الأعضاء المؤسسون، وأقرته الجمعية التأسيسية للشركة ممثلة بالمكتتبين كلهم، أو غالبهم، أو عينته ابتداء الجمعية التأسيسية. فكيف يقال: إن تصرفات مجلس الإدارة لا يعتبر تصرفا للمساهمين، وأنهم يمثلون أنفسهم، ولا يمثلون من عينهم، وأن الإثم عليهم وحدهم دون من كلفهم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المكتتب مسئول عن نظام الشركة أيضًا لأنه لا بد أن يصدق عليه في الجمعية التأسيسية. والتي يدعو فيها المؤسسون جميع المكتتبين إلى الاجتماع لاستكمال إجراءات التأسيس، ومن ذلك التصديق على نظام الشركة. وكل هذه الإجراءات قبل أن تكتسب الشركة ما يسمى بالشخصية الاعتبارية؛ لأن هذه الإجراءات تسبق صدور القرار من وزير التجارة بإعلان تأسيس الشركة، ولا يمكن أن تكتسب الشركة شخصيتها القانونية والمعنوية إلا بعد صدور قرار وزير التجارة بإعلان التأسيس. فتبين بهذا مسئولية المكتتب في الشركة من ناحيتين: مسئوليته عن تصرف مجلس الإدارة؛ لأن المجلس نائب عنه. مسئوليته في إقرار نظام الشركة.
الدليل الثاني
فإن كان المساهم يملك أسهمًا كثيرة تمكنه من تغيير كل نظام يخالف الشرع فهذا هو المطلوب، وإلا كان المطلوب منه ألا يمنح التفويض لمجلس الإدارة ابتداء، وذلك بعدم الدخول في الشركة، والمساهمة فيها. رابعًا: من المعلوم أن هذه الأموال هي ملك للمساهمين قبل أن يكتتبوا في أسهم الشركة، وهي باقية على ملكهم بعد الاكتتاب، إذ لم يوجد ما يخرجها عن ملكهم. خامسًا: إذا جاز لكم أن تقولوا: إن السهم لا يمثل حصة شائعة في موجودات الشركة بناء على أن قيمته لا تعبر عن قيمة تلك الموجودات، جاز لنا أن نقول: إن السهم أيضًا لا يمثل حصة في الشخص الاعتباري الذي هو الشركة، بناء على أن قيمته لا ترتبط بالشركة نفسها، بل بالعرض والطلب، فما جاز لكم أن تجيبوا به جاز لنا أن نجيب بمثله سادسًا: كون المساهمين لا يتصرفون في تلك الأموال طيلة مدة الشركة لا يعني أنها قد خرجت عن ملكهم، بل مرد ذلك إلى العرف الذي هو كالشرط، والمسلمون على شروطهم، وله نظير في الشرع، وهو المال المرتهن حيث يبقى على ملك الراهن، ولا يخرج عن ملكه، وليس له أن يتصرف فيه بالبيع مدة الرهن على القول الصحيح، هو قول جماهير أهل العلم، فامتناع التصرف من أجل حق الغير لا يمنع ثبوت الملك لأصحابها. والله أعلم. الدليل الثاني: من أدلة هذا القول ما يرجع إلى الخلاف في تكييف السهم، وهذه المسألة سبق بحثها في فصل مستقل، وهي مرتبطة ارتباطًا وثيقا في مسألة: تكييف شركة المساهمة، ومتفرعة عنها، والأقوال فيها ثلاثة، ولا أريد أن أعيد البحث السابق، ولكن أريد أن أشير إليه إشارة لما لا بد منه في هذا البحث.
ونوقش هذا
فالقائلون بجواز المساهمة في الشركات المختلطة يرون أن السهم سلعة قائمة بذاتها، فهو صك مالي قابل للتداول، وتداوله منفصل عن نشاط الشركة، فلا ترتبط قيمة السهم بنشاط الشركة، بل بالعرض والطلب، كما أن ارتفاع قيمة الأسهم، أو انخفاضها لا يؤثر بشكلٍ مباشرٍ إيجابًا أو سلبًا على نشاط الشركة؛ لأن ما يدفعه المساهم لشراء الأسهم بعد طرحها للتداول لا تأخذ منه الشركة ريالًا واحداً، ولا يدعم به نشاط الشركة، بل يذهب جميعه للمساهم البائع، وكذلك المساهم البائع لا يأخذ ثمن أسهمه من الشركة بل من المساهم المشتري. والمشتري للسهم حين يشتري السهم ليس مقصوده ما يمثله السهم من موجودات الشركة، وإنما يقصد القيمة السوقية للسهم بدليل أن السهم تكون قيمته أضعاف ما يمثله من موجودات الشركة، ورغم ذلك فإن مشتري السهم يرضى به؛ لأنه يعلم أن المؤثر الحقيقي في قيمة السهم: هو حجم العرض والطلب، لا ما يمثله السهم من موجودات الشركة، ولذا تجد كثيراً من المضاربين ينظر عند الشراء إلى حجم العرض والطلب، لا إلى موجودات الشركة. وإذا كان تداول السهم منفصلًا عن نشاط الشركة، لم يحرم تداول السهم في الشركات المختلطة. ونوقش هذا: الصحيح أن السهم حصة شائعة في ممتلكات الشركة، من أثمان، وأعيان، وديون، ومنافع، ولا يمكن فصل السهم عن أرباح الشركة لما يلي: أولاً: فصل السهم عن نشاط الشركة قول لا يدرك قائله مدى خطورته؛ لأنه
يؤدي إلى جواز المساهمة في البنوك الربوية، وشركات القمار والخمور، وسائر الشركات المحرمة؛ لأن السهم سلعة بذاته مفصول عن موجودات الشركة، وما تمثله، وهذا لم يقل به أحد. ثانيًا: القول بأن تداول السهم منفصل عن نشاط الشركة، وما يدفعه المساهم لشراء الأسهم بعد طرحها للتداول لا تأخذ منه الشركة ريالًا واحداً، ولا يدعم به نشاط الشركة، بل يذهب جميعه للمساهم البائع، قد يصدق هذا التوصيف على من يتملك الأسهم بقصد الاتجار بها (المضاربة)، ولكنه لا يصدق أبدًا على من ساهم بماله في الاكتتاب بالشركة بقصد الاستثمار، وذهب ماله مباشرة إلى خزينة الشركة، مع أن هذا العمل هو الأصل في تكوين السهم، ومبدأ نشأته، وبيان حقيقتة، وقيام الحقوق المترتبة على تملكه، فإذا جاء المتاجر بالأسهم (المضارب) فاشترى من المستثمر أسهمه فقد حل محله في الشركة، وأخذ موقعه، واستحق على الشركة ما يستحقه المستثمر الأول، فكان شريكًا ضرورة، فثبت أن المساهم ولو كان مضاربًا فإنه بملكيته للسهم أصبح شريكًا. ثالثًا: لا يصح أن يقال: إن المساهم يبيع الوثيقة؛ لأن الوثيقة لا قيمة لها إذا جردناها عما تدل عليه، ولا تشتمل الوثيقة على أي منفعة ذاتية، بحيث يقال: إنه يجوز بيعها وشراؤها لمنفعتها كالسلع، وإنما قيمة الوثيقة تتمثل فيما تمثله من حقوق الاشتراك في الشركة، ومن كونها حصة شائعة في رأس مال الشركة وفي موجوداتها، فالراجح أنه لا يمكن فصل السهم عن ممتلكات الشركة، ويستحسن أن يرجع القارئ إلى مسألة تكييف السهم، فقد بحثتها بشيء من التفصيل في مبحث مستقل. إذا عرفنا: أن شركة المساهمة شركة قائمة على الوكالة على الصحيح، وأن السهم حصة شائعة في ممتلكات الشركة، علمنا أن المساهم مسئول عن ممارسة
الدليل الثالث
مجلس الإدارة، وأنه لا يجوز المساهمة في الشركات المختلطة إلا لقادر على تغيير نظام الشركة، وإذا كنا نتفق نحن وإياهم على أنه لا يجوز لأعضاء مجلس الإدارة التعامل بالربا مطلقًا، يسيرًا كان أو كثيراً، فإنه لا يجوز أيضًا للمساهمين، ولا فرق، ومن ادعى فرقًا فعليه أن يثبت ذلك بالحجة الواضحة، وليس بأقوال أهل القانون. الدليل الثالث: استدلوا بقاعدة: (يجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالًا). وجه الاستدلال بهذه القاعدة: لما كان بيع السهم واقعًا على موجوداته المباحة صح فيها، وإن كان فيها نسبة من الحرام؛ لأن الحرام فيها جاء تبعًا, وليس أصلاً مقصودًا بالتصرف والتملك. وأجيب: بأن استعمال هذه القاعدة في هذا الباب استعمال في غير موضعه، وذلك أن هذه القاعدة وردت في مسائل منصوص على حرمتها استقلالاً، وجوزها الشارع تبعًا، بخلاف الربا فإنه حتى لو حكم عليه أنه تبع، فإنه محرم بالاتفاق، ولهذا أوجبتم على المساهم التخلص من نسبة الربا، فيكف يقال: يجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالاً، نعم يصح الاستدلال لو كنتم ترون إباحة الربا اليسير، وأن المساهم لا يجب عليه التخلص منه؛ لأنه تابع، لو قيل ذلك لقيل استعمال القاعدة في موضعه. يتضح ذلك من خلال الأمثلة: بيع حمل الدابة استقلالًا محرم إجماعًا، وبيع الدابة مع حملها يجوز تبعًا،
الدليل الرابع
فتحول بيع الحمل من كون بيعه حرامًا على وجه الاستقلال إلى مباح، لكونه تابعًا. أما الشركات المختلطة فلا أحد من العلماء قال: إن الربا الموجود فيها إذا كان يسيرًا فإنه حلال؛ لأنه تابع، فهو محرم مطلقًا، سواء كان تبعًا، أم أصلاً مقصودًا أم غير مقصود، فلا يصح أن يقال: إن هذه القاعدة دليل على مسألتنا مع أن الربا في هذه الشركات ليس تابعًا؛ لأن عقوده مستقلة عن عقود إقامة الشركة، وإذا كان عقد الربا عقدًا قائمًا بذاته لم يصح أن يقال: إنه تابع. الدليل الرابع: استدلوا بالقاعدة التي تقول: (اليسير التابع مغتفر). ويناقش: هذه القاعدة صحيحة، ولكن استعمالها في موضع الشركات المختلطة استعمال في غير محله، وذلك أنه ليس كل يسير مغتفرًا، بل يشترط، ألا يكون اليسير قد نص على تحريمه، ولذلك يحرم يسير الخمر وإن لم يسكر؛ لنص الشارع بأن ما أسكر كثيره فقليله حرام، ومثله يسير البول ينقض الوضوء ككثيره، فإذا كان اليسير قد نص على تحريمه فكيف يكون مغتفرًا ومثله يسير الربا قد نص على تحريمه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن معنى كون اليسير مغتفرًا أن يكون حلالاً، وأنتم لا تقولون: إن يسير الربا حلال. الدليل الخامس: الاستدلال بالقاعدة التي تقول: اختلاط جزء محرم بالكثير المباح لا يجعله حرامًا.
ويناقش من وجوه
قال السمرقندي من الحنفية: "ولو أن رجلاً أهدى إليه إنسان يكتسب من ربا، أو رجل ظالم يأخذ أموال الناس، أو أضافه، فإن كان غالب ماله من حرام، فلا ينبغي له أن يقبل، ولا يأكل من طعامه، ما لم يخبره أن ذلك المال أصله حلال ورثه أو استقرضه أو نحو ذلك، فإذا كان غالب ماله حلالًا فلا بأس بأن يقبل هديته، ويأكل منه، ما لم يتبين عنده أنه من حرام" (¬1). إذا علم ذلك فإن المساهمة في الشركات المختلطة بالحرام لا تكون حرامًا إلا أن يكون الحرام فيها هو الغالب. ويناقش من وجوه: الوجه الأول: أن هذا المسألة ليست في محل النزاع، فيجب أن يفرق بين التعامل مع المرابي في معاملة مباحة، كما لو اشتريت منه سيارة، وبين مشاركته في الربا. فمعاملة من اختلط في ماله الحلال والحرام تعني الشراء منه، وكذلك الاستئجار، والاقتراض الحسن منه، والأكل عنده، وقبول هديته، ونحو ذلك، فهذا كله جائز ما لم يعلم أن الشيء المقدم في المعاملة حرام بعينه، بل وتجوز مشاركته في معاملة مباحة خالصة، لكن لا يجوز الاشتراك معه في أعمال الربا. ولسنا نحرم المساهمة في الشركات المختلطة؛ لأن ذلك من باب الإعانة على الإثم كما يصوره الأستاذ إبراهيم السكران، ولذلك أطال في الجواب عنه، وهو ليس في موضع النزاع، بل لأن المساهمة في تلك الشركات مشاركة في الفعل المحرم، فالمساهم كشريك في هذه الشركة يعتبر مرابيًا, وليس من باب ¬
الوجه الثاني
التعامل مع المرابي في معاملة مباحة قد يستعين بها المرابي بعد تملكها التملك الشرعي في فعل محرم. الوجه الثاني: أن هناك فرقًا بين رجل اختلط ماله الحلال بالحرام، وبين أن يقوم الرجل نفسه يخلط المال الحلال بمال حرام، فالمساهم في الشركات المختلطة يساهم، وهو يعلم أن الشركة تتعاطى بالربا شأنه في ذلك شأن من يقوم بخلط المال الحرام بالمال الحلال بفعله المقصود، وخلط المال الحرام بالمال الحلال محرم، فالغاصب والمرابي يحرم عليهما أن يخلطا ما كسباه من مال حرام بالمال الحلال، وهذا لا ينازع فيه أحد، فالمساهم الذي يساهم في الشركات المختلطة حكمه حكم من يخلط المال الحرام بالمال الحلال، وليس حكمه حكم من اختلط ماله الحلال بمال حرام من غير قصد حتى يكون التخلص من المال الحرام مخلصا له، فالربا فعله حرام, وثمرته حرام أيضاً، وهب أنك أخرجت ثمرته الخبيثة، فإن فعل الموبقات، والإقدام عليها، وتكرار الفعل، وقبول تلك العقود كلها من أكبر الكبائر، ولا يخرج منها المرء إلا بالتوبة النصوح، لا بالبقاء في الشركة، وتكرار الأفعال المحرمة. الدليل السادس: الأخذ بقاعدة (الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة). وهي قاعدة شرعية لها أمثلة كثيرة، منها جواز بيع العرايا للحاجة العامة مع أن العرايا بيع مال ربوي بجنسه من غير تحقيق التماثل. قال ابن تيمية: "يجوز للحاجة ما لا يجوز بدونها، كما جاز بيع العرايا بالتمر" (¬1). ¬
وجه الاستدلال بهذه القاعدة
وجه الاستدلال بهذه القاعدة: أن الشركات المساهمة في عصرنا تشكل عنصرا اقتصاديا مهما في حياتنا المعاصرة، فلا غنى لكل أمة ولكل دولة عن قيام هذه الشركات، لما تحتاجه تلك الأمم، وتلك الدول من مشاريع، فهي اليوم تشكل حاجة ملحة في حياة الأمم والدول، ولا مناص لأي دولة تريد الاستفادة من منجزات العلم، والصناعة، والثقافة، وهذا ضرب من عمارة الأرض التي أمر الله بها عباده. وإذا كان هذا شأنها فإن حاجة الناس تقتضي الإسهام في هذه الشركات الاستثمارية لاستثمار مدخراتهم، كما أن حاجة الدولة تقتضي توجيه الثروة الشعبية إلى استخدامها فيما يعود على البلاد والعباد بالرفاهية والرخاء. ونظرًا إلى أن الحاجة العامة سواء كانت للمجتمع، أو للدولة تنزل منزلة الضرورة للأفراد، فإن حاجة المجتمع إلى تداول أسهم هذه الشركات بيعا، وشراء، وتملكا حاجة ملحة ظاهرة، لا ينكرها ذو نظر عادل وبعيد، كما أن حاجة الدولة إلى توجيه الثروات الشعبية للإسهام في توفير الخدمات العامة لأفرادها حاجة تفرضها عليها مسئولياتها. ولو قلنا بمنع بيع وشراء أسهم هذه الشركات لأدى ذلك إلى إيقاع الناس في حرج، وضيق عندما يجدون أنفسهم عاجزين عن استثمار ما بأيديهم من مدخرات، وقد يندفع كثير منهم تبعا لذلك إلى الإيداع في البنوك الربوية، كما أن الدولة قد تقع نتيجة لذلك في حرج شديد يضطرها إلى سد الحاجة فيما كانت تقوم به هذه الشركات بالتقدم للبنوك الربوية لتمويل مشروعاتها العامة (¬1). لذلك كله نستطيع القول بجواز تداول أسهم هذه الشركات. ¬
ونوقش هذا من وجوه
ونوقش هذا من وجوه: الوجه الأول: قاعدة (الحاجة تنزل منزلة الضرورة) لا تصلح دليلاً لهذا القول؛ لأن هذه القاعدة إنما يصح الاستدلال بها لو كانوا يرون جواز تعاطي مجلس الإدارة للربا من أجل الحاجة، وهم لا يقولون بذلك، بل يحرمون على مجلس الإدارة التعاطي بالربا، فلم يصح الاستدلال. الوجه الثاني: أن المقصود بالحاجة هنا هي الضرورة, والفقهاء يعبرون بالحاجة تارة ويقصدون بها الضرورة. وذلك أن مجرد الحاجة لا تبيح المحرم، خاصة إذا كان محرمًا لذاته كربا النسيئة، وإنما الضرورة هي التي تبيح المحرم. قال الشافعي رحمه الله: "وليس يحل بالحاجة محرم إلا في الضرورات" (¬1). الوجه الثالث: على فرض أن تكون الحاجة على وجهها، فإن المقصود بالحاجة، هي الحاجة العامة، وليس المشاركة في المساهمات من الحاجات العامة. جاء في الموسوعة الكويتية، ومعنى كون الحاجة عامة: أن الناس جميعا يحتاجون إليها فيما يمس مصالحهم العامة، من تجارة، وزراعة، وصناعة، وسياسة عادلة، وحكم صالح. ¬
الوجه الرابع
ومعنى كون الحاجة خاصة: أن يحتاج إليها فرد أو أفراد محصورون أو طائفة خاصة كأرباب حرفة معينة. والمراد بتنزيلها منزلة الضرورة: أنها تؤثر في الأحكام فتبيح المحظور وتجيز ترك الواجب وغير ذلك مما يستثنى من القواعد الأصلية" (¬1). الوجه الرابع: أن الذي ورد أن الحاجة تبيحه هو ربا الفضل، كالعرايا مثلاً، أما مسألة المساهمة في الشركات المختلطة فهو في ربا النسيئة، وهناك فرق بينهما من حيث: إن ربا النسيئة مجمع على تحريمه، لا خلاف فيه بين الفقهاء ولم يستثن منه شيء، وأما ربا الفضل ففيه خلاف في تحريمه، واستثني منه العرايا. ولا يقاس ما أجمع على تحريمه على ما اختلف فيه. يقول الشيخ أحمد الزرقاء "والظاهر أن ما يجوز للحاجة إنما يجوز فيما ورد فيه نص يجوزه، أو تعامل، أو لم يرد فيه شيء منهما؛ ولكن لم يرد فيه نص يمنعه بخصوصه ... وأما ما ورد فيه نص يمنعه بخصوصه فعدم الجواز فيه واضح، ولو ظنت فيه مصلحة؛ لأنها حينئذ وهم" (¬2). الوجه الخامس: أن العرايا قد نص على أنه لا يقاس عليها، وأنه لم يرخص في غيرها، فتعميم الرخصة مخالف للنص الشرعي. ¬
الوجه السادس
(ح -863) فقد روى البخاري ومسلم من طريق سالم بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص بعد ذلك - أي بعد نهيه عن بيع الرطب بالتمر - في بيع العرية بالرطب، أو بالتمر، ولم يرخص في غيره (¬1). فقوله: (ولم يرخص في غيره) دليل على قصر الرخصة على العرايا خاصة، ومما يدل على قصر الرخصة في العرايا نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة، والمزابنة. مع العلم أن الشارع لم يأذن بالفاضل المتيقن في العرايا، فلم يبح يقين الربا في العرايا، وإنما سوغ الشارع المساواة بالخرص من أهل الخبرة بالخرص في مقدار قليل تدعو إليه الحاجة، وهو قدر النصاب خمسة أوسق فما دون، والخرص معيار شرعي للتقدير إذا تعذر الكيل في أمور كثيرة منها الزكاة، بينما أنتم تبيحون الوقوع في يقين الربا في الشركات المختلطة، وليس احتمال الوقوع في الربا، وفي ربا النسيئة المجمع على تحريمه، وليس في ربا الفضل، فشتان بين المسألتين. الوجه السادس: أنها لم تتعين طريقًا للكسب، إذ يوجد طرق أخرى من الكسب المشروع الحلال تغني عنها، كالمساهمات العقارية، والبيع والشراء. الوجه السابع: أن من شروط استباحة المحظور أن يقطع بارتفاع الضرر به، ولذلك لا يباح التداوي بالحرام؛ لأن الدواء ليس طريقًا مؤكدًا للشفاء، فقد يتعاطى الدواء ولا يشفى، وكذلك المساهمة في الشركات المختلطة، فقد نرتكب مفسدة الربا ¬
الوجه الثامن
بالمساهمة ونخسر فتزداد الحاجة، وإذا لم نخسر فقد لا نربح، فلا تندفع الحاجة، ونكون حينئذ قد ارتكبنا مفسدة الربا دون مصلحة تذكر. الوجه الثامن: إذا أبيحت الشركات المساهمة المختلطة لقيام الحاجة، فهل هي حاجة للأفراد، أو حاجة للأمة، أو حاجة للشركة، ولا يوجد قسم رابع: فإن قيل: هي حاجة للأفراد، فالجواب: أنها لا تكون كذلك إلا إذا لم يوجد طرق أخرى للكسب المشروع يغني عنها، ومن ادعى أن الحرام عم الأرض بحيث لا يوجد طريق للكسب المشروع يغني عن المشبوه فعليه الدليل. ولو سلم أن الفرص المشروعة لا تكفي، ومنها الشركات النقية، فهل إذا ساهم الفرد في هذه الشركات المختلطة تندفع حاجته يقينًا؟ فالجواب: لا، قد تندفع حاجته، وقد تزداد حاجته كما لو وقع في خسائر، وهو أمر متوقع مع ارتفاع نسبة الخطورة، فكيف نبيح الربا الصريح، والمفسدة المتحققة لمصلحة محتملة؟ وإن قيل: هي حاجة للأمة فالجواب: (أ) لو سلمنا حاجة البلاد إلى بعض الشركات المساهمة، والتي تقوم بمصالح حيوية للمجتمع، فهل قيامها بهذا الدور الحيوي لا يمكن إلا إذا كانت تتعامل بالربا، ألا يمكن أن تقوم بهذا الدور، وهي نقية من المعاملات المحرمة، لماذا وهي تستفيد من هذا المجتمع المسلم ألا تراعي أحكام المجتمع الذي قامت فيه، فتجبر على انضباط معاملاتها؟
وإن قيل: هي حاجة للشركة
(ب) لو سلمنا حاجة البلاد والعباد إلى بعض الشركات المختلطة، فإنه لا يمكن التسليم بها في كثير من الشركات التي يمكن الاستغناء عنها، إما لعدم الحاجة إليها بالمعنى المشار إليه، وإما لإمكان الاستغناء عنها بشركات غير مساهمة، وهذا يعني أن الدليل أخص من المدلول؛ إذ إن أصحاب هذا القول يستدلون بدليل الحاجة لإباحة جميع الشركات التي يحتاج إليها، والتي لا يحتاج إليها. (ج): هل يمكن الجزم بأن الناس يلحقهم حرج شديد، ومشقة غير محتملة إذا منعوا من المساهمة في الشركات المختلطة؟ أو أن المشقة التي تلحقهم هي المشقة المعتادة التي يشعر بها من منع من أي فرصة استثمارية لزيادة دخله، أو حتى لتلبية حاجاته الضرورية من مسكن وغيره، ومثل تلك الحاجة لا يباح بها الحرام، وإلا لأبيح كثير من الاستثمارات المحرمة التي تدر ربحًا عاليًا كالإيداع في البنوك الربوية ونحوها. وإن قيل: هي حاجة للشركة: فإن الشركة لا تجد بدًّا من إتمام عملياتها إلا عن طريق الاقتراض بالربا. فالجواب: قد يكون هذا القول مقبولًا في فترة فشا فيها الربا، وكانت البنوك الإِسلامية لم تقم على ساقيها، أما في هذه المرحلة فالأمر عكس ذلك، فنحمد الله عز وجل أن انتشرت هذه البنوك الإِسلامية في أنحاء الأرض، وهي مستعدة أن تمول الشركات بالطرق المباحة: كالمرابحة، وعقود الاستصناع، والسلم، وغير ذلك مما جاءت الشريعة بإباحته. الدليل السابع: الاستدلال بقاعدة (عموم البلوى ورفع الحرج).
وجه عموم البلوى في المساهمة في الشركات المختلطة
جاء في الموسوعة الكويتية: يفهم من عبارات الفقهاء أنّ المراد بعموم البلوى: الحالة أو الحادثة التي تشمل كثيرًا من الناس ويتعذّر الاحتراز عنها، وعبّر عنه بعض الفقهاء بالضَّرورة العامّة وبعضهم بالضّرورة الماسة، أو حاجة الناس. وفسره الأصوليون بما تمس الحاجة إليه في عموم الأحوال ... (¬1). وجه عموم البلوى في المساهمة في الشركات المختلطة: أن تعامل الناس اليوم في المساهمات قد شاع وانتشر بين كافة الناس بيعًا وشراء، حتى دخل ذلك كل بيت، وشارك فيه الصغار والكبار، والأغنياء والفقراء، وأن التحرز من المساهمة في هذه الشركات المختلطة يلحق بالناس حرج ومشقة، مما يجعل القول بالجواز مما تمس الحاجة إليه؛ لعموم البلوى فيه. والجواب على ذلك من وجوه: الوجه الأول: يشترط للعمل بقاعدة (عموم البلوى) ألا تتعارض مع نص شرعي. قال ابن نجيم: "ولا اعتبار عنده -يعني أبا حنيفة - بالبلوى في موضع النص، كما في بول الآدمي" (¬2). وقال أيضًا: "المشقة والحرج إنما يعتبران في موضع لا نص فيه، وأما مع النص بخلافه فلا" (¬3). ¬
الوجه الثاني
فما دام أن الدليل قائم على تحريم يسير الربا لا يمكن للمجتهد أن يستدل بقاعدة عموم البلوى؛ لأن ذلك يؤدي إلى تعطيل النص. الوجه الثاني: ذكرنا فيما سبق أن المراد بعموم البلوى: الحالة أو الحادثة التي تشمل كثيرا من النّاس، ويتعذّر الاحتراز عنها. فلا بد من هذين القيدين: أن يكون الحرج في نازلة عامة في الناس. وألا يكون للإنسان قدرة على الانفكاك عن ذلك إلا بمشقة ظاهرة. فإذا سلمنا أن المساهمة في تلك الشركات قد شاع وانتشر فهذا الشيوع والانتشار وحده لا يكفي أن يكون سببا للتخفيف حتى يتعذر الاحتراز من ذلك، بحيث تكون المساهمات في تلك الشركات ملابسة للناس ومخالطة لهم على وجه يشق معه التحرز منها، والانفكاك عنها، كما يشق على الناس الاحتراز من مخالطة الهرة وملامستها لأوانى الناس وملابسهم، ولا يستطيع أحد أن يدعي بأن المكلف اليوم لا يستطيع أن يتحرز من المساهمة في تلك الشركات المختلطة، فكثير من الناس لا يساهم في الشركات مطلقا فلم تصح دعوى عموم البلوى. الدليل الثامن: أن القول بتحريم المساهمة في الشركات المختلطة سيؤدي إلى ضرر كبير في المؤسسات المالية الإِسلامية، وذلك لأن الشركات النقية قليلة جدا مما يؤدي إلى كون الفرص الاستثمارية أمام هذه المؤسسات محدودة جدا، وسينتج عنه وجود فائض كبير من الأموال بدون استثمار لدى المؤسسات المالية مما يلحق بها ضررًا كبيرًا لتحملها التكلفة الناشئة عنها.
ونوقش
ونوقش: بأن "المصالح المترتبة على القول بالجواز: هي مصالح مستنبطة غير منصوص عليها، وهي في مقابلة دليل قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، فإنه من المعلوم أن العلماء رحمهم الله اشترطوا للأخذ بالمصالح ألا تعارض النصوص، أما إذا كانت المصلحة تصادم نصا شرعيا فهي ملغاة، ولا اعتبار لها، كما قرره الغزالي وغيره من الفقهاء، بل أجمع الفقهاء على ذلك، أي على عدم اعتبار المصلحة إذا كانت معارضة لنص قطعي الدلالة والثبوت" (¬1). ولو أخذنا بالمصالح المتوهمة لأحللنا الربا باعتباره مصلحة اقتصادية، وأبحنا الزنا والخمور من باب تشجيع السياحة، واستقطاب الأموال. وقد يقال: إن المصلحة هي في عدم مساهمة الناس في تلك الشركات المختلطة، مع بيان أن المانع للناس من الإقدام على المشاركة فيها هو وقوعها في المعاملات المحرمة، فقد يحمل هذا السلوك القائمين على الشركة للتخلص من المعاملات المحرمة طلبا لمساهمة الناس فيها، وهذه مصلحة كبرى للناس وللشركة، وقد شاهدنا هذا في تحول بعض المصارف الربوية إلى مصارف إسلامية طلبا للكسب والمنافسة، مما ساهم في نشر المصارف الإِسلامية في السنوات الأخيرة. هذه تقريباً أهم الأدلة التي احتج بها من يرى الجواز مع مناقشتها. القول الثاني: القول بالتحريم، وهو قول عامة أهل العلم في عصرنا، وإليه ذهب ¬
المجمعان: مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (¬1)، والمجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي (¬2)، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالبلاد السعودية (¬3)، والهيئة الشرعية لبنك دبي الإِسلامي (¬4)، وهيئة الفتوى والرقابة الشرعية لبيت التمويل الكويتي (¬5)، وهيئة الرقابة الشرعية بالبنك الإِسلامي السوداني (¬6)، وأجمع عليه المجتمعون للفتوى والرقابة الشرعية للبنوك الإِسلامية بالقاهرة، عام 1403 هـ (¬7). ومن العلماء المعاصرين: سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله (¬8)، وأحد القولين لشيخنا ابن عثيمين عليه رحمه الله (¬9)، والشيخ عبد الله بن جبرين ...... ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل القائلين بتحريم المساهمة في الشركات المختلطة
يرحمه الله (¬1)، والشيخ عبد الرزاق عفيفي (¬2)، والشيخ صالح بن فوزان الفوزان (¬3)، والشيخ علي السالوس (¬4)، وعدد كثير من الباحثين، منهم الشيخ صالح المرزوقي (¬5)، والأستاذ أحمد محيي الدين حسن (¬6)، والشيخ عبد الله السعيدي (¬7)، والشيخ أحمد الخليل (¬8)، وغيرهم كثير. دليل القائلين بتحريم المساهمة في الشركات المختلطة: الدليل الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)} [البقرة: 278]. وجه الاستدلال: أمر الله سبحانه وتعالى بأن نترك ما بقي من الربا مطلقًا يسيرًا كان أو كثيرا إن كنا مؤمنين ¬
الدليل الثاني
حقًا, ولم يأمرنا بأخذه والتخلص منه، وما كان ربك نسيًا، وما استحسنه بعض الناس من أخذه وصرفه في المصالح العامة فهذا استحسان في مقابلة النص، ولأن المصلحة كلها في طاعة الله ورسوله، وليست في شيء سواهما، فلما وجه الله سبحانه وتعالى عباده بترك الربا؛ ولم يوجه العباد إلى شيء آخر كأخذه، والتخلص منه، كان أخذه مخالفًا لأمر الله سبحانه. الدليل الثاني: قال تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)} [البقرة: 275]. وجه الاستدلال: حذرت الآية الكريمة من العود إلى الربا بعد سماع الموعظة والعلم بالتحريم، سواء عاد إليه بنية التخلص، أو بغيرها. لأن الوعيد مطلق، وتكفي الآية دليلًا على عظم الذنب في الربا، لقوله سبحانه: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)} [البقرة: 275]. الدليل الثالث: لم يأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأخذ الربا من أهل الجاهلية بنية التخلص، فما بالك بأخذه من أهل الإِسلام بنية التخلص. (ح -864) فقد روى مسلم في صحيحه كما في حديث جابر في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد جاء في خطبته للناس يوم عرفة: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ... وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربانا: ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله) (¬1). ¬
وجه الاستدلال من الحديث
وجه الاستدلال من الحديث: أن الرسول وضع الربا الذي كان معقودا في الجاهلية قبل تقرر الأحكام في الإِسلام، فما بالك بربا حصل بعد تقرر الأحكام في الإِسلام؟ الدليل الرابع: القول بأن المساهم في الشركة إذا أخرج نسبة معينة تبرأ ذمته، ويتخلص من الإثم قول فيه نظر، وذلك أن العقود المحرمة، ومنها الربا، لا يجوز إقرارها، ولا الموافقة عليها؛ ولا الإسهام فيها، والمساهم حين يساهم في الشركات المختلطة يكون قد قام بكل ذلك، فهو يمارس الربا، ويقبله، ويوافق عليه، ويسهم فيه، وذلك بتفويض من يقوم عنه بذلك، فالمساهم شريك في هذه الشركات المحرمة، ليس شريكا في المال فحسب، بل شريكا في العمل أيضاً، وكونه لا يباشر العمل ليس معناه عدم مشاركته فيه، فإن مباشرة جميع الشركاء أعمال الشركة أمر غير متصور، لكنه حاصل من خلال تفويضهم من يقوم بالعمل عنهم، ويعمل لحسابهم. ولا يكفي في حله القول بإخراج قدر المحرم من السهم، فإن المساهم في الشركة المشبوهة قد أسهم في أعمالها وكسبها المحرم، سواء تصدق بما نجم عن ذلك الكسب المحرم أو لم يتصدق، والإسهام في الحرام مجمع على تحريمه، فالتخلص من الحرام لا يبرر الإقدام عليه، وتكراره، وإعانة الآخرين بالمال والعمل على إتمامه، خاصة إذا كان هذا العمل من الموبقات، ومن الظلم والفساد في الأرض (¬1). وأي فائدة يكسبها هذا المسلم إذا تعود على كسب الخبيث، وأعان عليه، ¬
الدليل الرابع
وساهم فيه، ثم ذهب ليتطهر منه، ليس بالإقلاع عنه، والتوبة منه، ولكن بإخراج عوائده، وهو ما زال منغمسًا في وحله، مصرًّا عليه، مساهمًا فيه، فالتخلص من الربا إنما ينفع التائب النادم، أو من دخل عليه الحرام دون علمه ومن المعلوم أن من شروط التوبة الإقلاع فورًا عن الذنب والعزم على ألا يعود، وهذان مفقودان فيمن يدخل هذه الشركة وأمثالها عالماً عامداً مختارًا ولو مع نية التخلص من الحرام. الدليل الرابع: إذا كان الفقهاء يمنعون الإسهام في المعصية، ولو كان بطريق غير مباشر، كمن يبيع العنب لمن يعصره خمرًا، أو يبيع السلاح لمن يستعمله في الفتنة، أو في قطع الطريق، وقد تكلمنا عن هذه المسألة فيما سبق ببحث مستقل، فلأن يقال بمنع الإسهام في المعصية بطريق مباشر من باب أولى، فيمنع من الإسهام في الشركات المساهمة المشوبة بالربا، وذلك لأن الإسهام فيها مشاركة في أعمالها المحرمة (¬1). الدليل الخامس: حرم الإِسلام الربا المحتمل في مسائل كثيرة، منها ما هو محل إجماع بين أهل العلم، من ذلك: إذا قال الرجل لآخر: أقرضك بشرط أن تبيعني. (ح -865) فقد روى أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬2). ¬
وجه الاستدلال
[إسناده حسن] (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الجمع بين البيع والقرض، وإنما نهى عن الجمع بين البيع والقرض وإن كان كل واحد منهما صحيحًا بانفراده؛ لأنه ربما حاباه في البيع لأجل القرض، فيؤدي إلى أن يجر القرض نفعًا للمقرض، فلما كانت الفائدة على القرض ربما تستتر بعقد البيع، وهو أمر محتمل، وليس أمرًا متيقنًا نهى عنها الشارع، وإذا كان هذا حكم الشرع بالفائدة المحتملة المستترة فكيف بالفائدة الظاهرة والمشروطة. (ح -866) ومنه أيضًا: ما رواه البخاري ومسلم من طريق ابن جريج، عن عطاء سمع جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المخابرة، والمحاقلة وعن المزابنة وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها، وألا تباع إلا بالدينار والدرهم إلا العرايا (¬2). (ح -867) وروى البخاري من طريق الليث، عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة: أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلًا بتمر كيلاً، وإن كان كرمًا أن يبيعه بزبيب كيلاً، وإن كان زرعًا أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله. ورواه مسلم (¬3). فنهى عن المخابرة: وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض. ونهى عن المزابنة: بيع التمر بالرطب. ¬
الدليل السادس
ونهى عن المحاقلة: وهي بيع الحب في سنبله بحب صاف كيلًا. قال ابن كثير: "إنما حرمت هذه الأشياء -يعني: المخابرة، والمزابنة، والمحاقلة- وما شاكلها حسمًا لمادة الربا؛ لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة، ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا، والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم ... " (¬1). فإذا كان يشترط لصحة العقد خلوه من احتمال الربا، فما بالك بتحريم هذه العقود مع صريح الربا. الدليل السادس: سد الذرائع المفضية إلى الحرام، فالإنسان إذا أخذ الربا، فربما تغلبه نفسه، ولا يخرجه عن ملكه، لا سيما إذا كان المال كثيرًا، فليس من الحكمة أن يفتح الباب لعموم الناس أن يساهموا في الشركات المختلطة، وأن يأخذوا الربا، ثم نطالبهم بالتخلص منه، ألا منعناهم ابتداء من أخذ الحرام حتى لا نفتنهم في قدرتهم على التخلص منه. هذه بعض أدلة هذا القول، وقد تركت أدلة كثيرة لهذا القول إما لأنها أحاديث ضعيفة، وإما لأنها ليست صريحة في الباب؛ لأن الاستدلال بالدليل الضعيف يسيء إلى القول القوي ويضعفه. الراجح من الخلاف: إنني أتعجب من إقدام بعض طلبة العلم على القول بجواز الشركات المختلطة ¬
مع علمهم بأن ذلك يعني إمضاء عقود الربا، وتكرارها، مع أن عقود الربا يجب فسخها بالإجماع، ثم أراهم يتحرجون من القول بجواز شركات التأمين التجارية للمنشآت مع أن عقود التأمين من عقود الغرر، وهي أخف بكثير من عقود الربا بل لا مقارنة بين العقدين. لهذا أرى أن القول بالتحريم هو القول المتعين للأسباب التالية: الأول: لا يجوز الاستدلال بالقواعد العامة فيما ورد فيه نص خاص، وذلك لأن النص العام لا يقضي على النص الخاص، ولا يقدم عليه، مع العلم أن دلالة العام على أفراده أقوى من دلالة القاعدة العامة على جزئياتها، وذلك لأن النص العام تلقيناه من قبل الشارع بخلاف القواعد العامة فهي قواعد مستنبطة وليس منصوصًا عليها؛ ولذلك تجد كل مذهب من المذاهب الأربعة قد يستقل ببعض القواعد التي لا يحتج بها بقية المذاهب الأخرى، كما أن القواعد أغلبية وليست كلية، فإذا كان الاستدلال بها يؤدي إلى تعطيل نص قطعي خاص امتنع الاحتجاج بها، فالنصوص الخاصة بتحريم يسير الربا لا ينازع فيها أحد بما فيهم المخالف، فتجاوز تلك النصوص إلى القواعد العامة ليس بالمنهج السليم. ثانيًا: أن القول بالجواز ليس منضبطا أيضًا من الناحية الفقهية: فهم يشترطون للجواز أن يكون الربا يسيرًا، ثم يقولون: لا يغتفر اليسير بل يجب التخلص منه، فإن كان اليسير لا يغتفر لم يكن هناك فرق بين القليل والكثير بجامع التحريم في كل منهما. ويشترطون التخلص من الربا لجواز المساهمة، ثم لا يرون التخلص مخلصًا إذا كان الربا كثيراً، فإن كان التخلص من الحرام هو شرط الجواز، فلماذا التفريق بين الكثير والقليل، فإذا كان التخلص من الحرام لم ينفع في الكثير فلن
ينفع في القليل أيضًا؛ لأن القليل حرام كالكثير وهذا محل اتفاق، وهذا يدلك على عدم انضباط الفتوى. وأوجبوا بيع السهم والتخلص منه إذا تغير وضع الشركة بحيث لم يعد تنطبق عليها تلك الضوابط، كما لو زادت نسبة الحرام عن المقدار الجائز عندهم، مع تحريمهم شراءه في مثل هذه الحالة، والسؤال: إذا كان السهم حرامًا فكيف يجوز بيعه، والانتفاع بثمنه؛ فإن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه، أتتخلص من الحرام بإيقاع أخيك فيه، أليس مقتضى الأثر والنظر أن يقال: بعدم جواز بيعه في هذه الحالة كما قلتم بتحريم شرائه. وقالوا: إن تصرفات أعضاء مجلس الإدارة ليست محسوبة على المساهمين مع قولهم بأن الأرباح التي يجنيها مجلس الإدارة هي من حق المساهمين، كما حرموا على المساهم أن يساهم في الشركة إذا كان تصرف أعضاء مجلس الإدارة قد تعدى نسبة معينة يرونه كثيرًا، فلولا أن تصرفات الشركة محسوبة على المساهمين لم يجعلوا هذه الضوابط في تصرفات الشركة؟ ثالثًا: إذا كان الربا عقدًا بين الآخذ والمعطي، وهما في حكم الشرع واحد كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد: (الآخذ والمعطي فيه سواء) رواه مسلم، فالتخلص لا يخلص المعطي، وإنما يخلص الآخذ على قولكم، فإذا كان الآخذ سبباً في ربا المعطي، ولولاه لم يقع في الربا كان الآخذ شريكًا للمعطي في الإثم؛ لأنه السبب في وقوعه في الربا، وإن تخلص الآخذ مما أخذ لم يستطع أن يتخلص من كونه سبباً في ربا الطرف الثاني مع العلم بأن الشركات المختلطة تارة تكون آخذة للربا وتارة تكون معطية، وهي في حال تكون معطية لا يتصور أن يكون التخلص مخلصًا لها. رابعًا: الفقهاء متفقون على أن العقد الفاسد فضلًا عن الباطل يجب فسخه،
ورده بعد قبضه ما لم يفت، ولا يتوقف فسخه على رضا الطرفين، ما دامت عينه قائمة ولم تتغير، ولم يتصرف فيها قابضها، وأخذ الربا بنية التخلص إمضاء لعقد يجب فسخه، وتكرار لفعل مأذون فاعله بحرب من الله ورسوله. قال ابن عابدين الحنفي في حاشيته: "الفاسد يجب فسخه على كل منهما بدون رضا الآخر، وكذا للقاضي فسخه بلا رضاهما" (¬1). وقال ابن الجلاب المالكي في كتابه التفريع: "من اشترى شيئاً بيعا فاسدا فسخ بيعه، ورد المبيع على بائعه" (¬2). وقال ابن رشد: "اتفق العلماء على أن البيوع الفاسدة إذا وقعت، ولم تمت لإحداث عقد فيها، أو نماء، أو نقصان، أو حوالة سوق أن حكمها الرد -أعني أن يرد البائع الثمن والمشتري المثمون" (¬3). خامسًا: ليس التخلص من الربا أحب إلى الله من قطع الربا وعدم الإقدام عليه ولذلك قال تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 275] ولم يوجب عليه التخلص، ثم قال: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] والمساهم في الشركات المختلطة يعود إلى عقد الربا في كل صفقة تعقدها الشركة مع البنوك الربوية، وهي عقود متجددة ومستمرة، فالموافقة على فعل الربا ونشره والإقدام عليه أخطر من كون المرء أخذ هذا المال أو لم يأخذه، ولذلك كانت اللعنة للكاتب والشاهد، وهم لم يأخذوا شيئاً. ¬
سادسًا: إذا كان التخلص يمكن معرفة مقداره في حالة الإقراض بفائدة، فإنه لا يمكن معرفة مقداره في حالة الاقتراض بفائدة، فإن هذا من التصرف المحرم الذي لا يمكن حسابه. سابعًا: الأرباح المحرمة ليست كلها توزع على المساهمين حتى يمكن القول بأن التخلص منها يجعل السهم نقيًا، فالأرباح الاحتياطية جزء منها محرم، والسهم يمثل حصة شائعة في الشركة، وفي ما تملكه الشركة من أرباح احتياطية، وهذا لا يمكن إخراجه والتخلص منه. هذا ما تيسر جمعه والتعليق عليه أسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا سواء السبيل.
المبحث السادس المضاربة في الأسهم (المتاجرة)
المبحث السادس المضاربة في الأسهم (المتاجرة) الفرع الأول في معنى المضاربة والفرق بين المضارب والمستثمر معنى المضاربة بالأسهم: لا يقصد بالمضاربة المضاربة بالمعنى الفقهي بأن يدفع الرجل ماله إلى آخر ليعمل به مقابل ربح معلوم كالربع أو الثلث، وإنما يراد بالمضاربة بالأسهم: التعامل بها بيعًا وشراء بقصد الحصول على الربح من فروق الأسعار. والتسمية الفقهية أن يقال: المتاجرة بالأسهم (¬1). ويقابل المضارب المستثمر: وهو من يكتتب في الأسهم التي تصدرها الشركة عند تأسيسها، أو عند زيادة رأس مالها، أو يشتري الأسهم من السوق الثانوية بقصد الحصول على أرباحها السنوية. الفرق بين المضارب والمستثمر: [ن -163] أن المستثمر يعتبر استثماره في الأسهم طويل الأجل، ومخاطره منخفضة نسبيا، وينتظر جني الأرباح من الشركة، وعائده من الأرباح قليل وبطيء. بينما المضارب استثماره فيها قصير الأجل، وينتظر ارتفاع الأسعار، ومخاطره مرتفعة، ومكاسبه عالية وسريعة. ¬
وطريقة تداول الأسهم لم تكن معروفة بالفقه الإِسلامي، والقول بجوازه هو الذي أتاح لكل واحد من المستثمرين أن يبيع أسهمه لمن شاء دون حاجة إلى إذن الشركاء، وشجع على الإقبال على الاكتتاب في أسهم الشركات عند تأسيسها؛ لأن المكتتب يعلم أنه متى احتاج إلى السيولة فإن لديه سوقًا ثانوية تمكنه من بيع أسهمه، والحصول على قيمتها دون انتظار تصفية الشركة .. وأتاح إمكانية المضاربة على أسهم الشركات، والذي نحن بصدد البحث عن حكمه في هذا المبحث.
الفرع الثاني حكم المضاربة في الأسهم (المتاجرة)
الفرع الثاني حكم المضاربة في الأسهم (المتاجرة) ما جاز شراؤه من أسهم الاكتتاب صح بيعه. [ن -164] اختلف أهل العلم في حكم المتاجرة بالأسهم على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب بعض أهل العلم إلى أن المضاربة محرمة مطلقا. وهذا القول يرى التحريم حتى ولو كانت الأسهم في شركات نقية، وإليه مال الدكتور الصديق محمَّد الأمين الضرير (¬1)، والدكتور منذر قحف (¬2)، والأستاذ رفيق بن يونس المصري (¬3)، والشيخ صالح السلطان (¬4)، والدكتور أحمد محيي الدين أحمد (¬5)، والشيخ حسن عبد الله الأمين (¬6). دليل من يرى هذا القول: الدليل الأول: أن "اتخاذ الأسهم سلعة تشترى وتباع بقصد الربح لا يخلو من شبهة بيع النقد ¬
ويناقش من وجهين
بأكثر منه، ما دام مشتري السهم لا غرض له في المشاركة في موجودات الشركة، وإنما غرضه بيع السهم بأكثر مما اشتراه به" (¬1). وشرح هذا مبارك آل سليمان وإن كان لا يراه، فقال: "العادة في التجارة أن يشتري التاجر سلعة، ثم يبيعه لمن يرغب فيها، ثم يشتري سلعة أخرى بديلة ويبيعها، وهكذا تتجدد السلع التي يقع عليها العقد، ويستفيد عامة الناس من تلك السلع باعتبارها مقصودة لهم، وهذا بخلاف الحال بالنسبة للأسهم فإن تداولها أشبه ما يكون بتبادل سلعة واحدة بين طرفين، ثم يبيعها كل واحد منهما للآخر بحسب تقلب الأسعار، فصارت السلعة هنا، وهي السهم غير مقصودة للمتعاملين، وإنما المقصود النقود، فكان التبادل إنما يتم حقيقة بين نقود ونقود، على حد قول ابن عباس - رضي الله عنه -: دراهم بدراهم بينهما حريرة" (¬2). ويقول الدكتور رفيق بن يونس المصري: "المضاربة عبارة عن عملية بيع وشراء متعاكسة صورية، لا يقصد بها التقابض (السلعة غير مرادة: لغو) بل يقصد بها الانتفاع من فروق الأسعار الطبيعية، أو المصطنعة، والأرباح الرأسمالية، إذا صدق التنبؤ بتغيرات الأسعار في الأجل القصير، سواء اعتمد هذا التنبؤ على المعلومات والخبرة والدراسة، أو على الإشاعات والحظ والمصادفة" (¬3). ويناقش من وجهين: الوجه الأول: كون المضارب يقصد النقود من وراء شراء الأسهم، فهذا القصد مشروع، ¬
الوجه الثاني
ولو سألت أي تاجر لماذا اشتريت هذه البضاعة؟ لقال: أقصد من وراء ذلك المال والربح، ولا أقصد عين السلعة، فالسلعة مجرد وسيلة للحصول على الدراهم، وهكذا الشأن في كل عروض التجارة إنما يقصد صاحبها النقود، ولا يقال: يجب أن تطبق عليه عملية الصرف، دراهم بدراهم، وهذا ليس خاصا بالمتاجرة في الأسهم، بل حتى المكتتب، فلا أحد يقول: إن من اكتتب في شركة زراعية إنما يريد الحصول على فواكه وخضروات، ولا من اكتتب في شركة صناعية أنه يريد الحصول على مصنوعات وآلات، فليس قصد النقود في الأسهم مؤثرًا، وإلا لامتنع التداول في جميع الشركات إلا بقواعد الصرف. الوجه الثاني: القول إن الأسهم سلعة واحدة يتبادلها الناس، ليس صحيحًا، فالأسهم التجارية غير الأسهم الزراعية، غير الأسهم الصناعية ولذا اختلفت أحكامها في الزكاة كما هو معلوم، كما أن اختلاف قيم الأسهم في البورصة دليل على اختلاف ذواتها، فالقول إنها سلعة واحدة يتبادلها الناس قول يفتقر إلى الدليل، وإنما يقول ذلك من ادعى أن الأسهم عروض تجارة، لا علاقة لها بممتلكات الشركة، وقد بينا خطورة هذا القول، وضعفه في مسألة تكييف السهم، فأغنى عن إعادته هنا، فالصحيح أن العقد في بيع السهم يرد على ما يمثله السهم من أصول، ومنافع، وديون، وحقوق غير مالية، كالحقوق التي يمنحها السهم لمالكه، فهو عقد بيع حقيقي وارد على سلعة حقيقية، وكون مشتري السهم يبيعه بعد ذلك بأكثر مما اشتراه به، لا يعني أن ما يجري هو بيع نقد بنقد أكثر منه. الدليل الثاني: أن الاستثمار في الإِسلام زيادة في كمية وسائل الإنتاج في المجتمع الأمر الذي يزيد القدرة على إنتاج الطيبات والمنافع، وشراء الأوراق المالية بقصد
بيعها لا ينتج طيبات، ولا يزيد منافع، فلا يصح شراؤها إلا بقصد الاستثمار، واستبقائها للحصول على عوائد دورية، فهذا هو الذي يحقق تلك المقاصد. ويرى الدكتور أحمد محي الدين بأن المضاربة تعني دوران رأس المال بعيدًا عن دورة الإنتاج، وفي هذا يقول: "من أنواع التأثير الضار للمضاربة على النشاط الاقتصادي أنها تصرف جزءًا من أصحاب رؤوس الأموال عن القيام بعمليات الإنتاجية الحقيقية التي يتطلبها المجتمع من صناعة، وزراعة وتعدين ... الخ وتجعلهم في انتظار الفرص التي قد تسنح من خلال تغيرات الأسعار، فإن صحت توقعاتهم وربحوا من وراء ذلك ازدادوا تعلقًا بالمضاربة، الأمر الذي يرسخ من دوران رؤوس أموال هؤلاء الأفراد بعيدًا عن دورة النشاط الاقتصادي. أما إذا خسروا نتيجة مضارباتهم هذه، ويستفيد من خسارتهم عادة أفراد، ووسطاء، ومؤسسات، ومصارف ذات ارتباط مباشر أو غير مباشر بدوائر أجنبية رأسمالية ... والفكرة الأساسية في هذا الصدد أن الفرص التي قد تسنح للمضاربين تتطلب أحياناً أموالًا جاهزة لاغتنامها؛ ولذلك فإن من يمتهن المضاربة يجنب أمواله السائلة أو جزءا منها ولا يستخدمها، أو يسمح للآخرين باستخدامها في دورة الإنتاج" (¬1). فالمضاربة تكاد تكون معطلة للنمو الاقتصادي، فأصحاب رؤوس الأموال لن يستثمروا أموالهم في المشاريع الاقتصادية، والتي يستفيد منها كافة أفراد المجتمع، بل سوف يضارب على ارتفاع وانخفاض الأسعار لتزداد سيولته وأمواله، والمستفيد هو وحده ومعه الوسطاء من المصارف، بينما المجتمع في ¬
ونوقش هذا
معزل من هذا، وقد يخسر المضاربون من جراء ذلك، وتتبخر السيولة من أيدي المضاربين في ساعات، والضرر سيعود على المجتمع كله إذا خسر الناس أموالهم في الأسواق المالية، ويلمس المواطن كيف تضرر قطاع العقار من جراء سعي الناس وراء المضاربات في سوق الأسهم. ونوقش هذا: بأنه لا يوجد دليل بأن من شروط الاستثمار في الإِسلام أن يكون مرتبطا بزيادة الإنتاج على النحو الذي يقرره الاقتصاديون، فالتجار منذ عهد النبوة لم يزالوا يتداولون السلع فيما بينهم بقصد الحصول على فوارق الأسعار من غير أن ينتج عن ذلك زيادة في عوامل الإنتاج، فحكيم بن حزام وابن عمر وزيد ابن ثابت عندما كانوا يشترون السلعة من غيرهم، ثم يبيعونها لم يكن في ذلك أي زيادة في الإنتاج، فهم إنما نهوا عن بيع الشيء قبل قبضه، فإذا قبضه فله البيع بقصد الحصول على فارق السعر (¬1). ثم إن المضاربة قد تكون عاملاً مساعدًا على الاستثمار، فإن شركات المساهمة هي شركات استثمارية، وأنشئت لهذا الغرض، والعامل الأساسي في قيامها هو وجود السوق الثانوية، والتي تتيح للمكتتب الحصول على السيولة متى ما أراد، وذلك بالخروج من الشركة، ومنع المضاربة يؤدي إلى إغلاق هذه السوق، والذي بدوره سوف يمتنع أكثر الناس من الاكتتاب في هذه الشركات الاستثمارية العملاقة، وبالتالي حرمان المجتمع من هذه الشركات الاستثمارية النافعة. وعلى التسليم فهو دليل بأن الاستثمار أفضل من المضاربة، وهذا لا يقتضي ¬
الدليل الثالث
تحريم المضاربة، فإن أحداً لو حفظ ماله، ولم يستثمره لم يقل أحد بأنه فعل محرمًا، وأنه يجب عليه تنميته بما يعود على الاقتصاد وعلى الناس بالنفع، فكذلك إذا فضل المضاربة على الاستثمار. الدليل الثالث: أن المضارب لا تعنيه الشركة لا من قريب ولا من بعيد، وإنما يعنيه المضاربة على السهم بعيدًا عن كل شيء. وإذا كان كذلك فإنه قد يقوى قول من يقول: إن التعامل حقيقة إنما هو بقيمة هذه الورقة وثمنها ليس إلا، وأن العملية لا تعدو أن تكون متاجرة بأثمانها، وهذه الورقة مجرد غطاء لهذه العملية، والعبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني، وإذا كان كذلك فهل شروط تبادل الأثمان متحققة؟ (¬1). ويناقش: لا نسلم بأن المضارب لا تعنيه الشركة لا من قريب ولا من بعيد، بدليل أن المضارب يتجه إلى الشركات المباحة، دون الشركات المحرمة، وهذا دليل على أن الشركة مقصودة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المضارب لا يتجه لأي شركة معروضة في البورصة، بل هو ينتقي من الشركات ما يعتقد أنها تحقق له الربح المنشود، وهذا دليل على أن الشركة مقصودة في العقد. وأما القول بأن المتعامل يتعامل حقيقة بقيمة هذه الورقة، فهي متاجرة بأثمانها. فلا يوجد عندي ما يدل على أن التبادل بهذا الوجه محظور شرعاً؛ لأن السهم كونه يعبر عن ثمن معين فهذا شرط عندي لجواز تداوله؛ لأنه لا يكون ¬
الدليل الرابع
مالًا إلا إذا كان له قيمة مالية، وكون السهم له قيمة مالية لا يعني هذا أنه تحول إلى أثمان في نفسه؛ لأن الثمنية تعني أمرين: أن يكون أصلاً قائمًا بنفسه، ومقصودا لذاته، وأن يكون معيارا لقيم الأشياء، كالذهب والفضة والأوراق النقدية، والسهم ليس له هذه القيمة في نفسه بل قيمته مرتبطة بالشركة التي يمثلها؛ وليس معيارا لقيم الأشياء عند الناس اليوم، فالوثيقة لا قيمة لها إذا جردناها عما تدل عليه، ولا تشتمل الوثيقة على أية منفعة ذاتية، بحيث يقال: إنه يجوز بيعها وشراؤها لمنفعتها كالسلع، وإنما قيمة الوثيقة تتمثل فيما تمثله من حقوق الاشتراك في الشركة، ومن كونها حصة شائعة في رأس مال الشركة وفي موجوداتها، بدليل أن الشركة لو أفلست لعاد ذلك بالخسران على السهم، ولذهبت قيمته، كما أن مقدار استحقاقه من أرباح الشركة يرجع تقديره إلى عدد ما يملكه من هذه الأسهم، ولو صفيت الشركة لم يستحق من موجودات الشركة إلا بمقدار ما يملكه من أسهمها، فامتلاك المساهم نصيباً في موجودات الشركة عند تصفيتها دليل على أنه يملك حصة شائعة. الدليل الرابع: الاحتجاج بواقع المضاربة في السوق، فالمضارب قد لا يعرف شيئاً عن الشركة، ولا عن ميزانيتها، وأرباحها، وخسائرها، ومركزها المالي، ولذلك تجد أسهم بعض الشركات الخاسرة أعلى سعرا من أسهم الشركات الرابحة، مما يدل على أن المضاربة يغلب عليها الخداع في رفع المؤشرات وهبوطها، فالارتفاع ليس لعوامل طبيعة كما يحدث في سائر المبادلات التجارية المبنية على العرض والطلب غالبا بل لعوامل غائبة مجهولة لدى الكثير، ولا سيما الصغار، وفي غاية الخطورة مما يعرض صغار المستثمرين إلى المخاطرة الكبيرة التي قد تذهب بأمواله في أي لحظة.
ويناقش من وجوه
وإذا كان هذا واقعها فإن التعامل بهذه الصورة يجمع بين الغرر وبين القمار نظراً لعظم المخاطرة فيه (¬1). ويقول الدكتور رفيق المصري: "في المضاربة ترتفع الأسعار إلى مستويات غير مبررة اقتصاديًا، وتنخفض بمعزل عن القيمة الحقيقية للورقة أو للسلعة، وبمعزل عن الأداء الفعلي للشركة المصدرة للورقة، فالمضاربة تسخين مصطنع، ونشاط طفيلي غير مرغوب فيه إذن، والحرارة الزائدة التي تولدها المضاربة ينتفع بها السماسرة المطلعون، وليس فيها منفعة للجمهور، بل فيها مضرة ونشاط جاذب وخادع في أن معًا" (¬2). ويناقش من وجوه: الوجه الأول: القول بأن المضارب لا يعرف شيئًا عن الشركة، ولا عن ميزانيتها، وأرباحها، وخسائرها، ومركزها المالي. فيقال: لا يجوز أن يتاجر الإنسان بأسهم شركة من الشركات إلا وهو يعلم ما هي الشركة، وما نشاطها؛ لأن جواز تملك هذه الأسهم موقوف على إباحة نشاط الشركة، فكيف يتاجر بأسهم شركة لا يعرف نشاطها، فهذا إن وجد فهو حرام، ولكن لا علاقة له بحكم المضاربة، وإنما يتعلق بتحرز التاجر وتحريه للحلال مضاربًا كان، أو مستثمرًا، فإن الذي لا يبالي قد لا يبالي أيضاً في الاكتتاب في الشركات المساهمة، هل هي شركات مباحة، أو شركات محرمة. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أما اشتراط العلم بميزانية الشركة، وأرباحها وخسائرها فإن كان هذا شرطًا في صحة بيع الأسهم، فليكن شرطًا للمضارب والمستثمر، فمن أراد أن يشتري سهمًا سواء كان بقصد الحصول على أرباح الشركة، أو كان بقصد التربص بالسهم حتى يرتفع سعره، فإنه يجب عليه أن يعلم بميزانية الشركة وأرباحها، وخسائرها، وإن كان هذا ليس شرطًا للمستثمر، لم يكن شرطًا للمضارب، فالاحتجاج بهذا على تحريم المتاجرة بالأسهم فقط قول تنقصه الدقة. الوجه الثالث: كون أسهم بعض الشركات الخاسرة أعلى سعرًا من بعض الشركات الرابحة. فإن كان مرد هذا إلى العرض والطلب فهذه أسباب معلومة، وهذه طبيعة السوق، فإذا كثر الطلب على السهم ارتفع سعره، وهي قيمة سوقية قد لا تعبر عن القيمة الحقيقية، وهذا بحد ذاته لا يجعل المضاربة أمرا محرمًا. وإن كان مرد هذا إلى تلاعب المضاربين الكبار من إحداث صفقات وهمية، أو نشر شائعات، وتحاليل كاذبة، تخدع صغار المتاجرين بالأسهم، فليكن الحكم على هذه التصرفات الضارة التي يمارسها المتعاملون بالأسهم، دون أن يعود ذلك على المتاجرة ذاتها؛ لأنه لا يوجد في الأدلة الشرعية ما يمنع المتاجرة بالأسهم، وكل أنواع التجارة لا تسلم من الغش، والتدليس، والخداع، والنجش، ومع ذلك نحرم كل هذه التصرفات، ولا يعود التحريم إلى التجارة نفسها. إن وجود الممارسات الخاطئة يلقي عبئًا كبيرًا على هيئة السوق، والتي تشرف على التداول، ولاشك أنها تعرف المتلاعبين بالسوق، فيجب أن تعزر كل
الدليل الخامس
متلاعب يكون هدفه الإضرار بالسوق، أو بصغار المستثمرين، وتحرمه من الدخول في السوق، وأن يكون التعامل بهذا بكل شفافية، من غير فرق بين قوي وضعيف، وأن تمنح الهيئة صلاحيات كافية لحماية السوق وصغار المستثمرين من تلاعب كبار المضاربين. الدليل الخامس: أن المضاربة تزيد من حدة تقلبات الأسعار، فهي تستند أصلاً إلى وجود هذه التقلبات، ولا تجد لها مجالًا، في ظل استقرار الأسعار. ويجاب: بأن المضاربة إذا سلمت من التلاعب قد تكون سببا في الحد من تقلبات الأسعار، فعندما تنخفض الأسعار يتدخل المضاربون بالشراء مما يؤدي إلى الحد من استمرار الانخفاض نتيجة ازدياد الطلب، وعندما ترتفع الأسعار يتدخل المضاربون بالبيع وجني الأرباح مما يؤدي إلى الحد من استمرار الارتفاع نتيجة ازدياد العرض، وبهذا تعمل المضاربة على تقليل الفارق بين الأسعار، وعلى استقرارها وإعادة توازنها. القول الثاني: ذهب عامة أهل العلم إلى أن المتاجر في الأسهم يأخذ حكم المستثمر من كل وجه (¬1). ¬
دليل القائلين بالجواز
دليل القائلين بالجواز: الدليل الأول: أن الأصل حل البيع، قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، فمن ادعى التحريم فعليه الدليل. الدليل الثاني: أن هذه الأسهم يجوز شراؤها بالاكتتاب، فيجوز بيعها لصحة الملك، وهذا هو مقتضى القواعد، فما جاز شراؤه صح بيعه. الدليل الثالث: أن السهم في ذاته: حصة شائعة في ممتلكات الشركة، وبيع الحصة المشاعة متفق على جوازه، فهو جزء مشاع مشتمل على منفعة مباحة، وما كان كذلك صح بيعه. الدليل الرابع: أنك إذا منعت بيع هذه الأسهم في السوق الثانوية فسوف يذهب أغلب المكتتبين في الشركات المساهمة، فإن المكتتب لولا علمه بأن هناك سوقا ثانوية يستطيع أن يحصل من خلالها على السيولة التي يريد، في الوقت الذي يريد لم يساهم، خاصة إذا علمنا أن الأرباح من الشركات المساهمة هو إيراد محدود لا تغري المكتتب، وكيف يخرج المكتتب من الشركة إذا منعنا تداول الأسهم خوفا من المضاربة فيها؟ وإعراض الناس عن الاكتتاب في السوق الأولية لا شك أنه يحرم المجتمع من إنشاء هذه الشركات العملاقة التي تقوم على رأس مال كبير جدا، لا تستطيع غالب الحكومات الفقيرة فضلاً عن الأفراد القيام بها.
الدليل الخامس
الدليل الخامس: أن المتاجر (المضارب) بالأسهم يحل محل المكتتب، فيأخذ حكمه، وتنتقل كافة الحقوق إليه، والبدل له حكم المبدل، وكونه يتربص بها ارتفاع الأسعار، فليس في هذا ما يقتضي التحريم شأنه في ذلك شأن كل تاجر، نعم يحرم التربص بالسلعة من أجل ارتفاع الأسعار إذا كان ذلك في قوت الناس وطعامهم حتى لا يؤدي إلى الوقوع في الاحتكار المنهي عنه، وأما ما عداه فلا حرج فيه. الدليل السادس: أن أسهم الاستثمار هي ذاتها أسهم المضاربة، فالعين واحدة، فهي إما حلال في الحالين، وإما حرام في الحالين، والفرق بينها أن هذا استثماره فيها طويل الأجل، وينتظر جني الأرباح، وهذا استثماره فيها قصير الأجل، وينتظر ارتفاع الأسعار، وهذا ليس فارقًا مؤثرًا في الحل والحرمة. ويمكن تكييف عملة تداول السهم بأنها: عملية تصفية فردية يقوم بها أحد الشركاء بخصوص مساهمته ليحل آخر مكانه، ويستحق بذلك كافة ما له من الحقوق على الشركة. الدليل السابع: أن شراء الأسهم بعد مزاولة الشركة نشاطها، وبعد أن تتضح نتائج أرباحها أقرب إلى معرفة واقع الشركة، ومدى الغبطة في المشاركة فيها من الاكتتاب فيها وقت تأسيسها، فإذا كان الاكتتاب في الشركة النقية وقت التأسيس جائزاً في قول عامة الباحثين، كان شراء الأسهم بعد الاكتتاب، وطرحها للتداول جائزا من باب أولى.
الدليل الثامن
الدليل الثامن: أن بيع الأسهم قد لا يرتبط بالمضاربة فيها، فهناك وجوه كثيرة تحمل من يمتلك الأسهم على بيعها، والتخلص منها، فقد لا يكون الباعث على ذلك البحث عن فروق الأسعار، وإن كان ذلك سائغًا. من ذلك: كأن يبيع المكتتب في الشركة أسهمه خوفًا من لحوق الخسارة فيما إذا تبين له أن الشركة أصبحت خاسرة، وخشي مالكها من ضرر يلحق به لو بقي متمسكًا بها مع وجود من يشتريها. وقد يكون الباعث على بيعها هو حاجة صاحبها إلى السيولة لحاجته الخاصة، أو إلى الاكتتاب في شركة أكثر ربحًا، أو إلى غير ذلك من الأسباب الكثيرة غير القابلة للحصر، فلا يلزم من بيع الأسهم أن يكون صاحبها يتربص بها فارق الأسعار. وبالتالي يمكن القول بأن تحريم المضاربة في الأسهم هو قول غير منضبط فقهيًا. القول الثالث: هناك فريق يقول بعكس القول السابق تقريبًا، فهو يذهب إلى جواز المتاجرة (المضاربة) في الشركات المختلطة، ويحرم الاستثمار فيها. وممن يختار هذا القول الشيخ السلامي (¬1). وجه هذا القول: أن الشركات إذا كانت مختلطة، فإن الاستثمار فيها يعني دخول جزء من الريع ¬
ويناقش
إلى المستثمر، وبعض الريع محرم نتيجة ممارسات محرمة، مما يجعل الاستثمار محرمًا، وأما المتاجرة بهذه الأسهم، وبيعها قبل توزيع الأرباح، يجعل المتاجر لم يأخذ في جيبه شيئًا من الأرباح المحرمة. ولأنه لا يعلم بظهور الكسب المحرم إلا عند ظهور الميزانية، وحصول الأرباح، وهذا يتعلق بالمستثمر فقط دون المتاجر. ولأنه إذا قلنا: إن على المتاجر، والمستثمر أن يتخلص من الكسب الحرام في الشركات المختلطة أدى ذلك إلى تعدد التخلص، والتطهير للحصة الواحدة، وإذا كان المتاجر ليس عليه أن يتخلص من الكسب الحرام دل ذلك على عدم دخول الحرام عليه، وهو دليل على جواز المتاجرة دون الاستثمار. ويناقش: بأن السهم بعد اشتغال الشركة ليس هو حصة شائعة في رأس المال فقط حتى يقال: إذا لم توزع الأرباح فقد سلم الإنسان من الربح المحرم، فإن امتلاك السهم يعني: امتلاك حصة شائعة في الشركة، وفي ما تملكه الشركة، فهو يمثل حقوقًا مالية، وغير مالية. من ذلك: (1) قيمة السهم (اسمية كانت، أو سوقية، أو حقيقية). (2) نصيب السهم من أرباح الشركة حتى الاحتياطي منها. (3) نصيب السهم فيما تملكه الشركة، من ممتلكات عينية، واسم تجاري، وعلامة تجارية، وتراخيص ممنوحة. (4) حق الأولوية في الاكتتاب بالأسهم الجديدة. (5) الحقوق غير المالية، من ذلك حق التصويت، وحق مراقبة الشركة، وحق المحاسبة، وحق البقاء في الشركة، كل هذه الأشياء لا يمكن عزلها عن السهم،
الراجح
وهذا الذي جعل السهم تختلف قيمته عن قيمة موجودات الشركة، ولا أعتقد أن الذين قالوا: إن السهم حصة شائعة في موجودات الشركة، أرادوا أن المساهمين يملكون تلك الحصة الشائعة في هذه الموجودات بمعزل عن الشركة، ونشاطها، وما تعطيه الشركة للمشارك من حقوق وامتيازات. وإذا كان هذا حقيقة السهم فالأرباح سواء وزعت أو لم توزع فالسهم يمثلها، وتؤثر في قيمته، وإذا كان جزء من تلك الأرباح محرمًا كان امتلاك السهم يعني امتلاك حصة شائعة من هذا المحرم، ولو لم توزع الأرباح، والله أعلم. ولو كان الحل والحرمة يتعلق بتوزيع الأرباح فقط، لقلنا: بجواز تملك أسهم الشركات المحرمة ما دام أن تملك تلك الأسهم سيكون عابرًا, ولفترة لا تسمح بتوزيع الأرباح الناتجة عن ذلك النشاط؛ لأن رأس مال الشركات المحرمة هو مال حلال، جمع ليمارس به نشاط محرم، ومع ذلك فالمساهمة في الشركات المحرمة، أو التي غالب نشاطها محرم يكاد يجمع الباحثين على تحريم المساهمة فيها. الراجح: جواز شراء السهم سواء كان بقصد الاستثمار أو بقصد المضاربة إلا أن ذلك مشروط بأن تكون الشركة من الشركات النقية، وأن يتدخل البنك المركزي ومؤسسات النقد بأن يمنعوا المصارف من دعم المضاربة بالائتمان، بحيث لا يسمح للبنوك بأن تعطي الشخص إذا كان له حساب بمائة ألف أن يمنحه البنك مائة ألف أخرى قرضاً، فإذا خسر المضارب تضاعفت خسارته بسبب الائتمان، والبنك لم يخسر شيئًا، ومن قال بتحريم المضاربة لم يتوجه تحريمه لذات السهم، وإنما حرم المضاربة فيه للممارسات الخاطئة المؤثرة على قيمة السهم،
وهذه الممارسات يجب أن يتوجه التحريم إليها, لا إلى السهم ذاته، وهذه الممارسات الخاطئة ليست ضربا لازما لكل المضاربات، بل منها ما هو دافعه الجشع، والطمع، والاستغلال وهذا موجود في الأسهم كما هو موجود في غيرها من المعاملات المالية، ومنها ما يعود إلى المضارب نفسه، فكثير منهم دخل السوق، وهو يجهل طبيعة السوق، وخطورتها، فلحقته الخسائر لكونه لا يحسن التعامل بهذه السوق، وهذا الجهل يتحمل تبعاته صاحبه، ولا يعود هذا إلى السهم. ومنها ما يعود إلى حداثة السوق وحداثة الهيئات الإدارية المشرفة عليها، ونقص التشريعات الضرورية، ومنها ما يعود إلى نقص الشفافية خاصة في محاسبة المتلاعبين، ووجود بعض الشخصيات الاعتبارية التي قد تمارس ممارسات خاطئة في السوق، وتكون بعيدة عن المحاسبة، ومع ذلك، فالأسواق العربية هي في تطور مستمر، لا من جهة تكامل الأنظمة التشريعية، ولا من جهة وعي المضارب، وتراكم الخبرة لديه بحيث استطاع كثير من المضاربين تعويض الخسائر التي حصلت له في السنوات الأولى من سوق الأسهم السعودية، ومن تابع مؤشر الأسهم في السوق السعودية في السنة الأخيرة، وتابع التطور في الأنظمة أدرك حجم التطور المستمر في هذه السوق، مما يجعل ضبط التلاعب في هذه السوق أمرا ممكنا يعود بالاستقرار على سوق الأسهم، ويقلل من المخاطرة فيها، ومع كل ذلك، فإنه لو أصبح التلاعب في السوق اتجاها غالبا، فإن القول بتحريم التداول قد يتجه حتى يضبط السوق، حفاظا على أموال الناس، والله أعلم.
المبحث السابع بيع الأسهم قبل التخصيص
المبحث السابع بيع الأسهم قبل التخصيص المقصود بتخصيص الأسهم: أن يعطى كل مكتتب نصيبه من عدد الأسهم بالنسبة لعامة المكتتبين، فإن كان الاكتتاب مطابقًا لعدد الأسهم المخصصة، فيكون التخصيص موافقة الشركة على بيع المساهم الأسهم التي اكتتب بها، وإن كان عدد الأسهم غير مطابق، كان التخصيص يعني بيع بعض المبيع مقسمًا إلى أجزاء متساوية، ومعلومة قيمته، وإعادة بقية الأموال إلى المكتتبين بعد التخصيص. وعلى هذا يكون المقصود بتخصيص الأسهم: هو إفراد كل مكتتب بعدد من الأسهم تكون ملكًا له ينفرد به عن غيره، ويختص به (¬1). [ن -165] إذا علم هذا، فما حكم بيع الأسهم بعد الاكتتاب وقبل التخصيص: وللجواب على ذلك نقول: إذا كان الاكتتاب بمنزلة الإيجاب من المكتتب، والتخصيص بمثابة القبول من الشركة، أو من مدير الاكتتاب، فإن بيع الأسهم قبل التخصيص فيه محذوران: المحذور الأول: أنه من بيع السلعة قبل دخولها ملكه، فهو بيع ما لا يملك، وبيع الإنسان ما لا ¬
المحذور الثاني
يملكه منهي عنه، وقد نقلت إجماع أهل العلم على تحريم بيع المعين الذي لا يملكه الإنسان. المحذور الثاني: أن المكتتب لا يعلم نصيبه من الأسهم، فقد يكون التخصيص لبعض الأسهم التي اكتتب بها, وليس لكل الأسهم، فيكون باع شيئاً مجهولا قدره. وعلى هذا لا يجوز بيع الأسهم قبل التخصيص، ولا أعلم في هذا خلافا بين الباحثين.
المبحث الثامن حكم استثمار أموال الاكتتاب قبل التخصيص
المبحث الثامن حكم استثمار أموال الاكتتاب قبل التخصيص [ن -166] إذا انتهى الاكتتاب فقد نص نظام الشركات في مادته 58 على أن تودع حصيلة الاكتتاب باسم الشركة تحت التأسيس لأحد البنوك التجارية التي يعينها وزير التجارة، ويلتزم البنك بتسليم الشركة نصيبها من تلك الأموال بعد إعلان تأسيس الشركة وفقًا للمادة 63 من النظام، كما يلتزم وإعادة الفائض منها إلى المكتتبين بعد التخصيص. والسؤال: هل يحق للبنك الاستفادة من تلك الأموال، واستثمارها في الحلال إلى حين تسليم الفائض للمكتتبين بعد التخصيم، وتسليم الشركة نصيبها من تلك الأموال؟ وللجواب على ذلك نقول: ما دام أن يد البنك يد ضمان في هذه الفترة، فهو ملتزم بتسليم الشركة نصيبها، وملتزم كذلك وإعادة الفائض منها إلى المكتتبين وأن إيداعها للبنك يعتبر قرضًا فلا يوجد حرج من استثمار تلك الأموال إلى حين تسليم كل ذي حق حقه.
المبحث التاسع في بيع الأسهم بعد التخصيص وقبل التداول
المبحث التاسع في بيع الأسهم بعد التخصيص وقبل التداول [ن -167] اختلف العلماء في بيع الأسهم بعد التخصيص وقبل التداول، وهذا الخلاف مرده إلى الاختلاف في توصيف السهم. فقيل: لا يجوز مطلقًا، إما لأن بيعه يعني جواز تداوله، وتداوله مشروط لإدراجه في البورصة، وهذا ما لم يحصل، فيكون تداوله مخالفًا للأنظمة، ومخالفًا لعقد الشراكة بين المساهم والشركة. أو لأن رأس مال الشركة غالبه من النقود. وقيل: يجوز مطلقًا. وهذا: إما بناء على أن السهم سلعة قائمة بذاتها مفصولة عن موجودات الشركة كما يراه من يعتبر السهم من عروض التجارة. أو لأن النقود غير مقصودة في العقد، وإن كان السهم حصة شائعة في موجودات الشركة. والقائلون بالجواز منهم من يرى أن المشتري للسهم من المكتتب لا يحق له بيعه إذا اشتراه؛ لأن المشتري لهذه الأسهم لا يجوز له بيعها إلا بعد أن يقبضها القبض التام، وقبض السهم لا يمكن إلا بعد إدراج أسهم الشركة في سوق التداول، حتى يمكن تقييده وتسجيله باسمه. وبيع الشيء قبل قبضه مسألة خلافية بين أهل العلم، سبق تحرير الخلاف فيها في مبحث مستقل أغنى عن إعادته هنا، والراجح أن الذي ليس فيه حق توفية يجوز بيعه قبل قبضه، والله أعلم. وقيل: يجوز تداوله بقيود، وهؤلاء اختلفوا في اعتبار هذه القيود:
القول الأول
فمنهم من يشترط لجواز التداول أن تكون الأعيان والمنافع هي الغالب على الشركة، فإن كان الغالب على موجودات الشركة النقود أو الديون فيحرم التداول إلا بمراعاة أحكام الصرف والتصرف في الديون. ومنهم من يشترط لجواز التداول أن يكون الثمن (القيمة السوقية) أكثر من النقود التي مع الأعيان. هذه هي الأقوال مجملة، وإليك بيانها بالتفصيل مع أدلتها: القول الأول: لا يجوز بيع الأسهم ولا شراؤها مطلقًا قبل التداول، اختار ذلك الدكتور سعود الفنيسان (¬1). واستدل على ذلك بأدلة منها: الدليل الأول: وجود الربا بنوعيه، الفضل والنساء؛ لأن السهم يمثل نقدًا، ورصيد الشركة معظمه، أو كله نقد أيضًا، وإن وجد في رأس مال الشركة أعيان وممتلكات فهي بحكم المعدوم، لوقف التعامل فيها المتمثل بعدم التداول لأسهمها. ويناقش من وجوه: الوجه الأول: أن الشركة لا تخلو من موجودات أخرى غير النقود، وهي ذات قيمة معتبرة شرعًا، ومن ذلك: ¬
الوجه الثاني
(أ) الحقوق المعنوية كالاسم التجاري للشركة، والدراسات السابقة لإنشائها، وتصاريح العمل، وقوة الإدارة وكفاءتها. (ب) بعض الأصول المملوكة للمنشأة، من أرض، أو سيارات، أو أثاث، أو غير ذلك. (ج) منافع الأعيان المستأجرة، ومنافع الأشخاص العاملين في الشركة وقت تأسيسها. (د) حق الاشتراك في الشركة، وهذا الحق فاضل عن نصيب السهم من موجودات الشركة. الوجه الثاني: أن المشتري بشرائه السهم لا يقصد الحصول على النقد الذي في الشركة؛ لأن هذا لا سبيل إليه، ولا ينتقي من الشركات ما هو أكثر نقدية، بل قصده الحصول على الربح، سواء كان ذلك بالانتظار إلى حين توزيع الأرباح، أو إلى حين ارتفاع سعر السهم. (ح - 868) وقد روى البخاري ومسلم من طريق سالم عن ابن عمر - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدًا, وله مال، فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع (¬1). أخذ ابن قدامة من هذا الحديث الدليل على جواز بيع العبد بماله إذا كان قصد المشتري العبد لا للمال ... فيجوز البيع سواء كان المال معلومًا أو ¬
الوجه الثالث
مجهولاً، من جنس الثمن أو من غيره، عينا كان أو دينا، وسواء كان مثل الثمن أو أقل أو أكثر (¬1). فدل هذا على أن النقود إذا لم تكن مقصودة في العقد، فإنه يجوز البيع، وإن كان غالب ما يمثله السهم هو من النقود. الوجه الثالث: على فرض التسليم بأن النقد الذي في الشركة مقصود، وأن بيع السهم له حكم بيع موجوداته، فإن سورة هذه المعاملة معروفة لدى الفقهاء بما يسمى (مد عجوة ودرهم) وهي بيع الربوي بجنسه، ومع أحدهما من غير جنسهما، وكل من الربويين مقصود في العقد، وبيان ذلك: فالمبيع: هو الأسهم: وهي تمثل النقود، والعروض (من حقوق، وأعيان، ومنافع). والثمن: هو من النقود. والذي رجحه عدد من المحققين من أهل العلم كابن تيمية، ورواية عن أحمد، أن العقد يصح بشرطين: الشرط الأول: أن يكون المال الربوي المفرد (الثمن) أكثر من الذي معه غيره. الشرط الثاني: ألا يكون القصد من المعاملة التحايل على الربا، وذلك بأن يكون ما مع الربوي له قيمة حقيقية، ولم يؤت به للتحليل. وكلا الشرطين متحقق في بيع هذه الأسهم، فإنها تباع بقيمتها السوقية، وهي ¬
الدليل الثاني
أعلى من القيمة الاسمية، التي تم الاكتتاب بها، كما أن الموجودات الأخرى غير النقدية في الشركة ذات قيمة حقيقية، ولم يؤت بها حيلة (¬1). الدليل الثاني: أن ملكية الأسهم وإن تعينت عددًا وقيمة، فهي موقوفة حكمًا بعدم تداولها، فالسهم حينئذ يشبه العين المرهونة، لا يجوز بيعها عند جمهور العلماء إلا بموافقة الطرفين، وهما الشركة، والمساهم، أو بأمر الحاكم. ويناقش: العين المرهونة قد تعلق بها حق الغير، وأما السهم قبل التداول وبعد التخصيص فهو لم يتعلق به حق لأحد، فإذا كان يجوز له هبته، ورهنه، يجوز له بيعه، والله أعلم. الدليل الثالث: البيع والشراء للأسهم قبل تداولها فيه جهالة وغرر، إذ قد يباع السهم قبل التداول بسعر مرتفع عن سعره بعد طرحه، أو العكس، فيلحق الضرر بالاثنين البائع والمشتري. ويناقش: بأن ارتفاع السعر ما دام أن ذلك في المستقبل فإنه لا يكون سببا في الجهالة والغرر؛ لأن سعر السهم في المستقبل هو عرضة للارتفاع والهبوط حتى بعد التداول، وهذه طبيعة التجارة. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: قد يقع بسبب هذا البيع منازعات وخصومات بين الطرفين، ولن يوثق عقد البيع قبل التداول بين الجهات ذات العلاقة، خاصة إذا كان المبلغ كبيرًا مما قد يسبب ضياع حقوق الناس. ويناقش: توثيق البيع ليس شرطاً في صحته، ومع ذلك يمكن للمتبايعين توثيقه عن طريق الكتابة والشهود إلى حين التداول. الدليل الخامس: في هذا البيع مخالفة لنظام بيع الأسهم الموضوعة للصالح العام، علاوة على ما في هذا من افتئات على ولي الأمر الذي أقر نظام هذه الشركات على هذا النحو لمصلحة الناس عامة. ويناقش: بأن عدم إدراج الشركة في البورصة للتداول لا يعني أن النظام يمنع من تداول السهم مطلقاً، وإنما إدخال الشركة في البورصة له استحقاقات إجرائية صِرْفة يتطلب إتمامها لإدخالها في البورصة، فإذا باع الإنسان سهمه قبل إدراجها في البورصة فهو بيع صحيح لأنه صدر من مالكه، وقد قبضه القبض الشرعي، وسجل باسمه. القول الثاني: يجوز تداوله مطلقًا بناء على أن السهم سلعة قائمة بذاتها مفصولة عن موجودات الشركة. وهذا ما اختاره بعض العلماء والباحثين منهم أبو زهرة،
القول الثالث
والدكتور يوسف القرضاوي (¬1)، والشيخ حسن مأمون، والشيخ جاد الحق (¬2)، والشيخ يوسف الشبيلي (¬3)، والشيخ حسان السيف (¬4)، والأستاذ إبراهيم السكران (¬5). بناء على أن السهم سلعة منفصلة عما يمثلها, لا علاقة لها بموجودات الشركة؛ لأن المشتري للسهم ليس مقصوده ما يمثله السهم من موجودات الشركة، وإنما يقصد القيمة السوقية للسهم، ولأن قيمة السهم قد تكون أضعاف ما يمثله من موجودات الشركة، ولأن السهم يملك على وجه الاستقلال عن ملكية الأصول والأعيان التي تملكها الشركة، فالحصص المقدمة للمساهمة تنتقل على سبيل التمليك إلى ملكية الشركة، ويفقد الشركاء كل حق عيني عليها. وبناء على هذا التوصيف يجوز بيع السهم مطلقا قبل التداول سواء كان رأس مال الشركة نقودا، أو عروضا، أو منهما. وقد ذكرت أدلة هذا القول والجواب عنها عند الكلام على توصيف السهم. القول الثالث: يجوز تداول السهم مطلقا بغض النظر عما يمثله السهم من النقود، والديون، ليس لأن السهم سلعة قائمة بذاتها؛ ولكن لكون ما يمثله السهم من موجودات ¬
الشركة من أعيان، ومنافع، ونقود، وديون مقصودة بالعقد على وجه التبع، لا بالأصالة. وهذا ما ذهب إليه كثير من العلماء والباحثين كسماحة الشيخ محمَّد ابن إبراهيم، والشيخ عبد الستار أبو غدة، والدكتور نزيه حماد، والشيخ عبد الله بن خنين، والدكتور محمَّد الدويش، والدكتور عبد الله العمار، والدكتور مبارك آل سليمان (¬1)، وندوة البركة (¬2) وغيرهم على اختلاف بينهم في تحديد المقصود بالعقد أصالة، بعد اتفاق هؤلاء على أن النقود والديون مقصودة بالعقد على وجه التبع. يقول سماحة الشيخ محمَّد بن إبراهيم رحمه الله: "فإن قيل: إن في هذه الشركات نقودا، وبيع النقد بالنقد لا يصح إلا بشرطه. فيقال: إن النقود هنا متابعة غير مقصودة، وإذا كانت بهذه المثابة فليس لها حكم مستقل، فانتقى محذور الربا ... ¬
دليل من قال: التابع غير المقصود بالعقد أصالة لا تشترط مراعاة أحكامه
فإن قيل: إن للشركة ديونًا في ذمم الغير، أو أن على تلك السهام المبيعة قسطًا من الديون التي قد تكون على أصل الشركة، وبيع الدين في الذمم لا يجوز إلا لمن هو عليه بشرطه. فيقال: وهذا أيضًا من الأشياء التابعة التي لا تستقل بحكم، بل هي متابعة لغيرها، والقاعدة: أنه يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالاً، ويدل لذلك حديث ابن عمر مرفوعا (من باع عبدًا وله مال، فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) رواه مسلم وغيره. فعموم الحديث يتناول مال العبد الموجود، والذي له في ذمم الناس ... ومما يوضح ما ذكر أن هذه الشركات ليس المقصود منها موجوداتها الحالية، وليست زيادتها أو نقصها بحسب ممتلكاتها وأقيامها الحاضرة، وإنما المقصود منها أمر وراء ذلك: وهو نجاحها، ومستقبلها، وقوة الأمل في إنتاجها، والحصول على أرباحها المستمرة غالبا" (¬1). دليل من قال: التابع غير المقصود بالعقد أصالة لا تشترط مراعاة أحكامه: (ح -869) ما رواه البخاري ومسلم من طريق سالم عن ابن عمر: - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدًا, وله مال، فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع (¬2). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: لما كان مال العبد تابعًا غير مقصود بالعقد أصالة، صح اشتراطه، ودخل في البيع به، سواء كان المال معلومًا، أو مجهولًا، من جنس الثمن أو من غيره، عينًا كان أو دينًا، وسواء كان مثل الثمن، أو أقل، أو أكثر، فلم يراع أحكام الصرف بين مال العبد، والثمن المدفوع قيمة للعبد (¬1). ومعنى قولنا: غير مقصود: أي غير مقصود بالأصالة، وإلا فاشتراط المشتري له دليل على قصده إياه، ولكنه مقصود تبعًا وليس أصالة، فيصح أن نقول: إن اشتراط المشتري مال العبد لا يخرجه عن كونه غير مقصود أصالة. وإذا ثبت ذلك فلا يراعى أحكام الصرف بين الثمن، وبين ما يمثله السهم من نقود أو ديون، لكون النقود متابعة غير مقصودة بالعقد، والله أعلم. وكذلك دل الحديث على جواز اشتراط المشتري الثمرة التي قد أبرت، مع أنه معلوم أنه لا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها؛ ولكن لما كانت متابعة لأصلها اغتفر فيها ما لم يغتفر لو كانت مستقلة بالعقد. القول الرابع: يجوز تداول تلك الأسهم بشروط على خلاف بينهم في هذه الشروط. فمنهم من يشترط: أن تكون الغلبة للأعيان والمنافع، وهذا ما ذهب إليه قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي. جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي حول صكوك المقارضة، وهي في معنى الأسهم: "إذا صار مال القراض موجودات مختلطة من النقود، والديون، ¬
دليل هذا القول
والأعيان، والمنافع، فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقا للسعر المتراضى عليه، على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعيانا، ومنافع. أما إذا كان الغالب نقودا أو ديونا فتراعى في التداول الأحكام الشرعية التي ستبينها لائحة تفسيرية توضع وتعرض على المجمع في الدورة القادمة" (¬1). فإن كانت النقود، أو الديون أكثر، لم يجز التداول إلا بمراعاة أحكام الصرف، وأحكام التصرف في الديون. وتطبيق قواعد الصرف يعني ما يلي: جواز بيع السهم بشرط التماثل والتقابض في حال بيع السهم بمثل العملة التي يتكون منها رأس مال الشركة. وهذا يعني بيع السهم بقيمتة الاسمية (التي اكتتب بها حاضرا، لا مؤجلاً). جواز بيع السهم بدون قيد التماثل في حال بيع السهم بغير العملة التي يتكون منها رأس مال الشركة، ولكن بشرط التقابض. ويجوز بيع السهم بدون شرط التماثل، والتقابض إذا بيع السهم بالعروض، وليس بالأثمان. دليل هذا القول: هذا القول مبني على جملة من القواعد الفقهية التي تنص على أن للأكثر حكم الكل. والقاعدة الفقهية التي تقول: (الأقل تبع للأكثر) في مسائل كثيرة مختلفة، ومنها هذه المسألة. ¬
ونوقش هذا الاستدلال
قال الشاطبي: "للقليل مع الكثير حكم التبعية، ثبت ذلك في كثير من مسائل الشريعة، وإن لم يكن بينهما تلازم في الوجود، ولكن العادة جارية بأن القليل إذا انضم إلى الكثير في حكم الملغى قصدًا، فكان كالملغى حكمًا" (¬1). قال العلامة مسلم بن علي الدمشقي: "الأصول مبنية على أن الأقل تبع للأكثر" (¬2). وقال السرخسي: "إقامة الأكثر مقام الكل أصل في الشرع" (¬3). وقال ابن مفلح الصغير: "الأكثر يقوم مقام الكل في كثير من الأحكام" (¬4). ونوقش هذا الاستدلال: بأن الربا يحرم كله، لا فرق بين قليله وكثيره، وما أعطي الأقل حكم الأكثر إلا في تابع غير مقصود بالعقد، أو في غير أبواب الربا. فلو باع الإنسان مائة ريال وعرضا قيمته ألف ريال بمائة ريال، وكان المقصود بالعقد هو تبادل الربوي بالربوي حرم ذلك بالإجماع، مع أن نسبة النقود إلى العرض عشرة في المائة تقريبًا؛ لأن الربويين لما كانا مستويين في المقدار، وكان العرض لا بد أن يقابل من أحدهما جزءاً، فسيبقى أحدهما أكثر من الآخر، وهذا ممنوع (¬5). يقول الدكتور عبد الله العمار: "إذا كان المقصود في العقد هو تبادل الربوي ¬
بالربوي فلا ينبغي النظر إلى القلة والكثرة؛ لأن العلم بالتساوي بين البدلين شرط عند الجميع" (¬1). هذا دليل من يشترط أن تكون الأعيان والمنافع هي الغالبة. ومنهم من يشترط أن يكون الثمن المفرد (النقود) أكثر من النقود التي يمثلها السهم، ويطبق عليها مسألة (مد عجوة ودرهم). فالسهم يمثل: نقودا وأعيانا (موجودات الشركة)، مقابل الثمن، وهو من النقود، فيجب أن يكون الثمن أكثر من النقود التي مع السهم، ليكون النقد في مقابلة النقد، وما زاد في مقابلة الأعيان. فإذا فرضنا أن السهم قبل أن تشتغل الشركة، أو قبل إدراجها في البورصة يتمثل في القيمة الاسمية، مضافا إليه موجودات الشركة، فيجب أن يكون الثمن المدفوع قيمة للسهم أكثر من قيمته الاسمية؛ لتكون النقود في مقابل النقود، وما زاد قيمة للأعيان التي يمثلها السهم. وهذا القول يراه بيت التمويل الكويتي (¬2). ¬
الراجح
الراجح: بعد استعراض الخلاف أجد أن أضعف الأقوال هو القول الذي يقول: إن السهم سلعة قائمة بذاتها، مفصولة عن موجودات الشركة، يليه في الضعف القول الذي يمنع تداول السهم مطلقًا بعد التخصيص وقبل التداول. وأقواها عندي أنه يجوز تداول السهم مطلقاً، وأن النقود والديون التي يمثلها السهم هي متابعة غير مقصودة بالعقد أصالة، والله أعلم.
المبحث العاشر إشكال وجوابه عن تداول الأسهم
المبحث العاشر إشكال وجوابه عن تداول الأسهم أثار بعض أهل العلم إشكالات عن تداول الأسهم، من ذلك: الإشكال الأول: الجهالة، حيث لا يعلم المشتري علما تفصيليا بحقيقة محتوى السهم، فالعلم بالمبيع شرط لصحة البيع، فإذا كان المبيع مشتملاً على جهالة بطل البيع، والجهالة موجودة في شركات المساهمة حيث لا يعلم المشتري علما تفصيليا بحقيقة السهم (¬1). وقد أجبت على هذا الإشكال حين الكلام على حكم الشركات المساهمة فأغنى عن إعادة الجواب هنا. الأشكال الثاني: [ن - 168] أن بيع هذه الأسهم يعني بيع جزء من الأصول، وجزء من النقود، وهذا يقتضي ملاحظة قواعد الصرف من التماثل والتقابض في مجلس العقد بين الجنس الواحد، والتقابض فقط عند اختلاف الجنس، وذلك لأن السهم في الغالب يكون مساويا لموجودات الشركة بما فيها النقود، وهذا لا يراعى عند بيع أسهم الشركات المساهمة مما يجعل بيعها حراما (¬2). كما أن جزءا من السهم يمثل دينا للشركة، وحينئذ لا يجوز بيعه بثمن مؤجل؛ لأنه يكون من قبيل بيع الدين بالدين، وهو منهي عنه إلا لمن هو عليه. ¬
ويجاب عن ذلك
ويجاب عن ذلك: استعرضنا الخلاف في حكم تداول الأسهم قبل إدراجها في البورصة، وبعد التخصيص في المسألة التي قبل هذه، والجواب في هذه المسألة قد تضمن الجواب عن الإشكال الذي يثار حول تداول السهم، فيما إذا كان غالب ما يمثله السهم نقودًا، أو ديونًا، أو هما معًا. فهناك من أهل العلم من يمنع تداول مثل هذه الأسهم مطلقًا. وهناك من يشترط أن تطبق على بيع السهم أحكام الصرف، وأحكام التصرف في الديون. وهناك من يجيز التداول مطلقًا باعتبار أن السهم سلعة قائمة بذاتها , لا دخل لها في موجودات الشركة. وهناك من يجيز بيع السهم مطلقًا باعتبار أن الديون والنقود في العقد متابعة لم تقصد أصالة في العقد. فالأقوال في هذه المسألة هي نفس الأقوال في حكم تداول السهم بعد التخصيص، وقبل التداول، والأدلة في المسألتين واحدة، وقد بينت أن الراجح: بأن السهم كونه يمثل جزءًا من أصول الشركة، وجزءا من النقود، وجزءا من الديون فإن النقود والديون تأتي تبعًا غير مقصودة في بيع السهم. ومعنى قولنا غير مقصود: أي غير مقصود بالأصالة، وإنما مقصود بالتبع، ولذلك فإن اشتراط المشتري مال العبد لا يخرجه عن كونه غير مقصود. (ح -870) فقد روى البخاري ومسلم من طريق سالم عن ابن عمر: - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا
أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدًا, وله مال، فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع (¬1). فجاز للمشتري أن يشتري الشجرة، وعليها ثمرة لم تؤبر، ومعلوم أنها قبل ذلك لم يبد صلاحها، وهو منهي عن بيعها حتى يبدو صلاحها، وإنما جاز بيع الثمر في مثل هذه الحالة لكونه تبعا لغيره. كما جاز للمشتري أن يشترط الثمرة بعد أن تؤبر، وإن لم يبد صلاحها، وجاز له ذلك للعلة نفسها، وكذلك المال الذي في حوزة العبد قد يكون ذهبا كما لو كان على الجارية حلي، وثمن العبد قد يكون ذهبا أيضاً، فأجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - للمشتري أن يشترط المال دون مراعاة لقواعد الصرف، وإنما جاز ذلك؛ لأنه تابع غير مقصود (¬2). وكذلك يقال في الجواب عن كون جزء من السهم يمثل دينا للشركة، فإن هذا الجزء يدخل في السهم تبعًا، على التسليم بوجود ذلك، وليست كل الشركات عليها ديون. ¬
الفصل الثالث: في السندات
الفصل الثالث: في السندات المبحث الأول في تعريف السندات وعوامل إصدارها وشروطة تعريف السندات: هي صكوك مالية قابلة للتداول تصدرها شركة، أو حكومة، أو شخص اعتباري، عن طريق الدعوة إلى الاكتتاب العام، ويتعلق بقرض طويل الأجل، ويعطى مالكه حق استيفاء فوائد سنوية، وحق استرداد قيمته عند حلول الأجل (¬1). فالسند بالنسبة للحكومات، والشركات أداة للاقتراض، وبالنسبة للمقرض ورقة، أو صك يثبت كونه دائنًا للمقترض بالقيمة المدونة عليها. ويلتزم مصدر السند بتسديد قيمته في التاريخ المحدد، مع فائدة ربوية على القرض يقوم بدفعها على فترات زمنية محدودة (سنوية أو نصف سنوية في الغالب) ويتم تحديد هذه الفائدة عادة بنسبة مئوية من القيمة الاسمية للسند، ولا يتوقف دفع هذه الفائدة على حصول الربح في المشروع الذي أصدرت السندات لتمويله مثلاً، بل يلزم دفعها على أي حال (¬2). ¬
شروط إصدار السندات
وقد لا يحتسب على هذه السندات فائدة، ولكنها تباع مقدمًا بحسم يجري عند بيعها من قيمتها الاسمية، يكون بمثابة الفائدة، ويحسب هذا الخصم على أساس سعر الفائدة السائد في الأسواق المالية، ويجري تداول هذه السندات عن طريق البيع في سوق الأوراق المالية (البورصة) على نفس المبدأ، وتسمى السندات ذات الكوبون الصفري (¬1). ولا فرق في الحكم الشرعي بين دفع سعر الفائدة وبين السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قروضًا يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية، ويستفيد أصحابها من هذا الحسم، باعتبار أن كلًا منها قروض بفوائد ربوية. ويطلق على السندات عدة ألفاظ منها: شهادات الاستثمار، أذونات الخزانة، وسندات القرض. شروط إصدار السندات: [ن -169] عندما قامت شركات المساهمة في أول تاريخها لم يكن هناك أنظمة وتشريعات تنظم إصدار السندات، وتركت للمتعاقدين الحرية التامة في إصدارها الأمر الذي نتج عنه سلبيات كثيرة، أبرزها توجه بعض الشركات ذات رأس المال الضئيل إلى إصدار سندات بأضعاف رأس مالها المكتتب به، وإغراء الجمهور على الاكتتاب بوعود ومزايا قد لا تتمكن الشركة من الوفاء بها، ولتلافي تلك السلبيات وحفظًا لحقوق المدخرين، وحرصًا على سلامة المركز المالي للشركات بوجه عام، تدخلت الهيئات التشريعية في معظم البلدان، وقيدت إصدار سندات القرض بعدد من الشروط أكثرها ذيوعًا الشروط التالية: ¬
(1) لا يجوز للشركات إصدار سندات قرض إلا بعد استيفاء كامل قيمة الأسهم المكتتب بها. وهذا الشرط بديهي؛ لأنه من غير المنطق أن تلجأ الشركة إلى الغير للاقتراض منه، وما يزال جزء من رأس مالها في يد المساهمين، فضلاً عن كون الحاجة الحقيقية للاقتراض لا تستبين بوضوح إلا بعد الوفاء الكلي برأس المال. (2) أن يكون الإصدار بموافقة الجمعية العمومية للشركة. فلا يجوز للشركة إصدار سندات إلا بقرار من الجمعية العامة، بناء على اقتراح مجلس إدارة الشركة مرفق ويكون القرار مرفقا بتقربر من مراقب الحسابات يتضمن الشروط التي تصدر بها السندات. والحكمة من ذلك: أن الاقتراض عن طريق السندات ليس عملا دارجا من أعمال الشركة، وإنما هو عمل يتعلق إلى حد كبير بمركز الشركة المالي، وسياستها المالية بوجه عام، لذا كان يتعين صدور قرار بذلك من الجمعية العامة للمساهمين حيث تستطيع أن تقدر مدى ملاءمة القرض لمشروع الشركة، سواء من حيث كمه، أومن حيث أجله. (3) يجب ألا تزيد قيمة السندات المصدرة عن إجمالي رأس المال الموجود بحسب آخر ميزانية جرت الموافقة عليها، وذلك بحسبان أن رأس المال يعتبر الضمان العام لدائني الشركة، فإذا زاد المبلغ المقترض عليه تعرض حملة السندات لخطر ضياع أموالهم عند إخفاق الشركة. وقد عدل هذا في قانون الشركات في النظام المصري، بألا تتجاوز القيمة الكلية للسندات صافي أصول الشركة. ويعتبر هذا التعديل في صالح دائني الشركة، إذ إن الضمان الحقيقي للدائنين
عوامل إصدار السندات
ليس هو رأس مال الشركة، بقدر ما هو أصولها، وموجوداتها الحالية والمستقبلية. (4) يجب أن تكون الشركة المقترضة قد نشرت ميزانيتها عن سنة مالية على الأقل، حتى يتسنى للجمهور معرفة المركز المالي للشركة قبل الإقدام على الاكتتاب في السندات. (5) يجب أن تكون دعوة الجمهور للاكتتاب العام في السندات عن طريق نشرة اكتتاب تشتمل على ما يلي: أ - سبب الأصدار. ب - بيان رأس مال الشركة. ج - عدد السندات التي يراد إصدارها وقيمتها. د - سعر الفائدة، والمزايا الأخرى. ص - تاريخ الاستهلاك وشروط ضمانه. و- تاريخ قرار الجمعية العمومية الخاص بالإصدار (¬1). عوامل إصدار السندات: تفضل بعض الشركات إصدار سندات بدلا من إصدار أسهم جديدة لعوامل كثيرة، وإن كان إصدار السندات يعتبر من ربا الجاهلية، بينما الأسهم يعتبر إصدارها كسبا مشروعا، ومن أهم هذه العوامل التي تراه الشركة: ¬
(1) أن إصدار السندات يجنب الشركة من المشاركة في إدارتها، أو في أرباح الشركة الفائضة. فحامل السند لا يحق له حضور الجمعية العمومية للشركة، ولا التصويت في انتخابات مجلس الإدارة، ولا يشارك المساهمين العاديين في الأرباح الفائضة، خاصة عندما يكون مردود المشروع أعلى من سعر الفائدة، وإنما يحصل على فائدة محددة مسبقا، بخلاف ما لو أصدروا أسهما جديدة، فمن المحتمل أن يفقدوا سيطرتهم على مجلس الإدارة، كما أنهم سوف يشاركونهم في الأرباح الفائضة. (2) أن إصدار السندات يجنب الشركة من تعطيل أموالها، خاصة إذا كانت حاجة الشركة إلى المال لفترة محدودة، وزمن معين، وليست دائمة. (3) قد يكون مركز الشركة المالي ضعيفاً لا يشجع الجمهور على شراء أسهمها خوفا من المخاطرة، بخلاف إصدار السندات حيث يحصل الجمهور من خلاله على عائد ثابت سالم من المخاطرة. (4) الإعفاء من الضرائب، حيث تعد فوائد السندات من جملة النفقات العامة التي تعفى من الضرائب، في حين لا تعد أرباح الأسهم من النفقات العامة، ومن ثم تفرض عليها الضرائب المقررة (¬1). ¬
المبحث الثاني في أنواع السندات
المبحث الثاني في أنواع السندات يمكن تصنيف السندات إلى أصناف كثيرة، ولا زالت الأفكار الاقتصادية تبتكر الكثير، وأهم هذه الأنواع: القسم الأول: أنواع السندات باعتبار مصدرها: تنقسم السندات باعتبار مصدرها إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: سندات المنظمات الدولية: يصدر هذا النوع من السندات من قبل الهيئات الدولية، كالبنك الدولي للإنشاء والتعمير، وتستخدم الأموال المقترضة عن طريق هذه السندات في تمويل مشاريعها، وتعتبر نوعية هذه السندات من النوعية الأولى. النوع الثاني: السندات الحكومية (سندات القطاع العام). وهي صكوك متساوية القيمة، تمثل دينا مضمونا في ذمة الحكومة، وهي ذات فوائد ثابتة غالبا، ويتم طرحها للاكتتاب العام، وتتداول بالطرق التجارية، وتكون دائمة، أو مستهلكة. وتتميز هذه السندات بخلوها من المخاطر، وتمتعها بدرجة عالية من السيولة، وإعفائها من الضرائب. وهذه السندات تتنوع بدورها بحسب طبيعة المؤسسة الصادرة عنها: (أ) سندات البلدية. (ب) سندات الخزينة.
القسم الثاني: أنواع السندات باعتبار حقوق أصحابها.
(ج) سندات حكومية بعملات أجنبية. النوع الثالث: السندات الأهلية. (سندات القطاع الخاص، أو سندات الشركات). وهي السندات التي تصدرها المؤسسات المالية، أو الشركات المساهمة العاملة في القطاع الخاص، أو الشركات التجارية، والصناعية، والخدمية، وذلك لتمويل مشاريعها، وتكون مضمونة في الغالب. وتتميز هذه السندات عن السندات الحكومية أنها تصدر بمعدلات فائدة أعلى من السندات الحكومية، ولكنها أكثر تعرضا للمخاطر المترتبة على عجز الجهة المصدرة عن الوفاء بالدين، وفوائده السنوية. القسم الثاني: أنواع السندات باعتبار حقوق أصحابها. وهذا هو أهم شيء في تقسيم السندات، وتنقسم إلى ستة أقسام: (أ) السندات العادية: وهي سندات ذات استحقاق ثابت، وهي سندات ذات قيمة واحدة، تعطى عليها فوائد ثابتة، فضلاً عن قيمتها عند نهاية مدة القرض. (ب) سندات ذات استحقاق بعلاوة إصدار: وهي سندات يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية، ويستفيد أصحابها من الفروق، باعتبارها حسما لهذه السندات. مثال ذلك: لو كانت القيمة الاسمية للسهم مائة ريال، فيدفع المكتتب تسعين ريالا، والعشرة المتبقية تسمى علاوة إصدار، وترد الشركة قيمة السند الاسمية لصاحبها (مائة ريال) فكأنها اقترضت تسعين إلى أجل، على أن تدفع مائة ريال، وعلى أساس القيمة الاسمية تحسب الفوائد السنوية.
(جـ) سندات النصيب.
(جـ) سندات النصيب. وتنقسم إلى قسمين: الأول: سندات النصيب بالفائدة: وهي سندات تصدر بقيمة اسمية، وتحدد الشركة لحاملها فائدة بتاريخ استحقاق معين، ويجري السحب عن طريق القرعة في كل عام لإخراج عدد من السندات من التداول حيث يتم استهلاكها، وتصبح مستحقة الأداء، ويدفع إلى صاحبها مع قيمتها مكافأة مالية كبيرة، ويكون معدل الفائدة السنوي التي تمنحه مثل هذا النوع من السندات أقل من المعدل العادي، وتستفيد الشركة المصدرة من الفرق لتعطيه في شكل مكافآت مالية، ويخضع إصدار مثل هذا النوع من السندات لتنظيم قانوني خاص، أو لإذن حكومي. الثاني: سندات النصيب بدون فائدة: وهي السندات التي يسترد حاملها رأس ماله فقط بدون فوائد في حالة عدم فوزه بالقرعة. (د) السند المضمون: وهو سند يصدر من الشركة إما بضمان شخصي، مثل كفالة الحكومة، أو إحدى البنوك، أو بضمان عيتي مرهون بأصل ثابت، كالأرض، والعقار، والآلات، أو برهن أوراق مالية لشركة أخرى. وتعمد الشركة إلى إصدار هذا النوع من السندات إذا ما خشيت من عدم إقبال المدخرين على الاكتتاب في السندات المطروحة من قبلها. وبسبب الضمان، وعدم وجود المخاطر، فإن عائد هذه السندات أقل من أي نوع آخر. (هـ) السندات القابلة للتحويل: وهي سندات تعطي حاملها الحق في طلب تحويلها إلى أسهم حسب القواعد المقررة لزيادة رأس المال. (و) سندات الدخل: وهي سندات يكون لها فوائد ثابتة إضافة إلى نسبة
النوع الثالث: أنواع السندات باعتبار شكلها.
محددة من أرباح الشركة، بينما غيرها تكون فائدتها دورية دون مشاركتها في أرباح الشركة. النوع الثالث: أنواع السندات باعتبار شكلها. تنقسم السندات باعتبار الشكل إلى قسمين: (أ) سندات اسمية: وهي السندات التي تحمل اسم صاحبها، وتنتقل بطريق التسجيل. (ب) سندات لحاملها: وهي السندات التي لا تحمل اسم صاحبها، ويعتبر الحائز عليه مالكا له. النوع الرابع: تقسيم السندات باعتبار قابليتها للإطفاء من عدمه. تنقسم السندات من حيث قابليتها للإطفاء إلى قسمين: (أ) سندات غير قابلة للإطفاء: وهي السندات التي لا تستطيع الشركة سداد قيمة القرض قبل حلول أجله. (ب) سندات قابلة للإطفاء: وهي سندات تملك فيه الجهة المصدرة للسند فرصة سداد القرض قبل نهاية المدة. ويكون الإقبال عليه متدنيا؛ لأن الشركة ربما تطفيه في وقت ارتفاع سعره، وهي تستدعيه بالقيمة الاسمية حسب شرط الاستدعاء، أو ربما تستدعيه الشركة حين تكون أسعار الفائدة الثابتة عليه أعلى من تلك السائدة في السوق. أنواع أخرى من السندات جديدة كل يوم. لا تزال المؤسسات الاقتصادية ودور المال تفكر في المزيد من أنواع السندات وغيرها، وتتفنن في كيفية جلب أصحاب الأموال وشدهم وجذبهم إلى إيداع مدخراتهم في تلك المؤسسات بأية وسيلة مجدية في نظرها.
وتكاد أبصارنا تقع كل يوم على نوع جديد، ومن هذه السندات: (أ) سندات بفائدة ثابتة، وشروط متغيرة. (ب) سندات مسترجعة، حيث يعطى لحاملها الحق في استرجاع قيمتها الاسمية بعد فترة محددة، ثم تقوم الشركة المصدرة بإعطاء شروط أحسن من السابق في حالة إبقاء قيمتها فترة أخرى. (ج) سندات ذات أصوات. تعطي صاحبها حق التصويت في الجمعية العمومية للشركة. (د) سندات بفائدة عائمة تتغير كل سنة، أو كل ستة أشهر على أساس سعر الفائدة الدولية مثلاً، أو أي أساس آخر. (هـ) سندات بشهادة حق، حيث تعطي صاحبها الحق في شراء أوراق مالية طيلة فترة محددة، وبسعر محدد مسبقًا (¬1). ¬
المبحث الثالث حقوق حامل السند
المبحث الثالث حقوق حامل السند [ن -170] لما كان حامل السند يعتبر دائنًا، فإن له حقوق الدائن على مدينه وله حقوقًا أساسية أخرى، وتتمثل هذه الحقوق فيما يلي: 1 - حق الحصول على فوائد سنوية ثابتة في المواعيد المتفق عليها؛ لأنه من المعلوم أن المكتتب لا يقدم على اكتتابه متبرعًا. وقد بين شراح القانون التجاري أن فوائد السندات تكون ثابتة يجنيها أصحابها، سواء ربحت الشركة، أو خسرت. 2 - الحق في استرداد قيمة السند عند حلول الأجل. 3 - حق التنازل عنه عن طريق تداوله بالطرق التجارية. 4 - لحامل السند حق الأولوية في استيفاء قيمة السند عند التصفية قبل أصحاب الأسهم. 5 - إقامة دعوى الإفلاس ضد الشركة إذا تأخرت عن دفع قيمة السندات (¬1). ¬
المبحث الرابع الفرق بين الأسهم والسندات
المبحث الرابع الفرق بين الأسهم والسندات تشترك الأسهم مع السندات في أن كلا منهما يصدر بقيم متساوية، وغير قابلة للتجزؤ، فلو ورث جماعة سندا، أو سهما، فإنهم يجب أن يختاروا من بينهم من يمثلهم في التعامل مع الشركة، وأنها قابلة للتداول حسب كونها اسمية، أو للآمر، أو لحاملها، وتصدران عن طريق الاكتتاب العام، ولكل منهما قيمة اسمية، وسعر في السوق. [ن - 171] وتختلف السندات عن الأسهم فيما يلي: (1) يعتبر حامل السند دائنا للشركة التي أصدرته، وحامل السهم شريكا في الشركة التي أصدرته. وهذا يعني أن السهم: صك يمثل جزءا من رأس المال، بينما يعتبر السند صكا يمثل جزءا من قرض، ولا تدخل قيمته في رأس المال. وهذا الفارق يجعل حامل السند لا يحق له المشاركة في إدارة الشركة، بخلاف صاحب الأسهم فإنه يحق له حضور الجمعيات العامة، والتصويت فيها، والرقابة على أعمال مجلس الإدارة. وهذا الفارق هو الفارق الجوهري تقريباً بين السند والسهم، وكل الفروق التالية مبنية على هذا التكييف. (2) يحصل حامل السند على ربح ثابت، سواء ربحت الشركة، أم خسرت، أما حامل السهم فإن ربحه يختلف بحسب نسبة الأرباح التي تحققها الشركة، فإذا لم تحقق الشركة أرباحا فلا يحصل على شيء.
(3) يقدم صاحب السند على صاحب الأسهم في الحصول على حقه في حالات التصفية. (4) حامل السهم لا يسترد قيمته إلا عند تصفية الشركة، فيما عدا حالة استهلاك الأسهم، فإذا استهلك سهمه فلا تنقطع صلته بالشركة، بل يحصل على سهم تمتع يخوله حقوقا في الشركة. أما حامل السند فله الحق في استيفاء قيمته في الميعاد المتفق عليه، ومن ثم تنقطع صلته بالشركة. (5) لا يوجد حد أدنى أو أعلى لقيمة السند الاسمية، بعكس الأسهم (¬1). ¬
المبحث الخامس خلاف الكلماء في حكم إصدار السندات
المبحث الخامس خلاف الكلماء في حكم إصدار السندات [ن -172] ذهب عامة العلماء والباحثين المعاصرين إلى أن هذه السندات لا يجوز شرعاً إصدارها, ولا شراؤها لأنها قائمة على أساس الإقراض بفائدة ربوية، سواء كانت هذه الفائدة قد حسم مقدارها على المشتري (المقرض) وقت الشراء من مبلغ القرض، أو التزم المصدر بدفعها على فترات مختلفة (¬1)، وبه صدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي، فقد جاء في قرار المجمع المذكور رقم: 60 (11/ 6) ما يلي: ¬
"بعد الاطلاع على أن السند شهادة يلتزم المصدر بموجبها أن يدفع لحامله القيمة الاسمية عند الاستحقاق، مع دفع فائدة متفق عليها، منسوبة إلى القيمة الاسمية للسند، أو ترتيب نفع مشروط، سواء أكان جوائز توزع بالقرعة، أم مبلغًا مقطوعًا، أم حسمًا، قرر ما يأتي: أولاً: إن السندات التي تمثل التزامًا بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه، أو نفع مشروط، محرمة شرعًا من حيث الإصدار، أو الشراء، أو التداول؛ لأنها قروض ربوية، سواء أكانت الجهة المصدرة لها خاصة، أو عامة ترتبط بالدولة، لا أثر لتسميتها شهادات، أو صكوكًا استثمارية، أو ادخارية، أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحًا، أو ريعًا، أو عمولة، أو عائدًا. ثانيًا: تحريم أيضًا السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قروضًا يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية، ويستفيد أصحابها من الفروق، باعتبارها حسمًا لهذه السندات. ثالثًا: كما تحرم أيضًا السندات ذات الجوائز، باعتبارها قروضًا اشترط فيها نفع، أو زيادة بالنسبة لمجمع المقرضين، أو لبعضهم لا على التعيين، فضلاً عن شبهة القمار". اهـ والدليل على تحريم إصدار السندات، أن هذه السندات قد جمعت بين أنواع الربا الثلاثة: ربا الفضل، وربا النسيئة، وربا القرض. وقد أجمع العلماء على تحريم أخذ الزيادة في مقابل القرض. قال ابن عبد البر: "وكل زيادة من عين أو منفعة يشترطها المسلف على المستسلف فهي ربا لا خلاف في ذلك" (¬1). ¬
القول الثاني
قال ابن قدامة: "كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف" (¬1). وقال القرطبي: "أجمع المسلمون نقلاً عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أن اشتراط الزيادة في السلف ربا, ولو كان قبضة من علف ... " (¬2). وقال ابن تيمية: "وقد اتفق العلماء على أن المقرض متى اشترط زيادة على قرضه، كان ذلك حرامًا" (¬3). وقال ابن مفلح: "كل قرض شرط فيه زيادة فهو حرام إجماعًا" (¬4). القول الثاني: ذهب بعض أهل العلم إلى إباحة السندات مطلقًا كالشيخ علي الخفيف -رحمه الله - (¬5)، والشيخ عبد الوهاب خلاف (¬6)، ومحمد رشيد رضا (¬7)، ود. غريب الجمال (¬8)، ود. عبد المنعم النمر (¬9)، والشيخ يس سويلم ¬
دليل من قال بإباحة السندات مطلقا
طه (¬1)، وغيرهم (¬2). دليل من قال بإباحة السندات مطلقا: الدليل الأول: أن هذه المعاملة معاملة مستحدثة، فتأخذ حكم المسكوت عنه، وهو أن الأصل في المنافع الإباحة، وفي المضار الحظر، فتكون مباحة شرعا؛ لأنها معاملة نافعة لكل من العامل، وأرباب الأموال؛ فالعامل يحصل على ثمرة عمله، ورب المال يحصل على ثمرة ماله (¬3). ويناقش: بأن دعوى أن هذه المعاملة معاملة مستحدثة دعوى غير صحيحة، وكونها أخذت مسمى جديدا فإن هذا لا يغير من حقيقتها شيئًا، فالأمور بمعانيها لا بألفاظها، وحقيقة السندات: أنها قرض إلى أجل بفائدة، هكذا عرفها أصحاب القانون والاقتصاد (¬4)، وهو يتفق مع ما ذهب إليه عامة علماء الشريعة المعاصرين، وإذا كانت قرضاً بفائدة كانت من الربا الصريح. ¬
الدليل الثاني
وأما في دعوى أنها معاملة نافعة، فيقال: نعم فيها نفع، وكذلك الخمر والميسر وربا الجاهلية فيها منافع، ولكن مضارها أكبر من نفعها, ولذا وردت النصوص بتحريمها (¬1). الدليل الثاني: الزيادة المحرمة: هي الزيادة التي يفرضها المقرض مستغلًا حاجة المقترض إلى المال، فيدفع هذه الزيادة تحت ضغط الحاجة، أما إذا كان المقترض هو الذي يحدد نسبة الربح، فإن ذلك لا يكون ربا، حيث لا ظلم عليه في ذلك؛ لأنه لا يمكن أن يظلم المرء نفسه، كما أن الربا المحرم هو ما كان فيه طالب القرض ضعيفًا محتاجًا، ومعطي المال قويًا غنيًا، فإذا انعكس الأمر، فأصبح المقترض قويًا غنيا، والمقرض ضعيفًا فقيرا، كما هو الحال في السندات التي تصدرها الدولة، أو الشركات الكبرى, لم يكن ذلك من الربا المحرم. يقول الدكتور علي عبد الرسول: "واضح مما تقدم أن حكمة تحريم الربا هي حماية الضعيف من القوي، غير أنه يوجد اليوم من القروض ما يكون فيه المقترض هو القوي، والمقرض هو الضعيف، من ذلك القرض الحكومي الممثل في سندات، وكذلك السندات التي تصدرها البلديات، وبقية الهيئات، والمؤسسات الحكومية، وكذلك السندات التي تصدرها الشركات الكبرى القوية للحصول على ما يلزمها من قروض. ¬
ويناقش هذا
ففي هذه القروض يكون المدين المقترض هو الحكومة نفسها، أو الهيئة، أو المؤسسة الحكومية، أو الشركة الكبرى. وأما الدائن المقرض فجمهور المدخرين من حملة السندات الحكومية ذات الفائدة، وغيرها من السندات، لقد تغير في هذه القروض وضع الدائن من المدين، بل إن هذا الوضع قد انقلب، فأصبح المدين هو الأقوى، وأصبح الدائن هو الضعيف، وأصبح هذا الأخير هو الجدير بالحماية، وليس من المعقول بعد ذلك أن نعتبر المدخر حامل السند ذي الفائدة مرابيًا" (¬1). ويناقش هذا: النصوص الدالة على تحريم الربا مطلقة، وهي تشمل ما إذا كان المقترض غنيا، أو فقيرًا، ومن قال: إن تحريم الاقتراض بفائدة، إنما هو خاص في حال كون المقترض فقيرًا، أما إذا كان المقترض غنيًا فلا حرج عليه في الاقتراض بفائدة، فقد ادعى دعوى ليس عليها برهان، وقيد نصوص الشرع، بما لم يقيده الله، ولا رسوله، ولم ينقل عن عالم من علماء المسلمين أنه أباح للغني القوي أن يقترض بالربا من الفقير الضعيف، وهو خلاف المعقول أيضًا؛ لأنه إذا حرم على الفقير الاقتراض بالربا مع حاجته وضعفه، فإنه من باب أولى أن يكون حرامًا على الغني من باب أولى. كما أن القول: بأن المقترض إذا كان يحدد نسبة الفائدة فلا حرج؛ لأنه لا يمكن أن يظلم نفسه، هذا أيضًا قول مخالف للصواب، فلو رضي المقترض على دفع الفائدة، وكانت مشروطة عليه عند القرض، كان ذلك من الربا المحرم، ولو طابت بها نفسه؛ لأنه لم يعلق تحريم الربا على رضا المتعاقدين. ¬
الدليل الثالث للقائلين بجواز إصدار السندات.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن السندات التي تصدرها الدولة لا يقتصر شراؤها على جمهور الناس من أصحاب الدخل المحدود، بل يشتريها أيضاً الشركات الكبرى والمؤسسات المالية المتخصصة، وشركات التأمين، فلم يكن من شروط بيع هذه السندات أن يكون المشتري ضعيفاً (¬1). الدليل الثالث للقائلين بجواز إصدار السندات. أن السندات ينطبق عليها حكم شركة المضاربة الصحيحة, وأوجه الشبه بين هذه السندات وعقد المضاربة من وجوه: الوجه الأول: أن رأس المال فيهما من أحد طرفي العقد، والعمل فيه من الطرف الآخر. الوجه الثاني: أن الربح فيه مشترك بين رب المال والعامل، وإن اختلفت فيهما صورة الاشتراك. الوجه الثالث: أن رأس المال فيهما أمانة في يد العامل؛ لأنه مال للطرف الآخر. الوجه الرابع: أن العامل في المال في الحالين يعد وكيلا عن رب رأس المال في العقدين (¬2). وأما شروط المضاربة التي ذكرها الفقهاء، ومنها كون الربح بين الطرفين مشاعا، كالنصف، أو الثلث مثلاً، فهذه شروط اجتهادية، استنبطت من قواعد ¬
الشريعة، لا من النصوص، حيث لم يرد بشأن المضاربة نص من القرآن الكريم، ولا من السنة النبوية، وكل ما ورد بشأنها، إنما هو أقوال نقلت عن بعض الصحابة تدل بمجموعها على أن التعامل بالقراض كان معروفاً عند العرب حتى جاء الإِسلام، وإذا كان الأمر كذلك، كانت هذه الشروط الاجتهادية، تختلف باختلاف الأحوال والأزمان، وإذا كان الفقهاء قد اشترطوا أن يكون الربح مشاعا كالنصف والثلث من أجل ألا يحرم أحد الطرفين من الربح في حال تحدد الجزء الذي يأخذه أحدهما، فإن هذه المشروعات مبنية على قواعد اقتصادية مضمونة النتائج، وما يأخذه صاحب المال من الربح بنسبة معينة من رأس المال قدر ضئيل بالنسبة لمجموع الربح الذي تدره المشروعات التي استثمرت فيها هذه الأموال، فكلا الطرفين استفاد، وانتفى الاستغلال والحرمان (¬1). وإذا كانت علة المنع من تحديد مقدار الربح، من أجل ألا يؤدي ذلك إلى حرمان الشريك من الربح في حال لم يزد الربح على ذلك القدر، لم يكن هذا الشرط لازما؛ لأن الفقهاء قد جوزوا صورا من التعاقد يكون ما يأتي من العامل من ربح ليس محلا للمشاركة؛ "لأنه إذا جاز في رأي بعض الأئمة، أن يعطى المال لآخر يعمل به، على أن يكون الربح جميعه لرب المال، ولا شيء للعامل كما في المواضعة، وإذا جاز أيضًا أن يجعل الربح جميعه للعامل، دون أن يكون ضامنا لرأس المال، ولا شيء منه لرب المال، وإذا جاز أن يكون الربح لأجنبي عن العقد، فأولى بالجواز: ما إذا جعل من الربح مبلغا معينا لرب المال، والباقي منه للعامل إن وجد ربح، وإلا فلا شيء للعامل، ويكون العامل ¬
مناقشة هذا الدليل
متبرعا؛ لأن هذا ليس أسوأ حالا, ولا وضعا من اشتراط كل الربح لرب المال أو لأجنبي، وذلك ما قام الاتفاق عليه، وما قصده العاقدان من العقد" (¬1). إن تحديد الربح مقدما فيه منفعة للطرفين: فصاحب المال يعرف حقه معرفة خالية من الجهالة، وفيه منفعة للعامل لحمله على الجد والاجتهاد في عمله، حتى يحقق ما يزيد على النسبة المقررة لصاحب المال، والتحديد قد تم برضى الطرفين، إضافة إلى أن عدم التحديد في زماننا هذا الذي خربت فيه الذمم، ما يجعل صاحب المال تحت رحمة صاحب العمل، فيستطيع أن يأكل ماله، وهو لا يدري (¬2). مناقشة هذا الدليل: هذا الكلام تضمن دعاوى كثيرة، وسوف أوردها واحدا واحداً، وأناقشها: تضمن الكلام دعوى: أن السندات نوع من المضاربة: وهذا الكلام مخالف للحقيقة، فلا يوجد تشابه بين المضاربة وبين السندات: وذلك أن حقيقة المضاربة: هي دفع مال لآخر ليتجر به، على أن يكون الربح مشاعا بينهما، كالنصف، أو الثلث، والخسارة على صاحب المال وحده. بينما السندات هي: أوراق مالية تصدرها الدولة، أو المؤسسات، التزاما بدين، ووثيقة عن القرض الممنوح لها، تعطي هذه السندات لحاملها حق الحصول على دخل محدد. وبناء عليه يكون هناك فرق بين المضاربة والسندات من وجوه: ¬
الوجه الأول
الوجه الأول: السند قرض بفائدة، والمضاربة شركة بين صاحب المال، وصاحب العمل. الوجه الثاني: صاحب السند يأخذ فائدة ثابتة، بصرف النظر عن الربح والخسارة، ومقدار هذه الفائدة يتناسب مع مقدار القرض، ومدة القرض، وسعر الفائدة السائد في السوق، بينما المضاربة معرضة للربح والخسارة. الوجه الثالث: صاحب السند يضمن رجوع رأس المال كاملًا في كل الأحوال، بينما تكون الخسارة في المضاربة على الربح، ولو أتى على جميعه، ثم على رأس المال، والعامل يخسر عمله وجهده. إن اشتراط الضمان في المضاربة على العامل باطل، يفسد عقد المضاربة. يقول ابن رشد: "وأجمعوا على أن صفته: أن يعطي الرجل الرجل المال، على أن يتجر به، على جزء معلوم يأخذه العامل من الربح ... وأنه لا ضمان على العامل فيما تلف من رأس المال إذا لم يتعد" (¬1). وقال ابن قدامة: "متى شرط على المضارب ضمان المال، أو سهمًا من الوضيعة، فالشرط باطل، لا نعلم فيه خلافًا" (¬2). ومن هذا نعلم أن اشتراط الفقهاء في المضاربة، ألا يكون المال والربح مضمونًا على العامل، مرده إلى أن هذا الشرط يخرج العقد من كونه قراضًا إلى كونه قرضًا. ¬
الوجه الرابع
الوجه الرابع: في المضاربة يكون على العامل أن يتجر بالمال بمقتضى الشرط بينه وبين رب المال، وأما في السندات فلا تجبر الجهة المقترضة على الاتجار؛ لأنها أخذت المال على سبيل القرض، فللدولة أن تدفع منه رواتب موظفيها، وأن تسدد ديونها, وليس لصاحب القرض أن يتدخل في طبيعة عمل المقترض. الوجه الخامس: إذا كان مصدر السندات البنوك التقليدية (الربوية) فإن البنوك ممنوعة بمقتضى أنظمتها من ممارسة الاستثمار في التجارة؛ لأنها قائمة على الإقراض والاقتراض بفائدة، فالادعاء بأن البنوك تستثمر هذه الأموال نيابة عن أصحابها بطريق المضاربة ادعاء باطل (¬1). وأما الجواب عن قولهم: إن الفقهاء هم الذين اشترطوا أن يكون الربح في المضاربة جزءًا معلومًا مشاعًا كالنصف اجتهادًا من عندهم، وليس على اشتراطه ¬
وجه الاستدلال
نص من كتاب أو سنة، وأن اعتبار هذا الشرط والقول به قد يختلف باختلاف الأحوال والزمان. فيقال: قد دلت السنة الصحيحة, والإجماع، والمعقول على اعتبار هذا الشرط. (ح - 871) أما السنة، فقد روى البخاري من حديث رافع بن خديج قال: كنا أكثر أهل المدينة حقلاً، وكان أحدنا يكري أرضه، فيقول: هذه القطعة لي، وهذه لك، فربما أخرجت ذه، ولم تخرج ذه، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (¬1). وفي رواية لمسلم: "إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الماذيانات، وأقبال الجداول (¬2)، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا، ويسلم هذا، ويسلم هذا، ويهلك هذا, ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون، فلا بأس به" (¬3). وجه الاستدلال: إذا كان اشتراط ثمرة جزء معين من الأرض في عقد المزارعة منهيًا عنه؛ لأنه قد يؤدي إلى قطع الربح، وهو المعنى الذي ورد من أجله النهي، لقوله (فربما أخرجت هذه ولم تخرج تلك) فهل من حسن الظن بهذه الشريعة العادلة أن يقال: إنها تمنع الظلم والجور في شركة المزارعة، وتبيح ذلك في شركة المضاربة، إن هذا محض تناقض تنزه عنه الشريعة الإسلامية، بل يجب على ¬
الفقهاء والمجتهدين أن يقولوا بتحريم ذلك في المساقاة والمضاربة وسائر شركات العقود كما ورد تحريم ذلك في المزارعة حيث لا فرق (¬1). قال ابن تيمية: "كان الإمام أحمد يرى أن يقيس المضاربة على المساقاة والمزارعة، لثبوتها بالنص، فتجعل أصلاً يقاس عليه -وإن خالف فيها من خالف- وقياس كل منهما على الأخرى صحيح، فإن من ثبت عنده جواز أحدهما أمكنه أن يستعمل فيه حكم الآخر لتساويهما" (¬2). وقال ابن تيمية أيضاً في معرض كلامه عن المضاربة: "لا يجوز أن يخص أحدهما بربح مقدر؛ لأن هذا يخرجهما عن العدل الواجب في الشركة، وهذا هو الذي نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - من المزارعة، فإنهم كانوا يشترطون لرب المال زرع بقعة بعينها ... فإن مثل هذا لو شرط في المضاربة لم يجز؛ لأن مبنى المشاركات على العدل بين الشريكين، فإذا خص أحدهما بربح دون الآخر لم يكن هذا عدلاً، بخلاف ما إذا كان لكل منهما جزء شائع، فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم، فإن حصل ربح اشتركا في المغنم، وإن لم يحصل ربح اشتركا في الحرمان" (¬3). وأما من الإجماع، فقد قال ابن المنذر: "وأجمعوا على إبطال القراض الذي يشترط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة" (¬4). قال ابن عبد البر: "لا أعلم خلافا، أنه إذا اشترط العامل، أو رب المال على صاحبه شيئاً يختص به من الربح معلوما ديناراً، أو درهما، أو نحو ذلك، ثم ¬
وأما من المعقول
يكون الباقي في الربح بينهما نصفين، أو على ثلث، أو ربع، فإن ذلك لا يجوز ... " (¬1). وأما من المعقول: فإن في اشتراط دراهم معلومة، يحتمل ألا يربح غيرها، فيحصل على جميع الربح، ويحتمل ألا يربحها، فيأخذ من رأس المال جزءا، وقد يربح كثيرا فيستضر من شرط له نصيب معلوم، ولهذا قال الليث بن سعد: "إن الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر، لو نظر فيه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز" قال ابن القيم تعليقا: فتبين أن النهي عن ذلك موجب القياس (¬2). وأما قولهم: إن الفقهاء قد اشترطوا أن يكون الربح مشاعا، من أجل ألا يحرم أحد الطرفين من الربح، في حال تحدد الجزء الذي يأخذه أحدهما، أما هذه المشروعات فهي مبنية على قواعد اقتصادية مضمونة النتائج، وما يأخذه صاحب المال من الربح بنسبة معينة من رأس المال قدر ضئيل بالنسبة لمجموع الربح الذي تدره المشروعات التي استثمرت فيها هذه الأموال، فكلا الطرفين استفاد، وانتفى الاستغلال والحرمان. فالجواب عنه أن يقال: أما إذا كان المصدر للسندات هي البنوك الربوية فنعم، فالربح مضمون، ليس لأنه مبني على قواعد اقتصادية سليمة، وإنما لكون نشاطها قائما على الإقراض بفائدة محددة، أعلى من معدل الفائدة على القروض التي تأخذها من السندات، وأما إذا كان السندات قد أصدرتها شركات تجارية، فإن مشروعاتها قد تربح وقد ¬
وأما قولهم: إن في تحديد الربح منفعة للعامل ولرب المال.
تخسر، ودعوى أنها مضمونة النتائج يخالفها الواقع، فليس هناك في التجارة شيء مضمون. "فهذه اليابان تعلن فيها مئات البنوك إفلاسها. وهذه الأزمة الآسيوية التي عصفت بدول جنوب آسيا برمتها، فلم تغن عنهم حساباتهم ولا دراساتهم، بل إن صندوق النقد الدولي، وهو أعلى مؤسسة مالية في العالم توقع في تقريره قبل حلول الأزمة الآسيوية ببضعة أشهر، أن يكون معدل النمو في دول النمور الآسيوية يزيد على 8 %، وهو أعلى معدلات النمو في العالم، وها هو الآن لا يريد على 0.2 % فهل يصح بعد هذا أن يقال: إن الدراسات المحاسبية تقدر بدقة نتائج الاستثمار؟ أو لا يعلم هؤلاء أن في أمريكا وحدها مجلات دورية أسبوعية، أو شهرية، متخصصة بالإعلان عن الشركات والبنوك التي تعلن إفلاسها" (¬1). وأما قولهم: إن في تحديد الربح منفعة للعامل ولرب المال. يقال جوابا على ذلك: إن الربا لا يخلو من منافع، ولكن إثم الربا وضرره أكبر من نفعه، وليس كل شيء فيه نفع يكون مباحا، حتى يغلب نفعه على ضرره. وأما قولهم: يجوز تحديد الربح مقدمًا، قياسًا على جواز الإيضاع، حيث يكون الربح كله لرب المال، أو قياسًا على جواز اشتراطه لأجنبي. فهذا من الخطأ، وبيان ذلك من وجوه: أ - أن هذا قياس في مقابلة النص، فهو فاسد الاعتبار. ¬
الدليل الرابع للقائلين بجواز إصدار السندات
ب - لو صح ذلك لجاز أن يقال: في عقد القرض: إذا جاز أن يتبرع بربح جميع المال لغيره، جاز أن يتبرع بقدر محدد منه للمقرض، وهذا لا يقول به أحد. ج - المال في الإيضاع، وفي حال التبرع بالربح لأجنبي، لم يختلف الفقهاء في كونه أمانة بيد العامل، بينما في السندات المال مضمون على العامل في كل حال، فكيف يصح قياس هذا على هذا. د - لا يصح أن تقاس عقود المعاوضات على عقود التبرعات، وذلك أن عقود التبرعات يتسامح فيها ما لا يتسامح في عقود المعاوضات، حثا للناس على التبرع، وترغيبا لهم في ذلك، ألا ترى أن صورة القرض هي تمامًا كصورة بيع النقد بالنقد نسيئة، لكن أبيح الأول؛ لأنه تبرع، ومنع الثاني؛ لأنه معاوضة، والغرر الكثير مؤثر في عقود المعاوضات بالاتفاق، أما في عقود التبرعات فالصحيح أنه غير مؤثر (¬1). الدليل الرابع للقائلين بجواز إصدار السندات: أن أموال السندات ودائع، أذن أصحابها باستثمارها (¬2). ويناقش: بأن هذا من تسمية الشيء بغير اسمه، فحقيقة الوديعة: هي أمانة تركت للحفظ، مع بقاء عينها، بغير تصرف. قال في الإنصاف: "الوديعة، تعريفها: عبارة عن توكل لحفظ مال غيره تبرعًا بغير تصرف، قاله في الفائق. ¬
وقال في الرعاية الصغرى: وهي عقد تبرع بحفظ مال غيره، بلا تصرف فيه" (¬1). فإذا تصرف فيها لم تعد وديعة، فإن كان التصرف فيها بغير إذن صاحبها، كان هذا تعديًا منه، وعندئذ يعتبر غاصبا، وإن كان بإذن صاحبها، فهي قد انتقلت من الوديعة إلى القرض (¬2). فإذا أعطي المال لجائز التصرف، وأذن له في التصرف فيه، وكان عليه رد مثله، مع كونه مضمونًا عليه، كان ذلك قرضا, وليس وديعة، فأين هذا من ذاك. فالوديعة: لا ضمان فيها إذا تلفت، إلا إذا كان هناك تعد، أو تفريط، والقرض مضمون بكل حال (¬3). ¬
القول الثالث
والوديعة: المقصود منها حفظ عين المال، والقرض: تمليك للعين على أن يرد بدله (¬1). والوديعة: يرد عينها، والقرض يرد بدلها. والوديعة: ممنوع من التصرف فيها، والقرض له مطلق التصرف؛ لأنه ملك للمقترض. وعلى التنزل، أن تكون وديعة، فإن الوديعة إذا أذن صاحبها في استعمالها تحولت إلى قرض في الفقه والقانون. أما الفقه فقد ذكرنا الفروق بين الوديعة والقرض. وأما في القانون، فقد جاء في القانون المدني المصري: "إذا كانت الوديعة مبلغًا من النقود، أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال، وكان المودع عنده مأذونًا له في استعماله، اعتبر العقد قرضاً" (¬2). القول الثالث: ذهب بعضهم إلى إباحة بعض السندات دون بعض، فذهب بعضهم إلى إباحة السندات الحكومية فقط، كالشيخ محمد سيد طنطاوي (¬3)، ومنهم من يرى إباحة السندات في حال الضرورة فقط، كالشيخ محمود شلتوت، والدكتور محمد ¬
حجة من يبيح إصدار السندات الحكومية.
يوسف، والدكتور محمد رواس قلعه جي (¬1)، ومنهم من يرى إباحة السندات ذات الجوائز كالشيخ جاد الحق علي جاد الحق (¬2). حجة من يبيح إصدار السندات الحكومية. لا تختلف حججه عن حجج القول السابق، من ذلك: الحجة الأولى: أن مشتري السندات إنما دفعوا أموالهم للبنك بقصد توكيله، ليستثمرها لهم، ولم يدفعوها بقصد القرض (¬3). ويناقش: بأن البنك إذا كان وكيلًا عن أصحابها لوجب أن يتحمل أصحاب هذه الأموال نتيجة هذا الاستثمار من ربح أو خسارة، ذلك أن تصرفات الوكيل تقع للموكل، كما هو مقرر شرعًا، والوكيل أمين لا يضمن، وإنما يأخذ أجره إن كانت الوكالة بأجرة، أما أن تقع تصرفات البنك عن نفسه، ويتحمل هو نتيجة عمله، فرط أو لم يفرط، وصاحب المال يسترد ماله، ويأخذ على ذلك ربحًا ثابتًا، فليس ذلك من الوكالة في شيء. والعبرة في العقود بمعانيها لا بألفاظها، فلو دفع شخص لآخر ألف ريال، ¬
الحجة الثانية
وقال: وكلتك في استثماره على أن ترد لي بعد سنة ألفًا ومائتي ريال مثلاً، بصرف النظر عن نتيجة هذا الاستثمار، كان ذلك قرضًا جر نفعاً، فيكون حراما, ولا ينفعه أن يظهر ذلك بصورة الوكالة، وإلا فلن يعجز أحد يريد أن يقرض قرضاً ربويا، أن يظهر ذلك في صورة الوكالة، والله -عز وجل - لا تنطلي عليه الحيل. ولذلك قال ابن قدامة في المضاربة، وهي مبنية على الوكالة: "وإن قال: خذ هذا المال فاتجر به، وربحه لك، كان قرضاً، لا قراضا" (¬1). وقال الدردير -رحمه الله -: " (وضمنه) العامل أي: يضمن مال القراض لربه لو تلف، أو ضاع بلا تفريط (في) اشتراط (الربح له) أي للعامل، بأن قال له ربه: اعمل فيه، والربح لك؛ لأنه حينئذ صار قرضاً، وانتقل من الأمانة إلى الذمة" (¬2). فإذا كان لو صرح المتعاقدان بالوكالة، واشترطا مثل ذلك، كان ذلك قرضاً محرمًا، فكيف إذا كان العقد في حقيقته وظاهره عقد قرض بزيادة، أيصح أن يقال: بجوازه وتخريجه على الوكالة؟ (¬3). الحجة الثانية: أن ما يقدمه البنك لأصحاب السندات من أرباح، هو جزء من أرباحه التي تتحقق عن طريق المشروعات الإنتاجية التي يقيمها، أو يشارك فيها (¬4). ¬
ويناقش
ويناقش: بأن أصحاب السندات لا علاقة لهم بالمشروعات التي يستثمر فيها البنك تلك الأموال؛ لأن العقد الذي بينهم وبين البنك هو عقد قرض، يملك فيها البنك تلك الأموال، ويتصرف فيها كيف يشاء، ولا يوجد في عقد القرض الذي أصدرت به السندات ما يلزم البنك بدفع الفوائد من هذه الأرباح، بحيث إذا لم يحقق البنك ربحًا من مشروعاته، لا يستحقون شيئًا من الفوائد، بل يأخذون الفوائد المتفق عليها، سواء ربح البنك أو خسر، ولا يوجد اتفاق مع البنك باستغلال هذه القروض في مشاريع استثمارية مباحة، ولا يعتبر أصحاب السندات شركاء مع البنك في تلك المشاريع إن وجدت، وللبنك أن يقوم بإقراض تلك الأموال بفائدة على آخرين، كما هي وظيفة البنوك الربوية (¬1). الحجة الثالثة: أن تحديد الفوائد يتم بالتراضي بين البنك وبين أصحاب السندات، وأن لهذه السندات فوائد: منها توفير فرص العمل والقضاء على البطالة (¬2). وهذه الحجة تمت مناقشتها فيما سبق، وأن أخذ الفوائد على القرض يعتبر من الربا المحرم، ولم يقل أحد من العلماء بأن الربا يعتبر حلالًا إذا تم ذلك بالرضا بين المدين والدائن، وكون الربا يشتمل على منافع، فهذا لا يحيى أخذ الربا؛ لأن الذي حرم الربا يعلم أن فيه منافع، ولكن اقتضت حكمة الله -سبحانه وتعالى - تحريمها لكون الأضرار الناتجة عنه أكبر من نفعه. ¬
الحجة الرابعة
الحجة الرابعة: حاجة الدولة إلى العملات الأجنبية حاجة تصل إلى حد الضرورة، والضرورة تبيح المحرمات (¬1). وهذه الحجة هي حجة من أباح السندات فقط في حال الضرورة، ولذا أرجي مناقشتها عند ذكر حجة هذا القول. حجة من يبيح إصدار السندات في حال الضرورة. جاء في البحر الرائق: "يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح" (¬2). المقصود بالحاجة هنا الضرورة، والفقهاء يعبرون بالحاجة تارة ويقصدون بها الضرورة. وذلك أن مجرد الحاجة لا تبيح المحرم، خاصة إذا كان محرمًا لذاته كربا النسيئة، وإنما الضرورة فقط هي التي تبيح المحرم (¬3). قال الشافعي -رحمه الله -: "وليس يحل بالحاجة محرم إلا في الضرورات" (¬4). ويحتمل أن تكون الحاجة هنا على ظاهرها، وبناء عليه تنزل الحاجة منزلة الضرورة. ¬
جاء في غمز عيون البصائر: "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت، أو خاصة" (¬1). وقال الزركشي: "الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق آحاد الناس" (¬2). "ومعنى كون الحاجة عامة: أن الناس جميعًا يحتاجون إليها فيما يمس مصالحهم العامة، من تجارة، وزراعة، وصناعة، وسياسة عادلة، وحكم صالح. ومعنى كون الحاجة خاصة: أن يحتاج إليها فرد أو أفراد محصورون أو طائفة خاصة كأرباب حرفة معينة. والمراد بتنزيلها منزلة الضرورة: أنها تؤثر في الأحكام، فتبيح المحظور، وتجيز ترك الواجب، وغير ذلك، مما يستثنى من القواعد الأصلية" (¬3). والربا -وإن كان حراما- فإنه تبيحه الضرورة إذا لم يجد الرجل من يقرضه، أو قامت بالأمة حاجة إلى مشاريع يكون فيها قوامها، وديمومتها، والمشقة تجلب التيسير. قال أبو بكر بن العربي المالكي عند ذكر القاعدة السابعة من قواعد البيوع في القبس: "اعتبار الحاجة في تجويز الممنوع كاعتبار الضرورة في تحليل المحرم ... ومن ذلك حديث العرايا وبيع التمر فيها على رؤوس النخل بالتمر الموضوع على الأرض، وفيه من الربا ثلاثة أوجه: بيع الرطب باليابس. ¬
والعمل بالحزر والتخمين في تقدير المالين الربويين. وتأخير القبض إن قلنا: إنه يعطيها له إذا حضر جذاذ التمر" (¬1). ويقول ابن تيمية: "يجوز للحاجة ما لا يجوز بدونها، كما جاز بيع العرايا بالتمر استثناء من المزابنة للحاجة ... " (¬2). ويقول ابن تيمية في معرض كلامه على إباحة الغرر اليسير: "والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم، إذا عارضتها حاجة راجحة، أبيح المحرم" (¬3). ويقول الدكتور محمد يوسف موسى: "إنني أرى وجوب التفرقة بين ضروب الأعمال المختلفة التي يحتاج القائمون بها إلى الاقتراض بفوائد ثابتة، في شكل سندات يصدرونها لأصحاب الأموال. إنني أرى -والعلم لله وحده- أنه لا يجوز شرعًا أن يتوسع تاجر أو صانع أو صاحب مؤسسة أو شركة في أعماله، معتمدًا على الاقتراض بفائدة، ولكن هناك مشاريع عمرانية، لا بد منها للبلد، تقوم بها الدولة، أو بعض الأفراد، وهناك شركات صناعية تقوم بأعمال حيوية للأمة، لا تستغني عنها بحال، ويتوقف على هذه الأعمال كثير من المرافق العامة القومية، فهذه المشروعات والشركات والمؤسسات العامة وأمثالها ينبغي أن يسندها القادرون بالمساهمة فيها على الوجه الذي لا خلاف في جوازه شرعًا، أي بأن يكونوا أصحاب أسهم لا سندات, فإن لم يكن هذا ممكنا، وكان من الضروري أن تظل قائمه بأعمالها التي لا غنى للأمة عنها، كان لها شرعًا إصدار سندات بفائدة مضمونة تدفع من الأرباح التي لا شك في الحصول ¬
ويناقش ما سبق
عليها من المشروع، ما دام لا وسيلة غير هذه تضمن لها البقاء، وما دام وجودها وبقاؤها ضروريًا للأمة. إن هذا لا يكون من الربا المحرم شرعًا، الربا الذي يكون تجارة لمن يقوم به ولفائدته وحده على أنه إن كان ربا، أو فيه شبهة من الربا الذي لا شك في أنه حرام شرعًا، فهو يجوز للضرورة كما قلنا، فالضرورة تبيح المحظورات، وما ضاق أمر إلا واتسع حكمه، رحمة من الله بالناس، والمشقة تجلب التيسير، وكل هذه قواعد كلية عامة يعرفها الفقه والفقهاء، بل إن الفقه قام عليها في كثير من أحكامه" (¬1). ويناقش ما سبق: نسلم أن الضرورة تبيح الحرام، ومنه الربا, ولكن لا نسلم قيام الضرورة في إصدار السندات، وذلك من وجوه: الوجه الأول: أن حد الضرورة التي تبيح المحرم أن يبلغ الإنسان "حدًا إن لم يتناول الممنوع هلك، أو قارب، كالمضطر للأكل، واللبس، بحيث لو بقى جائعاً، أو عريانًا، لمات، أو تلف منه عضو" (¬2). ولو ترك المستثمر بالسندات الاستثمار بها لم يهلك، ولم يقارب، فالتعامل بالسندات بعيد كل البعد عن وقوعه في الضرورة التي تبيح المحرم. ولا يعتبر إفلاس الشركة ضرورة؛ لأن إفلاس الشركة لا يلزم منه إفلاس الشركاء، وإذا أفلست شركة أمكن أن تقوم شركة أخرى مقامها. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: من شرط الضرورة التي تبيح الحرام ألا تندفع إلا بارتكاب الحرام، أو ترك الواجب، وهذا الشرط لا يتحقق في السندات؛ لأن وسائل الاستثمار المباحة لا تكاد تحصى كثرة، من ذلك الشراء بالتقسيط، أو عن طريق السلم. فيشترط لجواز تناول المحرم في حال الضرورة، أن يعلم يقينًا، أن فعل المحرم يرفع الضرورة، ويحصل به المقصود، ومعلوم أن الشركة التي تقترض بالربا عن طريق إصدار السندات عند تعرضها للإفلاس مثلًا، لا يعلم على وجه اليقين أن ذلك يقيها من الإفلاس، بل قد يزيدها إفلاسا. يقول ابن تيمية في بيان عدم جواز التداوي بالخمر: "والذين جوزوا التداوي بالمحرم، قاسوا ذلك على إباحة المحرمات، كالميتة، والدم للمضطر، وهذا ضعيف لوجوه: أحدها: أن المضطر يحصل مقصوده يقينا بتناول المحرمات، فإنه إذا أكلها سدت رمقه، وأزالت ضرورته، أما الخبائث بل وغيرها فلا يتيقن حصول الشفاء بها، فما أكثر من يتداوى بها فلا يشفى، ولهذا أباحوا دفع الغصة بالخمر، لحصول المقصود بها، وتعيينها له، بخلاف شربها للعطش، فقد تنازعوا فيه. فإنهم قالوا: إنها لا تروي. الثاني: أن المضطر لا طريق له إلى إزالة ضرورته، إلا الأكل من هذه الأعيان، وأما التداوي فلا يتعين تناول هذا الخبيث طريقاً لشفائه" (¬1). فثبت بذلك ألا ضرورة أصلا إلى التعامل في السندات الربوية طريقًا لحل المشكلات المالية، والله أعلم. ¬
الوجه الثالث
الوجه الثالث: أن الساعين إلى إباحة الربا، تارة يبررون ذلك بالضرورة، فيبيحون للمحتاج الفقير أخذ الربا؛ لدفع حاجته، كما هو الحال هنا، وتارة ينقضون ذلك، فيحرمونه على الضعيف؛ لأن ذلك من باب استغلال حاجته، وهذا لا يجوز، بخلاف القوي، كالدولة، والشركات الكبيرة، فيجوز لهم الاقتراض بالفائدة، وقد تقدم نقل كلامهم وهذا عكس ذلك تماما، وهو من باب تناقض الباطل، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. حجة من يبيح إصدار السندات إذا كانت من قبيل الجوائز. أن شهادات الاستثمار ذات الجوائز دون الفائدة، تدخل في نطاق الوعد بجائزة الذي أباحه بعض الفقهاء، ومن ثم تصبح قيمة الجائزة من المباحات شرعاً (¬1). ويناقش: بأن شهادات الاستثمار ذات الجوائز، قد جمعت بين الربا، والقمار، فهي أشد قبحا، وإليك بيان ذلك: أما اشتمالها على الربا: فلأن فوائد البنوك تسير حسب نسبة مئوية مقررة، ولا يستطيع أي بنك أن يخالف هذه النسبة المقررة إلا بقدر ضئيل، قد لا تكون وسيلة مجدية للإغراء، والفائدة المحددة نفسها لا تكون كافية لإغراء صنف من الناس، ومن هنا جاء التفكير في إعطاء جوائز، فبدلا من أن توزع الفوائد ¬
الراجح
الفائضة في صورة فوائد بنسبة مئوية زائدة عن النسبة المقررة، توزع في صورة جوائز بالقرعة بين المقرضين، وهي لا تختلف عن الفوائد الربوية، إلا في طريقة التوزيع، فهي فوائد ربوية للقرض، بعد أن قسمت، ووزعت بطريقة القرعة، وكلما زاد الناس إقبالا، زادت الفوائد، فزادت الجوائز (¬1). وأما اشتمالها على القمار والميسر: فلأن هذه الجوائز إذا قسمت عن طريق القرعة، قد يأخذ من أقْرَض مبلغا قليلاً، جائزة قيمتها مرتفعة جداً، ويأخذ من أقرض مبلغا كبيرًا، جائزة قيمتها قليلة، ويدفع طمع الناس بالحصول على الجوائز المرتفعة إلى شراء هذه السندات، وهذا واضح فيه القمار والميسر. الراجح: لقد أخذ مني التفكير وقتا حين بحثت هذه المسألة، هل من السائغ أن يذكر القول المخالف مع شذوذه ومخالفته الحق الواضح، في حكم هذه السندات، بل ومخالفته حتى رجال القانون الذين عرفوا السندات بأنها قرض بفائدة؟ هل يستحق هذا القول مع هذه المخالفة والشذوذ عن قول عامة العلماء أن يناقش وتذكر حججه، وكأن المسألة من مسائل الخلاف؟ ثم رأيت أنه ليس من حقي أن ألغي الخلاف مهما كان شاذا, ولم أتهم معاذ الله - ولا ينبغي لي - نيات قائليه، ورأيت أن هذا التردد نتيجة تربية خاطئة في التعامل مع خلاف العلماء، وأن منهج العلماء المتقدمين الراسخين في ¬
العلم، ما زالوا يحكون لنا الأقوال الغريبة والشاذة خارقين فيها حكاية الإجماع في مسائل الفقه المختلفة، ولم يحملهم ذلك على إلغائها, ولا على القدح في قائليها, ولنا فيهم أسوة حسنة، رحم الله المجتهدين، وغفر الله للمخالفين، فاستقر القول عندي أن الإجماع ليس قائمًا مع هذه المخالفة، فانشرح صدري لذكره، ومناقشته كغيره من أقوال أهل العلم، ونظرت إلى القول وقائله باحترام وعذر وإنصاف، ورحم الله الإِمام الشافعي حين قال: "والمستحل لنكاح المتعة والمفتي بها والعامل بها ممن لا ترد شهادته، وكذلك لو كان موسرًا فنكح أمة مستحلًا لنكاحها مسلمة أو مشركة؛ لأنا نجد من مفتي الناس وأعلامهم من يستحل هذا، وهكذا المستحل الدينار بالدينارين، والدرهم بالدرهمين يدًا بيد، والعامل به؛ لأنا نجد من أعلام الناس من يفتي به ويعمل به ويرويه، وكذلك المستحل بإتيان النساء في أدبارهن فهذا كله عندنا مكروه محرم، وإن خالفنا الناس فيه فرغبنا عن قولهم، ولم يدعنا هذا إلى أن نجرحهم، ونقول لهم: إنكم حللتم ما حرم الله، وأخطأتم؛ لأنهم يدعون علينا الخطأ كما ندعيه عليهم، ويتسبون من قال قولنا إلى أنه حرم ما أحل الله -عز وجل -" (¬1). والذي لا شك فيه عندي، أن هذه السندات محرمة شرعًا، وأن متعاطيها وامع في الربا الصريح، إلا أن يكون معذورًا بتقليد أو اجتهاد، والله أعلم. ¬
المبحث السادس حكم تداول السندات
المبحث السادس حكم تداول السندات الكلام هنا مفرع على قول عامة أهل العلم، ممن يرى تحريم إصدار السندات، وليس على قول من أباحها مطلقًا، أو أباحها في بعض الأحوال دون بعض، وإذا كان الصحيح من أقوال أهل العلم حرمة إصدار السندات، فهل هذا يعني: تحريم تداولها بالبيع؟ باعتبار أن مشتري السند يظل دائنًا للشركة المصدرة، ويتقاضى على دينه فوائد ربوية، وذلك محرم شرعًا، وما أدى إلى الحرام فهو حرام؟ [ن -173] أو أن حكم التداول يمكن أن يأخذ حكمًا مختلفًا عن حكم إصدارها؟ فالجواب: أن هناك من يطلق تحريم تداول السندات بدون تفصيل: وهذا ما أقره مجمع الفقه الإِسلامي، ومجلس الإفتاء بالمملكة الأردنية الهاشمية، ووزارة الأوقاف الإِسلامية بالمملكة المغربية، وهو قول عامة الفقهاء المعاصرين: منهم الشيخ شلتوت (¬1)، والشيخ الزرقاء (¬2)، والقرضاوي (¬3)، ونزيه حماد (¬4)، والسالوس (¬5)، ......... ¬
والسعيدي (¬1)، والزحيلي، ومحمد عثمان شبير (¬2). جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي: "السندات التي تمثل التزاما بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه، أو نفع مشروط محرمة شرعاً، من حيث الإصدار، أو الشراء، أو التداول؛ لأنها قروض ربوية ... " (¬3). وجاء في قرار مجلس الإفتاء في المملكة الأردنية الهاشمية: "يرى مجلس الإفتاء في المملكة الأردنية الهاشمية أن الصكوك المسماة بصكوك الإذن الحكومية، أو صكوك الخزينة، هي صكوك قرض ربوي محرم بالنصوص القطعية في كتاب الله تعالى العزيز، والسنة النبوية الثابتة، وأن تسميتها بخلاف ذلك لا يغير شيئًا من طبيعتها هذه، فلا يجوز شرعاً استثمار المال بطريق شرائها، وتداولها ... " (¬4). ويقول الشيخ الزرقاء: " ... صكوك الإذن الحكومية، هي مثل سندات التنمية، كلاهما قروض ربوية، لا يجوز في الشريعة الإِسلامية التعامل بها أخذا، وإعطاء، أو بيعا، وشراء ... " (¬5). ¬
ويقول الشيخ نزيه حماد: "وهذه السندات لا يجوز شرعًا إصدارها, ولا شراؤها, ولا تداولها بالبيع. أما شراؤها عند الإصدار: فلأنه إقراض بفائدة ربوية ... وأما تداولها بالبيع بعد صدورها مع الحسم، فهو من باب بيع الدين لغير من هو عليه، وهو غير جائز شرعًا في قول أحد من الفقهاء إذا انطوى على الربا حتى عند من يرى صحة بيع الدين لغير من هو عليه، ولا خفاء في تحقق الربا في بيع هذا النوع من السندات، إذ البدلان من النقود، ومن المعلوم المقرر في باب الصرف، عدم جواز بيع النقود بجنسها مع التفاضل، أو النساء، وحتى عند اختلاف الجنس يجب التقابض، وقد انتفى في هذا البيع شرط التساوي، والتقابض، فتحقق فيه ربا الفضل والنساء في قول سائر الفقهاء" (¬1). وهناك من يجيز بيع أصل السند دون الفائدة المأخوذة عليه، باعتباره قرضًا شرعيًا إذا حذف منه ما اشمل عليه من الربا، فإن صاحب السندات قد يحتاج إلى التخلص من السندات الربوية، وليس أمامه في هذه الحالة إلا طريقان: الطريق الأول: استرداد ما دفعه إلى الشركة المصدرة، بأن يقبض من الشركة قيمة السند الاسمية دون فوائده، تطبيقا لقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]. الطريق الثاني: أن يبيع أصل الدين الذي يمثله السند، أي دون فوائده الربوية، وفي هذه ¬
الحالة، لا يخلو: إما أن يبيعه على الشركة المصدرة، أو على غيرها فإن باعه على الشركة المصدرة صار بمنزلة بيع الدين على من هو عليه، وإذا باعه على غيرها صار بمنزلة بيع الدين على غير من هو عليه، ولأهل العلم في كل مسألة خلاف، نذكره فيما يلي إن شاء الله تعالى. وممن اختار هذا القول الشيخ مبارك آل سليمان (¬1)، والشيخ المترك (¬2). وهذا التفصيل أدق من إطلاق القول بالتحريم مطلقاً، ولأن هذا القول يفتح بابا للناس للتخلص من الحرام دون أخذ الفوائد المحرمة، وإذا جرد السند من فوائده أصبح قرضاً من القروض، وأخذ حكم بيع الدين، والأصل فيه الإباحة. ¬
الفرع الأول بيع السندات على من تولى إصدارها
الفرع الأول بيع السندات على من تولى إصدارها [م - 1255] إذا باع صاحب السند دينه (المتمثل في أصل السند دون فوائده) على الشركة المصدرة للسند، كان الخلاف فيه يدخل ضمن بيع الدين على من هو عليه، وهذه مسألة سبق بحثها في مسألة التصرف في الدين والخلاف فيها على قولين: فقيل: يجوز بيع الدين على من هو عليه، وهو قول الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). بشروط، منها: الشرط الأول: أن يكون المبيع مما يجوز بيعه قبل قبضه، وهذا الشرط احتراز به من أمرين: ¬
الأمر الأول
الأمر الأول: الاحتراز من دين السلم فلا يجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه عند الحنفية والشافعية والحنابلة مطلقاً (¬1)، وخص المالكية المنع بالطعام خاصة؛ لأنه يؤدي إلى بيع الطعام قبل قبضه (¬2). وقد سبق بحث مسألة بيع المسلم فيه قبل قبضه في عقد السلم ورجحت جوازه. الأمر الثاني: ألا يكون البيع في بدل صرف، أو رأس مال لسلم، فلا يجوز بيع أي منهما قبل قبضه؛ لأن القبض شرط لصحة العقد، وانتفاء القبض يبطل العقد، فلم يثبت ملكه عليه، فلا يصح صرود عقد آخر عليه قبل انبرامه؛ لعدم ثبوت الملك فيه (¬3). الشرط الثاني: اشترط المالكية، وأحمد في قول له، وإسحاق بن راهوية (¬4)، وهو قول ¬
الشرط الثالث
عثمان البتي (¬1)، ورجحه ابن تيمية وابن القيم (¬2)، أن يكون البيع بسعر يومه أو دونه، لا أكثر منه، وهذا الشرط معتبر؛ لأن بيعه بأكثر من ثمنه يدخل في ربح ما لم يضمن. جاء في المدونة: "قال مالك: لا بأس أن تبيع ما سلفت فيه، إذا كان من غير ما يؤكل ويشرب، من غير الذي عليه ذلك السلف، بأقل أو بأكثر أو بمثل ذلك إذا انتقدت، وأما الذي عليه السلف فلا تبعه منه قبل الأجل بأكثر، ولا تبعه منه إلا بمثل الثمن أو أقل، ويقبض ذلك" (¬3). والله أعلم. الشرط الثالث: اشترط المالكية أن يكون الدين حالا (¬4). الشرط الرابع: اشترط المالكية أن يعجل البدل، ويقبض في مجلس الاستبدال ليسلم من فسخ الدين بالدين. ¬
جاء في التاج والإكليل: "شروط بيع الدين ممن هو عليه، وهي ألا يكون الدين طعاماً ... وأن يتعجل العوض ... " (¬1). وقال القرافي: "الدين كالعين الحاضرة في جواز البيع بشرط قبض البدل في المجلس" (¬2). واشترط الشافعية في الأصح القبض في متحدي العلة، أما مختلفيهما فيشترط فيه التعيين فقط حتى لا يكون من بيع الدين بالدين. جاء في حاشية البجيرمي على الخطيب: "وأما بيع الدين لمن هو عليه فلا يشترط القبض إلا في متحدي العلة، أما مختلفهما فيشترط فيه التعيين فقط" (¬3). وذكر ابن تيمية بأن بيع الدين على من هو عليه إن باعه بما لا يباع به نسيئة، كان يكون الدين برا، فباعه بشعير، أو باعه بموصوف في الذمة غير معين، اشترط التقابض، وإن باعه بمعين، ففيه وجهان: أحدهما: لا يشترط القبض. والثاني: يشترط؛ لأنه يشبه بيع الدين بالدين. قال ابن تيمية: "يجوز بيع الدين ممن هو عليه؛ لأن ما في الذمة مقبوض للمدين، لكن إن باعه بما لا يباع به نسيئة اشترط فيه الحلول والقبض لئلا يكون ربا، وكذلك إذا باعه بموصوف في الذمة، وإن باعه بغيرهما، فوجهان: أحدهما: لا يشترط كما لا يشترط في غيرهما. ¬
القول الثاني
والثاني: يشترط؛ لأن تأخير القبض نسيئة كبيع الدين بالدين" (¬1). القول الثاني: لا يجوز بيع الدين ولو كان على من هو عليه، وهو قول ابن حزم (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3)، وحكي عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن شبرمة (¬4). وقد ذكرنا أدلة كل قول في مبحث التصرف في المبيع إذا كان دينًا، فأغنى عن إعادته هنا. يقول الشيخ المترك -رحمه الله -: "قد اتضح مما تقدم أن السند عبارة عن قرض بفائدة؛ لأنه يمثل دينا على الشركة، ويستحق صاحبه فائدة سنوية محددة، سواء ربحت الشركة أو خسرت، فهو داخل في نطاق المعاملات الربوية، وعليه فإن إصدارها من أول الأمر عمل غير شرعي، وبالتالي فإن تداولها بالبيع والشراء غير جائز شرعًا ولا يصح لحامل السند بيعه (¬5). ولكن لو قدر أن السند يمثل دينًا مشروعًا فهل يصح بيعه؟ الجواب: أن هذا يكون من باب بيع الدين، فيجوز بيعه على من هو عليه بشرط أن يقبض عوضه في المجلس، لحديث ابن عمر: (كنت أبيع الإبل بالنقيع ¬
بالدنانير، ونأخذ عوضها بالدراهم، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء) " (¬1). وإذا باع دينه على من هو عليه، فإما أن يبيعه بجنسه، أو بغير جنسه، فإن باعه بجنسه اشترط التساوي والتقابض؛ لأنه مال ربوي بيع بجنسه، وهذا يعني أن حامل السند كأنه رجع إلى المقترض، واسترد مبلغه منه؛ لأن الدراهم مال مثلي، متساوية قيمة آحاده. وإن باعه بغير جنسه، وكان مما يجري فيه الربا، اشترط التقابض، وجاز التفاضل، كما لو كان السند دينًا بالريال، فباعه بالدولار مثلًا إلا أنه يشترط في مثل هذه الحالة ألا يربح فيه لما جاء في الأثر (تأخذها بسعر يومها). ولأن الربح فيه ربح فيما لم يضمن، وهذا منهي عنه. وإن باعه بعروض معينة، جاز التفاضل والنساء، بالشرط السابق، وهو عدم الربح في ذلك، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني في بيع السندات على غير الشركة المصدرة
الفرع الثاني في بيع السندات على غير الشركة المصدرة إذا كان صاحا السند يريد أن يبيع أصل السند على غير الشركة المصدرة، فإن الخلاف فيه كالخلاف في بيع الدين على غير من هو عليه. فإما أن يكون الثمن مؤجلا، أو يكون الثمن حالا، ولكل حكمه، وسوف نبحث كل مسألة في مبحث مستقل.
المسألة الأولى بيع أصل السند بثمن مؤجل
المسألة الأولى بيع أصل السند بثمن مؤجل [م - 1256] إذا كان الثمن مؤجلا، فقد ذهب الأئمة الأربعة إلى منع بيع الدين على غير المدين بثمن مؤجل (¬1). قال الكاساني: "الدين لا يقبل التمليك لغير من عليه الدين" (¬2). واعتبره المالكية قسما من أقسام الكالئ بالكالئ. قال الخرشي: " (وبيعه بدين) هذا هو القسم الثاني من أقسام الكالئ، والمعنى أن الدين ولو حالا لا يجوز بيعه بدين" (¬3). وجاء في البهجة في شرح التحفة: "وأما إذا باعه لغير من هو عليه فيجوز قبل ¬
الأجل وبعده بشرط أن يكون الثمن نقدًا، لا مؤجلا فيمنع مطلقا؛ لأنه من بيع الدين بالدين" (¬1). وجاء في حاشية الجمل: "حاصل الصور في هذا المقام أربعة: بيع الدين بغير دين لمن هو عليه، ولغير من هو عليه، وهاتان صحيحتان، الأولى باتفاق، والثانية على المعتمد. وبيع الدين بالدين لمن هو عليه ولغير من هو عليه، وهاتان باطلتان" (¬2). وقال في شرح منتهى الإرادات: "ولا بيع دين لغير من هو عليه مطلقاً .. " (¬3). وصحح المالكية بيع الدين بعين ولو كانت العين مؤجلة (¬4). قال الخرشي: "وفهم من قوله: بدين عدم منع بيع الدين بمعين يتأخر قبضه، أو بمنافع معين" (¬5). وعلل المالكية جواز بيع الدين بعين مؤجلة، بأن العين لا تثبت دينا في الذمة، ولو تأخر تسليمها؛ فهو من قبيل بيع الدين بحاضر. ولأن هذا التصرف فيه شغل لذمتي البائع والمشتري بدون فائدة، وذلك أن البائع لم يستلم الثمن حتى ينتفع به، والمشتري لم يستلم المبيع ليقضي حاجته، فكلاهما غير محتاج لهذه المعاملة حين التعاقد. قال ابن تيمية: "فإن ذلك منع منه؛ لئلا تبقى ذمة كل منهما مشغولة بغير فائدة ¬
حصلت، لا له ولا للآخر، والمقصود من العقود القبض، فهو عقد لم يحصل به مقصوده أصلا، بل هو التزام بلا فائدة" (¬1). ¬
المسألة الثانية بيع أصل السندات على غير من هو عليه بثمن حال
المسألة الثانية بيع أصل السندات على غير من هو عليه بثمن حال [م - 1257] وإن كان بيع أصل السندات على غير من هو عليه بثمن حال، كان الخلاف فيه كالخلاف في بيع الدين على غير من هو عليه بثمن حال. فمن الفقهاء من قال: لا يجوز بيع الدين لغير المدين مطلقاً. وهو قول الحنفية (¬1)، وإحدى القولين للشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب ¬
الحنابلة (¬1). وقيل: يجوز بيع الدين مطلقاً، وهو رواية عن أحمد، اختاره ابن تيمية (¬2). وقيل: يجوز بيع الدين بالعين بشروط، وهو مذهب المالكية (¬3)، والراجح ¬
عند الشافعية (¬1). وقد سبق لنا ذكر أدلة كل قول، والراجح فيها، فأغنى عن إعادتها هنا، والله أعلم. يقول الشيخ المترك: "لو قدر أن السند يمثل دينًا مشروعًا، فهل يصح بيعه؟ ... وأما بيعه على غير من هو عليه، فالذي يترجح هو الجواز إذا بيع السند بغير نقود، كأن يبيعه بأرز، أو شعير، أو سيارة. وأما إذا باعه بنقود فلا يصح؛ لأنه بيع دراهم حالة بدراهم مؤجلة، ومن شرط صحة ذلك التقابض إذا كانت النقود من غير جنس النقود المباعة، وإذا ¬
كانت النقود من جنسها، فيشترط أيضًا مع التقابض التماثل فلا يباع السند بثمن أقل مما يمثله، فلو كان السند يمثل عشرة جنيهات، فلا يصح أن يباع بأحد عشر جنيهًا نسيئة؛ لأنه يكون فيه ربا فضل، وربا نسيئة" (¬1). ويضاف إلى هذا الشرط شرطان آخران، وهو ألا يربح فيه؛ لأن الدين مضمون على المدين، وإذا ربح الدائن فيه يكون قد ربح في شيء لم يدخل في ضمانه، وقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ربح ما لم يضمن. وأن يتعين الثمن حتى لا يكون من باب بيع الدين بالدين. ¬
المبحث السابع البديل الشرعي للسندات
المبحث السابع البديل الشرعي للسندات كان من عناية الشريعة أنها إذا منعت الناس من أمر، ذكرت البديل الشرعي لهم قال تعالى: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: لا تفعل بع الجمع بالدراهم واشتر بالدراهم تمرًا جنيبا (¬1). فإذا كانت سندات القرض محرمة، فهناك أكثر من بديل شرعي، نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر. من ذلك: (1) سندات الإجارة. (2) سندات القراض. (3) سندات السلم. وقد تمت والحمد لله دراسة عقد السلم بشكل مستقل ولله الحمد. (4) سندات الاستصناع. وقد تمت دراسة عقد الاستصناع بشكل مستقل ولله الحمد. (5) سندات التوريد. وقد تمت دراسة عقد التوريد ولله الحمد بعد عقد الاستصناع. (6) صكوك الاستثمار. ¬
وسوف نستعرض إن شاء الله تعالى من خلال المباحث التالية دراسة كل من سندات القراض، وسندات الإجارة، وما عداها من البدائل سوف تبحث في مظانها من هذه الموسوعة، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
الفرع الأول سندات المقارضة (المضاربة)
الفرع الأول سندات المقارضة (المضاربة) المسألة الأولى التعريف بسندات للمقارضة تعريف سندات المقارضة: عرفها مجمع الفقه الإِسلامي بقوله: "هي أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال القراض (المضاربة) بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة، ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصًا شائعة في رأس مال المضاربة، وما يتحول إليه بنسبة ملكية كل منهم فيه. ويفضل تسمية هذه الأداة الاستثمارية (صكوك المقارضة) " (¬1). فمن خلال هذا التعريف يتبين للقارئ الكريم أن سندات المقارضة تستمد أحكامها من عقد المضاربة في الفقه الإِسلامي. فهي تقوم على تجميع المدخرات والأموال اللازمة على شكل صكوك متساوية القيمة يشكل مجموعها رأس المال المطلوب لمشروع معين، أو مشروعات متعددة، فإذا تجمع لدى المؤسسة المالية رأس المال المطلوب بشراء أرباب المال لهذه الصكوك باشرت العمل. ويعامل حامل السند معاملة صاحب المال، وتعامل الشركة معاملة المضارب، وينال كل طوف نصيبه من الأرباح إذا تحققت، ويتحمل الخسائر إن لحقت. ¬
أنواع سندات القراض
ويتم التعامل في هذه السندات وفقا لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الخراج بالضمان) والقاعدة الفقهية (الغنم بالغرم). وإذا رغب حامل السند في تسبيله، فيمكن له ذلك عن طريق تداوله في سوق الأوراق المالية. أنواع سندات القراض: النوع الأول: سندات المقارضة المشتركة. وهي عبارة عن سندات بفئات معينة يصدرها المصرف، ويطرحها في السوق، ويقوم بتمويل المشاريع المختلفة من حصيلتها، ومن ثم يتم تقسيم الأرباح الناتجة عن هذه الاستثمارات بينه وبين أصحاب رؤوس الأموال حاملي السندات بنسب محددة، ومتفق عليها مسبقا. النوع الثاني: سندات المقارضة المخصصة: وهي عبارة عن سندات لمشاريع خاصة ومحددة، يكتتب فيها الراغبون في هذه المشروعات، كل على حسب اختياره ومن حصيلتها يمول المصرف تلك المشروعات، ومن ثم يقتسم المصرف صافي الربح المتحقق بينه وبين حاملي هذه السندات بنسب محددة ومتفق عليها (¬1). ¬
المسألة الثانية الحكم الفقهي لسندات المقارضة
المسألة الثانية الحكم الفقهي لسندات المقارضة [ن -174] سندات المقارضة هي من المعاملات المستحدثة، وقد كانت محل عناية وبحث لأعضاء مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وقد صدر قرار المجمع بجوازها وفق لفروط خاصة، وإليك نص القرار: الحمد لله رب العالمين والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم. قوار رقم (5) د 4/ 08/ 88 بشأن سندات المقارضة وسندات الاستثمار: إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ ، الموافق 6 - 11 فبراير 1988 م. بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة في موضوع (سندات المقارضة وسندات الاستثمار) والتي كانت حصيلة الندوة التي أقامها المجمع بالتعاون مع المعهد الإِسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإِسلامي للتنمية بتاريخ 6 - 9 محرم 1408 هـ / 30/ 8 - 2/ 9/ 1987 م تنفيذ القرار رقم (10) المتخذ في الدورة الثالثة للمجمع، وشارك فيها عدد من أعضاء المجمع وخبرائه وباحثي المعهد وغيره من المراكز العلمية، والاقتصادية وذلك للأهمية البالغة لهذا الموضوع، وضرورة استكمال جميع جوانبه، للدور الفعال لهذه الصيغة في زيادة القدرات على تنمية الموارد العامة عن طريق اجتماع المال والعمل.
العنصر الأول
وبعد استعراض التوصيات العشرة التي انتهت إليها الندوة ومناقشتها في ضوء الأبحاث المقدمة في الندوة وغيرها، قرر ما يلي: أولاً: من حيث الصيغة المقبولة شرعا لصكوك المقارضة: 1 - سندات المقارضة هي أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال القراض (المضاربة) بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصا شائعة في رأس مال المضاربة وما يتحول إليه، بنسبة ملكية كل منهم فيه. ويفضل تسمية هذه الأداة الاستثمارية (صكوك المقارضة). 2 - الصورة المقبولة شرعا لسندات المقارضة بوجه عام لا بد أن تتوافر فيها العناصر التالية: العنصر الأول: أن يمثل الصك ملكية حصة شائعة في المشروع الذي أصدرت الصكوك لإنشائه، أو تمويله، وتستمر هذه الملكية طيلة المشروع من بدايته إلى نهايته. وترتب عليها جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعا للمالك في ملكه من بيع، وهبة، ورهن، وإرث، وغيرها، مع ملاحظة أن الصكوك تمثل رأس مال المضاربة. العنصر الثاني: يقوم العقد في صكوك المقارضة على أساس أن شروط التعاقد تحددها (نشرة الإصدار) وأن (الإيجاب) يعبر عنه (الاكتتاب) في هذه الصكوك، وأن (القبول) تعبر عنه موافقة الجهة المصدرة. ولا بد أن تشتمل نشرة الإصدار على جمع البيانات المطلوبة شرعا في عقد
العنصر الثالث
القراض (المضاربة) من حيث بيان معلومية رأس المال، وتوزيع الربح مع بيان الشروط الخاصة بذلك الإصدار، على أن تتفق جميع الشروط مع الأحكام الشرعية. العنصر الثالث: أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بعد انتهاء الفترة المحددة للاكتتاب باعتبار ذلك مأذونا فيه من المضارب عند نشوء السندات مع مراعاة الضوابط التالية: أ - إذا كان مال القراض المتجمع بعد الاكتتاب وقبل المباشرة في العمل بالمال ما يزال نقودًا، فإن تداول صكوك المقارضة يعتبر مبادلة نقد بنقد، وتطبق عليه أحكام الصرف. ب - إذا أصبح مال القراض ديونا تطبق على تداول صكوك المقارضة أحكام التعامل بالديون. ج - إذا صار مال القراض موجودات مختلطة من النقود والديون والأعيان والمنافع فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقا للسعر المتراضى عليه، على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعيانا ومنافع. أما إذا كان الغالب نقودًا، أو ديونًا، فتراعى في التدال الأحكام الشرعية التي ستبينها لائحة تفسيرية توضع وتعرض على المجمع في الدورة القادمة. وفي جميع الاْحوال يتعين تسجيل التداول أصوليًا في سجلات الجهة المصدرة. العنصر الرابع: أن من يتلقى حصيلة الاكتتاب في الصكوك لاستثمارها، وإقامة المشروع بها
هو المضارب، أي عامل المضاربة، ولا يملك من المشروع إلا بمقدار ما قد يسهم به بشراء بعض الصكوك، فهو رب مال بما أسهم به بالإضافة إلى أن المضارب شريك في الربح بعد تحققه بنسبة الحصة المحددة له في نشرة الإصدار، وتكون ملكيته في المشروع على هذا الأساس. وأن يد المضارب على حصيلة الاكتتاب في الصكوك، وعلى موجودات المشروع هي يد أمانة لا يضمن إلا بسبب من أسباب الضمان الشرعية. 3 - مع مراعاة الضوابط السابقة في التداول: يجوز تداول صكوك المقارضة في أسواق الأوراق المالية إن وجدت بالضوابط الشرعية وذلك وفقا لظروف العرض والطلب ويخضع لإرادة العاقدين. كما يجوز أن يتم التداول بقيام الجهة المصدرة في فترات دورية معينة بإعلان، أو إيجاب يوجه إلى الجمهور تلتزم بمقتضاه خلال مدة محددة بشراء هذه الصكوك من ربح مال المضاربة بسعر معين ويحسن أن تستعين في تحديد السعر بأهل الخبرة وفقا لظروف السوق، والمركز المالي للمشروع. كما يجوز الإعلان عن الالتزام بالشراء من غير الجهة المصدرة من مالها الخاص، على النحو المشار إليه. 4 - لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار، أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال، أو ضمان ربح مقطوع، أو منسوب إلى رأس المال، فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمنا بطل شرط الضمان، واستحق المضارب ربح مضاربة المثل. 5 - لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار ولا صك المقارضة الصادر بناء عليها على نص يلزم بالبيع، ولو كان معلقًا أو مضافا للمستقبل.
ويترتب على ذلك
وإنما يجوز أن يتضمن صك المقارضة وعدًا بالبيع. وفي هذه الحالة لا يتم البيع إلا بعقد بالقيمة المقدرة من الخبراء وبرضا الطرفين. 6 - لا يجوز أن تتضمن نشرة الإصدار ولا الصكوك المصدرة على أساسها نصا يؤدي إلى احتمال قطع الشركة في الربح فإن وقع كان العقد باطلا. ويترتب على ذلك: أ - عدم جواز اشتراط مبلغ محدد لحملة الصكوك، أو صاحب المشروع في نشرة الإصدار، وصكوك المقارضة الصادرة بناء عليها. ب - أن محل القسمة هو الربح بمعناه الشرعي، وهو الزائد عن رأس المال، وليس الإيراد أو الغلة. ويعرف مقدار الربح، إما بالتنضيض، أو بالتقويم للمشروع بالنقد، وما زاد عن رأس المال عند التنضيض، أو التقويم فهو الربح الذي يوزع بين حملة الصكوك، وعامل المضاربة، وفقا لشروط العقد. ج - أن يعد حساب أرباح وخسائر للمشروع وأن يكون معلنًا وتحت تصرف حملة الصكوك. 7 - يستحق الربح بالظهور، ويملك بالتنضيض، أو التقويم، ولا يلزم إلا بالقسمة. وبالنسبة للمشروع الذي يدر إيرادًا، أو غلة فإنه يجوز أن توزع غلته. وما يوزع على طرفي العقد قبل التنضيض (التصفية) يعتبر مبالغ مدفوعة تحت الحساب. 8 - ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الأصدار على اقتطاع نسبة معينة في نهاية كل دورة، إما من حصة الصكوك في الأرباح في حالة وجود
تنضيض دوري، وإما من حصصهم في الإيراد أو الغلة الموزعة تحت الحساب ووضعها في احتياطي خاص لمواجهة مخاطر رأس المال. 9 - ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار، أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين، على أن يكون التزاما مستقلا عن عقد المضاربة بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطا في نفاذ العقد، وترتب أحكامه عليه بين أطرافه، ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة، أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به بحجة أن هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد (¬1). ¬
الفرع الثاني سندات المقارضة لدى الأوقاف الأردنية
الفرع الثاني سندات المقارضة لدى الأوقاف الأردنية المسألة الأولى التعريف بسندات المقارضة لدى الأوقاف الآردنية عرض الدكتور سامي حسن حمود فكرته (سندات المقارضة) على وزارة الأوقاف بهدف سد الاحتياجات التمويلية لإعمار الممتلكات الوقفية. وتشكلت لجنة مختصة لدراسة الفكرة من الناحية الفقهية، وآلت المناقشات المطولة إلى اعتماد سندات المقارضة أسلوبًا تمويليًا، وصدر بنشأتها قانون خاص مؤقت يحمل رقم (10) لسنة 1981 هـ. ويتلخص فيما يلي: (1) سندات المقارضة تمثل حصصًا شائعة في رأس مال المضاربة، متساوية القيمة، فحامل السند يعتبر مالكًا لحصة شائعة في المشروع، وله جميع الحقوق، والتصرفات المقررة شرعًا للمالك في ملكه من بيع، وهبة، ورهن، وإرث، ويسجل السند باسمه، ويشترك في الأرباح. (2) رأس المال مكون من عروض (أراضي الوقف) تقدمها وزارة الأوقاف، ومال يقدمه رب المال (المكتتب). وبما أن أرض الوقف لا يجري عليها الملك؛ لأنها محبوسة عن التصرف في رقبتها، تكون المشاركة بين الوقف، ومالكي سندات المقارضة باعتبارهم يملكون البناء.
(2) تكون هذه الصكوك قابلة للتداول بعد انتهاء فترة الاكتتاب. (3) يحصل مالكو السندات على نسبة محدودة من أرباح المشروع، وتحدد هذه النسبة في نشرة إصدار السندات، ولا تنتج سندات المقارضة أي فوائد، كما لا تعطي مالكها الحق في المطالبة بفائدة سنوية محددة. (4) إطفاء دوري لقيمة السند الاسمية. بحيث تخصص نسبة من الأرباح (الإيراد أو الغلة) للإطفاء التدريجي لأصل قيمة السند الأصلية (القيمة الاسمية) وبذا يسترد صاحب السند مقدار ما دفعه أولا بأول، وينال من خلال هذه الفترة ربحا معقولا، وبنهاية المدة المقررة للإطفاء ينتهي صاحب المشروع إلى امتلاك المشروع ودخله كاملا. فالربح يقسم مثلا إلى قسمين: 20 % من أرباح المشروع للجهة المتولية لإدارة المشروع (وزارة الأوقاف). 80 % من الأرباح لرب المال المتمثل في مالكي سندات المقارضة، وتقسم هذه إلى قسمين: قسم منها توزع كأرباح لمالكي سندات المقارضة، ولتكن مثلا بمقدار (30%). والباقي 50 % يوزع كتسديد لأصل رأس المال بالقيمة الاسمية للسند، وليس بالقيمة السوقية، بحيث لا يمضي زمن إلا وقد استرد المكتتبون رأس مالهم، ولا يعود لهم حق في المشروع الذي تعود ملكيته لإدارة الأوقاف الذي يملك الأرض. (5) ضمان لرأس مال المقارضة، بحيث يقوم طرف ثالث مثل الدولة بضمان رأى المال للمكتتيين بحيث لا يتعرض المكتتبون للخسارة، وتعاد لهم أموالهم
كاملة غير منقوصة بصرف النظر عن ربح المشروع أو خسارته، وذلك تشجيعًا للاكتتاب في هذا النوع من السندات. وهذا الضمان ليس تبرعًا من قبل الحكومة، وإنما يعتبر قرضًا حسنًا للمشروع يجب سداده فور الإطفاء الكامل للسندات (¬1). المقارنة بين سندات المقارضة مطلقًا، وسندات المقارضة الأردنية: وجه الاختلاف بين سندات المقارضة التي أقرها المجمع وسندات المقارضة التي أقرها القانون الأردني: الأول: اشتراط إطفاء السند، وهو شراء السند من المضارب بالقيمة الاسمية للسند، وليس بالقيمة السوقية. الثاني: أن الضامن للقيمة الاسمية للسند هو متبرع بحسب ما أقره المجمع الفقهي، ومقرض بحسب ما أقره القانون الأردني، وإذا كان مقرضًا كان الضمان الحقيقي يقع على كاهل المضارب، الذي هو أصلاً لا يقع عليه ضمان، ولا يجوز بالإجماع اشتراط الضمان عليه إلا إذا تعدى أو فرط. فيما عدا ذلك يعتبر المجمع متفقا مع القانون الأردني. ¬
المسألة الثانية الحاكم الفقهي لسندات المقارضة بحسب القانون الأردني
المسألة الثانية الحاكم الفقهي لسندات المقارضة بحسب القانون الأردني [ن -175] اختلف العلماء في سندات المقارضة الأردنية على قولين: القول الأول: يرى أن سندات مقارضة الأوقاف الأردنية سندات قرض ربوي لا تفترق عن سندات القرض الربوية إلا في الاسم، ولكن المسمى واحد. وقد ذهب إلى هذا كل من الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير (¬1)، والدكتور رفيق المصري (¬2)، والقاضي محمد تقي عثماني (¬3)، والشيخ عبد الله ابن منيع (¬4)، والدكتور علي السالوس (¬5)، والدكتور حسن الأمين (¬6)، والشيخ يوسف الشبيلي (¬7). ¬
وقد استدلوا على ذلك بما يلي
وقد استدلوا على ذلك بما يلي: الدليل الأول: أن هذه السندات في حقيقتها عقد قرض، اشترط فيه المقترض للمقرض زيادة على ما اقترضه منه، ووثق هذا العقد بكفيل، وهذا وحده يكفي لإفساد العقد، وإبعاده عن عقد المضاربة، والدليل على ذلك أن وزارة الأوقاف تدفع للمقرضين أصل قيمة السند (القيمة الاسمية) وليس القيمة الفعلية للسند، بما يسمى اصطلاحًا (إطفاء السند) وتكون المباني التي أقيمت على أرض الوقف بأموال مالكي السندات تصبح مملوكة لوزارة الأوقاف، فكان الجهة القائمة على المشروع قد استقرضت من المكتتبين أموالاً، وتعهدت بإرجاعها لهم على التدريج مع زيادة سنوية تسمى ربحًا، وهذا يعتبر ربا محرمًا شرعًا. إن وزارة الأوقاف لا تستطيع أن تتملك البناء المقام فوق الأرض الموقوفة إذا كانت الأموال التي صرفت فيه أموال مضاربة؛ لأنه يكون مملوكًا لأرباب المال، ولا يمكن أن ينتقل إلى وزارة الأوقاف (المضارب) إلا بسبب ناقل للملكية. أما إذا كانت الأموال التي صرفت في البناء قرضًا مضمونًا على وزارة الأوقاف، فإن البناء يكون مملوكًا لها من أول الأمر، وليس بعد سداد القرض. فلو كانت هذه السندات عبارة عن مقارضة حقيقية لتملكت وزارة الأوقاف في حدود قيمة الأرض (أرض الوقف) وأرباب المال في حدود اكتتابهم أي ما دفعوه، وإذا قامت وزارة الأوقاف بتسديد قيمة هذه السندات فإنه يجب عليها تسديد هذه السندات بقيمتها وقت السداد (القيمة السوقية)؛ لأن الشركاء يملكون صافي موجودات المشروع، أي أن لهم حقًا عينيًا على الموجودات، وما يطرأ عليها من أرباح أو خسائر.
الدليل الثاني
يقول الدكتور رفيق المصري: "وهي -يعني السندات- قروض من حيث إنها تسدد بقيمتها الاسمية ... فلو كانت مشاركات لوجب تسديدها بقيمتها وقت السداد؛ لأن الشركاء يملكون صافي موجودات المشروع؛ أي لهم حق عيني على الموجودات، وما يطرأ عليها من أرباح أو خسائر رأس مالية، والظاهر أن مالكي سندات المقارضة ليس لهم إلا حق نقدي اسمي في ذمة الطرف الآخر، وهذا مركز الدائن لا مركز، الشريك" (¬1). ويقول الدكتور علي السالوس: "السندات الأردنية تتفق مع السندات ذات الفوائد الربوية -في أن صاحب السند ليس له إلا القيمة الاسمية للسند دون المشاركة في المشروعات التي يستخدم فيها السند، ومصدر السند ضامن لرد المثل في جميع الحالات، ولصاحب السند زيادة على رأس المال المدفوع" (¬2). الدليل الثاني: ضمان رأس المال الأصلي يجعل المضاربة فاسدة. وجه ذلك: أن الخسارة في المضاربة على رأس المال خاصة، وليس على العامل منها شيء، وإنما يخسر المضارب جهده فقط. يقول ابن قدامة: "متى شرط على المضارب ضمان المال، أو سهما من الوضيعة فالشرط باطل، ولا نعلم فيه خلافا" (¬3). أما في سندات القراض فإن العامل (جهة الإصدار) هو الذي يتحمل الخسارة، حيث تتعهد وزارة الأوقاف برد رأس المال لمالكي السندات، ومعه ¬
وأجيب
ضمان حكومة المملكة الأردنية لوزارة الأوقاف تسديد هذا المبلغ في حال عجزها عن ذلك (¬1). وأجيب: بأن ضمان الحكومة ضمان طرف ثالث، والممنوع في الشريعة أن يضمن أحد طرفي العقد للطرف الآخر الربح، أو رأس المال، فإن جاء الضمان من شخص أجنبي، وضمن لأحدهما ما يخسره في العقد فلا مانع شرعاً. ورد هذا الجواب: بأن ضمان الطرف الثالث فيه خلاف بين أهل العلم فيما إذا كان الطرف الثالث متبرعا، وهذا غير وارد في الصيغة الأردنية؛ لأن ضمان الحكومة هنا ليس ضمان متبرعا، وإنما هو قرض مؤجل مستحق الوفاء فور الإطفاء الكامل للسندات، تسترده الحكومة من وزارة الأوقاف (المضارب) وبالتالي فالضمان الحقيقي يقع على كاهل المضارب الذي هو أصلا لا يجوز أن يقع عليه ضمان إلا في حال التعدي أو التفريط. تقول المادة (12): "تكفل الحكومة تسديد سندات المقارضة الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة ... وتصبح المبالغ المدفوعة لهذا السبب قرضاً ممنوحا للمشروع بدون فائدة مستحق الوفاء فور الإطفاء الكامل للسندات" (¬2). الدليل الثالث: أن طريقة توزيع الأرباح في هذه السندات لا تتماشى مع قواعد المضاربة، وذلك من وجهين: ¬
القول الثاني
(أ) أن المعروف في عقد المضاربة أن يوزع الربح بكامله بين أرباب المال والمضارب، كل على حسب نسبته، بينما في هذه السندات يخصص جزء من الأرباح المستحقة لمالكي السندات لتسديد أصل قيمة السند، وهو ما يعرف بإطفاء السندات، وهذا فيه ظلم بين، فإن مالكي السندات يستحقون ربحهم كاملًا مع بقاء أصل مالهم في الشركة، فكيف تخصم هذه الأرباح من رؤوس أموالهم. (ب) أن محل القسمة في المضاربة هو الربح بمعناه الشرعي، وهو الزائد عن رأس المال، وليس الإيراد، أو الغلة، ويعرف مقدار الربح إما بالتنضيض، أو بالتقويم، وما زاد عن رأس المال فهو الربح الذي يوزع وفقًا لشروط العقد، بينما في هذه السندات يوزع الإيراد السنوي كما نص على ذلك القانون الخاص بسندات المقارضة. ولتوضيح الفرق بينهما نفرض أن العقد بين مالكي السندات وجهة الإصدار هو في إقامة مشروع عقاري بقيمة (10) ملايين ريال، فلو فرضنا أن قيمة الإيجار السنوي لهذا المشروع (مليون ريال)، وأن قيمة العقار انخفضت في نهاية السنة الأولى إلى ثمانية ملايين ريال بسبب الاستهلاك، أو غيره، فإن قيمة الإيراد (الإيجار) السنوي، وهو المليون لا يصح اعتبارها أرباحًا؛ لأن رأس المال لم يسلم حتى الآن. ولو ارتفعت قيمة المبنى إلى (12) مليونًا مثلاً، فإن الإيجار لا يمثل كامل الربح الحقيقي (¬1). القول الثاني: يرى فريق من الباحثين أن سندات القراض تعتبر تطبيقًا حديثًا لعقد المضاربة ¬
دليل هؤلاء على هذا التخريج
المعروف في الفقه الإِسلامي، يتفق مع القواعد العامة للاقتصاد الإِسلامي، وبهذا قال الدكتور سامي حمود، وهو صاحب فكرة (سندات المقارضة) والدكتور عبد السلام العبادي، وحسين حامد حسان، ومختار السلامي (¬1). دليل هؤلاء على هذا التخريج: أن أركان عقد المضاربة قد تحققت في هذه السندات على النحو التالي: (رب المال) ويمثله في سندات المقارضة مجموعة المكتتبين. (المضارب) ويمثل في العقد بوزارة الأوقاف، وهي ليست فردا، أو شخصية فردية، وإنما هي شخصية اعتبارية. (رأس المال) مجموع ما تحصل من الاكتتاب، إضافة إلى العقارات المشرفة عليها وزارة الأوقاف، والتي عليها ستقام المشاريع المدرة للأرباح. والجديد في هذه المعاملة هو تقسيم رأس المال إلى وحدات متساوية القيمة الاسمية لأجل تسهيل تداول هذه الحصص دون الحاجة إلى تصفية المشروع محل الاستثمار. وكون الدولة تضمن لأصحاب الأموال رؤوس أموالهم إنما هو طرف ثالث، خارج عن طرفي المضاربة، فلا هي رب المال، ولا المضارب، ذلك أن وزارة الأوقاف لها شخصية معنوية، واستقلال مالي وإداري. والضمان الممنوع الذي يبطل عقد المضاربة هو ضمان المضارب للخسارة، لئلا يجتمع عليه خسارتان: خسارة جهده، وخسارة رأس المال. وأما مسألة الإطفاء، فيمكن تخريجها على إجازة بعض الفقهاء شراء رب ¬
ويناقش
المال من مال المضاربة لتعلق حق المضارب به، وهذا يعني أن مال المضاربة ليس ملكاً خالصا لرب المال، وإلا كيف يحق له شراؤه، والتعويل على رضا الطرفين وقبولهما بهذا الشرط المسبق في هذه الصورة المستحدثة للمضاربة، وقد رضي الطرفان اعتماد القيمة الاسمية أساسا لتقدير قيمة الأعيان التي قامت في المشروع. ويناقش: بأن المأخذ على هذا القول فيما يأتي: الأمر الأول: في إطفاء السند بالقيمة الاسمية. فالإطفاء: مصطلح اقتصادي محدث، وهو يعني استرداد صاحب السند لقيمة السند، والخلاف ليس في جواز الإطفاء، وإنما الخلاف في قيمة الإطفاء، فإن كان الإطفاء يعني استرداد رب المال ماله، وكان مال المضاربة قد تحول إلى عروض ومبان، فالاسترداد يقتضي بيع تلك العروض أو المباني، ثم إعطاء رب المال ماله سائلًا، والإشكال في الإطفاء حسب القانون الأردني حصوله بالقيمة الاسمية، والسؤال: كيف يرد المضارب القيمة الاسمية (رأس المال الأصلي) مع أن زمنا قد مضى على هذه القيمة، وقد تغيرت ارتفاعا، أو انخفاضا، فالمفروض أن يكون الرد بالقيمة السوقية بعد حسم حصة المضارب منه، وهذا هو الذي ينطبق عليه بأنه استرداد رب المال ماله من المضاربة، وتسديد حصة الشريك بالقيمة الاسمية يعني حرمانه من حقه المتمثل في الفرق بين القيمة الاسمية والقيمة السوقية، وهذا يخرجه من وصف الشريك إلى وصف الدائن. الأمر الثاني: في ضمان المضارب رأس المال، ودعوى أن الحكومة هي التي تعهدت بالضمان، وهي طرف ثالث، فالحقيقة أن الضامن الفعلي هو
الراجح
المضارب؛ لأن المال الذي تدفعه الحكومة تعتبره قرضًا بدون فائدة، وليس تبرعًا، ويستحق الوفاء فور الإطفاء الكامل للسندات، مما يجعل الضامن في الحقيقة هو المضارب، وليس الحكومة. وهذا يتنافى مع مقتضى عقد المضاربة. الراجح: بعد استعراض الخلاف أجد أن القول بتحريم سندات القراض بحسب القانون الأردني أقوى من القول بالجواز، والله أعلم.
الفرع الثالث سندات الإجارة
الفرع الثالث سندات الإجارة المسألة الأولى التعريف بسندات الإجارة تعريف سندات الإجارة: هي سندات (وثائق) متساوية القيمة، تمثل حصصًا شائعة في ملكية أعيان مؤجرة، أو منافع، أو خدمات عين معينة أو موصوفة في الذمة (¬1). وهذا التعريف هو التعريف الذي اختارته هيئة المعايير الشرعية للمؤسسات المالية في المعيار (17) الخاص بصكوك الاستثمار (¬2). وتتمتع هذه السندات بكثير من خصائص الأوراق المالية، من ذلك: (أ) لها قيمة اسمية متساوية. (ب) قابليتها للتداول. (ج) لا تقبل التجزئة في مواجهة المصدر، فلو آل الصك لعدة ملاك بسبب إرث، أو هبة، أو وصية، فعليهم أن يختاروا واحداً منهم يكون ممثلًا لهم أمام الجهة المصدرة. (د) تعتبر بديلا إسلاميا مهما لبعض الأوراق المالية الربوية كالسندات، وأذونات الخزينة. ¬
أنواع صكوك الإجارة
(هـ) تتمتع هذه السندات باستقرار نسبي قد يصل قريبًا من درجة الثبات في عوائدها الصافية، وتتمتع الحكومية منها بالإضافة إلى ذلك بدرجة عالية من الثقة، والضمان، واستقرار العائد. (و) تعتبر سندات الإجارة أداة متميزة للسياسة النقدية للدولة في هذا العصر، وذلك لاحتياج الحكومات إلى أوراق مالية ذات استقرار نسبي في أسعارها، لتستخدمها في سياستها النقدية التي تهدف إلى تنظيم كمية النقود الموجودة في أيدي الناس، بحيث تتمكن من بيع هذه الأوراق عندما ترغب في تقليل كمية النقود الموجودة في أيدي الناس أو في السوق، ومن شرائها عندما تتجه إلى زيادة تلك الكمية، وقلما تتمكن الحكومات من استعمال أسهم شركات المساهمة في هذا المجال بسبب التقلبات الفاحشة والكثيرة التي تطرأ على أسعارها في الأسواق المالية (¬1). أنواع صكوك الإجارة: من خلال تعريف سندات الإجارة السابق يتبين أنها ثلاثة أنواع: 1 - سندات ملكية الأصول المؤجرة. 2 - سندات ملكية المنافع المؤجرة. 3 - سندات ملكية الخدمات. ¬
المسألة الثانية سندات ملكية الأصول المؤجرة
المسألة الثانية سندات ملكية الأصول المؤجرة المطلب الأول التعريف بسندات ملكية الأصول المؤجرة وبيان خصائصها تعريف سندات ملكية الأصول المؤجرة: يمكن تعريفها بأنها: صكوك متساوية القيمة عند إصدارها، تمثل حصصا شائعة في ملكية أعيان مؤجرة، أو موعود باستئجارها، يمكن تداولها بالطرق التجارية، ولا تقبل التجزئة (¬1). صورة صكوك الإجارة: أن يقوم مالك عين أو أعيان مؤجرة إما بنفسه أو عن طريق وسيط مالي بتقسيم ملكية هذه الأعيان إلى صكوك متساوية العدد، ثم يطرحها للاكتتاب العام، على أن كل صك من هذه الصكوك يمثل حصة شائعة من هذه العين أو الأعيان. مثاله: أن يقوم شخص طبيعي أو معنوي، يملك مصنعا أو عقارا مؤجرا أو موعودا باستئجاره يريد بيعه لمجموعة من الناس من خلال الصكوك الاستثمارية، فيقدر ثمنه من خلال أهل الخبرة، ولنفرض أن المصنع قيمته ¬
خصائص سندات ملكية الأصول المؤجرة
(مائة ألف ريال) فيجعلها صكوكًا متساوية القيمة، كل صك بألف ريال مثلاً، فيطرح ذلك للاكتتاب، فيكتتب فيه الناس (¬1). مثال آخر: أن تقوم شركة النقل البحري المالكة لناقلة بترول مؤجرة على شركة أرامكو السعودية لمدة عشر سنوات بأجرة مقدارها خمسة عشر مليون ريال سنويًا، فتقوم شركة النقل بتقسيم ملكية هذه الناقلة إلى مليون صك، قيمة كل صك منها مائة ريال، يمثل كل صك منها جزءا من مليون جزء من ملكية الناقلة، وعليه فإن حملة الصكوك يستحقون ما تدفعه شركة أرامكو السعودية من أجرة سنوية، ويكون لملاك الصكوك غنم هذه الناقلة، وعليهم غرمها (¬2). ويمكن أن يكون الصك لعقار مؤجر، أو لطائرة مؤجرة، أو خطوط سكة حديدية مؤجرة، أو مصفاة بترول مؤجرة، ما دام يمكن تحديد العين المؤجرة تحديدًا يقطع النزاع والخصومة، وقد تكون الأعيان التي يمثلها الصك شيئًا واحداً، وقد يكون لمجموعة أشياء. المهم أن الصك يمثل ملكية أعيان حقيقية، وأن الأعيان مؤجرة قدر عائدًا هو الأجرة، وأن الصك قابل للتداول، وأن قيمة هذه الصكوك خاضعة لعوامل السوق، فإذا ارتفعت القيمة السوقية لهذه الأعيان ارتفعت قيمة الصكوك، وتهبط قيمتها إذا انخفضت القيمة السوقية للأعيان التي تمثلها. خصائص سندات ملكية الأصول المؤجرة: [ن -176] من خلال التعريف والأمثلة السابقة يتبين أن لهذه السندات خصائص الأوراق المالية لما يلي: ¬
(أ) كونها تمثل حصة شائعة متساوية القيمة عند الإصدار. (ب) كونها قابلة للتداول. (جـ) كونها لا تقبل التجزئة. (د) المشتري لهذه السندات يصبح مالكاً لهذا العقار، والمشترون معه يصبحون شركاء معه في شركة ملك، وليست شركة عقد. (هـ) عائد العقار من أجرة ونحوها يقسم على أصحاب الأسهم الذين يملكون بمجموعهم العقار، وهو يمثل في حقيقتة سندات ملك، وليست سندات إجارة، وبعضهم يفضل تسميتها بـ (صكوك الإجارة) بدلا من سندات الإجارة، ولا مشاحة في الاصطلاح.
المطلب الثاني التوصيف الفقهي والحكم الشرعي لصكوك ملكية الإجارة
المطلب الثاني التوصيف الفقهي والحكم الشرعي لصكوك ملكية الإجارة بيان التوصيف الفقهي لصكوك ملكية الإجارة: [ن -177] هذه الصورة من الصكوك تمثل بيع حصة مشاعة في عين مؤجرة أو موعود باستئجارها. فالبائع: هو مصدر هذه الصكوك، وهو شركة النقل البحرى مثلا. والمشتري: هم المكتتبون في هذه الصكوك. والسلعة المبيعة: ناقلة البترول. وثمن السلعة: حصيلة الاكتتاب. وعليه فإن حملة هذه الصكوك هم شركاء في ملكلية العين المؤجرة على الشيوع: شركة ملك، لهم عنهما، وعليهم غرمها (¬1). بيان الحكم الفقهي لصكوك ملكية الإجارة: يتعلق الحكم الفقهي بهذه المسألة بمعرفهة جملة من الأحكام، منها: حكم بيع الحصة المشاعة في العين المؤجرة. حكم إجارة الحصة المشاعة. وسوف نناقش هذه المسائل كل مسألة على حدة في المباحث التالية إن شاء الله تعالى. ¬
الحكم الأول في بيع المشاع
الحكم الأول في بيع المشاع [م - 1258] يجوز بيع المشاع من حيث الجملة بلا خلاف. قال ابن تيمية: "يجوز بيع المشاع باتفاق المسلمين كما مضت بذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل قوله الذي في صحيح مسلم: (أيما رجل كان له شرك في أرض أو ربعة، أو حائط، فلا يحل له أن يبيعه حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإن باع قبل أن يؤذنه فهو أحق به بالثمن) (¬1) ". وقال النووي: "يجوز بيع المشاع كنصف من عبد، أو ثوب، أو خشبة، أو أرض، أو شجرة، أو غير ذلك بلا خلاف سواء كان مما ينقسم أم لا" (¬2). وأجاز مجمع الفقه الإِسلامي بيع الأسهم في شركات المساهمة، وهو من بيع مشاع، كما سبق ونقلت ذلك في حكم تداول الأسهم. ¬
الحكم الثاني حكم بيع الحصة المشاعة في العين المؤجرة
الحكم الثاني حكم بيع الحصة المشاعة في العين المؤجرة [م - 1259] يرجع الخلاف في بيع الحصة المشاعة في العين المؤجرة إلى الخلاف في حكم بيع العين المؤجرة إلى غير المستأجر، وهي مسألة خلافية، وقد اختلف الفقهاء فيها إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب بعض العلماء إلى جواز بيع العين المؤجرة لغير المستأجر، فإن كان المشتري عالماً بذلك كان البيع صحيحا لازما، وإن كان المشتري غير عالم فالبيع صحيح، وللمشتري الخيار. وهذا مذهب المالكية (¬1)، والأظهر عند الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). دليل القائلين بالصحة: أن بيع العين المؤجرة لا يضر بحق المستأجر، فالبيع وارد على العين، والمستأجر لا يملكها، وإنما يملك المنفعة مدة الإجارة، فالجهة منفكة. وقياسًا على بيع الأمة بعد أن زوجها سيدها. وإذا باع المالك عينا مؤجرة، ولم يستثن منافعها مدة الإجارة، فإن الأجرة تستحق للمشتري من حين الشراء. ¬
القول الثاني
القول الثاني: أن بيع العين المستأجرة بيع باطل، وهو قول في مذهب الحنفية (¬1)، وقول عند الشافعية (¬2)، ووجه عند الحنابلة (¬3). دليل من قال: البيع باطل: الدليل الأول: يد المستأجر تمنع من تسليم المبيع، والأعيان لا تقبل التأجيل فلا يصح البيع. ونوقش: بأن يد المستأجر إنما هي على المنافع، والبيع واقع على الرقبة، فلا يمنع ثبوت اليد على أحدهما تسليم الآخر، ولئن منعت التسليم في الحال فلا تمنع في الوقت الذي يجب التسليم فيه (¬4). الدليل الثاني: أن بيع العين المؤجرة لا يصح؛ لأن بيعه يعني بيع ملكه وملك غيره، فهو إن ملك العين لم يملك المنفعة. ونوقش: بأن العقد إن ورد على العين واستثنى البائع المنفعة مدة عقد الإجارة فهذا ¬
الدليل الثالث
واضح أن العقد لم يرد إلا على الرقبة، ولم تكن منفعة المستأجر داخلة في العقد، ويستحق البائع عوض المنفعة طيلة مدة الإجارة المعلومة. وإن كان البيع ورد على العين وعلى المنفعة، وكان المشتري عالماً بأن العين مستأجرة فإن المشتري يستحق عوض المنفعة من ابتداء العقد، وقد خرجت الرقبة ومنفعتها من ملك البائع، وصارت مستحقة للمشتري. وإن كان المشتري قد اشترى العين ولم يعلم أنها مؤجرة فإن هذا يعتبر بمنزلة العيب، وله الخيار بين الفسخ والإمضاء. الدليل الثالث: اشتراط تأخير التسليم مدة معينة مخالف لمقتضى العقد، فإن مقتضى العقد تسليم العين في الحال، فيكون اشتراط مثل ذلك مفسدا للعقد. ونوقش هذا: قال ابن القيم: "قوله: إن موجب العقد التسليم في الحال، جوابه: أن موجب العقد إما أن يكون ما أوجبه الشارع بالعقد، أو ما أوجبه المتعاقدان مما يسوغ لهما أن يوجباه، وكلاهما منتف في هذه الدعوى؛ فلا الشارع أوجب أن يكون كل مبيع مستحق التسليم عقيب العقد، ولا العاقدان التزما ذلك، بل تارة يعقدان العقد على هذا الوجه، وتارة يشترطان التأخير إما في الثمن وإما في المثمن، وقد يكون للبائع غرض صحيح ومصلحة في تأخير التسليم للمبيع، كما كان لجابر - رضي الله عنه - غرض صحيح في تأخير تسليم بعيره إلى المدينة .. " (¬1). ¬
القول الثالث
القول الثالث: أن بيع العين المؤجرة لغير المستأجر يكون موقوفاً على إجازة المستأجر، فإن أجازه صح البيع، وبطلت الإجارة، ولا خيار للمشتري، وإن لم يجزه، لم تنفسخ الإجارة، ويثبت للمشتري الخيار، فإن انقضت مدة الإجارة، ولم يفسخ المشتري العقد لزمه البيع، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وجه القول بأن العقد موقوف: أن المشتري ليس له أن يأخذ المبيع من يد المستأجر من غير إجازة البيع، لأن حقه متقدم على عقد البيع، فإن أجاز المستأجر البيع جاز، وليس للمشتري خيار في مثل هذه الحالة. وإن أبى المستأجر فإن للمشتري الخيار، فإن انتهت مدة الإجارة ولم يفسخ البيع لزمه، وليس له حق في الامتناع لارتفاع مانع التسليم. الراجح: القول بالتفصيل: إن كانت أجرة العين المؤجرة ستكون من نصيب المشتري، وستنتهي علاقة البائع بالعين المؤجرة صح البيع مطلقا؛ لأن العين ستنتقل في الحال إلى ملك المشتري، وسيكون على المشتري جميع الالتزامات التي تكون على المؤجر، وسيملك منافع العين، ومنها الأجرة. وإن كانت الأجرة ستكون من نصيب البائع طيلة مدة الإجارة، فإنه يشترط لصحة البيع أن تكون مدة الإجارة في مدة لا تتغير فيها العين؛ فإذا كانت مدة ¬
الإجارة طويلة بحيث تتغير فيها السلعة، وهذا التغير لا يمكن ضبطه صارت العين مجهولة الصفة عند التسليم. جاء في مواهب الجليل: "يجوز للمؤاجر أن يبيع العين المستأجرة من المستأجر وغيره إن بقي من مدة الإجارة ما لا يكون غررا يخاف تغيرها في مثله، خلافا لأبي حنيفة، ولأحد قولي الشافعي لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ولأنه ليس في بيعها إبطال حق المستأجر؛ لأن المشتري إنما يتسلمها بعد انقضاء أمد الإجارة، وكل تصرف لا يبطل حق المستأجر لا يمنع" (¬1). فاشترط المالكية لصحة بيع العين المؤجرة من المستأجر وغيره ألا تتغير السلعة بالاستعمال. ولما كان من يشتري هذه الصكوك يستحق الأجرة بمقتضى العقد فلا أرى مانعا من صحة البيع، وبناء عليه فإن من يشتري هذه الصكوك فعليه أن يلتزم بما يلتزم به المالك للمستأجر من ضمان المنفعة طيلة مدة العقد بحسب ما يملك من الأسهم، وأن يقوم المشتري لهذه الصكوك بنفقات الصيانة غير التشغيلية بحسب ما يملك، وكل ما يتوقف عليه صلاحية العين المستأجرة لاستيفاء المعقود عليه، وأن ينص عقد البيع صراحة على بقاء الإجارة لمدتها، وأن يحل المشتري محل البائع في جميع حقوقه وواجباته التعاقدية فيما بينه وبين المستأجر. ¬
الحكم الثالث في إجارة المشاع
الحكم الثالث في إجارة المشاع إجارة المشاع له ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يقوم الشركاء كلهم بتأجير المشاع لآخر، وهذا هو الحاصل في صكوك الإجارة. الصورة الثانية: أن يقوم أحد الشريكين بتأجير المشاع لشريكه. [م - 1260] وهاتان الصورتان لا خلاف فيهما بين العلماء (¬1)؛ لأن مدار الجواز على إمكانية استيفاء المنفعة، وهو ممكن هنا، فالمعنى الذي لأجله منع بعض الفقهاء إجارة أحد الشريكين نصيبه لأجنبي، هو عدم القدرة على التسليم، وهو غير موجود في هاتين الصورتين؛ ففي الصورة الأولى الشركاء قد أجروها معاً، ويسلمون العين المؤجرة معاً، وهذا المعنى أيضًا موجود في الصورة الثانية؛ لأنه إذا أجر أحد الشريكين نصيبه للآخر؛ فإن منفعة كل الدار تحدث على ملك المستأجر، لكن بسببين مختلفين، بعضها بسبب الملك، وبعضها بسبب الإجارة. جاء في الفتاوى الهندية: "وأجمعوا على أنه لو آجر من شريكه يجوز، سواء كان مشاعا يحتمل القسمة، أو لا يحتمل، وسواء آجر كل نصيبه منه، أو بعضه" (¬2). ¬
الصورة الثالثة
وإنما وقع الخلاف في الصورة التالية. الصورة الثالثة: هي أن يقوم أحد الشركاء بتأجير نصيبه المشاع لأجنبي. [م - 1261] وهذه الصورة وقع فيها خلاف بين الفقهاء على قولين: القول الأول: إن هذه الإجارة لا تصح، وهذا قول أبي حنيفة، وهو المفتى به عندهم (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). القول الثاني: تصح إجارة المشاع لأجنبي، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬3)، وإليه ذهب المالكية (¬4)، والشافعية (¬5)، ورواية عن أحمد، صوبها في الإنصاف (¬6). وجه من قال: لا يصح: أن منفعة المشاع غير مقدورة الاستيفاء؛ لأن استيفاءها بتسليم المشاع، والمشاع غير مقدور التسليم بنفسه؛ لأنه اسم لسهم غير معين، وغير المعين لا ¬
ويناقش من وجهين
يتصور تسليمه بنفسه حقيقة، وإنما يتصور تسليمه بتسليم الباقي، وذلك غير معقود عليه، فلا يتصور تسليمه شرعًا، وإذا لم يمكن استيفاء المنفعة إلا بالتصرف في حصة شريكه فإنه يمنع من إجارة المشاع (¬1). ويناقش من وجهين: أحدهما: أن إمكان التسليم ممكن؛ لأن المستأجر يحل محل الشريك، وإذا كان الشيوع لم يمنع الشريك من الانتفاع فكذلك من يحل محله. الثاني: أن الشيوع إذا لم يمنع صحة البيع، لم يمنع صحة الإجارة. وأجيب: بأن المقصود بالبيع ملك الرقبة، وهذا يمكن تسليمه بالتخلية لذلك جاز بيع المشاع، بخلاف الإجارة، فإن المقصود به الانتفاع، والانتفاع أمر حسي، والشائع لا يحتمله. ورد هذا الجواب: بأن المقصود من المبيع ليس ملك الرقبة فقط، بل ملك الرقبة والانتفاع بها؛ لأن العقلاء لا يشترون الأملاك لينظروا إليها، بل لينتفعوا بها. ولو سلم أن المقصود بالبيع ملك الرقبة، فإن إمكانية الانتفاع بالمشاع ممكن عن طريق المهايأة الزمانية، أو المكانية لا سيما إذا عقد المستأجر على المنفعة، وهو يعلم أنها مشاعة. واعترض: بأن استيفاء منفعة المشاع بالتهايؤ لا يمكن على الوجه الذي يقتضيه العقد، ¬
وأجيب عن هذا الاعتراض
وهو الانتفاع بالنصف في كل المدة؛ لأن التهايؤ بالزمن انتفاع بالكل في نصف المدة، وهذا لا يقتضيه العقد. والتهايؤ بالمكان: انتفاع برفع المستأجر في كل المدة؛ لأن نصف هذا النصف له بالملك، ونصفه على طريق البدل عما في يد صاحبه، وهذا ليس بمقتضى العقد. وإذا لم يمكن تسليم المعقود عليه على الوجه الذي يقتضيه العقد لم تصح الإجارة (¬1). وأجيب عن هذا الاعتراض: بأن هذه المهايأة لا تنافي مقتضى العقد؛ إذ إن انتفاعه بالكل إنما هو في نصف المدة، فكأنه انتفع بالنصف في كل المدة سواء بسواء، وقد دخلا على ذلك، فهو من مقتضى العقد. وإذا لم يتراضيا على التهايؤ بالمدة الزمانية فإن المهايأة بالمدة المكانية ممكنة، تحقيقًا لمقصود المستأجر والشريك، إذ إن كلًا منهما ينتفع بنصف الأرض، والشريك لا يملك أكثر من نصف الأرض (¬2). وجه من قال: تصح إجارة المشاع: الوجه الأول: القياس على البيع، فإذا جاز بيع المشاع جازت إجارته. الوجه الثاني: لا يمكن أن تعطل العين المملوكة لأكثر من واحد من الانتفاع بسبب الشيوع، ¬
الوجه الثالث
فإذا أمكن الانتفاع بين الشريك وشريكه عن طريق المهايأة، فإن المستأجر يحل محل المؤجر في الانتفاع بنصيبه عن طريق المهايأة. الوجه الثالث: إذا كان الشيوع الطارئ بعد عقد الإجارة لا يفسدها، فلو تمت إجارة العين، ثم بيع بعضها مشاعا لم يفسد عقد الإجارة عند الجميع، فكذلك الشيوع القائم عند العقد ينبغي ألا يفسدها. وهذا هو القول الراجح، والله أعلم. الخلاصة: إذا صح بيع العين المؤجرة، وصح تأجير المشاع ثبت أن صكوك ملكية الأعيان المؤجرة تعتبر بديلا شرعيا لا غبار عليه لبعض الأوراق المالية الربوية كالسندات، وأذونات الخزينة. وأما حكم تداول مثل هذه الصكوك: فإنه يجوز تداول هذه الصكوك مباشرة بعد شرائها؛ لأنها تمثل موجودات عينية متمثلة في العقار، أو المصنع، أو نحو ذلك.
المسألة الثالثة سندات ملكية المنافع
المسألة الثالثة سندات ملكية المنافع المطلب الأول التعريف بسندات ملكية المنافع تعريف سندات ملكية المنافع: عرفها بعضهم: بأنها صكوك ذات قيمة متساوية عند إصدارها، تمثل حصصا شائعة في ملكية منافع أعيان معينة، أو موصوفة في الذمة، مما يخول مالكها حقوق هذا الصك، ويرتب عليه مسئولياته (¬1). فمن خلال هذا التعريف يتبين لنا أن صكوك ملكية المنافع تنقسم إلى قسمين: (أ) صكوك ملكية منافع الأعيان المعينة. (ب) صكوك ملكية منافع الأعيان الموصوفة في الذمة. وسوف يأتي إن شاء الله تعالى في المبحث التالي تكييف كل قسم من هذه الأقسام وبيان حكمها الفقهي، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
المطلب الثاني التوصيف الفقهي والحكم الشرعي لسندات ملكية منافع الأعيان المعينة
المطلب الثاني التوصيف الفقهي والحكم الشرعي لسندات ملكية منافع الأعيان المعينة التوصيف الفقهي لسندات ملكية منافع الأعيان المعينة: [م - 1262] مر معنا من خلال التعريف أن صكوك ملكية منافع الأعيان ينقسم إلى قسمين: الأول: صكوك ملكية منافع الأعيان المعينة: وذلك بأن يقوم مالك عين أو مالك للمنفعة إلى تقسيم منفعتها إلى أجزاء متماثلة، ويمثل كل جزء من أجزاء هذه المنفعة بصك، يُفَصِّل فيه أحكام تمليك هذه المنفعة، كمدة الانتفاع، وطريقته، وقيمته. ثم يطرح هذه الصكوك للاكتتاب. مثال توضيحي: أن يقوم شخص أو شركة تملك برجا سكنيا أو تملك منفعته، وفيه مجموعة من الوحدات السكنية، فيقوم بتقسيم الانتفاع بكل وحدة سكنية إلى مجموعة من الحصص، وتمثل كل حصة منفعة سكنى هذه الوحدة السكنية، لمدة من الزمن، ثم تطرح هذه الصكوك للاكتتاب. فهذه الصورة من الصكوك تمثل عقد إجارة. المؤجر هو: مصدر الصكوك. والمستأجرون: هم المكتتبون فيها. والعين المؤجرة: هو ما تمثله هذه الصكوك.
بيان الحكم الفقهي لصكوك منافع الأعيان المعينة
والأجرة: هي حصيلة الاكتتاب. فصار العقد في حقيقته عقد إجارة من مالك للعين أو مالك للمنفعة. بيان الحكم الفقهي لصكوك منافع الأعيان المعينة: الحكم الفقهي على هذه المسألة راجع إلى حكم تأجير المستأجر للعين المستأجرة قبل وبعد قبضها. وسوف نناقش هذه المسألة في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى في المبحث التالى.
الحكم الأول في تأجير المستأجر لما استأجرة بعد قبضه
الحكم الأول في تأجير المستأجر لما استأجرة بعد قبضه [م - 1263] إذا اشترط المالك على المؤجر أن يستوفي المنفعة بنفسه وألا يؤجرها لغيره لم يملك المستأجر تأجير ما استأجره وفاء للشرط. أما إذا لم يشترط عليه، وكان المستأجر يملك المنفعة مدة الإجارة، فهل يملك أن يؤجرها بمقتضى العقد؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والمعتمد عند الحنابلة (¬1)، إلى جواز إجارة المستأجر العين المستأجرة، سواء أجرها للمالك أم لغيره. ¬
دليل الجمهور على الجواز
دليل الجمهور على الجواز: الدليل الأول: أن المستأجر قد ملك المنفعة بعقد الإجارة، ومن ملك شيئًا جاز له التصرف فيه. الدليل الثاني: أن منع المستأجر من إجارة ما ملك نوع من الحجر عليه، وهذا لا يجوز. القول الثاني: له أن يؤجرها بمثل ما استأجرها به، أو أقل، ولا يؤجرها بأكثر حتى لا يربح فيما لم يضمن. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد. قال ابن رجب في القواعد: "ويتخرج له -أي للإمام أحمد- قول آخر: أن المنهي عنه حقيقة الربح دون البيع بالثمن الذي اشتراه به، فإنه منع في رواية من إجارة المنافع المستأجرة إلا بمثل الأجرة؛ لئلا يربح فيما لم يضمن" (¬1). قال ابن تيمية: "للمستأجر أن يؤجرها بمثل الأجرة، وإنما تنازعوا في الجارها بأكثر من الأجرة؛ لئلا يكون ذلك ربحا فيما لا يضمن، والصحيح جواز ذلك؛ لأنها مضمونة على المستأجر؛ فإنها إذا تلفت مع تمكنه من الاستيفاء كانت من ضمانه ولكن إذا تلفت قبل تمكنه من الاستيفاء لم تكن من ضمانه" (¬2). القول الثالث: لا يجوز للمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة، وهو قول مرجوح في مذهب الحنابلة. ¬
ويناقش
قال ابن قدامة: "ذكر القاضي فيه رواية أخرى أنه لا يجوز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ربح ما لم يضمن، والمنافع لم تدخل في ضمانه. ولأنه عقد على ما لم يدخل في ضمانه، فلم يجز كبيع المكيل والموزون قبل قبضه" (¬1). ويناقش: بأن قبض العين يقوم مقام قبض المنافع، وقد قبض المستأجر العين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المستأجر لما أجر العين صارت المنافع مضمونة عليه، فيرجع عليه المستأجر الثاني، وهو يرجع على المؤجر الأول. والله أعلم. الراجح: جواز إجارة العين المستأجرة بشرطه، بحيث لا يتضمن العقد الثاني ضررًا على العين؛ لأن من موجبات الإجارة تملك المنفعة المعقود عليها، والناس مسلطون على ما يملكون شريطة ألا يخل ذلك بأي من شروط الإجارة. ¬
الحكم الثاني تأجير المستأجر لما استأجره قبل قبضه
الحكم الثاني تأجير المستأجر لما استأجره قبل قبضه [م - 1264] إذا استأجر الرجل عينا معينة فهل يملك أن يؤجرها قبل قبضها؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: للمستأجر أن يؤجر العين قبل قبضها، وهذا مذهب المالكية، ووجه في مذهب الشافعية، والمذهب عند الحنابلة. وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف في العقار خاصة (¬1). جاء في مجلة الأحكام العدلية: "للمستأجر إيجار المأجور لآخر قبل القبض إن كان عقارا، وإن كان منقولا فلا" (¬2). وجاء في المهذب: "وللمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها ... وهل يجوز قبل القبض، فيه ثلاثة أوجه: الثاني: يجوز؛ لأن المعقود عليه هو المنافع، والمنافع لا تصير مقبوضة بقبض العين ... " (¬3). وجاء في الإنصاف: "ظاهر كلام المصنف جواز إجارتها سواء كان قبضها أو لا، وهو صحيح، وهو المذهب على ما اصطلحناه" (¬4). ¬
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها: الدليل الأول: الأصل في المعاملات الحل والإباحة حتى يقوم الدليل على التحريم، ولا يوجد دليل يمنع من إجارة العين المستأجرة قبل قبضها. الدليل الثاني: القياس على البيع، فإن العقار عند الحنفية يصح بيعه قبل قبضه، وعند المالكية والحنابلة يجوز بيع الشيء إذا لم يكن فيه حق توفية من كيل أو وزن أو عد أو ذرع قبل قبضه. وقد ذكرنا مسألة بيع الشيء قبل قبضه، وذكرنا أدلتهم هناك فأغنى عن ذكرها هنا. الدليل الثالث: أن المعقود عليه هو المنافع، والمنافع لا تصير مقبوضة بقبض العين، فلم يؤثر في صحته عدم القبض. الدليل الرابع: أن القبض في الإجارة يختلف عن القبض في البيع، فالقبض في العين المستأجرة لا ينتقل به الضمان إلى المستأجر فلم يقف جواز التصرف في العين المستأجرة على القبض بخلاف عقد البيع فإن قبض المبيع ينتقل به الضمان إلى المشتري، والله أعلم. القول الثاني: لا يصح، وهو قول محمد بن الحسن من الحنفية، ووجه في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). ¬
وجه القول بالمنع
جاء في درر الحكام شرح غرر الأحكام: "قوله: صح بيع العقار قبل قبضه: احترز به عن إجارته قبل قبضه، فإن الصحيح كما قال في الفوائد الظهيرية أن الإجارة قبل القبض لا تجوز بلا خلاف؛ لأن المنافع بمنزلة المنقول، والإجارة تمليك المنافع، فيمتنع جوازها قبل القبض" (¬1). وقال في الجوهرة النيرة: "فإن استأجر منقولا لم يجز للمستأجر أن يؤجره قبل قبضه كما في البيع، وإن كان غير منقول وأراد أن يؤجره قبل القبض فإنه يجوز عندهما خلافا لمحمد، كالاختلاف في البيع. وقيل: لا تجوز الإجارة بالاتفاق بخلاف البيع" (¬2). وجه القول بالمنع: الدليل الأول: (ح -872) ما رواه أبو داود الطيالسي، من طريق يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عصمة، عن حكيم بن حزام، قال: قلت: يا رسول الله إني اشتري بيوعا، فما يحل لي، وما يحرم علي؟ فقال لي: إذا بعت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه (¬3). [المحفوظ في إسناده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام حتى يستوفى] (¬4). الدليل الثاني: ما رواه البخاري من طريق طاووس، قال: سمعت ابن عباس يقول: أما ¬
وجه الاستدلال
الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو الطعام أن يباع حتى يقبض، قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله (¬1). وجه الاستدلال: إذا ثبت النهي عن بيع الطعام قبل قبضه بالنص ثبت الحكم في غير الطعام، وذلك إما بقياس النظير كما قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا بمنزلة الطعام. أو بقياس الأولى؛ لأنه إذا نهي عن بيع الطعام قبل قبضه مع كثرة الحاجة إليه وعمومها، فغير الطعام بطريق الأولى (¬2). وإذا ثبت النهي عن بيع الشيء قبل قبضه فإن الإجارة بيع، فلا يجوز للمستأجر أن يؤجر ما استأجره حتى يقبضه. ويناقش من وجهين: الوجه الأول: مسألة بيع الشيء قبل قبضه محل خلاف بين العلماء، وهي من المسائل الدقيقة، قال ابن تيمية -رحمه الله - في مجموع الفتاوى عند الكلام على هذه المسألة، قال: "ولغموض مأخذ هذه المسائل كثر تنازع الفقهاء فيها". وما اختلف فيه لا ينبغي إلزام المخالف به عن طريق القياس عليه، إلا إذا كان ممن يقول به، وقد بحثت مسألة بيع الشيء قبل قبضه وتبين لي أن القول الأقوى الذي ترجحه ظاهر الأدلة على غيره، هو القول بأن النهي خاص في بيع الأعيان ¬
الوجه الثاني
الذي تحتاج إلى توفية، من كيل، أو وزن، ويقاس عليه ما احتاج إلى عد، أو ذرع، وهو مذهب المالكية والحنابلة، والله أعلم. الوجه الثاني: على التسليم بأن الراجح في التصرف في المبيع أنه لا يصح قبل قبضه فإن قياس الإجارة على البيع قياس مع الفارق، فالإجارة تختلف عن البيع في بعض أحكامها، وإذا ثبت الفرق لم يصح القياس من هذه الفوارق: (1) أن البيع تمليك للرقبة والمنفعة تمليكا مؤبدا، والإجارة تمليك للمنفعة فقط تمليكًا مؤقتا. (2) إذا ملك المشتري المبيع كان ضمانه عليه إذا قبضه مطلقاً، وكذا على الصحيح إذا لم يقبضه، ولم يكن فيه حق توفية من كيل أو وزن أو عد أو ذرع، وقد حررت الخلاف فيها في عقد البيع عند الكلام على ضمان المبيع. وأما العين المستأجرة إذا قبضها المستأجر فضمانها على المؤجر، فإذا تلفت العين انفسخ العقد فيما بقي. (3) الإجارة الموصوفة في الذمة يجوز فيها تأجيل العوضين على الصحيح، ولا يدخلها بيع الدين بالدين. والمبيع الموصوف في الذمة لا يجوز فيه تأجيل الثمن كالسلم. (4) العوض يملك في البيع بالقبض ملكاً مستقرا، وأما في الإجارة فلا يستقر العوض إلا بمضي المدة، أو إنجاز العمل (¬1). ¬
الراجح
(5) ليس كل ما يجوز إجارته يجوز بيعه، فالحر تجوز إجارته، ولا يجوز بيعه، وكذا الوقف تجوز إجارته دون بيعه، ومثلهما أم الولد. قال ابن حزم: "الإجارة ليست بيعا ... ولو كانت بيعا لما جازت إجارة الحر ... ولا يختلفون في أن الإجارة إنما هي الانتفاع بمنافع الشيء المؤاجر التي لم تخلق بعد، ولا يحل بيع ما لم يخلق" (¬1). وبناء عليه فإن عقد الإجارة عقد مستقل له خصائصه وآثاره وأحكامه الخاصة، وهذا التشابه بينه وبين البيع لا يجعل الإجارة كالبيع المطلق. الراجح: جواز تأجير العين المستأجرة قبل قبض المستأجر لها، والله أعلم. حكم تداول هذه الصكوك: إذا تم توصيف هذا العقد بأنه عقد إجارة، فإن تداول هذه الصكوك له حالتان: الحال الأولى: [ن -178] أن يكون إصدار الصك وبيعه على المكتتبين قبل تأجير العين، ففي هذه الحالة يجوز تداول هذا الصك، فإن كان إصدار الصكوك من مالك للعين فهذا تأجير لما يملك، وإن كان إصدار الصكوك من مالك للمنفعة فهو مبني على جواز تأجير المستأجر للعين المستأجرة قبل قبضه للعين أو بعده بمثل ما استأجرها به، أو أقل، أو أكثر، وبناء عليه يجوز تداول هذا النوع من السندات منذ تمام الاكتتاب فيها، وذلك لأنه يعد إعادة تأجير من مالك للمنفعة. ¬
الحال الثانية
الحال الثانية: [ن -179] أن يكون إصدار الصكوك بعد تأجير العين محل العقد، سواء أكان المؤجر مالكًا للعين أم للمنفعة، وتكون الصكوك بمثابة إعطاء المكتتب الحق في استيفاء أجرة العين المؤجرة -محل التصكيك- طوال مدة الصك، ففي هذه الحالة يمثل الصك قيمة الأجرة، وهي دين في ذمة المستأجر، وعليه فلا يصح تداولها إلا بضوابط الصرف والتصرف في الديون. وبهذا أخذ مجمع الفقه الإسلامي، حيث جاء في قراره: "يجوز للمستأجر الذي له حق الإجارة من الباطن أن يصدر صكوك إجارة تمثل حصصًا شائعة في المنافع التي ملكها بالاستئجار، بقصد إجارتها من الباطن، ويشترط لجواز ذلك أن يتم إصدار الصكوك قبل إبرام العقود مع المستأجرين، سواء تم الإيجار بمثل أجرة الإجارة الأولى، أو أقل منها، أو أكثر. أما إذا أبرمت العقود مع المستأجرين، فلا يجوز إصدار الصكوك؛ لأنها تمثل ديونا للمصدر على المستأجرين" (¬1). وذهب الدكتور نزيه حماد إلى جوازها، واستدل على ذلك بمذهب جماهير الفقهاء الذين أجازوا للمستأجر إجارة العين إلى طرف ثالث (¬2). ويناقش: بأن كلام جماهير الفقهاء فيما إذا كانت العين المستأجرة خالية من الإجارة، ¬
أما إذا كانت مستأجرة فعلا فلا ترد عليها أقوال جمهور الفقهاء؛ لأن العين المستأجرة مشغولة بإجارة، فكيف يكون التأجير على التأجير؟
المطلب الثالث توصيف سندات ملكية المنافع الموصوفة وحكمها الفقهي
المطلب الثالث توصيف سندات ملكية المنافع الموصوفة وحكمها الفقهي القسم الثاني من صكوك ملكية المنافع هي تلك المنافع الموصوفة في الذمة. وهي سندات تمثل ملكية منافع أعيان موصوفة في الذمة، وتوصف في هذه السندات وصفا دقيقا تفاصيل هذه المنفعة، والعين محل الانتفاع، ومدة الانتفاع ونهايته، وشروط هذا الانتفاع، وتسلم لحامل السند في الميعاد المتفق عليه لاستيفاء المنفعة. مثال توضيحي: أن تتعهد شركة بإنشاء وحدات سكنية موصوفة وصفا دقيقا، ثم تقوم بتمثيل ملكية الانتفاع بسكنى هذه الوحدات السكنية الموصوفة في صكوك متساوية القيمة، تطرحها للاكتتاب العام، وتبين فيها مدة الانتفاع، وتاريخ ابتدائه وانتهائه. التوصيف الفقهي: [ن -180] هذه الصورة من الصكوك تمثل عقد إجارة على أرض وعقار، والعقار غير موجود. فالمؤجر: بائع هذه الصكوك. والمستأجر: مجموعة المكتتبين. والأجرة: حصيلة الاكتتاب.
المسألة الأولى: إضافة الإجارة إلى المستقبل.
والعين المؤجرة: هي مجموع الأرض المعينة والعقار الموصوف في الذمة. حكم هذه الصورة: الخلاف فيها مبني على الخلاف في مسألتين: [م - 1265] المسألة الأولى: إضافة الإجارة إلى المستقبل. وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح إضافة الإجارة إلى زمن مستقبل، ولا يصح ذلك في البيع، وهذا ما عليه جماهير أهل العلم (¬1). وجه التفريق بين البيع والإجارة: أن المبيع المعين لا يقبل التأجيل وإذا لم يقبل التأجيل لم يصح إضافته إلى المستقبل، وأما الإجارة فتقبل التأجيل مطلقًا معينة كانت أو في الذمة؛ فتصح إضافتها إلى المستقبل؛ لأن التأجيل في عقد الإجارة ضرورة؛ لأن الإجارة تتضمن تمليك المنافع، والمنافع لا يتصور وجودها في الحال، فدعت الضرورة إلى الإضافة، ولا ضرورة في بيع العين. (ح -873) ولما رواه البخاري من طريق عروة عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: واستأجر رسول الله رجلاً من بني الديل هاديًا خريتًا، وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما، ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث (¬2). ¬
القول الثاني
فدل هذا على جواز إضافة عقد الإيجار إلى الزمن المستقبل. القول الثاني: التفريق بين إجارة العين وإجارة الذمة، فلا يصح في إجارة العين إضافتها إلى المستقبل، ويصح ذلك في الإجارة إذا كانت في الذمة، وهذا مذهب الشافعية (¬1). وجه التفريق بين إجارة العين وإجارة الذمة: أن الشافعية لم يفرقوا بين البيع والإجارة، فالأعيان عندهم لا تقبل التأجيل مطلقاً بيعا كان أو إجارة، وما في الذمة يجوز حالا ومؤجلا بيعا كان أو إجارة كالسلم. قال الشيرازي: "وما عقد من الإجارة على منفعة موصوفة في الذمة يجوز حالا ومؤجلًا؛ لأن الإجارة في الذمة كالسلم والسلم يجوز حالا ومؤجلا، فكذلك الإجارة في الذمة ... وما عقد على منفعة معينة لا يجوز إلا حالا، فإن كان على مدة لم يجز إلا على مدة يتصل ابتداؤها بالعقد، وإن كان على عمل معين يجز إلا في الوقت الذي يمكنه الشروع في العمل؛ لأن إجارة العين كبيع العين، وبيع العين لا يجوز إلا على ما يمكن الشروع في قبضها فكذلك الإجارة" (¬2). واستثنى الشافعية من إجارة العين ما لو أجرت العين مدة جديدة لنفس المستأجر قبل انقضائها لاتصال المدتين مع اتحاد العين المستأجرة. ¬
القول الثالث
القول الثالث: اختار ابن حزم منع اشتراط الإضافة إلى المستقبل بناء على مذهبه الضيق في تحريم كل الشروط، ولو كان شرطاً لا محذور فيه إلا ما نص الشارع بعينه على جوازه. قال ابن حزم: "ولا يجوز تأخير الشيء المستأجر ولا تأخير العمل المستأجر له طرفة عين فما فوق ذلك؛ لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل" (¬1). الراجح من الخلاف: الراجح أن التأجيل سائغ مطلقاً في البيع والإجارة عينا كان أو في الذمة بشرط أن يكون في مدة لا يخشى على العين من التغير، والحاجة داعية إلى ذلك، فالمسافر يحتاج إلى حجز مقعد له للركوب برا أو بحرا أو جوا قبل بدء السفر بفترة معينة، وقد تطول أو تقصر حسب الأحوال، فالمنع من ذلك فيه ضيق وحرج، وقد انتقض قول الشافعية فيمن استأجر داراً بمكة، والمستأجر في مصر، ولا يمكنه الوصول إلى مكة إلا بعد شهر، وكما لو استأجره ليلا لما يعمل نهارا (¬2). وقد اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمل جابر، واستثنى جابر ظهره إلى المدينة، وهذا التأجيل في المبيع المعين، وأجاز الحنابلة بيع الدار واشتراط سكناها مدة معلومة مطلقاً، وقيده المالكية بمدة لا يتغير فيها المبيع، وما جاز في عقد البيع جاز في الإجارة. ¬
المسألة الثانية
وقد فصلت كل ذلك في كتاب البيع فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله (¬1). المسألة الثانية: حكم إجارة العقار إذا كان العقار موصوفًا في الذمة. [م - 1266] فتأجير العقار قبل قيامه إما أن تعين الأرض، أو لا تعين. فإن لم تعين الأرض لم يصح تأجيره قولًا واحدًا؛ لأن السلم لا يصح فيه، لأن العقار لا بد أن يبين موضعه لتفاوت قيمته باختلاف موضعه، وتبيين موضعه يعني تعيينه، وإذا تعين خرج من كونه سلما في الذمة. قال في الشرح الكبير: "وعين دار، وحانوت، وحمام، وخان، ونحوها إذ لا يصح أن يكون العقار في الذمة" (¬2). قال في حاشية الدسوقي معلقًا: "لأنه لا بد في إجارته إذا لم يعين بالإشارة إليه، أو بأل العهدية من ذكر موضعه، وحدوده، ونحو ذلك مما تختلف به الأجرة، وهذا يقتضي تعيينه" (¬3). قال في الذخيرة: "يمتنع السلم في الدور، والأرضين؛ لأن خصوص المواضع فيها مقصود للعقلاء، فإن عين لم يكن سلمًا؛ لأن السلم لا يكون إلا في الذمة، وإن لم يعين كان سلمًا في مجهول" (¬4). وعلل الحنفية بأن عقد الإجارة لا بد له من محل، والمنافع معدومة وقت العقد، وليست مالاً في نفسها عندهم، وإنما ينعقد بإقامة العين مقام المنفعة، ¬
فإذا كانت العين غير موجودة لم يصح العقد، ولهذا منع الحنفية أن يكون العقد على المنافع، فلا يقول: أجرتك ضنافع هذه الدار، وإنما يصح بإضافته إلى العين، فيقول: أجرتك هذه الدار. ولأن المباني ليست مثلية، وإذا كانت كذلك لم تثبت في الذمة، فلا يجوز إلا أن تكون معينة (¬1). وإذا كانت الأرض معينة، والعقار موصوفًا في الذمة ما زال دينًا في ذمة المقاول فهل يجوز للمالك تأجيره ويعتبر من قبيل السلم في المنافع؟ إذا تأملت هذا العقد وجدته مركبًا من عين معينة، وهي الأرض، ومن عقار موصوف في الذمة، فهل يصح السلم في مبيع جزؤه معين، وجزؤه غير معين موصوف في الذمة، وهل يثبت العقار في الذمة. الصحيح أن الأرض إذا تعينت لم يصح أن يكون العقار سلمًا؛ لأن السلم لا بد أن يكون كله موصوفًا في الذمة, وحين تعين بعضه خرج من كونه سلمًا إضافة إلى أن العقار لا يثبت في الذمة لدى الفقهاء، وإذا كان من بيع المعين لم يصح بيع معين لا يملكه الإنسان ما زال دينًا في ذمة المقاول، بخلاف تأجير الدابة والشخص فيصح تأجيره ولو كان غير معين، وقياس العقار على الدابة قياس مع الفارق، ولهذا منع الفقهاء السلم في ثمار حائط بعينه، وإن كان المقصود من العقد الثمرة، وليس البستان، ومع ذلك لما عين الحائط لم يصح أن يقال: إن الثمار سلم؛ لأنها موصوفة في الذمة. ولهذا نص المالكية على أن العقار لا يثبت دينًا في الذمة. قال في الشرح الكبير: "لا يصح أن يكون العقار في الذمة". ¬
وقال في بغية المسترشدين: "لا تتصور إجارة العقار في الذمة، وألحق به في النهاية السفينة خلافًا للتحفة، بخلاف المنقول كالشخص والدابة فيصح تأجيرهما معينين أو في الذمة كأن يلزم ذمته خياطة أو بناء، أو يستأجر دابة موصوفة في الذمة". وجاء في نهاية المحتاج: "إجارة العقار لا تكون إلا عينية، والإجارة العينية يشترط فيها لكل من العاقدين رؤية العين" (¬1). وجاء في أسنى المطالب: "وإجارة العقار لا تكون في الذمة؛ لأنه لا يثبت فيها بدليل منع السلم فيه" (¬2). وجاء في حاشية الجمل: "وإجارة العقار لا تكون إلا على العين، ومثل العقار السفينة؛ فإنه لا يصح السلم فيها, ولا يثبت في الذمة، فلا تكون إجارتها إلا على العين ... " (¬3). وجاء في المغني: "ولا خلاف بين أهل العلم في إباحة إجارة العقار، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن استئجار المنازل والدواب جائز ... ولا بد من مشاهدته وتحديده، فإنه لا يصير معلوما إلا بذلك، ولا يجوز إطلاقه ولا وصفه" (¬4). وقد أخطأ الشيخ الميرة في صكوك الإجارة حين قاس العقار الموصوف في ¬
الذمة على تأجير الحيوان والآدمي الموصوف في الذمة، فإن العقار لا بد أن يعين مكانه، فخرج عن كونه سلما، بخلاف الآدمي والحيوان، والله أعلم.
المطلب الرابع حكم تداول صكوك الأعيان الموصوفة في الذمة
المطلب الرابع حكم تداول صكوك الأعيان الموصوفة في الذمة [ن - 181] إذا تبين حكم إضافة الإجارة إلى المستقبل، وحكم تأجير العقار الموصوف في الذمة فما حكم تداول صكوك منافع الأعيان الموصوفة في الذمة؟ اختلف العلماء المعاصرون إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يجوز تداول صكوك منافع الأعيان الموصوفة في الذمة قبل تعيين العين التي تستوفى المنفعة منها إلا بضوابط التصرف في الديون، باعتبار أن تأجير العقار الموصوف في الذمة لا يمكن أن يكون سلما؛ لأن الأرض معينة، وإذا تعين كان من قبيل بيع الدين قبل قبضه، فما زال في ذمة المقاول، وإلى هذا ذهب الدكتور القره داغي (¬1). والقول الثاني: جواز تداول هذه الصكوك، وإلى هذا ذهب الدكتور منذر قحف (¬2)، والدكتور حسين حامد حسان (¬3)، والدكتور نزيه حماد (¬4). ¬
وجه من قال: لا يجوز إلا بضوابط التصرف في الديون
وجه من قال: لا يجوز إلا بضوابط التصرف في الديون: العقار لا يمكن أن يثبت في الذمة؛ لاشتراط تعيين الأرض، وتعيين موضع العقار يخرجه من كونه سلمًا. قال في الذخيرة: "يمتنع السلم في الدور، والأرضين؛ لأن خصوص المواضع فيها مقصود للعقلاء، فإن عين لم يكن سلمًا؛ لأن السلم لا يكون إلا في الذمة، وإن لم يعين كان سلمًا في مجهول" (¬1). فإذا كان ذلك من تأجير المعين لم يصح هذا العقد، وهو ما زال دينًا في ذمة المقاول. وأجيب: بأن الجمهور على جواز إجارة العين الموصوفة في الذمة، فإذا جاز للمؤجر أن يؤجر منفعة عين موصوفة في الذمة، جاز للمستأجر أن يؤجر هذه المنفعة الموصوفة في ذمة المستأجر الأول، وذلك لأنه قد قام بمثل ما قام به الأول، ولا فرق، فيلزمكم القول بمنع إجارة العين الموصوفة في الذمة مطلقًا، خاصة أن الحق يتعلق بذمة المؤجر الثاني، وليس في ذمة المؤجر الأول. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن بيع الدين بالدين ليس كله ممنوعا، وإنما الممنوع منه اتفاقًا هو ابتداء بيع الدين بالدين. ويجاب: القول بأن الجمهور أجازوا تأجير العين الموصوفة في الذمة، إن قصد بذلك تأجير العقار الموصوف في الذمة فهذه دعوى، ولم أقف عليها من كلام أهل ¬
وجه من قال بالجواز مطلقا
العلم، وإن قصد تأجير الدابة والآدمي غير المعين فذلك جائز، وهو يختلف عن العقار؛ لأن العقار لا يثبت في الذمة. قال في الشرح الكبير: "لا يصح أن يكون العقار في المذمة". وقال في بغية المسترشدين: "لا تتصور إجارة العقار في الذمة، وألحق به في النهاية السفينة خلافًا للتحفة، بخلاف المنقول كالشخص والدابة فيصح تأجيرهما معينين أو في الذمة كأن يلزم ذمته خياطة أو بناء، أو يستأجر دابة موصوفة في الذمة". فانظر كيف قال: لا تتصور إجارة العقار في الذمة. وجه من قال بالجواز مطلقا: إذا أجاز الفقهاء إجارة العين الموصوفة في الذمة، فهذا فرد من أفرادها، فلا فرق في النظر بين المنفعة المتعلقة بعين محددة بذاتها، وبين كونها متعلقة بذمة المؤجر إذا كانت محددة بالوصف مبينة على نحو يتحقق معه العلم المنافي للجهالة كشرط لصحة بيعها وتداولها. وهذا الكلام قد سبق الجواب عليه. الراجح: القول بالمنع أقوى، والله أعلم.
المسألة الرابعة سندات ملكية الخدمات
المسألة الرابعة سندات ملكية الخدمات تعريفها: يمكن لنا أن نعرف سندات ملكية الخدمات من خلال تعريف سندات الإجارة، وذلك بالقول بأن سندات ملكية الخدمات: هي صكوك ذات قيمة متساوية، تمثل حصصًا شائعة في ملكية خدمة أعمال معينة قائمة، أو موصوفة في الذمة. فمن خلال هذا التعريف يتبين لنا أن سندات ملكية الخدمات تنقسم إلى قسمين. (أ) سندات ملكية خدمات أعمال معينة قائمة. وذلك بأن يكون العمل المعقود عليه قائمًا، وموجودا عند انعقاد العقد، كأن تحتاج جهة ما -سواء أكانت تلك الجهة قطاعًا خاصًا، أم قطاعًا عامًا- إلى صيانة عاجلة لمبانيها أو أجهزتها، وتكون تكاليف الصيانة عالية، وباهظة، كما تكون المدة الزمنية المطلوبة للقيام بالعمل طويلة نوعًا ما، فتلجأ تلك الجهة إلى الشركات التي تملك عمالًا قادرين على القيام بعملية الصيانة، وتتعاقد معها على إجارة عمالها للقيام بالمهمة مقابل أجر يتفق عليه الطرفان. ويتصور إصدار صكوك لهذا النوع من الإجارة بحيث تقوم الجهة المعنية بتمثيل خدماتها على شكل صكوك، فيها وصف دقيق محكم منضبط لحصة شائعة مقدرة من خدماتها، ثم تطرحها للاكتتاب العام، فيكون المكتتب في صك من هذه الصكوك مالكًا لحصة مشاعة من خدمات هذه الجهة (¬1). ¬
مثال آخر
مثال آخر: أن تقوم جامعة من الجامعات أو مستشفى أهلي بإصدار صكوك متساوية القيمة بغرض تقديم خدمة التعليم الجامعي، ومقرراته الخاصة بالحصول على الشهادة الجامعية في الشريعة أو في اللغة أو في الطب لمدة محدودة، أو تقديم الخدمات الطبية مثل الجراحة أو الفحوصات في تلك المستشفى لفترة زمنية محددة (¬1). التوصيف الفقهي: [ن -182] هذه الصورة من السندات تمثل عقد إجارة، إلا أنها من قبيل إجارة الأشخاص، وهو ما يسمى في الفقه الإِسلامي (الأجير المشترك). فالأجير المشترك: هو مصدر هذه الصكوك. والمستأجرون: هم المكتتبون في هذه السندات. والأجرة: هي حصيلة الاكتتاب. والخدمة: هي المنفعة المعقود عليها. حكمها الفقهي: لم يختلف الفقهاء في جواز عقد الإجارة على العمل، وهو ما يسمى بالأجير المشترك. وهو من يعمل لعامة الناس بإدارته مستقلا عن صاحب العمل، وليس تابعا له كالخياط والحداد ونحوهما. والأدلة على جواز عقد الأجير المشترك من القرآن والسنة وإجماع الأمة. قال تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77]. ¬
حكم تداول صكوك ملكية خدمات جهة معينة.
وقال تعالى: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنًا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94]. ومن السنة أحاديث كثيرة، أختار منها: (ح -874) ما رواه البخاري من طريق سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة وذكر منهم رجلاً استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعط أجره (¬1). (ح -875) ومنها ما رواه البخاري من طريق عروة عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: واستأجر رسول الله رجلاً من بني الديل هاديا خريتًا، وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما، ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث (¬2). (ح -876) ومنها ما رواه البخاري من طريق مالك، عن حميد، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: حجم أبو طيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر له بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا من خراجه (¬3). وأما الإجماع فقد حكاه غير واحد من أهل العلم على جواز الإجارة، منهم العراقي في طرح التثريب (¬4)، وابن المنذر (¬5)، وغيرهم. حكم تداول صكوك ملكية خدمات جهة معينة. لا أرى مانعًا شرعيًا من تداول هذا النوع من الصكوك إذا توفرت شروط عقد ¬
(ب) سندات ملكية خدمات أعمال موصوفة في الذمة.
الإجارة الواردة على العمل، من حيث تحديد نوع العمل ومدته ومقدار الأجرة، ووقت دفعها ... ونحو ذلك. وهي لا تختلف في حكمها عن تداول صكوك ملكية منافع الأعيان المعينة، حيث لا فرق. (ب) سندات ملكية خدمات أعمال موصوفة في الذمة. وذلك بأن تكون الخدمة أو العمل المعقود عليه ليس موجودا عند انعقاد العقد، وإنما يكون مستحقا في مواعيد مستقبلية محددة. مثاله: أن تقوم جامعة من الجامعات بإصدار سندات خدمة موصوفة في الذمة، تمثل تعليم طالب في الجامعة، على أن تقدم هذه الخدمة الموصوفة في الذمة بعد خمس سنوات مثلا، ويمثل السند حصة ساعية واحدة، ولحامل السند الحق في الحصول على الخدمة الموصوفة مقابل ما يدفعه الآن من ثمن السند الذي يمثل ملكيته للمنفعة (¬1). التوصيف الفقهي: [ن -183] يختلف التوصيف الفقهي لصكوك ملكية الخدمات الموصوفة في الذمة عن توصيف صكوك ملكية منافع الأعيان الموصوفة في الذمة، فإن الأول هو في استئجار شخص غير معين، وهذا جائز بلا خلاف، والثاني في استئجار عقار موصوف في الذمة، وهذا غير جائز. فإذا كانت هذه الخدمات (المنافع) هي منافع أشخاص غير معينين جاز هذا بلا خلاف، وعليه يكون التوصيف: ¬
حكم تداول هذه الصكوك
المؤجر: هو مصدر هذه الصكوك. والمستأجر: هم المكتتبون في هذه الصكوك. والأجرة: حصيلة الاكتتاب. والخدمة: هي المنفعة المعقود عليها. حكم تداول هذه الصكوك: [ن - 184] لا مانع من تداول صكوك ملكية منافع الأعيان الموصوفة في الذمة، إذا كانت هذه المنافع من أشخاص غير معينين، وليست عقارا. جاء في حاشية قليوبي وعميرة: "الإجارة قسمان: واردة على عين كإجارة العقار ودابة وشخص معينين ... وواردة على الذمة كاستئجار دابة موصوفة" (¬1). وجاء في المنتقى للباجي: "والإجارة على ضربين إجارة متعلقة بعين، وإجارة متعلقة بالذمة، فأما المتعلقة بالعين: فمثل أن يكتري منه دابة معينة، وأما المتعلقة بالذمة فمثل أن يكتري منه دابة يأتيه بها يعمل عليها عملا متفقا عليه. قال القاضي أبو محمد: وكل ذلك جائز" (¬2). الفرق بين الخدمات المعينة والخدمات الموصوفة في الذمة. أن الصكوك في الصورتين يمثلان خدمات إلا أن هذه الخدمات تارة تكون قائمة بعينها، وتارة تكون موصوفة في الذمة. والفارق الذي يسجل بينهما. أنه في حال بيع صكوك إجارة الخدمات الموصوفة في الذمة لا يشترط أن تكون الجهة المصدرة هى مالكة الخدمات؛ لأن العملية قائمة على خدمة موصوفة في ¬
الذمة، فالحق متعلق بالذمة، ولم يتعلق بعين معينة، في حين أنه في صكوك الخدمات القائمة المعينة لا بد أن تكون الجهة المصدرة إما مالكة لتلك الخدمات مثل إدارة المستشفى، أو إدارة الجامعة، أو نائبة عنها؛ لأنها تبيع خدمة معينة، وليست في الذمة، فلو لم تكن مالكة، أو نائبة عن المالك أصبحت قد باعت ما لا تملك، وهذا لا يجوز (¬1). ¬
الفصل الرابع في حصص التأسيس
الفصل الرابع في حصص التأسيس المبحث الأول التعريف بحصص التأسيس وبيان خصائصها تعريف حصص التأسيس: من خلال دارسة الأدوات المتداولة في سوق المال درسنا فيما مضى الأسهم، ثم درسنا أحكام السندات، والبدائل الشرعية لها، ثم نأتي إلى القسم الأخير من هذه الأدوات، وهي حصص التأسيس. وتعرف حصص التأسيس بأنها: "صكوك قابلة للتداول بالطرق التجارية، تصدرها شركات المساهمة، وتمنح صاحبها نصيبا من أرباح الشركة مقابل ما قدموه من خدمات أثناء تأسيس الشركة" (¬1). وسميت بذلك لأنها تقرر في بدء الشركة للمؤسسين مكافأة لهم على جهودهم التي بذلوها في سبيل إنشاء الشركة، وهذا النظام كان معمولا به في أول الأمر، أما الآن فحصص التأسيس تعطى لغير المؤسسين، وفي غير وقت تأسيس الشركة شريطة أن يكون نظام الشركة يجيز ذلك. انظر المادة 112 من نظام الشركات (¬2). ¬
خصائص حصص التأسيس
خصائص حصص التأسيس: [ن -185] تتمتع حصص التأسيس بخصائص عديدة، من أهمها: الأولى: أنها ليست جزءًا من رأس مال الشركة، حيث لم يقدم صاحبها أي حصة نقدية، أو عينية يمكن أن تدخل في ضمان رأس المال، وليس لهم أي حق في موجودات الشركة، ولا يتحملون مخاطر المشروع. الثانية: لا يملك أصحابها التدخل في إدارة الشركة، ولا حضور الجمعيات العامة، والتصويت فيها. الثالثة: ليس لها أي قيمة اسمية، وإنما لها نصيب في الأرباح فقط إن وجد، بشرط ألا يخصص لهذه الحصص ما يزيد عن 10 % من الأرباح الصافية بعد حجز الاحتياطي القانوني للشركة، ووفاء 5% على الأقل كربح لرأس المال. الرابعة: كونها قابلة للتداول وفقا لتداول أسهم الشركة العادية. الخامسة: كونها غير قابلة للتجزئة. سادسا: كونها قابلة للإلغاء من قبل الشركة، بشروط محددة، كأن يمضي ثلث مدة الشركة، أو عشر سنوات مالية على الأكثر ابتداء من تاريخ إنشائها مقابل تعويض عادل لأصحابها. أوجه الاتفاق والاختلاف بين حصص التأسيس والأسهم والسندات: تشترك حصص التأسيس مع الأسهم فيما يلي: - قبولهما للتداول. - كونهما لا يقبلان التجزئة. - اشتراكهما في أرباح الشركة.
وتختلف حصص التأسيس عن الأسهم: - ليس لها قيمة اسمية. - لا يعتبر صاحبها شريكا في الشركة، وبالتالي ليس له الحق في إدارة الشركة. - لا يتحمل صاحبها أي خسارة. - يمكن إلغاؤها. وتتفق حصص التأسيس مع السندات فيما يلي: - حصول كل منهما على نسبة من الأرباح. - عدم المشاركة في الخسائر، وفي إدارة الشركة. ويختلفان: بأن حامل السندات دائن للشركة، له فائدة ثابتة، ربحت الشركة أم خسرت، وأما صاحب حصص التأسيس فليس دائنا للشركة، وأرباحه ليست ثابتة بل معلقة على وجود أرباح صافية (¬1). ¬
المبحث الثاني التوصيف الفقهي لحصص التأسيس
المبحث الثاني التوصيف الفقهي لحصص التأسيس [ن -186] اختلف فقهاء القانون في توصيف حصة التأسيس: القول الأول: ذهب بعضهم إلى أن صاحب حصص التأسيس دائن للشركة بنصيب من الربح (¬1). واحتجوا بأن صاحب هذه الحصص محروم من التدخل في الإدارة. ونوقش: بأن الدائن يستحق نصيبه كاملًا سواء ربحت الشركة أم خسرت، في حين أن صاحب حصة التأسيس لا يأخذ إلا مقدارا من الربح فقط. القول الثاني: ذهب بعضهم إلى أن صاحب حصص التأسيس شريك بدليل أن له نصيبا في الأرباح، والاشتراك في الربح لا يكون إلا للشريك (¬2). ونوقش هذا: بأن الشريك هو من يقدم حصة نقدية أو عينية من رأس مال الشركة، ويتحمل مخاطر المشروع في حين أن صاحب التأسيس لا يتحمل شيئًا من ذلك، كما أنه ممنوع من ممارسة حقوق الشريك في إدارة الشركة. ¬
فلا يمكن أن تكون هذه الصكوك بمنزلة الأسهم؛ لأن صاحب حصص التأسيس ليس له الحق في موجودات الشركة، وإنما له نصيب فقط في أرباحها. ولا هي مثل السندات؛ لأن صاحب السندات يملك قيمة السند بصرف النظر عن ربح الشركة وخسارتها. ولا يمكن توصيفها على أنها بيع: أي أن الشركة تبيع عدة صكوك في مقابل خدمات صاحبها لجهالة الثمن، والمثمن معاً، إذ الخدمة التي قدمها ليست محددة حتى يرد عليها عقد البيع، كما أن الصك (الثمن) غير محدد من حيث ما يأخذه صاحبه؛ لأنه مقيد بنسبة الربح الذي هو معدوم عند العقد، أو مجهول يظهر في المستقبل. وما يقال على البيع يقال في الإجارة. كما أن حصص التأسيس لا ينطبق عليها عقد الجعالة؛ لأن الجعالة أن يجعل جائز التصرف شيئًا متمولا معلوما لمن يعمل له عملا معلوما، فلا بد أن يكون المال معلوما كالف ريال مثلا، أما في حصص التأسيس فهو غير معلوم؛ لأنه ليس معلوم النسبة، وأيضاً ليس نسبة ثابتة، وإنما هي احتمالية، والشرط في الجعالة أن يكون الجعل معلوم المقدار غير مجهول. وأقرب ما يصدق على النوع من الصكوك التي تصدرها الشركات المساهمة أن صاحب حصة التأسيس شبيه بالبائع الذي ارتضى أن يكون ثمن المبيع حقا احتماليا غير محدد المقدار، والمبيع حقا معنويا (¬1). ¬
المبحث الثالث الحكم الفقهي لحصص التأسيس
المبحث الثالث الحكم الفقهي لحصص التأسيس [ن -187] اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم حصص التأسيس إلى قولين: القول الأول: يرى أن حصص التأسيس مباحة شرعًا، فيجوز إصدارها، والتعامل بها (¬1). واستدلوا على ذلك بما يلي: الدليل الأول: أن حصص التأسيس تعتبر هبة التزم بها أصحاب الشركة لأشخاص معينين، كنسبة مقتطعة من الربح سنويًا، وإن كان هذا المبلغ مجهول القيمة وقت الوهب، فإنه آيل للعلم وقت القبض، وقد أفتى المالكية بصحة هبة المجهول؛ لأنه من باب التبرعات، وليس من باب المعاوضات. الدليل الثاني: أن صاحب حصص التأسيس لا يمكن اعتباره شريكًا؛ لأنه لا يشارك في خسارة الشركة، ولا يعتبر دائنًا؛ لأن الدائن يستحق نصيبه مطلقًا ربحت الشركة أم خسرت، إلا أن ذلك لا يمنع من جواز حصص التأسيس باعتبارها مكافأة له على ما قدمه للشركة، وبدلًا من منحه مبلغًا يحسب من نفقات التأسيس يمنح ¬
ويناقش هذا الدليل والذي قبله
جزءا من الأرباح، فيكون ذلك دافعًا له إلى بذل جهد أكبر، وتقديم خدمة أفضل. ويناقش هذا الدليل والذي قبله: بأن حصص التأسيس ليست هبة، ولا مكافأة حتى تصح بالمجهول، بل هي ممنوحة لصاحبها مقابل ما قدمه للشركة من براءة اختراع، أو غير ذلك، ولذلك نصت التشريعات على أنه لا يمكن إلغاؤها إلا بتعويض عادل، وبعد مضي مدة محددة، ولو كانت تبرعا محضا لجاز إلغاؤها مطلقاً. كما أنه لا يمكن اعتبارها هبة بعوض؛ لأن الهبة بعوض يطبق عليها أحكام البيع على الصحيح عند جمهور الفقهاء. الدليل الثالث: أن ثمرة جهدهم تظل مستمرة ما دامت الشركة قائمة، ولذلك يستحقون عن هذا الجهد نصيبا من الربح. القول الثاني: وهو قول أكثر أهل العلم يرى أن حصص التأسيس من المعاملات المحرمة (¬1). ويستدلون على ذلك بأنه عقد بيع مجهول الثمن، فيكون فيه غرر. ومما يدل على خطأ إصدار مثل هذه الحصص أن كثيرا من القوانين الوضعية الغربية والعربية منعتها، فحرمها المشرع الفرنسي في قانون الشركات الصادر ¬
سنة 1966 م، وكذلك فعل المشرع السوري، واللبناني، والأردني، وتجاهلها القانون العراقي والكويتي، وأقرها قانون الشركات بمصر الصادر لسنة 1981 في مادته 34. وكذلك نظام الشركات في السعودية، في مواده: 112، 113، 114, 115 (¬1). وقد كشفت التجربة على أن المؤسسين اتخذوا حصص التأسيس ذريعة اللحصول لأنفسهم على جانب كبير من الأرباح، لا يتناسب مع ما أدوه من خدمة للشركة (¬2). ويمكن أن تستبدل هذه الفكرة بفكرة المكافأة النقدية، أو العينية لهؤلاء الذين قدموا خدمات فعلية، أو براءة اختراع، كما يمكن تحويل قيمة هذه المكافأة بعد تحديدها بأسهم عادية ويأخذ حصته من الأرباح كغيره من المساهمين، ويتحمل الخسائر كغيره، ويحق له بيع أسهمه حسب نظام تداول الأسهم كما قلنا في الأسهم العينية (¬3). وبهذا نكون قد أنهينا الدراسة فيما يتعلق في الأدوات المتداولة في سوق المال، من أسهم، وسندات، وحصص تأسيس، وتناولنا في أثناء هذه الدراسة: الشركات المساهمة، باعتبار أن السهم، يمثل جزءاً من رأس مال الشركة، كما تناولنا البدائل المقترحة للسندات المحرمة، وفي الباب التالي سوف نتناول إن شاء الله طريقة تداول تلك الأسهم والسندات، وحكمها الفقهي، أسأل الله وحده، عونه وتوفيقه. ¬
الباب الثالث في عمليات سوق الأوراق المالية
الباب الثالث في عمليات سوق الأوراق المالية يقصد بعمليات سوق الأوراق المالية، تلك الإجراءات والقواعد التي يتم بموجبها عقد صفقات: بيع، وشراء الأوراق المالية، وهي عمليات متعددة، ومتداخلة، تحكمها أنظمة وقوانين البورصة. وتتم عمليات سوق الأوراق المالية على ضربين: بيوع عاجلة، وبيوع آجلة. والبيوع العاجلة: هي العمليات التي يلتزم كل من البائع والمشتري بتنفيذ عقودها، وذلك بأن يستلم البائع الأوراق المالية، ويسلم المشتري ثمنها حالاً، أو خلال مدة وجيزة أقصاها يومان، بينما يلزم في سوق نيويورك أن تصفى العمليات العاجلة في موعد أقصاه ساعة قبل افتتاح الجلسة التالية (¬1). ويتم البيع والشراء عن طريق سمسار البائع، وسمسار المشتري، وتتم التسوية بينهما في غرفة المقاصة طبقًا للوائح المنظمة لذلك، وإذا تمت الصفقة بينهما يبقى بعد ذلك إجراءات شكلية لإثبات ذلك في الشركة مصدرة الأوراق المالية، وتجري هذه العملية في البورصة بعيدًا عن الشركة محل البيع، وتجدر الإشارة إلى أن محل البيع في هذه الصفقة ليس الورقة المالية بذاتها، بل ما تمثله تلك الورقة، فإن كانت الورقة المالية سهمًا، كان محل البيع ما يمثله هذا السهم ¬
من موجودات الشركة، وإن كانت سندا كان محل البيع ما يمثله من دين على الشركة اتجاه المقرض (¬1). والغرض من شراء هذه الأوراق المالية من قبل المتعاملين: إما للاحتفاظ بها، والاستفادة مما تدره عليهم من أرباح أو فوائد، ويطلق عليه اصطلاحا (الاستثمار) .. وإما لغرض بيعها عندما ترتفع أسعارها، وتحقيق الربح من الفروق بين سعر الشراء، وسعر البيع. ويطلق عليه اصطلاحا (المضاربة). أو يكون الغرض كلا الأمرين معاً (الاستثمار والمضاربة). وهي ثلاثة أنواع: 1 - العمليات العاجلة العادية. وذلك بالشراء والبيع بكامل الثمن. 2 - التعامل بالهامش. وذلك بالشراء بجزء من الثمن. 3 - البيوع القصيرة، ويسمى (البيع على المكشوف) وسوف يأتي الكلام عليها بالتفصيل إن شاء الله تعالى. وأما البيوع الآجلة: فهي عبارة عن عقود يلزم بموجبها البائع والمشتري في تنفيذ التزامه في المستقبل في موعد محدد يسمى يوم التصفية مع حق أحد الطرفين في الالتزام، أو الامتناع عن التنفيذ قبل يوم التصفية، مقابل دفع مبلغ من المال يدفع عند التعاقد (¬2). ¬
الفصل الأول في العمليات العاجلة والفورية وأحكامها الفقهية
الفصل الأول في العمليات العاجلة والفورية وأحكامها الفقهية المبحث الأول بيع الأسهم والسندات في العمليات العاجلة [ن - 188] إذا كان محل البيع أو الشراء هو الأسهم، فقد سبق لنا عند الكلام على حكم إصدار الأسهم أن ذلك جائز بشرط أن يكون السهم يمثل شركة مباحة يكون رأس مالها حلالا، وتتعامل في مجالات مباحة، ولا تتعامل بالحرام. وأدلة جوازه معلومة من أدلة جواز البيع والشراء. ولم يمنع من ذلك إلا من أنكر مشروعية شركة المساهمة من أصلها، وهو قول شاذ مهجور، مخالف لما استقر عليه القول من عامة أهل العلم في هذا العصر. وقد سبق لنا مناقشة هذا القول، وبيان ضعفه في مسألة سابقة. [ن -189] وأما إذا كان محل البيع هو السند، فإن السند عبارة حمن صك يثبت دينًا لصاحبه، فعندما يقوم صاحب السند ببيعه فإنه يبيع دينًا، وقد تكون الشركة التي أصدرت تلك السندات هي المشتري، كما في حالة الاسترداد أو الاستهلاك، وقد يكون أحد الأفراد ممن يتعاملون بالبورصات، ويفترض أن يكون الثمن حالًا؛ لأن البيع من المعاملات العاجلة الفورية. فإذا كانت حقيقة السند: أنه قرض بفائدة؛ لأنه يمثل دينًا على الشركة، ويستحق صاحبه فائدة سنوية محددة، سواء ربحت الشركة أو خسرت، فهو داخل في نطاق المعاملات الربوية، وبالتالي فإن إصدارها من أول الأمر عمل
الصورة الأولى
غير شرعي، وعليه فإن تداوله بالبيع والشراء غير جائز شرعاً، ولا يصح لحامل السند بيعه، ولكن على فرض أن السند يمثل دينا مشروعا، أو يكون صاحبه أراد أن يبيع أصل السند متنازلا عن الفائدة الربوية المحرمة، فهل يصح بيعه؟ هنا نفرق بين صورتين: الصورة الأولى: أن يباع أصل السند دون فوائده على الشركة المصدرة بالنقد، أي بيع الدين بالنقد ممن هو عليه. فهذا يجوز عند جمهور الفقهاء، بشرطين: هما التماثل والتقابض إن كان الثمن من جنس الدين. أو بشرط التقابض فقط إن كان الثمن ليس من جنس الدين. ويشترط بعض الفقهاء ألا يربح عليه، بأن يكون البيع بسعر يومه حتى لا يربح فيما لم يضمن. (ح -877) لما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يريد أن يدخل بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا، وبينكما شيء (¬1). ¬
الصورة الثانية
[اختلف في رفعه ووقفه، ورجح شعبة والدارقطني وقفه] (¬1). وقد سبق الكلام على هذه المسألة عند الكلام على بيع السندات، فأغنى عن إعادته هنا. ومن باب أولى أن يكون البيع جائزًا لو كان الثمن عرضًا، من سيارة، أو أرز، أو نحوهما. الصورة الثانية: أن يباع أصل السند دون فوائده على غير من هو عليه. فإما أن يباع بالنقد. أو يباع بالعروض. فإن بيع بالنقد فإنه لا يجوز لأنه بيع دراهم حالة بدارهم مؤجلة، ومن شرط صحة البيع التقابض إن كانت النقود من غير جنس النقود المباعة. أو التقابض والتماثل إن كانت النقود من جنس النقود المباعة. وإن باعه بعرض، فإما أن يكون العرض معينًا أو موصوفًا في الذمة. فإن كان العرض معينًا، أو موصوفًا في الذمة، وكان حالاً، فإن الصحيح جوازه بشرط تعيين الموصوف في الذمة في مجلس العقد حتى لا يكون من باب بيع الدين بالدين (¬2). وإن كان العرض موصوفًا في الذمة مؤجلًا لم يصح؛ لأنه يصير من بيع الدين بالدين. وهل يشترط ألا يربح فيه؛ لأن الدين مضمون على المدين، وليس على ¬
البائع، أو يقال: يجوز؛ لأن الدين مضمون على البائع كما هو مضمون على المدين، فيه تأمل. يقول الشيخ المترك -رحمه الله -: "لو قدر أن السند يمثل دينا مشروعا، فهل يصح بيعه؟ ... وأما بيعه على غير من هو عليه، فالذي يترجح هو الجواز إذا بيع السند بغير نقود، كأن يبيعه بأرز، أو شعير، أو سيارة. وأما إذا باعه بنقود فلا يصح؛ لأنه بيع دراهم حالة بدراهم مؤجلة، ومن شرط صحة ذلك التقابض إذا كانت النقود من غير جنس النقود المباعة، وإذا كانت النقود من جنسها، فيشترط أيضًا مع التقابض التماثل فلا يباع السند بثمن أقل مما يمثله، فلو كان السند يمثل عشرة جنيهات، فلا يصح أن يباع بأحد عشر جنيهًا نسيئة؛ لأنه يكون فيه ربا فضل، وربا نسيئة" (¬1). وقد سبق الكلام على هذا بالتفصيل في مبحث مستقل عند الكلام على حكم بيع السندات، فأغنى عن التفصيل هنا. ¬
المبحث الثاني التعامل بالهامش (الشراء بجزء من الثمن)
المبحث الثاني التعامل بالهامش (الشراء بجزء من الثمن) إذا كان محل البيع أو الشراء هو الأسهم، فإما أن يقوم المشتري بسداد الصفقة نقدًا بالكامل، وهذا هو الأصل، وقد سبق لنا حكمه في المبحث السابق. [ن - 190] وإما أن يقوم المشتري بسداد جزء من الثمن، ثم يقترض الباقي، وهو ما يسمى بالشراء بالهامش. فالشراء بالهامش، أو الشراء بجزء من الثمن: هو نوع من المعاملات العاجلة، وحقيقته: أن يقوم المستثمر بدفع جزء من ثمن الأسهم التي يريد شراءها من أمواله الخاصة نقدا، ودفع الباقي من أموال مقترضة، ثم رهن تلك الأوراق محل الصفقة كضمان للقرض (¬1). فالهامش يطلق على المبلغ النقدي الذي يدفعه المستثمر من أمواله الخاصة (¬2). ونلحظ أن التعامل بالهامش يشبه البيع على المكشوف من حيث إن كليهما يقومان على القرض، ولكنهما يختلفان في نوعية هذا القرض، فالمضارب في البيع على المكشوف يقوم باقتراض الأوراق المالية (الأسهم والسندات) أما في التعامل بالهامش فيقترض المضارب نقودا ليشتري بها مزيدا من الأوراق المالية التي لم يكن ليستطيع شراءها لولا هذا القرض (¬3). ¬
وأما نسبة الهامش: وتعني المبلغ الذي يملكه المشتري منسوباً إلى مجموع المال المستثمر فهي تختلف باختلاف القواعد واللوائح والنظم الحاكمة للتعامل في مختلف البورصات، وتتراوح عامة بين 40 % و 60 % وفي بورصة نيويورك حددت النسبة ب 50 % منذ عام 1933 م، ولم يختلف الأمر عنه كثيراً حتى الآن (¬1). ويتم تحديد هذه النسبة من قبل البنك المركزي، ويستخدم في نشاط السوق عن طريق رفع، أو خفض نسبة الهامش، فإذا لاحظ البنك ارتفاع مستويات الأسعار بصورة غير طبيعية، بسبب ارتفاع حدة المضاربة، فإنه يعمد إلى رفع نسبة الهامش، مما يؤدي إلى انخفاض الطلب على القروض المستخدمة في تمويل هذا النوع من عمليات الشراء، وانخفاض الطلب على الأسهم تبعًا لذلك، وإذا لاحظ ضعف نشاط البورصة بسبب قلة الإقبال على الشراء، خفض نسبة الهامش، بهدف تمكين المتعاملين من الحصول على القروض اللازمة لتمويل عمليات شراء الأسهم، مما يترتب عليه زيادة الإقبال على شراء الأسهم، وتنشيط السوق (¬2). فخلاصة الشراء بالهامش: هو شراء العميل من السمسار أوراقا مالية ضعف ما كان يشتريه نقدًا، وذلك بدفع 50 % من قيمة تلك الأوراق، والباقي من القيمة سوف يقوم السمسار بإقراضه بمعدل الفائدة السائد على أن تسجل تلك الأوراق باسم السمسار إلى أن يقوم العميل بسداد قيمة القرض، وتمثل رهنًا لديه، يتمكن من بيعه إذا لم يقم المقترض بالوفاء. ¬
كيفية محاسبة الهامش: [ن - 191] مثال ذلك: شخص يريد أن يشتري (500) سهمًا، وكانت قيمة السهم 20 ريالًا، فإن قيمة هذه الصفقة ستبلغ 10000 عشرة آلاف ريال. وهذا يعني أنه لا بد أن يدفع 50 % من قيمة الصفقة (5000) ريال، ويسمى رصيد المشتري والباقي (5000) ريال يقرضه السمسار بفائدة ربوية ثابتة، ما عدا العمولة والمصاريف الأخرى، ويسمى ما يدفعه السمسار: المبلغ المدين أو الرصيد المدين. 500 سهم × 20 = 10.000 ريال - سعر السوق السائد نسبة الهامش 50 % 5000 ريال - رصيد (السمسار) نسبة الهامش 50 % 5000 ريال - رصيد العميل فإذا ارتفع سعر السهم إلى (22) ريال للسهم الواحد، ففي هذه الحالة سيكون حساب الهامش كالتالي: 500 × 22 = 11.000 - سعر السوق السائد نسبة الهامش: 50 % 5000 - رصيد السمسار نسبة الهامش50 % 6000 - رصيد العميل ففي هذه الحالة بارتفاع سعر السوق، ارتفعت قيمة رصيد المشتري أيضًا، وبما أن رصيد المشتري مرتبط بنسبة الهامش أيضًا فهناك علاوة عليه بعد ارتفاع سعر السهم من 20 إلى 22 ريالا، وتحسب كالآتي: علاوة رصيد المشتري = الرصيد الحالي - الرصيد المدين. 6000 - 5000 = 1000 ريال.
ويحق للمشتري الاستفادة من هذه العلاوة، إما بسحبها نقدًا، أو الاستفادة منها في شراء عدد آخر من الأسهم، ولهذه العلاوة قوة شرائية مضاعفة، تسمى قوة الشراء، فإذا كانت علاوة رصيد المشتري ألفاً، فإنه يستطيع أن يشتري بها أسهما بقيمة (2000) ريال، وهكذا كلما ارتفع سعر السوق، كلما زادت قيمة رصيد العميل، وزادت العلاوة عليه أيضًا، وبالتالي تزيد قوة الشراء، وكمية الأسهم المشتراة. أما إذا نزل سعر السوق إلى (18) ريالا للسهم الواحد مثلا، ففي هذه الحالة سيكون حساب الهامش كالآتي: 500 × 18 = 9000 ريال - سعر السوق السائد نسبة الهامش 50 % 5000 - رصيد السمسار نسبة الهامش 50 % 4000 - رصيد العميل وفي هذه الحالة نرى أن رصيد العميل نزل مع نزول قيمة السوق، فهو مطالب بمبلغ (1000) لو أراد أن يصفي حسابه، ولكن السمسار لا يطالبه الآن، ويسمى هذا بالطلب الأولي، حيث لا يطالب السمسار عميله بإيداع المبلغ، أو بيع أسهمه ما لم يصل رصيد العميل إلى أقل من ثلث المبلغ المدين رصيد (السمسار) وهذه النسبة تختلف حسب قوانين البورصة، فقد حددت بورصة نيويورك نسبة (25 %) ويسمى الهامش الوقائي فإذا أصبح رصيد العميل أقل من ربع رصيد السمسار يقوم السمسار بطلب الكفالة، أو طلب الهامش. ففي المثال المذكور لو نأخذ بالنسبة التي حددتها بورصة نيويورك، يعني أن رصيد العميل لو وصل إلى أقل من ربع رصيد السمسار أي (1250) حينئذ يطلب
السمسار طلب زيادة الهامش، فنفرض أن سعر السوق لو نزل إلى 12 ريال للسهم الواحد، فيكون الهامش كالآتي: 500 × 12 = 6000 - سعر السوق السائد نسبة الهامش 50 % 5000 - المبلغ المدين نسبة الهامش 50 % 1000 - رصيد العميل فإذا نظرنا إلى رصيد العميل، وهو ألف ريال، فإنه أقل من ربع المبلغ المدين (رصيد السمسار)، ففي هذه الحالة يصدر السمسار طلب زيادة الهامش من عميلة، وذلك بدفع مبلغ خلال خمسة أيام يوصل رصيد العميل إلى ربع المبلغ المدين (رصيد السمسار)، أو إصدار أمر لسمساره ببيع جزء من الأوراق محل الصفقة بهدف زيادة نسبة الهامش، فهنا المبلغ المطلوب لا يقل عن 250 ريال حتى يرتفع رصيد العميل إلى 1250 ريال، وهو ما يعادل ربع المبلغ المدين (رصيد السمسار) (5000)، وإذا نزل سعر السوق أكثر، فالسمسار يطلب هامشا آخر، فحينئذ يجب على العميل أن يقرر استمراريته على دفع زيادة الهامش، أو أن يصدر أمراً لسمساره بالبيع لجميع أسهمه ليوقف خسارته عند ذلك الحد. وبهذا يتبين لنا أن الشراء بالهامش في حالة ارتفاع السوق يصاعف ربح العميل، ويضمن للسمسار قرضه، والفائدة عليه، إضافة إلى عمولته. وبالعكس في حالة نزول سعر السوق، يتعرض العميل لخسارة مضاعفة، ولكن وضعية السمسار تبقى ثابتة، فلديه أوراق مالية مرهونة لعميله لتأمين قرضه، ويأخذ فائدته وعمولته أيضًا (¬1). ¬
الفرع الأول الحكم الفقهي للشراء بالهامش
الفرع الأول الحكم الفقهي للشراء بالهامش [ن -192] عرفنا أن الشراء بالهامش، هو أن يقوم المشتري بدفع جزء من الثمن، والباقي عن طريق القرض، فإن كان القرض من رجل أجنبي، وكان خاليا من الربا، بأن يكون القرض قرضا حسناً، فإنه لا إشكال في جوازه على الصحيح، وتبقى الكراهة فيه لأمر خارج عن طبيعة المعاملة، متعلقة بحكم الاقتراض للتجارة إذا لم يكن الإنسان محتاجا، فإن من أهل العلم من يكره أن يشغل الإنسان ذمته بالديون ما لم يكن هناك حاجة. وهناك من أهل العلم من حرم التعامل بالهامش مطلقاً، وعلل ذلك بأن جوهر عملياته عمليات مضاربة، ويرى أن المضاربة في الأسهم أمر محرم (¬1). وتقدم تحرير الخلاف في هذه المسألة، وأن حكم المضاربة في الأسهم حكم الاستثمار فيها، وأن الصحيح جواز ذلك إذا كانت الشركة مباحة في نفسها, ولا تمارس أعمالا محرمة. وإن كان القرض من السمسار، فإنه لا يخلو إما أن يكون القرض بفائدة، أو بدون فائدة، فإن كان القرض بفائدة فإن العقد محرم لسببين: الأول: ارتكاب الربا، وهو من أعظم الكبائر، وقد تكلمنا عن حكم ربا القروض في مباحث الربا، فأغنى عن إعادته هنا. الثاني: الجمع بين القرض والبيع، في عقد واحد والبيع مشروط في عقد القرض. ¬
وإن كان القرض بدون فائدة من السمسار كان العقد محرما لسبب واحد، وهو الجمع بين القرض والبيع، واجتماعهما عن طريق الشرط. والجمع بين القرض والبيع بالشرط محرم بالإجماع. (ح -878) لما رواه أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم بضمن (¬1). [سناده حسن] (¬2). والمراد بالسلف: هو القرض في لغة الحجاز، فنهى عن الجمع بين البيع والقرض، وإنما نهى عن الجمع بين البيع والقرض وإن كان كل واحد منهما صحيحا بانفراده؛ لأنه ربما حاباه في البيع لأجل القرض، فيؤدي إلى أن يجر القرض نفعاً للمقرض، فلما كانت الفائدة على القرض ربما تستتر بعقد البيع نهى عنها الشارع. قال ابن تيمية: "نهى -يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع الرجل بين سلف وبيع، وهو حديث صحيح، ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح، وإنما ذاك؛ لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفًا، ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفاً، وسلعة بثمانمائة، ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا" (¬3). ¬
وقد حكى الإجماع غير واحد من أهل العلم على تحريم اشتراط البيع مع عقد القرض. قال الباجي في المنتقى: "لا يحل بيع وسلف، وأجمع الفقهاء على المنع من ذلك ... " (¬1). قال القرافي: "وبإجماع الأمة على جواز البيع والسلف مفترقين، وتحريمهما مجتمعين لذريعة الربا" (¬2). وقال في مواهب الجليل: "واعلم أنه لا خلاف في المنع من صريح بيع وسلف" (¬3). وقال الزركشي في البحر المحيط: "وبالإجماع على جواز البيع والسلف مفترقين، وتحريمهما مجتمعين للذريعة إليها" (¬4). كما حكى الإجماع على التحريم ابن قدامة في المغني (¬5) وغيرهم. ولأن اشتراط البيع في عقد القرض، أو العكس يخرج القرض عن موضوعه، وذلك أن القرض من عقود الإحسان والإرفاق، يجوز فيه ما لا يجوز في البيع من مبادلة الربوي بمثله مع عدم التقابض, فإذا ارتبط بعقد البيع أخرج عقد القرض عن موضوعه ومقتضاه, وهو والإرفاق والإحسان, وهذا لا يجوز. ¬
الفرع الثاني إمكانية تصحيح الشراء بالهامش
الفرع الثاني إمكانية تصحيح الشراء بالهامش [ن -193] المحذور من الشراء بالهامش هو الوقوع في الربا، سواء كان المحذور هو الزيادة المشروطة في عقد القرض، أو كان المحذور هو الجمع بين البيع والقرض، وذلك أن النهي عن الجمع بين البيع والقرض إنما هو لمظنة الوقوع في الربا. كما ذكر ذلك ابن تيمية بأنه إنما نهى عن الجمع بين البيع والقرض، وإن كان كل واحد منهما صحيحا بانفراده؛ لأنه ربما حاباه في البيع لأجل القرض، فيؤدي إلى أن يجر القرض نفعاً للمقرض، فلما كانت الفائدة على القرض ربما تستتر بعقد البيع نهى الشارع عن الجمع بين البيع والقرض (¬1). فإذا كان المحذور في الشراء بالهامش هو الوقوع في الربا، فهل نقول: إن العقد باطل، وكل ما ترتب على الباطل فهو باطل؟ أو نقول: إن العقد فاسد، كما هو مذهب الحنفية في التفريق بين الباطل والفاسد، وهذا يعني إمكانية تصحيحه, وذلك برد الزيادة فقط؛ لأن عقد الربا إنما هو محرم لوصفه، وليس لذاته؛ لأن التحريم إنما كان لأجل الزيادة، وهي صفة في العقد، فإذا رد العاقد الزيادة المحرمة أصبح العقد صحيحا؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]. هذه مسألة خلافية، وقد سبق تحرير القول فيها في عقد الربا فأغنى عن إعادته هنا. ¬
الفرع الثالث في رهن الأسهم
الفرع الثالث في رهن الأسهم [ن -194] لما كان الشراء بالهامش يرتبط به مسأله رهن الأوراق المالية كضمان للقرض، ناسب أن أبحث هذه المسألة هنا، فما حكم رهن الأسهم؟ وللجواب على ذلك أقول: لما كان السهم يمثل حصة مشاعة في رأس مال الشركة، وفي موجوداتها، فإن حكم رهنه يرجع إلى الخلاف في حكم رهن الحصة المشاعة. وهي مسألة خلافية. والخلاف فيها كالتالي: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أنه لا يجوز رهن المشاع مطلقاً، سواء كان من الشريك، أو من أجنبي، وسواء أمكنت قسمته أم لا، وسواء كان الشيوع طارئا أم مقارنا للعقد (¬1). وبناء عليه فلا يصح رهن الأسهم على قول من اعتبر الأسهم حصة مشاعة في رأس مال الشركة، وفي موجوداتها. القول الثاني: ذهب جمهور الفقهاء من المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وابن حزم ¬
القول الثالث
من الظاهرية (¬1)، إلى صحة رهن المشاع مطلقاً، أي سواء أمكنت قسمته أم لا، وسواء كان الرهن من الشريك أو من أجنبي، وسواء كان الشيوع طارئا أم مبتدأ مقارنا للعقد. وبناء على هذا القول فإنه يجوز رهن الأسهم. القول الثالث: ذهب أبو يوسف من الحنفية إلى أن الشيوع إن كان مقارنا للعقد لم يصح رهن المشاع، وإن كان الشيوع طارئا صح (¬2). مثال الشيوع الطارئ: كما لو رهن أحد عينا لا تقبل القسمة معتقدا أن العين كلها ملكه، ثم ظهر بعد ذلك مستحق لنصف العين المرهونة. القول الرابع: اختار بعض أهل العلم إلى أن المشاع إن كان مما لا يقبل القسمة صح رهنه، وإن كان مما يقبلها لم يصح، وهذا القول منسوب إلى الحسن بن صالح (¬3)، والقاضي أبي يعلى من الحنابلة (¬4). دليل الحنفية على أنه لا يصح رهن المشاع: الدليل الأول: قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: دلت الآية على أن الرهن لا يكون إلا مقبوضا، وذلك أن موجب الرهن الحبس الدائم للمرهون حتى الإبراء أو الوفاء؛ وذلك لأن المقصود من الرهن إنما هو التوثق لاستيفاء المرتهن دينه عند مطل الراهن، أو إفلاسه، وبه يأمن المرتهن على ماله من الضياع، وهذا لا يحصل إلا بثبوت الحبس الدائم، ولا يتصور الحبس الدائم في المشاع؛ لأنه يبطل بالمهايأة، فينتفع المالك يوماً بحكم الملك، ويحفظه المرتهن يوماً يحكم الرهن، فكأنه رهنه يوماً، ويوما لا. وإذا كان لا يمكن حبس المشاع دائما لم يصح رهن المشاع. ولا فرق في ذلك بين الشريك والأجنبي، أما الأجنبي فلما تقدم، وأما الشريك فلأن دوام الحبس الذي هو موجب الرهن متعذر مع الشريك أيضًا؛ لأنه ينتفع به يوماً بحكم الملك، ويحبسه المرتهن يوماً بحكم الرهن، فكأن الراهن رهنه يوماً، ويوما لا. وبهذا يفوت دوام الحبس (¬1). ونوقش هذا من وجوه: الوجه الأول: لا نسلم أن القبض شرط لصحة الرهن؛ لأن الله تعالى ذكر أعلى أنواع الاستيثاق، وهو القبض؛ لأنهم في حالة السفر، وعدبم وجود الكاتب، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. فإذا جاز الرهن في الحضر، ومع وجود الكاتب، جاز الرهن مقبوضا وغير مقبوض. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: لا نسلم أن موجب الرهن الحبس الدائم، بل موجبه ومقصوده استيفاء الدين من ثمنه عند تعذره من غيره، والمشاع قابل لذلك. الوجه الثالث: قال الماوردي: " ... وأما قولهم: إن ذلك يقتضي أن يكون يومًا رهنًا، ويومًا غير رهن فغير صحيح؛ لأنه رهن في جميع الأيام، وقبضه حكمًا مستدام، وخروجه في يوم المهايأة من يده لا يزيل حكم قبضه عنه، وإن حصل في يد غيره، فصار كمن رهن شيئًا على أن يكون في يد مرتهنه يومًا، وعند عدل يومًا لم يمنع ذلك من صحة الرهن" (¬1). الدليل الثاني: أن حكم الرهن ثبوت يد الاستيفاء على ما تناوله العقد؛ لأنه وثيقة شرعت للاستيفاء، وهذا غير متصور في المشاع؛ لأن يد الاستيفاء لا تثبت إلا على معين، والمشاع غير معين. ويجاب من وجهين: الوجه الأول: أن ثبوت اليد على المرهون المشاع ممكن، كأن يرضى الشريك بوضعه في يد المرتهن، أو يضعه الحاكم عند التنازع في يد عدل. الوجه الثاني: القول بأن المشاع غير معين، وغير المعين لا يمكن قبضه غير مسلم؛ لأنه ¬
دليل الجمهور على صحة رهن المشاع مطلقا
يلزم على هذا القول أن يكون كل واحد من الشريكين غير قابض للمشاع، ولو كانا غير قابضين لكان مهملاً، لا يد لأحد عليه، وهذا لا يتصور. قال ابن حزم: "وصفة القبض في الرهن وغيره -: هو أن يطلق يده عليه، فما كان مما ينقل نقله إلى نفسه، وما كان مما لا ينقل كالدور، والأرضين أطلقت يده على ضبطه، كما يفعل في البيع، وما كان مشاعًا كان قبضه له كقبض صاحبه لحصته منه مع شريكه، ولا فرق، ولو كان القبض لا يصح في المشاع لكان الشريكان فيه غير قابضين له، ولو كانا غير قابضين له لكان مهملاً، لا يد لأحد عليه، وهذا أمر يكذبه الدين، والعيان، أما الدين فتصرفهما فيه تصرف ذي الملك في ملكه، وأما العيان، فكونه عند كل واحد منهما مدة يتفقان فيها، أو عند من يتفق على كونه عنده" (¬1). دليل الجمهور على صحة رهن المشاع مطلقا: الدليل الأول: لا يوجد دليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع يمنع من رهن المشاع، والأصل الصحة حتى يثبت العكس. الدليل الثاني: أن الغرض من الرهن كونه وسيلة من وسائل توثيق الدين، ليستوفي الدائن منه أو من ثمنه إذا تعذر استيفاؤه ممن هو عليه، وهذا حاصل في المشاع. الدليل الثالث: أن كل عين جاز بيعها جاز رهنها، والمشاع يصح بيعه، فيصح رهنه. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: أن قبض كل شيء بحسبه، فقبض العقار يختلف عن قبض المنقول، وقبض العروض يختلف عن قبض الدراهم والدنانير، فكذلك قبض المشاع يكفي فيه القبض الحكمي، وهو ما يؤدي إلى منع تصرف الراهن في الرهن إلى حين الإبراء أو السداد. دليل من فرق بين الشيوع الطارئ والشيوع المقاون: استدلوا بالقاعدة التي تقول: البقاء أقوى من الابتداء؛ لأن الاستدامة سهلة بخلاف الابتداء، ومن ثم فإن الشارع فرق بين الطارئ والمقارن في كثير من الأحكام، كالعادة الطارئة، والإباق الطارئ، وصيرورة المرهون دينًا في ذمة غير المرتهن. دليل من فرق بين ما يقبل القسمة وما لا يقبلها: لا أعرف له دليلاً، لكن يمكن أن يستدل له بأن ما يقبل القسمة يمكن قبض عينه بقسمته، فلم يصح رهنه حال كونه مشاعا، بخلاف ما لا يقبل القسمة فلا يمكن قبض عينه، فجاز رهنه لاستحالة قسمته. والله أعلم. الراجح: قول الجمهور، وأنه يصح رهن المشاع مطلقًا، والله أعلم.
المبحث الثالث البيع على المكشوف (البيع القصير)
المبحث الثالث البيع على المكشوف (البيع القصير) الفرع الأول في تعريف البيع على المكشوف تعريف البيع على المكشوف: الأصل في المعاملات أن تشترى الورقة المالية أولا، ثم تباع فيما بعد، غير أن هناك نمطا آخر من المعاملات يقوم به المضاربون، وفيه تباع الورقة أولا، ثم تشترى فيما بعد عندما تنخفض قيمتها السوقية عن القيمة التي سبق أن بيعت بها ويسمى هذا النوع من المعاملات البيع على المكشوف، أو البيع القصير. ويستخدم الاقتصاديون في أسواق الأوراق المالية لفظ: طويل وقصير لبيان نوع الصفقات، وليس المقصود من الطول والقصر في هذا البيع طول أو قصر الفترة الزمنية, وإنما يتعلق بالهدف من البيع والاستثمار. فالمراد بالبيع الطويل: شراء الأسهم والاحتفاظ بها للحصول على الربح، أو بيعها للحصول على الزيادة في أسعارها. أو هو بيع أوراق مالية بعد التملك الفعلي، ففيه يشتري العميل الأوراق المالية متوقعا ارتفاع أسعارها، فيشتري بسعر منخفض ليبيع بسعر أعلى منه. أما البيع القصير، أو البيع على المكشوف فهو بيع أوراق مالية لا ينوي البائع تسليمها من حافظته المالية، إما لأنه لا يملكها أساسا، أو لأنه يملكها, ولا ينوي أن يسلمها وقت البيع، فهو نوع من البيوع العاجلة.
مثاله
وعليه يعرف البيع على المكشوف بأنه: قيام شخص ببيع أوراق مالية لا يملكها عن طريق اقتراضها من آخرين (شركة السمسرة، أو شخص آخر) واحتفاظ السمسار بالثمن لديه كرهن للأسهم التي اقترضها، ثم الالتزام بإعادة شرائها، وتسليمها للمقرض في وقت محدد. ويحصل المضارب على الفرق بين سعر البيع وسعر الشراء، كما يحصل السمسار على العمولة، وعلى فائدة القرض، والانتفاع من قيمة الرهن باستثمارها باعتبارها أموالا لا يدفع عليها فوائد، إضافة إلى أنه سيحصل على مثل قيمة التوزيعات النقدية للأسهم محل الصفقة من البائع فيما لو استحقت تلك التوزيعات قبل إقفال حساب العميل (¬1). مثاله: (1) إذا توقع شخص ما أن سهم شركة من الشركات والذي يباع حاليا بـ30 ريالا سوف يهبط سعره في السوق بعد شهر إلى 20 ريالا، فيعطي أوامره للسمسار الذي يتعامل معه بأن يبيع له على المكشوف 100 سهم، بالسعر البخاري والذي يبلغ 30 ريالا. وهذا يعني الاتفاق بين البائع والسمسار على أن يقوم السمسار بإقراض البائع هذه الأسهم، أو أن يقوم باقتراضها له من طرف آخر. والأسهم التي يقرضها السمسار إما أن تكون مملوكة له، وإما أن تكون مملوكة لعملاء آخرين يحتفظ بها السمسار رهنا لديه من عمليات أخرى. ¬
(2) هذا القرض قابل للاستدعاء في أي وقت من كلا الطرفين، فإذا أراد المقترض (البائع على المكشوف) أن يرده لم يكن للمقرض أن يمتنع عن التسليم، أما إذا كان المقرض هو الذي يريد استرداد الأسهم التي أقرضها، فإنه يلزم المقترض أن يسلمها له خلال 24 ساعة إما بشرائها من السوق، وإما باقتراضها من طرف آخر، وعادة ما يلعب السمسار دورًا في هذا الشأن إذ يقوم بنفسه بالبحث عن طرف آخر يقترض منه ذات الأسهم لحساب العميل، وهي مسألة لا تستغرق وقتًا, ولا تخرج عن كونها استبدال مقرض بمقرض آخر. (3) يقوم السمسار بالبحث عن مشتر يشتري تلك الأسهم، ويعقد معه الصفقة. (4) يقبض السمسار الثمن من المشتري، ولكن لا يسلمه إلى البائع، وإنما يبقي رهنًا عند مقرض الأسهم (سواء كان ذلك هو السمسار أو رجلاً أجنبيا) ليكون رهنا عنده إلى حين الوفاء بالقرض، على أن للمقرض أن ينتفع بهذا الثمن، ويستثمره في وجوه الاستثمار، دون أن يدفع عليه فوائد، وإذا تم توزيع أرباح للأسهم بعد أن قام السمسار بتسليم الأسهم للمشتري فإن الأرباح ستكون من نصيب المشتري وليس من حق المقرض على أن توزيع الأرباح إذا تم قبل إقفال حساب البائع فإن على البائع أن يعوض المقرض عن هذه الأرباح التي ذهبت للمشتري وذلك بدفع مثلها للمقرض، وهذا يمثل تكاليف أخرى على المقترض، وفوائد محرمة بالنسبة للمقرض. (5) يلتزم المقترض بتقديم رهن إضافي من النقود أو الأوراق المالية يسمى بالهامش، ويمثل نسبة معينة من قيمة الصفقة خشية أن ترتفع الأسهم ارتفاعًا لا يكون معه الثمن الذي وضع رهنًا تحت تصرف المقرض كافيا لشراء أسهم
مماثلة، فإذا كان الهامش المحدد 65 % فهذا يعني أن على المقترض أن يدفع للمقرض 3000 × 60 % = 1800 أو أوراقًا مالية بهذه القيمة. (6) إذا حان موعد تصفية العملية خلال المدة المتفق عليها بين البائع والسمسار، فإن صدقت توقعاته، وانخفض سعر سهم الشركة إلى 25 ريالًا فإن بإمكانه أن يقفل مركزه لدى السمسار، وذلك بإعطائه أمرًا بشراء الأسهم من السوق بالسعر السائد 100 × 25 - 2500 ريال، وتسليمها للمقرض (سواء كان السمسار نفسه أو شخصًا آخر) على أن يسترد البائع المبلغ الذي رهنه، وهو المبلغ الذي سبق أن باع به الأسهم (3000) محققًا ربحًا وقدره خمسة ريالات في كل سهم فيكون مجموع ما ربحه 100 × 5 = 500. وسيكون هامش الضمان المطلوب هو 2500 × 60 % = 1500 وحيث إن المقترض سبق أن دفع 1800 ريال فإن بإمكانه أن يسحب 300 ريال من هامش الضمان. أما إذا لم تصدق توقعاته، وارتفع سعر السهم إلى 40 ريالًا فإن عليه أن يدفع قيمة الأسهم السوقية 100 × 40 = 4000 فتكون خسارته في كل سهم عشرة ريالات، ويكون مقدار ما خسره في مجموع الصفقة 100 × 10 =1000ريال إضافة إلى مصاريف وعمولة السمسار. وسيتغير مقدار هامش الضمان 4000 × 60 % = 2400 وحيث إن المقترض سبق أن دفع 1800 ريال، فإن عليه أن يضيف إلى الحساب 2400 - 1800= 600 ريال. وبصفة عامة فإن هذا النوع من التعامل يقصد به المضاربة، ويعمد إليه كبار المتخصصين الذين يحاولون التحكم في أسعار الأوراق المالية، الأمر الذي
جعل بعض الكتاب الأوربيين يصف هذا النوع من التعامل بأنه شر محض يجب إلغاؤه (¬1). فإذا عرفنا ذلك نستطيع أن نلخص الخطوات التي يتم فيها مثل هذا النوع من العمليات: (1) بيع المضارب أسهما لا يمتلكها. (2) إتمام العملية بتسليم أسهم مقترضة من السمسار أو من شخص آخر، وقد يقرض السمسار أوراقا محفوظة لديه مملوكة للغير بدون علمهم. (3) رهن ثمن هذه الصفقة إلى حين سداد القرض. (4) انتفاع المقرض من الرهن بالاستثمار فيه. (5) شراء المقترض مثل هذه الأسهم فيما بعد. (6) إعادة الأسهم المشتراة في المدة المتفق عليها، سواء كان رابحا أم خاسرا. (7) الاستفادة من فارق السعر إن صدق توقعه، وانخفضت قيمة الأسهم، أو الخسارة إذا لم يصدق توقع المضارب، وارتفعت قيمة الأسهم. (8) البيع على المكشوف قد يكون من العمليات العاجلة وقد يكون من العمليات الآجلة حسب طبيعة العقد، فإن كان البائع يبيع أوراقا لا يملكها يقترضها من السمسار أو من غيره، ويكون ملزما بتسليم هذه الأوراق المالية المقترضة إلى المشتري حالا، ولا يتأخر التسليم إلا تبعا لنوع الإجراءات التي تتبع في كل بورصة فهذه من العمليات العاجلة. ¬
وإن كان البائع يبيع أسهمًا لا يملكها وقت التعاقد، ولا يكون ملزمًا بتسليمها وقت العقد، وإنما عليه أن يقوم بشرائها من السوق وتسليمها للمشتري في وقت يتفق عليه يسمى يوم التصفية فهذه من العمليات الآجلة، والله أعلم (¬1). ولهذا النوع من المعاملات مخاطر غير محسوبة، فربح البائع على المكشوف محدود، وأما خسارته فغير محدودة، وذلك لأن ربح البائع متوقف على هبوط أسعار الأسهم، وهبوط السعر أقصى ما يمكن أن يبلغه أن تكون قيمة السهم صفرًا لا تساوي شيئًا، وهو أمر مستبعد حتى في أسوأ الأحوال وهنا يحقق البائع على المكشوف أعلى ربح يمكن أن يصل إليه بأن يكون ربحه مساويًا لقيمة متحصلات بيع الأسهم على المكشوف، فإذا كان قد باع الأسهم بقيمة سوقية 3000 ريال فإن ربحه الكلي سيصبح 3000 ريال، ولا يمكن أن يكون ربحه أعلى من ذلك، وهو ربح محدود كما ترى. وأما خسارته المحتملة في البيع على المكشوف فإنها غير محددة، وذلك لأنه لا يوجد حد لارتفاع أسعار الأسهم، وكلما ارتفع سعر الأوراق المقترضة كلما كبر مقدار الخسارة. ومما يزيد من احتمال خسارة البائع على المكشوف أن المشترين لهذه الأسهم سوف يساهمون بدورهم على رفع قيمة السهم تبعًا لقانون الطلب، ويقللون من وجودها في الأسواق إلا عند المشترين أنفسهم حتى إذا أراد البائعون شراءها لتسديد قروضهم اضطروا إلى شرائها بأي سعر يعرضه المشترون حتى يتمكنوا من تسليم الأسهم إلى مقرضيها. ¬
وقد يدخل مثل هذه المعاملات التلاعب عن طريق جماعات الضغط في البورصة (المتخصصون وأعضاء بورصة الأوراق المالية) فإذا شاركوا في عمليات البيع على المكشوف فإنهم يقومون ببيع كميات كبيرة من الأوراق المالية على المكشوف مما يعرض هذه الأسهم للهبوط تبعًا لقانون العرض، فيقومون بشرائها مرة أخرى بأسعار منخفضة ويحققون بذلك مكاسب مالية، أما إذا لم يشاركوا في هذا البيع فإنهم يمتنعون عن بيع مثل هذه الأسهم وذلك لإحراج البائعين على المكشوف، فيضطر هؤلاء لشراء تلك الأوراق بأي سعر يفرضه هؤلاء المتلاعبون بالأسعار (¬1). ¬
الفرع الثاني الأحكام الفقهية للبيع على المكشوف
الفرع الثاني الأحكام الفقهية للبيع على المكشوف المطلب الأول حكم البيع على المكشوف [ن -195] اختلف الباحثون المعاضرون في حكم البيع على المكشوف على قولين: القول الأول: ذهب عامة أهل العلم المعاصرين إلى أن البيع على المكشوف بصورتها الموجودة في البورصة لا يجوز شرعا. وقد قال بهذا القول كل من الشيخ علي القره داغي، والشيخ مبارك آل سليمان، والشيخ عطية فياض، والشيخ خورشيد إقبال، والأستاذ أحمد محيى الدين أحمد وغيرهم (¬1). وجه القول بالتحريم: أن هذا العقد من العقود المركبة، وغالب هذه العقود هي عقود محرمة، منها ما يدخل تحت بيع الإنسان ما لا يملك، ومنها ما يدخل في التصرف في ملك ¬
القول الثاني
الغير بلا إذنه، ومنها ما يدخل تحت مسألة: اشتراط الانتفاع بالرهن من المرتهن فيدخل تحت مسألة: أسلفني أسلفك، فالسمسار يسلف البائع هذه الأسهم على أن يسلفه البائع قيمتها، ومنها اجتماع القرض مع البيع. وكل هذه العقود سوف أفردها بالبحث في المبحث التالي إن شاء الله تعالى. القول الثاني: ذهب بعض الباحثين إلى جواز البيع على المكشوف، منهم عبد الكريم الخطيب (¬1)، وعلي عبد القادر (¬2). وجه من قال بالجواز: الوجه الأول: حمل النهي عن بيع ما ليس عند البائع على النصح والإرشاد. ويناقش: بأن الأصل في النهي التحريم، ولا يوجد ما يصرفه عن ذلك. الوجه الثاني: توصيف البيع على المكشوف بأنه من باب بيع الشيء قبل قبضه، وهذا أمر مختلف فيه بين موسع ومضيق، وتأسيسا على ذلك فإن هذا يعد أمرا جائزا لا غرر فيه. ¬
ويناقش
ويناقش: بأن البيع على المكشوف الصحيح أنه من بيع الإنسان ما لا يملك، وليس من باب بيع الشيء قبل قبضه، والله أعلم. الوجه الثالث: أن النهي عن بيع غير المملوك في المعاملات القديمة إنما كان ذلك لكونه ينطوي على غرر ومخاطرة، وأما سوق البورصة فإن التعامل بها يختلف اختلافاً كبيرًا فهي تخضع لرقابة صارمة تجعل بيع غير المملوك ليس محلا للمخاطرة. ويجاب: بأن التعامل في سوق البورصة يجري فيه من النجش والتلبيس أكثر مما يجري في المعاملات القديمة، وكم حدثت فيها من الانهيارات المالية مما يدل على أنها سوق عالية الخطورة، وليست محلا للثقة والطمأنينة كما يدعي القائل، والله أعلم. الراجح: الذي لا ينبغي غيره هو القول بالتحريم، والله أعلم.
المطلب الثاني في العقود المقترنة في البيع المكشوف
المطلب الثاني في العقود المقترنة في البيع المكشوف المسألة الأولى في إقراض الأسهم الصورة الأولى أن يكون اقتراض الأسهم من السمسار [ن -196] يحف البيع على المكشوف عدة عقود مختلطة، بعضها حلال، وبعضها حرام، وحتى يمكن الوقوف على حكمها لا بد من الحكم على هذه العقود عقدًا عقدا. فهنا في هذا المبحث سوف نتكلم عن حكم اقتراض الأسهم في البيع على المكشوف. فإنه من المعلوم أن البيع على المكشوف قائم على بيع أوراق مالية تم اقتراضها ولم يكن يملكها البائع، فإن كانت الأسهم مقترضة من السمسار الذي باشر العقد، فإن البيع على المكشوف غير جائز لكون العقد قد جمع بين قرض (وهو عقد تبرع) وسمسرة (وهو عقد معاوضة)، وإذا كان ذلك مشروطًا في عقد القرض حرم إجماعًا كما سبق بيانه عند الكلام على اجتماع العقود في عقد البيع. (ح -879) لما رواه أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬1). [إسناده حسن] (¬2). والمراد بالسلف: هو القرض في لغة الحجاز. قال الباجي في المنتقى: "لا يحل بيع وسلف، وأجمع الفقهاء على المنع من ذلك ... " (¬3). قال القرافي: "وبإجماع الأمة على جواز البيع والسلف مفترقين، وتحريمهما مجتمعين لذريعة الربا" (¬4). وقال في مواهب الجليل: "واعلم أنه لا خلاف في المنع من صريح بيع وسلف" (¬5). ومثل البيع سائر عقود المعاوضات كالإجارة، وعقد السمسرة نوع منها. ويتأكد التحريم إذا كانت الأسهم المقترضة غير مملوكة للسمسار، كم لو كانت مرهونة عنده، ولم يأذن الراهن في قرضها؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه. ¬
الصورة الثانية أن يكون اقتراض الأسهم من غير السمسار
الصورة الثانية أن يكون اقتراض الأسهم من غير السمسار [ن -197] إذا كانت تلك الأسهم مقترضة من غير السمسار، كما لو كان المقرض رجلاً أجنبيًا فإن هذا الفعل يكون جائزاً على القول بجواز إقراض الأسهم، وهي مسألة خلافية، ويرجع الخلاف فيها إلى أمرين: الأمر الأول: الاختلاف في توصيف السهم. وقد سبق لنا تحرير الخلاف في هذه المسألة، ورجحنا أن السهم يمثل حصة شائعة في رأس مال الشركة، وموجوداتها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. الأمر الثاني: الاختلاف في إقراض المال القيمي. فمن المعلوم أن المال ينقسم إلى قسمين: مثلي وهو: "كل ما يوجد له مثل في الأسواق بلا تفاوت يعتد به (¬1) ". كالمكيل والموزون، والعدديات المتقاربة. ومال قيمي: "وهو ما لا يوجد له مثل في السوق، أو يوجد لكن مع التفاوت المعتد به" (¬2). فإذا كان المال مثليًا صح أن يكون دينًا في الذمة بالاتفاق؛ لأنه يمكن للمقترض أن يرد مثله، ولأنه ينضبط بالصفة، كما جاء في الحديث: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، على خلاف بين العلماء في بعض الأموال هل هي مثلية أو غير مثلية كالخلاف في الحيوان؟ ¬
القول الأول
وأما المال القيمي، فهل يثبت دينًا في الذمة، مع أنه لا يمكن للمقترض أن يرد مثله؟ [م - 1267] اختلف العلماء في إقراض المال القيمي على ثلاثة أقوال: القول الأول: المال القيمي لا يثبت دينًا في الذمة، وهو مذهب الجمهور، وأصح القولين في مذهب الشافعية. القول الثاني: يجوز قرض كل شيء إلا الجواري، وهو قول في مذهب المالكية. القول الثالث: يجوز قرض غير المثلي، ويرد بدلا منه قيمته، وهو قول في مذهب الشافعية، ووجه في مذهب الحنابلة، وهو الراجح. وقد حررت هذه المسألة وذكرت أدلتها في عقد البيع، في باب أحكام المعقود عليه، فلله الحمد. والخلاف في إقراض السهم راجع إلى الاختلاف، هل السهم مثلي، أو قيمي، أو بحسب ما يمثله، وقد سبق الخلاف في هذه المسألة، ورجحت أن السهم بحسب ما يمثله. فمن قال: إن السهم مثلي جاز إقراضه مطلقاً. ومن قال: إنه قيمي كان الخلاف في إقراضه راجعًا إلى الخلاف في إقراض المال القيمي، وقد علمت الخلاف فيه. ومن قال: إنه بحسب ما يمثله، فإن كان مال الشركة كله أو أغلبه مثليًا
القول الأول
جاز إقراضه، وإن كان قيميًا كان الخلاف فيه كالخلاف في إقراض المال القيمي. [ن - 198] إذا علم ذلك، فإن الخلاف في إقراض السهم بين الباحثين المعاصرين جرى كالتالي: القول الأول: لما كان السهم يمثل حصة شائعة في رأس مال الشركة، وفي موجوداتها، فإنه يجوز إقراضه إذا كان يمثل أموالًا مثلية، ولا يجوز إقراضه إذا كان يمثل أمولًا قيمية، بناء على أن المال القيمي لا يجوز إقراضه. وهذا اختيار الشيخ الصديق محمَّد الضرير (¬1). وبناء على هذا القول: فإنه يجوز إقراض السهم إذا كان يمثل نقودًا فقط؛ لأن إقراض النقود جائز، وهي مال مثلي، فإذا انتهى أجل القرض وجب عليه رد المبلغ، ويتم هذا برده لمثل السهم إن كانت موجودات الشركة باقية كما هي لم تتغير، أو رده للقيمة الاسمية للسهم. وإن كان السهم يمثل أعيانًا وكانت الأعيان مثلية، فإن إقراض المال المثلي جائز، فإذا حل أجل القرض وجب على المقترض أن يرد مثل السهم إن كانت الأعيان الموجودة مثل الأعيان يوم القرض، فإذا رد مثل السهم الذي أخذ من المقرض فقد برئت ذمته؛ لأنه يكون قد رد إلى المقرض مثل ما اقترضه منه. أما إذا تغيرت موجودات الشركة فأصبحت مثليات من نوع آخر فإن على ¬
القول الثاني
المقترض أن يرد إلى المقرض مثل ما اقترض منه، ويبقى السهم ملكاً للمقترض، ولا تبرأ ذمته برد السهم. فإن كان السهم يمثل أعيانًا قيمية أو كان بعضها قيميًا وبعضها مثليًا لم يجز إقراض السهم بناء على أن إقراض القيمي غير جائز. فإن كان السهم يمثل أعيانًا ونقودًا وديونًا فإن الحكم يكون بحسب الأغلب، ويكون ما عداه تابعًا له يأخذ حكمه، ويكون الصنف غالبًا إذا زاد على ثلثي موجودات الشركة. القول الثاني: يرى أن السهم مال مثلي مطلقًا بصرف النظر عما يمثله، وبالتالي يجوز إقراضه في كل حال، ويرد مثله، وهذا رأي الدكتور أحمد الخليل. يقول الشيخ أحمد: "ويمكن القول إن السهم مهما كان، أي سواء كانت موجودات الشركة مثلية، أو قيمية، فهو بحد ذاته مثلي؛ لأن الإنسان يستطيع إذا اقترض خمسين سهمًا مثلًا من أي شركة كانت أن يرد خمسين سهمًا من أسهم هذه الشركة، ويكون قد رد مثل ما أخذ تمامًا، وعلى هذا التقدير يجوز إقراض الأسهم عند الفقهاء جميعًا بهذا الاعتبار" (¬1). القول الثالث: يرى أن إقراض السهم إنما هو لقيمته المالية في السوق، وليس لما يمثله السهم في رأس مال الشركة أو في موجوداتها، فإذا اقترض أسهمًا جاز وكان كما لو اقترض قيمتها السوقية، فإذا أراد أن يرد القرض رد بدله نقودًا تعادل قيمة الأسهم السوقية وقت القرض. ¬
القول الرابع
وهذا هو اختيار الشيخ محمَّد المختار السلامي (¬1). القول الرابع: مثل قول الشيخ السلامي، إلا أنه اختلف معه في كيفية رد القرض. فهذا القول يرى أن القرض إنما هو متجه لقيمة السهم السوقية، وهي الواجبة في ذمة المقترض، فإذا حل الأجل فإن كانت قيمة السهم السوقية لم تتغير، فمجرد رد السهم يكون مبرئًا لذمة المقترض، وإن كانت قد تغيرت قيمة السهم السوقية فالواجب رد القيمة السوقية الأولى، غير أنه إذا كان التغير بالنقصان، وقبل المقرض فإنه يجوز، ويعتبر متنازلًا عن بعض حقه، أما إذا كان التغير بالزيادة ¬
وقد نوقش القول بأن القرض هو للقيمة السوقية من وجوه
فإن رد السهم لا يجوز إذا كان الشرط مشروطًا في العقد أو معروفاً، ويجوز إذا لم يوجد شرط ولا عرف يقضي بالرد مع الزيادة؛ لأن الزيادة في هذه الحالة تكون من حسن القضاء (¬1). وقد نوقش القول بأن القرض هو للقيمة السوقية من وجوه: الوجه الأول: أن ما ذكروه من أن المتعاملين بالأسهم إنما ينظرون إلى السهم من حيث قيمته المالية في السوق، وليس بالنظر إلى ما يمثله من موجودات الشركة صحيح، لكن ذلك لا ينفي أن تلك الموجودات هي محل التصرف، ولذلك تنتقل تلك الموجودات إلى ملكية المشتري في حالة البيع، وإلى ملكية المقترض في حالة القرض. الوجه الثاني: أن هذا يخالف القول الراجح من أن السهم في حقيقته يمثل حصة شائعة في رأس مال الشركة، وفي موجوداتها، وأن التصرف في السهم هو تصرف في تلك الحصة. الوجه الثالث: أن المقترض لم يقترض نقودًا , ولم يقبض نقودًا , ولا أسهمًا تمثل نقودًا، وإنما قبض أسهمًا تمثل نقودًا، وأعيانًا، وديونًا، فكيف يجوز أن يعد مقترضًا نقودًا بقيمة الأسهم. الوجه الرابع: قياس إقراض السهم على إقراض النقود فيه نظر كبير، وكون السهم له قيمة ¬
القول الخامس
مالية لا يعتبر تحول إلى أثمان في نفسه؛ لأن الثمنية تعني أمرين: أن يكون أصلاً قائمًا بنفسه، ومقصودًا لذاته، وأن يكون معيارًا لقيم الأشياء، كالذهب والفضة والأوراق النقدية، والسهم ليس له هذه القيمة في نفسه بل قيمته مرتبطة بالشركة التي يمثلها, وليس معيارًا لقيم الأشياء عند الناس اليوم، فالوثيقة لا قيمة لها إذا جردناها عما تدل عليه، ولا تشتمل الوثيقة على أي منفعة ذاتية. القول الخامس: إذا كان السهم في حقيقته هو الحصة الشائعة في موجودات الشركة، وليس شيئًا قائمًا بذاته، فإن التصرف في السهم أيًا كان هذا التصرف يكون تصرفًا في الحصة الشائعة، وعليه فإن قرض الأسهم هو قرض لهذه الحصة الشائعة، كما أن بيع الأسهم بيع لهذه الحصة الشائعة، وبناء على ذلك فإن حكم قرض الأسهم، وما يلزم المقترض رده يختلف باختلاف نوع موجودات الشركة، من حيث كونها نقودًا، أو ديونًا، أو أعيانًا، أو أخلاطًا من ذلك كله. فإن كانت الأسهم نقودًا جاز إقراضها مطلقًا إذا علم مقدار هذه النقود، ويلزم المقترض أن يرد إلى المقرض نقودًا مثلها. وإن كانت الأسهم ديونًا جاز إقراضها كذلك؛ لأن قبض السهم قبض لما يمثله، إذ بقبض السهم يمكن التصرف فيما يمثله بالبيع والهبة وغيرهما، وذلك مقصود بالقبض، إلا أنه يشترط في هذه الحالة معرفة قدر الدين حتى يمكن رد مثله عند حلول أجل القرض. وإن كانت الأسهم تمثل أعيانًا أو خليطًا من النقود والديون والأعيان فإنه لا يجوز إقراضها؛ لأنه يتعذر في العادة معرفة هذه الأعيان على وجه التفصيل في كل وقت. وهذا رأي فضيلة الشيخ مبارك آل سليمان.
الراجح والله أعلم
الراجح والله أعلم: أن السهم حصة شائعة، فإذا كان قرض المشاع جائزًا جاز قرض السهم، ولم يختلف الفقهاء في جواز قرض المشاع. جاء في حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: "وقرض المشاع جائز بالإجماع" (¬1). ونقل الإجماع كذلك ابن عابدين في حاشيته (¬2). وللقاعدة الفقهية التي تقول: إن كل ما جاز بيعه جاز قرضه. فعليه يجوز القرض لكل شيء يجوز بيعه سواء كان آدميًا أو غيره، وسواء كان مثليًا، أو متقومًا، وسواء كان مشاعًا، أو غير مشاع. ولأن القرض ليس من عقود المعاوضات، وإنما هو من عقود الإرفاق والإحسان، وهو مبني على المسامحة. ولجواز قرض الحيوان مع كونه قد يتفاوت تفاوتًا يسيرًا. وأجاز بعض الفقهاء إقراض الخبز ولو من غير وزن بدون قصد الزيادة أو اشتراطها، اختاره محمَّد بن الحسن من الحنفية، وبعض المالكية، والخوارزمي من الشافعية، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، ورجحه ابن تيمية وابن القيم (¬3). ¬
ولأن الزيادة غير المشروطة في حال رد القرض لا تحرم بخلاف البيع في المال الربوي. والمطلوب في الرد أن يرد الأسهم من نفس الشركة، وتغير قيمة هذه الأسهم لا يؤثر في صحة القرض كما لو استقرضت نقودًا، فتغيرت قيمتها، فالواجب رد مثلها، والله أعلم.
المسألة الثانية رهن الثمن عند المقرض وانتفاعه به
المسألة الثانية رهن الثمن عند المقرض وانتفاعه به [ن -199] احتفاظ المقرض بقيمة الأسهم المبيعة كضمان للقرض، لا حرج فيه كما سبق بحثه عند الكلام على رهن السهم، ولكن اشتراط انتفاع المقرض بقيمة الأسهم واستثماره لها إلى حين سداد القرض غير جائز؛ لأن الدين جاء من قرض، فيؤدي ذلك إلى أن تكون المعاملة من القرض الذي يجر نفعًا؛ وتكون حقيقة المعاملة: أسلفني أسلفك، فالمقرض سواء كان سمسارًا أو غيره يسلف البائع هذه الأسهم على أن يسلفه البائع قيمتها، وهذا محرم. قال ابن قدامة في المغني: "وإن شرط في القرض أن يؤجره داره ... أو أن يقرضه المقترض مرة أخرى لم يجز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وسلف، ولأنه شرط عقدًا في عقد، فلم يجز" (¬1). ¬
المسألة الثالثة البيع على المكشوف قبل اقتراض البائع الأسهم
المسألة الثالثة البيع على المكشوف قبل اقتراض البائع الأسهم [ن -200] إذا أراد المتعامل في البيع على المكشوف بيع الأسهم قبل اقتراضها من السمسار أو من رجل أجنبي، فإن هذا يعني أن البائع قد باع ما ليس مملوكًا له وقت البيع، فيأخذ حكم بيع ما ليس عند البائع. وقد سبق لنا خلاف أهل العلم في بيع ما ليس عند البائع، وأن له حالتين: الحال الأولى: أن يبيع له أسهمًا معينة. فهنا العلماء متفقون على عدم جواز بيع شيء معين لا يملكه الإنسان، ثم يذهب ليشتريه. قال الزيلعي: "والمراد بالنهي عن بيع ما ليس عند الإنسان ما ليس في ملكه، بدليل قصة الحديث -يعني حديث حكيم بن حزام- ثم قال: أجمعنا على أنه لو باع عينًا حاضرة غير مملوكة له لا يجوز، وإن ملكها فيما بعد" (¬1). وقال ابن الهمام: "أما النهي عن بيع ما ليس عندك , فالمراد منه ما ليس في الملك اتفاقًا ... " (¬2). وقال ابن قدامة: "ولا يجوز أن يبيع عينًا لا يملكها, ليمضي، ويشتريها، ¬
ومستند الإجماع
ويسلمها رواية واحدة، وهو قول الشافعي، ولا نعلم فيه مخالفًا ... ثم ذكر حديث حكيم: لا تبع ما ليس عندك" (¬1). وقال ابن حزم عن حديث حكيم بن حزام بعد أن صححه، قال: "وبه نقول، وهو بين كما تسمع، إنما هو نهي عن بيع ما ليس في ملكك، كما في الخبر نصًا، وإلا فكل ما يملكه المرء فهو عنده، ولو أنه بالهند ... " (¬2). وذكر ابن عبد البر أن بيع ما ليس عند الإنسان من الأصول المجتمع على تحريمها (¬3). ومستند الإجماع: (ح -880) ما رواه أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬4). [إسناده حسن] (¬5). وفي الباب حديث حكيم بن حزام (¬6). ¬
[م -1268] الحال الثانية
[م - 1268] الحال الثانية: أن يكون المبيع غير معين، ولكنه موصوف في الذمة وصفًا منضبطًا. فهنا لا يخلو البيع من ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يكون الثمن مؤجلًا، والمبيع مؤجلًا، فهذا محرم بالاتفاق؛ لأنه من باب بيع الدين بالدين. الصورة الثانية: أن يكون الثمن مقدمًا، والمبيع مؤجلًا، وهو ما يسمى لدى الفقهاء بعقد السلم. والسلم إذا توفرت شروطه جاز بالإجماع، قال القرطبي رحمه الله: "والسلم بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق، مستثنى من نهيه. علية السلام، عن بيع ما ليس عندك ... " (¬1). وقال النووي: "أجمع المسلمون على جواز السلم" (¬2). وقال ابن حجر: "اتفق العلماء على مشروعيته إلا ما حكي عن ابن المسيب" (¬3). وممن حكى الإجماع ابن قدامة في المغني (¬4)، وابن رشد في بداية المجتهد (¬5)، وغيرهم. وسبق لنا ولله الحمد دراسة عقد السلم. ¬
[ن - 201] والسؤال: هل يجوز السلم في الأسهم؟ بحث هذه المسألة فضيلة الشيخ أحمد الخليل في كتابه (الأسهم والسندات وأحكامها في الفقه الإسلامي). وقد ذهب إلى عدم الجواز؛ لأن المسلم إن لم يذكر اسم الشركة المسلم فيها لم يحصل الوصف المنضبط المشروط في السلم، لما بين الشركات من اختلاف كبير في مكانتها المالية، وموجوداتها، فأسهم الشركات ليست متماثلة لا في ما تمثله، ولا في قيمها. وإن سميت أسهم شركة من الشركات، فستكون هذه الأسهم معينة، ومن شروط السلم أن يكون السلم في الذمة، وألا يكون المسلم فيه معينًا، وقد اتفق الفقهاء على هذا الشرط، حكى الاتفاق ابن رشد في بداية المجتهد. فإن قيل: إن أسهم الشركة الواحدة، وإن كانت محدودة إلا أن السهم لم يقع على سهم منها معين. فالجواب أن هذا ممنوع أيضًا، فقد ذكر الفقهاء أنه لا يجوز السلم في حائط معين، بل ولا في ثمر بلد صغير. قال ابن قدامة: "ولا يجوز أن يسلم في ثمرة بستان بعينه، ولا قرية صغيرة، لكونه لا يؤمن تلفه. وقال ابن المنذر: إبطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالإجماع من أهل العلم" (¬1). وقال ابن القطان الفاسي: وهذا إجماع أو كالإجماع من أهل العلم (¬2). ¬
الصورة الثالثة
وبيع أسهم شركة معينة كبيع ثمر حائط معين، لا فرق بينهما (¬1). وأتفق مع فضيلة الشيخ على أنه لا يتصور السلم في الأسهم لتعيين المبيع، ولكن يكون العقد من باب بيع المعين المؤجل، وتعيينه يخرجه من باب بيع الدين بالدين؛ لأن الدين متعلق بالذمة، وهذا قد تعلق باسهم معينة من شركة معينة مملوكة للبائع، وإذا تعين المبيع ففي تأجيل المعين خلاف بين أهل العلم: جمهور العلماء على منع تأجيل المعين. وذهب الحنابلة إلى جواز تأجيل المعين كبيع الدار واشتراط سكناها مدة معلومة، وكما باع جابر الجمل، واشترط ظهره إلى المدينة، وسبق بحث هذه المسألة في شروط البيع من عقد البيع، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، والله أعلم. الصورة الثالثة: أن يكون الثمن مقدمًا، والمبيع حالًا. وهو ما يسمى بالسلم الحال. [م - 1269] والسلم الحال إذا توفرت شروطه فيه خلاف بين أهل العلم سبق تحريره في موانع البيع، ورجحت مذهب الشافعية، وأنه يجوز مطلقاً، سواء كانت السلعة عنده أو ليست عنده إذا كانت موجودة في السوق، وكان قادرًا على شرائها، والله أعلم. [ن -202] وأما السلم الحال في الأسهم فإنه إذا كان لا يتصور السلم في الأسهم في حال تأجيل المبيع، لم يتصور السلم في الأسهم الحالة، وإنما يكون بيعها من بيع المعين الموصوف، فيشترط أن تكون في ملك البائع وقت العقد، على الصحيح. والله أعلم. ¬
المسألة الرابعة في اشتراط تحمل المقترض أرباح الأسهم للمقرض
المسألة الرابعة في اشتراط تحمل المقترض أرباح الأسهم للمقرض [ن -203] القرض من عقود التمليك، فإذا أقرض الرجل أسهمه لآخر خرجت تلك الأسهم من ملك المقرض إلى ملك المقترض، وهذا مما لا خلاف فيه، فإذا استحقت تلك الأسهم. أرباحًا فإنه يستحقها من كان يملكها وقت التوزيع؛ لأنها نماء ماله، سواء كان يملكها المقترض أو كان يملكها رجل آخر كما لو اشتراها أجنبي من المقترض، ولا يجوز أن يشرط على المقترض أن يعوض المقرض بدفع مثل هذه الأرباح؛ لأن الأسهم عند استحقاق الأرباح لم تكن في ملك المقرض فلا يستحق أن يعوض عنها؛ ولأن هذا من الربا الصريح فهو قرض جر نفعًا وعليه فإن اشتراط مثل ذلك يكون شرطًا باطلاً، ولا يعود بالبطلان على إقراض الأسهم.
المسألة الخامسة في اشتراط حلول القرض
المسألة الخامسة في اشتراط حلول القرض [ن -204] حلول القرض بالشرط هو ما اتفق على تسميته: قابلية القرض للاستدعاء بمعنى أنه يحق للمقرض أن يطالب برد الأسهم التي اقترضها البائع على المكشوف في أي وقت شاء، كما يحق للمقترض أن يرد تلك الأسهم للمقرض متى شاء، ولا يملك أحدهما الامتناع عن التسليم، وهذا الرد مشروط في عقد القرض، والعمل جار به. وإذا كان ذلك مشروطًا في العقد أو كان هناك عرف جار فلا خلاف بين العلماء في أنه يلزم المقرض والمقترض الالتزام بهذا الشرط؛ لأن الأصل في الشروط الصحة والجواز، ولا يوجد محذور شرعي يمنع من اشتراط مثل ذلك في عقد القرض، ولأن المقرض محسن في إقراضه، وما على المحسنين من سبيل. وإذا لم يكن هناك شرط ولا عرف كما لو كان القرض مطلقاً، ففيه خلاف: فالجمهور على أن القرض حال أبدًا ولو كان مؤجلًا، والتأجيل في القرض لا يلزم. وهذا مذهب جمهور العلماء (¬1). واختار المالكية بأن المستقرض إن اقترض إلى أجل سماه لزم ذلك الأجل، وإن لم يشترط أجلًا فلا بد أن يمضي زمن يتمكن من الانتفاع فيه بالقرض (¬2). ¬
المسألة السادسة حكم هامش الضمان
المسألة السادسة حكم هامش الضمان [ن -205] هامش الضمان: لما كانت الأسهم عرضة للتقلب والأخطار فقد تصبح القيمة التي بيعت بها الأسهم ووضعت كرهن تحت تصرف المقرض غير كافية لتغطية قيمة الأسهم المقترضة مما قد يلحق الضرر بالمقرض، ومن هنا جاءت الأنظمة بإلزام المقترض بتقديم رهن إضافي يمثل نسبة معينة من قيمة الصفقة قد يكون في صورة أوراق مالية، أو في صورة نقدية يسمى هامش الضمان، والهدف منه حماية المقرض ضد مخاطر ارتفاع القيمة السوقية للأوراق المالية. فإذا زادت قيمة أسهم الشركة التي بيعت أسهمها على المكشوف طلب المقرض من المقترض زيادة الرهن عن طريق دفع نقود إضافية، وإذا نقصت قيمة الأسهم بحيث زادت النقود عن هامش الضمان المطلوب كان للراهن أن يسحب من النقود ما زاد على هامش الضمان، أو استغلالها في صفقات أخرى. والرهن جائز وكذا الزيادة المشروطة فيه ويلزمان الراهن وفاء للشرط؛ ولأن ذلك لا يتضمن أي محذور شرعي. وأما استرداد جزء من الرهن عند انخفاض القيمة السوقية للأوراق المالية فذلك جائز أيضًا إذا كان برضا الطرفين؛ لأن الحق لهما، فكما يجوز إرجاع جميع الرهن يجوز إرجاع بعضه بالاتفاق، والله أعلم. وبهذا نكون قد انتهينا من دراسة العمليات العاجلة في سوق المال، وننتقل بعده إن شاء الله تعالى إلى دراسة أحكام المعاملات الآجلة، وأحكامها الفقهية، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
الفصل الثاني في المعاملات الآجلة وأحكامها الفقهية
الفصل الثاني في المعاملات الآجلة وأحكامها الفقهية توطئة التعريف بالمعاملات الآجلة سبق لنا الكلام في البيوع العاجلة، وعلمنا أنواع المعاملات الدائرة فيه، ودرسنا فيه المعاملات العاجلة العادية، والشراء بالهامش، والبيع على المكشوف. وندرس في هذا الفصل إن شاء الله تعالى البيوع الآجلة، والمعاملات التي تدخل فيه. وتنقسم المعاملات الآجلة إلى قسمين: (1) البيوع الباتة القطعية. (2) عقود الخيارات. تعريف البيوع الباتة القطعية: تعرف العلميات الآجلة الباتة: بأنها تلك العمليات التي يتم عقد الصفقة فيها الآن، ويؤجل فيها دفع الثمن والمثمن إلى أجل معلوم يسمى يوم التصفية, أو يوم التسوية (¬1). ¬
وسميت بالباتة تمييزًا لها عن عقود الاختيارات الآتية، وذلك لأن العاقدين لا يملكان حق الرجوع عن تنفيذ العملية، ولكن يملكان تأجيل موعد التصفية النهائية إلى موعد آخر بالتراضي. وتتسم العمليات الآجلة بصورة عامة بالخصائص التالية: (1) أغلب المعاملات الآجلة تجري على المكشوف، أي أن البائع لا يملك الأوراق (محل الصفقة) وقت العقد، وإنما تشترط إدارة السوق أن يكون مالكاً لها وقت التصفية. (2) تحدد لجنة البورصة مواعيد التصفية وذلك بواقع مرتين في كل شهر، مرة في وسطه، ومرة في آخره. (3) لا خيار لأحد العاقدين في فسخ العقد أو إلغائه إلا أن لكل منهما أن يصفي مركزه قبل يوم التسوية، بأن يبيع نقدًا ما اشتراه آجلًا, وله أو عليه الفرق بين سعر التعاقد والتصفية إن كان مشتريًا، أو أن يشتري عاجلًا ما باعه آجلًا إن كان بائعًا , وله أو عليه الفرق بين سعر التعاقد والتصفية (¬1). (4) الغرض الأساسي للمتعاملين بالعقود الآجلة هو تحقيق ما يسمى بالأرباح الرأس مالية التي تتمثل في الفرق بين سعر الورقة الذي عقدت به الصفقة، وبين سعرها الذي يحدد في يوم التصفية، ويسمى صنيعهم ذلك بالمضاربة، وهي تتنوع إلى نوعين: ¬
النوع الأول: المضاربة على الصعود. وتعني شراء الأوراق المالية شراء آجلًا بسعر معين على أمل أن يرتفع سعرها في يوم التصفية، بحيث يقوم المضارب عند ذلك ببيع تلك الأوراق بسعر يوم التصفية، ليربح الفرق بين السعرين. مثاله: أن يشتري زيد من الناس خمسين سهمًا من شركة القصيم الزراعية، بقيمة 100 ريال لكل سهم، على أن يتم التسليم الفعلي بعد شهر من الصفقة، وذلك على أمل أن ترتفع الأسعار في يوم التصفية، بحيث يبيعها، ويربح الفرق، فلو تحققت توقعاته، وبلغ سعر السهم في يوم التصفية 110، فإنه سيأمر السمسار أن يبيع تلك الأسهم بهذا السعر، ويقبض الفرق من السمسار، ومقداره: 50 × 10 = 500 ريال، وبهذا يكون المشتري قد حقق ربحًا دون أن يتسلم الأسهم، أو يسلم الثمن. أما لو لم تتحقق التوقعات، وانخفضت الأسعار، وصار سعر السهم 90 ريالًا، فإنه سيأمر السمسار ببيع تلك الأسهم، ويدفع الفرق، ومقداره 50 × 10 = 500 ريال. النوع الثاني: المضاربة على الهبوط. وتعني بيع الأوراق المالية بيعًا آجلًا بسعر معين على أمل أن يهبط سعرها في يوم التصفية بحيث يقوم المضارب عند ذلك بشراء الأوراق بسعر يوم التصفية، وتسليمها إلى الطرف الثاني بالسعر المتفق عليه، ليربح الفرق بين السعرين. مثاله: أن يبيع زيد من الناس خمسين سهمًا من شركة القصيم الزراعية، بقيمة 100 ريال لكل سهم، على أن يتم التسليم الفعلي بعد شهر من الصفقة، على أمل أن تنخفض الأسعار في يوم التصفية، ويربح الفرق.
فلو تحققت توقعاته، وانخفضت الأسعار إلى تسعين ريالًا فإنه سيأمر السمسار بأن يشتري تلك الأسهم من السوق بهذا السعر، ويقبض الفرق من السمسار، وهو خمسمائة ريال دون أن يسلم أسهمًا، أو يتسلم ثمنًا. أما لو ارتفعت الأسعار يوم التصفية إلى 105 ريالات، فإنه سيأمر السمسار أيضًا بأن يشتري تلك الأسهم بهذا السعر، ويدفع الفرق إلى السمسار، وهو 50 × 5 = 250 ريال، وهو مقدار الخسارة التي يتحملها نتيجة المضاربة على الهبوط. وفي حال خسارة المشتري أو البائع فإن أمامهما أحد الخيارات الثلاثة الآتية: الخيار الأول: الاستلام الفعلي للأسهم، وتسليم ثمنها في يوم التصفية، وهذا إنما يكون فيما إذا كان لهما رغبة في تملك المعقود عليه، كأحد أشكال الاستثمار طويل الأجل، ويدفع الخاسر الفرق بين السعرين. وهذا أمر نادر. وهذا التصرف وإن كان هو مقتضى العقد إلا أن الاستلام قد تم في بيع فاسد؛ حيث يبيع البائع أسهمًا معينة لا يملكها، ويربح فيها، والبيع الفاسد يجب فسخه بالاتفاق، ويملك بالقبض عند الحنفية (¬1)، وبالفوات عند المالكية (¬2)، كما لو تصرف فيه مشتريه بالبيع، وهو باطل مطلقًا عند الشافعية ¬
والحنابلة وإن تداولته الأيدي (¬1)، وسبق تحرير هذا في عقد البيع في المجلد الأول. الخيار الثاني: تصفية مركزهما بإبرام صفقات عكسية، والهدف منها دفع الفرق بين السعرين دون أن يكون هناك تسلم للأسهم أو تسليم للثمن. تصفية مركز المشتري: أن يبيع المشتري نقدًا في يوم التصفية ما اشتراه آجلًا قبل قبضه للأسهم، ويقبض فرق السعر من السمسار إن كان رابحًا، أو يدفعه إليه إن كان خاسرًا، دون أن يكون هناك تسلم فعلي للأسهم أو تسليم للثمن. وقد يبيع المشتري تلك الأسهم بثمن مؤجل قبل يوم التصفية ليوقف تدهور الأسعار. وتصرفه هذا في الحالين محرم: لأنه إن باع الأسهم يوم التصفية كان البيع محرمًا؛ لأنه تملك هذه الأسهم بعقد فاسد، حيث باع عليه البائع أسهمًا لا يملكها، والبيع الفاسد قد سبق تحرير الخلاف فيه في عقد البيع فأغنى عن إعادته هنا. وإن باع الأسهم قبل يوم التصفية كان البيع محرمًا لكونه باع أسهمًا قد ملكها بعقد فاسد، وبعض العلماء يرى أنه محرم أيضًا لأنه من باب بيع الشيء قبل قبضه، وفيه خلاف سبق تحريره في عقد البيع، وبعضهم يرى أنه محرم؛ لأن بيع المعين المؤجل قبل قبضه بثمن مؤجل من باب بيع الدين بالدين (¬2)، وفيه بحث: ¬
هل تأجيل المعين يجعله دينًا؟ أو أن الدين ما تعلق في الذمة، وقد سبق ذكر الفرق بين الدين والعين. تصفية مركز البائع: لما كان البائع قد باع أسهمًا لا يملكها، فإنه يقوم بشرائها يوم التصفية ويستلم من السمسار فرق السعر إن كان رابحًا، أو يدفعه إليه إن كان خاسرًا قبل استلامه للأسهم، فتكون العملية قائمة على استلام فروق الأسعار دون أن يكون هناك استلام وتسليم. وشراؤه لهذه الأسهم يوم التصفية شراء بعقد صحيح؛ لأن البيع حال، ولا ارتباط لهذا بالعقد الآجل. وقد يقوم بشراء تلك الأسهم مؤجلة بثمن مؤجل قبل يوم التصفية ليوقف تدهور الأسعار. وهذا العقد محرم؛ لأنه يشتريها من شخص لا يملكها وقت العقد، وبعضهم يحرمها؛ لأنها من باب بيع معين مؤجل بثمن مؤجل، ويرى هذا من باب بيع الدين بالدين، وسبق الجواب عليه. الخيار الثالث: تأجيل مركزهما إلى التصفية القادمة، بحيث لا يصلي المتعامل مركزه تصفية نهائية، وإنما يؤجل التصفية إلى موعد التصفية التالية أملًا في تغير الأسعار لصالحه، فإن كان البائع هو الراغب في التأجيل فإن ذلك يسمى وضيعة، وإن كان الراغب في التأجيل هو المشتري، فإن ذلك يسمى مرابحة. فبيع المرابحة: أن يطلب المشتري تأجيل مركزه إلى التصفية القادمة، وذلك عندما يتوقع تحسن السعر لصالحه بما يعوضه عن خسارته، فيصدر أمرًا إلى سمساره بتأجيل مركزه في مقابل مبلغ يدفعه للبائع، يسمى بدل التأجيل، فإذا
وافق البائع انتقلت العملية إلى التصفية القادمة، وإذا رفض البائع بحث له السمسار عن ممول يقبل بشراء أسهمه شراء حالًا في موعد التصفية ثم يبيعها عليه بيعًا مؤجلًا حتى موعد التصفية القادمة بثمن أعلى من سعر يوم التصفية، يتمثل في سعر يوم التصفية الحالي مضافًا إليه مبلغ آخر يسمى بدل التأجيل. وسميت مرابحة لتضمنها زيادة في ثمن الشراء الآجل تمثل ربحًا للممول أو الناقل. وعليه فيمكن تعريف المرابحة: بأنها بيع أوراق مالية إلى آخر بثمن حال، ثم شراؤها منه مؤجلة بثمن مؤجل يزيد عن ثمنها الحالي. وبيع الوضيعة: أن يطلب البائع تأجيل مركزه إلى التصفية القادمة إذا توقع تحسن مركزه بنزول السعر، وذلك بالاتفاق مع المشتري، فإذا رفض المشتري ذلك قام بشراء أسهم من الشركة التي باع أسهمها في العقد السابق شراء حالاً بسعر يوم التصفية، ليتولى السمسار قبضها، وتسليمها للمشتري الأول. ثم يقوم البائع ببيع أسهم من أسهم تلك الشركة إلى ما يسمى بالممول أو الناقل بيعًا آجلًا إلى يوم التصفية التالي بثمن أقل من سعر يوم التصفية، يتمثل في سعر يوم التصفية الحالي ناقصًا منه مبلغ آخر يسمى بدل تأجيل التصفية. وتسمى هذه العملية بالوضيعة لتضمنها وضع قدر من ثمن البيع الآجل لمصلحة الممول (¬1). ويلاحظ أن العقود لا تتم بين البائع والمشتري مباشرة، فلكل سوق من أسواق العقود الآجلة بيت سمسرة لتسوية الصفقات، يتألف من أعضاء السوق، ويتم العقد بين البائع وبيت التسوية، ثم بين المشتري والبيت، فلا توجد علاقة ¬
مباشرة بين البائع والمشتري، بل العقد يتكون من طرفين بينهما بيت التسوية، يتعهد الأول مثلًا في محرم 1430 بشراء (1000) سهم لإحدى الشركات بسعر (100) مؤجلة إلى شهر ربيع أول 1430، ويتعهد الآخر بتسليمه هذه الأوراق في التاريخ المحدد، وبالسعر المتفق عليه. والذي يجري بين شهر محرم وشهر ربيع هو انتقال هذا العقد بين المضاربين عن طريق بيت التسوية تلك عشرات المرات يوميًا، فالمعاملات كلها تصفى في آخر النهار، ثم تبدأ في الغد بيعًا وشراء، فإن يتملك حق الحصول على تلك الأسهم بسعر (100) سيربح تلقائيًا عندما يرتفع السعر لأكثر من هذا المبلغ، والمتعهد بتسليم تلك الأوراق بالسعر نفسه سيخسر عندما يرتفع السعر المذكور ... وهكذا. أما التسليم والقبض الفعلي للأصل محل العقد فهذا أمر لا يهتم به المتعاملون إلا في تاريخ القبض أي في شهر ربيع، حيث يتحول العقد في النهاية إلى المشتري الحقيقي بعد أن يكون قد مر على مئات المضاربين خلال الفترة التي تفصل بين العقد الأول والقبض الفعلي (¬1). وسوف أتكلم عن حكم بيع المرابحة والوضيعة في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى. هذه هي تقريبًا خصائص البيوع الآجلة، فإذا عرف ذلك ننتقل إن شاء الله تعالى إلى حكم هذه العمليات الآجلة في الفقه الإِسلامي، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
المبحث الأول الحكم الفقهي للمعاملات الآجله الباتة
المبحث الأول الحكم الفقهي للمعاملات الآجله الباتة المعاملات الآجلة تجري على المكشوف، فالبائع لا يملك الأوراق (محل الصفقة) والغرض تحصيل الأرباح من فروق الأسعار، والوسيلة المضاربة على الصعود والهبوط. جاء في قرار المجمع الفقهي الإِسلامي: العقود الآجلة بأنواعها التي تجري على المكشوف ... غير جائزة شرعًا؛ لأنها تشتمل على بيع الشخص ما لا يملك. [ن -206] ذهب عامة العلماء المعاصرين إلى تحريم المعاملات الآجلة (¬1)، وبهذا صدر قرار مجلس مجمع الفقه الإِسلامى التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (¬2)، وكذا المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي (¬3). ¬
واستدلوا على التحريم بأدلة منها
واستدلوا على التحريم بأدلة منها: الدليل الأول: أنه من باب بيع ما لا يملك، وذلك أن البائع يبيع سلعة معينة، وليست سلعة موصوفة في الذمة؛ فالأسهم لا تكون إلا معينة، وذلك أن البائع الذي يبيع أسهمًا مؤجلة إما أن يبيع أسهمًا دون أن يعين شركة المساهمة، وهذا لا يجوز؛ لأنه إذا لم يعين الشركة لم يحصل العلم بالمبيع؛ لأن الأسهم لا يمكن أن تنضبط بالوصف، وهي متفاوتة تفاوتًا كبيرًا لا في قيمتها, ولا فيما تمثله. وإن سميت أسهم شركة من الشركات، وهذا هو الواقع، فستكون أسهم هذه الشركة معينة؛ لأنك إذا عينت الشركة فإن الأسهم ستكون معينة تبعًا لذلك. وإذا بعت شيئًا معينًا لا تملكه ولست نائبًا عن مالكه فإن البيع باطل بالإجماع. قال الزيلعي: "أجمعنا على أنه لو باع عينًا حاضرة غير مملوكة له لا يجوز، وإن ملكها فيما بعد" (¬1). وقال ابن الهمام: "أما النهي عن بيع ما ليس عندك، فالمراد منه ما ليس في الملك اتفاقًا ... " (¬2). وقال ابن قدامة: "ولا يجوز أن يبيع عينًا لا يملكها, ليمضي، ويشتريها، ¬
ومستند الإجماع
ويسلمها رواية واحدة، وهو قول الشافعي، ولا نعلم فيه مخالفًا ... ثم ذكر حديث حكيم: لا تبع ما ليس عندك" (¬1). وقال ابن حزم عن حديث حكيم بن حزام بعد أن صححه، قال: "وبه نقول، وهو بين كما تسمع، إنما هو نهي عن بيع ما ليس في ملكك، كما في الخبر نصًا، وإلا فكل ما يملكة المرء فهو عنده، ولو أنه بالهند ... " (¬2). وذكر ابن عبد البر أن بيع ما ليس عند الإنسان من الأصول المجمع على تحريمها (¬3). ومستند الإجماع: (ح - 881) ما رواه أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬4). [إسناده حسن] (¬5). وفي الباب حديث حكيم بن حزام وغيره (¬6). ¬
الدليل الثاني
وهذا الدليل من أقوى الأدلة حيث لا منازعة فيه، ولا جواب عنه بخلاف أكثر الأدلة الباقية فإن فيها خلافًا كما سيأتي من خلال استعراض الأدلة. الدليل الثاني: استدل كثير من الباحثين بأن بيع الأسهم المؤجلة بثمن مؤجل هو من باب بيع الدين بالدين؛ وذلك أن الأوراق المالية (الأسهم) مؤجلة، والثمن مؤجل (¬1). ويناقش: بأن تأجيل المعين لا يسمى دينًا؛ لأن الدين ما ثبت في الذمة، يقول المقري في قواعده: "المعين لا يستقر في الذمة، وما تقرر في الذمة لا يكون معينًا" (¬2)، وإذا كانت الأسهم معينة فإنها لا تثبت في الذمة بدليل ما يلي: (أ) لو كان السهم ثابتًا في الذمة لكان يجزئه أن يسلم أي سهم من أية شركة كانت؛ لأن ما تعلق في الذمة فله قضاؤه من أي ماله شاء، بخلاف المعين فالحق متعلق بذاته، لا بأمثاله، والحق في بيوع الآجال يجب عليه أن يسلم أسهمًا من شركة معينة. (ب) لو كان السهم ثابتًا في الذمة فإن العقد لا يبطل بإفلاس الشركة؛ لأن المال الثابت في الذمة لا يبطل بتلف مال صاحبه، وأما المال المعين إذا تلف بغير تعد ولا تفريط فقد فات، والحق في بيوع الآجال متعلق بشركة معينة، فلو أفلست لبطل العقد. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: إذا كان بيع الأسهم من شركة معينة هو من قبيل بيع المعين، فإن عامة الفقهاء يرون أن المعين لا يجوز اشتراط تأجيله ثمنًا كان أو مثمنًا، وأنه يشترط في المؤجل عند الجمهور أن يكون دينًا موصوفاً في الذمة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. فالآية تدل على جواز التأجيل في الديون، ولم يرد في النصوص ما يشير إلى جواز تأجيل الأعيان، ولهذا قال الكاساني في البدائع "التأجيل يلائم الديون، ولا يلائم الأعيان" (¬1). وقال ابن عابدين: "الأعيان لا تقبل التأجيل" (¬2). وفي درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "يصح البيع بتأجيل الثمن وتقسيطه بشرط أن يكون ... دينًا لا عينًا" (¬3). وقال الرملي: "الأعيان لا تقبل التأجيل ثمنًا, ولا مثمنًا" (¬4). وقال ابن رشد في بداية المجتهد: "وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الأعيان إلى أجل، وأن من شرطها تسليم المبيع إلى المبتاع بأثر الصفقة" (¬5). وجاء في المجموع: "قال أصحابنا: إنما يجوز الأجل إذا كان العوض في ¬
الذمة، فأما إذا أجل تسليم المبيع أو الثمن المعين، بأن قال: اشتريت بهذه الدراهم على أن أسلمها في وقت كذا، فالعقد باطل" (¬1). وعلل الحنفية والشافعية المنع من التأجيل في المعين بأنه إنما شرع الأجل لتحصيل المبيع، فإذا كان معينًا فقد تم تحصيله فلا حاجة له. قال في العناية: "الأجل في المبيع العين باطل لإفضائه إلى تحصيل الحاصل، فإنه شرع ترفيهًا في تحصيله باتساع المدة، فإذا كان المبيع أو الثمن حاصلًا كان الأجل لتحصيل الحاصل .. " (¬2). وقال السيوطي: "الأجل شرع رفقًا للتحصيل، والمعين حاصل" (¬3). وعلل السمرقندي بأن الأجل في المعين لا يفيد، فقال: "ومنها: أن يشترط الأجل في المبيع العين، أو الثمن العين؛ لأن الأجل في الأعيان لا يفيد، فلا يصح، فيكون شرطًا لا يقتضيه العقد، فيفسد البيع" (¬4). وهذا الكلام ليس على إطلاقه، وإذا جاز على الصحيح: أن يبيع الدار ويستثني سكناها مدة معينة، فهذا يقتضي عدم تسليم المعين، كما تجوز الإجارة على مدة لا تلي العقد على الصحيح، وهذا يعني تأخير تسليم المعين. وأجاز ابن القاسم كراء الدابة المعينة تقبض بعد شهر (¬5). وإذا صح أن يؤجل تسليم العين إلى أن يحضر الثمن، وصح أن ترهن العين ¬
الدليل الرابع
في مقابل تأجيل الثمن، وهو تأجيل للعين وللثمن، فما المانع أن يصح التأجيل في الأعيان، وقد باع جابر جمله، واستثنى ظهره إلى المدينة قبل أن ينقد ثمنه (¬1)، وهو تأجيل للثمن والمثمن، فدل على جواز التأجيل في الأعيان. فإذا جاز كل ذلك جاز تأجيل المعين. قال ابن القيم: "قوله: إن موجب العقد التسليم في الحال، جوابه: أن موجب العقد إما أن يكون ما أوجبه الشارع بالعقد، أو ما أوجبه المتعاقدان مما يسوغ لهما أن يوجباه، وكلاهما منتف في هذه الدعوى؛ فلا الشارع أوجب أن يكون كل مبيع مستحق التسليم عقيب العقد، ولا العاقدان التزما ذلك، بل تارة يعقدان العقد على هذا الوجه، وتارة يشترطان التأخير إما في الثمن وإما في المثمن، وقد يكون للبائع غرض صحيح ومصلحة في تأخير التسليم للمبيع، كما كان لجابر - رضي الله عنه - غرض صحيح في تأخير تسليم بعيره إلى المدينة ... " (¬2). وقد سبق الكلام على هذا في الشروط في البيع فأغنى عن إعادته هنا. الدليل الرابع: أن ما يجري في البيوع الآجلة هو مجرد عقد صفقات وهمية على كميات خالية من السلع المؤجلة بأسعار وأثمان مؤجلة، ولا يقصد بها إنتاج، ولا تسليم، وإنما تنتهي هذه المعاملات في الغالب بالمحاسبة بين البائع والمشتري على فروق الأسعار دون تسليم أو تسلم للأسهم، وتنحصر العملية في الرهان على صحة توقعات أي من المتعاقدين بخصوص مستقبل أسعار الورقة المالية موضوع الصفقة. ¬
الدليل الخامس
وهذا إن كان شرطًا في العقد أو عرفًا معمولًا به فهو رهان وقمار، لدخول كل واحد من المتعاقدين في العقد، وهو متردد بين حالين: إما أن يغنم، وإما وأن يغرم، وهذا حقيقة القمار. وإن كان غير مشروط في العقد ففيه معنى القمار، وذلك أن الذي يحمل هؤلاء المتعاملين بتلك المعاملات من البائعين والمشترين إنما هو البحث عن الربح، وتوقع تغير الأسعار في صالحهم، وهم يقدمون على هذه العقود، وهم يعلمون أن أحد الطرفين خاسر، ولابد، وهذا معنى القمار (¬1). الدليل الخامس: أن هذه الأسهم تباع قبل قبضها، وهو محرم إذا بيعت بأكثر من قيمتها؛ لأنه يتضمن ربح ما لم يضمن. ولا يصح تخريجه على السلم لوجهين: الأول: أن السلم يجب أن يكون الثمن فيه حالاً مقدمًا، إما في مجلس العقد كما هو قول الجمهور، أو بعده بيوم أو يومين كما هو مذهب المالكية، ولا يجوز تأخيره أكثر من ذلك. الثاني: من شروط السلم أن يكون المسلم فيه موصوفًا في الذمة، بحيث لا يكون معينًا، وقد اتفق الفقهاء على هذا الشرط، حكى الاتفاق ابن رشد في بداية المجتهد. وهنا المسْلِم إن لم يذكر اسم الشركة المسْلَم فيها لم يحصل الوصف المنضبط المشروط في السلم، لما بين الشركات من اختلاف كبير في مكانتها ¬
ويناقش
المالية، وموجوداتها، فأسهم الشركات ليست متماثلة لا في ما تمثله، ولا في قيمتها. وإن عينت الشركة، تعينت الأسهم بتعيين الشركة، وإذا تعينت لم تكن موصوفة في الذمة. ويناقش: أما كونه لا يصح تخريجه على السلم فهذا واضح، وأما كونه من بيع الشيء قبل قبضه، فإني أرى أن هذا ليس هو وجه المنع فيه؛ لأن المبيع ينقسم إلى قسمين: أعيان وديون، والأسهم من قبيل الأعيان. والتصرف في الأعيان قبل قبضها يختلف حكمًا عن التصرف في الديون قبل قبضها؛ لأن التصرف في الديون أضيق من التصرف في الأعيان، كما أن التصرف في الديون له صور كثيرة، منها ما هو محل وفاق بين العلماء في النهي عن بيعه قبل قبضه، ومنها ما هو محل خلاف بينهم. [م - 1270] وقد اختلف العلماء في التصرف في الأعيان قبل قبضها على النحو التالي: فقيل: يجوز بيع العقار قبل القبض في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى، ولا يجوز بيع المنقول حتى يقبض (¬1). وقيل: لا يجوز التصرف في المبيع قبل القبض مطلقًا، عقارًا كان أو منقولاً، وهو قول محمَّد بن الحسن، وزفر من الحنفية (¬2)، ومذهب الشافعية (¬3)، ورواية ¬
عن أحمد (¬1)، وهو قول ابن حزم (¬2)، ورجحه من الحنابلة كل من ابن تيمية وابن القيم (¬3). وقيل: لا يجوز بيع الطعام المكيل أو الموزون قبل قبضه، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬4). وقيل: لا يجوز بيع المكيل أو الموزون أو المعدود أو المذروع، وكذا ¬
الدليل السادس
ما اشتري بصفة أو رؤية متقدمة قبل قبضه، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: لا يجوز بيع الطعام الربوي فقط قبل قبضه، وأما غير الربوي من الطعام فيجوز بيعه قبل قبضه، وهو رواية عن مالك (¬2). وقد ترجح لي جواز بيع كل شيء معين قبل قبضه إذا لم يكن فيه حق توفية من كيل أو وزن، أو عد، أو ذرع، وكذا ما اشتري بصفة أو رؤية متقدمة قبل قبضه، وما عداه فيجوز بيعه قبل قبضه، وقد سبق بحث هذه المسألة في فصل مستقل، وذكر الأدلة ومناقشتها، وبيان الراجح فأغنى عن إعادته هنا (¬3). الدليل السادس: دفع مبلغ من المال مقابل تأجيل التصفية إلى موعد لاحق هو من ربا النسيئة الجلي والذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، إما أن تقضي وإما أن تربي. هذه تقريبًا أدلة القائلين بالتحريم، وأقوى الأدلة السالمة من النزاع أنه من باب بيع الشيء المعين قبل تملكه، وهذا مجمع على تحريمه، وأن تعاطي هذه البيوع فيها نوع من الرهبان والقمار، وأن بدل التأجيل يعتبر من ربا النسيئة الصريح، وما عداها من الأدلة فلا تسلم من المناقشة. القول الثاني: يرى جواز هذه البيوع الآجلة، وممن ذهب إلى هذا الشيخ محمَّد عبد الغفار الشريف، بشرط أن تكون الأوراق المالية يجوز التعامل فيها. ¬
ويناقش
وأن يكون البيع صحيحًا بحيث يترتب عليه أثره بحيث يمتلك البائع الثمن الذي في ذمة المشتري، ويملك المشتري المبيع الذي في ذمة البائع بمجرد البيع، وإن كان موعد التنفيذ لم يحن بعد (¬1). واستدل الشيخ بقوله: "لا يمنع من انتقال الملك في المبيع أو الثمن كونهما ديونًا في الذمة إذا لم يكونا من الأعيان؛ لأن الديون تملك في الذمم، ولو لم تتعين، فإن التعيين أمر زائد عن أصل الملك، فقد يحصل مقارنًا له، وقد يتأخر عنه إلى أن يتم التسليم، كما لو اشترى مقدارًا معلومًا من كمية معينة من الأرز، فإن حصته من تلك الكمية لا تتعين إلا بعد التسليم، وكذلك الثمن في الذمة" (¬2). ثم رأى أن الدين لا خلاف في تأجيله! وهذه الأوراق عبارة عن ديون؛ لأنها لا تتعين بالتعيين، ولكن تحدد بالجنس والنوع، كأسهم من الشركة الفلانية ... الخ (¬3). ويناقش: هذا الكلام أخذه الشيخ نقلاً من الموسوعة الكويتية، ولم يفهم الشيخ المراد ¬
القول الثالث
منه: فهم ذكروا أن المشتري قد يشتري شيئًا معينًا، وقد يشتري شيئًا غير معين، وهذا الشيء غير المعين يطلق عليه (دينًا في الذمة) وإن كان حالًا؛ لأنه لم يتعين، ولذلك قالوا: من اشترى مقدارًا معلومًا من الأزر فإن حصته من تلك الكمية لا تتعين إلا بعد التسليم، ولم يقولوا بجواز شراء مقدار غير معين من الرز مؤجل بثمن مؤجل، ولو قالوا ذلك لكان ما فهمه الشيخ صحيحًا. وقوله: إن الدين لا خلاف في تأجيله لو عكس ذلك لكان صحيحًا، فإن الصورة المجمع على تحريمها من بيع الدين بالدين هو ما كان فيه المبيع دينًا مؤجلًا في الذمة، والثمن دينًا مؤجلًا في الذمة، كما هو الحال في بيوع الآجال. قال ابن رشد: "فأما النسيئة من الطرفين فلا يجوز بإجماع، لا في العين، ولا في الذمة؛ لأنه الدين بالدين المنهي عنه" (¬1). وأما قوله: إن هذه الأوراق عبارة عن ديون؛ لأنها لا تتعين بالتعيين، ولكن تحدد بالجنس والنوع، كأسهم من الشركة الفلانية ... فهو قول غير دقيق؛ لأننا سبق وأن قلنا: إن الأسهم لا يمكن أن تكون إلا معينة؛ لأن الشركة إذا تعينت فقد تعينت الأسهم، فقوله: (كأسهم الشركة الفلانية) هذا تعيين بالذات، وليس تعيينًا بالجنس أو النوع كما قال. القول الثالث: اختار الشيخ عطية فياض صحة المعاملة بشرطين: الشرط الأول: أن تكون تلك العمليات على أوراق مالية يملكها البائع، ويملك المشتري الثمن. ¬
الشرط الثاني
وبالتالي يكون المعقود عليه مملوكًا لهما وقت العقد، وليس من باب بيع ما لا يملك. الشرط الثاني: أن يكون كل من البدلين مما يجوز فيهما النساء والتفرق قبل التقابض بحيث لا يكون من الأموال الربوية (¬1). دليل هذا القول: الدليل الأول: (ح -882) ما رواه البخاري من طريق زكريا، قال: سمعت عامرًا يقول: حدثني جابر - رضي الله عنه -، أنه كان يسير على جمل له قد أعيا، فمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فضربه، فدعا له، فسار سيرًا ليس يسير مثله، ثم قال: بعنيه بأوقيه، قلت: لا، ثم قال: بعنيه بأوقيه، فبعته، فاستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما قدمنا أتيته بالجمل، ونقدني ثمنه، ثم انصرفت، فأرسل على إثري، قال: ما كنت لآخذ جملك، فخذ جملك ذلك، فهو مالك (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اشترى بعير جابر، ولم يستلم المبيع، ولم يستلم جابر الثمن، ومع ذلك كان هذا البيع صحيحًا، فدل على أن تأجيل الثمن والمثمن لا حرج فيه إذا كان أحدهما معينًا، وكان للعاقد غرض صحيح في التأجيل، ولم يكن القبض شرطًا في صحة البيع. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أننا إذا اشترطنا أن يكون المبيع مملوكًا للبائع، والثمن مملوكًا للمشتري خرجنا من النهي عن بيع شيء معين لا يملكه البائع، فهو قد باع ما يملكه، والتأجيل لا يبطل الملك إلا إذا كان القبض شرطًا في صحة البيع، ولذلك اشترطنا أن يكون كل من البدلين لا يجري فيهما ربا النسيئة. القول الرابع: يذهب إلى جواز هذه العمليات في السلع للحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، وعدم جوازها في الأوراق المالية، لعدم الحاجة، وللمضاربة على فروق الأسعار (¬1). الراجح: بعد استعراض الأقوال أجد أن القول الذي اختاره الشيخ عطية فياض، هو القول الراجح وعليه تكون البيوع الآجلة بيوعًا محرمة إلا إذا كان البائع يملك الأسهم التي باعها حال العقد؛ لأن التأجيل في تسليم المبيع المعين لا يمنع ذلك من صحة البيع، كما وقع ذلك في بيع جابر جمله للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس من شرط صحة البيع قبض الأسهم في مجلس العقد، وإذا باعها يجب عليه ألا يتصرف فيها؛ لأنها خرجت من ملكه إلى ملك المشتري، وهذا يجعل عدم تسليم الأسهم لا معنى له، فإن تصرف فيها على أن يرد بدلها فإن كان ذلك بشرط لم يكن ذلك جائزًا؛ لأن ذلك معنى اجتماع البيع والقرض، وهو غير جائز، وإن كان ذلك بدون شرط كان الخلاف فيه يرجع إلى مسألة أخرى، وهو ¬
حكم اجتماع البيع والقرض بدون شرط، وهي مسألة خلافية، والراجح التحريم، وقد سبق تحرير الخلاف فيها في كتاب الشروط في البيع، فارجع إليه إن شئت، والله أعلم.
المبحث الثاني حكم المرابحة والوضيعة في البيوع الآجلة
المبحث الثاني حكم المرابحة والوضيعة في البيوع الآجلة [ن -207] يأخذ حكم المرابحة حكم مسألة ما يسمى (عكس مسألة العينة). فالعينة: أن يبيع الشيء مؤجلًا، ثم يشتريه حالًا بأقل من ذلك. وعكس مسألة العينة: أن يبيع الشيء بثمن حال، ثم يشتريه بثمن مؤجل أعلى منه، وهو ما ينطبق على حكم المرابحة في العمليات الآجلة. وهذه المسألة سبق بحثها في عقد الربا، وعرضت خلاف العلماء فيها، وقد اتفقوا على تحريمها إذا كان هناك مواطأة أو كان العقد الثاني مشروطًا في العقد الأول، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا. وأما بيع الوضيعة: فهو أن يقوم البائع في البيوع الآجلة إذا رغب في تأجيل يوم التصفية بشراء أسهم من طرف ثالث يسمى الناقل، ثم يقوم بتسليمها للمشتري على أن يقوم البائع يبيع الناقل أسهمًا مؤجلة لا يملكها من جنس الأسهم التي اشتراها من الناقل وبثمن أقل من الثمن الذي اشترى به الأسهم مقابل التأجيل على أن يتم تسليم الأسهم والثمن في يوم التصفية المقبل. وهذا العقد يدخله بيع معين لا يملكه، وهذا لا يجوز، واشتمال العقد على بيعتين في بيعة إحداهما مشروطة في الأخرى. وبعضهم يرى أن هذا الشراء والبيع حيلة على قرض يجر نفعًا فالبائع اشترى أسهمًا من الناقل على أن يرد إليه مثلها في يوم التصفية المقبل، وفي مقابل ذلك يدفع المقترض (المضارب) إلى الناقل ما يسمى ببدل التأجيل، والمتمثل في الفرق بين سعر الشراء الحال الذي يدفعه المضارب للناقل، وبين سعر البيع
ونوقش هذا
الآجل الذي يدفعه المضارب للناقل. وهذا اختيار الشيخ مبارك آل سليمان، وأحمد الخليل (¬1). ولم يتضح لي أنه قرض؛ لأن القرض مضمون، وهذا البيع غير مضمون، فربما تهبط الأسعار، ويسلم البائع الناقل أسهمه، وهي لا تساوي قيمتها عند التعاقد، ويخسر الناقل، ويربح المضارب، وقد ترتفع الأسعار فيتضاعف ربح الناقل، وهذا كله لا يكون إلا في عقد بيع، ولا يصح أن ذلك في عقد القرض. وذهب الدكتور علي القره داغي إلى توصيف العقد بأنه إعارة الأوراق لقاء فائدة ربوية (¬2). ونوقش هذا: بأن الإعارة لا يتملك المستعير العين، وأما بيع الوضيعة فيتملك البائع أسهمه من الناقل حالة، ثم يبيع له مثلها مؤجلة بسعر أقل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن أخذ الأجرة على العارية يحولها إلى إجارة، وليس إلى فائدة ربوية، والله أعلم. فالراجح في تحريمها أن الشراء الحال من البائع شراء صحيح، وأن إعادة البيع إلى الناقل بثمن أقل لا حرج فيه بشرط أن تكون هذه الأسهم المباعة في محفظته؛ لأن قيمة الشيء مؤجلًا أقل من قيمته حالًا، كما هو معلوم، وكان ممنوعًا من التصرف فيها إلى حين تسليمها في يوم التصفية حتى لا يجتمع بيع ¬
وقرض، وعليه يكون تأجيل تسليمها لا فائدة منه، وإذا كان لا يملكها كما هو الغالب من هذه المعاملات فإن هذا لا يجوز؛ لأنه من بيع ما لا يملك، وليس لأنه رد للقرض، والله أعلم.
المبحث الثالث العمليات الآجلة الشرطية (الاختيارات)
المبحث الثالث العمليات الآجلة الشرطية (الاختيارات) الفرع الأول التعريف بالعمليات الآجلة الشرطية تعتبر عمليات الاختيار إحدى صور العقود الآجلة، وهي واحدة من الأدوات التي يستخدمها المستثمرون للحماية من مخاطر تغير أسعار الأوراق المالية، كما يستخدمها المضاربون بهدف تحقيق الأرباح. وقد عوفها أكثر الباحثين: "بأنها حق شراء أو بيع عدد محدد من الأوراق المالية بسعر محدد، خلال مدة محددة، أو في تاريخ محدد" (¬1). ولا يترتب على مشتري الخيار التزام بيع أو شراء، وإنما هو مجرد حق يتملكه يستطيع أن يمارسه أو يتركه ويصبح المضارب مالكًا للخيار بمجرد دفع قيمته (¬2). شرح التعريف: يمكن أن نقول: إن العمليات الآجلة تشمل على نوعين من المعاوضات: النوع الأول: المعاوضة على الخيار: بأن يعطي أحد الطرفين الآخر حق الشراء أو حق ¬
ورد هذا
البيع بسعر محدد في زمن مستقبل محدد في مقابل عوض معين، ويسمى حق الاختيار، وهذا العوض ليس مرتبطًا بإتمام الصفقة أو فسخها، وإنما هذا المبلغ مقابل تمتعه بحق الخيار. ورأى الشيخ الصديق الضرير أن العوض في عقود الاختيار ليس مقابل حق الاختيار، وإنما هو مقابل التزام أحد الطرفين للآخر، ويقابل هذا الالتزام ثبوت حق للطرف الآخر، فحقيقة اختيار الشراء: هو أن البائع يلتزم للمشتري ببيع شيء موصوف، في وقت محدد، بثمن محدد، يدفعه له عند الاتفاق مقابل هذا الالتزام، ويترتب على التزام البائع ثبوت حق للمشتري في الشراء (¬1). وبناء عليه لا يكون التزام البائع بالبيع عقدًا؛ لأنه بمنزلة الإيجاب البات خلال مدة معينة، ولا ينعقد به البيع إلا إذا صدر القبول من المشتري خلال تلك المدة. وجاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي ما نصه: "إن المقصود بعقود الاختيارات الاعتياض عن الالتزام ببيع شيء محدد موصوف، أو شرائه بسعر محدد، خلال فترة زمنية معينة، أو في وقت معين" (¬2). ورد هذا: قال الشيخ مبارك آل سليمان: "أما القول بأن المعقود عليه هو الالتزام، ففيه نظر من وجهين: الأول: أن مشتري الخيار إنما يملك بالعقد حق البيع أو الشراء، ولا يملك ¬
النوع الثاني
الالتزام نفسه، إذ الالتزام معنى قائم في نفس البائع، لا يتصور وقوع الملك عليه من غيره. الثاني: أن طبيعة هذا العقد أنه ملزم لأحد طرفيه، وهو محرر الاختيار، فالتزامه بالبيع أو الشراء إنما هو فرع عن هذا اللزوم الذي هو حكم من أحكام العقد؛ لا أنه المعقود عليه" (¬1). النوع الثاني: المعاوضة على الأوراق المالية بسعر متفق عليه دون أن يتم فيه دفع الثمن، أو تسليم المثمن، وإنما يتم التسليم في وقت لاحق إذا اختار من له حق الاختيار تنفيذ الصفقة في تاريخ محدد يتفق عليه العاقدان. وهذه العقود غالبًا لا يتم فيها التسليم الفعلي، وإنما هي تنتهي إلى المقاصة، فمن خسر يدفع الفارق عند مطالبة الطرف الآخر في حدود أجل الخيار. وهذه الخيارات يقوم بها وسطاء في السوق بحيث يجمعون بين إرادتين: إرادة البائع دارادة المشتري دون أن يعرف أحدهما الآخر، ويكون الوسيط ضامنًا لبلوغ العقد أمده، وتمكين الرابح من ربحه مقابل عمولة محددة. ويسمى السعر المتفق عليه بسعر التعاقد، وهو غالبًا ما يعادل القيمة السوقية للورقة المالية في تاريخ إبرام الاتفاق، وهو بذلك يختلف عن سعر السوق الذي تباع به الورقة لحظة تنفيذ الاتفاق. وعقد الخيار لابد أن يتضمن خسارة لأحد المتعاملين في مقابل ربح الآخر، لأن المكسب الذي يجنيه أحدهما بمثابة الخسارة للآخر، ويمكن تصور ¬
سلامتهما معًا، إلا أنه نادر جدًا، وذلك أن تبلغ القيمة السوقية للأوراق المالية وقت التنفيذ سعر التنفيذ زائدًا أو ناقصًا قيمة الخيار. ولا يتصور أن من يريد أن يشتري خيارًا أن يشتري أو يبيع كمية محدودة من الأوراق المالية، بل لابد أن يشتري ما يمثل وحدة، والوحدة من الدولارات في سوق نيويورك مثلًا تتراوح بين خمسة ملايين وعشرة ملايين من الدولارات، بينما هي في سوق لندن بين مليونين، وثلاثة ملايين دولار (¬1). ويمكن تداول شهادات الخيار نفسها باعتبارها ورقة مالية، ويمكن لصاحبها أن يلغي مركزه المالي ببيعها، وتتحرك أسعارها باتجاه أسعار الأوراق المالية التي تتضمنها. ويمكن التمييز بين نوعين من الاختيار: الاختيار الأمريكي، والاختيار الأوربي. ويمثل الاختيار الأمريكي اتفاقًا يعطي لطرف ما الحق في بيع أو شراء عدد من الأسهم أو السندات، وربما العملات من طرف آخر، بسعر متفق عليه مقدمًا على أن يتم التنفيذ في أي وقت خلال الفترة التي تمتد منذ إبرام الاتفاق حتى نهاية مدة الصلاحية. أما الاختيار الأوربي فلا يختلف إلا في التنفيذ حيث يتم في يوم واحد في التاريخ المحدد لانتهائه (¬2). ¬
أنواع الاختيار
أنواع الاختيار: (أ) اختيار البيع. وهو عقد يعطي صاحبه حق بيع أوراق مالية أو عملة معينة بسعر محدد، وخلال فترة محددة، ويلتزم مشتريه بشراء تلك الأوراق بالسعر المتفق عليه خلال تلك الفترة، مقابل استلام مبلغ محدد من البائع، ويميل إلى شراء اختيار البيع أولئك الذي يتوقعون انخفاض الأسعار. وتسمى مثل هذه العمليات: العمليات الشرطية البسيطة (¬1). مثاله: لو فرضنا أن زيدًا اشترى أسهمًا بقيمة خمسين ريال للسهم الواحد، وتوقع انخفاض الأسعار خلال الثلاثة الأشهر القادمة، وأراد أن يحمى نفسه من مخاطر احتمال انخفاض الأسعار، فتعاقد مع طرف ثان لديه الاستعداد لشراء هذه الأسهم خلال الثلاثة الأشهر القادمة بالسجر السائد اليوم (50) ريالًا للسهم الواحد، مقابل أن يدفع البائع ثلاثة ريالات للسهم الواحد مقابل إعطائه حق التراجع عن تنفيذ الصفقة إذا أراد. لهذا يطلق على البائع في هذه الحالة مشتري حق الاختيار. فإن صدقت التوقعات، وانخفضت الأسعار حتى وصلت إلى (45) ريالًا للسهم الواحد في هذه الحالة سيطلب البائع (مشتري الخيار) من الطرف الآخر (محرر الاختيار) تنفيذ الاتفاق، أي شراء الأسهم بمبلغ (50) ريالًا، وحيث إن البائع قد سبق له الشراء بنفس القيمة، فإن خسائره سوف تنحصر في قيمة الخيار فقط، ولن تزيد على ذلك مهما انخفض سعر السهم في تاريخ تنفيد العقد عن السعر المنصوص عليه في الاتفاق. ¬
(ب) اختيار الشراء.
فانخفاض سعر السهم إلى أربعين ريالًا يعني أن خسائر المحرر ستبلغ سبعة ريالات عن كل سهم، ذلك أنه ملتزم بشراء السهم بقيمة خمسين ريالًا، وسيقوم ببيعه بـ (40) ريالًا، وقد سبق له الحصول على مكافأة عن كل سهم قدرها (3) ريالات، فتحصلت خسائره في السهم الواحد إلى سبعة ريالات. ولو افترضنا أن أسعار تلك الأسهم قد ارتفعت خلال الثلاثة الأشهر عن السعر المتفق عليه (50) ريالًا بحيث بلغ السعر (55) ريالًا، فهنا سوف يستخدم البائع حقه في الخيار، وذلك باختيار عدم التنفيذ للصفقة، وسيفضل بيعها في السوق بسعر (55) ريالًا للسهم الواحد، وحيث إنه قد سبق له أن دفع (3) ريالات لمحرر الاختيار قيمة للخيار، فإن السهم قد تحصل عليه بـ (53) ريالًا، فإذا باعها بسعر السوق (55) ريالًا، فإن ربحه الصافي سوف يبلغ ريالين (¬1). (ب) اختيار الشراء. وهو عقد يعطي مشتريه الحق في شراء عدد معين من الأوراق المالية بسعر محدد خلال فترة محددة، ويلزم بائعه ببيع تلك الأوراق المالية عند طلب المشتري ذلك خلال الفترة المتفق عليها. ويتوجه إلى شراء اختيار الشراء أولئك الذي يتوقعون ارتفاع الأسعار (¬2). مثاله: لو فرضنا أن رجلًا يريد شراء أسهم معينة بعد ثلاثة أشهر، وتشير التوقعات أن سعر السهم سوف يكون مرتفعًا في تلك الفترة وذلك مقارنة بالسعر البخاري الآن، والذي يبلغ (50) ريالًا للسهم الواحد، وحتى يتجنب المشتري ¬
(ج) الاختيار المختلط
مخاطر ارتفاع القيمة السوقية في تاريخ الشراء، فقد تعاقد مع طرف ثان لديه الاستعداد لبيع ذات الأسهم خلال نفس الفترة، وبالسعر الجاري، أي (50) ريالًا مقابل أن يدفع مشتري الخيار مبلغًا ماليًا وقدره (3) ريالات لمحرر الاختيار. فإذا ما ارتفعت قيمة الأسهم خلال هذه المدة إلى (55) ريالًا فإنه حينئذ سوف يطلب المشتري تنفيذ الاتفاق، بحيث يبيعه الأسهم بالسعر المتفق عليه (50) ريالًا، وحيث إنه قد سبق له أن دفع ثلاث ريالات عن كل سهم لمحرر الخيار، فإنه يكون بذلك قد حقق ربحًا مقداره ريالان عن كل سهم. أما إذا لم تصدق توقعات المشتري، وانخفضت قيمة الأسهم إلى (40) ريالًا للسهم مثلاً، فإنه سوف يمارس حقه في رفض الصفقة؛ لأنه سيفضل شراءه من السوق بالسعر السائد، وحينئذ سوف تنحسر خسائره في مقدار المكافأة المدفوعة (¬1). (ج) الاختيار المختلط: وهي عملية تجعل لأحد المتعاقدين الحق والخيار في أن يكون مشتريًا أو بائعًا لمقدار معين في ميعاد معين، أو أن يفسخ العقد في الأجل المضروب، أو قبله بشرط أن يدفع تعويضًا عند التعاقد (¬2). وهكذا تجد أن هذه العملية تعطي للمضارب اختيارات أوسع، فهو يستطيع أن يكون بائعًا إذا ارتفعت الأسعار، أو أن يكون مشتريًا إذا انخفضت الأسعار، ¬
وذلك حسب مصلحته الخاصة، أو أن ينكل عن الصفقة، ويختار الفسخ، وإعادة الحال إلى ما كانت عليه قبل العقد، وهي صلاحيات تفوق بكثير تلك التي كانت مقررة في العمليات الآجلة غير المزدوجة، ولذلك فإن مبلغ التعويض في هذا النوع من العمليات يكون أكبر من العمليات البسيطة، وعادة ما يكون التعويض ضعف العمليات البسيطة (¬1). ¬
الفرع الثاني حكم العمليات الآجلة الشرطية
الفرع الثاني حكم العمليات الآجلة الشرطية المطلب الأول حكم المعاوضة على حق الخيار الحق إذا كان مجردًا عن الملك فإنه لا يجوز الاعتياض عنه (¬1). الالتزام بالبيع ليس محلًا للمعاوضة. [ن -208] لما كان الخيار في هذه المعاوضات يعقد على وجه الاستقلال عن الصفقة، وقيمته مستحقة سواء تمت الصفقة أم لم تتم، فالخيار له سعره، والصفقة لها سعرها، كان من المناسب الحديث عن حكم أخذ العوض في مقابل اشتراط الخيار. وبالرجوع إلى كلام الفقهاء المتقدمين لم أجد من نص على هذه المسألة، وإنما تعرضوا لمسألة: الصلح بمال مقابل إسقاط الخيار. فذهب الحنفية إلى جواز المصالحة بمال مقابل إسقاط الخيار. جاء في فتاوى قاضي خان "أنه لو صالح المشتري البائع صاحب الخيار على دراهم مسماة، أو على عرض بعينه على أن يسقط الخيار ويمضي البيع جاز ذلك ويكون زيادة في الثمن. وكذا لو كان صاحب الخيار هو المشتري فصالحه البائع على أن يسقط الخيار فيحط عنه من الثمن كذا، أو يزيده هذا العرض بعينه في البيع جاز ذلك أيضًا" (¬2). ¬
ومنع الشافعية والحنابلة المصالحة بمال في مقابل إسقاط الخيار (¬1). جاء في مطالب أولي النهى: "ولا يصح الصلح بعوض عن خيار في بيع، أو إجارة، أو عن شفعة، أو عن حد قذف؛ لأنها لم تشرع لاستفادة مال، بل الخيار للنظر في الأحظ، والشفعة لإزالة ضرر الشركة، وحد القذف للزجر عن الوقوع في أعراض الناس" (¬2). [ن -209] وأما العلماء المعاصرون فقد اختلفوا في جواز أخذ العوض في مقابل اشتراط الخيار. فذهب عامة أهل العلم إلى تحريم أخذ العوض في مقابل اشتراط الخيار، منهم فضيلة الشيخ الصديق الضرير (¬3)، والشيخ علي القره داغي (¬4)، والشيخ محمَّد المختار السلامي (¬5)، والشيخ وهبة مصطفى الزحيلي (¬6)، والدكتور أحمد محيي الدين أحمد (¬7)، والشيخ أحمد الخليل (¬8)، والشيخ مبارك بن سليمان آل سليمان (¬9). وغيرهم كثير. ¬
وجه من قال: لا يجوز أخذ العوض عن حق الاختيار.
كما صدر قرار من مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي يحرم مثل هذه العمليات (¬1). وجه من قال: لا يجوز أخذ العوض عن حق الاختيار. هذا الحق ليس مالًا متقومًا, ولا حقًا ماليًا، وإنما هو حق في الشراء أو البيع بسعر محدد يعطيه أحد الطرفين للآخر نظير مال، فهو شبيه بخيار الشرط في الفقه الإِسلامي الذي يعطيه أحد الطرفين للآخر، ويجعل له الحق في إمضاء البيع أو فسخه في هذه الجزئية فقط، ولكنه يختلف عنه اختلافًا أساسيًا في أن خيار الشرط يكون ضمن عقد قائم، والاختيار عقد مستقل بذاته، ولا نعلم فقيهًا جوز أخذ العوض نظير خيار الشرط، فيكون أخذ العوض نظير عقد الاختيار أولى بالمنع (¬2). واعترض: بأن الحقوق المجردة فيها خلاف في جواز المعاوضة عليها، وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى جواز المعاوضة على حق المسيل منفردًا (¬3)، وعلى حق ¬
ويجاب عن ذلك بثلاثة أجوبة
المرور (¬1)، فما المانع من أخذ العوض في مقابل إعطاء حق البيع، أو حق الشراء، وكون هذا الحق ليس من جنس الحقوق التي ذكرها الفقهاء لا يدل على أنه لا يجوز إحداث حقوق أخرى جديدة تقبل المعاوضة، ما دام أن الحقوق من حيث الأصل تقبل المعاوضة عليها، إذ الأصل في المعاملات الحل، والحق من حيث هو حق لا يوجد ما يمنع المعاوضة عليه. ويجاب عن ذلك بثلاثة أجوبة: الجواب الأول: أن هناك فرقًا بين الحقوق المجردة، وبين حق الاختيار؛ لأن الحق المجرد الذي يتحدث عنه الفقهاء هو حق ثابت لصاحبه بوجه شرعي صحيح، ويريد صاحبه أن يعتاض عنه، وحق الاختيار ليس من هذا القبيل؛ لأنه ليس حقًا ثابتًا لأحد، وإنما يريد أحد العاقدين أن ينشئه للآخر. ويرى بعض العلماء أن العوض في عقد الاختيار ليس مقابل حق الاختيار، وإنما هو مقابل التزام أحد الطرفين للآخر بالبيع بسعر معين ولو تغيرت الأسعار، ويقابل هذا الالتزام ثبوت حق للطرف الآخر، فحقيقة اختيار الشراء: هو أن البائع يلتزم ببيع شيء معين في وقت محدد، بثمن محدد بصرف النظر عن سعر السوق وقت التنفيذ، ويأخذ مقابل هذا الالتزام مبلغًا متفقًا عليه وليس ¬
الجواب الثاني
مرتبطا لإتمام الصفقة أو فسخها، ويترتب على التزام البائع ثبوت حق للمشتري في الشراء، وعلى التزام المشتري ثبوت حق للبائع في البيع. إذا صح هذا التكييف فلا يصلح أن يكون مجرد الالتزام بالبيع محلًا للعقد (¬1). الجواب الثاني: ليست كل الحقوق المجردة يجوز أخذ العوض عليها، فحق الشراء، وحق البيع، وحق التملك، مثلها مثل حق التنقل، وحق إبداء الرأي، لا يجوز المعاوضة عليها على وجه الاستقلال بحيث يدفع الإنسان عوضها سواء اشترى أو لم يشتر، وسواء باع أو لم يبع. الجواب الثالث: أن قاعدة الشريعة المقررة عدم جواز أكل مال الغير بالباطل، وأخذ المال مقابل إعطاء حق الخيار من أكل المال بالباطل؛ لأنه ليس بمال، فإذا لم يستحمله صاحبه سيكون قد بذله بلا مقابل، فكان ذلك أكلًا للمال بالباطل من هذا الوجه. وإن استعمله صاحبه فكذلك؛ لأنه قد دفع ثمن الصفقة كاملًا, ولم يكن ثمن الخيار جزءًا من قيمة الصفقة، فما وجه أخذ العوض عن الخيار إذا اختار صاحب الخيار إمضاء العقد، أليس أخذ العوض هنا سيكون بلا مقابل أيضًا، وبالتالي يكون أخذ العوض في مقابل الخيار من أكل أموال الناس بالباطل سواء استعمل الخيار أو لم يستعمله. ¬
القول الثاني
ومثله إذا كان الخيار للبائع، ودفع البائع مبلغًا للمشتري مقابل حق الخيار، فهل للمشتري حق مالي على البائع يستحقه خارجًا عن المبيع. القول الثاني: ذهب إلى جواز المعاوضة على الخيار، وممن ذهب إلى ذلك الشيخ محمَّد عبد الغفار الشريف (¬1)، والشيخ وهبة الزحيلي (¬2)، والشيخ الشبيلي (¬3). دليل من قال بالجواز: الدليل الأول: تخريج عقد الخيار على بيع العربون، خاصة إذا كان الخيار للمشتري؛ لأن خيار الشراء يعطي مشتريه الحق في شراء عدد من الأسهم خلال فترة محددة، وقيمة الخيار التي دفعها مقدمًا كالعربون للبائع. وبيع العربون مختلف فيه، فذهب إلى منعه جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، وأبو الخطاب من الحنابلة. وقيل: البيع صحيح وقت أو لم يوقت، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة. وقيل: البيع صحيح بشرط أن يكون زمن الخيار محددًا، اختاره ابن سيرين، ورجحه بعض الحنابلة، وبه أخذ المجمع الفقهي الإِسلامي. وهو الصواب، وقد سبق العزو إلى هذه الأقوال مع ذكر أدلتها، ومناقشتها في باب الشروط في البيع فأغنى عن إعادته هنا. ¬
وقد نوقش تخريج عقد الخيار على بيع العربون من عدة أوجه
وقد نوقش تخريج عقد الخيار على بيع العربون من عدة أوجه: الوجه الأول: بأن هذا شبه ظاهري غير مؤثر؛ لأن الفروق بين العقدين كثيرة، ففي بيع العربون وقع البيع على سلعة لا على الخيار، وإذا اختار المشتري إمضاء العقد لا يكون للخيار مقابل؛ لأن العربون يحتسب من ثمن السلعة، أما في عقد الخيار فإن البيع يقع على الخيار نفسه، ويدفع المشتري العوض سواء اشترى أو لم يشتر، فالخيار هنا له مقابل في الحالتين، ثم إن بيع العربون يكون بالنسبة للمشتري، وليس في الفقه الإِسلامي بيع عربون فيه خيار للبائع (¬1). وأجيب: بأن مشتري الخيار إذا مارس حقه في الشراء صار سعر السهم المشْتَرى مركبًا من قيمة الخيار وسعر التنفيذ، فالسعران وإن كانا منفصلين صورة، فإنهما يجتمعان عند التنفيذ (¬2). وعندي أن هذا الجواب لا يدفع الاعتراض؛ لأن موجب الاستحقاق ليس واحداً، فلو كان على الإنسان ديون بأسباب مختلفة لشخص واحد، ودفعها جميعًا لا يقال: إن اجتماعهما عند الوفاء أصبح موجب الاستحقاق واحدًا، فكيف تحول ثمن الخيار إلى قيمة للسهم، لمجرد أنه عند التنفيذ دفعهما جميعًا؟ مع أن المعلوم أن ثمن الخيار في هذه العمليات يدفع مقدمًا, ولا ينتظر به إلى وقت التنفيذ؛ لأنه مستحق مطلقًا، سواء اختار التنفيذ أم لا. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أن عقد العربون يأخذه البائع في مقابل فسخ عقد البيع، وهو عقد قد تم وانعقد فعلًا وكان انعقاده حالًا، بينما عوض الخيار يأخذه محرر الخيار على عقد لم ينعقد أصلًا، وإنما هناك التزام بالبيع أو بالشراء في مدة محددة، فهو في مقابل التزام بالعقد مستقبلًا، والالتزام بالعقد ليس عقدًا. الوجه الثالث: أن ثمن الخيار قد يدفعه المشتري، وقد يدفعه البائع، بينما العربون لا يدفعه إلا المشتري وفي حال واحدة إذا اختار الفسخ. وأجيب: بأن جواز بيع العربون يستفاد منه صحة المعاوضة عن حق الخيار، وكون المعتاض بائعًا أو مشتريًا لا أثر له في الحكم. ويرد هذا الجواب: بأن المشتري كونه يدفع قيمة العربون إذا اختار الفسخ، فإن هذا قد يكون تعويضًا للبائع على فسخ عقد قد انعقد حالًا، وفسخ عقد البيع الذي تم وانعقد قد يحرم البائع فرصًا في بيعها مدة الخيار، وربما كانت هذه الفرص أكثر غبطة ومصلحة لمالكها، فالعربون عوض عن هذا الحرمان، أما المشتري فليس له حق على البائع حتى يأخذ عنه قيمة الخيار. الدليل الثاني: تخريج عقد الخيار على خيار الشرط، فالخيار في عقود العمليات الآجلة شبيه بخيار الشرط في الفقه الإِسلامي الذي يعطيه أحد الطرفين للآخر، ويجعل
ويناقش هذا التخريج
له الحق في إمضاء البيع أو فسخه (¬1). ويناقش هذا التخريج: بأن هناك فرقًا بين خيار الشرط وبين الخيار في العقود الآجلة من وجهين: الوجه الأول: أن خيار الشرط يكون ضمن عقد قائم، فهو تابع لعقد البيع، والاختيار عقد مستقل بذاته. الوجه الثاني: لم يثبت عن أحد من أهل العلم أنه قال بجواز أخذ العوض مقابل خيار الشرط، فكان مقتضى القياس منع أخذ العوض مقابل الخيار في العقود الآجلة. قال الضرير: لا أعلم فقيهاً جوز أخذ العوض نظير خيار الشرط (¬2). ويقول الدكتور علي القره داغي عن خيار الشرط: "ليس له ثمن، ولا يجوز بيعه إطلاقًا عند الفقهاء" (¬3). فيكون أخذ العوض نظير عقد الاختيار أولى بالمنع. الدليل الثالث: يمكن أن نعتبر قيمة الخيار شرطًا جزائيًا يلزم به المتعهد عند امتناع المتعهد عن التنفيذ (¬4). ¬
ويجاب
ويجاب: بأن قيمة الخيار لا يمكن أن تقاس على الشرط الجزائي من وجهين: الوجه الأول: أن الشرط الجزائي إنما يستحق إذا كان هناك إخلال بالشرط، وعوض الخيار يستحق مطلقًا، سواء قام بتنفيذ ما اتفق عليه أو نكل عن الصفقة. الجواب الثاني: أن الشرط الجزائي ليس بديلًا عن العقد الأصلي، بل يؤديه، ويلتزم بتنفيذ العقد الأصلي إذا كان ذلك ممكنًا، وعوض الخيار يخول صاحبه عدم الالتزام بالاتفاق الأصلي مع إمكانية تنفيذه. الدليل الرابع: يمكن أن يقاس على ضمان تغطية الإصدار، بجامع أن كلا منهما التزام بالشراء للأوراق المالية مقابل عمولة محدودة. ويجاب: بأن العمولة المأخوذة على تغطية الإصدار قد اختلف العلماء المعاصرون في حكمها، وقد حرمها مجمع الفقه الإِسلامي، والصحيح جوازها، وهي تختلف عن العوض في مقابل خيار العقود الآجلة، وذلك أن العقد في تغطية الإصدار تابع لعملية طرح الاكتتاب، وليس عقدًا مستقلًا بذاته، ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره، كما أن العقد عقد لازم من الطرفين بخلاف عقد الاختيار، فإنه عقد لازم من جهة محرر الاختيار، وجائز بالنسبة لمشتري الخيار، فإن شاء أمضى الصفقة، وإن شاء نكل.
الراجح
الراجح: الذي أميل إليه والله أعلم أن القول بالمنع أقوى من القول بالجواز.
المطلب الثاني حكم العقود الآجلة بشرط الخيار
المطلب الثاني حكم العقود الآجلة بشرط الخيار [ن - 210] اختلف العلماء في حكم العقود الآجلة بشرط الخيار على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب إلى تحريم عقود الخيارات مطلقًا، سواء منها البسيطة أم المركبة، وسواء كانت خيارًا للبيع أم للشراء. وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم، منهم فضيلة الشيخ الصديق الضرير (¬1)، والشيخ علي القره داغي (¬2)، والشيخ محمَّد المختار السلامي (¬3)، والدكتور أحمد محيي الدين أحمد (¬4)، والشيخ أحمد الخليل (¬5)، والشيخ مبارك بن سليمان آل سليمان (¬6). كما صدر قرار من مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي يحرم مثل هذه العمليات (¬7). ¬
دليل من قال: لا يجوز
ومثله صدر قرار المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي (¬1). دليل من قال: لا يجوز: الدليل الأول: أن عقود الاختيارات كما تجري اليوم في أسواق المال العالمية هي من قبيل بيع الشخص سلعة معينة لا يملكها، اعتمادًا على أنه سيشتريها فيما بعد، ويسلمها في الموعد، وهذا منهي عنه شرعًا، بل مجمع على منعه؛ لأن الأسهم لا تثبت في الذمة كما في السلم؛ لأنها متعينة بتعيين الشركة، وبيع العين المعينة غير المملوكة لا يجوز إجماعًا، وقد سبق ذكر أدلة هذه المسألة وبحثها فيما يغني عن إعادته هنا. ويناقش: بأنه يمكن لنا تصحيح هذا العقد بأن نشترط أن تكون الأسهم أو الأصول محل العقد مملوكة للملتزم بالبيع، وهو محرر الخيار في خيار الشراء، ومشتري الخيار في خيار البيع من حين الشراء إلى حين التنفيذ، وبهذا تكون المعاملة قد خرجت من بيع الإنسان ما ليس عنده (¬2). الدليل الثاني: أن هذا العقد من قبيل بيع الدين بالدين، حيث لم يتم فيه التسليم والتسلم لا للثمن، ولا للمثمن، بل اشترط فيه تأخير الاثنين معًا، وذلك لا يجوز. ¬
ويناقش
ويناقش: بأن تأجيل المعين لا يسمى دينًا؛ لأن الدين ما ثبت في الذمة، يقول المقري في قواعده: "المعين لا يستقر في الذمة، وما تقرر في الذمة لا يكون معينًا" (¬1)، وإذا كانت الأسهم معينة فإنها لا تثبت في الذمة، فلا تكون دينًا. ولأن العوضين وإن لم يتم تسليمهما فهما غير مؤجلين، كما في عقود الخيارات الأمريكية، فلا محظور في ذلك، وليس هذا من الكالئ بالكالئ، بل إن من طبيعة بيع العربون عدم تسليم الثمن والمثمن في الحال (¬2). الدليل الثالث: أن عقود الخيارات عقود صورية ليس فيها تسلم ولا تسليم، وعادة ما تنتهي بالمحاسبة على فروق الأسعار بين البائعين والمشترين، وبعضهم يؤثرون التربح من بيع حقوق الخيار، ويفضلون بيعه على تنفيذ الصفقة. ويناقش: يرى فضيلة الشيخ يوسف الشبيلي بأن اقتضاء الفرق بين السعرين -وهو ما يسمى بالتسوية النقدية- لا يعني أن البيع صوري، فحقيقة الأمران العاقدين أجريا مقاصة بينهما، وتطارحا الدينين؛ لأن مشتري الأسهم له في ذمة البائع أسهم، وللبائع في ذمة المشتري نقود، فيسقط من الأكثر منهما قدر الأقل، ويأخذ مشتري الخيار قدر الفرق بينهما (¬3). ¬
ويجاب على هذا النقاش
وتطارح الدينين مسألة خلافية سبق تحرير الخلاف فيها في عقد الصرف، فانظره هناك، فقد أغنى ذكره عن إعادته هنا. ويجاب على هذا النقاش: بأن المقاصة إنما تجري في الديون، والديون متعلقة بالذمة، فتصح المقاصة بينهما؛ لأن قبض الديون قبض أمثالها لا أعيانها، وأما إذا كانت المقاصة بين أسهم ونقود صارت المقاصة بين أعيان وديون، وهذه لا تجري المقاصة بينها، فإن قومت الأسهم على أنها نقود لتكون دينًا كان هذا من قبيل المعاوضة. فإذا كان العقد: على حق اختيار الشراء، فإذا تحققت توقعاته فارتفعت الأسعار قام بتنفيذ العقد، وذلك بأن يقوم بالشراء الفعلي للشيء محل الاختيار من أسهم وغيرها, ولكنه بدلاً من ذلك يطلب من الملتزم أن يدفع له الفرق بين سعر الشراء وهو سعر التنفيذ وبين السعر في السوق فكأن المشتري اشترى الأسهم من البائع وقبل قبضها ودفع ثمنها باعها بثمن أكثر من الثمن الذي اشتراه به منه، ثم أجرى المقاصة بين النقود التي في ذمته والنقود التي في ذمة البائع. فمن رأى أن ضمان المبيع المعين قبل قبضه من البائع كالحنفية والمالكية دخل هذا البيع ربح ما لم يضمن. ومن رأى أن ضمان المبيع المعين الذي ليس فيه حق توفية على المشتري كالحنابلة لم يمنع من الربح فيه؛ لأن المال المعين من ضمان المشتري، ولو كان ذلك قبل قبضه. وقد بحثت مسألة ضمان المبيع في عقد البيع فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والله أعلم.
ويبقى تحريم هذا العقد؛ لأنه مبني على عقد محرم، وهو المعاوضة على حق الاختيار، فالشراء الأول تم بأقل من سعر السوق بناء على المعاوضة على حق الاختيار، ولولاه لم يقبل أن يبيعه هذه الأسهم بأقل من سعرها، والبيع الثاني وإن تم بسعر السوق لكنه لنفس السلعة التي ملكت بحق الاختيار، وما ترتب على الباطل فهو باطل. وهذا توصيف التسوية النقدية في حال اختيار الشراء، وأما توصيف التسوية في حال اختيار البيع، فإن مشتري خيار البيع يتطلب انخفاض الأسعار، فإذا تحقق توقعه قام بتنفيذ البيع ولكنه بدلًا من أن يسلم ما باعه إلى المشتري يطلب منه أن يدفع له الفرق بين سعر التنفيذ وبين سعر السوق، وهذا يعني أن البائع باعه الأسهم وقبل تسليمها ودفع ثمنها يقوم بشرائها بسعر السوق، فيكون كل واحد منهما مدينًا للآخر بالثمن، فتحصل المقاصة بين الدينين، فيسقط من الأكثر منهما قدر الأقل، ويقبض صاحب الدين الأكثر الفرق، وهو مشتري خيار البيع. فتكون حقيقة التسوية النقدية في حال خيار البيع أن البائع بائع سلعة بثمن حال، وقبل تسليمها وقبض ثمنها رجع واشتراها من المشتري نفسه بثمن حال أقل منه. وقد اعتبر الحنفية البيع الثاني فاسدًا، واعتبر الحنابلة المعاملة من بيع العينة. جاء في بدائع الصنائع: "إذا باع رجل شيئًا نقدًا أونسيئة، وقبضه المشتري، ولم ينقد ثمنه، أنه لا يجوز لبائعه أن يشتريه من مشتريه بأقل من ثمنه الذي باعه منه عندنا" (¬1). ¬
الدليل الرابع
وجاء في العناية شرح الهداية: "من اشترى شيئًا بألف درهم حالة أو نسيئة، فقبضه، ثم باعه من البائع بخمسمائة قبل نقد الثمن فالبيع الثاني فاسد" (¬1). وجاء في الإنصاف: "من مسائل العينة لو باعه شيئًا بثمن لم يقبضه ... ثم اشتراه بأقل مما باعه نقدًا أو غير نقد" (¬2). فكأن البيع كان دراهم بدراهم مع التفاضل. ولا أراه من بيع العينة ما دام أن السلعة مقصودة، والربح لم يكن في مقابل الأجل، وإنما جاء من تغير الأسعار بالهبوط، وهو تغير لم يكن بإرادة العاقدين، والله أعلم، ولكن يبقى التحريم لأنه مبني على عقد محرم، وهو المعاوضة على حق الاختيار، فالبيع الأول تم بأعلى من سعر السوق بناء على المعاوضة على حق الاختيار، ولولاه لم يقبل المشتري أن يشتري هذه الأسهم بأعلى من سعرها، والشراء الثاني وإن تم بسعر السوق لكنه لنفس السلعة التي ملكت بحق الاختيار، والله أعلم. الدليل الرابع: وجود الغرر الفاحش في هذا العقد، وذلك أن خسارة بائع الخيار لا حدود لها، فقد ترتفع الأسعار في خيار الشراء إلى أكثر مما يتوقع، وقد تنخفض في خيار البيع بأقل بكثير من سعر التنفيذ. ويناقش: بأن الغرر غير موجود في عقد الخيار البسيط؛ لأن العاقدين يجريان العقد بسعر محدد وثابت ومعلوم، والسلعة مقدور على تسليمها، وكون السعر قد ¬
الدليل الخامس
يرتفع أو ينخفض في وقت التنفيذ منه عن وقت العقد فإنه لا يحوله إلى غرر، كالسلم فإن الأسعار قد تنخفض في وقت الأداء، وقد ترتفع عن وقت العقد، ومع هذا لم يقل أحد إن عقد السلم مشتمل على غرر، بل إنهما لو عقداه بسعر السوق من غير تحديد لكان القول بالغرر له وجه، أما ما دام أن العاقدين قد دخلا على العقد بسعر معلوم وثابت ومحدد فإنه أبعد ما يكون عن الغرر. الدليل الخامس: أن عقود الخيارات مشتملة على القمار، فكل مشتر لخيار بيع أو شراء يربط حظه بتقلبات الأسواق، إما لفائدته أو ضده، فالمشتري يضارب على ارتفاع الأسعار، والبائع يضارب على انخفاضه، وعقد الخيار لا بد أن يتضمن خسارة لأحد الطرفين في مقابل ربح الآخر، فأحدهما رابح لا محالة، والآخر خاسر، والمكسب الذي يحققه البائع هو ذاته خسارة المشتري، فكون كل واحد من المتعاقدين إما غانمًا أو غارمًا هذا هو ضابط القمار المحرم، أما البيع الذي أحله الله فإن كل واحد من المتعاقدين يكون غانمًا بحصوله على العوض المعادل لما حصل عليه الآخر (¬1). القول الثاني: ذهب بعض الباحثين إلى جواز عقود الخيارات مطلقًا، سواء تلك الخيارات البسيطة أم المركبة، وسواء كان الخيار للبائع أم للمشتري. وإلى هذا ذهب الشيخ محمَّد الشريف (¬2). ¬
واستدل أصحاب هذا القول بالأدلة التالية
واستدل أصحاب هذا القول بالأدلة التالية: الدليل الأول: قياس عقد الخيار على خيار الشرط بجامع أن كلا منهما يجعل لصاحب الخيار الحق في إمضاء البيع أو فسخه. وقد سبق لنا مناقشة هذا القياس في المسألة التي قبل هذه، وبينا الفروق بين خيار الشرط، وبين عقد الخيار. الدليل الثاني: قياس عقد الخيار على بيع العربون، خاصة إذا كان الخيار للمشتري؛ لأن خيار الشراء يعطي مشتريه الحق في شراء عدد من الأسهم خلال فترة محددة، وقيمة الخيار التي دفعها مقدمًا كالعربون للبائع. وقد سبق لنا مناقشة هذا القياس في المسألة التي قبل هذه، وبينا الفروق بين بيع العربون، وبين عقد الخيار، فأغنى عن إعادته هنا. القول الثالث: ذهب الشيخ الشبيلي إلى جواز عقد الخيار البسيط، أي خيار البيع المفرد، أو خيار الشراء المفرد، دون المركب منهما معًا، بشروط (¬1). دليل من قال بالجواز بشروط: يمكن أن تكون عقود الخيارات عقودًا صحيحة إذا خلت من المحاذير الشرعية من ذلك: (1) أن يكون الأصل محل العقد جائز التداول. ¬
الراجح
(2) أن تكون عقود الخيارات من العقود البسيطة، وذلك لأن العقود المركبة فيها غرر فاحش؛ لأن المتعاقد لا يدري حين العقد أهو بائع أم مشتر. (ب) وأن تكون الأسهم أو الأصول محل العقد مملوكة للملتزم بالبيع، وهو محرر الخيار في خيار الشراء، ومشتري الخيار في خيار البيع من حين الشراء إلى حين التنفيذ، حتى لا يقع في بيع ما ليس عنده. (جـ) وأن يكون حق الخيار حالًا، بمعنى أن تكون مدة الخيار تالية لشرائه مباشرة، ولو امتدت لفترة طويلة كالصيغة المعمول بها في الأسواق الأمريكية .. (د) وأن تكون السلعة ليست نقودًا حتى لا يؤدي إلى اشتراط الخيار في الصرف. (هـ) وألا يجري الخيار على المؤشر حتى لا تكون ضربًا من القمار. فإذا أمكن مراعاة كل ذلك أمكن للمعاملة أن تكون صحيحة بناء على أن الأصل في العقود الصحة والحل، وهذه العقود هي عقود مستحدثة لا يظهر فيها ما يتعارض مع أحكام الشريعة الإِسلامية مع ما تتضمنه من منافع لكلا العاقدين، فالمشتري يأمن تقلبات الأسعار، والبائع يستفيد من قيمة الخيار. الراجح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها أجدني ميالًا إلى القول الثالث، وهو الجواز بشرط أن تكون هذه من عقود الخيار البسيطة بالشروط والضوابط المذكورة في البحث، وألا يأخذ عوضًا عن الخيار كعقد مستقل، وإنما يأخذه البائع من المشتري إذا نكل عن الصفقة قياسًا على العربون، فإن أتم الصفقة لم يستحق شيئًا في مقابل الخيار، ولا يحق للمشتري أن يأخذ شيئًا من البائع مقابل نكول البائع عن البيع؛ لأن نكول البائع قبل انعقاد البيع حق له، والله أعلم.
الباب الرابع في الأدوات المتداولة في سوق النقد
الباب الرابع في الأدوات المتداولة في سوق النقد عرفنا فيما سبق الفرق بين سوق رأس المال، وبين سوق النقد، ثم انتقلنا بعد ذلك إلى دراسة الأدوات المتداولة في سوق رأس المال، وهي الأسهم والسندات، وحصص التأسيس، ونريد أن ندرس في هذا الباب الأدوات المتداولة في سوق النقد، وهي الأوراق التجارية، وحكم خصمها من الناحية الفقهية. وأذونات الخزانة، وحكم إصدارها وتداولها، وشهادات الإيداع القابلة للتداول، وحكم إصدارها وتداولها، والقبول المصرفي، أسأل الله سبحانه وتعالى العون والتوفيق إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الفصل الأول في الأوراق التجارية
الفصل الأول في الأوراق التجارية المبحث الأول في تعريف الأوراق التجارية وبيان خصائصها وأنواعها تعريف الأوراق التجارية: تعد الأوراق التجارية من أهم أدوات سوق النقد، وكثير من الأنظمة والقوانين الأجنبية تذكر الأوراق التجارية وأحكامها الخاصة دون أن تقوم بتعريفها وتحديد خصائصها، وهذا يترك مجالًا أرحب وأوسع أمام الفقه والقضاء لاختيار التعريف الملائم وتطويره. قد عرفها بعضهم بأن: "الورقة التجارية عبارة عن سندات إذنية، أو كمبيالات، تصدرها شركات كبيرة للحصول على حاجاتها من التمويل" (¬1). وهذا التعريف لا يدخل فيه الشيك، وهو أحد الأوراق التجارية بالاتفاق. ويعرفه أحد الباحثين: بأن الورقة التجارية: سند مكتوب يتضمن التزامًا بدفع مبلغ معين بتاريخ معين، ويكون قابلًا للتداول بالطرق التجارية، ويقوم مقام النقود في المعاملات (¬2). وهذا التعريف أشمل من التعريف السابق. ¬
خصائص الأوواق التجارية
خصائص الأوواق التجارية: [ن - 211] من خلال التعريف السابق يمكن لنا أن نقف على خصائص الأوراق التجارية، وأهمها: (1) الأوراق التجارية تمثل حقًا، موضوعه مبلغ معين من النقود، مستحق الوفاء في وقت معين، أو قابل للتعيين. وهي بهذا تختلف عن الصكوك التي تصدرها شركات الأسهم؛ لأنها وإن كانت تمثل مبلغًا من النقود إلا أن قيمة هذا المبلغ تتغير باستمرار، كما أنها لا تعطي الشريك حق استرداد قيمتها، وإنما تعطيه حق الحصول على نصيب من موجوداتها عند تصفية الشركة. كما أنها تختلف عن الأوراق النقدية التي تصدرها البنوك المركزية، وإن كان كل منهما يمثل مبلغًا معينًا من النقود، ويستخدمان كوسيلة للوفاء. وذلك أن الأفراد ملزمون بقبول العملة الورقية كوسيلة للوفاء، فلا يستطيع أحد أن يرفضها لسداد ما عليه من الديون. أما الأوراق التجارية فإن الأفراد بصفة عامة غير ملزمين بقبولها في الوفاء (¬1). ¬
(2) قابلية الأوراق التجارية للتداول عن طريق التظهير أو التسليم، ويكفي للتظهير مجرد توقيع صاحب الحق على ظهر الورقة التجارية، ولا يتطلب التسليم إلا مجرد مناولة الورقة التجارية من يد إلى يد، وبذلك يصبح الشخص الذي انتقلت إليه الورقة هو صاحب الحق الثابت بها. (3) أن تكون مستحقة الدفع لدى الاطلاع، أو بعد فترة قصيرة يحددها بعض الشراح بمدة تتراوح بين ثلاثة وستة أشهر، ويمكن تسييلها وذلك بالحصول على قيمتها نقدًا قبل حلول ميعاد استحقاقها، وذلك نظير التنازل عن نسبة بسيطة من قيمتها، وهو ما يعرف بخصم الورقة التجارية الذي تزاوله المصارف التقليدية. (4) أن يجري العرف على قبولها كوسيلة للوفاء، فلا تكفي الخصائص السابقة لإسباغ صفة الورقة التجارية على هذه الأوراق ما لم يجر العرف على قبولها كوسيلة للوفاء (¬1). ¬
وظائف الأوراق التجارية
وظائف الأوراق التجارية: [ن -212] تقوم الأوراق التجارية بعدة وظائف منها: (1) تحويل النقود بين الأفراد في تعاملهم التجاري داخل البلاد، كما يمكن التحويل الخارجي في حال اعتماد المسحوب عليه، وبذلك تحقق الأوراق التجارية الغرض في تحويل النقود بواسطتها خفضًا في التكلفة، وتجنبًا لمخاطر السرقة والضياع. (2) تعد الأوراق التجارية أدوات للوفاء بالالتزامات وتسوية التعاملات، فهي تشبه النقود في هذه الوظيفة، وإن كان الوفاء بها لا يماثل الوفاء بالنقود، إذ قد يتخلف الوفاء بها لأي سبب من الأسباب، كما لو سحب شخص شيكًا بدون رصيد، بخلاف النقود فإن الوفاء يحصل بمجرد تسليمها. (3) تعد الأوراق التجارية أداة من أدوات الائتمان، والمقصود بالائتمان: أن يمنح الشخص أجلًا للوفاء بالدين، وهذه الأوراق تتضمن في الغالب أجلًا للوفاء بقيمتها خلا الشيك الذي يستحق الوفاء عند الاطلاع (¬1). وأهم هذه الأوراق التجارية ثلاثة: 1 - الكمبيالة. 2 - والسند الإذني (السند لأمر). 3 - والشيك. وسوف نتناول بالدراسة الموجزة كل واحدة من هذه الأوراق الثلاثة في المباحث التالية، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
المبحث الثاني: في الكمبيالة
المبحث الثاني: في الكمبيالة الفرع الأول في تعريف الكمبيالة وبيان خصائصها تعريف الكمبيالة: هذه الكلمة لا تعرف في لغة العرب، ولا في استعمال الفقهاء المتقدمين، وهي مأخوذة من الكلمة الإيطالية cambiale التي تعني: الصرف والمبادلة، ويطلق عليها في بعض البلدان العربية، كسورية، ولبنان، والعراق (السفتجة)، أو (سند السحب). ويمكن تعريفها في الاصطلاح: أمر مكتوب بكيفية خاصة، يحددها النظام، يأمر بموجبه شخص يسمى المحرر أو الساحب، إلى شخص آخر يسمى المسحوب عليه، بدفع مبلغ معين، أو قابل للتعيين أو بمجرد الاطلاع، لأمر شخص معين، يسمى المستفيد أو لحامله دون تعيين. وقد يكون الأشخاص في عملية السحب هذه أشخاصًا طبيعية، أو أشخاصًا اعتبارية كالمصارف. والغالب: أن يكون المسحوب عليه مدينًا للساحب بما يكفي للوفاء، ويسمى: "مقابل الوفاء" وأن يكون الساحب مدينًا للمستفيد أو الحامل، ولكن لا يتحتم هذا ولا ذاك (¬1). ¬
وبناء على هذا التعريف فإن أطراف الكمبيالة ثلاثة
وبناء على هذا التعريف فإن أطراف الكمبيالة ثلاثة: الأول: الساحب، وهو الآمر بالدفع، ويعتبر المدين الأصلي بها ما لم يقبلها المسحوب عليه. الثاني: المسحوب عليه، وهو المأمور بالدفع، وهو غير ملزم بها، ما لم يوقع على قبولها فإن وقع كان المدين الأصلي بها. الثالث: المستفيد، وهو الذي يدفع لصالحه مبلغ الكمبيالة. وهناك ما يسمى بالكمبيالة المالية تمييزًا لها عن الكمبيالة العادية التي ينشئها التجار، وهذا النوع من الكمبيالات يسمح بالاقتصار فيها على ركنين هما: الساحب والمسحوب عليه، ويكون الساحب في هذا النوع هو المستفيد كأن يقوم البنك بنفسه بإنشاء الكمبيالة في معاملاته مع عملائه، فإذا أقرض البنك عميله مبلغًا من النقود، فإنه يسحب على هذا العميل كمبيالة فيقبلها العميل. وساحب الكمبيالة بتوقيعه عليها ملتزم بدفع قيمتها لحاملها عند حلول أجل دفعها، كما أن كل من وقع عليها بالقبول يعتبر متضامنًا مع ساحبها في الالتزام بدفعها إذا امتنع من ذلك المسحوب عليه، ولا ينعقد التزام المسحوب عليه بدفعها إلا بتوقيعه عليها بالقبول، وتسليمها لحاملها, ولا يلزم المسحوب عليه أن يوقع عليها بالقبول بل يعتبر ذلك منه على سبيل الاختيار حتى لو كان مدينًا للساحب (¬1). ¬
خصائص الكمبيالة
خصائص الكمبيالة: يتضح مما تقدم أن الكمبيالة تتميز بالخصائص التالية: (أ) الكمبيالة ورقة تجارية تشبه النقد من حيث صلاحيتها للتداول والقبول. (ب) الغالب على الكمبيالة أن تشتمل على أطراف ثلاثة، ساحب، ومسحوب عليه، ومستفيد، إلا أنه يجوز اقتصارها على طرفين هما: ساحب، وهو المستفيد، ومسحوب عليه كما هو الشأن في الكمبيالة المالية. (جـ) لا يشترط لصحة الكمبيالة أن يكون المسحوب عليه مدينًا للساحب، وإنما يشترط لاعتبارها قبول المسحوب عليه وتوقيعه عليها بذلك. (د) لا يلزم المسحوب عليه قبول الكمبيالة إلا أنه متى قبلها، ووقع عليها بذلك، وسلمها لحاملها لزمه سدادها في وقتها المحدد له. (هـ) يعتبر الساحب ضامنًا الوفاء بقيمة الكمبيالة وتبقى مسؤوليته حتى يتم سدادها. (و) يعتبر الموقعون عليها بالقبول مسؤولين عن سداد قيمها مسؤولية تضامنية. (ز) لا تفقد الكمبيالة قيمتها بضياعها، وإنما هي سند بدين متى ضاع ذلك السند صار لصاحبه حق إثباته لإحدى طرق الإثبات المعتبرة (¬1). ¬
الفرع الثاني في حكم إصدار الكمبيالة
الفرع الثاني في حكم إصدار الكمبيالة الكمبيالة عند إصدارها تعتبر من قبيل توثيق الدين المؤجل، وهذا لا حرج فيه شرعًا إن لم يكن مطلوبًا. يقول الشيخ رفيق يونس المصري: "الأوراق التجارية من جملة وظائفها أنها ضرب من ضروب توثيق الدين بالكتابة، وضرب من توثيق الدين بالضمان، فجميع الموقعين على الورقة (ساحب الورقة، وقابلها، ومظهرها، وضامنها الاحتياطي) مسؤولون جميعًا وبالتضامن أمام حاملها الذي يمكنه مطالبتهم منفردين أو مجتمعين دون مراعاة أي ترتيب" (¬1). لكن إذا كان على هذا الدين أي فوائد ربوية مقابل التأخير كان التحريم لها لا لذاتها، وإنما لوجود الوصف المحرم الداخل عليها، كما أن حامل الكمبيالة، وهو الدائن الأصلي إذا قام ببيعها على طرف ثالث بأقل من المبلغ المكتوب عليها طمعًا في استعجال الحصول على الدين قبل حلول أجله، فإن ذلك محرم شرعًا كما سيأتي بحثه إن شاء الله تعالى عند الكلام على خصم الأوراق التجارية. ¬
الفرع الثالث في تداول الكمبيالة
الفرع الثالث في تداول الكمبيالة متى تم قبول المسحوب عليه للكمبيالة أي أشر عليها بما يفيد قبوله للوفاء بها في ميعاد الاستحقاق أصبحت الكمبيالة أداة قابلة للتداول، فيستطيع المستفيد أن يصرف قيمتها فورًا من البنك المسحوب عليه، أو من أي بنك آخر بعد خصم العمولة والفائدة عن مدة الاستحقاق، ويمكن تداول الكمبيالة عن طريق التظهير. تعريف التظهير: هو "تصرف قانوني تنتقل بموجبه الكمبيالة، وما تمثله من حقوق، من شخص اسمه المظهر، إلى شخص اسمه: المظهر له، ويثبت هذا التصرف ببيان يدون عادة على ظهر الصك، ومن هنا أتت تسمية التصرف المذكور بالتظهير". وقيل في تعريفه: "بيان يدون على ظهر الصك الإذنية، إما بقصد نقل ملكية الحق الثابت في الصك، من المظهر إلى المظهر إليه، أو بقصد توكيل المظهر إليه في تحصيل قيمة الصك، أو بقصد رهن الحق الثابت في الصك للمظهر إليه" (¬1). [ن -213] وينقسم التظهير إلى ثلاثة أقسام: تظهير لنقل الحق: وهو تظهير ينقل المظهر بمقتضاه، الحق الثابت بها، إلى المظهر إليه. وتظهير توكيلي: وهو توكيل صادر من المظهر، إلى المظهر إليه، في تحصيل ¬
قيمة الكمبيالة عند حلول موعد استحقاقها بعبارة تفيد ذلك، مثل القيمة للتحصيل، أو القيمة للقبض، أو بالتوكيل. وتظهير تأميني: وهو رهن الحقوق الثابتة في الكمبيالة لدى المظهر إليه ضمانًا لدين على المظهر بعبارة تفيد الرهن، مثل: القيمة للضمان، أو القيمة للرهن (¬1). فتؤول المسألة إلى رهن الدين، وخلاف العلماء فيه، والراجح جوازه، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحرير الخلاف فيهتي تحريم الخلاف فيه إن شاء الله تعالى. ¬
الفرع الرابع التخريج الفقهي للكمبيالة
الفرع الرابع التخريج الفقهي للكمبيالة المسألة الأولى أن يكون المسحوب عليه مدينًا للساحب جاء في الفتاوى الهندية: "الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة، والحوالة بشرط مطالبة المحيل كفالة" (¬1). المسحوب عليه إما أن يكون مدينًا للساحب أو لا. فإن كان مدينًا للساحب ففي هذه الحال لها صورتان: الصورة الأولى: [ن -214] ألا يكون الساحب ضامنًا للوفاء بقيمة الكمبيالة، وتكييف الكمبيالة في هذه الحال أنها من قبيل الحوالة، فتأخذ أحكامها. وذلك أن تتضمن نقل الدين من ذمة إلى ذمة، وذلك أن الساحب زيدًا دائن للمسحوب عليه عمرو، والمستفيد عبد الله دائن للساحب زيد، وبهذا تحققت المديونية بين أطرافها، ثم إن الساحب زيدًا قد برئ بهذا من دين عبد الله ومطالبته، وانتقل ذلك كله إلى المسحوب عليه (عمرو) الذي كان في الأصل مدينًا لزيد. وبناء على ذلك فقد تمت أركان الحوالة: فالمحيل: هو الساحب (زيد). ¬
الصورة الثانية
والمحال: هو المستفيد: عبد الله. والمحال عليه: هو المسحوب عليه (عمرو). والمحال به: هو الدين الذي لعبد الله (المستفيد) على زيد (الساحب). فإذا عرفنا ذلك فإن هذه الحال: أعني ألا يكون الساحب ضامنًا للوفاء، هي حال افتراضية، وذلك أن الواقع المتعامل به، والنظام الجاري يلزم الساحب بالضمان؛ لأن الساحب بتحريره الكمبيالة لا يبرأ من الدين الذي عليه براءة كلية، بل يظل ضامنًا للوفاء بالكمبيالة في مواجهة المستفيد، وكل من تؤول إليه الكمبيالة، بحيث يكون لهم حق الرجوع عليه، فيما لو امتنع المسحوب عليه عن الوفاء بها، حتى لو اشترط الساحب عدم الضمان. جاء في المادة (11) من نظام الأوراق التجارية السعودي: "يضمن ساحب الكمبيالة قبولها، ووفاءها، ويجوز أن يشترط إعفاءه من ضمان القبول، دون ضمان الوفاء". وقد ذكرنا هذه الحال من باب ذكر الحصر والتقسيم لا غير. الصورة الثانية: [ن -215] أن يكون الساحب ضامنًا للوفاء، وهذه الحال هي واقع النظام القائم. فقد اختلف الفقهاء في حكم الحوالة إذا اشترط فيها ضمان المحيل: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن الحوالة إذا اشترط فيها ضمان المحيل تحولت إلى كفالة؛ لأن المعتبر في العقود المقاصد والمعاني، وليس الألفاظ والمباني.
القول الثاني
فالكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة، والحوالة بشرط ضمان الأصيل كفالة. "قال قاضي خان رحمه الله: رجل له على رجل مال، فقال الطالب للمطلوب: أحلني بما لي عليك على فلان، على أنك ضامن لذلك، فهو جائز، وله أن يأخذ المال من أيهما شاء؛ لأنه لما شرط الضمان على المحيل، فقد جعل الحوالة كفالة؛ لأن الحوالة بشرط عدم براءة المحيل كفالة" (¬1). وجاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "الحوالة بشرط عدم براءة المحيل كفالة، فلو قال أحد للمدين: أحل بمالي عليك من الدين على فلان، بشرط أن تكون أنت ضامنًا أيضًا، فأحاله المدين على هذا الوجه، فللطالب أن يأخذ طلبه ممن شاء. هذا العقد عقد كفالة مجازًا، والمحال عليه هو الكفيل" (¬2). وجاء في الفتاوى الهندية: "الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة، والحوالة بشرط مطالبة الأصيل كفالة، كذا في السراجية" (¬3). القول الثاني: إذا شرط الضمان على المحيل لم تصح الحوالة، وهو الراجح في مذهب الشافعية. جاء في نهاية المحتاج: "لو أحال غيره بشرط أنه ضامن للحوالة، أو أن يعطيه المحال عليه رهنًا، أو كفيلا. لم تصح الحوالة" (¬4). ¬
دليل الشافعية على بطلان الحوالة
دليل الشافعية على بطلان الحوالة: أن اشتراط الضمان في الحوالة ينافي مقتضى العقد؛ لأن الحوالة تقتضي براءة المحيل من الدين، واشتراط ما ينافي مقتضى العقد يجعله باطلًا. القول الثالث: يجوز اشتراط الضمان في الحوالة، وهو وجه مرجوح في مذهب الشافعية. جاء في الأشباه والنظائر: "لو احتال، بشرط أن يعطيه المحال عليه رهنًا، أو يقيم له ضامنًا، فوجهان، إن قلنا: بأنها بيع، جاز، أو استيفاء، فلا، والأصح الثاني" (¬1). وجه من قال: يجوز اشتراط الضمان على المحيل: الوجه الأول: الأصل في الشروط الصحة والجواز، واشتراط الضمان في الحوالة، لا يخالف نصًا, ولا يترتب على القول به محذور شرعي. الوجه الثاني: القول بأن اشتراط الضمان في الحوالة ينافي مقتضى عقد الحوالة غير مسلم، فهناك فرق بين أن يشترط عدم براءة المحيل، وبين أن يشترط ضمانه، فالأول هو الذي ينافي مقصود العقد وحقيقته؛ لأن المقصود من الحوالة براءة المحيل، وإذا شرط عدم براءته كان ذلك منافيًا لمقصود العقد، وأما شرط الضمان فلا ينافي مقصود العقد؛ لأنه لا يمنع براءة المحيل من الدين، وانتقاله إلى ذمة المحال عليه بناء على عقد الحوالة، غاية ما في الأمر، أنه يقتضي اشتغال ذمته ¬
الأمر الأول
بالدين مرة أخرى بعد براءته منه وانتقاله إلى ذمة المحال عليه،، صحيح أن المحيل بقي مطالبًا بالدين، لكن نوع المطالبة اختلف، فقبل الحوالة: كان مطالبًا بالدين باعتباره أصيلاً، وبعد الحوالة التي اشترط فيه ضمانه، أصبح مطالبًا بالدين باعتباره ضامنًا، لا باعتباره أصيلًا، إذ أصبح المدين الأصيل هو المحال عليه، يوضح ذلك: أن المحال -في هذه المسألة- لو أبرأ المحال عليه من الدين برئ المحيل؛ لأنه أصبح ضامنًا، وبراءة الأصيل توجب براءة الضامن، بخلاف ما لو أبرأ المحيل، حيث لا يبرأ المحال عليه؛ لأنه أصبح المدين الأصيل، وبراءة الضامن لا توجب براءة الأصيل. والله أعلم. وهذا هو الراجح، وقد نبه الشيخ مبارك آل سليمان على أمرين: الأمر الأول: أن ضمان الساحب للمسحوب عليه أمر فرضته عليه القوانين، وليس واقعًا باختياره ورضاه، بل عساه ألا يكون عالمًا به، وهذا ينافي شرطًا من شروط صحة الضمان، وهو رضا الضامن. وعليه فالضمان لا يلزم الساحب، ولا يقضى عليه به، إلا إذا شرط عليه ذلك في العقد، أو كان هناك عرف شائع؛ لأن الإنسان لا يلزم إلا بما ألزم به نفسه، أو ألزمه به الشارع، والله أعلم. الأمر الثاني: أن حمل الكمبيالة على الحوالة وإن حملت عليها, لا يعتبر من الحوالة الصريحة، وإنما من الصيغ العملية الدالة على إرادة الحوالة بحسب الظاهر؛ لأن الكمبيالة لما كانت تحرر في العادة بمناسبة وجود دين للمستفيد على
الساحب، ويدفعها الساحب إلى المستفيد بقصد تمكينه من استيفاء دينه بها، فإنه ليس لذلك معنى إلا أن الساحب أراد بذلك إحالته على المسحوب عليه، ومع ذلك تبقى صيغة غير صريحة بإرادة الحوالة؛ لأنه ليس فيها إلا الأمر بالدفع، كما أن الخطاب فيها موجه إلى المسحوب عليه، وليس إلى المستفيد، فإذا لم يقصد الساحب الحوالة بسحب الكمبيالة، لم يحكم بأنها حوالة، ولو كان المسحوب عليه مدينًا له؛ لأنه قد يريد بذلك مجرد توكيل دائنه المستفيد في القبض، ثم استيفاء دينه من ذلك، ومعلوم أن الوكالة ترتب أحكامًا غير الأحكام التي تترتب على الحوالة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى قد يتخلف فيها شروط من شروط الحوالة الصحيحة , ومع ذلك لا يلزم منه بطلان الكمبيالة إذا أمكن حملها على عقد آخر، كالوكالة، أو الاقتراض، أو غير ذلك (¬1). ¬
المسألة الثانية أن يكون المسحوب عليه غير مدين للساحب
المسألة الثانية أن يكون المسحوب عليه غير مدين للساحب [ن -216] انتهينا في الكلام السابق على الحالة الأولى، وهو أن يكون المسحوب عليه مدينًا للساحب، ونتكلم في هذا المبحث عن الحالة الثانية، وهو أن يكون المسحوب عليه غير مدين للساحب. فإما أن يقبل المسحوب عليه، أو لا يقبل. فإن لم يقبل لم يترتب عليها شيء. وإن قبل المسحوب عليه، فقد اختلف العلماء في هذا العقد على ثلاثة أقوال: القول الأول: تصح الحوالة وإن كان المحال عليه ليس مدينًا للمحيل، وتسمى بالحوالة المطلقة، بشرط أن يتضمن العقد براءة المحيل، وهذا مذهب الحنفية، واختاره ابن الماجشون من المالكية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬1). فإن لم يتضمن العقد براءة المحيل كان العقد عند الحنفية كفالة. جاء في البحر الرائق: "الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة، والحوالة بشرط عدم براءة المحيل كفالة" (¬2). ¬
القول الثاني
وقال ابن عابدين: "وأما الدين على المحال عليه فليس بشرط" (¬1). وقال السيوطي: "لو أحال على من لا دين عليه برضاه، فالأصح بطلانها بناء على أنها بيع. والثاني: يصح بناء على أنها استيفاء" (¬2). القول الثاني: يشترط في صحة الحوالة أن يكون المحال عليه مدينًا للمحيل، وهذا مذهب المالكية، والأصح في مذهب الشافعية، ومذهب الحنابلة (¬3). على خلاف بينهم في توصيف العقد إذا لم يكن المحال عليه مدينًا للمحيل. فقيل: العقد حمالة عند المالكية. واقتراض عند الشافعية والحنابلة. جاء في شرح الخرشي: "ومن شروطها ثبوت دين للمحيل في ذمة المحال عليه وإلا كانت حمالة عند الجمهور، قاله الباجي، ولو وقعت بلفظ الحوالة" (¬4). وجاء في المدونة: "إذا لم يكن على المحتال عليه للذي أحال عليه دين فإنما هي حمالة" (¬5). ¬
القول الثالث
وجاء في أسنى المطالب: "لو أحال على من لا دين عليه لم تصح الحوالة، ولو رضي بها؛ لعدم الاعتياض، إذا ليس عليه شيء يجعله عوضًا عن حق المحتال، فإن تطوع بأداء دين المحيل كان قاضيًا دين غيره، وهو جائز" (¬1). وفي مغني المحتاج: "ولا تصح على من لا دين عليه بناء على الأصح من أنها بيع؛ إذليس للمحيل على المحال عليه شيء يجعله عوضًا عن حق المحتال. وقيل: تصح برضاه ... وعلى الأول لو تطوع بقضاء دين المحيل كان قاضيًا دين غيره، وهو جائز" (¬2). وقال ابن قدامة: وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه فليست حوالة نص عليه أحمد، فلا يلزم المحال عليه الأداء، ولا المحتال قبول ذلك؛ لأن الحوالة معاوضة، ولا معاوضة هنا، وإنما هو اقتراض (¬3). وجاء في كشاف القناع: "وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه فهو وكالة في اقتراض" (¬4). والقول بأنها قرض أو وكالة باقتراض لا يخالف عندي توصيف من قال: بأنها حمالة؛ لأنها حمالة بالنظر إلى علاقة المحال بالمحال عليه إذا كان قد رضي بالحوالة، ووكالة بالاقتراض بالنظر إلى علاقة المحيل بالمحال، واقتراض بالنظر إلى علاقة المحيل بالمحال عليه. القول الثالث: العقد باطل، وهو قول في مذهب الشافعية. ¬
الراجح
قال الماوردي: "فأما وجوب الحق على المحال عليه فقد اختلف أصحابنا هل هو شرط في صحة الحوالة على وجهين: أحدهما: أنه شرط في صحة الحوالة، فمتى لم يكن للمحيل على المحال عليه ذلك الحق الذي أحال به عليه فالحوالة باطلة؛ لأن الحوالة من تحول الحق، فلا بد من أن يكون الحق واجبًا على المحال عليه كما كان واجبًا للمحتال. والوجه الثاني: تصح، وتجرى مجرى الضمان؛ لأنها وثيقة، فعلى هذا لا تم إلا بقبول المحال عليه" (¬1). الراجح: الذي يظهر لي بأن المحال عليه إذا لم يكن مدينًا للمحيل، ورضي بالحوالة فإنها تصح، ولكن لا تكون حوالة مطلقة كما يقول الحنفية، بل يمكن توصيف الحوالة على أنها وكالة في الاقتراض بالنظر إلى علاقة المحيل بالمحال، واقتراض بالنظر إلى علاقة المحيل بالمحال عليه، وضمان بالنظر إلى علاقة المحال بالمحال عليه، فيكون المحيل مضمونًا عنه، والمحال عليه ضامنًا، والمحال مضمونًا له، وذلك أن المحال عليه عندما رضي بالحوالة أصبح ملتزمًا بأداء قيمتها للمحال، وهذا هو حقيقة الضمان، فإن دفعها بأمر المحيل وبنية الرجوع إلى صاحبها أصبح مقرضًا للمحيل، وإن دفعها بدون أمره، أو نوى عدم الرجوع كان متبرعًا، فإن دفعها إكرامًا للمحيل كانت هدية، وإن دفعها طلبًا للأجر والثواب كانت صدقة، والله أعلم. ¬
المسألة الثالثة أن يكون الساحب غير مدين للمستفيد
المسألة الثالثة أن يكون الساحب غير مدين للمستفيد [ن - 217] ذهب الأئمة الأربعة إلى اشتراط أن يكون المحيل مدينًا لمحال (¬1). فإن أحال رجلاً ليس له عليه دين على من له عليه دين فقد اختلف العلماء في لك على قولين: القول الأول: تصح، وتكون وكالة بقبض الدين اعتبارًا للمعنى؛ لأن المعتبر في العقود لمفاسد والمعاني، وليست الألفاظ والمباني. وهذا مذهب الجمهور. قال ابن نجيم: "إذا أحال رجلًا وليس للمحتال دين على المحيل، فهذه كالة، وليست حوالة" (¬2). وقال الدسوقي في حاشيته: "وكذا يشترط ثبوت دين للمحال على لمحيل" (¬3). ¬
وجه ذلك
وجاء في البيان للعمراني: "قال أبو العباس: إذا كان لرجل عند رجل ألف، فقال من له الدين لرجل لا شيء عليه له: أحلتك على فلان بألف، فهذا توكيل منه بالقبض، وليس بحوالة؛ لأن الحوالة إنما تكون لمن له حق، ولا حق للمحتال عليه ها هنا، فثبت أن ذلك توكيل" (¬1). وجاء في مطالب أولى النهى: "وإحالة من لا دين عليه على مثله: أي من لا ين عليه وكالة في اقتراض" (¬2). وجه ذلك: قال ابن قدامة: "وإن أحال من لا دين له عليه رجلا على آخر له عليه دين فليس ذلك بحوالة؛ بل هي وكالة تثبت فيها أحكامها؛ لأن الحوالة مأخوذة من تحول الحق وانتقاله، ولا حق ها هنا ينتقل ويتحول، وإنما جازت الوكالة بلفظ الحوالة؛ لاشتراكهما في المعنى؛ وهو استحقاق الوكيل مطالبة من عليه الدين، كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه، وتحول ذلك إلى الوكيل كتحوله إلى المحيل" (¬3). القول الثاني: لا تصح لا حوالة ولا وكالة، اختاره بعض الشافعية (¬4). أما كون العقد لا يصح حوالة؛ فلأن الحوالة مأخوذة من تحول الحق انتقاله، ولا حق هنا ينتقل ويتحول. ¬
وأما كونه لا ينعقد وكالة فاعتبارًا للفظ، فإن لفظ الحوالة غير لفظ الوكالة، وهذا القول اختاره بعض الشافعية، وهو يتفق مع أصول مذهبهم بأن المقدم في العقود الألفاظ على المعاني. وقد سبق عقد مبحث مستقل في مناقشة المعتبر في العقود، هل هو المقاصد والمعاني، أو الألفاظ والمباني في مقدمة عقد البيع وبينت فيه ضعف مذهب الشافعية، وأنهم لم يطردوا في ذلك، ففي أحيان كثيرة يقدمون اللفظ على المعنى، وفي عقود أخرى يقدمون المعنى على اللفظ. فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والله أعلم.
المبحث الثالث السند الإذني (السند لأمر)
المبحث الثالث السند الإذني (السند لأمر) تعريفه: صك يتضمن تعهد محرره (وهو المدين) بدفع مبلغ معين من النقود، في تاريخ محدد، لشخص آخر يسمى المستفيد (وهو الدائن). فالسند الإذني: ورقة تجارية تتضمن طرفين: الأول: المحرر. والثاني: المستفيد. والعلاقة بينهما علاقة دين، المحرر فيها مدين، والمستفيد دائن. وبهذا يختلف السند الإذني عن الكمبيالة، حيث إن الكمبيالة تتضمن طرفًا ثالثًا، وهو المسحوب عليه. كما أن الكمبيالة تتضمن أمرًا بالدفع من قبل الساحب، أما السند فيتضمن تعهدًا بالدفع، ويحرر من قبل المدين. خصائص السند الإذنى: يتضح مما تقدم أن السند الإذني يتميز بالخصائص الآتية: (أ) السند الإذني ورقة تجارية تشبه الورقة النقدية من حيث صلاحه للقبول والتداول. (ب) السند الإذني يشكل علاقة حقوقية بين طرفين هما الساحب والمستفيد. (ج) لا يلزم لتحرير السند الإذني وجود مقابل وفاء. (د) لا يلزم لاعتبار السند الإذني قبول المحرر لأنه بتحريره إياه ملتزم بدفع قيمته في ميعاد الاستحقاق.
تداول السند
(هـ) لا يعتبر السند الإذني ورقة نقدية بمعنى أن قيمته في حال ضياعه تثبت بإحدى طرق الإثبات المعتبرة (¬1). تداول السند: يمكن تداول السند الإذني، أو السند لأمر، شأنه بذلك شأن الكمبيالة، وذلك عن طريق التظهير بأنواعه الثلاثة: الناقل للملكية، والتأميني، والتوكيلي: فالناقل للملكية إذا قصد منه نقل الحق الثابت فيه من شخص إلى آخر عن طريق تظهيره تظهيرًا ناقلًا للملكية. وإذا كان سبب التظهير وجود دين للمظهر إليه، على المظهر، وقام بتظهيره ناقلًا للملكية، فإن التظهير في هذه الحالة يكون حوالة على نحو ما ذكر في تكييف الكمبيالة. أما إذا لم يكن هناك دين للمظهر على المظهر، فإن التظهير في هذه الحالة يكون هبة، أو قرضًا، أو غير ذلك بحسب نية المظهر. وأما التظهير التأميني: فإنه يقصد منه رهن السند، باعتباره رهنًا للدين الثابت به. وأما التظهير التوكيلي: فإنه يقصد منه التوكيل في تحصيل الدين عند حلول أجله. حكم إصدار السند الإذني: إصدار السند الإذني ليس حرامًا بحد ذاته، وذلك أنه وثيقة بدين، فإذا رضي المتداينان بإثبات الدين بأي طريقة كان ذلك جائزًا؛ لأن الكتابة أقل ما فيها أنها ¬
مأمور بها شرعًا؛ لأن فيها إثبات الدين، وقد قال تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. وحتى لا يتعرض الدين للنسيان، جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي في دورة مؤتمره السابع: "الأوراق التجارية (الشيكات - السندات لأمر - سندات السحب) من أنواع التوثيق المشروع للدين بالكتابة" (¬1). لكن إذا كان على هذا الدين أي فوائد ربوية مقابل التأخير كان التحريم لها لا لذاتها، وإنما لوجود الوصف المحرم الداخل عليها، كما أن حامل السند الإذني، وهو الدائن الأصلي يقوم ببيعه على طرف ثالث بأقل من المبلغ المكتوب عليه طمعًا في استعجال الحصول على الدين قبل حلول أجله، وهو ما يسمى بخصم الورقة التجارية عن طريق تداولها، فإن ذلك محرم شرعًا، كما سيأتي بحثه إن شاء الله تعالى. ¬
المبحث الرابع: في الشيك
المبحث الرابع: في الشيك الفرع الأول تعريف الشيك والفرق بينه وبين بقية الأوراق التجارية تعريف الشيك: عرف الشيك بأنه ورقة تجارية تتضمن أمرًا صادرًا من شخص يسمى الساحب إلى أحد البنوك بأن يدفع لإذن شخص ثالث، وهو المستفيد مبلغًا معينًا من النقود بمجرد الاطلاع (¬1). خصائص الشيك: يتميز الشيك بالخصائص الآتية: أ - صلاحية الشيك للتداول والقبول، وهو بهذه المثابة يعتبر ورقة تجارية تشبه النقد. ب - يعتبر محرر الشيك ضامنًا لقيمته حتى يتم سداده. ج - لا يفقد الشيك قيمته في حال ضياعه، وإنما هو سند بدين يثبت بإحدى طرق الإثبات المعتبرة في حالة ضياعه. د - يعتبر الشيك صحيحًا ويجب دفعه لدى الاطلاع، ولا يعتبر رضا المسحوب عليه إلا إذا كان غير مدين للساحب بمثل قيمته. ¬
الفرق بين الشيك وبقية الأوراق التجارية
هـ - الورقة التي تتوفر لها جميع سمات الشيك، ولكن لا تكون مسحوبة على مصرف (بنك) لا تعتبر شيكًا صحيحًا. ويشترط لسحب الشيك أن يكون المسحوب عليه مدينًا للساحب بما لا يقل عن قيمته، فإن سحب شيك على غير مدين به اعتبر ذلك جريمة توجب العقوبة، وتبقى للشيك قيمته المالية في ذمة ساحبه. ز - لا يجوز للمسحوب عليه رفض اعتماد الشيك إذا كان لديه مقابل وفاء يكفي لدفع قيمته. الفرق بين الشيك وبقية الأوراق التجارية: من خلال ما سبق يتضح أوجه الشبه والاختلاف بين الشيك والكمبيالة: فهما يتشابهان بأن كلًا منهما يستلزم وجود ثلاثة أشخاص: (ساحب، ومستفيد، ومسحوب عليه). ويفترض سبق وجود علاقتين قانونيتين بينهما: (علاقة بين الساحب والمسحوب عليه) تقوم على وجود رصيد لدى المسحوب عليه. (علاقة بين الساحب والمستفيد) وتسمى القيمة الواصلة يكون فيها المستفيد دائنًا للساحب. كما أن كلًا منهما يكون قابلًا للتداول بالطرق التجارية، ويمكن القول: إن التمييز بين الشيك والكمبيالة قد يبدو عسيرًا في حال ما إذا كان سحبها على مدين بها، وكانت واجبة الدفع عند الاطلاع، وكان سحبها على مصرف، ولذلك أوجب المشرع أن يعنون الصك بالكمبيالة فرقًا بينها وبين الشيك، ولو من حيث الشكل. وقد يبدو الفرق بينهما واضحا جليا في الحالات التالية.
وأما الفرق بين الشيك والسند لأمر
(1) لا يلزم توفر مقابل وفاء الكمبيالة حين إصدارها، ويكفي توفرها في ميعاد الاستحقاق، أما في الشيك فإنه يجب أن يكون مقابل الوفاء موجودًا قبل إصدار الشيك، أو في وقت إصداره على الأقل. (2) تعتبر الكمبيالة أداة وفاء وائتمان، ولذلك فإنها غالباً ما تكون مؤجلة الدفع، أي أن ميعاد استحقاقها يكون لاحقًا لتاريخ الإصدار، أما الشيك فإنه أداة وفاء فقط، ولذلك فإنه يكون واجب الوفاء دائمًا لدى الاطلاع. (3) يجوز أن يكون المسحوب عليه في الكمبيالة مصرفًا أو شخصًا عاديًا، أما الشيك فلا يسحب عادة إلا على مصرف، وبعض القوانين توجب ذلك. وأما الفرق بين الشيك والسند لأمر: فإن العلاقة في الشيك غالبًا ما تكون ثلاثية (ساحب، ومسحوب عليه، ومستفيد). ويجوز اقتصاره على طرفين هما الساحب وهو المستفيد في نفس الوقت، والمسحوب عليه. وهو البنك وإلى هذا تشير المادة السادسة والتسعون من نظام الأوراق التجارية السعودي. بينما السند لأمر سبق لنا أن العلاقة ثنائية (محرر السند والمستفيد). كما أن الشيك يتضمن أمرًا بالدفع، ويحرر من قبل الساحب، وأما السند لأمر فيتضمن تعهدًا بالدفع، ويحرر من قبل المدين (¬1). ¬
المسألة الأولى الشيك الموجه من العميل إلى مصرف له فيه حساب
الفرع الثاني التوصيف الفقهي للشيك المسألة الأولى الشيك الموجه من العميل إلى مصرف له فيه حساب [ن -218] إذا كان لمحرر الشيك رصيد دائن في البنك، فإن الشيك لا يعدو في هذه الحالة أن يكون وثيقة بدين تقضي بإحالة محتواه من ذمة ساحبه إلى ذمة المسحوب عليه مع بقاء مسؤولية ساحبه حتى سداده، وأنه ينبغي ألا يسحب إلا على من لديه مقابل وفائه، ولا يلزم لاعتباره قبول المسحوب عليه. وكل هذه الخصائص هي خصائص الحوالة فالأقرب في التخريج الفقهي لهذا الشيك أنه يعتبر حوالة. فالساحب: هو المحيل. والمستفيد: هو المحال. والمصرف: هو المحال عليه. والحوالة مشروعة بالإجماع. (ح -883) ومستند الإجماع ما رواه الشيخان من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مطل الغني ظلم، فإذا أتبع أحدكم على ملي فليتبع (¬1). ¬
ونوقش هذا التخريج
ونوقش هذا التخريج: بأن ساحب الشيك يعتبر ضامنًا لقيمته حتى يتم سداده، بينما الحوالة تقتضي براء المحيل من الدين. [م - 1271] وقد اختلف الفقهاء في حكم الحوالة إذا اشترط فيها ضمان المحيل: فذهب الحنفية إلى أن الحوالة إذا اشترط فيها ضمان المحيل تحولت إلى كفالة (عقد ضمان) (¬1). وقيل: إذا شرط الضمان بطلت الحوالة، وهو الراجح في مذهب الشافعية (¬2). ودليلهم: أن اشتراط الضمان في الحوالة ينافي مقتضى العقد؛ لأن الحوالة تقتضي براء المحيل من الدين، واشتراط ما ينافي مقتضى العقد يجعله باطلًا. وقيل: عقد الحوالة لا يقتضي براءة المحيل من الدين، وهو قول زفر، ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬3)، فالأول يرى أن الحوالة كالكفالة، والثاني يرى أن الحوالة تنقل المطالبة بالدين فقط، ولا تنقل الدين فهو باق في ذمة المحيل. وانظر حجتهما في عقد الحوالة. وأجاز الشافعية في وجه مرجوح عندهم جواز أخذ الضمان على الحوالة، بناء على أن الحوالة بيع، وليست استيفاء (¬4). ¬
الراجح
الراجح: سبق أن بينت أن اشتراط الضمان في عقد الحوالة شرط صحيح؛ لأن شرط الضمان لا يترتب عليه محذور شرعي، ولا يسلَّم أن شرط الضمان ينافي مقتضى عقد الحوالة، فهناك فرق بين أن يشترط عدم براءة المحيل وبين أن يشترط ضمانه، فالأول هو الذي ينافي مقصود العقد وحقيقته؛ لأن المقصود من الحوالة براءة المحيل، وإذا شرط عدم براءته كان ذلك منافيًا مقصود العقد، وأما شرط الضمان فلا ينافي مقصود العقد؛ لأنه لا يمنع براءة المحيل من الدين، وانتقاله إلى ذمة المحال عليه بناء على عقد الحوالة، غاية ما في الأمر، أنه يقتضي اشتغال ذمته بالدين مرة أخرى بعد براءته منه، وانتقاله إلى ذمة المحال عليه، صحيح أن المحيل بقي مطالبًا بالدين، لكن نوع المطالبة اختلف، فقبل الحوالة: كان مطالبًا بالدين باعتباره أصيلًا، وبعد الحوالة التي اشترط فيه ضمانه، أصبح مطالبًا بالدين باعتباره ضامنًا، لا باعتباره أصيلًا، إذ أصبح المدين الأصيل هو المحال عليه، يوضح ذلك: أن المحال -في هذه المسألة- لو أبرأ المحال عليه من الدين برئ المحيل؛ لأنه أصبح ضامنًا، وبراءة الأصيل توجب براءة الضامن، بخلاف ما لو أبرأ المحيل، حيث لا يبرأ المحال عليه؛ لأنه أصبح المدين الأصيل، وبراءة الضامن لا توجب براءة الأصيل. واشتغال ذمة المحيل بعد براءته، لا يقتضي بطلان العقد.
المسألة الثانية ألا يكون لمحرر الشيك رصيد في البنك
المسألة الثانية ألا يكون لمحرر الشيك رصيد في البنك [ن -219] إذا كان محرر الشيك ليس له رصيد في البنك، وإنما له حساب مكشوف. فإما أن يقبل البنك المسحوب عليه، أو لا يقبل. فإن لم يقبل لم يترتب عليها شيء، وقد اعتبرها الحنابلة أنها وكالة في اقتراض (¬1). ويجب على محرر الشيك ألا يحرر شيكًا بلا رصيد إلا بعد أخذ موافقة البنك؛ لأن تحرير الشيك بلا رصيد يعتبر مخالفًا للأنظمة، وجرمًا يعاقب فاعله. وإن قبل المحال عليه: فقيل: تعتبر حوالة صحيحة، وهذا على رأي من لا يشترط لصحة الحوالة أن يكون المحال عليه مدينًا للمحيل، ويجيز الحوالة على من لا دين عليه إذا قبلها، وهذا مذهب الحنفية، ويسمونها بالحوالة المطلقة (¬2). وقيل: تعتبر حوالة غير صحيحة، وهذا مذهب الشافعية (¬3). ووجهه: أن الحوالة عندهم بيع، وإذا كانت بيعًا، لم تصح الحوالة على من ¬
لا دين عليه؛ لعدم الاعتياض، إذ ليس عليه شيء يجعله عوضًا عن حق المحتال (¬1). وقيل: تعتبر كفالة، وهذا مذهب المالكية (¬2). وقيل: تعتبر وكالة في اقتراض، وهذا مذهب الحنابلة (¬3). وهذا القولان لا يتعارضان، فهي كفالة بالنسبة إلى علاقة المحال (المستفيد) بالمحال عليه (البنك)، ووكالة في اقتراض بالنسبة إلى علاقة المحيل (محرر الشيك) بالمحال (المستفيد). وإنما لم تكن حوالة؛ لأنه ليس فيها تحويل حق من ذمة إلى أخرى، وإنما جازت الوكالة بلفظ الحوالة لاشتراكهما في المعنى: وهو استحقاق الوكيل مطالبة من عليه دين، كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه، وتثبت فيها أحكام الوكالة. وسواء كان الراجح في الشيك أنه حوالة، أو حمالة، أو وكالة في اقتراض فإنه لا حرج شرعًا من تحرير الشيك الموجه من العميل إلى مصرف ليس له فيه رصيد بشرط أن يكون القرض خاليًا من الربا، أو من اشتراط السداد في مدة محددة، فإن تأخر أخذ على ذلك فائدة ربوية. والله أعلم. ¬
المبحث الخامس الفرق بين الأوراق المالية والأوراق التجارية
المبحث الخامس الفرق بين الأوراق المالية والأوراق التجارية [ن -220] بعد أن عرفنا الأوراق التجارية، وأنها تنقسم إلى كمبيالة وسند إذني، وشيك، نريد أن نعرف في هذا المبحث الفرق بين الأوراق المالية (الأسهم والسندات) المتداولة في سوق رأس المال والتي سبق بحثها، وبين الأوراق التجارية المتداولة في سوق النقد. ومع أن كلًا من الأوراق المالية والأوراق التجارية تعتبر صكوكًا تمثل مبالغ نقدية قابلة للتداول بالطرق التجارية إلا أن بينها فروقًا يمكن تلخيصها فيما يلي: (1) الاختلاف بينها من حيث الأجل، فالأوراق النقدية قصيرة الأجل، وتاريخ استحقاقها محدد بشكل قاطع، بينما الأسهم والسندات متوسطة أو طويلة الأجل، ويتعذر في كثير من الأحيان تحديد الأجل الذي تستحق فيه الأوراق المالية تحديدًا قاطعًا، فصاحب السهم له الحق في البقاء في الشركة ما دامت الشركة قائمة باستثناء الشركات التي تحصل على امتياز حكومي لاستغلال مشروع معين لفترة من الزمن. (2) الاختلاف بينها من حيث القيم التي تمثلها. فالأوراق المالية تمثل قيمًا متساوية حين الإصدار، ثم تتغير قيمتها باستمرار تبعًا لتقلبات الأسعار، ويكون الدخول فيها عالي الخطورة، بينما قيم الأوراق التجارية لا تثمل قيمًا متساوية حين إصدارها، بل تختلف قيمتها باختلاف المعاملات التي حررت من أجلها، وتظل قيمتها ثابتة حتى تاريخ استحقاقها، وبالتالي تتميز بانخفاض درجة المخاطرة.
(3) الأوراق التجارية تمثل ديونًا فقط، بخلاف الأوراق المالية فإن منها ما يمثل ديونًا كالسندات، ومنها ما يمثل ملكية كالأسهم. (4) يستطيع أي شخص كامل الأهلية من إصدار الأوراق التجارية، بخلاف الأوراق المالية فإن إصدارها مختص بالمؤسسات المالية، وشركات المساهمة، والشخصيات الاعتبارية. (5) يمكن لصاحب الأوراق التجارية استعجال قيمتها وذلك بخصمها لدى المصارف والبنوك المركزية، وأما الأوراق المالية فإن صاحبها إذا احتاج إلى قيمتها فليس أمامه إلا بيعها في السوق الثانوية، وقد يصادف ذلك هبوط في قيمتها، فيتضرر صاحبها، وقد يكون العكس. (6) تعتبر الورقة التجارية مضمونة الوفاء بقيمتها من قبل محررها، ومن قبل الموقعين عليها، بخلاف الأوراق المالية فإن بائعها لا يضمن يسار الشركة التي أصدرتها، وتنتهي مسئوليته عند تسليم السهم أو السند إلى المشتري.
المبحث السادس أحكام التعامل بالأوراق التجارية
المبحث السادس أحكام التعامل بالأوراق التجارية الفرع الأول تحصيل الأوراق التجارية [ن - 221] تحصيل الأوراق التجارية عقد مركب من عقدين: الأول: الإيداع. الثاني: الوكالة بأجر. بيان ذلك: أن التاجر بحكم مشاغله الكثيرة في الأسواق يكون مشغولًا دائمًا عن تحصيل الأوراق التجارية نظرًا إلى أن تحصيل الأوراق يستلزم إجراءات كثيرة من قيود سجلات، وخطابات إنشائية وجوابية، واتصالات مباشرة وغير مباشرة، لذلك يقوم التاجر بتوكيل البنك بتحصيل قيم هذه الأوراق لهم عند حلول أجلها بعمولة يجري الاتفاق على تحديدها، فيقوم التاجر بتظهير الورقة التجارية إلى البنك الذي يختاره تظهيرًا توكيليًا، ويختلف مقدار العمولة التي يطلبها البنك لقاء قيامه بالتحصيل تبعاً لاختلاف قيمة الورقة التجارية وأجل وفائها ومحله وغير ذلك من الاعتبارات. ويسبق ذلك أن يكون هناك وجود عقد للحفظ والإيداع للورقة التجارية قبل موعد استحقاق دفعها, ولو بأيام لتكون تحت تصرف المصرف الموكل بالتحصيل، لذا فعقد الوديعة حاضر في عملية التحصيل ضمنًا. وبعد الإيداع يقوم البنك بتحصيل الورقة، واختلف العلماء في التوصيف الفقهي لعملية التحصيل على قولين:
القول الأول
القول الأول: ذهب أكثر أهل العلم على اعتبار تحصيل الورقة وكالة بأجرة (¬1). فالعميل يوكل البنك في تحصيل دينه مقابل أجر معين، والوكالة جائزة شرعًا سواء أكانت بأجر أم بغير أجر، وإذا لم ينص العاقدان على الأجر في الوكالة فيعمل بالعرف الدارج. ويجوز التوكيل في تقاضي الديون وقبضها من غير رضا الخصم (المدين) والبنك كوكيل بأجر يستحق الأجرة إذا قام بالعمل والإجراءات المتعلقة بالمطالبة بالدين في تاريخه، سواء حصل قبض الدين أم لا كالمحامي الذي يستحق الأجر مقابل وكالته في الدفاع عن موكله، سواء كسب القضية أم خسرها. القول الثاني: ذهب بعض أهل العلم إلى اعتبار تحصيل الأوراق التجارية عملية إجارة، يقول الدكتور رفيق المصري: "إذا قدم أحد العملاء إلى مصرف ورقة تجارية (كمبيالة أو سندًا لأمر) لتحصيل قيمتها له في تاريخ الاستحقاق، فهذا جائز، ويجوز للمصرف أن يتقاضى من العميل أجرًا على التحصيل، فهذه العملية ليست إلا من باب الإجارة المشروعة" (¬2). والأول عندي أقرب؛ لأن المصرف يتصرف في التحصيل نيابة عن الوكيل، والنيابة في التصرف إلى الوكالة أقرب منها إلى الإجارة، والله أعلم. ¬
وبهذا يتبين أن تعامل البنوك الإِسلامية في تحصيل الأوراق التجارية مشروع سواء اعتبرنا ذلك وكالة بأجر، أو إجارة، والله الموفق.
الفرع الثاني رهن الأوراق التجارية
الفرع الثاني رهن الأوراق التجارية [ن -222] رهن الأوراق التجارية: عبارة عن اتفاق بين الراهن والمرتهن يتم بموجبه رهن الورقة عن طريق التظهير على نحو يفيد أن قيمتها ضمان لدين سابق بذمة الراهن (¬1). والتوصيف الفقهي لعملية رهن الأوراق التجارية أنه رهن دين بدين، وقد اتفق الفقهاء على صحة رهن الدين في غير الابتداء، وذلك كما لو آل المرهون بعد القبض دينًا في ذمة متلفه، واختلفوا في جوازه في الابتداء على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يجوز رهن الدين مطلقًا، أي سواء كان من المرتهن، أو من غيره. وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، والأصح عند الحنابلة (¬4). ¬
دليل القائلين بأنه لا يجوز رهن الدين.
دليل القائلين بأنه لا يجوز رهن الدين. الدليل الأول: قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. وجه الدلالة: بأن الله تعالى وصف الرهبان لكونها مقبوضة، والصفة تقوم مقام الشرط، والدين لا يمكن قبضه، فلا يصح رهنه. ويجاب: بأن قبض كل شيء بحسبه، فقبض العقار: يكون بالتخلية، وقبض المنقول بالنقل، وقبض الدين يكون بقبض الوثيقة، أو بالإشهاد. الدليل الثاني: أن الدين غير مقدور على تسليمه، فلا يصح رهنه، كالطير في الهواء، والسمك في الماء. ويناقش: بأن الدين مقدور على تسليمه وقت حلوله، وقياسه على السمك في الماء، والطير في الهواء قياس مع الفارق. الدليل الثالث: أن فيه غررًا؛ لاحتمال أن يجحده المدين، والغرر يفسد العقود. ويناقش: بأن احتمال الجحود كاحتمال تلف العين المرهونة، فكما لا يقدح احتمال التلف في صحة رهن العين، لا يقدح احتمال الجحود في صحة رهن الدين، وقد قيدنا رهن الدين بالإشهاد، أو الوثيقة التي تثبت الدين، فانتفى احتمال الجحود.
القول الثاني
القول الثاني: يجوز رهن الدين مطلقا، أي سواء كان ممن هو عليه، أو من غير من هو عليه، وهذا مذهب المالكية (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2)، ورواية في مذهب الحنابلة (¬3). إلا أن المالكية اشترطوا في رهنه على من هو عليه: أن يكون أجل الدين (الرهن) مثل أجل الدين الذي فيه الرهن، أو أبعد منه؛ لئلا يؤدي إن كان الدين من قرض إلى: أسلفني وأسلفك. وإن كان الدين من بيع، إلى بيع وسلف، وهذا ممنوع. وإن كان رهن الدين لغير من هو عليه، فيشترط لصحته كتابة وثيقة ودفعها للمرتهن، فإن لم يكن هناك وثيقة اكتفى بالإشهاد ألا يقضيه غريمه حتى يصل المرتهن إلى حقه، وأنه إن فعل كان متعديًا، ويغرم الدين؛ لأنه أتلفه. دليل القائلين بجواز رهن الدين. الدليل الأول: لا يوجد دليل يمنع من رهن الدين، ولا يترتب على ذلك محذور شرعي يمنع من صحته، وقد ثبت ذلك من خلال مناقشة أدلة المانعين. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن الدين يجوز بيعه،، وما جاز بيعه جاز رهنه، وقد فصلنا الكلام على جواز بيع الدين في أحواله المختلفة، وإنما الممنوع منه بيع الدين بالدين، وهذا ليس منه. القول الثالث: يجوز رهن الدين ممن هو عليه فقط، وهو الوجه الجديد عند الشافعية (¬1)، ورواية عند الحنابلة (¬2). دليل من قال: يجوز رهن الدين على من هو عليه. هذا القول لدى الحنابلة مبني على اختيارهم في بيع الدين، وأن الدين يجوز بيعه فقط إذا كان على من هو عليه، فجاز عندهم رهنه على من هو عليه. ويناقش: بأن هناك صورًا يجوز فيها بيع الدين على غير من هو عليه إذا خلت من الربا، ومن الغرر، كما هو مذهب المالكية والشافعية، فليس جواز بيع الدين مقصورًا على بيعه على من هو عليه، فلتراجع. وإذا جاز رهن الدين، جاز رهن الأوراق التجارية، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث خصم الأوراق التجارية
الفرع الثالث خصم الأوراق التجارية [ن -223] خصم الأوراق التجارية: هو "تظهير الورقة التجارية التي لم يحل أجلها بعد إلى المصرف (البنك) تظهيرًا ناقلًا للملكية، في مقابل أن يعجل المصرف قيمتها للمظهر، بعد أن يخصم منها مبلغًا يتناسب مع الأجل الذي يحل عنده موعد استحقاقها" (¬1). فهو مصطلح اقتصادي جديد ربوي النشأة، ظهر في عصر المصارف العامة التي تعتمد الفوائد الربوبة في تعاملها، وتعتمد عليها تلك المصارف في استثمار أموالها، وتعتبرها الأكثر قبولًا. فهذه العملية تتم من خلال ما يلي: أولاً: يتقدم حامل الورقة التجارية (كمبيالة، أو سند إذني) إلى المصرف طالبًا منه خصمها. ثانيًا: يقوم المصرف بدفع قيمة الورقة التجارية المدون عليها بعد خصم الفائدة، وهي تختلف بحسب المدة الباقية من أجل الورقة، وعمولة المصرف، ونفقات التحصيل. ثالثًا: يقوم حامل الورقة بتظهير الورقة للمصرف، ويتقاضى منه المبلغ المتفق عليه. ¬
فائدتها
رابعًا: يعتبر حامل الورقة ضامنًا للوفاء بقيمة الورقة التجارية، بحيث يحق للمصرف الرجوع عليه، ومطالبته بها إذا امتنع المسحوب عليه. وبهذا يتبين أن عملية خصم الأوراق التجارية: أن يقوم طرف ثالث، لا شأن له بحقيقة الدين الموجود، هل كان ناشئًا عن قرض، أو عن بيع، أو عن أي عقد من عقود المعاوضات، فيستفيد من حاجة الدائن إلى السيولة، فيعطيه أقل مما له، وينتظر المدين حتى يدفع كامل قيمة الدين. فائدتها: يستفيد المظهر (العميل) من عملية الخصم: تعجيل قيمة الورقة التجارية الذي يرغب في خصمها، واستلام قيمتها في الحال، دون الانتظار إلى موعد الاستحقاق. وينتفع المصرف من عملية خصم الأوراق التجارية بأن المصرف يتقاضى مقابل قيامه بهذه العملية ما يسمى (بالآجيو) الذي يتكون من العناصر الآتية: الأول: الفائدة أو سعر الخصم. وتحسب عن المدة من تاريخ الخصم، حتى تاريخ استحقاق الورقة التجارية، ويتحدد سعر الفائدة على أساس سعر الخصم الذي يحدده البنك المركزي مع زيادة نسبة تتراوح بين 1 % و 2 % حتى يستطيع البنك التجاري أن يعيد خصم الأوراق التجارية لدى البنك المركزي عند الحاجة، وبذا يحقق البنك التجاري لنفسه ربحًا بمقدار هذا الفرق عند إعادة الخصم. وهذه الفائدة لا يجوز أخذها كما سيأتي إن شاء الله تعالى، سواء اعتبرنا الخصم بأنه قرض بفائدة، أو اعتبرناه بيع دين بدين.
الثاني: العمولة.
الثاني: العمولة. ويتقاضاها المصرف نظير الخدمة التي يقوم بها في عملية الخصم، لتغطية النفقات العامة للمصرف، ويتم تقديرها بالنظر إلى قيمة الورقة التجاوية، ومقدار الأجل المتبقي على موعد الدفع، ومقدار المخاطرة التي قد يتعرض لها المصرف (¬1). "ويختلف الحكم باختلاف وجود خدمة حقيقية أولًا، فإن كانت العمولة مقابل خدمة حقيقية يؤديها المصرف للعميل -واقتصر الأمر عليها دون أخذ فوائد- فإن أخذ العمولة حينئذ جائز؛ لأنها من قبيل الأجرة على عمل، وعلى هذا فلا بد أن يقابلها عمل حقيقي، وأن تكون مبلغًا مقطوعًا لا بالنسبة، وألا تتكرر إلا بتكرار الخدمة، أو العمل" (¬2). وإنما كان الواجب في العمولة أن تكون محددة بمبلغ مقطوع، وليس على أساس نسبي؛ لأن الجهد الذي يبذله المصرف في إعداد عقد القرض الذي تكون قيمته ألف وحدة نقدية، لا يختلف عن الجهد المبذول في إعداد عقد قيمته عشرة آلاف وحدة نقدية، أو أكثر، فالمعيار الذي يفصل بين العمولة كأجر، وأنها ليست ربا: - هو وجود خدمة فعلية. - تحديد مبلغ العمولة بشكل مقطوع، وليس نسبيًا. - عدم تكرارها (¬3). ¬
الثالث: المصاريف
أما إذا كانت العمولة لا يقابلها عمل حقيقي، فهي فائدة ربوية متسترة باسم العمولة، ولذلك فالقانون الفرنسي يعتبرها فائدة ما لم تكن مقابلة بخدمة للعميل المقترض، وكذا الشأن في القضاء المختلط في مصر (¬1). ونص القانون المدني السوري: "كل عمولة أو منفعة -أيا كان نوعها- اشترطها الدائن، إذا زادت هي والفائدة المتفق عليها على الحد الأقصى المتقدم ذكره تعتبر فائدة مستترة، وتكون قابلة للتخفيض، إذا ما ثبت أن هذه العمولة، أو المنفعة لا تقابلها خدمة حقيقية، يكون الدائن قد أداها, ولا منفعة مشروعة" (¬2). الثالث: المصاريف: وهي المبالغ التي ينفقها المصرف لتحصيل قيمة الورقة التجارية في موعدها، كمصاريف الاتصالات والبريد، وتختلف باختلاف مكان الوفاء، أو مكان المسحوب عليه. وهذه المبالغ التي يأخذها البنك إن كانت مقابل مصاريف حقيقية، فإن هذا جائز إذا اقتصر الأمر على ذلك دون أخذ الفائدة، وأما إذا كانت هذه المبالغ لا يقابلها مصاريف حقيقية، وإنما يقابلها القرض، فإنها حينئذ منفعة محرمة، وما قيل في العمولة يقال فيها (¬3). وبهذا نكون قد عرفنا الأوراق التجارية، وعرفنا عملية الخصم، وتوصيفها التوصيف الفقهي، وبقي من المباحث أن نعرف الحكم الفقهي لعملية خصم الأوراق التجارية. ¬
الفرع الرابع خصم الأوراق التجارية
الفرع الرابع خصم الأوراق التجارية [ن -224] إذا عرفنا فيما سبق الأوراق التجارية، وعرفنا عملية الخصم التي تتعرض له عن طريق التداول، والفائدة المرجوة من هذا الخصم، فما هو كلام الفقهاء في الحكم الفقهي في خصم هذه الأوراق. وللجواب على ذلك نقول: هذه المبالغ التي تضمنتها الأوراق التجارية من كمبيالة، أو سند إذني ونحوهما، لا تخرج عن قسمين: الأول: أن يتولى الخصم المصرف المدين بقيمة الكمبيالة. الثاني: أن يتولى الخصم غير المصرف المدين بقيمة الكمبيالة. ولكل قسم حكمه، ولذلك سوف نعرض لكل قسم في مبحث مستقل، ليتبين حكمه الفقهي، إن شاء الله تعالى.
المطلب الأول أن يتولى الخصم المصرف المدين بقيمة الكمبيالة
المطلب الأول أن يتولى الخصم المصرف المدين بقيمة الكمبيالة [ن - 225] يرجع حكم خصم الأوراق التجارية إذا تولاه المصرف المدين بقيمة الكمبيالة، إلى حكم مسألة قديمة تناولها الفقهاء بالبحث، واختلفوا فيها، وهي مسألة: الصلح عن المؤجل ببعضه حالًا، والمعروفة بقولهم: (ضع وتعجل)، ومن أجل أن نتعرف على الحكم بالتفصيل، نتناول خلاف الفقهاء في هذه المسألة. خلاف الفقهاء في مسألة الصلح عن الموجل ببعضه حالًا: [م - 1272] اختلف الفقهاء في مسألة الصلح عن المؤجل ببعضه حالًا على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يجوز الصلح عن المؤجل ببعضه حالًا. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والمشهور عند الحنابلة (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يجوز، وهو رواية عن أحمد، اختارها ابن تيمية، وابن القيم (¬1) القول الثالث: لا يجوز إلا في دين المكاتب، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). وقد سبق ذكر أدلة هذه المسألة في كتاب الربا، وبينت أن القول بالجواز أقوى دليلًا؛ لأن في منع الناس من هذا إضرارًا بهم فيما لا محذور فيه بينا، والأصل في معاملة الناس الحل حتى يتبين التحريم، والله أعلم. جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي: "الحطيطة من الدين المؤجل، لأجل تعجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين (ضع وتعجل) جائزة شرعًا، لا تدخل في الربا المحرم، إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق، وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية، فإذا دخل بينهم طرف ثالث لم تجز؛ لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية" (¬3). وإذا تبين أن مسألة ضع وتعجل الراجح فيها الجواز، كان خصم الكمبيالة على المصرف، إذا كان هو المدين، لا أرى فيه بأسًا، والله أعلم. وقد ذهب إلى القول بالجواز الشيخ المترك، قال رحمه الله: "إن كانت السندات ¬
التجارية على المصرف الخاصم، فإن هذه المعاملة تعتبر في حكم الصلح المؤجل ببعضة حالًا، وقد رجحنا جوازه فيما تقدم" (¬1). ويقول الشيخ مبارك آل سليمان: "إذا علم ما تقدم من جواز الصلح عن المؤجل ببعضه حالًا، تبين الحكم في خصم الكمبيالة إذا كان المصرف المدين بقيمة الكمبيالة هو الذي تولى الخصم، وهو الجواز، والأدلة على ذلك هي الأدلة على جواز الصلح عن المؤجل ببعضه حالًا" (¬2). ويقول الدكتور علاء الدين زعتري: "قد يكون الدائن والمدين فردًا مع شركة أو مؤسسة أو مع مصرف فهو جائز -يعني خصم الديون- فإذا كانت الأوراق التجارية مسحوبة على المصرف، وأراد المصرف التعجل في الدفع جاز، وكذا لو كانت الأوراق التجارية مسحوبة علم العميل , وأراد خصمها لدى المصرف الدائن, جاز. والحاجة إلى خصم الديون موجودة، فكثيرًا ما يعرض للإنسان حاجة، أو سفر، أو نحو ذلك، وله عند الناس أموال مؤجلة، فيطلب الدائن من المدين حقه قبل حلول الأجل، مقابل إسقاط جزء له من الدين، أو يكون المدين قد استدان المال لحاجته إليه، ثم زالت الحاجة والمال متوفر لديه، ويرغب في إبراء ذمته، فتكون هذه المعاملة من باب الصلح والإبراء والاسقاط، وهو جائز شرعاً" (¬3). ومع وضوح هذه المسألة، إلا أن هناك من رأى فرقًا بين خصم الكمبيالة على ¬
ويناقش
المصرف المدين، وبين مسألة ضع وتعجل: وممن ذهب إلى هذا الشيخ عبد الله الطيار (¬1)، والدكتور عبد الرزاق الهيتي (¬2). وقد علل الهيتي ذلك بقوله: "لأن مسألة (ضع وتعجل) عند القائلين بجوازها، نجد الدائن فيها، هو الذي يملي شروطه، ويعرض المقدار الذي يضعه من الدين، بينما ينعكس الأمر في عملية الخصم؛ لأن المدين (المصرف) هنا هو الذي يملي الشروط، ويحدد مقدار الخصم، ذلك لأن المبلغ المخصوم من هذه الورقة خاضع لحساب معروف في النظم المحاسبية، فالمصرف -وكما هو معروف- يأخذ في عملية الخصم فائدة معلومة عن مدة الانتظار، تزيد وتنقص حسب طول المدة وقصرها، وهذا يوضح بجلاء أن عملية الخصم في جوهرها، إنما هي عملية قرض بفائدة، فهي إذًا لم تكن محرمة لذاتها، كما يقول المذهب القائل بحرمة (ضع وتعجل) فهي محرمة؛ لأن المقصود منها هو التوصل إلى الربا" (¬3). ويناقش: ما صح في حق الدائن صح في حق المدين؛ لأنه أحد المتعاقدين. قال الشيخ مبارك آل سليمان: "لا فرق من جهة الحكم بين أن يملي المدين الشروط، أو يمليها الدائن؛ لأنه لا يعقل لذلك الفرق معنى يرتب عليه الشارع حكمًا، ومثل ذلك يقال فيما ذكره من أن المبلغ المخصوم يخضع لنظم محاسبية معروفة، تأخذ في اعتبارها طول المدة، أو قصرها؛ لأنه إذا جاز الخصم من حيث المبدأ، لم يؤثر في ذلك الطريقة التي يحسب بها، والله أعلم" (¬4). ¬
المطلب الثاني الخصم من مصرف ثالث غير مدين بالكمبيالة
المطلب الثاني الخصم من مصرف ثالث غير مدين بالكمبيالة [ن -226] انتهينا من الفصل السابق في كلام العلماء حول حكم مسألة خصم الأوراق، فيما إذا تولى الخصم نفس المصرف المدين بقيمة الكمبيالة، ونناقش هنا فيما إذا تولى الخصم طرف ثالث: وقد ذهب عامة العلماء إلى تحريم خصم الأوراق التجارية، إذا قام بها طرف ثالث، على خلاف في تخريج هذه العملية، وإليك تخريج القائلين بالتحريم، وبيان وجه المنع منها: التخريج الأول: تخريج خصم الأوراق التجارية على أنه بيع: جاء في مجلة مجمع الفقه الإِسلامي: "معظم العلماء المعاصرين خرجوا حكم الكمبيالة على أساس أنه بيع دين بنقد أقل منه" (¬1). وهذا ما أفتى به البنك الإسلامي الأردني (¬2). فحامل الأوراق التجارية من كمبيالة، ونحوها، يبيع الدين الثابت له فيها على أحد المصارف، بثمن حال، أقل من ثمنها، على أن يقبض المصرف قيمة الأوراق التجارية كاملة من المسحوب عليه في تاريخ الاستحقاق. ¬
تحريم خصم الأوراق التجارية بناء على هذا التخريج
فهي باختصار بيع دين بنقد أقل منه، على غير من هو عليه. فالبائع: حامل الكمبيالة (العميل). والمشتري: (المصرف). والمبيع: الدين الثابت بالكمبيالة. والثمن: النقد الذي يدفعه البنك للعميل. ويقول الشيخ عبد الله السعيدي: "وهذا التخريج يبدو وجيهًا، فإن الكمبيالة لا تخلو من دين لحاملها على موقعيها، وعلى هذا فإن خصمها لدى البنك، معناه رغبة حاملها الاعتياض عن الدين الثابت بها، بنقد من جنسه أقل منه، وهذه المعاوضة من قبيل بيع عاجل بآجل" (¬1). وبهذا التوصيف تكون علاقة هذا البيع في بيع ما ليس عند الإنسان علاقة ظاهرة؛ لأنها من قبيل بيع الديون. تحريم خصم الأوراق التجارية بناء على هذا التخريج: إذا اعتبرنا أن خصم الأوراق التجارية: هي من قبيل بيع الدين على غير من هو عليه، فلا تجوز مطلقًا على قول من يمنع بيع الدين على غير من هو عليه كالحنفية والحنابلة؛ سواء بيعت بثمن مساو، أم لا. وكذلك هي ممنوعة عند من يقول بجواز بيع الدين على غير من هو عليه؛ لأن بيع النقود بمثلها يجب فيه أمران: التقابض، والتماثل، وهنا تخلف الأمران، حيث وجد التأجيل، والتفاضل، فوقع في الربا بنوعيه: ربا الفضل وربا النسيئة. ¬
مناقشة هذا التخريج
يقول القاضي تقي الدين العثماني: حسم الكمبيالة بمبلغ أقل من مبلغها لا يجوز عند أحد من المذاهب الفقهية المعتبرة، فإنه بيع لنقد حال، بنقد مؤجل أقل منه، وهو في معنى الربا، وهو الذي انتهى إليه مجمع الفقه الإِسلامي في دورته السابعة، ونص قراره: "إن حسم الأوراق التجارية غير جائز شرعا؛ لأنه يؤول إلى ربا النسيئة المحرم" (¬1). وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية ما نصه: "ولا تصح أيضاً على سبيل بيع الدين لغير من هو عليه عند من يصححه؛ لأن العوضين من النقود، ولا يجوز بيع النقود بجنسها مع التفاضل، وعند اختلاف الجنس يجب التقابض" (¬2). ويقول الشيخ المترك رحمه الله: "إن قلنا: إن هذه العملية من باب بيع الدين على غير من هو عليه، فهو بيع غير صحيح حتى عند من يجيز بيع الدين على غير من هو عليه؛ لأن العوضين هنا من النقود، ولا يجوز بيع النقود بجنسها مع التفاضل، وعند اختلاف الجنس يجب التقابض، ومن شروط بيع الدين ألا يؤدي إلى محظور شرعي، ومن المحظورات اشتمال عقد البيع على الربا بنوعيه: التفاضل، أو النسأ، وهما متحققان فيما بينا من المثال؛ لأن الدين والثمن من الأموال الربوية، والمصرف يدفع قليلاً، ليقبض أكثر منه بعد مدة" (¬3). مناقشة هذا التخريج: لم يقبل بعض الباحثين تكييفها على أنها بيع دين بنقد أقل منه، وعلل ذلك ¬
التخريج الثاني: تخريج الخصم على أنه قرض بفائدة
بأن بيع الدين لغير من هو عليه، عند من يجيزه، يشترط في مثل هذا: التقابض، وعدم التفاضل. ويرد على هذا: لا مانع من توصيفها بأنها من قبيل بيع الدين لغير من هو عليه في صورته الممنوعة، وليس في صورته الجائزة؛ لأنه لا يلزم من توصيف المعاملة من الناحية الفقهية، أن تكون قد توفرت فيها شروط الإباحة. وفي هذا المعنى يقول الشيخ مبارك آل سليمان: "لا يصح أن يحكم الباحث على العقد مسبقًا بحل، أو حرمة، ثم يستبعد أي تخريج لا يوصل إلى هذا الحكم المسبق، وإنما الواجب أن يتجرد الباحث للحق، فيجتهد في إعطاء العقد المستجد الوصف الفقهي المناسب من حيث إلحاقه بأحد العقود المعروفة إن أمكن ذلك، ثم يحكم عليه بمقتضى ذلك تخريجًا عليه، بصرف النظر عما ينتج من ذلك من حل أو حرمة" (¬1). التخريج الثاني: تخريج الخصم على أنه قرض بفائدة: وقد اختار هذا القول جملة من الباحثين، منهم السنهوري، ونزيه حماد، والسالوس، وسامي حمود، وجمال الدين عوض، وحسن الأمين وغيرهم، على خلاف بينهم: هل هو قرض وحوالة، أو قرض وضمان. يقول الدكتور جمال الدين عوض: "الهدف هو القرض، والأسلوب: هو التظهير، والعمليتان مرتبطتان بحيث لا يمكن الوقوف عند إحداهما وحده" (¬2). ويقول الشيخ مبارك آل سليمان: "الأقرب بالنظر إلى مقاصد المتعاقدين: هو حمل خصم الكمبيالة على القرض ... أما حمله على بيع الدين لغير من هو ¬
عليه، فيرد عليه أنه قد لا يوجد دين على المسحوب عليه، وهذا يعني أن هذا الحمل، وإن كان يصدق في فرض، لكنه لا يصدق في فرض آخر، فهو قد يصدق إذا كان المسحوب عليه مدينًا لحامل الورقة، أما إذا كان غير مدين له، وهو ما يتصور لو أن المسحوب عليه لم يتلق بعد مقابل وفائها من الساحب, فإن ذلك لا يكون بيعًا؛ لأنه ليس ثمة دين يباع، إلا أنه لا يوجد ما يمنع من حمله على البيع من وجه آخر، وذلك بالنظر إلى مقصود المصرف من عملية الخصم، إذ مقصوده إعطاء نقود، والاعتياض عنها بنقود أكثر منها، وهذا حقيقة البيع، ولهذا قلت من قبل: إن طلب الزيادة على القرض يخرجه من عقود الإرفاق إلى عقود المعاوضة" (¬1). ويقول الدكتور سامي حمود: "فإذا انتقلنا إلى ميدان الفقه الإسلامي، الذي يعتد في نظرته للعقود بالمقاصد والمعاني، فإننا نجد، بأن الهدف في عملية الخصم: هو القرض، يبدو أنه أقرب الآراء للقبول من هذه الناحية، فالمصرف لم يقصد أن يكون مشتريًا للحق الثابت في الورقة، ولا أن يكون محالًا به، وإنما قصد الإقراض، فقبل انتقال ملكية الورقة المخصومة إليه، على سبيل الضمان، فإذا حل ميعاد استحقاقها, ولم يدفع أي من الملتزمين قيمتها، فإن المصرف يعود على الخاصم بالقيمة، وهو لا يكلف نفسه، أو لا يرغب أن يكلف نفسه بملاحقة الملتزمين حتى نهاية المطاف، كما هو حاصل عمليًا" (¬2). وهذا التوجيه جيد، إلا أنه يعكر عليه، كيف تكون الورقة المالية من قبيل الضمان، وقد انتقلت ملكيتها مباشرة للمصرف بمجرد التظهير؟ فهذا شأن البيع، وليس شأن الضمان، وسيأتي مزيد مناقشة لهذا، إن شاء الله تعالى. ¬
القول الأول
ويقول الدكتور حسن الأمين: "عملية الخصم هي على القول الراجح في تكييفها الشرعي من قبيل القرض بفائدة، وليست من قبيل حوالة الحق؛ لعدم تساوي الدين المحال به، والمحال عليه، وذلك شرط لصحة الحوالة. كما أنها ليست من قبيل بيع الدين الثابت بالأوراق المخصومة؛ لأن بيع الدين لغير من عليه الدين يلزم فيه التقابض وعدم التفاضل" (¬1). [ن -227] وإذا اعتبرنا المبلغ الذي أخذه بائع الكمبيالة قرضًا، فكيف نكيف الورقة المالية التي أخذها المصرف (المشتري)؟ اختلف أهل العلم في ذلك على قولين: القول الأول: إنها من قبيل الرهن. وإلى هذا ذهب السنهوري (¬2)، ورججه السالوس (¬3) , وأحمد بزيع الياسين (¬4) وغيرهم. ¬
والقول بأن الورقة التجارية رهن بالقرض لا يصح، إذا عرفنا أن المصرف المقرض يحق له حسمها لدى مصرف آخر، أو لدى البنك المركزي قبل حلول الأجل، وهذا يدل على أنه قد تملكها بالتظهير، وليست أمانة في يده، بينما الرهن أمانة في يد المرتهن، لا يحق له بيعه، ولا التصرف فيه، وإنما يجوز بيعه إذا حل الأجل، وتعذر الاستيفاء من صاحبه. القول الثاني: يعتبر الورقة من قبيل الحوالة. يقول القاضي: محمَّد تقي العثماني قاضي القسم الشرعي للمحكمة العليا بباكستان: "والذي يظهر لي أن حسم الكمبيالة ليس بيعًا في الحقيقة، وإنما هو إقراض، وحوالة، فالذي يحسم الكمبيالة يقرض حاملها مبلغًا، ثم يحيل المقترض إياه على مصدر الكمبيالة، والدليل على ذلك أن في قوانين معظم البلاد، لا يتحمل الحاسم خطر عدم التسديد، بل يحق له الرجوع على حامل الكمبيالة إذا لم يقع التسديد من مصدر الكمبيالة، وهذا شأن الحوالة على مذهب الحنفية. وعلى هذا، فما يعطيه حاسم الكمبيالة قرض أقرضه إلى حاملها، بشرط أن يحيله على مديونه بمبلغ أكثر منه، وهو ربا صراح؛ لأن الحوالة من صحة شرطها تساوي الدينين، وقد تحقق هنا بين مبلغ القرض والمبلغ المستوفى فيما بعد، زيادة في مقابل الأجل، وهو من ربا النسيئة" (¬1). ويقول الشيخ مبارك آل سليمان: "الخصم، وما يتصل به من تظهير، قرض بفائدة أولًا، ثم حوالة بالدين على المسحوب عليه ثانيًا، وهي حوالة غير صحيحة، ذلك أن الفائدة على القرض محرمة ... " (¬2). ¬
وذهب الشيخ نزيه حماد إلى توصيفها تارة بحسب شكلها، وتارة بحسب المقصود والغاية منها، فجعلها من قبيل بيع الدين على غير من هو عليه بالنظر إلى شكلها، وجعلها قرضًا بفائدة باعتبار المقصود والغاية منها، وهذا محاولة منه في الجمع بين التخريجين، وعملية خصم الورقة لا بد أن تكون إما هذا أو ذاك، لا أن تكون عقدين مختلقين، وإن كان بين الدين والقرض تشابهًا من جهة الشكل، إلا أن بينهما اختلافًا من جهة المقصود: فيجتمعان: أن في كل منهما مبادلة مال بمال على سبيل التمليك، ويختلفان بالمقصود: فالمقصود من القرض الإرفاق والإحسان إلا ما كان منه مشتملًا على ربا، والمقصود من البيع: المعاوضة، وطلب الربح. وعلى هذا فالراجح عند الشيخ نزيه أنه يراها قرضًا بفائدة، وليست من قبيل بيع دين بنقد (¬1). يقول الشيخ نزيه: "حسم الكمبيالات صورة من صور الإقراض بفائدة التي تقوم بها البنوك التقليدية، وهو عملية محظورة شرعًا؛ لابتنائها على قاعدة القرض الربوي، ولانطوائها بلا ريب على الربا، وهو محرم شرعًا، وذلك لأمرين: أحدهما: أننا لو أخذنا عملية خصم الكمبيالات على ظاهرها بحسب الشكل ¬
الذي أفرغت به فيه لوجدناها من قبيل بيع الدين لغير من عليه الدين، حيث يبيع صاحب الكمبيالة (الدائن) دينه المؤجل المسطور فيها لغير المدين بثمن معجل أقل من جنسه، وبيع الدين لغير من عليه الدين محظور مطلقًا عند أكثر الفقهاء، وجائز عند بعضهم إذا انتفى فيه الغرر والربا، غير أن الربا ليس بمنتف هاهنا، بل هو متحقق؛ لأن العوضين من النقود, وقد باع الدائن نقدًا آجلًا لغير المدين بنقد عاجل أقل منه من جنسه، فانطوى بيعه هذا على ربا الفضل والنساء، ومن هنا كان محظورًا باتفاق الفقهاء. والثاني: أننا لو نظرنا إلى عملية خصم الكمبيالات بحسب المقصود والغاية منها لوجدناها أحد أمرين: أ - إما إقراض مبلغ، وأخذ المقرض حوالة من المقترض بمبلغ أكثر منه، يستوفى بعد مدة معينة، وهو ربا صريح لا مجال للتأويل فيه؛ لأن الحوالة يشترط لصحتها التساوي بين الدين المحال به، والمحال عليه، وهنا تحقق بين الدين المحال به (وهو مبلغ القرض) والدين المحال عليه (وهو المبلغ الذي تثبته الكمبيالة) زيادة في مقابل الأجل، وذلك من ربا النسيئة. ب - وإما قرض مضمون بالورقة التجارية المظهرة لأمر المصرف تظهيرًا تامًا، إذ المصرف لم يقصد أن يكون مشتريًا للحق الثابت في الذمة، ولا أن يكون محالًا، وإنما قصد الإقراض، فقبل انتقال ملكية الورقة المخصومة إليه على سبيل الضمان، فإذا حل وقت استحقاقها, ولم يدفع أي من الملتزمين قيمتها، فإن المصرف يعود على الخاصم بالقيمة، دون أن يرغب أو يكلف نفسه مؤونة ملاحقة الملتزمين حتى نهاية المطاف، كما هو الحاصل عمليًا" (¬1). ¬
خلاصة الكلام السابق
خلاصة الكلام السابق: يتلخص مما سبق أن تخريج خصم الأوراق التجارية على اعتبارها قرضًا أن ذلك من قبيل القرض بفائدة، ويكون قبول الورقة التجارية إما باعتبارها من قبيل الرهن، وذلك لضمان الاستيفاء، أو من قبيل الحوالة الفاسدة، هذا ملخص ما نقلناه سابقًا، والله أعلم. تحريم خصم الأوراق التجارية بناء على هذا التخريج: إذا اعتبرنا خصم الأوراق التجارية أنها من قبيل القرض بفائدة، فإن عملية الخصم تكون محرمة بالإجماع، وذلك لأن المقرض إذا اشترط على المقترض أن يرد إليه أكثر مما أقرضه، فإنه يدخل في باب القرض الذي يجر نفعًا، وهو محرم بالإجماع. قال العيني: "وقد أجمع المسلمون نقلًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اشتراط الزيادة في السلف ربا" (¬1). قال ابن عبد البر: "وكل زيادة من عين أو منفعة يشترطها المسلف على المستسلف فهي ربا، لا خلاف في ذلك" (¬2). وقال ابن المنذر: "أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف هدية، أو زيادة، فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة ربا" (¬3). وقال ابن تيمية: "وقد اتفق العلماء على أن المقرض متى اشترط زيادة على قرضه كان ذلك حرامًا" (¬4). ¬
القول الثاني: تخريج من قال: بإباحة عملية خصم الأوراق التجارية.
ونكون بهذا قد انتهينا من قضية تخريج خصم الأوراق التجارية عند من قال بتحريم هذه المعاملة، والراجح عندي، والله أعلم أنها من قبيل بيع الديون أي: بيع الدين المؤجل بنقد أقل منه. وأنه قد جمع بين ربا الفضل، وربا النسيئة. القول الثاني: تخريج من قال: بإباحة عملية خصم الأوراق التجارية. حاول بعض الباحثين تخريج عملية خصم الأوراق التجارية على بعض المعاملات الشرعية السائغة، وبالتالي يكون بالإمكان جعل عملية خصم الأوراق التجارية من المعاملات السائغة، ومن هؤلاء الدكتور مصطفى الهمشري، والدكتور علي عبد الرسول، وهو خلاف ما ذهب إليه عامة الباحثين، والفقهاء المعاصرين، وإليك بعض تخريجاتهم. التخريج الأول: على أن عملية الخصم مركبة من قرض بضمان، وتوكيل بالأجر. يقول الدكتور الهمشري: "هذا التخريج قائم على أساس أن علمية الخصم عملية مركبة من شيئين: 1 - قرض بضمان الأوراق التجارية. 2 - توكيل بالأجر من العميل للبنك، لاستيفاء قيمة هذا الدين، ويخصم قيمة الأجر مقدمًا من القرض المضمون الذي يسحبه العميل من البنك. والعملية بهذا التصور ليس فيها بيع يؤدي إلى محظور شرعي، ويساعدنا في هذا التخريج جواز أخذ البنك في عملية القرض النفقة والمؤونة، والإِسلام يقر القرض بضمان، كما يقر الوكالة بأجر، وبهذا تكون عملية الخصم من الممكن اعتبارها حلالا شرعًا، ويوزع ما يؤخذ على الخصم باسم (الأجيو) على نفقة القرض، الذي أخذه العميل بضمان الورقة التجارية، وعلى مصاريف
وأما الجواب عن دعوى التوكيل بأجر، فيقال
التحصيل، كالانتقال، وإرسال الإخطارات، وعلى أجر الوكالة لاستيفاء المبلغ، وتوضيح ذلك أن (الأجيو) كون من ثلاثة عناصر، كما سبق، وهي الفائدة، العمولة، والمصروفات، وفي تخريجنا هذا سيحصل البنك على عائد يتكون من ثلاثة أشياء: نفقة القرض، أجر الوكالة، مصاريف التحصيل" (¬1). وقد ناقشت قضية: كون القرض بضمان، فيما سبق من دعوى أن الورقة المالية هي رهن في يد المصرف. وأما الجواب عن دعوى التوكيل بأجر، فيقال: أولاً: دعوى الوكالة تتنافي مع حقيقة التظهير، وذلك أن تظهير الأوراق التجارية للمصرف ينقل ملكيتها له (¬2)، ولذلك من حق المصرف أن يتصرف في الورقة التجارية وذلك بإعادة الخصم لدى مصرف آخر، أو لدى البنك المركزي، ونقل الملكية ينافي دعوى الوكالة، وذلك أن الوكيل نائب عن الموكل. ثانيًا: أن عملية الخصم مكونة من ثلاثة عناصر: وهي الفائدة، والعمولة، والمصروفات، ومعلوم أن الفائدة ربا محرم، قال الهمشري: "وفي تخريجنا: سيحصل البنك على عائد يتكون من ثلاثة أشياء: نفقة القرض، وأجر الوكالة، ومصاريف التحصيل". ¬
فهل كان الحل يتوقف فقط على المسميات، بحيث إذا غيرنا الاسم أصبح الحرام حلالًا، وعلى التنزل فإن تخريجه هذا لم ينقل المعاملة إلى الحل؛ لأن ما سماه نفقة القرض، ماذا يقصد بها، إن كان يقصد بذلك، أن هذا في مقابل القرض، كان ذلك من الربا الصريح المجمع على تحريمه، وإن كان مقصوده النفقات التي تدفع في مقابل الخدمات الحقيقية التي يقدمها البنك، لإجراء عملية الخصم، فإن هذه النفقات، قد أخذت في مقابل ما سماه مصاريف التحصيل، وأجر الوكالة، وتبقى النفقة الزائدة على ذلك، والتي لا يوجد ما يبررها، سوى أنها فائدة على القرض. ثالثًا: قوله: الإِسلام يقر القرض بضمان، كما يقر الوكالة بأجر. فالجواب عنه: لا يلزم من جواز هذه المعاملة على انفراد، أن تكون جائزة مجتمعة، فقد ثبت النهي عن الجمع بين سلف وبيع، مع أن السلف جائز وحده، والبيع جائز وحده. (ح -884) وروى أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬1). [إسناده حسن] (¬2). وفي عملية الخصم: جمع بين عقد تبرع (القرض) وعقد معاوضة (الوكالة بأجرة)، وفي هذا ذريعة لاستباحة الزيادة على القرض. ¬
التخريج الثاني لمن قال: بالإباحة
التخريج الثاني لمن قال: بالإباحة: التخريج باعتبار الخصم على أنه تنازل على سبيل الإبراء والإسقاط (ضع وتعجل). وهو تخريج ذكره الهمشري، ومال إليه، وذكر أنه يتفق مع الروح الإِسلامية، وفي هذا يقول: "يعتمد هذا التخريج على جواز أخذ أقل من قيمة ما يستحق بعقد المداينة، ويكون الفرق متنازلًا عنه على سبيل الإبراء، والإسقاط". ثم يؤيد هذا التخريج بقوله: "وفي كتب الفقه أمثلة على ذلك، منها الصلح على ما استحق بعقد المداينة، مثل بيع النسيئة، ومثل الإقراض، أخذ لبعض حقه، وإسقاط الباقي، وصورته: رجل له على آخر ألف درهم، فصالحه عنها على خمسمائة جاز، ويجعل مستوفيًا لنصف حقه، ومبرئًا له عن النصف الآخر، لا معاوضة؛ لأنه يكون ربا، وتصحيح تصرف المسلم واجب ما أمكن، وقد أمكن بما ذكرنا. فالتنازل على سبيل المعاوضة حرام، وعلى سبيل الهبة والابراء صحيح، ومباح، فلم لا نجوز عملية الخصم بناء على هذا التصوير؟ ونكون بذلك صححنا تصرفًا شائعًا، بدلًا من تحريمه، ما دام في فقهنا فسحة، ويكون العميل عندما يقدم الكمبيالة للخصم قد رضي بأخذ أقل من القيمة الأصلية المدونة فيها، وتنازل عن الباقي على سبيل الإبراء والإسقاط، لا المعاوضة، ومظاهر الإبراء ظاهرة، فالعميل هو الذي يذهب إلى البنك باختياره، ويطالب بنفسه، وبهذا تكون عملية الخصم لا ربا فيها، قال: وأميل إلى هذا التخريج إذا عدلت صيغ بنود (الأجيو) وعندئذ لا أجد في نفسي حرجًا في قبوله" (¬1). ¬
ولا يصح هذا التخريج من ثلاثة وجوه
وهذا التخريج: هو عين مسألة ضع وتعجل، فيتعجل بعض حقه، ويضع البعض الآخر، على سبيل الإبراء، والإسقاط. ولا يصح هذا التخريج من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: تخريج الخصم على أنه من باب التنازل على سبيل الإبراء والإسقاط لا يصح، وذلك لأن ذمة المصرف غير مشغولة بقيمة الكمبيالة، فهو ليس مدينًا بها، فكيف يبرأ من شيء لم يثبت في ذمته أصلًا، وإذا لم يكن البنك مدينًا لطالب الخصم، فإنه يصدق عليه أنه زاد في مقابل التأجيل، لا أنه وضع في مقابل التعجيل، فالمصرف قد أقرض طالب الخصم نقدًا ليسترد أكثر منه عند حلول أجل الورقة، فهي زيادة في مقابل التأجيل. الوجه الثاني: أن حامل الورقة لم يكن تنازله على سبيل الإسقاط والهبة، وإنما كان ذلك بشرط أن يقوم المصرف بإقراضه جزءًا من قيمتها، كما أن الإسقاط، والإبراء ليس متروكًا لاختيار المظهر، فإن شاء تركها للمصرف، وإن شاء أخذها، بل إن المصرف وهو المقرض يشترطها، وبهذا تكون معاملته على سبيل المعاوضة، وليس من قبيل الإسقاط والإبراء، وهذا لا يجوز. الوجه الثالث: أن من أجاز علمية (ضع وتعجل) نظر إلى النفع الذي يلحق المدين من براءة ذمته، وإلى النفع الذي يلحق الدائن بتعجيل حقه، أما في عملية الخصم، فالأمر مختلف؛ لأن المدين لا يزال مدينًا لم تبرأ ذمته، ولم يجن نفعًا، بل تعاقب عليه دائن آخر، وهو المصرف.
التخريج الثالث لمن قال بالإباحة
التخريج الثالث لمن قال بالإباحة: التخريج باعتبار الخصم على أنه قرض، وجعالة. قرض من المصرف لحامل الكمبيالة، وجعالة على تحصيل قيمة الكمبيالة. يقول الدكتور علي عبد الرسول: إن الفقهاء يرون أن خصم الكمبيالة يكون حلالًا، إذا اتخذ صورة أخرى، وهو أن يحصل الدائن على قيمة الكمبيالة من البنك كقرض بلا فائدة، منقوص منه مبلغ يستحقه البنك كعمولة، أو جعالة، نظير التحصيل، وذلك على الصورة الشرعية الآتية: يقدم الدائن الكمبيالة بدينه المؤجل لشخص آخر (وقد يكون بنكًا) يتفق معه على مبلغ يتركه من الدين جعلًا له على التحصيل، ويأخذ منه باقي الدين قرضًا بلا فائدة، وعند حلول الأجل يحصله ذلك الشخص لحساب الدائن، ويأخذه سدادًا لدينه، وللجعل الذي التزمه له الدائن. وله اتخاذ جميع الإجراءات التي تكفل سداد الدين على حساب الدائن، فإن تعذر تحصيل الدين حتى بالإجراءات القانونية، كأن أفلس المدين عاد ذلك الشخص على الدائن بقيمة القرض فقط، ولم يستحق الجعل، وعلى هذا النظام يكون القطع على الكمبيالة جائزًا شرعًا إذ مرجعه إلى أنه تحصيل للدين نظير جعل على التحصيل، مع دفع باقي الدين قرضًا بلا فائدة، ولا شيء غير ذلك، فهو جائز شرعًا. فقد قال شارح متن خليل في فقه المالكية ما نصه: "والمجاعلة على اقتضاء الدين بجزء مما يقتضيه، منعها أشهب، والأظهر جوازها" (¬1)، وفيه أيضًا "ولم ¬
وقد تعقب بما يلي
يختلف قول مالك - رضي الله عنه - في الرجل يكون له على الرجل مائة دينار، فيقول لآخر: ما اقتضيت من شيء من ديني، فلك نصفه" (¬1). فيكون القطع على الكمبيالة على هذا النظام جائزًا على مذهب مالك - رضي الله عنه -. فعلينا إذن أن نعطي حسم الكمبيالة صورته، وحقيقتة المقبولة شرعًا، فنعتبره تركًا لبعض الدين، لمن يحصله، جعلًا له على التحصيل، ولا يقتضي ذلك إلا تعديلًا طفيفًا فيما نوى في النظام الحالي، يتلخص في عدم تحميل العميل بأية مبالغ إذا لم يتم تحصيل الكمبيالة، بحيث لا يعود البنك على العميل في هذه الحالة إلا بمقدار ما قبضه منه فعلًا، وأما تحديد الجعل فلا يختلف الأمر، فالجعل الذي يخصم، ويستحق للبنك، لا بد وأن يتحدد عملًا على أساس مقدار الدين ومدته (¬2). وقد تعقب بما يلي: أولًا: تسمية ما يأخذه المصرف جعلًا تغيير في الأسماء فقط، يدل لذلك ما ذكره الباحث من أن الجعل لا بد أن يتحدد على أساس مدة القرض، إذ ذلك شأن الفائدة، لا الجعل؛ لأنه لا أثر لطول المدة التي تفصل بين التوكيل بتحصيل الكمبيالة، وبين مباشرة التحصيل على مقدار الجعل؛ لأن مباشرة التحصيل لن تكون إلا في تاريخ الاستحقاق، فلا أثر للمدة التي تسبق ذلك، ¬
التخريج الرابع لمن قال بالإباحة
طالت المدة، أو قصرت، فدل ذلك على أن المأخوذ في الاعتبار هو مدة القرض، وأن الجعل في حقيقته، ما هو إلا الفائدة على القرض. ثانيًا: من المعلوم أن الجعالة من العقود الجائزة، وليست اللازمة، ومعنى ذلك، أنه يجوز للجاعل أن يفسخ العقد قبل أن يبدأ العامل بالعمل، فإذا عرفنا أن المصرف لا يبدأ في مباشرة العمل إلا في تاريخ الاستحقاق، فهل سيقبل المصرف عدول مظهر الورقة عن العقد قبل تاريخ الاستحقاق، وهو الذي ما أقرضه أصلًا، إلا طمعًا في الجعل؟ ثالثًا: ما ذكره المالكية ليس فيه أنهم جمعوا بين قرض وجعالة، حتى يمكن الاستشهاد به، وإنما ذكروا أن العامل الذي يحصل الدين يأخذ الجعل مما يقتضيه، وليس فيه أنه أقرض الجاعل شيئًا، فهو ينطبق تماما لو كان العقد يقتصر على تحصيل الكمبيالة فقط دون الخصم، وكون الجعل يحدد بجزء مما يقتضيه من الدين، ليس هو محل الإشكال، حتى يكون الاستشهاد به في كلام المالكية، وإنما الإشكال في الجمع بين القرض والجعالة، وهو الذي ليس في كلام المالكية ما يصلح مستمسكًا للاحتجاج به على قضيتنا (¬1). التخريج الرابع لمن قال بالإباحة: تخريج الخصم على أنه حوالة، أو استيفاء بأجر. ذكر ذلك الهمشري، ورده، وفي ذلك يقول: "لم لا نعتبر عملية الخصم عملية استيفاء بأجر، وهو أحد مفهومات الحوالة، ونعتبر الأجر ما اصطلح البنك على تسميته بـ (الأجيو) (¬2) ". ¬
ودعم هذا بفتوى للشيخ محمَّد رشيد رضا، حيث ورد على الشيخ سؤال عن حكم بيع الدين إلى بعض البنوك أو غيرها بأحد النقدين أو الأوراق المالية. فكان في الفتوى: " ... ولمن احتاج إلى ذلك أن يأخذ ما يأخذ من البنك أو غيره على أنه دين، يحوله بقيمته على مدينه، أو بأكثر منه، ويجعل الزيادة أجرة، أو ما شاء ... " (¬1). ومع ذلك فقد رد الهمشري نفسه على الشيخ محمَّد رشيد رضا, ولم ير هذا التخريج يقوى على إباحة عملية الخصم، وفي ذلك يقول ردًا على محمَّد رشيد رضا: "إن هذه الفتوى لا تقوى على إباحة عملية الخصم بصورتها الراهنة، حيث إنه قد سبق أن البنك يخصم من العميل ثلاثة أشياء: أ -الفائدة. 2 - العمولة (الأجر). 3 - المصاريف. فالعمولة: وهي الأجر، من الممكن إجازتها، وكذا المصاريف؛ لأن كلًا منها مقابل خدمات حقيقية قدمها البنك , فالعمولة مقابل فتح الحساب، ومسكه، والمصاريف مقابل ما أنفقه، وتكبده , وهذا يتفق مع الإسلام وسماحته، وما نادت به الفتوى، ويبقى بعد ذلك حكم الفائدة , فكيف نستسيغها؟ وعلى أي تأويل نخرجها؟ وهذا ما أغفلته الفتوى، حيث إن الإجاية لم تتعمق في فهم ما يؤخد عند بيع الدين، أو خصمه، وبهذا اقتصرت الفتوى عند الإجابة على تغطيه ما يؤخذ عند بيع الدين، أو استيفائه كأجر، ولم تتناول الفائدة، اللهم إلا إذا أدمجت الفائدة مع العمولة، وأصبح الكل أجرًا، وبالطبع لا يمكن أن نتصور ذلك؛ لأن العرف ¬
والقانون يأبيان إدماج الفائدة مع العمولة في بند واحد؛ لأن كلًا منهما يحدد بنسبة معينة، مما يفهم منه انفصال الفائدة عن العمولة. وبناء على ما تقدم، فالعملية بصورتها الراهنة لا يقوى هذا التخريج على إباحتها، وإن أباحت الفتوى هذا التصرف، فذلك لأنها قصرت في فهم طبيعة التعامل، أو على اعتبار إدماج الفائدة والعمولة، واعتبارهما كأجر، وقد ثبت أنهما منفصلان" (¬1). كما أن الشيخ مبارك آل سليمان تعقبه بأمر آخر: وفي ذلك يقول: "فهم الباحث مما ذكره بعض الفقهاء، من أن الحوالة تتضمن معنى الاستيفاء، أن المراد بذلك استيفاء المحال دينه من المحال عليه، وليس كذلك، إذ لو كان الأمر كذلك، لكان ذلك توكيلًا من المدين لدائنه في قبض الدين من المحال عليه، واستيفاء دينه من ذلك، وليس حوالة تبرأ بها ذمة المحيل، ولهذا قلت: إن هذا التخريج -يعني تخريج الخصم على أنه حوالة، أو استيفاء بأجر- يرجع إلى التخريج السابق -يعني: تخريج الخصم على أنه قرض بضمان، ووكالة بأجر- والصواب في معنى تضمن الحوالة للاستيفاء، أن المراد بذلك أن المحال بقبوله الحوالة، يكون قد استوفى دينه من المحيل حكمًا، بدليل أن المحيل تبرأ ذمته من الدين بمجرد الحوالة، بحيث لا يرجع عليه المحال بحال، ولهذا اعتبر الفقهاء الحوالة قبضًا، يوضح ذلك أنه بمجرد الحوالة لم يحصل استيفاء من المحال عليه حقيقة، فلو كان المراد ما فهمه الباحث، ما صح القول بأن الحوالة في حقيقتها استيفاء" (¬2). ¬
التخريج الخامس لمن قال: بالإباحة.
التخريج الخامس لمن قال: بالإباحة. تخريج الخصم على أنه تبادل بين القيمة الاسمية والقيمة الحالية. وهو رأي ذكره الدكتور محمَّد مصلح الدين، ونسبه إلى خبراء البنوك، دون أن يسميهم، يقول الدكتور: "والخصم في الواقع: هو الفرق بين القيمة الاسمية للكمبيالة، وقيمتها الحالية، ففي هذه الصفقة تستبدل القيمة الاسمية للكمبيالة بالقيمة الحالية، فهو بهذا تبادل بين قيمتين نقديتين، ولهذا كانت صفقات الخصم: عبارة عن صفقات بيع، فإن يقدم الكمبيالة للبنك، لصرفها نقدًا، عليه أن يقبل ما هو أقل من قيمتها الاسمية، والزيادة التي يكسبها البنك: هي بلا شك عن ربا , ولكنه يتعلق بصفقات بيع، لهذا فهو ربا فضل، يصبح طبقًا لرأي ابن القيم مباحًا بسبب حاجات الجمهور ... وبناء على رأي ابن القيم يؤكد خبراء البنوك أن الخصم بما أنه صفقة بيع، لا يمكن أن يندرج تحت تعريف الربا من نوع النسيئة، وهو المحرم قطعًا بنص القرآن، وعلاوة على ذلك هم يشيرون إلى حالة العرايا ... والتي أباحها النبي في حالة حاجة الناس، للحصول على الرطب .. وعلى هذا القياس يقول هؤلاء الخبراء: إن استبدال القيم النقدية كما هو في حالة الذهب والفضة، يجب أن يسمح به، فما ينطبق ويصح على حالة التمر، يجب أن يسري أيضاً لنفس السبب، استجابة لحاجة الناس في حالة الأشياء المماثلة من نفس النوع، مثل الذهب والفضة، اللذين لهما قيم نقدية، وبهذه ¬
ويناقش هذا التخريج
الطريقة فهم يعتقدون أن استبدال القيمة الاسمية للكمبيالة بالقيمة الحالية لها مسموح به ... وزيادة على ذلك فهم يشيرون إلى كلمة نسيئة التي تعني التأخير الممنوح للمدين، ويذكرون أن علة الحكم، أو السبب الذي من أجله حرم الربا تكمن في النسيئة؛ لأن التأخير قد منح للمدين نظير زيادة في المبلغ المقرض، وكما لاحظ ابن القيم، فإنه أعطى فرصة للدائن للاستمرار في زيادة مبلغه حتى وصل مبلغ المائة إلى الآلاف، وكانت النتيجة أن المدين قد مني كلية بالحرب، ويقولون: إن هذا لا يحدث في الخصم" (¬1). ويناقش هذا التخريج: أولًا: القول بأن خصم الأوراق هو تبادل بين قيمتين: الاسمية والحالية، يتوجه سؤال؟ هذه المبادلة على سبيل التمليك لا تخرج، إما أن تكون بيعًا، أو تكون قرضًا, ولا يمكن تصور غير هذا، فإن كانت بيعًا، كان من قبيل بيع نقد آجل بنقد عاجل أقل منه، فيجتمع بذلك ربا الفضل وربا النسيئة. وإن كانت على سبيل القرض، فلا يجوز للمقرض أن يشترط زيادة على قرضه، وقد نقلت الإجماع على تحريمه. ثانيًا: القياس على العرايا قياس غير صحيح، وذلك أن من شرط القياس عند كثير من العلماء، أن لا يكون الأصل المقيس عليه مستثنى من القياس، فالقاعدة: عدم جواز العرايا, ولكنها أبيحت استثناء من الأصل، فلا يصح القياس عليها، وهي مستثناة من القاعدة، وقياس القيم النقدية (الذهب والفضة) على العرايا، وهو ما عبر عنه بحالة التمر قياس غير صحيح، وذلك أن الذهب ¬
الراجح في عملية خصم الأوراق التجارية
والفضة كانت موجودة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا يتعاملون بالدراهم والدنانير، ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في استبدال الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة مع التفاضل عند قيام الحاجة، فلو أخذ هذا المبدأ، وهو إباحة الربا عند قيام الحاجة لادعى كل متعامل بالربا حاجته إليه. الراجح في عملية خصم الأوراق التجارية: الذي أذهب إليه أن عملية الخصم هي من باب بيع الدين على غير من هو عليه، ولا يصح أن توصف بأنها قرض؛ لأن القرض إذا قصد به التكسب خرج من القرض إلى المعاوضة، وهذا شأن البيوع. وإذا كانت عملية الخصم من باب بيع الدين على غير من هو عليه فإن كانت تتم عن طريق المصارف فهي محرمة شرعًا لاشتمالها على الربا؛ لأن الخصم سيكون عن طريق دفع نقد أقل ليأخذ نقدًا أكثر، وهذا محرم؛ لأنه يجمع بين ربا الفضل وريا النسيئة. وإن تمت عملية الخصم خارج المصرف، فإنه يمكن لنا أن نضع من الشروط ما يحمي هذه المعاملة من الوقوع في الربا: من ذلك: (أ) ألا يبيع الكمبيالة بنقد مطلقًا، بل يجب أن يكون الثمن عرضًا حتى لا يكون بين الثمن والمثمن أي من ربا الفضل أو ربا النسيئة. (ب) أن يتعين الثمن حتى لا يكون البيع من باب بيع الدين بالدين. بهذين الشرطين لا أرى أي محذور في خصم الأوراق التجارية، والله أعلم.
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد الرابع عشر
(ح) دبيان بن محمَّد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمَّد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة / دبيان محمَّد الدبيان - الرياض، 1432 هـ 504 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجموعة) ج 14 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ. العنوان ديوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (14)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فهذا هو المجلد الرابع عشر والخامس عشر من المعاملات المالية، وقد خصصته لعقود الشركة والمضاربة، ومنها عقدا المساقاة والمزارعة، وإن كان الراجح في عقود الشركة أنها ليست من عقود المعاوضات عند جماهير العلماء خلافًا للمالكية إلا أن عقد الشركة لما كان فيه شوب معاوضة، وكنت قد درست في المجلد السابق شركات المساهمة ضمن أحكام سوق المال، والمعاملات المصرفية رأيت أن أختم هذه العقود باستكمال عقود الشركة، وإلحاق عقود الشركة في الفقه الإِسلامي بشركة المساهمة وبهذا أكون قد انتهيت من عقود المعاوضات، ولله الحمد. وقد انتظم بحث عقود الشركة في الخطة التالية: تمهيد: المبحث الأول: في تعريف الشركة وبيان مشروعيتها. المبحث الثاني: في حكم الشركة على سبيل العموم. المبحث الثالث: أنواع الشركة بمعناها العام. المبحث الرابع: في الوصف الفقهي للشركة. الفرع الأول: عقود الشركة من العقود الجائزة. الفرع الثاني: عقد الشركة بين عقود المعاوضات. الباب الأول: في أركان الشركة.
الفصل الأول: في شروط الشركة المتعلقة بالصيغة. المبحث الأول: في انعقاد الشركة بالمعاطاة. المبحث الثاني: في تعليق انعقاد الشركة. الفصل الثاني: في شروط الشركة العامة المتعلقة بالعاقد. المبحث الأول: في اشتراط توفر الأهلية في العاقدين. الفرع الأول: في اشتراط إسلام الشريك. الفرع الثاني: في عقد الشركة على الأشياء المباحة. الباب الثاني: في شركة الأموال. الفصل الأول: في شركة العنان. المبحث الأول: في شركة العنان وبيان خصائصها. المبحث الثاني: في حكم شركة العنان. الفصل الثاني: في شركة المفاوضة. المبحث الأول: في تعريف شركة المفاوضة. المبحث الثاني: في اشتراط لفظ المفاوضة في الصيغة. المبحث الثالث: في حكم شركة المفاوضة. المبحث الرابع: في شروط شركة الأموال. الفرع الأول: في الشروط المتفق عليها. الفرع الثاني: في الشروط المختلف فيها. الشرط الأول: في اشتراط أن يكون رأس المال من النقدين.
المسألة الأولى: في كون رأس مال الشركة من الفلوس. المسألة الثانية: الشركة في العروض. المسألة الثالثة: الشركة في الذهب والفضة غير المضروبة. الشرط الثاني: في اشتراط خلط المالين. مطلب: الشركة بالمال المشاع. الشرط الثالث: في اشتراط أن يكون رأس المال عينا لا دينًا. الشرط الرابع: في اشترط تجانس مال الشركة. الشرط الخامس: العلم بمقدار رأس مال الشركة. الشرط السادس: في اشتراط العمل في شركة العنان علي أحد المتعاقدين. الشرط السابع: في اشتراط التساوي في رأس المال. المبحث الخامس: في الربح والوضيعة في شركة العنان. المبحث السادس: في اشتراط توقيت الشركة. المبحث السابع: في تصرفات الشريك. الفرع الأول: في التبرع من مال الشركة. الفرع الثاني: في خلط مال الشركة بماله الخاص. الفرع الثالث: في توكيل الشريك رجلا أجنبيا. الفرع الرابع: في استئجار الشريك من يعمل معه. الفرع الخامس: في إيداع الشريك مال الشركة. الفرع السادس: في السفر في مال الشركة.
الفرع السابع: في حق الشريك في الإقالة. الفرع الثامن: في الرد بالعيب. الفرع التاسع: في حق الشريك في دفع المال إلى أجني مضاربة. الفرع العاشر: في إقرار الشريك بدين على الشركة. الفرع الحادي عشر: في تصرفات الشريك في مال الشركة. المسألة الأولي: في بيع الشريك بغبن فاحش. المسألة الثانية: في بيع الشريك بالدين. المسألة الثالثة: في شراء الشريك بالدين. المسألة الرابعة: تصرف الشريك في الرهن والارتهان. المسألة الخامسة: في إبضاع الشريك. الباب الثالث: في شركة الأعمال (الأبدان). توطئه: في تعريف شركة الأعمال. الفصل الأول: في مشروعية شركة الأبدان. الفصل الثاني: التوصيف الفقهي لعقد شركة الأعمال. الفصل الثالث: في انقسام شركة الأعمال. المبحث الأول: في انقسام شركة الأبدان إلى تقبل الأعمال وتملك المباحات. المبحث الثاني: في انقسام شركة الأعمال إلى عنان ومفاوضة. الفصل الرابع: في شروط شركة الأعمال. الشرط الأول: كون محل الشركة عملًا.
المبحث الأول: في دفع الدابة إلى من يعمل بها بجزء من كسبها. المبحث الثاني: لا يشترط إتقان العمل من الشريك. الشرط الثاني: أن يكون العمل المشترك يمكن استحقاقه بعقد الإجارة. مبحث: في شركة الدلالين. الشرط الثالث: في اتحاد العمل والمكان في شركة الأعمال. الشرط الرابع: أن يكون نصيب كل واحد من الشركاء معلومًا شائعًا. مبحث: إذا عمل أحد الشريكين دون الآخر. الفصل الخامس: في ضمان الشريك في شركة الأعمال. الفصل السادس: في كيفية اقتسام الربح في شركة الأعمال. مبحث: في تحمل الخسارة في شركة الأعمال. الفصل السابع: في موت أحد الشريكين. الباب الرابع: في شركة الوجوه. الفصل الأول: في تعريف شركة الوجوه. الفصل الثاني: في صور شركة الوجوه. الفصل الثالث: في حكم شركة الوجوه. الفصل الرابع: في أركان شركة الوجوه. الفصل الخامس: في شروط شركة الوجوه. الفصل السادس: في تقاسم الأرباح والخسائر في شركة الوجوه. المبحث الأول: في تقاسم الأرباح.
المبحث الثاني: في طريقة تحمل الخسائر في شركة الوجوه. الباب الخامس: في عقد المضاربة (القراض). توطئة: في تعريف المضاربة. الفصل الأول: في توصيف عقد المضاربة. الفصل الثاني: المضاربة على وفق القياس. الفصل الثالث: في حكم عقد الضاربة. الفصل الرابع: في أركان عقد المضاربة. المبحث الأول: في أحكام الصيغة. المبحث الثاني: انعقاد المضاربة بالمعاطاة. المبحث الثالث: في توقيت الإيجاب والقبول في عقد المضاربة. المبحث الرابع: في تعليق صيغة عقد المضاربة. الفصل الخامس: في شروط عقد المضاربة. المبحث الأول: الشروط الخاصة برأس المال. الشرط الأول: في اشتراط أن يكون رأس المال من النقود. الفرع الأول: في المضاربة بالعروض. الفرع الثاني: في المضاربة بالتبر والنقار والحلي. الفرع الثالث: في المضاربة بالفلوس. الشرط الثاني: أن يكون رأس المال معلومًا للعاقدين. الشرط الثالث: أن يكون رأس المال معينًا.
المبحث الأول: أن يقارضه على دراهم غير معينة. الفرع الأول: أن يكون مال المضاربة دينًا على العامل. الفرع الثاني: أن يكون مال المضاربة دينًا على أجنبي. الفرع الثالث: المقارضة على أحدى الصرتين. الفرع الرابع: المضاربة بالوديعة. الفرع الخامس: المضاربة بالمغصوب. الشرط الرابع: في اشتراط تسليم رأس مال المضاربة. المبحث الثاني: الشروط الخاصة بالربح. الشرط الأول: العلم بنصيب ما يأخذه كل واحد منهما من الربح. المبحث الأول: أن يدفع المالك مال المضاربة ويسكت عن الربح. المبحث الثاني: أن يذكر الربح ولا ينص على مقداره. المبحث الثالث: إذا قال ضارب على أننا شريكان في الربح أو الربح بيننا. المبحث الرابع: إذا قال المالك لك مثل ما شرط لفلان. الشرط الثاني: أن يكون الربح لكل منهما جزءًا شائعًا. المبحث الأول: إذا اشترط أحدهما أو كلاهما دراهم معلومة. المبحث الثاني: أن يشترط ربح صنف معين من مال القراض. المبحث الثالث: أن يشترط ربح نصف المال من غير تعيين. الشرط الثالث: في اشترط أن يكون الربح مخصوصًا بالمتعاقدين. مبحث: إذا قال المالك تصرف والربح كله لك أو كله لي.
الشرط الرابع: أن يكون المشروط للمضارب مشروطًا من الربح. مبحث: في الوقت الذي يملك المضارب حصته من الربح. الفصل السادس: في حكم تصرفات المضارب. المبحث الأول: لبيع والشراء ولوازمهما. الفرع الأول: إذا باع العاقل بأقل من ثمن المثل. الفرع الثاني: إذا اشترى بأكثر من ثمن المثل. الفرع الثالث: في شراء المضارب سلعة من مال المضاربة. الفرع الرابع: في شراء رب المال من العامل. الفرع الخامس: في بيع المضارب بالدين. المبحث الثاني: للمضارب أن يستأجر من يساعده على أعمال التجارة. المبحث الثالث: في حق المضارب في التوكيل. المبحث الرابع: في حق المضارب في الإيداع. المبحث الخامس: في حق المضارب في السفر في المال. المبحث السادس: في حق المضارب في النفقة. المبحث السابع: في شراء المضارب بأكثر من رأس مال المضاربة. المبحث الثامن: في دفع العامل مال المضاربة إلى مضارب جديد. المبحث التاسع: في خلط مال المضاربة بمال آخر. الفرع الأول: خلط مال المضاربة بمال مضاربة أخرى والمالك واحد. الفرع الثاني: خلط مال المضاربة بمال العامل أو بمال غيره.
الفرع الثالث: خلط المال في المضاربة المشتركة في المصارف الإِسلامية. المسألة الأولى: تعريف المضاربة المشتركة. المسألة الثانية: التوصيف الفقهي لعقد المضاربة المشتركة. المسألة الثالثة: خلط أموال المضاربين بعد بدئ النشاط فيها. المسألة الرابعة: خلاف العلماء في اعتماد حساب النمر. المبحث العاشر: في تقييد تصرفات العامل. الفرع الأول: التقييد بمكان أو بسلعة معينة. الفرع الثاني: تقييد العامل بالشراء من شخص معين. الفرع الثالث: تقييد المضاربة بوقت معين. الفرع الرابع: تقييد المضارب بالبيع نقدًا. الفصل السابع: في أحكام المضاربة الصحيحة. المبحث الأول: رأس المال أمانة في يد المضارب. المبحث الثاني: في ضمان مال المضاربة بالتعدي أو بالتفريط. المبحث الثالث: في اشتراط ضمان رأس مال المضاربة. الفصل الثامن: في المضاربة الفاسدة. الفصل التاسع: في انتهاء المضاربة. المبحث الأول: في انتهاء المضاربة بالموت. فرع: إذا لم يعلم العامل بموت رب المال. المبحث الثاني: انتهاء المضاربة بالفسخ.
المبحث الثالث: إذا طلب أحدهما البيع وأمتنع الآخر لغرض. المبحث الرابع: في انتهاء عقد المضاربة بالجنون. المبحث الخامس: في انتهاء عقد المضاربة بالحجر. المبحث السادس: انتهاء المضاربة بهلاك المال. الفرع الأول: أن يتلف المال قبل التصرف فيه. الفرع الثاني: في هلاك مال المضاربة بعد التصرف فيه. الفرع الثالث: إذا اشتري العامل فتلف المال قبل نقده للبائع. المبحث السابع: انتهاء المضاربة بانتهاء الوقت المحدد لها. الباب السادس: في المشاركة المتناقصة. توطئة: في تعريف المشاركة المتناقصة. الفصل الأول: التوصيف الفقهي للمشاركة المتناقصة. الفصل الثاني: في الحكم الفقهي للشركة المتناقصة. عقد المساقاة والمزارعة. تمهيد. المبحث الأول: في تعريف المساقاة والمزارعة. الفرع الأول: في تعريف المساقاة. الفرع الثاني: في تعريف المزارعة. المبحث الثاني: المساقاة والمزارعة على وفق القياس. الباب الأول: في أركان المساقاة والمزارعة.
الفصل الأول: في الصيغة التي تنعقد بها المساقاة والمزارعة. مبحث: في انعقاد المساقاة والمزارعة بلفظ الإجارة. الباب الثاني: في حكم المساقاة والمزارعة. الفصل الأول: في جواز المساقاة. الفصل الثاني: في جواز المزارعة. الفصل الثالث: في توصيف عقد المساقاة والمزارعة. المبحث الأول: في توصيف عقد المساقاة. المبحث الثاني: في توصيف عقد المزارعة. المبحث الثالث: فيما تلزم به المساقاة. الفصل الثالث: في ثبوت الخيار في عقدي المساقاة والمزارعة. الفصل الرابع: في محل المساقاة. المبحث الأول: فيما تجوز فيه المساقاة. المبحث الثاني: في المساقاة على أشجار البعل. المبحث الثالث: في المساقاة على الودي وصغار الشجر. الفصل الخامس: في صور المزارعة الجائزة والممنوعة. الباب الثالث: في شروط المساقاة والمزارعة. الفصل الأول: في شروط المساقاة. الشرط الأول: أن تكون في أصل يثمر أو ما في معناه. الشرط الثاني: أن تكون المساقاة قبل طيب الثمرة.
الشرط الثالث: أن يكون محل العمل معلومًا. الشرط الرابع: أن يكون نصيب العامل معلومًا مشاعًا. الشرط الخامس: أن تكون المساقاة إلى أجل معلوم. المبحث الأول: في المساقاة إلى الجذاذ. المبحث الثاني: أكثر مدة المساقاة. المبحث الثالث: في أقل مدة المساقاة. الشرط السادس: أن يكون العمل كله على العامل. الشرط السابع: في اشتراط أن تكون الثمرة مشتركة بين العامل والمالك. الشرط الثامن: في اشتراط إسلام الساقي والمالك. الفصل الثاني: في شروط المزارعة. الشرط الأول: أهلية العاقدين. الشرط الثاني: في بيان جنس البذر. الشرط الثالث: في تحديد مقدار البذر. الشرط الرابع: في اشتراط أن يكون البذر من أحدهما. الشرط الخامس: في اشتراط خلط البذر من العاقدين. الشرط السادس: في تماثل البذرين جنسا. الشرط السابع: في اشتراط تعيين رب البذر. الشرط الثامن: كون الخارج في المزارعة مشتركا بين الزارعين. الشرط التاسع: في اشتراط التخلية بين الأرض وبين العامل.
الشرط العاشر: أن يكون نصيب العامل جزءًا مشاعًا. الشرط الحادي عشر: في اشتراط بيان نصيب من لا بذر منه. الباب الرابع: في أحكام المساقاة. الفصل الأول: في أحكام المساقاة. المبحث الأول: فيما يلزم العامل في عقدي المساقاة والمزارعة. المبحث الثاني: المساقي أمين لا يضمن إلا بالتعدي أو بالتفريط. المبحث الثالث: فيمن تجب عليه زكاة الحائط. المبحث الرابع: في نفقة عامل المساقاة. المبحث الخامس: في مساقاة العامل غيره. المبحث السادس: في مساقاة الشريك لشريكه. المبحث السابع: في مساقاة حوائط عدة. المبحث الثامن: في التخيير في المساقاة إن كان سيحًا فبكذا أو كلفة فبكذا. المبحث التاسع: في جواز اشتراط العامل غلمان رب المال. الفصل الثاني: في أحكام المساقاة الفاسدة. المبحث الأول: فيما تفسد به المساقاة. المبحث الثاني: في حكم المساقاة الفاسدة. الباب الخامس: في انتهاء عقد المساقاة. الفصل الأول: في انتهاء عقد المساقاة بالفسخ. المبحث الأول: الفسخ بعجز العامل.
المبحث الثاني: فسخ العقد بالإقالة. المبحث الثالث: انفساخ المساقاة بالموت. الفصل الثاني: انتهاء المساقاة بمضي المدة. الفصل الثالث: انتهاء عقد المساقاة باستحقاق الحائط. وبهذا المسائل المختارة من عقود الشركات أكون قد أتممت خطة البحث في عقود المعاوضات، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل العمل خالصًا لوجهه، وأن يتجاوز به عني بعفوه وكرمه، وأن يصلح به النية، وأن يرزقه القبول، وأن يجزل المثوبة لكل من علمني، وكل من أفدت منه في هذا المشروع المبارك.
عقد الشركة
عقد الشركة تمهيد المبحث الأول في تعريف الشركة وبيان مشروعيتها الشركة في الفقه الإِسلامي أنواع مختلفة، كل نوع منها ينفرد بتعريف خاص، لذا كان اهتمام أكثر الفقهاء موجهًا إلى تعريف أنواعها، وقد عرف بعضهم الشركة بمعناها العام، من ذلك (¬1): تعريف الحنفية: عرفها بعضهم بأنها: "اختصاص ما فوق الواحد بشيء، وامتيازهم به" (¬2). ¬
ونوقش
فقوله: (اختصاص): الاختصاص: هو الانفراد بالشيء دون غيره بشيء ما، بما له من ولاية أو ملك، فالانفراد بالشيء: هي تلك العلاقة القائمة بين المختص ومحل الاختصاص. والمختص هنا هو الشريكان، ومحل الاختصاص: هو محل الشركة. وقوله: (ما فوق الواحد) إشارة إلى تعدد المختص، وأن الشركة لا تكون إلا بين اثنين فأكثر. وقوله: (بشيء ما وامتيازهم به) إشارة إلى محل الاختصاص. ونوقش: بأن التعريف غير مانع، فالوكالة تعطي اختصاص اثنين فأكثر بمحل واحد، وليست شركة، فالموكل يمتاز باختصاص الملك والتصرف، والوكيل يمتاز باختصاص التصرف دون الملك (¬1). تعريف المالكية: جاء في شرح حدود ابن عرفة: "الشركة الأعمية: تقرر متمول بين مالكين فأكثر ملكاً فقط قال الشارح ... فيدخل ... شركة الإرث والغنيمة، لا شركة التجر" (¬2). وانتقد هذا التعريف: بأن قوله: (ملكاً فقط) هذا التعريف خاص بشركة الملك، والشركة بالمعنى العام يجب أن يصدق على جميع أفراد الشركة: شركة الملك وشركة العقد، ¬
تعريف الشافعية
فالتعريف العام يجب أن ينطبق على كل ما يصدق عليه اسم الشركة، فخروج ما سماه الشارح شركة التجر من التعريف يدل على أن هذا التعريف ليس تعريفًا عامًا للشركة، والله أعلم. تعريف الشافعية: عرفها الشافعية بقولهم: "ثبوت الحق في شيء لاثنين فأكثر على جهة الشيوع" (¬1). فقوله: (ثبوت الحق) يعني: حالًا أو مآلًا بالفعل أو بالقول. وهو بهذا يشمل شركة الملك وشركة العقد؛ لأن الحق إن كان ثبوته عن طريق العقد فيختص بالمال وفي شركة العقد فقط، أو يثبت بغير العقد كالإرث ونحوه فتدخل فيه شركة الملك. والشركة قد تكون في المال وقد تكون في غير المال، كما لو اشتركا في حق القصاص مثلًا فإنه حق قد يثبت لأكثر من اثنين على سبيل الشيوع. وقوله: (على سبيل الشيوع) هذا القيد معتبر عند الشافعية لأنهم يشترطون لصحة الشركة خلط المالين، فلا تصح الشركة عند الشافعية فيما لا شيوع فيه كشركتي الأعمال والوجوه. تعريف الحنابلة: عرفها ابن قدامة بقوله: "هي الاجتماع في استحقاق أو تصرف" (¬2). فقوله: (الاجتماع في استحقاف) إشارة إلى شركة الملك. ¬
وقوله: (أو تصرف) إشارة إلى شركة العقد. وهذا التعريف على اختصارها هو أجمعها، والله أعلم.
المبحث الثاني في حكم الشركة على سبيل العموم
المبحث الثاني في حكم الشركة على سبيل العموم [م - 1273] ذهب عامة العلماء إلى جواز الشركة في الجملة واستدلوا بأدلة من الكتاب والسنة، وإجماع أهل العلم على خلاف بينهم هل الشوكة مستحبة أو مباحة. ومن هذه الأدلة: الدليل الأول: قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24]. وجه الاستدلال: قوله: (الخلطاء) فقد ذهب طاووس، وعطاء، والطبري، والبغوي، والبخاري في صحيحه بأن الخلطاء هم الشركاء (¬1). واستبعده القرطبي؛ لأن الخليط لا يستلزم أن يكون شريكًا، لقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص: 23] فلم تكن بينهم شركة. ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية) (¬2). فالخلطة هنا: خلطة جوار في المسرح، والمبيت، والحوض، والفحل، وكل واحد منهما يختص بعين ماله، والشركة أخص من ذلك (¬3). ¬
الدليل الثاني
والحق أن لفظ الخلطاء عام يشمل الشركاء وغيرهم: جاء في التسهيل لعلوم التنزيل: "الخلطة أعم من الشركة، ألا ترى أن الخلطة في المواشي ليست بشركة في رقابها" (¬1). وعلى القول بأن الخلطاء في الآية المقصود بها الشركاء، فإن الشركة هنا ليست من شركة العقود، بل هي من شركة الملك، لتميز مال كل واحد منهما، والاحتجاج بالآية إنما يصح على قول من يقول: إن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يأت في شرعنا ما ينسخه، والله أعلم. الدليل الثاني: قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} الآية [الزمر: 29]. والشركة في هذا العبد مطلقة، لتشمل الشركة بأنواعها من ملك، أو عقد. الدليل الثالث: قال تعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]. استدل بها بعض الفقهاء على مشروعية الشركة، وهي دليل فقط على شركة الملك، وهي غير شركة العقد المقصودة في هذا الباب. الدليل الرابع: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} الآية [الكهف: 19]. وجه الاستدلال: استدل بها بعض الفقهاء على مشروعية الشركة بدليل أن الورق كان ¬
الدليل الخامس
لجميعهم، وهذا يعني جواز الشركة، إلا أن الآية ليست نصًا في شركة العقد، فلم يجمعوا الورق بقصد التجارة، وهي في شريعة من قبلنا. الدليل الخامس: (ح -885) ما رواه البخاري من طريق سليمان بن أبي مسلم، قال: سألت أبا المنهال عن الصرف يدًا بيد، فقال: اشتريت أنا وشريك لي شيئا يدًا بيد ونسيئة، فجاءنا البراء بن عازب فسألناه، فقال: فعلت أنا وشريكي زيد بن أرقم، وسألنا النبي -صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: ما كان يدًا بيد فخذوه، وما كان نسيئة فذروه (¬1). الدليل السادس: (ح -886) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن سليمان المصيصي، حدثنا محمد بن الزبرقان، عن أبي حيان التيمي، عن أبيه، عن أبي هريرة رفعه قال إن الله يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما (¬2). [ضعيف] (¬3). ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: (ح -887) ما رواه أحمد من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد عن السائب بن أبي السائب، أنه كان يشارك رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قبل الإِسلام في التجارة، فلما كان يوم الفتح جاءه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: مرحبا بأخي وشريكي، كان لا يداري، ولا يماري ... الحديث (¬1). ¬
[مضطرب سندًا ومتنًا، وذكر المزي أن المحفوظ أنه من رواية مجاهد، عن قائد السائب، عن السائب] (¬1). ¬________ (¬1) تهذيب الكمال (27/ 229) قاله في ترجمة مجاهد. والحديث مضطرب سندًا ومتنًا. أما اضطرابه في الإسناد: فروي موصولًا ومرسلًا، وأما اضطرابه في المتن، فقد اختلف فيمن كان شريكًا للنبي -صلى الله عليه وسلم - على وجه يتعذر فيه الترجيح، وتارة يجعل الحديث من قول النبي -صلى الله عليه وسلم - في أبي السائب، ومنهم من يجعله من قول أبي السائب في النبي -صلى الله عليه وسلم -، وإليك بيان هذا الاضطراب. فقيل: عن مجاهد، عن قائد السائب، عن السائب: رواه أحمد (3/ 425) من طريق الثوري، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن قائد السائب، عن السائب أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم -: كنت شريكي، فكنت خير شريك، كنت لا تداري، ولا تماري. ومن طريق الثوري أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده (855)، وأبو داود (4836)، وابن ماجه (2287)، والطبراني في الكبير (6619، 6620) والفاكهي في أخبار مكة (3/ 328)، وأحمد بن زهير بن حرب في أخبار المكيين (170)، والبيهقي في السنن (6/ 78). وقائد السائب لم أقف له على ترجمة، وقال البوصيري في إتحاف المهرة (3/ 354): وعن قائد السائب، عن السائب -رضي الله عنه - ... وذكر الحديث ثم قال: رواه أبو بكر بن أبي شيبة، ورجاله ثقات ... وإبراهيم بن مهاجر فيه ضعف. وقيل: عن مجاهد، عن السائب بن عبد الله. رواه أحمد (3/ 425) من طريق إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد به. ومن طريق إسرائيل أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 356)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (692)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (3/ 1370) رقم 3076. وقيل: عن مجاهد مرسلًا: أخرجه أحمد (3/ 425) من طريق سيف بن سليمان، قال: سمعت مجاهدًا يقول: كان السائب بن أبي السائب العابدي شريك رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية، قال: فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة، فقال: بأبي وأمي، لا تداري، ولا تماري. وهذه الرواية مرسلة. =
الدليل الثامن
الدليل الثامن: (ث -159) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن ¬
أبي عبيدة، عن عبد الله قال: اشتركنا يوم بدر أنا وعمار وسعد فيما أصبنا يوم بدر، فأما أنا وعمار فلم نجئ بشيء، وجاء سعد بأسيرين (¬1). [أعله بعضهم بالانقطاع، ورأى بعضهم أن حديث أبي عبيدة عن أبيه في حكم المتصل] (¬2). ¬
الدليل التاسع
الدليل التاسع: حكى جمع من أهل العلم الإجماع على جواز الشركة في الجملة. قال ابن قدامة: "أجمع المسلمون على جواز الشركة في الجملة، وإنما اختلفوا في أنواع منها" (¬1). وقال النفرواي المالكي: "وهي جائزة كتابًا، وسنة، وإجماعًا ... وانعقد الإجماع على جوازها" (¬2). وقال الكاساني في بدائع الصنائع: "وأما الكلام في الشركة بالأموال فأما العنان فجائز بإجماع فقهاء الأمصار، ولتعامل الناس ذلك في كل عصر من غير نكير" (¬3). كما حكى الإجماع المواق من المالكية كما في التاج ولإكليل (¬4)، وزكريا الأنصاري من الشافعية (¬5)، والبهوتي من الحنابلة (¬6)، وغيرهم. ¬
[م - 1274] وإذا عرفنا الأدلة على جواز الشركة في الجملة، فقد اختلفوا في أيهما أفضل: فقيل: الشركة أفضل؛ لقيامها على التعاون، فكل منهما ينتفع بما عند الآخر من مال وعمل وخبرة ومن خلال عقد الشركة يمكن جمع رؤوس الأموال الكثيرة وتحقيق التنمية الاقتصادية وذلك بقيام المشروعات الضخمة والمتنوعة لخدمة المجتمع. (ح - 888) ولما رواه أبو داود بإسناده من حديث أبي هريرة رفعه، قال: إن الله يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانه خرجت من بينهما. [ضعيف] (¬1). وقيل: الانفراد أفضل؛ لأن الإنسان يكون فيها حرًا، إن شاء تبرع وتصدق، وأهدى. قال شيخنا محمد بن عثيمين: "كل من الانفراد والاشتراك له مزية على الآخر، ولكن المزية التي لا يعدلها شيء، هي السلامة في مسألة الانفراد؛ لأنه يصعب مراعاة كل أحوال الشركة". ¬
المبحث الثالث أنواع الشركة بمعناها العام
المبحث الثالث أنواع الشركة بمعناها العام [م - 1275] ذهب جمهور الفقهاء على تقسيم الشركات إلى قسمين: شركة أملاك، وشركة عقود (¬1). وذهب بعض الحنفية إلى زيادة قسم ثالث، وهو شركة الإباحة (¬2). وإليك تعريف كل قسم من هذه الأقسام. تعريف شركة الأملاك: شركة الأملاك: قيل في تعريفها: هي الاشتراك في الملك جبرًا كالإرث، واختلاط الأموال، أو اختيارًا كالهبة والوصية ونحوهما. ولا تحتاج إلى إيجاب وقبول، بل ركنها اجتماع النصيبين جبرًا أو اختيارًا. وعرفها بعضهم بقوله: كون الشيء مشتركًا بين أكثر من واحد، مخصوصًا بهم بسبب من أسباب التملك، كالاشتراء والاتهاب وقبول الوصية والتوارث، أو يخلط أو اختلاط الأموال بعضها ببعض بصورة لا تكون قابلة للتمييز والتفريق (¬3). وحكمها: لا يترتب عليها أي حكم من أحكام الشركات المعروفة في الفقه الإِسلامي، بل يعتبر كل واحد من الشريكين أجنبيًا في نصيب صاحبه، فلا يجوز ¬
تعريف شركة العقود
له التصرف فيه بغير إذنه؛ لأن التصرف فرع الملك أو الولاية، ولا ملك ولا ولاية لأي واحد من الشريكين في نصيب صاحبه لا بالوكالة ولا بالقرابة. ولا تحتاج هذه الشركة إلى عقد، وقد يكون التملك فيها جبرًا كالإرث، أو اختيارًا كالهبة والوصية والخلط ونحو ذلك. تعريف شركة العقود: عرفها بعضهم: بأنها عقد بين اثنين فأكثر، يقتضي إذن الجميع أو بعضهم في التصرف للجميع، على أن يكون الربح بينهم جميعًا (¬1). وهذه الشركة لا تقوم إلا بالتراضي بين الشركاء، ويجوز للشريك أن يتصرف في نصيبه بمقتضى الملك، وفي نصيب صاحبه بمقتضى الوكالة، والوكالة مستفادة من الشركة بمقتضى العقد؛ ذلك أن الشركة عقد على التصرف، ولا تصرف في مال الغير إلا بتفويض من صاحبه، كما أن كل واحد من الشركاء كفيل عن الآخر، والمقصود من الشركة الحصول على الربح. وشركة العقد ليست نوعًا واحداً، بل هي أنواع. من ذلك: شركة أموال: وهي عقد بين شريكين فأكثر، على أن يتجروا في رأس مال لهم، ويكون الربح بينهم بنسبة معلومة. وهي تنقسم إلى عنان ومفاوضة. ¬
تعريف شركة الإباحة
والأولى جائزة بالإجماع، والثانية منعها الشافعية وأجازها غيرهم. وسيأتي بيان ذلك في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى. وشركة أعمال: وهي أن يتعاقد اثنان فأكثر، على أن يتقبلوا نوعًا معينًا من العمل، وأن تكون الأجرة بينهم بنسبة معلومة. وقد منعها الشافعية وأجازها غيرهم. وسيأتي بيان ذلك في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى. وشركة وجوه: وهي أن يتعاقد اثنان فأكثر، على أن يشتريا نسيئة، ويبيعا نقدًا، ويقتسما الربح بينهما. وقد أجازها الحنفية والحنابلة، ومنعها المالكية والشافعية. وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى. وهناك عقد القراض (المضاربة): وهي أن يدفع شخص لآخر مبلغًا من المال ليتجر فيه، على أن يشتركا في الربح، ومنه المزارعة والمساقاة، وهناك خلاف بين الفقهاء هل عقد المضاربة يلحق بعقد الشركات؟ أو هو عقد لا شركة فيه، باعتبار أن رأس المال يخص المالك وحده، فلا توجد فيه مشاركة، والعمل يختص به العامل، فلا توجد به أيضًا مشاركة، وإنما المشاركة إن وجدت فهي في الربح خاصة، وقد يوجد وقد لا يوجد، ووجود الربح يكون حادثًا بعد قيام العقد والشروع في العمل، بخلاف عقود الشركات، والله أعلم. وسيأتي إن شاء الله تعالى شيء من التفصيل والتوثيق لهذه التعريفات عند دراسة كل نوع على حدة. تعريف شركة الإباحة: نص بعض الحنفية على هذا النوع من الشركات.
فقد جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "شركة الإباحة: وهي كون العامة مشتركين في صلاحية التملك بالأخذ والإحراز للأشياء المباحة التي ليست في الأصل ملكًا لأحد كالماء" (¬1). والفرق بين شركة الملك والعقد وبين شركة الإباحة: أن الاشتراك في شركة الملك والعقد: هو الأعيان والأموال، وأما الاشتراك في شركة الإباحة فهو صلاحية الإحراز والتملك. كذلك يدخل في شركة الإباحة الاشتراك في الانتفاع بالطرق العامة، والمساقي، ومجاري المياه والأنهار، فهذه الأشياء ملك مشترك بين المنتفعين. (ح -889) والدليل على هذه الشركة ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا ثور الشامي، عن حريز بن عثمان، عن أبي خداش، عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم -، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). وإذا عرفنا أقسام الشركة بالمفهوم العام للشركة، فإن شركة الملك وشركة الإباحة ليست من شركات المعاوضة، فلا تدخل معنا في هذه الدراسة، بخلاف شركة العقود، فإنها تقوم بغرض الحصول على الأرباح، لهذا ستكون الدراسة مختصة بها. ¬
المبحث الرابع في الوصف الفقهي للشركة
المبحث الرابع في الوصف الفقهي للشركة الفرع الأول عقود الشركة من العقود الجائزة قال الحنفية: الشركة تتضمن معنى الوكالة (¬1). قلت: والوكالة عقد جائز فكذا الشركة. [م - 1276] اختلف الفقهاء في عقد الشركة، هل يعتبر من العقود اللازمة، أو من العقود الجائزة. فقيل: الشركة عقد جائز مطلقًا، قبل خلط المالين وبعده، وهذا مذهب الجمهور، واختيار ابن رشد الجد، والحفيد من المالكية (¬2). إلا أن الحنفية اشترطوا لجواز الفسخ شرطين: أحدهما: أن يعلم الشريك صاحبه بالفسخ. ¬
وجه من قال: الشركة عقد جائز
والثاني: أن يكون مال الشركة ناضًا (نقدًا) لا عروضًا (¬1). وجه من قال: الشركة عقد جائز: أن الشركة مبنية على الوكالة، وعلى الإذن بالتصرف، والوكالة من العقود الجائزة، وفسخ الشركة يبطل الإذن بالتصرف. وقيل: الشركة عقد لازم مطلقًا، قبل الشروع وبعده، ويستمر اللزوم إلى أن ينض المال أو يتم العمل الذي تقبل، أو يتفقا على الفسخ. وهو مذهب المالكية (¬2). وجه القول باللزوم: أن الشركة من عقود المعاوضات، وعقود المعاوضات عقود لازمة، لا تفسخ إلا برضا الطرفين. جاء في مواهب الجليل: "قال ابن عبد السلام في شركة الأموال: المذهب لزومها بالعقد" (¬3). وفي شرح الخرشي: "الشركة تلزم بمجرد القول على المشهور" (¬4). ¬
وجه ذلك
وفي حاشية الدسوقي: "الشركة عقد يلزم بالقول كسائر العقود والمعاوضات، وهذا مذهب ابن القاسم، ومذهب غيره أنها لا تلزم إلا بخلط المالين" (¬1). وقيل: الشركة لا تلزم إلا بخلط المالين، اختاره بعض المالكية (¬2). وجه ذلك: أن الخلط بمنزلة الشروع في العمل، فقبل الشروع في العمل لا ضرر في فسخ الشركة على أي من الشريكين بخلاف الفسخ بعد الشروع في العمل فإن الفسخ يجب أن يكون بالتراضي. الراجح: الذي أميل إليه أن عقد الشركة عقد جائز، إلا أن يكون هناك شرط في لزوم العقد مدة معينة، ويتفقا على ذلك، فالمؤمنون على شروطهم، ومثل هذا ما يشترط في شركات المساهمة في أن المساهم لا يخرج من الشركة إلا إذا دخل مكانه آخر ليستمر لزوم العقد إلى أجله، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني الشركة وعقود المعاوضات
الفرع الثاني الشركة وعقود المعاوضات [م - 1277] لم يتعرض كثير من الفقهاء إلى الوصف الفقهي لعقد الشركة، وهل يعتبر من عقود المعاوضات أو من عقود الإرفاق، أو هو عقد قائم بذاته، يطلق عليه ابن تيمية عقود المشاركة؟ ويمكن القول بأن هناك قولين يمكن تخريجهما في الوصف الفقهي لعقد الشركة بناء على كلام الفقهاء: القول الأول: بأن عقد الشركة لا يعتبر من عقود المعاوضات، وهو مقتضى مذهب جماهير أهل العلم من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وهو صريح كلام ابن تيمية. فالمتأمل لمذهب الحنفية، والذين لا يشترطون حضور رأس مال الشركة عند العقد، ولا تساوي المالين من الشركاء، أن هذا يعني عندهم أن عقد الشركة ليس من عقود المعاوضات؛ إذ لو كان من عقود المعاوضات، وهم يشترطون أن يكون رأس مال الشركة من الأثمان ما جاز التفرق قبل قبض نصيب الشريك، ولو كان من عقود المعاوضات لاشترط التساوي بين المالين حتى لا يقعوا في ربا الفضل. كما أنهم يرون أن العقد من العقود الجائزة، وعقود المعاوضات الأصل فيها أنه من العقود اللازمة. ولأن المال في يد الشريك يعتبر أمانة، ولو كان قائمًا على المعاوضة لكانت يده يد ضمان، فبناء على هذه الأوصاف يجزم الباحث بأن عقد الشركة عند الحنفية ليس من عقود المعاوضة القائمة على المبادلة على سبيل التمليك.
ومذهب الحنابلة قريب من مذهب الحنفية حيث لا يشترطون تساوي المالين، وهم يصرحون بأن الشريك ينفذ تصرفه بحكم الملك في نصيبه، وبحكم الوكالة في نصيب شريكه، ولو كان فيها معاوضة وتمليك لكان تصرفه في ملك شريكه بحكم الملك المشترك بينهما، كما أن الشركة عندهم عقد جائز، وليس عقدًا لازمًا. والمتأمل في مذهب الشافعية، وإن اشترطوا بعض الشروط التي لم يشترطها الجمهور إلا أن الشركة عندهم لا تدخل في باب المعاوضات. ذلك أن الشافعية يشترطون خلط المالين خلطًا لا يمكن تمييزهما قبل عقد الشركة، ليكون الملك مشاعًا بين الشريكين، ثم يتم عقد الشركة، والذي بموجبه يكون الإذن في التصرف، وهذا الإذن لا يعتبر بحد ذاته معاوضة. قال النووي في الروضة: "وينبغي أن يتقدم الخلط على العقد، فإن تأخر حكى في التتمة وجهين، أصحهما المنع؛ إذ لا اشتراك حال العقد ... ولو ورثوا عروضًا، أو اشتروها، فقد ملكوها شائعة، وذلك أبلغ من الخلط، فإذا انضم إليه الإذن في التصرف تم العقد" (¬1). وعليه فالشركة عند الشافعية هي ملك مشاع يسبق العقد، وذلك يحصل باختلاط المالين حتى لا يمكن تمييزهما، فإن أمكن التمييز فلا تصح الشركة، يتبعه بعد ذلك إذن بالتصرف، والإذن بالبيع لا يعتبر بيعًا، وإنما هو وكالة بالبيع. كما أنهم يتفقون مع الحنفية بأن عقد الشركة عقد جائز، وليس عقدًا لازمًا؛ لأن مبناه على الوكالة، والوكالة من العقود الجائزة. ويرى ابن تيمية أن الشركات ليست من عقود المعاوضات. ¬
يقول ابن تيمية: "التصرفات العدلية في الأرض جنسان: معاوضات ومشاركات، فالمعاوضات كالبيع والإجارة والمشاركات شركة الأملاك وشركة العقد" (¬1). ويقول أيضًا: "ولما كان المحرم نوعين: نوعًا لعينه، ونوعًا لكسبه، فالكسب الذي هو معاملة الناس نوعان: معاوضة، ومشاركة. فالمبايعة والمؤاجرة ونحو ذلك هي المعاوضة. وأما المشاركة فمثل مشاركة العنان وغيرها من المشاركات" (¬2). واختار هذا الرأي من المعاصرين الأستاذ مصطفى الزرقاء، قال الأستاذ: "وأما عقود الإعارة والوكالة والشركة ونحوها فإنها خالية خلوًا تامًا من معنى المعاوضة، فتعتبر عقود أمانة، ويكون مال الموكل في يد وكيله، ومال القاصر في يد وصيه، ومال الشريك في يد شريكه، والعارية في يد مستعيرها كل ذلك أمانة محضة غير مضمونة بمقتضى العقد كالوديعة" (¬3). ويرى الأستاذ أن هذا القول هو مذهىب الحنفية، محتجًا بنص في الهداية: "ويده -يعني الشريك- في المال يد أمانة؛ لأنه قبض المال بإذن المالك لا على وجه البدل والوثيقة، فصار كالوديعة" (¬4). فقوله: (لا على وجه البدل) نفي للمعاوضة. ويرى الشيخ الزرقاء أن الفرق بين عقود المعاوضات وعقود الأمانات يدور على الضمان. ¬
وقد يناقش هذا القول
يقول الشيخ الزرقاء: "والمبدأ الشرعي الذي يقوم على أساسه التمييز بين عقود الضمانات وعقود الأمانات بحسب ما يوحي به استقراء الأحكام، واستنطاق عللها الفقهية في شتى المناسبات، وهو أن فكرة الضمان في العقد تدور مع معنى المعاوضة ولو نهاية ومآلًا، وحينئذ يكون العقد عقد ضمان في الناحية التي تتعلق بها المعاوضة" (¬1). وقد يناقش هذا القول: بأن يقال: لا مانع من كون الشركة من عقود المعاوضة، وكون المال في يد الشريك أمانة، فعقد الشركة نقل ملك جميع المال إلى جميع الشركاء، وقبل الشركة لم يكن يملك الشريك إلا سهمه فقط، ونقل الملك إنما انعقد لطلب النماء والربح، وهذا هو الغرض من عقود المعاوضات، ألا ترى أن الإجارة من عقود المعاوضة، تبذل فيها المنفعة في مقابل المال، وهذا متفق عليه، والعين في يد المستأجر أمانة لا يضمنها إلا بالتعدي والتفريط، والله أعلم. وقد يجاب عن ذلك: بأن يقال: إن المعاوضة على المنفعة، وليست على العين، فانفكت. القول الثاني: ذهب المالكية بأن عقد الشركة عقد لازم متضمن معنى البيع، ولذلك اشترطوا إذا كان رأس مال الشركة من الأثمان أن يكون مال الشركة من جنس واحد، ويمنعون أن يكون نصيب أحد الشريكين من الدراهم والآخر من الدنانير؛ لأن هذا يعني عندهم اجتماع الشركة والصرف، وهو ممنوع عندهم، إلا أن المالكية لم يعطوه حكم الصرف من كل وجه، فهم في الصرف يشترطون ¬
الفورية، فلو تأخر القبض، ولو في مجلس العقد بطل الصرف، ومع ذلك فهم في عقد الشركة لم يشترطوا الفورية، بل صححوا عقد الشركة إذا غاب نقد أحدهما اليوم واليومين، بشرط أن يحضر الشريك الآخر نقده، حتى يخرجوا من باب بيع الدين بالدين. قال القرافي في الذخيرة: "فعقد الشركة في المال بيع، يبيع كل واحد منهما نصف متاعه بنصف متاع صاحبه، لكنه بيع لا مناجزة فيه؛ لبقاء يد كل واحد منهما على ماله بسبب الشركة" (¬1). وقد ذهب ابن رشد إلى أن عقد الشركة يصح أن يقع على جهة المعاوضة، وعلى جهة الرفق والإحسان. يقول ابن رشد: "العقود تنقسم إلى قسمين: قسم يكون بمعاوضة، وقسم يكون بغير معاوضة كالهبات والصدقات. والذي يكون بمعاوضة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: يختص بقصد المغابنة والمكايسة: وهي البيوع والإجارات والمهور والصلح، والمال المضمون بالتعدي وغيره. والقسم الثاني: لا يختص بقصد المغابنة، وإنما يكون على جهة الرفق، وهو القرض. والقسم الثالث: هو ما يصح أن يقع على الوجهين جميعًا. أعني على قصد المغابنة، وعلى قصد الرفق كالشركة، والإقالة، والتولية" (¬2). ¬
وجه من يرى أن الشركة فيها معنى المعاوضة
وجه من يرى أن الشركة فيها معنى المعاوضة: أن الشركة بالنظر إلى تبادل الحقوق، فالشريك يدفع حصة من مال الشركة ليأخذ بعد ذلك مقابلًا لما أعطى، بأن يكون له نصيب في أرباح الشركة. وبناء على ما تقدم نستطيع أن نقول: إن المالكية وحدهم هم الذين ذهبوا إلى أن عقد الشركة من عقود المعاوضات، وضمنوا الشركة معنى البيع، وقالوا بلزوم عقد الشركة قياسًا على سائر المعاوضات، وقد أدخلنا الشركة في عقود المعاوضات بناء على مذهب المالكية، وإن كان قول الجمهور أقوى؛ لأنه لا معاوضة في الحقيقة بين الشريكين، وإنما المعاوضة تقوم بين الشركاء وبين سائر الناس ممن يتعاملون مع الشركة بيعًا وشراء، ونحوهما، والله أعلم.
الباب الأول في أركان الشركة
الباب الأول في أركان الشركة [م - 1278] الشركة على سبيل العموم كغيرها من العقود يستوجب أركانًا، والركن: هو ما تقوم عليه الماهية، وبعدمه تنعدم الشركة. وقد اختلف الحنفية مع الجمهور في تحديد الأركان: فالحنفية يرون أن الشركة كسائر العقود ليس لها إلا ركن واحد: وهو الصيغة: الإيجاب والقبول (¬1). وذهب الجمهور إلى أن أركان الشركة ثلاثة على سبيل الإجمال: الصيغة: الإيجاب والقبول. والعاقدان: ويتكونان من اثنين فأكثر. والمعقود عليه: وهو المال بالاتفاق، والعمل على خلاف بينهم (¬2). فبعضهم يجعل العمل ركنًا داخلًا في المعقود عليه كبعض المالكية (¬3). ¬
وأما الشافعية فتارة يعدونه ركنًا خامسًا (¬1)، وتارة يرون العمل خارجًا عن الأركان، وإنما يترتب على الشركة بعد وجودها، وما وجد بعد قيام الشركة فجعله من الأركان فيه نظر (¬2). وسبب الاختلاف: أن الحنفية يرون أن الركن: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءًا داخلًا في حقيقته، وهذا خاص في الإيجاب والقبول، أما العاقدان والمعقود عليه فهي من لوازم العقد، وليست جزءًا من حقيقة العقد، وإن كان يتوقف عليها وجوده. بينما الجمهور يرون أن الركن: ما توقف عليه وجود الشيء وتصوره عقلًا، سواء أكان جزءًا من حقيقته أم لم يكن، ووجود العقد يتوقف على العاقدين والمعقود عليه، وإن لم يكن هؤلاء جزءًا من حقيقته. ومذهب الحنفية أجود، وأدق، والجمهور لا يطردون في تحديد الأركان، فاللوازم تارة يعتبرونها من الأركان، وتارة لا يدخلونها، فهم يجعلون الفاعل ركنًا في مثل عقد البيع والنكاح، ولا يجعلونه ركنًا في العبادات كالصلاة والحج، وإن كان لا يتصور قيام الحج والصلاة بدون فاعل. قال في المصباح المنير: "والفرق عسر ... " (¬3). ¬
الفصل الأول في شروط الشركة العامة المتعلقة بالصيغة
الفصل الأول في شروط الشركة العامة المتعلقة بالصيغة ذكر ابن تيمية: أن العقد ينعقد بما عده الناس انعقادًا فيه، من لفظ، أو فعل (¬1). وقال القرافي: مقصود الشرع الرضا، فأي قال على مقصود الشرع اعتبر (¬2). [م - 1279] يشترط في الصيغة: أن تشتمل على ما يفيد الشركة عرفًا، والإذن بالتصرف لمن يتصرف من الشريكين بالبيع والشراء ونحوهما. جاء في الفواكه الدواني: "وأما الصيغة فهي كل ما دل عليها عرفًا من قول كاشتركنا، أو فعل كخلط المالين في شركة الأموال" (¬3). جاء في الشرح الكبير: "ولزمت -أي الشركة- بما يدل عليها عرفًا كاشتركنا ... أو يقوله أحدهما، ويسكت الآخر راضيًا به، أو شاركني، ويرضى الآخر، ولا يحتاج لزيادة على القول المشهور" (¬4). وقد ذكرت في الباب الثالث من عقد البيع أحكام الصيغة (الإيجاب والقبول)، من ذلك: الخلاف في تحديد الإيجاب والقبول. وانقسام الإيجاب والقبول: إلى صريح وكناية، وقولية وفعلية، وأحكامهما. ¬
وتكلمت عن الصيغة القولية للإيجاب والقبول في صيغة الماضي، والمضارع، والأمر، وفي صيغة الإيجاب والقبول بالجملة الاسمية، وفي القبول بكلمة (نعم). وتكلمت عن الصيغة الفعلية كالإيجاب والقبول بالمعاطاة، والخلاف الفقهي في اعتبارها، وفي الإيجاب والقبول عن طريق الإشارة، والكتابة، وعن صيغ الإيجاب والقبول بوسائل الاتصال الحديثة، وفي صدور الإيجاب والقبول من طرف واحد، وفي الإيجاب والقبول الصوري كبيع التلجئة، وفي الهزل في البيع. وتعرضت لشروط الإيجاب والقبول، ولرجوع الموجب، وهل يشترط تقدم الإيجاب على القبول، وفي مبطلات الإيجاب. وبينت مواضع الاتفاق ومواضع الخلاف في كل هذه المسائل، مع بيان الراجح فيها، وما بيتته في عقد البيع يجري على عقد الشركة، وذكره هناك يغني عن تكراره هنا، والحمد لله وحده.
المبحث الأول في انعقاد الشركة بالمعاطاة
المبحث الأول في انعقاد الشركة بالمعاطاة الأصل في العقود من المعاملات المالية أنها تنعقد بكل ما دل على مقصودها، من قول، أو فعل (¬1). وجاء في الموسوعة الكويتية: تقوم دلالة الفعل مقام دلالة اللفظ (¬2). [م - 1280] علمنا أن الإيجاب والقبول عن طريق اللفظ ركن متفق عليه لدى الفقهاء، فتنعقد الشركة بكل لفظ يدل عرفًا على إرادة الشركة، واختلفوا في انعقاد الشركة بالمعاطاة، دون اللفظ. مثاله: لو أن شخصا ما أخرج جميع ما يملك من نقد، وقال لآخر: أخرج مثل هذا واشتر، وما رزق الله من ربح فهو بيننا على التساوي، فلم يتكلم الآخر، وإنما قام بخلط المالين، وأخذ وأعطى، وفعل كما أشار صاحبه، فهل يعتبر هذا الفعل بمنزلة القبول، وتنعقد به الشركة، أم لا بد من اللفظ؟ اختلف الفقهاء في ذلك، والخلاف فيه راجع إلى الخلاف في العقد على سبيل العموم، هل ينعقد بالمعاطاة، أو يحتاج الانعقاد فيه إلى اللفظ: فقيل: العقود تنعقد بالمعاطاة مطلقًا، وهو مذهب الجمهور (¬3). ¬
وقيل: لا تنعقد مطلقًا، وهو مذهب الشافعية، ورواية عن الإِمام أحمد (¬1). وقيل: تنعقد في الخسيس دون النفيس، وهو اختيار الكرخي من الحنفية، والقاضي أبي يعلى وابن الجوزي من الحنابلة (¬2). وسبق ذكر الأدلة في هذه المسألة في مسألة انعقاد البيع بالمعاطاة، وقد ذكرنا حجج كل قول، ورجحنا القول بالجواز مطلقًا، وأجبنا عن أدلة المخالفين بما يغني عن إعادته هنا، والحمد لله. ¬
المبحث الثاني في تعليق انعقاد الشركة
المبحث الثاني في تعليق انعقاد الشركة قال ابن القيم: تعليق العقود، والفسوخ، والتبرعات، والالتزامات، وغيرها بالشروط أمر قد تدعو إليه الضرورة، أو الحاجة، أو المصلحة، فلا يستغني عنه المكلف (¬1). وقال السعدي: التعليق للعقود كلها بالشروط المعلومة غير المجهولة جائز لا محذور فيه (¬2). العقد المنجز: هو الذي خلت صيغة العقد فيه عن التعليق أو الإضافة. ومثال التعليق: أن يقول: شاركتك إن قدم زيد من السفر. والمقصود بالإضافة: إضافة العقد إلى زمن مستقبل، كأن يقول: شاركتك إذا دخل شهر رمضان، أو شاركتك من بداية السنة الجديدة. والعقد المعلق: قيل في تعريفه: هو ربط حصول مضمون جملة، بحصول مضمون جملة أخرى، بأداة من أدوات الشرط (¬3). مثاله: أن يعلق أحد المتعاقدين الشركة على رضا أبيه، أو موافقة زيد من الناس، أو على قدومه. فالتعليق مانع للانعقاد ما لم يحصل الشرط. ¬
القول الأول
والأصل في عقد التمليك أن يكون العقد منجزًا كغيره من العقود، فإذا لم يوجد ما يصرف الصيغة عن التنجيز، فإن الشركة تبدأ من وقت العقد، أو من وقت خلط المالين، على خلاف سيأتي تحريره إن شاء الله تعالى. [م - 1281] وإذا كانت صيغة عقد الشركة معلقة، أو مضافة، فهل تنعقد الشركة؟ لم أقف على نص صريح عن الأئمة في حكم تعليق عقد الشركة. وعقد الشركة إذا نظرت إليه على أنه قائم على جواز التوكل والتوكيل، فقد اختلف الفقهاء في جواز عقد الوكالة، كما لو قال: إذا قدم زيد فأنت وكيلي في بيع هذه السلعة، أو أضاف عقد الوكالة إلى وقت، بأن قال: وكلتك في بيع هذه السلعة غدًا، فقد اختلف الفقهاء في جواز التعليق فيها على قولين: القول الأول: ذهب الجمهور، وهو قول في مذهب الشافعية إلى جواز التعليق في عقد الوكالة (¬1). وتعليلهم في ذلك: قال ابن القيم: "تعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات وغيرها بالشروط أمر قد تدعو إليه الضرورة أو الحاجة، أو المصلحة، فلا يستغني عنه المكلف" (¬2)، ثم ساق أدلته المختلفة على صحة التعليق في أمور شتى. ¬
القول الثاني
ولأن عقد الشركة إذن في التصرف، فجاز تعليقه على شرط مستقبل كالوصية. القول الثاني: ذهب الشافعية في المشهور إلى أنه لا يجوز تعليق عقد الوكالة (¬1). وحجتهم في ذلك: أن العقود لا تنعقد إلا مع الرضا، والرضا إنما يكون مع الجزم، ولا جزم مع التعليق. ولأنه عقد تؤثر الجهالة في إبطاله، فلم يصح تعليقه على شرط كالبيع والإجارة. والراجح القول الأول، وقد سبق لنا الكلام على تعليق العقد في البيع والإجارة، ورجحت صحة تعليق العقود فيهما، فإذا صح ذلك في عقود التمليكات صح من باب أولى في عقود المشاركات، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني في شروط الشركة العامة المتعلقة بالعاقد
الفصل الثاني في شروط الشركة العامة المتعلقة بالعاقد المبحث الأول في اشتراط توفر الأهلية في العاقدين قال الحنفية: الشركة تتضمن معنى الوكالة (¬1). وقال الكسائي: ما تجوز فيه الوكالة تجوز فيه الشركة (¬2). [م - 1282] يشترط في العاقدين توفر الأهلية، والأهلية في الشركاء: هو صلاحية كل منهما للتوكل والتوكيل من أجل صحة التصرف، وهذا يعني أن يكون الشريك عاقلًا حرًا رشيدًا، وهذا بالاتفاق (¬3). وذلك أن عقد الشركة مبني على الوكالة، فالشريك وكيل في نصيب شريكه، وموكل لشريكه فيما هو فيه أصيل. وهذا الشرط موضع وفاق في الجملة حيث يكون العمل لكلا الشريكين (¬4). وإذا كان العمل لأحد الشريكين: فالشرط أن يكون أهلية الآذن للتوكيل، وأهلية المأذون للتوكل. ومن هنا اختلفوا في اشتراط الإبصار والبلوغ، والإِسلام. ¬
فالشافعية مثلًا يصححون أن يكون الأعمى موكلًا، ولا يصححون أن يكون وكيلًا خلافًا للجمهور (¬1). هذا في اشتراط الإبصار. وفي اشتراط البلوغ: صحح الحنفية للصبي المميز -ولو بغير إذن وليه- أن يكون وكيلًا في شركة العنان، ولا يرونه أهلًا أن يكون موكلًا إلا أن يأذن له وليه، ولا تصح منه شركة المفاوضة مطلقًا؛ لأنه يشترط لها أن يكون من أهل الكفالة، والصبي ليس من أهل الكفالة (¬2). والحنابلة يجيزون ذلك بشرط إذن الولي (¬3). وأما الشافعية فلا يجيزون أن يكون الصبي وكيلًا، ولا موكلًا مطلقًا، أذن الولي، أو لم يأذن (¬4). ¬
وقد تكلمت عن عقد الصبي بالتفصيل في عقد البيع فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وأما اشتراط الإسلام فقد عقدت له فصلًا مستقلًا؛ لأنه لم يسبق بحثه في عقد البيع، والله الموفق.
الفرع الأول في اشتراط إسلام الشريك
الفرع الأول في اشتراط إسلام الشريك قال الكاساني: ما تجوز فيه الوكالة تجوز فيه الشركة (¬1). وغير المسلم أهل للتوكيل. [م - 1283] اختلف الفقهاء في اعتبار الإِسلام شرطًا في الأهلية المعتبرة للشركة: فقيل: تجوز مشاركة غير المسلم بشروط، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وجماعة من السلف (¬2)، على اختلاف بينهم في شروط الجواز (¬3). ¬
دليل من قال: تجوز بشروط
لأن المنع من أجل التهمة، وهذا لا يفسد الشركة. دليل من قال: تجوز بشروط: الدليل الأول: (ح -890) ما رواه البخاري في صحيحه بسنده، عن ابن عمر -رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أعطى خيبر اليهود أن يعملوها، ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها (¬1). وجه الاستدلال: إذا صح أن تكون الثمرة مشتركة في عقدي المساقاة والمزارعة بين الرسول -صلى الله عليه وسلم - وبين اليهود، صحت مشاركة المسلم لغيره في سائر عقود المشاركات. الدليل الثاني: تعامل الرسول -صلى الله عليه وسلم - مع اليهود بيعًا وشراء، وإذا صحت معاملتهم فالشركة نوع من المعاملة. (ح - 891) فقد روى البخاري من طريق الأسود، عن عائشة -رضي الله عنها -، قالت: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير (¬2). (ح -892) وأكل الرسول -صلى الله عليه وسلم - من طعام أهل الكتاب. والحديث في الصحيحين (¬3)، ولا يأكل الرسول -صلى الله عليه وسلم - إلا طيبًا. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: الشركة تقوم على الوكالة كما في شركة العنان، أو على الوكالة والكفالة كما في شركة المفاوضة، وغير المسلم أهل للوكالة والكفالة، فتصح شركته. القول الثاني: قالوا: تكره مشاركة المسلم لغيره، وهو مذهب الشافعية، واختاره بعض المالكية، واختار الحنابلة الكراهة في مشاركة المجوسي والوثني دون الكتابي (¬1). جاء في شرح منتهى الإرادات: "وتكره مشاركة مسلم مع كافر مجوسي نصًا؛ لأنه لا يأمن معاملته بالربا، وبيع الخمر ونحوه، ولا تكره الشركة مع كتابي لا يلي التصرف، بل يليه المسلم" (¬2). دليل من قال: بالكراهة: (ث -160) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن أبي حمزة، قال: قلت لابن عباس: إن رجلًا جلابًا يجلب الغنم، وإنه ليشارك اليهودي والنصراني. قال: لا يشارك يهوديًا، ولا نصرانيًا، ولا مجوسيًا. قال: قلت: لم؟ قال: لأنهم يربون، والربا لا يحل (¬3). [حسن إن شاء الله] (¬4). ¬
وإذا كان النهي من أجل مخافة الوقوع في الربا فإن هذا يمكن أن يتقيه الشريك المسلم بأن يكون المال في يده، أو تكون الشركة معقودة على سلع معينة مباحة. وبناء على ما تقدم نرى أن العلماء قاطبة لم يعتبروا مشاركة الكافر من الموالاة المحرمة، وأكثرهم على الجواز بلا كراهة إذا كان المسلم هو الذي يلي العمل، أو كان المال حاضرًا بين الشريكين لا يغاب في يد الكافر (¬1). ومن كره هذه المعاملة علل ذلك بالخوف في الوقوع في الكسب المحرم؛ لأن الكافر لا يتقي الكسب المحرم كالربا، ولذلك لو كان هذا الأمر مأمونًا لم يكن هناك حاجة إلى اشترط مثل هذا الشرط، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني في عقد الشركة على الأشياء المباحة
الفرع الثاني في عقد الشركة على الأشياء المباحة قال الكاساني: ما تجوز فيه الوكالة تجوز فيه الشركة، وما لا تجوز فيه الوكالة لا تجوز فيه الشركة (¬1). المباح قبل حيازته لا مالك له، ولا يجوز بيعه (¬2). قال السرخسي: المباح إنما يملك بالإحراز (¬3). قال ابن قدامة: العمل أحد جهتي المضاربة، فصحت الشركة عليه كالمال (¬4). [م - 1284] سبق لنا أنه يشترط في العاقد أن يكون أهلًا للتوكل والتوكيل، وهذا يعني أنه لا بد للمعقود عليه أن يكون قابلًا للوكالة؛ ليكون تصرف كل شريك في نصيب شريكه صحيحًا. وقد اختلف الفقهاء في عقد الشركة على الأشياء المباحة كالاحتطاب، والاحتشاش على قولين: القول الأول: أن الاشتراك بالأعمال المباحة كالصيد والحطب، والحشيش شركة فاسدة وهذا مذهب الحنفية (¬5). ¬
القول الثاني
القول الثاني: الاشتراك على ذلك شركة صحيحة، وهذا مذهب المالكية، والحنابلة (¬1). وأما الشافعية فقد منعوا شركة الأبدان مطلقًا كما سيأتي عند الكلام على شركة الأعمال (الأبدان) (¬2). وسبب الخلاف بين الحنفية وبين المالكية والحنابلة: هو في صحة التوكيل في تملك المباحات، فالشركة بالاتفاق تبع للوكالة، والوكالة في تملك المباح فيه نزاع: فالحنفية يرون أن المباح قبل حيازته لا مالك له، ومن شروط الوكالة أن يكون الموكل له ملك أو ولاية فيما وكل به، ولا ملك ولا ولاية في الأمور المباحة قبل حيازتها، ويكون ملك الحطب لمن حازه. وأما المالكية والحنابلة فنظروا في الجواز إلى أن هذا اشتراك في اقتسام ثمرة العمل، فإذا جاز الاشتراك في اقتسام ما عملاه بأيديهما من خياطة، أو صناعة، فكذلك الاشتراك في الاحتطاب والاحتشاش، فإنه من عمل أيديهما. ولأن العمل أحد جهتي المضاربة، فصحت الشركة عليه كالمال، فالعقد في الشركة موجه إلى ما ينتجه العمل في الأمور المباحة، لا في مباح خال من العمل والإحراز. ولأن الشخص يصح له أن يستنيب في تحصيل المباحات بأجر، فكذلك يصح توكيل كل واحد منهما صاحبه بنصف ما يكتسبه الآخر. ¬
وقد اعترض على هذا الحديث
جاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن اشتركا على أن يحتطبا على دوابهما، أو على غلمانهما، أو يحتشا عليهم، أو يلقطا الحب أو الثمار، أو يحملاه على الدواب فيبيعان ذلك، أتجوز هذه الشركة في قول مالك أم لا؟ قال: إذا كانا جميعا، يعملان في عمل واحد لا يفترقان، فذلك جائز. وهذا بمنزلة لو عملا بأيديهما في شيء واحد" (¬1). (ث - 161) ويستدل الحنابلة على الجواز بما رواه ابن أبي شيبة من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: اشتركنا يوم يدر أنا وعمار وسعد فيما أصبنا يوم بدر، فأما أنا وعمار فلم نجئ بشيء، وجاء سعد بأسيرين (¬2). [أعله بعضهم بالانقلاع، ورأى بعضهم أن حديث أبي عبيدة عن أبيه في حكم المتصل] (¬3). وقد اعترض على هذا الحديث: بأنه كيف ينفرد أحد من الجند بما يصيب من الغنائم قبل قسمة الغنائم بين الجند. وأجاب الحنابلة: بأن هذا كان يوم بدر، وقبل نزول التشريع في قسمة الغنائم. وأما خلاف الشافعية مع الجمهور في رفض شركلة الأعمال مطلقًا فسوف نتعرض له بشيء من التفصيل عند الكلام على شركة الأعمال (الأبدان) والله أعلم. ¬
الباب الثاني في شركة الأموال
الباب الثاني في شركة الأموال الفصل الأول في شركة العنان المبحث الأول في تعريف شركة العنان وبيان خصائصها تعريف العنان اصطلاحًا (¬1): إذا بحثنا قبل تعريف شركة العنان عن سبب تسمية هذا النوع بهذا الاسم وجدناه يدور على ثلاثة معان: المعنى الأول: أنها إنما سميت بهذا الاسم لتساوي الشريكين في ولاية التصرف والفسخ، ¬
المعنى الثاني
واستحقاق الربح بقدر المالين، كالفارسين إذا سويا بين فرسيهما، وتساويا في السير، كاستواء طرفي العنان (¬1). المعنى الثاني: أن التسمية مأخوذ من منع العنان الدابة، فكون الشريك ممنوعًا من التصرف إلا بإذن شريكه، ومعرفته، فكأنه أخذ بعنانه: أي بناصيته أن لا يفعل فعلًا إلا بإذنه (¬2). المعنى الثالث: أن شركة العنان مأخوذة من عَنَّ الشيء إذا عرض؛ لأن كلًا منهما عَنَّ له أن يشارك صاحبه. قال الماوردي: "واختلف الناس لمَ سميت شركة العنان. قال قوم: لأنهما قد استويا في المال مأخوذًا من استواء عنان الفرسين إذا تسابقا. وقال آخرون: إنما سميت شركة العنان؛ لأن كل واحد منهما قد جعل لصاحبه أن يتجر فيما عَنَّ له: أي عرض. وقال آخرون: إنما سميت بذلك؛ لأن كل واحد منهما يملك التصرف في جميع المال كما يملك عنان فرسه، فيصرفه كيف يشاء" (¬3). إذا عرفنا سبب التسمية فقد اختلف الفقهاء في تعريف شركة العنان اصطلاحًا نظرًا لاختلافهم في تقسيم الشركات. ¬
تعريف الحنفية لشركة العنان
تعريف الحنفية لشركة العنان: عرفها بعض الحنفية: أن يشترك اثنان في نوع بر، أو طعام، أو يشتركا في عموم التجارات، ولا يذكرا الكفالة (¬1). خصائص شركة العنان عند الحنفية: الأول: أنها عقد قائم على الوكالة دون الكفالة (الضمان)، كما هو واضح من التعريف. وهذا يعني: أن الشركة تنعقد ممن ليس بأهل للكفالة بأن كان أحدهما صبيًا مأذونًا له في التجارة، أو كلاهما (¬2). كما يعني ذلك أيضًا أن تكون الشركة مطلقة عن التقييد بوقت، ويجوز أن تكون مقيدة بوقت معين؛ لأن الوكالة يجوز فيها أن تكون مطلقة، ومقيدة، وهو أحد القولين في مذهب الحنفية (¬3). الثاني: أنها تقبل أن تكون في عموم التجارات، أو في نوع خاص منها بحسب الاشتراط قياسًا على الوكالة، فإنها تصح أن تكون عامة، ويجوز أن تكون خاصة (¬4). جاء في البحر الرائق نقلًا عن البزازية: "شركة العنان عامة، بأن يشتركا في أنواع التجارات كلها، وخاصة، وهو أن يشتركا في شيء واحد كالثياب والرقيق" (¬5). ¬
تعريف الحنابلة
الثالث: يجوز أن يشترط العمل عليهما ... ويجوز أن يشترطا العمل على أحدهما دون الآخر (¬1). الرابع: تصح الشركة مع التساوي في المال والربح، ومع التفاضل فيهما خلافًا لزفر القائل: إن الربح يجب أن يكون على قدر رأس المال (¬2). وتتفق شركة العنان عند الحنابلة في خصائصها مع تعريف الحنفية، لهذا أحببت أن أقدم تعريف الحنابلة لشركة العنان على تعريف المالكية والشافعية. تعريف الحنابلة: قال في الإقناع: "شركة العنان: بأن يشترك اثنان فأكثر بماليهما، ليعملا فيه ببدنيهما وربحه بينهما، أو يعمل أحدهما بشرط أن يكون له من الربح أكثر من ربح ماله" (¬3). فالشركة عند الحنابلة تتفق مع الحنفية في أغلب خصائصها، فهي تقوم على الوكالة، وتقبل أن تكون في عموم التجارات، أو في نوع خاص منها، ويجوز أن يكون العمل منهما، أو من أحدهما، وتصح الشركة مع التساوي في المال والربح ومع التفاضل فيهما، ويختلفون مع الحنفية أن الحنفية لا يدخلون الضمان في شركة العنان خلافًا للحنابلة، والله أعلم. تعريف المالكية لشركة العنان: هناك ثلاثة تعاريف للمالكية لشركة العنان: ¬
التعريف الأول
التعريف الأول: وهو ما عليه أكثر المالكية كالقاضي عبد الوهاب البغدادي، والقرافي وابن عبد السلام وابن حاجب وابن شاس، ومشى عليه خليل في مختصره، واعتمده شراح مختصر خليل: أن شركة العنان: أن يجعل كل واحد من الشريكين مالًا، ثم يخلطاه، أو يجعلاه في صندوق واحد، ويتجرا به معًا، ولا يستبد أحدهما بالتصرف دون الآخر (¬1). فأكثر المالكية على أن خصائص شركة العنان هي خصائص شركة المفاوضة إلا في شيء واحد، وهو تقييد التصرف. ولذا قال ابن عبد السلام: "إن كلًا من الشريكين يجوز تصرفه في مال شريكه في حضرته، ومع غيبته، فلو شرطا أنه لا يتصرف واحد منهما إلا بحضرة صاحبه وموافقته عليه ... لزم الشرط، وتسمى شركة عنان" (¬2). فيكفي في تسمية الشركة بشركة العنان وجود هذا الشرط في عقد الشركة، سواء كانت الشركة في نوع من المال، أو في أنواع منه. وفي شرح ميارة: "الثالثة شركة العنان، وفسرها ابن الحاجب، وابن شاس، بأن يشترط كل منهما نفي الاستبداد: أن لا يفعل أحدهما شيئًا حتى يشاركه فيها الآخر" (¬3). وقال الخرشي: "شركة العنان ... مأخوذة من عنان الدابة، أي كل واحد من ¬
وبناء على هذا تكون خصائص شركة العنان عند أكثر المالكية هي
الشريكين شرط على صاحبه أن لا يستبد بفعل شيء في الشركة إلا بإذن شريكه، ومعرفته، فكأنه أخذ بعنانه: أي بناصيته أن لا يفعل فعلاً إلا بإذنه" (¬1). وقال القرافي: "وإنما تجوز شركة العنان بأربعة شروط: الأول: استواء المالين في الجنس والصفة. الثاني: خلطها. الثالث: إذن كل واحد في التصرف. الرابع: اتفاقهما على أن الربح والخسران على قدر المال" (¬2). وبناء على هذا تكون خصائص شركة العنان عند أكثر المالكية هي: الأول: استواء المالين في الجنس والصفة. الثاني: لا بد من خلط المالين حقيقة، أو حكمًا. الثالث: أن الشريك لا يستقل بالتصرف، فلا بد من إذن الشريك فرقًا بينها وبين شركة المفاوضة، قال ابن عبد البر: "وإذا اشتركا شركة عنان في سلعة موصوفة، أو بعينها لم يكن لأحدهما بيعها بغير إذن صاحبه، وهذه شركة الأعيان في كل شيء معين معلوم يشتريانه" (¬3). الرابع: أن يكون الربح والخسران على قدر رؤوس الأموال. وهذا ما عليه أكثر المالكية، وهو الذي سوف أعتمده في أحكام الشركات. ¬
التعريف الثاني: تعريف ابن رشد وابن القاسم
التعريف الثاني: تعريف ابن رشد وابن القاسم: قال ابن رشد الجد في تعريف شركة العنان: "وأما شركة العنان فهي الشركة في شيء خاص، كأنه عَنَّ لهما أمر، أي عرض، فاشتركا فيه، فهي مأخوذة من قولهم عن الشيء يعن: إذا عرض" (¬1). فخصائص شركة العنان عند ابن رشد: أن الشركة تكون في نوع من المال خاص، وليس في كل الأموال، وسواء شرط فيها نفي الاستبداد، أو لم يشترط. "فكلام ابن رشد يدل على أنها الشركة الواقعة في شيء خاص، كالاشتراك في شراء مزرعة من البطيخ، أو الباذنجان، أو قطيع من المواشي، وإعادة بيعه، وتوزيع أرباحه على الشركاء، وبذلك ينتهي الاشتراك بينهما" (¬2). وهو يتفق في المضمون مع رأي ابن القاسم، إلا أن ابن القاسم لا يعتمد التسمية باعتبارها غير معروفة في الحجاز. قال سحنون كما في المدونة: "قلت: هل كان مالك يعرف شركة عنان؟ قال -أي ابن القاسم- ما سمعته من مالك، ولا رأيت أحدًا من أهل الحجاز يعرفه. قال ابن القاسم: وما اشتركا فيه، إن كان في جميع الأشياء فقد تفاوضا، وإن كانا إنما اشتركا في أن يشتريا نوعًا واحدًا من التجارات، مثل الرقيق، والدواب، فقد تفاوضا في ذلك النوع. فأما العنان فلا يعرف، ولا نعرف من قول مالك إلا ما وصفت" (¬3). ¬
التعريف الثالث للمالكية
التعريف الثالث للمالكية: وهناك قول ثالث في تعريف شركة العنان، وهي أن يشتركا في واحد كدابة أو ثوب. فتحصل لنا ثلاثة تعريفات عند المالكية: جمعها الحطاب في مواهب الجليل بقوله: "لو شرط أنه لا يتصرف واحد منهما إلا بحضرة صاحبه، وموافقته على ذلك، وهو معنى نفي الاستبداد لزم الشرط، وتسمى شركة عنان، وظاهر كلامه أنه يكفي في تسميتها بهذا الاسم حصول الشرط المذكور، سواء كانت في نوع من المتاجر، أو لا. ومنهم من قال: هي الشركة في نوع مخصوص، سواء حصل ذلك الشرط، أو لم يحصل. ومنهم من قال: هي الشركة في شيء بعينه، يعني كثوب واحد، أودابة واحدة" (¬1). تعريف الشافعية لشركة العنان: عرفها الماوردي بقوله: "شركة العنان هي: أن يخرج كل واحد منهما مالًا مثل مال صاحبه، ويخلطاه فلا يتميز ويأذن كل واحد منهما لصاحبه أن يتجر بالمال فيما رأى من صنوف الأمتعة على أن يكون الربح بينهما على قدر المالين، والخسران كذلك" (¬2). خصائص شركة العنان عند الشافعية: الأول: أن يكون المال من الدراهم أو الدنانير، وقيل: تصح في كل مثلي. ¬
الثاني: أن يكونا من جنس واحد؛ ليمكن خلطهما. الثالث: أن يخلط أحدهما بالآخر بحيث لا يتميزا. الرابع: أن يكون الربح بقدر المالين، والخسارة كذلك (¬1). وبهذا نكون قد عرفنا شركة العنان وخصائصها عند كل مذهب من المذاهب الفقهية، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في حكم شركة العنان
المبحث الثاني في حكم شركة العنان [م - 1285] اتفق الفقهاء على جواز شركة العنان وإن اختلفوا في بعض الشروط. قال الكاساني في البدائع: "وأما الكلام في الشركة بالأموال: فأما العنان فجائز بإجماع فقهاء الأمصار، ولتعامل الناس ذلك في كل عصر من غير نكير" (¬1). وقال في التاج والإكليل: "من أقسام شركة الأموال شركة العنان ... وهذه الشركة جائزة بإجماع لجميع الناس، إذا اتفقوا عليها ورضوا بها" (¬2). وقال القرافي: "وشركة العنان متفق على جوازها" (¬3). وقال في مغني المحتاج: "وشركة العنان صحيحة بالإجماع" (¬4). وقال ابن قدامة: "وهي جائزة بالإجماع، ذكره ابن المنذر، وإنما اختلف في بعض شروطها" (¬5). ومستند الإجماع أدلة كثيرة من الكتاب والسنة ذكرتها عند الكلام على حكم المشاركة على سبيل الإجمال، من ذلك: ¬
(ح -893) ما رواه البخاري من طريق سليمان بن أبي مسلم، قال: سألت أبا المنهال عن الصرف يدًا بيد، فقال: اشتريت أنا وشريك لي شيئا يدًا بيد ونسيئة، فجاءنا البراء بن عازب، فسألناه، فقال: فعلت أنا وشريكي زيد بن أرقم، وسألنا النبي -صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: ما كان يدًا بيد فخذوه، وما كان نسيئة فذروه (¬1). ¬
الفصل الثاني في شركة المفاوضة
الفصل الثاني في شركة المفاوضة المبحث الأول في تعريف شركة المفاوضة تعريف شركة المفاوضة اصطلاحًا (¬1): شركة المفاوضة هي القسم الثاني من شركة الأموال، فقد سبق لنا القسم الأول منها، وهي شركة العنان. وقد اختلف الفقهاء في تعريف شركة المفاوضة اصطلاحًا؛ لاختلافهم في بعض شروطها. تعريف الحنفية لشركة المفاوضة: جاء تعريف الحنفية لشركة المفاوضة بقولهم: "أن يشترك الرجلان، فيتساويا في مالهما، وتصرفهما، ودينهما" (¬2). ¬
الشرط الأول
فالمفاوضة بناء على هذا التعريف لابد أن يتحقق فيها الشروط التالية: الشرط الأول: أن يتساويا في مالهما، والمراد بالمال ما تصح الشركة فيه، وهو الأثمان عند الحنفية (الدراهم والدنانير) ولا يعتبر التفاضل فيما لا تصح فيه الشركة، كالعروض، والديون، والعقار، حتى لو كان لأحدهما عروض أو ديون على الناس لا تبطل المفاوضة ما لم تقبض الديون (¬1). قال في فتح القدير: "وإن ورث أحدهما مالًا تصح فيه الشركة، أو وهب له، ووصل إلى يده بطلت المفاوضة، وصارت عنانًا؛ لفوات المساواة فيما يصلح رأس المال، إذ هي شرط ابتداء وبقاء، وهذا لأن الآخر لا يشاركه فيما أصابه؛ لانعدام المساواة في حقه، إلا أنها تنقلب عنانًا؛ لأن العنان لا يشترط فيها المساواة، وإن ورث أحدهما عرضًا فهو له، ولا تفسد المفاوضة، وكذا العقار؛ لأنه لا تصح فيه الشركة فلا تشترط المساواة فيه" (¬2). وهذا الشرط انفرد به الحنفية، وهو شرط يصعب تحقيقه في الواقع، ويجعل قيام شركة المفاوضة بشروط الحنفية لا يكاد يوجد، وإن وجد لا يعمر طويلًا؛ لأن استمرار كل شريك على ما كان له من نقود عند تكوين الشركة، وعدم زيادتها بعد ذلك أمر يكاد يكون متعذرًا. الشرط الثاني: اشترط الحنفية أن يعقد الشركة بلفظ المفاوضة، فإن لم يذكر لفظها فلابد من ¬
الشرط الثالث
ذكر تمام معناها، بأن يقول أحدهما للآخر، وهما حران بالغان مسلمان أو ذميان: شاركتك في جميع ما أملك من نقد، وقدر ما تملك على وجه التفويض العام من كل منا للآخر في التجارات، والنقد، والنسيئة، وعلى أن كلًا منا ضامن عن الآخر ما يلزمه من أمر كل بيع (¬1). وسوف نناقش هذا الشرط في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى. الشرط الثالث: التساوي في التصرف، بأن يقدر كل واحد منهما على جميع ما يقدر عليه الآخر، وإلا فات معنى المساواة (¬2). فلا تصح الشركة بين صبي وبالغ؛ حتى ولو كان الصبي مأذونًا له في التجارة؛ لأنه يجب أن يكون لكل واحد من الشريكين أهلية الكفالة، بأن يكون بالغًا حرًا عاقلًا، والصبي ليس أهلًا للكفالة. الشرط الرابع: التساوي في الدين، بأن تكون الشركة بين مسلمين، أو ذميين، فلا تصح الشركة بين مسلم وذمي، وهذا الشرط عند الحنفية راجع إلى الشرط السابق، وهو التساوي في التصرف؛ لأن التساوي في التصرف غير موجود بين المسلم والكافر؛ لأن الكافر إذا اشترى خمرًا أو خنزيرًا لا يقدر المسلم أن يبيعه وكالة من جهته، فيفوت شرط التساوي في التصرف خلافًا لأبي يوسف حيث أجازها مع الكراهة، وقد سبق بحث هذه المسألة في شركة العنان. ¬
الفرق بين شركة المفاوضة وشركة العنان عند الحنفية
الفرق بين شركة المفاوضة وشركة العنان عند الحنفية: يشترط التساوي في الأموال النقدية في شركة المفاوضة، ولا يشترط ذلك في العنان. ويشترط أن تكون المفاوضة في عموم التجارات، وأما العنان فلا يشترط ذلك. ويشترط التساوي في الربح في شركة المفاوضة، وأما العنان فيجوز أن يكون الربح حسب الاتفاق تساويا في رأس المال، أو تفاضلا. ويشترط التساوي في التصرف في شركة المفاوضة وذلك أن يكون في كل واحد من الشريكين أهلية الكفالة بأن يكون بالغًا حرًا عاقلًا، وأما العنان فلا يشترط ذلك، وإنما يشترط فيه أهلية التوكل والتوكيل. شركة المفاوضة تعطي الحق المطلق في التصرف، بينما شركة العنان يكون الشريك فيها مقيدًا بإذن الشريك، أو عادة التجار. ويشترط التساوي في الدين في شركة المفاوضة، ولا يشترط في شركة العنان، وهذا الشرط راجع إلى اشتراط التساوي في التصرف كما قدمنا. تعريف شركة المفاوضة عند المالكية: عرفها أبو بكر الطرطوشي بقوله: "أن يفوض كل واحد التصرف للآخر في البيع والشراء، والضمان، والكفالة، والتوكيل، والقراض، وما فعله لزم الآخر إن كان عائدًا إلى تجارتهما، ولا يكونان شريكين إلا فيما يعقدان عليه الشركة متفاضلًا أم لا، إذا كان الربح والعمل على قدر ذلك" (¬1). ¬
الفرق بين شركة العنان وشركة المفاوضة عند المالكية
ومن خلال هذا التعريف تتضح لنا شركة المفاوضة من خلال العناصر التالية: (1) لا يشترط المساواة في رأس مال الشركة، بل تنعقد الشركة وإن تفاضل الشركاء في الحصص المقدمة منهم، وليس عليهم أن يقدموا كافة ما يملكون من الأموال، بل يجوز أن يستبقي الشريك ما شاء، ويشارك بما شاء. جاء في الشرح الكبير: "ولا يفسدها -يعني شركة المفاوضة- انفراد أحدهما، أو كل منهما بشيء من المال غير مال الشركة يعمل فيه لنفسه" (¬1). (2) التساوي بين الشركاء في التصرف، فتصرف الشريك بالبيع أو بالشراء، أو بالضمان، أو بالتوكيل يكون ملزمًا للعاقد وبقية الشركاء، سواء كانوا حاضرين أثناء التعاقد أم لا؛ لأن يد كل واحد منهما كيد الجميع. (3) الربح والعمل على قدر رأس المال، فلو كانت الشركة بين اثنين مثلًا، وشارك أحدهما بالثلث، والآخر بالثلثين، فعلى الأول ثلث الأعمال، على الثاني الثلثان، والربح بينهما على مثل ذلك، فالأول له ثلث الربح، والثاني له الثلثان، ولا يجوز الاتفاق على خلافه (¬2). قال القاضي عبد الوهاب: "ولا يجوز أن يشترط العمل أو الربح بخلاف رؤوس الأموال" (¬3). الفرق بين شركة العنان وشركة المفاوضة عند المالكية: أكثر المالكية على أن خصائص شركة العنان هي خصائص شركة المفاوضة ¬
الاتفاق والاختلاف بين تعريف الحنفية والمالكية
إلا في شيء واحد، أن شركة العنان من شرطها ألا يستبد أحدهما بالتصرف دون الآخر بخلاف شركة المفاوضة. ولذا قال ابن عبد السلام: "إن كلًا من الشريكين يجوز تصرفه في مال شريكه في حضرته، ومع غيبته، فلو شرطا أنه لا يتصرف واحد منهما إلا بحضرة صاحبه، وموافقته عليه ... لزم الشرط، وتسمى شركة عنان" (¬1). فالفرق بين شركة العنان، وشركة المفاوضة، هو وجود هذا الشرط في عقد الشركة، سواء كانت الشركة في نوع من المال أو في أنواع منه. وبهذا نعرف أن شركة المفاوضة بمفهومها عند المالكية لا خلاف فيها عند الفقهاء حتى الشافعية الذين يمنعون شركة المفاوضة يمكن أن يقولوا بالجواز إذا تم خلط المالين، وكانا من جنس واحد. الاتفاق والاختلاف بين تعريف الحنفية والمالكية: يتفق الحنفية والمالكية في إطلاق التصرف من كل من الشريكين للآخر، ومساواتهما في ذلك. ويتفقون أيضًا أن شركة المفاوضة قائمة على الوكالة والكفالة. ويختلفون فيما بينهم: (1) أن الحنفية يشترطون المساواة في الأموال بحيث لا يكون أحد الشركاء مستقلًا بمال غير مال الشركة، بينما يرى المالكية أن المساواة في مال الشركة ليست شرطًا، فتصح المفاوضة سواء اشتركا في كل ما يملكانه، أو في بعض أموالهما. ¬
تعريف شركة المفاوضة عند الحنابلة
(2) يعتبر الحنفية المساواة في الدين شرطًا لصحة شركة المفاوضة بخلاف المالكية فلا يعتبرونه شرطًا، بل تصح شركة المفاوضة بين المسلم والذمي بشرط أن لا يغيب الذمي على بيع أو شراء، أو قضاء أو اقتضاء إلا بحضرة المسلم. تعريف شركة المفاوضة عند الحنابلة: يرى الحنابلة أن المفاوضة نوعان: النوع الأول: نوع جائز: وهو أن يفوض كل منهما إلى صاحبه الشراء والبيع، والمضاربة والتوكيل، والابتياع في الذمة والمسافرة بالمال، والارتهان، وضمان ما يرى من الأعمال (¬1). والشركة بهذا التعريف من أوسع أنواع الشركات، فهي عقد يجمع الشركات كلها على اختلاف أنواعها من عنان، ووجوه، وأبدان، وجميعها منصوص على صحتها في المذهب. وقد سبق لنا تعريف شركة العنان، وأما شركة الوجوه والأبدان فسوف نفردهما بالدراسة والبحث إن شاء الله تعالى. وهذا التعريف لشركة المفاوضة قريب جدًا من تعريف المالكية، إلا أن المالكية لا يدخلون في الشركة شركة الوجوه؛ لأن الشركة عندهم لا تقوم إلا على أحد أمرين: المال أو العمل، وكلاهما معدوم في شركة الوجوه، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على شركة الوجوه في باب مستقل، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. ¬
النوع الثاني: نوع ممنوع
النوع الثاني: نوع ممنوع: وهو أن يدخلا بينهما في الشركة الاشتراك فيما يحصل لكل واحد منهما من ميراث، أو يجده من ركاز، أو لقطة، ويلزم كل واحد منهما ما يلزم الآخر من أرش جناية، وضمان غصب، وقيمة متلف، وغرامة ضمان، أو كفالة (¬1). وهذا النوع الثاني يتفق مع تعريف الشافعية للمفاوضة: حيث عرفها بعضهم: بأن يشترك اثنان، ليكون بينهما كسبهما بأموالهما وأبدانهما، وعليهما ما يعرض من غرم، ولو بغير الشركة كغصب، وإتلاف، وبيع فاسد، وغير ذلك (¬2). وهذا النوع يعتبر شركة فاسدة عند الشافعية والحنابلة لما تنطوي عليه من الغرر، وبهذا يتبين أن المالكية والحنابلة في التفسير الأول للمفاوضة لا يتضمن شيئًا من أنواع الغرر التي حرمت من أجلها شركة المفاوضة عند الشافعية ومن تبعهم. وبهذا يعلم أن اختلاف الشافعية في شركة المفاوضة مع الجمهور ليس متجهًا إلى حقيقة واحدة، منعها الشافعية وأجازها الجمهور، فشركة المفاوضة التي أجازها المالكية والحنابلة تختلف تمامًا عن الشركة التي منعها الشافعية في شركة المفاوضة، بل إن الشركة التي منعها الشافعية لا يختلف معهم الحنابلة في منعها، بل ولا حتى الحنفية والمالكية لإدخالهم في الشركات أنواعًا من التصرفات لا يجيز الفقهاء المشاركة فيها. ¬
المبحث الثاني في اشتراط لفظ المفاوضة في الصيغة
المبحث الثاني في اشتراط لفظ المفاوضة في الصيغة قال الزركشي: الرضا هو المعتبر في العقود (¬1). [م - 1286] اختلف الفقهاء في اشتراط لفظ المفاوضة في الصيغة على قولين: القول الأول: ذهب الجمهور إلى أن الشركة باختلاف أنواعها تنعقد بما يدل عليها عرفًا. جاء في الفواكه الدواني: "وأما الصيغة فهي كل ما دل عليها عرفًا من قول كاشتركنا، أو فعل كخلط المالين في شركة الأموال" (¬2). وجاء في الشرح الكبير: "ولزمت -أي الشركة- بما يدل عليها عرفًا كاشتركنا ... أو يقوله أحدهما، ويسكت الآخر راضيًا به، أو شاركني، ويرضى الآخر، ولا يحتاج لزيادة على القول المشهور" (¬3). القول الثاني: اختلف الحنفية في اشتراط لفظ المفاوضة في انعقاد شركة المفاوضة خاصة؛ لأنهم انفردوا عن الجمهور بشروط يجب تحققها في العقد، لا تجب بمطلق العقد، وقد لا يعرفها عامة الناس. ¬
فذهب أبو حنيفة من رواية الحسن عنه، وهو قول أبي يوسف ومحمد إلى أن شركة المفاوضة لا تنعقد إلا بلفظ المفاوضة؛ لأن لشركة المفاوضة مقتضيات لا تجمعها إلا هذه اللفظة، إلا أن يكون المتعاقدان يعرفان أحكام المفاوضة، وقد استطاعوا على استيفاء شرائطها بلفظ آخر، فإن العقد يصح بينهما. جاء في المبسوط: "روى الحسن عن أبي حنيفة أن المفاوضة لا تنعقد إلا بلفظ المفاوضة حتى إذا لم يذكر لفظ المفاوضة كان عنانًا عامًا ... وتأويل هذا أن أكثر الناس لا يعرفون جميع أحكام المفاوضة، فلا يتحقق منهما الرضا بحكم المفاوضة قبل علمهما به، ويجعل تصريحهما بالمفاوضة قائمًا مقام ذلك كله؛ فإن كان المتعاقدان يعرفان أحكام المفاوضة صح العقد بينهما إذا ذكرا معنى المفاوضة، وإن لم يصرحا بلفظها؛ لأن المعتبر المعنى دون اللفظ" (¬1). وقال في بدائع الصنائع: "ومنها: لفظ المفاوضة في شركة المفاوضة كذا روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا تصح شركة المفاوضة إلا بلفظ المفاوضة، وهو قول أبي يوسف ومحمد؛ لأن للمفاوضة شرائط لا يجمعها إلا لفظ المفاوضة أو عبارة أخرى تقوم مقامها، والعوام قلما يقفون على ذلك، وهذه العقود في الأعم الأغلب تجرى بينهم، فإن كان العاقد ممن يقدر على استيفاء شرائطها بلفظ آخر يصح، وإن لم يذكر لفظها؛ لأن العبرة في العقود لمعانيها، لا عين الألفاظ" (¬2). وجاء في تنقيح الفتاوى الحامدية: "شركة المفاوضة لها شروط منها العقد بلفظ المفاوضة، فإن لم يذكر لفظها فلا بد من أن يذكر تمام معناها بأن يقول ¬
أحدهما للآخر، وهما حران، بالغان، مسلمان، أو ذميان: شاركتك في جميع ما أملك من نقد، وقدر ما تملك على وجه التفويض العام من كل منا للآخر في التجارات، والنقد، والنسيئة، وعلى أن كلًا منا ضامن عن الآخر ما يلزمه من أمر كل بيع" (¬1). وإذا كنا ضعفنا هذه الشروط عند الحنفية، وأن شركة المفاوضة لا يشترط فيها المشاركة في كل الأموال النقدية لم يكن هناك فرق في انعقادها بين شركة العنان وبين شركة المفاوضة، فتنعقد بكل ما يدل عليها، وتبقى الشروط الجعلية يرجع فيها إلى شروط الشريكين، وإلى العرف البخاري، وإلى مصلحة الشركة، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في حكم شركة المفاوضة
المبحث الثالث في حكم شركة المفاوضة [م - 1287] اختلف الفقهاء في حكم شركة المفاوضة على قولين: القول الأول: القول بأن شركة المفاوضة جائزة، وهذا مذهب الجمهور في الجملة وإن اختلفوا فيما بينهم في بعض شروطها (¬1). جاء في العناية: "المفاوضة من العقود الجائزة" (¬2). وجاء في الهداية: "وهذه الشركة جائزة عندنا استحسانًا، وفي القياس لا تجوز. وجه القياس: أنها تضمنت الوكالة بمجهول الجنس، والكفالة بمجهول، وكل ذلك بانفراده فاسد. ¬
وجه الاستحسان
وجه الاستحسان: الناس يعاملونها من غير نكير، وبه يترك القياس " (¬1). وقال في كفاية الطالب الرباني: "وأما شركة الأموال فهي على ثلاثة أقسام: الأول: شركة مفاوضة، ولم يذكرها الشيخ، وحكمها الجواز اتفاقًا" (¬2). وقال في المغني: "وأما شركة المفاوضة ... أن يشتركا في جميع أنواع الشركة، مثل أن يجمعا بين شركة العنان، والوجوه، والأبدان، فيصح ذلك؛ لأن كل نوع منها يصح على انفراده، فصح مع غيره" (¬3). دليل الجمهور على الجواز: الدليل الأول: (ح -894) استدل الحنفية بما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: فاوضوا فإنه أعظم للبركة (¬4). [لا أصل له] (¬5). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: استدل الحنفية بما يروى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا تفاوضتم فأحسنوا المفاوضة (¬1). [لا أصل له] (¬2). الدليل الثالث: قال السرخسي: "حجتنا في ذلك أن هذه الشركة تتضمن الكفالة والوكالة، وكل واحد منهما صحيح مقصودًا، فكذلك في ضمن الشركة" (¬3). الدليل الرابع: احتج الجمهور على جواز المفاوضة بجريان التعامل فيها بين الناس في كل عصر من غير نكير. قال في الهداية: "وكذا الناس يعاملونها من غير نكير، وبه يترك القياس، والجهالة محتملة تبعًا" (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب الشافعية إلى أن شركة المفاوضة لا تجوز (¬1)، وإن كان توصيف الشافعية لشركة المفاوضة يوافقهم الجمهور على منعها (¬2). قال الشافعي في الأم: "شركة المفاوضة باطل، ولا أعرف شيئًا من الدنيا يكون باطلًا إن لم تكن شركة المفاوضة باطلًا -إلا أن يكونا شريكين يعدان المفاوضة خلط المال، والعمل فيه، واقتسام الربح فهذا لا بأس به ... وإذا اشتركا مفاوضة، وتشارطا أن المفاوضة عندهما هذا المعنى فالشركة صحيحة ... وإن زعما أن المفاوضة عندهما بأن يكونا شريكين في كل ما أفادا بوجه من الوجوه بسبب المال وغيره فالشركة بينهما فاسدة، ولا أعرف القمار إلا في هذا أو أقل منه" (¬3). الراجح: أرى أن شركة المفاوضة قد اختلف الفقهاء في توصيفها، ويجب أن يكون الحكم على الشركة متجهًا لكل توصيف: فشركة المفاوضة في مفهوم الحنفية عندي أن القول بمنعها متجه، وإن قالوا بجوازها؛ لأنه عقد لم يرد الشرع بمثله؛ ولأن تحقيق المساواة بالمعنى المطلوب في هذه الشركة أمر يتعذر تحقيقه، ولاشتمالها على غرر كثير وجهالة لما فيها من الوكالة بالمجهول والكفالة به، وحتى على القول بجوازها فإنها لن تعمر طويلًا لتعذر استمرار تحقيق ما اشترطوه من الشروط. ¬
ومثله توصيف الشافعية لشركة المفاوضة، والنوع الثاني من المفاوضة عند الحنابلة، فهو مشتمل على قمار وغرر لا يمكن للفقيه أن يقول بجوازه. وأما توصيف شركة المفاوضة عند المالكية فإنه لا ينبغي الخلاف فيه؛ لأن الشركة عندهم لا تختلف كثيرًا عن شركة العنان، إلا في الاستبداد بالتصرف، فإذا نفاه أصبحت شركة عنان، وإلا كانت مفاوضة، وقريب منه شركة المفاوضة عند الحنابلة بالنوع الأول منه، وقد سبق ذكره عند الكلام على تعريف شركة المفاوضة، والله أعلم.
المبحث الرابع في شروط شركة الأموال
المبحث الرابع في شروط شركة الأموال الفرع الأول في الشروط المتفق عليها [م - 1288] هناك شروط متفق عليها بين الفقهاء لم يختلف الفقهاء في وجوب توفرها، من ذلك: الشرط الأول: أهلية الوكالة يشترط في الشريك أن تتوفر فيه أهلية الوكالة، جاء في بدائع الصنائع: "أما الشرائط العامة فأنواع: منها أهلية الوكالة؛ لأن الوكالة لازمة في الكل، وهي أن يصير كل واحد منهما وكيل صاحبه في التصرف بالشراء والبيع، وتقبل الأعمال؛ لأن كل واحد منهما أذن لصاحبه بالشراء والبيع، وتقبل الأعمال مقتضى عقد الشركة، والوكيل هو المتصرف عن إذن فيشترط فيها أهلية الوكالة لما علم في كتاب الوكالة" (¬1). الشرط الثاني: أن يكون رأس مال الشركة معلومًا، فلا يجوز أن يكون مجهولًا، ولا جزافًا؛ لأنه لا يمكن الرجوع إليه عند المفاصلة إلا أن الفقهاء اختلفوا، هل تجب معرفته عند العقد؟ أو تصح الشركة إذا أمكن معرفة رأس مال الشركة بعد العقد. وسيأتي تحرير الخلاف إن شاء الله تعالى. ¬
الشرط الثالث
الشرط الثالث: يشترط معرفة مقدار ما لكل واحد منهما من الربح؛ لأن الربح هو المعقود عليه، وجهالته توجب فساد العقد. قال في بدائع الصنائع: "أن يكون الربح معلوم القدر، فإن كان مجهولًا تفسد الشركة؛ لأن الربح هو المعقود عليه، وجهالته توجب فساد العقد كما في البيع والإجارة" (¬1). الشرط الرابع: أن يكون الربح جزءًا مشاعًا، كالثلث والنصف، فإن كان معينًا، كأن يكون له مائة، أو ألف، فهذا يبطل الشركة بالاتفاق. قال في بدائع الصنائع: "أن يكون الربح جزءًا شائعًا في الجملة لا معينًا، فإن عينا عشرة أو مائة أو نحو ذلك كانت الشركة فاسدة؛ لأن العقد يقتضي تحقق الشركة في الربح، والتعيين يقطع الشركة؛ لجواز أن ألا يحصل من الربح إلا القدر المعين لأحدهما، فلا يتحقق الشركة في الربح" (¬2). الشرط الخامس: أن تكون الشركة على أمر مباح، فلا تجوز الشركة على الأعمال المحرمة، كالشركة على إنشاء البنوك الربوية، أو على صالات القمار، والميسر، أو على غيرها من الأعمال المحرمة. جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "أن يكون ذلك العمل حلالًا، ¬
فلذلك لو عقد اثنان الشركة على إجراء المحرمات، كسرقة الأموال، وغصبها، أو الغناء لا يصح" (¬1). ¬
الفرع الثاني في الشروط المختلف فيها
الفرع الثاني في الشروط المختلف فيها الشرط الأول في اشتراط أن يكون رأس المال من النقدين [م - 1289] اتفق الفقهاء على جواز الشركة بالنقود من الذهب والفضة كالدنانير والدراهم. قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن الشركة الصحيحة: أن يخرج كل واحد من الشريكين مالًا مثل مال صاحبه: دنانير، أو دراهم، ثم يخلطان ذلك حتى يصير مالًا واحداً" (¬1). وقال ابن قدامة: "ولا خلاف في أنه يجوز جعلُ رأس المال الدراهمَ والدنانيرَ، فإنها قيم الأموال وأثمان البياعات، والناس يشتركون بها من لدن النبي -صلى الله عليه وسلم - إلى زماننا من غير نكير" (¬2). واختلفوا في الشركة بالذهب والفضة إذا لم يكن نقدًا، وكذلك اختلفوا في الشركة في الفلوس والعروض، وسوف نبحث هذه المسائل إن شاء الله تعالى في مباحث مستقلة. ¬
المسألة الأولى في كون رأس مال الشركة من الفلوس
المسألة الأولى في كون رأس مال الشركة من الفلوس كل ما تعورف تداوله من أعيان ومنافع، وحقوق، يعتبر محلًا صالحًا للتعاقد عليه ككل مال متقوم (¬1). كل شيء يصلح محلًا للالتزام، يصلح أن يكون حصة في الشركة، سواء أكان عقارًا أم منقولًا، ماديًا أم معنويًا (¬2). [م - 1290] سبق لنا أن الفقهاء متفقون على جواز الشركة بالنقود من الذهب والفضة كالدنانير والدراهم؛ لأنها قيم الأموال، وأثمان المبيعات، واختلفوا في كون رأس مال الشركة من الفلوس على قولين: القول الأول: تصح الشركة في الفلوس النافقة، وهو قول محمد بن الحسن من الحنفية، وعليه الفتوى عند الحنفية (¬3)، وهو المذهب عند الشافعية (¬4). ¬
القول الثاني
ويمكن تخريج القول بجواز المشاركة بالفلوس على مذهب المالكية، فإنني وإن لم أقف على نص صريح في الفلوس إلا أنهم نصوا على جواز المشاركة في العروض، فإن اعتبرنا الفلوس أثمانًا فالجواز ظاهر. جاء في تهذيب المدونة: "والصفر عرض ما لم يضرب فلوسًا، فإذا ضرب جرى مع الذهب والورق فيما يحل ويحرم" (¬1). وإن اعتبرنا الفلوس عروضًا، فقد أجاز المالكية أن يكون رأس مال الشركة من العروض. جاء في شرح الخرشي: "وكذلك تصح الشركة بالعرضين سواء اتفقا في الجنس والقيمة، أو اختلفا فيهما، ويعتبر في الشركة بالعرض -سواء كان من جانب، أو من جانبين- قيمته يوم الاشتراك" (¬2). القول الثاني: لا تصح الشركة في الفلوس، ولو كانت نافقة، وهي الرواية المشهور عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، والمذهب عند الحنابلة. جاء في بدائع الصنائع: "وأما الفلوس فإن كانت كاسدة فلا تجوز الشركة ولا ¬
مرجع الخلاف
المضاربة بها؛ لأنها عروض، وإن كانت نافقة فكذلك في الرواية المشهورة عن أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد تجوز" (¬1). وجاء في المغني: "ولا تصح الشركة بالفلوس، وبهذا قال أبو حنيفة، والشافعي، وابن القاسم صاحب مالك" (¬2). مرجع الخلاف: هل النحاس إذا ضرب على شكل فلوس خرج من كونه عروضًا إلى كونه أثمانًا، أو أنه يبقى على حاله عروضًا، وإن ضرب على شكل فلوس؟ فمن قال: إن الفلوس عروض (سلع) فقد اختلفوا فيها كما اختلفوا في العروض. وسوف يأتي إن شاء الله تعالى بحث المشاركة في العروض في المبحث التالي، فانظره مشكورًا. ومن قال: إن الفلوس إذا اراجت تحولت إلى أثمان اختلفوا أيضًا: فمنهم من قال: إنها أثمان اصطلاحية، يمكن إلغاؤها، وقد تكون ثمنًا في مكان دون آخر، وبالتالي لا يصح أن يكون رأس مال الشركة من الفلوس. ومنهم من ألحقها بالأثمان من كل وجه، فلم يمنع من كون رأس مال الشركة من الفلوس. قال مالك في الفلوس: " ... لو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهت أن تباع بالذهب والورق نظرة" (¬3). ¬
الراجح
وقال ابن تيمية: "الفلوس النافقة يغلب عليها حكم الأثمان، وتجعل معيار أموال الناس" (¬1). وقال أيضًا: "وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي، ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارًا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها، ولهذا كانت أثمانًا بخلاف سائر الأموال، فإن المقصود بها الانتفاع بها بنفسها، فلهذا كانت مقدرة بالأمور الطبعية أو الشرعية، والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض، لا بمادتها، ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت" (¬2). الراجح: جواز أن يكون رأس مال الشركة من الفلوس مطلقًا سواء كان يتعامل بها على أنها أثمان كما لو كانت رائجة في التعامل بين الناس، أو كانت عروضًا، وفي حالة كونها عروضًا يشترط أن تكون لها قيمة في ذاتها، والله أعلم. ¬
المسألة الثانية الشركة في العروض
المسألة الثانية الشركة في العروض كل ما تعورف تداوله من أعيان ومنافع، وحقوق، يعتبر محلًا صالحًا للتعاقد عليه ككل مال متقوم (¬1). كل شيء يصلح محلًا للالتزام، يصلح أن يكون حصة في الشركة، سواء أكان عقارًا أم منقولًا، ماديًا أم معنويًا (¬2). [م - 1291] اختلف الفقهاء في كون رأس مال الشركة من العروض على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا تصح المشاركة بالعروض مطلقًا، سواء أكانت من المثليات أم من القيميات، وسواء أكانت من الطرفين أم من أحدهما، وهذا مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف (¬3)، والمشهور من المذهب عند الحنابلة (¬4)، واختيار ابن حزم (¬5). جاء في العناية شرح الهداية: "ولا تنعقد الشركة إلا بالدراهم والدنانير ¬
دليل من قال: لا تصح الشركة بالعروض
والفلوس النافقة" (¬1). وجاء في الروض المربع: "ويشترط لشركة العنان والمضاربة أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين؛ لأنهما قيم الأموال، وأثمان البيعات فلا تصح بعروض" (¬2). دليل من قال: لا تصح الشركة بالعروض: الدليل الأول: أن العروض يمتنع وقوع الشركة على أعيانها، أو قيمتها، أو أثمانها. أما امتناع وقوع الشركة على أعيانها، فلأن الشركة تقتضي الرجوع عند المفاصلة برأس المال، أو بمثله، وهذه العروض لا مثيل لها حتى يرجع إليه. وقد تزيد قيمة جنس أحدهما دون الآخر، فيستوعب بذلك جميع الربح، أو جميع المال، وقد تنقص قيمته فيؤدي إلى أن يشاركه الآخر في ثمن ملكه الذي ليس بربح. وأما امتناع وقوعها على قيمتها؛ فلأن قيمتها مجهولة؛ لأنها لا تعرف إلا بالحرز والظن، فيؤدي ذلك إلى جهالة الربح، وقد يختلفون في القيمة فيؤدي ذلك إلى التنازع، وقد يقوم الشيء بأكثر من قيمته، ولأن القيمة قد تزيد في أحدهما قبل بيعه، فيشاركه الآخر في العين المملوكة له. ¬
ويناقش
وأما امتناع الشركة على أثمان العروض؛ فلأنها معدومة حال العقد، ولا يملكان، ولأنه إن أراد ثمنها الذي اشتراها به فقد خرج عن مكانه، وصار للبائع، وإن أراد ثمنها الذي يبيعها به فإنها تفسير شركة معلقة على شرط، وهو بيع الأعيان، وهذا لا يجوز (¬1). ويناقش: بأن القائلين بصحة الشركة في العروض مطلقًا يقولون بأن الشركة فيها لا تتم إلا بعد تقويمها، والاتفاق على القيمة، ثم تصبح القيمة هي محل الشركة، وإذا لم يتم الاتفاق على القيمة لم تنعقد، وعلى ضوء ذلك يتحقق الضمان بعد هذا التقويم، وما يحدث للعروض من زيادة أو نقص بعد هذا التقويم يكون من نصيب الشركاء، والضمان عليهم، وبهذا تزول جميع الإشكالات السابقة. الدليل الثاني: (ح -895) روى أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬2). [إسناده حسن] (¬3). وجه الاستدلال: أنه لو باع كل واحد منهما رأس ماله، وتفاضل الثمنان، فإن ما يستحقه أحدهما من الزيادة في مال صاحبه يكون من ربح ما لم يضمن، ولم يملك؛ لأنه ¬
ونوقش هذا
لو تلف مال أحدهما كان من نصيب مالكه، وليس من مال الشركة، بخلاف الدراهم والدنانير فإنها لا تتعين بالتعيين فيكون ضمانها من مال الشركة، فيكون ربحها من ربح ما يضمن. ونوقش هذا: بأن القائلين بصحة الشركة في العروض يرون أن الضمان في الشركة يثبت بمجرد العقد، ولا يتوقف الضمان على خلط العروض، ولا على التصرف فيها؛ لأن الشركة تقتضي ثبوت الملك لكل واحد منهما في نصف مال صاحبه بمجرد العقد، وبالتالي تنطبق عليهما قاعدتا الغرم بالغنم، والخراج بالضمان (¬1). الدليل الثالث: أن الشركة تقوم على الوكالة، وهي لا تصح في العروض، فلا يجوز للشخص أن يتصرف في عروض موكله على وجه الوكالة عن غيره، وإذا لم تجز الوكالة في ذلك، وهي من مستلزمات الشركة، فإن الشركة لا تجوز. ¬
ويجاب
ويجاب: بأن القائلين بصحة الشركة في العروض مطلقًا يرون أن الشريك إذا قدم عروضه للشركة، وتم عقد الشركة بالإيجاب والقبول فإن العروض تصبح ملكًا للشركة، ومن ثم يكون تصرف الشريك في نصيبه بالأصالة، وفي نصيب شريكه بالوكالة، وبالتالي لا تكون العروض مملوكة للشريك وحده، بل مملوكة للشركاء، ويكون الغنم لهم، والغرم عليهم. القول الثاني: تصح الشركة في العروض، مثلية كانت أو قيمية، اتفقت جنًسا أم اختلفت، على أن تكون قيمتها المتفق عليها يوم العقد هي رأس مال الشركة. وهذا القول قد اختاره من الحنفية ابن أبي ليلى (¬1)، وهو مذهب المالكية (¬2)، ورواية في مذهب الحنابلة، اختارها أبو بكر الخلال، وأبو الخطاب، وصوبه في الإنصاف، ورجحه ابن تيمية (¬3). ¬
دليل من قال بصحة الشركة بالعروض
جاء في تهذيب المدونة: "ولا بأس أن يشتركا بعرضين مختلفين أو متفقين، أو طعام وعروض على قيمة ما أخرج كل واحد منهما يومئذ" (¬1). دليل من قال بصحة الشركة بالعروض: الدليل الأول: لا يوجد دليل يمنع أن يكون رأس مال الشركة من العروض، والقاعدة في المعاملات أنه لا يحرم منها إلا ما حرم الله ورسوله. الدليل الثاني: العروض هي مال بالاتفاق، والقائلون بجواز المشاركة بها يشترطون أن يتفق الشركاء على تقويم تلك العروض بالنقود وقت العقد، وبالتالي تكون هذه العروض بمثابة النقود؛ لأن الشركة انعقدت على قيمة العروض، وليس على أعيانها، وبالتالي يكون رأس مال الشركة معلومًا، وهو قيمة العروض. الدليل الثالث: أن المقصود من الشركة متحقق في العروض، وهو جواز تصرف الشريكين في المالين جميعًا، وكون ربح المال بينهما، وهذا يحصل بالعروض كما يحصل بالأثمان. القول الثالث: أن الشركة تصح بالعروض بشرط أن تكون مثلية، كالحبوب، والأدهان، ولا تصح الشركة بالعروض إن كانت متقومة، وبه قال محمَّد بن الحسن من ¬
دليل من فرق بين المثلي والقيمي
الحنفية (¬1)، والأظهر عند الشافعية (¬2). جاء في مغني المحتاج: "وتصح الشركة في كل مثلي، أما النقد الخالص فبالإجماع ... وأما غير النقدين من المثليات كالبر، والشعير، والحديد فعلى الأظهر؛ لأنه إذا اختلط بجنسه ارتفع التمييز فأشبه النقدين ... " (¬3). دليل من فرق بين المثلي والقيمي: بأن المثليات عند خلطها يرتفع تمييزها، فتكون مماثلة للنقدين، بخلاف المتقوم، حيث لا يمكن خلطه، فيبقى نصيب كل شريك متميزًا، والشركة لا تصح حتى يخلط مالهما خلطًا لا يتميز به مال أحدهما من مال الآخر حتى يتحقق معنى الشركة. ويناقش: بأنه لا دليل على وجوب خلط المالين، وأن المقصود من الشركة هو التصرف في المالين، وهذا لا يتوقف على الخلط. الراجح من الخلاف: أرى أن القول الراجح هو القول بجواز الشركة في العروض، لقوة أدلتهم، وضعف أدلة الأقوال الأخرى، والله أعلم. ¬
وقد أجاز المانعون الشركة في العروض عن طريق الحيلة، وهذا دليل على ضعف قولهم: قال الكاساني: "والحيلة في جواز الشركة في العروض، وكل ما يتعين بالتعيين: أن يبيع كل واحد منهما نصف ماله بنصف مال صاحبه حتى يصير كل واحد منهما نصفين، وتحصل شركة ملك بينهما، ثم يعقدان بعد ذلك عقد الشركة فتجوز بلا خلاف، ولو كان من أحدهما دراهم، ومن الآخر عروض، فالحيلة في جوازه أن يبيع صاحب العروض نصف عرضه بنصف دارهم صاحبه، ويتقابضا، ويخلطا جميعًا حتى تصير الدراهم بينهما والعروض بينهما، ثم يعقدان عليهما عقد الشركة فيجوز" (¬1). وقال الشيرازي في المهذب: "وإن لم يكن لهما غير العروض، وأرادا الشركة، باع كل واحد منهما بعض عرضه ببعض عرض الآخر، فيصير الجميع مشتركًا بينهما، ويشتركان في ربحه" (¬2). ¬
المسألة الثالثة الشركة في الذهب والفضة غير المضروبة
المسألة الثالثة الشركة في الذهب والفضة غير المضروبة كل ما تعورف تداوله من أعيان ومنافع، وحقوق، يعتبر محلًا صالحًا للتعاقد عليه ككل مال متقوم (¬1). كل شيء يصلح محلًا للالتزام، يصلح أن يكون حصة في الشركة، سواء أكان عقارًا أم منقولًا، ماديًا أم معنويًا (¬2). [م - 1292] اختلف الفقهاء في الشركة بالذهب والفضة غير المضروبة كالتبر والحلي، ونحو ذلك، ويرجع الخلاف فيها إلى الخلاف في العروض: قال ابن قدامة: "والحكم في النقرة كالحكم في العروض؛ لأن قيمتها تزيد وتنقص فهي كالعروض" (¬3). فمن منع الشركة بالعروض مطلقًا سيمنع الشركة فيها، وهو ظاهر المذهب عند الحنفية، والمذهب عند الحنابلة. ومن أجاز الشركة بالعروض مطلقًا، أو بشرط أن تكون العروض مثلية أجاز الشركة فيها، فالأول مذهب المالكية بشرط التساوي في القدر والجودة، والثاني قول للشافعية. ومنهم من أجاز الشركة في الذهب غير المضروب وإن منع الشركة في العروض بشرط أن يجري التعامل بها باعتبار أن جريان التعامل بها يلحقها ¬
القول الأول
بالأثمان، وهو المذهب عند الحنفية، وإليك تفصيل الخلاف في المسألة من خلال النصوص الفقهية في مختلف المذاهب الفقهية. القول الأول: لا تصح الشركة بالذهب غير المضروب، وهو ظاهر الرواية عند الحنفية، وقول في مذهب المالكية، وقول في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة. جاء في الفتاوى الهندية: "التبر من الذهب والفضة بمنزلة العروض في ظاهر الرواية لا يصلح رأس مال الشركة كذا في فتاوى قاضي خان" (¬1). وقد جعل الحنفية التبر في الشركة بمنزلة العروض، فلم يصلح رأس مال الشركة والمضاربة. وجعلوه في الصرف بمنزلة الأثمان؛ لأن الذهب والفضة ثمن بأصل الخلقة (¬2). وقال المالكية: لا تجوز الشركة بتبر، ومسكوك، ولو تساويا قدرًا إن كثر فضل السكة، فإن ساوتها جودة التبر فقولان (¬3). ¬
وجه من قال: بمنع الشركة بالعروض
وجاء في كشاف القناع: "ولا تصح شركة عنان ومضاربة بمغشوش من النقدين غشًا كثيرًا عرفًا؛ لأنه لا ينضبط غشه، فلا يتأتى رد مثله؛ لأن قيمتها تزيد وتنقص فهي كالعروض، ولا فلوس ولو نافقة؛ لأنها عروض، ولا نقرة، وهي التي لم تضرب؛ لأن قيمتها تزيد وتنقص، فأشبهت العروض" (¬1). وجه من قال: بمنع الشركة بالعروض: أن التبر عنده سلعة تتعين بالتعيين، فهي بمنزلة العروض فلا تصلح رأس مال الشركات والمضاربات (¬2). وقد ذكرنا أدلة القائلين بمنع الشركة بالعروض في مسألة سابقة. القول الثاني: تصح الشركة بالذهب غير المضروب، وهو المذهب عند الحنفية، وأحد القولين عند الشافعية، إلا أن الحنفية اشترطوا أن يجري التعامل بها (¬3). جاء في الاختيار لتعليل المختار: "ولا تنعقد المفاوضة والعنان إلا بالدراهم والدنانير، وتبرهما إن جرى التعامل به، وبالفلوس الرائجة". وجاء في أسنى المطالب: "ومنها التبران: أي تبر الدراهم والدنانير فتصح الشركة فيهما" (¬4). وجاء في حاشية الجمل: "ومن النقد الذي تجوز فيه الشركة التبر، فلا تختص الشركة بالنقد المضروب بخلاف القراض فإنه يختص به" (¬5). ¬
واستدل أصحاب هذا القول
واستدل أصحاب هذا القول: استدل الحنفية على صحة المشاركة بأن التبر والنقرة تشبه العروض من وجه؛ لأنها ليست ثمنًا للأشياء، وتشبه الدراهم والدنانير من وجه؛ لأن العقد عليها صرف، فأعطيت الشبه من كل واحد منهما، فاعتبرت فيها عادة الناس في التعامل فإذا تعاملوا بها ألحقت بالدراهم، وإن لم يتعاملوا بها ألحقت بغير الدراهم (¬1). ولأن التعامل بالتبر يجعلها بمنزلة الأثمان. قال في بدائع الصنائع: "وأما التبر فهل يصلح رأس مال الشركة ... الأمر موكول إلى تعامل الناس، فإن كانوا يتعاملون به فحكمه حكم الأثمان المطلقة، فتجوز الشركة بها، وإن كانوا لا يتعاملون فحكمها حكم العروض" (¬2). وفي الدر المختار: "ولا تصح مفاوضة وعنان ... بغير النقدين والفلوس النافقة، والتبر، والنقرة: أي ذهب وفضة لم يضربا إن جرى مجرى النقود التعامل بها، وإلا فكعروض". واستدل الشافعية على صحة المضاربة بالتبر والنقرة في أحد القولين بأن الشركة تصح في كل مال مثلي، ومن المثلي التبر والنقرة. جاء في الإقناع للشربيني: "والأصح صحتها في كل مثلي ... ومن المثلي تبر الدراهم والدنانير، فتصح الشركة فيه، فما أطلقه الأكثرون هنا من منع الشركة فيه، ولعل منهم المصنف مبني على أنه متقوم كما نبه عليه في أصل الروضة" (¬3). ¬
الراجح
الراجح: القول بجواز الشركة في الذهب والفضة مطلقًا سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة، لجواز الشركة في العروض، والله أعلم.
الشرط الثاني في اشتراط خلط المالين
الشرط الثاني في اشتراط خلط المالين عقد الشركة عقد على التصرف، فلا يشترط فيه الخلط كالوكالة (¬1). الشركة عقد يقصد به الربح، وهو لا يتوقف على الخلط (¬2). [م - 1293] اختلف الفقهاء في اشتراط خلط المالين لانعقاد الشركة على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن الشركة تلزم بالعقد مطلقًا، وإن لم يحصل خلط بين المالين على خلاف بينهم باعتبار الخلط شرطًا في الضمان (¬3). فقال الحنفية والمالكية، وهو رواية عن أحمد: إن الخلط شرط في الضمان، فلو ضاع المال بعد الخلط فهو من مال الشركة، وإن ضاع قبل الخلط فهو من مال صاحبه، والكسب بينهما مطلقًا حصل خلط أو لم يحصل. والخلط عند الحنفية: هو الخلط الذي لا يميز مال أحدهما من الآخر (¬4). ¬
والخلط عند المالكية يشمل الخلط الحسي والخلط الحكمي: فالحسي: بأن تضم الحصص بعضها إلى بعض. والحكمي: بأن يكتفي بتخصيصه، أو وضعه في خزانة لهما، أو في يد أمين يختارانه، أو في يد وكيلهما. واختار الحنابلة أن هلاك المال بعد انعقاد الشركة هلاك من مال الشركة مطلقًا، خلط المال أو لم يخلط، ووافقهم المالكية فيما إذا كان المال عرضًا (¬1). جاء في الإنصاف: "وإن تلف أحد المالين فهو من ضمانهما. يعني: إذا تلف بعد عقد الشركة، وشمل مسألتين: إحداهما: إذا كانا مختلطين فلا نزاع أنه من ضمانهما. الثانية: إذا تلف قبل الاختلاط فهو من ضمانهما أيضًا على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب. وجزم به في المحرر والوجيز، وغيرهما، وقدمه في الفروع وغيره. وعنه من ضمان صاحبه فقط، ذكرها في التمام" (¬2). ¬
وجه من قال: إن الخلط ليس بشرط في انعقاد الشركة
وجه من قال: إن الخلط ليس بشرط في انعقاد الشركة: أن عقد الشركة عقد يقصد به الربح، فلا يشترط فيه خلط المال، ولأنه عقد على التصرف، فلم يكن من شرطه الخلط كالوكالة. جاء في درر الحكام شرح غرر الأحكام: "الشركة عقد توكيل من الطرفين ليشتري كل منهما بماله على أن يكون المشترى بينهما، وهذا لا يفتقر إلى الخلط، والربح يستحق بالعقد كما يستحق بالمال، ولهذا يسمى العقد شركة وهذه الشركة مستندة إلى العقد ... حتى جاز شركة الوجوه والتقبل، فإذا استندت إلى العقد لم يشترط فيها المساواة والاتحاد والخلط" (¬1). وأما وجه كون الهالك قبل الخلط من مال صاحبه: أن المال إن هلك في يد صاحبه فظاهر، وإن هلك في يد الآخر فهو أمانة في يده، والأمين لا يضمن إلا بالتعدي والتفريط بخلاف ما بعد الخلط حيث يهلك على الشركة؛ لأنه لا يتميز، فيجعل الهلاك من المالين (¬2). وجه من قال: إن الهلاك بعد العقد من مال الشركة مطلقًا ولو لم يحصل خلط. أن ربح الشركة إذا كان لهما فيجب أن يكون الهلاك عليهما، ولأن الشركة اقتضت ثبوت الملك لكل واحد منهما في نصف مال صاحبه، فيكون تلفه منهما، وزيادته لهما، ولأن الضمان أحد موجبي الشركة، فتعلق بالشريكين كالربح، وكما لو اختلطا، والله أعلم. ¬
القول الثاني
القول الثاني: اختار زفر من الحنفية، وابن حزم من الظاهرية، وهو المذهب عند الشافعية، إلى أنه يشترط في صحة عقد الشركة خلط رأس مال الشركة بعضه ببعض خلطًا لا يمكن التمييز بينهما (¬1). واشترط الشافعية أن يتقدم الخلط على العقد، فإن وقع بعده، ولو في مجلسه ففيه وجهان، أصحهما: المنع إذ لا اشتراك حال العقد. والثاني: الجواز إن وقع في مجلس العقد؛ لأنه كالعقد. وإن وقع الخلط بعد مفارقة المجلس لم يجز على الوجهين. ولا يكفي الخلط مع إمكان التمييز كدراهم بدنانير، أو صحاح بمكسرة، أو حنطة جديدة بحنطة قديمة (¬2). دليل الشافعية على اشتراط الخلط: أن الشركة مأخوذة من الاشتراك والاختلاط، ومع تميز المالين لا توجد شركة ولا خلطة. ولأن عقد الشركة يستوجب الاشتراك في الربح، وهو متوقف على الخلط، ولذلك لو كان المال مشتركًا على الشيوع فقد حصل المقصود، وإن لم يحصل خلط للمالين، فإن مال كل واحد متميز بملكه، فإن تلف تلف على صاحبه، وإن ربح كان الربح له دون شريكه، فلم تنعقد الشركة. ¬
برهان ذلك
ويقول ابن حزم: "ولا تجوز الشركة إلا في أعيان الأموال، فتجوز في التجارة، بأن يخرج أحدهما مالًا والآخر مالًا مثله من نوعه، أو أقل منه، أو أكثر منه، فيخلطا المالين ولا بد، حتى لا يميز أحدهما ماله من الآخر، ثم يكون ما ابتاعا بذلك المال بينهما على قدر حصصهما فيه، والربح بينهما كذلك، والخسارة عليهما كذلك، فإن لم يخلطا المالين فلكل واحد منهما ما ابتاعه هو أو شريكه به، ربحه كله له وحده، وخسارته كلها عليه وحده. برهان ذلك: أنهما إذا خلطا المالين فقد صارت تلك الجملة مشاعة بينهما، فما ابتاعا بها فمشاع بينهما، وإذا هو كذلك فثمنه أصله، وربحه مشاع بينهما، والخسارة مشاعة بينهما. وأما إذا لم يخلطا المالين فمن الباطل أن يكون لزيد ما ابتيع بمال عمرو، أو ما ربح في مال غيره، أو ما خسر في مال غيره، لما ذكرنا آنفا من قول الله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] (¬1). ويناقش: بأن الشركة ليست متوقفة على الخلطة، وإنما تقوم بالعقد، وهو الإيجاب والقبول، ولذلك فقد توجد الشركة على الصحيح، وإن لم يوجد مال كشركة الأبدان، وملك الشريكين لمال الشركة يحصل بالعقد دان لم يوجد اختلاط إذا تعين مال الشركة، والله أعلم. الراجح: الراجح -والله أعلم- القول بعدم اشتراط الخلط، ذلك أن الشركة قائمة ¬
على الوكالة فيما يتعلق بالتصرف، وهذا لا يتوقف على خلط المالين، ومقصودها الربح، وهو لا يتوقف على الخلط أيضًا، والله أعلم.
مطلب الشركة بالمال المشاع
مطلب الشركة بالمال المشاع الإشاعة لا تمنع من التصرف في المال. الإشاعة في المال أبلغ من خلطه. [م - 1294] إذا كان هناك مال مملوك على سبيل الاشتراك، كأن يرث مجموعة مالًا، فيعقد هؤلاء الورثة شركة فيما بينهم على حصصهم في التركة قبل قسمتها، فهل تصح الشركة بينهم، والمال ما زال مشاعًا؟ فذهب عامة الفقهاء إلى صحة الشركة في المال المشاع قبل فوزه، ولم أقف على خلاف في المسألة (¬1). وجهه: أن الشركة إن اعتبرناها من عقود المعاوضات، وأنها متضمنة لمعنى البيع كما هو مذهب المالكية فليس في المشاع ما يمنع من المشاركة؛ لأن بيع المشاع جائز، وحكي في جوازه الإجماع (¬2). قال ابن تيمية: "يجوز بيع المشاع باتفاق المسلمين كما مضت بذلك سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬
وإن اعتبرنا الشركة مبنية على الوكالة في التصرف، كما هو مذهب الجمهور، فالإشاعة لا تمنع من التصرف في المال، ما دام أن هذا التصرف قد أذن فيه الشريك. وعلى مذهب الشافعية الذين يشترطون خلط المال قبل العقد، فإن الشيوع أبلغ من خلط المال عندهم؛ لأنه في الشيوع ما من جزء في المال إلا وهو مشترك بينهما. قال النووي في الروضة: "ولو ورثوا عروضًا، أو اشتروها، فقد ملكوها شائعة، وذلك أبلغ من الخلط، فإذا انضم إليه الإذن في التصرف تم العقد" (¬1). وأما قول ابن حزم: "لو ورثا سلعة، أو وهبت لهما، أو ملكاها بأي وجه ملكاها به، فلو تعاقدا أن يبتاعا هكذا لم يلزم؛ لأنه شرط ليس في كتاب الله" (¬2). فابن حزم في هذا النص لا يمنع من المشاركة بالمشاع، وإنما يمنع اشتراط أن يكون الشراء بين الشريكين على سبيل الشيوع، ومذهب ابن حزم في الشروط من أضيق المذاهب، وهو لا يصحح إلا شرطًا جاء نص خاص في جوازه، والإذن به، والدليل على أن ابن حزم يجيز الشركة في المشاع أنه يشترط خلط المالين في الشركة لصحة الشركة، كمذهب الشافعية. يقول ابن حزم: "ولا تجوز الشركة إلا في أعيان الأموال، فتجوز في التجارة بأن يخرج أحدهما مالًا، والآخر مالًا مثله من نوعه، أو أقل منه، أو أكثر منه، فيخلطا المالين، ولابد حتى لا يميز أحدهما ماله من الآخر، ثم يكون ما ابتاعا ¬
بذلك المال بينهما على قدر حصصهما فيه، والربح بينهما كذلك، والخسارة عليهما كذلك ... برهان ذلك أنهما إذا خلطا المالين فقد صارت تلك الجملة مشاعة بينهما، فما ابتاعا بها فمشاع بينهما، وإذا هو كذلك فثمنه أصله، وربحه مشاع بينهما، والخسارة مشاعة بينهما، وأما إذا لم يخلطا المالين فمن الباطل أن يكون لزيد ما ابتيع بمال عمرو، أو ما ربح في مال غيره، أو ما خسر في مال غيره، لما ذكرنا آنفا من قول الله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] (¬1). ¬
الشرط الثالث في اشتراط أن يكون رأس المال عينا لا دينا
الشرط الثالث في اشتراط أن يكون رأس المال عينًا لا دينًا [م - 1295] يشترط جمهور الفقهاء أن يكون رأس مال شركة الأموال معينًا، والتعيين يعني مسألتين: أحدهما: أن لا يكون رأس مال الشركة دينًا في ذمة أجنبي يحتاج إلى تحصيل. الثاني: اشتراط حضور رأس مال الشركة المعين عند الشراء، واختلفوا في اشتراط حضوره عند العقد إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يشترط حضور رأس المال عند العقد من كلا الشريكين، وإنما يشترط حضوره عند الشراء، وهذا مذهب الحنفية. وقال صاحب درر الحكام في شرح مجلة الأحكام: "لا يكون الدين أي المطلوب من ذمم الناس رأس مال لشركة المفاوضة أو العنان؛ لأنه لا يمكن بالدين شراء المال وبيعه والربح من ذلك ... وإذا كان رأس مال أحدهما عينًا، والآخر دينًا فلا تصح الشركة أيضًا. وكذلك يشترط أن يكون رأس المال حين عقد الشراء حاضرًا، أي غير غائب، ولا يشترط حضوره عند عقد الشركة إذا كان رأس المال غائبا عن المجلس، وكان مشارا إليه فتصح الشركة" (¬1). فقوله: (مشارًا إليه) احتراز من الدين، فإنه متعلق بالذمة، لا يمكن الإشارة إلى عينه. ¬
القول الثاني
وجاء في الفتاوى الهندية: "ويشترط حضوره عند العقد، أو عند الشراء ... ولا تصح بمال غائب أو دين" (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن الشريكين إن غاب نقداهما معًا منعت الشركة، وإن غاب نقد أحدهما جاز بشرطين: أحدهما: أن تكون غيبة المال قريبة كاليومين. والثاني: ألا يتجر بالحاضر إلا بعد قبض المال الغائب. فإن بعدت الغيبة امتنعت الشركة مطلقًا، ولو لم يتجر إلا بعد القبض. وإن اتجر بالحاضر قبل قبض الغائب امتنعت الشركة مطلقا حتى ولو قرب الغائب. وكذا تبطل الشركة إن غاب النقدان كلاهما (¬2). واختار القاضي أبو يعلى من الحنابلة حضور أحد المالين لصحة الشركة (¬3). واستدل المالكية لقولهم: بأن الشركة عقد يتضمن البيع عندهم، ولهذا اشترطوا أن يكون رأس مال الشركة من جنس واحد إذا كانا من النقود خوفًا من اجتماع الشركة مع الصرف ¬
القول الثالث
وهذا يعني أن غياب النقدين مبطل للشركة؛ لأنه من قبيل بيع الدين بالدين، وهذا لا يجوز، فإذا كان أحد العوضين حاضرًا خرجت من هذا المحذور، وبقي محذور بيع الغائب، وبيع الغائب جائز عند المالكية ما لم يتفاحش بعده، فإذا تفاحش فالبيع غير صحيح، وإذا لم يتفاحش فالبيع صحيح إلا أنه لا بد من انتظار قبض الغائب ليتمكن الشريك من التصرف فيه على التكافؤ والمساواة مع شريكه وإلا فسدت الشركة بمقدار النصيب الغائب، والله أعلم. ولأن غياب المال يومين يعتبر في حكم الحاضر؛ لأن ما قرب من الشيء يعطى حكمه، وهذه قاعدة مطردة في مذهب المالكية، ولذلك خفف المالكية تأخير تسليم رأس مال السلم اليوم واليومين من هذا الباب مع قولهم بوجوب تقديم رأس مال السلم. القول الثالث: ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه يشترط حضور المال عند العقد؛ لأن المقصود من الشركة الربح، وذلك عن طريق التصرف، والتصرف لا يمكن في المال الغائب أو في الدين، فلا يتحقق المقصود من الشركة، ولأن المدين قد لا يدفع الدين، كما قد لا يحضر المال الغائب. ولأن الشافعية يشترطون خلط المال قبل انعقاد الشركة كما سبق بحثه، والمال الغائب والدين لا يمكن تصور خلطه قبل انعقاد الشركة. إلا أن الحنابلة يرون أن الشركة إذا عقدت بمال غائب، أو دين في الذمة، وأحضر المال، وشرع الشريكان في التصرف، فإن الشركة تنعقد بهذا التصرف نفسه. جاء في كشاف القناع: " (ومنها) أي شروط الشركة (حضور المالين كمضاربة) لتقرير العمل، وتحقيق الشركة، (فلا تصح) الشركة على مال (غائب
الراجح
ولا) على مال (في الذمة)؛ لأنه لا يمكن التصرف فيه في الحال، وهو مقصود الشركة، لكن إذا أحضراه، وتفرقا، ووجد منهما ما يدل على الشركة فيه انعقدت حينئذ" (¬1). الراجح: هل يمكن أن نجعل حضور المال عند العقد، أو عند الشراء شرطًا للنفاذ، وليس شرطًا للانعقاد، فالشركة تنعقد جائزة مع غياب المال، وتنفذ بحضور المال والتصرف فيه، إن كان هذا ما يراد في اشتراط حضور المال عند الشراء فالقول له قوة، خاصة أن عقد الشركة ليس من عقود المعاوضات على الصحيح حتى يقال: لا تصح بالدين، بل إن بيع الدين يصح في بعض صوره إذا خلا من بيع الدين بالدين، كما بينا ذلك في عقد البيع، فكونه يصح انعقاد الشركة بالدين من باب أولى، وليس في الأدلة الشرعية ما يمنع من جواز ذلك، ولا يقتضي تجويزه مخالفة قاعدة من قواعد الشرع، ولا وقوعًا في محظور من ربا، ولا قمار، ولا بيع غرر، ولا مفسدة في ذلك بوجه ما، وقد صحح الحنفية والحنابلة عقد المضاربة بالدين على أجنبي، كأن يقول: اقبض مالي على فلان، واعمل به مضاربة. وعقد المضاربة عقد مشاركة بالربح (¬2). والله أعلم. ¬
الشرط الرابع في اشتراط أن يكون رأس مال الشركة من جنس واحد
الشرط الرابع في اشتراط أن يكون رأس مال الشركة من جنس واحد الشركة عقد توكيل في التصرف من الطرفين يقصد به الربح، فلا يشترط اتحاد جنس المال (¬1). الشركة عقد يقصد به الربح، ومورد العقد ومحله العمل، والمال تابع، فيصح من جنسين (¬2). [م - 1296] اختلف الفقهاء في الرجلين يشتركان، فيخرج أحدهما دنانير والآخر دراهم، أو يخرج هذا عروضًا من جنس، والآخر عروضًا من جنس آخر عند من يجوِّز أن يكون رأس مال الشركة من العروض - على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يشترط التجانس في رأس مال الشركة، وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة. قال السرخسي: "لو كان رأس مال أحدهما دراهم، والآخر دنانير تنعقد الشركة بينهما صحيحة عندنا" (¬3). وقال ابن قدامة: "ولا يشترط لصحتها اتفاق الجنسين، بل يجوز أن يخرج أحدهما دراهم، والآخر دنانير، نص عليه أحمد" (¬4). ¬
وجه القول بالصحة
وجه القول بالصحة: أن خلط المالين على الصحيح ليس شرطًا للشركة، لا في انعقاد الشركة، ولا في استحقاق الربح، وإذا كان الحال كذلك لم يكن اتحاد الجنس شرطًا في صحة الشركة، ولأن الشركة عقد توكيل من الطرفين، وهذا لا يحتاج إلى اشتراط اتحاد جنس مال الشركة. القول الثاني: يشترط التجانس مطلقًا، فإذا أخرج أحدهما دنانير وجب أن يخرج الآخر دنانير أيضًا، وإذا أخرج أحدهما برًا، وجب أن يخرج الآخر برًا كذلك. وهذا مذهب الشافعية، وبه قال زفر من الحنفية، وابن حزم من الظاهرية (¬1). وجه القول باشتراط اتحاد الجنس: يرجع القول باشتراط اتحاد الجنس إلى القول بوجوب خلط مال الشركة خلطًا لا يمكن معه التمييز؛ لأنه مع اختلاف الجنس لا يمكن اختلاط المالين لتميز كل واحد بنوع مختلف عن الآخر، وسبق أن ذكرنا دليل الشافعية وابن حزم على وجوب خلط المالين، وأجبنا عنه، فأغنى ذلك عن إعادته، والله أعلم. القول الثالث: يشترط التجانس إن كان رأس مال الشركة نقودًا: دنانير، أو دراهم، فإن أخرج دنانير، وجب على الآخر أن يخرج دنانير مثله، وتعتبر مساواة ذهب أحدهما لذهب الآخر وزنًا، وصرفًا، وقيمة. ¬
ومثله الشركة بالطعام على قول ابن القاسم (¬1)، ولا يشترط اتحاد الجنس فيما إذا كان رأس مال الشركة عروضًا، أو كان أحدهما نقودًا، والآخر عروضًا أو طعامًا. وهذا مذهب المالكية (¬2). ¬
وجه اشتراط اتحاد الجنس في الأثمان والأطعمة
جاء في شرح ميارة: "تجوز -يعني الشركة- بالعين من ذهب أو فضة إن اتحد الجنس ... وفهم من اشتراط اتحاد الجنس أنه لا يجوز أن يخرج هذا ذهبًا، والآخر فضة ... وأما الشركة بالطعامين المختلفين فالمشهور، وهو مذهب المدونة: الشركة فيهما ممنوعة ... ولا بأس أن يشتركا بعرضين متفقين أو مختلفين، أو طعام وعرض على قيمة ما أخرج كل واحد" (¬1). وقال ابن عبد البر: "ولو جعل أحدهما خمسمائة درهم، والآخر خمسين دينارًا لم يجز، وسواء باعه نصف الدراهم بنصف الدنانير، أو لم يبعه؛ لأنه صرف وشركة، ولا يجوز عند مالك وأكثر أصحابه أن يجتمعا" (¬2). وجه اشتراط اتحاد الجنس في الأثمان والأطعمة: أن الشركة عند المالكية تتضمن معنى البيع، فإذا كان الصنفان مما لا يجوز فيهما النساء مثل الشركة بالدنانير من عند أحدهما، والدراهم من عند الآخر دخل الشركة في ذلك من اجتماع البيع والصرف معًا، وعدم التناجز، وهذا لا يجوز عند المالكية، ويدخل الشركة بالطعامين المختلفين من اجتماع بيع الطعام بالطعام مع عدم التناجز. ¬
الراجح
أما إذا كانت الشركة بالأثمان من أحدهما، وبالطعام أو بالعرض من الآخر، لم يوجد اجتماع للصرف مع البيع، ولم يؤثر عدم التناجز في اجتماع البيع والشركة (¬1). قال الخرشي: "وإنما اعتبر في الشركة بالنقدين الاتفاق في الصرف، والقيمة، والوزن، والجودة والرداءة؛ لأنها مركبة من البيع والوكالة، فإذا اختلف النقدان وزنًا أدى إلى بيع الذهب بالذهب متفاضلًا، أو الفضة بالفضة كذلك وإن اختلفا جودة ورداءة أدى للدخول على التفاوت في الشركة حيث عملا على الوزن؛ لأن الجيد أكثر قيمة من الرديء فقد دخلا على ترك ما فضلته قيمة الجيد على الرديء والشركة تفسد بشرط التفاوت. وإن دخلا على العمل على القيمة فقد صرفاها للقيمة، وذلك يؤدي إلى النظر في بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة للقيمة، وإلغاء الوزن؛ لأن معيار بيع النقد بجنسه هو الوزن. وإن اختلفا صرفا مع اتحادهما وزنا وجودة ورداءة وقيمة: فإن دخلا على إلغاء ما تفاوت صرفهما فيه أدى ذلك إلى الدخول على التفاوت في الشركة. وإن دخلا على عدم إلغائه فقد صرفا الشركة لغير الوزن، فيؤدي إلى إلغاء الوزن في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة وذلك ممتنع" (¬2). الراجح: الخلاف في هذه المسألة راجع إلى الخلاف في الوصف الفقهي للشركة في مسألتين سبق بحثهما: ¬
الأولى: هل الشركة من عقود المعاوضات، أو ليست من عقود المعاوضات؟ الثاني: هل خلط مال الشركاء شرط في انعقاد الشركة، أو ليس بشرط؟ فمن رأى أن عقد الشركة ليس من عقود المعاوضات، وأن الخلط ليس شرطًا في انعقاد الشركة قال بصحة الشركة مع اختلاف جنس رأس المال، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، وهو الراجح كما سبق بيانه عند بحث تلك المسألتين. ومن رأى أن خلط المال شرط في صحة الشركة كالشافعية رأى أن اتحاد الجنس شرط مطلقًا في جميع مال الشركاء، سواء كان رأس المال من الأثمان أو من العروض. ومن رأى أن الشركة من عقود المعاوضات، وأنها متضمنة معنى البيع كالمالكية اشترط اتحاد الجنس في حال حرم النساء، كما لو كان رأس مال الشركة كله من النقود، أو كان كله من الطعام، ولا يجب إذا كان رأس مال أحد الشركاء عروضًا، والآخر من الأثمان. هذا هو منشأ الخلاف، وما رجحناه في المسألتين نرجحه هنا، وهو أن الشركة ليست من عقود المعاوضات، وليس الخلط شرطًا في صحة انعقاد الشركة، والله أعلم.
الشرط الخامس العلم بمقدار رأس مال الشركة
الشرط الخامس العلم بمقدار رأس مال الشركة قال الزيلعي: كل جهالة لا تفضي إلى المنازعة لاتوجب الفساد (¬1). [م - 1297] اختلف الفقهاء هل يشترط العلم بمقدار رأس مال الشركة عند التعاقد على قولين: القوال الأول: لا يشترط العلم بمقدار رأس مال الشركة وقت العقد، وهذا مذهب الحنفية, والأصح في مذهب الشافعية. قال في بدائع الصنائع: "وأما العلم بمقدار رأس المال وقت العقد فليس بشرط لجواز الشركة بالأموال عندنا" (¬2). وقال النووي: "هل يشترط العلم حالة العقد بقدر النصيبين، بأن يعرفا أن المال بينهما نصفان، أو على نسبة أخرى؟ وجهان: أصحهما: لا يشترط إذا أمكن معرفته من بعد. ومأخذ الخلاف: أنه إذا كان بينهما مال مشترك، وكل واحد يجهل حصته، فأذن كل واحد لصاحبه في التصرف في كل المال، أو في نصيبه، هل يصح الإذن؟ وجهان: أحدهما: لا؛ لجهلهما. وأصحهما نعم؛ لأن الحق لا يعدوهما" (¬3). ¬
القول الثاني
ولأن الجهالة بالمال لا تمنع جواز العقد لعينها، بل لما يتسبب عنها من نزاع في المستقبل، وجهالته عند العقد لا تفضي إلى المنازعة؛ لأن معرفته معلومة في الغالب. القول الثاني: يشترط العلم بمقدار رأس مال الشركة وقت العقد، وهو مذهب المالكية والحنابلة، ووجه مرجوح في مذهب الشافعية (¬1). ¬
الراجح
لأن المشاركة بالمال المجهول لا يمكن الرجوع إلى رأس المال عند فسخ الشركة، ولأن الجهل به يؤدي إلى الجهل بالربح، ويؤدي أيضاً إلى جهل كل شريك بما أذن فيه، وبما أذن له فيه. قال ابن قدامة: "ولا يجوز أن يكون رأس مال الشركة مجهولاً، ولا جزافًا؛ لأنه لابد من الرجوع به عند المفاصلة، ولا يمكن مع الجهل والجزاف" (¬1). الراجح: الخلاف في المسألة يرجع إلى الخلاف في الوصف الفقهي للشركة، هل هي عقد من عقود المعاوضات، أو من عقود المشاركات، فعلى الأول يكون الجهل فيها مؤثرًا؛ لأن العلم بالمبيع شرط يجب تحققه قبل العقد، وأما إذا قلنا: إن الشركة ليست من عقود المعاوضات، وأن جهل أحد الشريكين لنصيبه وقت الانعقاد لن يؤثر في صحة الانعقاد؛ لأن الشركة مبنية على الوكالة والأمانة، ما دام أنه سوف يوقف عليه قبل التصرف فلا حرج فيه، وهذا هو الراجح، والله أعلم. ¬
الشرط السادس في اشتراط العمل في شركة العنان على أحد المتعاقدين
الشرط السادس في اشتراط العمل في شركة العنان على أحد المتعاقدين ما صح من الشركات على انفراده صح مع غيره (¬1). المعروف في شركة العنان: أن يشترك بدنان بمالهما المعلوم، ولو متفاوتًا ليعملا فيه جميعًا. والمعروف في شركة المضاربة: أن يدفع شخص ماله لآخر ليتجر فيه، وله جزء من الربح. فتختص العنان: بأن المال والعمل من كلا الشريكين. وتختص المضاربة: بأن المال من أحد الشريكين، والعمل من الآخر. وفي مسألتنا هذه: المال من كلا الشريكين، فلم تشبه المضاربة من كل وجه. والعمل أيضًا من أحد الشريكين فلم تشبه العنان من كل وجه. [م - 1298] فما حكم المشاركة على هذا الوجه؟ وما هي التسمية الاصطلاحية لهذه الشركة؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة وأشهب من المالكية إلى جواز اشتراط أن يكون العمل على أحدهما دون الآخر (¬2). ¬
على خلاف بينهم في التسمية الاصطلاحية لهذه الشركة. فمنهم من ألحقها بعقود المضاربة، ومنهم من ألحقها بالشركات، ومنهم من قال: إن هذا النوع من العقود يجمع بين الشركة والمضاربة. قال ابن قدامة: "أن يشترك مالان وبدن صاحب أحدهما، فهذا يجمع شركة ومضاربة، وهو صحيح" (¬1). وقال في الإنصاف: "فإن اشتركا على أن العمل من أحدهما في المالين صح، ويكون عنانًا ومضاربة ... قال الزركشي: هذه الشركة تجمع شركة ومضاربة، فإن حيث إن كل واحد منهما يجمع المال تشبه شركة العنان، ومن حيث إن أحدهما يعمل في مال صاحبه في جزء من الربح هي مضاربة ... وهي شركة عنان على الصحيح من المذهب، وقيل: مضاربة" (¬2). فعلى هذا في مذهب الحنابلة ثلاثة أقوال: الصحيح من المذهب أنها شركة عنان. ¬
واختار ابن قدامة والزركشي أنها مركبة من العنان والمضاربة. وقيل: عقد مضاربة فقط. فإذا علم ذلك فإن القول بالجواز مشروط عند الحنفية والحنابلة بأن يكون نصيب الذي شرط عليه العمل من الربح بقدر ماله أو أكثر، لا أن يكون نصيبه من الربح أقل من ماله. جاء في المبسوط: "وإن اشترطا الربح والوضيعة على قدر رأس المال، والعمل من أحدهما بعينه، كان ذلك جائزًا؛ لأن العامل منهما معين لصاحبه في العمل له في ماله حين لم يشترط لنفسه شيئاً من ربح مال صاحبه، فهو المستبضع في مال صاحبه" (¬1). وإن شرط العمل على الذي شرط له فضل الربح جاز أيضًا؛ لأن الزيادة في مقابل العمل. وإن شرط العمل على أقلهما ربحًا لا يجوز؛ لأنه شرط للآخر فضل ربح بغير عمل، ولا ضمان، والربح لا يستحق إلا بمال، أو عمل، أو ضمان (¬2). وقال في الإنصاف: "قوله: (ليعملا فيه ببدنهما) ... الصحيح من المذهب أو يعمل فيه أحدهما، لكن بشرط أن يكون له أكثر من ربح ماله" (¬3). وإن كان الربح بقدر ماله صح، وكان ذلك إبضاع لا شركة، والإبضاع توكيل إنسان آخر على أن يعمل له عملًا بلا مقابل (¬4). ¬
القول الثاني
وقال في الإنصاف: "وإن شرط له ربحًا أقل من ماله لم يصح على الصحيح من المذهب ... " (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية إلى منع أن يكون العمل من أحدهما (¬2). جاء في المدونة: "قلت: هل يجوز أن أخرج أنا ألف درهم، ورجل آخر ألف درهم، على أن الربح بيننا نصفين، والوضيعة علينا نصفين، على أن يعمل أحدنا دون صاحبه؟ قال: قال مالك: لا تجوز هذه الشركة بينهما إلا أن يستويا في رأس المال وفي العمل. قلت -القائل سحنون- فإن أخرج أحدهما ألف درهم، والآخر ألفي درهم، فاشتركا على أن الربح بينهما نصفين، والوضيعة عليهما نصفين، أو اشترطا أن الوضيعة على قدر رؤوس أموالهما على أن يعمل صاحب الألف بجميع المال وحده، ويكون عليه العمل وحده؟ قال مالك: لا خير في هذه الشركة ... ولا يجتمع عند مالك شركة وقراض" (¬3). وقال مواهب الجليل: "ولا يصلح مع الشركة صرف ولا قراض ... " (¬4). هذا إذا كان عقد القراض مستقلًا عن الشركة، فإن كان داخلًا في عقد الشركة فلا يمنع من اجتماعهما (¬5). ¬
وقيل: يجوز مطلقًا حتى ولو كان نصيبه من الربح أقل من قدر ماله، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬1)، ورجحه شيخنا محمَّد بن عثيمين؛ لأنه إذا أعطى العامل ربحه كاملاً لصاحب المال فهو إحسان منه، ومن يمنع الإحسان؟! ¬
الشرط السابع في اشتراط التساوي في رأس المال
الشرط السابع في اشتراط التساوي في رأس المال شركة العنان لا تقتضي التساوي لا في المال، ولا في الربح (¬1). [م - 1299] اختلف الفقهاء في اشتراط المساواة في رأس المال بين الشركاء في شركة العنان إلى قولين: القول الأول: تصح الشركة مع تفاضل الشركاء في رأس المال، وهو مذهب الحنفية والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية (¬2). وجه القول بالجواز: أن المقصود من المشاركة هو الحصول على الربح، وهذا يحصل مع التفاضل في المال، ومع التساوي. ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب أبو القاسم الأنماطي من الشافعية إلى وجوب التساوي في قدر المال بين الشركاء، معللاً ذلك بأن الشركة تشتمل على مال وعمل، وإذا كان لا يجوز للشريكين أن يتساويا في المال، ويتفاضلا في الربح، فكذلك لا يجوز أن يتساويا في العمل، ويتفاضلا في الربح، وإذا اختلف مالهما في القدر فقد تساويا في العمل، وتفاضلا في الربح (¬1). ورد الشيرازي قول أبي القاسم: بأن قياس العمل على المال قياس غير صحيح؛ لأن الاعتبار في الربح بالمال لا بالعمل، والدليل على أنه لا يجوز أن ينفرد أحدهما بالمال، ويشتركا في الربح، فلم يجز أن يستويا في المال، ويختلفا في الربح، وليس كذلك العمل، فإنه يجوز أن ينفرد أحدهما بالعمل، ويشتركا في الربح، فجاز أن يستويا في العمل، ويختلفا في الربح. الراجح: الراجح هو قول الجمهور بصحة اشتراط التفاضل في رأس مال الشركة، والله أعلم. ¬
المبحث الخامس في الربح والوضيعة في شركة العنان
المبحث الخامس في الربح والوضيعة في شركة العنان الشريكان في الربح على ما اصطلحا عليه والوضيعة على قدر المال (¬1). [م - 1300] اتفق الفقهاء على أن الخسارة في شركة العنان تكون على مقدار مال كل واحد منهما، فلا يتحمل الشريك خسارة أكثر من مقدار نصيبه في الشركة، فإذا كان نصيبه الثلث كان عليه ثلث الخسارة، أو كان له الثلثان فالخسارة كذلك. وذلك أن الخسارة عبارة عن نقصان رأس المال؛ لأنها اسم لجزء هالك من المال، فتقدر الخسارة بحسب نصيب كل واحد منهما في هذا المال. (ح -896) ولقوله -صلى الله عليه وسلم -: وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية (¬2). (ح -897) وأما ما يذكره الأحناف في كتبهم بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم -قال: الربح على ما شرطا والوضيعة على قدر المالين (¬3). فلا يعرف في كتب السنة (¬4). وجه الاستدلال: أن النبي -صلى الله عليه وسلم - أمر الخليطين في الغنم بالتراجع بينهما، فدل ذلك على أن كل شريكين في معناهما. ¬
وأما الربح فاختلفوا فيه على قولين
وأما الربح فاختلفوا فيه على قولين: القول الأول: قيل: الربح بحسب الشرط، فلا مانع من التفاضل في الربح وإن تساويا في رأس المال، وهو مذهب الحنفية والحنابلة (¬1). وجه ذلك: أن الربح لا يتعلق برأس المال وحده كالخسارة، وإنما يتعلق بالمال والعمل، فقد يكون بعض الشركاء أحذق من بعض، وأعرف بوسائل التجارة، فيستحق زيادة في الربح لقاء ما أداه من عمل، وإذا كان التفاوت في الربح قد لوحظ فيه العمل، فيجب أن يكون العمل مشروطًا في حق من استحق زيادة في الربح. قال ابن قدامة: "يجوز أن يجعل الربح على قدر المالين، ويجوز أن يتساويا مع تفاضلهما في المال، وأن يتفاضلا فيه مع تساويهما في المال" (¬2). وعلل ذلك بقوله: "وذلك لأن أحدهما قد يكون أبصر بالتجارة من الآخر، وأقوى على العمل، فجاز له أن يشترط زيادة في الربح في مقابلة عمله، كما يشترط الربح في مقابلة عمل المضارب، يحققه أن هذه الشركة معقودة على المال والعمل جميعًا، ولكل واحد منهما حصة من الربح إذا كان منفردًا، فكذلك إذا اجتمعا" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب المالكية، والشافعية، وقول زفر من الحنفية، واختيار ابن حزم من الظاهرية إلى أن الربح كالخسارة على قدر رؤوس الأموال، فلا يجوز أن يشرط لأحدهما أكثر من ربح ماله (¬1). إلا أن المالكية جعلوا الربح والعمل على قدر المال، فإذا كان سهمه في الشركة الثلث كان عليه من العمل مقدار الثلث، وله من الربح مقدار الثلث، وجعل الشافعية الربح فقط على قدر المال، وإن تفاوتا في العمل. جاء في الفواكه الدواني: "والحاصل أنه يشترط أن يكون الربح والخسر والعمل بقدر المالين" (¬2). وجاء في روضة الطالبين: "الربح بينهما على قدر المالين شرطا ذلك أم لا، تساويا في العمل أم تفاوتا" (¬3). وجه هذا القول: أن الربح نماء المال فتكون قسمته على قدر المال، ولا يجوز التفاضل فيه. وللقياس على الخسارة، فإذا كانت الوضيعة على مقدار المال بالاتفاق فلا ¬
ويجاب على ذلك
يتحمل الشريك خسارة أكثر من مقدار نصيبه في الشركة، فكذلك لا يستحق من الربح أكثر من مقدار ماله. وجاء في المهذب: "ويقسم الربح والخسران على قدر المالين؛ لأن الربح نماء مالهما، والخسران نقصان مالهما، فكان على قدر المالين، فإن شرطا التفاضل في الربح والخسران مع تساوي المالين، أو التساوي في الربح والخسران مع تفاضل المالين لم يصح العقد؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الشركة" (¬1). ويجاب على ذلك: ويناقش: يقال للمالكية: إذا جاز أن يتفاوتا في الشركة في المال، جاز أن يتفاوتا في العمل، فالشركة تقوم على مجموعي المال والعمل، وكلاهما يعتبر مالًا له قيمته، فالقول بأن العمل يجب أن يكون على قدر المال لم يقم دليل على اعتباره، والأصل القول بالجواز، فما جاز في مال الشركة جاء في العمل. ويقال للشافعية: إذا جاز التفاوت في العمل عندكم جاز التفاوت في الربح أيضًا، وإن تساويا في المال؛ لأن الربح كما يستحق بالمال يستحق بالعمل أيضًا فالعامل في عقد المضاربة يستحق نصيبه من الربح بسبب عمله، فدل على جواز التفاوت في الربح وإن تساويا في المال. وأما القياس على الخسارة فهو قياس غير صحيح؛ لأن الخسارة عبارة عن نقصان رأس المال؛ لأنها اسم لجزء هالك من المال فتقدر الخسارة بحسب ¬
القول الراجح
نصيب كل واحد منهما في هذا المال بخلاف الربح، فإنه لم يتعين أن يكون نماء للمال وحده، فقد يكون نماء للعمل أيضًا، والله أعلم. القول الراجح: أن الربح على ما اصطلحا عليه، والخسارة على قدر المال، والله أعلم.
المبحث السادس فى اشتراط توقيت الشركة
المبحث السادس فى اشتراط توقيت الشركة توقيت الشركة توقيت في التوكيل، والوكالة تقبل التخصيص في الوقت، والعمل جميعًا (¬1). كل تصرف يتوقت بنوع من المتاع يجوز توقيته بالزمان كالوكالة (¬2). التوقيت في الشركة يجب أن يكون للشراء دون البيع. [م - 1301] اختلف الفقهاء في جواز توقيت الشركة بوقت محدد، والخلاف فيها راجع إلى الخلاف في توقيت الوكالة، فإن قال بتوقيت الوكالة لم يمنع من توقيت الشركة، وبعضهم أرجع الخلاف إلى أن عقد الشركة عقد جائز، واشتراط مده معينة يعني لزومها تلك المدة، وهذا مخالف لطبيعة العقد، وإليك تحقيق الأقوال في كل مذهب. القول الأول: يصح توقيت الشركة بوقت معين، وهو أصح القولين في مذهب الحنفية، والمذهب عند الحنابلة (¬3). جاء في مجمع الضمانات: "فإن وقتا وقتًا بأن قال: ما اشتريت اليوم فهو بيننا ¬
صح التوقيت، وما اشترياه اليوم فهو بينهما، وما اشترياه بعد اليوم يكون للمشتري خاصة" (¬1). وجاء في البحر الرائق: "هل تتوقت هذه الشركة بالوقت؟ روى بشر، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة أنها تتوقت، حتى لا تبقى الشركة بعد مضي الوقت. وقال الطحاوي: هذه الرواية مما لا تكاد تصح على ما روي عنهم في الوكالة، أن من وكل رجلا بشراء عبد، أو ببيعه اليوم لا تتوقت الوكالة باليوم، فإذا لم تتوقت الوكالة لا تتوقت الشركة ضرورة. وقال غيره من مشايخنا: بأن هذه الرواية صحيحة في الشركة، فصارت الشركة، والوكالة على الروايتين: في رواية يتوقتان؛ لأنهما يقبلان الخصوص في النوع، فيقبلان التوقيت بالوقت. وفي رواية لا يتوقتان؛ لأن ذكره قد يكون لقصرهما عليه، وقد يكون لاستعجال العمل فيما لا يحتاج إلى التوقيت، وهما ثابتان للحال بيقين، ووقع الشك في ارتفاعهما بمضي الوقت، فلا يرتفعان بالشك، ولهذا لا يتوقت الإذن، كذا في المحيط" (¬2). وقال ابن قدامة: "إذا قال لرجل: ما اشتريت اليوم من شيء فهو بيني وبينك نصفان، أو أطلق الوقت، فقال: نعم ... جاز" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا يصح توقيت الشركة، وهو مذهب المالكية، والشافعية، وأحد قولي الحنفية، واختيار ابن حزم (¬1). جاء في شرح ميارة: "والشركة لا تكون إلى أجل، ولكل واحد منهما أن ينحل عن صاحبه، ويقاسمه فيما بين أيديهما من ناض وعروض متى شاء" (¬2). وقال ابن عبد البر: "ولا يجوز القراض (المضاربة) إلى أجل، فإن وقع فسخ، وإن عمل رد إلى قراض مثله" (¬3). والقول في الشركة كالقول في القراض. وهذا النقل يخالف قولهم بأن عقد الشركة عقد لازم، فليتأمل. الراجح: أرى أن القول بالتوقيت هو القول الصحيح؛ لأن الأصل في الشروط الصحة ¬
والجواز، ولا يوجد محذور شرعي يمنع من صحة التوقيت، إلا أن التوقيت يجب أن يكون للشراء دون البيع، وذلك أن البيع إذا كان في الشركة عروض لم تبع فلابد من بيعها، ولو كان ذلك بعد التوقيت، والله أعلم.
المبحث السابع في تصرفات الشريك
المبحث السابع في تصرفات الشريك الفرع الأول في التبرع من مال الشركة قال ابن قدامة: الأذن إذا اختص بشيء لم يتجاوزه (¬1). كل تصرف لا يتضمنه الإذن المطلق، ولا العرف الجاري، ولا فيه مصلحة للشركة فإن الشريك ممنوع منه (¬2). [م - 1302] اختلف الفقهاء في تصرفات الشريك إذا كانت على وجه التبرع. فمنهم من منع هذه التصرفات مطلقًا. ومتهم من استثنى التبرع اليسير مطلقًا، والكثير إذا كان في ذلك مصلحة للشركة كترغيب الناس في الشراء. ومنهم من صحح إقراض مال الشركة إذا كان في ذلك مصلحة للشركة. وسبب الخلاف: أن إطلاق التصرف للشريك بالتصرف محكوم بثلاثة أمور: بالعقد المتضمن الإذن بالتصرف صراحة أو عرفًا. وبالعرف الجاري بين التجار في عقود الشركات، وبما فيه مصلحة للشركة. ¬
فكل تصرف لا يتضمنه الإذن المطلق، ولا العرف الجاري، ولا فيه مصلحة للشركة فإن الشريك ممنوع منه. ولهذا نص جمهور الفقهاء بأن الشريك ممنوع من التبرع من مال الشركة إلا بإذن شريكه، فمنعوا الشريك من الهبة، والقرض، والصدقة، والحط من قيمة السلعة بغير عيب؛ لأن كل هذه التصرفات من قبيل التبرع، وهو لا يملك التبرع على شريكه إلا بإذنه، والمقصود بالإذن الإذن الصريح، فلو قال له شريكه: اعمل برأيك لم يكن إذنًا؛ لأن قوله هذا يعني تفويض الرأي إليه فيما هو من أعمال التجارة، وهذه التصرفات ليست منها؛ ولأن الربح هو المقصود من الشركة، ولا يحصل الربح بهذه التصرفات. جاء في بدائع الصنائع: "وليس لأحدهما أن يهب، ولا أن يقرض على شريكه؛ لأن كل واحد منهما تبرع. أما الهبة فلا شك فيها. وأما القرض فلأنه لا عوض له في الحال، فكان تبرعًا في الحال، وهو لا يملك التبرع على شريكه، وسواء قال: اعمل برأيك أو لم يقل، إلا أن ينص عليه بعينه؛ لأن قوله: اعمل برأيك تفويض الرأي إليه فيما هو من التجارة، وهذا ليس من التجارة ... وليس له أن يكاتب عبدًا من تجارتهما، ولا أن يعتق على مال؛ لأن الشركة تنعقد على التجارة، والكتابة والعتق ليس من التجارة" (¬1). وقال الزيلعي: "لا يزكي كل واحد منهما نصيب صاحبه؛ لأنه لم يأذن له فيها؛ لأن الإذن بينهما وقع في التجارة، والزكاة ليست منها" (¬2). ¬
ولأنه بدون إذن رب المال لا تقع الموقع؛ لعدم صحتها بدون نية، فتلحق بالتبرعات، وهو لا يملك التبرع بمال شريكه. وقال ابن قدامة: "وليس له أن يكاتب الرقيق، ولا يعتق على مال، ولا غيره، ولا يزوج الرقيق؛ لأن الشركة تنعقد على التجارة، وليست هذه الأنواع تجارة، سيما تزويج العبد، فإنه محض ضرر. وليس له أن يقرض، ولا يحابي؛ لأنه تبرع. وليس له التبرع" (¬1). وجوز الحنفية والمالكية وأحمد في رواية نقلها عنه حنبل التبرع إذا كان في ذلك مصلحة للشركة كترغيب الناس في الشراء؛ لأن الشريك مأذون له بالتصرف في كل ما هو من مصلحة الشركة. أو كان التبرع يسيرًا، ولو لم يكن في ذلك مصلحة للشركة؛ لأن التبرع اليسير مأذون له فيه عرفًا. وأجاز بعض الحنابلة القرض لمصلحة الشركة، وإليك النصوص الداعمة لهذه الأقوال. جاء في الاختيار لتعليل المختار: "ويهدي القليل من الطعام، ويضيف معامليه؛ لأنه من صنيع التجار، وفيه استمالة قلوب المعاملين، وقد صح أنه عليه السلام قبل هدية سلمان الفارسي، وكان عبدًا. وقال محمد: يتصدق بالرغيف ونحوه، ولم يقدر محمد الضيافة اليسيرة، وقيل: ذلك على قدر مال التجارة" (¬2). وفي الفتاوى الهندية: له "أن يهدي من مال المفاوضة، ويتخذ دعوة منه ولم ¬
يقدر بشيء، والصحيح أن ذلك منصرف إلى المتعارف، وهو ما لا يعده التجار سرفًا، كذا في الغياثية" (¬1). وجاء في شرح الخرشي لقول خليل: "وله أن يتبرع إن استألف به، أو خف" قال الخرشي: "يعني أن أحد شريكي المفاوضة يجوز له من غير إذن شريكه أن يتبرع بشيء من مال الشركة من هبة، ونحوها بشرط أن يفعل ذلك استئلافًا للشركة؛ ليرغب الناس في الشراء منه، وكذلك يجوز له أن يتبرع بشيء خفيف من مال الشركة، ولو كان بغير استئلاف كإعارة آلة، كماعون، ودفع كسرة لسائل، أو شربة ماء، أو غلام لسقي دابة، والكثرة والقلة بالنسبة لمال الشركة" (¬2). وجاء في الإنصاف: "قوله (ولا يقرض). هذا المذهب. وعليه جماهير الأصحاب. وقطع به أكثر الأصحاب ... وقال ابن عقيل: يجوز للمصلحة. يعني: على سبيل القرض. صرح به في التلخيص وغيره (¬3). وجاء في شرح منتهى الإرادات: "ولا أن يهب من مال الشركة إلا بإذن، ونقل حنبل: يتبرع ببعض الثمن لمصلحة" (¬4). وجواز القرض مقيد بأن يكون ذلك أصلح للشركة كأن يخاف على مال الشركة، ويكون المستقرض معروفًا بالأمانة ولا يخاف منه الجحود، ومليئًا في ¬
الراجح
حال طلب منه السداد؛ لأن الشريك إذا كان له إيداع المال كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فالإقراض أولى من الإيداع؛ لأن الإيداع غير مضمون على المودع إذا هلك المال بغير تعد منه ولا تفريط بخلاف القرض، خاصة إذا أخذ على القرض رهنًا. وقد ذكر الفقهاء أن ولي اليتيم إذا خاف على ماله من السرقة فإن الأفضل في حقه أن يقرضه شخصًا أمينًا مليئًا على أن يودعه لدى شخص أمين؛ لأنه في حال القرض يكون المال مضمونًا على المقترض بخلاف الوديعة فإنها ليست مضمونة. وخالف في ذلك الشافعية، فإنعوا من التبرع مطلقًا، ولو كان يسيرًا إلا باذن شريكه، جاء في أسنى المطالب "ليس للعامل التصدق من مال القراض، ولو بكسرة؛ لأن العقد لم يتناوله" (¬1). الراجح: ما ذهب إليه الجمهور، وهو أن التبرع: إن كان يسيرًا صح مطلقًا. وإن لم يكن يسيرًا كان ذلك سائغًا إذا كان فيه مصلحة للشركة؛ لأن تفويت مصلحة المحافظة على قدر من مال الشركة يصح إذا كان في ذلك جلب مصلحة أكبر للشركة، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني في خلط مال الشركة بماله الخاص
الفرع الثاني في خلط مال الشركة بماله الخاص الإذن المطلق ينصرف إلى ما جرت به العادة (¬1). كل تصرف يفتقر إلى الإذن لم يقم السكوت مقام الإذن (¬2). [م - 1303] لم يختلف الفقهاء بأن الشريك له أن يخلط مال الشركة إذا أخذ إذنًا صريحًا بذلك من شريكه. واختلفوا فيما إذا لم يكن هناك إذن صريح في خلط مال الشركة بماله؟ القول الأول: لا يملك الشريك خلط مال الشركة بماله إلا إذا كان هناك تفويض عام، كما لو قال له: اعمل فيه برأيك، ولا يشترط الأذن الصريح. وهذا مذهب الحنفية والحنابلة. جاء في الفتاوى الهندية: "إذا لم يقل الشريك له: اعمل برأيك ليس له أن يخلط مال الشركة بمال له خاصة" (¬3). وجاء في مجلة الأحكام العدلية: " ... ليس له أن يخلط مال الشركة بماله ... فإذا فعل يكون ضامنًا حصة شريكه" (¬4). ¬
القول الثاني
وجاء فيها أيضًا: "إذا فوض أحد الشريكين أمور الشركة إلى رأي الآخر قائلاً: اعمل برأيك، أو اعمل ما تريد، فله أن يعمل كل شيء من توابع التجارة، فيجوز أن يرهن مال الشركة، أو الارتهان لأجلها، والسفر بمال الشركة، وخلط مال الشركة بماله، وعقد الشركة مع آخر ... " (¬1). وجاء في كشاف القناع: ليس له "أن يخلط مال الشركة بماله، ولا مال غيره؛ لأنه يتضمن إيجاب حقوق في المال، وليس هو من التجارة المأذون فيها" (¬2). وقال في الشرح الكبير لابن قدامة: "فإن قال: اعمل فيه برأيك جاز له أن يعمل كل ما نفع في التجارة من الإبضاع، والمضاربة بالمال، والمشاركة به، وخلطه بماله ... " (¬3). القول الثاني: يملك الشريك خلط ماله بمال الشركة بمطلق العقد، ولو لم يأذن له شريكه، وهذا مذهب المالكية. جاء في القوانين الفقهية: "إذا خلط العامل ماله بمال القراض، فهو غير متعد خلافًا لهما" (¬4). وعللوا ذلك بأن الخلط من ضرورات أعمال التجارة لتحقيق الربح، وهو من عادة التجار، والغالب على أحوال المضاربين أن تكون لهم أموال خاصة، ويعرف منذ البداية أن الأموال ستختلط، وأن التجارة ستكون واحدة. ¬
القول الثالث
القول الثالث: لا يملك الخلط بالتفويض العام بل لا بد من إذن صريح، وهذا مذهب الشافعية. وكلام الشافعية عن المسألة وإن كان في عقد المضاربة، إلا أن القول في الشركة كالقول في المضاربة. جاء في الحاوي الكبير: "لا يجوز له أن يخلط ماله بمال القراض، وعليه تمييز كل واحد من المالين، فإن خلطهما، فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون بإذن رب المال ... فيجوز، ويصير شريكًا ومضاربًا ... والضرب الثاني: أن يخلط المالين بغير إذن رب المال ... فيبطل القراض؛ لأنه يصيبر كالعادل عن حكمه" (¬1). الراجح: أرى أن قول الحنفية والحنابلة وسط بين القولين إلا أن يكون هناك عرف أو عادة محكمة، فيجري العمل فيها، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث في توكيل الشريك رجلا أجنبيا
الفرع الثالث في توكيل الشريك رجلاً أجنبيًا جاء في الموسوعة الكويتية: من لا يعمل إلا بإذن لا يوكل إلا بإذن (¬1). وجاء في الإنصاف: ما جرت العادة أن يستنيب فيه فله أن يستأجر من يفعله (¬2). [م - 1304] اختلف الفقهاء في الشريك يوكل أجنبيًا ليتولى بعض التصرفات دون إذن شريكه إلى قولين. القول الأول: أجاز الحنفية للشريك أن يوكل في البيع، والشراء، وسائر التصرفات، وجوزوا ذلك من باب الاستحسان، وإن كان القياس عندهم المنع. وقد اختار القول بالجواز بعض الحنابلة، وجوزه المالكية في شركة المفاوضة خاصة (¬3). جاء في المبسوط: "لأحد الشريكين أن يوكل بالتصرف، وهو استحسان، وفي القياس: ليس له ذلك؛ لأن كل واحد منهما وكيل صاحبه، وليس للوكيل أن يوكل غيره. وأن الموكل إنما رضي برأيه ولم يرض برأي غيره. وفي الاستحسان: التوكيل من عادة التجار، وكل واحد منهما لا يجد بدًا منه؛ لأن الربح لا يحصل إلا بالتجارة الحاضرة والغائبة، وكل واحد منهما ¬
عاجز عن مباشرة النوعين لنفسه، ولا يجد بدًا من أن يوكل غيره بأحد النوعين ليحصل مقصودهما -وهو الربح- فيصير كل واحد منهما كالآذن لصاحبه في ذلك دلالة. ولأن الوكالة التي تتضمنها الشركة بمنزلة الوكالة العامة، ولهذا صحت من غير بيان جنس المشترى وصفته. وفي الوكالة العامة: للوكيل أن يوكل غيره؛ فإنه لو قال لوكيله: اعمل برأيك؛ كان له أن يوكل غيره" (¬1). وقال القرافي في الذخيرة نقلًا عن الطرطوشي: "تجوز المفاوضة: وهي أن يفوض كل واحد التصرف في البيع، والشراء، والضمان، والكفالة، والتوكيل، والقراض، وما فعله لزم الآخر إن كان عائدًا إلى تجارتهما" (¬2). وجاء في البهجة في شرح التحفة: "وشركة مفاوضة: وهي أن يطلق كل منهما التصرف لصاحبه في المال الذي أخرجاه غيبة وحضورًا، وبيعًا وشراء، وضمانًا وتوكيلًا، وكفالة وقراضًا، فما فعل أحدهما من ذلك لزم صاحبه إذا كان عائدًا على شركتهما" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب الشافعية وأكثر الحنابلة إلى أن الشريك ليس له حق التوكيل بدون إذن شريكه؛ فيما يتولى مثله من العمل بنفسه؛ إلا ألا يليق به، أو أن يكثر عليه؛ لأنه إنما ارتضى تصرفه هو، والقاعدة عندهم: أن من لا يعمل إلا بإذن لا يوكل إلا بإذن. ويفهم منه: أن له التوكيل فيما لا يتولى مثله بنفسه، أو كان يكثر عليه بحيث يعجزه (¬1). ¬
الفرع الرابع في استئجار الشريك من يعمل معه
الفرع الرابع في استئجار الشريك من يعمل معه قال ابن قدامة: ما جرت العادة أن يستنيب فيه فله أن يستأجر من يفعله (¬1). [م - 1305] أجاز الفقهاء للشريك أن يستأجر من يعاونه في أعمال الشركة إذا كان لا يستطيع القيام بذلك وحده، كتحميل البضائع، وعلاج الدواب، وتركيب الآلات، وحفظ المال (¬2). قال الكاساني في بدائع الصنائع: "وله أن يستأجر من يعمل في المال؛ لأنه من عادة التجار، وضرورات التجارة أيضًا؛ لأن الإنسان قد لا يتمكن من جميع الأعمال بنفسه، فيحتاج إلى الأجير، وله أن يستأجر البيوت ليجعل المال فيها؛ لأنه لا يقدر على حفظ المال إلا به، وله أن يستأجر السفن والدواب للحمل؛ لأن الحمل من مكان إلى مكان طريق تحصيل الربح، ولا يمكنه النقل بنفسه" (¬3). وقال سحنون كما في المدونة: "أرأيت المقارض، أله أن يستأجر الأجراء يعملون معه في المقارضة، ويستأجر البيوت ليجعل فيها متاع المقارضة، ¬
ويستأجر الدواب يحمل عليها متاع القراض؟ قال -يعني ابن القاسم- نعم، عند مالك هذا جائز" (¬1). وقال الشيرازي: "فأما ما لم تجر العادة أن يتولاه بنفسه، كحمل المتاع، ووزن ما يثقل وزنه، فلا يلزمه أن يتولاه بنفسه، وله أن يستأجر من مال القراض من يتولاه" (¬2). وقال ابن قدامة: "وله أن يستأجر من رأس مال الشركة، ويؤجر؛ لأن المنافع أجريت مجرى الأعيان، فصار كالشراء والبيع" (¬3). ¬
الفرع الخامس في إيداع الشريك مال الشركة
الفرع الخامس في إيداع الشريك مال الشركة إطلاق التصرف للشريك محكوم بثلاثة أمور، بالعقد المتضمن الإذن، وبالعرف الجاري، وبما فيه مصلحة الشركة. [م - 1306] اختلف الفقهاء هل عقد الشركة يعطي الشريك حق إيداع المال؟ على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية، ورواية في مذهب الحنابلة، إلى أن لكل من الشريكين أن يودع مال الشركة (¬1). واستدلوا على ذلك: بأن الشريك إذا كان له أن يستأجر على حفظ المال، فكونه يودعه بلا أجر أولى بالجواز. ولأن عقد الشركة يعطي الشريك كل تصرف يكون فيه مصلحة للشركة، والإيداع كذلك؛ إذ به يحفظ المال من السرقة، ويدفع به أخطار الطريق، فالإيداع اليوم من ضرورات التجارة؛ لأن العامل لا يقوى على حفظ المال كله بنفسه خاصة مع توسع التجارة، وتعدد الأسفار، وكثرة المشاغل. جاء في بدائع الصنائع: "وله أن يودع؛ لأن الإيداع من عادة التجار، ومن ضرورات التجارة أيضا؛ لأنه لا بد للتاجر منه؛ لأنه يحتاج إلى ذلك عند اعتراض أحوال تقع عادة؛ لأن له أن يستحفظ المودع بأجر فبغير أجر أولى" (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب جمهور الفقهاء بأن الشريك إذا أودع بلا حاجة كان ضامنًا (¬1). قال في التاج والإكليل: "وأما إيداعه، فإن كان لوجه عذر لنزوله ببلد، فيرى أن يودع؛ إذ منزله الفنادق، وما لا أمن فيه، فذلك له، وأما ما أودع لغير عذر فإنه يضمنه" (¬2). الراجح: الإيداع اليوم لا أرى حاجة إليه مع قيام المصارف، وإيداع المصارف اليوم وإن سمي وديعة فهو في الحقيقة قرض مضمون، ولا يمكن اليوم أن يستغني عنه الشركاء؛ لأن فيه فوائد كثيرة لا يقتصر على حفظ المال، واسترداده متى شاء صاحبه، بل يتعداه إلى توثيق القبض والدفع، وفتح الاعتمادات لتسهيل البيع والشراء والتوريد والتصدير، والمنفعة ليست للمستقرض وحده، فالمقرض عندما أقرض المصرف لم يراع إلا مصلحته هو فقط، وقد تكلمنا عن توصيف الودائع المصرفية في المجلد الثاني عشر، فأغنى ذلك عن إعادته. ¬
الفرع السادس في السفر بمال الشركة
الفرع السادس في السفر بمال الشركة الإذن المطلق ينصرف إلى ما جرت به العادة (¬1). تصرف الشريك ... ينفذ بلا إذن شريكه إذا كان في حدود مصلحة الشركة (¬2). [م - 1307] اتفق الفقهاء على أن للشريك أن يسافر بمال الشركة إذا أذن له شريكه، واختلفوا فيما لو سافر بالمال دون إذنه على أربعة أقوال: القول الأول: للشريك والمضارب أن يسافر بلا إذن من شريكه، إذا أمن الطريق، وهو الصحيح من قول أبي حنيفة، ومحمد، والمذهب عند الحنابلة (¬3). جاء في الفتاوى الهندية: "ولشريك العنان والمبضع والمضارب أن يسافروا بالمال، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة، ومحمد" (¬4). وجاء في تحفة الفقهاء: "وكذا لكل واحد منهما -يعني الشريكين- أن يبضع ¬
واستدلوا على جواز السفر بالمال
ويودع، ويوكل بالبيع، ويحتال بالثمن، ويستأجر، ويسافر بمال الشركة عند أبي حنيفة ومحمد في أصح الرويات" (¬1). واستدلوا على جواز السفر بالمال: بأن الإذن المطلق بالتصرف يشمل السفر بالمال. ولأن السفر من عادة التجار. ولأن المقصود من الشركة الربح، وهو يتحقق في السفر أكثر من غيره. القول الثاني: ليس للشريك أن يسافر بمال الشركة إلا بإذن أو ضرورة كنهب ونحوه، وهو مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة، ورأي المالكية في شركة العنان خاصة، وأحد الأقوال عن أبي يوسف من الحنفية (¬2). قال في مغني المحتاج: "ولا يسافر به: أي المال المشترك؛ لما في السفر من الخطر، فإن سافر ضمن، فإن باع صح البيع، وإن كان ضامنًا" (¬3). ¬
واستدلوا على المنع
واستدلوا على المنع: بأن السفر تغرير بالمال، ومخاطرة، ولا يجوز له تعريض مال الغير للخطر إلا بإذن صاحبه. القول الثالث: يسافر الشريك بمال الشركة إلى موضع لا يبيت عن منزله، وهو قول مروي عن أبي يوسف (¬1). وجه ذلك: أنه إذا كان قريبًا بحيث يبيت في منزله أصبح في حكم الحاضر، وليس في حكم المسافر. القول الرابع: يسافر الشريك بما لا حمل له، ولا مؤونة، وهو قول محكي عن أبي يوسف (¬2). وجه ذلك: أن ما له حمل ومؤونة إذا احتاج شريكه إلى رده يلزمه مؤونة الرد، فيتضرر به، ولا مؤنة تلزمه فيما لا حمل له. الراجح: أن المرجع في ذلك ما سبق ذكره، وهو أن كل ما يتضمنه العقد، أو الإذن ¬
العرفي، أو مصلحة الشركة فإن الشريك له أن يتصرف فيه، ولو لم يرجع إلى الشريك، وإذا رجعنا إلى السفر رأينا أن فيه مصلحة للشركة ظاهرة، وعرف التجار اليوم يقبله خاصة مع تداخل التجارة، وسهولة الاتصالات، وسرعة المبادلات، واعتماد التجارة اليوم على الاستيراد والتصدير، وفتح أسواق البلاد بعضها على بعض إلا أن ذلك مقيد بحالة الأمن دون حالة الخوف، ومناطق الحروب، والله أعلم.
الفرع السابع في حق الشريك في الإقالة
الفرع السابع في حق الشريك في الإقالة تصرف الشريك ... ينفذ بلا إذن شريكه إذا كان في حدود مصلحة الشركة (¬1). [م - 1308] اختلف الفقهاء في الشريك، هل له أن يقايل ما اشتراه الآخر، والخلاف فيها يرجع إلى الخلاف في الإقالة، فمن رأى أنها بيع رأى أن الشريك له أن يقايل؛ لأن له أن يبيع. ومن رأى أنها فسخ اختلفوا هل للشريك أن يفسخ العقد، أو ليس له ذلك؟ على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية والمالكية والأصح في مذهب الحنابلة، أن الشريك له أن يقايل فيما بيع من مال الشركة، سواء أكان هو البائع أم شريكه. جاء في بدائع الصنائع: "ولأحدهما أن يقايل فيما باعه الآخر؛ لأن الإقالة فيها معنى الشراء، وأنه يملك الشراء فيملك الإقالة" (¬2). وقيد المالكية الجواز بأن لا يكون في ذلك محاباة للبائع، وأن يكون في ذلك مصلحة للشركة. وهذا القيد معتبر عند الفقهاء في كل من تصرف لغيره. جاء في التاج والإكليل: "وإقالة أحدهما فيما باعه هو أو شريكه، وتوليته لازمة كبيعه، ما لم تكن فيه محاباة، فيكون كالمعروف لا يلزم إلا ما جرَّ به إلى ¬
القول الثاني
التجارة نفعًا، وإلا لزمه قدر حصته منه، وإقالة لخوف عدم الغريم ونحوه من النظر" (¬1). وجاء في شرح الخرشي: "ويجوز له أن يقيل من شيء باعه هو أو شريكه من مال المفاوضة بغير إذن شريكه؛ لأن كلًا وكيل عن صاحبه" (¬2). وجاء في الإنصاف: "قوله (وأن يقايل) هذا الصحيح من المذهب. قال في الكافي، والشرح، والفروع: ويقايل في الأصح. وقال في المغني: الأولى أنه يملك الإقالة؛ لأنها إذا كانت بيعا: فهو يملك البيع. وإن كانت فسخا: فهو يملك الفسخ بالرد بالعيب إذا رأى المصلحة فيه. فكذلك يملك الفسخ بالإقالة إذا كان فيه حظ ... قال في القواعد: الأكثرون على أن المضارب والشريك يملك الإقالة للمصلحة. سواء قلنا: هي بيع، أو فسخ ... " (¬3). وفي المبدع: "ويقايل؛ لأن الحظ قد يكون فيها، وظاهره مطلقًا، وهو الأصح؛ لأنها إن كانت بيعًا فقد أذن له فيه، وإن كانت فسخًا، ففسخ البيع المضر من مصلحة التجارة، فملكه كالرد بالعيب" (¬4). القول الثاني: ذهب الحنابلة في أحد القولين إلى أن الشريك ليس له أن يقيل. ¬
وجاء القول بذلك
جاء في الإنصاف: "وقيل: ليس له ذلك -يعني: الإقالة- وأطلقهما في الهداية، والمذهب، ومسبوك الذهب، والمستوعب، والهادي، والتلخيص، والرعايتين، والحاوي الصغير" (¬1). وجاء القول بذلك: الإقالة على الصحيح أنها فسخ للبيع، وليست بيعًا، وإذا كانت فسخًا لم يملكها الشريك؛ لأن الفسخ ليس من أعمال التجارة. جاء في الإنصاف: "وقال في الفصول، على المذهب: لا يملك الإقالة. وعلى القول بأنها بيع: يملكها. وتقدم ذلك في فوائد الإقالة" (¬2). والقول بالمنع هو مقتضى قواعد مذهب الشافعية، حيث قالوا: المال المشترك لا يجوز لأحد التصرف فيه إلا بإذن صاحبه (¬3). القول الثالث: أنه يجوز للشريك أن يقيل مع الإذن، وإلا فلا، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4). وهذا القول ليس قولًا جديدًا ,ولولا أن صاحب الإنصاف حكاه لما ذكرته؛ لأن القول بالجواز مع الإذن يرجع إلى القول بأنه ليس للشريك أن يقيل؛ لأن كل التصرفات المباحة تجوز مع إذن الشريك. ¬
الراجح
الراجح: أن الشريك له أن يقيل كما له أن يبيع ويشتري؛ لأن جميع الأعمال التي تحقق مصلحة للشركة مأذون فيها للشريك، وإن لم تكن بيعًا أو شراء، والله أعلم.
الفرع الثامن في الرد بالعيب
الفرع الثامن في الرد بالعيب الإذن بالتجارة إذن في توابعها (¬1). كل من ملك التجارة يملك ما هو من توابعها (¬2). الشركة تنعقد على عادة التجار (¬3). [م - 1309] اختلف الفقهاء في حق الشريك أن يرد بالعيب ما اشتراه شريكه على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن الرد بالعيب من حقوق العقد، وحقوق العقد تتعلق بالعاقد، فليس للشريك أن يرد بالعيب ما اشتراه شريكه (¬4). جاء في مجلة الأحكام العدلية: "الرد بالعيب أيضًا من حقوق العقد، فما اشتراه أحد الشريكين ليس للآخر رده بالعيب ... " (¬5). القول الثاني: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الشريك له أن يرد بالعيب ما اشتراه شريكه. جاء في شرح الخرشي: "كل واحد من الشريكين وكيل عن صاحبه في البيع ¬
الراجح
والشراء والأخذ والعطاء ... ويطالب كل واحد بتوابع معاملة الآخر من استحقاق، ورد بعيب" (¬1). وجاء في الإنصاف: " (ويجوز لكل واحد منهما أن يرد بالعيب). يعني ولو رضي شريكه، وله أن يقر به بلا نزاع. قال في التبصرة: ولو بعد فسخها" (¬2). وقال ابن قدامة: "أما الشريكان إذا اختلفا في رد المعيب، فلطالب الرد رد نصيبه، وللآخر إمساك نصيبه، إلا أن يكون البائع لم يعلم أن الشراء لهما جميعًا، فلا يلزمه قبول رد بعضه؛ لأن ظاهر الحال أن العقد لمن وليه، فلم يجز إدخال الضرر على البائع بتبعيض الصفقة عليه" (¬3). الراجح: إذن الشريك مقيد بشرط السلامة، وشراء الشريك للشركة يتناول السليم دون المعيب، وإذا رد الشريك ما اشتراه شريكه يكون كما لو رده المشتري؛ لأن الشريك وكيل عن شريكه، والوكيل نائب عن موكله، والله أعلم. ¬
الفرع التاسع في حق الشريك في دفع المال إلى أجنبي مضاربة
الفرع التاسع في حق الشريك في دفع المال إلى أجنبي مضاربة الإذن المطلق ينصرف إلى ما جرت به العادة (¬1). كل تصرف يفتقر إلى الإذن لم يقم السكوت مقام الإذن (¬2). [م - 1310] اختلف الفقهاء في حق الشريك في دفع المال إلى أجنبي مضاربة على قولين: القول الأول: لكل واحد من الشريكين أن يدفع مال الشركة إلى أجنبي مضاربة. وهو مذهب الحنفية، وبعض الحنابلة، وبه قال المالكية في شركة المفاوضة بشرط أن يتسع المال لذلك (¬3). جاء في البحر الرائق: "ولكل من شريكي العنان والمفاوضة أن يبضع، ¬
القول الثاني
ويستأجر، ويودع، ويضارب، ويوكل" (¬1). جاء في المدونة: "أرأيت المتفاوضين، هل يجوز لهما أن يقارض أحدهما دون صاحبه في قول مالك؟ قال: نعم، إذا كانا تفاوضا كما وصفت لك، قد فوض هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا يعمل بالذي يرى" (¬2). وجاء في بداية المجتهد: "ويجوز لأحد الشريكين أن يبضع وأن يقارض ... " (¬3). القول الثاني: ليس للشريك أن يدفع مال الشركة إلى مضارب أجنبي إلا بإذن شريكه، وهو مذهب الشافعية ومذهب الحنابلة (¬4). وجه القول بالجواز: الوجه الأول: إذا كان للشريك أن يستأجر من يعمل في مال الشركة، فلأن يملك الدفع مضاربة أولى؛ لأن الأجير يستحق الأجر مطلقًا سواء حصل في الشركة ربح أو لم يحصل، والمضارب لا يستحق شيئًا بعمله إلا إذا كان في المضاربة ربح. الوجه الثاني: أن المضاربة أضعف من الشركة، والأقوى يستتبع الأضعف، وإنما كانت ¬
وجه من قال: لا يجوز
المضاربة أضعف؛ لأن الخسارة فيها يختص بها رب المال، وهي في الشركة على الشريكين بقدر المال. وفي المضاربة الفاسدة ليس للمضارب شيء من الربح، أما في الشركة الفاسدة فالربح بين الشريكين بقدر المال. ثم إن مقتضى الشركة الاشتراك في الأصل والربح، ومقتضى المضاربة الاشتراك في الربح دون الأصل. وجه من قال: لا يجوز: أن مضاربة الأجنبي تثبت في المال حقوقًا للغير، وبه يستحق جزءًا من الربح لغير الشركاء فلا تصح بدون إذن الشركاء. الراجح: الذي أميل إليه أن الشريك ليس له حق في عقد المضاربة مع آخرين؛ لأن ذلك يعني إدخال شركاء في عقد الشركة، وهذا لا بد من الاتفاق عليه، ولأن الإنسان قد يرضى فلانًا مضاربًا ولا يرضى غيره، ولأن الدخول في المضاربة قد لا يكون في مصلحة الشركة في كل حال؛ لأنها عرضة للخسارة، والله أعلم.
الفرع العاشر في إقرار الشريك بدين على الشركة
الفرع العاشر في إقرار الشريك بدين على الشركة الإذن بالتجارة لا يتضمن الإبراء والإقرار (¬1). الشريك وكيل، ولا يملك الوكيل من التصرف إلا ما يقتضيه إذن موكله من جهة النطق، أو من جهة العرف (¬2). [م - 1311] إذا أقر أحد الشريكين بدين على الشركة، فهل يلزم الشريك إقراره؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية والمالكية والشافعية والصحيح في مذهب الحنابلة إلى أن إقرار الشريك في شركة العنان لا يجوز على صاحبه، بخلاف شركة المفاوضة فقد ذهب الحنفية والمالكية إلى أن إقراره على شريكه نافذ بشرط ألا يكون متهمًا في إقراره؛ لأن الإقرار من توابع التجارة؛ فلو لم يصح إقراره لم يعامله أحد، فلا بد من قبول إقراره فيما هو من باب التجارة (¬3). ¬
واستثنى الحنفية إقرار الشريك في حال كان المال في يده، فإنه يقبل؛ لأنه أمين بخلاف ما إذا لم يكن المال في يده؛ لأنه يدعي دينًا عليه فلا يقبل (¬1). وإليك نصوص الفقهاء الدالة على هذا: جاء في بدائع الصنائع: "ولو أقر بدين لم يجز على صاحبه؛ لأن الإقرار حجة قاصرة، فلا يصدق في إيجاب الحق على شريكه بخلاف المفاوضة؛ لأن الجواز في المفاوضة بحكم الكفالة لا بالإقرار" (¬2). وفي مجلة الأحكام العدلية: "المفاوضان كفيل بعضهما لبعض ... وعليه فكما ينفذ إقرار أحدهما في حق نفسه، يكون نافذًا في حق شريكه على ذلك الوجه، فإذا أقر أحدهما بدين فللمقر أن يطالب أيهما شاء" (¬3). وجاء في حاشية ابن عابدين: "إذا قال الشريك: استقرضت ألفًا، فالقول له: إن المال في يده ... لأنه حينئذ أمين، فقد ادعى أن الألف حق الغير، بخلاف ما إذا لم يكن في يده؛ لأنه يدعي دينًا عليه" (¬4). وفي الفتاوى الهندية: "ويجوز إقرار أحد شريكي العنان لمن لا تقبل شهادته له بدين وجب بسبب تجارة دخلت تحت شركتهما بالإجماع، ويلزمه دون صاحبه، وإقرار أحد المتفاوضين لمن لا تقبل شهادته له لا يصح عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أصلًا لا في حق شريكه ولا في حق نفسه كذا في المحيط" (¬5). ¬
القول الثاني
وجاء في المدونة: "قلت: أرأيت لو أن متفاوضين في تجارة، أقر أحدهما بدين من تجارتهما؟ قال: يلزم صاحبه إقراره، إذا كان الذي أقر له بالدين ممن لا يتهم عليه" (¬1). وفي بداية المجتهد: "وإقرار أحد الشريكين في مال لم يتهم عليه لا يجوز" (¬2). وجاء في تصحيح الفروع: "قوله في شركة العنان: ويقبل إقرار أحدهما بعين ودين على المال قبل الفرقة بينهما في وجهٍ. وفي آخر في نصيبه ... والقول الثاني: هو الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، وقطع به في الكافي والمغني والوجيز وغيرهم، وقدمه في الهداية والمذهب والمستوعب والخلاصة والمقنع والشرح والرعايتين والحاوي الصغير وشرح ابن منجى وابن رزين وغيرهم" (¬3). وجاء في مطالب أولي النهى: "لا يقبل إقرار أحدهما بدين إن كان غير متعلق بالشركة؛ لأنه غير مأذون فيه، أما إذا كان مأذونًا بالاستدانة للشركة، وأقر أنه استدان لها فيقبل إقراره أصالة عن نفسه، ووكالة عن شريكه؛ لأن إذنه في الاستدانة تضمن الإقرار بمتعلقاتها، وهو متجه" (¬4). القول الثاني: يقبل إقرار أحد الشريكين بدين على المال قبل الفرقة بينهما، اختاره القاضي ¬
الراجح
من الحنابلة، وصححه الناظم، قال المرداوي في تصحيح الفروع: "وهو الصواب، وهل هو إلا وكيل في حصة شريكه؟ وقد قال الأصحاب: يقبل إقرار الوكيل في كل تصرف وكل فيه، وهذا كذلك" (¬1). الراجح: قبول إقرار الشريك على شريكه إلا في حالتين: إذا كان لم يأذن له في الاستدانة، فإن هذا يعتبر تعديًا منه. أو كان إقراره لمن يتهم عليه، كإقراره لأبيه، أو لولده، والله أعلم. ¬
الفرع الحادي عشر في تصرفات الشريك في مال الشركة
الفرع الحادي عشر في تصرفات الشريك في مال الشركة الإذن بالتجارة إذن في توابعها (¬1). الإذن في الشيء إذن في لوازمه. من تصرف لغيره بولاية، أو وكالة، ففاتت المصلحة مع اجتهاده، وعدم تفريطه فلا ضمان عليه (¬2). [م - 1312] لا خلاف بين الفقهاء في أن الشريك يملك بمقتضى عقد الشركة أن يبيع ويشتري، ويأخذ ويعطي، والإذن في الشيء إذن في لوازمه، فله أن يقبض المبيع والثمن، ويقبضهما، ويخاصم في الدين، ويطالب به، ويحيل ويحتال، ويرد بالعيب. جاء في بدائع الصنائع: "لأحد شريكي العنان أن يبيع مال الشركة؛ لأنهما بعقد الشركة أذن كل واحد لصاحبه ببيع مال الشركة؛ ولأن الشركة تتضمن الوكالة فيصير كل واحد منهما وكيل صاحبه بالبيع؛ ولأن غرضهما من الشركة الربح، وذلك بالتجارة، وما التجارة إلا البيع والشراء، فكان إقدامهما على العقد إذنًا من كل واحد منهما لصاحبه بالبيع والشراء دلالة" (¬3). وجاء في المغني لابن قدامة: "شركة العنان مبنية على الوكالة والأمانة؛ لأن كل واحد منهما يدفع المال إلى صاحبه أمنة، وبإذنه له في التصرف وكله. ¬
ومن شرط صحتها أن يأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف، فإن أذن له مطلقا في جميع التجارات، تصرف فيها، وإن عين له جنسًا أو نوعًا أو بلدًا، تصرف فيه دون غيره؛ لأنه متصرف بالإذن، فوقف عليه، كالوكيل. ويجوز لكل واحد منهما أن يبيع ويشتري مساومة، ومرابحة، وتولية، ومواضعة، وكيف رأى المصلحة؛ لأن هذا عادة التجار. وله أن يقبض المبيع، والثمن، ويقبضهما، ويخاصم في الدين، ويطالب به، ويحيل، ويحتال، ويرد بالعيب فيما وليه هو، وفيما ولي صاحبه" (¬1). ¬
المسألة الأولى في بيع الشريك بغبن فاحش
المسألة الأولى في بيع الشريك بغبن فاحش [م - 1313] اختلف الفقهاء في بيع الشريك بغبن فاحش: فأجازه أبو حنيفة. ومنعه أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية، كما منعه كل من الشافعية، والحنابلة، وهو مقتضى مذهب المالكية قياسًا على منع الوكيل (¬1). جاء في بدائع الصنائع: "وأما بيعه فعلى الاختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رضي الله تعالى عنهم في التوكيل بمطلق البيع أنه يملك البيع نقدًا ونسيئة، وبغبن فاحش في قول أبي حنيفة رحمه اللهُ، فالمضارب أولى؛ لأن المضاربة أعم من الوكالة" (¬2). وجاء في حاشيتي قليوبي وعميرة: "وإن باع بغبن فاحش لم يصح في نصيب شريكة، وفي نصيبه قولا تفريق الصفقة" (¬3). وجاء في شرح الخرشي: "وللموكل رد البيع بالغبن الفاحش" (¬4). وجاء في كشاف القناع: "ولا يحابي، فيبيع بأنقص من ثمن المثل، أو يشتري بأكثر منه؛ لأن الشركة انعقدت على التجارة بالمال، وهذه ليست منها" (¬5). ¬
الراجح
الراجح: أن البيع بغبن فاحش إن كان المغبون يثبت له الخيار مطلقًا، كان للشريك أن يقبل، أو يرفض البيع، فإذا قبل كان البيع صحيحًا لإذن الشريك بذلك، وإن رفض البيع فسخ البيع. وإن كان المغبون لا يثبت له الخيار نظر، فإن كان الشريك قد فرط أصبح المغبون ضامنًا مقدار ما غبن فيه لشريكه، وإن كان قد احتاط في البيع والشراء، واجتهد فيه، ولم يكن الباعث على ذلك محاباة، وقد بذل العامل جهده، واستفرغ وسعه، ثم ظهر غبن لم يقصر فيه، فهو معذور يشبه خطأ الإِمام، أو الحاكم، ولأن عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولاية قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة، أو حصول المفسدة ولا لزوم عليه فيهما، وتضمين مثل هذا فيه نظر. وهذا اختيار ابن تيمية (¬1). ¬
المسألة الثانية في بيع الشريك بالدين
المسألة الثانية في بيع الشريك بالدين جاء في كشاف القناع: الاستدانة على الغير بغير إذنه لا تجوز (¬1). [م - 1314] اتفق الفقهاء على جواز بيع الشريك نقدًا، واختلفوا في البيع نسيئة على قولين: القول الأول: له أن يبيع ويشتري بالنسيئة، وهو مذهب الحنفية، والصحيح من مذهب الحنابلة، ومذهب المالكية في شركة المفاوضة (¬2). جاء في المبسوط: "ويبيع بالنقد والنسيئة، وعندنا هذا يملكة كل واحد منهما بمطلق عقد الشركة" (¬3). وجاء في بدائع الصنائع: "وله أن يبيع مال الشركة بالنقد والنسيئة؛ لأن الإذن بالبيع بمقتضى الشركة وجد مطلقًا، ولأن الشركة تنعقد على عادة التجار، ومن عادتهم البيع نقدًا ونسيئة" (¬4). ¬
القول الثاني
وجاء في الإنصاف: "وأما جواز البيع نساء، فأطلق المصنف فيه وجهين، وهما روايتان ... أحدهما: له ذلك، وهو الصحيح من المذهب" (¬1). وفي الكافي في فقه الإِمام أحمد: "وهل لأحدهما أن يبيع نساء ... ؟ يخرج على روايتين: إحداهما له ذلك؛ لأنه عادة التجار، ولأن المقصود الربح، وهو في هذه أكثر" (¬2). القول الثاني: ليس له أن يبيع بالدين، وهو مذهب الشافعية، ورواية عن أحمد (¬3). وجه المنع: أن في البيع نساء تغريرًا بالمال، وتعريضه للضياع، وهذا لا بد فيه من إذن الشريك. الراجح: الذي أميل إليه أن الشريك لا يبيع نساء إلا أن يكون هناك إذن من الشريك، سواء كان الإذن صريحًا أو عرفيًا، فإن لم يكن فلا يحق له البيع نساء، ولو كان فيه مصلحة للشركة؛ لأن هذه المصلحة يقابلها مفسدة أخرى، وهو خوف إعسار المدين، ومطله، وتجميد قدر من رأس مال الشركة إلى حين السداد، والله أعلم. ¬
المسألة الثالثة في شراء الشريك بالدين
المسألة الثالثة في شراء الشريك بالدين الشراء بالدين إذا تضمن زيادة رأس مال الشركة منع إلا بإذن الشريك. [م - 1315] عرفنا في المسألة السابقة خلاف العلماء في البيع بالدين، فما حكم الشراء بالدين؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن للشريك أن يشتري بالدين بشرط أن يكون في يده من مال الشركة من ذلك الجنس. فإذا اشترى بالدراهم أو بالدنانير نسيئة اشترط أن يكون في يده مال ناض للشركة دراهم أو دنانير. وإذا اشترى بالعروض كالمكيل أو الموزون نسيئة اشترط أن يكون في يده مثلها. فإن لم يكن في يده صار مشتريًا لنفسه، وليس للشركة. وإن كان في يده عروض فاشترى بالدراهم والدنانير نسيئة لم يصح؛ لأن العروض لا تصلح أن تكون رأس مال الشركة. وإن كان في يده دراهم فاشترى بالدنانير نسيئة أو العكس صح استحسانًا؛ لأن الدراهم والدنانير كجنس واحد، وهما متجانسان معنى في الثمنية وفي ضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب، فصار كأنه اشترى بجنس ما في يده صورة ومعنى (¬1). ¬
وجه قول الحنفية والحنابلة
ومذهب الحنابلة قريب من مذهب الحنفية حيث منع الحنابلة الشراء بأكثر من رأس المال، أو بثمن ليس معه من جنسه إلا في النقدين بأن يشتري بفضة ومعه ذهب أو بالعكس؛ لأنه عادة التجار، ولا يمكن التحرز منه، ويجوز أن يشتري نساء ما عنده ثمنه؛ لأنه لا يفضي إلى الزيادة في رأس مال الشركة (¬1). قال ابن قدامة في الشرح الكبير: "وليس له أن يستدين على مال الشركة، فإن فعل فهو عليه، وربحه له، إلا أن يأذن شريكه ... لأنه أدخل في الشركة أكثر مما رضي الشريك بالمشاركة فيه، فلم يجز كما لو ضم إليها ألفًا من ماله ... فإن أذن له شريكه جاز كبقية أفعال التجارة المأذون فيها" (¬2). وجاء في الإنصاف: "وليس له أن يستدين بأن يشتري بأكثر من رأس المال. هذا المذهب المنصوص عن الإمام أحمد رحمه اللهُ، وعليه جماهير الأصحاب" (¬3). وقال ابن قدامة: "ولا يستدين على مال الشركة، ولا يشتري ما ليس عنده ثمنه؛ لأنه يؤدي إلى الزيادة في مال الشركة، ولم يؤذن فيه، فإن فعل فعليه ثمن ما اشتراه، ويختص بملكه وربحه وضمانه ... ويجوز أن يشتري نساء ما عنده ثمنه؛ لأنه لا يفضي إلى الزيادة فيها" (¬4). وجه قول الحنفية والحنابلة: أن الشريك وكيل بالشراء، والوكيل بالشراء يملك الشراء بالنقد والنسيئة إلا ¬
القول الثاني
أننا اشترطنا أن يكون في يده من مال الشركة من ذلك الجنس حتى لا يكون مستدينًا على المالك، فليس للشريك شركة عنان، ولا للمضارب ولاية الاستدانة بمطلق العقد إلا أن يؤذن لهما في ذلك، ولأنه لو صح استدانتهما زاد مال الشركة والمضاربة، وما رضي كل واحد من الشريكين بتصرف صاحبه إلا في مقدار ما جعلاه رأس المال، فلهذا كان شراؤه بالنسيئة في هذه الحالة على نفسه خاصة. القول الثاني: ذهب خليل وابن عبد السلام من المالكية إلى أنه لا يجوز له الشراء بالدين بغير إذن شريكه، فإن أذن له شريكه فإن كان في شيء معين جاز، وإن كان الإذن في شيء غير معين لم يجز (¬1). قال الدسوقي: "وحاصل ما ذكره الشارح: أن الشريك إذا اشترى بالدين، فإما أن يكون بإذن شريكه أو لا، وفي كل: إما أن تكون السلعة معينة أو لا. فإن كان بغير إذن شريكه فالمنع، كانت السلعة معينة أم لا. وإن كان بإذنه جاز إن كانت السلعة معينة وإلا منع ... " (¬2). وقال الخرشي: "وأما الشراء بالدين في شيء غير معين فلا يجوز لأحدهما ولا لهما؛ لأنها شركة ذمم، وبعبارة: لا الشراء به؛ لئلا يأكل شريكه ربح ما لم يضمن" (¬3). ¬
القول الثالث
القول الثالث: ذهب بعض المالكية كابن الحاجب، وابن شاس، وابن عرفة، وحكى بعضهم أن هذا هو مذهب المالكية إلى جواز شراء أحد الشريكين بالدين، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). وعللوا ذلك: بأنه لا بد للناس من ذلك، ولأنه إذا جاز البيع بالدين جاز الشراء به، ولا فرق. والصحيح أن هناك فرقًا بين البيع بالدين والشراء به، فالأول لا يتضمن الزيادة على رأس مال الشركة بخلاف الثاني. الراجح: الذي أميل إليه إلى أن الشراء بالدين يتوقف على إذن الشريك، فإن أذن له جاز، وإن لم يأذن كان الشراء للشريك، وليس للشركة، والله أعلم. ¬
المسألة الرابعة تصرف الشريك في الرهن والارتهان
المسألة الرابعة تصرف الشريك في الرهن والارتهان قال ابن قدامة: الإذن إذا اختص بشيء لم يتجاوزه (¬1). الإذن المطلق ينصرف إلى ما جرت به العادة (¬2). إذا رهن الشريك متاعًا بدين عليهما، أو ارتهن بدين لهما فإن كان بإذن شريكه جاز، وإن كان بدون إذنه فقد اختلف العلماء في على أربعة أقوال: القول الأول: إن كانت الشركة مفاوضة جاز له أن يرهن ويرتهن على شريكه مطلقًا. جاء في المبسوط: "ورهن المفاوض وارتهانه بدين المفاوضة جائز عليه، وعلى شريكه كالاستيفاء ... وليس لشريكه أن ينقض الرهن؛ لأنه سلطه على أن يرهن ويبيع" (¬3). وإن كانت الشركة عنانًا فليس له الرهن، فإن رهن عين مال الشركة بدين عليهما لم يجز، وكان ضامنًا للرهن. وإن ارتهن بدين لهما، وقبض الرهن لم يجز على شريكه؛ لأنه لم يسلطه أن يرتهن، وصح في نصيبه إن كان هو العاقد، فإن تلف الرهن بيده بعد القبض، ¬
وجه التفريق بين شركة العنان والمفاوضة
فإن كانت قيمة الرهن مساوية لقيمة الدين كان شريكه مخيرًا إن شاء ضَمِن حصته من الدين من مال شريكه؛ لأن هلاك الرهن في يده بمنزلة استيفاء الدين، وإن شاء راجع المدين، وطلب حصته من الدين، وفي هذه الصورة للمدين الرجوع على المرتهن بنصف الرهن. وإن وجب الدين بعقد شريكه أو بعقدهما لم يصح الارتهان. هذا مذهب الحنفية. ويكفي في إذن الشريك في الرهن والارتهان، أن يقول له: اعمل فيه برأيك (¬1). وجه التفريق بين شركة العنان والمفاوضة: أن كل واحد من الشريكين في شركة العنان وكيل بالبيع فقط، لذا اشترطنا أن يلي العقد بنفسه؛ لأن الرهن إيفاء والارتهان استيفاء، والوكيل بالبيع فقط لا يملك حق الإيفاء والاستيفاء من مال شريكه إلا بإذنه، وأما شركة المفاوضة فكل واحد منهما يملك الإيفاء والاستيفاء فيما عقده صاحبه؛ لأنه قد فوض الرأي إليه في التصرف فيكون على هذا قد سلطه على أن يرهن ويبيع ويودع ويضارب ويسافر بالمال ويخلطه ... الخ ما يقوم به التاجر. القول الثاني: إن كانت الشركة عنانًا فليس له حق الرهن والارتهان إلا بإذن شريكه؛ وهذا ¬
القول الثالث
مذهب المالكية؛ لأنه إذا كان الشريك في شركة العنان ممنوعا من البيع إلا بموافقة شريكه، فالرهن والارتهان من باب أولى. قال الخرشي: "شركة العنان ... مأخوذة من عنان الدابة، أي كل وحد من الشريكين شرط على صاحبه أن لا يستبد بفعل شيء في الشركة إلا بإذن شريكه، ومعرفته، فكأنه أخذ بعنانه: أي بناصيته أن لا يفعل فعلًا إلا بإذنه" (¬1). ولم أقف على قولهم في شركة المفاوضة، وإن كان ظاهر كلامهم من إطلاق التصرف في شركة المفاوضة أنه يملك الرهن والارتهان، والله أعلم. جاء في الفواكه الدواني: "إن أطلق كل واحد لصاحبه التصرف في العقد أو بعده، كانت شركة مفاوضة، يجوز لكل واحد التصرف بالمصلحة من غير إذن شريكه، فيبيع، ويشتري، ويقبل، ويولي، ويقبل العيب، وإن أبى شريكه، وإن لم يطلق له، بأن سكت كلٌّ حين العقد، أو حجر على صاحبه باللفظ، كانت شركة عنان" (¬2). قال ابن عبد السلام: "إن كلًا من الشريكين يجوز تصرفه في مال شريكه، في حضرته، ومع غيبته، فلو شرطا أنه لا يتصرف واحد منهما إلا بحضرة صاحبه، وموافقته عليه ... لزم الشرط، وتسمى شركة عنان" (¬3). القول الثالث: ليس له أن يرهن ولا أن يرتهن مطلقًا، وهذا وجه في مذهب الحنابلة (¬4). ¬
وجه المنع
وهو مقتضى مذهب الشافعية، وإن لم أجد نصًا صريحًا عنهم، إلا أنهم قالوا: "تصرف الشريك كتصرف الوكيل" (¬1)، وقال الماوردي في الحاوي: "تصرف الوكيل مقصور على ما تضمنه الإذن الصريح" (¬2). ونص الشافعية بأن الوكيل في البيع لا يحق له الرهن (¬3). وقال الشيرازي: "ولا يجوز لأحد الشريكين أن يتصرف في نصيب شريكه إلا بإذنه، فإن أذن كل واحد منهما بالتصرف تصرفا ... ولا يجوز لأحدهما أن يتجر في نصيب شريكه إلا في المصنف الذي يأذن فيه الشريك، ولا أن يبيع بدون ثمن المثل، ولا بثمن مؤجل ... إلا أن يأذن له شريكه؛ لأن كل واحد منهما وكيل للآخر في نصفه، فلا يملك إلا ما يُمَلَّك كالوكيل" (¬4)، والله أعلم. وجه المنع: أن في الرهن خطرًا على ضياع المال. ويناقش: لو صح ذلك في الرهن لم يصح في الارتهان؛ لأن في الارتهان توثيق الدين، والرجوع على المرهون عند تعذر الوفاء للاستيفاء منه. القول الرابع: له أن يرهن ويرتهن، لا فرق بين أن يكون ممن ولي العقد أو من غيره، وهو المشهور من مذهب الحنابلة. ¬
الراجح
قال في الإنصاف: وهو الصحيح من المذهب (¬1). وقال ابن قدامة: "وهل لأحدهما أن يرهن بالدين الذي عليهما، أو يرهن بالدين الذي لهما على وجهين أصحهما أن له ذلك عند الحاجة؛ لأن الرهن يراد للإيفاء والارتهان يراد للاستيفاء، وهو يملك الإيفاء والاستيفاء فملك ما يراد لهما ... ولا فرق بين أن يكون ممن ولي العقد أو من غيره؛ لكون القبض من حقوق العقد، وحقوق العقد لا تخص العاقد، فكذلك ما يراد له" (¬2). الراجح: أن الشريك إذا باع بالدين فإن كان قد أذن له بذلك، فإن الارتهان ينبغي أن لا يختلف فيه؛ لأنه تصرف يعود على الشركة بالمصلحة، ففيه حفظ المال الشركة، والشريك مأمور في كل تصرف يكون فيه مصلحة للشركة. وأما رهن مال الشركة في شراء شيء للشركة دينًا فهو محل اجتهاد؛ لأن ذلك يعني تجميد مقدار من مال الشركة، وتجميده يعني تعطيله من تحريكه في السوق، والاكتساب به، فهل يقال: إن الإذن للشريك في الشراء بالدين من رأس مال الشركة يعني الإذن في الرهن، أو يقال: إن الإذن بالشراء بالدين لا يعني الإذن بالرهن؛ لأن الشراء غير الرهن، هذا محل تأمل، والله أعلم. ¬
المسألة الخامسة في إبضاع الشريك
المسألة الخامسة في إبضاع الشريك كل تصرف لا يتضمنه الإذن المطلق، ولا العرف الجاري، ولا فيه مصلحة للشركة فإن الشريك ممنوع منه (¬1). [م - 1316] الإبضاع: هو أن يدفع المال لمن يشتري له بضاعة متبرعًا (¬2). وهل للشريك أن يبضع دون إذن شريكه، اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: للشريك أن يبضع دون إذن شريكه، وهذا مذهب الحنفية، ورواية في مذهب الحنابلة، وهو مذهب المالكية في شركة المفاوضة (¬3). قال في البحر الرائق: "ولكل من شريكي العنان والمفاوضة أن يبضع، ويستأجر، ويودع ... " (¬4). وفي التاج والإكليل: "لأحد المتفاوضين أن يبضع ويقارض دون إذن شريكه" (¬5). ¬
وجه ذلك
وجه ذلك: أن الشريك إذا جاز له أن يستأجر من يتجر فيه بأجرة فجوازه بغير أجر من باب أولى. ولأن الإبضاع معتاد في عقد الشركة، ومن عادة التجار، وهو طريق لحصول الربح. القول الثاني: ليس له أن يبضع إلا أن يأذن له الشريك، وهو مذهب الشافعية، وأصح القولين في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في المحرر: "وليس له أن يبضع ولا يودع في أصح الوجهين" (¬2). وفي الكافي: "فإن قال له: اعمل برأيك فله عمل ما يقع في التجارة من الرهن والارتهان ... والإبضاع بالمال" (¬3). الراجح: أرى أن القول بأن للشريك أن يبضع دون إذن شريكه هو الأقوى، والأصلح للشركة، وأحب إلى أن يتولى المتبرع العقد، ويتولى الشريك بنفسه الدفع والقبض حفاظًا على مال الشركة، والله أعلم. ¬
الباب الثالث في شركة الأعمال (الأبدان)
الباب الثالث في شركة الأعمال (الأبدان) توطئة في تعريف شركة الأعمال تعريف شركة الأعمال: تعددت مسميات شركة الأعمال لدى الفقهاء: فأطلق عليها بعضهم (شركة الأبدان)؛ لأن العمل يكون من الشريكين بأبدانهما غالبًا. وسماها بعضهم (شركة الصنائع)؛ لأن الصنعة هي الدافع إلى المشاركة، فهي تقوم بين أصحاب الحرف والصنائع. وسميت (شركة التقبل)؛ لقبول أحدهما العمل وإلقائه على صاحبه، أو لأن المشتركين يتقبلون الصنائع والأعمال من الناس. وسميت (شركة التضمن)؛ لأن كلا من الشريكين ضامن لما يتقبله الآخر، إذا عرفنا مسمياتها، فنأتي على تعريفها الاصطلاحي. تعريف الحنفية: عرفها بعضهم بقوله: "وهي أن يشترك خياطان، أو خياط وصباغ على أن يتقبلا الأعمال، ويكون الكسب بينهما" (¬1). ¬
مفهوم شركة الأعمال عند الحنفية
مفهوم شركة الأعمال عند الحنفية: (1) العقد عند الحنفية وارد على تقبل العمل، وليس على العمل نفسه، وعللوا ذلك بأن العمل عرض لا يقبل القبول (¬1). (2) لا يشترط عند الحنفية اتحاد الصنعة عندهم، ولذلك جازت الشركة بين خياط وصباغ، كما لا يشترط عندهم اتحاد المكان خلافًا للمالكية في المسألتين كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. (3) عبر الحنفية بالكسب بدلًا من قولهم الربح؛ لأن ما يجنيه الصانع من عمله أقرب إلى الكسب منه إلى الربح، فالربح نماء المال عن طريق البيع، بخلاف نماء العمل فإنه مكتسب، وقد يقال: المكتسب أعم من الربح، فكل ربح مكتسب، وليس كل مكتسب ربحًا. تعريف المالكية: قال النفرواي في تعريف شركة الأبدان: "لم أقف على حدها لأحد، ويمكن رسمها بالمعنى المصدري بأنها: اتفاق شخصين فأكثر متحدي الصنعة، أو متقاربيها على العمل، وما يحصل يكون على حسب العمل" (¬2). وعرفها بعض المالكية: بأنها عقد على عمل بينهما، والربح بينهما بما يدل عليه عرفًا (¬3). مفهوم شركة الأعمال عند المالكية: (1) قول المالكية: (عقد) إشارة إلى أن شركة الأعمال يجب أن يتوفر فيها ¬
مقومات العقد وأركانه العامة من صيغة، وعاقدين، ومحل، وما يشترط في الصيغة من شروط كتطابق الإيجاب والقبول، وما يشترط في العاقدين من أهلية وتحقق التراضي، وأن يكون المحل مباحًا. (2) تشمل شركة الأعمال عند المالكية نوعين من المشاركة: (أ) تقبل الأعمال. (ب) الاشتراك في تملك المباحات، خلافا للحنفية حيث يمنعون المشاركة في تملك المباحات كما سيأتي بحثه إن شاء الله تعالى. جاء في المدونة: "هل يجوز للشريكين أن يشتركا على أن يحتطبا الحطب فما احتطبا من شيء فهو بينهما نصفين. قال: إن كان يعملان جميعًا معًا في موضع واحد فلا بأس" (¬1). كما أجاز المالكية المشاركة في صيد السمك، وصيد الطير والوحش إذا كانا يعملان معًا، كما أجاز المالكية المشاركة في حفر القبور وحفر المعادن والآبار والعيون، وبناء البنيان، وعمل الطين، وضرب اللبن، وطبخ القرميد، وقطع الحجارة (¬2). (3) يشترط عند المالكية: اتحاد المكان والعمل، خلافا للحنفية والحنابلة. فإن اختلف العمل كخياط وصباغ لم تصح شركة الأعمال عند المالكية إلا أن يتلازما، والمراد بالتلازم: أن يقف أحد العملين على الآخر: كأن يقوم أحدهما بالغوص لطلب اللؤلؤ والثاني يمسك عليه، ويجدف، أو أحدهما يصوغ، والثاني يسبك له، وهكذا (¬3). ¬
تعريف الشافعية
قال ابن جزي: "وإنما تجوز بشرطين: أحدهما اتفاق الصنعة كخياطين وحدادين، ولا تجوز مع اختلاف الصنعة كخياط، ونجار. والشرط الثاني: اتفاق المكان الذي يعملان فيه، فإن كانا في موضعين لم يجز" (¬1). (4) شركة الأعمال عند المالكية قائمة على العمل، وقد يدخل المال في الشركة إلا أنه لا يكون مقصودًا الاتجار به بذاته، وإنما يراد أن يتوصل عن طريقه إلى تحقيق الغرض من المشاركة، كشراء آلات التجارة، وآلات الجراحة، وأدوات الحفر وقطع الحجارة ونحو ذلك. وقد يخرجان مالًا، ويشتريان به ثيابًا أو جلودًا، ويفصلانها، ويخيطانها نعالًا، ويبيعانها، ثم يشتريان بثمنها ثيابًا وجلودًا يعملان عليها وهكذا، وذلك كثير (¬2). تعريف الشافعية: قال النووي: شركة الأبدان: وهو أن يشترك الدلالان أو الحمالان أو غيرهما من أهل الحرف على ما يكسبان ليكون بينهما متساويًا أو متفاضلًا ... سواء اتفقا في الصنعة أو اختلفا (¬3). ولما كانت الشركة ممنوعة عند الشافعية لما فيها من الغرر والجهالة لم يتكلموا على خصائصها. تعريف الحنابلة: عرفها ابن قدامة بقوله: أن يشترك اثنان فيما يكتسبونه بأيديهم كالصناع ¬
مفهوم شركة الأعمال عند الحنابلة
يشتركون على أن يعملوا في صناعتهم، فما رزق الله تعالى فهو بينهم، وإن اشتركوا فيما يكتسبون من المباح كالحطب، والحشيش، والثمار المأخوذة من الجبال ... فهذا جائز (¬1). وصح عند الحنابلة أن يقول أحدهما: أنا أتقبل، وأنت تعمل (¬2). مفهوم شركة الأعمال عند الحنابلة: (1) قول الحنابلة: (أن يشترك اثنان) سواء أكان الاثنان طبيعيين أم كانا اعتباربين، كما لو قام عقد بين شركتين اعتباريتين، أحدهما شركة تقوم على حرفة التجارة، والأخرى على حرفة الصناعة، ثم تعقد الشركتان بينهما شركة أعمال تكون كل منهما طرفًا في الشركة الجديدية. (2) قول الحنابلة (فيما يكتسبون من المباح) مفهوم شركة الأعمال عند الحنابلة موافق لمفهوم شركة الأعمال عند المالكية، حيث شملت الشركة نوعين من المشاركة: الأولى: تقبل الأعمال، جاء في الفروع: "وهي أن يشتركا فيما يتقبلانه في ذممهما من عمل" (¬3). الثانية: الاشتراك فيما يتملكان من مباح، كالاحتطاب والاحتشاش، ونحوها، جاء في الإنصاف: "ويصح في الاحتشاش والاصطياد ... وسائر المباحات" (¬4). ¬
(3) لا يشترط عند الحنابلة اتحاد المكان، واتحاد العمل خلافًا للمالكية، بل يصح أن يكون العمل من أحدهما، والتقبل من الآخر، كما سيأتي بحثه إن شاء الله تعالى. (5) لا يشترط اتقان العمل من الشريكين، بل يمكن أن يتقبل العمل من لا يتقنه، ثم يدفعا العمل إلى من يتقنه. وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد بيان لهذا في مبحث مستقل.
الفصل الأول في مشروعية شركة الأبدان
الفصل الأول في مشروعية شركة الأبدان قال ابن تيمية: الأصل في العقود الإباحة، فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله (¬1). تعامل الناس من غير نكير أصل من الأصول (¬2). [م - 1317] اختلف الفقهاء في حكم شركة الأبدان على ثلاثة أقوال: القول الأول: تصح مطلقًا، مع اتحاد الصنعة واختلافها، وسواء عملا جميعًا أو عمل أحدهما، وتقبل الآخر، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، ووجه ضعيف في مذهب الشافعية (¬3). ¬
واستدلوا لذلك بالآتي
واستدلوا لذلك بالآتي: الدليل الأول: الأصل في المعاملات الحل والإباحة حتى يقوم دليل صحيح صريح على التحريم، ولا يوجد دليل على تحريم شركة الأعمال. الدليل الثاني: الاستدلال بالعام على بعض أفراده، فإن الاستدلال به من باب الاستدلال بالكلي على جزئياته، وقد قامت الأدلة الصحيحة على صحة الشركة بوجه عام، وهي بعمومها دالت على جواز شركة الأعمال، وحصر الاستدلال بها على شركة العنان كما يقول الشافعية تخصيص للعام بلا مخصص، وقد سقنا الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة على جواز الشركة بوجه عام، وكل هذه الأدلة صالحة للاستدلال بها على جواز شركة الأعمال، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، ولله الحمد. الدليل الثالث: قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} الآية [الأنفال: 41]. وجه الاستدلال: أن اشتراك الغانمين في المغانم من قبيل المشاركة بالأعمال، فهم إنما استحقوا الغنيمة بالعمل، وهو الجهاد في سبيل الله. الدليل الرابع: (ث -162) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن
الدليل الخامس
أبي عبيدة، عن عبد الله قال: اشتركنا يوم بدر أنا وعمار وسعد فيما أصبنا يوم بدر، فأما أنا وعمار فلم نجئ بشيء، وجاء سعد بأسيرين (¬1). [أعله بعضهم بالانقطاع، ورأى بعضهم أن حديث أبي عبيدة عن أبيه في حكم المتصل] (¬2). الدليل الخامس: الاحتجاج بجريان العمل في شركة الأعمال في جميع الأعصار من غير نكير (¬3). الدليل السادس: حاجة المسلمين إلى مثل هذه الشركة، قال ابن تيمية: "كثير من مصالح المسلمين لا ينتظم بدونها كالصناع المشتركين في الحوانيت من الدلالين وغيرهم فإن أحدهم لا يستقل بأعمال الناس، فيحتاج إلى معاون والمعاون لا يمكن أن تقدر أجرته وعمله كما لا يمكن مثل ذلك في المضاربة ونحوها، فيحتاجون إلى الاشتراك" (¬4). الدليل السابع: القياس على شركة الأموال، فالربح تارة يستحق بالمال، وتارة يستحق بالعمل، فالربح في المضاربة يستحقه رب المال في مقابل ماله، ويستحقه العامل في مقابل عمله، فإذا صح عقد الشركة بين اثنين أحدهما يقدم المال، ¬
القول الثاني
والآخر يقدم العمل، صح أن تعقد الشركة بين اثنين بالعمل، خاصة أن العمل يعتبر منفعة، والمنافع أموال على الصواب، لها قيمة، ويضمن متلفها، والله أعلم. القول الثاني: تصح شركة الأعمال بشرط اتحاد الصنعة أو تلازمها، واتحاد المكان، وهذا مذهب المالكية (¬1). واستدلوا على ذلك بالآتي: أن الصنعة إذا كانت واحدة، أو كانت متلازمة بحيث لا تقوم صناعة أحدهما إلا بالأخرى، وكانا يعملان في موضع واحد فالشركة بينهما متحققة تمامًا، فيشتركان في نفاق السلعة، كما يشتركان في كسادها، بخلاف ما إذا اختلفت الصنعة أو المكان فإنه قد تنفق سلعة أحدهما دون الآخر، وبالتالي يكون العقد مشتملًا على غرر، وقد يتعرض أحدهما لأكل مال أخيه بالباطل. القول الثالث: لا تصح شركة الأعمال بحال، وهذا هذهب الشافعية واختيار ابن حزم من الظاهرية (¬2). قال ابن حزم: "لا تجوز الشركة بالأبدان أصلًا، لا في دلالة، ولا في ¬
واستدلوا على ذلك بالآتي
تعليم، ولا في خدمة، ولا في عمل يد، ولا في شيء من الأشياء، فإن وقعت فهي باطلة لا تلزم" (¬1). واستدلوا على ذلك بالآتي: الدليل الأول: استدل ابن حزم بعموم قوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164]. وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. وجه الاستدلال: قال ابن حزم: "هذا كله عموم في الدنيا والآخرة؛ لأنه لم يأت بتخصيص شيء من ذلك قرآن، ولا سنة، فإن ادعى في ذلك تخصيصًا فقد قال على الله تعالى ما لا يعلم" (¬2). ويناقش: بأن المراد في قوله: {لَهَا مَا كسبَتْ} أي من الخير. {وَعَلَيْهَا مَا اكتسبَتْ} أي من الشر. فالآية تدل على أن حسنات العبد وسيئاته لا تذهب لغيره، كما قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] ولو حملت الآية على عموم ما قاله ابن حزم لم تصح جميع أنواع الشركات؛ لأنه ما من شركة إلا وفيها عمل، والشريك يستفيد من عمل شريكه، ولولا ذاك لما قامت الشركة. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن المقصود من الشركة الربح، والربح يستدعي وجود المال، وهذا النوع من الشركات قائم على غير مال، فلم تصح، ولا يصح الاستدلال بالمضاربة، فإن العمل بالمضاربة تبع للمال، فعنصر المال موجود، ويجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالًا. ونوقش هذا: بأن شركة الأموال شرعت لتنمية المال، وأما شركة الأعمال فما شرعت لتنمية المال، بل لتحصيل أصل المال، والحاجة إلى تحصيل أصل المال فوق الحاجة إلى تنميته، فلما شرعت لتحصيل الوصف فلأن تشرع لتحصيل الأصل أولى، والله أعلم. الدليل الثالث: أن الشركة تقوم على خلط المال؛ لأن الخلط أصل معناها اللغوي، وهذا المعنى معتبر في المعنى الشرعي، وشركة الأعمال لا خلط فيها، وإذا انتفى الاختلاط أصبح كل واحد منهما متميزًا ببدنه ومنافعه فوجب أن يختص بفوائده. ونوقش هذا: لا نسلم أن الشركة لا تقوم إلا على خلط المال، وقد عقدت مبحثًا مستقلًا للتدليل على أن الخلط ليس بشرط، وعلى التنزل فإنه قد يقال: إن الخلط متحقق في شركة الأعمال، فالضمان عليهما، فما تقبله ذمة أحدهما قد اشتغلت به ذمة الآخر، والكسب الحاصل بينهما، وهذا يحقق نوعًا من الخلط، والله أعلم. الدليل الرابع: اشتمال هذه الشركة على الغرر؛ لأن الشريك لا يدري قد يكسب صاحبه وقد
ونوقش هذا
لا يكسب، وإذا كانت الجهالة برأس مال الشركة توجب فساد العقد، فكذلك الجهالة بالعمل توجب فساده، ذلك أن العمل في هذه الشركة يمثل رأس مال الشركة. ونوقش هذا: بأن العمل في شركة الأبدان معلوم بالعادة، فلا غرر ولا جهالة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الحنفية يرون أن العقد في شركة الأعمال وارد على تقبل العمل وليس على العمل نفسه باعتبار أن العمل لا ينضبط، وتقبل العمل يعني ضمانه للغير، ولذلك قال في بدائع الصنائع: "الأجر في هذه الشركة إنما يستحق بضمان العمل، لا بالعمل؛ لأن العمل قد يكون منه، وقد يكون من غيره كالقصار والخياط إذا استعان برجل على القصارة والخياطة أنه يستحق الأجر وإن لم يعمل لوجود ضمان العمل منه" (¬1). القول الراجح: أرى أن مذهب الحنفية والحنابلة أقوى من مذهب الشافعية بل وأقوى من مذهب المالكية القائل بجواز شركة الأبدان بشرط اتحاد الصنعة واتحاد المكان. قال الشيخ صالح الأطرم وفقه الله: "والراجح قول الجمهور، وهو أن شركة الأبدان جائزة في الجملة لما يأتي: (1) ما يشتمل عليه القول بجوازها من التوسعة على الناس في تعاملهم بدون ضرر يلحقهم. ¬
(2) ولما في مشروعية هذه الشركة من التعاون بين أفراد المجتمع مما يرفع مستوى المعيشة، ويقوي المعنوية، ويشجع بعضهم بعضاً في تحصيل الثروة، وسد حاجيات المجتمع والقدرة على توفير متطلبات الحياة، وخصوصًا في هذا العصر الذي تنوعت فيه طرق المكاسب من بعيد وقريب. (3) أن عمل الصحابة صريح في الدلالة، ولم ينكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ويستبعد خفاؤه على النبي - صلى الله عليه وسلم -. (4) أن الأصل في المعاملات الإباحة، ولم يرد ما يحظر هذا ويمنعه، كيف، وقد جاء ما يعضد هذا الأصل" (¬1). واعلم أن هذه الأسماء التي وقعت في كتب الفروع لأنواع من الشركة، كالمفاوضة، والعنان، والوجوه، والأبدان لم تكن أسماء شرعية، ولا لغوية، بل اصطلاحات حادثة متجددة ويكفي في الدخول فيها مجرد التراضي؛ لأن حاصل ما يستفاد من شركة المفاوضة والعنان والوجوه والأبدان أنه يجوز للرجل أن يشترك هو وآخر في شراء شيء، أو في المشاركة في إنجاز عمل معين وبيعه، ويكون الربح بينهما على مقدار نصيب كل واحد منهما من الثمن، وهذا شيء واحد، واضح المعنى، يفهمه العامي فضلًا عن العالم، ويفتي بجوازه المقصر فضلًا عن الكامل، وهو أعم من أن يستوي ما يدفعه كل واحد منهما من الثمن، أو يختلف، وأعم من أن يكون المدفوع نقدًا أو عرضًا، وأعم من أن يكون ما اتجر به جميع مال كل واحد منهما، أو بعضه، وأعم من أن يكون المتولي للبيع والشراء أحدهما أو كل واحد منهما ... ¬
ولا بأس بأن يوكل أحد الرجلين الآخر في أن يعمل عنه عملًا استؤجر عليه كما هو معنى شركة الأبدان اصطلاحًا، ولا معنى لاشتراط شروط في ذلك، فيكفي في الدخول فيها مجرد التراضي؛ لأن ما كان منها من التصرف في الملك فمناطه التراضي، ولا يتحتم اعتبار غيره، وهب أنهم جعلوا لكل قسم من هذه الأقسام -التي هي في الأصل شيء واحد- اسمًا يخصه، فلا مشاحة في الاصطلاحات، لكن ما معنى اعتبارهم لتلك العبارات، وتكلفهم لتلك الشروط، وتطويل المسافة على طالب العلم، وإتعابه بتدوين ما لا طائل تحته، وأنت لو سألت حراثًا، أو بقالًا عن جواز الاشتراك في شراء شيء وفي ربحه لم يصعب عليه أن يقول: نعم. ولو قلت له: هل يجوز العنان، أو الوجوه، أو الأبدان لحار في فهم معاني هذه الألفاظ، بل قد شاهدنا كثيرًا من المتبحرين في علم الفروع يلتبس عليه الكثير من تفاصيل هذه الأنواع، ويتلعثم إن أراد تمييز بعضها من بعض، اللهم إلا أن يكون قريب عهد بحفظ مختصر من مختصرات الفقه، فربما يسهل عليه ما يهتدي به إلى ذلك، وليس المجتهد من وسع دائرة الآراء العاطلة عن الدليل، وقبل كل ما يقف عليه من قال وقيل، فإن ذلك هو دأب أسراء التقليد، بل المجتهد من قرر الصواب، وأبطل الباطل في كل مسألة عن وجوه الدلائل، ولم يحل بينه وبين الصدع بالحق مخالفة من يخالفه ممن يعظم في صدور المقصرين، فالحق لا يعرف بالرجال (¬1). ¬
الفصل الثاني التوصيف الفقهي لعقد شركة الأعمال
الفصل الثاني التوصيف الفقهي لعقد شركة الأعمال ما تجوز فيه الوكالة تجوز فيه الشركة (¬1). العقود الجائزة إذا تضمنت ضررًا تحولت إلى اللزوم (¬2). [م - 1318] اختلف الفقهاء في شركة الأعمال هل هي عقد لازم أو عقد جائز؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: كل الشركات تعتبر من العقود الجائزة لا فرق بين شركة الأموال وبين شركة الأعمال، وهو مذهب الجمهور، واختاره بعض المالكية (¬3). القول الثاني: عقد الشركة عقد لازم، ومنه شركة الأعمال وهذا مذهب المالكية إلا أنهم اختلفوا متى يلزم العقد؟ ¬
فقيل: يلزم بمجرد العقد، وعليه جمهور المالكية (¬1). وقيل: لا يلزم إلا بمجرد العمل، اختاره بعض المالكية (¬2). قال الخرشي: "وفي لزوم شركة العمل بالعقد، أو بالشروع قولان كما في أبي الحسن، ويظهر من قول المؤلف ككثير الآلة ترجيح القول بأنها تلزم بالشروع" (¬3). وأدلة الأقوال في هذه المسألة هي الأدلة نفسها في توصيف عقد شركة الأموال، وقد سبق أن ذكرتها فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، والحمد لله، وقد رجحنا أن عقد الشركة عقد جائز، إلا أنه ينبغي أن يقيد الجواز بأن يبقى حكم اللزوم على ما تم تقبله من أعمال قبل الفسخ؛ لأن هذه الأعمال تم تقبلها على حكم الشركة، فيكون كل من الشريكين ملزمًا بها بمقتضى عقد الشركة، وأن لا يعود الفسخ على الشريك بالضرر؛ لأن العقود الجائزة إذا تضمنت ضررًا تحولت إلى اللزوم، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في أقسام شركة الأعمال
الفصل الثالث في أقسام شركة الأعمال المبحث الأول انقسامها إلى تقبل الأعمال وتملك المباحات قال السرخسي: المباح إنما يملك بالإحراز (¬1). المباح قبل حيازته لا مالك له، ولا يجوز بيعه (¬2). قال ابن قدامة: العمل أحد جهتي المضاربة، فصحت الشركة عليه كالمال (¬3). [م - 1319] اتفق القائلون في شركة الأبدان على جواز تقبل الأعمال كالخياطة، واختلفوا في المشاركة في تملك المباحات، كالاحتشاش والاحتطاب على قولين: القول الأول: الاشتراك بالأعمال المباحة شركة فاسدة وهذا مذهب الحنفية (¬4). القول الثاني: يصح الاشتراك في تملك المباحات، وهذا مذهب المالكية، والحنابلة (¬5). ¬
وأما الشافعية فقد منعوا شركة الأبدان مطلقًا كما مر معنا عند الكلام على حكم شركة الأعمال (الأبدان) (¬1). وقد سبق ذكر أدلتهم في مبحث سابق، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والحمد لله. ¬
المبحث الثاني انقسام شركة الأعمال إلى عنان ومفاوضة
المبحث الثاني انقسام شركة الأعمال إلى عنان ومفاوضة [م - 1320] اختلف الفقهاء في انقسام شركة الأعمال إلى عنان ومفاوضة على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية إلى تقسيم كل من شركة الأموال وشركة الأعمال إلى عنان ومفاوضة. فشركة الأعمال تكون مفاوضة إذا عقدت بلفظ المفاوضة، أو تضمنت معنى المفاوضة بأن تحقق فيها التساوي في تقبل الأعمال، والتساوي في الضمان، والتساوي في الكسب بأن يكون الكسب بينهما نصفين. وتكون عنانًا إذا عقدت بلفظ العنان، أو عقدت على الإطلاق، أو كانت على التفاوت في تقبل الأعمال، أو على التفاوت في الضمان، أو على التفاوت بينهما في الكسب، أو على نوع محدد من الأعمال. جاء في الفتاوى الهندية: "وأما شركة الأعمال فهي كالخياطين والصباغين، أو أحدهما خياط والآخر صباغ أو إسكاف يشتركان من غير مال على أن يتقبلا الأعمال فيكون الكسب بينهما فيجوز ذلك ... ثم هي قد تكون مفاوضة وقد تكون عنانًا، فإن ذكر في الشركة لفظ المفاوضة، أو معنى المفاوضة: بأن اشترط الصانعان على أن يتقبلا جميعًا الأعمال، وأن يضمنا الأعمال جميعًا على التساوي، وأن يتساويا في الربح والوضيعة، وأن يكون كل واحد كفيلًا عن صاحبه فيما لحقه بسبب الشركة فهي مفاوضة، وإن شرطا التفاضل في العمل
القول الثاني
والأجر، بأن قالا: على أحدهما الثلثان من العمل، وعلى الآخر الثلث والأجر والوضيعة بينهما على قدر ذلك فهي شركة عنان، وكذا إذا ذكرا لفظة العنان، وكذا إذا أطلقا الشركة فهي عنان، كذا في محيط السرخسي" (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن تقسيم الشركة إلى شركة عنان ومفاوضة خاص في شركة الأموال، ولا دخل لهما في شركة الأبدان، أو الوجوه. قال ابن جزي: "شركة العنان: أن يجعل كل واحد من الشريكين مالًا، ثم يخلطاه، أو يجعلاه في صندوق واحد، ويتجرا به معًا، ولا يستبد أحدهما بالتصرف دون الآخر" (¬2). وأكثر المالكية على أن خصائص شركة العنان هي خصائص شركة المفاوضة إلا في شيء واحد، أن شركة العنان من شرطها ألا يستبد أحدهما بالتصرف دون الآخر بخلاف شركة المفاوضة. كما جعل الشافعية أيضًا شركة العنان والمفاوضة في الأموال خاصة. قال الماوردي: "شركة العنان فهي: أن يخرج كل واحد منهما مالًا مثل مال صاحبه، ويخلطاه فلا يتميز، ويأذن كل واحد منهما لصاحبه أن يتجر بالمال فيما رأى من صنوف الأمتعة على أن يكون الربح بينهما على قدر المالين، والخسران كذلك" (¬3). ¬
ويبطل الشافعية شركة المفاوضة كما مر معنا سابقا. وأما الحنابلة فجعلوا شركة العنان في شركة الأموال خاصة، وجعلوا شركة المفاوضة الصحيحة أن يجمع أنواعًا من الشركات في عقد واحد. قال ابن قدامة: "وأما شركة المفاوضة فنوعان، أحدهما: أن يشتركا في جميع أنواع الشركة، مثل أن يجمعا بين شركة العنان، والوجوه، والأبدان ... " (¬1). وهذه تقسيمات اصطلاحية فقهية، لا تعتمد على دليل من الشرع كما أسلفنا، ولا أرى مانعًا من تقسيم شركة الأعمال إلى عنان ومفاوضة، كما جرى تقسيم شركة الأموال إلى عنان ومفاوضة، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع في شروط شركة الأعمال
الفصل الرابع في شروط شركة الأعمال سبق لنا شروط الشركة على سبيل العموم، كأهلية الشريكين للتصرف، باعتبار أن كل واحد منهما وكيل عن شريكه فيما يعمله، ويكتسبه، ويتقبله، وأن يكون نصيب كل واحد منهما مما يكتسبانه بسبب عملهما معلومًا، وأن يكون شائعًا كالنصف والربع، ويشترط في شركة الأعمال أن يكون كل واحد من الشريكين من أهل الكفالة؛ لأن كل واحد منهما يضمن ما تقبله الآخر. وهناك شروط خاصة في شركة الأعمال سوف أتعرض لها إن شاء الله تعالى في المباحث التالية.
الشرط الأول كون محل الشركة عملا
الشرط الأول كون محل الشركة عملًا قال ابن قدامة: تقبل العمل يوجب الضمان على المتقبل، ويستحق به الربح (¬1). [م - 1321] يشترط لقيام شركة الأعمال أن يكون محل العقد فيها هو العمل؛ ولذلك سميت بشركة الأعمال؛ لأن قوامها العمل، وهو العنصر الأساسي المكون لمحل العقد، بخلاف شركة الأموال. وإذا كانت شركة الأموال تعمل على تحصيل الأرباح عن طريق رأس مال الشركة فإن شركة الأعمال تعمل على تحصيل المال وكسبه عن طريق العمل، فالعمل هو رأس مال الشركة، وما يجنيه الشريكان من مال لا يسمى ربحًا؛ لأن الشركة لم تقم على المال أصلًا، وإنما يسميه الفقهاء كسبًا. وهل يشترط أن يكون العمل جسنًا واحدًا من كلا الشريكين، أو يصح أن يكون العمل من أحدهما، والتقبل من الآخر؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: أجاز الحنفية والحنابلة أن يكون العمل من أحدهما، والتقبل من الآخر. وجه القول بالجواز: أن التقبل يعتبر عملًا من الأعمال؛ فصارت شركة بالأعمال. ¬
ولأن التقبل يوجب الضمان على المتقبل، والضمان يستحق به الربح. جاء في حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: "قال في شرح الطحاوي ولو أن رجلًا أجلس على دكانه رجلًا يطرح عليه العمل بالنصف، القياس أن لا تجوز هذه الشركة؛ لأن من أحدهما العمل ومن أحدهما الحانوت، فتكون هذه شركة بالعروض. وفي الاستحسان تجوز لأن هذه شركة التقبل؛ لأن تقبل العمل من صاحب الحانوت عمل فصارت شركة بالأعمال" (¬1). وجاء في المغني: "وإذا قال أحدهما: أنا أتقبل وأنت تعمل، والأجرة بيني وبينك صحت الشركة. وقال زفر: لا تصح، ولا يستحق العامل المسمى، وإنما له أجرة المثل. ولنا أن الضمان يستحق به الربح، بدليل شركة الأبدان، وتقبل العمل يوجب الضمان على المتقبل، ويستحق به الربح، فصار كتقبله المال في المضاربة، والعمل يستحق به العامل الربح كعمل المضارب، فينزل بمنزلة المضاربة" (¬2). القول الثاني: منع المالكية أن يتقبل أحدهما والآخر يعمل إلا أن يتولى أحدهما العمل، والآخر الخدمة وتكون قيمة العمل والخدمة سواء، فتصح. وجه القول بالجواز: إذا كانت قيمة العمل والخدمة سواء تحقق شرط المالكية في الشركة، وهو ¬
التساوي العمل، واشترطنا أن يكون من أحدهما العمل ومن أحدهما الخدمة المساوية للعمل؛ لأن الشركة لا تقوم إلا بمجموع العملين، فإما أن يعملا جميعًا، أو يتعطلا جميعًا. جاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن أقعدت رجلًا في حانوتي، وقلت له: أتقبل عليك المتاع، وتعمل أنت، على أن ما رزقنا الله فبيننا نصفين؟ قال: لا يجوز هذا عند مالك". وجاء في شرح ميارة: "نص اللخمي على الجواز فيما إذا تشاركا، وأحدهما يحيك، والآخر يخدم، ويتولى ما سوى النسج إذا تقاربت قيمة ذلك، قال: وليس كالسلعتين المختلفتين؛ لأنهما هنا إما أن يعملا جميعًا، أو يتعطلا جميعًا، فلم يكن هذا غررًا، وعلى مثل هذا أجيزت الشركة في طلب اللؤلؤ، أحدهما يتكلف الغوص، والآخر يقذف، أو يمسك عليه إذا كانت الأجرة سواء" (¬1). ¬
المبحث الأول في دفع الدابة إلى من يعمل بها بجزء من كسبها
المبحث الأول في دفع الدابة إلى من يعمل بها بجزء من كسبها قال ابن قدامة: العين التي تنمى بالعمل يصح العقد عليها ببعض نمائها (¬1). [م - 1322] لو دفع الرجل دابته، أو آلته إلى من يعمل بها بجزء من كسبها، فهل تكون هذه الشركة من شركة الأعمال، باعتبار أن المال المستفاد نتيجة العمل، وليس ربحًا، أو يكون هذه العقد من باب المضاربة بالآلات باعتبار أن المال من أحدهما، والعمل من الآخر، ويمثل المال هنا الدابة أو الآلة عند من يقول بصحة المضاربة بالعروض؟ والمهم عندنا ما حكم هذه الشركة من الناحية الفقهية، فإذا صحت فإن التوصيف الفقهي مقبول كيف ما كان، سواء اعتبرناها من شركات الأعمال، أو من عقد المضاربة. وقد اختلف الفقهاء في حكمها على قولين: القول الأول: لا تصح، وهو مذهب الجمهور، ورواية في مذهب الحنابلة (¬2). ¬
دليل من قال بالمنع
جاء في بدائع الصنائع: "ولو دفع دابة إلى رجل ليؤجرها على أن الأجر بينهما كان ذلك فاسدًا" (¬1). وجاء في المدونة: "قلت: أرأيت لو قال رجل لرجل: اعمل على دابتي، فما عملت من شيء فلي نصفه ولك نصفه. قال: قال مالك: لا خير فيه، وما عمل من شيء على الدابة فهو للعامل، ولرب الدابة على العامل أجر دابته بالغًا ما بلغ. قلت: وكذلك السفن مثل الدواب عند مالك؟ قال: نعم كذلك قال مالك: هي مثل الدواب" (¬2). دليل من قال بالمنع: الدليل الأول: استدل الجمهور على المنع بأن هذه ليست من أقسام الشركة؛ لأن الشركة لا ¬
القول الثاني
تكون إلا في النقود، ولا تصح أن تكون مضاربة؛ لأن الدواب والآلات لا يمكن بيعها، ولا المتاجرة فيها، لذا لا تصح أن تكون رأس مال المضاربة، وللمالك أجرة المثل، ويختص العامل بالربح. وعلل المالكية المنع بجهالة الأجرة. قال الخرشي: "تكون الإجارة فاسدة إذا قال له: اعمل على دابتي، أو اعمل على سفينتي ... فما حصل من ثمن أو أجرة ذلك نصفه. وعلة الفساد: الجهل بقدر الأجرة" (¬1). كما علل بعضهم المنع بأن الآلة باقية على ملك مخرجها ذاتًا ومنفعة، فلا بد من اشتراكهما فيها بملك أو كراء لتصح الشركة، فلو اشترى أو استأجر العامل نصف آلته، ثم اشتركا في العمل عليها صحت الشركة (¬2). القول الثاني: يصح أن يدفع الرجل دابته، أو آلته إلى من يعمل بها بجزء من كسبها، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). جاء في المغني: "وإن دفع رجل دابته إلى آخر ليعمل عليها، وما يرزق الله بينهما نصفين، أو أثلاثًا، أو كيفما شرط صح، نص عليه في رواية الأثرم، ومحمد ابن أبي حرب، وأحمد بن سعيد، ونقل عن الأوزاعي ما يدل على هذا" (¬4). ¬
الراجح
جاء في الفروع: "لو دفع دابته إلى من يعمل بها بجزء من الأجرة جاز ذلك في مذهب الحنابلة. وعنه: لا، اختاره ابن عقيل" (¬1). واستدل الحنابلة على الجواز بالقياس على المساقاة والمزارعة فإنه دفع لعين من المال إلى من يعمل عليها ببعض نمائها مع بقاء عينها. الراجح: القول بصحة المشاركة بناء على أن الأصل في العقود الصحة والجواز، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني لا يشترط إتقان العمل من الشريك
المبحث الثاني لا يشترط إتقان العمل من الشريك من لزمه عمل شيء لا يعرفه، أمكنه القيام به بأن يستأجر من يفعله (¬1). [م - 1323] جاء في شرح منتهى الإرادات: "لو اشترك شخصان لا يعرفان الخياطة في تقبلها، ويدفعان ما تقبلاه لمن يعمله، وما بقي من الأجرة لهما صح لما تقدم، ويلزم غير عارف إقامة عارف للصنعة مقامه في العمل ليحمل ما يلزمه للمستأجر" (¬2). وهذه المسألة ترجع إلى مسألة أخرى سبق تحريرها في عقد الإجارة، وهو أن الأجير المشترك لا يلزمه أن يقوم بنفسه بالعمل إلا أن يشترطه المستأجر. ¬
الشرط الثاني أن يكون العمل المشترك يمكن استحقاقه بعقد الإجارة
الشرط الثاني أن يكون العمل المشترك يمكن استحقاقه بعقد الإجارة ما لا يباح من الأعمال لا تصح الشركة فيه. ما حرم فعله حرم طلبه (¬1). [م - 1324] لما كانت شركة الأعمال تقوم على تقبل العمل من الناس، وأخذ الأجرة عليه، واستحقاق الشركاء جميعًا الأجرة، صار من شرط الشركة أن تكون على عمل يمكن استحقاقه بعقد الإجارة؛ لأن تقبل العمل من الناس هو في حقيقته عقد إجارة بين المتقبل والمتقبل منه؛ لأن التقبل يعني التزام العمل للغير وضمانه له. ويشترط في العمل أن يتوفر فيه شرطان: الأول: أن يكون العمل مباحًا. الثاني: أن يكون العمل مما يجوز التوكيل فيه. جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام "يشترط في شركة الأعمال أن يحوز العمل شرطين: الشرط الأول: أن يكون العمل حلالًا، فلا تصح الشركة في العمل الحرام، كالاشتراك في السرقة، والغصب، والارتشاء. ¬
الشرط الثاني
الشرط الثاني: أن يكون العمل مما يجوز التوكيل فيه، وأن يكون عملًا إذا قام به العامل يستحق الأجرة عليه، كالاشتراك في تعليم الكتابة، والقرآن والكتب الشرعية، فلو اشترك اثنان في تعليم الكتب الشرعية جاز" (¬1). والخلاف بين الحنفية وبين المالكية والحنابلة في جواز المشاركة في تملك المباحات راجع إلى هذا الشرط، هل يصح التوكيل فيه، والاستئجار عليه أو لا يصح، فإن قال: لا يصح منع المشاركة في تملك المباحات كالحنفية، ومن قال بالصحة جوز هذا كالمالكية، والحنابلة. وقد ذكرنا أدلتهم في مسألة سابقة، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، ولله الحمد. ¬
مبحث في شركة الدلالين
مبحث في شركة الدلالين التصرف عن الغير لا يجوز إلا بوكالة أو ولاية (¬1). لا يملك الوكيل من التصرف إلا ما يقتضيه إذن موكله من جهة النطق، أو جهة العرف (¬2). إذا تعذر حمل التوكيل على العموم حمل على المتعارف (¬3). [م - 1325] إذا كان المالك الذي يسلم ماله إلى الدلال قد رضي أن يباشر البيع غيره من وكلائه، سواء رضي ذلك بالقول، بأن أذن له صراحة، أو كان هناك عرف معروف، أن الدلال يسلم السلعة إلى وكلاء له، فإن الشركة في هذا جائزة، ولا ينبغي أن يختلف فيها، وذلك أن الدلال وكيل المالك، والوكيل له أن يوكل غيره إذا رضي الموكل بذلك باتفاق العلماء، وإنما تنازعوا في جواز توكيله بلا إذن الموكل، ولهذا تنازعوا في شركة الدلالين على قولين (¬4). القول الأول: لا تصح شركة الدلالين، وهو مذهب الحنفية، والشافعية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة، وهو المشهور عند المتأخرين (¬5). ¬
تعليل من قال: لا تصح
تعليل من قال: لا تصح: التعليل الأول: علل الحنفية المنع بأن عمل الدلالة لا يمكن استحقاقه بعقد الإجارة، حتى لو استأجر له دلالًا يبيع له ويشتري، فالإجارة فاسدة. ويناقش: هذا التعليل يرجع إلى توصيف العقد بأنه إجارة، وإذا كان كذلك فإن العمل مجهول، فقد يجد الدلال مشتريًا، وقد لا يجد، ولكن إذا اعتبر العقد من عقود الجعالة، فإن جهالة العمل في عقد الجعالة لا يؤثر في صحة العقد، والله أعلم. التعليل الثاني: علل الحنابلة المنع، بأن الشركة الشرعية لا تخرج عن الضمان والوكالة، وهما غير موجودين في هذه الشركة. فالوكالة لا تصح؛ لأن الدلال وكيل صاحب السلعة في بيعها، فإذا شارك غيره في بيعها كان توكيلًا له فيما وكل فيه، وليس للوكيل حق التوكيل. ولا يوجد فيها ضمان؛ لأنه لا دين يصير في ذمة واحد منهما، ولا تقبل عمل. ويجاب: أما القول بأنها لا تصح؛ لأن الوكيل لا يملك حق التوكيل فيما وكل فيه، ¬
القول الثاني
فيقال: بأن غرض المالك ومقصوده هو بيع سلعته، ولا يوجد له غرض صحيح في كون البيع يتولاه شخص بعينه، فإذا تم غرضه فقد حصل مقصوده، وقد لا يتولى نائب الوكيل إبرام العقد، وإنما يقتصر عمله على عرض السلعة، والمناداة عليها. وأما القول بأن شركة الدلالين لا تصح لكونها لا يوجد فيها ضمان، ولا تقبل عمل، فإن هذا لا يكفي في رد الشركة؛ لأن شركة التقاط المباحات لا ضمان فيها، ولا تقبل، وقد ذهب كل من المالكية والحنابلة إلى صحتها. القول الثاني: تصح شركة الدلالين، وهو الوجه الثاني في مذهب الحنابلة، وقول في مذهب الحنفية (¬1). دليل من قال بالصحة: إن قامت شركة الدلالين على مجرد عرض السلعة، والمناداة عليها، والقيام ¬
على تحصيل الأموال من المشترين، وتسجيل عقود البيع والشراء، فلا خلاف في جواز ذلك؛ لأن مأخذ المنع عند القائلين بالمنع أن الدلال لا يحق له التوكيل فيما وكل فيه، وهو إنما وكل في البيع، وشركاؤه لم يتولوا إبرام العقد. قال ابن تيمية: "فأما مجرد النداء، والعرض، وإحضار الديون فلا خلاف في جوازه" (¬1). ويلحق بذلك إذا سلم المالك ماله إلى الدلالين مع علمه باشتراكهم، فإن ذلك بمثابة الإذن لهم في تولي البيع. قال ابن تيمية: "تسليم الأموال إلى الدلالين مع العلم باشتراكهم إذن لهم" (¬2). وعلى فرض أن يقوم بالبيع غير من وكل به، فإن كان بحضور صاحبه كان ذلك بمنزلة الإذن منه بذلك، وإن كان ذلك بغيبته فما المانع من صحة ذلك، فإذا كان للأجير المشترك أن يوكل غيره بالقيام بالعمل، كالخياط، والنجار، والحداد، جاز للدلال أن يستنيب غيره في البيع؛ لأن الوكالة بأجر لا تخرج عن كونها إجارة، كما أن ثمن البيع لا يحدده الدلال، وإنما يحدده المالك، إلا أن يمنع من ذلك المالك بأن يقول له: لا يبع مالي إلا أنت، فهنا يجب على الدلال أن يتولى البيع بنفسه، وهذا بحد ذاته لا يمنع شركة الأعمال؛ لأنها تركه قائمة على الاشتراك في الكسب كما قلنا سابقًا، والله أعلم. قال ابن تيمية: "ووجه صحتها أن بيع الدلال وشراءه بمنزلة خياطة الخياط، وتجارة التجار، وسائر الأجراء المشتركين، ولكل منهم أن يستنيب، وإن لم ¬
الراجح
يكن للوكيل أن يوكل، ومأخذ من منع أن الدلالة من باب الوكالة، وسائر الصناعات من باب الإجارة وليس الأمر كذلك" (¬1). الراجح: أرى أن القول بالجواز هو القول الراجح؛ لأن الأصل في العقود الصحة والجواز، والعمل على ذلك في سائر الأقطار، والله أعلم. ¬
الشرط الثالث في اتحاد العمل والمكان في شركة الأعمال
الشرط الثالث في اتحاد العمل والمكان في شركة الأعمال الشركة عقد يقصد به الربح، وهو لا يتوقف على اتحاد العمل والمكان. استحقاق الربح إنما هو بالنظر إلى الشرط المذكور في عقد الشركة، وليس هو بالنظر إلى العمل في الواقع. [م - 1326] هل يشترط اتحاد العمل (الصنعة) والمكان، أو تصح الشركة مع اختلاف الصنعة والمكان، كطبيب، ومهندس، ونجار، وحداد؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأول: لا يشترط اتحاد المكان ولا اتحاد الصنعة، فتجوز الشركة بين خياط وصباغ، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، ووجه ضعيف في مذهب الشافعية (¬1). دليل من قال: لا يشترط اتحاد المكان ولا اتحاد الصنعة: الدليل الأول: عدم الدليل الموجب لاتحاد الصنعة، واتحاد المكان، فلا يوجد دليل من ¬
الدليل الثاني
كتاب أو سنة يوجب اتحاد الصنعة أو اتحاد المكان، والأصل عدم الوجوب. الدليل الثاني: أن الشركة معقودة على الاشتراك في الكسب المباح، فصحت الشركة، سواء اتفقت الصنعة، أو اختلفت هذا تعبير الحنابلة، وعبر عنه الحنفية بقوله: إن المعنى المجوز للشركة هو تحصيل الربح، عن طريق تقبل العمل والتوكيل فيه، وهذا صحيح سواء اتحد العمل والمكان أم اختلفا. القول الثاني: يشترط اتحاد المكان واتحاد الصنعة أو تلازمها، وهذا مذهب المالكية (¬1). ويكفي في اتحاد المكان: أن تجول يد كل منهما في العمل ولو كانا في مكانين مختلفين، وأن يكون نفاقهما واحدًا، فإذا عمل كل منهما في المكانين فكأنما تم العمل في مكان واحد حكمًا. جاء في شرح الخرشي: "ولا يشترط كونهما بمكان واحد، بل وإن كان كل واحد بموضع على حدة، لكن لا بد من أن يكون نفاقهما واحدًا، وتكون أيديهما تجول بالعمل في الحانوتين، وإلا فلا بد من اتحاد المكان" (¬2). والمراد بالتلازم: أن يقف أحد العملين على الآخر: كأن يقوم أحدهما ¬
دليل من قال: يشترط اتحاد العمل والمكان
بالغوص لطلب اللؤلؤ والثاني يمسك عليه، ويجدف، أو أحدهما يصوغ، والثاني يسبك له، وهكذا (¬1). قال ابن جزي: "وإنما تجوز بشرطين: أحدهما: اتفاق الصنعة كخياطين وحدادين، ولا تجوز مع اختلاف الصنعة كخياط، ونجار. والشرط الثاني: اتفاق المكان الذي يعملان فيه، فإن كانا في موضعين لم يجز" (¬2). وذهب أبو الخطاب من الحنابلة إلى موافقة المالكية على اشتراط اتفاق الصنعة (¬3). دليل من قال: يشترط اتحاد العمل والمكان: الدليل الأول: أن مقتضى الشركة أن ما يتقبله كل واحد منهما من العمل يلزمه، ويلزم صاحبه، ويطالب به كل واحد منهما، فإذا تقبل أحدهما شيئًا مع اختلاف صنائعهما، كان صاحبه عاجزًا عن القيام به، فكيف يلزمه عمله، وهو غير قادر عليه. وأجيب بعدة أجوبة، منها: الجواب الأول: اختار بعض الحنابلة بأن ما يتقبله الشريك لا يلزم شريكه، فليست الشركة قائمة على الكفالة، وإنما تقوم على الوكالة فقط. ¬
الجواب الثاني
"قال القاضي: يحتمل أن لا يلزمه ذلك؛ لأنهما كالوكيلين؛ بدليل صحتهما في المباح، ولا ضمان فيها". الجواب الثاني: على التسليم بأن ما يتقبله الشريك يكون لازمًا لشريكه، فإن معنى ذلك أن ذمته تكون مطالبة بتحصيله، ولو كان ذلك عن طريق الأجرة، ولا يلزم أن يقوم بالعمل بنفسه. الجواب الثالث: أن عجز الشريك عن القيام بما يتقبله صاحبه قد يوجد مع اتحاد الصنائع فقد يكون أحد الرجلين أحذق فيها من الآخر، فربما يتقبل أحدهما ما لا يمكن الآخر عمله، ولم يمنع ذلك صحتها، فكذلك إذا اختلفت الصنعة. الدليل الثاني: أن الصنعة إذا كانت واحدة، أو كانت متلازمة بحيث لا تقوم صناعة أحدهما إلا بالأخرى، وكانا يعملان في موضع واحد فالشركة بينهما متحققة تمامًا، فيشتركان في نفاق السلعة كما يشتركان في كسادها، بخلاف ما إذا اختلفت الصنعة أو المكان فإنه قد تنفق سلعة أحدهما دون الآخر، وبالتالي يكون أحدهما قد تعرض لأكل مال أخيه بالباطل. جاء في التاج والإكليل: "لا يجوز إذا افترقا في الموضعين وإن كانت صنعتهما واحدة؛ لاختلاف نفاق الأعمال في المواضع، فربما عمل أحدهما لكثرة العمل في موضعه ويبطل الآخر، فصار ذلك تفاضلا في الشركة، ومن سننها المساواة وذلك في شركتهما في عمل الأيدي" (¬1). ¬
ويناقش
ويناقش: أما قولكم: إن اختلاف الصنعة ومكانها قد يؤدي إلى نفاق أحدهما دون الأخرى، وهذا يعني أن أحد الشريكين قد يأكل مال الآخر بالباطل، فيجاب عنه بأن استحقاق الربح في الشركة بحكم الشرط في العقد لا العمل، وبسبب الضمان، وذلك أن ما يتقبله أحدهما يلزمه ويلزم شريكه، والضمان أحد أسباب استحقاق الربح وإن لم يعمل، فلو كان استحقاق الشريك للربح بذات العمل الذي يؤديه منفردًا لم يكن لعقد الشركة معنى. جاء في تبيين الحقائق: "إذا عمل أحدهما دون الآخر كانت الأجرة بينهما على ما شرطا، أما استحقاق العامل فظاهر، وأما الآخر فلأنه لزمه العمل بالتقبل، فيكون ضامنا له، فيستحقه بالضمان، وهو لزوم العمل" (¬1). وأما الجواب عن قولكم: إن من سنن الشركة المساواة، فيقال: قد أجاز المالكية شركة الأعمال وإن اختلفت الصنائع إذا كان عملهما متلازمًا، وهذا يؤدي إلى فوات المساواة كاختلاف الصنعتين، فإن قيل: إنه في حالة التلازم يصار إلى قيمة العمل، يقال: كذلك في حال اختلاف الصنعة أو المكان يصار إلى قيمة العمل والمكان (¬2). الراجح: أرى أن القول بجواز شركة الأبدان وإن اختلفت الصنائع والأمكنة هو القول الراجح؛ لأنه يتمشى مع أصل عظيم، وهو أن الأصل في المعاملات الصحة والجواز، وأنه لا يحرم منها شيء إلا بدليل، ولا دليل على اشتراط اتحاد الصنائع والأمكنة، والله أعلم. ¬
الشرط الرابع أن يكون نصيب كل واحد من الشركاء معلوما مشاعا
الشرط الرابع أن يكون نصيب كل واحد من الشركاء معلومًا مشاعًا كل شرط يوجب قطع الشركة في الربح، أو يوجب جهالة فيه فإنه يفسد الشركة (¬1). [م - 1327] يشترط في شركة الأبدان أن يكون نصيب كل واحد ومقداره معلومًا لهما؛ وهذا الشرط لا بد منه في جميع الشركات، فليس مختصًا في شركة الأبدان؛ فلا يجوز أن يشترط لأحدهما جزء مجهول من الكسب؛ لأن الجهالة في نصيب الشريك يؤدي إلى الشقاق والتنازع. ويشترط أن يكون نصيب كل واحد منهما شائعًا كالنصف أو الثلث أو الربع ونحو ذلك مما يتحصل عليه الجميع. فلا يصح أن يشترط مبلغًا معينًا من الربح كألف مثلًا، ولا أن يشترط من الربح شهرًا معينا، ولا أن يختص بربح صنعة معينة ونحو ذلك؛ لأن اشتراط ذلك قد يؤدي إلى انقطاع الاشتراك في الربح، فالشركة قد تربح في هذا دون ذاك، وقد لا تربح إلا هذا المبلغ أو أقل منه فيستأثر بالربح كله من اشترط له ذلك دون غيره، وقد تربح الشركة أكثر من ذلك، فيتضرر من شرط له ذلك. جاء في العناية شرح الهداية: "ولا تجوز الشركة إذا شرط لأحدهما دراهم مسماة من الربح؛ لأنه شرط يوجب انقطاع الشركة، فعساه لا يخرج إلا قدر المسمى لأحدهما" (¬2). ¬
مبحث إذا عمل أحد الشريكين دون الآخر
مبحث إذا عمل أحد الشريكين دون الآخر الربح يستحق بالمال، أو بالعمل، أو بالضمان (¬1). [م - 1328] إذا عمل أحد الشريكين دون الآخر، فهل يستحق الآخر المشاركة في الكسب؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن الكسب بينهما مطلقًا، سواء ترك العمل بعذر أو بغير عذر، وهو المشهور في مذهب الحنابلة إلا أن الحنابلة قالوا: يجب على من ترك العمل أن يقيم مكانه من يقوم بعمله إن طلب شريكه ذلك. جاء في غمز عيون البصائر: "إذا عمل أحد الشريكين دون الآخر بعذر أو بغيره فالربح بينهما" (¬2). وجاء في شرح منتهى الإرادات: "وإن مرض أحدهما: أي الشريكان، فالكسب بينهما، أو ترك أحدهما العمل مع شريكه لعذر أو لا ... بأن كان حاضرًا صحيحًا، فالكسب بينهما على ما شرطا" (¬3). وجاء في كشاف القناع: "وإن مرض أحدهما: أي الشريكان، أو ترك ¬
دليل الحنفية والحنابلة على أن الكسب بينهما مطلقا
العمل، ولو بلا عذر فالكسب بينهما على ما شرطاه؛ لأن العمل مضمون عليهما، وبضمانهما له وجبت الأجرة، فتكون لهما ويكون العامل منهما عونا لصاحبه في حصته، ولا يمنع ذلك استحقاقه، كمن استأجر رجلًا ليقصر له ثوبًا فاستعان بآخر، فإن طالبه ... الصحيح بأن يعمل معه، أو أن يقيم مقامه من يعمل معه لزمه ذلك؛ لأنهما دخلا على أن يعملا، فإذا تعذر عمل أحدهما بنفسه لزمه أن يقيم مقامه، توفية لما يقتضيه العقد، فإن امتنع المريض ونحوه من أن يقيم مقامه فللآخر الفسخ أي فسخ الشركة، بل له فسخها وإن لم يمتنع؛ لأنها غير لازمة كما سبق" (¬1). دليل الحنفية والحنابلة على أن الكسب بينهما مطلقا: الدليل الأول: ما رواه ابن أبي شيبة من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: اشتركنا يوم بدر أنا وعمار وسعد فيما أصبنا يوم بدر، فأما أنا وعمار فلم نجيء بشيء، وجاء سعد بأسيرين (¬2). [أعله بعضهم بالانقطاع، ورأى بعضهم أن حديث أبي عبيدة عن أبيه في حكم المتصل] (¬3). ويناقش: بأن عبد الله وعمار قد عملا، ولم يتحصل من عملهما شيء، فلا يصدق عليهما أنهما ترك العمل مطلقا. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: ما رواه الترمذي، قال: حدثنا محمَّد بن بشار، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت عن أنس بن مالك، قال: كان أخوان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان أحدهما يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم -، والآخر يحترف، فشكا المحترف أخاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لعلك ترزق به. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. [صحيح] (¬1). ويناقش: بأن الحديث ليس فيه نص بأن الأخوين كان بينهما عقد شراكة، وإنما كان أحدهما مكتسبًا، والآخر يطلب العلم، وربما كان أخوه ينفق عليه، فشكا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: لعلك ترزق به، فليس في الحديث أن العامل وأخاه يتقاسمون الكسب، وعلى التنزل فإن الحديث ليس فيه أن الآخر لا يعمل قط، فربما عمل بعض الوقت في الوقت الذي لا يكون فيه منشغلًا بطلب العلم، والله أعلم. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: ذكر الحنفية والحنابلة ومن وافقهم أن استحقاق الربح في الشركة يكون بأحد أمور ثلاثة: المال، أو العمل، أو الضمان (¬1). ولما كان ما يتقبله أحد الشريكين يلزمه أصالة عن نفسه، ووكالة عن شريكه، فيكون العمل المتقبل مضمونًا عليهما، فيستحق كل منهما جزءًا من الكسب مقابل هذا الضمان، بل إن الشارع علق استحقاق الربح بالضمان، فنهى عن ربح ما لم يضمن (¬2)، ولو كان مملوكًا. القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن الكسب بينهما إن كان الغياب أو المرض مدة يسيرة كاليوم واليومين. فإن كان ترك العمل مدة طويلة، فإن كان ذلك مشروطًا في عقد الشركة فسدت الشركة، وهذا مذهب المالكية. قال خليل في مختصره: "وألغي مرض كيومين وغيبتهما، لا إن كثرت، وفسدت باشتراطه" (¬3). ¬
واستدلوا على ذلك
وإنما تسامح المالكية في اليومين جريًا على القاعدة عندهم، أن ما قرب من الشيء يعطى حكمه، فكأنه لم يمرض ولم يغب، وقد طردوا ذلك في مسائل كثيرة، ولأن هذا أمر يقع كثيرًا بين الشركاء، وجرت به عادتهم إلا أن يتفاحش المرض والغياب أو يشترط، وقد ذكرنا أدلتهم على هذه القاعدة في مباحث السلم، في تأخير تسليم الثمن عن مجلس العقد اليوم واليومين. واستدل المالكية على إبطال الشركة إذا كان الغياب مشروطًا في مجلس العقد باعتبار أن هذا الشرط يخالف مقتضى عقد شركة الأبدان؛ لأنها قائمة على الاشتراك في العمل، وقد دخلا في الشركة على ذلك، فإذا تضمن العقد ترك العمل كان هذا مخالفًا لمقتضى العقد. وإن كان ترك العمل في المدة الطويلة غير مشروط في عقد الشركة، فقد اختلف المالكية إلى أقوال: فقيل: إن كان الغياب قبل تقبل العمل فيختص به العامل دون الغائب والمريض، وإن كان بعد تقبل العمل كان الكسب بينهما، ويرجع العامل بنصف أجرة مثله على شريكه. وهذا أحد الأقوال في مذهب المالكية (¬1). واستدلوا على ذلك: بأن الغياب أو المرض إذا كان بعد تقبل العمل كان كل منهما ضامنا لما يتقبله ¬
ويناقش هذا
الآخر، فيكون الكسب بينهما لوجود الضمان منهما، وأما إذا تم الغياب قبل تقبل العمل فيختص به العامل وحده؛ لأنه مختص بضمانه، ولأن الغياب والمرض الطويلين يقطعان الشركة. ويناقش هذا: بأن الغياب والمرض لا يقطع الشركة إلا إذا فسخها أحدهما، والله أعلم. وقيل: إن كان ذلك غير مشروط في العقد فإن الكسب بينهما، ويكون العامل منهما متطوعًا بعمله، وهذا قول أشهب من المالكية (¬1). دليل أشهب هو دليل الحنفية والحنابلة في القول الأول، فلا فرق بين القولين والله أعلم؛ لأنهم يقولون: إن الكسب بينهما مطلقا، سواء كان الغياب لعذر أو لغير عذر، وسواء كان الغياب طويلًا أو قصيرًا، والله أعلم. وقيل: يكون الكسب بينهما، وللعامل أجرة مثله، وهذا قول ابن القاسم من المالكية (¬2). أما كون الكسب بينهما فلأن الشركة ما زالت قائمة بينهما، لم يقطعاها، وأما كون العامل منهما له أجر مثله؛ فلأنه انفرد بالعمل وحده، فلا يسوى بينهما مع الغياب والمرض الطويلين، والله أعلم. القول الثالث: ذهب الحنابلة في أحد الوجهين إلى أن ترك العمل إن كان بعذر كان الكسب بينهما، وإن كان بدون عذر كان الكسب للعامل منهما فقط (¬3). ¬
وجه هذا القول
وجه هذا القول: بأن من ترك العمل لوجود عذر من مرض ونحوه فإنه يستحق الربح؛ لأن الأمر لم يكن من عمله، وأما إذا كان بغير عذر فإنه لا يستحق نصيبًا من الربح؛ لأنه قد ترك العمل بلا مسوغ، والله أعلم. الراجح: بعد استعراض الأقوال أجد أن مذهب الحنابلة، أقوى الأقوال، وهو أن الشريكين يتقاسمان الربح على ما اشترطا، سواء كان ترك العمل بعذر أو بغير عذر إلا أن الشريك العامل له أن يطالب الغائب والمريض بأن يقيم أحدًا مقامه، فإذا لم يطالب فقد أسقط حقه، والله أعلم.
الفصل الخامس ضمان الشريك في شركة الأعمال
الفصل الخامس ضمان الشريك في شركة الأعمال ما يقبل أحد الشريكين يلزم الآخر عمله وضمانه (¬1). [م - 1329] لا خلاف في أن أحد الشريكين وكيل عن صاحبه فيما يتقبله من الأعمال، وهل يكون الشريك ضامنا لصاحب العمل ما تقبله أحدهما؟ اختلف العلماء في هذا على قولين: القول الأول: يلزم أحدهما الضمان فيما أخذه صاحبه، وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة (¬2). جاء في الهداية: هذه الشركة -يعني شركة الصنائع- مقتضية للضمان ألا ترى أن ما يتقبله كل واحد منهما من العمل مضمون على الأخر، ولهذا يستحق الأجر بسبب نفاذ تقبله عليه" (¬3). وجاء في مختصر خليل "ولزمه ما يقبله صاحبه وضمانه، وإن تفاصلا" (¬4). ¬
دليل الجمهور على وجوب الضمان على الشريك
قال الحطاب شارحًا لهذه العبارة: يعني أن أحد شريكي العمل إذا قبلا شيئًا ليعملا فيه لزم شريكه الآخر أن يعمله معه، ولا يشترط أن يعقدا معًا، ويلزم أحدهما الضمان فيما أخذه صاحبه، ولو افترقا كما لو أخذ أحدهما شيئًا ليعملا فيه، فتلف، ثم تفرقا، فجاء صاحبه يطلب به الذي دفعه له، فالضمان عليهما معًا قال في المدونة: وما يقبل أحد الشريكين للصنعة لزم الآخر عمله، وضمانه يؤخذ بذلك، وإن افترقا" (¬1). وجاء في الإنصاف: "وما يتقبله من العمل يصير في ضمانهما، يطالبان به، ويلزمهما عمله" (¬2). دليل الجمهور على وجوب الضمان على الشريك: وجه الحنفية والحنابلة وجوب الضمان على شركة الأبدان، بأن مبنى الشركة قائم على أساس التضامن بين الشركاء، فالشريك يستحق الربح إما بسبب عمله إن باشر العمل بنفسه، أو بسبب ضمانه لعمل صاحبه إن لم يباشر العمل بنفسه، ولولا وجود الضمان لم يستحق الشريك الذي لم يباشر العمل شيئًا من الأجر. القول الثاني: لا يلزم كل واحد منهما ما يتقبله صاحبه، ساقه ابن قدامة عن القاضي أبي يعلى احتمالًا (¬3). وجه هذا القول: أن عقد الشركة قائم على الوكالة فقط، وليس على الضمان بدليل صحة ¬
الراجح
الشركة في تملك المباح، وهذه الشركة عند من يقول بصحتها كالحنابلة والمالكية لا ضمان فيها. الراجح: الذي أميل إليه هو أن الشركة قائمة على الضمان والوكالة؛ لأن الشريك بمنزلة الأجير المشترك، وصاحب العمل مستأجر، والأجير المشترك يضمن جميع العيوب الناتجة عن أداء العمل، سواء ضمنه أصالة عن نفسه، أو ضمنه باعتباره وكيلًا عن صاحبه؛ لأن العقد وارد على العمل السليم، وليس على المعيب. ولا يعترض على هذا القول بشركة التقاط المباح، فإن عدم الضمان فيها ليس راجعًا إلى الشركة، وإنما لأن العمل فيها لا يوجد فيها تقبل من الناس، فالإجارة فيها منتفية بخلاف تقبل الأعمال فإنها قائمة على عقد الإجارة، والله أعلم.
الفصل السادس في كيفية اقتسام الربح في شركة الأعمال
الفصل السادس في كيفية اقتسام الربح في شركة الأعمال قال ابن مفلح: ربح كل شركة على ما شرطا (¬1). [م - 1330] اختلف العلماء في كيفية اقتسام الربح في شركة الأعمال على قولين: القول الأول: الربح في شركة الأعمال على ما اتفقوا عليه من مساواة أو تفاضل، وهذا مذهب الحنابلة (¬2)، ومذهب الحنفية إلا أن الحنفية يشترطون أن تكون شركة الأعمال عنانًا، فإن كانت مفاوضة كان الربح مناصفة (¬3). قال ابن قدامة: "والربح في شركة الأبدان على ما اتفقوا عليه من مساواة وتفاضل؛ لأن العمل يستحق به الربح، ويجوز تفاضلهما في العمل، فجاز تفاضلهما في الربح الحاصل به" (¬4). ¬
القول الثاني: الربح على قدر العمل، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬1). جاء في الشرح الكبير: "إذا كان عمل أحدهما الثلثين، والآخر الثلث لم يجز إلا فض الربح على قدر العمل" (¬2). وأدلة هذه المسألة هي أدلة تقسيم الربح في شركة الأموال، وقد سبق بحثها، فأغنى ولله الحمد عن إعادته هنا. ¬
مبحث في تحمل الخسارة في شركة الأعمال
مبحث في تحمل الخسارة في شركة الأعمال الوضيعة في شركة لا مال فيها على قدر الضمان. نص الحنفية والمالكية بأن الخسارة في شركة الأعمال على قدر ضمان العمل، فلو شرط العمل على أحدهما الثلث، وعلى الآخر الثلثان، كان ثلث الخسارة على الأول، وثلثاها على الثاني (¬1). جاء في بدائع الصنائع: "وأما الوضيعة فلا تكون بينهما إلا على قدر الضمان، حتى لو شرطا أن ما يتقبلانه فثلثاه على أحدهما بعينه، وثلثه على الآخر، والوضيعة بينهما نصفان كانت الوضيعة باطلة؛ لأن الربح إذا انقسم على قدر الضمان كانت الوضيعة باطلة ... لأن الربح إذا انقسم على قدر الضمان كانت الوضيعة على قدر الضمان أيضًا ... " (¬2). وجاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن اشتركا على عمل أيديهما، وهما قصاران، ولا يحتاجان إلى رأس مال، فاشتركا على أن على هذا من العمل الثلث، وعلى هذا الثلثين، على أن لصاحب الثلث من كل ما يصيبان الثلث، ولصاحب الثلثين من كل ما يصيبان الثلثين، وعلى أن على صاحب الثلث ثلث الضياع، وعلى صاحب الثلثين ثلثي الضياع؟ قال: قال مالك: لا بأس بذلك، ¬
مثل الشركة في الدراهم؛ لأنهما إذا اشتركا بعمل أيديهما جعل عمل أيديهما مكان الدراهم فما جاز في الدراهم جاز في عمل أيديهما" (¬1). وهو مقتضى مذهب الحنابلة؛ قال ابن مفلح: "وربح كل شركة على ما شرطا ... والوضيعة على المال" (¬2). فإذا جعلوا الوضيعة على قدر المال، فإن العمل في شركة الأبدان قائم مقام المال؛ لأنه لا مال فيها، فيكون الربح على ما اتفقا عليه كما أسلفنا، والخسارة بحسب الضمان، فإن كان عليه ضمان الثلث تحمل من الخسارة بقدرها، ومن كان عليه ضمان الثلثين تحمل من الخسارة بقدرها كذلك. ¬
الفصل السابع في موت أحد الشريكين
الفصل السابع في موت أحد الشريكين جاء في كشاف القناع: كل عقد جائز من الطرفين ... يبطل بموت أحدهما، وعزله (¬1). [م - 1331] ذهب عامة أهل العلم إلى أن الشركة تبطل بموت أحد الشريكين (¬2). وجه القول بالبطلان: أن الشريك إذا مات بطلت الشركة؛ لزوال أهلية التصرف بالموت، ولانتقال الملك إلى الورثة. ولأن الشركة لا يتحقق ابتداؤها إلا بولاية التصرف لكل منهما في مال الآخر، ولا تبقى الولاية إلا ببقاء الوكالة، والوكالة تنتهي بالموت بالاتفاق، حكى الاتفاق على ذلك ابن قدامة في المغني (¬3). ولأن الشريك إن كان موكلًا فقد بطل أمره بموته، وإن كان وكيلًا فقد تعذر تصرفه بموته. هذا إذا كان الشركاء اثنين، فإن كان الشركاء ثلاثة فأكثر انفسخت الشركة في حق الميت فقط، وتبقى قائمة في حق الحي. ¬
جاء في الإقناع: "والشركة عقد جائز تبطل بموت أحد الشريكين ... " (¬1). وقال ابن نجيم: "ولو كان الشركاء ثلاثة، فمات أحدهم حتى انفسخت الشركة في حقه، لا تنفسخ في حق الباقين" (¬2). [م - 1332] وهل يتوقف الفسخ على علم الآخر بالموت؟ في ذلك خلاف بين العلماء: فقيل: تنفسخ سواء علم الطرف الآخر بموت شريكه أو لم يعلم، وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة في رواية (¬3). جاء في الهداية: "وإذا مات أحد الشريكين، أو ارتد، ولحق بدار الحرب بطلت الشركة؛ لأنها تتضمن الوكالة ... والوكالة تبطل بالموت ... ولا فرق بينما إذا علم الشريك بموت صاحبه، أو لم يعلم؛ لأنه عزل حكمي، وإذا بطلت الوكالة بطلت الشركة" (¬4). جاء في القواعد لابن رجب: "المشهور أن كل من ينعزل بالموت، أو عزل، هل ينعزل بمجرد ذلك؟ أم يقف عزله على علمه؟ على روايتين" (¬5). وقيل: إن الفسخ يتوقف على علم الطرف الآخر، وهو مذهب المالكية، والرواية الثانية عند الحنابلة (¬6). ¬
الراجح
وأجاز بعض الفقهاء أن يحل الوارث غير الوشيد محل مورثه إذا كان في استدامة الشركة مصلحة له. جاء في أسنى المطالب: "لو مات أحد الشريكين، وله طفل، ورأى الولي المصلحة في الشركة استدامها" (¬1). الراجح: لا أرى مانعًا من قيام الوارث مقام المورث إذا تراضى الشركاء على ذلك؛ لأن الحق لهم، فإذا قبلوا أن يحل الوارث محل مورثه فلا محذور فيه، والله أعلم. ¬
الباب الرابع في شركة الوجوه
الباب الرابع في شركة الوجوه الفصل الأول في تعريف شركة الوجوه تعريف شركة الوجوه اصطلاحًا (¬1): تعريف الحنفية: عرفها الكاساني من الحنفية بقوله: "أن يشتركا، وليس لهما مال، لكن لهما وجاهة عند الناس، فيقولا: اشتركنا على أن نشتري بالنسيئة، ونبيع بالنقد، على أن ما رزق الله سبحانه وتعالى من ربح فهو بيننا على شرط كذا" (¬2). وسمي هذا النوع شركة الوجوه؛ لأن الشركاء يبتذلون وجوههم من أجل ¬
تعريف المالكية
طلب المال، أو لأنهم يحصلون على المال بجاههم حيث لا يباع بالنسيئة إلا للوجيه من الناس عادة، وهم أشراف القوم وسادتهم. وقوله: (نبيع بالنقد) هذا التقييد قال به بعض الفقهاء، وبعضهم لم يقيد ذلك، فيجوز أن يبيع بالنقد أو بالنسيئة إلى أجل هو أدنى من أجل الشراء، لكي يتمكن الشريكان من سداد ديونهما. تعريف المالكية: عرفها ابن جزي المالكي بقوله: "أن يشتركا على غير مال، ولا عمل، وهي الشركة على الذمم بحيث إذا اشتريا شيئًا كان في ذمتهما، وإذا باعاه اقتسما ربحه" (¬1). وقوله: (على غير مال ولا عمل) أما المال فظاهر فإن الشركة ليس فيها رأس مال ابتداء، وأما قوله: ولا عمل ففيه نظر، فإن البيع والشراء يعتبر من العمل، والربح إنما يستفاد بسببهما. تعريف الشافعية: عرفها الشيرازي بقوله: "أن يعقدا الشركة على أن يشارك كل واحد منهما صاحبه في ربح ما يشتريه بوجهه" (¬2). تعريف الحنابلة: جاء في مجلة الأحكام الشرعية بأنها "اشتراك شخصين فأكثر في ربح ما يشتريانه في ذممهما بجاههما" (¬3). ¬
الفصل الثاني في صور شركة الوجوه
الفصل الثاني في صور شركة الوجوه اتفق الجمهور على اعتبار صورة واحدة من شركة الوجوه، واختلفوا في اعتبار باقي الصور، وهي كالتالي: الصورة الأولى: [م - 1333] أن يشترك وجيهان عند الناس ليبتاعا في الذمة إلى أجل، على أن ما يبتاعه كل واحد يكون بينهما، فيبيعانه، ويؤديان الأثمان، فما فضل فهو بينهما (¬1). وهذه الصورة هي المشهورة في شركة الوجوه، والمتفق على اعتبارها في شركة الوجوه، بل إن مدار تعريف شركة الوجوه عند الأئمة الأربعة على هذه الصورة، وهي المتبادرة إلى الذهن عند الإطلاق، وسبق ذكر كلام الفقهاء عند تعريف شركة الوجوه. وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على حكم هذه الصورة في مبحث مستقل. الصورة الثانية: [م - 1334] اختلف الفقهاء في تقسيم شركة الوجوه إلى عنان ومفاوضة على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية إلى تقسيم شركة الوجوه إلى عنان ومفاوضة. ¬
القول الثاني
فشركة الوجوه تكون مفاوضة إذا عقدت بلفظ المفاوضة، وتحققت فيها الوكالة، والكفالة، وكانت على التساوي في كل شيء. وتكون عنانًا إذا عقدت بلفظ العنان، أو عقدت على الإطلاق، أو كانت على التفاوت في الضمان، وفي الربح، أو على نوع محدد من السلع، وتقوم على الوكالة فقط دون الكفالة (¬1). قال السرخسي: "وهذه الشركة -يعني شركة الوجوه- تجوز عندنا عنانًا ومفاوضة إلا أن المفاوضة لا تكون إلا باعتبار المساواة في المشترى والربح جميعًا" (¬2). وجاء في الفتاوى الهندية: "أما شركة الوجوه: فهو أن يشتركا، وليس لهما مال، لكن لهما وجاهة عند الناس ... وتكون مفاوضة: بأن يكونا من أهل الكفالة، والمشترى بينهما نصفين، وعلى كل واحد منهما نصف ثمنه، ويتساويا في الربح، ويتلفظا بلفظ المفاوضة، أو يذكرا مقتضياتها، فتتحقق الوكالة والكفالة في الأثمان والمبيعات، وإن فات شيء منها كانت عنانا كذا في فتح القدير، وإن أطلقت كانت عنانا كذا في الظهيرية، والعنان منهما تجوز مع اشتراط التفاضل في ملك المشترى" (¬3). القول الثاني: ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى اختصاص تقسيم الشركة إلى عنان ¬
الصورة الثالثة
ومفاوضة بشركة الأموال خاصة، دون غيرها من الشركات، وعليه فلا تتحمل شركة الوجوه تقسيمها إلى عنان ومفاوضة (¬1). وسبق لنا كلام الجمهور في شركة الأعمال، وبينت أن هذه التقسيمات اصطلاحية فقهية، لا تعتمد على دليل من الشرع كما أسلفنا، ولا أرى مانعًا من تقسيم شركات الوجوه إلى عنان ومفاوضة، كما جرى تقسيم شركة الأموال إلى عنان ومفاوضة، ولا مشاحة في الاصطلاح، والله أعلم. الصورة الثالثة: [م - 1335] أن يشترك وجيه وخامل، ولها صورتان: الأولى: أن يشتري الوجيه نسيئة، ويفوض بيعه إلى خامل، ويشترطا أن يكون ربحه بينهما. وهذه الصورة انفرد الشافعية بذكرها (¬2). الثانية: أن يبيع الوجيه مال الخامل؛ ليكون العمل من الوجيه، والمال من الخامل، والربح بينهما، وسواء كان المال في يد الخامل، لا يسلمه إلى الوجيه، أو كان في يد الوجيه، فالوجيه هنا يستخدم جاهه وخبرته في بيع مال الخامل. وهذه الصورة منعها المالكية والشافعية (¬3). ¬
وجه المنع عند المالكية
وجه المنع عند المالكية: منع المالكية هذه الصورة لعلتين: أحدها: أنه من باب الغش والتدليس على الناس، وهذا لا يجوز؛ لأن الناس يرغبون في الشراء من الوجيه التاجر؛ لاعتقادهم أنه لا يتجر إلا في الجيد من السلع بخلاف سلع الخامل. والثانية: أنها إجارة مجهولة الأجرة (¬1). ويناقش هذا: بأن بيع الوجيه مال الخامل لا ينطوي على أي غش أو تدليس؛ ذلك أن الوجيه باع سلعة معلومة بالطرق الشرعية، فلا يجوز للتاجر الوجيه أن يظهر السلعة بما ليس فيها، والعهدة عليه فيما لو ظهر فيها عيب. وأما القول بأن العقد مشتمل على إجارة مجهولة، فهذا بعيد جدًا، فإن العقد ليس من قبيل المعاوضات، وإنما من قبيل المشاركة، فليس هناك أي معاوضة بين الوجيه البائع وبين المالك الخامل، وعلى التنزل فإن الإجارة تؤول إلى العلم بعد البيع، فلا يؤدي ذلك إلى التنازع، والله أعلم. وأما وجه المنع عند الشافعية: فقد نصوا على أنها من عقود المضاربة الفاسدة؛ إما لكون المال من غير النقود، وهم يشترطون في عقد المضاربة أن يكون رأس المال فيه من النقود، أو لاستبداد المالك باليد لعدم تسليم رأس المال إلى المضارب، وإما لكليهما معًا (¬2). ¬
والراجح القول بالجواز
وبعضهم أفسدها لأنها من الجعالة الفاسدة؛ لجهالة العوض، فيستحق العامل أجرة مثل عمله (¬1). والراجح القول بالجواز: والوصف الفقهي لهذه الشركة هو التوكيل بالبيع بحصة من الربح، كعمل السمسار تمامًا، وعقود السمسرة إذا كان العوض فيه بجزء مشاع من الثمن يعتبر العقد فيه مشاركة أو جعالة، ولكنه ليس من قبيل المعاوضة، فالسلعة ملك لصاحبها، لا يملك منها السمسار شيئًا، وإن تحقق ما طلب من السمسار استحق العوض، وإلا بقيت العين على ملك صاحبها، وجهالة العوض في هذه الصورة مغتفرة؛ لأنه لا تؤدي إلى المنازعة؛ وتؤول إلى العلم. وقد صحح الحنابلة في رواية إذا قال الجاعل: من رد عبدي أو ضالتي فله ثلثها (¬2)، والله أعلم. الصورة الرابعة: [م - 1336] ذكرها القاضي من الحنابلة: وهو أن يدفع واحد ماله إلى اثنين مضاربة، فيكون المضاربان شريكين في الربح بمال غيرهما؛ لأنهما إذا أخذا المال بجاههما فلا يكونان مشتركين بمال غيرهما (¬3). فاعتبر القاضي أن العاملين وجيهان حيث استطاعا الحصول على مال رب المال ليعملا فيه. والحقيقة أن هذه الشركة ليست بين اثنين، وإنما أطرافها ثلاثة، وأحد الثلاثة منه المال، والآخران عاملان فيه، فالعقد عقد مضاربة لا غير، والله أعلم. ¬
الصورة الخامسة
الصورة الخامسة: [م - 1337] وهي صورة جائزة لدى جميع الفقهاء، وهي التعاقد على شراء شيء معين بالدين، فإذا قصد المشتري الشراء لهما، فإنهما يصيران شريكين في العين شركة ملك، فإذا بيعت السلعة فالربح بينهما. فهذه الصورة لا يمنع منها من منع شركة الوجوه كالمالكية والشافعية، وذلك أن التعاقد في هذه الصورة لم يكن على شيء غير معين، ويحمل كل عن الآخر بمثله، أو أكثر، وإنما كان التعاقد على شيء معين جنسًا، ونوعًا، وقدرًا، فكانت الوكالة في شيء معلوم. جاء في الشرح الصغير: "فإن أذن له في سلعة معينة جاز؛ لأنه صار بالإذن وكيلًا عنه فيما يخصه، فكانا بمنزلة رجلين اشتريا سلعة بينهما بدين، فإنه جائز قطعًا" (¬1). وجاء في مغني المحتاج: "إن وكل أحدهما الآخر أن يشتري عينًا، وقصد المشتري الشراء لهما فإنهما يصيران شريكين في العين المأذون فيها" (¬2). وجاء في المهذب: "وأما شركة الوجوه: وهو أن يعقدا الشركة على أن يشارك كل واحد منهما صاحبه في ربح ما يشتريه بوجهه، فهي شركة باطلة؛ لأن ما يشتريه كل واحد منهما ملك له ينفرد به، فلا يجوز أن يشاركه غيره في ربحه، وإن وكل كل واحد منهما صاحبه في شراء شيء بينهما، واشترى كل واحد ¬
منهما ما أذن فيه شريكه، ونوى أن يشتريه ينه وبين شريكه، دخل في ملكهما، وصارا شريكين فيه، فإذا بيع قسم الثمن بينهما لأنه بدل مالهما" (¬1). هذه صور شركة الوجوه فيما وقفت عليه من كلام الفقهاء، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في حكم شركة الوجوه
الفصل الثالث في حكم شركة الوجوه الأصل جواز جميع أنواع الشركات. شركة الوجوه قائمة على أهلية التوكل والتوكيل، وعلى أهلية الكفالة، وكلاهما جائزان في الشريعة. [م - 1338] عند الكلام على حكم شركة الوجوه فإن المقصود بالحكم هي الصورة المتفق عليها لدى الفقهاء، وهي اشتراك شخصين فأكثر في ربح ما يشتريانه في ذممهما بجاههما. وقد اختلف العلماء في حكم هذه الصورة على قولين، مع الإقرار أنه لا يوجد في الأدلة ما يدل على إباحتها ولا على منعها: القول الأول: تصح شركة الوجوه، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة (¬1). استدل من قال بالجواز: الدليل الأول: الأصل جواز جميع أنواع الشركات، سواء ما كان منها موجودًا في كلام الفقهاء المتقدمين باعتبار أن هذه الشركات توجه إليه الفقهاء المتقدمون بالكلام؛ لأنها كانت تلبي حاجات عصرهم، أو ما كان منها مستحدثًا بسبب ¬
الدليل الثاني
الحاجة الماسة إليها في هذا العصر، ما دام أن المبادئ الأساسية للشركة متوفرة فيها، ولا تقبل دعوى اختصاص الجواز في بعض الشركات دون بعض إلا بدليل صحيح سالم من المعارضة، ولم يقم هذا الدليل للمانعين. الدليل الثاني: احتج الحنفية بجريان العمل بهذه الشركة بين الناس، فقد تعامل الناس بشركة الوجوه من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا من غير نكير. فإن قيل: كيف يحتج بالإجماع مع خلاف المالكية والشافعية؟ أجيب: بأن هذا حكاية للإجماع العملي، وكثيرا ما يحتج به الحنفية في المسائل الخلافية، فقد احتجوا به في عقد الاستصناع، وهو مختلف فيه. قال الشيخ مصطفى الزرقاء رحمه الله: "وقد أشرنا سابقا إلى أن الحنفية يدعون الإجماع على جوازه للحاجة -يعني عقد الاستصناع- ودعوى الإجماع مستفيضة في كتب المذهب الأساسية: المبسوط للسرخسي، والبدائع للكاساني، والهداية للمرغياني، وسواها، وقد تبدو هذه الدعوى غريبة، فأي إجماع مع أن مذاهب عديدة منها: الشافعي، والحنبلي لا تجيزه إلا بشروط السلم كاملة؟ ولكن الإجماع الذي يستند إليه الحنفية صحيح، ولا تتنافى مع هذا الخلاف بين المذاهب في جواز الاستصناع، فإن الإجماع الذي يدعيه الحنفية هو الإجماع العملي، فهم يقولون: إن العمل بالاستصناع فيما يحتاج إليه متعارف ومستمر من عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون نكير" (¬1). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن شركة الوجوه قائمة على أهلية التوكل والتوكيل، وعلى أهلية الكفالة، وكلاهما جائزان في الشريعة الإِسلامية، لاشتمالها على مصلحة من غير مفسدة. القول الثاني: لا تصح شركة الوجوه، وهذا مذهب المالكية، والشافعية، واختيار ابن حزم من الظاهرية (¬1). قال ابن رشد: "وشركة الوجوه عند مالك والشافعي باطلة، وقال أبو حنيفة: جائزة ... " (¬2). دليل من قال ببطلان شركة الوجوه: الدليل الأول: أبطل المالكية شركة الوجوه؛ لأنها من باب تحمل عني بنصف ما اشتريت على أن أتحمل عنك بنصف ما اشتريت، وهذا يعني: أن هذه الشركة قائمة على الضمان بجعل (بأجرة) وهذا لا يجوز، فالضمان من عقود الإرفاق لا يجوز أخذ ¬
ونوقش هذا
الأجرة عليه؛ لأن المدين قد يعجز، فيسدد عنه الكفيل، فيؤول إلى قرض جر نفعًا. ونوقش هذا: بأن أخذ الجعل في مقابل ضمان الديون لا يجوز، ولكن هذا يكون في رجلين أحدهما مدين، والآخر ضامن للدين، أما في شركة الوجوه فالضمان فيها ضمان ثمن المال المشترى، فهو من ضمان الملك، لا من ضمان الدين، وهذا يجعل جميع الشركاء مدينين بالضمان؛ لأن ملك السلعة شركة بينهم، ويطالب الشريك بسداد الدين ليس باعتباره ضامنا فقط، وإنما باعتباره مدينا بمقتضى عقد الشركة، فلا ينفرد أحد الشركاء بالملك، والآخر بالضمان، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن ربح الشريك لا يستحق بالضمان وحده، وإنما يستحق بالعمل أيضًا، فالشراء والبيع عمل، ولا يستفاد الربح إلا عن طريقهما، وإذا كان محل شركة الوجوه هو العمل مع الضمان، وليس الضمان وحده، لم يصح أن يقال: إن الربح يستحق بالضمان وحده، فيؤول إلى أخذ الأجرة على الضمان. الدليل الثاني: أبطل المالكية هذه الشركة؛ لأن هذه الشركة من باب أسلفني وأسلفك، فتكون من باب السلف بزيادة (¬1). ونوقش هذا: بأن هذا القول مبني على توصيف المالكية للشركة، وأنها من عقود المعاوضات اللازمة، وأن الإنسان يبيع نصف ماله بنصف مال شريكه، وأما ¬
الدليل الثالث
على قول من يعتبر عقود المشاركة ليست من عقود المعاوضات بين الشركاء، وهو مذهب الجمهور فلا يقوم هذا الدليل، وهو الصواب؛ لأن يد الشريك في مال الشركة يد أمانة، والأمانة ليست من عقود المعاوضات، كما أنهم يرون أن عقد الشركة من العقود الجائزة، وعقود المعاوضات الأصل فيها أنها من العقود اللازمة. وقد سبق بحث هذه المسألة في مبحث مستقل، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، ولله الحمد. الدليل الثالث: أبطل الشافعية شركة الوجوه؛ لأن الشركة عندهم لا تقوم إلا على المال المشترك، وشركة الوجوه لا مال فيها. ولأن ما يشتريه كل منهما ملك له ينفرد به، فلا يجوز أن يشركه غيره في ربحه، بل له ربحه، وعليه خسارته. ولكثرة الغرر في هذا النوع من الشركات. مناقشة دليل الشافعية: أما قولهم (الشركة لا تقوم إلا على المال المشترك، وشركة الوجوه لا مال فيها) فإذا استدلال في محل النزاع لا يسلم لهم، وهو دليل خاص بالشافعية، ومذهبهم من أضيق المذاهب في الشركات؛ لأنهم لا يقولون إلا بشركة العنان فقط، وتقوم عندهم على الاشتراك في الملك أولًا، ثم الإذن بالتصرف ثانيًا، فهم يشترطون خلط المالين بحيث لا يتميزا قبل عقد الشركة ليكون الملك مشاعًا بينهما، ومن ثم التوجه بعد ذلك بالإذن بالتصرف في مال مملوك لهما. ولهذا أجاز الشافعية أن يوكل أحدهما الآخر أن يشتري شيئًا معينا نسيئة، فإذا
قصد المشتري الشراء لهما فإنهما يصيران شريكين في العين شركة ملك، فإذا بيعت هذه العين اشتركا في الربح. يقول ابن تيمية: "ولم يجوزها الشافعي -يعني شركة الوجوه- بناء على أصله، وهو أن مذهبه أن الشركة لا تثبت بالعقد، وإنما تكون الشركة شركة الأملاك خاصة، فإذا كانا شريكين في مال، كان لهما نماؤه، وعليهما غرمه، ولهذا لا يجوز شركة العنان مع اختلاف جنس المالين، ولا يجوزها إلا مع خلط المالين. ولا يجعل الربح إلا على قدر المالين، والجمهور يخالفونه في هذا، ويقولون: الشركة نوعان: شركة أملاك، وشركة عقود، وشركة العقود أصلًا لا تفتقر إلى شركة الأملاك، كما أن شركة الأملاك لا تفتقر إلى شركة العقود. وإن كانا قد يجتمعان" (¬1). ولو كانت الشركة لا تقوم إلا على مال مشترك ما صح عقد المضاربة، إذ إن عقد المضاربة ليس فيها مال مشترك، والمضارية جائزة بالإجماع، وعلى التنزل أن الشركة لا تقوم إلا على مال مشترك، فإن الدين يعتبر مالًا عند الشافعية، كما هو مذهب الجمهور خلافًا للحنفية، وإذا كان الدين مالًا، والشركة منعقدة على الاشتراك في الديون، كانت قائمة على المال، والله أعلم. وأما قولهم: (إن ما يشتريه كل منهما ملك له، ينفرد به) فهذا غير مسلم، بل إن ما يشتريه كل منهما ملك لهما؛ لأنه اشترى لنفسه بالأصالة، ولشريكه بالوكالة، فصار الملك مشتركًا. وأما دعوى وجود الغرر في الشركة، فلم يتبين لي وجهه إلا أن يكون الغرر من جهة التفويض، فالوكالة مطلقة حيث عقدت الشركة على أن ما يشتريه ¬
الدليل الخامس
أحدهما فالربح بينهما، فلم يعينا جنسا للسلع، ولا وقتا للتفويض ينتهي بانتهائه، وهذا لا مانع منه في عقود الشركات، ولو اعتبر لرد عقد المساقاة، وعقد المضاربة بهذه الحجة، مع أن المانعين يقولون بجوازهما، والله أعلم. الدليل الخامس: استدل بعضهم على منع شركة الوجوه، بأن شركة الوجوه قائمة على الوكالة، وشرائط عقد الوكالة لم تتوفر في هذا النوع من الشركة، فلا بد من تعيين قدر الثمن، والنوع. وأجيب: القول بأن الوكالة لا تصح حتى يذكر قدر الثمن، والنوع غير مسلم، ولو سلم ذلك فإن هذا معتبر في الوكالة المفردة، أما الوكالة الداخلة في ضمن الشركة فلا يعتبر فيها ذلك، بدليل المضاربة، وشركة العنان، فإن في ضمنهما توكيلًا، ولا يعتبر فيها شيء من هذا (¬1). القول الراجح: الذي أميل إليه أن شركة الوجوه من العقود الجائزة، وأن مذهب الحنفية والحنابلة أقوى من مذهب المالكية والشافعية، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع أركان شركة الوجوه
الفصل الرابع أركان شركة الوجوه [م - 1339] الخلاف في أركان شركة الوجوه هو الخلاف نفسه في أركان الشركة على سبيل العموم، فالعلماء يتفقون على أن الصيغة ركن من أركان الشركة، ويختلفون فيما عدا ذلك. فالحنفية يرون الاقتصار على الصيغة. وزاد الجمهور على ذلك: العاقدين، والعمل، وأما رأس المال فإنه ليس ركنًا باعتبار أن رأس مالها ما تشتريه الشركاء في الذمة، والله أعلم. وقد سبق تحرير دليل الحنفية والجمهور في شركة الأموال فأغنى ذلك عن إعادته هنا، ولله الحمد.
الفصل الخامس في شروط شركة الوجوه
الفصل الخامس في شروط شركة الوجوه عندما نقول: شروط شركة الوجوه لا يدخل في ذلك الشروط العامة التي يجب توفرها في جميع الشركات؛ لأن مثل ذلك قد سبق بحثه في أول الكتاب، وقبل الدخول في أنواع الشركات، وإنما نقصد الشروط الخاصة في شركة الوجوه. والباحث في شروط شركة الوجوه سوف يقصر بحثه في مذهب الحنفية والحنابلة فقط؛ وذلك لأن المالكية والشافعية لا يرون مشروعية شركة الوجوه. [م - 1340] وقد اختلف الحنفية والحنابلة القائلون بجواز مثل هذه الشركة في شروط شركة الوجوه. فالحنابلة جعلوا شروط شركة الوجوه هي شروط شركة العنان. جاء في شرح منتهى الإرادات: "وتصرفهما أي شريكي الوجوه فيما يجوز، ويمتنع، ويجب، وشروط، وإقرار، وخصومة، وغيرها كتصرف شريكي عنان على ما سبق" (¬1). وقال ابن قدامة: "وحكمها في جواز ما يجوز لكل واحد منهما، أو يمنع منه حكم شركة العنان" (¬2). وقد سبق تحرير أحكام شركة العنان فأغنى ذلك عن إعادته هنا، ولله الحمد. ¬
وأما شروط شركة الوجوه عند الحنفية فتختلف عندهم بناء على تقسيمهم لشركة الوجوه إلى مفاوضة، وعنان، وهم قد انفردوا بهذا التقسيم كما أشرنا إليه سابقا. فالجمهور يرون شركة الأموال فقط هي التي تنقسم إلى مفاوضة وعنان، وأما الحنفية فهم يرون أن شركة الأموال والوجوه والأبدان تنقسم إلى مفاوضة وعنان، وشروط شركة الوجوه مفاوضة هي نفس شروط شركة المفاوضة في الأموال، وشروط شركة الوجوه عنانا هي نفس شروط شركة العنان في الأموال. جاء في بدائع الصنائع: "وأما الشركة بالوجوه فالعنان منها والمفاوضة في جميع ما يجب لهما، وما يجب عليهما، وما يجوز فيه فعل أحدهما على شريكه، وما لا يجوز بمنزلة شريك العنان والمفاوضة في الأموال" (¬1). فإذا كانت شركة الوجوه مفاوضة اشترط الحنفية فيها ما يلي: الأول: أن يكون كل واحد من الشريكين من أهل الكفالة. الثاني: أن يكون المشترى بينهما نصفين. الثالث: أن يكون الربح بينهما بالتساوي. الرابع: أن يتلفظا بلفظ المفاوضة أو يذكرا مقتضياتها (¬2). الخامس: التساوي في التصرف، فلا يجوز أن يكون أحدهما صبيا، والآخر ¬
بالغا؛ لأن الصبي ليس من أهل الكفالة، ولا يجوز أن يكون أحدهما مسلما، والآخر ذميًا؛ لأن الذمي يحق له التصرف في بعض الأعيان المباحة له، وهي محرمة في حق الشريك المسلم، كشراء الخمر، وبيعه. وإن كانت شركة الوجوه عنانا فلا يشترط فيها الحنفية ما يشترط في المفاوضة بل يشترط فيها: (1) أن يكون كل من الشريكين من أهل الوكالة، ولا يشترط فيها أهلية الكفالة. (2) الثانية: أن يتخلف فيها شرط من شروط المفاوضة، كأن يعدم فيها المساواة في الربح، أو المساواة في رأس المال، أو المساواة في التصرف، أو المساواة في الضمان، أو تعقد بلفظ العنان، أو تعقد على الإطلاق، أو تعقد على نوع محدد من السلع (¬1). هذه تقريبًا شروط شركة الوجوه عنانا، والله أعلم. ¬
الفصل السادس في تقاسم الأرباح والخسائر في شركة الوجوه
الفصل السادس في تقاسم الأرباح والخسائر في شركة الوجوه المبحث الأول في تقاسم الأرباح يثبت لشركة الوجوه ما يثبت لشركة العنان (¬1). شركة الوجه: الملك على ما شرطاه، والوضيعة على قدر الملك، والربح على ما شرطاه (¬2). [م - 1341] اختلف الحنفية والحنابلة في توزيع الأرباح في شركة الوجوه على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية والقاضي وابن عقيل من الحنابلة إلى القول بأن الربح بين الشريكين بقدر الضمان. والضمان بقدر الملك في المشترى، فإن شرطا أن المشترى بينهما نصفان فالربح كذلك، وإن شرطا الملك لأحدهما الثلث، وللآخر الثلثان فالربح كذلك. فإن شرط لأحد الشريكين في الربح أكثر مما يملك فهو شرط باطل لا أثر له، ¬
ونوقش هذا
ويظل الربح بينهما بنسبة ضمانهما؛ لأن الربح يستحق بالضمان، إذ الشركة وقعت عليه خاصة، إذ لا مال لهما فيشتركان على العمل، وإذا كان استحقاق الربح في شركة الوجوه بالضمان، فإن الضمان على قدر الملك في المشترى، فكان الربح الزائد عليه ربح ما لم يضمن فلا يصح اشتراطه (¬1). قال عثمان الزيلعي: "واستحقاق الربح في شركة الوجوه بالضمان، والضمان بقدر الملك في المشترى، فكان الربح الزائد عليه ربح ما لم يضمن، وهو غير جائز" (¬2). وقال السرخسي: "فإن أراد التفاوت في الربح فينبغي أن يشترط التفاوت في ملك المشترى، بأن يكون لأحدهما الثلث، وللآخر الثلثان، حتى يكون لكل واحد منهما الربح بقدر ملكه" (¬3). ونوقش هذا: أن شركة الوجوه منعقدة على عمل، ووكالة، وكفالة، فالعمل قائم على الشراء والبيع، وكل واحد من الشريكين وكيل عن الآخر فيهما، وكفيله بالثمن فلا يصح أن يقال: إن استحقاق الربح المشترك بينهما بالضمان وحده. القول الثاني: ذهب الحنابلة إلى أن الربح في شركة الوجوه يكون على حسب ما اتفقا عليه (¬4). ¬
وجه ذلك
وجه ذلك: أن الشركاء في شركة الوجوه شركاء في المال (السلع) والعمل فجاز تفاضلهما في الربح مع تساويهما في المال قياسًا على شركة العنان. ولأن سائر الشركات الربح فيها على ما يتفقان عليه، فكذلك هذه. ولأن الشريكين يتجران بيعًا وشراء، والتجارة عمل يتفاوت بين الناس بحسب الذكاء والخبرة، فلا مانع من أن يكون الربح بحسب ما اتفقا عليه. وهذا هو القول الراجح، والله أعلم.
المبحث الثاني في طريقة تحمل الخسائر في شركة الوجوه
المبحث الثاني في طريقة تحمل الخسائر في شركة الوجوه [م - 1342] لم يختلف الحنفية والحنابلة بأن الخسارة في شركة الوجوه على قدر الملك في المشترى كسائر الشركات، فعلى من يملك الثلثين ثلثا الخسارة، وعلى من يملك الثلث ثلثها؛ لأن الخسارة عبارة عن نقصان رأس المال، وهو مختص بملاكه، فوزع بينهما على قدر حصصهما. قال في بدائع الصنائع: "والوضيعة على قدر المالين متساويًا ومتفاضلًا؛ لأن الوضيعة اسم لجزء هالك من المال، فيتقدر بقدر المال" (¬1). وقال ابن قدامة: "الخسران في الشركة على كل واحد منهما بقدر ماله، فإن كان مالهما متساويا في القدر، فالخسران بينهما نصفين، وإن كان أثلاثًا، فالوضيعة أثلاثًا. لا نعلم في هذا خلافًا بين أهل العلم. وبه يقول أبو حنيفة، والشافعي وغيرهما. وفي شركة الوجوه تكون الوضيعة على قدر ملكيهما في المشترى، سواء كان الربح بينهما كذلك أو لم يكن، وسواء كانت الوضيعة لتلف، أو نقصان في الثمن عما اشتريا به، أو غير ذلك" (¬2). ¬
الباب الخامس في عقد المضاربة (القراض)
الباب الخامس في عقد المضاربة (القراض) توطئة في تعريف المضاربة تعريف المضاربة اصطلاحًا (¬1): تلتقي تعاريف الفقهاء للمضاربة في المعنى، وإن اختلفت في اللفظ، فهي ¬
تدور على أن: المضاربة عقد بين اثنين أحدهما يقدم مالًا، والآخر يتجر فيه على أن يكون للعامل جزء شائع من الربح (¬1). على خلاف بينهم في المال المدفوع هل يشترط أن يكون نقدًا، أو يجوز أن يكون رأس المال من العروض، وسوف يأتي إن شاء الله تعالى تحرير الخلاف عند الكلام على شروط المضاربة. ¬
الفصل الأول في توصيف عقد المضاربة
الفصل الأول في توصيف عقد المضاربة [م - 1343] اختلف الفقهاء في توصيف عقد المضاربة وإن لم يختلفوا في جوزاه، وإليك أقوالهم في توصيف هذا العقد. القول الأول: أن عقد المضاربة ليس من عقود الشركة، وهذا مذهب الحنفية وطائفة من أهل العلم (¬1). قال في المبسوط: "إن المضاربة قد فارقت الشركة في الاسم فينبغي أن تفارقها في الحكم" (¬2). وقد وضع الحنفية بابا مستقلًا للشركة، وبابا مستقلًا للمضاربة فلم يلحق الحنفية عقد المضاربة في عقود الشركات. وجه قول الحنفية: أن عقد المضاربة لم يقع فيه اشتراك في الأصل الذي هو رأس المال، حيث يختص به المالك، ولم يقع فيه اشتراك في العمل حيث يختص به العامل بخلاف الاشتراك الحاصل في شركة الأموال والأبدان والوجوه فإنه ناتج عن الاشتراك بالأصل. ¬
كما أن عقد المضاربة لا يصح إلا بتسليم المال إلى العامل، ولو شرط بقاء يد المالك على المال فسدت المضاربة ففرق بين هذا وبين الشركة فإنها تصح مع بقاء يد رب المال على ماله، والفرق أن المضاربة انعقدت على رأس مال من أحد الجانبين، وعلى العمل من الجانب الآخر، ولا يتحقق العمل إلا بعد خروجه من يد رب المال، فكان هذا شرطًا موافقا مقتضى العقد، بخلاف الشركة؛ لأنها انعقدت على العمل من الجانبين، فشرط زوال يد رب المال عن العمل يناقض مقتضى العقد (¬1). والقائلون بأنه ليس من عقود الشركة قد اختلفوا في توصيف العقد: فقيل: عقد المضاربة مستثنى من الإجارة بعوض مجهول. وقيل: مستثنى من السلف الذي يجر منفعة. وجاء في شرح ميارة: "وهو -يعني القراض- مستثنى من الإجارة المجهولة، ومن سلف جر منفعة" (¬2). وفي الفواكه الدواني: "واستثني القراض والمساقاة من الإجارة المجهولة" (¬3). ويرى آخرون أن عقد المضاربة من باب بيع المنافع بجزء من الربح، ذكر ذلك القرافي من المالكية (¬4). وهذا بعيد جدًا خاصة إذا كان رأس المال من النقود فإنه لا يتصور بيع منافعها ¬
القول الثاني
فقط؛ لأن النقود يأخذها المضارب ويشتري بها، ثم يرد مثلها إن ربح، أو أنقص منها إن خسر. وقال آخرون: إن عقد المضاربة في ابتدائه وكالة، وفي انتهائه إما شركة، وإما جعالة (¬1). وسيأتي إن شاء الله تعالى مناقشة هذه الأقوال في المبحث التالي، عند الكلام على عقد المضاربة هل هو جار على وفق القياس، أو مخالف له، والله أعلم. القول الثاني: ذهب بعض المالكية والحنابلة إلى أن عقد المضاربة من عقود الشركات (¬2). جاء في البهجة في شرح التحفة: "شركة في مال: وتحتها ثلاثة أقسام، شركة مضاربة ... وشركة مفاوضة، وهي أن يطلق كل منهما التصرف لصاحبه في المال الذي أخرجاه ... أما إن لم يطلق كل منهما التصرف للآخر، بل شرط أن لا يتصرف واحد منهما إلا بحضرة صاحبه وموافقته، فهي شركة عنان ... وهذا هو القسم الثالث من أقسام شركة المال" (¬3). فاعتبر عقد المضاربة قسما من شركة الأموال. وجاء في الشرح الكبير للدردير: "الشركة ستة أقسام: مفاوضة، وعنان، وجبر، وعمل، وذمم، ومضاربة، وهو القراض" (¬4). ¬
وهذا هو الصحيح، والشركة متحققة بين رب المال والعامل باعتبار أن الاشتراك حاصل في الربح، وهو كاف في اعتبار عقد المضاربة من عقود المشاركات. جاء في الجوهرة النيرة: "المضاربة عقد على الشركة بمال من أحد الشريكين، وعمل من الآخر. مراده الشركة في الربح" (¬1). ويقول ابن تيمية: "والتحقيق أن هذه المعاملات من باب المشاركات ... هذا يشارك بنفع بدنه، وهذا بنفع ماله، وما قسم الله من ربح كان بينهما كشريكي العنان ... والمساقاة والمزارعة والمضاربة هما يشتركان في جنس المقصود، وهو الربح، مستويان في المغنم والمغرم، إن أخذ هذا أخذ هذا، وإن حرم هذا حرم هذا، ولهذا وجب أن يكون المشروط لأحدهما جزءًا مشاعًا من الربح من جنس المشروط للآخر، وأنه لا يجوز أن يكون مقدرا معلوما، فعلم أنها من باب المشاركة، كما في شركة العنان، فإنهما يشتركان في الربح، ولو شرط مال مقدر من الربح أو غيره لم يجز" (¬2). ومع اختلافهم في توصيف العقد فلم يختلفوا في جوازه كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى عند الكلام على حكم المضاربة. ¬
الفصل الثاني المضاربة على وفق القياس
الفصل الثاني المضاربة على وفق القياس [م - 1344] اختلف العلماء هل جواز عقد المضاربة على وفق القياس؟ على قولين: القول الأول: ذهب أكثر العلماء إلى أن عقد المضارية على خلاف القياس، خارج عن الأصل، ومستثنى من المنع فلا يقاس عليه غيره. قال الكاساني عن عقد المضاربة: "فالقياس أنه لا يجوز؛ لأنه استئجار بأجر مجهول، بل بأجر معدوم، ولعمل مجهول، لكنا تركنا القياس بالكتاب العزيز، والسنة، والإجماع ... " (¬1)، ثم ساق الأدلة بحسب ما يراه. وجاء في شرح ميارة: "وهو -يعني القراض- مستثنى من الإجارة المجهولة، ومن سلف جر منفعة" (¬2). وفي الفواكه الدواني: "واستثني القراض والمساقاة من الإجارة المجهولة" (¬3). وفي بداية المجتهد: "ولا خلاف بين المسلمين في جواز القراض ... وأن هذا مستثنى من الإجارة المجهولة، وأن الرخصة في ذلك إنما هو لموضع الرفق بالناس" (¬4). ¬
ونوقش هذا القول
ويقول ابن عبد البر: "القراض عند أهل المدينة، هو المضاربة عند أهل العراق، وهو باب منفرد بحكمه عند الجميع، خارج عن الإجارات كما خرجت العرايا عن المزابنة، والحوالة عن الدين بالدين، والمساقاة عن بيع ما لم يخلق، وصار كل باب منها نوعًا منفردا بحكمه أصلًا في نفسه" (¬1). ويقول محمَّد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان: "المضاربة المعروفة في اصطلاح بعض الفقهاء بالقراض فإن ظاهر النصوص العامة منعها؛ لأن الربح المجعول للعامل جزء منه لا يدرى، هل يحصل منه قليل أو كثير، أو لا يحصل شيء؟ وهذا داخل في عموم الغرر، ولم يثبت نص صحيح يجب الرجوع إليه من كتاب، ولا سنة بجواز المضاربة، والحديث الوارد فيها ضعيف لا يحتج به، إلا أن الصحابة أجمعوا على جواز المضاربة، وكذلك من بعدهم فقدم هذا الإجماع على ظاهر تلك النصوص الدالة على منع الغرر لعلمنا بأنهم استندوا في إجماعهم إلى شيء علموه منه - صلى الله عليه وسلم - يدل على إباحة ذلك، والله أعلم" (¬2). ونوقش هذا القول: أما القول بأن عقد المضاربة مستثنى من الإجارة بعوض مجهول فهذا القول ضعيف؛ لأن هناك فرقًا بين عقد الإجارة وعقد المضاربة: فعقد الإجارة عقد لازم، وعقد المضاربة عقد جائز. وعقد الإجارة عقد مؤقت، وعقد المضاربة يجوز الدخول فيه بلا توقيت. وعقد الإجارة يستحق العامل فيه الأجرة مطلقًا. وعقد المضاربة قد يربح العامل، وقد لا يربح، ويخسر جهده ووقته. ¬
وأما القول بأن عقد المضاربة مستثنى من السلف الذي يجر منفعة، فقد رده بعض المالكية وذلك أن كل سلف مضمون بخلاف المال في عقد المضاربة فإنه ليس بمضمون (¬1). وقيل: إن الإجارة بعوض مجهول جائز في باب الإجارة، ولا يجوز في البيع كما هو مذهب أهل الظاهر، وطائفة من السلف، وبناء عليه يجوز أن يعطي الرجل دابته لمن يسقي عليها، أو يحتطب عليها بنصف ما يعود عليه، ومنه جواز المساقاة فإنه إجارة بعوض مجهول، ومنه إجارة الظئر وما يأخذه الصبي من لبنها مع اختلاف أحوال الصبيان في الرضاع، واختلاف ألبان النساء (¬2). وهذه المسائل قد سبق بحثها، وبعضها قد يسلم لهم إنها من باب الإجارة كالظئر، وبعضها لا يسلم أنه من عقود الإجارة، كالمساقاة، وإعطاء الدابة يعض كسبها، فإن هذين أشبه بعقود المشاركة. ويرى آخرون أن عقد المضاربة من باب بيع المنافع بجزء من الربح، ذكر ذلك القرافي من المالكية (¬3). وهذا بعيد جدًا خاصة إذا كان رأس المال من النقود فإنه لا يتصور بيع منافعها فقط؛ لأن النقود يأخذها المضارب ويشتري بها، ثم يرد مثلها إن ربح، أو أنقص منها إن خسر. وقال آخرون: إن عقد المضاربة في ابتدائه وكالة، وفي انتهائه إما شركة، وإما جعالة (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب ابن تيمية إلى أن عقد المضاربة والمساقاة جاريان على وفق القياس، والربح المستحق ليس أجرة للعامل، وإنما كسب استحقه بعقد الشركة بينه وبين رب المال؛ إذ لو كان أجرة لاستحق أجرة المثل مطلقًا في حال الربح وفي حال الخسارة، فلما كان نصيبه متوقفًا على وجود أرباح دل على أن هذا من عقود الشركات، وليس من عقود الإجارة. يقول ابن تيمية: "الذين قالوا: المضاربة والمساقاة والمزارعة على خلاف القياس ظنوا أن هذه العقود من جنس الإجارة؛ لأنها عمل بعوض، والإجارة يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض، فلما رأوا العمل في هذه العقود غير معلوم، والربح فيها غير معلوم، قالوا: تخالف القياس، وهذا من غلطهم، فإن هذه العقود من جنس المشاركات لا من جنس المعاوضات الخاصة التي يشترط فيها العلم بالعوضين والمشاركات جنس غير جنس المعاوضة وإن قيل: إن فيها شوب المعاوضة" (¬1). وهذا القول هو الصواب، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في حكم عقد المضاربة
الفصل الثالث في حكم عقد المضاربة [م - 1345] استدل الفقهاء على جواز عقد المضاربة بأدلة كثيرة، منها: الدليل الأول: من أقوى الأدلة على جواز المضاربة ما نقل من إجماع للعلماء على جوازه، فالعلماء الذين لهم عناية في نقل الإجماع قد حكوا الإجماع على جواز عقد المضاربة في الجملة، ولم يختلفوا في ذلك: وقد حكاه من الحنفية، السرخسي، والكاساني، والزيلعي. يقول السرخسي: "جواز هذا العقد عرف بالسنة والإجماع" (¬1). ويقول الكاساني: "القياس أنه لا يجوز؛ لأنه استئجار بأجر مجهول، ولعمل مجهول، لكنا تركنا القياس بالكتاب العزيز، والسنة، والإجماع" (¬2). وحكى الإجماع على جواز المضاربة الزيلعي في تبيين الحقائق (¬3). ومن المالكية: ابن عبد البر وابن رشد، والباجي، والحطاب. يقول ابن عبد البر: "أصل هذا الباب إجماع العلماء على أن المضاربة سنة معمول بها، مسنونة قائمة" (¬4). ¬
ويقول ابن رشد: "ولا خلاف بين المسلمين في جواز القراض". وقال الباجي في المنتقى: "وأما القراض فهو جائز لا خلاف فيه في الجملة" (¬1). كما حكى الإجماع من المالكية الحطاب في مواهب الجليل (¬2). وحكى الإجماع جمع من الشافعية، منهم ابن المنذر، والشربيني، وغيرهم (¬3). ويقول ابن قدامة: "وأجمع أهل العلم على جواز المضاربة في الجملة" (¬4). ويقول ابن القيم: "وقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - المضاربة على ما كانت عليه قبل الإِسلام، فضارب أصحابه في حياته، وبعد موته، وأجمعت عليها الأمة" (¬5). وقال ابن حزم: "القراض كان في الجاهلية ... فأقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك في الإِسلام، وعمل به المسلمون عملًا متيقنا لا خلاف فيه، ولو وجد فيه خلاف ما التفت؛ لأنه نقل كافة بعد كافة إلى زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمله بذلك" (¬6). وقد قدمت الاحتجاج بالإجماع في الاستدلال على جواز المضاربة على غيره من الأدلة؛ لأنهم لم يختلفوا في الاحتجاج به على هذا العقد، وإن كان ¬
الدليل الثاني
العلماء قد اختلفوا في وجود دليل من الكتاب أو من السنة المرفوعة على جواز عقد المضاربة. قال ابن المنذر: "لم نجد للقراض في كتاب الله عز وجل ذكرًا، ولا في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووجدنا أهل العلم قد أجمعوا على إجازة القراض بالدنانير والدراهم ... " (¬1). وقال ابن حزم في مراتب الإجماع: "كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في القرآن والسنة نعلمه -ولله الحمد- حاشا القراض، فما وجدنا له أصلًا فيهما البتة، ولكنه إجماع صحيح مجرد ... ". ولا يتوقف حل هذه المعاملة على وجود دليل إيجابي في عصر النبوة، بل الأصل جواز هذه المعاملة وغيرها من المعاملات المالية ما لم يترتب على القول بالجواز الوقوع في محذور شرعي، ولا محذور في حل هذه المعاملة، ومع ذلك فإن هناك من فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة من استدل ببعض الآيات القرآنية، والسنة المرفوعة على جواز عقود المضاربة. الدليل الثاني: من الكتاب. احتج بعض الفقهاء على جواز المضاربة ببعض الآيات القرآنية، كقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] (¬2). والمضارب يضرب في الأرض يبتغي من فضل الله. ¬
ويناقش
ويناقش: بأن هذه الآية ليست نصا في المضاربة، فالتاجر الذي يضرب في الأرض مبتغيا فضل الله ورزقه لا يلزم أن يكون مضاربًا عاملًا في مال غيره، والله أعلم. الدليل الثالث: (ح - 898) ما رواه ابن ماجه من طريق نصر بن القاسم، عن عبد الرحمن ابن داود، عن صالح بن صهيب، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاث فيهن البركة البيع إلى أجل، والمقارضة، وأخلاط البر بالشعير للبيت لا للبيع (¬1). [قال البخاري: موضوع] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: احتج بعض الفقهاء بما اشتهر في السيرة النبوية من كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد سافر إلى الشام في تجارة السيدة خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - مضاربة في الجاهلية، وحكى ذلك وأقره بعدها فدل على جوازها جاهلية وإسلامًا (¬1). ونوقش هذا: بأن النصوص ليست صريحة بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان مضاربًا في مال خديجة - رضي الله عنها -، فربما كان وكيلًا عنها، والله أعلم. الدليل الخامس: (ح -899) ما رواه أبو يعلى في مسنده كما في المطالب العالية: قال: حدثنا أبو الحكم منتجع بن مصعب (¬2)، ثنا يونس بن أرقم، ثنا أبو الجارود، عن حبيب ¬
الدليل السادس
ابن يسار، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: كان العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - إذا دفع مالًا مضاربة اشترط على صاحبه ألا يسير برًا، ولا بحرًا، ولا ينزل به واديًا، ولا يشتري به ذات كبد رطبة، فإذا فعل ذلك فهو ضامن فرفع شرطه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجازه (¬1). [ضعيف جدًا] (¬2). الدليل السادس: (ث -163) ما رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم، عن أبيه، خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق، فلما قفلا، مرا على أبى موسى الأشعرى، وهو أمير على البصرة، فرحب بهما وسهل، ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى، ها هنا مال من ¬
وجه الاستدلال من الأثر
مال الله، أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكما، فتبتاعان به متاعًا من متاع العراق، ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين، ويكون الربح لكما، فقالا: وددنا ذلك، ففعل، وكتب إلى عمر بن الخطاب: أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا فأربحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر، قال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين! فأسلفكما! أديا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله، فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا! لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه، فقال عمر: أدياه، فسكت عبد الله، وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضًا. فقال: قد جعلته قراضًا، فأخذ عمر رأس المال، ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله، ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال (¬1). [صحيح] (¬2). وجه الاستدلال من الأثر: قوله في الأثر: (لو جعلته قراضًا) دليل على أن القراض كان معلومًا عند الصحابة، يتعاملون به، فدل على مشروعيته عندهم. الدليل السابع: (ث -164) ما رواه الدارقطني من طريق حيوة وابن لهيعة قالا: أخبرنا ¬
الدليل الثامن
أبو الأسود، عن عروة بن الزبير وغيره، أن حكيم بن حزام صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالًا مقارضة يضرب له به، أن لا تجعل مالي في كبد رطبة، ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به في بطن مسيل، فإن فعلت شيئًا من ذلك فقد ضمنت مالي. [صحيح] (¬1). الدليل الثامن: (ث -165) ما رواه مالك عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده أن عثمان بن عفان أعطاه مالًا قراضًا يعمل فيه على أن الربح بينهما (¬2). [إسناده فيه لين إن كان محفوظًا في إسناده زيادة جد العلاء بن عبد الرحمن واسمه يعقوب المدني وإلا فهو صحيح] (¬3). ¬
الدليل التاسع
الدليل التاسع: (ث -166) ما رواه عبد الرزاق، قال: قال القيس بن الربيع، عن أبي الحصين، عن الشعبي، عن علي في المضاربة: الوضيعة على المال والربح على ما اصطلحوا عليه (¬1). [ضعيف] (¬2). وهناك آثار أخرى تركتها اقتصارا واختصارا، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع في أركان عقد المضاربة
الفصل الرابع في أركان عقد المضاربة الخلاف في أركان المضاربة يرجع إلى الخلاف في أركان العقد: [م - 1346] وقد اتفق العلماء على أن الإيجاب والقبول ركن من أركان عقد المضاربة، ويعبر عنهما بالصيغة على خلاف بينهم في جواز الصيغة الفعلية. واختلفوا في غيرها: فاقتصر الحنفية على أن الركن: هو الإيجاب والقبول وحده، وطردوا ذلك في سائر العقود (¬1). جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "ركن المضاربة: الإيجاب من طرف، والقبول من طرف آخر كركن العقود الأخر" (¬2). وزاد الجمهور: العاقدان، ورأس مال المضاربة، وعمل المضارب، والربح (¬3). جاء في الفواكه الدواني: "وأركانه العاقدان ... والمال، والصيغة، والجزء المجعول للعامل" (¬4). ¬
وسبب الاختلاف: أن الحنفية يرون أن الركن: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءًا داخلًا في حقيقته، وهذا خاص بالإيجاب والقبول، أما العاقدان والمعقود عليه فهي من لوازم العقد، وليست جزءًا من حقيقة العقد، وإن كان يتوقف عليها وجوده. بينما الجمهور يرون أن الركن: ما توقف عليه وجود الشيء وتصوره عقلًا، سواء أكان جزءا من حقيقته أم لم يكن، ووجود العقد يتوقف على العاقدين والمعقود عليه، وإن لم يكن هؤلاء جزءا من حقيقته. ومذهب الحنفية أجود، وأدق، والجمهور لا يطردون في تحديد الأركان، فاللوازم تارة يعتبرونها من الأركان، وتارة لا يدخلونها، فهم يجعلون الفاعل ركنا في مثل عقد البيع والنكاح، ولا يجعلونه ركنا في العبادات كالصلاة والحج، وإن كان لا يتصور قيام الحج والصلاة بدون فاعل. قال في المصباح المنير: "والفرق عسر ... " (¬1). واعترض بعض الفقهاء على اعتبار العمل والربح من الأركان لعدم وجودهما حال العقد، وإنما يترتب على شركة المضاربة بعد وجودها، وما وجد بعد قيام الشركة فجعله من الأركان فيه نظر، فيمكن أن يلحق ذلك بالشروط بدلًا من الأركان (¬2). ¬
وأجيب: بأنهما جعلا ركنين باعتبار المآل، أو على تقدير مضاف: أي (ذكر عمل وربح) وذكرهما يتوقف عليه صحة العقد. ويمكن للخروج من الخلاف بين الجمهور والحنفية أن نسمي ذلك مقومات عقد المضاربة فنجمع بين القولين، والله أعلم.
المبحث الأول في أحكام الصيغة
المبحث الأول في أحكام الصيغة الأصل في العقود من المعاملات المالية أنها تنعقد يكل ما دل على مقصودها، من قول، أو فعل (¬1). يشترط في صيغة عقد المضاربة ما يشترط في صيغ عامة العقود الأخرى. وقد ذكرت في الباب الثالث من عقد البيع أحكام الصيغة (الإيجاب والقبول)، من ذلك: الخلاف في تحديد الإيجاب والقبول. وانقسامه إلى صريح وكناية، وقولية وفعلية، وأحكامهما. وتكلمت عن الصيغة القولية للإيجاب والقبول في صيغة الماضي، والمضارع، والأمر، وفي صيغة الإيجاب والقبول بالجملة الاسمية، وفي القبول بكلمة (نعم). وتكلمت عن الصيغة الفعلية كالإيجاب والقبول بالمعاطاة، والخلاف الفقهي في اعتبارها، وفي الإيجاب والقبول عن طريق الإشارة، والكتابة، وعن صيغ الإيجاب والقبول بوسائل الاتصال الحديثة، وفي صدور الإيجاب والقبول من طرف واحد، وفي الإيجاب والقبول الصوري كبيع التلجئة، وفي الهزل في البيع. وتعرضت لشروط الإيجاب والقبول، ولرجوع الموجب، وهل يشترط تقدم الإيجاب على القبول، وفي مبطلات الإيجاب. ¬
وبينت مواضع الاتفاق ومواضع الخلاف في كل هذه المسائل، مع بيان الراجح فيها، وما بينته في عقد البيع يجري على عقد المضاربة، ويغني عن تكراره هنا، والحمد لله وحده.
المبحث الثاني انعقاد المضاربة بالمعاطاة
المبحث الثاني انعقاد المضاربة بالمعاطاة الأصل في العقود من المعاملات المالية أنها تنعقد بكل ما دل على مقصودها، من قول، أو فعل (¬1). وجاء في الموسوعة الكويتية: تقوم دلالة الفعل مقام دلالة اللفظ (¬2). [م - 1347] هل يشترط اللفظ في صيغة عقد المضاربة، أو تنعقد بكل ما يدل عليها من قول أو فعل؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: يشترط أن يكون الإيجاب والقبول باللفظ الدال عليه، وهو مذهب الحنفية، وبعض المالكية، والأصح في مذهب الشافعية (¬3). قال في العناية: "وركنها استعمال ألفاظ تدل على ذلك، مثل دفعت إليك هذا المال مضاربة، أو مقارضة، أو معاملة، أو خذ هذا المال أو اعمل به على أن ما رزق الله فكذا" (¬4). قال الكاساني: "وأما ركن العقد فالإيجاب والقبول وذلك بألفاظ تدل عليه، ¬
القول الثاني
فالإيجاب: هو لفظ المضاربة، والمقارضة، والمعاملة، وما يؤدي معاني هذه الألفاظ، بأن يقول رب المال: خذ هذا المال مضاربة على أن ما رزق الله عز وجل، أو أطعم الله تعالى منه من ربح فهو بيننا ... ويقول المضارب: أخذت، أو رضيت، أو قبلت، ونحو ذلك، فيتم الركن بينهما" (¬1). وجاء في حاشية الدسوقي: "قوله: (توكيل) هذا يقتضي أنه لا بد في القراض من لفظ، ولا تكفي في انعقاده المعطاة؛ لأن التوكيل لا بد فيه من لفظ، ويفيد ذلك أيضًا قوله: بجزء؛ لأن جعل الجزء للعامل إنما يكون باللفظ" (¬2). وجاء في شرح الوجيز: "ولو قال: خذ هذه الدراهم واتجر عليها، على أن الربح بيننا كذا ... قطع شيخي والطبقة العظمى من نقلة المذهب أنه لا بد من القبول بخلاف الجعالة، والوكالة، فإن القراض عقد معاوضة يختص بمعين فلا يشبه الوكالة التي هي إذن مجرد" (¬3). القول الثاني: تنعقد بقول أحدهما، ورضا الآخر بها، ولو لم يكن هناك لفظ، إذا توفرت القرينة على ذلك. وهذا اختيار بعض الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وهذه صورة من صور المعاطاة؛ لأن المعاطاة إما أن تكون من الجانبين، ¬
القول الثالث
وهذه معاطاة بالاتفاق، وأما أن يكون اللفظ من أحدهما، والمعاطاة من الآخر، فهذه معاطاة على الصحيح، وقد تكلمنا على صور المعاطاة في عقد البيع. جاء في شرح منتهى الإرادات: " (ولا يعتبر) لمضاربة (قبض) عامل (رأس المال) ... (ولا القول): أي قوله: قبلت ونحوه (فتكفي مباشرته) أي العامل اللعمل) ويكون قبولًا لها كالوكالة" (¬1). وفي منار السبيل: "ولا يعتبر قبضه بالمجلس فتصح، وإن كان بيد ربه ... ولا القبول، فتكفي مباشرته للعمل، ويكون قبولًا لها كالوكالة" (¬2). وقال السيوطي: "ولا بد في القراض من الإيجاب والقبول. وقيل: لو قال: خذ هذه الدراهم، واتجر فيها على أن الربح بيننا، فأخذ، استغنى عن القبول" (¬3). وفي روضة الطالبين: "ولو قال: خذ هذا الألف، واتجر فيه على أن الربح بيننا نصفين، فقطع القاضي حسين والبغوي بأنه قراض، ولا يفتقر إلى القبول" (¬4). القول الثالث: تنعقد بالمعاطاة قياسًا على البيع، وهذا مذهب المالكية. ¬
الراجح من الخلاف
جاء في حاشية العدوي على الخرشي: "ظاهره أنه لا يشترط لفظ، بل تكفي المعاطاة" (¬1). وقال في حاشية الدسوقي: "مقتضى قول ابن الحاجب: القراض إجارة على التجر في مال بجزء من ربحه، أنه يكفي فيه المعاطاة؛ لأن الإجارة يكفي فيها المعاطاة كالبيع إذا وجدت القرينة" (¬2). الراجح من الخلاف: إذا كان البيع يتصور فيه المعاطاة من الجانبين باعتبار أن السلعة قد تكون قيمتها معلومة عند العاقدين، أو تكون القيمة مكتوبة على السلعة فإني لا أتصور كيف تكون المضاربة بالمعاطاة من الجانبين خاصة أنه يشترط في المضاربة أن يذكر فيها نصيب العامل من الربح، وهذا يتوقف على اللفظ، أما القبول فيتصور أن يكون بالرضا وذلك بأن يباشر العمل إذا أعجبه العرض من رب المال ولو بدون لفظ منه، اللهم إلا أن يكون عقد المضاربة قد حرر مكتوبًا، وتضمن نصيب العامل، ويكون معروضا على العامل، فإذا قرأه، وباشر العمل، فهنا يتصور أن يكون عقد المضاربة بالمعاطاة من الجانبين، دون حاجة إلى لفظ، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في توقيت الإيجاب والقبول في عقد المضاربة
المبحث الثالث في توقيت الإيجاب والقبول في عقد المضاربة توقيت المضاربة توقيت في التوكيل، والوكالة تقبل التخصيص في الوقت، والعمل جميعًا (¬1). كل تصرف يتوقت بنوع من المتاع يجوز توقيته بالزمان كالوكالة (¬2). التوقيت في المضاربة إنما هو للشراء دون البيع. [م - 1348] إذا كان الإيجاب والقبول موقوتا بمدة محددة، كأن يقول رب المال: ضاربتك على هذه الدراهم لمدة عام، أو قال: خذ هذا المال وضارب به في فصل الصيف أو الشتاء من هذا العام، فهل تنعقد المضاربة؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح التوقيت مطلقا، وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة (¬3). قال الكاساني: "ولو قال: خذ هذا المال مضاربة إلى سنة جازت المضاربة عندنا ... " (¬4). ¬
دليل من قال بالصحة
دليل من قال بالصحة: أن المضاربة تَصَرُّف يتقيد بنوع من المال فجاز تقييده بالزمان كالوكالة. ولأن عقد المضاربة عقد جائز له أن يطلب إنهاءه في أي وقت، فإذا شرط إنهاءه في وقت معين فقد شرط ما يملكه بمقتضى العقد، فيكون صحيحًا. وقد صحح الشافعية أن يقول رب المال: إذا انتهت السنة فلا تشتر شيئًا، والبيع مثل الشراء. القول الثاني: لا يصح توقيت عقد المضاربة مطلقًا، وهذا مذهب المالكية، ورواية في مذهب الحنابلة (¬1). تعليل من قال: لا يصح التوقيت: التعليل الأول: عقد القراض لا يحتاج إلى توقيته بمدة؛ لأن العاقدين قادران على فسخ القراض متى أرادا، ولذلك لو قال: قارضتك ما شئت جاز؛ لأن ذلك شأن العقود الجائزة (¬2). ويناقش: هذا التعليل تعليل صحيح، وهو يجعل مسألة الخلاف في التوقيت لا ثمرة لها من الناحية العملية إلا أن يقال: إن العقد الجائز إذا حدد له مدة معينة يكون ¬
التعليل الثاني
لازمًا في تلك المدة، فلو قيل بهذا أصبح الخلاف في حكم التوقيت له ثمرة عملية، والله أعلم. التعليل الثاني: أن توقيت المضاربة بمدة محددة فيه حجر وتضييق على حرية العامل في العمل، فالمضاربة إنما عقدت من أجل الربح، والربح غيب ليس له وقت معلوم فقد لا يربح في تلك المدة المحددة ويربح في غيرها، فتقييدها بمدة يخل بمقصود العقد (¬1). ويناقش: هذا الكلام صحيح، إلا أنه لا يفسد القول بالتوقيت، فلو أن أحد العاقدين فسخ العقد في تلك المدة بدون توقيت، وقبل وجود الربح كان له ذلك، فاشتراط ما يباح لأحد العاقدين بدون شرط لا يفسد العقد. التعليل الثالث: أن المضاربة عقد معاوضة يصح مطلقًا، فبطل مؤجلًا كالبيع والنكاح. التعليل الرابع: علل المالكية عدم صحة التوقيت بأن عقد المضاربة عقد جائز، ومعنى ذلك أن لكل واحد من المتعاقدين فسخه متى شاء، فإذا توقت بزمن أصبح لازما في هذه المدة؛ لأن التوقيت يمنع الفسخ في هذه المدة (¬2). ويناقش: لا يوجد مانع من تحويل العقد الجائز إلى عقد لازم بالاتفاق، كما أن العقد ¬
القول الثالث
اللازم قد يتحول إلى جائز بالشرط كاشتراط الخيار في البيع مدة معلومة، ولتكن هذه ثمرة من ثمرات تحديد العقد بمدة معينة بحيث يطمئن فيها العامل إلى أن رب المال لن يفسخ العقد، وهذا يعطيه حرية أكثر في الدخول في بعض الصفقات إلا أن ظاهر كلام الفقهاء لا يرون أن العقد الجائز يتحول إلى عقد لازم إذا وقت بمدة معينة، فالذين قالوا بجواز التوقيت، قالوا: بأن المضاربة جائزة وغير لازمة، وعليه فإن لكل من المضارب ورب المال عندهم أن يطلب إنهاءها في أي وقت شاء، سواء أقتت أم لا، غاية ما في التوقيت أن العقد ينتهي حكمًا بانتهاء الوقت المتفق عليه، ولا يجوز للعامل الشراء بعد ذلك، ولكن له البيع حتى تنض. القول الثالث: يصح توقيت عقد المضاربة في المنع من الشراء دون البيع، وهذا مذهب الشافعية (¬1). واستدل الشافعية على جواز التوقيت في المنع من الشراء دون البيع بأن رب المال يملك المنع من الشراء إذا شاء، فإذا شرط المنع منه فقد شرط ما يملكه بمقتضى العقد، فلم يمنع صحته بخلاف البيع فلا يملك منعه؛ لأن حصول الربح يتوقف على البيع، ولأن المال إذا لم يكن ناضًا فلا بد من البيع، فلا يصح التوقيت، والله أعلم. الراجح: لا أرى مانعًا من القول بجواز التوقيت إلا أنه لا ثمرة لهذا الخلاف إن لم يكن القول بالتوقيت يعني لزوم العقد في هذه المدة المتفق عليها، ومع ترجيح ¬
القول بالتوقيت فإن المضارب له الحق في البيع ولو بعد هذه المدة إذا كان المال غير ناض، فيعطى العامل مهلة مناسبة لتنضيضه؛ لأنه لا يتميز رأس المال من الربح إلا بذلك، والله أعلم.
المبحث الرابع في تعليق صيغة عقد المضاربة
المبحث الرابع في تعليق صيغة عقد المضاربة قال ابن القيم: تعليق العقود، والفسوخ، والتبوعات، والالتزامات، وغيرها بالشروط أمر قد تدعو إليه الضرورة، أو الحاجة، أو المصلحة، فلا يستغني عنه المكلف (¬1). وقال السعدي: التعليق للعقود كلها بالشروط المعلومة غير المجهولة جائز لا محذور فيه (¬2). [م - 1349] سبق لنا تعريف التعليق لغة واصطلاحا في عقد البيع، وقد اختلف الفقهاء في تعليق الإيجاب في عقد المضاربة، أو إضافته إلى زمن مستقبل فالأول: كأن يقول: ضاربتك إن رضي زيد، أو قدم عمرو، أو يقول: ضاربتك إذا قدم مالي. والثاني كأن يقول: ضاربتك إذا دخل وقت الصيف أو الخريف ونحو ذلك. فقيل: لا يصح التعليق، وهو مذهب الجمهور (¬3). قال ابن عابدين: "لم أر من صرح بصحة التعليق في المضاربة" (¬4). ¬
وقال الدردير في الشرح الكبير: "أو قَراضُ أجلٍ ... أو إذا جاء الوقت الفلاني فأعمل به ففاسد" (¬1). وقال الشيرازي: "ولا يجوز أن يعلق العقد -يعني عقد القراض- على شرط مستقبل؛ لأنه عقد يبطل بالجهالة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع والإجارة" (¬2). وقيل: يصح التعليق، وهو مذهب الحنابلة (¬3). جاء في كشاف القناع: "ويصح تعليقها: أي المضاربة، ولو على شرط مستقبل" (¬4). وقد بحثت تعليق العقود في عقد البيع، ثم أعدته في عقد الإجارة، وأدلة هذه المسألة هي الأدلة عينها في العقدين السابقين، فارجع إليهما إن شئت، ورجحت جواز تعليق العقود كلها، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس في شروط عقد المضاربة
الفصل الخامس في شروط عقد المضاربة المبحث الأول الشروط الخاصة برأس المال الشرط الأول في اشتراط أن يكون رأس المال من النقود [م - 1350] أجمع الفقهاء على صحة المضاربة بالدراهم والدنانير. قال ابن المنذر: "وجدنا أهل العلم قد أجمعوا على إجازة القراض بالدنانير والدراهم ... " (¬1). وقال ابن حزم: "والقراض إنما هو بالدنانير والدراهم، ولا يجوز بغير ذلك ... لأن هذا مجمع عليه، وما عداه مختلف فيه" (¬2). وقال أيضًا: "واتفقوا أن القراض بالدنانير والدراهم من الذهب والفضة المسكوكة الجارية في ذلك البلد جائز" (¬3). وقال ابن رشد: "أجمعوا على أنه جائز بالدنانير والدراهم، واختلفوا في العروض" (¬4). ¬
وقد حلت العملة الورقية اليوم محل الدنانير والدراهم باعتبارها معيارًا لما يتعامل به الناس في كونها قيم الأموال والمتلفات، وأثمان المبيعات، وتلقى قبولًا عامًا كوسيط للتبادل، فأخذت حكم النقدين من كل وجه من حيث وجوب الزكاة فيها، وجعلها رأس مال في عقد السلم، وجريان الربا فيها إلى غير ذلك من الأحكام؛ لأن حقيقة النقد: هو كل شيء يجري اعتباره في العرف والعادة، ويلقى قبولًا عامًا كوسيط للتبادل، كما قال ابن تيمية رحمه الله: "وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي، ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارًا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها، ولهذا كانت أثمانا بخلاف سائر الأموال، فإن المقصود بها الانتفاع بها بنفسها، فلهذا كانت مقدرة بالأمور الطبعية أو الشرعية، والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض، لا بمادتها، ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت" (¬1). وجاء في المدونة "لو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة" (¬2). فما جاز بالدنانير والدراهم جاز بالورق النقدي بجامع الثمنية في كل منهما، والله أعلم (¬3). ¬
الفرع الأول في المضاربة بالعروض
الفرع الأول في المضاربة بالعروض كل ما تعورف تداوله من أعيان ومنافع، وحقوق، يعتبر محلًا صالحًا للتعاقد عليه ككل مال متقوم (¬1). كل شيء يصلح محلًا للالتزام، يصلح أن يكون حصة في الشركة، سواء أكان عقارًا أم منقولًا، ماديًا أم معنويًا (¬2). [م - 1351] هل يجوز أن يكون رأس مال المضاربة من العروض؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: لا يصح أن يكون رأس مال المضاربة من العروض مطلقًا، سواء كان رأس المال هو عين العرض، أو كان رأس المال قيمة العرضن، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). ¬
دليل القائلين بعدم الصحة
جاء في المدونة: "أرأيت القراض بالحنطة والشعير، أيجوز في قول مالك؟ قال: لا ... " (¬1). وقال الماوردي: "لا يصح القراض إلا بالدراهم والدنانير دون العروض والسلع، وبه قال جمهور الفقهاء" (¬2). وجاء في الروض المربع: "ويشترط لشركة العنان والمضاربة أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين؛ لأنهما قيم الأموال، وأثمان المبيعات فلا تصح بعروض ... " (¬3). دليل القائلين بعدم الصحة: الدليل الأول: أن القراض مشروط فيه رد رأس المال لربه، واقتسام الربح بين الطرفين، وعقده على العروض يمنع من ذلك، سواء أكانت العروض مثلية أم متقومة، لما فيه من الغرر. ¬
ويناقش
قال الباجي في المنتقى: "قد يأخذ العامل العرض قرضًا وقيمته مائة دينار، فيتجر في المال فيربح مائة، فيرده، وقيمته ما كان، فيصير الربح كله لرب المال، ولا يحصل للعامل شيء، وقد لا يربح فيرده وقيمته خمسون، فيبقى بيده من رأس المال خمسون فيأخذ نصفها، وهو لم يربح شيئًا" (¬1). وقال ابن رشد: "حجة الجمهور أن رأس المال إذا كان عروضا كان غررًا؛ لأنه يقبض العرض، وهو يساوي قيمة ما، ويرده وهو يساوي قيمة غيرها، فيكون رأس المال والربح مجهولًا" (¬2). ويناقش: بأن هذا يسلم لو كان الرد لعين العرض، أو كان المعتبر قيمة العرض وقت الرد، وهو غير معلوم، أما إذا جعل رأس المال هو قيمة العرض وقت العقد لم يكن منطويًا على مثل هذا الغرر، والله أعلم. الدليل الثاني: (ح -900) روى أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬3). [إسناده حسن] (¬4). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أنه لو قوِّم العرض، ثم زادت قيمته بعد العقد، فإذا اشترى بها شركة في الربح فقد حصل ربح ما لم يضمن؛ لأن العروض تتعين عند الشراء بها؛ والمتعين غير مضمون، فالربح عليها يكون ربح ما لم يضمن بخلاف الدراهم والدنانير فعند الشراء بها يجب الثمن في ذمته؛ لأنها لا تتعين بالتعيين، فما يحصل له بذلك من ربح فهو من ربح ما ضمن. وسوف أجيب على هذا الدليل من خلال أدلة القول الثاني. الدليل الثالث: الأصل في عقد المضاربة أنه من عقود الغرر؛ لأنه إجارة بأجر مجهول، إذ العامل لا يدري هل يربح أو لا؟ وعلى تقدير الربح، كم مقداره؟ وكذلك رب المال لا يدري، هل يربح أم لا وهل يرجع إليه رأس ماله أم لا؟ فكان ذلك غررا من هذه الوجوه إلا أن الشارع جوزه للضرورة إليه ولحاجة الناس إلى التعامل به، فيجب أن يجوز منه مقدار ما جوزه الشارع، وهو النقد المضروب وما في حكمه من نقار الذهب والفضة (¬1). ويناقش هذا: بأن هناك فرقا بين الإجارة والمضاربة من وجوه كثيرة سبق بيانها، فالإجارة من العقود اللازمة، والمضاربة من العقود الجائزة، ويستحق الأجير أجرته مطلقًا، سواء خسر رب المال أو ربح بخلاف المضاربة، فالعامل لا يستحق الربح إلا إذا وجد، فالصحيح أن عقد المضاربة من عقود المشاركات بخلاف ¬
الدليل الرابع
الإجارة، وإذا علم هذا فلا يصح أن يقال: إن عقد المضاربة جوز للضرورة والحاجة. الدليل الرابع: أن القيمة غير متحققة المقدار؛ لأنها قائمة على الحزر والتخمين، ولهذا تختلف بين مقوم وآخر، وقد يقوم الشيء بأكثر من قيمته، وكل هذا يؤدي إلى الجهالة والتي قد تفضي إلى المنازعة (¬1). ويناقش: بأن التقويم طريق شرعي لمعرفة قيمة العروض، والدليل على ذلك: (ح -901) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن نافع عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أعتق شركا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد قُوِّم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق. ورواه مسلم (¬2). وفي رواية لمسلم: "قوم عليه في ماله قيمة عدل، لا وكس، ولا شطط" (¬3). فإذا قوم أهل الخبرة قيمة العرض فإن التفاوت الحاصل بين المقيمين تفاوت يسير لا يضر إن شاء الله تعالى. الدليل الخامس: ولأنه إما أن يريد بالعروض ثمنها، أو قيمتها بعد بيعها، فإن أراد المضاربة ¬
القول الثاني
بثمنها فقد انتقل الثمن إلى البائع، فهو غير مملوك وقت العقد، وإن أراد المضاربة بقيمتها بعد بيعها فهذا فيه ثلاثة محاذير: كونه مجهولًا ومعدومًا وقت العقد، والمضاربة فيه معلقة على شرط، وهو بيع الأعيان، فيكون العقد معلقًا، وتعليق العقد لا يجوز. القول الثاني: تجوز المضاربة بالعروض إذا جعلت قيمته وقت العقد رأس المال، وهو رواية ثانية عن الإِمام أحمد، وهو قول طاووس والحسن، وحماد بن أبي سليمان، ومذهب الأوزاعي (¬1). جاء في المغني: "قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن المضاربة ¬
دليل من قال بالجواز
بالمتاع، قال: جائز ... " (¬1). وقال في الإنصاف: "وعنه تصح بالعروض، وهي أظهر، واختاره أبو بكر وأبو الخطاب، وابن عبدوس في تذكرته، وصاحب الفائق وجزم به في المنور، وقدمه في المحرر والنظم، قلت: وهو الصواب ... فعلى الرواية الثانية يجعل رأس المال قيمتها وقت العقد" (¬2). دليل من قال بالجواز: الدليل الأول: لا يوجد دليل يمنع أن يكون رأس مال المضاربة من العروض، والقاعدة في المعاملات أنه لا يحرم منها إلا ما حرم الله ورسوله، وعقد المضاربة يدور على أن يكون المال من أحدهما والعمل من الآخر، والعروض مال كالدراهم والدنانير. الدليل الثاني: القائلون بجواز المضاربة بالعروض يشترطون أن تقوم تلك العروض بالنقود وقت العقد، ويتم الاتفاق على تلك القيمة، ثم تصبح القيمة هي رأس مال المضاربة وبالتالي تكون قيمة هذه العروض بمثابة النقود، وإذا لم يتم الاتفاق على القيمة لم تنعقد المضاربة، وعلى ضوء ذلك يتحقق الضمان بعد هذا التقويم؛ لأن الضمان يكون للقيمة وليس للعين، والقيمة لا تتعين بالتعيين، وما يحدث للعروض من زيادة أو نقص بعد هذا التقويم يكون من نصيب الجميع، ¬
الدليل الثالث
لأن قيمتها مضمونة فهو من ربح ما دخل في ضمانه، وليس من ربح ما لم يضمن، وبهذا تزول جميع الإشكالات السابقة. الدليل الثالث: أن المقصود من المضاربة متحقق في العروض، وهو جواز تصرف العامل في مال المضاربة، وكون ربح المال بينهما، وهذا يحصل بالعروض كما يحصل بالأثمان. الدليل الرابع: أن الدراهم والدنانير غير مقصودة لذاتها، ولذلك المضارب سوف يشتري ويبيع بها عروضا، فإذا جاز بقاء المضاربة بالعروض جاز ابتداؤها به. الراجح من الخلاف: أرى أن القول بجواز الشركة في العروض أقوى من القول بالمنع، وإذا كان المالكية رحمهم الله يجوزون أن يكون رأس مال الشركة من العروض كان عليهم أن يقولوا بجواز ذلك في المضاربة من باب أولى؛ لأن الشركة في العروض سوف تجعل العروض شركة بين الشركاء، بينما في عقد المضاربة تنحصر الشركة في الربح خاصة، ورأس المال يبقى ملكًا لرب المال، فكان نصيب العامل في مقابل عمله، وليس شريكا في رأس المال، والله أعلم.
الفرع الثاني في المضاربة في التبر والنقار والحلي
الفرع الثاني في المضاربة في التبر والنقار والحلي كل ما تعورف تداوله من أعيان ومنافع، وحقوق، يعتبر محلًا صالحًا للتعاقد عليه ككل مال متقوم (¬1). كل شيء يصلح محلًا للالتزام، يصلح أن يكون حصة في الشركة، سواء أكان عقارًا أم منقولًا، ماديًا أم معنويًا (¬2). [م - 1352] إذا رجحنا جواز الشركة في العروض فإن ذلك يعني جواز الشركة في التبر والنقار والحلي؛ لأن هذه الأشياء ملحقة بالعروض، ومع ذلك فقد اختلف القول فيها عند من يمنع المضاربة بالعروض على ثلاثة أقوال: القول الأول: تصح المضاربة مطلقًا في التبر والنقار والحلي، خرجها بعض الحنفية على رواية كتاب الصرف: أن التبر لا يتعين بالتعين، ولا يبطل العقد بهلاكه، وهذا دليل على جواز المضاربة به (¬3). القول الثاني: لا تصح المضاربة بها مطلقًا، وهذا القول رواية ابن القاسم عن مالك، والراجح في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وهذان القولان متقابلان. ¬
القول الثالث
جاء في المدونة: "قلت -القائل سحنون- أرأيت النقر من الذهب والفضة، أيجوز القراض بها؟ قال -القائل ابن القاسم- سألت مالكًا عنها، وذلك أن بعض أصحابنا أخبرنا أن مالكًا سهل فيها ... فسألت مالكًا عن ذلك، فقال لي مالك: لا يجوز القراض بنقر الذهب والفضة" (¬1). القول الثالث: تصح بشرط أن يتعامل الناس بها في بلد القراض، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية زاد المالكية شرطًا آخر: ولم يوجد مسكوك من الذهب والفضة (¬2). جاء في فتح القدير: "فكان الثابت أنهم إذا تعاملوا بقطع الذهب والفضة صلحت رأس مال في الشركة والمضاربة" (¬3). جاء في المبسوط: "وظاهر ما ذكر هنا أن المضاربة بالتبر لا تجوز ... وذكر في غير هذا الموضع أن التبر لا يتعين بالتعيين، ولا يبطل العقد بهلاكه، فذلك دليل على جواز المضاربة به، والحاصل: أن ذلك يختلف باختلاف البلدان في الرواج، ففي كل موضع يروج التبر رواج الأثمان تجوز المضاربة به، وفي كل موضع هو بمنزلة السلع لا تجوز المضاربة به كالمكيل والموزون" (¬4). ¬
الراجح من الخلاف
وجاء في منح الجليل: "ولا يصح القراض بتبر ... أي ذهب غير مضروب لم يتعامل ... أي لم يبع ويشتر به ... ببلده أي القراض، هذا هو الذي رجع إليه مالك، وهو المشهور، فإن تعومل به فيه جاز القراض به اتفاقا، ولا يشترط التعامل في جميع البلاد بل في بلد العقد فقط" (¬1). وأدلة هذه المسألة ترجع إلى الخلاف في العروض، فإن التبر والنقر والحلي ليست نقودا مضروبة فهي من جملة العروض، فإن رأى جواز المضاربة بالعروض سوف يجيز المضاربة بها، ومن رأى منع المضاربة في العروض فسوف يمنع المضاربة بها، وقد ذكرنا أدلة الأقوال في العروض فأغنى ذلك عن إعادته هنا، إلا أن القول الثالث جعلها بمنزلة الأثمان إن جرى التعامل بها، وبمنزلة العروض إن لم يجر التعامل، فينزل التعامل بمنزلة الضرب للنقد باعتبار أن النقود ضيقة عرفية، فإذا تعارف الناس على قبولها كوسيط للتبادل ألحقت بالنقود. الراجح من الخلاف: كما رجحنا جواز المضاربة بالعروض فإننا نرجح جواز المضاربة بالتبر والنقر والحلي وغيرها من الأموال، إذا قومت عند العقد، وجعلت قيمتها رأس مال المضاربة، فإن جعلوها بمنزلة الأثمان لم يكن هناك حاجة إلى تقييمها؛ والله أعلم. ¬
الفرع الثالث في المضاربة بالفلوس
الفرع الثالث في المضاربة بالفلوس سبق لنا في كتاب الصرف أن الفلوس: كل ما يتخذه الناس ثمنا من سائر المعادن عدا الذهب والفضة. وسبق لنا في الكتاب نفسه ذكر الآثار الدالة على أن التعامل بالفلوس كان قديما، وقد وجدت في عهد الصحابة - رضي الله عنهم -، ولها أصل لغوي مما يدل على وجودها ومعرفة العرب بها. والخلاف في المضاربة بالفلوس راجع إلى مسألة أخرى: هل النحاس إذا ضرب على شكل فلوس خرج من كونه عروضا إلى كونه أثمانا، أو أنه يبقى على حاله عروضا وإن ضرب على شكل فلوس؟ فإن كانت الفلوس كاسدة فهي عرض من سائر العروض، وإن كانت رائجة فقد اختلف العلماء فيها: فمن قال: إن الفلوس عروض (سلع) مطلقا، وكان يمنع المضاربة بالعروض كما هو رأي جماهير أهل العلم منع المضاربة بها. [م - 1353] ومن قال: إنها إذا راجت تحولت إلى أثمان فقد جوز المضاربة بها، وإليك أقوال الفقهاء فيها: القول الأول: تصح المضاربة بالفلوس الرائجة، وبه قال محمَّد بن الحسن من الحنفية، وعليه الفتوى، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة، واختاره ابن حبيب وأشهب من المالكية، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). ¬
دليل من قال بالصحة
قال في الفتاوى الهندية: "إن كان رأس مال المضاربة فلوسا رائجة لا تجوز على قولهما (يعني أبا حنيفة وأبا يوسف) وعلى قول محمَّد رحمه الله تجوز ... والفتوى على أنه تجوز" (¬1). وقال في بداية المجتهد: "واختلف أصحاب مالك في القراض بالفلوس، فمنعه ابن القاسم، وأجازه أشهب" (¬2). دليل من قال بالصحة: أن الفلوس إذا كانت رائجة كانت بمنزلة الأثمان؛ لأنها لا تتعين بالتعيين. القول الثاني: لا تصح المضاربة بها، وهو الرواية المشهورة عن أبي حنيفة وأبي يوسف من الحنفية، والمشهور من مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة. قال بعض المالكية: ما لم تفرد بالتعامل بها (¬3). ¬
دليل من قال: بالمنع
قال الكاساني: "وأما الفلوس فإن كانت كاسدة فلا تجوز الشركة بها؛ لأنها عروض، وإن كانت نافقة فكذلك في الرواية المشهورة عن أبي حنيفة وأبي يوسف ... " (¬1). وقال الباجي المالكي: "فأما القراض بالفلوس فقد قال ابن القاسم: لا يجوز ذلك، وروي عن أشهب في الأمهات أنه أجاز القراض بها" (¬2). وقال الدردير: "لا يجوز قراض بها -يعني الفلوس- ولو تعومل بها" (¬3). دليل من قال: بالمنع: من منع المضاربة بالفلوس يرى أنها عرض مطلقًا، ولو كانت رائجة؛ لأن ثمنيتها عارضة، وهي إنما صارت ثمنًا باصطلاح الناس، وليست ثمنًا في الأصل، وقد تتعرض للكساد، كما أنها تتعين بالتعيين، ويجوز بيع فلس بفلسين بأعيانهما عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافًا لمحمد. قال أبو يوسف: لو أجزت المضاربة بها أجزتها بمكة بالطعام؛ لأنهم يتبايعون بالحنطة كما يتبايع غيرهم بالفلوس" (¬4). القول الثالث: تكره المضاربة بالفلوس، وهو القول الثالث في مذهب المالكية (¬5). ¬
واستدل من قال بالكراهة
واستدل من قال بالكراهة: من كره المضاربة بالفلوس رأى أنه يتنازعها أمران: الشبه بالأثمان، والشبه بالعروض، لهذا رأى الكراهة، ولم يجزم بالتحريم. جاء في المدونة عن ابن القاسم: "أخبرني عبد الرحيم بن خالد أن مالكًا كان يجيز شراءها بالدنانير والدراهم نظرة، ثم رجع عنه منذ أدركناه، فقال: أكرهه، ولا أراه حرامًا كتحريم الدراهم، فإن هنا كرهت القراض بالفلوس" (¬1). وقال القرافي: "وفي الفلوس أقوال، ثالثها الكراهة؛ لشبهها بالعروض والنقود اعتبارًا للشبهين" (¬2). الراجح: جواز المضاربة بالفلوس مطلقًا، سواء كانت رائجة أو كاسدة؛ فإن كانت رائجة كانت المضاربة بعينها كسائر الأثمان، وإن كانت كاسدة كانت المضاربة بقيمتها وقت العقد كسائر العروض، والله أعلم. ¬
الشرط الثاني أن يكون رأس المال معلوما للعاقدين
الشرط الثاني أن يكون رأس المال معلومًا للعاقدين الجهل برأس المال يؤدي إلى الجهل بالربح (¬1). اشترط الفقهاء العلم برأس مال المضاربة، ولم يختلفوا في ذلك: قال الكاساني: "أن يكون معلومًا، فإن كان مجهولًا لا تصح المضاربة؛ لأن جهالة رأس المال تؤدي إلى جهالة الربح، وكون الربح معلومًا شرط صحة المضاربة" (¬2). وقال الحطاب المالكي: "كون المال معلومًا ... لأن جهل المال يؤدي إلى جهل الربح" (¬3). وقال الماوردي الشافعي: "فإن تقارضا على مال لا يعلمان قدره كان القراض باطلًا للجهل بما تعاقدا عليه" (¬4). وقال في مغني المحتاج: "ولابد أن يكون المال المذكور معلومًا، فلا يجوز على مجهول القدر دفعًا لجهالة الربح" (¬5). وقال ابن قدامة: "ومن شرط المضاربة أن يكون رأس المال معلوم المقدار، ولا يجوز أن يكون مجهولًا، ولا جزافًا" (¬6). ¬
القول الأول
فتبين بهذا أن الفقهاء متفقون على اشتراط العلم برأس مال المضاربة إلا أنهم قد اختلفوا بما يتحقق هذا العلم؟ على قولين: القول الأول: يتحقق العلم برأس المال عن طريق المشاهدة، أو الإشارة إليه وتعيينه، وإن لم يعلم قدره. وهذا مذهب الحنفية. جاء في المبسوط: "وإذا دفع الرجل إلى رجل دراهم مضاربة، ولا يدري واحد ما وزنها، فهي مضاربة جائزة؛ لأن الإعلام بالإشارة إليه أبلغ من الأعلام بالتسمية، ورأس المال أمانة في يد المضارب كالوديعة ... ويقبل قول المضارب فيه لكونه أمينًا، فجهالة المقدار عند العقد لا تفضي إلى المنازعة، فإن اختلفا في مقدار رأس المال عند قسمة الربح فالقول قول المضارب مع يمينه؛ لأنه هو القابض، والقول في مقدار المقبوض قول القابض" (¬1). وقال في درر الحكام شرح غرر الأحكام: "كون رأس المال معلوما ... تسمية ... أو إشارة كما إذا دفع مضاربة إلى رجل دراهم لا يعرف قدرها، فإنه يجوز، ويكون القول في قدرها وصفتها للمضارب مع يمينه" (¬2). القول الثاني: لا بد من العلم بقدره جنسا وصفة، وهذا مذهب جمهور أهل العلم. جاء في الشرح الصغير في تعريف القراض: " (دَفْعُ مالك) من إضافة المصدر لفاعله (مالًا) مفعوله (من نقد) ذهب أو فضة خرج به العرض (مضروب) أي ¬
مسكوك ... (مسلم) من المالك لا بدين عليه ... (معلوم) قدرًا وصفة لا مجهول" (¬1). وقال في مواهب الجليل: "كون المال معلومًا، قال: احترازًا من دفع صرة عينا قراضا؛ لأن جهل المال يؤدي إلى جهل الربح" (¬2). وقال الماوردي الشافعي: "فإذا ثبت أن القراض لا يجوز إلا بمضروب الدراهم والدنانير ... فمن شرطهما أن تكون معلومة القدر والصفة عند القراض بها، فإن تقارضا على مال لا يعلمان قدره كان القراض باطلًا؛ للجهل بما تعاقدا عليه. وإن علما قدره وجهلا صفته بطل القراض؛ لأن الجهل بالصفة كالجهل بالقدر في بطلان العقد" (¬3). وجاء في إعانة الطالبين: "فلا يصح -يعني القراض- على مجهول جنسًا، وقدرًا، وصفة" (¬4). وقال ابن قدامة: "ومن شرط المضاربة أن يكون رأس المال معلوم المقدار، ولا يجوز أن يكون مجهولًا، ولا جزافًا، ولو شاهداه، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو ثور وأصحاب الرأي: يصح إذا شاهداه، والقول قول العامل مع يمينه في قدره؛ لأنه أمين رب المال، والقول قوله فيما في يده، فقام ذلك مقام المعرفة به. ولنا أنه مجهول، فلم تصح المضاربة به كما لو لم يشاهداه، وذلك لأنه لا ¬
الراجح
يدري بكم يرجع عند المفاصلة، ولأنه يفضي إلى المنازعة والاختلاف في مقداره، فلم يصح" (¬1). الراجح: لا شك أن قول الجمهور أسلم، والشارع يمنع المنازعة وما يفضي إليها، وكوننا نقطع النزاع قبل وقوعه أفضل بكثير من كوننا نعالجه بعد وقوعه؛ لأن أي نزاع يمكن قطعه بين المتعاقدين فالشارع يتطلع إليه، ولو لم يأت من النزاع إلا تنافر القلوب وفقدان الثقة لكفى بها مفسدة، والله أعلم. ¬
الشرط الثالث أن يكون رأس المال معينا
الشرط الثالث أن يكون رأس المال معينًا لا يكفي العلم برأس مال المضاربة بل لا بد من تعيينه، وعدم التعيين له أكثر من صورة. الصورة الأولى: أن يقارضه على دراهم غير معينة. الصورة الثانية: أن يدفع له كيسين، في كل كيس دراهم معلومة، فيقول: قارضتك على أحدهما. الصورة الثالثة: أن يكون له دين على رجل فيقول للعامل: قارضتك على ديني على فلان، فاقبضه واتجر فيه. فإن الدين غير معين؛ لأنه يتعلق بالذمة. وسوف نتكلم إن شاء الله تعالى عن كل صورة من هذه الصور في مبحث مستقل، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
المبحث الأولى أن يقارضه على دراهم غير معينة
المبحث الأولى أن يقارضه على دراهم غير معينة [م - 1354] إذا قارضه على دراهم غير معينة، فإما أن يعينها في المجلس أو لا. فإن عينها في المجلس فوجهان في مذهب الشافعية: أحدهما: الصحة، قياسًا على الصرف والسلم. والوجه الثاني: لا يصح. قال النووي: "فلو قارض على دراهم غير معينة، ثم أحضر في المجلس، وعينها، قطع القاضي والإمام بجوازه، كالصرف والسلم. وقطع البغوي بالمنع" (¬1). وجاء في أسنى المطالب: "ولو قارضه على ألف، وعينه في المجلس جاز كالصرف والسلم، وقيل: لا يجوز" (¬2). وإن لم يعينها في المجلس أصبح مال القراض دينًا، فهل تصح المضاربة بالدين؟ وللجواب على ذلك نقول: الدين إما أن يكون على العامل وإما أن يكون على أجنبي، وسوف نتكلم على كل صورة بمفردها إن شاء الله تعالى. ¬
الفرع الأول أن يكون مال المضاربة دينا على العامل
الفرع الأول أن يكون مال المضاربة دينا على العامل إذا صحت المصارفة على ما في الذمة صحت المضاربة على ما في الذمة. جاء في المغني: "الثابت في الذمة بمنزلة المقبوض" (¬1). ما في الذمة يخرج إلى الأمانة فيرتفع الضمان (¬2). [م - 1355] إذا كان للرجل دين على آخر، فقال له: ضارب بالدين الذي لي عليك، فهل تصح المضاربة؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى المنع (¬3)، وعللوا ذلك بعلل منها: ¬
التعليل الأول
التعليل الأول: يرى الإِمام مالك أن العلة مخافة الوقوع في الربا، وذلك أن الرجل ربما أراد أن يزيد في أجل القرض مقابل أن يزيده في ماله، فيلجأ إلى القراض حيلة. ¬
ويناقش
ويناقش: بأن التحايل على الحرام لا يبيحه، والتحايل على إسقاط الواجبات لا يسقطها، ولكن لا بد من حصول العلم، أو غلبة الظن أن المضارب أراد في ذلك التحايل. التعليل الثاني: يرى بعض الفقهاء أن العلة هي أن القرض مضمون، ومال المضاربة أمانة غير مضمون، فلا يتحول المضمون إلى أمانة. جاء في إعلام الموقعين: "وفي صورة المضاربة بالدين قولان في مذهب الإمام أحمد: أحدهما: أنه لا يجوز ذلك، وهو المشهور؛ لأنه يتضمن قبض الإنسان من نفسه، وإبراءه لنفسه من دين الغريم بفعل نفسه؛ لأنه متى أخرج الدين، وضارب به فقد صار المال أمانة، وبرئ منه ... " (¬1). وأجاب على ذلك ابن القيم: "قولهم: إنه يتضمن إبراء الإنسان لنفسه بفعل نفسه كلام فيه إجمال يوهم أنه هو المستقل بإبراء نفسه، وبالفعل الذي به يبرأ، وهذا إبهام، فإنه إنما بريء بما أذن له رب الدين من مباشرة الفعل الذي تضمن براءته من الدين، فأي محذور في أن يفعل فعلًا أذن له فيه رب الدين، ومستحقه يتضمن براءته، فكيف ينكر أن يقع في الأحكام الضمنية التبعية ما لا يقع مثله في المتبوعات، ونظائر ذلك أكثر من أن تذكر حتى لو وكله، أو أذن له أن يبرئ نفسه من الدين جاز، وملك ذلك، ¬
التعليل الثالث
كما لو وكل المرأة أن تطلق نفسها، فأي فرق بين أن يقول: طلقي نفسك إن شئت، أو يقول لغريمه: أبرئ نفسك إن شئت" (¬1). كما أن مذهب الحنفية يجوز أن ينوب قبض الضمان عن قبض الأمانة؛ لأن الأقوى ينوب عن الأضعف، فالدين مضمون، فقبضه يغني عن قبض المضارية؛ لكون المقبوض بعقد المضاربة غير مضمون (¬2). التعليل الثالث: علل بعض الشافعية المنع بأن المال غائب، وهذه علة ضعيفة؛ لأن ما في ¬
القول الثاني
الذمة بمنزلة الحاضر، وسوف أسوق من كلام الفقهاء ما يدل على ذلك في أدلة القول التالي. القول الثاني: ذهب بعض الحنابلة إلى صحة المضاربة بما في الذمة، وأن ما في الذمة بمنزلة المقبوض. قال في الإنصاف: "وإن قال: ضارب بالدين الذي عليك لم يصح، هذا المذهب ... وعنه يصح، وهو تخريج في المحرر، واحتمال لبعض الأصحاب" (¬1). واستدلوا على ذلك بالآتي: الدليل الأول: الأصل الحل، ولا يوجد دليل من الكتاب أو السنة يمنع من ذلك. قال ابن القيم عن القول بالجواز: "وهو الراجح في الدليل، وليس في الأدلة الشرعية ما يمنع من جواز ذلك، ولا يقتضي تجويزه مخالفة قاعدة من قواعد الشرع، ولا وقوعًا في محظور من ربا ولا قمار، ولا بيع غرر، ولا مفسدة في ذلك بوجه ما، فلا يليق بمحاسن الشريعة المنع منه، وتجويزه من محاسنها، ومقتضاها" (¬2). الدليل الثاني: إذا صحت المصارفة في الذمة، كما دللنا على ذلك في كتاب الصرف، مع ¬
الدليل الثالث
أن عقد الصرف من شروط صحته القبض، صحت المضاربة بما في الذمة من باب أولى؛ لأن القبض ليس من شروط صحة المضاربة. الدليل الثالث: أن القول بالجواز غاية ما فيه أن المالك قد وكل العامل على قبض دينه من نفسه، وهذا لا محذور فيه، وقد صحح الحنابلة صحة قبض الوكيل من نفسه بإذنه. الدليل الرابع: أن الحنفية والحنابلة قد صححوا المضاربة فيما لو قال المالك للعامل: اقبض مالي على فلان وضارب به (¬1)، مع أن المال غير مقبوض مطلقًا، فكونه يصح بما في الذمة على العامل من باب أولى؛ لأن ما في الذمة بمنزلة الحاضر المقبوض. جاء في المغني: "الثابت في الذمة بمنزلة المقبوض" (¬2). وقال ابن رشد: "ما في الذمة كالعين الحاضرة" (¬3). الراجح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها أجد أن القول بجواز المضاربة بدين في ذمة العامل هو الأقوى من حيث الدليل، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني أن يكون مال المضاربة دينا على أجنبي
الفرع الثاني أن يكون مال المضاربة دينًا على أجنبي تعليق المضاربة على القبض لا يمنع صحة العقد. التعليق للعقود كلها بالشروط المعلومة غير المجهولة جائز، لا محذور فيه (¬1). [م - 1356] إذا كان مال المضاربة دينا على أجنبي، كما لو قال: اقبض ديني الذي على فلان، وضارب به، فقد اختلف العلماء في حكم المضاربة على قولين: القول الأول: تصح المضاربة، وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة (¬2). جاء في الهداية شرح البداية: وإذا قال له: اقبض مالي على فلان، واعمل به مضاربة جاز" (¬3). وجاء في كشاف القناع: إذا "قال رب دين اقبض ديني من فلان، وضارب به صح؛ لأنه وكله في "قبض الدين ... وعلق المضاربة على القبض، وتعليقها صحيح" (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا تصح المضاربة بالدين إذا كان على أجنبي، وهذا مذهب المالكية والشافعية. جاء في المدونة: "فإن قلت: اقتض ديني الذي لي على فلان، واعمل به قراضا. قال: لا يجوز هذا عند مالك" (¬1). وقال الماوردي من الشافعية: "ولو قال له: قد قارضتك على ألف من ديني الذي على فلان، فاقبضها منه قراضا لم يجز" (¬2). تعليل من قال بالصحة: أن المالك قد وكل العامل في قبض ماله، والوكالة في القبض جائزة، فإذا قبضه بإذن مالكه جاز أن يجعله مضاربة، كما لو قال: اقبض المال من غلامي وضارب به. تعليل من قال بالمنع: التعليل الأول: علل الشافعية المنع بأن العقد وقع معلقًا، وتعليق العقود لا يصح. ونوقش هذا: سبق أن بحثنا تعليق العقود في عقد البيع، وبينا أن الراجح جواز تعليق العقود، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. ¬
التعليل الثاني
التعليل الثاني: ذكر ابن رشد المنع بأنه إذا وكله في قبضه، ثم ضارب به أنه قراض فاسد؛ لأنه اشتراط منفعة زائدة في القراض (¬1). ونوقش: بأن اشتراط المنفعة في القراض لا محذور فيه؛ لأن قبض القراض قائم على طلب المنفعة، ورب المال لم يسلم المال للعامل على سبيل القرض، فيحرم اشتراط المنفعة الزائدة، والله أعلم. الراجح: أرى أن القول بالجواز أقوى دليلًا، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث المقارضة على إحدى الصرتين
الفرع الثالث المقارضة على إحدى الصرتين كل معقود عليه كان المقصود منه مجهولًا غير معلوم، ومعجوزًا عنه غير مقدور فهو غرر (¬1). من المضاربة غير المعينة أن يكون للمالك كيسان، في كل كيس دراهم معلومة، فيقول: قارضتك على أحدهما. [م - 1357] فإن كان الكيسان مختلفين في مقدار الدراهم الموجودة فيهما فلا خلاف بين الفقهاء في عدم جواز المضاربة. فالمنع عند الحنفية معلل بأنه لم يتم التعيين لا بالاسم، ولا بالإشارة. قال في درر الحكام شرح غرر الأحكام: "كون رأس المال معلوما ... تسمية ... أو إشارة كما إذا دفع مضاربة إلى رجل دراهم لا يعرف قدرها، فإنه يجوز ويكون القول في قدرها وصفتها للمضارب مع يمينه" (¬2). فالحنفية يتسامحون في الجهل بالمقدار إذا عين مال المضارية، وهنا لم يعين رأس مال المضاربة لا بالتسمية ولا بالإشارة. وأما المنع عند الجمهور فللجهالة بمقدار رأس مال المضاربة؛ لأنهم يشترطون العلم بمقدار رأس مال المضاربة، وهنا لم يعلم. قال في مواهب الجليل: "كون المال معلوما، قال: احترازا من دفع صرة عينا قراضا؛ لأن جهل المال يؤدي إلى جهل الربح" (¬3). ¬
القول الأول
فإذا كان المالكية يمنعون دفع صرة لا يعلم قدرها، فهم يمنعون المضاربة على إحدى الصرتين مع اختلاف مقدراهما من باب أولى. قال الماوردي الشافعي: "فإن تقارضا على مال لا يعلمان قدره كان القراض باطلًا للجهل بما تعاقدا عليه" (¬1). [م - 1358] وإن قال: قارضتك على إحدى الصرتين، وكانتا متساويتين، فقد اختلف العلماء في صحة القراض على قولين: القول الأول: إن عين أحدهما في المجلس جاز ذلك في أصح قولي العلماء، قياسا على ما إذا باعه السلعة نقدًا بكذا، أو نسيئة بكذا، واختار أحدهما في المجلس. قال ابن حجر الهيتمي: "وسئل عمن قال: قارضتك على إحدى هاتين الصرتين مثلًا، ثم عين أحدهما في المجلس صح" (¬2). وقال البجيرمي: "إن عينت المرادة منهما في المجلس صح على المعتمد" (¬3). القول الثاني: لا يصح القراض، ولو عين أحدهما في المجلس؛ لفساد الصيغة، رجحه بعض الشافعية. جاء في مغني المحتاج: "مقتضى كلامه عدم صحة القراض في إحدى ¬
القول الأول
الصرتين على الأول، وإن عينت في المجلس، وهو ظاهر؛ لفساد الصيغة، وإن اقتضى كلام بعض المتأخرين الصحة" (¬1). [م - 1359] وإن لم يتم التعيين في المجلس، فقد اختلف الفقهاء في حكم المضاربة بها على قولين: القول الأول: لا يصح، وهو أصح القولين في مذهب الشافعية، ومذهب الحنابلة (¬2). جاء في حاشية قليوبي وعميرة: "الأصح عدم الجواز" (¬3). وقال ابن قدامة في المغني: "ولو أحضر كيسين في كل واحد منهما مال معلوم المقدار، وقال: قارضتك على أحدهما لم يصح، سواء تساوى ما فيهما، أو اختلف؛ لأنه عقد يمنع صحتة الجهالة، فلم يجز على غير معين كالبيع" (¬4). وعلل الشافعية المنع: بكون المضاربة على مال غير معين. القول الثاني: يصح، وهو القول الثاني في مذهب الشافعية، واختاره بعض الحنابلة (¬5). لأن مال المضاربة مال معلوم حيث تساوى الكيسان جسنا، وصفقة، وقدرًا، فإذا تصرف العامل في أيهما شاء تعليق للقراض. ¬
الراجح
وصحح ابن رجب الإبهام في جملة من العقود، من ذلك عقود المشاركات، ومنها المضاربة كأن يقول له: ضارب بإحدى هاتين المائتين، وهما في كيسين، ودع الأخرى عندك وديعة (¬1). الراجح: القول بالجواز، والدراهم على الصحيح مما لا تتعين بالتعيين، فتعيينها لا يفيد شيئًا، وله أن يدفع غيرها، المهم أن يكون رأس مال المضاربة معلوما، والله أعلم. ¬
الفرع الرابع المضاربة بالوديعة
الفرع الرابع المضاربة بالوديعة المضاربة بالوديعة إن كانت الوديعة في يد العامل فهو مال مقبوض، وإن كانت في يد ثالث فهي وكالة في القبض، فتصح. [م - 1360] تكلمنا عن حكم المضاربة بالدين في المباحث السابقة، ويقابل الدين العين: فالدين حق متعلق بالذمة غير معين بخلاف المعين فإنه لا يكون دينًا، والمضاربة بالوديعة من المضاربة بالمعين ذلك أن الوديعة أمانة من الأمانات يقصد بها حفظ العين، وإذا كانت كذلك فهي مال معين، وليس دينا؛ فالوديعة لا تتعلق بالذمة حتى يمكن أن تكون دينا، وهي تتعين مطلقًا حتى على قول من يقول: إن الدراهم لا تتعين بالتعيين فإنه يقول بتعيين الوديعة بالتعيين؛ لأنه لا يحق للمودع التصرف في عينها، فتعينت. وقد اختلف الفقهاء في المضاربة بالوديعة على قولين: القول الأول: المضاربة بالوديعة صحيحة، سواء كانت الوديعة في يد المضارب أو في يد غيره كأن يقول له: ضارب بالوديعة التي عندك، أو التي عند فلان مع العلم بقدرها، وهذا مذهب الجمهور (¬1). ¬
القول الثاني
قال النووي: "ولو كانت دراهمه في يد غيره وديعة، فقارضه عليها صح" (¬1). وقال الماوردي: "وإذا كانت لرجل في يد رجل ألف درهم وديعة، فقارضه عليها، وهما يعلمان قدرها، وصفتها جاز، ولو كانا يجهلان القدر أو الصفة لم يجز" (¬2). وقال البهوتي: "ويصح إن قال: ضارب بوديعة لي عند زيد، أو عندك مع علمهما قدرها؛ لأنها ملك رب المال" (¬3). واستدلوا بالجواز أن الوديعة إن كانت في يد المودع فقد قبض المال، وقبض المودع وقبض المضارب سواء في أن اليد يد أمانة فجاز له أن يضاربه عليها؛ والوديعة تفارق الدين من جهتين: الأولى: أن الدين متعلق بالذمة، وحق المودِع متعلق بعين الوديعة. الثاني: أن الدين مضمون، والوديعة ليست مضمونة فهي مثل مال المضاربة من جهة الضمان. وإن كانت الوديعة في يد ثالث فهي وكالة في قبض مال معين، والعمل به مضاربة، فتصح. القول الثاني: لا يصح أن يجعل الوديعة رأس مال المضاربة حتى يحضرها لربها، وهذا مذهب المالكية، وبه قال الحسن البصري (¬4). ¬
ويناقش
قال ابن القاسم في المدونة: "قال مالك في المال إذا كان دينا على رجل، فقال له رب المال: اعمل بالدين الذي لي عليك قراضًا. قال: لا يجوز هذا إلا أن يقبض دينه، ثم يعطيه بعد ما يقبضه، فأرى الوديعة مثل هذا؛ لأني أخاف أن يكون قد أنفق الوديعة، فصارت عليه دينا" (¬1). وقال الدسوقي في حاشيته: "والمغصوب يكفي في صحة عمل الغاصب فيه قراضا إحضاره لربه كالوديعة" (¬2). ويناقش: أن الأصل في المودع أنه لم يتصرف في الوديعة حيث لم يأذن له صاحبها، فيستصحب هذا الأصل حتى يثبت خلافه؛ ولأن الأصل في تصرف المسلم عدم التعدي. الراجح: جواز المضاربة بالوديعة، لقوة أدلته، وسلامة مأخذه، والله أعلم. ¬
الفرع الخامس المضاربة بالمغصوب
الفرع الخامس المضاربة بالمغصوب توكيل الإنسان غيره في قبض ماله، ثم المضاربة فيه لا محذور في جوازه. [م - 1361] إذا قال رجل لآخر: المال الذي غصبته مني، أو الذي غصبه فلان مني، وكان قادرًا على أخذه من غاصبه: اعمل به مضاربة، فإن كان قد استهلكه الغاصب رجعت المسألة إلى المقارضة بالدين، وقد سبق بحثها، وإن كان لم يستهلك المال، بأن كان المال بعينه في يده فهل تصح المضاربة بالمغصوب؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: تصح المضاربة بالمغصوب، وبه قال أبو يوسف من الحنفية، والحسن ابن زياد، وعليه جمهور الشافعية (¬1). تعليل من قال بالصحة: أن المال المغصوب مال معين، فلا يدخل في المضاربة بالدين، فإن كان المضارب هو الغاصب فقد قبض المال، ويتحول المال من الضمان إلى الأمانة من حين أن يقبل الغاصب المضاربة، ويتصرف في المال لصالح ربه، وإن كان الغاصب غير المضارب فقد وكل المالك العامل في قبض المال من غاصبه، فإذا سلمه الغاصب إلى العامل فقد برئ الغاصب من الضمان؛ لأنه سلمه بإذن ¬
القول الثاني
مالكه، وتوكيل الإنسان غيره في قبض ماله، ثم المضاربة فيه لا محذور في جوازه، والأصل الحل. القول الثاني: لا تصح المضاربة بالمغصوب، وبه قال زفر من الحنفية، والمذهب عند المالكية، وقول مرجوح في مذهب الشافعية. وقال المالكية: يكفي لصحة المضاربة بالمغصوب إحضاره لربه (¬1). تعليل من قال بالمنع: تعليل الحنفية: أن المال المغصوب مضمون على غاصبه، ومال المضاربة غير مضمون على العامل فإذا ضارب بمال مغصوب فقد ضارب بمال مضمون، وهذا لا يصح، ولا يبرأ الغاصب من ضمان ما غصبه حتى يسلمه إلى صاحبه. ونوقش هذا: بأن الغاصب يبرأ من الغصب إذا أذن له المالك بالتصرف كما يبرأ لو أبرأه من الغصب ووهب له المغصوب، وكلاهما بدون تسليم رأس المال. تعليل المنع عند المالكية: علل المالكية المنع من أجل الخوف أن يكون الغاصب قد تصرف في ¬
الراجح
المغصوب، فصار عليه دينا، ولا يصح أن يكون مال القراض دينا، لذلك اشترطوا إحضاره لربه، وهي نفس العلة التي من أجلها منعوا المضاربة بالوديعة، وقد أجبنا على ذلك في المسألة السابقة، والله أعلم. الراجح: القول بجواز المضاربة بالمغصوب.
الشرط الرابع في اشتراط تسليم رأس مال المضاربة
الشرط الرابع في اشتراط تسليم رأس مال المضاربة العقد في المضاربة وارد على إطلاق التصرف، لا على تسليم المال. [م - 1362] اختلف أهل العلم في اعتبار تسليم المال للعامل شرطًا في صحة المضاربة على قولين: القول الأول: لا يصح القراض إلا إذا تسلم العامل مال المضاربة، وهذا مذهب الحنفية والمالكية، والشافعية، واختاره بعض الحنابلة (¬1). قال الكاساني من الحنفية: "ومنها -أي الشروط التي ترجع إلى رأس المال- تسليم رأس المال إلى المضارب؛ لأنه أمانة، فلا يصح إلا بالتسليم، وهو التخلية كالوديعة، ولا يصح مع بقاء يد الدافع على المال؛ لعدم التسليم مع بقاء يده، حتى لو شرط بقاء يد المالك على المال فسدت المضاربة" (¬2). وجاء في المدونة: "هل يجوز لرب المال أن يحبس المال عنده ويقول للعامل: اذهب واشتر، وأنا أنقد عنك، واقبض أنت السلع، فإذا بعت قبضت الثمن، وإذا اشتريت نقدت الثمن؟ قال: لا يجوز هذا القراض عند مالك، وإنما القراض عند مالك أن يسلم المال إليه قال: وقال لي مالك: ولو ضم إليه رجلاً جعله يقتضي المال وينقد، والعامل يشتري ويبيع، ولا يأمن العامل وجعل هذا أمينًا. قال: لا خير في هذا" (¬3). ¬
تعليل من قال: يشترط تسليم رأس المال
وقال الغزالي في الوسيط وهو يذكر شروط رأس المال: "الرابع: أن يكون رأس المال مسلمًا إلى العامل يدًا، لا يداخله المالك بالتصرف واليد، فلو شرط لنفسه يدًا أو تصرفًا معه فهو فاسد" (¬1). تعليل من قال: يشترط تسليم رأس المال: التعليل الأول: أن المضاربة فيها معنى الإجارة؛ لأن ما يأخذه مقابل بعمله، والمال محل العمل، فيجب تسليمه كالإجارة الحقيقية (¬2). التعليل الثاني: إذا لم يكن المال بيد العامل فإن ذلك يخرج القراض عن أن يكون قراضًا، ويجعله إجارة مجهولة العوض (¬3). التعليل الثالث: أن المال أمانة في يده، فلا يتم إلا بالتسليم كالوديعة. القول الثاني: تسليم مال المضاربة ليس بشرط، وهو مذهب الحنابلة (¬4). ¬
تعليل من قال: لا يشترط تسليم المال إلى العامل
جاء في مطالب أولي النهى: "ولا يعتبر لمضاربة قبض عامل رأس مال، فتصح وإن كان بيد ربه" (¬1). تعليل من قال: لا يشترط تسليم المال إلى العامل: قالوا: إن مورد العقد في عقد المضاربة هو العمل في مال المالك، وهذا يقتضي إطلاق التصرف في مال غيره بجزء مشاع من ربحه، وهذا حاصل مع التسليم وبدونه. الراجح: إن كان المقصود من اشتراط التسليم أن يكون ذلك في مجلس العقد، وأن يكون القبض شرطاً للصحة بحيث إذا لم يتم التسليم لم ينعقد العقد، كالتسليم في الأموال الربوية فهذا قول ضعيف جدًا؛ لأن العقد وارد في المضاربة على إطلاق التصرف، وهذا ليس فيه استلام وتسليم. وإن كان المقصود من التسليم ليس التسليم في مجلس العقد، وإنما يراد من التسليم التخلية بين العامل وبين المال متى باشر العامل العمل واحتاج إلى المال بحيث لا يكون عدم التسليم مقيدًا لتصرف العامل، ومفوتًا عليه بعض المكاسب بسبب عدم التمكن من مال المضاربة؛ لأن العقد وارد على التصرف في مال المضاربة، وتمام التصرف يتوقف على استلام المال، وعدم التسليم يحد من التصرف، ويفوت عليه مكاسب كثيرة، إن كان المقصود من اشتراط التسليم هو ملاحظة هذا، فهذا لا شك أنه أمر مطلوب، ولكنه لا يفسد العقد، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني الشروط الخاصة بالربح
المبحث الثاني الشروط الخاصة بالربح الشرط الأول العلم بنصيب ما يأخذه كل واحد منهما من الربح العقد إذا تضمن العوض وجب تنزيهه عن الجهالة والغرر (¬1). العوض المجهول لا تصح عليه المعاوضة. [م - 1363] الربح في عقد المضاربة لا علاقة له بالعقد من حيث الذات؛ لأنه غير متحقق الوجود، فقد يوجد وقد لا يوجد، وإنما المطلوب في الربح معرفة نصيب كل واحد منهما من الربح إن وجد. جاء في تحفة الفقهاء: "ومنها -أي من الشروط- إعلام قدر الربح؛ لأن الربح هو المقصود، فجهالته توجب فساد العقد" (¬2). وقال ابن جزي: "أن يكون الجزاء مسمى كالنصف، ولا يجوز أن يكون مجهولًا" (¬3). وقال ابن قدامة في الشرح الكبير: "الشروط الفاسدة في الشركة والمضاربة ¬
تنقسم ثلاثة أقسام ... القسم الثاني: ما يعود بجهالة الربح، مثل إن شرط للمضارب جزءًا من الربح مجهولًا ... ومن شرط المضاربة والشركة كون الربح معلومًا" (¬1). وسوف نعرض لبعض المسائل التي تنازع فيها الفقهاء، هل الربح فيها يعتبر مجهولًا؟ أو يمكن معرفته، وذلك من خلال المباحث التالية. ¬
المبحث الأول أن يدفع المالك مال المضاربة ويسكت عن الربح
المبحث الأول أن يدفع المالك مال المضاربة ويسكت عن الربح قال ابن قدامة: الإطلاق يقتضي التسوية (¬1). وقال أيضًا: الإطلاق يحمل على المعقالد (¬2). [م - 1364] إذا دفع المالك المال للعامل مقارضة، ولم يذكر الربح فقد اختلف العلماء على ثلاثة أقوال: القول الأول: القراض فاسد، وهذا مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على خلاف بينهم فيما لو باشر العمل: فقيل: له أجرة المثل ربح أم خسر، وهذا مذهب الحنفية والشافعية، والحنابلة. وقيل: له قراض المثل، وهذا مذهب المالكية. جاء في المبسوط: "ولو قال: خذ هذه الألف مضاربة، أو مقارضة، ولم يذكر ربحًا فهي مضاربة فاسدة؛ لأن المضارب شريك في الربح، والتنصيص على لفظ المضاربة يكون استردادًا لجزء من ربح المضارب، وذلك الجزء غير معلوم، وجهالته تفضي إلى المنازعة بينهما ... فيكون الربح كله لرب المال، وللمضارب أجر مثله ربح أو لم يربح" (¬3). ¬
القول الثاني
وجاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن دفعت إلى رجل مالًا قراضًا, ولم أسم له ثلثًا ولا ربعًا ولا نصفًا, ولا أكثر من أن قلت له: خذ هذا المال قراضًا، فعمل، فربح، وتصادق رب المال والعامل على ذلك؟ قال: يرد إلى قراض مثله" (¬1). وجاء في الشرح الصغير: "وكقراض مبهم بأن قال: اعمل فيه قراضًا، وأطلق فإنه فاسد، وفيه بعد العمل قراض المثل في الربح" (¬2). وجاء في مغني المحتاج: "ولو قال: قارضتك، ولم يتعرض للربح فسد القراض؛ لأنه خلاف وضعه" (¬3). وقال ابن قدامة: "ولو قال: خذ هذا المال مضاربة، ولم يسم للعامل شيئًا من الربح، فالربح كله لرب المال، والوضيعة عليه، وللعامل أجر مثله. نص عليه أحمد. وهو قول الثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور، وأصحاب الرأي" (¬4). القول الثاني: يصح القراض، ويكون الربح بينهما مناصفة، وهو قول الحسن وابن سيرين والأوزاعي (¬5). ¬
واستدلوا على ذلك بأنه لو قال: خذ هذا المال مقارضة، والربح بيننا كان مناصفة، فكذلك إذا لم يذكر شيئًا، فالأصل تساويهما في الربح. وأجاب عنه ابن قدامة بقوله: "ولنا أن المضارب إنما يستحق الربح بالشرط، ولم يوجد، وقوله (مضاربة) اقتضى أن له جزءًا من الربح مجهولًا، فلم تصح المضاربة، كما لو قال: ولك جزء من الربح، فأما إذا قال: والربح بيننا، فإن المضاربة تصح، ويكون بينهما نصفين؛ لأنه أضافه إليهما إضافة واحدة، ولم يترجح فيها أحدهما على الآخر، فاقتضى التسوية، كما لو قال: هذه الدار بيني وبينك" (¬1). وهذا القول هو الراجح. ¬
المبحث الثاني أن يذكر الربح ولا ينص على مقداره
المبحث الثاني أن يذكر الربح ولا ينص على مقداره العقد إذا تضمن العوض وجب تنزيهه عن الجهالة والغرر (¬1). [م - 1365] إذا قال المالك: قارضتك على أن لك أو لي شركًا من الربح ولم يذكر مقداره. فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: المضاربة فاسدة، وهو اختيار محمَّد بن الحسن من الحنفية، ومذهب المالكية والشافعية، والحنابلة (¬2). إلا أن المالكية قالوا: إن عمل فله قراض المثل إلا أن يكون لهم عادة أن يكون له الثلث أو النصف فيعمل على ما اعتادوا. ورأى غيرهم أن له أجرة المثل. جاء في المدونة: "إن قال له: اعمل على أن لك شركًا في المال، أيرد إلى قراض مثله؟ قال: نعم؛ لأن هذا بمنزلة من أخذ مالاً قراضًا, ولم يسم له من الربح" (¬3). ¬
القول الثاني
وجاء في التاج والإكليل: "قال ابن القاسم: من دفع إلى رجل مالًا قراضًا، ولم يسم ماله من الربح، وتصادقا على ذلك، فله قراض المثل إن عمل، وكذلك إن قال: له شرك في المال، ولم يسم كان على قراض مثله إن عمل (ولا عادة). قال ابن شاس: إن كان لهم عادة أن يكون على النصف أو على الثلث فهو على ما اعتادوه" (¬1). وجاء في مغني المحتاج: "فلو قال: قارضتك على أن لك، أو لي فيه شركة أو نصيبًا، أو جزءًا من الربح ... فسد القراض في جميع ذلك للجهل بقدر الربح" (¬2). وقال ابن قدامة: "وإن قال: خذه مضاربة، ولك جزء من الربح، أو شركة في الربح، أو شيء من الربح، أو نصيب، أو حظ، لم يصح؛ لأنه مجهول" (¬3). وقال ابن حزم: "ولا يجوز القراض إلا بأن يسميا السهم الذي يتقارضان عليه من الربح، كسدس، أو ربع، أو ثلث، أو نصف، أو نحو ذلك، ويبينا ما لكل واحد منهما من الربح؛ لأنه إن لم يكن هكذا لم يكن قراضًا ولا عرفا ما يعمل العامل عليه فهو باطل" (¬4). القول الثاني: المضاربة صحيحة، وهو قول أبي يوسف (¬5). ¬
وجه قول الجمهور
وجه قول الجمهور: أن الشرك يعني النصيب، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} [فاطر: 40]. وقال تعالى: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ: 22] أي نصيب، وإذا جعل له نصيبًا في الشركة فإن النصيب مجهول، فيصير الربح مجهولًا. وجه قول أبي يوسف: أن الشرك يأتي في اللغة بمعنى النصيب ويأتي في اللغة بمعنى الشركة، فإذا حمل على معنى الشركة كان الربح شركة بينهما أي مناصفة، وحمل الشرك على الشركة تصحيح للعقد فيحمل عليها (¬1). ¬
المبحث الثالث إذا قال ضارب على أننا شريكان أو الربح بيننا
المبحث الثالث إذا قال ضارب على أننا شريكان أو الربح بيننا قال الباجي: إطلاق لفظ الشركة يقتضي تساوي الشريكين (¬1). [م - 1366] اختلف العلماء فيما إذا قال المالك: ضارب بهذا المال على أننا شريكان في الربح، أو على أن الربح بيننا على قولين: القول الأول: ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية، والحنابلة، وأصح الوجهين عند الشافعية أن المضاربة صحيحة، ويكون الربح بينهما نصفين (¬2). جاء في الفتاوى الهندية: "ولو دفع إليه ألف درهم مضاربة على أنهما شريكان في الربح، ولم يبين مقدار ذلك، فالمضاربة جائزة، والربح بينهما نصفان" (¬3). وقال في المبسوط: "لأن مطلق الشركة يقتضي التسوية، قال الله عز وجل: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] (¬4). ¬
القول الثاني
وجاء في الشرح الصغير: "لو قال: والربح مشترك بيننا، أو شركة فهو ظاهر في أن له النصف؛ لأنه يفيد التساوي عرفًا بخلاف لك شرك، فإن المتبادر منه: لك جزء" (¬1). وقال النووي: "ولو قال: الربح بيننا ولم يبين، فوجهان ... أصحهما الصحة، وينزل على النصف" (¬2). وقال ابن قدامة: "فإن قال: خذه مضاربة، والربح بيننا صح، وهو بينهما نصفين. لأنه أضافه إليهما إضافة واحدة من غير ترجيح لأحدهما فاقتضى التسوية" (¬3). القول الثاني: لا تصح المضاربة، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬4). وجه عدم الصحة: أن اللفظ يحتمل المناصفة ويحتمل عدمها، فلا يكون الجزء معلومًا. والراجح: القول الأول لقوة تعليله. ¬
المبحث الرابع إذا قال المالك لك مثل ما شرط لفلان
المبحث الرابع إذا قال المالك لك مثل ما شرط لفلان [م - 1367] إذا قال المالك: ضارب، ولك من الربح مثل ما شرط لفلان، فإما أن يكون ما شرط لفلان معلومًا لهما فالمضاربة صحيحة. وجه القول بالصحة: أنهما أشارا في مقدار الربح إلى معلوم عندهما. قال السرخسي: "ولو دفعها إليه مضاربة على مثل ما شرط فلان لفلان من الربح، فإن كانا قد علما جميعًا ما شرطه فلان لفلان فهو مضاربة؛ لأنهما جعلا المشروط لفلان عيارًا، فإذا كان معلومًا عندهما ضاربا به ... " (¬1). وجاء في مختصر المزني: "فإن قال: خذها قراضًا أو مضاربة على ما شرط فلان من الربح لفلان فإن علما ذلك فجائز ... " (¬2). وقال ابن قدامة المقدسي: "وإن قال: لك مثل ما شرط لفلان، وهما يعلمانه صح، وإن جهلاه أو أحدهما لم يصح كالثمن في البيع" (¬3). وإن كانا يجهلانه أو أحدهما فالمضاربة غير صحيحة؛ لأن حصة المضارب من الربح لابد أن تكون معلومة لهما، وقد حهلاه أو أحدهما فتفسد المضاربة، ¬
الراجح
وهذا مذهب الأئمة الأربعة (¬1). ويمكن تخريج القول بالصحة على القول بصحة البيع بما باع به زيد، وهما يجهلانه أو أحدهما (¬2). قال النووي: "ولو قال: بعتك هذه السلعة برقمها، أي بالثمن الذي هو مرقوم به عليها، أو بما باع به فلان فرسه أو ثوبه، فإن كانا عالمين بقدره صح البيع بلا خلاف، وإن جهلاه، أو أحدهما، فطريقان: أصحهما ... لا يصح البيع، لما ذكره المصنف، مع أنه غرر. والثاني: حكاه الفوراني وصاحب البيان وغيرهما فيه وجهان، أصحهما: هذا. والثاني: إن علما ذلك القدر قبل تفرقهما من المجلس صح البيع، وحكى الرافعي وجهًا ثالثًا: أنه يصح مطلقا، للتمكن من معرفته، كما لو قال: بعت هذه الصبرة، كل صاع بدرهم، يصح البيع، وإن كانت جملة الثمن في الحال مجهولة ... اهـ (¬3). الراجح: القول بالتفصيل: إن كان فلان معروفًا في السوق بكونه مضاربًا مشهورًا، يطمئن إلى أن ما شرط له فيه عدل وإنصاف فالمضاربة صحيحة؛ لأن النفس ¬
تطمئن إلى عدالة ما يأخذه في عقد المضاربة في مقابل ما يبذله العامل من جهد، بل قد يكون أكثر عدلاً من كونه يقطع بالثمن مع المالك مع قلة خبرته، والجهالة في مقدار الربح لا تؤدي إلى نزاع، ويمكن الوقوف عليها، فهو كما لو قال: بعت عليك الصبرة كل صاع بدرهم، فإنه حال البيع لا يدرى مقدار الثمن لكن بالإمكان معرفتها بعد كيلها، وهذا بالإمكان معرفة مقدار الربح بعد الرجوع إلى فلان. وإن كان فلان غير معروف بالمضاربة فربما يكون ما شرط له فيه غبن عليه فلا ينبغي صحته، والله أعلم.
الشرط الثاني أن يكون الربح لكل منهما جزءا شائعا
الشرط الثاني أن يكون الربح لكل منهما جزءًا شائعًا كل شرط يوجب قطع الشركة في الربح، أو يوجب جهالة فيه فإنه يفسد الشركة (¬1). قال ابن تيمية: مبنى المشاركات على العدل، فإذا خص أحدهما بربح دون الآخر لم يكن هذا عدلاً (¬2). [م - 1368] تكلمنا في المبحث السابق عن اشتراط أن يكون الربح معلومًا، ولا يكفي ذلك بل يشترط أيضًا مع العلم به أن يكون جزءًا شائعًا، فالعلم بالربح شرط، وكونه شائعًا شرط آخر، فلا بد أن يكون المشروط لكل من المضارب ورب المال جزءًا شائعًا، نصفًا، أو ثلثًا، أو ربعًا. ولا أعلم خلافًا في اعتبار هذا الشرط بين الفقهاء المتقدمين (¬3). قال الزيلعي: "لا تصح المضاربة إلا إذا كان الربح بينهما مشاعًا" (¬4). لأن الربح لا يمكن معرفته بالقدر؛ لأنه غير محتم الوجود، فإذا جهلت الأجزاء فسدت المضاربة كما لو جهل القدر فيما يشترط أن يكون معلومًا به. ولأن العامل متى شرط لنفسه دراهم معلومة احتمل ألا يربح غيرها، فيحصل على جميع الربح، وربما توانى في طلب الربح إذا حصل عليها لعدم فائدته فيه. ¬
وقد ظهر في هذا العصر من يقول: إن ذلك ليس بشرط، وأنه يجوز أن يكون الربح مقدارًا معلومًا مضمونًا، وكان الحامل على ذلك محاولة إباحة بعض المعاملات المعاصرة كأخذ الفوائد على الودائع الاستثمارية في البنوك الربوية، أو إباحة عوائد السندات الربوية وتخريج كل ذلك على المضاربة الفقهية، وقد اعتمدوا في إباحة ذلك على ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن اشتراط أن يكون نصيب العامل مشاعًا كالنصف، أو الثلث، ليس عليه دليل من النصوص الشرعية، حيث لم يرد بشأن المضاربة نص من القرآن الكريم، ولا من السنة النبوية، وكل ما ورد بشأنها، إنما هو أقوال نقلت عن بعض الصحابة تدل بمجموعها على أن التعامل بالقراض كان معروفاً عند العرب حتى جاء الإِسلام، وإذا كان الأمر كذلك، كانت هذه الشروط الاجتهادية، تختلف باختلاف الأحوال والأزمان، وإذا كان الفقهاء قد اشترطوا أن يكون الربح مشاعًا كالنصف والثلث من أجل ألا يحرم أحد الطرفين من الربح في حال تحدد الجزء الذي يأخذه أحدهما، فإن هذه المشروعات (يعني أخذ الفوائد على الودائع الاستثمارية أو على السندات) مبنية على قواعد اقتصادية مضمونة النتائج، وما يأخذه صاحب المال من الربح بنسبة معينة من رأس المال قدر ضئيل بالنسبة لمجموع الربح الذي تدره المشروعات التي استثمرت فيها هذه الأموال، فكلا الطرفين استفاد، وانتفى الاستغلال والحرمان (¬1). وإذا كانت علة المنع من تحديد مقدار الربح، من أجل ألا يؤدي ذلك إلى حرمان الشريك من الربح في حال لم يزد الربح على ذلك القدر، لم يكن هذا ¬
الشرط لازمًا؛ لأن الفقهاء قد جوزوا صورًا من التعاقد يكون ما يأتي من العامل من ربح ليس محلًا للمشاركة؛ "لأنه إذا جاز في رأي بعض الأئمة، أن يعطي المال لآخر يعمل به، على أن يكون الربح جميعه لرب المال، ولا شيء للعامل كما في المواضعة، وإذا جاز أيضًا أن يجعل الربح جميعه للعامل، دون أن يكون ضامنًا لرأس المال، ولا شيء منه لرب المال، وإذا جاز أن يكون الربح لأجنبي عن العقد، فأولى بالجواز: ما إذا جعل من الربح مبلغًا معينا لرب المال، والباقي منه للعامل إن وجد ربح، وإلا فلا شيء للعامل، ويكون العامل متبرعًا؛ لأن هذا ليس أسوأ حالاً، ولا وضعًا من اشتراط كل الربح لرب المال، أو لأجنبي، وذلك ما قام الاتفاق عليه، وما قصداه العاقدان من العقد" (¬1). الأمر الثاني: أن تحديد الربح مقدمًا فيه منفعة للطرفين: فصاحب المال يعرف حقه معرفة خالية من الجهالة، وفيه منفعة للعامل لحمله على الجد والاجتهاد في عمله، حتى يحقق ما يزيد على النسبة المقررة لصاحب المال، والتحديد قد تم برضى الطرفين. الأمر الثالث: أن عدم التحديد في زماننا هذا الذي خربت فيه الذمم، قد يؤدي إلى ضياع نصيب رب المال؛ لأن العامل يستطيع أن يأكل ماله، وهو لا يدري (¬2). ¬
ويجاب عن هذا القول: أما الجواب عن الفرق بين الودائع الاستثمارية في البنوك التقليدية وبين المضاربة فقد أوضحت ذلك في المجلد الثالث عشر مما يغني عن إعادته هنا. وأما الجواب عن قولهم: بأن اشتراط أن يكون الربح معلومًا بالنسبة، وأن ذلك كان اجتهادًا من كلام الفقهاء لا دليل عليه، فيقال: قد دلت السنة الصحيحة, والإجماع، والمعقول على اعتبار هذا الشرط. (ح -902) أما السنة، فقد روى البخاري من حديث رافع بن خديج قال: كنا أكثر أهل المدينة حقلاً، وكان أحدنا يكري أرضه، فيقول: هذه القطعة لي، وهذه لك، فربما أخرجت ذه، ولم تخرج ذه، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (¬1). وفي رواية لمسلم: "إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الماذيانات، وأقبال الجداول (¬2)، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا، ويسلم هذا، ويسلم هذا، وبهلك هذا, ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون، فلا بأس به" (¬3). وجه الاستدلال: إذا كان اشتراط ثمرة جزء معين من الأرض في عقد المزارعة منهيًا عنه؛ لأنه قد يؤدي إلى قطع الربح، وهو المعنى الذي ورد من أجله النهي، لقوله (فربما أخرجت هذه ولم تخرج تلك) فهل يقال: الظلم والجور ممنوع في شركة ¬
المزارعة، ومباح في شركة المضاربة، أو يجب أن يقال: بتحريم ذلك في المساقاة والمضاربة وسائر شركات العقود كما ورد تحريم ذلك في المزارعة حيث لا فرق (¬1). قال ابن تيمية: "كان الإِمام أحمد يرى أن يقيس المضاربة على المساقة والمزارعة، لثبوتها بالنص، فتجعل أصلاً يقاس عليه -وإن خالف فيها من خالف- وقياس كل منهما على الأخرى صحيح، فإن من ثبت عنده جواز أحدهما أمكنه أن يستعمل فيه حكم الآخر لتساويهما" (¬2). وقال ابن تيمية أيضًا في معرض كلامه عن المضاربة: "لا يجوز أن يخص أحدهما بربح مقدر؛ لأن هذا يخرجهما عن العدل الواجب في الشركة، وهذا هو الذي نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - من المزارعة، فإنهم كانوا يشترطون لرب المال زرع بقعة بعينها ... فإن مثل هذا لو شرط في المضاربة لم يجز؛ لأن مبنى المشاركات على العدل بين الشريكين، فإذا خص أحدهما بربح دون الآخر لم يكن هذا عدلاً، بخلاف ما إذا كان لكل منهما جزء شائع، فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم، فإن حصل ربح اشتركا في المغنم، وإن لم يحصل ربح اشتركا في الحرمان" (¬3). وأما من الإجماع، فقد قال ابن المنذر: "وأجمعوا على إبطال القراض الذي يشترط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة" (¬4). قال ابن عبد البر: "لا أعلم خلافًا، أنه إذا اشترط العامل، أو رب المال على ¬
صاحبه شيئًا يختص به من الربح معلومًا ديناراً، أو درهما، أو نحو ذلك، ثم يكون الباقي في الربح بينهما نصفين، أو على ثلث، أو ربع، فإن ذلك لا يجوز ... " (¬1). وأما من المعقول: فإن في اشتراط دراهم معلومة، يحتمل ألا يربح غيرها، فيحصل على جميع الربح، ويحتمل ألا يربحها، فيأخذ من رأس المال جزءًا، وقد يربح كثيرًا فيستضر من شرط له نصيب معلوم، ولهذا قال الليث بن سعد: "إن الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر، لو نظر فيه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز" قال ابن القيم تعليقًا: فتبين أن النهي عن ذلك موجب القياس (¬2). وأما قولهم: إن في تحديد الربح منفعة للعامل ولرب المال. يقال جوابا على ذلك: إن الربا لا يخلو من منافع، ولكن إثم الربا وضرره أكبر من نفعه، وليس كل شيء يكون فيه نفع يكون مباحًا، حتى يغلب نفعه على ضرره. وأما قولهم: يجوز تحديد الربح مقدمًا، قياسًا على جواز الإيضاع، حيث يكون الربح كله لرب المال، أو قياسًا على جواز اشتراطه لأجنبي. فهذا من الخطأ، وبيان ذلك من وجوه: أ - أن هذا قياس في مقابلة النص، فهو فاسد الاعتبار. ب - لو صح ذلك لجاز أن يقال: في عقد القرض: إذا جاز أن يتبرع بربح جميع المال لغيره، جاز أن يتبرع بقدر محدد منه للمقرض، وهذا لا يقول به أحد. ¬
ج - اشتراط الربح لأجنبي مختلف فيه، والجمهور على منعه، فلا يجوز الاعتراض بأمر مختلف فيه على أمر مجمع عليه. د - لا يصح أن تقاس عقود المعاوضات على عقود التبرعات، وذلك أن عقود التبرعات يتسامح فيها ما لا يتسامح في عقود المعاوضات، حثًا للناس على التبرع، وترغيبًا لهم في ذلك، ألا ترى أن صورة القرض هي تمامًا صورة بيع النقد بالنقد نسيئة، لكن أبيح الأول؛ لأنه تبرع، ومنع الثاني؛ لأنه معاوضة، والغرر الكثير مؤثر في عقود المعاوضات بالاتفاق، أما في عقود التبرعات فالصحيح الذي عليه الجمهور أنه غير مؤثر (¬1). ¬
المبحث الأول إذا اشترط أحدهما أو كلاهما دراهم معلومة
المبحث الأول إذا اشترط أحدهما أو كلاهما دراهم معلومة اشتراط رب المال دراهم معلومة ربح أو خسر صريح الربا. [م - 1369] علمنا أن اشتراط أن يكون الربح لكل من المضارب ورب المال جزءًا شائعًا، نصفًا، أو ثلثاً، أو ربعًا محل اتفاق بين الفقهاء المتقدمين، لم يختلفوا على اعتبار هذا الشرط، وإذا تخلف هذا الشرط فسدت المضاربة، من ذلك: أن يشترط أحدهما أو كلاهما دراهم معلومة، سواء اكتفى بها، أو أضافها إلى جزئه كأن يقول: لي نصف الربح وعشرة دراهم. قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض الذي يشترط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة" (¬1). فإن كان المالك اشترط دراهم معلومة ربح أو خسر كان ذلك صريح الربا؛ لأن ذلك قرض بفائدة، وليست من المضاربة في شيء، ذلك أن المضاربة: هي دفع مال لآخر ليتجر به، على أن يكون الربح مشاعًا بينهما، كالنصف، أو الثلث، والخسارة على صاحب المال وحده، فالمضاربة شركة بين صاحب المال، وصاحب العمل. وإن كان ذلك الاشتراط للعامل، فلا يصح أيضًا: قال ابن قدامة: "وإنما لم يصح ذلك لمعنيين: أحدهما: أنه إذا شرط دراهم معلومة، احتمل أن لا يربح غيرها، فيحصل ¬
على جميع الربح، واحتمل أن لا يربحها، فيأخذ من رأس المال جزءًا، وقد يربح كثيراً فيستضر من شرطت له الدراهم. والثاني: أن حصة العامل ينبغي أن تكون معلومة بالأجزاء، لما تعذر كونها معلومة بالقدر، فإذا جهلت الأجزاء، فسدت، كما لو جهل القدر فيما يشترط أن يكون معلومًا به. ولأن العامل متى شرط لنفسه دراهم معلومة، ربما توانى في طلب الربح؛ لعدم فائدته فيه وحصول نفعه لغيره، بخلاف ما إذا كان له جزء من الربح" (¬1). ومثل هذا لو اشترط دراهم مسماة تضاف إلى نصيب أحدهما، أو تنقص منه، كما لو قال: لك نصف الربح، وزيادة مائة، أو قال: لك نصف الربح إلا مائة. وجاء في مغني المحتاج: "أو شرط له النصف ودينارًا مثلاً، أو إلا دينارًا فسد القراض؛ لانتفاء العلم بالجزئية؛ ولأن الربح قد ينحصر فيما قدره، أو في ذلك النصف، فيؤدي إلى اختصاص أحدهما بالربح، وهو خلاف وضع القراض" (¬2). ¬
المبحث الثاني أن يشترط ربح صنف معين من مال القراض
المبحث الثاني أن يشترط ربح صنف معين من مال القراض كل شرط يوجب قطع الشركة في الربح، أو يوجب جهالة فيه فإنه يفسد الشركة (¬1). [م - 1370] لا يجوز أن يشترط أحدهما أو كلاهما ربح صنف معين من مال القراض، كان يشترط ربح أحد السلعتين، أو إحدى السفرتين، أو ربح تجارة في شهر أو عام بعينه، قال ابن قدامة: ولا نعلم في هذا خلافًا (¬2). وقال في الإنصاف: بلا نزاع في ذلك (¬3). وقال ابن مفلح الصغير: بغير خلاف نعلمه (¬4). وجاء في الفتاوى الهندية: "ولو شرط لأحدهما ربح هذه المائة بعينها، أو ربح هذا النصف بعينه من المال فسدت (¬5). وقال الشيرازي: "ولا يجوز أن يخص أحدهما بربح ما في الكيسين؛ لأنه قد لا يربح في ذلك فيبطل حقه، أو لا يربح إلا فيه فيبطل حق الآخر" (¬6). ومستند الإجماع: ما رواه البخاري من حديث رافع بن خديج قال: كنا أكثر ¬
أهل المدينة حقلاً، وكان أحدنا يكري أرضه، فيقول: هذه القطعة لي، وهذه لك، فربما أخرجت ذه، ولم تخرج ذه، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (¬1). وفي رواية لمسلم: "إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا، ويسلم هذا، ويسلم هذا، ويهلك هذا, ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون، فلا بأس به" (¬2). ¬
المبحث الثالث أن يشترط ربح نصف المال من غير تعيين
المبحث الثالث أن يشترط ربح نصف المال من غير تعيين إذا قال المالك: خذا هذا المال مضاربة ولي ربح نصفه من غير تعيين، أو قال: لك ربح مائة درهم غير معينة من رأس المال. فاختلف العلماء في صحة المضاربة على قولين: القول الأول: تصح المضاربة، وهذا مذهب الحنفية. جاء في الفتاوى الهندية: "ولو شرط للمضارب ربح نصف المال، أو ربح ثلث المال كانت المضاربة جائزة، ولو شرط لأحدهما ربح مائة درهم لا بعينها من رأس المال جاز، ولو شرط لأحدهما ربح هذه المائة بعينها أو ربح هذا النصف بعينه من المال فسدت" (¬1). وجه القول بالصحة: أن الربح في هذه الحال في معنى اشتراط جزء شائع من الربح؛ فإذا قال له: ربح نصف المال بمنزلة قوله: لك نصف الربح. وقوله: لك ربح مائة درهم لا بعينها، وكان رأس المال مائتين كأنه قال: لك ربح نصف رأس المال؛ لأنه لما لم يعين المال أصبح شائعًا، فلا يؤدي إلى انقطاع الشركة. ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا تصح المضاربة، إذا قال المالك: خذ هذه الدراهم، ولك ربح نصفها، وهذا مذهب الجمهور (¬1). قال الماوردي من الشافعية: "ولو قال: خذ هذه الألف قراضًا, ولك ربح نصفها لم يجز، ولو قال: لك نصف ربحها جاز، والفرق بينهما: أنه إذا جعل له ربح نصفها صار منفردًا بربح أحد النصفين من غير أن يكون لرب المال فيه حق، وعاملًا في النصف الآخر من غير أن يكون له فيه حق، وهذا خارج عن حكم القراض، وليس كذلك إذا كان له نصف الكل" (¬2). قال في المغني: "وإن دفع إليه ألفاً، وقال: لك ربح نصفه لم يجز، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة وأبو ثور: يجوز ... ولنا أنه شرط لأحدهما ربح بعض المال دون بعض، وكذلك جعل الآخر فلم يجز كما لو قال: لك ربح هذه الخمسمائة، ولأنه يمكن أن يفرد نصف المال فيربح فيه دون النصف الآخر بخلاف نصف الربح فإنه لا يؤدي إلى انفراده بربح شيء من المال" (¬3)، والله أعلم. ¬
الشرط الثالث في اشتراط أن يكون الربح مخصوصا بالمتعاقدين
الشرط الثالث في اشتراط أن يكون الربح مخصوصًا بالمتعاقدين التبرع إما صدر من أهله فهو معتبر. قال الشلبي: مبنى التبرع على المساهلة (¬1). [م - 1371] استحقاق الربح في مال المضاربة راجع إما إلى تقديم المال، أو تقديم العمل، فالمالك يستحق الربح لتقديمه المال، والعامل يستحق الربح؛ لقيامه بالعمل في مال المضاربة، فإذا شرط أحد العاقدين في عقد المضاربة جزءًا من الربح لأجنبي، سواء كان هذا الأجنبي شخصًا، أو كان جهة كأن يشترط تقديم جزء من المال لجهة خيرية مثلاً، فإن كان هذا الأجنبي يساهم بنصيب من العمل فإنه يستحق الربح، ويصير الحال بمثابة ما لو دفع المالك المال إلى عاملين. أما إذا كان لا يساهم بأي عمل من أعمال المضاربة، فهل يصح هذا الشرط؟ وإذا كان لا يصح، فهل يكون اشتراط مثل هذا مفسدًا لعقد المضاربة، أو يبقى العقد صحيحًا، ويبطل الشرط وحده؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: المضاربة صحيحة، والشرط باطل، وهذا مذهب الحنفية (¬2). ¬
واستدلوا على صحة العقد وبطلان الشرط
واستدلوا على صحة العقد وبطلان الشرط: أما بطلان الشرط؛ فلأن الربح إنما يستحق بمال، أو عمل، أو ضمان، ولم يوجد شيء من ذلك، لذا كان الشرط باطلاً. وأما صحة العقد فلأن البطلان لم يتطرق إلى ركن العقد. ويناقش: الملك بعقد التبرع لا يشترط له مال، ولا عمل، ولا ضمان، فهو تبرع محض. القول الثاني: المضاربة صحيحة، والشرط صحيح، وهذا مذهب المالكية (¬1). واستدلوا على صحة العقد والشرط: أن العاقدين إذا تراضيا على إعطاء الربح لشخص ثالث كان ذلك تبرعا منهما، والعاقدان من أهل التبرع. القول الثالث: الشرط فاسد، والمضاربة فاسدة، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة (¬2). ¬
ويناقش
واستدلوا على فساد العقد والشرط: أن الشرط الفاسد يعود إلى العقد بالفساد كما لو شرط دراهم معلومة لأحدهما. ويناقش: بأن قياس التبرع على اشتراط دراهم معلومة قياس مع الفارق، فلا يصح القياس. الراجح: أرى أن مذهب المالكية هو القول الصحيح لصحة تعليله، وضعف تعليل غيره من الأقوال، والله أعلم. ¬
مبحث إذا قال المالك اعمل والربح كله لك أو كله لي
مبحث إذا قال المالك اعمل والربح كله لك أو كله لي العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني دون الألفاظ والمباني (¬1). [م - 1372] اختلف العلماء فيما إذا دفع رب المال ماله، وقال للعامل: ضارب والربح كله لك، أو كله لي، هل يكون قراضا، أو يكون قرضا؟ وإذا كان قراضًا هل يكون صحيحًا، أو فاسدًا؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: العقد صحيح، وينقلب العقد إلى قرض إن كان الربح كله للعامل، وإبضاع إن كان الربح كله للمالك، أي توكيل بلا أجر. وهذا مذهب الحنفية. جاء في بدائع الصنائع: "لو شرط جميع الربح للمضارب فهو قرض عند أصحابنا ... وعلى هذا إذا شرط جميع الربح لرب المال فهو إبضاع عندنا؛ لوجود معنى الإبضاع" (¬2). وجه هذا القول: بأن هذا العقد بهذا الشرط لا يمكن تصحيحه مضاربة، فأمكن تصحيحه قرضاً في الصورة الأولى، وإبضاعًا في الصورة الثانية وذلك أن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني. ¬
القول الثاني
القول الثاني: إذا قال: خذه هذا المال قراضًا والربح كله لك صح العقد مضاربة، والربح من قبيل الهبة، ولا يضمن مال القراض. وإن قال: خذه واعمل به، والربح لك صح أيضًا، وصار المال قرضا مضمونًا. وهذا مذهب المالكية. جاء في التاج والإكليل: "قال ابن المواز: إن قال رب المال للعامل حين دفع له المال: خذه قراضًا، والربح لك جاز وكان الربح للعامل، ولا يضمن المال إن خسره أو تلف، والقول فيه قول العامل. وإن لم يكن قراضًا، وإنما قال: خذه واعمل به، والربح لك جاز أيضاً، وهو ضامن لما خسر يريد إلا أن يشترط أن لا ضمان عليه فلا يضمن" (¬1). وهذا ما فهمه ابن قدامة، قال في المغني: "وإن قال: خذه مضاربة والربح كله لك أو كله لي، فهو عقد فاسد، وبه قال الشافعي ... وقال مالك: يكون مضاربة صحيحة في الصورتين؛ لأنهما دخلا في القراض، فإذا شرط لأحدهما فكأنه وهب الآخر نصيبه، فلم يمنع صحة العقد" (¬2). القول الثالث: إن قال: تصرف والربح كله لك أو كله لي، فالعقد صحيح، وكان قرضاً في ¬
الراجح من الخلاف
الأولى، وإبضاعًا في الثانية؛ لأن لفظ تصرف يحتمل المضاربة وغيره، وقد اقترن به ما يخلصه لأحدهما فغلب حكمه. وإن قال: ضارب به والربح كله لك، أو كله لي لم يصح قرضًا، وكان قراضًا فاسدًا؛ لأن عقد المضاربة يقتضي المشاركة بالربح، فإذا شرط اختصاص أحدهما بالربح فقد شرط ما ينافي مقتضى العقد. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬1). قال الشيرازي: "وإن قال: قارضتك على أن الربح كله لي، أو كله لك، بطل القراض؛ لأن موضوعه على الاشتراك في الربح، فإذا شرط الربح لأحدهما فقد شرط ما ينافي مقتضاه، فبطل. وإن دفع إليه ألفًا، وقال: تصرف فيه، والربح كله لك، فهو قرض، لا حق لرب المال في ربحه؛ لأن اللفظ مشترك بين القراض والقرض، وقد قرن به حكم القرض، فانعقد القرض به، كلفظ التمليك لما كان مشتركًا بين البيع والهبة إذا قرن به الثمن كان بيعًا" (¬2). الراجح من الخلاف: أرى أن قول المالكية قول وسط، بين الحنفية الذين ألغوا اللفظ وصححوا العقد وحملوه على عقد آخر، وبين الشافعية والحنابلة الذين أفسدوا العقد، فهم اعتبروا اللفظ فلم يخرجوه عن القراض، وصححوا العقد، وجعلوه من قبيل التبرع بنصيبه، والله أعلم. ¬
الشرط الرابع أن يكون المشروط للمضارب مشروطا من الربح
الشرط الرابع أن يكون المشروط للمضارب مشروطا من الربح المضاربة هي عقد شركة، والشركة في عقد المضاربة ليست شركة برأس المال، ولا بالعمل، فرأس المال مختص بالمالك، والعامل لا يشاركه في ذلك، والعمل مختص بالعامل، لا يشاركه في ذلك صاحب المال، وإنما المال المشترك بين المالك والعامل هو الربح فقط، وهذا يعني أمرين: الأول: أن يكون المشروط للمضارب مشروطًا من الربح. جاء في الفتاوى الهندية في معرض كلامه عن شروط المضاربة: "ومنها: أن يكون المشروط للمضارب مشروطًا من الربح، لا من رأس المال، حتى لو شرط شيئًا من رأس المال، أو منه ومن الربح فسدت المضاربة" (¬1). الثاني: لا يجوز أن يجعل للعامل جزء من ربح غير المال المتجر فيه؛ لأن العامل يستحق نصيبه من الربح في مقابل عمله، لا في مقابل عمل غيره. جاء في حاشية الخرشي: "واحترز بقوله: (من ربحه) مما إذا جعل للعامل جزءًا من ربح غير المال المتجر فيه، فإنه لا يجوز ... " (¬2). وقال في الشرح الكبير: "بجزء شائع كائن من ربحه، أي ربح ذلك المال لا بقدر معين من ربحه، كعشرة دنانير، ولا بشائع من ربح غيره" (¬3). ¬
الراجح: إذا كان نصيب العامل جزءًا شائعًا من ربح غير مال المضاربة، لم يكن العقد مضاربة، وإنما كان أجرة، والأجرة يجب أن تكون معلومة، ومضمونة، فإذا جعلها جزءًا شائعًا من ربح مال آخر غير مال المضاربة، فإنها لا تعلم الأجرة، وقد لا يحصل ربح، فلا يستحق الأجرة، وهذا لا يصح، والله أعلم.
مبحث في وقت امتلاك المضارب حصته من الربح
مبحث في وقت امتلاك المضارب حصته من الربح لا ربح في القراض إلا بعد سلامة رأس المال. الربح في القراض وقاية لرأس المال (¬1). إذا كان في المال ربح فإن العامل يستحق الربح المسمى بالشروط السابقة، وهذا لا خلاف فيه، كما أنهم متفقون على أنه ليس للمضارب ربح حتى يستوفي رأس المال. قال المرداوي في الإنصاف: "بلا نزاع" (¬2). قال ابن قدامة: لأن الربح هو الفضل عن رأس المال، فلو ربح في سلعة، خسر في أخرى، أو في سفرة، وخسر في أخرى جبرت الوضيعة من الربح" (¬3). واختلف العلماء في الوقت الذي يملك المضارب فيه حصته من الربح على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية والمالكية، وهو أظهر القولين في مذهب الشافعية، ورواية عن الإِمام أحمد إلى أن العامل يملك حصته من الربح بالقسمة، لا بالظهور، وشرط جواز القسمة قبض رأس المال، فلا تصح قسمة الربح قبل قبض رأس المال (¬4). ¬
جاء في بدائع الصنائع: "ما يستحقه المضارب بعمله في المضاربة الصحيحة هو الربح المسمى إن كان في المضاربة ربح، وإنما يظهر الربح بالقسمة، وشرط جواز القسمة قبض رأس المال، فلا تصح قسمة الربح قبل قبض رأس المال، حتى لو دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف، فربح ألفاً، فاقتسما الربح، ورأس المال في يد المضارب لم يقبضه رب المال، فهلكت الألف التي في يد المضارب بعد قسمتهما الربح، فإن القسمة الأولى لم تصح، وما قبض رب المال فهو محسوب عليه من رأس ماله، وما قبضه المضارب دين عليه يرده إلى رب المال، حتى يستوفي رب المال رأس ماله، ولا تصح قسمة الربح حتى يستوفي رب المال رأس المال .. " (¬1). وجاء في الهداية شرح البداية: "وإن كانا يقتسمان الربح، والمضاربة بحالها، ثم هلك المال بعضه أو كله ترادا الربح حتى يستوفي رب المال رأس المال؛ لأن قسمة الربح لا تصح قبل استيفاء رأس المال؛ لأنه هو الأصل، وهذا بناء عليه، وتبع له" (¬2). ¬
وجه من قال: لا يملك العامل الربح إلا بالقسمة
وقال النووي: "لو اقتسما الربح بالظهور، قبل فسخ العقد، لم يحصل الاستقرار، بل لو حصل خسران بعده كان على العامل جبره بما أخذ" (¬1). وجه من قال: لا يملك العامل الربح إلا بالقسمة: الربح في القراض وقاية لرأس المال، وهو لا يكون إلا فيما زاد على رأس المال، فلا ربح إلا بعد سلامة الأصل. ولأننا لو قلنا: إنه يملك الربح بالظهور لكان العامل شريكا في المال، حتى لو هلك منه شيء هلك من المالين مقسطًا على الأصل والربح؛ لأن تلف بعض المال المشترك لا يجوز أن يختص به بعض الشركاء فيه، وليس كذلك، فلما كان التالف محسوبًا من الربح فقط؛ لأنه وقاية لرأس المال علم أن العامل لم يكن شريكًا فيه، ولا مالكًا لشيء منه حتى يقسم. ولأن من كان شريكا في الربح إذا ظهر كان شريكا في الخسارة إذا وجدت، فلما لم يكن العامل شريكا في الخسارة، ولا ملتزمًا لشيء منها لم يكن شريكا في الربح لمجرد ظهوره. القول الثاني: يملك العامل حصته من الربح بمجرد الظهور، وقبل القسمة، ويستقر الملك بالمقاسمة، وبالمحاسبة التامة، وهذا قول في مذهب المالكية، وقول في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). ¬
وجه من قال: يملك بالظهور
قال ابن رجب في القواعد: "المضعارب هل يملك الربح بالظهور أم لا؟ ذكر أبو الخطاب أنه يملك بالظهور رواية واحدة. وقال الأكثرون: في المسألة روايتان: إحداهما: يملكه بالظهور، وهي المذهب المشهور. والرواية الثانية: لا يملك بدون القسمة، ونصرها القاضي في خلافه في المضاربة، ويستقر الملك فيها بالمقاسمة عند القاضي وأصحابه ولا يستقر بدونها. ومن الأصحاب من قال يستقر بالمحاسبة التامة كابن أبي موسى وغيره، وبذلك جزم أبو بكر عبد العزيز وهو المنصوص صريحا عن أحمد" (¬1). وقال ابن قدامة في الكافي: "ويملك العامل الربح بالظهور ... لأنه يملك المطالبة بقسمه، فملك كالمشترك، وإنما لم يختص بربحه؛ لأنه وقاية لرأس المال" (¬2). وجه من قال: يملك بالظهور: الوجه الأول: أن العامل يملك مطالبة رب المال بالقسمة إذا ظهر في المال ربح، ولو لم يكن شريكًا لم يملك المطالبة بمجرد الظهور. الوجه الثاني: أن المالك لو أتلف المال بعد أن ربح لغرم للعامل نصيبه من الربح، وهذا دليل على أنه ملكه بمجرد الظهور. ¬
الوجه الثالث
الوجه الثالث: لو لم يكن العامل مالكًا للربح بمجرد الظهور لم يقدم على الغرماء، وعلى مؤونة تجهيز المالك لتعلق حقه بالعين، بينما الغرماء يتعلق حقهم في الذمة، وما تعلق في العين مقدم على ما تعلق بالذمة. الوجه الرابع: ولأن هذا الربح مال لا بد له من مالك، ورب المال لا يملكه كله اتفاقًا, ولا تثبت أحكام الملك في حقه، فلزم أن يكون للمضارب. ثمرة الخلاف: لو أن عامل المضاربة اقتسم الربح بعد تنضيض رأس المال، ولم يستلم رب المال رأس المال. فعلى قول الجمهور الذي يقول لا يملك الربح بالظهور لو خسر المال يكون ما قبضه رب المال من رأس المال، وليس من الربح. فقد سبق أن نقلنا أن الكاساني قال: "لو دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف، فربح ألفًا، فاقتسما الربح، ورأس المال في يد المضارب لم يقبضه رب المال، فهلكت الألف التي في يد المضارب بعد قسمتهما الربح، فإن القسمة الأولى لم تصح، وما قبض رب المال فهو محسوب عليه من رأس ماله، وما قبضه المضارب دين عليه يرده إلى رب المال، حتى يستوفي رب المال رأس ماله، ولا تصح قسمة الربح حتى يستوفي رب المال رأس المال" (¬1). وعلى القول بأن المحاسبة بعد تنضيص المال يملك بها الربح، فإن العاقدين إذا أبقيا المضاربة فهي مضاربة ثانية، لا يجبر بها وضيعة الأول. ¬
روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن عوف، عن ابن سيرين في المضارب إذا ربح، ثم وضع، ثم ربح، قال: الحساب على رأس المال الأول إلا أن يكون ذلك قبضًا للمال، أو حسابًا كالقبض (¬1). فجعل المحاسبة كالقبض، ولو لم تحصل قسمة. ¬
الفصل السادس في حكم تصرفات المضارب
الفصل السادس في حكم تصرفات المضارب المبحث الأول تصرف المضارب بالبيع والشراء ولوازمها الإذن بالتجارة إذن في توابعها (¬1). كل من ملك التجارة يملك ما هو من توابعها (¬2). [م - 1373] فإذا دفع المالك المال إلى العامل، وكان العقد مطلقًا من غير قيد أو شرط بحيث لم يعين رب المال العمل، أو المكان، أو الزمان، أو من يعامله، فإن العقد يخوله البيع والشراء في جميع أنواع السلع، ومع سائر الناس. وهذا إجماع لدى الفقهاء. قال ابن المنذر: "واتفقوا أن للعامل أن يبيع ويشتري بغير مشورة صاحب المال" (¬3). ولأن المقصود من عقد المضاربة الربح، والربح لا يحصل إلا بهما. قال الكاساني: "القسم الذي للمضارب أن يعمله من غير التنصيص عليه، ولا قول: اعمل برأيك كالمضاربة المطلقة عن الشرط والقيد، وهي ما إذا قال له: خذ هذا المال واعمل به، على أن ما رزق الله من ربح فهو بيننا على كذا، ¬
أو قال: خذ هذا المال مضاربة على كذا، فله أن يشتري به ويبيع؛ لأنه أمره بعمل هو سبب حصول الربح، وهو الشراء والبيع، وكذا المقصود من عقد المضاربة هو الربح، والربح لا يحصل إلا بالشراء والبيع" (¬1). وقال البهوتي الحنبلي: "وحكم المضاربة حكم الشركة فيما للعامل أن يفعله من البيع والشراء، أو القبض والإقباض وغيرها" (¬2). ¬
الفرع الأول وإذا باع العامل بأقل من ثمن المثل
الفرع الأول وإذا باع العامل بأقل من ثمن المثل حكم المضارب حكم الوكيل في بيعه وشرائه (¬1). من تصرف لغيره بولاية، أو وكالة، ففاتت المصلحة مع اجتهاده، وعدم تفريطه فلا ضمان عليه (¬2). [م - 1374] اختلف العلماء فيما إذا باع العامل بأقل من ثمن المثل على أربعة أقوال: القول الأول: له أن يبيع بغبن فاحش، وهو قول أبي حنيفة (¬3). جاء في بدائع الصنائع: "وأما بيعه فعلى الاختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رضي الله تعالى عنهم في التوكيل بمطلق البيع، أنه يملك البيع نقدًا ونسيئة، وبغبن فاحش في قول أبي حنيفة رحمه الله فالمضارب أولى؛ لأن المضاربة أعم من الوكالة، وعندهما لا يملك البيع بالنسيئة، ولا بما لا يتغابن الناس في مثله" (¬4). القول الثاني: ليس له أن يبيع بغبن فاحش؛ لأنه بيع لم يؤذن فيه، وهو قول صاحبي أبي حنيفة، ومذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬5). ¬
القول الثالث
القول الثالث: البيع صحيح، ويضمن المضارب النقص؛ لأن الضرر ينجبر بضمان النقص، وهو القول المشهور في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في المغني: "وحكم المضارب حكم الوكيل في أنه ليس له أن يبيع بأقل من ثمن المثل ... فإن فعل: فقد روي عن أحمد أن البيع يصح، ويضمن النقص؛ لأن الضرر ينجبر بضمان النقص. والقياس أن البيع باطل، وهو مذهب الشافعي؛ لأنه بيع لم يؤذن فيه، فأشبه بيع الأجنبي. فعلى هذا إن تعذر رد المبيع ضمن النقص أيضا، وإن أمكن رده وجب رده إن كان باقيًا، أو قيمته إن كان تالفًا" (¬2). القول الرابع: يضمن المضارب النقص إذا فرط، أما إذا احتاط في البيع، ثم ظهر غبن أو عيب لم يقصر فيه، فهو معذور، وهو اختيار ابن تيمية (¬3). جاء في الفتاوى الكبرى لابن تيمية: "قال في المحرر: وإذا اشترى الوكيل، أو المضارب بأكثر من ثمن المثل، أو بدونه صح، ولزمه النقص والزيادة، ونص عليه. قال أبو العباس: وكذلك الشريك، والوصي، والناظر على الوقف وبيت المال ونحو ذلك، وقال: هذا ظاهر فيما إذا فرط، وأما إذا احتاط في البيع ¬
والشراء ثم ظهر غبن، أو عيب لم يقصر فيه، فهذا معذور يشبه خطأ الإِمام، أو الحاكم، ويشبه تصرفه قبل علمه بالعزل، وأبين من هذا الناظر، والوصي، والإمام، والقاضي إذا باع أو أجر أو زارع أو ضارب ثم تبين الخطأ فيه، مثل أن يأمر بعمارة أو غرس ونحو ذلك، ثم تبين أن المصلحة كانت في خلافه، وهذا باب واسع، وكذلك المضارب والشريك فإن عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولاية قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة، أو حصول المفسدة ولا لزوم عليه فيهما، وتضمين مثل هذا فيه نظر ... " (¬1). وأنا أميل إلى رأي ابن تيمية، فإن البائع إذا اجتهد، ولم يكن الباعث على ذلك محاباة، وقد بذل العامل جهده واستفرغ وسعه، ثم ظهر في ذلك أنه باع بأقل من ثمن المثل أن ذلك لا يدخل في ضمانه، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني إذا اشترى بأكثر من ثمن المثل
الفرع الثاني إذا اشترى بأكثر من ثمن المثل حكم المضارب حكم الوكيل في بيعه وشرائه (¬1). [م - 1375] سبق لنا خلاف العلماء فيما إذا باع المضارب بغبن فاحش، فهل يختلف الحكم فيما لو اشترى بغبن فاحش؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال، منها: القول الأول: هناك من العلماء من فرق بين البيع والشراء، فقال: يجوز له البيع بغبن فاحش، ولا يجوز له الشراء بأكثر من ثمن المثل، فإن اشترى بأكثر من ثمن المثل، أو بما لا يتغابن الناس في مثله كان مشتريًا لنفسه لا على المضاربة. وهذا قول أبي حنفية. وعللوا المنع بأن الإذن لا يقتضيه (¬2) , ولأنه بمنزلة الوكيل بالشراء، والوكيل لا يملك أن يشتري بأكثر من ثمن المثل، أو بما لا يتغابن الناس فيه (¬3). قال الكاساني: "المقصود من عقد المضاربة هو الربح، والربح لا يحصل إلا بالشراء والبيع، إلا أن شراءه يقع على المعروف، وهو أن يكون بمثل قيمة المشترى، أو بأقل من ذلك مما يتغابن الناس في مثله؛ لأنه وكيل، وشراء الوكيل يقع على المعروف" (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا فرق بين البيع والشراء، فليس له أن يبيع أو يشتري بغبن فاحش، وهو مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في إعانة الطالبين: "لا يتصرف بغبن فاحش في بيع أو شراء" (¬2). ودليلهم: بأنه شراء لم يؤذن فيه، فلم يصح. القول الثالث: إن اشترى بأكثر من ثمن المثل، فإما أن يشتري بعين مال المضاربة، أو يشتري في ذمته: فإن اشترى في الذمة صح الشراء ولزم العامل دون رب المال. وإن اشترى بعين مال المضاربة كان حكمه حكم البيع بأكثر من ثمن المثل، أي يصح الشراء، ويضمن العامل ما زاد عن ثمن المثل وهذا مذهب الحنابلة. قال ابن قدامة: "إذا اشترى بأكثر من ثمن المثل بعين المال، فهو كالبيع. وإن اشترى في الذمة، لزم العامل دون رب المال إلا أن يجيزه، فيكون له. هذا ظاهر كلام الخرقي (¬3). وجه التفريق بين الشراء في الذمة، والشراء بعين المال: أن العامل إذا اشترى بعين مال المضاربة فقد كان وكيلا عن المالك، فضمن للمالك ما زاده في الثمن؛ لأنه لم يؤذن له فيه. ¬
القول الرابع
وإن اشترى في ذمته، ولم يسم المالك، صح أن يكون تصرفه لنفسه، وليس للمضاربة، والله أعلم. القول الرابع: أن العامل إذا اشترى أو باع بأكثر من ثمن المثل كان تصرفه كتصرف الفضولي، موقوفاً على الإجازة، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). القول الخامس: إن أطلق الشراء ولم يذكر رب المال، كان الشراء للعامل، وإن صرح العامل للبائع بأنه يشتريه لفلان، فالبيع باطل، وهذا اختيار القاضي أبي يعلى من الحنابلة (¬2). القول السادس: يضمن المضارب الزيادة إذا فرط، أما إذا احتاط في الشراء، ثم ظهر غبن أو عيب لم يقصر فيه، فهو معذور، وهو اختيار ابن تيمية (¬3). وقد ذكرت دليله في المبحث السابق، فأغنى ذلك عن إعادته. الراجح: ما رجحته في موضوع البيع أرجحه في موضع الشراء حيث لا فرق، فإذا احتاط العامل في موضوع الشراء ثم ظهر غبن، أو عيب لم يقصر فيه، فهو معذور؛ لأن عامة من يتصرف لغيره بوكالة، أو ولاية قد يجتهد ثم يظهر فوات ¬
المصلحة، أو حصول المفسدة ولا لزوم عليه فيهما، وتضمين مثل هذا فيه نظر، والله أعلم.
الفرع الثالث في شراء المضارب سلعة من مال المضاربة
الفرع الثالث في شراء المضارب سلعة من مال المضاربة [م - 1376] اختلف العلماء في حق المضارب في شراء سلعة من مال المضاربة على أربعة أقوال: القول الأول: شراء المضارب سلعة من مال المضاربة يجوز مطلقًا، وهو مذهب الحنفية، والشافعية (¬1). جاء في بدائع الصنائع: "ويجوز شراء رب المال من المضارب، وشراء المضارب من رب الحال، وإن لم يكن في المضاربة ربح في قول أصحابنا الثلاثة" (¬2). وجه قول الحنفية: أن رب المال في مال المضاربة يملك الرقبة، ولا يملك التصرف، وملكه في حق التصرف كملك أجنبي. وللمضارب فيه ملك تصرف، لا ملك رقبة، فكان في حق ملك الرقبة كملك الأجنبي حتى لا يملك رب الححال منعه عن التصرف، فكان مال المضاربة في حق كل واحد منهما كمال الأجنبي، لذلك جاز الشراء بينهما (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا يجوز أن يشتري المضارب سلعة من مال المضاربة مطلقًا, ولو أذن له صاحب المال، وهذا قول زفر وأبي ثور، والقول الثاني في مذهب الشافعية (¬1). وجه قول من منع الشراء: أن المضارب وكيل، والوكيل لا يشتري ولا يبيع لنفسه، ولو أذن له؛ لأنه يجتمع له في عقده غرضان: الاسترخاص لنفسه، والاستقصاء للموكل، وهما متضادان فتمانعا. ونوقش: بأن المضارب ليس وكيلًا من كل وجه، فإن الوكيل ليس شريكًا في الربح بخلاف المضارب. القول الثالث: إن اشترى لنفسه من رب المال جاز مطلقًا بنقد كان، أو نسيئة، وإن اشترى سلعًا للقراض، فإن كان نقدًا كره، لئلا يكون ذلك حيلة إلى المضاربة بالعروض؛ لأن جزءًا من رأس المال سوف يرجع إلى ربه، ويكون جزء من رأس المال عروضًا، والأصل أن رأس المال يشترط فيه على المذهب أن يكون نقودًا. وإن كان شراؤه بنسيئة فيمنع؛ لأن العامل إذا اشترى بالدين فسوف يكون ضامنًا، فإذا أخذ رب المال الربح فقد أخذ ربح ما لم يضمن، ولا يجوز أن يأخذ رب المال ربح ما يضمنه العامل. هذا مذهب المالكية (¬2). ¬
ويناقش
ويناقش: بأن العامل إذا اشترى بالدين للقراض من ربه أو من غيره لم يكن ضامنًا ما دام أن ذلك بإذن رب المال، فالضمان على رب المال، وليس على العامل، فإذا أخذ رب المال ربح هذه المعاملة فقد أخذ ربح ما كان ضامنًا، والله أعلم. القول الرابع: إن ظهر في المال ربح لم يصح الشراء، وإن لم يظهر صح أن يشتري من رب المال أو من نفسه بإذن صاحب المال، وهذا مذهب الحنابلة (¬1). جاء في المغني: "وإن اشترى المضارب لنفسه من مال المضاربة، ولم يظهر في المال ربح صح، نص عليه أحمد، وبه قال مالك، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق" (¬2). وجاء في كشاف القناع: "وليس له أي المضارب الشراء من مال المضاربة إن ظهر في المضاربة ربح؛ لأنه شريك لرب المال فيه، وإلا بأن لم يظهر ربح صح، كشراء الوكيل من موكله، فيشتري من رب المال، أو من نفسه بإذن رب المال" (¬3). الراجح: أن عامل المضاربة إذا اشترى لنفسه من مال المضاربة جاز ذلك إن كان ¬
بموافقة رب المال؛ لأن الإنسان متهم في محاباة نفسه، والاستقصاء لها، والله أعلم.
الفرع الرابع في شراء رب المال من العامل
الفرع الرابع في شراء رب المال من العامل [م - 1377] اختلف الفقهاء في جواز شراء رب المال من المضارب من مال المضاربة على قولين: القول الأول: يصح، وهو مذهب الحنفية، والمالكية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). القول الثاني: لا يصح، وهو مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وجه القول بالصحة: أن رب المال في مال المضاربة يملك الرقبة، ولا يملك التصرف، وملكه في حق التصرف كملك أجنبي. وللمضارب فيه ملك تصرف، لا ملك رقبة، فكان في حق ملك الرقبة كملك الأجنبي حتى لا يملك رب المال منعه عن التصرف، فكان مال المضاربة في حق كل واحد منهما كمال الأجنبي، لذلك جاز الشراء بينهما (¬3). وجه القول بالمنع: بأن شراء المالك من مال المضاربة يؤدي إلى بيع ماله بماله، كما لو اشترى الرجل من وكيله، وهذا لا يصح. ¬
ونوقش
ونوقش: بأن مال المضاربة قد تعلق به حق المضارب، فجاز شراؤه منه، والله أعلم.
الفرع الخامس في بيع المضارب بالدين
الفرع الخامس في بيع المضارب بالدين الأذن المطلق ينصرف إلى ما جرت به العادة (¬1). المطلق يجري على إطلاقه حتى يقوم دليل التقييد (¬2). المطلق من العقود ينصرف إلى العرف والعادة عند المتعاقدين (¬3). [م - 1378] إذا اشترط رب المال على المضارب ألا يبيع إلا بالنقد، فإن هذا الشرط صحيح ملزم، فإن خالفه ضمن، وهذا بالاتفاق. قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن رب المال إذا نهى العامل أن يبيع نسيئة، فخالف، وباع بالنسيئة أنه ضامن" (¬4). ولأن المضارب تصرفه في المال قائم على إذن ربه، فلا يتصرف في غير ما أذن له. أما إذا كان العقد مطلقا لم يقيده بالبيع نقدًا، فهل يملك المضارب أن يبيع بالنسيئة، أو لا بد من الرجوع إلى صاحب المال واستئذانه؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: له ذلك بمطلق العقد، وهذا مذهب الحنفية، وأصح الروايتين في ¬
دليل القائلين بالجواز
مذهب الحنابلة (¬1). دليل القائلين بالجواز: يستدل القائلون بالجواز على أن البيع نساء من صنع التجار، وأنه طريق للحصول على الربح، وهو المقصود من عقد المضاربة. جاء في الهداية: "ويجوز للمضارب أن يبيع ويشتري بالنقد والنسيئة؛ لأن كل ذلك من صنع التجار، فينتظمه إطلاق العقد، إلا إذا باع إلى أجل لا يبيع التجار إليه؛ لأن له الأمر العام المعروف بين الناس، ولهذا كان له أن يشتري دابة للركوب، وليس له أن يشتري سفينة للركوب ... " (¬2). وقال محمَّد بن الحسن: إذا دفع إليه المال مضاربة، فلم يؤمر بشيء، ولم ينه عنه، فله أن يصنع فيه ما يصنع التجار في أموالهم من البيع بالنقد، والنسيئة، وهل يربح الناس عامة أرباحهم إلا في النسيئة، ألا ترى أن المضارب إذا دفع إليه المال مضاربة، ولم يسم له ما يشتري كان له أن يشتري جميع التجارات، فكذلك له أن يشتري ويبيع بالنقد والنسيئة حتى ينهى عن ذلك" (¬3). ¬
القول الثاني
وقال السرخسي: "البيع بالنسيئة من صنع التجار، وهو أقرب إلى تحصيل مقصود رب المال، وهو الربح، فالربح في الغالب إنما يحصل بالبيع بالنسيئة دون البيع بالنقد، ولأن تسليط المضارب على المال ليس بمقصود رب المال، إنما مقصوده تحصيل الربح بطريق التجارة، وذلك حاصل، والدليل على أن البيع بالنسيئة تجارة مطلقة، قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] فهذا يبين أن التجارة قد تكون غائبة، وليس ذلك إلا بالبيع بالنسيئة" (¬1). وجاء في الإنصاف: "وأما جواز البيع نساء، فأطلق المصنف فيه وجهين، وهما روايتان ... أحدهما: له ذلك، وهو الصحيح من المذهب" (¬2). وقال ابن قدامة: "المضارب وغيره من الشركاء إذا نص له على التصرف، فقال: نقدًا، أو نسيئة ... جاز، ولم تجز مخالفته ... وإن أطلق فلا خلاف في جواز البيع حالًا، وفي البيع نسيئة روايتان". القول الثاني: لا يبيع بالدين حتى يأذن له صاحب المال، وهو قول ابن أبي ليلى، ومذهب المالكية، والشافعية، وقول في مذهب الحنابلة إلا أن المالكية والشافعية قالوا: لا بد من الإذن الصريح وذلك بالتنصيص عليه، واكتفى الحنابلة في أحد القولين بالإذن العام كأن يقول له: اعمل فيه برأيك (¬3). ¬
وجه القول بالمنع
وجه القول بالمنع: أن المضارب نائب عن رب المال، والنائب لا يجوز له التصرف إلا على وجه النظر والحيطة، وفي البيع بالدين تغرير ومخاطرة، وأن الدين قد يحبس المال، ويحول بين المضارب وبين العمل على تنمية المال. الراجح: بعد استعراض أقوال العلماء أجد أن الخلاف في المسألة قوي جدًا، ذلك أن العلماء متفقون على أن العامل إنما يجب عليه أن يتصرف في عقد القراض بما يتصرف فيه الناس غالبًا في أكثر الأحوال، فإن رأى أن التصرف بالدين خارج عما يتصرف فيه الناس في الأغلب لم يجزه، ومن رأى أنه مما يتصرف فيه الناس أجازه، ولا شك أن البيع بالدين سبب للربح، وهو مقصود في عقد المضاربة، وفيه مخاطرة فقد يلحق المدين إعسار، أو يكون مماطلًا مما يعرض المال للخطر، أو للحبس فترة طويلة تضيع على رب المال وعلى العامل فرصًا من الربح، ولو قيل: إن كان الدين فيه توثقة من رهن أو ضمان جاز له أن يتعامل بالدين وإلا فلا كان لذلك القول قوة؛ لأن التوثقة تحمي المال من الضياع، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني للمضارب أن يستأجر من يساعده على أعمال التجارة
المبحث الثاني للمضارب أن يستأجر من يساعده على أعمال التجارة قال ابن قدامة: ما جرت العادة أن يستنيب فيه فله أن يستأجر من يفعله (¬1). [م - 1379] للمضارب أن يستأجر من يعاونه في أعمال التجارة ولا يحتاج ذلك إلى إذن من رب المال وإذا كان لا يستطيع المضارب القيام بذلك وحده، أو كان العمل مما لا يلزم المضارب فعله، كتحميل البضائع، وعلاج الدواب، وتركيب الآلات ونحو ذلك (¬2). قال السرخسي: "وله أن يستأجر معه الأجراء يشترون ويبيعون، ويستأجر البيوت والدواب لأمتعته التي يشتريها؛ لأن ذلك من صنع التجار، فالمضارب لا يستغني عن ذلك في تحصيل الربح" (¬3). ولأن الإنسان قد لا يتمكن من جميع الأعمال بنفسه، فيحتاج إلى الأجير. وقال سحنون كما في المدونة: "أرأيت المقارض، أله أن يستأجر الأجراء يعملون معه في المقارضة، ويستأجر البيوت ليجعل فيها متاع المقارضة، ويستأجر الدواب يحمل عليها متاع القراض؟ قال -يعني ابن القاسم- نعم، عند مالك هذا جائز" (¬4). ¬
وقال الشيرازي: "فأما ما لم تجر العادة أن يتولاه بنفسه، كحمل المتاع، ووزن ما يثقل وزنه، فلا يلزمه أن يتولاه بنفسه، وله أن يستأجر من مال القراض من يتولاه" (¬1). وأما ما جرت العادة أن يتولاه المضارب بنفسه فإنه يلزمه، فإن استأجر عليه فالأجر عليه في ماله خاصة؛ لأنه بذل الأجرة عوضًا عما يلزمه. قال ابن قدامة: "وعلى العامل أن يتولى بنفسه كل ما جرت العادة أن يتولاه المضارب بنفسه، من نشر الثوب، وطيه، وعرضه على المشتري، ومساومته، وعقد البيع معه، وأخذ الثمن وانتقاده، وشد الكيس وختمه، وإحرازه في الصندوق، ونحو ذلك، ولا أجر له عليه؛ لأنه مستحق للربح في مقابلته، فإن استأجر من يفعل ذلك، فالأجر عليه خاصة؛ لأن العمل عليه، فأما ما لا يليه العامل عادة مثل النداء على المتاع، ونقله إلى الختان، فليس على العامل عمله" (¬2). ¬
المبحث الثالث في حق المضارب في التوكيل
المبحث الثالث في حق المضارب في التوكيل جاء في الموسوعة الكويتية: من لا يعمل إلا بإذن لا يوكل إلا بإذن (¬1). وجاء في الإنصاف: ما جرت العادة أن يستنيب فيه فله، أن يستأجر من يفعله (¬2). [م - 1380] اختلف الفقهاء في حق المضارب في التوكيل دون أن يستأذن رب المال على قولين: القول الأول: كل ما كان للمضارب أن يفعله بنفسه، فله أن يوكل فيه غيره, وأما ما لا يفعله بنفسه فلا يجوز فيه وكالته على رب المال؛ لأنه لما لم يملك أن يعمله بنفسه فبوكيله أولى. وعلى هذا له أن يوكل في البيع والشراء؛ لأن التوكيل من عادة التجار، ولأنه طريق للوصول إلى المقصود، وهو الربح. وهذا مذهب الحنفية، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). جاء في الهداية شرح البداية: "والأصل أن ما يفعله المضارب ثلاثة أنواع: ¬
القول الثاني
نوع يملكه بمطلق المضاربة، وهو ما يكون من المضاربة وتوابعها، وهو ما ذكرنا، ومن جملته التوكيل بالبيع والشراء ... " (¬1). وقال في الإنصاف: "اعلم أن في جواز التوكيل في شركة العنان والمضاربة طريقين: ... الطريق الثاني: يجوز لهما التوكيل هنا، وإن منعنا في الوكيل، وقدمه في المحرر، ورجحه أبو الخطاب في رؤوس المسائل، وصححه في التصحيح، وذلك لعموم تصرفهما، وكثرته، وطول مدته غالباً، وهذه قرائن تدل على الإذن في التوكيل في البيع والشراء" (¬2). القول الثاني: ذهب المالكية، والشافعية والحنابلة في المشهور إلى أن المضارب ليس له التوكيل إلا أن يأذن له رب المال إلا أن الشافعية والحنابلة قالوا: إن ما لا يتولى مثله بنفسه، أو كان يكثر عليه بحيث يعجزه فله التوكيل (¬3). جاء في الإقناع في فقه الإِمام أحمد: "وليس له أن يوكل فيما يتولى مثله بنفسه" (¬4). ¬
الراجح
فالقاعدة عند الحنابلة أن حكم المضاربة حكم الشركة فيما للعامل أن يفعله، أو لا يفعله، وما يلزمه فعله (¬1). وقد سبق لنا حكم التوكيل في عقد الشركة، فارجع إليه إن شئت. الراجح: بعد استعراض الأقوال أجد أن مذهب الشافعية والحنابلة وسط بين المجيزين مطلقًا، وبين المانعين مطلقًا، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع حق المضارب في الإيداع
المبحث الرابع حق المضارب في الإيداع إطلاق التصرف للشريك محكوم بثلاثة أمور، بالعقد المتضمن الإذن، وبالعرف الجاري، وبما فيه مصلحة الشركة. [م - 1381] اختلف الفقهاء في حق المضارب في إيداع المال دون أن يأذن له ربه على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية، ورواية في مذهب الحنابلة، إلى أن لكل من الشريكين أن يودع مال الشركة (¬1). واستدلوا على ذلك: بأن المضارب إذا كان له أن يستأجر على حفظ المال، فكونه يودعه بلا أجر أولى بالجواز. ولأن عقد القراض يعطي العامل كل تصرف يكون فيه مصلحة للمال، والإيداع كذلك؛ إذ به يحفظ المال من السرقة، ويدفع به أخطار الطريق، فالإيداع اليوم من ضرورات التجارة؛ لأن العامل لا يقوى على حفظ المال كله بنفسه خاصة مع توسع التجارة، وتعدد الأسفار، وكثرة المشاغل. جاء في بدائع الصنائع: "وله أن يودع؛ لأن الإيداع من عادة التجار، ومن ¬
القول الثاني
ضرورات التجارة أيضا؛ لأنه لا بد للتاجر منه؛ لأنه يحتاج إلى ذلك عند اعتراض أحوال تقع عادة؛ لأن له أن يستحفظ المودع بأجر فبغير أجر أولى" (¬1). القول الثاني: لا يودع إلا إن كان هناك حاجة إلى الإيداع، فإن أودع بلا حاجة كان ضامنًا، وهو مذهب الجمهور (¬2). قال في التاج والإكليل: "وأما إيداعه، فإن كان لوجه عذر لنزوله ببلد، فيرى أن يودع؛ إذ منزله الفنادق، وما لا أمن فيه، فذلك له، وأما ما أودع لغير عذر فإنه يضمنه" (¬3). وجاء في تهذيب المدونة: "ولو أذن رب المال للعامل أن يبيع بالنقد والنسيئة فلا يودع أحدًا شيئًا إلا لعذر، فإن كان لغير عذر ضمن، ويعذر بالسفر، أو بمنزل خرب؛ إذ ليس بحرز، أو ليس عنده من يشق به، ولا يضمن في هذا" (¬4). الراجح: ما رجحته في عقد الشركة أرجحه في عقد القراض؛ لأن الباب واحد، وكما ¬
قال الحنابلة: إن حكم المضاربة حكم الشركة فيما للعامل أن يفعله، أو لا يفعله، وما يلزمه فعله (¬1). ¬
المبحث الخامس حق المضارب في السفر بالمال
المبحث الخامس حق المضارب في السفر بالمال الإذن المطلق ينصرف إلى ما جرت به العادة (¬1). [م - 1382] من حق المالك أن يمنع المضارب من السفر بالمال، وإن أذن له في السفر جاز. وهذا محل اتفاق. قال ابن المنذر: "واتفقوا أن صاحب المال إن أمر العامل أن لا يسافر بماله، فذلك جائز، ولازم للعامل، وأنه إن خالف فهو متعد". وقال الماوردي: "سفر العامل بمال القراض فلرب المال معه ثلاثة أحوال: أحدها: أن ينهاه عن السفر به ... فلا يجوز أن يسافر به إجماعًا، فإن سافر به ضمنه، والقراض في حاله صحيح. والحالة الثانية: أن يأذن له في السفر ... فيجوز له أن يسافر به إجماعًا. فإن أذن له في بلد، لم يجز له أن يسافر إلى غيره. والحالة الثالثة: أن يطلق فلا يأذن له في السفر ولا ينهاه، وقد اختلف الناس في جواز سفره بالمال" (¬2) على ثلاثة أقوال: القول الأول: يسافر بمال المضاربة بشرط أن تكون البلاد والطريق آمنة، وهذا مذهب ¬
واحتج القائلون بجواز السفر
الجمهور، وقول مرجوح في مذهب الشافعية (¬1). جاء في الفتاوى الهندية: "وللمضارب في المضاربة المطلقة أن يسافر بمال المضاربة في الرواية الظاهرة برًا، وبحرًا, وليس له أن يسافر سفرًا مخوفًا يتحامى الناس عنه في قولهم، وهو الصحيح، كذا في فتاوى قاضي خان ... " (¬2). وجاء في المدونة "قلت -القائل سحنون-: أرأيت المقارض أله أن يسافر بالمال إلى البلدان؟ قال: نعم إلا أن يكون قد نهاه، وقال له رب المال حين دفع إليه المال بالفسطاط: لا تخرج من أرض مصر، ولا من الفسطاط" (¬3). واحتج القائلون بجواز السفر: الدليل الأول: أن اسم المضاربة مشتق من الضرب في الأرض، وهو السير فيها ابتغاء الرزق، قال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]، فدخل في ذلك الضرب في الأرض طلبًا لتنمية المال. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن الإذن المطلق ينصرف إلى ما جرت به العادة، ومن عادة التجار السفر طلبًا للربح، وتنمية المال. الدليل الثالث: أن المقصود من الشركة الربح، وهو يتحقق في السفر أكثر من غيره. الدليل الرابع: إذا كان المودَع يملك أن يسافر بالمال، فالمضارب أولى؛ لأن المودَع والمضارب يجتمعان بأن كلًا منهما أمين، ويفترق المضارب بأن له التصرف في المال بخلاف المودع. القول الثاني: لا يسافر إلا بإذن صريح من المالك كان يقول: أذنت لك بالسفر، أو بقرينة دالة عليه كما لو دفع إليه مال المضاربة بمكان لا يصلح للإقامة، ولا للتجارة كالمفازة، فله أن يسافر إلى محل إقامته، وهذا مذهب الشافعية، ووجه في مذهب الحنابلة (¬1). واستدلوا على ذلك: بأن السفر تغرير بالمال، ومخاطرة، ولا يجوز له تعريض مال الغير للخطر إلا بإذن صاحبه. وبأن السفر يحمل المال نفقات قد تضر بصاحب المال، فاحتاج الأمر إلى الرجوع إلى وبه واستئذانه لذلك، والله أعلم. ¬
القول الثالث
القول الثالث: إن كان المال قليلاً فلا يسافر به سفرًا بعيدًا إلا بإذن ربه، وهذا قول سحنون من المالكية؛ وعلل ذلك بأن المال القليل لا يحتمل الإنفاق منه (¬1). وهذا القول لا أعده قولًا جديدًا؛ لأن المانع من السفر بالمال سفرًا بعيدًا ليس لكون العقد لا يقتضيه، وإنما من أجل الحيطة والنظر في الأصلح للمال، ولذلك القائلون بجواز السفر بالمال يشترطون سلامة الطريق وأمن البلاد، وهذا من نفس الباب، والله أعلم. القول الرابع: يسافر إلى موضع لا يبيت عن منزله، وهو قول مروي عن أبي يوسف (¬2). وجه ذلك: أنه إذا كان قريبًا بحيث يبيت في منزله أصبح في حكم الحاضر، وليس في حكم المسافر. القول الخامس: يسافر بما لا حمل له، ولا مؤونة، وهو قول محكي عن أبي يوسف (¬3). وجه ذلك: أن ما له حمل ومؤونة إذا احتاج شريكه إلى رده يلزمه مؤونة الرد، فيتضرر به، ولا مؤونة تلزمه فيما لا حمل له. ¬
الراجح
الراجح: ما رجحته في الشركة أرجحه في عقد المضاربة، وأن المرجع في تصرفات الشريك أن كل ما يتضمنه العقد، أو الإذن العرفي، أو مصلحة الشركة فإن المضارب له أن يتصرف فيه، ولو لم يرجع إلى صاحب المال، وإذا رجعنا إلى السفر رأينا أن فيه مصلحة للشريك وللعامل، وعرف التجار اليوم يقبله خاصة مع تداخل التجارة، وسهولة الاتصالات، وسرعة المبادلات، واعتماد التجارة اليوم على الاستيراد والتصدير، وفتح أسواق البلاد بعضها على بعض إلا أن ذلك مقيد بحالة الأمن دون حالة الخوف، ومناطق الحروب، والله أعلم.
المبحث السادس حق المضارب في النفقة
المبحث السادس حق المضارب في النفقة [م - 1383] ذهب الأئمة الأربعة إلى أن المضارب لا يستحق النفقة ما دام في الحضر (¬1)؛ لأنه دخل في المضاربة على أن له جزءًا مسمى من الربح فلم يستحق غيره. وخالف في ذلك اللخمي، فقال: إذا شغله العمل بالمال عن الوجوه التي يقتات منها فإن له الإنفاق من مال المضاربة، ولو كان ذلك في الحضر (¬2). وإذا اشترط العامل النفقة حضرًا، أو سفرًا صح الشرط؛ فالمسلمون على شروطهم، كذا إن كان هناك عادة جارية؛ لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطًا خلافًا للمشهور عند الشافعية، فقد قالوا: إذا شرط النفقة فسد العقد (¬3). ¬
القول الأول
فإن سافر بالمال من أجل التجارة، ولم يشترط النفقة على رب المال، ولم يكن هناك عادة جارية، فهل يحق له النفقة من مال المضاربة بمطلق العقد؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: له أن ينفق من مال المضاربة بالمعروف إن كان المال يحتمل ذلك، وهو مذهب الحنفية، والمالكية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). دليل من قال: له النفقة في السفر: أن إقامته في الحضر لم تكن من أجل المضاربة، فلم يستحق النفقة، وإنما يستحق مقابل ذلك الربح المسمى المتفق عليه، بخلاف السفر فإنه قد سافر من أجل المال، وحبس نفسه لأجله، وشغله ذلك عن الوجوه التي يقتات منها، فاستحق النفقة. القول الثاني: ليس له أن ينفق من مال المضاربة، وهو المعتمد عند الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). ¬
دليل من قال: لا يستحق النفقة من مال المضاربة
دليل من قال: لا يستحق النفقة من مال المضاربة: أن المضارب قد دخل على أنه يستحق من الربح الجزء المسمى، فلا يكون له غيره، ولأنه لو استحق النفقة أفضى إلى أن يختص بالربح؛ لأن المال قد لا يربح سوى ما أنفقه، وقد تكون النفقة أكثر من الربح، فيؤدي إلى أن يأخذ جزءًا من رأس المال، وهو ينافي مقتضى العقد. القول الثالث: ينفق ما يزيد بسبب السفر، وهذا قول مرجوح عند الشافعية (¬1). الراجح من الخلاف: إن كان هناك عرف أو عادة جارية عمل بها، وكذا إن اشترط العامل النفقة فله شرطه، أما إذا كان العقد مطلقاً فالقول إن له جميع نفقته فيه إضرار برب المال، والقول بعدم وجوب النفقة فيه إضرار بالعامل، والقول الوسط إن يقال: له أن ينفق على نفسه من الربح، وليس من رأس المال بمقدار ما زاد على نفقته في الحضر بسبب السفر، وكون النفقة من الربح فيه حماية لرأس المال؛ لأن السفر إنما كان لطلب الربح، فلتكن النفقة منه، وليس من رأس المال، والله أعلم. ¬
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد الخامس عشر
(ح) دبيان بن محمَّد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمَّد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة / دبيان محمَّد الدبيان - الرياض، 1432 هـ 620 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجموعة) ج 15 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ. العنوان ديوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (15)
المبحث السابع شراء المضارب بأكثر من رأس مال المضاربة
المبحث السابع شراء المضارب بأكثر من رأس مال المضاربة جاء في كشاف القناع: الاستدانة على الغير بغير إذنه لا تجوز (¬1). المأمور مقصور التصرف على ما تضمنه الأمر (¬2). [م - 1384] ذهب الأئمة الأربعة إلى أن العامل لا يشتري بأكثر من رأس مال المضاربة؛ لأن شراء العامل مبني على الإذن بالتصرف، والشراء بأكثر من رأس مال المضاربة لم يدخل في الإذن الممنوح للعامل (¬3). [م - 1385] فإن فعل واشترى بالدين فإن كان بغير إذن صريح من رب المال، فقد اختلف العلماء في حكم هذا التصرف على ثلاثة أقوال: القول الأول: الشراء صحيح، ويكون دينًا على المضارب في ماله، له ربحه، وعليه خسارته، وهذا مذهب الحنفية (¬4). القول الثاني: إن لم يرض رب المال بما فعله، فإن كانت السلعة متعينة متميزة فالعامل يستقل بربحها، وعليه خسارتها؛ لأنها مال العامل. ¬
القول الثالث
وإن كانت مختلطة غير متميزة كما لو اشترى سلعة بصفقة واحدة بأكثر من رأس المال فإن العامل يكون شريكًا، فإن كان اشترى السلعة بثمن مؤجل قومت حالة وكان شريكًا لصاحب المال بقدر قيمتها حالة، وهذا مذهب المالكية (¬1). القول الثالث: إن اشترى العامل بعين مال المضاربة، كأن يكون رأس مال المضاربة ألفاً، فاشترى سلعة بألف، وقبل أن ينقد المال اشترى سلعة أخرى بنفس الألف فالبيع باطل؛ لأن الثمن كان مستحقًا، وإن اشترى السلعة الثانية في ذمته كان له ربحه، وعليه خسارته، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬2). ويناقش: بأن الثمن إذا كان من النقود فإنها لا تتعين بالتعيين، وبالتالي يصح الشراء الثاني حتى لو اشترى المضارب بالنقود نفسها التي اشترى بها السلعة الأولى؛ لأن حق الأول لم يتعين في تلك النقود خاصة، ولو دفع المضارب بدلها لزم البائع قبولها على الصحيح، فيبقى الشراء الثاني شراء صحيحًا للمضارب، وليس لرب المال، والله أعلم. [م - 1386] فإن أذن صاحب المال للعامل في الاستدانة: فقيل: يجوز، وهو مذهب الجمهور (¬3). ¬
القول الأول
جاء في بدائع الصنائع: "وإن أذن للمضارب أن يستدين على مال المضاربة جاز له الاستدانة ... " (¬1). وقيل: لا يجوز، وهو مذهب المالكية، ورواية في مذهب الحنابلة (¬2). هذا فيما يتعلق بالخلاف في حكم تصرف العامل. [م - 1387] وكما اختلفوا في حكم تصرفه، فقد اختلفوا في حكم ما يشتريه على أربعة أقوال: القول الأول: إن ما يستدينه العامل يكون شركة بينهما شركة وجوه، وكان المشترى بينهما نصفين، وسواء كان الربح بينهما في المضاربة نصفين، أو أثلاثًا، وهذا مذهب الحنفية (¬3). القول الثاني: إن كان الشراء بالدين شرطاً في العقد فسدت المضاربة، وإن لم يكن شرطاً، فإن اشترى العامل ذلك لنفسه كان شريكا كما تقدم ولا خيار لصاحب المال. وإن اشترى العامل ذلك للمضارية فقيل: حكمه حكم ما لو اشترى ذلك لنفسه أي يكون شريكا بقدر ما اشتراه، وهذا أحد القولين في مذهب المالكية. القول الثالث: يخير رب المال بين أن يدفع قيمة ما زاد، فيكون الجميع مضاربة، وبين ¬
القول الرابع
عدم قبوله للدفع فيشارك العامل كما تقدم، وهذا القول اختاره بعض المالكية (¬1). القول الرابع: إذا أذن له يعتبر زيادة في مال المضاربة، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة (¬2). الراجح: الذي أراه أنه لا يجوز له الشراء بأكثر من رأس مال المضاربة إلا بإذن صريح، فإن أذن له جاز، وكان هذا كما لو اتفقا على زيادة رأس مال المضاربة. وإن لم يأذن له، فإن اشترى العامل ذلك لنفسه فهو له، وإن اشترى ذلك على أنه للمضاربة كان موقوفًا على الإجازة، فإن أجازه كان ذلك زيادة في رأس مال المضاربة، وإلا لزم العامل ما اشتراه، والله أعلم. ¬
المبحث الثامن دفع العامل مال المضاربة إلى مضارب جديد
المبحث الثامن دفع العامل مال المضاربة إلى مضارب جديد قال ابن قدامة: الإذن إذا اختص بشيء لم يتجاوزه (¬1). إذا رغب العامل في أن يدفع المال، أو جزءًا منه إلى مضارب آخر، فما حكم ذلك؟ نذكر محل الوفاق، ثم ننتقل إلى محل الخلاف: [م - 1388] اتفقوا على أن العامل لا يملك ذلك بمطلق العقد. ومن باب أولى لا يملكه إذا تضمن العقد منعًا صريحًا من فعل ذلك. لأن المضاربة من العقود التي تراعى فيها شخصية المتعاقدين، فإذا وثق رب المال بالعامل فلا يعني هذا أنه يثق بغيره. ولأن الوكيل بالبيع مطلقاً لا يملك أن يوكل غيره، فكذلك عامل المضاربة. ولأن تصرف المضارب مبني على إذن صاحب المال، فإذا لم يأذن رب المال للعامل أن يدفع ماله إلى غيره لم يملك ذلك بمطلق العقد (¬2). [م - 1389] واختلفوا في جواز ذلك إذا تضمن العقد الاذن الصريح، على قولين: ¬
القول الأول
القول الأول: ذهب الجمهور إلى أن له فعل ذلك، وهو أحد القولين في مذهب الشافعية (¬1). لأن الحق لرب المال، وقد أذن له في ذلك، وكما يجوز للمالك أن يقارض شخصين في الابتداء، فكذلك هنا. القول الثاني: لا يصح، ولو أذن له رب المال، وهو أصح القولين في مذهب الشافعية (¬2). جاء في مغني المحتاج: "ولو قارض العامل شخصًا آخر بإذن المالك ليشاركه ذلك الآخر في العمل، والربح لم يجز في الأصح؛ لأن القراض على خلاف القياس، وموضوعه أن يكون أحد العاقدين مالكاً، لا عمل له، والآخر عاملاً، ولو متعددًا لا ملك له، وهذا يدور بين عاملين فلا يصح. والثاني: يجوز، كما يجوز للمالك أن يقارض شخصين في الابتداء، وقواه السبكي ... " (¬3). وهذا الخلاف في حالة الإذن الصريح، أما إذا قال رب المال للعامل: اعمل فيه برأيك، ولم ينص صراحة على الإذن بدفع المال إلى مضارب آخر، فهل يملك العامل أن يدفع المال إلى مضارب آخر بهذا التفويض العام، اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: ¬
القول الأول
القول الأول: له أن يدفع المال إلى مضار آخر بالتفويض العام، وهذا مذهب الحنفية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). جاء في المغني: "وإن قال: اعمل برأيك، أو بما أراك الله جاز له دفعه مضاربة، نص عليه؛ لأنه قد يرى أن يدفعه إلى أبصر منه" (¬2). وجه القول بالجواز: أنه حين قال له: اعمل برأيك قد فوض إليه التصرف في كل ما هو من أعمل التجارة، ومن ذلك دفعه مضاربة إلى رجل آخر. القول الثاني: لا يكفي التفويض بل لا بد من الإذن الصريح، وهذا مذهب المالكية، والشافعية (¬3). قال في الحاوي: "لا يجوز أن يقارض غيره إلا بإذن صريح من رب المال ... " (¬4). ¬
وجه القول بالمنع
وجه القول بالمنع: أن قوله: اعمل فيه برأيك يقتضي أن يكون عمله فيه موكولًا إلى رأيه، فإذا دفع العامل المال إلى غيره ليضارب به كان العمل لرأي غيره، وليس لرأيه. وإذا عرفنا خلاف العلماء في حكم دفع العامل مال المضاربة إلى عامل آخر ليضارب به، فإن الخلاف فيها كالخلاف فيما لو دفع العامل مال المضاربة أو جزءًا منه ليشارك به أجنبيًا، كأن يعقد العامل شركة عنان مع الغير، فإن منعه رب المال، أو كان العقد مطلقًا لم يملك العامل أن يشارك بمال المضاربة، وإن أذن له صراحة ملك ذلك بالنص عليه، وإن قال له: اعمل فيه برأيك اختلف فيه الفقهاء بين الحنفية والحنابلة القائلين بالجواز، وبين المالكية والشافعية القائلين بالمنع، تمامًا كما جرى الخلاف بينهم في دفع مال المضاربة إلى مضارب آخر، والله أعلم.
المبحث التاسع خلط مال المضاربة بمال آخر
المبحث التاسع خلط مال المضاربة بمال آخر الفرع الأول خلط مال المضاربة بمال مضاربة أخرى والمالك واحد [م - 1390] إذا دفع الرجل مالاً قراضًا إلى آخر ليعمل به، ثم دفع إليه مالاً آخر، فهل يجوز ضم المال الثاني إلى الأول؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال، منها: القول الأول: ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الخلط إن كان بعد التصرف في المال الأول لم يجز (¬1). قال ابن قدامة: "وإذا دفع إليه ألفا مضاربة، ثم دفع إليه ألفا آخر مضاربة، وأذن له في ضم أحدهما إلى الآخر قبل التصرف في الأول، جاز، وصارا مضاربة واحدة، كما لو دفعهما إليه مرة واحدة. وإن كان بعد التصرف في الأول في شراء المتاع، لم يجز؛ لأن حكم الأول استقر، فكان ربحه وخسرانه مختصًا به، فضم الثاني إليه يوجب جبران خسران أحدهما بربح الآخر، فإذا شرط ذلك ¬
القول الثاني
في الثاني فسد. فإن نص الأول، جاز ضم الثاني إليه لزوال هذا المعنى. وإن لم يأذن له في ضم الثاني إلى الأول، لم يجز له ذلك. نص عليه أحمد" (¬1). القول الثاني: فصل الحنفية في المسألة على النحو التالي: جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "لو أعطى رب المال للمضارب عشرة دنانير بطريق المضاربة، ثم أعطاه ثانيا بعقد آخر عشرة دنانير مضاربة، وخلط المضارب رأسي المال هذين ففي ذلك أوجه ثلاثة: الوجه الأول: أن يكون رب المال قد قال للمضارب في العقدين: اعمل برأيك، ففي هذه الصورة لا يتوجب على المضارب ضمان مطلقاً، سواء حصل هذا الخلط بعد حصول الربح في رأسي المال أو قبل ذلك. الوجه الثاني: أن لا يقال شيء من ذلك في العقدين. وفي هذه الحال إذا وقع الخلط قبل حصول الربح في المالين، فلا يلزم المضارب ضمان في أيهما، وإذا وقع الخلط بعد حصول الربح في رأسي المال فيضمن المضارب رأسي المال كما يضمن مقدار حصة رب المال من الربح الذي حصل قبل الخلط، وإذا حصل الخلط بعد ظهور الربح في أحد رأسي المال فيضمن المضارب رأس المال الذي لم يظهر ربحه فقط. الوجه الثالث: أن يقال في أحد العقدين: اعمل برأيك، ولا يقال ذلك في العقد الثاني ... ¬
وفي هذه الحال أربع صور: (1) أن يكون الخلط قبل ظهور الربح في المضاربتين. (2) أن يكون الخلط بعد ظهور الربح في المضاربتين. (3) أن يكون الخلط بعد ظهور الربح في المضاربة الأولى. (4) أن يكون الخلط بعد ظهور الربح في المضاربة الثانية. فإذا قيل في المضاربة الأولى اعمل برأيك ولم يقل في المضاربة الثانية ففي الصورتين الثانية والثالثة يضمن المضارب مال المضاربة الثاني. وفي الصورتين الأولى والرابعة لا يضمن أي رأس مال. وإذا قيل له في المضاربة الثانية اعمل برأيك ولم يقل له في المضاربة الأولى ذلك ففي الصورتين الثانية والرابعة يضمن رأس مال المضاربة الثانية وفي الصورتين الأولى والثالثة لا يضمن مال المضاربة الأولى، ولا مال المضاربة الثانية" (¬1). فتبين من هذا أن الحنفية يتفقون مع الجمهور بأن الخلط إذا كان بعد التصرف الأول، ولم يفوض له التصرف أنه لا يجوز الخلط. ويختلفون مع الجمهور بأن الخلط إذا كان مبنيًا على تفويض من رب المال، بأن قال له: اعمل برأيك فإن الخلط لا يضر ولو كان ذلك بعد التصرف في المال الأول. وهل يشترط للخلط أن يكون نصيب العامل من الربح متفقًا في المالين، كالنصف مثلاً؟ ¬
القول الأول
في ذلك خلاف بين الفقهاء أيضًا على قولين: القول الأول: ليس ذلك بشرط، وهو مذهب الحنفية، واختيار سحنون من المالكية. جاء في المبسوط: "ولو دفع إليه ألف درهم مضاربة بالنصف، ودفع إليه ألفا أخرى مضاربة بالثلث أيضاً، ولم يقل في واحد منهما: اعمل فيه برأيك، فخلطهما المضارب قبل أن يعمل بشيء منهما، ثم عمل، فربح، أو وضع، فلا ضمان عليه، والوضيعة على رب المال؛ لأن المالين على ملك رب المال، والمضارب أمين فيهما، والأمين بخلط الأمانة بعضها ببعض لا يصير ضامنًا؛ لأن الخلط إنما يكون موجبا للضمان باعتبار أن فيه معنى الاستهلاك لمال رب المال، أو معنى الشركة فيه، وذلك لا يوجد إذا خلط بماله ماله، فإن ربح في المالين ربحا قسما نصف الربح نصفين، والنصف الآخر أثلاثا؛ لأن نصف الربح حصة الألف المدفوعة إليه مضاربة بالنصف، والنصف الآخر حصة الألف المدفوعة إليه مضاربة بالثلث، فما يكون من ربح كل واحد منهما بعد الخلط معتبر به قبل الخلط. وإن ربح في أحدهما ووضع في الآخر قبل أن يخلطهما فالربح بينهما على الشرط، والوضيعة على المال الآخر، ولا يدخل أحد المالين في المال الآخر ... " (¬1). القول الثاني: إن كان نصيب العامل مختلفًا لم يصح الخلط. وهذا مذهب المالكية والشافعية (¬2). ¬
جاء في التاج والإكليل: "وقال مالك: فيمن دفع إلى رجل مالين، أحدهما على النصف، والآخر على الثلث على أن يخلطهما لم يجز. قال سحنون: ويجوز على أن يخلطهما؛ لأنه يرجع إلى جزء واحد معلوم" (¬1). وجاء في مغني المحتاج: "إن شرط الربح فيهما مختلفا امتنع الخلط" (¬2). ¬
الفرع الثاني خلط مال المضاربة بمال العامل أو بمال أجنبي
الفرع الثاني خلط مال المضاربة بمال العامل أو بمال أجنبي الإذن المطلق ينصرف إلى ما جرت به العادة (¬1). [م - 1391] إذا كان من عادة التجار أن المضاربين يخلطون أموال المضاربة بأموالهم، وأن أرباب الأموال لا ينهونهم عن ذلك، فقام المضارب بخلط مال المضاربة بماله بناء على معاملات الناس، وما تعارفوه بينهم فلا يضمن العامل بالخلط (¬2). وإذا اشترط رب المال على المضارب ألا يخلط ماله بمال غيره كان الشرط صحيحًا لازمًا (¬3). أما إذا كان العقد مطلقاً، ولم يكن هناك عرف جار، فهل يملك العامل أن يخلط ماله أو مال غيره بمال المضاربة، أو لا بد من الرجوع إلى رب المال واستئذانه، اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ليس له ذلك إلا أن يأذن رب المال، أو يفوض له التصرف بأن يقول له: اعمل فيه برأيك، وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة (¬4). ¬
وجه المنع
وجه المنع: لا يملك المضارب خلط المال بمطلق العقد؛ لأن رب المال لم يرض بشركة غيره، وهو أمر زائد على ما تقوم به التجارة، فلا يتناوله مطلق عقد المضاربة (¬1)، فإن فعل ولم يتميز ضمنه؛ لأنه أمانة فهو كالوديعة، إلا أنه إذا قال له: اعمل فيه برأيك جاز له ذلك ... لأنه قد يرى الخلط أصلح له، فيدخل في قوله: اعمل برأيك (¬2). القول الثاني: لا يكفي التفويض العام بل لا بد من الإذن الصريح، وإلا كان ضامنًا, ولم ينعزل بذلك. وهذا مذهب الشافعية (¬3). ودليلهم: ما تقدم عن دليل الحنفية والشافعية عن كون العقد المطلق لا يعطي المضارب حق الخلط؛ فيعتبر متعديًا، ويضمن بذلك إلا أن يأذن له رب المال. القول الثالث: له خلط المال بشروط: أحدها: أن يكون خلط المال بدون اشتراط، فإن اشترط الخلط في العقد فسد العقد، وللعامل أجرة مثله (¬4). ¬
الراجح
الثاني: أن يكون المالان مثليين، وقيل: يجوز خلط المقوم بمثله. الثالث: أن يكون الخلط قبل شغل أحدهما. قال محمَّد البناني كما في حاشية الدسوقي: لم أر من ذكر هذا الشرط، وظاهر التوضيح خلافه. الرابع: أن يكون في الخلط مصلحة غير متيقنة، فإن تيقنت المصلحة تعين الخلط. فإذا تحققت هذه الشروط لم يعتبر العامل متعديًا بخلطه المال، وهذا مذهب المالكية (¬1). الراجح: أن العامل لا يجوز له أن يخلط مال القراض بماله ولا مال غيره إلا أن يكون هناك إذن صريح، أو تفويض بالتصرف كان يقول له: اعمل برأيك، أو عادة جارية بين التجار، ولا بد أن يكون الخلط مبنيًا على مصلحة لرب المال أو لهما، فإن لم يكن هناك تفويض ولا عادة، وكانت المصلحة للعامل وحده، ولم يكن لرب المال مصلحة من خلط المال فلا يجوز له الخلط، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث خلط المال في المضاربة المشتركة في المصارف الإسلامية
الفرع الثالث خلط المال في المضاربة المشتركة في المصارف الإِسلامية المسألة الأولى تعريف المضاربة المشتركة اتجهت المصارف الإِسلامية إلى عقد المضاربة باعتباره طريقًا من طرق التمويل الإِسلامية إلا أنها نقلت المضاربة من عقد بسيط يقوم بين فردين، يقدم أحدهما المال، والآخر العمل إلى مضاربة جماعية تضخ فيها أموال جمع كبير من الناس في وعاء واحد، ويقوم البنك بخلطها بغرض استثمارها أو دفعها لمن يستثمرها في مشاريع مختلفة. وقد يقدم المصرف جزءًا من ماله، ويخلطه في مال المضاربة، فيكون مضاربًا، وشريكا في نفس الوقت. ولما كانت المضاربة في هذه الصورة لم تكن موجودة في الفقه الإِسلامي القديم، كان البحث محتاجًا إلى دراسة وتأصيل هذا العقد، وتخريج هذا العقد على قواعد الفقهاء التي وضعوها للمضاربة الفردية، ومحاولة الوقوف على حكم التصرفات المحدثة فيه، ومنها توصيف العلاقة بين أرباب الأموال أنفسهم بعضهم ببعض، وتوصيف علاقة أرباب الأموال مع المصرف (البنك)، وهذا ما سوف أتوجه له بالدراسة إن شاء الله تعالى، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ولما كان الدخول في معرفة الأحكام المتعلقة بالمضاربة المشتركة يستلزم تقديم تعريف للمضاربة المشتركة وبيان أطراف العقد فيها، والفرق بينها وبين
تعريف المضاربة المشتركة
المضاربة البسيطة؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ناسب أن أبدا في تقديم التعريف قبل الولوج في الأحكام الفقهية. تعريف المضاربة المشتركة: المضاربة المشتركة: هي شركة في الربح بين البنك وعملائه يكون فيها البنك مضاربًا مع حقه في خلط أموال العملاء والسماح لهم بالدخول والانسحاب على أسس يتفق عليها في العقد (¬1). والخطوات المتبعة لتنفيذ عقد المضاربة المشتركة كالآتي: (1) يتقدم أصحاب رؤوس الأموال بدفع مدخراتهم بصورة فردية إلى المصرف الإِسلامي، وذلك بغرض أن يقوم المصرف باستثمارها لهم فيما يراه مناسبًا، وبذلك ينشأ عقد مضاربة بين أصحاب الأموال وبين المصرف بصورة فردية، وهذا لا يشكل فرقًا بين المضاربة القديمة (البسيطة) وبين المضاربة المشتركة. (2) يخلط المصرف أموال أصحاب رؤوس الأموال، وذلك إما بإذن لفظي أو عرفي من أصحاب الأموال، وربما شاركهم في دفع حصة من رأس المال، ليكون البنك مضاربًا وشريكًا في نفس الوقت. وهذا أيضا لا يمكن اعتباره فرقًا بين المضاربة القديمة والمضاربة المشتركة إلا أن البنك يقوم بخلط المال بعد التصرف فيه، وجمهور الفقهاء يشترطون لصحة الخلط أن يكون ذلك قبل التصرف في المال خلافًا للحنفية كما سيأتي بحثه إن شاء الله تعالى. ¬
أطراف العقد
(3) يقوم البنك بدفع هذه الأموال إلى مجموعة من المستثمرين كل على حدة. وهذا أيضًا لا يشكل فرقًا بين المضاربة القديمة والمضاربة المشتركة، حيث تكلم الفقهاء بأن للعامل أن يدفع المال إلى مضارب آخر إذا أذن له صاحب المال. (4) يحق لكل واحد من أصحاب الأموال الدخول في عقد المضاربة متى شاء، والخروج منها متى شاء، وتبقى المضاربة مستمرة، ولا شك أن هذا فارق جوهري بين المضاربة القديمة، والمضاربة المشتركة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى من خلال دراسة الأحكام. (5) تحتسب الأرباح في المضاربة البسيطة عن طريق التنضيض الحقيقي، وهو تحويل العروض إلى نقد، بينما في المضاربة المشتركة تحتسب الأرباح بحسب الاتفاق يوميًا، أو أسبوعيًا، أو شهريًا يناء على ما يسمى بالتنضيض الحكمي. ولا شك أن هذا فارق آخر بين المضاربة القديمة والمضاربة المشتركة. أطراف العقد: (1) المضارب (العامل) ويمثله البنك الذي يكون مسؤولًا عن العمل في رأس مال المضاربة المشتركة، وقد يدفع البنك مال المضاربة إلى مستثمر آخر، فيكون عاملًا من جهة، ومالكًا من جهة أخرى. (2) رب المال: ويمثله العملاء الذين يقدمون رأس مال المضاربة. (3) رأس مال المضاربة، وهو المبلغ النقدي الذي يسلمه العملاء إلى البنك عند التعاقد، وهو قابل للتغير حسب الإضافة أو السحب خلال مدة المضاربة.
(4) الربح: وهو المبلغ الزائد على رأس المال عند تاريخ التنضيض الحكمي، أو الفعلي لأعمال المضاربة وحسم نفقاتها. (5) الخسارة: وهي النقصان الذي يصيب رأس مال المضاربة بعد التنضيص الحكمي أو الفعلي.
المسألة الثانية التوصيف الفقهي لعتهد المضاربة المشتركة
المسألة الثانية التوصيف الفقهي لعتهد المضاربة المشتركة عقد المضاربة يشتمل على أطراف ثلاثة: (1) أصحاب الأموال (الودائع). (2) المصرف الإِسلامي. (3) المستثمرون، وسوف ندرس علاقة كل واحد من هؤلاء بعضهم ببعض. الأول: علاقة أرباب الأموال بعضهم ببعض: الثاني: علاقة أرباب الأموال بالبنك: [ن -228] أما علاقة البنك (المصرف الإِسلامي) بأصحاب الودائع، فاختلف فيها العلماء المعاصرون إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: اتجه أكثر الباحثين، وبه صدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي على أن علاقة أصحاب الأموال بالمصرف الإِسلامي هي علاقة مضاربة مطلقة. فالعامل: هو المصرف الإِسلامي أو المؤسسة المالية باعتباره شخصية اعتبارية معنوية (¬1). ¬
صاحب المال: هم أصحاب الودائع، ويتم التعاقد معهم بشكل فردي، ثم تخلي أموالهم بعضها ببعض، وهذا لا يشكل فرقًا بين المضاربة الفردية، والمضاربة المشتركة، ذلك أن جمهور الفقهاء أجازوا للعامل في المضاربة الفردية أن يضارب لأكثر من رب مال واحد. وأن العامل له أن يخلط مالهم بعضه ببعض، سواء كان يملك ذلك بمطلق ¬
القول الثاني
العقد كما يراه المالكية، أو يملكه عن طريق الإذن من أصحاب الأموال كما يراه الجمهور، إلا أن جمهورهم اشترطوا لصحة الخلط أن يكون ذلك قبل أن يعمل المضارب في المال الأول خلافا للحنفية، وسوف يأتي بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى في بحث مستقل لأهميتها. وإذا قام المصرف بتقديم حصة من المال أصبح مضاربًا وشريكا في نفس الوقت إذا كان ذلك بإذن من المستثمرين، ويكفي لثبوت إذنهم أن يعلن ذلك في النشرة، ويدخل أصحاب الأموال بعد الاطلاع عليها. جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي: "المستثمرون بمجموعهم هم أرباب المال، والعلاقة بينهم بما فيهم المضارب إذا خلط ماله بمالهم هي المشاركة، والمتعهد باستثمار أموالهم هو المضارب، سواء أكان شخصيًا طبيعيًا أم معنويًا، مثل المصارف والمؤسسات المالية، والعلاقة بينه وبينهم هي المضاربة (القراض)؛ لأنه هو المنوط به اتخاذ القرارات الاستثمارية، والإدارة، والتنظيم، وإذا عهد المضارب إلى طرف ثالث بالاستثمار فإنها مضاربة ثانية بين المضارب الأول وبين من عهد إليه بالاستثمار، وليست وساطة بينه وبين أرباب الأموال (أصحاب الحسابات الاستثمارية) ... " (¬1). القول الثاني: ذهب بعض الباحثين إلى أن العقد بين أصحاب الأموال والبنك هي علاقة شركة، وليست علاقة مضاربة، حيث يقوم البنك أو المؤسسة المالية بالاشتراك بحصة من المال، وخلطها بأموال المودعين، فينشأ عن ذلك طرفان: ¬
أحدهما: يقدم المال وحده، والثاني: يقدم المال والعمل، وإذا كان المال مقدما من الطرفين لم يكن العقد عقد مضاربة. وقد جرى خلاف بين الفقهاء المتقدمين في حكم هذه الشركة، وفي التسمية الاصطلاحية لها، وذلك أن المعروف في الشركة: أن يشترك بدنان بمالهما المعلوم، ولو متفاوتًا ليعملا فيه جميعًا. كما أن المعروف في شركة المضاربة أن يدفع شخص ماله لآخر ليتجر فيه، وله جزء من الربح. فتختص الشركة: بأن المال والعمل من كلا الشريكين. وتختص المضاربة بأن المال من أحد الشريكين، والعمل من الآخر. وفي مسألتنا هذه: المال من كلا الشريكين، فلم تشبه المضاربة من كل وجه. والعمل أيضاً من أحد الشريكين فلم تشبه الشركة من كل وجه. وأما حكم هذه المشاركة على هذا الوجه، وما هي التسمية الاصطلاحية لهذه الشركة؟ فقد اختلف العلماء في ذلك: فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة وأشهب من المالكية إلى جواز اشتراط أن يكون العمل على أحدهما دون الآخر (¬1). ¬
على خلاف بينهم في التسمية الاصطلاحية لهذه الشركة. فمنهم من ألحقها بعقود المضاربة، ومنهم من ألحقها بالشركات، ومنهم من قال: إن هذا النوع من العقود يجمع بين الشركة والمضاربة. قال ابن قدامة: "أن يشترك مالان وبدن صاحب أحدهما، فهذا يجمع شركة ومضاربة، وهو صحيح" (¬1). وقال في الإنصاف: "فإن اشتركا على أن العمل من أحدهما في المالين صح، ويكون عنانًا ومضاربة ... قال الزركشي: هذه الشركة تجمع شركة ومضاربة، فمن حيث إن كل واحد منهما يجمع المال تشبه شركة العنان، ومن حيث إن أحدهما يعمل في مال صاحبه في جزء من الربح هي مضاربة ... وهي شركة عنان على الصحيح من المذهب، وقيل: مضاربة" (¬2). فعلى هذا يكون في مذهب الحنابلة ثلاثة أقوال: الصحيح من المذهب أنها شركة عنان. واختار ابن قدامة والزركشي أنها مركبة من العنان والمضاربة. وقيل: عقد مضاربة فقط. ومنع المالكية أن يكون العمل من أحدهما. جاء في المدونة: "قلت: هل يجوز أن أخرج أنا ألف درهم، ورجل آخر ¬
القول الثالث
ألف درهم، على أن الربح بيننا نصفين، والوضيعة علينا نصفين، على أن يعمل أحدنا دون صاحبه؟ قال: قال مالك: لا تجوز هذه الشركة بينهما إلا أن يستويا في رأس المال وفي العمل. قلت: فإن أخرج أحدهما ألف درهم، والآخر ألفي درهم، فاشتركا على أن الربح بينهما نصفين، والوضيعة عليهما نصفين، أو اشترطا أن الوضيعة على قدر رؤوس أموالهما على أن يعمل صاحب الألف بجميع المال وحده، ويكون عليه العمل وحده؟ قال مالك: لا خير في هذه الشركة ... ولا يجتمع عند مالك شركة وقراض" (¬1). وقال في مواهب الجليل: "ولا يصلح مع الشركة صرف ولا قراض ... " (¬2). هذا إذا كان عقد القراض مستقلاً عن الشركة، فإن كان داخلاً في عقد الشركة فلا يمنع من اجتماعهما (¬3). وأرى أن قول الجمهور أقوى من مذهب المالكية، وأن المصرف يكون شريكًا ومضاربًا, ولا مانع من اجتماع الشركة والمضاربة في عقد واحد، والله أعلم. القول الثالث: ذهب بعض الباحثين إلى اعتبار البنك وكيلًا عن أصحاب الأموال، وليس مضاربًا. ¬
فأرباب المال: هم أصحاب الودائع. وعامل المضاربة: هم المستثمرون. والبنك وكيل عن أصحاب الأموال، فهو وسيط بين أرباب الأموال، وبين عمال المضاربة. وبهذا التكييف خرج البنك من أن يكون مضاربًا. وممن قال بهذا التوصيف الأستاذ باقر الصدر، فهو يرى أن البنك ليس عضوًا أساسيًا في عقد المضاربة؛ فليس هو صاحب المال، ولا صاحب العمل: أي المستثمر، وإنما يتركز دوره في الوساطة بين الطرفين، فبدلًا عن أن يذهب رجال الأعمال إلى المودعين يفتشون عنهم واحداً بعد آخر، ويحاولون الاتفاق معهم، يقوم البنك بتجميع هؤلاء المودعين، ويتيح لرجال الأعمال أن يراجعوا ويتفقوا معه مباشرة على استثمار أي مبلغ تتوفر القرائن على إمكان استثماره بشكل ناجح ... (¬1). ويمكن أن يصح هذا التوصيف في الحال التي لا يقدم فيها البنك مالاً، ولا يلتزم فيها بعمل مع أصحاب الأموال، أما إما قدم المال، أو كان ملتزمًا بتقديم العمل إما بنفسه، أو بالبحث عن مضارب ثان يدفع إليه المال ليعمل به، فإنه لا يمكن أن يصح هذا التوصيف باعتباره مجرد وكيل، والله أعلم. ¬
المسألة الثالثة خلط أموال المضاربين بعد بدء النشاط فيها
المسألة الثالثة خلط أموال المضاربين بعد بدء النشاط فيها سبق أن تكلمنا عن حق المضارب في المضاربة البسيطة في خلط أموال المضاربين بعضها ببعض، وهل يملك ذلك بمجرد العقد، أو لا بد من الرجوع إلى أصحاب الأموال واستئذانهم. [م - 1392] فإن كان الخلط قبل البدء بالنشاط، فالأقوال فيها على النحو التالي: فقيل: لا يملك الخلط بمجرد العقد، وهذا مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة، إلا أن الحنفية والحنابلة قالوا: يملك المضارب الخلط إذا أعطاه صاحب المال تفويضا عامًا في التصرف بأن قال له: اعمل فيه برأيك. وقال الشافعية: لا بد من الإذن الصريح. وذهب المالكية إلى جواز الخلط وإن لم يرجع إلى رب المال بشروط سبق ذكرها في مسألة سابقة. ولا يختلف الفقهاء في جواز الخلط قبل البدء بالنشاط إذا كان هناك إذن صريح من أصحاب الأموال. وقد ذكرنا أدلتهم فيما سبق. [ن -229] ولما كان المضارب في المضاربة المشتركة قد أعطي إذنًا صريحًا أو ضمنيًا من أرباب الأموال بحقه في خلط أموال المضاربين، فإنه لا يوجد نزاع في جواز هذه المسألة.
القول الأول
[م - 1393] وإن كان الخلط بعد البدء بالنشاط، فالأقوال فيها على النحو التالي: فالأئمة الأربعة يتفقون بأن المضارب لا يملك خلط المال بدون إذن. وأما إذا فوض إليه التصرف بأن قال: اعمل فيه برأيك: فالحنفية يجيزون له الخلط ولو كان ذلك بعد البدء بالنشاط، ولو حصل هذا الخلط بعد حصول الربح إذا كان ذلك مبنيًا على تفويض عام في التصرف (¬1). بينما الجمهور يمنعون الخلط بعد التصرف بحجة أن المال الأول قد استقر حكمه بالتصرف فيه ربحًا وخسرانًا، وربح كل مال وخسرانه يختص به، فلا يجبر خسارة هذا بربح ذاك، ولا العكس. وقد سبق ذكر أدلتهم مستوفاة في المسألة التي قبل هذه. وبناء عليه يكون الخلاف في خلط أموال المضاربة المشتركة يمكن تنزيله على خلاف بين الحنفية والجمهور. [ن -230] وهذا الخلاف القديم انعكس على اختيارات العلماء المعاصرين، فاختلف العلماء فيها على قولين: القول الأول: ذهب جمهور الباحثين المعاصرين إلى تبني قول الحنفية، وأن خلط مال المضاربة لا يضر، ولو كان ذلك بعد البدء بالنشاط، وممن قال بهذا فضيلة الشيخ القاضي محمَّد تقي العثماني (¬2)، والدكتور عبد الستار ¬
القول الثاني
أبو غدة (¬1)، والدكتور أحمد الحجي الكردي (¬2)، والشيخ وهبة زحيلي (¬3)، وبهذا صدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي (¬4)، وفتوى ندوة البركة (¬5). جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي: "ومما تختص به المضاربة المشتركة من قضايا غالبًا ما يأتي: أ - خلط الأموال في المضاربة المشتركة: لا مانع من خلط أموال أرباب المال بعضها ببعض، أو بمال المضارب؛ لأن ذلك يتم برضاهم صراحة، أو ضمنا، كما أنه في حالة قيام الشخص المعنوي بالمضاربة وتنظيم الاستثمار لا يخشى الإضرار ببعضهم لتعين نسبة كل واحد في رأس المال، وهذا الخلط يريد الطاقة المالية للتوسع في النشاط وزيادة الأرباح ... " (¬6). القول الثاني: هناك من الباحثين من يمنع المضاربة المشتركة، ويتبنى حجة الجمهور ¬
وحجته في المنع
القائلين بتحريم خلط أموال المضاربة بعد البدء بالنشاط، من ذلك الدكتور حسين كامل فهمي (¬1). وحجته في المنع: (1) أن السماح بالتدفق المستمر للودائع، وخلط بعضها ببعض بعد بدء المضاربة يؤدي إلى اشتراك الأموال الجديدة في نتائج تشغيل أموال سابقة، سواء كانت ربحًا أو خسارة، وهذا الاشتراك فيه غبن لبعض أرباب الأموال، سواء كانوا من المودعين القدامى، أو من المودعين الجدد. فالبنك في غير مأمن من تغير مركزه المالي خلال الفترة الواقعة بين إعلان مركزين متتاليين سواء بالزيادة أو النقصان، ومع ذلك يظل العمل على ما هو عليه من تقبل ودائع جديدة لا دخل لها بالمتغيرات التي طرأت على البنك قبل إيداعها مع السماح بخروج بعض المودعين، وسحبهم رؤوس أموالهم كاملة مضافا إليها عائد معين، رغم أنه يفترض تحمل هذه الأموال لجزء من الخسائر السابقة إن كانت، أو استحقاقها مزيدًا من الأرباح إن كان التغير بالزيادة. (2) لما كانت طبيعة الأعمال المصرفية تقتضي أن تظل عمليات السحب والإيداع مفتوحة لكل أحد في كل يوم نشأ عن ذلك أن يدخل كل يوم عدد كبير من أصحاب الأموال، ويخرج أيضاً عدد كبير منهم، بل إن ودائع كل رجل قد تزيد وتنقص كل يوم، فإن من يفتح حسابًا في البنك قد يحتاج إلى سحب بعض المبالغ منه في يوم، ثم إلى إيداع بعضها مرة أخرى في يوم آخر، فلما كانت فترات الإيداع ليست واحدة لجميع الأشخاص، بل كان بينها تباين كبير جدًا لا ¬
ونوقش هذا بما يلي
يحتمل التوفيق كان من الصعب جداً أن تحدد الأرباح والخسائر المتأتية على كل وديعة على الأساس المعروف لتحديدها في عقود المضاربة البسيطة. (3) غالباً ما يكون جزء من التقييم لديون مستحقة، وهذه الديون قد تتعثر أو تنعدم، فإذا أخذ المضارب عند خروجه من هذه المضاربة نصيبه من هذه الديون، فإذا تعثرت أو انعدمت لحق الغبن لمن لم يأخذ نصيبه منها .. ونوقش هذا بما يلي: بأن التصفية الحقيقية في عقود المضاربة في المصارف الإِسلامية يعني تحويل جميع الأصول الثابتة من مباني وتجهيزات، وأوراق مالية، وديون إلى نقود وهذا أمر يتعذر تحقيقه في جميع الاستثمارات المصرفية القائمة على السرعة، وأن تظل عمليات الإيداع والسحب مفتوحة تحفيزًا للمستثمرين على الإيداع، وقطعًا للطريق على المصارف الربوية، لذلك لجأت المصارف الإِسلامية إلى الأخذ بالتصفية الحكمية القائمة على تقويم أحوال المضاربة في نهاية الفترة المتفق عليها، واعتماد ذلك التقويم أساسًا لتوزيع الأرباح، ورد رأس مال من يرغب من أرباب المال بدون تصفية فعلية للمضاربة. وقد استأنس بعضهم بصحة التنضيض الحكمي بما جاء عن ابن سيرين رحمه الله تعالى، فقد روى مصنف ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن عوف، عن ابن سيرين في المضارب إذا ربح، ثم وضع، ثم ربح، قال: الحساب على رأس المال الأول إلا أن يكون ذلك قبضًا للمال، أو حسابًا كالقبض (¬1). واعتمدت المصارف في طريقة توزيع الأرباح على طريقة التقويم الدوري (¬2)، ¬
على حساب الإنتاج اليومي، وهو ما يعبر عنه بحساب النمر (¬1)، أو على ¬
حساب أدنى رصيد (¬1)، والغرر الناتج عن ذلك يعتبر من الغرر المباح إما لكونه يسيرًا، أو لكونه محتاجًا إليه، ويصعب التحرز منه. وأما الجواب عن أن احتمال أن تتحول الديون إلى ديون معدومة فقد عالجتها البنوك الإِسلامية حيث قامت بإيجاد صندوق للمخاطر يتحمل هذه الديون التي لم تسدد، فإذا وقع التنضيض الحكمي، وكان جزء من هذا التقويم ديونا معدومة أو متعثرة فإن دينه يستخلص من صندوق المخاطر. ¬
المسألة الرابعة خلاف العلماء في اعتماد حساب النمر
المسألة الرابعة خلاف العلماء في اعتماد حساب النمر [ن - 231] اختلف العلماء المعاصرون في حكم الأخذ بطريقة النمر على قولين: القول الأول: لا يجوز اعتماد طريقة النمر في تقسيم الأرباح، اختاره بعض الباحثين، منهم الدكتور حسين كامل فهمي (¬1). ولقد استدل القائلون بعدم الجواز بأدلة منها: الدليل الأول: حساب النمر لا يعرف في كتب الفقه، وقد اعتمدته المصارف الربوية كمعيار دقيق في تحديد الفوائد القائم على مقدار المال ومدة بقائه لدى المصرف، أما عقد المضاربة القائم على الربح فإن الزمن لا يؤثر فيه بشكل مباشر، فقد يمضي زمن طويل قبل الحصول على أي ربح حقيقي، وقد يربح عامل المضاربة في مدة قصيرة أضعاف ما يربحه في مدة طويلة، فإذا سحب بعضهم ماله قبل نهاية الفترة فإن هذا يعني فسخ المضاربة في ذلك الجزء المسحوب، فإذا وزع عليه الربح بالنظر إلى الزمن فقط فقد يكون المشروع لم يحقق في هذه الفترة أي ربح فعلي يذكر، أو يكون الربح قد حصل قبل أن يودع رأس ماله فيه، فيأخذ حصة من أرباح غيره، وقد يكون الربح أكثر مما توقع له بحساب النمر فتنتقل جزء من أرباحه إلى غيره، مما يعني دخول الغبن لبعض أرباب الأموال. ¬
ونوقش هذا
ونوقش هذا: بأن توزيع الأرباح بطريقة النمر أملته الضرورة، فلا يوجد طريقة عادلة سواه يمكن اعتمادها في توزيع الأرباح، ولا مانع من اعتماده مع تقدم أساليب المحاسبة، واتفاق أرباب الأموال على التراضي والتسامح فيما بينهم، ولكون هذه الطريقة لا تصادم نصًا شرعيًا, ولأن أموال المستثمرين ساهمت كلها في تحقيق العائد حسب مقدارها، ومدة بقائها، فاستحقاقها حصة متناسبة مع المبلغ والزمن (بحسب طريقة النمر) هو أعدل الطرق المحاسبية المتاحة، ولا يوجد في هذه الطريقة ما يقطع المشاركة في الربح، ومن المقرر أن المشاركات يغتفر فيها ما لا يغتفر في المعاوضات، ولأن القسمة في صورتها المشتملة على تعديل الحصص تقوم على المسامحة (¬1). الدليل الثاني: حساب النمر قائم على أساس خلط أموال المودعين بعضها ببعض، وقد منع جمهور الفقهاء من خلط أموال المضاربة المختلفة بعد التصرف فيها؛ لأن ذلك سيؤدي حتمًا إلى اشتراك الأموال الجديدة في نتائج تشغيل أموال سابقة، سواء كانت ربحًا أو خسارة، وهذا الاشتراك فيه غبن لبعض أرباب الأموال، سواء كانوا من المودعين القدامى، أو من المودعين الجدد. وأجيب على هذا: أما خلط الأموال بعد التصرف فيها فقد سبق بحث هذه المسألة في مبحث ¬
القول الثاني
سابق مستقل، وقد ترجح جواز خلط المال الثاني بالمال الأول، ولو كان ذلك بعد التصرف في المال الأول إذا كان ذلك مبنيًا على الإذن من صاحب المال. وأما الجواب عن أثر هذا الاختلاط، وأنه سينتج عنه اشتراك الأموال الجديدة في أرباح الأموال القديمة، فقد سبق الجواب عنه في الدليل الأول. القول الثاني: ذهب أكثر الباحثين المعاصرين، وبه صدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي، وفتوى ندوة البركة، ومشى عليه عدد من الهيئات الشرعية للمصارف الإِسلامية بأنه يجوز اعتماد طريقة النمر في تقسيم الأرباح (¬1). جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي: "لا مانع شوعًا حين توزيع الأرباح من استخدام طريقة النمر القائمة على مراعاة مبلغ كل مستثمر، ومدة بقائه في الاستثمار؛ لأن أموال المستثمرين ساهمت كلها في تحقيق العائد حسب مقدارها، ومدة بقائها، فاستحقاقها. حصة متناسبة مع المبلغ والزمن هو أعدل الطرق لإيصال مستحقاتهم إليهم؛ لأن دخول حصة المستثمرين في المضاربة المشتركة حسب طبيعتها موافقة ضمنا على المبارأة عما يتعذر الوصول إليه، كما أن من طبيعة المشاركة استفادة الشريك من ربح مال شريكه، وليس في هذه الطريقة ما يقطع المشاركة في الربح، وهي مشمولة بالرضا بالنسب الشائعة الناتجة عنها ... " (¬2). ¬
دليل من قال: بجواز الأخذ بطريقة النمر
دليل من قال: بجواز الأخذ بطريقة النمر: الدليل الأول: تداخل الأرباح في حساب النمر ليس قطعيًا، وإنما هو ظني، ولو فرض أن وجوده متحقق فإن هذا ليس كافيًا في تحريمه، وذلك أن علاقة أرباب الأموال بعضهم ببعض تم توصيفه الفقهي على الصحيح بأنها من قبيل شركة العنان، وأن الصحيح من أقوال أهل العلم أن الربح في شركة العنان بحسب الشرط، فلا مانع من التفاضل في الربح، وإن تساويا في رأس المال، ولا يعني هذا وجود غبن لأحدهما ما دام أن الأمر قائم على التراضي، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة (¬1)، فكذلك التراضي على القسمة بحساب النمر صحيحة وإن أدى ذلك إلى التفاضل في الربح. الدليل الثاني: القياس على ما ذكره الفقهاء من صور متعددة يتفاوت فيها الشركاء في نسبة استحقاقهم للربح مع القول بصحة الشركة فيما بينهم، من ذلك: (1) أجاز الحنفية أن يكون الكسب في شركة الأعمال بين الشريكين مطلقاً، سواء ترك العمل أحدهما بعذر أو بغير عذر، وهو المشهور في مذهب الحنابلة إلا أن الحنابلة قالوا: يجب على من ترك العمل أن يقيم مكانه من يقوم بعمله إن طلب شريكه ذلك. ¬
الراجح
جاء في غمز عيون البصائر: "إذا عمل أحد الشريكين دون الآخر بعذر أو بغيره فالربح بينهما" (¬1). وجاء في شرح منتهى الإرادات: "وإن مرض أحدهما: أي الشريكان، فالكسب بينهما، أو ترك أحدهما العمل مع شريكه لعذر أو لا ... بأن كان حاضرًا صحيحًا فالكسب بينهما على ما شرطا" (¬2). وسبق تحرير الخلاف في هذه المسألة، وذكر أقوال أهل العلم فيها، فأغنى ذلك عن إعادته. (2) لو دفع عامل المضاربة المال إلى مضارب آخر بإذن من صاحب المال، فإن ذلك جائز، ويستحق الربح المسمى وإن لم يكن منه مال، ولا عمل. الراجح: أرى جواز الأخذ بطريقة النمر إذا تعذر العمل بالتقويم الدوري، وهذا ما رجحه الشيخ يوسف الشبيلي حيث يرى "صحة العمل بنظام النمر لقوة الأدلة التي استند إليها القول الثاني، لكن ينبغي ألا يلجأ إلى العمل به إلا عند تعذر العمل بطريقة التقويم الدوري؛ لأن نظام النمر لا يخلو من قسمة غير عادلة لبعض الحصص بخلاف التقويم الدوري فإنه يعطي نتيجة مقاربة جدًا. أي أن نظام النمر ينبغي أن يكون. حلًا اضطراريًا لتوزيع الأرباح في الخدمات الاستثمارية المفتوحة التي لا يمكن العمل فيها بطريقة التقويم الدوري نظراً لتداخل مراكزها المالية بالمركز المالي للبنك. ¬
وأسباب هذا الترجيح ما يلي
وأسباب هذا الترجيح ما يلي: 1 - أنه لا يوجد حلول أفضل منه تعالج هذه الحالات، مع ما تقتضيه حاجة العصر من ضرورة خلط الأموال وحرية السحب والإيداع. 2 - أننا نفترض أن الوعاء الاستثماري له شخصية حكمية، فالربح لهذه الشخصية الحكمية لا لكل وديعة على حدة. 3 - ما تقدم نقله عن الأئمة بما يفيد أن قاعدة توزيع الأرباح هي الرضا. ومع ذلك فإني أرى أن حساب النمر لا يخلو من الغبن لكثير من المودعين لكونه يفترض التساوي في تحقق الربح طيلة الفترة المحاسبية، وهو أمر نادر. ولهذا فمتى أمكن العمل بطريقة التقويم الدوري فهو أولى بكثير من نظام النمر، وتعتبر تجربة المصارف في الصناديق الاستثمارية رائدة في هذا المجال، فينبغي أن تستتبعها المصارف الإِسلامية بخطوات أوسع، وذلك بتكوين أوعية استثمارية مستقلة لودائعها الاستثمارية، ويكون لها مراكزها المالية المنفصلة عن البنك، وبذا تحقق الهدفين المميزين للتقويم الدوري، وهما: - الوصول إلى توزيع عادل في قسمة الأرباح بين المستثمرين. - القضاء على مشكلة اختلاط أموال المساهمين بالمستثمرين. وإذا لم يكن بد من العمل بطريقة النمر فينبغي أن تكون وحدة الزمن فيها على أساس الأسابيع، لا بالأيام كما في الفوائد، ولا بالشهور. أما الأيام فلأن الاستثمار اللاربوي استثمار إنتاجي يعتمد على الربح الفعلي الذي لا يتحقق بالسرعة التي تتراكم فيها الفوائد.
أما المشهور فلأنها فترة طويلة لا تتناسب مع ما تقتضيه رغبات المستثمرين من مرونة في حركة السحب والإيداع" (¬1). ¬
المبحث العاشر في تقييد تصرفات العامل
المبحث العاشر في تقييد تصرفات العامل الفرع الأول التقييد بمكان أو بسلعة معينة قال الكاساني: الأصل في كل مقيد اعتبار القيد فيه إلا قيدًا لا يفيد اعتباره (¬1). [م - 1394] تقييد المضارب يختلف من مسألة إلى أخرى، لهذا سنأخذ مسائل التقييد مسألة مسألة، ولكن في الجملة نستطيع أن نقول إن هناك قولين لمسألة تقييد تصرف العامل: أحدهما: يقبل تقييد المضارب إما مطلقا كالحنابلة (¬2)، أو بما يكون مفيدًا لرب المال كالحنفية (¬3). والثاني: يمنع التقييد لما فيه من الحجر على العامل كمذهب المالكية والشافعية (¬4). إلا أن هذا التقسيم من حيث الجملة، فحتى نقف على رأي كل مذهب من مسائل التقييد ينبغي أن نعرض لها مسألة مسألة: ¬
القول الأول
[م - 1395] فمن هذه المسائل التقييد بمكان معين، فقد اختلف العلماء فيها على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية والحنابلة إلى جواز أن يقيد رب المال عامله بأن يعمل في مكان معين (¬1). جاء في الهداية: "وإن خص له رب المال التصرف في بلد بعينه، أو في سلعة بعينها لم يجز له أن يتجاوزها؛ لأنه توكيل، وفي التخصيص فائدة، فيتخصص" (¬2). وقال ابن قدامة: "ويصح أن يشرط على العامل أن لا يسافر بالمال، ولا يتجربه إلا في بلد بعينه" (¬3). القول الثاني: اشترط المالكية لجواز تعيين البلد شرطين: أحدهما: أن يكون ذلك البلد هو البلد الذي عقدا فيه القراض، فإن كان غيره منع. الثاني: أن يكون البلد كبيرًا حيث لا تعدم فيه التجارة لصغره، فإن اشترط عليه التجارة في حانوت معين فسد (¬4). ¬
وقريب من مذهب المالكية مذهب الشافعية حيث أجاز الشافعية تعيين السوق دون تعيين الحانوت (¬1). جاء في حاشية الجمل: "وشرط البيع في حانوت معين مفسد بخلاف شرط سوق معين" (¬2). [م - 1396] كما اختلفوا في حق رب المال في تقييد المضارب بمكان معين، اختلفوا في حقه في تقييد المضارب بسلعة معينة. فأجاز الحنفية والحنابلة تقييد العامل بنوع من السلع مطلقًا، كالتمر، أو الثياب، أو الدقيق ونحو ذلك (¬3). جاء في كشاف القناع: "والشروط في الشركة ضربان: ... أحدهما: صحيح، مثل أن يشترط أن لا يتجر إلا في نوع من المتاع: أي المال، سواء كان مما يعم وجوده، أو لا" (¬4). ووافقهم على ذلك المالكية والشافعية إلا أنهم اشترطوا أن يكون مما يعم وجوده، فإن كان مما يندر وجوده لم يصح (¬5). ¬
الراجح من الخلاف
كما منع الشافعية أن يشترط عليه أن يشتري شيئاً معينا كهذه الحنطة (¬1). الراجح من الخلاف: الذي أراه أن مذهب الحنابلة والحنفية أقرب إلى الصواب، وكون التقييد على العامل نوعًا من الحجر والتضييق لا يكفي لإبطال الشرط، فإن العقد من عقود التراضي، فإذا لم يعجبه الشرط لم يكره على قبول العقد من الأصل، فإذا قبله، ودخل على الالتزام بالشرط فإنه يلزمه، ولا يحل له التنصل منه، وإن أخل به كان متعديًا، فيضمن، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني تقييد العامل بالشراء من شخص معين
الفرع الثاني تقييد العامل بالشراء من شخص معين التقييد في العقود إنما يعتبر إذا كان مفيدًا (¬1). [م - 1397] اختلف العلماء فيما لو عين رب المال شخصًا للشراء منه والبيع عليه على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح تعيين شخص للشراء منه والبيع عليه مطلقا، وهذا مذهب الحنفية (¬2). قال الزيلعي: "ولو قال: على أن تشتري من فلان، وتبيع منه صح التقييد وليس له أن يشتري ويبيع من غيره؛ لأن هذا التقييد مفيد لتفاوت الناس في المعاملة قضاء واقتضاء" (¬3). القول الثاني: لا يصح تعيين شخص معين مطلقا، لا للشراء منه، ولا للبيع عليه، وهذا مذهب المالكية والشافعية (¬4). جاء في التاج والإكليل: "لا يجوز أن يشترط عليه أن لا يشتري إلا من فلان فإن نزل ذلك كان أجيرًا" (¬5). ¬
وحجة القائلين بالمنع
وحجة القائلين بالمنع: أن هذا مخالف لمقتضى العقد؛ ويمنع مقصود المضاربة؛ فإن المقصود من المضاربة هو طلب الربح فإذا قيده بالشراء من شخص بعينه فقد لا يجد عند هذا الشخص الربح المقصود، وقد يمتنع من البيع عليه، أو يبيع عليه بأكثر من سعر المثل، ولأن في هذا القيد تحجيرًا على العامل، وكل هذا مضر بالعامل. وأجاب الحنابلة: بأن القول بأن تقييد المضاربة بالشراء من رجل بعينه يمنع مقصود المضاربة غير مسلم، وإنما ذلك يقلل الربح، وتقليله لا يمنع الصحة كتخصيص المضاربة بنوع من السلع. القول الثالث: وذهب الحنابلة إلى صحة اشتراط الشراء من شخص بعينه وأما البيع فلا يصح أن يشترط عليه البيع على نفس الشخص الذي اشتريت منه السلعة (¬1). قال ابن قدامة: "والشروط في المضاربة تنقسم إلى قسمين: صحيح، وفاسد. فالصحيح مثل أن يشترط على العامل أن لا يسافر بالمال ... أو لا يشتري إلا من رجل بعينه، فهذا كله صحيح، سواء كان هذا النوع مما يعم وجوده، أو لا يعم. والرجل ممن يكثر المتاع عنده، أو يقل" (¬2). أما إذا "قال: لا تبع إلا من فلان، ولا تشتري إلا من فلان فإنه يمنع الربح ¬
الراجح
أيضا؛ لأنه لا يشتري ما باعه إلا بدون ثمنه الذي باعه به، ولهذا لو قال: لا تبع إلا ممن اشتريت منه لم يصح ذلك" (¬1). كما أنه قد يدخل في العقد بيع العينة، كما لو كان يشتري مؤجلاً، ثم يبيع السلعة بأقل من ثمنها نقدًا على من اشتراها منه، فإن دخل في العقد الحيلة على الربا، صار تحريمه أشد، والله أعلم. الراجح: أرى أن مذهب الحنابلة يتمشى مع قاعدة الأصل في الشروط الصحة والجواز، وإذا رأى العامل أن مثل هذا القيد قد يقلل من أرباحه فإن له رفض الدخول في عقد المضاربة، فعقد المضاربة عقد قائم على التراضي، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث تقييد المضاربة بوقت معين
الفرع الثالث تقييد المضاربة بوقت معين كل تصرف يتوقت بنوع من المتاع يجوز توقيته بالزمان كالوكالة (¬1). التوقيت في المضاربة يجب أن يكون للشراء دون البيع. [م - 1398] اختلف العلماء في توقيت المضاربة بوقت معين على قولين: القول الأول: يصح التوقيت، وهو مذهب الحنفية، والحنابلة (¬2). قال الكاساني: "ولو قال: خذ هذا المال مضاربة إلى سنة جازت المضاربة عندنا ... " (¬3). القول الثاني: لا يصح التوقيت، وهذا مذهب المالكية، والشافعية، ورواية في مذهب الحنابلة إلا أن الشافعية أجازوا صورة واحدة من صور توقيت المضاربة، وهي ما إذا عقدت المضاربة إلى مدة على أن لا يشتري المضارب بعدها, وله البيع (¬4). وقد سبق ذكر أدلة هذه المسألة تحت مسألة: توقيت الإيجاب والقبول في عقد المضاربة، فأغنى ذلك عن إعادتها. ¬
الفرع الرابع تقييد المضارب بالبيع نقدا
الفرع الرابع تقييد المضارب بالبيع نقدًا المأمور مقصور التصرف على ما تضمنه الأمر (¬1). ما ترتب على غير المأذون فهو مضمون والعكس بالعكس (¬2). إذا اشترط رب المال على المضارب ألا يبيع إلا بالنقد فإن هذا الشرط صحيح ملزم، فإن خالفه ضمن، وهذا بالاتفاق. قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن رب المال إذا نهى العامل أن يبيع نسيئة، فخالف، وباع بالنسيئة أنه ضامن" (¬3). ولأن المضارب تصرفه في المال قائم على إذن ربه، فلا يتصرف في غير ما أذن له. وذهب المالكية والشافعية إلى إلزامه بالبيع نقدًا حتى ولو لم يأمره صاحب المال بذلك فإن أراد أن يبيع بالدين كان عليه الرجوع إلى صاحب المال واستئذانه (¬4). ¬
وقد سبق بحث هذه المسألة، وذكرنا أدلتهم تحت مسألة: في بيع المضارب بالدين، فأغنى ذلك عن إعادته.
الفصل السابع في أحكام المضاربة الصحيحة
الفصل السابع في أحكام المضاربة الصحيحة المبحث الأول رأس المال أمانة في يد المضارب العامل أمين لا ضمان عليه فيما لو تلف بغير تعد (¬1). [م - 1399] أجمع الفقهاء على أن المال في يد المضارب أمانة، فلا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط. قال ابن عبد البر: "ولا خلاف بين العلماء أن المقارض مؤتمن، لا ضمان عليه فيما يتلفه من المال من غير جناية منه فيه، ولا استهلاك له، ولا تضييع، هذه سبيل الأمانة وسبيل الأمناء" (¬2). وقال أبو الحسن بن القطان الفاسي: "ولا خلاف أن المقارض مؤتمن، لا ضمان عليه فيما تلف من المال من غير جناية ولا تضييع" (¬3). وممن حكى الإجماع على هذا الباجي في المنتقى (¬4)، وابن رشد في بداية المجتهد (¬5). ¬
وقال الكاساني: "رأس المال قبل أن يشتري المضارب به شيئًا أمانة في يده بمنزلة الوديعة؛ لأنه قبضه بإذن المالك لا على وجه البدل والوثيقة" (¬1). وجاء في الفواكه الدواني: "العامل في القراض أمين، فالقول قوله في تلف المال، أو ضياعه، أو خسره ... " (¬2). وقال العمراني في البيان: "والعامل أمين على مال القراض، لا يضمن شيئاً منه إلا بالتعدي؛ لأن رب المال ائتمنه عليه، فهو كالمودع" (¬3). وقال ابن قدامة: "والعامل أمين في مال المضاربة؛ لأنه متصرف في مال غيره بإذنه، فكان أمينًا كالوكيل" (¬4). ¬
المبحث الثاني ضمان مال المضاربة بالتعدي أو بالتفريط
المبحث الثاني ضمان مال المضاربة بالتعدي أو بالتفريط الأمين لا يضمن ما لم يوجد منه تفريط أو عدوان (¬1). [م - 1400] اتفق الفقهاء على أن عامل المضاربة إذا تعدى: بأن فعل ما ليس له فعله، أو فرط، بأن ترك ما يجب عليه فعله أنه يضمن، على اختلاف بينهم في بعض الأفعال هل تدخل في التعدي أو في الفعل المأذون فيه؟ على ما بيناه في المباحث السابقة، كالسفر في المال، وخلط مال المضاربة بمال العامل، ودفع مال المضاربة إلى مضارب آخر، والبيع بالدين، والبيع والشراء بغبن فاحش، والشراء بأكثر من رأس مال المضاربة، ونحو ذلك من الأفعال التي سبق بيان كلام أهل العلم فيها (¬2). قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن رب المال إذا نهى العامل أن يبيع بنسيئة، فباع بنسيئة أنه ضامن" (¬3). وقال ابن حزم: "واتفقوا أن صاحب المال إن أمر العامل أن لا يسافر بماله فذلك جائز، ولازم للعامل، وأنه إن خالف فهو متعد" (¬4). وقال أيضاً: "ولا ضمان على العامل فيما تلف من المال، ولو تلف كله، ولا ¬
فيما خسر فيه، ولا شيء له على رب المال إلا أن يتعدى أو يضيع فيضمن؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" (¬1). وجاء في شرح منتهى الإرادات: "وإن تعدى المضارب الشرط، أو فعل ما ليس له فعله، أو ترك ما يلزمه ضمن المال" (¬2). ¬
المبحث الثالث في شتراط ضمان رأس مال المضاربة
المبحث الثالث في شتراط ضمان رأس مال المضاربة جاء في مجمع الضمانات: شرط الضمان على الأمين باطل (¬1). وذكر الحنابلة في قواعدهم الفقهية: "كل ما كان أمانة لا يصير مضمونًا بشرطه، وما كان مضمونًا لا ينتفي ضمانه بشرطه" (¬2). وفي مطالب أولي النهى: "ما لا يضمن بدون شرط لا يصير بالشرط مضمونًا" (¬3). [م - 1401] اشتراط الضمان على عامل المضاربة مسألة فقهية قديمة، وكان عامة الفقهاء المتقدمين يمنعون تضمين العامل بالشرط، وأعيد بحث هذه المسألة بشكل قوي في هذا العصر مع قيام المصارف الإِسلامية، وكان الهدف الأساسي من إعادة بحثها هو محاولة تضمين المصرف الإِسلامي للودائع الاستثمارية بالشرط باعتباره مضاربًا، وكانت الغاية النبيلة التي دفعت هؤلاء الباحثين إلى القول بالتضمين بالشرط هو منافسة البنوك الربوية، فهل يكفي ذلك لكي نقول بتضمين عامل المضاربة بالشرط، هذا ما سوف يتبين لنا إن شاء الله من خلال عرض هذه الأقوال، ومناقشة حججها. القول الأول: ذهب عامة الفقهاء من الأئمة الأربعة وغيرهم إلى أن اشتراط الضمان على الأمين باطل على خلاف بينهم هل يفسد العقد لبطلان الشرط: ¬
القول الثاني
فقيل: العقد صحيح وهذا مذهب الحنفية والحنابلة (¬1). وقيل: العقد فاسد، وهذا مذهب المالكية والشافعية (¬2). جاء في المنتقى للباجي: "فإن شرط الضمان على العامل فالعقد فاسد خلافًا لأبي حنيفة في قوله العقد صحيح" (¬3). وقال ابن قدامة: "متى شرط على المضارب ضمان المال، أو سهمًا من الوضيعة، فالشرط باطل، لا نعلم فيه خلافًا، والعقد صحيح نص عليه أحمد" (¬4). قال الماوردي: "وما كان أصله غير مضمون لم يلزم فيه الضمان بالشرط" (¬5). القول الثاني: قيل: يصح تضمين العامل بالشرط ونسب هذا إلى ابن بشير وتلميذه ابن عتاب، وبه قال جمع من المتأخرين، منهم الشوكاني، والدكتور سامي حمود، والدكتور نزيه حماد (¬6). ¬
القول الثالث
القول الثالث: قيل: إن كان الضمان مشروطًا في العقد لم يصح وإن تبوع المضارب بالتزام الضمان صح بشرطين: أن يكون ذلك بعد العقد وليس في صلب العقد. وأن يكون ذلك بعد الشروع في العمل؛ لأن العقد لا يلزم إلا بعد الشروع فيه. وهذا مذهب المالكية، وبه أفتى المستشار الشرعي لمجموعة البركة (¬1). القول الرابع: يصح أن يتبرع بالضمان طرف ثالث أجنبي عن العقد بشرط ألا يرجع على العامل بما التزم به، وأن يكون هذا الالتزام مستقلًا عن عقد المضاربة، بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطًا في نفاذ العقد. وبه صدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي. ¬
دليل من قال: اشتراط الضمان في المضاربة فاسد مفسد
جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي، رقم: 122 (5/ 13): وفيه: المضارب أمين، ولا يضمن ما يقع من خسارة أو تلف إلا بالتعدي، أو التقصير، بما يشمل مخالفة الشروط الشرعية، أو قيد الاستثمار المحددة التي تم الدخول على أساسها، ويستوي في هذا الحكم المضاربة الفردية والمشتركة، ولا يتغير بدعوى قياسها على الإجارة المشتركة، أو بالاشتراط والالتزام، ولا مانع من ضمان الطرف الثالث طبقًا لما ورد في قرار المجمع، رقم: 30/ (5/ 4) فقرة (9) والله أعلم (¬1). وإذا انتهينا من تحرير الأقوال نأتي على ذكر الأدلة: دليل من قال: اشتراط الضمان في المضاربة فاسد مفسد: الدليل الأول: أن اشتراط الضمان على الأمين شرط ليس في كتاب الله: أي في حكمه. (ح -903) وقد روى البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة ¬
ونوقش هذا
مرفوعًا في قصة عتق بريرة من حديث طويل، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق, وشرط الله أوثق (¬1). وفي رواية: من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن شرط مائة شرط (¬2). ونوقش هذا: بأنه لم يثبت دليل من الكتاب أو السنة على تحريم اشتراط الضمان في الأمانات، وإذا لم يثبت فإن التزام مثل هذا الشرط لا يكون حرامًا؛ لأن الأصل في الشروط الصحة والجواز. الدليل الثاني: يد المضارب يد أمانة، واشتراط الضمان على الأمين باطل؛ لأنه شرط يخالف مقتضى العقد، واشتراط ما يخالف مقتضى العقد يفسده تمامًا كما لو اشترط عليه في البيع ألا يتصرف فيه، وفي النكاح ألا يدخل بها. قال القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي: "إذا شرط رب المال على العامل الضمان فالقراض فاسد ... لأن موضوعه على الأمانة، فإذا شرط فيه الضمان فقد عقد على خلاف موضوعه، فوجب أن يفسد" (¬3). وقال الماوردي: "لو شرطا في عقد القراض تحمل العامل للخسران كان القراض باطلًا؛ لاشتراطهما خلاف موجبه" (¬4). ¬
ويناقش هذا الدليل من وجهين
بل ذهب جمع من الحنابلة إلى أن اشتراط الضمان ينافي مقتضى العقد. قال ابن قدامة: "ولا يصح أن يشترط ما ينافي مقتضى العقد نحو أن يشترط لزوم المضاربة، أو لا يبيع إلا برأس المال أو أقل ... أو شرط على العامل الضمان أو الوضيعة ... فالشرط فاسد؛ لأنه ليس في مصلحة العقد، ولا مقتضاه" (¬1). وقد صاغ الفقهاء على اختلاف مذاهبهم قواعد وضوابط فقهية لبيان أن التزام الضمان لا يصح. فجاء في مذهب الحنفية، جاء فيه: "اشتراط الضمان على الأمين باطل" (¬2). وجاء في مذهب الشافعي، جاء فيه: "الشيء إذا كان حكمه في الأصل على الأمانة فإن الشرط لا يغيره عن حكم أصله" (¬3). وجاء في المذهب الحنبلي، جاء فيه: "كل ما كان أمانة لا يصير مضمونًا بشرطه، وما كان مضمونًا لا ينتفي ضمانه بشرطه" (¬4). ويناقش هذا الدليل من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم أن اشتراط الضمان على العامل ينافي مقتضى العقد، نعم يصح أن يقال: إن اشتراط الضمان يخالف مقتضى العقد، وبينهما فرق. وقد فرق بينهما المرداوي في الإنصاف حيث قال: ¬
الوجه الثاني
وإن شرط توقيتها -يعني المضاربة- فسد العقد ... وشمل قسمين: أحدهما: ما ينافي مقتضى العقد نحو أن يشترط لزوم المضاربة، أو لا يعزله مدة بعينها، أو لا يبيع إلا برأس المال أو أقل ... والثاني: كاشتراط ما ليس من مصلحة العقد، ولا مقتضاه، نحو أن يشترط على المضارب المضاربة له في مال آخر، أو يأخذه بضاعة، أو قرضًا ... أو أن يشترط على المضارب ضمان المال، أو سهمًا من الوضيعة ... (¬1). ففرق بين ما ينافي مقتضى العقد، وبين ما يخالف مقتضاه أي يخالف موجبه. فاشتراط ما ينافي مقتضى العقد لا يصح بحال بخلاف اشتراط ما يخالف مقتضى العقد فلا مانع منه إذا كان له غرض صحيح. فالبيع عليه بشرط ألا يتصرف فيه يعتبر شرطًا ينافي مقتضى العقد بخلاف اشتراط الضمان في الأمانات فإنه شرط يخالف مقتضى العقد ولا ينافيه، وبينهما فرق مثله تمامًا ما ذكرته في مسألة: ما إذا باع عليه واشترط ألا يبيعه، وقصد من الشرط نفع المشتري أو نفع السلعة، فالأول كما لو كان المشتري إذا ملك شيئاً باعه ولم يحسن التصرف في ثمنه، وأراد البائع أن ينتفع المشتري من المبيع، ومثال الثاني كما لو باعه حيوانًا، وعلم أن المشتري يرفق به، ولم يرغب في بيعه لغيره فلا مانع من اشتراط مثل ذلك على الصحيح، وإن كان شرطًا يخالف مقتضى العقد، والله أعلم. الوجه الثاني: نسلم لكم أن عقود الأمانات المطلقة الأصل فيها عدم الضمان، ولكن إذا ¬
الدليل الثالث
التزم الشخص الضمان بالشرط فإنه يلزمه؛ لأنه قد أوجب على نفسه بالشرط ما لا يجب عليه بدونه، والأصل في الشروط الصحة والجواز. الدليل الثالث: الإجماع حكاه ابن قدامة وغيره، قال: "متى شرط على المضارب ضمان المال، أو سهمًا من الوضيعة، فالشرط باطل، لا نعلم فيه خلافًا" (¬1). وقال الباجي: "شرط الضمان على العامل ... يقتضى فساد العقد، ووجه ذلك: أن عقد القراض لا يقتضي ضمان العامل، وإنما يقتضي الأمانة، ولا خلاف في ذلك" (¬2). جواب القائلين بالجواز عن حكاية الإجماع: حاول بعضهم أن يخرق الإجماع بأمور عند التحقيق لا يظهر أن الإجماع مخروق بها، من ذلك: رأى بعضهم أن الإجماع مخالف بقول ابن عتاب وشيخه أبي المطرف ابن بشير من المالكية في صحة تضمين العامل بالشرط. والذي أفهمه من قول ابن بشير وموافقة تلميذه ابن عتاب أنه لا يخالف ما ورد في مذهب المالكية: جاء في القاعدة الخامسة والسبعون: أن أبا المطرف بن بشير قد أملى عقدًا بدفع الوصي مال السفيه قراضًا إلى رجل على جزء معلوم، وأن العامل طاع بالتزام ضمان المال وغرمه (¬3). ¬
فمعنى قوله: (وأن العامل طاع بالتزام الضمان) كلمة طاع بمعنى تطوع، والتطوع بالضمان من باب التبرع، وليس من باب الشروط. وهذا ما فهمه القاضي ابن زرب تصديقًا لكلام ابن بشير وتلميذه ابن عتاب، قال ابن زرب: "فلو تبرع بالضمان وطاع به بعد تمام الاكتراء لجاز ذلك، قيل له: فيجب على هذا القول الضمان في مال القراض إذا طاع به قابضه بالتزام الضمان، فقال: إذا التزم الضمان طائعًا بعد أن شرع في العمل فما يبعد أن يلزمه" (¬1). فتجد أن الكلام كله في باب التبرع بالضمان بعد لزوم العقد والشروع في العمل، وأن كلمة (طاع به) وردت في كلام ابن بشير وابن عتاب كما وردت في كلام القاضي ابن زرب، وكلها تعني التطوع بالضمان، ولا تعني الاشتراط، وإذا كان ذلك كذلك لم يكن كلام ابن بشير وابن عتاب خارقًا للإجماع؛ لأن مسألة التبرع بعد لزوم العقد وبعد الشروع في العمل مسألة أخرى تختلف عن اشتراط الضمان في صلب العقد، وسيأتي مناقشة ذلك إن شاء الله تعالى عند ذكر أدلة الأقوال. ورأى بعضهم خرق الإجماع بقول قتادة وداود الظاهري وأبي حفص العكبري وابن تيمية والسعدي في صحة اشتراط ضمان العارية (¬2). ¬
كما رأى بعضهم خرف الإجماع بقول عبيد الله بن الحسن العنبري والشيخ ابن عثيمين في صحة اشتراط ضمان الوديعة. كما رأوا خرق الإجماع بكلام عام في صحة التزام ضمان الأمانات على وجه العموم، وهو قول في مذهب المالكية، ورواية عن الإِمام أحمد. جاء في شرح ميارة، تحت عنوان: فصل في العارية والوديعة والأمناء نقلاً عن ابن الحاجب: "وإذا اشترط إسقاط الضمان فيما يضمن، أو إثباته فيما لا يضمن، ففي إفادته قولان" (¬1). وجاء في الإنصاف عند الكلام على ضمان العارية، قال: "وكل ما كان أمانة لا يصير مضمونًا بشرطه، هذا المذهب، وعليه الأصحاب ... وعنه المسلمون على شروطهم كما تقدم" (¬2). والذي تقدم قول الإِمام أحمد في اشتراط نفي الضمان عن العارية، والمذهب أن العارية مضمونة مطلقًا، وعن الإِمام أحمد في رواية أنه حين ذكر ذلك له، قال: المسلمون على شروطهم (¬3). فما ورد عن الإِمام أحمد ليس نصًا في ضمان مال المضاربة، والله أعلم. والنقاش: هل يصح أن يقال: إن الخلاف في ضمان الوديعة والعارية خارق لما حكي من إجماع في تحريم ضمان المضاربة بجامع أن كلا منهما من باب اشتراط ضمان الأمانات. هل يقال: إذا صح التزام الضمان في الوديعة، وهي مقبوضة لحظ صاحبها، ¬
والمودَع محسن، فالتزام الضمان في المضاربة من باب أولى؛ لأنه قد قبضها لمصلحتهما (المالك والمضارب)؟ أو يقال: يختلف الضمان في الوديعة والعارية عن الضمان في عقد المضاربة، فالعقدان الأولان ليسا من عقود المعاوضة، فلا محذور شرعا في التزام الضمان، وأما المضاربة فإنها من عقود المعاوضة، والتزامه يجعل الضمان جزءا من المعاملة، ويحول رأس مال المضاربة إلى ما يشبه القرض، ويتحول الربح إن وجد إلى فائدة للقرض، فلا يصح التخريج. الذي أميل إليه هو الثاني، وأن الخلاف في ضمان الوديعة والعارية لا يصح أن يعارض به الإجماع الوارد في منع ضمان مال المضاربة بدليل أن الذي قال بجواز ضمان الوديعة والعارية لم يختلف قولهم بتحريم ضمان مال المضاربة، فلو كان الباب واحدًا لوجدت الخلاف محفوظا في المسألتين، فلما اختلفوا في اشتراط ضمان الوديعة والعارية، ولم يختلفوا في المنع من ضمان مال المضاربة دل ذلك على أن مال المضاربة يختلف في الحكم عن مال الوديعة والعارية. وأما ما ورد عاما عن بعض المالكية والحنابلة في صحة اشتراط الضمان في الأمانات، فيقال: إن الأمانات ليست معاملة واحدة، منها ما هو على سبيل المعاوضة، والتزام الضمان في العقد يكون مؤثرا في صحته لوجود محاذير شرعية، ومن الأمانات ما ليس من عقود المعاوضات، والتزام الضمان لا يوقع في محاذير شرعية؛ لأن باب التبرعات أوسع من باب المعاوضات، فلا يؤثر في صحة العقد، فيحمل كلام الأئمة على الثاني دون الأول، والله أعلم، خاصة أن مذاهبهم صريحة في أن التزام الضمان في عقد المضاربة لا يصح، فيكون الحمل هذا متعينًا، والله أعلم.
والقول الذي وقفت عليه في صحة التضمين بالشرط مما يدخل في المعاوضة ما ورد عن ابن نجيم في الأشباه والنظائر في ضمان العين المستأجرة -قاله تفقهًا من عنده وهو خلاف المذهب- وما جاء عن ابن تيمية في التزام الحارس بالضمان وكلاهما في غير تضمين عامل المضاربة بالشرط، ولا يخرق مثل ذلك الإجماع؛ لأن الإجماع وارد في المنع من تضمين عامل المضاربة. قال ابن نجيم: "حين تأليف هذا المحل ورد على سؤال فيمن آجر مطبخًا لطبخ السكر وفيه فخار، أذن للمستأجر في استعمالها، فتلف ذلك، وقد جرى العرف في المطابخ بضمانها على المستأجر؟ فأجبت بأن المعروف كالمشروط فصار كأنه صرح بضمانها عليه" (¬1). وانتقد ذلك الحموي في غمز عيون البصائر، وقال: "لا يحل الإفتاء من القواعد والضوابط، وإنما على المفتي حكاية النقل الصريح كما صرحوا به (¬2). يعني أن صريح كلام الحنفية أن اشتراط الضمان غير صحيح، فلا يعدل عن ذلك إلى الاستدلال بالقواعد والضوابط الفقهية، والله أعلم. وقال ابن تيمية: "ويصح ضمان حارس ونحوه" (¬3). ويبقى أن كل هذه النقول غير تضمين عامل المضاربة بالشرط؛ لأن عقد المضاربة يقوم على إطلاق التصرف في المال، وضمان رأس المال فيه يحول العقد إلى ما يشبه القرض، وإذا وجد الربح كان بمثابة الفائدة، والله أعلم. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: اشتراط الضمان على العامل يعني اشتراط دراهم معلومة لرب المال، وهذا متفق على منعه في عقد المضاربة. قال ابن المنذر: "وأجمعوا على إبطال القراض الذي يشترط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة" (¬1). وقال ابن عبد البر: "لا أعلم خلافًا، أنه إذا اشترط العامل، أو رب المال على صاحبه شيئًا يختص به من الربح معلومًا ديناراً، أو درهما، أو نحو ذلك، ثم يكون الباقي في الربح بينهما نصفين، أو على ثلث، أو ربع، فإن ذلك لا يجوز ... " (¬2). الدليل الخامس: العبرة في العقود بمعانيها وليس بألفاظها، وإذا اشتراط ضمان رأس المال على المضارب تحول المال المدفوع إلى قرض مضمون، فإن دفع المستقرض جزءا من ربح المال كان قرضًا جر نفعًا، وإن لم يدفع إلى المقرض فوائد باعتبار أنه قد خسر، أو لم يربح كان المقرض قد رجع إليه رأس ماله، فما الفرق بين رجل قال لآخر: أقرضني مالاً، وإن ربحت أعطيتك نسبة من الربح -وهذا بالإجماع محرم، ولا يختلف العلماء كافة في تحريمه- وبين أن يقول: أعطني ما، مقارضة، وأنا أضمن لك رأس المال، وإن ربحت أعطيتك نسبة منه، فلا يوجد في الحقيقة بين العقدين أي فرق جوهري، والشارع حريص على سد جميع الأبواب التي تؤدي إلى الوقوع في الربا أو تكون ذريعة إلى الوقوع فيه. ¬
دليل من قال: يبطل الشرط ويصح العقد
دليل من قال: يبطل الشرط ويصح العقد: أما الدليل على بطلان الشرط فتهد ذكرنا أدلته في القول السابق، وهي أدلة سالمة من المعارضة الصحيحة كما بينا. وأما الدليل على صحة العقد: (ح -904) فقد استدلوا بما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنه -، قالت: جاءت بريرة، فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقالت عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة، وأعتقك فعلت، ويكون ولاؤك لي، فذهبت إلى أهلها فأبوا ذلك عليها ... فسمع بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألني، فأخبرته، فقال: خذيها، فأعتقيها، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق، قالت: عائشة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، ما بال رجال منكم يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، فأيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، فقضاء الله أحق, وشرط الله أوثق ... (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبطل الشرط وحده، وأبقى العقد صحيحًا، فدل الحديث على أن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد يبطل وحده، ولا يبطل معه العقد، ومنه مسألتنا هذه حيث تطرق الخلل إلى الشرط الذي وضعه المتعاقدان، فيبطل الشرط وحده، فوجوده كعدمه، ويصح العقد. ويجاب عن ذلك: قياس الشروط المالية على شرط غير مالي وهو اشتراط الولاء غير صحيح، ¬
ونوقش هذا
فالولاء ليس مالاً، ولا يصح بيعه بخلاف اشتراط الضمان فإن اشتراطه سيكون له قيمة في العقد؛ لأن نصيب العامل الضامن من الربح سيكون أكبر من نصيبه مع عدم الضمان، فكان الضمان مقابلًا جزء من الربح، فإذا أبطلنا الشرط فلا بد أن نبطل عوضه، وإذا كان عوض الضمان مجهولًا عاد ذلك بالجهالة على نصيب العامل ورب المال، كما أن لرب المال أن يقول: أنا لم أرض بالمضاربة إلا بالشرط الذي اتفقنا عليه، فإذا كان الشرط باطلاً فليبطل العقد، حيث فات الرضا الذي هو شرط في صحة جميع العقود. ونوقش هذا: بأن رب المال إن كان عالمًا بأن الشرط فاسد فلا حق له، لدخوله على بينة، وإن كان لا يعلم بفساد الشرط فإنه يملك بموجب العقد فسخ العقد متى شاء باعتبار أن عقد المضاربة من العقود الجائزة. ويجاب: بأن رب المال إذا لجأ إلى الفسخ لكون العقد في المضاربة من العقود الجائزة لا يعني إبطال أثر العقد فيما مضى بخلاف ما إذا تبين أن العقد من الأصل باطل، والله أعلم. دليل من قال: يصح العقد والشرط: الدليل الأول: (ح -905) ما رواه الترمذي من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالاً، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالاً، أو أحل حرامًا.
الدليل الثاني
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح (¬1). [ضعيف] (¬2). الدليل الثاني: (ح -906) ما رواه الإِمام أحمد، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا شريك، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أمية بن صفوان بن أمية، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعار منه يوم خيبر أدرعًا، فقال: أغصبا يا محمَّد؟ فقال: بل عارية مضمونة. قال: فضاع بعضها فعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضمنها له فقال: أنا اليوم يا رسول الله في الإِسلام أرغب (¬3). وجه الاستدلال: العارية ليست مضمونة على الصحيح، بل هي أمانة في يد صاحبها لا تضمن إلا بالتعدي أو بالتفريط، وقد ضمنها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشرط، فدل على أن الأمانات تضمن بالشرط، ومنه ضمان رأس مال المضاربة. وأجيب بعدة أجوبة: الأول: أن الحديث مضطرب من مسند صفوان. ¬
وأجيب
وأجيب: بأن الحديث وإن كان مضطربًا من مسند صفوان فإنه حسن من مسند جابر رضي الله عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الجواب الثاني: من الشروط الأساسية لصحة القياس أن يكون الأصل المقيس عليه ثابتًا بالنص أو بالإجماع، والعارية قد اختلف العلماء، هل هي مضمونة مطلقًا، أو أمانة في يد صاحبها لا تضمن إلا بالتعدي أو بالتفريط، فإذا كان الأصل مختلفًا فيه فكيف يحتج علينا بالقياس عليه. الجواب الثالث: لو صح الاستدلال بالحديث لكان هناك فرق بين العارية ومال المضاربة، ذلك أن العارية واجبة الرد بعينها بلا زيادة ولا نقصان، فالضمان متوجه إلى عين يجب ردها بخلاف مال القراض فإن العامل يأخذ المال ليتصرف فيه لمصلحة مالكه ومصلحة العامل، فإذا شرط عليه الضمان فقد اشتغلت ذمته بالرد فيتحول رأس مال المضاربة إلى دين في ذمة العامل، فإن أخذ رب المال ربحًا صار من الربا، والله أعلم. الجواب الرابع: على فرض أن تكون العارية غير مضمونة فإن هناك فرقًا بين ضمان العارية ¬
الدليل الثالث
وبين ضمان مال المضاربة، فالعارية ليست من عقود المعاوضات، والجهالة فيها مغتفرة، بينما التزام الضمان في مال المضاربة من عقود المعاوضات، وضمانه يحوله إلى قرض، فإن أخذ رب المال زيادة على رأس ماله كان قرضاً جر نفعًا، وذلك يوقع في صريح الربا. الدليل الثالث: لم يثبت دليل من الكتاب أو من السنة على تحريم اشتراط الضمان في الأمانات، وإذا لم يثبت فإن التزام مثل هذا الشرط لا يكون حرامًا. ونوقش هذا: بأنه قد نقل الإجماع على تحريم اشتراط الضمان في مال المضاربة، والإجماع دليل من أدلة الشرع، ولم نقف على قول فقهي يقول بجواز التزام الضمان في مال المضاربة كشرط في صلب العقد، بل صريح كلامهم أنه متى تضمن العقد شرطًا في ضمان رأس المال فإن العقد يفسد عند كل من المالكية والشافعية، أو يفسد الشرط وحده عند الحنفية والحنابلة، والخلاف الوارد فيه فيما لو تبرع العامل بالضمان بعد العقد والشروع في العمل، وهذا الخلاف لا يخرق الإجماع. الدليل الرابع: قياس عامل المضاربة -خاصة عامل المضاربة المشترك كالمصارف الإِسلامية- على الأجير المشترك، وقياسه من ناحيتين: الأولى: أن المضارب المشترك (البنك) يأخذ الأموال من كافة الناس تمامًا كما يفعل الأجير المشترك. الثاني: أن المالكية ذهبوا إلى أن الأصل في يد الأجير المشترك أنها يد
أمانة، ولكن لما فسد الناس وظهرت خيانة الأجراء ضمن الصناع، وكل من تقتضي المصلحة العامة تضمينه من الأجراء المشتركين حيث تقوم به التهمة. وهو من باب الاستحسان (¬1). "ووجه المصلحة فيه: أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط، وترك الحفظ، فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين: إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك سياق على الخلق، وإما أن يعملوا, ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة، فكانت المصلحة التضمين" (¬2). يقول ابن رشد في المقدمات: "الأصل في الصناع أن لا ضمان عليهم، وأنهم مؤتمنون؛ لأنهم أجراء، وقد أسقط النبي - صلى الله عليه وسلم - الضمان عن الأجراء في الائتمان، وضمنوهم نظرًا واجتهادًا لضرورة الناس إلى استعمالهم، فلو علموا أنهم يؤتمنون، ولا يضمنون، ويصدقون فيما يدعون من التلف لتسارعوا إلى أخذ أموال الناس واجترؤوا على أكلها، فكان ذلك ذريعة إلى إتلاف الأموال وإهلاكها, وللحق أرباب السلع في ذلك ضرر شديد؛ لأنهم بين أن يدفعوها إليهم فيعرضوها للهلاك، أو يمسكوها مع حاجتهم إلى استعمالها فيضر ذلك بهم" (¬3). ¬
وأجيب على هذا من أكثر من وجه
"فإذا كان انفراد الأجير المشترك بالعمل في الشيء الذي استؤجر عليه، وترجيح جانب الهلاك نتيجة تفريطه المفترض هما من العوامل التي دعت المالكية لاعتباره ضامنًا، فإن المضارب المشترك لا يقل شبهًا في وضعه بالنسبة للمستثمرين عن الأجير المشترك حيث ينفرد المضارب المشترك بإدارة المال جريًا وراء الكسب السريع إلى الإقدام على إعطاء المال للمضاربين المقامرين دون تحفظ أو مراجعة للموازين" (¬1). وأجيب على هذا من أكثر من وجه: الجواب الأول: أن من أحد الشروط الأساسية لصحة القياس أن يكون الأصل المقيس عليه ثابتا بالنص أو بالإجماع، وهذا غير متوفر في مسألتنا هذه، فقد اختلف العلماء في تضمين الأجير المشترك: فهناك من العلماء من يرى: أن يد الأجير المشترك يد أمانة مطلقا فلا يضمن ما تلف بعمله ما لم يتعد، وهو اختيار زفر من الحنفية والأظهر عند الشافعية، وصوبه صاحب الإنصاف من الحنابلة، والله أعلم (¬2). كما ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن الأجير لا يضمن ما يتلف بسبب يرجع إلى الحفظ، وإنما يضمن فقط ما تلف بسبب فعله (¬3). وقد بسطت الأقوال وأدلتها في كتاب الإجارة، فأغنى ذلك عن إعادة الموضوع. ¬
الجواب الثاني
فإذا كان الأصل المقيس عليه مختلفًا فيه فكيف يكون القياس عليه حجة يستدل به؟ الجواب الثاني: من شروط القياس أن تكون العلة متساوية في تحققها بين الفرع والأصل، وهذا غير متحقق في مسألتنا: فعلة الضمان في الأجير المشترك على القول به هو ما سبق أن نقلته عن الشاطبي: وهو أن الصناع يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ، فإذا لم يضمنوا حملهم ذلك على تضييع تلك الأعيان. ومحل الضمان في عقد الأجير المشترك أعيان يطلب من الأجير حفظها، وهذه الأعيان ليست عرضة للربح والخسارة، والأصل فيها أنها لا تهلك في يد الأجير أو الصانع المشترك إلا بسبب تعد أو تفريط، وهذه العلة غير موجودة في مال المضاربة، ذلك أن النقود في عقد المضاربة يقصد فيها النماء من خلال التصرف في تلك الأموال، وهذه الأموال عرضة للربح والخسارة بطبيعتها، وعامل المضاربة حريص على تحقيق الربح لوجود مصلحة مشتركة بينه وبين رب المال، وضياع المال يعني ضياع عمل العامل أيضًا، فتضمينه بما لم يثبت تعديه وتقصيره لا يجوز. الجواب الثالث: يرى الشيخ سامي حمود وفقه الله أن الأجير لما كان مشتركًا، وينفرد بالعمل الذي استؤجر عليه، هو السبب الذي دعا المالكية إلى القول بتحميله الضمان، ولما كان المضارب في المضاربة المشتركة مشتركًا وينفرد بإدارة المال كان هذا
الدليل الخامس
شبهًا كافيًا في تحميله الضمان قياسًا على الأجير. وهذا ليس صحيحًا، وإنما السبب في تضمين الصناع أن الصناع يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ، وأما انفراد المضارب في إدارة المال فإنه الأصل في عقد المضاربة، بل إن بعض أهل العلم يشترط لصحة المضاربة انفراد المضارب بالتصرف، ولم يقل أحد من أهل العلم أن انفراده بالتصرف موجب لضمانه، ولو صح هذا القياس للزم أن يقال: إن الوديع والوكيل المشترك يضمن وإن لم يتعد أو يفرط؛ لكونه مشتركًا وينفرد بالحفظ والعمل، وهذا غير صحيح. والله أعلم (¬1). الدليل الخامس: قد صحح المالكية التطوع بالضمان بعد العقد وبعد الشروع فيه، ويصبح الوعد به ملزمًا للعامل؛ فإذا صح التطوع بالضمان بعد العقد، صح التطوع بالضمان في صلب العقد؛ لأن ما لا يجوز التزامه في العقد لا يجوز التعطوع بالتزامه بعده. ويناقش: بأن مذهب المالكية أن عقد المضاربة عقد لازم، وليس عقدًا جائزًا خلافًا لمذهب الجمهور، وأن العقد لا يلزم إلا بالشروع فيه، وأن التطوع بالضمان عندهم إن كان قبل لزوم العقد لم يصح؛ لأن التطوع به يلحق بالعقد؛ لأن العقد قبل لزومه لم يستقر بعد فجميع ما يضاف إلى العقد قبل لزومه يلحق بأصل العقد، ويكون تعديلًا للعقد السابق، والضمان في هذه الحالة يكون كما لو ¬
اشترط في صلب العقد، تمامًا كما لو زيد في الثمن أو في المبيع قبل لزوم البيع أو في مدة الخيار فإنه يلحق بالثمن أو بالمبيع. وإن كان التطوع بالضمان بعد لزم العقد لم يلحق بالعقد على الصحيح، ويعتبر هبة محضة منفصلة عن العقد، وليست جزءًا منه، فلا تلحق بالعقد، وهذا هو السبب الذي جعل المالكية يفرقون بين أن يكون الضمان في صلب العقد فيكون فاسدًا مفسدًا، وبين التبرع به بعد لزوم العقد والشروع في العمل فلا يكون فاسدًا. ولو كان الإلزام بالضمان في هذه الحالة عند المالكية يرونه جزءًا من المعاوضة لم يلزموا به؛ لأن مذهب المالكية صريح في منع الإلزام بالوعد في باب المعاوضات، كما بينا مذهبهم في بيع المرابحة للآمر بالشراء (¬1)، وإنما تبنوا الإلزام بالوعد في باب التبرعات وما كان من قبيل المعروف المحض، إن خرج على سبب، ودخل الموعود له بسببه في كلفة، وهو مذهب لهم خلافًا لمذهب الجمهور (¬2). ¬
. . . . . . . ¬
فإذا كان هذا هو التوصيف الفقهي عند المالكية للتبرع بالضمان، وأنهم إنما قبلوه وصححوه؛ لأنه من قبيل الوعد بالمعروف بعد لزوم العقد والشروع فيه لم يكن له صفة الإلزام على الصحيح، وقد قال فضيلة الشيخ نزيه حماد نفسه في المواعدة على الشراء: "لم ينقل عن أحد منهم -يعني من الفقهاء- قول بأن في المواعدة قوة ملزمة لأحد المتواعدين، أو لكليهما؛ لأن التواعد على إنشاء عقد في المستقبل ليس عقدًا" (¬1). وأما قولهم: إذا صح التطوع بالضمان بعد العقد، صح التطوع بالضمان في صلب العقد فهذا الكلام غير صحيح؛ لأن التطوع به في صلب العقد، وقبل ¬
لزومه يكون جزءًا من عقد المعاوضة بخلاف التبرع به بعد لزوم العقد، ولا يصح أن تقاس عقود المعاوضات على عقود التبرعات، وذلك أن عقود التبرعات يتسامح فيها ما لا يتسامح في عقود المعاوضات، حثًا للناس على التبرع، وترغيبًا لهم في ذلك، ألا ترى أن صورة القرض هي تمامًا صورة بيع النقد بالنقد نسيئة، لكن أبيح الأول؛ لأنه تبرع، ومنع الثاني؛ لأنه معاوضة، والغرر الكثير مؤثر في عقود المعاوضات بالاتفاق، أما في عقود التبرعات فالصحيح الذي عليه الجمهور أنه غير مؤثر (¬1). ولو أنه أقرضه بشرط أن يقضيه خيرًا مما أعطاه حرم بالاتفاق، ولو قضاه خيرًا مما أعطاه بلا شرط لم يحرم على الصحيح. (ح -907) يدل لذلك ما رواه مسلم من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكرًا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيًا، فقال: أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء (¬2). قال ابن عبد البر: "في حديث أبي رافع هذا ما يدل على أن المقرض إن أعطاه المستقرض أفضل مما أقرضه جنسًا، أو كيلًا، أو وزنًا، أن ذلك معروف، وأنه يطيب له أخذه منه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أثنى فيه على من أحسن القضاء، وأطلق ذلك، ولم يقيده بصفة" (¬3). ¬
دليل من قال: يصح إن تطوع بالضمان طرف ثالث أجنبي
قال الصنعاني: "ولا يدخل في القرض الذي يجر نفعًا؛ لأنه لم يكن مشروطا من المقرض وإنما ذلك تبرع من المستقرض ... " (¬1). وعليه فلا يصح أن يقال: إذا صح أن يقضيه خيرًا مما أعطاه عند الوفاء وبعد القرض فلا مانع من اشتراطه في صلب العقد. وبالجواب عن هذا الدليل نكون قد عرضنا أدلة قول المالكية والجواب عنها ضمن هذا الدليل، والحمد لله. دليل من قال: يصح إن تطوع بالضمان طرف ثالث أجنبي: الدليل الأول: الأصل في العقود الصحة والجواز ما لم يرد دليل على المنع، والمنع إنما ورد في التزام الضمان من قبل العامل حتى لا تجتمع عليه خسارتان: خسارة ضمان النقص، وخسارة عمله بلا مردود، والطرف الثالث متبرع، وإذا كان التبرع بالمال جائزًا فإن التبرع بالضمان أولى بالجواز. وأجيب: أن الطرف الضامن الثالث يقصد به إما الحكومة، أو أن يضمن البنك صناديق الاستثمار التابعة له والذي يتولى إدارته على أساس المضاربة، فالأول غير مقبول؛ لأن الخزينة العامة ملك للجميع، فلا يصح أن تتحمل خسائر بعض الأفراد، والثاني لا يمكن اعتباره أجنبيًا؛ لأن البنك من أكبر المساهمين في الصندوق. وإذا تصور أن يوجد طرف ثالث خاص يتبرع بالضمان دون أن يكون له أي ¬
الدليل الثاني
مردود بطريقة مباشرة كالأجر أو غير مباشرة كتبادل الضمان فيما بينها وبين الجهة المضمونة إذا تصور وجود مثل هذا فإن القول بجوازه متجه (¬1). الدليل الثاني: إذا صح عند المالكية أن يتبرع عامل المضاربة بالضمان بعد لزوم العقد والشروع فيه، وهو أحد طرفي العقد فكونه يتطوع بالضمان طرف ثالث مستقل أولى بالجواز خاصة أننا نشترط لهذا التبرع ألا يكون جزءًا من العقد بحيث لا يرجع المتبرع على العامل بما التزم به، ولا يعتبر قيام الواعد بما وعد شرطًا في نفاذ العقد، ولا امتناعه عن الوفاء بما وعد حجة لبطلان العقد. ويناقش من وجهين: الوجه الأول: هذا الواعد بالتبرع لا يخلو من حالتين: الحال الأولى: أن يكون مشروطًا في صلب العقد، أو معروفًا من طبيعة المعاملة أن طرفًا ثالثًا سوف يلتزم بالضمان؛ لأن المعروف كالمشروط، أو كان ذلك قبل لزوم العقد على القول بأن عقد المضاربة عقد لازم كما هو مذهب المالكية فإن ذلك لم يقل بجوازه أحد من أهل العلم. جاء في تبيين الحقائق: "الكفالة من شرط صحتها أن يكون المكفول به مضمونًا على الأصيل بحيث لا يمكنه أن يخرج عنه إلا بدفعه أو بدفع بدله؛ لأن الكفالة التزام المطالبة بما على الأصيل، فلا بد أن يكون واجبًا على الأصيل ومضمونًا عليه ... فلا يمكن إيجاب الضمان على الكفيل وهو ليس بواجب ¬
على الأصيل، وكذا الأمانات ليست بمضمونة على الأصيل لا عينها, ولا تسليمها، وهي كالودائع والمضاربات، والشركات فلا يمكن جعلها مضمونة على الكفيل، فلا تصح الكفالة بها" (¬1). وجاء في حاشية الصاوي على الشرح الصغير: "إن دفع رب المال للعامل المال، واشترط عليه أن يأتيه بضامن يضمنه فيما يتعلق بتعديه فلا يفسد بذلك؛ لأن هذا شرط جائز، وأما إن شرط عليه أن يأتيه بضامن يضمنه مطلقا تعدى في التلف أم لا فسد القراض، ولو كان الضمان بالوجه، ولا يلزم" (¬2). وجاء في الأشباه والنظائر للسيوطي: "فأما الأعيان فإن لم تكن مضمونة على من هي في يده كالوديعة، والمال في يد الشريك، والوصي، والوكيل، فلا يصح ضمانها قطعًا، وإن كانت مضمونة صح ضمان ردها على المذهب" (¬3). وجاء في كشاف القناع: "ولا يصح أيضا ضمان الأمانات كالوديعة والعين المؤجرة، ومال الشركة، والمضاربة، والعين المدفوعة إلى الخياط والقصاب ونحوهما؛ لأنها غير مضمونة على من هي في يده فكذا على ضامنه ... إلا أن يضمن التعدي فيها: أي الأمانات فيصح الضمان؛ لأنها إذن مضمونة على من هي في يده، فأشبهت الغصوب" (¬4). الحال الثانية: أن يكون هذا الوعد ليس مشروطًا في صلب العقد، وإنما تطوع به طرف ثالث ¬
بعد الشروع في العمل، وهذا الذي يمكن تخريجه على قول المالكية فيما لو تطوع عامل المضاربة بالضمان بعد لزوم العقد وشروعه في العمل، وفي هذه الحالة نقول: إن كان التبرع ملزمًا لمن وعد به فإن الإلزام من طبيعة العقود، وليس من طبيعة الوعود على أصح أقوال أهل العلم، فيعتبر جزءًا من العقد فلا يصح؛ لأننا لو جعلنا الوعد ملزمًا صار ضمانًا لازمًا، وهذا لا يجوز. يقول فضيلة الشيخ يوسف الشبيلي: "إقحام الوعد الذي في أصله تبرع في مسائل المعاوضات يحول الأمور إلى مسائل شكلية تتغير فيها الأحكام بمجرد تغير الأسماء: فيصح لمن اقترض مالًا أن يعد برده وزيادة عليه تطوعًا، ويكون هذا من باب الوعد الملزم، وليس من باب الاقتراض بفائدة. ويصح لمن ابتاع سلعة قبل أن يملكها البائع أن نلزمه بالشراء؛ لأن هذا وعد ملزم، وليس من بيع ما لا يملك. وإذا جاز أن نلزم الطرف الثالث بالوعد فلم لا يجوز أن نلزم المضارب إذا وعد بذلك، ولا يعتبر ذلك مشروطًا. وهكذا ما لا يستباح بالعقد يمكن استباحته تحت مسمى الوعد الملزم، والنتيجة التي لا مفر منها أن يصبح جوهر عمليات المصارف الإِسلامية هو جوهر عمليات المصارف الربوية، والفارق يكمن في طريقة الإخراج" (¬1). وإن كان الوعد غير ملزم، وكان هبة محضة، ولم يكن ثمة ثمن لهذا التبرع ولا فائدة مباشرة ولا غير مباشرة تعود إلى المتبرع فإن الوعد به صحيح، والوفاء به مستحب، ولا يلزم إلا بالقبض على الصحيح من أقوال أهل العلم، وهذه الصورة غير موجودة في المعاملات المصرفية. ¬
يقول الشيخ يوسف الشبيلي: "القول بأن الطرف الثالث متبرع بهذا الضمان دعوى يكذبها الواقع، فإن المؤسسات المالية لم تفتح أبوابها لتتصدق على الناس، وتحسن إليهم، ولئن صدق ذلك في بعض الحالات النادرة فإنه لا يصح في معظمها، فهذه المؤسسات لا تقدم على أي خطوة إلا ولها مصلحة مادية منها، فهي وإن تبرعت بيدها اليمنى فإنها تأخذ أكثر بيدها اليسرى، فحري بالمفتي ألا يغتر بظواهر الألفاظ، وأن ينظر في عاقبة فتواه، لا سيما في مثل هذه البيئة الموبوءة بالربا، والتي تستحله بأدنى الحيل، فما الذي يمنع أن تتفق البنوك على تبادل الضمانات فيما بينها، وبذا يتحول معنى المشاركة في الربح والخسارة إلى صورة افتراضية لا وجود لها في الواقع. والخلاصة: إنه إذا تطوع طرف ثالث بالضمان فيصح تطوعه لكن لا يكون ملزمًا له، ولا يصح أن يطالب به قضاء، والله أعلم" (¬1). الراجح من الخلاف: اشتراط الضمان في مال المضاربة لا يصح مطلقاً، لا من عامل المضاربة، ولا من طرف ثالث أجنبي. وأما التبرع بالضمان من طرف ثالث غير مستفيد بعد الشروع في العمل فإنه يجوز بشرط ألا يكون هناك أي مصلحة للمتبرع مباشرة أو غير مباشرة، على أن يكون ذلك هبة لا تلزم إلا بالقبض، على أن تبرع البنك بضمان مال الصناديق أو تبرع البنك لبنك آخر يعتبر من تبرع المستفيد احتياطًا للسلامة، وسدًا لطرق الربا، والله أعلم. ¬
الفصل الثامن في المضاربة الفاسدة
الفصل الثامن في المضاربة الفاسدة العتهود الجائزة لا يمنع فسادها نفوذ التصرف فيها (¬1). قال ابن تيمية: يجب في الفاسد من العقود نظير ما يجب في الصحيح (¬2). العقد الفاسد يجب فسخه ما لم يفت بالعمل (¬3). [م - 1402] إذا فسدت المضاربة لأي سبب من الأسباب جرى عليها الأحكام التالية: الحكم الأول: يجب فسخ العقد ورد المال إلى صاحبه. قال ابن رشد: "واتفقوا على أن حكم القراض الفاسد فسخه، ورد المال إلى صاحبه، ما لم يفت بالعمل" (¬4). الحكم الثاني: أن فساد عقد المضاربة لا يرجع إلى تصرف العامل بالبطلان فيما تصرف فيه قبل منعه من العمل، بل يعتبر تصرفًا نافذًا صحيحًا. جاء في المهذب: "وإن قارض قراضًا فاسدًا، وتصرف العامل نفذ تصرفه؛ لأن العقد بطل، وبقي الإذن فملك به التصرف" (¬5). وجاء في مغني المحتاج: "وإذا فسد القراض نفذ تصرف العامل؛ للإذن فيه ¬
كما في الوكالة الفاسدة، وليس كما لو فسد البيع لا ينفذ تصرف المشتري؛ لأنه إنما يتصرف بالملك، ولا ملك في البيع الفاسد" (¬1). وقال ابن قدامة: "وفي المضاربة الفاسدة ... أنه إذا تصرف نفذ تصرفه؛ لأنه أذن له فيه، فإذا بطل العقد بقي الإذن، فملك به التصرف كالوكيل" (¬2). الحكم الثالث: أن عامل المضاربة في العقد الفاسد لا يضمن ما تلف إلا أن يتعدى أو يفرط؛ لأن حكم القراض الفاسد كحكم الصحيح في باب الضمان (¬3). جاء في الهداية شرح البداية: "والمال في المضاربة الفاسدة غير مضمون بالهلاك اعتبارًا بالصحيحة" (¬4). وعلل ذلك الزيلعي في تبيين الحقائق يكون الفاسد من العقود يأخذ حكم الصحيح منها -يعني في باب الضمان (¬5). وجاء في درر الحكام في شرح مجلة الأحكام: "لو تلف رأس المال في المضاربة الفاسدة في يد المضارب بلا تعد ولا تقصير فلا يلزم ضمان؛ لأن المضارب أمين فلا يضمن" (¬6). وجاء في القواعد الفقهية: "فاسد كل عقد كصحيحه في باب الضمان وعدمه" (¬7). ¬
القول الأول
وقال السيوطي: "قال الأصحاب: كل عقد اقتضى صحيحه الضمان فكذلك فاسده، وما لا يقتضي صحيحة الضمان فكذلك فاسده" (¬1). [م - 1403] الحكم الرابع: إذا فسدت المضاربة فإن ربح رأس المال يكون لربه؛ لأنه نماء ماله، والخسارة عليه كذلك، واختلفوا في حق العامل على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب محمَّد بن الحسن من الحنفية، والشافعية، والحنابلة إلى أن العامل يستحق أجرة المثل مطلقًا، ربح المال أو لم يربح (¬2). وجه اعتبار أجرة المثل: الوجه الأول: إذا فسدت المضاربة فإن ربح رأس المال يكون لربه؛ لأنه نماء ماله، ¬
الوجه الثاني
والخسارة عليه كذلك، والعامل في هذا العقد الفاسد أصبح أجيرًا، وليس مضاربًا؛ والأجير إذا لم تكن الأجرة مسماة فإنه يستحق أجرة المثل. الوجه الثاني: أن العقد الفاسد لما فسد بطل المسمى؛ لأن المسمى إنما يستحق بالشرط، وقد فسد، فكان الرجوع إلى المسمى مع فساد العقد تصحيحا للعقد، وهذا لا يصح، وإذا بطل المسمى لفساد العقد رجعنا إلى أجرة المثل؛ لأن العامل إنما بذل منافعه ليأخذ عوضه وذلك متعذر في العقد الفاسد فوجب له قيمته وهي أجر مثله. القول الثاني: ذهب أبو يوسف من الحنفية، وهو قول في مذهب الشافعية: أن العامل له أجرة المثل بشرط أن يربح، فإن لم يربح لم يستحق شيئًا (¬1). وجه هذا القول: أن العقد الفاسد ليس فوق العقد الصحيح، فإذا كان العقد الصحيح لا يستحق العامل شيئًا مع عدم الربح فكذلك القراض الفاسد لا يستحق شيئًا عند عدم الربح. وأجيب: قال الماوردي: "الجواب عن قوله: إن العقد إذا فسد حمل على حكمه لو صح فهو: أنه يحمل على ذلك في وجوب الضمان وسقوطه، ولا يحمل على حكم الصحيح فيما سوى الضمان ... ألا ترى أن من باع عبدًا بمائة بيعًا ¬
القول الثالث
فاسدًا، وهو يساوي ألفًا ضمن المشتري بتلفه ألفًا، وإن رضي البائع أن يخرج عن يده بمائة؛ لأنه لو باعه بألف بيعًا فاسدًا، وهو يساوي مائة لم يضمن المشتري بتلفه إلا مائة، كذلك في القراض الفاسد" (¬1). القول الثالث: مذهب المالكية: اختلف قول مالك في المستحق في القراض الفاسد، فعنه في ذلك روايتان: إحداهما: أن للعامل قراض المثل مطلقًا، وهو رواية ابن الماجشون عن مالك، وبه قال أشهب (¬2). وجه اعتبار قراض المثل: أن الأصول موضوعة على أن كل عقد فاسد مردود إلى صحيحه كالنكاح والبيع والإجارة، فكذلك القراض. والأخرى: أن للعامل أجرة المثل مطلقًا، وبه قال عبد العزيز بن أبي سلمة (¬3). وجه اعتبار أجرة المثل: لما فسد العقد بطل المسمى؛ فوجب الرجوع إلى أجرة المثل قياسا على الإجارة الفاسدة. وهناك من فصل في أي أن بعض القراض الفاسد يرد إلى قراض المثل، وبعضه يرد إلى أجرة المثل على خلاف بينهم: ¬
فقيل: إن كان سبب الفساد اشتراط منفعة من أحد المتقارضين داخلة في أصل المال، ولمشترطها شبهة فيها، بمعنى أن التضييق ليس شديدًا، فيعطى العامل قراض مثله من الربح إن كان ثمة ربح، وإلا فلا شيء له، وحصروا ذلك في عشرة أمثلة من ذلك: (1) أن يكون القراض بعرض. (2) أو إلى أجل. (3) أو بجزء مبهم. (4) أو بدين. (5) أو اشترط فيه الضمان. (6) أو كان تحديده بسلعة قد لا توجد أحيانًا. (7) أو قال له: اشتر سلعة فلان ثم اتجر في ثمنها. (8) أو اشترط عليه ألا يشتري إلا بدين. (9) أو أعطاه دنانير وشرط عليه أن يصرفها ثم يتجر في ثمنها. (10) أو اختلفا في الربح ولم يشبها. وإن كان سبب الفساد اشتراط منفعة من أحد المتقارضين خارجة عن أصل المال، وليس لمشترطها شبهة فيها، بمعنى أن التضييق بالشروط كان شديدًا، والغرر بين فيعطى العامل أجرة مثله. وهذا في كل قراض فاسد مما عدا الأمثلة العشرة السابقة، ومثلوا له: كأن يشترط يده مع العامل، أو يشترط مراجعته، أو يشترط أمينا عليه، أو يشترط عليه أن يخيط ثياب التجارة، أو يخرز جلودها، أو يشرط عليه أن يشارك غيره
وجه هذا القول
في مال القراض، وهذا قول ابن القاسم في روايته عن مالك، وقول مطرف وابن نافع، وابن عبد الحكم وأصبغ (¬1). وقيل: إن كان الفساد في العقد فقراض المثل، وإن كان الفساد من جهة الزيادة زادها أحدهما على الآخر فأجرة المثل. وهذا القول رواية عن ابن القاسم (¬2). وقيل: له الأقل من قراض المثل، أو مما سمي له من الربح، وهذا رواية ابن المواز عن مالك (¬3). وجه هذا القول: إن كان قراض المثل هو الأقل فهو لا يستحق غيره؛ لأن العقد الفاسد مردود إلى صحيحه لا إلى صحيح غيره. وإن كان المسمى هو الأقل فقد رضي به العامل؛ فلا يوجب فساد العقد زيادة في العوض. ومنشأ الخلاف أمران: أحدهما: هل المستثنى من العقود إذا فسد يرد إلى صحيح نفسه كفاسد البيع، فإذا فسد القراض وجب قراض المثل. ¬
والفرق بين قراض المثل وأجرة المثل
أو يرد المستثنى إلى صحيح أصله باعتبار أن القراض مستثنى من الإجارة، فيكون المستحق أجرة المثل؛ لأن الشرع إنما استثنى الصحيح لاشتماله على القوانين الشرعية، فإذا فسد المستثنى رجعنا إلى أصله؛ لأن الشرع لم يستثن الفاسد، فهو مبقى على العدم، وله أصل يرجع إليه. والفرق بين فاسد القراض وفاسد البيع: أن البيع ليس له أصل آخر يرجع إليه في ذلك بخلاف القراض. وثانيهما: أن أسباب الفساد إذا تأكدت بطلت حقيقة القراض بالكلية، فتتعين الإجارة، وإن لم تتأكد اعتبرنا القراض، ثم النظر بعد ذلك في المفسد، هل هو متأكد أم لا هو تحقيق مناط (¬1). والفرق بين قراض المثل وأجرة المثل: أحدها: أن قراض المثل يتعلق بالربح، فإن لم يكن في المال ربح فلا شيء للعامل، وأما أجرة المثل فإنها تتعلق بذمة رب المال سواء كان في المال ربح أم لا. الثاني: في حال الموت والفلس فإن أجرة المثل يحاصص بها الغرماء؛ لتعلقها بالذمة، وأما قراض المثل فهو أحق بما في يده من الغرماء؛ لتعلق حقه بالمال. الثالث: أن ما وجب فيه قراض المثل إذا عثر عليه في أثناء العمل لا يفسخ العقد ويتمادى العامل بخلاف ما وجب فيه أجرة المثل فإن العقد يفسخ متى عثر عليه، ولا يمكَّن من التمادي (¬2). ¬
القول الرابع
القول الرابع: أن المضاربة الفاسدة تجري مجرى الصحيحة في جميع أحكامها، فيقتسمان الربح على ما شرطاه، وهذا ما اختاره الشريف أبو جعفر من الحنابلة. واستدل له: بأنه عقد يصح مع الجهالة فيثبت المسمى في فاسده كالنكاح (¬1). الراجح: الذي أميل إليه أن يعطى العامل ربح المثل؛ لأن القول لإعطائه أجرة مثله يلزم عليها كون العامل يستحق الأجرة مطلقا ربح أم لم يربح، وقد تزيد الأجرة على رأس المال. وقد يربح أرباحًا طائلة، وقد لا يربح فيعود ذلك بالضرر على أحد العاقدين، وقد يحاول العامل أن يفسد عقد المضاربة إذا لم يجد ربحًا ليأخذ أجرة المثل مطلقا. يقول ابن تيمية: "الصواب أنه يجب في المضاربة الفاسدة ربح المثل، لا أجرة المثل، فيعطى العامل ما جرت به العادة أن يعطاه مثله من الربح، إما نصفه، وإما ثلثه، وإما ثلثاه، فأما أن يعطى شيئاً مقدرًا مضمونا في ذمة المالك كما يعطى في الإجارة والجعالة فهذا غلط ممن قاله، وسبب الغلط ظنه أن هذا إجارة، فأعطاه في فاسدها عوض المثل، كما يعطيه في المسمى الصحيح، ومما يبين غلط هذا القول أن العامل قد يعمل عشر سنين، فلو أعطي أجرة المثل لأعطي أضعاف رأس المال، وهو في الصحيحة لا يستحق إلا جزءًا من الربح إن كان هناك ربح، فكيف يستحق في الفاسدة أضعاف ما يستحقه في الصحيحة" (¬2). ¬
الفصل التاسع في انتهاء المضاربة
الفصل التاسع في انتهاء المضاربة المبحث الأول في انتهاء المضاربة بالموت جاء في كشاف القناع: كل عقد جائز من الطرفين ... يبطل بموت أحدهما، وعزله (¬1). [م - 1404] اختلف الفقهاء في انتهاء عقد المضاربة بالموت على قولين: القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن المضاربة تبطل بموت أحدهما. وعللوا ذلك بأن المضاربة تشتمل على الوكالة، والوكالة تبطل بموت الموكل والوكيل. فإن مات رب المال، وكان رأس المال ناضًا لم يجز للعامل التصرف فيه قولًا واحدًا. وإن كان عروضًا فذهب الحنفية والشافعية إلى أن للعامل أن يتولى بيعها لأن البيع من حقوق العقد الماضي يكفى فيه إذن العاقد حال الحياة، ولأن هذا البيع إتمام للقراض وليس ابتداء له (¬2). ¬
وذهب الحنابلة إلى أن العامل لا يجوز له البيع إلا بإذن الورثة؛ لأن المال قد خرج من ملك رب المال إلى ملك الورثة، فلا يبيع إلا بإذنهم (¬1). جاء في المبدع: "إذا مات رب المال منع المضارب من البيع والشراء إلا بإذن الوارث نص عليه ... " (¬2). وإن مات العامل، وكان المال عروضًا، فإن يتولى البيع؟ ذهب الحنفية إلى أن رب المال لا يحق له بيعها؛ لأنه في حال حياة المضارب كان ممنوعًا من بيعها، فكذلك في حال وفاته؛ لأن حق المضارب لا يبطل بموته. وأما الذي يتولى بيعها فللحنفية فيه قولان: أحدهما: يتولى بيع العروض وصي المضارب إن كان له وصي؛ لأنه قائم مقامه، فإن لم يكن له وصي جعل القاضي له وصيًا يتولى بيعها. والثاني: يتولى البيع رب المال ووصي المضارب، وهو الأصح؛ لأن رب المال إنما رضي بتصرف العامل ولم يرض بتصرف الوصي في ماله، والمال وإن ¬
كان فيه حق للمضارب إلا أن الملك لرب المال فيه ثابت، فلا ينفرد الوصي ببيعها، فصار بمنزلة مال مشترك بين اثنين، فيكون الأمر إليهما (¬1). وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن رب المال وورثة العامل لا يملكون البيع بدون إذن الآخر؛ لاشتراكهما فيه، ولأن المالك إنما رضي بتصرف مورثهم ولم يرض بتصرفهم. فإن امتنع المال من الإذن في البيع رفع إلى الحاكم ليتولى بيع العروض (¬2). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن رب المال إن مات، فالعامل يبقى على قراضه ما دام رأس المال عروضًا حتى ينض. فإن كان المال قد نض فلا يعمل به إلا بعد أن يأذن الورثة لانتقال الحق إليهم، فإن عمل به ضمن. وإن مات العامل، فإن كان قبل العمل، أو كان المال قد نص فلربه أخذه، ولا مقال لورثة العامل، وليس لرب المال إلزامهم بالعمل؛ لأن العامل في هذه الحال لو كان حيًا لم يكن بإمكانه أن يمنع صاحبه من أخذه فكذلك ورثة العامل. وإن مات بعد الشروع في العمل وقبل نضوضه فإن كان الوارث أمينًا، أو أتى الوارث بأمين أجنبي بصير بالبيع لا يخدع قضي لهم بتكميله، وقيل لهم: تقاضوا الديون وبيعوا السلع، ويستحقون ما كان لمورثهم من الربح. ¬
وجه ذلك: أن العامل لما تصرف في المال فقد تعلق به حق الربح الذي يرجونه فيما ابتاعه مورثهم، فليس لرب المال إبطاله عليهم، والاستبداد به دونهم؛ ولأنه حق أوجبه عقد المعاوضة فجاز أن ينتقل إلى الورثة كخيار العيب. وإن لم يكن في الورثة أمين، ولم يأتوا بأمين أجنبي رد المال إلى صاحبه مجانًا، ولا شيء لهم في ربحه؛ لأن عمل المضاربة كالجعل لا يستحق العامل فيه شيئًا إلا بإتمام العمل، ولم يتم (¬1). الراجح: الذي تبين لي من خلال عرض الأقوال ما يلي: أن المضاربة تنتهي بالموت، وإذا مات أحدهما والمال ناض لم يجز التصرف في المال إلا بإذن الآخر، والإذن بالتصرف يعتبر قراضًا جديدًا. إذا مات أحدهما والمضاربة عروض، بطلت المضاربة أيضًا، ويبيع العامل العروض بموافقة الورثة؛ لأن المال أصبح مشتركًا بينهما، ولا يحق للعامل أن يبيع بناء على إذن رب المال السابق، فقد انتهى إذنه بموته. وكذلك لا يحق لرب المال أن يبيع العروض لموت العامل إلا بموافقة الورثة، فإن اختلفا تولى الحاكم بيعه لهما. وإذا أراد ورثة العامل أن يعقدوا مضاربة جديدة مع رب المال جاز ذلك قولًا واحداً إن كان المال ناضًا، وإن كان عروضًا جاز على الصحيح بشرط تقييم تلك ¬
العروض واعتبارها رأس مال المضاربة، فإن كان المضارب له نصيب من الربح كان العقد شركة ومضاربة، وإلا كان العقد مضاربة فقط، والله أعلم.
فرع إذا لم يعلم العامل بصوت رب المال
فرع إذا لم يعلم العامل بصوت رب المال [م - 1405] إذا لم يعلم العامل بموت رب المال، فتصرف، فهل تصرفه صحيح عملًا بما يعتقده العامل، أو العبرة بما في نفس الأمر، لا في ظن العاقد؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ذهب المالكية إلى أن العامل يبقى على قراضه حتى يعلم بموته (¬1). جاء في المدونة: "قلت -القائل سحنون- فإن لم يعلم العامل بموت رب المال حتى اشترى بالمال بعد موت رب المال؟ قال - ابن القاسم- هو على القراض حتى يعلم بموته (¬2). القول الثاني: تبطل حتى ولو لم يعلم المضارب بموت رب المال؛ لأنه عزل حكمي، وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة، وبه قال ابن حزم (¬3). ¬
ذلك أن المضارب بعد موت رب المال لا يكون كاسباً لرب المال؛ لأن الملك قد انتقل لغيره، وتفويض العامل بالتصرف إنما ملكه عن طريق رب المال وقد انقطع ملكه بالموت، فكيف يكسب الإنسان بعد موته.
المبحث الثاني انتهاء المضاربة بالفسخ
المبحث الثاني انتهاء المضاربة بالفسخ قال الكاساني: كل ما تبطل به الوكالة تبطل به المضاربة (¬1). [م - 1406] إذا اتفق العامل ورب المال على الفسخ انفسخت المضاربة؛ لأن الحق لهما ولا يعدوهما، فإذا اتفقا على الفسخ، والمال موجود لا ربح فيه أخذه صاحبه، وإن كان فيه ربح قسماه على شرطهما. وإن كان المال عرضا فاتفقا على بيعه، أو قسمه بالقيمة جاز. [م - 1407] وإن أراد أحدهما الفسخ وامتنع الآخر: فذهب الجمهور إلى أن لكل واحد منهما فسخه متى شاء تصرف العامل في المال أو لم يتصرف إلا أن الحنفية اشترطوا علم صاحبه بالفسخ، وبه قال ابن عقيل من الحنابلة. كما اشترط الحنفية أن يكون رأس المال عينا وقت الفسخ دراهم أو دنانير. جاء في فتح القدير: "رب المال إذا فسخ المضاربة، وقد صار مال المضاربة عروضا لم ينفذ الفسخ للحال، بل يتوقف إلى أن يصير مال المضاربة دراهم ودنانير" (¬2). وإن كان المال عرضا فإن المضارب يملك بيعه بعد الفسخ لتعلق حقه بربحه (¬3). ¬
وذهب المالكية إلى أن لكل واحد منهما فسخه قبل الشروع في العمل. وإذا شرع في العمل أو ظعن في السفر فليس لأحد منهما فسخه بل يكون لازمًا من الطرفين، ولا يفسخ إلا باتفاقهما أو بنضوض المال. ولربه فقط حق الفسخ إذا تزود العامل من مال المضاربة ولم يشرع في السفر، وإنما كان العقد جائزا لربه ولازمًا في جانب العامل؛ لأن التزود من مال القراض بالنسبة للعامل عمل، فيلزمه إتمامه إلا إذا التزم لرب المال بما اشترى به الزاد. وللعامل فقط حق الفسخ إذا تزود العامل للسفر من ماله الخاص، ولم يشرع في السفر، ويكون العقد لازمًا لربه جائزًا في حق العامل إلا إذا دفع رب المال للعامل ما غرمه في شراء الزاد. وإذا اتفقا على نضوضه جاز كما لو اتفقا على قسمة العروض بالقيمة (¬1). ¬
المبحث الثالث إذا طلب أحدهما البيع وامتنع الآخر لغرض
المبحث الثالث إذا طلب أحدهما البيع وامتنع الآخر لغرض [م - 1408] تكلمنا في المسألة السابقة فيما إذا طلب أحدهما الفسخ وامتنع الآخر، وفي هذه المسألة نبحث ما لو طلب أحدهما بيع السلع، وطلب الآخر الصبر طلبًا للربح، فقد اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن العامل إذا اشترى متاعا، فأراد رب المال بيع المال، وأبى المضارب حتى يجد ربحًا، فإن المضارب لا يحق له إمساك المتاع من غير رضا رب المال. فإن كان المال لا ربح فيه، أجبر المضارب إما على بيعه، وإما أن يدفع العروض لرب المال عوضًا عن رأس ماله؛ لأنه لا حق للمضارب في المال في الحال، فهو يريد أن يحول بين رب المال وبين ماله بحق موهوم قد يحصل، وقد لا يحصل، وفيه إضرار برب المال، والضرر مدفوع. وقال بعض الحنفية: إن أرد العامل إمساك المتاع، ولم يكن فيه ربح، فليرد العامل رأس المال لربه، ويمسك المتاع. فإن كان في المال فضل بأن كان رأس المال ألفا، والمتاع يساوي ألفين، أجبر المضارب على بيعه، إلا أن يقول العامل لرب المال: أنا أعطيك رأس المال وحصتك من الربح، فليس لرب المال أن يأبى ذلك عليه؛ لأن الربح حق للعامل، والإنسان لا يجبر على بيع ملك نفسه لتحصيل مقصود شريكه، وكما يجب دفع الضرر عن رب المال، يجب دفعه عن المضارب في حصته.
القول الثاني
وإن لم يكن في المال ربح، لا يجبر على البيع، ويقال لرب المال: المتاع كله خالص ملك، فإما أن تأخذه برأس مالك، أو تبيعه حتى تصل إلى رأس مالك (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية بأنه إذا طلب أحدهما بيع السلع وطلب الآخر الصبر لغرض كزيادة ربح نظر الحاكم لهما فيما هو الأصلح. القول الثالث: وذهب الشافعية إلى أن العامل إن طلب البيع، وامتنع رب المال عن البيع أجبر على البيع؛ لأن حق العامل في الربح، وذلك لا يحصل إلا بالبيع. فإن قال رب المال: أنا أعطيك نصيبك من الربح، وامتنع العامل: فإن قلنا: إن العامل يملك حصته من الربح بالظهور لم يجبر العامل على أخذه، كما لو كان بينهما مال مشترك، وبذل أحدهما للآخر عوض حقه. وإن قلنا إن العامل لا يملك نصيبه بالظهور ففيه وجهان: أحدهما: لا يجبر رب المال على بيعه؛ لأن البيع لحق العامل، وقد بذل رب المال له حقه. والثاني: أنه يجبر رب المال على البيع؛ لأنه ربما زاد مزيد، أو رغب راغب، فزاد في قيمته. وإن طلب رب المال البيع وامتنع العامل أجبر على بيعه؛ لأن حق رب المال في رأس المال، ولا يحصل ذلك إلا بالبيع، فإن قال العامل: أنا أترك حقي، ولا أبيع. ¬
القول الرابع
فإن قلنا: إن العامل يملك حصته بالظهور لم يقبل منه؛ لأنه يريد أن يهب حقه، وقبول الهبات لا يجب. وإن قلنا: إنه لا يملك بالظهور، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجبر العامل على بيعه؛ لأن البيع لحق العامل، وقد تركه، فسقط. والثاني: يجبر العامل؛ لأن البيع لحقه ولحق رب المال في رأس ماله، فإذا رضي بترك حقه لم يرض رب المال بترك رأس ماله (¬1). ونسب ابن المنذر للشافعي أنه يقول: أيهما دعا إلى البيع فالقول قوله، وبه قال أبو ثور: إذا لم يكن فيه ضرر (¬2). القول الرابع: ذهب الحنابلة إلى أن المالك إن طلب البيع أجبر العامل مطلقا. وفيه وجه في المذهب: أنه لا يجبر على البيع إذا لم يكن في المال ربح، أو أسقط حقه من الربح؛ لأنه بالفسخ زال تصرفه، وصار أجنبيًا من المال. وإن طلب العامل البيع أجبر المالك إن كان في المال ربح، قال في الإنصاف: بلا خلاف أعلمه. وعلل ابن قدامة: بأن حق العامل في الربح لا يظهر إلا بالبيع. وإن لم يكن في المال ربح لم يجبر رب المال على بيع ماله؛ لأنه لا حق للعامل فيه، وقد رضيه مالكه كذلك، فلم يجبر على بيعه (¬3). ¬
الراجح من الخلاف
الراجح من الخلاف: أنه إذا اختلف رب المال والعامل بأن طلب أحدهما البيع وامتنع الآخر لغرض فإن لم يكن فيه ضرر على أحدهما أجبر الآخر على البيع، وإن كان في البيع ضرر على أحدهما فإنه ينظر لهما الحاكم، أو أهل المعرفة، ويلزمهما الأخذ بالأصلح لهما، والله أعلم.
المبحث الرابع انتهاء عقد المضاربة بالجنون
المبحث الرابع انتهاء عقد المضاربة بالجنون قال الكاساني: كل ما تبطل به الوكالة تبطل به المضاربة (¬1). [م - 1409] ذهب الفقهاء إلى أن الجنون المطبق إذا اعترى أحد طرفي عقد المضاربة فإن العقد يبطل. جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "إذا كان جنونهما غير مطبق فلا تنفسخ" (¬2). وجاء في بدائع الصنائع: "وتبطل بجنون أحدهما إذا كان مطبقا؛ لأنه يبطل أهلية الأمر للآمر، وأهلية التصرف للمأمور، وكل ما تبطل به الوكالة تبطل به المضاربة" (¬3). وجاء في نهاية المحتاج: "ولو مات أحدهما، أو حسن ... انفسخ العقد كالوكالة ... " (¬4). زاد في مغني المحتاج: "وللعامل إذا مات المالك أو حسن الاستيفاء بغير إذن الورثة في الأولى، والولي في الثانية اكتفاء بإذن العاقد" (¬5). ¬
وجاء في كشاف القناع: "وإذا مات أحد المتقارضين أو جن جنونًا مطبقًا أو توسوس بحيث لا يحسن التصرف ... انفسخ القراض؛ لأنه عقد جائز من الطرفين فبطل بذلك كالوكالة" (¬1). ¬
المبحث الخامس انتهاء المضاربة بالحجر
المبحث الخامس انتهاء المضاربة بالحجر [م - 1410] نص الحنفية والحنابلة على انتهاء عقد المضاربة بالحجر على أحد العاقدين سواء كان الحجر لمصلحته كالحجر عليه لسفه، أو كان الحجر لصالح الغير كما لو حجر عليه لفلس. لأن الإنسان إذا حجر عليه في ماله كان المال لغرمائه، وبطل الإذن للعامل في التصرف. وقد سبق أن نقلنا كلام الفقهاء بانتهاء عقد المضاربة بالجنون، وهو محجور عليه لمصلحته؛ لانعدام أهلية الأمر للآمر، وأهلية التصرف للمأمور. جاء في الدر المختار: "وتبطل المضاربة بموت أحدهما ... وحجر يطرأ على أحدهما ... " (¬1). قال في حاشية ابن عابدين: "وحجر يطرأ على أحدهما بجنون أو سفه، أو حجر مأذون" (¬2). أشار بهذا إلى أن الحجر نوعان: حجر لمصلحته، وحجر لمصلحة الدائنين، وهو ما سماه بالحجر المأذون. وجاء في كشاف القناع: "وإذا مات أحد المتقارضين ... أو حجر عليه لسفه انفسخ القراض" (¬3). ¬
المبحث السادس انتهاء المضاربة بهلاك المال
المبحث السادس انتهاء المضاربة بهلاك المال الفرع الأول أن يتلف المال قبل التصرف فيه إذا تلف مال المضاربة قبل التصرف فيه فله حالان: الحال الأول: أن يهلك جميع المال. [م - 1411] فإذا تلف جميع مال المضاربة قبل التصرف فيه بطلت المضاربة؛ لأن مال المضاربة هو محل العقد، فإذا هلك فقد فات المحل. جاء في الفتاوى الهندية: "إذا هلك مال المضاربة قبل التصرف فيه بطلت المضاربة، والقول في الهلاك قول المضارب مع يمينه" (¬1). وقال ابن قدامة: "إذا تلف المال قبل الشراء انفسخت المضاربة؛ لزوال المال الذي تعلق العقد به" (¬2). الحال الثانية: أن يهلك بعض رأس المال قبل التصرف فيه. إذا تلف بعض رأس المال قبل التصرف فيه، فللعامل أن يعمل بما بقي، [م - 1412] وهل يجبر التالف من الربح؟ ¬
القول الأول
في ذلك خلاف بين العلماء على قولين: القول الأول: تنفسخ المضاربة بقدر ما تلف من رأس المال، ويكون رأس المال الباقي فقط، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة. جاء في الإنصاف: "وإن تلف بعض رأس المال قبل التصرف فيه انفسخت فيه المضاربة بلا نزاع أعلمه، وكان رأس المال الباقي خاصة" (¬1). وقال العمراني: "وإن دفع رجل إلى رجل آخر ألفي درهم قراضًا، فتلف أحدهما، نظرت فيه: فإن تلف في يد العامل قبل أن يتصرف فيه انفسخ القراض فيها، وكان رأس المال الألف الأخرى لا غير وجهًا واحدًا. لأنها تلفت، وهي باقية بعينها، فهي كما لو تلفت قبل أن يقبضها العامل" (¬2). القول الثاني: ذهب المالكية (¬3)، وبعض الشافعية: أن التالف يجبر من الربح حتى ولو هلك بعضه قبل التصرف؛ لأن المال يصير قراضًا بالقبض، فلا فرق بين هلاكه قبل التصرف وبعده (¬4). ¬
جاء في التاج والإكليل: "قال مالك: وإذا ضاع بعض المال بيد العامل قبل العمل أو بعده، أو خسره، أو أخذه لص، أو العاشر ظلمًا لم يضمنه العامل إلا أنه إن عمل ببقية المال جبر بما ربح فيه أصل المال فما بقي بعد تمام رأس المال كان بينهما على ما شرطا" (¬1). وقال خليل: "وجبر خسره وما تلف وإن قبل عمله إلا أن يقبض" (¬2). قال الخرشي في شرح هذه العبارة: "يعني أن ربح المال يجبر خسره، وما تلف منه، وإن حصل التلف بأمر سماوي قبل العمل فيه ما دام المال تحت يد العامل بالعقد الأول" (¬3). ¬
الفرع الثاني في هلاك مال المضاربة بعد التصرف فيه
الفرع الثاني في هلاك مال المضاربة بعد التصرف فيه إذا هلك مال المضاربة بعد التصرف، فله حالان: الحال الأول: [م - 1413] أن يهلك جميع مال المضاربة، فهنا ينفسخ عقد القراض؛ لفوات المحل، كما لو هلك قبل التصرف فيه؛ لأن يد العامل يد أمانة، فإذا تلف المال لم يضمنه، وانتهى عقد القراض، وسبق الكلام على ذلك. الحال الثانية: أن يهلك بعض رأس المال بعد التصرف، فاللعامل أن يضارب بالباقي. [م - 1414] وهل يجبر التالف من الربح؟ اختلف العلماء في ذلك: القول الأول: يجبر التالف من ربح الباقي، ولا يستحق المضارب شيئاً إلا بعد كمال رأس المال، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية (¬1)، والأصح عند الشافعية، والمذهب عند الحنابلة (¬2). لأن هذا التلف حصل بعد أن دار المال في القراض وتصرف في المال ¬
القول الثاني
بالتجارة فكان تلفه من الربح، ولأنه رأس مال واحد ومضاربة واحدة فلا يستحق المضارب ربحًا حتى يكمل رأس المال. القول الثاني: يتلف من رأس المال، وليس من الربح؛ لأنه لم يكن هناك ربح وقت التلف، وهو وجه في مدهب الشافعية (¬1). ¬
الفرع الثالث إذا اشترى العامل فتلف المال قبل نقده للبائع
الفرع الثالث إذا اشترى العامل فتلف المال قبل نقده للبائع [م - 1415] إذا اشترى العامل عروضًا، فتلف المال قبل أن ينقده للعامل، فإن كان العامل قد اشترى العروض بعين مال القراض بطل البيع، وانفسخ القراض؛ لأن تلف الثمن المعين قبل القبض يبطل البيع (¬1). وإن اشترى العروض بثمن في الذمة: فإما أن يكون التلف قبل الشراء أو بعده: [م - 1416] فإن كان تلف المال قبل الشراء فإن القراض ينفسخ، ويلزم العامل ثمن ما اشتراه؛ لأن المضاربة انفسخت قبل الشراء لتلف رأس المال، وزوال الإذن إلا أن يجيزه رب المال (¬2). [م - 1417] وإن كان تلف المال بعد الشراء، فهل يكون الشراء للمضاربة، أو للعامل في ذلك خلاف بين العلماء على ثلاثة أقوال: القول الأول: المضاربة باقية؛ لأن الموجب لفسخها هو التلف، ولم يوجد حين الشراء ولا قبله، والثمن على رب المال؛ لأن حقوق العقد متعلقة به كالموكل، ولأن ¬
القول الثاني
الشراء كان بإذنه، ويصير رأس المال الثاني؛ لأن الأول تلف قبل تصرفه فيه، وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬1). القول الثاني: يرى أن الشراء يقع على العامل، سواء تلف المال قبل الشراء أو بعده؛ لأن إذن رب المال إنما تضمن التصرف في قدر المال الذي دفعه إليه في قراضه، ولم يضمن أن يلزمه أكثر منه، وهذا القول وجه في مذهب الشافعية (¬2). القول الثالث: يخير رب المال بين أن يدفع ثمن السلعة وتكون السلعة قراضًا، وبين أن يدفع العامل وتكون السلعة له، فإن لم يكن للعامل مال بيعت عليه، وكان عليه النقصان، وله الربح. وهذا مذهب المالكية. جاء في المدونة: "قلت -القائل سحنون- أرأيت إن أخذت مالًا قراضًا على أن أعمل به على النصف، فاشتريت به عبداً أو سلعة، فجئت لأنقد البائع، فوجدت المال قد ضاع، قال: يقال لرب المال: إن أحببت فادفع الثمن، وتكون السلعة قراضًا على حالها، وإن أبى لزم المقارض إذاً ثمنها، وكانت له، فإن لم يكن له مال بيعت عليه، وكان عليه النقصان، وله الربح" (¬3). هذه أحوال تلف مال المضاربة، وحكم كل حالة، والله أعلم. ¬
المبحث السابع انتهاء المضاربة بانتهاء الوقت المحدد لها
المبحث السابع انتهاء المضاربة بانتهاء الوقت المحدد لها [م - 1418] إذا كانت المضاربة مؤقتة بوقت محدد كأن يقول رب المال: ضاربتك على هذه الدراهم لمدة عام، فإذا انتهى العام فإن المضاربة تنتهي عند من يقول: بجواز توقيت المضاربة، كالحنفية، والحنابلة (¬1)؛ لأن المضاربة توكيل، وهو يحتمل التخصيص بوقت دون وقت. ولأن المضاربة تصرف يتقيد بنوع من المتاع فجاز تقييده بالوقت. قال الكاساني: "ولو قال: خذ هذا المال مضاربة إلى سنة جازت المضاربة عندنا ... " (¬2). وأما من لا يرى جواز توقيت المضاربة كالمالكية، والشافعية، ورواية في مذهب الحنابلة فلا يرون المضاربة تنتهي بالتوقيت؛ لأن العاقدين قادران على فسخ القراض متى أرادا، ولذلك لو قال: قارضتك ما شئت جاز؛ لأن ذلك شأن العقود الجائزة (¬3). إلا أن الشافعية صححوا أن يكون التوقيت بالمنع من الشراء دون البيع، فإذا عقدت المضاربة إلى مدة على أن لا يشتري المضارب بعدها صح التوقيت، وله البيع بعدها (¬4). ¬
وجه التفريق بين البيع والشراء: أن رب المال يملك منع العامل من الشراء متى شاء، فإذا شرط المنع منه في وقت معين فقد شرط ما يملكه بمقتضى العقد، فلم يمنع صحته، بخلاف البيع فلا يملك منعه؛ لأن حصول الربح يتوقف على البيع، والربح ليس له وقت معلوم، فقد لا يربح في تلك المدة، ويربح في غيرها، فتقييد البيع بمدة يخل بمقصود العقد فلا يصح، ولأن المال إذا لم يكن ناضًا فلا بد من البيع، فلا يصح التوقيت. وقد سبق أن استوفيت أدلة هذه المسألة تحت مسألة: توقيت الإيجاب والقبول في عقد المضاربة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والله أعلم.
الباب السادس في المشاركة المتناقصة
الباب السادس في المشاركة المتناقصة توطئة في تعريف المشاركة المتناقصة تعريف المشاركة المتناقصة: عرفها مجمع الفقه الإِسلامي بقوله: "معاملة جديدة تتضمن شركة بين طرفين في مشروع ذي دخل، يتعهد فيها أحدهما بشراء حصة الطرف الآخر تدريجًا سواء كان الشراء من حصة الطرف المشتري في الدخل أم من موارد أخرى" (¬1). خصائص الشركة المتناقصة: (1) في حال أسهم الشريكان في رأس المال مهما كان مقدار حصة كل منهما، فإن العقد يعتبر من عقود الشركة، وتنطبق عليها أحكام الشركة، على خلاف بين أهل العلم هل هي شركة ملك، أو شركة عقد؟ فإن قيل: إنها شركة ملك، كان الربح بينهما بحسب ملك كل واحد منهما. وإن قيل: إنها شركة عقد فإن الربح بينهما سيكون على ما اشترطاه، والخسارة بينهما بقدر حصتهما من الشركة. وفي حال قدم أحدهما المال، وقدم الآخر العمل، فهل يعتبر العقد من عقود المضاربة؟ بحيث إذا لم يوجد ربح فلا شيء للمضارب، والخسارة على رب ¬
المال وحده، ويخسر المضارب جهده فقط، وعند وجود الربح يقسم بينهما بحسب الاتفاق، إلا أن هذا العقد سريعًا ما يتحول من عقد مضاربة إلى عقد شركة، ذلك أن أحدهما قد التزم ببيع حصته من الشركة إما دفعة واحدة، أو على شكل أقساط، فإذا دفع العامل جزءًا من نصيب شريكه نقص نصيب رب المال، وامتلك العامل حصة في رأس المال، فانتقل العقد من مضاربة إلى مشاركة، والله أعلم. (2) تقوم المشاركة المتناقصة على وعد من الشريك، وغالبًا ما يكون بنكًا ببيع حصته لشريكه مقابل سداد ثمنها دوريًا من العائد الذي يؤول إليه، أو من أية موارد أخرى وذلك خلال فترة مناسبة يتفق عليها، وهذا الوعد له صفة الإلزام، وقد سبق لنا الخلاف في الوعد الملزم، هل يكون ملزمًا مطلقًا في التبرعات والمعاوضات؟ أو لا يكون ملزمًا فيهما؟ أو يكون وعدًا ملزمًا في التبرعات دون المعاوضات؟ وتعتبر جميع الوعود التي اشتمل عليها العقد وعودًا ملزمة للطرفين؛ لأن الشروط المبرمة في العقد لا تحتمل احتمال التحقيق، فالطرفان قد دخلا هذه المعاملة، وهما لا يريدان في واقع الأمر مشاركة بعضهما البعض، فغرض العميل البحث عن تمويل لمشروعه، وغرض البنك البحث عن عائد مربح نتيجة لهذا التمويل، والغرض من عقد الشركة منذ بداية تكوينها تمكين العميل من تملك المشروع. (3) من خلال ممارسات المصارف الإِسلامية فإن البيع يتم بالقيمة الاسمية، وليس بالقيمة السوقية. وذلك أن عقد المشاركة المتناقصة غالبًا ما تكون عقوده في تمويل بناء العقارات، وهي بطبيعتها عقود طويلة الأجل، وقيمتها ترتفع وتنخفض، فإذا
كان البيع المتدرج سيتم بطريق القيمة السوقية عند البيع، وتعرضت أسعار العقار للهبوط، فإن هبوط الأسعار سيكون مضاعفًا؛ لأن الأسعار قد تغيرت من جهة، ولأن العقار بعد استعماله سيختلف سعره عن العقار، وهو جديد كما في سنته الأولى، واستثمارات البنك لا تتحمل المخاطرة، لذلك يعمد البنك إلى إلزام عميله البيع إما بالقيمة الاسمية، وهذا فيه محذور؛ لأنه يعني ضمان أحد الشريكين لحصة شريكه، وهذا لا يجوز، فإن ضمان رأس مال الشريك يحوله إلى قرض، وأخذ الربح على ذلك يكون من القرض الذي جر نفعاً، وهو ما يؤول إلى الربا. وأما بالاتفاق على ثمن محدد من اليوم الأول، وهذا فيه جهالة بالمبيع، إذ كيف يحدد سعر بيع العقار عند بداية عقد الشركة مع تأخر عقد البيع؛ لأن البيع سيتم من خلال صفقات تدريجية في المستقبل، مع أن العقار سيلحقه تغير لا يمكن الوقوف على مقداره بعد سنوات من استعماله، والعلم بالمبيع شرط لصحة البيع. (4) تجمع المشاركة المتناقصة عقودًا مركبة، فهي عقد يجمع بين الشركة، والوعد الملزم بالبيع، والبيع بعد ذلك، وأحيانًا يضاف إلى هذه عقد الإجارة، كما لو رغب أحد الشركاء أن يؤجر نصيبه للآخر لتصبح منفعة العين كلها تحت يده، بعضها باعتباره مالكاً لجزء من العين، وبعضها باعتباره مستأجرًا لنصيب شريكه فيها، وقد يكون التأجير لطرف ثالث أجنبي عن الشركاء، ويقتسمان الأجرة بحسب الشرط المتفق عليه. (5) في حالة وقوع تلف أو خسارة في محل الشركة المتناقصة قبل انتهائها فإن الخسارة تكون على الطرفين بحسب حصة كل واحد منهما.
الفصل الأول في التوصيف الفقهي للشركة المتناقصة
الفصل الأول في التوصيف الفقهي للشركة المتناقصة اختلف الباحثون في توصيف الشركة المتناقصة، هل هي من شركة الأملاك أو من شركة العقود، والفرق بينهما: أن شركة الأملاك: هي الاشتراك في الملك جبرًا كالأرث، واختلاط الأموال، أو اختيارًا كالهبة والوصية ونحوهما. وهذه الشركة لا تحتاج إلى إيجاب وقبول، بل ركنها اجتماع النصيبين جبرًا أو اختيارًا دون الحاجة إلى عقد بين طرفيها. وحكمها: لا يترتب عليها أي حكم من أحكام الشركات المعروفة في الفقه الإِسلامي بل يعتبر كل واحد من الشريكين أجنبيًا في نصيب صاحبه، فلا يجوز له التصرف فيه بغير إذنه؛ لأن التصرف فرع الملك أو الولاية، ولا ملك ولا ولاية لأي واحد من الشريكين في نصيب صاحبه لا بالوكالة، ولا بالقرابة. وشركة العقد: هي عقد بين اثنين فأكثر يقتضي إذن الجميع أو بعضهم في التصرف للجميع على أن يكون الربح بينهم جميعًا (¬1). وهذه الشركة لا تقوم إلا بالتراضي بين الشركاء، وتحصل بالإيجاب ¬
القول الأول
والقبول، ويجوز للشريك أن يتصرف بنصيبه بمقتضى الملك، وفي نصيب صاحبه بمقتضى الوكالة، والوكالة مستفادة من الشركة بمقتضى العقد؛ ذلك أن الشركة عقد على التصرف، ولا تصرف في مال الغير إلا بتفويض من صاحبه، كما أن كل واحد من الشركاء كفيل عن الآخر، والمقصود من الشركة الحصول على الربح. [ن -232] إذا عرف الفرق بين شركة الملك وشركة العقد، نأتي إلى توصيف الشركة المتناقصة، فقد اختلف العلماء فيها على خمسة أقوال: القول الأول: الشركة المتناقصة هي من شركة الأملاك، وإلى هذا ذهب الدكتور نزيه حماد، والدكتور حسن الشاذلي، والدكتور قطب مصطفى سانو (¬1). وجه من قال: الشركة المتناقصة من شركة الأملاك: الوجه الأول: أن شركة العقد تقوم على وجود وكالة من الشريكين للآخر، فالشريك يتصرف بنصيبه بموجب الملك، وبنصيب شريكه بموجب الوكالة، وهذا لا يوجد في الشركة المتناقصة. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أن الشركة المتناقصة لا تعطي للشريك حق التصرف في الشركة بموجب العقد وهذا يعني أنه لا ينطبق عليها أحكام شركة العقد. الوجه الثالث: أن الشركة المتناقصة مقصودها التمليك وليس الاستثمار، فهي تقوم على أساس اتفاق طرفين على إنشاء شركة ملك بينهما في مشروع أو عقار أو غير ذلك يشتريانه، فيكون مشاعًا بينهما فإن دفع كل منهما نصف الثمن كان البيت مشاعًا بينهما بالنصف، وإن دفع أحدهما الثلث والآخر الثلثين كان البيت بينهما أثلاثًا، وبمجرد قيام الشركة يبدأ العمل على إنهاء هذه الشركة، وذلك بانتقال حصة أحد الشريكين إلى الآخر تدريجيًا بعقود بيع مستقلة متعاقبة، فلو كان مقصودها الاستثمار لم يعمل على إنهاء الشركة منذ لحظة قيامها. فالشركة في حقيقتها صيغة تمويل تعتمد على اشتراك المصرف مع أحد عملائه في شراء أصل من الأصول المنتجة، ثم بيع حصته للعميل تدريجيًا، والغرض من الشركة أن تكون مخرجًا أو بديلًا عن القرض الربوي حيث يقدم المصرف بواسطتها التمويل لعملائه على غير أساس الفائدة، والهدف من عقد الشركة منذ بداية تكوينها تمكين العميل من تملك المشروع. وكون العقار قد يؤجر بعد ذلك فهذا من باب إجارة المشاع، فإن كانت الإجارة من الشريك لشريكه، أو قام جميع الشركاء بتأجير المشاع لأجنبي فلا خلاف في جوازه (¬1)؛ لأن مدار الجواز على إمكانية استيفاء المنفعة، وهو ممكن ¬
القول الثاني
هنا، وإنما وقع الخلاف فيما لو قام أحد الشركاء منفردًا بتأجير نصيبه المشاع لأجنبي دون أن يؤجر الآخر نصيبه المشاع، وقد سبق تحرير الخلاف فيها في عقد الإجارة فأغنى عن ذكره هنا، وهذه الصورة غير موجودة في عقد الشركة المتناقصة. يقول الدكتور قطب سانو: " ... وإنما كانت هذه المشاركة من جنس شركة الملك الاختيارية؛ لأنها عقد يقوم على اتفاق طرفين فأكثر على شراء عين وتمليكها على أن تؤول ملكية العين إلى أحدهما عند شرائه حصة الطرف الآخر، ولأن مقصد الأجل من هذه المشاركة منذ بداية تكوينها هو تمكين العميل -في الغالب- من تملك عين أو مشروع ذي دخل معروف كالمصنع، والطائرة والباخرة، وسوى ذلك ... " (¬1). القول الثاني: الشركة المتناقصة هي من شركة العقود، وإلى هذا ذهب الدكتور وهبة زحيلي، والدكتور أحمد محيى الدين، والدكتور عبد الستار أبو غدة، والدكتور محمَّد عثمان شبير وغيرهم (¬2). ¬
وجه من قال: إنها من شركة العقود
وجه من قال: إنها من شركة العقود: يرى هذا الفريق أن الشركة المتناقصة في حقيقتها شركة عنان تتضمن وعدًا من أحد الشريكين للآخر ببيع حصته لشريكه إما كليًّا أو جزئيًّا دفعة واحدة، أو على دفعات. ويرى هذا الفريق أن الغرض من قيام الشركة المتناقصة هو استثمار المال، وأن كل شريك فيها يعتبر وكيلًا عن شريكه، ويعطى الطرف العامل حريته الكاملة في سبيل إنجاح هذا المشروع، وإدخال أكبر قدر ممكن من الأرباح، وهذا على خلاف شركة الملك. القول الثالث: القول بأنها من العقود المستجدة، ولا تلحق بأي نوع من أنواع الشركات، اختار هذا الدكتور عجيل جاسم النشمي، والدكتور محمَّد النجيمي (¬1). وجه من قال: إن هذه الشركة من العقود المستجدة: يرى هذا الفريق أن شركة العنان والمضاربة لا تصلح توصيفًا للشركة المتناقصة المنتهية بالتمليك؛ ذلك أن الشركة المتناقصة ليست وكالة من الطرفين، وليس فيها إطلاق يد كل من الشريكين، وليست هي دفع مال لمن يعمل به حتى تكون مضاربة، اللهم إلا إذا أعتبرنا إدارة المشروع عملًا كعمل المضارب وليس هو كذلك، وأيضاً فإن شركة العنان مقصودها التجر والاستثمار لا التمليك. ومن هذا يتبين أن الشركة المتناقصة ليست هي شركة عنان، فلم يبق إلا أن ¬
القول الرابع
تكون شركة جديدة مستجدة هي شركة تنتهي بتمليك الشريك بطريق البيع كالإجارة المنتهية بالتمليك بطريقة الإجارة (¬1). ويرى الدكتور النجيمي بأن محاولة التلفيق عملية متعبة جدًا، وتضيع الأوقات والأوراق، فيجب أن تبحث هذه العقود على أنها عقود جديدة، ونرى هل تنطبق مع الضوابط العامة في المعاملات الشرعية، فإن انطبقت على هذه الشركة أو غيرها فهي صحيحة، وإلا فلا، أما محاولة التلفيق بين شركة العنان، أو عقد المضاربة، وبين شركة الملك وشركة العقد، وهل لها علاقة بالعينة، هذا ضياع للوقت، ولن نصل إلى نتيجة (¬2). القول الرابع: المشاركة المتناقصة شركة عنان، أو مضاربة لا تلبث أن تتحول إلى عنان (¬3). وجه هذا القول: يرى صاحب هذا القول بأن الشركة المتناقصة شركة عقد تتقلب بين صورتين اثنتين من صور شركة العقد: ففي حين يكون رأس المال من طرف واحد فقط، والعمل من الطرف الآخر، فهي مضاربة لا تلبث أن تتغير إلى شركة عنان بعد تملك العامل جزءًا من المشروع بطريقة متناقصة، أما في بقية الصور فهي شركة عنان (¬4). ¬
ويجاب عن ذلك
ويجاب عن ذلك: بأن العمل في الشركة المتناقصة ليس عملًا بالمال بيعًا وشراء حتى يمكن أن يكون العقد عقد مضاربة، وإنما العمل هو إدارة مشروع مشترك كعقار، أو مصنع، أو نحو ذلك، وإدارة المصنع قد لا تعطيه الحق في التصرف في إيراد المشروع، وهذا ما يجعل العمل في المشروع يختلف عن عمل المضارب الذي تطلق يده في التصرف في المال. القول الخامس: الشركة المتناقصة قد تكون من شركة الأملاك، وقد تكون من شركة العقود، فإن كان مقصود الشركة تمويل المساكن والسيارات، فهي شركة ملك، وإن كان المقصود الاستثمار في المستغلات والمدخرات، أو في مشروع تجاري فهي شركة عقد، وبه قال الشيخ محمَّد تقي العثماني، والدكتور علي بن أحمد السالوس (¬1). وجه هذا القول: أن الشركة المتناقصة لا يمكن الحكم عليها هل هي شركة ملك أو شركة عقد إلا من خلال الوقوف على العقد بين البنك والعميل، ذلك أن تطبيقات المصارف للشركة المتناقصة يأخذ صورًا مختلفة، ففي بعض تطبيقاتها في المصارف تكون من شركة الملك، وفي عقود أخرى تكون من شركة العقد، والذي يحكم هذا أو ذاك طبيعة العقد. فمثلاً لو كان للعميل قطعة أرض، وأراد البنك أن يتحمل تكاليف إقامة بناء على هذه الأرض، ويختص صاحب الأرض بملكه، وصاحب البناء بملكه، ¬
فهنا الشركة شركة ملك، وليست شركة عقد، فإذا أجرا هذا المشروع اختص صاحب الأرض بجزء من الأرباح بقدر قيمة أرضه، واختص صاحب البناء جزءًا من الأرباح بقدر قيمة بنائه، ولا يوجد في هذا العقد دائن ومدين، وإنما يوجد شركة ملك بين صاحب الأرض وصاحب البناء. أما لو أراد العميل والبنك إنشاء شركة عقد، فإن الأرض يجب تقويمها بالدراهم عند قيام الشركة، ويقوم البناء بالدراهم أيضًا، ويصبح مجموع المال هو رأس مال الشركة، ويعملان على استثماره، ويصبح كل واحد منهما مالكًا للأرض والبناء بقدر نصيبه في الشركة، فشركة العقد رأس مالها من النقود، وأما العروض المقدمة فيجب تقويمها عند قيام الشركة بالنقود، ليصبح الشريكان شريكين في النقود، ويمكن التفاوت في نسبة الأرباح خلافًا لشركة الملك، والذي يكون الربح فيها تبعًا للملك، والله أعلم. وهذا القول هو الراجح، والله أعلم.
الفصل الثاني في الحكم الفقهي للشركة المتناقصة
الفصل الثاني في الحكم الفقهي للشركة المتناقصة [ن -233] اختلف الفقهاء في حكم الشركة المتناقصة على ثلاثة أقوال: القول الأول: الشركة المتناقصة لا تجوز مطلقاً، وبه قال فضيلة الدكتور حسين كامل فهمي (¬1)، والدكتور علي السالوس (¬2)، والدكتور صالح المرزوقي (¬3)، وغيرهم. دليل القائلين بالمنع مطلقًا: الدليل الأول: أن الشركة المتناقصة هي في حقيقتها قرض بفائدة مستتر باسم الشركة؛ لأنه من الواضح أن البنك وعميله لا يريدان في واقع الأمر مشاركة بعضهما البعض، فالنية مبيتة فيه من البداية على أن يبدأ تخارج البنك من التعامل فور الانتهاء من قيام المشروع وتنتهي عملية المشاركة بأكملها بين الطرفين بمجرد حصول كل منهما على الغرض الأصلي المنشئ لهذا التعامل، وهو القرض بالنسبة للعميل، والعائد من هذا القرض (مع استرداد أصله) بالنسبة للبنك. ¬
الدليل الثاني
يبين ذلك المثال التالي: لو أن أحد العملاء طلب من المصرف الإِسلامي الدخول معه في تمويل إنشاء منزل صغير مكون من طابق واحد له ولأسرته، وهذا النوع من التعامل يستحوذ على نسبة كبيرة من أنشطة البنوك، فقبل البنك هذا العرض على أن يكون أسلوب التمويل المشاركة المتناقصة، فالسؤال هل نية البنك وعميله قامت أصلًا على إنشاء شركة غرضها المتاجرة في المنزل، وتحقيق الربح كما هو معلوم من الغرض الأساسي لقيام الشركات، أم أن النية مبيتة لمجرد حصول العميل على تمويل ائتماني يمكّنه من شراء المنزل؟ أين الربح الذي سيحققه الشريكان من جراء قيام هذه الشركة؟ وهل يجوز شرعًا إمضاء عقد شركة يشترط فيه من البداية على أحد الشريكين شراء حصة شريكه الآخر سواء مرة واحدة، أو على دفعات متتالية؟ (¬1). الدليل الثاني: أن اشتراط أحد الشريكين على الشريك الآخر في العقد نفسه من البداية شراء حصتة منه يعني اشتراط ضمان هذه الحصة في رأس المال بقيمتها الاسمية ولو لم يتعد أو يفرط، وفي هذا يقول الدكتور حسين كامل فهمي: "إذا أراد أحد الشركاء التخارج من الشركة فهو يبيع حصته الشائعة التي امتلكها إما للغير، وإما إلى باقي الشركاء المستمرين في الشركة، وهذا كله جائز في حالة ما إذا تم التخارج وبيع الحصة دون شرط مسبق، فعلى سبيل المثال يقول ابن قدامة رحمه الله: "وإن اشترى أحد الشريكين حصة شريكه منه جاز". أما إذا اشترط أحد الشريكين على الشريك الآخر في العقد نفسه من البداية شراء حصته منه فكأنه اشترط ضمان هذه الحصة في رأس المال بقيمتها الاسمية ¬
الدليل الثالث
دون تعد، فيفسد العقد عند من يقول: إن الشرط الفاسد يفسد الشركة، ويفسد الشرط عند من يقول بأن الشرط الفاسد لا يفسد العقد" (¬1). الدليل الثالث: الدخول في الوعد الملزم بالبيع في العقد، وقبل قيام الشركة يجعل الوعد من قبيل العقد؛ لأن الإلزام من طبيعة العقود، وليس من طبيعة الوعود، وإذا كان ذلك عقذا فإن هذا يعني بيع ما لا يملك البائع، وكون الإلزام ليس من العاقدين بل من أحدهما لا يعني أننا بهذا أخرجنا الوعد الملزم عن طبيعة العقد، فالعقد الذي اشترط فيه الخيار من جانب واحد هو عقد، وإن كان لازمًا من طرف، وجائزًا من طرف، وكذا الشأن في الوعد الملزم إذا كان من أحدهما، فهو لازم من طرف، وجائز من طرف آخر، وإذا كان ذلك كذلك فإن الإلزام بالوعد في المعاوضات لم أقف فيه على قول للفقهاء المتقدمين يقولون: بأن له قوة الإلزام. وأما الوعد بالتبرعات فقد اختلف فيه الفقهاء المتقدمون، هل فيه قوة الإلزام ديانة وقضاء، أو ليس فيه قوة الإلزام لا ديانة ولا قضاء، أو فيه قوة الإلزام ديانة لا قضاء، أو يلزم الوعد إذا ترتب عليه الدخول في التزامات ونفقات معينة، وسبق تحرير الخلاف في ذلك عند الكلام على بيع المرابحة، والحمد لله، فأغنى ذلك عن إعادته .. ونوقش هذا: أن الإلزام بالوعد هنا وإن كان في عقد من عقود المعاوضة إلا أن الإلزام في ذلك ليس فيه محذور شرعي كالإلزام في بيع المرابحة للآمر بالشراء، فإن ¬
ورد هذا الاعتراض
المحذور من الإلزام في بيع المرابحة وقوع البنك في بيع السلعة قبل تملكها، بخلاف الإلزام بالوعد على الخروج من الشركة، أو على بيع نصيبه منها فلا يبدو أن هناك مانعًا من صدور المواعدة الملزمة في المشاركة المتناقصة (¬1). ورد هذا الاعتراض: بأن الوعد الملزم في بيع البنك نصيبه من الشركة لا يخلو من محذور. فإن كان البيع أو الإجارة مشروطين في عقد قيام الشركة فإنه من قبيل بيع وإيجار ما لا يملك من الأعيان. يقول الشيخ صالح المرزوقي: "إذا قلنا: الوعد ملزم حسب ما ذكره الباحث فهو حينئذ عقد، وهو بيع ما لا يملك بعد، وإجارة ما لا يملك بعد" (¬2). ويقول الدكتور نزيه حماد: "لو أبرمت -يعني عقود البيع والإجارة- دفعة واحدة عقب المفاهمة لأدى ذلك إلى الوقوع في محظورات متعددة منها: البيع المضاف للمستقبل، وتأجيره، وبيع الشخص ما لا يملك من الأعيان، والبيع بثمن مجهول" (¬3). وإن كان الوعد بالبيع سيحدث بعد قيام الشركة، وامتلاك كل واحد منهما لنصيبه، وما كان هناك من مفاهمة على البيع أو على الإجارة قبل قيام الشركة لا يأخذ صفة الإلزام، فإن كان الاتفاق على القيمة الاسمية فإن في هذا يعني ضمان أحد الشريكين لحصة شريكه، وهذا لا يجوز، فإن ضمان رأس مال الشريك ¬
الدليل الرابع
يحوله إلى قرض، وأخذ الربح على ذلك يكون من القرض الذي جر نفعًا، وهو ما يؤول إلى الربا. وإن كان الاتفاق على ثمن محدد من اليوم الأول لقيام الشركة لا يكون مرده إلى القيمة الاسمية، فإن في هذا جهالة بالمبيع، إذ كيف يحدد سعر بيع العقار عند بداية عقد الشركة مع تأخر عقد البيع؛ لأن البيع سيتم من خلال صفقات تدريجية في المستقبل، مع أن العقار سيلحقه تغير لا يمكن الوقوف على مقداره بعد سنوات من استعماله، والعلم بالمبيع شرط لصحة البيع. وإن كان الوعد بالبيع ملزمًا، وسيتم من خلال سعر السوق عند الموعد المتفق عليه فإن العقد سيكون فاسدًا لغياب أحد أهم شروط الصحة، وهو العلم بالثمن. وإن كان الوعد بالبيع ليس ملزمًا، وسيتم من خلال سعر السوق عند إرادة البيع فلا أظن أن أحدًا سيقول بمنعه. ولا أظن أن ذلك يحقق مراد البنك، والله أعلم. الدليل الرابع: يرى بعض المانعين أن عقد المشاركة المتناقصة هو أحد صور بيع العينة التي نهى عنها الفقهاء، وذلك للنص الصريح في عقد البيع على أن يعيد المشتري بيع الأصل الذي اشتراه إلى نفس البائع المالك الأصلي، وإذا كان الشافعي قد خالف الجمهور فأجاز بيع العينة بصفة عامة إلا أن الإجماع منعقد على تحريم بيع العينة إذا كان البيع الثاني مشروطًا في العقد الأول، ولم يخالف في ذلك أحد على تحريم العينة في هذه الصورة، وهذا هو المتحقق في عقد المشاركة المتناقصة.
ونوقش هذا
يوضح ذلك الفقيه السبكي في معرض كلامه على بيع العينة، فيقول: "فإن فرض الشرط مقارنًا للعقد بطل بلا خلاف، وليس محل الكلام، وإنما محل الكلام إذا لم يكن مشروطًا في العقد، وذلك من الواضحات" (¬1). ونوقش هذا: بأن العينة فيها بيعان أحدهما حال، والآخر مؤجل، وهذه المشاركة المتناقصة ليس فيها عقد بيع، وإنما فيها عقد مشاركة، ثم يحصل البيع بعدئذ، وهو يحصل أيضًا بالقيمة السوقية، أما بيع العينة فإن هناك زيادة في البيع المؤجل عن البيع الحال، وهي التي يوجد بها عنصر الفائدة، وكون أحد الطرفين يريد الحصول على الربح فأي مانع في الشرع من ذلك؟ إذا كان يريد الحصول على الربح، والآخر يريد الحصول على الملكية الكاملة بالتدريج، فليس هناك ما يمنع هذه الرغبات إذا كانت وفق أحكام الشريعة وعقودها وضوابطها (¬2). ويستبعد فضيلة الشيخ علي القره داغي شبه العينة، قائلًا: ليس هناك علاقة بين موضوع الشركة المتناقصة وبيع العينة، فبيع العينة بين طرفين، وهذا بين عدة أطراف، وبيع العينة في نفس الوقت، وهذا بعد وقت طويل، وبيع العينة لا بد أن يكون السعر لم يتغير، وهنا في الغالب تتغير الأسعار، فلذلك لا تتوافر في عقد الشركة المتناقصة صور بيع العينة، فينبغي أن تستبعد هذه الشبهة (¬3). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: يرى الشيخ علي السالوس أن بيع الوفاء (¬1)، متحقق في المشاركة المتناقصة إن لم تكن المشاركة المتناقصة أسوأ منه، ويبين ذلك بأن البنك إذا كان سوف يبيع بالقيمة الاسمية: أي بالمبلغ الذي دفعه البنك، فإن هذا يعني استرداد المبيع بالمبلغ الذي دفع، وهذا في حقيقته بيع الوفاء. ويقول الشيخ محمَّد المختار السلامي "المشاركة المتناقصة أردت أن أقارنها بعقود أخرى معروفة في الفقه الإِسلامي فوجدت أقرب العقود إليها هو بيع الوفاء، فإن بيع الوفاء أن يبيع على اشتراط أن يعود الملك إلى صاحبه" (¬2). ونوقش هذا: بأن بيع الوفاء بيع مختلف فيه، والراجح تحريمه لأنه يعني إقراض الثمن إلى أجل مقابل الانتفاع بالمبيع، فصار قرضًا جر منقعة، وتسميته بالبيع لا تخرجه عن حقيقته، فالعبرة بالمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني، وقد شبه المانعون المشاركة المتناقصة ببيع الوفاء حيث تصوروا أن البنك لا يملك حصة في الشركة، وإنما قصد التمويل مقابل أن يحصل على نسبة من الأرباح المستفادة من المشروع، وهناك فرق كبير بين المشاركة المتناقصة وبيع الوفاء فالشريك في المشاركة المتناقصة يشارك في الغنم والغرم، بخلاف بيع الوفاء، هذا من جهة ¬
القول الثاني
ومن جهة أخرى فإن بيع الوفاء يتم من خلال مبيع معين تنتقل ملكيته كاملًا لأحد المتعاقدين، ثم تعود ملكيته إلى البائع السابق بخلاف المشاركة المتناقصة فإنها مشاركة يملك الطرفان فيها محل المشاركة، وليست موجودات المشاركة تبدأ بملكية واحد، ثم تنتقل إلى الآخر، ثم تعود إلى السابق كما هو الحال في بيع الوفاء. القول الثاني: الشركة المتناقصة جائزة مطلقًا، وإلى هذا ذهب الدكتور الشاذلي (¬1). دليل من قال: الشركة المتناقصة جائزة مطلقًا: الدليل الأول: الأدلة العامة الدالة على جواز الشركات العامة في الفقه الإِسلامي، وقد ذكرنا أدلتها في أول الكتاب، والشركة المتناقصة فرد منها. الدليل الثاني: أن هذه الشركة تعتبر من شركة العنان، اقترن بها شرط صحيح بالوعد بالبيع أو الإجارة وهذا غير مناف لمقتضى العقد، ولا مناف للشرع، ولم يرد في شأنه نص خاص يمنعه، أو يصادم قاعدة عامة قطعية؛ لأن الشريك حر التصرف في نصيبه، ولا يوجد في الشرع ما يمنع من تمليك الشريك حصته في المستقبل لشريكه سواء كان ذلك دفعة واحدة أو على دفعات؛ لأن الشركة عقد غير لازم، فله في أي وقت الخروج من الشركة. ¬
ونوقش هذا
ونوقش هذا: هناك فرق واضح بين أن تكون النية مبيتة من البداية للتخارج، ومرتب لها، ومنصوص عليها كشرط أساسي داخل العقد نفسه، وبين أن يعن لأحد الشركاء التخارج بعد بداية النشاط لوقوع أحداث جديدة لم يكن يتوقعها من قبل، فلا شك أن كلا الشريكين في عقد الشركة يحق لهما إبداء الرغبة في التخارج في أي وقت شاءا بعد بداية التعاقد، أما أن ينص على هذا التخارج، وعلى بيع حصة أحد الشريكين للشريك الآخر بنفس القيمة الاسمية كشرط مسبق داخل العقد نفسه، أو في إقرار أو في وعد ملزم مصاحب للعقد من البداية فهذا ضمان واضح من الشريك المشتري للشريك المتخارج، وهو ما يأباه عقد الشركة باتفاق العلماء في كل عصر ومصر (¬1). الدليل الثالث: أن الأصل في المعاملات الصحة والإباحة، وكون الشركة تجمع بين عقود مختلفة كالشركة والبيع، والإجارة فلا يوجد ما يمنع من اجتماع هذه العقود في عقد واحد سواء أكانت هذه العقود متفقة الأحكام أم مختلفة الأحكام، طالما استوفى كل عقد منها أركانه وشرائطه الشرعية، وسواء أكانت هذه العقود من العقود الجائزة أم من العقود اللازمة أم منهما معًا، وإنما الممنوع من اجتماع هذه العقود إذا كان الشرع قد نهى عن هذا الاجتماع، أو كان في اجتماعها توصل إلى ما هو محرم شرعًا، وهذا لا يوجد في عقد الشركة المتناقصة، فلم يمنع الشرع من اجتماع البيع والشركة والإجارة (¬2). ¬
القول الثالث
القول الثالث: الشركة المتناقصة تجوز بشروط، وبه قال جمع من العلماء المعاصرين، منهم الدكتور عبد الستار أبو غدة، والدكتور نزيه حماد، والدكتور قطب سانو (¬1)، وإلى هذا ذهب مجمع الفقه الإِسلامي الدولي في دورته الخامسة عشرة (¬2)، والأعضاء المؤتمرون في مؤتمر المصرف الإِسلامي الأول بدبي (¬3). دليل من قال تجوز بشروط: حاول هذا الفريق أن يجمع بين القولين السابقين فلا هو تبنى القول بالجواز مطلقًا، ولا القول بالمنع مطلقًا وإنما استجاب للمحاذير الشرعية التي ساقها الفريق القائل بالمنع بإطلاق ووضع شروطًا تجنبه الوقوع في مثل تلك المحاذير، فأصبح قولاً جديدًا يختلف عن القول القائل بالجواز مطلقًا. وكان أول من قال بالجواز بشروط هم أعضاء مؤتمر دبي، وقد وضعوا ثلاثة شروط في الحقيقة ليست شروطًا خاصة، بل يجب توفرها في جميع عقود المشاركات، وهذه الشروط هي: (1) ألا تكون المشاركة المتناقصة مجرد عملية تمويل بقرض، فلا بد من إيجاد الإرادة الفعلية للمشاركة، وتقاسم الربح بحسب الاتفاق، وأن يتحمل جميع الأطراف الخسارة. ¬
(2) أن يمتلك المصرف حصته في الشركة ملكًا تامًا، وأن يتمتع بحقه الكامل في الإدارة والتصرف، وفي حالة توكيل الشريك بالعمل يحق للبنك مراقبة الأداء ومتابعته. (3) ألا يتضمن عقد المشاركة المتناقصة شرطًا يقضي بأن يرد الشريك إلى البنك كامل حصته في رأس المال بالإضافة إلى ما يخصه من أرباح لما في ذلك من شبهة الربا. واشترط قرار مجمع الفقه الإِسلامي الشروط التالية: (1) عدم التعهد بشراء أحد الطرفين حصة الطرف الآخر بمثل قيمة الحصة عند إنشاء الشركة لما في ذلك من ضمان الشريك حصة شريكه، بل ينبغي أن يتم تحديد ثمن بيع الحصة بالقيمة السوقية يوم البيع، أو بما يتم الاتفاق عليه عند البيع. (2) عدم اشتراط تحمل أحد الطرفين مصروفات التأمين، أو الصيانة، وسائل المصروفات بل تحمل على وعاء المشاركة بقدر الحصص. (3) تحديد أرباح أطراف المشاركة بنسب شائعة، ولا يجوز اشتراط مبلغ مقطوع من الأرباح أو نسبة من مبلغ المساهمة. (4) الفصل بين العقود والالتزامات المتعلقة بالمشاركة. (5) منع النص على حق أحد الطرفين في استرداد ما قدمه من مساهمة (تمويل) (¬1). ¬
الراجح
الراجح: الذي أميل إليه أن عقد الشركة المتناقصة جائز إذا خلا من الوعد الملزم في شراء نصيب الشريك، ومن اشتراط أن يكون السداد بالقيمة الاسمية، فإذا خلا العقد من هذين الشرطين فلا أرى محذورًا من المشاركة المتناقصة، فالتخارج من الشركة يجوز في أي وقت إذا لم يكن مشروطًا في عقد الشركة وكان بالقيمة السوقية، والله أعلم. ¬
عقد المساقاة والمزارعة
عقد المساقاة والمزارعة تمهيد المبحث الأول في تعريف المساقاة والمزارعة الفرع الأول في تعريف المساقاة تعريف المساقاة عند الفقهاء (¬1): عرفها بعض الحنفية: بأنها "عقد على دفع الشجر إلى من يصلحه بجزء من ثمرها" (¬2). وعرفها المالكية بقولهم: "العمل في الحائط بجزء من ثمره" (¬3). وفي الشرح الكبير: "عقد على خدمة شجر وما ألحق به بجزء من غلته، أو بجميعها" (¬4). ¬
وعرفها الحنابلة
قال في حاشية الدسوقي (وما ألحق به) كالنخل والزرع، والمقثأة ونحوها (¬1). والمساقاة عند الشافعية: "أن يعامل غيره على نخل أو شجر عنب ليتعهَّده بالسقي والتربية على أن الثمر لهما" (¬2). فقصروا المساقاة على النخل وشجر العنب فقط، وسيأتي مزيد بحث إن شاء الله تعالى لهذه المسألة. وعرفها الحنابلة: بأنها دفع أرض وشجر له ثمر مأكول لمن يغرسه، أو مغروس معلوم لمن يعمل عليه، ويقوم بمصلحته بجزء مشاع معلوم من ثمرته (¬3). فأدخل الحنابلة في تعريف المساقاة: المغارسة. وهي دفع أرض وشجر مثمر لمن يغرسه بجزء من ثمرته. فتبين من خلال هذه التعريفات ما يلي: (1) أن المساقاة عقد من العقود، وهذا يعني أنه لا ينعقد إلا بإيجاب وقبول سواء أكان لفظيًّا أم فعليًا كالمعاطاة، وشرطه الرضا كسائر العقود، فلا يصح مع الإكراه. (2) أن العقد في المساقاة على السقيا، وليس على حفظ المال أو الاتجار به. (3) تتفق جميع التعاريف على أن المساقاة مختصة بالشجر فلا يدخل فيها دفع الغنم أو الدجاج لمن يعمل عليها بجزء من نتاجها، فإن هذا العقد لا يسمى مساقاة. ¬
(4) أن الجزء المشترط للعامل ليس نقودًا، ولا شيئاً معينا، وإنما يستحق العامل جزءًا مشاعًا من الثمرة كالثلث أو الربع، ونحو ذلك، فهو عقد على العمل في المال ببعض نمائه. (5) المساقاة عقد من عقود المشاركة، والاشتراك حاصل في الثمرة بين رب الأشجار وبين الساقي، فالأصول من أرض وشجر ملك لرب الأرض يختص به، والعمل من سقي وحرث يختص بالساقي، والمشاركة إنما هو على الثمرة بحيث يقسم الثمر الحاصل بين المالك والساقي. فليست المساقاة من عقود البيع؛ لأن البيع عبارة عن تمليك العين، والعين ملك لصاحبها، وليست من عقود الإجارة؛ لأن العوض الذي هو الثمرة مجهول، ويجب أن تكون الأجرة معلومة، ففيها شبه بالمضاربة. يقول ابن القيم: "هذه العقود من جنس المشاركات، لا من جنس المعاوضات المحضة التي يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض، والمشاركات جنس غير جنس المعاوضات، وإن كان فيها شوب المعاوضة" (¬1). وهناك شبه كبير بين المساقاة وبين المضاربة ذلك أن المضاربة: هي دفع المال لمن يعمل به بجزء شائع معلوم من الربح. والمساقاة: هي دفع الشجر للعمل به بجزء شائع من ثمرته. بل قاس الحنابلة عليهما دفع الدابة أو الآلة لمن يعمل به بجزء من كسبها، ومنعه الجمهور (¬2). ¬
جاء في المغني: وإن دفع رجل دابته إلى آخر ليعمل عليها، وما يرزق الله بينهما نصفين، أو أثلاثًا، أو كيفما شرط صح، نص عليه في رواية الأثرم، ومحمد ابن أبي حرب، وأحمد بن سعيد، ونقل عن الأوزاعي ما يدل على هذا" (¬1). وجاء في الفروع: "لو دفع دابته إلى من يعمل بها بجزء من الأجرة جاز ذلك في مذهب الحنابلة. وعنه: لا، اختاره ابن عقيل" (¬2). واستدل الحنابلة على الجواز بالقياس على المساقاة والمزارعة فإنه دفع لعين من المال إلى من يعمل عليها ببعض نمائها مع بقاء عينها. وهذا هو القول الراجح بناء على أن الأصل في العقود الصحة والجواز، والله أعلم، وقد سبق بحث هذه المسألة، والحمد لله. ¬
والفرق بين المضاربة والمساقاة
والفرق بين المضاربة والمساقاة: ذكر الفقهاء بعض الفروق بين المضاربة والمساقاة، منها: (1) أن المضاربة عقد جائز عند جماهير العلماء بخلاف المساقاة فهي عقد لازم عندهم خلافًا للحنابلة، وسيأتي بحث هذه المسألة في فصل مستقل إن شاء الله تعالى. (2) المساقاة عقد مؤقت بخلاف عقد المضاربة فإن جوازه يغني عن توقيته، وسبق بحث هذه المسألة في عقد المضاربة. (3) يشترط في المضاربة أن يكون رأس مال الشركة من النقود، ومن صحح المضاربة بالعروض اشترط أن تقوم عند العقد بالنقود، بخلاف المساقاة فإنها ليست بحاجة إلى ذلك. (4) من الفروق أن المضاربة تنعقد على التصرف في رأس المال بيعًا وشراء بخلاف المساقاة فإن العامل لا يحق له التصرف في الأشجار في البيع والشراء، وإنما العقد متوجه إلى العمل على سقي الأشجار وما يصلحها، وليس له الحق في التصرف في العين. (5) من الفروق عند الحنابلة: أن المضاربة لو فسخها المالك قبل ظهور الربح لم يستحق العامل شيئاً، وأما المساقاة فلو فسخها رب الأشجار استحق العامل أجرة عمله. لأن الربح في المضاربة لا يتولد من المال بنفسه، وإنما يتولد من العمل، ولم يحصل بعمله ربح، والثمر متولد من عين الشجر، وقد عمل على الشجر عملًا مؤثرًا في الثمر، فكان لعمله تأثير في حصول الثمرة وظهوره بعد الفسخ (¬1). ¬
الفرع الثاني في تعريف المزارعة
الفرع الثاني في تعريف المزارعة تعريف المزارعة: المزارعة: طريقة لاستغلال الأراضي الزراعية باشتراك المالك والزارع في الاستغلال، ويقسم الناتج بينهما بنسبة يعينها العقد، أو العرف (¬1). فالمزارعة من عقود المشاركات وليست من عقود المعاوضات على الصحيح، والخلاف فيها كالخلاف في المساقاة من حيث التوصيف، وقد سبق بحث ذلك، فالأرض لربها لا يملكها العامل، والعمل يختص به الزارع، والمشاركة إنما هو في الزرع الثابت، والذي هو بمثابة الثمرة من العمل بجزء مشاع كالثلث أو الربع بشرط أن يكون من ريعها، فلو أجرها بالدراهم أو الدنانير أو بطعام معلوم في الذمة لم يكن العقد عقد مزارعة، وإنما هو إجارة (¬2). جاء في مجلة الأحكام العدلية: "المزارعة: نوع شركة على كون الأراضي ¬
من طرف، والعمل من طرف آخر يعني أن الأراضي تزرع والحاصلات تقسم بينهما" (¬1). ¬
المبحث الثاني المساقاة والمزارعة على وفق القياس
المبحث الثاني المساقاة والمزارعة على وفق القياس المساقاة من جنس عقود المشاركات لا من جنس المعاوضات (¬1). [م - 1419] اختلف الفقهاء هل المساقاة جارية على وفق القياس على قولين: القول الأول: يرى أن جواز المساقاة على خلاف القياس، وهو قول الجمهور، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). قال ابن رشد: "والجمهور على أن القراض والمساقاة مستثنيان بالسنة فلا يقاس عليهما لخروجهما عن الأصول" (¬3). وصرح أصحاب مالك أن المساقاة مستثناة من أصول أربعة كل واحد منها يدل على المنع: الأول: الإجارة بالمجهول؛ لأن نصف الثمرة مثلًا مجهول. الثاني: كراء الأرض بما يخرج منها فيما إذا جعل للعامل بعض البياض والبذر عليه. الثالث: بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، بل قبل وجودها. ¬
الرابع: الغرر؛ لأن العامل لا يدري أتسلم الثمرة أم لا، وعلى تقدير سلامتها لا يدري كيف يكون مقدارها. وبعضهم زاد: بيع الطعام بالطعام نسيئة ... والدين بالدين لأن المنافع والثمار كلايهما غير مقبوض (¬1). وعمل الشافعية يدل على أن المساقاة على خلاف القياس؛ لأنهم قصروها على مورد النص، وهو المساقاة على النخل، وشجر العنب، ولو كانت واردة على وفق القياس لألحق الشافعية بالمنصوص غيره، فلما لم يلحقوا سائر الأشجار المثمرة بالنخل والعنب علم من مذهبهم أنهم يرون المساقاة على خلاف القياس. قال الشوكاني في نيل الأوطار: "والحاصل أن من قال: إنها ورادة على خلاف القياس قصرها على مورد النص. ومن قال: إنها واردة على القياس ألحق بالمنصوص غيره" (¬2). وجاء في فتاوى السبكي: "وقال القاضي حسين: هاهنا أربعة عقود متقاربة في الصورة مختلفة في الحكم: القراض، والمساقاة، جائزان، والمخابرة، والمزارعة باطلتان، فالمزارعة على صورة المساقاة غير أنا فرقنا بينهما بالسنة. قال الشافعي: ولم نرد إحدى سنتيه بالأخرى، أشار إلى أن القياس هو التسوية بينهما في الجواز والمنع؛ لأن كل واحد منهما عقد على العمل في الشيء ببعض ما يخرج منه، غير أنا اتبعنا فيها السنة، والسنة فرقت بينهما" (¬3). ¬
القول الثاني
وجاء في القواعد والفوائد الأصولية: "من الرخص ما هو مباح كالعرايا والمساقاة والمزارعة ... وغير ذلك من العقود الثابتة على خلاف القياس، هكذا ذكر أصحابنا وغيرهم" (¬1). القول الثاني: يرى أن المساقاة جارية على وفق القياس، وهو قول في مذهب الحنابلة، واختاره ابن تيمية وابن القيم. يقول ابن تيمية: "الذين قالوا: المضاربة والمساقاة والمزارعة على خلاف القياس ظنوا أن هذه العقود من جنس الإجارة؛ لأنها عمل بعوض، والإجارة يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض، فلما رأوا العمل في هذه العقود غير معلوم، والربح فيها غير معلوم، قالوا: تخالف القياس، وهذا من غلطهم، فإن هذه العقود من جنس المشاركات لا من جنس المعاوضات الخاصة التي يشترط فيها العلم بالعوضين والمشاركات جنس غير جنس المعاوضة وإن قيل: إن فيها شوب المعاوضة" (¬2). وقال أيضًا: "قد تأملنا عامة المواضع التي قيل: إن القياس فيها عارض النص، وإن حكم النص فيها على خلاف القياس، فوجدنا ما خصه الشارع بحكم عن نظائره، فإنما خصه به لاختصاصه بوصف أوجب اختصاصه بالحكم، كما خص العرايا بجواز بيعها بمثلها خرصًا لتعذر الكيل مع الحاجة إلى البيع، والحاجة توجب الانتقال إلى البدل عند تعذر الأصل، فالخرص عند الحاجة قام مقام الكيل، كما يقوم التراب مقام الماء، والميتة مقام المذكى عند الحاجة. ¬
وكذلك قول من قال: القرض، أو الإجارة، أو القراض، أو المساقاة، أو المزارعة، ونحو ذلك على خلاف القياس: إن أراد به أن هذه الأفعال اختصت بصفات أوجبت أن يكون حكمها مخالفًا لحكم ما ليس مثلها، فقد صدق، وهذا هو مقتضى القياس. وإن أراد أن الفعلين المتماثلين حكم فيهما بحكمين مختلفين، فهذا خطأ، ينزه عنه من هو دون الأنبياء صلوات الله عليهم، ولكن هذه الأقيسة المعارضة هي الفاسدة، كقياس الذين قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وقياس الذين قالوا (أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله؟) يعنون الميتة، وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]. ولعل من رزقه الله فهمًا، وآتاه من لدنه علمًا، يجد عامة الأحكام التي تعلم بقياس شرعي صحيح يدل عليها الخطاب الشرعي، كما أن غاية ما يدل عليه الخطاب الشرعي هو موافق للعدل الذي هو مطلوب القياس الصحيح" (¬1). والخلاف في المزارعة في كونها جارية على وفق القياس كالخلاف في المساقاة، بل قد تكون المزارعة أولى من الخلاف من المساقاة باعتبار أن الأرض في المزارعة يمكن تأجيرها بالدراهم والدنانير، فالمالك ليس مضطرًا إليها، بخلاف المساقاة فإن الشجر لا يمكن تأجيره، والله أعلم. ¬
الباب الأول في أركان المساقاة والمزارعة
الباب الأول في أركان المساقاة والمزارعة [م - 1420] الخلاف في أركان المساقاة والمزارعة كالخلاف في أركان العقد: فالخلاف بين الحنفية والجمهور: فالحنفية يرون أن الركن: هو الصيغة فقط (الإيجاب والقبول). قال الكاساني في بدائع الصنائع: "وأما ركنها فهو الإيجاب والقبول على نحو ما ذكرنا فيما تقدم من غير تفاوت" (¬1). وجاء في مجلة الأحكام العدلية: "ركن المزارعة الإيجاب والقبول" (¬2). ويرى الجمهور أن أركان المساقاة خمسة: صيغة، وعاقد، وشجر، وعمل، وثمر (¬3). وزاد ابن رشد ذكر المدة. قال في بداية المجتهد عن أركان المساقاة: وأركانها أربعة: المحل المخصوص بها، والجزء الذي تنعقد عليه، وصفة العمل الذي تنعقد عليه، والمدة التي تجوز فيها، وتنعقد عليها (¬4). وأركان عقد المزارعة: عاقدان، وصيغة، وأرض، وبذر، وعمل (¬5) ¬
وبعضهم يزيد البقر (¬1). وقد سبق أن ناقشت سبب الخلاف بين الحنفية والجمهور عند الكلام على أركان البيع، وأركان السلم، وأركان الإجارة فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والحمد لله. ¬
الفصل الأول في الصيغة التي تنعقد بها المساقاة والمزارعة
الفصل الأول في الصيغة التي تنعقد بها المساقاة والمزارعة تنعقد العقود بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل (¬1). [م - 1421] تنعقد المساقاة عند عامة العلماء بكل لفظ يؤدي معناها، كقوله: ساقيتك، أو عاملتك، أو سلمت إليك نخيلي لتتعاهدها على كذا، أو اعمل على هذا النخيل (¬2). واختار ابن القاسم من المالكية أن المساقاة لا تنعقد إلا بلفظها؛ لأن المساقاة أصل مستقل بنفسه، فلا تنعقد إلا بلفظها (¬3). وهذا القول ضعيف؛ لأن المدار على الرضا، فإذا علم الرضا بأي لفظ صريح، أو كناية، من قول أو فعل صح العقد، وهكذا جميع العقود تنعقد بما يدل عليها من قول أو فعل. [م - 1422] واختلف الفقهاء في انعقاد المساقاة بالمعاطاة على قولين: القول الأول: اختار جمهور الفقهاء بأن القبول في المساقاة يصح بكل فعل يدل عليه، ولا يشترط اللفظ (¬4). ¬
قال ابن شاس المالكي: "الركن الرابع: ما به تنعقد المساقاة، وهو إما الصيغة: فيقول: ساقيتك على هذا النخل بالنصف أو غيره، أو عاملتك. فيقول: قبلت، أو ما يقوم مقام ذلك من القول والفعل" (¬1). وجاء في كشاف القناع: "وتصح المساقاة بلفظ مساقاة؛ لأنه لفظها الموضوع لها وبلفظ معاملة، ومفالحة، واعمل بستاني هذا حتى تكمل ثمرته وبكل لفظ يؤدي معناها؛ لأن القصد المعنى، فإذا دل عليه بأي لفظ كان صح كالبيع وتقدم في الوكالة صفة القبول، وأنه يصح بما يدل عليه من قول وفعل فشروعه في العمل قبول" (¬2). القول الثاني: اشترط الشافعية أن يكون القبول باللفظ من القادر على النطق. قال الرملي في نهاية المحتاج: "ويشترط القبول باللفظ متصلًا كما في البيع" (¬3). وجاء في مغني المحتاج: "ويشترط فيها القبول لفظًا من الناطق للزومها كإجارة وغيرها" (¬4). وقد تكلمنا عن حكم المعاطاة في عقد البيع، والخلاف بين الشافعية والجمهور، وذكرنا أدلة كل فريق بما يغني عن إعادتها هنا. وحكم المزارعة حكم المساقاة في كل ما تقدم. ¬
مبحث في انعقاد المساقاة والمزارعة بلفظ الإجارة
مبحث في انعقاد المساقاة والمزارعة بلفظ الإجارة الاعتبار في العقود بمقاصدها ومعانيها، بألفاظها (¬1). [م - 1423] اختلف الفقهاء في انعقاد المساقاة والمزارعة بلفظ الإجارة على قولين: القول الأول: أن المساقاة لا تنعقد بلفظ الإجارة، وهذا ما اختاره ابن القاسم من المالكية، وهو الأصح في مذهب الشافعية. قال ابن رشد: "وأما هل اللفظ شرط في هذا العقد، فاختلفوا في ذلك: فذهب ابن القاسم إلى أن من شرط صحتها أن لا تنعقد إلا بلفظ المساقاة، وأنه ليس تنعقد بلفظ الإجارة، وبه قال الشافعي" (¬2). وقال العمراني في البيان: "وإن قال: استأجرتك على أن تعمل على هذه النخل بنصف ما يخرج من ثمرتها لم يصح؛ لأن الإجارة تفتقر إلى أن تكون الأجرة معلومة القدر، والأجرة هاهنا مجهولة القدر، فلم يصح" (¬3). وقال في شرح الوجيز: "ولو تعاقدا بلفظ الإجارة، فقال المالك: استأجرتك لتعهد نخيلي بكذا من ثمارها فيه وجهان جاريان في الإجارة بلفظ المساقاة ... ¬
القول الثاني
أظهرهما المنع؛ لأن لفظ الإجارة صريح في غير المساقاة، فإن أمكن تنفيذه في موضعه نفذ فيه، وإلا فهو إجارة فاسدة، والخلاف نازع إلى أن الاعتبار باللفظ أو المعنى" (¬1). القول الثاني: تنعقد المساقاة بلفظ الإجارة، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية، والمذهب عند الحنابلة (¬2). وقال ابن رشد: وهو قياس قول سحنون (¬3). جاء في شرح الوجيز: "ولو تعاقدا بلفظ الإجارة، فقال المالك: استأجرتك لتعهد نخيلي بكذا من ثمارها فيه وجهان جاريان في الإجارة بلفظ المساقاة، أحدهما: الصحة لما بين العقدين من المشابهة، واحتمال كل واحد من اللفظين معنى الآخر ... " (¬4). وجاء في كشاف القناع: "وتصح هي أي المساقاة بلفظ إجارة ... فلو قال: استأجرتك لتعمل لي في هذا الحائط بنصف ثمرته أو زرعه صح؛ لأن القصد المعنى وقد وجد ما يدل على المراد منه" (¬5). وجاء في الكافي لابن قدامة: "فإن قال: أجرتك هذه الأرض بثلث الخارج منها، فقال أحمد - رضي الله عنه -: يصح. ¬
واختلف أصحابه، فقال أكثرهم: هي إجارة صحيحة، يشترط فيها شروط الإجارة. وقال أبو الخطاب: هذه مزارعة بلفظ الإجارة، فيشترط فيها شروط المزارعة، وحكمها حكمها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من كانت له أرض فليزرعها، أو فليزرعها أخاه، ولا يكاريها بثلث، ولا ربع، ولا بطعام مسمى. رواه أبو داود. ولأن هذا مجهول، فلم يجز أن يكون عوضا في الإجارة كثلث نماء الأرض" (¬1). وجاء في المغني: "وإن قال: استأجرتك لتعمل لي في هذا الحائط، حتى تكمل ثمرته، بنصف ثمرته. ففيه وجهان: الثاني: يصح. وهو أقيس؛ لأنه مؤد للمعنى، فصح به العقد، كسائر الألفاظ المتفق عليها. وقد ذكر أبو الخطاب أن معنى قول أحمد: تجوز إجارة الأرض ببعض الخارج منها المزارعة، على أن البذر والعمل من العامل. وما ذكر من شروط الإجارة، إنما يعتبر في الإجارة الحقيقية، أما إذا أريد بالإجارة المزارعة، فلا يشترط لها غير شرط المزارعة" (¬2). وجاء في تصحيح الفروع: "وفي صحتهما يعني المساقاة والمزارعة بلفظ الإجارة وجهان: أحدهما: يصح، وهو الصحيح، اختاره الشيخ الموفق، والشارح، وابن رزين في شرحه، وقالوا: هذا أقيس ... والوجه الثاني: لا يصح ... " (¬3). ¬
الباب الثاني في حكم المساقاة والمزارعة
الباب الثاني في حكم المساقاة والمزارعة الفصل الأول في جواز المساقاة قال ابن قدامة: العين التي تنمى بالعمل يصح العقد عليها ببعض نمائها (¬1). قال مالك: "المساقاة أصل في نفسها كالقراض لا يقاس عليها شيء من الإجارات" (¬2). [م - 1424] أجمع العلماء على أن استئجار المالك رجلاً يقوم على سقي نخله والقيام بمصالح ثمره بأجرة معلومة من الذهب والفضة والعروض، أن ذلك جائز، وهو من باب الإجارة (¬3). واختلفوا في دفع الشجر لمن يقوم بسقيه ومصالحه بجزء مما يخرج من ثمرته، وهو ما يسمى بعقد المساقاة على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب أبو حنيفة وزفر إلى بطلانه (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب محمَّد بن الحسن وأبو يوسف وكافة العلماء إلى القول بجوازه (¬1). قال ابن رشد: "فأما جوازها -يعني المساقاة- فعليه جمهور العلماء مالك، والشافعي، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة، وأحمد، وداود" (¬2). وقال الماوردي: "والمساقاة حكمها ... جائزة لا يعرف خلاف بين الصحابة والتابعين في جوازها، وهو قول كافة الفقهاء إلا أبا حنيفة دون أصحابه، فإنه تفرد بإبطالها" (¬3). القول الثالث: تكره المساقاة، وهو قول النخعي (¬4). دليل أبي حنيفة على بطلان المساقاة: استدل أبو حنيفة بأدلة على بطلان المزارعة، وكل دليل استدل به على بطلان المزارعة فهو دليل عنده على بطلان المساقاة، إذ لا فرق عنده بين المزارعة وبين المساقاة بجامع أن كلًا منها عقد على عمل بأجرة معدومة، ومجهولة المقدار، ومن هذه الأدلة. ¬
الدليل الأول
الدليل الأول: (ح -908) ما رواه مسلم من طريق يعلي بن حكيم، عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج قال: كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنكريها بالثلث، والربع، والطعام المسمى، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي، فقال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، نهانا أن نحاقل بالأرض، فنكريها على الثلث، والربع، والطعام المسمى، وأمر رب الأرض أن يزرعها، أو يزرعها، وكره كراءها وما سوى ذلك (¬1). وأجيب عن هذا الحديث بعدة أجوبة: الجواب الأول: بأن رافعًا - رضي الله عنه - قد أخبر بالنوع الذي حرم من المزارعة، والعلة التي من أجلها نهي عنها: (ح -909) فقد روى البخاري من طريق حنظلة الزرقي، قال: سمعت رافع بن خديج - رضي الله عنه - يقول كنا أكثر الأنصار حقلاً، فكنا نكري الأرض، فربما أخرجت هذه ولم تخرج ذه، فنهينا عن ذلك ولم ننه عن الورق (¬2). وفي رواية للبخاري: كنا أكثر أهل المدينة حقلاً، وكان أحدنا يكري أرضه، فيقول: هذه القطعة لي، وهذه لك، فربما أخرجت منه، ولم تخرج ذه، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (¬3). وفي رواية عن رافع بن خديج، قال: حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض ¬
على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ينبت على الأربعاء، أو شيء يستثنيه صاحب الأرض، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. وقال الليث: وكان الذي نهي عن ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه لما فيه من المخاطرة (¬1). فإذا نظرنا إلى مجموع هذه الروايات خرجنا منها بالآتي: أن النهي عن كراء الأرض إنما كان متوجهًا إلى كرائها بجزء معين معلوم مما يخرج منها، فربما أخرجت هذه، ولم تخرج تلك، فلحق الأجرة جهالة، ولذلك قال الليث قوله السابق، وأما أجرتها بجزء مشاع غير معين فلم يتوجه له النهي. يقول ابن القيم: "إن من تأمل حديث رافع، وجمع طرقه، واعتبر بعضها ببعض، وحمل مجملها على مفسرها، ومطلقها على مقيدها علم أن الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك أمر بين الفساد، وهو المزارعة الظالمة الجائرة، فإنه قال: كنا نكري على الأرض، على أن لنا هذه، ولهم هذه، فربما أخرجت هذه، ولم تخرج هذه. وفي لفظ له: كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الماذينات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع كما تقدم، وقوله: ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، وأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس، وهذا من أبين ما في حديث رافع، وأصحه، وما فيها من مجمل، أو مطلق، أو مختصر فيحمل على هذا المفسر المبين المتفق عليه لفظًا وحكمًا، قال الليث بن سعد: الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر إذا نظر إليه ذو البصيرة بالحلال والحرام ¬
الجواب الثاني
علم أنه لا يجوز ... فلا تعارض إذن بين حديث رافع وأحاديث الجواز بوجه" (¬1). الجواب الثاني: ذهب بعض أهل العلم إلى أن حديث رافع فيه اضطراب وذلك لوجود اختلاف كثير في ألفاظه (¬2). "وكان أحمد بن حنبل يقول: أحاديث رافع في كراء الأرض مضطربة، وأحسنها حديث يعلى بن حكيم، عن سليمان بن يسار، عن رافع بن خديج" (¬3). وقال الترمذي: "وحديث رافع فيه اضطراب، يروى هذا الحديث عن رافع بن خديج، عن عمومته، ويروى عن ظهير بن رافع، وهو أحد عمومته، وقد روي هذا الحديث عنه على روايات مختلفة" (¬4). والجواب الأول أقوى، والله أعلم. الجواب الثالث: أن ابن عباس - رضي الله عنه - قد أنكروا على رافع فهمه لكلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. (ح - 910) روى الشيخان من طريق عمرو بن دينار، قال: قلت لطاووس: لو تركت المخابرة، فإنهم يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه ... قال: إن أعلمهم أخبرني -يعني ابن عباس رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عنه، ولكن قال: أنْ يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرجًا معلومًا (¬5). ¬
الدليل الثاني للحنفية
وأخرجه مسلم من طريق ابن طاووس ومجاهد عن طاووس (¬1). وروى مسلم والترمذي من طريق شريك، عن شعبة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحرم المزارعة، ولكن أمر أن يرفق بعضهم ببعض. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (¬2). هذا لفظ الترمذي، وساق مسلم إسناده ولم يذكر لفظه، وقال: بنحو حديثهم يعني: حديث عمرو بن دينار وابن طاووس ومجاهد عن طاووس (¬3). الدليل الثاني للحنفية: (ح -911) ما رواه مسلم في صحيحه من طريق ابن وهب أخبرني عمرو -وهو ابن الحارث- أن بكيرًا حدثه، أن عبد الله بن أبي سلمة حدثه، عن النعمان بن أبي عياش عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كراء الأرض .. قال بكير وحدثني نافع، أنه سمع ابن عمر يقول: كنا نكري أرضنا ثم تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خديج (¬4). ورواه مسلم من طريق ابن جريج، أخبرني عطاء، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة، والمحاقلة، والمزابنة، وعن بيع الثمرة حتى تطعم، ولا تباع إلا بالدراهم والدنانير إلا العرايا. ¬
وجه الاستدلال
قال عطاء: فسر لنا جابر قال أما المخابرة فالأرض البيضاء يدفعها الرجل إلى الرجل فينفق فيها ثم يأخذ من الثمر ... الحديث. وجه الاستدلال: فسر جابر المخابرة بمعنى المزارعة، وإذا ثبت النهي عن المزارعة فالمساقاة مثلها. قال في الهداية: "والمساقاة هي المعاملة في الأشجار والكلام فيها كالكلام في المزارعة" (¬1). وقال العيني: "المزارعة منسوخة بالنهي عن كراء الأرض بما يخرج منها، وهي إجارة مجهولة؛ لأنها قد لا تخرج الأرض شيئاً، وادعوا أن المساقاة منسوخة بالنهي عن المزابنة" (¬2). ويجاب: بأن الجواب عن حديث جابر هو نفس الجواب عن حديث رافع - رضي الله عنه -، ولذلك جاء فيه عن ابن عمر: كنا نكري أرضنا ثم تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خديج، فالنهي عن كراء الأرض محمول على ما جاء مفسرًا في بعض ألفاظ حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه -، وأما الاستدلال بحديث جابر - رضي الله عنه - على أن المزارعة منسوخة فهذا قول ضعيف. قال ابن القيم: "قد عمل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى مات، ثم خلفاؤه الراشدون من بعده حتى ماتوا، ثم أهلوهم من بعدهم ولم يبق بالمدينة أهل بيت حتى عملوا به، وعمل به أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعده، ومثل هذا يستحيل أن يكون منسوخًا ¬
الدليل الثالث
لاستمرار العمل به من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قبضه الله، وكذلك استمرار عمل الخلفاء الراشدين به، فنسخ هذا من أمحل المحال" (¬1). ولو قدر أن أحاديث المنع معارضة لأحاديث الجواز لكان النسخ أولى بأحاديث المنع؛ لأنه لا بد من الذهاب إلى القول بنسخ أحد الخبرين، ويستحيل نسخ أحاديث الجواز لاستمرار العمل بها من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن توفي، وعمل بها أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - من بعده. الدليل الثالث: المساقاة إجارة بثمرة لم فخلق بعد، وبثمرة مجهولة، فهو لا يدري هل تسلم الثمرة أو لا، وإذا سلمت فلا يعلم كيف تكون؟ وما مقدارها؟ وهذا كله ينطوي على غرر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر كما في حديث أبي هريرة في مسلم (¬2). وأجيب: قال مالك: "المساقاة أصل في نفسها كالقراض لا يقاس عليها شىء من الإجارات" (¬3). وجاء في شرح الزرقاني أيضًا: "والمساقاة والقراض أصلان مخالفان للبيوع، وكل أصل في نفسه يجب تسليمه" (¬4). وكل معنى يوجب رد المساقاة فهو موجود في المضاربة (القراض)، فإذا ¬
دليل الجمهور على جواز المساقاة
أجزتم القراض لزمكم القول بجواز المساقاة، فإن نصيب العامل في مال القراض معدوم وقت العقد، ومجهول المقدار، وقد يوجد، وقد لا يوجد فيذهب عمله بلا مقابل، ولم يمنع ذلك من القول بجواز القراض، والمساقاة مثله أو أولى، والله أعلم. جاء في الحاوي: "لما جازت المضاربة إجماعًا، وكانت عملاً على عوض مظنون من ربح مجوز كانت المساقاة أولى بالجواز؛ لأنها عمل على عوض معتاد من ثمرة غالبة" (¬1). دليل الجمهور على جواز المساقاة: الدليل الأول: (ح -912) ما رواه البخاري ومسلم من طريق عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع (¬2). ورواه البخاري من طريق جويرية، عن نافع به، بلفظ: أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر اليهود أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها. فقوله: (أن يعملوها) يراد بها المساقاة، حيث يطلق أهل المدينة على المساقاة المعاملة. وقوله: (ويزرعوها) يراد بها المزارعة، فالحديث جمع بين عقدي المساقاة والمزارعة. ¬
جواب الحنفية عن هذا الحديث
جواب الحنفية عن هذا الحديث: الجواب الأول: أن هذا لم يكن على طريق المساقاة بدلالة أنه لم يذكر مدة معلومة، والمساقاة لا تجوز إلا بمدة معلومة، فلما لم يذكر المدة، وقال - صلى الله عليه وسلم -: نقركم فيها ما شئنا، وهذا لا يجوز شرطه بالاتفاق علم أن العقد لم يكن من عقود المساقاة (¬1). قال الكاساني: "والدليل على أنه لا يمكن حمله على المزارعة أنه عليه الصلاة والسلام قال فيه: أقركم ما أقركم الله، وهذا منه عليه السلام تجهيل المدة، وجهالة المدة تمنع صحة المزارعة بلا خلاف" (¬2). ورد على هذا الجواب: بأن اشتراط المدة فيها خلاف، فالحنابلة يرون أن العقد جائز، والعقد الجائز يستغنى بجوازه عن توقيته، وأهل الظاهر يرون جواز المساقاة مدة مجهولة (¬3)، فليس في المسألة إجماع على وجوب توقيت المساقاة كما حكى الحنفية. وأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: نقركم فيها ما شئنا، فقد روي بلفظين: اللفظ الأول: لفظ: (نقركم بها على ذلك ما شئنا) رواه البخاري من طريق موسى ابن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر به (¬4). ¬
والموقف من الألفاظ المختلفة إما الجمع أو الترجيح
وتابعه أسامة بن زيد الليثي عن نافع عند مسلم (¬1). اللفظ الثاني: (نقركم ما أقركم الله) فقد رواه البخاري من طريق مالك، عن نافع به. ورواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب مرسلاً (¬2). ومرسلات سعيد بن المسيب من أصح المراسيل. وهذا اللفظ ليس فيه حجة للحنفية؛ لأن في قوله: أقركم ما أقركم الله دليلاً واضحًا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينتظر في ذلك القضاء من ربه، وليس كذلك غيره (¬3). قال القرطبي: "قال عليه السلام لليهود: أقركم فيها ما أقركم الله. وهذا أدل دليل وأوضح سبيل على أن ذلك خصوص له، فكان ينتظر في ذلك القضاء من ربه، وليس كذلك غيره، وقد أحكمت الشريعة معنى الإجارات وسائر المعاملات، فلا يجوز شيء منها إلا على ما أحكمه الكتاب والسنة، وقال به علماء الأمة" (¬4). والموقف من الألفاظ المختلفة إما الجمع أو الترجيح: فالترجيح سبيله أن القصة واحدة، ولا تحتمل التعدد، ويكون التصرف من الرواة، ولا شك أن مالكا لا يعدله أحد من الرواة، كيف وقد تقوى بمرسل سعيد بن المسيب. ¬
أو نقول بالجمع، وهذا أقرب ويكون معنى (ما أقركم الله) ما قدر الله أن نترككم فيها فإذا شئنا أخرجناكم: أي أن الله قدر إخراجكم، والله أعلم (¬1). أو يكون الإقرار عائدًا إلى مدة العهد، والمراد إنما نمكنكم من المقام في خيبر ما شئنا ثم نخرجكم إذا شئنا؛ لأنه كان عازمًا على إخراج الكفار من جزيرة العرب، كما أمر به في آخر عمره (¬2). جاء في شرح الزرقاني "ليس القصد بهذا الكلام عقد المساقاة، وإنما المقصود به أنها ليست مؤبدة، وأن لنا إخراجكم" (¬3). وقال الماوردي: "وإنما شرط ذلك في عقد الصلح، لا في عقد المساقاة" (¬4). وهذا أقوى من قول القرطبي: "ويحتمل أنه حد الأجل فلم يسمعه الراوي، فلم ينقله" (¬5)؛ لأنه لو بين - صلى الله عليه وسلم - أجلاً لكان ذلك من شريعته - صلى الله عليه وسلم -، وما كان من شريعته فقد تكفل الله لنا بحفظه، فلما لم ينقل علم أنه لم يصدر منه - صلى الله عليه وسلم -. وقد يؤخذ منه أن العقد اللازم إذا علق على مشيئة العاقدين أو أحدهما أصبح جائزاً، كما قال المالكية في مسألة مشابهة، إذا قال المؤجر: أجرتك داري كل شهر بكذا، فإن العقد غير لازم، ولكل منهما فسخه متى شاء، ويلزمه فيما سكن حصته من الكراء، وإن كان عقد الإجارة الأصل فيه اللزوم (¬6). ¬
وجه ذلك
وجه ذلك: لما حدد العاقدان مقدار الأجرة، ولم يحددا مدة الإجارة، وإنما عبر بكلمة (كل شهر بكذا) من غير تحديد، دل ذلك على أنهما أرادا بذلك عقد الإجارة على اعتبار خيار الفسخ لكل واحد منهما، فلا يملك المؤجر ولا المستأجر أن يلزم أحدهما الآخر مدة معينة لعدم الاتفاق عليها. وكذا عقد المساقاة إذا علق على مشيئة العاقدين أو أحدهما أصبح عقدًا جائزاً، وصار الخيار لهما في إنهاء العقد، قلت ذلك من باب القياس على الإجارة، ثم وجدت ذلك صريحًا منقولًا عن المالكية، فالحمد لله. قال الحافظ في الفتح: "وعن مالك: إذا قال: ساقيتك كل سنة بكذا، جاز، ولو لم يذكر أمدًا، وحمل قصة خيبر على ذلك" (¬1)، والله أعلم. وقد بوب البخاري لهذا الحديث: "باب إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرك الله، ولم يذكر أجلًا معلومًا فهو على تراضيهما" (¬2). هذا جواب من قال: إن عقد المساقاة والمزارعة عقد لازم، والعقد اللازم لابد فيه من بيان المدة، وأما من قال: إن عقد المساقاة والمزارعة عقد جائز، وهو الصواب فلا يلزمه الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نقركم فيها ما شئنا) لأن العقد الجائز لا يحتاج إلى توقيت، وهو إلى مشيئة العاقد، ويستغنى بجوازه عن الحاجة إلى توقيته. ¬
الجواب الثاني للحنفية
الجواب الثاني للحنفية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فتح أكثر خيبر عنوة، فثبت له حق الاسترقاق في رقابهم، فعقده معهم كعقد المولى مع عبده، فيجوز فيه ما لا يجوز في عقد الأحرار (¬1). ورد هذا الجواب: بأن القول بأن اليهود كانوا عبيدًا أرقاء لا يصح؛ لأنهم إما أن يكونوا عبيدًا للمسلمين، أو عبيدًا للمصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ومن المحال أن يكونوا عبيدًا للمصطفى - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه ليس له من المغنم إلا خمس الخمس، وسهمه مع المسلمين، ولم يقل أحد من أهل العلم: إن جميع ما ملك عنوة عبيد له عليه السلام، فلو كانوا أرقاء للمسلمين فكيف صح للرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه أراد إجلاءهم أول الأمر فرغبوا في إقرارهم، فأقرهم على أن يخرجهم إذا شاء، فثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسترقهم، ولو استرقهم لما جاز لعمر - رضي الله عنه - أن يجليهم ويسقط حق المسلمين في رقابهم، وفيهم حظ لليتامى والأرامل، فلا يصح أن ينسب هذا لعمر - رضي الله عنه -. يقول ابن تيمية: "ومعلوم بالنقل المتواتر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالحهم، ولم يسترقهم حتى أجلاهم عمر، ولم يبعهم، ولا مكن أحدًا من المسلمين من استرقاق أحد منهم" (¬2). جواب ثالث للحنفية: بأن خيبر فتحت صلحًا، وأقروا على أن الأرض ملكهم بشرط أن يعطوا نصف الثمرة، فكان ذلك يؤخذ بحق الجزية، فلا يدل على جواز المساقاة. ¬
وأجيب
وأجيب: قال ابن حجر: "وتعقب بأن معظم خيبر فتح عنوة كما سيأتي في المغازي، وبأن كثيرًا منها قسم بين الغانمين كما سيأتي، وبأن عمر أجلاهم منها، فلو كانت الأرض ملكهم ما أجلاهم عنها" (¬1). جواب رابع: أن هذه معاملة مع كفار، لا يلزم أن تجوز مع المسلمين. وأجيب: بأن خيبر قد أصبحت دار إسلام، وقد أجمع المسلمون أنه يحرم في دار الإِسلام بين المسلمين وأهل العهد ما يحرم بين المسلمين من المعاملات الفاسدة، وقد عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار، وأن معاذ بن جبل عامل على عهده أهل اليمن بعد إسلامهم، وأن الصحابة كانوا يعاملون بذلك (¬2). الدليل الثاني: روى البخاري في صحيحه من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قالت: الأنصار للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: لا. فقال: تكفونا المؤونة، ونشرككم في الثمرة؟ قالوا: سمعنا وأطعنا (¬3). الدليل الثالث: أن المساقاة عقد على عمل في المال ببعض نمائه، فأشبه المضاربة؛ لأن ¬
الراجح
المضارب يعمل في المال بجزء من نمائه، والربح وقت العقد معدوم ومجهول، وإذا كان الإجماع قد انعقد على جواز القراض فلا بد أن يكون حكمه مأخوذًا عن توقيف أو اجتهاد يرد إلى أصل، وليس في المضاربة توقيف نص عليها، فلم يبق إلا اجتهاد أدى إلى إلحاق الفرع بأصله، وليس في المضاربة في الشرع أصل ترد إليه إلا المساقاة، وإذا كانت المساقاة أصلًا لفرع مجمع عليه كانت أحق بالإجماع منه، والله أعلم. الراجح: لا شك أن القول بالجواز أقوى دليلاً، وقد أشار البخاري في تراجم صحيحه إلى آثار معلقة عن الصحابة لبيان أن الصحابة لم يختلفوا في جواز المزارعة، والمساقاة مثلها في الحكم أو أولى، وهي آثار علقها جازمًا بها، فتكون صالحة للحجة. قال البخاري في صحيحه: باب المزارعة بالشطر ونحوه. وقال قيس بن مسلم، عن أبي جعفر، قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع. وزارع علي وسعد بن مالك، وعبد الله بن مسعود، وعمر بن عبد العزيز والقاسم، وعروة، وآل أبي بكر، وآل عمر، وآل علي، وابن سيرين. وقال عبد الرحمن بن الأسود: كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع، وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا. وقال الحسن: لا بأس أن تكون الأرض لأحدهما فينفقان جميعًا، فما خرج فهو بينهما، ورأى ذلك الزهري.
وقال الحسن: لا بأس أن يجتنى القطن على النصف. وقال إبراهيم وابن سيرين وعطاء والحكم والزهري وقتادة: لا بأس أن يعطي الثوب بالثلث أو الربع ونحوه. وقال معمر: لا بأس أن تكون الماشية على الثلث والربع إلى أجل مسمى (¬1). ¬
الفصل الثاني في جواز المزارعة
الفصل الثاني في جواز المزارعة المزارعة عقد على عمل في المال ببعض نمائه أشبه المضاربة. [م - 1425] اختلاف الفقهاء في المزارعة أكثر من اختلافهم في المساقاة، وقد اختلفوا في حكم المزارعة على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا تجوز المزارعة ولا المساقاة، وهذا قول أبي حنفية، وزفر (¬1). القول الثاني: تجوز المزارعة والمساقاة، وهذا قول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، واختاره بعض المالكية، وقال به من الشافعية ابن خزيمة، وابن المنذر، والخطابي، والنووي، والسبكي، وهو مذهب الحنابلة، ورجحه ابن حزم (¬2). ¬
القول الثالث
القول الثالث: تجوز المساقاة مطلقاً، ولا تجوز المزارعة إلا تبعًا للمساقاة، بشرط أن تكون الأرض البيضاء لا تزيد على الثلث. وهذا مذهب المالكية (¬1). وأجاز الشافعية في أحد الوجهين جواز المزارعة تبعًا للمساقاة بشرط أن يكون بين النخل بياض لا يمكنه سقي الشجر إلا بسقيه، فإن كان البياض مستقلًا عن الشجر يمكن سقي النخل دون الحاجة إلى سقيه لم تصح المزارعة عليه مطلقاً، سواء كان البياض قليلاً أم كثيرًا، وسواء أفرده بالعقد، أو جعله تابعًا للمساقاة. وهذا مذهب الشافعية (¬2). ¬
دليل من قال: لا تجوز المزارعة ولا المساقاة
دليل من قال: لا تجوز المزارعة ولا المساقاة: الدليل الأول: (ح -913) ما رواه مسلم من طريق يعلي بن حكيم، عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج قال: كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنكريها بالثلث، والربع، والطعام المسمى، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي، فقال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، نهانا أن نحاقل بالأرض، فنكريها على الثلث، والربع، والطعام المسمى، وأمر رب الأرض أن يزرعها، أو يزرعها وكره كراءها وما سوى ذلك (¬1). الجواب على هذا الدليل: سبق الجواب عنه بالتفصيل في أحكام المساقاة فانظره هناك. الدليل الثاني للحنفية: (ح -914) ما رواه مسلم في صحيحه من طريق ابن وهب أخبرني عمرو، وهو ابن الحارث، أن بكيرًا حدثه، أن عبد الله بن أبي سلمة حدثه، عن النعمان ابن أبي عياش عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كراء الأرض. ¬
وجه الاستدلال
قال بكير وحدثني نافع، أنه سمع ابن عمر يقول: كنا نكري أرضنا ثم تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خديج (¬1). ورواه مسلم من طريق ابن جريج، أخبرني عطاء، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة، والمحاقلة، والمزابنة، وعن بيع الثمرة حتى تطعم، ولا تباع إلا بالدراهم والدنانير إلا العرايا. قال عطاء: فسر لنا جابر قال أما المخابرة فالأرض البيضاء يدفعها الرجل إلى الرجل فينفق فيها ثم يأخذ من الثمر ... الحديث. وجه الاستدلال: قال العيني: "المزارعة منسوخة بالنهي عن كراء الأرض بما يخرج منها، وهي إجارة مجهولة؛ لأنها قد لا تخرج الأرض شيئاً ... " (¬2). ويجاب: بأن الجواب عن حديث جابر هو نفس الجواب عن حديث رافع - رضي الله عنه -، ولذلك جاء فيه عن ابن عمر: كنا نكري أرضنا ثم تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خديج، فالنهي عن كراء الأرض محمول على ما جاء مفسرًا في بعض ألفاظ حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه -، وأما الاستدلال بحديث جابر - رضي الله عنه - على أن المزارعة منسوخة فهذا قول ضعيف. قال ابن القيم: "قد عمل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى مات، ثم خلفاؤه الراشدون من بعده حتى ماتوا، ثم أهلوهم من بعدهم ولم يبق بالمدينة أهل بيت حتى عملوا به، وعمل به أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعده، ومثل هذا يستحيل أن يكون منسوخًا ¬
الدليل الثالث
لاستمرار العمل به من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قبضه الله، وكذلك استمرار عمل الخلفاء الراشدين به، فنسخ هذا من أمحل المحال" (¬1). ولو قدر أن أحاديث المنع معارضة لأحاديث الجواز لكان النسخ أولى بأحاديث المنع؛ لأنه لا بد من الذهاب إلى القول بنسخ أحد الخبرين، ويستحيل نسخ أحاديث الجواز لاستمرار العمل بها من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن توفي، وعمل بها أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - من بعده. الدليل الثالث: أن المزارعة استئجار للأرض بأجرة مجهولة معدومة، فلا نعلم هل ينبت الزرع أو لا ينبت، وإذا نبت لا نعلم مقداره، هل هو كثير، أو يسير، وكل هذا ينطوي على غرر، وقد نهى الشارع عن الغرر. وأجيب: كل معنى يوجب رد المزارعة فهو موجود في المضاربة (القراض)، فإذا أجزتم القراض لزمكم القول بجواز المزارعة، فإن نصيب العامل في مال القراض معدوم وقت العقد، ومجهول المقدار، وقد يوجد، وقد لا يوجد فيذهب عمله بلا مقابل، ولم يمنع ذلك من القول بجواز المقارضة، والمزارعة مثله أو أولى، والله أعلم. دليل من قال: بجواز المساقاة والمزارعة: الدليل الأول: (ح -915) ما رواه البخاري ومسلم من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ¬
الدليل الثاني
عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع (¬1). ورواه البخاري من طريق جويرية، عن نافع به، بلفظ: أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر اليهود أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها. فقوله: (أن يعملوها) يراد به المساقاة، حيث يطلق أهل المدينة على المساقة المعاملة. وقوله: (ويزرعوها) يراد به المزارعة، فالحديث جمع بين عقدي المساقاة والمزارعة. وقد اعترض الحنفية على هذا الدليل وأجبنا على الاعتراض عند الكلام على أحكام المساقاة فارجع إليه إن شئت. الدليل الثاني: قال البخاري في صحيحه: باب المزارعة بالشطر ونحوه. (ث -167) وقال قيس بن مسلم، عن أبي جعفر، قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع (¬2). ¬
وزارع علي (¬1) وسعد بن مالك، وعبد الله بن مسعود (¬2)، وعمر ابن عبد العزيز (¬3)، والقاسم (¬4)،. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وعروة (¬1)، وآل أبي بكر، وآل عمر، وآل علي (¬2)، وابن سيرين (¬3)، وقال عبد الرحمن بن الأسود: كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع (¬4)، وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا (¬5) ... (¬6). أراد البخاري رحمه الله من الراد هذه الآثار المعلقة عن الصحابة بيان أن الصحابة لم يختلفوا في جواز المزارعة، وهي آثار علقها جازمًا بها، فتكون صالحة للحجة. ¬
دليل من قال: تجوز تبعا بشرط أن يكون البياض بمقدار الثلث
دليل من قال: تجوز تبعًا بشرط أن يكون البياض بمقدار الثلث: استدلوا بأدلة أبي حنيفة في منع المزارعة، إلا أنهم استثنوا إذا كانت المزارعة تبعًا للشجر، وكان البياض بمقدار الثلث للقاعدة الفقهية التي تقول: يجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالًا. وأن اليسير معفو عنه، وحد اليسير عندهم بالثلث لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الثلث والثلث كثير". (ح -916) فقد روى البخاري من طريق عامر بن سعد عن سعد، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعودني، وأنا مريض بمكة، فقلت: لي مال، أوصي بمالي كله؟ قال: لا. قلت: فالشطر؟ قال: لا. قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ... الحديث، والحديث رواه مسلم (¬1). وإذا كانت أدلة المنع لم تسلم لهم، وقد أجيب عنها لم نكن بحاجة إلى تقييد الجواز بالتبع واليسير، مع أن مذهب المالكية في تحديد القليل من الكثير بالثلث مذهب مدخول، فاليسير في كل شيء بحسبه، والعرف هو المرجع فيما لم يرد في تحديده توقيف، والله أعلم. دليل الشافعية على جواز المزارعة إذا كان لا يمكنه سقي الشجر إلا به. أخذوا بأحاديث النهي عن المزارعة كما في حديث رافع بن خديج، وحديث جابر، وقد سبق ذكرها والجواب عنها. ¬
ويجاب
(ح -917) كما أخذوا بما رواه مسلم في صحيحه من طريق عبد الله بن السائب، قال: سألت عبد الله بن معقل عن المزارعة، فقال: أخبرني ثابت بن الضحاك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزارعة (¬1). (ح -918) وجاءت السنة بجواز المزارعة إذا كانت تبعًا بما رواه مسلم من طريق أسامة بن زيد الليثي، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: لما افتتحت خيبر سألت يهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرهم فيها على أن يعملوا على نصف ما خرج منها من الثمر والزرع (¬2). فإذا كانت الأرض لا يمكن سقي النخيل إلا بسقيها، صحت للضرورة؛ ولأننا لو قلنا: لا تجوز المزارعة عليها للزم على العامل عمل لا يستحق به عوضًا. ويجاب: بأن رواية عبيد الله بن عمر وغيره عن نافع بلفظ: بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. فالنص هذا على التخيير، وهو نص على جواز المزارعة والمساقاة على سبيل الانفراد. ¬
الفصل الثالث في توصيف عقدي المساقاة والمزارعة
الفصل الثالث في توصيف عقدي المساقاة والمزارعة المبحث الأول في توصيف عقد المساقاة المساقاة عقد على المال بجزء من نمائه أشبه المضاربة. [م - 1426] اختلف الفقهاء في عقد المساقاة، هل هو من العقود اللازمة، أو من العقود الجائزة على قولين: القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية وبعض الحنابلة إلى أن المساقاة عقد لازم من الطرفين ليس لأحدهما فسخه إلا برضى صاحبه كالبيع (¬1). "لأنه عقد معاوضة، فكان لازمًا كالإجارة، ولأنه لو كان جائزاً جاز لرب المال فسخه إذا أدركت الثمرة، فيسقط حق العامل فيستضر" (¬2). ¬
القول الثاني
فلو هرب العامل قبل تمام العمل: استأجر الحاكم عليه من يتم العمل، فإن لم يقدر على مراجعة الحاكم فليشهد المالك على الإنفاق إن أراد الرجوع، وإن أتمه المالك متبرعًا بقي استحقاق العامل في الثمرة تامًا (¬1). القول الثاني: أن المساقاة عقد جائز، وهو المشهور من مذهب الحنابلة. فإن فسخ أحدهما قبل ظهور الثمرة وبعد العمل: فإن كان الفسخ من رب المال فعليه للعامل أجرة عمله؛ لأن رب المال هو الذي منعه من إتمام العمل، وفارق ذلك فسخ المالك لعقد المضاربة قبل ظهور الربح؛ لأن السقي هنا مفض إلى ظهور الثمر غالباً بخلاف المضاربة فإنه لا يعلم إفضاؤها إلى الربح. وإن كان الفسخ من العامل فلا شيء له؛ لإسقاطه حقه برضاه، وقياسًا على عامل المضاربة إذا فسخ العقد قبل ظهور الربح. وإن كان الفسخ بعد ظهور الثمرة فالثمرة بينهما، ويلزم العامل بإتمام العمل (¬2). واستدل الحنابلة على مذهبهم بالآتي: الدليل الأول: (ح -919) ما رواه البخاري من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه - ... لما ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خيبر أراد أن يخرج اليهود منها، وكانت الأرض لما ظهر عليها لليهود وللرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين، فسأل اليهود ¬
وجه الاستدلال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتركهم على أن يكفوا العمل، ولهم نصف الثمر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نقركم على ذلك ما شئنا، فأقروا حتى أجلاهم عمر - رضي الله عنه - في إمارته إلى تيماء وأريحا (¬1). وجه الاستدلال: قال ابن قدامة: "لو كان -يعني العقد- لازمًا لم يجز بغير مدة، ولا أن يجعل الخيرة إليه في مدة إقرارهم، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل عنه أنه قدر لهم ذلك بمدة، ولو قدر لم يترك نقله؛ لأن هذا مما يحتاج إليه، فلا يجوز الإخلال بنقله، وعمر - رضي الله عنه - أجلاهم من الأرض، وأخرجهم من خيبر، ولو كانت لهم مدة مقدرة لم يجز إخراجهم منها" (¬2). الدليل الثاني: أن المساقاة عقد على المال بجزء من نمائه أشبه المضاربة، وفارق الإجارة؛ لأنها بيع، فكانت لازمة كبيع الأعيان، ولأن عوضها مقدر معلوم، فأشبهت البيع، وقياسهم ينتقض بالمضاربة، وهي أشبه بالمساقاة من الإجارة، فقياسها عليها أولى (¬3). الراجح: الذي أميل إليه أن عقد المساقاة من عقود المشاركات، لا من جنس المعاوضات، فالاشتراك حاصل في الثمرة بين رب الأشجار وبين الساقي (العامل)، فالأصول من أرض، وشجر ملك لرب الأرض مختصان به، والسقي ¬
يختص بالعامل، والمشاركة إنما هو على الثمرة، بحيث يقسم الثمر الحاصل بين المالك والساقي. فليست المساقاة من عقود البيع؛ لأن البيع عبارة عن تمليك العين، والعين ملك لصاحبها، وليست من عقود الإجارة؛ لأن العوض الذي هو الثمرة مجهول، وقد يوجد، وقد لا يوجد، بينما العوض في الإجارة يجب أن يكون معلومًا، فعقد المساقاة فيها شبه بالمضاربة، والمضاربة من العقود الجائزة فكذلك المساقاة، إلا أن العقد الجائز متى تضمن فسخه ضررًا على أحد العاقدين تحول إلى اللزوم دفعًا للضرر، والله أعلم.
المبحث الثاني في توصيف عقد المزارعة
المبحث الثاني في توصيف عقد المزارعة المزارعة عقد على المال بجزء من نمائه أشبه المضاربة. [م - 1427] اختلف العلماء في عقد المزارعة، هل هو عقد لازم، أو جائز على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن عقد المزارعة لازم في جانب من لا بذر له، فلا يملك فسخها إلا برضا الآخر أو عذر يسوغ له الفسخ، وغير لازم ممن عليه البذر، فيملك فسخها بعذر وبدون عذر، فإذا ألقي البذر في الأرض أصبح لازمًا من الجانبين (¬1). وجه التفريق بين صاحب البذر وغيره: قالوا: إلزام العقد صاحب البذر قبل إلقاء البذر في الأرض إضرار به؛ لأن في إلزامه ذلك إتلافًا للبذر، وقد يحصل الخارج، وقد لا يحصل، وإلزامه بإتلاف ملكه لا يجوز، بخلاف صاحبه الذي ليس عليه البذر فانه لا يلحقه بالوفاء بالعقد ضرر، فيكون العقد لازمًا في حقه بمنزلة الإجارة (¬2). القول الثاني: مذهب المالكية. اختلف أصحاب الإِمام مالك في عقد المزارعة على ثلاثة أقوال: ¬
القول الثالث: مذهب الحنابلة.
فذهب ابن القاسم إلى أن عقد المزارعة عقد لازم بعد إلقاء البذر وإن لم يتقدمه عمل، ولا تلزم بالعقد، ولا بالعمل قبل البذر، ولوكثر كحرث، وتسوية أرض، وإجراء ماء ونحوه، وهو المشهور من المذهب (¬1). وذهب ابن الماجشون، وسحنون، وابن كنانة، واختاره بعض الحنابلة إلى أن عقد المزارعة عقد لازم بمجرد العقد كالإجارة (¬2). وقيل: لا تلزم المزارعة إلا بالعمل، كالشركة، وبه جرت الفتيا بالأندلس (¬3). القول الثالث: مذهب الحنابلة. قال ابن قدامة: "ظاهر كلام أحمد أن المساقاة والمزارعة من العقود الجائزة" (¬4). وقد ذكرنا دليلهم في الفصل السابق فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والحمد لله. والراجح: أن عقد المزارعة كسائر عقود المشاركات عقد جائز، ولو كانت لازمة لاشترط لها ما يشترط للإجارة، من بيان المدة، وكون الأجرة معلومة، ولو كانت المزارعة والمساقاة ملحقة بالإجارة لمنعت؛ لأن كلاً منهما عقد على عمل بأجرة معدومة، ومجهولة المقدار، لهذا كانت هذه العقود من جنس عقود المشاركات، وليست من جنس عقود المعاوضات، قال مالك: "المساقاة أصل ¬
في نفسها كالقراض، لا يقاس عليها شيء من الإجارات" (¬1)، إلا أن العقد الجائز متى تضمن فسخه ضررًا على أحد العاقدين تحول إلى اللزوم، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث فيما تلزم به المساقاة
المبحث الثالث فيما تلزم به المساقاة قال مالك: "المساقاة أصل في نفسها كالقراض، لا يقاس عليها شيء من الإجارات" (¬1). [م - 1428] اختلف القائلون بأن المساقاة عقد لازم فيما تلزم به المساقاة؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب أكثر الفقهاء القائلون بأن عقد المساقاة من العقود اللازمة، أن المساقاة تلزم بالعقد، وإن لم يشرع في العمل كسائر العقود اللازمة. القول الثاني: تلزم المساقاة بالشروع في العمل، وهو قول في مذهب المالكية. القول الثالث: تلزم بالحوز، وهو قول آخر في مذهب المالكية. جاء في البهجة في شرح التحفة: "المساقاة على القول المختار، وهو مذهب المدونة والأكثر لازمة بالعقد، وإن لم يشرع في العمل. وقيل: إنما تلزم بالشروع. وقيل: بالحوز" (¬2). وقال الحطاب: "المساقاة تلزم بالعقد وإن لم يعمل ... " (¬3). ¬
الراجح
"قال ابن عرفة وفيما يلزم به أربعة أقوال: الأول: العقد، وهو نقل الأكثر عن المذهب ومذهب المدونة. والثاني: الشروع، وهو قول أشهب والمتيطي والصقلي. والثالث: حوز المساقى فيه، وهو ما حكاه الباجي عن بعض القرويين من أنه لو مات قبل الحوز بطلت المساقاة، وليس كالعقود اللازمة، وإن لم تقبض ... والرابع: أولها لازم وآخرها كالجعل إذا عجز، وترك قبل تمامها فلا شيء له، وهو قول سحنون، كما حكاه عنه اللخمي لكن هذا حكم العجز على القول الأول لا قول غير الأول، وإن كان هو مقتضى كلام اللخمي" (¬1). وفرق المالكية بين المضاربة وبين المساقاة، فالمضاربة عندهم لا تلزم إلا بالشروع في العمل بخلاف المساقاة على المشهور. جاء في حاشية الصاوي: "فليس لأحدهما فسخها -أي المساقاة- بعد العقد: أي قبل العمل، فليست كالقراض، بل كالإجارة" (¬2). وجاء في المنتقى للباجي: "إذا انعقدت المساقاة فليس لأحدهما رجوع، وإن لم يعمل كالإجارة، بخلاف القراض" (¬3). الراجح: أن عقد المساقاة من العقود الجائزة، وليست من العقود اللازمة، وهي أشبه ¬
بعقد المضاربة منها بعقد الإجارة، قال مالك: "المساقاة أصل في نفسها كالقراض، لا يقاس عليها شيء من الإجارات" (¬1)، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في ثبوت الخيار في عقدي المساقاة والمزارعة
الفصل الثالث في ثبوت الخيار في عقدي المساقاة والمزارعة الخيار يثبت في العقود اللازمة دون الجائزة (¬1). العقد الجائز صاحبه بالخيار أبدًا (¬2). [م - 1429] لم يقل بثبوت خيار المجلس في العقود إلا الشافعية والحنابلة، فلا يمكن بحث المسألة عند الحنفية والمالكية؛ لأنهم لا يقولون بخيار المجلس مطلقاً. وأما الحنابلة فإنهم وإن كانوا يقولون بثبوت خيار المجلس إلا أنهم ذهبوا إلى أن عقد المساقاة من العقود الجائزة، وخيار المجلس إنما يدخل العقود اللازمة لأن العقد الجائز يتمكن العاقد فيه من فسخه بأصل وضعه فلا حاجة فيه إلى خيار المجلس. فعلى هذا سيكون بحث المسألة محصورًا في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة يرى أن عقد المساقاة من العقود اللازمة. قال الشيرازي: "ولا يثبت فيه خيار الشرط؛ لأنه إذا فسخ لم يمكن رد المعقود عليه، وفي خيار المجلس وجهان: أحدهما: يثبت فيه؛ لأنه عقد لازم يقصد به المال، فيثبت فيه خيار المجلس كالبيع. ¬
والثاني: لا يثبت؛ لأنه عقد لا يعتبر فيه قبض العوض في المجلس، فلو ثبت فيه خيار المجلس لثبت فيه خيار الشرط كالبيع" (¬1). وقال ابن قدامة: "الضرب الخامس: وهو متردد بين الجواز واللزوم كالمساقاة والمزارعة، والظاهر أنهما جائزان فلا يدخلهما خيار، وقد قيل: هما لازمان ففي ثبوت الخيار فيهما وجهان" (¬2). وقال أيضًا: "ولا يثبت في المساقاة خيار الشرط؛ لأنها إن كانت جائزة، فالجائز مستغن بنفسه عن الخيار فيه، وإن كانت لازمة لم يمكن رد المعقود عليه، وهو العمل فيها. وأما خيار المجلس فلا يثبت إن كانت جائزة لما تقدم، وإن كانت لازمة فعلى وجهين: أحدهما: لا يثبت؛ لأنها عقد لا يشترط فيه قبض العوض، ولا يثبت فيه خيار الشرط، فلا يثبت فيه خيار المجلس كالنكاح. والثاني: يثبت؛ لأنها عقد لازم يقصد به المال، أشبه البيع" (¬3). والصحيح أن خيار المجلس لا يدخل عقد المساقاة والمزارعة؛ لأنهما عقدان جائزان، فيستغنى بجوازهما عن الحاجة إلى ثبوت الخيار فيهما، لكن لو ¬
كان الراجح فيهما اللزوم لكان القول بثبوت خيار المجلس فيهما هو مقتضى القواعد؛ لأن الحكمة التي من أجلها شرع خيار المجلس، وهو التروي والنظر بعد العقد مدة المجلس موجود فيهما.
الفصل الرابع في محل المساقاة
الفصل الرابع في محل المساقاة المبحث الأول فيما تجوز فيه المساقاة قال ابن قدامة: العين التي تنمى بالعمل يصح العقد عليها ببعض نمائها (¬1). [م - 1430] اختلف العلماء القائلون بجواز المساقاة على ما تجوز فيه إلى ثلاثة أقوال: القول الأولى: تجوز المساقاة في كل أصل له ثمر، من نخل، أو كرم، أو زيتون، أو تين، أو رمان، ونحوها من الأصول. وهذا قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن، ومذهب الحنابلة، والقول القديم للشافعي، واختيار ابن حزم. قال في المحلى: وبهذا يقول جمهور الناس (¬2). قال ابن قدامة: "المساقاة جائزة في جميع الشجر المثمر، هذا قول الخلفاء ¬
دليل الجمهور على جواز المساقاة على جميع الأشجار المثمرة
الراشدين - رضي الله عنهم -، وبه قال سعيد بن المسيب، وسالم، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وأبو يوسف، ومحمد، وإسحاق، وأبو ثور" (¬1). دليل الجمهور على جواز المساقاة على جميع الأشجار المثمرة: الدليل الأول: ما رواه الشيخان من طريق عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع (¬2). قوله: (من ثمر) عام في كل ثمر، فتقييده بالنخل، أو به وبالعنب تخصيص أو تقييد بلا مقيد ولا مخصص. الدليل الثاني: من المؤكد أن خيبر فيها شجر سوى النخل والكرم، ولم يرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أفردها عن حكم النخل. القول الثاني: ما كان له أصل ثابت جازت المساقاة فيه مطلقا، سواء أعجز عنه صاحبه أم لم يعجز، كالنخل والرمان والتين. وأما ما كانت أصوله غير ثابتة كالمقاثئ والبطيخ ونحوها فلا تجوز المساقاة فيه إلا بشروط، منها: أن تنبت وتستقل، وأن يعجز عنها صاحبها، وأن يخاف هلاكها، وألا يبدو صلاحها، وأن يكون مما لا يخلف بعد قطعه. ولا تجوز في شيء من البقول مطلقًا؛ لأن بيعها يحل إذا نبتت واستقلت. ¬
دليل المالكية على أن الأصول الثابتة لا يجيز المساقاة فيها إلا بشروط
وهذا مذهب المالكية (¬1). دليل المالكية على أن الأصول الثابتة لا يجيز المساقاة فيها إلا بشروط: أما الأشجار التي لها أصول ثابتة فأدلة المالكية هي أدلة الجمهور على جواز المساقة عليها مطلقًا عجز عنها صاحبها أو لم يعجز. وأما دليل المالكية على أشتراط الضرورة فيما كانت أصوله غير ثابتة، فقد رأى مالك أن السنة إنما وردت في الثمار، فجعل مالك الزرع وما معه أخفض رتبة من الثمار فلم يجزه إلا عند شدة الضرورة، وهو أن يعجز عن القيام به، وأن يخاف عليه الهلاك بأن يكون له مؤونة لو تركت لمات. وأما الدليل على اشتراط أن ينبت ويستقل ويبرز من الأرض؛ فلأنه إذا نبت وبرز من الأرض أصبح مشابهًا للشجر. وأما اشتراط أن يكون ذلك قبل بدو صلاحه؛ لأنه إذا بدا صلاحه فقد جاز بيعه، فليس مضطرًا للمساقاة (¬2). ويناقش: بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، ولم ¬
القول الثالث
يشترط الحديث أن يكون الزرع تبعًا للأشجار، أو العكس، والأصل المساواة بينهما في الحكم كما ساوى بينهما الحديث، ومن فرق بينهما فقد فرق بغير حجة، وإذا جازت المساقاة على الزرع إذا عجز عنه صاحبه جازت المزارعة إذا عجز عنها صاحبها، والمزارعة عند الإِمام مالك لا تجوز مطلقًا عجز عنها صاحبها أو لم يعجز، وسيأتي بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى عند الكلام على حكم المزارعة، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. القول الثالث: تجوز في النخيل والعنب فقط، وهذا قول الشافعي في الجديد (¬1). حجة الشافعي في قصر المساقاة على النخل والعنب: لم يختلف أحد ممن قال بجواز المساقاة على جواز المساقاة في النخل، وأن خيبر كانت مشهورة بالنخيل، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث على أهل خيبر من يخرص عليهم حق المسلمين من التمر. قال الماوردي: "واختلف أصحابنا في جواز المساقاة في الكرم، هل قال به الشافعي - رضي الله عنه - نصًّا، أو قياسًا؟ فقال بعضهم: بل قال به نصًا، وهو ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ساقى في النخل والكرم (¬2). ¬
وقال آخرون: وهو الأشبه، أنه قال به قياسًا على النخل (¬1)، من وجهين ذكرهما: أحدهما: اشتراكهما في وجوب الزكاة فيهما. والثاني: بروز ثمرهما، وإمكان خرصهما" (¬2). قال الشافعي في الأم: "والمساقاة جائزة في النخل والكرم؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ فيهما بالخرص، وساقى على النخل، وثمرها مجتمع لا حائل دونه، وليس هكذا شيء من الثمر كله دون حائل، وهو متفرق غير مجتمع" (¬3). فهذا النص من الشافعي جلي بأنه ألحق الكرم يالنخل ليس لوجود نص في ذلك، وإنما عمدته في ذلك أمران: الأول: أن المساقاة عنده لا تجوز إلا فيما يجوز فيه الخرص، والخرص لا يجوز إلا فيما وردت فيه السنة فأخرجته عن المزابنة، كما أخرجت العرايا منها، وذلك النخل والعنب خاصة (¬4). ¬
الوجه الأول
الثاني: أن ثمارهما ليس دونه حائل، وأما ثمر غيرهما فإنه متفرق بين أضعاف ورق شجره، ولا يحاط بالنظر إليه. ويناقش قول الشافعي من وجوه: الوجه الأول: (ح -925) قول الشافعي رحمه الله مخالف لما ثبت في الصحيحين من طريق عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم - (من ثمر) عام في كل ثمر، وتخصيصه بالنخل، أو به وبالكرم تقييد للمطلق بلا دليل، وقول الشافعي رحمه الله أن الزرع جاز تبعًا للنخل ليس عليه دليل، لأن الحديث قال: (من ثمر أو زرع) ولم يقل: من ثمر وزرع بواو الجمع. قال السبكي الشافعي: "لم يرد في حديث من الأحاديث أن ذلك إنما جاز لأجل التبعية، والأصل إن ما جاز في الشيء يجوز فيه من حيث هو من غير شرط انضمام إلى غيره، فلا تثبت هذه الشرطية إلا بدليل" (¬2). الوجه الثاني: أن الحاجة التي دعت إلى جواز المساقاة في النخل والكرم موجودة في سائر الأشجار المثمرة. الوجه الثالث: أن وجوب الزكاة ليس هو العلة المجوزة للمساقاة، ولا أثر له في الحكم، ¬
الوجه الرابع
ولم ينص الشارع بأن وجوب الزكاة هو العلة، ولا يسوغ تخصيص النص بعلة مستنبطة، وإنما العلة هي قيام الحاجة إلى هذه المعاملة، وهي موجودة في الشجر كما هي موجودة في النخل والكرم. قال السبكي، وهو من الشافعية: "وقد جوز الشافعي - رضي الله عنه - المساقاة في الكرم، ولم يقل أحد من رواة الحديث: إن خيبر كان بها كرم، وإن كان بعض الأصحاب أنه قاله نصًا، والصحيح أنه قياس، وقد أتقنت ذلك في شرح المنهاج، والكرم لا يساوي النخل في جميع وجوهه، ولكن في بعضها وفي وجوب الزكاة، فكما جاز قياس الكرم على النخل في المساقاة، يمكن أن يجوز قياس المزارعة على المساقاة لو لم يرد فيها، فكيف وقد ورد فيما كان في خيبر من زرع" (¬1). الوجه الرابع: قال ابن قدامة: "قد جاء في لفظ بعض الأخبار، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من النخل والشجر" (¬2). والشجر: اسم لكل شجرة مثمرة. (ح -921) وهذا اللفظ قد أخرجه الدارقطني من طريق يوسف بن موسى القطان، أخبرنا ابن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من النخل والشجر. قال ابن صاعد: وهم -يعني يوسف بن موسى القطان- في ذكر الشجر، ولم يقله غيره (¬3). ¬
الوجه الخامس
الوجه الخامس: أن التعليل بأن ثمرة النخل والكرم ظاهرة لا حائل دونها يمنع من الإحاطة بها ليس بصحيح؛ لأن الكمثرى والتين، وحب الملوك، وعيون البقر، والرمان، والأترج، والسفرجل، وما كان مثل ذلك كله يحاط بالنظر إليه كما يحاط بالنظر إلى النخل والعنب. قاله ابن عبد البر (¬1). ¬
القول الرابع
القول الرابع: لا يجوز إلا في النخل. وهو قول داود (¬1). حجة داود الظاهري في قصر المساقاة على النخل: أن النص ورد في النخل خاصة، فيختص الجواز بما ورد فيه النص. ويجاب عنه: بأن النص لم يرد في النخل خاصة، بل ورد في غير النخل. (ح -922) فقد روى البخاري ومسلم من طريق عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع (¬2). فنص الحديث على الثمر والزرع، ولو كان النص واردًا في النخل خاصة لكان مقتضى القياس إلحاق غيره به؛ لأن المعنى المعتبر هو في صحة المعاملة، فإذا صحت المعاملة في النخل لم يكن هناك فرق بين النخل وبين سائر الأشجار بماله ثمر. القول الخامس: وقال أبو ثور: لا بأس بالمعاملة في كل أصل قائم، له ثمر أو لا ثمر له (¬3). وجه قول من قال: تجوز في كل أصل، ولو لم يكن له ثمر: يمكن أن يستدل له بأن الشجر قد تكون منفعته في غير الثمر، كما لو كان ¬
الراجح
الشجر مما يقصد لورقه، أو زهره، كالتوت والورد، قال ابن قدامة: "القياس يقتضي جواز المساقاة عليه؛ لأنه في معنى الثمرة لأنه نماء يتكرر كل عام، ويمكن أخذه والمساقاة عليه بجزء منه، فيثبت له مثل حكمه" (¬1). الراجح: جواز المساقاة بكل شجر له منفعة، سواء أكانت المنفعة ثمرًا أم كانت ورقًا، وسواء أكان له ساق أم لا ساق له؛ لأن حقيقة المساقاة والمزارعة عمل على المال ببعض نمائه، وهذا النماء قد يكون ثمرًا، وقد يكون غيره، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في المساقاة على أشجار البعل
المبحث الثاني في المساقاة على أشجار البعل [م - 1431] هل يشترط لصحة المساقاة أن تكون الأشجار بحاجة إلى سقيا، أو تجوز المساقاة على أشجار البعل، وهي الذي يشرب بعروقه. ذهب المالكية والحنابلة إلى جواز المساقاة على البعل. جاء في كشاف القناع: "وتصح المساقاة على البعل الذي يشرب بعروقه" (¬1). وأجاز المالكية المساقاة على شجر البعل إذا احتاج إلى العمل. وأما المساقاة على زرع البعل فيجوز عند المالكية بشرط أن يعجز عنه، ويخاف عليه الهلاك، فإن لم يبق إلا حفظه، وحصاده، وتصفيته لم تجز مساقاته. قال الحطاب: "قال في التوضيح: قال مالك في المدونة وغيرها: تجوز المساقاة على شجر البعل، وكذلك ما يشرب بالسيح؛ لأنه قد يعجز عن الدواب، والأجراء. قيل لمالك: فزرع البعل كزرع إفريقية ومصر، وهو لا يسقى؟ قال: إن احتاج من المؤنة إلى ما يحتاج إليه شجر البعل، ويخاف هلاكه إن ترك جازت مساقاته، وإن كان لا مؤنة فيه إلا حفظه وحصاده ودراسته لم تجز، وتصير إجارة فاسدة، وليس زرع البعل كشجر البعل، وإنما تجوز مساقاة زرعه على الضرورة والخوف عليه انتهى. ¬
الراجح
قلت -القائل الحطاب- وقوله: قيل فزرع البعل الخ هو من كلامه في المدونة، قال ابن ناجي: معناه لا يشترط في شجر البعل خوف الهلاك كما يشترط في زرعه، بل مجرد الحاجة انتهى. والله أعلم" (¬1). الراجح: الراجح القول بالجواز مطلقًا من غير فرق بين شجر البعل وزرعه، وإن لم يكن العقد مساقاة فهو إجارة، ولا مانع من الإجارة على حفظ الزرع وحصاده بجزء منه، وسبق بحث هذه المسألة في كتاب الإجارة، فلله الحمد وحده. ¬
المبحث الثالث في المساقاة على الودي وصغار الشجر
المبحث الثالث في المساقاة على الودي وصغار الشجر الودي: هو صغار النخل، ويسمى الفسيل. [م - 1432] وقد اختلف العلماء في المساقاة على الودي وصغار الشجر على قولين: القول الأول: تصح المساقاة على الودي وصغار الشجر إن ساقاه إلى مدة يحمل فيها غالبًا وهو مذهب الحنفية، والشافعية والحنابلة. جاء في المبسوط: "ولو دفع إلى رجل غراس شجر، أو كرم، أو نخل قد علق في الأرض، ولم يبلغ الثمر، على أن يقوم عليه، ويسقيه، ويلقح نخله، فما خرج من ذلك فهو بينهما نصفان - فهذه معاملة فاسدة إلا أن يسمي سنين معلومة؛ لأنه لا يدري في كم تحمل النخل، والشجر، والكرم، والأشجار تتفاوت في ذلك بتفاوت مواضعها من الأرض بالقوة والضعف، فإن بينا مدة معلومة صار مقدار المعقود عليه من عمل العامل معلومًا فيجوز، وإن لم يبينا ذلك لا يجوز" (¬1). وجاء في نهاية المحتاج: "ولو كان الودي مغروسًا، وساقاه عليه، وشرط له جزءًا من الثمر على العمل، فإن قدر له في عقدها عليه مدة يثمر الودي فيها غالبًا كخمس سنين صح العقد، وإن كان أكثرها لا ثمرة فيه؛ لأنها حينئذ بمنزلة الشهور من السنة الواحدة، فإن لم تثمر فلا شيء له" (¬2). ¬
ففيه ثلاثة أقسام
وقال ابن قدامة: "وإذا ساقاه على ودي النخل، أو صغار الشجر، إلى مدة يحمل فيها غالبًا، ويكون له فيها جزء من الثمرة معلوم، صح؛ لأنه ليس فيه أكثر من أن عمل العامل يكثر، ونصيبه يقل، وهذا لا يمنع صحتها، كما لو جعل له سهمًا من ألف سهم. وفيه الأقسام التي ذكرنا في كبار النخل والشجر، وهي أننا إن قلنا: المساقاة عقد جائز لم نحتج إلى ذكر مدة. وإن قلنا: هو لازم. ففيه ثلاثة أقسام: أحدها: أن يجعل المدة زمنا يحمل فيه غالبًا، فيصح، فإن حمل فيها فله ما شرط له، وإن لم يحمل فيها فلا شيء له. والثاني: أن يجعلها إلى زمن لا يحمل فيه غالبًا، فلا يصح، وإن عمل فيها فهل يستحق الأجر؟ على وجهين، وإن حمل في المدة، لم يستحق ما جعل له؛ لأن العقد وقع فاسدًا فلم يستحق ما شرط فيه. والثالث: أن يجعل المدة زمنا يحتمل أن يحمل فيها، ويحتمل أن لا يحمل، فهل يصح؟ على وجهين: فإن قلنا: لا يصح استحق الأجر. وإن قلنا: يصح، فحمل في المدة استحق ما شرط له، وإن لم يحمل فيها لم يستحق شيئًا" (¬1). القول الثاني: لا تصح المساقاة على الودي وصغار الشجر مطلقًا، وهو قول في ¬
القول الثالث
مذهب المالكية (¬1). جاء في المدونة: "قلت: أرأيت النخل التي لم تبلغ، أو الشجر آخذها مساقاة عشر سنين، أيجوز ذلك أم لا؟ قال: لا يجوز ذلك عندي. قلت: لم؟ قال؛ لأنه غرر. قلت: أرأيت النخل التي لم تبلغ، أو الشجر آخذهما مساقاة خمس سنين، وهي تبلغ إلى سنتين، أتجوز هذه المساقاة في قول مالك؟ قال: لا يجوز ذلك" (¬2). القول الثالث: تصح المساقاة إن كان صغار الشجر تبعًا لشجر يثمر في عامه، وكان قليلاً، اختاره بعض المالكية (¬3)، وقد يكون هذا القول هو عين القول الذي قبله؛ لأن القول السابق يحمل على الودي المعقود عليه أصالة، فهذا لا يجوز، ويحمل هذا القول على المعقود عليه تبعًا فهذا جائز. جاء في الشرح الصغير: " (وكون الشجر) أي المساقى عليه (ذا ثمر): أي ويثمر في عام المساقاة، لا إن كان لا ثمر له كالأثل، أو لم يبلغ حد الإثمار كالودي، فلا تصح المساقاة عليه إلا تبعًا" (¬4). وقال الحطاب: "فإن كان في الحائط ودي لم يبلغ حد الإطعام إلا أنه قليل، فهل تجوز المساقاة في الحائط جميعه، ويكون تبعًا؟ الذي يفهم من كلام الباجي في المنتقى الجواز" (¬5). ¬
والراجح
والراجح: القول بالجواز مطلقاً بشرط أن يكون ذلك في مدة يثمر فيها غالباً، والله أعلم.
الفصل الخامس في صور المزارعة الجائزة والممنوعة
الفصل الخامس في صور المزارعة الجائزة والممنوعة [م - 1433] اختلف الفقهاء في صور المزارعة الجائزة والفاسدة: القول الأول: مذهب الحنفية. ذكر الحنفية ثلاث صور جائزة، وثلاث صور فاسدة، ومدار التقسيم على أن المزارعة عندهم تنعقد إجارة، وتتم شركة، وانعقادها إجارة إنما هو على منفعة الأرض، أو منفعة العامل دون غيرهما من منفعة البقر والبذر، فما صح توصيفه على أنه من قبيل إجارة الأرض صح، وما صح توصيفه على أنه من قبيل استئجار العامل صح كذلك دون ما عداهما. فالصور الجائزة عندهم: الصورة الأولى: أن تكون الأرض والبذر لواحد، والعمل والبقر وآلات العمل من الآخر. فهذه جائزة، وتوصيفها: أن صاحب الأرض استأجره ليعمل بآلات نفسه، كما إذا استأجر خياطًا ليخيط بإبرة نفسه، أو صباغًا ليصبغ الثوب بصبغ من عنده. الصورة الثانية: أن تكون الأرض من أحدهما، والباقي من الآخر. وهذه الصورة جائزة أيضاً؛ لأن العامل، وهو صاحب البذر مستأجر للأرض ببعض الخارج.
الصورة الثالثة
الصورة الثالثة: أن تكون الأرض والبذر، وآلات العمل من أحدهما، والعمل من الآخر. وهذه الصورة جائزة؛ لأن صاحب الأرض استأجر العامل ببعض الخارج. الصورة الرابعة: أن يكون البذر من قبل العامل، والبقر من قبل الأرض، فهذه الصورة فاسدة عند الحنفية؛ لأن صاحب البذر قد استأجر الأرض، واشتراط البقر على صاحب الأرض مفسد للإجارة؛ لأن البقر لا يمكن أن يجعل تبعًا للأرض؛ لأن منفعة البقر ليست من جنس منفعة الأرض؛ لأن منفعتها الإنبات، ومنفعة البقر الشق، وبينهما اختلاف، وشرط التبعية الاتحاد، فصار شرطًا مفسدًا بخلاف ما إذا كان البقر من العامل حيث يجوز؛ لأن البقر أمكن جعله تبعًا لاتحاد منفعتهما؛ لأن منفعة البقر صلاحية يقام بها العمل كإبرة الخياط. وعن أبي يوسف تجوز هذه الصورة للتعامل، والقياس يترك به (¬1). الصورة الخامسة: أن يكون البذر لواحد، والباقي لآخر: وهو العمل والبقر، والأرض. وهذه الصورة فاسدة أيضًا عند الحنفية؛ لأن العامل أجير، فلا يمكن أن تجعل الأرض تبعًا له؛ لاختلاف منفعتهما، فصار نظير البقر والأرض من واحد، والباقي من الآخر. وعن أبي يوسف أنه يجوز للتعامل. ¬
الصورة السادسة
الصورة السادسة: أن يكون البذر والبقر لواحد، والباقي للآخر، وهو العمل والأرض. فهذه صورة فاسدة أيضًا؛ لما سبق في الصورة الخامسة أن الأرض لا يمكن جعلها تبعًا للعامل؛ لاختلاف المنافع. والحجة في جواز هذه الصور وفسادها: ذكر الحنفية مبنى جواز هذه المسائل وفسادها على أن المزارعة تنعقد إجارة وتتم شركة، وانعقادها إجارة إنما هو على منفعة الأرض، أو منفعة العامل دون غيرهما من منفعة البقر والبذر؛ لأنه استئجار ببعض الخارج. والقياس يقتضي أن لا تجوز في الأرض والعامل أيضاً، لكنا جوزناها بالنص على خلاف القياس، وإنما ورد النص فيهما دون البذر والبقر. أما في الأرض فأثر عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - وتعامل الناس فإنهم تعاملوا اشتراط البذر على المزارع وحينئذ كان مستأجرًا للأرض ببعض الخارج. وأما في العامل ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهل خيبر، فإنهم ربما كانوا يشترطون البذر على صاحب الأرض، فكان حينئذ مستأجرًا للعامل بذلك، فاقتصرنا على الجواز بالنص فيهما، وبقي غيرهما على أصل القياس، فكل ما كان من صور الجواز فهو من قبيل استئجار الأرض أو العامل ببعض الخارج، أو كان المشروط على أحدهما شيئين متجانسين، ولكن المنظور فيه هو استئجار الأرض، أو العامل بذلك لكونه مورد الأثر، وكل ما كان من صور المنع فهو من قبيل استئجار الآخرين، أو كان المشروط على أحدهما شيئين غير متجانسين، ولكن المنظور إليه ذلك: والضابط في معرفة التجانس ما فهم من كلامه وهو أن
القول الثاني
ما صدر فعله عن القوة الحيوانية فهو جنس، وما صدر عن غيرها فهو جنس آخر. . .الخ (¬1). القول الثاني: صور المزارعة الجائزة والفاسدة عند المالكية: مدار التقسيم عند المالكية مختلف عنه عند الحنفية، فالجواز والفساد عند المالكية ألا تكون الأرض في مقابل البذر؛ لأنهم يمنعون كراء الأرض في مقابل الطعام مطلقًا، سواء كان مما ينبت فيها كالقمح، أو لا ينبت فيها كالعسل، والسمن، واللحم، ولا يجوز إجارة الأرض بما تنبت سواء كان طعامًا كالقمح، أو غير طعام كالكتان. فإذا كان البذر في مقابل الأرض أدى إلى كراء الأرض بما ينبت فيها، سواء كان طعامًا كالقمح، أو غير طعام كالقطن، والكتان، فإذا سلمت المزارعة من جعل الأرض أو جزء منها في مقابل البذر صحت المزارعة، وبناء على هذا تم تقسيم المزارعة عندهم إلى صور جائزة، وأخرى فاسدة: فالصور الجائزة: الصورة الأولى: تساوي الشريكين في جميع ما أخرجاه، من عمل وبذر وآلة، ونفقة وأرض كأن تكون الأرض بينهما بكراء أو ملك. وهذه يصدق عليها أنها شركة عنان. الصورة الثانية: أن تكون الأرض بينهما بملك أو كراء، أو كانت مباحة، ومن أحدهما البذر، ومن الآخر العمل. ¬
الصورة الثالثة
الصورة الثالثة: أن تكون الأرض والبذر من أحدهما، ومن الآخر العمل بيد وبقر وآلة. الصورة الرابعة: أن تكون الأرض وبعض البذر من أحدهما، ومن الآخر العمل وبعض البذر، فهذه الصورة جائزة بشرط أن يأخذ العامل من الربح بقدر نسبة إسهامه في البذر أو أزيد حتى لا يقع جزء من البذر في مقابل الأرض. فلو أخرج أحدهما الأرض وثلث البذر، ومن الآخر العمل وثلثا البذر، فإن أخذ العامل من الربح بنسبة بذره، وهو الثلثان أو أزيد جاز لسلامة هذه الصورة من وقوع جزء من الأرض في مقابل البذر، وإن أخذ العامل ثلث الربح فقط، وقد أخرج من البذار مقدار الثلثين لم تصح لوقوع الجزء الزائد من البذر كراء للأرض، وهو ممنوع. الصورة الخامسة: أن يكون من أحدهما الجميع: الأرض والبذر، والبقر، ومن الآخر العمل فقط. وحاصل القول فيها: إن عقداها بلفظ الشركة جازت اتفاقًا. وإن عقداها بلفظ الإجارة لم تصح عند الجميع؛ لأنها إجارة بجزء مجهول. وإن أطلق العقد فحملها ابن القاسم على الإجارة فمنعها، وهو المشهور. وحمله سحنون على الشركة فأجازها. والمراد بالعمل: الحرث والسقي لا الحصاد والدراس؛ لأنه مجهول، فلا يجوز اشتراطه عند العقد. لأنه مجهول، فلا يدرى كيف يكون.
صور المزارعة الممنوعة عند المالكية
صور المزارعة الممنوعة عند المالكية: الصورة الأولى: أن تكون الأرض من أحدهما، والبذر من عند الآخر، فلا تجوز بالاتفاق عند المالكية إن كان للأرض قيمة ولها بال، وإن كانت الأرض رخيصة قليلة القيمة، لا بال لها فهي ممنوعة على الصحيح. الصورة الثانية: إذا وقعت على التفاوت وعدم التساوي بين ما يخرج من يد الشريك، وما يعود عليه من الربح (¬1). الصورة الثالثة: إذا أدت الشركة في المزارعة إلى اشتراط السلف، كأن يكون من أحد الشريكين الأرض، ومن الآخر العمل، ويقول أحدهما: ادفع عني نصف البذر سلفاً، فإذا وقعت كان الزرع بينهما نصفين؛ لضمانهما البذر نصفين، وتكافئهما في غيره، وهو الأرض والعمل، ويرجع من قدم البذر على صاحبه بنصف البذر معجلًا. فإن لم يكن السلف مشروطًا في العقد، وتطوع به أحدهما بعد العقد جاز مراعاة لقول من يرى أن المزارعة تلزم بالعقد، لا بالبذر والعمل (¬2). القول الثالث: الصورة الجائزة عند الشافعية: المشهور من مذهب الشافعية منع المزارعة مطلقاً إلا في صورة واحدة، أن تكون المزارعة تبعًا للمساقاة، وألا يمكن سقي النخل إلا بسقي الأرض ¬
القول الرابع: صورة المزارعة عند الحنابلة
البيضاء، فإن كان البياض مستقلًا عن الشجر يمكن سقي النخل دون الحاجة إلى سقيه لم تصح المزارعة عليه مطلقاً، سواء كان البياض قليلاً أم كثيراً، وسواء أفرده بالعقد، أو جعله تابعًا للمساقاة (¬1). القول الرابع: صورة المزارعة عند الحنابلة: ذكر الحنابلة الصور الفاسدة، فيكون ما عداها من الصور الجائزة. الصورة الأولى: الصورة المشهورة بالفساد عند الحنابلة أن يكون البذر من العامل، أو منهما، أو من أحدهما والأرض لهما، فلا بد أن يكون البذر من رب الأرض، والعمل من الآخر (¬2). جاء في مسائل أحمد رواية أبي الفضل: قلت: رجل يدفع أرضه إلى الأكار (الحراث) على الثلث، والربع؟ قال: لا بأس بذلك إذا كان البذر من رب الأرض، والبقر والحديد من الأكار، أذهب فيه مذهب المضاربة. قلت: فإن كان البذر منهما جميعًا؟ قال: لا يعجبني" (¬3). وقال في المغني: لأن الشرط إذا فسد لزم كون الزرع لرب البذر؛ لكونه نماء ماله، فلا يحصل لرب الأرض شيء منه، ويستحق الأجر. وهذا معنى الفساد (¬4). ¬
الصورة الثانية
وجاء في المغني أيضًا: "ظاهر المذهب أن المزارعة إنما تصح إذا كان البذر من رب الأرض، والعمل من العامل، نص عليه أحمد في رواية الجماعة، واختاره عامة الأصحاب، وهو مذهب ابن سيرين، وإسحاق؛ لأنه عقد يشترك العامل ورب العمل في نمائه، فوجب أن يكون رأس المال كله من عند أحدهما، كالمساقاة والمضاربة" (¬1). وروي عن الإِمام أحمد ما يدل على جواز أن يكون البذر من العامل، واختاره ابن قدامة، وابن تيمية، وابن القيم، وعليه عمل الناس. جاء في الإقناع: "وعنه لا يشترط كون البذر من رب الأرض، واختاره الموفق، والمجد، والشارح، وابن رزين، وأبو محمَّد بن الجوزي، والشيخ، وابن القيم، وصاحب الفائق، والحاوي الصغير، وهو الصحيح، وعليه عمل الناس" (¬2). وجاء عن الإمام أحمد كما رواية مهنا: "يجوز لصاحب النخل والشجر دفعها إلى قوم يزرعون الأرض، ويقومون على الشجر على أن له النصف، ولهم النصف، وقد دفع النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر على هذا من غير ذكر البذر، فعلى هذا أيهما أخرج البذر جاز" (¬3). وسبق مناقشة هذه المسألة مع ذكر أدلتها وبيان الراجح، والله أعلم. الصورة الثانية: أن يكون البذر من أحدهما، وتكون الأرض والعمل من الآخر. ¬
الصورة الثالثة
قال ابن قدامة: "وإن دفع رجل بذره إلى صاحب أرض ليزرعه في أرضه، ويكون ما يخرج بينهما، فهو فاسد أيضاً؛ لأن البذر ليس من رب الأرض، ولا من العامل، ويكون الزرع لصاحب البذر، وعليه أجر الأرض والعمل" (¬1). الصورة الثالثة: أن يكون الأرض والبذر، والعمل على صاحب الأرض، والماء من العامل. قال ابن مفلح: "وإن كان من أحدهما الماء فقط فروايتان، واحتج للمنع بالنهي عن بيع الماء، فدل على أنه إن جوزه جاز بيعه. ونقل الأكثر الجواز، منهم حرب. وسأله: من له شرب في قناة، هل يبيع ذلك الماء، فلم يرخص فيه، وقال: لا يعجبني، واحتج بالنهي عن بيع الماء، وهي كمساقاة" (¬2). وقال في تصحيح الفروع: قوله: وإن كان من أحدهما الماء فروايتان: أحدهما: لا يصح، وهو الصحيح، اختاره القاضي في المجرد، وغيره، وصححه في التصحيح، وتصحيح المحرر، قال الشيخ في المغني والشارح: هذا أصح، وقدمه في الخلاصة، والكافي، وشرح ابن رزين، والفائق وغيرهم. والرواية الثانية: يصح، اختاره أبو بكر وابن عبدوس في تذكرته (¬3). قال المرداوي: "ثم وجدت الشارح صححه، وصححه في تصحيح المحرر، وقدمه في الخلاصة، والكافي، واختاره القاضي، قاله شارح المحرر" (¬4). ¬
الصورة الرابعة
الصورة الرابعة: أن يشترك ثلاثة، من أحدهم الأرض، ومن الآخر البذر، ومن الثالث البقر والعمل. قال ابن قدامة: فهذا عقد فاسد نص عليه في رواية أبي داود، ومهنا، وأحمد بن القاسم، وذكر حديث مجاهد: في أربعة اشتركوا في زرع على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهم: علي الفدان (¬1)، وقال الآخر: قبلي الأرض. وقال الآخر: قبلي البذر. وقال الآخر: قبلي العمل، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الزرع لصاحب البذر، وألغى صاحب الأرض، وجعل لصاحب العمل كل يوم درهمًا، ولصاحب الفدان شيئًا معلومًا (¬2). وعلل الفساد ابن قدامة بقوله: "لأن موضوع المزارعة على أن البذر من رب الأرض أو من العامل، وليس هو هاهنا من واحد منهما، وليست شركة؛ لأن الشركة تكون بالأثمان، وإن كانت بالعروض اعتبر كونها معلومة، ولو يوجد ¬
الصورة الخامسة
شيء من ذلك ها هنا، وليست إجارة؛ لأن الإجارة تفتقر إلى مدة معلومة، وعوض معلوم" (¬1). الصورة الخامسة: من الصور الممنوعة أن يقول: أجرتك نصف أرضي هذه بنصف بذرك، وبنصف منفعتك، ومنفعة بقرك، وآلتك، وأخرج الزارع البذر كله لم يصح؛ لجهالة المنفعة ... والزرع كله لرب البذر، وعليه أجرة مثل الأرض، فإن أمكن علم المنفعة وضبطها بما لا يختلف معه ومعرفة البذر جاز، وكان الزرع بينهما (¬2). الصورة السادسة: أن يشترط رب الأرض أن يأخذ مثل بذره، ويقتسما الباقي (¬3). فهذه الصورة فاسدة أيضًا؛ وجه الفساد أن اشتراط أن يأخذ مثل بذره يعتبر كاشتراطه قفزانًا معلومة، وهذا باطل؛ لأن الأرض قد لا تخرج القدر المشروط، أو لا تخرج أكثر منه، فيكون ضررًا بالمزارع. وهذا دليل على ضعف قول من اشترط البذر على رب الأرض قياسًا على وجوب المال على المالك في المضاربة؛ لأن البذر لو كان بمنزلة المال لوجب إعادته إلى ربه، كما وجب إعادة النخل والأرض إلى ربها. وقد سبق الإشارة إلى ذلك من كلام ابن تيمية رحمه الله. ¬
الراجح من هذه الصورة
الراجح من هذه الصورة: لا أرى مانعًا أن يكون البذر منهما أو من أحدهما، لكن إن كان المال (الأرض) من أحدهما، والعمل وأدواته من الآخر كانت مزارعة؛ لأن المزارعة هي الاشتراك في الخارج على أن يكون المال من أحدهما، والعمل من الآخر، والبذر لا يعتبر من المال، وإنما يعتبر سبيله سبيل المنافع؛ لأنه لا يرد إلى المالك بخلاف الأرض. وإن اشترك في المال والعمل، فهي شركة عنان، فلا مانع من جوازه، ويكون رأس مال الشركة من العروض. وإن اشتركا في المال، وكان العمل من أحدهما فهي شركة ومزارعة، ولا مانع من جوازها كما قلنا في شركة العنان عند الحنفية والحنابلة، أن يشترك اثنان في مالهما، ويكون العمل من أحدهما، وتم توصيفها على أنها اجتماع المشاركة والمضاربة، والله أعلم.
الباب الثالث في شروط المساقاة والمزارعة
الباب الثالث في شروط المساقاة والمزارعة الفصل الأول في شروط المساقاة الشرط الأول أن تكون في أصل يثمر أو ما في معناه المساقاة: اشتراك في الثمرة بين رب الأشجار وبين الساقي (العامل)، فالأصول من أرض وشجر ملك لرب الأرض مختص به، والسقي يختص بالعامل، والمشاركة إنما هي على الثمرة بحيث يقسم الثمر الحاصل بين المالك والساقي. فليست المساقاة من عقود البيع؛ لأن البيع عبارة عن تمليك العين، والعين ملك لصاحبها، وليست من عقود الإجارة؛ لأن العوض الذي هو الثمرة مجهول، ويجب أن تكون الأجرة معلومة، ففيها شبه بالمضاربة. ولهذا لا تجوز المساقاة إلا على شجر يثمر، أو يكون مما يقصد ورقه وزهره، كالتوت والورد؛ لأنه في معنى الثمر. قال ابن قدامة: "أما ما لا ثمر له من الشجر، كالصفصاف، والجوز ونحوهما، أو له ثمر غير مقصود، كالصنوبر، والأرز، فلا تجوز المساقاة عليه. وبه قال مالك، والشافعي. ولا نعلم فيه خلافًا؛ لأنه ليس بمنصوص عليه، ولا في معنى المنصوص، ولأن المساقاة إنما تكون بجزء من الثمرة، وهذا لا ثمرة له، إلا أن يكون مما يقصد ورقه، أو زهره، كالتوت، والورد، فالقياس يقتضي
جواز المساقاة عليه؛ لأنه في معنى الثمر؛ لأنه نماء يتكرر كل عام، ويمكن أخذه والمساقاة عليه بجزء منه، فيثبت له مثل حكمه" (¬1). وقال القاضي عياض: "من شروط المساقاة أنها لا تصح إلا في أصل يثمر، أو في معناه من ذوات الأزهار والأوراق المنتفع بها كالورد والياسمين" (¬2). ¬
الشرط الثاني أن تكون المساقاة قبل طيب الثمرة
الشرط الثاني أن تكون المساقاة قبل طيب الثمرة [م - 1434] لم يختلف القائلون بالمساقاة أن المالك إذا ساقى على الشجر قبل ظهور الثمرة أن المساقاة جائزة. ولا تصح المساقاة على الثمرة بعد أن طابت، ولم يبق فيها ما تزيد بالمساقاة، قال ابن قدامة: بغير خلاف (¬1). وعللو ذلك بأن هذه الثمرة يصح بيعها فلم تصح المساقاة عليها. ولأن العامل لا يستحق إلا بالعمل، ولا أثر للعمل بعد التناهي، ولأن جواز المساقاة قبل التناهي للحاجة على خلاف القياس، ولا حاجة إلى مثله، فبقي على الأصل. والصواب أن الخلاف محفوظ، وقد أجاز سحنون المساقاة على الثمرة بعد طيبها، وهو ظاهر كلام الشافعي حيث حكى جوازه من غير تفصيل (¬2). قال ابن جزي: "أن تعقد المساقاة قبل بدو صلاح الثمرة، وجواز بيعها، ولم يشترطه سحنون، ولا الشافعي" (¬3). [م - 1435] وإن ساقه على الثمرة بعد ظهورها، وقبل طيبها فقد اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال: ¬
القول الأول
القول الأول: تصح مطلقاً، وهو مذهب ابن القاسم من المالكية، وهو المشهور (¬1). وجه القول بالصحة: أن الثمرة بعد ظهورها بحاجة إلى السقي. ولأن المساقاة إذا جازت، والثمرة معدومة، فكونها تجوز بعد ظهورها من باب أولى. جاء في المعونة: "تجوز المساقاة على ثمرة بعد ظهورها خلافًا للشافعي؛ لأن المساقاة تجوز لحاجة الثمرة إلى السقي والخدمة ... وهذا يستوي فيه المعدوم والموجود، ولأن ذلك إذا جاز قبل وجودها مع كثرة الخطر كان جوازه مع قلة الخطر أولى" (¬2). القول الثاني: قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وهو اختيار أبي بكر من الحنابلة: تصح بشرط أن تزيد الثمرة بسبب المساقاة. وقال المزني: بشرط أن يكون ذلك قبل بدو الصلاح (¬3). وحكي عن الشافعي جوازه من غير تفصيل كما سبق الإشارة إليه (¬4). قال الكاساني: "ومنها -أي من الشروط- أن يكون المدفوع من الشجر الذي فيه ثمرة معاملة فيما يزيد ثمره بالعمل، فإن كان المدفوع نخلًا فيه طلع، أو ¬
القول الثالث
بسر قد احمر، أو اخضر إلا أنه لم يتناه عظمه جازت المعاملة، وإن كان قد تناهى عظمه إلا أنه لم يرطب فالمعاملة فاسدة؛ لأنه إذا تناهى عظمه لا يؤثر فيه العمل بالزيادة عادة فلم يوجد العمل المشروط عليه، فلا يستحق الخارج بل يكون لصاحب النخل" (¬1). وقال ابن قدامة: "إن ساقاه على ثمرة موجودة، فذكر أبو الخطاب فيها روايتين: أحداهما: تجوز. وهو اختيار أبي بكر، وقول مالك، وأبي يوسف، ومحمد، وأبي ثور، واحد قولي الشافعي؛ لأنها إذا جازت في المعدومة مع كثرة الغرر فيها، فمع وجودها وقلة الغرر فيها أولى. وإنما تصح إذا بقي من العمل ما يستزاد به الثمرة، كالتأبير، والسقي، وإصلاح الثمرة، فإن بقي ما لا تزيد به الثمرة، كالجذاذ ونحوه، لم يجز، بغير خلافاً (¬2). القول الثالث: لا تصح المساقاة بعد ظهور الثمر مطلقًا، وهو قول آخر في مذهب الشافعية، وقول آخر في مذهب الحنابلة (¬3). ودليل المنع: أن المساقاة عقد على غرر، وإنما أجيز على الثمرة المعدومة للحاجة إلى استخراجها بالعمل، فإذا ظهرت الثمرة زالت الحاجة، فلم تجز. ¬
الراجح
الراجح: إن صح الإجماع الذي حكاه ابن قدامة فهو حجة، وإن لم يصح كان القول بالجواز مطلقًا أولى حتى ولو وصل الأمر إلى وقت الجذاذ، فلو عاقده على جذاذ النخل بجزء مشاع من ثمرته صح على القول الصحيح، والله أعلم، وقد بحثت هذه المسألة في كتاب الإجارة، فارجع إليه إن شئت.
الشرط الثالث أن يكون محل العمل معلوما
الشرط الثالث أن يكون محل العمل معلومًا [م - 1436] يشترط أن يكون محل العمل -وهو الشجر- معلومًا إما برؤية أو صفة، وهل يجوز أن يعقد المساقاة على بستان لم يره ولم يوصف له، ويكون له خيار الرؤية كالبيع؟ فيه بحث. قال الكاساني: "وأما الشرائط المصححة لها على قول من يجيزها ... منها: أن يكون محل العمل، وهو الشجر معلومًا ... " (¬1). وجاء في مواهب الجليل: "تجوز المساقاة على الحائط، ولو كان غائبًا، وظاهره سواء كان قريب الغيبة، أو بعيدها، وهو كذلك إذا حصل الشرطان المذكوران: الأول: أن يوصف للعامل، والمراد بالوصف أن يذكر جميع ما يحتاج إليه من العمل فيذكر ما فيه من الرقيق والدواب، أو لا شيء فيه، وهل هو بعل، أو سقي بالعين، أو بالغرب؟ وتوصف أرضه، وما هي عليه من الصلابة، أو غيرها ويذكر ما فيه من أجناس الأشجار، وعددها، والقدر المعتاد مما يوجد فيها. الشرط الثاني: أن يعقد المساقاة في زمن يمكن وصول العامل فيه قبل طيب الحائط، وهذا معنى قول المصنف: ووصله قبل طيبه، وأما إن كان لا يصل إليه إلا بعد طيبه فلا تجوز قاله الشيخ أبو محمَّد. قال عبد الحق: هذا على أصل ابن القاسم، وقال بعض شيوخنا: يجوز ذلك على قول سحنون، وإن كان لا يصل إلا بعد الطيب" (¬2). ¬
وقال الماوردي: "الشرط الأول: أن تكون النخل معلومة، فإن كانت مجهولة بأن قال: ساقيتك أحد حوائطي، أو على ما شئت من نخلي كان باطلاً؛ لأن النخل أصل في العقد، فبطل بالجهالة كالبيع" (¬1). وجاء في كشاف القناع: "ولا تصح المساقاة إلا على شجر معلوم للمالك والعامل بالرؤية، أو الصفة التي لا يختلف الشجر معها كالبيع ... فإن ساقاه على بستان لم يره، ولم يوصف له، أو على أحد هذين الحائطين لم تصح المساقاة" (¬2). وقال الحطاب: "والظاهر أيضاً: أن رؤية العامل للحائط قبل عقد المساقاة بمدة لا يتغير بعدها تقوم مقام الوصف. وانظر: هل يجوز أن تعقد المساقاة معه من غير وصف على أنه بالخيار إذا رآه كما في البيع؟ والظاهر: الجواز أيضاً كما في البيع، وقد يؤخذ ذلك من قوله في المدونة: ولا بأس بمساقاة الحائط الغائب ببلد بعيد إذا وصف كالبيع انتهى" (¬3). وقال الماوردي: "فلو ساقاه على نخل غائب بشرط خيار الرؤية، فقد اختلف أصحابنا: فخرجه بعضهم على قولين كالبيع. وذهب آخرون منهم -وهو الأصح- إلى فساد العقد قولًا واحداً، وفرقوا بين المساقاة والبيع بأن البيع عدي عن الغرر، فإذا دخل عليه غرر العين الغائبة بخيار الرؤية قوي على احتماله، فصح فيه، وعقد المساقاة غرر، فإذا دخل عليه غرر العين الغائبة ضعف على احتماله، فبطل فيه" (¬4). ¬
وجاء في المهذب: "وهل يجوز -يعني عقد المساقاة- على حائط معين لم يره، فيه طريقان: أحدهما: أنه على قولين كالبيع. والثاني: أنه لا يصح قولًا واحداً؛ لأن المساقاة معقودة على الغرر، فلا يجوز أن يضاف إليها الغرر؛ لعدم الرؤية بخلاف البيع" (¬1). ¬
الشرط الرابع أن يكون نصيب العامل معلوما مشاعا
الشرط الرابع أن يكون نصيب العامل معلومًا مشاعًا كل شرط يوجب قطع الشركة في الربح، أو يوجب جهالة فيه فإنه يفسد الشركة (¬1). قال ابن تيمية: مبنى المشاركات على العدل، فإذا خص أحدهما بربح دون الآخر لم يكن هذا عدلاً (¬2). [م - 1437] يشترط في المساقاة أن يكون نصيب كل واحد منهما من الثمرة معلوم المقدار، ولا يكفي ذلك، بل يشترط أيضًا مع العلم به أن يكون جزءًا شائعًا، فالعلم بالمقدار شرط، وكونه شائعًا شرط آخر، فلا بد أن يكون المشروط لكل من العامل ورب الشجر جزءًا شائعًا، نصفًا، أو ثلثًا، أو ربعًا، ولا أعلم خلافًا في اعتبار هذا الشرط بين الفقهاء؛ لأنه مورد السنة، حيث جاء في الحديث: عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. وقياسًا على المضاربة. فلا يجوز أن يشترط في المساقاة لأحد العاقدين نصيبًا معينًا معلومًا، كان يشترط عشرة آصع مثلاً، أو دراهم معلومة (¬3). قال الباجي في المنتقى: "ولا يجوز أن ينعقد -يعني عقد المساقاة- على أوسق مقدرة، ولا خلاف في ذلك نعلمه" (¬4). ¬
مستند الإجماع في النهي عن ذلك
وقال الشافعي: "وإن ساقاه على أن له ثمر نخلات بعينها من الحائط لم يجز، وكذا لو اشترط أحدهما على صاحبه صاعاً من تمر لم يجز وكان له أجرة مثله فيما عمل" (¬1). وقال ابن قدامة: "المساقاة لا تصح إلا على جزء معلوم من الثمرة مشاع، كالنصف والثلث، لحديث ابن عمر: عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها، وسواء قل الجزء أوكثر ... وإن شرط له ثمر نخلات بعينها لم يجز؛ لأنه قد لا تحمل، فتكون الثمرة كلها لرب المال، وقد لا تحمل غيرها، فتكون الثمرة كلها للعامل" (¬2). مستند الإجماع في النهي عن ذلك: (ح -923) ما رواه البخاري من طريق حنظلة الزرقي، قال: سمعت رافع بن خديج - رضي الله عنه - يقول كنا أكثر الأنصار حقلاً، فكنا نكري الأرض، فربما أخرجت هذه ولم تخرج ذه، فنهينا عن ذلك ولم ننه عن الورق (¬3). وفي رواية للبخاري: كنا أكثر أهل المدينة حقلاً، وكان أحدنا يكري أرضه، فيقول: هذه القطعة لي، وهذه لك، فربما أخرجت ذه، ولم تخرج ذه، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (¬4). وفي رواية عن رافع بن خديج، قال: حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ينبت على الأربعاء، أو شيء يستثنيه صاحب الأرض، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ... ¬
وقال الليث: وكان الذي نهي عن ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه لما فيه من المخاطرة (¬1). وإذا استأجر صاحب الأرض رجلاً ليعمل في نخله على أن أجرته ثمرة نخلة بعينها، فهذا عقد إجارة، وليس من عقود المساقاة بشيء؛ لأن عقد المساقاة من عقود المشاركة، ولا مشاركة هنا بين صاحب النخل وبين العامل، وهل تصح الإجارة والحالة هذه؟ تصح بشرط أن تكون الثمرة قد ظهرت وبدا صلاحها، فإن كانت الثمرة لم تظهر لم تصح مطلقًا، للجهل بالأجرة، وإن كانت الثمرة قد ظهرت، ولم يبد صلاحها صح بشرط القطع في الحال على الصحيح. قال الماوردي: "رجل استأجر رجلاً ليعمل في نخله أو غير نخله، على أن أجرته ثمرة نخلة بعينها فهذا على ضربين: أحدهما: أن تكون الثمرة لم تخلق بعد، فالإجارة باطلة للجهل بقدر ما تحمل، وأنها ربما لم تحمل، والأجرة لا تصلح إلا معلومة في الذمة، أو عينًا مشاهدة. والضرب الثاني: أن تكون الثمرة موجودة قد خلقت، فهذا على ضربين: أحدهما: أن تكون بادية الصلاح، فالإجارة جائزة سواء شرط له جميعها، أو سهمًا شائعًا فيها؛ لأنها موجودة تصح المعاوضة عليها. والضرب الثاني: أن تكون غير بادية الصلاح، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يشترط له جميعها، فينظر، فإن شرط فيه القطع صحت ¬
الإجارة؛ لأن المعاوضة على ما لم يبد صلاحه من الثمرة جائزة بشرط القطع. وإن لم يشرط فيها القطع لم يجز لفساد المعاوضة عليها. والضرب الثاني: أن يشرط له سهمًا شائعًا فيها من نصف، أو ثلث، فتبطل الإجارة؛ لأن اشتراط قطع المشاع لا يمكن، والمعاوضة عليها بشرط القطع لا يجوز، فلذلك بطلت الإجارة، ويحكم للعامل بأجرة مثله إن عمل" (¬1). والله أعلم. ¬
الشرط الخامس في اشتراط أن تكون المساقاة إلى أجل معلوم
الشرط الخامس في اشتراط أن تكون المساقاة إلى أجل معلوم العقود الجائزة يستغنى بجوازها عن توقيتها. ما لزم من عقود المنافع تقدرت مدته كالإجارة (¬1). اختلف العلماء في اشتراط المدة في المساقاة على قولين: القول الأول: تصح المساقاة مطلقة ولو لم تذكر المدة استحسانًا، وتقع على أول ثمرة تخرج. وهذا مذهب الجمهور خلافًا للشافعية (¬2). وعلل الحنفية الجواز بأمرين: الأول: أن وقت إدراك الثمر معلوم، والتفاوت اليسير معفو عنه. الثاني: الاعتبار بعمل الناس، فإنهم يتعاملون بذلك من غير بيان مدة. قال في المبسوط: "ولو دفع إلى رجل نخلًا أو شجرًا، أو كرمًا معاملة بالنصف، ولم يسم الوقت جاز استحسانًا على أول ثمرة تخرج في أول سنته، وفي القياس: لا يجوز؛ لأن هذا استئجار للعامل، وبهذا لا يصير المعقود عليه معلومًا إلا ببيان المدة، فإذا لم يبينا لا يجوز العقد كما في المزارعة. ¬
ووجه الاستحسان: أن لإدراك الثمر أوانًا معلومًا في العادة، ونحن نتيقن أن إيفاء العقد مقصود هنا إلى إدراك الثمار، والثابت بالعادة كالثابت بالشرط فصارت المدة معلومة، وإن تقدم، أو تأخر فذلك يسير لا يقع بسببه منازعة بينهما في العادة" (¬1). وجاء في الفتاوى الهندية: فأما بيان المدة فليس بشرط لجواز المعاملة استحسانا، ويقع على أول ثمرة تخرج في أول السنة، لتعامل الناس في ذلك من غير بيان مدة (¬2). والمشهور من مذهب المالكية وهو نص المدونة أن التوقيت ليس بشرط، وإذا أطلقت المساقاة ولم تحدد بزمن كانت صحيحة، وتحمل إلى الجذاذ، ويجوز تحديده بزمن معلوم، ولو كثر ما لم يكثر جدًا بلا حد (¬3). ويرى الحنابلة أن العقد جائز وليس بلازم، والعقد الجائز يستغنى بجوازه عن توقيته. جاء في كشاف القناع: "ولا يفتقران -يعني المساقاة والمزارعة- إلى ضرب مدة يحصل الكمال فيها؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يضرب لأهل خيبر مدة، ولا خلفاؤه من بعده" (¬4). القول الثاني: ذهب الشافعية وبعض المالكية إلى أن المساقاة لا تجوز إلا على مدة معلومة. ¬
جاء في القوانين الفقهية: "الثاني -يعني الشرط الثاني- أن تعقد إلى أجل معلوم، وتكره فيما طال من السنين" (¬1). وجاء في المهذب "ولا تجوز إلا على مدة معلومة؛ لأنه عقد لازم، فلو جوزناه مطلقًا استبد العامل فصار كالمالك. . ." (¬2). الراجح من الخلاف: الراجح في عقد المساقاة أنه يجوز مقيدًا بوقت معين ومطلقًا من غير توقيت، وقضية خيبر تدل على عدم التوقيت، فإن عقداه بدون ذكر المدة انعقد صحيحًا لشبهه بالمضاربة، وحمل العقد إلى أوان جذاذ الثمرة التي عقدا عليها، وإن ذكرت المدة لزم العقد في تلك المدة، والمدة لا تحد بالشهور، وإنما تعتبر بوقت الجذاذ؛ لأنه هو المعقود عليه. قال القرافي: "المساقاة إلى الجداد، وتمتنع إلى سنة أو شهر، فإن أطعمت في السنة مرتين فالجداد الأول حتى يشترط الثاني. . ." (¬3)، الله أعلم. ¬
المبحث الأول في المساقاة إلى الجذاذ
المبحث الأول في المساقاة إلى الجذاذ ملكية العين لا تقبل التوقيت بخلاف ملكية المنفعة (¬1). كل توقيت يفوت به غرض العقد ومقصوده فهو باطل. ما لا يتوصل إلى المقصود إلا به يكون مقصودًا (¬2). [م - 1438] اختلف العلماء في توقيت المساقاة إلى الجذاذ على قولين: القول الأول: يصح التوقيت، وهو قول الجمهور، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬3). لأن المقصود من عقد المساقاة أن يشتركا في الثمرة، فإذا وقتت المساقاة بظهور الثمرة فقد وقتها يشيء مقصود لهما، ولأنه لما شرط المالك للعامل جزءًا من الثمرة كان ذلك دليلًا على أنه أراد مدة تحصل فيها الثمرة. ولذلك لو ساقاه إلى مدة لا تظهر فيها الثمرة لم يصح العقد. وعلل الحنفية الجواز بأن وقت إدراك الثمر معلوم، والتفاوت اليسير معفو عنه، ولأن الناس يتعاملون بذلك. ¬
القول الثاني
وقال ابن عبد البر: "ولو ساقاه إلى أجل، فانقضى الأجل، وفي النخل ثمر لم يجز جذاذه، ولا يحل بيعه فهو على مساقاته حتى يجذ؛ لأنه حق وجب له، وإنما المساقاة إلى الجذاذ، وإلى القطاف لا إلى أجل" (¬1). وقال الخرشي: "التوقيت بالجذاذ ليس شرطاً في صحتها، فالمراد أنها إذا أقتت لا تؤقت إلا بالجذاذ، وبالشهور العجمية؛ لأن كل ثمرة تجد في وقتها، لا بالشهور العربية" (¬2). القول الثاني: ذهب الشافعية في المشهور إلى أنه يجب التوقيت بالشهور، ولا يصح توقيت المساقاة بالجذاذ؛ لجهالته بالتقدم تارة، والتأخر أخرى، فإن أدركت الثمرة، والمدة باقية لزم العامل أن يعمل المدة الباقية ولا أجرة له. وإن انقضت المدة، وعلى الشجر طلع، أو بلح، فللعامل نصيبه منها، وعلى المالك السقي إلى إدراك الثمرة، ولا يلزم العامل أجرة لتبقية حصته على الشجر إلى حين الإدراك؛ لأنه يستحقها ثمرة مدركة بحكم العقد، فإن لم يحدث الطلع إلا بعد المدة فلا شيء للعامل (¬3). وقال في أسنى المطالب: "ولو قدر المدة بإدراك الثمرة لم يصح كالإجارة، فلابد من تأقيتها بوقت معلوم ... " (¬4). ¬
الراجح
وقال الماوردي: "إذا كانت المدة المعلومة شرطًا فيها فأقلها مدة تطلع فيها الثمرة، وتستغني عن العمل، ولا يجوز أن يقدرها بذلك حتى يقدرها بالشهور التي قد أجرى الله تعالى العادة بأن الثمار تطلع فيها اطلاعًا متناهيًا" (¬1). وقال في روضة الطالبين: "وإن وقت بإدراك الثمرة، فهل يبطل كالإجارة، أم يصح؛ لأنه المقصود وجهان، أصحهما عند الجمهور أولهما، وبه قطع البغوي، وصحح الغزالي الثاني ... فإن قلنا بالأول، أو وقت بالزمان، فأدركت الثمرة، والمدة باقية لزم العامل أن يعمل في تلك البقية، ولا أجرة له، وإن انقضت المدة وعلى الشجر طلع، أو بلح فللعامل نصيبه منها، وعلى المالك التعهد إلى الإدراك، وإن حدث الطلع بعد المدة فلا حق للعامل فيها" (¬2). الراجح: أرى أن التوقيت بالجذاذ هو المعتبر حتى لو وقت بالشهور، فإن المعتبر هو الجذاذ، فالتوقيت بالسنة محمول على أوان الجذاذ مرة واحدة، فإذا بلغت الثمرة وقت الجذاذ والقطاف فقد أدى العامل ما عليه، وكان عليهما قسمة الثمرة ليأخذ العامل نصيبه منها، وبعد أن يأخذ العامل نصيبه من الثمرة لا يلزمه تعاهد الأشجار ولو بقي في المدة بقية، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في أكثر مدة المساقاة
المبحث الثاني في أكثر مدة المساقاة [م - 1439] اختلف العلماء في أكثر مدة المساقاة على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح عقد المساقاة سنين عديدة، وليس لذلك حد إلا أنه لا يطول جداً. وهذا مذهب الجمهور، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في الفتاوى الهندية: "ولو دفع أرضًا معاملة خمسمائة سنة لا تجوز، وإن شرط مائة سنة، وهو ابن عشرين سنة جاز، وإن كان أكثر من عشرين لم يجز، كذا في التتارخانية" (¬2). وجاء في التاج والإكليل: "قال مالك: يجوز أن يساقيه سنين ما لم تكثر جداً" (¬3). وفي الشرح الكبير: "وجاز مساقاة عامل في حائط سنين، ولو كثرت، ما لم تكثر جداً بلا حد" (¬4). قال الدسوقي: "قوله: (بلا حد) أي أنه لم يثبت عن الإِمام تحديد بشيء من السنين في الكثرة الجائزة، ولا في غير الجائزة؛ لأنه رأى أن ذلك تختلف ¬
القول الثاني
باختلاف الحوائط، إذ الجديد ليس كالقديم فلو حدد لفهم الاقتصار على ذلك" (¬1). قال ابن قدامة: "لا تتقدر أكثر المدة، بل يجوز ما يتفقان عليه من المدة التي يبقى الشجر فيها وإن طالت. وقد قيل: لا يجوز أكثر من ثلاثين سنة، وهذا تحكم وتوقيت لا يصار إليه إلا بنص أو إجماع" (¬2). القول الثاني: اختلف الشافعية في أكثر مدة المساقاة، فقيل: لا تجوز بأكثر من سنة. وقيل: تجوز ما بقيت العين. وقيل: تجوز ثلاثين سنة. واختلف أصحاب الشافعية هل ذكر الثلاثين حد، لا يجوز الزيادة عليها، فيكون قولًا ثالثًا في المذهب. قال إمام الحرمين: وهذا أضعف الأقوال (¬3). أو أن ذلك ليس بحد، بل تجوز الإجارة على أكثر منها على ما يشاء العاقدان، وجاء ذكر الثلاثين على سبيل التكثير، فيرجع هذا القول إلى القول المشهور السابق (¬4). قال الشيرازي: "واختلف قوله في أكثر مدة الإجارة والمساقاة، فقال في موضع: سنة وقال في موضع: يجوز ما شاء. ¬
القول الثالث
وقال في موضع: يجوز ثلاثين سنة. فمن أصحابنا من قال فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تجوز بأكثر من سنة؛ لأنه عقد على غرر أجيز للحاجة، ولا تدعو الحاجة إلى أكثر من سنة؛ لأن منافع الأعيان تتكامل في سنة. والثاني: تجوز ما بقيت العين؛ لأن كل عقد جاز إلى سنة جاز إلى أكثر منها كالكتابة والبيع إلى أجل. والثالث: أنه لا تجوز أكثر من ثلاثين سنة لأن الثلاثين شطر العمر، ولا تبقى الأعيان على صفة أكثر من ذلك. ومنهم من قال: هي على القولين الأولين، وأما الثلاثون فإنما ذكره على سبيل التكثير لا على سبيل التحديد وهو الصحيح" (¬1). القول الثالث: ذهب الحنابلة في المشهور إلى أن المساقاة عقد جائز، فلا حاجة إلى توقيتها بمدة معينة؛ لأنه عليه السلام لم يضرب لأهل خيبر مدة، ولا خلفاؤه من بعده، ولأن التوقيت بمدة معينة يحتاج إليه في العقود اللازمة بخلاف العقود الجائزة إذ لا فائدة من التوقيت مع كون كل واحد من العاقدين يملك فسخها متى شاء (¬2). والراجح: أن المساقاة من العقود الجائزة، وتصح مؤقتة، ومطلقة، فإذا أطلقت لم تشمل إلا وقت إدراك الثمرة، فإن احتاجا إلى تجديد العقد لزمهما عقده من ¬
جديد، وإن أقتت المساقاة جاز، وليس لذلك حد في الشرع، وإنما في المدة التي يغلب على الظن أن يبقى فيها العاقدان والمعقود عليه، والله أعلم.
المبحث الثالث في أقل مدة المساقاة
المبحث الثالث في أقل مدة المساقاة كل توقيت يفوت به غرض العقد ومقصوده فهو باطل. [م - 1440] عرفنا في البحث السابق خلاف العلماء في أكثر مدة المساقاة، وهل لذلك حد أم لا؟ ونريد أن نقف على أقل مدة المساقاة. ذهب عامة العلماء إلى أنه لا يجوز عقد المساقاة إلى مدة لا تكتمل فيها الثمرة؛ لأن المقصود أن يشتركا في الثمرة، فلا يجوز على مدة أقل منها. وذهب المالكية إلى أنه لا يجوز توقيتها بالشهور أو السنين العربية، وإن عقداها لسنة أو سنتين حملت على الجذاذ. وقال ابن الحاجب من المالكية: ويشترط تأقيتها وأقله إلى الجذاذ (¬1). قال العيني في البناية: "أقل المدة ما يمكن إدراك الثمر فيه" (¬2). وقال في الاختيار لتعليل المختار: "وإن سميا مدة لا تخرج الثمرة في مثلها فهي فاسدة؛ لفوات المقصود، وهي الشركة في الخارج" (¬3). وقال في المبسوط: "ولو دفع إليه نخلاً، أو شجرًا، أو كرمًا معاملة أشهرًا ¬
معلومة يعلم أنها لا تخرج ثمرة في تلك المدة، بأن دفعها أول الشتاء إلى أول الربيع فهذا فاسد؛ لأن المقصود بالمعاملة الشركة في الخارج، وهذا الشرط يمنع ما هو المقصود فيكون مفسدًا للعقد" (¬1). وقال ابن قدامة: "فأما أقل المدة فيتقدر بمدة تكمل الثمرة فيها، فلا يجوز على أقل منها؛ لأن المقصود أن يشتركا في الثمرة، ولا يوجد في أقل من هذه المدة، فإن ساقاه على مدة لا تكمل فيها الثمرة فالمساقاة فاسدة" (¬2). وقال الخرشي: "إذا أقتت لا تؤقت إلا بالجذاذ، وبالشهور العجمية؛ لأن كل ثمرة تجد في وقتها، لا بالشهور العربية؛ لأنها تدور" (¬3). وقال في جامع الأمهات "ويشترط تأقيتها، وأقله إلى الجداد" (¬4). ¬
الشرط السادس أن يكون العمل كله على العامل
الشرط السادس أن يكون العمل كله على العامل ما كان مباحًا بدون شرط فالشرط يوجبه (¬1). الأصل في الشروط اعتبارها (¬2). [م - 1441] اختلف العلماء في اشتراط العمل عليهما على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يصح، وهو مذهب الحنفية، والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة. جاء في بدائع الصنائع: "ومنها -أي من الشروط- التسليم إلى العامل، وهو التخلية حتى لو شرطا العمل عليهما فسدت؛ لانعدام التخلية" (¬3). وقال المزني: "لو ساقاه على نخل سنين معلومة على أن يعملان فيها جميعًا لم يجز في معنى قوله قياسًا على شرط المضاربة يعملان في المال جميعاً، فمعنى ذلك أنه أعانه معونة مجهولة الغاية بأجرة مجهولة" (¬4). وجاء في شرح منتهى الإرادات "ولا يصح أن يشترط على أحدهما ما على الآخر كله أو بعضه، ويفسد العقد به؛ لمخالفته مقتضى العقد كالمضاربة إذا شرط فيهما العمل على رب المال" (¬5). ¬
القول الثاني
وجاء في كشاف القناع: "فإن شرط في مساقاة أو مزارعة على أحدهما: أي المالك أو العامل ما يلزم الآخر أو بعضه فسد الشرط والعقد؛ لأنه شرط يخالف مقتضى العقد، فأفسده كالمضاربة إذا شرط العمل فيها على رب المال" (¬1). وقال ابن رجب: "ومنها اشتراط أحد المتعاقدين في المساقاة والمزارعة على الآخر ما لم يلزمه بمقتضى العقد، فلا يصح، وفي فساد العقد به خلاف، ويتخرج صحة هذه الشروط أيضًا من الشروط في النكاح وغيرها، وهو ظاهر كلام أكثر المتأخرين" (¬2). القول الثاني: لا يصح أن يشترط على أحدهما ما يلزم الآخر عمله إلا في التلقيح والجذاذ، وهذا مذهب المالكية، ووافقهم الحنابلة في قول بصحة اشتراط الجذاذ على رب المال. جاء في مواهب الجليل: "ولا يجوز أن يشترط العامل أن يعمل معه رب الحائط بنفسه" (¬3). وقال أيضًا: "وسئل عن رب الحائط يقول لرجل: تعال أسق أنا وأنت حائطي هذا ولك نصف الثمرة قال: لا يصلح هذا، وإنما المساقاة أن يسلم الحائط إلى الداخل. قال ابن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن ذلك لا يصلح، فإن ¬
وقع وفات بالعمل كان العامل فيه أجيرًا؛ لأن رب الحائط اشترط أن يعمل معه، فكأنه لم يسلمه إليه، وإنما أعطاه جزءًا من الثمرة على أن يعمل معه" (¬1). وجاء في الاستذكار: وإن اشترط المساقي على رب المال جذاذ الثمر، وعصر الزيتون جاز، وإن لم يشترطه فهو على العامل، ومن اشترط عليه منهما جاز" (¬2). وجاء في المدونة: "قلت: أرأيت المساقي إن اشترط على رب النخل التلقيح، أيجوز أم لا؟ قال: نعم، وهو قول مالك. قلت: فإن لم يشترطه فعلى من يكون التلقيح؟ قال: التلقيح على العامل؛ لأن مالكًا قال: جميع عمل الحائط على العامل" (¬3). فمجموع هذه النصوص أنه لا يجوز اشتراط العمل على رب المال إلا في التلقيح والجداد. وقال المرداوي في الإنصاف: لو شرط على أحدهما ما يلزم الآخر لم يجز، وفسد الشرط على الصحيح من المذهب إلا في الجداد ... اختاره القاضي، وأبو الخطاب، وغيرهما (¬4). ولا أعرف دليلًا يستثني الجداد والتلقيح دون سائر العمل، فإذا كان هذا على العامل، وصح اشتراطه على رب المال، صح اشتراط غيره من الأعمال؛ لأن الأصل في الشروط الصحة والجواز، والله أعلم. ¬
القول الثالث
القول الثالث: ذهب ابن قدامة إلى صحة اشتراط العمل على رب المال، وخرجه من كلام الإِمام أحمد بصحة اشتراط الجذاذ على رب المال، ولم ير ابن قدامة معنى لاستثناء الجداد دون سائر الأعمال، وقد اشترط ابن قدامة للجواز شرطين: أحدهما: أن يكون ما يلزم كل واحد منهما معلومًا، وهذا الشرط لا بد منه قطعًا للنزاع. الشرط الثاني: أن يكون أكثر العمل على العامل. جاء في المغني: "وإن شرطا على أحدهما شيئًا مما يلزم الآخر: فقال القاضي وأبو الخطاب: لا يجوز ذلك، وهو مذهب الشافعي؛ لأنه شرط يخالف مقتضى العقد، فأفسده كالمضاربة إذا شرط العمل فيها على رب المال. وقد روي عن أحمد ما يدل على صحة ذلك، فإنه ذكر أن الجذاذ عليهما، فإن شرطه على العامل جاز، وهذا مقتضى كلام الخرقي في المضاربة؛ لأنه شرط لا يخل بمصلحة العقد، ولا مفسدة فيه فصح، كتأجيل الثمن في المبيع، وشرط الرهن، والضمين، والخيار فيه، لكن يشترط أن يكون ما يلزم كل واحد من العمل معلومًا؛ لئلا يفضي إلى التنازع والتواكل، فيختل العمل، وأن لا يكون ما على رب المال أكثر العمل؛ لأن العامل يستحق بعمله، فإذا لم يعمل أكثر العمل كان وجود عمله كعدمه، فلا يستحق شيئًا" (¬1). وأرى أن تخريج ابن قدامة صحيح؛ لأنه لا معنى لاستثناء الجذاذ دون غيره، ¬
بل الصواب جواز اشتراط أحدهما ما يلزم الآخر، وقد اشترط ابن قدامة أن يكون أكثر العمل على العامل، ولم يتبين لي دليل هذا الاشتراط؛ لأنه قد يراعى في قلة العمل مقدار نصيب العامل من الثمرة، فلا يلزم أن يكون العامل عليه أكثر العمل، والله أعلم.
الشرط السابع في اشتراط أن تكون الثمرة مشتركة بين العامل والمالك
الشرط السابع في اشتراط أن تكون الثمرة مشتركة بين العامل والمالك [م - 1442] اختلف الفقهاء فيما إذا قال المالك: ساقيتك على أن الثمرة كلها لي، أوكلها لك: القول الأول: أن ذلك لا يصح، وهذا قول الجمهور. قال في البدائع: "ومنها أن يكون الخارج لهما، فلو شرط أن يكون لأحدهما فسدت" (¬1). وقال النووي: "الركن الثالث: الثمار، فيشترط اختصاصها بالعاقدين مشتركة بينهما ... فلو شرطا بعض الثمار لثالث، أو كلها لأحدهما فسدت المساقاة، وفي استحقاق الأجرة عند شرط الكل للمالك وجهان كالقراض، أصحهما المنع؛ لأنه عمل مجانًا" (¬2). وقال العمراني في البيان: "وإن قال: ساقيتك على هذه النخيل على أن الثمرة كلها لي لم يستحق العامل شيئاً من الثمرة؛ لأنه لم يشترط له منها شيئًا، فإن عمل الأجير فهل يستحق أجرة على الوجهين. وإن قال: ساقيتك على أن الثمرة كلها لك لم يصح؛ لأن هذا شرط ينافي مقتضى المساقاة، فإن عمل الأجير استحق أجرة المثل وجهًا واحدًا؛ لأنه لم يرض بغير عوض" (¬3). ¬
القول الثاني
وقول الحنابلة قريب من قول الشافعية؛ لأن أحكام المساقاة عند الحنابلة هي أحكام المضاربة، جاء في المبدع: "وحكم العامل حكم المضارب" (¬1). وقد قال الحنابلة في الرجل إذا قال: ضارب به والربح كله لك، أو كله لي لم يصح قرضًا، وكان قراضًا فاسدًا؛ لأن عقد المضاربة يقتضي المشاركة بالربح، فإذا شرط اختصاص أحدهما بالربح فقد شرط ما ينافي مقتضى العقد (¬2). القول الثاني: ذهب المالكية إلى صحة أن تكون الثمرة كلها للعامل، أو كلها للمالك (¬3). جاء في المدونة: "قلت لعبد الرحمن بن القاسم: أرأيت إن أخذت نخلًا مساقاة على أن لي جميع ما أخرج الله منها؟ قال: قال مالك: لا بأس بذلك. قلت: لم أجازه مالك؟ قال: لأنه بمنزلة المال يدفعه إليك مقارضة على أن لك ربحه؛ ولأنه إذا جاز أن يترك لك النصف في الحائط جاز أن يترك لك الثمرة كلها" (¬4). جاء في مواهب الجليل: "وتجوز المساقاة على أن تكون الثمرة كلها للعامل بعمله، وقد قيل فيه: إنه منحة، فيفتقر إلى الحيازة، ويبطل بالموت. وهو ¬
بعيد ... قلت: وأما عكس هذا، فظاهر جوازه، وهو أن تكون الثمرة كلها لرب المال؛ لأن العامل هنا متبرع بعمله" (¬1). ¬
الشرط الثامن في اشتراط إسلام الساقي والمالك
الشرط الثامن في اشتراط إسلام الساقي والمالك الأصل جواز مشاركة الكافر، والنص ورد في يهود خيبر. [م - 1443] كره مالك أن يعمل المسلم في حائط الذمي مساقاة، وأجاز العكس بلا كراهة بأن يدفع المسلم حائطه إلى ذمي يعمل فيه مساقاة بشرط أن يأمن أن هذا الذمي لن يعصر حصته خمرًا، وإلا لم يجز، لما فيه من إعانتهم على المعصية (¬1). جاء في المدونة: "قلت: أرأيت حائط الذمي، أيجوز لي أن آخذه مساقاة. قال: كره مالك أن يأخذ المسلم من النصراني مالاً قراضًا، فكذلك المساقاة عندي. قال: ولو أخذه لم أره حرامًا. قلت: أرأيت الحائط يكون للمسلم، أيجوز له أن يعطيه النصراني مساقاة. قال: قال مالك: لا بأس بذلك، يريد إذا كان النصراني ممن لا يعصره خمرًا" (¬2). ويناقش: أرى جواز مشاركة الذمي مطلقًا سواء كان المسلم هو العامل أو العكس. لأن المسلم إن كان هو العامل، فإن عمله ليس من قبيل الإجارة الخاصة التي كرهها بعض الفقهاء، وإنما هو من قبيل المشاركة، ومشاركة الكافر ليس فيها إذلال للمسلم، وعلى التنزل أن يكون أجيرًا فإنه من قبيل الأجير المشترك، وليس من قبيل الأجير الخاص الذي يعمل تحت يد المستأجر وسلطته، ولذلك لا يشاركه الكافر في العمل، ولا يتلقى المسلم الأوامر منه. ¬
وقد سبق بحث مشاركة المسلم للكافر في عقد الشركات، كما سبق بحث إجارة المسلم للكافر سواء كان أجيرًا خاصًا، أو مشتركا في عقد الإجارة فانظر أدلة المسألتين فيما سبق. وإن كان الكافر هو العامل فإنه جائز من باب أولى، وأرى جواز العقد حتى ولو علم رب المال أن الكافر يعصر حصته خمرًا؛ لأن عصره خمرًا كان بعد تملكه لحصته، وهو قد تملكها بعقد صحيح، وعمله ذلك لا يسأل عنه رب الأشجار، وإذا عصره الذمي إن كان يشربه، أو يبيعه لمثله لم يكن ذلك حرامًا عليه، ولا يحق لنا منعه في الإِسلام إذا كان لا يجاهر بذلك، وإذا كان فعله مأذونًا فيه فكيف يكون فعله سببًا في تحريم العقد معه، وإن كان يفعل العصر ليبيعه على المسلمين كان حرامًا سواء كان تملكه للمعصور في عقد مساقاة أو في غيره، ولا يمكن من ذلك مطلقًا. (ث -168) روى عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن إبراهيم ابن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة، قال: بلغ عمر بن الخطاب أن عماله يأخذون الجزية من الخمر، فناشدهم ثلاثًا، فقال بلال: إنهم ليفعلون ذلك، قال: فلا تفعلوا، ولكن ولوهم بيعها، فإن اليهود حرمت عليهم الشحوم، فباعوها، وأكلوا أثمانها (¬1). ورواه أبو عبيد من طريق إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة، أن بلالًا قال لعمر بن الخطاب: إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج، فقال: لا تأخذوا منهم، ولكن ولوهم بيعها، وخذوا أنتم من الثمن (¬2). ¬
وجه الاستدلال
[إسناده صحيح] (¬1). وجه الاستدلال: فهذا الأثر يدل على أن الخمر مال بالنسبة للذمي من ثلاثة أوجه: أحدها: أن أمر الإِمام العادل بالبيع يدل على أن البيع صحيح. وثانيها: إيجاب العشر في ثمنها، ولا يجب إلا في كسب صحيح. وثالثها: تسمية ما يقابلها ثمنًا، وهو لا يكون إلا في بيع صحيح عند الإطلاق (¬2). قال ابن عبد البر: "ولا بأس بمساقاة الذمي في مساقاة، أو في شيء من الإجارات والأعمال" (¬3). ¬
الفصل الثاني في شروط المزارعة
الفصل الثاني في شروط المزارعة الشرط الأول في أهلية العاقدين [م - 1444] يشترط لصحة عقد المزارعة في حق العاقدين ما يشترط في سائر عقود المعاوضات. وقد تكلمنا في عقد البيع عن اشتراط أهلية العاقد، وأن هناك من الشروط ما هو متفق عليه بين الفقهاء، وما هو مختلف فيه بينهم: فالمتفق عليه: اشتراط العقل: فلا تصح مزارعة مجنون، وصبي غير مميز؛ لأن العقل شرط أهلية التصرف، وهؤلاء ليس لهم قصد صحيح. وأما المختلف فيه بين الفقهاء فمزارعة الصبي المميز. فالشافعية يشترطون البلوغ والرشد لصحة العقد (¬1). جاء في مغني المحتاج: "تصح من جائز التصرف لنفسه؛ لأنها معاملة على المال كالقراض ... ولصبي ومجنون وسفيه بالولاية عليهم عند المصلحة" (¬2). والجمهور يصححون عقد الصبي المميز إذا كان مأذونا له فيه، وقد تكلمنا عن أدلة الفريقين في عقد البيع، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء بأن الصبي المميز إذا أذن له وليه بالتصرف صحت مزارعته. ¬
قال الكاساني: "الأول أن يكون عاقلًا، فلا تصح مزارعة المجنون، والصبي الذي لا يعقل المزارعة دفعًا واحدًا؛ لأن العقل شرط أهلية التصرفات. وأما البلوغ فليس بشرط لجواز المزارعة، حتى تجوز مزارعة الصبي المأذون دفعًا واحداً؛ لأن المزارعة استئجار ببعض الخارج، والصبي المأذون له يملك الإجارة؛ لأنها تجارة فيملك المزارعة، وكذلك الحرية ليست بشرط لصحة المزارعة فتصح المزارعة من العبد المأذون دفعًا واحداً لما ذكرنا في الصبي المأذون" (¬1). وجاء في مجلة الأحكام العدلية: "يشترط أن يكون العاقدان في المزارعة عاقلين، ولا يشترط بلوغهما، فلذلك يجوز للمأذون عقد المزارعة" (¬2). هذا هو المعروف من مذهب الجمهور أن عقد الصبي المميز يصح بإذن الولي، ومع ذلك فقد عبر بعض المالكية وبعض الحنابلة باشتراط البلوغ. جاء في كفاية الطالب الرباني "ولجوازها شروط -يعني المزارعة- أحدها: المتعاقدان: ويشترط فيهما أهلية الشركة والإجارة". وهذا النص لا إشكال فيه؛ لأنه متفق مع الجمهور، لكن قال العدوي في حاشيته شارحًا هذا النص: "قوله: (أهلية الشركة والإجارة) أي لأنها مركبة منهما كما أفاده في التحقيق، فأهلية الشركة بأن يكونا من أهل التوكيل والتوكل، فلا يصح بين صبيين، ولا سفيهين، ولا بين صبي ورشيد، إلا أن قوله: (والإجارة) لعل الأولى إسقاطه فإن اشتراط شروط الإجارة يقتضي صحة ما ذكر فتدبر" (¬3). ¬
قلت: بل الأولى عدم الإسقاط ليتسق مع سائر العقود بأن تصرف الصبي المميز يصح بإذن الولي، والله أعلم. وجاء في شرح منتهى الإرادات "ويعتبر لمساقاة ومناصبة، ومزارعة كون عاقد كل منهما نافذ التصرف، بأن يكون حرًا بالغًا رشيدًا؛ لأنها عقود معاوضة أشبهت البيع" (¬1). وهذا غلط كسابقه، فإن عقد المزارعة إذا كان يشبه البيع، فإن عقد البيع عند الحنابلة يصح من المميز إذا أذن له الولي، فلا حاجة لاشتراط البلوغ، والله أعلم. واشترط الشافعية في عاقد المزارعة اتحاد العاقد، بأن يكون العامل في المزارعة هو نفس العامل في المساقاة لتتحقق تبعية المزارعة للمساقاة. قال الغزالي في الوسيط: "أن يكون العامل على النخيل والزرع واحدًا" (¬2). وقال في مغني المحتاج "وإنما يجوز ذلك بشرط اتحاد العامل فيهما، فلا يصح أن يساقي واحداً، ويزارع آخر؛ لأن الاختلاف يزيل التبعية، وليس المراد باتحاده اشتراط كونه واحداً، بل أن لا يكون من ساقاه غير من زارعه، فلو ساقى جماعة وزارعهم بعقد واحد صح" (¬3). ذكر الحنفية في شروط العاقد أن لا يكون مرتدًا وقت العقد على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله في قياس قول من أجاز المزارعة، فلا تنفذ مزارعته للحال، بل ¬
هي موقوفة فإن أسلم نفذت، وإن مات على ردته بطلت، خلافًا لأبي يوسف ومحمد حيث اعتبرا مزارعة المرتد نافذة للحال (¬1). وأما المرتدة فتصح مزارعتها دفعًا واحداً بالإجماع؛ لأن تصرفاتها نافذة بمنزلة تصرفات المسلمة (¬2). وقولهم (وقت العقد) يخرج بذلك ما لو كانت المزارعة وقت العقد بين مسلمين ثم ارتدا، أو ارتد أحدهما فالخارج على الشرط بلا خلاف؛ لأنه لما كان مسلمًا وقت العقد صح التصرف، فاعتراض الردة بعد ذلك لا تبطله. قال السرخسي: "وإذا دفع المرتد أرضه وبذره إلى رجل مزارعة بالنصف، فعمل على ذلك، وخرج الزرع: فإن أسلم فهو على ما اشترطا، وإن قتل على ردته فالخارج للعامل، وعليه ضمان البذر، ونقصان الأرض للدافع في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله على قول من أجاز المزارعة، أخرجت الأرض شيئًا أو لم تخرج، وعلى قولهما: هذه المزارعة صحيحة، والخارج بينهما على الشرط، وهو بناء على اختلافهم في تصرفات المرتد. عندهما تنفذ تصرفاته كما تنفذ من المسلم، وعند أبي حنيفة يوقف لحق ورثته، فإن أسلم نفذ عقد المزارعة بينهما، فكان الخارج على الشرط، وإن قتل على ردته بطل العقد، وبطل أيضاً إذنه للعامل في إلقاء البذر في الأرض؛ لأن الحق في ماله لورثته، ولم يوجد منهم الرضا بذلك فيصير العامل بمنزلة الغاصب للأرض والبذر، فيكون عليه ضمان البذر ونقصان الأرض، أخرجت الأرض شيئًا أو لم تخرج، والخارج كله له؛ لأنه ملك البذر بالضمان. ¬
وإن كان البذر على العامل، وقتل المرتد على ردته: فإن كان في الأرض نقصان غرم العامل نقصان الأرض؛ لأن إجارة الأرض بطلت حين قتل على ردته. وكذلك الإذن الثابت في ضمنه، فيكون العامل كالغاصب للأرض، والزرع كله له. وإن لم يكن في الأرض نقصان فالقياس أن يكون الخارج له ولا شيء عليه؛ لأنه بمنزلة الغاصب، والغاصب للأرض لا يضمن شيئاً إلا إذا تمكن فيها نقصان، وفي الاستحسان يكون الخارج على الشرط بين العامل وورثة المرتد؛ لأن إبطال عقده كان لحق ورثته في ماله، والنظر للورثة هنا في تنفيذ العقد؛ لأنه إذا نفذ العقد سلم لهم نصف الخارج، وإذا بطل العقد لم يكن لهم شيء فنفذ عقده استحسانا بخلاف الأول" (¬1). وجاء في بدائع الصنائع: "فاما إذا كانت بين مسلمين ثم ارتدا أو ارتد أحدهما فالخارج على الشرط بلا خلاف؛ لأنه لما كان مسلمًا وقت العقد صح التصرف فاعتراض الردة بعد ذلك لا تبطله" (¬2). والصواب قول أبي يوسف ومحمد أن عقد المزارعة مع المرتد صحيح، ونافذ في الحال، ولا أعلم وجهًا صحيحًا في التفريق بين الرجل والمرأة في الردة، فإذا كان عقد الرجل المرتد لا يصح لم يصح من المرأة، وإذا كان يصح من المرأة فهو دليل على صحته من الرجل، والله أعلم. ¬
الشرط الثاني في بيان جنس البذر
الشرط الثاني في بيان جنس البذر [م - 1445] إذا عين صاحب الأرض نوعًا من الزرع كالقطن أو القمح وجب على المزارع أن يلتزم بذلك وفاء للشرط، فإن خالف العامل كان للمالك الخيار بين الفسخ وبين إمضاء العقد (¬1). [م - 1446] كما نص الحنفية والحنابلة على أن صاحب الأرض إذا قال: ازرع فيها ما شئت جاز للعامل أن يزرع فيها ما شاء. لأنه لما فوض الأمر إليه فقد رضي بالضرر الذي قد ينجم عن الزراعة، ورضي بأن تكون حصتة النسبة المتفق عليها من أي محصول تنتجه الأرض. قال ابن قدامة: "وإن قال: ما زرعتها من شيء فلي نصفه صح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ساقى أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع" (¬2). [م - 1447] أما إذا لم يفوض الأمر إليه فقد نص الحنفية والشافعية والحنابلة على أنه يشترط بيان ما يزرعه؛ لأن الشركة بينهما في الزرع، والعلم به شرط، وهي بمثابة الأجرة للعامل، فلا بد من العلم بها، ولأنه ربما يختار بذرًا تتضرر به الأرض، أو يحتاج إلى زيادة كلفة، أو يتأثر مقدار الخارج ... إلى غير ذلك من المصالح. إلا أن الحنفية نصوا على أنه إذا لم يبين فإن كان البذر من رب الأرض جاز؛ لأن العقد لا يكون لازمًا في حقه قبل إلقائه (¬3)، وعند الإلقاء يصير معلومًا. ¬
وإن كان البذر من العامل لا يجوز إذا لم يبين إلا إذا عمم بأن قال: ازرع ما بدا لك؛ لأن العقد لازم في حق صاحب الأرض، فإن زرعها انقلبت صحيحة؛ لأنه خلى بينه وبين الأرض وتركها في يده حتى ألقى البذر، فقد تحمل الضرر، فيزول المفسد كغيره من العقود الفاسدة يفيد الملك إذا أذن له بالقبض (¬1). هذا الكلام في مذهب الحنفية وجه القياس، وفي الاستحسان بيان ما يزرع في الأرض ليس بشرط، فوض الرأي إلى المزارع أو لم يفوض بعد أن ينص على المزارعة، فإنه مفوض إليه (¬2). جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "يشترط أن يكون المزروع معلومًا، أي يشترط تعيين الزرع: أي ما سيزرع، أو تعميمه على أن يزرع الزارع ما يشاء؛ لأن الأجرة في المزارعة هي بعض الحاصلات، وبيان الأجرة شرط في صحة العقد، كما أن بعض الزرع يضر الأرض ضررًا بليغًا، فلذلك إذا لم يبين في العقد جنس البذر، فينظر فإذا كان البذر مشروطا إعطاؤه من قبل صاحب الأرض فيكون جائزًا؛ لأنه في هذه الصورة لا تتحقق المزارعة قبل الزرع ... ويعلم البذر والأجرة بعد الزرع ... إذ الإعلام عند التأكيد بمنزلة الإعلام وقت العقد. وإذا كان البذر من طرف العامل: أي الزارع، ولم يعين كما أنه لم يعمم فتفسد المزارعة؛ لأنها لازمة في حق صاحب الأرض قبل إلقاء البذر، فلا تجوز، وإذا لم يعين البذر، ولم يعمم أيضاً إلا أن الأرض زرعت فتنقلب المزارعة إلى الصحة، حيث قد أصبح البذر معلومًا؛ لأنه خلى بينه وبين ¬
الأرض، وتركها في يده حتى ألقى بذره، فقد تحمل الضرر فيزول المفسد فيجوز" (¬1). هذا مذهب الحنفية. وأما مذهب الشافعية فقد جاء في مغني المحتاج: "قال الدارمي: ويشترط أيضاً بيان ما يزرعه بخلاف إجارة الأرض للزراعة؛ لأنه هناك شريك، فلا بد من علمه به بخلاف الآخر إذا لا حق له في الزرع" (¬2). وفي مذهب الحنابلة، جاء في مطالب أولي النهى: "وشُرِطَ في عقد مزارعة عِلْمُ جنس بذر ... برؤية أو صفة لا يختلف معها" (¬3). وخالف في ذلك ابن حزم، فقال: إن اتفقا على شيء تطوعًا في الأرض فحسن، وإن لم يذكر شيئاً فحسن، وإن شرط شيء من ذلك في العقد فهو شرط فاسد، وعقد فاسد بناء على مذهبه في الشروط وهو أن الأصل في الشروط البطلان إلا ما نص الشارع على صحته بعينه. يقول في المحلى: فإن اتفقا تطوعا على شيء يزرع في الأرض فحسن، وإن لم يذكرا شيئاً فحسن؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر لهم شيئاً من ذلك، ولا نهى عن ذكره، فهو مباح، ولا بد من أن يزرع فيها شيء ما فلا بد من ذكره، إلا أنه إن شرط شيء من ذلك في العقد، فهو شرط فاسد وعقد فاسد؛ لأنه ليس في كتاب الله تعالى، فهو باطل إلا أن يشترط صاحب الأرض أن لا يزرع فيها ما يضر بأرضه أو شجره -إن كان له فيها شجر- فهذا واجب ولا بد؛ لأن خلافه فساد وإهلاك للحرث. ¬
الراجح
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]. وقال تعالى: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]. فإهلاك الحرث بغير الحق لا يحل (¬1). الراجح: أن بيان ما يزرع شرط في صحة العقد؛ ليعلم كل واحد من المتعاقدين جنس الخارج للتفاوت في قيمة المزروع، والتفاوت في الكلفة التي تلحق العامل من سقيا، ودراسة، وحصاد، ووقت، وحاجته إلى الماء إلى غير ذلك مما تعد جهالته مؤثرة في العقد، ويؤدي إلى التنازع، والله أعلم. ¬
الشرط الثالث في تحديد مقدار البذر
الشرط الثالث في تحديد مقدار البذر [م - 1448] اختلف الفقهاء في اشتراط تحديد مقدار البذر على قولين: القول الأول: لا يشترط؛ لأن مثل هذا يصير معلومًا بإعلام الأرض. وهذا مذهب الحنفية (¬1). جاء في الفتاوى الهندية: "ولا يشترط بيان مقدار البذر؛ لأن ذلك يصير معلومًا بإعلام الأرض" (¬2). ومقتضى التعليل أن مقدار البذر ليس شرطًا إن علمت الأرض، وإلا فهو شرط، وبه يحصل التوفيق بين ما في الخانية وما في الاختيار (¬3). القول الثاني: ذهب الحنابلة إلى أن معرفة مقدار البذر شرط كمعرفة جنسه، ويغني عن ذلك تقدير المكان وتعيينه. جاء في كشاف القناع: "ويعتبر في مزارعة معرفة جنس البذر، ولو تعدد البذر، ومعرفة قدره أي البذر، كالشجر في المساقاة؛ ولأنها معاقدة على عمل، فلم تجز على غير معلوم الجنس والقدر كالإجارة" (¬4). ¬
الراجح
وجاء في الفروع: "ويعتبر معرفة جنس البذر، ولو تعدد، وقدره، وفي المغني: أو تقدير المكان وتعيينه" (¬1). وقال ابن قدامة: "ولو جعل له في المزارعة ثلث الحنطة، ونصف الشعير، وثلثي الباقلا وبينا قدر ما يزرع من كل واحد من هذه الأنواع إما بتقدير البذر، وإما بتقدير المكان وتعيينه، أو بمساحته، مثل أن قال: تزرع هذه المكان حنطة، وهذا شعير، أو تزرع مدين حنطة، ومدين شعير، أو تزرع قفيرًا حنطة، وقفيزين شعيرًا جاز؛ لأن كل واحد من هذه طريق إلى العلم به، فاكتفي به" (¬2). الراجح: الصحيح أن معرفة مقدار البذر ليس بشرط، فيكفي عنه معرفة المكان، والله أعلم. ¬
الشرط الرابع في اشتراط أن يكون البذر من أحدهما
الشرط الرابع في اشتراط أن يكون البذر من أحدهما [م - 1449] اختلف الفقهاء في الطرف الذي يكون عليه البذر على أربعة أقوال: القول الأول: يجوز أن يكون البذر من المزارع، ويجوز أن يكون من صاحب الأرض، ولكن لا يجوز أن يكون منهما معًا. وهذا مذهب الحنفية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). وجه القول بالصحة: أن البذر إن كان من رب الأرض فهو مستأجر للعامل ليعمل في أرضه ببعض الخارج، أو كان البذر من العامل فهو مستأجر للأرض ببعض الخارج (¬2). القول الثاني: يجوز أن يكون البذر من أحدهما، أو منهما معًا بشرط ألا يكون البذر في مقابل الأرض. لئلا يؤدي إلى كراء الأرض بممنوع، وهو مقابلة الأرض بطعام سواء كان مما تنبته كالقمح، أو مما لا تنبته كالعسل، أو بما تنبته، ولو لم يكن طعامًا، كالقطن والكتان. ¬
الدليل الأول
وهذا مذهب المالكية (¬1). واستدل المالكية على ذلك بأدلة، منها: الدليل الأول: استدل المالكية بأن البذر إذا كان في مقابل الأرض فإن ذلك لا يصح لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمخابرة. جاء في جامع التحصيل "قال ابن القاسم: قال مالك: من دفع أرضه إلى رجل يزرعها على أن ما أخرج إليه فيها من الزرع بين الزارع وبين صاحب الأرض فإن الزرع كله للذي زرعه، ويغرم الزارع لصاحب الأرض كراء أرضه. قال محمَّد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه كراء الأرض بالجزء مما يخرج منها، ولا اختلاف في المذهب في أن ذلك لا يجوز؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمخابرة" (¬2). جاء في المنتقى: "قال ابن حبيب: قال مالك: فيما نهي عنه من المحاقلة: هو اكتراء الأرض بالحنطة. ¬
ووجه ذلك من جهة المعنى: أنه منفعة الأرض التي اكتريت لها، وهي المنفعة المقصودة منها إنما هو الطعام الخارج، فإذا اكتراها منه بطعام فهو طعام بطعام غير مقبوض ولا مقدر" (¬1). (ح -924) وقد روى الشيخان من طريق ابن جريج، عن عطاء، سمع جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المخابرة، والمحاقلة، وعن المزابنة، وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه ... الحديث (¬2). (ح -925) وروى الشيخان النهي عن المحاقلة من حديث أبي سعيد الخدري (¬3). وفي رواية مسلم زيادة: والمحاقلة: كراء الأرض. وفي رواية مالك في الموطأ: والمحاقلة: كراء الأرض بالحنطة. (ح -926) وروى الإِمام البخاري بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمزابنة (¬4). (ح -927) وروى البخاري أيضاً بإسناده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة ... الحديث (¬5). (ح -928) وروى مسلم النهي من مسند أبي هريرة، من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عنه به (¬6). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: جاء في الأحاديث السابقة النهي عن المحاقلة والمخابرة. والمحاقلة لها تفسيران عند المالكية: أحدهما: في معنى المزابنة، وذلك شراء الزرع الذي استحصد بحب من جنسه. والثاني: كراء الأرض بما يخرج منها، وقد جاء في حديث أبي سعيد عند مسلم، والموطأ النهي عن المحاقلة، وفيه والمحاقلة كراء الأرض زاد مالك بالحنطة، قالوا: وفي معنى كراء الأرض بالحنطة كراؤها بجميع أنواع الطعام، سواء كان مما يخرج منها، أو من سائر صنوف الطعام (¬1). (ح -929) وقد روى مسلم بسنده عن ابن المسيب مرسلاً، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع المزابنة، والمحاقلة، والمزابنة: ثمر النخيل بالتمر، والمحاقلة: أن يباع الزرع بالقمح، واستكراء الأرض بالقمح (¬2). فذكر ابن المسيب التفسيرين معاً في تعريف المحاقلة. والقولان في المحاقلة قيلا في تفسير المخابرة: أحدهما: أن المخابرة هي كراء الأرض ببعض ما تخرجه مما يزرع فيها (¬3). وقيل: المخابرة هي على معنى المزابنة: بيع الزرع قائمًا بالحب من صنفه (¬4). ¬
ونوقش هذا
ونوقش هذا: لم يرض الجمهور تفسير الإِمام مالك المحاقلة بأنه كراء الأرض بالحنطة، وإنما فسروها كما فسرها جابر عند مسلم، المحاقلة في الزرع: بيع الزرع القائم بالحب كيلاً (¬1). أو هو بيع الحنطة في سنبلها بحنطة صافية ومالك لا يمانع من أن هذا يطلق عليه محاقلة، ولكن لا يقصر المحاقلة على ذلك، بل يشمل هذا ويشمل كراء الأرض بالحنطة، كما ورد في حديث أبي سعيد عند مسلم والموطأ، ومرسل سعيد بن المسيب (¬2). وأجاب ابن قدامة عن حديث أبي سعيد بقوله: "حديث أبي سعيد يحتمل المنع من كرائها بالحنطة إذا اكتراها لزرع الحنطة" (¬3). ولو سلم أن كراء الأرض بالحنطة من قبيل المحاقلة، فإن مالكًا يمنع كراء الأرض بالسمن والعسل واللحم، وليس في ذلك محاقلة. الدليل الثاني: (ح -930) ما رواه مسلم من طريق يعلى بن حكيم، عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج قال: كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنكريها بالثلث، والربع، والطعام المسمى، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي، فقال: ¬
القول الثالث
نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، نهانا أن نحاقل بالأرض، فنكريها على الثلث، والربع، والطعام المسمى، وأمر رب الأرض أن يزرعها، أو يزرعها وكره كراءها وما سوى ذلك (¬1). قال ابن رشد: "وعمدة من أجاز كراءها بكل شيء ما عدا الطعام ... حديث يعلي بن حكيم، عن سليمان بن يسار، عن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكرها بثلث، ولا ربع، ولا بطعام معين، قالوا: وهذا هو معنى المحاقلة التي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها، وذكروا حدثنا سعيد بن المسيب مرفوعًا، وفيه: والمحاقلة استكراء الأرض بالحنطة. . ." (¬2). وقد أجبنا على هذه الأحاديث في حكم المساقاة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والحمد لله. القول الثالث: وقيل: يشترط أن يكون البذر من رب الأرض، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، وعليه جماهير الأصحاب (¬3). قال في الكافي: "وظاهر كلام أحمد - رضي الله عنه - أنه يشترط كون البذر من رب الأرض؛ لأنه عقد يشترك رب المال والعامل في نمائه، فوجب أن يكون رأس المال من رب المال كالمساقاة والمضاربة، فإن شرطه على العامل، أو شرط أن ¬
ويناقش
يأخذ رب الأرض مثل بذره، ويقتسما ما بقي فسدت المزارعة، ومتى فسدت المزارعة فالزرع لصاحب البذر؛ لأنه عين ماله، ولصاحبه عليه أجرة مثله" (¬1). ويناقش: قال ابن تيمية: "وأما من قال: يشترط أن يكون البذر من المالك فليس معهم بذلك حجة شرعية، ولا أثر عن الصحابة، ولكنهم قاسوا ذلك على المضاربة، قالوا: كما أنه في المضاربة يكون العمل من شخص، والمال من شخص، فكذلك المساقاة والمزارعة يكون العمل من واحد، والمال من واحد، والبذر من رب المال. وهذا قياس فاسد؛ لأن المال يرجع في المضاربة إلى صاحبه، ويقتسمان الربح، فنظيره الأرض أو الشجر يعود إلى صاحبه، ويقتسمان الثمر والزرع، وأما البذر فإنهم لا يعيدونه إلى صاحبه، بل يذهب بلا بدل، كما يذهب عمل العامل وعمل بقره بلا بدل، فكان من جنس النفع، لا من جنس المال، وكان اشتراط كونه من العامل أقرب في القياس مع موافقة هذا المنقول عن الصحابة - رضي الله عنهم -، فإن منهم من كان يزارع، والبذر من العامل، وكان عمر - رضي الله عنه - يزارع على أنه إن كان البذر من المالك فله كذا، وإن كان من العامل فله كذا. ذكره البخاري. وهذا هو الصواب" (¬2). وقال أيضاً: "ومن اشترط أن يكون البذر من المالك، ولا يعود فيه، فقوله في غاية الفساد؛ فإنه لو كان كرأس المال لوجب أن يرجع في نظيره كما يقول ذلك في المضاربة" (¬3). ¬
القول الرابع
القول الرابع: يجوز أن يكون البذر من أحدهما، وهذا القول رواية في مذهب الإِمام أحمد، واختاره ابن قدامة وابن تيمية، وقال في الإنحاف: هو الأقوى دليلًا (¬1). وهل يصح أن يكون البذر منهما، روايتان في مذهب الإِمام أحمد، أحدهما: الصحة. والمشهور عند المتأخرين الفساد (¬2). قال ابن قدامة: "وأيهما أخرج البذر جاز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفع خيبر معاملة، ولم يذكر البذر، وفي ترك ذكره دليل على جوازه من أيهما كان، وفي بعض لفظ الحديث ما يدل على أنه جعل البذر عليهم، لقول ابن عمر - رضي الله عنه -: دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخل خيبر وأرضها إليهم على أن يعمولها من أموالهم. رواه مسلم (¬3). وفي لفظ: على أن يعملوها، ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها (¬4) " (¬5). وقال أيضًا: "فإن كان البذر منهما نصفين، وشرطا أن الزرع بينهما نصفان، فهو بينهما، سواء قلنا بصحة المزارعة أو فسادها؛ لأنها إن كانت صحيحة، فالزرع بينهما على ما شرطاه، وإن كانت فاسدة، فلكل واحد منهما بقدر بذره، لكن إن حكمنا بصحتها، لم يرجع أحدهما على صاحبه بشيء. ¬
الراجح
وإن قلنا: من شرط صحتها إخراج رب المال البذر. فهي فاسدة، فعلى العامل نصف أجر الأرض، وله على رب الأرض نصف أجر عمله، فيتقاصان بقدر الأقل منهما، ويرجع أحدهما على صاحبه بالفضل، وإن شرطا التفاضل في الزرع، وقلنا بصحتها، فالزرع بينهما على ما شرطاه، ولا تراجع بينهما. وإن قلنا بفسادها، فالزرع بينهما على قدر بذرهما، ويتراجعان، كما ذكرنا. وكذلك إن تفاضلا في البذر، وشرطا التساوي في الزرع، أو شرطا لأحدهما أكثر من قدر بذره، أو أقل" (¬1). الراجح: جواز أن يكون البذر من أحدهما، أو البذر من كليهما، والبذر يجري مجرى المنافع التي لا يرجع بمثلها، ومن قال: إن البذر يجب أن يكون من رب الأرض قياسًا على مال المضاربة فقد غلط؛ لأن البذر لا يعود إلى صاحبه كما في مال المضاربة، وإنما الذي يعود هو الأرض في المزارعة، والشجر والأرض في المساقاة، والله أعلم. ¬
الشرط الخامس في اشتراط خلط البذر من العاقدين
الشرط الخامس في اشتراط خلط البذر من العاقدين [م - 1450] إذا اشترك صاحب الأرض والعامل بالبذر، فهل من شرط الصحة أن يخلطاه حتى لا يتميز، تكلم على هذه المسألة المالكية، ولهم فيها قولان: الأول: ذهب مالك وابن القاسم إلى صحة الشركة وإن لم يخلطاه، بل تصح، ولو زرع أحدهما في ناحية، والآخر في ناحية، وكان زرع أحدهما متميزًا عن الآخر. وهو أيضًا أصلهما في الشركة في الدراهم والدنانير. وهذا أحد قولي سحنون (¬1). قال في الشرح الصغير: "مذهب مالك وابن القاسم أنه لا يشترط خلط البذرين حقيقة ولا حكماً، بل إذا خرج كل منهما ببذره، وبذره في جهة، فالشركة صحيحة وهو الراجح الذي به الفتوى، وليس لابن القاسم قول باشتراطه خلافًا لما في بعض الشراح، وإنما القولان لسحنون، وقوله باشتراطه ضعيف لا يعول عليه، فكان على الشيخ تركه" (¬2). واختار سحنون في القول الآخر بأن لا بد من خلطهما في المزارعة إما حقيقة وهو معروف، أو حكماً بأن يخرجا البذر معاً، ويبذراه بدون تميز لأحدهما عن الآخر، فإن يتميز بذر أحدهما من الآخر، بأن زرع هذا في فدان، أو في بعضه، وزرع الآخر في الناحية الأخرى فإن الشركة لا تنعقد، ولكل واحد منهما ما أنبت حبه، ويتراجعان في فضل الأكرية، ويتقاصان (¬3). ¬
فإن قيل: لم كان الخلط من شروط الصحة في شركة الزرع، دون شركة الأموال، وما الفرق بينهما؟ أجاب بعض المالكية بأن شركة الزرع لما كانت تشبه الإجارة، وكان البذر فيها معينًا، أشبه الأجرة المعينة، وهي لا بد من تعجيلها في الجملة، فطلب هذا الخلط؛ لأنه بمثابة التعجيل (¬1). ¬
الشرط السادس في تماثل البذرين جنسا
الشرط السادس في تماثل البذرين جنسا [م - 1451] اشترط المالكية في أحد القولين تماثل البذرين، فإن أخرج أحدهما قمحًا، والآخر شعيرًا، أو سلتًا، أو صنفين من القطنية، فقال سحنون: لكل واحد ما أنبته بذره، ويتراجعان في الأكرية. قال القرافي: "قال سحنون: لا يخرج أحدهما قمحًا، والآخر شعيرًا، أو صنفًا آخر؛ لأن التساوي في المخرج صفة ومقدارًا شرط، فإن نزل فلكل واحد ما أثبت بذره، ويتراجعان في الأكرية. وعنه جواز ذلك إذا استوت القيم" (¬1). وقال بعض القرويين: من لم يجز الشركة بالدنانير والدراهم لم يجز المزارعة بطعامين مختلفين، ولو اعتدلت قيمتهما؛ لعدم حصول المناجزة لبقاء يد كل واحد على طعامه، ولكل واحد ما أنبته طعامه، ولا يكون التمكين قبضًا كالشركة الفاسدة بالعروض لا يضمن كل واحد سلعة صاحبه، وإنما يشتركان بأثمان السلع التي وقعت الشركة فيها فاسدة (¬2). وبعض المالكية لم يشترط تماثل البذرين (¬3). قلت: وهو الصواب، فلا يوجد دليل على تماثل البذرين، ولعل اشتراط تماثل البذرين راجع أيضًا مع ما سبق الإشارة إليه إلى اشتراط خلط البذر منهما، فمن رأى اشتراط الخلط اشترط التماثل حيث لا يمكن الخلط بين جنسين مختلفين، ومن لم يشترط الخلط فلا حاجة إلى اشتراط التماثل، والله أعلم. ¬
الشرط السابع في اشتراط تعيين رب البذر
الشرط السابع في اشتراط تعيين رب البذر [م - 1452] هل يشترط تعيين رب البذر في عقد المزارعة؟ وللجواب على ذلك يقال: من قال: إن البذر يجب أن يكون من رب الأرض كالمشهور من مذهب الحنابلة فلا حاجة إلى تعيين رب البذر؛ لأنه معلوم. وأما من جوز أن يكون البذر من رب الأرض أو من العامل كالحنفية فإنه يشترط تعيين رب البذر قطعاً للنزاع، وإعلامًا للمعقود عليه: وهو منافع الأرض، أو منافع العامل؛ لأن البذر إن كان من رب الأرض فالمعقود عليه هو العامل فهو أجير ليعمل في الأرض ببعض الخارج، وإن كان البذر من العامل فالمعقود عليه هي الأرض فهي مستأجرة ببعض الخارج. وعن أئمة بلخ أنه إن كان هناك عرف ظاهر في تلك النواحي أن البذر على من يكون لا يشترط البيان (¬1). وكذا يشترط بيان من عليه البذر عند المالكية؛ لأنهم يمنعون كراء الأرض في مقابل البذر حتى لا يقعون في كراء الأرض ببعض ما يخرج منها. وسبق تحرير مذهب المالكية في مسألة سابقة. ¬
الشرط الثامن في كون الخارج في المزارعة مشتركا بين العاقدين
الشرط الثامن في كون الخارج في المزارعة مشتركا بين العاقدين [م - 1453] اختلف الفقهاء في اشتراط كون الخارج في المزارعة مشتركًا بين المالك والزارع على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية والحنابلة إلى اشتراط أن يكون الخارج مشتركا بين صاحب الأرض والمزارع؛ فإن اشترط أن يكون الخارج من الأرض لأحدهما فسد العقد؛ لأن معنى الشركة لازم لهذا العقد، وكل شرط يكون قاطعًا للشركة يكون مفسدًا للعقد (¬1). جاء في كشاف القناع: "وإن شرط للعامل كل الثمرة فسدت أيضاً، وله أجرة مثله" (¬2). القول الثاني: ذهب المالكية إلى التفريق بين أن يكون ذلك قبل لزوم العقد أو بعده فإن زارعه على أن الربح كله له قبل لزوم العقد لم يصح؛ لأن من شرط صحة المزارعة عندهم التساوي في الربح، كلٌّ بقدر ما أخرج. وإن كان ذلك بعد لزوم العقد صح؛ لأنه من قبيل التبرع (¬3). ¬
جاء في حاشية الدسوقي: "فإن كان المُخْرَج منهما متساويًا فلا بد أن يكون الربح مناصفة، وإن كان الخارج من أحدهما أكثر من الخارج من الآخر فلا بد أن يكون له من الربح بقدر ما أخرج" (¬1). قال في الشرح الكبير: "إلا لتبرع من أحدهما للآخر بشيء من الربح من غير وعد ولا عادة بعد لزوم العقد" (¬2). قال الدسوقي تعليقًا: "لأن التبرع لا يكون إلا بعد العقد، إذا ما كان فيه (يعني في العقد) لم يكن تبرعًا، ولو صرحوا بأنه تبرع؛ لأنه حينئذ مدخول عليه فهو مشترط" (¬3). وجاء في جامع الأمهات: "وأما لو تبرع أحدهما بعد العقد فجائز من غير شرط ولا عادة" (¬4). ¬
الشرط التاسع في اشتراط تخلية الأرض للعامل
الشرط التاسع في اشتراط تخلية الأرض للعامل [م - 1454] اشترط الحنفية لصحة المزارعة التخلية بين الأرض وبين العامل، حتى إذا شرط في العقد عمل رب الأرض مع العامل فسد العقد (¬1). قال الزيلعي: "إذا شرط في العقد ما تفوت به التخلية، وهو عمل رب الأرض مع العامل لا يصح" (¬2). وجاء في الفتاوى الهندية: "ومنها أن تكون الأرض مسلمة إلى العاقد مخلاة: وهو أن يوجد من صاحب الأرض التخلية بين الأرض والعامل حتى لو شرط العمل على رب الأرض لا تصح المزارعة؛ لانعدام التخلية" (¬3). وقال ابن قدامة: "وإن ساقى أحدهما شريكه على أن يعملا معاً، فالمساقاة فاسدة، والثمرة بيتهما على قدر ملكيهما، ويتقاصان العمل إن تساويا فيه" (¬4). وإذا كان هذا في المساقاة فالمزارعة مثلها في الحكم؛ لأنها تقوم على حاجة كل منهما إلى السقي. وهذه المسألة لها علاقة بمسألة سبق بحثها في عقد المساقاة، وهو إذا اشترط العامل على رب المال ما يلزمه فهل يصح العقد؟ وفيها خلاف، والجمهور على أنه لا يصح، واستثنى بعضهم الجذاذ، وخرج ¬
بعضهم قولًا بالصحة في مذهب الإِمام أحمد، فارجع إلى المسألة في باب المساقاة لأهميتها. وقال ابن قدامة: "إن شرط ما لا يفضي إلى جهالة الربح، كعمل رب المال معه ... فهل تفسد المساقاة والمزارعة؟ يخرج على روايتين بناء على الشروط الفاسدة في البيع والمضاربة" (¬1). فهذا نص من ابن قدامة على أن الخلاف في المسألة محفوظ، والله أعلم. وصحح المالكية والحنابلة صحة المشاركة في العمل إذا اشتركوا في الأرض وتساووا في كل شيء، وحكى ابن قدامة الإجماع على جوازه. فقد ذكر المالكية من صور المزارعة الجائزة أن يتساوى الشريكان في جميع ما أخرجاه من عمل وبذر وآلة ونفقة وأرض كأن تكون الأرض بينهما بكراء أو ملك (¬2). وقال ابن قدامة: "ولو كانت الأرض لثلاثة، فاشتركوا على أن يزرعوها ببذرهم، ودوابهم، وأعوانهم، على أن ما أخرج الله بينهم على قدر مالهم فهو جائز، وبهذا قال مالك والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر، ولا نعلم فيه خلافًا؛ لأن أحدهم لا يفضل صاحبيه بشيء" (¬3). ولعل هذه شركة عنان، وليست من المزارعة في شيء. ¬
الشرط العاشر أن يكون نصيب العامل جزءا مشاعا
الشرط العاشر أن يكون نصيب العامل جزءًا مشاعًا [م - 1455] يشترط أن يكون نصيب العامل بالنسبة كالربع والثلث، فإن شرطا لأحدهما آصعًا مسماة، أو دراهم، أو أن يختص رب البذر بمثل بذره فسد العقد. وهذا بالإجماع (¬1). قال في البحر الرائق: "لو شرط لأحدهما قفيزًا مسماة فسدت؛ لأنه يؤدي إلى قطع الشركة في البعض المسمى، أو في الكل، أو لم تخرج الأرض أكثر من ذلك، وكذا إذا شرط أن يدفع قدر بذره لما ذكرنا" (¬2). قال ابن قدامة: "وإن زارعه على أن لرب الأرض زرعًا بعينه، وللعامل زرعًا بعينه، مثل أن يشترط لأحدهما زرع ناحية، وللآخر زرع أخرى، أو يشترط أحدهما ما على السواقي والجدوال، إما منفردًا، أو مع نصيبه، فهو فاسد بإجماع العلماء؛ لأن الخبر صحيح في النهي عنه، غير معارض، ولا منسوخ، ولأنه يؤدي إلى تلف ما عين لأحدهما دون الآخر، فينفرد أحدهما بالغلة دون صاحبه" (¬3). ¬
الشرط العاشر في اشتراط بيان نصيب من لا بذر منه
الشرط العاشر (*) في اشتراط بيان نصيب من لا بذر منه [م - 1456] ذهب الحنفية في القياس بأنه يشترط بيان نصيب من لا بذر منه لصحة المزارعة، وأما بيان نصيب صاحب البذر فلا يلزم إذا بين نصيب صاحبه. وعللوا ذلك: بأن نصيب من لا بذر منه يأخذه أجرًا لعمله، أو لأرضه، فاشترط بيانه إعلامًا بالأجر. وأما نصيب رب البذر فإنه يستحقه بحكم أنه نماء ملكه، لا بطريق الأجر فلم يشترط بيانه (¬1). وذهب الحنابلة بأنه إذا بين نصيب أحدهما لزم أن يكون الباقي للآخر، وهو الصحيح، كما علم نصيب الأب من قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فكان الباقي نصيب الأب (¬2). ¬
الباب الرابع في أحكام المساقاة
الباب الرابع في أحكام المساقاة الفصل الأول في أحكام المساقاة الصحيحة المبحث الأول فيما يلزم العامل في عقدي المساقاة والمزارعة [م - 1457] تكلم الفقهاء فيما يجب على العامل، وما يجب على المالك في عقدي المساقاة والمزارعة، فكان تقريرهم على النحو التالي: الأول: مذهب الحنفية: تكلم الحنفية فيما يلزم العامل وما يلزم المالك، وما يلزم كل واحد منهما: فما قبل الإدراك كسقي، وتلقيح، وحفظ للثمار بالليل والنهار فعلى العامل حتى يطيب الثمر؛ لأن عقد المعاملة قائم بينهما ما لم يدرك الثمر، والحفظ من الأعمال التي تستحق على العامل بعقد المعاملة. وما بعد الإدراك كجذاذ، وحصاد، وحفظ فعليهما على سبيل الاشتراك؛ لأن العقد قد انتهى بإدراك الثمر، وبقي الثمر مشتركًا بينهما، فكان الحفظ بعد ذلك والجذاذ عليهما بقدر ملكيهما، ولو شرط على العامل فسدت اتفاقًا عندهم. وما بعد القسمة كالحمل إلى البيت، والطحن، وأشباههما -فهذه ليست من أعمال المساقاة- فعليهما، لكن فيما هو قبل القسمة على سبيل الاشتراك،
الثاني: مذهب المالكية.
وفيما هو بعدها على كل واحد منهما في نصيبه خاصة؛ لتميز ملك كل واحد منهما عن ملك الآخر (¬1). هذا ملخص مذهب الحنفية. الثاني: مذهب المالكية. قال ابن جزي: "العمل بالحائط على ثلاثة أقسام: أحدها: ما لا يتعلق بالثمرة فلا يلزم العامل بالعقد، ولا يجوز أن يشترط عليه. الثاني: ما يتعلق بالثمرة، ويبقى بعدها كإنشاء حفر بئر، أو عين، أو ساقية، أو بناء بيت يخزن فيه التمر، أو كرس، فلا يلزمه أيضًا، ولا يجوز أن يشترط عليه. الثالث: ما يتعلق بالثمرة، ولا يبقى فهو عليه بالعقد، كالحفر، والزبير، والتقليم، والسقي، والتذكير، والجذاذ، وشبه ذلك" (¬2). وقال ابن رشد الجد: "وعمل الحائط على وجهين: فمنه ما يتعلق بإصلاح الثمرة، ومنه ما لا يتعلق بإصلاحها. فأما ما لا يتعلق بإصلاح الثمرة، فلا تجب على المساقي، ولا يصح أن يشترط عليه ذلك إلا الشيء اليسير كما تقدم (¬3). ¬
وأما ما يتعلق بإصلاح الثمرة، فإنه ينقسم على ضربين: ضرب منه ينقطع بانقطاعها، ويبقى بعده الشيء اليسير. وضرب منه يتأبد، ويبقى أثره. فأما ما ينقطع بانقطاع الثمرة، ويبقى بعده الشيء اليسير، هذا الذي يلزم المساقي، ويجب له به العوض، وذلك مثل الحفر، والسقي، وزبر الكرم، وتقليم الأشجار، والتسريب، وإصلاح مواضع السقي، والتذكير، والجداد، وما أشبه ذلك. وأما ما يتأبد، ويبقى بعد الثمرة، مثل إنشاء حفر بئر، أو إنشاء ظفيرة الماء، أو إنشاء غراس، أو بناء بيت تجنى فيه الثمرة كالجرين، وما أشبه ذلك، فلا يلزم العامل، ولا يجوز اشتراطه عليه عند المساقاة؛ لأنه إذا اشترط ذلك عليه فقد وقع له حصة من الثمن، وهو لو استأجره عليه على انفراده بجزء من الثمرة لم يجز؛ لأنه بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، فكذلك إذا اشترطه عليه في المساقاة؛ لأن العوض قد حصل عليه في الموضعين" (¬1). هذا ما يلزم العامل في المذهب المالكي على وجه الإجمال، وأما على وجه التفصيل: قال في الشرح الكبير: " (وعمل العامل) وجوبًا (جميع ما يفتقر) ¬
الثالث: مذهب الشافعية
الحائط (إليه) (عرفًا) ولو بقي بعد مدة المساقاة (كإبار)، وهو تعليق طلع الذكر على الأنثى (وتنقية) لمنافع الشجر (ودواب وأجراء) ... أي يلزمه الإتيان بهما إن لم يكونا في الحائط ... وعلى العامل إقامة الأدوات، كالدلاء، والمساحي، والأجراء والدواب (وأنفق) العامل على من في الحائط من رقيق وأجراء ودواب (وكسا) من يحتاج للكسوة سواء كان لرب الحائط، أو للعامل" (¬1). وأما أجرة الأجراء فإن كانوا للمالك فعليه أجرتهم، وعلى العامل نفقتهم وكسوتهم، وكذلك لا يلزم العامل الإتيان ببديل لمن يموت أو يمرض من الدواب والعمال، وإن كان الأجراء من العامل لزمته أجرتهم ونفقتهم، ويلزم العامل على الأصح خلف ما بَلي من الحبال والدلاء، وما أشبه ذلك؛ لأنه دخل على أن ينتفع بها حتى تهلك. قال الخرشي: "حكم الأجرة مخالف لحكم النفقة والكسوة، فإنه إنما يلزم العامل أجرة من استأجره هو، وأما من كان في الحائط عند عقد المساقاة فأجرته على ربه، وكذلك لا يلزم العامل أن يخلف ما مات أو مرض من الرقيق والدواب التي في الحائط يوم عقد المساقاة، وخلف ذلك على رب الحائط" (¬2). هذا هو مذهب المالكية إجمالًا وتفصيلًا (¬3). الثالث: مذهب الشافعية: تفصيل مذهب الشافعية ليس ببعيد عن التفاصيل السابقة، ويقسمون العمل إلى أقسام: ¬
الأول: ما يعود نفعه على الثمرة دون الشجر. وهذا ينقسم عندهم ثلاثة أقسام: (أ) قسم يجب عليه فعله من غير شرط، وهو كل ما لا تحصل الثمرة إلا به، كالتلقيح، والإبار. (ب) وقسم لا يجب عليه فعله إلا بالشرط، وهو كل ما فيه مستزاد للثمرة، وقد تصلح بعدمه، كتصريف الجريد، وتدلية الثمرة. (ج) وقسم مختلف فيه، وهو كل ما تكاملت الثمرة قبله، كاللقاط، والجداد، وفيه وجهان في مذهب الشافعية: أحدهما: أنه لا يجب على العامل إلا بشرط لأن ذلك إنما يحتاج إليه بعد تكامل النماء في الثمرة. الوجه الثاني: أنه واجب على العامل بغير شرط؛ لأن ذلك من مصلحة الثمرة، ولا تستغني عنه، وإن تكاملت قبله. قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: وعلى العامل إصلاح الجرين، وحمل الثمرة إلى الجرين، وتجفيفها إن كانت مما يجفف؛ لأن ذلك من مصلحة الثمرة. وأما حفظ الثمرة على النخل وفي الجرين، ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد، والمسعودي أنه لا يجب على العامل، وهو المنصوص. الوجه الثاني: وهو قول ابن الصباغ والصيرمي: أن ذلك يجب على العامل.
الثاني: ما يعود نفعه على الأصل دون الثمرة. وذلك مثل سد الحظار: وهي الحيطان التي تكون حول البستان ليمنع من الدخول إليها، وكذلك حفر الآبار وكري الأنهار، وشق السواقي، فإن هذه الأشياء يحتاج إليها لحفظ الأصل، فلا يجوز اشتراط شيء من ذلك على العامل، فإن شرط شيء من ذلك على العامل فالمساقاة فاسدة، وقال بعض الشافعية: يبطل الشرط، وتصح المساقاة. الثالث: ما يعود نفعه على الأصل والثمرة معًا. كالسقي، وقطع الحشيش المضر بالنخل ونحو ذلك، وهذا على ضربين: الأول: ما لا تصلح الثمرة إلا به، كالسقي فيما لا يشرب بعروقه، فهذا على العامل. الثاني: ما تصلح الثمرة بدونه كقطع الحشيش المضر بالنخل، فهذا فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه واجب على العامل بنفس العقد. الثاني: أنه واجب على رب النخل، واشتراطه على العامل مبطل للعقد؛ لأنه بصلاح الأصل أخص منه بصلاح الثمرة. الثالث: أنه يجوز اشتراطه على العامل لما فيه من زيادة الثمرة، ويجوز اشتراطه على رب النخل لما فيه من صلاح النخل، فلم يتناف الشرطان فيه. فإن شرطه على العامل لزمه، وإن شرط على رب النخل لزمه، وإن أهمل لم يلزم واحداً منهما؛ أما العامل فلأنه لا يلزمه إلا ما كان من موجبات العقد، أو من شروطه، وأما رب النخل فلأنه لا يجبر على تثمير ماله.
الرابع: مذهب الحنابلة.
أما الدولاب والبقر التي يدار عليها، والكش الذي يلقح به، فقيل: هذا على رب النخل؛ لأن هذه الأشياء يحتاج إليها لحفظ الأصل. واختار القاضي أبو الطيب في المجرد أن ذلك على من شرط عليه. هذا هو تفصيل مذهب الشافعية فيما يلزم العامل، وما لا يلزمه (¬1). الرابع: مذهب الحنابلة. قال ابن قدامة: "ويلزم العامل بإطلاق عقد المساقاة ما فيه صلاح الثمرة وزيادتها، مثل حرث الأرض تحت الشجر، والبقر التي تحرث، وآلة الحرث، وسقي الشجر، واستقاء الماء، وإصلاح طرق الماء وتنقيتها، وقطع الحشيش المضر، والشوك، وقطع الشجر اليابس، وزبار الكرم، وقطع ما يحتاج إلى قطعه، وتسوية الثمرة، وإصلاح الأجاجين: وهي الحفر التي يجتمع فيها الماء على أصول النخل، وإدارة الدولاب، والحفظ للثمر في الشجر وبعده حتى يقسم، وإن كان مما يشمس فعليه تشميسه. وعلى رب المال ما فيه حفظ الأصل، كسد الحيطان، وإنشاء الأنهار، وعمل الدولاب، وحفر بئره، وشراء ما يلقح به، وعبر بعض أهل العلم عن هذا بعبارة أخرى، فقال: كل ما يتكرر كل عام فهو على العامل، وما لا يتكرر فهو على رب المال. وهذا صحيح في العمل، فأما شراء ما يلقح به، فهو على رب المال، وإن تكرر؛ لأن هذا ليس من العمل. فأما البقرة التي تدير الدولاب فقال أصحابنا: هي على رب المال؛ لأنها ليست من العمل، فأشبهت ما يلقح به. والأولى أنها على العامل؛ لأنها تراد ¬
المسألة الأولى
للعمل، فأشبهت بقر الحرث، ولأن استقاء الماء على العامل إذا لم يحتج إلى بهيمة فكان عليه، وإن احتاج إلى بهيمة كغيره من الأعمال" (¬1). وجاء في كشاف القناع: "ويلزم العامل في مساقاة ومزارعة ما فيه صلاح الثمرة والزرع وزيادتهما من السقي ... والاستقاء ... والحرث، وآلته، وبقره، والزبال" (¬2). بهذا نكون قد عرضنا مذاهب الأئمة وما بينها من اختلاف فيما يجب على العامل، والذي أجمعوا عليه أنه يلزم العامل هو السقي والتلقيح. قال ابن رشد: "العلماء بالجملة أجمعوا على أن الذي يجب على العامل هو السقي والإبار ... " (¬3). والسقي على العامل سواء كان ذلك بماء حاصل لا يحتاج إلى حفر بئر ولا إدارة دولاب، أو كان الشجر يحتاج إلى الاستقاء، وهو إخراج الماء من بئر ونحوها. وليس على العامل حفر البئر، أو تحصيل الماء بنحو شراء ونحوه فهذا على المالك. هذا مما لم يختلف فيه الفقهاء. واختلفوا فيما دون ذلك، فإن ذلك: [م - 1458] المسألة الأولى: الحفظ. فالحفظ منه ما هو على المالك باتفاق، ومنه ما هو محل خلاف: فحفظ الأصل على المالك يكاد لا يختلفون في ذلك (¬4). ¬
المسألة الثانية
وأما حفظ الثمار فلهم في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: قيل: الحفظ لا يجب على العامل مطلقاً، وهو وجه في مذهب الشافعية، وهو المنصوص. وقيل: يجب على العامل مطلقًا، وهو مذهب الحنابلة. وقيل: حفظ الثمار قبل أن تطيب على العامل، وبعد الإدراك عليهما جميعًا، وهو مذهب الحنفية، وقد سبق ذكر التعليل عند عرض أقوال المذاهب. المسألة الثانية: اختلفوا في الحصاد والدراس والجداد. فقيل عليهما، وهو مذهب الحنفية؛ لأن عقد المساقاة قد انتهى بإدراك الثمر، وبقي الثمر مشتركًا بينهما، فكان الجذاذ عليهما بقدر ملكيهما، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في الكافي لابن قدامة: "وعنه أن الجذاذ عليهما؛ لأنه يوجد بعد تكامل النماء" (¬2). وقيل: على العامل، وهو مذهب المالكية، والمشهور من مذهب الحنابلة، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية؛ لأن ذلك من مصلحة الثمرة، ولا تستغني عنه، وإن تكاملت قبله. جاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن أخذت حائطًا مساقاة، على من جذاذ الثمرة في قول مالك؟ قال: على العامل" (¬3). ¬
المسألة الثالثة: اختلفوا فيما إذا شرط الجذاذ على أحدهما
وقيل: على المالك وحده، إلا أن يشترط على العامل، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية؛ لأن ذلك إنما يحتاج إليه بعد تكامل النماء في الثمرة، وانتهاء عقد المساقاة. قال الشيرازي: "واختلف أصحابنا في الجذاذ واللقاط، فإنهم من قال: لا يلزم العامل ذلك؛ لأن ذلك يحتاج إليه بعد تكامل النماء. ومنهم من قال: يلزمه؛ لأنه لا تستغني عنه الثمرة" (¬1). المسألة الثالثة: اختلفوا فيما إذا شرط الجذاذ على أحدهما: فقيل: لا يصح اشتراط الجذاذ على العامل، وهذا مذهب الحنفية، فإن شرط فسدت المساقاة. جاء في الفتاوى الهندية: "وأما الشرائط المفسدة فأنواع ... منها شرط الجذاذ والقطاف على العامل بلا خلاف" (¬2)، يعني في المذهب. وقيل: يصح اشتراط الجذاذ على أحدهما، وهذا مذهب المالكية والحنابلة واختيار أبي يوسف من الحنفية. جاء في المدونة: "أرأيت المساقي إذا اشترط على رب النخل، التلقيح، أيجوز أم لا؟ قال: نعم، وهو قول مالك. قلت: فإن لم يشترطه، فعلى من يكون التلقيح؟ قال: التلقيح على العامل؛ لأن مالكا قال: جميع عمل الحائط على العامل" (¬3). وجاء في الاستذكار: "وإن اشترط المساقي على رب المال جذاذ الثمر، ¬
المسألة الرابعة
وعصر الزيتون جاز، وإن لم يشترطه فهو على العامل، ومن اشترط عليه منهما جاز" (¬1). وقال في الإنصاف: لو شرط على أحدهما ما يلزم الآخر لم يجز، وفسد الشرط على الصحيح من المذهب إلا في الجداد ... اختاره القاضي، وأبو الخطاب، وغيرهما (¬2). وقال ابن قدامة: روي عن أحمد ... أن الجذاذ عليهما، فإن شرطه على العامل جاز (¬3). وقال ابن الهمام في فتح القدير: "وعن أبي يوسف أنه يجوز إذا شرط ذلك على العامل -يعني الحصاد والجذاذ- اعتبارًا بالاستصناع، وهو اختيار مشايخ بلخ، قال شمس الأئمة السرخسي: هذا هو الأصح في ديارنا" (¬4). المسألة الرابعة: اختلفوا في آلات الحرث والدلاء والسقي، والبقر. فقيل: على العامل؛ لأن هذه آلات العمل، وأسباب صلاح الثمرة، فتجب على العامل. وقيل: على المالك؛ لأن ذلك لا يتكرر كل عام، ويحتاج إليه في حفظ الأصول. وقيل: على العامل إلا أن تكون في الحائط عند العقد. وهذا مذهب المالكية، وسبق نقل النصوص عن كتب المذاهب. ¬
الخامسة: السماد على المالك، وتفريقه في الأرض على العامل قياسًا على التلقيح، حيث كان اللقاح على المالك، ووضعه في موضعه على العامل (¬1). قال ابن قدامة: "فأما تسميد الأرض بالزبل إن احتاجت إليه فشراء ذلك على رب المال؛ لأنه ليس من العمل فجرى مجرى ما يلقح به، وتفريق ذلك في الأرض على العامل كالتلقيح" (¬2)، وأرى أن المرجع فيما على العامل أو فيما على المالك يرجع إلى أمرين: الأول: تحكيم العرف البخاري. الثاني: أن الأصل فيما يرجع إلى صلاح الثمرة وحده أنه على العامل، وأن الأصل فيما يرجع إلى صلاح الأصل وحده أنه على المالك، وما يرجع إلى صلاحهما معًا، فإن كان يتكرر كل عام، فهو على العامل، وإن كان لا يتكرر فهو على المالك، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني المساقي أمين لا يضمن إلا بالتعدي أو بالتفريط
المبحث الثاني المساقي أمين لا يضمن إلا بالتعدي أو بالتفريط المساقى أمين لا ضمان عليه فيما تلف بغير تعد. إذن المالك بالتصرفات يسقط الضمان (¬1). [م - 1459] المساقى أمين؛ لأنه يتصرف في المال بإذن صاحبه، فلا يضمن ما تلف إلا أن يكون هناك تعد أو تفريط، والقول قوله فيما يدعيه من هلاك؛ لأن رب المال ائتمنه بدفع ماله إليه كالمضارب. وهذا بالاتفاق. قال الشيرازي: "والعامل أمين فيما يدعي من هلاك، وفيما يدعى عليه من خيانة؛ لأنه ائتمنه رب المال، فكان القول قوله" (¬2). وجاء في الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: "وعامل المساقاة أمين باتفاق الأصحاب" (¬3). فإذا ادعى المالك على العامل خيانة أو سرقة، فالقول قول العامل؛ لأنه أمين (¬4). فإن ثبتت خيانته بإقرار أو بينة، أو نكول كما لو حلف المدعي فنكل العامل، فقد اختلف العلماء في كون هذا سبباً يستحق به فسخ المساقاة إلى ثلاثة أقوال: ¬
القول الأول
القول الأول: ذهب الحنفية أن هذا عذر تفسخ به المساقاة. جاء في الهداية: "وتفسخ بالأعذار ... ومن جملتها أن يكون العامل سارقًا يخاف عليه سرقة السعف، والثمر قبل الإدراك؛ لأنه يلزم صاحب الأرض ضررًا لم يلتزمه، فتفسخ به" (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أنه يتحفظ منه إن خاف، وليس له أن يخرجه، ويفسخ العقد، فإن لم يقدر على التحفظ شكاه للحاكم ليجبره على أن يساقي أو يكري لأمين (¬2). جاء في المدونة: "أرأيت إن اكترى مني رجل دارًا، أو أخذ حائطي مساقاة، فإذا هو سارق مبرح، أخاف عليه أن يذهب بثمرة حائطي، أو يقطع جذوعي، أو يخرب داري، ويبيع أبوابها، أيكون لي أن أخرجه في قول مالك؟ قال: لم أسمع من مالك فيه شيئًا، وأرى المساقاة والكراء لازمًا له، وليتحفظ منه إن خاف، وليس له أن يخرجه" (¬3). القول الثالث: ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن للمالك أن يضم إليه من يشرف عليه إلى أن يتم العمل، ولا تزال يده؛ لأن العمل حق عليه، ويمكن استيفاؤه منه بهذا. ¬
وأجرة المشرف على العامل إن ثبتت خيانته، وإلا كان على المالك إن لم تثبت. قال الغزالي: "إذا ادعى المالك عليه خيانة، أو سرقة، فالقول قوله، فإنه أمين، فإن أقام حجة نصب عليه مشرف إن أمكن أن يحفظ به، وألا تزال يده، ويستأجر عليه، ثم أجرة المشرف على العامل إن ثبتت خيانته بإقراره، أو ببينة، وإلا فعلى المالك" (¬1). وقال ابن قدامة: "العامل أمين، والقول قوله فيما يدعيه من هلاك، وما يدعى عليه من خيانة؛ لأن رب المال ائتمنه بدفع ماله إليه، فهو كالمضارب، فإن اتهم حلف، فإن ثبتت خيانته بإقرار، أو ببينة، أو نكوله، ضم إليه من يشرف عليه. فإن لم يمكن حفظه استؤجر من ماله من يعمل عمله. وبهذا قال الشافعي. وقال أصحاب مالك: لا يقام غيره مقامه، بل يحفظ منه؛ لأن فسقه لا يمنع استيفاء المنافع المقصودة منه، فأشبه ما لو فسق بغير الخيانة. ولنا: أنه تعذر استيفاء المنافع المقصودة منه، فاستوفيت بغيره، كما لو هرب. ولا نسلم إمكان استيفاء المنافع منه؛ لأنه لا يؤمن منه تركها، ولا يوثق منه بفعلها، ولا نقول: إن له فسخ المساقاة، وإنما لم يمكن حفظها من خيانتك، أقم غيرك يعمل ذلك، وارفع يدك عنها؛ لأن الأمانة قد تعذرت في حقك، فلا يلزم رب المال ائتمانك، وفارق فسخه بغير الخيانة؛ فإنه لا ضرر على رب المال، وها هنا يفوت ماله" (¬2). ¬
المبحث الثالث من تجب عليه زكاة الحائط
المبحث الثالث من تجب عليه زكاة الحائط وجوب الزكاة فرع عن ملك الثمرة. [م - 1460] الزكاة واجبة في المال، والمال وقت وجوب الزكاة هل كان للمالك، وحده؟ أو كان العامل شريكًا للمالك في الثمرة؟ هذه المسألة ترجع إلى مسألة أخرى، متى يملك العامل الثمرة، هل يملكها بالظهور، أو بالقسمة؟ وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: يملك العامل الثمرة بالظهور، وعليه فالزكاة واجبة على العامل وعلى المالك كل بحسب نصيبه من الغلة بشرط أن يبلغ نصيب كل واحد منهما نصابًا. ومن كان نصيبه أقل من نصاب فلا شيء عليه باعتبار أن الخلطة لا تؤثر في غير السائمة على الصحيح، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬1). جاء في روضة الطالبين: "ويملك العامل حصته من الثمرة بالظهور على المذهب. وقيل: قولان كالقراض" (¬2). وجاء في التنبيه: "ويملك العامل حصته من الثمرة بالظهور، وزكاته عليه. وقيل: فيها قولان: أحدهما: هذا. والثاني: أنه لا يملك إلا بالتسليم" (¬3). ¬
وجه القول بأن الثمرة تملك بالظهور
وجه القول بأن الثمرة تملك بالظهور: أن الثمرة لما لم تكن وقاية لرأس المال كما في القراض ملكت بالظهور. القول الثاني: الزكاة لا تملك إلا بالقسمة، وعليه فالمال وقت وجوب الزكاة يملكه المالك، وهذا مذهب المالكية، ولهذا اشترطوا لوجوب الزكاة على المال أن يكون رب المال مسلمًا، فإن كان كافرًا لم تجب الزكاة عليه في حصته، ولا في حصة العامل، حتى لو كان العامل حرًا مسلمًا؛ لأن وقت وجوب الزكاة كانت الثمار على ملك صاحبها، وهو ليس من أهل الزكاة، ولا يملك العامل الثمرة إلا بعد بدو الصلاح، والزكاة قد وجبت في هذه الثمار قبل بدو الصلاح، وقبل قسمتها. فإن كان رب المال مسلمًا وجبت الزكاة على المال، فيبدأ بها، ثم يكون ما بقي بينهما على شرطهما. جاء في المدونة: "قلت: أيحل لرب النخل أن يشترط الزكاة على العامل في الحائط، أو يشترط ذلك العامل على رب الحائط؟ قال: أما أن يشترطه رب الحائط على العامل فلا بأس به؛ لأنه إنما ساقاه على جزء معلوم، كأنه قال له: لك أربعة أجزاء ولي ستة. قلت: وهذا قول مالك؟ قال: نعم. قلت: وإن اشترطه العامل على رب الحائط؟ قال: إن اشترط أن الصدقة في نصيب رب الحائط، على أن للعامل خمسة أجزاء، ولرب الحائط خمسة أجزاء، وعلى أن الصدقة في جزء رب المال يخرجه من هذه الخمسة الأجزاء، التي هي له، فلا بأس بذلك. قال: وقال لي
القول الثالث
مالك في العامل: ما أخبرتك، إذا اشترطه العامل على رب الحائط. وهذا عندي مثله إذا اشترطه في الثمرة بعينها. قلت: فإن اشترطه في غير الثمرة، في العروض أو الدراهم؟ قال: لا يحل شرطهما، وهو قول مالك. قلت: أرأيت الزكاة في حصة من تكون؟ قال: يبدأ بالزكاة، فتخرج، ثم يكون ما بقي بينهما على شرطهما، وهذا قول مالك" (¬1). القول الثالث: ذهب بعض الحنابلة أن الغلة إذا بلغت نصابًا وجبت الزكاة عليهما وإن كان نصيب أحدهما لا يبلغ نصابًا باعتبار أن الخلطة مؤثرة في بلوغ النصاب، ولو لم يكن المال سائمة، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). الراجح: أن المال يملك بالظهور، والزكاة عليهما في نصيبهما إذا بلغ نصيب كل واحد منهما نصابًا، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في نفقة عامل المساقاة
المبحث الرابع في نفقة عامل المساقاة [م - 1461] نفقة عامل المساقاة عليه، وليست على رب النخل، ولا يحق له أن يأكل من الثمرة شيئًا؛ لأنه مال مشترك. جاء في المدونة: "أرأيت إن خرجت من المدينة أريد أن أعمل في الحائط الذي أخذته مساقاة، أين نفقتي، وعلى من هي؟ قال: عليك نفقتك، ولا يشبه هذا القراض؛ لأنه ليس من سنة العامل في الحائط أن تكون نفقته على رب الحائط" (¬1). قلت: لم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعان أهل خيبر بشيء. قال ربيعة كما في المدونة: "لا يكون شيء من النفقة على رب العنب، وعلى ذلك كانت مساقاة الناس" (¬2). وقد قال مثله الليث وابن وهب (¬3). [م - 1462] وأما نفقة العمال ففيها خلاف بين أهل العلم: القول الأول: ذهب المالكية إلى أن نفقة العمال على العامل، وأما أجرتهم فعلى من استأجرهم سواء كان المستأجر المالك أو العامل، ولا يكون شيء من النفقة في ثمرة الحائط. ¬
القول الثاني
وجاء في المدونة: "قلت: أرأيت نفقة العامل نفسه، أتكون من ثمرة الحائط أم لا؟ قال: على نفسه نفقته، ونفقة العمال، والدواب، ولا يكون شيء من النفقة في ثمرة الحائط. قلت: وهذا قول مالك؟ قال: نعم" (¬1). وقد نص المالكية بأن العامل لا يأكل من الثمر شيئًا؛ لأنه مال مشترك (¬2). القول الثاني: جوز الشافعية في الأصح أن يعمل مع العامل غلمان رب المال، وأما نفقتهم فإن اشترط على العامل صح؛ لأن في عملهم ما يرجع إلى صلاح الثمرة، وحفظها. وإن لم يشرط على العامل ففيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها على العامل؛ لأن العمل مستحق عليه، فكانت النفقة عليه. الثاني: أنها على رب المال؛ لأنه شرط عملهم عليه، فكانت النفقة عليه. الثالث: أنها من الثمرة؛ لأن عملهم على الثمرة، فكانت النفقة منها (¬3). ولم أقف على نص آخر عند الحنفية والحنابلة، والله أعلم. ¬
المبحث الخامس في مساقاة العامل غيره
المبحث الخامس في مساقاة العامل غيره قال ابن قدامة: الأذن إذا اختص بشيء لم يتجاوزه (¬1). [م - 1463] هل للمساقي أن يساقي غيره بدون أن يقول له المالك: اعمل فيه برأيك، وبدون إذن من رب الشجر؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: ليس له أن يساقي غيره إلا بإذن رب الشجر، أو يعطيه تفويضًا عامًا بأن يقول له: اعمل فيه برأيك. وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة (¬2). وجهه: أن الساقي عامل في المال بجزء من نمائه، فلم يجز أن يعامل غيره، فهو كالمضارب. ولأنه إنما أذن له في العمل فيه، فلم يجز أن يأذن لغيره كالوكيل لا يملك حق التوكيل، ولأنه قد لا يأتمنه، ولا يرضى بدخوله ملكه. ولأن العامل ليس كالمستأجر الذي يملك المنفعة له أن يحل مكانه غيره، فمنافع الشجر ليست مستحقة للساقي، وإنما هو شريك في الثمرة بشرط عمله هو، فاختص به. ¬
القول الثاني
القول الثاني: إن اشترط رب الحائط عمل العامل بعينه لم يكن له أن يساقي غيره، وإن لم يشترط عليه ذلك فله يساقي غيره بمثل الجزء الذي سوقي عليه أو أقل، ولو بغير إذن رب الحائط بشرط أن يكون الثاني أمينًا، ولو كان أقل أمانة من الأول، ويلزم رب الحائط قبوله، فإن ساقى غير أمين ضمن، وليست المساقاة كالمضاربة لا يجوز للعامل أن يعطيه لغيره إلا بإذن المالك؛ لأن مال القراض مما يغاب عليه، ويمكن إخفاؤه، وادعاء ضياعه بخلاف الحائط. وهذا مذهب المالكية (¬1). القول الثالث: إن كان عقد المساقاة في الذمة، بأن قال: ألزمت ذمتك سقي هذه الأشجار وتعهدها، فللعامل أن يعامل غيره لينوب عنه، وإن كانت المساقاة على عين العامل لم يكن له أن يستنيب ويعامل غيره، فلو فعل انفسخت المساقاة وكانت الثمار كلها للمالك، ولا شيء للعامل الأول، وأما الثاني فإن علم فساد العقد فلا شيء له، وإلا ففي استحقاقه أجرة المثل قولان. وهذا مذهب الشافعية (¬2). ¬
وجه التفريق بين المساقاة في الذمة والمساقاة على عين العامل
وجه التفريق بين المساقاة في الذمة والمساقاة على عين العامل: أن المساقاة إذا كانت واردة على عين الساقي تعين على الساقي أن يقوم بذلك بنفسه؛ لأن العقد وقع على منافع نفسه، لا على عمل غيره. وإن كان التزام المساقاة في ذمة الساقي لم يتعين عليه مباشرته بنفسه، فسواء قام بذلك بنفسه، أو قام بذلك غيره فقد حصل مقصود المالك. فالشافعية جعلوا حكم الساقي حكم الأجير، والعمل إذا كان واردًا على عين الأجير تعين عليه أن يقوم بذلك بنفسه، وإن كان العمل واردًا على ذمته كالأجير المشترك جاز له أن يستأجر غيره يإنجاز ما استؤجر عليه إذا لم يشترط عليه أن يقوم بذلك بنفسه، وقد بينا أدلة ذلك في عقد الإجارة. الراجح: أن عقد المساقاة في الأحكام كعقد المضاربة، وليس كعقد الإجارة، ولو نزلنا أحكام الإجارة على عقد المساقاة لم تصح المساقاة أصلاً؛ لأن الأجرة وهي الثمرة مجهولة معدومة، وإذا كان المضارب لا يحق له أن يضارب غيره إلا بإذن رب المال فكذلك المساقى لا يحق له أن يساقي غيره إلا بإذن رب المال، لأن رب المال إنما رضي مشاركة هذا العامل، ولم يرض مشاركة غيره، والله أعلم.
المبحث السادس مساقاة الشريك شريكه
المبحث السادس مساقاة الشريك شريكه الأصل جواز الجمع بين أكثر من عقد إذا لم يترتب على الجمع محذور شرعي. [م - 1464] إذا كان النخل مشتركًا بين رجلين، فهل يصح أن يدفعه أحدهما إلى الآخر مساقاة؟ اختلف العلماء في هذا على قولين: القول الأول: لا يصح مطلقاً، وهذا مذهب الحنفية. جاء في البحر الرائق: "إذا كان النخل بين اثنين، فدفع أحدهما لصاحبه معاملة على أن يقوم عليه، ويسقيه، وما خرج بينهما أثلاثًا، ثلثه للدافع، وثلثاه للعامل فهذه المعاملة فاسدة" (¬1). وجاء في الدر المختار: "دفع الشجر لشريكه مساقاة لم يجز، فلا أجر له؛ لأنه شريك، فيقع العمل لنفسه" (¬2). وفي تنقيح الفتاوى الحامدية: "لأنه لا يعمل شيئاً لشريكه إلا ويقع بعضه لنفسه، فلا يستحق الأجر" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب الشافعية والحنابلة إلى صحة مساقاة الشريك لشريكه بشرطين: أحدهما: أن يستقل بالعمل، فإن شرط على شريكه العمل فسدت المساقاة. الثاني: أن يكون له من الثمرة زيادة على حصته. فإن كان نصيب العامل بقدر حصته، فسدت المساقاة، وهل يستحق العامل شيئًا مقابل عمله؟ قيل: لا؛ لأنه متبرع، وهذا هو المشهور عند الحنابلة. وقيل: يستحق أجرة المثل، وهو أحد الوجهين في مذهب الحنابلة. جاء في مغني المحتاج: "وله مساقاة شريكه في الشجر إذا استقل الشريك بالعمل فيها، وشرط المالك له أي الشريك زيادة على حصته، كان يكون الشجر بينهما نصفين، فيشرط له ثلثي الثمرة، ليكون السدس عوض عمله" (¬1). وجاء في كشاف القناع: "وإن ساقى أحد الشريكين شريكه، وجعل له من الثمر أكثر من نصيبه، مثل أن يكون الأصل بينهما نصفين، فجعل له ثلثي الثمرة صح، وكان السدس حصته من المساقاة، كما لو ساقى أجنبيًا بذلك، وإن جعل الثمرة بينهما نصفين، أو جعل للعامل الثلث فسدت المساقاة؛ لأنه لم يجعل للعامل شيئًا في مقابلة عمله، ويكون الثمر بينهما بحكم الملك نصفين ... ولا يستحق العامل شيئًا في نظير عمله؛ لأنه متبرع به" (¬2). ¬
الراجح
قال ابن قدامة: "وذكر أصحابنا وجهًا آخر: أنه يستحق أجر مثله؛ لأن المساقاة تقتضي عوضًا، فلا تسقط برضاه بإسقاطه كالنكاح، ولم يسلم له العوض، فيكون له أجر مثله. ولنا أنه عمل في مال غيره متبرعًا، فلم يستحق عوضًا، كما لو لم يعقد المساقاة، ويفارق النكاح لوجهين: أن عقد النكاح صحيح، فوجب به العوض لصحته. وهذا فاسد لا يوجب شيئًا. الثاني: أن الأبضاع لا تستباح بالبذل والإباحة، والعمل هنا يستباح بذلك" (¬1). وقال ابن قدامة: "وإن ساقى أحدهما شريكه على أن يعملا معًا، فالمساقاة فاسدة، والثمرة بينهما على قدر ملكيهما، ويتقاصان العمل إن تساويا فيه، وإن كان لأحدهما فضل، نظرت: فإن كان قد شرط له فضل ما في مقابلة عمله استحق ما فضل له من أجر المثل. وإن لم يشترط له شيئًا فلا شيء له إلا على الوجه الذي ذكره أصحابنا وتكلمنا عليه" (¬2). الراجح: أرى أن مساقاة الشريك لشريكه جائزة مطلقًا، غاية ما فيها أنها تجمع بين عقدي الشركة والمساقاة، وهذا لا محذور فيه، كما جاز ذلك في عقد المضاربة عند الحنفية والحنابلة بحيث يكون المال منهما، والعمل من أحدهما، واصطلح على تسمية العقد بأنه يجمع بين عقدي المشاركة والمضاربة، وإذا كان نصيب العامل أقل من نصيب شريكه، أو مساويًا له كان العامل متبرعًا بعمله وبجزء من نصيبه من الثمرة، فإذا رضي ذلك فهو محسن، ولا محذور في ذلك شرعا، والله أعلم. ¬
المبحث السابع في مساقاة حوائط عدة
المبحث السابع في مساقاة حوائط عدة [م - 1465] إذا ساقاه حوائط عدة في صفقات متعددة جاز مطلقاً سواء كان نصيب العمل متفقًا أو مختلفًا بشرط ألا يجعل أحد العقدين شرطاً في الآخر. فإن قال: أساقيك على حائطي الغربي على النصف بشرط أن أساقيك على حائطي الشرقي على الثلث أو على النصف. فهذه الصورة ممنوعة عند جمهور الفقهاء؛ لأنها عندهم في معنى بيعتين في بيعة (¬1). وسبق بحث اشتراط عقد في عقد آخر في عقد البيع عند الكلام على شروط البيع، ورجحت الصحة بشرط ألا يتخذ حيلة على الربا. وإن ساقاه حوائط عدة بصفقة واحدة، أو ساقاه حائطًا واحداً فيه ثمار مختلفة، بعضها بالثلث، وبعضها بالنصف، وهما يعرفان كل صنف، كان كحوائط مختلفة. فقيل: تصح المساقاة مطلقاً. وهو مذهب الجمهور (¬2). جاء في مختصر المزني: "فإن ساقاه أحدهما نصيبه على النصف، والآخر نصيبه على الثلث جاز، ولو ساقاه على حائط فيه أصناف من دقل، وعجوة، وصيحاني على أن له من الدقل النصف، ومن العجوة الثلث، ومن الصيحاني الربع، وهما يعرفان كل صنف كان كثلاثة حوائط معروفة، وإن جهلاً أو ¬
أحدهما كل صنف لم يجز" (¬1). وخالف في ذلك المالكية، فقالوا: إن كانت الصفقات متعددة جاز مطلقًا، وإن كانت الصفقة واحدة اشترط أن يكون النصيب متفقًا، ولا يجوز بجزء مختلف، وإن كان في الحائط أصناف من الثمر لم يجز أن يأخذ من صنف النصف، ومن صنف آخر الثلث، فلا بد أن يكون نصيب العامل متفقًا. وهذا مذهب المالكية (¬2). قال ابن جزي: "وتجوز مساقاة حوائط عدة في صفقات متعددة بجزء متفق أو مختلف، وأما في صفقة واحدة فبجزء متفق لا غير" (¬3). قال في المدونة: "أرأيت إن دفعت إليه نخلًا مساقاة حائطًا على النصف، وحائطًا على الثلث، أيجوز ذلك في قول مالك؟ قال: لا يجوز ذلك عند مالك. قلت: لم؟ قال: للخطار؛ لأنهما تخاطرا في الحائطين إن ذهب أحدهما غبن أحدهما صاحبه في الآخر. قلت: أرأيت إن دفع إليه حائطين له على أن يعملهما كل حائط منهما على النصف، أو الثلث، أو كل حائط منهما على الربع، أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: نعم. قلت: ولا يكون للخطار ها هنا موضع. قال: ليس للخطار ها هنا موضع قال: وكذلك ساقى النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر كلها على النصف، حيطانها كلها، وفيها الجيد والرديء" (¬4). وقول الجمهور أرجح، والله أعلم. ¬
المبحث الثامن في التخيير في المساقاة إن كان سيحا فبكذا أو كلفة فبكذا
المبحث الثامن في التخيير في المساقاة إن كان سيحًا فبكذا أو كلفة فبكذا [م - 1466] نص الشافعية والحنابلة في المشهور أنه لا تصح المساقاة على التخيير. جاء في مختصر المزني: "ولو ساقاه على أنه إن سقاها بماء سماء أونهر فله الثلث، وإن سقاها بالنضح فله النصف كان هذا فاسدا؛ لأن عقد المساقاة كان والنصيب مجهول، والعمل غير معلوم كما لو قارضه بمال على أن ما ربح في البر فله الثلث، وما ربح في البحر فله النصف، فإن عمل كان له أجر مثله، فإن اشترط الداخل أن أجرة الأجراء من الثمرة فسدت المساقاة" (¬1). وقال ابن قدامة: "وإن ساقاه على أنه إن سقي سيحًا فله الثلث، وإن سقي بكلفة فله النصف لم يصح؛ لأن العمل مجهول، والنصيب مجهول، وهو في معنى بيعتين في بيعة. ويتخرج أن يصح قياسًا على الإجارة" (¬2). وهذا القول هو الصواب: والعمل ليس مجهولاً، وقد سبق بحث مسائل مشابهة لهذه المسألة في عقد البيع والإجارة، كما لو قال: هذه السلعة نقدًا بكذا ومؤجلة بكذا، وافترقا وقد أخذا بأحدهما. ومثله لو قال: إن خطته بيومين ذلك كذا، وإن خطته بيوم واحد ذلك كذا وكذا. فارجع إلى أدلة هذه المسألة فإنها شبيهة لمسألتنا، والله أعلم. ¬
المبحث التاسع في جواز اشتراط العامل غلمان رب المال
المبحث التاسع في جواز اشتراط العامل غلمان رب المال [م - 1467] اختلف الفقهاء في جواز اشتراط العامل غلمان رب المال: فقيل: يجوز له أن يشترطهم، وهو مذهب الشافعية، ووجه في مذهب الحنابلة (¬1). وجه القول بالجواز: أن غلمان رب المال من ماله، فجاز أن تعمل تبعًا لماله، كثور الدولاب، وكما يجوز في القراض أن يدفع إلى العامل بهيمة يحمل عليها. وقيل: ليس له أن يشترطهم، وهو المشهور من مذهب الحنابلة. وجهه: أن يد الغلام كيد مولاه، وعملهم كعمله، فإذا كان لا يجوز لرب النخل أن يعمل مع العامل لم يجز أن يعمل غلمانه معه. قال ابن قدامة: "وإن شرط أن يعمل معه غلمان رب المال، فهو كشرط عمل رب المال؛ لأن عملهم كعمله، فإن يد الغلام كيد مولاه" (¬2). وقيل: إن كان الغلمان والدواب في الحائط يوم العقد لم يصح اشتراط إخراجهم إلا أن يخرجهم قبل العقد فلا بأس، وإن لم يكونوا في الحائط لم يجز اشتراطهم على رب الحائط، وجاز اشتراط الشيء اليسير كغلام أو دابة في ¬
وجه هذا القول
الحائط الكبير، وبشرط الخلف إن كان كل منهما معينًا، وهذا مذهب المالكية (¬1). وجه هذا القول: أما اشتراط أن يكون الحائط كبيرًا فإن الحائط إذا كان صغيرًا ربما كفاه عمل الغلام، فيصير كأنه اشترط جميع العمل على ربه، وهذا لا يصح. وأما اشتراط الخلف في الغلام المعين فلأن الغلام غير المعين يجب عليه إبداله إذا تخلف لموت ونحوه؛ لأن الواجب متعلق بالذمة، وأما الغلام المعين فلا يجب إبداله إذا تخلف، فوجب أن يشترط البدل في الغلام المعين إذا تخلف؛ لينضبط العمل مدة المساقاة، والله أعلم. وجاء في المدونة: "كل شيء ليس في الحائط يوم أخذت الحائط مساقاة فلا يصلح أن يشترط على رب المال شيء من ذلك إلا أن يكون الشيء التافه اليسير مثل الغلام والدابة. قلت: وهذا قول مالك؟ قال: نعم. قلت: ولما كره مالك للعامل أن يشترط على رب المال ما ذكرت؟ قال: لأنها زيادة ازدادها عليه. قلت: أرأيت التافه اليسير لم جوزته؟ قال: لأن مالكًا جوز أيضًا لرب المال أن يشترط على المساقي خم العين، وسرو الشرب، وقطع الجريد، وإبار النخل، والشيء اليسير يكون في الضفيرة بينهما ولو عظمت نفقته في الضفيرة لم يصلح أن يشترطه على العامل، وقد بلغني أن مالكاً سهل في الدابة الواحدة، وهو عندي إذا كان الحائط له قدر يكون كبيرًا؛ لأن من الحوائط عندنا بالفسطاط من ¬
تجزئه الدابة الواحدة في عمله، فإذا كان الحائط هكذا له قدر كان قد اشترط على رب المال عمل الحائط. . ." (¬1). وأما نفقة العمال والدواب: فذهب المالكية إلى أن نفقة العمال على العامل مطلقاً، وأما أجرتهم فعلى ربهم، ولا يكون شيء من النفقة في ثمرة الحائط. وجاء في المدونة: "قلت: أرأيت نفقة العامل نفسه، أتكون من ثمرة الحائط أم لا؟ قال: على نفسه نفقته، ونفقة العمال، والدواب، ولا يكون شيء من النفقة في ثمرة الحائط. قلت: وهذا قول مالك؟ قال: نعم" (¬2). وذهب الشافعية إلى أن النفقة إن اشترطت على العامل صح؛ لأن في عملهم ما يرجع إلى صلاح الثمرة، وحفظها. وإن لم تشترط على العامل ففيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها على العامل؛ لأن العمل مستحق عليه، فكانت النفقة عليه. الثاني: أنها على رب المال؛ لأنه شرط عملهم عليه، فكانت النفقة عليه. الثالث: أنها من الثمرة؛ لأن عملهم على الثمرة، فكانت النفقة منها (¬3). وقال ابن قدامة: "إذا شرط غلمانا يعملون معه، فنفقتهم على ما يشترطان عليه. فإن أطلقا، ولم يذكرا نفقتهم، فهي على رب المال ... فإن شرطها على العامل، جاز، ولا يشترط تقديرها .. وقال محمَّد بن الحسن: يشترط تقديرها؛ لأنه اشترط عليه ما لا يلزمه، ¬
فوجب أن يكون معلومًا، كسائر الشروط. ولنا أنه لو وجب تقديرها لوجب ذكر صفاتها، أولا يجب ذكر صفاتها. فلم يجب تقديرها" (¬1). ¬
الفصل الثاني في أحكام المساقاة الفاسدة
الفصل الثاني في أحكام المساقاة الفاسدة المبحث الأول ما تفسد به المساقاة [م - 1468] ما تفسد به المساقاة منه ما هو محل اتفاق كما لو اشترط أحدهما ثمرة نخل معين، أو اشترط نصيبًا معينًا معلومًا كعشرة آصع، ومثله لو بان الحائط مستحقًا للغير. ومنه ما هو فاسد عند جمهور الفقهاء، وهي مسائل متناثرة استعرضناها فيما سبق عند الكلام على شروط المساقاة، فإذا تخلف شرط منها عند من قال به فإن ذلك يعني فساد المساقاة عندهم. وذلك مثل اشتراط الثمرة كلها لأحدهما، أو أن يشترط العامل عمل رب المال معه، أو أن يشترط أحدهما ما يلزم الآخر، أو أن يتعاقدا على مدة لا تظهر فيها الثمرة، أو أن يقوم الساقي بمساقاة غيره دون تفويض من رب النخل. ومنه ما هو فاسد عند بعض الفقهاء دون جمهورهم، كاشتراط الجذاذ على أحدهما، فاشتراطه مفسد عند الحنفية، واشتراط إخراج رقيق البستان ودوابه فاشتراطه مفسد عند المالكية. وقد سبق استعراض تلك المسائل السابقة وخلاف الفقهاء فيها، ومن قال منهم بفساد المساقاة بفواتها، وذكرنا أدلتهم مع بيان الراجح فأغنى ذلك عن إعادتها هنا.
المبحث الثاني في أحكام المساقاة الفاسدة
المبحث الثاني في أحكام المساقاة الفاسدة العقود الجائزة لا يمنع فسادها نفوذ التصرف فيها (¬1). قال ابن تيمية: يجب في الفاسد من العقود نظير ما يجب في الصحيح (¬2). العقد الفاسد يجب فسخه ما لم يفت بالعمل (¬3). [م - 1469] يجب فسخ المساقاة الفاسدة قبل الشروع في العمل. قال ابن رشد: "واتفقوا على أن المساقاة إذا وقعت على غير الوجه الذي جوزها الشرع أنها تنفسخ ما لم تفت بالعمل" (¬4). واختلفوا إذا فاتت بالعمل ماذا يجب فيها إلى أقوال: القول الأول: قيل: الثمر لمالك الأصل، وللعامل أجرة المثل في كل أنواع الفساد، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، ورواية عن مالك، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬5). ¬
واستثنى الشافعية مسألتين
واستثنى الشافعية مسألتين: إذا ساقاه على أن الثمرة كلها للمالك، فالمساقاة فاسدة ومع ذلك لا يستحق العامل أجرًا على الصحيح من المذهب؛ لأنه متبرع (¬1). ومثله إذا ساقاه على ودي مغروس، وقدر مدة لا يثمر فيها في العادة (¬2). جاء في الاختيار لتعليل المختار: "ومتى فسدت المساقاة فله أجر مثله" (¬3). وقال السيوطي: "وصحيح المساقاة والقراض والإجارة، والمسابقة، والجعالة مضمون بالمسمى، وفاسدها بأجرة المثل" (¬4). وجه اعتبار أجرة المثل في المساقاة الفاسدة: الوجه الأول: إذا فسدت المساقاة فإن الثمرة تكون لمالكها؛ لأنه نماء ماله، والخسارة عليه كذلك، والعامل في هذا العقد الفاسد أصبح أجيرًا وليس مساقيًا؛ والأجير إذا لم تكن الأجرة مسماة فإنه يستحق أجرة المثل. الوجه الثاني: أن العقد الفاسد لما فسد بطل المسمى؛ لأن المسمى إنما يستحق بالشرط، وقد فسد، فكان الرجوع إلى المسمى مع فساد العقد تصحيحًا للعقد، وهذا لا يصح، وإذا بطل المسمى لفساد العقد رجعنا إلى أجرة المثل؛ لأن العامل إنما ¬
القول الثاني
بذل منافعه ليأخذ عوضه وذلك متعذر في العقد الفاسد فوجب له قيمته وهي أجر مثله. القول الثاني: مذهب المالكية. حكم المساقاة الفاسدة لا يختلف عند المالكية عن المضاربة الفاسدة، والأقوال عندهم كالتالي: أحدها: أن للعامل مساقاة المثل مطلقًا، وهو رواية ابن الماجشون عن مالك، وبه قال أشهب (¬1). وجه اعتبار مساقاة المثل: أن الأصول موضوعة على أن كل عقد فاسد مردود إلى صحيحه كالنكاح والبيع والإجارة، فكذلك المساقاة. الثاني: أن للعامل أجرة المثل مطلقًا، وبه قال عبد العزيز بن أبي سلمة (¬2). وجه اعتبار أجرة المثل: لما فسد العقد بطل المسمى؛ فوجب الرجوع إلى أجرة المثل قياسًا على الإجارة الفاسدة. الثالث: رأي ابن القاسم. ذهب ابن القاسم أن بعض المساقاة ترد إلى مساقاة المثل، وبعضها ترد إلى أجرة المثل. ¬
وأما الضابط في رد المساقاة إلى إجارة المثل، أو مساقاة المثل
وأما الضابط في رد المساقاة إلى إجارة المثل، أو مساقاة المثل: فتجب إجارة المثل إذا خرج العاقدان بالمساقاة إلى الإجارة الفاسدة، أو إلى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، كأن يزداد أحدهما عينًا أو عرضًا. وجه وجوب إجارة المثل: أن الزيادة إن كانت من رب الحائط فقد خرجا عن المساقاة إلى الإجارة الفاسدة؛ فكأنه استأجره على أن يعمل له في حائطه بما أعطاه من عين أو عرض، وبجزء من ثمرته وذلك إجارة فاسدة توجب الرد إلى أجرة المثل، ويحسب منها تلك الزيادة، ولا شيء له من الثمرة. وإن كانت الزيادة من العامل فقد خرجا عن المساقاة إلى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها؛ فكأنه اشترى الجزء المسمى بما دفعه لرب الحائط وبأجرة عمله، فوجب أن يرد في هذه الحال إلى أجرة المثل، ولا شيء له من الثمرة. وإن كانت المساقاة الفاسدة لم تخرج إلى الإجارة الفاسدة فالواجب مساقاة المثل كما لو كان فساد المساقاة يرجع إلى أن ساقاه في حائط وفيه ثمر قد أطعم، أو شرط على رب الشجر أن يعمل معه، أو ساقاه في حائطه سنة على الثلث، وسنة على النصف، أو جمع بين بيع ومساقاة (¬1). ومنشأ الخلاف أمران: أحدهما: أن المستثنيات من العقود إذا فسدت هل ترد إلى صحيح أنفسها، وهو الأصل كفاسد البيع، أو إلى صحيح أصلها. ¬
والفرق بين مساقاة المثل وأجرة المثل من ثلاثة وجوه
والمساقاة مستثناة من الإجارة، فيكون المستحق أجرة المثل؛ لأن الشرع إنما استثنى الصحيح لاشتماله على القوانين الشرعية، فإذا فسد المستثنى رجعنا إلى أصله؛ لأن الشرع لم يستثن الفاسد، فهو مبقى على العدم، وله أصل يرجع إليه، وهو الفرق بينها وبين البيع: أن البيع ليس له أصل آخر يرجع إليه في ذلك. وثانيهما: أن أسباب الفساد إذا تأكدت بطلت حقيقة المساقاة بالكلية، فتتعين الإجارة، وإن لم تتأكد اعتبرنا المساقاة، ثم النظر بعد ذلك في المفسد، هل هو متأكد أم لا هو تحقيق مناط (¬1). والفرق بين مساقاة المثل وأجرة المثل من ثلاثة وجوه: (أ): أن مساقاة المثل تترتب في عين الثمرة، فإن لم يكن في الشجر ثمر فلا شيء للعامل، وأما أجرة المثل فإنها تتعلق بذمة رب المال سواء كان في الشجر ثمر أم لا. (ب): أن العامل في مساقاة المثل أحق من الغرماء بحصته من الثمرة في حال الموت والفلس؛ لأن حقه متعلق بعين الثمرة، وأما في حال كان الواجب للعامل أجرة المثل فإنه يكون أحق من الغرماء في الفلس فقط، وأما في حال الموت فإنه يكون أسوة الغرماء لتعلقها بالذمة. (ج): أن ما وجب فيه مساقاة المثل إذا عثر عليه في أثناء العمل لا يفسخ العقد ويتمادى العامل بخلاف ما وجب فيه أجرة المثل فإن العقد يفسخ متى عثر عليه، ولا يمكَّن من التمادي (¬2). ¬
الرابع في مذهب المالكية
الرابع في مذهب المالكية: قالوا: يرد إلى الأقل من مساقاة المثل، أو الأجر المسمى (¬1). وجه هذا القول: أن مساقاة المثل إن كان هو الأقل فهو لا يستحق غيره؛ لأن العقد الفاسد مردود إلى صحيحه لا إلى صحيح غيره. وإن كان المسمى هو الأقل فقد رضي به العامل. القول الثالث: رأي ابن تيمية: قال ابن تيمية: إذا فسدت وجب له نصيب المثل، لا أجرة المثل، فيجب له من النماء ما جرت به العادة، ولا يجب له أجرة مقدرة فإن ذلك قد يستغرق المال وأضعافه (¬2). الراجح: ما رجحناه في عقد المضاربة نرجحه هنا، وأن الصواب ما ذهب إليه ابن تيمية؛ لأن القول بإعطائه أجرة مثله يلزم عليها كون العامل يستحق الأجرة مطلقاً أثمرت الشجر أم لم تثمر، وقد تزيد الأجرة على قيمة الشجر، وليست المساقاة عقد إجارة حتى يعطى في فاسدها أجرة المثل كالصحيحة، ولأن العامل قد يعمل عشر سنين، فلو أعطي أجرة المثل لأعطي أضعاف قيمة الشجر، وهو في المساقاة الصحيحة لا يستحق إلا جزءًا من الثمر إن كان هناك ثمر، فكيف يستحق في الفاسدة أضعاف ما يستحقه في الصحيحة. ¬
الباب الخامس في انتهاء عقد المساقاة
الباب الخامس في انتهاء عقد المساقاة الفصل الأول في انتهاء المساقاة بالفسخ المبحث الأولى فسح العقد لعجز العامل [م - 1470] اختلف العلماء في العامل يعجز عن السقي على أربعة أقوال: القول الأول: الأصل أن العامل إذا أراد ترك العمل لا يمكن من ذلك، لكنه إذا عجز عن العمل بمرض ونحوه فإن هذا عذر يجيز له فسخ العقد؛ وهذا مذهب الحنفية؛ لأن إلزامه بالعمل مع عجزه زيادة ضرر عليه، كما أنه يلحقه ضرر بإلزامه استئجار الأجراء، وهو لم يلتزمه في العقد (¬1). القول الثاني: إذا عجز الساقي، وقد حل بيع الثمرة لم يجز أن يساقي غيره، ويستأجر من يعمل له. ¬
القول الثالث
وإن كان قبل ذلك فالساقي بالخيار: إن شاء سلم الحائط لربه، ولا يستحق شيئًا مقابل عمله؛ لأن المساقاة كالجعل لا يستحق العامل شيئًا إلا بتمام العمل. وله أن يدفع الحائط مساقاة لعامل آخر بمثل الجزء الذي سوقي عليه أو أقل، ولو بغير إذن رب الحائط، وهذا مذهب المالكية (¬1). وقد تكلمنا عن حق العامل، وهل له أن يساقي غيره في مسألة سابقة، وذكرنا أدلة المالكية على هذه المسألة، وهذه منها. القول الثالث: ذهب الشافعية إلى تفصيل طويل، وألحقوا العجز بمرض ونحوه بالهرب. قال النووي: "والعجز عن العمل بمرض ونحوه كالهرب" (¬2). وتفصيل مذهب الشافعية على النحو التالي: إذا عجز العامل أو هرب، فإن المساقاة لا تنفسخ؛ لأنها عقد لازم. فإن تبرع غيره بعمله، ولو كان المتبرع المالك بقي استحقاق العامل مجانًا. وإلا رفع المالك الأمر إلى الحاكم، فإن وجد الحاكم له مالًا اكترى من ماله من يعمل عنه؛ لأن ذلك قد لزمه. وإن لم يجد الحاكم له مالًا، فإن كان عجز العامل بعد بدو الصلاح في الثمار باع نصيب العامل كله، أو بعضه حسب الحاجة واستأجر بثمنه. وإن كان قبل بدو الصلاح فإن رضي رب المال أن يبيع نصيبه منها بيع الجميع ¬
بشرط القطع، وقسم الثمن بينهما، وحفظ نصيب العامل، وإن لم يرض رب النخيل بيع نصيبه منها لم يصح بيع نصيب العامل من غير رب النخل وجهًا واحداً؛ لأنه لا يصح بيعه إلا بشرط القطع، وذلك لا يمكن مع الإشاعة، وهل يصح بيعه أو بيع بعضه من رب النخل فيه وجهان. فإذا لم يشتر المالك نصيب العامل استقرض عليه الحاكم من مالك، أو من أجنبي، أو من بيت المال، ثم يقضيه من نصيبه من الثمرة بعد بدو الصلاح، أو الإدراك. وإن وجد من يستأجره بأجرة مؤجلة استغنى عن الاستقراض، وحصل الغرض. وإذا لم يجد الحاكم من يستقرض منه، ولا أقرضه رب النخل، وكان ذلك قبل ظهور الثمرة فلرب النخل أن يفسخ المساقاة؛ لأن العمل قد تعذر من جهة العامل، ومن جهة من يقوم مقامه، فكان ذلك كالعيب. وإذا فسخ رب النخل المساقاة فإن كان العامل لم يعمل شيئًا فلا شيء له، وإن كان قد عمل استحق أجرة ما عمله على رب النخل، وكانت الثمرة إذا ظهرت لرب النخل. وإن عمل المالك بنفسه، أو أنفق عليه ليرجع نظر: فإن كان قادرًا على مراجعة الحاكم فلم يفعل فهو متبرع لا رجوع له، فإذا ظهرت الثمرة كانت مشتركة بينهما. وإن كان غير قادر على الحاكم، فإن أنفق ولم يشهد على الإنفاق، أو أشهد ولم يشترط الرجوع لم يرجع بما أنفق؛ لأنه متطوع. وإن أشهد على الإنفاق واشترط الرجوع ففيه وجهان:
القول الرابع
أحدهما: له الرجوع للضرورة وهذا أصح الوجهين وقيل: لا يرجع، وإلا صار حاكمًا لنفسه على غيره. هذا تفصيل مذهب الشافعية (¬1). القول الرابع: ذهب الحنابلة بأن العامل إذا عجز كان له أن يضم غيره إليه ليعينه، ولا ينزع من يده، وإن عجز بالكلية أقام مقامه من يعمل، والأجرة عليه في الموضعين؛ لأن عليه توفية العمل، وهذا من توفيته. قال ابن قدامة: "فإن عجز مع العمل لضعفه مع أمانته، ضم إليه غيره، ولا ينزع من يده؛ لأن العمل مستحق عليه، ولا ضرر في بقاء يده عليه. وإن عجز بالكلية قام مقامه من يعمل، والأجرة عليه في الموضعين؛ لأن عليه توفية العمل، وهذا من توفيته" (¬2). وهذا الكلام لعله تفريع على القول بلزوم العقد، وهو قول في المذهب خلاف المشهور، والمشهور في المذهب أن العقد جائز، وإذا كان ذلك كذلك فإذا عجز صاحبه عنه فله فسخه، ولو لم يرض صاحبه، والله أعلم. الراجح: أن عقد المساقاة من العقود الجائزة، فإن أراد الفسخ ولو بلا عجز لم يمنع من ذلك، لكن إن فسخه العامل فلا شيء له؛ لأنه أبطل حقه باختياره، وإن ¬
فسخه رب العمل استحق العامل قسطه من الثمرة، ويمكن للعاجز أن يقوم بالعمل بغيره، لكن هل يلزم المالك أن يقبل عمل الغير: إن كان الغير أجيراً يعمل تحت إدارة العامل فليس للمالك حق المنع؛ لأنه من المعلوم أن العامل لا يقوم بالعمل بنفسه، من حرث، وسقي، وتقليم، وجذاذ ونحو ذلك. وإن كان ذلك عن طريق المساقاة، نظر: فإن كان عقد المساقاة على عين الساقي لم يلزم المالك قبول غيره، وإن كان عقد المساقاة بالذمة، وهي الأصل كان له أن يقوم غيره مقامه بأن يكري أو يساقي بنصيب مثل نصيب العامل أو أقل، والله أعلم.
المبحث الثاني فسخ العقد بالإقالة
المبحث الثاني فسخ العقد بالإقالة الإقالة فرع اللزوم. [م - 1471] تكلمنا عن الإقالة في باب مستقل في عقد البيع، ونقلنا خلاف العلماء، هل هي بيع، أو فسخ للعقد، ورجحنا أن الإقالة فسخ بشرط أن تكون بمثل الثمن الأول، فإن كانت بأكثر منه، أو بأقل، أو بثمن مختلف عن الثمن الأول فإنها بيع. إذا عرفنا ذلك، فهل تدخل الإقالة عقد المساقاة؟ أما من قال: إن المساقاة عقد جائز، كالمشهور من مذهب الحنابلة فلا يرى حاجة إلى الإقالة؛ لأن العاقد يستطيع أن يتحلل من العقد متى ما أراد ولو لم يرض صاحبه. وأما من قال: إن المساقاة من العقود اللازمة كالجمهور، فهنا يتوجه البحث، هل تدخل الإقالة في هذا العقد أو لا تدخل؛ لأن الإقالة فرع اللزوم، فهي تعني رفع العقد اللازم، والعقد اللازم لا يمكن رفعه إلا برضا الطرفين. أما رفع العقد غير اللازم فعائد إلى صاحبه، ولا يشترط فيه رضا الآخر، ولا يقال لرفع هذا العقد إقالة، إذا علم ذلك فالعلماء القائلون بلزوم العقد يتفقون بينهم في دخول الإقالة عقد المساقاة على خلاف بينهم، هل قبول الإقالة مشروط، أو تجوز بلا شروط على النحو التالي: القول الأول: ذهب الحنفية والشافعية إلى دخول الإقالة عقد المساقاة، ولم يذكروا شروطًا
القول الثاني
للإقالة مما يعني جوازها مطلقاً قبل العمل وبعده، وسواء كان على جزء مسمى، أو كانت الإقالة بلا مقابل. جاء في الفتاوى الهندية: "وأما التي تنفسخ بها المعاملة فالإقالة، وانقضاء المدة ... " (¬1). وجاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "تنفسخ المساقاة ... بإقالة الطرفين عقد المساقاة؛ لأنهما في معنى الإجارة" (¬2). وجاء في مغني المحتاج: "وتصح الإقالة في المساقاة ... فإن كان هناك ثمرة لم يستحقها العامل" (¬3). وأجاز ابن القاسم في أحد قوليه الإقالة قبل العمل وبعده على جزء مسمى (¬4). القول الثاني: صحح المالكية الإقالة في عقد المساقاة بشرط أن تكون بلا مقابل يأخذه أحدهما من الآخر. قال القرافي: "تمتنع الإقالة على شيء يعطيك إياه، شرع في العمل أم لا؛ لأنه إن أثمرت النخل فهو بيع الثمرة قبل الطيب، وإلا فأكل المال بالباطل" (¬5)، وهذا القول هو نص المدونة (¬6). ¬
القول الثالث
القول الثالث: تجوز الإقالة على جزء مسمى إن كان ذلك قبل العمل على قول ابن رشد، ويعتبر المدفوع هبة من رب الحائط للعامل. واختار أصبغ بأن الإقالة بعد العمل لا تجوز بعوض من الثمر معلوم؛ لاتهام رب الحائط على استئجار العامل تلك المدة بشيء من ثمر الحائط (¬1). الراجح: أن الإقالة لا حاجة لها في عقد المساقاة؛ لأنها عقد جائز، إلا أن الفسخ إذا تضمن ضررًا على أحدهما فإن العقد يتحول إلى اللزوم، وإذا لزم العقد دخلته الإقاله، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث انفساخ المساقاة بالموت
المبحث الثالث انفساخ المساقاة بالموت جاء في كشاف القناع: كل عقد جائز من الطرفين ... يبطل بموت أحدهما، وعزله (¬1). [م - 1472] اختلف الفقهاء في فسخ المساقاة بالموت إلى أربعة أقوال: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن المساقاة تبطل بالموت؛ لأنها في معنى الإجارة، فإن حدث الموت قبل الشروع في المساقاة انفسخ العقد، وإن حدث بعد طيب الثمار انفسخ أيضاً، وقسمت الثمرة بينهما بحسب الاتفاق. وإن مات رب الأرض والخارج بسر فللعامل أن يقوم عليه كما كان يقوم قبل ذلك إلى أن يدرك الثمر، وإن كره ذلك ورثة رب الأرض استحسانًا، فيبقى العقد دفعًا للضرر عنه، ولا ضرر فيه على الآخر. وإن التزم العامل الضرر تخير ورثة الآخر بين ثلاثة أمور: (أ) أن يقسموا البسر على الشرط. (ب) أو يعطوه قيمة نصيبه من البسر. (ج) أو ينفقوا على البسر حتى يدرك بأمر القاضي، ثم يرجعوا بذلك في حصة العامل من الثمر. هذا مذهب الحنفية؛ لأنه ليس له إلحاق الضرر بهم. ¬
القول الثاني
ولو مات العامل فلورثته أن يقوموا عليه، وإن كره رب الأرض؛ لأن فيه النظر من الجانبين، فإن أرادوا أن يصرموه بسرًا كان صاحب الأرض بين الخيارات الثلاثة التي بيناها. وإن ماتا جميعًا فالخيار لورثة العامل لقيامهم مقامه، فإن أبى ورثة العامل أن يقوموا مقامه كان الخيار في ذلك لورثة رب الأرض على ما وصفنا. والله أعلم (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن المساقاة لا تنفسخ بموت واحد منهما: جاء في المدونة: "أرأيت العامل في النخل، إذا مات، ما أنت قائل لورثته؟ قال: يقال لهم: اعملوا كما كان صاحبكم يعمل. فإن أبوا كان ذلك في مال الميت لازمًا لهم. قلت: أفيسلم الحائط إليهم إذا كانوا غير أمناء؟ قال: لا أرى ذلك، وأرى أن يأتوا بأمين. قلت: أرأيت إن مات رب النخل؟ قال: لا تنتقض المساقاة بموت واحد منهما، وهو قول مالك" (¬2). القول الثالث: ذهب الشافعية إلى أن المساقاة لا تنفسخ بموت المالك، وأما موت العامل فينظر: فإن كانت المساقاة على عين العامل فإنها تنفسخ بالموت لتعذرها بموته كالأجير المعين، وإن كانت المساقاة في ذمته فوجهان: ¬
القول الرابع
أحدهما: تنفسخ؛ لأنه لا يرضى بيد غيره. الثاني: وهو الصحيح، وعليه التفريع: لا تنفسخ بالموت، فإن خلف تركة أتم الوارث العمل منها؛ لأنه حق وجب على مورثه، فيؤدى من تركته كغيره، وفي معنى التركة نصيبه من الثمرة، وإن لم يخلف تركة لم يقترض على الميت، وللوراث أن يتم العمل بنفسه أو بماله، وإن أبى لم يجبر عليه (¬1). وهذا القول قريب من قول عند الحنابلة مفرع على القول بلزومها، وهو قول مرجوح في المذهب (¬2). القول الرابع: المشهور من مذهب الحنابلة أن عقد المساقاة عقد جائز، فإذا مات العامل أو رب المال انفسخت المساقاة، وكان الحكم فيها كما لو فسخها أحدهما. فإن مات العامل قبل ظهور الثمرة وبعد العمل فله أجرة عمله؛ لاقتضاء العقد العوض المسمى، ولم يرض العامل بإسقاط حقه؛ لأن الموت لم يأته باختياره. وإن مات أحدهما بعد ظهور الثمرة، فالثمرة بينهما على ما شرطاه، وعلى الوارث إتمام العمل كالمضارب يبيع العروض بعد فسخ المضاربة لينض المال، وإن باع وارث نصيبه لمن يقوم مقامه جاز بشرط أن يبدو صلاحه، أو كان البيع لمالك الأصل، كالمكاتب يباع على كتابته، فإن لم يعلم مشتر فله الخيار (¬3). ¬
الراجح
الراجح: أرى أن مذهب الحنابلة هو القول الراجح؛ لأن المساقاة عقد جائز، والله أعلم.
الفصل الثاني انتهاء المساقاة بمضي المدة
الفصل الثاني انتهاء المساقاة بمضي المدة [م - 1473] إذا انتهت المساقاة، ولم تظهر الثمرة، انفسخت المساقاة عند عامة الفقهاء، فإن ظهرت الثمرة ولم تنضج، فاختلف الفقهاء على أربعة أقوال: القول الأول: إذا انقضت مدة المساقاة، والثمر لم ينضج فالعامل مخير بين المضي في العمل حتى يدرك، وبين ترك العمل. فإن اختار إتمام العمل فلا يحق للمالك منعه؛ لأن الأمر بالجز قبل الإدراك إضرار بهما، والضرر مدفوع، ولا أجر عليه بخلاف المزارعة؛ لأن الشجر لا يجوز استئجارها وأما الأرض في المزارعة فيجوز استئجارها، والعمل كله على العامل وفي المزارعة عليهما. وإن اختار العامل الترك لم يجبر على العمل، لكنه لا يمكن من قطف الثمر قبل الإدراك دفعًا للضرر عن المالك، ويخير صاحب الشجر بين أمور ثلاثة: (أ) أن يقسم البسر على الشرط. (ب) أو يعطيه قيمة نصيبه من البسر. (ج) أو ينفق على البسر حتى يدرك بأمر القاضي، ثم يرجع بذلك في حصة العامل من الثمر. هذا مذهب الحنفية (¬1). ¬
القول الثاني: مذهب المالكية
القول الثاني: مذهب المالكية: قال ابن عبد البر: "ولو ساقاه إلى أجل، فانقضى الأجل، وفي النخل ثمر لم يجز جذاذه، ولا يحل بيعه فهو على مساقاته حتى يجذ؛ لأنه حق وجب له، وإنما المساقاة إلى الجذاذ، وإلى القطاف لا إلى أجل" (¬1). القول الثالث: مذهب الشافعية: ذهب الشافعية في المشهور بأن الثمر إذا لم يحدث إلا بعد انقضاء المدة، فلا شيء للعامل؛ لأنها حدثت بعد انقضاء مدته، وزوال عقده. قال ابن الرفعة: وهو صحيح إن تأخر بلا سبب عارض، فإن كان بسبب عارض كبرد، ولولاه لطلع في المدة استحق حصته لقول الماوردي والروياني الصحيح أن العامل شريك (¬2). وإن انقضت المدة، وعلى النخيل طلع أو بلح فللعامل حصته منه، لحدوثها في مدته، وله إبقاؤها على النخل إلى بدو الصلاح وتناهي الثمرة؛ لأنه شريك، ولأنه يستحق الثمرة مدركة بحكم العقد. وعلى المالك تعهده إلى الإدراك؛ لانقضاء مدة العامل. وقال صاحب المرشد: إن التعهد عليهما؛ لأن الثمرة مشتركة بينهما. وإن أدرك الثمر قبل انقضاء المدة لزم العامل أن يعمل البقية بلا أجر (¬3). ¬
القول الرابع: مذهب الحنابلة
القول الرابع: مذهب الحنابلة: ذهب الحنابلة إلى أن المالك إذا ساقى العامل إلى مدة تكمل فيها الثمرة غالباً، فلم تحمل الثمرة تلك السنة، فلا شيء له في أصح الوجهين؛ لأنه عقد صحيح لم يظهر فيه النماء فلم يستحق شيئًا، كعامل المضاربة إذا لم يربح (¬1). الراجح: سبق لنا أن الراجح التوقيت إلى الجذاذ، ويحمل عليه المطلق من العقد، أو ما نص على أنه عام واحد، فإذا جاء أوان طلع الثمر، ولم يطلع الثمر، فإذا قطع بأن الثمر لن يطلع فله فسخ العقد بقية المدة؛ كالإجارة إذا فاتت المنفعة، وإذا طلعت الثمرة فعليه السقي إلى الجذاذ، ولو انتهت المدة، فإذا أخذ نصيبه منها انتهت المساقاة، ولا يلزمه العمل، وإن بقي في المدة بقية، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث انتهاء عقد المساقاة باستحقاق الحائط
الفصل الثالث انتهاء عقد المساقاة باستحقاق الحائط [م - 1474] اختلف الفقهاء في عقد المساقاة إذا تبين أن الشجر مستحق من قبل مالك آخر إلى قولين: القول الأول: ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة بأن الشجر إذا ظهر مستحقًا، وفسخ المستحق المساقاة فإنها تنفسخ. فإن كان الاستحقاق حصل قبل العمل فلا شيء له. وإن حصل بعد العمل وقبل ظهور الثمرة فذهب الحنفية إلا أن العامل لا شيء له، كالمضاربة إذا فسخت قبل حصول الربح (¬1). وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن له أجر مثلة على عمله وإن لم يخرج الشجر (¬2). وإن حصل الاستحقاق بعد ظهور الثمرة فله أجرة المثل عند الثلاثة جميعًا. واشترط الشافعية والحنابلة: أن يكون جاهلًا بالحال، فإن كان عالماً بالحال فلا شيء له (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن الحائط إذا ظهر مستحقًا للغير خير المالك بين إمضاء عقد المساقاة وبين فسخه لانكشاف الأمران العاقد ليس أهلًا للعقد لعدم ملكه، وإذا اختير الفسخ دُفِع للعامل كراء عمله (¬1). وهذا القول أقوى، والله أعلم. تم بحمد الله بحث المسائل المختارة من عقود المعاوضات، فلله الحمد من قبل ومن بعد. ¬
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا جمع للمسائل المعاصرة التي وردت في الكتاب، وكانت مفرقة فيه بحسب الموضوعات الفقهية، وسوف أعرضها بحسب ترتيبها في الكتاب، وهناك مسائل ربما تكررت في أكثر من موضع لاختلاف المناسبة، فمثلًا عند تناول مسألة أحكام قبض المبيع نورد المسائل القديمة، ثم نأتي على نوازل هذا الباب، كالقبض عن طريق القيد المصرفي، والقبض عن طريق الشيك المصدق، والقبض عن طريق بطاقات الائتمان، وهكذا، وعند الكلام عن الصرف تأتي مناسبة الصرف عن طريق القيد المصرفي، فأعيد الأقوال في المسألة لاختلاف المناسبة، وأحيل على أدلتها في الموضع السابق ليعرف القارئ أن هذه مناسبة أخرى تستدعي عرض المسألة، كما أن هناك بعض المعاملات وإن كانت قليلة هي معاملات معاصرة بالنسبة للمصطلح التي اشتهرت به، وإن كان معناها موجود في الفقه القديم والعقود المسماة، وذلك مثل السلم الموازي، ومثل بيع المرابحة للآمر بالشراء. وإليك فهرس النوازل المعاصرة: (*). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
معجم المصطلحات الفقهية المعرفة قسم العلماء الحقائق إلى أقسام: حقيقة لغوية كتعريف الأرض والسماء، وحقيقة شرعية كتعريف الإيمان والصلاة، وحقيقة اصطلاحية، وهي ما اصطلح عليه كل أهل فن من الفنون، وحقيقة عرفية كتعريف الإحراز، والقبض ونحوهما. والحقيقة اللغوية متلقاة من أهل اللسان، والحقيقة الشرعية متلقاة من الشارع، والحقيقة الاصطلاحية، وهو ما يتعارف عليه كل أهل فن خاص، فإن كل فن مستقل له مصطلحاته الخاصة به، فالإيمان والصلاة والزكاة حقيقة شرعية، وليست اصطلاحية؛ لأنها متلقاة من الشارع، وإطلاق المكروه على ما نهي عنه شرعًا لا على سبيل الإلزام حقيقة اصطلاحية، وإن كانت حقيقة المكروه الشرعية تشمل حتى المحرم، وقد يطلق بعض الناس تساهلًا الحقيقة الشرعية على الحقيقة الاصطلاحية، وأما الحقيقة العرفية فمرجعها ما يتعارف عليه الناس، وقد يكون هناك ارتباط بين هذه الحقائق. وقد اهتم البحث بتعريف المصطلحات الفقهية القديم منها والمعاصر، وجعلت التعريف اللغوي في حاشية الكتاب لمن شاء أن يطلع عليه، وجعلت التعريف الاصطلاحي في صلب الكتاب باعتباره مقصودًا في البحث، وقمت بتوثيق هذه المصطلحات ومناقشتها، وتقديم الراجح منها، وقد التقطت هذه المصطلحات، وجعلتها في هذا المعجم تقريبًا لمن يريد الرجوع إليها، والحمد لله على توفيقه، وإليك بيان هذا المعجم (*). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فهرس المراجع
فهرس المراجع الائتمان المولد على شكل بطاقة - محمَّد القري بن عيد. بحث مقدم لمجلة مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثامنة. الائتمان في الاقتصاد الإسلامي .. - سعد بن حمد اللحياني رسالة دكتوراه لم تطبع بعد. الإبهاج في شرح المنهاج - تأليف علي بن عبد الكافي السبكي - دار الكتب العلمية ببيروت - ط (1) 1404 هـ. الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام المعروف بشرح ميارة. - محمَّد بن أحمد الفاسي (1072) دار المعرفة. الآحاد والمثاني - أحمد بن عمر بن الضحاك أبو بكر الشيباني - دار الراية الرياض - ط (1) 1411 هـ. الأحاديث المختارة للمقدسي - أبو عبد الله محمَّد بن عبد الواحد بن أحمد الحنبلي - مكتبة النهضة الحديثة - مكة المكرمة - ط (1) 1410 هـ. الاحتكار دارسة فقهية مقارنة .. - د. ماجد أبو رخية - دار النفائس عمان - ط (1) 1418 هـ. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام. - تقي الدين أبي الفتح - دار الكتب العلمية ببيروت - ط بدون. أحكام الأسواق المالية - د. محمَّد صبري هارون - دار النفائس ط (1) 1419 هـ. أحكام الاكتتاب في الشركات المساهمة - حسان بن إبراهيم السيف دار ابن الجوزي ط (1) 1427 هـ.
أحكام الأوراق التجارية - د. سعد بن تركي بن محمَّد الخثلان دار ابن الجوزي - ط (1) 1425 هـ. أحكام الأوراق النقدية والتجارية - ستربن ثواب الجعيد. مكتبة الصديق الطائف - ط (1) 1413 هـ - رسالة ماجستير. أحكام التعامل في الأسواق المالية المعاصرة - د. مبارك بن سليمان آل سليمان - دار كنوز اشبيليا الرياض - ط (1) 1426 هـ. أحكام السوق في الإسلام وأثرها في الاقتصاد. الدكتور أحمد الدريويش - دار عالم الكتب - ط 1409 هـ. أحكام الشركات في الفقه الإسلامي المالكي - محمَّد سكحال المجاجي - المكتب الإسلامي بيروت - (ط) الأولى 1422 هـ إحكام الفصول في أحكام الأصول - أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي دار الغرب الإسلامي بيروت - ط (2) 1415 هـ أحكام القرآن - أبو بكر محمَّد بن عبد الله بن العربي - دار الفكر لبنان - ط بدن. أحكام القرآن - الإمام محمَّد بن إدريس الشافعي أبو عبد الله دار الكتب العلمية بيروت ط -1400 هـ أحكام القرآن .... - الجصاص أحمد بن علي الرازي - دار إحياء التراث ط 1405. أحكام المشاع في الفقه الإسلامي - صالح بن محمَّد السلطان - جامعة الإمام محمَّد ابن سعود الإسلامية - ط (1) 1423 هـ أحكام المعاملات - أ - د. كامل موسى - مؤسسة الرسالة بيروت - ط (2) 1415 هـ أحكام المعاملات الشرعية - الشيخ علي الخفيف - دار الفكر العربي القاهرة - ط (1) 1417 هـ - أحكام المعاملات الشرعية - علي الخفيف - دار الفكر العربي - ط (1) 1996 م
أحكام الودائع المصرفية - القاضي محمَّد تقي العثماني - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - الدورة (9) الجزء (1) 1417 هـ أحكام أهل الذمة - محمَّد بن أبي بكر المعروف بابن القيم الجوزية (751) دار ابن حزم 1418 هـ الإحكام في أصول الأحكام - علي بن محمَّد الآمدي أبو الحسن - دار الكتاب العربي ببيروت - ط (1) 1404 هـ إحياء علوم الدين - محمَّد بن محمَّد الغزالي - المكتبة التجارية الكبري بدون أخبار ذكر أصبهان - أبو نعيم الأصبهاني - طبع إيران أخبار مكة في قديم الدهر وحديثة - محمَّد بن إسحاق بن العباس الفاكهي دار خضر ببيروت - ط (2) 1414 هـ أخبار مكة وما جاء فيها من الأنام - أبو الوليد محمَّد بن عبد الله الأزرقي دار الأندلس ببيروت - ط بدون 1416 هـ اختصار المدونة - أبو سعيد البراذعي - دار البحوث للدراسات الإسلامية دبي - ط (1) 1423 هـ اختلاف الفقهاء - أبو جعفر محمَّد بن جرير بن يزيد الطبري. الاختيار لتعليل المختار - عبد الله بن محمود الموصلي (683) - دار الكتب العلمية (ط) الثالثة 1426 هـ. الاختيارات الجليلة من المسائل الخلافية بهامش نيل المآرب - عبد الله البسام. أخصر المختصرات في الفقه - محمَّد بن بدر الدين بن بلبان الدمشقي - دار البشائر الإسلامية ببيروت - ط (1) 1416 هـ الآداب الشرعية والمنح المرعية - أبو عبد الله محمَّد بن مفلح المقدسي مؤسسة الرسالة ببيروت - ط (2) 1417 هـ
إدارة الاستثمارات الإطار النظري والتطبيقات العلمية - د. محمَّد مطر - مؤسسة الوراق عمان ط (2) 1419 هـ الأدب المفرد. أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري - عالم الكتب بيروت - ط (2) 1405 هـ إدرار الشروق على أنواء الفروق - قاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط - عالم الكتب بيروت - ط بدون إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول - محمَّد بن علي الشوكاني - دار الفكر بيروت - ط (1) 1412 هـ. أسبوع الفقه الإسلامي ومهرجان ابن تيمية (جملة بحوث في التأمين ومواضيع أخرى) الاستثمار في الأسهم والوحدات والصناديق د. منذر قحف مجلة مجمع الفقه الإسلامي، ع، م. 2 الاستثمار والمتاجرة في أسهم الشركات المختلطة - د. عبد الله ابن محمَّد العمران - كنوز إشبيليا ط (1) 1427 هـ. الاستذكار - أبو عمر يوسف بن عبد الله النمري دار قتيبة. ط 1، 1413 هـ الاستقامة - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - جامعة الإمام محمَّد بن سعود المدينة المنورة - ط (1) 1403 هـ الاستيعاب في معرفة الأصحاب - يوسف بن عبد الله بن عبد البر - دار الجبل بيروت ط (1) 1412 هـ الأسس العامة للعقود الإدارية - سليمان محمَّد الطماوي الإسلام ومشكلاتنا الحاضرة - محمَّد يوسف موسى - المكتب الفني للنشر القاهرة - ط 1958 م
أسنى المطالب - زكريا الأنصاري (926) دار الكتب العلمية بيروت ... (ط) الأولى 1422 هـ. أسهل المدارك - أبو بكر بن حسن الكشناوي - دار الكتب العلمية. ط الأولى. الأسهم المختلطة - صالح بن مقبل العصيمي - ط (1) 1427 هـ الأسهم والسندات وأحكامهما في الفقه الإسلامي د. أحمد ابن محمَّد الخليل - دار ابن الجوزي ط (1) 1424 هـ أسواق الأوراق المالية - سمير رضوان - المعهد العالمي للفكر الإسلامي ط (1) 1417 هـ أسواق الأوراق المالية وآثارها الإنمائية - د. أحمد محي الدين أحمد. مجموعة دلة البركة ط (1) 1415 هـ الأسواق الحاضرة والمستقبلة - منير هندي - الأكاديمية العربية للعلوم المالية المصرفية الأسواق المالية مفاهيم وتطبيقات - د. حسني خريوش ود. عبد المعطي أرشيد. ومحفوظ جودة - دار زهران الأشباه والنظائر - أبي عبد الله صدر الدين ابن الوكيل - مكتبة الرشد الرياض ط (1) 1413 هـ الأشباه والنظائر - تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي دار الكتب العلمية. ط (1) 1411 هـ الأشباه والنظائر - عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي - دار الكتب العلمية ببيروت ط (1) 1402 هـ الإشراف على مذاهب العلماء - محمَّد بن إبراهيم بن المنذر (318) - ط (الأولى) 1428 هـ
الإشراف على مسائل الخلاف - للقاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي ت 422 هـ مطبعة الإدارة الإشراف على نكت مسائل الخلاف - أبو محمَّد بن عبد الوهاب ابن نصر البغدادي دار بن حزم ط (1) 1420 هـ الإصابة في تمييز الصحابة - أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني دار الجبل بيروت ط (1) 1412 هـ الأصل (المعروف بالمبسوط) - محمَّد بن الحسن الشيباني - عالم الكتب ط 1. 1410 هـ أصول السرخسي - محمَّد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي دار المعرفة بيروت ط بدون أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - محمَّد الأمين بن محمَّد بن المختار الشنقيطى دار الفكر بيروت ط بدون 1415 هـ إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين - أبو بكر ابن السيد محمد شطا الدمياطي - دار الفكر - بيروت - الاعتصام - أبو إسحاق الشاطبي المكتبة التجارية مصر -ط بدون. إعلاء السنن - ظفر أحمد العثمان - إدارة القرآن والعلوم الإسلامية كراتشي المكتبة الإمدادية - مكة المكرمة. ط بدون. إعلام الموقعين - محمَّد بن أبي بكر المعروف بابن القيم (751) - دار الجيل بيروت - 1973 م الإفصاح عن أحاديث النكاح - أحمد بن محمَّد بن حجر الهيثمي - دار عمان الأردن ط (1) 1406 هـ إقامة الدليل على إبطال التحليل - تقي الدين بن تيمية - دار المعرفة بيروت ط (بدون). الإقناع - محمَّد بن إبراهيم بن المنذر - بدون الأولى 1408 هـ
الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع - محمَّد الشربيني الخطيب - دار الفكر بيروت ط 1415 هـ الإقناع في فقه الإمام أحمد. موسى بن أحمد الحجاوي (960) - دار المعرفة بيروت الاكتتاب والمتاجرة بالأسهم - د. مبارك بن سليمان آل سليمان - كنوز إشبيليا - ط (1) 1427 هـ الإكمال - علي بن هبة الله بن ماكولا - دار الكتب العلمية ط (1) 1411 هـ إكمال المعلم بفوائد مسلم - للقاضي عياض - دار الوفاء ط (1) 1419 هـ الإلزام في التصرفات المالية - د. وليد خالد الربيع - دار النفائس عمان - ط (1) 1427 هـ الأم - للإمام محمَّد بن إدريس الشافعي - دار المعرفة بدون الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي - عارف خليل محمَّد أبو عيد. دار الأرقم الكويتي ط (1) 1404 هـ الأمنية في إدراك النية - أحمد بن أدريس المالكي الشهير بالقرافي دار الكتب العلمية بيروت 1404 هـ الأموال - أحمد بن نصر الدراوردي - دار السلام ط - (1) 1421 هـ الأموال ونظرية العقد. د. محمَّد يوسف موسي دار الفكر العربي القاهرة ط 1987 م الإنصاف - علي بن سليمان المرداوي (885) - دار إحياء التراث العربي بيروت أنوار البروق في أنواع الفروق - شهاب الدين أبو العباس ابن إدريس المشهور بالقرافي علم الكتب ط بدون أنيس الفقهاء - قاسم بن عبد الله بن أمير علي الفونوي دار الوفاء جدة ط (1) 1406 هـ الأوراق التجارية في النظام السعودي - د. عبد الله محمَّد العمران - معهد الإدارة العامة ط (2) 1416 هـ
الأوراق المالية وأسواق المال - د. منير إبراهيم هندي - مركز الدلتا للطباعة 2006 م البحر الرائق شرح كنز الدقائق - زين الدين ابن نجيم الحنفي - دار الكتاب الإسلامي ط 2 بدون. البحر الزخار - أبو بكر بن عمر بن عبد الخالق البزار مكتبة العلوم والحكم بيروت ط (1) 1409 هـ البحر الزخار (مسند البزار) - أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار - ط مؤسسة علوم القرآن ط 1. تحقيق محفوظ الرحمن البحر المحيط - محمَّد بهادر الزركشي - مراجعة عمر الأشقر وعبد الستار أبي غدة - دار الصفوة الكويت - ط 1413 هـ البحر المحيط في أصول الفقه - بدر الدين محمَّد الشافعي الزركشي البحوث العلمية لهيئة كبار العلماء في البلاد السعودية - دار أولي النهى الرياض ط (2) 1412 هـ بحوث فقهية في قضايا اقتصادية معاصرة - د. محمَّد سليمان الأشقر - دار النفائس عمان ط (1) 1418 هـ بحوث في الاقتصاد الإسلامي من أصول الفقه - د. محمَّد رواس قلعجي دار النفائس بيروت ط (6) 1426 هـ بدائع الصنائع - علاء الدين الكاساني (587) - دار الكتاب العربي - بيروت (ط) الثانية 1982 م بدائع الفوائد. محمَّد بن أبي بكر، المعروف بابن القيم الجوزية - دار الكتاب العربية بدون. بداية المبتدئ - برهان الدين علي بن أبي بكر الفرغاني - محمَّد علي صبح القاهرة ط بدون.
بداية المجتهد مع الهداية أبو الوليد محمَّد بن أحمد بن رشد القرطبي عالم الكتب الأولى 1407 هـ بداية المجتهد. محمَّد بن أحمد بن محمَّد رشد القرطبي الحفيد (595) - دار الفكر بيروت بطاقات الائتمان - حسن الجواهري - بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته الثامنة. بطاقات الائتمان دراسة فقهية اقتصادية - نواف عبد الله باتوباره - رسالة مقدمة لاستكمال متطلبات الحصول على درجة الماجستير. بطاقات الائتمان غير المغطاة - د. محمَّد القري - منشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي بطاقات الائتمان، تصورها والحكم الشرعي عليها - د. عبد الستار أبو غدة بحث مقدم لمجلة مجمع الفقه الإسلامي الدورة (12) 1421 هـ البطاقات الائتمانية، تعريفها، وأخذ الرسوم على إصدارها، والسحب النقدي بها - صالح بن محمَّد الفوزان، بحث منشور على الانترنت في موقع صيد الفوائد البطاقات البنكية - عبد الوهاب أبو سليمان - دار القلم دمشق الطبعة الثانية - 1424 هـ البطاقات اللدائنية - د. محمَّد بن سعود العصيمي - دار بن الجوزي ط (1) 1424 هـ بطاقة الائتمان - الصديق محمَّد الأمين الضرير - بحث مقدم لمجلة مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية عشرة بطاقة الائتمان - بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية عشرة، انظر مجلة المجمع بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث - الحافظ نور الدين الهيثمي - مركز خدمة السنة والسيرة النبوية المدينة المنورة - ط (1) 1412 هـ
بلغة السالك لأقرب المسالك - أحمد الصاوي دار الكتب العلمية بيروت ط (1) 1415 هـ البنك اللاربوي في الإسلام - محمَّد باقر الصدر - دار التعارف للمطبوعات ط (2) 1403 هـ البنوك الإسلامية بين النظرية والتطبيق - د. عبد الله الطيار - دار الوطن ط (2) 1414 هـ البهجة في شرح التحفة - علي بن عبد السلام التسولي - دار الكتب (ط) الأولى - تحقيق محمَّد عبد القادر شاهين بورصة الأوراق المالية من منظور إسلامي - شعبان محمَّد إسلام البرواري - الفكر دمشق - ط - (2) 1426 هـ البيان في مذهب الإمام الشافعي - أبي الحسين يحيى بن سالم العمرانى - دار المنهاج للطباعة والنشر والتوزيع ط - بدون البيان والتحصيل - محمَّد بن أحمد بن رشد (الجد) - دار الغرب الأولى 1406 هـ بيع التقسيط د. رفيق المصري الدار الشامية ببيروت الطبعة الثانية 1418 هـ بيع التقسيط وأحكامه - سليمان بن تركي التركي - دار إشبيليا - الطبعة الأولى 1424 هـ بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية - د. يوسف القرضاوي - مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى 1421 هـ بيع المرابحة للوعد الملزم بالشراء والدور التنموي للمصارف الإسلامية - د. ربيع محمود الروبي - جامعة أم القري مكة المكرمة. ط بدون 1411 هـ بيع المزايدة - نجاتي محمَّد إلياس قوقازي - دار النفائس الطبعة الأولى 1424 هـ البيوع المحرمة والمنهي عنها - عبد الناصر بن خضر ميلاد. دار الهدي النبوي - الطبعة الأولى 1426 هـ
تاج العروس من جواهر القاموس - محمَّد مرتضي الحسيني الزبيدي - دار الفكر. (ومصطفى الباز) ط 1414 هـ التاج والإكليل لمختصر خليل - محمَّد بن يوسف العبدري المشهور بالمواق دار الفكر ط (2) 1398 هـ مطبوع بهامش مواهب الجليل تاريخ ابن معين - يحيى بن معين رواية الدوري - إحياء التراث الإسلامي ط - 1399 هـ التاريخ الصغير (الأوسط) - محمَّد بن إبراهيم البخاري - مكتبة دار التراث حلب ط (1) 1397 هـ. التاريخ الكبير - للإمام محمَّد بن إسماعيل البخاري - دار الفكر - ط 1986 م تاريخ بغداد. أحمد بن علي الخطيب - دار الكتب العلمية. ط - 1374 هـ تاريخ دمشق - أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر. دار الفكر - ط 1415 هـ. تاريخ واسط - أسلم بن سهل الرزاز .... (ت 292 هـ) تحقيق كوركيس عواد. عالم الكتب بيروت ط (1) 1406 هـ تاريخ يحيى بن معين - رواية الدارمي - دار المأمون للتراث ط - 1400 هـ تأسيس النظر - عبد الله بن عمر بن عيسى الدبوسي - المطبعة الأدبية بمصر. ط (1) التأمين - الأستاذ علي الخفيف - ملحق مجلة الأزهر - ط 1417 هـ التأمين الاجتماعي في ضوء الشريعة الإسلامية - عبد اللطيف محمود آل محمود. دار النفائس - الطبعة الأولى 1414 هـ التأمين الإسلامي - أد. علي محيى الدين القره داغي - دار البشائر الإسلامية الطبعة الثالثة 1427 هـ التأمين الإسلامي - د. أحمد سالم ملحم - دار الإعلام عمان - ط (1) 1423 هـ التأمين الإسلامي - د. أحمد سالم ملحم دار الثقافة للنشر والتوزيع، ط 2005 م التأمين بين الحظر والإباحة - محمَّد بن أحمد الصالح العبيكان - ط (1) 1425 هـ
التأمين بين الحل والتحريم - د. عيسى عبده - دار الإعتصام القاهرة ط (1) 1398 هـ التأمين بين الحلال والحرام - الشيخ عبد الله بن منيع - مكتبة الملك فيصل -رحمه الله -. التأمين وأحكامه - سليمان بن إبراهيم بن ثنيان - دار بن حزم ط (1) 1424 هـ تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام - إبراهيم ابن فرحون اليعمري - دار الكتب العلمية بيروت ط بدون. تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - فخر الدين عثمان بن علي الزيعلي - ت 743 هـ ط دار المعرفة بيروت ط - (2). تجارة الذهب في أهم صورها وأحكامها - د. صالح بن زابن المرزوقي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدورة (9) الجزء الأول ط 1417 هـ. تجربة البنوك التجارية السعودية في بيع المرابحة للآمر بالشراء - عبد الرحمن بن حامد الحامد. دار بلنسية الطبعة الأولى 1424 هـ. التجريد. أحمد بن محمَّد القدوري - دار السلام - ط (1) 1424 هـ تحرير ألفاظ التنبيه - محيى الدين يحيى بن شرف النووي (ت 676 هـ) دار القلم دمشق - ط (1) 1408 هـ تحفة الأحوذي - محمَّد بن عبد الكريم المباركفوري - مكتب المطبوعات الإسلامية دار الفكر. ط - 3 سنة 1399 هـ تحفة الفقهاء - علاء الدين السمرقندي (539) هـ - دار الكتب العلمية - بيروت - ط (1) 1405 هـ. تحفة المحتاج - عمر بن علي بن الملقن - دار حراء - ط - (1) 1406 هـ تحفة الملوك - محمَّد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي - دار البشائر الإسلامية بيروت - ط (1) 1417 هـ
تحفة المولود - محمَّد بن أبي بكر أيوب الزرعي - مكتبة دار البيان دمشق - ط (1) 1391 هـ التحقيق في مسائل الخلاف - عبد الرحمن بن علي بن الجوزي - دار الكتب العلمية - ط (2) 1415 هـ تخريج الفروع على الأصول - محمود بن أحمد الزنجاني - مؤسسة الرسالة بيروت - ط (2) 1398 هـ التخريج الفقهي للقيد المصرفي - عبد الله الربعي - الرشد. الرياض. التدوين في أخبار قزوين - عبد الكريم بن محمَّد الرافعي القزويني - دار الكتب العلمية - بيروت - ط 1987 م تذكرة المحتاج إلى أحاديث المنهاج - عمر بن علي الأنصاري المعروف بابن الملقن - المكتب الإسلامي - بيروت ط (1) 1994 م التراضي في عقود المبادلات المالية - السيد نشأت إبراهيم الدريني - دار الشروق - جدة - ط (1) 1402 هـ تصحيح الفروع - علاء الدين أبو الحسن المرداوي (ت - 885 هـ) - دار مصر للطباعة - ط (2) 1381 هـ. التطبيقات المصرفية لبيع المرابحة - د. عطية فياض - دار النشر للجامعات مصر. ط (1) 1419 هـ تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية - سامي حسن حمود. مطبعة الشروق - عمان - ط (2) 1402 هـ التعريفات - علي بن محمَّد بن علي الجرجاني - دار الكتاب العربي - بيروت - ط (1) 1405 هـ تعليق التعليق - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - دار عمان ببيروت - ط (1) 1405 هـ
التفريع - عبد الله بن الحسين بن الجلاب - دار الغرب الإسلامي - ط (1) 1408 هـ التفريع - لأبي القاسم عبيد الله بن الجلاب - دار الغرب الإسلامي بيروت - ط (1) 1408 هـ تفسير ابن أبي حاتم (تفسير القرآن) -عبد الرحمن بن إدريس الرازي - المكتبة العصرية - صيداء - ط بدون تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) - إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي - دار الفكر - بيروت - ط بدون 1401 هـ بيع التقسيط أحكامه وآدابه - هشام بن عبد الرحمن آل برغش - دار الوطن للنشر الطبعة الأولى 1419 هـ تفسير أبي السعود (إرشاد العقل السليم) محمَّد بن محمَّد العماري - دار إحياء التراث العربي - ط - بدون تفسير البغوي (معالم التنزيل) - أبو محمَّد الحسين بن مسعود البغوي - دار المعرفة بيروت - ط بدون تفسير الثوري - سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري - دار الكتب العلمية - ط (1) 1402 هـ تفسير الرازي - فخر الدين محمَّد بن عمر التميمي - دار الكتب العلمية - ط (1) 1421 هـ تفسير السعدي - عبد الرحمن بن ناصر السعدي دار الرسالة بيروت - ط بدون 1421 هـ تفسير السمرقندي (بحر العلوم) نصر بن محمَّد بن أحمد أبو الليث السمرقندي - دار الفكر - بيروت - ط بدون تفسير السمعاني - أبو المظفر منصور بن محمَّد بن عبد الجبار السمعاني - دار الوطن - الرياض - ط (1) 1418 هـ
تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) - أبو عبد الله محمَّد الأنصاري القرطبي - دار الشعب القاهرة ط بدون تفسير النسفي - أبو البركات عبد الرحمن أحمد النسفي - دار النفائس ببيروت ط بدون 2005 م - تفسير آيات أشكلت - أحمد بن عبد الحكيم بن عبد السلام - دار الصميعي ط (2) 1425 هـ تفسير الطبري - محمَّد بن جرير الطبري - دار الكتب العلمية - ط (1) 1412 هـ التقرير والتحبير في شرح التحرير - محمَّد بن محمَّد ابن أمير حاج .. (879) - دار الكتب العلمية. تقويم النظر في مسائل خلافية ذائعة ونبذ مذهبية نافعة - تحقيق شيخنا صالح الخزيم - تكملة المجموع - محمَّد نجيب المطيعي - مكتبة الإرشاد جدة - ط بدون تكملة المجموع - محمَّد نجيب المطيعي - مكتبة الإرشاد. ط بدون تكملة حاشية رد المحتار - دار إحياء التراث - ط (2) 1407 هـ التكييف الشرعي لبطاقات الائتمان - عبد الله محمَّد الحمادي - مكتبة الفرقان - ط (1) 1425 هـ تلخيص الحبير - الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - مؤسسة قرطبة - ط 1416 هـ التلقين في الفقه المالكي - عبد الوهاب بن علي الثعلبي - المكتبة التجارية مكة المكرمة - ط (1) 1415 هـ التنبيه - إبراهيم بن علي الفيروزبادي - عالم الكتب - ط (1) 1403 هـ تنقيح التحقيق - محمَّد بن أحمد بن عبد الهادي - المكتبة الحديثية - ط (1) 1409 هـ.
تهذيب التهذيب - الحافظ ابن حجر العسقلاني - دار الفكر - بيروت - ط (1) 1404 هـ تهذيب السنن - محمَّد بن أبي بكر (ابن القيم الجوزية) - دار المعرفة - ط بدون. تهذيب الكمال - يوسف بن الزكي المعروف بالمزي - مؤسسة الرسالة بيروت ط (1) 1992 م. تهذيب الكمال في أسماء الرجال - أبو الحجاج يوسف المزي - مؤسسة الرسالة بيروت - ط (1) 1406 هـ تهذيب اللغة - أبو منصور محمَّد بن أحمد الأزهري - دار إحياء التراث العربي - ط (1) 2001 م تهذيب المدونة - خلف بن أبي القاسم القيرواني - (372) - دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث - ط (1) 1423 هـ التوقيف على مهامات التعاريف - محمَّد عبد الرؤوف المناوي - دار الفكر - بيروت - ط (1) 1410 هـ تيسير التحرير - محمَّد أمين المعروف بأمير بادشاه - دار الفكر بيروت - ط بدون. الثقات - محمَّد بن حبان بن أحمد البستي دار الفكر. ط 1395 هـ أحمد ابن علي العجلي - مكتبة الدار. ط - 1405 هـ الثمر الداني في تقريب المعاني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني - صالح بن عبد السميع الآبي الأزهري (1335) جامع الأمهات - جمال الدين بن عمر بن الحاجب المالكي (ت 646 هـ) اليمامة للطباعة - بيروت - ط (2) 1421 هـ الجامع الصحيح (السنن). لأبي عيسى الترمذي - دار إحياء التراث العربى - ط الحلبي.
الجامع الصحيح (صحيح البخاري) - محمَّد بن إسماعيل البخاري - دار ابن كثير اليمامة. ط (3) 1407 هـ جريدة الرياض، الجمعة، رجب، عام 1428 هـ العدد 14270 جريدة الوطن، الثلاثاء صفر، 1428، العدد 2342 جمهرة اللغة - رمزي مثير بعلبكي - دار العلم للملايين - بيروت - ط (1) 1987 م جواهر العقود للسيوطي - شمس الدين الأسيوطي - دار الكتب العلمية بيروت - ط بدون - الجوهرة النيرة - أبو بكر محمَّد بن علي الحدادي (800) - المطبعة الخيرية. حاشية ابن القيم - أبو عبد الله شمس الدين محمَّد بن أبي بكر - دار الكتب العلمية - بيروت - ط (2) 1415 هـ حاشية ابن عابدين - حاشية رد المحتار على الدر المختار - شرح تنوير الأبصار - ابن عابدين - دار الفكر - بيروت 1421 هـ حاشية البجيرمي على الخطيب - سليمان بن محمَّد البيجيرمي - دار الفكر بيروت - ط بدون حاشية الجمل على شرح المنهج - سليمان الجمل - دار الفكر - بيروت حاشية الدسوقي على الشرح الكبير - لشمس الدين محمَّد بن عرفة الدسوقي - دار إحياء الكتب العربية القاهرة (ت 1230 هـ) - ط بدون. حاشية الروض المربع - عبد الرحمن بن محمَّد بن قاسم - ط (3) 1403 هـ حاشية الشبراملسي - (انظر نهاية المحتاج). حاشية الشلبي على تبيين الحقائق - الشيخ شهاب الدين أحمد الشلبي - المطبعة الكبرى بولاق مصر - ط 1314 هـ حاشية الصاوي على الشرح الصغير - أحمد الصاوي - دار المعارف.
حاشية الطحطاوي - أحمد بن محمَّد بن إسماعيل الطحاوي الحنفي - المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر - ط (3) 1418 هـ حاشية العدوي على الخرشي - علي العدوي بهامش شرح الخرشي على مختصر سيدي خليل. حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني - على الصعيدي العدوي - دار الفكر بيروت - ط 1412 هـ. حاشية العنقري على الروض المربع - عبد الله العنقري - دار بن الجوزية - ط بدون - حاشية قليوبي وعميرة - أحمد بن أحمد بن سلامة القليوبي (1069) وأحمد الرلسي الملقب بعميرة (957) - دار إحياء الكتب العربية. الحاوي الكبير - علي بن محمَّد الماوردي - دار الكتب العلمية بيروت - ط (1) 1414 هـ الحجة على أهل المدينة - محمَّد بن الحسن الشيباني - عالم الكتب بيروت - ط (3) 1403 هـ. الحجة في بيان المحجة - أبو القاسم إسماعيل بن محمَّد بن الفضل الأصبهاني - دار الراية الرياض - ط (2) 1419 هـ الحقوق التجارية البرية - رزق الله أنطاكي. حكم الإسلام في شهادات الاستثمار - عبد الرحمن زعيتر - دار الحسن - ط (1) 1992 م حكم الشريعة الإسلامية في عقد التأمين - د. حسين حامد حسان دار الاعتصام القاهرة - ط بدون. حلية الأولياء - أبو نعيم أحمد الأصبهاني - دار الكتاب العربي بيروت - ط (4) 1405 هـ
حواشي تحفة المحتاج - عبد الحميد الشرواني - وأحمد القاسم - دار صادر. ط 1315 هـ. الحوافز التجارية - خالد بن عبد الله المصلح - دار بن الجوزي - ط (1) 1420 هـ. الحيض والنفاس رواية ودراية - أبو عمر دبيان بن محمَّد الدبيان - بدون ط 1419 هـ خبايا الزوايا - محمَّد بن بهادر بن عبد الله الزركشي - وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويت - ط (1) 1402 هـ الخدمات الاستثمارية في المصارف - د. يوسف بن عبد الله الشبيلي - دار ابن الجوزي - ط (1) 1425 هـ. الخدمات المصرفية في ظل الشريعة الإسلامية - الطيب محمَّد حامد التكينة. الخدمات المصرفية وموقف الشريعة منها - د. علاء الدين زعتري - دار الكلم الطيب دمشق - ط (1) 1422 هـ الخرشي على مختصر خليل - محمَّد بن عبد الله الخرشي (1102) دار الفكر بيروت. خطاب الضمان - سامي حمود - بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية. الخطر والتأمين - د. رفيق المصري - دار القلم دمشق الطبعة الأولى 1422 هـ خلاصة البدر المنير - عمر بن علي بن الملقن الأنصاري - مكتبة الرشد الرياض - ط (1) 1410 هـ الدر المختار - للحصفكي (1088) - دار الفكر (ط) الثانية 1386. الدر المنثور بالتفسير بالمأثور. للحافظ جلال الدين السيوطي - دار الفكر. ط 1414 هـ الدراري المضيئة - محمَّد بن علي الشوكاني - دار المعرفة - ط 1398 هـ دراسة شرعية لأهم العقود المالية المستحدثة - محمَّد مصطفى أبوه الشنقيطي - مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة - ط (2) 1422 هـ
الدراية في تخريج أحاديث الهداية - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - دار المعرفة بيروت - ط بدون. درر الحكام شرح غرر الأحكام - محمَّد بن فرموزا ..... (885) - دار إحياء الكتب العلمية. درر الحكام شرح مجلة الأحكام - علي حيدر أفندي - دار الكتب العلمية بيروت - ط - بدون الدعاء - للطبراني - سليمان بن أحمد الطبراني - دار الكتب العلمية - بيروت - ط (1) 1412 هـ الدعاء لابن الفضل - أبو عبد الرحمن محمَّد بن فضل بن غزوان - مكتبة الرشد الرياض - ط (1) 1419 هـ الذخيرة - أحمد بن إدريس القرافي (684) دار الغرب بيروت (ط) الأولى 1994 م رؤوس المسائل الخلافية - أبو المواهب الحسين بن محمَّد العكبري - دار إشبيليا الرياض - ط (1) 1421 هـ الربا في المعاملات المصرفية المعاصرة - د. عبد الله بن محمَّد السعيدي - دار طيبة الرياض - ط (2) 1421 هـ الربا والمعاملات المصرفية - د. عمر بن عبد العزيز المترك - دار العاصمة الرياض - ط (1) 1414 هـ. رد المحتار على الدر المختار - محمَّد أمين الشهير بابن عابدين - دار الكتب العلمية - ط (1) 1415 هـ. الروايتين والوجهين - للقاضي أبي يعلى محمَّد بن الحسين الحنبلي - مكتبة المعارف الرياض - ط (1) 1405 هـ الروض المربع - منصور بن يونس البهوتي - دار البيان دمشق - ط (2) 1420 هـ
الروض المربع شرح زاد المستقنع - منصور بن يونس البهوتي - تحقيق الشيخ خالد المشيقح ومجموعة معه - دار الوطن - الأولى 1416 هـ روضة الطالبين - لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي. (676) - دار النشر المكتب الإسلامي - ط (2) روضة الناظر - عبد الله بن أحمد بن قدامة - جامعة الإمام محمَّد بن سعود الرياض - ط (2) 1399 هـ الروضة الندية - محمَّد صديق خان ومعه التعليقات الرضية على الروضة الندية - دار ابن عفان القاهرة - ط الأولى 1999 م - تحقيق علي حسن الحلبي. زاد المستقنع - موسي بن أحمد بن سالم المقدسي - مكتبة النهضة الحديثة مكة المكرمة - ط بدون زوائد مسند الحارث - الحارث بن أبي أسامة - الحافظ نور الدين الهيثمي - مركز خدمة السنة والسيرة النبوية المدينة المنورة - ط (1) 1412 هـ سبل السلام - أحمد بن إسماعيل الصنعاني - الجامعة - ط (2) - 1400 هـ السراج الوهاج على متن المنهاج - محمَّد الزهري العمراوي - دار المعرفة بيروت - ط بدون سندات الإجارة والأعيان المؤجرة - منذر قحف من منشورات المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب 1995 م السنن - الدارقطني - علي بن عمر أبو الحسن الدارقطني - دار المعرفة - دار المعرفة 1386 هـ. السنن - لابن ماجة القزويني - دار الفكر - بدون. سنن ابن ماجه - محمَّد بن يزيد أبو عبد الله القزويني - دار الفكر بيروت - ط بدون سنن أبي داود - سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني - دار الفكر ط بدون
سنن البيهقي - أحمد بن الحسين بن علي البيهقي - مكتبة الدار المدينة المنورة - ط (1) 1410 هـ سنن الدارمي - عبد الله بن عبد الرحمن أبو محمَّد الدارمي - دار الكتاب العربي - بيروت ط (1) 1407 هـ السنن الكبرى - أحمد بن الحسين بن علي البيهقي - مكتبة دار الباز مكة المكرمة - ط 1414 هـ سنن النسائي الكبرى - أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي - دار الكتب العلمية بيروت - ط (1) 1411 هـ سنن النسائي (المجتبى) أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي - مكتب المطبوعات الإسلامية حلب - ط (2) 1406 هـ سوق الأوراق المالية - د. خورشيد أشرف إقبال - مكتبة الرشد. ط (1) 1427 هـ سوق الأوراق المالية في ميزان الفقه الإسلامي - للدكتور عطية السيد فياض - رسالة دكتوراه لم تطبع. سوق المال - د. عبد الله محمَّد الرزين - مطابع الجامعة - ط (1) 1427 هـ السيل الجرار - محمَّد بن علي الشوكاني - دار الكتب العلمية دار المعرفة 1405 هـ شرح البهجة - زكريا بن محمَّد الأنصاري - الطبعة الميمنية شرح التاودي على التحفة - محمَّد التاودي - مطبعة مصطفي الحلبي 1370 هـ شرح التلويح على التوضيح - سعد الدين مسعود بن عمر التغتازاني - دار الكتب العلمية بيروت - ط 1416 هـ شرح الزرقاني على مختصر خليل - عبد الباقي الزرقاني - دار الفكر بيروت - (ط) بدون. شرح الزرقاني على موطأ مالك - محمَّد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني - دار الكتب العلمية بيروت - ط 1411 هـ
شرح الزركشي على مختصر الخرقي - مكتبة العبيكان - ط (1) -1412 هـ شرح السنة - الحسين بن مسعود البغوي - المكتب الإسلامي - ط (1) -1400 هـ. الشرح الصغير مع حاشية الصاوي - أحمد الصاوي - دار المعارف شرح العمدة (الطهارة) - لابن تيمية مكتبة العبيكان - ط (1) 1409 هـ شرح ألفية ابن مالك - عبد الله بن عقيل العقيلي - دار الفكر دمشق - 1405 هـ شرح القواعد الفقهية - أحمد الزرقاء - دار القلم - ط (2) 1409 هـ الشرح الكبير - لأبي البركات أحمد الدردير - مطبوع مع حاشية الدسوقي. الشرح الكبير شمس الدين بن قدامة المقدسي - هجر - ط (1) 1414 هـ. شرح الكوكب المنير المسمي بمختصر التحرير - محمَّد الحنبلي المعروف بابن النجار - من إصدارات جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلامية - ط (1) 1408 هـ. الشرح الممتع على زاد المستقنع - محمَّد بن صالح العثيمين - مؤسسة آسام - ط (2) 1416 هـ شرح النووي لصحيح مسلم - أبو زكريا يحيى بن شرف النووي - دار إحياء التراث العربي بيروت - ط (2) 1392 هـ شرح حدود ابن عرفة - محمَّد قاسم الأنصاري المشهور بالرصاص التونسي - مطبعة نضاله - ط 1412 هـ شرح صحيح البخاري - أبو الحسن علي بن خلف بن بطال - مكتبة الرشد الرياض - ط (2) 1423 هـ شرح مذاهب أهل السنة - أبى حفص عمر بن أحمد بن شاهين - مؤسسة قرطبة للنشر. ط (1) 1415 هـ شرح منتهى الإرادات - منصور بن يونس البهوتي (1051) - عالم الكتب ط (2) 1996 م.
شرح منظومة الآداب - محمَّد بن أحمد بن سالم السفاريني - دار الكتب العلمية بيروت - ط 1423 هـ. الشركات في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي - عبد العزيز الخياط - وزارة الأوقاف والشئون والمقدسات الإسلامية - ط (1) 1430 هـ شركة الأعمال - عماد عبد الحفيظ الزيادات - دار النفائس - ط (1) شركة المساهمة في النظام السعودي - صالح بن زابن المرزوقي ط الأولى. الصحاح للجوهري - إسماعيل بن حماد الجوهري - دار العلم للملايين بيروت - ط (4) 1990 م الصحيح - للإمام مسلم ابن الحجاج - دار إحياء التراث العربي - بدون الصحيح - محمَّد بن إسحاق بن خزيمة - المكتب الإسلامي ط 1399 هـ صحيح ابن حبان - محمَّد بن حبان أبو حاتم البستي - مؤسسة الرسالة. تحقيق الأرنؤوط ط 1414 هـ. صحيح مسلم - مسلم بن الحجاج أبو الحسين النسابوري - دار إحياء التراث العربي بيروت - ط بدون. صكوك الإجارة - حامد بن حسن بن محمَّد علي ميرة - دار الميمان الرياض ط (1) 1429 هـ الضعفاء - أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني الصوفي - دار البيضاء المغرب ط (1) 1405 هـ. الضعفاء الصغير - للإمام محمَّد بن إسماعيل البخاري - دار الوعي ط 1396 هـ. الضعفاء الكبير - محمَّد بن عمرو العقيلي - دار الكتب العلمية بيروت - ط (1) 1404 هـ الضعفاء والمتروكون - أحمد بن شعيب النسائي - مؤسسة الكتب الثقافية ط - 1405 هـ.
الضعفاء والمتروكين - عبد الرحمن بن علي بن محمَّد الجوزي أبو الفرج - دار الكتب العلمية بيروت - ط (1) 1406 هـ. الطبقات الكبرى - محمَّد بن سعد بن منيع - دار صادر - بدون. طرح التثريب في شرح التقريب - زين الدين أبو الفضل العراقي - دار الكتب العلمية بيروت - ط (1) 2000 م. الطرق الحكمية في السياسة الشرعية - أبو عبد الله شمس الدين محمَّد - مطبعة المدني القاهرة - ط بدون. طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية - نجم الدين أبي حفص النسفي دار النفائس عمان - ط 1416 هـ عارضة الأحوذي شرح جامع الترمذي - لأبي بكر ابن العربي - دار الكتب العلمية - ط. بدون. عقد الاستصناع ومدى أهميته في الاستثمارات الإسلامية المعاصرة مجلة مجمع الفقه الإسلامي. عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة - جلال الدين عبد الله ابن شاس - دار الغرب الإسلامي - ط (1) 1423 هـ. عقد السلم في الشريعة الإسلامية د. نزيه حماد. دار القلم دمشق - ط (1) 1414 هـ. عقد المقاولة والتوريد في الفقه الإسلامي د. علي أبو البصل دار القلم - ط (1) 1423 هـ العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية - محمَّد أمين المعروف بابن عابدين ..... (1252) دار المعرفة - بيروت. العقود المسماة في الفقه الإسلامي - عقد البيع - مصطفي أحمد الزرقا - دار القلم دمشق - ط (1) 1420 هـ
عقود المناقصات - عاطف محمَّد حسين أبو هربيد. دار النفائس عمان - ط (1) 1426 هـ. العلل - لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني - دار طيبة. ط 1 - 1405 هـ علل الحديث - عبد الرحمن بن محمَّد الرازي - دار المعرفة - بيروت - ط (1) 1405 هـ العلل المتناهية في الأحاديث الواهية - ابن الجوزي - دار الكتب العلمية العلل للترمذي - شرح الحافظ ابن رجب - تحقيق السامرائي - عالم الكتب بيروت - ط (1) 1409 هـ العلل ومعرفة الرجال - أحمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني - دار الخناني الرياض - ط (1) 1408 هـ عمدة القاري - بدر الدين محمود بن أحمد العيني - دار إحياء التراث العربي بيروت - ط بدون العمليات البنكية - جعفر الجزار دار النفائس - ط (1) 1417 هـ. العمليات المصرفية الخارجية - خالد وهيب الراوي - دار المناهج عمان - ط (2) 1425 هـ العناية شرح الهداية - محمَّد بن محمود البابرتي - دار الفكر - مطبوع مع شرح فتح القدير بدون تاريخ. عون المعبود شرح سنن أبي داود - محمَّد شمس الحق العظيم آبادي - دار الكتب العلمية بيروت - ط (2) 1415 هـ. غاية البيان شرح زبد ابن رسلان - محمَّد بن أحمد الرملي - دار المعرفة - بيروت - ط بدون. الغرر البهية شرح البهجة الوردية - أبو يحي زكريا بن محمَّد الأنصاري - المطبعة الميمنية مصر - ط 1318 هـ
الغرر وأثره في العقود - البروفسور الصديق محمَّد الأمين الضرير - طباعة مجموعة دلة البركة - ط (2) 1416 هـ الغش وأثره في العقود - د. عبد الله بن ناصر السلمي - كنوز إشبيليا الرياض - ط (1) 1425 هـ غمز عيون البصائر - أحمد بن محمَّد الحنفي الحموي - دار الكتب العلمية - ط بدون الفتاوى - للشيخ محمود شلتوت - دار القلم القاهرة - ط بدون الفتاوى الإسلامية في القضايا الاقتصادية، كتاب الأهرام، عدد (14) الفتاوى الخانية - قاضي خان - دار إحياء التراث العربي بيروت - ط بدون الفتاوى السعدية - الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - مكتبة المعرفة الرياض - ط بدون. فتاوى السغدي - أبو الحسن علي بن الحسين السغدي - مؤسسة الرسالة بيروت - ط (2) 1404 هـ الفتاوى الكبرى - تقي الدين ابن تيمية (728) - دار الكتب العلمية. فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - أحمد الدرويش - إدارة البحوث العلمية والإفتاء الرياض - ط 1419 هـ الفتاوى الهندية - الشيخ نظام وجماعة من علماء الهند. دار الفكر - 1411 هـ فتاوى قاضي خان مطبوع بهامش الفتاوى الهندية في مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان - دار إحياء التراث العربي - ط (4) 1406 هـ فتاوى هيئة الرقابة الشرعية - بنك فيصل الإسلامي السوداني - مطابع الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية القاهرة 1402 هـ فتاوى ورسائل الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ - مطبعة الحكومة مكة المكرمة - ط (1) 1399 هـ
فتح الباري - للحافظ ابن حجر العسقلاني - دار الكتب العلمية - ط 2 - 1418 هـ. فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن رجب مكتبة الغرباء - ط 1 - 1417 هـ فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر - مؤسسة قرطبة - ط1 - 1400 هـ. فتح العزيز بشرح الوجيز - عبد الكريم بن محمَّد الرافعي (623). فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك - أبو عبد الله محمَّد بن أحمد المشهور بالشيخ عليش - دار المعرفة. فتح القدير - كمال الدين محمَّد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام (861) - دار الفكر (ط) الثانية. فتح القدير الجامع بين فتى الرواية والدراية من علم التفسير - محمَّد بن علي ابن محمَّد الشوكاني - دار الفكر بيروت - ط بدون فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب - زكريا بن محمَّد بن أحمد الأنصاري - دار الكتب العلمية بيروت - ط (1) 1418 هـ الفروع - شمس الدين المقدسي محمد بن مفلح - عالم الكتب بيروت -ط - (3) 1402 هـ الفروق - أسعد بن محمَّد بن الحسين النيسابوري الكرابيسي - وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويت - ط (1) 1402 هـ الفصل للوصل المدرج في النقل - أحمد بن علي البغدادي - دار الهجرة - ط (1) 1418 هـ. الفصول في الأصول - أحمد بن علي الرازي الجصاص - وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويت - ط (1) 1405 هـ الفعل الضار - مصطفي أحمد الزرقا - دار القلم دمشق - ط (1) 1409 هـ فقه المعاملات دراسة مقارنة - د. محمَّد عثمان الفقي - دار المريخ للنشر الرياض - ط 1406 هـ
فقه النوازل جمع محمد بن حسين الجيزاني - دار بن الجوزي - ط (2) 1427 هـ. الفوائد. تمام بن محمد الرازي - مكتبة الرشد الرياض - ط (1) 1412 هـ- الفواكه الدواني - أحمد بن غنيم النفراوي (1125) دار الفكر ط 1415 هـ القاموس المحيط - محمد بن يعقوب الفيروزآبادي - مؤسسة الرسالة - بيروت. القانون المدني المصري المطابع الأميرية القاهرة - ط - (9) 2004 م. قانون الموجبات والعقود اللبناني - زهدي يكن - دار الثقافة - ط (1) 1970 م قبض الشيكات في استبدال النقود والعملات - دراسة مقارنة - عبد الوهاب حواس القبض تعريفه، أقسامه، صوره وأحكامها - سعود بن مسعد الثبيتي - دار بن حزم بيروت - ط (1) 1415 هـ القبض وأحكامه - عبد الله بن محمد الربعي - رسالة علمية لم تطبع بعد. قرارات الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية للاستثمار - فضيلة الشيخ عبد الله بن عقيل - شركة الراجحي المصرفية - ط (1) 1419 هـ قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي رابطة العالم الإسلامي مكة المكرمة. قرارات وتوصيات ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي - د. عبد الستار أبو غدة/ د. أحمد محيى الدين أحمد. ط (7) 1426 هـ القراض في الفقه الإسلامي - د. علي عبد العال عبد الرحمن - دار الهدي مصر - ط 1400 هـ قضايا فقهية معاصرة في المال والاقتصاد. د. نزيه حماد. دار القلم دمشق - ط (1) 1421 هـ قواطع الأدلة في أصول الفقه - منصور بن محمد السمعاني - تحقيق عبد الله الحكمي - مكتبة التوبة - ط (1) 1419 هـ
القواعد - عبد الرحمن بن أحمد المعروف بابن رجب ...... (795) - دار المعرفة - قواعد الأحكام في مصالح الأنام - عز الدين عبد العزيز السلمي - دار المعرفة - ط بدون القواعد الفقهية - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - دار بن الجوزي - ط 1423 هـ القواعد النورانية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرانى أبو العباس - دار المعرفة بيروت - ط بدون 1399 هـ القواعد والضوابط الفقهية - د. علي أحمد الندوي - دار علم المعرفة - ط 1419 هـ القواعد والضوابط الفقهية القرافية - عادل بن عبد القادر ولي قوته - دار البشائر الإسلامية بيروت - ط (1) 1425 هـ القواعد والضوابط الفقهية للمعاملات المالية عند ابن تيمية - عبد السلام ابن إبراهيم ابن محمَّد الحصين - دار التأصيل القاهرة - ط (1) 1422 هـ القواعد والفوائد الأصولية - علي بن عباس البعلي الحنبلي - مطبعة السنة المحمدية القاهرة - ط بدون 1375 هـ القواعد والفوائد الأصولية ابن اللحام دار الكتب العلمية ط (1) 1402 هـ. القوانين الفقهية - محمَّد بن أحمد بن جزيء. (741) - دار الكتب العلمية - بدون الكاشف لمعرفة من له رواية في الكتب الستة - للإمام الذهبي - دار القبلة - ط 1 - 1413 هـ الكاقي في فقه الإمام أحمد بن حنبل - عبد الله بن قدامة المقدسي (620) - المكتب الإسلامي - (ط) الثانية 1399 هـ الكافي في فقه أهل المدينة - يوسف بن عبد الله بن عبد البر (463) دار الكتب العلمة (ط) الأولى - 1407 هـ الكامل - الحافظ ابن عدي - دار الفكر. ط - 1409 هـ
كشاف القناع - منصور بن يونس البهوتي - دار الفكر بيروت 1402 هـ كشاف القناع عن متن أبى شجاع - عالم الكتب - ط بدون. كشف الأسرار شرح أصول البزدوي - علاء الدين عبد العزيز ابن أحمد البخاري دار الكتب العلمية بيروت ط 1418 هـ كشف المخدرات - عبد الرحمن بن عبد الله البعلي (1192) دار البشائر الإسلامية بيروت (ط) الأولى 1423 هـ كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار - تقي الدين أبي بكر بن محمَّد الحسيني - دار الخير - دمشق - ط (1) 1994 م. الكليات الفقهية - محمَّد بن محمَّد بن أحمد المقري - الدار العربية للكتاب (1381) هـ. الكنى والأسماء - أبو بشر محمَّد بن أحمد الدولابي - دار بن حزم بيروت - ط (1) 1421 هـ اللباب في الجمع بين السنة والكتاب - أبو محمَّد علي بن زكريا المنبجي - دار الشروق جدة - ط (1) 1403 هـ. اللباب في الفقه الشافعي - القاضي أحمد بن محمَّد الضبي (415) هـ دار البخاري السعودية المدينة المنورة (ط) الأولى 1416 هـ لسان الحكام في معرفة الأحكام - إبراهيم - بن محمَّد الحنفي - البابي الحلبي القاهرة - ط (2) -1393 هـ لسان العرب - محمَّد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري (711) - دار صادر - ط (1). المالية والمصرفية المعاصرة - نزيه حماد - ط (1) 1428 دار القلم مبدأ الرضا في العقود - د. علي محيي الدين القره داغي - دار البشائر الإسلامية بيروت - ط (1) 1985 م
المبدع شرح المقنع - إبراهيم بن محمَّد بن عبد الله بن مفلح ..... (884) - المكتب الإسلامي - بيروت 1400 هـ المبسوط - محمَّد بن أحمد السرخسي (483) - دار المعرفة. بيروت - ط (2) 1392 هـ المبسوط لابن المنذر - دار طيبة - ط الأولى 1409 هـ المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين - محمَّد بن حبان أبي حاتم البستي - دار الوعي - حلب - ط (1) 1396 هـ مجلة الأحكام الشرعية - أحمد بن عبد الله القاري الناشر تهامة الطبعة الأولى 1401 هـ مجلة الأحكام العدلية - دار بن حزم ط (1) 1424 هـ مجلة المجمع الفقهي الإسلامي - يصدرها المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي - السنة (14) العدد (16) - ط 1424 هـ مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر - عبد الرحمن بن محمَّد بن سليمان الكليبولي - دار الكتب العلمية بيروت - ط (1) 1419 هـ مجمع الضمانات - غانم بن محمَّد البغدادي - دار الكتاب الإسلامي مجموع الفتاوى - شيخ الإسلام ابن تيمية - جمع عبد الرحمن بن محمَّد ابن قاسم - ط بدون 1398 هـ. مجموع فتاوى ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله بن باز - مؤسسة الدعوة الإسلامية الصحفية - ط (3) الجزء الأول 1414 هـ مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمَّد بن صالح العثيمين - مكتبة المعارف - ط (2) 1404 هـ المحدث الفاصل بين الراوي والواعي - الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي - دار الفكر - بيروت - ط (3) 1404 هـ
المحرر - مجد الدين أبو البركات - مكتبة المعارف ط (2) 1404 هـ المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز - عبد الحق بن غالب بن عطية - دار الكتب العلمية - ط (1) 1413 هـ المحصول في أصول الفقه - القاضي أبي بكر المالكي - دار البيارق - ط (1) 1420 هـ المحلى - علي بن أحمد بن حزم الظاهري - تحقيق العلامة أحمد شاكر - دار الآفاق الجديدة - ط بدون. المحيط الرهباني - برهان الدين ابن مازه - دار إحياء التراث العربي مختار الصحاح - محمَّد بن أبي بكر الرازي - مكتبة لبنان ناشرون - ط جديدة 1415 هـ مختصر اختلاف العلماء - أحمد بن محمَّد الطحاوي - دار البشائر الإسلامية - ط (2) 1417 هـ مختصر الفتاوى المصرية - بدر الدين محمَّد البعلى - دار بن القيم - ط (2) 1406 هـ مختصر الكامل في الضغفاء وعلل الحديث - تقي الدين بن علي للمقريزي - مكتبة السنة القاهرة - ط (1) 1415 هـ مختصر المزني - للإمام المزني - ملحق بالأم - انظر الأم. مختصر سنن أبي داود. للحافظ المنذري. مدارج السالكين - محمَّد بن أبي بكر الزعبي - دار الكتاب العربي - ط (2) 1393 هـ المدخل الفقهي العام - مصطفى أحمد الزرقا - دار القلم - ط (1) 1418 هـ المدخل إلى فقه المعاملات المالية - أد. محمَّد عثمان شبير - دار النفائس الطبعة الأولى 1423 هـ المدخل إلى نظرية الالتزام العامة - مصطفي أحمد الزرقا - دار القلم ط - ... (1) 1420 هـ
المدخل في الفقه الإسلامي - أد. محمَّد مصطفى شلبي الدار الجامعية ط - ......... (10) 1405 هـ المدخل للفقه الإسلامي - محمَّد سلام مدكور - دار الكتاب الحديث القاهرة - ط (2) 1996 م المدخل للفقه الإسلامي تاريخ الفقه الإسلامي - د. أحمد فراج حسين منشورات الحلبي بيروت بدون ط 2002 م المدونة الكبرى - مالك بن أنس (ت 179 هـ) دار صادر - بيروت - طبعة مصورة عن طبعة الحاج محمَّد أفندي مطبعة السعادة مصر 1323 هـ. المراسيل - سليمان بن الأشعث السجستاني أبو داود - مؤسسة الرسالة بيروت - ط (1) 1408 المراسيل لابن أبي حاتم - عبد الرحمن بن إدريس الرازي - مؤسسة الرسالة بيروت - ط (1) 1397 هـ. مرقاة المفاتيح - علي بن سلطان محمَّد القاري دار الفكر بيروت - ط - ....... (1) 1412 هـ مسائل أحمد رواية عبد الله - د. علي سليمان المهنا - مكتبة الدار المدينة المنورة - ط (1) 1406 هـ مسائل الإمام أحمد رواية أبي الفضل - الدار العلمية - ط (1) 1408 هـ مسائل الإمام أحمد وإسحاق، برواية إسحاق بن منصور المروزي - الجامعة الإسلامية ط (1) 1425 هـ مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه - د. صالح بن محمَّد الفهد المزيد. مطبعة المدني القاهرة - ط (1) 1415 هـ مستدرك - محمَّد بن عبد الله الحاكم النيسابوري - دار الكتب العلمية بيروت - ط (1) 1411 هـ
المستصفى في علم الأصول - محمَّد بن محمَّد الغزالي - دار الكتب العلمية بيروت - ط (1) 1413 هـ المسند - الإمام أحمد -رحمه الله - - مؤسسة الرسالة - تحقيق شعيب الأرنؤوط 1416 هـ. المسند - الإمام أحمد -رحمه الله - المكتب الإسلامي - ط (5) 1405 هـ. مسند أبي داود الطيالسي - سليمان بن داود الطيالسي - دار المعرفة - ط بدون. مسند أبي عوانة - يعقوب بن إسحاق الاسفرائيني ط (1) دار الكتبي. مسند أبي يعلى الموصلي - أحمد بن علي أبو يعلى الموصلي التميمي - دار المأمون للتراث دمشق - ط (1) 1404 هـ مسند إسحاق بن راهويه - إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي - مكتبة الإيمان المدينة المنورة - ط (1) 1413 هـ مسند الحميدي - عبد الله بن الزبير أبو بكر الحميدي - دار الكتب العلمية بيروت - ط بدون مسند الروياني - محمَّد بن هارون الروياني أبو بكر - مؤسسة قرطبة القاهرة - ط (1) 1416 هـ مسند الشاشي - أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي - مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة - ط (1) 1410 هـ. مسند الشافعي - محمَّد بن إدريس أبو عبد الله الشافعي - دار الكتب العلمية بيروت - ط بدون مسند الشافعي - محمَّد بن إدريس أبو عبد الله الشافعي - دار الكتب العلمية بيروت - ط بدون مسند الشاميين - سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبري - مؤسسة الرسالة بيروت - ط (1) 1405 هـ
مسند الشهاب - محمَّد بن سلامة بن جعفر القضاعي - مؤسسة الرسالة بيروت - ط (2) 1407 هـ مسند عبد بن حميد - عبد بن حميد بن نصر - مكتبة السنة القاهرة - ط (1) 1408 هـ مشكل الآثار للإمام الطحاوي - مؤسسة الرسالة - تحقيق الأرنؤط ط الأولى 1415 هـ مشيخة ابن طهمان - إبراهيم بن طهمان أبو السعيد. مجمع اللغات العربية دمشق - ط (1) 1403 هـ. مصادر الالتزام - الدكتور أمجد محمَّد منصور دار الثقافة - الدار العلمية الدولية - ط (1) الإصدار الثاني 2003 م مصادر الالتزام في القانون الأردني - د. أنور سلطان - الجامعة الأردنية - ط (1) 2002 م مصادر الحق - عبد الرزاق أحمد السنهوري - منشورات الحلبي الحقوقية - ط (2) 1998 م المصارف والأعمال المصرفية - لغريب الجمال - دار الشروق مؤسسة الرسالة - ط بدون. مصباح الزجاجة - أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل الكناني - دار العربية بيروت - ط (2) 1403 هـ المصباح المنير - أحمد بن محمَّد بن علي المقري الفيومي - المكتبة العلمية بيروت - ط بدون. المصنف - عبد الرزاق الصنعاني - المكتب الإسلامي ط - (2) 1403 هـ المصنف لأبي بكر ابن أبي شيبة دار الكتب العلمية المكتب الإسلامي - ط (2) 1416 هـ. المضاربة الشرعية وتطبيقاتها الحديثة - د. حسن الأمين البنك الإسلامي للتنمية - ط (2) 1414 هـ
مطالب أولي النهى - مصطفى السيوطي الرحيباني (1243) - المكتب الإسلامي - دمشق 1961 م. المطلع على أبواب المقنع - محمَّد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي - المكتب الإسلامي بيروت - 1401 هـ. معالم السنن - أبو سليمان بن محمَّد الخطابي - دار المعرفة بيروت - ط بدون. معالم القربة في معالم الحسبة - محمَّد بن محمَّد المعروف بابن الأخوة - الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة - ط 1976 م المعاملات الاقتصادية في شركة الراجحي المصرفية من منظور اقتصادي - راشد العليوي رسالة دكتوراة لم تطبع بعد معاملات البنوك وأحكامها الشرعية - د. محمَّد سيد طنطاوي - نهضة مصر - ط (15) 1417 هـ المعاملات المالية المعاصرة - أد. وهبة زحيلي - دار الفكر دمشق - ط (1) 1423 هـ المعاملات المالية المعاصرة - د. محمَّد عثمان شبير - دار النفائس عمان - ط (4) 1422 هـ المعاملات المالية المعاصرة في ضوء الفقه والشريعة - أد. محمَّد رواس قلعه جي - دار النفائس بيروت - ط (3) 1423 هـ المعاملات المصرفية وأحكامها في الشريعة الإسلامية - رسالة دكتوراه إعداد طالب أحمد الشنقيطي. المعايير الشرعية لصيغ التمويل المصرفي اللاربوي - د. محمَّد العلي القري - شركة المدينة المنورة جدة - ط 1421 هـ. المعتمد في أصول الفقه - محمَّد بن علي بن الطيب البصري - دار الكتب العلمية بيروت - ط (1) 1403 هـ
المعجم الكبير - سليمان بن أحمد أبو القاسم الطبراني - مكتبة العلوم والحكم - ط 1404 هـ معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء - د. نزيه حماد. المعهد العالمي للفكر الإسلامي الولايات المتحدة الأمريكية. ط 1413 هـ معجم المصطلحات الاقتصادية والإسلامية - علي بن محمَّد الجمعة - مكتبة العبيكان الرياض - ط (1) 1421 هـ معجم مقاييس اللغة - أبي الحسين أحمد بن فارس - دار الجبل لبنان - ط (2) 1420 هـ المعرفة والتاريخ - أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي - دار الكتب العلمية بيروت - ط بدون 1419 هـ المعلم بفوائد مسلم - أبي عبد الله المازري - دار الغرب الإسلامي - ط (2) 1992 م المعونة - القاضي عبد الوهاب البغدادي - مكتبة نزار الباز - طبع عام 1415 هـ معونة أولى النهي شرح المنتهى - محمَّد بن أحمد التنوخي - دار خضر - الأول - 1416 هـ. المعيار المعرب - لأحمد بن يحيى الونشريسي (914) دار الغرب الإسلامي .. (ط) الأولى 1401 هـ. المغني - عبد الله بن أحمد المعروف بابن قدامة (620) - دار الفكر - ط (1) 1405 هـ مغني المحتاج - محمَّد الخطيب الشربيني (977) - دار الفكر - بيروت. المغني عن الحفظ والكتاب ومعه جنة المرتاب - الموصلي. المفهم في شرح مسلم - أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي - دار ابن كثير بيروت - ط (1) 1417 هـ
المقاصد الحسنة - شمس الدين بن عبد الرحمن السخاوي - دار الكتب العلمية بيروت - ط (1) 1407 هـ المقدمات الممهدات - محمَّد بن أحمد ابن رشد القرطبي (الجد) (520) هـ دار الغرب الإسلامي - (ط) الأولى 1408 هـ. المقنع في شرح مختصر الخرقي - أبي علي الحسن بن أحمد البنا - مكتبة الرشد الرياض - ط (1) 1414 هـ مكارم الأخلاق - لابن أبي الدنيا أبو بكر عبد الله بن محمَّد. المطبعة الكاثوليكية بيروت - ط 1393 هـ الملكية في الشريعة الإسلامية - علي الخفيف - دار الفكر العربي بيروت - ط 1996 م الملكية ونظرية العقد - محمَّد أبو زهرة - دار الفكر العربي القاهرة - ط 1996 م الممتع شرح المقنع للتنوخي ط (1). منار السبيل - إبراهيم بن محمَّد بن ضويان - المكتب الإسلامي - ط (5) 1402 هـ. مناقصات العقود الإدارية - رفيق يونس المصري - دار المكتبي دمشق - ط (1) 1420 هـ المنتقى شرح موطأ الإمام مالك - أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي - دار الكتاب العربي بيروت ط (1) 1332 هـ المنتقى لابن الجارود مع غوث المكدود - دار الكتاب العربي - ط 1408 هـ المنثور في القواعد الفقهية - محمَّد بن بهادر الزركشي (794) - وزارة الأوقاف الكويتية 1405 هـ منح الجليل شرح على مختصر سيد خليل - محمَّد عليش (1299) دار الفكر 1409 هـ المنهج القويم شرح المقدمة الحضرمية - الهيثمي - ط بدون.
المهذب - إبراهيم بن علي الشيرازي (476) دار الفكر بيروت الموافقات في أصول الفقه - إبراهيم بن موسى الغرناطي المالكي - دار المعرفة بيروت - ط بدون. مواهب الجليل - محمَّد بن عبد الرحمن الرعيني (954) - دار الفكر. مواهب الجليل لشرح مختصر خليل - محمَّد بن عبد الرحمن المغربي - دار الفكر بيروت ط (2) 1398 هـ. موسوعة أحكام الطهارة - دبيان بن محمَّد الدبيان - مكتبة الرشد الرياض - ط (2) 1426 هـ موسوعة الإجماع - سعدي أبو حبيب - دار الفكر بيروت - ط (3) 1418 هـ الموسوعة الفقهية الكويتية - وزارة الأوقاف الكويتية ط الأولى - 1404 هـ موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة أ - د. علي أحمد السالوس - دار الثقافة قطر - ط (7) 1423 هـ موضح أوهام الجمع والتفريق - أحمد بن علي الخطيب - دار المعرفة - بيروت ط (1). الموضوعات - أبو الفرج عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي (597) هـ دار الكتب العلمية (ط) الأولى 1415 هـ. الموطأ - للإمام مالك -رحمه الله - رواية يحيى بن يحيى ومحمد بن الحسن وأبي مصعب - دار إحياء التراث بدون. موقف الشريعة الإسلامية من البطاقات البنكية - منظور أحمد حاجي رسالة دكتوراه لم تطبع بعد. نصب الراية - عبد الله بن يوسف الزيلعي دار الحديث بمصر - ط 1357 هـ. نظام التأمينات الاجتماعية - الطبعة الثانية 1422 هـ.
نظام حماية الودائع لدى المصارف الإسلامية - عثمان بابكر أحمد. النظرية العامة للالتزام - د. توفيق فرج الصدة - الدار الجامعة بيروت - ط بدون نظرية العقد في الفقه الإسلامي - أد. محمَّد سلامة ط -1414 هـ نظرية العقد في الفقه الإسلامي -عز الدين محمَّد خوجه دلة البركة ط (1) 1414 هـ نظرية العقد. عبد الرزاق أحمد السنهوري - دار الفكر دمشق - ط 1934 م النقود والبنوك والاقتصاد - مجموعة من المؤلفين منهم (توماس، جيمس، روبرت) دار المريخ الرياض - ط - 1996 م النكت على كتاب ابن الصلاح - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - الجامعة الإسلامية المدينة المنورة - ط (1) 1404 هـ النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر - إبراهيم بن محمَّد بن مفلح الحنبلي - مكتبة المعارف الرياض - ط (2) 1404 هـ النهاية - إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي - مكتبة المعارف بيروت - ط بدون نهاية الزين في إرشاد المبتدئين - محمَّد بن عمر بن علي بن نووي - دار الفكر بيروت - ط (1) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج - محمَّد بن أبي العباس المعروف بالرملي (1004) - دار الفكر. بيروت 1404 هـ نهاية المطلب في دراية المذهب - عبد الله بن عبد الله بن يوسف الجويني - دار المنهاج للنشر والتوزيع طباعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في قطر. النهاية في غريب الحديث والأثر - مجد الدين أبو السعادات المبارك محمَّد الجزري ابن الأثير - دار ابن الجوزي - الأولى عام 1421، في مجلد واحد. نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار - محمَّد بن علي الشوكاني (1255) دار الجيل، ط 1973 م
الهداية شرح بداية المبتدئ - علي بن أبي بكر المرغياني (593) - المكتبة الإسلامية. الهداية في تخريج أحاديث البداية - أحمد الغماري - الأولى 1407 هـ. الوجيز في النظام التجاري السعودي - د. سعيد يحيى المكتب العربى الحديث ط (7) 2004 م. الوسيط - محمَّد بن محمَّد الغزالي (505) دار السلام القاهرة - (ط) الأولى 1417. الوسيط - مصادر الالتزام - عبد الرزاق أحمد السنهوري - منشورات الحلبي بيروت ط (3) 1998 م. الوسيط في شرح القانون المدني الجديد - عبد الرزاق أحمد السنهوري - منشورات الحلبي الحقوقية بيروت - ط (3) 1998 م.
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد السادس عشر
(ح) دبيان بن محمَّد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمَّد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة / دبيان محمَّد الدبيان - الرياض، 1432 هـ 736 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجموعة) ج 16 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ. العنوان ديوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (16)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمَّد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله، وصحبه، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين،،، وبعد: فقد انتهيت من عقود المعاوضات، ولله الحمد، وكانت على قسمين: أحدهما: عقود لا اختلاف فيها بين أهل العلم، على أنها من عقود المعاوضات، كالبيع، والصرف، والسلم، والإجارة، والجعالة، ونحوها. ثانيهما: عقود مختلف في إلحاقها بعقود المعاوضات، وذلك مثل الشركات، والحوالات. وقد بيَّنت الراجح فيها أثناء البحث، وتم إلحاقها بعقود المعاوضات بصرف النظر عن الراجح فيها. وأنتقل بعد ذلك إلى نوع آخر من العقود المالية، وهي عقود التبرع، وبعضهم يطلق عليها عقود الإرفاق والإحسان، وإن كانت عقود الإرفاق؛ يدخل فيها عقد القرض، وهو تبرع ابتداء، ومعاوضة انتهاء، لكن لما كان لا يراد منه التكسب أشبه العارية، بخلاف عقود المعاوضات المحضة. وقد رأيت أن أبدأ بأهم عقود التبرع، وهو الوقف، والأصل فيه أنه صدقة من الصدقات، إلا أنه يراد به الدوام، فالشارع جعل الصدقات نوعين: النوع الأول: تمليك للعين والمنفعة، وهي على قسمين:
فريضة، كالزكاة. وتطوع، كالصدقة المستحبة. النوع الثاني: تمليك للمنفعة دون الرقبة، وهو الوقف. والوقف، وإن كان عقدًا عرفته البشرية قبل الإسلام، إلا أن الإسلام نظمه، واهتم به اهتمامًا خاصًا منذ قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وكذا اهتم به صحابته من بعده، حتى لا تكاد تجد أحدًا من الصحابة من ذوي اليسار إلا وقد وقف وقفًا في حياته؛ ليكون صدقة جارية، وسببًا في دوام العمل بعد موت صاحبه. واهتم العلماء بأحكام الأوقاف، فألفوا كتبًا خاصة في أحكام الوقف، اهتمت بأحكامه، وكان من أهم ما ألف في هذا الباب: كتاب أحكام الأوقاف لأبي بكر الخصاف. والمتوفي (261 هـ). وكتاب أحكام الوقف لهلال بن يحيى بن مسلم الرأي، والمتوفى (245 هـ)، وكلاهما من علماء الحنفية، وكتابهما من أهم الكتب المتقدمة التي ألفت في هذا الباب، وهي مطبوعة. ومنها كتاب الوقوف من مسائل الإمام أحمد، ألفه أبو بكر الخلال المتوفى (311 هـ) وهي مسائل أجاب عنها الإمام أحمد -رحمه الله -. وفي هذا العصر ألف كتاب قانون العدل والإنصاف في القضاء على مشكلات الأوقاف، ألفه محمَّد قدري باشا ليكون قانونًا على طريقة القوانين الغربية، يرجع فيه القضاة في أحكامهم، وكان محررًا على المذهب الحنفي. ومنها كتاب أحكام الأوقاف للشيخ مصطفى الزرقا، وهو مجموع محاضرات ألقاها على طلبة كلية الحقوق، وهو كتاب على اختصاره، مهم جدًا في سهولة لغته، إلا أن الشيخ على عادته يحرر كتبه على المذهب الحنفي في الجملة.
ومنها محاضرات للشيخ محمَّد أبو زهرة كانت للطلاب ابتداء، ثم تناقلها الناس، فأخرجها مؤلفها في كتاب. ومن أوسع ما كتب في العصر الحاضر رسالة علمية للدكتور محمَّد عبيد الكبيسي، باسم أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية. وهذه أمثلة لا يراد منها تتبع جميع الكتب التي ألفت في هذا الباب. ونتيجة لهذا الاهتمام تنوعت الأوقاف الإسلامية في المجتمع المسلم، وانتشرت حتى شملت جميع مناشط الحياة، فهناك أوقاف على الجهاد، وأخرى على العلماء، وطلبة العلم، ومنها ما يصرف على حفظة القرآن، والسنة، وكذلك الأوقاف المخصصة لطباعة الكتب العلمية. وهناك أوقاف تصرف على الحاجات الاجتماعية، كمساعدة الفقراء وراغبي الزواج، وسد حاجات الأيتام، والأرامل. وهناك الأوقاف الذرية والتي يقصد منها سد حاجة الضعفاء من الذرية والأقارب. وكانت الأوقاف الإسلامية في وقت مضى تشكل رافدًا للعلماء ليتفرغوا في طلب العلم وتدريسه، وكأنه العالم يستغني بتلك الأوقاف عن جوائز السلاطين، لتكون الفتوى مستقلة لا يحابي فيها أحدًا، ولا يخشى بسببها بعد الله على رزقه، ورزق أولاده، فكان العالم يصدع بكلمة الحق دون أن يكون لأحد سلطة على فتواه، حتى ضعفت تلك الأوقاف، وحل محلها الوظائف الحكومية، والتي تأتي عن طريق التعيين، فصار كثير منهم يخشى على وظيفته، ومصدر رزقه، وصارت هذه الوظائف تستخدم لإلجام العلماء عن الصدع بالحق، ليفقد
المجتمع دور العالم في التوجيه، والرقابة، والحسبة، وكان أحسنهم من يسكت عن قول الباطل فلا تسمع منهم إلا همسًا في مجالس خاصة، حتى قال بعضهم إرضاء للسلاطين، إن قول الحق للسلطان يعتبر خروجًا عليه، لا يختلف عن الخروج عليه بالسيف، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
خطة البحث اشتمل الكتاب على ستة أبواب، ومجموعة من الفصول والمباحث، والفروع، والمسائل على النحو التالي: التمهيد: ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في تعريف الوقف. المبحث الثاني: تاريخ وجود الوقف. المبحث الثالث: في أول وقف في الإسلام. الباب الأول: في حكم الوقف، وبيان أركانه. الفصل الأول: القول في مشروعية الوقف. الفصل الثاني: في حكم الوقف من حيث اللزوم وعدمه. الفصل الثالث: في بيان أركان الوقف. الباب الثاني: في صيغة الوقف، وما يتعلق بها من أحكام. الفصل الأول: في اشتراط القبول في صيغة الوقف. الفصل الثاني: في اشتراط الفورية في القبول. الفصل الثالث: في أقسام الصيغة. المبحث الأول: الوقف بالصيغة القولية. الفرع الأول: في تحديد الصريح من الكناية. الفرع الثاني: في بيان الألفاظ الصريحة.
الفرع الثالث: في ألفاظ الكناية. المبحث الثاني: الوقف بالصيغة الفعلية. فرع: كتابة الوقف على العين تقوم مقام الصيغة. الفصل الرابع: في اشتراط أن تكون الصيغة منجزة. المبحث الأول: في الوقف المعلق على شرط. المبحث الثاني: في الوقف المعلق بالموت. الفصل الخامس: في اشتراط أن تكون الصيغة جازمة. المبحث الأول: الوعد بالوقف. المبحث الثاني: الوقف المضاف إلى زمن مستقبل. الفصل السادس: في اشتراط أن تكون الصيغة خالية من التوقيت. الباب الثالث: في أحكام الموقوف. الفصل الأول: في شروط الموقوف. الشرط الأول: أن يكون الموقوف مالًا. الشرط الثاني: أن يكون الموقوف مملوكًا. الشرط الثالث: في اشتراط أن يكون الموقوف عينًا. الشرط الرابع: في اشتراط أن يكون الموقوف معينًا. المبحث الأول: في وقف ما في الذمة. المبحث الثاني: في وقف المبهم.
الشرط الخامس: في اشتراط أن يكون الموقوف معلومًا. الشرط السادس: في اشتراط أن يكون الموقوف عقارًا. المبحث الأول: في تعريف العقار والمنقول. المبحث الثاني: خلاف العلماء في وقف المنقول. المبحث الثالث: في وقف البناء دون الأرض. المبحث الرابع: في وقف النقود. الفرع الأول: في تعريف النقود. الفرع الثاني: خلاف العلماء في وقف النقود. المبحث الخامس: في وقف الكلب. الشرط السابع: في اشتراط ألا يكون الموقوف مشاعًا. الشرط الثامن: في اشتراط إخراج الموقوف من يد الواقف. الشرط التاسع: في اشتراط أن يكون العقار غير مرهون. الشرط العاشر: في اشتراط بيان مصرف الوقف. الفصل الثاني: فيمن يملك العين الموقوفة. الفصل الثالث: في بيع الوقف لاستبداله. المبحث الأول: في بيع الوقف إذا تعطلت منافعه. الفرع الأول: في استبدال الوقف إذا كان مسجدًا. الفرع الثاني: في استبدال الوقف إذا لم يكن مسجدًا.
المبحث الثاني: في استبدال الوقف إذا لم تتعطل منافعه. الفصل الرابع: في إجارة الوقف. المبحث الأول: من يتولى إجارة الوقف. المبحث الثاني: في اتباع شرط الواقف في التأجير وعدمه. المبحث الثالث: في اتباع شرط الواقف في مدة الإجارة. المبحث الرابع: في مدة الإجارة إذا لم يشترط الواقف مدة معينة. المبحث الخامس: في إجارة الوقف بأقل من إجارة المثل. المبحث السادس: في حكم عقد الإجارة إذا كانت بأقل من المثل. المبحث السابع: في زيادة إجارة الوقف بعد تمام العقد. المبحث الثامن: في دفع أجرة الوقف للمستحق. المبحث التاسع: في انتهاء إجارة الوقف. الفصل الخامس: في عمارة الوقف. المبحث الأول: في تقديم العمارة على غيرها. المبحث الثاني: في الجهة التي تتحمل عمارة الوقف والنفقة عليه. الفصل السادس: في زكاة الموقوف. المبحث الأول: في زكاة الأعيان الموقوفة. المبحث الثاني: في وجوب الزكاة من ريع الوقف. الفصل السابع: في الحكر.
المبحث الأول: في تعريف الحكر. المبحث الثاني: في التوصيف الفقهي لعقد الحكر. المبحث الثالث: في حكم تحكير الأرض الوقفية. الفرع الأول: في التحكير للمصلحة. الفرع الثاني: في التحكير للضرورة. الباب الرابع: في شروط الموقوف عليه. الشرط الأول: في اشتراط أن يكون الموقوف عليه جهة بر. الشرط الثاني: في اشتراط أن يكون الموقوف عليه غير الواقف. مبحث: إذا وقف على نفسه ثم على المساكين. الشرط الثالث: أن يكون الموقوف عليه جهة غير منقطعة. المبحث الأول: في الوقف المتصل ابتداء والمنقطع انتهاء. المبحث الثاني: في الوقف المنقطع ابتداء وانتهاء. المبحث الثالث: في الوقف المنقطع ابتداء، والمتصل انتهاء. المبحث الرابع: في الوقف المنقطع الوسط. المبحث الخامس: في مآل مصرف الوقف المنقطع. الشرط الرابع: أن يكون الموقوف عليه أهلًا للتملك. المبحث الأول: الوقف على الحمل. المبحث الثاني: في الوقف على المعدوم حين الوقف.
المبحث الثالث: الوقف على الحيوان. الباب الخامس: في أحكام الواقف. الفصل الأول: في شروط الواقف الجعلية. المبحث الأول: في اشتراط القربة في شروط الواقف. المبحث الثاني: في الشروط الباطلة المبطلة. المبحث الثالث: في الشروط الباطلة غير المبطلة. المبحث الرابع: معنى قول الفقهاء: (شرط الواقف كنص الشارع). المبحث الخامس: في تغيير شروط الواقف. الفرع الأول: تغيير الشرط من فاضل إلى مفضول. الفرع الثاني: تغيير الشرط بمثله مساويًا له. الفرع الثالث: تغيير الشرط إلى أفضل منه. المبحث السادس: في اشتراط العمارة على الموقوف عليه. المبحث السابع: في اشتراط تفضيل بعض الأولاد على بعض. الفصل الثاني: في الرجل يقف بشرط الخيار. المبحث الأول: في اشتراط الإدخال والإخراج، والزيادة، والنقص. المبحث الثاني: في اشتراط أن يكون وقفه على مذهب معين. المبحث الثالث: في تخصيص المسجد لأهل مذهب معين. الفصل الثالث: في اشتراط أن يكون الواقف مالكًا للموقوف.
المبحث الأول: في صحة وقف الفضولي. المبحث الثاني: في اشتراط أن يكون مملوكًا وقت الوقف. الفصل الرابع: في ألفاظ الوقف. المبحث الأول: إذا وقف الرجل على ولده. المسألة الأولى: دخول البنات في لفظ الولد. المسألة الثانية: في صحة الوقف الأهلي. المسألة الثالثة: إطلاق التشريط يقتضي التسوية. المسألة الرابعة: في الولد يولد بعد الوقف. المسألة الخامسة: في دخول ولد الولد. المسألة السادسة: في صفة دخول أولاد الأبناء. المسألة السابعة: إذا وقف على أولاده، ولم يكن له ولد من صلبه. المبحث الثاني: إذا قال الواقف على أولادي، وأولادهم. المبحث الثالث: في الوقف بلفظ البنين. فرع: في استحقاق أولاد الأولاد مع وجود الأولاد. المبحث الرابع: في قول الواقف على أولادي، ثم أولادهم. المبحث الخامس: في الوقف على الذرية، والنسل، والعقب. الفرع الأول: في الوقف على الذرية. الفرع الثاني: في الوقف على النسل.
الفرع الثالث: في الوقف على العقب. المبحث السادس: في الوقف على القرابة. الباب السادس: في أحكام الولاية على الوقف. الفصل الأول: في حق الواقف في ولاية الوقف. المبحث الأول: حق الواقف في تعيين الناظر. المبحث الثاني: في ثبوت الولاية للواقف إذا لم يشترطها. المبحث الثالث: في ثبوت الولاية للواقف بالشرط. الفصل الثاني: في حق الموقوف عليه في ولاية الوقف. الفصل الثالث: في الشروط التي يجب توفرها في ناظر الوقف. الفصل الرابع: في المهام التي يقوم بها الناظر. الفصل الخامس: في أجرة ناظر الوقف. المبحث الأول: في أجرة الناظر إذا كانت مقدرة. الفرع الأول: إذا كان التقدير من الواقف. الفرع الثاني: في أجرة الناظر إذا لم تكن مقدرة من الواقف. المبحث الثاني: الجهة التي يستحق منها الناظر أجرته. الفصل السادس: في عزل ناظر الوقف. الفصل السابع: في محاسبة ناظر الوقف. هذه هي آخر المسائل في الوقف التي وقع عليها الاختيار، وتركت مسائل أخرى اختصارًا واقتصارًا، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
[كتاب الوقف]
تمهيد المبحث الأول في تعريف الوقف تعريف الوقف اصطلاحًا (¬1): اختلف الفقهاء في تعريف الوقف نظرًا لاختلافهم في حقيقة الوقف من حيث اللزوم وعدمه، وبقاؤه في ملك الواقف وخروجه منه، وإليك هذه التعريفات الكاشفة عن حقيقة الوقف عند كل مذهب. تعريف الحنفية: للحنفية تعريفان: أحدهما: لأبي حنيفة، وقد عرفه بأنه: "حبس العين على ملك الواقف ¬
تعريف المالكية
والتصدق بالمنفعة" (¬1). ثانيهما: تعريف صاحبي أبي حنيفة، وقد عرفاه بأنه: "حبس العين على ملك الله تعالى وصرف منفعتها على من أحب" (¬2). والفرق بينهما في مسألتين: في ملكية الوقف، وفي لزومه: فأبو حنيفة يرى أن ملك الواقف لا يزول عن الوقف حتى يحكم به حاكم، أو يعلقه بموته. وأن الوقف ليس عقدًا لازمًا عنده فهو كالعارية يورث عنه. بينما يرى أبو يوسف أن ملكه عنه يزول بمجرد الوقف. ويرى محمَّد بن الحسن أن ملكه لا يزول إلا عن طريق التسليم، كالدفن في المقبرة، والسكنى في العقار، وسقاية الناس من الساقية، ونحو ذلك. تعريف المالكية: قال ابن عرفة: "هو إعطاء منفعة شيء مدة وجوده، لازمًا بقاؤه في ملك معطيه، ولو تقديرًا" (¬3). فقوله: (إعطاء منفعة): أخرج به إعطاء الذات. وقوله: (شيء) أي متمول، وعبر بشيء لقصد التعميم. ¬
تعريف آخر للمالكية
وقوله: (مدة وجوده) أخرج به العارية، والعمرى؛ لأن المنفعة ليست لازمة مدة وجود ذلك. وهذا ظاهره يدل على أن الوقف يفيد التأبيد علمًا أن المالكية لا يشترطون في الوقف التأبيد، بل يصح الوقف مدة ما يراه المحبس كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، إلا أن يقال: المقصود مدة وجود عقد الوقف، لا وجود العين الموقوفة، والله أعلم. وقوله: (لازما بقاؤه في ملك معطيه) في هذا إشارة إلى أن الوقف لا يسقط الملك، وإنما يفيد حبس الملك على ملك الواقف، فالوقف عند المالكية لا يقطع حق الملكية في العين الموقوفة، وإنما يقطع حق التصرف فيها. واستدلوا على بقاء الملك في العين الموقوفة بقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها. وقد أشار الشراح إلى أن هذا القيد خرج به العبد المُخدِم حياته، لعدوم لزومه في بقاء ملك معطيه لجواز البيع بالرضا (¬1). تعريف آخر للمالكية: الوقف: هو جعل منفعة مملوك، ولو بأجرة، أو غلته لمستحق بصيغة، مدة ما يراه المحبس. ومن خلال هذا التعريف يتضح ما يلي: (1) أن الوقف عند المالكية عقد لازم. ¬
تعريف الشافعية
(2) أن الوقف كما يكون في منفعة الذات يكون في غلته كالدراهم. (3) يصح الوقف ولو كان ملك الواقف مؤقتًا، كما لو استأجر الرجل عقارًا، ثم وقف منفعته، أو غلته لمستحق آخر في تلك المدة. (4) العين تكون مملوكة للواقف، ولكنه ممنوع من التصرف فيها بأي تصرف ينقل الملكية مدة الوقف (¬1). تعريف الشافعية: عرفه الشافعية بقولهم: حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، بقطع التصرف في رقبته، على مصرف مباح (¬2). قوله: (حبس مال) إشارة إلى أن الحبس لا يكون إلا في مال، واستحسن بعض الشافعية حذف كلمة (مال) ليدخل في التعريف وقف الكلب المعلم في أحد الوجهين، مع أنه لا يعتبر مالًا، إلا أن الراجح في المذهب أنه لا يصح وقفه (¬3). وقوله: (بقطع التصرف في رقبته) هذا تفسير لقوله (حبس) في أول التعريف. وقوله: (على مصرف مباح) إشارة إلى أنه لا يشترط البر في الوقف، فيكفي في صحة الوقف أن يكون الغرض غير محرم، ولو لم يكن قربة. تعريف الحنابلة: عرفه بعضهم بقوله: "تحبيس مالك مطلق التصرف ماله المنتفع به، مع بقاء ¬
تعريف آخر عند الحنابلة
عينه، بقطع تصرفه وغيره في رقبته، يصرف ريعه إلى جهة بر تقربًا إلى الله تعالى" (¬1). فقولهم: (مالك) فلابد أن يكون الواقف مالكًا للموقوف، أو مأذونًا له فيه؛ لأنه إخراج لمنفعة المال من ملك صاحبها إلى غيره، فلابد من وجود سلطة له على المال من ملك أو إذن. وقولهم: (مطلق التصرف) قيد أخرج به المحجور عليه لسبب من أسباب الحجر المعتبرة شرعًا. وقوله: (مع بقاء عينه) أي فلا يصح عند الحنابلة وقف ما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه، كالطعام مثلًا، وسيأتي بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى. وقوله: (إلى جهة بر) فيه إشارة إلى اشتراط القربة في الوقف، إذا كان الوقف على جهة، ويخرج به إذا كان الوقف على شخص، فيصح، ولو لم يكن قربة، إذا كان لغرض مباح. تعريف آخر عند الحنابلة: قال ابن قدامة في تعريف الوقف: "معناه تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة" (¬2). ويقصد بالثمرة: المنفعة؛ لأن ثمرة العقار ونحوه منفعته. وهذا التعريف قريب من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض ألفاظ الحديث: "احبس أصلها، وسبل ثمرتها" رواه النسائي وغيره (¬3). ¬
وهذا أجمع التعاريف، وأيسرها، كيف وقد نطق به من أعطي جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام، بأبي هو أمي. ¬
المبحث الثاني تاريخ وجود الوقف
المبحث الثاني تاريخ وجود الوقف [م - 1475] هل كان الوقف نظامًا إسلاميًا صرفًا، أم كان معروفًا قبل الإسلام؟ هناك رأيان في الكلام على تاريخ الوقف: الرأى الأول: يرى أن الوقف نظام إسلامي صرف، لم يعرف قبل الإسلام. يقول الشافعي -رحمه الله -: "ولم يحبس أهل الجاهلية علمته دارًا ولا أرضًا تبررًا بحبسها، وإنما حبس أهل الإسلام" (¬1). وقال ابن حزم: "العرب لم تعرف في جاهليتها الحبس الذي اختلفا فيه، إنما هو اسم شريعي، وشرع إسلامي جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، كما جاء بالصلاة، والزكاة، والصيام، ولولاه عليه الصلاة والسلام ما عرفنا شيئًا من هذه الشرائع ولا غيرها" (¬2). وقال النووي من الشافعية، والبهوتي من الحنابلة: "وهو مما اختص به المسلمون" (¬3). ¬
ويناقش
ويقول شيخنا ابن عثيمين: "وهو -يعني الوقف- غير معروف في الجاهلية، بل أحدثه الإسلام" (¬1). ويناقش: بأن كلام الإمام الشافعي متوجه أولًا لأهل الجاهلية بمعناها الاصطلاحي، وهو إطلاق ذلك على العرب قبل بعثة النبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا يعني أن غير العرب لم يعرفوا الوقف، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الإمام لم ينف الحبس عن أهل الجاهلية بالكلية، وإنما نفى عنهم الحبس تبررًا، أي لا يوجد الحبس عندهم طلبًا للبر والتقوى، وإنما كان الباعث على ذلك التفاخر بينهم. جاء في حاشية الصاوي تعليقًا على كلمة الشافعي: " (لم يحبس أهل الجاهلية) ... الخ أي على وجه التبرر، وأما بناء الكعبة، وحفر زمزم، فإنما كان على وجه التفاخر" (¬2). وأما كلام ابن حزم فإن كان يقصد أن الوقف في الإسلام أصبح له حقيقة شرعية، اختص بكثير من الأحكام التي يختلف فيها عن الوقف قبل الإسلام، كما أن الحج كان موجودًا قبل الإسلام، وقد أصبح له حقيقة شرعية تختلف عما كان موجودًا قبله، وكذلك الصلاة، والزكاة، إن كان هذا هو المقصود كان مقبولًا، وإن كان يقصد نفي وجود الوقف قبل الإسلام، فلا شك أن ذلك خطأ، والله أعلم. ¬
الرأي الثاني
الرأي الثاني: يرى بعض الباحثين أن الوقف كان موجودًا قبل الإسلام (¬1). فالمعابد والكنائس التي كانت موجودة في العالم كانت تقوم على أوقاف بقصد القربة، ترصد لها لإدارة شؤونها، وهذا هو معنى الوقف. ولقد كانت الكعبة المشرفة، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى، أوقافًا قبل الإسلام. (ح -931) روى البخاري في صحيحه من طريق الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر - رضي الله عنه -، قال: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قال: قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة (¬2). وهذا هو الراجح، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في أول وقف في الإسلام
المبحث الثالث في أول وقف في الإسلام [م - 1476] اختلف العلماء في أول وقف في الإسلام على ثلاثة أقوال: القول الأول: كان أول وقف في الإسلام صدقة النبي - صلى الله عليه وسلم - حين وقف الحوائط السبعة بالمدينة، وكانت لرجل يهودي اسمه مخيريق، وكان محبًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقاتل مع المسلمين يوم أحد، وأوصى: إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله تعالى، فقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الحوائط، وتصدق بها، وقد ورد ذلك بأسانيد لا تقوم بها حجة. (ح -932) من ذلك ما رواه ابن سعد في طبقاته، عن محمد بن عمر، قال: أخبرنا صالح بن جعفر، عن المسور بن رفاعة، عن محمَّد بن كعب، قال: أول صدقة في الإسلام وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمواله لما قتل مخيريق بأحد وأوصى: إن أصبت فأموالي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقبضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتصدق بها (¬1). [ضعيف جدًا، محمَّد بن عمر هو الواقدي، وهو متروك] (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: أول وقف في الإسلام هي صدقة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. (ح -933) روى الإمام أحمد، قال: حدثنا حماد، قال: حدثنا عبد الله -يعني العمري- حدثنا نافع، عن ابن عمر، قال: أول صدقة كانت في الإسلام صدقة عمر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: احبس أصولها، وسبل ثمرتها (¬1). [الحديث أصله في الصحيحين إلا قوله: أول صدقة كانت في الإسلام] (¬2). ¬
الراجح
الراجح: أن أول وقف في الإسلام هو مسجد قباء الذي أسسه النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدومه مهاجرًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم المسجد النبوي في المدينة الذي بناه النبي - صلى الله عليه وسلم - عند مبرك ناقته، وكل هذا متقدم على صدقة مخيريق إن صحت القصة، ومتقدم على صدقة عمر؛ لأن ذلك كان بعد فتح خيبر، والله أعلم. ¬
الباب الأول في حكم الوقف
الباب الأول في حكم الوقف الفصل الأول القول في مشروعية الوقف الوقف إن قصد به وجه الله كان قربة بشرطه، وإن قصد به غير ذلك صح، وكان مباحًا. [م - 1477] اختلف العلماء في حكم الوقف: القول الأول: الوقف مباح، وبه قال الحنفية (¬1). وقيل: مستحب، وهذا قول عامة أهل العلم (¬2). وهذان القولان يمكن اعتبارهما قولًا واحدًا، فهو مباح إن لم يقصد به البر والقربة، كما لو كان الوقف على شخص معين، ومستحب إن نوى به ذلك، أو كان على جهة، والواقف من أهل الثواب. ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا يشرع مطلقًا، وهو قول شريح، ونسب إلى أبي حنيفة، وهو مذهب أهل الكوفة (¬1). قال الترمذي: لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافًا في جواز وقف الأرضين إلا أنه نقل عن شريح القاضي أنه أنكر الحبس (¬2). ¬
القول الثالث
قال الزيلعي في تبيين الحقائق: "الوقف لا يجوز عند أبي حنيفة أصلًا، وهو المذكور في الأصل، وقيل: يجوز عنده إلا أنه لا يلزم" (¬1). القول الثالث: يصح الوقف في الكراع والسلاح خاصة. وهو قول الإمام علي بن أبي طالب، وينسب إلى ابن مسعود - رضي الله عنه - (¬2) وجه من قال: الوقف مباح: أن الوقف لو كان موضوعًا للتعبد به كالصلاة، والحج، لم يصح من الكافر أصلًا، فلما صح من الكافر دل ذلك على كونه مباحًا كالعتق والنكاح (¬3). ¬
ويجاب
ويجاب: بأن الوقف فيه نفع متعد وهو قائم على الإرفاق والإحسان، فإن قصد به وجه الله كان قربة بشرطه، وهو صدوره من مسلم، وإن قصد به غير ذلك صح، وكان مباحًا، وهذا القول لا يتعارض مع القول باستحباب الوقف لقبوله أن يكون برًا وقربة. دليل من قال: الوقف مندوب إليه: الدليل الأول: قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92]. وجه الاستدلال: أخبر الله -سبحانه وتعالى- بهذه الآية أنكم لن تنالوا أيها المؤمنون جنة ربكم حتى تنفقوا مما تحبون: أي تتصدقوا مما تحبون من نفيس أموالكم. ويدخل في ذلك الوقف؛ لأنه صدقة من الصدقات (¬1). ويدخل في مثل هذه الآية كل الآيات التي تحض على الصدقة، ومنها قوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]. الدليل الثاني: (ح -934) ما رواه مسلم من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن ¬
وجه الاستدلال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (¬1). وجه الاستدلال: الصدقة الجارية: هي الصدقة الثابتة الدائمة غير المنقطعة، ويدخل فيها الوقف؛ لأن الوقف صدقة يراد بها الدوام. قال القاضي عياض: "فيه دليل على جواز الوقف، والحبس" (¬2). الدليل الثالث: (ح -935) ما رواه البخاري من طريق أبي إسحاق عمرو بن عبد الله بن عبيد، عن عمر بن الحارث، قال: ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دينارًا، ولا درهمًا، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه، وأرضًا جعلها لابن السبيل صدقة (¬3). الدليل الرابع: (ح -936) ما رواه البخاري من طريق نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أصاب أرضًا بخيبر فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخيبر، لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل ¬
وجه الاستدلال
منها بالمعروف، ويطعم غير متمول، قال: فحدثت به ابن سيرين، فقال: غير متمول مالًا (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها) وهذا هو حقيقة الوقف؛ وهو تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة، ولو لم يرد في الباب إلا هذا الحديث لكفى به حجة على مشروعية الوقف. وقد قال ابن حجر: "حديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف" (¬2). الدليل الخامس: (ح -937) ما رواه البخاري من طريق عروة بن الزبير، عن عائشة في صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: "وأما خيبر وفدك فأمسكها عمر، وقال: هما صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانتا لحقوقه التي تعروه، ونوائبه، وأمرهما إلى من ولي الأمر، قال: فهما على ذلك إلى اليوم" (¬3). الدليل السادس: (ح -938) ما رواه البخاري تعليقًا، قال أبو عبد الله البخاري: وقال عثمان: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من يشتري بئر رومة، فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين، فاشتراها عثمان - رضي الله عنه -. [رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم، وهو حديث صحيح بطرقه] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: (ح - 939) ما رواه البخاري من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصدقة، فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، وعباس بن عبد المطلب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا، فأغناه الله ورسوله، وأما خالد، فإنكم تظلمون خالدًا، قد حبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، وأما العباس بن عبد المطلب، فعم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهي عليه صدقة، ومثلها معها (¬1). وجه الاستدلال: قوله: (قد حبس أدراعه وأعتده في سبيل الله). الدليل الثامن: عمل الصحابة - رضي الله عنهم -، سواء في ذلك ما كان في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإقراره كوقف عمر - رضي الله عنه -، وقد تقدم تخريجه، ووقف عثمان - رضي الله عنه -، وقد تقدم تخريجه، ووقف ¬
خالد بن الوليد - رضي الله عنه -، وقد تقدم تخريجه، وكلها في الصحيح، أو ما كان منها موقوفًا عليهم، من ذلك: (ث -169) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حفص، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن الزبير بن العوام وقف دارًا له على المردودة من بناته (¬1). [صحيح] (¬2). (ث -170) وروى ابن سعد في الطبقات الكبرى من طريق عبد الله بن عمر، عن نافع، قال: تصدق ابن عمر بداره محبوسة، لا تباع، ولا توهب، ومن سكنها من ولده لا يخرج منها، ثم سكنها ابن عمر (¬3). [إسناده ضعيف]. (ث -171) وروى البيهقي، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، أنبأ أبو الحسن محمَّد بن محمود المروزي، ثنا أبو عبد الله محمَّد بن علي الحافظ، ثنا محمَّد بن المثنى، حدثني الأنصاري -يعني محمَّد بن عبد الله الأنصاري- حدثني أبي -يعني عبد الله بن المثنى أخو ثمامة- عن ثمامة، عن أنس أنه وقف دارًا بالمدينة، فكان إذا حج مر بالمدينة، فنزل داره (¬4). [في إسناده عبد الله بن المثنى، أخو ثمامة، والد محمد بن عبد الله ¬
الأنصاري، صدوق كثير الخطأ، إلا أن مثل هذا النقل لا يحتاج إلى قوة حفظ؛ لقرابته من أنس، وتكرار نزول أنس بن مالك في الدار التي وقفها، والله أعلم، وبقية رجال الإسناد ثقات]. (ث -172) وروى حنبل، عن الإمام أحمد، أنه قال: قد أوقف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه وقوفهم بالمدينة: أبو بكر، وعمر، والزبير، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن رد الوقف، فإنما يرد السنة التي أجازها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفعلها أصحابه في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعد وفاته (¬1). (ث -173) وقال أبو بكر الحميدي: تصدق أبو بكر بداره بمكة على ولده فهي إلى اليوم، وعمر بن الخطاب بربعه عند المروة، وبالثنية على ولده، فهي إلى اليوم، وتصدق علي بن أبي طالب بأرضه بينبع، فهي إلى اليوم، وتصدق الزبير بن العوام بداره بمكة في الحرامية، وداره بمصر، وأمواله بالمدينة على ولده، فذلك إلى اليوم، وتصدق سعد بن أبي وقاص بداره بالمدينة، وبداره بمصر على ولده، فذلك إلى اليوم، وعثمان بن عفان ببئر رومة، فهي إلى اليوم، وعمرو بن العاص بالوهط من الطائف، وداره بمكة، فهي على ولده، فذلك إلى اليوم، وحكيم بن حزام بداره بمكة والمدينة على ولده، فذلك إلى اليوم، وما لا يحضرني كثير يجزي منه أقل من هذا (¬2). ¬
اعتراض وجوابه
[هذا أثر مقطوع، ولعل استمرار هذه الأوقاف من عهد الصحابة إلى عهد الحميدي يغني عن الإسناد]. اعتراض وجوابه: قال العيني: "أما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنما جاز؛ لأن المانع وقوعه حبسًا عن فرائض الله، ووقفه عليه الصلاة والسلام لم يقع حبسًا عن فرائض الله تعالى؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة. وأما وقف الصحابة بعد موته فاحتمل أن ورثتهم أمضوها بالإجازة، هذا هو الظاهر" (¬1). ويجاب عن ذلك من وجوه: الأول: القول بأنه يحتمل أن يكون الورثة قد أمضوه بعد الموت، لو كان هذا الاحتمال صحيحًا لنقلت إلينا هذه الإجازة؛ لدواعي ذلك، ولكثرة الصحابة الذين أوقفوا في حياتهم وبعد مماتهم. الثاني: رد النصوص الصريحة بالاحتمال يؤدي إلى إبطال النصوص، فإن رد النص بدعوى، فليثبت هذه الدعوى، فإذا لم يستطع علم أن هذه الدعوى غير صحيحة. الثالث: لقد ترك عمر، وعثمان، وعلي ن بعد وفاتهم أبناء صغارًا، فلو كان الحبس غير جائز لما حل ترك أنصباء الصغار تمضي حبسًا. الرابع: لو علم الصحابة أن الوقف لا ينفذ إلا بالإجازة من قبل الورثة لأخرجوا الوقف مخرج الوصية، ولما تصرفوا بالغلة حال حياتهم، ولكنهم علموا صحة الوقف فعملوا به. ¬
دليل من قال: لا يصح الوقف
دليل من قال: لا يصح الوقف: الدليل الأول: (ح - 940) ما رواه الطحاوي من طريق أسد بن موسى، قال: حدثنا ابن لهيعة، قال: حدثني أخي عيسى، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما أنزلت سورة النساء، وأنزل فيها الفرائض، نهى عن الحبس (¬1). [ضعيف قال الدارقطني: لم يسنده غير ابن لهيعة عن أخيه، وهما ضعيفان] (¬2). الدليل الثاني: (ث -174) روى عبد الرزاق عن معمر، عن عطاء بن السائب، قال: كنت جالسًا، فمر رجل، فقيل: هذا شريح، فقمت إليه، فقلت: أفتني؟ فقال: لست أفتي، ولكني أقضي. قلت: رجل وهب دارًا لولده، ثم ولد ولده حبيسًا عليهم، لا يباع، ولا يوهب؟ فقال: لا حبس في الإسلام عن فرائض الله -عز وجل -. [حسن من قول شريح] (¬3) ¬
وجه الاستدلال من الحديث والأثر
وجه الاستدلال من الحديث والأثر: دل الحديث والأثر أن الوقف منهي عنه بعد نزول آية المواريث، وأن جوازه كان قبل نزول الفرائض، فهذا شريح، قاضي عمر، وعثمان، وعلي قد حكم بذلك، ولم ينكر عليه الصحابة. ويجاب عن ذلك بعدة وجوه: الجواب الأول: أما حديث ابن عباس فضعيف، وأحاديث الوقف ثابتة في الصحيحين وغيرها، فكيف تعارض الأحاديث الصحيحة بحديث ضعيف؟! وأما قول شريح فلا حجة فيه؛ ولا يساق كلامه على أنه دليل من أدلة الشرع، وإنما الدليل الشرعي كلام الله، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما يقاس عليهما، وما أجمع عليه، فإذا لم يكن شيء من ذلك احتج بقول الصحابي الذي لا مخالف له، وكذا فعله، وإن كان الاحتجاج في ذلك دون ما سبق، وأما كلام التابعي فليس بحجة فضلًا أن يعارض به السنة الصحيحة. قال الإمام أحمد عن قول شريح: لا حبس عن فرائض الله. قال أبو عبد الله: هذا خلاف قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عمر حين سأله عن أرض أصابها؟ قال: احبسها، وسبل ثمرتها. وقال مالك: تكلم شريح في بلده، ولم يقدم المدينة، فيرى أحباس الصحابة، وأزواجه، وهذه أوقافه تسعة. وقال الإمام الشافعي: قول شريح على الانفراد لا يكون حجة (¬1). ¬
الجواب الثاني
وقال الطبري: لا حجة في قول شريح، ولا في قول أحد يخالف السنة، وعمل الصحابة، الذين هم الحجة على جميع الخلق (¬1). الجواب الثاني: أن الوقف ليس حبسًا عن فرائض الله؛ وإنما هو تصرف من المالك فيما يملكه، فإن كان هذا في حال الصحة كان له حكم الصدقة، والهبة، وإن كان في حال المرض كان له حكم الوصية، فإذا اتفق العلماء على صحة الهبة، والصدقة في الحياة، وعلى صحة الوصية بعد الموت، وكل هذه مسقطة لفرائض الورثة لم يصح القول بأن الوقف حبس عن فرائض الله، ولو صح لوجب إبطال كل هبة، وكل صدقة في الصحة والحياة، وكل وصية؛ لأنها مانعة من فرائض الله بالمواريث. فإن قيل: هذه شرائع جاء بها النص. قلنا: والوقف شريعة جاء بها النص (¬2). قال الشافعي في الأم: "إنما أجزنا الصدقات الموقوفات إذا كان المتصدق بها صحيحًا فارغة من المال، فإن كان مريضًا لم نجزها إلا من الثلث إذا مات من مرضه ذلك، وليس في واحدة من الحالين حبس عن فرائض الله تعالى. فإن قال قائل: وإذا حبسها صحيحًا، ثم مات، لم تورث عنه. قيل: فهو أخرجها، وهو مالك لجميع ماله، يصنع فيه ما يشاء، ويجوز له أن يخرجها لأكثر من هذا عندنا وعندك، أرأيت لو وهبها لأجنبي، أو باعه إياها فحاباه، أيجوز؟ ¬
قد يقال في الجواب عن ذلك
فإن قال: نعم. قال: إذا فعل، ثم مات، أتورث عنه؟ فإن قال: لا. قيل: فهذا فرار من فرائض الله تعالى؟ فإن قال: لا؛ لأنه أعطى، وهو يملك، وقبل وقوع فرائض الله تعالى. قيل: وهكذا الصدقة، تصدق بها صحيحًا قبل وقوع فرائض الله تعالى. وقولك: لا حبس عن فرائض الله تعالى محال؛ لأنه فعله قبل أن تكون فرائض الله في الميراث؛ لأن الفرائض إنما تكون بعد موت المالك، وفي المرض" (¬1). قال الطبري: "ولا حجة له في قول شريح؛ لأن من تصدق بماله في صحة بدنه، فقد زال ملكه عنه، ومحال أن يقال لما زال ملكه عنه قبل موته بزمان: حبسه عن فرائض الله، ولو كان حبسًا عن فرائض الله من أزال ملكه عما ملكه لم يجز لأحد التصرف في ماله، وفي إجماع الأمة أن ذلك ليس كذلك ما ينبئ عن فساد تأويل قول شريح أنه بمعنى إبطال الصدقات المحرمات، فثبت أن الحبس عن فرائض الله إنما هو لما يملكه في حال موته، فيبطل حبسه كما قال شريح، ويعود ميراثًا بين ورثته" (¬2). قد يقال في الجواب عن ذلك: هذا القول يصح تخريجه على قول من يقول: إن العين الموقوفة لا تبقى على ملك الواقف بعد الوقف، فيكون الوقف في هذا يشبه الصدقة، والهبة، فإذا خرجت العين في حال الصحة لم يكن هناك حبس عن فرائض الله تعالى، وأما ¬
ويرد على هذا الجواب
من قال: إن الوقف لا يوجب زوال الرقبة عن ملك الواقف، فقد يقال: إن هناك فرقًا بين الصدقة والوقف، فالصدقة تخرج عينًا ومنفعة عن مالك الواقف بخلاف الوقف، وإذا كانت العين الموقوفة باقية على ملك صاحبها في أحد القولين، انتقلت إلى وارثه بعد موته؛ لأن ما يملكه صاحبه يزول ملكه بالموت إلى وارثه، فقول شريح -رحمه الله -: لا حبس عن فرائض الله لا يتوجه في حال حياة الواقف؛ لأنه لا حبس حينئذ عن فرائض الله، فالميراث لا يقع إلا بعد تحقق الموت، ولذلك وقف العقار مسجدًا لا يقال فيه: إن مثل هذا حبس عن فرائض الله؛ لأن المسجد لا يبقى على ملك الواقف، وإنما يحمل كلام شريح على أن الوقف ينتهي بموت الواقف، وأن العين الموقوفة تنتقل إلى الورثة؛ لأن العين الموقوفة لم تخرج عن ملك صاحبها، والواقف قد حبس الغلة، وهي متجددة الحدوث، وما حدث منها بعد وفاته لم تحدث على ملكه، وليس في كلام شريح إبطال الوقف في حال الحياة؛ لأنه نفى الحبس في حال وجب الميراث، وهذا لا يكون إلا بعد الموت، ولذلك احتج العيني في عمدة القارئ لأبي حنيفة على إبطال الوقف بأن الملك فيه باق (¬1)، والله أعلم. ويرد على هذا الجواب: بأن حق الوارث في العين كحق المورث، فإذا كان المورث لا يملك التصرف في العين المحبوسة بيعًا وهبة في أصح القولين، كذلك الوارث لا يملك التصرف فيها وإن انتقلت العين إليه، فليس حق الوارث بأولى من حق المورث في حياته. ¬
الجواب الثالث
قال ابن العربي: "الحبس عندنا لا ينقل الملك، بل يبقى على حكم مالكه، وإنما يكون الحبس في الغلة والمنفعة على أحد القولين، وفي القول الثاني: ينقل الملك إلى المحبوس" (¬1). الجواب الثالث: أن آية المواريث أو بعضها نزلت بعد أحد، وحبس الصحابة بعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد خيبر، أي بعد نزول آية المواريث، وهذا متواتر، ولو صح الخبر لكان منسوخًا؛ لاستمرار الحبس بعلمه - صلى الله عليه وسلم - إلى أن مات، وعمل به الصحابة بعد موته، فكيف يقال: إن الوقف منسوخ بآية المواريث ثم نجد أوقاف الصحابة مستمرة إلى ما بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثالث: (ح -941) ما رواه الدارقطني من طرق عن أبي بكر بن حزم، أن عبد الله بن زيد بن عبد ربه جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن حائطي هذا صدقة، وهو إلى الله تعالى ورسوله، فجاء أبواه، فقالا: يا رسول الله كان قوام عيشنا، فرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهما، ثم ماتا، فورثهما ابنهما بعدهما (¬2). [قال الدارقطني: هذا أيضًا مرسل؛ لأن عبد الله بن زيد بن عبد ربه توفي في خلافة عثمان، ولم يدركه أبو بكر بن حزم] (¬3). ¬
وأجيب عن هذا الحديث بعدة أجوبة
وأجيب عن هذا الحديث بعدة أجوبة: الجواب الأول: الانقطاع، وقد سبق كلام الدارقطني -رحمه الله - في ذلك، وقال ابن حزم: "منقطع؛ لأن أبا بكر لم يلق عبد الله بن زيد". والمنقطع لا حجة فيه. الجواب الثاني: جاء في الحديث أن الحائط كان قوام عيشهم، وليس كل أحد له أن يتصدق بقوام عيشه. الجواب الثالث: الذي أراه أن عبد الله بن زيد قد تصدق به، وفوض التصرف فيه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يرده الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليه، بل أعطاه لوالديه، وهما محل للصدقة، فكان ذلك لعبد الله بن زيد صدقة وصلة، ولذلك جاء في لفظ النسائي: عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أري النداء، أنه تصدق على أبويه، ثم توفيا، فرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه ميراثًا (¬1). فهذا صريح بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يرد صدقة عبد الله بن زيد؛ لأن الإنسان لا يرث ماله. الدليل الرابع: (ح -942) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، وابن أبي زائدة، عن ¬
وجه الاستدلال
مسعر، عن أبي عون، عن شريح: قال: جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - وسلم ببيع (¬1) الحبس (¬2). [رجاله ثقات إلا أنه مرسلًا] (¬3). وجه الاستدلال: قول شريح -رحمه الله -: (جاء محمَّد ببيع الحبس) فيه بيان أن لزوم الوقف كان في شريعة من قبلنا، وأن شريعتنا ناسخة لذلك. وأجيب: أولًا: أنه مرسل، والمرسل منقطع. الثاني: قال ابن حزم: "هذا اللفظ يقتضي أنه قد كان الحبس، وقد جاء محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بإبطاله، وهذا باطل يعلم بيقين؛ لأن العرب لم تعرف في جاهليتها الحبس الذي اختلفا فيه، إنما هو اسم شريعي، وشرع إسلامي جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم - كما جاء بالصلاة والزكاة، والصيام، ولولاه عليه الصلاة والسلام ما عرفنا شيئًا من هذه الشرائع ولا غيرها فبطل هذا الكلام جملة" (¬4). ¬
دليل من قال: لا وقف إلا في السلاح والكراع
وقد ناقشت في مبحث مستقل، وجود الوقف قبل الإسلام، ورجحت أنه كان موجودًا قبل الإسلام. الثالث: أن المراد بالحبس ما كان أهل الجاهلية يحبسونه، ويحرمونه من ظهور الحامي، والسائبة، والبحيرة، وما أشبهها، فنزل القرآن بإحلال ما حرموه منها، وإطلاق ما حبسوه. قال الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103]. فهذه الحبس التي كان أهل الجاهلية يحبسونها، فأبطل الله شروطهم فيها. (ث -175) فقد روى البيهقي من طريق عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم يقول: سمعت الشافعي يقول: اجتمع مالك وأبو يوسف عند أمير المومنين، فتكلما في الوقف، وما يحبسه الناس، فقال يعقوب: هذا باطل. قال شريح: جاء محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بإطلاق الحبس. فقال مالك: إنما جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بإطلاق ما كانوا يحبسونه لآلهتهم من البحيرة، والسائبة، فأما الوقوف، فهذا وقف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: حبس أصلها، وسبل ثمرتها، وهذا وقف الزبير، فأعجب الخليفة ذلك، وبقي يعقوب (¬1). دليل من قال: لا وقف إلا في السلاح والكراع: الدليل الأول: (ح -943) ما رواه البخاري من طريق سفيان، عن عمرو، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال: كانت أموال بني ¬
ويناقش
النضير مما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل، ولا ركاب، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وكان ينفق على أهله نفقة سنته، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله (¬1). والكراع: اسم يجمع الخيل، وقيل: اسم يجمع الخيل والسلاح. والسلاح: اسم جامع لآلة الحرب (¬2). ويناقش: بأن الحديث دليل على جواز الوقف في السلاح والكراع، ولا دليل فيه على اختصاص الوقف فيهما، كيف وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه وقف في غير السلاح، والكراع كما في أدلة الجمهور السابقة. الدليل الثاني: (ث -176) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: قال علي: لا حبس عن فرائض الله، إلا ما كان من سلاح أو كراع (¬3). [صحيح]. ويجاب: قول الإمام علي - رضي الله عنه - لا حبس إلا ما كان من سلاح، أو كراع قد يكون المراد ¬
الدليل الثالث
منه، لا حبس أفضل منه، إلا ما كان في ذلك، خاصة أن عليًا - رضي الله عنه - قد ثبت عنه الوقف في غير السلاح والكراع على ما سبق في أدلة الجمهور، والله أعلم. الدليل الثالث: (ث -177) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن رجل، عن القاسم: قال: قال عبد الله: لا حبس إلا في كراع أو سلاح. [ضعيف] (¬1). الراجح: بعد استعراض الأقوال، وأدلتها، أجد أن الراجح قول الجمهور، وأن الوقف مندوب، وهذا وإن كان هو الأصل في الوقف، إلا أن الوقف قد تعتريه أحكام أخرى، فقد يكون واجبًا كالوقف المنذور، وقد يكون حرامًا كالوقف المشتمل على معصية، أو حيف،، وقد يكون مباحًا، إذا لم يقصد به القربة، وقد يكون مكروهًا، إذا كان فيه تضييق على الورثة، فيمكن أن يقال: إن حكم الوقف تجري فيه الأحكام الخمسة، الوجوب، والتحريم، والاستحباب، والكراهة، والندب، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني في حكم الوقف من حيث اللزوم وعدمه
الفصل الثاني في حكم الوقف من حيث اللزوم وعدمه لا يجوز الرجوع في الوقف كما لا يجوز الرجوع في الصدقة بعد إخراجها. حبس عمر على أنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث. [م - 1478] اختلف الفقهاء في الوقف من حيث اللزوم وعدمه على قولين: القول الأول: الوقف لازم أبدًا، ولا رجوع فيه. وهذا قول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية، وعليه الفتوى، والقضاء في مذهب الحنفية (¬1)، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). قال ابن نجيم: "ألا يذكر مع الوقف اشتراط بيعه، فلو وقف بشرط أن يبيعها، ويصرف ثمنها إلى حاجته، لا يصح الوقف في المختار ... وجوزه يوسف بن خالد السمتي إلحاقًا للوقف بالعتق" (¬5). ¬
القول الثاني
القول الثاني: الوقف غير لازم، فهو بمنزلة العارية، فله أن يرجع فيه أي وقت شاء، ويورث عنه إذا مات، وهو قول أبي حنيفة (¬1). على أن أبا حنيفة يقول بلزوم الوقف، وعدم جواز الرجوع عنه، في أربع حالات: الأول: أن يقضي قاض بلزومه باعتبار أن حكم الحاكم يرفع الخلاف. الثانية: وقف العقار مسجدًا. الثالثة: أن يكون الوقف معلقًا على الموت، فهذا لا يلزم إلا بعد موت الواقف ومن ثلث تركته، فإن زاد عن الثلث توقف الزائد على إجازة الورثة مع ملاحظة ألا يكون في الموقوف عليه وارث، وهذا الوقف له حكم الوصية، وإن كان بلفظ الوقف. الرابعة: أن يقف الإنسان الوقف في حياته، وبعد مماته، فإذا مات كان لازمًا. وهذه الحالة تكرار لسابقتها، والله أعلم (¬2). دليل الجمهور على عدم جواز بيعه. الدليل الأول: (ح -944) ما رواه البخاري من طريق نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله ¬
وجه الاستدلال
إني أصبت أرضًا بخيبر، لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، فتصدق بها عمر، أنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث ... " (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يباع ولا يوهب، ولا يورث)، دليل على لزوم الوقف حيث قطع حق الواقف في التصرف في ملكه. الدليل الثاني: (ح -945) ما رواه مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (¬2). فالوقف إذا لم يرد به الدوام لم يكن صدقة جارية. قال في المبدع: "القصد بالوقف: الصدقة الدائمة، لقوله -عليه السلام -: أو صدقة جارية" (¬3). وقال في مغني المحتاج: "والصدقة الجارية محمولة عند العلماء على الوقف، كما قاله الرافعي، فإن غيره من الصدقات ليست جارية، بل يملك المتصدق عليه أعيانها، ومنافعها ناجزًا" (¬4). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: الإجماع الفعلي للصحابة، فقد وقف أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعائشة، وعمرو بن العاص، وابن الزبير، وجابر، وغيرهم (¬1)، فلم ينقل عن أحد منهم أنه رجع عن وقفه، أو تصرف فيه. قال الإمام أحمد: "إذا كان في الوقف شيء من ذكر البيع فليس بوقف صحيح، وذلك أن أوقاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هي بتة بتلة (¬2)، والشرط فيها ألا تباع، ولا توهب، فإذا دخلها البيع لم يصح" (¬3). الدليل الرابع: القياس على وقف المسجد، فإذا أوقف أرضه مسجدًا لزم بمجرد الوقف، بدون حكم حاكم، ولا إضافة لما بعد الموت، فيقاس على المساجد سائر الموقوفات، فتلزم بمجرد الوقف، ولا يجوز الرجوع فيها. الدليل الخامس: إذا كان الرجوع في الصدقة بعد إخراجها من يده لا يجوز؛ لأن العطية لا يجوز الرجوع فيها بعد إخراجها من يده، فكذلك الوقف لا يجوز الرجوع فيه بعد أن يتصدق به. ¬
دليل أبي حنيفة على أن الوقف غير لازم
دليل أبي حنيفة على أن الوقف غير لازم: (ث -178) ما رواه الطحاوي من طريق مالك، عن زياد بن سعد، عن ابن شهاب أن عمر قال: لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو نحو هذا لرددتها (¬1). [منقطع، ابن شهاب لم يدرك عمر - رضي الله عنه -]. وجه الاستدلال: قال الطحاوي: "لما قال عمر - رضي الله عنه - هذا دل على أن نفس الإيقاف للأرض لم يكن يمنعه من الرجوع فيها، وإنما منعه من الرجوع فيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره فيها بشيء، وفارقه على الوفاء به، فكره أن يرجع عن ذلك، كما كره عبد الله بن عمر أن يرجع بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصوم الذي كان فارقه على أن يفعله، وقد كان له أن لا يصوم" (¬2). وأجيب: قال ابن حجر: "لا حجة فيما ذكره من وجهين: أحدهما: أنه منقطع؛ لأن ابن شهاب لم يدرك عمر. ثانيهما: أنه يحتمل ما قدمته، ويحتمل أن يكون عمر كان يرى بصحة الوقف ولزومه، إلا إن شرط الواقف الرجوع، فله أن يرجع" (¬3). وقال البيهقي: "والذي روي عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب قال: لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو نحو هذا لرددتها فهو منقطع، لا تثبت به ¬
الدليل الثاني
حجة، ومشكوك في متنه لا يدرى كيف قاله، والظاهر منه مع ما روينا فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لولا ذكري إياها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره إياي بحبس أصلها، وقوله: لا تباع، ولا توهب، ولا تورث لرددتها" (¬1). وعلى التسليم بأنه أراد الرجوع عن الوقف فهو رأي عمر - رضي الله عنه -، ولا يقدم على قوله - صلى الله عليه وسلم - لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث. الدليل الثاني: (ح -946) ما رواه الدارقطني من طريق أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه جاء إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله، إن حائطي هذا صدقة، وهو إلى الله تعالى ورسوله، فجاء أبواه، فقالا: يا رسول الله كان قوام عيشنا، فرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ماتا، فورثهما ابنهما بعدهما. [قال الدارقطني: مرسل؛ لأن عبد الله بن زيد بن عبد ربه توفي في خلافة عثمان، ولم يدركه أبو بكر بن حزم] (¬2). ¬
الوجه الأول
وما قيل في أثر عمر، يقال في أثر عبد الله بن زيد بن عبد ربه من وجهين أيضًا: الوجه الأول: الانقطاع، والمنقطع لا حجة فيه. الوجه الثاني: ليس في الحديث أنه أراد به الوقف، فالصدقة جنس يدخل فيها الوقف، ويدخل فيها الصدقة المنقطعة. قال البيهقي: الحديث وارد في الصدقة المنقطعة، وكأنه تصدق به صدقة تطوع، وجعل مصرفها إلى اختيار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتصدق بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبويه (¬1). ¬
الدليل الثالث
وبناء عليه لا يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد رد صدقة عبد الله بن زيد، بل أعطاها لوالديه، وهما محل للصدقة، فكان ذلك لعبد الله بن زيد صدقة وصلة، ولذلك جاء في لفظ النسائي: عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أري النداء، أنه تصدق على أبويه، ثم توفيا، فرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه ميراثًا (¬1). فهذا صريح بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يرد صدقة عبد الله بن زيد؛ لأن الإنسان لا يرث ماله. وعلى التنزل أن يكون قد أراد به الوقف، فإنه لما أوقفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبويه، ولم يذكر مصرفًا آخر بعدهما رجع الوقف إليه ميراثًا كالقول في الوقف على المنقطع على قول. وقيل: إن أبويه قد قالا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن فيه قوام عيشنا، والمرء منهي عن أن يتصدق بقوام عيشه، خاصة إذا كان مسؤولًا عن عائلة من أب، وولد، والجواب الأول أصح. الدليل الثالث: (ح -947) ما رواه البخاري في صحيحه، عن أنس - رضي الله عنه -، قال: لما نزلت {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] جاء أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وإن أحب أموالي إلى بيرحاء، قال: وكانت حديقة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها، ويستظل بها، ويشرب من مائها، فهي إلى الله -عز وجل -، وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أرجو بره، وذخره، فضعها يا رسول ¬
أجيب عنه
الله حيث أراك الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بخ يا أبا طلحة، ذلك مال رابح، قبلناه منك، ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين، فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه، وكان منهم أُبَي، وحسان، قال: وباع حسان حصته منه إلى معاوية، فقيل له: تبيع صدقة أبي طلحة؟ فقال: ألا أبيع صاعًا من تمر، بصاع من دراهم؟ ... الحديث (¬1). أجيب عنه: قال الحافظ ابن حجر: "يدل على أن أبا طلحة ملكهم الحديقة المذكورة، ولم يوقفها عليهم، إذ لو وقفها ما ساغ لحسان أن يبيعها ... ويحتمل أن يقال: شرط أبو طلحة عليهم لما وقفها عليهم، أن من احتاج إلى بيع حصته منهم جاز له بيعها، وقد قال بجواز هذا الشرط بعض العلماء" (¬2). وإن كان الجواب الأول أقوى؛ لأنه لو كان لأبي طلحة شرط لنقل إلينا، واللفظ ليس فيه ما يدل على أن أبا طلحة وقف الحديقة، كل ما فيه أنه تصدق بها، وهذا يحتمل أنه تصدق بعينها، وهو الأصل، ويحتمل أنه حبس أصلها، وتصدق بثمرتها، فكان بيع حسان لنصيبه دليلًا على أنه لم يوقف الحديقة، وعلى التسليم بأنه وقف، فإن فعل حسان - رضي الله عنه - فعل صحابي، وهو حجة ما لم يخالف، وقد أُنْكِر عليه، فقيل له كما في الحديث نفسه: (أتبيع صدقة أبي طلحة؟ فقال: ألا أبيع صاعًا من تمر، بصاع من دراهم). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: القياس على العارية، فإن الوقف تمليك منفعة الموقوف دون عينه، فلا يلزم كالعارية. ويجاب: بأن العارية لم يحبس أصلها، فهي تبرع مؤقت بالمنفعة، دون حبس الأصل بخلاف الوقف. الراجح من الخلاف: أرى أن الراجح هو قول الجمهور، القائل بلزوم الوقف، جاء في الفتح "قال القرطبي: رد الوقف مخالف للإجماع، فلا يلتفت إليه، وأحسن ما يعتذر به عمن رده ما قال أبو يوسف، فإنه أعلم بأبي حنيفة من غيره" (¬1). يقصد القرطبي ما حكاه الطحاوي، ونقله الحافظ ابن حجر عنه أنه قال: "كان أبو يوسف يجيز بيع الوقف، فبلغه حديث عمر هذا، فقال: من سمع هذا من ابن عون؟ فحدث به ابن علية، فقال: هذا لا يسع أحدًا خلافه، ولو بلغ أبا حنيفة لقال به، فرجع عن بيع الوقف، حتى صار كأنه لا خلاف فيه بين أحد" (¬2). ¬
الفصل الثالث في بيان أركان الوقف
الفصل الثالث في بيان أركان الوقف [م - 1479] لم يختلف الفقهاء على اعتبار الصيغة ركنًا من أركان الوقف، على خلاف بينهم، هل الصيغة في الوقف يكفي فيها الإيجاب، أو لابد فيها من القبول؟ وسوف نبحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى في فصل مستقل. واختلفوا في غير الصيغة: فذهب الحنفية إلى أن الركن الصيغة فقط، وأما الواقف والموقوف عليه، والعين الموقوفة فليست أركانًا (¬1). وذهب الجمهور إلى اعتبار الواقف، والموقوف عليه، والعين الموقوفة كلها أركان مع الصيغة، لتكون أركان الوقف أربعة. قال الخرشي المالكي: "وأركان الوقف أربعة: العين الموقوفة، والصيغة، والواقف، والموقوف عليه". وجاء في تحفة المحتاج: "وأركانه موقوف، وموقوف عليه، وصيغة، وواقف" (¬2). وكذا قال البهوتي في شرح منتهى الإرادات (¬3). ¬
وسبب الخلاف بين الحنفية والجمهور
وسبب الخلاف بين الحنفية والجمهور: أن الحنفية يرون أن الركن: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءًا داخلًا في حقيقته، وهذا خاص في الصيغة، أما الواقف والموقوف عليه، والعين الموقوفة فهي من لوازم العقد، وليست جزءًا من حقيقة العقد، وإن كان يتوقف عليها وجوده. بينما الجمهور يرون أن الركن: ما توقف عليه وجود الشيء وتصوره عقلًا، سواء أكان جزءًا من حقيقته أم لم يكن، ووجود الوقف يتوقف على الواقف والموقوف عليه، والعين الموقوفة، وإن لم يكن هؤلاء جزءًا من حقيقته. ومذهب الحنفية أجود، وأدق، والجمهور لا يطَّردون في تحديد الأركان، فاللوازم تارة يعتبرونها من الأركان، وتارة لا يدخلونها، فهم يجعلون الفاعل ركنًا في مثل عقد البيع والنكاح، ولا يجعلونه ركنًا في العبادات كالصلاة والحج، وإن كان لا يتصور قيام الحج والصلاة بدون فاعل. قال في المصباح المنير: "والفرق عسر ... " (¬1). ¬
الباب الثاني في صيغة الوقف وما يتعلق بها من أحكام
الباب الثاني في صيغة الوقف وما يتعلق بها من أحكام الفصل الأول في اشتراط القبول في صيغة الوقف الوقف شبيه بالعتق: فهو إسقاط لا تمليك، فلا يفتقر إلى القبول (¬1). [م - 1480] الصيغة: هي الإيجاب بالاتفاق، أي اللفظ الصادر من الواقف، فلا ينعقد الوقف إلا بإيجاب من الواقف. وأما القبول من الموقوف عليه: فإن كان الوقف على غير معين لم يشترط القبول، وهذا بالاتفاق، كما لو كان الوقف على جهة الفقراء، والمساكين، أو كان الوقف على طلبة العلم؛ لتعذر قبولهم، وكذلك ما كان منه لله -سبحانه وتعالى -، كوقف الأرض مسجدًا؛ لأنه لا ملك فيه لأحد. قال ابن القيم: "لا يفتقر إلى قبول إذا كان على غير معين اتفاقًا" (¬2). واختلف الفقهاء في انعقاد الوقف بالإرادة المنفردة، إذا كان على معين، كشخص، أو جماعة معينة محصورة على قولين: ¬
القول الأول
القول الأول: ينعقد الوقف بالإرادة المنفردة، ولا يشترط القبول للانعقاد، سواء كان الموقوف عليه معينًا، أو غير معين، فإن قبل الموقوف عليه الغلة، وإلا صرف للفقراء. فالقبول، إنما هو شرط لاستحقاق الغلة، حتى لا يدخل في ملك الشخص شيء جبرًا عليه، وليس القبول شرطًا لانعقاد الوقف. وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة، وأحد القولين في مذهب المالكية، وأحد الوجهين عند الشافعية، ورجحه النووي، وابن القيم (¬1). جاء في الفتاوى الهندية: "إذا وقف على قوم فلم يقبلوا، فهذا على وجهين: إما أن يرد كلهم، أو بعضهم، فإن رد كلهم كان الوقف جائزًا، وتكون الغلة للفقراء، وإذا رد البعض فإن كان الاسم ينطلق على الباقين، فالغلة تكون للباقين، وإن كان الاسم لا ينطلق على الباقين فنصيب الذي لا يقبل يصرف إلى الفقراء، وبيانه أنه إذا قال لولد عبد الله، فرد بعضهم، كان جميع الغلة للباقين، ولو قال: لزيد وعمرو، فلم يقبل زيد، صرف نصيبه إلى الفقراء" (¬2). وجاء في شرح الخرشي: "فإن رد الموقوف عليه المعين ما وقفه الغير عليه في حياة الواقف أو بعد موته، فإن الوقف يرجع حبسًا للفقراء والمساكين" (¬3). ¬
فظاهره أن الوقف لا يتوقف على القبول، فهو ينفذ وقفًا بمجرد اللفظ، فإن قبل الموقوف عليه الغلة وإلا رجع وقفًا على الفقراء. وقال الماوردي: "يتم الحبس، وإن لم يقبض، أما القبول فليس بشرط في لزوم الوقف، وإنما هو شرط في تملك الغلة عند حصولها؛ لأن الوقف إزالة ملك على وجه القربة فأشبه العتق" (¬1). وجاء في المغني: "قال أبو الخطاب: إن كان الوقف على غير معين كالمساكين، أو من لا يتصور منه القبول، كالمساجد، والقناطر لم يفتقر إلى قبول، وإن كان على آدمي معين ففي اشتراط القبول وجهان: الوجه الثاني: لا يشترط القبول؛ لأنه أحد نوعي الوقف، فلم يشترط له القبول كالنوع الآخر؛ ولأنه إزالة ملك يمنع البيع، والهبة، والميراث، فلم يعتبر، وبهذا فارق الهبة والوصية. والفرق بينه وبين الهبة، والوصية: أن الوقف لا يختص بالمعين، بل يتعلق به حق من يأتي من البطون في المستقبل، فيكون الوقف على جميعهم، إلا أنه مرتب، فصار بمنزلة الوقف على الفقراء الذي لا يبطل برد واحد منهم، ولا يقف على قبوله، والوصية للمعين بخلافه" (¬2). وقال ابن القيم: "لا يشترط فيه القبول إذا كان على جهة اتفاقًا، وكذلك إذا كان على آدمي معين في أقوى الوجهين، وما ذاك إلا لشبهه بالعتق" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: أن الوقف إن كان على معين، كزيد، اشترط قبوله، فإن رده، وكان الواقف قد قصده بخصوصه رجع إلى ملك الواقف، وإن قصده، وقصد غيره انتقل إلى غيره. وهذا أحد القولين في مذهب المالكية، ورواية عند الحنابلة، وأحد الوجهين عند الشافعية، قال الرملي: وهو المعتمد (¬1). واختار بعض الشافعية بأن المعين إذا رده لا ينتقل إلى غيره؛ لأنه لما بطل في الطبقة الأولى صار منقطعًا، وإليك نصوص الفقهاء الدالة على هذا الاختيار. جاء في حاشية الدسوقي: "الراجح من القولين قول مالك: وحاصله: أنه إن قبله المعين الأهل اختصَّ، فإن رده كان حبسًا على غيره، وهذا إذا جعله الواقف حبسًا، سواء قبله من عين له أم لا، وأما إن قصده بخصوصه، فإن رده المعين عاد ملكًا للمحبس" (¬2). وقال ابن قدامة: "وإن كان -يعني الوقف- على آدمي معين ففي اشتراط القبول وجهان: أحدهما: اشتراطه؛ لأنه تبرع لآدمي، فكان من شرطه القبول كالهبة، والوصية ... " (¬3). ¬
ومنشأ الخلاف
واختار بعض الشافعية، بأن المعين إذا رده لا ينتقل عنه إلى غيره؛ ولو قصد غيره؛ لأنه لما بطل في الطبقة الأولى من المستحقين صار وقفًا منقطعًا. قال الشيرازي: "ومن أصحابنا من قال: يبطل قولًا واحدًا؛ لأن الأول باطل، والثاني فرع لأصل باطل، فكان باطلًا" (¬1). ومنشأ الخلاف: هل الوقف عقد يفتقر إلى الإيجاب والقبول، أو هو من جنس التصرف، كالإبراء، والإسقاط، فيتم بالإرادة المنفردة، ويكون ركنه الإيجاب فقط كالعتق. فإن قلنا: إن الوقف هو إسقاط ملك الواقف في منافع العين الموقوفة، لم يحتج إلى قبول كالعتق، وعليه يكون الوقف نافذًا بمجرد اللفظ، ولا يتوقف على قبض، أو قبول الموقوف عليه؛ لأن حقيقة الوقف تبرع يمنع البيع والهبة والميراث، فلزم بمجرده كالعتق. وإن قلنا: إن الوقف عقد يقوم الوقف من خلاله بنقل ملك تلك المنافع الموقوفة إلى ملك الموقوف عليه، فيفتقر إلى قبول الموقوف عليه كالوصية، وعليه فلا ينفذ الوقف بمجرد اللفظ حتى يقبله الموقوف عليه، ولو باعه الواقف قبل قبول الموقوف عليه صح البيع (¬2). جاء في فتاوى الرملي: "وسئل عمن وقف وقفًا على معينين، ثم باعه قبل قبولهم وقبول وليهم، هل يصح البيع أم لا؟ ¬
الراجح
فأجاب: بأن البيع قبل قبول الموقوف عليه المعين صحيح، بناء على اشتراط قبوله، وهو المعتمد" (¬1). الراجح: الذي أراه أن الوقف ينعقد بالإرادة المنفردة، فلا يتوقف على قبول من أحد، فإذا قال الموقوف عليه: أنا لا أريده، نقول: الوقف نفذ، ويصرف إلى من بعده إن ذكر له مآلاً، وإلا صرف مصرف الوقف المنقطع، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيانه في مبحث خاص. ¬
الفصل الثاني هل اشتراط الفورية في القبول
الفصل الثاني هل اشتراط الفورية في القبول القبول في الوقف ملحق بالوصية والوكالة فيصح معجلًا وموجلًا (¬1). [م - 1481] هذه المسألة لا تبحث على قول من يقول: إن الوقف جنس من التصرف يتم بالإرادة المنفردة، ولا يحتاج إلى قبول، وعليه أكثر العلماء كما تقدم في المسألة السابقة. وأما من قال: إن الوقف على المعين يتوقف على قبول الموقوف عليه، فإنه يتفرع على هذا القول مسألتنا هذه، فعلى هذا القول، هل يشترط في القبول من الموقوف عليه الفورية، أو يصح مع التراخي؟ وللجواب نقول: إن كان الموقوف عليه غائبًا، ولم يبلغه الخبر، صح القبول، ولو متراخيًا، ولو طال الزمن. أما إن كان الموقوف عليه حاضرًا، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أنه على التراخي؛ اختاره أكثر العلماء ورجحه يعض الشافعية؛ لأن الوقف بالقرب أشبه منه بالعقود (¬2). ¬
القول الثاني
قال ابن تيمية: "إذا اشترط القبول على المعين، فلا ينبغي اشتراط المجلس، بل يلحق بالوصية والوكالة، فيصح معجلًا ومؤجلًا، بالقول والفعل" (¬1). القول الثاني: يجب أن يكون القبول على الفور في البطن الأول قياسًا على البيع، والهبة، ولإلحاق الوقف بالعقد دون الوصية (¬2). وأما البطن الثاني فلا يشترط له الفورية، وإنما يشترط عدم الرد، وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعية، واختاره الحارثي من الحنابلة (¬3). جاء في فتاوى السبكي: "قال الرافعي: إذا كان الوقف على شخص معين، أو جماعة معينين، فوجهان، أصحهما على ما ذكره الإِمام، وآخرون: اشتراط القبول؛ لأنه يبعد دخول عين، أو منفعة في ملكه بغير رضاه، وعلى هذا فليكن متصلًا بالإيجاب كما في البيع، والهبة، هذا في البطن الأول، أما الثاني، والثالث فلا يشترط قبولهم فيما نقله الإِمام، وصاحب الكتاب يعني الغزالي" (¬4). جاء في الإنصاف: "قال الحارثي: يشترط اتصال القبول بالإيجاب، فإن تراخى عنه بطل كما يبطل في البيع، والهبة" (¬5). ¬
والصحيح أن الوقف لا يتوقف على القبول، بل يكون ناجرًا بمجرد اللفظ، وعليه فلا تجب الفورية في القبول؛ لأن القبول إنما هو لاستحقاق الغلة، وقد تتأخر، والله أعلم.
الفصل الثالث في أقسام الصيغة
الفصل الثالث في أقسام الصيغة المبحث الأول الوقف بالصيغة القولية [م - 1482] ينعقد الوقف بأحد أمرين: الأول: الوقف بالصيغة الفعلية، كأن يبني مسجدًا، ويترك الناس يصلون فيه. وقد اختلف الفقهاء في صحة الوقف عن طريق الفعل، وسوف أفرد له مبحثًا خاصًا إن شاء الله تعالى. الثاني: الوقف بالصيغة القولية، كان يقول: وقفت أرضي، أو حبست أرضي، أو سبلت أرضي. ولم يختلف الفقهاء أن الوقف ينعقد بالقول، إلا أن جمهورهم قسموا ألفاظ الوقف إلى قسمين: صريح: وهو الذي لا يفتقر في دلالته على الوقف إلى شيء آخر. وكناية: وهو اللفظ الذي يحتمل معنى الوقف ويحتمل غيره، كقول الرجل: تصدقت، وحرمت، وأبدت، ويفتقر إلى نية الوقف لانعقاده وقفًا. وقسم بعض الفقهاء الصريح إلى قسمين: صريح بنفسه، وصريح بغيره، كأن يقترن بالكناية لفظ من ألفاظ الصريح، كأن يقول: صدقة موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة.
أو يقترن بالكناية حكم من أحكام الوقف، كأن يقول: تصدقت بها صدقة لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، فإن الكناية تصبح صريحة، فلا تفتقر إلى نية (¬1). قال الخرشي: "يصح ويتأبد الوقف إذا قال: تصدقت على الفقراء والمساكين، أو على المساجد، أو على طلبة العلم وما أشبه ذلك إذا قارنه قيد أيضًا، كقوله: لا يباع، ولا يوهب" (¬2). وقال الماوردي: " التصدق يحتمل الوقف ويحتمل صدقة التمليك المتطوع بها، ويحتمل الصدقة المفروضة، فإذا قرنه بقرينة تدل على الوقف انصرف إلى الوقف، وانقطع الاحتمال، والقرينة أن يقول: تصدقت صدقة موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة، أو محرمة، أو مؤبدة، أو يقول: صدقة لا تباع، ولا توهب، ولا تورث؛ لأن هذه كلها تصرف إلى الوقف" (¬3). فقوله: (انصرف إلى الوقف، وانقطع الاحتمال) هذا دليل على أنه ملحق بالصريح؛ لأن ألفاظ الكناية: هي الألفاظ التي تحتمل الوقف، وتحتمل غيره، وتفتقر في التعيين إلى النية. وقال ابن تيمية: "لا نسلم أن الكناية تفتقر إلى النية مطلقًا، بل إذا قرن بها لفظ من ألفاظ الصريح أو حكم من أحكام العقد كانت صريحة" (¬4). ¬
وقال أيضًا: "إذا قرن بالكناية بعض أحكامه صارت كالصريح" (¬1). فقدل ابن تيمية -رحمه الله -: لا نسلم أن الكناية تفتقر إلى النية، بل إذا قرن بها لفظ من ألفاظ الصريح كانت صريحة، هذا الكلام آخره يناقض أوله؛ فأول الكلام يقول (لا نسلم أن الكناية تفتقر إلى نية) إذا الكلام عن الكنايات، وقوله: (كانت صريحة) وإذا كانت صريحة كيف تكون كناية لا تفتقر إلى نية؛ لأن الفرق بين الكناية والصريح، أن الصريح لا يحتمل غير الوقف، والكناية تحتمل الوقف وغيره، ومتى كان اللفظ لا يفتقر إلى نية، ولا يحتمل إلا الوقف لم يكن كناية. يقول القرافي: "قد يصير الصريح كناية يفتقر إلى نية، وقد يصير الكناية صريحًا مستغنيًا عن النية" (¬2). ¬
الفرع الأول في تحديد الصريح من الكناية
الفرع الأول في تحديد الصريح من الكناية الوردج من الألفاظ يثبت بغلبة الاستعمال في العرف .. قد يكون اللفظ صريحًا عند قوم، وكناية عند آخرين. الصريح أقوى من الكناية (¬1). [م - 1483] اختلف الفقهاء في تحديد اللفظ الصريح من الكناية، هل يحدد ذلك العرف، وغلبة الاستعمال، أو يتلقى من الشرع على قولين: القول الأول: ذهب الجمهور إلى أن الصريح يثبت بغلبة الاستعمال في العرف. جاء في حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: "الصريح ما كان ظاهر المراد لغلبة الاستعمال" (¬2). وفي حاشية ابن عابدين: " الصريح ما غلب في العرف استعماله" (¬3). ويقول القرافي: "إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك، لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأَجره عليه، وأفته به، دون عرف بلدك، والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين، والسلف الماضين، وعلى ¬
القول الثاني
هذه القاعدة تتخرج أيمان الطلاق والعتاق، وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى نية، وقد يصير الكناية صريحًا مستغنيا عن النية" (¬1). ويقول في موضع آخر: " ثم الكناية تنقسم إلى ما غلب استعماله في العرف ... فيلحق بالصريح في استغنائه عن النية ... لقيام الوضع العرفي مقام الوضع اللغوي" (¬2). ويقول ابن القيم -رحمه الله -: " فكون اللفظ صريحًا أو كناية أمر يختلف باختلاف عرف المتكلم، والمخاطب، والزمان، والمكان، فكم من لفظ صريح عند قوم، وليس بصريح عند آخرين، وفي مكان دون مكان، وزمان دون زمان، فلا يلزم من كونه صريحًا في خطاب الشارع، أن يكون صريحًا عند كل متكلم، وهذا ظاهر" (¬3). القول الثاني: ذهب الشافعية إلى أن مأخذ الصريح ورود الشرع به. قال الزركشي: "وأما ما لم يرد في الكتاب والسنة، ولكن شاع في العرف كقوله لزوجته: أنت علي حرام، فإنه لم يرد شرعا الطلاق به، وشاع في العرف إرادته، فوجهان، والأصح التحاقه بالكناية" (¬4). ¬
الراجح
ويمكن أن نقول: إن مذهب الشافعية في الصريح والكناية يمكن أن يقسم إلى قسمين: الأول: ما ورد في الشرع استعماله من ألفاظ العقود والفسوخ وما جرى مجراهما، فهو من الألفاظ الصريحة؛ لأن عرف الشرع هو المتبع. الثاني: ما لم يرد في الكتاب والسنة. فإن شاع على ألسنة حملة الشرع، وكان هو المقصود من العقد، كلفظ التمليك في البيع، ولفظ الفسخ في الخلع، فالأصح عندهم أنه من الصريح. وإن شاع في العرف فقط، كقول الرجل لزوجته: أنت علي حرام، ويقصد به الطلاق، فالأصح عندهم التحاقه بالكناية، هذا هو ملخص مذهب الشافعية (¬1). الراجح: الصحيح رأي الجمهور، وأن مرد الصريح والكناية إلى العرف، خاصة في باب المعاملات؛ لأن المعتبر في ذلك مقاصد الناس، وما يختارون في الدلالة عليها من الألفاظ، ولم نتعبد بلفظ شرعي لا يجوز تجاوزه. ¬
الفرع الثاني في بيان الألفاظ الصريحة
الفرع الثاني في بيان الألفاظ الصريحة الصريح من الألفاظ لا يحتاج إلى نية والكناية لا تلزم إلا بالنية (¬1). المشتق من الصريح صريح (¬2). [م - 1484] بعد أن عرفنا أن الحكم بأن هذا اللفظ صريح، أو كناية، إنما يحدده عرف الناس، وغلبة الاستعمال، ولا يرجع في تحديد ذلك إلى الحقائق اللغوية، ولا الشرعية في أصح قولي أهل العلم، ومع ذلك فقد اختلف الفقهاء في بعض الألفاظ، هل هي من الصريح أو من الكناية؟ القول الأول: ذهب عامة الفقهاء إلى أن لفظ الوقف، والحبس، والتسبيل، وما اشتق منها من الألفاظ صريحة. فإذا قلت: وقفت كذا، أو أرضي موقوفة، أو حبست كذا، أو أرضي محبسة، أو سبلت كذا، أو أرضي مسبلة، فهذه الألفاظ صريحة في الوقف. هذا هو مذهب الحنفية، والحنابلة، والمشهور من مذهب المالكية، والصحيح الذي قطع به جمهور الشافعية (¬3). ¬
فمن أتى بكلمة من هذه الثلاث صح الوقف؛ لعدم احتمال غيره بعرف الاستعمال. قال العيني: "وألفاظه على مراتب: إحداها قوله: وقفت كذا، أو حبست، أو سبلت، أو أرضي موقوفة أو محبسة أو مسبلة. فكل لفظ من هذا صريح، هذا هو الصحيح الذي قطع به الجمهور" (¬1). جاء في الجوهرة النيرة: " وألفاظ الوقف ستة: وقفت، وحبست، وسبلت، وتصدقت، وأبدت، وحرمت، فالثلاثة الأولى صريح فيه، وباقيه كناية، لا يصح إلا بالنية" (¬2). وجاء في الشرح الصغير: "صيغة صريحة: بوقفت، أو حبست، أو سبلت. أو غير صريحة: تحو تصدقت إن اقترن بقيد يدل على المراد، نحو: لا يباع، ولا يوهب، أو تصدقت به على بني فلان طائفة بعد طائفة، أو عقبهم ونسلهم؛ فإن لم يقيد (تصدقت) بقيد يدل على المراد، فإنه يكون ملكًا لمن تصدق به عليه" (¬3). وأرى أن لفظ الصدقة إذا اقترن بها لفظ: لا يباع، ولا يوهب، أصبح صريحًا، وليس كناية لعدم احتماله معنى آخر غير الوقف؛ ولأنه لا يفتقر إلى نية، وهذا شأن الصريح، والله أعلم. ¬
القول الثاني
وقال الشيرازي: "فأما الوقف والحبس والتسبيل فهي صريحة فيه؛ لأن الوقف موضوع له، ومعروف به، والحبس والتسبيل ثبت لهما عرف الشرع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر - رضي الله عنه -: حبس الأصل وسبل الثمر" (¬1). وفي الإنصاف: "وقفت، وحبست: صريح في الوقف، بلا نزاع" (¬2). القول الثاني: أن كل هذه الألفاظ كناية، وهو وجه مرجوح عند الشافعية (¬3). القول الثالث: أن الوقف صريح، والحبس والتسبيل كناية، وهو أحد القولين في مذهب المالكية، ووجه مرجوح عند الشافعية (¬4). قال في التلقين: "الوقف مفيد بمجرده التحريم، وأما الحبس والصدقة ففيها روايتان" (¬5). وعلل الشافعية ذلك بأن لفظ الحبس والتسبيل لم يشتهرا اشتهار الوقف (¬6). ¬
القول الرابع
القول الرابع: التسبيل كناية والباقي صريح؛ وهو وجه مرجوح عند الشافعية، وعللوا ذلك بأنه من السبيل، وهو مبهم (¬1). قال النووي في الروضة: "وألفاظ الوقف على مراتب: إحداها: قوله: وقفت كذا، أو حبست، أو سبلت، أو أرضي موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة، فكل لفظ من هذا صريح، هذا هو الصحيح الذي قطع به الجمهور. وفي وجه: كل هذه كناية. وفي وجه: الوقف صريح، والباقي كناية. وفي وجه التسبيل كناية، والباقي صريح" (¬2). الراجح من الخلاف: أرى أن قول الجمهور هو الراجح، وأن الألفاظ الثلاثة كلها صريحة، هذا هو الأصل إلا أن يجري عرف في بلد ما، أن لفظ الحبس، أو التسبيل، لا يدل على الوقف، فالعرف في دلالة الألفاظ محكم، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث في ألفاظ الكناية
الفرع الثالث في ألفاظ الكناية ألفاظ الكنايات تحتاج إلى نية لانعقاد الوقف بها (¬1). [م - 1485] سبق لنا الكلام على الألفاظ الصريحة في الوقف، وهي الألفاظ التي تدل على الوقف عرفًا، أو شرعًا، ولا تحتمل شيئًا آخر. وأما ألفاظ الكناية، فهي التي تحتمل معتى الوقف، وتحتمل غيره، كقولك: تصدقت، وحرمت وأبدت، فلفظ الصدقة يستعمل في الزكاة ويستعمل في الوقف، وكذا لفظ التحريم، والتأبيد. والفرق بين الصريح والكناية: أن الصريح لا يحتاج إلى وقوعة إلى نية، بخلاف الكناية. قال في الجوهرة النيرة: "وألفاظ الوقف ستة: وقفت، وحبست، وسبلت، وتصدقت، وأبدت، وحرمت، فالثلاثة الأولى صريح، وباقية كناية لا يصح إلا بالنية" (¬2). وصيغة تصدقت عند المالكية لا تدل على الوقف إلا بثلاثة أمور: إما أن يقترن بها قيد، نحو: لا يباع ولا يوهب. أو تكون الصدقة على جهة لا تنقطع، كالفقراء. ¬
وجه هذا القول
أو كانت الصدقة لمجهول، ولو كان محصورًا، كالصدقة على عقب فلان (¬1). جاء في حاشية الدسوقي: "فإن كان -يعني الوقف- بلفظ حبست، أو وقفت فظاهر، وإن كان بلفظ تصدقت فلابد من قيد نحو (لا يباع ولا يوهب) وإلا كان ملكًا لهم" (¬2). وقال الدسوقي أيضًا: "يصح الوقف ويتأبد إذا وقع لمجهول محصور كـ على فلان وعقبه ولو بلفظ (تصدقت)؛ لأن قوله: (وعقبه) دليل على أنه وقف" (¬3). وجاء في الشرح الصغير: "وأما تصدقت؛ فلا يفيد الوقف إلا بقيد يدل عليه، (أو) على (جهة لا تنقطع") (¬4). وجه هذا القول: أن تعليق الصدقة بجماعة ينتقل إليه بعد انقراض بعض بنيه أن المراد بذلك الصدقة بالمنافع؛ لأن الرقبة لا يصح فيها نقلها بالصدقة عن قوم إلى قوم، وإنما يصح ذلك في المنافع، وهذا معنى الحبس (¬5). وفي مذهب الشافعية، قال الشيرازي: "وأما التصدق فهو كناية فيه؛ لأنه مشترك بين الوقف، وصدقة التطوع، فلم يصح الوقف بمجرده. ¬
فإن اقترنت به نية الواقف. أو لفظ من الألفاظ الخمسة، بأن يقول: تصدقت به صدقة موقوفة، أو محبوسة، أو مسبلة، أو مؤبدة، أو محرمة. أو حكم الوقف، بأن يقول: صدقة لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، صار وقفًا؛ لأنه مع هذه القرائن لا يحتمل غير الوقف. وأما قوله: حرمت، وأبدت، ففيه وجهان: أحدهما: كناية، فلا يصح به الوقف إلا باحدى القرائن التي ذكرنا؛ لأنه لم لمجا له عرف الشرع، ولا عرف اللغة، فلم يصح الوقف بمجرده كالتصدق. والثاني: أنه صريح؛ لأن التحريم والتأبيد في غير الأبضاع لا يكون إلا بالوقف فحمل عليه" (¬1). وجاء في المغني: "وأما الكناية، فهي: تصدقت، وحرمت، وأبدت، فليست صريحة؛ لأن لفظة الصدقة والتحريم مشتركة، فإن الصدقة تستعمل في الزكاة، والهبات، والتحريم يستعمل في الظهار، والأيمان، ويكون تحريمًا على نفسه، وعلى غيره، والتأبيد يحتمل تأبيد التحريم، وتأبيد الوقف، ولم يثبت لهذه الألفاظ عرف الاستعمال، فلا يحصل الوقف بمجردها، ككنايات الطلاق فيه. فإن انضم إليها أحد ثلاثة أشياء، حصل الوقف بها: أحدها: أن ينضم إليها لفظة أخرى تخلصها من الألفاظ الخمسة، فيقول: صدقة موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة، أو محرمة، أو مؤبدة، أو يقول: هذه محرمة موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة، أو مؤبدة. ¬
الراجح
الثاني: أن يصفها بصفات الوقف، فيقول: صدقة لا تباع، ولا توهب، ولا تورث؛ لأن هذه القرينة تزيل الاشتراك. الثالث: أن ينوي الوقف، فيكون على ما نوى، إلا أن النية تجعله وقفًا في الباطن دون الظاهر؛ لعدم الاطلاع على ما في الضمائر، فإن اعترف بما نواه لزم في الحكم؛ لظهوره، وإن قال: ما أردت الوقف فالقول قوله؛ لأنه أعلم بما نوى" (¬1). الراجح: أن الفرق بين اللفظ الصريح والكناية، أن الصريح لا يفتقر إلى النية بخلاف الكناية، وعليه فبعض صور الكناية السابقة هي من الصريح، فإذا كان العلماء لا يختلفون أنه إذا قال: أرضي موقوفة، أن هذا صريح، فإذا قال: أرضي صدقة موقوفة كيف يستقيم أن نقول: هذا من الكناية؟ مع أنها في دلالة الوقف لا تحتمل غيره، ولا تحتاج إلى نية، ولاشتمالها على اللفظ الصريح، ومثل هذا قولنا: صدقة لا تباع ولا توهب، ولا تورث، أو نقول كما قال بعض الفقهاء: الصريح قسمان: صريح بنفسه، وصريح بغيره، أما أن نقول: إن هذه من ألفاظ الكناية فهذا عندي ضعيف، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني الوقف بالصيغة الفعلية
المبحث الثاني الوقف بالصيغة الفعلية يصح الوقف بالفعل الدال عليه قياسًا على البيع. [م - 1486] اختلف الفقهاء في إنشاء الوقف بالفعل دون القول على قولين: القول الأول: يجوز، وهو مذهب الجمهور في الجملة (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا يصح الوقف إلا بالقول، وهذا مذهب الشافعية، ورواية عن الإِمام أحمد (¬1). قال الشيرازي: "ولا يصح الوقف إلا بالقول، فإن بني مسجدًا وصلى فيه، أو أذن للناس بالصلاة فيه لم يصر وقفًا" (¬2). واستثنى الشافعية مسألتين من اشتراط اللفظ: الأولى: صحة الوقف بالإشارة، أو بالكتابة من الأخرس. جاء في مغني المحتاج: "ولا يصح الوقف إلا بلفظ من ناطق يشعر بالمراد، كالعتق ... وفي معناه إشارة الأخرس المفهمة، وكتابته" (¬3). ¬
دليل الجمهور على صحة الوقف بالفعل الدال عليه
المسألة الثانية: إذا بني مسجدًا، أو مقبرة، أو رباطًا، أو بئرًا في موات، ونوى جعله وقفًا، فإنه يصير وقفًا، ولا يفتقر إلى اللفظ، فإن كان ذلك في أرض مملوكة، فلا يكون وقفًا بالفعل، بل لا بد من القول. قال في مغني المحتاج: "يستثنى من اشتراط اللفظ ما إذا بني مسجدًا في موات، ونوى جعله مسجدًا؛ فإنه يصير مسجدًا؛ ولم يحتج إلى لفظ ... لأن الفعل مع النية مغنيان هنا عن القول، ووجهه السبكي بأن الموات لم يدخل في ملك من أحياه مسجدًا" (¬1). وجاء في حاشية عميرة: "ولا يصح إلا بلفظ، أي: ولو كان بناء مسجد، بخلاف ما لو أحيى مواتًا بنية المسجد، أو المقبرة، أو البئر، أو الرباط أو المدرسة، وما أشبه ذلك كما نبه عليه الزركشي" (¬2). دليل الجمهور على صحة الوقف بالفعل الدال عليه: الدليل الأول: الأصل في العقود والإسقاطات الإباحة، ولا يمنع منها شيء إلا بدليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع، ولا دليل مع القائلين بعدم صحة الوقف عن طريق المعاطاة، ولو كان اللفظ شرطًا في صحة الوقف لبينه الشارع بيانا عامًا، ولو بينه لنقل إلينا، فلما لم ينقل علمنا أن اللفظ ليس بشرط. الدليل الثاني: أن الله -سبحانه وتعالى - استحب لنا الصدقة، ومنها الوقف، ولم يحد لنا كيفية معينة، ¬
الدليل الثالث
فوجب الرجوع فيه إلى العرف كما رجع إليه في القبض والإحراز والتفرق، وقد جرى العرف أن من بني مسجدًا، وخلى بينه وبين الناس للصلاة فيه، ولم يخص قومًا دون قوله، ولا فرضًا دون نفل، أو بني مقبرة وخلى بينها وبين الناس للدفن فيها أن ذلك بمنزلة قوله: وقفت هذا مسجدًا، أو هذه مقبرة، ومثله من قرب طعامًا إلى ضيفه فإنه إذن في أكله، قال تعالى: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} [الذاريات: 27]. وأن من ملأ خابية ماء على الطريق كان تسبيلًا له، ومن نثر على الناس نثارًا كان إذانًا في التقاطه، والله أعلم (¬1). الدليل الثالث: قياس الوقف على البيع، والهبة، فإذا كان المسلمون في أسواقهم يتعاطون البيع عن طريق المعاطاة في كل عصر، فإذا صح البيع بالمعاطاة في أصح قولي العلماء صح الوقف بالفعل الدال عليه قياسًا على البيع. دليل من قال: لا يصح الوقف إلا باللفظ: الدليل الأول: الوقف إزالة ملك، أو تمليك للمنفعة، فلم يصح من غير قول مع القدرة عليه، وإذا كان العتق مع قوته، وسرايته لا يصح إلا باللفظ فهذا أولى (¬2). ¬
ويناقش
ويناقش: القول بأن الوقف لا يصح من غير قول مع القدرة عليه، هذا الكلام دعوى في محل النزاع، فأين الدليل عليه، ومثله يقال في العتق. الدليل الثاني: إزالة الملك تتوقف على الرضا، والذي هو شرط في صحة جميع التصرفات، ففي البيع قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وفي التبرع قال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]. والرضا عمل قلبي، لا يعلمه إلا الله، فهو أمر خفي، فلا بد من لفظ يدل عليه، ويناط به الحكم، سواء كان مما يستقل به الإنسان كالوقف، والطلاق، والعتاق، والعفو، والإبراء، أو من غيره مما لا يستقل به وحده، كالبيع، والإجارة، والنكاح، ونحوها. ويناقش: بأن الرضا عمل قلبي، والفعل دال عليه، وإذا اعتبرتم الإشارة من الأخرس، وأتها تدل على ما في قلبه من الرضا، كان الفعل من غيره دالًا أيضًا على الرضا، ولا يتوقف الأمر على اللفظ. الدليل الثالث: القياس على عقد النكاح، فإنه لا ينعقد إلا باللفظ (¬1)، وقد اتفقوا على اشتراط الصيغة فيه، حتى لا يعلم أنه وجد لأحد من العلماء قول بالمعاطاة ¬
وأجيب
البتة، وإنما اختلفوا هل ينعقد بغير لفظ التزويج والنكاح أو لا ينعقد إلا بخصوص لفظهما (¬1). وأجيب: بأن هناك فرقًا بين عقد النكاح وبين الوقف، فاشتراط الشهادة في صحة النكاح آكد منها في الوقف، والولي شرط في صحة عقد النكاح عند الجمهور، وليس بشرط في الوقف، ولأن الأصل في الوقف الإباحة أو الندب، وهو من عقود التبرع، والأصل في الفروج التحريم حتى يعقد عليهن بملك، أو نكاح، ويحتاط للفروج ما لا يحتاط لغيرها، والله أعلم (¬2). الدليل الرابع: المعاطاة قد يراد بها الوقف، وقد يراد بها البيع، وقد يراد بها الهبة، وقد يراد بها الإجارة، وقد يراد بها الرهن، وقد يراد بها العارية، وعليه فلا يصلح أن يكون الإعطاء سببًا في الوقف؛ لكونه جنسًا يشمل أنواعًا مختلفة من العقود، وكل عقد يختلف آثاره عن العقد الآخر، فلا بد للوقف أن يكون بالقول الدال على تحديد كل عقد بعينه، وإلا أدى ذلك إلى وقوع النزاع بين الناس، وعدم معرفة الرضا الكامل الذي أناط الله به صحة التصرف. وأجيب: إذا احتملت المعاطاة غير الوقف لم ينعقد بها الوقف، وإنما الكلام فيما إذا كانت المعاطاة لا تحتمل إلا الوقف، كما لو بني دارًا على هيئة مسجد، وخلى ¬
الراجح من الخلاف
بينها وبين الناس للصلاة فيها فإن احتمال التبرع هنا، أو الإجارة بعيد كل البعد، ومثله لو بني مقبرة، وخلى بينها وبين الناس للدفن فيها، فإن التصرف لا يحتمل غير الوقف، وعليه نقول: لا بد من الفعل من قرينة ظاهرة تدل على الوقف؛ لأن الأصل بقاء ملك الإنسان فيما يملك، ولا نخرجه عن هذا الأصل إلا بقرينة ظاهرة، والله أعلم. الراجح من الخلاف: أن الفعل إن كان معه قرينة عمل بها فإن دلت على أنه أراد الوقف صح وقفًا، أو دلت القرينة على أنه لم يرد الوقف لم يصح وقفًا، فإذا بني مسجدًا، وخلى بينه وبين الناس للصلاة فيه فلا يخلو هذا الفعل من ثلاث حالات: الأولى: أن ينوي الوقف، فهذا لا إشكال فيه. الثانية: ألا ينوي شيئًا، فهذا وقف أيضا؛ لأن هذا الفعل يلحق بالصريح، فلا يحتاج إلى نية. الثالثة: أن ينوي خلاف الوقف، فهذا إن كان هناك قرينة تدل على أنه لم يرد الوقف قبل ذلك منه، كما لو بنى مصلى عند بستانه، وصار الناس يصلون فيه، فهذا المصلى من حقوق المكان، ولا يدل على أنه أراد الوقف، أو أراد الناس أن يجددوا بناء المسجد، فهدموه، فأذن للناس بالصلاة في بيته، فإذا قال: إنه أراد بهذا أن ذلك إلى حين بناء المسجد، قبل ذلك منه؛ لوجود القرينة، وهو هدم المسجد. أما لو بني الأرض على هيئة المسجد، وخلى بينه وبين الناس للصلاة فيه، وادعى أنه لم ينو الوقف فهل يقبل قوله؟
هذا ينبني على مسألتنا هذه، فالجمهور يرون أن الرجل إذا فعل ما يدل على الوقف لزم الوقف، ولا تقبل دعوى أنه لم ينو الوقف. جاء في كتاب الوقوف للخلال من رواية أبي طالب، أنه سأل أبا عبد الله عن رجل بنى مسجدًا من داره يؤذن فيه، ويصلي فيه مع الناس، وتكون نيته حين بناه وحين أخرجه على أن يؤذن فيه، ويصلي فيه حياته فإذا مات رد إلى الميراث، يجوز له إذا كان على هذا بناه؟ قال: لا، إذا أذن فيه ودعى الناس إلى الصلاة فليس يرجع في شيء قد مضى. قلت: فبيته؟ قال: ليس بيته بشيء إذا أذن، ودعا الناس إلى الصلاة فإذا صلى فيه فهو مسجد، لا يرجع فيه" (¬1). وخالف في ذلك الشافعية الذي لا يرون صحة الوقف بمجرد الفعل، وقول الجمهور أقوى، والله أعلم. ¬
فرع كتابة الوقف على العين تقوم مقام الصيغة
فرع كتابة الوقف على العين تقوم مقام الصيغة البيان بالكتاب بمنزلة البيان باللسان (¬1). وبعبارة أخرى الكتاب كالخطاب. [م - 1487] اختلف العلماء في الرجل يشتري عينًا، فيجد عليها مكتوبًا هذا وقف، أو ينحت على جدار بأن هذا مسجد، هل تقوم الكتابة مقام الصيغة؟ على قولين: القول الأول: لا تعتبر وقفًا مطلقًا. وهذا مذهب الحنفية (¬2). جاء في البحر الرائق نقلًا من كتاب القنية: " اشترى حانوتًا فوجد بعد القبض على بابه مكتوبًا وقف على مسجد كذا: لا يرده؛ لأنها علامة لا تبنى الأحكام عليها" (¬3). وجاء في غمز عيون البصائر نقلًا من وقف الخانية: "رجل في يده ضيعة، فجاء رجل وادعى أنها وقف، وأحضر صكًا فيه خطوط العدول والقضاة الماضية، فطلب من القاضي القضاء بذلك الصك، قالوا: ليس للقاضي أن يقضي بذلك الصك؛ لأن القاضي إنما يقضي بالحجة، والحجة هي البينة أو ¬
القول الثاني
الإقرار، أو النكول، أما الصك فلا يصلح حجة؛ لأن الخطي يشبه الخط، وكذا لو كان على باب الدار لوح مضروب ينطق بالوقف لا يجوز للقاضي أن يقضي بالوقف ما لم يشهد الشهود" (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية والحنابلة إلى أن كتابة الوقف على الكتب تقوم مقام الصيغة إن كانت وقفيتها مقيدة بمدارس مشهورة، وإلا فلا، ويقوم مقام الصيغة أيضًا الكتابة على أبواب المدارس الربط، والأشجار القديمة، وعلى الحيوان (¬2). جاء في حاشية الدسوقي: "وحاصله أنه إذا وجد مكتوبًا على كتاب (وقف لله على طلبة العلم) فإنه لا يثبت بذلك وقفية حيث كانت وقفية مطلقة، فإن وجد مكتوبًا عليه وقف على طلبة العلم بالمدرسة الفلانية، أو وقف على طلبة العلم، ومقره بالمدرسة الفلانية، فإن كانت مشهورة بالكتب ثبتت وقفيته، وإن لم تكن مشهورة بذلك لم تثبت وقفيته" (¬3). جاء في شرح الخرشي: "ويثبت الوقف بالإشاعة بشروطها، وبكتابة الوقف على الكتب إن كانت موقوفة على مدارس مشهورة، وإلا فلا، ويثبت أيضًا بالكتابة على أبواب المدارس، والربط، والأشجار القديمة، وعلى الحيوان" (¬4). ¬
وقال العدوي في حاشيته تعليقًا: "قوله: (إن كانت على مدارس مشهورة) أي بأن رأينا كتبًا مودوعة في خزانة في مدرسة، وعليها كتابة الوقف وقد مضى عليها مدة طويلة، وقد اشتهرت بذلك لم يشك في كونها موقفًا، وحكمها حكم المدرسة في الوقفية، فإن انقطعت كتبها، أو فقدت، ثم وجدت عليها تلك الوقفية، وشهرة تلك المدرسة في الوقفية معلومة فيكفي في ذلك الاستفاضة، ويثبت مصرفه بالاستفاضة، وأما إذا رأينا كتبًا لا نعلم مقرها، ولا نعلم من كتب عليها الوقفية، فهذه يجب التوقف في أمرها حتى يتبين حالها، وهو عيب يثبت للمشتري به الرد ... فقول شارحنا: (وإلا فلا) أي فلا يثبت كونها وقفًا، بل يتوقف في أمرها حتى يتبين حالها" (¬1). ومذهب الحنابلة نحو من مذهب المالكية. جاء في الطرق الحكمية لابن القيم: "فما تقولون في الدار يوجد على بابها، أو حائطها الحجر، مكتوب فيه: إنها وقف، أو مسجد، هل يحكم بذلك؟ قيل: نعم؛ يقضي به، ويصير وقفًا، صرح بعض أصحابنا، وممن ذكره الحارثي في شرحه. فإن قيل: يجوز أن ينقل الحجر إلى ذلك الموضع؟ قيل: جواز ذلك كجواز كذب الشاهدين، بل هذا أقرب؛ لأن الحجر يشاهد جزءًا من الحائط داخلًا فيه، ليس عليه شيء من أمارات النقل، بل يقطع غالبًا بأنه بني مع الدار، ولا سيما حجر عظيم وضع عليه الحائط بحيث يتعذر وضعه بعد البناء، فهذا أقوى من شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين. ¬
فإن قيل: فما تقولون في كتب العلم، يوجد على ظهرها، وهوامشها كتابة الوقف، هل للحاكم أن يحكم بكونها وقفًا بذلك؟ قيل: ذلك يختلف باختلاف قرائن الأحوال، فإذا رأينا كتبًا مودعة في خزانة، وعليها كتابة (الوقف) وهي كذلك مدة متطاولة، وقد اشتهرت بذلك، لم نسترب في كونها وقفًا، وحكمها حكم المدرسة التي عهدت لذلك، وانقطعت كتب وقفها، أو فقدت، ولكن يعلم الناس على تطاول المدة كونها وقفًا، فتكفي في ذلك الاستفاضة، فإن الوقف يثبت بالاستفاضة، وكذلك مصرفه، وأما إذا رأينا كتابًا لا نعلم مقره، ولا عرف من كتب عليه الوقف، فهذا يوجب التوقف في أمره حتى يتبين حاله. والمعول في ذلك على القرائن، فإن قويت حكم بموجبها، وإن ضعفت لم يلتفت إليها، وإن توسطت طلب الاستظهار، وسلك طريق الاحتياط، وبالله التوفيق" (¬1). ¬
الفصل الرابع في اشتراط أن تكون الصيغة منجزة
الفصل الرابع في اشتراط أن تكون الصيغة منجزة اختلف الفقهاء في اشتراط التنجيز في صيغة الوقف، بحيث لا يكون الوقف معلقًا. فالمنجز: هو ضد المعلق. وتكون الصيغة منجزة إذا دلت على إنشاء الوقف في الحال، وترتب آثاره وقت صدوره. والمراد بتعليق الوقف: هو ربط حصول الوقف بحصول أمر آخر يحتمل الوجود، والعدم، كما لو قال: إن قدم زيد، أو إن شفى الله مريضي فأرضي هذه وقف. ولما كان الوقف غير المنجز يشمل صيغتين: الوقف المعلق، والوقف المؤجل المضاف إلى زمن مستقبل فسوف نبحث كل مسألة على انفراد إن شاء الله تعالى.
المبحث الأول في الوقف المعلق على شرط
المبحث الأول في الوقف المعلق على شرط المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز (¬1). [م - 1488] إذا قال الواقف: إن قدم زيد أو إن شفى الله مريضي فأرضي وقف، فهل تكون الدار وقفًا بقدوم زبد، أو بشفاء المريض، أو تكون هذه الصيغة باطلة؛ لكونها غير منجزة، فلا ينعقد بها الوقف؟ في هذا خلاف بين الفقهاء على قولين: القول الأول: يشترط التنجيز في صيغة الوقف، فلا ينعقد الوقف إذا كان معلقًا على شرط، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). جاء في فتح القدير: "والوقف لا يقبل التعليق بالشرط" (¬3). وجاء في المهذب: "ولا يصح تعليقه على شرط مستقل" (¬4). ¬
واستثنى الفقهاء من ذلك أشياء
وفي كتاب الإنصاف: "أن يقف ناجرًا، فإن علقه على شرط لم يصح" (¬1). واستثنى الفقهاء من ذلك أشياء: أحدها: لو كان التعليق بصيغة النذر، كما لو قال: لله علي إن شفى الله مريضي أن أوقف أرضي، وجب عليه أن يقف أرضه بتحقق شرطه (¬2). على أن الإنسان إذا قال: عليَّ أن أقف عقاري الفلاني على الفقراء يجب عليه ديانة أن يفعل وفاء بنذره، ولكن لا يلزم به قضاء؛ لأن النذور وجوبها ديني بحت، لا يدخل تحت القضاء، فإن نفذ النذر فوقف العقار بالفعل وقفًا مستوفيًا لشرائطه صح الوقف، ولزم قضاء بمقتضى وقفه، لا بمقتضى نذره. الثاني: استثنى الحنفية الشرط المعلق على أمر موجود حين تعليق الوقف، كما لو قال: إن كانت هذه الدار ملكي فهي وقف، وتبين أنه مالكها حين الوقف فإنه يصح الوقف. وعللوا ذلك: بأن التعليق بالشرط الكائن تنجيز (¬3). الثالث: التعليق بالموت، وهذا سوف أفرد له بحثًا مستقلًا إن شاء الله تعالى. ¬
القول الثاني
القول الثاني: يصح تعليق الوقف بالشرط، وهذا مذهب المالكية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة، ورجحه ابن تيمية، وابن القيم (¬1). القول الثالث: يصح الوقف، ويبطل التعليق بناء على الشروط الفاسدة في البيع، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). دليل من قال: يصح تعليق الوقف بالشرط: الدليل الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]. فالعقود في الآية مطلقة، تشمل المعلق منها والمنجز. الدليل الثاني: الأصل في الشروط الصحة والجواز، ولا يبطل منها شيء إلا بدليل، ولا دليل على بطلان تعليق الوقف بالشرط. الدليل الثالث: قد صح تعليق الوقف بالشرط بالنسبة إلى البطون، بطنًا بعد بطن، بحيث لا ¬
الدليل الرابع
يصير وقفًا على البطن الثاني إلا إذا انقضى البطن الأول، فإذا صح التعليق في هذه الصورة صح فيما عداه من التعليق لعدم الفرق. الدليل الرابع: القياس على الوصية بجامع أن كلًا منهما من عقود التبرع، فإذا صحت الوصية مع كونها معلقة على الموت صح تعليق الوقف بالشرط. الدليل الخامس: التعليق يشبه البيع بشرط الخيار بالإجماع، مع أن العقد فيه متردد بين الفسخ والإمضاء. الدليل السادس: إذا صح تعليق الإبراء بالشرط على الصحيح، صح تعليق الوقف بالشرط بجامع أن كلًا منها من باب الإسقاط، فقد قال الإِمام أحمد لمن اغتابه ثم استحله: أنت في حل إن لم تعد. فقال له الميموني: قد اغتابك وتحلله؟ فقال: ألم ترني قد اشترطت عليه (¬1). فالصحيح من أقوال أهل العلم، أنه لا فرق في صحة التعليق بين التمليك والإسقاط، وبين التبرع والمعاوضة. قال ابن القيم في معرض رده على المخالفين: "فإن فرقتم بالمعاوضة، وقلتم: إن عقود المعاوضات لا تقبل التعليق بخلاف غيرها انتقض عليكم طردًا بالجعالة وعكسًا بالهبة والوقف، فانتقض عليكم الفرق طردًا وعكسًا، وإن فرقتم ¬
دليل من قال: لا يصح تعليق الوقف بالشرط
بالتمليك والإسقاط فقلتم: عقود التمليك لا تقبل التعليق بخلاف عقود الإسقاط انتقض أيضًا طرده بالوصية، وعكسه بالإبراء، فلا طرد ولا عكس ... (¬1). دليل من قال: لا يصح تعليق الوقف بالشرط: الدليل الأول: أن التمليكات المالية عدا الوصية سواء كانت واردة على الأعيان كالبيع، والإبراء، أم على المنافع كالإجارة، والإعارة بطريق المعاوضة أم بطريق التبرع كالهبة، لا يصح تعليقها على شرط متردد بين الوجود والعدم؛ لأن الملكية لا بد أن تكون مستقرة جازمة، لا تردد فيها، وإلا شابهت القمار. ويجاب عن ذلك: بأن التعليق يختلف عن القمار، فالقمار يتردد فيه المقامر بين الغنم والغرم، بخلاف التعليق، وإنما يشبه عقد البيع بشرط الخيار، وهو جائز بالإجماع، مع أن العقد يتردد فيه بين الإمضاء، والفسخ، وسبق ذكره. الدليل الثاني: أن الوقف عقد يبطل بالجهالة، فلم يصح تعليقه على شرط مستقبل كالبيع (¬2). ويجاب من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: -. القول بأن التعليق ينطوي على جهالة غير مسلم؛ لأن الأمر يؤول فيه إلى ¬
الوجه الثاني
العلم، فإن تحقق الشرط فقد تم الوقف، وإن لم يتحقق لم يتم، وتحققه من عدمه معلوم، وليس بمجهول. الوجه الثاني: أن المنع من تعليق الوقف قياسًا على المنع من تعليق عقد البيع قياس غير صحيح؛ لأن الحكم في المقيس عليه لم يسلم حتى يسلم الحكم في المقيس، فإذا اختلف العلماء في الأصل (المقيس عليه) لم يكن في القياس حجة على المخالف. وقد ناقشت مسألة تعليق البيع في عقد البيع، فأغنى عن إعادته هنا، ولله الحمد. الوجه الثالث: على التسليم بأن تعليق البيع يمنع صحة البيع، فإن قياس تعليق الوقف على تعليق البيع قياس غير صحيح؛ لأن هناك فرقًا بين عقود التبرعات، وعقود المعاوضات، ويغتفر في عقود التبرع ما لا يغتفر في عقود المعاوضة على الصحيح، والله أعلم. الدليل الثاني (*): القياس على الهبة، فإذا كان لا يصح تعليق الهبة على شرط لم يصح تعليق الوقف على شرط كذلك. قال ابن عابدين: "ولا معلقًا كقوله: إذا جاء غدًا أوإذا جاء رأس الشهر ... فأرضي هذه صدقة موقوفة ... يكون الوقف باطلًا؛ لأن الوقف لا يحتمل التعليق بالخطر لكونه مما لا يحلف به، كما لا يصح تعليق الهبة" (¬1). ¬
وأجيب
وقال ابن قدامة: "ولا يجوز تعليق ابتداء الوقف على شرط في الحياة، مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر فداري وقف، أو فرسي حبيس ... ونحو ذلك، ولا نعلم في هذا خلافًا؛ لأنه نقل للملك فيما لم يبن على التغليب والسراية، فلم يجز تعليقه على شرط كالهبة" (¬1). وأجيب: يرد على هذا بنحو ما رد به على الدليل السابق، بأن تعليق الهبة على شرط مختلف في صحته: فالجمهور على منعه (¬2). وخالف في ذلك المالكية، وبه قال الحارثي من الحنابلة، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم، حيث ذهبوا إلى جواز تعليق الهبة على شرط (¬3). وإذا كان الحكم مختلفًا فيه لم يصح القياس عليه، ذلك أن القياس حجة، ودليل من الأدلة الشرعية، وإذا كان الأصل المقيس عليه مختلفًا فيه، لم يكن القياس عليه حجة تلزم المخالف. ¬
الراجح
قال ابن القيم في معرض رده على القول بأن الهبة لا تقبل التعليق: قال: "الحكم في الأصل غير ثابت بالنص، ولا بالإجماع، فما الدليل على بطلان تعليق الهبة بالشرط؟ وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه علق الهبة بالشرط في حديث جابر لما قال: "لو قد جاء مال البحرين لأعطيتك هكذا، وهكذا، ثم هكذا". فإن قيل: كان ذلك وعدًا. قلنا: نعم، والهبة المعلقة بالشرط وعد" (¬1). والله أعلم. الراجح: بعد استعراض الأدلة أجد أن من ذهب إلى القول بأنه لا يشترط التنجيز في صيغة الوقف أقوى من القول بأنه شرط، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني الوقف المعلق بالموت
المبحث الثاني الوقف المعلق بالموت [م - 1489] اختلف الفقهاء القائلون باشتراط التنجيز في الوقف فيما إذا كان الوقف معلقًا على الموت، كما لو قال: إذا من فأرضي هذه وقف على أقوال: القول الأول: يصح تعليق الوقف بالموت، ويأخذ حكم الوصية من كل وجه. فله فسخه ما دام حيًا، وله أن يبيعه، ويرهنه، إلى غير ذلك من وجوه التصرف، ولا يلزم إلا بالموت، وهذا مذهب الحنفية والشافعية، واختاره بعض الحنابلة، ورجحه ابن تيمية (¬1). ¬
أستدل أصحاب هذا القول
جاء في الإنصاف: "قال الحارثي: كلام الأصحاب يقتضي أن الوقف المعلق على الموت أو على شرط في الحياة لا يقع لازمًا قبل وجود المعلق عليه؛ لأن ما هو معلق بالموت وصية، والوصية في قولهم لا تلزم قبل الموت" (¬1). أستدل أصحاب هذا القول: الدليل الأول: حكى فيها تاج الدين السبكي الإجماع على الصحة. قال: "ولا يخالف فيها -يعني في صحة التعليق بالموت- حنفي ولا غيره" (¬2). والحق أن الخلاف فيها محفوظ كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الدليل الثاني: القياس على تعليق العتق بالموت، وكون تعليق العتق بالموت اختص باسم خاص، وهو التدبير فلا يغير في حقيقة الأمر شيئًا؛ لأن المقصود من المعاملات مقاصدها ومعانيها بأي لفظ كان، وليس المقصود من المعاملات ألفاظها؛ إذ لم يشرع الله لنا، ولا رسوله التعبد بألفاظ معينة، لا نتعداها. الدليل الثالث: صح تعليق الوقف بالموت لكونه وصية، والوصية لا تقع إلا معلقة بمقتضى العقد، ولذلك يقبل الرجوع فيه قبل الموت، ويعتبر من الثلث، وإذا كان لوارث افتقر لإجازة الورثة، والوقف ليس كذلك. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (ث -179) استدل بعضهم بما رواه أبو داود في سننه من طريق الليث، عن يحيى بن سعيد، عن صدقة عمر، قال: نسخها لي عبد الحميد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ... هذا ما أولى به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث، أن ثمغًا، وصرمة بن الأكوع، والعبد الذي فيه، والمائة سهم التي بخيبر، ورقيقه الذي فيه، والمائة التي أطعمه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بالوادي، تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها، أن لا يباع، ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل، والمحروم، وذوي القربى، ولا حرج على من وليه، إن أكل، أو آكل، أو اشترى رقيقًا منه (¬1). [صحيح وجادة، وعبد الحميد، وإن كان مجهولًا فليس له رواية في هذه القصة، وإنما قام باستنساخ الوجادة التي كانت في آل عمر - رضي الله عنه -] (¬2). ويناقش: بأن هذا وصية في الولاية والنظارة، وليس وصية في الوقف؛ لأن الوقف حدث في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان عمر - رضي الله عنه - هو الذي يلي الوقف في حياته، فأوصى أن تليه بعد وفاته ابنته حفصة أم المؤمنين - رضي الله عنهما -، والله أعلم. قال ابن حجر: "وتعقب بأن وقف عمر صدر منه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي ¬
القول الثاني
أوصى به إنما هو شرط النظر" (¬1). القول الثاني: يصح وقفًا، ويلزم من حين صدوره، ولا يمكن له فسخه، ولا ينفذ منه إلا ما كان من ثلث المال فأقل، إلا أن يجيز الورثة، وهذا هو المنصوص عن الإِمام أحمد، وهو المشهور من مذهبه (¬2). وجه قول الحنابلة: أن الحنابلة جعلوه وقفًا من حيث اللزوم اعتمادًا على الصيغة؛ لأن من أحكام الوقف لزومه في الحال، أخرجه مخرج الوصية، أم لم يخرجه، فينقطع التصرف فيه بالبيع ونحوه. وجعلوه وصية من حيث المقدار؛ لأنه لا يستحق إلا بالموت. جاء في شرح منتهى الإرادات " (ويلزم) الوقف المعلق بالموت (من حينه) أي حين صدوره منه. قال أحمد في رواية الميموني في الفرق بينه وبين المدبر: إن المدبر ليس لأحد فيه شيء، وهو ملك الساعة. وهذا شيء وقفه على قوم مساكين، فكيف يحدث به شيئًا؟ ... (ويكون) الوقف المعلق بالموت (من ثلثه) أي مال الواقف؛ لأنه في حكم الوصية، فإن كان قدر الثلث فأقل لزم، وإن زاد لزم في الثلث، ووقف الباقي على الإجازة" (¬3). ¬
ويجاب عن ذلك
ويجاب عن ذلك: أجاب الميموني عن قول الإِمام أحمد: المدبر ليس لأحد فيه شيء، وهو ملك الساعة، وهذا شيء وقفه على المساكين، فكيف يحدث به شيئًا؟ قال الميموني: وهكذا الوقوف ليس لأحد فيها شيء الساعة، هو ملك، وإنما استحق بعد الوفاة، كما أن المدبر الساعة ليس بحر، ثم يأتي عليه وقت يكون فيه حرًا (¬1). القول الثالث: لا يصح مطلقًا. اختاره بعض الحنفية، وبعض الشافعية، وأبو الخطاب، والقاضي أبو يعلى، وابن البنا من الحنابلة (¬2). جاء في البحر الرائق نقلًا من المحيط: "لو قال: إن من من مرضي هذا فقد وقفت أرضي هذه، لا يصح الوقف، برئ أو مات؛ لأنه تعليق" (¬3). وجاء في المغني: "وقال القاضي: لا يصح هذا -يعني تعليق الوقف على الموت- لأنه تعليق للوقف على شرط، وتعليق الوقف على شرط غير جائز، بدليل ما لو علقه على شرط في حياته" (¬4). ويناقش: بأن تعليق الوقف في الحياة مختلف في جوازه، فلا يصح الاحتجاج على ¬
القول الرابع
المخالف بأصل مختلف فيه؛ لأن المخالف قد يعكس القياس فيقول: إذا صح تعليق الوقف على شرط كما في أحد القولين صح تعليق الوقف على الموت، ولهذا قال ابن القيم: "الصحيح صحة تعليق الوقف بالشرط نص عليه في رواية الميموني في تعليقه بالموت، وسائر التعليق في معناه، ولا فرق البتة، ولهذا طرده أبو الخطاب، وقال: لا يصح تعليقه بالموت، والصواب طرد النص، وأنه يصح تعليقه بالموت وغيره" (¬1). على أنه قد يقال: إن هناك فرقًا بين تعليق الوقف في حال الحياة، وتعليق الوقف على الموت، فما كان في الحياة كان وقفًا لازمًا بخلاف ما كان معلقًا بالموت، فإنه ليس بلازم على الصحيح؛ لأنه وصية، وله الرجوع عنه ببيعه، والتصرف فيه حال حياته، وإذا مات كان في الثلث، إلا أن يجيز الورثة، وتصح الوصية بالمجهول، والمعدوم، وللمجهول، والحمل وغير ذلك، وهذه فروق تجعل قياس الوصية على الوقف قد لا يصح، كما أن عقد الوصية عقد لا يقع إلا معلقًا بخلاف الوقف. القول الرابع: ذهب المالكية، وبعض الحنابلة، إلى أن صيغة الوقف تقبل التعليق، وليس التجيز شرطًا في صحة الوقف، وعليه فيصح تعليقه بالموت، ويكون وقفا وليس وصية (¬2). ¬
الراجح
جاء في شرح الخرشي: "الوقف لا يشترط فيه التنجيز، بل يصح إذا كان لأجل كالعتق" (¬1). وقال ابن القيم: "الصواب صحة تعليق الوقف بالشرط، نص عليه في رواية الميموني في تعليقه يالموت، وسائر التعليق في معناه، ولا فرق البتة، ولهذا طرده أبو الخطاب، وقال: لا يصح تعليقه بالموت، والصواب طرد النص، وأنه يصح تعليقه بالموت وغيره، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد، وهو مذهب مالك، ولا يعرف عن أحمد نص على عدم صحته، وإنما عدم الصحة قول القاضي وأصحابه. وفي المسألة وجه ثالث: أنه يصح تعليقه بشرط الموت، دون غيره من الشروط، وهذا اختيار الشيخ موفق الدين، وفرق بأن تعليقه بالموت وصية، والوصية أوسع من التصرف في الحياة، بدليل الوصية بالمجهول والمعدوم، والحمل. والصحيح الصحة مطلقًا، ولو كان تعليقة بالموت وصية لامتنع على الوارث" (¬2). وقد استدلوا على هذا القول بأدلة سوف نذكرها في مسألة تعليق الوقف في حال الحياة، فانظرها هناك مشكورًا. الراجح: صحة تعليق الوقف بالموت، ويكون وصية، فيصح بالثلث، ولا يصح بأكثر منه، ولا لوارث إلا بإجازة بقية الورثة، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس في اشتراط أن تكون الصيغة جازمة
الفصل الخامس في اشتراط أن تكون الصيغة جازمة المبحث الأول: الوعد بالوقف [م - 1490] أفتى العلماء بأن مجرد الوعد بالوقف لا يعتبر وقفًا، كما أن مجرد الوعد بالبيع، أو بالشراء لا يعتبر عقدًا. جاء في إعانة الطالبين: "يصح تعليقه بالموت، كإذا من فداري وقف على كذا، أو فقد وقفتها؛ إذ المعنى فاعلموا أني قد وقفتها بخلاف إذا من وقفتها، والفرق أن الأول إنشاء تعليق، والثاني تعليق إنشاء، وهو باطل؛ لأنه وعد محض" (¬1). فاعتبر قوله: إذا من وقفتها أن هذه الصيغة باطلة، وعلل بذلك أنه وعد محض، وليس تعليقًا للوقف على الموت. وقال الشيخ مصطفى الزرقا لايجب أنْ تشتمل صيغة الوقف على الشرائط التالية: أولًا - أن يكون فيها جزم بالعقد، فلا ينعقد الوقف بالوعد؛ ولا يكون الوعد فيها ملزمًا، كما لو قال الإنسان: سأقف أرضي أو داري هذه على الفقراء، أو على ذريتي بل يجب أن يقول: وقفتها ونحوه بصيغة دالة على الإرادة الجازمة" (¬2). ¬
المبحث الثاني الوقف المضاف إلى زمن مستقبل
المبحث الثاني الوقف المضاف إلى زمن مستقبل المضاف إلى وقت أو المعلق بالشرط عند وجوده كالمنجز (¬1). [م - 1491] اختلف الفقهاء في الوقف إذا كان مضافًا إلى المستقبل، كأن يقول: أرضي هذه وقف غدًا على قولين: القول الأول: الوقف يقبل الإضافة إلى المستقبل، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، واختاره ابن تيمية من الحنابلة (¬4). القول الثاني: لا يصح، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة (¬5). ¬
وعللوا الصحة
واستثنى الشافعية من ذلك لو قال: أرضي هذه مسجد، أو رباط، أو مقبرة، إذا جاء رمضان. وعللوا الصحة: بأن هذه الصيغة تضاهي تحرير الرقبة (العتق): أي تشبه العتق في انفكاك الوقف عن اختصاص الآدميين (¬1). وأدلة الخلاف في هذه المسألة هي أدلة المسألة السابقة نفسها؛ فالتعليق والإضافة إلى المستقبل كل منهما يخالف التنجيز، فإن رأى أن التجيز شرط في صيغة الوقف لم يقبل التعليق، ولا الإضافة إلى المستقبل. ومن رأى أن التنجيز ليس بشرط لم يمنع الأمرين، ولهذا أكثر الباحثين يذكرون المسألتين كمسألة واحدة، ولا يفرقونهما كمسألتين، ولولا أن الحنفية اختلف قولهم في المسألتين لجعلتهما مسألة واحدة، ولم أفرقهما. وكما رجحنا في المسألة السابقة بأن التنجيز لليس يشرط نرجحه في هذا الباب، والله أعلم. ¬
الفصل السادس في اشتراط أن تكون الصغية خالية من التوقيت
الفصل السادس في اشتراط أن تكون الصغية خالية من التوقيت توقيت الوقف لا يمنع من صحته قياسًا على توقيت الهبة في العمرى والرقبى. المطلق فيما يحتمل التأبيد بمنزلة المصرح بذكر التأبيد (¬1). [م - 1492] اختلف الفقهاء في صيغة الوقف هل يشترط أن تكون مؤبدة، أو يجوز توقيت الوقف؟ وعلى القول باشتراط التأبيد، هل يشترط أن ينص صراحة على التأبيد، أو يكفي أن تخلو صيغة الوقف من التوقيت؟ وإليك بيان هذا الاختلاف: القول الأول: التأبيد شرط لصحة الوقف، إلا أنه يكفي فيه أن تخلو صيغة الوقف من التوقيت، وهذا قول أبي يوسف من الحنفية، والمذهب عند الشافعية، والحنابلة، على خلاف بينهم فيما إذا وقت الوقف بمدة، هل يبطل الوقف، أو يصح الوقف ويلغى التوقيت؟ (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: التأبيد شرط، ولابد أن ينص صراحة عليه، وهذا قول محمد بن الحسن من الحنفية (¬1). القول الثالث: لا يشترط التأبيد، بل يصح أن تكون الصيغة مؤقتةً، وهذا مذهب المالكية، وقول في مذهب الشافعية، ووجه في مذهب الشافعية (¬2). جاء في المقنع: "وقفت داري سنة لم يصح، ويحتمل أن يصح، ويصرف بعدها مصرف المنقطع" (¬3). وجاء في الشرح الكبير على المقنع: "وإن قال وقفت داري سنة أو إلى يوم يقدم الحاج لم يصح في أحد الوجهين؛ لأن مقتضى الوقف التأبيد وهذا ينافيه. والوجه الآخر: يصح؛ لأنه منقطع الانتهاء، فهو كما لو وقف على منقطع الانتهاء" (¬4). دليل من قال: لا يصح التوقيت في الوقف: الدليل الأول: (ح -948) ما رواه البخاري من طريق نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن ¬
وجه الاستدلال
الخطاب أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخيبر، لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، فتصدق بها عمر، أنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث ... " (¬1). وجه الاستدلال: قوله: (حبست أصلها، وقوله: فتصدق بها عمر أنه لا يباع ولا يوهب، ولا يورث)، كل ذلك لا يفهم منه إلا التأبيد، ولو صح الوقف مؤقتًا لصح أن يباع بعد ذلك، وأن يوهب، وأن يورث. ونوقش هذا: بأن قوله: (لا يباع ولا يوهب ولا يورث) يحتمل أمرين: أحدهما: أن يقال: إن هذه اللفظة لا تدل على التأبيد، وإنما تدل على أن هذا هو حكم الوقف ما دام وقفًا، فإذا انتهى الوقف رجع إلى جواز بيعه، وهبته، وإرثه، كالوقف المنقطع، والتأبيد يستفاد إما لفظًا، بأن يقول: هذا وقف مؤبد، وإما معنى كما لو وقف على جهة لا تنقطع. الثاني: أن هذه الصيغة تستلزم التأبيد، لكنه في الوقف المطلق، فإذا قيدها بوقت معين كان له ذلك؛ لأنه تبرع مشروط بشرط، فوجب العمل بشرط المتبرع؛ فالوقف تبرع بالمنفعة أو بالغلة، وإذا جاز مؤبدًا جاز مؤقتًا؛ لأنه عمل من أعمال الخير، غاية ما فيه أن المؤبد أفضل، وأكثر أجرًا، وهذا لا يبطل الوقف. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح - 949) ما رواه مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (¬1). فالوقف إذا لم يرد به التأبيد لم يكن صدقة جارية. قال في المبدع: "القصد بالوقف: الصدقة الدائمة، لقوله -عليه السلام -: أو صدقة جارية" (¬2). ويناقش: بأن الوقف يكون صدقة جارية إذا كان على سبيل الدوام، وهذا ليس محلًا للنزاع، وإنما النزاع في اشتراط أن يكون الوقف صدقة دائمة، وهذا ليس مفهومًا من الحديث. وقد يكون المقصود بصدقة جارية جريان الأجر بعد الموت، ولو لم يكن على سبيل الدوام. الدليل الثالث: الوقف إزالة ملك، سواء فسرنا إزالة الملك بالإسقاط كالعتق، أو بالتمليك كالهبات، والعتق والهبات لا يصح فيهما الرجوع، فكذا الوقف (¬3). فإذا كان لا يصح توقيت العتق، والهبة، فكذلك لا يصح توقيت الوقف (¬4). ¬
ويناقش
ويناقش: بأن توقيت الهبة لا يمنع من صحتها، كالعمرى والرقبى على قول. الدليل الرابع: الإجماع الفعلي للصحابة، فقد وقف أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعائشة، وعمرو بن العاص، وابن الزبير، وجابر، وغيرهم (¬1)، فلم ينقل عن أحد منهم أنه رجع عن وقفه، أو تصرف فيه. قال الإِمام أحمد: "إذا كان في الوقف شيء من ذكر البيع فليس بوقف صحيح، وذلك أن أوقاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هي بتة بتلة، والشرط فيها ألا تباع، ولا توهب، فإذا دخلها البيع لم يصح" (¬2). ونوقش هذا: بأن ما نقل إلينا مين أوقاف الصحابة - رضي الله عنهم - إنما هو حكاية وقائع صدر الوقف فيها مؤبدًا، ولم ترد في معرض بيان أن التأبيد شرط لصحة الوقف، ولا دليل فيها على عدم جواز التوقيت، فالوقف من عمل الخير، يجوز مؤبدًا ومؤقتًا، والمؤبد أفضل من المؤقت، والأمر راجع إلى شرط المتبرع. الدليل الخامس: لو صح توقيت الوقف لتحول عقد الوقف إلى عارية، وهناك فرق بين الوقف وبين العارية. ¬
ويناقش
ويناقش: بأن العارية لا تمليك فيها البتة، وإن ملك المعار الانتفاع مدة الإعارة إلا أنه لا يملك المنفعة، ولذلك لا يحق له بيع المنفعة، ولا هبتها بخلاف الوقف فإن منفعة الوقف ملك للموقوف عليه مدة الوقف، لا يرجع فيها الواقف. دليل من قال: لا بد من النص على التأبيد: الدليل الأول: (ح - 950) ما رواه الدارقطني من طريق رواد بن الجراح، عن صدقة بن يزيد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، ما من مالي شيء أحب إلى من المائة وسق التي أطعمتنيها من خيبر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فاحبس أصلها، واجعل ثمرها صدقة، قال: فكتب عمر هذا الكتاب: من عمر بن الخطاب في ثمغ، والمائة الوسق التي أطعمنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أرض خيبر إني حبست أصلها وجعلت ثمرتها صدقة ... وفيه: لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، ما قامت السموات والأرض، جعل ذلك إلى ابنته حفصة، فإذا ماتت فإلى ذي الرأي من أهلها (¬1). وجه الاستدلال: قوله: (لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، ما قامت السماوات والأرض) فنص على ذكر التأبيد. ويناقش من وجهين: أحدهما: أن زيادة ما قامت السماوات والأرض زيادة منكرة، لم يروها عن ¬
عبيد الله بن عمر إلا صدقة، تفرد بها رواد، وكل من صدقة ورواد ضعيفان، وقد رواه سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن عمر، ولم يذكر هذه الزيادة، كما رواه جماعة عن نافع، ولم يذكروها (¬1). الوجه الثاني: على فرض أن تكون الزيادة محفوظة، فإن فعل عمر رضي الله لا يدل على الشرطية، غاية ما يدل عليه أن الوقف يصح مؤبدًا، وهذا ليس محلًا للنزاع، بل إن التأبيد هو الأصل حتى لو كانت صيغة الوقف مطلقة حملت على التأبيد، وإنما النزاع هو في جعل التأبيد شرطًا في الوقف، وهذا ما لا يدل عليه قول عمر - رضي الله عنه -، وهذا على التسليم بصحة الزيادة. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن الوقف صدقة بالمنفعة أو بالغلة، وهذا يكون مؤبدًا ومؤقتًا، فمطلقه لا ينصرف إلى التأبيد، لهذا كان لا بد من التنصيص على التأبيد. ونوقش هذا: بأن الوقف ليس صدقة مطلقة، ولو كان كذلك لم يكن هناك فرق بين الصدقة والوقف، فالوقف يعني تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، ومطلقه يدل على التأبيد دون حاجة إلى التنصيص عليه، المهم أن تكون الصيغة خالية عن التوقيت المنافي للتأبيد. دليل من قال: يجوز أن تكون الصيغة مؤقتة: الدليل الأول: الوقف صدقة من الصدقات، وفارق الصدقة باختصاص الوقف بالصدقة بالمنفعة دون الأصل، وهذا الفارق لا يوجب اشتراط التأبيد، فالصدقة تجوز أن تكون مؤبدة ومؤقتة، ولا يوجد دليل من كتاب أو سنة، أو إجماع يوجب أن تكون الصدقة مؤبدة، ولأنه إذا جاز للإنسان أن يتقرب بكل ماله وببعضه، جاز له أن يتقرب به في كل الزمان وفي بعضه. ونوقش هذا: هناك فرق بين أن يقف بعض ماله فيجوز، وبين أن يقف في بعض الزمان فلا يجوز؛ لأنه ليس في وقف بعض ماله رجوع في الوقف، وفي وقفه في بعض الزمان رجوع في الوقف.
ورد هذا
ورد هذا: بأن الوقف المؤقت ليس رجوعًا في الوقف، وإنما هو إمضاء للوقف مدة معينة بالشرط، نعم يصدق عليه أنه رجوع في الوقف لو أنه وقفه لمدة شهر، وبعد مضي عشرة أيام أراد الرجوع، وفرق بين الرجوع في الصدقة، وبين إمضاء الصدقة مدة معينة بالشرط. الدليل الثاني: قياس جواز توقيت الوقف على جواز اشتراط الواقف توقيت انتفاع الموقوف عليه بالعين الموقوفة، فإذا جاز للواقف أن يقيد بالشرط مدة انتفاع الموقوف عليه بالغلة، جاز بالضرورة تقييد الوقف بمدة. ونوقش هذا: بأن تقييد انتفاع الموقوف عليه بالعين الموقوفة لا يخل باشتراط التأبيد في الوقف، بخلاف توقيت الوقف، والله أعلم. الراجح: جواز توقيت الوقف بمدة معينة؛ لأنه بر وإحسان، ولا ينبغي أن يتشدد في شروطه، ولا مفسدة في توقيت الوقف، وكل ما لا مفسدة فيه يجب التوسعة فيه خاصة إذا كان من أعمال الخير كالوقف، والإنسان قد يكون عنده قطعة أرض لا يحتاجها مدة معينة فيتصدق بغلتها هذه المدة، فما هي المفسدة في ذلك حتى تمنع؟! والله أعلم.
الباب الثالث في أحكام الموقوف
الباب الثالث في أحكام الموقوف الفصل الأول في شروط الموقوف الشرط الأول في اشتراط أن يكون الموقوف مالًا يصح وقف كل ما يباح الانتفاع به مع بقاء أصله (¬1). [م - 1493] يشترط في الموقوف أن يكون مالًا، زاد الحنفية: متقومًا (¬2). وهذه الزيادة عند الحنفية راجعة إلى الخلاف بين الحنفية والجمهور في تعريف المال في الاصطلاح: فالجمهور يشترطون في الشيء حتى يكون مالًا أن يكون الانتفاع به مباحًا، فالشيء إذا لم يكن مما يباح الانتفاع به شرعًا فليس بمال أصلًا. ¬
جاء في الأوسط: " كل ما لا ينتفع به فليس بمال، سواء كان ذلك لتحريمه كالخمر، أو لقلته كحبة الأرز، أو لخسته كبعض الحشرات" (¬1). وقال ابن عبد البر: كل ما تملك وتمول فهو مال (¬2). وأما الحنفية فلا يشترطون في المالية إباحة الانتفاع، وهذا الذي دفعهم إلى تقسيم المال إلى متقوم وغير متقوم، ليخرجوا المال غير المتقوم أن يكون محلًا للوقف، أو للتعاقد، نظرًا لعدم تقويمه. يقول ابن عابدين في حاشيته: "المال أعم من المتقوم (¬3) لأن المال ما يمكن ادخاره، ولو غير مباح كالخمر، والمتقوم ما يمكن ادخاره مع الإباحة، فالخمر مال لا متقوم ... " (¬4). وقال أيضًا: "فما يباح بلا تمول لا يكون مالًا كحبة حنطة، وما يتمول بلا إباحة انتفاع لا يكون متقومًا كالخمر وإذا عدم الأمران لم يثبت واحد منهما كالدم .. " (¬5). وعلى هذا يشترط عند الجمهور فيما يصح وقفه أن يكون مالًا. وعند الحنفية يشترط أن يكون متمولًا مع إباحة الانتفاع، فإذا تمول كان ما لًا، وإذا أبيح انتفاعه كان متقومًا، ولهذا قالوا: يشترط أن يكون مالًا متقومًا: وهو معنى قولنا: أن يكون متمولًا يباح الانتفاع به. ¬
ولم ير الجمهور حاجة إلى اشتراط أن يكون متقومًا؛ لأن ما ليس بمتقوم لا يعتبر مالًا. والخلاف خلاف اصطلاحي، ولا مشاحاة في الاصطلاح، مع أنني أرى أن قول الجمهور أقرب للصواب، فلا حاجة إلى القول بأن الخمر مال غير متقوم، فإذا فقد قيمته شرعًا فقد ماليته، وسبق الكلام عن ذلك في عقد البيع عند الكلام على تعريف المال. وعلى هذا فإن القدر الذي لا يختلف الفقهاء في صحة وقفه أن يكون الموقوف معلومًا، مملوكًا، يباح الانتفاع به، مع بقاء أصله (¬1)، على خلاف بينهم في صحة وقف المنفعة، والمشاع، والمرهون، والمنقول من الأعيان كالسلاح، والنقود، والكلاب المعلمة، وسوف نتعرض لهذه المسائل إن شاء الله تعالى بالبحث في مباحا مستقله، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
الشرط الثاني في اشتراط أن يكون الموقوف مملوكا
الشرط الثاني في اشتراط أن يكون الموقوف مملوكًا الوقف إما إسقاط أو تمليك وكلاهما لا يصحان إلا من مالك. [م - 1494] يشترط لصحة الوقف أن يكون المال الموقوف مملوكًا (¬1). واحترز بهذا الشرط من أمرين: الأول: الأعيان التي لا تقبل التملك كالهواء. الثاني: الأعيان التي تقبل التملك، ولكن وقفها أحد قبل تملكها كالمباحات من أرض، وشجر، وماء. ولا أقصد بهذا الشرط الاحتراز من وقف الفضولي، فإن هذا الشرط سوف يناقش إن شاء الله تعالى في أحكام الواقف، وليس في أحكام الموقوف. وجه القول بهذا الشرط: أن حقيقة الوقف إما إسقاط كالعتق، وإما تمليك كالهبة، ولا يخرج الوقف عيط هذا التوصيف على الخلاف المتقدم، وكل من الإسقاط والتمليك فرع عن ثبوت الملكية للمال الموقوف، فالعتق، والهبة لا يتوجهان إلا لمال مملوك، وبناء عليه فلا يصح وقف الأموال التي لا تقبل الملكية كالهواء، أو الأعيان قبل تملكها، وإن كانت قابلة للتملك، كالمباحات قبل إحرازها، كالحطب قبل ¬
القول الأول
احتطابه، والماء في بئر غير مملوك قبل إحرازه، وحيوان الصيد قبل صيده، ونحو ذلك. قال النووي في بيان ما يصح وقفه، قال: "كل عين معينة مملوكة ملكًا يقبل النقل، يحصل منها فائدة أو منفعة ... فاحترزنا بالعين حق المنفعة ... وبالمملوكة عما لا يملك " (¬1). ويستثنى من هذا وقف السلطان لأراضي بيت المال، وأول من أحدث وقف أراضي بيت المال على جهات الخير نور الدين الشهيد صاحب دمشق، ثم صلاح الدين يوسف صاحب مصر لما استفتيا ابن أبي عصرون فأفتاهما بالجواز (¬2). [م - 1495] واختلف الفقهاء في توجيه القول بالصحة مع أن السلطان لا يملك بيت المال على قولين: القول الأول: أنه وقف حقيقي، والسلطان هو الواقف باعتباره وكيلًا عن المسلمين، فهو كوكيل الوقف، وبالتالي لا يصح الاعتراض على وقف السلطان، بأن من شرط صحة الوقف، أن يكون الوقف مملوكًا، والسلطان لا يملك ما وقفه، وهذا توجيه المالكية (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: أنه إرصاد، وإفراز من بيت المال على بعض مستحقيه، ليصلوا إليه بسهولة، لا أنه وقف حقيقي؛ إذ من شرط الوقف أن يكون مملوكًا للواقف، والسلطان ليس بمالك لذلك. وهذا توجيه الحنابلة (¬1). وثمرة الخلاف: أنه إذا كان وقفا لا يمكن الرجوع فيه، وإذا كان إفرازا أمكن الرجوع فيه، وتغييره، والله أعلم. ¬
الشرط الثالث في اشتراط أن يكون الموقوف عينا
الشرط الثالث في اشتراط أن يكون الموقوف عينًا المنفعة يصح تمليكها بعقد المعاوضة فيصح وقفها كالأعيان. [م - 1496] تطلق العين أحيانًا في مقابل الدين، وهذا غير مراد في هذا البحث. وتطلق العين أحيانًا في مقابل المنفعة، وهو المقصود هنا، فالمنفعة ليست عينًا، وإنما هي عرض، كالسكنى، والركوب، ونحوها. [م - 1497] وقد اتفق الفقهاء القائلون بمشروعية الوقف على صحة وقف الأعيان المنتفع بها على الدوام كالعقار (¬1)، واختلفوا في وقف المنفعة وحدها دون الرقبة لمن لا يملك العين على قولين: القول الأول: لا يصح، وهذا مذهب الجمهور (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يصح وقف المنفعة وحدها، فإن استأجر دارًا مدة معلومة، فإنه يجوز له أن يقف منفعتها في تلك المدة، وينقنحي الوقف بانقضائها، وهذا مذهب المالكية (¬1)، واختيار ابن تيمية من الحنابلة. قال ابن تيمية: "ولو وقف منفعة يملكها، كالعبد الموصى له بخدمته، أو منفعة أم ولده في حياته، أو منفعة العين المستأجرة فعلى ما ذكره أصحابنا: لا يصح. قال أبو العباس: وعندي هذا ليس فيه فقه، فإنه لا فرق بين هذا، ووقف البناء، والغرس، ولا فرق بين وقف ثوب على الفقراء يلبسونه، أو فرس يركبونه، أو ريحان يشمه أهل المسجد، وطيب الكعبة حكمه حكم كسوتها، فعلم أن الطيب منفعة مقصودة، لكن قد يطول بقاء مدة الطيب وقد يقصر، ولا أثر لذلك" (¬2). دليل الجمهور على اشتراط أن يكون عينًا: الدليل الأول: (ح - 951) ما رواه النسائي من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ¬
وجه الاستدلال
ابن عمر، قال: قال عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن المائة سهم التي لي بخيبر لم أصب مالًا قط أعجب إلي منها، قد أردت أن أتصدق بها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: احبس أصلها، وسبل ثمرتها. أصحيح، وهو في الصحيحين (¬1). وجه الاستدلال: لما كان الوقف عبارة عن تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة، لم يصح وقف المنفعة؛ لأن المنفعة لا يمكن تحبيسها؛ لأنها عرض يزول، فقبل وجود المنفعة هي في حكم المعدومة، وبعد الانتفاع بها تتلاشى وتفنى، والوقف إنما يراد به حبس العين على سبيل الدوام. قال ابن قدامة: "ولا يصح وقف ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، كالأثمان والمأكول، والمشروب، والشمع؛ لأنه لا يحصل تسبيل ثمرته مع بقائه" (¬2). ويناقش: بأن الحديث دليل على صحة وقف العين، ولا دليل فيه على منع صحة صحة وقف المنفعة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المراد بتحبيس الأصل: هو ¬
الدليل الثاني
المنع من التصرف في الأصل بالبيع، والهبة مدة الوقف، وهذا متحقق في وقف المنفعة، حيث يمنع مالك العين المستأجرة من التصرف في العين مدة وقف المنفعة. الدليل الثاني: أن تحبيس المنفعة وحدها يعني توقيت الوقف، ولو جاز التوقيت لجاز بيع الوقف، وهبته، وتوريثه. ويناقش هذا الكلام من وجوه: الوجه الأول: لا يلزم من وقف المنفعة التوقيت؛ لأن ملك المنفعة قد يكون مؤبدًا أيضا كما لو أوصي له بسكنى دار، أو خدمة عبد فهو لا يملك الدار ولا العبد، ولكن يملك منفعتهما على سبيل الدوام، فما المانع من صحة الوقف حينئذ، وسوف يأتينا إن شاء الله تعالى الوصية بالمنافع في كتاب الوصية، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه. الوجه الثاني: لا يوجد دليل يمنع من توقيت الوقف، وقد سبق مناقشة الخلاف في هذه المسألة في بحث مستقل، ولله الحمد. الوجه الثالث: بأن المنع من بيع الوقف حتى لا يؤدي إلى إبطال الوقف، ولذلك صح بيع الوقف إذا كان لا يؤدي إلى إبطاله كما في حال استبدال الوقف عند تعطل منافعه على الصحيح من أقوال أهل العلم، أما إذا كان البيع يبطل الوقف فهو ممنوع
دليل المالكية على صحة وقف المنفعة
سواء كان ذلك في وقف العين، أو وفي وقف المنفعة، فالوقف إن كان متوجهًا للأصل لم يصح بيعه، ولا هبتة، ولا توريثه؛ لأن التصرف في العين مبطل لوقفه، وإن كان الوقف متوجهًا للمنفعة فقط دون العين لم يصح التصرف بالعين مدة سريان وقف المنفعة؛ لأن التصرف في العين يبطل حق المستأجر في وقف المنفعة مدة ملكه لها، فإذا انتهت مدة الإجارة، وعادت العين إلى صاحبها صح له بيعها؛ لأن البيع حينئذ لم يؤد إلى إبطال وقف مالك المنفعة مدة ملكه لها، وهذا معنى القول بأن الوقف لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث: أي أنه يمنع من التصرف في الوقف بالبيع، والهبة مدة الوقف، وهذا متحقق في وقف المنفعة، حيث يمنع مالك العين المستأجرة من التصرف في العين مدة وقف المنفعة، والله أعلم. دليل المالكية على صحة وقف المنفعة: الدليل الأول: عدم الدليل المقتضي للبطلان، فلا يوجد دليل نقلي صريح بالمنع، والأصل صحة وقف المنفعة حتى يقوم دليل على البطلان. الدليل الثاني: الأصل في الوقف هو المنفعة، والعين تبع، ولذلك صح استبدال العين على الصحيح عند تعطل المنفعة، ولا يصح وقف ما لا منفعة فيه، كل ذلك يدل على أن المراد في الوقف المنفعة لا غير. الدليل الثالث: لا يوجد دليل على اشتراط التأبيد لصحة الوقف، والأصل عدم الاشتراط.
الدليل الرابع
الدليل الرابع: صحح العلماء الوصية بخدمة عبده، وسكنى داره مدة معلومة، وتبقى الرقبة ملكًا للورثة، والوقف مقيس عليه؛ بجامع أن كلا منهما عقد من عقود التبرع (¬1). قال ابن قدامة: "وإن أوصى بثمرة شجرة، أو بستان، أو غلة دار، أو خدمة عبد صح، سواء وصى بذلك في مدة معلومة، أو بجميع الثمرة، والمنفعة في الزمان كله، هذا قول الجمهور، منهم مالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وقال ابن أبي ليلى: لا تصح الوصية بالمنفعة؛ لأنها معدومة. ولنا أنه يصح تمليكها بعقد المعاوضة فتصح الوصية بها كالأعيان، ويعتبر خروج ذلك من ثلث المال" (¬2). ويناقش: بأن هناك فروقا بين الوقف والوصية، من ذلك: 1 - أن الوقف يلزم ولا يجوز الرجوع فيه في قول عامة أهل العلم لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعمر: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها فتصدَّقَ) (¬3). أما الوصية فإنه يجوز للوصي أن يرجع في جميع ما أوصى به، أو بعضه. 2 - الوقف تحبيس للأصل، فلا يملك الموقوف عليه أصل المال الموقوف، ¬
الراجح
وإنما يختص بمنفعته فقط، بينما الوصية تتناول العين الموصى بها، أو منفعتها للموصى له. 3 - أن الوقف عقد ناجز، فإذا قال الرجل: وقفت بيتي، فإنه يكون وقفًا في الحال، وتمليك منفعة الوقف يكون في حياة الواقف، وبعد مماته، وأما التمليك في الوصية فلا يظهر حكمة إلا بعد موت الموصي مصرًا على وصيته. 4 - الوقف لا حد لأكثره، بينما الوصية لا تتجاوز الثلث إلا بإجازة الورثة. 5 - الوقف يجوز لوارث، والوصية لا تجوز لوارث إلا بإجازة الورثة. الراجح: أن المنفعة يصح وقفها، ولا مفسدة في صحة ذلك، والوقف عقد من عقود التبرع يتسامح فيه بالشروط أكثر من غيره، والأصل في المعاملات الصحة والجواز، ولا يحرم منها شيء إلا لمعنى يقتضي التحريم، والمنع من وقف المنفعة تضييق بلا جلب مصلحة، ولا دفع مفسدة، وقد تكون عقود الإجارة أطول عمرًا من وقف الحيوان للجهاد، والطيب للمسجد ونحوهما.
الشرط الرابع في اشتراط أن يكون الموقوف معينا
الشرط الرابع في اشتراط أن يكون الموقوف معينًا [م - 1498] عرفنا من الفصل السابق خلاف الفقهاء في اشتراط أن يكون الموقوف عينا، فهل يشترط في الوقف أن يكون معينا؟ والفرق بين العين والمعين: أن العين في مقابل المنفعة. وأما المعين فإنه يقابله غير المعين، وهو يشمل شيئين: الأول: وقف ما في الذمة؛ لأن ما في الذمة غير معين. الثاني: وقف المبهم، كإحدى داريه، ونحوها. وسوف نبحث إن شاء الله تعالى خلاف الفقهاء في هاتين المسألتين.
المبحث الأول في وقف ما في الذمة
المبحث الأول في وقف ما في الذمة الوقف إسقاط، وما في الذمة يجوز إسقاطه. ما جاز بيعه جاز وقفه. [م - 1499] اختلف العلماء في وقف ما في الذمة قبل تعينه على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه يشترط في الموقوف أن يكون معينًا، فلا يصح عندهم وقف ما في الذمة. والعلة في المنع عند الحنفية: أنهم قد اشترطوا في الموقوف أن يكون مالًا متقومًا، والديون عندهم لا تعتبر مالًا ما دامت في الذمة حتى تحاز وتتعين، ومقتضى هذا القول أن ما في الذمة لا يصح وقفه (¬1). وعلل الشافعية والحنابلة المنع: بأن الوقف يقتضي إسقاط الملك عن العين الموقوفة، وما في الذمة لم يتعين حتى يتوجه الإسقاط إلى عينه، فلم يصح وقفه (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: جواز وقف ما في الذمة، وهو قول في مذهب المالكية (¬1). واحتجوا بأدلة منها: الدليل الأول: أن الوقف من باب الإسقاط، والإبراء، وإسقاط ما في الذمة جائز بالاتفاق. الدليل الثاني: أن ما في الذمة يجوز بيعه بمعين عند الأئمة الأربعة، وما جاز بيعه جاز وقفه. الدليل الثالث: أن الوقف من عقود التبرع، وليس من عقود المعاوضة، فهو بالهبة أشبه، وهذا ينبغي التسامح في الشروط فيه. الدليل الرابع: أن وقف ما في الذمة غاية ما فيه أنه يبقى الوقف معلقًا إلى أن يتعين بالإشارة، أو بالحيازة، وهذا لا يمنع من صحة الوقف فيه على الصحيح، حيث لم يشترط المالكية التنجيز في الوقف، وجوزوا الوقف المعلق، وهذا يعني جواز وقف ما في الذمة، وتعليقه على الحيازة، أو التعيين بالإشارة، وقد سبق بحث اشتراط التنجيز في الوقف في مسألة مستقلة، والحمد لله. ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: أن وقف النقود جائز في أصح أقوال أهل العلم، والراجح في النقود أنها لا تتعين بالتعيين، فيكون وقفها من باب وقف شيء غير معين. الدليل السادس: الدين مال معلوم قدرًا، وصفة، فلا جهالة فيه وكونه غير معين لا يمنع من صحة وقفه. يقول الشوكاني في السيل الجرار: "وأما قوله: (ولا يصح تعليق تعيينه في الذمة) فوجهه عدم استقرار ما وقع الوقف عليه، وليس مثل هذا ينبغي أن يكون مانعًا من الصحة" (¬1). ¬
المبحث الثاني في وقف المبهم
المبحث الثاني في وقف المبهم اشترط التعيين في عقود المعاوضة دفعًا للجهالة، والغبن، وهذا المعنى غير موجود في وقف المبهم. [م - 1500] إذا وقف الإنسان أحد داريه، فهل يصح الوقف؟ هذا الشرط يرجع إلى شرط سابق، وهو اشتراط أن يكون الموقوف معينًا. وقد اختلف العلماء في صحة الوقف إذا كان مبهمًا على قولين: القول الأول: لا يصح، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة (¬1). وجه القول بالمنع: الوجه الأول: إذا كان المبهم لا يصح بيعه، فكذلك لا يصح وقفه. ويجاب عن ذلك: بأن البيع عقد من عقود المعاوضة، وقد تكون قيمه مختلفة، بخلاف الوقف، فإنه من عقود التبرع، لا يدخله غبن، فيتسامح فيه ما لا يتسامح في البيع، ولهذا ¬
الوجه الثاني
لو كانت القيم متساوية صح البيع حتى في الأعيان المبهمة على الصحيح من أقوال أهل العلم. الوجه الثاني: بأن الوقف نقل ملك على وجه الصدقة، فلم تصح في غير معين كالهبة. ويناقش: بأن العلماء قد اختلفوا في صحة الهبة إذا كانت مبهمة، وإذا اختلفوا في الأصل لم يصح القياس عليه. الوجه الثالث: حكي الإجماع على وجوب التحديد والتعيين للوقف. قال المهلب: "إذا لم يكن الوقف معينًا، وكانت له مخاريف كثيرة، وأموال كثيرة، فلا يجوز الوقف إلا بالتحديد، والتعيين، ولا خلاف في هذا" (¬1). ويناقش: لو صح الإجماع لكان حجة، ومع ثبوت الخلاف لا يقوم الإجماع. القول الثاني: يصح وقف المبهم، اختاره الإِمام البخاري. قال البخاري في الصحيح: "باب إذا تصدق، أو وقف بعض ماله، أو بعض رقيقه، أو دوابه فهو جائز" (¬2). ¬
الراجح
فقوله (بعض رقيقه) أراد فيه صحة وقف المشاع، وقوله: (بعض دوابه) أراد فيه صحة وقف المبهم. قال الحافظ في الفتح: "وجه كونه يؤخذ منه وقف المشاع ووقف المنقول، هو من قوله: (أو بعض رقيقه، أو دوابه) فإنه يدخل فيه ما إذا وقف جزءًا من العبد، أو الدابة، أو وقف أحد عبديه، أو فرسيه مثلًا، فيصح كل ذلك عند من يجيز وقف المنقول، ويرجع إليه في التعيين" (¬1). وجاء في الاختيارات لابن تيمية: "قال في المحرر: ولا يصح وقف المجهول. قال أبو العباس: المجهول نوعان: مبهم، فهذا قريب. ومعين مثل دار لم يرها، فإنع هذا بعيد، وكذلك هبته ... ووقف المبهم مفرع على هبته وبيعه، وليس عن أحمد في هذا منع" (¬2). الراجح: الذي أميل إليه صحة وقف المبهم، ويرجع التعيين إلى إرادة الواقف، وإن شاء أقرع بينها، وإنما اشترط التعيين في عقود المعاوضة دفعًا للجهالة، والغبن، وليس هذا المعنى موجودًا في الوقف، والله أعلم. ¬
الشرط الخامس في اشتراط أن يكون الموقوف معلوما
الشرط الخامس في اشتراط أن يكون الموقوف معلومًا [م - 1501] تكلمنا في شرط سابق عن خلاف العلماء في اشتراط أن يكون الموقوف عينًا معينة، فإذا تعين الوقف، إلا أنه لم يعلم مقداره، كما لو وقف أرضًا لم يرها، ولم يعلم حدودها، فهذا يصدق على الوقف أنه معين، إلا أنه غير معلوم، وقد اختلف العلماء في صحة هذا الوقف على قولين: القول الأول: لا يصح، وهذا مذهب الحنابلة (¬1). وعللوا المنع: بأنه وقف مجهول. القول الثاني: إن كان المجهول معينًا صح استحسانًا، ولو لم يعلم مقداره، وإن كان غير معين لم يصح للجهالة، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، واختيار الإِمام البخاري، وابن تيمية (¬2). جاء في حاشية ابن عابدين: "لو وقف شيئًا من أرضه، ولم يسمه لا يصح، ولو بين بعد ذلك، وكذا لو قال: وقفت هذه الأرض أو هذه. ¬
نعم لو وقف جميع حصته من هذه الأرض، ولم يسم السهام جاز استحسانًا، ولو قال: وهو ثلث جميع الدار فإذا هو النصف كان الكل وقفًا ... أي كل النصف" (¬1). قال الشيخ مصطفى الزرقا: "لا يصح وقف الشيء المجهول، كما إذا قال الإنسان: وقفت شيئًا من مالي، أو حصة من داري هذه، ونحو ذلك. على أنه لو قال: وقفت جميع حصتي من هذه الأرض صح الوقف استحسانًا، وإن لم يذكر مقدارها؛ لأنها معينة في الواقع فيمكن معرفتها دون أن تؤدي إلى اختلاط، واشتباه، والجهالة المانعة إنما هي التي تورث التباسًا في محل الالتزام؛ إذ لا يمكن معه التنفيذ" (¬2). وصحح الشافعية وقف المشاع، وإن لم يعلم قدر حصته، وصفتها، وهذا ذهاب منهم إلى صحة وقف المجهول إذا كان معينًا؛ لأن الجهالة إذا اغتفرت في المشاع اغتفرت في غيره من باب أولى. جاء في نهاية المحتاج: "ويصح وقف عقار ... ومشاع وإن جهل قدر حصته أوصفتها" (¬3). وسوف يأتي إن شاء الله تعالى بحث وقف المشاع في مسألة مستقلة، أسأل الله العون والتوفيق. وترجم البخاري في صحيحه، فقال: "باب: إذا أوقف أرضا، ولم يبين ¬
الحدود فهو جائز، وكذلك الصدقة" (¬1). ونقل ابن بطال عن المهلب قوله: "إذا لم يبين الحدود في الوقف، فإنما يجوز إذا كان للأرض اسم معلوم يقع عليها، وتتعين به ... وأما إذا لم يكن الوقف معينًا، وكانت له مخاريف، وأموال كثيرة، فلا يجوز الوقف إلا بالتحديد، والتعيين، ولا خلاف في هذا" (¬2). وانتقده صاحب المتواري على أبواب البخاري قائلًا: "قوله: ولا خلاف، بل لا خلاف فيما أورده البخاري والله أعلم؛ لأنه إنما تعرض لجواز الوقف، ولقد ثبت أن الوقف على هذه الصورة لازم له، ولو استفتى من وقف بهذه الصيغة المنكرة لفظًا المتعين مقصودها نية، هل يجب عليه تنفيذ الوقف لألزمناه ذلك" (¬3). وجاء في الاختيارات لابن تيمية: "قال في المحرر: ولا يصح وقف المجهول. قال أبو العباس: المجهول نوعان: مبهم، فهذا قريب. ومعين مثل دار لم يرها، فإنع هذا بعيد، وكذلك هبته" (¬4). وهذا القول هو الصحيح، وأن الجهالة المؤثرة إذا كانت في عين الوقف، وأما الجهالة في مقدار الوقف فلا تضر؛ لأن الجهالة في عقود التبرع مغتفرة؛ ولأنه لا غبن فيها. ¬
قال شيخنا ابن عثيمين: "الراجح أنه يصح وقف المعين، وإن كان مجهولًا؛ لأنه تبرع محض إذا أمضاه الإنسان نفذ" (¬1). ¬
الشرط السادس في اشتراط أن يكون الموقوف عقارا
الشرط السادس في اشتراط أن يكون الموقوف عقارًا المبحث الأول في تعريف العقار والمنقول قسم الفقهاء الأموال بالنظر إلى إمكان نقله، وتحويله إلى قسمين: عقار، ومنقول. تعريف العقار: جاء في مجلة الأحكام العدلية: العقار: غير المنقول: ما لا يمكن نقله من محل لآخر كالدور، والأراضي مما يسمى بالعقار. والمنقول: هو الشيء الذي يمكن نقله من محل إلى آخر، ويشمل النقود، والعروض، والحيوانات والمكيلات، والموزونات (¬1). وفي مجلة الأحكام الشرعية: "العقار: هو الأرض وحدها، أو ما اتصل بها للقرار، كالدور، والبساتين. والمنقول: هو الشيء الذي يمكن نقله من محل إلى آخر" (¬2). [م - 1502] فالفقهاء متفقون على أن ما لا يمكن نقله، وتحويله من مكان إلى ¬
القول الأول
آخر يسمى عقارًا، وأن ما يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر مع بقاء صورته وهيئته منقول. [م - 1502] واختلفوا فيما يمكن نقله مع تغيير صورته عند النقل، كالبناء، والشجر، هل هو عقار، أو منقول؟ على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية إلى اعتباره من المنقولات إلا إذا كانا تابعين للأرض، فيسري عليهما حكم العقار بالتبعية (¬1). القول الثاني: ذهب الجمهور إلى اعتبار ذلك من العقار (¬2). الراجح: الراجح والله أعلم قول الجمهور، وهو أن العقار يشمل الأرض، وما اتصل بهامن بناء أوشجر. قال في مختار الصحاح: العقار بالفتح مخففًا: الأرض والضياع والنخل (¬3). وفي اللسان: العقار بالفتح: الضيعة، والنخل والأرض (¬4). ¬
المبحث الثاني خلاف العلماء في وقف المنقول
المبحث الثاني خلاف العلماء في وقف المنقول صحة وقف بعض المنقولات دليل على صحة وقف سائرها. تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة كما يصح في العقار يصح في المنقول. [م - 1503] أجمع الفقهاء بأن العقار يصح وقفه. قال المرداوي: وقف غير المنقول يصح بلا نزاع (¬1). [م - 1504] كما أجمعوا على صحة وقف المنقول تبعًا للعقار، قال الزيلعي: "وقف المنقول تبعا للعقار جائز بالإجماع" (¬2). [م - 1505] واختلفوا في وقف المال المنقول على أقوال: القول الأول: لا يصح وقفه، وهذا قول أبي حنيفة (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا فرق بين العقار والمنقول في باب الوقف، والجميع يصح وقفه، وهذا مدهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور في مدهب الحنابلة (¬3). ¬
القول الثالث
القول الثالث: يصح وقف السلاح، والكراع من المنقولات، وهذا مذهب أبي يوسف من الحنفية (¬1). القول الرابع: يصح وقف ما جرى العرف بوقفه، وهذا رأي محمد بن الحسن من الحنفية (¬2). وعرف الناس في وقف المنقول لا يتقيد بالقديم، فالحادث والقديم فيه سواء، فما جد التعارف على وقفه صح وققه وإن لم يكن قبله صحيحًا، وإذا تعارف الناس على وقف نوع من المنقولات في زمان، ثم ترك، لم يصح ما يوقف منه بعد زوال العرف، وإذا تعارفوا وقف نوع في بلد صح فيه دون غيره، فوقف القمح مثلًا غير متعارف عليه في الأقطار المصرية، فلا يصح، ووقف الدراهم والدنانير متعارف عليه في الديار الرومية فيصح فيها دون سواها (¬3). دليل من قال: يصح وقف المنقول: الدليل الأول: (ح -952) ما رواه البخاري من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصدقة، فقيل: منع ابن جميل، ¬
الدليل الثاني
وخالد بن الوليد، وعباس بن عبد المطلب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله، ورسوله، وأما خالد، فإنكم تظلمون خالدًا قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، وأما العباس بن عبد المطلب فعم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي عليه صدقة، ومثلها معها (¬1). قال الخطابي: "وفي الحديث دليل على جواز إحباس آلات الحروب من الدروع، والسيوف، والجحف، وقد يدخل فيها الخيل والإبل؛ لأنها كلها عتاد للجهاد، وعلى قياس ذلك الثياب، والبسط والفرش، ونحوها من الأشياء التي ينتفع بها مع بقاء أعيانها" (¬2). الدليل الثاني: (ح -953) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن حفص، حدثنا ابن المبارك، أخبرنا طلحة بن أبي سعيد، قال: سمعت سعيدًا المقبري يحدث، أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده، فإن شبعه، وريه، وروثه، وبوله في ميزانه يوم القيامة (¬3). قال الحافظ: "وستنبط منه جواز وقف غير الخيل من المنقولات .. " (¬4). الدليل الثالث: (ح -954) ما رواه البخاري من طريق سفيان، عن عمرو، عن الزهري، عن ¬
الدليل الرابع
مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال: كانت أموال بني النضير مما - أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل، ولا ركاب، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وكان ينفق على أهله نفقة سنته، ثم يجعل ما بقي في السلاح، والكراع عدة في سبيل الله (¬1). الدليل الرابع: (ح -955) ما رواه الشيخان من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي، فهو صدقة (¬2). وجه الاستدلال من الحديثين: قال ابن حجر في الفتح: "وفي حديث أبي هريرة دلالة على صحة وقف المنقولات، وأن الوقف لا يختص بالعقار؛ لعموم قوله: ما تركت بعد نفقة نسائي ... " (¬3). قلت: ولا يمكن حمل الصدقة على صدقة التطوع؛ لأن ذلك التصرف كما كان في حياته - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عمر، كان أيضًا بعد وفاته " - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي هريرة، وهذا لا يصدق إلا على صدقة الوقف؛ لأن الملكية تنقطع بالموت، والله أعلم. ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: أن حقيقة الوقف: هو تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، وهذا حاصل في المنقول، كما هو حاصل في العقار. الدليل السادس: أين الدليل على اشتراط التأبيد في العين الموقوفة، فوقف الماء للشرب جائز، مع أنه منقول، ومستهلك، فكذلك يصح وقف المنقول غير المستهلك من باب أولى. وعلى فرض أن يكون التأبيد شرطًا في العين الموقوفة، فإن التأبيد في كل عين بما يناسبها، فيكون معنى التأبيد فيه مقدرًا بمقدار بقائه، وينتهي الوقف بتلف المنقول. الدليل السابع: إذا كان وقف المنقول جائزا مع العقار بلا نزاع، فيصح وقفه وحده كذلك، ولا يصح الاعتراض على هذا بأن ما يجوز تبعا لا يجوز استقلالًا؛ لأن هذا يصح لو كان الأصل في الوقف المنع، فإذا كان الأصل في الوقف المشروعية، فما جاز تبعا جاز استقلالًا، والله أعلم. دليل من قال: لا يجوز وقف المنقول: الدليل الأول: ذكر الحنفية أن من شروط صحة الوقف التأبيد، والمنقول لا يتأبد؛ لكونه قابلًا للفناء، والزوال، فلا يجوز وقفه مقصودًا إلا إذا كان تابعًا للعقار (¬1). ¬
ويناقش
ويناقش: التأبيد في الموقوف ليس محل وفاق بين الفقهاء، وعلى التسليم بأن التأبيد شرط فإن تأبيد كل شيء بحسبه، وقد وقف السلاح، وهو منقول، وغيره مقيس عليه. الدليل الثاني:. أن وقف المنقول غير معروف، قال أحمد رحمه الله تعالى: "لا أعرف الوقف في المال، إنما الوقف في الدور والأرضين على ما وقف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ولا أعرف وقف المال البتة" (¬1). وقد ناقشت كلام الإِمام أحمد -رحمه الله- حين عرض الأقوال، وهل يدل كلام أحمد رحمه الله على عدم وقف الدراهم والدنانير على منع وقف كل منقول؟ وقد أذن الإِمام أحمد في وقف المصحف والسلاح والحيوان في الوقت الذي ينهى عن وقف الدراهم والدنانير. دليل أبي يوسف على جواز وقف السلاح والكراع خاصة. الدليل الأول: (ح -956) ما رواه البخاري من طريق سفيان، عن عمرو، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل، ولا ¬
وجه الاستدلال
ركاب، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وكان ينفق على أهله نفقة سنته، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله (¬1). والكراع: اسم يجمع الخيل، وقيل: اسم يجمع الخيل والسلاح. والسلاح: اسم جامع لآلة الحرب (¬2). وجه الاستدلال: قال في "البحر الرائق" وأما ما سوى الكراع، والسلاح، فعند أبي يوسف لا يجوز وقفه؛ لأن القياس إنما يترك بالنص، والنص ورد فيهما فيقتصر عليه" (¬3). ويناقش: بأن الحديث دليل على جواز الوقف في السلاح، والكراع، ومقتضاه جواز الوقف في كل مال منقول قياسًا عليهما، ولا دليل فيه على اختصاص الوقف في السلاح والكراع من المنقولات. الدليل الثاني: (ث -180) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: قال علي: لا حبس عن فرائض الله إلا ما كان من سلاح أو كراع (¬4) [صحيح]. ¬
ويجاب عن ذلك
ويجاب عن ذلك: أن النفي في أثر الإِمام علي بن أبي طالب، لا حبس إلا ما كان من سلاح، أو كراع، لا يمكن حمله على نفي الصحة، بدليل أنكم ترون جواز الوقف في العقار، بل حكي ذلك إجماعًا، فتعين حمل النفي على الكمال: أي لا حبس أفضل من السلاح، والكراع، بدليل أن عليًا - رضي الله عنه - قد ثبت عنه الوقف في غير السلاح، والكراع كما ذكرناه عنه في حكم الوقف، وإذا حمل النفي على الكمال دل على جواز وقف المنقول في غير السلاح، والكراع، والله أعلم. الدليل الثالث: (ث - 181) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن رجل، عن القاسم: قال: قال عبد الله: لا حبس إلا في كراع أو سلاح. [ضعيف] (¬1). ويجاب عن أثر ابن مسعود على فرض ثبوته بما أجيب به الأثر، عن الإِمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. دليل محمَّد بن الحسن على جواز وقف المنقول إذا جرى بذلك العمل. إذا جرى العمل بشيء قدم على القياس، كما جاز الاستصناع، مع أنه بيع ما ليس عند البائع (¬2). الراجح: جواز وقف كل مال مشتمل على منفعة سواء كان عقارًا، أو منقولًا. ¬
المبحث الثالث في وقف البناء دون الأرض
المبحث الثالث في وقف البناء دون الأرض [م - 1506] إذا كان البناء، والغراس لرجل، والأرض لآخر، فإن وقف هذا أرضه، وهذا بناءه صح. قال النووي: بلا خلاف (¬1). وإن وقف مالك البناء والغرس ولم يوقف مالك الأرض أرضه، فقد اختلف العلماء في صحة الوقف على قولين: القول الأول: لا يصح، وهو مذهب الحنفية، وقول مرجوح في مذهب الشافعية، إلا أن الحنفية صححوا وقف البناء والغرس إذا قام على أرض معدة للاحتكار، فيصح وقف ما بني أو غرس عليها. جاء في الفتاوى الهندية: "وإذا غرس شجرة، ووقفها بموضعها من الأرض صح تبعًا للأرض بحكم الاتصال، وإن وقفها دون أصلها لا يصح، وإن كانت في أرض موقوفة فوقفها على تلك الجهة جاز، كما في البناء، وإن وقفها على جهة أخرى فعلى الاختلاف" (¬2). وعلل الحنفية المنع بعلتين: الأولى: أنه منقول. ¬
القول الثاني
الثانية: أنه غير متعارف عليه. جاء في البحر الرائق نقلًا من الذخيرة: "وقف البناء من غير وقف الأصل لم يجز، وهو الصحيح؛ لأنه منقول، ووقفه غير متعارف" (¬1). القول الثاني: يصح، وهو قول في مذهب الحنفية، والأصح في مذهب الشافعية، ومذهب الحنابلة. وهو مقتضى مذهب المالكية؛ لأن وقف البناء والغراس مدة الإجارة يدخل في الوقف المؤقت المنقول، والمالكية يجيزون ذلك (¬2). علل بعض الحنفية القائلين بالجواز: بأن علة المنع في المذهب من وقف البناء دون الأرض كونه منقولًا، وغير متعارف على وقفه، كما نقله صاحب البحر الرائق عن الذخيرة. جاء في البحر الرائق: "وقف البناء من غير وقف الأصل لم يجز، وهو الصحيح؛ لأنه منقول، ووقفه غير متعارف" (¬3). وإذا كان هذا هو علة المنع فإن نصوص المذهب على جواز وقف المنقول إذا تعارف الناس على وقفه. قال العلامة عبد البر بن الشحنة كما في حاشية ابن عابدين: "إن الناس من ¬
وأجيب عن هذا
زمن قديم نحو مائتي سنة وإلى الآن على جوازه، والأحكام به من القضاة العلماء متواترة، والعرف جار به، فلا ينبغي أن يتوقف فيه" (¬1). وأجيب عن هذا: لم يقبل العلامة قاسم هذا التوجيه، وقال: "يحتمل هذا المنع أن يكون لا لعدم التعارف، بل لأن غير المنقولات تبقى بنفسها هدة طويلة فتكون متأبدة، بخلاف البناء، فإنه لا بقاء له بدون الأرض، فلا يتم التخريج، فثبت أنه باطل بالاتفاق، والحكم به باطل" (¬2). ورد على هذا: قال ابن عابدين: "لا يخفى عليك أن المفتى به، الذي عليه المتون، جواز وقف المنقول المتعارف، وحيث صار وقف البناء متعارفًا، كان جوازه موافقًا للمنقول، ولم يخالف نصوص المذهب على عدم جوازه؛ لأنها مبنية على أنه لم يكن متعارفًا كما دل عليه كلام الذخيرة" (¬3). هذا في ما يتعلق بكلام الحنفية، وأما نصوص الشافعية، فقد جاء في روضة الطالبين: "استأجر أرضًا، ليبني فيها، أو يغرس، ففعل، ثم وقف البناء والغراس، صح على الأصح" (¬4). ¬
الراجح
وصحح الحنابلة الوقف إلا أنهم قالوا: إن المالك مخير بين ثلاثة أمور: أخذه بقيمته، أو تركه بالأجرة، أو قلعه، وضمان نقصه، وكل ما يؤخذ قيمة للبناء، والغراس، أو ضمانا لنقصه يشترى به ما يكون وقفًا (¬1). الراجح: جواز وقف البناء دون الأرض؛ لأن البناء إن كان منقولًا فالراجح صحة وقف المنقول، وإن كان غير منقول، فالراجح أيضًا صحة وقفه، وإذا صح وقف المشاع كما سيأتي، فهذا من باب أولى، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في وقف النقود
المبحث الرابع في وقف النقود بحث وقف النقود يدخل تحت أكثر من عنوان، فإن شئت أدرجت هذا البحث تحت عنوان وقف المنقول باعتبار النقود من المنقولات، وإن شئت أدرجت هذا البحث تحت عنوان: اشتراط التأبيد في الأعيان الموقوفة، باعتبار أن النقود تتلف بالاستعمال، كما يصح بحث وقف النقود تحت عنوان: وقف ما لا تصح إجارته، والذي يهم القارئ هو بحث وقف النقود تحت أي عنوان من هذه العناوين. والفائدة من هذا التنبيه: هو معرفة مظان بحث هذه المسألة عند البحث عن كلام العلماء في كتب الفقه، والله أعلم.
الفرع الأول في تعريف النقود
الفرع الأول في تعريف النقود تعريف النقد اصطلاحًا (¬1): حقيقة النقد: هو كل شيء يجري اعتباره في العرف والعادة، ويلقى قبولًا عامًا كوسيط للتبادل. قال ابن تيمية -رحمه الله -: "وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي، ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارًا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها، ولهذا كانت أثمانًا بخلاف سائر الأموال، فإن المقصود بها الانتفاع بها بنفسها، فلهذا كانت مقدرة بالأمور ¬
المطبعية، أو الشرعية، والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض، لا بمادتها، ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت" (¬1). وجاء في المدونة "لو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة، وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة" (¬2). ¬
الفرع الثاني خلاف العلماء في وقف النقود
الفرع الثاني خلاف العلماء في وقف النقود صحة وقف السلاح والكراع من أجل الجهاد دليل على صحة وقوف النقود. [م - 1507] اختلف العلماء في صحة وقف النقود: الدراهم والدنانير، ويدخل فيها المطعوم والشمع، وكل عين تكون منفعتها باستهلاكها على قولين: القول الأول: لا يصح، اختاره ابن شاس، وابن الحاجب من المالكية (¬1)، وهو أصح القولين في مذهب الشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3)، وهو مقتضى قول أبي حنيفة وأبي يوسف حيث منعا من وقف المنقول (¬4). القول الثاني: يصح وقفها مع الكراهة، وهو قول عند المالكية (¬5). القول الثالث: يصح وقفها، وهو مذهب المالكية (¬6)، وأحد الوجهين في مذهب ¬
واختلف العلماء في كيفية وقفها
الشافعية (¬1)، ووجه في مذهب الحنابلة، رجحه ابن تيمية (¬2)، وهو مقتضى قول محمد بن الحسن، حيث يرى أن المنقول إذا جرى التعامل بوقفه صح وقفه (¬3). قال في الاختيار: والفتوى على قول محمد؛ لحاجة الناس، وتعاملهم بذلك (¬4). واختلف العلماء في كيفية وقفها: فقيل: وقفها بإقراضها، وينزل رد بدل القرض منزلة بقاء العين، فإن أوقفها للإنفاق والتزين لم يصح، وهو المنصوص عن الإِمام مالك (¬5)، ورواية الأنصاري عن الإِمام زفر (¬6). وقيل: وقفها بإقراضها، وكذا بأن تدفع مضاربة إلى من يعمل بها، ثم يتصدق بالربح في الوجه الذي وقفت عليه، وهذا مروي عن زفر من الحنفية (¬7). وقيل: وقفها يكون للتحلي، والوزن، دون الإنفاق، بناء على صحة إجارتها، ¬
سبب الخلاف بين الفقهاء في وقف النقود والمطعوم
وهو قول مرجوح في مذهب الشافعية، ووجه في مذهب الحنابلة، فإن وقفها، وأطلق بطل الوقف عند الحنابلة (¬1). سبب الخلاف بين الفقهاء في وقف النقود والمطعوم: يرجع الخلاف في وقفها إلى الخلاف في مسألتين: المسألة الأولى: اشتراط التأبيد في الأعيان الموقوفة، فإن قال: يشترط في الوقف التأبيد كالجمهور قال: لا يصح وقف النقود، وكذا المطعوم؛ لأن ما لا يتأبد لا يصح وقفه. ومن قال: لا يشترط في الوقف التأبيد لم يمنع من وقف النقود، والطعام، كالمالكية. وقد سبق بحسب اشتراط التأبيد، ولله الحمد. المسألة الثانية: الخلاف في وقف الأعيان التي لا يمكن الانتفاع بها إلا بإتلافها، باعتبار أن حقيقة الوقف: هو عبارة عن تحبيس الأصل، وتسييل المنفعة، فرقًا بين الوقف، وبين الصدقة المطلقة. والنقود، والطعام لا يمكن الوصول إلى منفعتها إلا باستهلاك أصلها، فإن ثم وقع الخلاف في وقف النقود، والطعام، وكيفيته، إذا قيل بالصحة. وإذا عرفنا سبب الخلاف نأتي على ذكر الأدلة على وجه التفصيل: ¬
دليل من قال: لا يصح وقف النقود والطعام
دليل من قال: لا يصح وقف النقود والطعام: الدليل الأول: ذكر الحنفية أن من شروط صحة الوقف التأبيد، والنقود والطعام كسائر المنقولات لا تتأبد؛ لكونها قابلة للفناء، والزوال، وقد استثنينا السلاح، والكراع؛ لورود النص فيهما، والقياس يترك للنص، وبقي ما عداهما على المنع (¬1). قال أحمد رحمه الله تعالى: "لا أعرف الوقف في المال، إنما الوقف في الدور والأرضين على ما وقف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ولا أعرف وقف المال البتة" (¬2). ونوقش هذا الدليل من وجهين: الوجه الأول: إن كان المقصود من اشتراط التأبيد هو قصر الوقف على العقار فقط، ومنع الوقف في المنقول فقد ناقشت هذه المسألة في بحث مستقل، وقدمت الأدلة على صحة وقف المنقول، ويدخل فيها النقود، والطعام باعتبارها أعيانًا منقولة، ويكفي في ضعف هذا الشرط صحة النصوص في وقف السلاح، والكراع في سبيل الله، فإن ورود الوقف في هذه المنقولات يؤخذ منه فائدتان: إحداها: جواز وقف السلاح والكراع دليل على ضعف هذا الشرط. ¬
الوجه الثاني
ثانيتهما: اعتبار النصوص الدالة على وقف السلاح والكراع أصل بذاتها، فيقاس عليها غيرها من سائر المنقولات. وإن كان المقصود من اشتراط التأبيد ألا ينقطع مصرف الوقف بحيث ينتقل من بطن إلى آخر حتى ينتقل في آخر الأمر إلى جهة لا تنقطع، كالفقراء، والمساكين، فهذه مسألة أخرى سوف نتعرض لها بالبحث إن شاء الله تعالى في مسألة مستقلة، أسأل الله العون والتوفيق. الوجه الثاني: على فرض أن التأبيد شرط في صحة الوقف، فإن محمد بن الحسن يصحح وقف المنقول إذا جرى به التعامل وتعارف الناس على وقفه، كما قاله في السلاح والكراع (¬1). قال ابن عابدين: "لا يخفى عليك أن المفتى به الذي عليه المتون جواز وقف المنقول المتعارف" (¬2). وقد صحح العلماء وقف الماء مع أنه منقول، ويفلك بالاستهلاك، فالنقود مثله، بل أولى، فإن النقود مال بالأصالة، والماء مال بالتقويم والحيازة. ورد على هذا: بأن العرف معتبر في الموضع، أو الزمان الذي جرى فيه، ووقف النقود كان موجودًا في الدولة الرومية فقط، فلا يصح وقفها في البلاد الأخرى. ¬
ويجاب
قال ابن عابدين: "الظاهر اعتبار العرف في الموضع أو الزمان الذي اشتهر فيه دون غيره، فوقف الدراهم متعارف في بلاد الروم دون بلادنا، ووقف الفأس والقدوم كان متعارفًا في زمن المتقدمين، ولم نسمع به في زماننا، فالظاهر أنه لا يصح الآن، ولئن وجد نادرًا لا يعتبر؛ لما علمت من أن التعامل هو الأكثر استعمالًا فتأمل" (¬1). ويجاب: بأننا إذا لم نصحح الوقف في النقود والطعام لجريان التعامل قلنا بالصحة لمقتضى القياس على النصوص الدالة على صحة وقف المنقول من سلاح، وكراع، والقياس دليل لم يخالف فيه إلا الظاهرية، وقولهم شاذ، بينما القول باعتبار العمل دليلًا شرعيًا، خاصة عمل ما بعد الصحابة، ولو في بعض البلاد الإِسلامية لم يقل به إلا الحنفية، وهو قول ضعيف، وعمل الناس ينبغي أن يعرض على الشرع، لا أن يعرض الشرع على عمل الناس، وكيف يكون الشيء في بلد حلالًا، وفي آخر حرامًا، وذات الشيء واحدة، أليس هذا مدعاة لاضطراب الأحكام. الدليل الثاني: أن الوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وكيف يتصور حبس النقود والطعام، إذا كانت منفعتهما هي الثمنية والأكل، وهاتان المنفعتان لا يمكن تحصيلهما إلا باستهلاك أصلهما. ¬
وأجيب
قال ابن قدامة: "ولا يصح وقف ما لا ينتفع به مع بقاء عينه كالأثمان، والمأكول، والمشروب، والشمع؛ لأنه لا يحصل تسبيل ثمرته مع بقائه" (¬1). وقال أيضًا: "أن ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، كالدنانير، والدراهم، والمطعوم، والمشروب، والشمع، وأشباهه لا يصح وقفه في قول عامة الفقهاء، وأهل العلم، إلا شيئًا يحكى عن مالك، والأوزاعي في وقف الطعام ... " (¬2). وأجيب: بأن وقف النقود، والطعام يكون على أكثر من طريقة، فإن كان وقفها لإقراضها، فإن بدل القرض يقوم مقام بقاء العين. قال ابن عابدين: "إن الدراهم لا تتعين بالتعيين فهي وإن كانت لا ينتفع بها مع بقاء عينها لكن بدلها يقوم مقامها لعدم تعيينها فكأنها باقية" (¬3). وإن كان وقف النقود يكون للمضاربة بها، وصرف ربحها على الموقوف عليه فإن رأس مال المضاربة يكون بمنزلة الأصل، والربح بمنزلة الثمرة، ومثله يقال في المضاربة بالطعام فإن الصحيح جواز المضاربة بالعروض مثليًا كان، أو متقومًا بعد تقويمه، والله أعلم. دليل من قال: يكره وقف النقود والطعام: لا أعلم دليلًا يقتضي كراهة وقف النقود، ولعل مأخذ القائلين بالكراهة هو ¬
دليل من قال: يصح وقف النقود
طلب الخروج من الخلاف، فإن كان هذا هو دليلهم فهو دليل ضعيف؛ لأن الكراهة دليل شرعي يقوم على دليل شرعي، والخروج من الخلاف ليس من أدلة الشرع، لا المتفق عليها، ولا المختلف فيها، والخروج من الخلاف عند من يقول به في بعض المسائل، لا يؤدي إلى إحداث قول قائم برأسه، وإنما يكون الخروج من الخلاف في مسألة يكون الخلاف قويًا، ويمكن الجمع بين القولين احتياطًا، كما لو اختلف الناس في وجوب شيء واستحبابه، فإن فعله يكون خروجًا من الخلاف، أما إذا كان فعله يدور بين الصحة والبطلان لا تكون الكراهة خروجًا من القول بالبطلان، والله أعلم. دليل من قال: يصح وقف النقود: الدليل الأول: الوقف من عقود التبرع، ويراد للإرفاق والإحسان، والأصل فيه الجواز، والصحة، سواء تبرع المالك بالمال أصلًا وعينًا، كالصدقات، والهبات، أو تبرع بمنفعة المال، وحبس أصله كالوقف، ولا يمنع منه شيء إلا لدليل من الشرع، أو معنى يقتضي المنع، ولا دليل من الشرع يمنع من صحة وقف النقود، وسائر المنقولات، ولا يوجد معنى يقتضي المنع حتى يقال به، فكان القول بالصحة هو مقتضى القواعد. الدليل الثاني: الأدلة العامة الدالة على مشروعية الوقف، فإن هذه النصوص تشمل النقود، كما تشمل غيرها من سائر الأموال الثابتة، والمنقولة، ولا يوجد دليل من كتاب، ولا سنة يخصص هذه النصوص، أو يقيدها بالثابت دون المنقول، ولا
واعترض على هذا
بالدائم دون المستهلك، والأصل أن الدليل العام يبقى على عمومه، والمطلق على إطلاقه، حتى يرد دليل من الشرع يقتضي التخصيص، أو التقييد، ولا يجوز تخصيص العام، أو تقييد المطلق بالرأي المحض، والله أعلم. واعترض على هذا: بأننا لا نسلم أن وقف النقود يدخل في عموم أدلة مشروعية الوقف، فكان الواجب الاقتصار على مورد النص. ويرد هذا الاعتراض: ليس الأصل في الوقف المنع حتى يقال: يجب الاقتصار على مورد النص، وإذا كان البيع الأصل فيه الجواز، والصحة، وهو قائم على المعاوضة، فما بالك بالوقف القائم على التبرع، والإحسان، فكل من منع معاملة من المعاملات المالية، فإنه مطالب بالحجة والبرهان على هذا المنع، وليس العكس. الدليل الثاني: قياس وقف النقود على النصوص الدالة على صحة وقف المنقول من سلاح، وكراع، بجامع أن كلًا منها مال منقول. ونوقش هذا: لا يصح قياس وقف النقود على وقف السلاح، والكراع؛ لأن المعنى الموجود في السلاح، والكراع لا يوجد في النقود. جاء في فتح القدير: "حكم الوقف الشرعي التأبيد، ولا يتأبد غير العقار، غير أنه ترك في الجهاد؛ لأنه سنام الدين، فكان معنى القربة فيهما أقوى، فلا يلزم
ورد هذا الاعتراض
من شرعية الوقف فيهما، شرعيته فيما هو دونهما، ولا يلحق دلالة أيضًا؛ لأنه ليس في معناهما" (¬1). ورد هذا الاعتراض: بأن الكلام هذا مبني على مقدمتين ونتيجة: المقدمة الأولى: حكم الوقف الشرعي التأبيد، ولا يتأبد غير العقار. المقدمة الثانية: استثني وقف السلاح، والكراع، وإن كان منقولًا لا يتأبد من أجل مصلحة الجهاد. النتيجة: لا يلزم من صحة الوقف في السلاح والكراع صحة الوقف في سائر المنقولات، ومنها النقود. فيجاب: بأن القول بأن حكم الوقف الشرعي التأبيد هذه دعوى في محل النزاع، فأين البرهان على هذه الدعوى حتى يصح أن يقال: إن مقتضى القياس المنع من وقف السلاح والكراع، وإنما ترك هذا من أجل مصلحة الجهاد، فلم تصح المقدمة الأولى حتى تصح المقدمة الثانية، وإذا لم تصح المقدمات لم تصح النتائج. فلو عكس أحد هذا، فقال: إن كان وقف السلاح، والكراع صحيحًا من أجل الجهاد، دل على صحة وقف النقود؛ لأن حاجة الجهاد إلى المال، لا تقل عن حاجة الجهاد إلى السلاح، والكراع، فالله سبحانه وتعالى ذكر في الجهاد نوعين منه: الجهاد بالمال، والجهاد بالنفس، وكان يقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس ¬
الدليل الثالث
في أكثر الآيات القرآنية، فلو كانت الحاجة هي التي أباحت الوقف في السلاح، والكراع فهي قائمة في النقود. وإن كان وقف السلاح، والكراع صحيحًا من أجل أنه مال ينتفع به، فهذا المعنى موجود في النقود أيضًا. الدليل الثالث: (ح -957) ما رواه البخاري تعليقًا، قال أبو عبد الله البخاري: وقال عثمان: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين، فاشتراها عثمان - رضي الله عنه -[رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم، وهو حديث صحيح بطرقه] (¬1). وجه الاستدلال: إذا صح وقف الماء، وهو منقول، ولا يتأبد، ومنفعته باستهلاكه صح وقف المال؛ حيث لا فرق. وقد يعترض عليه: بأن وقف البئر أعم من وقف الماء، والبئر غير منقول، والله أعلم. الراجح من الخلاف: القول بجواز وقف النقود أقوى من حيث القياس، وأنفع للعباد، والمنع فيه تضييق لباب من أبواب الخير، دون دفع مفسدة تخشى، وإذا حبس المال، ودفع منه لراغبي الزواج، أو لأصحاب الاستثمارات الصغيرة الناجحة، وقدمنا المساعدات للموقوف عليهم على شكل قروض ميسرة تحققت المصلحة، ¬
ودفعت الحاجة، وأبقينا على رأس المال، ليدور فترة أطول في نفع البلاد، والعباد، على أنه لا يجوز لناظر هذا المال أن يدفعه إلى مشاريع ذات مخاطر عالية، كاستثماره في سوق الأسهم حتى يحيى رأس المال من المخاطر العالية، وينبغي أن يحرص على الحصول على ضمانات شرعية من رهن أو كفيل لاسترداد المال، والله أعلم.
المبحث الخامس في وقف الكلب
المبحث الخامس في وقف الكلب وقف الكلب القابل للتعليم نقل للمنفعة بلا عوض، ومنفعة الكلب مباحة بشرطها. [م - 1508] يرجع الخلاف في وقف الكلب إلى مسألتين وقع فيهما الخلاف: أحدهما: الخلاف في وقف المنقول، وقد سبق تحرير الخلاف، وترجح القول بالصحة. الثانية: الخلاف في وقف الأعيان التي لا يصح بيعها، وتصح إعارتها، كالكلب، وجلد الأضحية، والآبق، وما لا يقدر على تسليمه، ونحوها. وقد اختلف الفقهاء في صحة بيع الكلب على ثلاثة أقوال: أحدها: يصح مطلقًا. والثاني: لا يصح مطلقًا. والثالث: يصح في المأذون اقتناؤه، كالكلب المعلم للصيد، والحراسة، ونحوها، وسبق تحرير الخلاف في عقد البيع، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. إذا علم هذا نأتي على أقوال أهل العلم في وقف الكلب: القول الأول: لا يصح وقف الكلب مطلقًا، معلقًا كان، أو غير معلم، وهو مقتضى قول
وجه المنع عند أبي حنيفة وأبي يوسف
أبي حنيفة، وأبي يوسف، والأصح في مذهب الشافعية، والمذهب عند الحنابلة على خلاف بينهم في وجه المنع (¬1). وجه المنع عند أبي حنيفة وأبي يوسف: الحنفية يرون صحة بيع الكلب، لهذا كان وجه المنع من وقف الكلب عندهما المنع من وقف المنقول إلا تبعا للعقار، ولا شك أن الكلب منقول. وسبق تحرير الخلاف في وقف الأعيان المنقولة، ومناقشة أدلة الحنفية في المنع، ورجحت صحة الوقف فيها. وجه المنع عند الشافعية والحنابلة: أن الكلب لا يصح تملكه وبيعه، وقد أبيح الانتفاع بالكلب المعلم للحاجة، فلا يتوسع فيها. قال في روضة الطالبين: "لا يصح وقف الكلب المعلم على الأصح، وقيل: لا يصح قطعًا؛ لأنه غير مملوك" (¬2). وقال في الإنصاف: "وأما الكلب فالصحيح من المذهب أنه لا يصح وقفه، ¬
ويناقش
وعليه الأصحاب؛ لأنه لا يصح بيعه" (¬1). ويناقش: بأن الوقف ليس فيه تملك للرقبة حتى يقال إنه بمعنى البيع، وإنما فيه نقل للمنفعة من الواقف للموقوف عليه، ومنفعة الكلب المعلم مباحة بلا خلاف، ونقلها تبرعًا بلا عوض يشبه الهبة، والعارية، فلا يصح القياس على البيع. القول الثاني: يصح وقف المعلم دون غيره، وهو مذهب المالكية، وقول مرجوح في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة، ورجحه ابن تيمية، على خلاف بينهم في وجه القول بالصحة (¬2). فقيل: يصح وقف الكلب المعلم؛ لأنه يصح بيعه، وقد قال الحارثي الحنبلي كما في كتاب الإنصاف: "والصحيح اختصاص النهي عن البيع بما عدا كلب الصيد بدليل رواية حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب صيد، والإسناد جيد (¬3)، قال: فيصح وقف المعلم؛ لأن بيعه .............. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
جائز" (¬1). وقد ناقشنا دليلهم في عقد البيع. ¬
الراجح من الخلاف
وقيل يصح وقفه؛ لأن ما صح إعارته صح وقفه، سواء أصح بيعه أم لا، ويدخل فيه وقف الآبق وما لا يقدر على تسليمه. جاء في شرح الخرشي: "الشيء المملوك يصح وقفه، ويلزم، ولو لم يحكم به حاكم، وأراد بالمملوك ما تملك ذاته، وإن لم يجز بيعه، كجلد الأضحية، وكلب صيد ونحوه، ووقف الآبق صحيح" (¬1). وقال ابن تيمية: "ويصح وقف الكلب المعلم، والجوارح المعلمة، وما لا يقدر على تسليمه، وأقرب الحدود في الوقف أنه كل عين تجوز عاريتها" (¬2). الراجح من الخلاف: بعد استعراض الخلاف أجد أن القول بصحة وقف الكلب المعلم أقوى من حيث الدليل؛ لأن منع الوقف لمنع البيع قول ضعيف، فالوقف عقد من عقود التبرع، والبيع عقد من عقود المعاوضة فافترقا. والمسوغ للصحة: أن منفعة الكلب المعلم مباحة بلا خلاف، والوقف نقل لهذه المنفعة المباحة بلا عوض، دون تملك الرقبة، أشبه الهبة، والعارية. ¬
الشرط السابع في اشتراط ألا يكون الموقوف مشاعا
الشرط السابع في اشتراط ألا يكون الموقوف مشاعًا ما صح بيعه صح وقفه. المشاع: هو ما كان بين الشركاء غير متميز، ولا مقسوم من عين، أو منفعة، أو حق. والمشاع ينقسم إلى قسمين: ما يقبل القسمة كالعقار. وما لا يقبل القسمة كالسيارة، والحيوان. [م - 1509] وقد اختلف العلماء في وقف المشاع: القول الأول: يصح مطلقًا، سواء كان يحتمل القسمة، أو لا يحتملها، وبه قال أبو يوسف من الحنفية، وابن الماجشون وابن حبيب من المالكية، ومذهب الشافعية والحنابلة (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: إن وقف ما يقبل القسمة صح، وإن وقف ما لا يقبل القسمة فقولان في مذهب المالكية، واختار اللخمي عدم النفاذ (¬1). جاء في شرح الخرشي: "ويصح وقف المشاع، إن كان مما يقبل القسمة، ويجبر الواقف عليه" (¬2). القول الثالث: يصح إن كان مما لا يحتمل القسمة، فإن قبل القسمة لم يصح الوقف، عكس القول السابق، وبه قال محمد بن الحسن من الحنفية (¬3). دليل من قال: يصح وقف المشاع مطلقًا: الدليل الأول: (ح -958) ما رواه البخاري من طريق أبي التياح، عن أنس - رضي الله عنه -، قال: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ببناء المسجد، فقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم، فقالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله ... الحديث (¬4). وجه الاستدلال: أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل بني النجار، وكان الحائط ملكًا مشاعًا بينهم، فدل ذلك على جواز وقف المشاع. ¬
ونوقش هذا
ونوقش هذا: هذا وقف لجميع المشاع، وليس وقفًا لبعض المشاع دون بعض، فالعين كلها ستكون وقفًا، وليس جزءًا مشاعًا منها، والشيوع هنا لن يمنع من الاستفادة من العين الموقوفة، حتى ولو وقفت مقبرة، أو مسجدًا. أما إذا وقف بعض المشاع، فعند من يشترط القبض للزوم الوقف، لا يمكن القبض، وهو مشاع، والله أعلم. ويرد على هذا: بأن القبض ليس شرطًا للزوم الوقف على الصحيح من أقوال أهل العلم، فالوقف يلزم بمجرد اللفظ، وسيأتي بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى، وعليه فإذا كان المشاع يقبل القسمة قسم، وإلا بيع، وجعل الثمن في مثله، والله أعلم. الدليل الثاني: (ح -959) ما رواه النسائي من طريق ابن عيينة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن المائة سهم التي لي بخيبر لم أصب مالًا قط أعجب إلي منها، قد أردت أن أتصدق بها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: احبس أصلها، وسبل ثمرتها. [صحيح، إلا أن ذكر الأسهم تفرد بذكرها ابن عيينة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، ورواه جماعة عن نافع بدون ذكر الأسهم] (¬1). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن عمر - رضي الله عنه - قد أراد أن يتصدق بسهمه الذي بخيبر، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بوقفها، ولم يأمره بقسمتها أولًا، ولا علق صحة الوقف على القسمة، فدل ذلك على جواز وقف المشاع. ويجاب عن ذلك: الجواب الأول: أن ذكر الأسهم تفرد بذكرها ابن عيينة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، ورواه جماعة عن نافع بدون ذكر الأسهم في الصحيحين وغيرهما، وأحسن من جود هذا الحديث ابن عون، رواه عن نافع في الصحيحين، ولفظه: أصبت أرضًا بخيبر، وسبق بيانه. ¬
الجواب الثاني
الجواب الثاني: أن السهم في اللغة: هو النصيب، والحظ، وليس في الحديث أن عمر - رضي الله عنهما - أوقفها، وهي مشاعة، فقد تكون سهامًا باعتبار أصلها، وأنه كان نصيبًا من أنصباء، ولا يلزم أن يكون مشاعًا، ولهذا يصح أن يقول الرجل: هذا أسهمي من الغنيمة، وإن كان قد قسم، حتى إن عمر عندما كتب وصيته فيمن يلي وقفه، ولا شك أن ذلك كان متأخرًا عن الوقف؛ لأن الوقف كان في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكتابة وصيته بعد ذلك، كان يطلق على وقفه بالأسهم التي بخيبر باعتبار أنه استفاده كذلك. (ث -182) فقد روى أبو داود في سننه من طريق الليث، عن يحيى بن سعيد، عن صدقة عمر، قال: نسخها لي عبد الحميد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ... هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المومنين إن حدث به حدث أن ثمغًا، وصرمة بن الأكوع، والعبد الذي فيه، والمائة سهم التي بخيبر، ورقيقه الذي فيه، والمائة التي أطعمه محمد - صلى الله عليه وسلم - بالوادي، تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها، أن لا يباع، ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل، والمحروم، وذوي القربى، ولا حرج على من وليه إن أكل، أو آكل، أو اشترى رقيقًا منه (¬1). [صحيح وجادة، وعبد الحميد وإن كان مجهولًا فليس له رواية في هذه القصة، وإنما قام باستنساخ الوجادة التي كانت في آل عمر - رضي الله عنه -] (¬2). ¬
وأجيب
وقد قال الحافظ ابن حجر: "قوله: إن المائة سهم كانت مشاعة لم أجده صريحًا، بل في مسلم ما يشعر بغير ذلك، فإنه قال: إن المال المذكور يقال له: ثمغ، وكان نخلًا" (¬1). قلت: الرواية التي أشار إليها الحافظ هي في البخاري، وليست في مسلم، (ح -960) وقد رواها البخاري من طريق صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن عمر تصدق بمال له على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقال له ثمغ، وكان نخلًا، فقال عمر: يا رسول الله إني استفدت مالًا، وهو عندي نفيس، فأردت أن أتصدق به ... وذكر الحديث (¬2). وأجيب: بأن ثمغًا تحتمل أن تكون غير المائة سهم التي له بخيبر، بدليل أن وصية عمر - رضي الله عنه - التي رواها يحيى بن سعيد وجادة قد ذكرت ثمغًا، وذكرت المائة سهم التي له بخيبر. (ح -961) وقد روى أحمد من طريق أيوب، عن نافع به بلفظ: أن عمر أصاب أرضًا من يهود بني حارثة يقال لها ثمغ، فقال: يا رسول الله إني أصبت مالًا نفيسًا أريد أن أتصدق به ... وذكر الحديث (¬3). ويرد على هذا: بأن الجمع بين مال خيبر ومال ثمغ لم يرد إلا فيما رواه أبو داود عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن وصية عمر، وهي وجادة، وكل الأحاديث تذكر وقف عمر ¬
الدليل الثالث
في الصحيح، وخارج الصحيح، وظاهرها أنها قصة واحدة، وهي تذكر أن عمر - رضي الله عنه - استفاد مالًا نفيسًا، ففي بعض النصوص، أنه كان بخيبر كما في رواية الصحيحين، وفي بعضها أنه استفاده من يهود بني حارثة، يقال له: ثمغ، كما في مسند أحمد وغيره (¬1)، ولا يظهر أن في هذا تعارضًا، فإن يهود بني حارثة قد يكون لهم مال بخيبر، حتى على فرض أن يكون بنو حارثة ليسوا بخيبر، فإن ملك الإنسان للمال ليس مرتبطًا بالبقعة التي يسكنها، ولهذا كان وقف علي - رضي الله عنه - بينبع، وفي غيرها، والظن بتعدد القصة بناء على وصية عمر والتي لم تصل لنا مسندة لا يمكن التعويل عليها، والله أعلم. قال الحافظ في الفتح: "ويحتمل أن تكون ثمغ من جملة أراضي خيبر" (¬2). الدليل الثالث: (ح -962) ما رواه البخاري من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، أن عبد الله بن كعب، قال: سمعت كعب بن مالك - رضي الله عنه - يقول: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله، وإلى رسوله. قال: أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك، قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر (¬3). وجه الاستدلال: فقوله: (أمسك عليك بعض مالك) دليل على جواز وقف المشاع؛ لأنه إذا أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخراج بعض ماله، وإمساك البعض، فهو من وقف المشاع. ¬
ويناقش
ويناقش: بأن هذا من باب الصدقة، ولا دليل على أنه أراد الوقف، ومعلوم أن الصدقة لا تلزم إلا بالقبض، ولا تتحقق إلا بالفرز، وحينئذ لا تكون مشاعًا. الدليل الرابع: إذا كان يصح بيع المشاع بالإجماع، قال ابن تيمية: "يجوز بيع المشاع باتفاق المسلمين، كما مضت بذلك سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -" (¬1). فما صح بيعه صح وقفه. ويناقش: القول بأن ما صح بيعه صح وقفه غير مسلم، ولذلك يصح وقف الفحل للضراب، ولا يجوز بيع ماء الفحل، ولا إجارة الفحل للضراب على الصحيح. الدليل الخامس: (ث -183) ما رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم، قال البخاري في الصحيح: وجعل ابن عمر نصيبه من دار عمر سكنى لذوي الحاجة من آل عبد الله (¬2). ويناقش: ليس صريحًا أن ابن عمر أوقف نصيبه من دار عمر قبل فرزه، وقسمته، فقد يكون الوقف بعد قبضه لهذا النصيب. الدليل السادس: أن حقيقة الوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وهذا يحصل في المشاع، كما يحصل في غيره. ¬
وجه من قال: يصح وقف المشاع إذا كان يقبل القسمة
وجه من قال: يصح وقف المشاع إذا كان يقبل القسمة: إذا كان المشاع يقبل القسمة فإن وقفه لا يلحق ضررًا بالشريك لإمكان قسمته بلا ضرر، والقسمة في هذه الحال ليست بيعًا وإنما هي إفراز، وأما إذا كان المشاع لا يقبل القسمة فإن وقفه يلحق ضررًا بالشريك؛ لتعذر قسمته. ولأن قسمته لا تكون إلا عن طريق بيعه، والوقف لا يصح بيعه، وإذا فسد في العين شيء لم يجد من يصلحه معه. ويناقش: أما الجواب عن قولهم: بأن الوقف لا يصح بيعه: فيقال: إن المشاع إذا كان لا يقبل القسمة يقوم بيعه مقام قسمته، وبيع الوقف هنا ضرورة؛ لأنه لا سبيل إلى أن يأخذ الشريك حقه إلا عن طريق البيع، فيباع، ويجعل ثمن الوقف في مثله، شأنه في ذلك شأن الوقف الذي تعطلت منافعه، فيباع على الصحيح، ويشترى بثمنه مثله. وأما الجواب عن قولهم: إذا فسد المشاع لم يجد من يصلحه معه: فيقال: إن الواقف، أو ناظر الوقف يمثل الوقف في إصلاح ما فسد منه، والله أعلم. وجه من قال: يصح وقف المشاع إذًا كان لا يقبل القسمة: أن الوقف عندهم في حكم الصدقة، والصدقة لا تلزم إلا بالقبض، فإذا كان الوقف يقبل القسمة كان القبض شرطًا لجواز الوقف، والشيوع يخل فيه، وأما إذا كان الوقف لا يقبل القسمة، فإن القبض ليس شرطًا لنفاذه على الصحيح لتعذره، فصح وقف المشاع.
الراجح
الراجح: بعد استعراض الأقوال، والأدلة أجد أن القول بصحة وقف المشاع مطلقًا أقوى الأقوال، سواء كان المشاع مما يقبل القسمة، أو لا يقبلها، فإن كان يقبلها قسم، وكان نصيب الواقف وقفًا، وإن كان لا يقبل القسمة بيع، واشتري بثمن الوقف وقف آخر، والله أعلم.
الشرط الثامن في اشتراط إخراج الموقوف من يد الواقف
الشرط الثامن في اشتراط إخراج الموقوف من يد الواقف الوقف إسقاط لا يفتقر إلى القبض كالعتق. [م - 1510] هل يشترط إخراج الموقوف من يد الواقف، وحيازة الموقوف عليه للوقف؟ أو يصح الوقف ولو كان الموقوف في يد الواقف؟ اختلف الفقهاء في ذلك، وسبب الخلاف، هل يلحق الوقف بالهبة، والصدقة، فلا يلزم إلا بالقبض؟ أو يلحق الوقف بالإعتاق، فيحصل بمجرد اللفظ، وللعلماء في ذلك قولان: القول الأول: لا يتم الوقف حتى يخرجه الواقف من يده، ويحوزه غيره .. اختار هذا القول محمد بن الحسن، وابن أبي ليلى من الحنفية، وبه يفتي مشايخ بخارى (¬1)، ........................ ¬
وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعي في قول، وإحدى الروايتين عن الإِمام ¬
القول الثاني
أحمد (¬1). القول الثاني: أن الوقف يلزم بمجرد اللفظ، ولا يفتقر إلى قبض. وبهذا قال أبو يوسف، وهلال، ومشايخ بلخ من الحنفية، وعليه الفتوى في المذهب (¬2)، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). دليل من قال: يشترط القبض: الدليل الأول: قياس الوقف على الهبة، والوصية، بجامع أن كلًا منها تبرع بمال، والتبرع لا يلزم إلا بالقبض، فكذا الوقف. (ث -184) فقد روى مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقًا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية، ما من ¬
ويناقش
الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك، ولا أعز علي فقرًا بعدي منك، وإني كلنت نحلتك جاد عشرين وسقًا، فلو كنت جددتيه، واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث (¬1). [صحيح] (¬2). قال ابن بطال: "حجة الذين جعلوا القبض شرطًا في صحة الوقف إجماع أئمة الفتوى على أنه لا تنفذ الهبات، والصدقات بالقول، حتى يقبضها الذي ملكها" (¬3). ويناقش: بأن قياس الهبة، والوصية على الوقف قياس غير صحيح، فالهبات إذا تمت لمن أعطيها، ثم ردها أو لم يقبلها منه بقيت على ملك صاحبها بخلاف الوقف. كما أن الهبة يملك الموهوب له أصلها، وله بيعها وهبتها، وتورث عنه، بخلاف الوقف، ففارق الوقف الهبة، والوصية (¬4). الدليل الثاني: [ث -185] استدل بعضهم بما رواه أبو داود في سننه من طريق الليث، عن ¬
وجه الاستدلال
يحيى بن سعيد، عن صدقة عمر، قال: نسخها لي عبد الحميد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ... هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المومنين، إن حدث به حدث أن ثمغًا، وصرمة بن الأكوع، والعبد الذي فيه، والمائة سهم التي بخيبر، ورقيقه الذي فيه، والمائة التي أطعمه محمد - صلى الله عليه وسلم - بالوادي، تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها، أن لا يباع، ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل، والمحروم، وذوي القربى، ولا حرج على من وليه إن أكل، أو آكل، أو اشترى رقيقًا منه (¬1). [صحيح وجادة، وعبد الحميد، وإن كان مجهولًا فليس له رواية في هذه القصة، وإنما قام باستنساخ الوجادة التي كانت في آل عمر - رضي الله عنه] (¬2). وجه الاستدلال: أن عمر - رضي الله عنه -، إنما جعل وقفه في يد ابنته حفصة - رضي الله عنها - ليتم الوقف. ويناقش: بأن عمر - رضي الله عنه - هو الذي كان يلي الوقف في حياته، فأوصى أن يليه بعد وفاته ابنته حفصة أم المؤمنين ك؛ لأنه علق ولاية حفصة بقوله: (إن حدث به حدث) أي نزل به موت، فلم يكن فيه دليل على قولهم، والله أعلم. قال الشافعي -رحمه الله -: "لم يزل عمر بن خطاب المتصدق بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يلي فيما بلغنا صدقته حتى قبضه الله تبارك وتعالى، ولم يزل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يلي صدقته بينبع حتى لقي الله عز وجل، ولم تزل فاطمة - عليه السلام - تلي صدقتها حتى لقيت ¬
دليل من قال: لا يشترط القبض
الله تبارك وتعالى، قال الشافعي: أخبرنا بذلك أهل العلم من ولد فاطمة، وعلي، وعمر، ومواليهم، ولقد حفظنا الصدقات عن عدد كثير من المهاجرين، والأنصار، لقد حكى لي عدد كثير من أولادهم، وأهليهم، أنهم لم يزالوا يلون صدقاتهم حتى ماتوا، ينقل ذلك العامة منهم، عن العامة، لا يختلفون فيه" (¬1). دليل من قال: لا يشترط القبض: الدليل الأول: (ح -963) ما رواه النسائي من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن المائة سهم التي لي بخيبر لم أصب مالًا قط أعجب إلى منها، قد أردت أن أتصدق بها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: احبس أصلها، وسبل ثمرتها. [صحيح، وأصله في الصحيحين] (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر عمر - رضي الله عنه - إلا أن يحبس أصلها، ويسبل ثمرتها، فلو كان إخراج الوقف من يده شرطًا، لذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك له؛ خاصة أن عمر - رضي الله عنه - كان لا يعرف الوقف، أفيعلمه حبس الأصل، ويدع أن يعلمه أن يخرجها من يده؟! ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: القياس على العتق، قال الطحاوي: "رأينا أشياء يفعلها العباد على ضروب، فمنها العتاق ينفذ بالقول؛ لأن العبد إنما يزول ملك مولاه عنه إلى الله -عز وجل -، ومنها الهبات، والصدقات لا تنفذ بالقول حتى يكون معه القبض من الذي ملكها له، فأردنا أن نننطر حكم الأوقاف بأيها هي أشبه، فنعطفة عليه، فرأينا الرجل إذا أوقف أرضه، أو داره، فإنما يملك الذي أوقفها منافعها، ولم يملك من رقبتها شيئًا، إنما أخرجها من ملك نفسه إلى الله -عز وجل -، فثبت أن ذلك نظير ما أخرجه من ملكه إلى الله -عز وجل -، فكما كان ذلك لا يحتاج فيه إلى قبض مع القول، كان ذلك الوقوف لا يحتاج فيها إلى قبض مع القول" (¬1). وقد سبق في مسألة متقدمة ذكر الأدلة على أن الوقف ليس من باب التمليك حتى يتوقف على القبض، وإنما هو من باب إخراج المال من ملك الواقف، ولذلك يصح الوقف ولا يحتاج إلى قبول إذا كان على غير معين بالاتفاق، وكذا إذا كان على معين على الصحيح. قال ابن القيم: "لا يفتقر إلى قبول -يعني الوقف- إذا كان على غير معين اتفاقًا" (¬2). وقال الماوردي: "الوقف إزالة ملك على وجه القربة فأشبه العتق" (¬3). وإذا كان من باب إزالة الملك لم يفتقر إلى القبض، والله أعلم. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: القياس على الهدي، فكما أن الرجل إذا أوجب الهدي على نفسه بكلام، أو ساقه، أو قلده، أو أشعره لم يكن له بيعه، ولا هبته، ولا أن يرجع فيه بحجة أنه لمساكين الحرم، ولم يقبضوه، فكذلك الوقف إذا أوجبه على نفسه فقد خرج من ملكه، سواء خرج من يده، أو لم يخرج، والله أعلم (¬1). الدليل الرابع: إذا أوجبنا القبض فإنما نوجبه للأصل (العين الموقوفة) والأصل غير مملوك للموقوف عليه، قبضه أو لم يقبضه، وإذا كان لا يملكه بالوقف فلا معنى لاشتراط قبضه إياه. الراجح: أن إخراج الوقف من يد الواقف ليس بشرط، وقد ذكر ابن القيم أن ذلك ما اتفق عليه الصحابة، قال -رحمه الله -: "وهو اتفاق من الصحابة، فإن عمر - رضي الله عنه - كان يلي صدقته، وكذلك الخلفاء الراشدون، وغيرهم من الصحابة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أشار على عمر بوقف أرضه لم يقل له: لا يصح ذلك حتى تخرجها عن يدك، ولا تلي نظرها، وأي غرض للشارع في ذلك؟ وأي مصلحة للواقف، أو للموقوف عليه؟ بل المصلحة خلاف ذلك؛ لأنه أخبر بماله، وأقوم بعمارته، ومصالحه، وحفظه من الغريب، الذي ليست خبرته، وشفقته كخبرة صاحبه، وشفقته، ويكفي في صحة الوقف إخراجه عن ملكه، وثبوت نظره، ويده عليه، كثبوت نظر الأجنبي ويده، ولا سيما إن كان متبرعًا، فأي مصلحة في أن يقال له: لا يصح وقفك ¬
حتى تجعله في يد من لست على ثقة من حفظه، والقيام بمصالحه، وإخراج نظرك عنه؟ فإن قيل: إخراجه لله يقتضي رفع يده عنه بالكلية كالعتق. فالجواب: إذا أعتق العبد خرج عن أن يكون مالًا، وصار محررًا محضًا، فلا تثبت عليه يد أحد، وأما الوقف فإنه لا بد من ثبوت اليد عليه؛ لحفظه والقيام بمصالحه، وأحق ما يثبت عليه يد أشفق الناس عليه، وأقومهم بمصالحه، وثبوت يده ونظره لا ينافي وقفه لله، فإنه وقفه لله، وجعل نظره عليه، فكلاهما قربة وطاعة، فكيف يحرم ثواب هذه القربة، ويقال له: لا يصح لك قربة الوقف إلا بحرمان قربة النظر، والقيام بمصالح الوقف؟ فأي نص، وأي قياس، وأي مصلحة، وأي غرض للشارع أوجب ذلك؟ (¬1). ¬
الشرط التاسع في اشتراط أن يكون العقار غير مرهون
الشرط التاسع في اشتراط أن يكون العقار غير مرهون وقف المرهون صحيح معلق على استخلاصه من يد المرتهن. حق المرتهن في مالية المرهون لا في عينه، والوقف يتعلق في عين المرهون وماليته. إذا كان المال مرهونًا بدين، فقام الراهن بوقف الرهن بعد لزوم الرهن: أي بعد قبض المرتهن للعين المرهونة، فإن كان ذلك بإذن المرتهن صح الوقف؛ لأن المنع من التصرف في الرهن إنما كان لحق المرتهن، وقد أسقطه بإذنه (¬1). [م - 1511] وإن أوقف الراهن الرهن بعد لزومه ودون إذن المرتهن، فهل يصح الوقف؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح وقف العقار المرهون، ولا يشترط لصحة الوقف عدم تعلق حق الغير به، فإن كان الراهن موسرًا أجبر على دفع ما عليه من الدين، وفك الرهن، ولزم الوقف، وإن كان معسرًا فإن أجاز المرتهن الوقف صح، وإلا بطل الوقف، وباعه فيما عليه، وهذا مذهب الحنفية، ووجه في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). ¬
وجه القول بصحة وقف المرهون
وجه القول بصحة وقف المرهون: يصح للراهن وقف المرهون؛ لأنه يملكه، لكن يبقى حق المرتهن متعلقًا بالمرهون، فالرهن أثبت للمرتهن حق الاستيفاء من المرهون عند العجز عن السداد، والوقف أثبت للجهة الموقوف عليها حق الاستغلال في عين واحدة، وهما متنافيان بالنسبة إلى العين نفسها، وأحدهما سابق. وقد كان مقتضى ذلك أن يتوقف الوقف الطارئ على رضى المرتهن وإجازته إلا فيما يزيد من العين عن مبلغ الدين إذا كان فيها زيادة. لكن حق المرتهن إنما هو في مالية المرهون، لا في عينه حتى لو أراد الراهن وفاء الدين بمال آخر من مثله واستخلاص الرهن، ليس للمرتهن أن يختار الاستيفاء من المرهون ببيعه، وأخذ ثمنه، بل يجبر على الفكاك. أما الوقف فمتعلق بعين الموقوف وبماليته، فإذا أمكن الجمع بين تنفيذ حق الجهة الموقوفة عليها، وحق المرتهن معًا وجب المصير إليه. وعلى هذا كان من المقرر فقهًا أن الراهن إذا كان له مال آخر يمكن وفاء الدين منه ينفذ وقفه في المرهون، ويجبر قضاء على وفاء الدين، ويفك المرهون الموقوف. وإن لم يكن له مال آخر يفي بالدين، أو مات كذلك، ولم يترك ما يفي بالدين سوى المرهون، فإن أجاز المرتهن الوقف نفذ، وإلا بطل، فيباع المرهون لوفاء الدين (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا يصح وقف المرهون حال تعلق حق الغير به، فإن قصد الواقف أن يكون موقوفًا بعد الخلاص من الرهن صح الوقف؛ لأنه لا يشترط في الوقف التنجيز، وهذا مذهب المالكية (¬1). جاء في الشرح الكبير للدردير: "وشرطه -يعني الوقف- ألا يتعلق به حق الغير، فلا يصح وقف مرهون ومؤجر وعبد جان حال تعلق حق الغير به" (¬2). علق الدسوقي على ذلك بقوله: " (قوله: حال تعلق حق الغير به) أي بأن أراد الواقف وقف ما ذكر من الآن مع كونه مرتهنًا، أو مستأجرًا، وأما لو وقف ما ذكر قاصدًا بوقفها من الآن أنها بعد الخلاص من الرهن والإجارة تكون وقفًا صح ذلك؛ إذ لا يشترط في الوقف التنجيز" (¬3). القول الثالث: لا يصح وقف المرهون بغير إذن المرتهن، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة (¬4). جاء في روضة الطالبين: "وقف المرهون باطل على المذهب ... " (¬5). ¬
الراجح من الخلاف
وجاء في الإنصاف: "وإن كان تصرف الراهن بغير العتق لم يصح تصرفه مطلقًا على الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، قال المصنف هنا: وهو أصح، وجزم به كثير منهم. وقيل: يصح وقفه" (¬1). وجاء في كشاف القناع: "وتصرف راهن في رهن لازم أي مقبوض بغير إذن مرتهن بما يمنع ابتداء عقده كهبة، ووقف وبيع ورهن ونحوه ... لا يصح؛ لأنه تصرف يبطل حق المرتهن من الوثيقة، وليس بمبني على السراية والتغليب فلم يصح بغير إذن المرتهن" (¬2). الراجح من الخلاف: أذهب إلى صحة قول المالكية، وذلك أن تصرف الراهن في الرهن إنما يمنع إذا كان ذلك يؤدي إلى إبطال حق المرتهن، وإذا كان التنجيز في الوقف ليس بشرط على الصحيح من أقوال أهل العلم فما المانع أن يكون الوقف صحيحًا بعد فك الرهن، وبهذا نكون قد حفظنا حق المرتهن وحق الموقوف عليهم، وعند حلول الدين إن كان الراهن موسرًا وجب عليه سداد الدين، وفك الرهن، ولزم الوقف، وإن كان معسرًا بطل الوقف لتعلق حق المرتهن في العين المرهونة، والله أعلم. ¬
الشرط العاشر في اشتراط بيان مصرف الموقوف
الشرط العاشر في اشتراط بيان مصرف الموقوف [م - 1512] لو قال: داري هذه وقف، ولم يعين مصرفًا، فهل تصح هذه الصيغة؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال: القول الأول: لا يصح، وهو مذهب الحنفية، وبه قال محمد، وهلال، والخصاف وغيرهم (¬1)، وهو الأظهر في مذهب الشافعية (¬2). قال إمام الحرمين: "إذا قال الرجل: وقفت داري هذه، ولم يتعرض لذكر المصرف أصلًا فقد ذكر الأئمة أن الأصح بطلان الوقف" (¬3). ¬
وجه القول بالبطلان
وجاء في مغني المحتاج: " (ولو اقتصر على) قوله (وقفت) كذا، ولم يذكر مصرفه (فالأظهر بطلانه) لعدم ذكر مصرفه" (¬1). وجاء في روضة الطالبين: "لو قال: وقفت هذا، واقتصر عليه، فقولان، وقيل وجهان: أظهرهما عند الأكثرين بطلان الوقف" (¬2). وجه القول بالبطلان: إذا قال: أرضي هذه وقف، ولم يبين مصرفًا لم يصح الوقف؛ لأنه ذكر حبس الأصل ولم يسم لمن الغلة، فالصيغة يدخل فيها الغني والفقير، فلما لم يبين لأيهما كان الوقف باطلًا. ورد هذا: بأن الوقف مطلقه يراد للثواب؛ لكون صدقة من الصدقات، والفقراء هم المصرف الخيري العام عند عدم تخصيص مصرف آخر، فكان ذلك كالتنصيص عليهم. القول الثاني: يصح، وهو قول أبي يوسف من الحنفية، وبه أخذ مشايخ بلخ، وهو مذهب المالكية، والحنابلة، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية، ورجحه الشيرازي (¬3). ¬
وجه القول بالصحة
جاء في الشرح الكبير للدردير: "ولا يشترط تعيين مصرفه، فيلزم بقوله: داري وقف" (¬1). جاء في المهذب: "وإن وقف وقفًا مطلقًا، ولم يذكر سبيله ففيه قولان: أحدهما: أن الوقف باطل؛ لأنه تمليك فلا يصح مطلقًا كما لو قال: بعت داري ووهبت مالي. والثاني: يصح وهو الصحيح؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة فصح مطلقًا كالأضحية" (¬2). وجه القول بالصحة: بأن الوقف إذا أطلق فإنه يراد به الفقراء عرفًا، والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، فكان بمنزلة التنصيص عليهم. وعلى القول بالصحة، فقد اختلفوا كيف يصرف على أربعة أقوال: أحدها: يصرف على الفقراء والمساكين، وهذا قول أبي يوسف، ووجه في مذهب الشافعية، واختاره يعض المالكية. وجه هذا القول: بأن الأصل في الوقف أنه يراد به الثواب، فتعين أن يكون مصرفه على الفقراء والمساكين. ¬
وجه هذا القول
الثاني: يصرف في غالب مصرف تلك البلاد، فإن لم يكن في تلك البلاد غالب صرف للفقراء، ووجوه البر. وهذا مذهب المالكية. وجه هذا القول: بأن مطلق تصرفات الناس محمولة على الغالب في بلادهم، كالنقد إذا أطلق حمل على غالب نقد البلد. الثالث: يصرف في وجوه الخير لعموم النفع، وهو وجه ثان في مذهب الشافعية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬1). وفي بعض عبارات الحنابلة: وكان لجماعة المسلمين، وفي بعضها: صرف في مصالح المسلمين، قال صاحب الإنصاف: "والمعنى متحد". وجه هذا القول: لما كان الأصل في الوقف أنه للثواب، ولم يتعين الفقراء لعدم التنصيص عليهم كان مصرف الوقف المطلق لعموم الخير، ومصالح المسلمين، ومنهم الفقراء. الرابع: يصرف الوقف للمالك ولورثته ما بقوا، فإذا انقرضوا صرف في مصالح المسلمين، وهذا وجه ثالث في مذهب الشافعية، وهو معنى قول الحنابلة أنه يصرف مصرف الوقف المنقطع. وجه هذا القول: أن الصيغة لا تدل إلا على وقف الأصل، وأما المنفعة فهي له، فصار كأنه وقف الأصل، واستبقى المنفعة لنفسه ولورثته. ¬
(ح -964) ولما رواه أحمد من طريق ابن عون، عن حفصة بنت سيرين، عن الرباب بنت صليع، عن سلمان بن عامر الضبي، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: إن الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي القرابة اثنتان: صلة وصدقة. [والحديث وإن كان فيه ضعف لجهالة رباب إلا أن معناه ثابت في الصحيح] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الراجح
ولأن الله -سبحانه وتعالى - قد قسم المال بينهم في كتابه العزيز، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس. الراجح: القول بصحة الوقف، وأنه يصرف في وجوه الخير، ومصالح المسلمين، ومن ذلك صرفه على الفقراء والمساكين، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني فيمن يملك العين الموقوفة
الفصل الثاني فيمن يملك العين الموقوفة [م - 1513] اتفق العلماء على أن منفعة الوقف ملك للموقوف عليه (¬1)، كما اتفقوا على أن المسجد ليس ملكًا لمعين. قال ابن تيمية: "وأما المسجد ونحوه، فليس ملكًا لمعين باتفاق المسلمين، وإنما يقال: هو ملك لله، وقد يقال: هو ملك لجماعة المسلمين" (¬2). [م - 1514] واختلفوا في ملكية العين الموقوفة إذا كان الوقف على معين على أقوال: القول الأول: الوقف محبوس على ملك الواقف. وهذا قول أبي حنيفة، والمشهور من مذهب المالكية، وقول في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة، على خلاف بينهم: فأبو حنيفة يرى أن الوقف غير لازم، ويرى غيره أن الوقف لازم (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ينتقل الوقف إلى ملك الله تعالى، بمعنى: أنه ينفك عن اختصاص الآدمي، وإلا فجميع الموجودات لله تعالى. وبه قال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، والمشهور من مذهب الشافعية. إلا أن الشافعية، وأبا يوسف قالوا: ينتقل الملك بمجرد اللفظ. وقال محمد بن الحسن: لا ينتقل حتى يجعل للوقف وليًا ويسلمه إليه (¬1). القول الثالث: ينتقل إلى ملك الموقوف عليه، إلا أن يكون مما لا يملك، كالمسجد، وهو قول في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). ¬
القول الرابع
القول الرابع: إن كان الوقف على معين ملكه الموقوف عليه، وإن كان على جهة انتقل إلى الله تعالى، وهو قول في مذهب الشافعية (¬1). دليل من قال: الوقف يبقى على ملك الواقف: الدليل الأول: (ح -965) ما رواه مسلم من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (¬2). وجه الاستدلال: أن العين الموقوفة لو لم تكن باقية على ملك الواقف ما عده رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من عمله الجاري بعد موته؛ لأن المال غير الوقف ينقطع عن الواقف بمجرد موته؛ لانقطاع الملك إلى غيره. ويناقش: بأن الأجر أوسع من الملك، ولذا جاء الأجر من العلم المنتفع به بعد موته، وإن كان علم الإنسان لا يبقى إذا مات، كما أن الإنسان إذا سن سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص ذلك من أجور العاملين، وعكسه من سن سنة سيئة، والله أعلم. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح -966) ما رواه النسائي من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن المائة سهم التي لي بخيبر لم أصب مالًا قط أعجب إلي منها، قد أردت أن أتصدق بها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: احبس أصلها، وسبل ثمرتها. [صحيح، وأصله في الصحيحين] (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر: (احبس أصلها) ظاهره: حبسها على ما كان؛ إذ لم يقم دليل على وجوب خروج الوقف من ملك صاحبه، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وسبل ثمرتها) أي يجب إخراج المنافع إلى الموقوف عليهم، فالإخراج خاص بالثمرة، لا بالعين، وهذا يدل على أن الوقف لا يوجب زوال الملك عن الواقف، فتبقى العين الموقوفة على ملك صاحبها، ومنافع الوقف ملك للموقوف عليهم. فإن قيل: كيف يكون مالكًا للعين، وهو ممنوع من التصرف فيها بالبيع، والهبة، والإرث، فإن هذا ينافي الملك؟ فالجواب: أن الملك قد يصح مع المنع من التصرف، فهذه أم الولد الملك فيها باق، ومالكها ممنوع من التصرف فيها، ومثله المدبر. ويناقش: بأن المال كونه في يد الواقف لا يعني أنه يملكه، شأنه في ذلك شأن ولي الوقف، حيث يكون الوقف في يده، ولا يملك منه شيئًا. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن العين كانت ملكًا للواقف قبل الوقف، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يزيلها. ويجاب: إذا كانت الملكية عندكم تعني بقاء العين في يد الواقف، وهو ممنوع من التصرف فيها بيعًا وهبة وإرثًا، فهذا خلاف لفظي بيننا وبينكم، فهذه الأمانة في يد الأمين للحفظ، وهو لا يملك التصرف فيها، ولم يقل أحد: إنه يملك العين لبقاء العين في يده، وإن كانت الملكية تعني أن يملك الواقف التصرف في العين، فهنا لا يملكه الواقف، وهذا دليل على خروج الوقف عن ملك الواقف. دليل من قال: عين الوقف ملك لله تعالى: الدليل الأول: (ح -967) ما رواه البخاري من طريق صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر أن عمر تصدق بمال له على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وكان يقال له: ثمغ، وكان نخلًا، فقال عمر: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إني استفدت مالًا، وهو عندي نفيس، فأردت أن أتصدق به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: تصدق بأصله، لا يباع ولا يوهب، ولا يورث، ولكن ينفق ثمره، فتصدق به عمر ... الحديث (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (تصدق بأصله) دليل على أن العين الموقوفة يتصدق بها الواقف، ¬
ويجاب
وما تصدق به لا يمكن أن يبقى على ملكه، ولم تنتقل العين إلى ملك الموقوف عليه، وهذا بالاتفاق؛ فإن الموقوف عليه لا يملك إلا المنفعة، فبقي إما أن نقول: إن المال يبقى بلا مالك، أو يقال: إن المال قد اتقل إلى ملك لله تعالى، وخرج من اختصاص الآدميين، وهذا هو المتعين. ويجاب: بأن قوله: (تصدق بأصله) انفرد به صخر بن جويرية، عن نافع عند البخاري وحده، وقد رواه ابن عون عن نافع في الصحيحين (¬1) بلفظ: (إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها) وهذا هو المحفوظ، فقد رواه غير ابن عون على هذا اللفظ (¬2)، وعلى تقدير أن يكون اللفظان محفوظين، فإن المفهومين مختلفان؛ لأن معنى تصدق بأصله: أي ملِّك الفقير أصله. ¬
ويرد على هذا الجواب
ومعنى: احبس أصله: أي على ما كان، ولا يمكن أن يراد بهما إلا معنى أحدهما، وإلا كان - صلى الله عليه وسلم - مجيباً لعمر - رضي الله عنه - في حادثة واحدة بأمرين متنافيين، فلا بد من حمل أحد اللفظين على معنى الآخر، فإن حملنا: قوله: (احبس أصله) على معنى تصدق بأصله، فإن الاتفاق على نفيه؛ إذ لا يقول أحد: إن الفقير يملك العين، فوجب أن يحمل لفظ: (تصدق) على معنى (احبس)، فتحبس الرقبة على ملك صاحبها، فلا يبيعها، ولا يهبها، ولا يورثها، ويكون الفرق بين اللفظين: أن أحدهما كان لفظًا صريحًا، في الوقف، والآخر كان كناية، تحول إلى صريح حين قرن به لفظ: لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، فيكون الراوي صخر بن جويرية قد روى الحديث بالمعنى مستبدلًا اللفظ الصريح بلفظ من الكنايات، والخطب يسير، والله أعلم. ويرد على هذا الجواب: على التسليم بأن لفظ (تصدق بأصله) غير محفوظة، فإن الوقف من باب الصدقات، والفرق بين الوقف وخيره من الصدقات، أن الصدقة تمليك للعين، والمنفعة. والوقف حبس للعين، وإخراجها عن اختصاص الآدميين إلى ملك الله تعالى، فلا يملك أحد من الآدميين التصرف فيها ببيع، أو هبة، أو إرث، وهذه هي خصائص الملكية، وتمليك للمنفعة لمن أوقفت عليه، والله أعلم. الدليل الثاني: من النظر، وذلك أن الواقف لا يبقى له ملك على الوقف بعد موته؛ لخراب ذمته، فكذلك لم يبق له ملك على الوقف قبل موته؛ لأن حكم الوقف بعد موت واقفه، كحكمه في حياة واقفه.
الدليل الثالث
الدليل الثالث: القياس على وقف الأرض مسجدًا، فإذا كان مثل هذا يزول عنه الملك لا إلى مالك اتفاقًا، فكذلك الوقف على معين؛ لأنه أحد نوعي الوقف. الدليل الرابع: الوقف سبب يقطع تصرف الواقف في الرقبة والمنفعة، فوجب أن يزيل الملك كالبيع والعتق، ولا يمكن أن يكون الملك قد انتقل إلى الموقوف عليه؛ لأنه لم يستفد من الوقف إلا ملك المنفعة، فوجب أن يكون الملك قد خرج من اختصاص الآدميين، وهو ما عبر عنه شرعا بالحبس، والله أعلم. دليل من قال: الوقف ملك للموقوف عليه: الدليل الأول: لو كان الوقف تمليكًا للمنفعة المجردة فقط لم يكن الوقف لازمًا كالعارية، فلما كان الوقف متى صدر من أهله مستجمعًا شروطه أصبح لازمًا، دل ذلك على انتقال الملك إلى الموقوف عليهم، وهم أولى بالملك من الواقف، ذلك أن الواقف والموقوف عليهم يشتركون بأنهم لا يملكون التصرف في العين، ويزيد الموقوف عليهم، أنهم يملكون المنفعة، فهم أقرب من الواقف، ومنعهم من التصرف لا يمنع الملك كأم الولد، والله أعلم. الدليل الثاني: أن الوقف لا يصح قياسه على العتق، فالعتق يخرج العبد عن كونه مالًا بخلاف الوقف، فإنه لا يخرج الموقوف عن المالية، ولذلك جاز في الوقف
الراجح
القضاء بالشاهد واليمين، كسائر الأموال، ولو كان كالعتق يخرج به عن المالية لما حكم له إلا بشاهدين، وحيث إنه جرى عليه الملك في الضمان، واستحقاق البدل، والملك لا يكون إلا لمالك، والموقوف عليه أولى بالملك من الواقف لما تقدم. الراجح: الذي أميل إليه أن العين الموقوفة لا يملكها الواقف، بدليل أن الواقف إذا مات زالت أهليته عن الملكية، ومع ذلك لا يختلف حال الوقف بعد موته عنه قبل موته، وعلى هذا فالوقف خارج عن ملك الواقف عينًا ومنفعة، كما أن العين الموقوفة ليست ملكًا للموقوف عليه؛ لأثه لم يستفد من الوقف إلا مجرد المنفعة فقط، ولا ملك له على العين، وملك المنفعة لا يعطيه ملك العين. وعلى هذا يبقى إما أن نقول: إن العين الموقوفة محبوسة عن الملك، فلا يختص بملكها أحد من الآدميين شأنها شأن المسجد، والوقف على جهة غير محصورة، فيكون المالك لها هو الله تعالى. أو نقول: إن الوقف في نفسه شخصية اعتبارية لها ذمة مستقلة عن الواقف والموقوف عليه، شأنه في ذلك شأن بيت المال. وقد رجح ذلك الشيخ مصطفى الزرقا، يقول الشيخ: "أحكام الوقف في الإِسلام تقوم على أساس الوقف في النظر الفقهي مؤسسة ذات شخصية حكمية، لها ذمة مالية وأهلية لثبوت الحقوق لها، وعليها، يمثلها من يتولى إدارة الوقف" (¬1). ¬
ومع القول بذلك فإنه بيقى للواقف حق النظر على الوقف، لا من باب الملكية، ولكن لأنه أحرص الناس على استمراره وبقائه وقفًا، وقد أخرجه بإرادته فهو مقدم على غيره في النظر.
الفصل الثالث في بيع الوقف لاستبداله
الفصل الثالث في بيع الوقف لاستبداله إذا كان بيع الوقف بنية الرجوع عن الوقف، فهذه مسألة خلافية بين أبي حنيفة والجمهور، وسبق تحرير الخلاف فيها. وإذا كان بيع الوقف لتعطل منافعه، أو من أجل استبداله بخير منه، وإن لم تتعطل منافعه، فهاتان مسألتان اختلف فيهما الفقهاء، وسوف نبحث كل واحدة منها في بحث مستقل. وهل يختلف الحكم فيما لو كان الوقف مسجدًا وبين غيره من الأوقاف.
المبحث الأول في بيع الوقف إذا تعطلت منافعه
المبحث الأول في بيع الوقف إذا تعطلت منافعه الفرع الأول في استبدال الوقف إذا كان مسجدًا ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه، لا يجوز بيعه مع تعطلها. وأرجح منه من قال: يتعين الإفتاء بما هو الأنفع للوقف. بدل الشيء قائم مقام أصله، وحكمه حكم الأصل. استبدال الوقف خير من تعطيله. [م - 1515] اختلف العلماء في بيع المسجد؛ لاستبداله، إذا تعطلت منافعه، بأن انتقل عنه الناس، إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: يبقى على حاله، فلا يباع، ولا يستبدل، وهو قول أبي يوسف من الحنفية، وعليه الفتوى، وأكثر المشايخ عليه، وهو مذهب المالكية، والشافعية، ورواية في مذهب الحنابلة (¬1). ¬
جاء في الهداية: "ولو خرب ما حول المسجد، واستغني عنه يبقى مسجدًا عند أبي يوسف؛ لأنه إسقاط منه فلا يعود إلى ملكه" (¬1). وجاء في القوانين الفقهية: "والأحباس بالنظر إلى بيعها ثلاثة أقسام: الأول: المساجد، فلا يحل بيعها أصلًا بإجماع" (¬2). وقال النووي في الروضة: "لو انهدم المسجد، أو خربت المحلة حوله، وتفرق الناس عنها، فتعطل المسجد لم يعد ملكًا بحال، ولا يجوز بيعه؛ لإمكان عوده كما كان، ولأنه في الحال يمكن الصلاة فيه" (¬3). وجاء في الإنصاف: "وعنه: لا تباع المساجد، لكن تنقل آلتها إلى مسجد آخر. اختاره أبو محمد الجوزي، والحارثي، وقال: هو ظاهر كلام ابن أبي موسى. وعنه: لا تباع المساجد، ولا غيرها لكن تنقل آلتها. نقل جعفر فيمن جعل ¬
القول الثاني
خانًا للسبيل، وبنى بجانبه مسجدًا، فضاق المسجد، أيزاد منه في المسجد؟ قال: لا. قيل: فإنه إن ترك ليس ينزل فيه أحد، قد عطِّل. قال: يترك على ما صير له، واختار هذه الرواية الشريف، وأبو الخطاب، قاله في الفروع" (¬1). القول الثاني: يصح بيعه، وصرف ثمنه في مثله، وهو المشهور من مذهب الإِمام أحمد -رحمه الله -، وهو من المفردات، واختار هذه الرواية ابن تيمية وابن القيم (¬2). جاء في مسائل الإِمام أحمد رواية عبد الله: "سألت أبي عن مسجد خرب ترى أن تباع أرضه، وينفق على مسجد استحدثوه؟ فقال: إذا لم يكن له جيران، ولم يكن له أحد يعمره، فأرجو ألا يكون به بأس أن تباع أرضه وينفق على الآخر" (¬3). القول الثالث: إذا تعطل المسجد رجع إلى مالكه الأول، وهو قول محمد بن الحسن من الحنفية. جاء في المبسوط: "فإن خرب ما حول المسجد، واستغنى الناس عن الصلاة فيه، فعلى قول أبي يوسف -رحمه الله - لا يعود إلى ملك الثاني، ولكنه مسجد كما كان ¬
دليل من قال: لا يصح بيع المسجد واستبداله بمثله
وعند محمد -رحمه الله - يعود إلى ملك الثاني، وإلى ملك وارثه إن كان ميتاً؛ لأنه جعل هذا الجزء من ملكه مصروفًا إلى قربة بعينها، فإذا انقطع ذلك عاد إلى ملكه، كالمحصر إذا بعث بالهدي، ثم زال الإحصار، فأدرك الحج، كان له أن يصنع بهديه ما شاء" (¬1). ومثله حصير المسجد، وحشيشة، إذا استغني عنه يعود إلى ملك صاحبه عند محمد، وعند أبي يوسف ينقل إلى مسجد آخر (¬2). دليل من قال: لا يصح بيع المسجد واستبداله بمثله: الدليل الأول: (ح -968) ما رواه البخاري من طريق صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن عمر تصدق بمال له على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وكان يقال له ثمغ، وكان نخلًا، فقال عمر: يا رسول الله إني استفدت مالًا، وهو عندي نفيس ... وفيه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: تصدق بأصله، لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، ولكن ينفق ثمره ... الحديث (¬3). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث) دليل على منع بيعه ومنه بيعه بنية الاستبدال. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح -969) ما رواه البخاري من طريق أبي وائل، قال: جلست إلى شيبة في هذا المسجد، قال: جلس إلي عمر في مجلسك هذا، فقال: لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين. قلت: ما أنت بفاعل. قال: لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك. قال: هما المرءان يقتدى بهما (¬1). وجه الاستدلال: استدل شيبة بتركه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر التعرض لمال الكعبة، مع علمهما به، وحاجتهما إليه، على أنه لا يجوز بيع الوقف، ولا التعرض له، ووافقه عمر - رضي الله عنه - على ذلك. ونوقش: بأن الترك لا يدل على تحريم الفعل، ولهذا قال ابن حجر: "وأما الترك الذي احتج به عليه شيبة، فليس صريحًا في المنع" (¬2). وسوف يأتينا إن شاء الله تعالى في أدلة المخالفين جواز قسمة كسوة الكعبة إذا استغني عنها، وجواز بيعها، وهو رأي عمر، وعائشة، وبعض الصحابة - رضي الله عنه -، وكسوة الكعبة داخلة في مال الكعبة. الدليل الثالث: علل الحنفية المنع بأن الواقف لا يملك حق بيع المسجد، بعد أن خرج الوقف عن ملكه، وأصبح ملكًا لله تعالى، كما لو أعتق عبدًا ثم زمن. ¬
دليل من قال: يصح بيعه واستبداله بمثله
وعلل الشافعية المنع، بأن المسجد إذا خرب أمكن الصلاة فيه، والإعتكاف في أرضه، فلم تنعدم المنفعة، ولإمكان رجوعه وإصلاحه، ولهذا لو وقف أرضًا خرابًا جاز، ولو وقف حيوانًا عطبًا لم يجز. ولأن ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه، لا يجوز بيعه مع تعطلها، قياسًا على العبد المعتق. دليل من قال: يصح بيعه واستبداله بمثله: الدليل الأول: (ث -185) ما رواه الطبراني من طريق أبي نعيم، ثنا المسعودي، عن القاسم، قال: قدم عبد الله، وقد بني سعد القصر، واتخذ مسجدًا في أصحاب التمر، فكان يخرج إليه في الصلوات، فلما ولي عبد الله بيت المال نقب بيت المال، فأخذ الرجل، فكتب عبد الله إلى عمر، فكتب عمر، أن لا تقطعه، وانقل المسجد، واجعل بيت المال مما يلي القبلة، فإنه لا يزال في المسجد من يصلي، فنقله عبد الله وخط هذه الخطة ... (¬1). [ضعيف، القاسم لم يسمع من جده عبد الله] (¬2) ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن هذا نقل للمسجد، وكان بمشهد من الصحابة، ولم يظهر خلافه، فكان كالإجماع. وقد يناقش: بأن الأثر على فرض صحته ليس فيه إلا مجرد الأمر ينقل المسجد، والنقل ليس صريحًا على جواز البيع، فقد تكون البقعة التي انتقلوا عنها بقيت مسجدًا لغيرهم، والله أعلم، ولهذا سماه الإمام أحمد تحويل المسجد، والتحويل غير البيع. الدليل الثاني: أن استبدال الوقف إذا تعطل من باب الضرورة، والضرورة تبيح الممنوع؛ لأن تعطيل الوقف لا يحصل به مقصود الواقف، ولا الموقوف عليه، بل هو فساد، والله لا يحب الفساد. وقد وجه ابن عقيل الحنبلي ذلك، بأن الوقف إذا لم يمكن تأبيده على وجه تخصيصه استبقينا الغرض: وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى، واتصال الأبدال جرى مجرى الأعيان، وجمودنا مع العين مع تعطيلها تضييق للغرض، ويقرب هذا من الهدي إذا عطب، فإنه يذبح في الحال، وإن كان يختص بموضع، فلما تعذر تحصيل الغرض بالكلية استوفي منه ما أمكن (¬1). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: ذكر الفاكهي في أخبار مكة، قال: (ث -186) عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه، عن عائشة - رضي الله عنه - قالت دخل علي شيبة الحجبي فقال يا أم المؤمنين إن ثياب الكعبة تجتمع عندنا فتكثر فننزعها ونحفر بئارا فنعمقها وندفنها لكي لا تلبسها الحائض والجنب قالت بئس ما صنعت ولكن بعها فاجعل ثمنها في سبيل الله وفي المساكين فإنها إذا نزعت عنها لم يضر من لبسها من حائض أو جنب. [حسن إن شاء الله تعالى] (¬1). قال ابن تيمية: "فأمرت عائشة بيع كسوة الكعبة، مع أنها وقف، وصرف ثمنها في سبيل الخير؛ لأن ذلك أصلح للمسلمين" (¬2). وإذا صح بيع ثياب الكعبة، وهي وقف صح استبدال المسجد عثد تعطل منافعه قياسًا عليها. ويجاب: بأن الأعلى لا يقاس على الأدنى، والمسألة في استبدال المسجد، وثياب الكعبة من توابع المسجد، فهي بمنزلة حصير المسجد، والذين منعوا استبدال المسجد لا يمنعون من استبدال حصير المسجد إذا بلي، والكسوة إن كانت من بيت مال المسلمين لم يكن لها حكم الوقف؛ لأنه مال للمسلمين صرف في مصالحهم، وعلى التسليم بأن ثياب الكعبة بمنزلة المسجد، فإن بيع كسوة الكعبة ¬
وجه من قال: يعود إلى مالكه الأول
محل خلاف بين الفقهاء، وما كان محل خلاف لا يصح أن يحتج به على المخالف. وجه من قال: يعود إلى مالكه الأول: علل محمد بن الحسن الشيباني القول بحود المسجد إلى مالكه الأول إذا تعطل، بأن الواقف عين الوقف لنوع قربة، وقد انقطعت، فينقطع هو أيضًا وذلك كما لو كفن ميتًا، فافترسه سبع عاد إلى مالكه، وكالمحصر إذا بعث الهدي، ثم زال الإحصار، فأدرك الحج، كان له أن يصنع بهديه ما شاء (¬1). ويناقش: أجاب الحنفية ممن قال بقول أبي يوسف: بأن تكفين الميت ليس بإزالة للعين عن ملكه، بل هو تبرع بالمنفعة لحاجة الميت، فكان بمنزلة العارية حال الحياة، وقد وقع الاستغناء للمستعير، فتعود المنفعة إلى المعير، كما في حال الحياة. وعندي أن تخريج الكفن على الإعارة فيه إشكال؛ فإذا لم يكن الكفن وقفًا فهو إلى الهبة أقرب منه إلى الإعارة؛ لأن الإعارة تمليك مؤقت، وهذا تمليك على سبيل الدوام على القول بأن الميت يملك، وإذا ملَّكها للميت على سبيل الدوام فاستغنى عنها انتقلت المنفعة لأقارب الميت، وهو أولى من عودها إلى من أخرجها من ملكه، والله أعلم. الراجح: جواز استبدال الوقف، ولو كان مسجدًا إذا تعطلت منافعه. ¬
الفرع الثاني في استبدال الوقف الوقف إذا لم يكن مسجدا
الفرع الثاني في استبدال الوقف الوقف إذا لم يكن مسجدًا استمرار الوقف باستبداله خير من انقطاعه. تأبيد الوقف يتحقق باستبداله عند تعطل منافعه. [م - 1516] إذا تعطل الوقف ولم يكن مسجدًا، فهل يصح بيعه، واستبداله بمثله؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة، ولما كان في المذهب الواحد تجد أكثر من قول احتاج الأمر أولًا إلى تحرير المذاهب، ثم نلخص منها الأقوال في المسألة، ونختم ذلك بذكر أدلتها ومناقشتها. الأول: مذهب الحنفية: إذا تعطلت مناقع الوقف، فإن كان الواقف قد شرط لنفسه أو لغيره حق الاستبدال، ملك بهذا الشرط أن يستبدل الوقف على الصحيح، ولا يحتاج إلى إذن القاضي عملاً بالشرط. وإن كان الواقف لم يشرطه، بأن سكت، أو شرط غدم الاستبدال، جاز استبداله على الصحيح، لكن بإذن القاضي (¬1). ¬
وجه جواز الاستبدال
وجه جواز الاستبدال: أن موجب الاستبدال في الصورة الأولى العمل بشرط الواقف، وحكاه بعف الحنفية إجماعًا. جاء في فتح القدير نقلاً عن فتاوى قاضي خان: "أجمعوا أن الواقف إذا شرط الاستبدال لنفسه يصح الشرط والوقف، ويملك الاستبدال" (¬1). والموجب له في الصورة الثانية الضرورة، حيث تعطلت منافعه. قال ابن الهمام: "فإن كان لخروج الوقف عن انتفاع الموقوف عليهم فينبغي ألا يختلف فيه" (¬2). ¬
الثاني: مذهب المالكية.
الثاني: مذهب المالكية. المالكية فرقوا في الاستبدال بين العقار والمنقول: فإن كان الموقوف منقولًا، فالصحيح في مذهب المالكية، أنه يجب على الواقف استبداله، إذا لم توجد جهة تنفق عليه، أو خيف عليه الهلاك، أو تعطلت منافعه، وصار لا ينتفع به فيما حبس من أجله (¬1). واختار ابن الماجشون أنه لا يباع مطلقا، إلا أن يكون اشترط ذلك في أصل الحبس (¬2). جاء في المدونة: "قال مالك: أما ما ضعف من الدواب، حتى لا يكون فيها قوة للغزو، فإنه يباع، ويشترى بثمنها غيرها من الخيل، فيجعل في سبيل الله" (¬3). وقال ابن جزي: "الثالث: العروض والحيوان، قال ابن مالك: إذا ذهبت منفعتها كالفرس يهرم، والثوب يخلق، بحيث لا ينتفع بهما، جاز بيعه، وصرف ثمنه في مثله، فإن لم تصل قيمته إلى كامل، جعلت في نصيب من مثله. وقال ابن الماجشون: لا يباع أصلاً" (¬4). قال خليل: "وبيع ما لا ينتفع به من غير عقار في مثله، أو شقصه" (¬5). ¬
تنبيه
قال الخرشي شارحًا لهذه العبارة: "يعني أن الشيء الموقوف على معين أو على غير معين من غير عقار، إذا صار لا ينتفع به في الوجه الذي وقف فيه، كالثوب يخلق، والفرس يكلب، والعبد يعجز، وما أشبه ذلك، فإنه يباع، ويشترى بثمنه مثله، مما ينتفع به في الوجه الذي وقف فيه، فإن لم يبلغ ثمنه ما يشترى به مثله، فإنه يستعان به في شقص مثله. وقوله (بيع) أي وجوبًا، وقوله (مما لا ينتفع به) المنفي هو النفع المقصود للواقف، ولكن ينتفع به في الجملة؛ لأنه يشترط في صحة البيع كون المبيع مما ينتفع به ... وقوله (من غير عقار) في محل، تقديره: وبيع ما لا ينتفع به حالة كونه غير عقار" (¬1). وأما إن كان الموقوف عليه غير منقول: فإن كان الواقف قد شرط لنفسه، أو للموقوف عليه بيعه، جاز استبداله، سواء قيد ذلك بالحاجة أم لا، عملًا بالشرط. جاء في الفواكه الدواني: "قال مالك: لا يباع العقار الحبس، ولو خرب، وبقاء أحباس السلف دائرة، دليل على منع ذلك ... تنبيه: كلام المصنف مقيد بما إذا لم يكن الواقف شرط للموقوف عليه بيعه، وإلا جاز، سواء قيد ذلك بالحاجة أم لا، كما لو شرط الواقف لنفسه بيعه، فيجوز له بيعه عملًا بالشرط قياسًا على شرط الرجوع في صدقته ... " (¬2). وإن كان لم يشترط الاستبدال فالصحيح من مذهب المالكية أنه لا يجوز بيع ¬
العقار المحبس وإن خرب، ولو بعقار غير خرب (¬1)، إلا أن يكون العقار المحبس من أجل توسيع المسجد، فيجوز بيعه، ولو بالإكراه، إذا اقتضى الأمر. وقيل: إن ذلك في مساجد الأمصار (الجوامع)، لا في مساجد القبائل (مسجد الجماعات) والمقبرة، والطريق العام كالمسجد في الحكم. قال ابن رشد: "ظاهر سماع ابن القاسم أن ذلك جائز في كل مسجد، وهو قول سحنون أيضًا. وفي النوادر عن مالك والأخوين وأصبغ وابن عبد الحكم أن ذلك إنما يجوز في مساجد الجوامع إن احتيج لذلك، لا في مساجد الجماعات إذ ليست الضرورة فيها كالجوامع" (¬2). وقال ابن شاس: "حبس العقار عندنا الدور وغيرها لا سبيل إلى بيع شيء من ذلك وإن دثر وانتقلت العمارة عن مكانه، اللهم إلا أن يكون مسجد تحيط به دور محبسة فاحتاج إلى سعة فقد. قالوا: لا بأس أن يشترى منها ليوسع بها فيه. والطريق أيضًا كالمسجد في ذلك؛ لأنه نفع عام أعم من نفع الدار المحبسة قاله ابن حبيب عن مالك. قال ابن الماجشون: وذلك في مثل جوامع الأمصار دون مساجد القبائل" (¬3). ¬
الثالث: مذهب الشافعية
وقيل: يجوز بيع العقار واستبداله، وهو قول ربيعة، وإحدى روايتي أبي الفرج عن مالك (¬1). جاء في التاج والإكليل: "وفيها لربيعة: أن الإِمام يبيع الربع إذا رأى ذلك لخرابه، وهو إحدى روايتي أبي الفرج عن مالك" (¬2). ورأى بعضهم الجواز بشرطين: أحدهما: أن تنقطع منفعته، والثاني: أن يبعد عن العمران. فقد نقل الحطاب عن اللخمي ما نصه: "لا يباع إن كان بالمدينة؛ إذ لا يويئس من صلاحه من محتسب أو بعض عقب، وما بعد عن العمران ولم يرج صلاحه جرى على القولين، والذي آخذ به المنع خوف كونه ذريعة لبيع الحبس" (¬3). الثالث: مذهب الشافعية: حصر المسجد إذا بليت، وجذوعه إذا انكسرت أو أشرفت على ذلك، ولم تصلح إلا للإحراق ففي بيعها وجهان، أصحهما جواز بيعها؛ لئلا تضيع، ويضيق المكان بها من غير فائدة، وما تحصل من ثمنها يعود في مصالح الوقف. ويجري الخلاف في الدار إذا انهدمت أو أشرفت على ذلك. قال الرافعي: والقياس أن يشترى بثمن الحصير حصير لا غير، قال: ويشبه أنه مرادهم. قال في مغني المحتاج: وهو ظاهر إن أمكن وإلا فالأول (¬4).اهـ ¬
ولا يدخل ذلك تحت بيع الوقف؛ لأنها صارت في حكم المعدومة، ولذلك لو أمكن أن يتخذ منها ألواح وأبواب لم تبع. جاء في منهاج الطالبين: "والأصح جواز بيع حصر المسجد إذا بليت، وجذوعه إذا انكسرت ولم تصلح إلا للإحراق" (¬1). وجاء في المهذب: "وإن وقف نخلة فجفت، أو بهيمة فزمنت، أو جذوعًا على مسجد فتكسرت، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز بيعه لما ذكرناه في المسجد. والثاني: يجوز بيعه؛ لأنه لا يرجى منفعته، فكان بيعه أولى من تركه بخلاف المسجد فإن المسجد يمكن الصلاة فيه مع خرابه، وقد يعمر الموضع فيصلى فيه" (¬2). وجاء في روضة الطالبين: "حصر المسجد إذا بليت، ونحاتة أخشابه إذا نخرت، وأستار الكعبة إذا لم يبق فيها منفعة ولا جمال، في جواز بيعها وجهان: أصحهما: تباع لئلا تضيع وتضيق المكان بلا فائدة. والثاني: لا تباع بل تترك بحالها أبدا، وعلى الأول قالوا: يصرف ثمنها في مصالح المسجد، والقياس: أن يشترى بثمن الحصير حصير، ولا يصرف في مصلحة أخرى، ويشبه أن يكون هو المراد بإطلاقهم، وجذع المسجد المنكسر ¬
الرابع: مذهب الحنابلة
إذا لم يصلح لشيء سوى الإحراق فيه هذا الخلاف، وإن أمكن أن يتخذ منه ألواح، أو أبواب قال المتولي: يجتهد الحاكم ويستعمله فيما هو أقرب إلى مقصود الواقف، ويجري الخلاف في الدار المنهدمة، وفيما إذا أشرف الجذع على الانكسار، والدار على الانهدام. قال الإِمام: وإذا جوزنا البيع، فالأصح صرف الثمن إلى جهة الوقف، وقيل: هو كقيمة المتلف، فيصرف إلى الموقوف عليه ملكا على رأي، وإذا قيل به فقال الموقوف عليه: لا تبيعوها، واقلبوها إلى ملكي، فلا يجاب على المذهب، ولا تنقلب عين الوقف ملكا، وقيل: تنقلب ملكا بلا لفظ" (¬1). الرابع: مذهب الحنابلة: المشهور من مذهب الحنابلة صحة بيع الوقف واستبداله بمثله إذا تعطلت منافعه حتى ولو كان الوقف مسجدًا (¬2). قال ابن قدامة: "وجملة ذلك أن الوقف إذا خرب، وتعطلت منافعه كدار انهدمت، أو أرض خربت وعادت مواتًا, ولم يمكن عمارتها، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه، وصار في موضع لا يصلى فيه، أو ضاق بأهله، ولم يمكن توسيعه في موضعه، أو تشعب جميعه فلم تمكن عمارته، ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه، جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته، وإن لم يمكن الانتفاع منه بيع جميعه" (¬3). ¬
وقول ابن قدامة: (بيع جميعه) هل بيعه على سبيل الوجوب، أو على سبيل الاستحباب، قولان في المذهب: أحدهما: الوجوب؛ لأن الولي يلزمه فعل المصلحة. الثاني: جواز بيعه. قال في الفروع: "قولهم: بيع: أي يجوز، نقله، وذكره جماعة، ويتوجه أن ما قالوه للاستثناء مما لا يجوز، وإنما يجب؛ لأن الولي يلزمه فعل المصلحة، وهو ظاهر رواية الميموني وغيرها، قال القاضي وأصحابه، والشيخ: ولأنه استبقاء للوقف بمعناه فوجب ... وكذا قال شيخنا: مع الحاجة يجب بالمثل، وبلا حاجة يجوز بخير منه لظهور المصلحة، ولا يجوز بمثله لفوات التعيين بلا حاجة" (¬1). وفي الإنصاف نقلاً عن الفائق: "وبيعه حال تعطله أمر جائز عند البعض، وظاهر كلامه في المغني وجوبه، وكذلك إطلاق كلام الإِمام أحمد - رحمه الله -، وذكره في التلخيص رعاية للأصلح. انتهى" (¬2). وقول ابن قدامة: (تعطلت منافعه) اختلفوا في المراد منها على أقوال: فقيل: المراد بتعطل نفعه: المنافع المقصوده، كما لو ضاق المسجد عن أهله، وهذا هو المشهور من المذهب. الثاني: المراد: لا ينتفع منه بشيء أصلاً. ¬
الثالث: المراد أن يتعطل أكثر منافعه. الرابع: أن يغلب على الظن تعطل منافعه قريبًا. الخامس: أن يخاف أن يتعطل أكثر منافعه قريبًا (¬1). هذا تحرير المسألة في كل مذهب، وملخصها كالتالي: أن الواقف إما أن يشترط الاستبدال في صيغة الوقف أو لا يشترط الاستبدال، فإن اشترط الاستبدال فقد اختلفوا في صحة هذا الشرط على ثلاثة أقوال: فقيل: يصح الوقف والشرط، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية (¬2). وقيل: يبطل الوقف والشرط (¬3). وقيل: يصح الوقف ويبطل الشرط، وهو قول محمَّد بن الحسن من الحنفية (¬4). ¬
القول الأول
وسوف نناقش صحة هذا الشرط إن شاء الله تعالى في الكلام على الشروط الجعلية في الوقف، أسأل الله وحده العون والتوفيق. وإن لم يشترط الواقف الاستبدال عند تعطل منافع الوقف فالأقوال ثلاثة: القول الأول: له أن يستبدل الوقف مطلقا، عقارًا كان أو منقولًا، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية، وهو قول ربيعة، وإحدى روايتي أبي الفرج عن مالك إلا أن الحنفية قالوا: لا يستبدل إلا بإذن القاضي. وقال الشافعية: إذا أمكن أن يتخذ من الوقف الخرب أبواب وألواح لم يصح الاستبدال. القول الثاني: لا يستبدل الوقف مطلقًا، عقارًا كان أو منقولًا، وهو اختيار ابن الماجشون من المالكية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية، واختاره بعض الحنابلة. القول الثالث: يستبدل المنقول إذا تعطل، ولا يستبدل العقار، إلا إذا كان ذلك للمصلحة العامة كبيع الوقف توسعة للمسجد، أو للمقبرة، أو للطريق العام. وهذا مذهب المالكية. فإذا تصورت أقوال الفقهاء نأتي على ذكر أدلة كل قول إن شاء الله تعالى. دليل من قال: يستبدل الوقف إذا تعطلت منافعه مطلقًا: الدليل الأول: (ث -187) ما رواه الطبراني من طريق أبي نعيم، ثنا المسعودي، عن
وجه الاستدلال
القاسم، قال: قدم عبد الله وقد بني سعد القصر، واتخذ مسجدًا في أصحاب التمر، فكان يخرج إليه في الصلوات، فلما ولي عبد الله بيت المال نقب بيت المال، فأخذ الرجل، فكتب عبد الله إلى عمر، فكتب عمر أن لا تقطعه، وانقل المسجد، واجعل بيت المال مما يلي القبلة، فإنه لا يزال في المسجد من يصلي، فنقله عبد الله وخط هذه الخطة ... (¬1) [ضعيف، القاسم لم يسمع من جده عبد الله] (¬2) وجه الاستدلال: أن هذا نقل للمسجد وكان بمشهد من الصحابة، ولم يظهر خلافه، فكان كالإجماع، وإذا صح استبدال المسجد صح غيره قياسًا عليه إن لم يكن من باب أولى. وقد يناقش: بأن الأثر على فرض صحته ليس فيه إلا مجرد نقل المسجد، والنقل ليس صريحًا على جواز البيع، فقد تكون البقعة التي انتقلوا عنها بقيت مسجدًا، والله أعلم. الدليل الثاني: أن في بيع الوقف استبقاء للوقف، فإما أن يبطل الوقف وذلك بتعطل منافعه، وإما أن يبقى وذلك ببيعه واستبداله، ولأشك أن استمرار الوقف خير من انقطاعه. وبيعه في مثل هذه الحال يعتبر من باب الضرورة، والضرورة تبيح ¬
الدليل الثالث
الممنوع؛ فتعطيل الوقف لا يحصل به مقصود الواقف، ولا الموقوف عليه، بل هو فساد، والله لا يحب الفساد. الدليل الثالث: (ث -188) ما رواه الخلال، قال: أخبرني محمَّد بن الحسين بن هارون، حدثنا محمَّد بن الصباح الجرجرائي، حدثنا الدراوردي، أخبرني علقمة، عن أمه، أن شيبة بن عثمان الحجبي جاء إلى عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أم المؤمنين إن ثياب الكعبة تكثر عليها فننزعها، فنحفر لها آبارًا فنعمقها، فندفنها فيها حتى لا تلبسها الحائض والجنب؟ فقالت عائشة: بئس ما صنعت، ولم تصب، إن ثياب الكعبة إذا نزعت عنها لم يضرها من لبسها من حائض أو جنب، ولكن لو بعتها، وجعلت ثمنها في سبيل الله والمساكين، فكان شيبة يبعث بها إلى اليمن، فتباع، فيضع ثمنها حيث أمرته عائشة (¬1). [أرجو أن يكون حسنًا] (¬2). ¬
ويناقش
قال ابن تيمية: "فأمرت عائشة ببيع كسوة الكعبة مع أنها وقف وصرف ثمنها في سبيل الخير؛ لأن ذلك أصلح للمسلمين" (¬1). ويناقش: بأن بيع كسوة الكعبة محل خلاف بين الفقهاء، وما كان محل خلاف لا يصح أن يحتج به على المخالف، وربما كان تصرف الإِمام في كسوة الكعبة؛ لأنها كانت من بيت مال المسلمين، وما صرفه الإِمام في مصالح المسلمين لم يكن وقفًا كما لو اشترى الناظر شيئًا للوقف، ولم يكن بنية الوقف فإنه يجوز له بيعه ¬
دليل من قال: لا يصح استبدال الوقف مطلقا
إذا استغني عنه، فلو كانت الكسوة وقفًا من آحاد المسلمين ربما كان الحكم مختلفًا، والله أعلم .. دليل من قال: لا يصح استبدال الوقف مطلقًا: الدليل الأول: (ح -970) ما رواه البخاري من طريق صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن عمر تصدق بمال له على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يقال له ثمغ، وكان نخلًا، فقال عمر: يا رسول الله إني استفدت مالًا، وهو عندي نفيس ... وفيه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: تصدق بأصله، لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، ولكن ينفق ثمره ... الحديث (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث) دليل على منع بيعه بنية الاستبدال. ويناقش: بأن المقصود من منع بيع الوقف إذا كان ذلك بنية إبطال الوقف والرجوع فيه، فلا يدخل فيه إبداله بسبب تعطل منافعه، بل إن ذلك يؤدي إلى استمرار الوقف، وهو مقصود للشرع، ومقصود للواقف، والله أعلم. الدليل الثاني: (ح - 971) ما رواه البخاري من طريق أبي وائل، قال: جلست إلى شيبة في ¬
وجه الاستدلال
هذا المسجد، قال: جلس إلي عمر في مجلسك هذا، فقال: لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين. قلت: ما أنت بفاعل. قال: لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك. قال: هما المرءان يقتدى بهما (¬1). وجه الاستدلال: استدل شيبة بترك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر - رضي الله عنه - التعرض لمال الكعبة مع علمهما به، وحاجتهما إليه على أنه لا يجوز بيع الوقف ولا التعرض له، ووافقه عمر - رضي الله عنه - على ذلك. ونوقش: قال ابن حجر: "وأما الترك الذي احتج به عليه شيبة فليس صريحًا في المنع" (¬2). قلت: لأن فعل الشيء أو تركه زمن التشريع يدل على أنه الأفضل والأكمل ولا يدل على الوجوب في الفعل ولا المنع في الترك هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن تقسيم مال الوقف على المسلمين يؤدي إلى إنهاء الوقف، وبيع الوقف إذا خرب واستبداله بمثله يؤدي إلى استمرار الوقف، فلم يكن الأثر نصًا في الموضوع. الدليل الثالث: علل القائلون بالمنع بأن الواقف لا يملك حق بيع الوقف بعد أن خرج الوقف عن ملكه، وأصبح ملكا لله تعالى كما لو أعتق عبدًا ثم زمن. ¬
ويجاب
ويجاب: بأن حق البيع تارة يستفاد من الملك وتارة يستفاد من الولاية، وبيع الوقف متلقى من الثاني دون الأول. الدليل الرابع: لأن ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز بيعه مع تعطلها قياسًا على العبد المعتق. ويناقش: بأن القياس غير صحيح، فالعبد إذا أعتق خرج من المالية بخلاف الوقف. دليل من فرق بين العقار والمنقول: الأصل أن الوقف لا يباع ولا يستبدل، جاز ذلك في المنقول إذا تعطلت منافعه؛ لأنه لا يرجى عودها بحال بخلاف العقار فإن المنفعة لا تنعدم بالكلية، فيمكن إصلاحه وذلك بإجارته سنين فيعود كما كان، وإذا تعطلت منافع العقار في وقت فقد تعود في وقت آخر، وبقاء أوقاف السلف دائرة دليل على منع بيع الوقف في حال كان عقارًا إلا أن يكون العقار الموقوف قد احتيج إليه لتوسعة المسجد والطريق العام والمقبرة العامة، فيجوز بيع الوقف لذلك؛ لأن نفع المسجد والطريق والمقبرة أكثر من نفع الوقف فهو غرض قريب للواقف ومن باب تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. ويناقش: بأن جوازكم استبدال الوقف إذا كان منقولًا دليل على صحة استبدال العقار؛ ولا فرق؛ لأن الجميع وقف، فإذا كان الوقف لا يمنع من الاستبدال في المنقول
الراجح
لم يمنع منه في العقار، فإما أن تمنعوا منه مطلقًا أو تجوزوه مطلقًا، والتفريق بينهما لا دليل عليه. الراجح: أرى أن القول بجواز استبدال الوقف إذا تعطلت منافعه أقوى من القول بالمنع، والله أعلم. قال الكبيسي عن القول بمنع استبدال الوقف ولو تعطلت منافعه: "والذي أراه: أن هذا الإفراط في التشديد قد يجر إلى بقاء الكثير من دور الأوقاف خربة لا ينتفع بها أحد، وإلى بقاء بعض الأراضي غامرة ميتة لا تنبت زرعًا ولا تمد أحدًا بغذاء، وفي هذا من الإضرار ما فيه، وهو يصطدم مع مصلحة المستحقين في الارتزاق، كما يصطدم مع مصلحة الأمة في العمارة والنماء" (¬1). ¬
المبحث الثاني في استبدال الوقف إذا لم تتعطل منافعه
المبحث الثاني في استبدال الوقف إذا لم تتعطل منافعه إذا جاز إبدال المنذور بخير منه جاز إبدال الوقف قياسًا عليه. [م - 1517] اختلف العلماء في استبدال الوقف بخير منه إذا لم تتعطل منافعه كما لو كان استبداله أنفع للجهة الموقوف عليها: القول الأول: لا يستبدل إذا لم تتعطل منافعه، ولو ظهرت المصلحة في الاستبدال، وهذا مذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وعليه أكثر الحنفية (¬1). قال ابن عابدين: "الثالث: أن لا يشترطه -يعني الاستبدال- ولكن فيه نفع في الجملة، ويدله خير منه ريعًا ونفعًا، وهذا لا يجوز استبداله على الأصح المختار" (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يصح الاستبدال، وهو قول أبي يوسف من الحنفية، ورواية عن الإِمام أحمد، اختارها ابن تيمية وابن القيم، ورجحه الشوكاني (¬1). جاء في حاشية ابن عابدين: "أن يركب إنسان فيه ببدل أكثر غلة وأحسن صقعًا فيجوز على قول أبي يوسف، وعليه الفتوى كما في فتاوي قارئ الهداية" (¬2). وجاء في البحر الرائق: "وإن كان للوقف ريع ولكن يرغب شخص في استبداله إن أعطي مكانه بدلًا أكثر ريعًا منه في صقع أحسن من صقع الوقف جاز عند القاضي أبي يوسف، والعمل عليه، وإلا فلا يجوز" (¬3). دليل القائلين بالمنع: الدليل الأول: (ح -972) ما رواه البخاري من طريق صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن عمر تصدق بمال له على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يقال له ثمغ، وكان نخلًا، فقال عمر: يا رسول الله إني استفدت مالًا، وهو عندي نفيس ... ¬
وجه الاستدلال
وفيه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: تصدق بأصله، لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، ولكن ينفق ثمره ... الحديث (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث) دليل على منع بيعه بنية الاستبدال. ويناقش: بأن المنع من بيع الوقف المقصود به إذا كان ذلك يؤدي إلى إبطال الوقف، وأما بيع الوقف بنية استبداله بأفضل منه فلا يدخل في النهي؛ لأن فيه مصلحة للوقف وحظًا للواقف والموقوف عليه، والله يعلم المفسد من المصلح، ولذلك صح بيع الأرض الخراجية على الصحيح مع أنها وقف؛ لأن بيعها لا يؤدي إلى إبطال الخراج المضروب عليها. قال الشوكاني: "ومعلوم أن الاستبدال بالشيء إلى ما هو أصلح منه باعتبار الغرض المقصود من الوقف والفائدة المطلوبة من شرعيته حسن سائغ شرعًا وعقلًا؛ لأنه جلب مصلحة خالصة عن المعارض، ... ومن عرف هذه الشريعة كما ينبغي وجدها مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد وها هنا قد وجد المقتضى وهو جلب المصلحة بظهور الأرجحية وانتفاء المانع وهو وجود المفسدة فلم يبق شك ولا ريب في حسن الاستبدال" (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح -973) ما رواه أبو داود من طريق جهم بن الجارود، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، قال: أهدى عمر بن الخطاب نجيبًا فأعطى بها ثلاث مائة دينار، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إني أهديت نجيبا فأعطيت بها ثلاث مائة دينار، أفأبيعها وأشثري بثمنها بدنا؟ قال: لا انحرها إياها. قال أبو داود: هذا لأنه كان أشعرها (¬1). [ضعيف] (¬2). وجه الاستدلال: إذا منع المسلم من إبدال الهدي بخير منه فالوقف مقيس عليه. ونوقش هذا: أولًا: الحديث ضعيف كما تبين من التخريج. الثاني: أن الحديث ليس نصًا في الموضوع فعمر أراد إبدال الأغلى بالأكثر لحمًا، فلم يكن الإبدال إلى الأفضل، ولذلك جاء في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمنًا (¬3)، فكان اهداؤها إلى الله أفضل من إبدلها بالأكثر لحمًا، نعم يصح الاستدلال لو جاء في الحديث نهي عن إبدال الهدي مطلقًا بلفظ عام. ¬
الدليل الثالث
قال السندي: "والحديث يدل على الأغلى ثمنًا أولى في الأضحية والأهنأ من "الكبير". الثالث: يحتمل أن يكون المتع لمعنى في الهدي كما فسره أبو داود، قال: هذا لأنه كان أشعرها. الدليل الثالث: القياس على المعتق، فإذا كان العتيق لا يقبل الرق بعد إعتاقه فكذا العين الموقوفة لا تقبل الملك بعد ثبوت الوقف. ونوقش هذا: بأنه قياس مع الفارق، فالعبد إذا أعتق خرج عن المالية بخلاف الوقف. الدليل الرابع: أن الوقف ما دام نفعه قائمًا لا يجوز استبداله؛ لأنه لا يطلب به التجارة، ولا تطلب به الأرباح، وإنما سميت وقفا؛ لأنها لا تباع. دليل من قال: يجوز استبدال الوقف بخير منه: الدليل الأول: (ث -189) ما رواه الطبراني من طريق أبي نعيم، ثنا المسعودي، عن القاسم، قال: قدم عبد الله وقد بني سعد القصر، واتخذ مسجدًا في أصحاب التمر، فكان يخرج إليه في الصلوات، فلما ولي عبد الله بيت المال نقب بيت المال، فأخذ الرجل، فكتب عبد الله إلى عمر، فكتب عمر، أن لا تقطعه، وانقل المسجد، واجعل بيت المال مما يلي القبلة، فإنه لا يزال في المسجد من
وجه الاستدلال
يصلي، فنقله عبد الله وخط هذه الخطة ... (¬1) [ضعيف، القاسم لم يسمع من جده عبد الله] (¬2) وجه الاستدلال: فقد تم استبدال المسجد في مشهد من الصحابة مع أن نفعه لم يتعطل. الدليل الثاني: (ح -974) ما رواه البخاري من طريق عروة، عن عائشة - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "يا عائشة، لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت، فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين، بابًا شرقيًا، وبابًا غربيًا، فبلغت به أساس إبراهيم ... الحديث (¬3). وجه الاستدلال: دل الحديث على جواز تغيير الوقف من صورة إلى أخرى لأجل المصلحة الراجحة وإنما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - تغييره من أجل معارض راجح، وهو كون أهل مكة حديثي عهد بجاهلية. الدليل الثالث من الآثار: (ح -975) ما رواه البخاري من طريق صالح بن كيسان، قال: حدثنا نافع، أن عبد الله بن عمر، أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبنيًا ¬
وجه الاستدلال
باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئًا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنيانه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باللبن والجريد وأعاد عمده خشبًا، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة: وبنى جداره بالحجارة المنقوشة، والقصة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج (¬1). وجه الاستدلال: أن ما فعله عمر وعثمان من هدم المسجد وإعادة بنائه على وجه أصلح من البناء الأول دليل على جواز إبدال الوقف بخير منه، وقد كان هذا الفعل بمشهد من المهاجرين والأنصار، ولم ينكر عليهم ذلك. قال ابن تيمية: "ولا فرق بين إبدال البناء ببناء، وإبدال العرصة بعرصة: إذا اقتضت المصلحة ذلك؛ ولهذا أبدل عمر بن الخطاب مسجد الكوفة بمسجد آخر: أبدل نفس العرصة وصارت العرصة الأولى سوقًا للتَّمارين. فصارت العرصة سوقًا بعد أن كانت مسجدًا. وهذا أبلغ ما يكون في إبدال الوقف للمصلحة" (¬2). الدليل الرابع: مما يدل على جواز ذلك أن العبادات يجوز إبطالها لإعادتها على وجه أكمل مما كانت، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة ليعيدوا الحج على وجه أكمل مما كان، وهو وجه التمتع فإنه أفضل من الإفراد والقران بغير سوق ¬
الدليل الخامس
الهدي، وكما أن من دخل في صلاة مكتوبة منفردًا، ثم حضر جماعة، فإن إبطال صلاته أو قلبها نفلًا؛ ليعيد فرضه في جماعة أكمل من صلاته منفردًا. وهذا قول جمهور العلماء، منهم: أحمد، والشافعي في أحد قوليه، وكذلك قال مالك وأبو حنيفة إذا لم يكن قد صلى أكثر صلاته (¬1). الدليل الخامس: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جواز إبدال المنذور بخير منه: (ح -976) فقد روى الإِمام أحمد، قال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا حبيب المعلم، عن عطاء، عن جابر، أن رجلًا قال يوم الفتح: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، فقال: صل ها هنا، فسأله, فقال: صل ها هنا، فسأله, فقال: شأنك إذًا (¬2). [إسناده حسن] (¬3) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - إبدال النذر الذي تعين في بيت المقدس بإقامته في الحرم المكي فصح فيه إبدال الفاضل بالأفضل، ويدخل في ذلك الوقف، والله أعلم. ¬
الراجح
الراجح: بعد استعراض الخلاف أجد أن القول بجواز بيع الوقف واستبداله أرجح من غيره إلا أن المسألة تحتاج إلى وضع ضوابط شرعية حتى لا يدخل الاعتداء على الأوقاف بحجة استبدالها بأفضل منها. يقول الشيخ الكبيسي: "التطبيق العملي أظهر في كثير من حالات الاستبدال حالة سلبية يخشى على الوقف منها، وضاعت حقوق الناس بها، وكان الاستبدال في كثير من الأزمنة ذريعة الحكام الظلمة إلى أكل أموال الناس بالباطل. فمن المؤلم أن نرى التاريخ قد حفظ لنا كثيرًا من الصور غير الكريمة لقوم من ذوي السلطة قد مكن لهم في الأرض، فعدوا على أملاك الوقف يأكلونها بغير وجه حق، متذرعين بالاستبدال، أعانهم على ذلك قضاة ظلمة، وشهود زرو، وقد ذكرت كتب التاريخ والفقه بعض هذه الصور، وهناك صور خفيت على رجال التاريخ وفقهاء الأمة، وهذه الصور لا يمكن حصرها لكثرتها، والا الوقوف عليها لسريتها، أو لإلباسها لباس الحق والشرع" (¬1). ولذلك لا بد من وضع شروط تعمل على صيانة الأوقاف وحفظها من التلاعب والأطماع، من ذلك: ألا يستقل الناظر ببيع الوقف، بل لا بد من الرجوع إلى القضاء، كما هو معمول به اليوم في المحاكم السعودية، وينظر من خلال لجنة من القضاة تنظر ¬
في دعوى مصلحة الاستبدال للوقف والموقوف عليه، فإذا جاءت موافقة اللجنة على البيع باشر الناظر البيع. وأن يكون الاستبدال بغير النقود، وأن يكون البديل جاهزًا حتى لا تنقطع منفعة الوقف. قال ابن نجيم: "ويجب أن يزاد شرط آخر في زماننا: وهو أن يستبدل بعقار لا بالدراهم والدنانير، فإنا قد شاهدنا النظار يأكلونها، وقل أن يشترى بها بدل، ولم نر أحدًا من القضاة يفتش على ذلك مع كثرة الاستبدال في زماننا مع أني نبهت بعنص القضاة على ذلك، وهم بالتفتيش، ثم ترك" (¬1). ¬
الفصل الرابع في إجارة الوقف
الفصل الرابع في إجارة الوقف لما كان الوقف قائمًا على تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وكان الوقف متوجهًا على عين ينتفع بها مع بقاء عينها، جاء البحث في كيفية استثمار هذه المنفعة بما يعود بالنفع على الوقف وعلى الموقوف عليه، ومن ذلك استثمار الوقف عن طريق الإجارة، وهو طريق فقهي قديم أفتى به العلماء من أجل مصلحة الوقف بإيجاد موارد مالية لإعماره وصيانته، وإيجاد فائض مالي ينتفع به الموقوف عليه، بل إن هناك من العلماء من ربط القول بصحة وقف العين بصحة إجارتها، ومنع من وقف بعض الأعيان إذا لم تصح إجارتها عنده، كالخلاف في وقف النقود بناء على أن إجارة النقود لا تصح. [م - 1519] قال الشيرازي: "اختلف أصحابنا في الدراهم والدنانير، فإن أجاز إجارتها أجاز وقفها، ومن لم يجز إجارتها لم يجز وقفها" (¬1). وقد بحثت هذه المسألة في مبحث مستقل. [م - 1520] ولم يختلف العلماء فيما أعلم في صحة إجارة الوقف، وإنما اختلفوا في مدة إجارته، وفي مخالفة شرط الواقف إذا منع من الإجارة، أو حددها بمدة معينة، وفي أجر المثل، والله أعلم، يقول فضيلة الشيخ علي القره داغي: "وإجارة الموقوف والانتفاع بإجارته محل اتفاق بين الفقهاء ولكنهم ¬
اختلفوا في بعض التفاصيل من حيث مدة الإجارة، وأجر المثل" (¬1). وسوف نبحث إن شاء الله تعالى كل هذه المسائل، أسأل الله العون والتوفيق. ¬
المبحث الأول من يتولى إجارة الوقف
المبحث الأول من يتولى إجارة الوقف إذا لم يوجد الناظر الخاص انتقل الحق إلى الناظر العام، وهو القاضي. والموقوف عليه لا يخرج عن حالين: [م - 1521] الحال الأولى: أن يكون الواقف قد عين ناظرًا. وفي هذه الحالة فإنه هو الذي يتولى بنفسه الإجارة، سواء كان الموقوف عليه معينًا كزيد، أو جهة كالفقراء، وسواء كان الناظر أجنبيًا، أو كان الناظر هو الموقوف عليه، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء، وإذا تولى الموقوف عليه الإجارة فإن هذا الحق ثبت له من حيث كونه ناظرًا على الوقف، لا من حيث كونه مستحقًا فيه. جاء في قانون العدل والإنصاف: "للناظر ولاية إجارة الوقف، فلا يملكها الموقوف عليه إلا إذا كان متوليًا من قبل الواقف، أو مأذونًا ممن له ولاية الإجارة من ناظر، أو قاض" (¬1). جاء في لسان الحكام: "وليس للموقوف عليه إذا لم يكن متوليًا على الوقف ولا نائبًا من جهة القاضي أن يؤاجره؛ لأنه لا يملك ذلك، وإنما يملك الغلة دون العين، والتصرف بالإجارة إلى من له الولاية في ذلك" (¬2). ¬
الحال الثانية
وجاء في مغني المحتاج: "لا يؤجر إلا إذا كان ناظرًا، أو أذن له الناظر في ذلك" (¬1). وقال ابن الصلاح في فتاويه: "وحيث يؤجر الموقوف عليه فلا يؤجر إلا بالنظر المجعول له، فإن مجرد استحقاقه لا يفيده الولاية في ذلك على الأصح" (¬2). الحال الثانية: ألا يعين الواقف ناظرًا. إما لم يعين الواقف ناظرًا، فإما أن يكون الموقوف عليه معينًا كزيد أو جماعة مححورة، أو يكون الموقوف عليهم غير محصورين كالفقراء. [م - 1522] فإن كان معينًا فقد اختلف العلماء فيمن يملك الإجارة: القول الأول: أن الإجارة للقاضي أو وكيله، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). جاء في تنقيح الفتاوى الحامدية: "الموقوف عليه الغلة لا يملك الإجارة إلا ¬
بتولية، أو إذن قاض، ولو كان الوقف على رجل معين على ما عليه الفتوى (عمادية)؛ لأن حقه في الغلة لا العين" (¬1). وعللوا ذلك: جاء في البحر الرائق: دمن له السكنى لا تصح إجارته؛ لأنه غير مالك كذا في الهداية. وأورد عليه: أنه إن أراد أنه ليس بمالك للمنفعة، وإنما أبيح له الانتفاع كما اختاره في العناية وغاية البيان لزم أن لا يملك الإعارة، والمنقول في الخصاف أنه يملكها، فلولا أنه مالك للمنفعة لما ملكها؛ لأنها تمليك المنافع. وإن أراد أنه ليس بمالك للعين، والإجارة تتوقف على ملك العين لزم أن لا تصح إجارة المستأجر فيما لابختلف باختلاف المستعمل، وأن لا تصح إعارته، وهما صحيحان. فالأولى أن يقال كما في فتح القدير؛ لأنه يملك المنافع بلا بدل، فلا يملك تمليكها ببدل وهو الإجارة، وإلا لملك أكثر مما ملك، بخلاف الإعارة، ولا فرق في هذا الحكم أعني عدم الإجارة بين الموقوف عليه السكنى وغيره فلا يملكها المستحق للغلة أيضًا، ونص الأسروشني أن إجارة الموقوف عليه لا تجوز، وإنما يملك الإجارة المتولي أو القاضي" (¬2). وجاء في مغني المحتاج: "إن شرط الواقف النظر لنفسه أو غيره اتبع، وإلا فالنظر للقاضي على المذهب" (¬3). ¬
القول الثاني
وجهه: إذا وجد ناظر الوقف قدم على القاضي؛ لأنه من باب تقديم الناظر الخاص على الناظر العام، فإذا لم يوجد الناظر الخاص انتقل الحق إلى صاحب النظر العام، وهو القاضي، كالولي مع القاضي فإذا لم يوجد ولي فإن القاضي ولي من لا ولي له. ولأن الملك في الوقف لله تعالى فكان النظر إلى الحاكم الشرعي، وهو القاضي. القول الثاني: يتولى الإجارة الموقوف عليه، وهذا مذهب المالكية، والحنابلة. وذهب إليه أبو جعفر من الحنفية بشروط: أحدها: ألا يكون له مشارك في الغلة. الثاني: أن يكون الوقف غير محتاج إلى عمارة. الثالث: ألا يشترط الواقف تقديم العشر والخراج وسائر المؤن على نصيب الواقف (¬1). قال الدردير المالكي: "فإن لم يجعل ناظرًا فإن كان المستحق معينا رشيدًا فهو الذي يتولى أمر الوقف، وإن كان غير رشيد فوليه، وإن كان المستحق غير معين كالفقراء فالحاكم يولي عليه من شاء" (¬2). ¬
القول الثالث
وقال الخرشي المالكي: "فإن لم يجعل الواقف لوقفه ناظرا فإن جعل الوقف على معين مالك لأمر نفسه فهو الذي يحوزه ويتولاه وإلا فالنظر فيه للحاكم يقدم له من يرتضيه" (¬1). وقال المرداوي الحنبلي: "فإن لم يشترط ناظرًا، فالنظر للموقوف عليه. هذا المذهب بلا ريب بشرطه، وعليه جماهير الأصحاب. وقطع به كثير منهم" (¬2). وجاء في حاشية ابن عابدين: "قال الفقيه أبوجعفر: لو كان الأجر كله للموقوف عليه، بأن كان لا يحتاج إلى العمارة، ولا شريك معه في الغلة، فحينئذ يجوز في الدور والحوانيت، وأما الأراضي، فإن شرط الواقف تقديم العشر والخراج وسائر المؤن، وجعل للموقوف عليه الفاضل لم يكن له أن يؤجرها؛ لأنه لو جاز كان كل الأجر له بحكم العقد، فيفوت شرط الواقف، ولو لم يشترط يجب أن يجوز ويكون الخراج والمؤن عليه اهـ ونحوه في الإسعاف" (¬3). القول الثالث: وقيل: النظر مرتب على الخلاف في ملك الوقف، فإن قيل: إن الملك للواقف كان النظر له، أو للموقوف عليه كان النظر له، وإن قيل: لله تعالى كان النظر للقاضي، وهذه الثلاثة كلها أوجه في مذهب الشافعية (¬4). ¬
جاء في إعانة الطالبين: "ومقابل المذهب يقول: إن النظر مرتب على أقوال الملك، أي فإن قيل: إن الملك في الموقوف للواقف، كان النظر له، أو للموقوف عليه كان النظر له، وإن قيل: لله تعالى، كان النظر للقاضي" (¬1). جاء في المهذب: "وإن وقف ولم يشرط الناظر ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه إلى الواقف؛ لأنه كان النظر إليه، فإذا لم يشرطه بقي على نظره. والثاني: أنه للموقوف عليه؛ لأن الغلة له فكان النظر إليه. والثالث: إلى الحاكم؛ لأنه يتعلق به حق الموقوف عليه، وحق من ينتقل إليه" (¬2). وجاء في الإنصاف: "فإن لم يشترط ناظرا. فالنظر للموقوف عليه. هذا المذهب بلا ريب بشرطه. وعليه جماهير الأصحاب. وقطع به كثير منهم. وقيل: للحاكم. قطع به ابن أبي موسى. واختاره الحارثي، وقال: فمن الأصحاب من بني هذا الوجه على القول بانفكاك الموقوف عن ملك الآدمي. وليس هو عندي كذلك ولا بد؛ إذ يجوز أن يكون لحق من يأتي بعد. انتهى. وأطلقهما في الكافي. وقال المصنف، ومن تبعه: ويحتمل أن يكون ذلك مبنيًا على أن الملك فيه: هل ينتقل إلى الموقوف عليه، أو إلى الله؟ فإن قلنا: هو للموقوف عليه، فالنظر فيه له. ¬
الراجح من الخلاف
وإن قلنا: هو الله تعالى، فالنظر للحاكم. انتهى. قلت -القائل صاحب الإنصاف- قد تقدم أن الخلاف هنا مبني على الخلاف هناك. وعليه الأصحاب. قال الحارثي هنا: إذا قلنا: النظر للموقوف عليه. فيكون بناء على القول بملكه، كما هو المشهور عندهم. انتهى. فلعل المصنف ما اطلع على ذلك. فوافق احتماله ما قالوه، أو تكون طريقة أخرى في المسلم، وهو أقرب" (¬1). الراجح من الخلاف: العين الموقوفة ليست ملكًا للموقوف عليه؛ لأنه لم يستفد من الوقف إلا مجرد المنفعة فقط، وبالتالي فالموقوف عليه مستبعد من حق التصرف في العين الموقوفة؛ لأنه لا ملك له على العين، وملك المنفعة لا يعطيه ملك العين، وربما لو وقعت الأجرة في يده لم ينفق على صيانة الوقف. وعمارته مما يؤدي إلى تعطله وخرابه. والأصل في النظر أن يكون للواقف؛ لأنه إذا صح بالإجماع أن يشترطه الواقف لغيره كان هذا دليلًا على أنه يملكه؛ لأنه لو لم يكن يملكه ما صح أن يشترطه لمن شاء، وإذا لم يخرج منه بقي الحق قائمًا له، فإن مات أو أبى انتقل إلى القاضي، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في اتباع شرط الواقف في التأجير وعدمه
المبحث الثاني في اتباع شرط الواقف في التأجير وعدمه الوقف يتبع فيه مقتضى كلام الواقف. شرط الواقف يجب اتباعه إذا كان له فيه غرض صحيح. [م - 1523] اختلف الفقهاء في اشتراط شرط الواقف في عدم تأجير الوقف: القول الأول: ذهب عامة الفقهاء إلى اعتبار شرط الواقف في تأجير الوقف أو وفي عدمه كما لو شرط أن يكون الوقف للسكنى فقط لا للإجارة (¬1). قال ابن نجيم نقلًا من الإسعاف: "لو شرط الواقف أن لا يؤجر المتولي الوقف ولا شيئًا منه، وأن لا يدفعه مزارعة، أو على أن لا يعمل على ما فيه من الأشجار ... كان شرطه معتبرًا, ولا تجوز مخالفته" (¬2). وقال الخرشي: " الواقف إذا شرط في كتاب وقفه شروطًا، فإنه يجب اتباعها حسب الإمكان، إن كانت تلك الشروط جائزة؛ لأن ألفاظ الواقف كألفاظ الشارع في وجوب الاتباع" (¬3). ¬
حجة هذا القول
وفي نهاية المحتاج: "والأصح أنه إذا وقف بشرط أن لا يؤجر أصلًا أو سنة، أو لا يؤجر من ذي شوكة كما قاله الأذرعي، أو أن الموقوف عليه يسكن فيه بنفسه اتبع -في غير حال الضرورة- شرطه كسائر شروطه التي لا تخالف الشرع" (¬1). وفي الإقناع في فقه الإِمام أحمد: "وأن شرط الواقف ألا يؤجر وقفه صح واتبع شرطه" (¬2). وجاء في الإنصاف: "ويرجع إلى شرط الواقف في قسمه على الموقوف عليه ... وكذا لو شرط عدم إيجاره، أو قدر مدة. قاله الأصحاب" (¬3). حجة هذا القول: الأصل في شرط الواقف أنه واجب الاتباع؛ لأن الواقف تبرع بالمال على وجه مشروط، فكان له ما اشترط ما دام لم يخالف الشرع، وله في اشتراطه غرض صحيح. ولأن شرط الواقف كنص الشارع في وجوب الاتباع، فهو لم يرض بإخراج ماله من يده إلا بهذا الشرط، فلا تجوز مخالفته إلا لضرورة. القول الثاني: لا يعتبر شرط الوقف في عدم التأجير، وهذا وجه في مذهب الشافعية (¬4). ¬
وجه ذلك
وجه ذلك: أن هذا حجر على من ثبتت له ملك المنفعة. قال الغزالي: "أحدهما لو شرط أن لا يؤاجر الوقف أصلًا، ففية ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه يتبع. والثاني: لا؛ لأنه حجر على من ثبت له ملك المنفعة والثالث: أنه يجوز في قدر سنة فيتبع؛ لأنه يليق بمصلحة الوقف ولو شرط المنع من أصل الإجارة لم يتبع" (¬1). وهذا يتفق مع مذهب ابن تيمية وابن القيم في الموقف من شروط الواقف، حيث يرى ابن تيمية أن العمل بشرط الواقف إنما يلزم بالشرط المستحب خاصة، أما الشروط المباحة فلا يلزم العمل بها (¬2). وسيأتي مزيد إيضاح إن شاء الله تعالى عند الكلام على شروط الواقف الجعلية، والموقف منها. ¬
المبحث الثالث في اتباع شرط الواقف في مدة الإجارة
المبحث الثالث في اتباع شرط الواقف في مدة الإجارة كل شرط لا يخالف الشرع، ولا يخالف مقتضى عقد الوقف فإنه واجب الاتباع. تقدم مصلحة الوقف على موافقة شرط الواقف. [م - 1524] إذا شرط الواقف ألا يؤجر أكثر من سنة، فهل يجب اتباع شرطه؟ في ذلك خلاف بين العلماء: القول الأول: ذهب عامة الفقهاء من الحنفية، والمالكية والشافعية والحنابلة إلى وجوب اتباع شرط الواقف في مدة الإجارة (¬1). ¬
وجه القول بوجوب اتباع الشرط
وجه القول بوجوب اتباع الشرط: أن مثل هذا الشرط لا يخالف مقتضى العقد، ولا يخالف الشرع، وما كان كذلك من الشروط فهو واجب الاتباع. ولأن مثل هذا الشرط فيه مصلحة للوقف، واستبقائه؛ فإن مدة الإجارة إما طالت، واستولت أيدي المستأجرين عليه، فقد يؤدي ذلك إلى تعطيل الوقف وخرابه. واستثنى المالكية والشافعية والحنابلة جواز مخالفة شرط الواقف في المدة للضرورة كما لو احتاج الوقف إلى عمارة، ولم تمكن عمارته إلا بمخالفة شرط الواقف، فإنها تقدم مصلحة الوقف على شرط الواقف بقدر ما تقتضي الضرورة (¬1). ¬
وحجتهم في ذلك
قال الحطاب المالكي: "إن الواقف إذا شرط أن لا يؤجر الوقف أكثر من سنة مثلًا، وخرب الوقف، ولم يوجد ما يصلح به به، وأراد الناظر أو المستحق للوقف إجارته السنين بمقدار ما يعمر به، هل يمنع من ذلك؟ ... يكون حكم هذه المسألة حكم ما إذا شرط الواقف أن يبدأ غلته بمنافع أهله، ويترك إصلاح ما انخرم منه أنه لا يتبع شرطه، كما نصوا على ذلك" (¬1). وجاء في شرح غاية المنتهى: "فإن شرط أن لا يؤجر أكثر من سنة لم تجز الزيادة عليها لكن عند الضرورة يزاد بحسبها" (¬2). وحجتهم في ذلك: أن التمسك بالشرط يؤدي إلى بطلان أصل الوقف، وما كان كذلك من الشروط لا يوفى بها تقديمًا لمصلحة الوقف، ومصلحة الموقوف عليه، بل ومصلحة الواقف نفسه. وجوز الحنفية للقاضي وحده دون الناظر مخالفة شرط الواقف في مدة الإجارة إذا كان هناك مصلحة، ولو لو تكن هناك ضرورة. قال ابن عابدين: "الثالثة: شرط أن لا يؤجر وقفه أكثر من سنة، والناس لا ¬
القول الثاني
يرغبون في استئجار سنة، أو كان في الزيادة نفع للفقراء، فللقاضي المخالفة دون الناظر" (¬1). قال ابن نجيم: "شرط الواقف يجب اتباعه لقولهم: شرط الواقف كنص الشارع أي في وجوب العمل به، وفي المفهوم والدلالة، كما بيناه في شرح الكنز إلا في مسائل: ... الثانية: شرط أن لا يؤجر وقفه أكثر من سنة، والناس لا يرغبون في استئجاره سنة أو كان في الزيادة نفع للفقراء، فللقاضي المخالفة دون الناظر" (¬2). لأن هذا شرط لا يخالف مقتضى العقد، ولا يخالف الشرع، وقد يكون في هذا الشرط مصلحة للوقف، فوجب اتباع شرطه (¬3). القول الثاني: لا يتبع شرط الواقف في مدة الإجارة؛ وهذا قول للشافعية في مقابل الأصح. ويتفق هذا القول مع مذهب ابن تيمية وابن القيم في الموقف من شروط الواقف، حيث يرى ابن تيمية أن العمل بشرط الواقف إنما يلزم بالشرط المستحب خاصة، أما الشروط المباحة فلا يلزم العمل بها (¬4). ¬
حجة هذا القول
حجة هذا القول: احتج بعض الشافعية على عدم اعتبار شرط الواقف في مدة الإجارة بأن في ذلك حجزًا على مستحق المنفعة. قال إمام الحرمين: "ولو وقف ضيعة، أو دارًا على معينين، وسوغ الإجارة، ولكن حجر عليهم في زيادة مدة الإجارة على سنة مثلًا، فالمذهب الذي يجب القطع به أن شرطه متبع ... وأبعد بعض أصحابنا فأفسد هذا الشرط، ورآه ملحقا بما يتضمن الحجر. وهذا مما لا أعتد به أصلًا" (¬1). الراجح: جواز مخالفة شرط الواقف إذا كان التزام شرطه يؤدي إلى تعطيل الوقف أو خرابه؛ لأن ذلك وإن خالف لفظ الواقف فإنه موافق لمقصد الواقف من استمرار نفع وقفه حتى لا ينقطع عمله، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في مدة الإجارة إذا لم يشترط الواقف مدة معينة
المبحث الرابع في مدة الإجارة إذا لم يشترط الواقف مدة معينة التقديرات بابها التوقيف. لا فرق بين الوقف والملك في تقدير مدة الإجارة. تقدير مدة إجارة الوقف اقتضاه النظر في مصلحة الوقف. [م - 1525] اختلف الفقهاء في تقدير مدة إجارة الوقف إذا لم يشترط الواقف مدة محددة: القول الأول: اختلف الحنفية في تقدير مدة إجارة الوقف على أقوال كثيرة، والمختار عندهم: يجوز في الضياع ثلاث سنين، وفي غير الضياع سنة. قال في الاختيار لتعليل المختار: "وقيل: يجوز في الضياع ثلاث سنين، وفي غير الضياع سنة، وهو المختار؛ لأنه لا يرغب في الضياع أقل من ذلك" (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية إلى التفريق بين الدار وبين الأرض: فإن كان الموقوف دارًا فلا تؤجر أكثر من سنة مطلقًا، أي سواء كان الموقوف عليه معينًا أو غير معين. ¬
القول الثالث
وإن كان الموقوف أرضًا، فإن كان الوقف على معين جاز للناظر إجارة الأرض سنتين وثلاث سنين، ولا يجوز أكثر من ذلك. وإن كان الوقف على غير معين كالفقراء ونحوهم جاز أن تكرى أربعة أعوام. وهذا كله إذا كان الكراء لغير من مرجعها له، فإن كان الكراء لمن يرجع إليه الوقف ملكًا أو وقفًا، كما لو كان الوقف على زيد، ثم على عمرو، فأكراها زيد لعمرو جاز أن يكريها إلى عشرة أعوام، ولا فرق في ذلك بين الأرض والدار؛ لخفة الغرر؛ لأن مرجع الوقف إليه. جاء في الشرح الصغير: " (وأكرى) الوقف (ناظره): أي جاز له أن يكري (السنة والسنتين إن كان) أرضا (على معين): كزيد أو عمرو أو أولادي (وإلا) يكن على معين -بأن كان على الفقراء أو العلماء أو نحو ذلك- (فكالأربعة) من الأعوام لا أكثر. هذا إذا لم يكن مرجعه للمكري، ولا ضرورة أن يكري، (و) جاز أن يكري (لمن مرجعها): أي الذات الموقوفة (له) وقفًا أو ملكًا (كالعشرة) من السنين؛ لخفة الأمر فيه. وصورتها أنه حبسها على زيد ثم رجع بعده لعمرو ملكًا أو وقفًا، فجاز لزيد أن يكريها لعمرو عشرة أعوام" (¬1). القول الثالث: لم يقدر المتقدمون من الحنفية، وكذا الشافعية في المعتمد، والحنابلة مدة ¬
يجوز للناظر فيها تأجير الوقف، وإنما كان الرجوع في ذلك لأحكام الإجارة العامة من غير فرق بين الوقف وغيره (¬1). جاء في المبدع: "ولا فرق بين الوقف والملك" (¬2). وقد سبق لنا تحرير مذهب الشافعية والحنابلة في أكثر مدة الإجارة عند الكلام على عقد الإجارة، وأن ذلك جائز في أي مدة طالت أو قصرت إذا كان ذلك في مدة تبقى فيه العين غالبًا، وهذا يختلف من عين لأخرى فالعقار يختلف عن غيره من الدواب والثياب، والله أعلم. جاء في الاختيار لتعليل المختار: "فإن لم يشرط مدة فالمتقدمون من أصحابنا قالوا: يجوز إجارته أي مدة كانت" (¬3). وعللوا ذلك: بأن "الواقف فوض الأمر إلى المتولي، فنزل المتولي منزلة الواقف، وللواقف أن يؤجر سنين كثيرة فكذا من يقوم مقاومه" (¬4). وقال النووي: "لا بد من تقدير هذه المنفعة بالمدة، وفي التي يجوز عقد الإجارة عليها ثلاثة أقوال، المشهور، والذي عليه جمهور الأصحاب أنه يجوز عقد سنين كثيرة بحيث يبقى إليها ذلك الشيء غالبا" (¬5). ¬
القول الرابع
وقال الماوردي: "فإن كان ذلك أرضًا تأبد بقاؤها، وإن كان دارًا روعي فيها مدة يبقى فيها بناؤها، وإن كان حيوانًا روعي فيه الأغلب من مدة حياته، والله أعلم" (¬1). قال الشيرازي: "تجوز -يعني الإجارة- ما بقيت العين" (¬2). وقال إمام الحرمين: "فإن كانت المدة بحيث يقطع بأن المستأجَر لا يبقى فيها فالإجارة مردودة، وإن كان يغلب إمكان البقاء فيها صحت الإجارة، وإن غلب على الظن أن العين لا تبقى فيها، وأمكن البقاء على بعد، ففي المسألة احتمال، والأظهر التصحيح" (¬3). القول الرابع: هناك قول في مذهب الشافعية أن مدة الإجارة سنة واحدة. القول الخامس: قال الشافعي: له أن يؤجر عبده وداره ثلاثين سنة (¬4). ¬
الراجح
وقال ابن قدامة: "ولا تتقدر أكثر مدة الإجارة، بل تجوز إجارة العين المدة التي تبقى فيها وإن كثرت. وهذا قول كافة أهل العلم ... " (¬1). الراجح: الذين قالوا بتقييد مدة إجارة الوقف لم يقولوا بذلك من أجل نص يجب الوقوف عنده، وإنما نظروا في ذلك إلى مصلحة الوقف، ومصلحة الموقوف عليه، وهو نظر شرعي. أما مصلحة الوقف: فإن تحديد مدة قصيرة للوقف يؤدي إلى صيانة الأوقاف عن دعوى الملكية بطول المدة؛ لأن المدة إذا طالت تؤدي إلى إبطال الوقف، فإن من رآه يتصرف فيها تصرف الملاك على طول الزمان متواليًا ولا مالك يعارض ويزاحم يظنه الرائي بتصرفه الدائم مالكًا، ويشهد له بالملك إذا ادعاه. ولا مصلحة للوقف في أمر يدعو إلى هذا الضرر. وأما مصلحة الموقوف عليه: فإن القول بجواز الإجارة مدة طويلة يفضي إلى ضياع حقوق المستحقين الآخرين ممن يولد أو ينتقل إليهم الحق، خاصة إذا رجحنا أن الإجارة عقد لازم لا تنفسخ بموت المستحق، لذا كان لا بد من النظر في إجارة الوقف سنوات بما يحفظ مصلحة الوقف والموقوف عليه، من ذلك: ¬
أن يكون عقد الإجارة لازمًا في السنة الأولى، وجائزًا في بقية السنوات، وبالتالي يزول المحذور من إجارته مدة طويلة. أو لا بد من تقييد المدة بمدة معقولة تحفظ فيها حقوق الموقوف عليهم من البطون الأخرى. أو نقول بانفساخ العقد بعد موت المستحق، وانتقال الحق في الوقف إلى بطون آخر. مع القول بعدم تمكين الموقوف عليه المعين من استلام كامل الأجرة إلا بعد مضي مدة الإجارة واستقرار استحقاقه لها؛ لأن الأجرة وإن كانت تستحق بالعقد إلا أنها لا تستقر إلا بمضي المدة، ولأنه قد يظهر مستحق جديد قبل استحقاق الكراء. قال ابن شاس المالكي: "لا يقسم الكراء عليهم قبل كمال سكنى المكتري؛ لأنه إنما يقسم على من يحضر القسم، فمن ولد قبل القسم ثبت حقه، ومن مات قبله سقط" (¬1). وجاء في الفتاوى الكبرى: "وتنفسخ إجارة البطن الأول إذا انتقل الوقف إلى البطن الثاني في أصح الوجهين" (¬2). وقال ابن تيمية: "وليس للوكيل أن يطلق في الإجارة مدة طويلة، بل العرف كسنتين ونحوهما، وإذا شرط الواقف أن النظر للموقوف عليه، أو أتى بلفظ يدل على ذلك، فأفتى بعض أصحابنا أن إجارته كإجارة الناظر، وعلى ما ذكره ¬
ابن أحمد، أن ليس كذلك، وهو الأشبه، وتنفسخ إجارة البطن الأول إذا انتقل الوقف إلى البطن الثاني في أصح الوجهين" (¬1). وقال أيضًا: إن كان قبضها المؤجر -يعني الأجرة- رجع بذلك في تركته، فإن لم تكن تركة فأفتى بعض أصحابنا بأنه إذا كان الموقوف عليه هو الناظر فمات فللبطن الثاني فسخ الإجارة والرجوع بالأجرة على من هو في يد (¬2) اهـ وسوف نناقش مسألة قبض الأجرة في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى. ¬
المبحث الخامس في إجارة الوقف بأقل من أجرة المثل
المبحث الخامس في إجارة الوقف بأقل من أجرة المثل تصرف الناظر مقيد بتحصيل ما هو الأغبط، وطلب ما هو الأحوط. تصرف الناظر مقيد بالمصلحة. الناظر لا يصح منه التبرع لانتقاء الإذن فيه. [م - 1526] الأصل في تأجير الوقف أن يكون بأجرة المثل، ويتسامح بالغبن اليسير عرفًا، فإن أجره بأقل من أجرة المثل بغبن فاحش، فاختلف العلماء في حكم ذلك: القول الأول: لا يجوز للناظر أن يؤجر الوقف بأقل من أجرة المثل مطلقًا حتى ولو كان الناظر هو المستحق وحده للأجرة كلها، وهذا مذهب الحنفية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬1). تعليل القول بالمنع: التعليل الأول: علل الحنفية ذلك: بأنه قد يموت، والإجارة لا تنفسخ بموته، فيتضرر ¬
التعليل الثاني
المستحقون للوقف بعده بسبب نقص الأجرة، وقد يتضرر الوقف حين يكون محتاجًا إلى عمارة، فإن عمارته من غلته. جاء في الإسعاف: "والفتوى على أنه يجب أجر المثل على كل حال، وإنما منع الفقهاء ذلك؛ لأنه قد يموت، والإجارة لا تنفسخ بموته، فيتضرر المستحقون للوقف بعده بسبب نقص الأجرة، أو يتضرر الوقف حين يكون محتاجًا إلى عمارة" (¬1). التعليل الثاني: تأجيره بأقل من أجرة المثل لا يصح؛ لانتفاء الإذن فيه؛ لأن تصرفه مقيد بالمصلحة. جاء في كشاف القناع: "وإن أجر الناظر العين الموقوفة بأنقص من أجرة المثل، صح عقد الإجارة، وضمن الناظر النقص ... وفيه وجه بعدم الصحة. قال الحارثي: وهو الأصح لانتفاء الإذن فيه" (¬2). القول الثاني: فرق الشافعية بين أن يكون الناظر هو المستحق للأجرة وبين أن يكون المستحق غيره: فإن كان المستحق للأجرة غير الناظر فلا يجوز أن يؤجر الوقف بغبن فاحش (¬3). ¬
وجه القول بعدم الجواز
قال إمام الحرمين: "إذا كان الوقف على جهة من جهات الخير، وإجارته مفوضة إلى متول، فلا شك أنه لا يصح منه التبرع؛ فإنه ناظر محتاط في تحصيل ما هو الأغبط، وطلب ما هو الأحوط" (¬1). وجه القول بعدم الجواز: أن تصرف الناظر في مال غيره مشروط بالمصلحة، ولا مصلحة في تأجيره بغبن فاحش. وإن كان الناظر هو المستحق للأجرة، وانحصر الحق فيه بأن لم يكن في طبقته غيره, جاز أن يؤجرها بأقل من أجرة المثل (¬2). قال إمام الحرمين: لأن "الإجارة متعلقة بحقه الخاص، لا يعدوه، فكان كالمالك يكري، وإذا كان الأمر على هذا الوجه، ولا حجر على الموقوف عليه، فلو تبرع، وأعار، أو أكرى بدون أجر المثل، فلا معترض عليه. ولو استثمر الأشجار المحبسة، وتبرع بجميعها، فإنما يتصرف في ملك نفسه" (¬3). ¬
وجه القول بالجواز
وجه القول بالجواز: الوجه الأول: أن ملكية منافع الوقف هي للموقوف عليه، وما كان مملوكًا له صح تصرفه فيه. الوجه الثاني: القياس على صحة إعارة العين الموقوفة لمن ملك منفعتها، فإذا صحت الإعارة وهي بلا مقابل، صحت الإجارة بأقل من أجرة المثل من باب أولى، وهذا الوجه ذكره الشافعية (¬1). وقريب من هذا مذهب المالكية حيث خيروا المستحق بين الإجازة والرد في حال أكرى الوكيل أو ناظر الوقف أو الوصي بمحاباة، ولم يفت، فإن فات رجع المستحق على ناظر الوقف إن كان مليًّا، وإن كان معدمًا رجع المستحق على الساكن (¬2). فلما جعلوا الخيار للمستحق، صار الحق له وحده، ومقتضاه أنه لو كان الناظر هو المستحق لجاز إجارتها بأقل من أجرة المثل. وسيأتي مزيد بحث لمذهب المالكية في المبحث التالي عند الكلام على حكم العقد إذا أجر بأقل من أجرة المثل. ¬
القول الثالث
القول الثالث: ذهب الحنابلة إلى أن الناظر إن أجر بأقل من أجرة المثل صح العقد، وضمن الناظر النقص إن كان المستحق غيره، وكان النقص أكثر مما يتغابن الناس به في العادة (¬1). وجه القول بالصحة والضمان: أما الصحة فلأن عقد الإجارة من العقود اللازمة، وتعدي الناظر لا يرجع إلى المستأجر بالنقض. وأما وجوب الضمان فلأن هذا التصرف غير مأذون فيه، وقياسًا على الوكيل إذا باع أو أجر بأقل من ثمن المثل. جاء في كشاف القناع: "وإن أجر الناظر العين الموقوفة بأنقص من أجرة المثل صح عقد الإجارة، وضمن الناظر النقص عن أجرة المثل، إن كان المستحق غيره، وكان أكثر مما يتغابن به في العادة، كالوكيل إذا باع بدون ثمن المثل أو أجر بدون أجرة المثل" (¬2). ويناقش: بأن الناظر إذا أجره بدون أجرة المثل، وقد بذل جهده، واستفرغ وسعه لم يضمن على الصحيح، وسوف نناقش الضمان في المسألة التالية إن شاء الله تعالى، فانظره هناك. ¬
فيها قولان
فإن اشترك مع الناظر غيره في الاستحقاق، وأجر بأقل من إجارة المثل، فهل يصح في حقه، أو يبطل الجميع، قولان مبنيان على مسألة تفريق الصفقة: جاء في حاشية الشبراملسي: "فإن لم ينحصر الوقف فيه، وأجر بدون أجرة المثل، فهل تصح الإجارة في قدر نصيبه، وتبطل فيما زاد تفريقًا للصفقة، أو في الجميع؟ فيه نظر، والظاهر الثاني؛ لما تقدم أنه حيث شملت ولايته جميع المستحقين كان كولي المحجور عليه فلا يتصرف إلا بالمصلحة في المال" (¬1). وهل يختلف الحكم فيما لو كان المؤجر بأقل من إجارة المثل هو الناظر، وأذن له المستحق بأن يؤجر بغبن فاحش؟ فيها قولان: الأول: تجوز الإجارة بغبن فاحش؛ لأن الحق له، وقد رضي بإسقاطه، وهذا مذهب المالكية ومذهب الشافعية (¬2). جاء في تحفة المحتاج: "لو كان هو المستحق أو أذن له جاز إيجاره بدون أجرة المثل" (¬3). الثاني: لا تجوز الإجارة بغبن فاحش؛ لأن تصرف الناظر محكوم بالمصلحة، ولا مصلحة للوقف في ذلك، اختاره بعض الشافعية. ¬
الراجح
جاء في حاشية الشبراملسي: "لو لم يكن النظر مستحقًا، وأذن له المستحق أن يؤجر بدون أجرة المثل، فهل للناظر ذلك؛ لأن الحق لغيره، وقد أذن له في ذلك؟ أم لا؛ لأنه لا يتصرف إلا بالمصلحة، وإجارته بدون أجرة المثل ولو وبإذن المستحق لا مصلحة فيها للوقف، فيه نظر، والأقرب الثاني" (¬1). والشافعية على القول الأول. الراجح: الذي أميل إليه هو مذهب الحنفية؛ ذلك أن ملك المنفعة للموقوف عليه ملك ناقص، لا يورث عنه، ولا يستطيع التصرف في العين، فلا يقاس على الملك المطلق، وإذا أراد الموقوف عليه أن ينفع المستأجر فعليه أن يهب له ما شاء من الأجرة بعد استحقاقه لها, لا أن يكون تلك في عقد الإجارة، خاصة إذا علمنا أن تعمير الوقف مقدم على استحقاق الموقوف عليه، وإنما يعمر الوقف من غلته كما سيأتي بحثه إن شاء الله تعالى، والله أعلم. ¬
المبحث السادس في حكم عقد الإجارة إذا كانت بأقل من المثل
المبحث السادس في حكم عقد الإجارة إذا كانت بأقل من المثل [م - 1527] اختلف العلماء في صحة العقد إذا وقعت الإجارة بأقل من إجارة المثل: القول الأول: مذهب الحنفية: ذهب الحنفية بأن الناظر إذا أجرها بأقل من أجرة المثل فإنها إجارة فاسدة، وله أن يؤجرها إجارة صحيحة إما من الأول، أو من غيره بأجر المثل وبأكثر منه. فإن سكن المستأجر الأول وجب أجر المثل بالغًا ما بلغ، وعليه الفتوى (¬1). وجه ذلك: أن الإجارة لو كانت من المالك ولم يسم قدر الأجرة وجب أجر المثل بالغًا ما بلغ، والناظر لو لم يسم الأجرة أصلًا وجب أجر المثل أيضًا بالغًا ما بلغ، فإذا سمى الناظر الأجرة بأقل من أجر المثل؛ كانت التسمية فاسدة؛ لأن الناظر ¬
القول الثاني: مذهب المالكية
ليس له ولاية الحط والإسقاط كما في إجار الولي والوصي منزل الصغير بأقل من أجرة المثل، وإذا كانت التسمية فاسدة صارت كأن لم توجد أصلًا، وإذا لم توجد حكما أصبحت الإجارة الواجبة هي أجر المثل. ولا يضمن القيم نقص الأجرة وذكر الخصاف أن الإجارة لا تجوز، وأن للقاضي إبطالها، فإن كان الناظر مأمونا وفعل ذلك عن طريق السهو والغفلة أقره القاضي بيده، وأمره بإجارتها بالأصلح، وإن كان القيم عالمًا اعتبر ذلك خيانة، وأخرجها القاضي من ولايته؛ لأنه غير مأمون عليه (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية: ذهب المالكية إلى أن ناظر الوقف إذا أجر الوقف بأقل من أجرة المثل، فإن كان ذلك عن محاباة للمستأجر خير المستحق بين الإجازة وبين فسخ عقد الكراء إن لم يفت. فإن فات رجع المستحق على الناظر إن كان مليئًا, ولا رجوع للناظر على الساكن، وإن كان معدمًا رجع على الساكن بالكراء؛ لأنه مباشر، ثم لا رجوع للساكن على الناظر، هذا ما لم يعلم المستأجر بأن الأجرة غير أجرة المثل، فإن كان عالمًا فإن كلا منهما ضامن، فيبدأ به. وإن كان ذلك من غير محاباة، فإنه يفسخ الكراء إن زاد عليه أحد، فإن طلب من زيد عليه أن يبقى بيده ويدفع الزيادة لم يكن له ذلك، إلا أن يزيد على من زاد حيث لم تبلغ زيادة من زاد أجرة المثل، فإن بلغتها لم يلتفت لزيادة من زاد. ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية
وهذا في غير المعتدة، فإنها إذا كانت بمحل وقف وقعت إجارته بدون أجرة المثل، ثم زاد عليها شخص، وطلبت البقاء بالزيادة فإنها تجاب إلى ذلك. هذا ملخص مذهب المالكية (¬1). جاء في حاشية الصاوي: "إذا حابى الناظر في الكراء: خير المستحقون في الإجازة والرد إن لم يفت الكراء. فإن فات كان للمستحقين الرجوع على الناظر بالمحاباة إن كان مليًا, ولا رجوع له عني المكتري، فإن كان الناظر معدمًا رجع المستحقون على المكتري، ولا رجوع له على الناظر. وأما إن أكرى الناظر بغير محاباة، فإن كان بأجر المثل فلا يفسخ كراؤه ولو بزيادة زادها شخص على المشتري. وأما إن أكرى بأقل من أجرة المثل فإنه يفسخ كراؤه ولو بزيادة زادها عليه شخص آخر أجرة المثل وإلا فلا يفسخ" (¬2). القول الثالث: مذهب الشافعية: ذهب الشافعية إلى أن الناظر إذا أجره بأقل من إجرة المثل، وكان المستحق ¬
القول الرابع: مذهب الحنابلة
غيره لم تصح الإجارة؛ لأنه لا يملك أن يتبرع من مال غيره، وتصرفه لغيره مقيد بالأصلح، وإن كان المستحق هو الناظر صحت، وانفسخت بموته؛ لانتقال الحق إلى غيره، وهو لا يملك ذلك (¬1). جاء في حاشية الجمل: "لو أجره الناظر بدون أجرة المثل فهي فاسدة" (¬2). وقال إمام الحرمين: "إذا كان الوقف على جهة من جهات الخير، وإجارته مفوضة إلى متول، فلا شك أنه لا يصح منه التبرع؛ فإنه ناظر محتاط في تحصيل ما هو الأغبط، وطلب ما هو الأحوط" (¬3). وجاء في الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: "لو كان الناظر هو المستحق للوقف آجر بدون أجرة المثل فإنه يجوز له ذلك فإذا مات في أثناء المدة انفسخت" (¬4). القول الرابع: مذهب الحنابلة: ذهب الحنابلة إلى أن عقد الإجارة عقد صحيح، ويضمن الناظر النقص. قال في كشاف القناع: "وإن أجر الناظر العين الموقوفة بأنقص من أجرة المثل صح عقد الإجارة، وضمن الناظر النقص عن أجرة المثل إن كان المستحق غيره، وكان أكثر مما يتغابن به في العادة، كالوكيل إذا باع بدون ثمن المثل، أو ¬
وجه القول بالصحة والضمان
أجر بدون أجرة المثل، وفيه وجه بعدم الصحة قال الحارثي: وهو الأصح لانتفاء الإذن فيه" (¬1). وجه القول بالصحة والضمان: أما الصحة فلأن عقد الإجارة من العقود اللازمة، وتعدي الناظر لا يرجع إلى المستأجر بالنقض. وأما وجوب الضمان فلأن هذا التصرف غير مأذون فيه، وقياسًا على الوكيل إذا باع أو أجر بأقل من ثمن المثل. الراجح: أن الناظر إذا آجره بدون أجر المثل، وكان ذلك عن محاباة ومواطأة فإن الناظر يضمن النقص، وتبطل ولايته على الوقف. وأما إذا بذل الناظر جهده، واستفرغ وسعه، ثم ظهر غبن لم يقصر فيه فهو معذور يشبه خطأ الإِمام، أو الحاكم؛ ولأن عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولاية قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة، أو حصول المفسدة ولا لزوم عليه فيهما، وتضمين مثل هذا فيه نظر، ولا يحمل هذا الخطأ المستحق، بل نقول: العقد مفسوخ حتى يتم جبر النقص فيه من قبل المستأجر برضاه، ولا تبطل ولاية الناظر؛ لأنه لم يتعمد، وهذا أعدل الأقوال. ¬
المبحث السابع في زيادة إجارة الوقف بعد تمام العقد
المبحث السابع في زيادة إجارة الوقف بعد تمام العقد أجر المثل إنما يعتبر وقت العقد لا غير. [م - 1528] إذا أجر الناظر الوقف بإجارة المثل، ثم ارتفعت الإجارات عن أجرة المثل أثناء مدة العقد، أو ظهر طالب بالزيادة على أجرة المثل، فهل يفسخ العقد، أو يصبح لازمًا؟ اختلف العلماء في ذلك: القول الأول: مذهب الحنفية: ذهب الحنفية في الأصح إلى أن العقد يفسخ، ويعقد ثانية بالزيادة، وما لم يفسخ فإن على المستأجر الأجر المسمى دون اعتبار للزيادة (¬1). ¬
وجه القول بانفساخ العقد
وفي قول للشافعية أن الإجارة تنفسخ إذا كان للزيادة وقع، وكان الطالب ثقة، بل إن من الشافعية من أوجبها على المتولي؟ وذلك لتبين وقوعه على خلاف الغبطة (¬1). جاء في البحر الرائق: "وإن كانت الإجارة الأولى بأجرة المثل، ثم ازداد أجر مثله، كان للمتولي أن يفسخ الإجارة، وما لم يفسخ كان على المستأجر الأجر المسمى" (¬2). وفي تنقيح الفتاى الحامدية: "إذا زادت أجرة المثل في أثناء المدة، فالمفتى به أن للمتولي فسخها، وإن مشى في الإسعاف والخانية على خلافه فقد صححوا هذا القول بلفظ الفتوى كما ذكرنا، وبلفظ الأصح، ولفظ المختار فكان هو المعتمد" (¬3). وجه القول بانفساخ العقد: الوجه الأول: أن استمرار العقد يقع على خلاف الغبطة. فإن قيل: إن الزيادة قد طرأت بعد لزم العقد. فالجواب: أن الإجارة ترد على المنافع، وهي تحدث شيئًا فشيئا، فكأنه آجره منه هذه الساعة بنقصان فاحش، والوقف يجب له النظر (¬4). ¬
ويناقش
ويناقش: بأن الإجارة لو نقصت نقصًا فاحشًا أثناء مدة الإجارة، وطلب المستأجر نقص الأجرة أو فسخ العقد بأنه لا يجاب إلى طلبه، ولا يملك متولي الوقف إقالته، فكذلك إذا زادت الإجارة بعد لزوم العقد، هذا هو مقتضى العدل، والله أعلم (¬1). القول الثاني: أن الإجارة إذا وقعت بأجرة المثل وقت العقد لم تفسخ، ولو زادت الأجرة بعد ذلك. وهو قول مرجوح في مذهب الحنفية، والمذهب عند المالكية والحنابلة، والأصح في مذهب الشافعية (¬2). ¬
وجه القول بعدم الفسخ
جاء في تنقيح الفتاوى الحامدية: "وفي الخانية والإسعاف ... ليس للمتولي أن ينقض الإجارة بنقصان الأجر؛ لأن أجر المثل إنما يعتبر وقت العقد لا غير، فإن كان المسمى حالة العقد أجر المثل فلا يضر التغير بعد ذلك. اهـ. وفي حاوي الحصيري لا ينقض؛ لأن العقد صح وزيادة الرغبة في الأجرة بمنزلة زيادة السعر في القيمة ثم ذلك غير مفسد فكذا هذا" (¬1). وجه القول بعدم الفسخ: الوجه الأول: أن الإجارة إذا عقدت عقدًا صحيحًا بأن كان لا غبن فيها وقت العقد لزمت، فلا يصح فسخها إلا بالتراضي؛ لأنها عقد لازم من الطرقين، وهكذا سائر العقود اللازمة كالبيع، فلو ارتفع سعر السلعة بعد بيعها لم يكن هذا موجبًا لفسخها. الوجه الثاني: القياس على ما إذا باع الولي مال الطفل، ثم ارتفعت القيم بالأسواق، أو ظهر طالب بالزيادة، فإن هذا لا يوجب الفسخ فكذلك الإجارة. الوجه الثالث: القياس على ما إذا نقصت الأجرة نقصًا فاحشًا، فطلب المستأجر فسخها، فإنه لا يجاب إلى طلبه، فكذلك إذا زادت. ¬
القول الثالث
القول الثالث: إن كانت الإجارة سنة فما دونها لم يفسخ العقد بالزيادة، وإن كانت أكثر فسخت الإجارة للزيادة، وهو قول في مذهب الشافعية (¬1). قال النووي: "الثالث: إن كانت الإجارة سنة فما دونها لم يتأثر العقد، وإن كانت أكثر فالزيادة مردودة، وبه قطع أبو الفرج الزاز في الأمالي" (¬2). وجه القول بذلك: هذا القول مبني على أحد أقوال الشافعية في تحديد مدة الإجارة، وهو قول مرجوح في مذهب الشافعية، فكان من يرى أن مدة الإجارة لا تزاد على سنة، فإذا حصلت الزيادة في المدة لم يتأثر العقد؛ لأنه في حدود المدة المأذون في عقد إجارتها، بخلاف ما إذا كان الزيادة بعد السنة، فإن العقد يتأثر بها بناء على أنه لا يحق له أن يؤجر أكثر من سنة، والله أعلم. القول الراجح: أرى أن القول بأن الإجارة إذا عقدت بأجرة المثل لم تفسخ إلا بالتراضي، وإنما ينظر إلى أجرة المثل التي تنتهى إليها الرغبات حالة العقد مع قطع النظر عما عساه يتجدد؛ لأن القول بالفسخ يؤدي إلى سد باب إجارة الأوقاف والزهد فيها؛ ولأن الأسعار لا تبقى على حالة واحدة، والله أعلم. ¬
المبحث الثامن في دفع أجرة الوقف للمستحق
المبحث الثامن في دفع أجرة الوقف للمستحق [م - 1529] سبق لنا في وقف الإجارة خلاف العلماء متى يستحق المؤجر الأجرة؟ هل يستحقها بالعقد، أو يستحقها بتسليم العين وقبل انقضاء المدة، أو بعد استيفاء المنفعة؟ وهذه المسألة مبنية عليها، مع أن المستحق في إجارة الوقف قد يموت في أثناء مدة الإجارة، فلا يستحق كامل الإجارة حيث ينتقل الاستحقاق إلى غيره. فإذا أجر الناظر الوقف سنوات، وقلنا: إن الأجرة تستحق بمجرد العقد، فهل يدفعها للمستحق، أو لا يدفعها إلا بمضي المدة خوفًا من أن يدركه الموت في أثناء مدة الإجارة، وإذا دفعها الناظر، ومات المستحق، فهل يضمن الناظر حق المستحق التالي، أو لا يضمن؟ في ذلك خلاف بين العلماء: فمن قال: بأن الأجرة لا تملك بالعقد، بل بمضي المدة، فإن الواضح أنه لا يستحق الموقوف عليه الأجرة بمجرد العقد، وبالتالي لا تدفع الأجرة له حتى تستوفى المنفعة، وهذا مذهب الحنفية وابن حزم من الظاهرية (¬1). ¬
وقد وافقهم المالكية في إجارة العين دون إجارة الذمة (¬1)، ومعلوم أن الوقف من إجارة العين. جاء في العناية: "ومن استأجر دارًا فللمؤجر أن يطالبه بأجرة كل يوم؛ لأنه استوفى منفعة مقصودة". وجاء في الهداية: "ومن استأجر بعيرًا إلى مكة فللجمال أن يطالبه يأجرة كل مرحلة؛ لأن سير كل مرحلة مقصود ... وكان القياس يقتضي استحقاق الأجر ساعة فساعة لتحقيق المساواة إلا أن المطالبة في كل ساعة تفضي إلى ألا يتفرغ لغيره، فيتضرر به". وقال ابن شاس المالكي: "لا يقسم الكراء عليهم قبل كمال سكنى المكتري؛ لأنه إنما يقسم على من يحضر القسم، فإن ولد قبل القسم ثبت حقه، ومن مات قبله سقط" (¬2). وأما الذين قالوا: إن الأجرة تملك بالعقد، وتستحق بتسليم العين كالحنابلة (¬3). ووافقهم الشافعية في إجارة العين دون إجارة الذمة، ومعلوم أن الوقف من ¬
القول الأول
إجارة الأعيان (¬1)، فيأتي البحث عندهم، هل تختلف إجارة الوقف عن إجارة الملك؛ لأن الأول له مشارك بخلاف الثاني؟ هذا ما سوف نتوجه له بالبحث إن شاء الله تعالى في هذا المبحث، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه، وفي المسألة أربعة أقوال: القول الأول: يجوز أن يدفع الأجرة كاملة لأهل البطن الأول، وإن علم موتهم قبل مضي مدتها، فلو مات القابض قبل مضي المدة لم يضمن المستأجر ولا الناظر، اختاره بعض الشافعية، وهو المعتمد في المذهب (¬2). جاء في حواشي الشرواني: " قال النهاية ولو آجر الناظر الوقف سنين، وقبض الأجرة، جاز له دفع جميعها لأهل البطن الأول، وإن علم موتهم قبل مضي مدتها، فلو مات القابض قبل مضي المدة لم يضمن المستأجر ولا الناظر، كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى تبعًا لابن الرفعة" (¬3). وجاء في حاشية قليوبي: "لو آجر الناظر في وقف الترتيب العين الموقوفة مدة طويلة، وقبض أجرتها، فله تسليم جميعها للبطن الأول، وإن علم موتهم قبل مضيها، وإذا ماتوا لم تنفسخ الإجارة، ويرجع من بعدهم على تركتهم، ولا ¬
حجة هذا القول
ضمان على الناظر ولا على المستأجر، كما أفتى به ابن الرفعة واعتمده شيخنا الزيادي والرملي كوالده، خالفهم الخطيب في المدة الطويلة" (¬1). حجة هذا القول: أن العقد قد أعطاه حق الملك والتصرف في الأجرة، ويملك الإبراء منها، وتجب عليه زكاتها، وكونها غير مستقرة لا يمنع من صحة التصرف، كما أن الزوجة تملك الصداق وتتصرف في جميعه قبل الدخول، وإن كان لا يستقر لها إلا بالدخول، وكذلك في الموصى له بالمنفعة مدة حياته إذا أجر الدار وقبض أجرتها، كان له التصرف فيها، مع أنه قد يموت في أثنائها، فينقطع استحقاقه. وإذا مات رجع المستحق التالي في تركة القابض إن ترك تركة. جاء في حاشية البجيرمي على الخطيب: "ولو قبض الناظر أجرة معجلة، وصرفها على أرباب الوقف، ثم انتقل الوقف عنهم إلى غيرهم، بأن كان وقف ترتيب، رجع مستحقو البطن الثاني على الأول، لا على الناظر، ولا على المستأجر؛ وهذا هو المعتمد كما أفتى به ابن الرفعة اهـ. وقوله: (رجع مستحقو البطن الثاني على الأول) فإن خرج الأول عن الاستحقاق، وهو حي طولب بما أخذه من مدة خروجه عن الاستحقاق، فإن كان قد مات، أخذ من تركته، فإن لم تكن له تركة كان كمن مات وعليه دين، لا يلزم به أحد" (¬2). القول الثاني: لا يجوز له دفع جميعها، وإنما يعطى بقدر ما مضى من الزمن، وهذا مذهب ¬
حجة هذا القول
المالكية، واختاره القفال من الشافعية (¬1). قال الخرشي: "الحبس إذا كان على قوم معينين وأولادهم، فإن الناظر عليه لا يقسم من غلته إلا ما مضى زمنها ووجبت" (¬2). وجاء في أسنى المطالب: "لو أجر الناظر الوقف سنين، وأخذ الأجرة، لم يجز له دفع جميعها للبطن الأول، وإنما يعطى بقدر ما مضى من الزمان. فإن دفع أكثر منه، فمات الآخذ ضمن الناظر تلك الزيادة للبطن الثاني، قاله القفال في فتاويه، وقياسه أنه لو أجر الموقوف عليه لا يتصرف في جميع الأجرة لتوقع ظهور كونه لغيره بموته قاله الزركشي" (¬3). حجة هذا القول: أن المستحق في إجارة الوقف قد يموت في أثناء مدة الإجارة فلا يستحق كامل الأجرة، حيث ينتقل الاستحقاق إلى غيره، لهذا نقول: لا يسلم جميع الأجرة لتوقع ظهور كونها لغيره. القول الثالث: التفصيل بين طول المدة وبين وقصرها، اختاره السبكي من الشافعية، ورجحه الخطيب. قال السبكي: وبنبغي التفصيل بين طول المدة وقصرها، فإن طالت بحيث ¬
القول الرابع: مذهب الحنابلة
يبعد احتمال بقاء الموجود من أهل الوقف منع من التصرف، وإن قصرت فيجوز له دفع الأجرة كاملة تبعًا لما قاله ابن الرفعة (¬1). وقال الخطيب في مغني المحتاج: "وهو كما قال السبكي، محمول على ما إذا طالت المدة، أما إذا قصرت فيتصرف في الجميع؛ لأنه ملكه في الحال" (¬2). القول الرابع: مذهب الحنابلة: إذا مات المؤجر، وكان المؤجر هو الموقوف عليه بأصل الاستحقاق، فهل تنفسخ الإجارة، فيه وجهان في مذهب الحنابلة: أحدهما: أن الإجارة لا تنفسخ بموت المؤجر، قال في الإنصاف: وهو المذهب ... وقال القاضي في المجرد: هذا قياس المذهب. وجه القول بعدم الفسخ: أن المؤجر حين أجر كان يملك حق التأجير، فكان تصرفه صحيحًا فلم يتطرق له الفسخ. الوجه الثاني: تنفسخ، وجزم به القاضي في خلافه (¬3). وقال ابن تيمية: "وتنفسخ إجارة البطن الأول إذا انتقل الوقف إلى البطن الثاني في أصح الوجهين" (¬4). ¬
وجه القول بالفسخ
وقال ابن رجب في قواعده: وهو المذهب الصحيح (¬1). وجه القول بالفسخ: أن البطن الثاني لا يتلقى حقه من الأول بل من الواقف، فلا ينفذ تصرف الأول في حق من بعده. فعلى الوجه الأول، من أصل المسألة: يستحق البطن الثاني حصته من الأجرة من تركة المؤجر إن كان قبضها، وإن لم يمكن قبضها فعلى المستأجر. وعلى الوجه الثاني: يرجع المستأجر على ورثة المؤجر القابض. وقال الشيخ تقي الدين - رحمه الله -: إن كان قبضها المؤجر رجع بذلك في تركته، فإن لم يكن تركة فأفتى بعض أصحابنا بأنه إذا كان الموقوف عليه هو الناظر، فمات، فللبطن الثاني فسخ الإجارة، والرجوع بالأجرة على من هو في يده. انتهى. وقال أيضًا: والذي يتوجه أولًا: أنه لا يجوز سلف الأجرة للموقوف عليه؛ لأنه لا يستحق المنفعة المستقبلة، ولا الأجرة عليها، فالتسليف لهم قبض ما لا يستحقونه، بخلاف المالك. وعلى هذا: فللبطن الثاني أن يطالبوا بالأجرة المستأجر؛ لأنه لم يكن له التسليف، ولهم أن يطالبوا الناظر. انتهى (¬2). وجاء في الإقناع في فقه الإِمام أحمد: "والذي يتوجه أنه لا يجوز للموقوف عليهم أن يستسلفوا الأجرة؛ لأنهم لم يملكوا المنفعة المستقبلة، ولا الأجرة ¬
عليها، فالتسلف لهم قبض مالًا يستحقونه بخلاف المالك، وعلى هذا فللبطن الثاني أن يطالب بالأجرة المستأجر الذي سلف المستحقين؛ لأنه لم يكن له التسليف، ولهم أن يطالبوا الناظر إن كان هو المسلف" (¬1). وقال ابن رجب: "إذا أجر البطن الأول، ثم انقرض، والإجارة قائمة، وفي المسألة وجهان: أحدهما: وهو ما قال القاضي في المجرد: أنه قياس المذهب، أنه لا تنفسخ؛ لأن الثاني لا حق له في العين إلا بعده، فهو كالوارث. والثاني: وهو المذهب الصحيح، وبه جزم القاضي في خلافه، وقال: إنه ظاهر كلام أحمد ... واختاره ابن عقيل وغيره: أنه ينفسخ. لأن الطبقة الثانية تستحق العين بجميع منافعها تلقيًا عن الواقف بانقراض الطبقة الأولى، فلا حق للأولى فيه بعد انقراضهم، بخلاف الورثة فإنهم لا يتلقون عن موروثهم إلا ما خلفه في ملكه من الأموال، ولم يخلف هذه المنافع، وحق المالك لم ينقطع عن ميراثه بالكلية، بل آثاره باقية ولذلك تقضى ديونه، وتنفذ وصاياه من التركة، وهي ملكه على قول إلى أن تقضى ديونه، فكيف يعترض عليه في تصرفاته بنفسه؟. وأيضًا فهو كان يملك التصرف في ماله على التأييد بوقف عقاره، والوصية به، وبما يحمل شجره أبدًا، والموقوف عليه بخلافه في ذلك كله (¬2). هذا ملخص أقوال أهل العلم، والله أعلم. ¬
الراجح
الراجح: الذي أميل إليه أن تأجير الوقف لا ينبغي أن تكون مدته سنوات كثيرة، وإنما بحسب العرف السنة والسنتين إلا لضرورة، كأن يتعطل الوقف، ولا يرغب أحد في استئجاره إلا لسنوات، وقد سبق بحث هذه المسألة ولله الحمد، وإذا أجره الواقف أكثر من سنة لم يكن له دفع الأجرة بكاملها إلى الموقوف عليه، وإنما يدفع له الشيء بعد الشيء، ولا يزيد على دفع إجارة نصف العام لتوقع ظهور كونها لغيره بموته، والله أعلم.
المبحث التاسع في انتهاء إجارة الوقف
المبحث التاسع في انتهاء إجارة الوقف البطن الثاني يستحق العَين الموقوفة من جهة الواقف، وليس تلقيًا عن الميت. تصرف الموقوف عليه في الوقف في حياته لا تسري أحكامه عليه بعد موته. [م - 1530] بحثنا فيما سبق من يتولى إجارة الوقف، فإذا تولى إجارة الوقف ناظر الوقف، فإما أن يكون هو الموقوف عليه، أو يكون الناظر أجنبيًا. فإن كان الناظر أجنبيًا فقد اتفق الفقهاء على أن إجارة الموقوف لا تنفسخ بموته؛ لأنه بمنزلة الوكيل عن الموقوف عليهم، والعقود لا تنفسخ بموت الوكيل (¬1). قال العدوي المالكي: "الناظر غير المستحق إذا أجر الدار الموقوفة أو الأرض الموقوفة مدة ثم مات فلا تنفسخ الإجارة" (¬2). وإن كان الناظر هو الموقوف عليه، فمات فقد اختلف العلماء هل تنفسخ الإجارة بموته؟ ¬
القول الأول
القول الأول: تنفسخ بموت الناظر إذا كان هو الموقوف عليه، وهو مذهب الحنفية، والمالكية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة، قال ابن تيمية: وهو أصح الوجهين (¬1). وجزم به القاضي في خلافه (¬2). وقال ابن رجب في قواعده: وهو المذهب الصحيح (¬3). ولم يفرق الحنفية بين الوقف وغيره، فالإجارة عندهم تنفسخ بموت العاقدين أو أحدهما إذا عقدها لنفسه. وجاء في الأشباه والنظائر لابن نجيم: "الناظر إذا أجر، ثم مات، فإن الإجارة لا تنفسخ، إلا إذا كان هو الموقوف عليه، وكان جميع الريع له، فإنها تنفسخ بموته، كما حرره ابن وهبان معزيا إلى عدة كتب، ولكن إطلاق المتون يخالفه" (¬4). ¬
وجه القول بالفسخ
وقال الدردير المالكي: "وفسخت الإجارة بموت مستحق وقف آجر ذلك الوقف في حياته مدة، ومات قبل تقضيها، وانتقل الاستحقاق لمن في طبقته، أو لمن يليه، ولو ولده، ولو بقي منها يسير على الأصح، ولو كان المستحق المؤجر ناظرًا، بخلاف ناظر غير مستحق، فلا تنفسخ بموته" (¬1). وجاء في الفتاوى الكبرى: "وتنفسخ إجارة البطن الأول إذا انتقل الوقف إلى البطن الثاني في أصح الوجهين" (¬2). وقال ابن رجب: "إذا أجر البطن الأول، ثم انقرض، والإجارة قائمة، وفي المسألة وجهان: ... الثاني: وهو المذهب الصحيح، وبه جزم القاضي في خلافه، وقال: إنه ظاهر كلام أحمد ... واختاره ابن عقيل وغيره: أنه ينفسخ" (¬3). وجه القول بالفسخ: أن حق المستحق قد انقطع بموته، وانتقل إلى من بعده، ولأن الطبقة الثانية تستحق العين بجميع منافعها تلقيًا عن الواقف بانقراض الطبقة الأولى، وليس تلقيًا عن الميت حتى يقال: إن تصرفه في حياته تسري أحكامه حتى بعد موته، فلا حق للأولى فيه بعد انقراضهم، بخلاف الورثة فإنهم يتلقون المال عن مورثهم، وحق الميت لم ينقطع عن ميراثه بالكلية، بل آثاره باقية، ولذلك تقضى ديونه، وتنفذ وصاياه من التركة، وهي ملكه على قول إلى أن تقضى ديونه. ¬
القول الثاني: مذهب الشافعية
القول الثاني: مذهب الشافعية: الأصل عند الشافعية أن الإجارة لا تنفسخ بموت الناظر، ولو كان هو الموقوف عليه، إذا كان النظر له مطلقا لم يقيد بمدة الاستحقاق؛ لأن ولايته عامة توجد في حياته وبعد موته، ووجودها بعد موته حكمًا؛ بمعنى: أنه لا ينقض عقده بعد موته، فكأن ولايته ثابتة بعده، ولأن عقد الإجارة عقد لازم لا ينفسخ بالموت. وإنما تنفسخ الإجارة بموت الناظر إذا كان هو الموقوف عليه بصورتين عند الشافعية: الصورة الأولى: أن يكون الناظر هو المستحق للوقف، وآجر بدون أجرة المثل، فإنه يجوز له ذلك مدة حياته، فإذا مات في أثناء المدة انفسخت. وانفساخها هنا ليس سببه هو الموت، بل لكونه أجر الوقف دون أجرة المثل، فهذا وإن كان يملكه في نصيبه، فهو لا يملكه في نصيب غيره، وقد انتقل الاستحقاق بموته، ومقتضاه: أنه لو أجر بأجرة المثل لا تنفسخ بموته. جاء في حاشية الرملي على أسنى المطالب: "ولا تنفسخ إجارة الناظر بموته، إلا إذا كان هو المستحق وأجرها بدون أجرة المثل" (¬1). الصورة الثانية: تنفسخ الإجارة بموت الناظر إذا قيد النظر له بمدة الاستحقاق، فهذا إذا مات ¬
انقطع نظره حكمًا، فانفسخت الإجارة؛ لأن النظر بعد موته جعل لغيره، ولا ولاية له عليه، ولا نيابة؛ إذ المستحق الثاني لا يتلقى من الأول، بل من الواقف. جاء في حاشية الشبراملسي: "لو مات الناظر المؤجر، فإن كان من أهل الوقف، وشرط له النظر مدة استحقاقه، انفسخت الإجارة بموته" (¬1). وإنما انفسخت الإجارة هنا؛ لا لكونه من باب موت العاقد، بل لأن النظر كان مقيدًا باستحقاق المؤجر، فإذا مات انقطع النظر؛ لأن شرط الواقف لم يثبت له الحق إلا مدة استحقاقه، فلو لم يقيد النظر باستحقاق المؤجر لما انفسخت الإجارة بالموت. هذا ملخص مذهب الشافعية في الأصح عندهم (¬2). جاء في الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: "ولا تنفسخ بموت ناظر الوقف من حاكم، أو منصوبه، أو من شرط له النظر على جميع البطون. ويستثنى من ذلك: ما لو كان الناظر هو المستحق للوقف، آجر بدون أجرة المثل، فإنه يجوز له ذلك، فإذا مات في أثناء المدة انفسخت كما قال ابن الرفعة. ولو أجر البطن الأول من الموقوف عليهم العين الموقوفة مدة، ومات البطن المؤجر قبل تمامها، وشرط الواقف لكل بطن منهم النظر في حصته مدة ¬
القول الثالث
استحقاقه فقط ... انفسخت في الوقف؛ لأن الوقف انتقل استحقاقه بموت المؤجر لغيره، ولا ولاية عليه، ولا نيابة" (¬1). القول الثالث: أن الإجارة لا تنفسخ في موت المؤجر، ولو كان المؤجر مستحقًا، اختاره ابن شاس من المالكية (¬2)، وأحد الوجهين في مذهب الى حنابلة. قال في الإنصاف: وهو المذهب. وقال القاضي في المجرد: هذا قياس المذهب (¬3). وجه القول بعدم الفسخ: أن المؤجر حين أجر كان يملك حق التأجير، فكان تصرفه صحيحًا فلم يتطرق له الفسخ. الراجح من الخلاف: الذي أميل إليه إلى أن المؤجر إن كان يؤجر لغيره، كما لو كان الناظر أجنبيًا عن الموقوف عليهم، فلا تنفسخ الإجارة بموته، كما أن الوكيل إذا مات لا تنفسخ الإجارة التي عقدها لموكله. أما إذا كان الناظر هو الموقوف عليه فإن موته لا يعني فسخ الإجارة؛ لأن فسخ العقد يتضرر منه المستأجر، ولا دخل له في ذلك، وإنما ينتقل الاستحقاق ¬
بموت المستحق، ويرجع المستحق الجديد على تركة المؤجر إن كان قد استلم كامل الأجرة، وإن لم يستملها رجع إلى المستأجر، ما لم يكن المؤجر قد أجر الوقف مدة طويلة، فإن الأجرة تنفسخ؛ لأن الموقوف عليه لا يحق له إجارة الوقف مدة طويلة؛ لأنه ربما انتقل الحق إلى غيره، فيتعرض حق غيره للضياع، والله أعلم.
الفصل الخامس في عمارة الوقف
الفصل الخامس في عمارة الوقف [م - 1531] تتم عمارة الوقف بالقيام بأمرين: الأول: الإنفاق على الوقف بما يمنع عنه تعرضه للتلف والخراب، والقيام بكل ما يلزم له مما فيه بقاء عينه؛ ليحصل دوام الانتفاع، وهذه النفقة لا يشترط لها أن يكون الوقف فيه خلل بل يراد منها المحافظة على الوقف بقطع المفسد عنه قبل وقوعه، وإن كان صالحًا للانتفاع. الثاني: الإنفاق على ترميم الوقف وتجديده، وإعادة بناء ما خرب منه، واستبدال التالف حتى يكون صالحًا للانتفاع، وهذا رفع للمفسد بعد وقوعه. والغرض من إعمار الوقف هو بقاء عين الوقف لدوام منفعته، وهذا المقصود لا يحصل إلا بإصلاح الوقف، وعمارته. قال الخرشي: "يبدأ بمرمة الوقف وإصلاحه؛ لأن في ذلك البقاء لعينه والدوام لمنفعته" (¬1). وجاء في المحيط البرهاني: "إن كان في أرض الوقف نخلة، فخاف القيم هلاكها، كان له أن يشتري من غلتها فصلًا فيغرسه؛ لأن النخل بنسله على امتداد الزمان، فتهلك، فينقطع ثمرها، فكان إبقاؤها بالغرس مكانها حتى يبقى خلفًا عن سلف، وهو نظير الدار الموقوفة كرمِّ (¬2) ما استرم منه لإدخال خشبة ولبن ¬
ونحوها حتى لا يخرب، فإن كانت قطعة من هذه الأرض سبخة لا تنبت شيئًا، فيحتاج إلى كشح وجهها، وإصلاحها حتى تنبت، كان للقيم أن يبدأ من غلة جملة الأرض بمؤنة إصلاح تلك القطعة؛ لأنها إذا صلحت كبرت الغلة فكان أنفع للفقراء" (¬1). وجاء في منهج الطالبين: "وشرط الناظر: عدالة، وكفاية. ووظيفته: عمارة وإجارة وحفظ أصل ... " (¬2). فجعل من وظيفة الناظر: العمارة وحفظ الأصل، فالأولى رفع للمفسد، والثانية دفع له قبل وقوعه. وأما مقدار الإصلاح: فهو بقاء العين على الهيئة التي كان عليها وقت الوقف، أما عمارة الوقف زيادة على ما في زمن الواقف فلا تجوز إلا برضا المستحقين (¬3). ¬
المبحث الأول في تقديم العمارة على غيرها
المبحث الأول في تقديم العمارة على غيرها قصد الواقف دوام الوقف، ولا يدوم إلا بعمارته. تقدم عمارة الوقف على شرط الواقف. [م - 1532] اختلف العلماء في وجوب تقديم العمارة على غيرها على قولين: القول الأول: تقدم عمارة الوقف وحفظه وصيانته على الموقوف عليهم، سواء شرط الواقف ذلك كما هو الغالب، أو لم يشترط ذلك؛ لأن شرط العمارة إن لم تكن مشروطة نصا فهي مشروطة اقتضاء؛ لأن قصد الواقف صرف الغلة مؤبدًا, ولا يبقى دائمًا إلا بالعمارة. وهذا مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). وفرق الحنفية بين أن يشترط تقديم العمارة في كل سنة وبين أن يسكت عن ذلك، فإنه مع السكوت تقدم العمارة عند الحاجة إليها, ولا يدخر لها عند عدم الحاجة إليها، ومع الاشتراط تقدم عند الحاجة، ويدخر لها عند عدمها ثم يوزع الباقي على الموقوف عليهم. ¬
جاء في بدائع الصنائع: "الواجب أن يبدأ بصرف الفرع (الغلة) إلى مصالح الوقف من عمارته، وإصلاح ما وهي من بنائه وسائر مؤناته التي لا بد منها، سواء شرط ذلك الواقف أو لم يشرط؛ لأن الوقف صدقة جارية في سبيل الله تعالى، ولا تجري إلا بهذا الطريق" (¬1). بل ذهب الحنفية والمالكية إلى أن الواقف لو اشترط تقديم الإنفاق على الموقوف عليه على عمارة الوقف بطل شرطه. جاء في قانون العدل والإنصاف: "إذا شرط -يعني الواقف- الاستواء بين أرباب الشعائر والعمارة، وضاق ريع الوقف، فلا يراعى شرطه، وتقدم العمارة على سائر الجهات الضرورية لانتظام مصالح المسجد، أو المدرسة" (¬2). وجاء في التاج والإكليل: "لو شرط الواقف ما يجوز أن يبدأ من غلتها بمنافع أهله، ويترك إصلاح ما يتخرم منه، بطل شرطه" (¬3). وقال القرافي: "والبداية بالإصلاح من الريع حفظًا لأصل الوقف، بل لو شرط خلاف ذلك بطل؛ لأنه خلاف سنة الوقف" (¬4). وجاء في نهاية المحتاج: "وعمارة الوقف مقدمة على الموقوف عليه" (¬5). وقال في الفروع: "يقدم عمارة الوقف على أرباب الوظائف" (¬6). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يجمع بين العمارة وبين الموقوف عليهم حسب الإمكان، وهذا رأي ابن تيمية - رحمه الله - (¬1). قال في الفتاوى الكبرى: "ويجب عمارة الوقف بحسب البطون، والجمع بين عمارة الوقف وأرباب الوظائف حسب الإمكان أولى، بل قد يجب" (¬2). القول الثالث: عمارة الوقف إذا كان عقارًا لا تجب بلا شرط كالملك الطلق، فإن شرط شيئًا عمل بالشرط على حسب ما شرط؛ لوجوب اتباع شرطه، سواء شرط البداءة بالعمارة أو تأخيرها، فيعمل بما شرط، لكن إن اشترط تقديم الجهة على العمارة عمل به، قال الحارثي: ما لم يؤد إلى تعطيل الوقف، فإن أدى إلى تعطيل الوقف قدمت العمارة حفظًا لأصل الوقف (¬3). وإن شرط العمارة، وأطلق، فلم يذكر البداءة بها, ولا تأخرها قدمت العمارة على أرباب الوظائف. قال في التنقيح: ما لم يفض إلى تعطيل مصالحه. وإن كان الوقف نحو مسجد ومدارس قدمت العمارة على أرباب الوظائف ¬
الراجح
مطلقا، سواء شرط البداءة بالعمارة أو بالجهة الموقوفة عليها، أو لم يشرط شيئًا. هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). الراجح: حفظ الوقف وصيانته وعمارته، ما كان منها ضروريًا لبقاء العين فإنه يقدم على غيره، وهذا لمصلحة الواقف والموقوف عليه، وأما العمارة التحسينية فلا تقدم على الموقوف عليهم إلا بإذنهم، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في الجهة التي تتحمل عمارة الوقف والنفقة عليه
المبحث الثاني في الجهة التي تتحمل عمارة الوقف والنفقة عليه [م - 1533] اختلف العلماء في الجهة التي ينفق منها على الموقوف وعمارته: القول الأول: مذهب الحنفية: يرى الحنفية أن الوقف إما أن يكون على معين أو على جهة كالفقراء: فإن كان الوقف على معين، وكان غنيًّا فالعمارة من ماله؛ لأن الغلة له، والخراج بالضمان. وإن كان الوقف على الفقراء فالعمارة من غلة الوقف. وإن كان الوقف دارًا على السكنى فالعمارة على من له السكنى، فإن امتنع عن ذلك، أو كان فقيرًا آجرها الحاكم وعمرها بأجرتها، وإذا عمرها ردها إلى من له السكنى. هذا ملخص مذهب الحنفية (¬1). جاء في الاختيار لتعليل المختار: "فإن كان الوقف على غني عمَّره من ماله، ليكون الغنم بالغرم؛ لأنه معين يمكن مطالبته، وإن كان على فقراء فلا تقدر عليهم، وغلة الوقف أقرب أموالهم، فيجب فيها، وإن وقف داره على سكنى ولده، فالعمارة على من له السكنى؛ لأن الخراج بالضمان" (¬2). ¬
القول الثاني: مذهب المالكية
وجاء في الدر المختار: "ولو كان الموقوف دارًا فعمارته على من له السكنى، ولو متعددًا من ماله، لا من الغلة؛ إذ الغرم بالغنم" (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية: ذهب المالكية إلى أن إصلاح الوقف وحفظه على أقسام: الأول: ما له غلة من دور وحوانيت وفنادق فإن إصلاحها من غلتها. الثاني: دور السكنى يخير من حبست عليه بين إصلاحها، أو إكرائها بما تصلح منه، ثم ترجع إلى الموقوف عليه، ولا يصح اشتراط العمارة من مال الموقوف عليه؛ لأنه كراء مجهول. الثالث: البساتين، إن حبست على من لا تسلم إليه فإنها تساقى أو يستأجر عليها من غلتها. وإن كانت على معينين، وهم يستغلونها، كانت النفقة عليهم. الرابع: الحيوان، إن كان موقوفًا على غزو فنفقته من بيت المال إن وجد، وإن لم يوجد بيت المال بيع وعوض به سلاح، وإن كان الحيوان موقوفًا على معين فإن نفقته على الموقوف عليه (¬2). هذا ملخص مذهب المالكية. القول الثالث: مذهب الشافعية والحنابلة: ذهب الشافعية إلى أن عمارة الوقف والنفقة على الحيوان الموقوف إما أن تشترط، أو لا تشترط. ¬
فإن اشترطت وجبت من حيث شرطت، سواء شرطها الواقف من ماله، أو من مال الوقف. وإن لم تشترط فمن غلة الوقفط ومنافع الحيوان، ككسب العبد، وغلة العقار. فإن تعطلت منافع الوقف وغلته، فالنفقة على الحيوان، ومؤن التجهيز من بيت المال صيانة لروح الحيوان وحرمته كما لو أعتق من لا كسب له، وأما عمارة العقار فلا تجب على أحد حينئذ كالملك الطلق، فإنه لا يجب على مالكه عمارته. جاء في أسنى المطالب: "نفقة الموقوف، ومؤن تجهيزه، وعمارته من حيث شرطت: أي شرطها الواقف من ماله، أو من سأل الوقف، وإلا فمن منافعه: أي الموقوف ككسب العبد وغلة العقار، فإذا تعطلت منافعه فالنفقة ومؤن التجهيز لا العمارة من بيت المال، كمن أعتق من لا كسب له. أما العمارة فلا تجب على أحد حينئذ كالملك المطلق بخلاف الحيوان لصيانة روحه وحرمته" (¬1). ومذهب الحنابلة قريب من هذا: جاء في الإقناع في فقه الإمام أحمد: "يرجع إلى شرطه أيضًا في الناظر فيه، والإنفاق عليه وسائر أحواله، فإن عين الإنفاق عليه من غلته أو غيرها عمل به، وإن لم يعينه، وكان ذا روح فمن غلته. فان لم يكن له غلة فعلى الموقوف عليه المعين. فإن تعذر بيع وصرف في عين أخرى تكون وقفًا لمحل الضرورة. فإن عدم الغلة لكونه ليس من شأنه أن يؤجر، كالعبد يخدمه، والفرس يغزو عليه أو يركبه، أوجر بقدر نفقته، وكذا لو احتاج خان مسبل، أو دار موقوفة لسكنى الحاج أو الغزاة إلى مرمة، أوجر منه بقدر ذلك. ¬
الراجح
وإن كان الوقف على غير معين كالمساكين ونحوهم فنفقته في بيت المال، فإن تعذر بيع كما تقدم، وإن مات العبد فمؤنة تجهيزه على ما قلنا في نفقته على ما تقدم، وإن كان ما لا روح فيه كالعقار ونحوه لم تجب عمارته على أحد إلا بشرط كالطلق" (¬1). وجاء في المبدع في شرح المقنع: "وينفق عليه: أي على الوقف من غلته، إن لم يعين واقف من غيره؛ لأن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، ولا يحصل ذلك إلا بالإنفاق عليه، فكان من ضرورته. فإن لم يكن له غلة فالنفقة على موقوف عليه معين إن كان الوقف ذا روح، فإن تعذر الإنفاق بيع وصرف الثمن في عين أخرى تكون وقفًا لمحل الضرورة. وإن كان على غير معين كالمساكين فالنفقة من بيت المال، فإن تعذر بيع. ثم إن كان الوقف عقارًا لم تجب عمارته من غير شرطه، فإن كان بشرطه عمل به. وقال الشيخ تقي الدين: تجب عمارته بحسب البطون ... ولو احتاج خان مسبل، أو دار موقوفة لسكنى حاج أو غزاة ونحوهم إلى مرمة أوجر منه بقدر ذلك" (¬2). الراجح: الذي أميل إليه أن الموقوف إن كان له غلة فالنفقة والعمارة من غلته، وإن كان لا غلة له كانت نفقته على الموقوف عليه، فإن أبى أجر بمقدار ما يصلحه، ثم يعود بعد ذلك إلى الموقوف عليه، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في اشتراط العمارة على الموقوف عليه
المبحث الثالث في اشتراط العمارة على الموقوف عليه [م - 1534] إذا أوقف رجل دارًا، واشترط عمارة الوقف على من يسكنها، فهل يصح الشرط, اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يصح الوقف والشرط، وهذا مذهب الجمهور (¬1). القول الثاني: يصح الوقف، ويبطل الشرط، وهذا مذهب المالكية. وسوف تأتينا هذه المسألة بإذن الله تعالى في المبحث السادس من شروط الواقف فانظرها هناك، وإنما أشرت إليها هنا إشارة؛ لأن المسألة من أحكام الموقوف، فإذا كانت المسألة لها أكثر من متعلق فصلتها في موضع، وأشرت إليها إشارة في متعلقاتها الأخرى للتنبيه عليه، والله أعلم. ¬
الفصل السادس في زكاة المال الموقوف
الفصل السادس في زكاة المال الموقوف المبحث الأولى في زكاة الأعيان الموقوفة زكاة الأعيان الموفوفة لمن له ملكها. [م - 1535] الكلام في زكاة المال الموقوف ينقسم إلى قسمين: مال تجب الزكاة في عينه كالزكاة في النقود، والزكاة في السائمة من بهيمة الأنعام. ومال تجب الزكاة في ريعه دون عينه، كالزكاة في غلة الأرض، وثمار الأشجار. أما خلاف العلماء في المال الذي تجب الزكاة في عينه، فيرجع الاختلاف فيه إلى اختلاف العلماء في ملك العين الموقوفة، هل هي ملك لله تعالى فلا زكاة فيها، أو ملك للواقف، أو ملك للموقوف عليه، فتكون الزكاة على المالك، وإليك خلاف العلماء في هذه المسألة: القول الأول: لا زكاة في الأعيان الموقوفة، وهذا مذهب الحنفية، والأصح في مذهب الشافعية. جاء في بدائع الصنائع: "وأما الشرائط التي ترجع إلى المال فمنها: الملك
فلا تجب الزكاة في سوائم الوقف، والخيل المسبلة؛ لعدم الملك وهذا؛ لأن في الزكاة تمليكًا، والتمليك في غير الملك لا يتصور" (¬1). وقال النووي: "لو وقف أربعين شاة على جماعة معينين، إن قلنا: الملك في الموقوف لا ينتقل إليهم، فلا زكاة. وإن قلنا: يملكونه، فوجهان، الأصح: لا زكاة أيضا؛ لضعف ملكهم" (¬2). وقال في المجموع: "قال أصحابنا: إذا كانت الماشية موقوفة على جهة عامة، كالفقراء، أو المساجد، أو الغزاة، أو اليتامى، وشبه ذلك، فلا زكاة فيها بلا خلاف؛ لأنه ليس لها مالك معين. وإن كانت موقوفة على معين، سواء كان واحدًا، أو جماعة، فإن قلنا: بالأصح إن الملك في رقبة الموقوف لله تعالى فلا زكاة بلا خلاف، كالوقف على جهة عامة. وإن قلنا بالضعيف: إن الملك في الرقبة للموقوف عليه، ففي وجوبها عليه الوجهان المذكوران ... (أصحهما) لا تجب" (¬3). وقد ناقشت ملكية العين الموقوفة في مبحث سابق، وذكرت أدلة المسألة هناك، ولله الحمد. ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب المالكية إلى وجوب الزكاة على الواقف إذا بلغت نصابًا، ولو بانضمامها إلى ماله، ويقوم الناظر مقام الواقف إلا أنه لا يتأتى الضم إلى ماله؛ لأنه ليس مالكًا (¬1). قال الصاوي في حاشيته: "من وقف عينًا للسلف يأخذها المحتاج، ويرد مثلها يجب على الواقف زكاتها؛ لأنها على ملكه فتزكى كل عام ولو بانضمامها لماله، وإلا أن تسلف فتزكى لعام واحد بعد قبضها من المدين كزكاة الدين، ولو مكثت عنده أعوامًا ... وكذلك وقف الأنعام لتفرقة لبنها، أو صوفها أو الحمل عليها أو لتفرقة نسلها، فإن الجميع تزكى على ملك الواقف إن كان فيها نصاب، ولو بالانضمام لماله، ولا فرق بين كون الموقوف عليهم معينين أو غيرهم، ويقوم مقام الواقف ناظر الوقف في جميع ما تقدم إلا أنه يزكيها على حدتها إن بلغت نصابًا, ولا يتأتى الضم لماله لأنه ليس مالكا" (¬2). القول الثالث: ذهب الحنابلة إلى أن الموقوف عليه إن كان غير معين، كالفقراء فلا تجب الزكاة في العين الموقوفة. وإن كان الموقوف عليه معينًا كزيد، وجب عليه إخراج الزكاة زكاة الموقوف؛ لأن الملك ينتقل فيه عندهم إلى الموقوف عليه، إلا أنه لا يخرج من عينها؛ لأن الوقف لا يجوز نقل الملك فيه. ¬
الراجح
واختار بعض الحنابلة عدم وجوب الزكاة لضعف الملك (¬1). جاء في الإنصاف: "أما السائمة الموقوفة: فإن كانت على معينين كالأقارب ونحوهم ففي وجوب الزكاة فيها وجهان: أحدهما: تجب الزكاة فيها، وهو المذهب. والوجه الثاني: لا زكاة فيها قدمه في الشرح، قال بعض الأصحاب: الوجهان مبنيان على ملك الموقوف عليه وعدمه ... فعلى المذهب: لا يجوز أن يخرج من عينها؟ لمنع نقل الملك في الوقف، فيخرج من غيرها ... وإن كانت السائمة أو غيرها وقفًا على غير معين، أو على المساجد والمدارس، والربط ونحوها, لم تجب الزكاة فيها، وهذا المذهب، وعليه الأصحاب قاطبة، ونص عليه، فقال في أرض موقوفة على المساكين: لا عشر فيها؛ لأنها كلها تصير إليهم" (¬2). الراجح: الذي أميل إليه أن الزكاة تجب في مال يملك، والعين الموقوفة لا يملكها أحد، ولهذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: حبس أصلها، وسبل ثمرتها، فالأصل محبوس عن الملك، لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، ولو دخله الملك لقبل البيع والإرث، فلا زكاة في عينه مطلقًا، سواء كان الوقف على معين أو على جهة عامة، وقول الحنابلة تجب فيه الزكاة إذا كان على معين، ولا يخرجه من عين ¬
المال نوع من التناقض يؤيد ما ذهبت إليه؛ لأن الزكاة إذا لم تجب في عينه لم تجب فيه زكاة؛ لأن أصل وجوب الزكاة وجوبها في عين المال بصرف النظر عن المالك، ولهذا تجب في مال الصبي والمجنون، ولو كانا غير مكلفين. وأما ريع الوقف المصروف للفقراء فهذه مسألة أخرى سوف نبحثها إن شاء الله تعالى في الفصل التالي.
المبحث الثاني في وجوب الزكاة من ريع الوقف
المبحث الثاني في وجوب الزكاة من ريع الوقف الفرع الأول إذا كان الموقوف عليه معينًا [م - 1536] بحثنا في المسألة السابقة حكم أخذ الزكاة من الأموال التي تجب الزكاة في عينها، كالزكاة في النقود، والزكاة في السائمة من بهيمة الأنعام. والبحث في هذا المبحث في حكم أخذ الزكاة من الأموال التي لا تجب الزكاة في عينها، وإنما تجب في ريعها، كالزكاة في غلة الأرض، وثمار الأشجار، فهل تجب الزكاة في ريع الأعيان الموقوفة؟ وللجواب على ذلك، نقول: أن هذا الريع إما أن يكون وقفا على معين، أو يكون وقفًا على جهة كالفقراء والمساكين. فإن كان الوقف على معين، وحصل لهم من الريع ما يبلغ نصابًا، ففي وجوب الزكاة قولان: القول الأول: فيه الزكاة على خلاف بينهم، هل تزكى من مال الواقف، أو الموقوف عليه. وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة (¬1). ¬
واستدل هذا القول بأدلة منها
قال ابن قدامة: "وإذا حصل في يد بعض أهل الوقف خمسة أوسق، ففيه الزكاة. وإذا صار الوقف للمساكين، فلا زكاة فيه" (¬1). واستدل هذا القول بأدلة منها: الدليل الأول: عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]. وقوله - رحمه الله -: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. الدليل الثاني: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما سقته السماء ففيه العشر، وما سقي بغرب، أو دالية ففيه نصف العشر. الدليل الثالث: ولأن العشر يجب في الخارج، لا في الأرض، فكان ملك الأرض وعدمه بمنزلة واحدة" (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: ولأن الموقوف عليهم يملكون الثمار والغلة ملكا تامًا، ويتصرفون فيه بجميع أنواع التصرف من البيع والهبة، والإرث ونحو ذلك. قال العمراني في البيان: "إذا وقف عليه نخلاً أو كرمًا .. وجبت زكاة الثمرة على الموقوف عليه، قولًا واحدًا؛ لأنه يملك الثمرة ملكًا تامًا" (¬1). القول الثاني: لا زكاة فيه، وهذا القول هو قول طاووس ومكحول. وجه القول بذلك: أن الأرض ليست مملوكة لهم، فلم تجب عليهم زكاة ما خرج منها كالفقراء. قال ابن قدامة: "وجملة ذلك أن الوقف إذا كان شجرًا فأثمر، أو أرضًا فزرعت، وكان الوقف على قوم بأعيانهم، فحصل لبعضهم من الثمرة أو الحب نصاب ففيه الزكاة. وبهذا قال مالك، والشافعي. وروي عن طاوس ومكحول: لا زكاة فيه؛ لأن الأرض ليست مملوكة لهم، فلم تجب عليهم زكاة في الخارج منها كالمساكين" (¬2). الراجح: وجوب الزكاة في المال الزكوي إذا كان موقوفًا على معين لعموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة فيه من غير فرق بين موقوف وغيره، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني في زكاة الموقوف إذا كان على جهة
الفرع الثاني في زكاة الموقوف إذا كان على جهة لا تجب الزكاة على مال لا مالك له. [م -] إذا كان الوقف على جهة عامة كالمساجد والفقراء، فاختلف العلماء في وجوب الزكاة على قولين: القول الأول: تجب الزكاة إذا بلغت نصابًا، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية (¬1). وجه القول بذلك: قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. فهو عام يشمل المملوك والموقوف. ولأن العشر يجب في الخارج لا في الأرض، فكان ملك الأرض وعدمه بمنزلة واحدة. القول الثاني: لا تجب الزكاة؛ وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية، ومذهب الحنابلة (¬2). ¬
وجه القول بذلك
جاء في فتاوى ابن الصلاح: "مسألة الحائط الموقوف إذا أثمرت نخيله، هل يجب فيه العشر؟ قال: إن كان موقوفًا على جماعة متعينين يجب إن بلغ نصابًا، وإن كان موقوفًا على مسجد، أو رباط، أو على جماعة غير معينين لا يجب؛ لأن دفع الزكاة عن مجهول لا يصح" (¬1). وجه القول بذلك: أن الوقف على الجهة لا يتعين لواحد منهم، بدليل أن كل واحد منهم يجوز حرمانه والدفع إلى غيره، والله أعلم. الراجح: أن الزكاة لا تجب على مال لا مالك له، فالزكاة واجبة في عين المال بشرط أن يكون مملوكًا، والله أعلم. ¬
الفصل السابع: في الحكر
الفصل السابع: في الحكر المبحث الأول في تعريف الحكر تعريف الحِكْر في الاصطلاح (¬1): عرفه خير الدين الرملي الحنفي بقوله: "عقد إجارة يقصد به استبقاء الأرض مقررة للبناء والغرس، أو لأحدهما" (¬2). زاد بعضهم: ما دام يدفع أجر المثل (¬3). ¬
شرح التعريف
شرح التعريف: قوله: (عقد إجارة) المراد: عقد إجارة بمفهوم خاص؛ لأن عقد الإجارة يشترط فيه تحديد مدة الإجارة بمدة معلومة، أما هذه الإجارة فهي مطلقة المدة من غير تحديد مدة معينة، ولا يملك المؤجر استخراج المستأجر ما دام يدفع المستأجر أجرة المثل لصالح الموقوف عليهم. ولهذا قال: (يقصد به استبقاء الأرض) أي أن تبقى الأرض مؤجرة للبناء والغرس أو لأحدهما. وقوله: (ما دام يدفع أجرة المثل) عبر بكلمة (ما دام) إشارة إلى وجوب التعاقد بأجرة المثل عند ابتداء العقد، وأن يستصحب هذا الشرط مستقبلًا عند زيادة أجرة الأرض أو نقصه حفاظًا على حقوق الوقف إذا كانت الأرض وقفًا. وقد أفتى الخصاف الحنفي المتوفى سنة (261 هـ) بجواز وقف الحانوت الذي يبنيه المستأجر على الأرض السلطانية، وهي عكس مسألتنا، بأن يوجد حوانيت موقوفة على أرض غير موقوفة، بخلاف الحكر: فهو أرض موقوفة عليها بناء أو غراس غير موقوف، ولا فرق بين أن يكون الوقف للبناء والغرس دون الأرض، أو الوقف للأرض دون البناء والغرس. وإذا جاز مثل ذلك في العصر المتقدم على الأراضي السلطانية، وهي من الملك العام، فالوقف قياس عليه. جاء في أوقاف الخصاف المتوفى سنة (261 هـ)، وفيه: "فما تقول في حوانيت السوق، لو أن رجلًا وقف حوانيت من حوانيت السوق؟
قال: إن كانت الأرض بإجارة في أيدي القوم الذين بنوها، لا يخرجهم السلطان عنها، فالوقف جائز فيها من قبل أنا رأيناها في أيدي أصحاب البناء يتوارثونها، وتقسم بينهم، ولا يتعرض لهم السلطان فيها, ولا يزعجهم عنها، وإنما له عليهم غلة يأخذها منهم، قد تداولتها أيدي الخلف عن السلف، ومضى عليها الدهور، وهي في أيديهم يتبايعونها، ويؤجرونها، وتجوز فيها وصاياهم، ويهدمون بناءها، ويغيرونه، ويبنون غيره، فكذلك الوقف فيها جائز" (¬1). هذا الكلام وإن كان في الأراضي السلطانية، فهي تجري كذلك في الأراضي الوقفية قياسًا عليها. وقد قال ابن عابدين: "الأرض المقررة للاحتكار أعم من أن تكون ملكًا أو وقفًا" (¬2). فإذا انتقل العقار من يد إلى يد انتقل الحكر معه يدفع لحظ مستحقي الوقف. ¬
المبحث الثاني في التوصيف الفقهي لعقد الحكر
المبحث الثاني في التوصيف الفقهي لعقد الحكر [م - 1537] اختلف العلماء في توصيف العقد الفقهي على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه عقد إجارة، وهذا هو الذي عليه الحنفية، منهم الرملي وابن عابدين، وغيرهم. وقريب من هذا مذهب المالكية، فقد ذهب المالكية إلى أن المستحكر يملك المنفعة، والمحكر يملك الأرض. "قال الأجهوري: وملك الخلو من قبيل ملك المنفعة، لا من قبيل ملك الانتفاع، وحينئذ فلمالك الخلو بيعه، وإجارته، وهبته، وإعارته، ويورث عنه، ويتحاصص فيه غرماؤه، حكاه (بن) عن جملة من أهل المذهب، وهو اسم لما يملكه دافع الدراهم من المنفعة التي وقعت في مقابلة الدراهم، ولذا يقال أجرة الوقف كذا وأجرة الخلو كذا" (¬1). وجاء في الشرح الكبير في تعريف الخلو: "بأن تكون أرض براحًا موقوفة على جهة، أو دار متخربة موقوفة على جهة، وليس في الوقف ريع يعمر به، فيدفع إنسان دراهم لجهة الوقف ويأخذ تلك الأرض، أو الدار على جهة الاستئجار، ويجعل عليها أجرة يدفعها كل سنة تسمى حكرًا ويبينها، فالمنفعة الحاصلة ببنائه تسمى خلوًا، فإذا كانت تلك الدار تؤاجر كل سنة بعشرة بعد ¬
وجه القول بذلك
البناء، وكانت الأجرة المجعولة كل سنة دينارًا واحدًا، كانت التسعة أجرة الخلو، والدينار أجرة الوقف" (¬1). وجه القول بذلك: أن العين في عقد الحكر ملك للمحكر، والمستحكر يملك حق المنفعة بأجرة المثل. ونوقش هذا: أن عقد الحكر يخالف عقد الإجارة من وجوه ثلاثة: الوجه الأول: أن عقد الإجارة لا يجوز إلا على مدة معلومة الابتداء والانتهاء، والحكر لا يشترط فيه تحديد المدة. الوجه الثاني: أن عقد الحكر قابل لزيادة الأجرة كلما زادت أجرة الأرض بينما عقد الإجارة تبقى فيه الأجرة بحسب ما اتفق عليه عند إبرام العقد. الوجه الثالث: أن المستحكر يتصرف فيه تصرف الملاك، فيبني، ويهدم، ويبيع، ويهب، ويورث، وبعض هذه التصرفات ليست للمستأجر. القول الثاني: أن عقد الحكر عقد بيع مقسط الثمن، وهذا رأي فضيلة الشيخ عبد الله البسام. ¬
وجه القول بذلك
وجه القول بذلك: الوجه الأول: أن المستحكر يتصرف فيه تصرف الملاك من بناء، وهدم، وبيع، وهبة، وإرث. الوجه الثاني: أن الحكر لو كان عقد إجارة لكان له مدة محددة. ونوقش هذا: بأن عقد البيع ينقطع فيه ملك البائع عن المبيع بخلاف عقد الحكر. القول الثالث: تشبيه عقد الحكر بملك المنفعة في عقد الخراج، وهذا ما ذهب إليه الشيخ الدكتور صالح الحويس (¬1). فإن أرض الخراج هي أرض موقوفة، ومع ذلك فضراب الخراج عليها مستمر في رقبتها لمن هي في يده. وقد ذكر ابن تيمية خلاف العنماء في توصيف عقد الخراج: هل هو عقد إجارة، أو هو عقد بيع، أو هو عقد قائم بنفسه. فقال ابن تيمية: "قد قيل: إنه بيع بالثمن المقسط الدائم كما يقوله بعض الكوفيين. ¬
الراجح
وقد قيل: إنه إجارة بالأجرة المقسطة المؤبدة المدة كما يقوله أصحابنا، والمالكية، والشافعية. وكلا القائلين خرج في قوله عن قياس البيوع، والإجارات. والتحقيق: أنها معاملة قائمة بنفسها ذات شبه من البيع، ومن الإجارة، تشبه في خروجها عنهما المصالحة على منافع مكانه للاستطراق، أو إلقاء الزبالة، أو وضع الجذع ونحو ذلك بعوض ناجز، فإنه لم يملك العين مطلقًا، ولم يستأجرها، وإنما ملك هذه المنفعة مؤبدة" (¬1). الراجح: الذي أميل إليه أن هذا العقد يشبه عقد الخراج، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في حكم تحكير الأراضي الوقفية
المبحث الثالث في حكم تحكير الأراضي الوقفية الفرع الأول في التحكير للمصلحة [م - 1538] إذا استأجر أرضًا وقفًا ليبني فيها، أو يغرس، ثم انتهت مدة الإجارة، وأراد المستأجر أن يبقي فيها البناء والغراس، فهل له ذلك؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: للمستأجر أن يستبقيها بأجرة المثل إذا لم يكن في ذلك ضرر، ولا يحق للموقف عليه أن يطالبه بقلعه. وهذا مذهب الحنفية والمالكية (¬1). واشترط الحنفية أربعة شروط لاستبقاء البناء والغرس: الأول: أن يكون ذلك بأجرة المثل. الثاني: أن يكون استيقاء البناء والغراس لا يضر بالوقف. الثالث: أن يكون البناء والغراس قائمًا بعد انتهاء مدة الإجارة المعينة. الرابع: أن يكون ما أحدثه من بناء وغراس مدة الإجارة بإذن الناظر. ¬
جاء في البحر الرائق: نقلًا عن القنية والخصاف: "استأجر أرضًا وقفًا ليبني فيها أو يغرس، ثم مضت مدة الإجارة، للمستأجر أن يستبقيها بأجرة المثل، إذا لم يكن في ذلك ضرر، ولو أبى الموقوف عليه إلا القلع، فليس له ذلك" (¬1). وجاء في حاشية ابن عابدين: "ليس للمؤجر أن يخرجه، ولا أن يأمر برفعه، إذ ليس في استبقائه ضرر على الوقف مع الرفق به بدفع الضرر عنه، كما أوضحناه في الوقف، وعن هذا قال: في جامع الفصولين وغيره: بني المستأجر أو غرس في أرض الوقف صار له فيها حق القرار، وهي المسمى بالكردار له الاستبقاء بأجر المثل. اهـ. وفي الخيرية: وقد صرح علماؤنا بأن لصاحب الكردار حق القرار، وهو أن يحدث المزارع والمستأجر في الأرض بناء أو غرسا أو كبسا بالتراب بإذن الواقف أو الناظر فتبقى في يده" اهـ (¬2). وجاء في قانون العدل والإنصاف: "لا يكلف المحتكر برفع بنائه، ولا بقلع غراسه ما دام يدفع أجرة المثل المقررة على ساحة الأرض المحتكرة" (¬3). وقال عليش المالكي: "ما بنى أو غرس في أرض الوقف على الوجه المذكور يكون من باب الخلو، يقطع فيه الإرث، ووفاء الديون؛ لأنه يملك لفاعله، ويجوز بيعه، لكن من استولى عليه يكون عليه لجهة الوقف أجرة للذي يؤول إليه وقف الأرض يسمى عندنا بمصر حكرًا لئلا يذهب الوقف باطلًا، فتحصل أن ¬
القول الثاني
الخلو من بناء وغرس يملك، ويورث، وتوفى منه الديون، وأنه لا بد للوقف من حكر، أي أجرة تصرف للمستحقين بعد، هذا هو الذي أفتى به علماؤنا، ووقع العمل به عندنا" (¬1). القول الثاني: الحكم في الغرس والبناء في أرض الوقف إذا انتهت مدة الإجارة حكم البناء والغراس في أرض مستأجرة انقضت مدته. فذهب الشافعية والحنايلة إلى أن المستأجر إذا أراد قلع البناء والغراس فله ذلك؛ لأنه ملكه، وقد رضي بنقصانه. ون أراد استبقاءه، كان الناظر مخيرًا بين تملك البناء والغرس بقيمته مستحق القلع حين التملك، أو تركه بأجرة المثل، أو قلعه وضمان أرش النقص ولا يختار القلع إلا أن يكون أصلح للوقف من التبقية بالأجرة. والأرش: وهو قدر التفاوت ما بين قيمته قائمًا، ومقلوعًا (¬2). الراجح: لعل ما ذهب إليه الحنفية والمالكية أقوى مما ذهب إليه الشافعية والحنابلة حيث كانت الأجرة مقدرة بالمثل، فالموقوف عليه لن يتضرر، والمستأجر كذلك، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني في التحكير للضرورة
الفرع الثاني في التحكير للضرورة [م - 1539] في المسألة السابقة تكلمنا عن تحكير الأرض الوقفية للمصلحة، وقد ذهب إلى جواز ذلك الحنفية والمالكية بالشروط السابقة. فمن أجاز التحكير للمصلحة كالحنفية والمالكية فهم يقول بالجواز للضرورة من باب أولى. جاء في قانون العدل والإنصاف: "إذا خربت دار الوقف، وتعطل الانتفاع بها بالكلية، ولم يكن للوقف ريع تعمر به، ولم يوجد أحد يرغب في استئجارها مدة مستقبلة بأجرة معجلة تصرف في تعميرها، ولم يمكن استبدالها، جاز تحكيرها بأجر المثل. وكذلك الأرض الموقوفة إذا ضعفت عن الغلة، وتعطل انتفاع الموقوف عليهم بالكلية، ولم يوجد من يرغب في استئجارها لإصلاحها، أو من يأخذه مزارعة جاز تحكيرها" (¬1). فهذا النص دل على جواز التحكير إذا تخربت دار الوقف أو الأرض الوقفية، وتعطل الانتفاع بها بالكلية فإنها تدفع إلى شخص ليبني فيها، أو يغرس، ويقدر أجرة لذلك يدفع كل سنة، أو كل شهر لجهة الوقف، إلا أن ذلك مشروط بشروط منها: الشرط الأول: أن تكون العين الموقوفة خربة. ¬
الشرط الثاني
الشرط الثاني: ألا يكون هناك غلة للوقف تقي بعمارته. الشرط الثالث: ألا يوجد من يستأجر الأرض بأجرة معجلة تصرف على تعميره. الشرط الرابع: ألا يمكن استبدالها، فإن أمكن فإن الاستبدال أولى من التحكير، لكونه أصلح لجهة الوقف (¬1). الشرط الخامس: أن يكون التحكير بأجرة المثل وقت العقد. الشرط السادس: أن يكون التحكير بإذن القاضي (¬2). وجاء في الشرح الصغير: "الخلو الذي وقعت الفتوى بجواز بيعه، وهبته، وإرثه، إنما هو في وقف خرب، لم يجد الناظر أو المستحق ما يعمره به من ريع الوقف، ولا أمكنه إجارته بما يعمره به، فيأذن لمن يعمره ببناء أو غرس، على أن ما عمره به يكون ملكًا للمعمر، وتفض الغلة بالنظر عليه وعلى الوقف؛ فما ناب الوقف يكون للمستحق وما ناب العمارة يكون لربها، فهذا ليس فيه إبطال الوقف ولا إخراجه عن غرض الواقف" (¬3). ¬
الباب الربع في شروط الموقوف
الباب الربع في شروط الموقوف الشرط الأول في اشتراط أن يكون الموقوف عليه جهة بر الوقف لا يصح إلا على معين أو على بر. الأصل في الوقف أنه صدقة من الصدقات. [م - 1540] الأصل في الوقف أنه صدقة، وليس هبة محضة، والأصل في الصدقات أن تكون على بر وإحسان، ومع ذلك فقد اختلف العلماء في هذه المسألة، وسبب الخلاف التردد في توصيف الوقف، هل هو قربة، أو هو مجرد تمليك؟ فمن جعل الوقف قربة منع الوقف على الأغنياء، أو على اليهود والنصارى، أو على الفسقة. ومن جعله تمليكًا كالبيع، والهبة، والميراث لم يشترط القربة. وقبل تحرير الخلاف آتي على مسائل منه، هي محل وفاق وعلى أخرى هي محل خلاف ليتبين محل النزاع. المسألة الأولى: الوقف على المعصية، كالوقف على الكنائس والبيع، أو على من تنصر أو تهود، أو على الحربيين، وقطاع الطرق، أو على الزنادقة والملحدين بحيث
المسألة الثانية
يكون سبب الاستحقاق في هذا الوقف كونه حربيًا، أو كونه من قطاع الطرق، أو كونه زنديقًا، أو كونه ملحدًا، فلا يستحق الوقف إلا من اتصف بهذه المعاصي، فهذا لا يمكن أن يجوزه عاقل، فضلًا عن شريعة رب العالمين؛ ولأنه من الإعانة على هذه الآثام، وإغراء للدخول بها، وتنزه عنه شريعة أحكم الحاكمين. المسألة الثانية: أن الوقف إذا كان على جهة قربة، كالفقراء، والمساكين، وطلبة العلم، والمدارس، والمساجد أن ذلك صحيح بالاتفاق، وهو الأصل في الوقف. المسألة الثالثة: إذا كان الوقف على شخص معين، فهذا لا يشترط فيه ظهور القربة، فيجوز الوقف على زيد، ولو كان فاسقًا، أو ذميًّا، أو غنيًا. قال إمام الحرمين: "إذا كان الوقف على معينين فهذا ليس مبنيًا على القربة" (¬1). واختلفوا في مسألتين: أحدهما: إذا كان الوقف على جهة فهل يشترط فيه القربة، أو يكفي انتفاء المعصية، كالوقف على الأغنياء. الثانية: اختلفوا في الوقف على جهة اليهود والنصارى والفساق، بعد الاتفاق على تحريم الوقف على كنائسهم وبيعهم: ¬
القول الأول
فهناك من أبطل الوقف عليهم؛ لكونه إعانة على المعصية، وهناك من أجازها لجواز الصدقة عليهم، كما سيأتي تحريره .. إذا علم ذلك نأتي على أقوال المذاهب في اشتراط القربة في عقد الوقف. القول الأول: أن الوقف على الجهة يشترط فيه ظهور القربة، وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة، وقول في مذهب الشافعية (¬1). بخلاف الوقف على معين، فيصح الوقف ولو لم يكن قربة، إلا أن الحنفية اشترطوا إذا كان الوقف على أغنياء معينين فإنه يجب أن يجعل آخره يؤول إلى الفقراء، حتى لا ينقطع الوقف، كما سبق بحثه. جاء في الاختيار لتعليل المختار: "ولا يجوز الوقف على الأغنياء وحدهم لأنه ليس بقربة، ولا يستجلب الثواب، وصار كالصدقة، ولو وقف على الأغنياء وهم يحصون ثم من بعدهم على الفقراء جاز، ويكون كما شرط؛ لأنه قربة في الجملة بأن انقرض الأغنياء" (¬2). فهذا النص من الحنفية قضى بأمرين: الأول: منع الوقف على الأغنياء وحدهم، وهذا ظاهر؛ لأنه لا قربة فيه. الثاني: جواز الوقف على الأغنياء بشرطين: ¬
أحدهما: أن يكونوا محصورين بحيث يمكن إحصاؤهم، وهذا هو التعيين، فالوقف على المعين لا يشترط فيه القربة، ولأن الأغنياء إذا لم يكونوا معينين تعذر انتقال الموقوف عليه إلى الفقراء، فإذا قال: وقفت على الأغنياء بلا تعيين، ثم على الفقراء لم ينتقل الوقف إلى الفقراء؛ لأن الأغنياء لا سبيل إلى انقراضهم، فصار حكمه كما لو وقف على الأغنياء وحدهم. الثاني: أن يكون آخره يراد به القربة حتى يتحقق التأبيد، ولا يكون الوقف على جهة تنقطع. جاء في حاشية ابن عابدين: "لو وقف على الأغنياء وحدهم لم يجز؛ لأنه ليس بقربة، أما لو جعل آخره للفقراء فإنه يكون قربة في الجملة ... ولكنه إذا جعل أوله على معينين صار كأنه استثني ذلك من الدفع إلى الفقراء كما صرحوا به" (¬1) وقال ابن الهمام في فتح القدير: "ومتى ذكر مصرفًا يستوي فيه الأغنياء والفقراء، فإن كانوا يحصون فذلك صحيح لهم باعتبار أعيانهم، وإن كانوا لا يحصون، فهو باطل إلا إن كان في لفظه ما يدل على الحاجة استعمالًا بين الناس، لا باعتبار حقيقة اللفظ، كاليتامى فالوقف عليهم صحيح ويصرف للفقراء منهم دون أغنيائهم" (¬2). فقوله: (فذلك صحيح لهم باعتبار أعيانهم) إشارة إلى أن المعين لا يشترط فيه القربة. ¬
القول الثاني
قال ابن مفلح في المبدع: "أن يكون على بر ومعروف إذا كان الوقف على جهة عامة" (¬1). وقال ابن قدامة: "الوقف لا يصح إلا على من يعرف كولده، وأقاربه، ورجل معين أو على بر كبناء المساجد، والقناطر، وكتب الفقه والعلم والقرآن، والمقابر، والسقايات، وسبيل الله" (¬2). فجعل ابن قدامة الوقف قسمين: على معين من ولد وقريب، وهذا لم يشترط فيه البر. أو على كجهة المساجد ونحوها، وهذا اشترط فيه البر. فصحح الوقف على غني معين أو قريب، فلا يكون الغنى مانعًا من صحة الوقف، ومنع الوقف على الأغنياء كجهة، بحيث يكون سبب الاستحقاق هو الغنى. وقال الغزالي: "وإن كان على الأغنياء، فليس فيه ثواب ولا عقاب، ففيه وجهان: منهم من شرط القربة، ومنهم من اكتفى بانتفاء المعصية" (¬3). القول الثاني: اتفق المالكية والشافعية، وهو قول في مذهب الحنابلة على أن الوقف لا يشترط فيه أن يكون قربة، وإنما يشترط فيه انتفاء المعصية، وإن اختلفوا في بعض المسائل هل الوقف عليها معصية، أو لا؟ (¬4). ¬
القول الأول
قال ابن شاس في عقد الجواهر: "وإذا كان الوقف على جهة عامة، فإن كانت فيه قربة، كالوقف على الفقراء، والعلماء، والمساكين، فهو صحيح، وإن كان معصية كالوقف على عمارة البِيَع ونفقة قطاع الطريق فباطل، وإن لم يشتمل على معصية ولا ظهرت فيه قربة، فهو صحيح أيضًا" (¬1). وقال في الإنصاف نقلًا من التلخيص: "وقيل: المشترط ألا يكون على جهة معصية، سواء كان قربة وثوابًا، أو لم يكن. انتهى، فعلى هذا يصح الوقف على الأغنياء" (¬2). اختلفوا في الوقف على الفساق، وعلى اليهود والنصارى: القول الأول: لا يصح؛ لأن فيه إعانة على الإثم. وهذا مذهب المالكية، واستحسنه بعض متأخري الشافعية. قال الباجي: "لو حبس مسلم على كنيسة فالأظهر عندي رده؛ لأنه معصية كما لو صرفها إلى أهل الفسق" (¬3). فلم يفرق الباجي بين الوقف على الكنيسة، والوقف على أهل الفسق، وإذا كان الوقف على أهل الفسق محرمًا كان الوقف على اليهود والنصارى من باب أولى. ¬
القول الثاني
وذكر الونشريسي في المعيار المعرب أنه لا يجوز الحبس على الفقراء المضلين من أهل البدع، وأهل الطرق؛ لأن في التحبيس عليهم عونًا لهم على ما يرتكبونه مما هو خارج عن الطريق الشرعي (¬1). وقال الدسوقي في حاشيته: "الوقف على شربة الدخان باطل، وإن قلنا بجواز شربه" (¬2). وقال النووي في الروضة: "لكن الأحسن توسط لبعض المتأخرين، وهو صحته على الأغنياء، وبطلانه على أهل الذمة وسائر الفسقة، لتضمنه الإعانة على المعصية" (¬3). وذكر الخطيب في مغني المحتاج ثلاثة أقوال في اشتراط القربة، قال: "لثالث: يصح على الأغنياء، ويبطل على أهل الذمة والفسقة ... واستحسنه في أصل الروضة" (¬4). وفي فتاوى البلقيني لا يصح الوقف على الفقراء بشرط العزوبة لمخالفته طلب التزويج المنصوص عليه في الكتاب والسنة وإجماع الأمة (¬5). القول الثاني: يصح الوقف على جهة اليهود والنصارى، ويحرم على الكنائس والبيع، ¬
وكتابة التوراة والإنجيل، وهذا مذهب جماهير أهل العلم، وعليه أكثر الحنابلة، وصحح المالكية الوقف على فقرائهم، وبه قال الحلواني من الحنابلة. بل صحح الشافعية في الأصح، وعليه أكثرهم: الوقف على الفساق. وصحح الحنفية الوقف على الولد، على أن من أسلم لا يستحق شيئًا. جاء في فتح القدير: "ولو وقف على ولده ونسله، ثم للفقراء على أن من أسلم من ولده فهو خارج من الصدقة لزم شرطه ... نص على ذلك الخصاف، ولا نعلم أحدًا من أهل المذهب تعقبه غير متأخر يسمى الطرسوسي، شنع بأنه جعل الكفر سبب الاستحقاق، والإِسلام سببًا للحرمان، وهذا للبعد من الفقه، فإن شرائط الواقف معتبرة إذا لم تخالف الشرع، والواقف مالك، له أن يجعل ماله حيث شاء ما لم يكن معصية ... وإن كان الوضع في كلهم قربة، ولا شك أن التصدق على أهل الذمة قربة، حتى جاز أن تدفع إليهم صدقة الفطر والكفارات عندنا ... والإِسلام ليس سببًا في الحرمان، بل الحرمان لعدم تحقق سبب تملكه هذا المال، والسبب: هو إعطاء الواقف المالك" (¬1). وذهب أكثر الحنابلة إلى صحة الوقف على أهل الذمة، وصححه الحلواني على فقرائهم: جاء في المغني: "ويصح الوقف على أهل الذمة؛ لأنهم يملكون ملكًا محترمًا، ويجوز أن يتصدق عليهم، فجاز الوقف عليهم، كالمسلمين" (¬2). ¬
وقال ابن مفلح في الفروع: "يصح على أهل الذمة كالمسلمين، وصححه الحلواني على فقرائهم" (¬1). وقال في المبدع: "ويصح الوقف على أهل الذمة، جزم به الأكثر ... وصحح الحلواني على فقرائهم ... ومقتضى كلام صاحب التلخيص والمحرر أنه لا يصح الوقف عليهم؛ لأن الجهة معصية بخلاف أقاربه" (¬2). وصحح الحنفية والمالكية جواز الحبس على فقراء اليهود والنصارى، وهو أخص من مذهب الشافعية والحنابلة. قال ابن الهمام: "وإن خص في وقفه مساكين أهل الذمة جاز، ويفرق على اليهود والنصارى والمجوس منهم". قال المواق في نوازل ابن الحاج المالكي: "من حبس على مساكين اليهود والنصارى جاز، وذلك لقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ} إلى قوله {وَأَسِيرًا} ولا يكون الأسير إلا مشركًا" [الإنسان: 8] وإن حبس على كنائسهم رد وفسخ" (¬3). فمنع المالكية الوقف على فسقة المسلمين كما سبق، وصححوا الوقف على مساكين اليهود والنصارى؛ لأن وصف الفسق لا يستحق به الوقف؛ لأنه معصية بخلاف وصف المسكنة، فإنه مصرف للصدقة، وهي ليست معصية، فصار الوقف على جهة اليهود والنصارى، إن روعي في الوقف لفظ الفسق بطل، وإن روعي فيه وصف المسكنة صح، بخلاف الشافعية حيث صححوا الوقف على جهة الفسقة، وعلى اليهود والنصارى. ¬
وقال الماوردي الشافعي في الحاوي: "فأما الوقف على اليهود والنصارى فجائز، سواء كان الواقف مسلمًا أو غير مسلم؛ لأن الصدقة عليهم جائزة ... فأما الوقف على الكنائس والبيع فباطل، سواء كان الواقف مسلمًا أو ذميًا؛ لأنها موضوعة للاجتماع على معصية" (¬1). وجاء في مغني المحتاج: " (أو) وقف على (جهة لا تظهر فيها القربة كالأغنياء) وأهل الذمة والفسقة (صح في الأصح) نظرًا إلى أن الوقف تمليك. والثاني: لا، نظرًا إلى ظهور قصد القربة. والثالث: يصح على الأغنياء، ويبطل على أهل الذمة والفسقة، وتمثيل المصنف بالأغنياء قد يرشد إليه، واستحسنه في أصل الروضة بعد قوله: الأشبه بكلام الأكثرين ترجيح كونه تمليكًا، فيصح الوقف على هؤلاء: يعني على الأغنياء، وأهل الذمة والفساق، وهذا هو المعتمد، ولذلك أدخلته في كلام المصنف، وممن صرح بصحة الوقف على اليهود والنصارى الماوردي في الحاوي، والصيمري في شرح الكفاية، وهو المذكور في الشامل والبحر والتتمة؛ لأن الصدقة عليهم جائزة" (¬2). وجاء في الغرر البهية: " (وحيث عمت) أي: الجهة الموقوف عليها اشترط لصحة الوقوف عليها. (عدم العصيان) وإن لم يظهر فيها قربة كالأغنياء، وأهل الدمة، وسائر الفسقة، بناء على الأشبه من أن المرعي في الوقف على الجهة: التمليك كما في المعين، والوصية، لا جهة القربة، قال الشيخان: وهذا هو الأشبه بكلام الأكثرين. ¬
دليل من قال: لا يشترط في الوقف القربة
وخرج بقيد (عدم العصيان) الوقف على بيع التعبد، وكنائسه، وكتابة التوراة والإنجيل، ومن يقطع الطريق، أو يتهود، أو يتنصر، وآلات المعاصي كالسلاح لقطع الطريق فلا يصح؛ لأنه إعانة على معصية، أما ما وقفوه قبل المبعث على كنائسهم القديمة فيقر حيث تقر الكنائس" (¬1). وجاء في منهاج الطالبين: "وإن وقف على جهة معصية كعمارة الكنائس فباطل، أو جهة قربة كالفقراء والعلماء والمساجد والمدارس صح، أو جهة لا تظهر فيها القرية كالأغنياء صح في الأصح" (¬2). إذا وقفنا على الأقوال نأتي على ذكر الأدلة: دليل من قال: لا يشترط في الوقف القربة: الدليل الأول: (ح -977) ما رواه البخاري من طريق نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب - صلى الله عليه وسلم - أصاب أرضًا بخيبر فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخيبر، لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع ولا يوهب، ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول ... الحديث (¬3). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: جعل عمرتمن مصرف الوقف الضيف، وهو جهة، ولم يقيده بالحاجة، فصح الوقف على جهة الأغنياء. قال ابن حجر: "وفيه جواز الوقف على الأغنياء؛ لأن ذوي القربى والضيف لم يقيد بالحاجة" (¬1). الدليل الثاني: أن الوقف من باب العطايا والهبات، لا من باب الصدقات، فحقيقة الوقف تمليك منفعة الوقف للموقوف عليه، ومعلوم أن الهبات والتمليكات لا تشترط فيها القربة. وأجيب بجوابين: الجواب الأول: لا نسلم أن الوقف من باب الهبات، وإنما هو من باب الصدقات بنص السنة. (ح -978) لما رواه مسلم من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة تأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (¬2). الجواب الثاني: أن هناك فرقًا في الأحكام بين الهبة والوقف مما يدل على اختلافهما، فالهبة تباع، وتورث بخلاف الوقف. ¬
وأجيب
الوجه الثاني: أن الوقف إذا عرى عن المعصية، ولو لم يكن قربة فإنه صحيح، غاية ما فيه أنه صرف ماله في أمر مباح، وهذا لا يقتضي التحريم. وأجيب: هذا الكلام يصح لو كان الوقف على معين، كما لو وقف على زيد، وكان فاسقًا، أو غنيًّا، أو ذميًّا، فإن الاستحقاق لم يكن بسبب الفسق، أو الغنى، أو الكفر، أما الوقف على جهة فهو مختلف، فاستحقاق الوقف فيه يقوم على الوصف، وهذه الأوصاف لا يجوز أن تكون سببًا في استحقاق الصدقة. قال ابن القيم: "أن يقف على الأغنياء، فهذا يصح إذا كان الموقوف عليه غنيًّا، أو ذا قرابة، فلا يكون الغنى مانعًا، ولا يصح أن يكون جهة الاستحقاق هو الغنى، فيستحق ما دام غنيًا، فإذا افتقر، واضطر إلى ما يقيم أوده حرم عليه تناول الوقف، فهذا لا يقوله إلا من حرم التوفيق وصحبه الخذلان" (¬1). وفرق الماوردي بين الوقف على رجل مرتد، وبين الوقف على من ارتد، فقال: "والفرق بين أن يقفها على مرتد فيجوز، وبين أن يقفها على من ارتد فلا يجوز من وجهين: أحدهما: أن الوقف على من ارتد، وقف على الردة، والردة معصية، والوقف على رجل هو مرتد ليس بوقف على الردة، فلم يكن وقفًا على معصية. والفرق الثاني: في الوقف على من ارتد إغراء بالدخول في الردة، وليس في ¬
الدليل الثالث
الوقف على مرتد إغراء بالدخول في الردة؛ لأن غيره لو ارتد لم يكن له في الوقف حق" (¬1). الدليل الثالث: إذا كان يعمل بشرط الواقف إذا كان مباحًا, ولا يشترط فيه القربة فكذلك القول في أصل الوقف، فاشتراط القربة في أصل الوقف دون شرط الواقف نوع من التناقض. جاء في الإنصاف: "ظاهر كلام المصنف وغيره: أن الشرط المباح الذي لا يظهر قصد القربة منه يجب اعتباره في كلام الواقف. قال الحارثي: وهو ظاهر كلام الأصحاب، والمعروف في المذهب" (¬2). ويجاب من ثلاثة وجوه: أحدها: أن التفريق بين أصل الوقف وبين شرط الواقف تفريق غير صحيح؛ فإذا كانت القربة شرطًا في أصل الوقف كان هذا مراعى في الشروط؛ لأن الشرط يعتبر صفة في الوقف. الثاني: أن الحنابلة لم يتفقوا على هذا التفريق. قال ابن القيم: "والوقف إنما يصح على القرب والطاعات، ولا فرق في ذلك بين مصرفه، وجهته، وشرطه؛ فإن الشرط صفة وحال في الجهة والمصرف، فإذا اشترط أن يكون المصرف قربة وطاعة فالشرط كذلك، ولا يقتضي الفقه إلا هذا" (¬3). ¬
دليل من قال: يشترط في الوقف القربة
وجاء في الإنصاف: "وقال شيخنا يعني به الشيخ تقي الدين - عز وجل - ... اشتراط القربة في الأصل يلزم الشروط المباحة. انتهى. وقال في الفروع: واختار شيخنا يعني به الشيخ تقي الدين لزوم العمل بشرط مستحب خاصة ... قال الحارثي: ومن متأخري الأصحاب من قال: لا يصح اشتراطه يعني المباح في ظاهر المذهب. وعلله. قال: وهذا له قوة، على القول باعتبار القربة في أصل الجهة، كما هو ظاهر المذهب" (¬1). الثالث: أن الشرط أخف من الأصل، فإذا صرف أصل الوقف على قربة، ثم اشترط الواقف بعض الشروط المباحة التي تقتضي تخصيصًا أو تقييدًا احتمل ذلك، والغالب أن له غرضًا فيها, ولم يخرج الوقف بذلك عن كونه قربة، بخلاف القول في أصل الوقف إذا صرف إلى غير قربة، قال في كشاف القناع: "لا يلزم من انتفاء جعل المباح جهة للوقف انتفاء جعله شرطًا فيه؛ لأن جعله أصلًا في الجهة مخل بالمقصود، وهو القربة، وجعله شرطًا لا يخل به، فإن الشرط إنما يفيد تخصيص البعض بالعطية، وذلك لا يرفع أصل القربة، وأيضًا فإنه من قبيل التوابع، والشيء قد يثبت له حال تبعيته ما لا يثبت له حال أصالته" (¬2). والله أعلم. دليل من قال: يشترط في الوقف القربة: الدليل الأول: الأصل في الوقف أنه صدقة من الصدقات، والأصل في الصدقة البر والقربة. ¬
الدليل الثاني
(ح - 979) لما رواه مسلم من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة تأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (¬1). الدليل الثاني: أن الوقف على الأغنياء، أو على الفسقة، أو على اليهود والنصارى يعني أن يكون الفسق والكفر والغناء شرطًا لاستحقاق الوقف، فيكون حل تناوله مشروطًا بتكذيب الله ورسوله، أو ارتكاب المعاصي المقتضية للفسق، فمن آمن بالله ورسوله، أو التزم الطاعات لم يحل له أن يتناول شيئًا من ذلك، وهذا من أضعف الأقوال. بخلاف الوقف على المعين، ولو كان كافرًا أو فاسقًا فهذا لا يمنع الوقف عليه؛ ففرق بين كون وصف الذمة أو الفسق مانعًا من صحة الوقف، وبين كونه مقتضيًا. دليل من قال: يصح الوقف على الفسقة، وعلى أهل الذمة دون كنائسهم: لا يرى أكثر الشافعية أن الوقف على اليهود والنصارى والفساق أنه وقف على معصية؛ لأن الصدقة جائزة عليهم، ولأن الوقف تمليك، وهم أهل للتملك، بخلاف الوقف على الكنائس والبيع، وكتابة التوراة والإنجيل؛ فإن الصدقة عليها لا تجوز؛ لأنها موضوعة للاجتماع على معصية، ولأنها لا تملك. ونوقش هذا: غلظ ابن تيمية وابن القيم في ثبوت هذا القول، قال ابن القيم في أعلام ¬
الموقعين: "يقع الغلط من كثير من المنتسبين إليهم -يعني الأئمة- في فهم أقوالهم، كما وقع لبعض من نصب نفسه للفتوى من أهل عصرنا. ما تقول السادة الفقهاء في رجل وقف وقفًا على أهل الذمة، هل يصح ويتقيد الاستحقاق بكونه منهم؟ فأجاب بصحة الوقف، وتقييد الاستحقاق بذلك الوصف، وقال: هكذا قال أصحابنا، ويصح الوقف على أهل الذمة، فأنكر ذلك شيخنا عليه غاية الإنكار، وقال: مقصود الفقهاء بذلك أن كونه من أهل الذمة ليس مانعًا من صحة الوقف عليه بالقرابة أو بالتعيين، وليس مقصودهم أن الكفر بالله ورسوله أو عبادة الصليب، وقولهم إن المسيح ابن الله شرط لاستحقاق الوقف، حتى إن من آمن بالله ورسوله واتبع دين الإِسلام لم يحل له أن يتناول بعد ذلك من الوقف، فيكون حل تناوله مشروطًا بتكذيب الله ورسوله، والكفر بدين الإِسلام، ففرق بين كون وصف الذمة مانعًا من صحة الوقف، وبين كونه مقتضيا؛ فغلظ طبع هذا الفتى، وكشف فهمه، وغلظ حجابه عن ذلك ولم يميز. ونظير هذا أن يقف على الأغنياء، فهذا يصح إما كان الموقوف عليه غنيا أو ذا قرابة فلا يكون الغنى مانعا, ولا يصح أن يكون جهة الاستحقاق هو الغنى، فيستحق ما دام غنيا، فإذا افتقر واضطر إلى ما يقيم أوده حرم عليه تناول الوقف، فهذا لا يقوله إلا من حرم التوفيق وصحبه الخذلان، ولو رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدًا من الأئمة يفعل ذلك لاشتد إنكاره وغضبه عليه، ولما أقره ألبتة، وكذلك لو رأى رجلًا من أمته قد وقف على من يكون من الرجال عزبًا غير متأهل، فإذا
ونوقش هذا
تأهل حرم عليه تناول الوقف لاشتد غضبه ونكيره عليه، بل دينه يخالف هذا، فإنه كان إذا جاءه مال أعطى العزب حظا، وأعطى الأهل حظين، وأخبر أن ثلاثة على الله عونهم، فذكر منهم الناكح يريد العفاف، وملتزم هذا الشرط حق عليه عدم إعانة الناكح ... فهذا شرط من أبطل الشروط، وقد صرح أصحاب الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى بأن الإِمام إذا شرط على القاضي أن لا يقضي إلا بمذهب معين بطل الشرط ولم يجز له التزامه" (¬1). ونوقش هذا: قال في فتح القدير: "ولو وقف على ولده ونسله، ثم للفقراء على أن من أسلم من ولده فهو خارج من الصدقة لزم شرطه ... فإن شرائط الواقف معتبرة إذا لم تخالف الشرع، والواقف مالك، له أن يجعل ماله حيث شاء ما لم يكن معصية ... والإِسلام ليس سببًا في الحرمان، بل الحرمان لعدم تحقق سبب تملكه هذا المال، والسبب: هو إعطاء الواقف المالك" (¬2). وأتفق مع كلام ابن القيم - رحمه الله - في ضعف مذهب الشافعية، ولا أتفق معه في عدم ثبوت هذا القول، فإن مذهب الشافعية صريح في صحة الوقف على الفسقة، وأهل الذمة، بل أكثر الحنابلة على صحة الوقف على جهة اليهود والنصارى، والرجل قد نسب القول إلى الأصحاب، ولم ينسبه للإمام، وقد ذكر النووي أن هذا هو المعتمد في المذهب، وعليه أكثر الشافعية، ونقله عنه جماعة من محققي المذهب، ولم ينكروه، والله أعلم. ¬
الراجح
الراجح: إن كان الوقف على معين لم تشترط القربة فيه مطلقًا، مسلمًا كان أو ذميًا، وإن كان الوقف على جهة فإن الضابط فيه: أن كل من صح أن يتصدق عليه صح أن يوقف عليه؛ لأن الوقف صدقة من الصدقات، بشرط أن يكون وصف الاستحقاق مباحًا, وليس محرمًا حتى لا يكون تشجيعًا على الإثم، والله أعلم.
الشرط الثاني في اشتراط أن يكون الموقوف عليه غير الواقف
الشرط الثاني في اشتراط أن يكون الموقوف عليه غير الواقف الوقف على النفس كالصدقة عليها. الواقف ينتفع من الوقف العام إذا كانت منافعه على أصل الإباحة كمرافق المساجد، ومياه الآبار. إذا جاز للمهدي أن ينتفع بالهدي من غير شرط جاز للواقف أن ينتفع من وقفه بالشرط. الوقف على النفس من باب العمل بشرط الواقف. [م - 1541] إذا وقف الرجل المنفعة على نفسه فقد عاد الوقف عليه، فهل يصح أن يعود الوقف على الواقف؟ وللجواب على ذلك نقول: لم يختلف عامة العلماء في الرجل يقف وقفًا عامًا على المسلمين، أن له أن ينتفع معهم، كأن يقف مسجدًا فيصلي فيه، أو بئرًا للمسلمين فيشرب منه، أو مقبرة عامة، فيدفن فيها (¬1)، والأصل في هذا: (ح -980) ما رواه البخاري تعليقًا، قال أبو عبد الله البخاري: وقال عثمان: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين، فاشتراها عثمان - رضي الله عنه -. [رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم، وهو حديث صحيح بطرقه] (¬2) ¬
القول الأول
أما إذا قال الرجل: جعلت هذا الوقف على نفسي، ثم على الفقراء، أو قال: جعلت هذا الوقف على الفقراء وأشترط غلتها مدة حياتي، أو قال: هو وقف على نفسي فقط ولم يجعل آخره على الفقراء، فقد اختلف العلماء في صحة هذا الوقف: القول الأول: يصح الوقف على النفس، وهو قول أبي يوسف، وابن أبي ليلي من الحنفية، وهو المعتمد عندهم، واختاره أبو عبد الله الزبيري وابن سريج من الشافعية، والإمام إسحاق بن راهوية، وهو إحدى الروايتين عن الإِمام أحمد رجحها ابن تيمية، وابن القيم من الحنابلة، وصحح ابن شعبان من المالكية الوقف على نفسه إذا أشرك معه غيره (¬1). وقال صاحب الإنصاف: "وهذه الرواية عليها العمل في زماننا وقبله عند حكامنا من أزمنة متطاولة، وهو الصواب ... " (¬2). وقال في التنقيح: وعليه العمل، وهو أظهر. وجاء في الفتاوى الهندية: "رجل قال: أرضي صدقة موقوفة على نفسي يجوز هذا الوقف على المختار كذا في خزانة المفتين. ¬
دليل من قال: يصح الوقف على النفس
ولو قال: وقفت على نفسي ثم من بعدي على فلان ثم على الفقراء جاز عند أبي يوسف - رحمه الله تعالى" (¬1). وفي فتح القدير لابن الهام: "والفتوى على قول أبي يوسف، ونحن أيضًا نفتي بقوله ترغيبًا للناس في الوقف واختاره مشايخ بلخ، وكذا ظاهر الهداية" (¬2). دليل من قال: يصح الوقف على النفس: الدليل الأول: (ح -981) ما رواه مسلم من طريق الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا، يقول: فبين يديك وعن يمينك، وعن شمالك (¬3). وجه الاستدلال: قوله: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها) فإذا صحت الصدقة على النفس، وكان مقدمًا على الصدقة على غيرها، صح الوقف على النفس؛ لأنه من باب الصدقة عليها. الدليل الثاني: (ح -982) ما رواه البخاري من طريق نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أصاب أرضًا بخيبر فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: ¬
وجه الاستدلال
يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخيبر، لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع ولا يوهب، ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول، قال: فحدثت به ابن سيربن، فقال: غير متمول مالًا (¬1). وجه الاستدلال: فيه دليل على جواز أن ينتفع الواقف من وقفه؛ لأن عمر - رضي الله عنه - أباح الأكل لمن وليه، وقد يليه الواقف، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وقد كان الوقف في يده إلى أن مات ثم انتقل إلى أم المؤمنين حفصة ك. ويناقش: بأن أكل ولي الوقف ليس من قبيل الوقف على النفس؛ لأن استحقاقه للأكل جاء من جهة العمل، ولم يأت من جهة الوقف، ولذا يصح له أن يأكل ولو لم يشترط ذلك في الوقف، بخلاف الوقف على النفس فإنه لا يستحق على القول بصحته إلا إذا اشترط، فلا يصح هذا الحديث دليلًا على صحة الوقف على النفس. الدليل الثالث: (ح -983) ما رواه البخاري تعليقًا، قال أبو عبد الله البخاري: وقال عثمان: ¬
وجه الاستدلال
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين، فاشتراها عثمان - رضي الله عنه -. [رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم، وهو حديث صحيح بطرقه] (¬1). وجه الاستدلال: أن عثمان - رضي الله عنه - قد انتفع من وقفه كسائر المسلمين وهو بمعنى الوقف على النفس؛ لأن الواقف إذا لم يمنع من الانتفاع من وقفه على وجه التشريك لم يمنع على وجه الاستقلال. جاء في الحاوي: "لما استوى هو وغيره في الوقف العام، جاز أن يستوي هو وغيره في الوقف الخاص" (¬2). ونوقش هذا: يجوز أن يدخل الواقف في الوقف العام، خاصة إذا كانت منافعه على أصل الإباحة كمرافق المساجد، ومياه الآبار ما لا يدخل في الوقف الخاص، والدليل عليه أن الرسول كان يصلي في المساجد، وهو وقف على المسلمين، وإن كان لا يجوز أن يختص بالصدقة (¬3). الدليل الرابع: (ث -190) روى البيهقي، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، أنبأ أبو الحسن محمَّد بن محمود المروزي، ثنا أبو عبد الله محمَّد بن علي الحافظ، ثنا محمَّد بن المثنى، حدثني الأنصاري -يعني محمد بن عبد الله الأنصاري- ¬
وجه الاستدلال
حدثني أبي. يعني عبد الله بن المثنى أخا ثمامة - عن ثمامة، عن أنس أنه وقف دارًا بالمدينة، فكان إذا حج مر بالمدينة فنزل داره (¬1). [في إسناده عبد الله بن المثنى أخو ثمامة، والد محمد بن عبد الله الأنصاري، صدوق كثير الخطأ، إلا أن مثل هذا النقل لا يحتاج إلى قوة حفظ لقرابته من أنس، وتكرار نزول أنس بن مالك في الدار التي وقفها، والله أعلم، وبقية رجال الإسناد ثقات]. وجه الاستدلال: وجه الاستدلال بهذا الأثر كسابقه، والله أعلم، وهو في صحة انتفاع الواقف من وقفه، وهو في معنى الوقف على النفس. الدليل الخامس: (ح -984) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج, عن أبي هريرة ت: أن رسول الله "رأى رجلًا يسوق بدنة، فقال: اركبها فقال: إنها بدنة فقال: اركبها. قال: إنها بدنة. قال: اركبها وبلك في الثالثة أو في الثانية (¬2). [ورواه الشيخان من مسند أنس ت] (¬3). وجه الاستدلال: أنه إذا جاز له الانتفاع بما أهداه بعد خروجه عن ملكه بغير شرط فجوازه مع الوقف بالشرط أولى. ¬
ونوقش هذا
ونوقش هذا: بأن ركوب الهدي مقيد بحال الاضطرار؛ (ح -985) لما رواه مسلم من طريق ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، قال: سمعت جابر بن عبد الله سئل عن ركوب الهدي، فقال: سمعت النبي يقول: اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرًا (¬1). فإن مفهوم هذا الحديث أنه يركب إذا اضطر لذلك، ويتركه إذا ارتفعت الضرورة، وإذا كان الإجماع على أنه لا يجوز له تأجيرها (¬2)، كان الانتفاع منها كذلك ليس له أن ينتفع منها إلا في حال الضرورة. ويجاب بجوابين: الأول: أن أبا الزبير قد اختلف عليه في قوله: (إذا ألجئت إليها). (ح - 986) فقد رواه مسلم من طريق معقل، عن أبي الزبير، قال: سألت جابرًا - رضي الله عنه - عن ركوب الهدي، فقال: سمعت النبي يقول: اركلبها بالمعروف حتى تجد ظهرًا (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السادس
ولم يقيد ذلك بالضرورة، وقوله: (حتى تجد ظهرًا) قيد باعتبار الحاجة، وهي دون الضرورة، وإذا أذن الرسول له في ركوب الهدي عند الحاجة ولو لم يشترط، مع أن الهدي لا يراد به إلا القربة جاز ذلك مع الوقف بالشرط من باب أولى اعتبارًا للشرط، ولأن الوقف أخف من الهدي فإنه يأتي للقربة ولغيرها فدل هذا على جواز انتفاع الواقف من وقفه، والله أعلم. الثاني: أن ما رواه الشيخان من حديث أنس وحديث أبي هريرة أرجح مما انفرد به مسلم خاصة إذا كان ما انفرد به مسلم جاء من طريق أبي الزبير، فإن كان هناك ترجيح فحديث أبي هريرة وأنس في الصحيحين أقوى طرقًا من رواية أبي الزبير عن جابر؛ ولم يذكر فيهما أي قيد للركوب، ولأن أبا الزبير ليس بالمتقن، فحديثه من قبيل الحسن، هذا إذا لم يختلف عليه، كيف وقد اختلف عليه في لفظه، والعلماء مختلفون في حكم ركوب الهدي على ستة أقوال ليس هذا موضع بحثها. الدليل السادس: (ح -987) ما رواه البخاري ومسلم من طريق ثابت وغيره، عن أنس - رضي الله عنه -، عن النبي أنه أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها (¬1). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قال ابن حجر: أنه "أخرجها من ملكه بالعتق، وردها إليه بالشرط" (¬1). الدليل السابع: أن المقصود من الوقف القربة، وهي حاصلة بالوقف على النفس. القول الثاني: لا يصح الوقف على النفس، وبه قال محمد بن الحسن من الحنفية، وهو مذهب المالكية، والشافعية، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وهي المذهب (¬2). جاء في حاشية الصاوي: "حاصله أن الوقف على النفس باطل ... تقدم ¬
دليل من قال: لا يصح الوقف على النفس
الوقف على النفس، أو تأخر، أو توسط، كان قال: وقفت على نفسي، ثم عقبي، أو وقفت على زيد، ثم على نفسي، أو وقفت على زيد ثم على نفسي ثم على عمرو" (¬1). وقال العراقي في طرح التثريب: "والمشهور عندهم منع وقف الإنسان على نفسه، وهو المنصوص للشافعي" (¬2). قال في الإنصاف: "ولا يصح على نفسه في إحدى الروايتين، وهو المذهب، وعليه أكثر الأصحاب" (¬3). وجاء في كتاب الوقوف للخلال: "أخبرني عصمة بن عصام، حدثنا حنبل، قال: قيل لأبي عبد الله الرجل يوقف على نفسه؟ قال: ما سمعت بهذا. وأخبرني جعفر بن محمَّد، أن يعقوب بن بختان حدثهم، أنه سأل أبا عبد الله عن الرجل يوقف على نفسه؟ قال: ما سمعت فيه بشيء" (¬4). دليل من قال: لا يصح الوقف على النفس: الدليل الأول: (ح - 68) ما رواه النسائي من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن المائة سهم التي لي بخيبر لم أصب مالًا ¬
وجه الاستدلال
قط أعجب إلي منها، قد أردت أن أتصدق بها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: احبس أصلها، وسبل ثمرتها (¬1) [صحيح، وهو في الصحيحين] (¬2). وجه الاستدلال: أن تسبيل الثمرة يعني تمليكها للغير، فإذا بقي ملكه عليها لم يصح أنه سبل ثمرتها. الدليل الثاني: أن الوقف عقد يقتضي زوال الملك، فصار كالبيع والهبة، فإذا كانت لا تصح ¬
ونوقش هذا
مبايعة الإنسان لنفسه، ولا الهبة لها لم يصح الوقف عليها (¬1). ولأنه إذا كان مقتضى عقد الوقف إخراجه من ملكه فوقفه على نفسه يمنع زوال ملكه، فلم يستحدث به ملكًا. ونوقش هذا: لا نسلم بأن الوقف على النفس تمليك من النفس إلى النفس، بل هو إخراج الملك إلى الله تعالى على وجه القربة، فإذا شرط البعض أو الكل لنفسه فقد جعل مصرف ما أخرجه لله - عز وجل - لنفسه، لا أنه يجعل ملك نفسه لنفسه، فاستحقاقه له وقفًا يختلف عن استحقاقه إياه ملكًا. وفيه فائدة أخرى: وهي الامتناع من التصرف فيه، فلا يبيعه، ولا يهبه، ولا يورثه، وأنه إذا مات صرف مصرف الوقف المنقطع، ولم يكن ميراثًا للورثة. الدليل الثالث: أن الوقف على النفس وقف على جهة يتوهم انقطاعها، والوقف لا بد فيه من التأبيد فلم يصح. ويناقش: بأنه لا دليل على أنه يشترط في صحة الوقف أن يكون على جهة لا يتوهم انقطاعها، وعلى التسليم بصحة الشرط فإنه إذا وقف على نفسه، ثم على المساكين من بعده لم يتوهم انقطاع الوقف في هذه الحالة، وسوف نناقش في مبحث مستقل حكم اشتراط أن يكون الوقف على جهة لا يتوهم انقطاعها. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: أن الوقف على نفسه حاصله منع نفسه من التصرف في رقبة الملك فلم يصح ذلك كما لو أفرده بأن قال: لا أبيع هذا, ولا أهبه، ولا أورثه. ويناقش: هناك فرق بين أن يكون المانع من التصرف فيه لإخرجه من ملكه وقفًا لله، وإن كان مصرف الوقف على نفسه، فهو لا يملك رقبته، وإن استحق المنفعة، والبيع والإرث يتعلقان بالرقبة، وهي ليست مملوكة، وبين أن يمنع نفسه من التصرف في رقبة يملكها ولم يوقفها، فهذا نوع من التحجير، والملك ينتقل بالإرث جبرًا من غير اختيار. الراجح: القول بصحة الوقف على النفس، وهو من باب العمل بشرط الواقف، والأصل في شروط الواقف الصحة، وهو له الحرية الكاملة في مقدار الوقف، وفيما يوجبه في عقد وقفه من شروط لا تنافي الشرع، وفي تحديد الموقوف عليهم، ومنه تعيين نفسه مصرفًا لوقفه. إلا أنه يشترط ألا يكون فعل ذلك حيلة لإسقاط حق الغرماء، كما لو كان مدينًا فأوقف بيته على نفسه لئلا يباع في دينه فإنه لا يصح الوقف؛ لأن الصحيح من أقوال أهل العلم أن الإنسان إذا كان عليه دين يستغرق ماله فإنه لا يصح وقفه؛ لأن ماله قد تعلق به حق الغرماء؛ لأن وفاء الدين واجب، والوقف سنة، ولا يترك الواجب من أجل تحقيق سنة، والله أعلم.
مبحث إذا وقف على نفسه على المساكين
مبحث إذا وقف على نفسه على المساكين [م - 1542] اختلف العلماء القائلون بمنع الوقف على النفس في حكم الوقف إذا قال الرجل: هذا وقف على نفسي، ثم على أولادي أو على المساكين، هل يبطل الوقف مطلقًا، أو ينتقل الوقف إلى المساكين والأولاد؟ القول الأول: يصح ويصرف الوقف إلى من بعده، وهذا أحد القولين في مذهب الشافعية، وعليه أكثر الحنابلة (¬1). ووافقهم المالكية بشرط أن يحوزه الموقوف عليه قبل حصول مانع للواقف من فلس أو جنون، أو موت؛ لأن المالكية يشترطون لنفاذ الوقف أن يحوزه الموقوف عليه. فإن استمر الوقف تحت يد الواقف حتى حصل المانع من موت أو فلس أو جنون بطل الوقف (¬2). وحقيقة الحيازة عند المالكية: رفع يد الواقف عن الوقف وتمكين الموقوف عليه من التصرف في الذات الموقوفة بما يجوز للموقوف عليه، أو التخلية بين ¬
القول الثاني
الشيء الموقوف وبين الناس في نحو المسجد والطاحون، وهذا إذا كان الموقوف عليه أجنبيا أو ولدًا كبيرًا, ولو سفيهًا بناء على المشهور من اعتبار حيازته. جاء في حاشية الصاوي: "حاصله أن الوقف على النفس باطل ... تقدم الوقف على النفس أو تأخر أو توسط، كان قال: وقفت على نفسي، ثم عقبي، أو وقفت على زيد، ثم على نفسي، أو وقفت على زيد ثم على نفسي ثم على عمرو، فالأول يقال له منقطع الأول، والثاني منقطع الآخر. والثالث منقطع الوسط ... والحاصل: أن الظاهر من مذهبنا أنه يبطل فيما لا يجوز الوقف عليه، ويصح فيما يصح عليه ولا يضر الانقطاع" (¬1). وجاء في الشرح الكبير: "ولو وقفه على نفسه، ثم على عقبه لرجع بعد موته حبسًا على عقبه إن حازوا قبل المانع" (¬2). وقال في الحاوي: إذا قال: "وقفته على نفسي، ثم على الفقراء والمساكين، لا يجوز أن يكون وقفًا لنفسه، وهل يبطل أن يكون وقفا للفقراء والمساكين؟ فعلى قولين: القول الثاني: جائز؛ لأنهم صاروا فيه أصلًا عند بطلان الأصل" (¬3). فيكون حكمه عند الشافعية حكم الوقف إذا كان منقطع الابتداء، متصل الانتهاء. ¬
القول الثاني
وجاء في شرح منتهى الإرادات: "ولا يصح الوقف عند الأكثر على نفسه، نقل حنبل وأبو طالب: ما سمعت بهذا, ولا أعرف الوقف إلا ما أخرجه لله ... وينصرف الوقف إلى من بعده في الحال، فإن وقف على نفسه، ثم أولاده أو الفقراء، صرف في الحال إلى أولاده أو الفقراء؛ لأن وجود من لا يصح الوقف عليه كعدمه" (¬1). قال شيخنا ابن عثيمين: "والحقيقة أن قولهم: إنه يصرف إلى من بعده وقفًا يؤيد القول بأن الوقف على النفس صحيح؛ لأننا إذا قلنا: إنه لا يصح، وجب ألا يصح، ولا يصرف إلى من بعده؛ إذ كيف يصرف إلى من بعده، وهو لم يكن وقفا صحيحًا" (¬2). القول الثاني: أن الوقف يبطل مطلقًا، فلا يصح الوقف على نفسه، ولا يصح على الفقراء، ولا يتنقل إلى من بعده؛ لأن الوقف إذا لم يصح وجب ألا يصح، ولا يصرف إلى من بعده، وهو أحد القولين في مذهب الشافعية، واختاره بعض الحنابلة (¬3). قال في الحاوي: إذا قال: "وقفته على نفسي ثم على الفقراء والمساكين، لا ¬
الراجح
يجوز أن يكون وقفًا لنفسه، وهل يبطل أن يكون وقفا للفقراء والمساكين؟ فعلى قولين: أحدهما: أنه باطل؛ لأنه فرع لأصل باطل ... " (¬1) الراجح: هذا المسألة تفريع على القول المرجوح، وهو أن الوقف على النفس لا يصح، وإذا كنا قد رجحنا صحة الوقف على النفس لم نكن بحاجة إلى هذا التفريع، والله أعلم. ¬
الشرط الثالث أن يكون الموقوف عليه جهة غير منقطعة
الشرط الثالث أن يكون الموقوف عليه جهة غير منقطعة المبحث الأول في الوقف المتصل ابتداء المنقطع انتهاء مثاله: إذا وقف الرجل على أولاده فقط، ولم يزد على ذلك، فهذا وقف، وإن كان معلوم الابتداء إلى أنه ينتهي بالانقطاع؛ لأن أولاده ينقرضون. ومثله لو وقف على أولاده ثم على عبد زيد، فإن هذا وقف منقطع الانتهاء. ويرجع اشتراط عدم انقطاع الجهة الموقوفة عليها في الانتهاء إلى حكم اشتراط التأبيد في الوقف، فمن اشترط أن يكون الوقف مؤبدًا اشترط أن تكون الجهة الموقوفة عليها غير منقطعة في الانتهاء، ومن لم يشترط التأبيد، وجوز أن يكون الوقف مؤقتًا لم ير أن هذا شرط في الوقف. إذا علم ذلك نأتي إلى حكم المسألة على وجه التفصيل، فأقول: [م - 1543] لا خلاف بين العلماء القائلين بمشروعية الوقف أن الوقف إذا كان معلوم الابتداء والانتهاء غير منقطع فإنه صحيح. قال ابن قدامة؛ "الوقف الذي لا اختلاف في صحته ما كان معلوم الابتداء والانتهاء غير منقطع، مثل أن يجعل على المساكين، أو طائفة لا يجوز بحكم العادة انقراضهم. وإن كان غير معلوم الانتهاء" (¬1). ¬
القول الأول
[م - 1544] وأما إذا كان الوقف على جهة يجوز انقطاعها بحكم العادة، كما لو وقف على أولاده، أو على فلان من الناس، ولم يجعله بعد ذلك على الفقراء والمساكين فإن ذلك يؤول إلى الانقطاع، فهل يصح الوقف؟ اختلف العلماء في ذلك من حيث الجملة: القول الأول: لا يصح الوقف إذا كان على جهة تحتمل الانقطاع، وبه قال أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف، وأحد القولين في مذهب الشافعية (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
قال الشيرازي: "ولا يجوز إلا على سبيل لا ينقطع، وذلك من وجهين: أحدهما: أن يقف على من لا ينقرض، كالفقراء، والمجاهدين، وطلبة العلم، وما أشبهها. والثاني: أن يقف على من ينقرض، ثم من بعده على من لا ينقرض، مثل أن يقف على رجل بعينه، ثم على الفقراء، أو على رجل بعينه، ثم على عقبه، ثم على الفقراء" (¬1). وجاء في مغني المحتاج: "يشترط في الوقف أربعة شروط: الأول التأبيد كالوقف على من لم ينقرض قبل قيام الساعة، كالفقراء، أو على من ينقرض، ثم على من لا ينقرض كزيد، ثم الفقراء، فلا يصح تأقيت الوقف" (¬2). ¬
دليل من قال: يشترط أن يكون على جهة لا تنقطع
دليل من قال: يشترط أن يكون على جهة لا تنقطع: الدليل الأول: أن الوقف إذا كان منقطعًا صار وقفًا على مجهول فلم يصح، كما لو وقف على مجهول الابتداء. الدليل الثاني: (ح -989) ما رواه مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (¬1). فالوقف إذا لم يرد به التأبيد لم يكن صدقة جارية. قال في المبدع: "القصد بالوقف: الصدقة الدائمة، لقوله - عليه السلام -: أو صدقة جارية" (¬2). قال إمام الحرمين: "الوقف هو الصدقة الجارية، فإذا لم يُثبت له مصرف متأبَّد، كان مائلًا عن موضوعه. هذا هو القول الصحيح وبه المنتهى" (¬3). وذلك أن مقتضى الوقف أن يكون مؤبدًا (لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث)، والمنقطع ليس كذلك. وقد سبق بحث اشتراط التأبيد، وأن الراجح عدم اشتراطه، فيصح الوقف ¬
القول الثاني
مؤقتًا ومؤبدًا، والانقطاع لا ينافي التأبيد؛ لأن تأبيد كل شيء بحسبه، والله أعلم. القول الثاني: يصح الوقف المنقطع، وهذا مذهب المالكية بناء على أصلهم في جواز الوقف المؤقت، والأظهر في مذهب الشافعية، والمذهب عند الحنابلة (¬1). وجاء في شرح الخرشي: "ولا يشترط في صحة الوقف التأبيد أي: التخليد بل يصح ويلزم مدة كسنة، ثم يكون بعدها ملكًا" (¬2). قال ابن قداهة في المغني: "وإن كان -يعني الوقف- غير معلوم الانتهاء، مثل أن يقف على قوم يجوز انقراضهم بحكم العادة، ولم يجعل آخره للمساكين، لا لجهة غير منقطعة، فإن الوقف يصح، وبه قال مالك، وأبو يوسف، والشافعي في أحد قوليه" (¬3). وجاء في كشاف القناع: "فإن اقتصر الواقف على ذكر جهة تنقطع كأولاده؛ لأنه بحكم العادة يمكن انقراضهم صح الوقف؛ لأنه معلوم المصرف" (¬4). ¬
وجه القول بصحة الوقف المنقطع
وجه القول بصحة الوقف المنقطع: الدليل الأول: الوقف صدقة من الصدقات، وفارق الصدقة باختصاص الوقف بالصدقة بالمنفعة دون الأصل، وهذا الفارق لا يوجب اشتراط التأبيد، فالصدقة تجوز أن تكون مؤبدة ومؤقتة، ولا يوجد دليل من كتاب أو سنة، أو إجماع يوجب أن تكون الصدقة مؤبدة، ولأنه إذا جاز للإنسان أن يتقرب بكل ماله وببعضه، جاز له أن يتقرب به في كل الزمان وفي بعضه. الدليل الثاني: قياس جواز انقطاع الوقف على جواز اشتراط الواقف توقيت انتفاع الموقوف عليه بالعين الموقوفة، فإذا جاز للواقف أن يقيد بالشرط مدة انتفاع الموقوف عليه بالغلة جاز بالضرورة تقييد الوقف بمدة. الدليل الثالث: كل دليل ذكرته في مسألة (جواز الوقف على النفس) يصلح دليلًا على صحة الوقف على جهة منقطعة؛ فإذا صح الوقف على النفس في أصح أقوال أهل العلم جاز الوقف على جهة منقطعة، والله أعلم. الدليل الرابع: أن الوقف على جهة منقطعة كما لو وقف على أولاده يعتبر تصرفًا معلوم المصرف، فصح الوقف عليهم. الدليل الخامس: إذا صح وقف المنقول في أصح أقوال أهل العلم، وهو عرضة للهلاك، صح
القول الثالث
الوقف على جهة عرضة للهلاك أيضًا، فإذا كنا لا نشترط دوام الوقف لم نشترط دوام الموقوف عليهم، والله أعلم. القول الثالث: أن الوقف إذا كان في عقار لم يصح إنشاؤه منقطع الآخر، وإن كان الوقف في حيوان لم يمتنع ألا يتأبد مصرفه، حكاه بعض الشافعية. وجه هذا القول: جاء في نهاية المطلب: "إن الحيوان المحبَّس إلى الهلاك مصيره، فإذا وقف مالكُ الحيوان الحيوانَ على شخص معين، كان ارتقاب بقاء الموقوف مع وفاة الموقوف عليه متعارضًا في التقدير بارتقاب موت الموقوف، مع بقاء الموقوف عليه" (¬1). الراجح: الوقف صدقة من الصدقات، يجوز أن يكون دائمًا، وأن يكون منقطعًا مؤقتًا، والمدار على شرط الواقف، والأصل في شروط الواقف الصحة والجواز، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في الوقف المنقطع ابتداء وانتهاء
المبحث الثاني في الوقف المنقطع ابتداء وانتهاء [م - 1445] اختلف العلماء في صحة وقف الرجل على مسجد لم يبن، أو على مدرسة هيئ مكانها, ولم تبن بعد، أو على ولد لم يولد، ويصح هذا مثالًا للوقف إذا كان منقطع الابتداء والانتهاء. القول الأول: يصح مطلقًا، وهذا مذهب المالكية (¬1). وقيل: يصح بشرط أن يجعل آخره للفقراء، حتى لا يكون منقطع الانتهاء، أو يقول صدقة موقوفة على من يحدث لي من الولد؛ لأن لفظ الصدقة يجعل آخره للفقراء، وهذا مذهب الحنفية (¬2). وقيل: يصح الوقف على الحمل، وعلى من سيولد تبعًا، كقول المؤلف: وقفت كذا على أولادي، ثم أولادهم، وهذا مذهب الحنابلة (¬3). ¬
جاء في حاشية ابن عابدين: "ولا يشترط أيضًا وجود الموقوف عليه حين الوقف، حتى لو وقف مسجدًا هيأ مكانه قبل أن يبنيه فالصحيح الجواز" (¬1). وجاء في المحيط البرهاني: " (ولو) قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على من يحدث لي من الولد، وليس له ولد، فإنه يجوز، ... لأن قوله صدقة موقوفة تكون وقفًا على الفقراء، وذكر الولد لاستثناء الغلة من الفقراء، فصار كأنه قال: أرضي موقوفة على الفقراء، إلا أنه إن حدث لي ولد فغلتها له ما بقي" (¬2). وقال ابن عابدين: "هذا الوقف يسمى منقطع الأول" (¬3). وقال فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا: "اشتراط كون الموقوف عليه دائم الوجود ليس من مقتضاه اشتراط وجوده حين الوقف، فإن الموقوف عليه لا يجب أن يكون موجودًا عند الوقف، بل يكفي أن يكون سيوجد، ولكن يجب أن يكون مما يدوم وجوده بعد أن يوجد. (قلت: هذا شرط ألا يكون منقطع الانتهاء) - ثم قال: فلو وقف الواقف على مسجد سينشأ بعد أهيئ مكانه صح الوقف (رد المحتار) وكذا إذا وقف على من سيحدث له من الأولاد، ومن بعدهم على جهة بر دائمة عينها، صح كذلك" (¬4). وصحح ابن عقيل من الحنابلة صحة الوقف على الحمل ابتداء، واختاره الحارثي (¬5). ¬
القول الثاني
وجاء في شرح منتهى الإرادات: "ولا يصح الوقف على ما في بطن هذه المرأة؛ لأنه تمليك، وهو لا يملك، وكذا الوقف على المعدوم كعلى من سيولد لي، أو على من سيولد لفلان، فلا يصح أصالة، بل يصح الوقف على الحمل وعلى من سيولد تبعًا، كقول المؤلف: وقفت كذا على أولادي، ثم أولادهم" (¬1). القول الثاني: لا يصح مطلقًا وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬2). قال الشيرازي: "إذا وقف وقفًا منقطع الابتداء والانتهاء، كالوقف على عبده، أو على ولده، ولا ولد له، فالوقف باطل؛ لأن العبد لا يملك، والولد الذي لم يخلق لا يملك فلا يفيد الوقف عليهما شيئًا" (¬3). وجاء في كفاية الأخيار: "حقيقة الوقف نقل ملك المنافع إلى الموقوف عليه، وتمليك المعدوم باطل، وكذا تمليك من لا يملك، مثال الأول: ما إذا وقف على من سيولد، ثم على الفقراء، أو وقف على ولده ثم على الفقراء ولا ولد له، وفي معنى ذلك ما إذا وقف على مسجد سيبنى، ثم على الفقراء" (¬4). وعلى القول بالصحة، فقد اختلفوا في مصرف الوقف إلى حين وجود ¬
الراجح
الموقوف عليه: فذهب الحنفية إلى أن الغلة تصرف للفقراء إلى أن يولد الولد، أو ينبى المسجد. وأما المالكية فلهم ثلاثة أقوال في المسألة: أحدها: أن الوقف صحيح غير لازم، فللواقف بيعه قبل وجود الموقوف عليه، ولو لم يحصل بأس من وجود الموقوف عليه، فإن وجد الموقوف عليه فقد تم الوقف، ويبقى لزومه متوقفًا على الحيازة. وهذا نص الإِمام مالك. الثاني: الوقف صحيح لازم بمجرد عقده، ولا يكون ملكًا للواقف إلا إن حصل بأس من وجود الموقوف عليه. وهذا اختيار ابن القاسم. الثالث: يحكم بحبسه، ويخرج إلى يد ثقة ليصح حوزه، وتوقف ثمرته، فإن وجد الموقوف عليه كان الحبس والغلة له، وإن لم يوجد كان لأقرب الناس للواقف، وهذا اختيار ابن الماجشون. الراجح: الوقف من باب التبرعات، وهو أوسع من باب المعاوضات، فلا أرى مانعًا من صحة الوقف على من سيولد له من الولد؛ لأنه إذا جاز الوقف على من سيولد على وجه التبع بالاتفاق، كما لو قال: هذا وقف على فلان الموجود، ثم على من سيولد له، جاز دخولهم أصالة، ولا مانع من حبس الغلة أو قيمتها إلى أن يوجد، فإذا تحقق من أنه لن يوجد فإنه يصرف مصرف الوقف المنقطع، أو نقول: بطل الوقف ما لم يذكر له مآلًا، والله أعلم، وأما اشتراط الحيازة فهو قول ضعيف؛ لأن الوقف ليس كالهبة حتى يتوقف على القبض، فالهبة تمليك لآدمي، والوقف إخراج المال لله تعالى، فهو حبسه عن التمليك.
قال شيخنا ابن عثيمين عليه رحمه الله: "ولو ذهب ذاهب إلى صحة الوقف على الحمل أصالة لم يكن بعيدًا، ونقول: إن خرج هذا الحمل حيًا حياة مستقرة استحق الوقف، وإلا بطل الوقف ما لم يدكر له مآلًا. مثال ذلك: رجل قال: هذا وقف على ما في بطن زوجة ابني، فما المانع من الصحة؟ فيقال: إذا وضعت طفلًا حيًا حياة مستقرة صار الوقف له، وإلا بأن وضعت ميتًا بطل الوقف إلا أن يذكر له مآلًا، مثل أن يقول: هذا وقف على ما في بطن زوجة ابني، ثم المساكين، فإنه ينتقل إلى المساكين إذا خرج الحمل ميتًا، فلو قال أحد بهذا لكان قولًا وجيهًا" (¬1). وما دام قد ثبت القول به عن المالكية والحنفية فإنه يصح أن يكون هذا القول هو اختيار شيخنا؛ لأنه علق القول به إن كان قال به أحد، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في الوقف المنقطع ابتداء والمتصل انتهاء
المبحث الثالث في الوقف المنقطع ابتداء والمتصل انتهاء [م - 1546] مثاله: لو قال: هذا وقف على بناتي، وله بنون فقط، أو العكس، بأن قال: هذا وقف على بني، وله بنات فقط، ثم على المساكين، فهذا وقف منقطع الأول، متصل الآخر. ومثله الوقف على النفس، ثم على المساكين عند من يمنع الوقف على النفس، فإنه يصدق عليه عنده أنه منقطع الابتداء متصل الانتهاء. وقد اختلف العلماء في حكم هذا الوقف على قولين: القول الأول: يصح الوقف، وينتقل إلى من بعده، وهذا مذهب الحنفية والمالكية، وأحد القولين في مذهب الشافعية، والمذهب عند الحنابلة (¬1). وجه القول بالصحة: أن الواقف إذا جمع في وقفه بين من يجوز الوقف عليه، وبين من لا يجوز ¬
الوقف عليه صح فيمن يجوز، وبطل فيمن لا يجوز بناء على القول بتفريق الصفقة. ولا يقال: إن هذه الصفقة جمعت حلالًا وحرامًا فتفسد تقديمًا للحظر على الإباحة؛ فإن هذا مخصوص بعقود المعاوضات؛ لأنها مبنية على التشديد بخلاف عقود التبرعات، فهي مبنية على التسامح والعفو. على القول بالصحة فقد اختلفوا فيما بينهم، هل ينتقل إلى الثاني في الحال، أم لا؟ فذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه ينتقل إلى من بعده في الحال زاد الحنفية: إن وجد ما ذكر بعد ذلك عاد إليه، فلو وقف على بناته، وله بنون فقط، صرف إلى الفقراء، ثم إذا وجد البنات عاد الوقف إليهن. جاء في الدر المختار: "ولو قال: على بني وله بنات فقط، أو قال: على بناتي وله بنون، فالغلة للمساكين، ويكون وقفًا منقطعًا، فإن حدث ما ذكر عاد إليه" (¬1). قال ابن عابدين تعليقًا: "قوله: (ويكون وقفًا منقطعًا) أي منقطع الأول" (¬2). واشترط المالكية للانتقال أن يحوزه الموقوف عليه قبل حصول مانع للواقف من فلس أو جنون، أو موت؛ لأن المالكية يشترطون لنفاذ الوقف أن يحوزه الموقوف عليه. ¬
فإن استمر الوقف تحت يد الواقف حتى حصل المانع من موت أو فلس أو جنون بطل الوقف (¬1). وحقيقة الحيازة عند المالكية: رفع يد الواقف عن الوقف وتمكين الموقوف عليه من التصرف في الذات الموقوفة بما يجوز للموقوف عليه، أو التخلية بين الشيء الموقوف وبين الناس في نحو المسجد والطاحون، وهذا إذا كان الموقوف عليه أجنبيا، أو ولدًا كبيرًا، ولو سفيهًا بناء على المشهور من اعتبار حيازته. جاء في حاشية الصاوي: "حاصله أن الوقف على النفس باطل ... تقدم الوقف على النفس أو تأخر أو توسط، كأن قال: وقفت على نفسي، ثم عقبي، أو وقفت على زيد، ثم على نفسي، أو وقفت على زيد ثم على نفسي ثم على عمرو، فالأول يقال له منقطع الأول، والثاني منقطع الآخر. والثالث منقطع الوسط ... والحاصل: أن الظاهر من مذهبنا أنه يبطل فيما لا يجوز الوقف عليه، ويصح فيما يصح عليه ولا يضر الانقطاع" (¬2). وجاء في الشرح الكبير: "ولو وقفه على نفسه، ثم على عقبه لرجع بعد موته حبسًا على عقبه إن حازوا قبل المانع، (¬3). وأما الشافعية على القول بصحة وقف منقطع الابتداء فلهم تفصيل في الانتقال بينه الشيرازي في المهذب، بقوله: "وإن وقف وقفا منقطع الابتداء متصل ¬
الانتهاء بأن وقف على عبد ثم على الفقراء، أو على رجل غير معين ثم على الفقراء ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: يبطل قولًا واحدًا؛ لأن الأول باطل، والثاني فرع لأصل باطل فكان باطلًا. ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما أنه باطل لما ذكرناه، والثاني: أنه يصح؛ لأنه لما بطل الأول صار كأن لم يكن، وصار الثاني أصلًا. فإذا قلنا: إنه يصح، فإن كان الأول لا يمكن اعتبار انقراضه كرجل غير معين صرف إلى من بعده، وهم الفقراء؛ لأنه لا يمكن اعتبار انقراضه فسقط حكمه. وإن كان يمكن اعتبار انقراضه كالعبد ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: ينقل في الحال إلى من بعده؛ لأن الذي وقف عليه في الابتداء لم يصح الوقف عليه فصار كالمعدوم. والثاني: وهو المنصوص: أنه للواقف، ثم لوارثه إلى أن ينقرض الموقوف عليه، ثم يجعل لمن بعده؛ لأنه لم يوجد شرط الانتقال إلى الفقراء، فبقي على ملكه. والثالث: أنه يكون لأقرباء الواقف إلى أن ينقرض الموقوف عليه ثم يجعل للفقراء؛ لأنه لا يمكن تركه على الواقف؛ لأنه أزال الملك فيه، ولا يمكن أن يجعل للفقراء؛ لأنه لم يوجد شرط الانتقال إليهم، فكان أقرباء الواقف أحق. وهل يختص به فقراؤهم، أو يشترك فيه الفقراء والأغنياء؟ على ما ذكرناه من القولين" (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: أن الوقف إذا كان منقطع الابتداء فهو باطل مطلقًا، وهو المذهب عند الشافعية، واختاره بعض الحنابلة (¬1). جاء في مغني المحتاج: "ولو كان الوقف منقطع الأول كوقفته على ولدي، ولا ولد له، أو على مسجد سيبنى، أو على من سيولد لي، ثم الفقراء فالمذهب بطلانه؛ لأن الأول باطل لعدم إمكان الصرف إليه في الحال؛ فكذا ما ترتب عليه" (¬2). وجه القول بالبطلان: أن الوقف إذا لم يصح في الأول وجب ألا يصح في الثاني لأن الثاني فرع لأصل باطل فبطل. قال في الحاوي: إذا قال: "وقفته على نفسي ثم على الفقراء والمساكين، لا يجوز أن يكون وقفًا لنفسه، وهل يبطل أن يكون وقفا للفقراء والمساكين؟ فعلى قولين: أحدهما: أنه باطل؛ لأنه فرع لأصل باطل ... " (¬3). ويجاب: بأنه لما لم يصح للأول أصبح وجوده كعدمه، فكأنه وقف على الثاني ابتداء. ¬
الراجح
الراجح: الراجح صحة وقف منقطع الابتداء، وأنه ينتقل مباشرة إلى من بعده، ولا وجه لقول المالكية أنه متوقف على الحيازة، ولا وجه أيضًا لقول الشافعية بأنه يتوقف على انقطاع الأول؛ لأنه لما لم يكن أهلًا لصرف الوقف إليه لم يكن الأمر متوقفًا على انقطاعه؛ لأنه منقطع حكمًا، والله أعلم.
المبحث الرابع في الوقف المنقطع الوسط
المبحث الرابع في الوقف المنقطع الوسط [م - 1547] مثاله: أن يقف الرجل على زيد، ثم على رجل مبهم، ثم على الفقراء، فهذا الوقف متصل الابتداء والانتهاء، منقطع الوسط. وقد اختلف العلماء في صحة الوقف إذا كان منقطع الوسط على قولين: القول الأول: يصح الوقف إذا كان منقطع الوسط، فإذا انقطع الأول انتقل إلى الفقراء، وهذا مذهب الحنفية والمالكية، والحنابلة (¬1)، إلا أن المالكية اشترطوا أن يحوز الموقوف عليه الوقف قبل حصول مانع من جنون، أو موت، أو فلس، كما بينا مذهبهم في منقطع الابتداء. وجه القول بالصحة: إذا صح الوقف مع ذكر من لا يجوز الوقف عليه، فإننا نلغي من لا يجوز الوقف عليه لتعذر تصحيح الوقف مع اعتباره (¬2). ووافق الشافعية الجمهور في الصحة، إلا أن لهم تفصيلًا في طريقة انتقال الوقف من الأول إلى الآخر: ¬
القول الثاني
فإن كان الأوسط مبهمًا لا يمكن معرفة أمد انقطاعه، انتقل الوقف في الحال بعد انقطاع الأول، كما لو قال: هذا وقف على أولادي، ثم على رجل، ثم على المساكين، فإذا مات الأولاد انتقل مباشرة إلى المساكين؛ لأنه لا يمكن معرفة أمد انقطاع الرجل المجهول، ولوجود المصرف في الحال والمآل. وإن كان الأوسط معينًا لا يصح الوقف عليه كما لو قال: هذا وقف على أولادي، ثم على عبد زيد، ثم على المساكين لم ينتقل الوقف بعد انقطاع الأول إلى المساكين حتى ينقرض العبد، ثم يجعل بعده للمساكين (¬1). لأنه لما كان الأوسط المنقطع معينًا أمكن معرفة أمد انقطاعه فلم ينتقل الوقف للفقراء حتى يوجد شرط الانتقال إليهم، وهو انقراض العبد. القول الثاني: لا يصح وقف منقطع الوسط، وهو قول في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة. جاء في حاشيتي قليوبي وعميرة: " (أو) كان الوقف (منقطع الوسط كوقفت على أولادي، ثم رجل، ثم الفقراء، فالمذهب صحته). وقيل: لا يصح بناء على عدم الصحة في منقطع الآخر" (¬2). وجاء في المبدع: "للوقف أربعة أحوال: متصل الابتداء والانتهاء، ولا إشكال في صحته. ¬
الراجح
ومنقطع الابتداء متصل الانتهاء. ومتصل الابتداء والانتهاء منقطع الوسط، والمذهب صحتهما، وقيل بالبطلان" (¬1). الراجح: القول بالصحة، وأنه ينتقل في الحال إلى الفقراء، ولا يتوقف على حيازة كما هو مذهب المالكية، وقد بينت ضعقه في مسألة مستقلة، كما لا يتوقف إلى اعتبار انقراض الوسط؛ لأنه ملغى، فلا حكم لوجوده، والله أعلم. ¬
المبحث الخامس في مآل مصرف الوقف المنقطع
المبحث الخامس في مآل مصرف الوقف المنقطع [م - 1548] في المبحث السابق ناقشنا مذاهب العلماء في الوقف، إذا كان متصل الابتداء منقطع الانتهاء، فعلى القول بصحته، كيف يصرف الوقف إذا انقطع: اختلف العلماء في هذا على أقوال: القول الأول: مذهب أبي يوسف من الحنفية: روي عن أبي يوسف روايتان: أحدهما: أنه يصرف إلى الفقراء (¬1). وجه هذا القول: أن المقصود هو التقرب إلى الله، وصرفه إلى الفقراء فيه تحقيق لمقصد الواقف، وقد ثبت الوقف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة، ولم يثبت عنهم اشتراط التصريح بهذا الشرط، ولأن قصد الواقف أن يكون آخره للفقراء وإن لم يصرح بذكرهم، فكانت تسمية هذا الشرط ثابتًا دلالة، والثابت دلالةً كالثابت نصًا. الروية الثانية عن أبي يوسف: أنه يرجع إلى واقفه إن كان حيًا، أو إلى وارثه إن كان ميتًا. ¬
القول الثاني: مذهب المالكية
جاء في البزازية نقلاً من حاشية ابن عابدين (عن أبي يوسف في التأبيد روايتان: الأولى: أنه غير شرط، حتى أنه لو قال: وقفت على أولادي، ولم يزد، جاز الوقف، وإذا انقرضوا عاد إلى ملكه لو كان حيًا، وإلا فإلي ملك الوارث" (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية: ذهب المالكية إلى جواز الوقف مؤقتًا ومؤبدًا، وعليه فإنه يختلف مصرف الوقف المنقطع عندهم بحسب نوع الوقف: فإن كان الوقف مؤبدًا رجع وقفًا بعدانقطاعه إلى أقرب فقراء عصبة الواقف نسبًا من المذكور، وكذلك الأنثى التي لو قدر أنها رجل لكانت عصبة كالعمة، والأخت، وبنات الأخ، ولا يدخل فيهم الواقف، ولو كان فقيرًا، ويستوي فيهم الذكر والأنثى، ولو كان الواقف شرط في أصل وقفه للذكر مثل حظ الانثيين؛ لأن مرجع الوقف إليهم ليس بإنشاء الواقف، وإنما هو بحكم الشرع. فإن لم يكن للمحبس يوم المرجع عصبة، فإنه يرجع للفقراء والمساكين. ولا فرق بين أن يكون الانقطاع في حياة الواقف أو بعد موته. وإن كان مؤقتًا رجع بعد انقطاعه إلى مالكه إن كان حيًا، أو إلى ورثته بعد موته (¬2). ¬
القول الثالث: عند الشافعية
القول الثالث: عند الشافعية: معلوم مما تقدم في المسألة السابقة أن الوقف إذا كان متصل الابتداء منقطع الانتهاء فللشافعية فيه ثلاثة أقوال: أحدهما: أن الوقف باطل؛ لأن القصد بالوقف الدوام، وهذا منقطع. الثاني: إن كان الموقوف عقارًا فباطل، وإن كان حيوانًا صح؛ لأن مصيره إلى الانقطاع، وربما انقطع قبل الموقوف عليه. الثالث: وهو أظهرها الصحة، قال النووي: أظهرها عند الأكثرين الصحة (¬1). وقال في مغني المحتاج: "فالأظهر صحة الوقف ... فإذا انقرض المذكور فالأظهر أنه يبقى وقفًا؛ لأن وضع الوقف على الدوام كالعتق" (¬2). فعلى القول بالصحة، يصرف بعد انقراض الموقوف عليه إلى أقرب الناس إلى الواقف، وهل يختص به فقراؤهم، أو يشترك فيه الفقراء والأغنياء، قولان في مذهب الشافعية. جاء في المهذب: "وإن وقف وقفًا متصل الابتداء منقطع الانتهاء، بأن وقف على رجل بعينه ولم يزد عليه ... ففيه قولان: أحدهما: أن الوقف باطل؛ لأن القصد بالوقف أن يتصل: الثواب على الدوام، وهذا لا يوجد في هذا الوقف؛ لأنه قد يموت الرجل. ¬
القول الرابع: مذهب الحنابلة
والثاني: أنه يصح، ويصرف بعد انقراض الموقوف عليه إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لأن مقتضى الوقف الثواب على التأبيد فحمل فيما سماه على ما شرطه، وفيما سكت عنه صلى مقتضاه، ويصير كأنه وقف مؤبد، ويقدم المسمى على غيره فإذا انقرض المسمى صرف إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لأنه من أعظم جهات الثواب ... والدليل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صدقتك على المساكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة" (¬1). وهل يختص به فقراؤهم، أو يشترك فيه الفقراء والأغنياء؟ فيه قولان: أحدهما: يختص به الفقراء؛ لأن مصرف الصدقات إلى الفقراء. والثاني: يشترك فيه الفقراء والأغنياء؛ لأن في الوقف الغني والفقير سواء" (¬2). القول الرابع: مذهب الحنابلة: هناك روايات كثيرة عند الحنابلة في مصرف الوقف المنقطع، منها: الرواية الأول: أنه يصرف إلى أقارب الواقف وقفًا عليهم. قال في الإنصاف: "وهو المذهب، قال في الكافي: هذا ظاهر المذهب" (¬3). وإنما كان وقفًا على من رجع إليه؛ لأن الوقف يقتضي التأبيد. وهل يرجع إلى ورثة الواقف؛ لأنه يصرف إليهم ماله عند موته. ¬
والدليل على صرفه إلى أقارب الواقف
أو يرجع إلى أقرب عصبة الواقف؛ لأنهم مصرف ولاء معتقه، وعليهم عقله، فخصوا بهذا، روايتان عن الإِمام أحمد. وهل يختص به فقراؤهم؟ على وجهين: أحدهما: عدم الاختصاص، وهو المذهب، قال في الكافي: "ظاهر كلام أحمد والخرقي أنه يرجع إلى الأغنياء والفقراء من أقاربه؛ لأن الوقف يستوي فيه الغني والفقير" (¬1). الوجه الثاني: يختص به فقراؤهم، اختاره القاضي في كتاب الروايتين. فإن لم يكن للواقف أقارب رجع على الفقراء والمساكين على الصحيح (¬2). والدليل على صرفه إلى أقارب الواقف: (ح -990) رواه أحمد من طريق ابن عون، عن حفصة بنت سيرين، عن الرباب بنت صليع، عن سلمان بن عامر الضبي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذى القرابة اثنتان: صلة وصدقة (¬3). الرواية الثانية: أنه يصرف إلى أقارب الموقوف عليه. جاء في الفروع: "ويصرف بعدها إلى ورثته نسبًا بقدر إرثهم ... ونقل حرب، أنه قبل ورثته لورثة الموقوف عليه" (¬4). ¬
وبناء على هذه الرواية فإن ورثة الموقوف عليه أولى بالاستحقاق من ورثة الواقف، فلو وجدوا جميعًا قدم ورثة الموقوف عليه. وقد أشار الكبيسي في أحكام الوقف إلى إعراض الحنابلة عن هذه الرواية، فقال: "أكثر أصحاب كتب الحنابلة لم يشيروا إلى هذه الرواية، فلم يشر لها صاحب المغني، ولا الشرح الكبير للمقنع، ولا كشاف القناع، ولا المنتهى ... ولا ابن رجب في كتاب القواعد الكبرى، وإهمال ذكر هذه الرواية من كتب الخلافيات الحنبلية التي توسعت في ذكر الآراء المختلفة من داخل المذهب وخارجه يدل على أنها قد أصبحت مهجورة إلى حد أنها لم تعد من آراء السادة الحنابلة على ما يظهر" (¬1). بعض الكتب التي أشار إليها الكبيسي لا تعرض إلا رواية وحدة، مثل كتاب كشاف القناع، والمنتهى، وبعض كتب الروايات قد أشاروا إليها، من ذلك كتاب الإنصاف (¬2)، والخلال في كتابه الوقوف، قال الخلال: "أخبرني حرب، قال: سألت أحمد، قلت: رجل تصدق بصدقة على رجل، فقال: هذا ما تصدق به فلان، على فلان سهم كذا، من أرض كذا، لا يباع، ولا يوهب، ولم يقل أكثر من هذا، ثم مات المصدق عليه؟ قال: هو لورثته. قلت: فإن لم يكن له ورثة؟ قال: يرجع إلى ورثة هذا الذي تصدق. قال أحمد: وأحب إلى أن من أوقف وقفًا آخره للمساكين" (¬3). ¬
وجه هذا القول
الروايه الثالثة: أنه يصرف إلى المساكين (¬1). قال ابن قدامة: "اختاره القاضي، والشريف أبو جعفر؛ لأنه مصرف الصدقات وحقوق الله تعالى من الكفارات ونحوها، فإذا وجدت صدقة غير معينة المصرف، انصرفت إليهم، كما لو نذر صدقة مطلقة" (¬2). القول الرابع: أنه يجعل في بيت مال المسلمين. وجه هذا القول: أن هذا المال لا مستحق له، فأشبه مال من لا وراث له (¬3). الراجح: ليس في المسألة نص يقطع النزاع، وكل وجه من هذه الوجوه له حظ من النظر، وإن كنت أميل إلى أن ينظر في مقصد الواقف، فإن كان الباعث على الوقف البر والأجر كان القول بأن الوقف يصرف إلى المساكين؛ لأنهم مصرف الصدقات هو الأقوى، ولا مانع من صرفه مع ذلك إلى المصالح العامة؛ لأن المصرف إليها يعتبر من البر، ووجوه الخير. وإن كان الوقف بالنظر إلى الباعث عليه من الأمور المباحة، كما لو كان الوقف على رجل غني، فإن القول بأن الوقف يرجع إلى أقارب الواقف ليس ببعيد؛ لأن عين الموقوف عليه هو المقصود في الوقف، وقد انقطع، فرجع إلى أقاربه، ومصرف ماله، والله أعلم. ¬
الشرط الرابع أن يكون الموقوف عليه أهلا للتملك
الشرط الرابع أن يكون الموقوف عليه أهلًا للتملك [م - 1549] يشترط في الواقف أن يكون أهلًا للتمليك أي ممن يصح تبرعه، وهذا مما لا خلاف فيه. وأما الموقوف عليه فيشترط فيه أن يكون أهلًا للتملك، فلا يصح وقف المصحف على كافر؛ لأنه ليس أهلًا لتملك المصحف. وقد نص أكثر المالكية على أن أهلية التملك في الموقوف عليه قد تكون حقيقة كما في الوقف على الفقراء والمساكين، وقد تكون حكمًا كما في الوقف على مسجد ورباط، وسبيل؛ لأن الوقف على المساجد ونحوها يعتبر وقفًا على عامة المسلمين إلا أنه تعين في نفع خاص لهم. جاء في الشرح الكبير: "ذكر الثالث: وهو الموقوف عليه بقوله: (على أهل التملك) حقيقة كزيد والفقراء، أو حكمًا كمسجد، ورباط، وسبيل" (¬1). وجاء في شرح الخرشي: قوله: " (على أهل للتملك) يشير بهذا إلى أن الموقوف عليه يشترط فيه أن يكون أهلا للتملك حكمًا كالمسجد، أو حسًا كالآدمي، ولذا قال ابن عرفة: المحبس عليه ما جاز صرف منفعة الحبس له أو فيه اهـ. فقوله على أهل للتملك هو الموقوف عليه وهو الموصوف بالتملك، والواقف يتصف بالتمليك ... وكلام المؤلف يشمل الموجود والمعدوم، كالأعقاب، ويشمل العاقل وغيره، والمسلم والكافر" (¬2). ¬
وعلق على هذا الحطاب في مواهب الجليل، فقال: "قوله: (على أهل للتملك) هذا الضابط ليس بشامل لخروج نحو المسجد والقنطرة منه، والصواب ما قاله ابن عرفة: المحبس عليه: ما جاز صرف المنفعة له أو فيه" (¬1). وأما الحنابلة والشافعية فلهم تفصيل: إن كان الوقف على معين فيشترط فيه إمكان تمليكه، وإن كان على جهة لم يشترط كما لو وقف على مسجد، ورباط، ونحوهما. جاء في منهاج الطالبين: "فإن وقف على معين واحد أو جمع اشترط إمكان تمليكه" (¬2) قال في إعانة الطالبين: "خرج به ما إذا وقف على جهة، فيصح الوقف بدون هذا الشرط، أعني إمكان تمليكه" (¬3). وجاء في أسنى المطالب: "الركن الثالث الموقوف عليه وهو قسمان: معين، وغيره، فالأول المعين) من شخص أو جماعة (ويشترط صحة تملكه) بأن يكون موجودًا حال الوقف أهلًا لتملك الموقوف من الواقف؛ لأن الوقف تمليك العين والمنفعة -إن قلنا بانتقال الملك إليه- وتمليك المنفعة إن لم نقل به، واعتبروا إمكان تمليك الموقوف لا منفعته ليدخل في عدم الصحة: وقف الرقيق المسلم، والمصحف على الكافر" (¬4). ¬
وقوله (موجودًا حال الوقف) هذا فيمن وقف عليه أصالة، أما من دخل تبعًا فيصح الوقف عليه، ولو لم يكن موجودًا حال الوقف. جاء في البيان للعمراني: "فإن قيل: أليس لو وقف على أولاده وعقبهم .. جاز، وإن كان العقب لم يخلق؟ قلنا: إنما جاز ذلك على سبيل التبع للموقوف عليه الموجود" (¬1). وجاء في زاد المستقنع: "ويشترط في غير المسجد ونحوه أن يكون على معين يملك" (¬2). ومع اتفاق أكثرهم على هذا الشرط إلا أنهم قد اختلفوا، هل يشترط وجود أهلية التمليك وقت الوقف؟ أو يصح الوقف ولو كانت الأهلية ستوجد، كالوقف أصالة على من سيولد، والوقف على مكان هيئ لبناء مسجد أو مدرسة، والوقف على الجنين، والوقف على الحيوان، والوقف على الذمي، ونحو ذلك من المسائل التي تدخل في أهلية التملك، مما سوف نكشف عنه إن شاء الله تعالى في المباحث التالية، أسأل الله العون والتوفيق. ¬
المبحث الأول الوقف على الحمل
المبحث الأول الوقف على الحمل إذا صحت الوصية للحمل صح الوقف عليه. [م - 1550] اختلف العلماء في الوقف على الحمل على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح مطلقًا، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، واختيار ابن عقيل من الحنابلة (¬1). على خلاف بينهم في لزومه قبل ولادته، فالمالكية يقولون: صحيح، وغير لازم (¬2)، بخلاف الحنفية فإنهم يرون لزومه. وإذا كان الحنفية يصححون الوقف على من لم يوجد فالحمل من باب أولى، جاء في حاشية ابن عابدين نقلاً من الخانية: "ولو قال: [رضي صدقة موقوفة على من يحدث لي من الولد، وليس له ولد يصح، فإذا أدركت الغلة تقسم على الفقراء، وإن حدث له ولد بعد القسمة تصرف الغلة التي توجد بعد ذلك إلى هذا الولد؛ لأن قوله صدقة موقوفة وقف على الفقراء، وذكر الولد الحادث للاستثناء، كأنه قال: إلا إن حدث لي ولد فغلتها له ما بقي" (¬3). ¬
وجه القول بصحة الوقف على الحمل
وجه القول بصحة الوقف على الحمل: الوجه الأول: قياس الوقف على الوصية، فإذا صحت الوصية للحمل، صح الوقف عليه. ونوقش هذا: بأن الوصية تتعلق بالمستقبل، والوقف تسليط في الحال. الوجه الثاني: أن الوقف من أعمال البر، وليس من باب المعاوضات، فيتسامح فيه. القول الثاني: لا يصح مطلقًا، وهذا مذهب الشافعية (¬1). جاء في مغني المحتاج: "فلا يصح الوقف على جنين؛ لعدم صحة تملكه، وسواء أكان مقصودًا أم تابعًا، حتى لو كان له أولاد وله جنين عند الوقف لم يدخل. نعم إن انفصل دخل معهم، إلا أن يكون الواقف قد سمى الموجودين أو ذكر عددهم فلا يدخل كما قاله الأذرعي" (¬2). القول الثالث: يصح تبعًا ولا يصح أصالة، وهذا مذهب الحنابلة (¬3). ¬
وجه القول بعدم الصحة
جاء في الإنصاف: "لا يصح الوقف على الحمل، هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب ... وإيراد المصنف في منع الوقف على الحمل: يختص بما إذا كان الحمل أصلاً في الوقف، أما إذا كان تبعًا بأن وقف على أولاده، أو أولاد فلان، وفيهم حمل، أو انتقل إلى بطن، وفيهم حمل: فيصح بلا نزاع. لكن لا يشاركهم قبل ولادته. على الصحيح من المذهب. نص عليه" (¬1). وجه القول بعدم الصحة: بأن الوقف تمليك في الحال، فاشترط بأن يوجد الموقوف عليه خارجًا متأهلًا للملك. ويناقش: القول بأن الوقف تمليك مسألة خلافية، فهناك من يرى أن الوقف يبقى على ملك الواقف، ومنهم من قال: يخرج الوقف إلى ملك الله سبحانه وتعالى، ومنهم من قال: ينتقل إلى ملك الموقوف عليه، فهي قضية غير مسلمة. الراجح: أرى أن القول بصحة الوقف على الحمل هو الأقوى لقوة دليله، فالوقف على الحمل هو وقف ناجز، ويوقف نصيبه إلى حين وجوده كالميراث، فإذا وجد استحقه، وإذا لم يوجد بطل الوقف إلا أن يذكر له مصرفًا بعد الحمل فيصرف إليه. قال شيخنا ابن عثيمين عليه رحمه الله: "ولو ذهب ذاهب إلى صحة الوقف ¬
على الحمل أصالة لم يكن بعيدًا، ونقول: إن خرج هذا الحمل حيًا حياة مستقرة استحق الوقف، وإلا بطل الوقف ما لم يذكر له مآلًا. مثال ذلك: رجل قال: هذا وقف على ما في بطن زوجة ابني، فما المانع من الصحة؟ فيقال: إذا وضعت طفلًا حيًا حياة مستقرة صار الوقف له، وإلا بأن وضعت ميتًا بطل الوقف إلا أن يذكر له مآلاً، مثل أن يقول: هذا وقف على ما في بطن زوجة ابني، ثم المساكين، فإنه ينتقل إلى المساكين إذا خرج الحمل ميتاً، فلو قال أحد بهذا لكان قولًا وجيهًا" (¬1). وما دام قد ثبت القول به عن المالكية والحنفية فإنه يصح أن يكون هذا القول هو اختيار شيخنا؛ لأنه علق القول به إن كان قال به أحد، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني الوقف على المعدوم حين الوقف
المبحث الثاني الوقف على المعدوم حين الوقف [م - 1551] اختلف العلماء في صحة وقف الرجل على مسجد لم يبن وقد هيئ مكانه، أو على مدرسة لم تبن، وقد هيئ مكانها، أو على ولد لم يولد، فقد اختلف العلماء في صحته على أقوال: القول الأول: يصح مطلقًا، وهذا مذهب المالكية (¬1). القول الثاني: يصح بشرط أن يجعل آخره للفقراء حتى لا يكون منقطع الانتهاء، أو يقول صدقة موقوفة على من يحدث لي من الولد؛ لأن لفظ الصدقة يجعل آخره للفقراء، وهذا مذهب الحنفية (¬2). ¬
القول الثالث
القول الثالث: لا يصح مطلقًا وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬1). وعلى القول بالصحة، فقد اختلفوا في مصرف الوقف إلى حين وجود الموقوف عليه: فذهب الحنفية إلى أن الغلة تصرف للفقراء إلى أن يولد الولد، أو ينبى المسجد. وأما المالكية فلهم ثلاثة أقوال في المسألة: أحدها: أن الوقف صحيح غير لازم، فللواقف بيعه قبل وجود الموقوف عليه، ولو لم يحصل يأس من وجود الموقوف عليه، فإن وجد الموقوف عليه فقد تم الوقف، ويبقى لزومه متوقفًا على الحيازة. وهذا نص الإِمام مالك. الثاني: الوقف صحيح لازم بمجرد عقده. وهذا اختيار ابن القاسم. الثالث: يحكم بحبسه، ويخرج إلى يد ثقة ليصح حوزه، وتوقف ثمرته، فإن وجد الموقوف عليه كان الحبس والغلة له، وإن لم يوجد كان لأقرب الناس للواقف، وهذا اختيار ابن الماجشون. وسبق بحث هذه المسألة وبيان الراجح تحت عنوان: إذا كان الوقف منقطع الابتداء والانتهاء، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث الوقف على الحيوان
المبحث الثالث الوقف على الحيوان ما صحت الصدقة عليه صح الوقف عليه. [م - 1552] سبق أن بحثت اشتراط أهلية التملك في الموقوف عليه، فإذا قلنا: إن ذلك شرط، فهل يصح الوقف على الحيوان باعتبار أن الحيوان لا يصح أن يملك؟ ويدخل في الحيوان الوقف على العبد على القول بأن العبد لا يملك بالتمليك، وقد تركت بحث العبد؛ لأنه لا وجود له في عصرنا. قال المتولي من الشافعية: "الخلاف فيما إذا كانت البهيمة مملوكة. فلو وقف على الوحوش، أو علف الطيور المباحة، فلا يصح بلا خلاف" (¬1). وقد اختلف العلماء في الوقف على الحيوان على قولين: القول الأول: يصح، وهذا مذهب المالكية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية، قال ابن الصباغ: وهو ظاهر المذهب، واختاره الحارثي من الحنابلة (¬2). قال الخرشي: "قوله على أهل للتملك هو الموقوف عليه، وهو الموصوف بالتملك، والواقف يتصف بالتمليك ... وكلام المؤلف يشمل الموجود ¬
وجه من قال: يصح الوقف على الحيوان
والمعدوم كالأعقاب، ويشمل العاقل وغيره، والمسلم والكافر" (¬1). فقوله: (يشمل العاقل وغيره) يدخل فيه الحيوان. جاء في البيان للعمراني: "إن وقف على بهيمة رجل .. ففيه وجهان: الثاني: يصح. قال ابن الصباغ: وهو ظاهر المذهب؛ لأن ذلك وقف على مالكها، قال: إلا أنه ينفق منه عليها، فإذا نفقت -أي: ماتت- كان لصاحبها" (¬2). وجه من قال: يصح الوقف على الحيوان: الوجه الأول: أن الحيوان وإن لم يملك الموقوف عليه، فإنه يصح أن تصرف منفعة الحبس فيه. قال ابن عرفة في تعريف الموقوف عليه: "كل ما جاز صرف منفعة الحبس له أو فيه". فقوله: (له) إشارة لمن يصح تمليك المنفعة له، وقوله: (فيه) إشارة لمن لا يصح تمليك المنفعة له، ولكن تصرف فيه، كالحيوان، والمسجد، ونحوهما، والله أعلم. الوجه الثاني: أن الوقف على الحيوان وقف على مالكها؛ لأن نفقتها واجبة عليه. ¬
الوجه الثالث
الوجه الثالث: القياس على صحة الوقف على القنطرة والسقاية، قاله الحارثي من الحنابلة (¬1). القول الثاني: لا يصح الوقف على الحيوان المملوك، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية، والمذهب عند الحنابلة (¬2). قال الشافعية: وهذا في غير الموقوفة، أما الموقوفة فيصح الوقف على علفها (¬3). ويختلف الوقف على الحيوان عن الوقف على العبد؛ لأن الحيوان ليس أهلًا للتملك بحال، بخلاف العبد فإنه يملك يتمليك سيده وغيره على قول. جاء في المهذب: "وإن وقف على دابة رجل، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن مؤنتها على صاحبها. والثاني: يجوز؛ لأنه كالوقف على مالكها" (¬4). ¬
وجه القول بعدم الصحة
وجاء في روضة الطالبين: "وقف على بهيمة وأطلق، هل هو كالوقف على العبد حتى يكون وقفا على مالكها؟ وجهان: أصحهما: لا؛ لأنها ليست أهلًا بحال. ولهذا لا تجوز الهبة لها، والوصية. والثاني: نعم. واختار القاضي أبو الطيب أنه يصح وينفق عليها منه ما بقيت، وعلى هذا، فالقبول لا يكون إلا من المالك. وحكى المتولي في قوله: وقفت على علف بهيمة فلان، أو بهائم القرية، وجهين كصورة الإطلاق" (¬1). وجاء في الإنصاف: "قوله (والبهيمة) يعني: لا يصح الوقف عليها. وهو المذهب. وعليه الأصحاب" (¬2). وجه القول بعدم الصحة: أن الوقف تمليك للمنفعة، والحيوان لا يملك. الراجح: صحة الوقف على الحيوان (ح - 991) لما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة تأنه قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر (¬3). وذكر شيخنا بأن الحيوان إن كان معينًا فهو الذي قيل فيه لا يجوز؛ لأنه لا يملك، أما لو قال: على خيول الجهاد فهذه جهة، وليست بمعين، فيصح؛ لأنها عامة (¬4). ¬
والذي يظهر لي أن الوقف على الحيوان جائز مطلقًا، سواء كان الوقف على جهة كخيول الجهاد، أو كان معينًا؛ لأن ما صحت الصدقة عليه صح الوقف عليه، والإنفاق على الحيوان نوع من الصدقة، والله أعلم.
الباب الخامس في أحكام الواقف
الباب الخامس في أحكام الواقف الفصل الأول في شروط الواقف الجعلية المبحث الأول في اشتراط القربة في شروط الواقف اشتراط القربة في شرط الواقف كاشتراطه في أصل الوقف. اشتراط القرية في الأصل يلزم الشروط المباحة (¬1). وقيل: لا يلزم من انتفاء جعل المباح جهة للوقف انتفاء جعله شرطًا فيه (¬2). الوقف صدقة اختيارية، يحدد الواقف مصرفه، ومقداره، وشروط استحقاقه. [م - 1553] الشروط نوعان: شروط شرعية متلقاة من الشارع فهذا يجب الالتزام بها، ولا يجوز مخالفتها، مثل كون الوقف لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث. ¬
وشروط جعلية: وهي التي ينشؤها العاقد. وهذه الشروط منها ما هو صحيح يجب اعتباره، ومنها ما هو باطل مبطل للوقف، ومنها ما هو باطل وحده دون الوقف، وهذا التقسيم مجمع عليه في الجملة كما سيأتي بيانه. والأصل في صحة الشروط في الوقف: (ح -992) ما رواه البخاري من طريق نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب أصاب أرضًا بخيبر فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخيبر، لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع ولا يوهب، ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول ... الحديث (¬1). فاشترط عمر مصرف الوقف، واشترط الأكل لمن وليها والإطعام ... الخ. ولما كان الوقف صدقة اختيارية، كان للواقف أن يحدد مصرف الوقف، ومقداره، وشروط الاستحقاق، والسؤال: هل يشترط في شروط الوقف القربة، أو يكفي ألا يكون فيها معصية؟ وللجواب على ذلك نقول: أما الشروط التي تخالف الشرع فهي باطلة بالاتفاق. ¬
القول الأول
قال ابن تيمية: "أما اشتراط عمل محرم -يعني في الوقف- فلا يصح باتفاق المسلمين" (¬1). والشروط المعتبرة من الطاعات والقرب فهي نافذة بالاتفاق. وأما اشتراط القربة في شروط الواقف فهذا محل خلاف بين الفقهاء، كما اختلفوا في أصل الوقف، هل يشترط فيه القربة، أو لا يشترط؟ القول الأول: لا تعتبر القربة في شروط الواقف، بل يكفي أنها لا تخالف الشرع، ولا تنافي الوقف وهذا مذهب المالكية والشافعية. لأنهم إذا كانوا لا يشترطون القربة في أصل الوقف، كما سبق في مسألة سابقة، لم يشترطوا القربة في شرطه، بل صرح المالكية أنه يجب اتباع شرطه، ولو كان مكروهًا متفقًا على كراهته، وأما المختلف فيه فلا يجوز الإقدام عليه، فإذا وقع مضى. جاء في الشرح الكبير "واتبع وجوبًا شرطه أي الواقف إن جاز شرعًا، ومراده بالجواز ما قابل المنع، فيشمل المكروه، ولو متفقًا على كراهته، فإن لم يجز لم يتبع" (¬2). وجاء في الشرح الصغير: " (فإن لم يجز لم يتبع): أي إن كان ممنوعا باتفاق. ¬
وأما المختلف فيه كاشتراط إخراج البنات من وقفه إذا تزوجن فهذا لا يجوز الإقدام عليه، فإذا وقع مضى" (¬1). وقال الخرشي: "الواقف إذا شرط في كتاب وقفه شروطًا فإنه يجب اتباعها حسب الإمكان إن كانت تلك الشروط جائزة؛ لأن ألفاظ الواقف كألفاظ الشارع في وجوب الاتباع، فإن شرط شروطًا غير جائزة فإنه لا يتبع ... فمثال ما هو جائز كتخصيصه مذهبًا بعينه أو مدرسةً بعينها، أو ناظرًا بعينه، فلا يجوز العدول عنه إلى غيره" (¬2). وقال النووي: "شروط الواقف مرعية ما لم يكن فيها ما ينافي الوقف" (¬3). وقال ابن حجر الهيتمي: "تصح شروط الواقف ويعمل بها ما لم تخالف الشرع" (¬4). ووافقهم الحنفية والحنابلة في المشهور، وإن كانوا يشترطون القربة في أصل الوقف إذا كان على جهة، كما سبق بحثه في مسألة سابقة. فقد نص الحنفية في إجارة الوقف أن الواقف إفا اشترط مدة معينة في إجارة الوقف فهو على ما شرط، طالت أو قصرت؛ لأن شروط الواقف تراعى كالنصوص (¬5). ¬
وجه القول بأن القربة ليست شرطا في شروط الوقف
وجاء في الاختيار لتعليل المختار: لا تجوز إجارة الوقف أكثر من المدة التي شرطها الواقف: لأنه يجب اعتبار شرط الواقف؛ لأنه ملكه أخرجه بشرط معلوم، ولا يخرج إلا بشرطه" (¬1). وقال ابن عابدين: "شروط الواقف كنصوص الشارع في الأعمال". وهذا فيه مبالغة بوجوب التقيد بشرط الواقف. وجاء في الإنصاف: "ظاهر كلام المصنف وغيره: أن الشرط المباح الذي لا يظهر قصد القربة منه يجب اعتباره في كلام الواقف. قال الحارثي: وهو ظاهر كلام الأصحاب، والمعروف في المذهب" (¬2). وجه القول بأن القربة ليست شرطًا في شروط الوقف: الوقف من عقود التبرع، فإذا تبرع الواقف بماله واشترط لذلك شروطًا مباحة لم يخرج ماله إلا بشرطه، كما أن الهبات والتبرعات والوصايا يجب أن يعمل فيها بشرط صاحبها، فكذلك الوقف. ولعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" (¬3). ¬
القول الثاني
قال ابن مفلح في المبدع: "ولأن الوقف متلقى من جهته فاتبع شرطه ونصه كنص الشارع" (¬1). وسوف نتكلم عن القول بأن شرط الواقف كنص الشارع في مسألة حكم تغيير شرط الواقف إن شاء الله تعالى. وجاء في مطالب أولي النهى: " (ويرجع): -بالبناء للمفعول- عند التنازع في شيء من أمر الوقف (وجوبًا لشرط واقف) ... لأن عمر شرط في وقفه شروطًا، ولو لم يجب اتباع شرطه لم يكن في اشتراطه فائدة. ولأن ابن الزبير وقف على ولده، وجعل للمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة، ولا مضر بها، فإذا استغنت بزوج فلا حق لها فيه؛ ولأن الوقف متلقى من جهته؛ فاتبع شرطه، ونصه كنص الشارع، (ولو) كان الشرط (مباحًا)؛ كشرطه الدار الموقوفة أن تكون للسكنى دون الاستغلال؛ فإنه يجب اعتباره في كلام الواقف. قال الحارثي: وهو ظاهر كلام الأصحاب، والمعروف في المذهب الوجوب، وهو الصحيح، خلافا للشيخ تقي الدين" (¬2). القول الثاني: يشترط في شروط الوقف أن تكون قربة كالقول في أصل الوقف إذا كان على جهة، وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم. ¬
دليل من قال: تشترط القربة في شروط الواقف.
قال ابن تيمية: "والأصل أن كل ما شرط من العمل في الوقوف التي توقف على الأعمال فلابد أن تكون قربة: إما واجبًا، وإما مستحبًا" (¬1). دليل من قال: تشترط القربة في شروط الواقف. الدليل الأول: كل دليل استدل به على وجوب القربة في أصل الوقف فهو دليل صالح لوجوب القربة في شرط الوقف؛ لأن الباب واحد، وقد ذكرنا أدلتهم في مسألة سابقة، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا. قال ابن القيم: "والوقف إنما يصح على القرب والطاعات، ولا فرق في ذلك بين مصرفه، وجهته، وشرطه؛ فإن الشرط صفة وحال في الجهة والمصرف، فإذا اشترط أتى مكون المصرف قربة وطاعة فالشرط كذلك، ولا يقتضي الفقه إلا هذا" (¬2). وجاء في الإنصاف: "وقال شيخنا يعني به الشيخ تقي الدين رحمه الله ... اشتراط القربة في الأصل يلزم الشروط المباحة" (¬3). ونوقش هذا: أن الشرط في الوقف أخف من أصله، فإذا صرف أصل الوقف على قربة، ثم اشترط الواقف بعض الشروط المباحة التي تقتضي تخصيصًا أو تقييدًا احتمل ¬
الدليل الثاني
ذلك؛ لأن الواقف لم تطب نفسه بهذا المال إلا بهذه الشروط، فوجب مراعاتها، واحترام شرطه، والغالب أن له غرضًا فيها وإن كان مباحًا. ولم يخرج الوقف بذلك عن كونه قربة، بخلاف القول في أصل الوقف إذا صرف إلى غير قربة. قال في كشاف القناع: "لا يلزم من انتفاء جعل المباح جهة للوقف انتفاء جعله شرطًا فيه؛ لأن جعله أصلاً في الجهة مخل بالمقصود، وهو القربة، وجعله شرطًا لا يخل به، فإن الشرط إنما يفيد تخصيص البعض بالعطية، وذلك لا يرفع أصل القربة، وأيضًا فإنه من قبيل التوابع، والشيء قد يثبت له حال تبعيته ما لا يثبت له حال أصالته" (¬1). والله أعلم. الدليل الثاني: قال ابن القيم: شروط الواقفين لا تزيد على نذر الناذرين، فكما أنه لا يوفي من النذور إلا بما كان طاعة لله ورسوله، فلا يلزم من شروط الواقفين إلا ما كان طاعة الله ورسوله ... ولما نذر أبو إسرائيل أن يصوم ويقوم في الشمس، ولا يجلس، ولا يتكلم، أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس في الظل ويتكلم ويتم صومه، فألزمه بالوفاء بالطاعة، ونهاه عن الوفاء بما ليس بطاعة (¬2). وهكذا أخت عقبة بن عامر لما نذرت الحج ماشية مكشوفة الرأس، أمرها أن تختمر، وتركب، وتحج، وتهدي بدنة (¬3)، فهكذا الواجب على أتباع الرسول ¬
الراجح
صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أن يعتمدوا في شروط الواقفين" (¬1). وقال أيضًا: "شروط الواقفين أربعة أقسام: شروط محرمة في الشرع، وشروط مكروهة لله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وشروط تتضمن ترك ما هو أحب إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وشروط تتضمن فعل ما هو أحب إلى الله تعالى ورسوله، فالأقسام الثلاثة الأول لا حرمة لها، ولا اعتبار، والقسم الرابع هو الشرط المتبع الواجب الاعتبار، وبالله التوفيق" (¬2). الراجح: الأصل هو العمل بشرط الواقف، وأنه واجب الاتباع في التقديم والتأخير، والجمع والترتيب، والتسوية والتفضيل، وإخراج من شاء، وإدخال من شاء، كما لو اشترط أن يكون الوقف على المردودة (المطلقة) من بناته كما فعل الزبير، وكما لو اشترط أن يكون البيت للسكنى لا للاستثمار، فهذا غرض مباح، وله قصد صحيح، وإذا كان الفقهاء متفقين على أن الوقف على معين لا يشترط أن يكون على بر ومعروف فالشرط فيه من باب أولى، ومع هذا فإذا قام معارض أقوى بما يعود على الواقف والوقف والموقوف عليه بالخير جازت مخالفة شرط الواقف ولو كانت واجبة الاتباع كما قلنا ذلك في بيع الوقف واستبداله للمصلحة مع أن الأصل في الوقف أنه لا يباع، فإذا اقتضت المصلحة بيعه واستبداله جاز ذلك، ويجب أن يكون تقدير ذلك ليس للناظر، وإنما الحكم ¬
للجنة شرعية بإشراف القضاء، حتى لا يفتح باب العبث بالأوقاف، وسيأتي مزيد بحث إن شاء الله تعالى في حكم تغيير شرط الواقف في مسألة مستقلة، والله أعلم.
المبحث الثاني في الشروط الباطلة المبطلة
المبحث الثاني في الشروط الباطلة المبطلة كل شرط يخالف الشرع، أو ينافي موجب العقد فإنه باطل. [م - 1554] ذهب عامة الفقهاء إلى أن الواقف إذا شرط شروطًا تنافي الوقف ومقتضاه فإن الشرط والوقف باطل وإن اختلفوا في بعض المسائل، هل هي منه أو لا؟ أمثلة ذلك عند الحنفية: المثال الأول: إذا شرط أن له بيعه متى شاء، فإن كان بشرط الاستبدال صح، وإن كان بدون شرط الاستبدال فالوقف باطل. المثال الثاني: إذا وقف وقفًا وشرط رجوعه إليه بعد مدة معينة، فالوقف باطل. المثال الثالث: إذا وقف بشرط أن يهبه، أو أن يعود إلى ورثته بعد موته فالوقف باطل (¬1). قال الخصاف: "وإذا وقف الرجل الوقف على قوم، ثم من بعدهم على المساكين واستثنى أن له أن يبيع ذلك فالوقف باطل، ويرجع ذلك ميراثًا إلى ورثته، وإن كان الواقف حيًا فالوقف على ملكه، يصنع به ماشاء" (¬2). ¬
وجاء في أحكام الوقف لهلال بن يحيى الحنفي: "أرأيت رجلاً قال: أرضي صدقة موقوفة لله أبدًا على أن لي أن أبيعها، وأشتري بثمنها أرضًا تكون موقوفة لله أبدًا ... قال: الوقف جائز، والشرط جائز، وله أن يبيعها، ويستبدل بها. قلت: أرأيت إن شرط أن يبيعها، ولم يشترط أن يستبدل بها؟ قال: الوقف باطل لا يجوز" (¬1). وجاء في الاختيار لتعليل المختار: "وإذا وقته بشهر أو سنة بطل اتفاقًا" (¬2). وجاء في كتاب أحكام الوقف لهلال: "أرأيت رجلاً جعل أرضه صدقة موقوفة على أن له إبطالها كلما بدا له. قال: الوقف باطل لا يجوز ... وكذلك لو قال: صدقة آخذ ثمنها، وأعطيه فلانًا؟ قال: نعم الوقف باطل، لا يجوز. قلت: وكذلك لو قال: صدقة موقوفة على أن لي أن أهب أصلها كلما بدا لي؟ قال: نعم ... قلت: وكذلك لو قال: أبطل وجوه الصدقة، وأجعلها مطلقة؟ قال: نعم، هذا كله باطل لا يجوز، وهذا كله خلاف ما كانت عليه الوقوف القديمة؛ لأن الوقوف القديمة إنما هي على أن لا رجعة فيها، وإذا قال: صدقة موقوفة على أن لي إبطالها، فهذا عندي متناقض؛ لأن معنى الوقف عند الناس: هو الذي يوقف أبدا، وإذا قال: على أن لي إبطالها فهذا متناقض" (¬3). ¬
أمثلة للشرط الباطل المبطل عند المالكية
أمثلة للشرط الباطل المبطل عند المالكية: لما كان المالكية من أوسع المذاهب في الشروط الجعلية للواقف كانت الأمثلة قليلة في المذهب، فهم لا يشترطون التأبيد في الوقف، ويصححون شرط التوقيت في الوقف، وإذا اشترط أن للموقوف عليه أن يبيعه إذا احتاج صح شرطه، كما يصححون التعليق في صيغة الوقف ... الخ (¬1): ومن الأمثلة التي وقفت عليها مما يصلح مثالاً، على أحد الأقوال في مذهب المالكية: المثال الأول: إذا وقف على نبيه المذكور دون الإناث بطل الوقف. واختار ابن القاسم: أن الوقف إن كان في يد الواقف لم يخرج منه فإنه يطالب بتصحيحه، وإن حيز أو مات مضي على شرطه. جاء في شرح الخرشي: "وكذلك يبطل الوقف إذا وقف على بنيه المذكور دون الإناث ... ولو وقفه على الجميع، وشرط أن من تزوجت من البنات لا حق لها في الوقف، وتخرج منه، فإنه يكون باطلاً أيضًا" (¬2). وجاء في الكافي في فقه أهل المدينة: "وقد روي عن مالك قال: ومن حبس على ذكور ولده، وأخرج النساء بطل الحبس، وعاد ميراثًا، رواها ابن وهب وغيره. ¬
المثال الثاني
وقال ابن وهب: أخبرني يزيد بن عياض عن أبي بكر بن حزم أن عمر بن عبد العزيز مات حين مات وإنه ليريد أن يرد صدقات الناس التي أخرجوا منها النساء. قال مالك: ومن حبس وشرط أن من تزوج من بناته فلا حق لها إلا أن يردها راد نقض ذلك حتى يرد إلى الصواب. وفيه اختلاف، والقضاة عندنا يجيزونه، ونقضه أحب إلي" (¬1). ورأى ابن القاسم إذا فات ذلك أن يمضي على ما حبس، وإن كان حيا ولم يحز عنه الحبس فليرده ويدخل فيه البنات، وإن حيز عنه أو مات مضى على شرطه، ولم يفسخه القاضي (¬2). قال ابن رشد الجد: "ظاهر قول مالك هذا أَن الحبس لا يجوز ويبطل على كل حال، خلافُ مذهب ابن القاسم في أنه يمضي إذا فات ولا ينقض" (¬3). المثال الثاني: من الشروط الباطلة المبطلة عند المالكية إذا شرط النظر لنفسه، وبقي الوقف في يده حتى حصل مانع من جنون، أو موت، أو فلس فإن الوقف يبطل، فإن اطلع عليه قبل حصول المانع كان الوقف صحيحًا، وأجبر على جعل النظر لغيره إلا أن يوقف على ولده الصغير فإنه لا يبطل بجعل النظر لنفسه؛ لأنه هو الذي يحوزه له. ¬
المثال الثالث
جاء في شرح الخرشي: "من وقف وقفًا على غيره، وشرط أن النظر له، فإن الوقف يكون باطلاً؛ لأن فيه تحجيرًا: أي وحصل مانع للواقف، وإلا صح الوقف" (¬1). وجاء في منح الجليل: "وبطل إن وقف على غيره فقط وشرط (أن النظر) على وقفه (له) أي الواقف فهو باطل إذا لم يكن الموقوف عليه محجورًا له، وإلا فلا يبطل؛ لأنه الذي يحوز لمحجوره، ويتصرف له كما في المدونة وغيرها. ابن شاس في المختصر الكبير: لا يجوز للرجل أن يحبس، ويكون هو ولي الحبس. محمَّد: فيمن حبس غلة داره في صحته على المساكين، وتولى عليها حتى مات، وهي بيده، أنها ميراث، وكذلك لو شرط في حبسه أنه يليه، قاله ابن القاسم وأشهب" (¬2). المثال الثالث: إذا اشترط أن يصرف الحبس على نفسه، فهذا باطل بالاتفاق عند المالكية، وسبق بحث هذه المسألة والخلاف فيها. قال ابن عرفة: "الحبس على نفس المحبس وحده باطل اتفاقًا" (¬3). أي في المذهب. ¬
المثال الرابع
المثال الرابع: ذكر الونشريسي في المعيار المعرب في الوقف على أهل البدع من أهل الطرق أنه باطل، وأنه باق على ملك صاحبه، ويورث عنه (¬1). أمثلة للشرط الباطل المبطل عند الشافعية: من أمثلة الشروط الباطلة المبطلة عند الشافعية كل شرط مناف للعقد: قال الماوردي: "فلو وقفها على أنه إن احتاج إليها باعها، أو رجع فيها، أو أخذ غلتها فهو وقف باطل ... لأن الشروط المنافية للعقود مبطلة لها إذا اقترنت بها ... وحكى ابن سريج في هذا الوقف وجهًا آخر أن الشرط باطل، والوقف جائز، وليس له بيعه أبدًا" (¬2). وقال النووي: "لو وقف بشرط الخيار، أو قال: بشرط أني أبيعه، أو أرجع فيه متى شئت فباطل ... ولو وقف على ولده أو غيره بشرط أن يرجع إليه إذا مات، فهو باطل على المذهب، وعن البويطي أنه على قولين أخذًا من مسألة العمرى" (¬3). أمثلة للشرط الباطل المبطل عند الحنابلة: الضابط عند الحنابلة للشرط الباطل المبطل هو في كل شرط ينافي مقتضى الوقف، ويذكرون له أمثلة كثيرة، من ذلك: ¬
لو شرط أن يخرج من شاء من الموقوف عليهم ويدخل من شاء من غير الموقوف عليهم لم يصح الوقف. وكذلك لو شرط الواقف ألا ينتفع الموقوف عليه من الوقف. جاء في الإنصاف: "وإن شرط له أن يخرج من شاء من أهل الوقف، ويدخل من شاء من غيرهم لم يصح؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الوقف فأفسده، كما لو شرط ألا ينتفع به" (¬1). ومن ذلك لو اشترط الخيار في الوقف، أو التوقيت، أو الرجوع فيه، أو بيعه متى شاء، أو تغيير جهة الوقف. جاء في كشاف القناع: "وإن شرط الواقف في الوقف شرطًا فاسدًا، كخيار فيه، بأن قال: وقفته بشرط الخيار أبدًا، أو مدة معينة لم يصح، أو بشرط تحويله أي: الوقف عن الموقوف عليه إلى غيره، بأن قال: وقفت داري على كذا، على أن أحولها عن هذه الجهة، أو عن الوقفية، بأن أرجع فيها متى شئت، لم يصح الوقف. وكشرطه تغيير شرطه، وكشرط بيعه متى شاء وشرطه هبته، وشرطه متى شاء أبطله، ونحوه لم يصح الوقف؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الوقف" (¬2). هذه أمثلة في كل مذهب للشروط الباطلة المبطلة، ولم أقصد من ذكرها تحرير القول فيها، وبيان الراجح منها؛ لأني سوف أعرض لهذه الأمثلة أو لكثير منها في مسائل مستقلة، وإنما الغرض من ذكرها بيان تقسيم الشروط عند المدارس الفقهية، والله الموفق والمستعان وحده. ¬
المبحث الثالث في الشروط الباطلة غير المبطلة
المبحث الثالث في الشروط الباطلة غير المبطلة الشرط إما أن يقتضيه العقد أولاً: فإن اقتضاه فهو صحيح. وإن لم يقتضيه العقد، فإما أن يكون من مصلحته أو لا: فإن كان من مصلحته فهو صحيح، وإن لم يكن من مصلحة العقد، فإما أن يتعلق به غرض أو لا: فإن لم يتعلق به غرض صح العقد وبطل الشرط، وإن تعلق به غرض صح العقد والشرط ما لم يخالف الشرع أو ينافي موجب العقد. هناك شروط في الوقف تعتبر باطلة، ولكنها لا تفسد الوقف. أمثلة ذلك عند الحنفية: إذا شرط الواقف شروطًا تخالف الشرع، أو تضر بالوقف، أو بالموقوف عليه، أو شرط شروطًا لا فائدة فيها، ولا غرض له صحيح في اشتراطها، صح الوقف وبطلت: جاء في قانون العدل والإنصاف: "للقاضي مخالفة شرط الواقف إن كان مخالفًا للشرع، فإن شرط الولاية لنفسه على وقفه، أو شرطها لغيره، واشترط أن لا ينزعه من يده قاض ولا سلطان، فللقاضي مخالفة شرطه، ونزع الوقف من يده، أو من يد الناظر المشروط له إن كان غير مأمون عليه، أو غير أهل للقيام بأموره، وكذلك إذا نص
في وقفيته على أن لا يشارك أحد الناظر الذي نصبه في الكلام على وقفه، ورأى القاضي أن يضم إليه مشارك فأجاز له ذلك، وإن خالف شرط الواقف" (¬1). ومنها ما ذكره صاحب المحيط البرهاني: أنه "لو شرط الواقف أن ليس له إخراج القيم، فهذا الشرط باطل؛ لأنه مخالف لحكم الشرع؛ لأن القوامة وكالة، والوكالة ليست بلازمة" (¬2). وجاء في قانون العدل والإنصاف: "إذا شرط -يعني الواقف- الاستواء بين أرباب الشعائر والعمارة، وضاق ريع الوقف، فلا يراعى شرطه، وتقدم العمارة على سائر الجهات الضرورية لانتظام مصالح المسجد، أو المدرسة" (¬3). وهذا منصوص عليه في البحر الرائق، قال: "ولو شرط الواقف استواء العمارة بالمستحقين لم يعتبر شرطه" (¬4). وقال ابن نجيم: "شرط الواقف يجب اتباعه لقولهم: شرط الواقف كنص الشارع أي في وجوب العمل به، وفي المفهوم والدلالة، كما بيناه في شرح ¬
أمثلة للشروط الباطلة غير المبطلة عند المالكية
الكنز إلا في مسائل: الأولى: شرط أن القاضي لا يعزل الناظر فله عزل غير الأهل. الثانية: شرط أن لا يؤجر وقفه أكثر من سنة، والناس لا يرغبون في استئجاره سنة أو كان في الزيادة نفع للفقراء، فللقاضي المخالفة دون الناظر. الثالثة: لو شرط أن يقرأ على قبره فالتعيين باطل. الرابعة: شرط أن يتصدق بفاضل الغلة على من يسأل في مسجد كذا كل يوم لم يراع شرطه، فللقيم التصدق على سائل غير ذلك المسجد أو خارج المسجد، أو على من لا يسأل. الخامسة: لو شرط للمستحقين خبزًا أو لحمًا معينا كل يوم، فللقيم أن يدفع القيمة من النقد، وفي موضع آخر لهم طلب العين وأخذ القيمة، السادسة: تجوز الزيادة من القاضي على معلوم الإِمام إذا كان لا يكفيه، وكان عالمًا تقيًا. السابعة: شرط الواقف عدم الاستبدال، فللقاضي الاستبدال إذا كان أصلح" (¬1) .. أمثلة للشروط الباطلة غير المبطلة عند المالكية: المثال الأول: أخذ الرهن على أعيان الوقف. ¬
المثال الثاني
جاء في مواهب الجليل: "إذا وقف كتابًا على عامة المسلمين، وشرط أن لا يعار إلا برهن فهل يصح هذا الرهن أم لا؟ فأجاب: لا يصح هذا الرهن؛ لأنها غير مضمونة في يد موقوف عليه، ولا يقال لها عارية أيضًا، بل الآخذ لها إن كان من أهل الوقف مستحقًا للانتفاع فيده عليها يد أمانة، فشرط أخذ الرهن عليها فاسد، ويكون في يد الخازن للكتب أمانة؛ لأن فاسد العقود في الضمان كصحيحها والرهن أمانة" (¬1). المثال الثاني: اشتراط العمارة على الموقوف عليه. جاء في تهذيب المدونة: "ومن حبس دارًا على رجل، وعلى ولده، وولد ولده، واشترط على الذي حبس عليه إصلاح ما رثَّ منها من ماله، لم يجز، وهو كراء مجهول، لكن يمضي ذلك، ولا مرمة عليه، وترم من غلتها، وقد فاتت في سبيل الله، ولا يشبه البيوع" (¬2). المثال الثالث: اشتراط تقديم المستحق على عمارة الوقف. جاء في التاج والإكليل: "لو شرط الواقف ما يجوز أن يبدأ من غلتها بمنافع أهله، ويترك إصلاح ما يتخرم منه، بطل شرطه" (¬3). ¬
أمثلة للشروط الباطلة غير المبطلة عند الشافعية
أمثلة للشروط الباطلة غير المبطلة عند الشافعية: ذكر بعض الشافعية أمثلة يفسد فيها الشرط وحده دون الوقف، وإن كان جمهورهم في هذه الأمثلة على فساد الوقف لفساد الشرط، لهذا سوف أنسب هذه الأقوال إلى أصحابها من الشافعية: المثال الأول: إذا اشترط أنه متى احتاج باع الوقف. قال الماوردي: "لو وقفها على أنه إن احتاج إليها باعها، أو رجع فيها، أو أخذ غلتها فهو وقف باطل ... وحكى ابن سريج في هذا الوقف وجهًا آخر أن الشرط باطل، والوقف جائز، وليس له بيعه أبدًا" (¬1). المثال الثاني: في وقف الإنسان على نفسه. قال النووي: "وفي وقف الإنسان على نفسه وجهان، أصحهما بطلانه، وهو المنصوص ... وحكى ابن سريج ... أنه يصح الوقف، ويلغو شرطه" (¬2). المثال الثالث: إذا اشترط في وقف العقار عدم التأجير. ذكر إمام الحرمين أنه لو وقف دارًا على معينين، وشرط أن يسكنوها، ولا يؤجرها، فقد اختار بعض الشافعية أنه لا حجر عليهم بناء على أن الوقف سبيله ¬
المثال الرابع
سبيل التمليك، فالمنع من الاستغلال حجر على الملك، فكان فاسدًا، واختار أكثرهم أن شرطه متبع (¬1). المثال الرابع: إذا شرط في وقف المسجد اختصاصه بطائفة معينة كالشافعية اختص بهم، والثاني: لا يختص بهم. قال الإِمام: ويلغو الشرط (¬2). المثال الخامس: جاء في حاشية الرملي: "لو وقف داره على مسجد كذا ولأمه سكناها مدة حياتها فهل يصح ويلغو الشرط أو يبطل الوقف يحتمل وجهين أصحهما أولهما" (¬3). المثال السادس: جاء في حاشيتي قليوبي وعميرة: "ولو وقف على أولاده إلا من يسلم منهم، فقال شيخنا الرملي: لم يصح الوقف. وقال السبكي يصح ويلغو الشرط" (¬4). أمثلة للشروط الباطلة غير المبطلة عند الحنابلة: اختار ابن تيمية من الحنابلة لزوم العمل بالشرط المستحب خاصة (¬5)، وعليه فالشروط المباحة لا يلزم العمل بها. ¬
المثال الأول
وجاء في الفروع: "الشروط إنما يلزم الوفاء بها إذا لم يفض ذلك إلى الإخلال بالمقصود الشرعي، ولا تجوز المحافظة على بعضها مع فوات المقصود بها، قال: ومن شرط في القربات أن يقدم فيها الصنف المفضول فقد شرط خلاف شرط الله، كشرطه في الإمامة تقديم غير الأعلم، فكيف إذا شرط أن يختص بالصنف المفضول؟ " (¬1). المثال الأول: جاء في كشاف القناع: " (ولو شرط البيع عند خرابه) أي: الوقف، (وصرف الثمن في مثله، أو شرطه للمتولي بعده)، وهو من ينظر في الوقف (فسد الشرط فقط)، وصح الوقف مع إلغاء الشرط كما في الشروط الفاسدة في البيع" (¬2). المثال الثاني: جاء في الفروع: "وقيل: لا يتعين طائفة وقف عليها مسجدًا، أو مقبرة كالصلاة فيه" (¬3). المثال الثالث: قال في المبدع: "إن وقف ذمي على ذمي شيئاً، وشرط أنه يستحقه ما دام ذميا، فأسلم فله أخذه أيضا؛ لأن الواقف عينه له، ويلغو شرطه" (¬4). ¬
هذه أمثلة في كل مذهب للشروط الباطلة غير المبطلة ولم أقصد الاستيعاب، ولا تحرير الصواب منها، وبيان الراجح؛ لأني سوف أعرض لكثير من هذه الأمثلة بالدراسة في مسائل مستقلة، وإنما العرض من ذكرها بيان تقسيم الشروط الجعلية عند المدارس الفقهية، والله الموفق.
المبحث الرابع معني قول الفقهاء شرط الواقف كنص الشارع
المبحث الرابع معني قول الفقهاء شرط الواقف كنص الشارع شرط الواقف كنص الشارع في وجوب العمل وفي المفهوم والدلالة ما لم يخالف الشرع، أو ينافي موجب العقد. الشرط الذي لا يفيد ولا غرض منه صحيح لا يكون معتبرًا. [م - 1555] أطلق الفقهاء على اختلاف مذاهبهم القول: بأن شرط الواقف كنص الشارع عند الكلام على شروط الواقف، وقام جدل فقهي في معنى هذا القول وفي مدلوله، ويرجع الاختلاف في تفسير هذه العبارة الاختلاف في اشتراط القربة في شروط الوقف، وقد سبق بحث ذلك، وفي حكم اتباع شرط الواقف إذا كان مباحًا غير مخالف للشرع، وهل يجوز تغيير شرط الواقف المباح، ونحو ذلك: وقد اختلف الفقهاء في معنى هذه العبارة على ثلاثة أقوال: القول الأول: شرط الواقف كنص الشارع في اللهم والدلالة، وفي وجوب اتباعه والعمل به. وهذا مذهب الحنفية. قال ابن نجيم: "شرط الواقف يجب اتباعه لقولهم: شرط الواقف كنص الشارع: أي في وجوب العمل به، وفي المفهوم والدلالة" (¬1). ¬
القول الثاني
وقال ابن عابدين في حاشيته: "قولهم شرط الوافف كنص الشارع: أي في المفهوم والدلالة، ووجوب العمل به" (¬1). "قال العلامة قاسم: قلت: وإذا كان المعنى ما ذكر فما كان من عبارة الواقف من قبيل المفسر لا يحتمل تخصيصًا ولا تأويلًا يعمل به، وما كان من قبيل الظاهر كذلك، وما احتمل وفيه قرينة حمل عليها، وما كان مشتركًا لا يعمل به؛ لأنه لا عموم له عندنا، ولم يقع فيه نظر المجتهد ليترجح أحد مدلوليه، وكذلك ما كان من قبيل المجمل إذا مات الواقف، وإن كان حيًا يرجع إلى بيانه هذا معنى ما أفاداه" (¬2). القول الثاني: شرط الواقف كنص الشارع في وجوب اتباعه والعمل به ما لم يخالف الشرع، وهذا مذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة. قال الخرشي: "الواقف إذا شرط في كتاب وقفه شروطًا فإنه يجب اتباعها حسب الإمكان، إن كانت تلك الشروط جائزة؛ لأن ألفاظ الواقف كألفاظ الشارع في وجوب الاتباع، فإن شرط شروطا غير جائزة فإنه لا يتبع" (¬3). وقال الرملي: "شرط الواقف العمارة على الساكن معمول به؛ لأنه كنص الشارع" (¬4). ¬
القول الثالث
وجاء في منحة الخالق نقلاً عن الرملي: "يصح أن يكون التشبيه في وجوب العمل أيضًا من جهة أن الصرف في الوقف على اتباع شرطه؛ لأنه إنما أوصى بملكه، فهذه الشروط لا بد من مراعاتها" (¬1). وقال البهوتي في كشاف القناع بعد أن ذكر رأي ابن تيمية، قال: "فالصحيح أنه في وجوب العمل" (¬2). وقال ابن مفلح في المبدع: "ولأن الوقف متلقى من جهته فاتبع شرطه ونصه كنص الشارع" (¬3). وجاء في مطالب أولي النهى: " (ويرجع): -بالبناء للمفعول- عند التنازع في شيء من أمر الوقف (وجوبًا لشرط واقف) ... لأن الوقف متلقى من جهته؛ فاتبع شرطه، ونصه كنص الشارع، (ولو) كان الشرط (مباحًا ") (¬4). القول الثالث: أن شرط الواقف كنص الشارع في الفهم والدلالة، لا في وجوب العمل، وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم، وبه أفتى سماحة الشيخ محمَّد بن إبراهيم مفتي البلاد السعودية في عصره. جاء في الفروع: "قال شيخنا: -يعني ابن تيمية- قول الفقهاء نصوصه كنصوص الشارع، يعني في الفهم والدلالة، لا في وجوب العمل، مع أن ¬
التحقيق أن لفظه، ولفظ الموصي، والحالف، والناذر، وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها، وافقت لغة العرب أو لغة الشارع، أو لا" (¬1). قال ابن القيم: "ثم من العجب العجاب قول من يقول: إن شروط الواقف كنصوص الشارع، ونحن نبرأ إلى الله من هذا القول، ونعتذر مما جاء به قائله، ولا نعدل بنصوص الشارع غيرها أبدًا، وإن أحسن الظن بقائل هذا القول حمل كلامه على أنها كنصوص الشارع في الدلالة، وتخصيص عامها بخاصها، وحمل مطلقها على مقيدها، واعتبار مفهومها كما يعتبر منطوقها، وأما أن تكون كنصوصه في وجوب الاتباع وتأثيم من أخل بشيء منها فلا يظن ذلك بمن له نسبة ما إلى العلم، فإذا كان حكم الحاكم ليس كنص الشارع، بل يرد ما خالف حكم الله ورسوله من ذلك، فشرط الواقف إذا كان كذلك كان أولى بالرد والإبطال ... " (¬2). وقال ابن تيمية: اتفق المسلمون على أن شروط الواقف تنقسم إلى صحيح وفاسد، كالشروط في سائر العقود. ومن قال من الفقهاء: إن شروط الواقف نصوص كألفاظ الشارع، فمراده: أنها كالنصوص في الدلالة على مراد الواقف؛ لا في وجوب العمل بها: أي أن مراد الواقف يستفاد من ألفاظه المشروطة؛ كما يستفاد مراد الشارع من ألفاظه؛ فكما يعرف العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، والتشريك والترتيب في الشرع من ألفاظ الشارع، فكذلك تعرف في ¬
الوقف من ألفاظ الواقف، مع أن التحقيق في هذا: أن لفظ الواقف، ولفظ الحالف، والشافع، والموصي، وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها؛ سواء وافقت العربية العرباء؛ أو العربية المولدة؛ أو العربية الملحونة؛ أو كانت غير عربية، وسواء وافقت لغة الشارع؛ أو لم توافقها؛ فإن المقصود من الألفاظ دلالتها على مراد الناطقين بها؛ فنحن نحتاج إلى معرفة كلام الشارع لأن معرفة لغته، وعرفه، وعادته تدل على معرفة مراده، وكذلك في خطاب كل أمة وكل قوم؛ فإذا تخاطبوا بينهم في البيع والإجارة، أو الوقف، أو الوصية، أو النذر أو غير ذلك بكلام رجع إلى معرفة مرادهم، وإلى ما يدل على مرادهم من عادتهم في الخطاب؛ وما يقترن بذلك من الأسباب. وأما أن تجعل نصوص الواقف أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع في وجوب العمل بها؛ فهذا كفر باتفاق المسلمين؛ إذ لا أحد يطاع في كل ما يأمر به من البشر -بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم- والشروط إن وافقت كتاب الله كانت صحيحة، وإن خالفت كتاب الله كانت باطلة. كما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خطب على منبره وقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل. وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق؛ وشرط الله أوثق) ... وإذا كانت شروط الواقف تنقسم إلى صحيح وباطل: بالاتفاق؛ فإن شرط فعلا محرمًا ظهر أنه باطل؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وإن شرط مباحًا لا قربة فيه كان أيضاً باطلاً؛ لأنه شرط شرطًا لا منفعة فيه لا له، ولا للموقوف عليه؛ فإنه في نفسه لا ينتفع إلا بالإعانة على البر والتقوى، وأما بذل المال في مباح في حياته فله فيه منفعة، أما بعد الموت، فالواقف
الراجح
والموصي لا ينتفعان بما يفعل الموصى له والموقوف عليه من المباحات في الدنيا، ولا يثابان على بذل المال في ذلك في الآخرة فيكون منفقا للمال في الباطل. وإذا كان الشارع قد قال: (لا سبق إلا في خف؛ أو حافر، أو نصل) فلم يجوز بالجعل شيئاً لا يستعان به على الجهاد، وإن كان مباحًا، وقد يكون فيه منفعة كما في المصارعة والمسابقة على الأقدام فكيف يبذل العوض المؤبد في عمل لا منفعة فيه، لا سيما والوقف محبس مؤبد، فكيف يحبس المال دائمًا مؤبدًا على عمل لا ينتفع به هو، ولا ينتفع به العامل ... (¬1). الخ كلامه رحمه الله الراجح: القول بأن لفظ الواقف كنص الشارع التشبيه هنا ليس من كل الوجوه، تعالى الله سبحانه وتعالى أن يشبه كلامه بكلام خلقه، فشرط الواقف ليس كنص الشارع حتى في الفهم والدلالة، فكلام الناس لا يقاس عليه بخلاف حكم الشارع، وليس معصومًا، ويؤخذ منطوقه، وأما مفهومه فلا دلالة فيه، بخلاف نص الشارع، وإنما المراد أنه يجب اتباعه بأمر الشارع فيما لا يخالف الشرع، كوجوب اتباع أمر الواقف في تعيين مستحقه، وفي قدره، فإذا كانت إرادة الواقف حرة في إنشاء الوقف، كانت حرة في تعيين المصرف، وقدره، وطريقة صرفه من باب أولى، وهذه كلها أوصاف وشروط في الوقف، ولا يعني القول بأنه يجب اتباعه أنه لا تجوز مخالفته لو قام داع أقوى منه، كما جاز بيع الوقف وإن كان الأصل فيه المنع، وإذا جاز في الوقف على المعين ألا يقصد بوقفه البر، كالوقف على ¬
الذمي، وعلى زيد الغني، ونحو ذلك، وهذا في أصل الوقف، وجب اتباع شرط الواقف ولو كان مباحًا، المهم ألا يكون الشرط في معصية، وأما إبطال الشروط المباحة قياسًا على منع الجعل في غير الخف وما ذكر معه، فإن باب المسابقات الأصل فيه المنع والتحريم لكونه من باب الميسر، اغتفر ذلك في باب الجهاد تغليبًا للنفع على المنع، بخلاف الوقف فإنه دائر بين الاستحباب والإباحة، فالشروط الشرعية في الوقف واجبة الاتباع، والمحرمة واجبة الترك، والمباحة يسوغ اشتراطها لإباحتها، ولو منعت لم تكن مباحة، والأصل فيها وجوب اتباع شرطه إلا لمعارض أقوى، والله أعلم. وحين فسر ابن تيمية رحمه الله القول بأن لفظ الواقف كنص الشارع أي في الدلالة والفهم رجع ونقضه بأن كلام الناس محمول على العرف، وهذا هو الحق، وألفاظ الشارع ألفاظ معصومة، ويستنبط منها الفقيه منطوقًا ومفهومًا، بخلاف كلام الناس فهم غير معصومين، ونتبع منطوقهم، وأما المفهوم خاصة مفهوم المخالفة فلا حجة فيه من كلامهم، ولا يقاس عليه كما يقاس على كلام الشارع حتى لو وقف على غني لا نقول: يستحقه الفقير من باب أولى، المهم الذي أميل إليه أن الشروط المباحة في الوقف ليست باطلة، بل يجب اتباعها إلا لمعارض أقوى فيجوز مخالفتها بشرطه كما سيأتي حتى لا يتلاعب النظار والحكام بالأوقاف، خاصة إذا كان الوقف على معين، والله أعلم (¬1). قال سماحة الشيخ ابن إبراهيم: "نعرف أن هنا كلمة فاشية عند العلماء والمصنفين والمفاتي، وهي: نص الواقف كنص الشارع. وهذه صحيحة في ¬
نفسها، لكن ليست على إطلاقها، وكثير يطلقها ولا يريد إطلاقها الحقيقي، بل في الدلالة مفهوما ومنطوقًا؛ لأن الحق له، وهو ماله، فإذا كان له وثيقة وذكر فيها الوقف وشروطه فإن دلالة تلك الوثيقة في الإطلاق والتقييد وكذا كنص الشارع. وأما في وجوب العمل بها فليست مثل نص الشارع، فإنها إن خالفت نصًا فهي باطلة، كما في حديث بريرة، فإذا اشترط ما يخالف الشرع فإنه باطل لاغ فاسد، وإذا صار على مباح فإنه غير باطل، لكن لا يجب العمل به، أما إذا كان موافقًا الشرع فيتعين، وليس لأجل نص الواقف؛ بل لأجل ما استفيد من نص الشارع. وهذا معنى كلام الشيخين وغيرهما؛ ولهذا يقول الشيخ: يجوز تغيير نص الواقف فيما هو أحب إلى الله ورسوله وأكثر مصلحة دينية مما لحظه الواقف" (¬1). فوصف الشيخ ابن إبراهيم بأن الشرط المباح ليس باطلاً، وهذا دليل على أنه لا يشترط في شرط الوقف القربة، وقوله: إلا أنه لا يجب العمل به أي لوجود ما يدعو إلى مخالفته لمعارض أقوى. وسوف أعقد مبحثًا إن شاء الله تعالى في الكلام على حكم تغيير شرط الواقف، أسأل الله سبحانه وتعالي العون والتوفيق. ¬
المبحث الخامس في تغيير شرط الواقف
المبحث الخامس في تغيير شرط الواقف [م - 1556] إذا شرط الواقف شروطًا مباحة في وقفه، فرغب الناظر في تغيير هذه الشروط فهل يجوز العمل على تغييرها، أو يجب اتباع شرطه؟ هذه المسألة لها علاقة بمبحثين سابقين: أحدهما: اشتراط القربة في شرط الواقف. الثاني: معنى قول الفقهاء: لفظ الواقف كنص الشارع. وقد تكلمنا على المسألتين، وقد أحببت أن أفرد هذه المسألة لأهميتها، وإن كان المبحثان السابقان قد أتيا على مقصود البحث، والله أعلم. وهذا التغيير يأخذ ثلاثة أقسام: الأول: تغييره من فاضل إلى مفضول. الثاني: تغييره إلى مثله مما هو مساو له. الثالث: تغييره من مفضول إلى فاضل. وسوف نعرض لحكم كل واحدة من هذه الأنواع إن شاء الله تعالى.
الفرع الأول تغيير الشرط من فاضل إلى مفضول
الفرع الأول تغيير الشرط من فاضل إلى مفضول تصرف الناظر مقيد بالمصلحة. [م - 1557] لا يجوز تغيير الوقف أو شرطه من فاضل إلى مفضول؛ فإن في هذا تعديًا على الواقف، وعلى الموقوف عليه، وإذا كان هذا من الناظر اعتبر قادحًا في أمانته، وموجبًا لعزله؛ وهذا متفق عليه؛ لأن الناظر مقيد تصرفه بالمصلحة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]. وقال سبحانه وتعالى في الوصية: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:181]، والتبديل كما يشمل الإنكار يشمل التغيير بالنقص. والنقص قد يكون نقصًا من العين وقد يكون نقصًا بالصفة، كما لو غيرها من فاضل إلى مفضول. فدلت الآية على وجوب العمل بوصية الموصي على حسب ما أوصى إلا أن يكون إثمًا، وإذا كان هذا حكم الوصية فالوقف مقيس عليها، والفرق بينهما أن الوقف في الحياة، وفي المال كله، والوصية بعد الوفاة، وفي بعض المال، وهذا ليس فارقًا جوهريًا.
الفرع الثاني تغيير الشرط بمثله مساو له
الفرع الثاني تغيير الشرط بمثله مساو له إذا تبرع الواقف بماله على وجه مشروط كان له شرطه ووجب اتباعه. مخالفة شرط الواقف لا يصح إلا لمصلحة ظاهرة. كل متصرف بولاية فإن تصرفه مقيد بالمصلحة الشرعية. [م - 1558] الأصل في شرط الواقف أنه واجب الاتباع؛ لأن الواقف تبرع بالمال على وجه مشروط، فكان له شرطه، ووجب اتباعه، وإنما الخلاف الوارد في تغيير ذلك إذا كان في ذلك مصلحة للوقف أو للموقوف عليه، فإذا لم يكن في ذلك مصلحة بقي الحكم على أصله، وهو وجوب اتباع شرط الواقف، ولأن في تغيير شرط الواقف بلا مصلحة عبثًا لا طائل تحته، مع ما فيه من مخالفة صاحب الوقف بلا مسوغ، وتصرف الناظر في الوقف إنما هو مقيد بالمصلحة، ولا مصلحة في مخالفة شرط الواقف بلا فائدة. وهذا مما لا خلاف فيه. جاء في البحر الرائق: "والحاصل أن تصرف الواقف في الأوقاف مقيد بالمصلحة، لا أنه يتصرف كيف شاء، فلو فعل ما يخالف شرط الواقف فإنه لا يصح إلا لمصلحة ظاهرة" (¬1). وقال ابن تيمية: "ولا يجوز أن يبدل الوقف بمثله لفوات التعيين بلا حاجة" (¬2). ¬
وجاء في الإنصاف: "قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: كل متصرف بولاية إذا قيل له: يفعل ما يشاء، فإنما هو لمصلحة شرعية، حتى لو صرح الواقف بفعل ما يهواه، وما يراه مطلقًا فشرط باطل. لمخالفته الشرع" (¬1). ¬
الفرع الثالث تغيير الشرط إلى أفضل منه
الفرع الثالث تغيير الشرط إلى أفضل منه اشتراط الواقف ما لا يفيد هل يجب الوفاء به؟ [م - 1559] اختلف الفقهاء في تغيير شرط الواقف إلى الأفضل. القول الأول: لا يجوز تغيير شرطه إلا أن يتعذر العمل بشرطه، وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة. حتى ذهب المالكية إلى وجوب التزامه ولو كان متفقًا على كراهته، وكذلك إذا كان محرمًا مختلفًا في تحريمه، وقد فات ومضى. "قال ابن الحاجب: مهما شرط الواقف ما يجوز له اتبع" (¬1). وقال ابن شاس: "ومهما شرط الواقف في تخصيص الوقف، أو إجارته، أو مصارفه اتبع شرطه" (¬2). وجاء في الفواكه الدواني: "شرط الواقف واجب الاتباع وإن كان بمكروه" (¬3). وقال في حاشية الدسوقي: "وأما المختلف في حرمته كشرطه إن وجد ثمن ¬
القول الثاني
رغبة بيع واشتري غيره، وكاشتراط إخراج البنات من وقفه إذا تزوجن فهذا لا يجوز الإقدام عليه، وإذا وقع مضى" (¬1). وقال خليل في مختصره: "واتبع شرطه إن جاز" (¬2)، قال في الشرح الكبير تعليقًا: "ولو متفقًا على كراهته" (¬3). ونص الشافعية بأنه لا يجوز التغيير للمصلحة إلا أن يشرطه، فيجوز عملًا بالشرط. جاء في مغني المحتاج: "ولا تغييره عن هيئته -يعني الوقف- كجعل البستان داراً أو حمامًا إلا أن يشرط الواقف العمل بالمصلحة، فيجوز التغيير بحسبها عملًا بشرطه" (¬4). ومنع الحنابلة اشتراط تغيير الشرط في صيغة الوقف، وإذا كان لا يجوز اشتراطه قبل الوقف لم يصح تغييره بعده. جاء في مطالب أولي النهى: "لو شرط الواقف تغيير شرطه ... لم يصح الوقف؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الوقف" (¬5). القول الثاني: يصح تغيير شرطه إلى الأفضل، وهذا مذهب الحنفية في الجملة، واختيار ابن تيمية وابن القيم (¬6). ¬
جاء في البحر الرائق: "والحاصل أن تصرف الواقف في الأوقاف مقيد بالمصلحة، لا أنه يتصرف كيف شاء، فلو فعل ما يخالف شرط الواقف فإنه لا يصح إلا لمصلحة ظاهرة" (¬1). وقال ابن نجيم: "شرط الواقف يجب اتباعه ... إلا في مسائل: الأولى: شرط أن القاضي لا يعزل الناظر فله عزل غير الأهل. الثانية: شرط أن لا يؤجر وقفه أكثر من سنة، والناس لا يرغبون في استئجاره سنة أو كان في الزيادة نفع للفقراء، فللقاضي المخالفة دون الناظر. الثالثة: لو شرط أن يقرأ على قبره فالتعيين باطل. الرابعة: شرط أن يتصدق بفاضل الغلة على من يسأل في مسجد كذا كل يوم لم يراع شرطه، فللقيم التصدق على سائل غير ذلك المسجد أو خارج المسجد، أو على من لا يسأل. الخامسة: لو شرط للمستحقين خبزًا أو لحمًا معينا كل يوم، فللقيم أن يدفع القيمة من النقد، وفي موضع آخر لهم طلب العين وأخذ القيمة. السادسة: تجوز الزيادة من القاضي على معلوم الإِمام إذا كان لا يكفيه، وكان عالمًا تقيًا. السابعة: شرط الواقف عدم الاستبدال، فللقاضي الاستبدال إذا كان أصلح" (¬2). ¬
الراجح
وقال ابن تيمية: "ويجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه، وإن اختلف ذلك باختلاف الزمان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية واحتاج الناس إلى الجهاد صرف إلى الجند" (¬1). وأدلة هذه المسألة هي أدلة حكم استبدال الوقف؛ لأن ما جاز في أصل الوقف ففي شرطه من باب أولى، وقد سبق بحث هذه المسألة فأغنى ذلك عن إعادتها هنا. الراجح: أن الوقف إن كان لمعين فلا يجوز تغييره ولا تغيير شرطه إلى ما هو أفضل؛ لتعلق حق الغير، وإن كان الوقف على جهة جاز ذلك إلا أنه لا ينفرد الناظر بذلك، بل لا بد من إشراف قضائي تكون المصلحة فيه ظاهرة، والله أعلم. وقد قال شيخنا ابن عثيمين نحو ذلك في تغيير الوصية، والوقف مقيس عليها: قال الشيخ: "تغيير الوصية لما هو أفضل ففيه خلاف بين أهل العلم؛ فمنهم من قال: إنه لا يجوز؛ لعموم قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} [البقرة:181] ولم يستثن إلا ما وقع في إثم فيبقى الأمر على ما هو عليه لا يغير؛ ومنهم من قال: بل يجوز تغييرها إلى ما هو أفضل؛ لأن الغرض من الوصية التقرب إلى الله عز وجل، ونفع الموصى له، فكلما كان أقرب إلى الله، وأنفع للموصى له كان أولى أيضًا؛ والموصي بشر قد يخفى عليه ما هو الأفضل؛ وقد يكون الأفضل في وقت ما غير الأفضل في وقت آخر؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز تحويل النذر إلى ما هو أفضل مع وجوب الوفاء به. ¬
والذي أرى في هذه المسألة أنه إذا كانت الوصية لمعين فإنه لا يجوز تغييرها، كما لو كانت الوصية لزيد فقط؛ أو وقف وقفًا على زيد فإنه لا يجوز أن يغير؛ لتعلق حق الغير المعين به؛ أما إذا كانت لغير معين -كما لو كانت لمساجد، أو لفقراء- فلا حرج أن يصرفها لما هو أفضل" (¬1). اهـ كلام شيخنا عليه رحمة الله. ¬
المبحث السادس في اشتراط العمارة على الموقوف عليه
المبحث السادس في اشتراط العمارة على الموقوف عليه [م - 1560] إذا أوقف رجل داراً، واشترط عمارة الوقف على من يسكنها، فهل يصح الشرط؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يصح الوقف والشرط، وهذا مذهب الجمهور (¬1). فقد صرح الحنفية أن العمارة على من له السكنى، ولو بدون شرط؛ لأن هذا يقتضيه مطلق العقد؛ ولأن الغنم بالغرم. جاء في الدر المختار: "ولو كان الموقوف داراً فعمارته على من له السكنى، ولو متعددًا من ماله، لا من الغلة؛ إذ الغرم بالغنم" (¬2). وجاء في المحيط البرهاني: "فإن كان الواقف حين شرط الغلة لفلان ما عاش بشرطه على فلان مرمتها، وإصلاحها ... فالوقف جائز مع هذا الشرط؛ لأن هذا الشرط يقتضيه مطلق العقد، وإنما أورد المسألة بهذا الشرط لنوع إشكال، أنه لما شرط له السكنى، وشرط عليه المرمة، كان بمنزلة الإجارة، والأجرة مجهولة، فينبغي أن يفسد. ¬
والجواب: أن مع اشتراط المرمة عليه لا يصير إجارة؛ لأن المرمة لا تصير مستحقة عليه بالشرط، فصار وجود هذا الشرط والعدم بمنزلة" (¬1). وأما الشافعية والحنابلة فلا يرون أن العمارة واجبة بمقتضى العقد، وإنما تجب بالشرط حيث شرطت، سواء شرطها الواقف من ماله، أو من مال الواقف، أو من غلة الوقف. جاء في فتاوى الرملي: "وشرط الواقف العمارة على الساكن معمول به؛ لأنه كنص الشارع" (¬2). جاء في أسنى المطالب: "نفقة الموقوف، ومؤن تجهيزه، وعمارته من حيث شرطت: أي شرطها الواقف من ماله، أو من مال الوقف، وإلا فمن منافعه: أي الموقوف ككسب العبد وغلة العقار، فإذا تعطلت منافعه فالنفقة ومؤن التجهيز لا العمارة من بيت المال، كمن أعتق من لا كسب له. أما العمارة فلا تجب على أحد حينئذ كالملك المطلق بخلاف الحيوان لصيانة روحه وحرمته" (¬3). وجاء في حاشية الجمل: "ولو شرط الواقف أن العمارة على الساكن، وشرط أن تلك الدار لا تؤجر، فالذي يظهر لي من كلامهم بعد الفحص أن الشرط الأول صحيح، كما شمله عموم قولهم يجب العمل بشرط الواقف ما لم يناف الوقف أو الشرع. وفائدة صحته مع تصريحهم بأن العمارة لا تجب على أحد، فلا يلزم بها ¬
القول الثاني
الموقوف عليه؛ لأن له ترك ملكه بلا عمارة، فما يستحق منفعته بالأولى، فلو توقف استحقاقه على تعميره فهو مخير فيما أشرفت كلها أو بعضها على الانهدام، لا بسببه، بين أن يعمر ويسكن، وبين أن يهمل، وإن أفضى ذلك إلى خرابها. فهذا الشرط غير مناف للوقف حتى يلغى كشرط الخيار فيه مثلاً، وإنما غايته أنه قيد استحقاقه لسكناه بأن يعمر ما انهدم منه، فإن أراد ذلك فليعمره وإلا فليعرض عنه؛ ثم رأيت بعض مشايخنا أيده" (¬1). وجاء في شرح منتهى الإرادات: "فإن شرطها أي العمارة واقف عمل به: أي الشرط مطلقًا على حسب ما شرط لوجوب اتباع شرطه" (¬2). واختار ابن تيمية أن عمارة الوقف بحسب البطون. جاء في الفتاوى الكبرى: "ويجب عمارة الوقف بحسب البطون، والجمع بين عمارة الوقف وأرباب الوظائف حسب الإمكان أولى، بل قد يجب" (¬3). القول الثاني: يصح الوقف، ويبطل الشرط، وهذا مذهب المالكية. جاء في تهذيب المدونة: "ومن حبس دارًا على رجل، وعلى ولده، وولد ولده، واشترط على الذي حبس عليه إصلاح ما رثَّ منها من ماله، لم يجز، ¬
الراجح
وهو كراء مجهول، لكن يمضي ذلك، ولا مرمة عليه، وترم من غلتها، وقد فاتت في سبيل الله، ولا يشبه البيوع" (¬1). الراجح: أن الواقف إذا شرط عمارتها على الموقوف عليه صح الشرط، فإن أراد الموقوف عليه انتفع من الوقف بشرطه، وإن أبى لم يجبر على ذلك، وليست العمارة هي عوض استحقاقه المنفعة؛ لأن هذا يقال للمستأجر، وليس لمالك المنفعة، والموقوف عليه يملك المنفعة بهذا الشرط، فإن لم يحتج إلى عمارة استحق الانتفاع بلا مقابل، وإن احتاجت إلى عمارة وترميم كان انتفاعه منها مشروطًا بهذا الشرط، والله أعلم. ¬
المبحث السابع في اشتراط تفضيل بعض الأولاد على بعض
المبحث السابع في اشتراط تفضيل بعض الأولاد على بعض العدل من حقوق الأولاد في العطايا، إلا أن يكون التفضيل لمعنى. [م - 1561] إذا وقف الرجل على المذكور من أولاده دون البنات، أو فضل بعضهم على بعض، فهل يجوز هذا الفعل مطلقًا، أو يجوز إن كان لمعنى، أو يحرم، أو يكره؟ وإذا كان حرامًا، فهل يبطل الوقف، أو يمضي إذا وقع؟ وإذا قلنا: يمضي فيه، فهل يمضي فيه بشرط التفضيل، أو يلغو الشرط؟ والأصل فيه حديث النعمان بن بشير المتفق عليه، وقوله: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم (¬1). وهذا نص في باب الهبات، فهل الوقف ملحق بالهبات، أو أن الوقف من باب الصدقات التي تراعى فيه الحاجات، والملك فيه ملك ناقص، وهو يختلف عن الهبة، فالوقف ليس فيه تمليك للأصل، ولا يملك الموقوف عليه التصرف في العين ببيع أو هبة، أو إرث، كما أن الأب يملك الرجوع في هبته لولده، ولا يملك الأب الرجوع عن الوقف إذا أوقعه، والوقف تشترط فيه على الصحيح القربة إذا كان على جهة بخلاف الهبة. ولهذا كله نقول: اختلف العلماء في تفضيل المذكور في الوقف على الإناث على أقوال: ¬
القول الأول
القول الأول: يكره تخصيص الوقف على المذكور دون الإناث، وهذا مذهب الجمهور. وخص الحنفية والحنابلة وأبو الوليد الباجي من المالكية الكراهة مع الاستواء في الحاجة وعدمها، فإن كان التفضيل لزيادة فضل، أو شدة حاجة، أو كان النقص خوفًا من استعماله في معصية، أو لظهور عقوق ونحوها لم يكره (¬1). وطريق العدل بينهم: التسوية بين الذكر والأنثى بلا تفضيل، وهو قول أبي يوسف من الحنفية، ومذهب الشافعية، واختاره القاضي أبو يعلى من الحنابلة (¬2). وقيل: طريق العدل بأن يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا قول محمَّد بن الحسن من الحنفية، والمشهور من مذهب الحنابلة، وقول في مذهب الشافعية (¬3). وقال ابن عبد البر: "لا أحفظ لمالك في هذه المسألة قولاً" (¬4). ¬
قلت: أما أصحابه فاختلفوا في المسألة على قولين (¬1). وإذا عرفت ذلك، فإليك النصوص المنسوبة لأصحاب هذا القول. جاء في حاشية ابن عابدين: "العدل من حقوق الأولاد في العطايا، والوقف عطية، فيسوي بين الذكر والأنثى؛ لأنهم فسروا العدل في الأولاد بالتسوية في العطايا حال الحياة. وفي الخانية: ولو وهب شيئًا لأولاده في الصحة، وأراد تفضيل البعض على البعض روي عن أبي حنيفة لا بأس به إذا كان التفضيل لزيادة فضل في الدين، وإن كانوا سواء يكره. وروى المعلى عن أبي يوسف أنه لا بأس به إذا لم يقصد الإضرار، وإلا سوى بينهم، وعليه الفتوى وقال محمَّد: يعطي للذكر ضعف الأنثى" (¬2). وقال الباجي: "قال القاضي أبو الوليد: وعندي أنه إذا أعطى البعض على سبيل الإيثار أنه مكروه، وإنما يجوز ذلك ويعرى من الكراهية إذا أعطى البعض لوجه ما من جهة يختص بها أحدهم، أو غرامة تلزمه، أو خير يظهر منه، فيخص بذلك خيرهم على مثله" (¬3). وجاء في تحفة المحتاج: " (ويسن للوالد) أي: الأصل وإن علا (العدل في ¬
عطية أولاده) ... سواء أكانت تلك العطية هبة، أم هدية، أم صدقة، أم وقفًا، أم تبرعًا آخر، فإن لم يعدل لغير عذر كره عند أكثر العلماء وقال جمع يحرم" (¬1). وقال الخطيب في مغني المحتاج: "محل الكراهة عند الاستواء في الحاجة أو عدمها، وإلا فلا كراهة، وعلى ذلك يحمل تفضيل الصحابة" (¬2). وقال ابن قدامة في المغني: "والمستحب أن يقسم الوقف على أولاده، على حسب قسمة الله تعالى الميراث بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين. وقال القاضي: المستحب التسوية بين الذكر والأنثى ... فإن خالف، فسوى بين الذكر والأنثى، أو فضلها عليه، أو فضل بعض البنين أو بعض البنات على بعض، أو خص بعضهم بالوقف دون بعض، فقال أحمد، في رواية محمَّد بن الحكم: إن كان على طريق الأثرة، فأكرهه، وإن كان على أن بعضهم له عيال، وبه حاجة. يعني فلا بأس به ... وعلى قياس قول أحمد، لو خص المشتغلين بالعلم من أولاده بوقفه، تحريضًا لهم على طلب العلم، أو ذا الدين دون الفساق، أو المريض، أو من له فضل من أجل فضيلته، فلا بأس" (¬3). قلت: هذا تخصيص بالوصف، وهو أخف من تفضيل العين. وجاء في حاشية الجمل: "ومما تعم به البلوى، أن يقف ما له على ذكور أولاده وأولاد أولاده حال صحته، قاصدًا بذلك حرمان إناثهم، والأوجه الصحة، وإن نقل عن بعضهم القول ببطلانه" (¬4). ¬
القول الثاني
وفي تحفة المحتاج: "يقع لكثيرين أنهم يقفون أموالهم في صحتهم على ذكور أولادهم قاصدين بذلك حرمان إناثهم، وقد تكرر من غير واحد الإفتاء ببطلان الوقف حينئذ، وفيه نظر ظاهر، بل الوجه الصحة. أما أولاً: فلا نسلم أن قصد الحرمان معصية، كيف، وقد اتفق أئمتنا كأكثر العلماء على أن تخصيص بعض الأولاد بماله كله أو بعضه هبة أو وقفًا أو غيرهما لا حرمة فيه، ولو لغير عذر، وهذا صريح في أن قصد الحرمان لا يحرم؛ لأنه لازم للتخصيص من غير عذر وقد صرحوا بحله كما علمت. وأما ثانيا: فبتسليم حرمته، هي معصية خارجة عن ذات الوقف، كشراء عنب بقصد عصره خمرًا فكيف يقتضي إبطاله" (¬1). القول الثاني: يحرم تخصيص البنين دون البنات، ويجب رده إن وقع. روي ذلك عن عائشة رضي الله عنه، وطاووس، وعمر بن عبد العزيز، واختاره بعض الشافعية، وصوب رده إن وقع بناء على اشتراط القربة لصحة الوقف. وبه قال أهل الظاهر. وعليه أكثر المالكية إلا أن المالكية اختلفوا في رده إن وقع على قولين: الأول: يجب رده مطلقًا. والثاني: يجب رده إن كان في يد الواقف، ولم يحز عنه، فإن حيز عنه، أو مات مضى على شرطه، وهذا قول ابن القاسم (¬2). ¬
جاء في شرح الخرشي: "وكذلك يبطل الوقف إذا وقف على بنيه المذكور دون الإناث ... ولو وقفه على الجميع، وشرط أن من تزوجت من البنات لا حق لها في الوقف، وتخرج منه، فإنه يكون باطلاً أيضًا" (¬1). وجاء في الكافي في فقه أهل المدينة: "وقد روي عن مالك قال: ومن حبس على ذكور ولده، وأخرج النساء بطل الحبس، وعاد ميراثًا، رواها ابن وهب وغيره. وقال ابن وهب: أخبرني يزيد بن عياض عن أبي بكر بن حزم أن عمر بن عبد العزيز مات حين مات وإنه ليريد أن يرد صدقات الناس التي أخرجوا منها النساء ... " (¬2). ورأى ابن القاسم إذا فات ذلك أن يمضي على ما حبس، وإن كان حيًا ولم يحز عنه الحبس فليرده ويدخل فيه البنات، وإن حيز عنه أو مات مضى على شرطه، ولم يفسخه القاضي (¬3). قال ابن رشد الجد: "ظاهر قول مالك هذا أن الحبس لا يجوز ويبطل على كل حال، خلافُ مذهب ابن القاسم في أنه يمضي إذا فات ولا ينقض" (¬4). (ث -191) روى البخاري في التاريخ الكبير، قال: قال يحيى ابن آدم، ¬
حدثني ابن المبارك حدثني سليمان بن الحجاج الطائفي، عن محمَّد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة: يعمد أحدكم إلى المال فيجعله للذكور من ولده إن هذا إلا كما قال الله تعالى: {خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} (¬1) [الأنعام:139]. وقال ابن حجر الهيتمي، وقد سئل عمن وقف على ذكور أولاده دون إناثهم قاصدًا بذلك حرمانهن فهل يصح الوقف؟ "فأجاب بقوله: إن شرطنا لصحة الوقف القربة، وهو ما نقله الإِمام عن المعظم لم يصح، وبه أفتى جمع، كعمر الفتى، وتلميذه الكمال الرداد، وغيرهما. وإن اشترطنا لصحته انتفاء المعصية صح، إن قلنا إن قصد حرمان الوارث بالتصرف في الصحة غير محرم ... والحاصل أنه حيث وقع ذلك في صحته صح، أخذًا من قول الشيخين الذي دل عليه كلام الأكثرين أن المغلب في الوقف التمليك، لا القربة، ومن المعلوم أن تمليك أولاده المذكور دون الإناث أو عكسه صحيح، لكنه مكروه، وما ذكر عن الإِمام إنما هو بالنسبة للجهة فلا تعارض، وحينئذ فلا حجة لأولىك المفتين فيه، قال بعضهم: وأنا أقول للقاضي أن يقلد ما ذكر عن الإِمام ويحكم ببطلان الوقف؛ لأنه الذي عليه الجمهور اهـ" (¬2). ¬
دليل من قال: يحرم تفضيل المذكور على الإناث
دليل من قال: يحرم تفضيل المذكور على الإناث: (ح -993) ما رواه البخاري من طريق عامر، قال: سمعت النعمان بن بشير ت، وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟، قال: لا، قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، قال: فرجع فرد عطيته (¬1). وفي رواية لهما: (لا تشهدني على جور). وفي رواية لهما أيضًا: (أكل ولدك نحلت مثله؟، قال: لا، قال: فارجعه) (¬2). وفي رواية لمسلم: (قال: أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذًا) (¬3). وفي رواية لمسلم (أشهد على هذا غيري)، ثم قال: (أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذًا) (¬4). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟) فيه دليل على وجوب العدل في العطاء بين الأولاد، وأن القسمة تكون بالتسوية بينهم، لا فرق بين ذكرهم ¬
ونوقش هذا
وإناثهم، وأن ذلك واجب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تشهدني على جور، وأن العدل بينهم سبب في برهم، وأن خلافه سبب في العقوق وقطع الرحم، وما كان سببًا في الحرام حرم، وأن الأب إذا فاضل بين أولاده أمر برده كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النعمان بذلك، وهذا دليل على بطلان الوقف وأنه من وقف الجنف والإثم، والله أعلم. ونوقش هذا: بأن الحديث ورد في الهبة وليس الوقف كالهبة فالوقف من عقود الصدقات والقرب بخلاف الهبة فهي من عقود التبرع والتمليك، والوقف ينفذ بمجرد اللفظ بخلاف الهبة فإنها لا تلزم إلا بالقبض، والصدقة لا رجوع فيها للأب ولا لغير الأب بحال من الأحوال إذا مضت؛ لأن الصدقة إنما يراد بها وجه الله، وما أريد به ذلك لم يجز الرجوع فيه بخلاف الهبة، فإن الوالد له أن يرجع في هبته لولده (¬1). الدليل الثاني: (ح -994) ما رواه الطبراني من طريق عبد الله بن صالح وسعيد بن منصور، قالا: ثنا إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن يوسف، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة عن ابن عباس، عن النبي، قال: سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلًا أحدًا لفضلت النساء (¬2) [ضعيف] (¬3). ¬
دليل من قال: لا يحرم التفضيل بل يكره
دليل من قال: لا يحرم التفضيل بل يكره: (ح -995) ما رواه مسلم من طريق داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، قال: انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، اشهد أني قد نحلت النعمان كذا وكذا من مالي، فقال: أكل بنيك قد نحلت مثل ما نحلت النعمان؟ قال: لا، قال: فأشهد على هذا غيري، ثم قال: أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذا (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أشهد على هذا غيري). قال النووي: "احتج الشافعي وموافقوه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: فأشهد على هذا غيري، قالوا ولو كان حراما أو باطلاً لما قال هذا الكلام. فإن قيل: قاله تهديدًا. قلنا: الأصل في كلام الشارع غير هذا، ويحتمل عند إطلاقه صيغة افعل على الوجوب، أو الندب، فإن تعذر ذلك فعلى الإباحة. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا أشهد على جور) فليس فيه أنه حرام؛ لأن الجور هو الميل عن الاستواء والاعتدال، وكل ما خرج عن الاعتدال فهو جور، سواء كان حرامًا أو مكروهًا وقد وضح بما قدمناه أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أشهد على هذا غيري) يدل على أنه ليس بحرام، فيجب تأويل الجور على أنه مكروه كراهة تنزيه" (¬2). ولأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فارجعه) يدل على أن العطية قد لزمت، وخرجت عن يده، ¬
دليل من قال: لا يكره التفضيل إذا كان لمعنى
ولو لم تكن صحيحة لم يكن له أن يرتجع؛ لأنها ما مضت ولا صحت فيرتجع، فأمره بذلك لأن المستحب والمسنون التسوية (¬1). وقد يقال: إن الأمر بإرجاعه قد يقصد به رد عينه إلى حيازته، وإن كان ملكه ما زال باقيًا عليه. دليل من قال: لا يكره التفضيل إذا كان لمعنى: الدليل الأول: (ث - 192) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حفص، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن الزبير بن العوام وقف دارًا له على المردودة من بناته (¬2). [صحيح] (¬3). الدليل الثاني: (ث -193) روى مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة، قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنًى بعدي منك. ولا أعز علي فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقًا. فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث (¬4). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قال ابن بطال: "ولما أجمعوا على أنه مالك لماله، وأن له أن يعطيه من شاء من الناس، كذلك يجوز أن يعطيه من شاء من ولده، والدليل على جواز ذلك أن أبا بكر الصديق نحل ابنته عائشة دون سائر ولده، ونحل عمر ابنه عاصمًا دون سائر ولده، ونحل عبد الرحمن بن عوف ابنته أم كلثوم ولم ينحل غيرها، وأبو بكر وعمر إمامان ... ولم يكن في الصحابة من أنكر ذلك" (¬1). قلت: فدل ذلك على أن الأمر بالتسوية إما أن يكون على سبيل الندب، وإما أن التفضيل إذا كان لمعنى لم يكن داخلًا بالأمر بالتسوية في عطاء الأولاد. دليل من قال: القسمة بحسب الميراث: التفريق بين الذكر والأنثى ثابت في آيات الموارث، والله سبحانه وتعالى أحكم وأعدل، ولأن الرجل يجب. عليه التزامات كثيرة من نفقة الزوجات والأولاد بخلاف المرأة، فكان بمثابة التفضيل لمعنى. ولأن إعطاء الأنثى نصف نصيب الذكر هو حظها من ذلك المال لو بقي في يد الواقف حتى مات. والله أعلم. الراجح: تفضيل المذكور على البنات لا يجوز، وتفضيل بعض الورثة على بعض إن كان التفضيل معلقًا بالوصف، كأن يقول: هذا الوقف على الفقير من أولادي، أو على طالب العلم منهم، أو على الغارم، أو على الزمن، أو على صاحب ¬
العيال، أو نحو ذلك من الأوصاف المعتبرة في الصدقات فلا بأس، ولا أرى أن في ذلك محاباة، وإن كان الوقف على أعيانهم وجب العدل بينهم، فإن أوقفه بشرط التفضيل فإن الوقف يمضي، ويلغو الشرط، كسائر الشروط الفاسدة في الوقف، والله أعلم.
الفصل الثاني في الرجل يقف بشرط الخيار
الفصل الثاني في الرجل يقف بشرط الخيار الوقف عقد يرد عليه الفسخ إذا قام سببه، فصح شرط الخيار فيه. [م - 1562] اختلف العلماء في الرجل يقف بشرط الخيار: القول الأول: يصح الوقف والشرط، وهذا قول أي يوسف من الحنفية، واختاره ابن عبد السلام من المالكية (¬1). جاء في الهداية: "لو شرط الخيار لنفسه في الوقف ثلاثة جاز الوقف والشرط عند أبي يوسف" (¬2). وقال ابن عابدين: "ومحل الخلاف في غير وقف المسجد، حتى لو اتخذ مسجدًا على أنه بالخيار جاز، والشرط باطل" (¬3). القول الثاني: يبطل الوقف والشرط، وهذا قول محمَّد بن الحسن وهلال من الحنفية، ومذهب الشافعية، والحنابلة (¬4). ¬
جاء في الفتاوى الهندية: "لو وقف على أنه بالخيار لم يصح عند محمَّد رحمه الله تعالى، معلومًا كان الوقت أو مجهولاً، واختاره هلال" (¬1). وقال النووي: "لو وقف بشرط الخيار، أو قال: بشرط أني أبيعه، أو أرجع فيه متى شئت فباطل ... " (¬2). القول الثالث: يصح الوقف، ويبطل الشرط، وهو مذهب المالكية، وأحد القولين في مذهب الشافعية، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬3). جاء في الذخيرة: "لو شرط في الوقف الخيار في الرجوع بطل شرطه، ولزم الوقف" (¬4). وفي حاشية الدسوقي: "واعلم أنه يلزم، ولو قال الواقف: ولي الخيار" (¬5). وقال ابن شاس: "ولا يحتاج الوقف إلى شرط اللزوم، بل لا يقع إلا لازمًا، فلو قال: على أني بالخيار في الرجوع عنه، وإبطال شرطه، لزم الوقف، وبطل الشرط" (¬6). ¬
قال في المحرر: "ولا يصح الوقف المشروط فيه الخيار، ويتخرج أن يصح ويلغو الشرط (¬1). وقال في الإنصاف: "لو شرط الخيار في الوقف فسد. نص عليه. وهو المذهب. وخرج فساد الشرط وحده من البيع" (¬2). وجه القول بأن الوقف والشرط باطل: اشتراط الخيار في عقد الوقف ينافي مقتضى العقد، كالأصل في الوقف اللزوم، والخيار يمنعه، فلم يصح كما لو اشترط أن له بيعه متى شاء. ولأنه إزالة ملك لله تعالى على وجه القربة فلم يصح اشتراط الخيار فيه كالعتق (¬3). وجه القول بأن الوقف والشرط صحيح: أن الوقف تمليك للمنافع، فجاز شرط الخيار فيه كالإجازة (¬4). ولأن الوقف عقد يرد عليه الفسخ إذا قام سببه، فصح شرط الخيار فيه. وإذا جاز أن يستثني الواقف الغلة لنفسه ما دام حيًا، فكذلك يجوز أن يشترط الخيار لنفسه لتقليب النظر. وجه القول بأن الوقف صحيح والشرط باطل: الشرط الفاسد لا ينبغي أن يفسد الوقف، ولأن الوقف إزالة ملك لا إلى ¬
مالك، فيكون بمنزلة العتق، واشتراط الخيار في العتق باطل، والعتق صحيح، فكذلك الوقف، وقياسًا على اشتراط الخيار في وقف المسجد، فإن الوقف يصح، ويبطل الشرط. جاء في الفتاوى الهندية: "واتفقوا على أنه لو اتخذ مسجدًا على أنه بالخيار جاز المسجد والشرط باطل" (¬1). وأخشى أن تكون حكاية الاتفاق هذه يقصد بها اتفاق أصحاب أبي حنيفة، ولا يقصد بها الاتفاق بين أهل العلم؛ لأني لم أقف على هذا التفريق بين المسجد وغيره في شرط الخيار في كتب المذاهب الأخرى التي رجعت إليها، والله أعلم. الراجح: لا أرى مانعًا من صحة اشتراط الخيار في عقد الوقف، ولا مفسدة شرعية في اشترا طه. ¬
المبحث الأول في اشتراط الإدخال والإخراج وأولادة والنقص
المبحث الأول في اشتراط الإدخال والإخراج وأولادة والنقص الإدخال والإخراج والزيادة والنقص إذا رتب على الوصف جاز. [م - 1563] اختلف الفقهاء في الواقف يشترط له أو للناظر أن يدخل من يشاء، ويخرج من يشاء، ويزيد من يشاء، وينقص من يشاء في استحقاق الوقف. القول الأول: يصح مطلقًا إذا شرط ذلك وقت العقد، فإذا اشترطه، كان له أن يجعل من ليس مستحقًا في الوقف مستحقًا فيه، وأن يخرج من الوقف من كان مستحقًا فيه، عملاً بالشرط، وأن يزيد في حق من يراه، وينقص كذلك، فإذا أدخل أحدًا، أو أخرج أحدًا أو زاد، أو نقص فليس له أن يغيره بعد ذلك؛ لأن شرطه وقع على فعل يراه، فإذا رآه وأمضاه فقد تحقق شرطه وانتهى إلا أن يشترط أن له ذلك متى ما أراد مرة بعد أخرى ما دام حيًا، وهذا مذهب الحنفية، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬1). قال الخصاف: "أرأيت الرجل يقف الأرض على قوم ... ويشترط في الوقف أن له أن يزيد من رأى زيادته من أهل هذا الوقف، وله أن ينقص من رأى ¬
نقصانه منهم، وأن يدخل فيهم من يرى إدخاله، وأن يخرج منهم من رأى إخراجه؟ قال: الوقف جائز على ما اشترطه ... إذا فعل ذلك مرة فليس له أن يغير ذلك؛ لأن الرأي إنما هو على فعل يراه، فإذا رآه، وأمضاه، فليس له بعد ذلك أن يغيره. قلت: فإن أراد أن يكون له ذلك أبداً ما كان حياً يزيد، وينقص، ويدخل ويخرج مرة بعد مرة؟ قال: يشترط ... " (¬1). وعليه فإن هذا الحق عند الحنفية حق مطلق يستحق بالشرط، فإذا اشترطه كان له ذلك. وقال الماوردي في الحاوي: إذا "قال: قد وقفت داري هذه على من شئت، على أن أدخل في الوقف من أشاء، وأخرج منه من أشاء فقيه وجهان: أحدهما: جائز كما لو أدخله بصفة وأخرجه بصفة ... وإذا قيل بجوازه صح إن كان قد سمى فيه عند عقد الوقف قومًا، ثم له يدخل من شاء ويخرج من شاء. وإذا فعل ذلك مرة واحدة، فهل له الزيادة عليها أم لا؟ على وجهين: أحدهما: ليس له؛ لأنه قد فعل ما شاء، وله شرطه وقد استقر. والوجه الثاني: له أن يفعل ذلك مراراً ما عاش وبقي؛ لعموم الشرط ... " (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا يصح اشتراط الإدخال والإخراج في غير أهل الوقف، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬1). جاء في مغني المحتاج: "ولو وقف بشرط الخيار ... أو شرط أن يدخل من شاء، ويخرج من شاء بطل على الصحيح" (¬2). وقال ابن قدامة: "وإن شرط في الوقف أن يخرج من شاء من أهل الوقف، ويدخل من شاء من غيرهم لم يصح" (¬3). وأما إذا كان الإدخال والإخراج في أهل الوقف فهذا يصح، وهو على طريقتن: الأول: أن يرتب الإدخال والإخراج على صفة معينة. ومعنى ذلك: أن يجعل الاستحقاق والحرمان مرتبًا على وصف مشترط، فمن اتصف بصفة من صفات الاستحقاق استحق ما شرط له، فإن زالت تلك الصفة زال استحقاقه، فإن عادت الصفة عاد استحقاقه، كأن يقول: وقفت هذا على أولادي الأرامل، أو أولادي الفقراء، فلا تدخل المتزوجة، ولا يدخل الغني، فلو عادت أرملة، أو عاد فقيرًا عاد الاستحقاق. وهذا صحيح عند الشافعية والحنابلة. ¬
قال في الإنصاف: "ومعنى الإخراج بصفة والإدخال بصفة: جعل الاستحقاق والحرمان مرتبًا على وصف مشترط: فترتب الاستحقاق: كالوقف على قوم بشرط كونهم فقراء، أو صلحاء. وترتب الحرمان: أن يقول: ومن فسق منهم، أو استغنى فلا شيء له" (¬1). قال الإِمام أحمد كما في كتاب الوقوف للخلال: "أخبرني محمَّد بن علي، حدثنا الأثرم، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: لولا أن في حديث الزبير للمردودة من بناتي، ومن تزوج فلا حق لها، ما كنت أرى أن يكون في الوقف أنه يدخل واحد، ويخرج آخر، ولا يكون إلا شيئًا معلومًا، ولا يحول" (¬2). وهذه قد نص المالكية على جواز هذه الصورة كما لو وقف على أولاده على أن من تزوج منهن فلا حق لها إلا أن يردها طلاق، أو موت زوج فهي على حقها من الحبس، فإذا فيه إدخال وإخراج بالوصف (¬3). الطريقة الثانية: أن يدخل فيها من يشاء من أهل الوقف باختياره، ويخرج من يشاء منهم باختياره، فإذا فيها خلاف: فقيل: لا يصح، وهو الأصح في مذهب الشافعية (¬4). ¬
وقيل: يصح، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، ووجه في مذهب الشافعية. واختار ابن تيمية من الحنابلة بأن الاختيار اختيار مصلحة، فيدخل من تقتضي المصلحة إدخاله، ويخرج من تقتضي المصلحة إخراجه. جاء في المغني: "وإن شرط في الوقف أن يخرج من شاء من أهل الوقف، ويدخل من شاء من غيرهم لم يصح؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الوقف فأفسده، كما لو شرط ألا ينتفع. وإن شرط للناظر أن يعطي من شاء من أهل الوقف، ويحرم من شاء جاز؛ لأن ذلك ليس بإخراج للموقوف عليه من الوقف، وإنما علق استحقاق الوقف بصفة، فكأنه جعل له حقًا في الوقف إذا اتصف بإرادة الوالي لعطيته، ولم يجعل له حقاً إذا انتفت تلك الصفة" (¬1). والحقيقة أن إرادة الناظر ليست صفة في الموقوف عليه، بل هي جهة منفكة. وقال في الحاوي: "الضرب الثاني: أن يخرج من أخرج منها باختياره ويدخل من أدخل فيها باختياره، كأنه قال: قد وقفت داري هذه على من شئت، على أن أدخل في الوقف من أشاء، وأخرج منه من أشاء ففيه وجهان: أحدهما: جائز كما لو أدخله بصفة وأخرجه بصفة. والثاني: هو أصح؛ أنه لا يجوز، ويكون الوقف باطلاً؛ لأنه لا يكون على موصوف ولا معين" (¬2). ¬
وقيل: إذا اشترط الواقف الإدخال والإخراج والزيادة والنقص في أهل الوقف، كان ذلك راجعًا للمصلحة، وليس لهوى الواقف والناظر، وهو اختيار ابن تيمية، قال في مختصر الفتاوى: "وإذا جعل الواقف للناظر أن يخرج من شاء، ويدخل من شاء، ويزيد وينقص، فذلك راجع إلى المصلحة الشرعية، لا إلى شرط الواقف وشهوته، وهواه، بل يفعل من الأمور المخير فيها ما كان أرضى لله ورسوله، وهذا في كل من تصرف لغيره بالولاية كالإمام والحاكم، والواقف، وناظر الوقف" (¬1). وهذا القول من ابن تيمية رحمه الله جاء متسقًا مع أصله في عدم اعتبار الشروط الجعلية إلا ما كان منها على وجه القربة، أما من قال بصحة الشروط المباحة واعتبارها فينبغي أن يقول بجواز هذا الشرط، ولو كان الشرط تبعًا لشهوته وهواه، فالمال ماله، وقد أخرجه بشرطه، فكان الأولى اعتباره، وهو الصحيح. ¬
المبحث الثاني في اشتراط أن يكون وقفه على مذهب معين
المبحث الثاني في اشتراط أن يكون وقفه على مذهب معين مهما شرط الواقف ما يجوز له اتبع (¬1). [م - 1564] لو خصص الواقف وقفه على الحنابلة، أو على الشافعية، فهل يختص به؟ اختلف العلماء في ذلك: القول الأول: إذا خصصه لأهل مذهب معين اختص بهم، وهذا مذهب الأئمة الأربعة (¬2). جاء في البحر الرائق: "لو عين الواقف مذهبًا من المذاهب، وشرط أنه إن انتقل عنه خرج، اعتبر شرطه" (¬3). وفي التاج والإكليل: "مهما شرط الواقف ما يجوز له اتبع، كتخصيص مدرسة، أو رباط، أو أصحاب مذهب بعينه" (¬4). ¬
القول الثاني
وفي الإنصاف: "لو خصص المدرسة بأهل مذهب أو بلد أو قبيلة: تخصصت. وكذلك الرباط والخانقاه والمقبرة. وهذا المذهب. جزم به في التلخيص، وغيره وصححه الحارثي وغيره. قال الحارثي: وذكر بعض شوخنا في كتابه احتمالا بعدم الاختصاص" (¬1). ونص الحنابلة والشافعية على أنه إن خصص الإمامة بشخص معين أو بمذهب تخصصت به، وكذا الخطابة، قال بعض الحنابلة: ما لم يكن المشروط له الإمامة في شيء من أحكام الصلاة مخالفًا لصريح السنة أو ظاهرها، سواء كانت المخالفة لعدم الاطلاع، أو لتأويل. القول الثاني: إذا خصص الوقف بمذهب معين لم يختص بهم. اختاره ابن تيمية، وقال الحارثي من الحنابلة: "ذكر بعض شيوخنا في كتابه احتمالًا بعدم الاختصاص" (¬2). قال ابن تيمية: "ولا يجوز لواقف شرط النظر لذي مذهب معين دائمًا" (¬3). واختار ابن تيمية لزوم العمل بشرط مستحب خاصة (¬4)، وتخصيصه بمذهب معين ليس مستحبًا إن لم يكن مكروهًا. وهذا الشرط يرجع إلى مسألة سابقة: هل الوقف قربة، أو تمليك؟ ¬
فعلى الأول، وأن الوقف قربة، فإن التزام المذهبية مخالف للمشروع، والأئمة قد نهوا عن تقليدهم؛ ولأن هذا الوقف فيه إغراء لالتزام المذهبية، وعدم الانعتاق من ربقة التقليد، والمشروع اتباع الدليل فيصح الوقف، ويلغو الشرط. وعلى القول بأنه تمليك: يصح اختصاص الوقف بأهل مذهب معين. وقد رجحت: أن الوقف إن كان على معين فهو تمليك، ولا تشترط فيه القربة. وإن كان على جهة، فالقربة شرط، والمقصود بالقربة ما هو أعم من الطاعة، وإذا كان كذلك فلا أرى جواز اختصاص الوقف بمذهب معين، وأن هذا من الشروط التي تجوز مخالفتها، والله أعلم.
المبحث الثالث في تخصيص المسجد لأهل مذهب معين
المبحث الثالث في تخصيص المسجد لأهل مذهب معين [م - 1565] إذا وقف المسجد على أنه لا يصلي فيه إلا أهل مذهب معين، كالشافعية، والحنابلة، فهل يختص بهم؟ فيه خلاف على قولين: القول الأول: يختص بهم، وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية، واختاره صاحب التلخيص من الحنابلة (¬1). جاء في تحفة المحتاج: "والأصح أنه إذا شرط في وقف المسجد اختصاصه بطائفة كالشافعية ... اختص بهم، فلا يصلي ولا يعتكف فيه غيرهم، رعاية لغرضه، وإن كره هذا الشرط" (¬2). القول الثاني: لا يختص، وهو مذهب الحنابلة، والشافعية في مقابل الأصح، ورجحه إمام الحرمين. جاء في روضة الطالبين: "ولو شرط في الوقف اختصاص المسجد بأصحاب الحديث، أو الرأي، أو طائفة معلومين، قوجهان: أحدهما: لا يتبع شرطه، فعلى هذا قال المتولي: يفسد الوقف لفساد الشرط. ¬
والثاني: يتبع ويختص بهم رعاية للشرط ... قلت -القائل النووي- الأصح اتباع شرطه، وصححه الرافعي في المحرر" (¬1). وقال إمام الحرمين: "ولو قال: لا يدخل المسجد إلا عصبة خصصهم، فهذا الشرط باطل؛ فإن مبنى الحكم في المساجد التعميم. ولو شرط ألا يقام في المسجد إلاَّ شعارُ مذهبٍ خصَّصه بالذكر، فالمذهب والقياس أن ذلك التخصيص باطل؛ لما حققناه من أن أمور المساجد لا تقبل التخصيص. وذهب طائفة من الأصحاب إلى وجوب اتباع شرط الواقف في تعيين ذلك الشعار، وهذا قاله من قاله على جهة المصلحة؛ فإن التنافس بين أهل المذاهب ليس بالخفي" (¬2). وفصل بعض الشافعية بأن المسجد إن كان موقوفاً على أشخاص بعينهم كزيد وعمرو اختص بهم، فإن أذنوا للصلاة لغيرهم فيه صح ذلك. وإن كان المسجد موقوفاً على طائفة معينة كالشافعية، أو الحنفية، أو الصوفية، لم يجز لغير هذه الطائفة الصلاة فيه، ولو أذن الموقوف عليهم (¬3). وهذا القول قد لا يكون قولًا مستقلاً، وإنما هو تفصيل على القول الراجح في مذهب الشافعية، والله أعلم. وإذا كنا قد صححنا أن اشتراط تخصيص الوقف بمذهب معين تجوز مخالفته، فالصلاة في المسجد من باب أولى، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في اشتراط أن يكون الواقف مالكا للموقوف
الفصل الثالث في اشتراط أن يكون الواقف مالكًا للموقوف المبحث الأول في صحة وقف الفضولي وقف الفضولي كبيعه ينعقد موقوفًا. الفضولي في الاصطلاح: هو من لم يكن وليًا، ولا أصيلًا، ولا وكيلًا في العقد (¬1). [م - 1566] اشترط الفقهاء أن يكون الموقوف مملوكًا للواقف؛ وذلك أن الوقف تصرف يلحق رقبة العين الموقوفة، فلا بد أن يكون الواقف مالكًا لها، أو مأذونًا له بالتصرف في الرقبة بالوكالة عن صاحب العين الموقوفة. [م - 1567] واختلفوا في وقف الفضولي: ¬
القول الأول
القول الأول: وقف الفضولي كبيعه ينعقد موقوفًا على إجازة المالك، وهذا مذهب الحنفية، وبعض المالكية، والقديم من قول الشافعي، ورواية عن أحمد، اختارها ابن تيمية وابن القيم (¬1). القول الثاني: لا ينعقد وقف الفضولي كما لا ينعقد بيعه، وهو القول الجديد للشافعي، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). القول الثالث: ينعقد بيعه، ولا ينعقد وقفه، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬3). وجه التفريق بين البيع والوقف: أن الوقف يخرج من مالكه بلا عوض فلم يصح وقف الفضولي بخلاف البيع. الراجح: صحة وقف الفضولي ويكون موقوفًا على إجازة المالك؛ لأنه لما جاز أن ¬
ونوقش
تكون الوصية بما زاد على الثلث موقوفة على إجازة الوارث، وكذا اللقطة إذا تصدق بها الواجد كانت موقوفة على إجازة المالك جاز كذلك أن يكون وقف الفضولي موقوفًا على إجازة المالك. (ح -996) وأما ما رواه الإِمام أحمد من طريق كهمس، عن عبد الله بن بريدة، عن عائشة قالت: جاءت فتاة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن أبي زوجني ابن أخيه يرفع بي خسيسته، فجعل الأمر إليها. قالت: فإني قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء (¬1). فلما خيرها، والخيار لا يثبت في اللازم، دل على كونه موقوفًا على إجازتها. ونوقش: بأن هذا الحديث وإن كان رجاله رجال الصحيح إلا أنه منقطع، قال الدارقطني عن عبد الله بن بريدة: لم يسمع من عائشة (¬2). ¬
........................................................................ ¬
وقد بسطت الخلاف في الحكم التكليفي والوضعي لبيع الفضولي، وذكرت أدلة كل قول في عقد البيع، فأغنى ذلك عن إعادته هنا (¬1). ¬
المبحث الثاني في اشتراط أن يكون مملوكا وقت الوقف
المبحث الثاني في اشتراط أن يكون مملوكًا وقت الوقف [م - 1568] تكلمنا في المبحث السابق عن اشتراط أن يكون الموقوف مملوكًا للواقف، فهل يشترط أن يكون مملوكًا له حين الوقف، أو يجوز أن يوقف الواقف الشيء قبل تملكه، على تقدير أنه إذا ملكه فهو وقف؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: يشترط لصحة الوقف أن يكون مملوكًا له حين الوقف، وهذا مذهب الجمهور (¬1). جاء في البحر الرائق: "ولو قال: إذا ملكت هذه الأرض فهي صدقة موقوفة، لا يجوز؛ لأنه تعليق، والوقف لا يحتمل التعليق" (¬2). واستثنى الحنفية العين المملوكة أو الموهوبة بعقد فاسد إذا قبضها فإن وقفه ينفذ في الحالتين؛ لأن عندهم أن المبيع والموهوب بعقد فاسد يملك بالقبض. ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا يشترط لصحة الوقف أن يكون مملوكًا وقت الوقف، فلو علق وقفه على ملكه له، كأن قال: إن ملكت دار فلان فهي وقف، ثم ملكه فيلزمه ما التزمه، ولا يحتاج لإنشاء وقف لذلك، وهذا مذهب المالكية (¬1). جاء في الشرح الكبير في تعريف الوقف: "وقفُ مملوكٍ، ولو بالتعليق، كإن ملكت دار فلان فهي وقف" (¬2). وعلق الدسوقي في حاشيته على قوله (إن ملكت دار فلان فهي وقف) قال الدسوقي: "من ذلك ما كتبه شيخنا: أن الشيخ زين الجيزي أفتى، بأن من التزم أن ما يبنيه في المحل الفلاني فهو وقف، ثم بني فيه فيلزمه ما التزمه، ولا يحتاج لإنشاء وقف" (¬3). وجاء في الفواكه الدواني: في تعريف الحبس: "إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازمًا بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديرًا ... قوله: (ولو تقديرًا) إلى صحة وقف غير المملوك على تقدير ملكه، كقوله: إن ملكت هذا فهو وقف" (¬4). الراجح: أرى أن مذهب الجمهور أرجح، وأنه لا يجوز تقديم الوقف على الملك؛ لأن الملك إن كان شرطاً أو سببًا في نفاذ الوقف لم يجز تقديم الوقف على ¬
شرطه أو على سببه، كما لا يجوز تقديم الكفارة قبل عقد اليمين، ولا تقديم الزكاة قبل ملك النصاب، فالشروط رتبتها المتقدم، وكذا الأسباب تتقدم مسبباتها، والله أعلم. ويتفرع على الخلاف في هذه المسألة الخلاف في عدة مسائل: [م - 1569] الأولى: أن من اشترى أرضًا، وشرط في العقد الخيار للبائع، فوقفها المشتري، ثم أمضى البائع البيع، لم ينعقد الوقف؛ لأن وقت الوقف لم يلزم البيع؛ لأن الملك زمن الخيار إن قلنا: إنه للبائع فقد وقف ما لا يملك، وإن قلنا: إن الملك للمشتري فهو ممنوع زمن الخيار من التصرف تصرفًا يسقط حق البائع بالخيار، بخلاف ما لو أوقفها البائع فإن وقفه صحيح، وكان هذا عدولًا منه عن إمضاء البيع. وقد يقال: إنه ينعقد، ولكنه لا يلزم، والله أعلم [م - 1570] المسألة الثانية: إذا أوقف الموهوب له العين الموهوبة قبل أن يقبضها فهل يصح وقفه؟ على الخلاف في اشتراط الملك وقت الوقف، فمن اشترط الملك وقت الوقف لم يصحح الوقف؛ لأن الموهوب لم يدخل في ملك الموهوب له إلا بعد أن يقبضه قبضًا صحيحًا خلافًا لمن لم يشترط الملك وقت الوقف. [م - 1571] المسألة الثالثة: الوصية لا يملكها الموصى له إلا بعد موت الموصي، فلو أوقفها الموصى له قبل موت الموصى؛ فهل يصح وقفه إذا مات الموصى، ثم دخلت ملكه، على الخلاف بين المالكية والجمهور. قال ابن الهمام: "ولو وقف الموهوب له الأرض قبل قبضها، ثم قبضها لا
يصح الوقف، وكذا لو أوقفها الموصى له قبل موت الموصي، ثم مات الموصي، وكذا لو وقفها في الشراء الفاسد قبل قبضها" (¬1). ¬
الفصل الرابع في ألفاظ الواقف
الفصل الرابع في ألفاظ الواقف المبحث الأولى إذا وقف الرجل على ولده ألفاظ الواقفين تبنى على عرفهم. إذا قال الرجل: هذا وقف على ولدي، ثم على الفقراء. شمل هذا اللفظ مسائل كثيرة منها ما هو محل وفاق، ومنها ما هو محل خلاف، منها: المسألة الأولى: دخول البنات في لفظ (الولد): [م - 1572] ذهب عامة العلماء إلى أنه إذا قال: هذا وقف على ولدي فإنه يدخل في هذا اللفظ كل أولاده من صلبه الموجودين وقت الوقف من المذكور والإناث؛ وحكي الاتفاق على هذا؛ لأن لفظ الولد يشملهم. قال العيني: "الإجماع قام على أن اسم الولد يقع على البنين والبنات" (¬1). وقال تعالى: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فجعل الأنثى من الأولاد. ولأن لفظ (ولدي) نكرة مضافة فتعم كل ولده، الواحد والجمع، والذكر والأنثى، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل:18]. ¬
القول الثاني
وقال ابن عابدين: "ولأن اسم الولد مأخوذ من الولادة، وهي موجودة فيهما (¬1). جاء في البحر الرائق: "فإذا وقف على ولده شمل الذكر والأنثى" (¬2). وجاء في المهذب: "فإن قال: وقفت على أولادي دخل فيه الذكر والأنثى" (¬3). القول الثاني: لا يدخل البنات بلفظ الولد، بل يكون وقفًا على المذكور منهم، وهذا قول ذكره ابن رشد في المقدمات، واحتج له بأن المحكم هو العرف، والناس يطلقون الولد في مقابل البنت، هذا هو العرف في زمن ابن رشد الجد، وما زال هذا هو العرف عندنا في عصرنا لم يختلف مع الفارق الزمني. يقول ابن رشد: "لا اختلاف في أن الألفاظ المسموعة إنما هي عبارة عما في النفوس، فإذا عبر المحبس عما في نفسه من إرادته بلفظ غير محتمل، نص فيه على إدخال ولد بناته في حبسه، أو إخراجهم منه؛ وقفنا عنده ولم يصح لنا مخالفة نصه، وإذا عبر عما في نفسه بعبارة محتملة للوجهين جميعًا، وجب أن نحملها على ما يغلب على ظننا أن المحبس أراده من محتملات لفظه بما يعلم من قصده؛ لأن عموم ألفاظ الناس لا تحمل إلا على ما يعلم من قصدهم، واعتقادهم؛ إذ لا طريق لنا إلى العلم بما أراده المحبس إلا من قبله. ¬
فإذا صح هذا الأصل الذي أصلناه وقدرناه، وقد علمنا أنه لا يعلم من الناس أن الولد بإطلاقه يقع على الذكر والأنثى إلا الخاص منهم العالم باللسان، وأكثرهم يعتقد أن الولد لا يقع إلا على الذكر دون الأنثى، وإن سألت منهم من له ابنة ولا ابن له: هل لك ولد؟ يقول لك: ليس لي ولد، وإنما لي ابنة، وجب أن يخصص بهذا عموم لفظ المحبس، ويحمل على أنه إنما أراد ولد ولده المذكور دون ولده الإناث، إذ الأغلب في الظن أنه لم يرد إناث ولده، إذ لا يعلم أن إناث ولده يسمون ولدا؛ كما يخصص عموم لفظ الحالف بما يعلم من مقاصد الناس في أيمانهم وعرف كلامهم. وتحرير القياس من هذا أن يقال: إن هذا لفظ عام يقع في اللسان العربي على الذكر والأنثى من ولد المحبس، وولد ولده، فوجب أن يحمل على ما يقع عليه عند الناس في عرف كلامهم ووجه مقصدهم - وهو الذكر دون الأنثى من ولده وولد ولده، أصل ذلك قول من قال: فيمن حلف ألا يأكل لحمًا أو بيضًا، فأكل لحم الحيتان أو بيضها - أنه لا يحنث؛ لأن الحيتان ليست بلحم في عرف كلام الناس ووجه مقاصدهم - وإن كان لحمًا في اللسان العربي. قال الله عز وجل: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل:14] وهو قياس صحيح لا اختلاف في صحته عند جميع العلماء من أهل السنة القائلين بالقياس؛ لأن القياس -عندهم هو حمل الفرع على الأصل في نفي الحكم وإثباته بالعلة الجامعة بينهما: فالفرع في مسألتنا هذه: قول المحبس حبست على ولدي وولد ولدي. والحكم المطلوب هو نفي دخول ولد الأنثى من ولد المحبس وولد ولده تحت اللفظ الذي لفظ به المحبس.
المسألة الثانية: في صحة الوقف الأهلي
والأصل قول الحالف: والله لا أكلت لحمًا أو بيضًا -ولا نية له، فأكل لحم الحيتان أو بيضها. والعلة الجامعة بينهما: أن الناس لا يوقعون اسم اللحم في عرف كلامهم ووجه مقصدهم إلا على لحم ذوات الأربع دون ما سواه من اللحوم؛ ولا اسم البيض إلا على بيض ذوات الريش، دون ما سواه من البيض؛ كما لا يوقعون الولد في عرف كلامهم ووجه مقصدهم، إلا على الذكر دون الأنثى" (¬1). وهذا القول الذي ذكره ابن رشد وجيه جداً، إلا أن الذي يشوش عليه في وقتنا أن غالب من يريد الوقف يذهب إلى طلبة العلم يستشيرهم، ويطلب منهم تحرير الوقف كتابة، فإذا كان كاتب الوقف من طلبة العلم فهو يكتب بلغة الفقهاء، ومدلولات اللغة، لا بلغة العوام، وعرف العامة، والله أعلم. المسألة الثانية: في صحة الوقف الأهلي [م - 1573] القول بصحة الوقف على الأولاد عند الأئمة الأربعة دليل على صحة الوقف مطلقًا من غير فرق بين وقف خيري، ووقف أهلي. والخيري: وهو ما جعل استحقاق الريع فيه على جهة من جهات البر، كالفقراء، والمساجد، ولو كان ذلك لمدة معينة يكون بعدها وقفًا على شخص، أو أشخاص معينين كأولاده. والأهلي أو الذري: وهو ما جعل استحقاق الريع فيه أولاً لشخص معين أو أشخاص معينين، سواء كانوا من أقاربه أم لا. ¬
والحجة على صحة الوقف الأهلي أدلة كثيرة منها
والحجة على صحة الوقف الأهلي أدلة كثيرة منها: الدليل الأول: لم يفرق العلماء القائلون بصحة الوقف بين الوقف الخيري وغيره، وهذا المصطلح في التقسيم هو مصطلح حادث، لم يعرف إلا في مطلع هذا القرن. الدليل الثاني: (ح -997) ما رواه البخاري من طريق ابن عون، قال: أنبأني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: إن شئت حبست أهلها، وتصدقت بها، قال: فتصدق بها عمر، أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول قال: فحدثت به ابن سيرين، فقال: غير متأثل مالاً (¬1). وجه الاستدلال: أن عمر جعل وقفه في الفقراء وفي القربى من غير فرق بين قريب وارث، وقريب غير وارث، وأقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. الدليل الثالث: أن الصحابة رضوان الله عليهم قد نقل عنهم الوقف الأهلي، من غير نكير، ¬
الدليل الرابع
(ث -194) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حفص، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن الزبير بن العوام وقف دارًا له على المردودة من بناته (¬1). [صحيح] (¬2). وقال أبو بكر الحميدى: تصدق أبو بكر بداره بمكة على ولده فهي إلى اليوم، وعمر بن الخطاب بربعه عند المروة وبالثنية على ولده فهي إلى اليوم، وتصدق علي بن أبي طالب بأرضه بينبع فهي إلى اليوم، وتصدق الزبير بن العوام بداره بمكة في الحرامية وداره بمصر، وأمواله بالمدينة على ولده فذلك إلى اليوم، وتصدق سعد بن أبي وقاص بداره بالمدينة وبداره بمصر على ولده فذلك إلى اليوم، وعثمان بن عفان ببئر رومة فهي إلى اليوم، وعمرو بن العاص بالوهط من الطائف وداره بمكة فهي على ولده فذلك إلى اليوم، وحكيم بن حزام بداره بمكة والمدينة على ولده فذلك إلى اليوم، وما لا يحضرني كثير يجزي منه أقل من هذا (¬3). [هذا أثر مقطوع، ولعل استمرار هذه الأوقاف من عهد الصحابة إلى عهد الحميدي يغني عن الإسناد]. الدليل الرابع: (ح -998) ما رواه أحمد من طريق ابن عون، عن حفصة بنت سيرين، عن الرباب بنت صليع، عن سلمان بن عامر الضبي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي القرابة اثنتان. صلة وصدقة (¬4). ¬
الدليل الخامس
ولا فرق في ذلك بين صدقة الوقف وبين غيرها من الصدقات؛ لأن المطلق على إطلاقه والعام على عمومه حتى يرد مقيد أو مخصص. الدليل الخامس: (ح -999) ما رواه البخاري في صحيحه، عن أنس رضي الله عنه، قال: لما نزلت {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران92] جاء أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، قال: وكانت حديقة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها، ويستظل بها، ويشرب من مائها، فهي إلى الله عَزَّ وَجَلَّ وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أرجو بره، وذخره، فضعها أي رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بخ يا أبا طلحة، ذلك مال رابح، قبلناه منك، ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين، فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه ... الحديث (¬1). قال ابن عبد البر: "وفيه أن الصدقة على الأقارب من أفضل أعمال البر؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشر بذلك على أبي طلحة إلا وهو قد اختار ذلك له، ولا يختار له إلا الأفضل" (¬2). والصدقة على الأقارب تشمل الوقف وغيره، ويدخل فيها الوارث وغيره. الدليل السادس: (ح -1000) ما رواه البخاري من طريق بكير، عن كريب مولى ابن عباس، ¬
الدليل السابع
أن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنهما أخبرته، أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه، قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي، قال: أو فعلت؟، قالت: نعم، قال: "أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك" (¬1). قال ابن عبد البر: "معلوم أن العتق من أفضل أعمال البر، وقد فضل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصدقة على الأقارب على العتق" (¬2). الدليل السابع: قال النووي: "أجمعت الأمة على أن الصدقة على الأقارب أفضل من الأجانب" (¬3). والوقف نوع من أنواع الصدقة. فتبين بهذا أن الوقف شامل لكلا المسميين شمول النوع لأفراده، فالوقف سواء كان على الأهل، أو على سائر جهات البر، فإن فيه معنى الخير، والإحسان، والصدقة، من غير فرق. ومع وضوح هذه المسألة في الفقه الإِسلامي، إلا أنه قد خرج من يطالب بإلغاء الوقف الأهلي حتى تم إلغاء الوقف الأهلي في مصر وسوريا. دليل من طالب بإلغاء الوقف الأهلي: الدليل الأول: أن الوقف بنوعيه ليس معروفًا في الإِسلام بنص في كتاب الله. ¬
ويناقش
ويناقش: بأن ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو ثابت عن الله سبحانه، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْه فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. الدليل الثاني: أن الأئمة قد اختلفوا في جواز الوقف ولزومه. ويناقش: بأن من خالف في جواز الوقف أو في لزومه لم يفرق في خلافه بين الوقف الخيري والوقف الأهلي، بل الحكم لديهم في الجواز وعدمه، أو في اللزوم وعدمه سيان في كلا النوعين الخيري والذري، وقد ناقشت هاتين المسألتين وبينت ضعف حجة من قال بعدم جواز الوقف أو بعدم لزومه. الدليل الثالث: أن الأصل في الوقف أن يكون على جهات البر والخير، وليس كذلك الوقف الأهلي. ويناقش: بأن الأدلة السابقة كلها تدل على أن الصدقة على القرابة أفضل من الصدقة على الأجانب، ونقل الإجماع على ذلك. الدليل الرابع: القول بأن الوقف الأهلي يؤدي إلى قطع المواريث كالوقف على بعض الوارثين لحرمان الآخرين.
ويناقش
ويناقش: إذا كان الوقف الأهلي يؤدي إلى ذلك فكذلك الوقف الخيري؛ لأن مال الوقف في الأمرين سيخرج عن سلطة الميراث، فلو كانت هذه الحجة سائغة لمنع الوقف الأهلي لكانت سائغة في إلغاء الوقف الخيري، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن تخصيص الوقف لبعض الورثة إن كان على طريق الأثرة فإنه لا يجوز، وإن كان الحامل عليه حاجة كعيال أو مرض، لم يمنع ذلك من الجواز. الدليل الخامس: أن بعض الأوقاف الأهلية تكون غير مشروعة كالوقف على تشييد القبور، وتجصيصها، أو تزيينها، ووضع المصابيح عليها، وحمل الأطعمة إليها في الأعياد والمواسم المبتدعة إلى غير ذلك من الأمور التي لا ترضي الله. ويناقش: بأن الوقف على تلك الأعمال لا تجوز، وهي باطلة، وبطلانها لا يعني بطلان الوقف الأهلي إذا خلا من المحاذير الشرعية كسائر المعاملات، فإن فيه الصحيح وفيه الباطل، والباطل لا يسري إلى الصحيح بالبطلان. قال الشيخ مصطفى الزرقا: هذه المحاذير يجب أن تعالج بطريق آخر من التدابير غير الطعن في أصل المشروعية الثابتة كما عالج الفقهاء في مختلف العصور سائر المشكلات التي ظهرت في عصورهم من بعض التصرفات؛ لأن الشرع قائم على جلب المصالح ودرء المفاسد (¬1). ¬
المسألة الثالثة: إطلاق التشريك يقتضي التسوية
المسألة الثالثة: إطلاق التشريك يقتضي التسوية: [م - 1574] إذا قال: وقفت على أولادي فإن هذا اللفظ يقتضي التسوية بينهم؛ لأنه شرَّك بين ولده، وإطلاق التشريك يقتضي التسوية، كما لو أقر لهم بشيء. المسألة الرابعة: في الولد يولد بعد الوقف: [م - 1575] إذا ولد له ولد بعد ذلك، فهل يدخل في الاستحقاق؟ فيه خلاف: القول الأول: يدخل الولد الحادث في الوقف كالموجود، وهذا مذهب الجمهور، وأحد القولين في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في الجوهرة النيرة: "إذا قال: جعلت أرضي هذه صدقة لله تعالى أبدًا على ولدي، فإذا انقرضوا فهي على المساكين، فإن غلتها تكون لولده من صلبه المذكور والإناث والخنثى ... وإنما يكون ذلك على الأولاد الموجودين يوم الوقف، ولكل ولد يحدث بعد ذلك قبل حدوث الغلة" (¬2). وفي الفتاوى الهندية: "إذا وقف أرضه على ولده، ومن بعده على المساكين، وقفًا صحيحًا، فإنما يدخل تحت الوقف الولد الموجود يوم وجود الغلة، سواء كان موجودًا يوم الوقف، أو وجد بعد ذلك، هذا قول هلال -رحمه الله تعالى ¬
وجه هذا القول
- وبه أخذ مشايخ بلخ رحمهم الله تعالى كذا في المحيط، وهو المختار كذا في الغياثية" (¬1). وجاء في نهاية المحتاج: "ويدخل الحمل الحادث علوقه بعد الوقف، فإذا انفصل استحق من غلة ما بعد انفصاله كما مر" (¬2). قال ابن رجب: ومنها لو وقف على ولده، وله أولاد موجودون، ثم حدث له ولد آخر، ففي دخوله روايتان، وظاهر كلام الإِمام أحمد دخوله في المولود قبل تأبير النخل، وقد سبق، وهو قول ابن أبي موسى، وظاهر كلام القاضي، وابن عقيل، وأفتى به ابن الزاغوني" (¬3). وجاء في كشاف القناع: "وإن حدث للواقف ولد بعد وقفه استحق الحادث كالموجودين حال الوقف تبعًا لهم ... خلافًا لما في التنقيح، وتبعه في المنتهى حيث قال دخل الموجودن فقط" (¬4). وجه هذا القول: أن الواقف لو قال: وقفت على قرابتي شمل القرابة الموجودة وقت الوقف، والقرابة الحادثة بعد الوقف، فكذلك إذا قال: وقفت على ولدي. القول الثاني: لا يدخل ولد حادث حملت به أمه بعد صدور الوقف إلا أن يشترطه الواقف ¬
والراجح
بأن يقول: وقفت كذا على ولدي، وهن يولد لي، وهو المشهور عند المتأخرين من الحنابلة. قال في شرح منتهى الإيرادات: "لا يدخل ولد حادث للواقف، بأن حملت به أمه بعد صدور الوقف منه، قدمه في الرعايتين، والحاوي الصغير، والنظم، وقطع به في التنقيح، وتبعه في المنتهى" (¬1). والراجح: القول الأول؛ لأنه حين قال: هذا وقف على ولدي وأطلق الاستحقاق بالوصف، ولم يعين، فهو شامل لكل من اتصف بهذا الوصف موجودًا وقت الوقف أو ولد بعد ذلك، إلا أن يقول: هذا وقف على ولدي زيد، وخالد وعمرو فهل يدخل غيرهم من الأولاد الموجودين والحادثين ممن لم يذكرهم؟ هذه مسألة خلافية سوف يأتي بحثها إن شاء الله تعالى. المسألة الخامسة: في دخول ولد الولد [م - 1576] إذا قال: هذا وقف على ولدي، فهل يدخل ولد الولد باعتبار أن ولد ولده يصدق عليه أنه ولده لغة ونسبًا، أو لا يدخلون؟ اختلف العلماء في ذلك: القول الأول: يدخل أولاد الأبناء دون أولاد البنات، وهذا مذهب المالكية، والحنابلة، وقول في مذهب الشافعية (¬2). ¬
الدليل على دخول ولد الولد دون ولد البنات
جاء في منح الجليل: "إذا قال المحبس: حبست على ولدي، أو على أولادي، ولم يزد عليه فيكون الحبس على أولاد بنيه الذكران والإناث، وعلى أولاد بنيه الذكران دون الإناث، ولا يدخل فيه أولاد البنات على مذهب الإِمام مالك رضي الله عنه؛ للإجماع على أن أولاد البنات لا ميراث لهم" (¬1). وقال ابن شاس المالكي: "إذا قال: وقفت على ولدي أو أولادي، فهو يتناول ولد الصلب، وولد المذكور منهم دون ولد الإناث، ويؤثر البطن الأعلى" (¬2). الدليل على دخول ولد الولد دون ولد البنات: الدليل الأول: قال تعالى: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11]. فدخل ولد البنين وإن سفلوا في الأولاد ولم يدخل أولاد البنات. الدليل الثاني: قال تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11]. ولفظ الولد في الآية يتناول ولد الابن دون ولد البنت. ¬
الدليل الثالث
قال ابن رشد في المقدمات: "أصل ذلك قول المحبس حبست على ولدي، ولم يزد أن ذلك مقصور على من يرثه من ولده المذكور والإناث، وولد ولده المذكور، وينتسب إليه منهم دون من لا يرثه منهم، ولا ينتسب إليه، كأبناء الزنى وأبناء البنات؛ وإن كان لفظ الولد يعمهم ويجمعهم في اللسان العربي" (¬1). الدليل الثالث: أن كل موضع ذكر فيه الولد دخل فيه ولد الابن، فالمطلق من كلام الآدمي إذا خلا من قرينة ينبغي أن يحمل على المطلق من كلام الله سبحانه وتعالى، ويفسر بما يفسر به. الدليل الرابع: أن ولد الابن يعتبر ولدًا له بالنسب دون ولد البنات فإنهم لا ينسبون إليه، بل ينسبون إلى أبيهم. فإن قيل: إذا كان يعتبر ولده شرعًا، فلماذا لا يستحق إلا بعد انقراض أولاد الواقف لصلبه مع أن اللفظ مجمل، وليس فيه ترتيب؟ فالجواب: أن كل من استحق بوصف فإنه يقدم من كان أقوى في هذا الوصف، ومعلوم أن الولادة بالنسبة للأولاد أقوى وصفًا في الأولاد من أولاد البنين، ولأن ولد الابن إنما يرث إذا عدم الابن، ولا يرث مع وجوده، فكذلك الشأن في الوقف. ¬
القول الثاني
القول الثاني: إذا قال: هذا وقف على ولدي لم يدخل ولد الولد، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، واختاره القاضي أبو يعلى وأصحابه من الحنابلة. جاء في الجوهرة النيرة: "وإذا قال وقفت هذه الأرض على أولادي لا يدخل فيه ولد الولد" (¬1). وقال إمام الحرمين: "إذا قال: وقفتُ على أولادي، فهل يدخل أولاد الأولاد في الاستحقاق؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنهم لا يدخلون. ومن أصحابنا من قال: يدخلون في الاستحقاق، واسم الأولاد يتناول الأدنَيْن والأحفاد، فإن فرعنا على أنهم يندرجون تحت اسم الأولاد، فالأصح أن أولاد البنات لا يدخلون. هذا ما اختاره صاحب التقريب، وتعليله: أن أولاد البنات ينسبون إلى آبائهم، وهم أزواج البنات؛ فإن الانتساب إلى الآباء دون الأمهات، وعلى هذا المعنى قال القائل: بنونا بنو أبنائنا وبناتُنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد" (¬2). وجاء في المهذب: "فإن قال: وقفت على أولادي دخل فيه الذكر والأنثى ... ولا يدخل فيه ولد الولد؛ لأن ولده حقيقة ولده من صلبه" (¬3). وقال ابن قدامة: "وقال القاضي وأصحابه: لا يدخل فيه ولد الولد بحال، ¬
القول الثالث
سواء في ذلك ولد البنين، وولد البنات؛ لأن الولد حقيقة إنما هو ولده لصلبه، وإنما يسمى ولد الولد ولدًا مجازًا، ولهذا يصح نفيه، فيقال: ما هذا ولدي، إنما هو ولد ولدي" (¬1). القول الثالث: يدخل أولاد الأولاد من بنين وبنات، وهو قول في مذهب المالكية، وقول في مذهب الشافعية (¬2). جاء في روضة الطالبين: "إذا وقف على الأولاد، ففي دخول أولاد الأولاد ثلاثة أوجه: أصحها: لا يدخلون، والثاني: يدخلون، والثالث: يدخل أولاد البنين دون أولاد البنات" (¬3). دليل من قال: يدخل أولاد البنات: الدليل الأول: قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء:23]. وجه الاستدلال: أنه لما نص على تحريم البنات دخل فيهن بنت البنت بالإجماع. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح -1001) ما رواه البخاري من طريق عن الحسن، عن أبي بكرة تأخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم الحسن، فصعد به على المنبر، فقال: "ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين (¬1). فسمى النبي الحسن ابنه، وهو ابن بنته رضي الله عنها. وقد قيل: إن هذا من خصائص أولاد علي رضي الله عنه. الدليل الثالث: ولأن عيسى عليه السلام من ولد آدم بإجماع المسلمين، وهو ابن بنته. ويمكن أن يقال: إن عيسى أمه بمنزلة أبيه وأمه؛ لأنه ليس له أب. ونوقشت هذه الأدلة: جاء في المقدمات "أن ولد بنته -وإن سميناه ولد ولده- لوقوع اسم الولد على الذكر والأنثى، والواحد والجمع -وقوعًا واحدا في اللسان العربي- كما ذكرت، فلا يرثه في الشرع، ولا ينتسب إليه، وإنما يرث رجلاً آخر، وإليه ينتسب؛ فهو بذلك الرجل أخص منه به؛ لأن ولد ابن الرجل هو ولد ولده من جهة ابنه، يختص به ويرثه وينتسب إليه، وولد ولد رجل آخر من جهة زوجة ابنه بالتسمية خاصة، دون الميراث والنسب؛ وولد ابنته هو ولد ولده من جهة ابنته بالتسمية خاصة دون الميراث والنسب، وولد رجل آخر من جهة زوج ابنته يختص به ويرثه وينتسب إليه؛ فإذا صح ذلك وثبت أن لفظ ولد الولد يقع على ¬
القول الرابع
من ينتسب إليه ويرثه من ولد ولده، وعلى من لا ينتسب إليه منهم ولا يرثه، وجب أن يخصص فيمن يرثه منهم وينتسب إليه، دون من لا يرثه ولا ينتسب إليه؛ لأنه المعنى الذي يراد له الولد ويرغب فيه من أجله. قال الله عَزَّ وَجَلَّ فيما قص علينا من نبإ زكريا عليه السلام: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5، 6] وذلك أن زكريا كان من آل يعقوب، وتحرر من هذا قياسًا، فنقول: إن هذا لفظ عام يقع على من يرث من المحبس، وينتسب إليه، وعلى من لا يرثه، ولا ينتسب إليه ... قوجب أن يقصر على من يرث منهم دون من لا يرث، أصل ذلك قول المحبس: حبست على ولدي، ولم يزد، أن ذلك مقصور على من يرثه من ولده المذكور والإناث، وولد ولده المذكور، وينتسب إليه منهم دون من لا يرثه منهم، ولا ينتسب إليه ... وإن كان لفظ الولد يعمهم ويجمعهم في اللسان العربي" (¬1). القول الرابع: يدخل أولاد الأولاد إذا كانوا موجودين حال الوقف، وإلا فلا. وهذا قول في مذهب الحنابلة. جاء في الإنصاف: "وعنه يدخلون إن كانوا موجودين حالة الوقف، وإلا فلا، قدمه في الرعايتين، والفائق وقال: نص عليه ... " (¬2). ¬
والراجح
والراجح: أن أولاد البنات لا يدخلون في لفظ الأولاد إلا بنص، أو قرينة، أو عرف. فالنص: أن يقول: هذا وقف على أولادي، وأولاد البنين وأولاد البنات. والقرينة كما لو قال: هذا وقف على أولادي، ثم أولادهم، وليس له إلا بنات، فإن أولاد البنات يدخلون، ومثله لو قال: هذا وقف على أولادي، ويفضل أولاد الأبناء دخلوا في ذلك؛ لأن تفضيل أولاد الأبناء دليل على أن الواقف أراد أولاد الأبناء والبنات، والله أعلم. المسألة السادسة: في صفة دخول أولاد الأبناء [م - 1577] إذا قلنا بمذهب المالكية والحنابلة: وهو شمول لفظ الولد كلًا من أولاده الذكور والإناث، وأولاد أبنائه فقط، فهل يدخل ولد الأبناء مع آبائهم بالتشريك، أو يدخلون بالترتيب، وإذا قلنا: بالترتيب، فهل هو ترتيب فرد على فرد، فيستحق كل ولد نصيب والده بعد فقده، أو هو ترتيب بطن على بطن، فلا يستحق أحد من ولد الولد شيئًا مع وجود فرد من الأولاد؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم: القول الأول: مذهب المالكية: في مذهب المالكية ثلاثة أقوال: أحدها: وهو المنصوص عن مالك، بأنه يفضل الأعلى، فإن كان فضل أعطي للأسفل (¬1). ¬
قال ابن رشد في البيان والتحصيل: "وسواء على قولهما قال: حُبُسٌ على ولدي ولم يزد، فدخل معهم الأبناء بالمعنى، أو قال: على ولدي وولد ولدي فدخلوا معهم بالنص" (¬1). وفي النوادر والزيادات: "قال ابن القاسم: قال مالك فيمن حبس على ولده، أو قال: على ولدي، وولد ولدي، فذلك سواء، ويبدأ بالآباء، فيؤثرون، فإن فضل فضل كان لولد الولد. قال عبد الملك: كان مالك يؤثر الأعليين، ويوسع على الآخرين، وكان المغيرة يسوي، وهو أحب إلي" (¬2). الثاني: التسوية بينهم، اختاره المغيرة كما تقدم، قال ابن رشد في أجوبته: وبه العمل. رجحه اللخمي، وقال: إنه أحسن. وقال ابن عبد السلام: إنه أقرب (¬3). الثالث: قال أشهب: إذا دخلوا أولاد الأولاد بالمعنى قدم الآباء عليهم، كما لو قال: هذا وقف على ولدي، فإنه يشمل الأولاد نصًا، ويشمل أولاد الأبناء معنى. وإن دخلوا بالنص كما لو قال: هذا وقف على ولدي وولد ولدي لم يكن الآباء أولى، بل كانوا بمنزلتهم (¬4). ¬
القول الثاني: مذهب الحنابلة
القول الثاني: مذهب الحنابلة: قال ابن رجب في القواعد: "ومنها: الوقف على الولد، فيدخل فيه ولد الولد نص عليه أحمد في رواية المروزي، ويوسف بن أبي موسى، ومحمد بن عبيد الله المنادي، وهو الذي جزم به الخلال وابن أبي موسى والقاضي فيما علقه بخطه على ظهر خلافه وغيرهم. وهل يدخلون مع آبائهم بالتشريك، أو لا يدخلون إلا بعدهم على الترتيب؟ على وجهين للأصحاب. وفي الترتيب: فهل هو ترتيب بطن على بطن فلا يستحق أحد من ولد الولد شيئاً مع وجود فرد من الأولاد، أو ترتيب فرد على فرد فيستحق كل ولد نصيب والده بعد فقده؟ على وجهين: والثاني هو منصوص أحمد" (¬1). المسألة السابعة: إذا وقف على أولاده، ولم يكن له ولد من صلبه [م - 1578] إذا قال: هذا وقف على ولدي ولم يكن للواقف ولد من صلبه، وكان له أحفاد حين الوقف، فهل يدخل أولاد البنات؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم: القول الأول: يحمل اللفظ على أولاد ابنه دون أولاد بناته، وهذا هو الأصح في مذهب الحنفية، وهو ظاهر الرواية، وبه أخذ هلال، وهو مذهب الشافعية (¬2). ¬
القول الثاني
جاء في المحيط البرهاني: "لو قال: على ولدي وليس له ولد لصلبه، وإنما له ولد الولد دخل فيه ولد الابن بلا خلاف" (¬1). وجاء في أسنى المطالب: " (ولو قال): وقفت (على أولادي، أو بني، أو بناتي لم يدخل) معهم (أولادهم)؛ لعدم صدق اللفظ عليهم حقيقة؛ إذ يقال فيهم: ليسوا أولاده، بل أولاد أولاده. فإن قلت: هلا قيل بدخولهم على قاعدة الشافعي في استعماله اللفظ في حقيقته ومجازه؟ قلنا: شرطه إرادة المتكلم له، وكلامنا هنا عند الإطلاق. (فإن لم يكن) للواقف (غيرهم حمل اللفظ عليهم)؛ لوجود القرينة، وصيانة لكلام المكلف عن الإلغاء" (¬2). وقال الزركشي في القواعد: "ولو قال: وقفت على أولادي لم يدخل فيه ولد الولد في الأصح، فلو لم يكن له إلا أولاد أولاد حمل عليهم صونًا للكلام عن الإهمال" (¬3). القول الثاني: يدخل ولد البنت مع ولد الابن، وهو قول محمَّد بن الحسن (¬4). ¬
المسألة الثامنة
المسألة الثامنة: [م - 1579] إذا قال: هذا وقف على ولدي، ولم يكن له أولاد، وكان له أحفاد، ثم ولد له ولد بعد ذلك، فهل يعود إليه الوقف وحده، أم يشترك فيه مع أحفاده؟ فقيل: يعود الصرف إليه وحده، وهو مذهب الحنفية، والأوجه في مذهب الشافعية (¬1). وجهه: أن الصرف إلى أولاد الأولاد إنما كان لتعذر الحقيقة، وقد وجدت. وقيل: يشتركان؛ لأنه لما وقف على ولده، ولم يكن له ولد من صلبه فقد أراد أولاد ابنه بالوقف، فدخل ولده من صلبه بالوصف، ودخل ولد ابنه بإرادته عند الوقف، وهذا قول في مذهب الشافعية، وهو الأقرب (¬2). المسألة التاسعة: [م - 1580] إذا قال: هذا وقف على ولدي فلان وفلان، وله غيرهم، هل يشترك من لم يذكر معهم؟ اختلف العلماء في ذلك: القول الأول: يختص الوقف بمن سماهم فقط دون غيرهم، وهذا مذهب الحنفية، ورجحه ابن قدامة من الحنابلة. ¬
القول الثاني
جاء في حاشية ابن عابدين: "لو كان أولاده أربعة وسمى منهم ثلاثة لم يدخل المسكوت عنه" (¬1). قال ابن قدامة: "فإن كان له ثلاثة بنين فقال: وقفت على ولدي فلان وفلان، وعلى ولد ولدي. كان الوقف على الابنين المسميين، وعلى أولادهما، وأولاد الثالث، وليس للثالث شيء" (¬2). القول الثاني: يشترك في الوقف من ذكر ومن لم يذكر، على اعتبار أن تسمية بعضهم من باب التوكيد. وهذا القول رواية عن الإِمام أحمد، واختارها القاضي أبو يعلى من الحنابلة (¬3). جاء في كتاب الوقوف للخلال: "أخبرني حرب، قال: سألت أحمد، قلت: رجل كان له ماله، وله ولد صغار، فخاف على ولده الضيعة، فأوقف ماله على ولده، وكتب كتابًا، وقال: هذا صدقة على ولده فلان، وفلان، وسماهم، ثم قال: وولد ولده، وله ولد غير هؤلاء؟ قال: هم شركاء" (¬4). أجاب ابن قدامة: بأن "قول أحمد: هم شركاء. يحتمل أن يعود إلى أولاد أولاده، أي يشترك ¬
أولاد الموقوف عليهما وأولاد غيرهم؛ لعموم لفظ الواقف فيهم، ويتعين حمل كلامه عليه، لقيام الدليل عليه" (¬1). وهذا هو ما فهمه ابن رجب في القواعد، قال: "ومنها: لو وقف على بعض أولاده، ثم على أولاد أولاده، فهل يختص البطن الثاني بأولاد المسمين أو لا، أو يشمل جميع ولد ولده؟ نص أحمد في رواية حرب على أنه يشمل جميع ولد الولد. ويتخرج وجه آخر بالاختصاص بولد من وقف عليهم اعتبارًا بآبائهم، فإن هذه عطية واحدة، فحمل بعضها على بعض أقرب من حمل الوصية على العطية في الحياة، وهذا النص هو قوله في رواية حرب في رجل له ولد صغار خاف عليهم الضيعة، فأوقف ماله على ولده، وكتب كتابًا وقال: هذا صدقة على ولده فلان وفلان سماهم، ثم قال: وولد ولده، وله ولد غير هؤلاء قال هم شركاء، فحمله الشيخان: صاحب المغني وصاحب المحرر على ما قلنا، وتبويب الخلال يدل عليه. وقد يقال: إنما عم البطن الثاني ولد الولد؛ لأن تخصيص البطن بالصغار كان لخوفه عليهم الضيعة، وهذا المعنى مفقود في البطن الثاني، فذلك أشرك فيه أولاد الأولاد كلهم. وحمله القاضي وابن عقيل على أن البطن الأول يشترك فيه ولد المسمون وغيرهم أخذًا من عموم قوله: صدقة على ولده، وتخصيص بعضهم بالذكر لا يقتضي التخصيص بالحكم لقوله تعالى: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} ¬
تعقبه ابن قدامة بقوله
[البقرة: 98]. وهذا فاسد؛ لأن الآيه فيها عطف نسق بالواو، وهاهنا: إما عطف بيان أو بدل، وأيهما كان فيقتضي التخصيص بالحكم؛ لأن عطف البيان موضح لمتبوعه، ومطابق له، وإلا لم يكن بيانًا، والبدل: هو الواسطة المقصود بالحكم فيعين التخصيص به، ولهذا لو قال: من له أربع زوجات: زوجتي فلانة طالق، لم تطلق الثلاث البواقي ... " (¬1). وجاء في المغني: "واحتج القاضي: بأن قوله: ولدي يستغرق الجنس، فيعم الجميع، وقوله: فلان وفلان. تأكيد لبعضهم، فلا يوجب إخراج بقيتهم، كالعطف في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98]. تعقبه ابن قدامة بقوله: " ولنا أنه أبدل بعض الولد من اللفظ المتناول للجميع، فاختص بالبعض المبدل، كما لو قال: على ولدي فلان. وذلك لأن بدل البعض يوجب اختصاص الحكم به، كقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. لما خص المستطيع بالذكر، اختص الوجوب به. ولو قال: ضربت زيدًا رأسه. ورأيت زيدًا وجهه. اختص الضرب بالرأس، والرؤية بالوجه. ومنه قول الله تعالى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} [الأنفال:37]. وقول القائل: طرحت الثياب بعضها فوق بعض. فإن الفوقية تختص بالبعض مع عموم اللفظ ¬
القول الثالث
الأول كذا ها هنا. وفارق العطف، فإن عطف الخاص على العام يقتضي تأكيده، لا تخصيصه" (¬1). القول الثالث: التفريق بين الوصية والوقف، فيختص الوقف بمن سماهم فقط دون غيرهم، بخلاف الوصية، واختاره بعض المالكية (¬2). وجه التفريق: أن المقصود بالوصية القيام بهم، فهي مظنة التعميم، فالتسمية ليست للتخصيص، بخلاف الوقف فالمقصود منه صرف المنافع، ويجوز قصرها على بعض دون بعض، فصح أن يقال: إن في التسمية أثرًا (¬3). الراجح: أن الواقف إذا وقف على ولده فلان وفلان وسماهم أن الوقف يختص بهم، وقولنا: يختص الوقف بهم هذا من ناحية دلالة اللفظ، أما جوازه وصحته فهذا باب آخر، سبق أن بحثنا أن تخصيص الوقف ببعض الأولاد لا يجوز، كتخصيص الوقف بالذكور دون الإناث، أو تخصيص الوقف ببعض الأولاد دون بعض، فهذا خلاف العدل الواجب، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني إذا قال الواقف: على أولادي وأولادهم
المبحث الثاني إذا قال الواقف: على أولادي وأولادهم [م - 1581] إذا قال الرجل: هذا وقف على أولادي وأولاد أولادي، أو قال: على أولادي وأولادهم، دخل أولاد الأبناء بلا خلاف. قال ابن قدامة: "إذا وقف على قوم وأولادهم ... دخل في الوقف ولد البنين بغير خلاف نعلمه" (¬1). وهل يدخل أولاد البنات في هذا اللفظ؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم: الأول: مذهب الحنفية. للحنفيه ثلاثة أقوال في هذه المسألة: أحدها: يدخل أولاد البنات، وهذا ما اختاره المحققون من الحنفية كهلال الرأي، والخصاف، وابن الهمام، بل أنكر الخصاف رواية حرمان أولاد البنات، وقال: لم أجد من يقوم برواية ذلك عنهم أي عن أصحابنا (¬2). قال ابن الهمام: "ولو ضم إلى الولد ولد الولد، فقال: على ولدي، وولد ولدي، ثم للمساكين اشترك فيه الصلبيون، وأولاد بنيه، وأولاد بناته، كذا اختاره هلال، والخصاف، وصححه في فتاوى قاضي خان. ¬
الثاني: مذهب المالكية
وأنكر الخصاف رواية حرمان أولاد البنات وقال: لم أجد من يقوم برواية ذلك عن أصحابنا" (¬1). قال ابن عابدين: "وإذا كان مثل الإِمام الخصاف لم يجد من يقول برواية حرمان أولاد البنات في صورة ولدي وولد ولدي يعلم أن الصورة التي بلفظ الجمع ليس فيها اختلاف رواية قطعاً بل دخول أولاد البنات فيها رواية واحدة" (¬2). الثاني: لا يدخل أولاد البنات، قال ابن عابدين: "اعلم أنهم ذكروا أن ظاهر الرواية المفتى به عدم دخول أولاد البنات في الأولاد مطلقا: أي سواء قال: على أولادي بلفظ الجمع، أو بلفظ اسم الجنس كولدي، وسواء اقتصر على البطن الأول كما مثلنا، أو ذكر البطن الثاني مضافًا إلى البطن الأول المضاف إلى ضمير الواقف كأولادي وأولاد أولادي، أو العائد على الأولاد كأولادي وأولادهم على ما في أكثر الكتب" (¬3). الثالث: إن قال: هذا وقف على ولدي وولد ولدي لا يدخل ولد البنت، ولو قال: على أولادي وأولادهم بلفظ الجمع المضاف إلى ضمير الأولاد يدخل ولد البنت. وهذا قول علي الرازي، قال ابن عابدين: والصحيح قول هلال (¬4). الثاني: مذهب المالكية: ذهب المالكية إلى أن الواقف إذا قال: هذا وقف على أولادي المذكور ¬
والإناث، وأولادهم دخل في ذلك أولاد البنات، وهذه الصيغة لا خلاف فيها عند المالكية (¬1). وإذا قال: هذا وقف على أولادي وأولادهم بإضافة الضمير إليهم، ففيه قولان، والمشهور دخول أولاد البنات أيضًا (¬2). وإذا قال: هذا وقف على ولدي وولد ولدي، أو قال: هذا وقف على أولادي وأولاد أولادي بإضافة الضمير إلى نفسه، فهذه الصيغة فيها خلاف أيضًا بين المالكية على قولين: الأول: لا يدخل فيها، ولد البنت، وهذا القول رواية ابن وهب عن الإِمام مالك (¬3). جاء في تهذيب المدونة: "وإن قال: على ولدي وولد ولدي ... قال مالك: لا شيء لولد البنات؛ للإجماع أنهم لم يدخلوا في قول الله عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11] " (¬4). ¬
وقال ابن عبد البر: "وإذا حبس الرجل على ولده، وولد ولده ... فلاحق لولد البنات في حبسه ذلك إلا أن يسميهم، ويدخلهم فيه وإنما ذلك لولده، وولد ولده المذكور ما تناسلوا، هذا مذهب جمهور أهل المدينة" (¬1). وقال في الشرح الصغير: "لا يدخل الحافد على الراجح" (¬2). والحافد والحفيد، هو عند المالكية: ولد البنت (¬3). وفي النوادر والزيادات: "قال مالك: وإذا حبس على ولده، وولد ولده، لم يدخل فيه ولد البنت؛ لأنهم من قوم آخرين، وكذلك في الصدقات والأحباس، ولأنهم لم يدخلوا في آية المواريث. قال عبد الملك وابن كنانة: فكذلك لا يدخلون في صدقة جدهم أبي أمهم بهذا الاسم" (¬4). القول الثاني: ذهب جماعة من شيوخ المالكية إلى أن أولاد البنات يدخلون (¬5). جاء في مقدمات ابن رشد: "إذا قال المحبس: حبست على ولدي، وولد ولدي، أو على أولادي، وأولاد أولادي. فذهب جماعة من الشيوخ إلى أن ولد البنات يدخلون في ذلك، وهو ظاهر اللفظ؛ لأن الولد يقع على الذكر والأنثى؛ ¬
الثالث: مذهب الشافعية
فإذا قال على ولدي وولد ولدي، فهو بمنزلة قوله على أولادي -ذكرانهم وإناثهم، وعلى أعقابهم" (¬1). أما الجواب عن قول مالك: ولا شيء لولد البنت، فقد جاء في منح الجليل: قال أبو الحسن ما نصه: قوله ولا شيء لولد البنات إنما يرجع لقوله: ومن قال: حبس على ولدي، ولا يرجع لقوله: على ولدي وولد ولدي. الشيخ؛ لأنه إذا قال على ولدي وولد ولدي، فإن ولد البنات يدخلون، وكذلك كلما زاد درجة يدخلون إلى حيث انتهى المحبس اهـ" (¬2). الثالث: مذهب الشافعية: ذهب الشافعية إلى أن الواقف إذا وقف على أولاده وأولاد أولاده دخل فيهم أولاد البنات (¬3). قال النووي: إذا "وقف على أولاده، وأولاد أولاده دخل فيهم أولاد البنين والبنات" (¬4). الرابع: مذهب الحنابلة: في مذهب الحنابلة أكثر من رواية: ¬
الرواية الأولى
الرواية الأولى: ذهب الحنابلة في المشهور أن أولاد البنات لا يدخلون. جاء في كتاب الوقوف: "أخبرنا محمَّد بن علي، حدثنا صالح، أنه سأل أباه عن رجل وقف وقفًا على ولده، وولد ولده لصلبه، هل يدخل فيهم ولد الابنة؟ قال: لا يدخل" (¬1). وروى الخلال مثله عن حنبل (¬2). قال في الإنصاف: وهو المذهب، وعليه جماهير الأصحاب (¬3). الرواية الثانية: يدخل أولاد البنات، قياسًا على قول الإِمام أحمد في الوصية، وإليه ذهب بعض الحنابلة، بل ذكر في الإنصاف أنها رواية حرب (¬4). جاء في القواعد الفقهية لابن رجب: "وحيث قيل بدخول ولد الولد في الوقف والوصية، فإنما هو في ولد البنين، فاما ولد البنات ففيه وجهان للأصحاب: اختار الخرقي والقاضي أنهم لا يدخلون، واختار أبو بكر وابن حامد دخولهم. ونص أحمد في رواية المروذي على أنهم لا يدخلون في الوقف على الولد، ¬
دليل من قال: لا يدخل أولاد البنات
فمن الأصحاب من قال: لا يدخلون في مطلق الولد إذا وقع الاقتصار عليه، ويدخلون في مسمى ولد الولد؛ لأنهم من ولد الولد حقيقة ليسوا بولد حقيقة، وهذه طريقة ابن أبي موسى والشيرازي ومال إليها صاحب المغني" (¬1). هذه هي الأقوال في كل مذهب، وهي تتلخص في ثلاثة أقوال: الأول: لا يدخل أولاد البنات. الثاني: يدخلون. الثالث: الفرق بين قوله: هذا وقف على ولدي، وولد ولدي، وبين قوله: هذا وقف على ولدي، وأولادهم، فيدخل أولاد البنات في الثانية دون الأولى. دليل من قال: لا يدخل أولاد البنات: كل الأدلة التي ذكرناها في الاحتجاج بعدم دخول أولاد البنت في لفظ (الولد) احتج بها في هذه المسألة، ومنه قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11]. فدخل في لفظ الولد الأبناء، وأبناء الأبناء دون أولاد البنات، فثبت أن أولاد البنات ليسوا من أولاده، ولا ينسبون إليه. ونوقش هذا: هذا الدليل يصح لو قال: الواقف هذا وقف على أولادي فقط، أما إذا قال: وأولادهم فليست الآية نصًا في ذلك. ¬
دليل من قال: يدخل أولاد البنات
دليل من قال: يدخل أولاد البنات: أن الواقف حين قال: هذا وقف على أولادي: دخل فيه بناته من صلبه بلا خلاف، فلما قال: وأولاد أولادي: كان أولاد البنات من أولاد أولاده. دليل من فرق بين قوله: وولد ولدي، وبين قوله: وأولادهم: كأنه هذا القول نظر إلى الإضافة، فإذا أضافهم إلى الواقف بأن قال: هذا وقف على ولدي وولد ولدي، فأولاد البنات لا ينسبون إليه، بخلاف ما إذا قال: هذا وقف على ولدي وأولادهم فهنا أضاف الأولاد إلى أولاده فدخلوا. والراجح: الذي أميل إليه أنه إن كان هناك عرف أو قرائن عمل. بها". وإن لم يكن هناك عرف ولا قرائن فأرى إن القول بدخول أولاد البنات أقوى، الله أعلم.
المبحث الثالث في الوقف بلفظ البنين
المبحث الثالث في الوقف بلفظ البنين [م - 1582] إذا قال الرجل: هذه صدقة موقوفة على بني، فهل يدخل البنات؟ في ذلك خلاف بين العلماء: القول الأول: يدخل البنات مع البنين. وهذا مذهب الحنفية وأحد القولين في مذهب المالكية (¬1). جاء في المقدمات: "وأما لفظ البنين في قوله: حبست على بني، أو على بني وبني بني، أو على بني وبنيهم؛ فالحكم في ذلك كالحكم في لفظ الولد والعقب على القول بأن لفظ جمع المذكر يدخل فيه المؤنث. وعلى القول بأنهن لا يدخلن فيه ينفرد الذكران من بنيه وبني بنيه بالحبس دون الإناث" (¬2). وجهه: أن البنات إذا جمعن مع البنين ذكروا تغليبًا، كما يجمع الأبوان، والمقصود الأب والأم. القول الثاني: يختص بالذكور فقط، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة وأحد القولين في ¬
مذهب المالكية (¬1). "والذي عليه جماعة أصحابنا أن ولد البنت لا يدخلون في البنين" (¬2). جاء في الحاوي: "ولو قال: وقفت هذه الدار على بني لم يشركهم بناته، ولا الخناثى" (¬3). وقال ابن قدامة: "وإن وقف على بنيه لم يدخل فيه بنت ولا خنثى" (¬4). وعند الحنفية والحنابلة، وأصح الوجهين عند الشافعية أنه لو وقف على بني فلان، وكانوا قبيلة كبني تميم أن النساء يدخلن دون أولادهن من غيرهم (¬5). جاء في الفتاوى الهندية: "فإن كان بنو فلان قبيلة لا يحصون يكون ذلك على المذكور والإناث جميعًا في الروايات كلها كذا في فتاوى قاضي خان" (¬6). وجاء في روضة الطالبين: "وقف على بني تميم، وصححنا مثل هذا الوقف، ففي دخول نسائهم وجهان: أحدهما: المنع، كالوقف على بني زيد. ¬
وأصحهما: الدخول لأنه يعبر به عن القبيلة" (¬1). وجاء في الإنصاف: " (وإن وقف على بنيه، أو بني فلان. فهو للذكور خاصة إلا أن يكونوا قبيلة. فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم). إذا لم يكونوا قبيلة، وقال ذلك: اختص به المذكور بلا نزاع. وإن كانوا قبيلة فجزم المصنف بعدم دخول أولاد النساء من غيرهم، وهو أحد الوجهين، وجزم به في المغني، والشرح، والوجيز. وقيل: بدخولهم، قدمه في الرعايتين، والحاوي الصغير، والفائق" (¬2). ¬
فرع في استحقاق أولاد الأولاد مع وجود الأولاد
فرع في استحقاق أولاد الأولاد مع وجود الأولاد [م - 1583] إذا قال: هذا وقف على ولدي وأولادهم، هل يستحق أولاد الأولاد شيئًا مع وجود آبائهم؟ اختلف العلماء في ذلك: القول الأول: مذهب الحنفية. يفرق الحنفية بين صيغتين: الصيغة الأولى: أن يذكر الولد بلفظ المفرد، فيقول: هذا وقف على ولدي، وولد ولدي. فإن اقتصر على طبقتين (ولدي وولد ولدي) فهذا الوقف يقتصر عليهما، ولا ينتقل إلى البطن الثالث، ويشتركون بينهم بالسوية، ولا يقدم الصلبي على ولد الابن. وإن قال: (هذا وقف على لدي، وولد ولدي، وولد ولد ولدي بحيث يذكر البطن الثالث، فإن هذه الصيغة تعم جميع نسله، فتصرف الغلة إلى أولاده ما تناسلوا، ولا يصرف للفقراء ما بقي واحد من أولاده وإن سفل، ويشترك جميع البطون في الغلة لعدم ما يدل على الترتيب. "وعلله الخصاف بأنه لما سمى ثلاثة أبطن صاروا بمنزلة الفخذ وتكون الغلة لهم ما تناسلوا قال: ألا ترى أنه لو قال على ولد زيد، وزيد قد مات، وبيننا وبينه ثلاثة أبطن أو أكثر، أن هؤلاء بمنزلة الفخذ" (¬1). ¬
الصيغة الثانية
الصيغة الثانية: أن يذكر الأولاد بلفظ الجمع، بأن يقول: هذا وقف على أولادي، وأولاد أولادي، فإن هذه الصيغة تعم جميع نسله، ولا يصرف إلى الفقراء ما دام واحد منهم باقيًا، وإن سفل؛ لأن اسم الأولاد يتناول الكل بخلاف اسم الولد فإنه يشترط فيه ذكر ثلاثة بطون حتى تكون الصيغة تعم جميع النسل، فتقسم بينهم بالسوية على عدد رؤوسهم (¬1). جاء في الاختيار لتعليل المختار: "وإذا وقف على ولده، وولد ولده، يدخل فيه ولد صلبه، وولد ولده الموجودين يوم الوقف وبعده، ويشترك البطنان في الغلة، ولا يدخل من كان أسفل من هذين البطنين؛ لأنه خصهما بالذكر ... ولو قال: على ولدي، وولد ولدي، وأولادهم، تدخل البطون كلها وإن سفلوا، الأقرب والأبعد فيه سواء؛ لأنه ذكر أولادهم على العموم. ولو قال: على أولادي يدخل فيه البطون كلها لعموم اسم الأولاد، ولكن يقدم البطن الأول فإذا انقرض فالثاني، ثم من بعدهم، يشترك جميع البطون فيه على السواء، قريبهم وبعيدهم؛ لأن المراد صلة أولاده وبرهم، والإنسان يقصد صلة ولده لصلبه؛ لأن خدمته إياه أكثر، وهم إليه أقرب، فكان عليه استحقاقه أرجح، ثم النافلة (¬2) قد يخدمون الجد، فكان قصد صلتهم أكثر، ومن عدا هذين قل ما يدرك الرجل خدمتهم، فيكون قصده برهم وصلتهم؛ ¬
القول الثاني: مذهب المالكية
لنسبتهم إليه، لا لخدمتهم له، وهم في النسبة إليه سواء فاستووا في غلة الاستحقاق" (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية: في مذهب المالكية ثلاثة أقوال: الأول: وهو المنصوص عن مالك، بأنه يفضل الأعلى، فإن كان فضل أعطي للأسفل (¬2). قال ابن رشد في البيان والتحصيل: "وسواء على قولهما قال: حُبُسٌ على ولدي ولم يزد، فدخل معهم الأبناء بالمعنى، أو قال: على ولدي وولد ولدي فدخلوا معهم بالنص" (¬3). وجاء في التهذيب في مختصر المدونة: "وإن قال: على ولدي وولد ولدي، دخلوا أيضًا ويبدأ بالولد، فإن كان فضل كان لهم وكان المغيرة وغيره يساوي بينهم" (¬4). وفي النوادر والزيادات: "قال ابن القاسم: قال مالك فيمن حبس على ولده، أو قال: على ولدي، وولد ولدي، فذلك سواء، ويبدأ بالآباء، فيؤثرون، فإن فضل فضل كان لولد الولد. ¬
القول الثالث
قال عبد الملك: كان مالك يؤثر الأعليين، ويوسع على الآخرين، وكان المغيرة يسوي بينهم، وهو أحب إلي" (¬1). الثاني: التسوية بينهم، اختاره المغيرة كما تقدم، قال ابن رشد في أجوبته: وبه العمل. ورجحه اللخمي، وقال: إنه أحسن. وقال ابن عبد السلام: إنه أقرب (¬2). الثالث: قال أشهب: إذا دخل أولاد الأولاد بالمعنى قدم الآباء عليهم، كما لو قال: هذا وقف على ولدي، فإنه يشمل الأولاد نصًا، ويشمل أولاد الأبناء معنى. وإن دخلوا بالنص كما لو قال: هذا وقف على ولدي وولد ولدي لم يكن الآباء أولى، بل كانوا بمنزلتهم (¬3). القول الثالث: ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الواقف إذا قال: هذا وقف على أولادي وأولادهم فإن ذلك يقتضي الاشتراك والتسوية بينهم بلا ترتيب (¬4). جاء في الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: "قوله وقفت على أولادي ¬
الراجح
وأولادهم فإن ذلك يقتضي التسوية في أصل الإعطاء والمقدار بين الكل، وهو جميع أفراد الأولاد وأولادهم، ذكورهم وإناثهم؛ لأن الواو لمطلق الجمع لا للترتيب، كما هو الصحيح عند الأصوليين، ونقل عن إجماع النحاة" (¬1). وجاء في مطالب أولي النهى: " (و) إن أتى الواقف (بالواو) بأن قال: على أولادي، وأولادهم ... كان الواو (للاشتراك)؛ لأنها لمطلق الجمع، فيشتركون فيه بلا تفضيل (فيستحق الأولاد مع آبائهم) لما تقدم من أنها لا تقتضي الترتيب بلا قرينة" (¬2). قال إمام الحرمين: " (فالواو) جامعة، وكلمة (ثم) مرتبة، فإذا قال: (وقفت على فلان وفلان)، اقتضى ذلك اشتراكهما، ولو قال: على فلان، ثم فلان اقتضى ترتيبًا" (¬3). الراجح: الذي أميل إليه هو ما ذهب إليه أئمة الشافعية والحنابلة، وأن الواو تعني التشريك، ولا يلزم من التشريك التسوية بل يعطى تبعًا للمصلحة (¬4)، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في قول الواقف: على أولادي ثم أولادهم
المبحث الرابع في قول الواقف: على أولادي ثم أولادهم [م - 1584] إذا قال الواقف هذا وقف على أولادي ثم أولادهم، فإنه من المعلوم أن (ثم) للترتيب، فيقدم الأولاد على أبناء الأولاد في الاستحقاق، والبحث، هل هذا اللفظ يقتضي ترتيب جملة، بحيث تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى فلا يستحق أحد من ولد الولد شيئًا مع وجود أعمامهم، أو ترتيب أفراد، فلا يحجب كل أصل إلا فرعه فقط، فينتقل نصيب من مات من الأولاد إلى أولاده، ويشارك أعمامه؟ في ذلك خلاف بين العلماء: القول الأول: أنه ترتيب جملة، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، واختاره ابن الحاج من المالكية (¬1). جاء في روضة الطالبين: "ولو قال: على أولادى، ثم على أولاد أولادي، ثم على أولاد أولاد أولادي ما تناسلوا، أو بطنًا بعد بطن، فهو للترتيب، ولا ¬
القول الثاني
يصرف إلى البطن الثاني شيء ما بقي من الأول واحد، ولا إلى الثالث ما بقي من الثاني أحد، كذا أطلقه الجمهور" (¬1). وقال ابن قدامة: "وإن رتب فقال: وقفت هذا على ولدي، وولد ولدي، ما ثناسلوا وتعاقبوا، الأعلى فالأعلى، أو الأقرب فالأقرب ... أو على أولادي، ثم على أولاد أولادي ... فكل هذا على الترتيب، فيكون على ما شرط، ولا يستحق البطن الثاني شيئًا حتى ينقرض البطن كله. ولو بقي واحد من البطن الأول، كان الجميع له؛ لأن الوقف ثبت بقوله، فيتبع فيه مقتضى كلامه" (¬2). وفي الإقناع في فقه الإِمام أحمد: "أو على أولادي، ثم على أولاد أولادي ... فترتيب جملة على مثلها، لا يستحق البطن الثاني شيئاً قبل انقراض الأول" (¬3). القول الثاني: أنه ترتيب أفراد، وهذا مذهب المالكية (¬4)، واختيار ابن تيمية (¬5). قال الدردير المالكي: "قول الواقف تحجب الطبقة العليا منهم أبدًا الطبقة السفلى معناها: أن كل أصل يحجب فرعه فقط دون فرع غيره، وكذا في ترتيب ¬
القول الثالث
الواقف الطبقات كعلى أولادي، ثم أولاد أولادي إلا أن يجري عرف بخلافه فيعمل به؛ لأن ألفاظ الواقف مبناها على العرف ذكره الأجهوري" (¬1). قال شيخنا ابن عثيمين في المنتقى من فرائد الفوائد: "إذا قال: على أولادي ثم أولادهم، استحق أولاد الأبناء مرتبًا بعد آبائهم ترتيب بطن على بطن، فلا يستحق أحد من البطن الثاني مع وجود واحد من البطن الأول؛ هذا هو المشهور من المذاهب. واختار الشيخ تقي الدين، أنه ترتيب فرد على فرد؛ فيستحق كل ابن نصيب أبيه بعد موته" (¬2). القول الثالث: ذهب الحنفية إلى التفصيل: فإن قال: هذا وقف على ولدي فلان، وفلان، وفلان سماهم، ثم لأولادهم فإن من مات منهم انتقل نصيبه إلى ولده .. وإن لم يسمهم، بأن قال: هذا وقف على أولادي، ثم أولادهم، فإن من مات لم ينتقل نصيبه إلى ولده؛ لأن الوقف كان على الكل في الطبقة الأولى، فلا تستحق الطبقة الثانية وفي الطبقة الأولى أحد (¬3). ¬
جاء في فتح القدير: "ولو قال: أولادي: وهم فلان، وفلان، وفلان، وبعدهم للفقراء فمات أحد الثلاثة أعطي نصيبه للفقراء لا للباقين من إخوته، بخلاف ما لو لم يقل: فلان، وفلان، وفلان بل أولادي، ثم الفقراء، يصرف الكل للواحد إذا مات من سواه" (¬1). وجاء في الدر المختار: "ولو قال: على أولادي، ولكن سماهم، فمات أحدهم، صرف نصيبه للفقراء" (¬2). قال ابن عابدين في حاشيته تعليقًا: " (قوله صرف نصيبه للفقراء)؛ لأنه وقف على كل واحد منهم، بخلاف ما إذا وقف على أولاده، ثم للفقراء: أي ولم يسم الأولاد، فمات بعضهم، فإنه يصرف إلى الباقي؛ لأنه وقف على الكل، لا على كل واحد أفاده في الدرر" (¬3). وجاء في درر الحكام شرح غرر الأحكام: " (وقف ضيعة على أولاده، ثم الفقراء فمات بعضهم صرفت الغلة إلى الباقي)؛ لأنه وقف على أولاده، ثم الفقراء، فما بقي منهم واحد، وإن سفل لا تصرف إلى الفقراء، (ولو) (وقفها على أولاده وسماهم) فقال: على فلان، وفلان، وفلان (وجعل آخره للفقراء، فمات أحدهم) (صرف نصيبه إلى الفقراء)؛ لأنه وقف على كل واحد منهم، وجعل آخره للفقراء، فإذا مات واحد منهم كان نصيبه للفقراء بخلاف المسألة الأولى فإن الوقف هناك على الكل لا كل واحد" (¬4). ¬
وفي تنقيح الفتاوى الحامدية: " (سئل) في رجل وقف وقفه على نفسه، ثم من بعده على أولاده الستة: وهم حسين، وإبراهيم، ومصطفى، وإسماعيل، وفاطمة، وعائشة، ثم من بعدهم على أنسالهم، وأعقابهم، وذريتهم، وبعد الانقراض، فعلى الحرمين الشريفين مكة والمدينة المنورتين، وإن تعذر فعلى فقراء المسلمين المقيمين بدمشق، ثم مات الواقف، ثم مات إسماعيل عن أولاد، ثم ماتت عائشة عن ولد، ثم مات حسين عن بنت، والكل فقراء، فهل يصرف نصيب المتوفين إليهم جميعاً؟ (الجواب): نعم حيث كانوا فقراء وإذا انقرض جميع أولاد الواقف ينتقل نصيبهم إلى أولادهم. (أقول) هذه من مسائل منقطع الوسط فيصرف نصيب من مات إلى الفقراء، ما دام منهم واحد ولا يصرف نصيبه إلى الباقي منهم. وفي الخانية: رجل وقف أرضه على أولاده وجعل آخره للفقراء فمات بعضهم؟ قال هلال: يصرف الوقف إلى الباقي، فإن ماتوا يصرف إلى الفقراء، لا إلى ولد الولد، ولو وقف على أولاده وسماهم، فقال: على فلان وفلان وفلان وجعل آخره للفقراء، فمات واحد منهم، فإنه يصرف نصيبه إلى الفقراء بخلاف المسألة الأولى؛ لأنه في الأولى وقف على أولاده، وبعد موت أحدهم بقي أولاده، وهاهنا وقف على كل واحد وجعل آخره للفقراء فإذا مات واحد منهم كان نصيبه للفقراء" (¬1). وهذا النص كالذي قبله، وإنما أضفته لأن فيه فائدة أن الترتيب بين أولاده والفقراء كالترتيب بين أولاده وأولاد أولاده، ثم للفقراء. والله أعلم. ¬
الراجح
الراجح: أن العمل بتفسير ألفاظ الواقف يتبع العرف، فإن كان هناك عرف وجب العمل به؛ لأن ألفاظ الناس على أعرافهم، وإن لم يك عرف فالقول بأنه ترتيب أفراد أقرب إلى العدل، وإلى مقصود الواقف، والله أعلم.
المبحث الخامس في الوقف على الذرية والنسل والعقب
المبحث الخامس في الوقف على الذرية والنسل والعقب الفرع الأول في الوقف على الذرية ألفاظ العقود على عادات الناس. المقصود من الألفاظ دلالتها على مراد الناطقين بها. [م - 1585] اختلف العلماء في الرجل يقف على ذريته، من يدخل في هذا اللفظ؟ القول الأول: يدخل في ذلك أولاد البنين وأولاد البنات، وهذا مذهب الحنفية، والأصح في مذهب المالكية، وهو مذهب الشافعية، ورواية عن أحمد (¬1). قال ابن عابدين: " (قوله: لو وقف الوقف على الذرية) أي لو قال: على ذرية زيد، أو قال: على نسله أبدًا ما تناسلوا، يدخل فيه: ولده، وولد ولده، وولد ¬
البنين وولد البنات في ذلك سواء خصاف. (قوله من غير ترتيب إلخ) أي إن لم يرتب بين البطون تقسم الغلة يوم تجيء على عددهم من الرجال والنساء والصبيان من ولده لصلبه والأسفل درجة بالسوية بلا تفضيل، ثم كلما مات أحد منهم سقط سهمه، وتنقض القسمة وتقسم بين من يكون موجودًا يوم تأتي الغلة، أما لو رتب، بأن قال: يقدم البطن الأعلى على الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم بطنًا بعد بطن اعتبر شرطه، وتمامه في الخصاف" (¬1). وقال في الجوهرة النيرة على مختصر القدوري: "وإن وقف على نسله، أو عقبه، أو ذريته دخل فيه أولاد البنين وأولاد البنات، قربوا أو بعدوا؛ لأن الجميع من نسله وذريته" (¬2). وقال ابن جزي المالكي: "وأما لفظ الذرية والنسل فيدخل فيهما أولاد البنات على الأصح" (¬3). وصححه ابن رشد كما في المقدمات وغيره (¬4). وجاء في التاج والإكليل: "قال ابن رشد: صحيح في أن ولد بنت الرجل من ذريته، وكذا نقول في نسله وعقبه" (¬5). وحكى ابن العطار المالكي الاتفاق على دخول أولاد البنات في لفظ (الذرية) ¬
القول الثاني
إلا أن ابن رشد حكى الخلاف فيه عن شيوخ المالكية، وهو ينقض حكاية الاتفاق (¬1). وقال الماوردي الشافعي: "لو قال: وقفت هذه الدار على نسلي، أو قال: على عقبي، أو على ذريتي، دخل فيهم أولاد البنين وأولاد البنات وإن بعدوا؛ لأنهم من نسله وعقبه وذريته" (¬2). وقال العمراني في البيان: "ولهذا قال الله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} الآية [الأنعام: 84] فنسب الجميع إلى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - على البعد منه، ونسب عيسى إليه، وهو من أولاد البنات" (¬3). القول الثاني: لا يدخل أولاد البنات، وهو قول في مذهب المالكية، وعليه أكثر الحنابلة (¬4). جاء في مقدمات ابن رشد: "اختلف الشيوخ في الذرية والنسل: فقيل: إنهما بمنزلة الولد والعقب، لا يدخل ولد البنات فيهما على مذهب مالك. وقيل: إنهم يدخلون فيهما. ¬
الراجح
وفرق ابن العطار رضي الله عنه بين الذرية والنسل، فقال: إن النسل بمنزلة الولد والعقب لا يدخل فيه ولد البنات -إلا أن يقول المحبس نسلي، ونسل نسلي على ما ذهب إليه في لفظ التعقيب؛ وقد بينا أن ذلك لا يصح على مذهب مالك، وأن الذرية يدخل فيها ولد البنات" (¬1). وقال في الفروع: "ولو وقف على ولد ولده، أو نسله، أو ذريته، أو عقبه، ولا قرينة لم يشمل ولد بناته، اختاره الأكثر كمن ينتسب إلي" (¬2). وقال شيخنا ابن عثيمين: وإذا قال: على ذريته، وذرية فعيلة بمعنى مفعولة: أي من ذرأهم الله منه، والذين ذرأهم الله منه: هم أولاد الصلب، فإذا قال: هذا وقف على ذريتي: دخل الأولاد من بنين وبنات، ودخل بعد ذلك أولاد البنين دون أولاد البنات؛ لأنهم ليسوا من ذريته (¬3). الراجح: بعد استعراض الخلاف أجد أن أكثر أهل اللغة على دخول أولاد البنات في الذرية: جاء في اللسان: "الذرية: اسم يجمع نسل الإنسان من ذكر وأنثى" (¬4). والله أعلم. وجاء في شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم: "ذُرِّيّةُ الرجل: ¬
أولاده، وأولاد أولاده من المذكور والإِناث قال الله تعالى: {وَجَعَلْنًا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] (¬1). وقال ابن الأثير: "الذرية اسم يجمع نسل الإنسان من ذكر وأنثى" (¬2). وجاء في الصحاح: "ذرية الرجل: ولده. والجمع الذَرارِيُّ والذُزِّيَّاتُ" (¬3). وجاء في تاج العروس: "الذرية مثلثة ... لنسل الثقلين من الجن والإنس، وقد تطلق على الآباء والأصول أيضاً، قال الله تعالى {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ في الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41] (¬4). ¬
الفرع الثاني في الوقف على النسل
الفرع الثاني في الوقف على النسل ألفاظ الواقف على العرف. [م - 1586] إذا قال الواقف: هذا وقف على نسلي، دخل أولاده لصلبه بلا خلاف، وكذا أولاد أبنائه، وهل يدخل أولاد بناته؟ في ذلك خلاف بين العلماء: القول الأول: يدخل أولاد البنات، وهذا مذهب الحنيفة، والشافعية، ورجحه ابن رشد من المالكية، ورواية عن أحمد (¬1). قال ابن عابدين: " (قوله: لو وقف الوقف على الذرية ... أو قال: على نسله أبدًا ما تناسلوا، يدخل فيه: ولده، وولد ولده، وولد البنين وولد البنات في ذلك سواء خصاف. (قوله من غير ترتيب إلخ) أي إن لم يرتب بين البطون تقسم الغلة يوم تجيء على عددهم من الرجال والنساء" (¬2). ¬
القول الثاني
وجاء في الفتاوى الهندية: "ولو وقف على نسله أو ذريته دخل فيه أولاد البنين وأولاد البنات قربوا أو بعدوا ... رجل قال: أرضي صدقة موقوفة على ولدي، ونسلي، فالوقف صحيح، يدخل فيه المذكور والإناث من ولده، وولد ولده، ومن قربت ولادته، ومن بعدت، يستوي فيه ولد البنين والبنات، أحرارًا كانوا أو مملوكين، وحصة المملوك تكون لمولاه" (¬1). وقال في الحاوي: "لو قال: وقفت هذه الدار على نسلي، أو قال: على عقبي، أو على ذريتي، دخل فيهم أولاد البنين وأولاد البنات دان بعدوا؛ لأنهم من نسله وعقبه وذريته" (¬2). وجاء في التاج والإكليل: قال "ابن رشد: صحيح في أن ولد بنت الرجل من ذريته، وكذا نقول في نسله وعقبه" (¬3). وقال ابن جزي المالكي: "وأما لفظ الذرية والنسل فيدخل فيهما أولاد البنات على الأصح" (¬4). القول الثاني: لا يدخل أولاد البنات، وهو المشهور من مذهب المالكية، والحنابلة (¬5). ¬
الراجح
قال المالكية: ما لم يجر عرف بدخول أولاد البنات؛ لأن ألفاظ الواقف على العرف. قال الدردير: "لا يتناول قوله نسلي وعقبي، ولا نسل نسلي، أو عقب عقبي الحافد (يعني: ولد البنت)؛ إذ نسل الرجل وعقبه ذريته المذكور، وهذا ما لم يجر عرف بدخوله في ذلك؛ لأن مبنى ألفاظ الواقف على العرف" (¬1). قال في الفروع: "ولو وقف على ولد ولده، أو نسله، أو ذريته، أو عقبه، ولا قرينة لم يشمل ولد بناته، اختاره الأكثر" (¬2). الراجح: أن النسل والولد بمعنى واحد، فما دخل في معنى الولد دخل في معنى النسل ما لم يجر عرف فيقدم على المدلول اللغوي؛ لأن نسل الرجل: ما خرج منه، قال تعالى: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ}، وهو إنما خرج منه أولاده المذكور والإناث، وأولاد أبنائه دون أولاد بناته، والله أعلم. جاء في مختار الصحاح: "النسل: الولد. وتناسلوا: أي ولد بعضهم من بعض" (¬3). وجاء في اللسان: "والنسل: الولد والذرية، والجمع أنسال، وكذلك النسيلة. وقد نسل ينسل نسلاً، وأنسل، وتناسلوا: أنسل بعضهم بعضًا. وتناسل بنو فلان إذا كثر أولادهم. وتناسلوا أي ولد بعضهم من بعض" (¬4). ¬
وجاء في المصباح المنير: "النسل: الولد، نسل نسلًا من باب ضرب: كثر نسله، ويتعدى إلى مفعول، فيقال: نسلت الولد نسلاً: أي ولدته، وأنسلته بالألف لغة، ونسلت الناقة بولد كثير وتناسلوا. توالدوا" (¬1). ونسل الشيء نسولاً: انفصل عن غيرة وسقط، يقال: نسل ريش الطائر، ونسل الثوب عن الإنسان (¬2). ¬
الفرع الثالث في الوقف على العقب
الفرع الثالث في الوقف على العقب [م - 1587] إذا قال الواقف: هذا وقف على عقبي، دخل أولاده المذكور والإناث، وأولاد أبنائه المذكور، وهذا لا خلاف فيه. جاء في الشرح الكبير على متن المقنع: "وإن وقف على عقبه، أو ولد ولده، أو ذريته، أو نسله دخل فيه ولد البنين بغير خلاف علمناه" (¬1). وهل يدخل أولاد البنات؟ فيه خلاف: القول الأول: لا يدخل أولاد البنات، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة (¬2). جاء في حاشية ابن عابدين: "وفي الإسعاف والتتارخانية: لو وقف على عقبه يكون لولده وولد ولده أبدًا ما تناسلوا من أولاد المذكور دون الإناث، إلا أن يكون أزواجهن من ولد ولده المذكور، كل من يرجع نسبه إلى الواقف بالآباء فهو من عقبه، وكل من كان أبوه من غير المذكور من ولد الواقف فليس من عقبه انتهى" (¬3). ¬
القول الثاني
قال ابن رشد: اختلف الشيوخ في الذرية والنسل، فقيل: إنهما بمنزلة الولد والعقب، لا يدخل ولد البنات فيهما على مذهب مالك" (¬1). وقال الدردير: "لا يتناول قوله نسلي وعقبي، ولا نسل نسلي، أو عقب عقبي الحافد (يعني: ولد البنت)؛ إذ نسل الرجل وعقبه ذريته المذكور، وهذا ما لم يجر عرف بدخوله في ذلك؛ لأن مبنى ألفاظ الواقف على العرف" (¬2). وقال في الفروع: "ولو وقف على ولد ولده، أو نسله، أو ذريته، أو عقبه، ولا قرينة لم يشمل ولد بناته، اختاره الأكثر" (¬3). وفي شرح منتهى الإرادات: "وإن وقف على عقبه أو وقف على نسله أو وقف على ولد ولده أو وقف على ذريته لم يدخل فيهم ولد بنات، ولا يستحقون من الوقف" (¬4). القول الثاني: يدخل في الوقف على العقب أولاد البنات، وهذا مذهب الشافعية، واختاره ابن رشد من المالكية، وبه قال بعض الحنابلة (¬5). جاء في المهذب: "فإن قال: على نسلي، أو عقبي، أو ذريتي دخل فيه أولاد ¬
الراجح
البنين، وأولاد البنات قربوا أو بعدوا؛ لأن الجميع من نسله، وعقبه، وذريته" (¬1). وجاء في التاج والإكليل: قال "ابن رشد: صحيح في أن ولد بنت الرجل من ذريته، وكذا نقول في نسله وعقبه" (¬2). الراجح: لفظ العقب إذا لم يكن فيه حقيقة عرفية ولا شرعية حكمت اللغة العربية، وبالرجوع إلى كتب اللغة، جاء في مختار الصحاح: "عقب الرجل ولده وولد ولده" (¬3). فهنا العقب والولد بمعنى واحد، وسبق أن ذكرنا أن لفظ الولد لا يدخل فيه أولاد بناته. وفي اللسان: "والعقب، والعاقبة: ولد الرجل، وولد ولده الباقون بعده ... وقول العرب: لا عقب له أي لم يبق له ولد ذكر" (¬4). وجاء في المحكم والمحيط الأعظم: "العَقِب، والعَقْب والعاقبة: ولد الرجل، وولد ولده، الباقون بعده. وقول العرب: لا عقب له: أي لم يبق له ولد ذكر. ¬
وقوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً في عَقِبِهِ}: أراد: عقب إبراهيم عليه السلام، يعني لا يزال من ولده من يوحد الله تعالى. والجميع أيضاً: أعقاب" (¬1). وفي المغرب في ترتيب المعرب: "وعقب الرجل نسله وفي الأجناس: هم أولاده المذكور، وعن بعض الفقهاء أولاد البنات عقب لقوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً في عَقِبِهِ} (¬2). وقال أبو هلال العسكري في كتابه معجم الفروق اللغوية: "الفرق بين العقب والولد: أن عقب الرجل ولده المذكور والإناث، وولد بنيه من المذكور والإناث، إلا أنهم لا يسمون عقبًا إلا بعد وفاته، فهم على كل حال ولده، والفرق بين الاسمين بين" (¬3). فأهل اللغة مطبقون: أن العقب والولد لا فرق بينهما، إلا أن الولد لا يسمى عقبًا إلا إذا توفي الأب بخلاف الولد، والله أعلم. ¬
المبحث السادس في الوقف على القرابة
المبحث السادس في الوقف على القرابة [م - 1588] اختلف العلماء في الرجل يقول: هذا وقف على قرابتي من يدخل تحت هذا المسمى؟ القول الأول: مذهب الحنفية: قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: كل من ينسب إليه إلى أقصى أب له في الإِسلام من قبل أبيه، وكل من ينسب له إلى أقصى أب له في الإِسلام من قبل أمه، المحرم وغير المحرم، والقريب والبعيد، والجمع والفرد في ذلك سواء، ولا يدخل فيه الوالدان والولد لصلبه اتفاقًا، وكذا من علا منهم كالجد والجدة أو سفل كولد الولد عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقيل: يدخلون في القرابة في ظاهر الرواية، وهو قول محمَّد. فإذا وقف على قرابته أو ذي قرابته أو على أقربائه أو على ذوي قرابته دخل كل هؤلاء تحت الوقف عندهما. وقال أبو حنيفة: إن حصل الوقف بلفظ الوحدان نحو قوله: على قرابتي دخل تحت الوقف من كان أقرب إلى الواقف من محارمه، وإن حصل الوقف بلفظ الجمع نحو قوله: على أقربائي أو أقاربي لا يكون لأقل من اثنين فصاعدًا؛ لأنه أقل الجمع. وتكلم الحنفية في معنى قوله أقصى أب له في الإِسلام: قال بعضهم: معناه أقصى أب أسلم. وقال بعضهم: معناه أقصى أب أدرك الإِسلام، أسلم أو لم يسلم.
دليل الحنفية في تحديد القرابة
وثمرة هذا الاختلاف تظهر في العلوي إذا وقف على قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم -. فعلى قول من يشترط إدراك الإِسلام فإن أول أب أدرك الإِسلام أبو طالب، فيدخل تحت الوقف أولاد عقيل وأولاد جعفر وأولاد علي. وعلى قول من يشترط الإِسلام فإن أول أب أسلم هو علي بن أبي طالب، فيدخل تحت الوقف أولاد علي، ولا يدخل أولاد عقيل وأولاد جعفر. وقال هلال: القرابة إلى ثلاثة آباء، فإن انتسب إلى واحد من الآباء الثلاثة يدخل في الوقف وما لا فلا (¬1). دليل الحنفية في تحديد القرابة: اعتبر أبو يوسف ومحمد أقصى أب له في الإِسلام؛ لأنه لا وجه إلى صرف الوقف إلى القرابة العامة؛ لأنه يدخل تحت الوقف من كان في الجاهلية؛ لأن جميع الناس أقرباؤه؛ لأن الناس كلهم أولاد آدم ونوح عليهما السلام، فلو دخلوا تحت الوقف لا يصيب كل واحد منهم شيئًا منتفعًا، ونحن نعلم أن قصد الواقف إنفاع الموقوف عليه، أما لو اعتبرنا أقصى أب في الإِسلام يصيب كل واحد منهم شيئًا منتفعًا، فلهذا اعتبرنا ذلك. وجه التسوية بين الجمع والمفرد: إنما سوينا بين الجمع والفرد؛ لأن الاستحقاق باسم القرابة والقريب، وهو اسم جنس، واسم الجنس ينصرف إلى الواحد مع احتمال الجمع. ¬
وأما الدليل على عدم دخول الوالد والولد في القرابة
وأما أبو حنيفة رحمه الله إنما اعتبر الجمع فيما إذا حصل الإنقاق بلفظة الجمع، عملًا بحقيقة اللفظ، وأقل الجمع في باب الوصية والميراث أثنان؛ فإن الثنتين من البنات والأخوات ألحقتا بالثلاث، فصاعدًا في استحقاق الثلثين، وحجب الأم من الثلث إلى السدس على ما مر حتى لو أوصى لذي قرابته استحق الواحد فصاعدا كل الوصية؛ لأن ذي ليس بلفظ جمع .. وإنما اعتبر القرابة المحرمة للنكاح؛ لأن مقصود الواقف صلة القرابة، فالظاهر أنه يريد به قرابته بفرض وصلها، وإنما اعتبر الأقرب فالأقرب؛ لأن القرابة سبعة من القرب فمن كان أقرب كان أولى يصرف اللفظ إليه. وأما الدليل على عدم دخول الوالد والولد في القرابة: فإن الوالد والولد لا يسميان قرابتين عرفًا وحقيقة أيضًا؛ لأن الأب أصل، والولد فرعه وجزؤه، والقريب من يقرب من غيره لا من نفسه، فلا يتناوله اسم القريب. وقال الله سبحانه تعالى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] والعطف يقتضي المغايرة في الأصل، ولو كان الوالد منهم لما عطف عليهم، وإذا لم يدخل الوالد والولد، فهل يدخل فيها الجد وولد الولد؟ ذكر في الزيادات أنهما يدخلان، ولم يذكر فيه خلافًا، وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أنهما لا يدخلان، وهكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله وهو الصحيح؛ لأن الجد بمنزلة الأب، وولد الولد بمنزلة الولد، فإذا لم يدخل فيها الوالد، والولد كذا الجد وولد الولد. وأما كونه يعتبر المحرم عند أبي حنيفة خلافًا لهما، وبعتبر الأقرب، فالأقرب عنده خلافًا لهما.
فوجه قولهما: أن القريب اسم مشتق من معنى، وهو القرب، وقد وجد القرب، فيتناول الرحم المحرم وغيره، والقريب والبعيد، وصار كما لو أوقف لإخوته فإنه يدخل الإخوة الأشقاء، والإخوة لأب، والإخوة لأم؛ لكونه اسمًا مشتقًا من الأخوة كذا هذا. (ح -1002) والدليل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه "لما نزل قوله تبارك وتعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشًا، فخص وعم، فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله تبارك وتعالى ضرًا ولا نفعاً يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله عز شأنه ضرًا، ولا نفعاً، وكذلك قال - صلى الله عليه وسلم - لبني عبد المطلب، ومعلوم أنه كان فيهم الأقرب والأبعد وذو الرحم المحرم وغير المحرم، فدل أن الاسم يتناول كل قريب إلا أنه لا يمكن العمل بعمومه لتعذر إدخال أولاد سيدنا آدم - صلى الله عليه وسلم - فيه، فتعتبر النسبة إلى أقصى أب في الإِسلام؛ لأنه لما ورد الإِسلام صارت المعرفة بالإِسلام، والشرف به، فصار الجد المسلم هو النسب، فتشرفوا به، فلا يعتبر من كان قبله. ولأبى حنيفة رحمه الله: أن الوقف لما كان باسم القرابة، فالقرابة المطلقة هي قرابة ذي الرحم المحرم؛ ولأن معنى الاسم يتكامل بها. وأما في غيرها من الرحم غير المحرم فناقص، فكان الاسم للرحم المحرم لا لغيره؛ لأنه لو كان حقيقة لغيره، فإما أن يعتبر الاسم مشتركًا أو عامًا، ولا سبيل إلى الاشتراك؛ لأن المعنى متجانس، ولا إلى العموم؛ لأن المعنى متفاوت، فتعين أن يكون الاسم لما قلنا حقيقة، ولغيره مجازًا، بخلاف الوقف لإخوته؛
لأن مأخذ الاسم، وهو الإخوة لا يتفاوت، فكان اسمًا عامًا، فيتناول الكل، وههنا بخلافه على ما بينا. ولأن المقصود من هذا الوقف هو صلة القرابة، وهذه القرابة هي واجبة الوصل محرمة القطع لا تلك، والظاهر من حال المسلم الدين المسارعة إلى إقامة الواجب، فيحمل مطلق اللفظ عليه، بخلاف ما إذا وقف لإخوته؛ لأن قرابة الإخوة واجبة الوصل محرمة القطع على اختلاف جهاتها، فهو الفرق بين الفصلين. وقول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فإنه وإن كان قد يستقيم في زمانهما؛ لأن أقصى أب في الإِسلام كان قريبًا يصل إليه بثلاثة آباء أو أربعة آباء، فكان الموقوف عليه معلومًا، فأما في زماننا، فلا يستقيم؛ لأن عهد الإِسلام قد طال، فيقع الوقف لقوم مجهولين، فلا يصح إلا أن نقول أنه يصرف إلى أولاد أبيه وأولاد جده، وأولاد جد أبيه، وإلى أولاد أمه، وأولاد جدته، وجدة أمه؛ لأن هذا القدر قد يكون معلومًا، فيصرف إليهم، فأما الزيادة على ذلك فلا، والله سبحانه وتعالى أعلم. إذا تبين هذا فعليه: إذا ترك عمين وخالين فالوقف للعمين لا للخالين في قول أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأنه يعتبر الأقرب، فالأقرب، والعمان أقرب إليه من الخالين، فكانا أولى بالوقف، وعندهما الوقف يكون بين العمين، والخالين أرباعًا؛ لأن القريب والبعيد سواء عندهما. ولو كان له عم واحد وخالان، فللعم النصف، وللخالين النصف الآخر؛ لأن الوقف حصل باسم الجمع، وأقل من يدخل تحت اسم الجمع في الوقف
القول الثاني: مذهب المالكية
اثنان، فلا يستحق العم الواحد أكثر من نصف الوقف؛ لأن أقل من ينضم إليه مثله، وإذا استحق هو النصف بقي النصف الآخر لا مستحق له أقرب من الخالين، فكان لهما، وعندهما يقسم الوقف أثلاثا لاستواء الكل في الاستحقاق (¬1). ويستوي في الاستحقاق بالقرابة على قولهم جميعاً: الذكر والأنثى، والمسلم والكافر، والحر والمملوك، إلا أن ما يجب للملوك يكون لسيده الذي يملكه يوم تخلق الغلة، والقبول إلى العبد دون السيد، وبعد العتق يكون له كذا في الحاوي، وفي الوقف على القريب تقسم الغلة على الرؤوس الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والفقير والغني سواء؛ لمساواة الكل في الاسم (¬2). القول الثاني: مذهب المالكية: إذا قال: هذا حبس على أقاربي، فإنه يدخل أقاربه من الجهتين أي: من جهة أبيه ومن جهة أمه، فيدخل كل من يقرب لأبيه من جهة أبيه أو من جهة أمه، من الذكور والإناث ويدخل كل من يقرب لأمه من جهة أمها أو من جهة أبيها من الذكور أو من الإناث، فتدخل العمات، والخالات والأخوات، وبنات الأخ، وبنات الأخت، وابن الخالة حتى ولو كانوا ذميين. وهذا هو المعتمد في مذهب المالكية (¬3). ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية
وقال الدسوقي: وما ذكره المصنف من دخول أقارب جهتيه مطلقًا هو الذي رواه مطرف وابن الماجشون عن مالك. وقال ابن حبيب إنه قول جميع أصحاب مالك ... ورجحه الدسوقي (¬1). وقال في الشرح الصغير: والمعتمد دخول الجهتين (¬2). وقال ابن القاسم: لا يدخل الخال ولا الخالة ولا قرابته من قبل أمه إلا إذا لم يكن له قرابة من جهة الأب، أي حين الإيقاف (¬3). القول الثالث: مذهب الشافعية: جاء في البيان: "وإن قال: وقفت هذا على قراباتي، أو على أقربائي ... صرف ذلك إلى من يعرف بقرابته من قبل الآباء والأمهات. فإن كان له جد يعرف به عند عامة الناس صرف إلى من ينسب إلى ذلك الجد دون من ينسب إلى أبي ذلك الجد، ولا إلى من ينسب إلى أخي ذلك الجد، كالشافعي إذا وقف على قرابته، فإنه يصرف إلى من ينسب إلى شافع بن السائب (بن عبيد)، ولا يصرف إلى من ينسب إلى علي وعباس ابني السائب، ولا إلى من ينسب إلى السائب بن عبيد ... " (¬4). والشافعي: هو محمَّد بن إدريس بن العباس بن عثمان، بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف. ¬
دليل الشافعية على تحديد القرابة
فكان أقرب جد نسب إليه هو شافع. وهل يدخل أصول الواقف وفروعه؟ فيه أوجه: أصحها: عند الأكثرين: لا يدخل الأبوان، والأولاد، ويدخل الأجداد والأحفاد؛ لأن الوالد والولد لا يعرفان بالقريب في العرف، بل القريب من ينتمي بواسطة. والثاني: لا يدخل أحد من الأصول والفروع. والثالث: يدخل الجميع، وبه قطع المتولي. وقد ادعى الأستاذ أبو منصور الإجماع على أنه لا يدخل الأبوان والأولاد. وإذا أوصى لأقاربه، فإن كان أعجميا، دخل قرابة الأب والأم. وإن كان عربيًا فوجهان: أصحهما: وبه قطع العراقيون، وهو ظاهر نصه في "المختصر" دخولهم من الجهتين كالعجم. والثاني: لا تدخل قرابة الأم، ورجحه الغزالي، والبغوي؛ لأن العرب لا تفتخر بها (¬1). دليل الشافعية على تحديد القرابة: قال الغزالي: دليلنا: قَوْله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال:41]. ¬
وقَوْله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] ولنا منها ثلاثة أدلة. أحدها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى من سهم ذوي القربى بني أجداده، وهم: بنو هاشم، وبني أعمامه وهم: بنو المطلب. والثاني: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أعطى بني هاشم وبني المطلب سهم ذوي القربى أتاه عثمان بن عفان وهو: من ولد عبد شمس بن عبد مناف، وجبير بن مطعم، وهو: من ولد نوفل بن عبد مناف، وقالا: أما بنو هاشم فلا ينكر فضلهم، لمكانك الذي وضعك الله فيهم، فما بال بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا، وقرابتنا وقرابتهم واحدة؟! (¬1)، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إنما بنو هاشم، وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه، إنهم ما فارقونا في جاهلية ولا إسلام (¬2). فأقرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - على دعواهما القرابة، ولكنه أخبر أن ذلك السهم لا يستحق بالقرابة منفردة، وإنما يستحق بالقرابة والنصرة. ¬
والثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي من ذلك السهم من كان يرثه، ومن لا يرثه، فإنه أعطى منه العمات. (ث -195) وروي عن الزبير: أنه قال: كنت أضرب في الغنائم بأربعة أسهم: سهم لي، وسهمين لفرسي، وسهم لأمي، وأمه كانت: صفية بنت عبد المطلب عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ¬
ونوقش هذا
وروي: أنه "لما نزل قَوْله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - عشيرته وقال: يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا عباس، يا فاطمة بنت محمَّد، إني لا أغني عنكم من الله شيئًا، فعندها قال أبو لهب: ألهذا جمعتنا!؟ تبًا لك، فنزل قَوْله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] (¬1). ونوقش هذا: أما قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين فالأقربين هنا صفة للعشيرة، والعشيرة قد تكون أوسمع من القرابة، ولهذا شمل الإنذار بني عبد مناف وغيرهم. ¬
وأما إعطاؤه بني المطلب فلم يكن ذلك لقرابتهم؛ إذ لو كان أعطاهم لقرابتهم لما فرق بينهم وبين غيرهم ممن سواهم في القرب، وقد علل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك بأنهم لم يفارقوه في جاهلية ولا إسلام، فكان إلحاقهم بقرابته لنصرتهم. وأما قول الطحاوي في شرح معاني الآثار: "فلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أعطى الزبير بن العوام لقرابته منه من سهم ذوي القربى، والزبير ليس من بني هاشم ولا بني المطلب، وقد جعله فيما أعطاه من ذلك كبني هاشم وبني المطلب، دل ذلك أن ذوي القربى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم بنو هاشم وبنو المطلب ومن سواهم من ذوي قرابته. فإن قال قائل: إن الزبير وإن لم يكن من بني هاشم، فإن أمه منهم، وهي صفية بنت عبد المطلب بن هاشم فبهذا أعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاه، فقام عنده بموضعه منه بأمه مقام غيره من بني هاشم. قيل له: لو كان ما وصفت كما ذكرت إذًا لأعطى من سواه من غير بني هاشم ممن أمه من بني هاشم، وقد كان بحضرته من غير بني هاشم ممن أمهاتهم هاشميات ممن هو أمس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنسب أمه رحمًا من الزبير، منهم: أمامة ابنة أبي العاص بن الربيع، وقد حرمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يعطها شيئًا من سهم ذوي القربى، إذ حرم بني أمية وهي من بني أمية ولم يعطها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمها الهاشمية، وهي زينب ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنها، وحرم أيضا جعدة بن هبيرة المخزومي فلم يعطه شيئاً، وأمه أم هانئ ابنة أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، فلم يعطه بأمه شيئًا إذ كانت من بني هاشم، فدل ذلك أن المعنى الذي أعطى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزبير بن العوام ما أعطاه من سهم ذوي القربى ليس لقرابته لأمه ولكنه لمعنى غير ذلك فثبت بما ذكرنا أن ذوي القربى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
القول الرابع: مذهب الحنابلة
هم بنو هاشم وبنو المطلب ومن سواهم ممن هو له قرابة من غير بني هاشم ومن غير بني المطلب، وقد أمر الله - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله في غير هذه الآية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] فلم يقصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنذارة بني هاشم وبني المطلب خاصة بل قد أنذر من قومه ممن هو أبعد منه رحما من بني أمية ومن بني نوفل" (¬1). فيقال: بأن الذي أخبرنا أن السهم الرابع كان لأمه هو الزبير نفسه، وهو أعلم من غيره، فلو كان السهم للزبير لقال: أعطاني الرسول سهمين لي، وسهمين لفرسي، ولم يحتج الأمر إلى ذكر أمه، هذا على فرض ثبوت الحديث، وما دام أن الأصح في الحديث أنه مرسل لم يكن به حجة، والله أعلم. القول الرابع: مذهب الحنابلة: إذا وقف الرجل على قرابته، فهو للذكر والأنثى من أولاده، وأولاد أبيه: وهم إخوته وأخواته، وأولاد جده: وهم أبوه، وأعمامه وعماته، وأولاد جد أبيه وهم جده وأعمام وعمات أبيه فقط، ولا يدخل فيهم من يخالف دينه إلا بقرينة (¬2). لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجاوز بني هاشم بسهم ذوي القربى المشار إليه في قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 8] ¬
الراجح
فلم يعط من هو أبعد كبني عبد شمس وبني نوفل شيئًا, ولا يقال هما كبني المطلب، فإنه قد علل الفرق بينهم وبين من سواهم ممن ساواهم في القرب بأنهم لم يفارقوا في جاهلية ولا إسلام، ولم يعط قرابته من ولد أمه وهم بنو زهرة شيئًا. الراجح: أقرب الأقوال إلى الصواب ما ذهب إليه الحنابلة، والذي يظهر أن المرجع فيها إلى الحقيقة الشرعية، وليس اللغوية؛ حيث جعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرابته هم بنو هاشم، والله أعلم.
الباب السادس في أحكام الولاية على الوقف
الباب السادس في أحكام الولاية على الوقف الفصل الأول في حق الواقف في ولاية الوقف المبحث الأول حق الواقف في تعيين الناظر [م - 1589] لا خلاف بين العلماء أن الواقف إذا اشترط النظر لشخص بعينه اتبع شرطه (¬1). والأصل في هذا وقف عمر - رضي الله عنه - جعل النظر لابنته حفصة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، ثم إلى ذوي الرأي من أهلها (¬2). ¬
ولأن مصرف الوقف لا يتجاوز فيه شرط الواقف فكذلك الناظر فيه. قال ابن قدامة في المغني: "وينظر في الوقف من شرطه الواقف؛ لأن عمر - رضي الله عنه - جعل وقفه إلى حفصة تليه ما عاشت، ثم إلى ذوي الرأي من أهلها؛ ولأن مصرف الواقف يتبع فيه شرطه، فكذلك الناظر فيه" (¬1). وجاء في أسنى المطالب: "النظر في الوقف لمن شرطه الواقف له من نفسه أو غيره ... لأنه المتقرب بصدقته، فيتبع شرطه فيه كما يتبع في مصارفه" (¬2). ¬
المبحث الثاني في ثبوت الولاية للواقف إذا لم يشترطها
المبحث الثاني في ثبوت الولاية للواقف إذا لم يشترطها [م - 1590] إذا علم ذلك، وأن الواقف يملك أن يعطي النظر لمن شاء، فهل يثبت له حق النظر على وقفه إذا لم يشترطه لنفسه؟ هذه مسألة اختلف فيها العلماء على أقوال: القول الأول: ولاية الوقف للواقف سواء اشترطها، أو لم يشترطها، ثم لوصيه إن وجد، وإلا فللحاكم. وهذا قول أبي يوسف، وهو ظاهر المذهب (¬1). ولا يرى محمَّد بن الحسن أن الولاية للواقف بدون شرط، واختلف المشايخ في تأويل القول عنه إذا اشترط الواقف الولاية. فقيل: لا يصح؛ وعللوا ذلك بأن محمدًا يشترط التسليم إلى القيم لصحة الوقف، وإذا سلمه لم يبق له ولاية فيه. وقال آخرون: يصح، واشتراط التسليم لا ينافي النظر؛ لأن النظر سابق على التسليم، فيسلمه إليه، ثم يأخذه منه (¬2). ¬
وجه هذا القول
وصحح الشافعية في قول مرجوح أن النظر للواقف بناء على القول بأن الملك في عين الوقف للواقف، فيثبت له النظر بمقتضى الملك، ولو لم يشترطه. جاء في العناية شرح الهداية: "له الولاية شرط أو سكت" (¬1). وجاء في الدر المختار: "جعل الواقف الولاية لنفسه جاز بالإجماع، وكذا لو لم يشترط لأحد فالولاية له عند الثاني، وهو ظاهر المذهب" (¬2). وقال ابن نجيم: "الولاية للواقف ثابتة مدة حياته وإن لم يشترطها" (¬3). وفي الفتاوى الهندية: "رجل وقف وقفًا, ولم يذكر الولاية لأحد، قيل: الولاية للواقف، وهذا على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى؛ لأن عنده التسليم ليس بشرط. أما عند محمَّد رحمه الله تعالى فلا يصح هذا الوقف، ويفتى به كذا في السراجية" (¬4). وجاء في المهذب: "وإن وقف ولم يشرط الناظر ففيه ثلاثة أوجه أحدها: أنه إلى الواقف؛ لأنه كان النظر إليه، فإذا لم يشرطه بقي على نظره" (¬5). وجه هذا القول: قال الحنفية: يستحيل أن لا تكون للواقف ولاية على وقفه، وغيره إنما يستفيد الولاية منه، ولأنه أقرب الناس إلى هذا الوقف فيكون أولى بولايته (¬6). ¬
القول الثاني
القول الثاني: أن النظر للموقوف عليه، إلا أن يكون الموقوف عليه عددًا غير محصور، فيكون النظر للقاضي. وهذا مذهب المالكية والحنابلة، وقول في مذهب الشافعية. ومقتضى هذا القول أن الولاية لا تثبت للواقف بدون شرط. قال الدردير المالكي: "فإن لم يجعل ناظرًا، فإن كان المستحق معينًا رشيدًا فهو الذي يتولى أمر الوقف، وإن كان غير رشيد فوليه، وإن كان المستحق غير معين كالفقراء، فالحاكم يولي عليه من شاء" (¬1). وقال الخرشي المالكي: "فإن لم يجعل الواقف لوقفه ناظرا فإن جعل الوقف على معين مالك لأمر نفسه فهو الذي يحوزه ويتولاه، وإلا فالنظر فيه للحاكم يقدم له من يرتضيه" (¬2). وجاء في المبدع: "فإن لم يشترط ناظرًا، أو شرطه لإنسان فمات فالنظر للموقوف عليه على المذهب؛ لأنه ملكه وغلته له، فكان نظره إليه كملكه المطلق، فإن كان واحدًا استقل به مطلقًا، وقيل: يضم إلى الفاسق أمين؛ حفظًا لأصل الوقف عن التضييع، وإن كان مولى عليه قام وليه مقامه، وإن كانوا جماعة فهو بينهم على قدر حصصهم، ويستثنى منه ما إذا كان الوقف على مسجد، أو من لا يمكن حصرهم، فإنه للحاكم؛ لأنه ليس له مالك معين" (¬3). ¬
تنبيه
وقال المرداوي الحنبلي: "فإن لم يشترط ناظرًا، فالنظر للموقوف عليه. هذا المذهب بلا ريب بشرطه، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم، وقيل: للحاكم ... تنبيه: محل الخلاف: إذا كان الموقوف عليه معينًا، أو جمعًا محصورًا. فأما إن كان الموقوف عليهم غير محصورين كالفقراء، والمساكين، أو على مسجد، أو مدرسة، أو قنطرة، أو رباط، ونحو ذلك: فالنظر فيه للحاكم، قولاً واحدًا" (¬1). وجه كون النظر للموقوف عليه: أن الملك لما كان للموقوف عليه كان النظر له، وكان مقدمًا على الواقف؛ لأن الموقوف قد خرج من ملكه. ويناقش: بأن الموقوف عليه لا يملك الأصل، وإنما يملك المنفعة فقط بتمليك الواقف. القول الثالث: أن النظر للقاضي إلا أن يشترطه الناظر لنفسه أو لغيره، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية (¬2). وهذا يعني أنه لا حق للواقف في النظر بدون شرط. ¬
وجه كون النظر للقاضي
وجه كون النظر للقاضي: الوجه الأول: أن الناظر الخاص لا يثبت إلا بالشرط سواء شرطه له أو لغيره، فإذا لم يشترط الواقف ناظرًا خاصًا انتقل النظر إلى من له النظر العام، وهو القاضي. الوجه الثاني: أن الملك لله تعالى، وليس للواقف ولا للموقوف عليه، فكان النظر للقاضي وحده. جاء في أسنى المطالب: "النظر في الوقف لمن شرطه الواقف ... وإن لم يشرطه لأحد فللحاكم، لا للواقف ولا للموقوف عليه؛ لأنه الناظر العام؛ ولأن الملك في الوقف لله تعالى" (¬1). وجاء في مغني المحتاج: "إن شرط الواقف النظر لنفسه أو غيره اتبع، وإلا فالنظر للقاضي على المذهب" (¬2). القول الرابع: أن النظر مرتب على الخلاف في ملك الوقف، وهو قول مرجوح في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). فإن قيل: إن الملك للواقف كان النظر له، أو للموقوف عليه كان النظر له، ¬
وإن قيل: لله تعالى كان النظر للقاضي، وهذه الثلاثة كلها أوجه في مذهب الشافعية (¬1). جاء في إعانة الطالبين: "ومقابل المذهب يقول: إن النظر مرتب على أقوال الملك، أي فإن قيل: إن الملك في الموقوف للواقف، كان النظر له، أو للموقوف عليه كان النظر له، وإن قيل: لله تعالى، كان النظر للقاضي" (¬2). جاء في المهذب: "وإن وقف ولم يشرط الناظر ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه إلى الواقف؛ لأنه كان النظر إليه، فإذا لم يشرطه بقي على نظره. والثاني: أنه للموقوف عليه؛ لأن الغلة له فكان النظر إليه. والثالث: إلى الحاكم؛ لأنه يتعلق به حق الموقوف عليه، وحق من ينتقل إليه" (¬3). وجاء في الإنصاف: "فإن لم يشترط ناظرًا. فالنظر للموقوف عليه. هذا المذهب بلا ريب بشرطه. وعليه جماهير الأصحاب. وقطع به كثير منهم. وقيل: للحاكم. قطع به ابن أبي موسى. واختاره الحارثي، وقال: فمن الأصحاب من بني هذا الوجه على القول بانفكاك الموقوف عن ملك الآدمي. وليس هو عندي كذلك ولا بد؛ إذ يجوز أن يكون لحق من يأتي بعد. انتهى. وأطلقهما في الكافي. وقال المصنف، ومن تبعه: ويحتمل أن يكون ذلك مبنيًا على أن الملك فيه: ¬
الراجح
هل ينتقل إلى الموقوف عليه، أو إلى الله؛ فإن قلنا: هو للموقوف عليه، فالنظر فيه له. وإن قلنا: هو الله تعالى، فالنظر للحاكم. انتهى. قلت -القائل صاحب الإنصاف- قد تقدم أن الخلاف هنا مبني على الخلاف هناك. وعليه الأصحاب. قال الحارثي هنا: إذا قلنا: النظر للموقوف عليه. فيكون بناء على القول بملكه، كما هو المشهور عندهم. انتهى. فلعل المصنف ما اطلع على ذلك. فوافق احتماله ما قالوه، أو تكون طريقة أخرى في المسلم، وهو أقرب" (¬1). الراجح: الأصل في النظر أن يكون للواقف؛ لأنه إذا صح بالإجماع أن يشترطه الواقف لغيره كان هذا دليلاً على أنه يملكه؛ لأنه لو لم يكن يملكه ما صح أن يشترطه لمن شاء، وإذا لم يخرج منه بقي الحق قائمًا له، وهو أحرص الناس على وقفه؛ لأن أجره له، وهو أقرب من القاضي، فإن مات أو أبى انتقل إلى القاضي، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في ثبوت الولاية للواقف بالشرط
المبحث الثالث في ثبوت الولاية للواقف بالشرط [م - 1591] علمنا فيما سبق خلاف العلماء في ثبوت الولاية للواقف على وقفه بلا اشترط، فإذا اشترط الولاية له عند الوقف فهل يثبت له هذا الحق، أو لا يثبت له ذلك. في هذه المسألة أيضًا وقع خلاف بين العلماء على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح أن يشترط الواقف الولاية لنفسه مطلقًا، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والشافعية، والحنابلة (¬1). القول الثاني: لا يصح أن يشترط النظر له، وهذا مذهب المالكية وأحد القولين عن محمَّد بن الحسن. واستثنى المالكية إذا كان الواقف قد وقف على محجوره من صغار ولده أو من في حجره، فيصح أن يكون النظر له (¬2). ¬
وأجاب الحنفية بجوابين
جاء في العناية: "ذكر هلال في وقفه: وقال أقوام: إن شرط الواقف الولاية لنفسه كانت له، وإن لم يشرط لم تكن له ولاية، وهذا بظاهره لا يستقيم على قول أبي يوسف؛ لأن له الولاية شرط أو سكت، ولا على قول عمد؛ لأن التسليم إلى المتولي شرط صحة الوقف، فكيف يصح أن يشترط الواقف الولاية لنفسه وهو يمنع التسليم إلى المتولي ... " (¬1). وجاء في فتح القدير: "مقتضى اشتراط محمَّد التسليم إلى القيم أن لا يثبت للواقف ولاية وإن شرطها لنفسه؛ لأنه ينافي هذا الشرط" (¬2). وأجاب الحنفية بجوابين: الجواب الأول: أن اشتراط التسليم لا ينافي صحة اشتراط الولاية للواقف، وذلك أن تسليمه إلى القيم شرط صحة الوقف عند محمَّد، وبعد التسليم إليه لا يبقى له ولاية، إلا إذا اشترط أن تكون الولاية له فتصح. الجواب الثاني: أن معنى قول محمَّد: إن شرط الولاية لنفسه فهي له، أنه إذا شرط الولاية لنفسه يسقط شرط التسليم عند محمَّد أيضًا؛ لأن شروط الواقف تراعى، ومن ضرورته سقوط التسليم (¬3). ¬
القول الثالث
القول الثالث: يصح النظر للواقف إذا اشترطه بشرط أن يسلمه إلى المتولي، ثم يأخذه منه، وهذا قول محمَّد بن الحسن، وابن عبد الحكم من المالكية (¬1). جاء في العناية: "إذا سلمه إلى المتولي وقد شرط الولاية لنفسه حين وقفه، كان له الولاية بعدما سلمه إلى المتولي، والدليل على ذلك ما ذكره محمَّد في السير: إذا وقف ضيعة، وأخرجها إلى القيم، لا تكون له الولاية بعد ذلك، إلا أن يشترط الولاية لنفسه، وأما إذا لم يشترط في ابتداء الوقف فليس له ولاية بعد التسليم" (¬2). وقال الزيلعي: "وذكر هلال في وقفه، فقال: قال أقوام: إن شرط الواقف الولاية لنفسه كانت له، وإن لم يشترط لا تكون له ولاية، يعني بعض المشايخ قالوا ذلك. قال مشايخنا: الأشبه أن يكون هذا قول محمَّد، وقد بيناه، ولا يفال: كيف يكون هذا قول محمَّد، والتسليم شرط عنده على ما بينا؛ لأنا نقول هذا لا ينافي التسليم؛ لأنه يمكن أن يسلمه إليه ثم يأخذه منه" (¬3). وجاء في الذخيرة: "فإن جعله بيد غيره، يجوز له، ويجمع غلته، ويدفعها للواقف يفرقها أجازه ابن عبد الحكم ومنعه ابن القاسم لبقاء تصرفه" (¬4). ¬
الراجح
الراجح: الذي أذهب إليه صحة اشتراط الواقف النظر لنفسه، والذي حمل المالكية إلى المنع هو اشتراطهم الحيازة، وسبب الخلاف في اشتراطها تردد الوقف بين الهبة والإعتاق: فالمالكية يلحقون الوقف بالهبة والصدقة، فلا يلزم إلا بالقبض بجامع أن كلاً منهما تبرع بمال، والتبرع لا يلزم إلا بالقبض، فكذا الوقف. والجمهور يلحقون الوقف بالإعتاق، فيحصل بمجرد اللفظ، وهو الراجح، وذلك أن الهبة إذا لم يقبلها صاحبها رجعت إلى الواهب بخلاف الوقف، كما أن الهبة يملك الموهوب له أصلها, وله بيعها، وهبتها، وتورث عنه بخلاف الوقف. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: "لم يزل عمر بن خطاب المتصدق بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلي فيما بلغنا صدقته حتى قبضه الله تبارك وتعالى، ولم يزل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يلي صدقته بينبع حتى لقي الله - عَزَّ وَجَلَّ -، ولم تزل فاطمة - رضي الله عنها - تلي صدقتها حتى لقيت الله تبارك وتعالى، قال الشافعي: أخبرنا بذلك أهل العلم من ولد فاطمة وعلي وعمر، ومواليهم، ولقد حفظنا الصدقات عن عدد كثير من المهاجرين والأنصار، لقد حكى لي عدد كثير من أولادهم وأهليهم، أنهم لم يزالوا يلون صدقاتهم حتى ماتوا، ينقل ذلك العامة منهم عن العامة، لا يختلفون فيه" (¬1). ¬
الفصل الثاني في حقه الموقوف عليه في ولاية الوقف
الفصل الثاني في حقه الموقوف عليه في ولاية الوقف قبل أن نذكر الخلاف في حق الموقوف عليه في ولاية الوقف نذكر منها ما هو محل وفاق بين الفقهاء: [م - 1592] فقد اتفق الفقهاء على أن الموقوف عليه إذا كان جهة لا يمكن حصرهم، أو كان على جهة بر لا تملك كالمساجد، أو كان الموقوف عليه محجورًا عليه لصغره، أو جعل الواقف الولاية لشخص أجنبي أن الموقوف عليه ليس له ولاية على الوقف. [م - 1593] كما اتفق الفقهاء القائلون بصحة اشتراط الواقف النظر لنفسه أنه إذا اشترط الواقف النظر له لم يكن للموقوف ولاية على الوقف مدة حياة الواقف؛ لأن الواقف أحق بالنظر على وقفه من غيره؛ لكونه المالك الأصلي للعين. [م - 1594] واختلف الفقهاء في حق الموقوف عليه في ولاية الوقف إذا كان معينًا محصورًا وكان أهلاً للولاية، وكان الواقف قد مات، أو لم يشترط النظر لنفسه ولا لغيره على قولين: القول الأول: أن الموقوف عليه ليس له حق في ولاية الوقف أصالة إلا بالشرط، وهذا مذهب الحنفية والمشهور من مذهب الشافعية، وأحد القولين في مذهب الحنابلة، اختاره ابن أبي موسى (¬1). ¬
جاء في أحكام الوقف لهلال الرأي: "قلت: أرأيت إذا جعل أرضه صدقة موقوفة في صحته، ثم مات، ولم يوص إلى أحد؟ قال: فللقاضي أن يوليها من يثق به ... قلت: أرأيت رجلاً وقف أرضًا له على رجل، وأوصى إليه فيها، وكان الموقوف عليه الأرض ليس بمأمون؟ قال: ينزعها القاضي من يده، ويوليها غيره. قلت: ولم قلت ذلك، وإنما الغلة كلها له؟ قال: لأن الوقف مرجعه إلى المساكين، فإذا كان من هو في يده ليس بمأمون عليه لم يؤمن أن يخربه، ولا يعمره، ولا يرجع إلى المساكين بعده شيء منه، أو يبيع أصله، فيحدث فيها حدثًا لا يوصل إليها (¬1). وفهم منه أنه لو كان الموقوف عليه أمينًا وأوصى الواقف له بالولاية فإنها تكون له. وقد علل الحنفية ذلك: بأن الموقوف عليه أجنبي عن الوقف، فلا حق له في الولاية بدون شرط، والنظر فيه للواقف اشترطه أو لم يشترطه. وعلل الشافعية ذلك: بأن الملك في الوقف يخرج من ملك الواقف إلى ملك الله تعالى، وإذا كان الملك فيه لله كان النظر فيه للقاضي. ¬
القول الثاني
وعلل الحارثي الحنبلي أنا النظر ليس للموقوف عليه؛ لأنه لا يتعلق به حق الموقوف عليه وحده، بل وحق من ينتقل إليه من بعده، ففوض الأمر إلى القاضي. قال ابن رجب: "الموقوف عليه هل يملك رقبة الوقوف أم لا؟ في المسألة روايتان معروفتان، أشهرهما: أنه ملك للموقوف عليه. والثانية: لا، فعلى هذه هل هو ملك للواقف أو لله تعالى فيه خلاف أيضًا. ويتنزل على هذا الاختلاف مسائل، منها: نظر الواقف إذا لم يشترط له ناظر، فعلى القول بملك الموقوف عليه له النظر فيه، وعلى القول بأنه ملك لله نظره للحاكم، وظاهر كلام أحمد أن نظره للحاكم، وهو قول ابن أبي موسى. قال الحارثي: وعندي أن هذا القول لا يختص بالقول بانتفاء ملك الموقوف عليه، بل ينظر فيه الحاكم، وإن قلنا للموقوف عليه لعلاقة حق من يأتي بعد" (¬1). القول الثاني: أن الولاية تكون للموقوف عليه إذا لم يعين الواقف ناظرًا على الوقف، وهذا مذهب المالكية والحنابلة (¬2). وقال الخرشي المالكي: "فإن لم يجعل الواقف لوقفه ناظرًا، فإن جعل الوقف على معين مالك لأمر نفسه فهو الذي يحوزه ويتولاه، وإلا فالنظر فيه للحاكم يقدم له من يرتضيه" (¬3). ¬
وجه القول بذلك
وجاء في المبدع: "فإن لم يشترط ناظرًا، أو شرطه لإنسان فمات، فالنظر للموقوف عليه على المذهب؛ لأنه ملكه، وغلته له، فكان نظره إليه، كملكه المطلق، فإن كان واحدًا استقل به مطلقا، وقيل: يضم إلى الفاسق أمين؛ حفظا لأصل الوقف عن التضييع، وإن كان مولى عليه قام وليه مقامه، وإن كانوا جماعة فهو بينهم على قدر حصصهم، ويستثنى منه ما إذا كان الوقف على مسجد، أو من لا يمكن حصرهم، فإنه للحاكم؛ لأنه ليس له مالك معين" (¬1). وجه القول بذلك: أن النظر إذا لم يعين ناظرًا، فإنه للموقوف عليه إذا كان محصورًا؛ لأنه ملكه وغلته له، فكان نظره إليه كالمطلق، وإذا كان الموقوف عليهم عددا، صار لكلِّ نظرٌ بقدر نصيبه؛ لأن كل واحد منهم مستحق، ومعني بقدر نصيبه، أنه لو أمكن أن يجزأ الوقف -وهم ستة مثلاً- إلى ستة أجزاء، وكل واحد ينظر على سدس فلا بأس، فإن كانوا غير محصورين كان النظر للقاضي. الراجح: الذي أميل إليه أن الموقوف عليه لا يستحق النظر أصالة، فإذا لم يجعل الواقف النظر إليه لم يكن له حق في ولاية الوقف، بل يكون النظر للقاضي، والمقصود به لجنة يشرف عليها القضاء؛ لأن الأمر لا يتعلق في ملك الموقوف عليه للغلة، فالعين الموقوفة تحتاج إلى الإنفاق عليها من أجل المحافظة على الوقف، ومن أجل صيانته وعمارته، وهذا الحق مقدم على حق الموقوف عليه، فإذا جعل النظر للموقوف عليه ربما قدم حظ نفسه في استغلال الوقف على ¬
حساب الواقف في بقاء العين، وحرمان المستحقين من بعده، فإذا كان الحق ليس للموقوف عليه وحده؛ لأن من بعده يشاركه في هذا الحق، لم يستحق النظر إليه أصالة، فإذا كان لا بد من جعل النظر للموقوف عليه فلا بد من ضبط ذلك بإشراف إدارة الأوقاف عليه، بأن تفرض جعل مال مقدر يرصد للوقف في حال حاجته إلى عمارة، وللتأكد من أنهم يقومون بواجباتهم في المحافظة على العين، والله أعلم.
الفصل الثالث الشروط التي يجب توفرها في ناظر الوقف
الفصل الثالث الشروط التي يجب توفرها في ناظر الوقف اشترط الفقهاء في ناظر الوقف شروطًا منها ما هو محل اتفاق، ومنها ما هو محل خلاف، والبحث في هذا الفرع في الشروط التي هي محل اتفاق بينهم: الشرط الأول: [م - 1595] في اشتراط التكليف بأن يكون الناظر بالغًا عاقلاً، وهذا الشرط معتبر في الجملة على خلاف بين المذاهب في تفصيل هذا الشرط، وإليك بيان هذه المذاهب في اعتبار هذا الشرط. القول الأول: مذهب الحنفية في اشتراط التكليف: يشترط الحنفية لصحة التولية سواء أكانت من قبل الواقف أو من قبل القاضي أن يكون المولى عاقلاً، جاء في الفتاوى الهندية: "ويشترط في الصحة بلوغه وعقله" (¬1). فإن كان مجنونًا عند التولية لم تصح توليته، وإن كان عاقلًا ثم حسن كانت التولية عند صدورها صحيحة، وينعزل إن كان الجنون مطبقًا, ولا يعزل إن كان الجنون متقطعًا، وفي حال العزل بالجنون تعود الولاية بالإفاقة إن كان مولى من قبل الواقف؛ لتنفيذ شرط الواقف ما أمكن التنفيذ، وقد أمكن تنفيذ شرطه ¬
بالإفاقة فوجب تنفيذه، ولأن الولاية زالت بعارض فإذا زال عاد إلى ما كان عليه، ولا تعود إن كان مولى من قبل القاضي (¬1). جاء في حاشية ابن عابدين: "ينعزل بالجنون المطبق سنة لا أقل، ولو برئ عاد إليه النظر، قال في النهر: والظاهر أن هذا في المشروط له النظر أما المنصوب من القاضي فلا" (¬2). هذا مذهب الحنفية في ولاية المجنون، وأما كلامهم في ولاية الصبي: فالقياس أن تولية الصبي لا تصح مطلقًا؛ لأن النظر على الوقف من باب الولاية، والصغير يولى عليه لقصوره، وفي الاستحسان أنها باطلة ما دام صغيرًا، فإذا كبر تكون الولاية له؛ لأنه إذا جازت تولية من لم يوجد، كأن يقول في وقفه: الولاية للأرشد فالأرشد ممن يوجد من ذريته، جاز تولية الصغير بالأولى، ولا تظهر ثمرتها إلا إذا رشد، ويولي القاضي من شاء حتى يكبر. وصحح بعض الحنفية ولاية الصغير بشرطين أن يكون أهلاً للحفظ، وأن يأذن له القاضي (¬3). جاء في البحر الرائق: "ولو أوصى إلى صبي تبطل في القياس مطلقًا، وفي ¬
القول الثاني: مذهب المالكية والحنابلة في اشتراط التكليف.
الاستحسان هي باطلة ما دام صغيرًا، فإذا كبر تكون الولاية له، وحكم من لم يخلق من ولده ونسله في الولاية كحكم الصغير قياسًا واستحسانًا" (¬1). وجاء في حاشية ابن عابدين: "مطلب في تولية الصبي. ويشترط للصحة بلوغه وعقله ... لما في الإسعاف، لو أوصى إلى الصبي تبطل في القياس مطلقًا، وفي الاستحسان هي باطلة ما دام صغيرًا، فإذا كبر تكون الولاية له ... وفي فتاوى العلامة الشلبي: وأما الإسناد للصغير فلا يصح بحال، لا على سبيل الاستقلال بالنظر، ولا على سبيل المشاركة لغيره؛ لأن النظر على الوقف من باب الولاية، والصغير يولى عليه لقصوره، فلا يصح أن يولى على غيره اهـ نعم رأيت في أحكام الصغار للأستروشني عن فتاوى رشيد الدين قال القاضي: إذا فوض التولية إلى صبي يجوز إذا كان أهلا للحفظ وتكون له ولاية التصرف، كما أن القاضي يملك (إذن) الصبي وإن كان الولي لا يأذن اهـ وعليه فيمكن التوفيق يحمل ما في الإسعاف وغيره على غير الأهل للحفظ بأن كان لا يقدر على التصرف، أما القادر عليه فتكون توليته من القاضي إذنًا له في التصرف، وللقاضي أن يأذن للصغير، وإن لم يأذن له وليه" (¬2). القول الثاني: مذهب المالكية والحنابلة في اشتراط التكليف. ذهب المالكية والحنابلة إلى أن الواقف إذا لم يجعل ناظرًا فإن النظر للموقوف عليه، فإن كان معينًا رشيدًا فهو الذي يتولى أمر الوقف، وإن كان صغيرًا أو مجنونًا فوليه (¬3). ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية
قال الدردير: "فإن لم يجعل ناظرًا، فإن كان المستحق معينًا رشيدًا فهو الذي يتولى أمر الوقف، وإن كان غير رشيد فوليه" (¬1). وقال في الإقناع في فقه الإمام أحمد: "وإن كان النظر للموقوف عليه، إما بجعل الواقف النظر له، أو لكونه أحق به؛ لعدم ناظر، فهو أحق بذلك إذا كان مكلفًا رشيدًا رجلاً كان، أو امرأة، عدلاً أو فاسقًا؛ لأنه ينظر لنفسه ... فإن كان الموقوف عليه صغيرًا، أو سفيهًا، أو مجنونًا قام وليه في النظر مقامه كملكه الطلق" (¬2). القول الثالث: مذهب الشافعية: سبق بيان مذهب الشافعية أن حق تولية أمر الوقف الأصل أنها للواقف، سواء شرطها لنفسه، أو شرطها لغيره. وفي حال شرطها لنفسه فإنه من المعلوم أنه لا يصح أن يكون الواقف صغيرًا أو مجنونًا؛ لأن التبرع بالمال لا يصح إلا من مكلف، وهو البالغ العاقل. وأما إذا شرط النظر لغيره، فلا يصح أن يولي صغيرًا أو مجنونًا؛ لأن الغرض من التولية هي القيام بوظائف الوقف، من حفظه، وعمارته، وإجارته، ونحو ذلك، وكل هذه الوظائف لا يصح أن يقوم فيها إلا من توفرت فيه الأهلية لذلك، وهو البالغ العاقل. ¬
الراجح
وإذا وقف، ولم يشترط التولية، فحق التولية في مذهب الشافعية فيه ثلاثة طرق: المشهور من مذهب الشافعية أن النظر للقاضي، وهذا بحد ذاته يلزم منه توفر التكليف في ناظر الوقف. وقيل: النظر للواقف فكذلك، يلزم منه أن يكون مكلفًا؛ لأن الواقف لا يصح وقفه وتبرعه إلا إذا كان مكلفًا: أي بالغًا عاقلاً. وقيل: النظر للموقوف عليه؛ لأن الملك له، وهذا يعني إن كان صغيرًا أو مجنونًا قام عنه وليه. هذا ملخص مذهب الشافعية (¬1). الراجح: أن نظر الصبي والمجنون إن كان ثبت له أصالة بدون تعيين قام وليه مقامه، كما لو قيل: إن النظر للموقوف عليه إذا لم يعين الواقف ناظرًا؛ لأن هذا الحق استمده من ملكيته لغلة الوقف، فكما يملك الصغير والمجنون غلة الوقف، يملك النظر، ويقوم وليه مقامه. وإن كان النظر للصبي أو للمجنون ثبت له بالتولية من قبل الواقف أو من القاضي، وليس لأنه يملك غلة الوقف فلا يصح منهما أن يوليا على الوقف صغيرًا أو مجنونًا؛ لعدم الأهلية، والله أعلم. ¬
الشرط الثاني: في اشتراط العدالة.
الشرط الثاني: في اشتراط العدالة. قال ابن رشد في تعريف العدالة: "وأحسن ما رأيت في ذلك أنه المجتنب للكبائر، المتوقي من الصغائر" (¬1). ففهم منه أن الصغائر يكفي أن يكون حريصًا على التوقي منها؛ لأن لا يمكن لبشر السلامة منها، وإنما هي أمارة على البشرية، فلا يخرج من العدالة في الوقوع في شيء منها ما دام حريصاً على التوقي منها. ¬
القول الأول: مذهب الحنفية
وقال محمَّد الأمين الشنقيطي: "العدالة هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعًا" (¬1). وأحسن ما قيل فيها ما ذكره ابن حبان في صحيحه: والعدالة في الإنسان: هو أن يكون أكثر أحواله طاعة الله؛ لأنا متى ما لم نجعل العدل إلا من لم يوجد منه معصية بحال أدانا ذلك إلى أن ليس في الدنيا عدل؛ إذ الناس لا تخلو أحوالهم من ورود خلل الشيطان فيها، بل العدل من كان ظاهر أحواله طاعة الله، والذي يخالف العدل من كان أكثر أحواله معصية الله (¬2). والغرض من اشتراط العدالة متعدد، ففي الرواية الغرض منها أن يؤمن معها الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي المعاملات أن يؤمن معها الخيانة، وأكل أموال الناس بالباطل. وتحصل العدالة إما بالاختبار، وإما بالتزكية، وإما بالاستفاضة بأنه عدل. [م - 1596] إذا علم ذلك نأتي إلى اشتراط العدالة في ناظر الوقف: القول الأول: مذهب الحنفية: اختلف الحنفية في كون العدالة شرط صحة، أو شرط أولية على قولين: أحدهما: أن العدالة شرط لصحة التولية، جاء في البحر الرائق نقلاً من الإسعاف: "لا يولى إلا أمين قادر بنفسه أو بنائبه؛ لأن الولاية مقيدة بشرط النظر، وليس من النظر تولية الخائن؛ لأنه يخل بالمقصود" (¬3). ¬
القول الثاني: مذهب المالكية
الثاني: أن العدالة شرط للأولوية وليس بشرط للصحة، وحجتهم في ذلك: أن الفسق عندهم لا يمنع صحة التولية في القضاء، فكذلك لا يمنع الفسق صحة التولية في الوقف؛ لأن القضاء أشرف منصبًا، وأعظم خطرًا، فإذا فسق القاضي استحق العزل، ولا ينعزل بالفسق حتى يعزل. جاء في البحر الرائق: "الظاهر أنها شرائط الأولوية، لا شرائط الصحة، وأن الناظر إذا فسق استحق العزل، ولا ينعزل؛ لأن القضاء أشرف من التولية، ويحتاط فيه أكثر من التولية والعدالة فيه شرط الأولوية حتى يصح تقليد الفاسق، وإذا فسق القاضي لا ينعزل على الصحيح المفتى به فكذا الناظر" (¬1). وقال ابن عابدين: "والظاهر: أنها شرائط الأولوية، لا شرائط الصحة، وأن الناظر إذا فسق استحق العزل، ولا ينعزل، كالقاضي إذا فسق لا ينعزل على الصحيح المفتى به" (¬2). القول الثاني: مذهب المالكية: سبق لنا مذهب المالكية في تنصيب الناظر للوقف، وأن الناظر إما أن يعينه الواقف، أو يترك الواقف تعيين الناظر. فإن عينه الواقف فذاك. وإن لم يعين الواقف ناظرًا، فإما أن يكون الوقف على جهة غير محصورة كالفقراء، أو على جهة لا تملك كالمساجد ونحوها، فالقاضي هو الذي يتولى تعيين الناظر. وإن كان الوقف على معين راشد، استحق الموقوف عليه النظر. ¬
فإن كان الناظر منصوبًا من القاضي اشترطت العدالة فيه، وكذا لو كان منصوبًا من قبل الواقف، فإذا عينه الواقف لم يملك القاضي عزله إلا بجنحة، وللواقف عزله ولو بغير جنحة. وإن كان الناظر هو المستحق للوقف، كما لو كان الموقوف عليهم عددًا معينًا محصورًا يملكون أمر نفسهم، فإن النظر لهم إذا لم يعين الواقف ناظرًا، فإذا رضوا أن يتولى الوقف رجل غير عدل كان لهم ذلك، ولا يملك القاضي عزله. هذا ملخص مذهب المالكية. جاء في مواهب الجليل: "قال ابن عرفة: والنظر في الحبس لمن جعله إليه محبسه. المتيطي: يجعله لمن يثق به في دينه، فإن غفل المحبس عن ذلك كان النظر فيه للحاكم يقدم له من يرتضيه ... قلت -القائل الحطاب- قوله: فإن غفل المحبس عن ذلك كان النظر فيه للحاكم هذا والله أعلم إذا لم يكن المحبس عليه معينا مالكًا أمر نفسه، وأما إن كان مالكًا أمر نفسه، ولم يول المحبس على حبسه أحداً فهو الذي يحوزه ويتولاه، يدل على ذلك غالب عبارات أهل المذهب ... أن الناظر على الحبس إذا كان سيىء النظر غير مأمون فإن القاضي يعزله إلا أن يكون المحبس عليه مالكا أمر نفسه ويرضى به ويستمر" (¬1). وفي حاشية الدسوقي: "ذكر البدر القرافي أن القاضي لا يعزل ناظرًا إلا بجنحة، وللواقف عزله ولو لغير جنحة" (¬2). ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية
القول الثالث: مذهب الشافعية: ذهب الشافعية إلى أنه يشترط في الناظر العدالة سواء كان المتولي هو الواقف، أو منصوبه، أو القاضي، حتى ولو كان الوقف على معينين رشداء. واختلفوا في العدالة الباطنة، فاختار الأذرعى من الشافعى إلى اشتراط العدالة الباطنة، ورجحه كثير من الشافعية (¬1). واشترط السبكي العدالة الباطنة في منصوب القاضي دون منصوب الواقف، وصوبه الخطيب في مغني المحتاج. جاء في مغني المحتاج: "وشرط الناظر العدالة، وإن كان الوقف على معينين رشداء؛ لأن النظر ولاية كما في الوصي والقيم. قال السبكي: ويعتبر في منصوب الحاكم العدالة الباطنة، وينبغي أن يكتفى في منصوب الواقف بالظاهرة كما في الأب، وإن افترقا في وفور شفقة الأب، وخالف الأذرعي فاعتبر فيه الباطنة أيضًا، والأول أوجه" (¬2). ولو فسق الناظر انعزل، وصارت الولاية للحاكم؛ لأنه صار غير أهل للنظر؛ إذ العدالة شرط في الدوام كما هي شرط في الابتداء، وإذا عادت العدالة، فهل يعود حقه في الولاية، فيه تفصيل: إن كان الناظر مولى من قبل القاضي لم تعد له الولاية. وإن كان الناظر مولى من قبل الواقف، أو بمقتضى شرطه عادت له الولاية؛ ¬
القول الرابع: مذهب الحنابلة.
لأنه إذا كان من قبله لا يجوز لأحد عزله، ولا الاستبدال به، والفسق العارض مانع من التصرف، وليس بسالب لأصل الولاية، فإذا أو المانع عادت له الولاية. جاء في فتوحات الوهاب: "ولو فسق الناظر، ثم عاد عدلاً عادت ولايته، إن كانت له بشرط الواقف، وإلا فلا كما أفتى به النووي" (¬1). وجاء في نهاية المحتاج: "ولا يعود النظر بعود الأهلية، ما لم يكن نظره بشرط الواقف، كما أفتى به المصنف؛ لقوته؛ إذ ليس لأحد عزله، ولا الاستبدال به، والعاوض مانع من تصرفه، لا سالب لولايته" (¬2). القول الرابع: مذهب الحنابلة. ذهب الحنابلة إلى أن النظر إن كان لغير الموقوف عليه، وكانت توليته من الحاكم أو الناظر فلا بد من شرط العدلة فيه. قال الحارثي: بغير خلاف علمته. وإن كانت توليته من الواقف، وهو فاسق، يصح، ويضم إليه أمين. وإن كان النظر للموقوف عليه إما بجعل الواقف النظر له، أو لكونه أحق بذلك عند عدم ناظر فهو أحق بذلك، رجلاً كان أو امرأة، عدلاً كان أو فاسقًا؛ لأنه ينظر لنفسه. وقيل: يضم إلى الفاسق عدل لما فيه من العمل بالشرط، وحفظ الوقف، وصوبه في الإنصاف (¬3). ¬
الراجح
جاء في المغني: "ومتى كان النظر للموقوف عليه، إما بجعل الواقف ذلك له، أو لكونه أحق بذلك عند عدم ناظر سواه، وكان واحدًا مكلفًا رشيدًا، فهو أحق بذلك، رجلاً كان أو امرأة، عدلاً كان أو فاسقًا؛ لأنه ينظر لنفسه، فكان له ذلك في هذه الأحوال، كالطلق ويحتمل أن يضم إلى الفاسق أمين؛ حفظا لأصل الوقف عن البيع أو التضييع. وإن كان الوقف لجماعة رشيدين، فالنظر للجميع، لكل إنسان في نصيبه ... وإن كان النظر لغير الموقوف عليه، أو لمعض الموقوف عليه، بتولية الواقف، أو الحاكم لم يجز أن يكون إلا أمينًا، فإن لم يكن أمينًا، وكانت توليته من الحاكم، لم تصح. وأزيلت يده. وإن ولاه الواقف وهو فاسق، أو ولاه وهو عدل وصار فاسقًا، ضم إليه أمين ينحفظ به الوقف، ولم تزل يده؛ ولأنه أمكن الجمع بين الحقين. ويحتمل أن لا تصح توليته، وأنه ينعزل إذا فسق في أثناء ولايته؛ لأنها ولاية على حق غيره، فنافاها الفسق، كما لو ولاه الحاكم، وكما لو لم يمكن حفظ الوقف منه مع بقاء ولايته على حق غيره، فإنه متى لم يمكن حفظه منه أزيلت ولايته، فإن مراعاة حفظ الوقف أهم من إبقاء ولاية الفاسق عليه" (¬1). الراجح: أن من ولاه القاضي فيشترط فيه العدالة، وما ولاه الواقف، أو كان النظر ¬
الشرط الثالث: في اشتراط الكفاية.
للموقوف عليه على القول بأن النظر للموقوف عليه إذا كان معينًا, ولم يعين الواقف ناظرًا فإنه يصح تولية الفاسق، ويضم إليه أمين من أجل حفظ الوقف عن الضياع، والله أعلم. الشرط الثالث: في اشتراط الكفاية. والمراد بها: قوة الشخص وقدرته على التصرف فيما هو ناظر فيه. وذكر في الإنصاف: الكفاية في التصرف، والخبرة به، والقوة عليه. فصارت الكفاية: هي القوة والقدرة والخبرة فيما هو ناظر فيه، يقابله: العاجز وسيء النظر. وإذا عرفت الكفاية فقد وقع خلاف بين الفقهاء على اعتبارها في الناظر على قولين: القول الأول: ذهب الجمهور إلى اعتبار توقر الكفاية, وهو مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة. قال في مواهب الجليل: "أن الناظر على الحبس إذا كان سيئ النظر غير مأمون، فإن القاضي يعزله إلا أن يكون المحبس عليه مالكًا أمر نفسه ويرضى به ويستمر" (¬1). وجاء في مغني المحتاج: "وشرطه أيضًا الكفاية، وفسرها في الذخائر بقوة الشخص، وقدرته على التصرف فيما هو ناظر عليه" (¬2). ¬
القول الثاني
وجاء في الإنصاف: "يشترط في الناظر الإِسلام، والتكليف، والكفاية في التصرف، والخبرة به، والقوة عليه. ويضم إلى الضعيف قوي أمين" (¬1). وجاء في مطالب أولي النهى: "وشرط فيه أيضًا كفاية لتصرف، وخبرة -أي: علم به، أي: التصرف، وقوة عليه؛ لأن مراعاة حفظ الوقف مطلوبة شرعًا، وإذا لم يكن المتصرف متصفًا بهذه الصفات لم يمكنه مراعاة حفظ الوقف ... ويضم لناظر ضعيف تعين كونه ناظرًا، بشرط واقف، أو كون الموقوف عليه قويًا أمينًا ليحصل المقصود" (¬2). القول الثاني: ذهب الحنفية إلى اعتبار الكفاية شرط أولوية، وليست شرطًا للصحة. جاء في البحر الرائق نقلاً من الإسعاف: "لا يولى إلا أمين قادر بنفسه، أو بنائبه؛ لأن الولاية مقيدة بشرط النظر، وليس من النظر تولية الخائن؛ لأنه يخل بالمقصود، وكذا تولية العاجز؛ لأن المقصود لا يحصل به ... والظاهر أنها شرائط الأولوية لا شرائط الصحة" (¬3). الراجح: أن من ولاه القاضي فيشترط فيه الكفاية، وما ولاه الواقف، أو كان النظر للموقوف عليه على القول بأن النظر للموقوف عليه إذا كان معينًا, ولم يعين ¬
الشرط الرابع: الاسلام.
الواقف ناظرًا فإنه يصح تولية من لم تتوفر فيه الكفاية، ويضم إليه قوي ذو خبرة من أجل حفظ الوقف عن الضياع، والله أعلم. الشرط الرابع: الاسلام. اختلف العلماء في اشتراط الإسلام في ناظر الوقف على قولين: القول الأول: الإِسلام ليس شرطًا ولاية الواقف؛ لأن الكافر يملك الأهلية في ذاته لخلاف الصبي والمجنون، وهذا مذهب الحنفية. جاء في حاشية ابن عابدين: "ويشترط للصحة بلوغه وعقله، لا حريته وإسلامه لما في الإسعاف ... ولو كان عبدًا يجوز قياسًا، واستحسانه لأهلية في ذاته ... ثم الذمي في الحكم كالعبد" (¬1). وفي الفتاوى الهندية: "ولو كان عبدًا يجوز قياسًا واستحسانًا، والذمي في الحكم كالعبد" (¬2). القول الثاني: مذهب المالكية: النص الذي ظفرت به عن المالكية ما جاء في التاج والإكليل عن المتيطي، جاء فيه: عن "المتيطي يجعله لمن يوثق به في دينه وأمانته، فإن غفل المحبس عن ذلك كان النظر فيه للقاضي يقدم له من يقتضيه" (¬3). ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية
وهذا القول يدل على دخول المسلم العدل بلا شك، وهل يخرج غيره فيه تأمل. القول الثالث: مذهب الشافعية: أجاز الشافعية في باب الوصية والنكاح صحة ولاية الذمي على مثله. قال النووي: "ولا يجوز وصاية مسلم إلى ذمي، ويجوز عكسه، وتجوز وصاية الذمي إلى الذمي على الأصح بشرط العدالة في دينه" (¬1). فهل تقاس الولاية في الوقف على الولاية في الوصية والنكاح؟ الجواب: ذهب إلى ذلك بعض الشافعية، جاء في تحفة المحتاج: "وقياس ما يأتي في الوصية، والنكاح صحة شرط ذمي النظر لذمى عدل في دينه أي: إن كان المستحق ذميًا" (¬2). وهذا خلاف ما هو معتمد في مذهب الشافعية. جاء في نهاية المحتاج: "وشرط الناظر العدالة الباطنة مطلقًا، كما رجحه الأذرعي ... فينعزل بالفسق المحقق، بخلاف غيره نحو كذب أمكن كونه معذورًا فيه كما هو ظاهر، وسواء في الناظر أكان هو الواقف أم غيره، ومتى انعزل بالفسق فالنظر للحاكم" (¬3). وجاء في حاشيتي قليوبي وعميرة: "وشرط الناظر وإن كان هو الواقف ... العدالة أي الباطنة، فلا يصح لذمي، ولو من ذمي" (¬4). ¬
القول الرابع: مذهب الحنابلة
وقال الشرواني في حاشيته على تحفة المحتاج: "لكن يرد باشتراط العدالة الحقيقية، والفرق بين هذا وصحة تزويج الذمي موليته واضح ... وقوله واضح: وهو أن ولي النكاح فيه وازع طبيعي يحمله على الحرص على تحصين موليته دفعًا للعار عنه بخلاف الوقف" (¬1). واعتبر الشبراملسي القول بالرد هو المعتمد (¬2). القول الرابع: مذهب الحنابلة: ذهب الحنابلة إلى أنه يشترط في الناظر الإسلام إن كان الموقوف عليه مسلمًا، أو كانت الجهة كمسجد ونحوه، لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]. فإن كان الوقف على كافر معين جاز شرط النظر فيه لكافر، كما لو وقف على أولاده الكفار، وشرط النظر لأحدهم أو غيرهم من الكفار. قال في كشاف القناع: "ويشترط في الناظر المشروط إسلام إن كان الموقوف عليه مسلمًا، أو كانت الجهة كمسجد، ونحوه ... فإن كان الوقف على كافر معين، جاز شرط النظر فيه لكافر، كما لو وقف على أولاده الكفار، وشرط النظر لأحدهم أو غيرهم من الكفار، فيصح كما في وصية الكافر لكافر على كافر أشار إليه ابن عبد الهادي، وغيره" (¬3). جاء في شرح منتهى الإرادات: "وشرط في ناظر مطلقًا أسلام، إن كان ¬
الراجح
الوقف على مسلم أو جهة من جهات الإِسلام، كالمساجد والمدارس، والربط، ونحوها لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]. فإن كان الوقف على معين كافر فله النظر عليه؛ لأنه ملكه كما تقدم ينظر فيه لنفسه أو وليه" (¬1). الراجح: أن الوقف إذا كان على بر، كالوقف على المساجد وطلبة العلم اشترط فيه الإِسلام، وإذا كان الوقف على معين جاز أن يتولى الكافر إذا كان الموقوف عليه مثله، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع في المهام التي يقوم بها الناظر
الفصل الرابع في المهام التي يقوم بها الناظر يقوم الناظر بمهام كثيرة، وقد ينص الواقف على بعض مهامه، فلا يتعداها، وقد يكون النظر له مطلقًا، من تلك المهام: الأول: عمارة الوقف، وحفظه وصيانته. [م - 1597] ففي الإسعاف: "أول ما يفعله القيم في غلة الوقف البداءة بعمارته، وأجرة القوام، وإن لم يشترطها الواقف نصا لشرطه إياها دلالة؛ لأن قصده منه وصول الثواب إليه دائمًا, ولا يمكن إلا بها" (¬1). قال ابن نجيم: "أول ما يفعله القيم في غلة الوقف البداءة بالعمارة، وأجرة القوام، وإن لم يشترطها الواقف ويتحرى في تصرفاته النظر للوقف والغبطة" (¬2). قال الخرشي: "يبدأ بمرمة الوقف وإصلاحه؛ لأن في ذلك البقاء لعينه والدوام لمنفعته" (¬3). وجاء في منهج الطالبين: "وشرط الناظر: عدالة، وكفاية. ووظيفته: عمارة وإجارة وحفظ أصل ... " (¬4). وجاء في دليل الطالب: "ووظيفة الناظر: حفظ الوقف، وعمارته، وإيجاره ¬
وزرعه، والمخاصمة فيه، وتحصيل ريعه، والاجتهاد في تنميته، وصرف الريع في جهاته من عمارة، وإصلاح، وإعطاء المستحقين" (¬1). بل ذهب الحنفية والمالكية إلى أن الواقف لو اشترط تقديم الإنفاق على الموقوف عليه على عمارة الوقف بطل شرطه. جاء في قانون العدل والإنصاف: "إذا شرط -يعني الواقف- الاستواء بين أرباب الشعائر والعمارة، وضاق ريع الوقف، فلا يراعى شرطه، وتقدم العمارة على سائر الجهات الضرورية لانتظام مصالح المسجد، أو المدرسة" (¬2). وجاء في التاج والإكليل: "لو شرط الواقف ما يجوز أن يبدأ من غلتها بمنافع أهله، ويترك إصلاح ما يتخرم منه، بطل شرطه" (¬3). وقال القرافي: "والبداية بالإصلاح من الريع حفظًا لأصل الوقف، بل لو شرط خلاف ذلك بطل؛ لأنه خلاف سنة الوقف" (¬4). وفي إرشاد السالك في فقه الإمام مالك: "ويبدأ بعمارته، ورم دارسه، وإن شرط غير ذلك" (¬5). وقال الدسوقي في حاشيته: "لو شرط الواقف أنه يبدأ من غلته بمنافع أهله، ¬
الثاني: تنفيذ شروط الواقف.
ويترك إصلاح ما تهدم منه، أو يترك الإنفاق عليه إذا كان حيوانا بطل شرطه وتجب البداءة بمرمته، والنفقة عليه من غلته لبقاء عينه" (¬1). وجاء في نهاية المحتاج: "وعمارة الوقف مقدمة على الموقوف عليه" (¬2). وقال في الفروع: "يقدم عمارة الوقف على أرباب الوظائف" وقد بحثت هذه المسألة في الكلام على عمارة الوقف، وبينت فيها خلاف العلماء فأغنى ذلك عن إعادته هنا. الثاني: تنفيذ شروط الواقف. [م - 1598] الأصل في ناظر الوقف أنه منفذ لما شرط الواقف، لا يحق له أن يضع شروطًا من قبله، فإذا شرط الواقف في وقفه على الأولاد والذرية أن توزع غلة الوقف بالتساوي، أو شرط أن توزع على حسب الفريضة الشرعية في الإرث، للذكر مثل حظ الأنثيين، أو على أن يبدأ أولاً بفقراء قرابته، أو على أن يكون العقار للاستغلال فقط، أو أن يكون للسكنى فقط, فكل ذلك وأمثاله يجب على الناظر اتباع شرط الواقف، ولا تجوز مخالفة شرط الواقف إلا ما استثني من ذلك كما لو اشترط شروطًا تضر بمصلحة الوقف، أو بمصلحة الموقوف عليه فلا يتبع في ذلك (¬3): جاء في البحر الرائق نقلاً من الإسعاف: "لو شرط الواقف أن لا يؤجر ¬
المتولي الوقف، ولا شيئًا منه، وأن لا يدفعه مرارعة، أو على أن لا يعمل على ما فيه من الأشجار، أو شرط أن لا يؤجر إلا ثلاث سنين، ثم لا يعقد عليه إلا بعد انقضاء العقد الأول، كان شرطه معتبرًا ولا تجوز مخالفته. اهـ" (¬1). وقال ابن مفلح: "والناظر منفذ لما شرط الواقف، ليس له أن يبتدئ شروطًا" (¬2). وقال أيضًا: "وعلى الناظر بيان المصلحة فيعمل بما ظهر، ومع الاشتباه إن كان عالمًا عادلًا سوغ له اجتهاده، قال. ولا أعلم خلافًا أن من قسم شيئًا يلزمه أن يتحرى العدل، ويتبع ما هو أرضى لله ورسوله، استفاد القسمة بولاية كإمام وحاكم، أو بعقد كالناظر والوصي، ويتعين مصرفه" (¬3). ولذلك ذهب جمهور الفقهاء إلى أن شرط الواقف كنص الشارع. قال الخرشي: "الواقف إذا شرط في كتاب وقفه شروطًا فإنه يجب اتباعها حسب الإمكان، إن كانت تلك الشروط جائزة؛ لأن ألفاظ الواقف كألفاظ الشارع في وجوب الاتباع، فإن شرط شروطا غير جائزة فإنه لا يتبع" (¬4). وقال ابن مفلح في المبدع: "ولأن الوقف متلقى من جهته فاتبع شرطه ونصه كنص الشارع" (¬5). ¬
الثالث: هل للناظر أن يستدين على الوقف؟
وجاء في مطالب أولي النهى: " (ويرجع): -بالبناء للمفعول- عند التنازع في شيء من أمر الوقف (وجوبًا لشرط واقف) ... لأن الوقف متلقى من جهته؛ فاتبع شرطه، ونصه كنص الشارع، (ولو) كان الشرط (مباحًا") (¬1). وقد تكلمت في فصل مستقل على معنى قول الفقهاء: شرط الواقف كنص الشارع، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. الثالث: هل للناظر أن يستدين على الوقف؟ الاستدانة: أن يحتاج الوقف إلى تعميره، وليس في يد الناظر شيء من غلة الوقف، ومعنى الاستدانة على الوقف أن تكون جهة الوقف مطالبة بأداء هذا الدين من غلة الوقف، فما يستدان للوقف لا يكون واجبًا في رقبة الوقف، بل واجبًا في الغلة. [م - 1599] إذا علم ذلك فقد اختلف العلماء في جواز الاستدانة على الوقف إذا احتاج الوقف إلى عمارة وإصلاح، ولم يوجد من الغلة ما يكفي للقيام بذلك. القول الأول: ذهب الحنفية إلى جواز استدانة الناظر على الوقف لضرورة العمارة إذا لم يكن من الاستدانة بد بشرطين: الشرط الأول: أن يأذن له الواقف بذلك، فإن لم يأذن له الواقف أخذ إذن القاضي إذا لم يكن القاضي بعيدًا عنه، فإن كان بعيدًا جاز له أن يستدين بنفسه، ¬
الشرط الثاني: ألا يتيسر إجارة الوقف، والصرف من إجارتها.
فإن كان في يده شيء من الغلة، واشترى شيئًا للوقف من ماله، جاز له أن يرجع بذلك في غلته، وإن لم تكن بأمر القاضي، كالوكيل بالشراء إذا نقد الثمن من ماله، فإنه يجوز له الرجوع به على الموكل. الشرط الثاني: ألا يتيسر إجارة الوقف، والصرف من إجارتها. أما ما له منه بد فلا يستدين مطلقًا، كالاستدانة على الوقف من أجل الصرف على المستحقين، إلا أن يستدين من أجل استحقاق الإمام والخطيب، والمؤذن فيجوز ذلك؛ لأن ذلك لضرورة مصالح المسجد (¬1). قال ابن نجيم: "الاستدانة على الوقف لا تجوز, إلا إذا احتيج إليها لمصلحة الوقف كتعمير وشراء بذر، فتجوز بشرطين: الأول: إذن القاضي. الثاني: أن لا يتيسر إجارة العين والصرف من أجرتها، كما حرره ابن وهبان وليس من الضرورة الصرف على المستحقين كما في القنية" (¬2). القول الثاني: ذهب المالكية والحنابلة، وهو قول في مذهب الحنفية، واختاره البلقيني من الشافعية إلى أنه يجوز للناظر أن يستدين لمصلحة الوقف من غير إذن القاضي ¬
وجه القول بذلك
عند قيام الحاجة إلى التعمير وعدم وجود غلة للوقف يمكن الصرف من عمارتها (¬1). وجه القول بذلك: أن الناظر مؤتمن على الوقف، مطلق التصرف في كل ما فيه مصلحة للوقف. وقياسًا للناظر على ولي اليتيم، فإنه يقترض دون إذن الحاكم. جاء في حاشية الدسوقي: "وله أن يقترض لمصلحة الوقف من غير إذن الحاكم، ويصدق في ذلك" (¬2). وفي حاشية الصاوي: "ولو التزم حين أخذ النظر أن يصرف على الوقف من ماله إن احتاج لم يلزمه ذلك، وله الرجوع بما صرفه، وله أن يقترض لمصلحة الوقف من غير إذن الحاكم، ويصدق في ذلك" (¬3). وقال البهوتي: "وللناظر الاستدانة على الوقف بلا إذن حاكم، كسائر تصرفاته لمصلحة، كشرائه للوقف نسيئة أو بنقد لم يعينه؛ لأن الناظر مؤتمن، مطلق التصرف، فالإذن والائتمان ثابتان" (¬4). ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية
وجاء في أسنى المطالب: "قال البلقيني: والتحقيق أنه لا يعتبر إذن الحاكم في الاقتراض، لا سيما في المسجد ونحوه، ومال إليه غيره تشبيهًا للناظر بولي اليتيم، فإنه يقترض دون إذن الحاكم" (¬1). القول الثالث: مذهب الشافعية: أن الناظر له الاقتراض على الوقف عند الحاجة إن شرط له الواقف، أو أذن فيه الحاكم، وللإمام أن يقرضه من بيت المال (¬2). جاء في حواشي الشرواني: "وله الاقتراض في عمارته بإذن الإمام، أو نائبه، والإنفاق عليها من ماله ليرجع، وللإمام أن يقرضه من بيت المال" (¬3). الراجح: الذي أراه أن النظر إن كان مقيدًا بنوع من التصرف كما لو فوض إليه الواقف توزيع الغلة فقط، أو جمع الغلة فقط لم يتجاوزه، ولا يحق له بهذا التفويض الاستدانة على الوقف، وإن أطلق له النظر فإنه يملك الاستدانة لضرورة الوقف كعمارته، وصيانته؛ لأن ذلك داخل في مهامه، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس في أجرة ناظر الوقف
الفصل الخامس في أجرة ناظر الوقف المبحث الأول في أجرة الناظر إذا كانت مقدرة الفرع الأول إذا كانت مقدرة من الواقف [م - 1600] ناظر الوقف: هو من يقوم بإدارة الوقف، والعناية بمصالحه، ولا يختلف العلماء أن له الأخذ من الوقف في مقابل عمله، (ح -1003) والأصل في ذلك، ما ورد في حبس عمر - رضي الله عنه - من مسند ابن عمر - رضي الله عنها -، وفيه: لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقًا غير متمول مالاً (¬1). (ح -1004) ومنه ما رواه البخاري من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يقتسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة (¬2). وترجم له البخاري بقوله: باب نفقة القيم للوقف. قال ابن بطال: "فبان بهذا أن العامل في الحبس له منه أجرة عمله، وقيامه عليه، وليس ذلك بتغيير ¬
الحال الأولى
للحبس، ولا نقض لشرط المحبس إذا حبس على قوم بأعيانهم، لا غنى عن عامل يعمل للمال" (¬1). وقال ابن حجر: "وهو قال على مشروعية أجرة العامل على الوقف" (¬2). إلا أن الفقهاء اختلفوا في تقديره تبعًا لاختلاف استحقاقه، هل استحق بالشرط، أو بالعمل؟ وهل جاء الاشتراط من قبل الواقف أو من قبل القاضي؟ فإذا قدر الواقف أجرة الناظر، فله ثلاث أحوال: الحال الأولى: أن يقدر الواقف للناظر أجرة مثله، وفي هذه الحال لا اختلاف بين الفقهاء في حق الناظر في الأجر المقدر، وذلك اتباعًا لشرط الواقف. ولأن الأصل في أجر الناظر أن يكون مساويًا لأجر المثل (¬3). الحال الثانية: أن يقدر الواقف للناظر أكثر من أجر المثل، وفي حكم هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: يجوز مطلقًا. وهذا مذهب الحنفية والمالكية، والحارثي من الحنابلة (¬4). ¬
القول الثاني
جاء في البحر الرائق: "وأما بيان ما له -يعني الناظر فإن كان من الواقف فله المشروط، ولو كان أكثر من أجرة المثل" (¬1). القول الثاني: يجوز بشرط أن يكون الناظر غير الواقف، فإن كان الناظر هو الواقف وشرط له أكثر من أجرة المثل لم يصح الوقف؛ لأنه يشبه الوقف على نفسه، وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية (¬2). جاء في نهاية المحتاج: "ويصح شرطه النظر لنفسه، ولو بمقابل، إن كان بقدر أجرة المثل فأقل كما قيده بذلك ابن الصلاح. قال الشبراملسي في حاشيته: "أما إن شرط النظر لغيره، وجعل للناظر أكثر من أجرة المثل لم يمتنع" (¬3). وفي مغني المحتاج: "ومنها: ما لو شرط النظر لنفسه بأجرة المثل (يعني فيصح) لأن استحقاقه لها من جهة العمل لا من جهة الوقف ... فإن شرط النظر بأكثر منها لم يصح الوقف؛ لأنه وقف على نفسه" (¬4). القول الثالث: يصح أن يفرض للناظر أكثر من أجرة المثل، وتكون كلفة ما يحتاج إليه ¬
الراجح
الوقف من أمناء وعمال على الناظر يصرفها من الزيادة حتى يبقى له أجرة المثل إلا أن يكون الواقف شرطه له خالصًا، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). جاء في كشاف القناع: "وإن شرط الواقف لناظر أجرة، أي: عوضًا معلومًا، فإن كان المشروط بقدر أجرة المثل اختص به، وكان ما يحتاج إليه الوقف من أمناء وغيرهم من غلة الوقف، وإن كان المشروط أكثر؛ فكلفته، أي: كلفة ما يحتاج إليه الوقف من نحو أمناء وعمال عليه، أي على الناظر يصرفها من الزيادة حتى يبقى له أجرة مثله، إلا أن يكون الواقف شرطه له خالصًا، وهذا المذكور في الناظر نقله الحارثي عن الأصحاب وقال: ولا شك أن التقدير بقدر معين صريح في اختصاص الناظر به، فتوقف الاختصاص على ما قالوا لا معنى له، إلى أن قال: وصريح المحاباة لا يقدح في الاختصاص به إجماعًا" (¬2). الراجح: أن الأجرة إن كانت مقدرة من قبل الواقف صحت مطلقًا، حتى ولو كانت أكثر من أجرة المثل؛ سواء كان الناظر هو الواقف، أو كان الناظر أجنبيًا؛ لأن المال ماله، وقد أخرجه بشرطه، فيتبع كسائر شروطه، والله أعلم. الحال الثالثة: أن يقدر الواقف للناظر أجرة أقل من أجرة المثل: ¬
الراجح
هذه المسألة نص عليها الحنفية، وذكروا أنه في مثل هذه الحالة: إما أن يرضى بهذا الأجر المقدر له فيعتبر متبرعًا، وإما أن لا يرضى بهذا الأجر، فله أن يطلب من القاضي أن يكمل له أجر مثله. جاء في حاشية ابن عابدين: "لو عين له الواقف أقل من أجر المثل، فللقاضي أن يكمل له أجر المثل بطلبه" (¬1). وظاهر مذهب المالكية أن الواقف إذا عين للناظر شيئًا لم يجعل له القاضي شيئًا، وكلمة شيء تعني أي شيء. جاء في حاشية الدسوقي: "للقاضي أن يجعل للناظر شيئًا من الوقف، إذا لم يكن له شيء" (¬2). فشرط تدخل القاضي مشروط بأن يكون الواقف لم يجعل له شيئًا، والله أعلم. وجاء في الشرح الصغير: "يجوز للقاضي أن يجعل للناظر أجرة من ريع الواقف على حسب المصلحة ... إلا إذا عين الواقف شيئًا" (¬3). فكلمة (شيئًا) ظاهره أنه لا يحق للقاضي التدخل بتعديل الأجرة إذا قدر له الواقف شيئًا. الراجح: الذي أميل إليه أن الواقف إن قدر للناظر شيئًا استحقه مطلقًا، سواء كان أكثر أو أقل أو كان مساويًا لعمله، فإن عمل بالوقف، وكان أجر عمله أكثر من ¬
الأجرة التي قدرها له الواقف فإن رضي كان متبرعًا، وإن لم يرض كان له أن يطلب من القاضي أجرة عمله؛ لأنه لا يجب أن يتبرع لغيره، والله أعلم.
الفرع الثاني في أجرة الناظر إذا لم عن مقدرة من قبل الواقف
الفرع الثاني في أجرة الناظر إذا لم عن مقدرة من قبل الواقف [م - 1601] إذا لم يجعل الواقف للناظر شيئًا، وأراد الناظر أجرًا على عمله، فهل يأخذ أجرته بنفسه، أو يرفع الأمر إلى القاضي؟ القول الأول: مذهب الحنفية: حرر ابن عابدين مذهب الحنفية في هذه المسألة، فذكر: أن الناظر إما أن ينصبه الواقف، أو ينصبه القاضي: فإن نصبه الواقف، وشرط له شيئًا فهو له، كثيرًا كان أو قليلاً، على حسب ما شرط، عمل أو لم يعمل. وإن لم يعين له الواقف أجرًا، وقدر له القاضي بطلبه، فإن عين له أجرة مثله جاز، وإن قدر له أكثر منع عنه ما زاد على أجرة المثل هذا إن عمل، وإن لم يعمل لم يستحق شيئًا. وإن نصبه القاضي، ولم يقدر له شيئًا ينظر: إن كان المعهود أن لا يعمل إلا بأجرة مثله فله أجرة المثل؛ لأن المعهود كالمشورط. وإلا فلا شيء له. هذا ما حرره ابن عابدين عن مذهب الحنفية. وقد ذكر ابن نجيم في القنية رأيين للحنفية في منصوب القاضي إذا لم يقدر له أجرًا. قال ابن نجيم: "إن كان منصوب القاضي، فله أجر مثله، واختلفوا هل
القول الثاني: مذهب المالكية
يستحقه بلا تعيين القاضي؟ فنقل في القنية أولًا: أن القاضي لو نصب قيمًا مطلقًا، ولم يعين له أجرًا، فسعى فيه سنة فلا شيء له. وثانيا: أن القيم يستحق أجر مثل سعيه، سواء شرط له القاضي، أو أهل المحلة أجرًا، أو لا؛ لأنه لا يقبل القوامة ظاهراً إلا بأجر، والمعهود كالمشروط" (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية: نص المالكية على أن الواقف إذا لم يقدر شيئًا للناظر فإن القاضي يقدر له باجتهاده بحسب المصلحة، وظاهره أنه ليس للناظر أن يقدر ذلك دون القاضي. جاء في حاشية الدسوقي: "للقاضي أن يجعل للناظر شيئًا من الوقف، إذا لم يكن له شيء" (¬2). وجاء في الشرح الصغير: "يجوز للقاضي أن يجعل للناظر أجرة من ريع الواقف على حسب المصلحة ... إلا إذا عين الواقف شيئًا" (¬3). القول الثالث: مذهب الشافعية: إذا لم يذكر الواقف للناظر أجرة، فالشافعية لهم قولان في المسألة: أحدهما: أن الناظر لا يستحق أجرة على الصحيح، فإن أخذ شيئًا ضمن، وهذا هو المعتمد في مذهب الشافعية، فان رفع الأمر إلى القاضي ليقدر له أجرة، فاللشافعية ثلاثة أقوال: ¬
أحدها: للقاضي أن يقدو له بشرط الحاجة مقدار نفقته، أما إذا لم يكن محتاجًا فلا حق له في خلة الوقف. وهذا القول رجحه الرافعي، ونسب للبلقيني. وقاسوه على ولي الطفل إذا كان فقيرًا ورفع أمره للقاضي متبرمًا من حفظ مال الطفل. الثاني: أنه يأخذ الأقل من نفقته وأجرة. مثله، اختاره النووي. جاء في تحفة المحتاج: "فإن لم يشرط له شيء فلا أجرة له، نعم له رفع الأمر إلى الحاكم ليقرر له الأقل من نفقته، وأجرة مثله، كولي اليتيم. ولأنه الأحوط للوقف" (¬1). الثالث: أن القاضي يقدر للناظر أجر المثل مطلقًا، محتاجًا كان أو غير محتاج، اختاره بعض المتأخرين من الشافعية (¬2). قال السبكي في تكملة المجموع: "ويستحق الناظر ما شرط من الأجرة، كما يجوز له رفع الأمر إلى الحاكم ليقرر له أجره. قال العراقي في تحريره: ومقتضاه أنه يأخذ مع الحاجة إما قدر النفقة كما رجحه الرافعي، أو الأقل من نفقته وأجرة مثله كما رجحه النووي، وقد رجح بعض المتأخرين من أصحابنا أن الظاهر هنا أنه يستحق أن يقرر له أجرة المثل، وإن كان أكثر من النفقة، وإنما اعتبرت النفقة هنا لوجوبها على فرعه، سواء أكان وليا على ماله أم لا، بخلاف الناظر" (¬3). ¬
القول الرابع: مذهب الحنابلة
القول الثاني في مذهب الشافعية: اختار ابن الصباغ من الشافعية أن للناظر الاستقلال بذلك، أي بأخذ الأقل من نفقته وأجرة مثله بدون الرجوع إلى الحاكم (¬1). وحمل الشرواني من الشافعية قول ابن الصباغ في حال فقد الحاكم بذلك المحل، أو تعذر الرفع إليه ما لم يثبت عنه نص بالتعميم (¬2). هذه هي الأقوال في مذهب الشافعية. القول الرابع: مذهب الحنابلة: للحنابلة أربعة أقوال في أجرة الناظر: أحدها: أنه إن كان مشهورًا بأنه يأخذ أجر عمله فله أجرة مثله؛ لأنه مقابل عمل يؤديه، وإن لم يكن معدًا لأخذ العوض على عمله فلا شيء له. قال عنه في الفروع: وهذا قياس المذهب (¬3). وقال البهوتي: هذا في عامل الناظر واضح، وأما الناظر ... إذا لم يسم له شيء يأكل بالمعروف (¬4). وجاء في الإقناع في فقه الإمام أحمد: "وإن لم يسم له شيئًا فقياس المذهب إن كان مشهورًا بأخذ البخاري على عمله فله جاري عمله، وإلا فلا شيء له" (¬5). ¬
الثاني: إذا لم يشترط الواقف للناظر شيئًا كان للناظر أن يأكل من غلة الوقف بالمعروف، سواء أكان محتاجًا أو غير محتاج إلحاقًا له بعامل الزكاة، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد (¬1). جاء في الإنصاف: "والمنصوص عن الإمام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية أبي الحارث وحرب: جواز الأكل منه بالمعروف. قاله في الفروع، وغيره. قال في الفائق بعد ذكر التخريج قلت: وإلحاقه بعامل الزكاة في الأكل مع الغنى أولى، كيف وقد نص الإمام أحمد على أكله منه بالمعروف، ولم يشترط فقرا ... " (¬2). الثالث: أنه يأكل من غلة الوقف إذا اشترط ذلك، قال ابن رجب في القواعد: "قال أحمد: وليه يأكل منه بالمعروف، إذا اشترط ذلك، ومفهومه المنع من الأكل بدون الشرط" (¬3). الرابع: أن لناظر الوقف أن يأخذ الأقل من أجر المثل أو كفايته قياسًا على الولي، ولا يستحق الأجر إلا إذا كان فقيرًا، كوصي اليتيم. جاء في الفروع: "ولا يحل للولي من مال موليه إلا الأقل من أجرة مثله أو كفايته ... وخرج أبو الخطاب وغيره مثله في ناظر وقف، ونصه فيه: يأكل بمعروف. وعنه أيضًا: إذا اشترط، قيل له: فيقضي دينه؟ قال: ما سمعت. قال شيخنا. لا يقدم بمعلومه بلا شرط إلا أن يأخذ أجرة عمله مع فقره، كوصي اليتيم" (¬4). ¬
الراجح
الراجح: أن لناظر الوقف إذا لم يقدر له الواقف شيئًا أن يأخذ أجر مثله، ويستحقه مطلقًا حتى قبل أن يرفع الأمر إلى القاضي إلا أن يعمل بنية التبرع؛ لأنه في مقابل عمله، إلا أنه لا يستقل في تقدير ذلك، بل يرجع إلى القاضي في تقدير أجرة المثل، لا في أصل الاستحقاق، وذلك بعدًا للتهمة، وخوفًا من محاباة النفس، والله أعلم.
المبحث الثاني الجهة التي يستحق منها الناظر أجرته
المبحث الثاني الجهة التي يستحق منها الناظر أجرته [م - 1602] اختلف العلماء في الجهة التي يأخذ منها الناظر أجرته على قولين: القول الأول: أن أجرة الناظر من غلة الوقف، سواء كان هذا مقدرًا من الواقف، أو من القاضي إلا إذا شرط الواقف غير هذا. وهذا مذهب الأئمة الأربعة (¬1). جاء في الشرح الكبير: "للقاضي أن يجعل للناظر شيئًا من الوقف إذا لم يكن له شيء" (¬2). وجاء في الشرح الصغير: "وأجرته -يعني الناظر- من ريعه" (¬3). وفي أسنى المطالب: (وللناظر) من غلة الوقف (ما شرطه له الواقف) وإن زاد على أجرة المثل" (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: إن عين الواقف له شيئًا فهو له، وإذا لم يعين له شيئًا عين له القاضي من بيت المال، ولا يجوز للقاضي أن يجعل أجره من غلة الوقف، اختاره بعض المالكية. وجاء في الشرح الصغير: "يجوز للقاضي أن يجعل للناظر أجرة من ريع الواقف على حسب المصلحة خلافًا لقول ابن عتاب: إنه لا يحل له أخذ شيء من غلة الوقف، بل من بيت المال، إلا إذا عين الواقف شيئًا" (¬1). وجاء في مواهب الجليل: "قال ابن عرفة، عن ابن فتوح: للقاضي أن يجعل لمن قدمه للنظر في الأحباس رزقًا معلومًا في كل شهر باجتهاده في قدر ذلك بحسب عمله وفعله الأئمة. ابن عتاب عن المشاور: لا يكون أجره إلا من بيت المال، فإن أخذها من الأحباس أخذت منه، ورجع بأجره في بيت المال، فإن لم يعط منها فأجره على الله، وإنما لم يجعل له فيها شيء؛ لأنه تغيير للوصايا، وبمثل قول المشاور أفتى ابن ورد، وقال: لا يجوز أخذ أجرته من الأحباس إلا أن يحمل على من حبس، وخالفه عبد الحق، وابن عطية، وقال: ذلك جائز، لا أعلم فيه نص خلاف انتهى. ونقل البرزلي كلام عبد الحق وابن عطية والله أعلم" (¬2). الراجح: أن أجرة الناظر من غلة الوقف، إلا أن يعين الواقف مصدرًا آخر يأخذ منه أجرته، ويقدم حق الناظر على الموقوف عليهم لحاجة الوقف إلى القيام بمصالحه، والله أعلم. ¬
الفصل السادس في عزل الناظر
الفصل السادس في عزل الناظر [م - 1603] الواقف إن شرط له حق العزل حال الوقف صح اتفاقًا. وإن لم يشترط له هذا الحق فقد اختلف العلماء في حق الواقف في عزل الناظر. القول الأول: أن له العزل مطلقًا متى شاء بسبب أو بدون سبب، وهذا قول أبي يوسف من الحنفية، واختاره مشايخ بلخ، وهو مذهب المالكية (¬1). جاء في البحر الرائق: "وأما عزله -يعني الناظر- فقدمنا أن أبا يوسف جوَّز عزله للواقف بغير جنحة وشرط؛ لأنه وكيله" (¬2). وجاء في مواهب الجليل: "قال ابن عرفة: لو قدم المحبس من رأى لذلك أهلاً، فله عزله واستبداله" (¬3). وجاء في حاشية الدسوقي: "ذكر البدر القرافي: أن القاضي لا يعزل ناظرًا إلا بجنحة، وللواقف عزله ولو لغير جنحة" (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ليس للواقف حق العزل مطلقًا، وهذا قول محمد بن الحسن من الحنفية. جاء في الأشباه والنظائر: "الواقف إذا عزل الناظر؛ فإن شرط له العزل حال الوقف صح اتفاقًا، وإلا لا عند محمَّد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ويصح عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ومشايخ بلخ اختاروا القول الثاني، والصدر اختار قول محمَّد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعلى هذا الاختلاف لو مات الواقف فلا ولاية للناظر لكونه وكيلاً عنه فيملك عزله بلا شرط وتبطل ولايته بموته. وعند محمَّد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس بوكيل، فلا يملك عزله ولا تبطل بموته والخلاف فيما إذا لم يشترط له الولاية في حياته وبعد مماته وأما لو شرط ذلك لم تبطل بموته اتفاقًا، هذا حاصل ما في الخلاصة، والبزازية، والفتوى على قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ... " (¬1). القول الثالث: للواقف عزله إن كان قد اشترط النظر لنفسه، ثم أسند النظر إلى غيره، فإن شرط نظره حال الوقف كما لو قال: وقفت أرضي هذه بشرط أن فلانًا ناظرها، فليس له عزله؛ لأنه لانظر له بعد شرطه النظر لغيره، فلو مات الناظر أو عزل لم ينصب الواقف بدله، وإنما ذلك للحاكم. وهذا مذهب الشافعية، وقريب منه قول الحنابلة (¬2). ¬
جاء في فتاوى ابن الصلاح: "جعل الواقف النظر فيه إلى رجل عدل أجنبي، ثم أراد الواقف أن يعزل الناظر ويستبدل به غيره، هل له ذلك أم لا؟ أجاب - رضي الله عنه - له ذلك إن ولاه بعد تمام الوقف حيث يملك تولية غيره لكونه شرط النظر لنفسه عند إنشاء الوقف، أو فيما إذا أطلق وحكمنا بكون النظر للواقف، وأما إذا كان قد شرط النظر للأجنبي المذكور في نفس عقد الوقف، فلا ينعزل بعزله على الرأي الأقوى، وكان كسائر ما يشترط في الوقف فلا يجوز تغييره والله أعلم" (¬1). وجاء في أسنى المطالب: "للواقف أن يعزل من ولاه وينصب غيره حيث كان النظر له، كما يعزل الموكل وكيله وينصب غيره ... لا من شرط نظره، أو تدريسه ... حال الوقف فليس له عزله، ولو لمصلحة، كما لو وقف على أولاده الفقراء لا يجوز تبديلهم بالأغنياء" (¬2). ومذهب الحنابلة قريب من مذهب الشافعية: فإن الناظر إما أن يكون الواقف وإما أن يكون غيره، وإذا كان غير الواقف إما أن يثبت له النظر أصالة، وإما أن يثبت له النظر بالشرط. فإن كان الناظر هو الواقف، ثم أسنده لغيره فإنه يملك عزله، واستبداله. وإن كان الناظر غير الواقف فإن ثبت له النظر أصالة كالحاكم والموقوف عليه المعين إذا لم يعين الواقف ناظرًا فهذا له حق العزل والاستبدال. وإن ثبت له بالشرط، فإن شرط له النظر حال الوقف لم يملك الواقف عزله ¬
إلا أن يشترطه، وإن لم يشترط له النظر حال الوقف كان للواقف عزله، هذا ملخص مذهب الحنابلة. جاء في الإقناع: "ولو شرط الواقف النظر لغيره ثم عزله لم يصح عزله إلا أن يشترطه لنفسه فإن شرط النظر لنفسه ثم جعله لغيره أو أسنده أو فوضه إليه فله عزله ولناظر بالأصالة وهو الموقوف عليه والحاكم نصب ناظر وعزله وأما الناظر المشروط فليس له نصب ناظر ولا الوصية بالنظر ما لم يكن مشروطا له" (¬1). جاء في الفروع: "ومن شرط نظره له لم يعزله بلا شرط، وإن شرطه لنفسه، ثم لغيره، أو فوضه إليه، أو أسنده فوجهان" (¬2). "أحدهما: له عزله، وهو الصحيح والصواب، قدمه في الرعاية الكبرى, فقال: فإن قال وقفت كذا بشرط أن ينظر فيه زيد، أو على أن ينظر فيه، أو قال عقبه: وجعلته ناظرًا فيه، أو جعل النظر له، صح، ولم يملك عزله، وإن شرطه لنفسه، ثم جعله لزيد فقال: جعلت نظري له أو فوضت إليه ما أملكه من النظر، أو أسندته إليه، فله عزله، ويحتمل عدمه انتهى. وقال الحارثي: إذا كان الوقف على جهة لا تنحصر، كالفقراء والمساكين، أو على مسجد، أو مدرسة، أو قنطرة، أو رباط ونحو ذلك، فالنظر للحاكم، وجهًا واحدًا. وللشافعية: وجه أنه للواقف، وبه قال هلال الرأي من الحنفية. قال الحارثي: وهو الأقوى، فعليه له نصب ناظر من جهته، ويكون نائبًا عنه، يملك ¬
الراجح
عزله متى شاء؛ لأصالة ولايته، فكان منصوبه نائبًا عنه، كما في الملك المطلق، وله الوصية بالنظر، لأصالة الولاية إذا قيل بنظره له أن ينصب ويعزل أيضًا كذلك انتهى" (¬1). الراجح: المسألة ترجع إلى أن الناظر، هل هو وكيل عن الواقف فيحق له عزله، أو قيل عن الموقوف عليهم، فلا يملك الواقف عزله، كما ترجع إلى الفرق بين ناظر ثبت له النظر أصالة، فيملك خق التعيين والعزل، وبين ناظر ثبت له النظر بالشرط، فلا يملك أن يعين ويعزل. كما ترجع إلى الخلاف في ملك العين الموقوفة، هل هي ملك لله تعالى، أو ملك للواقف، أو ملك للموقوف عليه. فمن قال: العين الموقوفة ملك لله فالنظر للقاضي أصالة ما لم يشترطه الواقف حال الوقف. ومن قال: إن العين الموقوفة ملك للموقوف عليهم فالنظر لهم أصالة أيضًا ما لم يشترطه الواقف حال الوقف، وفي هاتين الحالتين: أي في حال ثبت النظر للقاضي أو للموقوف عليهم أصالة فلا يثبت للواقف حق عزل الناظر. ومن قال: إن العين الموقوفة ملك للواقف فيثبت له حق العزل، وكل هذه المسائل سبق تحريرها في مسائل متفرقة، والله أعلم. ¬
الفصل السابع في محاسبة ناظر الوقف
الفصل السابع في محاسبة ناظر الوقف يقسم الفقهاء اليد إلى قسمين: يد أمانة، ويد ضمان. ويد الأمانة: حيازة الشّيء أو المال، نيابةً لا تملّكًا، كيد المودع، والمستعير، والشّريك، والمضارب، وناظر الوقف، والوصيّ. ويد الضمان: حيازة المال للتّملّك أو لمصلحة الحائز، كيد المشتري، والقابض على السوم، والغاصب، والمقترض. وحكم يد الأمانة، أنّ واضع اليد أمانةً، لا يضمن ما هو تحت يده، إلاّ بالتّعدّي أو التقصير، كالمودَع. وحكم يد الضّمان، أن واضع اليد على المال، يضمنه في كلّ حال. [م - 1604] والسؤال: إذا كانت يد الناظر يد أمانة، فهل يقبل قوله بلا بينة ولا يمين في دفع المال إلى المستحقين، وفي الإنفاق على الوقف من عمارة وأجرة عمالة، ونحوها؟ في ذلك خلاف بين العلماء تفصيله على النحو التالي: القول الأول: مذهب الحنفية: لو ادعى المتولي الدفع، وكان معروفاً بالأمانة فقد اتفق الحنفية على أنه لا يكلف البينة على الدفع؛ لأنه أمين، واختلفوا في توجيه اليمين إلى ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يقبل قوله بلا يمين مطلقًا؛ لأن كل أمين ادعى إيصال الأمانة إلى
مستحقيها قبل قوله، كالمودع إذا ادعى الرد، والوكيل والناظر إذا ادعى الصرف إلى الموقوف عليهم. جاء في الدر المختار: "لو ادعى المتولي الدفع قبل قوله بلا يمين" (¬1). وجاء في تنقيح الفتاوى الحامدية: "سئل من قاضي الشام سنة 1153 في صرف الناظر للمستحقين قبل عزله وبعده، وكذا لأرباب الوظائف هل يقبل قوله في ذلك بيمينه أو لا؟ الجواب: الذي صرحوا به أنه يقبل قوله فيما يدعيه من الصرف على المستحقين بلا بينة؛ لأن هذا من جملة عمله في الوقف وأفتى به التمرتاشي - رحمه الله تعالى - وقال: واختلفوا في تحليفه واعتمد شيخنا في الفوائد أنه لا يحلف. اهـ ... وفي حاشية الحموي على الأشباه ... والظاهر من كلام صاحب القنية أن عدم التحليف إنما هو في غير ما إذا اتهمه القاضي، ولا يدعى عليه شيء معين وفيما ليس هناك منكر معين ... وفيها أيضًا من باب الأمانات: الناظر إذا ادعى الصرف قال بعض الفضلاء - يعني الخير الرملي - ينبغي أن يقيد ذلك، بأن لا يكون الناظر معروفًا بالخيانة كأكثر نظار زماننا. اهـ .. وأفتى المولى أبو السعود بأنه إذا كان مفسدًا مبذرًا لا يقبل قوله بصرفه مال الوقف بيمينه. اهـ" (¬2). وفيها أيضًا نقلاً عن القنية: "إن كان معروفًا بالأمانة لا يحتاج إلى اليمين، ¬
وأفتى الشيخ إسماعيل بأنه يقبل قوله من غير يمين، ويكتفى منه بالإجمال، ولا يجبر على التفسير شيئًا فشيئًا. اهـ وفي الحاوي الزاهدي من كتاب أدب القاضي: أن الوصي بالنفقة على اليتيم أو القيم على الوقف ومال الصبي والوقف في يده أو نحو ذلك من الأمناء بمثل ما يكون في ذلك الباب قبل قوله بلا يمين إذا كان ثقة؛ لأن في اليمين تنفير الناس عن الوصاية، فإن اتهم، قيل: يستحلف بالله ما كنت خنت في شيء مما أخذت به إلخ" (¬1). والثاني: يقبل قوله مع يمينه. جاء في وقف الناصحي نقلاً من البحر الرائق: "إذا أجر، الواقف، أو قيمه، أو وصيه، أو أمينه، ثم قال: قبضت الغلة، فضاعت، أو فرقته على الموقوف عليهم وأنكروا، فالقول له مع يمينه" (¬2). وجاء في الإسعاف: "ولو قال المتولي: قبضت الأجرة، ودفعتها إلى هؤلاء الموقوف عليهم، وأنكروا ذلك، كان القول قوله مع يمينه، ولا شيء عليه كالمودع إذا ادعى رد الوديعة وأنكر المودع؛ لكونه منكرًا معنى، وإن كان مدعياً صورة، والعبرة للمعنى" (¬3). وجاء في تنقيح الفتاوى الحامدية: " (سئل) في ناظر وقف أهلي ثقة، قبض ¬
أجرة داري الوقف، وصرف بعضها في عمارتهما وترميمهما الضروريين اللازمين مصرف المثل في مدة تحتمله، والظاهر لا يكذبه في ذلك فهل يقبل قوله بيمينه في ذلك؟ (الجواب): نعم في فتاوى الكازروني عن الحانوتي القول قوله مع يمينه، كما في الإسعاف ... " (¬1). الثالث: أنه إذا ادعى دفع ما يشبه الأجرة، كالدفع إلى المؤذن والبواب، والخادم وغيرهم من أرباب الوظائف ممن يستحق أجره مقابل عمله لم يقبل قوله بالدقع إلا ببينة، بخلاف الدفع إلى الموقوف عليهم، فيقبل قوله، وبهذا قال أبو السعود من الحنفية، جوابًا على سؤال، وصورته: "هل إذا ادعى المتولي دفع كلة الوقف إلى من يستحقها شرعًا يقبل قوله في ذلك أم لا؟ الجواب: إن ادعى الدفع إلى من عينه الواقف في الوقف، كأولاده، وأولاد أولاده يقبل قوله، وإن ادعى الدفع إلى الإمام بالجامع والبواب ونحوهما لا يقبل قوله، كما لو استأجر شخصًا للبناء في الجامع بأجرة معلومة، ثم ادعى تسليم الأجرة له، فإنه لا يقبل قوله. انتهى. قال بعض الفضلاء، وهو تفصيل حسن خصوصا في زماننا" (¬2). وقد اعترض عليه الرملي من الحنفية: قال ابن عابدين نقلاً من حاشية الخير الرملي: "والجواب عما قاله أبو السعود: أنها ليس لها حكم الأجرة من كل ¬
القول الثاني: مذهب المالكية
وجه، ومقتضى ما قاله أبو السعود، أنه يقبل قوله في حق براءة نفسه لا في حق صاحب الوظيفة؛ لأنه أمين فيما في يده، فيلزم الضمان في الوقف؛ لأنه عامل له، وفيه ضرر بالوقف، فالإفتاء بما قاله العلماء متعين، وقوله يعني: المصنف: هو تفصيل في غاية الحسن في غير محله؛ إذ يلزم منه تضمين الناظر؛ إذا دفع لهم بلا بينة لتعديه". ورده ابن عابدين: فقال عن اعتراض الرملي: "قال في الحامدية بعد نقله كلام الخير الرملي، قلت: تفصيل أبي السعود في غاية الحسن باعتبار التمثيل بالأجرة فهي مثلها، وقول العلماء: يقبل قوله في الدفع إلى الموقوف عليهم محمول على غير أرباب الوظائف المشروط عليهم العمل، ألا ترى أنهم إذا لم يعلموا لا يستحقون الوظيفة، فهي كالأجرة لا محالة، وهو كأنه أجير، فإذا اكتفينا بيمين الناظر يضيع عليه الأجر، لا سيما نظار هذا الزمان، وقال المولى عطاء الله أفندي في مجموعته: سئل شيخ الإِسلام زكريا أفندي عن هذه المسألة، فأجاب: بأنه إن كانت الوظيفة في مقابلة الخدمة، فهي أجرة لا بد للمتولي من إثبات الأداء بالبينة، وإلا فهي صلة وعطية، يقبل في أدائه قول المتولي مع يمينه ... " (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية: ذهب المالكية إلى أن القول قول الناظر إذا كان أمينًا بلا بينة ولا يمين، بشرط أن يكون ما يدعيه من الصرف يشبه ما يقول، ولم يشترط عليه الإشهاد في الإدخال والإخراج. ¬
فإن اشترط عليه الإشهاد في أصل الوقف فلا بد من البينة فيما أدخل أو أخرج. وإن كان ما ادعاه من الصرف لا يشبه ما قال، فإن عليه أن يحلف اليمين؛ لأنه متهم، فإن حلف برئت ذمته، وإن نكل ألزم بدفع ما ادعي به عليه (¬1). جاء في مواهب الجليل: "سئل السيوري عن إمام مسجد، ومؤذنه، ومتولي جميع أموره، قام عليه محتسب بعد أعوام في غلة حوانيت له، وقال: فضلت فضلة عما أنفقت. وقال: لم يفضل شيء. فقال له: بين للقاضي صفة الخروج. فقال: لا يجب علي ذلك، ولو علمت أنه يجب علي ما توليته، ولا قمت به، ولا يوجد من يقوم به إلا هو، ولولا هو لضاع، هل يقبل قوله أم لا؟ فأجاب: القول قوله فيما زعم أنه أخرجه، إذا كان يشبه ما قال. البرزلي: وهذا إذا لم يشترط عليه دخلًا ولا خرجًا إلا بإشهاد انتهى" (¬2). وجاء في حاشية الصاوي على الشرح الصغير: "وإذا ادعى الناظر أنه صرف الغلة صدق إن كان أمينًا، ما لم يكن عليه شهود في أصل الوقف فلا يصرف إلا باطلاعهم، ولا يقبل بدونهم، وإذا ادعى أنه صرف على الوقف مالاً من عنده صدق من غير يمين، إن لم يكن متهمًا وإلا فيحلف" (¬3). ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية
القول الثالث: مذهب الشافعية: ذهب الشافعية إلى التفريق بين أن يكون المستحقون معينين كزيد وعمرو مثلاً، وبين أن يكونوا غير معينين، كالفقراء ونحوهم من الجهات العامة: فإن كانوا معينين فإن القول قولهم، ولهم مطالبته بالحساب؛ لأنهم حلم يأتمنوه. وإن كان الموقوف عليهم غير معينين كالفقراء، فهل للقاضي الحق في محاسبته؟ وجهان: أصحهما: أن للقاضي الحق في مطالبته بالحساب، ويصدق في قدر ما أنفقه عند الاحتمال، فإن اتهمه القاضي حلفه. جاء في أسنى المطالب: "قال القاضي شريح: إذا ادعى متولي الوقف صرف الغلة في مصارفها المشروعة فإنه يقبل، إلا أن يكون لقوم بأعيانهم، فادعوا أنهم لم يقبضوا، فالقول قولهم وإن كان لأقوام معينين ثبت لهم المطالبة بالحساب، وإن لم يكونوا معينين، فهل للإمام مطالبته بالحساب؟ وجهان حكاهما جدي. قال الأذرعي: والأقرب المطالبة، وعليه العمل، ويحتمل أن يقال: إنما يكون له ذلك عند ظهور ريبة أو تهمة، لا مطلقًا؛ لما فيه من التعنت من غير مقتض. وقوله: والأقرب المطالبة هو الأصح" (¬1). وجاء في تحفة المحتاج: "ولو ادعى متولي الوقف صرف الريع للمستحقين، فإن كانوا معينين فالقول قولهم، ولهم مطالبته بالحساب. وإن كانوا غير معينين، فهل للإمام مطالبته بالحساب أو لا؟ أوجه الوجهين الأول. ويصدق في قدر ما ¬
القول الرابع: مذهب الحنابلة
أنفقه عند الاحتمال، فإن اتهمه الحاكم حلفه، والمراد كما قال الأذرعي: إنفاقه فيما يرجع إلى العادة، وفي معناه الصرف إلى الفقراء ونحوهم من الجهات العامة، بخلاف إنفاقه على الموقوف عليه المعين فلا يصدق فيه؛ لأنه لم يأتمنه اهـ" (¬1). القول الرابع: مذهب الحنابلة: ذهب الحنابلة بأن الواقف الأمين إذا عينه الواقف فلا اعتراض لأهل الوقف عليه، ولهم مسألته عما يحتاجون إلى علمه من أمر وقفهم حتى يستوي علمهم وعلمه إذا كان متهمًا, ولهم مطالبته بانتساخ كتاب الوقف ليكون في أيديهم وثيقة لهم (¬2). جاء في الإنصاف: "قال الأصحاب: لا اعتراض لأهل الوقف على من ولاه الواقف، إذا كان أمينًا. ولهم مسألته عما يحتاجون إلى عمله من أمر وقفهم، حتى يستوي علمهم وعلمه فيه. قال في الفروع: ونصه إذا كان متهمًا. انتهى. ولهم مطالبته بانتساخ كتاب الوقف ليكون في أيديهم وثيقة لهم. قال الشيخ تقي الدين - رَحِمَهُ الله -: وتسجيل كتاب الوقف كالعادة" (¬3). وجاء في شرح منتهى الإرادات: " (ولا اعتراض لأهل الوقف على) ناظر (أمين) ولاه الواقف، ولهم مسألته عما يحتاجون إلى علمه من أمر وقفهم، حتى ¬
الراجح
يستوي علمهم وعلمه فيه (ولهم المطالبة بانتساخ كتاب الوقف) ليكون بأيديهم وثيقة لهم" (¬1). وفرق بعضهم بين الناظر المتبرع، وبين من يأخذ أجرًا على عمله: فإن كان متبرعًا قبل قوله بلا بينة، وإن كان عمله بجعل لم يقبل قوله إلا ببينة (¬2). جاء في كشاف القناع: "يقبل قول الناظر المتبرع في دفع لمستحق، وإن لم يكن متبرعا لم يقبل قوله إلا ببينة" (¬3). الراجح: أن القول قول الناظر فيما دفعه أو أنفقه؛ لأنه أمين؛ إلا أن يكون هناك شرط في أصل الوقف أن يقدم الإشهاد على الدفع والإدخال فيلزمه وفاء للشرط، أو أن يدعي أمراً يكذبه الواقع، والله أعلم. هذه آخر المسائل المختارة لهذا الكتاب، والحمد لله على توفيقه. ¬
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد السابع عشر
(ح) دبيان بن محمَّد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمَّد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة / دبيان محمَّد الدبيان - الرياض، 1432 هـ 700 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجموعة) ج 17 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ. العنوان ديوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (17)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمَّد، وعلى آله، وصحبه، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين،، وبعد: فهذا هو المجلد السابع عشر، وهو المجلد الثاني في عقود التبرع، وهو عقد الوصية، وقد رأيت أن يكون عقد الوصية بعد عقد الوقف لشبه الكتابين، حتى قال الفقهاء: "إن أحكام الوقف تستقى من الوصايا، وقالوا: أيضًا: إن كل واقعة في الأوقاف ليس فيها نص فقهي في كتاب الوقف يفتى فيها بحكم ما يشبهها في كتاب الوصايا، فمسؤولية نظار الوقف وواجباتهم تستمد من مسؤولية الأوصياء وواجباتهم، والتصرف في مال الوقف يستمد أحكامه من التصرف في مال اليتيم الذي تحت الوصاية، وهكذا" (¬1). وقدمت عقد الوقف؛ لأن الأصل في عقد الوقف البر، وذلك لأنه قائم على حبس الأصل، وتسبيل الثمرة، وأطلق عليه الشارع بالصدقة الجارية، وهو يكون في الحياة، وبعد الموت، وهو عقد لازم، وأما عقد الوصية فالأصل فيه أنه عقد تمليك للعين والمنفعة معًا، وقد لا يراد منه الدوام، وهو لا ينفذ إلا بعد الموت، وهو عقد جائز قبل موت الموصي. ¬
خطة البحث اشتمل الكتاب على تمهيد، وسبعة أبواب، ومجموعة من الفصول، والمباحث، والفروع والمسائل على النحو التالي. التمهيد: ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في تعريف الوصية. المبحث الثاني: الفرق بين الوصية وبين الهبة والعطية. المبحث الثالث: الوصايا مشروعة على وفق القياس. الباب الأول: في حكم الوصية وبيان أركانها. المبحث الأول: في حكم الوصية. المبحث الثاني: في أركان الوصية. الباب الثاني: في صيغة الوصية، وما يتعلق بها من أحكام. الفصل الأول: في اتعقاد الوصية باللفظ. الفصل الثاني: في انعقاد الوصية بالكتابة. الفصل الثالث: في انعقاد الوصية بالإشارة. المبحث الأول: في إشارة الأخرس الأصلي. المبحث الثاني: في إشارة من اعتقل لسانه. المبحث الثالث: في إشارة القادر على النطق. الفصل الرابع: في قبول الوصية.
المبحث الأول: في توقف انعقاد الوصية على القبول. المبحث الثاني: في موت الموصى له قبل القبول. المبحث الثالث: في رد الوصية في حياة الموصي. المبحث الرابع: في رد الوصية بعد القبول. المبحث الخامس: في شروط القبول. الشرط الأول: في اشتراط الأهلية من القابل. الشرط الثاني: أن يكون القابل بعد وفاة الموصي. الشرط الثالث: في اشتراط موافقة القبول للإيجاب. الشرط الرابع: في اشتراط الفورية في القبول. المبحث السادس: في رجوع الموصي عن الوصية. المبحث السابع: في وقت ثبوت الملكية للموصى له. المبحث الثامن: في إضافة الوصية. المبحث التاسع: في تعليق الوصية بالشرط. المبحث العاشر: في توقيت الإيصاء والوصية. المبحث الحادي عشر: في اقتران الوصية بالشرط. الباب الثالث: في شروط الموصي. الشرط الأول: أن تكون الوصية من مالك. الشرط الثاني: في اشتراط أهلية الموصي.
مبحث: في وصية المحجور عليه لحظ غيره. الشرط الثالث: في اشتراط أن يكون راشدًا. مبحث: في أهلية السكران للوصية. الشرط الرابع: في اشتراط رضا الموصي. الشرط الخامس: في اشتراط إسلام الموصي. المبحث الأول: في وصية الذمي. المبحث الثاني: في وصية الحربى. المبحث الثالث: في وصية المرتد. الشرط السادس: في اشتراط غنى الموصي. الباب الرابع: في شروط الموصى له. الشرط الأول: في اشتراط أن يكون الموصى له أهلاً للتملك. المبحث الأول: الوصية للمسجد. المبحث الثاني: الوصية للحيوان. المبحث الثالث: الوصية للميت. الشرط الثاني: أن يكون الموصى له موجودًا. مبحث: الوصية للحمل. الشرط الثالث: أن يكون الموصى له معلومًا. الشرط الرابع: ألا يكون الموصى له وارثًا عند موت الموصي.
فرع: وقت اعتبار الموصى له وارثًا. الشرط الخامس: في اشتراط إسلام الموصى له. المبحث الأول: وصية المسلم للذمي. المبحث الثاني: في وصية المسلم للكافر الحربي. المبحث الثالث: في الوصية للمرتد. الشرط السادس: ألا يكون الموصى له قاتلاً للموصي. الشرط السابع: ألا يكون الموصى له جهة معصية. الباب الخامس: في شروط الموصى به. الشرط الأول: في اشتراط مالية الموصى به. المبحث الأول: الوصية بالدين. المبحث الثاني: الوصية بالمجهول. فرع: في تقدير الوصية إذا أوصى بجزء من ماله. المبحث الثالث: الوصية بالمعدوم. المبحث الرابع: في الموصي يوصي بنصيب وارث معين. المبحث الخامس: في الموصي يوصي بمثل نصيب وارث غير معين. المبحث السادس: الوصية بالسهم. المبحث السابع: في الوصية بالمنافع. الفرع الأول: تعريف المنفعة.
الفرع الثاني: خلاف الفقهاء في الوصية بالمنافع. الفرع الثالث: في كيفية تقدير المنفعة. الفرع الرابع: في نفقات العين الموصى بمنفعتها. الفرع الخامس: في بيع العين الموصى بمنفعتها. الشرط الثاني: أن يكون الموصى به مملوكًا للموصي. الشرط الثالث: أن يكون الموصى به في حدود الثلث. المبحث الأول: إذا لم يكن للموصي وارث. المبحث الثاني: في الوصية بأكثر من الثلث مع وجود الوارث. فرع: في وقت تقدير الثلث. الباب السادس: في مبطلات الوصية. الفصل الأول: إبطال الوصية من جهة الموصي. المبحث الأول: إبطال الوصية بجنون الموصي. المبحث الثاني: إبطال الوصية بردة الموصي. المبحث الثالث: بطلان الوصية برجوع الموصي عنها. المبحث الرابع: بطلان الوصية بجحود الموصي. الفصل الثاني: إبطال الوصية من جهة الموصى له. المبحث الأول: إبطال الوصية بموت الموصى له. الفرع الأول: موت الموصى له في حياة الموصي.
الفرع الثاني: موت الموصى له بعد موت الموصي، وقبل القبول. المبحث الثاني: بطلان الوصية برد الموصى له الوصية. الفرع الأول: في رد الوصية في حياة الموصي. الفرع الثاني: رد الوصية بعد موت الموصي وقبل القبول. الفرع الثالث: في رد الوصية بعد موت الموصي، وبعد القبول. المبحث الثالث: في بطلان الوصية بقتل الموصى. الفصل الثالث: إبطال الوصية من جهة الموصى به. الباب السابع: في الإيصاء. الفصل الأول: في تعريف الإيصاء. الفصل الثاني: حكم الإيصاء التكليفي. المبحث الأول: حكم الإيصاء بالنسبة للموصي. المبحث الثاني: حكم الإيصاء بالنسبة للموصى له. الفصل الثالث: في لزوم عقد الوصاية. الفصل الرابع: في شروط الوصي. الشرط الأول: في اشتراط البلوغ. الشرط الثاني: في اشتراط إسلام الوصي. الفرع الأول: في اشتراط إسلامه إذا كان الموصى عليه مسلمًا. الفرع الثاني: في الوصاية إلى الكافر.
الفرع الثالث: في وصية الكافر إلى مسلم. الشرط الثالث: في اشتراط عدالة الوصي. الشرط الرابع: في اشتراط الكفاية في الوصي. الشرط الخامس: في اشتراط أن يكون الوصي ذكرًا. الشرط السادس: في اشتراط أن يكون الوصي مبصرًا. الفصل الخامس: في وقت اعتبار توفر شروط الوصي. الفصل السادس: في تصرفات الوصي. المبحث الأول: في الوصاية المطلقة والمقيدة. المبحث الثاني: في وصاية الجد والأخ والعم. المبحث الثالث: في الوصاية بالتزويج. المبحث الرابع: إيصاء الوصي. المبحث الخامس: في وصاية الأم على أولادها. المبحث السادس: في إخراج الوصي الزكاة عن الصغار. الفرع الأول: في إخراج الوصي زكاة الفطر. الفرع الثاني: في إخراج الوصي زكاة مال الصغير. المبحث السابع: في المضاربة بمال اليتيم. الفرع الأول: اتجار الوصي بمال اليتيم لنفسه. الفرع الثاني: في اتجار الوصي لحظ اليتيم.
المبحث الثامن: في إقراض مال اليتيم. الفرع الأول: في اقتراض الوصي من مال اليتيم. الفرع الثاني: في إقراض الوصي مال اليتيم للغير. المبحث التاسع: في رهن الوصي مال الموصى عليه. الفرع الأول: الرهن بسبب دين أو قرض على الموصى عليه. الفرع الثاني: رهن مال اليتيم بدين للوصي. المبحث العاشر: في بيع مال الوصي وشرائه. الفرع الأول: أن يشري ويبيع للأجنبي. الفرع الثاني: بيع الوصي وشراؤه من نفسه. المبحث الحادي عشر: في أخذ الوصي أجرة على عمله. الفصل السابع: في تعدد الأوصياء. المبحث الأول: إذا أوصى إلى أكثر من شخص وأطلق الوصية. المبحث الثاني: إذا أوصى إلى أكثر من شخص، وقيد الوصية. الفصل الثامن: في اختلاف الوصي والموصى عليه. المبحث الأول: في الاختلاف في مقدار النفقة. المبحث الثاني: في الاختلاف في مدة النفقة. المبحث الثالث: في الاختلاف في دفع المال. الفصل التاسع: في انتهاء الوصاية.
المبحث الأول: انتهاء الوصاية بالموت والفسق. المبحث الثاني: انتهاء الوصاية بالىجنون. المبحث الثالث: في انتهاء الوصاية بعزل الوصي نفسه. المبحث الرابع: انتهاء عقد الوصاية بانتهاء المهمة. الفرع الأول: انتهاء الوصاية ببلوغ الصغير رشيدًا. الفرع الثاني: انتهاء الوصاية بأداء الحقوق. هذه آخر المسائل التي وقع عليها الاختيار حسب شرط البحث، وتركت أخرى اختصارًا واقتصارًا، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
كتاب الوصايا
كتاب الوصايا تمهيد المبحث الأول في تعريف الوصية تعريف الوصية (¬1): عرف الفقهاء الوصية بتعريفات كثيرة، واختلفت هذه التعريفات تبعًا لاختلاف هذه المذاهب في بعض الأحكام، من ذلك: تعريف الحنفية: ذكر عامة شروح الحنفية في تعريف الوصية: أنها "تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع سواء كان ذلك في الأعيان أو المنافع" (¬2). شرح التعريف: قوله: (تمليك) جنس يشمل أنواعًا، فالتمليك قد يكون بعوض كما في البيع، ¬
ويعترض عليه
وقد يكون بغير عوض في حال الحياة كما في الهبة والصدقة، وقد يكون التمليك للانتفاع دون العين كما في العارية. وقوله: (مضاف إلى ما بعد الموت) أخرج به التمليك الواقع في الحياة كالهبة والصدقة. وقوله: (بطريق التبرع) أخرج به التمليك بعوض كالبيع والإجارة. وقوله: (في الأعيان والمنافع) إشارة إلى متعلق الوصية، وأن الوصية كما تصح في ذوات الأشياء تصح في منافعها أيضًا. ويعترض عليه: بأن الوصية أعم من التمليك فمنها ما يرجع إلى المال كالتمليك، ومنها ما يرجع إلى القيام بالحقوق كالإيصاء بالقيام على أمر أطفاله، ورد ودائعه، وقضاء ديونه. وقد لا تكون الوصية تمليكًا كما لو كانت الوصية إلى جهة لا تملك، كأن يكون مصرف الوصية إلى المساجد، والطرق، ونحوهما، فلو قيل: تصرف في التركة مضاف إلى ما بعد الموت كان أدق. قال ابن نجيم: "وهذا التعريف ليس بجامع لأنه لا يشمل حقوق الله تعالى، والدين الذي في ذمته، ولو قال المؤلف هي طلب براءة ذمته من حقوق الله تعالى والعباد ما لم يصلهما، أو تمليك ... إلى آخره لكان أولى" (¬1). ¬
تعريف المالكية
تعريف المالكية: عرفها ابن عرفة بقوله: "عقد يوجب حقًا في ثلث عاقده يلزم بموته، أو نيابة عنه بعده" (¬1). شرح التعريف: فقوله: (عقد) جنس يدخل تحته عقود كثيرة. وقوله: (يوجب حقًا في ثلث عاقده) أخرج به ما يوجب حقًا في كل ماله، كالإقرار بالدين مثلاً، ومثله ما يوجب حقًا في رأس ماله مما عقده على نفسه في صحته. وقوله: (في ثلث عاقده) خرج منه: وصيته بما زاد على الثلث. فإنها صحيحة موقوفة على إجازة الورثة، وهل هي وصية، أو هبة من الورثة؟ قولان سيأتي إن شاء الله الكلام عليهما. وقوله: (لزم بموته) أخرج به عقد الهبة، فإنها قد تلزم عند المالكية من غير موت، كما لو وهبت المرأة أو التزمت لزوجها ثلث مالها، أو من التزم ثلث ماله لشخص فإنه يلزم من غير موت. وقوله: (أو نيابة عنه بعد موته) عطف على كلمة (حقًا) والمعنى: أو يوجب نيابة عن عاقده بعد موته، فيدخل الإيصاء بالنيابة عن الميت (¬2). ¬
تعريف الشافعية
فكان للوصية عند المالكية معنيان: أحدهما: الوصية بالمال. والمعنى الثاني: الوصية بالتصرف (¬1). تعريف الشافعية: عرفها أكثر الشافعية بأنها: تبرع بحق مضافٌ ولو تقديرًا لما بعد الموت، ليس بتدبير، ولا تعليق عتق، وإن التحقا بها حكمًا كالتبرع المنجز في مرض الموت، أو ما ألحق به (¬2). قوله: (مضاف) صفة لتبرع. وقوله: (ولو تقديرًا لما بعد الموت) أشار إلى أن ذكر الموت تارة يذكر صريحًا، كما لو قال: لفلان بعد موتي كذا. وتارة يكون ذكر الموت تقديرًا، كما لو قال: أوصيت لفلان بكذا, ولم يقل: بعد موتي؛ لأن الوصية صريحة بأنها تمليك مضاف إلى ما بعد الموت. وقوله: (كالتبرع المنجز في مرض الموت أو ما ألحق به) يشير بذلك إلى عطية المريض مرض الموت فإنه لا ينفذ إلا في ثلث ماله، ولا تعتبر مع ذلك وصية؛ لأنها هبة ناجزة في حياته، وإنما تلحق بالوصية حكمَا لكونها لا تنفذ إلا من ثلث المال. ¬
تعريف الحنابلة
جاء في حاشيتي قليوبي وعميرة: "وقول بعضهم: ليشمل التبرع في مرض الموت، فإنه معتبر من الثلث فيه نظر، وغير مستقيم؛ لأنه ليس وصية وإن كان له حكمها" (¬1). وفرق الشافعية بين الوصية والوصاية: فالوصية تخص التبرع المضاف إلى ما بعد الموت. والوصاية: هي العهد إلى من يقوم على من بعده. وهو تفريق اصطلاحي (¬2). تعريف الحنابلة: عرفها ابن قدامة بقوله: "الوصية: هي التبرع بعد الموت" (¬3). قال في الإنصاف: "هذا الحد هو الصحيح، جزم به في الوجيز وغيره، وصححه في الشرح وغيره، وقدمه في المستوعب وغيره" (¬4). تعريف آخر عند الحنابلة: قال أبو الخطاب: هي التبرع بما يقف نفوفه على خروجه من الثلث (¬5). وانتقد هذا التعريف: بأنه يدخل في الوصية العطية في مرض الموت، وذلك لا يسمى وصية. ¬
الراجح
ويخرج منه: وصيته بما زاد على الثلث. فإنها عند الحنابلة وصية صحيحة موقوفة على إجازة الورثة. ويخرج منه أيضًا: وصيته بقضاء الديون، والواجبات، والنظر في أمر الأصاغر من أولاده، وتزويج بناته، ونحو ذلك (¬1). الراجح: تعريفات الفقهاء قريبة من بعض، وأرى أن التعريف الراجح أن يقال: الوصية هي تصرف في التركة يضاف إلى ما بعد الموت، أو إسناد التصرف إلى شخص بعينه. ¬
المبحث الثاني الفرق بين الوصية وبين الهبة والعطية
المبحث الثاني الفرق بين الوصية وبين الهبة والعطية الفرق بين الوصية والهبة: [م - 1605] الهبة والوصية يجتمعان بأنهما تبرع بالمال بلا عوض، ويفترقان في أمور منها: (1) الهبة تبرع منجز في الحال في حال الحياة والصحة، وأما الوصية فلا تصح منجزة؛ لأنها لا تكون إلا بعد الموت. ولهذا كانت الهبة أفضل من الوصية؛ لأن الواهب يعطي، وهو صحيح، شحيح، يخشى الفقر ويأمل الغنى بخلاف الوصية. (ح -1005) روى الشيخان من طريق عمارة بن القعقاع، حدثنا أبو زرعة، حدثنا أبو هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا، قال: أن تصدق، وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى أذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا, ولفلان كذا، وقد كان لفلان (¬1). (2) الهبة تلزم بالقبول والقبض، ولا يملك الواهب الرجوع فيها إذا قبضت، واختار بعض الفقهاء لزومها بمجرد القبول. والوصية لا تلزم إلا بعد الموت، فيملك الموصي الرجوع فيها في حياته، ولو قبضها الموصى له. ¬
(3) الوصية لا تكون إلا بالثلث فأقل لغير وارث، والهبة لا حد لها، وتكون للوارث ولغيره. (4) الوصية تصح من المحجور عليه، بخلاف الهبة، والفرق أن الهبة فيها إضرار بالغرماء والوصية ليس فيها إضرار؛ لأنها لن تنفذ إلا بعد قضاء الدين. (5) الوصية تصح، ولو كان الموصى به غير مقدور على تسليمه، والهبة فيها خلاف، هل يشترط فيها القدرة على التسليم؟ فقيل: لا يشترط في الهبة القدرة على التسليم، وهو مذهب المالكية؛ لأن الهبة ليست من عقود المعاوضات، فالمعطي إما أن يغنم، وإما أن يسلم، وليس فيه مراهنة. وقيل: يشترط في الهبة القدرة على التسليم، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وسوف يأتي بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى في بحث مستقل. والفرق: أن الوصية لا يشترط أن تكون في ملك الموصي في الحال، فربما ملكها قبل الموت بخلاف الهبة. (6) الوصية تصح للحمل، والهبة لا تصح للحمل؛ لأنه الهبة تمليك منجز في الحال، والحمل ليس أهلاً للتملك. (7) يصح أن يوصي لعبده المدبر: وهو الذي علق عتقه بموت سيده؛ لأن الوصية تصادف العبد وقد عتق، ولا تصح له الهبة بناء على القول بأن العبد لا يملك بالتملك، وهي مسألة خلافية ..
الفرق بين الوصية والعطية
(8) الهبة خاصة بالمال، والوصية تكون بالمال وبالحقوق، ولذلك يصح أن يوصي شخصًا ليكون ناظرًا على وقفه، وأن يقوم بقضاء حقوقه (¬1). الفرق بين الوصية والعطية: تكلمنا في المسألة السابقة عن الفرق بين الوصية والهبة، ونبحث هنا الفرق بين الوصية والعطية، وقبل الخوض في التفريق بينهما لا بد أن نعرف الفرق بين الهبة والعطية، وهو تفريق اصطلاحي: فالهبة: يقصد به التبرع بالمال بلا عوض في حال الصحة. ويقمد بالعطية: التبرع بالمال في مرض الموت المخوف، فهو أخص من الهبة (¬2). [م - 1606] وتتفق العطية والوصية في أكثر الأحكام، ويختلفان في بعضها. ما تتفق فيه العطية والوصية: (1) تتفق العطية والوصية بأنها لا تجوز بأكثر من الثلث إلا إذا أجاز الورثة. (2) كما يتفقان أنهما لا يجوزان لوارث إلا بإجازة الورثة كالوصية. (3) أن خروج العطية من الثلث عند الموت لا عند العطية كالوصية؛ لأن الثلث قد يزيد وينقص، فربما يعطى الإنسان العطية، وماله كثير، فيفتقر، وربما يعطي العطية، وماله قليل، ثم يغنيه الله، فالمعتبر وقت الموت؛ لأنه هو الوقت الذي يتعلق فيه حق الورثة في مال المعطي. ¬
ما تختلف فيه العطية عن الوصية
(5) أنه يزاحم بها الوصايا في الثلث. ما تختلف فيه العطية عن الوصية: (1) لا يملك المعطي الرجوع في العطية إذا قبضت، وكانت من الثلث، واختار بعض الفقهاء لزومها بمجرد القبول. والوصية لا تلزم إلا بعد الموت، فيملك الموصي الرجوع فيها في حياته، ولو قبضها الموصي له (2) يسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية؛ لأنه تبرع بعد الموت، فوجد دفعة واحدة، ويبدأ بالأول فالأول في العطية لوقوعها لازمة. (3) أن قبول العطية على الفور في حال حياة المعطي، وكذلك ردها، والوصية لا حكم لقبولها ولا ردها إلا بالموت. ويتفرع على ذلك: ثبوت الملك للمعطَى حال قبوله لها فإذا خرجت العطية من الثلث، تبينا أن الملك وإن ثابتًا من حين الإعطاء، فإذا زادت العطية زيادة متصلة أو منفصلة فهي للمعطى بخلاف الوصية فالنماء للورثة؛ لأن الملك في الوصية لا يثبت إلا بعد الموت. (4) الوصية تصح للحمل، والعطية لا تصح للحمل؛ لأن الهبة تمليك منجز في الحال، والحمل ليس أهلاً للتملك. (5) يصح أن يوصى لعبده المدبر: وهو الذي علق عتقه بموت سيده؛ لأن الوصية تصادف العبد وقد عتق، ولا تصح له العطية بناء على القول بأن العبد لا يملك بالتملك، وهي مسألة خلافية.
(6) أن المعطي إذا مات قبل أن يقبض المعطى له العطية المنجزة كانت الخيرة للورثة، إن شاؤوا أقبضوا، وإن شاؤوا منعوا، بخلاف الوصية فتلزم بالقبول بعد الموت بغير رضاهم (¬1). ¬
المبحث الثالث الوصايا مشروعة على وفق القياس
المبحث الثالث الوصايا مشروعة على وفق القياس [م - 1607] اختلف العلماء في أصل المسألة، هل ترد الأحكام على خلاف القياس أم لا؟ وهو محل خلاف بين أهل العلم: فذهب جمهور العلماء إلى أن الأحكام قد تثبت على خلاف القياس (¬1). قال البخاري الحنفي في شرح أصول البزدوي: "وأما الإجماع فلأن القائسين أجمعوا على أن الأحكام قد تثبت على خلاف القياس الشرعي في بعض المواضع بدليل أقوى منه من نص أو إجماع أو ضرورة وذلك يكون تخصيصا لا مناقضة ولهذا سماها الشافعي مخصوصة عن القياس, ونحن نسميها معدولا بها عن القياس" (¬2). وخالف في ذلك ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وبعض الحنابلة فلم يريا شيئًا من أحكام الشريعة مخالفًا للقياس. هذا من حيث الأصل (¬3). ¬
القول الأول
وقد تكلمت على هذه المسألة بشيء من التفصيل في عقد السلم، وفي عقد الإجارة. أما بخصوص عقد الوصية فلا نزاع في مشروعيته كما سيأتي بحثه إن شاء الله تعالى، ولكن وقع الخلاف، هل كانت مشروعيته جارية على وفق القياس، أو كان القياس يقتضي منعه، ولكن جاءت النصوص بمشروعيته؟ على قولين: القول الأول: صرح الحنفية بأن مشروعية الوصية على خلاف القياس (¬1). وجه القول بذلك: أن الوصية تمليك مضاف إلى ما بعد الموت، والموت مزيل للملك، وبه تنقطع حقوق الإنسان في أمواله، وتتعلق حقوق الورثة، فلا يجوز أن يقاس عليها تجويز إضافة غيرها من التصرفات إلى ما بعد الموت، كالبيع والإجارة والاعارة بأن يعقدها الشخص في حال حياته مضافة لما بعد الموت. ويناقش: بأن التدبير متفق على مشروعيته، وهو الرقيق الذي علق عتقه بموت مالكه، فصح تصرف المالك بماله معلقاً بموته، وهو غير الوصية. ورد هذا: بأن التعليق وإن اتفق على مشروعيته إلا أن العلماء مختلفون، هل ينفذ من ¬
القول الثاني
رأس المال، أو من الثلث، فذهب الجمهور إلى أنه ينفذ من الثلث قياسًا على الوصية، وذهب جماعة من السلف والظاهرية إلى أنه ينفذ من رأس المال (¬1). القول الثاني: ذهب ابن تيمية وابن القيم إلى أنه لا يوجد في أحكام الشريعة حكم مخالف للقياس الصحيح، حتى قالا: من رأى شيئًا من الشريعة مخالفًا للقياس، فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، وليس مخالفًا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر. نعم في الشريعة ما يخالف القياس الفاسد، وإن كان من الناس من لا يعلم فساده (¬2). وقال ابن تيمية أيضًا: "والأحكام التي يقال: إنها على خلاف القياس نوعان: نوع مجمع عليه ونوع متنازع فيه. فما لا نزاع في حكمه تبين أنه على وفق القياس الصحيح ... وحقيقة الأمر أنه لم يشرع شيء على خلاف القياس الصحيح، بل ما قيل: إنه على خلاف القياس، فلا بد من اتصافه بوصف امتاز به عن الأمور التي خالفها، واقتضى مفارقته لها في الحكم، وإذا كان كذلك فذلك الوصف إن شاركه غيره فيه فحكمه كحكمه وإلا كان من الأمور المفارقة له" (¬3). وقال الشيخ الطوفي: "واعلم أن قول الفقهاء هذا الحكم مستثنى عن قاعدة القياس أو خارج عن القياس، أو ثبت على خلاف القياس، ليس المراد به أنه ¬
الراجح
تجرد عن مراعاة المصلحة حتى خالف القياس، وإنما المراد به أنه عدل به عن نظائره لمصلحته أكمل وأخص من مصالح نظائره على جهة الاستحسان الشرعي، فإن ذلك أن القياس يقتضي عدم بيع المعدوم وجاز ذلك في السلم والإجارة توسعة وتيسيرًا على المكلفين، ومنه أن القياس أن كل واحد يضمن جناية نفسه وخولف في دية الخطأ رفقا بالجاني وتخفيفا عنه لكثرة وقوع الخطأ من الجناة. انتهى" (¬1). الراجح: أن ما ورد به النص الصحيح من الكتاب والسنة أنه أصل بنفسه، يقاس عليه غيره إن كان معللاً، كالقياس على سائر الأصول، ولا يقال: إنه مخالف للقياس. ¬
الباب الأول في حكم الوصية وبيان أركانها
الباب الأول في حكم الوصية وبيان أركانها المبحث الأول في حكم الوصية [م - 1608] لا يختلف العلماء على مشروعية الوصية في الجملة، وعمدة الإجماع: الكتاب والسنة. قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة: 106]. {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180]. (ح -1006) ومن السنة: حديث سعد بن أبي وقاص، قال مرضت فعادني النبي - صلى الله عليه وسلم - ... قلت: أريد أن أوصي، وإنما لي ابنة، قلت: أوصي بالنصف، قال: النصف كثير، قلت: فالثلث، قال: (الثلث والثلث كثير) ... (¬1). (ح -1007) وحديث ابن عمر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده (¬2) .. ¬
القول الأول
وقد أجمع العلماء على وجوب الوصية في حهق من عنده ودائع، أو عليه ديون (¬1) وقال ابن عبد البر: "أجمع العلماء على أن من لم يكن عنده إلا اليسير التافه من المال أنه لا يندب إلى الوصية" (¬2). (ث -196) وخالف في ذلك الزهري، فقد روى الطبري، من طريق معمر، عن الزهري، قال: جعل الله الوصية حقًا مما قل منه أو كثر (¬3). [صحيح]. ورجحه الطبري، قال أبو جعفر: "كلّ من حضرته منيَّته، وعنده مالٌ قلّ ذلك أو كثر، فواجبٌ عليه أن يوصي مثله لمن لا يرثه من آبائه وأمهاته وأقربائه الذين لا يرثونه بمعروف، كما قال الله جل ذكره وأمرَ به" (¬4). وتحرم وصية الجنف، قال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182]. واختلفوا في حكم الوصية إذا ترك مالاً كثيرًا على أربعة أقوال: القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الوصية ليست واجبة، موسرًا كان الموصي أو ¬
فقيرًا، وأن له أن يضع وصيته حيث شاء، سواء أعطاها أجنبيًا أو قريبًا غير وارث، وهو قول عامة الفقهاء (¬1). قال ابن عبد البر: "أجمع العلماء على أن الوصية غير واجبة على أحد، إلا أن يكون عليه دين، أو تكون عنده وديعة أو أمانة فيوصي بذلك، وفي إجماعهم على هذا بيان لمعنى الكتاب والسنة في الوصية، وقد شذت طائفة فأوجبت الوصية، لا يعدون خلافا على الجمهور" (¬2). وقال العراقي: "أجمع المسلمون على الأمر بها, لكن مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، والجمهور أنها مندوبة لا واجبة" (¬3). وجاء في تحفة المحتاج: "وهي سنة مؤكدة إجماعًا" (¬4). وقال في الإنصاف: "والوصية مستحبة. هذا المذهب في الجملة، وعليه جماهير الأصحاب" (¬5). ¬
القول الثاني
القول الثاني: أن الوصية واجبة لقريب غير وارث، فإن أوصى لأجنبي انتزعت منه وردت على قرابته، وهذا أحد القولين عن الحسن البصري، وهو قول طاوس، ورواية عن أحمد (¬1). (ث -197) روى البيهقي من طريق سعيد بن منصور، ثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه أنه كان يقول: إن الوصية كانت قبل الميراث، فلما نزل الميراث نسخ من يرث وبقيت الوصية لمن لا يرث، فهي ثابتة، فإن أوصى لغير ذي قرابة لم تجز وصيته (¬2). [صحيح] (¬3). القول الثالث: أنها واجبة مطلقًا، للقريب والأجنبي، وهو قول الزبير، وطلحة بن مصرف، والزهري، وأبي مجلز، وعطاء (¬4). ¬
القول الرابع
القول الرابع: أن من أوصى لأجنبي وترك ذا قرابته، فإن الأجنبي يأخذ ثلث الوصية، ويرد ثلثي الوصية لأقارب الموصي، وبهذا يشترك القريب والأجنبي في الوصية، وهو أحد القولين عن الحسن البصري، وبه قال ابن المسيب، وجابر بن زيد، وإسحاق بن راهوية" (¬1). وقال ابن حزم: "فرض على كل مسلم أن يوصي لقرابته الذين لا يرثون ... وإذا أوصى لمن أمر به فلم ينه عن الوصية لغيرهم فقد أدى ما أمر به، وله أن يوصي بعد ذلك بما أحب" (¬2). (ث -198) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا معتمر، عن حميد، عن الحسن في الرجل يوصي للأباعد، ويترك الأقارب، قال: تجعل وصيته ثلاثة أثلاث، للأقارب ثلثان، وللأباعد ثلث (¬3). [صحيح] (¬4). ¬
دليل من قال: الوصية واجبة لقريب غير وارث
دليل من قال: الوصية واجبة لقريب غير وارث: الدليل الأول: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]. وجه الاستدلال: قوله تعالى: كتب: أي فرض، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 183]، ولا خلاف بين العلماء على أن الصيام فرض، فكانت الآية نصًّا على وجوب الوصية للوالدين والأقربين، خرج منهم الوارثون بالإجماع على أنه لا وصية لوارث (¬1)، وبقي سائر الأقارب على وجوب الوصية لهم. ¬
ونوقش هذا
ونوقش هذا: بأن الله تعالى أوجب الوصية للوالدين والأقربين قبل نزول آية المواريث، ثم نزلت آية المواريث للوالدين والأقربين، بقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}. فالوالدان والأقربون في آية المواريث، هم الوالدان والأقربون في آية الوصية، وإذا كان إطلاق الأقارب في آية الميراث لا يعني وجوب تعميهم، فكذلك الحال في آية الوصية، فالوالدان والأقربون الذين أوجب الله لهم الحق في الوصية قبل نزول آية الميراث, هم الأقربون الذين أوجب الله لهم بدلاً منه الحق في الميراث، خاصة أن آية الوصية لم تبين مقدار الموصى به، ولا مقدار نصيب كل قريب فيها، بل ترك التقدير للموصي بالمعروف، كما قال تعالى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 185] وكما في حديث: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة"، ولم يقل أحد من أهل العلم فيما أعلم وجوب تعميم الأقارب في الوصية، ذكرانهم وإناثهم، قريبهم وبعيدهم، صغيرهم وكبيرهم؛ لأن مثل هذا لو قيل به لفرض مقدارًا من الوصية لم تبينه النصوص، بل ترك للموصي وما تطيب به نفسه، وإذا كان لا يجب تعميم الأقارب لم يصح القول بأن الوصية كانت واجبة لجميع الأقارب، خرج الوارث منهم، وبقي من عداه، فإذا أوصى لبعض الأقارب ممن لا يرث كفى في الامتثال عند القائلين بوجوب الوصية للأقارب، وإذا كان كذلك فقد انتقل حق الوالدين والأقربين من الوصية المجملة الواجبة إلى الميراث الواجب، وهو حق معلوم المقدار، ومتفاوت بحسب قوة القرابة وجنس القريب، بخلاف الحق في الوصية على القول به فإنه لم يعين المقدار، ولم يتفاوت بحسب الجنس
والقرب، بل ترك هذا لتقدير الموصي، فكان هذا من التدرج في التشريع، فأوجب أول ما أوجب أن يوصي لوالديه وبعض أقاربه بما تطيب به نفسه، ثم نزل هذا الحق بعد ذلك ميراثًا لازمًا للوالدين والأقربين مما قل منه أو أكثر، ويقصد بالأقربين أي بعضهم ممن يرث منهم، فكان ذلك نسخًا للوصية، فلو أوصى لوالديه أو لأقاربه الوارثين لم تصح الوصية إلا بإجازة الورثة، وإذا أجاز الورثة فليس بالوصية استحقوا، وإنما أخذوا بإعطاء الورثة لهم ذلك، وهذا دليل على نسخ آية الوصية للوالدين والأقربين. ولهذا ذهب ابن عباس وابن عمر إلى أن آية الوصية نسختها آية المواريث، وهذان الصحابيان من أكبر فقهاء الصحابة، وابن عباس من أعلم الصحابة في تفسير القرآن: (ث -199) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الجهضم، عن عبد الله بن بدر، عن ابن عمر: إن ترك خيرًا الوصية قال: نسختها آية الميراث (¬1). [سنده صحيح]. (ث -200) وبمثله قال ابن عباس، فقد روى أبو عبيد القاسم بن سلام، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس، عن ابن سيرين، عن ابن عباس أنه قرأ هذه ¬
الآية، كتب عليك إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين [البقرة: 180] قال: قد نسخ هذا (¬1). [صحيح، وهو في البخاري بغير هذا اللفظ] (¬2). قال ابن حجر عن حديث ابن عباس: هو موقوف لفظًا، إلا أنه في تفسيره إخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن، فيكون في حكم المرفوع بهذا التقرير (¬3). ¬
ونوقش هذا
وإذا كان هذا قول ابن عمر وابن عباس، فقد قال ابن العربي: "وأما السلف الأول فلا نعلم أحدًا منهم قال بوجوب الوصية" (¬1). وهل كان العلم الشرعي إلا ما قاله السلف الأول. ونوقش هذا: قال الطبري: فإن قال: فإنك قد علمت أن جماعة من أهل العلم قالوا: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] منسوخة بآية الميراث؟ قيل له: وخالفهم جماعة غيرهم فقالوا: هي محكمة غير منسوخة: وإذا كان في نسخ ذلك تنازع بين أهل العلم لم يكن لنا القضاء عليه بأنه منسوخ إلا بحجة يجب التسليم لها، إذ كان غير مستحيل اجتماع حكم هذه الآية، وحكم آية المواريث في حال واحدة على صحة، بغير مدافعة حكم إحداهما حكم الأخرى، وكان الناسخ والمنسوخ هما المعنيان اللذان لا يجوز اجتماع حكمهما على صحة في حالة واحدة لنفي أحدهما صاحبه. وبما قلنا في ذلك قال جماعة من المتقدمين والمتأخرين" (¬2). ويجاب: بأني قد رأيت أن كل من ذكرهم الطبري من العلماء الذين قالوا بعدم النسخ هم ممن دون الصحابة، وهؤلاء لا حجة في رأيهم، وإنما يحتج لهم، ولا يحتج بهم، فكيف يقدم قولهم على قول ابن عمر وابن عباس؟ ¬
وقد نسب الطبري لابن عباس القولين أحدهما، أن آية الوصية منسوخة بآية المواريث، وهذا هو الثابت عن ابن عباس في البخاري وغيره من رواية عطاء وابن سيرين عنه، وتقدم تخريجها. وأما ما رواه الطبري عن ابن عباس أن آية المواريث نسخت من يرث فقط فهذا لو صح عن ابن عباس لكان يصح أن يقال: إن ابن عباس له قولان في المسألة، ولأمكن الترجيح بينهما، إلا أن الأسانيد عنه ضعيفة لا تعارض ما صح عنه. (ث -201) فقد رواه الطبري من طريق عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. [وعلي بن أبي طلحة لم ير ابن عباس]. (ث -202) ورواه ابن جريج الطبري من طريق ابن جرير، عن عكرمة، عن ابن عباس. [ولم يلق ابن جريج عكرمة] (¬1). ¬
دليل من قال: الوصية واجبة مطلقا ولو لأجنبي
دليل من قال: الوصية واجبة مطلقًا ولو لأجنبي: الدليل الأول: (ح -1008) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده (¬1). وأجيب: بأن الحديث لا يدل على الوجوب من وجوه: الوجه الأول: أن الحديث قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء) فجعل الحق للمسلم، ولم يجعل الحق عليه، ولو وجبت الوصية لكان حقًا عليه، وليس له، نعم لو كان الحديث بلفظ: حق الله على المسلم أو قال: حق على كل مسلم لكان ذلك ظاهرًا في الوجوب، كما (ح -1009) روى البخاري من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال ¬
الوجه الثاني
النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟، قال: الله ورسوله أعلم، قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا ... (¬1). (ح - 1010) وكما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا، حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يومًا يغسل فيه رأسه وجسده (¬2). الوجه الثاني: أن الحديث ورد بلفظين: أحدهما، حديث الباب، وعليه أكثر الروايات، بلفظ: (له شيء يوصي فيه) وهذا التعبير ظاهر في أن الوصية من باب التبرع، ولو كانت واجبة لقال: (عليه شيء يوصي فيه). (ح -1011) وأما اللفظ الثاني للحديث فقد رواه مسلم من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن عبيد الله، أخبرني نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده (¬3). فقوله: (له شيء يريد أن يوصي به) فرد الأمر إلى إرادته، ولو كان واجبًا لم يعلق الأمر على إرادة الموصي. وأجيب: بأن أكثر الرواة رووه بلفظ: (له شيء يوصي فيه)، ومن رواه بلفظ (يريد أن ¬
يوصي به) قد اختلف عليه، وهي لم ترد إلا من طريقين على كثرة من روى الحديث، فقد رواه بلفظ الإرادة يحيى بن سعيد القطان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، وأكثر الرواة عن عبيد الله بلفظ: (له شيء يوصي به) كرواية الجماعة. وجاءت من طريق أيوب عن نافع على اختلاف عليه في لفظه. ورواه سالم عن ابن عمر بلفظ: (له شيء يوصي فيه) فالذي يظهر لي شذوذ رواية: (له شيء يريد أن يوصي به). وانفرد ابن عون، عن نافع بلفظ: (لا يحل لامرئ مسلم له مال يوصي فيه). وهذا لفظ شاذ، لم يتابع عليه (¬1). والله أعلم (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الوجه الثالث
الوجه الثالث: أن معنى الحديث كما قال الشافعي: ما الحزم والاحتياط لمسلم يبيت ليلتين إلا أن تكون وصيته مكتوبة؛ لأنه لا يدري متى يدركه الموت، خاصة أن الأصل في الوصية أنها من أعمال البر يتصدق بها الموء على نفسه، فكان من الحزم المبادرة في كتابتها خشية فجأة الموت، وليس هذا خاصًا في الوصية، بل مطلوب في كل أعمال البر (¬1). (ح -1012) فقد روى البخاري من حديث عن عقبة، قال: صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة العصر، فسلم، ثم قام مسرعًا، فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم, فرأى أنهم عجبوا من سرعته، فقال: ذكرت شيئًا من تبر عندنا، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته (¬2). الوجه الرابع: أن الحديث لو فرضنا أن ظاهره يدل على الوجوب فيه محمول على الوصية بالحقوق الواجبة على الإنسان، كان يكون عليه دين، أو يكون عنده ودائع ولا طريق لثبوتها إلا من جهته، فتكون الوصية واجبة عليه؛ لتوقف أداء الواجبات على الوصية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (¬3). ¬
الدليل الثاني
والقرينة على أن المراد بالوصية: الوصية بالحقوق الواجبة أن الحديث قال: (له شيء يوصي فيه) وهي رواية الصحيح، وعليها أكثر الرواة، وكلمة (شيء) نكرة، ولو أخذنا بظاهر الحديث لقلنا: إن الإنسان مأمور بالوصية إذا ترك أي مال مهما كان يسيرًا، والإجماع منعقد على أن الإنسان إذا ترك شيئًا يسيرًا لا تشرع له الوصية، فحمل الحديث على الوصية بالحقوق الواجبة. قال ابن عبد البر: "أجمع العلماء على أن من لم يكن عنده إلا اليسير التافه من المال أنه لا يندب إلى الوصية" (¬1). وستأتي الآثار إن شاء الله عن الصحابة في ذلك في أدلة القائلين بالاستحباب. الدليل الثاني: (ح -1013) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم النخعي، قال: ذكرنا أن زبيرًا وطلحة كانا يشددان في الوصية على الرجال، فقال: وما كان عليهما ألا يفعلا، توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما أوصى، وأوصى أبو بكر، فإن أوصى فحسن، وإن لم يوص فلا بأس. وجه الاستدلال: التشديد في الشيء لا يكون إلا في الأمور الواجبة. [لم أقف على قول الزبير وطلحة مسندًا عنهما، والنخعي لم يلق واحدًا منهما] (¬2). ¬
دليل من قال: إذا أوصى لأجنبي لم يستحق إلا ثلث الوصية.
(ح -1014) نعم روى ابن أبي شيبة من طريق مالك بن مغول، عن طلحة، قال: قلت لابن أبي أوفى: أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا. قلت: فكيف أمر الناس بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله (¬1). [وسنده صحيح]. فإن كان هذا هو المقصود من قول طلحة (فكيف أمر الناس بالوصية) فهذا ليس صريحًا في حكاية الوجوب، ولا خلاف في أن الإنسان مأمور بالوصية، وأنها مشروعة بكتاب الله، وبسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن السؤال: هل مشروعيتها على سبيل الاستحباب أو الإيجاب؟ ولعل السؤال عن الوصية بالخلافة، وليس السؤال عن الوصية بالمال. دليل من قال: إذا أوصى لأجنبي لم يستحق إلا ثلث الوصية. أن الموصي لو أوصى بماله كله لجاز منه الثلث، والباقي رد على الورثة، وأقاربه الذين لا يرثونه في استحقاق الوصية، كالورثة في استحقاق المال كله، فينفذ ثلث الوصية، ويكون الباقي ردًا على أقاربه غير الوارثين (¬2). دليل من قال: الوصية ليست فرضًا، وتصح للقريب والأجنبي: الدليل الأول: أن أكثر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل عنهم وصية، ولم ينقل لذلك نكير، ولو كانت واجبة لم يتركوا ذلك، ولنقل عنهم نقلاً ظاهرًا. ¬
(ث -203) فقد روى الطبري من طريق أيوب، عن نافع، أن ابن عمر، لم يوص وقال: أما مالي فالله أعلم ما كنت أصنع فيه في الحياة، وأما رباعي فما أحب أن يشرك ولدي فيها أحد (¬1). [إسناده صحيح]. وروي أن حاطب بن أبي بلتعة بحضرة عمر لم يوص (¬2). (ث -204) وروى الدارمي من طريق حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عليًا دخل على مريض، فذكروا له الوصية، فقال علي: قال الله: إن ترك خيرًا, ولما أراه ترك خيرًا. قال حماد: فحفظت أنه ترك أكثر من سبعمائة (¬3). [ضعيف عروة لم يلق عليًا] (¬4). ¬
الدليل الثاني
(ث -205) وروى سعيد بن منصور، من طريق ابن جريج، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: إذا ترك الميت سبعمائة درهم فلا يوص. [ضعيف] (¬1). (ث -206) وروى سعيد بن منصور قال: أخبرنا أبو معاوية، عن محمَّد بن شريك المكي، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: قال لها رجل: إني أريد أن أوصي؟ قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: قال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: إن ترك خيرًا، وإن هذا الشيء يسير، فاتركه لعيالك، فهو أفضل (¬2). [إسناده صحيح]. الدليل الثاني: الإجماع، فقد سبق أن نقلت عن ابن عبد البر أنه قال: "أجمع العلماء على أن من لم يكن عنده إلا اليسير التافه من المال أنه لا يندب إلى الوصية" (¬3). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن العطية لا تجب في الحياة، فلا تجب بعد الموت كعطية الأجانب (¬1). الدليل الرابع: وأما الدليل على صحة الوصية لغير الأقارب: (ح -1015) ما رواه مسلم من طريق إسماعيل وهو ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجزأهم أثلاثًا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة، وقال له قولاً شديدًا (¬2). قوله: (وقال له قولاً شديدًا): أي قال عنه، ففي مصنف عبد الرزاق: عن معمر، عن أيوب، وفيه: لو أدركته ما دفن مع المسلمين (¬3). وفي مسند أحمد وسنن النسائي من طريق الحسن، عن عمران: لقد هممت أن لا أصلي عليه (¬4). فقد دل هذا الحديث على صحة الوصية لغير القرابة، وأنه لا يرد منها شيء على القريب غير الوارث، والله أعلم. ¬
الراجح
الراجح: قول الجمهور أقوى، والوصية للقرابة ممن لا يرث أفضل من الأجنبي إذا تساووا في الحاجة، والغنى، كما رجحنا ذلك في الوقف، لكونه صدقة وصلة، والله أعلم.
المبحث الثاني في أركان الوصية
المبحث الثاني في أركان الوصية [م - 1609] اتفق العلماء على أن الإيجاب -وهو اللفظ الصادر من الموصي- ركن في الوصية لا تنعقد الوصية بدونه، واختلفوا فيما زاد على ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن أركان الوصية الصيغة فقط وهي مجموع الإيجاب من الموصي والقبول من الموصى له، وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه (¬1). القول الثاني: أن ركن الوصية هو الإيجاب وحده، وهذا قول بعض الحنفية، وبعض المالكية، وبعض الحنابلة على خلاف بينهم في توصيف القبول هل يكون شرطًا، أو ليس بشرط بحيث تدخل الوصية في ملكه جبرًا كالميراث (¬2). جاء في حاشية ابن عابدين: "ركنها: الإيجاب والقبول. وقال زفر: الإيجاب فقط" (¬3). ¬
ونقل ابن الهمام نقلاً من شرح الجامع الكبير للعتابي "أن الإباحة والوصية والإقرار والاستخدام لا يشترط فيها القبول من الآخر" (¬1). وقال ابن نجيم: "وأما ركنها فقوله: أوصيت بكذا" (¬2). وقال في درر الحكام: "ركنها: قوله: أوصيت بكذا لفلان ونحوه، يشير إلى أن القبول شرط، كما قال في الخلاصة: الوصية يشترط فيها القبول، وذلك بالصريح، أو بالدلالة ... " (¬3). وقال ابن عابدين: "كلام المصنف تبعًا لشراح الهداية، يشير إلى أن القبول شرط، لا ركن، وما في البدائع هو الموافق لما يذكرونه في سائر العقود كالبيع ونحوه، من أن الركن منهما" (¬4). يعني من الإيجاب والقبول. وقال ابن شاس المالكي: "الركن الرابع: ما تكون به الوصية: وتكون بالإيجاب ... والقبول شرط، ولا أثر له في حياة الموصي" (¬5). وقال ابن جزي: ويشترط قبول الموصى له إذا كان فيه أهلية للقبول كالهبة" (¬6). والفرق بين هذا القول وقول زفر: أن زفر يرى أن الوصية تنعقد بالإيجاب ¬
وجه من قال: إن القبول ليس ركنا
وحده، ولا تفتقر إلى قبول، فهي تدخل ملك الموصى له جبرًا كالميراث، بينما هذا القول يرى أن القبول شرط في إفادة الملك، فلا يثبت الملك بدون القبول، وإن كان القبول ليس ركنًا في الوصية. بل ذهب بعض الحنابلة بأن القبول ليس ركنا حتى في عقد البيع، وإن كان شرطًا في انعقاده. جاء في القواعد لابن رجب: "القبول شرط محض لانعقاد البيع وليس هو من ماهيته" (¬1). وجه من قال: إن القبول ليس ركنًا: أن الوصية إذا كانت لجهة عامة كالفقراء والمساكين والمساجد فإن القبول ليس ركنًا فيها, ولو كان القبول ركنًا لوجب صدوره في كل صور الوصية؛ لأن الركن: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءًا داخلاً في حقيقته، فإذا وجدت الوصية في بعض صورها دون حاجة إلى القبول دل على أن القبول ليس جزءًا من الماهية، سواء قلنا: إن الوصية تنعقد بالإيجاب وحده كما قال زفر، أو قلنا: إن القبول شرط في ثبوت الملك. وهذا قول قوي جدًا، فالوصية فيها شبه من الوقف إلا أن الوقف تمليك للمنفعة في الحياة، والوصية تمليك للعين بعد الموت, وقد ذكرنا في الوقف أنه ينعقد بالإيجاب وحده، لهذا حاول بعض الحنفية أن يوجهوا قول أبي حنيفة وصاحبيه. ¬
القول الرابع
قال الكاساني في بدائع الصنائع: "ركن الوصية الإيجاب من الموصي، وعدم الرد من الموصى له، وهو أن يقع اليأس عن رده" (¬1). وعدم الرد في الحقيقة ليس قبولاً؛ لأن القبول هو عمل إيجابي، وليس عملاً سلبيًا، فالساكت لا ينسب له قول، ولهذا لا يعتبر السكوت في عقد البيع والنكاح والإجارة ونحوها قبولاً إلا بقرينة. القول الرابع: أن أركان الوصية: أربعة: صيغة، وموص، وموصى له، وموصى به، وهذا مذهب الجمهور (¬2). جاء في التاج والإكليل: "أركانها وهي الموصي، والموصى به، والموصى له، وما يكون به الوصية" (¬3). وفي الشرح الكبير للدردير: "وأركانها أربعة: موص، وموصى له، وموصى به، وصيغة" (¬4). وجاء في شرح منتهى الإرادات: "وأركانها أربعة: موص، ووصية، وموصى به، وموصى له" (¬5). ¬
سبب الخلاف
سبب الخلاف: الخلاف بين الحنفية والجمهور في ركن العقد مطلقًا، سواء كان في عقد البيع، أو الإجارة، أو الوصية أو غيرها: ذلك أن الحنفية يرون أن الركن: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءًا داخلاً في حقيقته، وهذا خاص في الإيجاب والقبول، أما الموصي والموصى له، والموصى به فهي من لوازم العقد، وليست جزءًا من حقيقة العقد، وإن كان يتوقف عليها وجوده. بينما الجمهور يرون أن الركن: ما توقف عليه وجود الشيء وتصوره عقلاً، سواء أكان جزءًا من حقيقته أم لم يكن، ووجود الوصية يتوقف على الموصي، والموصى له، والموصى به، وإن لم يكن هؤلاء جزءًا من حقيقته. ومذهب الحنفية أجود، وأدق في الجملة، والجمهور لا يطرد في تحديد الأركان، فاللوازم تارة يعتبرونها من الأركان، وتارة لا يدخلونها، فهم يجعلون الفاعل ركنًا في مثل عقد الوصية وعقد البيع والنكاح، ولا يجعلونه ركنًا في العبادات كالصلاة والحج، وإن كان لا يتصور قيام الحج والصلاة بدون فاعل. هذا بيان لسبب الخلاف بين الحنفية والجمهور في ركن العقد. أما الخلاف في عقد الوصية فالخلاف فيه أكثر من الخلاف في ركن العقد، ذلك أن الوصية أحيانًا تأخذ شكل الوقف إذا كان على جهة لا تملك، أو كان على عدد لا يمكن حصرهم، والقبول في هذه الحالة ليس ركنًا ولا شرطًا، بل تنعقد بالإيجاب وحده كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وإذا كانت الوصية لمعين كان لا بد فيها من القبول لا من أجل أن العقد لا ينعقد إلا بالإيجاب والقبول، بل لأجل ألا يدخل ملك الإنسان مال من غيره إلا
برضاه دفعًا للمنة والضرر، وفي هذه الحالة لا يكون القبول ركنًا في العقد بل هو شرط لثبوت الملك. أصل ذلك: أن العقد متى كان عقد مبادلة من الطرفين كالبيع، والصرف، والسلم، فإنه لا يتم بالإيجاب وحده، بل لا بد فيه من القبول، والقبول في هذه الحالة ركن العقد، لا يتصور قيام العقد بدونه. وإذا كان العقد عقد تمليك بغير بدل كالوقف، والوصية، والهبة، فإنه لا يحتاج إلى قبول، بل يكفي الإيجاب وحده لقيام العقد. والفرق بينهما: أن عقد المعاوضة لا يتم إلا بهما فما لم يوجد القبول لا يثبت الاسم. وأما عقد التمليك بغير بدل فإنه يتم من المالك وحده؛ لأنه يلاقي ملكه لا غير، وهو أمر يقوم به وحده، فيتحقق الاسم بدون القبول، وإنما يحتاج إلى القبول لثبوت الحكم، وهو انتقال الملك، فكان القبول شرطًا للنفاذ، وليس ركنًا في العقد، والله أعلم (¬1). وإذا كان الفقهاء لا يختلفون في الإيجاب بأنه ركن، فسوف نتكلم عن أنواع الإيجاب، من لفظ، أو إشارة، أو كتابة، ثم نتعرض بعد ذلك إن شاء الله تعالى إلى خلاف العلماء في منزلة القبول من عقد الوصية، ومتى تنعقد الوصية بالإيجاب وحده، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه. ¬
الباب الثاني في صيغة الوصية وما يتعلق بها من أحكام
الباب الثاني في صيغة الوصية وما يتعلق بها من أحكام الفصل الأول في انعقاد الوصية باللفظ لا يتعين في الوصية لفظ مخصوص. ما دل على التمليك بغير عوض، وكان مضافًا إلى ما بعد الموت فهو وصية. دليل الرضا كصريح الرضا. دليل القبول كصريح القبول. [م - 1610] لا خلاف بين الفقهاء أن الوصية تنعقد باللفظ، وهو الأصل في التعبير عن الإرادة، وهو عند أكثرهم ينقسم إلى صريح وغير صريح، يسميه بعضهم كناية (¬1). والصريح في باب الوصية: ما اشتملت الصيغة على لفظ الوصية، أو ما تصوف منها، وذلك نحو: أوصيت لفلان بكذا، أو هذا وصية لفلان، ونحو ذلك. ¬
وغير الصريح
وغير الصريح: وهو ما يفهم منه الوصية لا باللفظ، ولكن بقرينة تدل على ذلك، كأن يقول: أعطوه، أو جعلت هذا له، أو ملكته بعد موتي (¬1). وقيل: لا كناية في عقد الوصية، وهذا مذهب الحنابلة (¬2). وسبق في عقد البيع الفرق بين الصريح والكناية. ولا يتعين للوصية لفظ مخصوص، بل تنعقد الوصية بكل لفظ يدل على معناها؛ فما دل على التمليك بغير عوض وكان مضافًا إلى ما بعد الموت؛ فهو معبر عن الوصية. ولأن التبرع في القرآن والسنة لم يشترط له إلا طيب النفس. قال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه (¬3). ومن المعلوم ضروروة من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم أنهم يعلمون طيب النفس بطرق متعددة. ¬
جاء في حاشية ابن عابدين: وركنها: قوله: أوصيت بكذا لفلان، وما يجري مجراه من الألفاظ المستعملة فيها" (¬1). وقال الخرشي: "الوصية تكون بلفظ صريح، كأوصيت، وتكون بلفظ غير صريح يفهم منه إرادة الوصية" (¬2). وقال ابن شاس المالكي: "وتكون بالإيجاب، ولا يتعين له لفظ مخصوص، بل كل لفظ يفهم منه قصد الوصية بالوضع أو بالقرينة حصل الاكتفاء به، مثل قوله: أوصيت، أو أعطوه، أو جعلت له، ولو قال: هو له، وفهم من مراده بقرينة قصد الوصية فهو وصية" (¬3). وقال ابن تيمية: "تنعقد الوصية بكل لفظ يدل على ذلك" (¬4). ¬
الفصل الثاني في انعقاد الوصية بالكتابة
الفصل الثاني في انعقاد الوصية بالكتابة الكتاب كالخطاب. الكتاب من الغائب كالخطاب من الحاضر. وقيل: الكتاب محتمل، والخط يشبه الخط. لا عبرة بالخط. والأول أصح. [م - 1611] اختلف العلماء في الوصية هل تثبت بالكتابة، أو لا يكفي الخط لثبوتة الوصية، بل لا بد مع ذلك من الإشهاد عليها؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يعتمد الخط في ثبوت الوصية حتى يشهد عليها. وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، واختاره بعض الحنابلة (¬1). ¬
دليل من قال: لا بد من الإشهاد
دليل من قال: لا بد من الإشهاد: الدليل الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106]. ونوقش هذا: لا يلزم من ذكر الإشهاد في الآية أنها لا تصح الوصية إلا به، فالآية تدل على ثبوت الوصية عن طريق الإشهاد، وهذا لا نزاع فيه، ولكنها لا تدل على أنها لا تثبت إلا بالاشهاد، وهو محل النزاع. وقد اختلف القائلون بوجوب الإشهاد في كيفيته: فقالت المالكية: إذا كتب الوصية، وقرأها على الشهود فلا تنفذ حتى يقول لهم: اشهدوا بأن هذه وصيتي، أو يقول: أنفذوها، وإذا كتبها، ثم ختمها، ثم أشهدهم على أن هذه وصيته، ولو لم يطلع الشهود على مضمونها، صحت الوصية، إن عرف أن الخاتم لم يفض، أو أقرها الموصي في يد غيره، ولم يسترده، فإن استرده كان هذا رجوعًا منه (¬1). ¬
دليل المالكية على صحة الشهادة ولو لم يطلعوا على المضمون
وخرج ابن عقيل الحنبلي ومن بعده رواية بعدم الصحة. أخذًا من قول الإمام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن كتب وصيته وختمها. وقال: اشهدوا بيما فيها، أنه لا تصح: أي شهادتهم على ذلك" (¬1). جاء في حاشية الدسوقي: "الموصي إذا كتب وصيته بخطه، أو أملاها لمن كتبها، وقال للشهود: اشهدوا علي أن ما في هذه الوثيقة وصيتي، أو على أني أوصيت بما فيها, ولم يقرأها عليهم، فإنه يجوز لهم القدوم على الشهادة بأنه أوصى بما انطوت عليه هذه الوثيقة، فقول المصنف: ولهم الشهادة يعني أنه يجوز للشهود القدوم على الشهادة بما انطوت عليه وصية الموصي، بأن يقولوا: نحن نشهد بأنه أوصى بما انطوت عليه هذه الوصية أي الوثيقة، وإن لم يقرأها عليهم، ولا فتح الكتاب لهم، ولو بقي الكتاب عنده إلى أن مات بشرط أن يشهدهم بما في كتاب وصيته، أو يقول لهم: أنفذوه، وبشرط أن لا يوجد في الوثيقة هو ولا تغير، وأن يعرفوا الوثيقة بعينها كذا قرر شيخنا العدوي" (¬2). دليل المالكية على صحة الشهادة ولو لم يطلعوا على المضمون: احتج المالكية بكتابة رسول الله إلى الملوك بتبليغ دعوته. ¬
دليل الشافعية على وجوب اطلاع الشهود على مضمون الخطاب
(ح -1016) فقد روى البخاري من طريق شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أنسًا - صلى الله عليه وسلم -، يقول: لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب إلى الروم، قيل له: إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا أن يكون مختومًا، فاتخذ خاتمًا من فضة، فكأني أنظر إلى بياضه في يده، ونقش فيه محمَّد رسول الله (¬1). وقد عمل بهذا الخلفاء الراشدون من بعده، فكانوا يكتبون إلى ولاتهم فيأخذون بها. وقد استخلف سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز بكتاب كتبه، وختم عليه، ولا نعلم أحدًا أنكر ذلك مع شهرته، فيكون إجماعًا (¬2). وقالت الشافعية: كيفية الشهادة أن يطلع الشهود على مضمون الوصية، وذلك بأن يقرأ الشهود الوصية، أو تقرأ عليهم، ثم يقرها الموصي. قال النووي: "ولو وجد له كتاب وصية بعد موته، ولم تقم بينة على مضمونه، أو كان قد أشهد جماعة أن الكتاب خطي، وما فيه وصيتي، ولم يطلعهم على ما فيه، فقال جمهور الأصحاب: لا تنفذ الوصية بذلك، ولا يعمل بما فيه حتى يشهد الشهود به مفصلاً" (¬3). دليل الشافعية على وجوب اطلاع الشهود على مضمون الخطاب: قال إمام الحرمين: "الخط لا معول عليه، وبيانه في حق الشاهد، أنه لو رأى خط نفسه في تحمل الشهادة، ولم يتذكر تحمله لها، فليس له اعتماد الخط في ¬
وأجاب ابن قدامة
إقامة الشهادة، وكذلك القاضي إذا رأى خطه متضمنًا إمضاء القضاء، فإن تذكره، جرى عليه، تعويلاً على الذكر دون الخط، وإن لم يذكره، توقف" (¬1). ولأن الحكم لا يجوز برؤية خط الشاهد بالشهادة بالإجماع، فكذلك هنا (¬2). وأجاب ابن قدامة: بأن الوصية يتسامح فيها ما لا يتسامح بغيرها, ولهذا صح تعليقها على الخطر والغرر، وصحت للحمل، وبما لا يقدر على تسليمه، وبالمعدوم والمجهول، فجاز أن يتسامح فيها بقبول الخط كرواية الحديث (¬3). القول الثاني: يجوز الاعتماد على الكتابة والخط المعروف، ولو لم يقترن ذلك بالشهادة، إذا ثبت أن هذا خطه بإقرار وارث، أو ببينة. اختار هذا القول محمَّد بن نصر المروزي عن الشافعية، وهو مذهب الحنابلة (¬4). وقد انتقد إمام الحرمين محمَّد بن نصر المروزي على اختياره، وما كان ينبغي له ذلك، وشدد في المسألة، وهي لا تحتمل: جاء في نهاية المطلب: "ومما شهر من هفوات بعض الأئمة، وهم من المنتمين إلى أصحابنا ما حكي أن الأمير نصر بن أحمد، من أمراء خراسان، ¬
دليل من صحح الوصية اعتمادا على الخط
أراد أن يوصي بوصايا فيكتبها، فيعمل بكتابه، فاستشار العلماء، فلم يفتوا له بذلك، فاستشار محمَّد بن نصر المروزي، فأفتى له بالتعويل على كتابه إذا استوثق فيه، ووضعه على يد مأمون بمشهد أمناء، واحتج بظاهر الحديث (يعني حديث ابن عمر: ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)، فحظي عنده، وارتفع قدره، وأجمع علماء الزمان على تخطئته" (¬1). ومن اعتمد على ظاهر السنة حتى لو أخطأ لا يقال مثل هذا في حقه؛ إذ كيف يقال عن تمسكه بالسنة بأنه هفوة، ومن المبالغة القول بأن علماء الزمان مجمعون على تخطئته. وجاء في الإنصاف: "وإن وجدت وصية بخطه صحت، هذا المذهب مطلقًا. قال الزركشي: نص عليه الإمام أحمد" (¬2). وقال ابن تيمية: "وتنفذ الوصية بالخط المعروف، وكذا الإقرار إذا وجد في دفتره، وهو مذهب الإمام أحمد" (¬3). دليل من صحح الوصية اعتمادًا على الخط: (ح -1017) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده (¬4). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (مكتوبة عنده) دليل على ثبوت الوصية بالكتابة ولو لم يقرن ذلك بالإشهاد، فإن كتب وصيته فقد امتثل أمر نبيه، ولذلك قال ابن عمر: لم أبت ليلة إلا ووصيتي مكتوبة عندي، ولم يزد صلى ذلك. ولو كانت الكتابة لا تغني إلا بالإشهاد لذكره النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما لم يذكر مع الكتابة أمرًا زائدًا دل على صحة الاكتفاء بها, ولولا أن ذلك كاف، لما كان لكتابته فائدة؛ لأن الإشهاد وحده يغني عن الكتابة، وهل من البلاغة أن يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الإشهاد مع كونه مطلوبًا، ومغنيًا عن الكتابة، ويذكر الكتابة وحدها، مع أن الاقتصار عليها لا ينفع، ولا يغني عن الإشهاد، هذا لا يصح في حق أفصح وأنصح الخلق، ومن أعطي جوامع الكلم، فلما اقتصر على الكتابة دل على صحة ثبوت الوصية بها، ولذلك في الديون لما كانت الكتابة وحدها لا تكفي طلب مع الكتابة الإشهاد، فقال تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله - عز وجل -: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]. فصح أن الوصية يتسامح فيها ما لا يتسامح في غيرها من الحقوق لكثرة تغيرها، وتجددها. قال الصنعاني: "قال بعض أئمة الشافعية: إن ذلك خاص بالوصية، وأنه يجوز الاعتماد على الخط فيها من دون شهادة؛ لثبوت الخبر فيها؛ ولأن الوصية لما أمر الشارع بها، وهي تكون مما يلزم من حقوق ولوازم، كان حقها أن تجدد في الأوقات، واستصحاب الإشهاد في كل لازم يريد أن يتخلص منه خشية مفاجأة الأجل متعسر، بل متعذر في بعض الأوقات، فيلزم منه عدم وجوب الوصية أو شرعيتها بالكتابة من دون شهادة؛ إذ لا فائدة في ذلك، وقد ثبت الأمر
الراجح
المذكور في الحديث بها فدل على قبولها من غير شهادة ... والتحقيق أن المعتبر معرفة الخط فإذا عرف خط الموصي عمل به، ومثله خط الحاكم، وعليه عمل الناس قديمًا وحديثًا، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث الكتب يدعو فيها العباد إلى الله، وتقوم عليهم الحجة بذلك، ولم يزل الناس يكتب بعضهم إلى بعض في المهمات من الدينيات والدنيويات، ويعملون بها، وعليه العمل بالوجادة كل ذلك من دون إشهاد" (¬1). الراجح: بعد استعراض الخلاف أجد أن مذهب الحنابلة أقوى، بشرط: أن يكون الخط معروفًا ومحافظًا عليه. أن يتأكد أنه لا يوجد ما ينسخ هذه الوصية؛ لأن الوصية قابلة للتغيير والتجديد، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث انعقاد الوصية بالإشارة
الفصل الثالث انعقاد الوصية بالإشارة المبحث الأول في الإشارة من الأخرس الأصلي إشارة الأخرس المفهمة كالنطق. كتابة الأخرس كإشارته. [م - 1612] تصح وصية الأخرس بالإشارة إذا كانت مفهمة، وكان خرسه أصليًّا، وكذا سائر عقوده بلا خلاف. قال النووي: "قال أصحابنا: يصح بيع الأخرس وشراؤه بالإشارة المفهومة، وبالكتابة بلا خلاف للضرورة, قال أصحابنا: ويصح بها جميع عقوده" (¬1). وجاء في الموسوعة الكويتية: "اتفق الفقهاء على أن إشارة الأخرس المعهودة والمفهومة معتبرة شرعًا، فينعقد بها جميع العقود كالبيع، والإجارة، والرهن، والنكاح، ونحوها" (¬2). وهل يشترط في قبول إشارة الأخرس أن يكون غير قادر على التعبير عن إرادته بطريق الكتابة. توجه لهذه المسألة الحنفية، ولهم فيها قولان: ¬
القول الأول
القول الأول: هو المعتمد في المذهب أن وصيته بالإشارة صحيحة، وإن كان قادرًا على الكتابة؛ لأن النطق هو الأصل، فإذا عجز عنه رخص له في غيره. قال ابن نجيم كما في غمز عيون البصائر: "واختلفوا في أن عدم القدرة على الكتابة شرط للعمل بالإشارة، أو لا، والمعتمد: لا" (¬1). وقال في الهداية شرح البداية: "الإشارة معتبرة وإن كان قادرًا على الكتابة، بخلاف ما توهمه بعض أصحابنا رحمهم الله، أنه لا تعتبر الإشارة مع القدرة على الكتابة" (¬2). القول الثاني: أن الكتابة أقوى من الإشارة في الدلالة على الإرادة، فلا يصار إلى الإشارة مع قدرته على الكتابة (¬3). قال ابن عابدين نقلاً من كافي الحاكم الشهيد: "فإن كان الأخرس لا يكتب، وكان له إشارة تعرف في طلاقه، ونكاحه، وشرائه، وبيعه فهو جائز ... فقد رتب جواز الإشارة على عجزه عن الكتابة، فيفيد أنه إن كان يحسن الكتابة لا تجوز إشارته" (¬4). وقال ابن الهمام نقلاً من الأصل: "وإن كان الأخرس لا يكتب وكانت له ¬
إشارة تعرف في نكاحه وطلاقه وشرائه وبيعه فهو جائز، فيعلم من إشارة رواية الأصل أن الإشارة من الأخرس لا تعتبر مع القدرة على الكتابة" (¬1). ورده ابن الهمام، وحمله على استواء الإشارة والكتابة من الأخرس، وهذا هو الراجح. ¬
المبحث الثاني في إشارة من اعتقل لسانه
المبحث الثاني في إشارة من اعتقل لسانه معتقل اللسان ينزل منزلة الأخرس إن كانت إشارته مفهمة. يقال: اعتقل بطنه: أي استمسك، واعتقل لسانه حبس فلم يقدر على الكلام فجأة لصعوبة، أو تعذر، أو استحالة، فهو خرس طارئ، وليس أصليًا. [م - 1613] وقد اختلف العلماء في إشارة من اعتقل لسانه على قولين: القول الأول: لا يعتد بإشارته حتى يمتد به ذلك، ويقع اليأس من قدرته على الكلام، فيكون بمنزلة الأخرس الأصلي، وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة، وقول في مذهب الشافعية (¬1). وسئل سفيان الثوري: إذا سئل المريض عن الشيء فأومأ برأسه أو بيده فليس بشيء حتى يتكلم (¬2). وقال ابن قدامة في المغني: "فأما الناطق إذا اعتقل لسانه، فعرضت عليه وصيته، فأشار بها، وفهمت إشارته، لم تصح وصيته. ذكره القاضي، وابن عقيل. وبه قال الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة" (¬3). ¬
دليل من قال: لا يعتد بالإشارة حتى يقع اليأس من قدرته على الكلام
وقال في الإنصاف: وهو المذهب، نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب" (¬1). دليل من قال: لا يعتد بالإشارة حتى يقع اليأس من قدرته على الكلام: الدليل الأول: الإشارة إنما تقوم مقام العبارة إذا صارت معهودة، ولا تكون كذلك إلا في الأخرس دون معتقل اللسان، ولذلك قلنا: إذا امتد به ذلك، وصارت له إشارة معلومة كان بمنزلة الأخرس الأصلي. الدليل الثاني: أن الخرس الطارئ غير ميؤوس من نطق صاحبه، فلم تصح وصيته بالإشارة كالقادر على الكلام. الدليل الثالث: (ث -207) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن مبارك، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن خلاس: أن امرأة قيل لها في مرضها: أوصي بكذا، أوصي بكذا، فأومات برأسها فلم يجزه علي بن أبي طالب (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: تصح وصية من اعتقل لسانه، وينزل منزلة الخرس الأصلي، وهذا قول أبي يوسف من الحنفية، والمذهب عند الشافعية (¬1). تعليل من قال: تصح وصيته. إذا عجز عن الكلام لم يكن هناك فرق بين الأخرس ومعتقل اللسان، فالواجب اللفظ مع القدرة عليه، فإذا عجز قامت الإشارة مقام العبارة، كما أنه لا فرق بين الوحشي الأصلي والمتوحش في حق الذكاة. القول الثالث: صحة الوصية بالإشارة. مطلقًا من الأخرس ومن غيره. وهذا مذهب المالكية (¬2). وسوف نذكر إن شاء الله تعالى أدلتهم في المسألة التالية، ونذكر الراجح من أقوال أهل العلم. ¬
المبحث الثالث في إشارة القادر على النطق
المبحث الثالث في إشارة القادر على النطق إشارة الناطق المفهمة كعبارته. [م - 1614] اختلف العلماء في إشارة القادر على النطق على قولين: القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا تصح الوصية بالإشارة للقادر على النطق، وهو مذهب الجمهور (¬1). قال ابن نجيم: الإشارة من الناطق باطلة في وصية وغيرها ... " (¬2). وقال في أسنى المطالب: "وتصح بالإشارة المفهمة من العاجز عن النطق كالأخرس دون القادر عليه" (¬3). واستدلوا على ذلك بأدلة منها: الدليل الأول: قال ابن قدامة: لا خلاف في أن إشارة القادر لا تصح بها وصية، ولا إقرار (¬4). ¬
الدليل الثاني
وحكاية الإجماع فيها نظر. الدليل الثاني: أن الإشارة أدنى درجة في الإفصاح عن الإرادة من العبارة الملفوظة، أو المكتوبة، فلا يصار إليها مع القدرة على النطق خاصة أن الأمر يتعلق بالحقوق المالية، فيحتاط للحقوق؛ لأن الأمر إما أن يثبت الحق للوارث أو للموصي له. القول الثاني: ذهب المالكية إلى صبحة الوصية بالإشارة مطلقًا، حتى ولو كان قادرًا على النطق، من غير فرق بين حقوق الله وحقوق الآدميين كالعقود والإقرار والوصية، وهو مذهب الإمام البخاري وهو اختيار اين تيمية وابن القيم (¬1). وقال الحافظ في الفتح: وقد اختلف العلماء في الإشارة المفهمة، فأما في حقوق الله فقالوا: يكفي ولو من القادر على النطق ... " (¬2). قال الحطاب: قال ابن عرفة: الصيغة ما دل على معنى الوصية فيدخل اللفظ والكتب والإشارة" (¬3). فسوى بين اللفظ، والكتابة، والإشارة. وقال الخرشي: الوصية تكون بلفظ صريح كأوصيت، وتكون بلفظ غير صريح يفهم منه إرادة الوصية كالإشارة، وظاهره ولو من القادر خلافًا لابن شعبان" (¬4). ¬
دليل من قال: قبول الإشارة من الناطق وغيره
وجاء في الفواكه الدواني: "صيغتها: هي كل ما يفهم منه الوصية من لفظ، أو إشارة، ولو من قادر على الكلام، أو خط، ولكن لا يجب تنفيذها إلا بإشهاد الموصي عليها" (¬1). وفي الشرح الصغير: وصيغة: بلفظ يدل بل ولو بإشارة مفهمة ولو من قادر على النطق" (¬2). وقال البخاري في صحيحه: باب الإشارة في الطلاق والأمور، ثم ساق البخاري جملة من الأحاديث معلقة وموصولة، على اعتبار الإشارة، وسوف نسوق أكثر هذه الأحاديث في الأدلة. دليل من قال: قبول الإشارة من الناطق وغيره: الدليل الأول: سمى الله - عَزَّ وَجَلَّ - الإشارة قولًا، بقوله تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]. أي قولي ذلك بالإشارة، فلو كان المراد قول اللسان لأفسدت نذرها. قال ابن كثير: "المراد بهذا القول الإِشارة إليه بذلك، لا أن المراد به القول اللفظي لئلا ينافي فلن أكلم اليوم إنسيا" (¬3). هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد فهم القوم إشارة مريم، وأجابوها ¬
الدليل الثاني
بقولهم: كيف نكلم من كان في المهد صبيًا, ولم يعترضوا عليها بأنهم لم يفهموا ما تريده منهم. فنزلت الإشارة منزلة الكلام حتى من القادر على النطق. الدليل الثاني: لا يوجد نص صريح على اشتراط لفظ معين في عقد الوصية، ولا في غيره من العقود، وإنما المطلوب ما يدل على الرضا بين الطرفين، من قول أو فعل أو إشارة، ومناط ذلك العرف الذي يحكم بأن هذا اللفظ أو الإشارة أو الفعل يدل على الرضا أو لا، فإذا كان الأمر كذلك فالعرف جار بين المسلمين على أن الإشارة المفهومة يحصل منها الرضا. يقول ابن القيم: "من عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تقصد لذواتها وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده، ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة، أو كتابة، أو بإيماءة، أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة له مطردة لا بخل بها ... " (¬1). الدليل الثالث: (ح -1018) ما رواه البخاري من طريق الأسود ابن قيس، حدثنا سعيد بن عمرو، أنه سمع ابن عمر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا. يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين. [رواه البخاري] (¬2). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: نزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إشارته بأصبعه الشريفة منزلة نطقه، ودلت إشارته إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يومًا، وقد يكون ثلاثين. الدليل الرابع: (ح -1019) ما رواه البخاري من طريق ابن وهب، قال: أخبرني عمرو، عن سعيد بن الحارث الأنصاري، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن مسعود - رضي الله عنهم -، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله، فقال: قد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى القوم بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بكوا فقال: ألا تسمعون، إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه، أو يرحم ... الحديث (¬1). فاستخدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إشارته في معرض التبليغ للأمة، وكانت مفهومة حيث حصل بها البلاغ مع قدرته على النطق. الدليل الخامس: (ح - 1020) ما رواه البخاري من طريق عبد الله بن أبي قتادة أن أباه أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حاجًا، فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم -فيهم أبو قتادة- فقال: خذوا ساحل البحر حتى نلتقي، فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يحرم ... وفي الحديث: ¬
وجه الاستدلال
قالوا: يا رسول الله، إنا كنا أحرمنا، وقد كان أبو قتادة لم يحرم، فرأينا حمر وحش، فحمل عليها أبو قتادة، فعقر منها أتانًا، فنزلنا، فأكلنا من لحمها، ثم قلنا: أنأكل لحم صيد، ونحن محرمون، فحملنا ما بقي من لحمها. قال: أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟ قالوا: لا. قال: فكلوا ما بقي من لحمها (¬1). وجه الاستدلال: قوله: (أو أشار إليها) حيث جعل الإشارة إلى الصيد وهو محرم في حكم من قام بالصيد حال الإحرام في تحريم الأكل. الدليل السادس: (ح -1021) ما رواه البخاري من طريق شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس - رضي الله عنه - أن يهوديًا قتل جارية على أوضاح لها، فقتلها بحجر، فجيء بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبها رمق، فقال: أقتلك فلان؟ فأشارت برأسها أن لا، ثم قال الثانية: فأشارت برأسها أن لا، ثم سألها الثالثة، فأشارت برأسها أن نعم، فقتله النبي - صلى الله عليه وسلم - بحجرين (¬2). الراجح: الاعتداد بالإشارة المفهمة مطلقًا سواء كان من الأخرس، أو من القادر؛ وإذا شك في دلالتها على المراد فالأصل عدم انعقاد الوصية، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في قبول الوصية
الفصل الثالث في قبول الوصية المبحث الأول في توقف انعقاد الوصية على القبول لا يملك أحد أن يدخل شيئًا في ملك غيره بغير رضاه. القبول: هو الرضا بما دل عليه الإيجاب. وهو على قسمين: صريح: كالقبول باللفظ: كقوله: قبلت، أو رضيت، وهذا بالاتفاق. وغير صريح: كالقبول بما يقوم مقام اللفظ من الأخذ، والفعل الدال على الرضا، وهو داخل في انعقاد الوصية بالمعاطاة. والجمهور على صحته خلافًا للشافعية. جاء في فتاوى الرملي: "يشترط في قبول الوصية اللفظ، وفي معناه إشارة الأخرس" (¬1). وسوف نبحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى في مبحث مستقل. وقد تكلمت في مسأله سابقة عن أركان الوصية، ومحل القبول من الأركان. [م - 1615] وقد اختلف الفقهاء في توقف انعقاد الوصية على القبول على قولين: ¬
القول الأول
القول الأول: أن الوصية تنعقد بالإيجاب من الموصي فقط، وهذا قول زفر من الحنفية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). نقل ابن الهمام من شرح الجامع الكبير للعتابي "أن الإباحة والوصية والإقرار والاستخدام لا يشترط فيها القبول من الآخر" (¬2). وقال ابن رجب: "السبب المستحق هو الإيصاء، وشرط الاستحقاق هو الموت، وعليه يترتب الاستحقاق به وجود أهلية المستحق فيكفي في ثبوت الملك، هذا إذا قلنا: إن الوصية تملك بالموت من غير قبول" (¬3). القول الثاني: أن الوصية إن كانت لجهة كالفقراء الذي لا يمكن حصرهم انعقدت بالإيجاب من الموصي فقط, وإن كانت الوصية لمعين كزيد، فلا تنعقد إلا بقبوله بعد موت الموصي، ما لم تكن الوصية بالعتق. وهذا مذهب الأئمة الأربعة (¬4). على خلاف بينهم في اشتراط القبول، إذا مات الموصى له بعد موت الموصي ¬
دليل من قال: تنعقد بالإيجاب فقط
وقبل صدور القبول، أو الرد، وفي الوصية للجنين. وسيأتي بحثهما إن شاء الله تعالى. دليل من قال: تنعقد بالإيجاب فقط: الدليل الأول: أن الملك بالوصية بمنزلة الملك بالإرث باعتبار أن الملك فيهما لا ينتقل إلا بشرط الموت، فإذا كان ملك الوارث لا يفتقر إلى قبوله، فكذلك ملك الموصى له. ونوقش هذا: بأن هناك فرقًا بين الملك في الميراث والملك في الوصية، فالملك في الوصية متلقى من الشارع، فلهذا يدخل الملك في الميراث جبرًا بدون اختيار؛ لأن الشارع له ولاية الإلزام، بخلاف الملك في الوصية فهو متلقى من الموصي، وهو لا يملك إلزام الموصى له بالوصية، فكان لا بد من قبوله. وفرق آخر: "أن الوصية إثبات ملك جديد، ولهذا لا يرد الموصى له بالعيب، ولا يرد عليه بالعيب، ولا يملك أحد إثبات الملك لغيره بدون اختياره بخلاف ¬
الدليل الثاني
الميراث؛ لأنه خلافة حتى تثبت فيها هذه الأحكام فتثبت جبرًا من الشرع من خير قبول" (¬1). الدليل الثاني: أن الموصي إذا مات قبل صدور القبول فلا يمكن أن يكون ملك الوصية فيه للوارث؛ لأن الله تعالى قال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]. ولا يمكن أن يكون الملك للميت؛ لأنه صار جمادًا لا يملك شيئًا، فثبت أن الوصية تستحق بالموت وقبل صدور القبول، ولذلك لو قال: عبدي هذا حر بعد موتي كان من الثلث، وصار حرًا بموته، ولم يتوقف ذلك على القبول (¬2). وقد خالفت الوصايا سائر العقود تحصيلاً لمصالحها، من ذلك: أنه يجوز أن يتراخى القبول عن الإيجاب، مع أن الأصل أن شرط القبول الاتصال بالإيجاب فإن تأخر تأخرًا يشعر بالاعراض بطل الإيجاب، وكذلك جاز فيها أن يوصي بما لا يملك حال الوصية، وجاز فيها تعليق نفاذ الوصية بما زاد على الثلث على موافقة الورثة مع أن جمهور الفقهاء لا يرون صحة تعليق العقود (¬3). الدليل الثالث: أن الموصي إذا أوصى في مرضه بعتق عبده بعد موته فإن العبد يعتق من الثلث بمجرد الموت، ولا يتوقف ذلك على القبول، فكذلك سائر الوصايا. ¬
الدليل الرابع
جاء في المبسوط: "ولو أوصى بأن يعتق عبده، وأبى العبد أن يقبل ذلك فإنه يعتق من الثلث" (¬1). وجاء في تهذيب المدونة: "قال مالك: ومن أوصى في مرضه بعتق عبده فلم يقبل العبد، فلا قول له، ويخرج إذا مات سيده من الثلث إن حمله الثلث، أو ما حمل الثلث منه" (¬2). وفي حاشية الدسوقي: "قوله وقبول المعين" أي لغير عتقه، وأما العتق فلا يحتاج لقبول" (¬3). وجاء في مغني المحتاج: "ومحل اشتراط القبول من المعين في غير العتق، فلو قال: أعتقوا عبدي بعد موتي لم يفتقر إلى قبول العبد؛ لأن فيه حقاً لله تعالى فكان كالجهة العامة" (¬4). وقد يقال: بأن العتق من قبيل الإسقاط فهو يفارق سائر الهبات، ولهذا لو أعتقه في حياته لم يتوقف الأمر على قبول العبد مع أن الهبة في الحياة لا تلزم بالإيجاب وحده، ويتوقف نفاذها على قبول الموهوب. الدليل الرابع: أن الموصى له إذا مات بعد موت الموصي وقبل قبوله أو رده، فإن الوصية تنتقل إلى ورثة الموصى له بدون قبول، فدل على أن الملك في الوصية لا يتوقف ¬
ويجاب
على القبول (¬1). ويجاب: بأن هذه المسألة قد وقع فيها خلاف بين العلماء، وما كان متنازعًا في صحته لم يكن صالحاً للاحتجاج، وسوف نناقش إن شاء الله تعالى هذه المسألة في مبحث خاص. دليل من قال: الوصية لا تنعقد إلا بالقبول: الدليل الأول: قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. وجه الاستدلال: أن الإنسان لا يكون له شيء بدون سعيه، فلو ثبت الملك للموصى له من غير قبول لثبت له الملك بغير سعيه، وهذا منفي إلا ما خص بالدليل. ويعارض هذا: بأن الصدقة عن الأقارب تصل إليهم، وليست من سعيهم، ولم تتوقف على قبولهم، فلم يكن سياق الآية في مثل هذه المسألة. الدليل الثاني: أن الوصية تمليك للمال بالعقد، فلا يثبت إلا بالقبول أو ما يقوم مقامه كسائر العقود (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن الملك لو ثبت بدون اشتراط القبول لأدى ذلك إلى الإضرار بالموصى له من وجهين: الوجه الأول: دفع احتمال حصول المنة على الموصى له إذا ثبت الملك له بدون اختياره، فإذا كانت الزكاة، والتي هي حق للفقير، ومتلقاة من الشارع، لا تدخل ملك الفقير بدون قبوله، فالوصية المتلقاة من الموصي من باب أولى (¬1). الوجه الثاني: أن الموصى به قد يكون شيئًا يتضرر به الموصى له، كما إذا كان الموصى به حيوانًا زمنًا أو أعمى لا نفع فيه، فلو كان يدخل ملكه بدون اشتراط قبوله للحقه ضرر من وجوب النفقة عليه (¬2). قال الشافعي: "للموصى له قبول الوصية وردها, لا يجبر أن يملك شيئًا لا يريد ملكه بوجه أبدًا، إلا بأن يرث شيئًا، فإنه إذا ورث لم يكن له دفع الميراث، وذلك أن حكمًا من الله - عَزَّ وَجَلَّ - أنه نقل ملك الموتى إلى ورثتهم من الأحياء، فأما الوصية، والهبة، والصدقة وجميع وجوه الملك غير الميراث فَالْمُمَلَّكُ لها بالخيار، إن شاء قبلها، وإن شاء ردها, ولو أنا أجبرنا رجلاً على قبول الوصية أجبرناه إن أوصى له بعبيد زمني أن ينفق عليهم، فأدخلنا الضرر عليه، وهو لم يحبه، ولم يدخله على نفسه (¬3). ¬
الراجح
الراجح: أن الوصية تنعقد بالإيجاب وحده، إلا أن القبول يعتبر شرطًا في لزوم الوصية، وليس في انعقادها، وبينهما فرق، فالوصية تنعقد بالإيجاب وحده، وتلزم بالقبول بعد موت الموصي، والله أعلم.
المبحث الثاني في موت الموصى له قبل القبول
المبحث الثاني في موت الموصى له قبل القبول [م - 1616] إذا صدر الإيجاب من الموصي، ثم مات ولم يصدر عنه ما ينسخ هذا الإيجاب ثبت للموصى له حق التملك، وكان له الحق إن شاء قبل، وإن شاء رد، فإن مات الموصى له قبل القبول، فهل ينتقل هذا الحق إلى ورثته باعتبار أن هذا الحق حق مالي، فينتقل إلى ورثته كسائر حقوقه، ويكون لهم الحق في القبول أو الرد؟ أو أن الاختيار بين القبول والرد ليس حقاً ماليًا، وإنما يتعلق بالشخص، فإذا مات فقد فات، فتبطل الوصية؟ في ذلك خلاف بين العلماء: القول الأول: أن الموصى له إذا مات قبل القبول ملك الوصية بموته دون حاجة إلى قبول، وتنتقل إلى ملك الورثة استحسانًا. وهذا مذهب الحنفية، وقول للمالكية خلاف المشهور، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). قال أحمد الحموي: "يدخل الموصى به في ملك الموصى له إذا مات الموصى له استحسانًا، والقياس أن تبطل الوصية؛ لأن أحدا لا يقدر على إثبات ¬
الملك لأحد بدون اختياره، فصار كموت المشتري قبل القبول بعد إيجاب البائع. وجه الاستحسان: أن الوصية عن جانب الموصي قد تمت بموته تمامًا، لا يلحقه الفسخ من جهته وإنما يتوقف لحق الموصى له، فإذا مات دخل في ملكه، كما في البيع المشروط فيه الخيار للمشتري أو البائع، ثم مات من له الخيار قبل الإجازة" (¬1). وعلل بعض الحنفية بتعليل آخر، معناه: "أن القبول عندهم: هو عبارة عن عدم الرد، فمتى وقع اليأس عن رد الموصى له اعتبر قابلاً حكمًا" (¬2). وقال ابن رشد: "إذا أوصى له .. فقيل أيضًا: إنها لا تجب له حتى يقبل بعد موت الموصي، وهو المشهور. وقيل: إنها تجب له بموت الموصي قبل القبول. فعلى هذا: إن مات الموصى له بعد موت الموصي قبل أن يقبل أو يرد يجب لورثته، ولا يكون لهم أن يردوها لورثة الموصي إلا على سبيل الهبة إن قبلوها. وعلى القول الأول ينزل ورثة الموصى له منزلته في القبول إن مات قبل أن يقبل. وقد قيل: إنها تبطل إن مات قبل أن يقبل حكى ذلك عبد الوهاب عن أبي بكر الأبهري، وبالله التوفيق" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: للورثة القبول أو الرد، وهذا مذهب المالكية، والشافعية، وأحد القولين في مذهب الحنابلة. قالت المالكية: إلا أن يريد الموصي الموصى له بعينه فليس لوارثه القبول (¬1). قال الخرشي: "فلو مات المعين قبل القبول فلوارثه القبول، مات قبل العلم أو بعده -يعني قبل علمه بالوصية أو بعده- اللهم إلا أن يريد الموصي الموصى له بعينه فليس لوارثه القبول" (¬2). وقال السيوطي: "كل من ثبت له قبول فات بموته إلا الموصى له فإنه إذا مات قام وارثه مقامه" (¬3). وجاء في الهداية على مذهب الإمام أحمد: "فإن مات الموصى له قبل موت الموصي بطلت الوصية، وإن مات بعده وقبل القبول قام وارثه مقامه في القبول والرد. اختاره الخرقي وقال شيخنا: تبطل الوصية على قياس قوله في خيار الشفعة، وخيار الشرط. وعندي: أنه يتخرج في جميع الخيارات وجهان" (¬4). ¬
حجة القول بذلك
حجة القول بذلك: الدليل الأول: أن حق القبول ثبت للمورث، فينتقل إلى الوارث بعد موته، لقوله: من ترك حقًا فلورثته (¬1). ويناقش ذلك من وجهين: الوجه الأول: أن حق القبول المقصود به حق التملك، وحق التملك لا يقبل المعاوضة كحق التنقل، وليس حق التملك أقوى من حق الملك، وهو ثابت للوارث. الوجه الثاني: أن ما يروى من الفقهاء من ترك حقًا فلورثته لا يوجد بهذا اللفظ، وسبق الكلام عليه في عقد البيع (¬2). الدليل الثاني: أن الوصية عقد لازم من أحد الطرفين فلا يبطل بموت من له الخيار كعقد الرهن والبيع إذا شرط فيه الخيار لأحدهما (¬3). ويناقش: بأن شرط الخيار لم يثبت لصاحبه إلا بعد صدور القبول، فكذلك التملك في عقد الوصية لا يثبت قبل صدور القبول. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: الوصية لا تبطل بموت الموجب لها، فلم تبطل بموت الآخر (¬1). ويناقش: بأن الوصية عقد لازم في حق الموجب بشرطين: أن يصدر منه الإيجاب، وأن يموت وهو ولم يرجع عنه، فلا يقاس عليه الموصى له قبل صدور القبول منه. الدليل الرابع: أن كل مال يستحق من التركة لا يسقط بالموت كالدين (¬2). ويناقش: بأن الدين لا يستحق قبل ثبوته، فكذلك الوصية لا تثبت ولا تستحق إلا إذا صدر القبول من الموصى له. الدليل الخامس: أن كل سبب استحق به تملك عين بغير اختيار مالكها لا يبطل بموت المستحق قبل تملكها كالرد بالعيب (¬3). ويناقش: الحق لا يبطل بموت المستحق، والموصى له قبل صدور قبوله لا يستحق شيئًا. ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: أن هناك فرقًا بين الوصية والهبة من حيث إن الهبة قبل القبض لازمة، فجاز أن تبطل بالموت، والوصية قبل القبول لازمة فلم تبطل بالموت (¬1). ويناقش: بأن الكلام ليس على منزلة القبض من الهبة والوصية، وإنما الكلام على ثبوت الحق قبل القبول، فالهبة لا يثبت الحق قبل القبول ولو كان المال الموهوب مقبوضًا، فكذلك الوصية لا تثبت قبل صدور القبول من الموصى له. القول الثالث: أن الوصية تبطل بموت الموصى له، وهو أحد القولين في مذهب الحنابلة، وحكي عن الأبهري من المالكية، وقال إمام الحرمين من الشافعية: هو مقتضى القياس (¬2). جاء في قواعد ابن رجب: "المنصوص عن أحمد: أن الوصية تبطل بموت الموصى له قبل وصولها إليه، كذلك نقله عنه ابن منصور وغيره، وهو اختيار القاضي والأكثرين إذا مات قبل القبول ... " (¬3). وقال ابن قدامة: "ذهب أبو عبد الله بن حامد إلى أن الوصية تبطل؛ لأنه عقد لفتقر إلى القبول، فإذا مات من له القبول قبله، بطل العقد، كالهبة. قال ¬
وجه هذا القول
القاضي: هو قياس المذهب؛ لأنه خيار لا يعتاض عنه، فبطل بالموت، كخيار المجلس، والشرط، وخيار الأخذ بالشفعة" (¬1). ورأى إمام الحرمين أن القول ببطلان الوصية هو مقتضى القياس لو كان قال به أحد. قال في نهاية المطلب: "وكان ينقدح في القياس القضاء ببطلان الوصية، لو كان مذهبًا لذي مذهب؛ من جهة أن الموصى له قد مات، ففرض القبول من غيره وليس القابل موصى له بعيد" (¬2). وجه هذا القول: أن الوصية تمليك يفتقر إلى القبول فإذا مات قبل القبول لم يتم كالبيع. الراجح: أن الوصية تبطل بموت الموصى له؛ لأن القبول مطلوب من الموصى له، والوارث ليس موسى له فكيف يصح قبوله؟ فإذا كنا نقول: إن القبول شرط، أو ركن فإن القياس بطلان الوصية بفوات القبول من الموصى له؛ ولأن الموصى له قبل قبوله لم يثبت له حق حتى ينتقل إلى وارثه؛ لأن حق الملك لا يثبت إلا بالقبول، وأما حق التملك فليس حقًا ماليًا قابلًا للانتقال فهو كحق الانتقال، وحق الرأي وإلا لقلنا: إذا صدر الإيجاب في عقد البيع أثبت للمشتري حق التملك قبل قبوله، فإذا مات انتقل إلى وارثه، وإذا تعارض حق الملك لوارث ¬
الوصي، وحق التملك لوارث الموصى له، فإن حق الملك أقوى من حق التملك، والله أعلم.
المبحث الثالث في قبول الوصية بعد ردها في حياة الموصي
المبحث الثالث في قبول الوصية بعد ردها في حياة الموصي رد الوصية بمنزلة القبول لا يصح إلا بعد موت الموصي. الوصية إيجاب معلق بالموت فلا عبرة بالقبول والرد قبل الموت. [م - 1617] إذا أوصى رجل لرجل بوصية فلا حكم للقبول في حياة الموصي؛ فيملك الموصي الرجوع عن الوصية قبل موته، وهذا لا خلاف فيه. ولو رد الموصى له قبل موت الموصي، فقد اختلف العلماء في حقه في القبول بعده على قولين: القول الأول: أن له القبول بعده، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية والحنابلة (¬1). جاء في الاختيار لتعليل المختار: " (وقبول الوصية بعد الموت حتى لو ¬
وجه ذلك
أجازها قبله أو ردها فليس بشيء؛ لأن حكمه، وهو ثبوت الملك، إنما يثبت بعد الموت، فلا اعتبار بما يوجد قبله كما إذا وجد قبل العقد" (¬1). وجاء في شرح الخرشي: "لو رد الموصى له قبل موت الموصي فله أن يرجع ويقبل بعده قاله مالك" (¬2). قال الشافعي: "ولا يكون قبول، ولا رد في وصية، في حياة الموصي، فلو قبل الموصى له قبل موت الموصي، كان له الرد إذا مات، ولو رد في حياة الموصي كان له أن يقبل إذا مات، ويجبر الورثة على ذلك؛ لأن تلك الوصية لم تجب إلا بعد موت الموصي، فأما في حياته فقبوله، ورده، وصمته سواء؛ لأن ذلك فيما لم يملك" (¬3). وجاء في الحاوي الكبير: "أن يردها في حياة الموصي، فلا يكون لرده تأثير كما لا يكون لقبوله له لو قبل في هذه الحال تأثير" (¬4). وفي الإنصاف: "ولا يثبت الملك للموصى له إلا بالقبول بعد الموت، فأما قبوله ورده قبل الموت: فلا عبرة به" (¬5). وجه ذلك: الوصية إيجاب معلق بالموت، فيراعى القبول والرد عند وقوع الإيجاب، ¬
القول الثاني
وهو تحقق الموت، ولا معتبر بالقبول والرد قبل وقوع الإيجاب، ولذلك لو مات الموصى له بعد القبول، وقبل موت الموصي، لا يكون ملكًا لورثة الموصى له. جاء في المغني: "أن يردها قبل موت الموصي، فلا يصح الرد ها هنا؛ لأن الوصية لم تقع بعد، فأشبه رد المبيع قبل إيجاب البيع؛ ولأنه ليس بمحل للقبول، فلا يكون محلاً للرد، كما قبل الوصية" (¬1). القول الثاني: قال زفر: إذا ود الوصية في حال حياة الموصي لم يجز قبوله بعد موته؛ لأن إيجابه كان في حياته، وقد رده، فبطل (¬2). وقد رجح ذلك الشيخ أبو زهرة والشيخ أحمد إبراهيم لأمرين: أحدهما: أن في هذا احترامًا لإرادة الموصى له في رده للوصية. الثاني: أنه يمكِّن الموصي من توجيه وصيته وجهة أخرى تحقيقًا للبر الذي يقصده بد، من فوات الوصية على الموصي، إذا استمر الرد بعد موته (¬3). ونسب الماوردي في الحاوي للحنفية، أن الرد يصح في حياة الموصي، ولا يصح القبول؛ لأن الرد أوسع حكمًا من القبول (¬4). ¬
الراجح
الراجح: بعد استعراض الأقوال أجد أن قول الجمهور أقوى من قول زفر؛ ذلك أن الرد غير معتبر شرعًا؛ لأنه لم يصادف محلاً صحيحًا، والمصلحة التي ذكرها الشيخ أبو زهرة يمكن تحقيقها بأن يقول الموصي: الوصية لفلان، فإن لم يقبل فهي لفلان، وبهذا لا تفوت الوصية على الموصي، وكما أن القبول لا يصح إلا بعد الموت، فكذلك الرد، والله أعلم.
المبحث الرابع في رد الوصية بعد القبول
المبحث الرابع في رد الوصية بعد القبول رد الوصية له ثلاثة أحوال: الحال الأول: [م - 1618] أن يكون الرد في حياة الموصي، فهذه اختلف فيها الفقهاء: القول الأول: لا عبرة بالرد مطلقًا، سواء أكان قبل القبول، أم بعده، ويمكن للموصى له أن يقبل بعد موت الموصي، وهذا قول عامة الفقهاء. القول الثاني: قال زفر إذا رد الوصية في حال حياة الموصي لم يجز قبوله بعد موته؛ لأن إيجابه كان في حياته وقد رده فبطل (¬1). وقد سبق بحث هذه المسألة في المبحث السابق، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. الحال الثانية: [م - 1619] أن يكون الرد بعد موت الموصي، وقبل القبول، فهذه وقع فيها خلاف بين العلماء: القول الأول: أنه يسقط حقه في الوصية عند جمهور العلماء؛ ويستقر الملك للورثة في ¬
حجة هذا القول
الموصى به؛ لأن الموصى له قد أسقط حقه في حالة يملك قبوله وأخذه (¬1). حجة هذا القول: الدليل الأول: الإجماع على صحة الرد بعد موت الموصي. قال ابن قدامة: أن يردها بعد الموت، وقبل القبول، فيصح البرد، وتبطل الوصية، لا نعلم فيه خلافًا" (¬2). وقال في الإنصاف: "وإن ردها بعد موته: بطلت أيضًا بلا نزاع" (¬3). الدليل الثاني: أن الوصي إذا مات كان وقتًا لقبول الوصية بالاتفاق، فما كان وقتا للقبول كان وقتًا للرد. الدليل الثالث: القياس على الشفيع إذا عفى عن شفعته بعد البيع (¬4). القول الثاني: أنه لا يملك الرد بعد الموت، وهو رواية في مذهب الحنابلة حيث قالوا ¬
الراجح
يملكها بلا قبول كميراث (¬1). وهو قول زفر من الحنفية حيث رأى أن الوصية تدخل في ملك الموصى له بعد موت الموصي جبرًا كالإرث، ولا تفتقر إلى قبول (¬2). جاء في تحفة الفقهاء: "وعند زفر القبول ليس بشرط، ولا ترتد بالرد كالميراث" (¬3). وحكاه ابن عبد الحكم عن الشافعي حيث قال: إن الوصية تدخل في ملك الموصى له بموت الموصي قبل أو لم يقبل كالميراث، وأنكره بعض الشافعية، وذكروا بأنه لا يعرف عن الشافعي (¬4). الراجح: أنه لا يجبر على القبول، وهناك فرق بين الوصية وبين الميراث بيناه فيما سبق. الحال الثالثة: [م - 1620] أن يكون الرد بعد موت الموصي، وبعد قبوله، وقبضه، فهذا لا يملك الموصى له الرد؛ لأن ملكه قد استقر عليه، فاشيه رده لسائر أملاكه، إلا أن يرضى الورثة بذلك، فتكون هبة منه لهم، تفتقر إلى شروط الهبة (¬5). ¬
الحال الرابعة
الحال الرابعة: [م - 1621] أن يكون الرد بعد القبول، وقبل القبض، فقد اختلف العلماء في ذلك: القول الأول: يصح الرد بشرط التراضي، ويكون قبول الرد فسخًا للوصية، ويقوم الورثة مقام الميت في قبول الفسخ، أو رفضه؛ لأن الفسخ بعد اللزوم لا يكون إلا بالرضا، وتكون الوصية لجميع الورثة على قدر ميراثهم كما لو كان على الميت دين فوهبه الدائن للورثة أو لبعضهم فهو هبة لهم كلهم كانه وهبه للميت. جاء في المبسوط: "وإذا أوصى رجل بوصية، فقبلها بعد موته، ثم ردها على الورثة، فرده جائز إذا قبلوا ذلك؛ لأن الرد عليهم فسخ للوصية، وهم قائمون مقام الميت، ولو تصور منه الرد على الميت كان ذلك صحيحًا إذا قبله، فكذلك إذا ردها على الورثة الذين يقومون مقامه، وهذا لأن فسخ العقد معتبر بالعقد، فإذا كان أصل ذا العقد يتم بالإيجاب والقبول، كذلك يجوز فسخه بالتراضي ... " (¬1). القول الثاني: يصح الرد مطلقًا، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية، واختاره القاضي وابن عقيل من الحنابلة (¬2). ¬
وجه القول بذلك
جاء في الإنصاف: "وقيل: يصح رده مطلقا. اختاره القاضي، وابن عقيل" (¬1). وقال العمراني في البيان: "إذا رد بعد القبول وقبل القبض .. فهل يصح الرد؟ فيه وجهان: الثاني: يصح رده، وهو المنصوص عليه؛ لأن ملكه لم يستقر عليها بالقبض، فصح الرد، وإن كان القبض غير معتبر، كما لو وقف وقفًا على رجل .. فإن القبول فيه غير معتبر، ثم لو رد الموقوف عليه الوقف .. لبطل الوقف عليه، فكذلك هذا مثله" (¬2). وضعفه إمام الحرمين في نهاية المطلب، وقال: "وهذا ضعيف لا مستند له من أثر ولا معنى، فلست أعتد به" (¬3). وجه القول بذلك: أن الملك لا يستقر إلا بالقبض، فإذا رد بعد قبوله وقبل قبضه صح الرد. القول الثالث: لا يصح الرد، وهو الأصح في مذهب الشافعية، والمذهب عند الحنابلة، وهو قول في مذهب المالكية حتى لم يصححوا الرد إلا على سبيل الهبة للورثة (¬4). ¬
القول الرابع
جاء في الإنصاف: "لو ردها بعد قبوله، وقبل القبض: لم يصح الرد مطلقا. على الصحيح من المذهب ... " (¬1). وقال إمام الحرمين: "إذا قبل الموصى له الوصية، ثبت ملكه في الموصى به، ولم يتوقف حصوله على القبض والتسليم، بخلاف الهبات. ثم الذي قطع به المراوزة: أن الموصى له لو حاول رد الوصية بعد قبولها وقبل القبض لم يكن له ردها, ولو ردها, لم ترتد؛ فإن المنح والتبرعات إذا أفضت إلى تحصيل الملك، لم تقبل الفسخ والنقض، والرجوع الذي أثبته الشرع في الهبات في حق بعض الناس في حكم تملك جديد أثبته الشرع" (¬2). وفارقت الوصية الهبة في اشتراط القبض: فالإقباض من جهة الموصي متعذر، لموته، وقبل موته لم تلزم الوصية. والوارث ليس مالكاً للموصى به حتى تتوقف صحة الوصية على إقباضه وتسليمه، فحقه في مال المورث مؤخر عن الوصية والدين، لهذا لم تتوقف صحة الهبة على الإقباض، وإذا ملكها بالقبول لم يصح الرد إلا أن يشاء الورثة، والله أعلم. القول الرابع: يصح الرد في المكيل والموزون بعد قبوله وقبل قبضه، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬3). ¬
وجه ذلك
وجه ذلك: أن المكيل والموزون يحتاج إلى كيل ووزن لثبوت الملك، فإذا رده قبل ذلك صح، لعدم استقرار الملك (¬1). جاء في المغني: "أن يرد بعد القبول وقبل القبض، فينظر؛ فإن كان الموصى به مكيلًا أو موزونًا صح الرد؛ لأنه لا يستقر ملكه عليه قبل قبضه، فأشبه رده قبل القبول، وإن كان غير ذلك، لم يصح الرد؛ لأن ملكه قد استقر عليه، فهو كالمقبوض" (¬2). الراجح: أن الملك في الوصية يثبت بمجرد القبول، ولا يتوقف على القبض كالهبة، من غير فرق بين ما يفتقر إلى الكيل والوزن وغيره، وإذا ثبت ملكه فيها لم يصح الرد إلا برضا الورثة؛ لأنها تكون هبة مبتدأة منه للورثة، تفتقر إلى شروط الهبة، وليست فسخًا للوصية وإقالة من الورثة؛ لأن الورثة لم يوجبوا الوصية حتى تكون الإقالة منهم كما يراه الحنفية، والله أعلم. قال السرخسي: "إذا مات الموصي، فإن قبل الموصى له الوصية، فالملك له في الموصى به قبضه أو لم يقبضه؛ لأنه بمجرد القبول يلزم العقد على وجه لا يملك أحد إبطاله فيثبت حكمه، وهو الملك بخلاف الهبة بعد القبول وقبل القبض" (¬3). ¬
ونص الماوردي في الحاوي على الفروق بين الوصية والهبة، فذكر منها: (1) "تمام الوصية بالقبول دون القبض، وتمام الهبة بالقبض" (¬1). وذكر السيوطي الوصية من العقود التي لا يشترط فيها القبض، لا في صحتها, ولا في لزومها, ولا في استقرارها (¬2). وقال ابن رجب: "الوصية تملك بدون القبض، والهبة والصدقة فيهما خلاف" (¬3). وأما المالكية فلا يفرقون بين الهبة والوصية فكلاهما يلزمان بالقبول دون القبض. (2) أن القبول لو كان ركنًا في الوصية لوجب صدوره في مجلس العقد، ولوجب اتصاله بالإيجاب، وحصول القبول في حياة الموصي لا أثر له في لزوم الوصية، وثبوت الملك، مما يدل على أن الوصية انعقدت في الإيجاب، إلا إذا صدر بعد موت الموصي، حتى لو مات الموصى له بعد القبول، قبل موت الموصي، فإن الوصية لا يكون ملكًا لورثة الموصى له (¬4). ¬
المبحث الخامس في شروط القبول
المبحث الخامس في شروط القبول الشرط الأول في اشتراط الأهلية من القابل [م - 1622] يشترط في قابل الوصية أهلية القبول. والأهلية في الاصطلاح: عبارة عن صلاحيته لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه، وهي الأمانة التي أخبر الله عز وجل بحمل الإنسان إياها بقوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} [الأحزاب: 172]. وهي ضربان: أهلية الوجوب: أي صلاحيته لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه. فكل إنسان صالح لأن تكون له حقوق، وعليه واجبات، وتثبت له هذه الأهلية من وقت ميلاده، بل من وقت كونه جنينًا إلى وقت موته، فإذا انعدمت أهلية الوجوب انعدمت الشخصية معها، وذلك كالجنين يولد ميتًا. وقد أجمع الفقهاء على ثبوت هذه الأهلية للإنسان منذ ولادته، حتى يكون صالحًا لوجوب الحقوق له وعليه (¬1). الضرب الثاني: أهلية الأداء: أي صلاحيته لصدور الفعل منه على وجه يعتد به شرعًا. ¬
وهذا هو الذي يعنينا في هذا الباب، فإذا أطلقنا الأهلية فالمقصود بها أهلية الأداء. وأهلية الأداء قد تكون كاملة، وقد تكون ناقصة، وقد تكون معدومة. فالكاملة: هي في حق البالغ الحر الرشيد غير المحجور عليه، فإن اتصف بهذه الصفات تحققت له أهلية الأداء الكاملة، ويكون حرا طليقًا في تصرفاته إلا بما نهى عنه الشرع أو قيده. وتكون الأهلية ناقصة في حق الصبي، والمميز، والسفيه، والعبد، والمحجور عليه لحظ غيره. وتكون معدومة في حق الصبي غير المميز، والمجنون ونحوهما. فإذا صدر القبول من شخص يتصف بالأهلية الكاملة: وهو البالغ العاقل فهذا لا شك أن قبوله معتبر في الوصية إذا صدر منه القبول بعد موت الموصي. وأما إذا صدر القبول من شخص فاقد للأهلية، وهو الصبي غير المميز، والمجنون، فهذا لا يتأتى منه قبول ولا رد بالاتفاق؛ لأنه لا قصد له صحيح، فعبارته ملغاة (¬1). جاء في بدائع الصنائع: "أما المجنون فلا تصح منه التصرفات القولية كلها، فلا يجوز طلاقه، وعتاقه، وكتابته، وإقراره، ولا ينعقد بيعه وشراؤه حتى لا تلحقه الإجازة، ولا يصح منه قبول الهبة، والصدقة، والوصية، وكذا الصبي ¬
القول الأول
الذي لا يعقل؛ لأن الأهلية شرط جواز التصرف وانعقاده، ولا أهلية بدون العقل" (¬1). [م - 1623] وأما إذا صدر القبول من ناقص الأهلية، كالصبي المميز، والمعتوه، والمحجور عليه لسفه، فاختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح قبضه وقبوله مطلقًا، وهو قول في مذهب الحنابلة، رجحه ابن قدامة (¬2). جاء في المغني: "وإن كان الصبي مميزًا فحكمه حكم الطفل، في قيام وليه مقامه؛ لأن الولاية لا تزول عنه قبل البلوغ، إلا أنه إذا قبل لنفسه، وقبض لها صح؛ لأنه من أهل التصرف، فإنه يصح بيعه وشراؤه بإذن الولي، فهاهنا أولى. ولا يحتاج إلى إذن الولي هاهنا؛ لأنه محض مصلحه، ولا ضرر فيه، فصح من غير إذن وليه، كوصيته، وكسب المباحات ... (¬3). وذهب الحنفية إلى صحة القبول من ناقص الأهلية؛ لأنه نفع محض، وناقص الأهلية تصح تصرفاته النافعة نفعًا خالصًا دون حاجة إلى إذن الولي السابق، أو إجازته اللاحقة. وأما الرد فلا يصح منه، ولو أذن الولي؛ لأنهْ ضرر محض (¬4). ¬
القول الثاني
جاء في بدائع الصنائع: "وأما الصبي العاقل فتصح منه التصرفات النافعة بلا خلاف، ولا تصح منه التصرفات الضارة المحضة بالإجماع" (¬1). وفي شرح التلويح على التوضيح: "وأما حقوق العباد، فما كان نفعًا محضًا كقبول الهبة، ونحوه يصح، وإن لم يأذن وليه" (¬2). القول الثاني: لا يصح قبضه ولا قبوله، وهذا مذهب الجمهور؛ لنقصان أهليته، فالذي يتولى عنه القبول هو الولي، أو الوصي، أو القيم (¬3). جاء في حاشية الدسوقي: "يقوم مقام غير الرشيد أي في القبول وليه، فهو الذي يقبل له، ولا عبرة بقبوله" (¬4). وفي نهاية المحتاج: "يشترط فيه قبوله إن كان أهلا، وإلا فقبول وليه عقب الإيجاب أو بلوغ الخبر كالهبة والوصية؛ إذ دخول عين أو منفعة في ملكه قهرًا بغير الإرث بعيد، وهذا هو الذي صححه الإِمام وأتباعه وعزاه الرافعي في الشرحين للإمام وآخرين، وصححه في المحرر، ونقله في زيادة الروضة عنه مقتصرا عليه، وهو المعتمد" (¬5). ¬
القول الثالث
وجاء في الإنصاف: "لا يصح من المميز قبض الهبة ولا قبولها على الصحيح من المذهب. نص عليه في رواية ابن منصور. وقال في القواعد الأصولية تبعًا للحارثي: هذا أشهر الروايتين، وعليه معظم الأصحاب" (¬1). ولعل المقصود بأنه لا يصح ذلك بدون إذن الولي، فإن أذن الولي صح، كما قال ذلك المالكية والحنابلة في البيع، وهو أخطر من عقود التبرعات (¬2). وصحح الماوردي قبوله بإذن الولي بعد اجتهاده في أن أحظ الأمرين هو التملك (¬3). وجاء في مطالب أولي النهى: "ولا يصح من مميز وسفيه قبول هبة، ووصية بلا إذن ولي لهما؛ كالبيع؛ هذا المذهب" (¬4). وجاء في كشاف القناع: "ولا يصح منهما أي: من المميز والسفيه قبول هبة ونحوها ووصية بلا إذن ولي كالبيع" (¬5). القول الثالث: يصح قبوله لنفسه ولا يصح قبضه لنفسه إلا بإذن الولي كما قالوا ذلك في البيع والشراء. ¬
الراجح
جاء في المغني: "يحتمل أن يقف صحة القبض منه على إذن وليه دون القبول؛ لأن القبض يحصل به مستوليًا على المال، فلا يؤمن تضييعه له وتفريطه فيه، فيتعين حفظه عن ذلك بوقفه على إذن وليه، كقبضه لوديعته. وأما القبول فيحصل له به الملك من غير ضرر، فجاز من غير إذن، كاحتشاشه واصطياده" (¬1). الراجح: الذي أميل إليه إلى أنه يصح قبول الولي للمحجور عليه، ويصح قبوله لنفسه ويكون موقوفاً على إجازة الولي؛ لأن قبول الوصية لا يلزم منه أن يكون الأنفع مطلقاً فقد يحمل قبول الوصية من الصبي نفقات تفوق قيمة الوصية، فإذا كان الأحظ في القبول وجب على وليه القبول له، أما القبض فلا يصح قبضه؛ لأنه قد لا يكون مؤهلاً لحفظ المال، فإن أقبضه غيره كان المقبض ضامنًا إن ضاع منه شيء، والله أعلم. ¬
الشرط الثاني أن يكون القبول بعد وفاة الموصي
الشرط الثاني أن يكون القبول بعد وفاة الموصي [م - 1624] يشترط في القبول أن يكون بعد وفاة الموصي، فلا عبرة بالقبول في حياة الموصي، ولم أقف على خلاف في المسألة. جاء في الاختيار لتعليل المختار: "وقبول الوصية بعد الموت حتى لو أجازها قبله أو ردها فليس بشيء؛ لأن حكمه، وهو ثبوت الملك، إنما يثبت بعد الموت، فلا اعتبار بما يوجد قبله كما إذا وجد قبل العقد" (¬1). وجاء في الشرح الصغير: "ولا بد من كون القبول بعد الموت، فلا ينفعه قبوله قبل موت الموصي، ولا يضره رده في حياة الموصي، فله القبول بعد الموت" (¬2). وقال النووي: "ولا يصح قبول ولا رد في حياة الوصي" (¬3). وفي الإقناع في فقه الإِمام أحمد: "ولا يثبت الملك للموصي له إلا بقبوله بعد الموت ... ولا عبرة بقبوله ورده قبل الموت" (¬4). وجه ذلك: الوصية إيجاب معلق بالموت فيراعى القبول والرد عند وقوع الإيجاب، وهو ¬
القول الأول
تحقق الموت، ولا معتبر بالقبول قبل وقوع الإيجاب، ولذلك لو مات الموصى له بعد القبول وقبل موت الموصي لا يكون ملكا لورثة الموصى له. [م - 1625] وأما الرد في حياة الموصي ففيه خلاف: القول الأول: لا عبرة بالرد في حياة الموصي، فله القبول بعده، وهذا مذهب الجمهور (¬1). القول الثاني: قال زفر رَحِمَهُ اللَّهُ إذا رد الوصية في حال حياة الموصي لم يجز قبوله بعد موته؛ لأن إيجابه كان في حياته وقد رده فبطل (¬2). وقد سبق بحث هذه المسألة فأغنى عن إعادتها هنا. ¬
الشرط الثالث في اشتراط موافقة القبول للإيجاب
الشرط الثالث في اشتراط موافقة القبول للإيجاب في عقود المعاوضات يجب أن يوافق القبول الإيجاب من جميع الوجوه، فإن خالفه بأن قبل غير ما أوجبه، أو بعض ما أوجبه، أو بغير ما أوجبه فلا ينعقد العقد (¬1). فلو أوجب البيع في السيارتين بمائة ألف، فقال المشتري: قبلت في هذه السيارة بخمسمائة. لم ينعقد البيع؛ لأن ذلك رد للإيجاب، وليس قبولاً له. وقد سبق تفصيل ذلك في عقد البيع فارجع إليه إن شئت. [م - 1626] وأما عقد الوصية، فهل يشترط موافقة القبول للإيجاب، أو يجوز أن يكون القبول لبعض الوصية دون بعض؟ وللجواب على ذلك نقول: إذا اشترط الموصي هذه الموافقة صراحة، أو ظهر هذا الاشتراط من صيغة الوصية اعتبر شرطه؛ لأن شرط الموصي كشرط الواقف في الاعتبار. [م - 1627] أما إذا لم يشترط ذلك في صيغة الوصية فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: ¬
القول الأول
القول الأول: أنه يشترط موافقة القبول للإيجاب، فلو أراد الموصى له أن يقبل بعض الوصية ويرد بعضها لم يصح، وهذا مذهب الحنفية، وأحد القولين في مذهب الشافعية (¬1). جاء في بدائع الصنائع: "أما الذي يرجع إلى نفس الركن: فهو أن يكون القبول موافقا للإيجاب، فإن خالف الإيجاب لم يصح القبول؛ لأنه إذا خالفه لم يرتبط فبقي الإيجاب بلا قبول فلا يتم الركن، وبيان ذلك إذا قال لرجلين: أوصيت بهذه الجارية لكما فقبل أحدهما بعد موت الموصي، ورد الآخر لم يصح القبول؛ لأنه أوصى لهما جميعاً فكان وصية لكل، واحد منهما بنصف الجاربة. وكانت الجاربة بينهما لو قبلا فإذا رد أحدهما لم يوجد الشرط، وهو قبولهما جميعاً، فبطلت الوصية، ولو أوصى بها لإنسان، ثم أوصى بها لآخر، فقبل أحدهما الوصية بعد موت الموصي، ورد الآخر فالنصف للموصى له، والنصف لورثة الموصي؛ لأنه أوصى لكل واحد منهما على حياله فلا يشترط اجتماعهما في القبول، فإذا رد أحدهما بعد موت الموصي لم يتم الركن في حقه، بل بطل الإيجاب في حقه فعاد نصيبه إلى ورثة الموصي فصح القبول من الآخر فاستحق نصف الوصية كالشفيعين إذا سلم أحدهما الشفعة بعد قضاء القاضي بالشفعة أن ذلك النصف يكون للمشتري، ولا يكون للشفيع الآخر" (¬2). ¬
ووجه المنع
جاء في نهاية المطلب: "من أوصى لإنسان بوصية خارجة من الثلث، فقبل الموصى له بعضها، ورد بعضها، فيجوز أن يقال: يصح ذلك، ويجوز أن يقال: لا يصح. ووجه المنع: تشبيه قبول الوصية بالقبول في الهبة، ولو قبل الموهوب له الهبة في بعض ما وهب منه لم يصح القبول في شيء. ومن فرق: تمسك بما أشرنا إليه من الفرق بين قبول الوصايا وبين القبول في الهبة وغيرها من العقود، وسنذكر أن الموصى له إذا مات قبل القبول، وخلف ذرية، فقبل بعضهم ورد بعضهم، فالقبول قد يثبت في حق من قبل، وإن تضمن تبعيضا في الوصية" (¬1). القول الثاني: يصح أن يكون القبول مخالفا للإيجاب، فلو قبل البعض ورد البعض صح القبول. وهذا قول في مذهب الشافعية والمذهب عند الحنابلة (¬2). ورجح الخطيب القول بالصحة، وبين الفرق بين الوصية وبين البيع بأن البيع من عقود المعاوضة فلا يصح أن يخالف القبول الإيجاب بخلاف الوصية والهبة فهي من عقود التبرعات فيغتفر فيهما ما لا يغتفر في عقد البيع (¬3). ¬
الراجح
وذكر الحنابلة بأن الموصى له لو مات قبل القبول قام وارثه مقامه، فإن كانوا جماعة وقبل بعضهم ورد بعضهم فلكل حكمه، وهذا تبعيض للقبول (¬1). الراجح: الذي أراه أنه يجوز قبول بعض الوصية ورد بعضها، وتبطل بالنسبة للمردودة، كما يجوز للموصى لهم إذا كانوا أكثر من شخص أن يقبل بعضهم، ويرد بعضهم، والله أعلم. ¬
الشرط الرابع في اشتراط الفورية في القبول
الشرط الرابع في اشتراط الفورية في القبول القبول في الوصية على التراخي. تكلمنا عن منزلة القبول في عقد الوصية، فإن رأى أن عقد الوصية لا يفتقر إلى قبول، وأنها تدخل في ملك الموصى له بغير قبول ولا اختيار كالميراث، فهذا لا يحتاج إلي بحث اشتراط بالفورية في القبول. ومن قال: إن عقد الوصية لا يترتب عليه أثره إلا إذا قبل بذلك الموصى له بعد موت الموصي على خلاف بينهم هل القبول ركن، أو شرط ثبوت الملك للموصى له، فهذا البحث يتنزل على هذا القول. [م - 1628] وإذا كان لا بد من القبول فهل يشترط فيه الفورية، أو يصح أن يقع على التراخي؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن القبول على التراخي، ولا تشترط الفورية مطلقًا، وهذا قول جمهور الفقهاء (¬1). لأن الفور عرفًا إنما يشترط في العقود المنجزة التي يرتبط القبول فيها بالإيجاب كالبيع، وليست الوصية منها. ¬
وجه القول بذلك
قال ابن نجيم: "وإذا وقع اليأس من القبول اعتبرت ميراثًا" (¬1). وجاء في مواهب الجليل: "ولو تراخى القبول عن الإيجاب لم يضر" (¬2). وقال إمام الحرمين: "ولا يشترط مبادرة القبول من الموصى له ... ولكن الخيار إليه في التأخير والتعجيل" (¬3). إلا أن الشافعية قالوا: إن للوارث الحق في مطالبة الموصى له بالقبول أو الرد، فإن امتنع بعد المطالبة، كان امتناعه ردًا للوصية. وقال الحنابلة: إن امتنع من قبول أو رد حكم عليه بالرد. جاء في مغني المحتاج: "وللوارث مطالبة الموصى له بالقبول أو الرد، فإن امتنع حكم عليه بالرد" (¬4). وفي الإنصاف: "لو امتنع من القبول أو الرد حكم عليه بالرد، وسقط حقه من الوصية" (¬5). وجه القول بذلك: أن الملك متردد بين الموصى له وبين الورثة، فكما أن المتحجر أرضًا إذا امتنع من إحيائها فإنه يجبر على ذلك أو تنزع منه، وكذلك من وقف في مشرعة ماء، فلم يشرب ولم ينصرف، فإنه يجبر على الشرب أو الانصراف، فكذلك هنا (¬6). ¬
القول الثاني
القول الثاني: أن القبول على التراخي ما لم تقسم التركة، وتنفذ الوصايا، فإن جاء وقت قسمة التركة وإنفاذ الوصايا، وعلم الموصى له بالوصية فإن قبوله على الفور، فإما أن يقبل وإما أن يبطل حقه في الوصية، اختاره بعض الشافعية (¬1). القول الثالث: أن القبول بعد علمه على الفور قياسًا على الهبة، اختاره بعض الشافعية (¬2). والراجح: أن القبول في الوصية والهبة على التراخي إلا أن المتضرر له أن يرفع الأمر إلى الحاكم ليجبره على الأخذ أو الرد، والله أعلم. ¬
المبحث السادس في رجوع الموصي عن الوصية
المبحث السادس في رجوع الموصي عن الوصية [م - 1629] يجوز للموصي الرجوع عن الوصية ما دام حيًا، فإذا مات لزمت تلك الوصية، فليس لغيره أن يغير شيئًا من ذلك، وهذا باتفاق الأئمة واختلفوا في الوصية بالعتق، والأكثر على صحة الرجوع (¬1). قال العيني: "اجتمع أهل العلم على جواز الرجوع للموصي في جميع ما أوصى كله, أو بعضه" (¬2). وقال ابن عرفة: "يجوز رجوع الموصي عن وصيته إجماعًا في صحة أو مرض" (¬3). ويكون الرجوع عن الوصية بالقول: كأن يقول: رجعت عن الوصية، أو أبطلتها، أو نقضتها، أو فسختها، ونحو ذلك. ويكون بالفعل الدال عليه كأن يقوم الموصي بالتصرف في الموصى به تصرفًا يدل على رجوعه عن الوصية، كبيعه وهبته، وإعتاقه، واستهلاكه، وبذبح الشاة الموصى بها، وخلط الموصى به بغيره خلطًا يعسر تمييزه، ونحو ذلك. ¬
وجه كون عقد الوصية جائزا
جاء في تبيين الحقائق: "وله الرجوع عن الوصية قولاً وفعلاً، بأن باع، أو وهب، أو قطع الثوب، أو ذبح الشاة" (¬1). وقال ابن الهمام: "ويجوز للموصي الرجوع عن الوصية" (¬2). وقال الباجي: "عقد الوصية عقد جائز غير لازم، وله أن يغير من ذلك ما شاء، ويبطل منه ما شاء من غير عوض، أو يعوض منه غيره في صحته، أو مرضه، ما لم يمت فإذا مات فقد لزمت تلك الوصية، فليس لغيره أن يغير شيئًا من ذلك، ولا يبطله ولا يبدله بغيره" (¬3). واستثنى المالكية من جواز الرجوع ما لو اشترط على نفسه عدم الرجوع في وصيته، أو فهم عنه إيجاب ذلك على نفسه بأنه لا يملك الرجوع, وتكون كالتدبير (¬4). وجه كون عقد الوصية جائزًا: الوجه الأول: أن عقد الوصية عقد تبرع لم يتم، فجاز الرجوع عنه كالهبة قبل القبض بل هو أولى. الوجه الثاني: أن القبول يتوقف على الموت، والإيجاب يصح إبطاله قبل القبول كما في البيع. ¬
واختلف العلماء في صحة الوجوع عن الوصية بالعتق على قولين
واختلف العلماء في صحة الوجوع عن الوصية بالعتق على قولين: القول الأول: يصح الرجوع عن الوصية ولو كانت بالعتق، وهذا مذهب الأئمة الأربعة (¬1). قال العيني: "الإعتاق إذا أوصى به، فالأكثرون على جواز الرجوع في الوصية، وهو قول الأئمة الأربعة، وعطاء، وجابر بن زيد، والزهري، وقتادة، وإسحاق وأبي ثور" (¬2). وجاء في المدونة: "قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا، أن الموصي وإذا أوصى في صحته، أو في مرضه بوصية فيها عتاقة رقيق من رقيقه، فإنه يغير من ذلك ما بدا له، ويصنع في ذلك ما شاء حتى يموت، وإن أحب أن يطرح ذلك الوصية ويبدل غيرها فعل" (¬3). وفي القوانين الفقهية: "وليس للسيد الرجوع في التدبير بخلاف الوصية بالعتق فله الرجوع فيها" (¬4). ¬
دليل من قال: يجوز الرجوع عن الوصية بالعتق
وقال الشافعي: "المدبر وصية يرجع فيه صاحبه متى شاء" (¬1). وقال ابن قدامة: "أجمع أهل العلم على أن للموصي أن يرجع في جميع ما أوصى به، وفي بعضه، إلا الوصية بالإعتاق. والأكثرون على جواز الرجوع في الوصية به أيضًا ... وبه قال عطاء، وجابر بن زيد، والزهري، وقتادة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور" (¬2). دليل من قال: يجوز الرجوع عن الوصية بالعتق: الدليل الأول: (ث -208) روى ابن أبي شيبة في المصنف من طريق حسين المعلم، عن عمرو بن بن شعيب، عن عبد الله بن الحارث بن أبي ربيعة، أو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، قال: قلت لعمر: شيء يصنعه أهل اليمن، يوصي الرجل، ثم يغير وصيته. قال: يغير ما شاء من وصيته (¬3). [صحيح والراجح فيه أنه عن عبد الله بن الحارث كما رواية قتادة عن عمرو بن شعيب] (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: قياس الوصية بالعتق على سائر الوصايا, ولا دليل على استثناء الوصية بالعتق. الدليل الثالث: الوصية بالعتق عطية تنجز بالموت, فجاز له الرجوع اعنها قبل تنجيزها، كهبة ما يفتقر إلى القبض قبل قبضه (¬1). القول الثاني: يغير ما شاء من الوصية إلا العتاقة، وبه قال عطاء والشعبي، وابن شبرمة، والنخعي (¬2). ¬
وأجيب
(ث -209) روى ابن أبي شيبة، من طريق جريج، عن عطاء: قال: يغير الرجل من وصيته ما شاء إلا العتاقة (¬1). [صحيح]. (ث -210) وروى أيضًا من طريق الشيباني، عن الشعبي قال: كل وصية إن شاء رجع فيها إلا العتاقة. [صحيح] (¬2). واستدل القائلون بأنه لا يصح الرجوع بالوصية بالعتق قياسًا على التدبير بجامع أن كلا منهما عتق بعد الموت. وأجيب: بأن هناك فرقًا بين التدبير وبين الوصية، فالتدبير عقد لازم، والوصية عقد جائز (¬3). ولو كانت الوصية بمنزلة التدبير كان كل موص لا يقدر على تغيير وصيته (¬4). ولأن التدبير تعليق لعتق على شرط، وهو الموت، قلم يملك تغييره، كتعليقه على صفة في الحياة، والوصية ليست من باب التعليق، وإنما هو تبرع مضاف إلى ما بعد الموت (¬5). ¬
الراجح
وقال ابن رشد: "والناس في التدبير والوصية على صنفين: منهم من لم يفرق بينهما، ومنهم من فرق بين التدبير والوصية بأن جعل التدبير لازمًا والوصية غير لازمة ... " (¬1). الراجح: أن عقد الوصية يجوز الرجوع فيه مطلقا سواء كانت الوصية بالعتاقة أو بغيرها؛ لكون الوصية من عقود التبرعات، ولأن ملك الموصي فيها ما زال باقيًا، وإذا كانت العقود اللازمة يجوز العدول فيها عن الإيجاب قبل القبول، فالوصية من باب أولى، والله أعلم. ¬
المبحث السابع في وقت ثبوت الملكية للموصى له
المبحث السابع في وقت ثبوت الملكية للموصى له [م - 1630] الوصية تبرع بإيجاب من الموصي، وقبول من الموصى له المعين، ويشترط في القبول أن يكون بعد الموت، فإن كان عقب الموت مباشرة فلا إشكال، وينتقل الموصى به للموصى له عند القبول. وإن تأخر القبول شهرًا مثلاً، فيحصل خلاف في وقت ملك الوصية: هل يثبت الملك من حين موت الموصي، أو يثبت الملك من صدور القبول عن الموصى له؟. وعلى القول بأن الموصى له يملكها من صدور قبوله، فهل هي قبله على ملك الميت، أو على ملك الورثة؟ ويترتب على هذا الخلاف: حكم نماء الموصى به بين الموت والقبول. وإذا كان الموصى به يحتاج إلى نفقة، فهل تكون من مال الموصى له أو من مال الوارث؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال: القول الأول: أن ملك الوصية موقوف لا يحكم به لأحد، فهي ليست في ملك الوارث، ولا في ملك الموصى له حتى يقبل أو يرد، فإن قبل الموصى له الوصية تبين أن الملك كان ثابتًا له من وقت وفاة الموصي، وإن ردها كان الملك للورثة، وهذا
مذهب الحنفية، والمشهور في مذهب المالكية، والأصح في مذهب الشافعية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في حاشية ابن عابدين: "إن لم يقبل بعد الموت فهي موقوفة على قبوله، وليست في ملك الوارث، ولا في ملك الموصى له حتى يقبل أو يموت" (¬2). وجاء في حاشية الشلبي نقلاً من أتقاني: "فإن لم يقبل بعد الموت فالوصية موقوفة على قبوله، لا تصير في ملكه حتى يقبل، وهي خارجة عن الموصي بموته، ليست في ملك الوارث، ولا في ملك الموصى له حتى يقبل أو يموت، فيكون ما أوصى له لورثته من بعده، وموته كقبوله عند أصحاب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وجعلوا ذلك بمنزلة البيع إذا كان فيه الخيار للمشتري دون البائع، فمات المشتري في الثلاث، فإن البيع يتم وتكون السلعة موروثة عن المشتري ... " (¬3). وقال ابن شاس المالكي: "وإذا مات الموصي كان الموصى به موقوفاً، فإن ¬
وجه القول بأن الوصية موقوفة
قبل تبينا أن العين الموصى بها دخلت في ملكه بموت الموصي، وإن ردها تبينا أنها لم تزل عن ملك الموصي" (¬1). وقال الزركشي في القواعد: "وملك الموصى له الوصية بعد الموت وقبل القبول، الأصح: أنه موقوف، إن قبل تبينا أنه ملك من حين الموت، وإلا تبينا أنه على ملك الوارث" (¬2). وقال إمام الحرمين: "الملك متى يحصل للموصى له في الموصى به؟ ... اختلفت النصوص، وحاصل الأقوال في ذلك ثلاثة: القول الثاني -وهو أعدل الأقوال وأمثلها- أن الملك موقوف مراعى، فإن قبل الموصى له، تبينا أن الملك حصل بموت الموصي إسنادًا إليه، وإن تأخر القبول عنه بمدة مديدة، وإن رد، تبينا أن الملك لم يحصل" (¬3). وجه القول بأن الوصية موقوفة: لا يمكن أن نجعل الوصية ملكًا للميت؛ لأن الميت لا يملك، وقد زال ملكه عن الموصى به بموته. ولم تدخل الوصية في ملك الموصى له؛ لأن ذلك موقوف على قبوله. ولم يملكها الورثة؛ لأن الورثة لا يملكون شيئاً من مال مورثهم إلا بعد ¬
القول الثاني
الوصية والدين. فصارت الوصية موقوفة، فإن قبلها الموصى له تبينا أن ملكه لها ثابت من وفاة الموصي، وإلا صارت ملكًا للورثة. ولأن الموصى له يستفيد الملك من جهة الموصي، وليس من جهة الورثة، فإذا قبل الوصية تبين أنه ملك الموصى به من حين الموت؛ لأن ما وجب انتقاله بالقبول وجب انتقاله من جهة الموجب بالإيجاب، كالبيع والهبة. القول الثاني: يثبت الملك للموصى له من حين القبول، ولا يتقدم الملك على القبول. وهو قول في مذهب المالكية، وقول في مذهب الشافعية، والصحيح من مذهب الحنابلة (¬1). قال ابن قدامة: "إذا قَبِل ثبت الملك له من حين القبول في الصحيح من المذهب" (¬2). وفي الإنصاف: "وإن قبلها بعد الموت ثبت الملك حين القبول في الصحيح، وهو المذهب، قاله المصنف (ابن قدامة) وغيره وأومأ إليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ونصره القاضي وأصحابه ... " (¬3). ¬
وجه هذا القول
وفي قواعد ابن رجب: "ذكر القاضي في خلافه أن ملك الموصى له لا يتقدم القبول .. " (¬1). وجاء في حاشية العدوي على الخرشي نقلاً عن بعض المالكية: "أن الغلة الحادثة بعد موت الموصي وقبل قبول الموصى له تكون للورثة كلها, ولا يأخذ منها الموصى له شيئًا" (¬2). وقال ابن شاس: "ومن أصحابنا من يقول: إن العين الموصى به باقية على حكم ملك الميت" (¬3). وجه هذا القول: الأمر مبني على مقدمتين ونتيجة: المقدمة الأولى: الملك في الوصية متوقف على القبول. المقدمة الثانية: القبول في الوصية سبب أو شرط لانتقال الملك. والنتيجة: الانتقال يجب أن يتأخر عن القبول؛ لأن الشيء لا يتقدم على سببه، ولا على شرطه. ولأن كل تمليك اعتبر القبول فيه وجب أن يكون القبول مؤثرًا في تحصيل الملك، حتى لا يتقدم حصول الملك عليه، وأيضًا فإن إدخال الأشياء في أملاك الناس قهرًا من غير ولاية بعيد عن قاعدة الشريعة. ¬
ويشكل على هذا القول
ويشكل على هذا القول: أن النماء في الوصية من ولد وثمرة، وما يجب من نفقة إن قلنا: إن ملك الموصى له من حين القبول، فإن يملك هذا النماء: فلا يصح أن يقال إنه ملك للميت؛ لأن هذا النماء حدث بعد موته، والميت لا يملك. ولا يصح أن يقال: إنه ملك للورثة، فإن ملك الورثة يأتي بعد الوصية والدين، والله أعلم. ويجاب عن هذا الإشكال: بأنه لو رد الوصية فإنها ترجع للورثة، والورثة إنما استحقوها؛ لأنها في الأصل رجعت في ملك مورثهم. وهذا الرجوع في ملك المورث يدل على أن الموصى به لم ينفصل عن ملك المورث أصلاً، وعليه فإن النماء تبع لأصله، فإن قبل الموصى له الوصية امتلك الأصل والنماء، وإن لم يقبلها رجع إلى ملك المورث، وهذا يعني استحقاق الورثة. القول الثالث: يثبت الملك للموصى له بموت الموصي. اختاره زفر من الحنفية، وهو قول في مذهب المالكية، وقول في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). ¬
القول الرابع
جاء في منهاج الطالبين: "وهل يملك الموصى له بموت الموصِي، أم بقبوله، أم موقوف، فإن قَبِلَ بأن أنه مَلَكَ بالموت، وإلا بأن للوارث: أقول، أظهرها الثالث" (¬1). وقال إمام الحرمين: "حاصل الأقوال في ذلك ثلاثة: أحدها: أن الملك يحصل بموت الموصي من قبل القبول، ولكن لزومه منوط بالقبول، فإن قبل الموصى له، لزم الملك، واستقر إذًا ... وإن رد، انقطع الملك بعد ثبوته ... " (¬2). وجاء في قواعد ابن رجب: "الملك للموصى له: إما بالموت بمجرده من غير قبول، أو بالموت مراعى بالقبول، أو بالقبول من حينه دون ما قبله" (¬3). القول الرابع: أن المعتبر في تنفيذ الوصية وقت الموت ووقت القبول معًا، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية. جاء في حاشية الدسوقي: "الخلاف في أن المعتبر في تنفيذ الوصية، هل هو وقت قبول المعين لها؟ إذ مقتضى كون قبول المعين بعد الموت شرطًا في تنفيذ ¬
ثمرة الخلاف
الوصية أن يكون المعتبر في تنفيذها وقت القبول، فإذا تأخر القبول حتى حدوث الغلة بعد الموت، فلا يكون شيء منها للموصى له بل كلها للموصي. أو المعتبر في تنفيذها وقت الموت؛ لأن الملك للموصى له بالموت، ومقتضى كون الملك له بالموت أن الغلة المذكورة كلها للموصى له. أو المعتبر في تنفيذها الأمران معاً، وهما وقت القبول، ووقت الموت؛ لكون القبول شرطًا في تنفيذها، والملك بالموت: أقوال ثلاثة. فمن اعتبر في تنفيذها وقت قبول المعين لها فقط قال الغلة كلها للموصي. ومن اعتبر في تنفيذها وقت الموت فقط، قال: كلها للموصى له. ومن راعى الأمرين معا أعطى للموصى له منها ثلثها ومراعاة الأمرين معا هو المشهور وأعدل الأقوال عند سحنون" (¬1). ثمرة الخلاف: إن قلنا: إن الوصية ملك للموصى له من موت الموصي، فالنماء مهما بلغ فهو ملك للموصى له، ولا يحسب من الثلث؛ لأن النماء حدث على ملك الموصى له. وإن قلنا: إن الوصية لا تدخل ملك الموصى له إلا بعد القبول: فإن كانت الوصية قبل ذلك على ملك الميت، فالنماء يحسب من الثلث، وتوفر به التركة، فما زاد على الثلث لا يملكه الموصى له، بل يرجع إلى مال الوارث. ¬
الراجح
وإن كانت الوصية قبل القبول على ملك الورثة، فنماؤه لهم خاصة. وإن قيل: إن المعتبر وقت الموت ووقت القبول، كانت الوصية للموصى له، وكان له ثلث النماء فقط. وخالف الحنفية في النماء، فهم وإن كان المذهب على أن الموصى به موقوف، فإن قبل كان الملك ثابتًا له من وقت وفاة الموصي، وإن ردها كان الملك للورثة، إلا أنهم لم يرتبوا على ذلك ملك النماء، فالنماء عندهم يختلف حكمه قبل قسمة التركة وبعدها: فإن حدث النماء بعد القبول وبعد قسمة التركة كان النماء للموصى له. وأما إن حدث النماء قبل القسمة، ولو كان بعد القبول فالمال كله على ملك الميت بدليل أنه ينفذ وصاياه من المال، وتقضى منه ديونه، وهذا دليل على بقاء ملك الميت للمال (¬1). الراجح: أن الوصية تنعقد بالإيجاب وحده، وأن القبول ليس شرطًا في صحتها، وإنما شرط في لزومها، فإذا مات الموصي لزمت الوصية في حقه، وكان الموصى له مستحقًا للوصية بموجب هذا الإيجاب، فإن قبلها ثبت أن الوصية كانت له من حين الموت، وإن رد فسخت الوصية، هذا ما أميل إليه، والله أعلم. ¬
المبحث الثامن في إضافة الوصية
المبحث الثامن في إضافة الوصية الإضافة من خصائص الوصية التي لا تنفك عنها. [م - 1631] ذهب عامة الفقهاء إلى صحة إضافة الوصية إلى المستقبل، ذلك أن طبيعة عقد الوصية لا يفيد الملك في الحال؛ لأنها تبرع مضاف إلى ما بعد الموت، فالإضافة من خصائص الوصية التي لا تنفك عنها (¬1). ومعنى كون العقد مضافًا إلى المستقبل: أي أن آثار العقد لا يسري مفعولها إلا في المستقبل المضاف إليه. فالوصية تنعقد بإيجاب من الموصي، إلا أن آثارها المترتبة عليها، وهي انتقال الملك إلى الموصى له لا يقع إلا بعد وفاة الموصي، وقبول الموصى له، وهذا معنى إضافتها إلى المستقبل. قال ابن عابدين: وما تصح إضافته إلى الزمان المستقبل: الإجارة ... والإيصاء والوصية ... " (¬2). وقال الزيلعي: "والإيصاء: وهو إقامة الشخص مقام نفسه في التصرف بعد الموت، والوصية: وهي تمليك المال بعد الموت، لا يكونان إلا مضافين؛ إذ الإيصاء في الحال لا يتصور" (¬3). ¬
وقال عبد العزيز البخاري الحنفي: "قوله أنت حر بعد موتي إضافة، وليس بتعليق صورة، ولكن فيه معنى التعليق باعتبار تأخر الحكم عن زمان الإيجاب" (¬1). وفي تكملة رد المحتار: "إذا أوصى بعتق عبده بعد موته، أو قال: هو حر بعد موتي بيوم أو شهر فإنه كسائر الوصايا" (¬2). وفي المدونة: "أرأيت لو أن رجلاً أوصى بعتق عبده من بعد موته، أو قال: هو حر بعد موتي بشهر، أو قال: أعتقوه بعد موتي بشهر، ثم مات السيد، أيكون هذا الكلام: قوله أعتقوه، وقوله: هو حر بعد موتي بشهر سواء؟ قال: نعم وهو قول مالك" (¬3). وفي المنتقى شرح الموطأ: "قال ابن القاسم في المجموعة: إن قال إن مت فعبدي حر، أو قال بعد موتي بشهر إن مت فأعتقوه فذلك سواء، قال الشيخ أبو محمَّد: يريد وهي وصية" (¬4). فقوله: (بعد موتي بشهر) من إضافة الوصية إلى المستقبل. وقال السبكي: "والوصية يصح تعليقها، فلا يمتنع إضافتها إلى المستقبل" (¬5). ¬
وقال السبكي أيضًا في الأشباه والنظائر: "إذا قال: إن مت فأنت حر بعد موتي بشهر ... يتوقف العتق على انقضاء الشهر، وكذا إذا قال: إن مت فأنت حر إن شئت، الصحيح يوقف العتق على مشيئة العبد بعد موت مولاه" (¬1). وقال ابن حجر الهيتمي: "إذا قال: أوصيت بثمرة بستاني لفلان، أو لبني فلان عشر سنين، ثم بعد مضيها يكون الأصل والثمرة لفلان صحت الوصيتان على ما ذكره، كما دل عليه كلامهم في مسائل منها: قولهم لو قال استخدموا عبدي سالمًا بعد موتي سنة، ثم أعطوه فلانًا، أو ثم أعتقوه صح، ولا تقوم عليهم خدمة السنة لاستعمالهم ملكهم، وتقوم بعدها" (¬2). وفي مسائل الإِمام أحمد وإسحاق رواية الكوسج: "سئل سفيان عن رجل قال: فلان حر بعد موتي بشهر؟ قال: هو من الثلث. قال أحمد: جيد. قال إسحاق: كما قال" (¬3). وفي الموسوعة الكويتية: "لا خلاف بين الفقهاء في جواز تعليق الوصية على شرط وإضافتها للمستقبل" (¬4). وفي الإجماع نظر، ففي مذهب الحنابلة روايتان في بعض صور إضافة الوصية إلى المستقبل. ¬
جاء في الإنصاف: "ومنها لو قال: عبدي فلان حر بعد موتي بسنة، فهل يصح ويعتق بعد موته بسنة، أم يبطل على روايتين" (¬1). إحداهما: لا يعتق؛ لأنه علق عتقه على صفة توجد بعد زوال ملكه فلم يعتق، كما لو قال: إن دخلت الدار بعد بيعي إياك فأنت حر. والثانية: أنه يعتق لأنه إعتاق بعد الموت، فإذا مات، ومضت المدة فقد تحقق عتقه. قال ابن قدامة: "وإن قال: إن دخلت الدار بعد موتي، فأنت حر. فذكر أبو الخطاب فيها روايتين: إحداهما: لا يعتق، وهو قياس المنصوص عنه في قوله: أنت حر بعد موتي بيوم، أو شهر، فإنه قال: لا يعتق؛ لأنه علق العتق بصفة توجد في ملك غيره، فلم يعتق، كما لو قال: إن دخلت الدار بعد بيعي إياك، فأنت حر. ولأنه إعتاق له بعد قرار ملك غيره عليه فلم يعتق كالمنجز. والثانية: يعتق، وهو الذي ذكره القاضي ... لأن صرح بذلك، فحمل عليه كما لو وصى لإعتاقه، وكما لو وصى ببيع سلعة ويتصدق بثمنها، ويفارق التصرف بعد البيع؛ فإن الله تعالى جعل للإنسان التصرف بعد موته في ثلثه، بخلاف ما بعد البيع. والأول أصح، إن شاء الله تعالى. ويفارق الوصية بالعتق وبيع السلعة؛ لأن الملك لا يستقر للورثة فيه، ولا يملكون التصرف فيه، بخلاف مسألتنا" (¬2). ¬
الراجح
الراجح: صحة إضافة الوصية على زمن مستقبل كما لو علق الوصية على صفة توجد بعد الموت، والله أعلم.
المبحث التاسع في تعليق الوصية بالشرط
المبحث التاسع في تعليق الوصية بالشرط الفرع الأول: تعريف التعليق تعريف التعليق: ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى بأداة من أدوات الشرط (¬1). فيكون تعليق الوصية بالشرط: هو ربط حصول الوصية بواقعة تحتمل الحدوث في المستقبل، كأن يقول: إذا رجعت من الحج هذا العام فقد أوصيت بداري لطلاب العلم، أو إذا ملكت هذه الأرض فهي وصية لعمارة المسجد (¬2). فالصيغة المعلقة على شرط لا تنشئ الوصية إلا بعد تحقق هذا الشرط. ويختلف تعليق الوصية بالشرط عن إضافتها إلى الزمن المستقبل: فتعليق الوصية: تعليق إنشاء الوصية على حصول أمر آخر، فإن حصل انعقدت الوصية، وإن لم صمل فالوصية لم تنعقد أصلاً، كأن يقول: إن حفظت القرآن أوصيت لك بثلث مالي، فقبل الحفظ لم تنعقد الوصية. وأما إضافة الوصية إلى المستقبل، فالوصية تنعقد في الحال، وأثرها لا يوجد إلا في الوقت الذي أضيف إليه، كأن يقول: عبدي حر بعد موتي بشهر، فالنص ¬
ليس فيه تعليق، فالوصية منعقدة في الحال، وتنفيذ الوصية يتأخر إلى الوقت الذي أضيف إليه.
الفرع الثاني في حكم تعليق الوصية بالشرط
الفرع الثاني في حكم تعليق الوصية بالشرط الوصية تحتمل التعليق. المتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز. [م - 1632] اختلف العلماء في حكم تعليق الوصية بالشرط على قولين: القول الأول: ذهب الأئمة الأربعة على جواز تعليق الوصية بالشرط (¬1). جاء في الدر المختار: "قال لمديونه: إذا متُّ فأنت برئ من ديني الذي عليك صحت وصيته، ولو قال: إن متَّ لا يبرأ للمخاطرة" (¬2). علق ابن عابدين في حاشيته بقوله: " (قوله: صحت وصيته) أي لأن تعليق الوصية بالشرط جائز كما في القنية ... لو قال لمديونه: إن متَّ بفتح التاء فأنت بريء لا تصح؛ لأنه تعليق بخطر: أي والإبراء لا يصح تعليقه بخلاف الوصية" (¬3). ¬
ووجه الفرق
وقال في تنقيح الفتاوى الحامدية: "والحاصل أن مناط الفرق: هو ضم التاء وفتحها في (مت) لا التعليق (بأن) أو (إذا). ووجه الفرق: أنه إذا ضم التاء يكون تمليكًا معلقًا على ما بعد موت المملك فيصح؛ لأنه وصية بخلاف فتحها؛ لأنه لا يمكن أن يكون وصية؛ لأن المعلق عليه موت المديون، لا الدائن المملك، وحينئذ يكون إبراء معلقاً، والإبراء لا يقبل التعليق بالخطر. والمراد بالخطر هنا: المعدوم المترقب الوقوع، وإن كان لا بد من وقوعه، كالموت، ومجيء الغد احترازًا عما لو علق الإبراء بشرط كائن، كقوله لمديونه: إن كان لي عليك دين فقد أبرأتك عنه فإنه يصح كما ذكره العلائي في آخر كتاب الهبة، هذا ما ظهر، والله تعالى أعلم" (¬1). وصحح في المبسوط أن يوصي للعبد، ويعلق الوصية على عتقه، قال السرخسي: "أن يقول: إذا عتقت فثلث مالي وصية لك، فإن أدى بدل الكتابة، وعتق، ثم مات جازت الوصية؛ لأن المتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز، وإن لم يؤد حتى مات فهذه الوصية باطلة" (¬2). وجاء في الذخيرة: "قال في الكتاب: إن مت من مرضي هذا، أو من سفري هذا، فأنت حر أو لفلان كذا فهي وصية تنفذ إن مات من مرضه ذلك، أو من سفره، فإن صح، أو قدم ولم يغيرها حتى مات لا تنفذ لتقييده لما قد بطل" (¬3). ¬
وفي البيان للعمراني: "يجوز تعليق الوصية على شرط في حياة الموصي، بأن يقول: إن حج فلان في حياتي، أو قدم في حياتي .. فقد أوصيت له بكذا؛ لأن الوصية تصح في المجهول، فصح تعليقها على شرط، كالطلاق والعتاق. ويصح تعليقها على شرط بعد موت الموصي، بأن يقول: إن حج فلان بعد موتي، أو تعلم القرآن وما أشبهه .. فقد أوصيت له بكذا؛ لأن ما بعد الموت في الوصية كحال الحياة، فإذا جاز تعليق الوصية، على شرط في حالة الحياة .. جاز بعد الموت" (¬1). جاء في تحفة المحتاج: "يصح تعليق الوصية بالشرط في الحياة أو بعد الموت كأوصيت بكذا له إن تزوج بنتي أو رجع من سفره أو إن مت من مرضي هذا أو إن شاء زيد فشاء أو إن ملكت هذا فملكه" (¬2). وفي أسنى المطالب: "ولو قال: أوصيت لزيد بألف إن تبرع لولدي بخمسمائة صحت، وإذا قبل لزم دفعها إليه، قيل: وهي حيلة في الوصية للوارث" (¬3). وأرى أن هذه من الحيل المحرمة؛ لأنه يتوصل بها إلى محرم، والله أعلم. واختلف الشافعية في الوصية إذا علقها على الملك قبل تملكها، كما لو قال: أوصيت لك بهذه الدابة، وهي ملك لغيره، ولهم فيها وجهان: ¬
الأول: تصح الوصية؛ لأن الوصية إذا صحت بالمعدوم فهذا أولى. جاء في مغني المحتاج: "وكذا لو علق بملكه له، كأن قال: أوصيت به لفلان إن ملكته، فيصير موصى به إذا ملكه" (¬1). والثاني: لا تصح؛ لأن هذه العين يملك مالكها الوصية بها، فلو صححنا الوصية لأدى إلى أن الشيء الواحد يكون محلاً لتصرف اثنين، وهو ممتنع، وضعفه النووي (¬2). جاء في الروضة: "إن أوصى بمال الغير، فقال: أوصيت بهذا العبد، وهو ملك غيره، أو بهذا العبد إن ملكته، فوجهان: أحدهما: تصح؛ لأنها تصح بالمعدوم، فذا أولى. والثاني: لا؛ لأن مالكه يملك الوصية به، والشيء الواحد لا يكون محلاً لتصرف شخصين، وبهذا قطع الغزالي. قلت: الأول أفقه وأجرى على قواعد الباب، والله أعلم" (¬3). وفي الهداية على مذهب الإِمام أحمد: "ويجوز تعليق الوصية بشرط في حال الحياة وبعد الموت، نحو قوله: إن مت من مرضي هذا فقد وصيت كذا، فإن مات في مرضه وإلا بطلت. ونحو قوله: إن مت بعد خمس سنين فتصدقوا بكذا، فإن مات قبل الخمس سنين بطلت الوصية نص عليه" (¬4). ¬
القول الثاني
وقال ابن قدامة: "وتصح الوصية مطلقة ومقيدة: فالمطلقة أن يقول: إن مت فثلثي للمساكين، أو لزيد. والمقيدة أن يقول: إن مت من مرضي هذا، أو في هذه البلدة، أو في سفري هذا، فثلثي للمساكين. فإن برأ من مرضه، أو قدم من سفره، أو خرج من البلدة، ثم مات، بطلت الوصية المقيدة، وبقيت المطلقة" (¬1). القول الثاني: لا يصح تعليق الصيغة في الوصية، وقد حكي هذا القول لبعض الشافعية، وبعض الحنابلة. قال الزركشي في القواعد: "وأما تعليق الوصية، فنقل الرافعى في كتاب الوقف عن القفال، ما يقتضي المنع؛ لأنه تعليق صيغة ... " (¬2). وفي الإنصاف: "والوصايا تقبل التعليق، وقال أبو الخطاب في الهداية: لا تصح، واختاره ابن البنا" (¬3). الراجح: القول بصحة تعليق الوصية بالشرط؛ لأن طبيعة عقد الوصية ليس ناجزًا في الحال حتى يمنع التعليق، والله أعلم. ¬
المبحث العاشر في توقيت الإيصاء والوصية
المبحث العاشر في توقيت الإيصاء والوصية [م - 1633] إذا قال الرجل: أوصيت سنة، أو إلى بلوغ ابني، أو إلى قدوم زيد، فهذه وصية مؤقتة، وقد أجاز الفقهاء توقيت الوصية والإيصاء، فالأول فيه شبه بالعارية، والثاني فيه شبه بالوكالة، وكلاهما يقبل التوقيت، ولم يخالف في ذلك أحد فيما أعلم (¬1). جاء في البحر الرائق: "ولو قال لفلان وصي إلى أن يقدم فلان فهو كما قال" (¬2). وجاء في المدونة: "أرأيت إن أوصى إلى رجل، فقال: فلان وصيي حتى يقدم فلان، فإذا قدم فلان ففلان القادم وصيي، أيجوز هذا؟ قال: نعم هذا جائز" (¬3). وقال القرافي: "ولو قال فلان وصيي حتى يقدم فلان فيكون وصيي جاز. ¬
قال صاحب النكت إن قدم فلم يرض أو مات في غيبته بقي الأول على وصيته لأنه مغيا بغاية لم تحصل. قال التونسي الأمر كذلك في الموت، أما إن قدم فلم يقبل فظاهر الأمر سقوط الوصية لإيقافه على الغيبة، وقد قدم إلا أن يكون المفهوم إذا قدم وقبل" (¬1). وجاء في تحفة المحتاج: "لو قال أوصيت لزيد، ثم من بعده لعمرو، أو إليك إلى بلوغ ابني أو قدوم زيد، فإذا بلغ، أو قدم، فهو الوصي جاز" (¬2). وجاء في مغني المحتاج: "ويجوز فيه: أي الإيصاء التوقيت، كأوصيت إليك سنة، أو إلى بلوغ ابني كما مر. والتعليق: كإذا مت فقد أوصيت إليك؛ لأن الوصاية تحتمل الجهالات والأخطار فكذا التوقيت والتعليق. ولأن الإيصاء كالإمارة، وقد "أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - زيدًا على سرية، وقال: إن أصيب زيد فجعفر وإن أصيب جعفر، فعبد الله بن رواحة. رواه البخاري" (¬3) (¬4). وقال ابن قدامة: "وإذا قال: أوصيت إلى زيد، فإن مات فقد أوصيت إلى عمرو صح ذلك، رواية واحدة، ويكون كل واحد منهما وصيا، إلا أن عمرًا وصي بعد زيد" (¬5). ¬
المبحث الحادي عشر في اقتران الوصية بالشرط
المبحث الحادي عشر في اقتران الوصية بالشرط الشرط إما أن يقتضيه العقد أو لا: قإن اقتضاه فهو صحيح. وإن لم يقتضيه العقد، فإما أن يكون من مصلحته أو لا: فإن كان من مصلحته فهو صحيح. وإن لم يكن من مصلحة العقد، فإما أن يتعلق به غرض أو لا: فإن لم يتعلق به غرض صح العقد وبطل الشرط. وإن تعلق به غرض لأحدهما, ولم يكن مخالفًا للشرع، ولم يناف موجب العقد صح العقد والشرط. [م - 1634] تعريف اقتران الوصية بالشرط: أن يصدر الإيجاب من الموصي منشئًا للوصية على أن يكون الاستحقاق مقيدًا بشرط للحصول على الوصية. كأن يقول: أوصيت بهذه الدار لزيد بشرط أن يسكنها. أو يقول: أوصيت بهذه الدراهم لعبد الله بشرط أن يتزوج بها. فهي وصية مقيدة، وليست معلقة، وهذا هو الفارق بين الوصية المعلقة والمقترنة بالشرط، فالوصية المعلقة لا تنعقد إلا عند حصول الشرط، بخلاف الوصية المقترنة بالشرط فإنها تنعقد إلا أنها مقيدة، وليست مطلقة. وأما حكم اقتران الوصية بالشروط فهذا يختلف من شرط لآخر، فلا يمكن أعطاء حكم عام في هذه المسألة، فبعض الشروط قد تكون صحيحة أو فاسدة
بالاتفاق، وبعضها قد يختلفون في قبولها وردها، نظرًا لاختلاف موقفهم من الشروط في العقد عامة. كما يرجع الاختلاف إلى مسألة سبق بحثها في عقد البيع في المجلد الخامس، وهي: ما هو الأصل في الشروط، هل الأصل فيها الصحة والجواز، أو الأصل فيها المنع. ولدينا في هذا ثلاث مدارس: المدرسة الأولى: وهي مدرسة واسعة جداً، تجعل الأصل في الشروط الحل والإباحة، ولا يحرم منها, ولا يبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله وهي مدرسة الحنابلة، وينصره هذا القول ابن تيمية وابن القيم. المدرسة الثانية: مدرسة ضيقة جداً تجعل الأصل في الشروط البطلان والتحريم إلا ما نص الشارع على جوازه بخصوصه، وهذا مدرسة الظاهرية. المدرسة الثالثة: هي أوسع من مذهب الظاهرية، وأضيق من مذهب الحنابلة، حيث يمنع بعض الشروط ويصحح بعضها، وهو بقية المذاهب. ولهذا قال ابن تيمية لما ذكر مذهب الظاهرية، قال: وكثير من أصول أبي حنيفة تنبني على هذا، وكثير من أصول الشافعي، وأصول طائفة من أصحاب مالك وأحمد" (¬1). وهذا الكلام من ابن تيمية كأنه ينسب هذا المذهب إلى جمهور الفقهاء، وحتى لا يفهم منه أن مذهب الجمهور مطابق لقول ابن حزم، استدرك ذلك ¬
بقوله: إلا أن هؤلاء الفرق الثلات يخالفون أهل الظاهر، ويتوسعون في الشروط أكثر منهم؛ لقولهم بالقياس، والمعاني، وآثار الصحابة، ولما يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر" (¬1). فقوله: (يتوسعون في الشروط أكثر منهم لقولهم بالقياس) دليل على أن هذا قسم ثالث، أضيق من مذهب الحنابلة، وأوسع من مذهب أهل الظاهر. إذا علم ذلك فإن الأئمة لا يختلفون في قبول كل شرط يقتضيه العقد، وهذا الاشتراط في الحقيقة اشتراط صوري: لأن الشرط الذي يقتضيه العقد شرط لازم مستحق بموجب العقد، سواء ذكر في العقد أو لم يذكر، فذكره لا يضيف شيئاً إلى العقد، وعدم ذكره لا يضره، فذكره من باب البيان والتوكيد. "قال المازري: الشروط ثلاثة: شرط يقتضيه العقد، كالتسليم، والتصرف، فلا خلاف في جوازه، ولزومه، وإن لم يشترط" (¬2). مثاله: أن يشترط تسليم الوصية للموصى له بعد موت الموصي. فهذا شرط صحيح يقتضيه العقد وإن لم يشترط. وكذلك يصح من الشروط: كل شرط يكون في اشتراطه مصلحة للموصي أو للموصى له، ولم ينه عنه الشارع، ولم يكن مخالفا لمقاصد الشريعة؛ ولم يناف مقتضى العقد؛ لأن الأصل في الشروط الصحة والجواز. فإن اشترط ما ينافي العقد، أو يخالف مقصود الشارع، أو ليس فيه مصلحة لأحد، أو كان في اشتراطه معصية بطل الشرط. ¬
مثال اشتراط ما ينافي العقد
مثال اشتراط ما ينافي العقد: اشتراط ما ينافي العقد كأن يوصي لفلان بمال بشرط أن لا يتصرف به، أو إذا مات الموصى له والوصية قائمة تكون لفلان، ولا تكون لورثة الموصى له، فإذا الشرط ينافي العقد. وجه كونه منافيًا: أن من ملك شيئاً ملك التصرف فيه. وإذا بطل الشرط، فهل يعود على الوصية بالبطلان، أو يبطل الشرط وحده وتنفذ الوصية؟ قولان لأهل العلم (¬1). جاء في حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: "قال: أوصيت بخدمة عبدي هذا لفلان على أن لا يسلم العبد إلى الموصى لده، ومات الموصي، والعبد يخرج من الثلث، يسلم للموصى له بالخدمة؛ لأن هذا شرط فاسد لمخالفته لمقتضى الوصية وهي لا تبطل به" (¬2). وقال ابن حجر الهيتمي: "تعليق الوصية بالشرط ينبغي أن يستثنى منه نحو ما ذكر في السؤال من الشروط المنافية لموضوع الوصية؛ إذ موضوعها ملك العين بالتصرف فيها بالبيع، وغيره، فاشتراط عدم البيع مناف لموضوعها، فكان القياس أنه يفسدها. فإن قلت: وبقية الشروط منافية لموضوعها؟ ¬
مثال ما ينافي مقصود الشارع
قلت: ممنوع، وإنما غاية ما فيها تعليق استحقاقها على صفة، فحيث وجدت وجد الاستحقاق، وإلا فلا" (¬1). مثال ما ينافي مقصود الشارع: ما ينافي مقصود الشارع كأن يوصي لفلان بمال بشرط ألا يتزوج، فإن هذا الشرط باطل؛ لأنه مخالف لمقصود الشارع، وصحح الإِمام مالك أن يوصي الرجل لزوجته على أن لا تنكح، فإن تزوجت فسخت وصيتها. جاء في المدونة: "شهدت مالكًا، وسئل عن امرأة هلك عنها زوجها، وأوصى إليها على أن لا تنكح، فتزوجت. قال مالك: أرى أن تفسخ وصيتها" (¬2). وصحح المالكية والشافعية أن يوصي لأم ولده بشرط أن لا تتزوج. جاء في تهذيب المدونة: "ومن أسند وصيته إلى أم ولده على أن لا تتزوج، جاز، فإن تزوجت عزلت. وكذلك لو أوصى لها بألف درهم على أن لا تتزوج، فأخذتها، فإن تزوجت أخذت منها" (¬3). وجاء في مواهب الجليل: "فلو أوصى بشيء على شرط فلم يوف به الموصى (إليه) فإنه يرده قاله في معين الحكام في كتاب الوصايا: لو أوصى لأم ولده على ¬
مثال الوصية بشرط لا مصلحة فيه
أن لا تتزوج بوصية فتوفي ونفذت الوصية لها، ثم تزوجت فإنها ترد ما أخذت" (¬1). وجاء في تبصرة الحكام: "ولو أسند الوصية على أنها لا تتزوج، فتزوجت فسخت الوصية، قال ابن القاسم: وكذلك لو أوصى لأم ولده بألف درهم على أنها لا تتزوج، فإن تزوجت أخذت منها" (¬2). وجاء في تحفة المحتاج: "صرح الماوردي بقبولها للتعليق .. وللشرط بأن يجزم بالأصل ويشترط فيه أمرًا آخر حيث قال: لو أوصى بعتقها على أن لا تتزوج عتقت على الشرط، فإن تزوجت لم يبطل العتق والنكاح؛ لأن عدم الشرط يمنع إمضاء الوصية، ونفوذ العتق يمنع الرجوع فيه، لكن يرجع عليها بقيمتها تكون ميراثًا، وإن طلقها الزوج. ولو أوصى لأم ولده بألف على أن لا تتزوج أعطيتها، فإن تزوجت استرجعت منها بخلاف العتق" (¬3). مثال الوصية بشرط لا مصلحة فيه: والوصية بشرط لا مصلحة فيه كأن يوصي لفلان بشرط أن يأكل نوعًا من الطعام، أو يلبس نوعًا من الثياب، فهذا شرط لا نفع فيه لأحد فاشتراطه نوع من العبث، فيبطل الشرط، وتصح الوصية. مثال الوصية بشرط المعصية: كأن يوصي له بشرط أن يشرب الخمرة، أو يتعاطى القمار، ونحوهما. ¬
الشروط المختلف فيها
الشروط المختلف فيها: هناك شروط هي محل خلاف في الجملة، وهي كل شرط لا يقتضيه العقد، ولا ينافيه: فقولنا: (لا يقتضيه العقد) أي لا يستحق بمجرد العقد. وقولنا: (لا ينافيه) أي لا ينافي مقتضى العقد، فمقتضى عقد الوصية أن يملك الموصى له الوصية بعد موت الموصي إذا مات ولم يتراجع أو يغير، وقبل ذلك الموصى له بعد وفاته. فإن كان فيه مصلحة للعقد فهذا الشرط صحيح، وسبق الأمثلة له. وإن كان هذا الشرط ليس فيه مصلحة للعقد، ولا ينافي العقد كاشتراط القيام بعمل معين، ففي عقود المعاوضات يختلف الفقهاء في صحتها كما لو اشترط حمل الحطب، وتكسيره، وخياطة الثوب، وبيع الدار بشرط سكناها ونحو ذلك، إلا أن هذه الشروط لا ينبغي الاختلاف في صحتها في عقود التبرعات، كأن يوصي لفلان بشرط أن يحج عنه، أو على أن تؤدى منه ما على الموصى له من ديون، فالأصل أن هذه الشروط صحيحة، ولا تستحق الوصية إلا إذا قام بشرط الموصي، كما قلنا ذلك في عقد الوقف؛ لأن الموصي إذا تبرع بماله فله أن يشترط من الشروط المباحة والتي له فيها غرض صحيح؛ فلا يخرج ماله إلا بشرطه، كما أن الهبات والتبرعات والوقف يجب أن يعمل فيها بشرط صاحبها، فكذلك الوصية. ولعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" (¬1). ¬
ولأن الموصي قد تبرع بماله بهذا الشرط، فوجب اعتباره كاعتبار شرط الواقف، والله أعلم. جاء في البحر الرائق: "إذا أوصى بثلثه لرجل على أن يحج عنه فهذا جائز" (¬1). وهذا قول الأئمة خلافًا لابن حزم؛ فإنه يمنع الوصية بالحج؛ قال أبو محمَّد: "جواز الحج إذا أوصى به لا يوجد في شيء من النصوص، ولا يحفظ عن أحد من الصحابة، ولا يوجبها قياس؛ لأن الوصية لا تجوز إلا فيما يجوز للإنسان أن يأمر به في حياته بلا خلاف" (¬2). وقد فصلت الخلاف في الشروط المباحة في الوقف، وخلاف العلماء في اشتراط القربة فيها، هل يكون مطلقًا، أو فقط إذا كان الوقف على جهة؟ وما قيل في الوقف ينزل على الوصية، والله أعلم. ولي وقفة أخرى إن شاء الله تعالى في شروط الموصي، أسأل الله وحده العون والتوفيق. ¬
الباب الثالث في شروط الموصي
الباب الثالث في شروط الموصي الشرط الأول أن تكون الوصية من ذلك [م - 1635] أن يكون الموصي مالكًا للموصى به، وهذا الشرط ذكره بعض الفقهاء، وتركه بعضهم إما لظهوره، وإما لأنه لا يشترط ذلك وقت عقد الوصية، ولذلك صحح الفقهاء الوصية بالمعدوم في الجملة، كما سيأتي بحثه إن شاء الله تعالى في أحكام الموصى به، أو اكتفاء بما ذكروه عند الكلام على وصية المحجور عليه لحظ غيره؛ لأن ماله قد تعلق به حق الغرماء. قال في الإقناع: "الوصية تصح مع عدم المال، كالفقير إذا أوصى ولا شيء له، ثم استغنى" (¬1). وقد نص على اشتراط الملك المالكية والشافعية في كتبهم، فذكر الدردير من شروط الوصية: أن يكون من "مالك للموصى به ملكًا تامًّا، فمستغرق الذمة، وغير المالك لا تصح وصيتهما" (¬2). وقال في إعانة الطالبين: "وشرط في الموصى ... من كونه مالكًا بالغًا عاقلاً حرًا مختارًا" (¬3). ¬
القول الأول
وبقيد الملك يخرج العبد؛ فلا تصح الوصية منه؛ لأن الوصية تبرع، وهو ليس من أهل التبرع. جاء في تحفة الفقهاء: "وأما شرائط الصحة، فإنها: أهلية التبرع، حتى لا يصح من الصبي والعبد والمكاتب في حق المولى" (¬1). وقال في الشرح الصغير: "وركنها الذي تتوقف عليه: موص، وهو الحر، فالعبد ولو بشائبة لا تصح وصيته" (¬2). [م - 1636] أما إذا أوصى العبد في حال رقه، ثم عتق، فهل تصح وصيته؟ في ذلك خلاف بين العلماء: القول الأول: تصح وصيته في غير المال مطلقًا، ولو كان ذلك حال رقه، وتصح وصيته في المال إن عتق قبل الموت، وهذا مذهب الحنابلة، وقول مرجوح في مذهب الشافعية (¬3). وجه صحة وصية العبد في غير المال: أن العبد إذا أوصى بغير المال فإن أهليته تامة صحيحة؛ لأن لهم عبادة صحيحة. ¬
وأما وجه صحة وصيتهم في المال إذا عتقوا قبل الموت
وأما وجه صحة وصيتهم في المال إذا عتقوا قبل الموت: الوجه الأول: أن المعتبر هو المآل، وليس حال عقد الوصية، أرأيت لو أوصى لوارث، فصار عند الموت غير وارث صحت له الوصية، والعكس بالعكس. الوجه الثاني: أن الوصية تصح مع عدم المال قياسًا على الفقير إذا أوصى، ولا مال له، ثم استغنى صحت وصيته فكذلك العبد (¬1). قال في الإنصاف عن وصية العبد: "إن كان فيما عدا المال: فصحيح، وإن كان في المال، فإن مات قبل العتق: فلا وصية على المذهب؛ لانتفاء ملكه، وإن قيل يملك بالتمليك صحت، ذكره بعض الأصحاب. والمكاتب والمدبر وأم الولد كالقن" (¬2). القول الثاني: لا تصح وصيته، وهو الأصح في مذهب الشافعية. جاء في مغني المحتاج: "ولا رقيق، فلا تصح وصيته، سواء أكان قنًّا أم مدبرًا أم مكاتبًا لم يأذن له سيده، أم أم ولد؛ لأن الله تعالى جعل الوصية حيث التوارث، والرقيق لا يورث، فلا يدخل في الأمر بالوصية. وقيل: إن أوصى في حال رقه، ثم عتق، ثم مات، صحت؛ لأن عبارته ¬
القول الثالث
صحيحة، وقد أمكن العمل بها، والصحيح المنع؛ لعدم أهليته حينئذ" (¬1). القول الثالث: لا تصح إلا أن تكون مضافة إلى ما بعد العتق. وهذا مذهب الحنفية. جاء في بدائع الصنائع: "ولا تصح وصية العبد المأذون، والمكاتب؛ لأنهما ليسا من أهل التبرع، ولو أوصيا، ثم أعتقا، وملكا مالاً، ثم ماتا: لم تجز؛ لوقوعها باطلة من الابتداء، ولو أضاف أحدهما الوصية إلى ما بعد العتق، بأن قال: إذا أعتقت، ثم مت فثلث مالي لفلان: صح فرقا بين العبد، والصبي. ووجه الفرق: أن عبارة الصبي فيما يتضرر به ملحقة بالعلم لنقصان عقله فلم تصح عبارته من الأصل، بل بطلت. والباطل لا حكم له، بل هو ذاهب مثلاش في حق الحكم، فأما عبارة العبد: فصحيحة لصدورها عن عقل مميز، إلا أن امتناع تبرعه لحق المولى، فإذا عتق فقد زال المانع" (¬2). الراجح: صحة وصية العبد إذا عتق قبل الموت، والله أعلم. ¬
الشرط الثاني في اشتراط أهلية الموصي
الشرط الثاني في اشتراط أهلية الموصي [م - 1637] تكلمنا عن الأهلية عند الكلام على شروط القبول، وأنها تنقسم إلى: أهلية كاملة: وهي في حق العاقل البالغ الحر الرشيد غير المحجور عليه. وأهلية ناقصة: وهي في حق المميز والسفيه. وفاقد للأهلية: كالمجنون والصبي غير المميز. والقاعدة: أن التبرعات المالية تتوقف على الأهلية الكاملة إلا أن الوصية لما كانت تبرعًا بعد الموت، فقد خالف الفقهاء في صحة وصية المميز والسفيه، ونحوهما مما سوف يكشف عنه في المبحث التالية إن شاء الله تعالى.
المبحث الأول في وصية المجنون والصبي غير المميز
المبحث الأول في وصية المجنون والصبي غير المميز [م - 1638] اختلف العلماء في صحة وصية المجنون والصبي غير المميز: القول الأول: ذهب عامة أهل العلم إلى أن وصية المجنون والصبي غير المميز لا تصح منه (¬1). وجه القول بعدم الصحة: الوجه الأول: أن الوصية تتعلق صحتها بقصدها قولاً أو فعلاً، وهؤلاء لا قصد لهم صحيح، فأقوالهم ملغاة، لا اعتداد بها شرعًا، فلا ينعقد بها تصرف، ولا يلزمهم بها إقرار. الوجه الثاني: أن الوصية: إيجاب بالتبرع بعد الموت، فلا بد من توفر أهلية التبرع، والمجنون وغير المميز ليسا من أهل التبرع (¬2). ¬
القول الثاني
جاء في المنتقى: "وأما الصغير الذي لا يميز فلا خلاف بين العلماء في أنه لا تجوز وصيته. وجه ذلك: أنه لا يصح قصده كالمغمى عليه" (¬1). وجاء في النتف للفتاوى للسغدي "وصية كل موص جائزة إلا نفسين: المجنون، والعبد؛ لأن ماله لسيده" (¬2). القول الثاني: قال إياس بن معاوية: الصبي والمجنون: إذا وافقت وصيتهم الحق جازت. قال ابن قدامة: "فأما الطفل، وهو من له دون السبع، والمجنون، والمبرسم، فلا وصية لهم، وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم؛ حميد بن عبد الرحمن، ومالك، والأوزاعي، والشافعي, وأصحاب الرأي، ومن تبعهم. ولا نعلم أحدًا خالفهم إلا الناس بن معاوية، قال في الصبي والمجنون: إذا وافقت وصيتهم الحق جازت، وليس بصحيح؛ فإنه لا حكم لكلامهما, ولا تصح عبادتهما, ولا شيء من تصرفاتهما، فكذا الوصية، بل أولى، فإنه إذا لم يصح إسلامه وصلاته التي هي محض نفع لا ضرر فيها، فلأن لا يصح بذله المال يتضرر به وارثه أولى، ولأنها تصرف يفتقر إلى إيجاب وقبول، فلا يصح منهما، كالبيع والهبة" (¬3). (ث - 211) وقول إياس رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا ¬
ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن إياس بن معاوية في وصية المجنون، قال: إذا أصاب الحق جاز. [صحيح عن إياس] (¬1). وقول إياس ضعيف جدًا، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في تأثير الجنون الطارئ على الوصية
المبحث الثاني في تأثير الجنون الطارئ على الوصية الاستبقاء أقوى من الابتداء. حالة البقاء أيسر من الابتداء. بقاء الشيء أهون من ابتدائه. [م - 1639] اختلف العلماء في الجنون الطارئ بعد الوصية ومن كان جنونه متقطعًا إذا أوصى في حال إفاقته على قولين: القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء أن الجنون الطارئ بعد إيجاب الوصية لا يبطلها، وكذلك تصح وصية من يجن أحيانًا إذا أوصى في حال إفاقته. قال الباجي في المنتقى نقلاً عن عبد الملك "تجوز وصية المجنون في حال إفاقته، كما تجوز شهادته في حال إفاقته إن كان عدلًا" (¬1). وقال ابن عبد البر: "وتجوز وصية المجنون إذا أوصى في حال إفاقته" (¬2). وقال ابن قدامة: "وأما الذي يجن أحيانًا ويفيق أحيانا، فإن أوصى في حال جنونه لم تصح، وإن أوصى في حال عقله صحت وصيته؛ لأنه بمنزلة العقلاء في شهادته، ووجوب العبادة عليه، فكذلك في وصيته وتصرفاته" (¬3). ¬
القول الثاني
وقال في كشاف القناع: "وتصح الوصية في إفاقة من يخنق في بعض الأحيان؛ لأنه في إفاقته عاقل" (¬1). القول الثاني: فرق الحنفية بين الجنون المطبق وبين الجنون غير المطبق، فالأول يبطل الوصية دون الثاني على خلاف بين الحنفية في تقدير مدة الجنون المطبق (¬2). فقيل: سنة، وقيل: تسعة أشهر، وقيل: ستة أشهر، وقيل: شهر، وقيل: التفويض لرأي القاضي، وعليه الفتوى (¬3). واحتجوا لذلك: بأن عقد الوصية عقد غير لازم قبل وفاة الموصي، يجوز للموصي الرجوع عنه في أي وقت شاء، والعقود غير اللازمة يشترط لبقائها ما يشترط في ابتدائها، فيشترط في بقاء الإيجاب حتى الوفاة بقاء أهلية الموجب؛ فكأنه يوجب الوصية له ابتداء في كل ساعة لتمكنه من الفسخ، فكان كل جزء منه بمنزلة ابتداء الوصية. لهذا اشترط في بقاء الإيجاب بقاء الأهلية حتى نعلم وجود الإرادة المستمرة لبقائه، وعدم الرجوع عنه، فإذا أطبق الجنون فقد زالت الأهلية، وانقطع الإيجاب بانقطاع الإرادة، بخلاف الجنون غير المطبق فإنه يشبه الإغماء، والإغماء لا ينافي بقاء الإيجاب (¬4). ¬
ويناقش هذا من وجهين
ويناقش هذا من وجهين: الوجه الأول: أن الاستبقاء أقوى من الابتداء، وهذه قاعدة فقهية، فبقاء الإيجاب بعد عقده أقوى من ابتدائه، وقياس الاستبقاء على الابتداء قياس مع الفارق، فالدوام على الشيء ليس بمنزلة ابتدائه، ويغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، ولهذا أمثلة كثيرة تذكر في كتب القواعد الفقهية. الوجه الثاني: أن إبطال الإيجاب باحتمال رجوع الموجب قول ضعيف؛ لأن الاحتمال لا يبطل اليقين، واليقين أن الموصي قد عقد الوصية وأرادها، فيجب استصحاب هذا العقد، والرجوع عنه إنما هو مجرد احتمال، فلا ينقض اليقين بالاحتمال. الراجح: أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فإذا كان عقد الوصية حين عقده قد توفرت فيه أهلية العاقد لم يبطله تعرض صاحبه لجنون، كما لا يبطله تعرضه لغيبوبة مطبقة، فإن الإغماء يغطي العقل, وهو نوع من المرض، وكما أن الجنون الطارئ لا يلغي كل عباداته وعقوده السابقة من بيع، وإجارة ونحوهما، فكذلك الوصية والله أعلم.
المبحث الثالث في وصية الصبي المميز
المبحث الثالث في وصية الصبي المميز [م - 1640] اختلف العلماء في صحة وصية الصبي المميز على قولين: القول الأول: أن وصية الصبي المميز لا تصح، وهذا مذهب الحنفية، وأظهر قولي الشافعي، ورواية عند الحنابلة، وبه قال ابن حزم (¬1). وروي هذا القول عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والزهري، ومكحول، وجابر بن زيد، وغيرهم (¬2). جاء في بدائع الصنائع: "لو أوصى ثم مات قبل البلوغ أو بعده لا تجوز وصيته إلا إذا بلغ، وأجاز تلك الوصية بعد البلوغ فتجوز" (¬3). ¬
وفيه أيضًا: "وأما الذي يرجع إلى الموصي فأنواع: منها أن يكون من أهل التبرع في الوصية بالمال، وما يتعلق به؛ لأن الوصية بذلك تبرع بإيجابه بعد موته فلا بد من أهلية التبرع، فلا تصح من الصبي، والمجنون؛ لأنهما ليسا من أهل التبرع لكونه من التصرفات الضارة المحضة؛ إذ لا يقابله عوض دنيوي، وهذا عندنا" (¬1). وقال العيني في البناية: "ولا تصح وصية الصبي ... سواء مات قبل الإدراك أو بعده" (¬2). وقال النووي: "ولا تصح وصية الصبي المميز وتدبيره على الأظهر عند الأكثرين كهبته وإعتاقه، إذ لا عبارة له" (¬3). وقال في الإنصاف: "نقل الأثرم: لا تصح -يعني الوصية- من ابني اثني عشرة سنة ... وقيل لا تصح حتى يبلغ" (¬4). وفي المغني: وإما زاد على العشر فتصح على المنصوص، وفيه وجه آخر: لا تصح حتى يبلغ" (¬5). وقال ابن حزم: "ولا تجوز وصية من لم يبلغ من الرجال والنساء أصلاً" (¬6). ¬
دليل من قال: لا تصح الوصية من المميز
دليل من قال: لا تصح الوصية من المميز: الدليل الأول: قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 5]. وقال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 16]. ويناقش: الآيتان تتكلمان عن منع دفع المال للسفيه، وأن يصرف ماله في مصالحه، وليستا في الوصية، فالاستدلال بالآية على منع الوصية كمن يمنع السفيه من الإنفاق على نفسه من أجل حظ غيره، فالوصية ليست هدرًا لماله وإضاعة له، بل هي من باب صرفها في مصلحته وتقديمه على الوارث، وقد أعطاه الله هذا الحق، وهو تصرف ينفذ بعد موته، والصبي والكبير بعد الموت سواء في حاجتهما إلى الصدقة على أنفسهما، فحرمان الصبي لحظ غيره ليس عدلاً. الدليل الثاني: (ح -1022) ما رواه أحمد من طريق همام، عن قتادة، عن الحسن البصري، عن علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه أو قال: المجنون حتى يعقل، وعن الصغير حتى يشب (¬1). وفي رواية: وعن الصغير حتى يبلغ (¬2). ¬
ويناقش
[إسناده منقطع، ورجح الترمذي والنسائي والدارقطني وقفه، وقد سبق بحثه] (¬1). ويناقش: الحديث يرفع التكليف عن الصبي فليست ذمته صالحة لتكليفه، ولا يمنعه الحديث من الحقوق التي له، ومنها الوصية. الدليل الثالث: (ث -212) روى ابن أبي شيبة حدثنا حفص، عن حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لا يجوز عتق الصبي، ولا وصيته، ولا بيعه، ولا شراؤه، ولا طلاقه. [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الرابع: أن الوصية تبرع مضاف لما بعد الموت، والصبي ليس من أهل التبرع، ألا ترى أنه لا يصح هبته في حال صحته، وحال الصحة آكد في الثبوت من الوصية، بدليل أن للبالغ أن يهب جميع ماله في حال صحته، ولا يجوز أن يوصي بأكثر من الثلث فإذا لم تجز هبته لم تجز وصيته. وقال ابن شبرمة: أنا لا أجيز صدقته فكيف أجيز وصيته. ¬
ويناقش
ويناقش: المنع من التبرع حال حياته للنظر له حتى ينتفع بماله، وبعد الموت ينعكس النظر فيكون نفاذ الوصية من النظر له وتقديم حظ الصبي على حظ وارثه. ورد هذا النقاش: بأن الأجر ليس محصورًا في الوصية، فكما يثاب على الوصية يثاب على الترك للوارث إن لم يكن الوارث أولى. وأجيب على هذا الرد: بأن الوارث له حق في الميراث قد أعطاه الله إياه، ولهذا منع من الوصية له إلا بإذن الورثة، ولا حق للوارث في الثلث، فلا وجه لمنع وصية المميز، والمعتبر فيه أن يعقل ما يوصي يه. الدليل الخامس: إذا كانت الوصية شرعت لتدارك ما فات الإنسان من فرائض الطاعات، وما قصر في أدائه من حقوق وواجبات، فإن هذه الحكمة منتفية في حق الصبي؛ لأنه ليس من أهل التكليف. ويناقش: رغم أن هذه الحكمة ملتمسة وليس منصوصًا عليها، فإن هناك فرقًا بين الحكمة والعلة: فالحكمة: هي المصلحة التي قصد الشارع تحقيقها بتشريعه الحكم. والعلة: هي الوصف الظاهر المنضبط الذي بني عليه الحكم، وربط به وجودًا وعدمًا، فالإسكار علة لتحريم الخمر، والحكمة من تحريم الخمر حفظ العقل.
القول الثاني
فانتفاء الحكمة لا يقتضي رفع الحكم بخلاف العلة، فالعلة من الإفطار والقصر: هي وجود السفر، والحكمة: هي دفع المشقة. فيوجد الفطر والقصر مع السفر المريح جدًا, ولو انتفت المشقة، ولا يوجدان في حال الحضر، ولو وجدت المشقة، فالقول بأن الحكمة في مشروعية الوصية هي تدارك ما فات ليس كافيًا لانتفاء حكم الوصية في حق الصبي. ومع ذلك فالوصية قربة، والقرب لا تنحصر في تدارك ما فات، بل هي وسيلة للحصول على رفيع الدرجات، والله أعلم. القول الثاني: تصح وصية الصبي المميز، وهو قول مالك، وأحمد، وأحد القولين عن الشافعي، ورجحه السبكي (¬1). جاء في بداية المجتهد: "ويصح عند مالك وصية السفيه والصبي الذي يعقل القرب" (¬2). وقال الماوردي في الحاوي: فأما "الموصي فمن شرطه أن يكون مميزًا، حرًا، فإذا اجتمع فيه هذان الشرطان صحت وصيته في ماله مسلمًا كان أو كافرًا" (¬3). ¬
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها
جاء في الإنصاف: "إذا جاوز الصبي العشر صحت وصيته على الصحيح من المذهب، نص عليه في رواية الجماعة، وعليه الأصحاب، حتى قال أبو بكر: لا يختلف المذهب أن من له عشر سنين تصح وصيته ... (¬1). واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها: الدليل الأول: (ث -213) ما رواه مالك في الموطأ، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن أبيه، أن عمرو بن سليم الزرقي، أخبره، أنه قيل لعمر بن الخطاب: إن هاهنا كلامًا يفاعًا لم يحتلم من غسان، ووارثه بالشام، وهو ذو مال، وليس له هاهنا إلا ابنة عم له. قال عمر بن الخطاب: فليوص لها. قال: فأوصى لها بمال يقال له بئر جشم، قال عمرو بن سليم: فبيع ذلك المال بثلاثين ألف درهم. وابنة عمه التي أوصى لها, هي أم عمرو بن سليم الزرقي (¬2). [روي متصلاً ومنقطعًا، والرواية المتصلة من رواية عبد الله بن أبي بكر عن أبيه، وهو أعلم بأبيه، فلعل هذا يكون مرججًا للرواية المتصلة] (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن ذلك إجماع أهل المدينة، قال مالك: "الأمر المجتمع عليه عندنا أن الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يفيق أحيانا تجوز وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون ما يوصون به، فأما من ليس معه من عقله ما يعرف بذلك ما يوصي به، وكان مغلوبًا على عقله فلا وصية له" (¬1). ¬
ويناقش
ويناقش: بأن هناك اختلافًا عند الفقهاء في الاحتجاج بعمل أهل المدينة، وقد قال به المالكية فيما طريقه التوقيف وليس الاجتهاد، وهذه المسألة ليست منه، والمالكية ربما ردوا حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعمل أهل المدينة، وهذا قول ضعيف، ولا يعتبر عمل المدينة إجماعًا على الصحيح؛ لأن أهل المدينة بعض الأمة، والمسائل الخلافية لا تكون حجة على المخالف، ولا يوجد دليل من الكتاب أو السنة يدعو إلى الرد إلى عمل أهل المدينة، وإن كان عمل أهل المدينة فيما لم يخالف سنة صريحة، وكان طريقه النقل، كألفاظ الأذان، وترك الجهر بالبسملة ونحوهما، فهذا قد يكون مرجحًا من المرجحات، والله أعلم. الدليل الثالث: (ث -214) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو عاصم، عن الأوزاعي، عن الزهري، أن عثمان أجاز وصية ابن إحدى عشرة سنة (¬1). [منقطع، الزهري لم يدرك عثمان - رضي الله عنه -]. الدليل الرابع: (ث -215) روى مالك في المدونة، قال: أخبرني رجال من أهل العلم، عن عبد الله بن مسعود، قال: من أصاب وجه الحق أجزناه (¬2). [ضعيفٌ لانقطاعه]. ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: الوارث لا حق له في الثلث فلا وجه لمنع وصية المميز، والمعتبر فيه أن يعقل ما يوصي به. الدليل السادس: قياس الصبي المميز على المحجور عليه في ماله، وقد أجمع العلماء على أن وصية البالغ المحجور عليه جائزة، ومعلوم أن من يعقل من الصبيان ما يوصي به فحاله حال المحجور عليه في ماله، وعلة الحجر تبديد المال وإتلافه، وتلك علة مرتفعة عنه بالموت، وهو بالمحجور عليه في ماله أشبه منه بالمجنون الذي لا يعقل فوجب أن تكون وصيته معتبرة خاصة مع الأثر الذي جاء فيه عن عمر - رضي الله عنه - (¬1). قلت: حكاية الإجماع فيها نظر، ولعله يقصد بالإجماع إجماع المخالفين في وصية الصبي المميز، ولو قيل هذا في المحجور عليه لحظ غيره لكان أقرب، وسوف نبحث إن شاء الله تعالى في المبحث التالي حكم وصية السفيه، والمحجور عليه لحظ غيره، وسيتبين إن شاء الله تعالى هل المسألة هي من مسائل الإجماع، أو أن الخلاف فيها محفوظ؟ والله أعلم. الراجح: القول بالصحة أقرب من القول بالمنع؛ لأن الوصية مصلحة له في أخراه، لا تعارضها مفسدة في دنياه ولا في أخراه، والوارث ليس له حق في ثلث مال الميت، وقد أخذ حقه بموجب الميراث، ويتأكد هذا في حق من قال: إن الوصية واجبة للأقارب من غير الورثة، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في وصية المحجور عليه لحظ غيره
المبحث الرابع في وصية المحجور عليه لحظ غيره تكلمت في المبحث السابق عن وصية المحجور عليه لحظ نفسه كالصبي والمجنون، ونريد أن نتكلم عن المحجور عليه لحظ غيره. تعريف المحجور عليه لحظ غيره: هو المفلس الذي قد أحاط الدين بجميع ماله. [م - 1641] فإذا أحاط الدين بمال المدين، وطلب الغرماء الحجر عليه وجب على القاضي الحكم بتفليسه، وهذا مذهب جمهور أهل العلم، وبه قال صاحبا أبي حنفية، خلافًا لإمامهم. فإذا حجر عليه تعلق حق الغرماء بالمال نظير تعلق حق الراهن بالمرهون، فإذا تصرف في ماله بعد الحجر فإن كان تصرفًا نافعًا للغرماء كقبول التبرعات والصدقات فهذه لا يمنع منها. وإن كان تصرفه ضارًا بالغرماء، كالهبة والوقف، والإبراء، والإقرار على المال فهذه لا تصح منه عند الجمهور. وقيل: يقع التصرف موقوفًا، فإن فضل ذلك عن الدين وإلا لغا. وهو قول عند الشافعية في مقابل الأظهر عندهم، وسوف نتكلم عن الحجر في باب مستقل إن شاء الله تعالى. [م - 1642] وأما تصرف المحجور عليه بالوصية، فهل يمنع ياعتياره فيه شبه بالتبرع، والوقف، أو لا يمنع منه؟
الجواب: أن التصرف بالوصية ملحق بالتصرف الذي لا يضر بالغرماء، فهو تصرف صحيح؛ لأن الوصية إنما تخرج من الثلث بعد الدين، ولا تقدم على الدين، فلا يتصور أن الغرماء يتضررون. قال الطبري: "لم يجعل تعالى ذكره لأحد من ورثة الميت، ولا لأحد ممن أوصى له بشيء، إلا من بعد قضاء دينه من جميع تركته، وإن أحاط بجميع ذلك، ثم جعل أهل الوصايا بعد قضاء دينه شركاء ورثته فيما بقي لما أوصى لهم به، ما لم يجاوز ذلك ثلثه، فإن جاوز ذلك ثلثه جعل الخيار في إجازة ما زاد على الثلث من ذلك أو ردِّه إلى ورثته ... فأما ما كان من ذلك إلى الثلث، فهو ماضٍ عليهم، وعلى كل ما قلنا من ذلك، الأمة مجمعة" (¬1). وقال الجصاص: "قال الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]. وروى الحارث عن علي، قال: تقرؤون الوصية قبل الدين وإن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدين قبل الوصية (¬2). قال أبو بكر: وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين" (¬3). ¬
وحكى الإجماع ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري (¬1). وفي حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: " (قوله: لأن الدين مقدم على الوصية) أي بالإجماع وإن كانت الوصية مقدمة عليه في الذكر ... اهـ. أتقاني" (¬2). والمعنى أن الدين قبل الوصية؛ لأن الوصية إنما هى تطوع يتطوع بها الموصي وأداء الدين فرض عليه، فعلم أن الفرض أولى من التطوع. وهذا ما جعل الفقهاء يقولون بصحة الوصية من المحجور عليه، بخلاف الهبة والوقف ونحوهما؛ لأن الهبة فيها إضرار بالغرماء والوصية، ليس فيها إضرار؛ لأنها لن تنفذ إلا بعد سداد الدين أو إجازة الغرماء، أو إبراء الموصي من دينه كله أو بعضه. ¬
جاء في حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: "ولا تصح وصية المديون إن كان الدين محيطًا بما له، إلا أن يبرئ الغرماء الموصي من الدين، فحينئذ تجوز وصيته في الثلث أو في أكثر منه على تقدير إجازة الورثة أو عدمها لعدم المانع، وهو الدين اهـ أتقاني" (¬1). جاء في الحاوي: "وأما المحجور عليه بالفلس، فإن ردها الغرماء بطلت. وإن أمضوها جازت، فإن قلنا: إن حجر الفلس كحجر المرض صحت. وإن قلنا: إنه كحجر السفيه كانت على وجهين" (¬2). وفي مغني المحتاج: "وخرج بالسفيه حجر الفلس، فتصح الوصية معه جزمًا" (¬3). وفي الإقناع في فقه الإِمام أحمد: "وتخرج الواجبات التي على الميت من رأس المال أوصى بها أو لم يوص، كقضاء الدين، والحج، والزكاة، فإن وصى معها بتبرع اعتبر الثلث من الباقي بعد إخراج الواجب، كمن تكون تركته أربعين، فيوصي بثلث ماله، وعليه دين عشرة، فتخرج العشرة أولاً، ويدفع إلى الموصى له عشرة، وهي ثلث الباقي بعد الدين" (¬4). ¬
الشرط الثالث في اشتراط أن يكون الموصي راشدا
الشرط الثالث في اشتراط أن يكون الموصي راشدًا المبحث الأول في تعريف الرشد تعريف الرشد (¬1): فمنهم من عرف الرشد: بالصلاح في المال، وهذا مذهب الجمهور (¬2). ¬
ومنهم من عرف الرشد: بالصلاح في الدين والمال، وهو مذهب الشافعية (¬1). قال الشافعي: قال الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. دلت الآية على أن الحجر ثابت على اليتامى حتى يجمعوا خصلتين: البلوغ والرشد ... والرشد: الصلاح في الدين حتى تكون الشهادة جائزة، وإصلاح المال" (¬2). والمراد بالصلاح في الدين: أن لا يرتكب محرمًا يسقط العدالة، وفي المال ألا يبذر (¬3). والصحيح أن الرشد يختلف من مقام لآخر. فالرشد في ولي النكاح مثلاً: معرفته بالكفء، ومصالح النكاح، وليس له علاقة بحفظ المال. والرشد في المال: هو حفظه وإصلاحه، ولا يدخل فيه الرشد في الدين، ولو كان صلاح الدين شرطًا في الرشد لوجب الحجر على المنافقين والمبتدعة، بل يجب الحجر على كل من اغتاب مسلمًا ولم يتب من هذه المعصية وذلك لارتكابه كبيرة من كبائر الذنوب، ويجب الحجر على كل من كذب في بيعه، أو غش فيه. ¬
وقال الطبري: "وأولى هذه الأقوال عندي بمعنى الرشد في هذا الموضع: العقل وإصلاح المال؛ لإجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك لم يكن ممن يستحق الحجر عليه في ماله، وحوز ما في يده عنه، وإن كان فاجرا في دينه" (¬1). ¬
المبحث الثاني في اشتراط أن يكون الموصي رشيدا
المبحث الثاني في اشتراط أن يكون الموصي رشيدًا [م - 1643] اختلف العلماء هل يشترط في الموصي أن يكون رشيدًا؟ على قولين: القول الأول: تصح وصيته، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، وأصح الوجهين في مذهب الحنابلة (¬1). قال مالك: "الأمر المجتمع عليه عندنا أن الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يفيق أحيانا تجوز وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون ما يوصون به" (¬2). قال العراقي: "وأما المحجور عليه بالسفه فوصيته صحيحة عند الجمهور، ومنهم الشافعي" (¬3). ¬
دليل من قال: تجوز وصية السفيه
وقال النووي: "تصح وصية كل مكلف حر، وإن كان كافرًا، وكذا محجور عليه بسفه على المذهب" (¬1). دليل من قال: تجوز وصية السفيه: الدليل الأول: الإجماع على صحة وصية المحجور عليه، قال ابن عبد البر: "أجمع العلماء على أن وصية البالغ المحجور عليه جائزة" (¬2). ويناقش: بأن الإجماع لا يصح، والخلاف محفوظ عند الشافعية والحنابلة في قول مرجوح عندهما. ولهذا قال ابن حزم: "واختلفوا في وصية السفيه وفي وصية من يعقل الوصية وإن لم يبلغ" (¬3). نعم قد تصح حكاية الإجماع في صحة وصية المحجور عليه لحظ غيره، وإن كان كلام ابن عبد البر لا يمكن حمله عليه؛ لأن بقية كلامه يدل على أن مراده بهذا السفيه المبذر، وليس المفلس، والله أعلم. الدليل الثاني: قال ابن رشد: "وتجوز وصية السفيه والمولى عليه؛ لأنه إنما حجر عليه في ¬
الدليل الثالث
ماله مخافة الفقر، والوصية إنما تنفد بعد الموت في حال يؤمن عليه فيه الفقر" (¬1). فالوصية مصلحة في حقه، لا تعارضها مفسدة في دنياه ولا في أخراه، قال ابن قدامة: "وصيته تمحضت نفعًا له من غير ضرر، فصحت كعباداته" (¬2). الدليل الثالث: إذا اعتبر قول السفيه في طلاقه وإقراره، اعتبر قوله في وصيته من باب أولى، وإذا كان السفيه مكلفًا بالعبادات، وعبارته فيها صحيحة، دل ذلك على قيام أهليته في صحة الوصية. قال إمام الحرمين: "قطع الأصحاب أقوالهم بتصحيح الوصية والتدبير من السفيه المبذر؛ فإن عبارته صحيحة، ولذلك كان من أهل الطلاق والإقرار بالجناية الموجبة للقصاص، واستلحاق الولد ونفيه باللعان" (¬3). القول الثاني: لا تصح وصية السفيه، وهذا وجه في مذهب الشافعي، ووجه في مذهب الحنابلة (¬4). جاء في المحرر: "وفي صية السفيه وجهان" (¬5). ¬
وجه القول بعدم الصحة
وجه القول بعدم الصحة: إذا كانت تصرفات السفيه في ماله بالبيع والهبة لا تصح، فالوصية قياس عليه. قال العمراني: "هل تصح وصية الصبي المميز، والمحجور عليه للسفه، بما فيه قربة؟ فيه قولان: أحدهما: لا تصح؛ لأنه لا يصح تصرفه في ماله بالبيع والهبة، فلم تصح وصيته كغير المميز. والثاني: تصح؛ لأنه إنما منع من بيع ماله وهبته خوفاً من إضاعته، وبالوصية لا يضيع ماله؛ لأنه إن عاش فالمال باق على ملكه، وإن مات فله حاجة إلى الثواب، والثواب يحصل له بالوصية" (¬1). الراجح: الراجح صحة وصية السفيه كما صحت وصية الصبي المميز على الصحيح، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في أهلية السكران للوصية
المبحث الثالث في أهلية السكران للوصية السكران هل هو مكلف حتى تصح تصرفاته؟ السكر من محرم كالسكر من مباح. وقيل: السكر من محرم كالصاحي. [م - 1644] ذهب الفقهاء إلى أن الرجل إذا لم يكن في تناول المسكر متعديًا، كما لو كان السكر نتيجة تعاطيه البنج للتداوي، أو سكر نتيجة خطأ، أو لدفع غصة ونحوها، فإنه بمنزلة المجنون، لا تصح وصيته (¬1). واختلف الفقهاء في صحة وصية السكران المتعدي في سكره، إذا لم يرجع عن وصيته حتى مات على ثلاثة أقوال: القول الأول: تصح وصية السكران، وهذا مذهب الحنفية والشافعية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬2). والمراد بالسكران من ذهب عقله جملة. ¬
القول الثاني
قال في البحر الرائق: "والحاصل أن المعتمد في المذهب، أن السكران الذي تصح منه التصرفات من لا عقل له يميز به الرجل من المرأة ... " (¬1). وقال الخطيب في مغني المحتاج: "وأما السكران المتعدي بسكره فإنه في رأي المصنف غير مكلف، وتصح وصيته" (¬2). اهـ جاء في نهاية المحتاج: "تصح وصية كل مكلف حر ... لا مجنون ومغمى عليه وصبي إذ لا عبارة لهم بخلاف السكران، وإن لم يكن له تمييز" (¬3). القول الثاني: لا تصح وصيته مطلقًا، وهو مذهب الحنابلة، وبه قال أبو يوسف والطحاوي من الحنفية (¬4). جاء في المغني: "ولا تصح وصية السكران. وقال أبو بكر: فيه قولان. يعني وجهين" (¬5). وقال في الإنصاف: "وفي السكران وجهان: ¬
القول الثالث
أحدهما: لا تصح وهو الصحيح من المذهب، صححه في التصحيح، والمغني، والشرح ... (¬1). القول الثالث: تصح من السكران إن كان عنده نوع من التمييز، وهذا مذهب المالكية (¬2). جاء في الشرح الصغير: "وتصح من السكران المميز" (¬3). وجاء في حاشية الدسوقي: "التدبير: تعليق مكلف: أي ولو كان سكران بحرام إذا كان عنده نوع تمييز، وأما إذا كان طافحًا فهو كالبهيمة، لا يلزمه شيء اتفاقًا" (¬4). فالسكران عند المالكية من تغير عقله وإن لم يذهب بالكلية، وهي طريقة ابن رشد، وعليه أكثر المالكية. نقل الباجي عن القاضي أبي الوليد أنه قال: " ... والذي عندي في هذا: أن السكران المذكور لا يذهب عقله جملة، وإنما يتعين مع صحة قصده إلى ما يقصده ... وإنما تكلم الفقهاء على المعتاد من سكر الخمر؛ لأن سكر الخمر ليس بمنزلة الجنون الذي يذهب العقل جملة، وإنما يتغير العقل تغييرًا يجترئ به ¬
الراجح من الخلاف
على معان لا يجترئ عليها صاحيًا كالسفيه، ولو علم أنه بلغ حد الإغماء لما اقتص منه، ولا لزمه طلاق ولا غيره كسائر من أغمي عليه ... " (¬1). واستدلوا على هذا بأن الله عز وجل خاطب السكران بقوله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]. فلو كان المقصود بالسكران من ذهب عقله بالكلية لكان بمعنى المجنون، وبالتالي لا يصح أن يوجه له أمر ونهي، فكيف ينهى عن قربان الصلاة، ... وأما من صار إلى حد لا يعقل ما يأتي ويذر، فذلك منتقل من السكر إلى الخبل، ومعدود في المجانين، وليس ذلك الذي خوطب بقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 43]؛ لأن ذلك مجنون، وإنما خوطب به السكران، والسكران ما وصفنا صفته (¬2). وهذا القول هو أحد القولين عن ابن قدامة من الحنابلة، فإنه قال: "السكران لا يزول عقله بالكلية، ولهذا يتقي المحذورات، ويفرح بما يسره، ويساء بما يضره، ويزول سكره عن قرب من الزمان، فأشبه الناعس بخلاف النائم والمجنون". الراجح من الخلاف: أرى أن القول بالتفصيل هو الأقوى: وأن الذي لا يتأثر بالسكر مطلقاً لكونه قد شرب قليلاً منه، أو لكونه قد اعتاد شربه حتى أصبح لا يؤثر في عقله، أنه لا فرق بينه وبين الصاحي؛ لأن الحكم يدور مع علته، فالعلة هي الخوف من تأثير ¬
السكر على العقل، فإذا انتفى التأثير انتفى الحكم. ولذلك قال تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فجعل غاية النهي هي إدراك ما يقول. وأما من أثر فيه السكر، ولو لم يذهب عقله بالكلية فإنه داخل في الخلاف، فإنه معروف أن من يشرب الخمرة فقد تدفعه إلى الإقدام على الصفقة من غير إدراك لعواقبها، وإن كان لا يزال معه بقية من عقله، وقد تحول البخيل إلى كريم، والجبان إلى شجاع كما قال حسان: ونشربها فتتركنا ملوكًا ... وأسدًا ما ينهنهنا اللقاء وقال آخر: إذا شربت فإنني رب الخورنق والسدير ... وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير وأما الاحتجاج بالآية في قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وأن السكران لو كان عقله قد ذهب بالكلية لما صح أن يوجه له أمر ونهي، فكيف ينهى عن قربان الصلاة؟ فهذا استدلال ببعض الآية وترك لبعضها، فالآية تقول: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وهو دليل على أن السكران لا يعلم ما يقول هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الآية نزلت في وقت كان شرب الخمر مأذونًا فيه، وهي تنهى من يريد شرب الخمر عن شربه في أوقات الصلوات؛ لأن شربه الخمر سيكون سببًا في تركه للصلاة، فهو خطاب للمسلم قبل سكره، لهذا كان بعض الصحابة بعد نزول هذه الآية لا يشرب الخمر إلا بعد صلاة العشاء فلا يصبح إلا وقد ذهب عنه السكر.
الشرط الرابع في اشتراط رضا الموصي
الشرط الرابع في اشتراط رضا الموصي العقود تفسد بالإكراه. وصية الهازل والمكره والمخطئ لا تصح لفوات الرضا. [م - 1645] يشترط في الموصي أن يكون راضيًا مختارًا؛ لأن الوصية عقد من عقود التبرع، وقد نص القرآن والسنة على اشتراط الرضا في عقود الهبات: قال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه (¬1). فلا تصح الوصية من مكره، وهازل ومخطئ؛ لفوات شرط الرضا. قال الكاساني في بدائع الصنائع: "ومنها رضا الموصي؛ لأنها إيجاب ملك، أو ما يتعلق بالملك، فلا بد فيه من الرضا كإيجاب الملك بسائر الأشياء، فلا تصح، وصية الهازل، والمكره، والخاطئ؛ لأن هذه العوارض تفوت الرضا" (¬2). وفي الفتاوى الهندية: "ولا تصح وصية الهازل والمكره والخاطئ" (¬3). ¬
وقال القرافي: "أصل نقل الأملاك الرضا بالإجماع بدليل أنه لو لم يوص لم ينتقل ملك الموصى له إجماعًا" (¬1). وفي الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: " (وتصح) أي تجوز (الوصية من كل مالك) بالغ (عاقل) حر مختار بالإجماع لأنها تبرع" (¬2). وفي منار السبيل ذكر من شروط الهبة: "كونه مختارًا غير هازل، فلا تصح من مكره، ولا هازل" (¬3)، والوصية من الهبات إلا أنها بعد الموت. ولم يتكلم بعض المذاهب عن هذا الشرط اكتفاء بذكره في عقد البيع، وإذا كان الشأن كذلك لم لا ينزل الخلاف في وصية المكره والخاطئ والهازل على عقد البيع. فالفقهاء قد اختلفوا في صحة العقد من الهازل، واختلافهم راجع إلى الخلاف في مسألة أصولية: وهي، إذا اختلف اللفظ والمعنى في العقود، فهل المقدم اللفظ، أو المقدم المعنى؟ وتكلمت على هذه المسألة في عقد البيع، ورجحت أن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمبانى. فكذلك وصية الهازل: إن نظرنا إلى لفظه فهو صيغة صريحة في إيجاب الوصية. ¬
القول الأول
وإن نظرنا إلى المعنى: فإن الموصي وإن أوجب الوصية إلا أنه لم يقصد إنشاءها, ولم يرض بذلك، ولابد من إرادة العقد ليتحقق الرضا، والذي هو شرط في صحة التبرع. والمسألة مفروضة في رجل أنشأ الوصية هازلاً، وقامت قرينة على أنه كان هازلاً، ثم لم يرجع حتى مات. والحنفية تكلموا في وصية الهازل، وهو متسق مع مذهبهم في سائر عقود الهازل، والحنابلة تكلموا عن عقد الهبة من الهازل. وأما بقية المذاهب فلم أقف على نص منهم في وصية الهازل، [م - 1646] فإن نزلنا كلامهم في بيع الهازل على الوصية، سيكون الخلاف كالتالي: القول الأول: لا ينعقد بيع الهازل، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، ووجه في مذهب الشافعية، والوجه المشهور في مذهب الحنابلة. القول الثاني: ينعقد بيع الهازل، وهو قول في مذهب المالكية، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية، ووجه في مذهب الحنابلة، اختاره أبو الخطاب. القول الثالث: يقبل إن ادعى الهزل بقرينة، وهو قول في مذهب المالكية، وقول في مذهب الحنابلة. وهذا القول ليس جديدًا؛ لأنه يريد أن يتحقق من وجود الهزل.
والصواب من هذه الأقوال مع من قال: لا تنعقد الوصية لعدم وجود قصد الوصية، والرضا به، هذا إذا تحققنا أن الموصي كان هازلاً، وأما إذا اختلفوا فالأصل عدم الهزل. وقد تركت العزو إلى كتب المذاهب وذكر أدلتها اكتفاء بما قدمته في عقد البيع، فارجع إليه غير مأمور (¬1). وما نقوله في وصية الهازل نقوله في وصية المكره: [م - 1647] فالإكراه على عقد البيع قد وقع خلاف بين الفقهاء بين من يقول: ينعقد صحيحًا غير لازم، فللمكره الخيار بين إمضائه ورده، وهذا مذهب المالكية، واختيار زفر من الحنفية. وبين من يقول: العقد باطل، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة. واختار الحنفية أن العقد فاسد، وينقلب صحيحًا بالإجازة. فإذا أكره الرجل على الوصية، وهي عقد جائز يملك الرجوع عنه، فإذا رفع الإكراه فإن أجازها بعد رفع الإكراه صحت الوصية، وإن مات قبل رفع الإكراه بطلت الوصية لعدم الرضا. وانظر الكلام على بيع المكره في عقد البيع (¬2). [م - 1648] وأما الخطأ في الوصية فكذلك يقدح في شرط الرضا؛ فإذا وقع الموصي في خطأ في عين الموصى له، أو في الموصى به، أو في حكم الوصية، بحيث لو علم من وقع في هذا الخطأ ما أقدم عليه، فلا شك أن مثل هذا يقدح في رضا الموصي، والذي هو شرط أساسي لانعقاده، والله أعلم. ¬
الشرط الخامس في اشتراط إسلام الموصي
الشرط الخامس في اشتراط إسلام الموصي المبحث الأول في الوصية من الذمي [م - 1649] لا يشترط لصحة الوصية كون الموصي مسلمًا، وحكي ذلك إجماعًا. قال في بدائع الصنائع: "وأما إسلام الموصي فليس بشرط لصحة وصيته، فتصح وصية الذمي بالمال للمسلم والذمي في الجملة؛ لأن الكفر لا ينافي أهلية التمليك، ألا ترى أنه يصح بيع الكافر، وهبته فكذا وصيته" (¬1). وقال ابن رشد: "وصية الكافر تصح عندهم إذا لم يوص بمحرم" (¬2). وقال ابن شاس: "والكافر تنفذ وصيته إلا أن يوصي بخمر أو خنزير لمسلم" (¬3). وقال في روضة الطالبين: "تصح وصية الكافر بما يتمول أو يقتنى، ولا تصح ¬
والدليل على صحة وصية الكافر
بخمر، ولا خنزير، سواء أوصى لمسلم أو ذمي، ولا بمعصية كعمارة كنيسة، أو بنائها، أو كتب التوراة والإنجيل، أو قراءتهما، وما أشبههما" (¬1). وقال في الحاوي: "أما الكافر: فوصيته جائزة، ذميًا كان أو حربيًا، إذا وصى بمثل ما وصى به المسلم" (¬2). وفي الإنصاف: "تصح وصية الكافر مطلقًا على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب. وقطع به في الفروع، وغيره" (¬3). والدليل على صحة وصية الكافر: الإجماع على صحة وصية الكافر بما يجوز للمسلم أن يوصي به. قال ابن المنذر: أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم على أن وصية الذمي للمسلم بما يجوز ملكه جائزة" (¬4). وقال العراقي: وصية الكافر جائزة كما هو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وحكاه ابن المنذر عن إجماع أهل العلم الذين يحفظ عنهم" (¬5). ولأن الكافر إذا صحت هبته وإعتاقه وبيعه صحت وصيته، والفرق بينهما: أن الهبة في حال الحياة، والوصية بعد الموت، وهذا لا يشكل فرقًا في الحكم. ¬
(ح -1023) وأما ما رواه البخاري من طريق مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده (¬1). قال ابن حجر: "الوصف بالمسلم خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، أو ذكر للتهييج لتقع المبادرة لامتثاله لما يشعر به من نفي الإِسلام عن تارك ذلك، ووصية الكافر جائزة في الجملة، وحكى ابن المنذر فيه الإجماع، وقد بحث السبكي من جهة أن الوصية شرعت زيادة في العمل الصالح، والكافر لا عمل له بعد الموت، وأجاب بأنهم نظروا إلى أن الوصية كالإعتاق، وهو يصح من الذمي والحربي" (¬2). وقال ابن رجب: "ذكر أهل السير كالواقدي ومحمد بن سعد أن رجلاً من أحبار اليهود، يقال له: مخيريق، خرج يوم أحد يقاتل مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: إن أصبت في وجهي هذا فمالي لمحمد يضعه حيث يشاء، فقتل يومئذ، فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمواله، فقيل: إنه فرقها وتصدق بها. وقيل: أنه حبسها ووقفها. وروى ابن سعد ذلك بأسانيد متعددة، وفيها ضعف. والله أعلم" (¬3). قلت: قصة مخيريق ضعيفة جداً (¬4). ¬
القول الأول
وقولنا: تصح وصية الذمي هذا في الجملة، أما عند الكلام على التفصيل فيمكن تقسيم وصية الذمي إلى أقسام، ويرجع هذا التقسيم إلى مسألة سبق بحثها في الوقف، هل يشترط في الوقف أن يكون على بر، أو يكفي انتفاء المعصية، وإذا اشترط أن تكون الوصية على بر، فهل يكفي أن يكون قربة في حكم أهل الكتاب، أو يشترط أن يكون برًا في ديننا؟ [م - 1650] وهل القول في الوقف كالقول في الوصية؟ وللجواب على ذلك نقول: إذا كانت الوصية على معين لم يشترط فيها البر قولاً واحداً، وهذا ظاهر؛ لأنه إذا لم يشترط ذلك في الوقف، لم يشترط في الوصية من باب أولى. [م - 1651] وإذا كانت الوصية على جهة، فاختلف العلماء في اشتراط البر فيها على قولين: القول الأول: يشترط في الوصية أن تكون على بر، وهذا هو اختيار ابن تيمية، قال رَحِمَهُ اللَّهُ: "فأما الأعمال التي ليست طاعة لله ورسوله فلا ينتفع بها الميت بحال، فإذا اشترط الموصي أو الواقف عملاً أو صفة لا ثواب فيها كان السعي في تحصيلها سعيًا فيما لا ينتفع به في دنياه ولا في آخرته، ومثل هذا لا يجوز" (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب الجمهور إلى صحة الوصية، وإن لم تكن على بر إذا انتفت المعصية (¬1). وإذا كان ذلك في حق المسلم فالخلاف أضعف في حق الذمي؛ لأنه لا يتصور أن يكون أهل الكتاب من أهل القرب في عقيدتنا. وقد بحثت هذه المسألة بشيء من التفصيل في كتاب الوقف، فأغنى ذلك عن إعادته هنا, ولله الحمد. إذا علم ذلك فيمكن تقسيم وصية الذمي إلى أربعة أقسام: القسم الأول: [م - 1652] أن يوصي بما هو قربة عندنا وعندهم، كالوصية على الفقراء، وعلى بيت المقدس، فهذا جائز بالاتفاق. قال الكاساني في بدائع الصنائع: "إن كان الموصى به شيئًا هو قربة عندنا وعندهم، بأن أوصى بثلث ماله أن يتصدق به على فقراء المسلمين، أو على فقراء أهل الذمة، أو بعتق الرقاب، أو بعمارة المسجد الأقصى، ونحو ذلك جاز في قولهم جميعًا؛ لأن هذا مما يتقرب به المسلمون وأهل الذمة" (¬2). ¬
القسم الثاني
وقال الزيلعي: وصايا أهل الذمة ثلاثة أقسام، منها ما هو جائز بالاتفاق: وهو ما إذا أوصى بما هو قربة عندنا وعندهم، كما إذا أوصى بأن يسرج في بيت المقدس ... " (¬1). وقال إمام الحرمين: "ومن الأقسام أن يوصي بما يكون قربة عندنا وعندهم، فإذا رفعت إلينا وصيته، والثلث متسع، أجزناها ونفذناها، كالوصية بعمارة المسجد الأقصى" (¬2). القسم الثاني: [م - 1653] أن يوصي بما يعتبر معصية عندنا وعندهم، فهذا لا يصح من الكافر كما لا يصح من المسلم، كالوصية على دور الربا والزنا والقمار، واستثنى الحنفية أن يوصي لقوم معينين، فتكون صحيحة، ويعتبر ذلك تمليكا لهم. قال الزيلعي: "ومنها ما هو باطل بالاتفاق: وهو ما إذا أوصى بما ليس بقربة عندنا, ولا عندهم، كما إذا أوصى للمغنيات والنائحات" (¬3). جاء في الفتاوى الهندية: "ولو أوصى بثلث ماله للنائحات أو للمغنيات، فإن كانت لقوم معينين كانت صحيحة، ويعتبر ذلك تمليكا لهم، وإن كانت لقوم غير معينين كانت باطلة" (¬4). ¬
القسم الثالث
القسم الثالث: [م - 1654] أن يوصي بما هو بر عندهم فقط، كبناء الكنائس، وطبع كتب التوراة والإنجيل، فهذا فيه خلاف: القول الأول: يصح، وهذا قول أبي حنفية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). قال الزيلعي: "إذا أوصى بما هو قربة عندهم وليس بقربة عندنا كبناء الكنيسة لقوم غير معينين فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز، وعندهما لا يجوز وإن كان لقوم معينين يجوز بالإجماع" (¬2). "وجه قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن المعتبر في وصيتهم ما هو قربة عندهم، لا ما هو قربة حقيقة؛ لأنهم ليسوا من أهل القربة الحقيقة" (¬3). وجاء في الإنصاف: "وروي عن الإمام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل على صحة الوصية من الذمي لخدمة الكنيسة ... وقال في الرعاية: ولا تصح لكتب توراة وإنجيل على الأصح، وقيل: إن كان الموصي بذلك كافرا: صح، وإلا فلا" (¬4). القول الثاني: لا يصح، وهذا قول الجمهور، وبه قال صاحبا أبي حنيفة. جاء في مواهب الجليل: "لابن القاسم في العتبية في نصراني أوصى بجميع ¬
ماله للكنيسة، ولا وارث له، قال: يدفع إلى أساقفتهم ثلث ماله، وثلثاه للمسلمين" (¬1). قال إمام الحرمين: "ولو أوصى بما يكون قربة عندهم، معصية عندنا كعمارة الكنائس والبيع وبيت النيران، فالوصية إذا رفعت إلينا، أبطلناها" (¬2). وجاء في الحاوي الكبير: "وأما الوصية للبيع، والكنائس، فباطلة؛ لأنها مجمع معاصيهم. وكذلك الوصية بكتب التوراة والإنجيل، لتبديلها وتغييرها. وسواء كان الموصي مسلما أو كافرًا" (¬3). وجاء في الإقناع في فقه الإمام أحمد: "ولا يصح -يعني الوقف- على كنائس وبيوت نار وبيع وصوامع وديورة ومصالحها, ولو من ذمي، بل على من ينزل من مار ومجتاز بها فقط، ولو كان من أهل الذمة، ولا على كتابة التوارة والإنجيل ولو من ذمي، ووصية كوقف" (¬4). فقوله: ووصية كوقف: أي لا يصح أن يوصي على الكنائس وكتابة التوراة والإنجيل، ولو كان الموصي ذميًا. وقال في كشاف القناع: " (ووصية كوقف في ذلك) المذكور مما تقدم، فتصح فيما يصح الوقف عليه، وتبطل فيما لا يصح عليه" (¬5). ¬
وتعقب هذا
وجاء في بدائع الصنائع: "وإن كان شيئًا هو قربة عندهم لا عندنا، بأن أوصى بأرض له تبنى بيعة أو كنيسة، أو بيت نار أو بعمارة البيعة، أو الكنيسة، أو بيت النار، أو بالذبح لعيدهم ... فهو على الاختلاف الذي ذكرنا: إن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز، وعندهما لا يجوز. وجه قولهما: أن الوصية بهذه الأشياء وصية بما هو معصية، والوصية بالمعاصي لا تصح" (¬1). وتعقب هذا: القول بأن هذه الوصية معصية فلا تصح: هل المقصود بأنه معصية باعتقادهم أو معصية باعتقادنا؟ فإن كان المقصود باعتقادهم فالكنائس قربة عندهم، وإن كان المقصود معصية باعتقادنا فهذا ليس بشيء؛ لأن هذا لو كان مانعًا لما جاز قبول الجزية منهم؛ لأنه تقرير لكفرهم، وبقائهم عليه (¬2). ولأن الكافر ليس من أهل الثواب حتى نشترط القربة، وهو لم يوص لمن يعتقد حرمته، وإنما أوصى به لأهل الذمة، فيجب تنفيذ وصاياهم بحسب اعتقادهم، ولذلك نصحح التصرف فيما بينهم من بيع الخمر والخنزير بناء على اعتقادهم، وليس بناء على حكمنا (¬3). نعم لو طلبوا حكمنا حكمنا بينهم بما أنزل الله، وليس بمقتضى اعتقادهم. ¬
القسم الرابع
واستثنى صاحبا أبي حنيفة أن تكون الوصية لأقوام بأعيانهم فتصح؛ لأن هذا من باب التمليك (¬1). القسم الرابع: [م - 1655] أن يوصي بما هو قربة عندنا فقط، كان يوصي الذمي لمن يحج، أو يجاهد، وكالوصية لبناء المساجد ونحوها، ففي صحة وصيته خلاف: القول الأول: إن أراد الذمي بالوصية على الحج والمسجد نفع أشخاص بأعيانهم صحت وصيته؛ لأن الوصية على معين لا يشترط فيها القربة، وإنما المقصود منها التمليك، وإن أراد بالوصية عموم المسلمين فلا تصح الوصية، وهذا مذهب الحنفية، وأومأ ابن رجب الحنبلي إلى ترجيحه في الجملة (¬2). ¬
قال السوخسي: "أن يوصى بما هو قربة عندنا معصية عندهم، كالوصية بالحج والغزو إلى الروم إذا كان الموصي منهم، فهذه الوصية تبطل؛ لأنه لا يعتقد القربة، فيه وإنما أمرنا أن نبني الأحكام على ما يعتقدون، إلا أن يوصي بشيء من ماله لأقوام معينين يصرفونه إلى هذه الجهة فحينئذ تنفذ الوصية لأعيانهم لا لمعنى القربة، وهو نظير المسلم يوصي بشيء من ماله للمغنيات أو للنائحات، فإن كانوا أقوامًا بعينهم يحصون جازت الوصية لهم، وإلا بطلت" (¬1). وجاء في منحة الخالق: "قال في الإسعاف: ولو أوصى الذمي أن تبنى داره مسجدًا لقوم بأعيانهم، أو لأهل محلة بعينها جاز استحسانًا؛ لكونه وصية لقوم بأعيانها، وكذلك يصح الإيصاء بمال لرجل بعينه ليحج به لكونه وصية لمعين، ثم إن شاء حج بذلك، وإن شاء ترك" (¬2). وفي فتح الباري لابن رجب: "قال محمد بن عبد الله الأنصاري قاضي البصرة: لا يصح وقف النصراني على المسلمين عمومًا، بخلاف المسلم المعين، والمساجد من الوقف على عموم المسلمين-: ذكره حرب عنه بإسناده. قال ابن رجب: وأما وقفهم على عموم المسلمين كالمساجد، فيتوجه كراهته بكل حال، كما قاله الأنصاري" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا تصح وصيته على المساجد، والجهاد، والرباط ونحوها من القرب الدينية، وهذا مذهب المالكية، وقول في مذهب الحنابلة، واختاره بعض المفسرين (¬1). جاء في حاشية الدسوقي: "ولبطلان القربة الدينية من الكافر رد مالك دينار نصرانية عليها حين بعثت به إلى الكعبة، وأما القرب الدنيوية كبناء قناطر، وتسبيل ماء ونحوهما فيصح" (¬2). وقال الخرشي: "وكذلك يبطل وقف الكافر على مسجد من مساجد المسلمين، أو على رباط، أو قربة من القرب الدينية، ولذلك رد مالك دينار النصرانية عليها حيث بعثت به إلى الكعبة. ابن عرفة لا يصح الحبس من كافر في قربة دينية، ولو كان في منفعة عامة دنيوية كبناء القناطر ففي رده نظر، والأظهر إن لم يحتج إليه رد" (¬3). وقال الباجي: لو حبس ذمي داراً على مسجد ففي العتبية من رواية ابن القاسم عن مالك ورواه معن بن عيسى عن امرأة نصرانية بعثت دينارًا إلى الكعبة أيجعل في الكعبة؟ ¬
القول الثالث
قال: يرد إليها، ووجه ذلك أن هذه أموال هي أطهر الأموال وأطيبها، وأموال الكفار أبعد الأموال عن ذلك فيجب أن تنزه عنها المساجد" (¬1). وذكر جماعة من المفسرين في تفسير قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: 17]. إلى أن المراد منه العمارة المعروفة من بناء المسجد، ومرمته عند الخراب، فيمنع منه الكافر، حتى لو أوصى به لم تقبل وصيته، وهذا أحد القولين في تفسير الآية (¬2). وفي فتح الباري لابن رجب: "وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبى عن المرأة الفقيرة تجيء إلى اليهودي أو النصراني فتصدق منه؟ قال: أخشى أن ذلك ذلة. وقال مهنا: قلت لأحمد: يأخذ المسلم من النصراني من صدقته شيئاً؟ قال: نعم، إذا كان محتاجًا. فقد يكون عن أحمد روايتان في كراهة أخذ المسلم المعين من صدقة الذمي، وقد يكون كره السؤال، ورخص في الأخذ منه بغير سؤال. والله أعلم" (¬3). القول الثالث: تصح وصية الذمي على المساجد ونحوها، وهذا مذهب الشافعية، ومذهب الحنابلة (¬4). ¬
الراجح
جاء في مغني المحتاج: "وتصح الوصية من كل مسلم أو كافر لعمارة، أو مصالح مسجد إنشاء وترميما؛ لأنه قربة، وفي معنى المسجد المدرسة والرباط المسبل والخانقاه" (¬1). وقال إمام الحرمين: "ولو أوصى بما هو قربة عندنا, وليس قربة عندهم، مثل أن يوصي بعمارة مساجدنا، فالوصية نافذة على شرطها في محلها" (¬2). وذكر ابن رجب هذه المسألة في شرحه لصحيح البخاري، فقال: "اختلف الناس في هذا أيضًا على قولين: أحدهما: أنه لو وصى الكافر بمال للمسجد، أو بمال يعمر به مسجد، أو يوقد به، فإنه تقبل وصيته، وصرح به القاضي أبو يعلى في تعليقه في مسألة الوقيد، وكلامه يدل على أنه محل وفاق، وليس كذلك. والثاني: المنع من ذلك، وأنه لا تقبل الوصية بذلك ... " (¬3). ثم ذكر من ذهب إلى هذا المذهب. الراجح: أرى أن قياس الوصية على الوقف قياس مع الفارق، فالوقف أقرب إلى الصدقات، فالأصل أنه يراد للبر، والوصية أقرب إلى الهبات، فلا يشترط فيها القربة حتى الحنابلة يرون أن الوصية أعم من الوقف، جاء في شرح منتهى الإرادات: "ووصية كوقف في جميع ذلك؛ لأنه يرجع فيها إلى لفظ الموصي، ¬
القسم الخامس
كما يرجع في الوقف إلى لفظ واقفه، لكنها أي الوصية أعم من الوقف على ما يأتي، فيصح لمرتد وحربي، وإن لم يصح الوقف عليهما" (¬1). القسم الخامس: [م - 1656] أن يوصي بما ليس بقربة، ولا معصية عندهم، وهو حرام في ديننا، كما لو أوصى بخمر، فإن أوصاه لمسلم بطلت وصيته قولًا واحداً، وإن أوصاه لذمي، ففيه خلاف: القول الأول: تصح وصية الذمي للذمي بالخمر، وهذا مذهب المالكية (¬2)، ومذهب الحنفية، حيث يعتبر الحنفية الخمر للذمي مالاً محترمًا كالخل في حقنا, ولو أتلفه مسلم وجب عليه ضمانه، ولو وجب على الكافر دين لمسلم، فباع الكافر خمرًا، ووفي دينه منه صح عندهم لصحة بيعه (¬3). قال ابن المنذر: "ولو أوصى أن يشترى بها خنزيرًا أو خمرًا يتصدق بها، أو أوصى بخنازير أبطلنا الوصية، وهذا قول أبي ثور. وقال أصحاب الرأي: يجوز أن يوصي بذلك لأهل الذمة" (¬4). ¬
وقال الخرشي: "الكافر تصح وصيته؛ لانطباق الحد عليه؛ إذ هو حر مميز مالك، إلا إذا أوصى لمسلم بشيء لا يملكه المسلم، كخمر ونحوه، أما إن أوصى بذلك لكافر فإن وصيته تصح؛ لأن الكافر يملك ذلك" (¬1). قال العدوي: "وانظر، هل ثمرة صحتها بذلك له الحكم به وبإنفاذها إن ترافعوا إلينا، أو لا يجوز الحكم بذلك؟ " (¬2). قلت: لا يمكن الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا بغير ما أنزل الله تعالى، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]. جاء في الهداية: "وإذا كاتب النصراني عبده على خمر فهو جائز: معناه إذا كان مقدارًا معلومًا، والعبد كافرًا؛ لأنها مال في حقهم، بمنزلة الخل في حقنا" (¬3). وقال الكاساني: "وإن كانت لذمي -يعني الخمرة- يضمن عندنا خلافًا للشافعي" (¬4). وقد يصح الاستدلال له بما رواه الشيخان من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب، رأى حلة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه، فلبستها للناس يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة، ثم ¬
القول الثاني
جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها حلل، فأعطى عمر منها حلة، فقال عمر: يا رسول الله، كسوتنيها، وقد قلت في حلة عطارد ما قلت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لم أكسكها لتلبسها، فكساها عمر أخًا له مشركا بمكة (¬1). فهذه الحلة هي حرام في ديننا، وقد أعطاها عمر لأخيه المشرك، وهو لا يرى التحريم، فإن باب أولى أن يصح إذا أوصى الكافر لمثله بما يعتقداه حلالاً. القول الثاني: لا تصح، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة. قال النووي: "تصح وصية الكافر بما يتمول أو يقتنى، ولا تصح بخمر، ولا خنزير، سواء أوصى لمسلم أو ذمي" (¬2). وقال ابن قدامة: "وأجاز أصحاب الرأي أن يوصي بشراء خمر أو خنازير، ويتصدق بها على أهل الذمة، وهذه وصايا باطلة، وأفعال محرمة؛ لأنها معصية، فلم تصح الوصية بها، كما لو وصى بعبده أو أمته للفجور" (¬3). الراجح: أن وصية الذمي بالخمر للذمي صحيحة؛ لأنها مال عندهم. (ث -216) لما روى عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة، قال: بلغ عمر بن الخطاب أن عماله يأخذون الجزية من الخمر، فناشدهم ثلاثًا، فقال بلال: "إنهم ليفعلون ذلك، قال: فلا ¬
وجه الاستدلال
تفعلوا, ولكن ولوهم بيعها، فإن اليهود حرمت عليهم الشحوم، فباعوها، وكلوا أثمانها (¬1). (ث -217) ورواه أبو عبيد من طريق إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة، أن بلالاً قال لعمر بن الخطاب: إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج، فقال: لا تأخذوا منهم، ولكن ولوهم بيعها، وخذوا أنتم من الثمن (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). وجه الاستدلال: هذا الأثر يدل على أن الخمرة مال محترم عندهم من ثلاثة أوجه: أحدها: أن المبيع متمول؛ لأمر عمر بالبيع. وثانيها: إيجاب العشر في ثمنها, ولا يجب إلا في متمول. وثالثها: تسمية ما يقابلها ثمنًا، وهو لا يكون إلا في بيع صحيح عند الإطلاق، ولا يصح البيع إلا في متمول (¬4). قال أبو عبيد: "رخص لهم أن يأخذوا ذلك من أثمانها، إذا كان أهل الذمة المتولين لبيعها؛ لأن الخمر والخنزير مال من أموال أهل الذهة، ولا تكون مالًا للمسلمين ... قال أبو عبيد: فهو لم يجعلها قصاصًا من الجزية إلا وهو يراها مالاً من أموالهم" (¬5). ¬
المبحث الثاني الوصية من الحربي
المبحث الثاني الوصية من الحربي الكفر لا ينافي أهلية التمليك (¬1). من جاز تصرفه في ماله صحت وصيته. الوصية كالأعتاق تصح من الذمي والحربي (¬2). [م - 1657] اختلف العلماء في صحة الوصية من الحربي على قولين: القول الأول: ذهب عامة الفقهاء إلى صحة الوصية من الكافر الحربي إذا أوصى بما يصح تملكه من المسلم، فلا يصح أن يوصي بخمر، أو خنزير ونحوهما (¬3). ¬
وجه القول بصحة الوصية من الكافر
وجه القول بصحة الوصية من الكافر: الوجه الأول: أن الحربي يملك الأهلية الكاملة، ومنها أهلية التبرع بماله لكونه حرًا مميزًا مالكًا. الوجه الثاني: قياس الوصية على العتق، فإذا صح الإعتاق من الحربي والذمي صحت الوصية قياسًا عليه بجامع أن كلًا منهما بترع محض. الوجه الثالث: كون الحربي ليس من أهل الثواب لا يعني عدم صحة الوصية؛ لأن الوصية للمعين لا يشترط فيها القربة. الوجه الرابع: قياس الوصية على سائر تصرفات الحربي المالية، من بيع وإجارة، ونحوها. قال في بدائع الصنائع: "وأما إسلام الموصي فليس بشرط لصحة وصيته، فتصح وصية الذمي بالمال للمسلم ... لأن الكفر لا ينافي أهلية التمليك، وكذا الحربى المستأمن إذا أوصى للمسلم، أو الذمي يصح في الجملة" (¬1) .. وجاء في الاختيار لتعليل المختار: "حربي دخل دارنا بأمان، فأوصى بجميع ماله لمسلم أو ذمي جاز؛ لأن عدم الجواز بما زاد على الثلث إنما كان لحق ¬
القول الثاني
الورثة، ألا ترى أنهم لو أجازوا جاز، وليس للورثة حق محترم؛ لكونهم في دار الحرب؛ إذ هم كالأموات في أحكامنا، فصار كأن لا وارث له فيصح" (¬1). قوله: (حربي دخل دارنا بأمان) لأن الحربي إذا كان في دار الحرب فلا ولاية لنا عليه، فحكم وصيته لا يخضع لحكمنا، وإنما يخضع لما هو معمول به عندهم، وهذا ظاهر. وقال الزرقاني في شرح الموطأ: "الوصية كالإعتاق وهو يصح من الذمي والحربي" (¬2). وقال الخرشي: "الكافر تصح وصيته لانطباق الحد عليه إذا هو حر مميز، مالك إلا إذا أوصى بشيء لا يملكه المسلم كخمر ونحوه، أما إن أوصى بذلك لكافر فإن وصيته تصح" (¬3). وقال في الحاوي: "فأما الكافر: فوصيته جائزة ذميًا كان أو حربيًا، إذا وصى بمثل ما وصى به المسلم" (¬4). القول الثاني: لا تصح الوصية من الحربي، ذكره بعض الحنابلة احتمالاً. وجه القول بذلك: أن الحربي لا حرمة له، ولا لماله، فكيف تصح وصيته. ¬
الراجح
قال ابن مفلح الصغير: "وتصح الوصية بالمال من البالغ الرشيد، عدلاً كان أو فاسقًا، رجلاً أو امرأة، مسلمًا أو كافرًا؛ لأن هبتهم صحيحة، فالوصية أولى. وحاصله أن من جاز تصرفه في ماله، جازت وصيته ... وظاهره في الكافر، لا فرق بين الذمي والحربي، وفيه احتمال؛ لأنه لا حرمة له، ولا لماله" (¬1). الراجح: أرى أن القول بصحة الوصية من الحربي هو الراجح، والقول بخلافه إنما ذكر احتمالاً، وهذا لا يثبت قولاً، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في الوصية من المرتد
المبحث الثالث في الوصية من المرتد [م - 1658] اختلف العلماء في صحة وصية المرتد، وخلافهم راجع إلى اختلافهم في حكم تصرفه في ماله بعد ردته: فمن قال: إن ملك المرتد لماله يزول بردته لم يصحح وصيته كالمالكية. ومن قال: إن ملكه لا يزول عنه بردته، فاختلفوا: فقيل: تصح وصيته كأبي يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية؛ لأن وجوب قتله لا يمنع من صحة وصيته كالحربي. وقيل: بل ماله موقوف، فإن مات على ردته بطلت، وإن رجع إلى الإِسلام قبل موته نفذت وصيته، وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة، وبه قال أبو حنيفة في المرتد فقط دون المرتدة، والفرق عنده راجع إلى أن المرتد يجب قتله إلا أن يرجع إلى الإِسلام بخلاف المرتدة. هذه هي الأقوال على سبيل الإجمال، وأما أقوال العلماء على سبيل التفصيل فإليك هي: القول الأول: لا تصح وصية المرتد مطلقاً حال ردته، ولو رجع المرتد للإسلام، وهذا مذهب المالكية، وقول في مذهب الشافعية، ووجه في مذهب الحنابلة (¬1). ¬
قال النووي: "إذا قلنا بزوال ملكه، لا يصح تصرفه ببيع، وشراء، وإعتاق، ووصية" (¬1). وقال الخرشي: "وإذا أوصى بوصايا، ثم ارتد عن الإِسلام، فإن توبته تسقط ما أوصى به" (¬2). وقال القرافي: "ولا تنفذ وصية المرتد، وإن تقدمت ردته الوصية؛ لأن الوصية إنما تعتبر زمن التمليك، وهو زمن الموت" (¬3). وجاء في الفواكه الدواني: "تبطل أيضًا بارتداد الموصي أو الموصى له، ولو رجع المرتد للإسلام" (¬4). وفي حاشية العدوي: "وأما وصايا المرتد فباطلة وإن تقدمت حال إسلامه" (¬5). ¬
القول الثاني
القول الثاني: تصح وصية المرتد، وهذا قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬1). وكونها صحيحة أي على التفصيل الذي قيل في وصية الكافر، فيصح منه ما يصح من القوم الذين انتقل إليهم، فلو ارتد إلى النصرانية، ثم أوصى بما هو قربة عند المرتد، ومعصية عند الموصى لهم، ولم يقصد في الوصية نفع قوم بأعيانهم لم تصح الوصية عندهما. ولو أوصى بما هو قربة عنده وعند الموصى لهم صحت. أو أوصى بما هو معصية عنده ومعصية عندهم لم تصح. قال الزيلعي: "ذكر العتابي في الزيادات: أن من ارتد عن الإِسلام إلى النصرانية أو اليهودية أو المجوسية، فحكم وصاياه حكم من انتقل إليهم، فما صح منهم صح منه، وهذا عندهما" (¬2). وجاء في الفتاوى الهندية: "لو ارتد مسلم إلى اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، ثم أوصى ببعض هذه الوصايا فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتوقف ... وعندهما تصرفات المرتد نافذة للحال، فيصح منه ما يصح من القوم الذين انتقل إليهم، حتى لو أوصى بما هو قربة عندهم معصية عندنا، وكان ذلك لقوم غير معينين لا يصح عندهما" (¬3). ¬
القول الثالث
القول الثالث: المرتد ملكه موقوف، فإن مات أو قتل كافرًا بطلت الوصية، وإن أسلم نفذ كسائر تصرفاته، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة (¬1). وقال النووي: "وفي زوال ملكه عن ماله بها أقوال، أظهرها: إن هلك مرتدًا بان زواله بها، وإن أسلم بأن أنه لم يزل ... وإذا وقفنا ملكه فتصرفه إن احتمل الوقف، كعتق، وتدبير، ووصية موقوف إن أسلم نفذ وإلا فلا" (¬2). وفي كشاف القناع: "ويكون ملكه موقوفًا، فإن أسلم ثبت ملكه، وإن قتل أو مات كان ماله فيئًا" (¬3). وهذا قول أبي حنيفة في المرتد فقط دون المرتدة؛ لأن الردة من المرأة لا يوجب قتلها عنده، بل تستتاب، فإن ثابت خلي سبيلها، وإلا أجبرت على الإِسلام بالحبس، بخلاف المرتد، فإنه إما أن يقتل أو يسلم، ولهذا تكون وصاياه موقوفة، إن أسلم نفذ كسائر تصرفاته وإلا فلا (¬4). ¬
والدليل على التفريق بين الرجل والمرأة
وقال في العناية عن وصية المرتد: "جائزة عندهما موقوفة عند أبي حنيفة، إن أسلم نفذ كسائر تصرفاته، وإلا فلا" (¬1). وقال ابن الهمام: "وفي المرتدة الأصح أنه تصح وصاياها؛ لأنها تبقى على الردة، بخلاف المرتد لأنه يقتل أو يسلم" (¬2). والدليل على التفريق بين الرجل والمرأة: الدليل الأول: (ث -218) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق قتادة، عن خلاس، عن علي - رضي الله عنه - في المرتدة تستتاب. وقال حماد: تقتل. ويناقش من وجهين: الوجه الأول: أن الأثر ضعيف، ضعفه البيهقي وغيره (¬3). ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: لو صح الأثر لكان معناه: تستتاب أي قبل أن تقتل كالخلاف في الرجل المرتد، هل يقتل قبل أن يستتاب، أو يستتاب فإن تاب وإلا قتل. الدليل الثاني: (ث -219) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، ووكيع، عن أبي حنيفة، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس، قال: لا تقتل النساء إذا ارتددن عن الإِسلام، ولكن يحبسن، ويدعين إلى الإِسلام، ويجبرن عليه (¬1). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن ابن عباس هو الراوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بدل دينه فاقتلوه، ولم ير قتل المرتدة، فهو أعلم بمخرج الحديث. ¬
ويجاب
ويجاب: بأن هذا الأثر موقوف على ابن عباس، وهو من جهة الصناعة ضعيف، لا يثبت عن ابن عباس، وقد انفرد به الإمام أبو حنيفة، وهو إمام من أئمة الإِسلام في الفقه، وعلى جلالة قدره لم يكن أهل الحديث يحتجون بما ينفرد به من الأحاديث، وعلى فرض صحته فإنه لا يقبل لأمرين: الأمر الأول: أنه مخالف للسنة المرفوعة، وقول الصحابى إذا خالف السنة فهو رد، وإنما يستأنس بقول الصحابي ويكون من المرجحات عند الخلاف بشرط ألا يخالف السنة، ولم يعارضه مثله. (ح -1024) وقد روى البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعًا، قال: من بدل دينه فاقتلوه (¬1). واسم الشرط من ألفاظ العموم يدخل فيه الرجال والنساء، ولم يخص امرأة من رجل. الأمر الثاني: إذا كانت جميع الحدود بما هو دون الكفر من زنا وسرقة وشرب خمر وحد قذف وقصاص والتي هى دون ذنب الردة لازمة للرجال والنساء، فكيف يجوز أن يفرق أحد بين أعظم الذنوب فيطرحه عن النساء ويلزمهن ما دون ذلك؟ هذا غلط بَيِّين (¬2). ¬
وقد وردت أحاديث في قتل المرأة المرتدة، وهي ضعيفة، من ذلك: (ح -1025) ما رواه الدارقطني من طريق نجيح بن إبراهيم الزهري، أخبرنا معمر بن بكار السعدي، أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن محمَّد بن المنكدر، عن جابر، أن أمرأه يقال لها: أم مروان ارتدت عن الإسلام، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعرض عليها الإِسلام، فإن رجعت وإلا قتلت (¬1). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: قياس المرأة المرتدة على المرأة الحربية، فإذا كانت المرأة الحربية لا تقتل في شريعتنا، فكذلك المرأة المرتدة. ويجاب: بأن هناك فرقًا بين الحربية والمرتدة، فالحربية إنما لم تقتل إذ لم تقاتل؛ لأن الغنيمة تتوفر بترك قتلها؛ لأنها تسبى وتسترق، والمرتدة: لا تسبى ولا تسترق، فليس في استبقائها غنم (¬1). الراجح: القول بصحة وصية المرتد لا يعني القول بصحة نفاذها، فهي تنعقد صحيحة؛ لأنه يملك، وملكه باق على ماله كسائر تصرفاته، ويقضى من ماله ديونه، وكسبه ¬
بعد ردته كسب صحيح، فإن رجع إلى الإِسلام قبل قتله نفذت وصيته، وإن قتل عقوبة له على ردته، أحد مات بطلت وصاياه كسائر عمله، وهل يكون ماله لأقاربه المسلمين، أو يشاركهم فيه عموم المسلمين، حيث يصرف إلى بيت المال، والذي هو ملك لجميع المسلمين، قولان في هذه المسألة، وليس هذا موضع بحثها، والله أعلم.
الشرط السادس في اشتراط غنى الموصي
الشرط السادس في اشتراط غنى الموصي ترك المال للوارث القريب المحتاج خير من دفعه للأجنبي. ترك الوصية بنية نفع الوارث المحتاج صدقة عليه. [م - 1659] اختلف العلماء في حكم الوصية من الفقير إذا كان ورثته محتاجين: القول الأول: إذا كان الوارث فقيرًا، لا يستغني بنصيبه من التركة، فالأفضل ألا يوصي، وهذا مذهب الحنفية (¬1). جاء في الاختيار لتعليل المختار: "وإن كانت الورثة فقراء, لا يستغنون بنصيبهم، فتركها أفضل؛ لما فيه من الصلة والصدقة عليهم" (¬2). وقال ابن نجيم: وإن كانوا فقراء لا يستغنون بما يرثون فترك الوصية أولى" (¬3). القول الثاني: أن الوصية من الفقير مع حاجة الورثة مكروهة، وهذا مذهب المالكية، ¬
القول الثالث
والحنابلة (¬1). قال في الفواكه الدواني عن حكم الوصية: "قسمها ابن رشد واللخمي خمسة أقسام: فتجب إذا كان عليه دين، وتندب إذا كانت بقربة غير واجبة، وتحرم بمحرم كالنياحة، ونحوها ... وتكره إذا كانت بمكروه أو في مال فقير" (¬2)، وعبارة العدوي "أو في مال قليل" (¬3)، والمعنى واحد. وفي الإنصاف: "تكره للفقير الوصية مطلقًا على الصحيح من المذهب" (¬4). وقال في مطالب أولي النهى: "وتكره وصية لفقير أي منه، إن كان له ورثة محاويج" (¬5). القول الثالث: ذهب الشافعية إلى استحباب أن ينقص من الثلث شيئًا سواء كان الورثة أغنياء أو فقراءة خروجًا من خلاف من أوجب ذلك؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استكثر الثلث بقوله - صلى الله عليه وسلم -: الثلث والثلث كثير، وقيل: إن كان ورثته أغنياء استوفى الثلث، وإلا فيستحب النقص منه (¬6). ¬
جاء في مغني المحتاج: "وسن أن ينقص عن الثلث شيئًا خروجًا من خلاف من أوجب ذلك؛ ولاستكثار الثلث في الخبر، وسواء أكانت الورثة أغنياء أم لا، وإن قال المصنف في شرح مسلم: إنهم إذا كانوا أغنياء لا يستحب النقص وإلا استحب" (¬1). قال النووي: "والأحسن أن ينقص من الثلث شيئًا. وقيل: إن كان ورثته أغنياء استوفى الثلث، وإلا فيستحب النقص منه" (¬2). وجاء في الحاوي: "أولى الأمرين به أن يعتبر حال ورثته، فإن كانوا فقراء، كان النقصان من الثلث أولى من استيعاب الثلث. وقد روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: (لآن أوصي بالسدس أحب إلي من أن أوصي بالربع، والربع أحب إلي من الثلث). وإن كان ورثته أغنياء، وكان في ماله سعة، فاستيفاء الثلث أولى به" (¬3). هذه مجمل الأقوال، وهي كالتالي: إذا كان الورثة فقراء: فقيل: الوصية خلاف الأولى. وهذا مذهب الحنفية. وقيل: الوصية مكروهة، وهذا مذهب المالكية، والحنابلة. وقيل: يستحب النقص من الثلث، وهذا مذهب الشافعية. ¬
وجه من قال: الترك أولى
وجه من قال: الترك أولى: أن الورثة إذا كانوا فقراء كان ترك المال لهم خيرًا من الوصية للبعيد، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس (¬1). وقوله: (خير) أفعل تفضيل بمعنى: أخير، أي أفضل، ولا يلزم من ترك الأفضل، والأخذ بالمفضول أن يقع الإنسان في المكروه، وإلا لقلنا: إن ترك جميع المندوبات تعني الوقوع في المكروه، وهذا غير صحيح. ويناقش: لا يلزم من استخدام أفعل التفضيل أن لا تكون الوصية مكروهة مع حاجة الورثة، فإن أفعل التفضيل قد يستخدم في غير بابه، كما في قول المؤذن: الصلاة خير من النوم، فإن النوم عن الصلاة ليس فيه فضل مطلقًا، فإذا كانت الوصية نوعًا من الصدقة، وكان ترك الثلث للزوج والولد صدقة من الميت على أهله، فإذا أخذها الموصي من أهله مع فاقتهم ليدفعها إلى البعيد لم يكن ذلك من الإحسان على الأهل، وقد قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9]. دليل من قال: إن الوصية مكروهة: الدليل الأول: قال تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] والخير: إنما هو المال الكثير. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح -1026) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول (¬1). الدليل الثالث: (ث -220) وروى سعيد بن منصور قال: أخبرنا أبو معاوية، عن محمَّد بن شريك المكي، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: قال لها رجل: إني أريد أن أوصي؟ قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: قال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: إن ترك خيرًا، وإن هذا الشيء يسير، فاتركه لعيالك، فهو أفضل (¬2). [إسناده صحيح]. الدليل الرابع: (ث - 221) روى الطبري من طريق أيوب، عن نافع، أن ابن عمر، لم يوص وقال: أما مالي فالله أعلم ما كنت أصنع فيه في الحياة، وأما رباعي فما أحب أن يشرك ولدي فيها أحد (¬3). ¬
الدليل الخامس
[إسناده صحيح]. الدليل الخامس: (ث -222) وروى الدارمي من طريق حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عليًا دخل على مريض، فذكروا له الوصية، فقال علي: قال الله: إن ترك خيرًا, ولما أره ترك خيرًا. قال حماد: فحفظت أنه ترك أكثر من سبعمائة (¬1). [ضعيف عروة لم يلق عليًا] (¬2). الدليل السادس: (ث -223) وروى سعيد بن منصور، من طريق ابن جريج، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: إذا ترك الميت سبعمائة درهم فلا يوصي. [ضعيف] (¬3). الدليل السابع: قال ابن عبد البر: "أجمع العلماء على أن من لم يكن عنده إلا اليسير التافه من المال أنه لا يندب إلى الوصية" (¬4). ¬
وجه من قال: يستحب النقص من الثلث
وجه من قال: يستحب النقص من الثلث: الكراهة حكم شرعي، ولا يثبت إلا بدليل شرعي، ولا يوجد دليل على كراهة الوصية مع فقر الورثة، وقد أعطاهم الشارع حقهم من المال، وترك للميت حقًا فيه، فإذا كان الموصي لو استوعب الثلث من قليل المال وكثيره مع فقر الورثة وغناهم، وصغرهم وكبرهم كانت وصية ماضية بإذن الشارع، والرسول إنما قال في الثلث: الثلث والثلث كثير، ولو كانت الوصية مكروهة، أو تركها أفضل مع حاجة الورثة لأرشد إلى ذلك الشارع، فدل على أن المستحب هو النقص من الثلث لا غير، والله أعلم. الراجح: أن الوصية مستحبة، وهذا الاستحباب مشروط بقوله تعالى: إن ترك خيرًا وهذه إشارة إلى أن الاستحباب ليس مطلقًا، وإنما هو مشروط بأن يكون قد خلف مالاً كثيرًا، فإذا ترك مالاً يسيرًا قلتا له لا تستحب لك الوصية، ولو أوصى لم يكن حرامًا, ولا مكروهًا، وإنما يقال: فعلت أمرًا خلاف المستحب، فالترك أفضل لك من الوصية.
مبحث في تقدير المال القليل من الكثير
مبحث في تقدير المال القليل من الكثير الميراث إذا لم يبلغ بالوارث حد الغنى فهو قليل. [م - 1660] اختلف السلف في المال الذي إذا تركه الميت فهو قليل. وقد جاءت مجموعة من الآثار في شأن ذلك، منها: (ث -224) ما ورد عن عائشة لأنه قال لها رجل: إني أريد أن أوصي؟ قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: قال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: إن ترك خيرًا، وإن هذا الشيء يسير، فاتركه لعيالك، فهو أفضل، [إسناده صحيح] (¬1). (ث -225) وروى عروة، أن عليًا دخل على مريض، فذكروا له الوصية، فقال علي: قال الله: إن ترك خيرًا, ولما أره ترك خيرًا. قال حماد: فحفظت أنه ترك أكثر من سبعمائة. [ضعيف، عروة لم يلق عليًا] (¬2). (ث -226) وعن ابن عباس، قال: إذا ترك الميت سبعمائة درهم فلا يوصي. [ضعيف] (¬3). ¬
وهذه الأمور قد تختلف من بلد إلى آخر، ومن زمن إلى زمن، فربما كان المال القليل في وقت هو كثير بالنسبة إلى وقت آخر، أو بلد آخر، وهذا مشاهد في عصرنا، بحسب دخل الفرد وتكاليف المعيشة، والآثار التي سقناها عن بعض الصحابة إنما هي تقدير للقليل والكثير في عصرهم، ولم يصح منها إلا ما ورد عن عائشة - رضي الله عنها -. وقال الخرشي: "اختلف في الكثير، فقيل: ما زاد على نفقة. العيال. يحتمل في العمر الغالب، ويحتمل في السنة. وقيل: ألف درهم. وقيل: ستون ديناراً. وقيل تسعمائة درهم فما فوق" (¬1). أرى أن المعيار في القليل والكثير عندي هو ما ذكره ابن قدامة في المغني حيث يقول: "والذي يقوى عندي، أنه متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة، فلا تستحب الوصية؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل المنع من الوصية بقوله: (إنك تترك ورثتك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة). ولأن إعطاء القريب المحتاج خير من إعطاء الأجنبي، فمتى لم يبلغ الميراث غناهم، كان تركه لهم كعطيتهم إياه، فيكون ذلك أفضل من الوصية به لغيرهم، فعند هذا يختلف الحال باختلاف الورثة في كثرتهم وقلتهم، وغناهم وحاجتهم، فلا يتقيد بقدر من المال. والله أعلم. وقد قال الشعبي: ما من مال أعظم أجرًا، من مال يتركه الرجل لولده، يغنيهم به عن الناس" (¬2). ¬
الباب الرابع في شروط الموصى له
الباب الرابع في شروط الموصى له الشرط الأول في اشتراط أن يكون الموصى له أهلاً للتملك الوصية لمن لا يملك تعني الصرف على مصالحه كالوقف عليه. [م - 1661] هل يشترط أن يكون الموصى له ممن يصح تملكه؟ أو نقول: تصح الوصية لمن لا ليس لديه أهلية التملك، ويكون مقصود الموصي ليس التمليك، وإنما الصرف على مصالحه، كالوصية على المساجد والقناطر، والحيوان، والميت، والحمل، وقس على هذا غيرها. قال ابن شاس المالكي: "وتصح الوصية لكل من يتصور له الملك" (¬1). وسوف ندرس هذه المسائل مسألة مسألة، ونستكشف أقوال الفقهاء فيها، وما لم يذكر مقيس على ما ذكر. ¬
المبحث الأول: الوصية للمسجد
المبحث الأول: الوصية للمسجد اختلف العلماء في صحه الوصية للمسجد على ثلاثة أقوال: القول الأول: تصح الوصية للمسجد مطلقاً. وهذا قول محمد بن الحسن من الحنفية، والمذهب عند المالكية، وبه قال الرافعي من الشافعية، قال النووي: هذا هو الأفقه والأرجح (¬1). جاء في الفتاوى الهندية: "إذا قال: أوصيت بمائة درهم لمسجد كذا، أو لقنطرة كذا، نص محمَّد رحمه الله تعالى أنه جائز، وهو لمرمتها وإصلاحها، وبه أخذ ابن مقاتل" (¬2). وقال ابن شاس المالكي: "أما المسجد والقنطرة والجسر وما أشبه ذلك، وإن لم تملك فالوصية لها صحيحة؛ إذ هي منزلة على الصرف في مصالحها؛ لأنا نعلم أنه لم يرد بها التمليك، فصار كالوقف عليها" (¬3). وقال القرافي: "لأن الوصية للمسلمين؛ لحصول تلك المصالح لهم" (¬4). ¬
القول الثاني
وقال الخرشي: "الو صية للمسجد ونحوه، كالقنطرة، والسور تصح، ويصرف ذلك الشيء الموصى به في مصالح تلك الأشياء، كوقيد، وعمارة؛ لأن مقصود الناس بالوصية لذلك، فإن لم يكن للمسجد مصالح فيدفع للفقراء" (¬1). قال في مغني المحتاج: "إذا قال: أردت تمليك المسجد ... نقل الرافعي عن بعضهم أن الوصية باطلة، ثم قال: ولك أن تقول سبق أن للمسجد ملكاً وعليه وقفًا، وذلك يقتضي صحة الوصية. قال المصنف: وهو الأفقه والأرجح" (¬2). القول الثاني: أن الوصية بمال للمسجد إن قال تصرف في مصالحه، صحت الوصية. وإن قصد تمليك المسجد لم تصح. وهذا قول أبي يوسف ومذهب الشافعية والحنابلة (¬3). وإن أوصى للمسجد وأطلق. فقيل: تصح، وهو مذهب الحنابلة، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية,. وقال أبو يوسف: لا تصح الوصية؛ لأن مطلق قوله للمسجد يوجب التمليك من المسجد، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬4). ¬
وإليك النصوص الشاهدة على صحة هذا التفصيل
وإليك النصوص الشاهدة على صحة هذا التفصيل: قال السرخسي: "ذا أوصى بشيء من ماله للمسجد، ذكر في نوادر هشام أن ذلك لا يجوز عند أبي يوسف إلا أن يبين، فيقول: لمرمة المسجد، أو لعمارته، أو لمصالحه؛ فإن مطلق قوله للمسجد يوجب التمليك من المسجد، كقوله لفلان، والمسجد ليس من أهل الملك" (¬1). قال الغزالي: "لو قال: وقفت على المسجد، أو أوصيت للمسجد، وقال: أردت تمليك المسجد فباطل. وإن قال: أردت صرفه إلى مصلحته فصحيح وإن أطلق: قال الشيخ أبو علي هو باطل؛ لأن المسجد لا يملك كالبهيمة، وهذا في المسجد بعيد؛ لأن العرف ينزل المطلق على صرف المنافع إلى مصلحته" (¬2). وقال النووي في الروضة: "أوصى لمسجد، وفسر بالصرف في عمارته ومصلحته، صحت الوصية. وإن أطلق، فهل تبطل كالوصية للدابة، أم تصح تنزيلا على الصرف في عمارته ومصلحته عملا بالعرف؟ وجهان: أصحهما: الثاني" (¬3). وقال ابن مفلح: لو أراد الموصي تمليك المسجد لم تصح، وإلا صحت (¬4). ¬
الراجح
فلم يبطل الوصية في المسجد إلا في حالة واحدة لو أراد الموصي تمليك المسجد، وصحح ما عداها، فيدخل فيه لو أوصى للمسجد، وأطلق. وجاء في المبدع: "وإن وصى لكتب القرآن، أو العلم، أو المسجد، أو لفرس حبيس ينفق عليه صح؛ لأن ذلك قربة، فصح بذل المال فيه كالوصية للفقير، والموصى به للمسجد يصرف في مصالحه عملاً بالعرف ... ولو أراد تمليك الفرس أو المسجد، لم يصح" (¬1). الراجح: أرى أن الوصية للمسجد صحيحة، سواء صرح أنه أراد النفقة على عمارته وإصلاحه أو لم يصرح بذلك؛ لأن المسألة راجعة إلى أنه لا يشترط في الموصى له أن يكون من أهل التملك؛ لأنه إذا صحت الوصية على مصالح المسجد وعمارته، وهو ليس من أهل التملك دل هذا على أنه لا يشترط في الموصى له أن يكون من أهل التملك. قال في بدائع الصنائع: "كونه من أهل الملك ليس بشرط، حتى لو أوصى مسلم بثلث ماله للمسجد ينفق عليه في إصلاحه وعمارته وتجصيصه يجوز؛ لأن قصد المسلم من هذه الوصية التقرب إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - بإخراج ماله إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ -، لا التمليك إلى أحد" (¬2). وقد صحح الحنفية الوقف على بيت المقدس، فلزم منه صحة الوقف على المسجد من غير فرق. ¬
وقال في الفروع: "ولم يعتبر الحارثي أن يملك؛ لحصول معناه، فيصح لعبد، وبهيمة ينفق عليهما" (¬1). فإذا أوصى ماله للمسجد صحت الوصية حتى لو أراد به تمليك المسجد، ولا مانع من اعتبار المسجد له شخصية اعتبارية كبيت مال المسلمين، فإن له ذمة مستقلة، ويملك، ويستدين، وهكذا سائر أوقاف المسلمين من المساجد والطرق ونحوها، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني: الوصية للحيوان
المبحث الثاني: الوصية للحيوان الوصية للحيوان صحيحة بشرط أن يكون محترمًا. [م - 1662] يدخل في اشتراط أن يكون الموصى له أهلاً للتملك الخلاف في الوصية للحيوان، وقد اختلف الفقهاء في الوصية له على قولين: القول الأول: لا تصح الوصية للحيوان إن أراد تمليكها. وإن قال: تصرف في علفه صحت الوصية، وكانت الوصية لصاحبها، وهذا مذهب الجمهور. وإن أطلق الوصية لم تصح الوصية عند الحنفية والشافعية مطلقاً. وصحح الحنابلة الوصية لحيوان حبس للجهاد ما لم يرد تمليكه؛ لأنه جهة قربة، وإذا أوصى بماله لحيوان زيد صحت، ولو لم يقبله صاحبه، ويصرف في علفه، فإن مات فالباقي للورثة (¬1). جاء في الفتاوى الهندية: "رجل قال: أوصيت بهذا التبن لدواب فلان كان باطلاً, ولو قال: يعلف به دواب فلان كان جائزًا ... " (¬2). ¬
وقريب من مذهب الحنفية مذهب الشافعية، وملخصه: أن الموصي إن قصد تمليك الدابة، أو أطلق فباطلة، وإن قال: تصرف في علفها صحت الوصية (¬1). قال إمام الحرمين: "إذا أوصى لدابة زيد بشيء، فأول ما فيه أنا نستفصل الموصي في حياته، فنقول: ما الذي أردت بذلك؟ فإن قال: أردت بذلك تمليك الدابة، فتبطل وفاقًا؛ فإنه قصد بما أطلقه محالاً. وإن قال: قصدت بذلك صرف الموصى به إلى حاجة الدابة في علفها وسقيها، قال الأصحاب: صحت الوصية على تفصيل نذكره. وإن قال: لم أنو شيئا أصلاً، قال الشيخ: تبطل الوصية؛ فإن ظاهرها تمليك الدابة، فلم تصح. فإذا نوى الصرف إلى العلف، كما قلناه أو صرح به، ومات الموصي، قال صاحب التلخيص: إن قبل مالك الدابة الوصية، ثبتت وإن ردها، بطلت، وردت؛ فإن هذه الوصية تتعلق به من حيث إنها تتعلق بمصلحة ملكه، ويستحيل أن نلزمه هذه الوصية حتى نتصرف في دابته بالعلف والسقي. قال الشيخ: رأيت للشيخ أبي زيد أنه قال: تثبت الوصية، وإن لم يقبلها مالك الدابة؛ فإن الموصي قصد بذلك علف الدابة. وذلك حسبة، وفي كل ذات كبد حرى أجر" (¬2). ¬
الوجه الأول
وقال الزركشي: "ولو أوصى لدابة وقصد تمليكها بطل، أو ليصرف في علفها صح. ومنها: لو قال الموصي: لم تكن لي إرادة بطلت، ويحلف على ذلك، قاله الإمام" (¬1). وجاء في نهاية المحتاج: "وإن أوصى لدابة، وقصد تمليكها أو أطلق فباطلة؛ لأن مطلق اللفظ للتمليك وهي لا تملك ... وإن قصد علفها, أو قال: ليصرف في علفها ... فالمنقول صحتها؛ لأن مؤنتها على مالكها قهو المقصود بالوصية". ويناقش من وجهين: الوجه الأول: صحح الشافعية الوصية للمسجد إذا أطلق الوصية، ولم يقل: يصرف في عمارته ومصالحه، مع أن المسجد لا يملك، ولا مالك له، فكان القياس أن تصحح الوصية للدابة إذا أطلق الوصية لها, ولم يقل: أردت تمليك الدابة. الوجه الثاني: أن القول بأن المقصود هو مالك الدابة ينتقض مع القول بأنه يتعين صرف الوصية في مؤنة الدابة، ولو باعها انتقلت الوصية إلى المشتري، فهذا دليل على أن الوصية للدابة، وليست لصاحبها. ¬
وأما النصوص في مذهب الحنابلة
قال في نهاية المحتاج: "يتعين صرفه -يعني المال الموصى به- في مؤنتها فلو باعها مالكها انتقلت الوصية للمشتري" (¬1). نعم قال القفال من الشافعية: لا يتعين صرف الوصية في مؤنة الدابة، وله إمساكه، وينفق عليها من غيره (¬2). وأما النصوص في مذهب الحنابلة: جاء في حاشية الروض: "ولا تصح لبهيمة إن قصد تمليكها؛ لأنه مستحيل، وتصح لنحو فرس حبيس؛ لأنه جهة قربة، ما لم يرد تمليكها، وينفق الموصى به للفرس الحبيس؛ لأنه مصلحته، وإن مات رد الموصى به له" (¬3). وجاء في الإنصاف: "قوله: ولا لبهيمة. إن وصى لفرس حبيس: صح إذا لم يقصد تمليكه كما صرح به المصنف قبل ذلك، وإن وصى لفرس زيد: صح، ولزم بدون قبول صاحبها. ويصرفها في علفه. ومراد المصنف هنا: تمليك البهيمة" (¬4). وفي الإقناع: "ولا تصح الوصية لكنيسة ... ولا لمَلَك، ولا لميت، ولا لجني، ولا لبهيمة إن قصد تمليكها، وتصح لفرس حبيس ما لم يرد تمليكه، وينفق الموصى به إليه فإن مات الفرس رد الموصى به أو باقيه على الورثة، وإن شرد أو سرق ونحوه انتظر عوده، وإن أيس منه رد إلى الورثة" (¬5). ¬
ويناقش
ويناقش: إذا كانت الوصية للحيوان لا تصح عندهم بنية تمليك الحيوان، فكأنهم أرادوا بالوصية صاحبها، فكيف لا يشترط قبوله، وهو المقصود بالوصية. القول الثاني: تصح الوصية للحيوان إذا كان فيه منفعة لآدمي، وهذا مذهب المالكية، وقول مرجوح في مذهب الحنابلة (¬1). قال في منح الجليل: "لا تصح -يعني الوصية- لكافر بمصحف ... ولا لبهيمة لا منفعة فيها لآدمي، ولا فرق فيمن يصح تملكه بين كونه عامًا كالمساكين، أو خاصًا كزيد، ولا بين من يملك حقيقة أو حكما، كمسجد، ورباط، وقنطرة، وخيل جهاد، ونعم محبس لنسله" (¬2). وقال في دليل الطالب: "صح الوصية لكل من يصح تمليكه، ولو مرتدًا أو حربيًّا، أو لا يملك: كحمل، وبهيمة، ويصرف في علفها" (¬3). الراجح: أن الوصية للحيوان صحيحة مطلقًا بشرط أن يكون الحيوان محترمًا، والمقصود بالمحترم الحيوان الذي لم نؤمر بقتله، سواء كان فيه منفعة أو لا منفعة فيه، فإن في كل كبد رطبة أجر، وإذا قيل: هذا المال للحيوان فهذه ¬
الإضافة لا يتصور أنها تعني التمليك، وهذه الجملة صحيحة لغة وعرفًا، وتعني اختصاص الحيوان بهذا الشيء، كما يقال: بيت الكلب، وسرج الدابة. (ح -1027) وقد روى الشيخان من طريق مالك، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بينا رجل يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئرًا، فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، قالوا: با رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر (¬1). (ح -1028) ورواه الشيخان من طريق عن أيوب، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بينما كلب يطيف بركية، كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها، فسقته، فغفر لها به (¬2). ¬
المبحث الثالث: الوصية للميت
المبحث الثالث: الوصية للميت من لا تصح له الهبة لا تصح له الوصية. [م - 1663] يدخل في اشتراط أن يكون الموصى له أهلاً للتملك الخلاف في الوصية للميت، وقد اختلف العلماء في الوصية له على قولين: القول الأول: ذهب الجمهور إلى أن الوصية للميت وصية باطلة مطلقاً (¬1). وجه القول بالبطلان: الوجه الأول: أن الوصية تمليك، والميت ليس من أهل التملك. جاء في الهداية: "ومن أوصى لزيد وعمرو بثلث ماله، فإذا عمرو ميت، فالثلث كله لزيد؛ لأن الميت ليس بأهل للوصية، فلا يزاحم الحي الذي هو من أهلها" (¬2). ¬
الوجه الثاني
قال العمراني: "ولا تصح الوصية لمن لا يملك، فإن وصى لميت لم تصح الوصية، سواء ظنه حيًا، أو علمه ميتًا. وبه قال أبو حنيفة" (¬1). وقال النووي: "الوصية للميت باطلة سواء علم الموصي بموته، أم لا" (¬2). وقال الشيرازي: "ولا تصح الوصية لمن لا يملك، فإن وصى لميت لم تصح الوصية؛ لأنه تمليك فلم يصح للميت كالهبة" (¬3). وفي الإقناع: "ولا تصح الوصية لكنيسة ... ولا لمَلَك، ولا لميت" (¬4). الوجه الثاني: قياس الوصية على الهبة، فإذا كانت الهبة لا تصح للميت، لم تصح له الوصية بجامع أن كليهما من عقود التبرع. الوجه الثالث: أن الوصية عقد يفتقر إلى القبول، وهو متعذر من الميت. القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن الموصي إن كان لا يعلم بموت الموصى له بطلت الوصية، وإن كان يعلم حين أوصى له أنه ميت صحت الوصية، وصرفت في قضاء دينه، وتجهيزه؛ لأنه مقصود الموصي، فإن لم يكن عليه دين صرفت ¬
لورثته، فإن لم يكن له وارث بطلت، ولا تعطى لبيت المال بناء على أن بيت المال حائز. وقال الشيخ سالم: تدفع لبيت المال بناء على أنه وارث (¬1). قال ابن شاس: "وكذلك الوصية للميت، إذا أوصى له بعد العلم بموته فإنه تصح له، فإن كان عليه دين صرفت الوصية فيه، وكذلك إن كانت عليه كفارات، أو زكوات فقد وجبت، فإن لم يكن شيء من ذلك كانت لورثته؛ لأن هذا قصد الموصي بها" (¬2). قال الخرشي: "تصح الوصية للميت إن علم الموصي بموته، ويصرف المال الموصى به في دينه، إن كان على الميت دين، وإلا فهو لوارثه، فإن لم يعلم بموته، فإنها لا تصح؛ إذ الميت لا يصح تملكه، فقوله: (ولميت) أي وصحت الوصية لكل من تقدم ممن يصح تمليكه، ولميت وظاهره سواء علم الموصي أن على الموصى له دينا، أو له وارث، أو لا، وهو ظاهر، وبيت المال وارث شرعي فيدفع له حيث لم يكن له وارث، ولا عليه دين" (¬3)، وعلق العدوي في حاشيته على كلام الخرشي، قائلاً: " (قوله وبيت المال وارث شرعي إلخ) كذا قال الشيخ سالم. وقال علي الأجهوري: فإن لم يكن له وارث خاص، بل بيت المال بطلت، كما إذا لم يعلم بموته. ¬
الراجح
أقول -القائل العدوي- وكلام علي الأجهوري ظاهر حيث كان بيت المال غير منتظم؛ لأن الراجح أن بيت المال إذا لم يكن منتظما لا يرث" (¬1). الراجح: أن الموصي إذا أوصى لميت، هو يعلم أنه ميت فإن الوصية صحيحة؛ لأنه لم يرد تمليكه، وإنما أراد أن تصرف في الحقوق الواجبة عليه من دين وزكاة وكفارات، والقيام بتجهيزه، وما بقي من ذلك صرف لورثته كما أن الوصية على المساجد والقناطر والدواب تصرف في مصالحها، فإن كان لا يعلم أنه ميت بطلت الوصية؛ لأن الظاهر أنه أراد تمليكه، وذمته خربت بموته، والله أعلم. ¬
الشرط الثاني أن يكون الموصى له موجودا
الشرط الثاني أن يكون الموصى له موجودًا [م - 1664] هل يشترط أن يكون الموصى له موجودًا حين الوصية، أو تصح الوصية للمعدوم حين الوصية على رجاء أن يوجد في المستقبل؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: لا تصح الوصية للمعدوم في الجملة، وهذا مذهب الحنفية والأصح في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة. واستثنى الحنفية إذا كان الموصى له غير معين، فإنه يدخل الموصى له وإن لم يكن موجودًا وقت الوصية إذا وجد عند موت الموصي. وصحح الشافعية الوصية للمعدوم إذا كان تبعًا للموجود. وفي دخول المتجدد بعد الوصية، وقبل موت الموصي عند الحنابلة روايتان (¬1). ¬
جاء في تبيين الحقائق: وإذا أوصى لأولاد فلان، وله أولاد، وولد له بعد ذلك أولاد دخل الكل في الوصية" (¬1). وجاء في تكملة رد المحتار نقلاً من التاترخانية: "الموصى له إذا كان معينًا من أهل الاستحقاق يعتبر صحة الإيجاب يوم أوصى. ومتى كان غير معين يعتبر صحة الإيجاب يوم موت الموصي. فلو أوصى بالثلث لبني فلان، ولم يسمهم، ولم يشر إليهم فهي للموجودين عند موت الموصي، وإن سماهم أو أشار إليهم فالوصية لهم، حتى لو ماتوا بطلت الوصية؛ لأن الموصى له معين، فتعتبر صحة الإيجاب يوم الوصية اهـ ملخصا" (¬2). وجاء في نهاية المحتاج للرملي: " ... نعم يقاس ما مر في الوقف أنه لو جعل المعدوم تبعًا للموجود كأن أوصى لأولاد زيد الموجودين ومن سيحدث له من الأولاد صحت تبعًا لهم" (¬3). ¬
وجه القول بعدم صحة الوصية للمعدوم
قال في حاشية الجمل: وهذا هو المعتمد (¬1). وقال ابن رجب: "وأما حكم الوصية فإنها لا تصح لمعدوم بالأصالة، كمن أوصى لحمل هذه الجارية صرح به القاضي وابن عقيل، وفي دخول المتجدد بعد الوصية، وقبل موت الموصي روايتان" (¬2). وجه القول بعدم صحة الوصية للمعدوم: الوجه الأول: أن الوصية تمليك، وتمليك المعدوم ممتنع. ونوقش هذا: بأنه استدلال بمحل النزاع، إذ التمليك في الوصية متراخ، وليس في الحال، بدليل صحتها للحمل، وملكه لها معلق على ولادته حيًا، فكذلك الموصى له وإن كان معدومًا وقت الوصية إلا أن تمليكه الموصى به معلق على وجوده، وهو يملك عند وجوده، فصحت الوصية له. الوجه الثاني: قياس الوصية على الميراث، فالميراث لا يثبت إلا لمن كان موجودًا وقت موت المورث، فكذلك الوصية. ونوقش هذا: بأن القياس غير صحيح لوجود الفرق بين الملك بالميراث والملك بالوصية، ¬
القول الثاني
منها: أن الميراث يملك قهرًا بدون اختيار، والوصية لا تملك إلا بقبول الموصى له، ويتفرع على هذا أن الوصية من باب التبرعات فيتسامح فيها ما لا يتسامح في غيرها, وليس الميراث كذلك فليس لأحد إسقاطه، والملك بالوصية أوسع من الملك بالميراث، فتصح الوصية للذمي، ولمن لا يملك كالمسجد بخلاف الميراث. القول الثاني: أن الوصية للمعدوم صحيحة، وبه قالت المالكية، والشافعية في مقابل الأصح، وقول في مذهب الحنابلة، اختاره ابن تيمية (¬1). قال الخرشي: "الركن الثاني: وهو الموصى له، وشرطه أن يكون يصح تملكه للموصى به شرعاً، سواء كان بالغًا عاقلاً مسلمًا موجودًا أم لا" (¬2). وجاء في حاشية الدسوقي: "إذا قال أوصيت لمن سيكون من ولد فلان، فيكون لمن يولد له، سواء كان موجودًا بأن كان حملاً، أو كان غير موجود من أصله، فيؤخر الموصى به للحمل والوضع، أو للوضع، فإذا وضع واستهل أخذ ذلك الشيء الموصى به، ومثله: أوصيت لمن يولد لفلان، فيكون لمن يولد له، لا لولده الموجود بالفعل، سواء علم أن له حين الوصية ولدًا أم لا، وحيث تعلقت الوصية بمن يولد في المستقبل كما في المثالين المذكورين، فإن كان حملًا فإنه يؤخر الموصى به لوضعه، فإن. وضع واستهل أخذه، وإلا رد لورثة ¬
دليل من قال: تصح الوصية للمعدوم
الموصي، وإن كان غير موجود من أصله انتظر بالوصية، إلى اليأس من الولادة ثم بعده ترد لورثة الموصي" (¬1). وقال العمراني: "وإن وصى لما تحمل هذه المرأة، ففيه وجهان: أحدهما: قال أبو إسحاق: تصح الوصية له وإن كان معدومًا حال الوصية، فعلى هذا: إذا حملت بعد الوصية له صحت الوصية" (¬2). وسوف أبحث الوصية للحمل في مسألة مستقلة إن شاء الله تعالى وجاء في مجموع الفتاوى: "وسئل: عن رجل له زرع ونخل، فقال عند موته لأهله: أنفقوا من ثلثي على الفقراء والمساكين إلى أن يولد لولدي ولد، فيكون لهم. فهل تصح هذه الوصية أم لا؟ فأجاب: نعم تصح هذه الوصية؛ فإن الوصية لولد الولد الذين لا يرثون جائزة، كما وصى الزبير بن العوام لولد عبد الله بن الزبير، والوصية تصح للمعدوم بالمعدوم، فيكون الريع للفقراء إلى أن يحدث ولد الولد فيكون لهم. والله أعلم" (¬3). دليل من قال: تصح الوصية للمعدوم: الدليل الأول: قياس الوصية على الوقف، فإذا صح الوقف على من سيولد من آل فلان، وهو معدوم، صحت الوصية للمعدوم. ¬
ونوقش هذا من وجهين
ونوقش هذا من وجهين: الوجه الأول: أن الوصية أجريت مجرى الميراث، والميراث لا يثبت إلا لمن كان موجودًا عند وفاة الموصي. ورد هذا: بأن الوصية أوسع من الميراث، لصحة الوصية للذمي، ولمن لا يعقل كالمساجد والقناطر، والحيوان ونحوها, ولا ميراث لهذه الأشياء. الوجه الثاني: أن الوقف يراد للدوام؛ لأنه قائم على تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، فصح للموجود والمعدوم، بخلاف الوصية (¬1). ويجاب: لا يمنع أن يراد بالوصية الدوام، وإن كان ذلك ليس شرطًا في صحة الوصية. الدليل الثاني: أن الوصية تمليك مضاف لما بعد الموت، فالملك فيها متراخ فلا مانع من صحة الوصية للموجود ولمن سيوجد، بخلاف الهبة فإنها تمليك للحال، فلم تصح للمعدوم. الدليل الثالث: أن الشارع اعتبر المعدوم كالموجود في بعض الأحكام، فيلحق بها الوصية، ¬
الراجح
ذلك: دية القتيل تورث عنه، ولا تجب له إلا بموته، فالتركة لا تورث عن الإنسان إلا إذا دخلت في ملكه قبل موته، فيقدر دخولها قبل موته. ومنها أن الجنين تنفخ فيه الروح بعد ستة أسابيع على حديث جابر في مسلم، أو بعد ستة عشر أسبوعًا على حديث ابن مسعود في الصحيحين، وقبل ذلك لا توجد فيه روح، ومع ذلك يعتبر الجنين بحكم الحي في الوصية له، والوقف عليه ولو كان نطفة إذا انفصل حيًا، وإن كان حين الوصية له والوقف عليه لا يوصف بالحياة البشرية، أو أن حياته كحياة النبات؛ لعدم نفخ الروح فيه. الراجح: بعد ذكر الخلاف أرى صحة الوصية للمعدوم إذا كان يغلب على الظن وجوده.
المبحث الرابع: الوصية للحمل
المبحث الرابع: الوصية للحمل [م - 1665] الوصية للحمل إما أن يكون الحمل موجودًا وقت الوصية، فالبحث فيه يدخل تحت مسألة: اشتراط أن يكون الموصى له أهلاً للتملك. وإما أن يكون الحمل غير موجود وقت الوصية، فالبحث فيه يدخل تحت مسألة: الوصية للمعدوم. فإن كان الحمل موجودًا وقت الوصية صحت الوصية له بالاتفاق بشرط أن ينفصل الحمل حيًا، وعلامته عند الجمهور أن يستهل صارخًا. وعند الحنفية أن يولد أكثره حيًا. فإن انفصل ميتًا لم تصح الوصية عند الأئمة الأربعة؛ لأن الوصية للميت لا تصح، كما أنه لو ولد ميتًا لم يستحق الميراث. الدليل على صحة الوصية للحمل الموجود: الدليل الأول: الإجماع، قال ابن قدامة: "وأما الوصية للحمل فصحيحة أيضًا، لا نعلم فيه خلافًا" (¬1). الدليل الثاني: أن الحمل يملك بالإرث، والوصية كالميراث إن لم تكن أوسع فالوصية للذمي صحيحة بخلاف الإرث (¬2). ¬
القول الأول
قال ابن قدامة: "الوصية جرت مجرى الميراث من حيث كونها انتقال المال من الإنسان بعد موته إلى الموصى له بغير عوض كانتقاله إلى وارثه، وقد سمى الله تعالى الميراث وصية، قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] " (¬1). فإن كان الحمل غير موجود وقت الوصية فقد وقع خلاف في صحة الوصية له على قولين: القول الأول: تصح له الوصية، ولو لم يكن موجودًا حين الوصية، ويستحق الوصية إذا ولد حئا، واستهل صارخًا، ويقوم مقام الاستهلال كثرة رضعه ونحوه مما يدل على تحقق حياته. وهذا مذهب المالكية، وقول مرجوح في مذهب الشافعية، وقول عند الحنابلة، اختاره ابن تيمية (¬2). جاء في الشرح الصغير: "إذا قال: أوصيت لمن سيكون من ولد فلان، فيكون لمن يولد له، سواء كان موجودًا بأن كان حملاً حين الوصية، أو غير موجود" (¬3). ¬
دليل من قال: تصح الوصية للولد ولو لم يكن موجودا
وقال الخرشي: "يصح لحمل سيكون في المستقبل، ويستحق الوصية إن استهل صارخًا" (¬1). وجاء في مجموع الفتاوى: "وسئل: عن رجل له زرع ونخل، فقال عند موته لأهله: أنفقوا من ثلثي على الفقراء والمساكين إلى أن يولد لولدي ولد، فيكون لهم. فهل تصح هذه الوصية أم لا؟ فأجاب: نعم تصح هذه الوصية؛ فإن الوصية لولد الولد الذين لا يرثون جائزة، كما وصى الزبير بن العوام لولد عبد الله بن الزبير، والوصية تصح للمعدوم بالمعدوم، فيكون الريع للفقراء إلى أن يحدث ولد الولد فيكون لهم. والله أعلم" (¬2). دليل من قال: تصح الوصية للولد ولو لم يكن موجودًا: الدليل الأول: أن الوصية كالوقف، فإذا صح الوقف على من سيولد من آل فلان، صحت الوصية كذلك. الدليل الثاني: أن المعتبر في الوصية ليس وقت إيجاب الوصية؛ فلو قال: أوصيت بثلث مالي، وليس له مال، ثم استفاد مالاً صحت الوصية. ولو أوصى لأخيه, وكان أخوه وقت إنشاء الوصية وارثًا، ثم وارثه ذكر صحت الوصية لأخيه؛ ولم يعتبر في الصحة وقت إيجاب الوصية. ¬
القول الثاني
القول الثاني: يشترط أن يكون الحمل موجودًا حين الوصية، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة على خلاف بينهم في كيفة التحقق من وجود الحمل وقت إنشاء الوصية (¬1). وجه القول بعدم الصحة: أن الوصية تمليك، وتمليك المعدوم لا يصح. وكيفية التحقق من وجود الحمل يرجع إلى وقت ولادته على النحو التالي: (1) أن يولد حيًّا لأقل من ستة أشهر من حين تكلم بالوصية؛ سواء كانت فراشًا لزوج أو سيد أو بائنًا؛ لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فإذا وضعته حيًّا لأقل منها، وعاش لزم أن يكون موجودًا حين الوصية. (2) أن تأتي به لأكثر من ستة أشهر من حين الوصية، ولم تتجاوز به أكثر مدة الحمل: فإن كانت فراشًا لزوج أو سيد لم تصح الوصية؛ لاحتمال أن تكون حملت به بعد الوصية. وإن لم تكن ذات زوج أو سيد صحت الوصية؛ إذا لم تتجاوز أكثر مدة الحمل من حين الوفاة أو الفرقة؛ لأنه يملك بالإرث فملك بالوصية، ولثبوت نسبه من أبيه إذا جاءت به في تلك المدة. ¬
(3) أن تأتي به حيًا بعد أن تجاوزت أكثر مدة الحمل من الوفاة أو الفرقة فالوصية باطلة؛ لأننا نقطع أن الحمل لم يكن موجودًا حين الوصية. إلا أن هؤلاء الفقهاء قد اختلفوا في أكثر مدة الحمل: فالحنفية أكثر مدة الحمل سنتان، فإن جاءت به لأقل من سنتين من الوفاة أو الفرقة صحت له الوصية، وإن جاءت به لأكثر من سنتين من الوفاة أو الفرقة لم تصح الوصية؛ لأنه حينئذ لم يكن موجودًا عند الوصية. وأما الحنابلة والشافعية فأكثر مدة الحمل عندهم أربع سنوات، فإن ولدته لأقل من أربع سنين من الوفاة والفرقة صحت له الوصية، وإن ولدته لأكثر من أربع سنين من الوفاة أو الفرقة لم تصح له الوصية؛ لأن الحمل لم يكن موجودًا عند الوصية. واستثنى الحنفية أن يقر الموصي بوجود الحمل فإن الوصية تصح له إذا جاءت به لأقل من سنتين من حين أوصى، حتى ولو كانت ذات زوج أو سيد؛ لأن وجوده في البطن عند الوصية ثبت بإقرار الموصي، وهو غير متهم فيه؛ لأنه موجب له ما هو خالص حقه، فيلحق بما لو صار معلومًا يقينًا بأن وضعته لأقل من ستة أشهر. قال في الحاوي الكبير: "إن وضعته لأقل من ستة أشهر من حين تكلم بالوصية لا من حين الموت صحت له الوصية لعلمنا أن الحمل كان موجودًا وقت الوصية. وإن وضعته لأكثر من أربع سنين من حين الوصية فالوصية باطلة؛ لحدوثه بعدها، وأنه لم يكن موجودًا وقت تكلمه بها.
الراجح
وإن وضعته لأكثر من ستة أشهر من وقت الوصية، ولأقل من أربع سنين، فإن كانت ذات زوج أو سيد يمكن أن يطأها فيحدث ذلك منه: فالوصية باطلة؛ لإمكان حدوثه، فلم يستحق بالشك. وإن كانت غير ذات زوج أو سيد يطأ، فالوصية صحيحة؛ لأن الظاهر تقدمه، والحمل يجري عليه حكم الظاهر في اللحوق فكذلك في الوصية" (¬1). وقال ابن قدامة: وإن كانت المرأة فراشًا لزوج، أو سيد يطؤها، فأتت به لستة أشهر فما دون، علمنا وجوده حين الوصية، وإن أتت به لأكثر منها, لم تصح الوصية له؛ لاحتمال حدوثه بعد الوصية. وإن كانت بائنًا، فأتت به لأكثر من أربع سنين من حين الفرقة، وأكثر من ستة أشهر من حين الوصية، لم تصح الوصية له، وإن أتت به لأقل من ذلك، صحت الوصية له؛ لأن الولد يعلم وجوده إذا كان لستة أشهر، ويحكم بوجوده إذا أتت به لأقل من أربع سنين من حين الفرقة. وهذا مذهب الشافعي" (¬2). الراجح: صحة الوصية للحمل مطلقًا، سواء كان موجودًا وقت الوصية، أو وجد بعد ذلك، ولا يوجد دليل على اشتراط وجود الموصى له وقت إيجاب الوصية، والله أعلم. وإذا صححنا الوصية للحمل فإنه يستحق الوصية بغض النظر عن جنسه وعدده. ¬
قال العمراني: "وكل موضع صححنا الوصية فيه للحمل: فإن ولدت ذكراً أو أنثى أعطي ذلك كله. وإن ولدت ذكرين، أو أنثيين، أو ذكرا وأنثى صرف إليهما بالسوية؛ لأنها عطية فلم يفضل الذكر فيها على الأنثى، كما لو وهب لهما. وهكذا: إن ولدت ذكرًا وأنثى وخنثى صرفت إليهم أثلاثًا" (¬1). ¬
الشرط الثالث أن يكون الموصى له معلوما
الشرط الثالث أن يكون الموصى له معلوما [م - 1666] يشترط في الموصى له أن يكون معلومًا غير مجهول، وعليه فلا تصح الوصية إذا قال: أوصيت لرجل من الناس؛ لأن تنفيذها متعذر مع جهالة الموصى له. والعلم به بالموصى له يكون إما بالتعيين بذكر اسمه كزيد، أو بالإشارة إليه كهذا الرجل، وإما بالوصف كالفقراء وطلبة العلم، ونحو ذلك. وهذا الشرط محل وفاق بين الفقهاء في الجملة وإن اختلفوا في بعض المسائل، هل هي من الوصية بمعلوم أو لا؟ من ذلك: اختلف العلماء في الرجل يوصي بثلث ماله لأحد هذين الرجلين على ثلاثة أقوال: القول الأول: الوصية باطلة، وهذا قول أبي حنيفة، وزفر، وهو مذهب المالكية، والشافعية والحنابلة (¬1). جاء في كشاف القناع: "أو قال: أوصيت بكذا لجاري فلان أو لقريبي فلان ¬
وجه القول بالبطلان
باسم مشترك؛ لأن تعيين الموصى له شرط، فإذا قال: لأحد هذين فقد أبهم الموصى له" (¬1). وجه القول بالبطلان: أن الوصية تمليك، والمجهول لا يمكن تمليكه. القول الثاني: أن الوصية صحيحة، وتكون لهما، وهذا قول أبي يوسف من الحنفية. وجه قول أبي يوسف: " لما مات قبل التعيين شاعت الوصية لهما, وليس أحدهما بأولى من الآخر، كمن أعتق أحد عبديه، ثم مات قبل البيان أن العتق يشيع فيهما جميعًا، فيعتق من كل واحد منهما نصفه، كذا هاهنا يكون لكل واحد منهما نصف الوصية" (¬2). القول الثالث: أن الوصية صحيحة، وللورثة تعيين أحدهما. وبه قال محمَّد بن الحسن. توجيه هذا القول: " أن الإيجاب وقع صحيحًا؛ لأن أحدهما وإن كان مجهولاً، لكن هذه جهالة تمكن إزالتها ألا ترى أن الموصي لو عين أحدهما حال حياته لتعين، ثم إن محمدًا يقول: لما مات عجز عن التعيين بنفسه، فيقوم وارثه مقامه في التعيين" (¬3). ¬
الراجح
جاء في حاشية ابن عابدين: "قال: أوصيت بثلثي لفلان أو فلان بطلت عند أبي حنيفة، لجهالة الموصى له. وعند أبي يوسف لهما أن يصطلحا على أخذ الثلث، وعند محمَّد يخير الورثة فأيهما شاؤوا أعطوا" (¬1). الراجح: لا أرى أي قول من هذه الأقوال صحيحًا، فالقول بإبطال الوصية وإن كان أقواها إلا أن الجهالة في عقد التبرع مغتفر على الصحيح. ومن قال: إن الوصية لهما فهذا خلاف إرادة الموصي؛ لأنه قال: لأحدهما. ومن قال: التعيين للورثة فهذا ضعيفًا أيضًا؛ لأن الوصية لم يتلقها الموصى له من جهتهم، فأقرب الأقوال عندي لو قيل: يقرع بينهما، فالتعيين بالقرعة إذا تزاحمت الحقوق، ولم يكن هناك سبب لتفضيل أحدهما على الآخر، أمر مشروع. قال تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141]. وقال تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران:44]. (ح -1029) ومن السنة ما رواه مسلم من حديث عمران بن حصين أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته، ولم يكن له مال غيرهم فدعا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجزأهم أثلاثًا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة (¬2). ¬
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه (¬1). ¬
الشرط الرابع ألا يكون الموصى له وارثا عند موت الموصي
الشرط الرابع ألا يكون الموصى له وارثًا عند موت الموصي [م - 1667] اتفق العلماء على أنه لا وصية للوارث إذا كان هناك وارث آخر. قال الإمام الشافعي: "وما وصفت -من أن الوصية للوارث منسوخة بآي المواريث، وأن لا وصية لوارث- مما لم أعرف فيه عن أحد: ممن لقيت، خلافًا" (¬1). [م - 1668] كما اتفقوا على أن الوارث إذا أوصى لبعض الورثة، فرد الورثة الوصية أنها ترتد بذلك. [م - 1669] واختلفوا فيما إذا أجاز الورثة الوصية للوارث، هل تصح؟ وإذا أجيزت، هل يكون لها حكم الوصية، أو تكون هبة من الورثة يشترط فيها ما يشترط في الهبة؟ القول الأول: أن الوصية للوارث صحيحة، وتكون موقوفة على إجازة الورثة، فإن أجازوها صحت، ويكون ذلك تنفيذًا لما أوصى به الميت، وحكمها حكم وصية الميت، وإن لم يجيزوها بطلت. وهذا قول جمهور العلماء من الحنفية، والشافعية في الأظهر، والمشهور من مذهب الحنابلة، وأحد القولين في مذهب المالكية (¬2). ¬
واستدلوا على ذلك بأدلة، منها
قال الجصاص: "الورثة متى أجازت الوصية لم يكن ذلك هبة مستأنفة من جهتهم، فتحمل على أحكام الهبات في شرط القبض، والتسليم، ونفي الشيوع فيما يقسم، والرجوع فيها، بل تكون محمولة عدى أحكام الوصايا الجائزة دون الهبات من قبل مجيزيها من الورثة" (¬1). وجاء في الإقناع: "وإجازتهم -يعني الوصية للوارث- تنفيذ لا هبة: فلا تفتقر إلى شروطها من الإيجاب، والقبول، والقبض, ونحوه، ولا تثبت أحكامها، فلو كان المجيز أبا للمجاز له لم يكن له الرجوع، ولا يحنث بها من حلف لا يهب، ولا يعتبر أن يكون المجاز معلومًا, ولو كان المجاز عتقًا كان الولاء للموصي، تختص به عصبته ... ولو قبل الموصى له الوصية المفتقرة إلى الإجازة قبل الإجازة، ثم أجيزت فالملك ثابت له من حين قبوله" (¬2). واستدلوا على ذلك بأدلة، منها: الدليل الأول: (ح -1530) روى أبو داود في المراسيل من طريق حجاج، عن ابن جريج، ¬
عن عطاء الخرساني، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة. قال أبو داود: عطاء الخرساني: لم يدرك ابن عباس ولم يره. قلت: وقد رواه طاوس وجابر بن زيد عن ابن عباس دون ذكر هذا الاستنثاء (¬1). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح -1031) روى الدارقطني من طريق سهل بن عمار، أخبرنا الحسين بن ¬
الدليل الثالث
الوليد، أخبرنا حماد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم النحر: لا وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة. [وسهل بن عمار متروك، وقد روي بإسناد أحسن من هذا دون هذه الزيادة] (¬1). الدليل الثالث: (ح -1032) وروى الدارقطني من طريق إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن عمرو بن خارجة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة (¬2). [ضعيف، تفرد فيه إسماعيل بن مسلم المكي، وقد رواه عبد الرحمن بن غنم ¬
وغيره عن عمرو بن خارجة، وليس فيه زيادة: إلا أن يجيز الورثة] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
(ح -1033) وأحسن إسناد روي فيه هذا الحديث هو ما زواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا إسماعيل ابن عياش، قال: حدثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني، سمع أبا أمامة، يقول: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فسمعته يقول: إن الله - عَزَّ وَجَلَّ - قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث. الحديث (¬1). [حسن، وليس فيه: إلا أن يشاء الورثة] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
قال الخطيب: "إن أهل العلم قد تقبلوه، واحتجوا به، فوقفنا بذلك على صحته عندهم كما وقفنا على صحة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا وصية لوارث)، وقوله في البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) وقوله: (إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة، تحالفا وترادا البيع)، وقوله: (الدية على العاقلة)، وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد، لكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها ... " (¬1). وقال الطحاوي: "أهل العلم قد قبلوا ذلك واحتجوا به فغني بذلك عن طلب الأسانيد فيه" (¬2). قلت: هذا الكلام يصدق على الحديث دون زيادة (إلا أن يشاء الورثة) والله أعلم. الدليل الرابع: القياس على الوصية للأجنبي بأكثر من الثلث، فإن الورثة إذا أجازوها جازت، فكذلك الوصية للورثة إذا أجازها الورثة. قال الخطابي: "وإنما تبطل الوصية للوارث في قول أكثر أهل العلم من أجل حقوق سائر الورثة، فإذا أجازوها جازت، كما إذا أجازوا الزيادة على الثلث للأجنبي جاز" (¬3). ¬
ويناقش
وقال ابن عبد البر: "حجة من أجاز تجويز الورثة الوصية للوارث اتفاقهم على أنه إن أوصى بأكثر من الثلث وأجازه الورثة جاز، فالوصية للوارث مثل ذلك والله أعلم" (¬1). ويناقش: ليس الخلاف في صحة إجازة الورثة، فإنها إجازة صحيحة لصدورها ممن يملك حقيقة، وإنما الخلاف في توصيف هذه الإجازة، هل تكون وصية، أو تكون هبة مبتدأة. الدليل الخامس: أن الموصي حين أوصى قد تصرف في ملكه، فيجب انعقاد تصرفه، غير أن حق الغير متعلق به، فوقف النفوذ على رضاه، ولم يمنع ذلك من صحتها كبيع ما فيه شفعة، فعلى هذا إذا أجاز الورثة نفذت الوصية. ويناقش: الوصية الحقيقية هي المقدمة على حق الوارث، ولا تتوقف على رضا الوارث، والإيجاب في الوصية معلق بالموت، فإذا وقع الموت يكون تصرفه ليس في ملكه، وهو لا يملك ذلك بعد موته، والشريك إذا باع حصته لأجنبي فقد باع مالاً يملكه، وكان القياس أن له أن يبيع ماله لمن يشاء، وإنما انتزع الشفيع حصة شريكه دفعًا للضرر الواقع عليه، وليس لأنه يملك حصة شريكه فافترقا. ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا تصح الوصية للوارث، وإن أجازها الورثة كانت هبة منهم لا وصية، فيشترط فيها ما يشترط في الهبة. وهذا هو المشهور من مذهب المالكية، وهو نص المدونة، واختاره المزني من الشافعية، وقال به بعض الحنابلة، وهو مذهب الظاهرية (¬1). قال ابن عبد البر: "اتفق الجمهور من فقهاء الأمصار على أن الوصية للوارث موقوفة على إجازة الورثة، فإن أجازها الورثة بعد الموت جازت، وإن ردوها فهي مردودة. ولهم في إجازتها إذا أجازها الورثة قولان: أحدهما: أن إجازتهم لها تنفيذ منهم لما أوصى به الميت، وحكمها حكم وصية الميت. والأخرى: أنها لا تكون وصية أبدًا، وإنما هي من قبل الورثة عطية وهبة للموصى له على حكم العطايا والهبات عندهم. وقد اختلف أصحاب مالك على هذين القولين أيضًا" (¬2). وقال الدردير في الشرح الكبير "وإن أجيز ما أوصى به للوارث، أو الزائد على الثلث أي أجازه الورثة فعطية منهم: أي ابتداء عطية، لا تنفيذ لوصية ¬
دليل من قال: لا تصح الوصية للوارث، وإجازتها هبة مبتدأة
الموصي، فلا بد من قبول الموصى له، وحيازته قبل حصول مانع للمجيز، وأن يكون المجيز من أهل التبرع ... " (¬1). وقال الماوردي: "ولو وصى لأحد ورثته، كان في الوصية قولان: أحدهما: باطلة إذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى إلا أن يستأنفه الورثة الباقون هبتها له بعد إحاطة علمهم بما يبذل منهم، وقبول منه، وقبض تلزم به الهبة، كسائر الهبات، فتكون هبة محضة لا تجري فيها حكم الوصية. وهذا قول المزني. والثاني: أنها موقوفة على إجازة الباقين من الورثة، كالوصية بما زاد على الثلث، فإن أجازها الباقون من الورثة: صحت، وإن ردوها وجعت ميراثا، وكان الموصى له به كأحدهم، يأخذ فرضه منها، وإن أجازها بعضهم وردها بعضهم صحت الوصية في حصة من أجازه ... " (¬2). قال ابن قدامة: "وإن أجازها -يعني الوصية للوارث- جازت، في قول الجمهور من العلماء. وقال بعض أصحابنا: الوصية باطلة، وإن أجازها سائر الورثة، إلا أن يعطوه عطية مبتدأة. أخذًا من ظاهر قول أحمد، في رواية حنبل: "لا وصية لوارث". وهذا قول المزني، وأهل الظاهر. وهو قول للشافعي" (¬3). دليل من قال: لا تصح الوصية للوارث، وإجازتها هبة مبتدأة: الدليل الأول: (ح -1034) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا إسماعيل ابن عياش، ¬
وجه الاستدلال
قال: حدثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني، سمع أبا أمامة، يقول: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع يقول: إِن الله - عَزَّ وَجَلَّ - قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ... الحديث (¬1). [حسن] (¬2). وجه الاستدلال: أن الله - عَزَّ وَجَلَّ - منع الوصية للوارث، فليس للورثة أن يجيزوا ما أبطله الله تعالى على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يبتدئوا هبة لذلك من عند أنفسهم، فهو مالهم، وقد رأينا أن ما ورد من زيادة (إلا أن يشاء الورثة) قد وردت بأسانيد ضعيفة، ولا يصلح الاحتجاج بمجموعها لأن كل طريق وردت فيه الزيادة قد خالفه من هو أرجح منه بعدم ذكرها، مما يجعل الزيادة منكرة، والمنكر لا يعتضد بمجموع الطرق. الدليل الثاني: أن الوصية للوارث لا تجوز بحال وإن أجازها سائر الورثة؛ لأن المنع منها إنما لحق الشرع فلو جوزناها لكنا قد استعملنا الحكم المنسوخ وذلك غير جائز، كما أن الوصية للقاتل غير جائزة وإن أجازها الورثة (¬3). وقد سبق لنا قول الإمام الشافعي: "وما وصفت -من أن الوصية للوارث ¬
الدليل الثالث
منسوخة بآى المواريث، وأن لا وصية لوارث- مما لم أعرف فيه عن أحد ممن لقيت خلافًا" (¬1). (ث -227) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الجهضم، عن عبد الله بن بدر، عن ابن عمر: إن ترك خيرًا الوصية قال: نسختها آية الميراث (¬2). [سنده صحيح]. (ث -228) وبمثله قال ابن عباس، فقد روى أبو عبيد القاسم بن سلام، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس، عن ابن سيرين، عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية، {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] قال: قد نسخ هذا (¬3). [صحيح، وهو في البخاري بغير هذا اللفظ] (¬4). الدليل الثالث: أن الوصية هي التي يملكها الموصي، وتقدم على الميراث، وتلزم بموت ¬
الدليل الرابع
الموصي، ولا يحق للوارث الاعتراض عليها، أما التي لا يملكها الموصي ابتداء، ولا تقدم على الميراث، ولا تلزم بموت الموصي إلا أن يأذن الوارث فهذه لا يمكن أن يقال: إنها هي الوصية التي قال الله فيها: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] فتعلق حق الوارث بها يمنع انعقادها من قبل الموصي، ويجعل العاقد الحقيقي هو الوارث، وليس الموصي، والموصي تصرف تصرفًا فضوليًا موقوفًا على إجازة المالك الحقيقي، وهو الوارث، ولذلك كان يملك أن يبطله، ويملك إن يجيزه. الدليل الرابع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع من عطية بعض الأولاد وتفضيل بعضهم على بعض. (ح -1035) لما رواه الشيخان من حديث النعمان بن بشير أن أباه أتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا، فقال: أكل ولدك نحلت مثله، قال: لا، قال: فارجعه (¬1). فإذا كان هذا في حال الصحة وكمال الملك ففي حال موته، وانتقال ملكه، وتعلق الحقوق به ممنوع من باب أولى. الدليل الخامس: أن الوصية للوارث كالوصية بأكثر من الثلث للأجنبي لا تجوز من الموصي، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لسعد حين قال له: أوصي بشطر مالي؟ قال: لا (¬2). ولم ¬
الراجح
يقل له: إن أجازه ورثتك، فدل على أن الإجازة هبة منهم، وليس ذلك وصية (¬1). الراجح: أرى أن إجازة الورثة هبة، وليست وصية للوارث، والخلاف في هذه المسألة قولًا وأدلة هو نفس الخلاف بالوصية بأكثر من الثلث للأجنبي، فما زاد على الثلث فهو هبة، وليس وصية، والله أعلم، وإذا رجحنا أن ما أجاز الورثة هو عطية مبتدأة، فإنه يشترط لنفاذه: الشرط الأول: لا بد من قبول جديد من الموصى له بعد الإجازة، وأما القبول الأول فلا عبرة به؛ لأنه كان موجهًا لإيجاب الموصي، وليس لإيجاب الوارث، وإجازة الورثة إيجاب بالهبة مستأنف مفتقر إلى قبول من الموهوب له، فاحتاج الأمر إلى قبول جديد. ولو رجع المجيز قبل القبض صح رجوعه؛ لأن الهبة لا تلزم على الصحيح إلا بالقبض خلافًا للمالكية، أما الوصية فتلزم بالقبول بعد موت الموصي، ولو لم تقبض. الشرط الثاني: أن يكون المجيز من أهل التبرع، بأن يكون بالغًا عاقلاً غير محجور عليه (¬2). ¬
الشرط الثالث
الشرط الثالث: زاد الشافعية: أن يكون المجيز عالمًا بالمجاز، فإن كان يجهل ذلك فإن الإجازة لا تلزمه، فالإجازة تصرف، والتصرف لا يصح إلا إذا علم المتصرف بمحله، فإن جهل المجيز بالمجاز به كان هذا التصرف باطلاً (¬1). جاء في حاشية الشرواني: "ولا أثر للإجازة بعد الموت مع جهل قدر المال الموصى به كالإبراء عن مجهول" (¬2). الشرط الرابع: أن تكون الإجازة بعد موت الموصي، فإن كانت الإجازة في حياة الموصي ففيها خلاف سوف أفرده في البحث إن شاء الله تعالى. ¬
مبحث في إجازة الورثة في حياة الموصي
مبحث في إجازة الورثة في حياة الموصي إذا أوصى الرجل لأحد الورثة، وأخذ موافقة الورثة في حياته، فهل لهم أن يردوها بعد وفاته، اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا عبرة بإجازة الورثة في حال حياة الموصي، فلو أجازوها حال حياته، ثم ردوها بعد وفاته صح الرد، وبطلت الوصية، وهذا مذهب الجمهور (¬1). حجة هذا القول: ليس للوارث حق في مال الموصي قبل موته، وهذا يجعل الإجازة في حياة الموصي لا عبرة بها؛ لأنها قبل ثبوت الحق. جاء في الهداية: "ولا معتبر بإجازتهم في حال حياته؛ لأنها قبل ثبوت الحق، إذ الحق يثبت عند الموت، فكان لهم أن يردوه بعد وفاته، بخلاف ما بعد الموت؛ لأنه بعد ثبوت الحق فليس لهم أن يرجعوا عنه" (¬2). وقال الشافعي في الأم: "وإذا أراد الرجل أن يوصي لوارث، فقال للورثة: إني أريد أن أوصي بثلثي لفلان وارثي، فإن أجزتم ذلك فعلت، وإن لم تجيزوا أوصيت بثلثي لمن تجوز الوصية له فأشهدوا له على أنفسهم بأن قد أجازوا له ¬
القول الثاني
جميع ما أوصى له وعلموه، ثم مات فخير لهم فيما بينهم وبين الله - عَزَّ وَجَلَّ - أن يجيزوه؛ لأن في ذلك صدقا ووفاء بوعد وبعدا من غدر وطاعة للميت وبرا للحي فإن لم يفعلوا لم يجبرهم الحاكم على إجازته، ولم يخرج ثلث مال الميت في شيء إذا لم يخرجه هو فيه، وذلك أن إجازتهموه قبل أن يموت الميت لا يلزمهم بها حكم من قبل أنهم أجازوا ما ليس لهم" (¬1). وقال ابن قدامة: "ولا يعتبر الرد والإجازة إلا بعد موت الموصي، فلو أجازوا قبل ذلك، ثم ردوا، أو أذنوا لموروثهم في حياته بالوصية بجميع المال، أو بالوصية لبعض ورثته، ثم بدا لهم فردوا بعد وفاته، فلهم الرد، سواء كانت الإجازة في صحة الموصي أو مرضه. نص عليه أحمد، في رواية أبي طالب. وروي ذلك عن ابن مسعود، وهو قول شريح، وطاوس، والحكم، والثوري، والحسن بن صالح، والشافعي، وأبي ثور، وابن المنذر، وأبي حنيفة، وأصحابه" (¬2). القول الثاني: قال المالكية: إن أجاز الوارث حال مرض الموصي المخوف لزمته الإجازة، فلا رد له بعد ذلك إلا من عذر (¬3). قال الدردير: إذا أجاز وصية مورثه قبل موته فيما له رده بعده كما لو كانت ¬
القول الثالث
لوارث أو أكثر من الثلث فتلزمه الإجازة، ليس له رجوع بعد ذلك فيما أجازه متمسكا بأنه التزام شيء قبل وجوبه، وإنما تلزمه الإجازة بشروط ... ثم ذكرها، وهي: كون الإجازة بمرض للموصي أي فيه سواء كانت الوصية فيه أو في الصحة. ولا بد من كون المرض مخوفًا ... فإن أجازه في صحته أو في مرض صح منه صحة بينة، ثم مرض، ومات لم يلزم الوارث ما أجازه. وأن لا يكون معذورًا ... بكونه أي الوارث في نفقة الموصي، فأجاز مخافة قطعها عنه، أو لأجل دينه الذي له عليه، أو لخوف سلطانه ... فأجاز مخافة سطوته عليه. وأن لا يكون المجيز ممن يجهل أن له الرد والإجازة (¬1). القول الثالث: أن الورثة إذا أجازوا ذلك ولو في حياة الموصي فإنه يمضي عليه، وهو قول جماعة من السلف؛ لأن الحق لهم فإذا رضوا بتركه سقط حقهم. قال ابن قدامة: "وقال الحسن، وعطاء، وحماد بن أبي سليمان، وعبد الملك بن يعلى، والزهري، وربيعة، والأوزاعي، وابن أبي ليلى: ذلك جائز عليهم؛ لأن الحق للورثة، فإذا رضوا بتركه سقط حقهم، كما لو رضي المشتري بالعيب" (¬2). ¬
الراجح
الراجح: الصواب قول الجمهور، وأن الإجازة في الحياة لا تلزم، سواء كانت في صحة الموصي أو في مرضه، والله أعلم.
فرع في وقت اعتبار الموصى له وارثا
فرع في وقت اعتبار الموصى له وارثًا [م - 1670] ذهب عامة الفقهاء على أن اعتبار كون الموصى له وراثًا أو غير وارث هو وقت موت الموصي، لا وقت إيجاب الوصية؛ لأن الوصية تمليك مضاف لما بعد الموت، فاعتير وقت التمليك (¬1). قال الزيلعي: "ويعتبر كونه وارثًا أو غير وارث وقت الموت، لا وقت الوصية" (¬2). وقال ابن رشد: "فكما تبطل وصيته إذا أوصى له وهو غير وارث، ثم صار وارثًا، فكذلك ينبغي أن تجوز إذا أوصى له وهو وارث، ثم صار غير وارث" (¬3). وقال ابن جزي المالكي: "إن أوصى بغير وارث، ثم صار وارثًا بأمر حادث بطلت الوصية" (¬4). وقال الماوردي الشافعي: "والاعتبار بكونه وارثًا، عند الموت، لا وقت الوصية. ¬
فعلى هذا: لو كان وارثًا، ثم صار عند الموت غير وارث: صحت له الوصية، ولو أوصى له وهو غير وارث، ثم صار عثد الموت وارثًا: ردت الوصية ما لم يجزها الورثة. ولو أوصى لامرأة أجنبية ثم تزوجها: بطلت الوصية، ولو أوصى لزوجته، ثم طلقها: صحت الوصية، والله أعلم" (¬1). وقال الخرقي: "ومن أوصى له وهو في الظاهر وارث، فلم يمت الموصي حتى صار الموصى له غير وارث، فالوصية له ثابتة؛ لأن اعتبار الوصية بالموت" (¬2). وخالف في ذلك ابن القاسم، فقد ذكر المالكية عنه أنه قال في الموصي إذا أوصى لوارث، كأن يوصي لأخيه، ثم يولد للموصي ولد يحجبه، قال: إنما تثبت الوصية إذا علم الموصي بالولد حتى يكون مجيزًا لها (¬3). وهذا القول من ابن القاسم مخالف للمشهور، فإن كان أخذ هذا المذهب من قول ابن القاسم في المرأة توصي لزوجها، ثم يطلقها، فإن علمت بطلاقها قبل موته فالوصية جائزة. قال الخرشي: "من أوصى بوصية في حال صحته، أو في حال مرضه لأخيه مثلاً، ثم ولد له ولد، فإن الوصية تصح؛ لأن الوارث صار غير وارث، وقد علمت أن المعتبر في الوصية ما يؤول الأمر إليه وهو يوم الموت ... وقوله: ¬
(ولو لم يعلم) مبالغة في قوله والوارث يصير غير وارث أي: ولو لم يعلم الموصي للوارث أنه صار غير وارث، وأشار بلو لرد قول ابن القاسم في المرأة توصي لزوجها ثم يطلقها ألبتة، فإن علمت بطلاقها قبل موتها فالوصية جائزة" (¬1). إن كان أخذ مذهب ابن القاسم من هذه المسألة فلا أرى أن التعميم مرض، لأن القول في هذه المسألة قد يكون اعتبارًا بالباعث، لا اشترطًا للعلم، فإن الباعث على الوصية لزوجها هو ديمومة العلاقة الزوجية، فلما طلقها بطلت وصيتها له لفوات الباعث على الوصية، لهذا اشترط ابن القاسم علم الزوجة بالطلاق، ومثل هذه المسألة قول الإمام أحمد في امرأة وهبت مهرها لزوجها، ثم طلقها أن له أن تطالبه بمهرها، ومثله من اشترى وزنًا من اللحم، ثم طلب من الجزار زيادة، فزاده فإنه لو رد اللحم بعيب كان يجب عليه أن يرد الزيادة، وإن أخذت باسم الهبة. ¬
الشرط الخامس في اشتراط إسلام الموصى له
الشرط الخامس في اشتراط إسلام الموصى له المبحث الأول وصية المسلم للذمي [م - 1671] علمنا في بحث سابق أن الإِسلام ليس شرطًا في صحة الوصية، وأن وصية الذمي صحيحة، سواء أوصى بها إلى ذمي مثله، أو أوصى بها إلى مسلم معين. والبحث هنا في صحة وصية المسلم لغير المسلم، وغير المسلم إما أن يكون ذميًا، أو مستأمنًا أو حربيًا. فأما الوصية للذمي فللفقهاء فيها قولان: القول الأول: ذهب عامة الفقهاء، وهو رواية ابن وهب عن مالك إلى جواز وصية المسلم للذمي المعين، وحكي ذلك إجماعًا. قال ابن الهمام: "ويجوز أن يوصي المسلم للكافر والكافر للمسلم، فالأولى؛ لقوله تعالى {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] الآية. والثاني: لأنهم بعقد الذمة ساووا المسلمين في المعاملات، ولهذا جاز التبرع من الجانبين في حالة الحياة فكذا بعد الممات" (¬1). ¬
والدليل على صحة وصية المسلم للذمي
وقال ابن المنذر: "ووصية المسلم للذمي جائزة في قول مالك، والثوري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وقد روينا إجازة ذلك عن جماعة منهم شريح، والشعبي، وعطاء، وابن سيرين" (¬1). وقال ابن قدامة: "تصح وصية المسلم للذمي، والذمي للمسلم، والذمي للذمي" (¬2). وفي مطالب أولي النهى: "ولا تصح الوصية لعامة اليهود ولا النصارى بخلاف المعين، فإنها تصح له ... ولا يصح جعل الكفر أو الجهل شرطًا في الاستحقاق" (¬3). ومعنى ذلك؛ أن الوصية إن كانت لذمي معين صحت، ولا يشترط فيها القربة، وإن كانت على جهة، كما لو أوصى لعموم اليهود والنصارى فلا تصح؛ لأن معنى ذلك أن يكون الكفر والجهل شرطًا في الاستحقاق. وقد ناقشت ذلك بتوسع في عقد الوقف فارجع إليه. والدليل على صحة وصية المسلم للذمي: الدليل الأول: الإجماع. قال ابن عبد البر: "لا خلاف علمته بين العلماء في جواز وصية ¬
الدليل الثاني
المسلم لقرابته الكفار؛ لأنهم لا يرثونه، وقد أوصت صفية بنت حيي لأخ لها يهودي" (¬1). الدليل الثاني: قال ابن المنذر: "قال ابن الحنفية، وعطاء، وقتادة في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 6] الآية، قالوا: في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني" (¬2). الدليل الثالث: أن الله - عَزَّ وَجَلَّ - لم ينهنا عن صلتهم، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]. الدليل الرابع: (ث -229) روى عبد الرزاق في المصنف، قال: عن الثوري، عن ليث، عن نافع، عن ابن عمر، أن صفية ابنة حيي أوصت لابن أخ لها يهودي (¬3). [حسن لغيره] (¬4). ¬
القول الثاني
فتبين بكل ما سبق أن اتحاد الدين بين الموصي والموصى له ليس بشرط، فتصح وصية الذمي للمسلم فيما يصح أن يتملكه المسلم، وتصح وصية المسلم للذمي فيما يصح أن يتملكه الذمي، فلا يصح أن يوصي له بالمصحف،، وإن أوصى له بعبد مسلم صحت الوصية وأمر بإخراجه من ملكه ببيع ونحوه،، والله أعلم. القول الثاني: كره ملك في أحد قوليه الوصية للكافر إلا على وجه الصلة كأن يكون قريبًا أو جازًا، أو سبقت له يد. ¬
جاء في التحصيل: "كره مالك الوصية لليهود والنصارى، قال سحنون: قال ابن القاسم: وكان قبل ذلك يجيزه ولست أرى به بأسًا إذا كان ذلك على وجه الصلة، مثل أن يكون أبوه نصرانيًا، أو يهوديًا، أو أخوه، أو أخته، فيصلهم على وجه صلة الرحم فلا أرى به بأسًا، وأراه حسنا، وأما بغير هذا فلا. وفي رواية عيسى بن دينار: وسئل ابن القاسم عن هذا، فقال: لا أرى به بأسًا لمثل أمه وأبيه وإخوته وما أشبه ذلك القرابة، وأما الأباعد فلا يعجبني ذلك وَلْيَعْطِفْ به على أهل الإِسلام. قال محمَّد بن رشد: حَدُّ الكراهة ما في تركه ثواب، وليس في فعله عقاب، فمعنى كراهية مالك الوصية لليهود والنصارى هو أن يؤثرهم بالوصية لقرابته منهم على المسلمين الأجنبيين، فرأى الوصية للمسلمين الأجنبيين أفضل من الوصية لقرابته الذميين. وقوله: وكان قبل ذلك يجيزه: معناه من غير كراهة؛ لما جاء في صلة الرحم من الأجر، والوجه في ذلك: أنه لم يترجح عنده على هذا القول الأفضل من الوجهين، فأجازه من غير كراهة، وهي رواية ابن وهب عنه، أن الوصية للكافر جائزة، واحتج بالحُلّةِ التي كساها عمَرُ أخا له مشركا بمكة، وهو الذي ذهب إليه ابن القاسم في رواية عيسى عنه، وقوله قبل ذلك: وأراه حسنًا قول ثالث في المسألة، وأنه رأى الأجر في الوصية لصلة رحمه، وإن كانوا ذميين أكثر من الأجر في المسلمين الأجنبيين" (¬1). والاحتجاج بجواز صلة الكافر على جواز الوصية له قياس مع الفارق؛ لأن ¬
الراجح من الخلاف
الصلة ثبت جوازها للكافر الحربي، بخلاف الوصية له على الصحيح المعتمد من مذهب المالكية، والله أعلم. وجاء في حاشية الدسوقي: "وحاصله أن ابن القاسم يقول بالجواز إذا كانت على وجه الصلة، بأن كانت لأجل قرابة، وإلا كرهت. وأجازها أشهب مطلقًا، لكن في التوضيح ما نصه: وقيد ابن رشد إطلاق قول أشهب بجوازها للذمي بكونه ذا سبب من جوار، أو قرابة، أو يد سبقت لهم، فإن لم يكن ذا سبب فالوصية لهم محظور؛ إذ لا يوصى للكافر من غير سبب، ويترك المسلم إلا مسلم مريض الإيمان" (¬1). الراجح من الخلاف: أرى أن الراجح جواز الوصية لأهل الذمة الملتزمين العهد؛ لأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإذا كنا نعرض نفوسنا للهلاك في الذب عنهم فشأن المال أهون. قال إمام الحرمين: "والوصية للذمي منفذة؛ فإنهم في عوننا ونصرتنا، ويتعين علينا الذب عنهم، فالوصية حمل على إعانتهم بطائفة من المال؛ فإن المال أهون من تعريض النفوس للهلاك بسبب الذب عنهم" (¬2). ¬
المبحث الثاني في وصية المسلم للكافر الحربي
المبحث الثاني في وصية المسلم للكافر الحربي [م - 1672] علمنا في المبحث السابق في صحة وصية الذمي للمسلم وللذمي، وصحة وصية المسلم للذمي، وحكي ذلك إجماعًا. واختلف الفقهاء في صحة وصية المسلم للكافر الحربي، ومحل الخلاف فيه إذا أوصى له بغير سلاح: القول الأول: أن الوصية لا تصح للحربي، وهذا مذهب الحنفية، وقول أصبغ من المالكية، وهو المعتمد، واختاره بعض الشافعية، وهو قول في مذهب الحنابلة، وبه قال سفيان الثوري (¬1). ¬
(ث -230) روى ابن أبي شيبة في المصنف: قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: قال سفيان: لا تجوز وصية لأهل الحرب (¬1). وجاء في حاشية تبيين الحقائق: "إذا أوصى المسلم للحربي لم تصح الوصية" (¬2). وفي منح الجليل: قال "أصبغ: تجوز لذمي، ولا تجوز لحربي -يعني الوصية- لأنها تقوية له، وترجع ميراثًا لا صدقة" (¬3). وفي حاشية الصاوي: "وخرج بالذمي الحربي، فلا تصح له الوصية على ما قاله أصبغ، وهو المعتمد، خلافًا لما يقتضيه كلام عبد الوهاب من صحتها له" (¬4). ¬
دليل من قال: لا تصح الوصية للحربي
وقال الشيرازي: "فإن وصى لحربي ففيه وجهان، أحدهما: أنه لا تصح الوصية، وهو قول أبي العباس بن القاص؛ لأن القصد بالوصية نقع الموصى له، وقد أمرنا بقتل الحربي، وأخذ ماله فلا معنى للوصية له ... " (¬1). دليل من قال: لا تصح الوصية للحربي: الدليل الأول: قال تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 9]. جاء في مجمع الأنهر نقلاً من الجامع الصغير: "الوصية لحربي وهو في دارهم باطلة؛ لأنها بر وصلة وقد نهينا عن بر من يقاتلنا، ثم ذكر الآية ... " (¬2). ويجاب: بأن الآية ليس فيها النهي عن بر المشركين، بل فيها النهي عن تولي المحاربين، وليست الوصية من الموالاة، وإلا لما جازت للذمي. قال فخر الرازي: قوله: (أن تولوهم) بدل من (الذين قاتلوكم)، والمعنى: لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء، وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء .. وقال أهل التأويل هذه الآية: تدل على جواز البر بين المشركين والمسلمين، وإن كانت الموالاة منقطعة" (¬3). وقال إمام الحرمين: "الوصية لا تقتضي الموالاة، ولا تعتمدها, ولست أدري ماذا كان يقول في الهبة من الحربي، وظاهر قياسه أنها كالوصية" (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن في الوصية للحربي تقوية لهم على حربنا، وفي تكثير أموالهم إضرار للمسلمين، فصار كما لو أوصى بالسلاح لهم. القول الثاني: تصح الوصية للحربي، ويستثنى من ذلك آلة الحرب فلا يوصى له بها، واختاره عبد الوهاب البغدادي المالكية، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة (¬1). جاء في منح الجليل: قال "عبد الوهاب: تجوز للمشركين -يعني الوصية- ولو أهل حرب" (¬2). قال الماوردي: "وأما الوصية للكافر فجائزة، ذميًّا كان أو حربيًّا" (¬3). وقال الشيرازي: "فإن وصى لحربي ففيه وجهان: الثاني: يصح، وهو المذهب؛ لأنه تمليك يصح للذمي فصح للحربي" (¬4). ¬
دليل من قال: تصح الوصية للحربي
وقال ابن قدامة: "وتصح الوصية للحربي في دار الحرب، نص عليه أحمد" (¬1). وقال الحارثي من الحنابلة: إذا لم يتصف بالقتال والمظاهرة صحت، وإلا لم تصح (¬2). دليل من قال: تصح الوصية للحربي: الدليل الأول: صحة الهبة للحربي بالإجماع، والوصية في معناها (¬3). وسيأتي في الأدلة ما يدل على صحة صلة الكافر الحربي. قال الماوردي: "لما جازت الهبة للحربي، وهو أمضى عطية من الوصية، كان أولى أن تجوز له الوصية" (¬4). الدليل الثاني: (ح -1036) ما رواه الشيخان من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب، رأى حلة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه، فلبستها للناس يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة؛ ثم جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها حلل، فأعطى عمر منها حلة، فقال عمر: يا رسول الله، ¬
الدليل الثالث
كسوتنيها، وقد قلت في حلة عطارد ما قلت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لم أكسكها لتلبسها، فكساها عمر أخًا له مشركا بمكة (¬1). فدل الحديث على جواز الهدية والصلة للأقارب وإن كانوا كفارًا محاربين لقوله فكساها أخًا له مشركًا بمكة. قال ابن عبد البر: "وفيه صلة القريب المشرك ذميًا كان أو حربيًا؛ لأن مكة لم يبق فيها بعد الفتح مشرك، وكانت قبل ذلك حربًا, ولم يختلف العلماء في الصدقة التطوع أنها جائزة من المسلم على المشرك قريبًا كان أو غيره، والقريب أولى ممن سواه، والحسنة فيه أتم وأفضل ... وأما التطوع بالصدقة فجائز على أهل الكفر من القربات وغيرهم لا أعلم في ذلك خلافًا" (¬2). الدليل الثالث: (ح -1037) ما رواه البخاري من طريق هشام، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر م، قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت: وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: "نعم صلي أمك" (¬3). ونوقش هذا الحديث والحديث الذي قبله: أن هذا كان قبل أن يؤمر بقتال المشركين، ولا يجوز اليوم مهاداة المشركين ولا متاحفتهم إلا للأبوين خاصة؛ لأن الهدية فيها تأنيس للمهدى إليه، وإلطاف ¬
ويجاب
له، وتثبيت لمودته، وقد نهى الله عن التودد للمشركين بقوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ} [المجادلة: 22] الآية، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} [الممتحنة: 1] الآية. وإنما بعث عمر بالحلة إلى أخيه المشرك بمكة على وجه التأليف له على الإِسلام؛ لأنه كان طمع بإسلامه، وكان التألف على الإِسلام حينئذ مباحًا، وقد تألف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صناديد قريش، وجعل الله للمؤلفة قلوبهم سهمًا في الصدقات، وكذلك فعلت أسماء في أمها" (¬1). ويجاب: بأن القول بأن صلة الكفار كانت مشروعة ونسخت، وأن الناسخ النهي عن موالاة الكافر وموادته قول ضعيف جدًا؛ لأن الهبة لا تعني الموالاة، وإلا لما جازت الوصية للذمي؛ لأن الذمي كافر، من جملة الكفار الذين تجب البراءة منهم، وعدم موالاتهم، وأما محبة الكافر، فإن كانت لكفره فهذه منافية للإيمان، وإن كانت محبة طبيعة كمحبة الولد والوالد والقريب، والزوجة الكافرة، ونحو هذا فإنه لا ينافي الإيمان, والله أعلم. نعم لو قيل: إن هذه الأدلة تدل على جواز الصلة، ولا تدل على جواز الوصية، والمخالف قد يوجد فارقًا بينهما يمنع من الاحتجاج بالقياس لكان أولى من القول بالنسخ، مع أني أرى أن قياس الوصية على الهبة قياس صحيح بجامع أن كلا منهما من عقود التبرع، والله أعلم. ¬
الراجح
الراجح: القول بصحة الوصية للحربي بشرطين: أحدها: أن يكون ذلك لشخص بعينه، وليس جهة؛ لأنه لا يتصور أن يوصي المسلم لجهة تكون حربًا على المسلمين. الثاني: أن يكون ذلك الشخص، وإن كان في دار الحرب إلا أنه لم يتصف بالقتال والمظاهرة على ما قال الحارث من الحنابلة، والله أعلم. وكل من أجاز الوصية للكافر الحربي فهو يجيز الوصية للكافر المستأمن إن لم يكن أولى؛ كالشافعية والحنابلة؛ والقاضي عبد الوهاب من المالكية؛ لأن المستأمن هو محارب دخل دارنا، وطلب الأمان، فأعطي الأمان مؤقتًا. قال القاضي عبد الوهاب المالكي في كتابه الإشراف: "كل من صح تمليكه بغير الوصية صح أن يملك بالوصية كالمعاهد والمستأمن" (¬1). وأما من منع الوصية للكافر الحربي فلهم قولان في الوصية للكافر المستأمن فالحنفية الذين منعوا الوصية للكافر الحربي أجازوا الوصية للمستأمن: قال الكاساني: "وإن كان مستأمنًا فأوصى له مسلم أو ذمي، ذكر في الأصل أنه يجوز؛ لأنه في عهدنا، فأشبه الذمي الذي هو في عهدنا" (¬2). ومنشأ ذلك: أن المستأمن فيه شبه من الذمي من جهتين: ¬
أحدهما: أنه في دار الإِسلام، وليس في دار الحرب. الثاني: أنه قد تم إعطاؤه الأمان، فلم يكن محاربًا بضم الميم وفتح الراء. وأما من منع الوصية له فقد ألحقه بالحربي من جهة أن أمانه عارض ومؤقت، قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6]. وأن المستأمن وإن كان في دارنا صورة إلا أنه من أهل الحرب حكمًا.
المبحث الثالث: الوصية للمرتد
المبحث الثالث: الوصية للمرتد [م - 1673] اختلف العلماء في الوصية للمرتد على قولين: القول الأول: لا تصح الوصية للمرتد، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، وقول مرجوح في مذهب الشافعية، ووجه في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في الفتاوى الهندية: "ولا تجوز وصية المسلم للمرتد، كذا في فتاوى قاضي خان" (¬2). وجاء في منح الجليل: "فلا تصح -يعني الوصية- لكافر بمصحف ... ولا لمرتد وحربي" (¬3). وفي المحرر: "وتصح الوصية للحري، وفي المرتد وجهان" (¬4). وجه القول بعدم الصحة: أن المرتد يجب قتله، فلا معنى للوصية له، وعلل المالكية بأن أموال المرتد ليست له، وإنما هي للمسلمين. ¬
القول الثاني
القول الثاني: تصح الوصية للمرتد إذا كان معينًا، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة (¬1). قال إمام الحرمين: "ومما أجراه الشارحون الوصية للمرتد، قالوا: هي بمثابة الوصية للحربي؛ فإنه لا عاصم للمرتد من سيف الإِسلام، كما لا عاصم للحربي، وقد ذكرنا أن الوصية للحربي جائزة في ظاهر القياس" (¬2). وقال أبو الخطاب الحنبلي في الهداية: "فإن أوصى لحربي أو مرتد حت" (¬3). وفي الإنصاف: "تصح الوصية لكل من يصح تمليكه، من مسلم، وذمي، مرتد وحربي" (¬4). وإنما اشترطوا أن تكون الوصية لمعين؛ لأنه لا يتصور أن يوصي لمن يرتد، يكون شرط الاستحقاق الاتصاف بالردة، فهذا من الدعوة إلى الكفر. قال الماوردي: "فأما وصية المرتد. فعلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن يوصي لمن يرتد عن الإِسلام، فالوصية باطنة؛ لعقدها على عصية. ¬
وجه القول بصحة الوصية للمرتد
والثاني: أن يوصي بها لمسلم، فيرتد عن الإِسلام بعد الوصية له، الوصية جائزة؛ لأنها وصية صادفت حال الإِسلام. والثالث: أن يوصي بها لمرتد معين ففي الوصية وجهان: أحدها: باطلة. والثاني: جائزة" (¬1). وقال العمراني: "ولا تصح الوصية بما لا قربة فيه، كالوصية لمن يرتد عن لدين ويقطع" (¬2). والمقصود بقوله: (ولا تصح بما لا قربة فيه) أي يشترط انتفاء المعصية، وليس معناه وجود القربة في الوصية، ولهذا صحح الوصية للمعين، ولو كان حربيًا أو مرتدًا. وجه القول بصحة الوصية للمرتد: الوجه الأول: القياس على صحة الوصية للحربي، فإذا جازت الوصية للحربي على الصحيح مع أنه مستحق للقتل، جازت الوصية للمرتد كذلك. الوجه الثاني: القياس على صحة الهبة له، والبيع منه وعليه. الراجح: أهلية المرتد أهلية كاملة، فإذا كان يصح تمليكه صح أن يوصى له، والله أعلم. ¬
الشرط السادس ألا يكون الموصى له قاتلا للموصي
الشرط السادس ألا يكون الموصى له قاتلاً للموصي [م - 1674] اختلف الفقهاء في اشتراط كون الموصى له غير قاتل للموصي، ونظرًا لكثرة الأقوال والتفاصيل في كل مذهب أرى أنني بحاجة أولاً إلى تحرير المسألة في كل مذهب على حدة، ثم استخلص الأقوال في المسألة، وبعد ذلك نأتي على ذكر الأدلة، وبيان الراجح. تحرير مذهب الحنفية: لا تصح الوصية للقاتل إن كان مكلفًا، سواء كانت الوصية قبل الجناية أو بعدها، وسواء كان القتل عمدًا أو خطأ إذا كان على سبيل المباشرة، بخلاف المتسبب؛ لأنه غير قاتل حقيقة، وإن أجاز الورثة الوصية جازت خلافًا لأبي يوسف، وكذا تصح الوصية إن لم يكن هناك وارث، أو كان القاتل صبيًا أو مجنونًا (¬1). جاء في الهداية: "ولا تجوز -يعني الوصية- للقاتل عامدًا كان أو خاطئًا بعد أن كان مباشرًا ... ولو أجازتها الورثة جاز عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا تجوز" (¬2). وقال ابن عابدين: "قوله: (ولا قاتل) أي مباشرة كالخاطئ والعامد بخلاف ¬
تحرير مذهب المالكية
المتسبب؛ لأنه غير قاتل حقيقة، وهذا إذا كان ثمة وارث وإلا صحت، وكان القاتل مكلفًا، وإلا فتصح للقاتل لو صبيًا أو مجنونًا" (¬1). تحرير مذهب المالكية: إن كان القتل بعد الوصية، فإن كان القتل خطأ صحت الوصية مطلقًا في مال الموصي دون ديته، من غير فرق بين كون الجناية قبل الوصية أو بعدها. وإن قتله عمدًا فإن كانت الجناية بعد الوصية لم تصح الوصية مطلقًا، لا في مال ولا في دية. وإن كانت الوصية بعد الجناية، فإما أن يعلم أن الموصى له هو الجاني أو لا يعلم. فإن علم الموصي صحت الوصية للقاتل عمدًا كان أو خطأ، وتكون الوصية في المال والدية في جناية الخطأ؛ لعلم الموصي بالدية في جناية الخطأ قبل موته، كما تكون الوصية في المال فقط في جناية العمد دون الدية؛ لأنه مال لم يعلم به الموصي؛ لأن دية قتل العمد لا تجب إلا بعد الموت، وبعد اختيار أولياء الدم الدية، وهذا لم يعلم به الموصي، إلا أن ينفذ قاتله مقاتله مثل أن يقطع نخاعه، أو مصرانه، ويبقي حيًا فترة يتكلم، فقبل أولاده الدية وعلمها الموصي، فأوصى دخلت الدية في الوصية. وإن لم يعلم الموصي بالجاني، فقال ابن القاسم: لا شيء له. وقال محمَّد هي نافذة له علم أو لم يعلم، هذا ملخص مذهب المالكية (¬2). ¬
تحرير مذهب الشافعية
جاء في التاج والإكليل: "إن أوصى له بعد ضربه وعلم به، فإن كانت الضربة خطأ جازت الوصية في المال والدية، وأما في العمد فتجوز في ماله دون الدية لأن قبول الدية كمَالٍ لم يعلم به. (وإلا فتأويلان). اللخمي: إن أوصى بعد الجناية عمدًا, ولم يعلم أنه قاتله، فقال ابن القاسم: لا شيء له. وقال محمَّد: هي نافذة له علم أو لم يعلم" (¬1). وفيه أيضًا: "لو أنفذ قاتله مقاتله، مثل أن يقطع نخاعه، أو مصرانه، وبقي حيًّا يتكلم، فقبل أولاده الدية، وعلمها، فأوصى فيها، لدخلت فيها وصاياه؛ لأنه مال طرأ له، وعلمه قبل زهوق نفسه، فوجب أن تجوز فيه وصاياه" (¬2). تحرير مذهب الشافعية: في جواز الوصية للقاتل قولان عند الشافعية، أظهرهما صحة الوصية للقاتل مطلقًا, ولو كان متعديًا (¬3). قال النووي في الروضة: "في صحة الوصية للقاتل قولان. أظهرهما عند العراقيين والإمام والروياني: الصحة، كالهبة. وسواء كان القتل عمدًا أو خطأ، بحق أم بغيره. وقيل: القولان في القتل ظلمًا ... والمذهب الصحة مطلقًا" (¬4). ¬
تحرير مذهب الحنابلة
وقال إمام الحرمين: "الوصية للقاتل، وفيها قولان مشهوران: أحد القولين- أنها تصح، وهو القياس ... " (¬1). وجاء في أسنى المطالب: "وكذا القاتل، ولو تعديا تصح الوصية له، بأن أوصى لجارحه ثم مات بالجرح، أو لإنسان فقتله؛ لعموم الأدلة؛ ولأنها تمليك بصيغة كالهبة والبيع بخلاف الإرث، وأما خبر (ليس للقاتل وصية) فضعيف، ولو صح حمل على وصيته لمن يقتله فإنها باطلة" (¬2). تحرير مذهب الحنابلة: في الوصية للقاتل إذا كان القتل مضمونًا بقصاص أو دية أو كفارة ولو كان خطأ ثلاثة أوجه في مذهب الحنابلة: أحدها: أن الوصية صحيحة مطلقًا، سواء أوصى قبل الجناية أو بعدها، وبه قال ابن حامد. الثاني: ليست صحيحة مطلقًا، وبه قال أبو بكر. الثالث: إن كانت الوصية بعد الجنابة صحت، وإن كانت قبلها لم تصح، وبه قال أبو الخطاب، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). قال في الإنصاف: "تلخص لنا في صحة الوصية للقاتل ثلاثة أوجه: الصحة مطلقا. اختاره ابن حامد. ¬
وعدمها مطلقا. اختاره أبو بكر. والفرق بين أن يوصى له بعد الجرح: فيصح، وقبله: لا يصح. وهو الصحيح من المذهب" (¬1). وقال ابن قدامة: "واختلف أصحابنا في الوصية للقاتل على ثلاثة أوجه: فقال ابن حامد: تجوز الوصية له. واحتج بقول أحمد، في من جرح رجلاً خطأ، فعفا المجروح. فقال أحمد: يعتبر من ثلثه. قال: وهذه وصية لقاتل ... ولأن الهبة له تصح، فصحت الوصية له، كالذمي. وقال أبو بكر: لا تصح الوصية له؛ فإن أحمد قد نص على أن المدبر إذا قتل سيده، بطل تدبيره، والتدبير وصية ... لأن القتل يمنع الميراث الذي هو آكد من الوصية، فالوصية أولى، ولأن الوصية أجريت مجرى الميراث، فيمنعها ما يمنعه. وقال أبو الخطاب: إن وصى له بعد جرحه، صح، وإن وصى له قبله، ثم طرأ القتل على الوصية، أبطلها جمعًا بين نصي أحمد في الموضعين ... ولأن الوصية بعد الجرح صدرت من أهلها في محلها, ولم يطرأ عليها ما يبطلها، بخلاف ما إذا تقدمت، فإن القتل طرأ عليها فأبطلها ... " (¬2). إذا وقفت على الروايات في كل مذهب، نأتي على خلاصة الأقوال في المسألة: ¬
القول الأول
القول الأول: لا تصح الوصية للقاتل مطلقًا، عمدًا كان أو خطأ. وهذا مذهب الحنفية، وقول في مذهب الشافعية، واختيار أبي بكر من الحنابلة. القول الثاني: تصح الوصية للقاتل مطلقًا، وهذا مذهب الشافعية، واختيار ابن حامد من الحنابلة. القول الثالث: إن كانت الوصية بعد الجناية صحت الوصية، وإن كانت الوصية قبل الجناية لم تصح، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة. القول الرابع: إن كان القتل خطأ صحت الوصية مطلقًا، تقدمت الوصية أو تأخرت، وكانت الوصية في المال والدية؛ لأن القاتل لم يتعمد الجناية. وإن كانت الجناية عمدًا كان في ذلك تفصيل: إن كانت الوصية قبل الجناية بطلت الوصية، وإن كانت الوصية بعد الجناية، فإن علم الموصي بالجاني صحت الوصية، وكانت في المال دون الدية، وإن لم يعلم ففي المسألة قولان. وهذا مذهب المالكية في الجملة. دليل من قال ببطلان الوصية للقاتل: الدليل الأول: (ح -1038) ما رواه الطبراني في الأوسط من طريق محمَّد بن مصفى، حدثنا
بقية، عن مبشر بن عبيد، عن حجاج بن أرطأة، عن عاصم، عن زر، عن علي قال: سمعت رسول الله ق يقول: ليس لقاتل وصية (¬1). [موضوع] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: قياس الوصية على الميراث، لكونهما تمليكا مضافًا إلى ما بعد الموت، فالوصية والقرابة سببان للتملك، إلا أن أحدهما استخلاف شرعي، والآخر بفعل العبد، فإذا كان الوارث لو قتل مورثه حرم من الميراث باعتبار القتل جناية عظيمة تستدعي الزجر، فكذا الموصى له لو قتل الموصي حرم من الوصية زجرًا له. ولأن المعنى في بطلان الوصية للوارث القاتل أن الورثة تتأذى من مشاركة القاتل تركة أبيهم، وهذا المعنى موجود في الوصية للقاتل، ولا فرق في هذا بين أن تتقدم الوصية على الجرح أو تتأخر عنه؛ لأن الوصية إنما تقع تمليكًا بعد الموت، فتقع وصية للقاتل تقدمت الجناية أو تأخرت (¬1). ويناقش: هناك فرق بين الوصية والميراث، فالميراث الملك فيه قهري، ولا يفتقر إلى قبول بخلاف الوصية، فإن الملك فيها يفتقر إلى قبول، والملك فيها اختياري، والميراث لا يصح مع اختلاف الدين بخلاف الوصية، ويمنع القاتل من الميراث حتى ولو عفى المقتول عن القاتل، ولو عفى الموصي عن الجاني، وأوصى له بعد الجناية صحت عند أكثر الفقهاء، وعللوا ذلك بأن الوصية لم يطرأ عليها ما يبطلها، وليس متهمًا باستعجال الوصية، بخلاف ما إذا تقدمت، ولو عفى الوارث عن القاتل لم يرث، ولو أجاز الوارث الوصية للقاتل صحت الوصية عند الحنفية. ¬
دليل من قال: تصح الوصية للقاتل
دليل من قال: تصح الوصية للقاتل: الدليل الأول: قال الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]. وجه الاستدلال: أن الآية مطلقة، والأصل في الدليل المطلق والعام أن يبقى على إطلاقه وعمومه، ولا يقيد المطلق ولا يخصص العام إلا دليل مثله متلقى من الشارع، ولا يوجد دليل على إخراج القاتل، والحديث الوراد في إخراج القاتل قد تبين فيما سبق أنه حديث موضوع، فلا يصح مقيدًا للآية الكريمة. الدليل الثاني: أن الوصية عقد تمليك يفتقر إلى القبول، فإن كان القتل بعد الوصية لم يمنع القتل من صحة الوصية كسائر التمليكات من بيع وهبة ونحوها، وإن كانت الوصية بعد القتل اعتبر ذلك من دفع السيئة بالحسنة، وهو أمر محمود. الدليل الثالث: قياس الوصية على الهبة، فإذا كان القتل لا يبطل الهبة فلا يبطل الوصية. دليل الحنابلة في التفريق بين الوصية قبل الجناية وبعدها: الدليل الأول: أن الوصية بعد الجناية لم يطرأ عليها ما يبطلها، أما قبلها فقد طرأ القتل عليها فأبطلها؛ لأنه يبطل ما هو آكد منها، وهو الميراث.
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن الجناية إذا سبقت الوصية لم يتهم باستعجالها بقتل الموصي، بخلاف ما إذا كانت الجناية بعد الوصية فإنه مظنة التهمة باستعجال الوصية عن طريق القتل، فيعامل بنقيض قصده. دليل المالكية على مذهبهم: أن الوصية إن كانت قبل الجناية، وكان القتل عمدًا بطلت الوصية؛ لأن الموصى له متهم باستعجال الوصية عن طريق القتل. وأما إن كانت الوصية بعد الجناية وعلم الموصي بالجاني صحت الوصية عمدًا كانت الجناية أو خطأ؛ لأن الموصى له لا يتهم باستعجال الوصية، فهو أراد دفع الإساءة بالإحسان, وهو أمر محمود. فإن كان القتل خطأ كانت الوصية في المال والدية؛ لعلم الموصي بالدية في جناية الخطأ قبل موته. وتكون الوصية في المال فقط في جناية العمد دون الدية؛ لأن الدية مال لم يعلم به الموصي؛ لأن دية قتل العمد لا تجب إلا بعد الموت، وبعد اختيار أولياء الدم الدية، وهذا لم يعلم به الموصي، ولهذا لو أن القاتل أنفذ مقاتله، وعلم أنه ميت لا محالة، وبقي حيًا فترة يتكلم، فقبل أولاده الدية وعلمها الموصي قبل موته، فأوصى دخلت الدية في الوصية (¬1). ¬
الراجح
وقال ابن رشد: مما لا اختلاف فيه أعلمه في المذهب أن وصية المقتول عمدًا لا تدخل في ديته إن قبلها ولاته؛ لأنه مال لم يعلم به" (¬1). وجاء في التاج والإكليل: "لو أنفذ قاتله مقاتله، مثل أن يقطع نخاعه، أو مصرانه، وبقي حيًا يتكلم، فقبل أولاده الدية، وعلمها، فأوصى فيها, لدخلت فيها وصاياه؛ لأنه مال طرأ له، وعلمه قبل زهوق نفسه، فوجب أن تجوز فيه وصاياه" (¬2). ولأن عمر - رضي الله عنه - أوصى حين طعن، وعلم أنه ميت، فجازت وصيته، قال ابن رشد: "ولا اختلاف في إجازة وصية من أنفذت مقاتله؛ لما ثبت من فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بحضرة جماعة الصحابة، وبالله التوفيق" (¬3). الراجح: أن الوصية إن كانت بعد الجناية صحت مطلقًا عمدًا كانت الجناية أو خطأ، في المال والدية؛ لأن الجميع مال للموصي، والعلم ليس شرطًا في نفاذ الوصية، ولذلك لو كان للموصي مال ضائع، ثم وجد بعد وفاته دخل في الوصية. وإن كانت الوصية قبل الجناية، فإن كانت عمدًا بطلت الوصية، وإن كانت خطأ صحت، وكون القتل مضمونًا في الخطأ لا يلحقه في العمد لغياب قصد الجناية، والله أعلم. ¬
الشرط السابع أن لا يكون الموصى له جهة معصية
الشرط السابع أن لا يكون الموصى له جهة معصية [م - 1675] اختلف الفقهاء في اشتراط ألا يكون الموصى له جهة معصية على قولين: القول الأول: التفريق بين وصية المسلم ووصية الذمي: فإذا أوصى الذمي بما ليس معصية عنده، وإن كان معصية في حكم الإِسلام صحت الوصية كأن يوصي ببناء الكنائس، وطبع كتب التوراة والإنجيل، وهذا قول أبي حنفية، وقول في مذهب المالكية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في مواهب الجلبل: "لابن القاسم في العتبية في نصراني أوصى بجميع ماله للكنيسة، ولا وارث له، قال: يدفع إلى أساقفتهم ثلث ماله، وثلثاه للمسلمين" (¬2). وقال الزيلعي: "إذا أوصى بما هو قربة عندهم وليس بقربة عندنا كبناء الكنيسة لقوم غير معينين فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز، وعندهما لا يجوز وإن كان لقوم معينين يجوز بالإجماع" (¬3). "وجه قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن المعتبر في وصيتهم ما هو قربة عندهم، لا ما هو قربة حقيقة؛ لأنهم ليسوا من أهل القربة الحقيقة" (¬4). ¬
القول الثاني
وجاء في الإنصاف: "وروي عن الإمام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل على صحة الوصية من الذمي لخدمة الكنيسة. وقال في الرعاية: ولا تصح لكتب توراة وإنجيل على الأصح، وقيل: إن كان الموصي بذلك كافرا: صح، وإلا فلا" (¬1). القول الثاني: لا يصح، وهذا قول الجمهور، وبه قال صاحبا أبي حنيفة (¬2). جاء في الحاوي الكبير: "وأما الوصية للبيع، والكنائس، فباطلة؛ لأنها مجمع معاصيهم. وكذلك الوصية بكتب التوراة والإنجيل، لتبديلها وتغييرها. وسواء كان الموصي مسلما أو كافرًا" (¬3). وجاء في الإقناع في فقه الإمام أحمد: "ولا يصح -يعني الوقف- على كنائس وبيوت نار وبيع وصوامع وديورة ومصالحها, ولو من ذمي، بل على من ينزلها من مار ومجتاز بها فقط، ولو كان من أهل الذمة، ولا على كتابة التوراة والإنجيل ولو من ذمي، ووصية كوقف" (¬4). فقوله: ووصية كوقف: أي لا يصح أن يوصي على الكنائس وكتابة التوراة والإنجيل، ولو كان الموصي ذميًا. ¬
وتعقب هذا
وقال في كشاف القناع: " (ووصية كوقف في ذلك) المذكور مما تقدم، فتصح فيما يصح الوقف عليه، وتبطل فيما لا يصح عليه" (¬1). وجاء في بدائع الصنائع: "وإن كان شيئًا هو قربة عندهم لا عندنا، بأن أوصى بأرض له تبنى بيعة أو كنيسة، أو بيت نار أو بعمارة البيعة، أو الكنيسة، أو بيت النار، أو بالذبح لعيدهم ... فهو على الاختلاف الذي ذكرنا: إن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز، وعندهما لا يجوز. وجه قولهما: أن الوصية بهذه الأشياء وصية بما هو معصية، والوصية بالمعاصي لا تصح" (¬2). وتعقب هذا: القول بأن هذه الوصية معصية فلا تصح: هل المقصود بأنه معصية باعتقادهم أو معصية باعتقادنا؟ فإن كان المقصود باعتقادهم فالكنائس قربة عندهم، وإن كان المقصود معصية باعتقادنا فهذا ليس بشيء؛ لأن هذا لو كان مانعًا لما جاز قبول الجزية منهم؛ لأنه تقرير لكفرهم، وبقائهم عليه" (¬3). ولأن الكافر ليس من أهل الثواب حتى نشترط القربة، وهو لم يوص لمن يعتقد حرمته، وإنما أوصى به لأهل الذمة، فيجب تنفيذ وصاياهم بحسب اعتقادهم، ولذلك نصحح التصرف فيما بينهم من بيع الخمر والخنزير بناء على ¬
اعتقادهم، وليس بناء على حكمنا (¬1). نعم لو طلبوا حكمنا حكمنا بينهم بما أنزل الله، وليس بمقتضي اعتقادهم. قال إمام الحرمين: "ولو أوصى بما يكون قربة عندهم، معصية عندنا كعمارة الكنائس والبيع وبيت النيران، فالوصية إذا رفعت إلينا، أبطلناها" (¬2). واستثنى صاحبا أبي حنيفة أن تكون الوصية لأقوام بأعيانهم فتصح؛ لأن هذا من باب التمليك (¬3). وسبق لنا الكلام على هذه المسألة باستكمال أقسامها بشيء من التفصيل، والله أعلم. ¬
الباب الخامس في شروط الموصي به
الباب الخامس في شروط الموصي به الشرط الأول في اشتراط مالية الموصى به سبق لنا في عقد البيع أن تكلمنا عن المال، وعن الخلاف بين الجمهور والحنفية في حقيقته، فالمنافع والديون لا تعتبر مالاً عند الحنفية خلافًا للجمهور، واشتراط الطهورية في الأعيان المبيعة ليست شرطًا عند الحنفية خلافًا للجمهور، والكلب مال متقوم عند الحنفية مطلقًا معلمًا كان أو غير معلم، وليس مالًا عند الشافعية والحنابلة مطلقًا، والمالكية على التفريق بين المعلم وغيره. لهذا ونحن نبحث اشتراط مالية الموصى به ينبغي أن نتصور كل هذا الخلافات بين الفقهاء. ولما كان في عقد البيع تشترط مالية العوضين؛ لأنه من عقود المعاوضة، فهل تشترط المالية في عقود التبرعات كالوصية، فعقد التبرع أوسع من عقد المعاوضة، فإذا أوصى بما ليس مالاً كالوصية بالكلب، أو الوصية بشيء نجس, أو أوصى بما لا يصح بيعه كالوصية بمجهول أو معدوم، فهل تصح هذه الوصية؟ وقبل الجواب على هذا السؤال كان علينا البحث في اشتراط مالية الموصى به، ثم نفرع على هذا البحث الدخول في فروع هذه المسألة، والله أعلم.
[م - 1676] وقد اختلف الفقهاء في اعتبار اشتراط المالية للموصى به. القول الأول: اشترط الحنفية أن يكون الموصى به قابلاً للتملك بعقد من العقود، ومحل الملك هو المال المتقوم عندهم، فلا تصح الوصية بما لا يملك، كالخمر، والميتة، والدم، ولا تصح الوصية بما ليس مالاً كالجلد قبل الدبغ. قال ابن نجيم: "وكون الموصى به شيئًا قابلاً للتمليك من الغير بعقد من العقود حال حياة الموصي سواء كان موجودا في الحال أو معدوما" (¬1). وفي رد المحتار: وكون الموصى به قابلاً للتملك بعد موت الموصي بعقد من العقود مالاً أو نفعًا موجودًا للحال أم معدومًا" (¬2). وجاء في بدائع الصنائع: "وأما الذي يرجع إلى الموصى به، فأنواع منها: أن يكون مالاً، أو متعلقًا بالمال؛ لأن الوصية إيجاب الملك، أو إيجاب ما يتعلق بالملك من البيع، والهبة، والصدقة، والإعتاق، ومحل الملك هو المال، فلا تصح الوصية بالميتة، والدم من أحد ولأحد؛ لأنهما ليس بمال في حق أحد، ولا بجلد الميتة قبل الدباغ، وكل ما ليس بمال" (¬3). ويناقش: بأن حقيقة الوصية: هي نقل ملكية الأشياء من الموصي إلى الموصى له عن طريق التبرع، فإذا كان يصح تملك الجلد قبل الدبغ، فلماذا يمنع من الوصية به، ¬
فإذا كان مثل هذا يقبل التوريث، والتوريث نقل للملكية فكذا الوصية به، نعم لو كان جلد الميتة قبل الدبغ لا يصح تملكه لكان القول بمنع الوصية به قولاً صحيحًا. القول الثاني: ذهب المالكية إلى أنه يشترط في الموصى به شرطان: أحدهما: أن يكون مما يصح أن يتملكه الموصى له، ولم يشترطوا أن يكون هذا التملك بعقد من العقود كالحنفية. والأشياء التي تقبل التملك أعم من أن تكون مالاً: فكل مال يصح تملكه، وليس كل ما يصح تملكه فهو مال، فالأعيان النجسة يصح تملكها, وليست مالاً عند الجمهور، كما صرحوا أن الوصية تصح في الموجود والمعدوم، والدين وغيره، والعين، والمنفعة، والمقدور على تسليمه وغير المقدور على تسليمه، وتصح بالمجهول والمعلوم، ولا تصح الوصية بما لا يصح تملكه كالخمر. الثاني: إذا كانت الوصية بالمال فيشترط أن يكون فيما يحل صرفه فيه، فلا تجوز الوصية بالنياحة على الميت، ولا أن يوصي بمال لمن يصوم أو يصلي عنه. قال ابن عرفة كما في التاج والإكليل: "الموصى به كل ما يملكه من حيث الوصية به، فتخرج الوصية بالخمر وبالمال فيما لا يحل صرفه فيه، وسمع عيسى جواب ابن القاسم عمن أوصى بمناحة ميت أو لهو عرس لا ينفذ ذلك ... لأن النياحة على الميت محرمة.
وفي الموازية: من أوصى بمال لمن يصوم عنه لم يجز ذلك. ابن عتاب: وكذلك لمن يصلي عنه" (¬1). وقال الخرشي: "الموصى به: هو كل ما يصح أن يتملكه الموصى له، فلا تصح بخمر ونحوه" (¬2). وقال أيضًا: "الكافر تصح وصيته لانطباق الحد عليه إذا هو حر مميز، مالك إلا إذا أوصى بشيء لا يملكه المسلم كخمر ونحوه، أما إن أوصى بذلك لكافر فإن وصيته تصح" (¬3). وجاء في شرح ميارة: "الوصية تصح بكل مملوك، حتى الثمر في رؤوس الشجر، والدين في الذمة، والحمل ظاهراً كان أو لم يظهر، وإن كان في ذلك غرر؛ لأنه تبرع، والغرر فيه جائز قال في الجواهر: وتصح الوصية بكل مملوك يقبل النقل، ولا يشترط كونه موجودًا أو عينًا، بل تصح الوصية بالحمل، وثمرة الشجر، والمنفعة، ولا كونه معلومًا, ولا مقدورًا عليه، بل تصح بالحمل كما تقدم، وتصح بالمغصوب، والمجاهيل، ولا كونه معينًا إذ تصح بأحد العبيد، ولا تصح بما لا تملكه كالخمر" (¬4). وكثير من هذه الأمثلة ستكون محل دراسة مستقلة إن شاء الله تعالى، ولكن أردت من هذا السرد أن نعرف موقف المالكية من اشتراط مالية الموصى به. ¬
القول الثالث: ذكر إمام الحرمين ضابطًا لما يصح أن يوصى به، أن كل ما يتعلق به حق الإرث تتعلق الوصية به إذا انتفع الموصى له انتفاع الوارث، فصحح الوصية بالكلب الذي يصح اقتناؤه، وإن كان لا يصح بيعه، قال إمام الحرمين: "وعماد جواز الاقتناء الانتفاع المشروع، ثم البيع وإن كان ممتنعا، فالوصية جائزة؛ فإن البيع يستدعي الملك المطلق التام، والوصية لا تقتضي ذلك، بل أقرب معتبر فيها الوراثة، فكل ما يتعلق به حق الإرث تتعلق الوصية به إذا انتفع الموصى له انتفاع الوارث" (¬1). هذا من حيث الإجمال أما من حيث التفصيل: فذكر الشافعية في الموصى به شروطًا: أحدها: أن يكون فيه منفعة مقصودة، فالوصية في الأشياء التي لا نفع فيها عبث، وهذا الشرط يشمل الأعيان والمنافع. الشرط الثاني: أن تكون المنفعة مباحة، فلا تصح الوصية بمنفعة محرمة كآلات اللهو ونحوها. وإباحة الانتفاع أعم من المال، قكل مالٍ يباح الانتفاع به، وليس كل ما يباح الانتفاع به فهو مال، ولذلك صححوا الوصية بكلب قابل للتعليم، وإن لم يكن الكلب مالاً. الشرط الثالث: أن يقبل النقل من شخص لآخر، فما لا يقبله لا تصح الوصية ¬
به، كالقصاص وحد القذف، فإنهما وإن انتقلا بالإرث لا يتمكن مستحقهما من نقلهما. فهذه الشروط تدل على أن الشافعية لا يشترطون في الموصى به أن يكون مالاً، فصححوا الوصية بنجاسة يحل الانتفاع بها ككلب يقبل التعليم، وزبل، وخمر محترمة: وهي ما عصرت بقصد التخليل، وصححوا الوصية بالمجهول كالحمل الموجود في البطن، وبما لا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء، والعبد الآبق، وبالمعدوم. قال الغزالي: "الركن الثالث: في الموصى به، ولا يشترط فيه أن يكون مالاً فيصح الوصية بالزبل، والكلب، والخمر المحرمة، ولا كونه معلومًا فيصح الوصية بالمجهول. ولا كونه مقدورًا على تسليمه فيصح الوصية بالآبق، والمغصوب، والحمل، وهو مجهول وغير مقدور عليه. ولا كونه معينا فتصح الوصية بأحد العبدين" (¬1). جاء في أسنى المطالب: "الركن الثالث: الموصى به، وشرطه أن يكون مقصودًا يحل الانتفاع به، فلا تصح الوصية بدم ونحوه مما لا يقصد، ولا بمزمار ونحوه مما لا ينتفع به شرعا؛ لأن المنفعة المحرمة كالمعدومة" (¬2). وجاء في نهاية المحتاج: "وللموصى به شروط منها: كونه قابلاً للنقل بالاختيار، فلا تصح بنحو قود، وحد قذف لغير من هو عليه ... ولا بحق تابع ¬
للملك كخيار، وشفعة لغير من هي عليه لا يبطلها التأخير لنحو تأجيل الثمن. وكونه مقصودًا بأن يحل الانتفاع به شرعًا. وتصح بالحمل الموجود، واللبن في الضرع، وبكل مجهول، ومعجوز عن تسليمة وتسلمه ... وبالمنافع المباحة وحدها مؤبدة ومطلقة ولو لغير الموصى له بالعين؛ لأنها أموال تقابل بالعوض كالأعيان (¬1). قال الشافعي في الأم: "ولو قال: أعطوا فلانًا كلبًا من كلابي، وكانت له كلاب، كانت الوصية جائزة؛ لأن الموصى له يملكه بغير ثمن، وإن استهلكه الورثة، ولم يعطوه إياه، أو غيرهم لم يكن له ثمن يأخذه؛ لأنه لا ثمن للكلب" (¬2). وقال الشيرازي: "فإن وصى بما تحمله الجارية، أو الشجرة صحت الوصية؛ لأن المعدوم يجوز أن يملك بالسلم والمساقاة فجاز أن يملك بالوصية ... (¬3). وقال الأنصاري: "ولا يشترط في الموصى به أن يكون طاهرًا، نعم الشرط كونه يجوز الانتفاع به، كالزبل، والكلب الذي يجوز اقتناؤه، والزيت النجس. لأن هذه الأمور اختصاصات تنتقل إلى الورثة، فيجوز نقلها إلى الموصى له" (¬4). ¬
القول الرابع: مذهب الحنابلة: مذهب الحنابلة قريب من مذهب الشافعية، والضابط عندهم: أن كل شيء ينتقل بالإرث فإنه ينتقل بالوصية، ولو لم يكن مالاً. قال في كشاف القناع: "وتصح الوصية بمجهول كعبد وثوب؛ لأن الموصى له شبيه بالوارث من جهة انتقال شيء من التركة إليه مجانًا، والجهالة لا تمنع الإرث؛ فلا تمنع الوصية" (¬1). كما صرح الحنابلة بجواز الوصية بكل ما فيه نفع مباح، ولو لم يكن مالاً، كما صححوا الوصية بما لا يقدر على تسليمه، كالعبد الآبق، والجمل الشارد، والطير في الهواء، والسمك في الماء، وصححوا الوصية بالمعدوم، وبغير المال من الحقوق. جاء في الإنصاف: وتصح -يعني الوصية- بما فيه نفع مباح من غير المال، كالكلب، والزيت النجس ... " (¬2). جاء في المحرر: "وتصح الوصية بما لا يقدر على تسليمه، وبما تحمل أمته أو شجرته أبدًا أو إلى مدة، فإن حصل منه شيء وإلا بطلت فيه الوصية. وتصح بغير المال مما يباح نفعه، كالكلب المعلم، والزيت النجس ونحوهما" (¬3). وقال ابن قدامة: "وتصح الوصية بما لا يقدر على تسليمه، كالعبد الآبق، ¬
والجمل الشارد، والطير في الهواء، والسمك في الماء؛ لأن الوصية إذا صحت بالمعدوم فبذلك أولى؛ ولأن الوصية أجريت مجرى الميراث، وهذا يورث، فيوصى به؛ فإن قدر عليه أخذه، وسلمه إذا خرج من الثلث، وللوصي السعي في تحصيله، فإن قدر عليه أخذه إذا خرج من الثلث" (¬1). والراجح: أن كل شيء يمكن انتقاله بالإرث من الأموال وغيرها من الحقوق تصح الوصية به، واشتراط الحنفية أن يكون مالًا بحيث منعوا من الوصية بالجلد قبل الدبغ باعتبار أنه ليس بمال قول ضعيف، والله أعلم. إذا علم هذا في الجملة فسوف نناقش إن شاء الله تعالى على وجه التفصيل الوصية ببعض الأشياء التي يختلف في صحة الوصية بها في المباحث التالية، والتي قد تكون متفرعة عن هذا الشرط، والله أعلم. ¬
المبحث الأول: الوصية بالدين
المبحث الأول: الوصية بالدين [م - 1677] اختلف الفقهاء في مالية الديون على قولين: أحدهما: يرى أن الدين لا يعتبر مالاً حقيقة، وإنما يعتبر مالاً حكمًا باعتبار أنه يتحول إلى المال بالاستيفاء، وهذا مذهب الحنفية، والقديم من قولي الشافعي عليه - رَحِمَهُ اللَّهُ -. والثاني: يرى أن الدين يعتبر من الأموال، وهو أحد القولين في مذهب الشافعية، ومذهب الحنابلة. وسبق لنا ذكر أدلة هذه المسألة في عقد البيع فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وعلى اختلاف الفقهاء في مالية الدين لم يختلفوا في صحة الوصية به، سواء كانت الوصية بالدين لمن عليه الدين، أو كانت الوصية به لغير من هو عليه (¬1). جاء في الدر المختار: "قوله لمديونه: إن كان لي عليك دين أبرأتك عنه صح، وكذا إن متُّ بضم التاء فأنت بريء منه أو في حل جاز وكان وصية" (¬2). وجاء في لسان الحكام: "إذا قال الطالب لمديونه: إذا من فأنت بريء من الدين الذي عليك جاز، ويكون وصية من الطالب للمطلوب" (¬3). ¬
وجاء في كشف المخدرات: "وإن قال: إن مت -بضم التاء- فأنت في حل فوصية" (¬1). وقال ابن نجيم: "وخرج عن تمليك الدين لغير من هو عليه الحوالة ... وخرج أيضاً الوصية به لغير من هو عليه فإنها جائزة" (¬2). ¬
المبحث الثاني: الوصية بالمجهول
المبحث الثاني: الوصية بالمجهول الجهالة لا تمنح صحة الوصية. [م - 1678] تكلمنا فيما سبق حكم جهالة الموصى له، وكلام الفقهاء فيها، ونريد في هذا المبحث أن نعرف حكم جهالة الموصى به، وهل يختلف في الحكم عن جهالة الموصى له؟ وللجواب نقول: اختلف الفقهاء في صحة الوصية المجهولة على قولين: القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى صحة الوصية بالمجهول، كما لو أوصى بثلث ماله، والمال غير معلوم، أو أوصى بجزء من ماله، ولم يبين المقدار، أو أوصى له بشاة من غنمه، أو بثوب من ثيابه، ولم يعين، أو قال: أعطوه ما شئتم، أو ما شاء الوصي (¬1). جاء في الهداية: "الجهالة لا تمنع صحة الوصية" (¬2). وجاء في كفاية الطالب الرباني: "الموصى به: وهو كل ما يصح أن يتملكه الموصى له ... ولا يشترط أن يكون معلومًا، بل تصح الوصية بالمجهول" (¬3). ¬
وجه القول بالصحة
وقال الغزالي: "الركن الثالث: في الموصى به، ولا يشترط فيه أن يكون مالاً .. ولا كونه معلومًا فيصح الوصية بالمجهول" (¬1). وفي البيان للعمراني: "وتصح الوصية بالمجهول، كالوصية بالحمل في البطن، واللبن في الضرع، وتصح إذا كانت غير معينة، كعبد من عبيد" (¬2). وجاء في الشرح الكبير على المقنع: "وتصح الوصية بالمجهول، كعبد وشاة؛ لأن الوصية تصح بالمعدوم فالمجهول بطريق الأولى" (¬3). وجه القول بالصحة: أن الموصى له يخلف الميت في ثلثه كما يخلفه الوارث في الباقي، فأشبه الوارث،، فإذا صح ميراث المجهول صح استحقاقه بالوصية. وقياسًا على صحة الوصية بالمعدوم، فإذا صحت الوصية بالمعدوم فالمجهول بطريق الأولى. ولأن الوصية عقد من عقود التبرع لا يقابله عوض، فاحتمل الغرر فيها. القول الثاني: أن الوصية بالمجهول المطلق لا تصح، وهو مذهب المالكية، ووجه في مذهب الحنابلة (¬4). ¬
جاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن أوصى لرجل بثلث ماله، ولا مال له يوم أوصى، ثم أفاد مالاً فمات؟ قال: إن علم الميت بما أفاد فللموصى له ثلثه. وهذا قول مالك، وإن لم يعلم فلا شيء له" (¬1). قال القرافي: "لا تدخل الوصية إلا فيما علمه الميت؛ لأنه هو الذي توجه إليه القصد في الوصايا ... " (¬2). ونقل القرافي عن الأبهري أنه قال: "إذا أوصى بثلثه، وحدث مال بعد الوصية، فعلم به حصلت الوصية فيه، وإن تقدمت عليه؛ لأن المقصود ثلث المال عند الموت، ولو وهب هبة، فلم تحز عنه حتى مات، لا تدخل فيه الوصية وإن رجعت ميراثًا؛ لأنه أراد الوصية فيما عداها" (¬3). وقال ابن رشد: "إذا أوصى بجزء من ماله، وله مال يعلم به، ومال لا يعلم به، فعند مالك أن الوصية تكون فيما علم به دون ما لم يعلم" (¬4). وقال ابن جزي: "من أوصى وله مال يعلم به ومال لا يعلم به فالوصية فيما علم به دون ما لم يعلم به" (¬5). ¬
وجه القول بعدم الصحة
وجه القول بعدم الصحة: استدل القرافي بقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه (¬1). والمجهول لم تطب به نفسه خالفناه في تفاصيل المعلوم للموصي لتوجه القصد إليه من حيث الجملة، فإنه دخل في وصيته على ثلث ما يتجدد، وعلى ما هو الآن في ملكه، ورضي بمقدار ذلك من حيث الجملة. أما المجهول على الإطلاق فلم يخطر له ببال، والأصل استصحاب ملكه، وإعمال ظاهر الحديث، ولا يلزم من إجماعنا على الجهالة التي اشتمل عليها المعلوم، وقصد إليها من حيث الجملة تجويزنا المجهول المطلق، كما أجمعنا على جواز السلم اقتصارًا على الأوصاف المشتملة على الجهالة بخصوص العين، ومنعنا جهالة لم يشملها العلم من وجه فكذلك ها هنا، وأصل نقل الأملاك الرضا بالإجماع، بدليل أنه لو لم يوص لم ينتقل ملك الموصى له إجماعًا فالمجهول مطلقا كما لم يوص فيه" (¬2). الراجح: أرى أن القول بجواز الوصية بالمجهول أقوى من القول بالمنع، ويغتفر الغرر في عقود التبرع ما لا يغتفر في عقود المعاوضة، والله أعلم. ¬
فرع في تقدير الوصية إذا أوصى بجزء من ماله
فرع في تقدير الوصية إذا أوصى بجزء من ماله [م - 1679] اختلف الفقهاء في الرجل يوصي بجزء من ماله، أو بشاة من غنمه، أو عمارة من عماراته، أو بسيارة من سياراته، فكيف تعين الوصية؟ القول الأول: يعطيه الوارث ما شاء، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية. واختار الحنابلة بأن يعطيه الورثة ما شاؤوا مما يقع عليه الاسم، فإن اختلف الاسم بين الحقيقة اللغوية والحقيقة العرفية، فقولان: أحدهما: تغلب الحقيقة اللغوية، وهو المذهب. واختار ابن قدامة تغليب العرف، ورجحه جماعة من الحنابلة (¬1). قال في بدائع الصنائع: "إذا أوصى لرجل بجزء من ماله، أو بنصيب من ماله، أو بطائفة من ماله، أو ببعض، أو بشقص. من ماله، فإن بين في حياته شيئًا، وإلا أعطاه الورثة بعد موته ما شاؤوا؛ لأن هذه الألفاظ تحتمل القليل، والكثير، فيصح البيان فيه ما دام حيًّا، ومن ورثته إذا مات؛ لأنهم قائمون مقامه" (¬2). وقال الشافعي في الأم: "ولو أن رجلاً أوصى لرجل بشاة من ماله، قيل: ¬
للورثة أعطوه أي شاة شئتم كانت عندكم، أو اشتريتموها له، صغيرة أو كبيرة، ضائنة أو ما عزة" (¬1). وقال العمراني في البيان: "إذا قال: أوصيت لفلان بشاة من مالي، أو قال: أعطوا فلانًا شاة من مالي أعطاه الوارث شاة، صغيرة كانت أو كبيرة، ضائنة كانت أو ماعزة، سليمة أو معيبة؛ لأن اسم الشاة يقع عليها" (¬2). جاء في الشرح الكبير على المقنع: "وتصح الوصية بالمجهول، كعبد وشاة ... ويعطيه الورثة ما شاؤوا مما يقع عليه الاسم؛ لأنه اليقين، كما لو أقر له بعبد، فإن لم يكن له عبيد اشترى له ما سمي عبداً، وإن كان له عبيد أعطاه الورثة ما شاؤوا" (¬3). وجاء في شرح الزركشي: "وقول: من عبيده يخرج ما إذا قال بعبد، وأطلق، فإنه يصح ويعطى أي عبد كان، لكن يشترط كونه ذكرًا، هذا عند أبي محمَّد، نظرًا للعرف، وعند القاضي لا يشترط نظرًا للحقيقة" (¬4). فابن قدامة رأى أن لفظ عبد اشتهر عرفًا إطلاقه على الذكر، واشتهر إطلاق الإماء على الإناث، فتعين العمل بالعرف. ونظر القاضي إلى الحقيقة اللغوية: وهو إطلاق اللفظ على الذكر والأنثى. ¬
القول الثاني
وجاء في الإنصاف: "قوله وتصح الوصية بالمجهول كعبد وشاة بلا نزاع، ويعطى ما يقع عليه الاسم. فإن اختلف الاسم بالحقيقة والعرف، كالشاة. هي في العرف للأنثى ... وفي الحقيقة للذكر، والأنثى: غلب العرف. هذا اختيار المصنف (يعني ابن قدامة). وصححه الناظم. وجزم به في الوجيز. وقدم في الرعايتين: أن "الشاة "للأنثى" ... وقال أصحابنا: تغلب الحقيقة. وهو المذهب، فيتناول المذكور والإناث، والصغار والكبار ... " (¬1). القول الثاني: إذا أوصى له بشاة من غنمه أو بعبد من عبيده شارك الموصى له ورثة الميت بالقيمة لا بالعدد، فيأخذه بالقرعة بعد التقويم (¬2). قال الدردير: "وإن أوصى بشاة من غنمه، أو بعبد من عبيده أو أوصى بعدد من ماله غنمًا أو غيرها، كأعطوه عشرة من غنمي أو من عبيدي أو من إبلي شارك الموصى له ورثة الميت وبالجزء: أي بنسبة الجزء الذي أوصى به إلى الموصى له من غنم أو غيرها، فإذا أوصى بشاة وله يوم التنفيذ ثلاث شياه كان شريكًا بالثلث، ولو كان له عشرة كان شريكًا بالعشر، وإذا أوصى له بعشرة، وله عشرون كان شريكًا بالنصف" (¬3). وفي حاشية الدسوقي: " (قوله: (كان شريكًا بالثلث): أي سواء كانت غنم الموصي ضأنا، أو معزًا، أو ضأنًا ومعزًا كله ذكورًا أو إناثًا، أو منهما، كانت ¬
القول الثالث
كلها صغارًا أو كبارًا، أو مختلفة: أي ويعتبر الثلث بالقيمة، لا بالعدد، فيأخذه بالقرعة بعد التقويم" (¬1). القول الثالث: إذا أوصى له بعبد من عبيده ولم يسم العبد كان له أحدهم بالقرعة، وهو وجه مذهب الحنابلة. جاء في المغني: " (وإذا أوصى بعبد من عبيده لرجل، ولم يسم العبد، كان له أحدهم بالقرعة، إذا كان يخرج من الثلث، وإلا ملك منه بقدر الثلث" (¬2). وجاء فيه أيضًا: "وإن قال: أعتقوا أحد عبيدي احتمل أن نقول بإخراجه بالقرعة ... واحتمل أن يرجع فيه إلى اختيار الورثة. وأصل الوجهين: ما لو وصى لرجل بعبد من عبيده، هل يعطى أحدهم بالقرعة، أو يرجع فيه إلى اختيار الورثة" (¬3). وجه القول بذلك: إذا أوصى له بسيارة من سياراته، أو بعمارة من عماراته استحق واحدًا منها غير معين، فكان القرعة هي الطريق للتعيين، والقرعة طريق شرعي إذا تزاحمت الحقوق، ولم يكن هناك تعيين. قال تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141]. ¬
الراجح
وقال تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]. وهذا القول قريب من قول المالكية فهما يتفقان على تحكيم القرعة، ويختلفون هل القرعة على العدد كما هو هذا القول في مذهب الحنابلة، أو على القيمة كما هو مذهب المالكية. جاء في المغني: "قال مالك قولاً يقتضي أنه إذا أوصى بعبد، وله ثلاثة أعبد، فله ثلثهم. وإن كانوا أربعة فله ربعهم، فإنه قال: إذا أوصى بعشر من إبله، وهي مائة، يعطى عشرها، والنخل، والرقيق، والدواب على ذلك. والصحيح: أنه يعطى عشرة بالعدد؛ لأنه الذي تناوله لفظه، ولفظه هو المقتضي، فلا يعدل عنه، ولكن يعطى واحدًا بالقرعة؛ لأنه يستحق واحدًا غير معين، فليس واحد بأولى من واحد، فوجب المصير إلى القرعة، كما لو أعتق واحدا منهم" (¬1). الراجح: أن الرجل إذا أوصى بسيارة من سياراته أو بعمارة من عماراته أن التعيين لا يترك للورثة؛ لأنه لم يتلق الوصية منهم، وإنما تلقاها من الموصي، وقد تعلق حقه بواحدة لا بعينها، فلا يختار هو؛ لأنه قد يختار أفضلها, ولا يترك ذلك للورثة؛ لأنهم قد يختارون له أقلها، وحقه مقدم على حق الورثة، فكانت القرعة هي الطريق العادل لا يظلم الورثة، ولا يظلم الموصى له، والقرعة على العدد أيسر من القرعة على القيمة، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث: الوصية بالمعدوم
المبحث الثالث: الوصية بالمعدوم [م - 1680] اختلف الفقهاء في الوصية بالمعدوم على قولين: القول الأول: ذهب الجمهور إلى صحة الوصية بالمعدوم مطلقًا، كأن يوصي بما يثمره بستانه أبدًا أو مدة معلومة، أو بما تحمله دابته أبدًا أو مدة معلومة إن حملها الثلث (¬1). جاء في التهذيب في اختصار المدونة: "ومن أوصى بغلة داره، أو بغلة جنانه للمساكين، جاز ذلك" (¬2). جاء في مغني المحتاج: "وكذا تصح بثمرة أو حمل سيحدثان في الأصح؛ لأن الوصية احتمل فيها وجوه من الغرر رفقًا بالناس وتوسعة، فتصح بالمعدوم كما تصح بالمجهول؛ ولأن المعدوم يصح تملكه بعقد السلم، والمساقاة والإجارة فكذا بالوصية" (¬3). جاء في الإنصاف: "تصح الوصية بالمعدوم، كالذي تحمل أمته، أو شجرته ¬
وجه القول بالصحة
أبدًا، أو مدة معينة. هذا المذهب، وعليه الأصحاب، فإن حصل شيء: فهو له، وإلا بطلت" (¬1). وقال ابن قدامة: "وإن أوصى بثمرة شجرة، أو بستان، أو غلة دار، أو خدمة عبد، صح، سواء وصى بذلك في مدة معلومة، أو بجميع الثمرة والمنفعة في الزمان كله. هذا قول الجمهور، منهم؛ مالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي ... ويعتبر خروج ذلك من ثلث المال. نص عليه أحمد في سكنى الدار. وهو قول كل من قال بصحة الوصية بها. فإن لم تخرج من الثلث، أجيز منها بقدر الثلث" (¬2). وجه القول بالصحة: الوجه الأول: أن الوصية يحتمل فيها وجوه من الغرر رفقًا بالناس وتوسعة فتصح بالمعدوم كما تصح بالمجهول. الوجه الثاني: أن المعدوم يصح تملكه بعقد السلم والمساقاة والإجارة فكذا بالوصية. الوجه الثالث: أن الوصية أجريت مجرى الميراث، وهذا يورث فصحت الوصية به. ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا تصح الوصية بالمعدوم مطلقًا، من غير فرق بين غلة البستان وبين نتاج البهائم. وهو قول مرجوح في مذهب الشافعية (¬1). قال الأنصاري: "كما تجوز الوصية بالمجهول تجوز أيضا بالمعدوم كالوصية بما تحمله هذه الناقة ونحوها أو بما تحمله هذه الأشجار ونحو ذلك. وقيل: لا تصح مطلقًا. وقيل: تصح بالثمرة دون الولد ... " (¬2). وجه القول بعدم الصحة: أن التصرف يستدعي متصرفًا فيه، ولم يوجد. القول الثالث: إن أوصى بما يثمره بستانه أبدًا صحت الوصية في الثمرة الحاضرة والمستقبلة، وإن أوصى بنتاج دوابه أو صوف غنمه أبدًا فليس له إلا ما كان موجودًا يوم موت الموصي، ولا يدخل المعدوم في الوصية، وهذا مذهب الحنفية، وقول مرجوح في مذهب الشافعية. جاء في الاختيار لتعليل المختار: "ولو أوصى بغلة بستانه أبداً، فله الحاضرة والمستقبلة، وإن أوصى بصوف غنمه أو بأولادها أو بلبنها فله الموجود عند موته، قال أبدا أو لم يقل" (¬3). ¬
وجه التفريق بين المسألتين
وجه التفريق بين المسألتين: الفرق أن القياس يأبى تمليك المعدوم إلا أن في الثمرة، والغلة المعدومة جاء الشرع بورود العقد عليها حال حياة الموصي بعقد المساقاة والإجارة فاقتضى ذلك جوازه في الوصية بطريق الأولى؛ لأن بابها أوسع. أما الولد، والصوف، واللبن فلا يجوز الراد العقد عليها أصلاً ولا تقبل التمليك في حياة الموصي فلا تدخل تحت الوصية بخلاف الموجود منها؛ لأنه يجوز استحقاقها بعقد البيع تبعًا. الراجح: هذه المسألة ترجع إلى مسألة أخرى: هل يشترط في الموصى به أن يكون قابلاً للتمليك بعقد من العقود، أو لا يشترط ذلك بحيث تصحه الوصية بما لا يصح العقد عليه، كالوصية بالنجس, والوصية بالمعدوم، والمجهول، والكلب، وبما ينطوي على غرر كثير، وقد بحثت هذه المسألة في أول شروط الموصى به، ورجحت أن الوصية نقل للملك بلا عوض، فما ينتقل بالإرث ينتقل بالوصية، سواء صح العقد عليه بالمعاوضة، أو لم يصح العقد عليه، والله أعلم.
المبحث الرابع في الموصي يوصي بنصيب وارث معين
المبحث الرابع في الموصي يوصي بنصيب وارث معين [م - 1681] إذا أوصى الرجل بنصيب وارث معين فهذا يقع على طريقتين: الطريقة الأولى: أن يوصي بمثل نصيب هذا الوارث، كأن يوصي بمثل نصيب ابنه، وهذا لا إشكال فيه من حيث الجواز؛ لأن الرجوع إلى نصيب الوارث لمعرفة قدر الوصية، وليس وصية بنصيبه. (ث -231) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، قال: حدثنا عمارة الصيدلاني، عن ثايت، عن أنس أنه أوصى بمثل نصيب أحد ولده (¬1). [أرجو أن يكون حسنًا] (¬2). ¬
القول الأول
ومع اتفاق الفقهاء على الجواز إلا أنهم اختلفوا فيما يستحقه الموصى له على قولين: القول الأول: أنه يستحق نصيب الوارث المعين مضمومًا إلى المسألة، فإذا وصى له بمثل نصيب ابنه جعل الموصى له كأنه ابن آخر، فله مع الابن الواحد النصف، فإن أجاز الوارث الوصية وإلا صح له الثلث منها، ومع الابنين كأنهم ثلاثة فيكون له الثلث، ومع الثلاثة كأنهم أربعة فيكون له الربع، فيجعل الموصى له كواحد منهم، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية والحنابلة على خلاف بينهم هل يشترط وجود الابن الوارث، أو لا يشترط؟ فذهب الحنفية إلى صحة الوصية سواء كان له ابن أو لم يكن. وصرح الشافعية إلى أنه لو أوصى بمثل نصيب ابنه، ولا ابن له وارث بطلت الوصية، بخلاف ما لو أوصى بمثل نصيب ابن، ولا ابن له فتصح الوصية، فكأنه قال: بمثل نصيب ابن لي لو كان (¬1). القول الثاني: أنه إن أوصى لشخص بمثل نصيب ابنه، وله ابن واحد فقد أوصى له بجميع المال إن أجاز الابن الوصية، وإلا فله الثلث، فإن قال ذلك، وله ابنان فيأخذ الموصى له نصف التركة، واشترط المالكية وجود الابن إلا أن يقول الموصي: ¬
وجهه
لو كان موجودًا، أو يحدث له ابن بعد الوصية فتصح، وهذا القول هو مذهب المالكية، وقول في مذهب الحنابلة، وقال به زفر من الحنفية، وداود بن علي من الظاهرية (¬1). قال الباجي: "ومن أوصى لرجل بمثل نصيب ابنه وله ابن واحد فقد أوصى له بجميع المال، ولو كان ابنان فقد أوصى له بالنصف" (¬2). وجهه: أن من ترك ابنًا فإنه يرث جميع المال، فإذا أوصى بمثل نصيب ابنه فقد أوصى له بجميع المال. قال الماوردي: "وهذا فاسد من ثلاثة أوجه: أحدها: أن نصيب الابن أصل، والوصية بمثله فرع، فلم يجز أن يكون الفرع رافعًا لحكم الأصل. والثاني: أنه لو جعلنا الوصية بجميع المال لخرج أن يكون للابن نصيب، وإذا لم يكن للابن بطلت الوصية التي هي بمثله. والثالث: أن الوصية بمثل نصيب الابن فوجب التسوية بين الموصى له وبين ابنه فإذا وجب ذلك كانا فيه نصفين، وفي إعطائه الكل إبطال للتسوية بين الموصى له وبين الابن. ¬
الطريقة الثانية
وأما الجواب عن قولهم: إن نصيب الابن كل المال. فهو أن له الكل مع عدم الوصية، وأما مع الوصية فلا يستحق الكل" (¬1). وقول الجمهور أقوى من قول مالك ومن معه، والله أعلم. الطريقة الثانية: [م - 1682] أن يوصي بنصيب ابنه، فهذا يدخل في الوصية بمال الغير، ولولا أن بعض الفقهاء كالحنفية خالف في حكمه بين الوصية بمال الغير، وبين الوصية بنصيب الوارث لاعتبرتها مسألة واحدة، وقد اختلف الفقهاء فيها على قولين: القول الأول: لا تصح الوصية، وهذا مذهب الحنفية، وأكثر الشافعية، ووجه في مذهب الحنابلة (¬2). إلا أن الحنفية قالوا: إذا أوصى بنصيب ابنه، وليس له ابن صحت. جاء في الهداية: "وإذا أوصى بنصيب ابنه فالوصية باطلة، ولو أوصى بمثل نصيب ابنه جاز؛ لأن الأول وصية بمال المغير؛ لأن نصيب الابن ما يصيبه بعد الموت، والثاني: وصية بمثل نصيب الابن، ومثل الشيء غيره" (¬3). ¬
وجه القول بعدم الصحة
وهذا لا يتفق مع قواعد مذهب الحنفية القائلين بأن تصرف الفضولي يكون موقوفًا على الإجازة. وجاء في المهذب: "وإن وصى له بنصيب ابنه بطلت الوصية؛ لأن نصيب الابن للابن فلا تصح الوصية به كما لو أوصى له بمال ابنه من غير الميراث ومن أصحابنا من قال يصح ويجعل المال بينهما كما لو أوصى له بمثل نصيب ابنه". وقال النووي: "ولو قال: أوصيت له بنصيب ابني، فوجهان. أصحهما عند العراقيين، والبغوي: بطلان الوصية. وأصحهما عند الإمام، والروياني، وغيرهما، وبه قطع أبو منصور: صحتها، والمعنى: بمثل نصيب ابني" (¬1). وجه القول بعدم الصحة: أن الوصية بنصيب ابنه يعتبر وصية بمال الغير، ومن شروط التبرع أن يكون المتبرع مالكًا للمتبرع به. القول الثاني: إذا أوصى بنصيب ابنه، وكان له ابن واحد صحت الوصية بالإجازة، وهو رأي زفر من الحنفية، ومذهب المالكية، وأحد القولين في مذهب الشافعية، رجحه إمام الحرمين، والغزالي، والمذهب عند الحنابلة على خلاف بينهم بمقدار ما يستحقه بهذا اللفظ: فقيل: تجعل الوصية بكل المال، وهو رأي المالكية. ¬
وقيل: يستحق نصف المال كما لو أوصى بمثل نصيب ابنه، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬1). قال الخرشي: "إذا أوصى له بنصيب ابنه، أو بمثل نصيب ابنه، وأجاز الابن الوصية فإن الموصى له يأخذ جميع التركة، فإن ردها نفذت في الثلث" (¬2). وقال إمام الحرمين: "ولو قال الموصي: أوصيت لفلان بنصيب ابني، وله ابن واحد، فالذي نقله الأئمة المعتبرون من أصحاب الشافعي أن الوصية بنصيب الابن بمثابة الوصية بمثل نصيب الابن، وهذا هو الذي نقله الفرضيون المتظاهرون بعلم الحساب، منهم الأستاذ أبو منصور وغيره" (¬3). قال الغزالي: "ولو أوصى بنصيب ولده، كان كما لو أوصى بمثل نصيب ولده" (¬4). وقال العمراني في البيان: "فقال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: هو كما قال أبو حنيفة؛ لأنه أوصى له بنصيب ابنه، ونصيبه ما استحقه بوفاة أبيه، فلا تصح الوصية به، كما لو وصى بمال لابنه من غير الميراث. ويفارق إذا أوصى له بمثل نصيب ابنه؛ لأنه أوصى له بقدر نصيب ابنه. ¬
وجه القول بالصحة
ومنهم من قال: هو كما لو أوصى له بمثل نصيب ابنه، فيكون موصيًا له بالنصف؛ لأن معناه يؤول إلى معنى مثل نصيب ابنه، كما يقال للزوجة: لها مهر مثلها, ولا يكون ذلك لها، وإنما يكون لها مثل مهر مثلها" (¬1). وجاء في الإنصاف: "إذا وصى بمثل نصيب ابنه، وله ابنان. فله الثلث. على المذهب ... وإن وصى له بنصيب ابنه. فكذلك، في أحد الوجهين، يعني: له مثل نصيبه في أحد الوجهين. وهو المذهب ... قال في المذهب، وغيره: صحت الوصية في ظاهر المذهب. قال الحارثي: هو الصحيح عندهم. وفي الآخر: لا تصح الوصية. وهو الذي ذكره القاضي. قال الزركشي: قاله القاضي في المجرد. قال الحارثي: لكن رجع عنه" (¬2). وجه القول بالصحة: أن المراد من قول الموصي: أوصيت بنصيب ايني على تقدير مضاف محذوف، كقوله: أوصيت له بمثل نصيب ابني، وهذا معروف في اللغة، قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. وكما يقال للزوجة: لها مهر مثلها، ويكون المراد لها مثل مهر مثلها. الراجح: الأصل في الكلام أن يحمل على ما يتعارف عليه الناس، فإن كان هناك عرف ¬
أن الرجل إذا أوصى بنصيب ابنه أنه يريد بذلك مثل نصيب ابنه اتبع هذا العرف، وإلا أخذ اللفظ على ظاهره، وأنه وصية بمال الغير، فيكون صحيحًا موقوفًا على إجازة المالك، والله أعلم.
المبحث الخامس في الموصي يوصي بمثل نصيب وارث غير معين
المبحث الخامس في الموصي يوصي بمثل نصيب وارث غير معين [م - 1683] إذا أوصى بمثل نصيب أحد ورثته ولم يعين الوارث، فقد اختلف الفقهاء فيما يستحقه الموصى له: القول الأول: إذا أوصى الرجل بمثل نصيب أحد الورثة، ولم يعين الوارث، فإن كان ورثة الموصي متساويين في نصيبهم، كما لو كانوا أبناء مثلاً فللموصي له مثل نصيب أحدهم زائدًا على الفريضة، فيجعل الموصى له كواحد منهم، فللموصى له مع الاثنين الثلث؛ لأنه يصير كابن ثالث، ومع الثلاثة الربع؛ لأنه يصير كابن رابع، ومع الأربعة الخمس؛ لأنه يصير كابن خامس، ومع الخمسة السدس لأنه يصير كابن سادس، وهكذا. وإن كان الورثة متفاضلين في الميراث أعطي الموصى له مثل نصيب أقلهم ميراثا زائدًا على فريضتهم، كما لو كان يرث الموصي بنون وبنات، فيستحق الموصى له مثل نصيب بنت. وهذا مذهب الجمهور (¬1). قال ابن قدامة: "إذا أوصى بمثل نصيب أحد ورثته، خير مسمى، فإن كان الورثة يتساوون في الميراث كالبنين، فله مثل نصيب أحدهم، مزادًا على ¬
القول الثاني
الفريضة، ويجعل كواحد منهم زاد فيهم. وإن كانوا يتفاضلون ... فله مثل نصيب أقلهم ميراثًا، يزاد على فريضتهم" (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أنه إذا أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته، وترك رجالاً ونساء، فإن المال يقسم على الورثة على عدد رؤوسهم من غير فرق بين الذكر والأنثى، فإن كان الورثة ثلاثة كان للموصى له الثلث، أو كانوا أربعة فله الربع، أو كانوا خمسة فله الخمس، وهكذا, ولا نظر لما يستحقه كل وارث، بل يجعل الذكر رأسا والأنثى رأسا كذلك، ثم يقسم ما بقي بين الورثة على الفريضة الشرعية للذكر مثل حظ الأنثيين (¬2). جاء في المدونة: "سمعت مالكًا، وسئل عن رجل يقول عند موته: لفلان مثل نصيب أحد ورثتي، ويترك رجالاً ونساءً. قال: قال مالك: أرى أن يقسم ماله على عدة من ترك من الورثة الرجال والنساء، لا فضل بينهم، الذكر والأنثى فيه سواء، ثم يؤخذ حظ واحد منهم، ثم يدفع إلى الذي أوصى له به، ثم يرجع من بقي من الورثة، فيجمعون ما ترك الميت بعد الذي أخذ الموصى له، فيقتسمون ذلك على فرائض الله - عَزَّ وَجَلَّ -: للذكر مثل حظ الأنثيين" (¬3). الراجح: أرى أن تفصيل الجمهور أقرب إلى الصواب، والله أعلم. ¬
المبحث السادس: الوصية بالسهم
المبحث السادس: الوصية بالسهم [م - 1684] اختلف العلماء في الرجل يوصي بسهم من ماله، كيف يقدر ذلك؟ القول الأول: يكون للموصى له أخس الأنصباء إلا أن ينقص عن السدس فيتم له السدس، ولا يزاد عليه، وبه قال أبو حنيفة، وهو رواية في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في الهداية شرح البداية: "ومن أوصى بسهم من ماله فله أخمس سهام الورثة إلا أن ينقص عن السدس فيتم س له السدس ولا يزاد عليه، وهذا عند أبي حنيفة" (¬2). وجاء في المغني: "قال الخلال وصاحبه: له أقل سهم من سهام الورثة؛ لأن أحمد قال، في رواية أي طالب والأثرم: إذا أوصى له بسهم من ماله، يعطى سهمًا من الفريضة. قيل: له نصيب رجل، أو نصيب امرأة؟ قال: أقل ما يكون من السهام. قال القاضي: ما لم يزد على السدس" (¬3). ¬
وجه هذا القول
وجه هذا القول: أن سهام الورثة أنصباؤهم، فيكون له أقلها؛ لأنه اليقين، فإن زاد على السدس دفع إليه السدس؛ لأنه أقل سهم يرثه ذو قرابة. القول الثاني: ذهب الحنابلة في المشهور أن له سدسًا مفروضًا (¬1). جاء في الوقوف والترجل للخلال: "أخبرني حرب بن إسماعيل قال: سألت أحمد قلت: رجل أوصى بسهم من ماله لرجل كم يعطى؟ قال: السهام عندنا على ستة. قلت: يعطى السدس؟ قال: نعم" (¬2). واستدلوا بأدلة منها: أن مطلق لفظ السهم في الوصية والإقرار ينصرف إلى السدس، وهو مروي عن ابن مسعود، وعن جماعة من أهل اللغة منهم إياس بن معاوية. (ث -232) فقد روى ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا وكيع قال: ثنا محمَّد، عن أبي قيس، عن الهزيل، أن رجلاً جعل لرجل سهمًا من ماله ولم يسم، فقال عبد الله: له السدس (¬3). ¬
القول الثالث
[لم ينسب محمَّد، ولم يتبين لي من هو] (¬1). (ث -233) وروى ابن أبي شيبة أيضًا، قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن إياس بن معاوية، قال: كانت العرب تقول: له السدس (¬2). [صحيح]. لأن السدس أقل سهم مفروض يرثه ذو قرابة من النسب، فتنصرف الوصية إليه. القول الثالث: للموصى له كأقل سهام الورثة ما لم يزد على الثلث، فإن زاد أعطي الثلث، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني من الحنفية (¬3). وجه القول بذلك: أن السهم يراد به أحد سهام الورثة عرفًا، لا سيما في الوصية، والأقل متيقن به فيصرف إليه، إلا إذا زاد على الثلث فيرد عليه؛ لأنه لا مزيد عليه عند عدم إجازة الورثة. ¬
القول الرابع
القول الرابع: ذهب المالكية والحنابلة في رواية إلى أنه يعطى سهمًا من أصل الفريضة، ولو عائلة (¬1). فإن لم يكن له فريضة بأن لم يكن له وارث حين الموت، فقيل: له سهم من ستة وهو قول ابن القاسم من المالكية؛ لأنه أقل عدد يخرج منه الفرائض المقدرة لأهل النسب؛ لأن الستة مخرج للسدس وهو أقل سهم مفروض لأهل النسب. وقيل: له سهم من ثمانية، وهو قول أشهب؛ لأنها مخرج أقل السهام التي فرضها الله واستقر به ابن عبد السلام (¬2). القول الخامس: ذهب الحنابلة إلى أنه يعطى سهمًا مما تصح منه الفريضة، فينظر كم سهمًا صحت منه الفريضة، ويزاد عليها مثل سهم من سهامها للموصى له. قال القاضي أبو يعلى: هذا ما لم تزد على السدس فإن زاد السهم على السدس فله السدس لأنه متحقق (¬3). ¬
وجه القول بذلك
وجه القول بذلك: أن قوله سهمًا ينبغي أن ينصرف إلى سهام فريضته؛ لأن وصيته منها، فينصرف السهم إليها فكان واحدًا من سهامها، كما لو قال: فريضتي كذا وكذا سهمًا، لك منها سهم. القول السادس: يعطيه الوارث ما شاء، وهذا مذهب الشافعية (¬1). جاء في المهذب: "فإن أوصى لرجل بسهم، أو بقسط، أو بنصيب، أو بجزء من ماله فالخيار إلى الوارث في القليل والكثير؛ لأن هذه الألفاظ تستعمل في القليل والكثير" (¬2). وفي الحاوي: "وقال الشافعي السهم اسم عام لا يختص بقدر محدود لانطلاقه على القليل والكثير، كالحظ والنصيب فيرجع إلى بيان الوارث" (¬3). الراجح: هذه الألفاظ يفسرها العرف إن وجد، فإن لم يوجد حكمت اللغة، والسهم في اللغة يطلق على النصيب، جاء الصحاح "السهم: واحد السهام. والسهم: النصيب" (¬4). ¬
وفي مقاييس اللغة: "سَهُمَ: السين والهاء والميم أصلان: أحدهما يدل على تغير في لون، والآخر على حظ ونصيب وشيء من أشياء" (¬1). وأما قول إياس وما نقله عن العرب من أن السهم يطلق على السدس، فلعله في العرف حينذاك، وأما القول بأن السدس أقل سهم مفروض، فهذا غير دقيق فأقل سهم مفروض هو الثمن، نعم هو أقل سهم مفروض من جهة النسب، وتقديم المفروض بالنسب على المفروض بسبب النكاح لا علاقة له بمسألتنا، لأن الموصى له أجنبي، والله أعلم. ¬
المبحث السابع في الوصية بالمنافع
المبحث السابع في الوصية بالمنافع الفرع الأول: تعريف المنفعة المراد بالمنافع: تطلق المنفعة ويراد بها معنيان: أحدهما: الأعراض التي تقوم بالأعيان كالركوب بالنسبة للسيارة والدابة، والسكنى بالنسبة للدار. قال السرخسي: "المنفعة عرض يقوم بالعين" (¬1). وعرفها في المطلع: "المنفعة والمنافع: الانتفاع بالأعيان كسكنى الدار، وركوب الدواب، واستخدام العبيد" (¬2). وفي مجلة مجمع الفقه الإِسلامي: المنفعة كل ما يقوم بالأعيان من أعراض (¬3). المعنى الثاني للمنافع: إطلاق المنفعة على كل ما يمكن استفادته من الأعيان، عرضًا كان مثل سكنى الدار وأجرتها، وركوب السيارة والدواب، ولبس الثياب وقراءة الكتب، أو عيبًا: مثل ثمر الأشجار، وحليب الأنعام ونحوها. والمقصود بالمنافع في باب الوصية هو المعنى الثاني دون الأول. ¬
الفرع الثاني خلاف الفقهاء في الوصية بالمنافع
الفرع الثاني خلاف الفقهاء في الوصية بالمنافع ما يقبل النقل بالإرث عينًا كان أو منفعة صحت الوصية به. [م - 1685] اختلف الفقهاء في الوصية بالمنافع على قولين: القول الأول: أن الوصية بالمنافع وحدها دون الرقبة لا تصح، وبه قال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأهل الظاهر (¬1). ورجحه ابن عبد البر، قال في الاستذكار: "قول ابن أبي ليلى وابن شبرمة ومن تابعهما قول صحيح في النظر والقياس، وإن كان على خلافه أكثر الناس" (¬2). دليل من قال: لا تصح الوصية بالمنافع: الدليل الأول: يشترط في الوصية أن تكون من مالك للمنفعة، والمنفعة التي تحدث بعد موت الموصي تحدث على ملك الوارث، وليس من مال الموصي، وقد أجمعوا على أنه لو أوصى بشيء، ومات، وهو في غير ملكه أن الوصية باطلة، فكذلك الوصية بالمنافع، فقد مات الموصي، والمنفعة ليست في ملكه (¬3). ¬
ونوقش هذا
ونوقش هذا: بأن الموصي لما أفرد ملك المنفعة بالوصية عن ملك الرقبة أصبح ملك المنفعة ليس تابعًا لملك الرقبة، فلا تكون الوصية بها وصية بمال الوارث، فالمنافع تحدث على ملك الموصى له منفصلة عن ملك الرقبة، فإذا صح أن يكون مالك العين غير مالك المنفعة لم تكن المنفعة قد حدثت على ملك الوارث، كالوقف فإن الموقوف عليه يملك المنفعة ولا يملك العين، والله أعلم. الدليل الثاني: أن من أوصى بالمنافع لشخص على الدوام لم يترك للورثة ما ينتفعون به، فلا يجوز أن يحسب ذلك عليهم من الميراث، فإنه لا فائدة في رقية مسلوبة المنافع، بل هو ضرر محض عليهم، وقد شرط الله تعالى لجواز الوصية عدم المضارة، فإذا أراد الوارث أن يبيع عينًا لا نفع فيها لم يصح البيع؛ لأن من شروط البيع أن تكون العين مشتملة على منفعة مقصودة، ولهذا الدابة إذا كانت زمنة لا يصح بيعها. لفوات منفعتها، وإن كانت عينها قائمة، فإن قصد الموصي الوصية بالمنافع على الدوام للموصى له فهي وصية بالرقبة، فلا يحتسب على الورثة منها شيء، فإن صرح الموصي بأنه يبقي الرقبة للورثة، أو يوصي بها لآخر بطلت الوصية لامتناع أن تكون المنافع كلها لشخص، والرقبة لآخر، ولا سبيل لترجيح أحد الأمرين فيبطلان، والدليل على أن تمليك جميع المنافع تمليك للعين بالرقبى والعمرى فإنها تمليك للرقبة حيث كانت تمليكًا للمنافع في الحياة (¬1). ¬
ويناقش
ويناقش: هذا الكلام يصح في حال كانت الوصية بالمنفعة على الدوام، وقيل إن المنفعة تنتقل بالأرث إذا مات الموصى له، وهي مسألة خلافية (¬1). أما إذا قلنا: إن المنفعة تختص بالموصى له، ولا تنتقل عنه بالإرث، وكذا إذا أوصى بالسكنى مدة معينة، أو مدة حياة الموصى له فإن الدار ترجع إلى الوارث متى ما خربت الدار، أو مات الموصى له. الدليل الثالث: أن الوصية بالمنافع في معنى الإعارة، فالإعارة تمليك للمنفعة بغير عوض، فكذلك الوصية بالمنفعة، تمليك للمنفعة بلا عوض، والعارية تبطل بموت المعير، فكذلك الوصية بالمنفعة؛ لأنها في معناها. ¬
ويناقش
ويناقش: بأن قياس الوصية على العارية قياس مع الفارق، فالمعير قصد تمليك المنفعة في حال الحياة، فانتهت بالموت، أما الموصي فإنه جعل ملك المنفعة بعد الموت فلا تبطل به، ونظير ذلك التوكيل والإيصاء، فإن كلاً منهما إنابة للغير، إلا أن الأول إنابة حال الحياة فينتهي بموت الموكل، والإيصاء توكيل بعد الوفاة، فلا يبطل بموت الموصي. القول الثاني: ذهب عامة الفقهاء ومنهم الأئمة الأربعة إلى جواز الوصية بالمنافع سواء كانت الوصية مؤقتة بمدة معينة، أو مؤبدة (¬1). قال الماوردي الشافعي: "الوصية بمناقع الأعيان جائزة، كالوصية بالأعيان لأنه لما صح عقد الإجارة عليها، فأولى أن تصح الوصية بها، وسواء قيدت الوصية بمدة، أو جعلت مؤبدة" (¬2). دليل من قال: بالجواز: الدليل الأول: (ح -1039) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن نافع، عن عبد الله بن ¬
وجه الاستدلال
عمر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوية عنده (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (له شيء يوصي فيه) والمنافع شيء، فتدخل في الوصية. الدليل الثاني: الأصل جواز الوصية بكل ما ينتقل عن طريق الإرث، ومنها المنافع، ومن منع شيئًا من الوصية فعليه الدليل. الدليل الثالث: إذا جاز أن يوصي الإنسان بما ليس مالاً كالوصية بالنجس والكلب، والوصية بالمجهول، والوصية بالمعدوم، فلأن يجوز الوصية بالمنافع التي هي أموال محترمة ولها قيمة من باب أولى. الدليل الرابع: المنافع يجوز التصرف فيها وحدها في حال الحياة ببدل وغير بدل عن طريق الإجارة والعارية، والوقف، والأرض الخراجية المقرة في يد من هي يده، ومنافع المبيع المستثناة في العقد مدة معلومه، فإذا جاز كل ذلك جاز التصرف بالمنافع بعد الممات عن طريق الوصية من باب أولى؛ لأن الوصية أوسع من هذه العقود، فهي تحتمل ما لا تحتمله هذه العقود من الوصية بالمجهول، والمعدوم، وغيرهما. والموصي يملك العين كما يملك منفعتها، فإذا جاز له أن ¬
الراجح
يوصي بهما، جاز له أن يوصي باحدهما؛ لأن من يملك الكل يملك البعض، وإذا صح أن يستوفي الموقوف عليه منافع الوقف وإن لم يكن يملك العين، صح أن يستوفي الموصى له المنافع، وإن لم يكن يملك العين. الراجح: جواز الوصية بالمنافع كالأعيان؛ لأنها من الأشياء التي تنتقل بالموت، فيصح انتقالها بالوصية، والله أعلم.
الفرع الثالث في كيفية تقدير المنفعة
الفرع الثالث في كيفية تقدير المنفعة [م - 1686] اختلف الفقهاء في كيفية تقدير المنفعة: القول الأول: أن تقدير المنفعة الموصى بها يكون بتقدير المنفعة مع رقبتها الموصى بها مطلقا، سواء كانت المدة مؤبدة أو مؤقتة، فإن خرجت العين من ثلث التركة نفذت، وإن زدات الرقبة على الثلث توقف ذلك على إجازة الورثة، وإلا صح منها مقدار الثلث (¬1). جاء في بدائع الصنائع: "إذا جازت الوصية بالمنافع يعتبر فيها خروج العين التي أوصى بمنفعتها من الثلث" (¬2). وجه القول بذلك: أن الوصية بالمنفعة يؤدي إلى حبس العين عن الوارث، والموصي لا يملك منع ما زاد عن الثلث على الوارث، لذلك اعتبر خروج الثلث من الرقبة. القول الثاني: إذا أوصى بمنفعة معين كالخدمة والسكنى لشخص معين مدة معينة، والحال أن ثلثه لا يحمل ذلك كله: أي لا يحمل قيمة رقبة الدار، أو العبد: خير الوراث ¬
والفرق بين المعين وغير المعين
بين أن يجيز وصية مورثه، أو يخلع ثلث جميع التركة من الحاضر، والغائب، والعرض والعين، فيعطى الموصى له من كل شيء ثلثه. وإن أوصى بمنفعة معين لغير معين كالمساكين، فإن الوراث يخير بين الإجازة وبين القطع لهم بالثلث في ذلك الشيء بعينه، لا في كل التركة. وهذا مذهب المالكية (¬1). والفرق بين المعين وغير المعين: أنه في غير المعين لا يرجى رجوعه، بخلاف الموصى له المعين فيرجى إذا هلك رجوع الموصى به للوارث. جاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن أوصى رجل بخدمة عبده لرجل سنة، وليس له مال غيره، أو له مال لا يخرج العبد من الثلث؟ قال: قال مالك: الورثة بالخيار إن أحبوا أن يسلموا خدمته سنة، ثم يدفع إليهم العبد بعد السنة، وإلا أسلموا إليه ثلث مال الميت بتلا. قلت: وكذلك لو أوصى لرجل بسكنى داره سنة؟ قال: وهذا وخدمة العبد سواء، وكذلك قال مالك: إما أسلموا إليه سكنى داره سنة وإما قطعوا له بثلث الميت، وهذا مخالف إذا أوصى له برقبة العبد والدار، وكذلك إذا لم يحمله الثلث قطع له فيهما، وإذا كان خدمة أو سكنى فلم يجيزوا قطعنا له بثلث الميت وهذا قول مالك. قال سحنون. وهذا قول الرواة ¬
ونوقش هذا
كلهم، لا أعلم بينهم فيه اختلافًا إذا أوصى بخدمة العبد أو سكنى الدار، وليس له مال غير ما أوصى فيه، أو له مال لا يخرج ما أوصى له به من الثلث، وهذا أصل من أصول قولهم" (¬1). ونوقش هذا: بأن الوصية بالمنفعة وصية صحيحة، فوجب تنفيذها على صفتها إن خرجت من الثلث، أو بقدر ما يخرج من الثلث منها كسائر الوصايا، أو كالأعيان (¬2). القول الثالث: ذهب الحنابلة والشافعية في كيفية تقدير المنفعة إلى التفريق بين أن تكون الوصية مقيدة بمدة معلومة، أو لا، كما لو كانت مطلقة، أو مؤبدة، أو مجهولة المدة، كما لو أوصى له بالمنفعة مدة حياته. فإن كانت الوصية مقيدة بمدة معينة، فيمكن تقدير المنفعة بمعرفة الفرق ما بين قيمة العين بمنافعها في تلك المدة، وقيمة العين مسلوبة المنافع في تلك المدة، فإذا قومت العين بمنفعتها بخمسين تلك المدة، وقومت العين بدون المنفعة في تلك المدة بعشرة، تكون قيمة المنفعة أربعين. فإن كانت الوصية مدتها غير معلومة، ففي تقدير المنفعة قولان: القول الأول: أن الثلث يقدر بمجموع الرقبة والمنفعة كما هو مذهب الحنفية. ¬
وجه هذا القول
وجه هذا القول: أن العين إذا سلبت منفعتها بشكل دائم تبقى العين لا قيمة لها، فالأعيان إنما قيمتها بمنفعتها. ولأن المنفعة المؤبدة لا يمكن تقويمها؛ لأن مدة عمره غير معلومة، وإذا تعذر تقويم المنافع تعين تقويم الرقبة. القول الثاني: تقوم الرقبة على ملك الورثة، وتقوم المنفعة على ملك الموصى له، فإذا كانت الرقبة قيمتها بمنافعها مائة، وقيمة العين وحدها عشرة، تكون قيمة المنفعة تسعين (¬1). قال إمام الحرمين: "اختلف أئمتنا فيما يعتبر خروجه من الثلث: فمنهم من قال: المعتبر خروج قيمة العين من الثلث؛ فإنها مسلوبة المنفعة في جهة الوصية، والتصرفات ممتنعة على الورثة بحيلولة دائمة، وكأن العين مستهلكة من حقوقهم، وكان الوصية واقعة بالرقبة. ومن أصحابنا من قال: تعتبر قيمة المنافع وخروجها من الثلث؛ فإنها الموصى بها، والسبيل في اعتبارها أن نقول: هذا العبد كم يساوي مع وفور المنفعة؟ فيقال: مائة، فنقول: كم قيمته، وهو مستحق المنافع؟ فيقال: عشرة، فنتبين أن قيمة المنفعة تسعون. فهذا وجه الوصول إلى معرفة قيمة المنفعة، ومعنى اعتبارها من الثلث" (¬2). ¬
الراجح
وقال ابن قدامة: "متى أريد تقويمها -يعني تقويم المنفعة الموصى بها - فإن كانت الوصية مقيدة بمدة، قوم الموصى بمنفعته مسلوب المنفعة تلك المدة، ثم تقوم المنفعة في تلك المدة فينظر كم قيمتها، وإن كانت الوصية مطلقة في الزمان كله: فقد قيل: تقوم الرقبة بمنفعتها جميعًا، ويعتبر خروجها من الثلث؛ لأن عبذا لا منفعة له، وشجرًا لا ثمر له، لا قيمة له غالبًا. وقيل: تقوم الرقبة على الورثة، والمنفعة على الموصى له. وصفة ذلك: أن يقوم العبد بمنفعته، فإذا قيل: قيمته مائة. قيل: كم قيمته لا منفعة فيه؟ فإذا قيل: عشرة. علمنا أن قيمة المنفعة تسعون" (¬1). الراجح: أن الوصية بالمنفعة صحيحة، وأنها معتبرة بالثلث كالوصية بالأعيان، فإن كانت مؤبدة أو مطلقة، استحق الموصى له الوصية ما بقيت المنفعة، وتورث عنه، وإن كانت مؤقتة بمدة استحق تلك المنفعة تلك المدة، وتورث عنه إن بقي في المدة بقية، وفي تقييم المدة أرى أن تفصيل الشافعية والحنابلة أقرب إلى الصواب، والله أعلم. ¬
الفرع الرابع في نفقات العين الموصى بمنفعتها
الفرع الرابع في نفقات العين الموصى بمنفعتها [م - 1687] إذا أوصى الرجل بمنفعة دابة أو سكنى الدار لرجل، وكانت العين ملكا للورثة أو أوصى بها لآخر فعلى من تجب النفقة، هل تجب على من يملك العين، أو تجب على من يملك المنفعة. اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن النفقة تجب على صاحب المنفعة. وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، وقول الإصطخري من الشافعية، والمذهب عند الحنابلة، ورجحه ابن قدامة في المغني (¬1). قال الشلبي: "ونفقة العبد الموصى بخدمته وكسوته على صاحب الخدمة، وبه قال الإصطخري وأحمد في رواية" (¬2). ¬
وجه هذا القول
وجاء في المدونة: "سألت مالكًا عن الرجل يوصي بخدمة جاريته أو عبده لأم ولده أو لأجنبي من الناس، على من نفقته؟ قال: على الذي أخدم" (¬1). وقال ابن قدامة: "ويحتمل أن يجب على صاحب المنفعة. وهو قول أصحاب الرأي، والإصطخري، وهو أصح، إن شاء الله تعالى؛ لأنه يملك نفعه على التأبيد، فكانت النفقة عليه، كالزوج، ولأن نفعه له، فكان عليه ضره، كالمالك لهما جميعًا، يحققه أن إيجاب النفقة على من لا نفع له ضرر مجرد، فيصير معنى الوصية: أوصيت لك بنفع عبدي، وأبقيت على ورثتي ضره" (¬2). وجه هذا القول: تشبيه استحقاق المنفعة باستحقاق الزوج منفعة البضع، والنفقة واجبة على الزوج فكذلك النفقة على مالك المنفعة. ويناقش: بأن هذا القول يمكن التسليم به في حال كانت الخدمة الموصى بها مؤبدة، أما إذا كانت مؤقتة فإن القول ضعيف. القول الثاني: أنها تجب على مالك العين، وبه قال أبو ثور من الحنفية، وهو الأصح في مذهب الشافعية، وذكره الشريف أبو جعفر مذهبًا لأحمد (¬3). ¬
وجه هذا القول
قال إمام الحرمين: "القول في نفقة العبد الموصى بمنفعته: حاصل ما ذكره الأصحاب أوجه: أصحها، أن نفقة العبد تجب على الورثة؛ فإن ملك الرقبة لهم" (¬1). وقال النووي: "إذا كانت الوصية بمنفعة مدة معلومة، فنفقته على الوارث، كالمستأجر. وإن كانت على التأبيد، فثلاثة أوجه: أصحها: كذلك. والثاني: على الموصى له. والثالث: في كسبه. فإن لم يكن كسب، أو لم يف بها، ففي بيت المال" (¬2). وجاء في الشرح الكبير على المقنع: "وفي نفقتها ثلاثة أوجه: أحدها: تجب على مالك الرقبة، وهو الذي ذكره الشريف أبو جعفر مذهبًا لأحمد، وبه قال أبو ثور ... " (¬3). وجه هذا القول: قياس نفقة العبد الموصى بمنفعته على العبد المستأجر، فإذا كانت نفقة العبد المستأجر على المالك فكذا نفقة الموصى بخدمته، وكما لو لم يكن له منفعة. ¬
ويناقش
ويناقش: هذا يصح فيما إذا كانت الخدمة مؤقتة، أما إذا كانت مؤبدة فالقياس فيه نظر. القول الثالث: إن كان له كسب وجبت النفقة في كسبه، وإن لم يكن له كسب وجبت نفقته في بيت المال، وهذا وجه في مذهب الشافعية، ووجه في مذهب الحنابلة (¬1). قال إمام الحرمين: "ذكر العراقيون وجهًا ثالثًا في النفقة، فقالوا: نفقة العبد تتعلق بكسبه وحق الموصى له وراء عمل العبد في تحصيل مؤنته، ثم قالوا: إن عجز العبد عن الكسب، فصاحب هذا الوجه لا يوجب نفقته على الورثة، ولا على الموصى له، بل يوجبها في بيت المال. وهذا فيه ضعف؛ من جهة أن صرف نفقة المملوك على بيت المال مع استظهار المالك وبقائه بعيد، وكان لا يبعد في قياس هذا الوجه أن يقال: النفقة تتعلق بالكسب، فإن لم يكن، انقلب وجوبها إلى الوارث، أو إلى الموصى له" (¬2). الراجح: أن المنفعة إن كانت مؤبدة للموصى له وجبت عليه نفقته، وإن كانت مؤقتة كانت نفقته على المالك، والله أعلم. ¬
الفرع الخامس في بيع العين الموصى بمنفعتها
الفرع الخامس في بيع العين الموصى بمنفعتها [م - 1688] إذا أراد مالك الرقبة الموصى بمنفعتها لآخر، إذا أراد بيعها، فإما أن يبيعها للموصى له بالمنفعة، أو يبيعها لغيره. فإن باعها للموصى له بالمنفعة صح البيع، وبطلت الوصية. وجه ذلك: أن المشتري لما ملك الرقبة ملك المنفعة من جهتين من جهة الوصية، ومن جهة ملك العين، وملك المنفعة بملك العين أقوى وأبقى، فبطلت الوصية. فإن باعها لغير الموصى له بالمنفعة، فقد اختلف الفقهاء في ذلك: القول الأول: ليس للورثة أن يبيعوا العين، وليس للموصى له بسكنى الدار أن يؤجرها. وهذا مذهب الحنفية، ووافقهم الشافعية في وجه منع المالك من بيع العين (¬1). قال الماوردي: "إن أراد ورثة الموصي بيعه، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجوز لثبوت الملك. ¬
وجه القول بذلك
والثاني: لا يجوز؛ لعدم المنفعة. والثالث: يجوز بيعه من الموصى له بالمنفعة، ولا يجوز من غيره؛ لأن الموصى له ينتفع به، دون غيره" (¬1). وجه القول بذلك: البيع يشترط لصحته: الملك، واشتماله على منفعة مباحة مقصودة، فإن وجد شرط الملك، فلم توجد المنفعة لأن المنفعة مملوكة لآخر، فلا فائدة من بيع عين مسلوبة المنفعة. وأما منع الموصى له من الإجارة: فلأن الوصية تمليك بغير بدل مضاف إلى ما بعد الموت، فلا يملك تمليكه ببدل اعتبارًا بالإعارة، فإنها تمليك بغير بدل. ويجاب: بأن الإعارة ليمى فيها تمليك للمنفعة، وإنما يملك فيها المستعير الانتفاع، وبينهما فرق، فمن ملك المنفعة ملك تمليكها ببدل وبغيره كالمستأجر، ومن ملك الانتفاع لم يملك تمليك غيره كالعارية، والله أعلم. القول الثاني: يجوز لمالك العين الموصى بمنفعتها أن يبيع العين، وينتقل الملك إلى المشتري الجديد مع بقاء حق الموصى له في المنفعة، وهذا مذهب الجمهور، وبه قال أبو يوسف من الحنفية (¬2). ¬
وجه القول بذلك
وجه القول بذلك: قياس الوصية بالمنفعة على الوصية بالأعيان، فإن ملك المنفعة فيملك تمليكها من غيره ببدل ومن غير بدل. وقياس الوصية بالمنافع على العين المستأجرة، فإن للمؤجر أن يبيع العين، وللمستأجر أن يؤجر العين المستأجره، فكذلك هنا. الراجح: صحة بيع العين من مالكها، وصحة تأجير المنفعة من الموصى له؛ لأن التصرف صادر من مالك، ومن ملك شيئًا ملك التصرف فيه، والله أعلم.
الشرط الثاني أن يكون الموصى به مملوكا للموصي
الشرط الثاني أن يكون الموصى به مملوكًا للموصي [م - 1689] هل يشترط في الموصى به أن يكون مملوكًا للموصي؟ للجواب على ذلك نقول: الموصى به إذا كان غير مملوك فإنه ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يكون الموصى به موصوفًا غير معين، فهذا يدخل في الوصية بالمعدوم، وقد تكلمت عليه في مبحث مستقل. الثاني: أن يكون الموصى به معينًا مملوكًا للغير، فهذا قد اختلف فيه الفقهاء على قولين: القول الأول: يشترط لصحة الوصية إذا كان الموصى به معينًا أن يكون مملوكًا للموصي وقت الوصية. وهذا مذهب المالكية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة، وبه قال بعض الحنفية (¬1). ذكر الدردير من شروط الوصية: أن يكون من "مالك للموصى به ملكًا تامًا، فمستغرق الذمة، وغير المالك لا تصح وصيتهما" (¬2). ¬
وجه القول بعدم الصحة
وجاء في منح الجليل: "تصح من كل حر مميز، ولا تصح من العبد ولا من المجنون، مالك للموصى به، فلا يصح بمال الغير فضوليا، أو مستغرق الذمة بالتبعات" (¬1). وقال في إعانة الطالبين: "وشرط في الموصي ... من كونه مالكًا بالغًا عاقلًا حرًا مختارًا" (¬2). وجاء في الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: "يؤخذ من اعتبار تصور الملك اشتراط كون الموصى به مملوكًا للموصي، فتمتنع الوصية بمال الغير" (¬3). جاء في كشاف القناع: "لا تصح الوصية بمال الغير، ولو ملكه بعد، بأن قال: وصيت بمال زيد، فلا تصح الوصية، ولو ملك الموصي مال زيد بعد الوصية؛ لفساد الصيغة بإضافة المال إلى غيره" (¬4). وقال ابن الهمام الحنفي: "الموصى به إذا كان معينًا يعتبر لصحة الإيجاب وجوده يوم الوصية، حتى إن من أوصى لإنسان بعين لا يملكه، ثم ملكه يومًا من الدهر، لا تصح الوصية" (¬5). وجه القول بعدم الصحة: الوجه الأول: أن مالكه يملك الوصية به، والشيء الواحد لا يكون محلًا لتصرف شخصين. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أن الوصية عقد تبرع، فيشترط في عاقده أن يكون مالكًا لصحة الوصية. القول الثاني: تصح الوصية بمال معين ليس مملوكًا له، وتكون موقوفة على إجازة المالك، وهو مذهب الحنفية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية، قال عنه النووي: وهو أفقه، وأجرى على قواعد الباب، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في تبيين الحقائق "إذا أوصى رجل بألف درهم بعينها من مال غيره، فأجاز صاحب المال بعد موت الموصي، ودفعه إليه جاز، وله الامتناع من التسليم بعد الإجازة؛ لأنه تبرع بمال الغير فيتوقف على إجازة صاحبه فإذا أجاز كان منه هذا ابتداء تبرع فله أن يمتنع من التسليم كسائر التبرعات" (¬2). وقال النووي: "إن أوصى بمال الغير، فقال: أوصيت بهذا العبد، وهو ملك غيره، أو بهذا العبد إن ملكته، فوجهان: أحدهما: تصح؛ لأنها تصح بالمعدوم، فذا أولى. والثاني: لا؛ لأن مالكه يملك الوصية به، والشيء الواحد لا يكون محلاً لتصرف شخصين، وبهذا قطع الغزالي. قلت: الأول أفقه وأجرى على قواعد الباب، والله أعلم" (¬3). ¬
الراجح
الراجح: أن الوصية بغير المملوك إما أن يكون معينًا أو موصوفًا، فإن كان موصوفًا غير معين، دخل في الوصية بالمعدوم، وقد ذهب أكثر الفقهاء على صحة الوصية بالمعدوم، سواء كان المعدوم أصالة أو تبعًا، وسبق بحث هذه المسألة، ولله الحمد. وإن كان الموصى به معينًا مملوكًا للغير صحت الوصية به، فإن ملكه قبل موته صح، وإن مات ولم يملكه صار تنفيذ الوصية موقوفاً على إجازة المالك. وهل إجازة المالك تنفيذ للوصية، أم هي هبة مبتدأة؟ الأقرب عندي أنها هبة، والله أعلم.
الشرط الثالث أن يكون الموصى به في حدود الثلث
الشرط الثالث أن يكون الموصى به في حدود الثلث المبحث الأول إذا لم يكن للموصي وارث [م - 1690] إذا أوصى بأكثر من الثلث، فإما أن يكون الموصي قد خلف وارثًا، أو لا. فإن كان الموصي لم يترك وارثًا فقد اختلف العلماء في صحة الوصية إذا جاوزت الثلث على قولين: القول الأول: إذا لم يترك الموصي ورثة جاز له أن يوصي بماله كله، وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة، وأحد القولين عند المالكية، واختيار إسحاق بن راهوية، وهو قول عبيدة ومسروق (¬1). قال في بدائع الصنائع: "ولو أوصى بما زاد على الثلث، ولا وارث له تجوز ¬
دليل من قال: له أن يوصي بماله كله
من جميع المال عندنا، وعند الشافعي لا تجوز إلا من الثلث" (¬1). وجاء في الإنصاف: "أما من لا وارث له، فتجوز وصيته بجميع ماله، هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب .. " (¬2). دليل من قال: له أن يوصي بماله كله: الدليل الأول: أن الرسول لما منع سعدًا من الوصية بأكثر من الثلث علل ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس. فجعل المنع من الزيادة حقًا للورثة، ولذلك لو كان هناك ورثة وأجازوا الوصية بالمال كله صحت، ونفذت بجميع ماله، ولو كان المنع لحق الله لما نفذت بالإجازة. ونوقش هذا الكلام من وجهين: الوجه الأول: قال ابن حزم: "أما قولهم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل العلة في أن لا يتجاوز الثلث غنى الورثة فباطل من قولهم، ما قال عليه الصلاة والسلام قط: إن أمري بأن لا يتجاوز الثلث في الوصية؟ إنما هو لغنى الورثة، إنما قال عليه الصلاة والسلام: "الثلث والثلث كثير"؟ فهذه قضية قائمة بنفسها، وحكم فصل غير متعلق بما بعده ثم ابتدأ عليه الصلاة والسلام قضية أخرى مبتدأة قائمة بنفسها، ¬
ويناقش
غير متعلقة بما قبلها، فقال: "إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس". برهان صحة هذا القول: أنه لا يحل أن ينسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه علل علة فاسدة منكرة حاش له من ذلك، ونحن نجد من له عشرة من الورثة فقراء ولم يترك إلا درهمًا واحدًا فإن له بإقرارهم أن يوصي بثلثه، ولا يترك لهم ما يغنيهم من جوع غداء واحدًا, ولا عشاءً واحدًا. ونحن نجد من لا يترك وارثًا إلا واحدًا غنيًا موسرًا مكثرًا, ولا يخلف إلا درهمًا واحدًا، فليس له عندهم ولا عندنا أن يوصي إلا بثلثه، وليس له غنى فيما يدع له؟ ولو كانت العلة ما ذكروا لكان من ترك ابنًا واحدًا، وترك ثلاثمائة ألف دينار يكون له أن يوصي بالنصف؛ لأن له فيما يبقى غنى الأبد، فلو كانت العلة غنى الورثة لروعي ما يغنيهم على حسب كثرة المال وقلته وهذا باطل عند الجميع. فصح أن الذي قالوا باطل، وأن الشريعة في ذلك إنما هو تحديد الثلث فما دونه فقط قل المال أو كثر، كان فيه للورثة غنى أو لم يكن" (¬1). ويناقش: بأنه إنما جاز أن يوصي بماله كله مع عدم الوارث، ولم يجز أن يوصي بأكثر من الثلث مع الوارث، وإن كان الوارث غنيًا؛ لأن الوارث له حق شرعًا في مال الموصي، فحقه لا يسقط بغناه، فإذا لم يكن هناك وارث فليس هناك صاحب حق، ولهذا جازت الوصية بماله كله. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أن الورثة إذا أجازوا الوصية بالمال كله جازت ليس هذا دليلاً على أن المنع من الوصية بأكثر من الثلث كان حقاً للورثة، فإذا لم يكن هناك وارث صحت بالمال كله، وإنما تجوز بالإجازة على أنها هبة من الورثة، وليست وصية من الميت، وبينهما فارق كبير، وقد تكلمنا على هذه المسألة في بحث مستقل، ولله الحمد. الدليل الثاني: (ث -234) ما رواه عبد الرزاق في المصنف، قال: عن الثوري، عن أبي إسحاق الهمداني، عن أبي ميسرة، عمرو بن شرحبيل قال: قال لي عبد الله بن مسعود: إنكم من أحرى حي بالكوفة، أن يموت أحدكم، ولا يدع عصبة، ولا رحمًا فما يمنعه إذا كان كذلك، أن يضع ماله في الفقراء والمساكين (¬1). [صحيح] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: المسلمون يستحقون هذا المال لا على سبيل الميراث، وإنما باعتبار أنه مال لا مالك له، وإذا كان كذلك فلمالكه أن يضعه حيث يشاء، وإذا كان للإمام أن يضعه حيث يشاء فإن صاحبه أولى من الإمام. ¬
ونوقش هذا
قال الطحاوي: "إن المسلمين لا يستحقون ماله بعد موته على سبيل الميراث؛ لأنه لو كان كذلك لما جاز أن يستحقه الرجل مع أبيه؛ لأن الأب والجد لا يجتمعان في ميراث واحد، فعلمنا أنهم لا يستحقونه على جهة الميراث، وإنما يعطيهم الإمام من جهة أنه مال لا مالك له، وكان للإمام أن يضعه حيث يرى، فمالكه أولى بذلك من الإمام؛ لأنه كان مالكًا له إلى أن توفي، ألا ترى أنه إذا كان له وارث فأوصى بأكثر من الثلث أنه إذا لم تجزه الورثة رد إليه ما زاد؛ لأنه يأخذه ميراثًا، فإذا لم يكن ميراث، فالوصية جائزة كالثلث الذي لا يورث إذا أوصى به. وأيضًا فللإمام أن يجعله لرجل من المسلمين فالموصي بذلك أولى منه كما كان في حال الحياة" (¬1). ونوقش هذا: قال ابن حزم: "وأما قولهم كما للإمام أن يضعه حيث يشاء فصاحبه أولى فكلام بارد، وقياس فاسد، وهم يقولون فيمن ترك زوجة، ولم يترك ذا رحم، ولا مولى ولا عاصبًا: أن الربع للزوجة، وأن الثلاثة الأرباع يضعها الإمام حيث يشاء، وأنه ليس له أن يوصي بأكثر من الثلث. فهلا قاسوا هاهنا كما للإمام أن يضع الثلاثة الأرباع حيث يشاء، فكذلك صاحب المال ولكن هذا مقدار قياسهم فتأملوه" (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: إن أوصى بأكثر من الثلث، ولا وارث له صح في الثلث فقط، وهذا مذهب المالكية، والشافعية، ورواية في مذهب الحنابلة، واختيار الظاهرية، ويه قال الأوزاعي (¬1). قال ابن رشد: "وأما اختلافهم في جواز الوصية بأكثر من الثلث لمن لا وارث له، فإن مالكاً لا يجيز ذلك" (¬2). جاء في الحاوي الكبير: "وإن لم يكن للميت وارث، فأوصى بجميع ماله ردت الوصية إلى الثلث، والباقي لبيت المال" (¬3). وجاء في الإنصاف: "وعنه -أي عن الإمام أحمد- لا تجوز إلا بالثلث. نص عليه في رواية ابن منصور. قال أبو الخطاب في الانتصار: هذه الرواية صريحة في منع الرد، وتوريث ذوي الأرحام. وأطلقهما في الهداية، والمستوعب" (¬4). ¬
وسبب الخلاف
وسبب الخلاف: قال ابن رشد: "هل هذا الحكم خاص بالعلة التي علله بها الشارع أم ليس بخاص: وهو أن لا يترك ورثته عالة يتكففون الناس، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) فمن جعل هذا السبب خاصًا وجب أن يرتفع الحكم بارتفاع هذه العلة. ومن جعل الحكم عبادة، وإن كان قد علل بعلة، أو جعل جميع المسلمين في هذا المعنى بمنزلة الورثة، قال: لا تجوز الوصية بإطلاق بأكثر من الثلث" (¬1). دليل من قال بالمنع: (ح -1040) ما رواه ابن ماجه من طريق وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم، زيادة لكم في أعمالكم (¬2). [إسناده ضعيف جدًا، وله شواهد كلها ضعيفة، ويرجى أن يقوي بعضها بعضاً] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن الله أباح لنا الثلث فما دونه، لم يبح لنا أكثر من ذلك. الراجح: أن الموصي له أن يوصي بماله كله إذا لم يكن هناك وارث، ويكفي في هذا كونه قول ابن مسعود - رضي الله عنه -، ولا يعلم له مخالف من الصحابة، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في الوصية بأكثر من الثلث مع وجود الوارث
المبحث الثاني في الوصية بأكثر من الثلث مع وجود الوارث [م - 1691] اختلف الفقهاء في الرجل يوصي بأكثر من الثلث وله وارث على قولين: القول الأول: تصح الوصية بأكثر من الثلث، وتكون موقوفة على إجازة الورثة، فإن أجازوها صحت، ويكون ذلك تنفيذًا لما أوصى به الميت، وحكمها حكم وصية الميت، وإن لم يجيزوها بطلت. وهذا قول جمهور العلماء من الحنفية، والشافعية في الأظهر، والمشهور من مذهب الحنابلة، وأحد القولين في مذهب المالكية (¬1). قال الباجي: "إذا أوصى الميت بأكثر من الثلث، فأجازته الورثة جاز، ¬
القول الثاني
ويكون ذلك تنفيذًا منهم لفعل الموصي، ولم يكن ابتداء عطية منهم للموصى له خلافًا للشافعي في قوله: إنها ابتداء عطية. قال القاضي أبو محمَّد: والدليل على ذلك أن المنع إنما هو لحق الورثة، فإذا أجازوا فقد تركوا ما كان لهم من الاعتراض والفسخ لفعل الميت، بمنزلة أن يأذنوا له قبل أن يوصي، وبمنزلة حكم الثلث" (¬1). قال النووي: "ينبغي أن لا يوصي بأكثر من ثلث ماله، فلو خالف، وله وارث خاص، فرد بطلت الوصية في الزيادة على الثلث. وإن أجاز دفع المال بالزيادة إلى الموصى له. وهل إجازته تنفيذ لتصرف الموصي، أم ابتداء عطية من الوارث؟ قولان. أظهرهما: تنفيذ" (¬2). وقال ابن قدامة: "ولا يجوز لمن له وارث الوصية بزيادة على الثلث ... فإن فعل وقف الزائد على الثلث على إجازة الورثة. فإن أجازوه جاز. وإن ردوه بطل بغير خلاف؛ ولأن الحق لهم، فجاز بإجازتهم، وبطل بردهم. وظاهر المذهب أن الإجازة صحيحة، وإجازة الورثة تنفيذ؛ لأن الإجازة تنفيذ في الحقيقة" (¬3). القول الثاني: لا تصح الوصية بأكثر من الثلث، وإن أجازها الورثةكانت هبة منهم مبتدأة، لا تنفيذًا للوصية، فيشترط فيها ما يشترط في الهبة. وهذا هو المشهور من مذهب المالكية، وهو مذهب المدونة، واختاره المزني ¬
من الشافعية، وبعض الحنابلة، وهو مذهب الظاهرية، ويه قال عبد الرحمن بن كيسان (¬1). جاء في شرح الخرشي: "الوصية تبطل لغير الوارث بما زاد على ثلث الموصي يوم التنفيذ، ولا يعتبر يوم الموت، وإذا أجاز الورثة ما أوصى به الموصي لبعض الورثة، أو ما زاد على الثلث لغير الوارث، فإن ذلك يكون منهم ابتداء عطية، لا أنه تنفيذ للوصية، فلا بد من قبول الموصى له، ولا تتم إلا بالحيازة قبل حصول مانع للمجيز، وأن يكون المجيز من أهل الإجازة ... " (¬2). وقال العمراني: "قال الشيخ أبو حامد: لا تصح الوصية بما زاد على الثلث، قولاً واحدًا. فإن أجازه الورثة، فهل يكون ذلك تنفيذًا لما فعله الموصي، أو ابتداء عطية من الورثة؟ على قولين: أحدهما: لا تصح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى سعداً عن الوصية بما زاد على الثلث، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. والثاني: تصح؛ لأن الوصية صادفت ملكه، وإنما يتعلق بها حق الوارث فيما ¬
دليل من قال: لا تصح الوصية بأكثر من الثلث
بعد، وذلك لا يمنع صحة تصرفه، كما لو اشترى رجل شقصًا فيه شفعة، فباع الشقص قبل أن يأخذه الشفيع" (¬1). وقال في الشرح الكبير على المقنع: "ظاهر المذهب أن الوصية للوارث وللأجنبي بالزيادة على الثلث صحيحة موقوفة على إجازة الورثة، فعلى هذا تكون إجازته تنفيذًا اجازة محضة يكفي فيها قول الوارث: أجزت، أو أمضيت، أو نفذت، فإذا قال ذلك لزمت الوصية ... فعلى هذا لا تفتقر إلى شروط الهبة، ولا تثبت فيها أحكام الهبة؛ لأنها ليست هبة. وقال بعض أصحابنا: الوصية باطلة، فعلى هذا تكون هبة تفتقر إلى شروط الهبة، وتثبت فيها أحكامها" (¬2). دليل من قال: لا تصح الوصية بأكثر من الثلث: الدليل الأول: (ح -1041) من السنة: حديث سعد بن أبى وقاص، قال: مرضت فعادني النبي - صلى الله عليه وسلم - ... قلت: أريد أن أوصي، وإنما لي ابنة، قلت: أوصي بالنصف، قال: النصف كثير، قالت: فالثلث، قال: (الثلث والثلث كثير) (¬3). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع سعدًا من الوصية بأكثر من الثلث، ولم يعلق على ذلك على إجازة الوارث، فدل على أن الوصية بأكثر من ذلك لا تصح مطلقًا. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح -1042) ما رواه ابن ماجه من طريق وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تصدق عليكم عند وفاتكلم بثلث أموالكم، زيادة لكم في أعمالكم (¬1). [إسناده ضعيف جدًا, وله شواهد كلها ضعيفة، ويرجى أن يقوي بعضها بعضًا] (¬2). وجه الاستدلال: أن الله أباح لنا الثلث فما دونه، ولم يبح لنا أكثر من ذلك. الدليل الثالث: (ح -1043) ما رواه مسلم من طريق إسماعيل وهو ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، أن رجلاً أعتق ستة مملوكلين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجزأهم أثلاثًا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة، وقال له قولاً شديدًا (¬3). قوله: (وقال له قولاً شديدًا): أي قال عنه، ففي مصنف عبد الرزاق: عن معمر، عن أيوب، وِفيه: لو أدركتم ما دفن مع المسلمين (¬4). ¬
وفي مسند أحمد وسنن النسائي من طريق الحسن، عن عمران: لقد هممت أن لا أصلي عليه (¬1). فدل هذا الحديث على أن الوصية بأكثر من الثلث باطلة، ولا تنفذ وصية، ولو كانت الوصية صحيحة لما غضب منه المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ولما قال فيه ما قال؛ لأن مثل هذا لا يقال إلا لمن فعل محرمًا. قلت: محل الاتفاق بين القولين: أن الوصية بأكثر من الثلث إذا ردها الورثة بطلت، وإن أجازوها صحت، وهذا لا يختلف فيه الفقهاء. ومحل الخلاف في توصيف إجازة الورثة، هل الإجازة تمليك من الورثة فتكون هبة، وتطبق عليها أحكام الهبة، أو بمنزلة إسقاط الحق، فتكون تنفيذًا للوصية. والخلاف في هذه المسألة قولاً وأدلة هو نفس الخلاف في مسألة الوصية للوارث، هل تصح الوصية له، وتكون موقوفة على إجازة الورثة، أو لا تصح الوصية للوارث، وإذا أجازها الورثة فهل الإجازة هبة، أو وصية، وقد ذكرنا أدلة هذه المسألة في مسألة سابقة فلم نستقص ذكر الأدلة هنا اقتصارًا على ما ذكرناه هناك، وما لم نذكره هناك استوفيته هنا, ولله الحمد. قال ابن قدامة: "والقول في بطلان الوصية بالزائد عن الثلث، كالقول في الوصية للوارث، على ما ذكرنا، وهل إجازتهم تنفيذ أو عطية مبتدأة؟ فيه اختلاف ذكرناه في الوصية للوارث" (¬2). ¬
والراجح
والراجح: أن ما زاد على الثلث فهو هبة من الورثة للموصى له، وذلك لأن المعروف في الوصية أنها هي التي يملكها الموصي، وتقدم على الميراث، وتلزم بموته، ولا يحق للوارث الاعتراض عليها، أما التي لا يملكها الموصي ابتداء، ولا تقدم على الميراث، ولا تلزم بموت الموصي إلا أن يأذن الوارث فهذه لا يمكن أن يقال: إنها هي الوصية التي قال الله فيها: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] فتعلق حق الوارث بها يمنع انعقادها من قبل الموصي، ويجعل العاقد الحقيقي هو الوارث، وليس الموصي، والموصي تصرف تصرفًا فضوليًا موقوفًا على إجازة المالك الحقيقي، وهو الوارث، ولذلك كان يملك أن يبطله، ويملك أن يجيزه، والله أعلم.
فرع في وقت تقدير الثلث
فرع في وقت تقدير الثلث [م - 1692] إذا كان الموصي يملك أن يوصي بالثلث من ماله، فمتى يقدر الثلث، هل يقدر الثلث يوم موت الموصي، أو يقدر الثلث يوم عقد الوصية، فكل مال استفاده بعد عقد الوصية لا يدخل في الثلث؟ وللجواب على ذلك نقول: المال الموصى به إن كان معينًا تعلقت الوصية بعينه، فإن هلك بطلت الوصية، وإن بقي إلى حين موت الموصي استحقها الموصى له إن كانت من ثلث المال فأقل، وإن كان المال الموصى به مالاً شائعًا غير معين, كأن يقول: أوصيت لفلان بثلث مالي، فقد اختلف الفقهاء في وقت تقدير الثلث (¬1). ¬
القول الأول
القول الأول: له ثلث المال يوم موت الموصي، لا يوم الوصية. وهذا مذهب الحنفية، والمشهور من مذهب الشافعية والحنابلة (¬1). إلا أن الحنفية خالفوا في النماء، كالولد والكسب، فالنماء عندهم يختلف حكمه قبل قسمة التركة وبعدها: فإن حدث النماء بعد القبول وبعد قسمة التركة كان النماء للموصى له؛ لأنه نماء ملكه. وأما إن حدث النماء قبل القسمة، ولو كان بعد القبول فالمال كله على ملك الميت، بدليل أن ينفذ وصاياه من المال، وتقضى منه ديونه، وهذا دليل على بقاء ملك الميت للمال. ولأن المال إذا هلك قبل القسمة لا يهلك من مال الموصى له وحده، بل يهلك على الجميع، فدل على أن الموصى به لا يختص بالمال إلا بعد القسمة. وقال القدوري: جميع النماء للموصى له كما لو حدث بعد القسمة (¬2). جاء في بدائع الصنائع: "إذا أوصى بثلث ماله، أو ربعه، وقد ذكر قدرًا من ماله مشاعًا، أو معينًا أن قدر ما يستحقه الموصى له من مال هو: ماله الذي عند ¬
الموت، لا ما كان عند الوصية، حتى لو أوصى بثلث ماله، وماله يوم أوصى ثلاثة آلاف، ويوم مات ثلثمائة لا يستحق الموصى له إلا مائة، ولو لم يكن له مال يوم أوصى، ثم اكتسب مالاً، ثم مات، فله ثلث المال يوم مات، ولو كان له مال يوم أوصى فمات، وليس له مال بطلت، وصيته" (¬1). وجاء في الفتاوى الهندية: "الزيادة الحادثة من الموصى به، كالولد، والغلة، والكسب، والأرش بعد موت الموصي، قبل قبول الموصى له الوصية، تصير موصى بها، حتى تعتبر من الثلث، أما إذا أحدثت الزيادة بعد قبول الموصى له، قبل القسمة، هل تصير موصى بها؟ لم يذكره محمَّد رحمه الله تعالى، وذكر القدوري أنه لا تصير موصى بها، حتى كانت للموصى له من جميع المال، كما لو حدثت بعد القسمة. وقال مشايخنا: تصير موصى بها حتى يعتبر خروجها من الثلث، كذا في محيط السرخسي" (¬2). ¬
وفي مذهب الشافعية، جاء في حاشية الجمل: "ويعتبر المال الموصى بثلثه مثلاً وقت الموت، لا وقت الوصية؛ لأن الوصية تمليك بعد الموت، فلو أوصى برقيق، ولا رقيق له، ثم ملك عند الموت رقيقًا تعلقت الوصية به ولو زاد ماله تعلقت الوصية به" (¬1). وقال الشيرازي في المهذب: "الاعتبار بقدر المال عند الموت، وهو المذهب؛ لأنه وقت لزوم الوصية واستحقاقها" (¬2). جاء في كشاف القناع: "وأما اعتبار قيمة الموصى به عند تقويمه فتعتبر يوم الموت؛ لأن حق الموصى له تعلق بالموصى به تعلقًا قطع تصرف الورثة فيه، فيكون ضمانه عليه، كالعبد الجاني، وزيادته المتصلة متابعة له كسائر العقود والفسوخ" (¬3). ¬
وجه القول بأن المعتبر في الثلث يوم موت الموصي
وجه القول بأن المعتبر في الثلث يوم موت الموصي: الوجه الأول: أن الوصية إيجاب معلق بالموت فاعتبر الثلث وقت وقوع الإيجاب. الوجه الثاني: أن حق الموصى له لا يثبت إلا بموت الموصي، فاعتبر الثلث به. القول الثاني: أن المعتبر في الثلث وقت الموت بشرط أن يعلم به الموصي، فإن أفاد الموصي مالاً قبل موته، ولم يعلم به لم يدخل في الوصية، وهذا قول المالكية. جاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن أوصى لرجل بثلث ماله، ولا مال له يوم أوصى، ثم أفاد مالاً فمات؟ قال: إن علم الميت بما أفاد فللموصى له ثلثه. وهذا قول مالك، وإن لم يعلم فلا شيء له" (¬1). قال القرافي: "لا تدخل الوصية إلا فيما علمه الميت؛ لأنه هو الذي توجه إليه القصد في الوصايا ... " (¬2). ونقل القرافي عن الأبهري أنه قال: "إذا أوصى بثلثه، وحدث مال بعد الوصية، فعلم به حصلت الوصية فيه، وإن تقدمت عليه؛ لأن المقصود ثلث ¬
وجه القول باشتراط العلم
المال عند الموت، ولو وهب هبة، فلم تحز عنه حتى مات، لا تدخل فيه الوصية وإن رجعت ميراثًا؛ لأنه أراد الوصية فيما عداها" (¬1). وقال ابن رشد: "إذا أوصى بجزء من ماله، وله مال يعلم به، ومال لا يعلم به، فعند مالك أن الوصية تكون فيما علم به دون ما لم يعلم" (¬2). وقال ابن جزي: "من أوصى وله مال يعلم به ومال لا يعلم به فالوصية فيما علم به دون ما لم يعلم به" (¬3). وجه القول باشتراط العلم: قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه منه (¬4). والذي لم يعلم به الموصي لا يمكن الجزم بأن الموصي قد طاب نفسًا به. القول الثالث: أن المعتبر في الثلث وقت الوصية، وهو أحد الوجهين عند الشافعية (¬5). قال الماوردي: "وتجوز الوصية بثلث ماله، وإن لم يعلم قدره. واختلف أصحابنا: هل يراعى ثلث ماله وقت الوصية أو عند الوفاة؟ على وجهين: ¬
وجه القول بأن المعتبر وقت الوصية
أحدهما: وهو قول ... أكثر البغداديين، أنه يراعى ثلثه وقت الوصية، ولا يدخل فيه ما حدث بعده من زيادة؛ لأنها عقد والعقود لا يعتبر بها ما بعد. والوجه الثاني: وهو قول ... أكثر البصريين أنه يراعى ثلث ماله وقت الموت، ويدخل فيه ما حدث قبله من زيادة؛ لأن الوصايا تملك بالموت فاعتبر بها وقت ملكها. فعلى هذين الوجهين: إن وصى بثلث ماله، ولا مال له، ثم أفاد مالاً قبل الموت، فعلى الوجه الأول تكون الوصية باطلة اعتبارًا بحال الوصية. وعلى الوجه الثاني: تكون، الوصية صحيحة اعتبارًا بحال الموت. وعلى هذين الوجهين: لو وصى بعبد من عبيده، وهو لا يملك عبداً، ثم ملك قبل الموت عبداً صحت الوصية إن اعتبر بها حال الموت، وبطلت: إن اعتبر بها حال القول. وعلى هذين الوجهين: لو وصى بثلث ماله، وله مال، فهلك ماله، وأفاد غيره، صحت الوصية في المال المستفاد إن اعتبر بها حال الموت، وبطلت إن اعتبر بها حال الوصية" (¬1). وجه القول بأن المعتبر وقت الوصية: أن الوصية عقد، والمعتبر في العقود هو يوم عقدها. ونوقش هذا: بأن التمليك في الوصية مضاف إلى ما بعد الموت، فهو وقت لزومها, ولأننا ¬
الراجح
إذا قلنا: إن المعتبر هو وقت الوصية منعنا الموصي من الوصية بثلث ماله؛ لأن المال معرض للزيادة والنقص، وقد أعطاه الشرع هذا الحق، فكان المعتبر هو يوم الموت. الراجح: أن المعتبر في تقويم مال الميت هو يوم الموت، وهو وقت تنفيذ الوصية وانتقال المال من الميت إلى الورثة والموصى له، إلا أن تتعلق الوصية بشيء معين، فإن الحق يتعلق بعينه بشرطين: أن يبقى إلى الموت. وأن تكون قيمته من الثلث فأقل، والله أعلم.
الباب الخامس في مبطلات الوصية
الباب الخامس (*) في مبطلات الوصية الفصل الأول إبطال الوصية من جهة الموصي المبحث الأول إبطال الوصية بجنون الموصي [م - 1693] اختلف العلماء في إبطال الوصية بالجنون: القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الجنون الطارئ بعد إيجاب الوصية لا يبطلها، وكذلك تصح وصية من يجن أحيانًا إذا أوصى في حال إفاقته. قال الباجي في المنتقى نقلاً عن عبد الملك "تجوز وصية المجنون في حال إفاقته، كما تجوز شهادته في حال إفاقته إن كان عدلاً" (¬1). وقال ابن عبد البر: "وتجوز وصية المجنون إذا أوصى في حال إفاقته" (¬2). وقال ابن قدامة: "وأما الذي يجن أحيانًا ويفيق أحيانًا، فان أوصى في حال ¬
القول الثاني
جنونه لم تصح، وإن أوصى في حال عقله صحت وصيته؛ لأنه بمنزلة العقلاء في شهادته، ووجوب العبادة عليه، فكذلك في وصيته وتصرفاته" (¬1). وقال في كشاف القناع: "وتصح الوصية في إفاقة من يخنق في بعض الأحيان؛ لأنه في إفاقته عاقل" (¬2). القول الثاني: فرق الحنفية بين الجنون المطبق وبين الجنون غير المطبق، فالأول يبطل الوصية دون الثاني على خلاف بين الحنفية في تقدير مدة الجنون المطبق (¬3). فقيل: سنة، وقيل: تسعة أشهر، وقيل: ستة أشهر، وقيل: شهر، وقيل: التفويض لرأي القاضي، وعليه الفتوى (¬4). وقد تكلمت على أدلة هذه المسألة في مبحث سابق عند الكلام على شروط الموصي فأغنى ذلك عن إعادة ذكر الأدلة هنا. وقد رجحت أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فإذا كان عقد الوصية حين عقده قد توفرت فيه أهلية العاقد لم يبطله تعرض صاحبه لجنون، كما لا يبطله ترضه لغيبوبة مطبقة، فإن الإغماء يغطي العقل، وهو نوع من المرض، وكما أن الجنون الطارئ لا يلغي كل عباداته وعقوده السابقة من بيع، وإجارة ونحوهما، فكذلك الوصية، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في إبطال الوصية بردة الموصي
المبحث الثاني في إبطال الوصية بردة الموصي [م - 1694] اختلف العلماء في بطلان الوصية بردة الموصي، وخلافهم راجع إلى اختلافهم في حكم تصرفه في ماله بعد ردته، فإن قال: إن ملك المرتد لماله يزول بردته أبطل وصيته كالمالكية. ومن قال: إن ملكه لا يزول عنه بردته، فاختلفوا: فقيل: لا تبطل وصيته بردته كأبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية؛ لأن وجوب قتله لا يمنع من صحة وصيته كالحربي. وقيل: بل ماله موقوف، فإن مات على ردته بطلت، وإن رجع إلى الإِسلام قبل موته نفذت وصيته، وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة، وبه قال أبو حنيفة في المرتد فقط دون المرتدة، والفرق عنده راجع إلى أن المرتد يجب قتله إلا أن يرجع إلى الإِسلام بخلاف المرتدة. إذا علم ذلك من حيث الإجمال، نأتي إلى تفصيل أقوال أهل العلم فنقول: القول الأول: تبطل الوصية بالردة مطلقًا حال ردته ولو رجع المرتد للإسلام لم تصح وصيته وهذا مذهب المالكية، وهو قول في مذهب الشافعية، ووجه في مذهب الحنابلة (¬1). ¬
القول الثاني
واستثنى المالكية ما إذا رجع إلى الإِسلام، وكانت وصيته مكتوبة، فإنها تصح. قال الخرشي: "الوصية تبطل بردة الموصي أو الموصى له ولذا نكر الردة، ما لم يرجع للإسلام، وإلا جازت إن كانت مكتوبة، وإلا فلا" (¬1). وقال أيضًا: "وإذا أوصى بوصايا، ثم ارتد عن الإِسلام، فإن توبته تسقط ما أوصى به" (¬2). وقال القرافي: "ولا تنفذ وصية المرتد، وإن تقدمت ردته الوصية؛ لأن الوصية إنما تعتبر زمن التمليك، وهو زمن الموت" (¬3). وجاء في الفواكه الدواني: "تبطل أيضًا بارتداد الموصي أو الموصى له، ولو رجع المرتد للإسلام" (¬4). وفي حاشية العدوي: "وأما وصايا المرتد فباطلة وإن تقدمت حال إسلامه" (¬5). القول الثاني: لا تبطل الوصية بالردة، ويكون حكم وصيته حكم من انتقل إليهم، فما صح منهم صح مثله، وهذا قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬6). ¬
القول الثالث
فلو أنه ارتد إلى اليهودية أو النصرانية، وأوصى بما هو قربة عند المرتد وقربة عند الموصى لهم صحت، أو بما هو معصية عندهما لم تصح، وإن أوصى بما هو قربة عند المرتد، ومعصية عند الموصى لهم، ولم يقصد في الوصية نفع قوم بأعيانهم لم تصح الوصية عندهما. قال الزيلعي: "ذكر العتابي في الزيادات: أن من ارتد عن الإسلام إلى النصرانية أو اليهودية أو المجوسية، فحكم وصاياه حكم من انتقل إليهم، فما صح منهم صح منه، وهذا عندهما" (¬1). وجاء في الفتاوى الهندية: "لو ارتد مسلم إلى اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، ثم أوصى ببعض هذه الوصايا فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتوقف ... وعندهما تصرفات المرتد نافذة للحال، فيصح منه ما يصح من القوم الذين انتقل إليهم، حتى لو أوصى بما هو قربة عندهم معصية عندنا، وكان ذلك لقوم غير معينين لا يصح عندهما" (¬2). القول الثالث: المرتد ملكه موقوف، فإن مات أو قتل كافرًا بطلت الوصية، وإن أسلم نفذ كسائر تصرفاته، وهذا قول أبي حنيفة، والمذهب عند الشافعية، والحنابلة (¬3). جاء في حاشية الجمل: "والمعتمد أن وصيته موقوفة كسائر تصرفاته" (¬4). ¬
وقال النووي: "وفي زوال ملكه عن ماله بها أقوال، أظهرها: إن هلك مرتدًا بان زواله بها، وإن أسلم بان أنه لم يزل ... وإذا وقفنا ملكه فتصرفه إن احتمل الوقف، كعتق، وتدبير، ووصية موقوف إن أسلم نفذ وإلا فلا" (¬1). وقال في الإنصاف: "ومن ارتد عن الإِسلام لم يزل ملكه بل يكون موقوفًا، وتصرفاته موقوفة، فإن أسلم: ثبت ملكه وتصرفاته، وإلا بطلت" (¬2). وفي كشاف القناع: "ويكون ملكه موقوفًا، فإن أسلم ثبت ملكه، وإن قتل أو مات كان ماله فيئًا" (¬3). وقال أبو الخطاب الحنبلي: "ولا يزول ملك المرتد عن ماله بنفس الردة، بل يكون موقوفًا، وإن تصرف وقع تصرفه موقوفًا، فإن عاد إلى الإِسلام نفذ تصرفه، وإن قتل على كفره لم ينفذ تصرفه" (¬4). وهذا قول أبي حنيفة في المرتد فقط دون المرتدة؛ لأن الردة من المرأة لا يوجب قتلها عنده، بل تستتاب، فإن ثابت خلي سبيلها، وإلا أجبرت على الإِسلام بالحبس، بخلاف المرتد، فإنه إما أن يقتل أو يسلم، ولهذا تكون وصاياه موقوفة، إن أسلم نفذ كسائر تصرفاته وإلا فلا (¬5). ¬
وقال في العناية عن وصية المرتد: "جائزة عندهما موقوفة عند أبي حنيفة، إن أسلم نفذ كسائر تصرفاته، وإلا فلا" (¬1). وقال ابن الهمام: "وفي المرتدة الأصح أنه تصح وصاياها؛ لأنها تبقى على الردة، بخلاف المرتد لأنه يقتل أو يسلم" (¬2). وجاء في البحر الرائق: "من ارتد عن الإِسلام إلى النصرانية أو اليهودية أو المجوسية فحكم وصاياه حكم من انتقل إليهم، فما صح منهم صح منه، وهذا عندهما، وأما عند أبي حنيفة فوصيته موقوفة، ووصايا المرتدة نافذة بالإجماع؛ لأنها لا تقتل عندنا" (¬3). وقوله: (بالإجماع) أي إجماع الحنفية. وقد تكلمت على أدلة هذه المسألة في مبحث سابق عند الكلام على شروط الموصي فأغنى ذلك عن إعادة ذكر الأدلة هنا. وقد رجحت أن الوصية لا تبطل بالردة، وكونها صحيحة لا يعني القول بصحة نفاذها، فهي تبقى صحيحة؛ لأنه يملك، وملكه باق على ماله كسائر تصرفاته، ويقضى من ماله ديونه، وكسبه بعد ردته كسب صحيح، فإن رجع إلى الإِسلام قبل قتله نفذت وصيته، وإن قتل عقوبة له على ردته، أو مات بطلت وصاياه كسائر عمله، وهل يكون ماله لأقاربه المسلمين، أو يشاركهم فيه عموم المسلمين، حيث يصرف إلى بيت المال، والذي هو ملك لجميع المسلمين، قولان في هذه المسألة، وليس هذا موضع بحثها، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث بطلان الوصية برجوع الموصي عنها
المبحث الثالث بطلان الوصية برجوع الموصي عنها [م - 1695] يجوز للموصي الرجوع عن الوصية ما دام حيًا، وهذا باتفاق الأئمة واختلفوا في الوصية بالعتق، والأكثر على صحة الرجوع (¬1). قال العيني: "اجتمع أهل العلم على جواز الرجوع للموصي في جميع ما أوصى كله، أو بعضه" (¬2). وقال ابن عرفة: "يجوز رجوع الموصي عن وصيته إجماعًا في صحة أو مرض" (¬3). وقال الباجي: "عقد الوصية عقد جائز، غير لازم، وله أن يغير من ذلك ما شاء، ويبطل منه ما شاء من غير عوض، أو يعوض منه غيره في صحته، أو مرضه، ما لم يمت فإذا مات فقد لزمت تلك الوصية، فليس لغيره أن يغير شيئًا من ذلك، ولا يبطله ولا يبدله بغيره" (¬4). ¬
ويكون الرجوع عن الوصية بالقول: كان يقول: رجعت عن الوصية، أو أبطلتها، أو نقضتها، أو فسختها، ونحو ذلك. ويلحق به لو أخرج العين الموصى بها عن ملكه ببيع أو هبة، أو جعله مهرًا، أو وقفًا. وهذا بالاتفاق. [م - 1696] واختلفوا فيما إذا رجع إلى الموصي بسبب جديد هل يعود موصى به، أو لا على قولين: فقيل: لا يعود، وهو قول الجمهور (¬1). وقيل: يعود موصى به، وهو مذهب المالكية (¬2). ويكون الرجوع بالفعل الدال عليه كما لو فعل في الموصى به ما يدل على رجوعه عن الوصية، كذبح الشاة الموصى بها، واستهلاكها. وكذا لو تصرف في الموصى به تصرقًا يزيل عنه الاسم الذي أوصى به، كنسج الغزل الموصى به؛ لأن الاسم انتقل عما كان عليه حال الوصية، ومنها صوغ الفضة الموصى به؛ لأن الذي أوصى يه انتقل اسمه كما كان حال الوصية (¬3). قال الكاساني في بدائع الصنائع: "الرجوع قد يكون نصًا، وقد يكون دلالة، وقد يكون ضرورة. أما النص فهو أن يقول الموصي: رجعت. أما الدلالة: فقد تكون فعلًا، وقد تكون قولاً: وهو أن يفعل في الموصى به فعلًا يستدل به على الرجوع، أو يتكلم بكلام يستدل به على الرجوع. ¬
وبيان هذه الجملة: إذا فعل في الموصى به فعلاً لو فعله في المغصوب لانقطع به ملك المالك كان رجوعًا، كما إذا أوصى بثوب ثم قطعه، وخاطه قميصًا، أو قباء، أو بقطن، ثم غزله أو لم يغزله، ثم نسجه، أو بحديدة ثم صنع منها إناءً أو سيفًا، أو سكينًا، أو بفضة، ثم صاغ منها حليًا، ونحو ذلك؛ لأن هذه الأفعال لما أوجبت بطلان حكم ثابت في المحل، وهو الملك؛ فلأن توجب بطلان مجرد كلام من غير حكم أصلاً أولى. ثم وجه الدلالة منها على التفصيل: أن كل واحد منها تبديل العين، وتصييرها شيئًا آخر معنى واسمًا، فكان استهلاكًا لها من حيث المعنى، فكان دليل الرجوع فصار كالمشتري بشرط الخيار إذا فعل في المبيع فعلاً يدل على إبطال الخيار يبطل خياره، والأصل في اعتبار الدلالة إشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله للمخيرة (إن وطئك زوجك فلا خيار لك). ولو باع الموصى به، ثم اشتراه، أو وهبه، وسلم، ورجع في الهبة لا تعود الوصية؛ لأنها قد بطلت بالبيع، والهبة مع التسليم لزوال الملك، والعائد ملك جديد غير موصى به، فلا يصير موصى به إلا بوصية جديدة" (¬1). وقال الخرشي: "والرجوع يكون بأمور منها: القول: كقوله أبطلت وصيتي، أو رجعت عنها. ومنها: البيع، ما لم يشتره. ومنها: العتق للرقبة الموصى بها، ومنها الكتابة؛ لأنها إما بيع، وإما عتق، ¬
ولا يقال كان يمكنه الاستغناء عن الكتابة حينئذ لدخولها فيما مر؛ لأنا نقول لما رأى أنها ليست بيعًا, ولا عتقًا محضًا ذكرها. ومنها: الحصد والدرس والتذرية للزرع الموصى به؛ لأن الاسم حينئذ تغير، سواء أدخله بيته أم لا ... ومنها: نسج الغزل الموصى به؛ لأن الاسم انتقل عما كان عليه حال الوصية، ومنها صوغ الفضة الموصى بها؛ لأن الذي أوصى به انتقل اسمه كما كان عليه حال الوصية ... ومنها: ذبح ما أوصى به شاة أو غيرها، ومنها إذا أوصى له بشقة ثم فصلها قميصًا، فقوله وتفصيل شقة أي، ووقع الإيصاء بلفظ شقة، بأن قال: أعطوه الشقة الحمراء مثلا، وأما لو أوصى بما سماه ثوبا وفصله، فإنه لا يكون رجوعا؛ لأن القميص يسمى ثوبا" (¬1). هذا مجمل مذهب المالكية، ومع اتفاقهم مع الجمهور في المسائل السابقة إلا أنهم أضيق مذهبًا من غيرهم: فلا تبطل الوصية عندهم بخلط الموصى به بغيره، أو إحداث زيادة فيه، كما لو أوصى بعرصة فبناها، أو صبغ الثوب، أو لت السويق ونحو ذلك، وكذلك لو تغير الموصى به بنفسه من غير تدخل من أخد لم تبطل الوصية بهذا التغير (¬2). وقال النووي: "أوصى بحنطة فطحنها، أو جعلها سويقًا، أو بذرها، أو بدقيق فعجنه، بطلت الوصية، وكان ما أتى به رجوعًا لمعنيين: ¬
الراجح
أحدهما: زوال الاسم. والثاني: إشعاره بإعراضه عن الوصية" (¬1). وقال ابن قدامة: "وإذا حدث بالموصى به ما يزيل اسمه من غير فعل الموصي، مثل إن سقط الحب في الأرض فصار زرعًا، أو انهدمت الدار فصارت فضاءً في حياة الموصي، بطلت الوصية بها؛ لأن الباقي لا يتناوله الاسم. وإن كان انهدام الدار لا يزيل اسمها سلمت إليه دون ما انقصل منها؛ لأن الاسم حين الاستحقاق يقع على المتصل دون المنفصل" (¬2). الراجح: أميل إلى أن مذهب المالكية أقوى من مذهب الجمهور قياسًا على ما إذا أوصى بشاة، فولدت فإن الشاة تبقى موصى بها، وزيادتها لا تدخل في الوصية، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع بطلان الوصية بجحود الموصي
المبحث الرابع بطلان الوصية بجحود الموصي [م - 1697] اختلف العلماء في جحود الموصي للوصية، هل يعتبر الجحود رجوعًا عن الوصية على قولين: القول الأول: يعتبر الجحود رجوعًا عن الوصية، وهذا قول أبي يوسف من الحنفية، وأحد الوجهين عند الحنابلة (¬1). وهو الأصح في مذهب الشافعية إلا أن يكون أنكرها من أجل غرض ما فلا يعتبر رجوعًا. جاء في مغني المحتاج: "ولو سئل عن الوصية، فأنكرها، قال الرافعي: فهو على ما مر في جحد الوكالة: أي فيفرق فيه بين أن يكون لغرض، فلا يكون رجوعًا، أو لا لغرض فيكون رجوعًا وهذا هو المعتمد" (¬2). وجاء في أسنى المطالب: "وإنكاره الوصية إن سئل عنها رجوع ... قال الإمام: والذي ذهب إليه الأصحاب وظاهر النص أنه رجوع" (¬3). ¬
وجه هذا القول
وجاء في روضة الطالبين: "ولو سئل عن الوصية، فأنكرها فهو رجوع، ولو قال لا أدري فليس برجوع" (¬1). قال ابن قدامة: "وإن جحد الوصية، لم يكن رجوعًا، في أحد الوجهين، وهو قول أبي حنيفة، في إحدى الروايتين. ولأنه عقد، فلا يبطل بالجحود، كسائر العقود. والثاني، يكون رجوعا؛ لأنه يدل على أنه لا يريد إيصاله إلى الموصى له" (¬2). وجه هذا القول: أن الرجوع عن الوصية نفي في الحال، والجحود نفي في الماضي والحال، فأولى أن يكون رجوعًا. القول الثاني: أنه لا يعتبر الجحود رجوعًا عن الوصية، وهذا قول محمد بن الحسن من الحنفية، وقول في مذهب الشافعية، والمذهب عند الحنابلة (¬3). قال في الهداية: "وإن جحد الوصية لم يكن رجوعًا، كذا ذكره محمَّد. وقال أبو يوسف: يكون رجوعًا" (¬4). ¬
وجه هذا القول
والراجح في مذهب الحنفية قول محمَّد، كذا ذكره ابن عابدين (¬1). وعدم الرجوع عزاه الرافعي في تذنيبه للأكثرين في التدبير، وهو نظير الوصية. وقال البلقيني: الأصح أنه ليس برجوع (¬2). وقال ابن قدامة: "وإن جحد الوصية، لم يكن رجوعًا؛ لأنه عقد، فلم يبطل بالجحود كسائر العقود" (¬3). وجه هذا القول: أن الجحود نفي في الماضي، وسريانه على الحال ضرورة ذلك، وإذا كان المنفي في الماضي باطلاً، كانت الوصية ثابتة في الحال، وكان الجحود لغوًا. ولأن الرجوع إثبات في الماضي ونفي في الحال، والجحود نفي في الماضي والحال، فلا يكون رجوعًا حقيقة، ولهذا لا يكون جحود النكاح فرقة. الراجح: أن الجحود في إبطال الوصية رجوع حكمًا إن لم يكن أبلغ من الرجوع، ذلك أن الرجوع يتضمن الإقرار بإيجاب الوصية، ورفع حكمها برجوعه، والأمر إليه، وأما الجحود فهو إنكار لوجودها؛ لأنه لو كان يريد الوصية لما ادعى أنه لم يوص، والحكم له، والقول قوله، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني إبطال الوصية من جهة الموصى له
الفصل الثاني إبطال الوصية من جهة الموصى له المبحث الأول إبطال الوصية بموت الموصى له الفرع الأول موت الموصى له في حياة الموصي [م - 1698] اختلف الفقهاء في الموصى له يموت في حياة الموصي، هل تبطل الوصية؟ على قولين: القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الوصية تبطل بموت الموصى له في حياة الموصي، وكذا لو مات معه (¬1). قال الزيلعي: "لو مات الموصى له قبل موت الموصي بطلت الوصية؛ لأنها ¬
وجه القول بذلك
تمليك مضاف إلى ما بعد الموت، وفي الحال ملك الموصي ثابت فيه، ولا يتصور تملك الموصى له بعد موته فبطلت" (¬1). قال في الحاوي: "إن مات الموصى له قبل موت الموصي فالوصية باطلة، لا أعرف فيها مخالفًا" (¬2). وقال ابن قدامة: "فإن مات الموصى له قبل موت الموصي، بطلت الوصية، هذا قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن علي - رضي الله عنه -، وبه قال الزهري، وحماد بن أبي سليمان، وربيعة، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي" (¬3). جاء في الإنصاف: "فإن مات الموصى له قبل موت الموصي بطلت الوصية بلا نزاع" (¬4). وجه القول بذلك: الوصية تستحق بموت الموصي، فإذا مات الموصى له قبل الاستحقاق بطلت الوصية وبقيت على ملك صاحبها، فإذا مات بعده الموصي لم يتصور تمليك الموصى له، وهو ميت. القول الثاني: إذا مات الموصى له قبل موت الموصي انتقلت الوصية إلى ورثة الموصى له، روي ذلك عن علي بن أبي طالب، وبه قال الحسن البصري (¬5). ¬
وجه هذا القول
(ث -235) روى ابن أبي شيبة في المصنف، حدثنا حفص، عن أشعث، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي في وجل أوصى لرجل، فمات الذي أوصى له قبل أن يأتيه، قال: هي لورثة الموصى له (¬1). [ضعيف جدًا، فيه الحارث الأعور]. (ث -236) وروى أَبن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا حفص، سألت عمرًا عنه؟ قال: كان الحسن يقول: هي لورثة الموصى له (¬2). وجه هذا القول: إذا عقدت الوصية، والموصى له حي انعقدت الوصية، فإذا مات الموصى له انتقل هذا الحق من الموصى له كسائر حقوقه إلى ورثته. قال عطاء: إذا علم الموصي بموت الموصى له، ولم يحدث فيما أوصى به شيئاً، فهو لوارث الموصى له؛ لأنه مات بعد عقد الوصية، فيقوم الوارث مقامه، كما لو مات بعد موت الموصي وقبل القيول (¬3). الراجح: قول الجمهور، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني موت الموصى له بعد موت الموصي وقبل القبول
الفرع الثاني موت الموصى له بعد موت الموصي وقبل القبول [م - 1699] إذا مات الموصى له قبل القبول، فهل ينتقل حق القبول إلى ورثته باعتبار أن هذا الحق حق مالي، فينتقل إلى ورثته كسائر حقوقه، ويكون لهم الحق في القبول أو الرد؟ أو أن الاختيار بين القبول والرد ليس حقاً ماليًا، وإنما يتعلق بالشخص، فإذا مات فقد فات، فتبطل الوصية؟ في ذلك خلاف بين العلماء: القول الأول: أن الموصى له إذا مات قبل القبول ملك الوصية بموته دون حاجة إلى قبول، وتنتقل إلى ملك الورثة استحسانًا. وهذا مذهب الحنفية، وقول في مذهب المالكية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية والشافعية وأحد القولين في مذهب الحنابلة إلى أن للورثة القبول أو الرد. ¬
القول الثالث
قالت المالكية: إلا أن يريد الموصي الموصى له بعينه فليس لوارثه القبول (¬1). القول الثالث: أن الوصية تبطل بموت الموصى له، وهو أحد القولين في مذهب الحنابلة، وحكي عن الأبهري من المالكية (¬2). جاء في قواعد ابن رجب: "المنصوص عن أحمد: أن الوصية تبطل بموت الموصى له قبل وصولها إليه، كذلك نقله عنه ابن منصور وغيره، وهو اختيار القاضي والأكثرين إذا مات قبل القبول ... " (¬3). وقد تكلمت على أدلة هذه المسألة في مبحث سابق عند الكلام على شروط الموصى له فأغنى ذلك عن إعادة ذكر الأدلة هنا، وقد رجحت أن الوصية تبطل بموت الموصى له إذا مات قبل القبول؛ لأن القبول مطلوب من الموصى له، والوارث ليس موصى له فكيف يصح قبوله؟ فإذا كنا نقول: إن القبول شرط، أو ركن فإن القياس بطلان الوصية بفوات القبول من الموصى له؛ ولأن الموصى له قبل قبوله لم يثبت له حق حتى ينتقل إلى وارثه؛ لأن حق الملك لا يثبت إلا ¬
بالقبول، وأما حق التملك فليس حقًا ماليًا قابلًا للانتقال فهو كحق الانتقال, وحق الرأي وإلا لقلنا: إذا صدر الإيجاب في عقد البيع أثبت للمشتري حق التملك قبل قبوله، فإذا مات انتقل إلى وارثه، وإذا تعارض حق الملك لوارث الوصي، وحق التملك لوارث الموصى له، فإن حق الملك أقوى من هو التملك، والله أعلم.
المبحث الثاني بطلان الوصية برد الموصى له الوصية
المبحث الثاني بطلان الوصية برد الموصى له الوصية الفرع الأول رد الموصى له الوصية في حياة الموصي [م - 1700] إذا رد الموصى له الوصية في حياة الموصي، فقد اختلف فيها الفقهاء: القول الأول: لا عبرة بالرد مطلقًا، سواء أكان قبل القبول أم بعده، ويمكن للموصى له أن يقبل بعد موت الموصي، وهذا قول عامة الفقهاء. قال الشافعي: "ولا يكون قبول ولا رد في وصية في حياة الموصي، فلو قبل الموصى له قبل موت الموصي كان له الرد إذا مات، ولو رد في حياة الموصي كان له أن يقبل إذا مات، ويجبر الورثة على ذلك؛ لأن تلك الوصية لم تجب إلا بعد موت الموصي، فأما في حياته فقبوله ورده وصمته سواء؛ لأن ذلك فيما لم يملك" (¬1). القول الثاني: قال زفر إذا رد الوصية في حال حياة الموصي لم يجز قبوله بعد موته؛ لأن إيجايه كان في حياته وقد رده فبطل (¬2). وقد سبق بحث هذه المسألة فيما سبق، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. ¬
الفرع الثاني رد الموصى له بعد موت الموصي وقبل القبول
الفرع الثاني رد الموصى له بعد موت الموصي وقبل القبول [م - 1701] إذا رد الموصى له الوصية بعد موت الموصي وقبل القبول، فهل يسقط حقه في الوصية؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: أنه يسقط حقه في الوصية عند جمهور العلماء؛ ويستقر الملك للورثة في الموصى به؛ لأن الموصى له قد أسقط حقه في حالة يملك قبوله وأخذه (¬1). وحكي الإجماع على ذلك، قال ابن قدامة: أن يردها بعد الموت، وقبل القبول، فيصح الود، وتبطل الوصية، لا نعلم فيه خلافًا" (¬2). القول الثاني: أنه لا يملك الود بعد الموت، وهو رواية في مذهب الحنابلة حيث قالوا يملكها بلا قبول كميراث (¬3). ¬
وهو قول زفر من الحنفية حيث رأى أن الوصية تدخل في ملك الموصى له بعد موت الموصي جبرًا كالإرث، ولا تفتقر إلى قبول (¬1). جاء في تحفة الفقهاء: "وعند زفر القبول ليس بشرط، ولا ترتد بالرد كالميراث" (¬2). وحكاه ابن عبد الحكم عن الشافعي حيث قال: إن الوصية تدخل في ملك الموصى له بموت الموصي قبل أو لم يقبل كالميراث، وأنكره بعض الشافعية، وذكروا بأنه لا يعرف عن الشافعي (¬3). وقد تكلمت على أدلة هذه المسألة في مبحث سابق عند الكلام على شروط الموصى له فأغنى ذلك عن إعادة ذكر الأدلة هنا، وقد رجحت أنه لا يجبر على القبول، وهناك فرق بين الوصية وبين الميراث بيناه فيما سبق. ¬
الفرع الثالث في رد الموصى له بعد موت الموصي وبعد القبول
الفرع الثالث في رد الموصى له بعد موت الموصي وبعد القبول [م - 1702] إذا رد الموصى له الوصية بعد موت الموصي وبعد قبوله: فإن كان ذلك بعد القبض، فهذا لا يملك الموصى له الرد؛ لأن ملكه قد استقر عليه فأشبه رده لسائر أملاكه إلا أن يرضى الورثة بذلك فتكون هبة منه لهم تفتقر إلى شروط الهبة (¬1). وإن كان الرد بعد القبول، وقبل القبض، فقد اختلف العلماء في ذلك: القول الأول: يصح الرد بشرط التراضي، ويكون قبول الرد فسخًا للوصية، ويقوم الورثة مقام الميت في قبول الفسخ أو رفضه؛ لأن الفسخ بعد اللزوم لا يكون إلا بالرضا، وتكون الوصية لجميع الورثة على قدر ميراثهم كما لو كان على الميت دين فوهبه الدائن للورثة أو لبعضهم فهو هبة لهم كلهم كأنه وهبه للميت. جاء في المبسوط: "وإذا أوصى رجل بوصية، فقبلها بعد موته، ثم ردها على الورثة، فرده جائز إذا قبلوا ذلك؛ لأن الرد عليهم فسخ للوصية، وهم قائمون مقام الميت، ولو تصور منه الرد على الميت كان ذلك صحيحًا إذا قبله، فكذلك إذا ردها على الورثة الذين يقومون مقامه، وهذا لأن فسخ العقد معتبر بالعقد، ¬
القول الثاني
فإذا كان أصل هذا العقد يتم بالإيجاب والقبول، كذلك يجوز فسخه بالتراضي" (¬1). القول الثاني: يصح الرد مطلقًا، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية، واختاره القاضي وابن عقيل من الحنابلة (¬2). القول الثالث: لا يصح الرد، وهو قول في مذهب المالكية، والأصح في مذهب الشافعية، والمذهب عند الحنابلة (¬3). القول الرابع: يصح الرد في المكيل والموزون بعد قبوله وقبل قبضه، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬4). وقد تكلمت على أدلة هذه المسألة في مبحث سابق عند الكلام على شروط الموصى له فأغنى ذلك عن إعادة ذكر الأدلة هنا، وقد رجحت أن الملك في الوصية يثبت بمجرد القبول، ولا يتوقف على القبض كالهبة، من غير فرق بين ما ¬
يفتقر إلى الكيل والوزن وغيره، وإذا ثبت ملكه فيها لم يصح الرد إلا برضا الورثة؛ لأنها تكون هبة مبتدأة منه للورثة، تفتقر إلى شروط الهبة، وليست فسخًا للوصية وإقالة من الورثة؛ لأن الورثة لم يوجبوا الوصية حتى تكون الإقالة منهم كما يراه الحنفية، والله أعلم.
المبحث الثالث في بطلان الوصية بالقتل
المبحث الثالث في بطلان الوصية بالقتل [م - 1703] اختلف العلماء في بطلان الوصية بقتل الموصى له الموصي على أربعة أقوال: القول الأول: لا تصح الوصية للقاتل مطلقًا، عمدًا كان أو خطأ. وهذا مذهب الحنفية، وقول في مذهب الشافعية، واختيار أبي بكر من الحنابلة. القول الثاني: تصح الوصية للقاتل مطلقًا، وهذا مذهب الشافعية، واختيار ابن حامد من الحنابلة. القول الثالث: إن جرحه، ثم أوصى له، فمات من الجرح لم، وإن أوصى له ثم جنى عليه لم تصح، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة. القول الرابع: إن كان القتل خطأ صحت الوصية مطلقًا، تقدمت الوصية أو تأخرت، وكانت الوصية في المال والدية؛ لأن القاتل لم يتعمد الجناية. وإن كانت الجناية عمدًا كان في ذلك تفصيل: إن كانت الوصية قبل الجناية بطلت الوصية، وإن كانت الوصية بعد الجناية،
فإن علم الموصي بالجاني صحت الوصية، وكانت في المال دون الدية، وإن لم يعلم ففي المسألة قولان. وهذا مذهب المالكية في الجملة. وقد تكلمت على أدلة هذه المسألة في مبحث سابق عند الكلام على شروط الموصى له فأغنى ذلك عن إعادة ذكر الأدلة هنا، وقد رجحت أن الوصية إن كانت بعد الجناية صحت مطلقاً عمدًا كانت الجناية أو خطأ، في المال والدية؛ لأن الجميع مال للموصي، والعلم ليس شرطًا في نفاذ الوصية، ولذلك لو كان للموصي مال ضائع، ثم وجد بعد وفاته دخل في الوصية. وإن كانت الوصية قبل الجناية، فإن كانت عمدًا بطلت الوصية، وإن كانت خطأ صحت، وكون القتل مضمونًا في الخطأ لا يلحقه في العمد لغياب قصد الجناية، والله أعلم.
الفصل الثالث إبطال الوصية من جهة الموصى به
الفصل الثالث إبطال الوصية من جهة الموصى به [م - 1704] تبطل الوصية من جهة الموصى به بسببين: الأول: هلاك الموصى به إذا كان معينًا، وذلك أن المال الموصى به إن كان معينًا تعلقت الوصية بعينه، فإن هلك بطلت الوصية، وإن كان المال الموصى به مالًا شائعًا غير معين، كان يقول: أوصيت لفلان بثلث مالي لم تبطل الوصية بهلاك المال إذا وجد له مال بعد ذلك عند الوفاة (¬1). جاء في البدائع: "وتبطل بهلاك الموصى به إذا كان عينًا مشارًا إليها لبطلان محل الوصية أعني محل حكمه" (¬2). وفي الإنصاف: "ومن أوصي له بشيء بعينه، فتلف قبل موت الموصي، أو بعده: بطلت الوصية بلا نزاع" (¬3). وقال ابن قدامة: "وإذا أوصى له بشيء بعينه، فتلف بعد موت الموصي، لم يكن للموصى له شيء، وإن تلف المال كله إلا الموصى به، فهو للموصى له، ¬
أجمع أهل العلم ممن علمنا قوله، على أن الموصى به إذا تلف قبل موت الموصي أو بعده، فلا شيء للموصى له، كذلك حكاه ابن المنذر، فقال: أجمع من أحفظ عنه من أهل العلم، على أن الرجل إذا أوصي له بشيء، فهلك ذلك الشيء، أن لا شيء له في سائر مال الميت، وذلك لأن الموصى له إنما يستحق بالوصية لا غير، وقد تعلقت بمعين، وقد ذهب، فذهب حقه، كما لو تلف في يده، والتركة في يد الورثة غير مضمونة عليهم؛ لأنها حصلت في أيديهم بغير فعلهم، ولا تفريطهم، فلم يضمنوا شيئًا" (¬1). الثاني: تبطل الوصية أيضًا باستحقاق العين الموصى بها، سواء أكان الاستحقاق قبل موت الموصي أم بعده؛ لأن من شروط الوصية أن يكون الموصي مالكا للموصى به إذا كان معينًا، فإذا استحق تبين أن الوصية كانت في غير ملكه، والله أعلم. جاء في حاشية ابن عابدين: "ولو استحق الدار، لا يرجع الموصى له على الورثة بشيء؛ لأنه ظهر أنه أوصى بمال الغير" (¬2). وبهذا ننتهي من أحكام الوصية، وندخل في أحكام الإيصاء، فلله الحمد وأسأل الله وحده العون والتوفيق فيما بقي. ¬
الباب السابع في الإيصاء
الباب السابع في الإيصاء الفصل الأول في تعريف الإيصاء يرى بعض الفقهاء أن الإيصاء والوصية بمعنى واحد، فالوصية: تشمل الأمرين: الوصية بالمال، والوصية بالتصرف. وهذه طريقة المالكية (¬1). وفرق الشافعية وبعض الفقهاء بين الوصية والوصاية أو الإيصاء: فالوصية: تخص التبرع المضاف إلى ما بعد االموت. والوصاية: هي العهد إلى من يقوم على من بعده. وهو تفريق اصطلاحي (¬2). قال الخطيب: "والتفرقة بينهما من اصطلاح الفقهاء، وتخصيص الوصية بالتبرع المضاف لما بعد الموت، والوصاية بالعهد إلى من يقوم على من بعده" (¬3). وهذا الشخص يسمى الوصي، أو الموصى إليه فرقًا بينه وبين الموصى له. ¬
تعريف الإيصاء اصطلاحا
تعريف الإيصاء اصطلاحًا (¬1): هي إقامة الإنسان غيره مقامه بعد وفاته فيما كان له التصرف فيه من قضاء ديونه واقتضائها، ورد الودائع واستردادها، وتفريق وصيته، والولاية على أولاده الصغار، والمجانين، ومن لم يؤنس رشده، والنظر في أموالهم بحفظها، والتصرف فيها بالأحظ لهم، وتدبير شؤونهم ورعايتهم. وشرط ذلك أن يكون هذا التصرف بعد الوفاة؛ لأن الوصاية قبل الموت وكالة (¬2). قال ابن عابدين: "الوصاية في الحياة وكالة، كما أن الوكالة بعد الموت وصاية" (¬3). ¬
الفصل الثاني حكم الإيصاء التكليفي
الفصل الثاني حكم الإيصاء التكليفي المبحث الأول حكم الإيصاء بالنسبة للموصي [م - 1705] الأصل في الوصاية أنها مستحبة، لكن إذا كان على الإنسان حقوق واجبة، كرد المظالم التي عجز عنها في الحال، وقضاء الديون المجهولة التي ليس فيها شهود، فإذا عجز عن القيام بهذه الحقوق في حال الحياة، وتعين الإيصاء وسيلة وحيدة لثبوتها والقيام بها كان الإيصاء واجبًا؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ومثله الإيصاء على الأولاد الصغار الذين يخشى عليهم الضيعة؛ لأن في هذا الإيصاء صيانة لهم من الضياع (¬1). أما الوصاية برد المظالم المعلومة، وقضاء الديون المعلومة والنظر في أمر الأولاد الذين لا يخشى عليهم من الضياع، فهي مستحبة؛ لأن الإيصاء لم يتعين طريقًا وحيدًا للقيام بها، والخروج منها. قال ابن عابدين: "والوصية أربعة أقسام واجبة كالوصية برد الودائع والديون المجهولة .. " (¬2). ¬
وجاء في أسنى المطالب: "قال الأذرعي: يظهر أنه يجب على الآباء الوصية في أمر الأطفال ونحوهم، إذا لم يكن لهم جد أهل للولاية ... وغلب على ظنه أنه إن ترك الوصية استولى على ماله خائن من قاض أو غيره من الظلمة؛ إذ يجب عليه حفظ مال ولده عن الضياع ... ويجب الإيصاء في رد المظالم، وقضاء حقوق عجز عنها في الحال، ولم يكن بها شهود" (¬1). فإذا ترك الأب أطفالاً، وخشي عليهم من ظلم الأقارب أو تسلط القضاة الظلمة، وجب عليه أن يوصي، وذلك بأن ينصب الأصلح الذي يخاف الله عز وجل، ويتقيه فيهم، قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9] ". قال الزركشي: كان القياس منعه لانقطاع سلطة الموصي بالموت لكن قام الدليل على جوازه. اهـ (¬2). (ث -237) قلت: قد روى الحاكم في المستدرك، قال: أخبرنا محمَّد بن يعقوب الشيباني، ثنا محمد بن عبد الوهاب، ثنا جعفر بن عون، عن أبي العميس، عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: ذكر ما أوصى به عبد الله بن مسعود، إن حدث به حدث في مرضه هذا أن يرجع وصيته إلى الله، ثم إلى الزبير بن العوام، وابنه عبد الله بن الزبير، وإنهما في حل وبل مما وليا وقضيا، ولا تتزوج بنات عبد الله إلا بإذنهما، ولا يخص ذلك عن زينب. [صحيح عن ابن مسعود] (¬3). ¬
وقال ابن دقيق العيد: "الوصية على وجهين: أحدهما: الوصية بالحقوق الواجبة على الإنسان وذلك واجب. والوجه الثاني: الوصية بالتطوعات في القربات، وذلك مستحب" (¬1). وقال ابن قدامة: "ولا تجب الوصية إلا على من عليه دين، أو عنده وديعة، أو عليه واجب يوصي بالخروج منه، فإن الله تعالى فرض أداء الأمانات، وطريقه في هذا الباب الوصية، فتكون مفروضة عليه، فأما الوصية بجزء من ماله، فليست بواجبة على أحد، في قول الجمهور" (¬2). ¬
وقال الشوكاني: "وجوب تخلص العبد من الحقوق اللازمة له لله ولعباده معلوم بأدلته، فإذا لم يكن التخلص عنه في حال الحياة كان التخلص عنه بالوصية واجبًا، والجمهور وإن قالوا بأنها مندوبة فهم لا يخالفون في مثل هذا؛ لأنهم يوافقون على وجوب التخلص من الواجبات بكل ممكن، فإذا لم يمكن إلا بالوصية فهم لا ينكرون الوجوب" (¬1). فعلم من ذلك أن الإيصاء في حق الموصي قد يكون واجبًا، وقد يكون مندوبًا. ¬
المبحث الثاني حكم الإيصاء بالنسبة للموصى إليه
المبحث الثاني حكم الإيصاء بالنسبة للموصى إليه [م - 1706] يجوز للموصى إليه قبول الوصية بشرط أن يتوفر فيه القوة والأمانة، فالقوة: بأن يعلم من نفسه أنه قادر على القيام بما أوصي إليه فيه. والأمانة: أن يكون واثقًا بأمانة نفسه على أداء ما طلب منه، على الوجه الذي طلب منه دون قصور أو تقصير (¬1). وقد قال الله تعالى في ذكر هذين الشرطين: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]. وقال يوسف - عليه السلام -: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. فمن علم من نفسه عدم القدرة على القيام بهذا الواجب، أو كان قادرًا على القيام ولكن لا يشق بأمانته حرم عليه القبول لتعريضه حقوق الناس للضياع. (ح -1044) فقد روى مسلم من حديث أبي ذر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم (¬2). فأبو ذر - رضي الله عنه -، وإن توفرت فيه الأمانة، إلا أنه وكما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: رجل ضعيف، والولاية تحتاج إلى قوة، والقوة في الولاية: هي العلم بها، والقدرة على تحصيل مصالحها ودرء مفاسدها. ¬
وذهب الحنفية إلى أنه لا ينبغي للرجل الدخول في الوصاية لما فيها من الخطر. جاء في مجمع الضمانات: "لا ينبغي للرجل أن يقبل الوصية؛ لأنها أمر على خطر لما روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال: الدخول في الوصية أوله غلط، والثانية خيانة، وعن غيره، والثالثة سرقة، وعن بعض العلماء لو كان الوصي عمر بن الخطاب لا ينجو عن الضمان. وعن الشافعي لا يدخل في الوصية إلا أحمق أو لص" (¬1). وقال أبو مطيع: ما رأيت في مدة قضائي عشرين سنة من يعدل في مال ابن أخيه، ولبعضهم: احذر من الواوات أر ... بعة فهن من الحتوف واو الوكالة والولا ... ية والوصاية والوقوف (¬2). وذهب الحنابلة إلى أن الدخول في الوصاية للقوي عليها قربة مندوبة (¬3)، لفعل الصحابة - رضي الله عنه -؛ ولأنه معونة للمسلم فيدخل تحت قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] وتركه أولى في هذه الأزمنة، وقال ابن قدامة: "وقياس مذهب أحمد أن ترك الدخول فيها أولى؛ لما فيها من الخطر، وهو لا يعدل بالسلامة شيئًا" (¬4). ¬
وقال في الإقناع: "الدخول في الوصية للقوى عليها قربة، وتركه أولى في هذه الأزمنة" (¬1). وذهب الشافعية إلى أن الدخول فيها قد يتعين عليه إذا غلب على ظنه أنه إذا لم يقبل فإن المال قد يتلف باستيلاء ظالم من قاض وغيره. جاء في شرح البهجة: "الوصاية جائزة من الطرفين فللموصي الرجوع متى شاء، وللوصي عزل نفسه متى شاء، قال في الروضة: إلا أن يتعين عليه، أو يغلب على ظنه تلف المال باستيلاء ظالم من قاض وغيره. قال في المهمات: وعليه لو لم يكن قبل، فهل يلزمه القبول؟ فيه نظر: يحتمل اللزوم؛ لقدرته على دفع الظالم بذلك، ويحتمل خلافه. اهـ والأوجه الأول إن تعين طريقاً في الدفع" (¬2). وقياسًا على ما قاله الفقهاء في حفظ الوديعة، جاء في شرح البهجة: "وهي مستحبة لواثق بأمانة نفسه قادر على الحفظ، وقد تتعين حينئذ بأن لم يكن هناك غيره ... وتحرم عند العجز عن الحفظ؛ لأنه يعرضها للتلف، وتكره عند القدرة لمن لم يشق بنفسه" (¬3). ¬
الفصل الثالث في لزوم عقد الوصاية
الفصل الثالث في لزوم عقد الوصاية عقد الإيصاء بالنسبة للموصي عقد جائز، فله الرجوع عنه متى شاء باتفاق الفقهاء. وأما بالنسبة للوصي فإما أن يعزل نفسه في حياة الموصي، أو بعد موته: [م - 1707] فإن عزل نفسه في الحياة ففيه خلاف على قولين: القول الأول: للوصي عزل نفسه متى شاء في حياة الموصي، وهذا قول عامة الفقهاء، ومنهم الأئمة الأربعة (¬1). وجه ذلك: أن الموصي ليس له ولاية إلزامه التصرف، ويمكنه أن يوصي إلى غيره، وقياسًا على الوكيل، فإن الوصاية نوع من الوكالة إلا أنها مقيدة بعد الموت. ¬
إلا أن الحنفية اشترطوا لصحة هذا الرجوع أن يكون ذلك بعلم الموصي ليتمكن من الإيصاء إلى غيره إذا شاء، فإن رجع عن الوصية بغير علم الموصي لم يصح رجوعه؛ لئلا يصير مغرروًا من جهته. جاء في الدر المختار: "أوصى إلى زيد: أي جعله وصيًا، وقبل عنده صح، فإن رد عنده: أي بعلمه يرتد، وإلا لا يصح الرد بغيبته؛ لئلا يصير مغرورًا من جهته" (¬1). وجاء في البحر الرائق نقلًا من الذخيرة: "المراد بعنده يعني بعلمه، ورده بغير علمه سواء كان عنده أو في مجلس غيره" (¬2). وفي ملتقى الأبحر: "ومن أوصى إلى رجل فقبل في وجهه، ورد في غيبته لا يرتد، وإن رد في وجهه يرتد، فإن لم يقبل ولم يرد حتى مات الموصي فهو مخير بين القبول وعدمه" (¬3). وقال في الإنصاف: "ويصح قبوله للوصية في حياة الموصي وبعد موته بلا نزاع، وله عزل نفسه متى شاء. هذا المذهب مطلقا، وعليه أكثر الأصحاب" (¬4). وقالت الشافعية: للموصي عزل الوصي، وللوصي عزل نفسه إلا أن يتعين عليه، أو يغلب على ظنه تلف المال باستيلاء ظالم من قاض وغيره فليس له الرجوع. ¬
القول الثاني
جاء في نهاية المحتاج: "وللموصي والوصي العزل: أي للموصي عزل الوصي، وللوصي عزل نفسه متى شاء؛ لجوازها من الجانبين كالوكالة، نعم لو تعين على الوصي بأن لم يوجد كاف غيره، أو غلب على ظنه تلف المال باستيلاء ظالم، أو قاضي سوء، كما هو الغالب لم يجز له عزل نفسه كما قاله الأذرعي ولم ينفذ حينئذ" (¬1). والأصل في هذه المسألة ما ذكره بعض الفقهاء من أن العقود الجائزة إذا اقتضى فسخها ضررًا على الآخر امتنع، وصارت لازمة. جاء في أسنى المطالب: "العقود الجائزة إذا اقتضى فسخها ضررًا على الآخر امتنع وصارت لازمة، ولهذا قال النووي: للموصي عزل نفسه إلا أن يتعين عليه، أو يغلب على ظنه تلف المال باستيلاء ظالم من قاض أو غيره" (¬2). وقال ابن رجب: "التفاسخ في العقود الجائزة متى تضمن ضررًا على أحد المتعاقدين أو غيرهما ممن له تعلق بالعقد لم يجز، ولم ينفذ، إلا أن يمكن استدراك الضرر بضمان أو نحوه فيجوز على ذلك الوجه" (¬3). ثم ساق أمثلة على تلك القاعدة. القول الثاني: اختار أشهب من المالكية أن الوصي إذا قبل فليس له عزل نفسه، وكأنه وهب ¬
القول الأول
منافعه ونظره للأطفال للبلوغ والرشد، والواهب لا يرجع في هبته (¬1). وقول الجمهور أصح، والوصاية فيها شبه من الوكالة، وليس فيها شبه من الهبة، وعلى التنزل أن يكون واهبًا لمنافعه للوصي، فإن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، ومنافعه تتجدد، وفسخه لما لم يقع داخل في فسخه للهبة قبل القبض، فيصح. [م - 1708] واختلف الفقهاء في عزل الوصي نفسه بعد موت الموصي على قولين: القول الأول: ليس له أن يعزل نفسه بعد موت الموصي، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، ورواية عن أحمد. قال المالكية: إلا أن يطرأ عليه عجز فيصير النظر للحاكم (¬2). جاء في الذخيرة: "إذا قبل في حياة الموصي ليس له الرجوع بعد موته" (¬3). وعلل الحنفية ذلك بقوله: لأن الموصي مات معتمداً عليه فلو صح رده في غير وجهه لصار مغرورًا من جهته، وهو إضرار لا يجوز (¬4). ¬
القول الثاني
فإن قيل ما الفرق بين الموصى له والموصى إليه في أن رد الموصى له بعد قبوله وبعد موت الموصي يعتبر، دون رد الموصى إليه؟ قلنا: إن نفع الوصية للموصى له نفسه، بخلاف الموصى إليه، فإن نفع الوصية راجع إلى الموصي، فكان في رده بعد موته إضرار عليه، وهو لا يجوز (¬1). القول الثاني: له عزل نفسه بعد موت الموصي قياسًا على الوكالة، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، زاد الشافعية إلا أن يتعين عليه، أو يغلب على ظنه تلف المال باستيلاء ظالم من قاض وغيره فليس له الرجوع (¬2). قال العمراني في البيان: "إن قبل الوصية بعد موت الموصي ثم عزل نفسه .. انعزل ورفع الأمر إلى الحاكم، ليقيم غيره مقامه (¬3). وقال ابن قدامة: "وللوصي عزل نفسه متى شاء، في حياة الموصي، وبعد موته؛ لأنه إذن في التصرف، فملك كل واحد منهما فسخه كالوكالة" (¬4). ¬
الراجح
الراجح: أن الوصاية فيها شبه بالوكالة، وأن الوصي له عزل نفسه متى شاء في حياة الموصي وبعد وفاته بشرط ألا يتضمن ذلك ضررًا على الموصي، فإن تضمن الفسخ بعد وفاة الموصي ضررًا على ماله أو على أولاده كما لو كان الفسخ في مكان ليس فيه قاض يتولى الوصاية امتنع الفسخ، والله أعلم.
الفصل الرابع شروط الوصي
الفصل الرابع شروط الوصي الشرط الأول في اشتراط البلوغ [م - 1709] اختلف الفقهاء في اشتراط البلوغ بعد اتفاقهم على اشتراط التمييز والعقل: القول الأول: ذهب الحنفية إلى صحة الإيصاء إلى الصبي العاقل، وللقاضي أن يخرجه من الوصاية، ويعين وصيًا آخر، ولو تصرف قبل الإخراج، قيل: ينفذ تصرفه، وقيل: لا ينفذ، وهو الصحيح، وإذا بلغ قبل الإخراج: قال أبو حنيفة: لا يكون وصيًا خلافًا لأبي يوسف ومحمد بن الحسن (¬1). واختار كثير من الحنابلة صحة الإيصاء إلى الصبي المراهق؛ وصحح القاضي صحة الإيصاء إلى الصبي المميز؛ لأن أحمد نص على صحة وكالته. جاء في حاشية ابن عابدين: "إذا أوصى إلى عبد أو صبي أخرجهما القاضي؛ لأن الصبي لا يهتدي إلى التصرف، وهل ينفذ تصرفه قبل الإخراج؟ قيل نعم، وقيل لا. وهو الصحيح؛ لأنه لا يمكن إلزام العهدة فيه، فلو يلغ قبل الإخراج، قال أبو حنيفة: لا يكون وصيًا وقالا: يكون" (¬2). ¬
وقال الزيلعي: "والصبي كالقن، فلو بلغ الصبي، وعتق العبد، وأسلم الكافر لم يخرجهم القاضي عن الوصية" (¬1). وجاء في الفروع: "تصح الوصية إلى رشيد عدل ... وعنه: تصح إلى مميز، وعنه مراهق" (¬2). جاء في الإنصاف: "قطع المصنف هنا بصحة الوصية إلى المراهق، وهو إحدى الروايتين قال القاضي: قياس المذهب صحة الوصية إلى المميز، وجزم به في الهداية، والمذهب، والمستوعب، والخلاصة، وشرح ابن منجا، ومنتخب الأدمي. قال في القواعد الأصولية: قال هذا كثير من الأصحاب. قال الحارثي: هو قول أكثر الأصحاب" (¬3). وجاء في المغني: "قال القاضي: قياس المذهب صحة الوصية إليه؛ لأن أحمد قد نص على صحة وكالته" (¬4). وقال ابن قدامة: "وفي الوصية إلى الصبي العاقل وجهان: أحدهما: تصح؛ لأنه يصح توكيله، فأشبه الرجل. والثاني: لا يصح؛ لأنه ليس من أهل الشهادة، فلا يكون وليًا، كالفاسق" (¬5). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب الجمهور إلى أنه يشترط البلوغ في الوصي؛ لأن غير البالغ لا ولاية له على نفسه، ولا على ماله، فلا تكون له ولاية على غيره. قال ابن شاس المالكي: "الوصي، وشروطه: أربعة: الأول: التكليف، فلا تصح إلى مجنون، أو صبي؛ لأنهما يحتاجان إلى الموصي فكيف تفوض إليهما الوصية" (¬1). وقال الماوردي: "فأما الوصي، فيعتبر فيه استكمال خمسة شروط ولا تصح الوصية إليه إلا بها وهي: البلوغ، والعقل، والحرية، والإِسلام، والعدالة: فأما الشرط الأول: وهو البلوغ؛ فلأن القلم عن غير البالغ مرفوع؛ ولأن تصرفه في حق نفسه مردود، فأولى أن يكون في حق غيره مردودًا" (¬2). وقال العمراني: "فإن أوصى إلى صبي أو مجنون لم تصح الوصية؛ لأنه مولى عليهما، فلا يملكان الولاية على غيرهما، وهذا إجماع" (¬3). وقال ابن قدامة: "وأما الصبي العاقل، فلا أعلم فيه نصا عن أحمد، فيحتمل أنه لا تصح الوصية إليه؛ لأنه ليس من أهل الشهادة والإقرار، ولا يصح تصرفه إلا بإذن، فلم يكن من أهل الولاية بطريق الأولى؛ ولأنه مولى عليه، فلا يكون واليًا، كالطفل والمجنون. وهذا مذهب الشافعي. وهو الصحيح إن شاء الله" (¬4). ¬
الراجح
الراجح: أن الصبي يحتاج إلى قيام ولي عليه يحفظ ماله، فلا يكون وليًا على غيره، والله أعلم.
الشرط الثاني في اشتراط إسلام الوصي
الشرط الثاني في اشتراط إسلام الوصي الفرع الأول في اشتراط إسلام الوصي إذا كان الموصى عليه مسلما [م - 1710] اختلفوا في اشتراط الإسلام إذا كان الموصى عليه مسلمًا على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية إلى صحة الإيصاء إلى الكافر على المسلم، وعلى القاضي أن يخرجه من الوصاية، ويعين بدله وصيًّا مسلمًا، ولو تصرف قبل إخراجه منه صح تصرفه، فإن أسلم لم يخرج منها؛ لزوال ما يوجب العزل. جاء في العناية: "ومن أوصى إلى عبد غيره، أو كافر ذمي أو مستأمن أو حربي ... أخرجهم القاضي عن الوصية ونصب غيرهم، وهذا اللفظ وهو لفظ القدوري، يشير إلى صحة الوصية؛ لأن الإخراج يكون بعد الصحة. وذكر محمَّد في الصور الثلاث أن الوصية باطلة. ثم اختلف المشايخ في أنه باطل أصلًا، أو معناه: سيبطل. قال الفقيه أبو الليث: وإليه ذهب القدوري وفخر الإِسلام البزدوي وعامة مشايخنا أن معناه سيبطل ... " (¬1). ¬
وجاء في البحر الرائق: "قال - رحمه الله -: (وإلى عبد وكافر وفاسق بدل بغيرهم): أي إذا أوصى إلى هؤلاء المذكورين أخرجهم القاضي ويستبدل غيرهم مكانهم، وأشار المصنف إلى شروط الولاية: فالأول: الحرية، والثاني: الإِسلام، والثالث: العدالة، فلو ولى من ذكر صح ويستبدل بغيره" (¬1). وجاء في الدر المختار: " (ولو) أوصى (إلى صبي وعبد غيره وكافر وفاسق بدل) أي بدلهم القاضي (بغيرهم) إتماما للنظر/ ولفظ (بدل) يفيد صحة الوصية، فلو تصرفوا قبل الإخراج جاز سراجية، (فلو بلغ الصبي، وعتق العبد، وأسلم الكافر) أو المرتد وتاب الفاسق ... (لم يخرجهم القاضي عنها) أي عن الوصايا لزوال الموجب للعزل" (¬2). وفي الفتاوى الهندية: "وإذا أوصى مسلم إلى حربي مستأمن أو غير مستأمن فهي باطلة، معناه ستبطل؛ لأنه لو أوصى المسلم إلى الذمي فإن للقاضي أن يبطلها ويخرجه من الوصاية" (¬3). فقوله: (معناه ستبطل) إشارة إلى انعقادها صحيحة، وإخراجه منها يحتاج إلى حكم قاض، وهذا لا يكون إلا في عقد صحيح؛ لأن الباطل لم ينعقد أصلاً. وذهب المالكية في أحد القولين إلى صحة الوصاية إلى الكافر إذا كان قريبًا ¬
وجه القول بالصحة
كالأخ والخال ويجعل معه غيره، ويكون المال بيد المجعول معه بخلاف أباعد القرابة. وقيل: إن مالكًا رجع عنه (¬1). وجاء في الإنصاف: "ذكر المجد في شرحه: أن القاضي ذكر في تعليقه ما يدل أنه اختار صحة الوصية، نقله الحارثي" (¬2). وجه القول بالصحة: أن مقصود الوصية ضبط مصلحة المولى عليها، فالوصي كالوكيل، وتجوز وكالة الكافر اتفاقًا، غير أن الموصي مققود لا يتعقب من ولاه، بخلاف الموكل، فلذلك شدد في الوصي (¬3). القول الثاني: لا تصح الوصاية للكافر على المسلم، وهو قول الجمهور، والمشهور من مذهب المالكية (¬4). قال ابن شاس: الوصي، وشروطه أربعة: الثاني: الإِسلام، فلا تجوز الوصية إلى كافر، ويعزل إن وصى إليه، ولو كان ذميًا" (¬5). ¬
دليل من قال: لا تصح
قال النووي: "الوصي، وله خمسة شروط، وهي: التكليف، والحرية، والإِسلام ... " (¬1). وقال الأنصاري: "فيشترط في الوصي أمور: أولها الإِسلام، فلا يجوز أن يوصي المسلم إلى ذمي؛ لأن الوصاية أمانة وولاية، فاشترط فيهما الإِسلام" (¬2). وقال ابن قدامة: "ولا تصح إلى مجنون، ولا طفل، ولا وصية مسلم إلى كافر بغير خلاف نعلمه" (¬3). دليل من قال: لا تصح: استدل المانعون بقوله تعالى: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 10]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118]. فثبت أن الكافر غير مأمون على المسلم لقيام العداوة الدينية بينهما والتي لا تنقطع إلا بإسلام الكافر، قال تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء: 101]. ويناقش: بأن الرد لو كان بسبب العداوة الدينية لم تصح وصية الكافر لمسلم، وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى صحتها. ¬
الراجح من الخلاف
الراجح من الخلاف: سبب الخلاف عند الفقهاء: هل الوصاية من باب الوكالة، فتصح الوصاية إلى الكافر؟ أو أن الوصاية تقوم على الولاية والأمانة، والكافر ليس من أهلها، فلا يتولى الكافر على المسلم، والصحيح الثاني، أن الوصاية من باب الولاية، والله أعلم.
الفرع الثاني في الوصاية من الكافر لمثله
الفرع الثاني في الوصاية من الكافر لمثله [م - 1711] إذا كان الموصي كافرًا، فهل يصح أن يوصي إلى كافر؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يصح الإيصاء من الكافر إلى كافر مثله، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة، وبه قال أبو ثور (¬1). قال الشيرازي: "وأما الكافر فلا تجوز الوصية إليه في حق المسلم، وفي جواز الوصية إليه في حق الكافر وجهان: الثاني: لا يجوز، كما لا تقبل شهادته للكافر والمسلم" (¬2). وقال ابن قدامة في الكافي."وفي وصية الكافر، إلى الكافر وجهان: الثاني: لا يجوز؛ لأنه أسوأ حالًا من الفاسق" (¬3). وفي الشرح الكبير على المقنع: "فأما وصية الكافر إلى الكافر العدل في دينه، ففيها وجهان: الثاني: لا يصح، وهو قول أبي ثور؛ لأنه فاسق، فلم تصح الوصية إليه كفاسق المسلمين" (¬4). ¬
ويناقش
ويناقش: بأن مدار الوصاية على الأمانة والولاية، وقد قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]. وللكافر ولاية القرابة على بعضهم البعض، فهو يلي أولاده، ويزوج بناته، فإذا كان الكافر ملتزمًا أحكام دينه، متدينًا به، صحت الوصاية إليه من مثله، وقياسهم على الفاسق الذي يشرب الخمر وهو يعتقد حرمتها قياس مع الفارق، والله أعلم، كما فرق أهل الحديث بين قبول رواية المبتاع المتأول، وإن كان فاسقًا حكمًا وبين رواية الفاسق غير المتأول الذي ينتهك المحرمات، ولا يبالي بها. القول الثاني: تصح وصية الكافر ولو حربيًا إلى كافر معصوم ذمي أو معاهد أو مستأمن، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية ومذهب الحنابلة بشرط أن يكون عدلاً في دينه (¬1). جاء في تحفة المحتاج: "الأصح جواز وصية ذمي أو نحوه، ولو حربيًا كما هو ظاهر إلى كافر معصوم ذمي أو معاهد أو مستأمن فيما يتعلق بأولادة الكفار، بشرط كون الوصي عدلًا في دينه كما يجوز أن يكون وليًا لأولاده" (¬2). ¬
وجه القول بالصحة
جاء في الحاوي: "وأما وصية الكافر إلى الكافر فقيها وجهان: أحدهما: وهو قول ابن أبي هريرة: تجوز كما يجوز أن يكون الكافر وليًا لكافر" (¬1). وقال ابن قدامة: "وأما الكافر فلا تصح وصية مسلم إليه؛ لأنه لا يلي على مسلم ... وأما وصية الكافر إليه فإن لم يكن عدلاً في دينه، لم تصح الوصية إليه؛ لأن عدم العدالة في المسلم يمنع صحة الوصية إليه فمع الكفر أولى. وإن كان عدلاً في دينه، ففيه وجهان: أحدهما: تصح الوصية إليه، وهو قول أصحاب الرأي؛ لأنه يلي بالنسب، فيلي الوصية، كالمسلم ... " (¬2). وقال في تصحيح الفروع: "يصح إذا كان عدلاً، وهو الصحيح ... " (¬3). وجه القول بالصحة: لقياس على ولاية القرابة، واشترطنا أن يكون الكافر عدلاً في دينه؛ لأننا إذا كنا نشترط العدالة في المسلم ففي الكافر بطريق الأولى. القول الثالث: تصح وصية الذمي للذمي، وأما وصاية الذمي إلى الحربي مستأمنًا أو غير مستأمن فلا تصح؛ لأن الذمي أعلى من الحربي فهو بمنزلة وصية المسلم للذمي، وهذا مذهب الحنفية، واختاره بعض المالكية (¬4). ¬
وجه القول بصحة وصية الذمي إلى مثله
جاء في الفتاوى الهندية: "والذمي إذا أوصى إلى الحربي فإنه لا يجوز؛ لأن الذمي من الحربي بمنزلة المسلم من الذمي، والمسلم لو أوصى إلى ذمي كانت الوصية باطلة (¬1) ... وإذا أوصى الذمي إلى الذمي كان جائزاً، ولا يخرجه القاضي من الوصاية" (¬2). جاء في الذخيرة للقرافي: "قال ابن يونس: تجوز وصية الذمي لذمي مثله. قال محمَّد: ولا يوصي ذمي لحربي، ولو كان مستأمنًا، قاله أشهب، ولو أوصى الحربي للمستأمن جاز؛ لأنه أفضل منه" (¬3). وجه القول بصحة وصية الذمي إلى مثله: القياس على ولاية القرابة، فإذا صح أن يكون الكافر وليًا لأولاده، فما ثبت لبعضهم على بعض في ولاية القرابة ثبت لهم في ولاية التفويض، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73]. الراجح: صحة وصية الكافر لكافر مثله، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث في وصية الكافر إلى مسلم
الفرع الثالث في وصية الكافر إلى مسلم [م - 1712] اختلف العلماء في صحة وصية الكافر إلى مسلم على قولين: القول الأول: ذهب عامة الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية والحنابلة إلى صحة وصية الكافر إلى مسلم (¬1). قال السرخسي: "ولو أوصى الذمي إلى المسلم فذلك جائز عندنا ... ثم بين وجه القول بالجواز بقوله: لأن "تفويض التصرف بجهة الإيصاء إليه بعد موته بالوصية كتفويض التصرف إليه في الوكالة في حياته، إلا أنه إذا كان في التركة خمر أو خنزير فينبغي للمسلم أن يوكل بيع ذلك من يثق بأمانته من أهل الذمة ولا يباشره بنفسه؛ لأنه ممنوع من التصرف في الخمر والخنزير شرعا ومنهي عنه" (¬2). وجاء في المدونة: "أرأيت إن أوصى ذمي إلى مسلم؟ قال: قال مالك: إن لم يكن في تركته الخمر أو الخنازير أو خاف أن يلزم بالجزية فلا بأس" (¬3). ¬
القول الثاني
وقال الخطيب: "تصح وصاية الذمى إلى المسلم اتفاقًا كما تصح شهادته عليه، وقد ثبتت له الولاية عليه، فإن الإمام يلي تزويج الذميات" (¬1). وفي الحاوي: "فأما وصية الكافر إلى المسلم فجائزة؛ لظهور أمانته فيها" (¬2). وقال ابن قدامة: "وأما وصية الكافر إلى المسلم، فتصح إلا أن تكون تركته خمرًا، أو خنزيرًا" (¬3). وقال في الإنصاف: "وتصح وصية الكافر إلى مسلم بلا نزاع. لكن بشرط أن لا يكون في تركته خمر ولا خنزير" (¬4). القول الثاني: أشار بعض الشافعية إلى قول آخر في المسألة، وأنه يشترط أن يكون الوصي من ملة الموصى عليه، ويلزم من هذا الشرط بطلان وصية الذمي إلى مسلم. جاء في مغني المحتاج: "واستنبط الأسنوي من ذلك كون الوصي الذمي من ملة الموصى عليه، حتى لا تصح وصية النصراني إلى اليهودي أو المجوسي، وبالعكس للعداوة، ورده الأذرعي بأنه لو صح ذلك لما جازت وصية ذمي إلى مسلم" (¬5). [م - 1713] وإن أوصى ذمي إلى مسلم، وجعل له أن يوصي، فهل يجوز أن يوصي إلى ذمي، وقفت على كلام للشافعية في هذه المسألة، ولهم فيها قولان: ¬
جاء في أسنى المطالب: "قال الإسنوي: ولو أوصى ذمي إلى مسلم، وجعل له أن يوصي، فالمتجه جواز إيصائه إلى الذمي. واستبعده الأذرعي، واعترضه ابن العماد: بأن الوصي يلزم النظر بالمصلحة الراجحة، والتفويض إلى المسلم أرجح في نظر الشرع من الذمي" (¬1)، قال الخطيب: وهذا هو الظاهر (¬2). ¬
الشرط الثالث في اشتراط عدالة الوصي
الشرط الثالث في اشتراط عدالة الوصي [م - 1714] اختلف الفقهاء في اشترط العدالة في الوصي على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية إلى صحة الإيصاء إلى الفاسق، وعلى القاضي أن يخرجه من الوصاية، ويعين بدله عدلًا، وشرط في الأصل أن يكون الفاسق مخوفًا عليه في المال، وهذا يصلح عذرًا في إخراجه وتبديله بغيره، ولو تصرف قبل إخراجه منه صح تصرفه، ولو كتاب الفاسق لم يخرج منها. جاء في البحر الرائق: "قال - رحمه الله -: (وإلى عبد وكافر وفاسق بدل بغيرهم): أي إذا أوصى إلى هؤلاء المذكورين أخرجهم القاضي ويستبدل غيرهم مكانهم، وأشار -المصنف إلى شروط الولاية:- فالأول: الحرية، والثاني. الإسلام، والثالث: العدالة، فلو ولى من ذكر صح ويستيدل بغيره" (¬1). وجاء في الدر المختار: " (ولو) أوصى (إلى صبي، وعبد غيره، وكافر، وفاسق بدل) أي بدلهم القاضي (بغيرهم) إتماما للنظر، ولفظ (بدل) يفيد صحة الوصية، فلو تصرفوا قبل الإخراج جاز سراجية، (فلو بلغ الصبي، وعتق العبد، وأسلم الكافر) أو المرتد وتاب الفاسق ... (لم يخرجهم القاضي عنها) أي عن الوصايا لزوال الموجب للعزل" (¬2). ¬
وقالت المالكية: الوصي على تفريق الثلث، أو على العتق لا تشترط فيه العدالة التي تشترط في الشهادة، بخلاف الوصي على اقتضاء الدين أو قضائه فتشترط فيه العدالة؛ خوفًا أن يدعي غير العدل الضياع (¬1). وجاء في تبصرة الحكام: "قال بعض الأندلسيين: إذا أوصى بتنفيذ ثلثه لفاسق، أو سارق، لم يكن للقاضي عزله، لكن يطالبه بالإشهاد على تنفيذه" (¬2). واختار أصبغ ومطرف وابن الماجشون من المالكية، وبعض الحنابلة صحة الوصاية إلى الفاسق، ويضم إليه أمين إن أمكن الحفظ به، وهذا القول رواية عن أحمد، وحملها جماعة من الحنابلة منهم القاضي على الفسق الطارئ بعد موت الموصي (¬3). ¬
ونوقش
جاء في تبصرة الحكام في أصول الأقضية: "قال أصبغ: إن كان الوصي غير عدل، وهو ممن يرجى منه حسن النظر، كالقريب، والمولى، وشبه ذلك، فأرى أن يجعل معه غيره، ويكون المال بيد الشريك، وقاله مطرف وابن الماجشون: وقيل يعزل" (¬1). وجاء في الفروع: تصح الوصية إلى رشيد ... وإلى فاسق ويضم إليه أمين إن أمكن الحفظ به، وذكرها جماعة في فسق طارئ فقط، وقيل: عكسه (¬2). ونوقش: بأن التفريق بين الفسق الطارئ وغيره قول ضعيف؛ فإن الشروط تعتبر في الدوام كما تعتبر في الابتداء، ولو كان لابد من التفريق لكان اعتبار العدالة في الدوام أولى من قبل أن الفسق إذا كان موجودًا حال الوصية فقد رضي به الموصي بخلاف ما إذا طرأ الفسق فإنه لم يرض به على تلك الحال، والله أعلم. القول الثاني: لا تصح الوصاية إلى غير العدل، وهذا مذهب الشافعية، ورواية عن أحمد، والعدل عند الحنابلة: هو مستور الحال: أي العدالة الظاهرة. وقيل: هو العدل ظاهرًا وباطنًا، وهو قول في المذهب (¬3). ¬
وجه القول بعدم الصحة
قال ابن قدامة: إن كانت خيانته موجودة حال الوصية إليه لم تصح؛ لأنه لا يجوز تولية الخائن على يتيم في حياته، فكذلك بعد موته؛ ولأن الوصية ولاية وأمانة، والفاسق ليس من أهلهما، فعلى هذا إذا كان الوصي فاسقًا فحكمه حكم من لا وصي له" (¬1). وقال في الإنصاف: "قدم المصنف هنا أنها لا تصح إلى فاسق، وهو صحيح، وهو المذهب وعليه أكثر الأصحاب" (¬2). وجه القول بعدم الصحة: أن الوصاية ولاية وائتمان، ولا ولاية ولا ائتمان لفاسق. جاء في شرح الخرقي للزركشي: "وشرط الوصي أن يكون مستور الحال، فلا تصح لفاسق؛ لأنه غير مؤتمن، ولأن ذلك نوع ولاية، والفاسق ليس أهلًا للولاية" (¬3). الراجح: أن الفسق إن كان يعود على الوصية بالضرر لم يصح الإيصاء إلى الفاسق، وإلا صحت الإيصاء إليه، والله أعلم. ¬
الشرط الرابع في اشتراط الكفاية في الوصي
الشرط الرابع في اشتراط الكفاية في الوصي [م - 1715] اختلف الفقهاء في الوصي العدل إذا كان عاجزًا عن النظر على قولين: القول الأول: لا تصح الوصية إلى العاجز، وهو مذهب المالكية، والشافعية، واختاره بعض الحنابلة (¬1). قال في الشرح الكبير في بيان شروط الوصي: "لا بد فيه أن يكون مسلمًا مكلفًا قادرًا على القيام بما أوصي عليه" (¬2). وقال النووي: "الركن الأول: الوصي، وله خمسة شروط: وذكر منها: الكفاية في التصرفات" (¬3). وقال الخطيب: "لا يصح -يعني الإيصاء- إلى من لا يهتدي إليه لسفه، أو مرض، أو هرم، أو تغفل؛ إذ لا مصلحة في تولية من هذا حاله" (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: تصح الوصية إلى العاجز، ويضم إليه الحاكم أمينًا قادرًا، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وقيده بعضهم بطريان العجز (¬1). وقال الحنفية إن ظهر عند القاضي عجز الوصي أصلاً استبدله القاضي، وإن ظهر للقاضي عجز وصي عن الاستبداد فقط ضم إليه غيره تكميلًا له (¬2). جاء في الجوهرة النيرة: "ومن أوصى إلى من يعجز عن القيام بالوصية ضم إليه القاضي غيره) رعاية لحق الموصي والورثة؛ لأن تكميل النظر يحصل بضم الآخر إليه ... فإن ظهر عند القاضي عجزه أصلاً استبدل به غيره رعاية للنظر من الجانبين" (¬3). وفي الفتاوى الهندية نقلاً من خزانة المفتين: "الأوصياء ثلاثة ... وذكر منهم .. أمين عاجز فالقاضي يضم إليه من يعينه" (¬4). وعلل ذلك في الاختيار: لأن الوصية إليه صحيحة لا يجوز إبطالها، إلا أن في انفراده نوع خلل ببعض المقصودة لعجزه، فيضم إليه آخر تكميلًا للمقصود (¬5). ¬
الراجح
وقال الغزالي: "لو ضعف نظره، وعجز عن حفظ الحساب بعد أن كان قادرًا ينصب القاضي معه من يحفظ الحساب ولا ينعزل به" (¬1). قال ابن قدامة: "أما العدل الذي يعجز عن النظر، لعلة، أو ضعف، فإن الوصية تصح إليه، ويضم إليه الحاكم أمينًا، ولا يزيل يده عن المال، ولا نظره؛ لأن الضعيف أهل للولاية والأمانة، فصحت الوصية إليه. وهكذا إن كان قويًا، فحدث فيه ضعف، أو علة ضم الحاكم إليه يدًا أخرى، ويكون الأول هو الوصي دون الثاني، وهذا معاون؛ لأن ولاية الحاكم إنما تكون عند عدم الوصي. وهذا قول الشافعي، وأبي يوسف. ولا أعلم لهما مخالفًا" (¬2). قلت: الخلاف محفوظ في مذهب الحنابلة كما ذكر ذلك ابن مفلح في الفروع والمرداوي في الإنصاف، وأشرف إلى الخلاف في القول الأول. الراجح: أن القدرة إن كانت مفقودة بالكامل فإن القاضي يستبدله؛ لأن العجز الكامل لا فائدة من الإيصاء إليه، وإن كان العجز ليس كاملًا وإنما لكثرة العمل، أو في بعض الموصى به دون بعض فإن مثل هذا العجز يرتفع بضم أمين معه يعينه القاضي، ولا يخرج من الوصية، والله أعلم. ¬
الشرط الخامس في اشتراط أن يكون الوصي ذكرا
الشرط الخامس في اشتراط أن يكون الوصي ذكرًا [م - 1716] اختلف العلماء في صحة الوصاية إلى المرأة على قولين: القول الأول: تصح الوصاية إلى المرأة، وهو قول أكثر أهل العلم، ومنهم الأئمة الأربعة (¬1). جاء في الجوهرة النيرة: "وإن أوصى رجل إلى امرأة أو امرأة إلى رجل جاز؛ لأن المرأة من أهل الولاية كالرجل" (¬2). جاء في المدونة: قلت -القائل سحنون-: أرأيت لو أن رجلاً هلك، وترك أولادًا، وأوصى إلى امرأته واستخلفها على بضع بناته، أيجوز هذا في قول مالك؟ ¬
قال -يعني ابن القاسم-: نعم يجوز، وتكون أحق من الأولياء، ولكن لا تعقد النكاح، وتستخلف هي من الرجال من يعقد النكاح" (¬1). وقال النووي: "لا يشترط في الوصي الذكورة، بل يجوز التفويض إلى المرأة، وإذا حصلت الشروط في أم الأطفال، فهي أولى من غيرها" (¬2). وجاء في مسائل أحمد: "قلت لأحمد: يوصي الرجل إلى المرأة؟ قال: نعم، أوصى عمر إلى حفصة - رضي الله عنهما -، قال إسحاق كما قال" (¬3). وقال ابن قدامة: "وتصح الوصية إلى المرأة في قول أكثر أهل العلم، وروي ذلك عن شريح، وبه قال مالك، والثوري، والأوزاعي، والحسن بن صالح، وإسحاق، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي" (¬4). استشهد الإمام أحمد وغيره بصحة الوصاية إلى المرأة بأن عمر أوصى إلى حفصة (¬5). ¬
القول الثاني
ولأن المرأة من أهل الشهادة، فصحت الوصاية إليها كالرجل. القول الثاني: لا تصح الوصاية إلى المرأة، وبه قال عطاء (¬1)، وهو وجه عند الشافعية، حكاه الحناطي. قال النووي في الروضة: "حكى الحناطي وجهًا، أنه لا تجوز الوصاية إليها؛ لأنها ولاية" (¬2). ¬
وحجتهم في ذلك
وحجتهم في ذلك: أن المرأة لا تتولى القضاء، فكذلك لا يوصى إليها. ويناقش: بأن تولي المرأة القضاء فيه نزاع، وعلى القول به فإنه لا يمنع ذلك من الوصاية إليها؛ لأنها من أهل الشهادة. (ح -1045) وقد روى البخاري في صحيحه من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته (¬1). الراجح: صحة الوصاية إلى المرأة، والله أعلم. ¬
الشرط السادس في اشتراط أن يكون الوصي مبصرا
الشرط السادس في اشتراط أن يكون الوصي مبصرًا [م - 1717] اختلف العلماء في صحة الوصاية إلى الأعمى: القول الأول: ذهب أكثر أهل العلم إلى صحة الوصاية إلى الأعمى؛ وهو الأصح في مذهب الشافعية (¬1). وجه القول بالصحة: أن الأعمى من أهل الشهادة، وله الولاية على أولاده الصغار، ويتولى نكاح بناته، فصحة الوصاية إليه كالمبصر. قال النووي: "وتجوز الوصاية إلى أعمى على الأصح" (¬2). القول الثاني: ذهب الشافعية في مقابل الأصح إلى أنه لا تصح الوصاية إلى الأعمى بناء على أنه لا يصح بيعه، ولا شراؤه، فلا يوجد فيه معنى الولاية (¬3). ¬
قال ابن قدامة: "وهذا لا يسلم لهم -يعني القول بأنه لا يصح بيعه ولا شراؤه- مع أنه يمكنه التوكيل في ذلك" (¬1). وقد بحثت بيع الأعمى وشراءه في عقد البيع، ورجحت صحة ذلك منه، فارجع إليه إن شئت، والقول بصحة الإيصاء إليه هو المتعين، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس في وقت اعتبار توفر شروط الوصي
الفصل الخامس في وقت اعتبار توفر شروط الوصي [م - 1718] تقدم لنا ذكر شروط الوصي والراجح فيها، والسؤال متى يشترط تحقق هذه الشروط في الوصي، هل يشترط حين عقد الموصي الإيصاء، أو حين موت الموصي؟ وللجواب نقول: اختلف الفقهاء في هذا على أقوال: القول الأول: يجب توفر هذه الشروط عند موت الموصي، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية في الأصح، ووجه في مذهب الحنابلة (¬1). فقد نص الحنفية على أن الموصي إذا أوصى إلى عبد أو كافر أو فاسق أو صبي، ثم عتق العبد، وأسلم الكافر، وتاب الفاسق، وبلغ الصبي لم يخرجهم القاضي من الوصاية (¬2). وجه القول بذلك: أن عقد الوصاية هو إقامة شخص مقام نفسه في التصرف بعد موته، فلما كان تصرف الوصي لا يكون إلا بعد موت الموصي صار كأنه وقت الابتداء. ¬
القول الثاني
وقياس الموصى إليه على الموصى له، فلو أوصى إلى شخص وارث، فصار عند الموت غير وارث صحت الوصية، والعكس بالعكس، فلو أوصى لشخص غير وارث، فصار عند الموت وارثًا لم تصح له الوصية. وقياسًا على عدالة الشهود فإنها تشترط عند الأداء أو الحكم دون التحمل. وقال زكريا الأنصاري: "واعتبرت الشروط عند الموت لا عند الإيصاء، ولا بينهما؛ لأنه وقت التسلط على القبول، حتى لو أوصى إلى من خلا عن الشروط أو بعضها كصبي، ورقيق، ثم استكملها عند الموت صح" (¬1). القول الثاني: يجب توفر هذه الشروط عند الوصية إليه وعند موت الموصي معًا، ولا تعتبر فيما بينهما، فلو أوصى إلى عدل، ثم صار فاسقًا، وعند الموت رجع عدلاً صحت الوصاية إليه، وهذا القول وجه في مذهب الشافعية، والمشهور عند الحنابلة (¬2). قال الشيرازي: "واختلف أصحابنا في الوقت الذي تعتبر فيه الشروط التي تصح بها الوصية إليه فمنهم من قال: يعتبر ذلك عند الوفاة ... لأن التصرف بعد الموت فاعتبرت الشروط عنده كما تعتبر عدالة الشهود عند الأداء أو الحكم دون التحمل. ومنهم من قال: تعتبر عند العقد وعند الموت، ولا تعتبر فيما بينهما؛ لأن حال العقد حال الإيجاب، وحال الموت حال التصرف فاعتبر فيهما" (¬3). ¬
وجه اعتبارهما معا
قال في الإنصاف: "يعتبر وجودها عند الموت والوصية فقط، وهو المذهب" (¬1). وجه اعتبارهما معًا: اعتبر وجود هذه الصفات عند الإيصاء إليه؛ لأن ذلك وقت التقليد، والإيجاب، فاعتبر لصحته توفر شروطه، واعتبر وقت الموت؛ لأنه وقت التصرف. القول الثالث: يشترط وجود هذه الصفات عند الوصية وما بعدها، وهو وجه في مذهب الشافعية، ووجه في مذهب الحنابلة (¬2). قال العمراني: "متى يعتبر وجود الشرائط الخمس في الوصي؟ فيه ثلاثة أوجه: الثالث: منهم من قال: تعتبر وجود الشرائط في الوصي من حين الوصية إلى أن يموت الموصي؛ لأن كل وقت من ذلك يجوز أن يموت فيه الموصي فيستحق الوصي فيه النظر" (¬3). وجاء في الإنصاف: "يشترط وجود هذه الصفات عند الوصية والموت وما بينهما، وهو احتمال في الرعاية، وقول في الفروع، ووجه للقاضي في المجرد" (¬4). ¬
الراجح
الراجح: أجد القول الأول هو الصواب، وأن العبرة في توفر الشروط الصحيحة عند الموت؛ لأنه وقت التصرف، والله أعلم.
الفصل السادس في تصرفات الوصي
الفصل السادس في تصرفات الوصي المبحث الأول في الوصاية المطلقة والمقيدة إنك لا تستطيع أن تعرف واجبات الوصي دون أن تعرف ما يمكن للموصي أن يوصي به؛ لأن تصرفات الوصي مستفادة من التفويض الممنوح له من الموصي، وما يمكن للموصي أن يوصي به منه ما هو محل وفاق، ومنه ما هو محل خلاف، كالوصية بالتزويج، هل هذا حق ينتقل بالوصية، أو أن الميت يفقد ولايته بموته، وتنتقل الولاية عنه إلى أقرب عاصب. وهل الجد والأخ، والعم والأم بمنزلة الأب يحق لهم الإيصاء، أو لا يملكون ذلك. وإذا كان العلماء قد اتفقوا على صحة الوصاية بالمال، فهل للوصي أن يعمل على تنميته، أو أن دوره يكون مقصورًا على حفظه، والنفقة منه على الصغار ومن في حكمهم. كل هذه المسائل سوف نبحثها إن شاء الله تعالى في المباحث التالية، وقبل الدخول فيها نتكلم عن طبيعة الوصية: فالوصية إما أن تكون مطلقة، أو مقيدة بشيء معين. [م - 1719] فإن كانت مطلقة، كان وصيًا في كل ما يملك الموصي من
القول الأول
الوصاية به، وقد أشرنا إلى أن ما يملكه الموصي، منه ما هو متفق عليه، ومنه ما هو محل خلاف بين العلماء. فما هو محل وفاق في الجملة من ذلك: الإيصاء في توزيع الوصية على المستحق. والإيصاء في قضاء الديون واقتضائها. والوصية في النظر في شئون الصغار ومن في حكمهم من مجنون وسفيه، والإنفاق عليهم، والاتهاب لهم، وحفظ أموالهم، وصيانتها عن الضياع. والوصية برد الودائع إلى أهلها واستردادها. وهناك مسائل محل خلاف سنتطرق لها إن شاء الله تعالى. [م - 1720] وإن كانت الوصية مقيدة بشيء، فهل يكون وصيًا في كل شيء؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: أنه إن أوصى إليه الميت بماله صار وصيًا في ماله وولده، وسائر أسبابه؛ لأن الوصاية لا تقبل التخصيص بنوع، أو مكان، أو زمان، بل تعم. وإن أوصى إليه القاضي صار وصيًا في ذلك الشيء خاصة، فهي تقبل التخصيص، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف (¬1). ¬
ونقل ابن العربى المالكي في بعض كتبه الخلافية كقول أبى حنيفة (¬1). جاء في منحة الخالق نقلًا من فتاوى قاضي خان: "ولو قال القاضي: جعلتك وصيًا للميت يصير وصيًا، فإن خص شيئًا، أو قال: في كذا، يصير وصيًا في ذلك الشيء خاصة؛ لأن إيصاء القاضي يقبل التخصيص بخلاف إيصاء الميت" (¬2). جاء في المبسوط: "وإذا أوصى إلى رجل بماله، فهو وصي في ماله، وولده، وسائر أسبابه عندنا. وقال الشافعي: لا يكون وصيًا إلا فيما جعله وصيًا فيه" (¬3). وقال ابن نجيم: "ولو أوصى إلى رجل في ماله كان وصيًا فيه، وفي ولده، وإذا أوصى إليه في أنواع وسكت عن نوع، فالوصي في نوع يكون وصيًا في الأنواع كلها عندنا" (¬4). وإذا أوصى إلى رجلين، أحدهما يكون في الدين، والآخر في العين، قال الشلبي في حاشيته على تبيين الحقائق: "الظاهر عند أبي حنيفة عدم التجزي، فيكون كل منهما وصيًا في العين والدين" (¬5). وفي الفتاوى الهندية: "رجل جعل رجلاً وصيًا في شيء بعينه، نحو التصرف في الدين وجعل آخر وصيًا في نوع آخر، بأن قال: جعلتك وصيًا في قضاء ما ¬
وجه قول من قال: تثبت له الولاية مطلقا
علي من الدين، وقال لآخر: جعلتك وصيًا في القيام بأمر مالي، أو قال: أوصيت إلى فلان يتقاضى ديني، ولم أوص إليه في غير ذلك وأوصيت بجميع مالي فلانًا آخر؛ فكل واحد من الوصيين يكون وصيًا في الأنواع كلها عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى، كأنه أوصى إليهما. وعند محمَّد رحمه الله تعالى كل واحد منهما يكون وصيًا فيما أوصى إليه، كذا في فتاوى قاضي خان" (¬1). وجه قول من قال: تثبت له الولاية مطلقًا: الوجه الأول: أن الوصاية لا تقبل التخصيص بنوع، أو مكان، أو زمان، بل تعم؛ لأن الوصي يتصرف بولاية منتقلة إليه، فيكون كالجد، فكما أن تصرف الجد لا يختص بنوع دون نوع؛ لأنه قائم مقام الأب عند عدمه، فكذلك تصرف الوصي فيما يقبل النقل إليه. ويناقش: بأن ولاية الجد متلقاة من الشرع، فكانت ولايته مطلقة، بخلاف ولاية الوصي فإنها متلقاة من الموصي، وهو من يملك التقييد والتخصيص، فإن خصص الوصاية بشيء لم يتعده الوصي إلى غيره. الوجه الثاني: أن الإيصاء يتم بقوله أوصيت إليك مطلقاً، ولو كان طريقه طريق الإنابة لم ¬
ويناقش
يصح إلا بالتنصيص على ما هو المقصود كالتوكيل، فإنه لو قال: وكلتك بمالي لا يملك التصرف ما لم يبين له نوع التصرف، فلما صح الإيصاء إليه مطلقًا عرفنا أنه إثبات للولاية طريق الخلافة. ويناقش: بأن الوكالة المطلقة في عدم صحتها خلاف، فلا تصلح دليلًا لإلزام المخالف، وعلى التسليم بأن الوكالة المطلقة لا تصح، فإن هناك فرقًا، فالوصية إنما صح الإيصاء بها مطلقة دون الوكالة؛ لأن الوصية المطلقة هي مقيدة بما يملكه الموصي، وهو تصرف محدود بأمرين: توزيع الثلث، ورعاية القصر، وصيانة مالهم، بخلاف الوكالة في الحياة فإنها متنوعة لذا كان لا بد فيها من التنصيص عليها. جاء في حاشية الصاوى: "واعلم أن طريقة ابن رشد، أن الوكالة كالوصية، فإذا قال: فلان وكيلي، فإنه يعم ... وطريقة ابن بشير وابن شاس: الإطلاق في الوكالة مبطل حتى يعم أو يخص، وكأنهم لاحظوا أن الموكل حي يمكنه الاستدراك بخلاف الموصي" (¬1). الوجه الثالث: سلمنا أن الإيصاء تفويض، ولكن لما كان هذا التفويض إنما يعمل بعد زوال ولاية الموصي وعجزه عن النظر كان جوازه لحاجته، والحاجة تتجدد في كل وقت، فهو عند الإيصاء لا يعرف حقيقة ما يحتاجون فيه إلى التائب بعده، فلو لم يثبت للوصي حق التصرف في جميع الأنواع تضرر به الموصي، والظاهر أنه ¬
ويناقش
بهذا التخصيص لم يقصد تقييد ولايته بما سمى، وإنما سمى نوعًا؛ لأن ذلك كان أهم عنده والإنسان في مثل هذا يذكر الأهم، وهذا بخلاف الوكالة؛ لأن رأي الموكل قائم عند تصرف الوكيل، فإذا تجددت الحاجة أمكنه أن ينظر فيه بنفسه، أو بتفويضه إليه أو إلى غيره عند الحاجة (¬1). ويناقش: بأن دعوى أن الموصي لم يقصد تقييد ولايته بما قيده به، وإنما سمى ذلك اعتبارًا للأهم هذا من قبيل الظن والتخمين، واليقين مقدم عليه، وهو أن ما نص عليه الموصي قد رغب الموصي في الإيصاء به يقينًا للتنصيص عليه، وغيره محتمل، فلا يقدم المحتمل على المتيقن، وقد كان يملك الموصي أن يطلق الوصية، ثم يحضه على أشياء بعينها، فلما لم يفعل علمنا أنه لا يريد الإيصاء بغير ما أوصى به، والله أعلم. القول الثاني: إذا أوصى إليه بشيء بعينه لم يكن وصيًا في غيره، فإن أوصى له بالنظر في المال لم يكن له النظر في رعاية الأولاد، ومن أوصى له بقضاء الدين واقتضائه، أو رد الودائع واستردادها لا يملك النظر في غيرها. وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة، إلا أن المالكية قالوا: لو أوصى له على بيع تركته، وقبض ديونه، فزوج بناته ممن لا تجبر على الزواج بإذنهن، فإن ذلك لا يجوز ابتداء، وإن وقع صح، وإن زوج من تجبر فإنه يفسخ أبدًا (¬2). ¬
جاء في المدونة: "أرأيت الميت، إذا أوصى إلى رجل، فقال: فلان وصي، أيكون هذا وصيا في إنكاح بناته وجميع تركته في قول مالك؟ قال: نعم إلا أن يخصه بشيء فلا يكون وصيًا إلا على ذلك الشيء" (¬1). وجاء في الشرح الصغير: "وإن قال: فلان وصيي على كذا لشيء عينه خص به، فلا يتعداه لغيره، فإن تعداه لم ينفذ" (¬2). وجاء في شرح الخرشي: "وإذا قال: فلان وصيي على الشيء الفلاني، فإن نظر الوصي يختص به، ولا يتعداه إلى غيره، كما إذا قال: فلان وصيي حتى يقدم فلان الفلاني، فإنه يكون وصيًا له في جميع الأشياء، لكن إلى أن يقدم فلان الفلاني، فإذا قدم، فإنه لا يكون وصيًا، وينعزل بمجرد القدوم ... وإذا جعل وصيًا على بيع تركته، وقبض ديونه، فزوج بناته، فإن ذلك لا يجوز ابتداء، وإذا وقع صح، وليس له أن يجبرهن باتفاق ... ومفعول زوج محذوف أي، وإن زوج من لم تجبر، وأما لو زوج من تجبر فيفسخ أبدًا. قوله: (صح) لما لم يجعل التزويج لغيره، وبعبارةٍ ظاهر قوله صح: أنه بعد الوقوع، وهو ظاهر المدونة، وأما ابتداء، فالأحب أن لا يفعل حتى يعرض الأمر على الإِمام فيقدمه على الأولياء، أو يقدم الأولياء عليه" (¬3). ¬
° وجه القول بذلك
وجاء في تحفة المحتاج: "ويشترط بيان ما يوصى فيه ... كأوصيت إليك في قضاء ديوني، أو في التصرف في أمر أطفالي، أو في رد آبقي، أو ودائعي، أو في تنفيذ وصاياي، فإن جمع الكل ثبت له، أو خصصه بأحدها لم يتجاوزه" (¬1). وقال ابن قدامة: "ويجوز أن يوصي إلى رجل بشيء دون شيء، مثل أن يوصي إلى إنسان بتفريق وصيته دون غيرها، أو بقضاء ديونه، أو بالنظر في أمر أطفاله حسب، فلا يكون له غير ما جعل إليه. ويجوز أن يوصي إلى إنسان بتفريق وصيته، وإلى آخر بقضاء ديونه، وإلى آخر بالنظر في أمر أطفاله، فيكون لكل واحد منهم ما جعل إليه دون غيره. ومتى أوصى إليه بشيء، لم يصر وصيا في غيره. وبهذا قال الشافعي" (¬2). ° وجه القول بذلك: أن الوصي يتصرف بالإذن، فوجب أن يقتصر على ما أذن له فيه، ولا يتعداه إلى غيره. ولأن الإيصاء إلى الغير مشروع بحاجة الموصي، وهو أعلم بحاجته، وربما يرضى هذا الوصي على نوع دون نوع، وربما يعرف شفقة الأم على الأولاد، ولا يأتمنها على مالهم فيجعل الغير وصيا على المال دون الأولاد للحاجة إلى ذلك، فكان هذا تخصيصًا مقيداً، فوجب اعتباره. ° الراجح: أن الوصي يعمل بموجب ما فوض إليه فيه، فما لم يفوض له فيه لا يملكه. ¬
المبحث الثاني في وصاية الجد والأخ والعم
المبحث الثاني في وصاية الجد والأخ والعم [م - 1721] اتفق الفقهاء على أن الأب يملك أن يوصي على أولاده الصغار ومن في حكمهم من مجنون، ومحجور عليه لسفه. واختلفوا في غيره من الأقارب كالجد والأخ والعم، هل يملك أن يوصي على قولين: القول الأول: أن الجد يملك الوصاية على أولاد بنيه من جهة الشرع دون غيره من الأقارب، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية. جاء في الاختيار لتعليل المختار: "فإن لم يوص الأب فالولاية للجد؛ لأنه أقرب إليه وأشفق على بنيه فانتقلت الولاية إليه" (¬1). وجاء في نهاية المحتاج: "ويشترط في الموصي في أمر الأطفال والمجانين والسفهاء ... أن يكون له ولاية عليهم مبتدأة من الشرع، وهو الأب أو الجد المستجمع للشروط دون سائر الأقارب" (¬2). ¬
القول الثاني
ونقل السيوطي عن السبكي أنه قال: "مراتب الولاية أربعة: الأولى: ولاية الأب والجد، وهي شرعية، بمعنى أن الشارع فوض لهما التصرف في مال الولدة لوفور شفقتهما، وذلك وصف ذاتي لهما، فلو عزلا أنفسهما لم ينعزلا بالإجماع؛ لأن المقتضي للولاية: الأبوة، والجدودة، وهي موجودة مستمرة لا يقدح العزل فيها، لكن إذا امتنعا من التصرف تصرف القاضي، وهكذا ولاية النكاح لسائر العصبات" (¬1). وجاء في تحفة المحتاج: " (ولا يجوز للأب نصب وصي على الأولاد، والجد حي بصفة الولاية عليهم حال الموت: أي لا يعتد بمنصوبه إذا وجدت ولاية الجد حينئذ؛ لأن ولايته ثابتة بالشرع، كولاية التزويج أما لو وجدت حال الإيصاء ثم زالت عند الموت فيعتد بمنصوبه" (¬2). القول الثاني: لا يملك الجد الوصاية على أولاد أولاده، فإذا لم يوص الأب فالحاكم هو الوصي، وهذا مذهب المالكية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). جاء في التاج والإكليل: "ولا تجوز وصية الجد بولد الولد، ولا أخ بأخ له ¬
° وجه القول بأن غير الأب لا يملك الوصاية
صغير، وإن قل المال" (¬1). ° وجه القول بأن غير الأب لا يملك الوصاية: أن الجد لا يدلي إليهم بنفسه، وإنما يدلي إليهم بالأب، فكان كالأخ والعم، ولا ولاية لأحدهما على مال أولاد أخيه، فكذلك الجد. وقال القرافي:"ووصي الصبي أبوه، ثم وصيه، ثم وصي وصيه، ثم الحاكم دون الجد والأم وسائر القرابات وقال الشافعي: الأب ثم الجد أبو الأب وإن علا ثم الوصي. قلنا: أن الجد يقاسمه الأخ في الميراث بخلاف الأب، فيكون قاصرا عن الأب فلا يلحق به" (¬2). وإذا أراد الجد أن يكون وصيًا عن أولاد ابنه يذهب إلى القاضي ويطلب منه أن يوليه عليهم، فإذا قدر القاضي أن الجد أهل للولاية ولاه. ° الراجح: أن الأب إذا لم يوص في حق أولاده الصغار كانت الولاية لأولى الناس بهم، فمن تولى أمر هؤلاء الصغار من جد، أو أم، أو أخ، أو عم فهو وليهم، والجد مقدم على غيره، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في الوصاية بالتزويج
المبحث الثالث في الوصاية بالتزويج [م - 1722] الأب يملك أن يوصي على رعاية أولاده الصغار ومن في حكمهم فيما يتعلق بالأموال، وهذا مما لا خلاف فيه، فهل للأب أن يوصي للرجل على أن يزوج الصغار من أولاده؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يملك الوصي ولاية التزويج مطلقاً، سواء أوصى له الأب بالنكاح أو لم يوص. وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، ورواية عن أحمد، وبه قال سحنون من المالكية (¬1). واستثنى في فتح القدير: ما إذا كان الموصي عين رجلاً في حياته للتزويج فيزوجها الوصي كما لو وكل في حياته بتزويجها (¬2). وقال العيني نقلاً عن السروجي: "الوصي لا يزوج، وهو قول الشعبي، والنخعي، والثوري، والحارث النكلي، والشافعي، وابن المنذر ورواية عن أحمد" (¬3). ¬
° حجة هذا القول
وفي حاشية ابن عابدين: "وليس للوصي من حيث هو وصي أن يزوج اليتيم مطلقاً، وإن أوصى إليه الأب بذلك على المذهب" (¬1). وقال قاضي خان كما في حاشية الشلبي: "الوصي لا يملك إنكاح الصغير والصغيرة أوصى إليه الأب في ذلك أو لم يوص" (¬2). وقال الشافعي: "وإذا أوصى الميت بإنكاح بناته إلى رجل، فإن كان وليهن الذي لا أولى منه زوجهن بولاية النسب، أو الولاء دون الوصية جاز، وإن لم يكن وليهن لم يكن له أن يزوجهن، وفي إجازة تزويج الوصي إبطال للأولياء إذا كان الأولياء أهل النسب، ولا يجوز أن يلي غير ذي نسب. فإن قال قائل: يجوز بوصية الميت أن يلي ما كان يلي الميت، فالميت لا ولاية له على حي فيكون يلي أحد بولاية الميت إذا مات صارت الولاية لأقرب الناس بالمزوجة من قبل أبيها بعده، أحبت ذلك، أو كرهته، ولو جاز هذا لوصي الأب جاز لوصي الأخ والمولى، ولكن لا يجوز لوصي" (¬3). ° حجة هذا القول: أن الوصي يستمد ولايته من ولاية الميت، والميت لا ولاية له على الحي، فتنقطع ولايته بموته، فلا يملك الإيصاء بولاية النكاح. ولأن ولاية النكاح لها من يستحقها بالشرع، فلا يملك الأب نقلها بالوصية كالحضانة، لا تملك الأم أن تنقلها عمن يستحقها من بعدها إلى غيرها (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: الوصي المطلق مقدم على الولي في تزويج الصغار، وهذا مذهب المالكية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). والمقصود بالوصي المطلق هو من قال فيه الرجل: فلان وصيي، وأطلق، ولم يقيد ذلك بشيء، أما لو قال: فلان وصي في مالي لم يتعده إلى النكاح. قال ابن حبيب كما في البيان والتحصيل:"إذا قال: فلان وصي على مالي، فليس بوصي على الولد في تزويجهم؛ وإنما يكون وصيًا في تزويجهم إذا قال: فلان وصي، ولم يزد، أو قال: فلان وصي على بضع بناتي" (¬2). وجاء في المدونة: "قلت: أرأيت الوصي، أو وصي الوصي، أيجوز أن يزوج البكر إذا بلغت، والأولياء ينكرون، والجارية راضية؟ قال: قال مالك: لا نكاح للأولياء مع الوصي، والوصي ووصي الوصي أولى من الأولياء. قلت: أرأيت إن رضيت الجارية، ورضي الأولياء والوصي ينكر؟ ¬
° حجة هذا القول
فقال: قال مالك: لا نكاح لها، ولا لهم إلا بالوصي، فإن اختلفوا في ذلك نظر السلطان فيما بينهم" (¬1). وقال ابن عبد البر في الكافي: "والوصي عند مالك أولى من الولي بالإنكاح، ويستحب له أن يشاور الولي، ولو زوجها الولي بإذن الوصي كان حسناً" (¬2). ° حجة هذا القول: أن الأب لو جعل ذلك إلى رجل بعينه في حياته لم يكن لسائر الأولياء الاعتراض عليه مع بقاء الأب، فكذلك بعد موته (¬3). ولأن ولاية النكاح ولاية شرعية ثابتة للموصي، فجازت وصيته بها قياسًا على ولاية المال. ويناقش: بأن الولاية ثابتة للموصي في حياته، وتنقطع بموته، وقد انتقلت شرعاً إلى عصبته، فلا يملك الإيصاء بها. القول الثالث: إن أوصى إليه الأب بالنكاح صح وإلا فلا، وهذا القول رواية هشام عن أبي حنفية (¬4). ¬
° حجة هذا القول
جاء في تبيين الحقائق: "وليس للوصي أن يزوج الأيتام إلا أن يفوض إليه الموصي ذلك" (¬1). قال في البحر الرائق: "روى هشام عن أبي حنيفة: إن أوصى إليه الأب جاز له، كذا في الخانية والظهيرية وبه علم أن ما في التبيين من أنه ليس له ذلك إلا أن يفوض إليه الموصي ذلك، رواية هشام وهي ضعيفة" (¬2). ° حجة هذا القول: وصي النكاح لا يصير وصيًا بالمال، وكذلك العكس، وصي المال لا يصير وليًا بالنكاح، فاحتاج إلى التنصيص على ولاية النكاح. القول الرابع: إن كان لها عصبة لم تجز الوصية بنكاحها؛ لأنه يسقط حقهم بوصيته، وإن لم يكن له عصبة جاز لعدم ذلك، وبه قال أبو عبد الله ابن حامد من الحنابلة (¬3). ° الراجح: أن ولاية النكاح لا يملكها الأب بعد موته، وأن هذه الولاية تنتقل شرعًا إلى عصبته إن وجدوا، وإن لم يوجدوا فالقاضي ولي من لا ولي له، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في إيصاء الوصي
المبحث الرابع في إيصاء الوصي [م - 1723] إذا فوض الأب للوصي أن يوصي ملك ذلك في قول عامة أهل العلم. قال العمراني: "وإن أوصى إلى رجل، وأذن للوصي أن يوصي عن الموصي، قال ابن الصباغ: صح ذلك قولًا واحداً" (¬1). وقيل: لا يصح، ولو أذن له الموصي إلا أن يعين له من يوصي إليه، وهو قول عند الشافعية. جاء في الحاوي: "إذا جعل إلى وصيه أن يوصي، ولم يعين له من يوصي إليه، فهو أن يقول: جعلت إليك أن توصي، أو يقول: من أوصيت إليه فهو وصي، فالحكم فيه على سواء وفي جوازه قولان: أحدهما: وهو قول أبي حنيفة، ومالك، يجوز لأمرين: أحدهما: أن نظر الوصي، أقوى من نظر الوكيل، فلما جاز للوكيل إذا أذن له في التوكيل أن يوكل عنه معينًا، وغير معين، كان أولى في الوصي إذا أذن له في الوصية أن يوصي عنه إلى معين، وغير معين. والثاني: أن الوصي بالإذن قد صار كالأب، فلما جاز للأب أن يوصي جاز للوصي مع الإذن أن يوصي. ¬
القول الأول
والقول الثاني: وهو اختيار المزني أنه لا يجوز للوصي مع عدم التعيين أن يوصي وإن أذن له، لأمرين: أحدهما: أن الوصي لا يملك الاختيار بالوصية المطلقة، فكذلك لا يملك بالوصية المقيدة. والثاني: أن اختيار الحاكم، أقوى من اختيار الموصي؛ لأن له الاختيار بإذن وغير إذن، فكذلك كان اختيار الحاكم أولى من اختيار الوصي، والله أعلم" (¬1). والأول أقوى. [م - 1724] وأما إذا لم يفوض له في الايصاء، ولم ينهه عنه، فإن كان الوصي هو الجد كان له أن يوصي؛ لأن ولايته متلقاة من الشرع، وإن كانت وصايته متلقاة بالتفويض من الأب أو الجد ففي جواز إيصائه خلاف بين أهل العلم على قولين: القول الأول: يجوز للوصي أن يوصي، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، ورواية عند الحنابلة، وبه قال سفيان (¬2). قال ابن عبد البر: "وللوصي أن يوصي إلى غيره إذا لم يمنعه الموصي من ¬
° وجه القول بذلك
ذلك وليس للورثة في ذلك مقال، ويقوم وصيه مقامه في كل ما كان إليه من وصية أو غيرها إذا أوصى بذلك وإن مات، ولم يوص تولى الحاكم النظر فيما كان بيده" (¬1). ° وجه القول بذلك: أن الأب أقامه مقام نفسه، فكان له الإيصاء كالأب. ونوقش هذا: أن الأب أقام الوصي مقام نفسه، ولم يقم غيره مقام نفسه. القول الثاني: ليس للوصي أن يوصي، وهذا هو مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). قال الماوردي في الحاوي: "قال الشافعي رحمه الله تعالى: وليس للوصي أن يوصي بما أوصى به إليه؛ لأن الميت لم يرض الموصى إليه الآخر" (¬3). وجاء في الإنصاف:"وليس للوصي أن يوصي إلا أن يجعل ذلك إليه، وهو المذهب ... " (¬4). ¬
° وجه من قال: ليس للوصي أن يوصي
وإذا مات الوصي فإن القاضي يعين وصيًا من قبله؛ لأن القاضي ولي من لا ولي له. ° وجه من قال: ليس للوصي أن يوصي: الوجه الأول: أن الموصي إنما رضي بالوصي، ولم يرض بغيره، فكان التفويض مقصورًا عليه. الوجه الثاني: أن الوصي يتصرف بموجب التفويض، فلا يملك التفويض إلى غيره كالوكيل. ° الراجح: أن الوصي لا يملك الإيصاء إلى غيره إذا لم يفوض ذلك إليه إلا أن يكون مضطرًا كأن يخشى على المال من ولي ظالم، ولا يوجد قاض يتولى الأمر، والله أعلم.
المبحث الخامس في وصاية الأم على أولادها
المبحث الخامس في وصاية الأم على أولادها القرابة سبب كامل لاستحقاق الولاية (¬1). [م - 1725] اختلف العلماء في الأم، هل تملك الوصاية على أولادها؟ على قولين: القول الأول: ليس للأم أن توصي على أولادها، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والشافعية، والحنابلة (¬2). قال الكاساني: "أما ترتيب الولاية: فأولى الأولياء الأب، ثم وصيه، ثم وصي وصيه، ثم الجد، ثم وصيه، ثم وصي وصيه، ثم القاضي، ثم من نصبه القاضي وهو وصي القاضي وإنما تثبت الولاية على هذا الترتيب ... وليس لمن سوى هؤلاء من الأم، والأخ، والعم، وغيرهم ولاية التصرف على الصغير في ماله؛ لأن الأخ والعم قاصرا الشفقة ... والأم، وإن كانت لها وفور الشفقة، لكن ليس لها كمال الرأي لقصور عقل النساء عادة فلا تثبت لهن ولاية التصرف في المال، ولا لوصيهن" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن الأم لها أن توصي على أولادها بشرط أن يكون المال قليلاً عرفًا، وموروثًا عنها؛ ولا يكون للصغير ولي ولا وصي، كما يجوز للأم أن توصي بمال ولدها إن كانت وصيًا من قبل الأب (¬1). جاء في شرح الخرشي: "الأم يجوز لها أن توصي على الصغير بشروط ثلاثة: الأول: أن يكون المال الموصى فيه قليلاً كستين دينارًا. الثاني: أن لا يكون للصغير ولي، ولا وصي. الثالث: أن يكون المال موروثا عن الأم" (¬2). وقال الدسوقي في حاشيته: "قوله إن قل المال: أي بالعرف، فالمنظور له القلة بحسب العرف، ولا خصوصية للستين دينارًا" (¬3). وفي منح الجليل: "لا يجوز إيصاء الأم بمال ولدها الصغير، إلا أن تكون وصيًا من قبل أبيه، وإلا فلا يجوز إذا كان المال كثيراً" (¬4). وفي التاج والإكليل: "ونص المدونة يجوز أن توصي الأم بمال ولدها إن كانت وصيًا من قبل الأب" (¬5). ¬
°الراجح
واختار أبو سعيد الإصطخري من الشافعية أنه إن لم يكن أب ولا جد، نظرت الأم؛ لأنها أحد الأبوين، فثبتت لها الولاية في المال كالأب (¬1). جاء في نهاية المطلب: "ذهب الإصطخري إلى أن الأم تملك التصرف في ولدها وماله، والنكاح مستثنى عن تصرفات النسوة. ثم قال الأصطخري: وصي الأم يلي أطفالها بعد وفاتها، كما أنها بنفسها تتصرف في حياتها" (¬2). وقال العمراني في البيان:"إن لم يكن أب ولا جد نظر الوصي من قبلهما، فإن لم يكونا، ولا وصيهما، فهل تستحق الأم النظر؟ فيه وجهان: أحدهما: قال أبو سعيد الأصطخري: تستحق النظر في مال ولدها؛ لأنها أحد الأبوين، فاستحقت النظر في مال الولد، كالأب. والثاني، وهو المذهب: أنه لا ولاية لها، بل النظر إلى السلطان؛ لأنها ولاية بالشرع، فلم تستحقها الأم، كولاية النكاح، ولأن قرابة الأم لا تتضمن تعصيبا، فلم تتضمن ولاية، كقرابة الخال. فإذا قلنا بقول الإصطخري .. فهل يستحق أبوها، وأمها الولاية عند عدمها؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري" (¬3). ° الراجح: أن المرأة يصح لها أن توصي على أولادها كما صحح كثير من الفقهاء صحة الوصاية إليها، فإذا صح أن تكون وصية، صح أن تكون موصية، والله أعلم. ¬
المبحث السادس إخراج الوصي الزكاة عن الصغار
المبحث السادس إخراج الوصي الزكاة عن الصغار الفرع الأول إخراج الوصي زكاة الفطر [م - 1726] اختلف العلماء في إخراج الوصي زكاة الفطر عن الصغير على قولين: القول الأول: أنها واجبة على الصغير، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف من الحنفية، ومذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة (¬1). جاء في المدونة: "قال مالك: يؤدي الوصي زكاة الفطر عن اليتامى الذين عنده من أموالهم، وإن كانوا صغارًا" (¬2). وجاء في شرح الخرشي: "وللوصي اقتضاء الدين وتأخيره ... وإخراج فطرته وزكاته" (¬3). ¬
ودليلهم في ذلك
ودليلهم في ذلك: (ح -1046) ما رواه البخاري من طريق عمر بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة (¬1). وجه الاستدلال: قوله: (فرض ... على العبد والحر، والصغير والكبير ..) فدل على أن زكاة الفطر فريضة مفروضة، وليست مستحبة، وأنها تجب على الصغير كما تجب على الكبير، فإذا وجبت على الصغير وجب أن يخرجها عنه من يتولى أمره من أب، أو ولي، أو وصي. القول الثاني: لا تجب زكاة الفطر على الصغير، والمجنون، فإن أخرجها الوصي ضمنها. وهذا قول محمد بن الحسن وزفر من الحنفية (¬2). وكذلك من رأى أن زكاة الفطر مستحبة، وليست واجبة، فعلى هذا القول لا يخرج الوصي الصدقة المستحبة عن اليتيم؛ لأن تصرفه مقيد بالمصلحة للمحجور عليه. وهذا القول قد قال به بعض أصحاب مالك، وبعض أصحاب الشافعي، وهو وجه في مذهب الحنابلة، وبه قال داود الظاهري. ¬
قال النووي: "وقال بعض أهل العراق، وبعض أصحاب مالك، وبعض أصحاب الشافعي، وداود في آخر أمره: إنها سنة ليست واجبة، قالوا ومعنى فرض قدر على سبيل الندب" (¬1). وفي الإنصاف: "وحكي وجه: لا تجب في مال الصغير، والمنصوص خلافه" (¬2). وجاء في بدائع الصنائع: "وأما العقل، والبلوغ فليسا من شرائط الوجوب في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف حتى تجب صدقة الفطر على الصبي، والمجنون، إذا كان لهما مال، ويخرجها الولي من مالهما. وقال محمد وزفر: لا فطرة عليهما حتى لو أدى الأب أو الوصي من مالهما لا يضمنان عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمَّد وزفر يضمنان. وجه قولهما: أنها عبادة، والعبادات لا تجب على الصبيان، والمجانيق كالصوم، والصلاة، والزكاة. ولأبي حنيفة وأبي يوسف أنها ليست بعبادة محضة بل فيها معنى المؤنة فأشبهت العشر" (¬3). وهناك من وجه عدم الوجوب لكون الزكاة تطهيرًا من اللغو والرفث، والصبي ليس محتاجًا إلى التطهيرة لعدم الإثم. ¬
وأجيب على هذا
وأجيب على هذا: بأن التطهير هو الحكمة من التشريع، وليس علة في الحكم، وبينهما فرق، كاعتبار المشقة هي الحكمة من القصر في السفر، وليست المشقة علة، فقد يوجد القصر مع عدم المشقة، كما أن التطهير قد يكون لغالب الناس، فتجب الزكاة على كافر أسلم قبل غروب الشمس بلحظة، فإنها تجب عليه مع عدم الإثم (¬1). الراجح: وجوب الزكاة على الصغير، وأن على من يتولى أمره إخراجها من أب، أو وصي، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني في إخراج الوصي زكاة مال الصغير
الفرع الثاني في إخراج الوصي زكاة مال الصغير الزكاة حق المال. كل من نبت الزرع على ملكه فعليه زكاته. [م - 1727] اختلف العلماء في إخراج الوصي زكاة المال عن الصغير، ومن في حكمه من سفيه ومجنون؛ لاختلافهم في وجوب الزكاة في مال الصغير، فمن رأى أن زكاة المال لا تجب على الصغير، رأى أن الوصي لا يملك إخراج الزكاة من مال الصغير، ومن رأى أن الزكاة واجبة على الصغير فقد اختلفوا، هل يخرجها الوصي، أو يخرجها الصبي إذا بلغ؟ وإليك بيان الخلاف: القول الأول: تجب الزكاة في مال الصغير، وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة (¬1). وجاء في شرح الخرشي: "وللوصي اقتضاء الدين وتأخيره ... وإخراج فطرته وزكاته" (¬2). ¬
القول الثاني
وقال ابن رشد: "ولا يشترط في ذلك البلوغ والعقل بخلاف الصلاة" (¬1). وقال الشافعي: "وعلى ولي اليتيم أن يؤدي الزكاة عنه في جميع ماله، كما يؤديها عن نفسه، لا فرق بينه وبين الكبير البالغ فيما يجب عليهما" (¬2). وفي شرح الوجيز: "تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون، وبه قال مالك وأحمد خلافًا لأبي حنيفة" (¬3). وقال الماوردي: "كل حر مسلم فالزكاة في ماله واجبة، مكلفًا كان أو غير مكلف، وقال أبو حنيفة: التكليف من شرط وجوب الزكاة، فإن كان صغيرًا أو مجنونًا فلا زكاة عليه، إلا زكاة الفطر والأعشار" (¬4). القول الثاني: أنها تجب الزكاة في مال اليتيم، ولكن ليس للولي ولا للوصي ولاية الأداء، ولكن يحصي الولي أعوام اليتيم، فإذا بلغ أخبره. وهذا قول ابن مسعود، وبه قال الثوري والأوزاعي. وقال ابن أبي ليلى: في أموال اليتامى الزكاة، ولو أداها عنهم الوصي غرم (¬5). وهذا القول يتفق مع القول الأول في وجوب الزكاة، ويختلف معه في طريقة ¬
القول الثالث
إخراجها، هل يملك الولي والوصي إخراجها، أو ينتظر حتى يبلغ المحجور عليه، فيخرجها هو. القول الثالث: لا زكاة في مال اليتيم، إلا زكاة الفطر وزكاة المعشرات، وهذا مذهب الحنفية (¬1). قال الكاساني: "ومنها البلوغ عندنا، فلا تجب على الصبي؛ وهو قول علي وابن عباس فإنهما قالا: "لا تجب الزكاة على الصبي حتى تجب عليه الصلاة" (¬2). وقال ابن عابدين: "قوله عقل وبلوغ، فلا تجب على مجنون وصيي؛ لأنها عبادة محضة، وليسا مخاطبين بها، وإيجاب النفقات والغرامات -يعني على الصبي والمجنون- لكونها من حقوق العباد والعشر، وصدقة الفطر؛ لأن فيهما معنى المؤنة" (¬3). القول الرابع: لا زكاة مطلقاً على اليتيم حتى يحتلم، وبه قال أبو جعفر المباقر، والحسن، والنخعي، وشريح. ¬
(ث -238) قال ابن زنجويه: أخبرنا أبو نعيم، ومحمد بن يوسف قالا: أخبرنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: ليس في مال اليتيم زكاة (¬1). [صحيح عن إبراهيم النخعي] (¬2). (ث -239) وروى ابن أبي شيبة، من طريق هشام، عن الحسن، قال: ليس في مال اليتيم زكاة حتى يحتلم (¬3). [صحيح عن الحسن]. (ث - 240) وروى ابن زنجويه أخبرنا يحيى بن يحيى، أخبرنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه قال: لا تجب في مال اليتيم زكاة حتى تجب عليه الصلاة (¬4). [ضعيف] (¬5). ¬
دليل من قال: تجب الزكاة في مال الصغير
دليل من قال: تجب الزكاة في مال الصغير: الدليل الأول: أن الزكاة واجبة في المال، وليست واجبة في البدن حتى يقال: إن التكليف شرط. (ح -1047) لما رواه الشيخان من حديث ابن عباس، أن النبي بعث معاذاً إلى اليمن، وفيه: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم (¬1). فالزكاة واجبة في عين المال، بصرف النظر عن مالكه صغيرًا كان أو كبيرًا. (ح -1048) وفي صحيح البخاري من حديث أنس، أن أبا بكر كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، وفيه: وفي الرقة ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة، فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها (¬2). فجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الواجب متعلقًا في الرقة (الفضة)، ولم يجعل الواجب متعلقًا في ذمة المالك. (ث - 241) ولهذا قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة، والزكاة، فإن الزكاة حق المال. رواه البخاري ومسلم (¬3). ¬
الدليل الثاني
ولم يكن السعاة وهم يأخذون الزكاة يسألون عن مالك المال، هل هو كبير مكلف، أو صغير أو يتيم؟ بل كانوا يأخذون الزكاة من الأموال الظاهرة، من الأنعام والثمار بصرف النظر عن مالكها، ولو كان ذلك مؤثرًا في وجوب الزكاة لوجب عليهم السؤال حتى لا يأخذوها ممن لا تجب عليه. الدليل الثاني: (ح -1049) ما رواه الدارقطني من طريق حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال: ابتغوا بأموال اليتامى لا تأكلها الصدقة (¬1). أروي موقوفاً ومرفوعًا، والموقوف أصح، ورفعه منكر، وسماع سعيد بن المسيب عن عمر فيه خلاف، والأصح أنه في حكم المتصل] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
(ث -242) وروى ابن زنجويه من طريق أبي نعيم، أخبرنا القاسم بن الفضل، حدثني معاوية بن قرة، حدثني الحكم بن أبي العاص الثقفي، قال: إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لي: "هل قبلكم متجر؟ فإن في يدي مالاً ليتيم قد كادت الصدقة أن تأتي عليه (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ث -243) روى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، قال: كانت عائشة تليني وأخًا لي يتيمين في حجرها، فكانت تخرج من أموالنا الزكاة (¬1). [صحيح] (¬2). الدليل الرابع: (ث -244) ما رواه عبد الرزاق، قال: عن معمر، عن الزهري، عن سالم، أن ابن عمر كان يكون عنده مال اليتيم فيستسلفها ليحرزها من الهلاك، وهو يؤدي زكاتها من أموالهم (¬3). ¬
الدليل الخامس
[صحيح] (¬1). الدليل الخامس: (ث -245) روى عبد الرزاق في المصنف، قال: عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله، يقول: في من يلي مال اليتيم؟ قال جابر: يعطي زكاته (¬2). [صحيح] (¬3). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (ث -246) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا شريك، عن أبي اليقظان، عن ابن أبي ليلى، أن عليًّا، زكى أموال بني أبي رافع أيتام في حجره وقال: ترون كنت ألي مالاً لا أزكيه (¬1). [شريك وشيخه أبو اليقظان ضعيفان، والأثر روي من طرق ضعيفة يقوي بعضها بعضًا] (¬2). ¬
الدليل السابع
فهذه الآثار عن عمل الصحابة تكشف لك أن التكليف ليس شرطاً، وهم إنما أخذوا ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. يقول فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي: ولا ريب أن أقوال الصحابة أمثال عمر، وعلي، وعائشة، وابن عمر، وجابر إذا اتفقت في موضوع كهذا، يكثر وقوعه، وتعم به البلوى، وخاصة أن ذلك المجتمع الذي قدم الشهداء تلو الشهداء، وكثر فيه اليتامى، كان لها دلالتها واعتبارها في هذا المقام، ولا يسع عالماً إهدار أقوالهم التي أجمعت على هذا الأمر، مع قرب عهدهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وكمال فهمهم عنه، ومعرفتهم بالقوارع التي أنزلها الله في شأن أموال اليتامى، والحق أنه لم يصح عن أحد من الصحابة القول بعدم وجوب الزكاة في مال اليتيم، وما روي عن ابن مسعود وابن عباس فهو ضعيف لا يحتج بمثله" (¬1). وأموال المسلمين معصومة، وأولاها أموال اليتامى، فلو لم يكن هذا الفعل واجبًا لكانت مراعاة اليتيم أولى من مراعاة المسكين، فالمسكين يأخذ من صدقات الكبار الأغنياء الواجبة والمستحبة، فلما أخذت الزكاة من هذه الفئة دل ذلك على أنه لأمر واجب، والله أعلم. الدليل السابع: احتج ابن عبد البر بالإجماع على وجوب الزكاة على اليتيم في حرثه وثماره، وأن من يجن أحيانًا، وكذا الحائض لا يراعى قدر الجنون والحيض من الحول، فدل ذلك كله على أن الزكاة حق المال، وأنها ليست كالصلاة التي هي حق البدن (¬2). ¬
دليل الحنفية على اشتراط التكليف إلا في صدقة الفطر والثمار
دليل الحنفية على اشتراط التكليف إلا في صدقة الفطر والثمار: الدليل الأول: قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]. وجه الاستدلال: أن الله جمع بين الصلاة والزكاة في الوجوب، فلا تجب الزكاة إلا على من تجب عليه الصلاة. ونوقش هذا: أن الله إنما جمع بينهما في الوجوب جملة، لا في أن الزكاة لا تجب إلا على من تجب عليه الصلاة، فكما تجب الصلاة على العبد ولا تجب عليه الزكاة عندهم، وتجب الزكاة على الحائض عند الجميع، ولا تجب عليها الصلاة، فكذلك تجب الزكاة على الصبي والمجنون، وإن لم تجب عليهما الصلاة، وهذا بين (¬1). الدليل الثاني: أن الزكاة عبادة محضة كالصلاة، ولا تجب العبادة إلا على مكلف. (ح -1050) ما رواه أحمد من طريق همام، عن قتادة، عن الحسن البصري، عن علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه أو قال: المجنون حتى يعقل، وعن الصغير حتى يشب (¬2). ¬
الدليل الثالث
وفي رواية: وعن الصغير حتى يبلغ (¬1). [إسناده منقطع، ورجح الترمذي، والنسائي، والدارقطني وقفه، وقد سبق بحثه] (¬2). الدليل الثالث: قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. وجه الاستدلال: أن التطهير إنما يكون من الذنوب، ولا ذنب على الصبي والمجنون. ويجاب عن هذين الدليلين بثلاثة أجوبة: الجواب الأول: أما حديث رفع القلم: أي عن رفع عن نفسه، لا عن ماله. فالزكاة واجبة في المال، وليست في البدن، قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] ". (ح - 1051) وما رواه الشيخان من حديث ابن عباس، أن النبي بعث معاذًا إلى اليمن، وفيه: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، توخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم) (¬3). قال الماوردي: (الحقوق ضربان: حق لله تعالى وحق للآدمي. ¬
الجواب الثاني
وحق الآدمي: ضربان، أفعال أبدان كالقصاص، وحد القذف. وحقوق أموال: كالمهر، والنفقات، وأروش الجنايات. فما كان من أفعال الأبدان يختص به المكلف من غيره، وما كان من حقوق الأموال يستوي فيه المكلف وغيره، كذلك حقوق الله تعالى ضربان، أفعال أبدان كالصلاة والصيام، وذلك يختص به المكلف دون غيره، وحقوق أموال كالزكوات يجب أن يستوي فيها المكلف وغيره" (¬1). الجواب الثاني: أن الحنفية قد أوجبوا زكاة الفطر، وزكاة الزروع والثمار على غير المكلف فدل ذلك على أن باب الزكاة يختلف عن الصلاة. الجواب الثالث: القول بأن الزكاة شرعت من أجل التطهير، ولا يوجد تطهير في حق الصبي والمجنون، فقد سبق الجواب عنه في الكلام على وجوب زكاة الفطر، فارجع إليه إن شئت. دليل من قال: تجب على الصغير، ولا يخرجها الولي: أما أدلتهم على وجوب الزكاة على الصبي فهي أدلة الجمهور، وكون الولي لا يخرجها من مال الصبي، وإنما يحصيها فإذا بلغ أخبره الوصي بما يجب عليه فلأن مال المحجور عليه كالوديعة في يد الوصي، والمودع ليس عليه أن يقوم بالزكاة، ودفعًا للتهمة عن الوصي. ¬
ويناقش
ويناقش: بأن الزكاة حولية، ويجب ألا يمنع الفقير من حقه في هذا المال، فإذا حبس المال إلى أن يبلغ الصغير تضرر الفقير، ولكن بإمكانه أن يشهد على إخراجها، فتبرأ ذمته بذلك، وهو مؤتمن، والأمين مصدق بما يدعيه حتى يثبت خلافه، والله أعلم. الراجح: وجوب الزكاة في مال اليتيم، وأن الوصي يجب عليه إخراجها، وإذا خاف التهمة فعليه أن يشهد على إخراجها، والله أعلم.
المبحث السابع المضاربة بمال اليتيم
المبحث السابع المضاربة بمال اليتيم الفرع الأول اتجار الوصي بمال اليتيم لنفسه [م - 1728] اختلف العلماء في الوصي يتجر بمال اليتيم لنفسه على قولين: القول الأول: نص الحنفية، والمالكية في المشهور والإمام أحمد على أنه لا يجوز للوصي الاتجار لنفسه بمال اليتيم، وبه قال سفيان (¬1). جاء في الفتاوى الهندية: "ولا يجوز للوصي أن يتجر لنفسه بمال اليتيم أو الميت، فإن فعل، وربح يضمن رأس المال، ويتصدق بالربح في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى، كذا في فتاوى قاضي خان" (¬2) وقال الباجي في المنتقى: "ولا يثمره لنفسه؛ لأنه حينئذ لا ينظر لليتيم، وإنما ينظر لنفسه" (¬3). ¬
القول الثاني
وقال ابن عبد البر: "ولا يتجر به لنفسه ويأخذ فضله، وإن ضمنه، إلا أن يسلفه إياه حاكم مجتهد" (¬1). القول الثاني: أجاز بعض المالكية أن يتجر به لنفسه بشرط أن يكون عنده وفاء إن عطب، فإن لم يكن عنده وفاء فلا يحل له أن يستسلفه، ولا أن يتجر فيه لنفسه (¬2). والراجح الأول. وإذا اتجر به وخسر ضمن الخسارة، وإن ربح، فهل يكون له الربح، أو يكون لليتيم، فيه خلاف بين العلماء. القول الأول: أن الوصي يتصدق بالربح، وهذا قول أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن. القول الثاني: الربح للوصي، وهذا قول أبي يوسف. قال الشلبي في حاشيته على تبيين الحقائق نقلاً عن قاضي خان: "لا يجوز للوصي أن يتجر لنفسه بمال اليتيم أو الميت. فإن فعل وربح يضمن رأس المال، ويتصدق بالربح في قول أبي حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف يسلم له الربح ولا يتصدق بشيء" (¬3). ¬
القول الثالث
القول الثالث: الربح لليتيم. وهذا نص الإِمام أحمد. جاء في مسائل أحمد رواية الكوسج: "سئل سفيان عن الوصي إذا أخذ المال لنفسه؟ قال: هو ضامن؛ لأنه لا يشتري من نفسه. قال أحمد: هو ضامن، وإن اتجر فيه كان الربح لليتيم" (¬1). وجاء في مسائل أبي داود: "سمعت أحمد، سئل عن الوصي يأخذ مال اليتيم من نفسه مضاربة؟ قال: لا. فإن ربح، الربح لليتيم" (¬2). الراجح: القول بالمنع؛ لأن تصرف الوصي مقيد بأمرين: الأول: أن يكون تصرف الوصي مما يملك الموصى الإيصاء به، وتكون الوصية إما مطلقة، أو مقيدة، وقد صرح الموصي بتفويض مثل هذا التصرف للوصي. الثاني: أن يكون في ذلك التصرف حظ لليتيم؛ لأن تصرف الوصي مقيد في مصلحة المحجور عليه. ولا يملك الموصي الإيصاء للوصي بالاقتراض من مال المحجور عليه، وليس في ذلك مصلحة لليتيم. ¬
وإذا اتجر الوصي لنفسه بمال اليتيم فإن ذلك يعني وجوب الضمان عليه لو خسر المال لأمرين: الأول: أنه من قبيل التعدي؛ لأن يد الوصي يد أمانة، وليس من الأمانة أن يأخذ مال اليتيم ويتجر به لنفسه، وإذا تعدى الأمين أو فرط وجب عليه الضمان. الثاني: أنه قد اقترض لنفسه من مال اليتيم، والقرض مضمون بالاتفاق. وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن اليتيم لا يجوز له أن يقترض لنفسه من مال اليتيم (¬1)، وسوف نبحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى في فصل مستقل. ¬
الفرع الثاني في اتجار الوصي لحظ اليتيم
الفرع الثاني في اتجار الوصي لحظ اليتيم [م - 1729] اختلف الفقهاء في اتجار الوصي بنفسه أو بغيره بمال اليتيم لحظ اليتيم على ثلاثة أقوال: القول الأول: يجوز للوصي أن يتجر بمال اليتيم لمصلحة اليتيم، سواء اتجر بذلك بنفسه أو دفعه إلى غيره. وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، وأحد القولين في مذهب المالكية، وهو المذهب عند الحنابلة، إلا أنهم قالوا: إذا اتجر به بنفسه كان الربح كله لليتيم (¬1). جاء في الاختيار لتعليل المختار: "وللوصي أن يدفع المال مضاربة، ويعمل فيه هو مضاربة؛ لأنه قائم مقام الأب، وللأب هذه التصرفات فكذا الوصي، فإن عمل بنفسه أشهد على ذلك" (¬2). وقال الشافعي كما في مختصر المزني: "وأحب أن يتجر الوصي بأموال من ¬
دليل من قال: للوصي أن يتجر في مال اليتيم
يلي، ولا ضمان عليه، قد اتجر عمر بمال يتيم، وأبضعت عائشة بأموال بني محمد بن أبي بكر في البحر، وهم أيتام تليهم" (¬1). وقال الخرقي "ويتجر الوصي بمال اليتيم، ولا ضمان عليه، والربح كله لليتيم، إن أعطاه لمن يضارب له به، فللمضارب من الربح ما وافقه الوصي عليه" (¬2). وقال ابن قدامة: "وله أن يتجر بماله ... والربح كله لليتيم؛ لأن المضارب إنما يستحق بعقد، وليس له أن يعقد مع نفسه لنفسه" (¬3). وجاء في الروض المربع: "إذا اتجر ولي اليتيم في ماله كان الربح كله لليتيم؛ لأنه نماء ماله، فلا يستحقه غيره إلا بعقد، ولا يعقد الولي لنفسه" (¬4). دليل من قال: للوصي أن يتجر في مال اليتيم: الدليل الأول: (ث -247) ما رواه الدارقطني من طريق حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال: ابتغوا بأموال اليتامى لا تأكلها الصدقة (¬5). ¬
[روي موقوفاً ومرفوعًا، والموقوف أصح، ورفعه منكر، وسماع سعيد بن المسيب عن عمر فيه خلاف، والأصح أنه في حكم المتصل] (¬1). (ث -248) وروى ابن زنجويه من طريق أبي نعيم، أخبرنا القاسم بن الفضل، حدثني معاوية بن قرة، حدثني الحكم بن أبي العاص الثقفي، قال: إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لي: "هل قبلكم متجر؟ فإن في يدي مالاً ليتيم قد كادت الصدقة أن تأتي عليه (¬2). [سنده صحيح] (¬3). الدليل الثاني: (ث -249) روى عبد الرزاق عن ابن جريج، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، قال: سمعت القاسم بن محمَّد يقول: كانت عائشة تبضع أموالنا في البحر، وإنها لتزكيه (¬4). [سنده صحيح] (¬5). (ث -250) وروى عبد الرزاق في المصنف عن معمر، عن أيوب، عن القاسم بن محمَّد قال: كنا يتامى في حجر عائشة، فكانت تزكي أموالنا، ثم دفعته مقارضة فبورك لنا فيه (¬6). ¬
الدليل الثاني
[إسناده صحيح] (¬1) الدليل الثاني: قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]. فالوصي مأمور بما هو أصلح لليتيم وأحسن، والاتجار بمال اليتيم سبب لنمائه، حتى لا تأكله النفقة والصدقة. ولأن الوصي قائم مقام الموصي في ولايته في مال الولد، وقد كان للموصي أن يفعل هذا كله في ماله فكذلك الوصي (¬2). القول الثاني: لا يتجر الوصي بمال اليتيم، اختاره بعض الحنفية، ووجه في مذهب الحنابلة. ومنعه أشهب من المالكية، والمشهور من مذهب المالكية كراهة العمل به بنفسه إلا أن يكون يتبرع بذلك، فإنه من المعروف (¬3). قال ابن رشد الجد في البيان والتحصيل: "للوصي أن يدفع مال يتيمه مضاربة ... ويكره له أن يعمل هو به مضاربة .. " (¬4). ¬
° وجه القول بالمنع
وفي الذخيرة: "ومنع أشهب أن يكون هو عاملًا قياسًا على بيعه من نفسه بجامع التهمة، وأجازه غيره بما يشبه قراض مثله، كشرائه له" (¬1). ° وجه القول بالمنع: لأن الوصي مفوض إليه حفظ المال، وليس الاتجار به كالمودع المندوب لحفظ ما أودع، فلما لم يجز للمودع أن يتجر بالوديعة طلبًا لربح يعود على مالكها، لم يجز للوصي أن يتجر بمال اليتيم طلبًا لربح يعود عليه. ولأن الإنسان إذا كان هو الذي يلي العمل بمال اليتيم فإنه قد يحابي نفسه على حساب اليتيم. ولأن التجارة بالمال خطر، وطلب الربح به متوهم، فلم يجز أن يتعجل خطرًا متيقنًا، لأجل ربح متوهم (¬2). القول الثالث: له أن يتجر بمال اليتيم بنفسه، وليس له أن يدفعه إلى غيره ليعمل به، وهذا اختيار ابن أبي ليلى من الحنفية (¬3). ° وجه هذا القول: أن الموصي قد رضيه هو، ولم يرض غيره، وقياسًا على الوكيل، فإن الوكيل ليس له أن يوكل غيره. ¬
القول الراجح
جاء في المبسوط: قال "ابن أبي ليلى - رحمه الله -: ليس له أن يفعل شيئًا من ذلك سوى التجارة في ماله بنفسه؛ لأن الموصي جعله قائمًا مقامه في التصرف في المال ليكون المال محفوظًا عنده، وإنما يحصل هذا المقصود إذا كان هو الذي يتصرف بنفسه، فلا يملك دفعه إلى غيره للتصرف كالوكيل" (¬1). القول الراجح: جواز الاتجار به بشرط ألا يستثمره في المعاملات عالية الخطورة، كأسواق الأسهم، وأن يكون استثماره مبنيًا على دراسة وتحر حتى لا يعرض المال لخسارة كبيرة، والله أعلم. ¬
المبحث الثامن في إقراض مال اليتيم
المبحث الثامن في إقراض مال اليتيم الفرع الأول اقتراض الوصي من مال اليتيم [م - 1730] اختلف العلماء في اقتراض الوصي لنفسه من مال اليتيم على قولين: القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والحنابلة إلى أن الوصي لا يجوز له أن يقترض لنفسه من مال اليتيم (¬1). قال الحنفية: فإن فعل فإنه يكون ضامنًا، وإذا ضمن فكل ما ينفقه على اليتيم يكون متبرعًا به. جاء في حاشية ابن عابدين: "ولو أخذه الوصي قرضًا لنفسه لا يجوز، ويكون دينًا عليه" (¬2). ¬
القول الثاني
وقال أيضًا: "ليس له أن يستقرض لنفسه على الأصح، فلو فعل، ثم أنفق على اليتيم مدة يكون متبرعًا إذا صار ضامنًا" (¬1). وفي الاختيار لتعليل المختار: "وليس للوصي أن يقترض مال اليتيم، وللأب ذلك، وليس لهما إقراضه، وللقاضي ذلك" (¬2). قال الباجي: "للولي: وهو الأب، أو الوصي أن يتجر في أموالهم، وينميها لهم، وأما أن يتسلفها، ويتجر فيها لنفسه كما يفعل من لا خير فيه من الأوصياء، فإن ذلك نظر لأنفسهم دون الأيتام، إلا أن يدعو إلى يسير من ضرورة في وقت، ثم يسرع برده وتنميته للأيتام، فأما أن تصرف منافعه للأيتام، وتحصل التجارة فيه والانتفاع به للأوصياء فذلك إثم لا يحل له؛ لأن الأيتام يملكون رقبة الإملاك، ويملكون الانتفاع بها، فكما ليس للوصي استهلاك الرقبة والاستبداد بها، كذلك ليس له استهلاك المنفعة" (¬3). وجاء في كشاف القناع: "ولا يقترض وصي ولا حاكم منه شيئًا لنفسه، كما لا يشتري من نفسه، ولا يبيع لها للتهمة" (¬4). القول الثاني: أن الوصي إذا احتاج فله أن يقترض من مال اليتيم، نسبه العيني لبعض الصحابة وجماعة من التابعين، وأجازه محمَّد بن الحسن من الحنفية بشرط أن يكون قادرًا على الوفاء، وأجازه بعض المالكية بشرط أن يكون يسيرًا. ¬
قال في عمدة القارئ: "قال بعضهم: إن احتاج الوصي فله أن يقترض من مال اليتيم، فإن أيسر قضاه، وهذا قول عمر بن الخطاب، وعبيدة، وأبي العالية، وسعيد بت جبير، قال أبو جعفر: وهو قول جماعة من التابعين وغيرهم، وفقهاء الكوفيين عليه أيضًا" (¬1). وقال ابن عابدين: "ولو أخذه الوصي قرضًا لنفسه لا يجوز، ويكون دينًا عليه. وقال محمَّد: وأما أنا أرجو أنه لو فعل ذلك، وهو قادر على القضاء لا بأس به" (¬2). والراجح القول الأول؛ لأن تصرف الوصي مقيد بالمصلحة، ولا مصلحة في اقتراض الوصي مال اليتيم. ¬
الفرع الثاني في إقراض الوصي مال اليتيم للغير
الفرع الثاني في إقراض الوصي مال اليتيم للغير [م - 1731] اختلف العلماء في حق الوصي في إقراض مال اليتيم للغير: القول الأول: ليس له إقراضه، وهذا مذهب الحنفية والمالكية (¬1). قال الحنفية: فإن فعل فلا يعد خيانة توجب العزل. جاء في الاختيار لتعليل المختار: "وليس للوصي أن يقترض مال اليتيم، وللأب ذلك، وليس لهما إقراضه، وللقاضي ذلك" (¬2). وقال ابن عابدين: "لا يقرض الأب أي في أصح الروايتين ... ولا الوصي، فلو فعل لا يعد خيانة فلا يعزل به" (¬3). وجاء في حاشية الدسوقي: "ولا يجوز للوصي تسليفه لأحد على وجه المعروف، ولو أخذ رهنًا؛ إذ لا مصلحة لليتيم في ذلك" (¬4). ¬
وجه القول بالمنع
وقال القرافي: "ولا يسلف ماله؛ لأنه معروف لا تنمية فيه، إلا أن يتجر له، فيسلف اليسير مما يحتاج إليه مع الناس" (¬1). وجه القول بالمنع: الوجه الأول: أن الوصي إنما يتصرف بمقتضى عقد الوصاية، وإقراض مال اليتيم لا يدخل تحت وصايته؛ لأنه عقد تبرع ابتداء، ولا يملك الوصي التبرع من مال المحجور عليه. الوجه الثاني: أن كل من يتصرف بالنظر لغيره فإن تصرفه مقيد بالمصلحة، ولا مصلحة لليتيم لإقراض ماله للغير، فإن الإقراض يعرض المال للضياع، فقد يعجز المدين عن السداد، وقد يماطل. قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]. فما ليس بأحسن لا يجوز الاقتراب منه، فكيف بمقارفته. القول الثاني: لا يجوز لغير القاضي أن يقرض من مال الصبي والمجنون إلا لضرورة، وهذا مذهب الشافعية (¬2). ¬
القول الثالث
ومعلوم أن ما جاز بقيد الضرورة فالأصل فيه المنع والتحريم؛ لأن الضرورة تبيح المحرمات. قال الخطيب في مغني المحتاج: "ولا يجوز لغير القاضي من الأولياء أن يقرض من مال الصبي والمجنون شيئًا إلا لضرورة، كحريق، ونهب، أو أن يريد سفرًا يخاف عليه فيه" (¬1). القول الثالث: إن كان الحامل على إقراض مال اليتيم الإرفاق بالمقترض فهذا غير جائز، وإن كان الحامل عليه مصلحة اليتيم جاز إقراضه، وهذا مذهب الحنابلة (¬2). ولهذا يعتبر إيداع مال الأيتام للبنوك على توصيف أن الودائع هي قروض باعتبار أن البنك يتملكها، ويضمنها، ويستقل باستثمارها، وله غنمها، وعليه غرمها، وهذه طبيعة القروض، إلا أن الإقراض لم يقصد منه الإرفاق بالبنوك، وإنما الحامل عليه مصلحة الأيتام، فيجوز من هذا الباب. جاء في المغني: "فأما قرض مال اليتيم؛ فإذا لم يكن فيه حظ له، لم يجز قرضه ... قال أحمد: لا يقرض مال اليتيم لأحد يريد مكافأته، ومودته، ويقرض على النظر، والشفقة، كما صنع ابن عمر. وقيل لأحمد: إن عمر استقرض مال اليتيم؟ قال: إنما استقرض نظراً لليتيم، واحتياطًا، إن أصابه بشيء غرمه. ¬
الراجح
قال القاضي: ومعنى الحظ أن يكون لليتيم مال في بلده، فيريد نقله إلى بلد آخر، فيقرضه من رجل في ذلك البلد، ليقضيه بدله في بلده، يقصد بذلك حفظه من الغرر في نقله، أو يخاف عليه الهلاك من نهب، أو غرق، أو نحوهما، أو يكون مما يتلف بتطاول مدته، أو حديثه خير من قديمه، كالحنطة ونحوها، فيقرضه خوفًا أن يسوس، أو تنقص قيمته، وأشباه هذا، فيجوز القرض؛ لأنه مما لليتيم فيه حظ فجاز، كالتجارة به. وإن لم يكن فيه حظ، وإنما قصد إرفاق المقترض، وقضاء حاجته، فهذا غير جائز؛ لأنه تبرع بمال اليتيم، فلم يحز كهبته" (¬1). الراجح: أرى أن مذهب الحنابلة أقوى من حيث النظر؛ إلا أنه لقلة الأمانة في هذا العصر، ودفعًا للتلاعب فإنه يشترط أن يكون ذلك عن طريق إشراف القضاء، والله أعلم. ¬
المبحث التاسع في رهن الوصي مال الموصى عليه
المبحث التاسع في رهن الوصي مال الموصى عليه الفرع الأول الرهن بسبب دين أو قرض على الموصى عليه [م - 1732] ذهب الحنفية والمالكية إلى أن للوصي أن يرهن مال الموصى عليه إذا كان ذلك بسبب دين لزمه بالتجارة. وذهب الجمهور إلى صحة رهن مال اليتيم فيما يبتاعه له من كسوة وطعام إذا كان ذلك في حاجة ومصلحة الموصى عليه، وكان الرهن بيد عدل. واشتراط قيد المصلحة لا يجعل قولهم مختلفًا عن غيرهم؛ لأن التصرف للغير يشترط فيه المصلحة مطلقاً في الرهن وغيره (¬1). وإذا لم يكن الرهن بيد ثقة لم يكن ذلك في مصلحة اليتيم. قال الزيلعي: "ولو رهن الوصي مال اليتيم عند الأجنبي بتجارة باشرها، أو ¬
رهن لليتيم بدين لزمه بالتجارة صح؛ لأنه الأصلح له التجارة تثميرًا لماله، فلا يجد بدا من الرهن؛ لأنه إيفاء واستيفاء" (¬1). وفي العناية شرح الهداية: "وإن استدان الوصي لليتيم في كسوته وطعامه فرهن به متاعًا لليتيم جاز؛ لأن الاستدانة جائزة للحاجة، والرهن يقع إيفاء للحق فيجوز، وكذلك لو اتجر لليتيم فارتهن، أو رهن؛ لأن الأولى له التجارة تثميرًا لمال اليتيم فلا يجد بدًا من الارتهان والرهن؛ لأنه إيفاء واستيفاء" (¬2). جاء في مواهب الجليل: "وللوصي أن يرهن من مال اليتيم رهنًا فيما يبتاع له من مصالحه" (¬3). وجاء في شرح الخرشي: "قال ابن القاسم في المدونة: وللوصي أن يرهن من متاع اليتيم رهنًا فيما يبتاع له من كسوة، أو طعام كما يتسلف لليتيم حتى يبيع له بعض متاعه، وذلك لازم لليتيم، وللوصي أن يعطي مال اليتيم مضاربة اهـ، والظاهر أنه محمول على النظر، ولو في رهن الربع فليس كالبيع ... وكذلك للمأذون له في التجارة أن يرهن؛ لأن الإذن فيها إذن في توابعها" (¬4). جاء في المهذب: "ويجوز أن يقترض له إذا دعت إليه الحاجة، ويرهن ماله عليه؛ لأن في ذلك مصلحة له فجاز" (¬5). ¬
وقال إمام الحرمين: "الرهن والارتهان منه متقيد بشرط الغبطة، ورعاية المصلحة" (¬1). وجاء في فتح العزيز: "وحيث جاز للولي الرهن، فالشرط أن يرهن من أمين يجوز الإيداع منه، ولا فرق في جميع ذلك بين الأب، والجد، والوصي، والحاكم، وأمينه" (¬2). وقال ابن قدامة: "ولي اليتيم ليس له رهن ماله، إلا عند ثقة يودع ماله عنده، لئلا يجحده أو يفرط فيه فيضيع. قال القاضي: ليس لوليه رهن ماله إلا بشرطين: أحدهما، أن يكون عند ثقة. والثاني، أن يكون له فيه حظ، وهو أن يكون به حاجة إلى نفقة، أو كسوة، أو إنفاق على عقاره المتهدم، أو أرضه، أو بهائمه، ونحو ذلك، وماله غائب يتوقع وروده، أو ثمرة ينتظرها، أو له دين مؤجل يحل، أو متاع كاسد يرجو نفاقه؛ فيجوز لوليه الاقتراض ورهن ماله وإن لم يكن له شيء ينتظره، فلا حقاله في الاقتراض، فيبيع شيئاً من أصول ماله، ويصرفه في نفقته. وإن لم يجد من يقرضه، ووجد من يبيعه نسيئة، وكان أحظ من بيع أصله، جاز أن يشتريه نسيئة ويرهن به شيئاً من ماله، والوصي والحاكم وأمينه في هذا سواء" (¬3). ¬
الراجح
وجاء في كشاف القناع: الولي اليتيم ونحوه رهن ماله لمصلحة ويكون بيد عدل" (¬1). الراجح: نستطيع أن نقول: إن رهن مال الموصى عليه إما أن يكون بسبب الاتجار بماله، أو يكون بسبب حاجته للاقتراض من أجل طعامه وكسوته. فإن كان الرهن بسبب الاتجار بماله، فالذي يمنع من الاتجار بماله ينبغي أن يمنع من رهن ماله بسبب ذلك؛ لأنه مترتب على أمر غير مشروع، وقد حررت الخلاف في حكم اتجار الوصي بمال اليتيم، وقد منعه بعض الحنفية، وهو وجه عند الحنابلة. وقد رجحت أن للوصي الاتجار بماله، وهو فعل عمر وعائشة - رضي الله عنها -، وإذا كان للوصي الاتجار بمال اليتيم تثميرًا له، فإن الرهن من توابع التجارة، فيملكه إيفاء واستيفاء. وإذا كان الرهن بسبب الاقتراض لليتيم بسبب حاجته للطعام والكسوة فإنه ينبغي ألا يختلف في جوازه أحد؛ لأنه قد لا تندفع حاجته إلا بذلك، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني رهن مال اليتيم بدين للوصي
الفرع الثاني رهن مال اليتيم بدين للوصي [م - 1733] اختلف الفقهاء في جواز رهن الوصي مال الصغير بدين للوصي عليه، على قولين: القول الأول: لا يصح، وهذا مذهب الجمهور، وإحدى الروايتين في مذهب الحنابلة (¬1). وفرق الشافعية بين الأب والجد وبين غيرهما من الأولياء، فيجوز للأب والجد رهن مال الصغير من أنفسهما، ولا يجوز لغيرهما ذلك، ووافقهم الحنابلة في الأب. جاء في العناية شرح الهداية: "ولو ارتهنه الوصي من نفسه ... بحق لليتيم عليه لم يجز؛ لأنه وكيل محض، والواحد لا يتولى طرفي العقد في الرهن كما لا يتولاهما في البيع" (¬2). ¬
القول الثاني
وجاء في المدونة: "أرأيت إن استدنت دينًا، فرهنت به متاعًا لولدي صغارًا، ولم أستدن الدين على ولدي، أيجوز ذلك عليهم أم لا؟ قال: لا أراه جائزاً. قلت: لم؟ أليس بيعه جائزاً عليهم؟ قال: إنما يجوز بيعه عليهم على وجه النظر لهم. قلت: وكذلك الوصي؟ قال: نعم. قلت: تحفظه عن مالك؟ قال: لا أقوم على حفظه الساعة عن مالك، ولكنه رأيي؛ لأن مالكاً قال: ما أخذ الوالد من مال ولده على غير حاجة فلا يجوز ذلك له" (¬1). وقال النووي في روضة الطالبين: "حيث جاز الرهن أو الارتهان، جاز للأب والجد أن يعاملا به أنفسهما، ويتوليا الطرفين، وليس لغيرهما ذلك" (¬2). جاء في كشاف القناع: "وللأب أن يرتهن مالهما لنفسه، ولا يجوز ذلك لولي غيره" (¬3). القول الثاني: أجاز الحنابلة في قول مرجوح في المذهب أنه يجوز للوصي أن يرهن مال اليتيم لنفسه بدين له عليه (¬4). ¬
الراجح
جاء في الإنصاف: "وللأب أن يرتهن مالهما من نفسه، ولا يجوز لغيره على المذهب. وفي المغني رواية: بالجواز لغيره. قال الزركشي: وفيها نظر" (¬1). الراجح: المال في يد الوصي بمقتضى عقد الوصاية، وهو أمانة في يده، والرهن في يد المرتهن هو أمانة في يده، وكون الوصي يعتبر ما في يده رهنًا أو لا يعتبره كذلك هو في النية، والمرتهن لو احتاج الاستيفاء مما يعتبره رهنًا في يده لا يستوفي ذلك بنفسه، ولكن عن طريق حكم القضاء وإشرافه، وإذا أجاز الشافعية ذلك للأب والجد، وأجاز الحنابلة في المشهور أن ذلك للأب وحده، فالوصي يقوم مقام الأب، لهذا لا أرى أن هناك مفسدة تدفع عن طريق منع رهن مال اليتيم للوصي بدين له على اليتيم، والله أعلم. ¬
المبحث العاشر في بيع مال الوصي وشرائه
المبحث العاشر في بيع مال الوصي وشرائه الفرع الأول أن يشري ويبيع لأجنبي [م - 1734] مال الموصى عليه إما أن يكون عقارًا أو منقولاً، فإن كان منقولًا فذهب عامة الفقهاء إلى أنه يجوز له البيع والشراء ما دام ذلك بمثل القيمة أو بغبن يسير؛ لأن الغبن اليسير لا يمكن التحرز منه، فإذا لم يتسامح فيه أدى ذلك إلى إغلاق البيع والشراء. ولا يجوز بيع الوصي بغبن فاحش، وهو ما لا يتغابن فيه الناس عادة (¬1). لأن تصرفه بمقتضى المصلحة، والبيع بالغبن الفاحش تبرع، وهو لا يملكه، وضرر وإفساد لمال غيره، واستهلاك له، فيمنع منه كما يمنع من التصدق به. جاء في فتح القدير: "ولا يجوز بيع الوصي، ولا شراؤه، إلا بما يتغابن ¬
الناس في مثله؛ لأنه لا نظر في الغبن الفاحش، بخلاف اليسير؛ لأنه لا يمكن التحرز عنه، ففي اعتباره انسداد بابه" (¬1). وجاء في المدونة: "قلت: أرأيت الوصي، أيجوز له أن يعطي حائط الصبيان مساقاة؟ قال: نعم لأن مالكلا قال: بيعه للصبيان وشراؤه جائز" (¬2). وجاء في مغني المحتاج: "وله بيع ماله بعرض ونسيئة" (¬3). وجاء في مسائل أحمد وإسحاق: "قال: أحمد: الوصي بمنزلة الأب، يبيع إذا رأى صلاحًا. قال إسحاق: كما قال" (¬4). [م - 1735] واختلفوا في البيع بغبن فاحش إذا وقع: فقيل: البيع باطل مردود، وحكى ابن عبد البر الإجماع عليه. قال ابن عبد البر: "اتفق أهل العلم فيما علمت أن الوكيل، والمأمون ببيع شيء، أو شرائه، إذا باع أو اشترى بما لا يتغابن الناس في مثله، أن فعله ذلك باطل مردود. وكذلك فعل الوصي في مال يتيمه، إذا فعل في البيع له، أو الشراء ما لا يتغابن الناس بمثله؛ لأن ذلك إفساد لمال غيره، واستهلاك، كما لو وهب مال غيره، أو تصدق به بغير إذنه" (¬5). ¬
القول الثاني
القول الثاني: اختار ابن الملقن من الشافعية جواز بيع أموال التجارة من غير تقييد بشيء، بل لو رأى البيع بأقل من رأس المال؛ ليشتري بالثمن ما هو مظنة للربح جاز، كما قاله بعض المتأخرين (¬1). القول الثالث: اختار ابن تيمية أن من تصرف لغيره إن كان قد احتاط في البيع والشراء، واجتهد فيه، ولم يكن الباعث على ذلك محاباة، وقد بذل جهده، واستفرغ وسعه، ثم ظهر غبن لم يقصر فيه، فهو معذور، يشبه فعله خطأ الإمام، أو القاضي؛ لأن عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولاية قد يجتهد، ثم يظهر فوات المصلحة، أو حصول المفسدة، ولا لزوم عليه فيهما، وتضمين مثل هذا فيه نظر. وهذا اختيار ابن تيمية. قال ابن تيمية: "وكذلك الشريك، والوصى، والناظر على الوقف، أو بيت المال، ونحو ذلك ... إذا احتاط في البيع والشراء، ثم ظهر غبن، أو عيب، لم يقصر فيه، فهذا معذور يشبه خطأ الإِمام أو الحاكم. وأبين من هذا الناظر، والوصى، والإمام، والقاضى إذا باع، أو أجر، أو زارع، أو ضارب، ثم تبين أنه بدون القيمة، بعد الاجتهاد، أو تصرف تصرفًا، ثم تبين الخطأ فيه، مثل أن يأمر بعمارة، أو غرس، ونحو ذلك، ثم تبين أن المصلحة كانت في خلافه، وهذا باب واسع ... فإن عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولاية قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة، أو حصول المفسدة، ولا ¬
القول الأول
لزوم عليه فيهما، وتضمين مثل هذا فيه نظر ... فإن جماع هذا أنه مجتهد مأمور بعمل اجتهد فيه، وكيف يجتمع عليه الأمر والضمان" (¬1). والتكليف بحسب العلم، فالوصي مأمور بفعل الأصلح بحسب علمه، وأما ما لا يعلمه، فإنه لا يكلف فعله؛ لتعذره عليه. [م - 1736] وأما في بيع الوصي عقار الموصى عليه، فاختلف العلماء فيها على قولين: القول الأول: ذهب الجمهور إلى التفريق بين العقار والمنقول، فيجوز بيع المنقول مطلقاً، ولا يجوز بيع عقار الصغير إلا لحاجة أو غبطة. جاء في تنقيح الفتاوى الحامدية: "وبيع الوصي منقول اليتيم جائز، وليس كالعقار؛ لأنه محفوظ بنفسه ... وفي الذخيرة: الوصي يملك بيع عروض الصغير من غير حاجة، ولا يملك بيع عقاره إلا لحاجة" (¬2). هذا من حيث الجملة، أما من حيث التفاصيل فإليك النصوص من كتب المذاهب. ذهب متأخرو الحنفية إلى أن الوصي لا يبيع عقار اليتيم إلا في ثلاث حالات، منها: أن يكون على الميت دين، أو يرغب المشتري فيه بضعف الثمن، أو يكون للصغير حاجة إلى الثمن، وبه يفتى (¬3). ¬
قال الزيلعي: "وقال المتأخرون من أصحابنا لا يجوز للوصي بيع عقار الصغير إلا أن يكون على الميت دين أو يرغب المشتري فيه بضعف الثمن أو يكون للصغير حاجة إلى الثمن قال الصدر الشهيد -رحمه الله- وبه يفتى" (¬1). وزاد ابن نجيم أربعًا زيادة على ما نقل عن الزيلعي، ثلاث منها نقلاً عن الظهيرية، والرابعة من بيوع الخانية. أحدها: إذا كان في التركة وصية مرسلة لا يمكن تنفيذها إلا منه. الثانية: إذا كانت غلاته لا تزيد على مؤنته. الثالثة: إذا كان حانوتًا أو دارًا يخشى عليه النقصان. والرابعة نقلاً من بيوع الخانية، وهي: إذا كان العقار في يد متغلب، وخاف الوصي عليه، فله بيعه (¬2). هذا فيما يخص مذهب المتأخرين على ما نص عليه الزيلعي، وقد علق ابن نجيم، على نص الزيلعي بأن هذا مذهب المتأخرين، فقال: "ليس فيه تعرض لمذهب المتقدمين صريحًا، لا بنفي، ولا بإثبات، فيحتمل أن المتقدمين يقولون بالمنع مطلقا، أو بالجواز مطلقًا، وقد صرح في البزازية في الفصل الثامن من كتاب البيوع بأن المتقدمين قائلون بالجواز مطلقًا" (¬3). ¬
ومذهب المالكية كمذهب الحنفية، وإن اختلفوا في عدد الحالات التي يسوغ فيها للوصي بيع عقار اليتيم (¬1). جاء في المدونة: "قلت: هل يبيع الوصي العقار على اليتامى أم لا؟ قال مالك: لا أحب له أن يبيع إلا أن يكون لذلك وجه، مثل أن يكون الملك يجاوره، فيعطيه الثمن الكثير المرغوب فيه، وقد أضعف له في الثمن أو نحو ذلك، أو يكون ليس فيما يخرج منها ما يحمل اليتيم في نفقة اليتيم، فإذا كان هذا وما أشبهه رأيت للوصي أن يبيع. ويجوز ذلك على اليتيم إن كبر" (¬2). وقال القرافي في الذخيرة: "ولا يبيع الوصي العقار إلا لأحد ستة أوجه: الحاجة، والغبطة في الثمن الكثير، أو يبيعه لمن يعود عليه بشيء، أو له شقص في دار لا تحمل القسمة، فدعاه شركاؤه للبيع، أو دار واهية، ولا يكون له ما تقوم به، أوله دار بين أهل الذمة" (¬3). قال ابن رشد الجد: "لا يجوز للوصي أن يبيع عقار يتيمه إلا لوجوه معلومة قد حصرها أهل العلم بالعد لها" (¬4). وذكر ابن عرفة نقلًا من التاج والإكليل: أن حاصل عدها أحد عشر وجهًا: أن يكون عليه دين لا قضاء له من غير ثمنه. ¬
أن يحتاج اليتيم إلى النفقة. أن يعرض عليه أكثر من ثمنها، أن يكون العقار خربًا، وليس ثم ما يصلحه به، أن يكون فيه شرك ليعوضه بما لا شرك فيه، أن يطلب الشريك بيع ما لا ينقسم، ولا مال لليتيم يبتاع له به تلك الحصة، استبداله بخير منه؛ لأنه لا يعود بنفع، كونه العقار بين أهل الذمة، فيبيعه، ليشتري له بين المسلمين، كونه مثقلًا بالمغرم، أو يخشى عليه النزول (¬1). وإذا باع الوصي العقار لهذه الأسباب فهل يطالب بالبينة؟ قال ابن رشد: "واختلف الشيوخ المتأخرون هل يصدق الوصي فيها أم لا؟ فقيل: إنه يصدق فيها، ولا يلزمه إقامة البينة عليها. وقيل: إنه لا يصدق فيها، ويلزمه إقامة البينة عليها" (¬2). ومنع الشافعية بيع عقار اليتيم إلا لغبطة أو حاجة، وهذا القيد يضبط كل ما ذكره الحنفية والمالكية، فإن غالب الصور التي ذكروها ترجع إلى هذين القيدين (¬3). قال الماوردي: "لا يجوز للولي أن يبيع من مال اليتيم عقارًا، أو أرضًا إلا في حالتين: غبطة، أو حاجة، ولا يجوز له فيما سوى هاتين الحالتين أن يبيع ذلك عليه" (¬4). ¬
القول الثاني
وقال العمراني في البيان: "وإن ملك الصبي عقارا .. لم يبع عليه إلا في موضعين: أحدهما: أن يكون به حاجة إليه، للنفقة والكسوة، وليس له غيره، ولا تقي غلته بذلك، ولا يجد من يقرضه، فيجوز بيعه. والثاني: أن يكون له في بيعه غبطة، وهو أن تكون له شركة مع غيره، أو بجوار غيره، فيبذل له الغير بذلك أكثر من قيمته، ويؤخذ له مثل ذلك بأقل مما باع به" (¬1). القول الثاني: العقار كغيره للوصي أن يبيعه بشرطين: الأول: أن يكون ذلك نظرًا لهم، ولو بلا ضرورة، أو زيادة على ثمن مثله. الشرط الثاني: أن يكون البيع بثمن المثل، فإن نقص عن ثمن المثل لم يصح. وهذا مذهب الحنابلة (¬2). قال أبو دواد: سمعت أحمد سئل، عن بيع الوصي الدور على الصغار؟ قال: إذا كان نظرًا لهم فهو جائز (¬3). وهذا شرط في كل من تصرف لغيره فإنه على النظر والمصلحة. ¬
وجاء في مسائل أحمد وإسحاق رواية الكوسج: "قال: أحمد الوصي بمنزلة الأب، يبيع إذا رأى صلاحًا. قال إسحاق: كما قال" (¬1). وإذا كان الوصي قائمًا مكان الأب، وللأب بيع الكل عقارًا كان أو منقولًا فالوصي كذلك. وجاء في الإقناع في فقه الإِمام أحمد: "وله -يعني الوصي- بيع عقارهما لمصلحة، ولو لم يحصل زيادة على ثمن مثله. وأنواع المصلحة كثيرة: إما لاحتياج إلى نفقة، أو كسوة، أو قضاء دين، أو ما لا بد منه، وليس له ما تندفع به حاجته، أو يخاف عليه الهلاك بغرق، أو خراب ونحوه، أو يكون في بيعه غبطة: وهي أن يبذل فيه زيادة كثيرة على ثمن مثله، ولا يتقيد بالثلث، أو يكون في مكان لا ينتفع به، أو نفعه قليلاً فيبيعه ويشتري له في مكان يكثر نفعه، أو يرى شيئًا يباع في شرائه غبطة، ولا يمكنه شراؤه إلا ببيع عقاره، وقد تكون داره في مكان يتضرر الغلام بالمقام فيه لسوء الجوار، أو غيره فيبيعها، ويشتري له بثمنها داراً يصلح له المقام بها، وأشباه هذا مما لا يحصر" (¬2). وقال في المبدع: "متى كان الحظ في بيعه جاز، وإلا فلا، وهذا اختيار شيخنا، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، وحاصله أنه لا يباع إلا بثمن المثل، فلو نقص منه لم يصح، ذكره في المغني، والشرح" (¬3). ¬
الراجح
الراجح: مذهب الحنابلة أقرب من قول الجمهور، فالأمر في تصرف الوصي أنه مقيد بالمصلحة، عقارًا كان أو منقولاً، والله أعلم.
الفرع الثاني بيع الوصي وشراؤه من نفسه
الفرع الثاني بيع الوصي وشراؤه من نفسه [م - 1737] اختلف الفقهاء في ضراء الوصي مال اليتيم لنفسه؛ وبيع ماله على اليتيم على قولين: القول الأول: إن باع الوصي أو اشترى مال اليتيم من نفسه، فإن كان وصي القاضي لا يجوز مطلقاً، وإن كان وصي الأب جاز بشرط منفعة ظاهرة للصغير، وهذا قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أبي يوسف (¬1). وصحح مالك في قول، والحنابلة في إحدى الروايتين بيع الموصي وشراءه لنفسه (¬2). جاء في بدائع الصنائع: "وأما الوصي إذا باع مال نقسه من الصغير، أو اشترى مال الصغير لنفسه، فإن لم يكن فيه نفع ظاهر؛ لا يجوز بالإجماع، وإن كان فيه نفع ظاهر؛ جاز عند أبي حنيفة وأبي يوسف" (¬3). وفي تبيين الحقائق: "إذا اشترى شيئًا من مال اليتيم لنفسه، أو باع شيئًا منه ¬
من نفسه جاز عند أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمهما الله، إذا كان لليتيم فيه منفعة ظاهرة، وتفسيره أن يبيع: ما يساوي خمسة عشر بعشرة من الصغير، أو يشتري ما يساوي خمسة عشر بعشرة للصغير من نفسه، وأما إذا لم يكن فيه منفعة ظاهرة لليتيم فلا يجوز ... هذا في وصي الأب، وأما وصي القاضي فلا يجوز بيعه من نفسه بكل حال؛ لأنه وكيله، وللأب أن يشتري شيئًا من مال الصغير لنفسه إذا لم يكن فيه ضرر على الصغير، بأن كان بمثل القيمة أو بغبن يسير" (¬1). وقال ابن رجب: "ومنها شراء الوصي من مال اليتيم، وحكمه حكم شراء الوكيل، وفيه روايتان منصوصتان، ولم يذكر ابن أبي موسى فيه سوى المنع" (¬2). وقال ابن قدامة: "الرواية الثانية عن أحمد: يجوز لهما -يعني الوكيل والوصي- أن يشتريا بشرطين: أحدهما: أن يزيدا على مبلغ ثمنه في النداء. والثاني: أن يتولى النداء غيره. قال القاضي: يحتمل أن يكون اشتراط تولي غيره النداء واجبًا، ويحتمل أن يكون مستحبًا، والأول أشبه بظاهر كلامه. وقال أبو الخطاب: الشرط الثاني، أن يولي من يبيع، ويكون هو أحد المشترين" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا يجوز للوصي أن يبيع أو يشتري من مال الموصى عليهم مطلقًا، وقول محمَّد بن الحسن من الحنفية، وأظهر الروايتين عن أبي يوسف، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة. وقال المالكية: لا يفعل، فإن فعل نظر الحاكم فيه، فإن وجد في ذلك مصلحة لليتيم أمضاه، وإلا رده (¬1). جاء في المدونة: "كره مالك أن يشتري الوصي من مال اليتيم لنفسه. قال مالك: فإذا فعل ذلك نظر السلطان في ذلك، فإن كان خيرا لليتيم أمضاه على الوصي" (¬2). وجاء في مسائل أحمد: قال أحمد: الوصي لا يشتري من مال الذي يلي شيئًا (¬3). دليل من قال: يجوز إن كان في ذلك نفع لليتيم: قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]. ¬
دليل من قال: لا يشتري ولا يبيع لنفسه
فإذا كان البيع والشراء أحسن لليتيم كان الوصي مأذونًا له في قربه. ولأن ما جاز للأب جاز للوصي؛ لأنه نائب عن الأب وقائم مقامه. دليل من قال: لا يشتري ولا يبيع لنفسه: أن الوصي إذا باع واشترى من نفسه كان متهمًا في محاباة نفسه؛ لأن الإنسان مطبوع على محاباة نفسه، وعقد الوصاية يقتضي أن يستقصي لليتيم، والغرضان متنافيان، وقد يشتري من مال اليتيم ما لاحظ لليتيم في بيعه، وقياسًا على الوكيل، فإن الأصح أن الوكيل لا يبيع ولا يشتري من نفسه، بل التهمة في الوصي آكد من الوكيل؛ لأن الوكيل يتهم في ترك الاستقصاء في الثمن لا غير، والوصي يتهم في ذلك، وفي أنه يشتري من مال اليتيم ما لاحظ لليتيم في بيعه، فكان أولى بالمنع. الراجح: القول بالمنع خاصة في هذه الأزمان حيث قلت الأمانة في الناس، وكثر أكل أموال الناس بالباطل، والله أعلم.
المبحث الحادي عشر في أخذ الوصي أجرة على عمله
المبحث الحادي عشر في أخذ الوصي أجرة على عمله [م - 1738] إذا أوصى الرجل، ولم يعين للوصي شيئًا، فهل له أن يأخذ على قدر عمله؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: مذهب الحنفية: ذهب الحنفية إلى أن الوصي إما أن يكون وصي الميت، أول يكون وصي القاضي، والأول لا أجر له على الصحيح، والثاني له أجر المثل، فإن جعل القاضي له أكثر من أجر المثل رد الزائد (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية: للقاضي أن يفرض للوصي أجرة على نظره إذا كان ذلك سدادًا للأيتام (¬2). وظاهره من غير فرق بين أن يكون وصيًا من الأب، أو من قبل القاضي. جاء في منح الجليل نقلاً من نوازل ابن الحاج: "للقاضي أن يفرض للوصي أجرة على نظره" (¬3). ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية
القول الثالث: مذهب الشافعية: أن الوصي إما أن يكون أجنبيًا أو يكون أبا أو جدًا أو أمًّا. فإن كان أجنبيًا فله أن يأخذ من مال الطفل قدر أجرة عمله، فإن كانت لا تكفيه أخذ قدر كفايته بشرط الضمان. وإن كان أبا أو جدًا أو أمًّا، فإن كان غنيًا لم يأخذ شيئًا، وإن كان فقيرًا، وشغله ذلك عن التكسب لنفسه كانت نفقته على الطفل بالمعروف، ولا يحتاج إلى إذن حاكم، وهل عليه ضمان ما أكله من مال اليتيم إذا أيسر، قولان في مذهب الشافعية، أصحهما لا ضمان عليه؛ لأن الله تعالى أباح الأكل، ولم يوجب الضمان؛ ولأن ذلك استحقه بحاجته وعمله في ماله، فلم يلزم رد بدله (¬1). لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]. وللماوردي تفصيل في أجرة الوصي من أحسن ما قيل في أجرة الوصي، فقد قسم الوصي إلى قسمين: إما أن يكون متبرعًا وإما أن يكون ذلك بجعل. فإن تطوع فهو تبرع محض، وإن كان عمله بجعل، فإما أن يكون ذلك بعقد، أو بغير عقد. فإن كان بعقد فهي إجارة لازمة، ليس له الرجوع عنها، وإن ضعف عنها، استأجر عليه من ماله من يقوم مقامه فيما ضعف عنه. ¬
وإن كان بغير عقد فهي جعالة، ثم هي ضربان: معينة، وغير معينة. فإن كانت معينة: كأنه قال: إن قام زيد بوصيتي له مائة درهم، فإن قام بها غير زيد، فلا شيء له. وإن كانت غير معينة: كقوله: من قام بوصيتي هذه فله مائة درهم: فأي الناس قام بها، وهو من أهلها، فله المائة. فإن قام بها جماعة: كانت المائة بينهم. وإن كان عمله بجعل لم يخل الوصي من أحد أمرين. إما أن يكون وصيًا في كل المال، أو في بعضه. فإن كان وصيًا في جميع المال لم يخل حال ما جعله له من الأجرة من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يجعل أجره من رأس المال. والثاني: أن يجعل أجره من الثلث. والثالث: أن يطلق. فإن جعله من رأس ماله، نظر: فإن لم يكن في الأجرة محاباة، كانت من رأس ماله، وإن كانت فيها محاباة: كانت أجرة المثل من رأس المال، وما زاد عليها من المحاباة تكون في الثلث. وإن جعل أجرته من الثلث، كانت في ثلثه، فإن لم يكن في الأجرة محاباة، وعجز الثلث عنها: تممت له الأجرة من رأس المال. وإن كان في أجرة هذا الوصي محاباة، كانت له أجرة المثل من الثلث فإن
القول الرابع: مذهب الحنابلة
عجز الثلث عنها تممت له من رأس المال، وكانت المحاباة وصية يضارب بها مع أهل الوصايا ويسقط منها ما عجز الثلث عنه. وإن أطلق أجرة الوصي ولم يجعلها من رأس ماله ولا من ثلثه: فهي من رأس ماله، إن لم يكن فيها محاباة، وإن كان في الأجرة محاباة كان قدر أجرة المثل من رأس المال، وكانت قدر المحاباة في الثلث. وإن كان وصيًا في بعض ماله، ولم يكن فيها محاباة نظر: فإن كان وصيًا في تأدية حقوق، فأجرته من رأس المال. وإن كان وصيًا في تفريق ثلث، فأجرته مقدمة في الثلث، وإن كان وصيًا على يتيم، فأجرته في مال اليتيم. هذا ملخص ما ذكره الماوردي في الحاوي (¬1). القول الرابع: مذهب الحنابلة: ذهب الحنابلة إلى أنه إن فرض الموصي أو الحاكم شيئًا للوصي جاز له أخذه، ولو كان غنيًا. وإن لم يُفرَض له شيء فالصحيح من المذهب أن له أن يأكل بقدر الأقل من أجرة مثله، أو قدر كفايته، ومحل ذلك في غير الأب، فأما الأب فيجوز له الأكل مع الحاجة وعدمها بجهة التملك، ولا يلزمه عوضه (¬2). ¬
جاء في الإقناع: "وللولي المحتاج غير الحاكم وأمينه أن يأكل من مال المولي عليه الأقل من أجرة مثله، أو قدر كفايته، ولو لم يقدره حاكم، ولا يلزمه عوضه إذا أيسر، وإن كان غنيًا لم يجز له ذلك إذا لم يكن أبًا، فإن فرض للولي الحاكم شيئًا جاز له أخذه مجانًا ولو مع غناه" (¬1). وقال ابن قدامة: "ويجوز أن يجعل للوصي جعلًا؛ لأنها بمنزلة الوكالة، والوكالة تجوز بجعل، فكذلك الوصية. وقد نقل إسحاق بق إبراهيم، في الرجل يوصي إلى الرجل، ويجعل له دراهم مسماة، فلا بأس" (¬2). وجاء في الإنصاف: "الصحيح من المذهب: أنه لا يأكل من مال المولى عليه إلا مع فقره وحاجته، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم ... ومحل الخلاف أيضاً: إذا لم يفرض له الحاكم، فإن فرض له الحاكم شيئًا: جاز له أخذه مجانًا مع غناه بغير خلاف" (¬3). وتكلم ابن رجب في الأكل من الأموال بغير إذن مستحقيها في قواعده، فجاء على ذكر أكل الولي، فقال: "إن كانت الولاية لمصلحة المولى عليه فالمنصوص جواز الأكل منه أيضاً بقدر عمله. ويتخرج على ذلك صور: منها ولي اليتيم يأكل مع الحاجة بقدر عمله، وهل يرده إذا أيسر؟ على روايتين: ولو فرض له الحاكم شيئًا جاز له أخذه مجانًا بغير خلاف، هذا ظاهر كلام ¬
الراجح
القاضي ونص عليه أحمد في (رواية البرزاطي) في الأم الحاضنة أنها لا تأكل من مال ولدها إلا لضرورة إلا أن يفرض لها الحاكم في المال حق الحضانة. ووجهه: أن من أعطاه غيره فله الأخذ مع الغنى بخلاف الأخذ بنفسه، ولهذا أجاز للوصي الأخذ إذا شرط له الأب مع غناه، وجاز للولي أن يدفع مال اليتيم مضاربة إلى من يعمل فيه بجزء من ربحه، ولم يجز، له إذا عمل فيه بنفسه أن يأخذ، ولهذا المعنى جاز الأخذ لعامل الزكاة مع الغنى لأن المعطي له هو الإمام .... " (¬1). الراجح: أن من يقوم على الصغير إما أن يكون أجنبيًا فله أجر عمله ما لم يكن متبرعًا؛ لأنه لا يلزم أحد أن يتبرع بعمله بدون مقابل، وإن كان وليًا من أب أو جد فإن كان غنيًا فإنه مأمور بالاستعفاف، وإن كان فقيرًا فإنه يأكل بالمعروف، والله أعلم (¬2). ¬
الفصل السابع في تعدد الأوصياء
الفصل السابع في تعدد الأوصياء المبحث الأول إذا أوصى إلى أكثر من شخص وأطلق الوصية [م - 1739] إذا أوصى إلى رجل ثم أوصى إلى آخر، فإن نص على أنه قد عزل الأول، فالثاني هو الوصي وحده، وإن لم ينص على ذلك، وكان الإيصاء مطلقًا من غير تخصيص أو تقييد، بالانفرد أو بالاجتماع، فهما؟ وصيان؛ لأن الوصية الثانية ليست عزلًا للأول، وهل ينفرد أحدهما بالتصرف، في ذلك خلاف بين العلماء: القول الأول: لا ينفرد أحدهما بالتصرف، وهذا مذهب أبي حنفية، ومحمد بن الحسن، ومذهب المالكية، والحنابلة (¬1). ¬
قال ابن عابدين نقلاً عن التتارخانية: "أوصى إلى رجل، ومكث زمانًا، فأوصى إلى آخر، فهما وصيان في كل وصاياه، سواء تذكر إيصاءه إلى الأول، أو نسي؛ لأن الوصي عندنا لا ينعزل ما لم يعزله الموصي، حتى لو كان بين وصيتيه مدة سنة أو أكثر لا ينعزل الأول عن الوصاية" (¬1). وجاء في منح الجليل: "لو أوصى إلى أحدهما أولاً، ثم أوصى إلى الآخر ثانيًا، كقولها، فإن أوصى بشيء معين لزيد، ثم أوصى به لعمرو أنه بينهما" (¬2). وقال الدردير: "وإن أوصى لاثنين بلفظ واحد كجعلتكما وصيين، أو بلفظين في زمن واحد، أو زمنين من غير تقيد باجتماع أو افتراق حمل على قصد التعاون فلا يستقل أحدهما ببيع، أو شراء، أو نكاح، أو غير ذلك بدون صاحبه إلا بتوكيل منه" (¬3). وقال النووي: "قال: أوصيت إلى زيد، ثم قال: أوصيت إلى عمرو، لم يكن عزلًا لزيد، ثم إن قبلا، فهما شريكان، وليس لأحدهما الانفراد بالتصرف على الصحيح، وبه قطع المتولي" (¬4). وجاء في مسائل أحمد وإسحاق: "قال سفيان: إذا أوصى اليوم إلى رجل، وغدًا إلى رجل، ثم أوصى إلى رجل، هم أوصياء كلهم. قال أحمد: هم أوصياء حتى يقول قد أخرجت فلانًا. ¬
وجه هذا القول
قال إسحاق: هو كما قال، إلا أن يكون هناك دلالة بإخراج الأول والثاني" (¬1). وجه هذا القول: أنه إذا أوصى إلى شخص، ثم أوصى إلى شخص آخر فقد وجدت الوصية إليهما من غير عزل واحد منهما، فكانا وصيين، كما لو أوصى إليهما دفعة واحدة، ولأن الوصي لا ينعزل إلا بالنص على عزله، ولم يوجد. واستثنى الحنفية والشافعية بعض التصرفات فأجازوا لكل واحد الانفراد بها للضرورة. وقد مثل الحنفية بذلك: بشراء كفن للميت، وتجهيزه، ففي اشتراط اجتماعهما فساد الميت، ومثله طعام الصغار وكسوتهم؛ لأن في تأخير فلئه ضررًا على الصغار، وكذلك في رد الوديعة بعينها، وقضاء دين، وتنفيذ وصية بعينها، وعتق عبد بعينه، لعدم الاحتياج إلى الرأي، وكذلك الخصومة في حقوق الميت؛ لأنهما لا يجتمعان عليه عادة، ولو اجتمعا لا يتكلم إلا أحدهما غالباً، ومثل ذلك بيع ما يخاف تلفه، وجمع أموال ضائعة؛ لأن هذا ضرورة (¬2). ومثل الشافعية بما قاله النووي، جاء في الروضة: "إذا أوصى إلى اثنين، فإن كانت في رد الودائع أو الغصوب والعواري وتنفيذ الوصية المعينة وقضاء الدين الذي في التركة من جنسه، فلكل منهما الانفراد به؛ لأن صاحب الحق مستقل في هذه الصور بالأخذ" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: إن أوصى إلى كل واحد منهما بالانفراد كان له أن يتصرف دون الآخر، وإن أوصى إليهما معاً لم ينفرد أحدهما بالتصرف، وهذا اختيار بعض الحنفية (¬1). وجه هذا القول: أن الموصي لما لم يوص إليهما معًا كان لكل واحد منهما أن يتصرف مستقلًا عن الآخر، فالموصي قد فوض لكل واحد منهما التصرف على وجه الاستقلال عن الآخر، ولم يشترط الموصي اتفاقهما على التصرف، والأصل عدم الاشتراط. القول الثالث: وقال أبو يوسف: ينفرد كل واحد منهما بالتصرف مطلقًا في جميع الأشياء؛ لأن الولاية وصف شرعي لا تتجزأ، وبه قال البغوي من الشافعية (¬2). الراجح: أن الموصي إذا أوصى إلى أكثر من شخص، وكانت الوصية مطلقة، بحيث لم يخص أحدهما بتصرف خاص كما لو أوصى له بقضاء دين، أو رد وديعة، بل أطلق لكل وحد الوصية، كان التصرف لهما على سبيل الاجتماع والاتفاق، ولم ينفرد أحدهما بالتصرف؛ لأن الموصي أراد من الإيصاء إلى أكثر من شخص ألا ينفرد أحدهما دون الآخر، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني إذا أوصى إلى اثنين وقيد الوصية
المبحث الثاني إذا أوصى إلى اثنين وقيد الوصية نفوذ التصرف منوط بالإذن. [م - 1740] إذا أوصى إلى شخص، ثم أوصى إلى آخر، وقيد الوصية بأن خص أحدهما بالوصية في شيء معين، كالوصية رعاية أولاده، وخص الآخر بالوصية في قضاء دينه، فهل يصير وصيًا في ذلك الشيء المعين، أو يتعداه إلى غير ما أوصى به؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: إذا أوصى إلى رجلين، أحدهما في الدين، والآخر في العين، يكون كل منهما وصيًا في العين والدين (¬1). وكذا إذا أوصى إلى رجل بشيء معين، كما لو أوصى إلى شخص بالنظر في ماله صار وصيًا في ماله وولده، وسائر أسبابه؛ لأن الوصاية لا تقبل التخصيص بنوع، أو مكان، أو زمان، بل تعم. وإن أوصى إليه القاضي صار وصيًا في ذلك الشيء خاصة، فهي تقبل التخصيص، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف (¬2). ¬
القول الثاني
ونقل ابن العربي المالكي في بعض كتبه الخلافية كقول أبي حنيفة (¬1). القول الثاني: إذا أوصى إليه بشيء بعينه لم يكن وصيًا في غيره، فلو أوصى لشخص بالنظر في المال، وأوصى لآخر بقضاء الدين واقتضائه، أو رد الودائع واستردادها، كان لكل واحد منهما ما جعل إليه دون غيره. وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة، إلا أن المالكية قالوا: لو أوصى له على بيع تركته، وقبض ديونه، فزوج بناته ممن لا تجبر على الزواج بإذنهن، فإن ذلك لا يجوز ابتداء، وإن وقع صح، وإن زوج من تجبر فإنه يفسخ أبداً (¬2). وقد تكلمت على أدلة هذه المسألة، وبيان الراجح في مسألة الوصية المطلقة والمقيدة فأغنى ذلك عن إعادتها. ¬
الفصل الثامن في اختلاف الوصي والموصى عليه
الفصل الثامن في اختلاف الوصي والموصى عليه المبحث الأول في الاختلاف في مقدار النفقة [م - 1741] إذا اختلف الوصي والموصى عليه في أصل النفقة، كأن يقول الوصي: أنفقت عليك، ويقول الموصى عليه: لم تنفق علي. أو اختلفا في قدرها، كأن يقول الوصي: أنفقت عليك في كل سنة مائة دينار، فيقول الموصى عليه: بل خمسين، فالقول قول الوصي في الجملة عند عامة الفقهاء؛ لأنه أمين، ولأن الإشهاد على النفقة فيه مشقة، إلا أن الفقهاء يختلفون في وضع بعض الشروط لقبول قول الوصي. وإليك بيان هذه الشروط في كل مذهب: القول الأول: مذهب الحنفية: ذهب الحنفية إلى أن كل شيء كان الوصي مسلطًا عليه فإنه يقبل قوله، ولا يطالب ببينة، ومن ذلك ما يدعيه من الإنفاق إذا كان ذلك في نفقة مثله، وهي عندهم ما يكون بين الإسراف والتقتير، فإن ادعى أكثر من نفقة المثل لم يقبل إلا أن يفسر دعواه بتفسير محتمل، كأن يدعي أنه اشترى لهم نفقة، فسرقت، ثم اشترى أخرى فهلكت، فإذا فسر ذلك قبل بيمينه؛ لأنه أمين، ولو كلف البينة على النفقة لشق عليه، إلا في مسائل سنذكرها إن شاء الله تعالى.
وهل يقبل قوله مع يمينه، أو لا يطالب باليمين، قولان في مذهب الحنفية (¬1). جاء في الفتاوى الهندية: "قال محمَّد رحمه الله تعالى: إذا قال الوصي لليتيم: أنفقت مالك عليك في كذا وكذا سنة، فإنه يصدق في نفقة مثله في تلك المدة، ولا يصدق في الفضل على نفقة مثله، ثم نفقة المثل: ما يكون بين الإسراف والتقتير، كذا في المحيط" (¬2). وقال ابن عابدين: "إذا ادعى الزائد على نفقة المثل إنما لا يصدق إذا لم يفسر دعواه بتفسير محتمل كقوله: اشتريت طعامًا فسرق، ثم اشتريت ثانيًا وثالثًا، فيصدق بيمينه لأنه أمين" (¬3). ¬
قال أيضًا نقلاً من الأصل: "إذا ادعى نفقة المثل، أو أزيد بيسير وإلا فلا يصدق ويضمن، ما لم يفسر دعواه بتفسير محتمل، كقوله: اشتريت لهم طعامًا فسرق، ثم اشتريت ثانيًا، وثالثا، فهلك، فيصدق بيمينه؛ لأنه أمين" (¬1). وقال ابن عابدين: "إن كان تصرفًا هو مسلط على ذلك من جهة الشرع، فإنه يصدق فيه، ويقبل قوله بيمينه، وإن كان تصرفًا لم يكن هو مسلطا عليه من جهة الشرع، فإنه لا يصدق فيه، ولا يقبل قوله بدون البينة، فإن قال أنفقت عليك مالك في صغرك، والنفقة نفقة مثله في المدة، وأنكر الصغير، صدق الوصي بيمينه؛ لأنه مسلط على الإنفاق بنفقة المثل شرعًا، أما لو لم تكن النفقة نفقة المثل، وكان زائدًا عليه بكثير، لا يصدق في الفضل؛ لأنه ليس بمسلط عليه شرعًا؛ لأنه إسراف فلا يصدق بيمينه" (¬2). وجاء في مجمع الضمانات: "والحاصل: أن الوصي يقبل قوله فيما يدعيه إلا في مسائل: الأولى: ادعى قضاء دين الميت. الثانية: ادعى أن اليتيم استهلك مالاً لآخر فدفع ضمانه. الثالثة: ادعى أنه أدى جعل عبده الآبق من غير إجارة. الرابعة: ادعى أنه أدى خراج أرضه في وقت لا تصلح للزراعة. الخامسة: ادعى الإنفاق على محرم اليتيم. ¬
القول الثاني: مذهب المالكية
السادسة: ادعى أنه أذن لليتيم في التجارة، وأنه ركبه ديون فقضاها عنه. السابعة: ادعى الإنفاق عليه من مال نفسه حال غيبة ماله، وأراد الرجوع. الثامنة: ادعى الإنفاق على رقيقه الذين ماتوا. التاسعة: اتجر، وربح، ثم ادعى أنه كان مضاربًا. العاشرة: ادعى فداء عبده الجاني. الحادية عشر: ادعى قضاء دين الميت من ماله بعد بيع التركة قبل قبض ثمنها الثانية عشر: ادعى أنه زوج اليتيم امرأة، ودفع مهرها من ماله، وهي ميتة. وذكر ضابطًا -يعني العتابي في الوصايا. وهو: أن كل شيء كان مسلطًا عليه فإنه يصدق فيه وما لا فلا من الأشباه والنظائر" (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية: ذهب المالكية إلا أن القول قول الوصي بيمينه؛ لأنه أمين بثلاثة شروط: أحدها: أن يكون الأيتام في حجره (حضانته) فإن كان يليهم غيره مثل أمهم، أو أخيهم أو غير هؤلاء، لم يقبل قوله. الثاني: أن يأتي بما يشبه، فإن أتى بأمر مستنكر أو بسرف من النفقة لم يقبل قوله. الثالث: أن يحلف على ما يدعيه (¬2). ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية
قال الدسوقي في حاشيته: "القول قول الوصي بالشروط الثلاثة المذكورة، وهي كون المحجور في حضانته، وأن يشبه فيما يدعيه، ويحلف" (¬1). جاء في المدونة: "إن قال: قد أنفقت عليهم، وهم صغار، فإن كانوا في حجره يليهم، كان القول قوله ما لم يأت بأمر يستنكر، أو بسرف من النفقة، وإن كان يليهم غيره، مثل أمهم، أو أخيهم، أو غير هؤلاء، ثم قال: قد دفعت النفقة إلى من يليهم، أو أنفقت عليهم فأنكروا، لم يقبل قوله إلا ببينة يأتي بها وإلا غرم" (¬2). وقال القرافي: "ويصدق في الإنفاق على من كان في حجره فيما يشبه؛ لأنه أمين عليه، فإن ولي النفقة غيره لم يصدق في دفع النفقة إلى من يليهم إلا ببينة؛ لأنه ليس أمينًا على الحاضن. قال ابن يونس: قال مالك: إذا طال الزمان بعد الرشد نحو عشرين سنة، وهم مقيمون معة، لا يطالبونه، ولا يسألونه عن شيء صدق مع يمينه؛ لأن العادة تصدقه، قال محمَّد فإن كانوا عند غيره، أو هم أغنياء، ورئي ينفق عليهم صدق في الزيادة اليسيرة دون السرف مع يمينه، فإن ادعى سرفًا حسب منه السداد، كما لو شهدت بالسرف بينة" (¬3). القول الثالث: مذهب الشافعية: ذهب الشافعية إلى أن الوصي يصدق بيمينه في أصل النفقة، وفي مقدارها إذا ¬
كان ما يدعيه الوصي هي النفقة بالمعروف، فإن ادعى زيادة في النفقة اللائقة فعليه الضمان؛ لأنه فرط في الزيادة (¬1). واختلف الشافعية في إحلاف الأب والجد على وجهين: أحدهما: يحلف كالأجني؛ لأنهما يستويان في حقوق الأموال. الثاني: لا يحلف؛ لأنه يفارق الأجنبي في نفي التهمة، وكثرة الإشفاق عليه. ومذهب الحنابلة كمذهب الشافعية، في أن القول قول الولي بيمينه إلا أن يكون الولي هو الحاكم فلا يحلف على الصحيح من المذهب، ما لم يدع ما يخالف العادة أو العرف فلا يقبل (¬2). جاء في المهذب: "إذا بلغ الصبي، واختلف هو والوصي في النفقة، فقال الوصي: أنفقت عليك. وقال الصبي: لم تنفق علي، فالقول قول الوصي؛ لأنه أمين، وتعذر عليه إقامة البينة على النفقة. فإن اختلفا في قدر النفقة، قال: أنفقت عليك في كل سنة مائة دينار، وقال الصبي: بل أنفقت علي خمسين دينارًا، فإن كان ما يدعيه الوصي النفقة بالمعروف فالقول قوله؛ لأنه أمين، وإن كان أكثر من النفقة بالمعروف، فعليه الضمان؛ لأنه فرط في الزيادة" (¬3). ¬
وقال الماوردي: "إن اختلف هو والولي بعد بلوغه في قدر النفقة، فذلك ضربان: أحدهما: أن يختلفا في قدر النفقة مع اتفاقهما على المدة، كأنه قال: أنفقت عليك عشر سنين في كل سنة مائة دينار، فقال: أنفقت علي عشر سنين في كل سنة خمسون دينارًا. فالقول فيه، قول الولي، إذا لم يكن ما ادعاه سرفًا، فإن كان الولي وصيًا، أو أمين حاكم: فله إحلافه على ما ادعاه. وإن كان أبًا، أو جدًا، ففي إحلافه له وجهان: أحدهما: يحلف، كالأجنبي؛ لأنهما يستون في حقوق الأموال. والوجه الثاني: لا يحلف؛ لأنه يفارق الأجنبي في نفي التهمة عنه، وكثرة الإشفاق عليه" (¬1). وقال في الإنصاف: "يقبل قول الأب، والوصي، والحاكم، وأمينه، وحاضن الطفل، وقيمه، حال الحجر وبعده، في النفقة، وقدرها، وجوازها، ووجود الضرورة، والغبطة، والمصلحة في البيع، والتلف" (¬2). ¬
المبحث الثاني الاختلاف في مدة النفقة
المبحث الثاني الاختلاف في مدة النفقة [م - 1742] إذا اختلف الوصي مع الموصى عليه في مدة النفقة، كأن يقول الوصي: أنفقت عليك سنتين، فيقول الموصى عليه: بل سنة. أو اختلفا في تاريخ موت الموصي، كأن يقول الوصي: مات قبل سنتين، فيقول الموصى عليه: بل قبل سنة، فإن يقبل قوله؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: أن القول قول الموصى عليه، وهذا قول محمد بن الحسن من الحنفية، ومذهب المالكية، وأصح الوجهين عند الشافعية، ومذهب الحنابلة (¬1). جاء في الفتاوى الهندية: "وإذا اختلفا في المدة، فقال الوصي: مات أبوك منذ عشر سنين، قال اليتيم: مات أبي منذ خمس سنين، فكر في الكتاب أن القول قول الابن. واختلف المشايخ رحمهم الله تعالى فيه، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله تعالى: المذكور في الكتاب قول محمَّد رحمه الله تعالى، ¬
أما على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى القول قول الوصي، كذا في فتاوى قاضي خان" (¬1). قال ابن شاس المالكي: "وإن نازعه في تاريخ موت الأب؛ إذ به تكثر النفقة ... فالقول قول الصبي؛ إذ الأصل عدم ما ادعاه الوصي، وإقامة البينة عليه ممكن مأمور به، فلم يقبل قوله فيه" (¬2). وقال الدسوقي في حاشيته: "إنما لم يقبل قول الوصي في تاريخ الموت، وإن كان يرجع لقلة النفقة وكثرتها؛ لأن الأمانة التي أوجبت صدقه لم تتناول الزمان المتنازع فيه" (¬3). قال الشيرازي: "وإن اختلفا في المدة، فقال الوصي: أنفقت عشر سنين، وقال الصبي: خمس سنين، ففيه وجهان: الثاني: وهو قول أكثر أصحابنا، أن القول قول الصبي؛ لأنه اختلاف في مدة الأصل عدمها" (¬4). وقال ابن قدامة: "وإن قال: أنفقت عليك منذ سنتين، فقال الصبي: ما مات أبي إلا من سنة، فالقول قول الصبي؛ لأنه لم يثبت كون الوصي أمينًا في السنة المختلف فيها، والأصل عدم ذلك" (¬5). ¬
وجه الفرق بين الاختلاف في النفقة والاختلاف في المدة
وجه الفرق بين الاختلاف في النفقة والاختلاف في المدة: إذا اختلفا في النفقة فالقول قول الوصي، وإن اختلفا في مدة الإنفاق فالقول قول الموصى عليه، والفرق بينهما: أنهما في القدر مختلفان في المال، فقبل منه قول الوصي؛ لأنه مؤتمن عليه. وفي المدة مختلفان في الموت الذي يعقبه نظر الوصي، فلم يقبل قولي الوصي؛ لأنه غير مؤتمن عليه، ولم يسلط عليه، مع أننا على يقين من حدوث الموت في شك من تقدمه، فلذلك افترق الحكم فيهما (¬1). القول الثاني: اختار أبو يوسف من الحنفية وأبو سعيد الإصطرخي من الشافعية أن الوصي إذا اختلف مع الموصى عليه في مدة الإنفاق فإن القول قول الوصي؛ لأن الخلاف فيها يرجع إلى الاختلاف في قدر النفقة، وهو مؤتمن على ذلك (¬2). الراجح: أرى أن قول أبي يوسف والإصطرخي فيه قوة، وأن الأمانة لا تتجزأ، فإذا كان يقبل قوله في مقدار النفقة فكذلك يقبل قوله في مدتها. ولأن الاختلاف في المدة يتضمن الاختلاف في المال فكان مما ائتمن عليه، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في الاختلاف في دفع المال
المبحث الثالث في الاختلاف في دفع المال [م - 1734] إذا اختلف الوصي والموصى عليه في دفع المال، فادعى الوصي أنه دفع إليه ماله، وادعى الموصى عليه خلاف ذلك، فإن القول قوله؟ اختلف العلماء في ذلك: القول الأول: أن القول قول الصبي (الموصى عليه)، وهذا مذهب المالكية والشافعية، إلا أن الشافعية قالوا: يقبل قوله مع يمينه (¬1). جاء في التاج والإكليل: "قال مالك: لا يقبل قول الوصي في دفع المال لليتيم بغير إشهاد، ويقبل قوله في النفقة. قال عبد الوهاب: وفي الجميع هو مدع لإخراج المال عن ذمته" (¬2). وجاء في البيان في مذهب الإمام الشافعي: "وإن ادعى الوصي أنه دفع إليه ماله بعد البلوغ وأنكر الموصى عليه، ففيه وجهان: أحدهما، وهو المنصوص: أن القول قول الموصى عليه؛ لأنه لم يأتمنه على ¬
دليل هذا القول
المال، فلم يقبل قوله عليه، كالمودع إذا ادعى دفع الوديعة إلى وارث المودع، والملتقط إذا ادعى دفع اللقطة إلى مالكها" (¬1). دليل هذا القول: الدليل الأول: قال تعالى {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6]. وقال في غير الأوصياء: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]. وجه الاستشهاد: فأمر - سبحانه وتعالى - الأوصياء بالإشهاد إذا دفع المال إلى اليتيم؛ لئلا يغرموا، فلو كان القول قوله لما احتاج إلى الإشهاد، ولم يأمر بالإشهاد عند دفع الأمانات إلى من ائتمنه؛ لأن القول قوله. ونوقش هذا: بأن الأمر بالإشهاد لئلا يطلب منه اليمين، فإذا أشهد كان معه بينة في دفع المال إليه، فسقط عنه اليمين، وليس في الأمر بالإشهاد دليل على أنه غير أمين، ولا أنه غير مصدق فيه، لاتفاق الجميع على أنه مأمور بحفظه وإمساكه على وجه الأمانة حتى يوصله إلى اليتيم في وقت استحقاقه، فهو بمنزلة الودائع والمضاربات وما جرى مجراها من الأمانات، فوجب أن يكون مصدقًا على الرد كما يصدق على رد الوديعة، والدليل على أنه أمانة، أن اليتيم لو صدقه على ¬
الدليل الثاني
الهلاك لم يضمنه كما أن المودع إذا صدق المودع في هلاك الوديعة لم يضمنه (¬1). الدليل الثاني: أن الوصي وإن كان أمينًا فإنه أمين للموصي، وليس أمينا من جهة الموصى عليه، والدفع يتعلق بالموصى عليه، وليس لمن ائتمنه، يدل على ذلك أن الوصي لو مات وانتقل المال إلى الوارث لم يقبل قول الوارث بدفع المال؛ لأنه لم يأتمنه أحد، لا الموصي، ولا الموصى عليه. القول الثاني: أن القول قول الوصي، وهذا قول الحنفية، وزفر والحسن بن زياد، وقول في مذهب المالكية مقابل المشهور (¬2). جاء في أحكام القرآن للجصاص: "قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، والحسن بن زياد، في الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه إنه يصدق" (¬3). وجاء في تنقيح الفتاوى الحامدية: "إذا دفع الوصي مال اليتيم له بعد بلوغه رشده، ومضت مدة، والآن ينكر الدفع، والوصي يدعيه، فهل يقبل قوله في الدفع مع يمينه؟ ¬
القول الثالث
الجواب: نعم، والمسألة في الخيرية من الوصايا، وصرح بها في السراج الوهاج وغيره، والله تعالى أعلم" (¬1). القول الثالث: يقبل قول الوصي في دفع المال إن كان متبرعًا، وإلا فلا، وهذا مذهب الحنابلة (¬2). جاء في الإقناع: "ويقبل قوله في دفع المال إليه بعد رشده وعقله إن كان متبرعًا إلا فلا" (¬3). وجه قول الحنابلة: أن الوصي إن كان متبرعًا فقد قبض المال لحظ اليتيم، فأشبه المودع، فالقول قوله، وإن قبض المال بأجرة فقد قبض المال لحظه هو، فلم يقبل قوله في الرد كالمرتهن والمستعير. الراجح:. أرى أن تفصيل مذهب الحنابلة قول فيه قوة، وأن من قبض المال لحظه لم يقبل قوله في دفع المال إلا ببينة، كالمقبوض على وجه السوم، ومن قبض المال لحظ غيره قبل قوله بلا بينة مع يمينه كالمودع، والله أعلم. ¬
الفصل التاسع في انتهاء الوصاية
الفصل التاسع في انتهاء الوصاية المبحث الأول الوصاية بالموت والفسق [م - 1744] إذا مات الوصي انتهت ولايته بموته؛ لأن ابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا ما استثني، وهذا مما لا نزاع فيه، ومثله ما لو جرى منه ما يوجب عزله، من فسق، أو خيانة، أو عجز، وإنما اختلف الفقهاء في مسألتين: المسألهْ الأولى: هل يملك الوصي قبل أن يموت أن يوصي لأحد بدلا عنه مطلقا، أو لا يوصي إلا إذا فوض له من وصاه بذلك. وقد سبق تحرير هذه المسألة فيما سبق، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا. المسألهْ الثانية: [م - 1745] إذا كانا وصيين، فماتا، أو فسقا (¬1)، فهل يقيم الحاكم اثنين، أو يكفى أن يقيم واحدًا بدلهما؟ ¬
توجه لبحث هذه المسألة فيما وقفت عليه كل من الشافعية والحنابلة، ولهم فيها وجهان: قال النووي: "ولو ماتا جميعًا، فهل للحاكم نصب واحد، أم لا بد من اثنين، فيه الوجهان" (¬1). أحدهما: يجوز أن يقيم القاضي واحدًا. قال في الإنصاف: "لو ماتا أو جد منهما ما يوجب عزلهما ففي الاكتفاء بواحد وجهان: قال في الفائق: ولو ماتا جاز إقامة واحد في أصح الروايتين. قال في الرعاية الكبرى: وإن وجد منهما ما يوجب عزلهما جاز أن يقيم الحاكم بدلهما واحدًا في الأصح" (¬2). وجهه: أن الوصي الذي عينه الميت بالنص عليه قد مات، وبدله لم يعينه الموصي، والنظر قد انتقل إلى القاضي بعد موت وصي الميت، فله أن يوصي إلى واحد أو أكثر بحسب نظره واجتهاده. الثاني: يلزم الحاكم أن ينصب اثنين؛ لأن الموصي لم يرض إلا بنظر اثنين، وهذا هو المذهب عند الشافعية، والمشهور عند متأخري الحنابلة (¬3). ¬
القول الأول
جاء في مغني المحتاج: "ولو ماتا مثلاً جميعًا لزم الحاكم نصب اثنين مكانهما" (¬1). وجاء في كشاف القناع: "وإن أراد الحاكم أن يكتفي بالباقي منهما لم يجز له الاكتفاء به؛ لأن الموصي لم يكتف بأحدهما، فلا يقتصر عليه؛ إذ الوصية تقطع نظر الحاكم واجتهاده" (¬2). وقد يقال: لم يكتف الموصي بأحدهما بالنسبة لمن عينهما، أما وقد مات فانتهت وصاية الميت، وانتقل الحق إلى القاضي، وهي وصاية مبتدأة، فله أن يكتفي بواحد أو بأكثر بحسب اجتهاده، والله أعلم. [م - 1746] هذا القول فيما إذا ماتا جميعًا أو جرى منهما ما يوجب عزلهما من فسق، أو خيانة، وأما إذا مات أو فسق أحدهما، فهل يستقل الحي الباقي بالتصرف، أو لا بد من أن يقيم الحاكم معه أمينًا بدلًا من المتوفى؟ القول الأول: يقيم الحاكم وصيًا بدلًا من الميت، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة (¬3). ¬
وجه هذا القول
قال الغزالي: "إذا مات أحدهما، فإن كان قد أثبت لكل واحد منهما استقلالا فيكتفى بالثاني. وإن لم يثبت إلا الشركة فللقاضي أن ينصب قيمًا معه بدلًا عن الميت فإنه ما رضي الأب إلا برأي شخصين" (¬1). وجه هذا القول: أن الوصي لم يرض قيام أحدهما دون الآخر، لهذا انتقل حق الوصي الميت إلى القاضي ليقوم بذلك بنفسه، أو يعين وصيًا من قبله. قال الشافعي في الأم: "وإذا أوصى إلى رجلين فمات أحدهما، أو تغيرت حاله أبدل مكان الميت، أو المتغير رجل آخر؛ لأن الميت لم يرض قيام أحدهما دون الآخر" (¬2). القول الثاني: إذا مات أحد الوصيين نظر الحاكم في أمر الحي، إن شاء ترك له التصرف وحده إن توفرت فيه العدالة والكفاءة، وإلا أشرك معه غيره بحسب المصلحة. إلا أن يوصي أحدهما للآخر، وهذا مذهب المالكية (¬3). جاء في منح الجليل: "فإن مات أحدهما أي الوصيين المتعاونين دون إيصاء، فالحاكم ينظر في إقرار الآخر وحده، أو إقامة آخر معه" (¬4). ¬
القول الثالث
القول الثالث: إن مات أحد الوصيين استقل الآخر بالتصرف وهذا اختيار ابن شاس وابن عرفة وابن الحاجب من المالكية (¬1). قال ابن شاس: "إذا أوصى إلى رجلين فمطلقه منزل على التعاون حتى لا يستقل أحدهما بشيء إلا إذا صرح الموصي بإثبات الاستقلال، وإذا لم يثبت الاستقلال، فمات أحدهما انفرد الآخر، إلا أن يخشى عجزه، وعدم استقلاله، فيقام معه عوض المتوفى، وكذلك إن لم يكن ظاهر العدالة فاحتيج إلى الاستظهار عليه" (¬2). ¬
المبحث الثاني انتهاء الوصاية بالجنون
المبحث الثاني انتهاء الوصاية بالجنون [م - 1747] صرح الحنفية والشافعية والحنابلة بأن الوصي إذا جن فإنه ينعزل، لفقده الأهلية. قال ابن عابدين: لو جن أحدهما -يعني أحد الوصيين- أو وجد ما يوجب عزله أقام الحاكم مقامه أمينًا" (¬1). قال العمراني: "وإن فسق الوصي، أو جن انعزل عن الوصية؛ لأن الفسق والجنون ينافيان الولاية، بدليل: أن الأب، والجد، والحاكم إذا فسق واحد منهم أو جن .. بطلت ولايته" (¬2). وقال ابن قدامة: "فإن مات أحدهما -أي أحد الوصيين- أو جن، أو وجد ما يوجب عزله أقام الحاكم مقامه أمينًا" (¬3). وقال القرافي من المالكية: "لو جن الوصي لا ينعزل بخلاف الوكيل" (¬4). ولعله يقصد إذا أفاق فهو باق على ولايته، وهي مسألة خلافية، والعلماء فيها على قولين: ¬
القول الأول
القول الأول: أنه تعود إليه الوصاية، وهذا مذهب الحنفية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬1). جاء في البحر الرائق: "ولو أوصى إلى عاقل فجن جنونًا مطبقًا، قال أبو حنيفة: ينبغي للقاضي أن يجعل مكانه وصيًا للميت، فإن لم يفعل القاضي حتى أفاق الوصي كان وصيًّا على حاله" (¬2). وقال ابن عابدين نقلاً عن الخانية: "لو جن الوصي مطبقا ينبغي للقاضي أن يبدله، ولو لم يفعل حتى أفاق فهو على وصايته" (¬3). القول الثاني: لا تعود ولايته بعد إفاقته، وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬4). قال النووي: "إذا جن الوصي، أو أغمي عليه، أقام الحاكم غيره مقامه، فإن أفاق، فهل يبقى على ولايته كالأب والجد والإمام الأعظم إذا أفاقوا؟ أم تبطل؛ لأنه يلي بالتفويض، كالتوكيل، بخلاف الأب، وبخلاف الإمام للمصلحة الكلية؟ فيه وجهان: أصحهما: الثاني، ويجريان في القاضي إذا أفاق. ¬
وسبب الخلاف
وإذا أفاق الإمام الأعظم بعدما ولي غيره، فالولاية للثاني، إلا أن تثور فتنة، فهي للأول، ذكره البغوي" (¬1). جاء في أسنى المطالب: "لو جن أو أغمي على ولي غير الأصل والإمام الأعظم انعزل، ولم تعد ولايته بالإفاقة من ذلك؛ لأنه يلي بالتفويض كالوكيل بخلاف الأصل تعود ولايته، وإن انعزل؛ لأنه يلي بلا تفويض" (¬2). وسبب الخلاف: أن الوصي يتصوف بالتفويض، فهل يكون تصرفه بالنيابة، أو أنه يتصرف بالولاية، فإن كان تصرفه بالنيابة لم تعد إليه الوصاية، وإن قيل: إن تصرفه بالولاية عادت إليه مع الإفاقة. جاء في المنثور في القواعد: "الوصي من حيث إنه يتصرف بالتفويض يكون تصرفه بالنيابة، ومن حيث إنه يتصرف في حق من لا يلي التصرف من نفسه يكون بالولاية .. ذكر هذا التقسيم القاضي الحسين ... وأشار في موضع آخر إلى خلاف في أن تصرف الوصي، هل هو بالنيابة أو بالولاية؟ وبني عليه: أن الوصي إذا جن ينعزل، فإذا أفاق، هل تعود ولايته: على وجهين: إن غلبنا النيابة لا تعود، أو الولاية عادت" (¬3). ¬
المبحث الثالث انتهاء الوصاية بعزل الوصي نفسه
المبحث الثالث انتهاء الوصاية بعزل الوصي نفسه [م - 1748] إذا عزل الوصي نفسه فإما أن يعزل نفسه في حياة الموصي، أو بعد موته: فإن عزل نفسه في حياة الموصي ففيه خلاف على قولين: القول الأول: للوصي عزل نفسه متى شاء في حياة الموصي، وهذا قول عامة الفقهاء، ومنهم الأئمة الأربعة (¬1). إلا أن الحنفية اشترطوا لصحة هذا الرجوع أن يكون ذلك بعلم الموصي ليتمكن من الإيصاء إلى غيره إذا شاء، فإن رجع عن الوصية بغير علم الموصي لم يصح رجوعه؛ لئلا يصير مغرروًا من جهته. وقال الشافعية: للموصي عزل الوصي، وللوصي عزل نفسه إلا أن يتعين ¬
القول الثاني
عليه، أو يغلب على ظنه تلف المال باستيلاء ظالم من قاض وغيره فليس له الرجوع. والأصل في هذه المسألة ما ذكره بعض الفقهاء من أن العقود الجائزة إذا اقتضى فسخها ضررًا على الآخر امتنع، وصارت لازمة. القول الثاني: اختار أشهب من المالكية أن الوصي إذا قبل فليس له عزل نفسه، وكأنه وهب منافعه ونظره للأطفال للبلوغ والرشد، والواهب لا يرجع في هبته (¬1). وقول الجمهور أصح. [م - 1749] واختلف الفقهاء في عزل الوصي نفسه بعد موت الموصي على قولين: القول الأول: ليس له أن يعزل نفسه بعد موت الموصي، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، ورواية عن أحمد. قال المالكية: إلا أن يطرأ عليه عجز فيصير النظر للحاكم (¬2). فإن قيل ما الفرق بين الموصى له والموصى إليه في أن رد الموصى له بعد قبوله وبعد موت الموصي يعتبر، دون رد الموصى إليه؟ قلنا: إن نفع الوصية للموصى له نفسه، بخلاف الموصى إليه، فإن نفع ¬
القول الثاني
الوصية راجع إلى الموصي، فكان في رده بعد موته إضرار عليه، وهو لا يجوز (¬1). القول الثاني: له عزل نفسه بعد موت الموصي قياسًا على الوكالة، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، زاد الشافعية إلا أن يتعين عليه، أو يغلب على ظنه تلف المال باستيلاء ظالم من قاض وغيره فليس له الرجوع (¬2). وقد سبق لنا بحث هذه المسألة، وذكرنا هناك النصوص عن كل مذهب، ووجه كل قول في هذه المسألة وأن الوصاية فيها شبه بالوكالة، وأن الوصي له عزل نفسه متى شاء في حياة الموصي وبعد وفاته بشرط ألا يتضمن ذلك ضررًا على الموصي، فإن تضمن الفسخ بعد وفاة الموصي ضررًا على ماله أو على أولاده كما لو كان الفسخ في مكان ليس فيه قاض يتولى الوصاية امتنع الفسخ، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع انتهاء عقد الوصاية بانتهاء المهمة
المبحث الرابع انتهاء عقد الوصاية بانتهاء المهمة الفرع الأول انتهاء الولاية ببلوغ الصغير وشيدًا [م - 1755] اتفق الفقهاء على أن الصغير إذا بلغ عاقلاً رشيدًا فقد انتهت ولاية الوصي، ودفع إليه ماله. لقوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 5، 6]. فأمر الله - سبحانه وتعالى - بحبس أموال اليتامى، وجوز دفع المال إليهم بحصول أمرين، هما: البلوغ والرشد. قال الشافعي "دلت الآية: على أن الحجر ثابت على اليتامى، حتى يجمعوا خصلتين: البلوغ والرشد" (¬1). وقال الماوردي: كل حكم تعلق بغاية وشرط لم يجز أن يستباح بوجود الغاية مع عدم الشرط، وهذا مثل قوله - سبحانه وتعالى -: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] فجعل بعد الغاية التي هي البلوغ ¬
القول الأول
للنكاح شرطًا، هو إيناس الشرط، فلم يجز دفع أموالهم إليهم بعد البلوغ وقبل الرشد" (¬1). ولو كان اليتيم راشدًا ولم يكن بالغًا، أو كان بالغًا ولم يكن راشدًا لم يدفع إليه المال حتى يجتمع في حقه البلوغ والرشد. قال ابن قدامة: "وجوب دفع المال إلى المحجور عليه إذا رشد وبلغ، وليس فيه اختلاف بحمد الله تعالى. قال ابن المنذر: اتفقوا على ذلك" (¬2). [م - 1751] وإذا استمر معه السفه بعد البلوغ، فقد اختلف الفقهاء في استمرار منع المال عنه على قولين: القول الأول: إذا بلغ الصغير غير رشيد لم تسلم أمواله إليه، وتبقى في يد وصيه حتى يثبت رشده، أو يبلغ خمسًا وعشرين سنة، فإذا بلغ خمسًا وعشرين سنة دفعت إليه أمواله حتى ولو كان سفيهًا. وهذا مذهب أبي حنيفة (¬3). جاء في الهداية: "عند أبي حنيفة - رحمه الله -: إذا بلغ الغلام غير رشيد لم يسلم إليه ماله، حتى يبلغ خمسًا وعشرين سنة، فإن تصرف فيه قبل ذلك نفذ تصرفه، فإذا بلغ خمسًا وعشرين سنة يسلم إليه ماله، وإن لم يؤنس منه الرشد" (¬4). ¬
القول الثاني.
القول الثاني. لا يدفع إليه ماله حتى ولو بلغ مائة سنة حتى يؤنس منه الرشد، وهذا مذهب الجمهور، وبه قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬1). جاء في المبسوط: "وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لم يدفع المال إليه، ما لم يؤنس منه الرشد لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. فهذه آية محكمة لم ينسخها شيء، فلا يجوز دفع المال إليه قبل إيناس الرشد منه. ألا ترى أنه عند البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد لا يدفع المال إليه بهذه الآية، فكذلك إذا بلغ خمسًا وعشرين؛ لأن السفه يستحكم بمطاولة المدة، ولأن السفه بحكم منع المال منه بمنزلة الجنون، والعته، وذلك يمنع دفع المال إليه بعد خمس وعشرين سنة كما قبله، فكذلك السفه" (¬2). قال في المدونة: "قال مالك: لو خضب بالحناء ولم يؤنس منه الرشد لم يدفع إليه ماله، ولم يجز له في ماله بيع، ولا شراء، ولا هبة، ولا صدقة، ولا عتق حتى يؤنس منه الرشد" (¬3). ¬
وقال ابن رشد: "لو مات الأب، وأوصى به، لم يخرج من ولاية الوصية حتى يثبت رشده ... ألا ترى أن الله تبارك وتعالى قال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] وبلوغ النكاح: هو الاحتلام والحيض، فقد منعهم الله من أموالهم مع الأوصياء بعد البلوغ إلا بالرشد" (¬1). وقد ذكرت أدلة هذه المسألة بشيء من التفصيل في عقد البيع في تصرف السفيه فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، والحمد لله (¬2). ¬
الفرع الثاني انتهاء الوصاية بأداء الحقوق
الفرع الثاني انتهاء الوصاية بأداء الحقوق [م - 1752] قد تكون الوصاية بأداء الحقوق التي على الميت قضاء أو اقتضاء، أو برد الودائع واستردادها، أو بتوزيع وصاياه على الموصى لهم بها، فإذا دفع الديون إلى أصحابها، أو أخذها ممن كانت عليهم، وقام برد الودائع إلى أهلها، أو استردادها عند من كانت عنده، وقام بتوزيع الوصايا على الموصى لهم بها فإن الوصاية تنتهي بإنجاز ما كلف به؛ لأن الوصاية كانت بالقيام بعمل فانتهت بانتهاء ذلك العمل، وهذا معلوم، ولا حاجة إلى الإطالة فيه.
الفرع الثالث انتهاء الوصاية بانتهاء مدتها
الفرع الثالث انتهاء الوصاية بانتهاء مدتها [م - 1753] تنتهي الوصاية إذا كانت مؤقتة بمدة معينة، كان يقول: أوصيت إلى زيد لمدة عام، أو إلى قدوم زيد، أو إلى بلوغ ولدي فلان، فإن الإيصاء ينتهي ببلوغ أجله، ولم يخالف في ذلك أحد فيما أعلم (¬1). جاء في البحر الرائق: "ولو قال لفلان وصي إلى أن يقدم فلان فهو كما قال" (¬2). وجاء في المدونة: "أرأيت إن أوصى إلى رجل، فقال: فلان وصيي حتى يقدم فلان، فإذا قدم فلان ففلان القادم وصيي، أيجوز هذا؟ قال: نعم هذا جائز" (¬3). وجاء في تحفة المحتاج: "لو قال أوصيت لزيد، ثم من بعده لعمرو، أو إليك إلى بلوغ ابني أو قدوم زيد، فإذا بلغ، أو قدم، فهو الوصي جاز" (¬4). ¬
وجاء في مغني المحتاج: "ويجوز فيه: أي الإيصاء التوقيت، كأوصيت إليك سنة، أو إلى بلوغ ابني كما مر ... لأن الإيصاء كالإمارة، وقد "أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - زيداً على سرية، وقال: إن أصيب زيد فجعفر وإن أصيب جعفر، فعبد الله بن رواحة. رواه البخاري" (¬1) (¬2). وقال ابن قدامة: "وإذا قال: أوصيت إلى زيد، فإن مات فقد أوصيت إلى عمرو صح ذلك، رواية واحدة، ويكون كل واحد منهما وصيا، إلا أن عمرًا وصي بعد زيد" (¬3). وبهذا المبحث أكون قد أتيت إلى نهاية عقد الوصاية في المسائل المختارة لشرط هذا البحث، فالحمد لله الذي لا يستطيع الحامدون أن يوفوا حمده، ولا أن يحصوا ثناء عليه. ¬
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد الثامن عشر
(ح) دبيان بن محمَّد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمَّد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة / دبيان محمَّد الدبيان - الرياض، 1432 هـ 704 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجموعة) ج 18 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ. العنوان ديوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (18)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد. فهذا هو المجلد الثامن عشر، وقد تضمن عقدين من عقود التبرع، وهما القرض والهبة، وكلاهما من عقود التمليك وإن كان الأول تمليك يقوم على رد البدل، والآخر تمليك بلا عوض، وهذا العقدان من عقود التبرع لهما أهمية كبيرة حيث لا يوجد أحد إلا وهو مقرض أو مستقرض وواهب وموهوب له حتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تناول الفقه الإِسلامي أحكام هذين العقدين، وما يحل منهما، وما يحرم وفاقًا وخلافًا، فكانت خطة البحث فيهما على النحو التالي، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
خطة البحث في عقد القرض تمهيد: ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: في تعريف القرض. المبحث الثاني: القرض جار على وفق القياس. المبحث الثالث: في توصيف عقد القرض الباب الأول: حكم القرض وبيان أركانه. الفصل الأول: في حكم القرض بالنسبة للمقرض. الفصل الثاني: حكم القرض بالنسبة للمقترض. الفصل الثالث: بيان أركان القرض. الفصل الرابع: انعقاد القرض بالمعاطاة. الباب الثاني: في أحكام القرض. الفصل الأول: في لزوم عقد القرض. الفصل الثاني: في ثبوت الخيار في عقد القرض. الفصل الثالث: في ترتيب أثر القرض. الفصل الرابع: في مصاريف الإقراض والوفاء. الفصل الخامس: في بدل القرض. المبحث الأول: في صفة البدل من حيث المثلية والقيمية. المبحث الثاني: في صفة البدل من حيث الزيادة والنقص.
فرع: إذا كان دفع الزيادة بمقتضي العادة. المبحث الثالث: في مكان استرداد القرض. الفصل السادس: في التصرف في دين القرض. المبحث الأول: في التصرف به بالحوالة عليه. المبحث الثاني: في بيع بدل القرض. الفرع الأول: بيع بدل القرض على من هو عليه بثمن حال. الفرع الثاني: بيع بدل القرض على من هو عليه بثمن مؤجل. الفرع الثالث: بيع بدل القرض على غير من هو عليه بثمن حال. الفرع الرابع: بيع بدل القرض على غير من هو عليه بثمن مؤجل. الفصل السابع: في كساد النقود. الباب الثاني: شروط القرض. الفصل الأول: ما يشترط في المقرض. الفصل الثاني: ما يشترط في المقترض. المبحث الأول: في الاستدانة على الوقف. المبحث الثاني: في الاستدانة على بيت المال. فرع: كل من أدى عن غيره واجبًا فله أن يرجع به عليه، إذا لم يكن متبرعًا. المبحث الثالث: في اقتراض الولي والوصي للصغير. الفصل الثالث: في شروط المال المقرض.
الشرط الأول: في اشتراط أن يكون القرض في المثليات. فرع: في إقراض الخبز. الشرط الثاني: في اشتراط أن يكون المقرض عينا. الشرط الثالث: أن يكون المقرض معلومًا. فرع: في إقراض المكيل وزنًا وعكسه. الباب الثالث: في الشروط الجعلية في القرض. الشرط الأول: في اشتراط الأجل في القرض. فرع: في تأجيل القرض إذا لم يشترط في العقد. الشرط الثاني: ألا يشترط في عقد القرض عقدًا آخر. المبحث الأول: في اشتراط عقود المعاوضات مع عقد البيع. فرع: في اجتماع القرض مع البيع بدون شرط. المبحث الثاني: إذا شرط عليه إقراضه مقابل إقراضه فرع: في جمعية الموظفين. المسألة الأولى: في جمعية الموظفين إذا كانت خالية من الشروط. المسألة الثانية: في جمعية الموظفين إذا اقترنت بالشرط. المطلب الأول: أن يشترط في العقد ألا ينسحب أحد. المطلب الثاني: إذا اشترط في العقد دورة ثانية فأكثر. المبحث الثالث: في اشتراط الجعل مقابل أن يأتيه بمن يقرضه.
المبحث الرابع: في اجتماع القرض مع الشركة. الشرط الثالث: إذا اشترط عليه الوفاء في غير بلد القرض. الشرط الرابع: اشتراط الزيادة في مقابل القرض. الشرط الخامس: اشتراط الوفاء بأنقص. الشرط السادس: في اشتراط توثيق القرض. المبحث الأول: في توثيق القرض بالكتابة. فرع: في الحكم بالخط المجرد. المبحث الثاني: في توثيق القرض بالشهادة. المبحث الثالث: توثيق القرض بالرهن. المبحث الرابع: توثيق القرض بالضمان. الشرط السابع: في اشتراط رد عين القرض. الباب الرابع: في انتهاء القرض.
خطة البحث في عقد الهبة التمهيد: ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: تعريف الهبة. المبحث الثاني: التفريق بين الهبة والوصية والصدقة. الباب الأول: في حكم الهبة وبيان أركانها. الفصل الأول: في حكم الهبة. الفصل الثاني: في أركان الهبة. المبحث الأول: في اشتراط الفورية في القبول. المبحث الثاني: انقسام ألفاظ الهبة إلى صريح وكناية. المبحث الثالث: في انعقاد الهبة بالمعاطاة. المبحث الرابع: في انعقاد الهبة بالإشارة. المبحث الخامس: في تعليق الهبة وإضافتها إلى المستقبل. المبحث السادس: في حكم الوعد بالهبة. الباب الثاني: في شروط الهبة. الفصل الأول: في شروط الواهب. المبحث الأول: أن يكون الوهب من أهل التبرع. الفرع الأول: في هبة الصبي والمجنون. الفرع الثاني: في هبة المحجور عليه لفلس.
الفرع الثالث: في هبة السكران. الفرع الرابع: في هبة الأب والوصي من مال الصغير. الفرع الخامس: في هبة الشريك من مال شريكه. الفرع السادس: في هبة المريض مرض الموت. المسألة الأولى: في تعريف مرض الموت. المسألة الثانية: خلاف العلماء في هبة المريض. المسألة الثالثة: في هبة المريض إذا لم يكن له وارث. المسألة الرابعة: في اشتراط القبض في هبة المريض. الفرع السابع: في هبة الحامل. الفرع الثامن: في هبة المرتد. الشرط الثاني: أن يكون الواهب مالكًا أو مأذونًا له في التبرع. المبحث الأول: في هبة المباحات قبل تملكها. المبحث الثاني: في صحة هبة الفضولي. الشرط الثاني: أن يكون الواهب راضيًا. المبحث الأول: في هبة الهازل. المبحث الثاني: في هبة التلجئة. الفصل الثاني: في شروط الموهوب له. الشرط الأول: أن يكون الموهوب له أهلاً للتملك.
الشرط الثاني: في اشتراط وجود الموهوب له. مبحث: في الهبة للحمل. الشرط الثالث: أن يكون الموهوب له معينًا. الفصل الثالث: في شروط الموهوب. الشرط الأول: في اشتراط كون الموهوب مالًا. الشرط الثاني: أن يكون الموهوب موجودًا. الشرط الثالث: في اشتراط العلم بالموهوب. مبحث: في هبة المرهون. الشرط الرابع: في اشتراط أن يكون الموهوب مقسومًا غير مشاع. الباب الثالث: في أحكام الهبة. الفصل الأول: في هبة الثواب. المبحث الأول: في تعريف هبة الثواب. المبحث الثاني: في اشتراط العوض في الهبة. الفرع الأول: أن يكون العوض معلومًا. الفرع الثاني: أن يشترط عوضًا مجهولاً. المبحث الثالث: في هبة الثواب إذا لم يشترط فيها العوض. الفصل الثاني: منزلة القبض في عقد الهبة. الفصل الثالث: في توصيف عقد الهبة.
المبحث الأول: في لزوم الهبة. المبحث الثاني: في اشتراط إذن الواهب في القبض. المبحث الثالث: إذا كان الموهوب في يد المتهب. المبحث الرابع: في قبض الموهوب المشغول بمتاع الواهب. الفصل الرابع: في التصرف في الهبة والصدقة قبل قبضها. الفصل الخامس: في هبة الدين. المبحث الأول: في هبة الدين لمن هو عليه. فرع: في إبراء المدين من دين مجهول. المبحث الثاني: في هبة الدين لغير من هو عليه. الفصل السادس: في استحقاق الهبة. الفصل السابع: في الرجوع في الهبة. المبحث الأول: في رجوع الواهب الأجنبي في هبته. المبحث الثاني: في رجوع الأب في هبته. فرع: في شروط رجوع الأب. المبحث الثالث: في رجوع الأم والجد والجدة. الفصل الثامن: في التسوية بين الأولاد في العطية. مبحث: في صفة التسوية. الباب الرابع: في العمرى والرقبى.
الفصل الأول: في العمرى. المبحث الأول: في تعريف العمرى. المبحث الثاني: في حكم العمرى التكليفي. المبحث الثالث: في توصيف العمرى. الفرع الأول: في العمرى له ولعقبه من بعده. الفرع الثاني: في العمرى المطلقة. الفرع الثالث: أن يشترط رجوعها له بعد موته. الفصل الثاني: في الرقبى. المبحث الأول: في تعريف الرقبى. المبحث الثاني: في حكم الرقبى. هذه هي المسائل المختارة من عقد القرض والهبة، أسأل المولى - عز وجل - أن يكون هذا البحث وغيره من البحوث خالصًا لوجهه صوابًا موافقًا لهدي نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأن يرزقه القبول في الأرض وينفع به عباده، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عقد القرض
عقد القرض
تمهيد
تمهيد المبحث الأول في تعريف القرض تعريف القرض اصطلاحًا (¬1): اختلف الفقهاء في تعريف القرض نظرًا لاختلافهم في بعض شروط المال المقروض. تعريف الحنيفة: عرفه بعضهم بقولهم: ما تعطيه من مثلي لتتقاضاه (¬2). فقوله: (من مثلي) إشارة إلى أنه يشترط عند الحنفية أن يكون المال المقرض مثلياً. ¬
تعريف المالكية
والمثلي من الأموال: كل ما يوجد له مثل في السوق بلا تفاوت يعتد به، كالمكيل والموزون، والنقود. والمال القيمي: هو ما لا يوجد له مثل في الأسواق، أو يوجد، ولكن مع التفاوت المعتد به (¬1). واشترط الحنفية أن يكون المال المقرض مثليًا حتى يتمكن المقترض من رد مثله عند القضاء. وقوله (لتتقاضاه) أي لتتقاضى مثله، لا عينه، فإن القرض من عقود التمليك، والمقترض يستهلكه ليرد مثله، وقد أخرج بهذا القيد الهبة، والصدقة، فإنها تمليك بلا مقابل، وأخرج العارية فإنه لا تقوم على تمليك العين، وإنما فيها تمليك الانتفاع مدة محددة. تعريف المالكية: حده ابن عرفة، بقوله: "دفع متمول في عوض، غير مخالف له، لا عاجلًا تفضلًا" (¬2). شرح التعريف: فقوله: (دفع متمول) إشار بهذا القيد إلى أن القرض خاص بالأموال: أي ما يتمول، وأما قرض ما ليس بمتمول إذا دفعه فلا يعتبر قرضاً عندهم. وهو يشمل عندهم كل ما يتمول من مثلي أو قيمي. ¬
تعريف الشافعية
(في عوض) أخرج الهبة، والصدقة فإنهما بلا مقابل، بخلاف القرض فإنه وإن كان تبرعًا ابتداء، إلا أنه معاوضة انتهاء. وقوله: (غير مخالف له) أخرج به البيع والسلم والصرف والإجارة فإن العوض فيها مخالف. قوله: (لا عاجلًا) أشار إلى أن القرض يتحول إلى دين في ذمة المقترض. وقوله: (تفضلًا) أي دفع لأجل تفضل المقرض على المقترض، فهو عقد يراد للإرفاق والإحسان، ولا يقصد منه التكسب. واحترز بذلك عند المالكية مما لو قصد بدفعه نفعهما كالسفتجة، أو نفع المقرض، أو نفع أجنبي، ولا يجوز إلا قصد نفع المقترض فقط (¬1). وفي هذه المسألة خلاف بين الفقهاء سيأتي تحريره إن شاء الله تعالى. والأصل في القرض أن يكون إرفاقًا بالمقترض، وقضاء لحاجته، وليس ذلك بشرط، فقد يقرض الولي مال اليتيم إذا خاف عليه من السرقة، ولم يقصد بهذا نفع المقترض، وإنما قصد حفظ المال وضمانه، وقد يكون إقراضه أولى من إيداعه؛ لأن الوديعة غير مضمونة، بخلاف القرض. تعريف الشافعية: عرفه الشافعية: بأنه "تمليك الشيء على أن يرد بدله" (¬2). فقوله: (تمليك) أخرج العارية. ¬
تعريف الحنابلة
وقوله: (الشيء) كلمة (شيء) عامة، والتعبير بها أعم من التعبير بالمال لتشمل المال وغيره مما يصح تمليكه بالقرض، كإقراض الكلب، وجلد الأضحية، فلا يصح بيعهما، وفي إقراضهما خلاف، فكل ما يصح تملكه يصح إقراضه إلا الجواري ففيها خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى، وإن كان الأصل في القرض أن يكون في الأموال. وقوله: (بدله) أخرج الهبة، والصدقة، ونحوها، فإن الآخذ لهما يتملكهما، ولا يرد بدلهما. وقال: (بدله) ولم يقل: (مثله)، ليشمل المال المثلي والقيمي. جاء في نهاية المحتاج: "قوله: (يرد بدله) عبارة المنهج: على أن يرد مثله، ولعل الشارح إنما عبر بالبدل ليتمشى على الراجح الآتي، من أنه يرد المثل حقيقة في المثلي، وصورة في المتقوم. وعلى المرجوح من أنه يرد المثل في المثلي، والقيمة في المتقوم" (¬1). تعريف الحنابلة: جاء في الإقناع: "دفع مال إرفاقًا لمن ينتفع به، ويرد بدله" (¬2). قوله: (دفع مال) دخل في ذلك العارية والهبة إلا أنهما خرجا بقوله: (ويرد بدله). ¬
العلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاح
وقوله: (إرفاقًا) قال ابن القيم عن القرض: هو من باب الإرفاق، والتبرع، والصدقة، وإن كان المقرض قد ينتفع أيضاً بالقرض، كما في مسألة السفتجة، ولهذا كرهها من كرهها، والصحيح أنها لا تكره؛ لأن المنفعة لا تخص المقرض، بل ينتفعان بها جميعًا" (¬1). العلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاح: إذا كان الأصل في القرض من حيث اللغة: هو القطع، والمجازاة: فيظهر القطع في المعنى الاصطلاحي عندما يقطع المقرض شيئاً من ماله ليعطيه المقترض. وتظهر المجازاة في القرض اصطلاحًا، عندما يرد المقترض مثل ما أخذه من المقرض (¬2). العلاقة بين الدين والقرض: الدين له معنيان: عام، وخاص: فالدين بمعناه العام: قال ابن نجيم في تعريفه: "لزوم حق في الذمة" (¬3). وكان هذا التعريف عامًا؛ لأنه يشمل كل ما يشغل ذمة الإنسان، سواء أكان حقاً لله، أم للعبد، ودَيْن الله: حقوقه التي ثبتت في الذمة، ولا مطالب لها من جهة العباد، كالنذور، والكفارات، وصدقة الفطر ... (¬4) ¬
وأما تعريف الدين بمعناه الخاص: (أي في الأموال): فقد عرفه ابن عابدين بقوله: "الدين: ما وجب في الذمة بعقد، أو استهلاك، وما صار في ذمته دينًا باستقراضه" (¬1). فجعل الدين ينشأ في ذمة الإنسان بثلاثة أسباب: الأول: ما وجب في ذمة الإنسان بسبب البيع والشراء، كالمعاوضة عن طريق البيع بالتأجيل، سواء كان التأجيل للمبيع وحده كالسلم، أو كان التأجيل للثمن وحده كبيع التقسيط. وقولنا: ما وجب في ذمة الإنسان ليخرج المؤجل إذا كان معينًا، فإنه لا يسمى دينًا، كما لو باع دارًا، واشترط سكناها مدة معينة، أو باع حيوانًا واشترط ظهره إلى مكان معين، فإن المبيع هنا مؤجل، ولا يسمى دينًا؛ لأن الحق تعلق بشيء معين، أما دين السلم فهو دين ومؤجل؛ لأن الحق لم يتعلق بشيء معين، وإنما تعلق بشيء موصوف في الذمة، غير معين، وقد بينا ذلك في عقد البيع، وفي عقد السلم. الثاني: ما ثبت عن طريق الاستهلاك، كالإتلاف الذي يوجب ضمانًا في ذمة المتلف. السبب الثالث: الدين بسبب القرض. فالقرض عقد يوجب دينًا في ذمة المقترض، فهو سبب من أسباب الدين، والدين أعم من القرض، فكل قرض دين، وليس العكس. ¬
المبحث الثاني القرض جار على وفق القياس
المبحث الثاني القرض جار على وفق القياس لا يوجد في أحكام الثسرع ما يخالف القياس الصحيح. ما قيل إنه مخالف للقياس إنما استثنى لمعنى أوجب استثناءه عن نظائره. [م - 1754] اختلف العلماء في القرض، هل جوازه جار على وفق القياس، والقواعد العامة للشريعة، أم أنه جاء على خلاف القياس لمصلحة راجحة، وقد ناقشت في مسألة مستقلة خلاف العلماء في أصل المسألة: هل يجري في أحكام الشريعة ما يكون مخالفًا للقياس؟ أو أن الأحكام كلها لا يمكن أن يقع فيها ما يخالف القياس الصحيح على قولين للعلماء. القول الأول: ذهب الأئمة الأربعة إلى القول بأن هناك أحكامًا جاء النص بجوازها، وكان القياس يقتضي منعها؛ لأن نظائرها ممنوعة، ويقسم الحنفية الأحكام الجائزة إلى قسمين: مسائل جائزة قياسًا. ومسائل جائزة استحسانًا - ويعنون بها المسائل التي جاء جوازها مخالفًا للقياس. ويرى الجمهور أن عقد السلم، وعقد الشفعة، وعقد الاستصناع، وعقد الحوالة، وعقد الإجارة، ومنها إجارة الظئر، وعقد المزارعة، وعقد المساقاة، كلها عقود جاءت على خلاف القياس.
القول الثاني
وقد تكلمنا على كل عقد من هذه العقود في بابها، وناقشنا وجه مخالفتها للقياس عند الفقهاء، فارجع إليه غير مأمور (¬1). كما قالوا ذلك في بعض الأحكام أنها مخالفة للقياس كالقول في الوضوء من لحوم الإبل، والمضي في الحج الفاسد، وغيرها من الأحكام، وهي مبثوثة في كتب الفقهاء. القول الثاني: ذهب ابن تيمية وابن القيم إلى أنه لا يوجد في الشريعة ما يخالف القياس، ومن رأى أن شيئًا من الشريعة مخالف للقياس، فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، وليس مخالفًا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر. نعم في الشريعة ما يخالف القياس الفاسد، وإن كان من الناس من لا يعلم فساده (¬2). وأعتقد أن من قال: في الشفعة أو في السلم أو في الاستصناع، أو في الإجارة، أو في القرض أنه على خلاف القياس، لا يعني أن جوازه تجرد عن مراعاة المصلحة حتى خالف القياس، وإنما المراد به: أنه عدل به عن نظائره ¬
لمصلحة أكمل، وأخص من مصالح نظائره على جهة الاستحسان الشرعي، وهو ما جعل ابن تيمية وابن القيم يقولون: إن جوازه موافق للقياس، نظرًا لهذا المعنى، وقال غيرهم: جوازه من قبيل الاستحسان. يقول ابن تيمية: "قد تأملنا عامة المواضع التي قيل: إن القياس فيها عارض النص، وأن حكم النص فيها على خلاف القياس، فوجدنا ما خصه الشارع بحكم عن نظائره، فإنما خصه به؛ لاختصاصه بوصف أوجب اختصاصه بالحكم، كما خص العرايا بجواز بيعها بمثلها خرصًا لتعذر الكيل مع الحاجة إلى البيع، والحاجة توجب الانتقال إلى البدل عند تعذر الأصل، فالخرص عند الحاجة قام مقام الكيل، كما يقوم التراب مقام الماء، والميتة مقام المذكى عند الحاجة، وكذلك قول من قال: القرض، أو الإجارة، أو القراض، أو المساقاة، أو المزارعة ونحو ذلك على خلاف القياس، إن أراد به أن هذه الأفعال اختصت بصفات أوجبت أن يكون حكمها مخالفًا لحكم ما ليس مثلها فقد صدق. وهذا هو مقتضى القياس وإن أراد أن الفعلين المتماثلين حكم فيهما بحكمين مختلفين، فهذا خطأ ينزه عنه من هو دون الأنبياء صلوات الله عليهم" (¬1). ويقول العز بن عبد السلام: "اعلم أن الله شرع لعباده السعي في تحصيل مصالح عاجلة وآجلة، تجمع كل قاعدة منها علة واحدة، ثم استثنى منها ما في ملابسته مشقة شديدة، أو مفسدة تربو على تلك المصالح. وكذلك شرع لهم السعي في درء مفاسد في الدارين، أو في أحدهما، تجمع ¬
القول الأول
كل قاعدة منها علة واحدة، ثم استثنى منها ما في اجتنابه مشقة شديدة، أو مصلحة تربو على تلك المفاسد، وكل ذلك رحمة بعباده، ونظر لهم، ورفق، ويعبر عن ذلك كله بما خالف القياس، وذلك جار في العبادات والمعاوضات وسائر التصدقات" (¬1). لهذا لا يستثنى شيء إلا لمعنى أوجب استثناءه عن نظائره، إما دفعًا لمفسدة، أو اتقاء فوت مصلحة، أو تحاشيًا من حرج أو مشقة، وسواء قلنا: إنه مخالف للقياس، أو قلنا: إنه موافق له، المهم أن هذا المعنى الذي أوجب خروج هذا الشيء عن نظائره جعل الشيئين غير متماثلين من كل وجه. [م - 1755] إذا علم ذلك نأتي على مسألة القرض، وبيان وجه مخالفة القرض للقياس عند من قال به من الفقهاء. القول الأول: ذهب جمهور العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة إلى أن القرض عقد جاء جوازه مخالفا للقياس (¬2). وجاء في أسنى المطالب: "الإقراض جوز على خلاف القياس؛ للإرفاق" (¬3). وجاء في كشاف القناع عن القرض: "وهو نوع من المعاملات على غير قياسها لمصلحة لاحظها الشارع رفقًا بالمحاويج" (¬4). ¬
ويناقش
وقال القرافي: "اعلم أن قاعدة القرض خولفت فيها ثلاث قواعد شرعية: قاعدة الربا: إن كان في الربويات، كالنقدين، والطعام. وقاعدة المزابنة: وهي بيع المعلوم بالمجهول من جنسه، إن كان في الحيوان، ونحوه من غير المثليات، وقاعدة بيع ما ليس عندك في المثليات، وسبب مخالفة هذه القواعد مصلحة المعروف للعباد، فلذلك متى خرج عن باب المعروف امتنع، إما لتحصيل منفعة المقرض، أو لتردده بين الثمن والسلف، لعدم تعين المعروف، مع تعين المحذور، وهو مخالفة القواعد" (¬1). وقال القرافي أيضًا: "الله - عز وجل - شرع السلف قربة للمعروف، ولذلك استثناه من الربا المحرم، فيجوز دفع دينار؛ ليأخذ عوضه ديناراً إلى أجل قرضاً، ترجيحًا لمصلحة الإحسان على مفسدة الربا، وهذا من الصور التي قدم الشرع فيها المندوبات على المحرمات" (¬2). ويناقش: بأن الخلاف لفظي، فالقرافي لا يرى أن الشرع فرق بين القرض وبين بيع الربوي بجنسه مع عدم التقابض بلا معنى يوجب التفريق، بل هناك معنى أوجب الفرق، وهذا هو مقتضى حكمة الشارع الذي لا يجمع بين متفرقين، ولا يفرق بين متماثلين، فلما أخذت مبادلة المال بمثله في المعاوضة اسم البيع، وفي الإرفاق اسم القرض، واختلف كل من القرض والبيع في الاسم وجب أن يختلفا في الحكم، ولهذا قال الفقهاء في الضوابط: ¬
اختلاف الأسامي دليل على اختلاف المعاني (¬1). وقال ابن الشاط منتقدًا كلام القرافي: "ما قاله من أن القرض مستثنى من الربا المحرم ليس بمسلم، ولا بصحيح، فإن الربا لغة الزيادة، ولا زيادة في المثال الذي ذكره، والربا شرعاً الممنوع، والقرض ليس بممنوع، وإنما وقع الخلل من جهة اعتقاد أن ديناراً بدينار إلى أجل ممنوع مطلقاً، والأمر ليس كذلك، بل ذلك ممنوع على وجه البيع، الذي شأنه عادة وعرفا المكايسة، والمغابنة، وليس بممنوع على وجه القرض، الذي شأنه المسامحة، والمكارمة، فهما أصلان، كل واحد منهما قائم بنفسه، وليس أحدهما أصلاً للآخر، فيكون مستثنى منه" (¬2). قلت: هذا الكلام حق، وإن كان فيه ما يمكن التعليق عليه، فقوله: إن الربا الزيادة، والقرض ليس فيه زيادة، يقال: ربا الزيادة أحد نوعي الربا، وهو ربا الفضل، وأما ربا النسيئة فلا يلزم أن يكون فيه الزيادة. وقوله: إن البيع يقع على وجه المغابنة، هذا هو الأصل، وليس بشرط في إطلاق اسم البيع، ولا في صحته، فبيع المواضعة، وبيع التولية كلاهما بيع، وليس فيه قصد التكسب، فالأول فيه خسارة معلومة، والثاني بيع برأس المال. ولو باع الإنسان عينًا، وقصد نفع المشتري عن طريق البيع، فهذا لا يخرجه من البيع. ¬
وجه كون القرض مخالفا للقياس
وجه كون القرض مخالفًا للقياس: مبادلة المال الربوي بمثله يشترط فيه شرطان: أحدهما: المماثلة حتى لا يقع في ربا الفضل. والثاني: التقابض حتى لا يقع في ربا النسيئة. وإذا كنا نشترط في بدل القرض عدم الزيادة، فذلك لتحريم ربا الفضل. فلما جاز عدم التقابض في القرض، مع أنه مبادلة مال بمال ربوي على سبيل التمليك دل ذلك على مخالفته للقياس. ويقول ابن حزم: "ولا خلاف ... أن امرءًا لو قال للآخر: أقرضني هذا الدينار، وأقضيك دينارًا إلى شهر كذا، ولم يحد وقتًا، فإنه حسن، وأجر، وبر، وعندنا إن قضاه دينارين أو نصف دينار فقط ورضي كلاهما فحسن. ولو قال له: بعني هذا الدينار بدينار إلى شهر، ولم يسم أجلاً، فإنه ربا، وإثم، وحرام، وكبيرة من الكبائر، والعمل واحد، وإنما فرق بينهما الاسم فقط" (¬1). ويجاب: بأن المعنى الذي اقتضى مخالفة القرض للبيع، أن القرض من عقود الإحسان والإرفاق، فاقتضت مصلحة الناس الرفق بهم، فلو اشترط التقابض لامتنع القرض، بخلاف البيع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن كلام ابن حزم وإن ¬
القول الثاني
اتفق مع أصحاب هذا القول إلا أنه يختلف معهم، فهو لا يرى القياس كله صحيحًا حتى يكون عنده مسائل موافقة للقياس، وأخرى مخالفة له، ويقال له: إن الذي فرق بين القرض والبيع ليس الاسم فقط، وإنما فرق بينهما الاسم والمعنى، فعقد البيع يقصد به الإرفاق بخلاف المعاوضة. القول الثاني: يرى ابن تيمية وابن القيم أن جواز القرض موافق للقياس. يقول ابن القيم: "وأما القرض فمن قال: إنه على خلاف القياس، فشبهته أنه بيع ربوي بجنسه مع تأخر القبض، وهذا غلط، فإن القرض من جنس التبرع بالمنافع كالعارية، ولهذا سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - منيحة، فقال: "أو منيحة ذهب أو منيحة ورق" (¬1). وهذا من باب الإرفاق، لا من باب المعاوضات، فإن باب المعاوضات يعطي كل منهما أصل المال على وجه لا يعود إليه، وباب القرض من جنس باب العارية والمنيحة وإفقار الظهر مما يعطي فيه أصل المال لينتفع بما يستخلف منه، ثم يعيده إليه بعينه إن أمكن، وإلا فنظيره ومثله، فتارة ينتفع بالمنافع كما في عارية العقار وتارة يمنحه ماشية ليشرب لبنها، ثم يعيدها، أو شجرة ليأكل ثمرها، ثم يعيدها، وتسمى العرية، فإنهم يقولون: أعراه الشجرة، وأعاره المتاع، ومنحه الشاة، وأفقره الظهر، وأقرضه الدراهم" (¬2). ¬
الراجح
الراجح: أرى أنه لا يوجد حكم في الشريعة يخرج عن نظائره إلا لمعنى أوجب ذلك، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] سواء سمينا هذا استحسانًا مخالفا للقياس، أو قلنا: إنه موافق للقياس، والله أعلم.
المبحث الثالث في توصيف عقد القرض
المبحث الثالث في توصيف عقد القرض لا يملك الإقراض إلا من يملك التبرع. المعاوضة في القرض يقصد بها الإرفاق لا التكسب. القرض مضمون بمثله أو بقيمته. إذا قصد من القرض التكسب حرم. [م - 1756] اختلف العلماء في توصيف عقد القرض، هل هو من عقود التبرع، أو من عقود المعاوضات، على أقوال: القول الأول: الحنفية يرون أن القرض إعارة وصلة في الابتداء، ومعاوضة في الانتهاء. جاء في تبيين الحقائق: "القرض إعارة وصلة ابتداء، ولهذا يصح بلفظ الإعارة ولا يملكه من لا يملك التبرع، كالصبي والولي والمكاتب والعبد المأذون له في التجارة ومعاوضة انتهاء حتى يلزمه رد مثله" (¬1). وفي الاختيار لتعليل المختار: "القرض تبرع ابتداء معاوضة انتهاء" (¬2). ¬
وجه القول بأنه تبرع ابتداء
وجه القول بأنه تبرع ابتداء: أن القرض لا يقابله عوض في الحال، ولا يملكه من لا يملك التبرع كالوصي، والصبي، ولأنه يشبه العارية. وأما وجه كونه معاوضة انتهاء: فلأن القرض يوجب رد البدل، وهذه معاوضة. القول الثاني: أن القرض عقد معاوضة يقصد به الرفق، ولا يقصد به المغابنة، وعليه أكثر المالكية (¬1). وعبر الشافعية عن ذلك بقولهم: القرض عقد معاوضة فيه شائبة تبرع. قال ابن رشد في بداية المجتهد: "العقود تنقسم أولاً إلى قسمين: قسم يكون بمعاوضة. وقسم يكون بغير معاوضة كالهبات والصدقات. والذي يكون بمعاوضة ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: يختص بقصد المغابنة والمكايسة، وهي البيوع، والإجارات، والمهور، والصلح، والمال المضمون بالتعدي وغيره. والقسم الثاني: لا يختص بقصد المغابنة، وإنما يكون على جهة الرفق وهو القرض. ¬
وجه القول بأن القرض ففيه شائبة تبرع، وليس معاوضة محضة
والقسم الثالث: فهو ما يصح أن يقع على الوجهين جميعًا: أعني على قصد المغابنة، وعلى قصد الرفق كالشركة، والإقالة، والتولية ... " (¬1). وجاء في نهاية المحتاج: "وضع القرض: أنه تمليك الشيء برد مثله، فساوى البيع؛ إذ هو تمليك الشيء بثمنه ... وكون القرض فيه شائبة تبرع كما يأتي لا ينافي ذلك؛ لأن المعاوضة فيه هي المقصودة" (¬2). وجه القول بأن القرض ففيه شائبة تبرع، وليس معاوضة محضة: أن القرض لو كان من عقود المعاوضة لما صح اقتراض مال من أموال الربا لشرط التقابض في بيع بعضه ببعض، ولو كان من عقود المعاوضات لصح للولي إقراض مال اليتيم؛ لأنه يجوز له بيع ماله، ولا يجوز له إقراض ماله، فدل على أنه ليس معاوضة محضة. وليس القرض من عقود التبرع المحض؛ لأن التبرع إعطاء الشيء بلا عوض، والقرض يوجب رد المثل، لذا قلنا: إنه ليس معاوضة محضة، وفيه شائبة تبرع. جاء في تحفة المحتاج: "ويشترط في المقرض أهلية التبرع ... وهي تستلزم رشده، واختياره فيما يقرضه ... لأن فيه شائبة تبرع" (¬3). وفي نهاية المحتاج: "القرض فيه شائبة تبرع، ومن ثم امتنع تأجيله، ولم ¬
القول الثالث
يجب التقابض فيه، وإن كان ربويًا، ولو كان معاوضة محضة لجاز للولي غير الحاكم قرض مال موليه من غير ضرورة، واللازم باطل ... " (¬1). القول الثالث: أن القرض من عقود التبرعات، واختاره بعض المالكية، وبعض الشافعية، وهو مذهب الحنابلة (¬2). واستدلوا على ذلك بأدلة منها: الدليل الأول: (ح -1052) روى أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا شعبة، قال: سألت طلحة بن مصرف عن هذا الحديث، أكثر من عشرين مرة ولو كان غيري قال: ثلاثين مرة قال: سمعت عبد الرحمن بن عوسجة، يحدث عن البراء بن عازب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من منح منيحة ورق، أو قال: ورقًا، أو أهدى زقاقًا، أو سقى لبنًا، كان له كعدل نسمة، أو رقبة، ومن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كن له عدل نسمة، أو رقبة. [صحيح] (¬3). وجه الاستدلال: أن الرسول أطلق عليه اسم منيحة، والمنيحة من عقود التبرع. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: لو كان القرض من عقود المعاوضة لجاز قصد التكسب منه، ولا يجوز اشتراط أي زيادة في بدل القرض. الدليل الثالث: للمقترض أن يرد عين القرض؛ ويلزم المقرض القبول، ولو كان معاوضة لما صح رد العين إلا بالتراضي؛ لأن ذلك يعني فسخ العقد. الدليل الرابع: يرى جمهور الفقهاء أن القرض لا يقبل التأجيل، ولو كان من عقود المعاوضات لم يمتنع التأجيل. الراجح: أن عقد القرض يتردد بين عقد التبرع، وبين عقد المعاوضة، فهو ليس تبرعًا مطلقاً كالهبة والصدقة حيث يكون الملك بلا عوض مطلقًا. وليس من عقود المعاوضة التي يراد منها التكسب والربح، وفيه شبه بالعارية من وجه دون وجه، فهو يختلف عن العارية من وجهين: أحدها: أن العارية لا يتملك المعار فيها العين المعارة، وإنما يعطى حق الانتفاع مدة الإعارة، ثم ترد العين نفسها إلى صاحبها. الثاني: أن العارية على الصحيح غير مضمونة بخلاف القرض. وفيه شبه بالعارية من حيث إن المقترض ينتفع من القرض مدة بقائه عنده دون مقابل، ثم يرده أو يرد بدله إلى المقرض، لهذا لو قيل: القرض إعارة ابتداء، معاوضة غير محضة انتهاء، ربما يكون هذا أقرب الأقوال، والله أعلم.
الباب الأول حكم القرض وبيان أركانه
الباب الأول حكم القرض وبيان أركانه الفصل الأول في حكم القرض بالنسبة للمقرض [م - 1757] القرض في حق المقرض عمل مستحب، هذا هو الأصل فيه. "قال أحمد لا إثم على من سئل القرض فلم يقرض؛ وذلك لأنه من المعروف، فأشبه صدقة التطوع" (¬1). وقد دل على استحباب القرض الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. أما الكتاب، فقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [الحديد: 11]. وجه الاستدلال: سمى الله - سبحانه وتعالى - الأعمال الصالحة، والصدقات الحلال بالقرض؛ لأن معنى القرض: إعطاء الرجل غيره ماله مملكا له ليقضيه مثله إذا اقتضاه، فشبه الصدقات بالمال المقرض، وشبه الثواب، ببدل القرض، ومشروعية المشبه تدل على مشروعية المشبه به. ¬
ومن السنة أحاديث كثيرة، منها: (ح -1053] روى أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا شعبة، قال: سألت طلحة بن مصرف عن هذا الحديث، أكثر من عشرين مرة ولو كان غيري قال: ثلاثين مرة قال: سمعت عبد الرحمن بن عوسجة، يحدث عن البراء بن عازب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من منح منيحة ورق، أو قال: ورقًا، أو أهدى زقاقًا، أو سقى لبنًا، كان له كعدل نسمة، أو رقبة، ومن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كن له عدل نسمة، أو رقبة. [صحيح] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
قال الترمذي: معنى قوله: (من منح منيحة ورق) إنما يعني به: قرض الدراهم، وقوله: (أو هدى زقاقًا): يعني به هداية الطريق، وهو إرشاد السبيل الدليل الثاني: (ح -1054) روى ابن ماجه من طريق سليمان بن يسير، عن قيس بن رومي، قال: كان سليمان بن أذنان يقرض علقمة ألف درهم إلى عطائه، فلما خرج عطاؤه تقاضاها منه، واشتد عليه، فقضاه، فكأن علقمة غضب، فمكث أشهرًا، ثم أتاه، فقال: أقرضني ألف درهم إلى عطائي، قال: نعم، وكرامة، يا أم عتبة هلمي تلك الخريطة المختومة التي عندك، فجاءت بها، فقال: أما والله إنها لدراهمك التي قضيتني، ما حركت منها درهمًا واحداً، قال: فلله أبوك، ما حملك على ما فعلت بي؟ قال: ما سمعت منك. قال: ما سمعت مني؟ قال: سمعتك تذكر عن ابن مسعود، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة"، قال: كذلك أنبأني ابن مسعود. [رفعه منكر] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث: (ح -1055) روى أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا جعفر بن الزبير الحنفي، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: انطلق برجل إلى باب الجنة، فرفع رأسه، فإذا على باب الجنة مكتوب الصدقة ¬
بعشر أمثالها، والقرض الواحد بثمانية عشر؛ لأن صاحب القرض لا يأتيك إلا وهو محتاج وإن الصدقة ربما وضعت في غني. [ضعيف] (¬1). ¬
والدليل من الإجماع: أجمع أهل العلم على جواز إقراض المال المثلي، من مكيل، أو موزون، ومثلها الدراهم والدنانير؛ لأنها أموال مثلية. واختلفوا في المال غير المثلي وسيأتي تحريره إن شاء الله تعالى. قال ابن قدامة: "أجمع المسلمون على جواز القرض" (¬1). وقال ابن القطان: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن استقراض الدنانير والدراهم، والقمح والشعير والتمر والذهب، وكل ما له مثل من سائر الأطعمة المكيل منها والموزون: جائز" (¬2). وقال ابن حزم: "اتفقوا ان استقراض ما عدا الحيوان جائز ... واتفقوا أن القرض فعل خير" (¬3). ¬
قال ابن تيمية في نقده للكتاب: "الاتفاق إنما هو في قرض المثليات: المكيل والموزون، وأما ما سوى ذلك، فأبو حنيفة لا يُجَوِّزُ قرضَه؛ لأن موجب القرض المثل، ولا مثل له عنده، فالنزاع فيه كالنزاع في الحيوان" (¬1). وكلام ابن تيمية لا ينقض استدلالنا على ورود الإجماع على جواز قرض المال المثلي، وإنما يورد والنزاع في إقراض المال القيمي، وهو ليس ردًا للقرض من حيث كونه قرضاً، وإنما لأن القرض يوجب رد البدل، وما لا مثل له لا يتمكن المقترض من رد بدله على القول بأن الواجب رد المثل، والله أعلم. وأما الدليل من القياس: القرض يشبه شراء الشيء بدين في الذمة؛ بجامع أن كلًّا منهما يأخذه ليرد عوضه. كما يشبه القرض العارية، بجامع أن كلًا من المعير والمقرض يدفع ماله لمن ينتفع به، إلا أنه في العارية يقوم المستعير برد عينه، وأما في القرض فقد يرده وقد يرد بدله، والله أعلم. وقد قال بعض الفقهاء: إن القرض عارية ابتداء، معاوضة انتهاء (¬2). وقولنا: مندوب هذا من حيث الجملة، وقد يعرض للقرض ما يجعله واجبًا كالإقراض لمن اضطر إليه لحفظ النفس. وقد يكون مكروهًا كالاستعانة به على فعل مكروه. ¬
وقد يكون محرمًا كالاستعانة به على فعل محرم، أو كان القرض يجر نفعاً مشروطًا للمقرض، وكذا لو شرط معه عقد من عقود المعاوضة، كالبيع، أو الإجارة، كأن يقول: أقرضك بشرط أن تبيعني (¬1). ¬
الفصل الثاني حكم القرض بالنسبة للمقترض
الفصل الثاني حكم القرض بالنسبة للمقترض سؤال الناس مكروه والقرض ليس منه؛ لأنه يأخذه بعوضه. [م - 1758] تقدم لنا حكم القرض بالنسبة للمقرض، وأما القرض يالنسبة للمقترض فإنه مباح، ولا خلاف في جوازه عند الحاجة، إذا علم من نفسه الوفاء، وغلب على ظنه أن ذمته تقي بما يدان به، وعزم على السداد (¬1). (ح -1056) وقد روى البخاري من طريق أبي الغيث، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله (¬2). وقال ابن قدامة عن الاقتراض: "وليس بمكروه في حق المقرض. قال أحمد: ليس القرض من المسألة. يعني ليس بمكروه؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستقرض، بدليل حديث أبي رافع، ولو كان مكروهًا، كان أبعد الناس منه. ولأنه إنما يأخذه بعوضه، فأشبه الشراء بدين في ذمته. قال ابن أبي موسى: لا أحب أن يتحمل بأمانته ما ليس عنده. يعني ما لا يقدر على وفائه، ومن أراد أن يستقرض، فليعلم من يسأله القرض بحاله، ولا يغره من نفسه، إلا أن يكون الشيء اليسير الذي لا يتعذر رد مثله" (¬3). ¬
وجاء في أسنى المطالب: "إنما يجوز الاقتراض لمن علم من نفسه الوفاء، وإلا لم يجز إلا أن يعلم المقرض أنه عاجز عن الوفاء" (¬1). وفي نهاية المحتاج: "ويحرم على غير مضطر الاقتراض إن لم يرج وفاءه من سبب ظاهر، ما لم يعلم المقرض بحاله" (¬2). وقال ابن قدامة: "والقرض مندوب إليه في حق المقرض، مباح للمقترض" (¬3). وفي كشاف القناع: "وينبغي للمقترض أن يعلم المقرض بحاله، ولا يغره من نفسه، ولا يستقرض إلا ما يقدر أن يؤديه إلا الشيء اليسير الذي لا يتعذر مثله عادة؛ لئلا يضر بالمقرض" (¬4). ويدل على تحريم الاقتراض كما قال الشافعية، أو على كراهيته كما يرى غيرهم لغير القادر على الوفاء، إذا لم يكن مضطرًا، ما جاء من النصوص التي تشدد في أمر الدين، من ذلك: (ح -1057) ما رواه مسلم في صحيحه من طريق عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبي قتادة، أنه سمعه، يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قام فيهم، فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله، تكفر عني خطاياي؟ فقال له ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم، إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر"، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين، فإن جبريل - عليه السلام - قال لي ذلك (¬1). (ح -1058) وروى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين (¬2). (ح -1059) وروى البخاري ومسلم من طريق ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه فضلاً؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى، وإلا قال المسلمين: صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح، قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينًا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته (¬3). (ح -1060) وروى البخاري من طريق ابن شهاب، عن عروة، أن عائشة - رضي الله عنها -، أخبرته: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في الصلاة ويقول: اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المغرم؟ قال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف (¬4). ¬
وقال ابن عبد البر: "والدين الذي يحبس به صاحبه عن الجنة، والله أعلم، هو الذي قد ترك له وفاء، ولم يوص به، أو قدر على الأداء، فلم يؤد، أو أنه في غير حق، أو في سرف، ومات ولم يؤده، أما من أدان في حق واجب لفاقة، وعسر، ومات، ولم يترك وفاء، فإن الله لا يحبسه به عن الجنة إن شاء الله؛ لأن على السلطان فرضًا أن يؤدي عنه دينه إما من جملة الصدقات، أو من سهم الغارمين، أو من الفيء الراجع على المسلمين من صنوف الفيء. وقد قيل: إن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتشديده في الدين كان من قبل أن يفتح الله عليه ما يجب منه الفيء والصدقات لأهلها" (¬1). وقال ابن رشد: "قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]. فدل ذلك من قوله على جواز التداين، وذلك إذا تداين في غير سرف، ولا فساد، وهو يرى أن ذمته تقي بما تداين به ... وقد رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - آثار كثيرة في التشديد في الدين، ثم ذكر أحاديث منها حديث أبي قتادة المتقدم ... فكل من ادَّان في مباح، وهو يرى أن ذمته تقي بما ادَّان به، فغلبه الدين فلم يقدر على أدائه حتى توفي، فعلى الإِمام أن يؤدي ذلك عنه من بيت مال المسلمين، أو من سهم الغارمين من الصدقات ... " (¬2). (ح - 1061) وقد روى البخاري من طريق إبراهيم، عن علقمة، قال: بينا أنا ¬
أمشي، مع عبد الله - رضي الله عنه -، فقال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء (¬1). فلم يرشد الرسول إلى الاقتراض، ولو كان لمصلحة كمصلحة الزواج. وقال شيخنا محمد بن عثيمين: "وظاهر كلام الفقهاء أنه مباح مطلقًا (¬2). وينبغي أن يقال: إنه مباح لمن له وفاء، وأما من ليس له وفاء فإن أقل أحواله الكراهة، ولهذا لم يرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي أراد أن يتزوج وقال: ليس عندي شيء، إلى أن يقترض، بل زوجه بما معه من القرآن. فدل هذا على أنه ينبغي للإنسان ما دام عنده مندوحة عن الاقتراض أن لا يقترض، وهذا من حسن التربية؛ لأن الإنسان إذا عوَّد نفسه الاقتراض سهل الاقتراض عليه، ثم صارت أموال الناس التي في أيديهم كأنها مال عنده لا يهمه أن يقترضها، فلهذا ينبغي للإنسان أن لا يقترض إلا لأمر لا بد منه، هذا إذا كان له وفاء، أما إذا لم يكن له وفاء، فإن أقل أحواله الكراهة، وربما نقول بالتحريم، وفي هذه الحال يجب عليه أن يبين للمقرض حاله؛ لأجل أن يكون المقرض على بصيرة" (¬3). ¬
الفصل الثالث بيان أركان القرض
الفصل الثالث بيان أركان القرض القرض عقد تمليك يفتقر إيجابه إلى القبول. [م - 1759] سبق لنا في العقود السابقة كعقد البيع، والإجارة، وغيرها أن بينا الخلاف القائم بين الحنفية وغيرهم في أركان العقد على وجه العموم: فالحنفية يرون ركن العقد الصيغة فقط (الإيجاب والقبول). والجمهور يرون الأركان ثلاثة: عاقد، وصيغة، ومعقود عليه. وهذا الخلاف يجري بينهم في عقد القرض، وإن كان كثير من الفقهاء لا يتعرضون لأركان القرض اكتفاء بما تقدم بيانه عند الكلام على أركان العقد. إذا علم هذا نأتي إلى الأقوال في أركان القرض: القول الأول: القرض الصيغة فقط (الإيجاب والقبول)، وهذا قول محمَّد بن الحسن من الحنفية، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف. جاء في بدائع الصنائع: "أما ركنه فهو الإيجاب، والقبول: والإيجاب: قول المقرض: أقرضتك هذا الشيء، أو خذ هذا الشيء قرضًا، ونحو ذلك. والقبول: هو أن يقول المستقرض: استقرضت، أو قبلت، أو رضيت، أو ما
وجه هذا القول
يجري هذا المجرى. وهذا قول محمَّد - رحمه الله -، وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف" (¬1). وجه هذا القول: أن القرض عقد من عقود التملك، فلا يتم بدون القبول، وهو عقد معاوضة انتهاء فليس تبرعًا محضًا، فالمستقرض يلزمه مثل ما استقرض في ذمته، وما كان من عقود المعاوضة اشترط فيه القبول. القول الثاني: أن الركن هو الإيجاب فقط، وهذا قول لأبي يوسف من الحنفية (¬2). جاء في بدائع الصنائع: "روي عن أبي يوسف أخرى: أن الركن فيه الإيجاب، وأما القبول فليس بركن، حتى لو حلف: لا يقرض فلانًا، فأقرضه ولم يقبل ... يحنث. وجه هذه الرواية: أن الإقراض إعارة ... والقبول ليس بركن في الإعارة" (¬3). ويناقش: بأن التصرفات على قسمين: تصرفات إسقاط، فهذه لا تفتقر إلى قبول، كالعتق، والإبراء من الديون على ¬
وجه القول بأن القبول ليس ركنا
الصحيح، والقصاص، وحد القذف، وكالطلاق، والوقف على المساجد، وعلى الجهات. وتصرفات نقل للملكية فهذه تفتقر إلى القبول، سواء كان نقل الملكية بعوض كالبيع، والإجارة والقرض، أو بغير عوض كالهدايا، والوصايا لمعين (¬1). وجه القول بأن القبول ليس ركنا: أن القرض هو من عقود التبرع، كالصدقة، والعتق، والهبة، والعارية، والوصية، وعقود التبرع لا تفتقر إلى القبول، وإنما تنعقد بالإيجاب وحده (¬2). القول الثالث: أن الأركان أربعة: صيغة: (وهو الإيجاب والقبول) وعاقدان، وهو (المقرض والمستقرض). ومعقود عليه، وهو (المال المستقرض). جاء في روضة الطالبين: "وأركانه أربعة. العاقدان، والصيغة، والشيء المقرض" (¬3). جاء في أسنى المطالب: "وأركانه عاقد، ومعقود عليه، وصيغة كالبيع" (¬4). ¬
سبب الخلاف بين الحنفية والجمهور
سبب الخلاف بين الحنفية والجمهور: الحنفية لا يرون العاقد والمعقود عليه من أركان العقد خلافًا للجمهور، وسبب الخلاف: أن الحنفية يرون أن الركن: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءًا داخلًا في حقيقته، وهذا خاص في الإيجاب والقبول، أما المقرض، والمستقرض، والمال المقرض فهي من لوازم العقد، وليست جزءًا من حقيقة العقد، وإن كان يتوقف عليها وجوده. بينما الجمهور يرون أن الركن: ما توقف عليه وجود الشيء وتصوره عقلاً، سواء أكان جزءًا من حقيقته أم لم يكن، ووجود القرض يتوقف على مقرض، ومستقرض، ومال مقرض، وإن لم يكن هؤلاء جزءًا من حقيقته. ومذهب الحنفية أجود، وأدق في الجملة، والجمهور لا يطرد في تحديد الأركان، فاللوازم تارة يعتبرونها من الأركان، وتارة لا يدخلونها، فهم يجعلون الفاعل ركنًا في مثل عقد البيع والإجارة، والسلم، ولا يجعلونه ركنًا في العبادات كالصلاة والحج، وإن كان لا يتصور قيام الحج والصلاة بدون فاعل.
الفصل الرابع انعقاد القرض بالمعاطاة
الفصل الرابع انعقاد القرض بالمعاطاة القرض يصح بكل ما يدل عليه من قول أو فعل. القرض إذن في الإتلاف بشرط الضمان، فلا يفتقر إلى القبول بالقول. [م - 1760] اختلف الفقهاء في صحة العقود بالمعاطاة إلى قولين: القول الأول: انعقاد العقد بالمعاطاة، كالبيع والإجارة، وغيرها من سائر العقود، وهو قول الجمهور، واختاره بعض الشافعية. القول الثاني: لا ينعقد البيع وسائر عقود المعاوضات بالمعاطاة، وهو مذهب الشافعية. وقد تكلمت على أدلة الفريقين في عقد البيع من المجلد الأول في هذا العقد، فأغنى ذلك عن إعادته هنا (¬1). [م - 1761] إذا عرف هذا الخلاف بين الشافعية والجمهور في عقود المعاوضات، فهل ينزل هذا الخلاف على عقد القرض. أما الجمهور فهم طردوا القول، فالقرض كغيره من سائر العقود يصح بكل ما يدل عليه، ولا يشترط له صيغة معينة وأما الشافعية فلهم في المسألة ثلاثة أقوال: ¬
القول الأول
القول الأول: لا ينعقد القرض على الأصح إلا بالصيغة القولية (الإيجاب والقبول) في غير القرض الحكمي، أما القرض الحكمي كالإنفاق على اللقيط المحتاج، وإطعام الجائع، وكسوة العاري فلا يفتقر إلى صيغة: أي إلى إيجاب وقبول، فما دفعه إليهم بنية الرجوع يرجع عليهم، ويكون قرضاً في حقهم (¬1). وإطلاق (القرض الحكمي) على ما دفعه الإنسان لغيره لإنقاذه، أو لإنقاذ ماله بنية الرجوع هو اصطلاح شافعي. وجه القول باشتراط الصيغة القولية: الرضا شرط في صحة جميع التصرفات، ففي البيع، قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وفي التبرع قال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]. والرضا عمل قلبي لا يعلمه إلا الله، فهو أمر خفي فلا بد من لفظ يدل عليه، ويناط به الحكم، سواء كان مما يستقل به الإنسان كالطلاق، والعتاق، والعفو والإبراء، أو غيره مما لا يستقل به وحده كالبيع، والإجارة، والنكاح، ونحوها. ولأن المعاطاة قد يراد بها البيع، وقد يراد بها الهبة، وقد يراد بها القرض، فلا يصلح أن يكون الإعطاء سبباً في التملك لكونه جنسًا يشمل أنواعًا مختلفة من العقود، وكل عقد يختلف آثاره عن العقد الآخر، فلا بد للقرض أن يكون باللفظ الدال عليه. ¬
القول الثاني
القول الثاني: ينعقد القرض بالإيجاب وحده، وهذا إحدى صورتي المعاطاة؛ لأن المعاطاة عند الفقهاء لها صورتان: الصورة الأولى: أن تكون المعاطاة من الجانبين، من المقرض، والمقترض، وهذه لا خلاف بين الفقهاء أنها من قبيل المعاطاة. الصورة الثانية: أن ينعقد بالإيجاب من المقرض، أي باللفظ من المقرض، والأخذ من المقترض، كأن يقول: خذ الألف قرضا، فيأخذه المقترض بدون أن يتلفظ، وهذه الصورة إحدى صورتي المعاطاة عند الجمهور خلافًا للحنفية (¬1). ¬
القول الثالث في مذهب الشافعية
وقد صحح هذه الصورة إمام الحرمين، والعز بن عبد السلام من الشافعية، وهو خلاف الأصح في مذهب الشافعية. جاء في حاشيتي قليوبي وعميرة: "ويشترط قبوله ... في الأصح كالبيع. والثاني: قال: هو إباحة إتلاف على شرط الضمان، فلا يستدعي القبول" (¬1). ويقصدون بقولهم: فلا يستدعي القبول أي اللفظي؛ لأن القبول بالمعاطاة لا يسمى قبولاً عندهم وعند الجمهور، فإذا قالوا: لا يشترط له القبول، انصرف النفي إلى القبول الاصطلاحي، وهو القبول اللفظي. ولهذا قال العز بن عبد السلام: "والأصح أن القرض إذن في الإتلاف بشرط الضمان، فلا يفتقر إلى القبول بالقول" (¬2). فقيد (القول) يعني أنه يفتقر إلى القبول الفعلي وهي (المعاطاة). وقال النووي: "وأما القبول، فشرط على الأصح، وبه قطع الجمهور. وادعى إمام الحرمين أن عدم الاشتراط أصح" (¬3). القول الثالث في مذهب الشافعية: صحة القرض بالمعاطاة من الجانبين، قال النووي: "قطع صاحب التتمة" بأنه لا يشترط الإيجاب، ولا القبول، بل إذا قال لرجل: أقرضني كذا، أو أرسل إليه رسولاً، فبعث إليه المال، صح القرض. وكذا قال رب المال: أقرضتك هذه الدراهم، وسلمها إليه، ثبت القرض. والله أعلم" (¬4). ¬
فقوله: (لا يشترط الإيجاب ولا القبول) باعتبار أن الإيجاب والقبول لا يطلقان إلا على الصيغة القولية فقط، وأما الصيغة الفعلية فهم يسمونها اصطلاحًا بـ (المعاطاة) ولا يطلقون عليها الإيجاب والقبول كما أسلفت (¬1). وجاء في مغني المحتاج: "قال القاضي والمتولي: الإيجاب والقبول ليسا بشرط بل إذا قال: أقرضني كذا، فأعطاه إياه، أو بعث إليه رسولاً فبعث إليه ¬
الراجح
المال صح القرض. قال الأذرعي: والإجماع الفعلي عليه، وهو الأقوى والمختار، ومن اختار صحة البيع بالمعاطاة كالمصنف، قياسه اختيار القرض بها وأولى بالصحة .... " (¬1). الراجح: صحة القرض بالمعاطاة مطلقًا، سواء كان المعاطاة من أحدهما، أو من كليهما إذا وجدت قرينة دالة على إرادة القرض. يقول ابن تيمية: "والتحقيق: أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت، فأي لفظ من الألفاظ عرف به المتعاقدان مقصودهما انعقد به العقد، وهذا عام في جميع العقود، فإن الشارع لم يحد في ألفاظ العقود حدًا بل ذكرها مطلقة، فكما تنعقد العقود بما يدل عليها من الألفاظ الفارسية، والرومية، وغيرهما من الألسن العجمية، فهي تنعقد بما يدل عليها من الألفاظ العربية" (¬2). وقال ابن قدامة: "ويصح بلفظ السلف والقرض؛ لورود الشرع بهما، وبكل لفظ يؤدي معناهما، مثل أن يقول: ملكتك هذا، على أن ترد على بدله. أو توجد قرينة دالة على إرادة القرض" (¬3). ¬
الباب الثاني في أحكام القرض
الباب الثاني في أحكام القرض الفصل الأول في لزوم عقد القرض القرض لازم في حق المقرض جائز في حق المقترض. كل من يملك المطالبة بمثل ماله فله أخذه إذا كان موجودًا. تنقسم العقود باعتبار اللزوم، وعدمه إلى ثلاثة أقسام: الأول: عقد لازم من الطرفين: وهو العقد الذي ينشئ التزامات متقابلة في ذمة كل من المتعاقدين، كالبيع يلتزم فيه البائع بنقل ملكية المبيع، ويلتزم فيه المشتري بدفع الثمن. الثاني: عقد جائز من الطرفين: وهو العقد الذي يملك فيه كل طرف أن يفسخ العقد متى شاء، وذلك مثل الشركة، والوكالة، والمضاربة، والوصية والعارية، والجعالة. الثالث: عقد لازم من طرف، وجائز من طرف آخر، وذلك مثل الرهن، فهو لازم من جهة الراهن بشرطه، وجائز من جهة المرتهن، وكذلك الضمان جائز من جهة المضمون له دون الضامن (¬1). ¬
توصيف عقد القرض بالنسبة للمقترض
إذا عرفنا أقسام العقود، نريد أن نعرف منزلة عقد القرض من هذه العقود: توصيف عقد القرض بالنسبة للمقترض: [م - 1762] ذهب جمهور الفقهاء إلى أن عقد القرض عقد جائز في حق المقترض، فله رد عين ما اقترضه ما لم يتغير، ويلزم المقرض قبوله. وفرق الحنابلة في المشهور بين إقراض المثلي والمتقوم، فإن كان القرض في مال متقوم لم يجب على المقرض قبوله. وإن كان في مال مثلي لزم المقرض قبوله بشرط ألا يكون قد تعيب، كما لو كان القرض حنطة فابتلت بالماء، أو كان نقودًا فألغى السلطان التعامل بها (¬1). جاء في بدائع الصنائع: "لو أقرض كرًا من طعام، وقبضه المستقرض ... كان المستقرض بالخيار إن شاء إليه دفع هذا الكر، وإن شاء دفع إليه كرًا آخر" (¬2). وجاء في منح الجليل نقلًا عن ابن عرفة: "للمقترِض رد عين المقترَض ما لم يتغير" (¬3). ¬
توصيف عقد القرض بالنسبة للمقرض
وقال إمام الحرمين: "ولو أراد المقترض رد عين القرض، فلا شك أن المقرض محمول على قبوله، وليس له أن يقول: إنما أقرضتك هذه الدراهم بعوضها، فلا أقبل عينها؛ وذلك أن القرض منتزع عن حقائق المعاوضات" (¬1). وفي مذهب الحنابلة، قال في الروض المربع: "فإن رده المقترض أي رد القرض بعينه لزم المقرض قبوله إن كان مثليًا؛ لأنه رده على صفة حقه ... وإن كان متقومًا لم يلزم المقرض قبوله، وله الطلب بالقيمة" (¬2). "لأن الذي وجب له بالقرض قيمته، فلا يلزمه الاعتياض عنها" (¬3). توصيف عقد القرض بالنسبة للمقرض: [م - 1763] وأما القرض في حق المقرض، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن العقد لازم في حق المقرض، وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة، ووجه عند الشافعية في مقابل الأصح، على خلاف بينهم هل يلزم القرض بالقبض، أو بالعقد كما سيأتي تحريره إن شاء الله تعالى (¬4). ¬
وجه القول بذلك
قال ابن قدامة: "وهو عقد لازم في حق المقرض، جائز في حق المقترض، فلو أراد المقرض الرجوع في عين ماله لم يملك ذلك" (¬1). وجاء في حاشية ابن عابدين: "لو استقرض كر بر مثلًا، وقبضه، فله حبسه، ورد مثله، وإن طلب المقرض رد العين؛ لأنه خرج عن ملك المقرض، وثبت له في ذمة المستقرض مثله، لا عينه ولو قائمًا" (¬2). وجاء في بدائع الصنائع: "ولو أراد المقرض أن يأخذ هذا الكر من المستقرض، وأراد المستقرض أن يمنعه من ذلك، ويعطيه كرا آخر مثله؛ له ذلك في ظاهر الرواية" (¬3). وجه القول بذلك: أن ملك المقرض قد زال عن القرض بمجرد القبض، فلا يملك استرجاعه، إلا أن يشاء المقترض، فأشبه البيع اللازم. ولأن القرض يتحول إلى دين بمجرد تمامه، والدين لا يتعلق بالأعيان، وإنما يتعلق في الذمة، وللمدين أن يقضي دينه من أي أمواله شاء، وليس للدائن أن يطالبه بقضاء دينه من مال معين، وقد تكلمت في الفرق بين الدين والعين في عقد البيع. القول الثاني: أن المقرض له أن يطالب بعين ماله ما دام قائمًا، وهو قول أبي يوسف من ¬
وجه قول أبي يوسف
الحنفية، والمذهب عند الشافعية (¬1). وجه قول أبي يوسف: أن المستقرض لا يملك القرض بالقبض ما لم يستهلك، فإذا كان قائمًا بعينه، وطلبه المقرض كان له ذلك (¬2). وجه قول الشافعية: أن عين المال أقرب من المثل عند القدرة على ذلك؛ لأن غاية المثل أن يكون مطابقًا للعين، فالعين هي الأصل، وليس العكس. قال النووي في روضة الطالبين: "هل للمقرض أن يلزمه رده بعينه ما دام باقيًا، أم للمستقرض رد بدله مع وجوده؟ وجهان: أصحهما عند الأكثرين: الأول" (¬3). وقال إمام الحرمين: "لو أراد المقرض أن يسترد عين ما أقرضه، كان له ذلك. وهو ما قطع به القاضي. وسببه: أنه إذا كان يملك تغريمه مثل حقه عند فواته، فينبغي أن يملك استرداد عين ملكه" (¬4). وقال الغزالي: "ولو رجع المقرض في عينه جاز له؛ لأنه أقرب من بدله، وله أخذ بدله" (¬5). ¬
ونوقش
ولأن كل من يملك المطالبة بمثل ماله فله أخذه إذا كان موجودًا، كالمغصوب والعارية. ونوقش: بأن المقرض قد أزال ملكه بعوض من غير خيار، فلم يكن له الرجوع فيه كالمبيع، ويفارق المغصوب، والعارية، فإنه لم يزل ملكه عنهما، ولأنه لا يملك المطالبة بمثلهما مع وجودهما (¬1). الراجح: أن القرض لازم في حق المقرض، فلا يملك الرجوع عنه بعد لزومه، حتى ولو كان عين مال القرض قائمًا؛ لأن حق المقرض قد تعلق في ذمة المقترض، وتحول مال القرض إلى مال مملوك للمقترض، نعم قد استثنى الحنابلة ما لو أفلس المقترض، وحجر عليه للفلس قبل أخذ شيء من بدله، فعند ذلك للمقرض الرجوع به: (ح -1062) لما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي بكر بن محمَّد بن عمرو ابن حزم، أن عمر بن عبد العزيز أخبره، أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام أخبره أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره (¬2). ¬
الفصل الثاني في ثبوت الخيار في عقد القرض
الفصل الثاني في ثبوت الخيار في عقد القرض الخيار يشترط للفسخ لا للإجازة. العقود اللازمة ولو من طرف واحد يدخلها خيار الشرط إذا كان يدخلها الفسخ. نص الشافعية والحنابلة على أن عقد القرض لا يدخله خيار المجلس وخيار الشرط. قال الشيرازي: "ولا يثبت فيه خيار المجلس، وخيار الشرط؛ لأن الخيار يراد للفسخ، وفي القرض يجوز لكل واحد منهما أن يفسخ إذا شاء، فلا معنى لخيار المجلس وخيار الشرط" (¬1). وقال ابن قدامة: "ولا يثبت فيه خيار ماء لأن المقرض دخل على بصيرة أن الحظ لغيره، فأشبه الهبة، والمقترض متى شاء رده، فيستغني بذلك عن ثبوت الخيار له" (¬2). وفي مجلة الأحكام الشرعية، قال: "لا يثبت في القرض شيء من الخيارات" (¬3). ولا يرى الحنفية والمالكية خيار المجلس في عقد من العقود، ولم أقف لهم على نص في ثبوت خيار الشرط في عقد القرض، والله أعلم. ¬
وقد ذكر ابن نجيم من الحنفية العقود التي يدخلها خيار الشرط، وذكر خمسة عشر عقدًا ولم يذكر القرض من بينها، وهي البيع، والمزارعة، والمعاملة، والإجارة، والقسمة، والصلح على مال، والكتابة، والخلع، والرهن، والعتق، والكفالة، والحوالة، والإبراء، والوقف على قول أبي يوسف، والشفعة (¬1). إلا أن الضابط عند الحنفية في دخول خيار الشرط للقرض لا يمنع ثبوته، فالضابط عندهم: أن العقود اللازمة ولو من جانب واحد يدخلها خيار الشرط إذا كان ذلك العقد يقبل الفسخ، والقرض عند الحنفية عقد لازم في حق المقرض، فإذا استلم المقترض مال القرض لم يحق للمقرض المطالبة بعين ماله؛ لأن المقترض قد ملكه بذلك (¬2). جاء في حاشية ابن عابدين: "لو استقرض كر بر مثلاً، وقبضه، فله حبسه، ورد مثله، وإن طلب المقرض رد العين؛ لأنه خرج عن ملك المقرض، وثبت له في ذمة المستقرض مثله، لا عينه ولو قائمًا" (¬3). ¬
الفصل الثالث في ترتب أثر القرض
الفصل الثالث في ترتب أثر القرض التبرع لا يتم إلا بالقبض (¬1). المتبرع لا يجبر على إتمام تبرعه (¬2). وقيل: عقود التمليك تثبت بالعقد، ومنها القرض. [م - 1764] عقد القرض من عقود التمليك، بحيث يمتلك المقترض المال المقرض، ويثبت بدله في ذمته، والسؤال: هل يتم الملك بالعقد (بالإيجاب والقبول) وقبل القبض، أو يتوقف الملك في القرض على القبض، أو يشترط حتى يتملكه أن يتصرف فيه المقرض وذلك باستهلاكه؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم على أربعة أقوال: القول الأول: أن المقترض يملك المال بالقبض، وهو مذهب الحنفية، والحنابلة، والأصح في مذهب الشافعية، إلا أن الشافعية يرون أن العقد جائز في حق الطرفين، ولا يلزم إلا بالتصرف (¬3). ¬
واستدلوا على ذلك
واستدلوا على ذلك: الدليل الأول: أن عقد القرض من عقود التبرع؛ لأنه لا يقابله عوض في الحال، ولا يملكه من لا يملك التبرع، ولا يجوز قصد التكسب منه، وإذا كان من عقود التبرع فلا يكفي الإيجاب والقبول في ثبوت الملك، وإنما يشترط فيها تسليم العين كسائر عقود التبرع من هبة، وصدقة، وإعارة، وإيداع. (ث -252) فقد روى مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقًا من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلى غنى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقًا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث .... (¬1). [إسناده صحيح] فهذا الصديق الخليفة الراشد وعد ابنته، ولما لم تقبضه في حال صحته لم ير لزومه، لكون الهبة من عقود التبرع، لا تلزم إلا بالقبض، والقرض مثله، فهو تبرع، لا يقصد منه المعاوضة، ووجوب رد البدل لا يجعله من عقود المعاوضات كما أن عقد الإعارة يوجب رد العين المستعارة، وهو من عقود التبرع. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن المقترض إذا قبض المال صارت يده في المال مطلقة بيعًا، وهبة، وصدقة، وله أن يوفي منه ديونه، ويورث عنه، فإذا ثبت أن جميع أنواع التصرفات التي تثبت للمالك تثبت للمقترض في هذا المال إذا قبضه، كان هذا دليلًا على تملكه بالقبض. الدليل الثالث: أن القرض مأخوذ في اللغة من القطع، فإذا استلمه المقترض فقد قطع ملك المقرض عنه. القول الثاني: أن القرض لا يملك بالقبض، ما لم يستهلك. وهذا اختيار أبي يوسف من الحنفية (¬1). وجه قول أبي يوسف: أن الإقراض إعارة؛ بدليل أنه لا يلزم فيه الأجل، ولو كان معاوضة للزم، كما في سائر المعاوضات. وكذا لا يملكه الأب، والوصي، والعبد المأذون، والمكاتب، وهؤلاء يملكون المعاوضات، فثبت بهذا أن الإقراض إعارة، فتبقى على حكم ملك المقرض قبل أن يستهلكها المقترض (¬2). ¬
القول الثالث
القول الثالث: أن القرض يملك بالعقد بمجرد صدور (الإيجاب والقبول)، وإن لم يقبضه، وهو وجه في مذهب الشافعية، ورجحه الإِمام الشوكاني (¬1). جاء في شرح الخرشي: "القرض يملكه المقترض بمجرد عقد القرض، وإن لم يقبضه ويصير مالًا من أمواله، ويقضى له به" (¬2). وجه هذا القول: عقد القرض وغيره كالهبة والصدقة، والعارية من عقود التمليك، والتمليك يثبت بالعقد القائم على التراضي، فالتراضي هو المناط في نقل الأموال، وإن لم يقبض المال. القول الرابع: التفريق بين إقراض المبهم وإقراض المعين، فالمبهم لا يملك بدون القبض بخلاف المعين فإنه يملك بالعقد، وهذا وجه في مذهب الحنابلة (¬3). وجه هذا القول: يمكن الاستدلال لهذا القول بأن المعين يتعلق الحق بعينه، فيملكه بالعقد ¬
القول الخامس
وحده، وأما المبهم فلم يتعلق الحق بشيء معين، فلا يملك بمجرد العقد، بل لا بد فيه إما من التعيين أو من القبض. القول الخامس: أن القرض يملك بالتصرف المزيل للملك، وهذا وجه في مذهب الشافعية (¬1). وقال الرافعي: معناه: إذا تصرف تبين ثبوت ملكه قبله. والمراد بالتصرف: قيل: كل تصرف يزيل الملك. وقيل: كل تصرف يتعلق بالرقبة كالرهن، وقيل: كل تصرف يمنع رجوع الواهب والبائع عند الإفلاس، فعلى الأوجه يكفي البيع، والهبة، والإتلاف والإعتاق (¬2). قال العمراني في البيان: "ومتى يملك المستقرض العين التي استقرضها؟ فيه وجهان: أحدهما: من أصحابنا من قال: لا يملكها إلا بالتصرف بالبيع، أو الهبة، أو بأن يتلفها، أو تتلف في يده؛ لأن للمقرض أن يرجع في العين، وللمستقرض أن يردها. ولو ملكها المستقرض بالقبض لم يملك واحد منهما فسخ ذلك. فعلى هذا: إن استقرض حيوانا كانت نفقته على المقرض إلى أن يتلفه المستقرض، وإن استقرض أباه لم يعتق عليه بالقبض ... " (¬3). ¬
وجه هذا القول
وجه هذا القول: أن المقرض له حق الرجوع في عين ماله ما دامت عينه باقية، فإذا تحرف فيه حصل ملكه للقرض، وثبت بدله في ذمته. الراجح: أن عقد القرض يتم بالإيجاب والقبول كغيره من العقود، ويملك بالقبض، والله أعلم. والقول بأن المقرض له الرجوع في عين ماله ما لم يتصرف فيه فهذا محل خلاف، والصحيح أنه لا يحق للمقرض المطالبة بعين ماله، وعلى التنزل أن له ذلك فإن هذا لا يعني عدم ثبوت المالك، كهبة الوالد لولده فإن الولد يملكها بالقبض، وإن كان للوالد الرجوع في هبته، والله أعلم.
الفصل الرابع في مصاريف الإقراض والوفاء
الفصل الرابع في مصاريف الإقراض والوفاء مؤونة قبض ورد كل عين تلزم من تعود إليه منفعة قبضها. المقترض قبض المال لمنفعة نفسه فمؤونة القبض والرد واجبة عليه. كل منفعة أو عمولة أيًا كان نوعها اشترطها الدائن إذا ما ثبت أن ذلك لا يقابله خدمة حقيقية، ولا نفقات فعلية فإنها من الربا (¬1). [م - 1765] إذا ترتب على الإقراض نفقات ومصاريف كأجور الكيل والوزن، وكذا نفقات التسليم والوفاء، ونفقات الاتصالات، وتحرير الصكوك مما يحتاج إليه لإجراء مثل هذا العقد، أو توثيقه فإن المقترض وحده هو الذي يتحملها. جاء في الشرح الكبير: "فمن اقترض إردبًا مثلاً، فأجرة كيله على المقترض، وإذا رده فأجرة كيله عليه بلا نزاع" (¬2). وعلق على ذلك الدسوقي في حاشيته: "قوله: (فأجرة كيله على المقترض) أي لا على المقرض؛ لأنه فعل معروفًا، وفاعل المعروف لا يغرم" (¬3). وقياسًا على تحمل المستعير مؤونة ومصارف تسلم العارية وردها؛ حيث إن القرض عارية لمنافع المال المقرض. ¬
جاء في غمز عيون البصائر: "مؤنة رد العارية على المستعير؛ لأنه قبضها لمنفعة نفسه فيجب عليه ردها" (¬1). وجاء في الحاوي: "إذا طالب المعير المستعير برد العارية كانت مؤنة ردها واجبة على المستعير بخلاف المستأجر، والفرق بينهما: أن تسليم المنفعة في الإجارة مستحق على المؤجر، فكانت مؤنة الرد عليه، وتسليمها في العارية هبة للمستعير، فكانت مؤنة الرد عليه" (¬2). ولأن المقترض إنما قبض المال لمنفعة نفسه دون منفعة المقرض، والرد واجب عليه. والقاعدة الشرعية: أن مؤونة قبض ورد كل عين تلزم من تعود إليه منفعة قبضها، والمنفعة ها هنا عائدة على المقترض وحده فلزمته النفقات والمصاريف المترتبة على هذا العقد. ولأننا لو حملنا المقرض نفقات القرض أدى ذلك إلى إغلاق باب القرض، والمقرض محسن بفعله، وقد قال تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ} [التوبة: 91]. جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي في دورة مؤتمره الثالث بعمان (الأردن): "بخصوص أجور خدمات القروض في البنك الإِسلامي للتنمية، قرر مجلس "المجمع اعتماد المبادئ التالية: أ - جواز أخذ أجور عن خدمات القروض. ¬
ب - أن يكون ذلك في حدود النفقات الفعلية. ج - كل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة؛ لأنها من الربا المحرم شرعًا" (¬1). ¬
الفصل الخامس في بدل القرض
الفصل الخامس في بدل القرض المبحث الأول في صفة البدل من حيث المثلية والقيمية القرض مضمون بالمثل إذا كان من ذوات الأمثال، أو بالقيمة في غيرها. [م - 1766] اختلف الفقهاء في بدل القرض الذي يلزم المقترض أداؤه على أقوال: القول الأول: المقرض إذا امتلك القرض ثبت مثله في ذمته، ولا يحق للمقرض أن يطالب بعينه، ولو كان قائمًا، حتى ولو رخص سعره أو غلا فعليه مثله، ولا عبرة برخصه وغلائه، وهذا مذهب الحنفية. فإن تعذر على المقترض رد المثل، فعند أبي حنيفة يجبر المقرض على الانتظار إلى أن يوجد مثله، ولا يصار إلى القيمة إلا إذا تراضيا عليها. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا تعذر المثل وجبت القيمة (¬1). جاء في مرشد الحيران: "إنما تخرج العين المقترضة عن ملك المقرض وتدخل في ملك المستقرض إذا قبضها، فيثبت في ذمة المستقرض مثلها لا عينها ¬
وجه القول بوجوب المثل دون العين
ولو كانت قائمة" (¬1). وجاء فيه أيضًا: "إذا استقرض شيئاً من المكيلات، أو الموزونات، أو المسكوكات من الذهب والفضة فرخصت أسعارها أو غلت، فعليه رد مثلها، ولا عبرة برخصها وغلوها" (¬2). وجاء فيه: "إذا لم يكن في وسع المستقرض رد مثل الأعيان المقترضة، بأن استهلكها، ثم انقطعت عن أيدي الناس يجبر المقترض على الانتظار إلى أن يوجد مثلها، إلا إذا تراضيا على القيمة" (¬3). وجه القول بوجوب المثل دون العين: أن ملك المقرض قد زال عن القرض بمجرد القبض، فلا يملك استرجاعه، إلا أن يشاء المقترض، فأشبه البيع اللازم. ولأن القرض يتحول إلى دين بمجرد تمامه، والدين لا يتعلق بالأعيان، وإنما يتعلق في الذمة، وللمدين أن يقضي دينه من أي أمواله شاء، وليس للدائن أن يطالبه بقضاء دينه من مال معين، وقد تكلمت في الفرق بين الدين والعين في عقد البيع. وجه القول بوجوب المثل ولو نقص السعر أو زاد: لأن الواجب إذا كان المثل لا يصار إلى السعر؛ لأن العمل بالسعر يعني العمل بالقيمة، ولا تجب القيمة مع وجوب المثل. ¬
وجه القول بوجوب الانتظار إذا عدم المثل إلا بالتراضي على القيمة
وجه القول بوجوب الانتظار إذا عدم المثل إلا بالتراضي على القيمة: أخذ القيمة عن المثل إذا تعذر، هي معاوضة، والمعاوضة لا تصح إلا بالتراضي. القول الثاني: ذهب المالكية، والشافعية في الأصح،، إلى أن المقترض في قرض المثليات غير بين ردمثله، أو عينه ما لم تتغير. وفي اقتراض المال القيمي يخير المقترض بين رد مثله صورة، أو عينه ما لم تتغير، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في شرح الخرشي: "ويجوز للمقترض أن يرد مثل الذي اقترضه، وله أن يرد عين الذي اقترضه إن كان غير مثلي، وأما المثلي فلا يتوهم؛ لأن المثلي لا يراد لعينه، فلا فرق بين أن يكون هو أو غيره، وهذا ما لم يتغير بزيادة أو نقصان" (¬2). وجاء في مغني المحتاج: "ويرد في القرض المثل في المثلي؛ لأنه أقرب إلى حقه، ولو في نقد بطل التعامل به، ويرد في المتقوم المثل صورة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - اقترض بكرًا ورد رباعيًا، وقال: إن خياركم أحسنكم قضاء. رواه مسلم؛ ولأنه لو وجبت قيمته لافتقر إلى العلم بها" (¬3). ¬
القول الثالث
القول الثالث: ذهب الحنابلة إلى تقسيم بدل القرض إلى ثلاثة أقسام: الأول: إذا أقرضه مالاً مثليًا، كما لو أقرضه مكيلا أو موزونا فهو مخير بين رد المثل، أو العين، وإذا رد العين لزم المقرض قبوله، ولو تغير سعره، إلا أن يتعيب، أو تكون فلوسًا، فيمنع السلطان التعامل بها، فتجب القيمة. وجه هذا القول: دليل الحنابلة يتطابق مع دليل الحنفية حيث كان المال المقرض مثليًا، وأما القرض القيمي فالحنفية يمنعونه، ويجعلونه من قبيل العارية المضمونة. الثاني: إذا أقرضه قيميًا لا ينضبط بالصفة كالجواهر ونحوها، فيلزم المقترض قيمته يوم القبض، فإن أراد المقترض رده بعينه لم يلزم المقرض قبوله؛ ولو لم يتغير سعره. وجه هذا القول: أن الذي وجب له بقرض القيمي هو قيمته، فلا يلزم المقرض الاعتياض عنها. الثالث: ما سوى ذلك، كالمذورع والمعدود، ففيه وجهان: أرجحهما: يلزمه رد قيمته يوم القبض. والثاني: يجب رد مثله صورة، ويعضده كون النبي استسلف بكرًا، فرد خيرًا منه، ولم يعطه القيمة (¬1). ¬
الراجح
جاء في الإنصاف: "يجب رد المثل في المكيل والموزون بلا نزاع، لكن لو أعوز المثل فيهما لزمه قيمته يوم إعوازه. ذكره الأصحاب ... وأما الجواهر ونحوها: فيجب رد القيمة. على الصحيح من المذهب. كما قال المصنف. وعليه جماهير الأصحاب. وقطع به أكثرهم يوم قبضه. وقيل: يجب رد مثله جنسًا وصفة وقيمة. قوله (وفيما سوى ذلك). يعني في المذروع والمعدود، والحيوان ونحوه وجهان: أحدهما: يرد بالقيمة. صححه في التصحيح. والوجه الثاني: يجب رد مثله من جنسه بصفاته، وإليه ميله في الكافي، والمغني، والشرح وهو ظاهر كلامه في العمدة. فعلى الأول: يرد القيمة يوم القرض. جزم به في المغني، والشرح، والكافي، والفروع، وغيرهم. وعلى الثاني: يعتبر مثله في الصفات تقريباً. فإن تعذر المثل: فعليه قيمته يوم التعذر" (¬1). الراجح: أرى أن مذهب المالكية والشافعية أقرب الأقوال إلى الصحة، وأن الواجب مثل ما أقرض مثلياً كان أو قيميًا، لكنه في القيمي تكون المثلية صورية، والله أعلم، ويتسامح في عقد القرض أكثر من غيره. ¬
المبحث الثاني في صفة البدل من حيث الزيادة والنقص
المبحث الثاني في صفة البدل من حيث الزيادة والنقص كل زيادة من عين أو منفعة يشترطها المقرض على المقترض فهي ربا، فإن زاده من غير شرط عند الوفاء جاز. خياركم أحسنكم قضاء. الزيادة في قدر القرض كالزيادة في الصفة تبطل بالشرط، وتصح بدونه. [م - 1767] الأصل في القرض أنه يوجب المثل قدرًا وصفة، فإن دفع المقترض أكثر مما أخذ فإن كان ذلك بشرط فان ذلك حرام بالاتفاق، سواء كانت الزيادة بالقدر، أو كانت الزيادة بالصفة. وإن قضاه خيرًا مما أعطاه بدون شرط، فقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: الجواز مطلقًا سواء كانت الزيادة في القدر، أو كانت الزيادة في الصفة، وهذا مذهب الحنفية، ومذهب الشافعية، ومذهب الحنابلة، واختاره بعض المالكية (¬1). ¬
القول الثاني
ونص الحنفية على أنه إذا قضاه المدين أجود فلا بد من قبول المقرض، ولا يجبر على القبول، كما لو دفع إليه أنقص. جاء في المبسوط: "لو رد المستقرض أجود مما قبضه، فإن كان ذلك عن شرط لم يحل؛ لأنه منفعة القرض، وإن لم يكن ذلك عن شرط فلا بأس به؛ لأنه أحسن في قضاء الدين وهو مندوب إليه" (¬1). وقال الإِمام الشافعي: "ومن أسلف سلفاً فقضى أفضل من ذلك في العدد والوزن معاً فلا بأس بذلك، إذا لم يكن ذلك شرطا بينهما في عقد السلف" (¬2). وقال ابن قدامة: "فإن أقرضه مطلقاً من غير شرط، فقضاه خيرًا منه في القدر أو الصفة، أو دونه برضاهما جاز" (¬3). القول الثاني: المنع مطلقاً، سواء كانت الزيادة في القدر أو في الصفة، وهو رواية عن أحمد (¬4). جاء في عمدة الحازم: "وإن أهدى له هدية، أو زاده زيادة بعد الوفاء من غير مواطأة، فهل يجوز؟ على وجهين" (¬5). ¬
القول الثالث
وفي الهداية: "على روايتين: إحداهما: جواز ذلك، والأخرى تحريمه" (¬1). القول الثالث: تجوز الزيادة في الصفة دون الزيادة في المقدار، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬2). قال القرافي: "ولا تمتنع الزيادة بعد الأجل في الصفة، وتمتنع في العدد على المشهور للتهمة في السلف بزيادة، والحديث المتقدم ورد في الجمل الخيار، وهو أجود صفة، والفرق: أن الصفة والموصوف كالشيء الواحد بخلاف العدد" (¬3). دليل من قال بالجواز مطلقا: الدليل الأول: (ح -1063) روى مسلم من طريق زيد بن أسلم؛ عن عطاء بن يسار، عن أبي رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكرًا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيًا، فقال: أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء (¬4). ورواه الشيخان من مسند أبي هريرة (¬5). ¬
الدليل الثاني
قال ابن عبد البر: "في حديث أبي رافع هذا ما يدل على أن المقرض إن أعطاه المستقرض أفضل مما أقرضه جنسًا، أو كيلاً، أو وزنًا، أن ذلك معروف، وأنه يطيب له أخذه منه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أثنى فيه على من أحسن القضاء، وأطلق ذلك، ولم يقيده بصفة" (¬1). الدليل الثاني: (ح -1064) ما رواه الشيخان من طريق محارب بن دثار، عن جابر بن عبد الله، قال: كان لي على النبي - صلى الله عليه وسلم - دين، فقضاني وزادني (¬2). وفي رواية لهما: فوزن لي فأرجح (¬3). وفي رواية للبخاري: يا بلال، اقضه وزده، فأعطاه أربعة دنانير، وزاده قيراطًا، قال جابر: لا تفارقني زيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن القيراط يفارق جراب جابر بن عبد الله (¬4). وجه الاستدلال من الحديثين: أن حديث أبي رافع دل على جواز الزيادة في الصفة، وحديث جابر - رضي الله عنه - دل على جواز الزيادة في العدد، وكلاهما تطبيق عملي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إن خيار الناس أحسنهم قضاء. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ث -253) ما رواه مالك في الموطأ، عن حميد بن قيس المكي، عن مجاهد أنه قال: استسلف عبد الله بن عمر من رجل دراهم، ثم قضاه دراهم خيرًا منها، فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن هذه خير من دراهمي التي أسلفتك، فقال عبد الله بن عمر: قد علمت ولكن نفسي بذلك طيبة (¬1). [صحيح] (¬2). وجه الاستدلال: أن ابن عمر - رضي الله عنهما - قد قضى دينه بخير منه، وبين سبب الجواز: وهو العلم والرضا، ولو كان الجواز مقيدًا يكون الزيادة في الصفة لبين ذلك ابن عمر - رضي الله عنهما -. دليل من قال: تجوز الزيادة بالصفة دون العدد: (ح -1065) ما رواه مسلم من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكرًا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيًا، فقال: أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء (¬3). وجه الاستدلال: أن رسول الله قضى الجمل بجمل خير منه، وهذا زيادة في الصفة لا في العدد. ¬
ويجاب من ثلاثة أوجه
ويجاب من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: بأن حديث جابر - رضي الله عنه - دليل على جواز الزيادة في الصفة، وليس دليلًا على تحريم الزيادة في غيرها. الوجه الثاني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - علل الحكم بقوله: إن خيار الناس أحسنهم قضاء، وهذا مطلق يشمل الزيادة في الصفة وفي العدد، ومن قيد كلام الشارع على زيادة الصفة فقد قيد كلام الشارع بلا دليل، والمطلق من النصوص لا يقيده إلا نص مثله أو إجماع، وهذا ما لم يوجد في مسألتنا. الوجه الثالث: لئن كان حديث أبي رافع - رضي الله عنه - في جواز الزيادة في الصفة، فلقد ثبت جواز الزيادة في العدد في حديث جابر - رضي الله عنه -، وذكرته في أدلة القول الأول. دليل من قال: تحرم الزيادة مطلقًا: أن القرض من عقود الإرفاق، وهو يوجب رد المثل، فإذا أخذ أكثر مما دفع سواء كان ذلك في الصفة أو في المقدار فقد تحول إلى قرض يجر نفعًا، وهذا لا يجوز. ويناقش: بأن هذا نظر في مقابل النص، فهو نظر فاسد، وقد دلت النصوص على جوازه إذا لم يكن مشروطًا، كيف وقد فعله إمام المرسلين، وهو خير الناس وأتقاهم لربه.
الراجح
الراجح: جواز الزيادة مطلقا سواء كانت في الصفة أو في المقدار بشرطه، وهو أن يكون ذلك عند القضاء، ويتبرع به المقرض دون شرط، وفعله مستحب من المقرض، وأخذه حلال للمقترض، وتركه ليس من الورع، والله أعلم.
فرع إذا كان دفع الزيادة بمقتضى العادة
فرع إذا كان دفع الزيادة بمقتضى العادة النبي - صلى الله عليه وسلم - معروفًا بحسن القضاء، ولم يكن إقراضه مكروهًا. إذا جازت الزيادة على القرض عند الوفاء من غير شرط مرة واحدة، جازت الزيادة كثر من مرة من غير فرق. وقيل: الثابت بالعرف كالثابت بالشرط. وقيل: العادة المطردة تنزل منزلة الشرط. [م - 1768] إذا كان من عادة المقترض أن يرد أكثر مما أخذ، فإن كان الباعث على القرض هو حصوله على تلك الزيادة، بحيث لو علم المقرض أن المقترض لن يدفع تلك الزيادة لم يقرضه، فإن هذا الفعل محرم، خاصة عند الفقهاء الذين يقولون: إن الباعث على العقد مؤثر في صحة العقد، وقد تكلمت على تأثير الباعث على صحة العقد في عقد البيع، عند الكلام على موانع البيع، كبيع العنب لمن يعصره خمرًا، وبيع السلاح في الفتنة. وإن كان المقرض لم يقصد الزيادة بقرضه، فهل له أن يأخذها؟ في ذلك خلاف بين العلماء: القول الأول: يكره أخذ الزيادة إن كان هناك عرف أو عادة، وهذا مذهب الحنفية (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: يحرم، وهذا مذهب المالكية (¬1)، واختيار القاضي أبي يعلى من الحنابلة (¬2). القول الثالث: يجوز أخذ الزيادة، وهو المذهب عند الشافعية (¬3)، وقول عند الحنابلة، صححه في الإنصاف (¬4)، وبه قال ابن حزم (¬5). دليل من قال: يكره أو يحرم أخذ الزيادة: الدليل الأول: أن المعروف كالمشروط، فإذا كان لا يجوز اشتراط الزيادة، فكذلك إذا كان المقترض معروفًا بدفع الزيادة. الدليل الثاني: أن المقرض ربما كان الباعث على القرض هو حصوله على تلك الزيادة، وهي نية مؤثرة على صحة العقد. ¬
دليل من قال بالجواز
(ح -1066) لما رواه البخاري من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على المنبر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه (¬1). دليل من قال بالجواز: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معروفاً بحسن القضاء، ولم يكن إقراضه مكروهاً، ولا محرمًا. وإذا كان خيار الناس أحسنهم قضاء كما جاء في الحديث، فإن هذا ينبغي أن يكون أولى الناس بقضاء حاجته، وإجابة مسألته، وتفريج كربته، وفي كراهة إقراضه أو تحريم ذلك تضييق عليه، فلا يقابل إحسانه وفعله للخير بالتضييق عليه. وإذا جازت الزيادة عند الوفاء من غير شرط مرة واحدة، جازت هذه الزيادة ألف مرة من غير فرق. الراجح: جواز أخذ الزيادة بشرط ألا يكون الباعث على الإقراض هو أخذ هذه الزيادة بحيث لو علم المقرض أنه لن يدفع هذه الزيادة لم يقرضه، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في مكان استرداد القرض
المبحث الثالث في مكان استرداد القرض ما وجب رده لزم رده في موضع التعاقد إلا أن يكون المكان لا يصلح لذلك. التراضي على القضاء في غير بلد القرض بدون شرط يجوز، ويأخذ حكم الزيادة عند الوفاء من غير شرط. إذا بذل المقترض مثل ما اقترض في غير مكان الاقتراض لزم المقرض قبوله إذا لم يكن لحمله مئونة، وكان البلد والطريق آمنين. [م - 1769] لا يجب على المقرض ولا على المقترض ذكر مكان وفاء الدين، لحديث ابن عباس المتفق عليه. من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم، إلى أجل معلوم (¬1). فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر مكان إيفاء المسلم فيه، مع أن الحديث وارد لبيان شروط السلم، فدل ذلك على عدم اشتراطه، وإذا لم يجب ذكر مكان الوفاء في دين السلم، وهو من عقود المعاوضات، لم يجب ذكره في دين القرض من باب أولى؛ لأن عقود المعاوضات قائم على أن كل التزام يقابله عوض، فيتشدد في ذكر مكان الوفاء بخلاف عقد الإرفاق القائم على التسامح. [م - 1770] وإذا أطلق عقد القرض، ولم يذكر مكان الوفاء، فإن هذا يعني أن الوفاء يجب أن يكون في الموضع الذي تم فيه العقد، ولا يتحمل المقرض أي نفقات لرد قرضه (¬2). ¬
وجه ذلك: أن المقرض محسن، وما على المحسنين من سبيل، فلو كان عليه أن يتجشم مشقة لرد قرضه، لكان ذلك منافيا لإحسانه. إلا أن يكون موضع العقد لا يصلح مكانًا للوفاء، كما لو أقرضه في طيارة، أو في لجة البحر. وإذا اشترط المقرض مكانًا للوفاء عند القرض ففي ذلك خلاف في صحة هذا الاشتراط، وسوف يأتينا بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى في الشروط الجعلية في عقد القرض. [م - 1771] لكن لو بذله المقترض في مكان آخر غير بلد الإقراض، فهل يلزم المقرض قبوله، وكذا لو طالب المقرض المقترض الوفاء في غير بلد القرض، فهل يلزم المقترض دفعه؟ وللجواب على ذلك نقول: إذا كان بدل القرض مما لا حمل له، ولا مؤنة، كالدراهم والدنانير فذهب الحنفية والمالكية والشافعية، والحنابلة إلى أنه يلزم المقرض قبوله إذا بذله المقترض في غير بلد القرض، زاد الحنابلة شرطاً، وهو أن يكون البلد والطريق آمنين؛ لعدم الضرر عليه في ذلك، واعتبر الشافعية والمالكية هذا الشرط في الجملة (¬1). ¬
الأول: مذهب الحنفية
أما إذا كان القرض له حمل ومؤنة، فأقوال المذاهب على النحو التالي: الأول: مذهب الحنفية: إن دفعه المقترض لم يلزم المقرض قبوله. وإن طالب به المقرض، فإن تراضيا فحسن، وإن لم يتراضيا ففيه روايتان: أحدهما: يوثق القرض بكفيل ويعطى له مثله في بلد القرض. جاء في مجمع الضمانات: "رجل استقرض من رجل طعامًا في بلد الطعام فيه رخيص، فلقيه المقرض في بلد فيه الطعام غال، فأخذه الطالب بحقه، فليس له أن يحبس المطلوب، ويؤمر المطلوب بأن يوثق بكفيل حتى يعطي له طعامه إياه في بلد القرض" (¬1). الرواية الثانية: أن يدفع له قيمة قرضه في بلد القرض، لا في البلد الآخر، وتعتبر القيمة يوم القبض عند أبي يوسف، وعند محمَّد يوم الخصومة (¬2). جاء في مجمع الضمانات: "وإن أقرضه طعامًا بالعراق، وأخذه بمكة، فعند أبي يوسف عليه قيمته يوم قبضه، وعند محمَّد عليه قيمته بالعراق يوم اختصما" (¬3). ¬
القول الثاني: مذهب المالكية
القول الثاني: مذهب المالكية: إن تراضيا على القضاء في بلد غير بلد القرض دون شرط جاز ذلك، وتكون هذه من باب زيادة المقترض من غير شرط، وقد تقدم بحثها. وإن لم يتراضيا لم يلزم أحد منهما القضاء في غير بلد القرض (¬1). قال الدسوقي في حاشيته: "حاصل فقه المسألة: أن القرض إن كان عينًا وأراد المقترض رده لزم ربه قبوله مطلقًا كان في محل القضاء، أو في غيره، حل الأجل أو لا، إلا لخوف في الطريق، أو احتياج إلى كبير حمل، فلا يلزمه قبولها قبل المحل وإن كان القرض غير عين، بأن كان عرضًا أو طعامًا فيجبر المقرض على القبول إذا أتى به المقترض في محل القضاء حل الأجل أم لا، وإلا فلا يجبر" (¬2). قال ابن عبد البر: "ومن استقرض قرضا مما له مؤونة وحمل ولم يكن عينًا، ولم يشترط للقضاء موضعًا فإنه يلزمه القضاء في الموضع الذي اقترض فيه. ولو لقيه في غير البلد الذي أقرضه فيه، فطالبه بالقضاء فيه لم يلزمه ذلك، ولزم أن يوكل من يقبضه منه في ذلك البلد الذي اقترض فيه. ولو اصطلحا على القضاء في البلد الآخر، كان ذلك جائزًا إذا كان بعد حلول الأجل إن كان قبل حلول الأجل لم يجز" (¬3). ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية
القول الثالث: مذهب الشافعية: لا يلزم المقترض الدفع في غير محل الإقراض إلا إذا لم يكن لنقله مؤنة، أو له مؤنة وتحملها المقرض، وكالمؤنة ارتفاع الأسعار في غير مكان الإقراض. ولو بذل المقترض القرض في غير بلد القرض لم يلزم المقرض القبول إلا إذا لم يكن لنقله مؤنة، أو له مؤنة، وتحملها المقترض، ولم يكن المكان مخوفا. وإن طالبه بقيمة القرض فإنه يلزمه أداؤها، لجواز الاعتياض عن دين القرض، وتعتبر قيمة بلد القرض؛ لأنه محل التملك (¬1). قال الشيرازي: "فإن أقرضه طعامًا بمصر، فلقيه بمكة فطالبه به لم يجبر على دفعه إليه؛ لأن الطعام بمكة أغلى، فإن طالبه المستقرض بالأخذ لم يجبر على أخذه لأن عليه مؤنة في حمله، فإن تراضيا جاز؛ لأن المنع لحقهما، وقد رضيا جميعًا، فإن طالبه بقيمة الطعام بمكة أجبر على دفعها؛ لأنه بمكة كالمعدوم، وما له مثل إذا عدم وجبت قيمته، ويجب قيمته بمصر لأنه يستحقه بمصر" (¬2). القول الرابع مذهب الحنابلة: فرق الحنابلة بين القرض المثلي والقيمي: فإن كان القرض مثليًا، وبذل المقترض المال في غير بلد القرض، ولا مؤنة لحمله لزم المقرض قبوله بشرط أن يكون البلد والطريق آمنين. فإن كان لحمله مؤنة، أو كان البلد والطريق غير آمنين لم يزلم المقرض قبوله. ¬
وإن طالب المقرض ببدل القرض في غير بلده، لزم المقترض قضاؤه في المثليات، إلا إذا كان لحمله مؤونة، أو كانت قيمته ببلد القرض أنقص، فلا يلزمه إلا قيمته ببلد القرض. أما إذا كانت قيمته ببلد القرض مساوية، أو أكثر لزمه دفع المثل في المثليات. فإن كان القرض قيميًا فيلزم المقترض أداء قيمته مطلقاً، والمعتبر قيمته ببلد القرض. هذا ملخص مذهب الحنابلة (¬1). قال ابن قدامة: "إذا أقرضه ما لحمله مؤنة، ثم طالبه بمثله ببلد آخر، لم يلزمه؛ لأنه لا يلزمه حمله له إلى ذلك البلد. فإن طالبه بالقيمة لزمه؛ لأنه لا مؤنة لحملها. فإن تبرع المستقرض بدفع المثل، وأبى المقرض قبوله، فله ذلك، لأن عليه ضررًا في قبضه؛ لأنه ربما احتاج إلى حمله إلى المكان الذي أقرضه فيه، وله المطالبة بقيمة ذلك في البلد الذي أقرضه فيه؛ لأنه المكان الذي يجب التسليم فيه، وإن كان القرض أثمانًا، أو ما لا مؤنة في حمله، وطالبه بها، وهما ببلد آخر، لزمه دفعه إليه؛ لأن تسليمه إليه في هذا البلد وغيره واحد" (¬2). وجاء في مجلة الأحكام الشرعية: "إذا بذل المقترض مثل القرض في غير بلده لزم المقرض قبوله إذا لم يكن لحمله مؤونة، وكان البلد والطريق آمنين، وإلا لم يلزمه قبوله" (¬3). ¬
الراجح
الراجح: الواجب أن يكون الوفاء في بلد القرض، ولا يجبر أحد على الوفاء في غيره إلا بالتراضي، وإذا كان القرض ليس لحمله مؤنة، وامتنع المقرض من قبوله، وكان لامتناعه غرض صحيح لم يجبر على قبوله، كما لو خاف من السرقة، ومن خطر الطريق، ولا يصار في القرض المثلي إلى القيمة إلا بالتراضي؛ لأنها نوع من المعاوضة، وركن المعاوضة أو شرطها الذي لا بد منه أن يوجد الرضا من الطرفين.
الفصل السادس في التصرف في دين القرض
الفصل السادس في التصرف في دين القرض المبحث الأول في التصرف به بالحوالة عليه كل حق ثابت في الذمة من قرض أو دين تصح الحوالة عليه. [م - 1772] إذا تم القرض صار المقرض دائنًا، والمقترض مدينًا، فلو أن المتقرض كان عليه دين لثالث، فأراد إحالته على دينه الذي على المقترض، فرضي بذلك، فهذا عقد حوالة حيث يكون: المقرض محيلًا. والمقترض محالاً عليه. ودائن المقرض محالاً. والحوالة من المعاملات الثابتة بالسنة، والإجماع. (ح -1067) أما السنة فما رواه الشيخان من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مطل الغني ظلم، فإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع (¬1). وجه الاستدلال: أن الأمر بالاتباع دليل الجواز، ولولا ذلك لما أمر به. ¬
وأما الإجماع، فقد نقل الإجماع طائفة من أهل العلم: قال ابن الملقن في التوضيح شرح الجامع الصحيح: "وهي مجمع عليها" (¬1). وجاء في التاج والإكليل: "لم يختلف في جواز الحوالة" (¬2). وقال الماوردي: "الأصل في جواز الحوالة السنة والإجماع" (¬3). وقال النووي: "أصلها مجمع عليه" (¬4). وقال ابن قدامة: "أجمع أهل العلم على جواز الحوالة في الجملة" (¬5). وحكى الإجماع ابن مفلح في المبدع، والبهوتي في شرح منتهى الإرادات (¬6). وقد بحثت عقد الحوالة في المجلد العاشر، وتكلمت على كثير من أحكامه، فإن أردت الوقوف على شروطه فارجع إليه إن شئت. ¬
المبحث الثاني في بيع بدل القرض
المبحث الثاني في بيع بدل القرض الفرع الأول في بيعه على من هو عليه بثمن حال بيع الدين على من هو عليه بزيادة يؤدي إلى سلف جر نفعًا، وهو ممنوع. إذا باع الدين بما لا يباع به نسيئة اشترط فيه الحلول والقبض، وإن باعه بغيره اشترط في البدل التعيين. [م - 1773] إذا تم القرض وقبضه المقترض، واستهلكه فقد تحول إلى دين من الديون، وصار حق المقرض في ذمة المقترض، كأي دين آخر، ويصنف هذا الدين بأنه من الديون المستقرة التي ليست عرضة للسقوط، والتصرف في هذا الدين يدخل تحت قواعد التصرف في الديون، وقد تكلمت في عقد البيع في حكم التصرف في الدين على من هو عليه عند الكلام عن التصرف في المبيع إذا كان دينًا. والأقوال فيه كالتالي: القول الأول: يجوز بيع الدين على من هو عليه بشروط، وهو قول الجمهور من الحنفية (¬1)، ¬
الشرط الأول
والمالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). ويشترط لصحته شروط منها: الشرط الأول: اشترط المالكية، والإمام أحمد في قول له، وإسحاق بن راهويه (¬4)، وبه قال عثمان البتي (¬5)، وابن تيمية، وابن القيم، أن يبيعه بمثل ثمنه، أو أقل، لا أكثر؛ وعلل المالكية المنع: لأن بيع الدين على من هو عليه بزيادة يؤدي إلى سلف جر نفعًا، وهذا ممنوع. وعلل ابن تيمية المنع حتى لا يربح فيما لم يضمن (¬6)؛ لأن المال في ذمة المقترض وضمانه عليه، فإذا ربح فيه المقرض فقد ربح فيما لم يدخل ضمانه، والدليل على هذا الشرط من أثر ابن عمر، قوله: (لا بأس أن تأخذها بسعر يومها)، وسيأتي ذكره بتمامه. ¬
الشرط الثاني
الشرط الثاني: اشترط المالكية والحنابلة أن يعجل البدل، ويقبض في مجلس الاستبدال ليسلم من فسخ الدين بالدين. جاء في الروض المربع: "ويصح بيع دين مستقر، كقرض، أو ثمن مبيع، لمن هو عليه بشرط قبض عوضه في المجلس" (¬1). واشترط الشافعية في الأصح ابن تيمية التقابض إن كان العوض مما يجري فيه ربا النسيئة. جاء في حاشية البجيرمي على الخطيب: "وأما بيع الدين لمن هو عليه فلا يشترط القبض إلا في متحدي العلة، أما مختلفهما فيشترط فيه التعيين فقط" (¬2). وقال ابن تيمية: "يجوز بيع الدين ممن هو عليه؛ لأن ما في الذمة مقبوض للمدين، لكن إن باعه بما لا يباع به نسيئة اشترط فيه الحلول والقبض لئلا يكون ربا، وكذلك إذا باعه بموصوف في الذمة، وإن باعه بغيرهما، فوجهان: أحدهما: لا يشترط كما لا يشترط في غيرهما. والثاني: يشترط؛ لأن تأخير القبض نسيئة كبيع الدين بالدين" (¬3). الشرط الثالث: اشترط الشافعية ألا يكون الدين طعامًا. ¬
القول الثاني
جاء في التاج والإكليل: "شروط بيع الدين ممن هو عليه، وهي ألا يكون الدين طعامًا ... وأن يتعجل العوض ... " (¬1). (ح -1068) ومستند الجواز ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يريد أن يدخل بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا، وبينكما شيء (¬2). [اختلف في رفعه ووقفه، ورجح شعبة والدارقطني وقفه] (¬3). القول الثاني: لا يجوز بيع الدين ولو كان على من هو عليه، وهو قول ابن حزم (¬4)، ورواية عن أحمد (¬5)، وحكي عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن شبرمة (¬6). والقول بالجواز هو الصواب، وقد ذكرنا أدلة الأقوال في المجلد الثالث عند الكلام على حكم التصرف في المبيع إذا كان دينا، فأغنى عن إعادته هنا، ولله الحمد. ¬
الفرع الثاني في بيع بدل القرض على من هو عليه بثمن مؤجل
الفرع الثاني في بيع بدل القرض على من هو عليه بثمن مؤجل بيع الدين بالدين باطل. استبدال الدين الحال بدين مؤجل من غير جنسه مظنة الزيادة في الدين في مقابل الأجل الممنوح للمدين، وذلك في معنى ربا الجاهلية (تقضي أو تربي). [م - 1774] لا يختلف الكلام في بيع دين القرض عن الكلام في بيع الدين؛ لأننا كما قدمنا أن القرض يعتبر من الديون المستقرة. وقد اختلف العلماء في بيع الدين على من هو عليه بثمن مؤجل على قولين: القول الأول: لا يجوز، وهذا مذهب الأئمة الأربعة (¬1)، وهو المنصوص عن ابن تيمية. ¬
القول الثاني
قال ابن تيمية في مختصر الفتاوى المصرية: "ومن اشترى قمحًا إلى أجل، ثم عوض البائع عن الثمن سلعة إلى أجل لم يجز، وكذلك إن احتال على أن يزيده في الثمن، ويزيده في الأجل بصورة يظهر رباها لم يجز، ولم يكن عنده إلا الدين الأول، فإن هذا هو الربا الذي أنزل الله فيه القرآن، يقول الرجل لغريمه عند محل الأجل: تقضي أو تربي" (¬1). وقال أيضًا: "إذا اشترى قمحًا بثمن إلى أجل، ثم عوض البائع عن ذلك الثمن سلعة إلى أجل لم يجز فإن هذا بيع دين بدين" (¬2). القول الثاني: يجوز بيع الدين على من هو عليه بدين آخر، اختاره ابن القيم، وحكاه قولًا لابن تيمية (¬3). ولم أقف على قول صريح لابن تيمية يقول بجواز بيع الدين على من هو عليه بدين، وكل ما وقفت عليه أنه حكى أن بيع الدين منه ما هو ممنوع بالاتفاق كبيع المؤخر بالمؤخر، ومنه ما تنازع العلماء فيه، وذكر منها مسألتنا هذه: بيع الساقط بالواجب. وحكاية الخلاف لا تعني أنه يقول بالجواز. وقد نقل الإجماع على منعه حكاه ابن قدامة وغيره. قال ابن قدامة: "إذا كان له في ذمة رجل دينار، فجعله سلمًا في طعام إلى أجل لم يصح. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل ¬
العلم، منهم: مالك والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي، وعن ابن عمر، أنه قال: لا يصح ذلك، وذلك لأن المسلم فيه دين، فإذا جعل الثمن دينًا كان بيع دين بدين، ولا يصح ذلك بالإجماع" (¬1). وقال السبكي في تكملة المجموع: "تفسير بيع الدين بالدين المجمع على منعه: وهو أن يكون للرجل على الرجل دين، فيجعله عليه في دين آخر، مخالف له في الصفة أو القدر، فهذا هو الذي وقع الإجماع على امتناعه" (¬2). ولأن هذه الصورة شبيهة بربا النساء المعروف، حيث إنَّ استبدال الدين الحال بدين مؤجل من غير جنسه مظنة الزيادة في الدين في مقابل الأجل الممنوح للمدين، وذلك في معنى ربا الجاهلية (تقضي أو تربي). وقد سبق أن بحثت المسألة بشيء من التفصيل في عقد البيع من المجلد الثالث، فارجع إليه إن شئت. ¬
الفرع الثالث في بيع بدل القرض على غير كما هو عليه بثمن حال
الفرع الثالث في بيع بدل القرض على غير كما هو عليه بثمن حال بيع الدين بثمن حال يجوز بشرطه. [م - 1775] اختلف العلماء في بيع الدين على غير من هو عليه بثمن حال، ومنه دين بدل القرض، والمسألة فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يجوز بيع الدين لغير المدين مطلقًا. وهذا قول الحنفية (¬1)، وإحدى القولين للشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب ¬
القول الثاني
الحنابلة (¬1). القول الثاني: يجوز بيع الدين مطلقا، وهو رواية عن أحمد، اختارها ابن تيمية (¬2). القول الثالث: يجوز بيع الدين بالعين بشروط، وهو مذهب المالكية (¬3)، والراجح عند ¬
الشافعية (¬1). وقد سبق أن بحثت المسألة في عقد البيع في المجلد الثالث، وذكرت أدلة الأقوال في المسألة، وقد تبين لي أن القول بالجواز هو القول الراجح، وإذا كنا منعنا في بيع الدين على من هو عليه ألا يربح فيه؛ لأن الدين ليس من ضمان البائع، فإنه لا مانع في بيع الدين على غير من هو عليه من أن يربح فيه البائع، فيجوز له أن يبيعه بمثل ثمنه أو أقل أو أكثر؛ لأن البائع إذا باع شيئًا موصوفاً في الذمة كانت ذمته مشغولة بالضمان، وإذا كان ضامنًا لم يمنع من الربح فيه، ولا مانع أن يكون المتعهد بالضمان المدين الأول والمدين الثاني. وكون الشيء مضمونًا على شخص بجهة، ومضمونًا له بجهة أخرى غير ممتنع ¬
شرعاً ولا عقلًا، ويكفي في رده أنه لا دليل على امتناعه، فهذا المستأجر يجوز له إجارة ما استأجره، والمنفعة مضمونة له على المؤجر، وهي مضمونة عليه للمستأجر الثاني (¬1). وجاء في المدونة: "قال مالك: لا بأس أن تبيع ما سلفت فيه، إذا كان من غير ما يؤكل ويشرب، من غير الذي عليه ذلك السلف، بأقل أو بأكثر أو بمثل ذلك إذا انتقدت، وأما الذي عليه السلف فلا تبعه منه قبل الأجل بأكثر، ولا تبعه منه إلا بمثل الثمن أو أقل، ويقبض ذلك" (¬2)، والله أعلم. نعم لو قال البائع: أبيع عليك ما في ذمة فلان على أني لا أضمن لك تسلمه لو صح مثل هذا الشرط يصح أن يقال: لا يجوز أن يربح فيه؛ لأنه قد ربح فيما لم يضمن، أما إذا باع موصوفاً في الذمة فهو قد باع غير معين، فلا مانع من الربح فيه. ¬
الفرع الرابع في بيع بدل القرض على غير من هو عليه بثمن مؤجل
الفرع الرابع في بيع بدل القرض على غير من هو عليه بثمن مؤجل بيع الدين بالدين باطل. [م - 1776] إذا أقرض رجل آخر مائة صاع من البر، فلا يجوز له أن يبيعها على ثالث بمبلغ مؤجل مدة معينة (¬1). قال الكاساني: "الدين لا يقبل التمليك لغير من عليه الدين" (¬2). واعتبره المالكية قسمًا من أقسام الكالئ بالكالئ. قال الخرشي: " (وبيعه بدين) هذا هو القسم الثاني من أقسام الكالئ، والمعنى أن الدين ولو حالاً يجوز بيعه بدين" (¬3). ¬
وجاء في البهجة في شرح التحفة: "وأما إذا باعه لغير من هو عليه فيجوز قبل الأجل وبعده بشرط أن يكون الثمن نقدًا، لا مؤجلاً فيمنع مطلقًا؛ لأنه من بيع الدين بالدين" (¬1). وجاء في حاشية الجمل: "حاصل الصور في هذا المقام أربعة: بيع الدين بغير دين لمن هو عليه، ولغير من هو عيليه، وهاتان صحيحتان، الأولى باتفاق، والثانية على المعتمد. وبيع الدين بالدين لمن هو عليه ولغير من هو عليه، وهاتان باطلتان" (¬2). وقال في شرح منتهى الإرادات: "ولا مع دين لغير من هو عيليه مطلقًا .. " (¬3). وصحح المالكية بيع الدين بعين ولو كانت العين مؤجلة (¬4). قال الخرشي: "وفهم من قوله: بدين عدم منع بيع الدين بمعين يتأخر قبضه، أو بمنافع معين" (¬5). وعلل المالكية جواز بيع الدين بعين مؤجلة، بأن العين لا تثبت دينًا في الذمة، ولو تأخر تسليمها؛ فهو من قبيل بيع الدين بحاضر. وقد ذكرت أدلتهم في المجلد الثالث، فارجع إليه إن شئت، والله أعلم. ¬
الفصل السابع في كساد النقود
الفصل السابع في كساد النقود إبطال الثمنية بمنزلة كسرها وإتلافها، فتجب قيمتها. منع التعامل في النقود يجعلها معدومة حكمًا، فتجب فيها القيمة. النقود إذا رخصت فمن مال المقرض، وإذا زادت فهي له. [م - 1777] إذا كان الشخص مدينًا بنقد معين، ثم كسد هذا النقد قبل الأداء: فإن كانت الثمنية فيها خلقة، كما لو كانت النقود من الذهب والفضة فلا يلزم المدين غيرها؛ لأن قيمتها ذاتية. وإن كان الثمينة فيها اصطلاحية، فقد اختلف العلماء في الواجب على أقوال: القول الأول: إن كان الدين ناشئًا عن معاوضة كالبيع والإجارة، فإن الكساد يوجب الفسخ، وإن كان ناشئًا عن قرض فإن يرد مثله، ولو كان كاسدًا، وهذا مذهب الحنفية (¬1). جاء في فتح القدير: "وإذا باع بالفلوس النافقة، ثم كسدت بطل البيع عند أبي حنيفة - رحمه الله - خلافًا لهما ... ولو استقرض فلوسًا نافقة، فكسدت عند أبي حنيفة - رحمه الله - يجب عليه مثلها؛ لأنه إعارة، وموجبه رد العين" (¬2). ¬
وجه التفريق بين دين القرض ودين المعاوضة
وجه التفريق بين دين القرض ودين المعاوضة: أن عقود المعاوضات من بيع وإجارة لا تقوم إلا على وجود ثمن، فإذا كسد الثمن الاصطلاحي خرج عن كونه ثمنًا، فأدى ذلك إلى فسد العقد. وأما القرض فلا يعتمد جوازه على قيام الثمنية، بل يقوم على وجود المثلية، وبالكساد لا يخرج عن المثلية، ولذلك يصح استقراض البيض والجوز، ونحوها، وهي ليست أثمانًا. قال الكاساني: "الفلوس بالكساد خرجت عن كونها ثمنًا؛ لأن ثمنيتها ثبتت باصطلاح الناس، فإذا ترك الناس التعامل بها عددًا؛ فقد زال عنها صفة الثمنية، ولا بيع بلا ثمن، فينفسخ ضرورة، ولو لم تكسد، ولكنها رخصت قيمتها، أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجماع، وعلى المشتري أن ينقد مثلها عددًا، ولا يلتفت إلى القيمة هاهنا؛ لأن الرخص أو الغلاء لا يوجب بطلان الثمنية، ألا ترى أن الدراهم قد ترخص، وقد تغلو وهي على حالها أثمان؟ " (¬1). ويناقش: بأن المقترض لما اقترض النقود الاصطلاحية لا يقترضها كسلعة، وإنما اقترضها كأثمان، وهي لا قيمة لها إذا جردت من ثمنيتها. ¬
القول الثاني
القول الثاني: أن النقد إذا كسد بعد وجوبه في الذمة، فليس للدائن سواه، من غير فرق بين أن يكون ناشئًا عن قرض، أو ثمن مبيع، أو غيرهما. وهذا هو المشهور من مذهب المالكية، والشافعية (¬1). جاء في المدونة: "قال مالك: في القرض والبيع في الفلوس إذا فسدت فليس له إلا الفلوس التي كانت تجوز ذلك اليوم وإن كانت فاسدة" (¬2). وجه القول بوجوب المثل مطلقًا: أن النقد مال مثلي، وكساده لا يخرجه عن المثلية، والكساد النازل ليس من فعل المدين، بل يعتبر كجائحة نزلت بالدائن، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الدين قرضًا أو ثمن مبيع أو غير ذلك. القول الثالث: إذا كسد النقد بعد تمام العقد استقر الثمن في ذمة المدين، وما في الذمة لا يتعرض للهلاك، فلا يكون الكساد هلاكًا، ولكن إذا تعذر تسليم الثمن فإنه يرجع حينئذ إلى القيمة على خلاف بينهم: فقيل: له قيمتها يوم القرض، وهذا قول أبي يوسف من الحنفية، وقول عند المالكية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). ¬
الراجح
وجه القول بوجوب القيمة؛ لأن إبطال الثمنية بمنزلة كسرها وإتلافها، فتجب قيمة المتلف. وجه اعتبار القيمة وقت القرض: لأنه وقت وجوب الثمن. وقيل: تجب القيمة يوم الكساد، وهذا قول محمَّد بن الحسن الشيباني، وبعض الحنابلة (¬1). وجه اعتبار القيمة وقت الكساد: أنه كان يلزمه رد مثلها إلى يوم كسادها، فإذا كسدت كان هذا اليوم هو يوم الانتقال إلى القيمة. الراجح: أن النقود إذا كسدت وجب على المقترض قيمتها؛ لأن القرض مضمون، ولأن منع التعامل في النقود يجعلها معدومة حكمًا، فلزمه قيمتها، وكان المعتبر في القيمة هو يوم الكساد؛ لأنه يوم الانتقال من المثل إلى القيمة، وإن رخصت دفعها إلى المقرض، ولم يلزمه شيء؛ لأن المال لم يكن معدومًا حكمًا، ويكون النقص من مال المقرض كما أن القرض لو زادت قيمته كان له، فكذلك إذا نزلت قيمته كان ذلك عليه، فالغنم بالغرم، والله أعلم، وهذا أقرب الأقوال إلى الحق، والله أعلم. ¬
الباب الثاني: شروط القرض
الباب الثاني: شروط القرض الفصل الأول ما يشترط في المقرض من صح تبرعه صح إقراضه. إقراض مال الصغير إن كان إرفاقًا بالمقترض لم يجز، وإن كان لمصلحة اليتيم جاز. كل متصرف بولاية إذا قيل له: افعل ما تشاء فإنما هو مقيد بالمصلحة. الشرط الأول: [م - 1778] أن يكون المقرض ممن يصح تبرعه، وبعضهم يعبر عن ذلك بقوله: أن يكون المقرض جائز التصرف. والتبرع نوع من التصرف، فإن منع من التصرف فقد منع من التبرع. ولأن الممنوع التصرف إما ممنوع منه لأنه غير مأذون له فيه كإقراض الولي والوصي وناظر الوقف. أو ممنوع من التصرف لانعدام الأهلية كتصرف المحجور عليه من صبي وسفيه. قال ابن نجيم: "ولا يملكه من لا يملك التبرع كالصبي والوصي" (¬1). ¬
وقال في بدائع الصنائع وهو يتكلم عن شروط القرض: "وأما الذي يرجع إلى المقرض فهو أهليته للتبرع، فلا يملكه من لا يملك التبرع من الأب، والوصي، والصبي، والعبد المأذون، والمكاتب؛ لأن القرض للمال تبرع، ألا ترى أنه لا يقابله عوض للحال، فكان تبرعًا للحال، فلا يجوز إلا ممن يجوز منه التبرع، وهؤلاء ليسوا من أهل التبرع، فلا يملكون القرض" (¬1). وجاء في تحفة المحتاج: "ويشترط في المقرض أهلية التبرع ... وهي تستلزم رشده، واختياره فيما يقرضه ... لأن فيه شائبة تبرع" (¬2). وفي نهاية المحتاج: "ويشترط في المقرض بكسر الراء أهلية التبرع بأن يكون غير محجور عليه مختارًا؛ لأن القرض فيه شائبة تبرع، ومن ثم امتنع تأجيله، ولم يجب التقابض فيه، وإن كان ربويًا، ولو كان معاوضة محضة لجاز للولي غير الحاكم قرض مال موليه من غير ضرورة، واللازم باطل، أما الحاكم فيجوز له من غير ضرورة؛ لكثرة أشغاله خلافا للسبكي" (¬3). وقال في الإنصاف: "وأن يكون المقرض ممن يصح تبرعه" (¬4). وجاء في مطالب أولي النهى: "وشرط كون مقرض يصح تبرعه، فلا يقرض نحو ولي يتيم من ماله" (¬5). وعبر ابن قدامة عن أهلية التبرع بأهلية التصرف، والمعنى واحد. ¬
القول الأول
قال ابن قدامة: "ولا يصح إلا من جائز التصرف؛ لأنه عقد على مال، فلم يصح إلا من جائز التصرف كالبيع" (¬1). [م - 1779] واختلف الفقهاء في إقراض الولي من أب، أو وصي مال الصغير لأجنبي: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن للأب أن يقترض لنفسه من مال الصغير، وليس له ولا للوصي إقراضه لأجنبي، وللقاضي ذلك. جاء في الاختيار لتعليل المختار: "وليس للوصي أن يقترض مال اليتيم، وللأب ذلك، وليس لهما إقراضه، وللقاضي ذلك" (¬2). وقال ابن عابدين: "لا يقرض الأب أي في أصح الروايتين ... ولا الوصي، فلو فعل لا يعد خيانة فلا يعزل به" (¬3). القول الثاني: مذهب المالكية. ما يأخذه الأب من مال ولده فإن كان محتاجًا جاز له ذلك، ولا يجوز له الأخذ إن كان غير محتاج. جاء في المدونة نقلاً عن مالك أنه قال: "ما أخذ الوالد من مال ولده على غير حاجة فلا يجوز ذلك له" (¬4). ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية.
ولا يصح للوصي أن يقرض مال اليتيم لأجنبي. جاء في حاشية الدسوقي: "ولا يجوز للوصي تسليفه لأحد على وجه المعروف، ولو أخذ رهنًا؛ إذ لا مصلحة لليتيم في ذلك" (¬1). وقال القرافي: "ولا يسلف ماله؛ لأنه معروف لا تنمية فيه، إلا أن يتجر له، فيسلف اليسير مما يحتاج إليه مع الناس" (¬2). القول الثالث: مذهب الشافعية. لا يجوز للأب ولا للوصي أن يقرض مال الصبي والمجنون إلا لضرورة، ويجوز للقاضي أن يقرض مال الصبي والمجنون الشافعية (¬3). ومعلوم أن ما جاز بقيد الضرورة فالأصل فيه المنع والتحريم؛ لأن الضرورة تبيح المحرمات. قال الخطيب في مغني المحتاج: "ولا يجوز لغير القاضي من الأولياء أن يقرض من مال الصبي والمجنون شيئًا إلا لضرورة، كحريق، ونهب، أو أن يريد سفرًا يخاف عليه فيه" (¬4). وجاء في فتح العزيز: "ليس لغير القاضى إقراض مال الصبى إلا عند ضرورة نهب أوحريق .. ويجوز للقاضى الإقراض، وإن لم يعرض شيء من ذلك لكثرة شغال" (¬5). ¬
القول الرابع: مذهب الحنابلة.
ويجوز للأب والجد والأم إذا كانوا محتاجين أن يأكلوا من أموال أولادهم بالمعروف، ولا يحتاج إلى إذن حاكم، وهل عليهم ضمان ما أكلوه إذا أيسروا، قولان في مذهب الشافعية، أصحهما لا ضمان عليهم؛ لأن الله تعالى أباح الأكل، ولم يوجب الضمان؛ ولأن ذلك استحقوه بحاجته وعملهم في مال المحجور، فلم يلزم رد بدله (¬1). القول الرابع: مذهب الحنابلة. يرى الحنابلة أن الأب له أن يأخذ من مال ولده ما شاء مع الحاجة وعدمها. قال ابن قدامة: "للأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء مع الحاجة وعدمها" (¬2). وأما في القرض، فإن كان الحامل على إقراض مال الصغير الإرفاق بالمقترض فهذا غير جائز، وإن كان الحامل عليه مصلحة اليتيم جاز إقراضه، وهذا مذهب الحنابلة (¬3). جاء في المغني: "فأما قرض مال اليتيم؛ فإذا لم يكن فيه حظ له، لم يجز قرضه ... قال أحمد: لا يقرض مالي اليتيم لأحد يريد مكافأته، ومودته، ويقرض على النظر، والشفقة، كما صنع ابن عمر. وقيل لأحمد: إن عمر استقرض مال اليتيم؟ قال: إنما استقرض نظرًا لليتيم، واحتياطًا، إن أصابه بشيء غرمه. ¬
الراجح
قال القاضي: ومعنى الحظ أن يكون لليتيم مال في بلده، فيريد نقله إلى بلد آخر، فيقرضه من رجل في ذلك البلد، ليقضيه بدله في بلده، يقصد بذلك حفظه من الغرر في نقله، أو يخاف عليه الهلاك من نهب، أو غرق، أو نحوهما، أو يكون مما يتلف بتطاول مدته، أو حديثه خير من قديمه، كالحنطة ونحوها، فيقرضه خوفاً أن يسوس، أو تنقص قيمته، وأشباه هذا، فيجوز القرض؛ لأنه مما لليتيم فيه حظ فجاز، كالتجارة به. وإن لم يكن فيه حظ، وإنما قصد إرفاق المقترض، وقضاء حاجته، فهذا غير جائز؛ لأنه تبرع بمال اليتيم، فلم يحز كهبته" (¬1). الراجح: أرى أن مذهب الحنابلة أقوى من حيث النظر؛ إلا أنه لقلة الأمانة في هذا العصر، ودفعًا للتلاعب فإنه يشترط أن يكون ذلك عن طريق إشراف القضاء، وسبق بحث هذه المسألة في عقد الوصية، والله أعلم. الشرط الثاني: [م - 1780] أن يكون مالكًا لما يتبرع به، فإن كان المقرض أهلًا للتبرع بأن كان عاقلاً راشدًا، إلا أنه لا يملك المال المقرض لم يصح قرضه؛ لأن الإنسان لا يملك التبرع بمال غيره، إلا أن يأذن له مالكه. (ح -1069) لما رواه البخاري من طريق عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم النحر فقال: ... إن دماءكم وأموالكم ¬
المسألة الأولى
وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، فأعادها مرارا، ثم رفع رأسه فقال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: فوالذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته، فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض (¬1). واختلفوا في مسألتين منه: المسألة الأولى: [م - 1781] إذا أقرض الشريك من مال الشركة بدون إذن شريكه، فقد اختلف فيها الفقهاء على قولين: القول الأول: ليس له أن يقرض إلا بإذن صريح من شريكه، حتى لو قال له: اعمل فيه برأيك لم يدخل في ذلك الإذن بالقرض. جاء في بدائع الصنائع: "وليس لأحدهما أن يهب، ولا أن يقرض على شريكه؛ لأن كل واحد منهما تبرع. أما الهبة فلا شك فيها. وأما القرض فلأنه لا عوض له في الحال، فكان تبرعًا في الحال، وهو لا يملك التبرع على شريكه، وسواء قال: اعمل برأيك أو لم يقل، إلا أن ينص عليه بعينه؛ لأن قوله: اعمل برأيك تفويض الرأي إليه فيما هو من التجارة، وهذا ليس من التجارة ... " (¬2). ¬
القول الثاني
القول الثاني: أجاز بعض الحنابلة إقراض الشريك لمال الشركة إذا كان الباعث على ذلك مصلحة الشركة، وليس الإرفاق بالمقترض. جاء في الإنصاف: لاقوله (ولا يقرض). هذا المذهب. وعليه جماهير الأصحاب. وقطع به أكثر الأصحاب. وقال ابن عقيل: يجوز للمصلحة. يعني: على سبيل القرض. صرح به في التلخيص وغيره" (¬1). وجواز القرض مقيد بأن يكون ذلك أصلح للشركة كأن يخاف على مال الشركة، ويكون المستقرض معروفاً بالأمانة، ولا يخاف منه الجحود، ومليئًا في حال طلب منه السداد؛ لأن الشريك إذا كان له إيداع المال كما سبق بيانه في عقد الشركة، فالإقراض أولى من الإيداع؛ لأن الإيداع غير مضمون على المودع إذا هلك المال بغير تعد منه ولا تفريط، بخلاف القرض، خاصة إذا أخذ على القرض رهنًا. وكما أجاز الحنفية إقراض القاضي مال اليتيم للسبب نفسه. المسألة الثانية: [م - 1782] إذا أودع الرجل مالاً، فاقترض منه بدون إذن المودع، فقد اختلف الفقهاء في جواز ذلك على ثلاثة أقوال: ¬
القول الأول
القول الأول: لا يجوز الاقتراض من الوديعة بدون إذن صاحبها، فإن فعل ضمن، وهذا مذهب الجمهور (¬1). القول الثاني: يصح مع الكراهة، وهذا قول في مذهب المالكية. قال الباجي: "اختلف قول مالك في جواز السلف من الوديعة بغير إذن المودع: فحكى القاضي أبو محمَّد في معونته أن ذلك مكروه ... " (¬2). وجه القول بالكراهة: أن صاحبها إنما دفعها إليه ليحفظها، لا لينتفع بها، ولا ليصرفها، فليس له أن يخرجها عما قبضها عليه. القول الثالث: التصرف في الوديعة دون إذن صاحبها يجوز بلا كراهة، إذا تحقق شرطان: أحدهما: أن يكون المال مثليًا. ¬
الثاني: أن يكون المتصرف مليئًا. فإن كان المودع فقيرًا حرم عليه أن يستلف من الوديعة، سواء أكان المال مثليًا أم قيميًا، وذلك لتضرر مالكها بعدم الوفاء نظرًا لإعدامه. اختاره بعض المالكية (¬1). وعلل بعض المالكية الجواز بتعليلات منها: أحدها: أن المودِع قد ترك الانتفاع بها مع القدرة عليه، فجاز للمودَع الانتفاع بها، ويجري ذلك مجرى الانتفاع بظل حائطه، وضوء سراجه. الثاني: أن المودَع لم يبطل على المودِع غرضه؛ لأنه إنما أمر بحفظها، وهذا حاصل، بل ربما كان القرض أحفظ للمال؛ لأن الوديعة غير مضمونة، والقرض مضمون. الثالث: أن الدراهم لا تتعين بالتعيين، ولذلك كان للمودَع أن يرد مثلها، ويتمسك بها مع بقاء عينها (¬2). ¬
ويناقش
ويناقش: الخلاف في كون الدراهم لا تتعين بالتعيين، إنما يجري في باب المعاوضات؛ لأن الوجوب متعلق بالذمة، أما في باب الوديعة، فإن الرد متعلق بعين الوديعة، وليس في ذمة المودَع؛ لأن الحق ليس فيه ثمن ومثمن، فالدراهم هنا تتعين بالتعيين، ولا يجري فيها الخلاف الذي يجري في المعاوضات، ولذلك لو تلفت الوديعة بدون تعد ولا تفريط لم يضمن المودَع، ولو كانت الوديعة متعلقة بذمة المودَع لضمن. الشرط الثالث: [م - 1783] أن يكون المقرض مختارًا، فلا يصح إقراض مكره بغير حق، بل إن جميع العقود تفسد بالإكراه. فالحنفية يرون أن جميع عقود التمليك تفسد بالإكراه الملجئ، والقرض من عقود التمليك (¬1). وقال في الحاوي: "وأما المكره ... كرها غير مختار، لم يقع طلاقه، ولا عتقه ولم تصح عقوده" (¬2). وجاء في شرح المنهج: وشرط مقرض بكسر الراء اختيار، فلا يصح إقراض مكره كسائر عقوده" (¬3). ¬
وقال ابن تيمية: "عقود المكره، وأقواله، مثل: بيعه، وقرضه، ورهنه، ونكاحه، وطلاقه، ورجعته، ويمينه، ونذره، ومنها لله، وحكمه، وإقراره، وردته، وغير ذلك من أقواله، فإن هذه الأقوال كلها منه ملغاة مهدرة، وأكثر ذلك مجمع عليه، وقد دل على بعضه القرآن مثل قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: 106]. وقوله سبحانه: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] " (¬1). ويستثنى من ذلك لو كان المكره بحق، فإنه يصح قرضه، جاء في تحفة المحتاج: "فلا يصح إقراض مكروه، ومحله إذا كان بغير حق، فلو أكره بحق، وذلك بأن يجب عليه لنحو اضطرار صح" (¬2). وقد تكلمت في عقد البيع عن حقيقة الإكراه: وينفرد الحنفية بتقسيم الإكراه إلى نوعين: الأول: إكراه ملجئ وهو الإكراه الكامل: وهو أن يكرهه بما يخاف على نفسه، أو على تلف عضو من أعضائه. وهذا الإكراه ينافي الرضا، كما ينافي الاختيار، والعقد في هذه الحالة يكون باطلاً؛ لأن الاختيار الذي هو شرط لانعقاد القرض لم يوجد، فضلاً أن يوجد الرضا الذي هو شرط للصحة. الثاني: إكراه غير ملجئ وهو الإكراه القاصر، وهو أن يكرهه بما لا يخاف على نفسه، ولا على تلف عضو من أعضائه، كالإكراه بالضرب الشديد، أو ¬
القيد، أو الحبس، فإنه يعدم الرضا، ولا يفسد الاختيار (¬1). والفرق بين الرضا والاختيار: أن الاختيار: هو قصد الشيء وإرادته، أو ترجيح شيء على آخر. والرضا: إيثاره واستحسانه. ولا تلازم بين الاختيار والرضا، فقد يختار الإنسان أمراً لا يرضاه، ولا يحبه، ولكنه لا يرضى شيئًا إلا وهو يحبه. فإذا كان الإكراه على القرض إكراهًا ملجئًا فالقرض لم ينعقد؛ لأن الاختيار والرضا غير موجود. وإذا كان الإكراه غير ملجئ، فإن القرض ينعقد فاسدًا عند الحنفية، وليس باطلاً، ويملكه المقترض بالقبض. ولماذا قالوا بانعقاد القرض؟ لأن الاختيار عندهم شرط لانعقاد القرض، وقد وجد، فالمقرض قد خير بين أمرين: بين الإقراض، وبين أن يقع تحت الإكراه غير الملجي، فاختار أن يدفع ذلك بالإقراض. ولماذا كان القرض فاسدًا؛ لأن الرضا الذي هو شرط للصحة لم يوجد. والكلام فيه كالكلام في بيع المكره، باعتبار أن البيع والقوض من عقود التمليك، وقد تكلمنا على هذه المسألة في عقد البيع، فلا يحتاج أن نطيل الكلام عليها، وعلى أدلتها هنا. ¬
ولم يقسم الجمهور الإكراه إلى ملجئ وغير ملجئ. فما سماه الحنفية إكراهًا ملجئًا هو إكراه عندهم بالاتفاق. وما سماه الحنفية إكراهًا غير ملجئ، مختلفون في تَحَقَّق الإكراه فيه على قولين، قيل: يعتبر إكراهًا، وقيل لا يعتبر إكراها (¬1). كما لم يفرق الجمهور بين الرضا والاختيار، فهما لفظان مترادفان في الاصطلاح، فإذا قلنا: أن يكون العاقد مختارًا، بمنزلة أن أقول: أن يكون العاقد راضيًا بالعقد، وأن الاختيار لا يجتمع مع الإكراه. فمن أكره على فعل شيء لم يكن مختارًا البتة. قال السيوطي: "فالمراد بالاختيار قصده ذلك الفعل وميله ورضاه، وأنه لم يفعله على وجه الإكراه" (¬2). والخلاف فيما أرى ليس في وجود فرق بين الرضا والاختيار، فإن اللغة تدل على وجود فرق بينهما، وإنما الخلاف ما هو المشروط في العقد؟ هل المشروط الرضا أو الاختيار؟ فإذا رجعنا إلى كتاب الله وجدنا أن المشروط في القرآن هو الرضا، وإذا وجد الرضا وجد الاختيار من باب أولى قال تعالى عن عقود المعاوضات: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29]. ¬
وقال تعالى عن عقود التبرع: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]. وإذا لم يوجد الرضا، فإن كان عائداً على أصل العقد كالإكراه على البيع أو على القرض لم ينعقد، وإن كان فقد الرضا لا يعود إلى أصل العقد، وإنما يعود على صفة في العقد، صح العقد، وثبت الخيار للعاقد، كما في العقد إذا انطوى على تدليس، أو كان في المبيع عيب، فإن العاقد قد رضي بالعقد، ولم يرض بالعيب أو بالتدليس. وإذا لم يوجد الرضا بأصل العقد حتى ولو لم يكن هناك أكراه مادي، وإنما كان الباعث عليه الحياء، فإن العلماء من يرى أن ذلك حرام، ولا يجوز لفقد الرضا. "حكى الغزالي أن من أعطى غيره شيئًا، وليس الباعث عليه إلا الحياء من الناس، كأن سئل بحضرتهم شيئًا فأعطاه إياه، ولو كان وحده لم يعطه، الإجماع على حرمة أخذه مثل هذا؛ لأنه لم يخرج عن ملكه لأنه في الحقيقة مكره بسبب الحياء، فهو كالمكره بالسيف" (¬1). وقال شيخنا محمد بن عثيمين: "لو علمت أن هذا البائع باع عليك حياءً وخجلًا، فإنه لا يجوز لك أن تشتري منه، ما دمت تعلم أنه لولا الحياء، والخجل لم يبع عليك، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: يحرم قبول هدية إذا علم أن الرجل أهداها له على سبيل الحياء، والخجل؛ لأن هذا، وإن لم يصرح، بأنه غير راضٍ، لكن دلالة الحال على أنه غير راضٍ" (¬2). ¬
الفصل الثاني ما يشترط في المقترض
الفصل الثاني ما يشترط في المقترض الصبي ليس من أهل الالتزام فلا يصح التزامه. يصح الاقتراض على بيت المال، كما يصح الاقتراض على الوقف. الشرط الأول: [م - 1784] يشترط في المقترض أهلية التصرف، بأن يكون بالغًا عاقلًا رشيدًا غير محجور عليه، فإن أقرض ماله صبيًا لم يضمن، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن، ومذهب الحنابلة، والشافعية. جاء في البناية شرح الهداية: "إذا أقرض الصبي شيئًا، وسلم إليه، واستهلكه لا يضمن عندهما. خلافا لأبي يوسف" (¬1). وجاء في مجمع الضمانات نقلًا عن قاضي خان: "لو أن صبيًا سفيهًا محجورًا استقرض مالًا ... وصرف المال في حوائجه، لا يؤخذ به، لا في الحال، ولا بعد البلوغ ... لأن الصبي ليس من أهل الالتزام فلا يصح التزامه" (¬2). وجاء في الدرر السنية في الأجوبة النجدية: "المحجور عليه لحظ نفسه، وهو الصبي، والمجنون، والسفيه، فلا يصح تصرفهم، ومن دفع إليهم ماله ببيع، أو ¬
قرض، رجع فيه ما كان باقيًا، فإن أتلفه واحد منهم فمن ضمان مالكه؛ لأنه سلطه عليه برضا، علم الحجر أو لم يعلم" (¬1). وأما الشافعية فعبروا عن هذا الشرط بقولهم: يشترط في المقترض أهلية المعاملة. والمقصود من (أهلية المعاملة) أي أهلية التعاقد بيعًا وشراء (¬2). ولأن من يملك أهلية التعاقد قد لا يملك أهلية التبرع، لذا اشترط في المقرض أهلية التبرع. واشترط في المقترض أهلية التعاقد احترازًا من المحجور عليه لفلس، فإنه لا يملك أهلية التبرع؛ لأن ماله محجور عليه، ويملك أهلية التعاقد بأن يشتري في ذمته، فشراؤه صحيح؛ لأن ذمته لا حجر عليها. قال العمراني: "وإذا حجر الحاكم على المفلس تعلقت ديون الغرماء بماله، ومنع من التصرف بماله ... وإذا تصرف المفلس بعد الحجر، نظرت: فإن تصرف في ذمته، بأن اقترض، أو اشترى شيئًا بثمن في ذمته، أو أسلم إليه في شيء .. صح ذلك؛ لأن الحجر عليه في أعيان ماله، فاما ذمته فلا حجر عليه بها؛ لأنه لا ضرر على الغرماء فيما يثبت عليه بذمته، ومن باعه شيئًا، أو أقرضه بعد الحجر لم يشارك الغرماء بماله؛ لأنه إن علم بالحجر فقد دخل على بصيرة، وإن لم يعلم به فقد فرط في ترك السؤال عنه" (¬3). فصار المحجور عليه لفلس لا يملك أهلية التبرع، ويملك أهلية المعاملة. ¬
جاء في حاشية الجمل: "يشترط في المقرض أهلية التبرع، فلا يصح من المحجور عليه بفلس، وفي المقترض أهلية المعاملة فيصح اقتراض المفلس" (¬1). ولأن إقراض الصبي لا يختلف عن إقراض المحجور عليه لفلس بجامع أن كلًا منهما محجور عليه، إلا أن الصبي محجور عليه لحظ نفسه، والمحجور عليه لفلس محجور عليه لحظ الغرماء. وإذا كانت شروط المقترض ترجع إلى شروط التعاقد فإن فالشافعية لا يصححون بيع الصبي ولا شراءه، ولو أذن له الولي كما تقدم في شروط العاقدين في عقد البيع، والله أعلم. قال النووي: "فيما يصح من تصرفات المحجور عليه بالسفه، وما لا يصح: وفيه مسائل: الأولى: لا تصح منه العقود التي هي مظنة الضرر المالي، كالبيع والشراء ... ولو اشترى وقبض، أو استقرض فتلف المأخوذ في يده، أو أتلفه، فلا ضمان لأن الذي أقبضه هو المضيع، ويسترد وليه الثمن إن كان أقبضه. وسواء كان من عامله عالمًا بحاله، أم جاهلا لتقصيره بالبحث عن حاله" (¬2). وقال العمراني في البيان: "وإذا باع أو اشترى بعد الحجر .. كان ذلك باطلاً، فإن حصل له في يد غيره مال استرجعه الحاكم إن كان باقيًا، أو استرجع بدله إن كان تالفًا، وإن حصل في يده مال لغيره ببيع أو غيره استرده الحاكم منه، ¬
ورده على مالكه، وإن باعه غيره شيئًا، أو أقرضه إياه، ثم تلف في يده، أو أتلفه، فإنه لا يجب عليه ضمانه، سواء علم بحجره، أو لم يعلم؛ لأنه إن علم بحجره فقد دخل على بصيرة، وإن لم يعلم فيه فقد فرط، حيث بايع من لا يعلم حاله. ولا يلزمه ذلك إذا فك عنه الحجر؛ لأن الحجر عليه لحفظ ماله، فلو ألزمناه ذلك بعد الحجر لبطل معنى الحجر، وهذا في ظاهر الحكم" (¬1). الراجح: إذا كنا قد صححنا قول الجمهور أن الصبي المميبز يصح منه البيع والشراء بإذن وليه، فما المانع أن يقال بصحة الاقتراض من الصبي بإذن وليه؛ لأن الاقتراض من لوازم التجارة، إن كان قال بهذا أحد فله وجه، والله أعلم. الشرط الثاني: [م - 1785] اشترط الحنابلة في المقترض أن يكون له ذمة، واستثنوا من ذلك الوقف وبيت المال لداعي المصلحة. جاء في مجلة الأحكام الشرعية: "من شأن القرض أن يصادف ذمَّة يثبت فيها، لكن يصح الاقتراض على بيت المال، كما يصح الاقتراض على الوقف (¬2). وعللوا ذلك: بأن الدين لا يثبت إلا في الذمم، والقرض يتحول إلى دين في ذمة المستقرض لذلك يفتقر إلى ذمة يتعلق به، لذلك لا يصح الاستدانة على المسجد. ¬
وكون الدين يثبت في الذمة هذا مما لا خلاف فيه بين الفقهاء. جاء في مجلة الأحكام العدلية: "الدين ما يثبت في الذمة ... " (¬1). وقال ابن الهمام: والحاصل أن الدين إنما يثبت في الذمة" (¬2). وقال القرافي: ما لا يكون في الذمة لا يكون دينًا" (¬3). وإنما الخلاف في الاستدانة لبعض الجهات، كالاستدانة للوقف، والاستدانة للمسجد، والاستدانة لبيت المال، هل يقال: لا يصح الاقتراض لهذه الجهات لكونها لا تملك ذمة مالية؟ أو يقال: إن الاستدانة لها يكون دينًا لمن يقوم عليها من ناظر، أو إمام، أو قيم، فيطالب بالسداد من مالهم؟ أو يقال: لا مانع من ثبوت ذمة مستقلة لهذه الجهات، فتكون هذه الجهات أهلًا للإلزام والالتزام في الحقوق والواجبات المالية؟ فبيت مال المسلمين له ذمة مستقلة، والمال المودع فيه ملك له، وليس ملكًا للسلطان، ولا ملكًا للمسلمين، فما يملكه السلطان مستقل عما يملكه بيت المال، وإن كان السلطان نائبًا فيه عن الأمة الذي هو واحد منها، وليس للسلطان حق فيه إلا كفايته لقاء عمله، وليس له أن يأمر لأحد منه بشيء إلا بحق ومسوغ شرعي، ومثله الوقف في الإِسلام، فإنه مال محجور عن التمليك، ¬
والتملك، والإرث، والهبة ونحوها، وهو مرصد لما وقف عليه، ومع ذلك فإن الوقف قد يستحق ويستحق عليه، وتجري العقود الحقوقية بينه وبين أفراد الناس، من إيجار وبيع وغلة واستبدال وغير ذلك بمعزل عن ذمة الناظر والموقف عليه. وهل يقاس على تلك الجهات غيرها، كإلحاق الشركات المساهمة والبنوك التجارية، ونحوها ببيت المال والوقف. أو يقال: هذه مستثناة لداعي المصلحة، وما استثنى لا يقاس عليه، هذا ما سوف نستكشفه إن شاء الله تعالى بالبحث في مسائل مستقلة.
المبحث الأول في الاستدانة على الوقف
المبحث الأول في الاستدانة على الوقف الإذن بالشيء إذن فيما يعود بصلاحه. الناظر مؤتمن على الوقف، وتصرفه مقيد بالمصلحة. [م - 1786] اختلف العلماء في جواز الاستدانة على الوقف إذا احتاج الوقف إلى عمارة وإصلاح، ولم يوجد من الغلة ما يكفي للقيام بذلك. القول الأول: ذهب الحنفية إلى جواز استدانة الناظر على الوقف لضرورة العمارة إذا لم يكن من الاستدانة بد بشرطين: الشرط الأول: أن يأذن له الواقف بذلك، فإن لم يأذن له الواقف أخذ إذن القاضي إذا لم يكن القاضي بعيدًا عنه، فإن كان بعيدًا جاز له أن يستدين بنفسه .. الشرط الثاني: ألا يتيسر إجارة الوقف، والصرف من إجارتها. أما ما له مثله بد فلا يستدين مطلقاً، كالاستدانة على الوقف من أجل الصرف على المستحقين، إلا أن يستدين من أجل استحقاق الإِمام والخطيب، والمؤذن فيجوز ذلك؛ لأن ذلك لضرورة مصالح المسجد (¬1). ¬
القول الثاني
قال ابن نجيم: "الاستدانة على الوقف لا تجوز، إلا إذا احتيج إليها لمصلحة الوقف كتعمير وشراء بذر، فتجوز بشرطين: الأول: إذن القاضي. الثاني: أن لا يتيسر إجارة العين والصرف من أجرتها، كما حرره ابن وهبان وليس من الضرورة الصرف على المستحقين كما في القنية" (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية والحنابلة، وهو قول في مذهب الحنفية، واختاره البلقيني من الشافعية إلى أنه يجوز للناظر أن يستدين لمصلحة الوقف من غير إذن القاضي عند قيام الحاجة إلى التعمير وعدم وجود غلة للوقف يمكن الصرف من عمارتها (¬2). وجه القول بذلك: أن الناظر مؤتمن على الوقف، مطلق التصرف في كل ما فيه مصلحة للوقف. وقياسًا للناظر على ولي اليتيم، فإنه يقترض دون إذن الحاكم. جاء في حاشية الدسوقي: "وله أن يقترض لمصلحة الوقف من غير إذن الحاكم، ويصدق في ذلك" (¬3). ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية
وفي حاشية الصاوي: "ولو التزم حين أخذ النظر أن يصرف على الوقف من ماله إن احتاج لم يلزمه ذلك، وله الرجوع بما صرفه، وله أن يقترض لمصلحة الوقف من غير إذن الحاكم، ويصدق في ذلك" (¬1). وقال البهوتي: "وللناظر الاستدانة على الوقف بلا إذن حاكم، كسائر تصرفاته لمصلحة، كشرائه للوقف نسيئة أو بنقد لم يعينه؛ لأن الناظر مؤتمن، مطلق التصرف، فالإذن والائتمان ثابتان" (¬2). وجاء في أسنى المطالب: "قال البلقيني: والتحقيق أنه لا يعتبر إذن الحاكم في الاقتراض، لا سيما في المسجد ونحوه، ومال إليه غيره تشبيهًا للناظر بولي اليتيم، فإنه يقترض دون إذن الحاكم" (¬3). القول الثالث: مذهب الشافعية: أن الناظر له الاقتراض على الوقف عند الحاجة إن شرط له الواقف، أو أذن فيه الحاكم، وللإمام أن يقرضه من بيت المال (¬4). جاء في حواشي الشرواني: "وله الاقتراض في عمارته بإذن الإِمام، أو نائبه، والإنفاق عليها من ماله ليرجع، وللإمام أن يقرضه من بيت المال" (¬5). ¬
الراجح
فإن اقترض بلا شرط من الواقف، أو إذن من الحاكم لم يجز، ولا يرجى على الوقف بما صرفه لتعديه فيه. الراجح: الذي أراه أن النظر إن كان مقيدًا بنوع من التصرف كما لو فوض إليه الواقف توزيع الغلة فقط، أو جمع الغلة فقط لم يتجاوزه، ولا يحق له بهذا التفويض الاستدانة على الوقف، وإن أطلق له النظر فإنه يملك الاستدانة لضرورة الوقف كعمارته، وصيانته؛ لأن ذلك داخل في مهامه، وكونه بإشراف القضاء أسلم وأبعد من التهمة، والله أعلم.
المبحث الثاني في الاستدانة على بيت المال
المبحث الثاني في الاستدانة على بيت المال كل من ولي ولاية الخلافة فما دونها لا يحل له أن يتصرف إلا بجلب مصلحة أو دفع مفسدة. المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة. من عمل لمصلحة الناس يرزق من بيت المال. يجوز لولي الأمر عند الضرورة الاقتراض على بيت المال فيما يصرفه في الديون دون الإرفاق. [م - 1787] يجوز للإمام العادل أن يستدين على بيت المال للمصالح العامة، كتجهيز الجيش، وللنفقات الواجبة، ودليله من السنة، والإجماع، والقياس. الدليل من السنة: (ح -1070) ما رواه مسلم من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكرًا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع، فقال: لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيًا، فقال: أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء. قال الإِمام الشافعي: "العلم يحيط أنه لا يقضي من إبل الصدقة، والصدقة لا تحل له، إلا وقد تسلف لأهلها ما يقضيه من مالهم" (¬1). ¬
قال العيني: "للإمام أن يستسلف للمساكين على الصدقات، ولسائر المسلمين على بيت المال؛ لأنه كالوصي لجميعهم، والوكيل، معلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستسلف ذلك لنفسه؛ لأنه قضاه من إبل الصدقة، ومعلوم أن الصدقة محرمة عليه، لا يحل له أكلها ولا الانتفاع بها" (¬1). وقال ابن عبد البر: "معلوم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يأكل الصدقة، وإنما كانت محرمة عليه، لا تحل له، وفي ذلك دليل على أن استسلافه الجمل البكر المذكور في هذا الحديث لم يكن لنفسه؛ لأنه قضاه من إبل الصدقة، وإذا كان ذلك كذلك صح أنه إنما استسلفه الجمل لمساكين بلده لما رأى من شدة حاجتهم، فاستقرضه عليهم، ثم رده من إبل الصدقة، كما يستقرض ولي اليتيم عليه نظرًا له، ثم يرده من ماله إذا طرأ له مال، وهذا كله لا تنازع فيه، والحمد لله" (¬2). ¬
وقال ابن حجر: "للإمام أن يقترض على بيت المال لحاجة بعض المحتاجين ليوفي ذلك من مال الصدقات". (ح - 1071) وروى الإِمام أحمد من طريق جرير -يعني ابن حازم- عن محمَّد -يعني ابن إسحاق- عن أبي سفيان، عن مسلم بن جبير، عن عمرو بن حريش، قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت: إنا بأرض ليس بها دينار، ولا درهم، وإنما نبايع بالإبل والغنم إلى أجل، فما ترى في ذلك؟ قال: على الخبير سقطت، جهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشًا على إبل من إبل الصدقة، فنفدت، وبقي ناس، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اشتر لنا إبلًا بقلائص من إبل الصدقة إذا جاءت حتى نؤديها إليهم، فاشتريت البعير بالاثنين، والثلاث من قلائص، حتى فرغت، فأدى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إبل الصدقة (¬1). وفي لفظ أبي داود: فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة (¬2). [حسن] (¬3). وهذا الحديث وإن كان في الدين، فإذا جاز الاستدانة على مال المسلمين، جاز الاقتراض على مالهم؛ لأن القرض نوع من الدين. ¬
الدليل من الإجماع
وأجاز ابن تيمية لولي بيت مال المسلمين إذا احتاج إلى إعطاء ظالم أو كفار لدفع شرهم، ولم يكن في بيت المال شيء، واستسلف من الناس أموالًا رجعوا بها على بيت المال. جاء في مجموع الفتاوى: "أن يحتاج ولي بيت المال إلى إعطاء ظالم لدفع شره عن المسلمين؛ كإعطاء المؤلفة قلوبهم لدفع شرهم، أو إعطاء الكفار إذا احتاج والعياذ بالله إلى ذلك، ولم يكن في بيت المال شيء، واستسلف من الناس أموالا أداها ... وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يعطون ما يعطونه: تارة من عين المال، وتارة مما يستسلفونه، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسلف على الصدقة، وعلى الفيء، فيصرفه في المصارف الشرعية: من إعطاء المؤلفة قلوبهم وغيرهم ... " (¬1). الدليل من الإجماع: ذكر بعض أهل العلم الإجماع على أن لولي بيت المسلمين أن يستدين عليه لصالح المسلمين. قال ابن عبد البر عن استسلاف النبي على إبل الصدقة: "إنما استسلفه الجمل لمساكين بلده لما رأى من شدة حاجتهم، فاستقرضه عليهم، ثم رده من إبل الصدقة ... وهذا كله لا تنازع فيه، والحمد لله" (¬2). ¬
الدليل من القياس
وجاء في الموسوعة الكويتية: "لا خلاف بين الفقهاء في أنه يجوز للإمام الاستقراض على بيت المال وقت الأزمات وعند النوائب والملمات لداعي الضرورة أو المصلحة الراجحة" (¬1). الدليل من القياس: قاس الفقهاء ولي بيت المال على ولي اليتيم، فإذا جاز لولي اليتيم أن يستقرض له لمصلحته من نفقة وطعام، وكسوة، جاز لولي المسلمين الاقتراض لمصلحة المسلمين. وقد صح عن عمر أنه أنزل نفسه من مال الله منزلة ولي اليتيم، وهذا وإن كان في الأكل، فغيره مقيس عليه. (ث -254) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع قال: ثنا سفيان، عن ¬
أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب العبدي، قال: قال عمر: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم، إن استغنيت منه استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف (¬1). [صحيح] (¬2). ¬
الشرط الأول
وقال الشاطبي في الموافقات: "فكما يجب على الوالي القيام بمصالح العامة، فعلى العامة القيام بوظائفه من بيوت أموالهم إن احتاج إلى ذلك" (¬1). إذا وقفت على هذه الأدلة من السنة والإجماع، والقياس، فاعلم أن الفقهاء قيدوا ذلك بشروط ثلاثة: الشرط الأول: يجوز الاقتراض على بيت المال إذا كان هناك إيراد مرتجى لبيت المال ليوفى منه القرض، فإن لم يكن له إيراد يرتجى، فقد أجاز الشاطبي أخذ الخراج على الناس إذا ضعف بيت المال، وعجز عن القيام بمصالح الناس. قال الشاطبي: "والاستقراض في الأزمات إنما يكون حيث يرجى لبيت المال دخل ينتظر أو يرتجى وأما إذا لم ينتظر شيء، وضعفت وجوه الدخل، بحيث لا يغني كبير شيء، فلا بد من جريان حكم التوظيف" (¬2). وقال في الموافقات: "فكما يجب على الوالي القيام بمصالح العامة، فعلى العامة القيام بوظائفه من بيوت أموالهم إن احتاج إلى ذلك" (¬3)، ¬
الشرط الثاني
الشرط الثاني: أن يكون الاستقراض من أجل الوفاء بالديون الثابتة على بيت المال، كأرزاق الجند ونحوها، وهو ما يصير بتأخيره دينًا لازمًا على بيت المال، سواء وجد المال أو عدم، وأما ما كان مصرفه على وجه المصلحة والإرفاق فإنه يصرف من بيت المال إن كان المال موجودًا، ولا يستقرض على بيت المال من أجلها. قال أبو يعلى: "لو اجتمع على بيت المال حقان ضاق عنهما واتسع لأحدهما، صرف فيما يصير منهما دينًا فيه، ولو ضاق عن كل واحد منهما، كان لولي الأمر إذا خاف الضرر والفساد أن يقترض على بيت المال ما يصرفه في الديون دون الإرفاق، وكان من حدث بعده من الولاة مأخوذا بقضائه إذا اتسع له بيت المال" (¬1). الشرط الثالث: أن يعيد الإِمام إلى بيت المال كل ما اقتطعه منه لنفسه وعياله وذويه بغير حق، وما وضعوه في حرام، وتبقى الحاجة إلى الاستقراض قائمة. قال ابن السبكي: لما عزم السلطان قطز على المسير من مصر لمحاربة التتار، وقد دهموا البلاد، جمع العساكر، فضاقت يده عن نفقاتهم، فاستفتى الإِمام العز بن عبد السلام في أن يقترض من أموال التجار، فقال له العز: إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام اتخاذه، ¬
وضربته سكة ونقدا، وفرقته في الجيش ولم يقم بكفايتهم، ذلك الوقت اطلب القرض، وأما قبل ذلك فلا" (¬1). ¬
فرع كل من أدى عن غيره واجبا فله أن يرجع به عليه، إذا لم يكن متبرعا
فرع كل من أدى عن غيره واجبًا فله أن يرجع به عليه، إذا لم يكن متبرعًا [م - 1788] إذا قلنا: للإمام أن يستدين. على بيت مال المسلمين، والدين يتعلق بالذمة، فالسؤال: هل الدين يجب على الوالي باعتبار أن له ذمة صالحة لتحمل الحقوق، وهو القائم على بيت المال، ولأنه نائب عن المسلمين، ولا يمكن مطالبة جميع المسلمين بهذا الدين، فيطالب به الولي كما يطالب ولي اليتيم إذا استدان لليتيم، باعتبار أن ذمة اليتيم لا تصلح لتحمل الحقوق، ثم يرجع على مال اليتيم باعتبار أن الولي مفوض بالتصرف في مال اليتيم. أو يقال: إنه واجب على بيت مال المسلمين، وأنه لا مانع من أن يكون لبيت مال المسلمين ذمة مستقلة، وهو ما يعرف في عصرنا بالشخصية الاعتبارية، فيكون صالحًا لتحمل الحقوق، فيملك ما يدخل عليه من الأموال، ولا يتحمل المسلمون الديون التي على بيت مال المسلمين. وقد عرف العلماء الشخصية الاعتبارية بقولهم: هو وصف يقوم بالشخصية أو بالكيان، أو بالمؤسسة، يجعلها أهلاً للإلزام والالتزام في الحقوق والواجبات المالية (¬1). ¬
القول الأول
والشخصية الاعتبارية هي اختراع قانوني يعطي بعض صفات الآدمي على كيان اعتباري، ولا سيما ما يتعلق بالذمة المالية، فيصبح لتلك الشخصية القانونية المستقلة عن أصحابها، القدرة على التعاقد مع غيرها من الشخصيات الطبيعية والاعتبارية، وأن تكون وعاء للحقوق والالتزامات، وأن تنشغل ذمتها بالديون. "ولم تتوفر حتى الآن على هذا المفهوم المستحدث بأبعاده القانونية ندوات، أو مؤتمرات فقهية بغرض دراسته، واتخاذ الموقف الإِسلامي المناسب تجاهه، وإن لم يخل الموضوع من دراسة منفردة هنا، أو هناك في محاولة لاستكشاف جوانبه، والحكم له أو عليه" (¬1). إذا عرفت ذلك نأتي على خلاف العلماء في تعلق ديون بيت المال القول الأول: يرى أن الدين يتعلق ببيت المال، كما أن ناظر الوقف إذا استدان للوقف أخذ ذلك من ريع الوقف، ولا يتحمله من ماله، ولا يتحمله الموقوف عليه، وهذا يدل على أن الوقف له نوع من الذمة المالية التي يستدان عليها، ثم يسترد منها. جاء في مجموع الفتاوى: "أن يحتاج ولي بيت المال إلى إعطاء ظالم لدفع شره عن المسلمين؛ كإعطاء المؤلفة قلوبهم لدفع شرهم، أو إعطاء الكفار إذا احتاج والعياذ بالله إلى ذلك، ولم يكن في بيت المال شيء، واستسلف من ¬
القول الثاني
الناس أموالا أداها ... وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يعطون ما يعطونه: تارة من عين المال، وتارة مما يستسلفونه، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسلف على الصدقة، وعلى الفيء، فيصرفه في المصارف الشرعية: من إعطاء المؤلفة قلوبهم وغيرهم ... لا يقال: ولي الأمر هنا اقترض أموال الناس منهم؛ لأنه يقال: إنما اقترضها ليدفعها إلى ذلك الظالم الذي طلب أخذ أموال المسلمين، فأدى عنهم ما اقترضه ليدفع به عنهم الضرر، وعليه أن يوفي ذلك من أموالهم المشتركة، مال الصدقات، والفيء، ولا يقال: لا يحل له صرف أموالهم، فإن الذي أخذه ذلك الظالم كان مال بعضهم؛ بل إعطاء هذا القليل لحفظ نفوسهم، وأموالهم واجب. وإذا كان الإعطاء واجبا لدفع ضرر هو أعظم منه، فمذهب مالك، وأحمد بن حنبل المشهور عنه وغيرهما: أن كل من أدى عن غيره واجبًا فله أن يرجع به عليه، إذا لم يكن متبرعًا بذلك، وإن أداه بغير إذنه؛ مثل من قضى دين غيره بغير إذنه. سواء كان قد ضمنه بغير إذنه، وأداه بغير إذنه، أو أداه عنه بلا ضمان" (¬1). القول الثاني: يرى أن هذه المؤسسات لا ذمة مالية لها، وإنما تثبت الديون على متوليها أولاً، ثم تؤخذ من ماله، أو تركته إن كان متوفى، ثم يرجع هو أو ورثته بها في مال هذه المؤسسات. جاء في تنقيح الفتاوى الحامدية: "المصرح به أن الوقف لا ذمة له، وأن الاستدانة من القيم لا تثبت الدين في الوقف؛ إذ لا ذمة له، ولا يثبت الدين إلا ¬
ويناقش
على القيم، ويرجع به على الوقف، وورثته تقوم مقامه في الرجوع عليهم في تركة الميت، ثم يرجعون في غلة الوقف بالدين على المتولي الجديد" (¬1). ويناقش: انتقد هذا القول فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا - رحمه الله -، فقال: "للفقهاء نصوص أخرى بخلاف ذلك، تفيد ثبوت الديون على الوقف رأسًا بلا واسطة ذمة المتولي، وهذا هو الرأي السديد المتفق مع فكرة الشخصية الحكمية، أما الرأي الأول فهو لف، ودوران، لا حاجة إليه، وفيه غفلة من أصحابه عن خصائص الشخصية الحكمية؛ لأن الذمة المالية لا تختص بالشخص الطبيعي، والأحكام الفقهية تؤيد ذلك، ونصوص الفقهاء في بيت المال وذمته، بل وذمم فروعه لا تدع ريبًا في ذلك" (¬2). وجاء في كشاف القناع: "يجوز الاقتراض على بيت المال لنفقة اللقيط، وكذا قال في الموجز: يصح قرض حيوان، وثوب لبيت المال، ولآحاد المسلمين نقله في الفروع قلت: والظاهر أن الدين في هذه المسائل يتعلق بذمة المقترض، وبهذه الجهات، كتعلق أرش الجناية برقبة العبد الجاني، فلا يلزم المقترض الوفاء من ماله، بل من ريع الوقف" (¬3). وقال مثله في مطالب أولي النهى، وزاد: أو يقال: لا يتعلق بذمته رأسًا" (¬4). ¬
الراجح
أي بذمة المقترض، وإذا لم يتعلق بذمة المقترض تعلق بذمة بيت المال، فرجع إلى القول الأول. الراجح: أرى أنه لا مانع من القول بالشخصية الاعتبارية، فلا يوجد نص من كتاب أو سنة يمنع من أن تكون للشركة ذمة مستقلة، وإن كانت دون ذمة الشخص الطبيعي، إلا أنه مع القول بهذه الشخصية يجب الحذر من الآثار القانونية، فالآثار القانونية التي رتبت على القول بالشخصية الاعتبارية في بعضها ليست مبنية على لوازم فقهية، وإنما مبنية على أحكام قانونية، وهي لا تلزم الفقيه، فما خالف منها أحكام الفقه طرح، وما وافق منها قبل، وقد ناقشت الشخصية الاعتبارية، والقول بها في الشركات المساهمة، من المجلد الثالث عشر، فارجع إليه غير مأمور.
المبحث الثالث في اقتراض الولي والوصي للصغير
المبحث الثالث في اقتراض الولي والوصي للصغير الأذن في التجارة إذن في توابعها. [م - 1789] ذهب الفقهاء إلى صحة استدانة الولي للصغير إذا احتاج إلى طعام وكسوة، ونحوها، وكذلك رأى جمهورهم على جواز الاستدانة للصغير من أجل الاتجار له، وتنمية ماله. جاء في العناية شرح الهداية: "وإن استدان الوصي لليتيم في كسوته وطعامه فرهن به متاعًا لليتيم جاز؛ لأن الاستدانة جائزة للحاجة، والرهن يقع إيفاء للحق فيجوز، وكذلك لو اتجر لليتيم فارتهن، أو رهن؛ لأن الأولى له التجارة تثميرًا لمال اليتيم فلا يجد بدًا من الارتهان والرهن؛ لأنه الفاء واستيفاء" (¬1). جاء في مواهب الجليل: "وللوصي أن يرهن من مال اليتيم رهنًا فيما يبتاع له من مصالحه" (¬2). وواضح أن الرهن لا يكون إلا توثقة للدين، ورهن ماله إنما يكون بسبب دين عليه استدانه الولي له. وجاء في شرح الخرشي: "قال ابن القاسم في المدونة: وللوصي أن يرهن من متاع اليتيم رهنًا فيما يبتاع له من كسوة، أو طعام كما يتسلف لليتيم حتى يبيع له بعض متاعه، وذلك لازم لليتيم، وللوصي أن يعطي مال اليتيم مضاربة. اهـ ¬
والظاهر أنه محمول على النظر، ولو في رهن الربع فليس كالبيع ... وكذلك للمأذون له في التجارة أن يرهن؛ لأن الإذن فيها إذن في توابعها" (¬1). جاء في المهذب: "ويجوز أن يقترض له إذا دعت إليه الحاجة، ويرهن ماله عليه؛ لأن في ذلك مصلحة له فجاز" (¬2). وجاء في فتح العزيز: "وحيث جاز للولي الرهن، فالشرط أن يرهن من أمين يجوز الإيداع منه، ولا فرق في جميع ذلك بين الأب، والجد، والوصى، والحاكم، وأمينه" (¬3). وقال ابن قدامة: "ولي اليتيم ليس له رهن ماله، إلا عند ثقة يودع ماله عنده، لئلا يجحده أو يفرط فيه فيضيع. قال القاضي: ليس لوليه رهن ماله إلا بشرطين: أحدهما، أن يكون عند ثقة. الثاني، أن يكون له فيه حظ، وهو أن يكون به حاجة إلى نفقة، أو كسوة، أو إنفاق على عقاره المتهدم، أو أرضه، أو بهائمه، ونحو ذلك، وماله غائب يتوقع وروده، أو ثمرة ينتظرها، أو له دين مؤجل يحل، أو متاع كاسد يرجو نفاقه؛ فيجوز لوليه الاقتراض ورهن ماله وإن لم يكن له شيء ينتظره، فلا حظ له في الاقتراض، فيبيع شيئاً من أصول ماله، ويصرفه في نفقته. وإن لم يجد من يقرضه، ووجد من يبيعه نسيئة، وكان ¬
الراجح
أحظ من بيع أصله، جاز أن يشتريه نسيئة ويرهن به شيئاً من ماله، والوصي والحاكم وأمينه في هذا سواء" (¬1). الراجح: نستطيع أن نقول: إن رهن مال الموصى عليه إما أن يكون بسبب الاتجار بماله، أو يكون بسبب حاجته للاقتراض من أجل طعامه وكسوته. فالذي يمنع من الاتجار بمالة ينبغي أن يمنع من الاستدانة له للاتجار؛ لأنه مترتب على أمر غير مشروع، وقد حررت الخلاف في حكم اتجار الوصي بمال اليتيم، في كتاب الوصية، وقد منعه بعض الحنفية، وهو وجه عند الحنابلة. وقد رجحت أن للوصي الاتجار بماله، وهو فعل عمر وعائشة - رضي الله عنهما -، وإذا كان للوصي الاتجار بمال اليتيم تثميرًا له، جاز الاستدانة له؛ لأن ذلك من توابع التجارة. وإذا كان الرهن بسبب الاقتراض لليتيم بسبب حاجته للطعام والكسوة فإنه ينبغي ألا يختلف في جوازه أحد؛ لأنه قد لا تندفع حاجته إلا بذلك، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في شروط المال المقرض
الفصل الثالث في شروط المال المقرض الشرط الأول في اشتراط أن يكون القرض في المثليات ما صح السلم فيه صح قرضه. سبق لنا تعريف المال المثلي: وأن المثلي من الأموال: كل ما يوجد له مثل في السوق بلا تفاوت يعتد به، كالمكيل والموزون، والنقود. ويقابله المال القيمي: هو ما لا يوجد له مثل في الأسواق، أو يوجد، ولكن مع التفاوت المعتد به (¬1). [م - 1790] إذا كان المال مثلياً صح أن يكون دينًا في الذمة بالاتفاق؛ لأنه ينضبط بالصفة، كما جاء في الحديث: (من أسلف فليسلف في كليل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم) متفق عليه (¬2). على خلاف بين العلماء في بعض الأموال هل هي مثلية أو غير مثلية. [م - 1791] واختلف الفقهاء في المال القيمي، هل يثبت دينًا في الذمة؟ اختلف العلماء في هذه المسألة: ¬
القول الأول
القول الأول: المال القيمي لا يثبت دينًا في الذمة، وهو مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية، وكذا الشافعية في الأصح، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة: أن كل ما صح السلم فيه صح إقراضه؛ مثليًا كان أو قيميًا. فالضابط في المال المقرض: كل شيء يمكن ضبطه بالوصف، فإن إقراضه صحيح؛ لصحة السلم فيه؛ بجامع أن كلًا من السلم والقرض دين في الذمة. فإذا صح السلم في المال القيمي إذا أمكن ضبطه بالوصف صح إقراضه من باب أولى. وما لا يمكن ضبطه بالوصف، لا يصح السلم فيه، وبالتالي لا يصح إقراضه (¬2). ¬
جاء في شرح الخرشي: "كل ما يصح أن يسلم فيه يصح أن يقرض، كالعروض، والحيوان، وكل ما لا يصح سلمه لا يصح قرضه، كالأرضين، والأشجار وتراب المعادن، والجواهر النفيسة" (¬1). وقال القرافي: "كل ما جاز سلما في الذمة جاز قرضه إلا الجواري وفي الكتاب: يجوز قرض كل شيء إلا الجواري لأنه لا تعار الفروج للوطء ومنعه الحنفية في غير المكيل والموزون لتعذر المثل عند الرد في غيرهما. لنا: الحديث المتقدم -يعني حديث أن النبي استسلف من رجل بكرًا- والقياس على السلم بطريق الأولى، ولأن المعروف يسامح فيه أكثر من غيره، وقد جوز في القرض بالنسيئة بخلاف السلم" (¬2). وجاء في تحفة المحتاج: "وما لا يسلم فيه: أي في نوعه لا يجوز إقراضه في الأصح؛ لأن ما لا ينضبط، أو يعز وجوده يتعذر، أو يتعسر رد مثله؛ إذ الواجب في المتقوم رد مثله صورة، نعم يجوز قرض الخبز، والعجين، ولو خميرًا حامضًا للحاجة والمسامحة ويرده وزنا. قال في الكافي أو عددًا" (¬3). ¬
القول الثالث
جاء في المحرر: "كل ما جاز بيعه جاز قرضه إلا الرقيق، وما يمنع فيه السلم كالجواهر ونحوه فعلى وجهين" (¬1). القول الثالث: يجوز قرض غير المثلي، ويرد بدلًا منه إما مثله في الصورة، أو يرد قيمته، وهو أحد القولين في مذهب الشافعية، وأحد الوجهين مذهب الحنابلة، وبه قال ابن حزم، ورجحه ابن تيمية (¬2). ¬
وجه من قال: يشترط في القرض أن يكون مثليا
قال الشيرازي: "فأما ما لا يضبط بالوصف كالجواهر وغيرها ففيها وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن القرض يقتضي رد المثل، وما لا يضبط بالوصف لا مثل له. والثاني: يجوز؛ لأن ما لا مثل له يضمنه المستقرض بالقيمة، والجوهر كغيرها في القيمة" (¬1). وجه من قال: يشترط في القرض أن يكون مثليًا: المقرض يمتلك العين بالقرض، ويستهلكها غالبًا، فلا يمكن اشتراط رد العين وإلا كان عارية، فإذا اقترض مالاً وجب في ذمته مثله، ولا يجب عليه رد القيمة؛ لأنه يؤدي إلى المنازعة لاختلاف القيمة باختلاف تقويم المقومين؛ فتعين أن يكون الواجب فيه رد المثل؛ لهذا اشترط في القرض أن يكون المال مثليًا ليتمكن المستقرض من رد مثله، وعليه فلا يصح أن يقرضه ما لا مثل له من المذروعات والمعدودات، كالخبز، والحيوان، والجواهر ونحوها. دليل من قال: يشترط أن يصح السلم في المال المقرض: الدليل الأول: (ح -1072) ما رواه مسلم من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكرًا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع، فقال: لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيًا، فقال: أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن مناط الحكم ضبط الصفة، ومعرفة المقدار، وما كان كذلك جاز إلحاقه بالمكيل والموزون من المثليات؛ ولأن إمكان رده مثله ولو صورة مقدور عليه، كما رد النبي - صلى الله عليه وسلم - خيارًا رباعيًا، بصرف النظر عن كونه مثليًا أو قيميًا. الدليل الثالث: القياس على السلم، فإذا جاز السلم في كل ما يمكن ضبطه بالصفة جاز ذلك بالقرض بطريق الأولى؛ ولأن القرض من المعروف ويتسامح فيه أكثر من غيره، وقد جوز في القرض النسيئة بخلاف السلم (¬1). دليل من قال: يجوز القرض في القيميات: الدليل الأول: الأصل في معاملات الناس الحل والجواز، ولو كان ممنوعًا شرعاً لجاء النص الشرعي الصحيح بمنع ذلك، ولم يقم دليل على المنع. يقول ابن حزم: "والقرض جائز في الجواري، والعبيد، والدواب، والدور، والأرضين، وغير ذلك لعموم قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] فعم تعالى ولم يخص، فلا يجوز التخصيص في ذلك بالرأي الفاسد بغير قرآن، ولا سنة" (¬2). الدليل الثاني: (ح -1073) ما رواه الخطيب في تاريخه من طريق شيخ بن عميرة بن صالح ¬
الدليل الثالث
الأسدي، حدثنا الزبير، قال: حدثتني أم كلثوم ابنة عثمان بن مصعب بن الزبير، عن صفية ابنة الزبير بن هشام بن عروة، عن جدها هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخبز، والخمير نقرضهم، ويردون أكثر أو أقل، فقال: ليس بهذا بأس، إنما هذه مرافق الناس، لا يراد بها الفضل (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: أن المقترض إذا لم يتمكن من رد القرض نفسه، فإنه يدفع قيمته، كما لو وجب عليه ضمانه لسبب آخر من إتلاف ونحوه، والقول قول المقترض؛ لأنه غارم. الدليل الرابع: أن القرض القصد منه الإرفاق والإحسان والمسامحة، ولذلك جاز النساء فيه بين الأموال الربوية، مع أنه في عقد المعاوضة محرم إجماعًا، فجواز دفع القيمة بدلاً من القرض يجوز من باب أولى، فباب القرض أخف من باب البيع. يقول ابن تيمية: "باب القرض أسهل من باب البيع، ولهذا يجوز على الصحيح قرض الخبز عددًا، وقرض الخمر" (¬3). الدليل الخامس: المقرض والمقترض يعلمان أن هذا المال ليس له مثل، وأن القيمة سوف تدفع بدلاً منه، وتراضيا على ذلك، فأي محذور شرعي في منعه، فإن كان المنع ¬
الراجح
حقًا لله، فلا بد من وجود نص من كتاب، أو سنة صحيحة يمنع منه، ولا وجود لذلك، وإن كان المنع حقًا لآدمي، فالغرر فيه يسير يتسامح فيه في باب القرض الذي هو من باب الإحسان، وقد تراضى المقرض والمقترض على ذلك، وطابت به نفوسهما، وهذا هو الذي يتمشى مع مقاصد الشرع في هذا العقد، وقضاء حاجة المحتاج، وعدم دفع المحتاج إلى معاملات التورق، ورفع السعر عليه مقابل التأجيل. الراجح: أن كل ما جاز بيعه جاز قرضه، سواء كان آدميًا أو غيره، وسواء كان مثليًا أو متقومًا، والقرض ليس من عقود المعاوضات، وإنما هو من عقود الإرفاق والإحسان، والله أعلم.
فرع في إقراض الخبز
فرع في إقراض الخبز عقود التبرع مبنية على التسامح بخلاف المعاوضات. [م - 1792] لا يعتبر الخبز من الأموال المثلية، والخلاف في إقراض الخبز يرجع إلى المسألة المتقدمة، هل يشترط في المال المقرض أن يكون مثليًا أو يجوز أن يكون قيميًا؟ وقد اختلف العلماء في حكم قرض الخبز، القول الأول: لا يجوز مطلقاً، لا وزنًا ولا عددًا، وهذا قول أبي حنيفة، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬1). وعللوا ذلك: بوجود التفاوت الفاحش بين خبز وخبز؛ لاختلاف العجين، والنضج، والخفة والثقل في الوزن، والصغر والكبر في العدد، ولهذا لم يصح السلم فيها. قال الكاساني: "ولا يجوز القرض في الخبز، لا وزنًا ولا عددًا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله" (¬2). وقال العمراني في البيان: "وأمَّا إقراض الخبز: فإن قلنا: يجوز قرض ما لا ¬
القول الثاني
يضبط بالوصف، كالجواهر .. جاز قرض الخبز. وإن قلنا: لا يجوز قرض ما لا يضبط بالوصف .. ففي قرض الخبز وجهان: أحدهما: لا يجوز -وبه قال أبو حنيفة- كغيره مما لا يضبط بالوصف" (¬1). القول الثاني: يجوز إقراضه وزنًا، وهو قول أبي يوسف من الحنفية، وأشهر الوجهين في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). جاء في البحر الرائق: "ويستقرض الخبز وزنًا لا عددًا، وهذا عند أبي يوسف ... وذكر الشارح أن الفتوى على قول أبي يوسف" (¬3). جاء في إعانة الطالبين: "واستثني جواز قرض الخبز وزنًا؛ لإجماع أهل الأمصار على فعله في الأعصار بلا إنكار، وهذا ما قطع به المتولي والمستظهري وغيرهما، واقتضى كلام النووي ترجيحه، قال في المهمات: والراجح جوازه، وقد اختاره في الشرح الصغير" (¬4). ولأن المطلوب رد المثل، ولا يمكنه ذلك إلا بالوزن. القول الثالث: يجوز إقراضه مطلقاً بدون قصد الزيادة أو اشتراطها، وهو اختيار محمَّد بن ¬
الحسن من الحنفية، واختاره بعض المالكية، والخوارزمي من الشافعية، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، ورجحه ابن تيمية وابن القيم (¬1). جاء في المحيط البرهاني في الفقه النعماني: "عن محمَّد: أنه جوز قرض الخبز عددًا، وقال: بلغنا ذلك عن إبراهيم النخعي، قال ثمة أيضًا: قال محمَّد: الوزن في قرض الخبز من الدناءة والعدد أحب إلي" (¬2). ولإجماع أهل الأمصار على فعله في الأعصار بلا إنكار. ولأن العادة جرت باستقراضها عددً لا وزنًا والقياس يترك بالعادة. (ح -1074) وأما ما رواه الخطيب في تاريخه من طريق شيخ بن عميرة بن صالح الأسدي، حدثنا الزبير، قال: حدثتني أم كلثوم ابنة عثمان بن مصعب بن الزبير، عن صفية ابنة الزبير بن هشام بن عروة، عن جدها هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخبز، والخمير نقرضهم، ويردون أكثر أو أقل، فقال: ليس بهذا بأس، إنما هذه مرافق الناس، لا يراد بها الفضل (¬3). [فإن إسناده ضعيف] (¬4). ولأن القرض فعل معروف، وهو مما يتسامح فيه. ¬
وهذا القول وهو الراجح. لأن القرض مبني على المسامحة، ولجواز قرض الحيوان مع كونه قد يتفاوت تفاوتًا يسيرًا، ولأن الزيادة غير المشروطة في حال رد القرض لا تحرم بخلاف البيع في المال الربوي.
الشرط الثاني في اشتراط أن يكون المقرض عينا
الشرط الثاني في اشتراط أن يكون المقرض عينا ما صح بيعه صح قرضه. يطلق الفقهاء كلمة (عين) ويريدون بها تارة المعين، وهو ما يقابل الدين. قال الباجي في المنتقى: "والإجارة على ضربين: إجارة متعلقة بعين، وإجارة متعلقة بالذمة" (¬1). فجعل العين في مقابل الدين: وهو ما تعلق بالذمة. وتارة يطلق الفقهاء كلمة (عين) ويريدون بها ما يقابل المنفعة، وهو المراد هنا. قال الخطيب في تعريف البيع: "عقد معاوضة مالية يفيد ملك عين، أو منفعة على التأبيد ... " (¬2). وإذا أطلقت المنفعة فالمراد بها كل ما يمكن استفادته من الأعيان: عرضًا كان مثل سكنى الدار، وأجرتها، وركوب السيارة والدواب، وليس الثياب. أو كان عينًا: مثل ثمر الأشجار، وحليب الأنعام، ونحوها فإن هذه منافع لتلك الأعيان (¬3). إلا أن المقصود بالمنافع هنا ما أخص من التعريف اللغوي، فالمقصود بالمنافع (الأعراض) وليست الأعيان. ¬
وصورة قرض المنافع
قال السرخسي في تعريف المنفعة: المنفعة عرض يقوم بالعين (¬1). وفي الموسوعة الكويتية: المنفعة في الاصطلاح: هي الفائدة التي تحصل باستعمال العين، فكما أن المنفعة تستحصل من الدار بسكناها، تستحصل من الدابة بركوبها (¬2). إذا عرفنا هذا فالسؤال الذي يعنينا مناقشته، هل يشترط في المال المقرض أن يكون عينًا، أو أنه يجوز قرض المنافع كالأعيان؟ وصورة قرض المنافع: مثل ابن تيمية لقرض المنافع بأن يحصد معه يومًا، ويحصد معه الآخر يومًا، أو يسكنه داره، ويسكنه الآخر بدلها (¬3). ومثله اتفاق مجموعة من الموظفين أو العمال أن يركبوا كل يوم في سيارة أحدهم في ذهابهم للعمل، ورجوعهم منه. [م - 1793] وقد اختلف الفقهاء في حكم إقراض المنافع على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يصح إقراض المنافع، وهو مذهب الحنفية، والحنابلة، واختاره القاضي حسين من الشافعية. ¬
ويتعقب
جاء في فتاوي القاضي حسين: "إقراض المنافع لا يجوز؛ لأنه لا يجوز السلم فيها كالجواهر" (¬1). ونقل هذا النص النووي في روضة الطالبين (¬2). وعلق عليه الأنصاري في أسنى المطالب: ويؤخذ من تعليله أن محله في منافع العين المعينة، أما التي في الذمة فيجوز إقراضها لجواز السلم فيها" (¬3). ويتعقب: بأنه لم يظهر لي من كلام القاضي حسين أنه منع القرض في منافع العين المعينة فقط؛ وأما منافع العين التي في الذمة فانه يجوزه؛ لصحة السلم فيه؛ لأن القرض كله لا يبهون إلا في معين، والسلم كله لا يكون إلا في شيء غير معين، فلما قال الشافعية: ما صح السلم فيه صح قرضه، يقصدون منه صحة قرض المعين الذي لو كان غير معين لصح السلم فيه، هذا هو مرادهم. إذا علم ذلك فإن القاضي حسين إنما يقصد أن المنافع ليست مما يمكن ضبطها بالوصف؛ فلا يصح القرض فيها، ولذلك قاسها على الجواهر، والجواهر يمتنع السلم فيها لعدم إمكان ضبطها بالوصف. ولذلك جاء في الغرر البهية: "وما اقتضاه قولهم: ما جاز السلم فيه جاز إقراضه وما لا فلا من امتناع إقراض المعين من عين ومنفعة، فليس مرادًا؛ لأن غالب ما يقرض معين" (¬4). ¬
وجه المنع من إقراض المنافع
وأما النقول عن المذهب الحنبلي، فجاء في الإنصاف: "ظاهر قوله: (ويصح في كل عين يجوز بيعها) أنه لا يصح قرض المنافع؛ لأنها ليست بأعيان. قال في الانتصار: لا يجوز قرض المنافع. وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب حيث قالوا: ما صح السلم فيه صح قرضه، إلا ما استثني" (¬1). وجه المنع من إقراض المنافع: وجه المنع عند الحنفية: الحنفية يمنعون إقراض المنافع لوجهين: أحدهما: يشترط الحنفية فيما يصح إقراضه أن يكون مثليًا كما بينت ذلك في الشرط الأول، والغالب على المنافع أنها ليست من ذوات الأمثال. الثاني: أن المنافع ليست مالاً في نفسها عند الحنفية، وإنما يعقد عليها بإقامة العين مقام المنفعة، فإذا كانت المنفعة ستتحول بالقرض إلى دين، أصبحت العين غير قائمة فلا يصح العقد عليها، ولهذا منع الحنفية العقد على المنافع، فلا يقول عندهم: أجرتك منافع هذه الدار، وإنما يصح بإضافته إلى العين، فيقول: أجرتك هذه الدار. وسبب كون المنافع ليست مالاً عندهم: أنهم يشترطون في المالية الحيازة والادخار، والمنافع لا تقبل الحيازة ولا تقبل الادخار، فالمنافع قبل وجودها معدومة، والمعدوم لا يطلق عليه اسم ¬
القول الثاني
مال، وبعد كسبها تتلاشى وتفنى، ولا يمكن إحرازها، وقد ناقشت مالية المنافع والخلاف بين الحنفية وبين الجمهور في عقد البيع من هذا الكتاب، وبينت ضعف مذهب الحنفية هناك فأغنى ذلك عن إعادته هنا (¬1). هذا مأخذ الحنفية في المنع من إقراض المنافع. وأما مأخذ الحنابلة من المنع قال في كشاف القناع: "ولا يصح قرض المنافع؛ لأنه غير معهود" (¬2). والحقيقة كون إقراض المنافع غير معهود لا يكفي هذا في المنع، فإن المعاملات تتغير، فقد يكون الشيء محلاً للانتفاع في وقت دون وقت، كما أن الأعيان قد تنتقل من المالية إلى عدمها، وبالعكس، فإذا هجر الناس الانتفاع بعين من الأعيان وترك عامتهم تمولها فقدت هذه العين ماليتها، فلو كنا في بلد تعارف الناس على طرح حوايا الذبيحة، وأطرافها لم تكن هذه الأشياء مالاً عندهم، وإن كانت هذه الأعيان فيها منافع مباحة، وإذا رجع الناس إلى تمولها عادت إليها المالية، وإذا كان ذلك في الأعيان فما بالك بالمنافع، ولأن الأصل في المعاملات والعقود والشروط عند الحنابلة الصحة، فإذا اعتاد الناس اقترض المنافع فلا يوجد محذور شرعي يقتضي المنع. القول الثاني: لا يصح إقراض منافع العقار، ويصح إقراض منافع الدواب ونحوها مما يمكن ضبطها بالصفة، اختاره البلقيني والسبكي من الشافعية. ¬
وهو مقتضى قواعد المالكية، حيث جعلوا الضابط فيما يصح إقراضه، أن كل ما جاز السلم فيه صح إقراضه، وفي باب السلم نصوا على جواز السلم في المنافع التي يمكن ضبطها بالصفة، واستثنى المالكية السلم في العقار فمنعوا السلم فيه، وهذا يعني أنه لا يصح إقراضه على قواعد المذهب. والمنع السلم في العقار هو محل اتفاق بين المذاهب كما بينته في عقد السلم (¬1). قال القرافي: "يمتنع السلم في الدور والأرضين؛ لأن خصوص المواضع فيها مقصود للعقلاء، فإن عين لم يكن سلمًا؛ لأن السلم لا يكون إلا في الذمة، وإن لم يعين كان سلمًا مجهولاً" (¬2). وقد جمع البلقيني والسبكي بين قول القاضي حسين: بأنه لا يجوز الإقراض بالمنافع، وبين قول الشافعية: ما صح السلم فيه صح إقراضه، حيث حملوا كلام القاضي حسين على منافع العقار، ورجحه زكريا الأنصاري. جاء في شرح البهجة الوردية: "والأقرب ما جمع به السبكي والبلقيني وغيرهما من حمل المنع على منفعة العقار، كما يمتنع السلم فيها؛ ولأنه لا يمكن رد مثلها، والجواز على منفعة غيره من عبد ونحوه، كما يجوز السلم فيها ولإمكان رد مثلها الصوري" (¬3). ¬
القول الثالث
وعندي أن هذا قول آخر في مذهب الشافعية، ولا يصح حمل كلام القاضي حسين عليه؛ لأن القاضي - رحمه الله - منع من إقراض المنافع وأطلق ذلك، ولم يخصه في نوع دون نوع، وقاس منعه على منع السلم في الجواهر، والجواهر من الأعيان وليست من المنافع، والعلة في منع السلم في الجواهر كونها لا يمكن ضبطها بالصفة بعد أن دخلتها الصنعة، هذا هو توجيه المنع عند القاضي حسين، والله أعلم. القول الثالث: يصح إقراض المنافع، هو اختيار ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة. جاء في المستدرك في مجموع الفتاوى: "ويجوز قرض المنافع، مثل أن يحصد معه يومًا، ويحصد معه الآخر يومًا، أو يسكنه دارًا ليسكنه الآخر بدلها؛ لكن الغالب على المنافع أنها ليست من ذوات الأمثال، حتى يجب على المشهور في الأخرى القيمة. ويتوجه في المتقوم أنه يجوز رد المثل بتراضيهما" (¬1). وجه القول بصحة إقراض المنافع: الوجه الأول: الأصل في المعاملات الإباحة، ولا يوجد دليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع يمنع صحة إقراض المنافع. الوجه الثاني: أن المنافع تقبل المعاوضة بيعًا وإجارة، فالبيع كشراء ممر في دار ونحوه، فلو ¬
الراجح
أن رجلاً اشترى استطراقه في أرض زيد من الناس ليصل إلى أرضه، أو إلى مسجده، أو إلى دكانه صح البيع، وهذا من قبيل بيع المنافع. وتقبل المنافع الإجارة كأن تقول لرجل: اشتغل عندي بأجرة قدرها كذا وكذا. فإذا كانت المنافع تقبل المعاوضة، فما المانع من أن تشتغل عندي يومًا وأشتغل عندك يومًا آخر، والاختلاف اليسير في منافعهما لا يضر، وقد رأيت في بعض البلاد الفقيرة إذا أراد الرجل أن يبني بيته قام بعض جيرانه بالبناء معه، ويرده لهم بالمثل إذا أرادوا البناء. الراجح: جواز إقراض المنافع، والقرض ليس من عقود المعاوضات حتى ننشغل بتوصيف البدل، هل هو مثلي، أو قيمي، بل القرض من الإحسان بالمقترض، والغرر يتسامح فيه أكثر من غيره، والله أعلم. ومثل الشيء ليس شرطًا أن يكون من كل وجه. يقول ابن تيمية: "المماثل من كل وجه متعذر حتى في المكيلات فضلاً عن غيرها، فإنه إذا أتلف صاعًا من بر فضمن بصاع من بر لم يعلم أن أحد الصاعين فيه من الحب ما هو مثل الآخر، بل قد يزيد أحدهما على الآخر" (¬1). ويقول أيضًا: "باب القرض أسهل من باب البيع، ولهذا يجوز على الصحيح قرض الخبز عددًا، وقرض الخمر" (¬2). ¬
الشرط الثالث أن يكون المقرض معلوما
الشرط الثالث أن يكون المقرض معلوما [م - 1794] يشترط في المال المقرض أن يكون معلومًا قدرًا وصفة، وهذا لا يختلف فيه الفقهاء في الجملة. جاء في المنتقى للباجي: "أن يكون ما استسلفه معلوم الصفة والحلية ليتمكن من رد مثله، ولو كان مجهول الصفة لتعذر عليه أن يرد مثله" (¬1). وقال الشيرازي: "ولا يجوز إلا في مال معلوم القدر فإن أقرضه دراهم لا يعرف وزنها أو طعامًا لا يعرف كيله لم يجز لأن القرض يقتضي رد المثل فإذا لم يعلم القدر لم يمكن القضاء" (¬2). وجاء في الروض المربع: "ويشترط معرفة قدر القرض، ووصفه" (¬3). وفي الإقناع: "ويشترط معرفة قدره بمقدار معروف ... ويشترط وصفه" (¬4). قال في كشاف القناع: "ويشترط وصفه: أي معرفة وصفه ليرد بدله" (¬5). وقال بعض الشافعية: إن كان الواجب في القرض رد المثل، وجب معرفة المال المقرض قدرًا وصفة. ¬
إن كان الواجب في القرض رد القيمة، كما لو كان المال المقرض لا مثل له، فلا يجب معرفة القدر ولا الصفة، وإنما يجب معرفة القيمة. اختاره بعض الشافعية. والسؤال: كيف الوقوف على قيمة الشيء دون أن نعرف صفته ومقداره؟ قال الماوردي وهو يذكر شروط القرض: "أن يكون القرض معلومًا، والعلم به معتبر باختلاف حاله، فإن كان مما يستحق الرجوع بقيمته، فالعلم به يكون بمعرفة قيمته، ولا اعتبار بمعرفة قدره، ولا صفته إذا صارت القيمة معلومة؛ لاستحقاق الرجوع بها دون غيرها. وإن كان مما يستحق الرجوع بمثله، فالعلم به يكون من وجهين: أحدهما: معرفة قدره. والثاني: معرفة صفته، فتنتفي الجهالة عند المطالبة. فأما الصفة فمعتبرة بحسب اعتبارها في السلم. وأما القدر، فيكون بالوزن إن كان موزونًا، وبالكيل إن كان مكيلاً، والذرع والعدد إن كان مذروعا أو معدودًا" (¬1). وجوز الشافعية قرض المجهول إذا كان يؤول إلى العلم. جاء في تحفة المحتاج: "أن القرض لا بد أن يكون معلوم القدر أي: ولو مآلا" (¬2). ¬
الدليل على اشتراط معرفة القرض قدرا وصفة
وجاء في أسنى المطالب: "لو أقرضه كفًا من دراهم مثلاً لم يصح. نعم إن أقرضه على أن يستبين قدره، ويرد مثله فإنه يصح كما في الأنوار" (¬1). واستثنى الشافعية من اشتراط العلم بالقدر ما لو أذن له بالصرف فيما سمي بالقرض الحكمي لتعمير داره، أو فدائه من الأسر بما يراه، ويصدق المقرض بالقدر اللائق (¬2). إذا علم هذا القدر من كلام الفقهاء نأتي على أدلة هذه المسألة. الدليل على اشتراط معرفة القرض قدرًا وصفة: الدليل الأول: (ح -1075) ما رواه البخاري من طريق أبي المنهال، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: قدم النبي المدينة، وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم. وجه الاستدلال بالحديث من وجهين: الوجه الأول: قياس دين القرض على دين السلم؛ لأن السلم دين، والقرض يتحول إلى دين في ذمة المقترض، فيشتركان في أن كلاً منهما إثبات دين في الذمة بمبذول في الحال، ولذلك يسمى السلم سلفًا. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أن فقهاء الشافعية والمالكية جعلوا الضابط فيما يصح قرضه: أن يصح السلم فيه. ولا شك أن المجهول لا يصح السلم فيه، وبالتالي لا يصح إقراضه. الدليل الثاني: أن القرض يتحول إلى دين في ذمة المقترض، وما تعلق بالذمة يستحيل أن يكون جزافًا غير مقدر؛ لأن ما في الذمة لا يمكن صرفته إلا بالتقدير، بخلاف غيره، فإنه يمكن معرفته عن طريق الإشارة، والتعيين. وإذا لم يعلم قدر القرض ولا صفته أدى ذلك إلى جهالة الواجب في ذمة المقترض، وهذا لا يجوز.
فرع في إقراض المكيل وزنا والعكس
فرع في إقراض المكيل وزنًا والعكس إقراض المكيل وزنًا جائز مطلقًا، وإقراض الموزون كليلاً يصح إن قبل الكيل .. [م - 1795] في إقراض المكيل وزنا وعكسه، اختلف العلماء في إقراض المكيل وزنًا وبالعكس: القول الأول: أن ذلك لا يجوز، وبه قال محمَّد بن الحسن، ورواية عن أبي يوسف، والقفال من الشافعية. وجه المفع عند الحنفية: أن ما جاء النص على أنه يكال، فمعياره الشرعي الكيل، وكذا ما كان النص في معياره الوزن، وما لم يرد فيه نص يعتبر فيه العرف اتفاقًا عند الحنفية. جاء في الفتاوى الهندية: "في نوادر هشام عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال: لا ضرورة ولا خير في قرض الحنطة والدقيق بالوزن وكذلك التمر" (¬1). وجاء في المحيط البرهاني: وفي "نوادر هشام" عن أبي يوسف أنه قال: لا خير في قرض الحنطة والدقيق بالوزن، وكذلك التمر وإن كان حيث يوزن، قال هشام - رحمه الله -: قلت لمحمد: التمر عندنا بالري وزنًا فما تقول فيمن أقرضه بالوزن، ¬
وأما وجه المنع عند القفال
قال: لا يصلح ذلك؛ لأن أصله كيل، وعن محمَّد أيضًا: أنه قال: لا يجوز الحنطة أن تقرض وزنًا، فإن أخذه، وأكله قبل أن يكتاله، فالقول قول المستقرض أنه كذا كذا قفيزًا" (¬1). وأما وجه المنع عند القفال: فيرى القفال أن الواجب في القرض استواء العوضين. جاء في روضة الطالبين: "قال القفال: لا يجوز إقراض المكيل وزنًا، بخلاف السلم، فإنه لا يشترط فيه استواء العوضين" (¬2). القول الثاني: أن ذلك جائز، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، وإحدى الروايتين واشترط أبو يوسف من الحنفية في إحدى الروايتين عنه أن يتعارف الناس عليه. جاء في المحيط البرهاني: "وعن أبي يوسف رواية أخرى: أنه يجوز بيع الدقيق واستقراضه وزنًا إذا تعارف الناس ذلك أستحسن فيه" (¬3). وجاء في فتح العزيز: "ويجوز إقراض المكيل وزنا والموزون كيلا كما في السلم، وعن القفال أنه لا يجوز" (¬4). ¬
القول الثالث
وجاء في حاشية ابن عابدين: "وجد في الغياثية عن أبي يوسف، أنه يجوز استقراضه وزنًا إذا تعارف الناس ذلك وعليه الفتوى ... ونقل بعض المحشين عن تلقيح المحبوبي أن بيعه وزنا جائز؛ لأن النص عين الكيل في الحنطة دون الدقيق، ومقتضاه أنه على قول الكل؛ لأن ما لم يرد فيه نص يعتبر فيه العرف اتفاقًا" (¬1). وجاء في شرح منتهى الإرادات: "ويرد مثل كيل مكيل دفع وزنا؛ لأن الكيل هو معياره الشرعي، وكذا يرد مثل وزن موزون دفع كيلاً" (¬2). القول الثالث: إذا أقرضه المكيل وزنًا جاز، إلا أن يكون المال مما يجري فيه الربا فلا يجوز. وكذا إذا أقرضه الموزون كيلًا، وكان ينحصر بالكيل جاز إلا أن يكون المال مما يجري فيه الربا. فإن كان الموزون لا ينحصر بالكيل كالقطن، والكتان امتنع إقراضه كيلاً للجهالة، وهذا التفصيل هو أحد الوجهين في مذهب الشافعية. قال الماوردي: "فلو كان القرض مكيلاً، فأقرضه إياه وزنًا جاز، إن لم يكن فيه الربا؛ لأنه يصير معلومًا به. وإن كان فيه الربا فعلى وجهين: ¬
الراجح
أحدهما: لا يجوز خوف الربا كالبيع. والثاني: يجوز، وبه قال أبو حامد المروذي؛ لأن القرض عقد إرفاق وتوسعة لا يراعى فيه ما يراعى في عقود المعاوضة. ألا ترى لو رد زيادة على ما اقترض من غير شرط جاز وإن لم يكن ربا محرما. ولو كان القرض موزونًا فأقرضه إياه كيلا، فإن كان مما لا ينحصر بالكيل كالقطن والكتان والصفر والنحاس لم يجز؛ لأن الجهالة لم تنتف عنه. وإن كان مما ينحصر بالكيل، فإن لم يكن فيه الربا جاز، وإن كان فيه الربا فعلى وجهين. ولكن لو أقرضه جزافا لم يجز للجهل بقدر ما يستحق الرجوع به" (¬1). الراجح: أرى أن إقراض المكيل وزنًا جائز، ولا ينبغي أن يختلف فيه؛ لأن الوزن أدق في ضبط المثل من الكيل، وإما إقراض الموزون كيلًا فيشترط فيه أن يكون الموزون مما يقبل الكيل، بحيث لا يتجافى في الكيل، فإن كان الموزون لا يقبل الكيل لم يصح؛ لأنه يدخله غرر قد لا يتسامح فيه المقرض لو علم بمقداره، والله أعلم. ¬
الباب الثالث في الشروط الجعلية في القرض
الباب الثالث في الشروط الجعلية في القرض الشرط الأول في اشتراط الأجل في القرض الآجال لا تثبت بالعقود إلا بالشرط. القرض يقبل التأجيل بالشرط أو بالعادة. القرض تبرع، والأجل تبرع، فاشتراطه لا ينافي مقتضى العقد. وقيل: القرض لا يتأجل بالتأجيل. [م - 1796] اتفق العلماء على صحة تأجيل القرض إذا وقع بدون شرط (¬1). واختلفوا في التأجيل إذا اشترطه المقترض على المقرض بحيث لا يطالبه بالوفاء مدة معينة، هل يصح الشرط، أو أن القرض لا يقبل التأجيل؟ القول الأول: أن القرض لا يتأجل بالتأجيل، فله المطالبة به متى شاء، وهو مذهب الحنفية والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة. على خلاف بينهم، هل اشتراط الأجل يفسد القرض، أو يبطل الشرط وحده، ويصح القرض؟ ¬
فقيل: الشرط لاغ، والقرض صحيح، وهو مذهب الحنفية، والحنابلة، ووجه في مذهب الشافعية. وقيل: يفسد القرض، إن جر اشتراطه نفعاً للمقرض، كما لو كان في زمن نهب والمقترض مليئ، فإن لم يكن له غرض صحيح، أو كان له غرض صحيح، والمقترض غير ملئ لغا الشرط فقط، وصح القرض. وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية (¬1). قال في بدائع الصنائع: "والأجل لا يلزم في القرض، سواء كان مشروطًا في العقد، أو متأخرًا عنه، بخلاف سائر الديون" (¬2). وقال ابن الهمام: "ولو شرط الأجل في ابتداء القرض صح القرض، وبطل الأجل" (¬3). وقال العمراني في البيان: "ولو أقرضه شيئًا إلى أجل لم يلزم الأجل، وكان حالاً" (¬4). ¬
دليل من قال: القرض لا يقبل التأجيل
وجاء في مغني المحتاج: "يصح العقد، ولا يلزم الأجل على الصحيح ... لكن يندب الوفاء بالأجل؛ لأنه وعد" (¬1). وجاء في نهاية المحتاج: "ولو شرط أجلاً ... إن لم يكن للمقرض غرض، صحيح، أو له، والمقترض غير مليء فيلغو الأجل ... وإن كان للمقرض غرض كزمن نهب، والمقترض مليء ... فيفسد العقد في الأصح؛ لأن فيه جر منفعة للمقرض والثاني يصح ويلغو الشرط" (¬2). وقال ابن قدامة: "وإن شرط فيه الأجل، لم يتأجل، ووقع حالاً؛ لأن التأجيل في الحال عدة وتبرع، فلا يلزم، كتأجيل العارية" (¬3). دليل من قال: القرض لا يقبل التأجيل: الدليل الأول: قال تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]. وجه الاستدلال: أن الله - سبحانه وتعالى - نفى السبيل عنهم على وجه نصوصية الاستغراق، فلو لزم تحقق السبيل عليهم. ويجاب عن ذلك: أنه الله تعالى لما قال في هذه الآية: ما على المحسنين من سبيل، وقال في الآية الأخرى إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء، صار المراد ما ¬
الدليل الثاني
على المحسنين من سبيل أي في أمر الغزو والجهاد، وأن نفي السبيل في تلك الآية مخصوص بهذا الحكم، فالسبيل الذي نفاه عن المحسنين، هو الذي أثبته على هؤلاء المنافقين (¬1). وعلى تقدير أن تكون العبرة بعموم اللفظ، فإن نفي السبيل مشروط بقوله: إذا نصحوا لله ورسوله، وليس من النصح أن يقبل المتقرض الأجل، ثم إذا أقدم عليه المقترض مطمئنًا إلى وعد المقرض بالإمهال انقلب عليه، وطالبه به حالاً فهذا كذب، وإخلاف للوعد، ومن كان كذلك لم يكن ناصحًا، فصار السبيل على المقرض؛ لأنه من باب الوفاء بالوعد، وهو واجب، وإخلاف الوعد محرم، وقد حصل ذلك بطوعهما، واختيارهما، فلزمهما. الدليل الثاني: احتج الحنفية على عدم صحة تأجيل القرض بالشرط: بأن القرض تبرع، بدليل أنه لا يقابله عوض بالحال، ولا يصح القرض ممن لا يصح تبرعه. والتأجيل في القرض تبرع أيضًا، فلو لزم التأجيل؛ لم يبق تبرعًا، فإن الإلزام ينافي التبرع. وبلفظ آخر: أن المقرض متبرع، والمتبرع محسن لا يجوز أن يمنع عن المطالبة بماله متى شاء، ولو كان ذلك قبل الأجل. ويناقش: بأن اشتراط الأجل لا يخرج القرض من كونه من عقود التبرع من وجهين: ¬
الدليل الثالث
الأول: أن القرض تبرع، والأجل تبرع، فصار إشتراط الأجل لا ينافي مقتضى العقد، بل هو من تمام مقتضى العقد؛ لأن المقصود بالقرض الإرفاق والإحسان، وإذا تأجل صار ذلك من تمام الإحسان. الثاني: أن قدرًا من الأجل مقدر في كل قرض، ولو لم يشترط، فالمقترض لا يأخذ المال قرضًا ليرده بالحال، فإن هذا من العبث، فهو يأخذ المال لينتفع به، وهذا يقتضي أن يمضي على القرض زمن يمكنه الانتفاع به، ولذلك قال المالكية: إذا لم يكن هناك أجل في القرض لا يلزم المقترض رده، إلا إذا انتفع به عادة أمثاله؛ لأن هذا هو المقصود من القرض، وانظر المبحث التالي. فإذا كان هذا هو مقتضى العقد، فإذا اشترط ما يقتضيه العقد لم يخرجه عن وصفه، ومن تبرع بشيء على صفة معينة لزمه ما تبرع به على تلك الصفة، فالقرض المطلق يختلف عن القرض المؤجل. الدليل الثالث: استدل الحنفية بأن القرض لا يمكن أن يسلك به مسلك المعاوضة؛ لأنه يعني تمليك العين بمثله نسيئة، وهذا لا يجوز، فتعين أن يسلك به مسلك العارية، فكأن المستقرض انتفع بالعين مدة، ثم رد عين ما قبض، وإن كان في الحقيقة أنه يرد بدله، فجعل رد البدل بمنزلة رد العين، لتحريم الزيادة، بخلاف سائر الديون، فإذا ثبت أن القرض بمنزلة العارية فإن الأجل لا يلزم في العواري. ويناقش من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم أن المستعير إذا اشترط الأجل وقبل المعير أن الأجل لا يلزم، وإذا
الوجه الثاني
لم يثبت هذا في الأصل (المقيس عليه) لم يثبت الحكم في الفرع (¬1). الوجه الثاني: أن القرض ليس معاوضة ولا عارية حتى على قواعد الحنفية: فإن العارية من عقود الأمانات غير مضمونة عند الحنفية، والقرض مضمون، كما أن المستعير لا يملك العين، وليس له حق في نمائها، وإنما نماؤها لصاحبها بخلاف القرض، فإنه يملك العين والمنفعة، ونماء المال للمقترض، لا يشاركه فيه المقرض، فخالف القرض العارية على القول بأن الأجل لا يلزم في العواري. هذا في بيان مخالفة القرض للعارية، وأما مخالفة القرض للبيع، فإن القرض ليس من عقود المعاوضة، فالمعاوضة تقوم على التكسب، والقرض لا يراد منه التكسب والربح، ولهذا يحرم اشتراط الزيادة فيه، فتبين أن القرض لا يقاس لا على العارية، ولا على البيع، بل كل منها عقد قائم بنفسه، والله أعلم. الدليل الرابع: استدل الحنابلة على عدم لزوم الأجل بالشرط: بأن القرض عقد منع فيه التفاضل، فإنع فيه الأجل كالصرف. ويناقش: لو صح قياس القرض على الصرف لوجب فيه التقابض، ولو وجب هذا لامتنع القرض، ويجوز في الصرف اختلاف الجنس والتفاضل إذا اختلف ¬
الدليل الخامس
الجنس، بخلاف القرض، فإنه يرد مثله إن كان مثلياً، وإذا رد قيمته لم يصح التفاضل وإن اختلف الجنس، فتبين أن القرض يفارق الصرف، فلم يصح قياسه عليه. الدليل الخامس: الأجل يقتضي جزءًا من العوض، ولذلك المعجل أكثر قيمة من المؤجل، والقرض لا يحتمل العوض، فلا يصح اشتراط تأجيله بخلاف البيوع التي تجوز الزيادة في ثمنها مقابل التأجيل. ويناقش: بأن الأجل في البيوع له قيمة عند ابتداء العقد، وأما الأجل في الديون فلا قيمة له مطلقًا سواء كان الدين ناشئًا عن بيع أو عن قرض، فلو كان لك دين من ثمن مبيع على رجل، وحل الأجل، وطلب زيادة في الأجل في مقابل زيادة في قدر الدين حرم ذلك، والقرض مثله، فالتأجيل في الديون سائغ بشرط أن يكون ذلك بلا مقابل، فإن طلب عوضًا على الأجل حرم العوض. الدليل السادس: أن المقترض إما أن يكون معسرًا لا يستطيع أن يرد بدل القرض، فأجله إمهاله إلى ميسرة بنص القرآن، وإما أن يكون مؤسرًا فإن لصاحبه أن يطالبه بحقه متى شاء؛ لأنه دفع إليه ماله تبرعًا، والرضا بالأجل بمنزلة الوعد فيما يستقبل، والوفاء بالوعد لا يلزم، فللمقرض إسقاطه متى شاء. ويناقش: القول بأن لصاحب القرض أن يطالب بحقه متى شاء، هذا في القرض المطلق العاري من اشتراط الأجل، وأما إذا اشترط الأجل فلا نسلم أن لصاحبه أن
القول الثاني
يطالبه بحقه متى شاء، ودعوى أن صاحب القرض يملك ذلك دعوى في محل النزاع، فأين الدليل على ذلك، والقول بأن الأجل وعد بالإمهال، والوعد لا يلزم فيقال: القول بأن الوعد في عقود التبرعات لا يلزم ليس محل وفاق، وقد بحثت هذا في بيع المرابحة للآمر بالشراء، وبينت الأقوال فيه هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يتبين لي أن الأجل وعد مجرد بل إذا شرع فيه المقترض فقد تحول الوعد إلى عقد، والله أعلم. القول الثاني: أن القرض يقبل التأجيل بالشرط أو بالعادة، ولا يحق للمقرض أن يطالبه بالوفاء قبل حلول الأجل المشروط أو المعتاد. وإن لم يكن هناك أجل مشروط أو معتاد فلا يلزم المقترض رده لمقرضه إلا إذا انتفع به عادة أمثاله، وهذا مذهب المالكية (¬1). وهناك وجه عند الحنابلة أن القرض يتأجل بالشرط، ورجحه ابن تيمية (¬2). جاء في مواهب الجليل: "من أقرض رجلاً شيئًا إلى أجل فليس له مطالبته به. قبل الأجل" (¬3). وقال العدوي في حاشيته على الخرشي: "لم يلزم رده إن كان هناك شرط، أو عادة إلا بعد مضيها" (¬4). ¬
دليل من قال: القرض يقبل التأجيل
وقال الصاوي في حاشيته: "حاصله: أن المقتوض إذا قبض القرض، وكان له أجل مضروب أو معتاد، لا يلزمه رده إلا إذا انقضى الأجل، فإن لم يكن أجل لا يلزم المقترض رده، إلا إذا انتفع به عادة أمثاله" (¬1). وجاء في الإنصاف: "ويثبت القرض في الذمة حالاً، وإن أجله. هذا المذهب ... وقطع به أكثرهم، واختار الشيخ تقي الدين صحة تأجيله، ولزومه إلى أجله، سواء كان قرضا أو غيره" (¬2). وقال ابن القيم: "إذا أقرضه مالاً وأجله لزم تأجيله على أصح المذهبين، وهو مذهب مالك، وقول في مذهب أحمد، والمنصوص عنه: أنه لا يتأجل" (¬3). دليل من قال: القرض يقبل التأجيل: الدليل الأول: قال تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. وجه الاستدلال: الآية الكريمة دليل على جواز اشتراط الأجل في الدين، وكلمة (دين) نكرة في سياق الشرط، فتعم كل دين، سواء كان ناشئًا عن بيع، أو قرض، وفي خصه بنوع دون نوع فقد خصص مطلق الآية بلا دليل. الدليل الثاني: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أمر الله - سبحانه وتعالى - بالوفاء بالعقود، وهذا يشمل أصل العقد، ويشمل صفة العقد، قال شيخنا محمد بن عثيمين: "والأمر بالوفاء بالعقد أمر بالوفاء بالعقد وما يشترط فيه؛ لأن الشروط التي في العقد أوصاف في العقد" (¬1). وقال شيخنا أيضًا: "والأمر بالوفاء بالعقد أمر به، وبأوصافه، وشروطه التي تشترط فيه" (¬2). الدليل الثالث: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3]. وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34]. فإذا تعهد المقرض أن يكون قرضه مؤجلاً، وجب عليه الوفاء بما تعهد به خاصة أن المقترض لم يرض بشغل ذمته بدين إلا بشرط التأجيل، فكيف يصح أن يخل المقرض بالتزامه، ولو شاء المقرض لم يقبل هذا الشرط قبل التلبس بالعقد، فإن شرط على نفسه شرطًا، وكان مختارًا غير مكره، لزمه الوفاء به. الدليل الرابع: (ح -1076) ما رواه البخاري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه ذكر رجلاً سأل بعض بني إسرائيل، أن يسلفه ألف دينار، فدفعها إليه إلى أجل مسمى (¬3). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: استدل به البخاري على صحة الأجل في القرض، قال البخاري: باب الشروط في القرض، ثم ذكر الحديث الحديث، وأتبعه بقول ابن عمر وعطاء: إذا أجله في القرض جاز. ذكره البخاري عنهما معلقاً بصيغة الجزم (¬1). الدليل الخامس: إذا وهب الإنسان قرضه على صفة، كأن يكون مؤجلاً، ثم رجع عن التأجيل، فقد رجع فيما وهب، والرجوع بالهبة محرم. (ح -1077) فقد روى البخاري من طريق أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته، كالكلب يرجع في قيئه (¬2). الدليل السادس: الأجل من طبيعة القرض، فالمقترض لا يقترض المال ليرده بالحال، فإن هذا من العبث، فهو يأخذ المال لينتفع به، وهذا يتطلب زمنًا يمكنه من الانتفاع به، وتوظيفه لمصالحه، ولذلك قال المالكية: إذا لم يكن هناك أجل في القرض لا يلزم المقترض رده، إلا إذا انتفع به عادة أمثاله؛ لأن هذا هو المقصود من القرض. ¬
الراجح
فإذا كان هذا هو مقتضى العقد، فإذا اشترط ما يقتضيه العقد وجب الوفاء به. الراجح: أرى أن المقرض إذا تبرع بالأجل لزمه الوفاء به إذا لزم القرض.
فرع في تأجيل القرض إذا لم يشرط في العقد
فرع في تأجيل القرض إذا لم يشرط في العقد الآجال لا تثبت في العقود إلا بالشرط. [م - 1797] اختلف العلماء القائلون بأن القرض يقبل التأجيل، فيما إذا عرى القرض من اشتراط الأجل، فهل يكون القرض حالاً، أو أن القرض بطبيعته يقتضي أجلاً ما؟ القول الأول: ذهب المالكية إلى أن القرض إذا لم يكن فيه أجل مشروط أو معتاد فلا يلزم المقترض رده لمقرضه إلا إذا انتقع به عادة أمثاله، وهذا مذهب المالكية (¬1). القول الثاني: ذهب الظاهرية إلى أن القرض حال، فيلزم المدين الوفاء عند طلب المقرض ماله، ولو بعد القرض بزمن يسير (¬2). قال ابن حزم: "فإن كان الدين حالاً كان للذي أقرض أن يأخذ به المستقرض متى أحب إن شاء إثر إقراضه إياه، وإن شاء أنظره به إلى انقضاء حياته. وقال مالك: ليس له مطالبته إياه به إلا بعد مدة ينتفع فيها المستقرض بما استقرض، وهذا خطأ؛ لأنه دعوى بلا برهان. ¬
الراجح
وأيضاً فإنه أوجب ها هنا أجلاً مجهول المقدار لم يوجبه الله تعالى قط ثم هو الموجب له لا يحد مقداره، فأي دليل أدل على فساد هذا القول من أن يكون قائله يوجب فيه مقدارا ما لا يدري هو ولا غيره ما هو؟ وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطى كل ذي حق حقه، فمن منع من هذا فقد خالف أمره - عليه السلام -" (¬1). الراجح: الآجال في العقود لا تثبت إلا بالشرط، ومع ذلك فإن المال المقرض إن كان ما زال باقيًا في يد المقترض لم يتصرف فيه، أو كان في يده مال آخر يمكنه السداد منه بلا ضرر، ولا توفيت مصلحة، فلصاحبه أن يطالب برده، وإن تصرف فيه، ولم يكن في يده مال آخر يمكنه السداد منه، ومطالبته بالسداد يحمله على الاقتراض، أو بيع شيء من ماله، وفي سداده توفيت للغرض الذي من أجله طلب القرض، فإنه يجب إمهاله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا ضرر ولا ضرار، ولأن الغرض من القرض هو الإرفاق بالمقترض، ومطالبته بالسداد مباشرة ليس فيه إرفاق فيتعين إنظاره، والله أعلم. ¬
الشرط الثاني ألا يشترط في عقد القرض عقدا آخر
الشرط الثاني ألا يشترط في عقد القرض عقدًا آخر المبحث الأول في اشتراط عقود المعاوضات مع عقد البيع لا يجمع بين معاوضة وتبرع. [م - 1798] اتفق العلماء في الجملة على أنه لا يجوز اشتراط عقد البيع أو غيره من عقود المعاوضات في عقد القرض، كالإجارة، والصرف، كأن يقول رجل لآخر: أقرضك بشرط أن تبيعني بيتك بكذا وكذا، فهذا الشرط جرى صريحًا في العقد. وقد يكون الشرط حكمًا دون أن ينصا عليه في العقد، كما لو كان الشرط جرى به عرف، فلا فرق، فالمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. دليل القول بالتحريم: الدليل الأول: (ح -1078) ما رواه أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل سلف وبيع) والمراد بالسلف: هو القرض في لغة الحجاز، فنهى عن الجمع بين البيع والقرض، وإنما نهى عن الجمع بين البيع والقرض، وإن كان كل واحد منهما صحيحًا بانفراده؛ لأنه ربما حاباه في البيع لأجل القرض، فيؤدي إلى أن يجر القرض نفعاً للمقرض، فلما كانت الفائدة على القرض ربما تستتر بعقد البيع نهى عنها الشارع، وإذا كان هذا حكم الشرع بالفائدة المستترة فكيف بالفائدة الظاهرة المشروطة. قال ابن تيمية: "نهى -يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع الرجل بين سلف وبيع، وهو حديث صحيح، ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح، وإنما ذاك؛ لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفًا، ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفاً، وسلعة بثمانمائة، ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا" (¬1). وقال ابن القيم: "وأما السلف والبيع، فلأنه إذا أقرضه مائة إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة، فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك" (¬2). الدليل الثاني: حكى الإجماع غير واحد من أهل العلم على تحريم اشتراط البيع مع عقد القرض. ¬
الدليل الثالث
قال الباجي في المنتقى: "لا يحل بيع وسلف، وأجمع الفقهاء على المنع من ذلك ... " (¬1). وقال القرافي: "وبإجماع الأمة على جواز البيع والسلف مفترقين، وتحريمهما مجتمعين لذريعة الربا" (¬2). وقال في مواهب الجليل: "واعلم أنه لا خلاف في المنع من صريح بيع وسلف" (¬3). وقال الزركشي في البحر المحيط: "وبالإجماع على جواز البيع والسلف مفترقين، وتحريمهما مجتمعين للذريعة إليها" (¬4). كما حكى الإجماع على التحريم ابن قدامة في المغني (¬5). الدليل الثالث: أن اشتراط البيع في عقد القرض، أو العكس كاشتراط القرض في عقد البيع يخرج القرض عن موضوعه، وذلك أن القرض من عقود الإحسان والإرفاق، يجوز فيه ما لا يجوز في البيع من مبادلة الربوي بمثله مع عدم التقابض، فإذا ارتبط بعقد البيع عن طريق الشرط أصبح له حصة من العوض، فحصلت بذلك مفسدتان: ¬
المفسدة الأولى: إخراج عقد القرض عن موضوعه ومقتضاه، وهو الإرفاق والإحسان، وهذا يؤدي إلى بطلانه، وبطلان عقد البيع. المفسدة الثانية: أن القرض إذا أصبح له حصة من العوض أفضى ذلك إلى جهالة الثمن، وذلك لأن مقدار هذه الحصة مجهولة، فتعود بالجهالة على الثمن كله.
فرع في اجتماع القرض مع البيع بدون شرط
فرع في اجتماع القرض مع البيع بدون شرط مظنة الربا في النهي تنزل منزلة حقيقة الربا. الربا مبني على الاحتياط فالشبهة تعمل فيه. قال ابن تيمية - رحمه الله -: "الذرائع حرمها الشارع وإن لم يقصد بها المحرم خشية إفضائها إلى المحرم، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع، وبهذا التحرير يظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها وإن لم يقصد البائع الربا" (¬1). [م - 1799] إذا اجتمع البيع والقرض من دون شرط، لا صريحًا، ولا حكمًا، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة. القول الأول: يجوز مع الكراهة، اختاره بعض الحنفية، وقيد بعضهم الكراهة فيما لو كان العقدان في مجلس واحد، وإلا فلا بأس به (¬2). وهذا هو المفهوم من اجتماع البيع والقرض. القول الثاني: يحرم، اختاره الحلواني من الحنفية (¬3)، وهو قول في مذهب ¬
القول الثالث
المالكية (¬1)، والمشهور في مذهب الحنابلة (¬2). القول الثالث: لا بأس به، اختاره محمد بن الحسن، والكرخي من الحنفية (¬3)، وهو المعتمد عند المالكية (¬4)، ومذهب الشافعية (¬5)، وقول في مذهب الحنابلة (¬6). ¬
القول الرابع
القول الرابع: إن كان فيه محاباة في الثمن فيمنع، وهذه إحدى الصور الممنوعة عند المالكية (¬1). دليل من قال: لا يجوز جمع البيع مع القرض ولو بدون شرط: (ح -1079) ما رواه أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬2). [إسناده حسن] (¬3). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن سلف وبيع، وهو مطلق، وإطلاقه يشمل اجتماعهما سواء كان ذلك بالشرط أو بدونه، ومن حمل كلام الشارع على اجتماعهما ¬
دليل من قال يجوز إذا كان بغير شرط
بالشرط فقد قيد كلام الشارع، وكلام الشارع لا يقيده إلا نص أو إجماع، فإذا لم يوجد أحدهما يبقى المطلق والعام على إطلاقه وعمومه، والله أعلم. الدليل الثاني: (ث -255) روى البخاري من طريق شعبة، عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه، أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -، فقال: ألا تجيء فأطعمك سويقًا وتمرًا ... ثم قال: إنك بأرض الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق، فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قت، فلا تأخذه فإنه ربا (¬1). وجه الاستدلال: فإذا كانت المحاباة قد توجد فيما سبيله التبرع، ولو كانت بدون شرط، ولم تجتمع مع القرض بعقد واحد، فما بالك بالمحاباة بالمعاوضة ببعض الثمن، وليس بكل الثمن، وقد اجتمع عقد البيع وعقد القرض بصفقة واحدة، والتي قد يراعي فيها البائع صاحب الإحسان عليه، فتعود المسألة إلى قرض جر نفعًا. دليل من قال يجوز إذا كان بغير شرط: المحذور من اجتماع البيع والقرض بالشرط أن تكون هناك منفعة مشروطة في القرض استترت بعقد البيع، فإذا لم يكن هناك شرط فالمنفعة التي قد تأتي بسبب القرض ليست حرامًا، أرأيت لو أنه أقرضه بشرط أن يقضيه خيرًا مما أعطاه حرم بالاتفاق، ولو قضاه خيرًا مما أعطاه بلا شرط لم يحرم على الصحيح. ¬
دليل من قال: يجوز إذا لم يكن فيه محاباة لانتفاء التهمة
(ح -1080) يدل لذلك ما رواه مسلم من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء ابن يسار عن أبي رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكرًا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيًا، فقال؛ أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء (¬1). قال ابن عبد البر: "في حديث أبي رافع هذا ما يدل على أن المقرض إن أعطاه المستقرض أفضل مما أقرضه جنسًا، أو كيلاً، أو وزنًا، أن ذلك معروف، وأنه يطيب له أخذه منه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أثنى فيه على من أحسن القضاء، وأطلق ذلك، ولم يقيده بصفة" (¬2). قال الصنعاني: "ولا يدخل في القرض الذي يجر نفعًا؛ لأنه لم يكن مشروطا من المقرض وإنما ذلك تبرع من المستقرض ... " (¬3). دليل من قال: يجوز إذا لم يكن فيه محاباة لانتفاء التهمة: صاحب هذا القول ربما نظر إلى المعنى الذي من أجله نهى الشارع عن سلف وبيع، وهو خوف أن يكون هناك منفعة بسبب القرض مستترة بعقد البيع، فإذا لم يكن هناك محاباة لم يكن هناك حيلة ليتوصل إلى المنفعة بسبب القرض، وكانت التهمة بعيدة، أما إذا حاباه فإن التهمة قائمة، والخوف من اتخاذ ذلك ذريعة إلى الحرام موجود، فيسد الباب. ¬
الراجح
الراجح: أميل إلى القول بالتحريم، والقياس على المنفعة الحاصلة بالقرض إذا لم تكن مشروطة قياس مع الفارق، فإن المنفعة التي أجازها جمهور الفقهاء إنما أجازوها عند السداد،، ومنعوها وقت القرض، أو بعده وقبل السداد، بينما مسألتنا هذه يجتمع البيع والقرض وقت العقد، وكان يمكنه أن يجعل كل واحد في عقد مستقل، ويكون القرض قبل البيع، وفي مجلس آخر أبعد للتهمة. والله أعلم.
المبحث الثاني إذا شرط عليه إقراضه مقابل إقرضاه
المبحث الثاني إذا شرط عليه إقراضه مقابل إقرضاه [م - 1800] اشتراط عقد القرض في عقد القرض، وهو ما يسمى (أسلفني أسلفك)، فإن جرى هذا بدون اشتراط، فلا خلاف في جوازه، وهو من المعاملة بالمثل، وهو من رد الجميل، والمكافأة على المعروف، والإحسان لمن أحسن إليك. وإن كان ذلك عن طريق الاشتراط، كأن يقول: أقرضك بشرط أن تقرضني. فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: لا يجوز الإقراض بشرط الاقتراض، وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة (¬1). قال في مواهب الجليل: "لا خلاف في المنع من أن يسلف الإنسان شخصًا ليسلفه بعد ذلك" (¬2). وقال عليش: "ولا خلاف في منع أسلفني وأسلفك، وبحث ابن عبد السلام بأن العادة المكافأة بالسلف على السلف، فقصده لا بعد فيه. ¬
وأجيب: بأن العادة قصد السلف عند الاضطرار إليه، وأما الدخول على أن يسلفه الآن ليسلفه بعد شهر مثلا فليس معتادًا فقصده بعيد" (¬1). وأصل ذلك القاعدة الفقهية المتفق عليها بين الفقهاء كل قرض جر نفعًا فهو ربا. كما نص على ذلك الشافعية، فمنع الشافعية أن يقرض المقترض المقرض، وعللوا ذلك بأنه قرض جر نفعًا (¬2). وكذلك منع منها الحنابلة، جاء في المغني: "وإن شرط في القرض ... أن يقرضه المقترض مرة أخرى لم يجز" (¬3). القول الثاني: أن ذلك جائز، وقد رجحه الدكتور نزيه حماد من المعاصرين، وبه قال عبد الستار أبو غدة ونجاة صديقي (¬4). وحجتهم: (1) أن المنفعة متماثلة لا تخص المقرض وحده، وليست من ذات القرض وإنما من الإقدام على التعامل مع من يعاملك، وهذا شأن التجارة. ¬
(2) القياس على السفتجة من حيث كونها لا تخص المقرض وحده، بل تعم الطرفين. (3) أن الربا إنما حرم شرعًا؛ لأنه ظلم من المقرض للمقترض، أما الاتفاق على الإقراض المتبادل بين المقرض والمستقرض بمبالغ متساوية ولمدة متماثلة فليس فيه شيء من الظلم لأحد الطرفين. (4) أن فيها بديلًا عن القرض الربوي القائم على الفائدة. الراجح: كنت قد تعرضت لهذه المسألة في البحث فيما سبق، ورأيت أن الإجماع المحكي في المسألة إن صح كان حجة، وإن لم يصح فالقول بالجواز متجه؛ ولكن بعد تقليب النظر رأيت أن القول بالمنع أقوى؛ لأني لم أجد قولاً فقهيًا يقول بالجواز من المتقدمين، ولأن المنفعة للمقرض لا يقابل عوض سوى القرض، وهذا لا يجوز، لهذا يجب الانتباه عن رأي المتقدم في المسألة، والله أعلم.
فرع في جمعية الموظفين
فرع في جمعية الموظفين المسألة الأولى في جمعية الموظفين إذا كانت خالية من الشروط كل منفعة متمحضة للمقرض، أو كانت في جانب المقرض أقوى فهي حرام. كل منفعة متمحضة للمقترض أو كانت في جانب المقترض أقوى فهي مباحة. جمعية الموظفين: أن يتفق عدد من الموظفين يعملون في الغالب في جهة واحدة مدرسة، أو دائرة أو غيرهما، على أن يدفع كل واحد منهم مبلغا من المال مساويًا في العدد لما يدفعه الآخرون، وذلك عند نهاية كل شهر، ثم يدفع المبلغ كله لواحد منهم، وفي الشهر الثاني يدفع لآخر، وهكذا حتى يتسلم كل واحد منهم مثل ما تسلمه من قبله سواء بسواء دون زيادة أو نقص (¬1). فإذا كانت جمعية الموظفين خالية من أي شروط زائدة بحيث يحق لمن أراد من المشتركين أن ينسحب في الدورة الأولى قبل أن يقترض، أما من اقترض فليس له حق الانسحاب حتى تدور الجمعية دورة كاملة، أو يسدد لكل منهم ما اقترضه منه عند طلبه؛ لأنه بتسلمه المبلغ من الجمعية أصبح مقترضًا من المشاركين، فيلزمه تسديد ما اقترضه منهم. ¬
القول الأول
وقد اختلف العلماء المعاصرون في حكم هذه الصورة على قولين: القول الأول: القول بالجواز، وبه قال من المتقدمين ولي الدين العراقي، والقليبوبي من الشافعية، وصدر بذلك قرار مجلس هيئة كبار العلماء السعودية بالأكثرية، وهو قول الشيخين ابن باز، وشيخنا ابن عثيمين والشيخ ابن جبرين (¬1). جاء في حاشية قليوبي: "فرع: الجمعة المشهورة بين النساء بأن تأخذ امرأة من كل واحدة من جماعة منهن قدرًا معينا في كل جمعة أو شهر، وتدفعه لواحدة بعد واحدة، إلى آخرهن جائزة كما قاله الولي العراقي" (¬2). وجاء في قرار هيئة كبار العلماء الرسميين في السعودية: "جرت مداولات ومناقشات لم يظهر للمجلس بعدها بالأكثرية ما يمنع هذا النوع من التعامل؛ لأن المنفعة التي تحصل للمقرض، لا تنقص المقترض شيئًا من ماله، وإنما يحصل المقترض على منفعة مساوية لها؛ ولأن فيه مصلحة لهم جميعًا من غير ضرر على واحد منهم، أو زيادة نفع لآخر. والشرع المطهر لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها على أحد بل ورد بمشروعيتها" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: لا يجوز، وبه قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان، وكذلك الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي المملكة (¬1). دليل من قال: بالجواز: الدليل الأول: الأصل في المعاملات الحل، فلا يحرم منها معاملة إلا بدليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قول صاحب لا مخالف له، ولم يتوفر مثل هذا في هذه المعاملة. الدليل الثاني: كل الأدلة الدالة على جواز القرض تدل على جواز هذه المعاملة؛ لأنها قائمة على إقراض ووفاء لما أقترضه، ولم تشتمل على أي منفعة للمقرض تعود بالتحريم على هذه المعاملة. الدليل الثالث: أن المنفعة التي تحصل للمقرض، لا تنقص المقترض شيئًا من ماله، وإنما يحصل المقترض على منفعة مساوية لها؛ ولأن فيه مصلحة لهم جميعًا من غير ضرر على واحد منهم، أو زيادة نفع لآخر. والشرع المطهر لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها على أحد، بل ورد بمشروعيتها (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: أن فيها بديلاً عن العينة، والتورق، بل وبديلاً عن القرض الربوي القائم على الفائدة، كما أن بعض المشاركين قد يكون هدفه من المشاركة حفظ ماله، أو نفع إخوانه. دليل من قال: لا يجوز: الدليل الأول: أن هذه المعاملة هي نفس معاملة: أقرضك بشرط أن تقرضني، وقد حكي الإجماع على تحريمها، كما سبق في المسألة الماضية. ونوقش هذا: بأنه لا يظهر أن هذه المعاملة داخلة في معاملة أقرضك بشرط أن تقرضني، فالجمعية يمكن تقسيم المشاركين فيها إلى ثلاثة أقسام: المستفيد الأول من الجمعية: فهو يعتبر مقترضا من الأعضاء، ثم يقوم بالأشهر اللاحقة بتسديد ما اقترضه، فلا يدخل في معاملة أقرضك بشرط أن تقرضني. المستفيد الأخير من الجمعية: فهو يعتبر مقرضا في جميع الأشهر، فإذا جاء دوره فهو استرداد لما أقرضه لا غير، فلا يدخل في معاملة أقرضك بشرط أن تقرضني. القسم الثالث: وهو ما بين الأول والأخير، فهو يجتمع فيه صفة الوفاء والاقتراض، فإذا أخذ دوره فقسم من المبلغ استرداد لما أقرضه ممن أخذ قبله،
الدليل الثاني
وقسم منه اقترض من بقية الأعضاء ممن لم يأت دوره بعد، وما يدفعه بعد ذلك هو وفاء للدين الذي في ذمته، فلا يدخل فيه أقرضك بشرط أن تقرضني. الدليل الثاني: أن الإقراض يجب ألا يجر منفعة للمقرض، وإقراض العضو لغيره في هذه الجمعية يجر منفعة للمقرض، وهذا لا يجوز. ويناقش: بأن المنفعة في عقد القوض تنقسم إلى أقسام: أحدها: أن تكون المنفعة متمحضة للمقرض، وهذه حرام بالإجماع. الثاني: أن تكون المنفعة متمحضة للمقترض. وهذه صحيحة بالاتفاق، ولهذا لو أبرأه من القرض صح بالاتفاق. الثالث: أن تكون المنفعة مشتركة، وهذه ليست على درجة واحدة، بل هي على ثلاثة أنواع: أن يكون اشتراكهما في المنفعة على حد سواء، ففيها خلاف، والصحيح جوازها قياسًا على صحة عقد السفتجة، وسيأتي بحثها. أن تكون المنفعة مشتركة، إلا أنها في جانب المقرض أقوى، فهذه منفعة محرمة إلحاقًا لها بالمنفعة المتمحضة للمقرض. أن تكون المنفعة مشتركة، إلا أنها في جانب المقترض أقوى، فهذه جائزة إلحاقًا لها بالمنفعة المتمحضة للمقترض، كما لو أقرض الولي مال اليتيم، في وقت النهب والسلب، وكان غرضه حفظ مال اليتيم لكون القرض مضمونًا على المقترض بخلاف إيداعه، فهنا منفعة المقترض أقوى من المقرض.
الدليل الثالث
فمن خلال هذا التقسيم تكون المنفعة المحرمة: هي في كل منفعة متمحضة للمقرض، أو كانت المنفعة في جانب المقرض أقوى، وما عداها فهي جائزة. فإذا حررنا المنفعة في جمعية الموظفين رأينا أن المنفعة التي تحصل للمقرض تحصل للمقترض بدرجة مساوية له، فعلى هذا لا تكون المنفعة الموجودة في جمعية الموظفين مدعاة للتحريم، فإذا أضيف إلى ذلك أن المنفعة المساوية التي يحصل عليها المقرض لا يقدمها المقترض، بل يقدمها غيره من الأعضاء صار المنفعة أولى بالجواز، والله أعلم. الدليل الثالث: أن المقصود بالقرض هو الإرفاق بالمقترض، بينما الحامل لهؤلاء الأعضاء المجتمعين أن ينفعوا أنفسهم وهذا خروج بالقرض عن مقتضاه. ويناقش: بأن الإرفاق بالمقترض هو الأصل، ولكنه ليس شرطًا لجواز القرض، فقد أجاز بعض الفقهاء أن يكون الإرفاق في حق المقرض، وليس في حق المقترض. جاء في المغني: "فأما قرض مال اليتيم؛ فإذا لم يكن فيه حظ له، لم يجز قرضه ... قال أحمد: لا يقرض مال اليتيم لأحد يريد مكافأته، ومودته، ويقرض على النظر، والشفقة، كما صنع ابن عمر. وقيل لأحمد: إن عمر استقرض مال اليتيم؟ قال: إنما استقرض نظرًا لليتيم، واحتياطًا، إن أصابه بشيء غرمه.
الدليل الخامس
قال القاضي: ومعنى الحظ أن يكون لليتيم مال في بلده، فيريد نقله إلى بلد آخر، فيقرضه من رجل في ذلك البلد، ليقضيه بدله في بلده، يقصد بذلك حفظه من الغرر في نقله، أو يخاف عليه الهلاك من نهب، أو غرق، أو نحوهما، أو يكون مما يتلف بتطاول مدته، أو حديثه خير من قديمه، كالحنطة ونحوها، فيقرضه خوفًا أن يسوس، أو تنقص قيمته، وأشباه هذا، فيجوز القرض؛ لأنه مما لليتيم فيه حظ فجاز، كالتجارة به. وإن لم يكن فيه حظ، وإنما قصد إرفاق المقترض، وقضاء حاجته، فهذا غير جائز؛ لأنه تبرع بمال اليتيم، فلم يحز كهبته" (¬1). الدليل الخامس: (ح -1081) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة، وعن لبستين: أن يشتمل أحدكم الصماء في ثوب واحد، أو يحتبي بثوب واحد، ليس بينه وبين السماء شيء (¬2). [تفرد محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة بزيادة (في بيعة) وقد رواه أصحاب أبي هريرة بلفظ: نهى عن بيعتين وعن لبستين، وهو المحفوظ] (¬3). ¬
الوجه الأول
ويناقش هذا الاستدلال من وجوه: الوجه الأول: الحديث فيه شذوذ كما، فقد رأينا كيف تفرد محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، ¬
الوجه الثاني
عن أبي هريرة بزيادة (في بيعة) وأن المحفوظ: نهى رسول الله عن بيعتين، وعن لبستين. الوجه الثاني: أن النهي عن بيعتين في بيعة، لم يرد في الشرع ما يفسر معنى الحديث، وليس هناك في اللغة، أو في العرف تفسير له يمكن التحاكم إليه، وقد اختلف العلماء في تفسيرها على أقوال كثيرة، وصلت إلى أكثر من ستة أقوال ذكرتها في حكم بيع العينة فارجع إليه إن شئت. الوجه الثالث: على فرض أن يكون هناك نهي عن بيعتين في بيعة فالحديث يتكلم عن البيع، فكيف حمل القرض على البيع، مع أننا لو حملنا القرض على البيع لمنعنا القرض أصلاً. الوجه الرابع: المقصود بالنهي عن بيعتين في بيعة كل عقدين جمعا في عقد واحد وترتب على جمعهما محذور شرعي، ومنه ما ذكره ابن تيمية وابن القيم في صورة بيع العينة، ومنه لو باع عليه ذهبًا، واشترط عليه أن يشتري منه بثمنه ذهبًا آخر، فإنه حيلة لمبادلة الذهب بالذهب مع التفاضل، ومنه كذلك لو باع عليه سلعة بشرط أن يقرضه، فإنه يدخل في القرض إذا جر نفعًا، وهكذا، ولا يدخل في ذلك العقدان الذي لم يترتب على جمعهما محذور شرعي، كما لو باعه سيارته بشرط أن يبيعه داره، أو عرض عليه السلعة بنقد بكذا، وبنسيئة بكذا؛ لأنه لا مفسدة ولا محذور في جمع هذين العقدين في عقد واحد؛ لأن العقد في الحقيقة واحد، والله أعلم.
الوجه الخامس
الوجه الخامس: على التسليم بأن القرض حكمه حكم البيع، وأن حديث النهي عن بيعتين في بيعة يدخل فيه القرض، فإن جمعية الموظفين لا يمكن تأويله على أنه بيعتين في بيعة، فهو عقد واحد قائم على الاقتراض، وأما الوفاء فلا يعتبر عقدًا حتى يفسر بأنه بيعتين في بيعة. الراجح: أرى أن القول بجواز جمعية الموظفين الخالية من أي شروط في عقدها، والله أعلم.
المسألة الثانية في جمعية الموظفين إذا اقترنت بالشروط
المسألة الثانية في جمعية الموظفين إذا اقترنت بالشروط المطلب الأول أن يشترط في العقد ألا ينسحب أحد [م - 1801] إذا اتفق عدد من الأشخاص على أن يدفع كل واحد منهم مبلغًا من المال متساويًا عند نهاية كل شهر أو شهرين مع اشتراط ألا ينسحب أحد منهم حتى يدور عليهم الأخذ. فالذين يحرمون الصورة الأولى فإنهم يحرمون الصورة الثانية لعدم الفارق. وكذلك فإن الذين يجيزون الصورة الأولى يجيزون هذه الصورة، كالشيخ ابن عثيمين، والشيخ عبد الله بن جبرين؛ والشيخ عبد الله العمراني وغيرهم؛ لأن المحذور كما أنه منتف في الصورة الأولى أيضًا منتف في الصورة الثانية، فالمنفعة التي يستفيدها المقرض أيضًا يستفيدها المقترض في هذه الدورة؛ فهي منفعة متبادلة كما سبق، فإذا كان إتمام الدورة إذا تم بدون اشتراط لا محذور فيها كما تبين من خلال بحث الصورة الأولى، كذلك اشتراط إتمام هذه الدورة بدون إنسحاب لا يشكل نفعًا خاصًا للمقرض، فالمنفعة للمقرض كما هي للمقترض على حد سواء، فلا تكون منفعة محرمة.
المطلب الثاني إذا اشترط في العقد دورة ثانية فأكثر
المطلب الثاني إذا اشترط في العقد دورة ثانية فأكثر [م - 1802] هذه هي الصورة الثالثة من جمعية الموظفين، وهو أن يتفق عدد من الأشخاص على أن يدفع كل واحد منهم مبلغًا من المال متساويًا يأخذه أحدهم عند نهاية كل شهر بشرط الاستمرار فيها أكثر من دورة؛ كأن تستمر الجمعية لدورتين أو ثلاث أو أكثر حسب الاتفاق. وقد ذهب إلى جواز هذه الصورة شيخنا محمَّد بن عثيمين - رحمه الله -، ولم ير فرقًا بين هذه الصورة، وبين الصورتين السابقتين في الحكم (¬1). واختار الشيخ عبد الله العمراني تحريم هذه الصورة؛ لأنها تتضمن أن يشترط المقرض على من سيقرضهم في الدورة الأولى أن يقرضوه في الدورة الثانية، فترجع المسألة إلى مسألة: أقرضك بشرط أن تقرضني، وبعضهم يطلق عليها: أسلفني وأسلفك، وقد حكي الإجماع على تحريمها، وهو مذهب المالكية والشافعية، والحنابلة، وسبق بحث هذه المسألة، ورجحت فيها المنع، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، ولله الحمد. ¬
المبحث الثالث في اشتراط الجعل مقابل أن يأتيه بمن يقرضه
المبحث الثالث في اشتراط الجعل مقابل أن يأتيه بمن يقرضه العوض على الجاه مباح إذا لم يوقع في الغرر. العوض على الجاه يعتبر أجرة إذا تطلب نفقة أو مشقة، أو سعي. وقيل: الجاه شقيق الضمان. صورة المسألة: أن يتعهد شخص لمعين أو غير معين أن من يأتيه بمن يقرضه مبلغًا من المال فله كذا وكذا. فالجعل لن يذهب للمقرض، وإنما لطرف أجنبي عن عقد القرض. والاقتراض للغير عمل مندوب بشرطين: أحدهما: أن يكون المقترض معروفًا بالوفاء. الثاني: أن تكون لديه القدرة على الوفاء. فإذا فقد شرط من هذه الشروط وجب على طالب الاقتراض إخبار المقترض بحاله؛ ليكون على بينة من أمره. جاء في المغني: "قال أحمد: إذا اقترض لغيره، ولم يعلمه بحاله، لم يعجبني. وقال: ما أحب أن يقترض بجاهه لإخوانه. قال القاضي: يعني إذا كان من يقترض له غير معروف بالوفاء، لكونه تغريرًا
القول الأول
بمال المقرض، وإضرارًا به، أما إذا كان معروفًا بالوفاء، لم يكره؛ لكونه إعانة له، وتفريجا لكربته" (¬1). [م - 1803] إذا علم ذلك، فنأتي على حكم المسألة، وهو اشتراط الجعل على الاقتراض بالجاه على ثلاثة أقوال: القول الأول: جواز أخذ العوض على الجاه مطلقًا، وهو مذهب الشافعية والحنابلة (¬2). جاء في المغني: "لو قال: اقترض لي من فلان مائة، ولك عشرة فلا بأس ... لأن قوله: اقترض لي، ولك عشرة جعالة على فعل مباح، فجازت، كما لو قال: ابن لي هذا الحائط، ولك عشرة" (¬3). وجاء في المبدع: "إذا قال: اقترض لي مائة، ولك عشرة صح؛ لأنه في مقابلة ما بذل من جاهه" (¬4). وجاء في فتاوى النووي: "أنه سئل عمن حبس ظلمًا، فبذل مالاً فيمن يتكلم في خلاصه بجاهه وبغيره، هل يجوز؟ وهل نص عليه أحد من العلماء؟ فقال: نعم يجوز، وصرح به جماعة منهم القاضي حسين، ونقله عنه القفال المروزي، قال: وهذه جعالة مباحة، وليس هو من باب الرشوة، بل هذا العوض حلال ¬
دليل من قال: يجوز أخذ الجعل على الجاه مطلقا
كسائر المباحات" (¬1). وجاء في الحاوي الكبير: "إذا قال الرجل لغيره: أقرض لي مائة درهم، ولك علي عشرة دراهم، فقد كره ذلك إسحاق، وأجازه أحمد، وهو عندنا يجري مجرى الجعالة، ولا بأس به" (¬2). دليل من قال: يجوز أخذ الجعل على الجاه مطلقًا: الدليل الأول: لا يوجد دليل صحيح صريح يحرم أخذ العوض على الجاه، ولا يوجد محذور شرعي في أخذ العوض على الجاه، والأصل في المعاملات الصحة والإباحة، ولا يحرم منه إلا ما يقوم الدليل الخاص على تحريمه. يقول الشيخ علي الخفيف: "ليس هناك دليل من الكتاب أو السنة يبين ما يجوز أخذ العوض فيه، وما لا يجوز أخذ العوض فيه، ومرجع الفقهاء في هذا المجال هو الاجتهاد. وللعرف في ذلك أثر كبير، ومن ثم كان اختلافهم في أمور كثيرة جوز بعضهم أخذ العوض فيها، فأجازوا فيه المعاوضة، وخالفهم غيرهم فلم يجيزوا أخذ عوض عنها، ورأوا فساد المعاوضة فيها، وقد نص الفقهاء على أن المالية تثبت بتمويل الناس، فلا حرج من أن نجوِّز ذلك تأسيسًا على أنه أمر تدعو إليه المصلحة، ولم يرد نص شرعي يمنعه، فهو على الإباحة الأصلية" (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن هذا الفعل جعالة على فعل مباح، كما لو قال: ابن لي هذا الحائط، ولك عشرة. الدليل الثالث: أن الجاه منفعة، وأخذ المال في مقابل المنافع يسوغ شرعًا، إلا إذا ترتب على ذلك الوقوع في محذور شرعي، كأن يؤدي ذلك إلى الربا، أو الظلم، وهذا ليس منه، ولذلك صح أخذ المعاوضة على الاسم التجاري، والعلامة التجارية بشروطها. القول الثاني: المنع مطلقًا، وهو قول لبعض المالكية، وبعض الحنابلة، وبه قال الثوري وإسحاق بن راهوية (¬1). الدليل على تحريم أخذ الجعل: الدليل الأول: القياس على تحريم أخذ العوض على الضمان، فإذا حرم أخذ العوض على الضمان، حرم أخذ العوض على الجاه؛ لأن الجاه شقيق الضمان. وقد بحثت مسألة أخذ العوض على الضمان، وقدمت إجماع العلماء المتقدمين على تحريم أخذ العوض عليه. ¬
ويناقش
ويناقش: لا شك عندي أن الضمان شقيق الجاه، وأنا لا أرى مانعًا من جواز أخذ العوض على الضمان في حال لم يؤد أخذ العوض على الضمان إلى قرض جر نفغا؛ أما ضمان الديون فلا يجوز أخذ العوض عليه؛ ليس لأن الضمان ليس مالاً، وإنما قد يؤدي إلى أن يؤدي إلى قرض جر نفعًا في حال عجز المدين عن السداد، وأدى الضامن الدين نيابة عن المضمون، أما أخذ العوض على الجاه فلا يؤول إلى أخذ زيادة على القرض؛ فالمقرض لا يأخذ أي زيادة على إقراضه. الدليل الثاني: أن الشرع جعل الضمان والقرض والجاه لا يفعل إلا لله بغير عوض، فأخذ العوض سحت. قال الدردير: "وأما صريح ضمان بجعل فلا خلاف في منعه؛ لأن الشارع جعل الضمان والجاه والقرض لا تفعل إلا لله تعالى، فأخذ العوض عليها سحت" (¬1). ويناقش: القول بأن الضمان والجاه والقرض لا تفعل إلا لله، أما القرض، فإنه يجوز أن يفعل لله، ويجوز أن يفعل لغير وجه الله، ولكن لا يجوز أخذ العوض عن القرض لأن ذلك يؤدي إلى الربا. ¬
(ث -256) فقد روى مالك في الموطأ بلاغًا عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: السلف على ثلاثة وجوه: سلف تسلفه تريد به وجه الله، فلك وجه الله، وسلف تسلفه تريد به وجه صاحبك، فلك وجه صاحبك، وسلف تسلفه لتأخذ خبيثًا بطيب فذلك الربا ... (¬1). [الأثر ضعيف، ومعناه صحيح]. وإذا كان القرض يجوز ألا يراد به وجه الله، كما لو أراد المقرض بذلك وجه صاحبه فالجاه كذلك يجوز ألا يراد به وجه الله من باب أولى. وأما الضمان فقد ناقشته في مسألة مستقلة، وبينت أنه يحرم أخذ العوض عليه إذا كان الضمان متوجهًا للديون، وأما إذا كان الضمان لم يتوجه للديون فيجوز أخذ العوض عليه. كما لو أخذ العوض على الضمان إذا كان الضمان تبعًا، ولم يكن مفردًا بالذكر، ولا مخصوصًا بالأجر. كما لو اشترى الإنسان سلعة، وكانت مضمونة لمدة معينة مقابل زيادة في القيمة، فإن الضمان هنا تابع، وليس مستقلاً، فلا أرى مانعًا من جواز تلك الزيادة مقابل الضمان. كذلك يجوز أخذ العوض على الضمان إذا لم يكن ناشئًا عن دين أصلاً، وذلك مثل تغطية الإصدار في طرح الاكتتاب، ومثل الضمان في عقود التأمين القائم على جبر الأضرار، فإن الضمان في هذه الصور لم يكن ناشئًا عن دين. وأما تحريم أخذ العوض على الجاه، فهو دعوى في محل النزاع، فأين ¬
الدليل الثالث
الدليل على التحريم، وقد اختلف المالكية في المسألة على ثلاثة أقوال، هي نفس الأقوال في المسألة: الدليل الثالث: (ح -1082) ما رواه أبو داود من طريق عمر بن مالك، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن خالد بن أبي عمران، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من شفع لأخيه بشفاعة، فأهدى له هدية عليها فقبلها، فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا (¬1). ويجاب: أولاً: الحديث تفرد به القاسم بن عبد الرحمن، وهو أصل في بابه (¬2). ¬
القول الثالث
ثانيَا: لو سلمنا صحة الحديث، فإن الحديث لا يمنع من أخذ الجعل في مقابل ما يحتاج إليه من نفقة وسفر إذا أخذ على ذلك أجرة مثله. القول الثالث: يجوز أخذ الجعل على الجاه إن كان ذو الجاه يحتاج إلى نفقة، أو مشقة، أو مسعى، وهو قول في مذهب المالكية، واختاره بعض الشافعية (¬1). جاء في المعيار "سئل أبو عبد الله القوري عن ثمن الجاه، فأجاب بما نصه: اختلف علماؤنا في حكم ثمن الجاه، فإن قائل بالتحريم بإطلاق، ومن قال بالكراهة بإطلاق، ومن مفصل فيه: وأنه إن كان ذو الجاه يحتاج إلى نفقة أو مشقة، أو مسعى، فأخذ أجر مثله، فذلك جائز، وإلا حرم" (¬2). ¬
واستدل أصحاب هذا القول
وجاء في حاشية قليوبي: "ولو قال: اقترض لي مائة، ولك عشرة لزمته العشرة؛ لأنها جعالة، كذا قالوه. ولعله إن كان في الاقتراض كلفة تقابل بمال فراجعه" (¬1). واستدل أصحاب هذا القول: أن الجاه إذا كان لا يمكن القيام به إلا بجهد ومشقة كان ما يأخذه في مقابل عمله، وليس في مقابل جاهه، والعمل تجوز المعاوضة عليه كما في عقد الإجارة، والله أعلم. الراجح: رغم أن عقد القرض بين المقرض والمقترض منفك عن المعاوضة على الجاه، فعقد القرض عقد صحيح لا خلاف في صحته، ويبقى الخلاف في المعاوضة على الجاه، وأرى أن المعاوضة عليه تجوز؛ لأنه جعالة على فعل مباح، ومثله لو قلت: من يأتيني بسلعة رخيصة، وأعطيه كذا وكذا، فإن هذا الجعل أيضًا على عمل مباح، والناس وإن كانوا في السابق لم يتعادوا أن يعاوضوا على الجاه إلا أننا في هذا العصر مع تطور المعاملات المالية، وقد يتفرغ بعض الناس لمثل هذه المعاملات، ويسهل حصول الائتمان للأشخاص فلا أرى مانعًا من أخذ العوض عليه بشرط ألا يكون صاحب الجاه ضامنًا للمدين حتى لا يتحول إلى قرض جر نفعًا، فإنه في حالة عجز المضمون عنه سوف يتحمل الضامن مبلغ القرض، فيكون دائنًا، والدين لا يجوز أن يأخذ في مقابله شيئًا، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في اجتماع القرض مع الشركة
المبحث الرابع في اجتماع القرض مع الشركة [م - 1804] اختلف العلماء في اجتماع القرض مع الشركة على قولين: القول الأول: نص الحنفية على جواز أن يقرضه مبلغًا من المال على أن يكون نصفه قرضًا ونصفه الآخر يعمل فيه بشركته، وهذا يعني جواز اجتماع القرض مع الشركة عندهم. فقد جاء في المبسوط: "لو دفع ألف درهم إلى رجل، على أن يكون نصفها قرضًا عليه، ويعمل في النصف الآخر بشركته: يجوز ذلك" (¬1). وهذا وإن كان المقرض سوف ينتفع من قرضه إلا أن المنفعة ليست له وحده، ولهذا أجاز ابن القيم صورًا مشابهة. جاء في تهذيب السنن: "نظير هذا ما لو أفلس غريمه، فأقرضه دراهم يوفيه كل شهر شيئًا معلومًا من ربحها جاز؛ لأن المقترض لم ينفرد بالمنفعة ... ونظير ذلك أيضًا إذا أقرض فلاحه ما يشتري به بقرًا يعمل بها في أرضه، أو بذرًا يبذره فيها. ومنعه ابن أبي موسى. والصحيح جوازه، وهو اختيار صاحب المغني؛ وذلك لأن المستقرض إنما يقصد نفع نفسه، ويحصل انتفاع المقرض ضمنًا، فأشبه أخذ السفتجة به، وإيفاءه إياه في بلد آخر من حيث إنه مصلحة لهما جميعًا. ¬
القول الثاني
والمنفعة التي تجر إلى الربا في القرض هي التي تخص المقرض، كسكنى دار المقترض، وركوب دوابه، واستعماله، وقبول هديته. فإنه لا مصلحة له في ذلك بخلاف هذه المسائل، فإن المنفعة مشتركة بينهما وهما متعاونان عليها، فهي من جنس التعاون والمشاركة" (¬1). القول الثاني: منع المالكية من اجتماع عقد القرض وعقد الشركة. جاء في الشرح الصغير: "لا يجوز اجتماع البيع، أو الصرف، مع جعل، أو مساقاة، أو شركة، أو نكاح، أو قراض، ولا اجتماع اثنين منها في عقد" (¬2). وجاء في منح الجليل: "الستة التي لا يجوز اجتماعها مع البيع لا يجوز اجتماعها فيما بينها" (¬3). فالعقود التي لا يجوز أن تجتمع مع البيع، هي الجعالة، والصرف، والمساقاة، والشركة، والنكاح، والقراض (المضاربة) والقرض (السلف). ولا يجوز اجتماعها فيما بينها، مما يعني المنع من اجتماع القرض والشركة. وقد تكلمت عن الضابط في اجتماع العقود في عقد البيع في المجلد الخامس، وبينت دليل المالكية في المنع من الجمع بين هذه العقود فانظر هناك مشكورًا. ¬
الراجح
الراجح: جواز اجتماع القرض والشركة، والمنفعة ليست متمحضة للمقرض، وإنما هي مشتركة بينهما، فلا مانع من اجتماعهما، والله أعلم.
الشرط الثالث إذا اشترط الوفاء في غير بلد القرض
الشرط الثالث إذا اشترط الوفاء في غير بلد القرض ما وجب رده لزم رده في موضع التعاقد إلا أن يكون المكان لا يصلح لذلك. أي زيادة مشروطة تتمحض للمقرض من قرضه لا تجوز سواء كانت عينًا أو منفعة. إذا اشترط المقرض مكانًا للسداد لينتفع به، ولم يكن في ذلك منفعة للمقترض حرم الشرط. إذا اشترط المقترض مكانًا للسداد أرفق به جاز بالتراضي. [م - 1805] لا يجب على المقرض ولا على المقترض ذكر مكان الوفاء، لحديث ابن عباس المتفق عليه: من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم، إلى أجل معلوم (¬1). فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر مكان إيفاء المسلم فيه، مع أن الحديث ووارد لبيان شروط السلم، فدل ذلك على عدم اشتراطه، وإذا لم يجب ذكر مكان الوفاء في دين السلم، وهو من عقود المعاوضات، لم يجب ذكره في دين القرض من باب أولى؛ لأن عقود المعاوضات قائم على أن كل التزام يقابله عوض، فيتشدد في ذكر مكان الوفاء بخلاف عقد الإرفاق القائم على التسامح. وإذا أطلق عقد القرض، ولم يذكر مكان الوفاء، فإن هذا يعني أن الوفاء ¬
المسألة الأولى
يجب أن يكون في الموضع الذي تم فيه العقد، إلا أن يكون موضع العقد لا يصلح مكانًا للوفاء، كما لو أقرضه في طيارة، أو في لجة البحر. فإذا اشترط المقرض أن يكون الوفاء في غير بلد القرض، وهو ما يسمى عند الفقهاء بالسفتجة (¬1)، فما حكم التزام مثل هذا الشرط. وللجواب على ذلك أذكر مسائل هذه المعاملة إن شاء الله تعالى مبينًا محل الوفاق منها ومحل الخلاف، والراجح، أسأل الله وحده العون والتوفيق. المسألة الأولى: [م - 1806] أن يكون الوفاء في غير بلد القرض من غير شرط، وإنما كان على سبيل المعروف، فقد اختلف العلماء فيها على قولين: القول الأول: الجواز مطلقًا، حتى ولو كان فيه مؤونة على المقترض؛ لأن ذلك سوف يعتبر من باب حسن القضاء، وهذا قول عامة أهل العلم (¬2). (ح -1083) لما رواه مسلم من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكرًا، فقدمت عليه إبل من إبل ¬
القول الثاني
الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع، فقال: لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيًا، فقال: أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء. فهنا زاده النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوصف، ولما كانت الزيادة غير مشروطة، كان هذا الفعل من حسن القضاء الذي يفعله خيار الناس. ومثله لو كان في ذمة رجل دين ثابت، فسأل صاحب الدين أن يكتب له به سفتجة إلى بلد آخر، فكتب له جاز ذلك؛ لأن ذلك لم يكن عن شرط (¬1). القول الثاني: قال بعض الشافعية: لا يجوز ذلك في أموال الربا، ويجوز في غيرها. قال العمراني في البيان: "وإن اقترض رجل من غيره درهمًا، فرد عليه درهمين أو درهمًا أجود من درهمه، أو باع منه داره، أو كتب له بدرهمه سفتجة إلى بلد آخر من غير شرط، ولا جرت للمقرض عادة بذلك جاز. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك في أموال الربا، ويجوز في غيرها. وهذا ليس بصحيح؛ لما روي: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اقترض نصف صاع، فرد صاعًا، واقترض صاعًا، فرد صاعين، واقترض من الأعرابي بكرًا، فرد عليه أجود منه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: خيار الناس أحسنهم قضاء. وقال جابر - رضي الله عنه -: كان لي عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دين، فقضاني، وزادني. ولأنه متطوع بالزيادة، فجاز، كما لو وصله بها" (¬2). ¬
المسألة الثانية
وهذا هو القول الراجح الذي لا ينبغي خلافه. المسألة الثانية: [م - 1807] أن يكون شرط الوفاء في غير بلد القرض اشترطه المقترض، كما لو اقترض رجل وهو مسافر، واشترط أن يكون الوفاء في بلده إذا رجع من السفر؛ لكونه أرفق به، وأيسر له، ففي هذه الحالة يجوز الوفاء في غير بلد القرض؛ لأن التحريم إنما كان خوفًا من أن يحمل القرض نفعًا خاصًا للمقرض، فإذا جاء الاشتراط من قبل المقترض وكان أرفق به، لم يكن هناك منفعة للمقرض، وإن كان هناك منفعة فإنها لم تتمحض له، وإنما هي مشتركة بينه وبين المقترض. قال ابن عبد البر: ولا بأس أن يشترط المستسلف ما ينتفع به من القضاء في موضع آخر، ونحو ذلك، قال مالك: فإن كان المقرض هو المشترط لما ينتفع به لم يجز ذلك، ولا خير فيه" (¬1). المسألة الثالثة: [م - 1808] أن يشترط المقرض الوفاء في غير بلد القرض، ولم يكن للمقترض أي منفعة من هذا الشرط، ويكون الباعث على الشرط أن يأمن المقرض خطر الطريق ومؤنة الحمل. فهذا الشرط لا يجوز، وينبغي أن يكون التحريم بالإجماع. جاء في الكافي لابن عبد البر: "فإن كان المقرض هو المشترط لما ينتفع به لم يجز ذلك" (¬2). ¬
وقال ابن قدامة: "وإن شرط أن يعطيه إياه في بلد آخر، وكان لحمله مؤنة لم يجز" (¬1). وقال العمراني في البيان: "ولا يجوز أن يقرضه دراهم على أن يعطيه بدلها في بلد أخرى، ولا أن يكتب له بها سفتجة، فيأمن خطر الطريق ومؤنة الحمل" (¬2). لأن أي زيادة مشروطة تتمحض للمقرض من قرضه لا يجوز سواء كانت هذه الزيادة عينًا أو منفعة، فكأن المقرض رجع إليه قرضه وزيادة، وكانت الزيادة مشروطة، وهي تحمل نفقات الحمل، وهي عوض على الإقراض، لا يقابلها شيء فتكون ربا. قال ابن عبد البر: كل زيادة من عين أو منفعة يشترطها المسلف على المستسلف فهي ربا، لا خلاف في ذلك" (¬3). فقوله - رحمه الله - (كل زيادة) من ألفاظ العموم تشمل كل زيادة، وقوله (من عين أو منفعة) بيان لهذه الزيادة، وأن الزيادة ليست محصورة في أعيان معينة كربا البيوع، بل ولا في جنس الأعيان حتى لو اشترط زيادة منفعة، كانت المنفعة محرمة. والزيادة هنا جمعت زيادة العين والمنفعة، فأجرة الحمل زيادة عينية، وخطر الطريق زيادة منفعة. ¬
المسألة الرابعة
المسألة الرابعة: [م - 1809] لو كان الباعث على الاشتراط هو الضرورة، وقد مثل له المالكية بأن يعم الخوف على النفس والمال جميع طرق المحل التي يذهب المقرض منها إليه، فإذا عم الخوف، جاز اشتراط المقرض الوفاء في بلد آخر تقديمًا لمصلحة حفظ المال والنفس على مضرة النفع في القرض (¬1). وهذا يتفق مع قواعد الشريعة، وهو ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وتفويت المصلحة الصغرى لجلب مصلحة أكبر. ويشهد لصحة هذه القاعدة نصوص شرعية: كما خرق الخضر - عليه السلام - السفينة، وقام بقتل الغلام، وكما ترك المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قتل المنافقين حتى لا يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتل أصحابه، وترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء الكعبة على قواعد إسماعيل خوفًا من الافتتان. المسألة الخامسة: [م - 1810] إذا كان الوفاء بالقرض مشروطًا من قبل المقرض، أو كان متعارفًا عليه؛ لأن المعروف كالمشروط، وكان في اشتراط الوفاء في بلد آخر ينطوي على نفع للمقرض والمقترض، فإن هذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء على ثلاثة أقوال: القول الأول: يحرم الوفاء بهذا الشرط مطلقًا، سواء أكان القرض يحتاج حمله إلى مؤنة أم ¬
لا، وهذا مذهب الحنفية، والمشهور من مذهب المالكية، ومذهب الشافعية، والمشهور عند الحنابلة، وبه قال ابن حزم من الظاهرية (¬1). وعبر الحنفية بالكراهة، والمراد بها كراهة التحريم. جاء في مرشد الحيران: "السفتجة بلا شرط المنفعة للمقرض جائزة، وإنما تكره تحريمًا إذا كانت المنفعة مشروطة أو متعارفة" (¬2). وجاء في البناية نقلاً من الفتاوى الصغرى: "السفتج إن كان مشروطًا في القرض فهو حرام، والقرض بهذا الشرط فاسد" (¬3). وقد صرح ابن جزي في القوانين (¬4)، أبو وليد الباجي (¬5)، وابن شاس في عقد الجواهر أن المنع هو المشهور من مذهب مالك (¬6). قال القرافي: "إن كانت المنفعة للجهتين منع، إلا أن تكون ضرورة كالسفاتج ¬
القول الثاني
فروايتان المشهور: المنع" (¬1). وفي المدونة: "القرض إذا كان على أن يقضيه ببلد آخر، ربح الحملان، فلا يصلح ذلك" (¬2). وقال في الإنصاف: "إذا شرط أن يقضيه ببلد آخر: فجزم المصنف هنا: أنه لا يجوز. وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله -، وهو الصحيح" (¬3). القول الثاني: يجوز اشتراط الوفاء في غير بلد القرض مطلقًا، سواء أكان القرض لحمله مؤنة أم لا، اختاره بعض المالكية، وقول عند الحنابلة مقابل المشهور أيضًا، ورجحه ابن تيمية وابن القيم (¬4). القول الثالث: إن كان القرض لحمله مؤنة فإنه يحرم اشتراط القضاء في غير بلد القرض، وإن كان في الدراهم والدنانير، وما ليس لحمله مؤنة فإن ذلك مكروه كراهة التنزيهة، وهو رواية عن مالك. قال ابني عبد البر: "ولا يجوز أن يقترض الرجل شيئًا له حمل ومؤنة في بلد ¬
القول الرابع
على أن يعطيه ذلك في بلد آخر، فأما السفاتج بالدنانير والدراهم، فقد كره مالك العمل بها، ولم يحرمها" (¬1). القول الرابع: التفريق بين أن يكون القرض يحتاج حملة إلى مؤنة فيمنع، وبين أن يكون القرض لا يحتاج حمله إلى مؤنة فيجوز. قال ابن قدامة: "وإن شرط أن يوفيه في بلد آخر، أو يكتب له به سفتجة إلى بلد في حمله إليه نفع، لم يجز لذلك، فإن لم يكن لحمله مؤنة، فعنه: الجواز؛ لأن هذا ليس بزيادة قدر ولا صفة، فلم يفسد به القرض، كشرط الأجل. وعنه: في السفتجة مطلقًا روايتان؛ لأنها مصلحة لهما جميعًا" (¬2). فصارت الأقوال في المسألة: المنع مطلقًا، والجواز مطلقًا، وهما روايتان في مذهب الحنابلة كما نقله ابن قدامة. التفريق بين إقراض ما يحتاج إلى مؤنة في حمله فيمنع على خلاف، هل المنع للتحريم أو للكراهة؟ وبين إقراض الدراهم والدنانير مما لا يحتاج إلى مؤنة في نقله، فيجوز. وما دام أدلة التحريم هي أدلة الكراهة، سنكون في عرض الأدلة على ثلاثة أقوال فقط، والله أعلم. ¬
أدلة من قال: يمنع السفتجة مطلقا
أدلة من قال: يمنع السفتجة مطلقًا: الدليل الأول: (ح -1084) ما رواه الحارث في مسنده كما في بغية الباحث من طريق سوار بن مصعب، عن عمارة الهمداني قال: سمعت عليا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل قرض جر منفعة فهو ربا (¬1). [ضعيف جدًا] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأجيب عن الحديث
وأجيب عن الحديث: الوجه الأول: الحديث ضعيف جدًا، وقد قال الموصلي: لم يصح فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). الوجه الثاني: من حيث المعنى، فإن قوله: (كل قرض جر نفعًا فهو ربا). لفظ (كل) من ألفاظ العموم، ومقتضاه: أولاً: يشمل نفع المقرض كما يشمل نفع المقترض؛ حيث لم يقيد النفع في حق أحدهما، فلو كان المنتفع هو المقترض وحده وأخذنا بظاهر الحديث لقلنا: إنه من الربا، وهذا غير مراد، بل هو خاص بالمقرض وحده. ثانيًا: أن الحديث لو أخذناه على ظافره لعاد هذا بالأبطال على أصل القرض، فإن كل قرض فيه منفعة للمقرض، وهو ضمان المال، ولذلك فضله بعض الفقهاء في مال اليتيم إذا أقرضه الولي شخصًا مليئًا، وأخذ به رهنًا على الإيداع؛ لأن المقرض ينتفع بالضمان بخلاف الوديعة، وقد تكلمت عليه في عقد الوصية، ولله الحمد. ثالثًا: أن هذا العموم غير مراد حتى في حق المقرض، فقد خرج منه: إذا كان ¬
الدليل الثاني
النفع غير مشروط، وجاء متبرعًا به عند القضاء، فإن النصوص الشرعية، بل والإجماع على إباحة هذا النفع كما تقدم. رابعًا: كما خرج منه كل نفع يكون مشتركًا على حد سواء بين المقرض والمقترض على الصحيح، وإنما المحرم أن يتمحض النفع للمقرض وحده. الدليل الثاني: (ث -257) روى البخاري من طريق سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، أتيت المدينة، فلقيت عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -، فقال: ألا تجيء فأطعمك سويقًا وتمرًا، وتدخل في بيت، ثم قال: إنك بأرض الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق، فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قت، فلا تأخذه فإنه ربا (¬1). وجه الاستدلال: اعتبر الصحابي الجليل الانتفاع من المدين بأنه ربا، ولو كان ذلك باسم الهدية، وأي منفعة استفادها بسبب القرض إذا كان لا يقابلها عوض فهي من الربا. ويناقش: هذا التوجيه صحيح لو كانت المنفعة خاصة للمقرض، ولا منفعة فيه للمستقرض، فيقال: إن حمل المال لا يقابله عوض سوى القرض، فهي زيادة دفعها المستقرض للمقرض، أما إذا كان الوفاء في بلد آخر فيه منفعة للمقرض ¬
الدليل الثالث
وإرفاق بالمستقرض، فلا يمنع منها، كما سيأتي الاستدلال له في أدلة القول الثالث إن شاء الله. الدليل الثالث: (ث -258) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن أبي عميس، عن يزيد بن جعدبة، عن عبيد بن السباق، عن زينب الثقفية، امرأة عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها جذاذ خمسين وسقًا ثمرًا وعشرين وصقًا شعيرًا فقال لها عاصم بن عدي: إن شئت وفيتكيها هنا بالمدينة وتوفيها بخيبر، فقالت: حتى أسأل أمير المومنين عمر، فسألته، فقال: وكيف بالضمان؟ (¬1). [ضعيف جدًا] (¬2). ¬
ويناقش
ويناقش: بأن الأثر على شدة ضعفه، فهو مخالف لما صح عن ابن الزبير وابن عباس، وإذا اختلف الصحابة فيما بينهم لم يكن قول أحدهم حجة على الآخر إلا بالدليل، على أنه قد يقال: ربما كرهه عمر لأن القرض كان طعاماً، وهذا لحمله مؤنة، فربما لو كان للدراهم والدنانير لم يكرهه، ولهذا قال في بلاغ مالك فأين الحمل، وأما الضمان فالقرض مضمون مطلقًا سواء وفاه في بلد القرض أو فاه في غيره، والله أعلم. الدليل الرابع: (ث -259) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن ابن جريج، عن عطاء، أن ابن الزبير كان يعطي التجار المال ها هنا، ويأخذ منهم بأرض أخرى، فذكر أو ذكرت ذلك لابن عباس، فقال: لا بأس ما لم يشترط (¬1). [صحيح، وابن جريج من المكثرين عن عطاء، فلا تضر عنعنته]. وجه الاستدلال: قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: لا بأس به ما لم يشترط دليل على أنه إذا اشترط فإن فيه بأساً، وهذا يعني المنع. ويناقش: بأن رأي ابن عباس - رضي الله عنهما - حجة ما لم يخالف، وقد خالفه ابن الزبير، وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول الصحابي حجة بمفرده. ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: القرض وضع للإرفاق والاحسان، فإذا وضع للتكسب صار معاوضة؛ لأن القرض والسلم يجتمعان في مبادلة مال حال بمال مؤجلاً على سبيل التملك، ويفترقان: أن القرض للإرفاق، والسلم للتكسب، فإذا قصد المقرض بشرطه أمن الطريق، وحمل المال فقد خرج عن بابه، وصار معاوضة، فيتطلب لصحته شروط البيع خاصة إذا كان المال يجري فيه ربا النسيئة. ويناقش: بأن هذا القول صحيح فيما لو كانت المنفعة للمقرض وحده، أما إذا كان الوفاء بهذا الشرط أرفق بالمقترض لم يحرم، وهذا هو موضع البحث. والقول بأن القرض وضع للإرفاق هذا هو الأصل في القرض، وليس شرطًا لجواز القرض أو صحته، فإن كل قرض فيه منفعة للمقرض، وهو ضمان المال، ولذلك فضل بعض الفقهاء في مال اليتيم أن يقرضه الولى شخصًا مليئًا، على أن يودعه؛ لأن المقرض ينتفع بالضمان بخلاف الوديعة. الدليل السادس: (ح -1085) ما رواه ابن عدي في الكامل من طريق إبراهيم بن نافع الجلاب، حدثنا عمر بن موسى بن الوجيه، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: السفتجات حرام (¬1). [ضعيف جدًا بل موضوع] (¬2). ¬
دليل من قال بجواز السفتجة مطلقا
دليل من قال بجواز السفتجة مطلقًا: الدليل الأول: الأصل في العقود والشروط الصحة والإباحة، ولا يحرم منها شيء إلا بدليل صحيح صريح، واشتراط الوفاء في غير البلد يدخل فيها؛ لأنه لا نص يقضي بتحريم مثل هذا الشرط، وقد عقدت فصلًا في عقد اليع وتكلمت عن الأصل في الشروط فارجع إليه إن شئت. ويناقش: بأنه على التسليم بهذه القاعدة، فإننا لا نسلم أن اشتراط الوفاء في غير البلد لا يوجد دليل يقتضي التحريم، كما بيناه في أدلة القول الأول. الدليل الثاني: أن السفتجة فيها شبه بالحوالة، والحوالة جائزة فتصح السفتجة قياسًا عليها. ويناقش: بأن السفتجة وإن أشبهت بعض صورها الحوالة فهي لا تشبهها في كل الصور، والسفتجة إن كانت في الديون الناشئة عن المعوضات، فهذا لا خلاف في صحتها مطلقًا بصرف النظر عن المنتفع، فلو باعه مؤجلاً، سواء كان التأجيل للثمن، أو كان التأجيل للمثمن كما في دين السلم، واشترط عليه مكان معينًا للوفاء صح الشرط بالاتفاق، حتى ولو كان النفع للبائع خاصة، وقد ذكرت ذلك في عقد السلم. بخلاف السفتجة في القرض، فإنه إن أحاله عند المطالبة بالوفاء، وكان ذلك ¬
بدون شرط، فهي غير لازمة، وتصح بالاتفاق، حتى ولو كان النفع للمقرض وحده. وقد تكلمت على هذه الصورة. وإن اشترط السفتجة للقرض، فإن كان النفع خاصًا بالمقرض منع بالاتفاق، أو كان خاصًا بالمقترض جاز بالاتفاق، وإن كان النفع لهما، فهي مسألتنا هذه، وفيها خلاف، وتسميتها سفتجة أو حوالة ليس هذا مناط الحكم؛ لأن العبرة بالعقود بالمعاني. والسفتجة غالباً ما يكون طرفها اثنين: المقرض والمقترض، ولو دخل طرف ثالث، فإن كان وكيلًا عنهما، لم يخرج العقد عن كونه بين المقرض والمتقرض؛ لأن يد الوكيل هي يد الموكل؛ فهو نائب عنه، وقائم مقامه، وهذه الصورة لا حوالة فيها، وإن كان الثالث ليس وكيلاً، وكان مدينًا للمستقرض، فهي حوالة، والله أعلم. أما الحوالة فلا تكون أطرافها إلا ثلاثة، والطرف الثالث ليس وكيلاً، وإنما يتم فيها نقل الحق من ذمة المدين إلى ذلك الطرف الثالث، سواء أكان مدينًا أم متبرعًا، فعلم بهذا أن السفتجة لا تشبه الحوالة في كل صورها (¬1). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ث -260) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن ابن جريج، عن عطاء، أن ابن الزبير كان يعطي التجار المال ها هنا، ويأخذ منهم بأرض أخرى، فذكر أو ذكرت ذلك لابن عباس، فقال: لا بأس ما لم يشترط (¬1). [صحيح، وابن جريج من المكثرين عن عطاء، فلا تضر عنعنته]. ويناقش: بأن ابن الزبير إن كان يرى الجواز فقد خالفه غيره من الصحابة، وإذا اختلف صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قول الصحابي حجة بمفرده. الدليل الرابع: أن اشتراط الوفاء في غير بلد القرض مصلحة للمقرض والمقترض معاً من غير ضرر بواحد منهما، والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، بل ¬
يرد بمشروعيتها، وإنما ينهى عما يضرهم، وهذه المنفعة مشتركة بينهما، وهما متعاونان عليها، فهي من جنس التعاون والمشاركة (¬1). فلو فرض أن رجلين من أهل مصر التقيا في السعودية، واحتاج أحدهما إلى قرض، والمقرض يريد أن ينقل المال إلى مصر، والمقترض محتاج للمال في السعودية، وله مال في مصر، ولولا القرض لحمله ذلك إلى نقل ماله من مصر إلى السعودية، فيستقرض في السعودية، ويكتب لنائبه أن يوفيه من ماله في مصر، فهنا انتفع المقترض بالقرض، ولم يضطر إلى نقل ماله من بلده إلى السعودية، وانتفع المقرض أيضًا حيث لم يعرض ماله للخطر، أو مؤنة الحمل، فلا يوجد في أدلة الشرع ما يمنع من مثل هذه المعاملة، والله أعلم. والقول بجوازها يعني جواز الحوالات المصرفية؛ على القول بتخريجها على أنها سفتجة، إذا لم يقترن معها صرف، والعمل عليها اليوم في بلاد المسلمين؛ لأن البنك عندما يأخذ من المحيل مبلغًا من المال، فإنما يقترضه؛ لأنه يتملكه، ويتصرف فيه تصرف الملاك، ويستحوذ على غنمه، ويتحمل غرمه، ويضمنه له، وكل ذلك ليس من شأن الودائع، بل هو سبيل القروض، فإذا حوله على فرع آخر ليوفيه له أو لوكيله في بلد آخر، فهذه سفتجة، وتسميتها حوالة لا يعني أنها من الحوالة الفقهية، وإنما اصطلاح درج عليه الناس، كما أطلقوا على ما يدفعه الناس للبنوك بالودائع، وهي قروض، وقد تكلمت عن توصيف الحوالة المصرفية في عقد الحوالة، فلله الحمد، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. ¬
دليل من قال بالجواز إذا لم يكن لحمل القرض مؤنة
دليل من قال بالجواز إذا لم يكن لحمل القرض مؤنة: إذا اشترط عليه الوفاء في غير بلد القرض، وكان القرض يحتاج حمله إلى مؤنة فقد عاد القرض على المقرض بأكثر منه، بزيادة مشروطة، وهذا هو عين الربا كما لو أقرضه مائة، واشترط عليه أن يرد له مائة وعشرة؛ لأن أي منفعة يشترطها المقرض على المقترض، إذا كان لا يقابلها عوض فهي من الربا. وقد سبق لنا في عقد الصرف أن ذكرنا قاعدة: أنه يعتبر في حكم الفائدة كل منفعة أو عمولة أيًا كان نوعها إذا اشترطها الدائن على المدين، ولم يقابل ذلك خدمة حقيقة متناسبة يكون الدائن قد أداها فعلاً. الراجح: أرى أن اشتراط الوفاء في بلد آخر غير بلد المقرض يجوز بشرط أن يكون هناك انتفاع مشترك لهما، ولا يحسب من النفع انتفاع المقترض بالقرض نفسه، كما لا يحسب منه انتفاع المقرض بالضمان؛ لأنه هذه منافع لازمة لكل قرض، حتى لو أوفاه في بلد المقرض، فليست داخلة في النفع المشترك المطلوب لجواز هذه المعاملة، والله أعلم.
الشرط الرابع اشتراط الزيادة في مقابل القرض
الشرط الرابع اشتراط الزيادة في مقابل القرض قال ابن قدامة: "كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف" (¬1). [م - 1811] حكى الفقهاء من كافة المذاهب على تحريم اشتراط زيادة في بدل القرض من عين أو منفعة، وأن ذلك من الربا. ففي المذهب الحنفي: قال العيني: "أجمع المسلمون بالنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اشتراط الزيادة في السلف ربا حرام" (¬2). وفي مذهب المالكية قال ابن عبد البر: "كل زيادة من عين أو منفعة يشترطها المسلف على المستسلف فهي ربا، لا خلاف في ذلك" (¬3). فقوله - رحمه الله - (كل زيادة) من ألفاظ العموم تشمل كل زيادة، وقوله (من عين أو منفعة) بيان لهذه الزيادة، وأن الزيادة ليست محصورة في أعيان معينة كربا البيوع، بل ولا في جنس الأعيان حتى لو اشترط زيادة منفعة كانت المنفعة محرمة. وقال أيضًا: "وقد أجمع المسلمون نقلا عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف، أو حبَّة، كما قال ابن مسعود: أو حبَّة واحدة" (¬4). ¬
ونقله عنه القرطبي المالكي في تفسيره (¬1). وفي المذهب الشافعي قال ابن المنذر: " أجمعوا على المسلف إذا شرط على المستسلف هدية أو زيادة، فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة ربا" (¬2). وفي مذهب الحنابلة: قال ابن تيمية: "وقد اتفق العلماء على أن المقرض متى اشترط زيادة على قرضه كان ذلك حرامًا" (¬3). وقال ابن قدامة: "كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف" (¬4). وقال ابن مفلح الصغير الحنبلي: "كل قرض شرط فيه زيادة فهو حرام إجماعًا؛ لأنه عقد إرفاق وقربة، فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه، ولا فرق بين الزيادة في القدر أو الصفة، مثل أن يقرضه مكسرة فيعطيه صحاحًا، أو نقدًا ليعطيه خيرا منه ... " (¬5). وفي المذهب الظاهري، قال ابن حزم: "لا يحل إقراض شيء ليرد إليك أقل ولا أكثر، ولا من نوع آخر أصلاً، لكن مثل ما أقرضت في نوعه ومقداره ... وهذا إجماع مقطوع به" (¬6). وكان مستند هذا الإجماع نصوص قطعية من كتاب الله، ومن سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فمن أراد النجاة لنفسه في الآخرة فليتمسك بهذا حتى يلقى الله - عز وجل -. ¬
وجه الاستدلال
ومن هذه النصوص: قال تعالى: - {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]. فمن أخذ زيادة على رأس ماله فقد ظلم، وتعدى، ومن أراد الخروج من ظلم الربا فليس له إلا مخرج واحد أن يأخذ المرابي رأس ماله، هذا هو طريق النجاة لمن أراد التوبة من الربا. وأما الأدلة من الآثار: (ث - 261) فقد روى البخاري من طريق شعبة، عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه، أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -، فقال: ألا تجيء فأطعمك سويقًا وتمرًا ... ثم قال: إنك بأرض الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق، فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قت، فلا تأخذه فإنه ربا (¬1). (ح -1086) وروى أبو داود الطيالسي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن (¬2). [إسناده حسن] (¬3). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل سلف وبيع) والمراد بالسلف: هو القرض في لغة الحجاز، فنهى عن الجمع بين البيع والقرض، وإنما نهى عن الجمع بين البيع ¬
والقرض وإن كان كل واحد منهما صحيحًا بانفراده؛ لأنه ربما حاباه في البيع لأجل القرض، فيؤدي إلى أن يجر القرض نفعًا للمقرض، فلما كانت الفائدة على القرض ربما تستتر بعقد البيع نهى عنها الشارع، وإذا كان هذا حكم الشرع بالفائدة المستترة فكيف بالفائدة الظاهرة المشروطة. قال ابن تيمية: "نهى -يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع الرجل بين سلف وبيع، وهو حديث صحيح ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح وإنما ذاك؛ لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفًا، ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفًا، وسلعة بثمانمائة، ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا" (¬1). وقد حكى الإجماع غير واحد من أهل العلم على تحريم اشتراط البيع مع عقد القرض: الباجي في المنتقى (¬2)، والقرافي في الفروق (¬3)، والحطاب في مواهب الجليل (¬4)، وابن قدامة في المغني (¬5)، وغيرهم. ومع وضوح تحريم ربا القروض مطلقًا، واتفاق علماء السلف عليه إلا أن هناك من خالف في هذه المسألة من المحدثين، وخلافهم فيها من قبيل الخلاف الشاذ، المخالف للإجماع، ويلتمس العذر لهم لكونهم متأولين، ولا يعتبر القول عندي خارقًا للإجماع لكون هذا القول في نفسه مخالفًا للإجماع كما سبق، وقد ناقشت أدلتهم في عقد الربا، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، ولله الحمد. ¬
الشرط الخامس اشتراط الوفاء بأنقص
الشرط الخامس اشتراط الوفاء بأنقص زيادة الإرفاق في عقد الإرفاق لا تحرم. الوفاء بأنقص إبراء من بعض الدين يصح بالشرط وبغيره. اشتراط الوفاء بأنقص عكس الربا. كل منفعة متمحضة للمقترض فهي مباحة. [م - 1812] إذا رد المقترض أقل مما أخذ من غير شرط، ورضي المقرض، فإن ذلك صحيح بلا خلاف بين العلماء، بل هو من الإحسان والإرفاق المأجور عليه. كما يحرم على المقترض أن يماطل بالسداد، ويدعي العجز عن الوفاء حتى يتنازل له عن مقدار من الدين، فإن هذا من أكل أموال الناس بالباطل. أما إذا اشترط المقترض عند القرض أن يكون الوفاء بأقل مما أقترضه، وكان ذلك برضا واختيار المقرض، فقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: إذا اشترط أن يرد أنقص مما أخذ قدرًا أو صفة، فالشرط فاسد، وهل يفسد لعقد فيه وجهان: أحدهما: لا يفسد، وهو الأصح في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). ¬
دليل من قال: يصح القرض ويفسد الشرط
والثاني: يفسد العقد، وهو وجه في مذهب الشافعية، واختيار ابن حزم (¬1). دليل من قال: يصح القرض ويفسد الشرط: الدليل الأول: أما فساد الشرط: فلأن القرض يقتضي المثل، فشرط النقصان يخالف مقتضاه. فلم يجز، كشرط الزيادة. وأما صحة القرض؛ فلأن الشرط لم يجر نفعًا إلى المقرض، فيلغو الشرط حده. جاء في حاشية الجمل: "أو شرط أن يرد أنقص قدرًا، أو صفة كرد مكسر عن صحيح ... لغا الشرط فقط: أي لا العقد؛ لأن ما جره من المنفعة ليس للمقرض، بل للمقترض ... والعقد عقد إرفاق، فكأنه زاده في الإرفاق، ووعده وعدًا حسنًا" (¬2). ويناقش: بأننا لا نسلم أن اشتراط النقصان ينافي مقتضى العقد؛ لأن العقد عقد إرفاق، والقبول بهذا الشرط زيادة في الإرفاق، فهو موافق لطبيعة؛ القرض. الدليل الثاني: (ح -1087) ما رواه البخاري استدلوا من طريق هشام بن عروة، عن أبيه عن ¬
وجه الاستدلال
عائشة - رضي الله عنهما - في قصة إعتاق بريرة، وفيه: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، ما بال رجال منكم يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، فأيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، فقضاء الله أحق، وشرط الله أوثق ... " (¬1). وجه الاستدلال: قال ابن حزم: "ولا يحل أن يشترط رد أكثر مما أخذ، ولا أقل، وهو ربا مفسوخ، ولا يحل اشتراط رد أفضل، مما أخذ ولا أدنى وهو ربا ... برهان ذلك: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة شرط، كتاب الله أحق؛ وشرط الله أوثق، ولا خلاف في بطلان هذه الشروط التي ذكرنا في القرض" (¬2). ولما كان الخلل في الشرط وحده بطل الشرط، وصح العقد. وقال أيضًا: "فهذه الأخبار براهين قاطعة في إبطال كل عهد، وكل عقد، وكل وعد، وكل شرط ليس في كتاب الله الأمر به، أو النص على إباحة عقده؛ لأن العقود والعهود والأوعاد شروط، واسم الشرط يقع على جميع ذلك (¬3). ويناقش: بأن أبا محمَّد - رحمه الله - قد ذهب إلى أن الأصل في الشروط المنع والبطلان حتى ¬
ويناقش من وجوه
يقوم دليل خاص على جوازه وصحته، وهذا قول ضعيف، وقد سبق تحرير الخلاف في عقد البيع عند الكلام على شروط البيع، وأن الأصل في الشروط الصحة والجواز حتى يقوم دليل على المنع هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المقصود كل شرط ليس في كتاب الله. ويناقش من وجوه: الوجه الأول: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل شرط ليس في كتاب الله) المقصود بالشرط هنا: هو المشروط، كما يقال: درهم ضرب الأمير: أي مضروب الأمير، ومعناه: من اشترط شيئًا لم يبحه الله، أو من اشترط ما ينافي كتاب الله لقوله: (كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق) أي كتاب الله أحق من هذا الشرط، وشرط الله أوثق منه، وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه، بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى، وأما إذا لم يكن الشرط مما حرمه الله فلم يخالف كتاب الله وشرطه، حتى يقال: كتاب الله أحق، وشرطه أوثق. الوجه الثاني: أن المقصود بقوله: (ليس في كتاب الله) أي في حكم الله، بدليل أن الحكم بالولاء لمن أعتق ليس منصوصًا عليه في كتاب الله، وإنما هو مما جاءت به السنة. الوجه الثالث: أن قوله في الحديث: (ليس في كتاب الله) يشمل ما ليس في كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه، فإذا قيل: هذا في كتاب الله، فإنه يشمل ما هو فيه
الدليل الثالث
بالعموم والخصوص، بدليل أن الشرط الذي ثبت جوازه بالسنة، أو بالإجماع صحيح بالاتفاق، فيجب أن يكون في كتاب الله (¬1). الدليل الثالث: القياس على اشتراط الزيادة، فإذا كان اشتراط الزيادة للمقرض لا تجوز، فكذلك اشتراط الأنقص لا يجوز. ويجاب: بأن هذا القياس قياس فاسد الاعتبار، لوجود الفرق، فاشتراط الزيادة يحول القرض إلى عقد معاوضة، فيخرج القرض عما وضع له من الإرفاق والإحسان، واشتراط الأنقص زيادة في الإرفاق والإحسان، فلا يخرج القرض عما وضع له، والله أعلم. القول الثاني: يصح القرض والشرط، وهو وجه في مذهب الشافعية، وقول في مقابل الصحيح عند الحنابلة (¬2). وجه القول بالصحة: الوجه الأول: أن الأصل في الشروط الصحة والجواز، ولا يحرم منها شيء إلا بدليل، ولا دليل على تحريم مثل هذا الشرط. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أن القرض جعل للرفق بالمستقرض، وشرط النقصان لا يخرجه عن موضوعه بخلاف الزيادة. الوجه الثالث: أن هذا نقيض الربا، فلا يمكن أن يكون ممنوعًا، ذلك أن الربا يقوم على استغلال حاجة الإنسان إلى المال، فيقرضه ويشترط عليه أن يرد عليه أكثر مما أخذه، بينما هذا يقضي حاجته، وقد قبل أن يبرئه عن مقدار معين مما أخذه، وهذا لا يجعله حرامًا ولو كان بالشرط .. القول الثالث: أن المال المقرض إن كان يجري فيه الربا فلا يجوز اشتراط الوفاء بأنقص، وإلا صح الشرط، اختاره بعض الحنابلة (¬1). وجه هذا القول: أن المال إذا كان يجري فيه الربا فشرط مبادلته بمثله وجوب المماثلة، فإذا شرط أن يرد عليه أنقص أدى ذلك إلى فوات المماثلة الواجبة. جاء في المغني: "وإن شرط في القرض أن يوفيه أنقص مما أقرضه، وكان ذلك مما يجري فيه الربا، لم يجز؛ لإفضائه إلى فوات المماثلة فيما هي شرط فيه" (¬2). ¬
ويناقش
ويناقش: بأن وجوب المماثلة والقبض يجريان في عقود المعاوضة كالبيع، ولا يجريان في عقد القرض؛ لأنه من عقود التبرع، ولذلك لما لم يجب القبض مع أن الأموال ربوية لم يجب التماثل، والله أعلم. الراجح: أرى أن القول بالجواز هو الصحيح، وأن القول بالمنع مطلقًا أو بما لا يجري فيه الربا قول لا حجة له، والله أعلم.
الشرط السادس في اشتراط توثيق القرض
الشرط السادس في اشتراط توثيق القرض المبحث الأول في توثيق القرض بالكتابة [م - 1813] كتابة الدين من أعظم ما تحفظ به هذه المعاملات المؤجلة؛ لكثرة النسيان، ولوقوع المغالطات، وللاحتراز من الخونة الذين لا يخشون الله تعالى (¬1). وقد اختلف العلماء في حكم توثيق الدين بالكتابية على قولين: القول الأول: أن توثيق الدين بالكتابة والإشهاد مأمور به وليس واجبًا. وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة على خلاف بينهم هل الأمر للندب أو للإرشاد (¬2). والفرق بين الندب والإرشاد: أن المندوب مطلوب لثواب الآخرة، والإرشاد لمنافع الدنيا، وأن الذي فعل ما أمر به إرشادًا؛ إن أتى به لمجرد غرضه فلا ثواب له، وإن أتى به لمجرد الامتثال، أو قصد الأمرين أثيب على ذلك. ¬
دليل من قال: الكتابة ليست واجبة
دليل من قال: الكتابة ليست واجبة: الدليل الأول: الإجماع العملي فأنت ترى المسلمين في جميع البلاد يبيعون بالأثمان المؤجلة من غير كتابة ولا إشهاد، وذلك إجماع عملي على عدم وجوبها، وقولنا: إجماع عملي خروجًا من الخلاف اللفظي المحفوظ في المسألة. قال أبو بكر الجصاص: "ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الأمر بالكتابة، والإشهاد، والرهن المذكور جميعه في هذه الآية ندب وإرشاد إلى ما لنا فيه الحظ والصلاح، والاحتياط للدين والدنيا، وأن شيئًا منه غير واجب. وقد نقلت الأمة خلف عن سلف عقود المداينات، والأشربة، والبياعات في أمصارهم من غير إشهاد، مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم، ولو كان الإشهاد واجبًا لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به. وفي ذلك دليل على أنهم رأوه ندبًا، وذلك منقول من عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا، ولو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها، وأشربتها لورد النقل به متواترًا مستفيضًا، ولأنكرت على فاعله ترك الإشهاد، فلما لم ينقل عنهم الإشهاد بالنقل المستفيض، ولا إظهار النكير على تاركه من العامة، ثبت بذلك أن الكتاب والإشهاد في الديون والبياعات غير واجبين " (¬1). الدليل الثاني: جعل الله - سبحانه وتعالى - المداينات في آية الدين على ثلاثة أقسام: دين بكتاب وشهود، ودين برهان مقبوضة، ودين بالأمانة، فلما جازت المداينات بالأمانة دون كتابة، ¬
الدليل الثالث
ولا شهود دل ذلك على أن الأمر بقوله تعالى فاكتبوه للندب، وليس للوجوب (¬1). الدليل الثالث: أن في إيجاب الكتابة حرجًا شديدا، ومشقة عظيمة. وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. الدليل الرابع: أن الله - سبحانه وتعالى - أمر بالكتابة فيما للمرء أن يهبه، ويتركه بإجماع، فكان هذا قرينة على أن الأمر إنما هو للندب على جهة الحيطة للناس، ولهذا قال - سبحانه وتعالى -: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283]. فإن معناه عندهم: إن توفرت الطمأنينة بينكم، وائتمن بعضكم بعضا لم يكن التوثيق لازمًا. القول الثاني: أن توثيق الدين بالكتابة واجب، وهذا مذهب الظاهرية، وبه قال الطبري (¬2). قال الطبري: "والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله - عز وجل - أمر المتداينين إلى أجل مسمى باكتتاب كتب الدين بينهم ... وأمر الله فرض لازم، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب" (¬3). ¬
دليل من قال: يجب توثيق الدين بالكتابة.
دليل من قال: يجب توثيق الدين بالكتابة. الدليل الأول: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. وجه الاستدلال: قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} وهذا أمر بكتابة الدين بيعًا كان أو قرضًا، والأصل في الأمر الوجوب، ومما يؤيد دلالة هذا الأمر على الوجوب اهتمام الآية ببيان من له حق الإملاء، وصفة الكاتب، وأمر الكاتب بالاستجابة إذا طلب منه ذلك، ونهى عن الملل من الكتابة على أي حال كان من القلة والكثرة، ثم نفى الجناح بترك الكتابة إذا كان البيع حاضرًا يدًا بيد، والتعبير بنفي الجناح بقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282] يشعر بلوم من ترك الكتابة عند تعامله بالدين (¬1). وأجيب عن الآية بجوابين: الوجه الأول: بأن الأمر في الآية للإرشاد، وليس للإيجاب، والقرينة الصارفة عن الوجوب، قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] والرهن لا يجب إجماعًا، وهو بدل من الكتابة عند تعذرها في الآية، فلو كانت الكتابة واجبة لكان بدلها واجبًا، وصرح بعدم الوجوب بقوله: ¬
الوجه الثاني
{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283]، التحقيق أن الأمر في قوله: فاكتبوه للندب والإرشاد؛ لأن لرب الدين أن يهبه، ويتركه إجماعًا، فالندب إلى الكتابة فيه، إنما هو على جهة الحيطة للناس (¬1). وأما الجواب عن التعبير بنفي الجناح في البيع الناجز مما يعني وجود الجناح في ترك الكتابة بالبيع المؤجل فيقال: إن نفي الجناح ليس على بابه في هذه الآية نظير هذا قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فعبر بنفي الجناح لمن أراد قصر الصلاة بشرط الخوف، مع أن الإتمام أولى من القصر، فهو مندوب للمسافر مطلقًا، وليس الخوف شرطًا في جوازه، والله أعلم. الوجه الثاني: قال بعضهم: كانت كتابة الدين والإشهاد والرهن قرضاً ثم نسخ الكل بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283]. وهو قول الشعبي، والربيع بن أنس، والحسن وابن جريج والحكم بن عتيبة، وغيرهم (¬2). والجواب الأول أصح؛ لأن الأصل عدم النسخ. قال الطبري: "لا وجه لاعتلال من اعتل بأن الأمر بذلك منسوخ بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283]؛ لأن ذلك إنما أذن الله ¬
الدليل الثاني
تعالى ذكره به، حيث لا سبيل إلى الكتاب، أو إلى الكاتب، فأما والكتاب والكاتب موجودان، فالفرض إذا كان الدين إلى أجل مسمى ما أمر الله تعالى ذكره به في قوله: {فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} الآية ... [البقرة: 282] وإنما يكون الناسخ ما لم يجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة على السبيل التي قد بيناها، فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الآخر، فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء، ولو وجب أن يكون قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] ناسخًا قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} [البقرة: 282] لوجب أن يكون قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] ناسخًا الوضوء بالماء في الحضر عند وجود الماء فيه، وفي السفر الذي فرضه الله - عز وجل - بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] ... فزعم أن كل ما أبيح في حال الضرورة لعلة الضرورة ناسخ حكمه في حال الضرورة حكمه في كل أحواله نظير قوله في أن الأمر باكتتاب كتب الديون والحقوق منسوخ بقوله {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] (¬1). الدليل الثاني: أن في كتابة الدين قطعاً لأبواب النزاعات، وحسمًا للخصومات، وما يحصل ¬
ويناقش
من التردد على المحاكم، وإشغال القضاة، وما يتسبب عنها من إهدار للأموال والأوقات لهذه المصالح يدرك العاقل أن مثل هذا تحرص الشريعة على قطعه، وسد بابه، وألا يترك الأمر لرغبات الناس. ويناقش: بأن هذه المصالح هي التي جعلت الشارع يأمر بكتابة الدين، وليس النزاع في مشروعيتها، ولكن القول بوجوبها مع وجود ما يدل على أن الأمر للاستحباب هو محل الإشكال، والله أعلم. القول الثالث: يجب توثيق الدين إذا كان الدائن يتصرف لغيره، كولي اليتيم، وناظر الوقف. قال شيخ شيخنا عبد الرحمن السعدي: "وهذا الأمر قد يجب، إذا وجب حفظ الحق، كالذي للعبد عليه ولاية، كأموال اليتامى، والأوقاف، والوكلاء، والأمناء" (¬1). ولأن الولي والناظر والوكيل تصرفه لغيره بمقتضى الأصلح، ولا شك أن الكتابة لهم أصلح لهم من إهمالها مما قد يعرض أموالهم للضياع من نسيان الدين، أو جحده، والله أعلم. القول الرابع: أن الاستحباب مقيد بالأشياء النفيسية دون الأشياء الحقيرة؛ حفظًا للوقت، ¬
الراجح
ولأن التجارة قد توسعت، فيشق الإشهاد على الأمور الصغيرة، وهذا قول في مذهب الحنابلة (¬1). قال ابن قدامة: "ويختص ذلك -أي التوثيق- بما له خطر، فأما الأشياء القليلة الخطر كحوائج البقال، والعطار، وشبهها، فلا يستحبُّ فيها؛ لأن العقود فيها تكثر، فيشق الإشهاد عليه، وتقبح إقامة البينة عليها، والترافع إلى الحاكم بخلاف الكثير" (¬2). ومع تفهم ما يقصد إليه ابن قدامة إلا أن نفي الاستحباب عن كتابة القليل، مخالف للنص القرآني، قال تعالى: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [البقرة: 282]. الراجح: أن توثيق الدين بالكتابة مستحب، إلا إذا كان الإنسان يتصرف لغيره بولاية أو وكالة فإن التوثيق واجب؛ لأن حفظ مال الغير واجب، وهذه وسيلة من وسائل الحفظ، هذا كان هذا حكم التوثيق، فإذا اشترط المقرض توثيق القرض بالكتابة وجب ذلك؛ لأن ذلك حقه، وقد طلب أمرا لا خلاف في مشروعيته؛ لأنه دائر بين الوجوب والاستحباب. ¬
فرع في الحكم بالخط المجرد
فرع في الحكم بالخط المجرد الأصل أن البيان بالكتاب بمنزلة البيان باللسان. الكتاب كالخطاب. الخط دال على اللفظ، واللفظ دال على القصد والإرادة. وقيل: الكتاب محتمل للتزوير والخط يشبه الخط. [م - 1814] علمنا في المبحث السابق خلاف العلماء في وجوب توثيق الدين بالكتابة، والسؤال: إذا وجد في أدوات شخص ما أن له على فلان كذا وكذا، وكانت الكتابة خلوًا من الشهادة، فهل يكتفى بالخط المجرد إذا كان معروفًا، أو أن الكتابة لا تكون حجة بغير شهود؟ القول الأول: لا يمكن الاعتماد على الخط بمفرده؛ لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة. وهذا مذهب الحنفية في الجملة، والأصح في مذهب الشافعية، وقول في مذهب المالكية، والمشهور في مذهب الحنابلة عند المتأخرين (¬1). ¬
واستثنى الحنفية خط البياع، والصراف، والسمسار وما يكتبه الناس فيما بينهم فإنه حجة عملًا بالعرف (¬1). جاء في تنقيح الفتاوى الحامدية نقلاً عن البزازية: "إذا كتب إقراره بين يدي الشهود، ولم يقل شيئًا، لا يكون إقرارًا فلا تحل الشهادة به، ولو كان مصدرًا مرسومًا ... لأن الكتابة قد تكون للتجربة إلخ، فأفاد أن عامة علمائنا على عدم العمل بالخط ... قال شارحه: هو الصحيح خانية، وإن أفتى قارئ الهداية بخلافه فلا يعول عليه، وإنما يعول على هذا التصحيح؛ لأن قاضي خان من أجل من يعتمد على تصحيحاته إلخ" (¬2). جاء في الأشباه والنظائر لابن نجيم: "لا يعتمد على الخط ولا يعمل به ... لأن القاضي لا يقضي إلا بالحجة، وهي البينة، أو الإقرار، أو النكول" (¬3). وقال الطحاوي: "قال مالك: إذا شهد شاهدان في ذكر حق، أنه كتابته بيده، جاز وأخذ به، كما لو شهدوا على إقراره. وخالفه جميع الفقهاء في ذلك وعدوا هذا القول شذوذًا؛ إذ كان الخط يشبه الخط وليست شهادة على قول منه ولا معاينة فعل" (¬4). ¬
دليل من قال: لا يعمل بالخط بمجرده
وجاء في أسنى المطالب: "الشاهد لا يشهد بمضمون خطه، وإن كان الكتاب محفوظا عنده وبَعُد احتمال التزوير، ما لم يتذكر" (¬1). قال إمام الحرمين: "الخط لا معول عليه، وبيانه في حق الشاهد، أنه لو رأى خط نفسه في تحمل الشهادة، ولم يتذكر تحمله لها، فليس له اعتماد الخط في إقامة الشهادة، وكذلك القاضي إذا رأى خطه متضمنًا إمضاء القضاء، فإن تذكره، جرى عليه تعويلًا على الذكر دون الخط، وإن لم يذكره، توقف" (¬2). ولأن الحكم لا يجوز برؤية خط الشاهد بالشهادة بالإجماع، فكذلك هنا (¬3). دليل من قال: لا يعمل بالخط بمجرده: الدليل الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106]. وإذا كان هذا في الوصية فغيرها مقيس عليها. وأجيب: بأن الآية تدل على ثبوت الوصية عن طريق الإشهاد، وهذا لا نزاع فيه، ولكنها لا تدل على أنها لا تثبت إلا بالإشهاد، وهو محل النزاع. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح -1088) ما رواه البخاري عن الأشعث بن قيس، وفيه: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: شاهداك أو يمينه (¬1). فجعل الحكم مقصورًا على الشهادة دون الكتابة. الدليل الثالث: أن الخطوط تتشابه، والتزوير فيها ممكن، فلم يجز الإعمال فيها مع هذا الاحتمال، وقد تكتب بقصد التجربة. القول الثاني: يقبل الشهادة على الخط إذا شهد عليه اثنان أن هذا خطه، حيًا كان صاحب الخط أو ميتًا، مقرًا كان أو منكرًا، وهذا هو المعتمد في مذهب المالكية، وقول في مذهب الحنابلة، وذكر ابن تيمية أنه مذهب جمهور العلماء (¬2). جاء في الشرح الصغير: "وجازت الشهادة: أي أداؤها على خط المقر: أي بأن هذا خط فلان. وفي خطه: أقر فلان بأن في ذمته كذا لفلان، وسواء كانت الوثيقة كلها بخطه؛ أو الذي بخطه ما يفيد الإقرار" (¬3). ¬
دليل القائلين بصحة الشهادة على الخط
وعلق الصاوي في حاشيته، فقال: "قوله: (على خط المقر): أي سواء كان حيًا وأنكر، أو ميتًا، أو غائبًا، وسواء كان في الوثيقة التي فيها خط المقر شهود، أو كانت مجردة عن الشهود على المعتمد" (¬1). وفي عقد الجواهر الثمينة: "والمشهور من المذهب أن الشهادة على الخط في ذلك جائزة عاملة، لم يختلف في ذلك قول مالك، ولا قول أحد من أصحابه فيما علمت، إلا ما يروى عن محمَّد بن عبد الحكم من قوله: لا تجوز الشهادة على الخط، هكذا مجملاً، ولم يخص موضعًا من موضع. وأما الشهادة على خط الشاهد الميت أو الغائب، فقال الشيخ أبو الوليد: لم يختلف في الأمهات المشهورة قول مالك في إجازتها وإعمالها" (¬2). وقال ابن تيمية: "وتنفذ الوصية بالخط المعروف، وكذا الإقرار إذا وجد في دفتره، وهو مذهب الإمام أحمد" (¬3). دليل القائلين بصحة الشهادة على الخط: الدليل الأول: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. فأمر الله - سبحانه وتعالى - بالكتابة، وهذا دليل على العمل بالكتاب وإلا لم يكن هناك فائدة من الكتابة. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح -1089) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (مكتوبة عنده) دليل على ثبوت الوصية بالكتابة، ولو لم يقرن ذلك بالإشهاد، فإن كتب وصيته فقد امتثل أمر نبيه، ولذلك قال ابن عمر: لم أبت ليلة إلا ووصيتي مكتوبة عندي، ولم يزد على ذلك. ولو كانت الكتابة لا تغني إلا بالإشهاد لذكره النبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثالث: احتج المالكية بكتابة رسول الله إلى الملوك بتبليغ دعوته. (ح -1090) فقد روى البخاري من طريق شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أنسًا - رضي الله عنه -، يقول: لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب إلى الروم، قيل له: إنهم لا يقرؤن كتابًا إلا أن يكون مختومًا، فاتخذ خاتمًا من فضة، فكأني أنظر إلى بياضه في يده، ونقش فيه محمَّد رسول الله (¬2). وقد عمل بهذا الخلفاء الراشدون من بعده، فكانوا يكتبون إلى ولاتهم فيأخذون بها. ¬
ونوقش هذا
وقد استخلف سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز بكتاب كتبه، وختم عليه، ولا نعلم أحدًا أنكر ذلك مع شهرته، فيكون إجماعًا (¬1). ونوقش هذا: قال الماوردي: "الجواب عن كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن وجهين: أحدهما: أنها كانت ترد مع رسل يشهدون بها. والثاني: أنها تجري مجرى الأخبار التي يخف حكمها؛ لعمومها في التزامها والشهادة محمولة على الاحتياط تغليظا لالتزامها" (¬2). هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الناس اليوم قادرون على التزوير ومحاكاة الخطوط أكثر مما مضى مع قلة التقوى وانتشار الجشع. قال محمَّد بن عبد الحكم: لا يقضى في دهرنا هذا بالشهادة على الخط؛ لأن الناس قد أحدثوا ضروبًا من الفجور، وقد كان الناس فيما مضى يجيزون الشهادة على خاتم كتاب القاضي (¬3). وقال مالك: كان من أمر الناس القديم إجازة الخواتم حتي إن القاضي ليكتب للرجل الكتاب فما يزيد على ختمه حتى اتهم الناس، فصار لا يقبل إلا بشاهدين (¬4). الدليل الرابع: الخط دال على اللفظ، واللفظ قال على القصد والإرادة، وغاية ما يقدر ¬
الراجح
اشتباه الخطوط، وذلك كما يفرض عن اشتباه الصور والأصوات، وقد جعل الله - سبحانه وتعالى - في خط كل ما يتميز به عن خط غيره كتميز صورته عن صورته، وصوته عن صوته، والناس يشهدون شهادة لا يستريبون على أن هذا خط فلان، وإن جازت محاكاته ومشابهته فلا بد من فرق، وهذا أمر يختص بالخط العربي (¬1). الراجح: صحة العمل بالخط، وقد استحدثت في هذا العصر أجهزة قادرة على كشف التزوير. ¬
المبحث الثاني في توثيق القرض بالشهادة
المبحث الثاني في توثيق القرض بالشهادة [م - 1815] اختلف العلماء في حكم توثيق القرض بالشهادة على قولين: القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأمر بالإشهاد على الدين ليس للوجوب، وهذا مذهب الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة على خلاف بينهم هل الأمر للندب أو للإرشاد (¬1). وقد تقدم الفرق بين الندب والإرشاد في حكم توثيق الدين. وفي مسائل الإمام أحمد: (قلت -والقائل هو إسحاق بن منصور صاحب المسائل-: قول الله - عز وجل - {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] إذا باع بالنقد أيشهد أم لا؟ قال: إن أشهد فلا بأس، وإن لم يشهد فلا بأس لقول الله - سبحانه وتعالى -: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} (¬2). مثال آخر له تعلق بهذا المثال ويوضحه، فآية الدين والآية التالية لها بينتا أن توثيق الدين له طرق منها: الكتاب، والرهن، والإشهاد. ¬
دليل من قال: لا يجب الإشهاد على الدين
دليل من قال: لا يجب الإشهاد على الدين: الدليل الأول: اشترى النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقائع كثيرة، ولم يشهد مما يدل على أن الإشهاد ليس واجبًا. (ح -1091) من ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في مسنده، قال: أخبرنا عبد الله بن نمير، قال: أخبرنا يزيد بن زياد بن أبي الجعد، قال: نا أبو صخرة جامع بن شداد، عن طارق المحاربي، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين ... وفيه: أقبلنا في ركب من الربذة، حتى نزلنا قريبًا من المدينة ومعنا ظعينة لنا، قال: فبينما نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان، فسلم، فرددنا عليه، فقال: من أين أقبل القوم؟ قلت: من الربذة وجنوب الربذة، قال: ومعنا جمل أحمر فقال: تبيعوني الجمل؟ قال: قلنا: نعم، قال: بكم؟، قلنا: بكذا وكذا صاعًا من تمر، قال: فما استوضعنا شيئًا، قال: قد أخذته، قال: ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة، فتوارى عنا فتلاومنا بيننا، قلت: أعطيتم جملكم رجلاً لا تعرفونه، قالت الظعينة: لا تلاوموا، فلقد رأيت وجهًا ما كان ليجفوكم، رأيت رجلاً أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه، قال: فلما كان العشي أتى رجل، قال: السلام عليكم، إني رسول رسول الله إليكم لأنه يأمركم أن تأكلوا حتى تشبعوا، وتكتالوا حتى تستوفوا، فأكلنا حتى شبعنا، واكتلنا حتى استوفينا ... وذكر الحديث (¬1). [حسن] (¬2). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: هذا الحديث صريح في ترك الإشهاد، وقد اشترى الرسول جمل جابر، ولم يشهد، والحديث في الصحيحين، والأصل عدم الخصوصية، والخصوصية لا تثبت إلا بدليل، والقاعدة أن الشارع إذا أمر بأمر، ثم خالفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - دل ذلك على أن الأمر ليس للوجوب إلا أن يأتي نص خاص يدل على اختصاص النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحكم، وإذا نهى عن شيء ثم خالفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - دل ذلك على أن النهي للكراهة إلا أن يأتي نص خاص يدل على الخصوصية. الدليل الثاني: الإجماع العملي، قال القرطبي: "ما زال الناس يتبايعون حضرًا وسفرًا، وبرًا وبحرًا، وسهلاً وجبلاً من غير إشهاد، مع علم الناس بذلك من غير نكير، ولو وجب الإشهاد ما تركوا النكير على تاركه" (¬1). ¬
القول الثاني
القول الثاني: أن الإشهاد على الدين واجب، وهو مذهب الظاهرية، وبه قال بعض السلف (¬1). دليل من قال: الإشهاد واجب: الدليل الأول: قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]. وجه الاستدلال: أن الله - سبحانه وتعالى - أمر بالإشهاد عند البيع، والأصل في الأمر الوجوب. وأجيب من وجهين: الوجه الأول: أن الله تعالى جعل لتوثيق الدين طرقا، منها الرهن، ومنها الإشهاد. ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الواجب، فكذلك الإشهاد (¬2). ولقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283] فإذا حصل الائتمان من بعضنا لبعض لم يجب رهن، ولا إشهاد، ولا كتابة. قال ابن العربي: معناه أنه أسقط الكتاب والإشهاد والرهن، وعوَّل على أمانة ¬
الوجه الثاني
المعامل ... ولو كان الإشهاد واجبًا لما جاز إسقاطه، وبهذا يتبين أنه وثيقة (¬1). وقال إلكيا الهراسي: "الأمر بالإشهاد ندب لا واجب، والذي يؤيده وضوحًا أنه قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [البقرة: 283]. ومعلوم أن الأمن لا يقع إلا بحسب الظن والتوهم لا على وجه الحقيقة وذلك يدل على أن الشهادة إنما أمر بها لطمأنينة قلبه، لا لحق الشرع فإنها لو كانت لحق الشرع لما قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [البقرة: 283] فلا ثقة بأمن العباد، إنما الاعتماد على ما رواه الشرع مصلحة، فالشهادة متى شرعت في النكاح لم تسقط بتراضيهما وأمن بعضهم بعضًا، فدل ذلك أن الشهادة شرعت للطمأنينة" (¬2). الوجه الثاني: قال بعضهم: كانت كتابة الدين والإشهاد والرهن فرضًا ثم نسخ الكل بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283]. وهو قول الشعبي، والربيع بن أنس، والحسن وابن جريج والحكم بن عتيبة، وغيرهم (¬3). والأصل عدم النسخ، والله أعلم. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (ح -1092) ما رواه الحاكم في المستدرك من طريق معاذ العنبري، ثنا شعبة، عن فراس، عن الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل كان له على رجل مال فلم يشهد عليه، رجل آتى سفيها ماله، وقد قال الله - عز وجل - {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه؛ لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى، وإنما أجمعوا على سند حديث شعبة بهذا الإسناد: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين) وقد اتفقا جميعاً على إخراجه. وأجيب بجوابين: الوجه الأول: أن الحديث، وإن كان ظاهر إسناده الصحة، إلا أنه معلول (¬1). ¬
الوجه الثاني
وقد يقال: إن اختلاف شعبة في رفعه ووقفه لا يلغي الاحتجاج به، فعلى ترجيح أن يكون موقوفًا على الصحابي، فإن مثله لا يقال بالرأي، فيكون له حكم الرفع. الوجه الثاني: على فرض أن يكون الحديث سالمًا من العلة، فإن نفي الإجابة ليس عن مطلق الدعاء حتى يقال: ذلك عقاب، والعقاب لا يكون إلا على ترك واجب، أو فعل محرم، وإنما لا يقبل دعاؤه على هؤلاء الثلاثة فقط، ويقبل في غيرهم، وإنما قيد نفي الإجابة في هذه الحالات؛ لأنه العبد قد أمر بالاحتياط، ولم ¬
الراجح
يفعل، فكان هو العلوم على الظلم الواقع عليه؛ لأنه قد أتي من قبل نفسه وتفريطه، فكونها لا يستجيب لزوج المرأة السيئة الخلق؛ لأنه هو المعذب نفسه بإمساكها، وقد جعل له الشارع سعة في فراقها. وكونه لا يستجيب لصاحب الدين إذا أنكره؛ لأنه هو المفرط فقد أمر بالإشهاد، ولم يشهد، وكونه لا يستجيب لمن عامل السفيه بشيء من ماله؛ لأنه المضيع لماله، حيث نهاه الله - سبحانه وتعالى - بقوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]. وكونه لا يستجاب لهم لا يدل على أنهم آثمون، وإنما يدل على أنهم قد أمروا بالأصلح لهم فلم يمتثلوا، وكان من مصلحتهم أن لا يُحَملوا أنفسهم ما حملوها، والله أعلم. الراجح: أن توثيق القرض بالإشهاد مأمور به الإنسان حفظًا للحقوق، وقد يموت الإنسان فلا يستطيع الوارث الوصول إلى حقه، ولكن هذه المصلحة لا تجعل الإشهاد واجبًا، وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته يتبايعون بلا إشهاد، إلا أن يكون الإنسان يتصرف لغيره، كالأولياء والوكلاء ونظار الوقف فإنه يجب عليهم أن يشهدوا حفظًا لمال هؤلاء؛ لأن حفظها عليهم واجب، والله أعلم.
المبحث الثالث توثيق القرض بالوهن
المبحث الثالث توثيق القرض بالوهن [م - 1816] إذا اشترط المقرض رهنًا لتوثيق حقه، فإن هذا من الشروط الصحيحة، وليس هو من القرض الذي يجر منفعة؛ فإن الرهن لا منفعة فيه إلا التوثيق، وليس في استيثاق المقرض بالرهن جلب منفعة زائدة؛ فإنه كان بماله وهو في يده أوثق منه بالرهن الآن (¬1). واتفقوا على جواز الرهن في الحضر (¬2)، واختلفوا في الرهن في السفر: القول الأول: يجوز اشتراط الرهن حضرًا وسفرًا، وهذا قول جمهور الفقهاء (¬3). جاء في العناية في شرح الهداية: "الأمة اجتمعت على جوازه -يعني الرهن- من غير نكير" (¬4). وقال الحطاب في مواهب الجليل: "ثبت -يعني الرهن- بالكتاب، والسنة، ¬
الدليل على صحة الرهن في الحضر
والإجماع" (¬1). قال الشافعي: "لا أعلم مخالفا في إجازته" (¬2). يعني الرهن. وقال ابن قدامة: "أجمع المسلمون على جواز الرهن في الجملة" (¬3). وقد نقل ابن قدامة الإجماع على أن توثيق الدين بالرهن غير واجب. قال أيضًا: "والرهن غير واجب، لا نعلم فيه مخالفا؛ لأنه وثيقة بالدين، فلم يجب، كالضمان، والكتابة، وقول الله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. إرشاد لنا لا إيجاب علينا، بدليل قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283] ولأنه أمر به عند إعواز الكتابة، والكتابة غير واجبة، فكذا بدلها (¬4). الدليل على صحة الرهن في الحضر: الدليل الأول: (ح -1093) روى البخاري من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يهودي طعامًا بنسيئة، ورهنه درعه (¬5). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن كل وثيقة صحت في السفر فإنها تصح في الحضر كالضمان، والعكس صحيح أن كل حال جاز فيها الضمان جاز فيها الرهن. الدليل الثالث: أن ما شرع له الرهن، وهو الحاجة إلى توثيق الدين يوجد في الحالين حضرًا وسفرًا، وهو حماية الدين عن الجحود والنسيان، والاستيفاء منه عند العجز عن السداد. القول الثاني: لا يحل الرهن إلا في السفر، حكي هذا القول عن مجاهد، والضحاك، وبه قال أهل الظاهر إلا أنهم قالوا: مع عدم الكاتب (¬1). واستدلوا على ذلك: قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. وجه الاستدلال: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} فهذا قيد ووصف مؤثر، وأن الرهن لا يصح في الحضر. واستدل الظاهرية بأن جواز الرهن مشروطًا بشرطين: أحدهما: السفر. والثاني: عدم وجود الكاتب. ¬
ونوقش
ونوقش: بأن دلالة المفهوم دلالة ضعفية، وإنما نص على السفر؛ لأنه جرى مجرى الغالب؛ إذ الغالب أن الكاتب والشاهد والورق توجد في الحضر، ولا توجد غالبًا في السفر، لهذا نص على الرهن في السفر، وإن كان جائزًا في الحضر. القول الثالث: الرهن يجوز في السفر مطلقًا، وأما في الحضر فإن تبرع به الراهن جاز، وإن اشترطه المرتهن لم يكن له ذلك، وبه قال ابن حزم (¬1). وهذا القول من ابن حزم حاول فيه أن يجمع بين الآية الكريمة التي ذكرت السفر كشرط في جواز الرهن، وبين ثبوت الرهن في الحضر حيث رهن النبي - صلى الله عليه وسلم - درعه في المدينة. ولكن هذا القول لا يصح لابن حزم إلا إذا أثبت أن الرهن قد تبرع به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد خالف ابن حزم في قوله هذا أصلين: أحدهما: أن الأصل في العقود عدم التبرع، ولا تثبت دعوى التبرع إلا بدليل. والثاني: أن الأصل في الرهن أن يطلبه المرتهن توثقة لدينه؛ لأن المصلحة له وحده، ودعوى أن الراهن هو الذي تقدم به دون طلب من المرتهن لا تثبت إلا بدليل؛ لأنه خلاف الظاهر. الراجح: جواز الرهن في الحضر والسفر، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع توثيق القرض بالضمان
المبحث الرابع توثيق القرض بالضمان [م - 1817] اشتراط المقرض كفيلاً ويقال له: (الضمين، والحميل، والقبيل، والزعيم)، من الشروط الصحيحة، وليس هو من القرض الذي يجر منفعة؛ فإن الضمان لا منفعة فيه إلا التوثيق، وليس في استيثاق المقرض بالضمان جلب منفعة زائدة؛ فإنه كان بماله وهو في يده أوثق منه بالضمان الآن. وقد دل على صحة اشتراط الضمان الكتاب والسنة، والإجماع (¬1). أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]. (ح -1094) وأما السنة، فإنها ما رواه البخاري من طريق أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بجنازة، ليصلي عليها، فقال: هل عليه دين؟ قالوا: لا. فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أخرى، فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: نعم. قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: علي دينه يا رسول الله، فصلى عليه (¬2). وأما الإجماع فقد قال في رد المحتار: "ودليلها -يعني الكفالة- الإجماع" (¬3). ¬
وجاء في درر الحكام: "مشروعية الكفالة بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة" (¬1). وقال ابن قدامة: "أجمع المسلمون على جواز الضمان في الجملة" (¬2). وقال البهوتي: "الضمان جائز إجماعًا في الجملة" (¬3). كما أن الحاجة داعية إليه، فقد لا يطمئن المقرض إلى المقترض، أو يخشى عليه من الإفلاس فيحتاج إلى من يكفله (¬4). ¬
الشرط السابع في اشتراط رد عين القرض
الشرط السابع في اشتراط رد عين القرض [م - 1818] إذا اشترط المقرض أن يرد له المقترض عين ما اقترضه. فإن كان القرض قيميًا فالحنفية يوجبون رد عين القرض حتى ولو لم يشترط، فإذا اشترط فهو من باب توكيد ما هو واجب. جاء في شرح القواعد الفقهية للزرقا: "قرض ما لا يجوز قرضه، كالقيمي، يعتبر عارية، لكن من جهة أنه يجب رد عينه لا من جميع الوجوه؛ لأنه في هذه الصورة يملك بالقبض، ويكون مضمونا كالقرض المحض" (¬1). فإن قيل: فما الفرق بين القرض بهذه الصورة وبين عقد العارية؟ فالجواب: أما الذين يقولون: إن العين المستعارة مضمونة فلا فرق بينه وبين القرض. وأما الذين يقولون: إن العارية ليست مضمونة كالحنفية، والمالكية (¬2)، فهناك تشابه بين العارية والقرض من جهة واختلاف من جهة: فالتشابه: هو رد العين في كل منهما. وأما الاختلاف: فإن القرض مضمون، والعارية غير مضمونة. ¬
وأما مذهب الحنابلة فقد نصوا على أن المقرض إذا اشترط على المقترض رد محل القرض بعينه، لم يصح الشرط. جاء في شرح منتهى الإرادات: "وإن شرط مقرض رده بعينه لم يصح الشرط؛ لأنه ينافي مقتضى العقد، وهو التصرف، ورده بعينه يمنع ذلك" (¬1). ¬
الباب الرابع في انتهاء القرض
الباب الرابع في انتهاء القرض ينتهي عقد القرض بأمور منها: الأول: وفاء دين القرض. ووفاء الدين قد يقوم به المقترض، وهو الأصل، وقد يقوم بالوفاء غيره من ضامن، أو رهن إن كان المقرض قد أخذ بدينه كفيلًا أو رهنًا. الثاني: ينتهي القرض بفسخ القرض، كما لو حجر على المقترض لفلس، ووجد المقرض عين ماله، فهل يقدم على سائر الغرماء؟ [م - 1819] وهذه مسألة خلافية بين الجمهور والحنفية: فالحنفية يرون أن المقرض ليس أحق من غيره في عين مال القرض، بل هو أسوة الغرماء (¬1). وخالفهم جمهور الفقهاء، فقالوا: المقرض أحق من غيره إذا وجد عين ماله قبل أن يتصرف المقترض في المال (¬2). ¬
واستدل الجمهور
واستدل الجمهور: (ح -1095) بما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي بكر بن محمَّد بن عمرو ابن حزم، أن عمر بن عبد العزيز أخبره، أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام أخبره أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قضى بأن الرجل إذا وجد سلعته عند المشتري، وقد أفلس فهو مقدم على غيره من الغرماء، والمقرض مقيس عليه؛ لأن كلا العقدين من عقود التمليك. وأجيب: أن نص الحديث يقول: (من أدرك عين ماله) والمقرض إذا أقرضه لا يسمى عين ماله؛ لخروجه عن ملكه بالقرض، وتحوله إلى ملك للمقترض، وحق المقرض تحول إلى دين متعلق بالذمة، والذمة باقية بعد الإفلاس كبقائها قبله لم تتغير، وعلى هذا فالمراد بقوله: (من أدرك عين ماله عند رجل قد أفلس) كما لو أخذ ذلك على وجه الغصب، أو السرقة، أو الإعارة، أو الوديعة، أو الالتقاط، ونحوها، فهنا يصدق عليه أن المال ليس مال المفلس، ويقدم على سائر الغرماء، وأما القول بأن البائع والمقرض يملك البائع والمقرض فسخ العقد بعد ¬
ورد هذا
تمامه بالإفلاس، وبالتالي نقض الملك الثابت بعقد صحيح، فهذا مخالف للأصول. ورد هذا: بأن الحديث لو كان الحديث يتكلم عن العواري والمغصوب والسرقة لما كان لذكر الفلس فائدة، فإن هذه الأعيان هي ملك لصاحبها مطلقًا، سواء أفلس من هي في يده أو لم يفلس، ولأن صيغة (أحق به) صيغة تفضيل، فهي تقتضي الاشتراك، إلا أن المقرض والبائع أحق من غيره من الشركاء، وفي المغصوب والمسروق والعواري لا يستحسن أن يقال: أحق؛ لأنه لا يوجد شركاء. وقد قال ابن خزيمة: "المال قد يضاف إلى المالك الذي قد ملكه في بعض الأوقات بعد زوال ملكه عنه كقوله تعالى: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ} [يوسف: 62] فأضاف البضاعة إليهم بعد اشترائهم بها طعامًا" (¬1). وقد تكلمت عن هذه المسألة بتوسع في عقد البيع، في المجلد السابع، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، ولله الحمد. الثالث: ينتهي القرض بالمقاصة، أي بتطارح الدينين، كما لو نشأ للمقترض دين في ذمة المقرض ووجدت شروط إجراء المقاصة مثل اتحاد الجنس بين الدينين ونحوها. الرابع: ينتهي عقد القرض بإبراء المقرض المقترض من الدين الذي له عليه. الخامس: ينتهي عقد القرض بالحوالة، فإذا أحال المقترض المقرض على ¬
شخص ثالث مدين للمقترض، وكان المحال عليه مليئًا فقد برئ المقترض من الدين الذي عليه. السادس: ينتهي القرض بالاعتياض عنه، كأن يقوم المقرض ببيع بدل القرض، والاعتياض عنه، سواء باعه على من هو عليه، أو باعه على شخص ثالث، وقد فصلت هاتين المسألتين عند الكلام على التصرف في بدل القرض. بهذا أكون قد انتهيت من المسائل المختارة في عقد القرض، ولله الحمد من قبل ومن بعد.
عقد الهبة
عقد الهبة
التمهيد
التمهيد المبحث الأول: تعريف الهبة تعريف الحنفية: عرفها الحنفية، بقولهم: الهبة "تمليك العين في الحال من غير عوض" (¬1). فقولهم: (تمليك) إشارة إلى أن عقد الهبة من عقود التمليك. وقولهم: (العين) مطلق العين يدخل فيها الأعيان المالية وغيرها؛ إلا أن العيني فرق بين الهبة بمعناها اللغوي، والهبة بمعناها الاصطلاحي، فقال: "ومعناها في اللغة: إيصال الشيء للغير بما ينفعه، سواء كان مالاً أو غير مال: يقال: وهبت له مالاً، ووهب الله فلانًا ولدًا صالحاً ... وفي الشرع: الهبة تمليك المال بلا عوض" (¬2). وجاء في مجمع الأنهر: "والمراد بالعين: عين المال، لا العين المطلق بقرينة التمليك المضاف إليه؛ لأن العين الذي ليس بمال لا يفيد الملك ... ولأن العين قد لا يكون مالًا" (¬3). وينبغي أن تصح الهبة لكل ما يصح تملكه، سواء كان مالاً أو غير مال؛ لأن ذلك ليس من عقود المعاوضات حتى تشترط له المالية، ولذلك صحت الوصية ¬
بما ليس مالاً، كالوصية بالكلب عند من يعتبر الكلب ليس مالاً، والوصية من عقود الهبات إلا أنها تقع بعد الموت. وقوله: (تمليك العين) أخرج هبة المنافع لسببين: الأول: أن المنافع لا تسمى مالاً عند الحنفية. الثاني: أن هبة المنافع لها اصطلاح خاص عند الفقهاء، وهو ما يسمى بالعارية. قال في البناية: "العارية تمليك المنفعة فقط، وفي الهبة تمليك العين مع المنفعة" (¬1). وخرج بقيد (التمليك) الإبراء من الدين، ولو كان بلفظ الهبة؛ لأن الإبراء يعتبر إسقاطًا، وليس بتمليك في أحد القولين، وبه قال بعض الحنفية، وهو قول في مذهب الشافعية (¬2). وقال بعض الحنفية: الهبة نوعان: تمليك وإسقاط (¬3)، وهذا أقوى، والله أعلم. إلا أن الهبة إن كانت إسقاطًا لم تفتقر إلى قبول، وإن كانت نقلاً توقفت عليه، وسيأتي إن شاء الله تعالى بحث موضع القبول من العقد. وقولهم: (في الحال) أخرج الوصية، وقد رأى بعض الحنفية بأن هذا القيد لا حاجة له؛ لأن عقد الهبة بطبيعته حال كبعت، لا يقال: مبادلة مال بمال في الحال. ¬
جاء في مجمع الأنهر: "المراد بالتمليك: هو التمليك في الحال لأن قوله: وهبت لإنشاء الهبة حالا كبعت فلا حاجة إلى قول من قال: هي تمليك مال للحال للاحتراز عن الوصية" (¬1). وأرى أن هذا القيد لا يخرج الوصية فقط، بل يخرج معها الهبة المعلقة، ويخرج الهبة المضافة إلى المستقبل، كما لو قال: وهبتك في أول الشهر، ونحو ذلك، ولو قال: الهبة تمليك في الحياة أخرج الوصية، وأدخل الهبة المعلقة والمضافة؛ فإن الصحيح جواز تعليق الهبة وإضافتها إلى المستقبل، وسوف يأتينا إن شاء الله تعالى خلاف العلماء فيهما، أسأل الله وحده العون والتوفيق. وقولهم: (من غير عوض) أخرج عقود المعاوضات، كالبيع والإجارة، وأخرج الهبة بشرط العوض، فإنها بيع، يثبت لها أحكام البيع؛ لأن العبرة في العقود بالمعاني، لا بالألفاظ والمباني (¬2). فعلى هذا عقد الهبة يعتبر من عقود التمليك، والتمليك: هو جعل الرجل مالكًا وهو على أربعة أنحاء: الأول: تملك العين بالعوض، وهو البيع. الثاني: تمليك العين بلا عوض وهي الهبة. الثالث: تمليك المنفعة بالعوض، وهي الإجارة. الرابع: تمليك المنفعة بلا عوض، وهي العارية. ¬
نعريف المالكية
نعريف المالكية: عرفها بعض المالكية بقولهم: "الهبة تمليك بلا عوض" (¬1). قوله: (تمليك) يشمل العين والمنفعة؛ لأنه لم يقيده بشيء، والمطلق على إطلاقه، ويتصور هبة المنافع غالبًا في عقد العارية، فقد عرف الفقهاء العارية بأنها هبة المنفعة مع بقاء ملك الرقبة إلا أن هبة المنافع لما أخذت مصطلحًا خاصًا كان ينبغي إخراجها من مطلق الهبة. وظاهر قوله: (تمليك) يشمل تمليك كل ما يصح تملكه ولو لم يكن مالاً، لكن قال في مواهب الجليل في تعريف الهبة نقلاً عن ابن عرفة: الهبة أحد أنواع العطية، وهي أي العطية تمليك متمول بغير عوض (¬2). ولا يتمول إلا ما كان مالاً. وقوله: (بلا عوض) أخرج هدية الثواب والمعاوضات. ويدخل في التعريف الوصية، فإنها تمليك بلا عوض، فكان الواجب أن يقيد ذلك في حال الحياة. تعريف الشافعية: عرف بعض الشافعية الهبة: بأنها التمليك لعين بلا عوض في حال الحياة تطوعًا. ¬
تعريف الحنابلة
فخرج بقوله: (التمليك لعين) أخرجه أشياء منها: العارية؛ لأن المعار يملك الانتفاع، ولا يملك المنفعة فضلاً أن يملك الرقبة. وخرج الوقف أيضًا فإنه وإن كان فيه تمليك بلا عوض إلا أن التمليك للثمرة دون الأصل، فالقصد من التمليك في الهبة أنه متوجه للأعيان، والمنافع. وخرج كذلك الدين، والمنفعة فإنها ليست أعيانًا. وخرج (بنفي العوض) ما فيه عوض، كالبيع ولو بلفظ الهبة. وخرج بقيد الحياة: الوصية؛ لأن التمليك فيها إنما يتم بالقبول، وهو بعد الموت. وخرج بقوله: (تطوعًا) الواجب من زكاة وكفارة ونحوهما فإن التمليك فيها ليس من قبيل الهبات (¬1). تعريف الحنابلة: فيه أكثر من تعريف للحنابلة، منها المختصر، ومنها غير ذلك، وأختار مثالين لتعريف الهبة عندهم: تعريف ابن قدامة، عرفها بقوله: "تمليك في الحياة بغير عوض" (¬2). وفي غاية المنتهى، قال: "الهبة تمليك جائز التصرف مالاً معلومًا، أو مجهولاً تعذر علمه، موجولاً، مقدورًا على تسليمه، غير واجب في الحياة بلا عوض" (¬3). ¬
هذا التعريف فيه أوصاف لا حاجة إليها في التعريفات فقوله: (جائز التصرف) يغني عنه قول ابن قدامة: (تمليك) فإن هذا إشارة اشتراط أن يكون ذلك ممن يصح تبرعه، وهو جائز التصرف. وقوله: (مالاً معلومًا أو مجهولًا تعذر علمه) قيد المال يدل على أنه لا يصح هبة ما ليس بمال، وفيه نظر. وقوله: (تعذر علمه) مثل له الشارح بالدقيق يختلط بدقيق لآخر، فوهب أحدهما للآخر ملكه. وقوله: (موجودًا) هذا القيد أخرج هبة المعدوم، فإنها لا تصح عندهم، وفيها خلاف سيأتي تحريره إن شاء الله تعالى. وقوله: (مقدورًا على تسليمه) فلا تصح هبة المال الضال، وهذا فيه نزاع أيضًا؛ لأن الهبة من عقود التبرع، والغرر في مثله لا يجعل الموهوب له إما غانمًا أو غارمًا، بل هو إما غانم أو سالم، وهذا لا حرج فيه، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحرير الخلاف فيها أثناء البحث. وأرى أن التعريف السليم أن يقال: الهبة تمليك الأعيان في الحياة بلا عوض. وقولنا: (الأعيان) أخرج العارية، ودخل في هذا القيد كل ما يصح تملكه مالاً كان أو غير مال مما فيه منفعة مباحة، كالسرجين النجس، والتبرع بالدم، وضراب الفحل، ونحو ذلك، وقولنا (في الحياة) أخرج الوصية، والتعبير بها أفضل من قولنا حالًا؛ ليشمل الهبة المعلقة والمضافة؛ فإنها هبة صحيحة. وقولنا: (بلا عوض) أخرج هبة الثواب، فإنها وإن كانت بلفظ الهبة إلا أنها تأخذ حكم البيع، والله أعلم.
المبحث الثاني التفريق بين الهبة وبين الوصية والصدقة
المبحث الثاني التفريق بين الهبة وبين الوصية والصدقة التفريق بين الهبة والصدقة: [م - 1820] الهبة والصدقة يتفقان على أنهما تبرع بالمال بلا عوض، ويفترقان في أمور منها: الأول: أن الصدقة الباعث عليها طلب الأجر في الآخرة. وأما الهبة فيقصد منها نفع الموهوب والإحسان إليه، وإذا أضيف إلى هذا القصد الإكرام والتودد والتأليف صارت الهبة هدية، والتودد وإن كان يثاب عليه المسلم إلا أن ذلك الثواب لم يقصد في الهبة قصدًا أوليًا. الثاني: الصدقة تطلق على صدقة زكاة المال، وهي فريضة من الله، وفي مال مخصوص لأناس مخصوصين. قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]. وتطلق على صدقة الفطر، وهي فريضة أيضًا، وهما واجبة في مال خاص، ولأناس مخصوصين. وتطلق على الصدقة المستحبة التي يتقرب بها العبد إلى ربه وقال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8، 9].
وأما الهبة فهي مستحبة بالإجماع، وتصح في كل الأموال، وليس لها محل خاص. الثالث: الصدقة لا تحل لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك لا تصح لآل محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؛ ما كان الخمس يصل إليهم؛ لأنها أوساخ الناس، والهبة والهدية تصح لهم. (ح -1096) فقد روى البخاري من طريق محمد بن زياد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتي بطعام سأل عنه: أهدية أم صدقة؟، فإن قيل صدقة، قال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل، وإن قيل هدية، ضرب بيده - صلى الله عليه وسلم -، فكل معهم (¬1). (ح -1097) وروى البخاري من طريق شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بلحم، فقيل: تصدق على بريرة، قال: هو لها صدقة ولنا هدية (¬2). الرابع: الصدقة لا يصح الرجوع فيها بالاتفاق إذا خرجت من مال صاحبها؛ لأن ما أخرجه الإنسان لله فهو لازم، وأما الهبة فإن القصد منها التمليك بغرض نفع الموهوب، لهذا وقع فيها خلاف في حق رجوع الواهب قبل القبض وبعده، وسوف نحرر هذا الخلاف إن شاء الله تعالى في مبحث مستقل. الخامس: الأصل في المتصدق عليه المسكنة والحاجة بخلاف الهبة فإنها تكون للأغنياء والفقراء. ¬
السادس: الصدقة لا يراد منها المكافأة من المتصدق عليه فهي خالية من الأعواض والأغراض. والهبة قد يقصد بها نفع الموهوب، وقد يقصد منها الحصول على الثواب والمكافأة، وهي نوع من الهبة يسميها الفقهاء هبة الثواب، وسيأتي الكلام على أحكامها إن شاء الله تعالى أثناء البحث. وقد سئل ابن تيمية - رحمه الله - عن الصدقة والهدية أيهما أفضل؟ فأجاب: "الصدقة ما يعطى لوجه الله عبادة محضة من غير قصد في شخص معين، ولا طلب غرض من جهته، لكن يوضع في مواضع الصدقة، كأهل الحاجات، وأما الهدية فيقصد بها إكرام شخص معين، إما لمحبة، وإما لصداقة، وإما لطلب حاجة؛ ولهذا كان النبي يقبل الهدية ويثيب عليها، فلا يكون لأحد عليه منة، ولا يأكل أوساخ الناس التي يتطهرون بها من ذنوبهم، وهي الصدقات. ولم يكن يأكل الصدقة لذلك وغيره، وإذا تبين ذلك فالصدقة أفضل، إلا أن يكون في الهدية معنى تكون به أفضل من الصدقة، مثل الإهداء لرسول الله محبة له، ومثل الإهداء لقريب يصل به رحمه، وأخ له في الله، فهذا قد يكون أفضل من الصدقة" (¬1). (ح -1098) ويشهد لهذا ما رواه البخاري من طريق بكير، عن كريب مولى ابن عباس، أن ميمونة بنت الحارث - رضي الله عنها - أخبرته، أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه، قالت: أشعرت يا رسول الله ¬
الفرق بين الهبة والوصية
أني أعتقت وليدتي، قال: أوفعلت؟، قالت: نعم، قال: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك (¬1). جاء في فتح الباري نقلاً عن ابن بطال أنه قال: "فيه -يعني في الحديث- أن هبة ذي الرحم أفضل من العتق" (¬2). الفرق بين الهبة والوصية: [م - 1821] الهبة والوصية يجتمعان بأنهما تبرع بالمال بلا عوض، ويفترقان في أمور منها: الأول: أن الهبة تبرع في الحياة، والوصية لا تكون إلا بعد الموت. ولهذا كانت الهبة أفضل من الوصية؛ لأن الواهب يعطي، وهو صحيح، شحيح، يخشى الفقر ويأمل الغنى بخلاف الوصية. (ح -1099) روى الشيخان من طريق عمارة بن القعقاع، حدثنا أبو زرعة، حدثنا أبو هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا، قال: أن تصدق، وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان (¬3). الثاني: أن الأصل في الهبة أن تكون مستحبة، وأما الوصية فقد تكون مستحبة، وقد تكون واجبة كما لو أوصى بواجب عليه، وتعينت الوصية طريقًا ¬
لمعرفته ودفعه، كالوصية بقضاء الديون المجهولة التي لا يعلمها إلا الموصي، وقد تكون غير ذلك كما سبق بيان ذلك في الكلام على أحكام الوصية. الثالث: أن الوصية تكون في الأعيان والمنافع والديون، وأما الهبة فلا تكون إلا في الأعيان، وأما هبة المنافع فيطلق الفقهاء عليها اسم العارية. الرابع: أن الهبة لا تلزم بالقبول حتى تقبض، فإذا قبضت فلا يملك الواهب على الصحيح الرجوع عنها، واختار المالكية لزومها بمجرد القبول، وأما الوصية فتلزم بالقبول بعد الموت، ولو لم تقبض على الصحيح. (5) - الهبة تكون للوارث وغيره، ولا حد لمقدارها، وأما الوصية فتكون بالثلث فأقل ولغير وارث. السادس: أن الهبة لا تصح من المحجور عليه بخلاف الوصية، والفرق أن الهبة فيها إضرار بالغرماء والوصية ليس فيها إضرار؛ لأنها لن تنفذ إلا بعد قضاء الدين. السابع: أن الوصية تصح، ولو كان الموصى به غير مقدور على تسليمه وقت عقد الوصية، وأما الهبة فالفقهاء مختلفون في اشتراط القدرة على التسليم للموهوب. فقيل: لا يشترط في الهبة القدرة على التسليم، وهو مذهب المالكية؛ لأن الهبة ليست من عقود المعاوضات، فالمعطي إما أن يغنم، وإما أن يسلم، فليس فيها قمار، إما أن يغنم وإما أن يغرم. ولأن الوصية لا يشترط تملكها في الحال، فربما قدر عليها قبل الموت بخلاف الهبة.
وقيل: يشترط في الهبة القدرة على التسليم، وسيأتي تحرير الخلاف فيها إن شاء الله تعالى في بحثنا هذا. الثامن: الهبة لا تصح للحمل بخلاف الوصية؛ لأن الهبة تمليك منجز في الحال، والحمل ليس أهلاً للتملك، وفيها بحث سيأتي تحريره إن شاء الله تعالى. التاسع: يصح أن يوصى لعبده المدبر: وهو الذي علق عتقه بموت سيده؛ لأن الوصية تصادف العبد وقد عتق، ولا تصح له الهبة بناء على القول بأن العبد لا يملك بالتملك، وهي مسألة خلافية .. العاشر: أن الهبة عقد من عقود التمليك، والوصية تكون بالتمليك وبالتفويض بالتصرف، ولذلك يصح أن يوصي لشخص بأن يكون ناظرًا على وقفه، وأن يقوم بقضاء حقوقه (¬1). ¬
الباب الأول في حكم الهبة وبيان أركانها
الباب الأول في حكم الهبة وبيان أركانها الفصل الأول في حكم الهبة [م - 1822] دل الكتاب والسنة والإجماع على استحباب الهبة وما في معناها كالهدية، وهذا هو الأصل في حكم الهبة، وذكر بعض المالكية أن الهبة قد يعرض لها ما يجعلها واجبة كالهبة للمضطر، أو يجعلها محرمة كالهبة لمن يستعين بها على محرم، أو يجعلها مكروهة كالهبة لمن يستعين بها على مكروه (¬1). وإليك الأدلة على جواز الهبة واستحبابها: الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]. قال الطبري في معنى الآية: "إن وهب لكم، أيها الرجال، نساؤكم شيئًا من صدقاتهن، طيبة بذلك أنفسهن، فكلوه هنيئًا مريئًا" (¬2). ¬
الدليل الثاني
وقال القرطبي: "يدل بعمومه على أن هبة المرأة صداقها لزوجها بكرًا كانت أو ثيبًا جائزة، وبه قال جمهور الفقهاء" (¬1). الدليل الثاني: (ح - 1100) ما رواه البخاري من طريق المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة (¬2). جاء في شرح ابن بطال: "قال المهلب: فيه الحضر على التهادى، والمتاحفة، ولو باليسير؛ لما فيه من استجلاب المودة، وإذهاب الشحناء، واصطفاء الجيرة، ولما فيه من التعاون على أمر العيشة المقيمة للإرماق، وأيضاً فإن الهدية إذا كانت يسيرة فهي أدل على المودة، وأسقط للمئونة، وأسهل على المهدي لاطراح التكليف" (¬3). وذهب بعضهم إلى أن الحديث في الصدقة، وهو تأويل مالك لإدخاله هذا الحديث في باب الترغيب في الصدقة (¬4). قال ابن عبد البر: "في هذا الحديث الحض على الصدقة بكل ما أمكن من قليل الأشياء وكثيرها، وفي قول الله - عز وجل - {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] أوضح الدلائل في هذا الباب" (¬5). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثاني: (ح - 1101) ومنها ما رواه البخاري من طريق أبي حازم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إلى ذراع أو كراع لقبلت (¬1). الدليل الثالث: (ح 1102) ما رواه البخاري من طريق عن هشام، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنهما -، قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويثيب عليها (¬2). الدليل الرابع: (ح -1103) ومنها ما رواه عمرو بن خالد قال: حدثنا ضمام بن إسماعيل قال: سمعت موسى بن وردان، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: تهادوا تحابوا (¬3). [حسن بطرقه] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: من الإجماع، نقله جمع من أهل العلم: قال الزيلعي: "وهي -يعني الهبة- مشروعة مندوب إليها بالإجماع" (¬1). وقال ابن الهمام: الهبة عقد مشروع ... وعلى ذلك انعقد الإجماع" (¬2). ونقل الإجماع على استحبابها ابن رشد من المالكية (¬3)، والماوردي ¬
الدليل السادس
وابن حجر الهيتمي من الشافعية (¬1). وقال إمام الحرمين: "وأصل الهبة مجمع عليه" (¬2). وقال العمراني في البيان: أجمع المسلمون على استحبابها" (¬3). الدليل السادس: لما كانت الهبة من صفات الكمال وصف الله بها نفسه، ولله المثل الأعلى: قال تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [ص: 9]. وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا} [ص: 43]. وقال تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]. وقال تعالى: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]. وقال تعالى: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]. فالله - سبحانه وتعالى - هو الوهاب، يهب للمؤمل فوق ما يؤمل، ويعطي السائل قبل أن يسأل، وأكثر مما يسأل، قال تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34]. وإذا اتصف أحد من البشر بصفة الواهب فقد شرف قدره، وارتفعت منزلته، واتصف بصفات الكرام، وأبعد عن الشح والبخل، واكتسب محبة الناس. قال ابن عبد البر: و"العلة فيها استجلاب المودة، وسل سخيمة الصدر، ¬
ووجده، وحقده، وغله؛ لتعود العداوة محبة، والبغضة مودة، وهذا مما تكاد الفطرة تشهد به؛ لأن النفوس جبلت عليه" (¬1). "ولقد أحسن القائل هدايا الناس بعضهم لبعض تولد في قلوبهم الوصالا وتزرع في الضمير هوى وودا وتكسوهم إذا حضروا جمالا وقال غيره: إن الهدايا لها حفظ إذا وردت أحظى من الابن عند الوالد الحدب" (¬2). وفي الصحيحين: اليد العليا خير من اليد السفلى، والعليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة (¬3). وكان من صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. (ح -1104) وروى مسلم في صحيحه من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - غنمًا بين جيلين، فأعطاه إباه، فأتى قومه فقال: أي قوم أسلموا، فوالله إن محمدًا ليعطي عطاء ما يخاف الفقر فقال أنس: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإِسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها (¬4). ¬
الفصل الثاني في أركان الهبة
الفصل الثاني في أركان الهبة [م - 1823] اتفق العلماء على أن الإيجاب ركن من أركان الهبة، واختلفوا في غيرة: القول الأول: إن الهبة لها ركن واحد، وهو الإيجاب، فتنعقد به وحده، ولكن لا يملكه الموهوب له إلا بالقبول والقبض، فالقبول والقبض لترتب الآثار كانتقال الملك، لا لقيام العقد. وهذا عليه كثير من الحنفية (¬1). قال الكاساني: "أما ركن الهبة فهو الإيجاب من الواهب، فأما القبول من المؤهوب له فليس بركن استحسانًا. وجه الاستحسان: أن الهبة في اللغة عبارة عن مجرد إيجاب المالك من غير شريطة القبول، وإنما القبول والقبض لثبوت حكمها، لا لوجودها في نفسها، فإذا أوجب فقد أتى بالهبة فترتب عليها الأحكام" (¬2). وقال ابن الهمام: "أكثر الشراح ها هنا على أن الهبة تتم بالإيجاب وحده" (¬3). ¬
دليل من قال: ركن الهبة الإيجاب وحده: الدليل الأول: (ث -262) ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقًا من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلى غنى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقًا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث ... " (¬1). [إسناده صحيح]. فانعقدت الهبة بقوله: (كنت قد نحلتك)، إلا أن تمام الملك كان متوقفًا على قبضه، ولم يذكر القبول. الدليل الثاني: (ح -1106) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن عباس، عن الصعب بن جئامة الليثي، أنه أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمارًا وحشيًا، وهو بالأبواء، أو بودان، فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم (¬2). وجه الاستدلال: فأطلق الراوي اسم الإهداء، وهي نوع من أنواع الهبة مع أن القبول لم يحصل. ¬
الدليل الثالث: أن من حلف أن يهب لفلان، فوهب، ولم يقبل فقد بر في يمينه، وهذا بخلاف البيع. الدليل الرابع: أن الهبة نوعان إسقاط وتمليك، وإذا كان الإسقاط كالعتق لا يفتقر إلى بول، فكذلك التمليك. الدليل الخامس: أن التبرع ليس عقدًا يفتقر إلى الإيجاب والقبول، بل هو من جنس التصرف، كالإبراء، فيتم بالإرادة المنفردة، ويكون ركنه الإيجاب فقط كالعتق. الدليل السادس: أن التصرفات قسمان: قسم يقوم على الإلزام والالتزام، فالقبول هنا يكون ركنًا في وجود العقد؛ لأن العقد ينشئ التزامات متبادلة، كالبائع والمشتري، وبدون القبول لا يمكن أن يطالب المشتري بأي شيء. وأما التصرفات التي تقوم على التبرع، ومنها الهبة فلا يتصور فيها الإلزام، والقابل فيها لا يترتب عليه أي التزام، لهذا نقول: تنشأ بإرادة منفردة من المالك، والقبول من الطرف الآخر إنما لإتمام الملك، وليس ركنًا للانعقاد. القول الثاني: أركان الهبة: الإيجاب والقبول (الصيغة)، وهذا قول زفر وبعض الحنفية (¬1). ¬
جاء في مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر: "وركنها الإيجاب والقبول" (¬1). وجه القول بأن القبول ركن: الوجه الأول: أن الهبة عقد تمليك فافتقر إلى الإيجاب والقبول كسائر العقود. ويناقش: بأن الهبة ليست عقدًا، وإنما هي تصرف منفرد، يصدر من المالك، كالإبراء، والإسقاط، والعتق، والوقف. الوجه الثاني: أن تمليك الغير إما أن يكون بسبب شرعي كالإرث، فهذا لا يفتقر إلى قبول، ويدخل الملك جبرًا، وإما أن يكون بفعل الآدمي، كالهبة، والوصية فهذا لا ينعقد بدون قبول الشخص، حتى لا يدخل الشيء في ملك الشخص جبرًا عليه. ويناقش: هناك فرق بين كون الملك في الهبة لا يتم إلا بالقبول، وبين كون القبول ركنًا للانعقاد، فكما أن تمام الملك في الهبة لا يحصل إلا بالقبض، والقبض ليس ركنًا فيه، فكذلك ثبوت الملك في الهبة يفتقر إلى القبول، وإن كان القبول ليس ركنًا فيه. القول الثالث: أركان الهبة أربعة: الصيغة (الإيجاب والقبول)، والواهب، والموهوب له، ¬
والموهوب. وهذا قول الجمهور (¬1). واستدل الجمهور على هذا: أما الإيجاب فهو ركن بالاتفاق كما قلنا. وأما القبول فسبق في القول السابق الاستدلال على أن القبول ركن في الهبة. وأما الواهب والموهوب له، ومحل الهبة: فاعتبر الجمهور هذه من الأركان؛ لأن الركن عندهم: هو ما توقف عليه وجود الشيء وتصوره عقلاً، سواء أكان جزءًا من حقيقته أم لم يكن، ووجود الهبة يتوقف على الواهب والموهوب له، والشيء الموهوب، وإن لم يكن هؤلاء جزءًا من حقيقته. وأما الحنفية فيرون أن الركن: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءًا داخلاً في حقيقته، وهذا خاص في الصيغة: الإيجاب وحده، أو الإيجاب والقبول، أما الواهب والموهوب له، ومحل الهبة فهي من لوازم الهبة، وليست جزءًا من حقيقة الهبة، وإن كان يتوقف وجودها عليها. ومذهب الحنفية أجود، وأدق، والجمهور لا يطَّردون في تحديد الأركان، فاللوازم تارة يعتبرونها من الأركان، وتارة لا يدخلونها، فهم يجعلون الفاعل ركنًا في مثل عقد البيع والنكاح، ولا يجعلونه ركنًا في العبادات كالصلاة والحج، وإن كان لا يتصور قيام الحج والصلاة بدون فاعل. ¬
قال في المصباح المنير: "والفرق عسر ... " (¬1). القول الرابع: اعتبر بعض الفقهاء أن القبض ركن أيضًا، وهو قول بعض الحنفية، وبعض الحنابلة (¬2). جاء في الإنصاف: "صرح ابن عقيل: أن القبض ركن من أركان الهبة كالإيجاب في غيرها، وكلام الخرقي يدل عليه أيضًا" (¬3). وجه القول بأن القبض ركن: أن الهبة تصرف لا يظهر أثره إلا بالقبض، لهذا كان القبض ركنًا في الهبة. ويناقش: إذا كان القبض في عقود المعاوضات الربوية لا يعتبر ركنًا في العقد، وإن كان القبض شرطًا في لزومها واستمرارها على الصحة، فالهبة من باب أولى ألا يكون القبض ركنًا فيها، وإن توقف ثبوت الملك على القبض. الراجح: أن الهبة تتم بإرادة منفردة، وهو الإيجاب وحده؛ لأنه لا يقابلها عوض، إلا أن الملك فيها لا يتم إلا بالقبول، فإذا حصل القبول فإن كل النماء الحاصل بعد الإيجاب يكون من حق الموهوب له، والله أعلم. ¬
المبحث الأول في اشتراط الفورية بالقبول
المبحث الأول في اشتراط الفورية بالقبول [م - 1824] التبرعات نوعان: تبرع معلق بالموت كالوصية، وهذا القبول يتراخى بطبيعة العقد إلى ما بعد الموت، ولا، عبرة بالقبول في حياة الموصي. وتبرع منجز في الحياة كالهبة، وركنه الإيجاب بالاتفاق، وأما القبول فقد اختلف في ركنيته كما سبق، والسؤال: هل يشترط أن يكون القبول فوريًا في التبرع المنجز، أو يجوز أن يتراخى القبول، وإذا جاز أن يكون متراخيًا، فهل يجوز أن يتراخى عن مجلس العقد؟ وللجواب على ذلك نقول: إن كان الموهوب له غائبًا، ولم يبلغه الخبر، صح القبول، ولو متراخيًا، ولو طال الزمن. وإن كان حاضرًا في المجلس، فقد اختلف العلماء في اشتراط الفورية في القبول على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا تشترط الفورية في القبول، وهذا مذهب المالكية، وبه قال أبو العباس من الشافعية (¬1). ¬
دليل من قال: يصح القبول على التراخي
بل صحح المالكية الهبة لمن لم يكن على الوجود وقت الهبة، فإذا وجد، وكان الواهب حيًا لم يفلس، والهبة ما زالت بيده لم تفت، صحت له الهبة، ولا يضر وجود الفاصل الطويل بين الإيجاب والقبول. جاء في فتح العلي المالك: "ومن التزم لمن سيوجد بشيء صح الالتزام إذا وجد الملتزم له، والملتزم حي لم يفلس، وكان الشيء الملتزم به بيده لم يفوته، كما لو قال شخص إن ظهر لفلان ولد فهذه الدار له، أو هذا العبد أو هذا الثوب ونحو ذلك فإن أراد الملتزم تفويته ببيع أو غيره قبل وجود الملتزم له فالظاهر من قول مالك أن ذلك له" (¬1). دليل من قال: يصح القبول على التراخي: الدليل الأول: لا يوجد دليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قول صاحب يدل على اشتراط الفورية في القبول، والأصل عدم الوجوب. الدليل الثاني: أن الواهب قد يرسل بالهبة إلى الموهوب له، فلا يكون القبول متصلًا بالإيجاب. قال القرافي: "ظاهر مذهبنا يجوز على التراخي؛ لما يأتي بعد ذلك من إرسال الهبة للموهوب قبل القبول" (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن الموهوب له قد يحتاج إلى التروي في القبول، فإذا ألزمناه القبول على الفور أو الرد فقد يكون عليه ضرر؛ فقد يلحقه منة أو أذى، وقد يتحدث الواهب عند الناس بأنه أهدى إلى فلان كذا وكذا، وقد يكون في مال الواهب شبهة، ولأن بعض الناس لا يرضى أن يأخذ من أحد هبة إلا ويجازيه عليها، فلا يريد الموهوب أن يتحمل مكافأة قد تكلفه أكثر مما أخذ. القول الثاني: تشترط الفورية كالبيع؛ وهذا مذهب الشافعية (¬1). قال الشيرازي: "ولا يصح القبول إلى على الفور. وقال أبو العباس: يصح على التراخي، والصحيح هو الأول؛ لأنه تمليك مال في حال الحياة، فكان القبول فيه على الفور كالبيع" (¬2). حجة الشافعية في وجوب اتصال القبول بالإيجاب: الحجة الأولى: القياس على البيع، فإذا كان عقد البيع يجب فيه اتصال الإيجاب بالقبول فكذلك الهبة. ويجاب: بأن وجوب اتصال الإيجاب بالقبول في عقد البيع هو موضع خلاف بين ¬
الحجة الثانية
الشافعية وبين غيرهم من العلماء، وإذا كان الأصل المقيس عليه مختلفًا فيه لم يكن حجة في المقيس، والله أعلم. الحجة الثانية: أن القياس يقتضي وجوب الموالاة بين الإيجاب والقبول، كما يجب الموالاة في رد السلام، كما لو قال كلامًا، وأراد أن يلحق به استثناء، أو شرطًا، أو عطفًا، وجب ألا يكون بينهما فاصل أجنبي، أو فاصل طويل، وكما تجب الموالاة بين الرضعات الخمس، وتجب الموالاة في قراءة الفاتحة، فإن السكوت الطويل يقطع موالاتها. ويرد عليهم: بأن أكثر هذه الأمور تصدر من شخص واحد كالاستثناء، والقراءة، وقد يحتمل من شخصين ما لا يحتمل من واحد، وقد يشدد في باب العبادات ما لا يشدد في غيره، بل إن الحكم يختلف باختلاف الأبواب كما ذكر السبكي، وعقود المعاوضات أضيق من عقود التبرعات، ورب باب يطلب فيه من الاتصال ما لا يطلب في غيره، وقد يغتفر من السكوت ما لا يغتفر من الكلام، ومن الكلام المتعلق بالعقد ما لا يغتفر من الأجنبي، ومن الفاصل بعذر، ما لا يغتفر من غيره، فصارت مراتب (¬1). القول الثالث: يصح تراخي القبول بشرطين: أن يكون ذلك في المجلس. ¬
حجة هذا القول
والثاني: ألا يتشاغلا عنه بما يفيد الإعراض عنه كالبيع. وهذا مذهب الحنابلة (¬1). جاء في الإنصاف: "لو تراخى القبول عن الإيجاب: صح، ما داما في المجلس، ولم يتشاكلا بما يقطعه" (¬2). حجة هذا القول: الحجة الأولى: قياس الهبة على عقد البيع عندهم، وإذا كان الإيجاب في الهبة: هو خطاب الواهب للموهوب له، فإن القبول: هو جواب الموهوب له على ما عرضه عليه، وتفرق المجلس فاصل بين الخطابين، فلا يقع الكلام متصلاً، ففي تفرقهما انقطع الخطاب بينهما، فلا يمكن أن يبنى الكلام اللاحق للكلام السابق وإذا انقطع الخطاب فلا بد من إيجاب جديد. قال ابن مفلح: "وإن تراخى القبول عن الإيجاب صح ما دام في المجلس ... لأن حالة المجلس كجالة العقد، بدليل أنه يكتفى بالقبض فيه لما يشترط قبضه" (¬3). الحجة الثانية: قالوا: القول باعتبار المجلس قول وسط؛ لأننا إن قلنا: باشتراط الفورية في ¬
الراجح
القبول كان في ذلك تضييق على من وجه إليه الإيجاب، وعدم إعطائه فرصة للتدبر، وقد يفاجأ بالإيجاب من غير توقع. فإن رفض فورًا ضاعت فرصته بالتملك. وإن قبل فورًا ربما كان في قبول الهبة ضرر عليه، كما لو كان الموهوب يحتاج إلى مئونة، أو كان في مال الواهب شبهة، وقد يلحقه من الواهب منة أو أذى، فيحتاج لفترة تأمل. وإن قلنا: يسمح له أن يتأخر في صدور القبول حتى بعد التفرق، كان في ذلك إضرار بالموجب، وذلك بإبقائه مدة طويلة دون الرد على إيجابه، ومن هنا فالقول بمجلس العقد قول وسط. وعن هذا قال الفقهاء: إن المجلس يجمع المتفرقات. ففي إبطال الهبة قبل انقضاء المجلس عسر بالموهوب له، وفي إبقائه فيما رواء المجلس عسر بالواهب، وفي التوقف على المجلس يسر بهما جميعًا، والمجلس جامع للمتفرقات فجعلت ساعاته ساعة واحدة، دفعًا للعسر، وتحقيقًا لليسر. الراجح: أن عقد الهبة لا يصح قياسه على عقود المعاوضات التي تنشئ التزامات متبادلة، فالهبة تنعقد بالإيجاب وحده، والقبول والقبض شرط لترتب أثر الهبة، من انتقال الملك للموهوب له، والهبة لا تلزم بالقبول وإنما تلزم بالقبض بخلاف المعاوضات والتي يثبت الملك فيها بالقبول، وتلزم بالتفرق، فالواهب له الرجوع قبل قبض الموهوب له، سواء قبل الموهوب له أو لم يقبل، وسواء تفرقا أو لم يتفرقا، لهذا أرى أن قول المالكية أقوى الأقوال، والله أعلم.
المبحث الثاني انقسام ألفاظ الهبة إلى صريح وكناية
المبحث الثاني انقسام ألفاظ الهبة إلى صريح وكناية كل ما دل على تمليك العين بلا عوض فهو هبة إن كان في الحياة أو وصية إن كان بعد الموت. دليل الرضا كصريح الرضا. دليل القبول كصريح القبول. تنقسم ألفاظ الإيجاب والقبول إلى صريح وكناية (¬1). ويدور الصريح على معنيين لدى الفقهاء: المعنى الأول: الصريح بمعنى: الخالص، ومنه قوله في الحديث: (هذا صريح الإيمان) ¬
المعنى الثاني
أي خالصه (¬1). فيكون معنى اللفظ الصريح في الهبة: هو اللفظ الذي يستعمل في الهبة خاصة دون غيره، كقوله في الإيجاب: وهبتك، وأعطيتك، ونحلتك. وقوله في القبول: قبلت، واتهبت. وهذا يوافق مذهب الشافعية. المعنى الثاني: الصريح بمعنى البين الواضح، ومنه قوله: صرح فلان بالقول؛ إذا بينه وقصد الإخبار عنه. فيكون معنى اللفظ الصريح في الهبة: ما يفهم منه لفظ الهبة مما يستعمل فيه كثيراً، وإن استعمل في غيره، مثل جعلته لك، وخذه، وتسلمه، وهو لك (¬2)؛ لأن هذه الألفاظ تستعمل في الهبة كثيراً وفي غيره، إلا أنه اشتهر استعمالها في الهبة، فصارت بينة واضحة في بابها، كالغائط الذي وضع للمطمئن من الأرض، ثم استعمل على وجه المجاز في إتيان قضاء الحاجة، فكان فيه أبين وأشهر منه فيما وضع له، وكذلك في مسألتنا مثله (¬3). وهذا هو مذهب الجمهور في تعريف الصريح من الكناية. ¬
اللفظ الصريح يتم به إيجاب الهبة بدون توقف على نية الواهب، أو قرائن الحال. وغير الصريح: لا يعتبر إيجابا للهبة إلا بالنية أو قرائن الحال. وقد بسطت الكلام على ذلك في عقد البيع فارجع إليه إن شئت. إذا عرف ذلك نأتي إلى ألفاظ الهبة الصريح منها والكناية: جاء في الاختيار لتعليل المختار: "وتنعقد الهبة بقوله: وهبت؛ لأنه صريح فيه ونحلت؛ لكثرة استعمالها فيه، قال عليه الصلاة والسلام: أكل ولدك نحلته هكذا (¬1). (وأعطيت) صريح أيضًا (وأطعمتك هذا الطعام)؛ لأن الإطعام صريح في الهبة إذا أضيف إلى المطعوم؛ لأنه لا يطعمه إلا بالأكل ولا أكل إلا بالملك، ولو قال: أطعمتك هذه الأرض. فهو عارية؛ لأنها لا تطعم" (¬2). وفي الفتاوى الهندية: "لو قال: منحتك هذه الأرض، أو هذه الدار، أو هذه الجارية، فهي إعارة، إلا إذا توى الهبة. ولو قال: منحتك هذا الطعام، أو هذه الدراهم، أو هذه الدنانير، وكل ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه يكون هبة، فإن أضافها إلى ما يمكن الانتفاع به مع ¬
قيامه حملناها على العارية؛ لأنها الأدنى، وإن أضافها إلى ما لا يمكن الانتفاع به إلا بالاستهلاك حملناها على الهبة، كذا في محيط السرخسي" (¬1). وجاء في مغني المحتاج: "ومن صريح الإيجاب: وهبتك، ومنحتك، وملكتك بلا ثمن، ومن صريح القبول قبلت ورضيت" (¬2). واعتبر من الكناية قوله: لك هذا، وقوله: كسوتك هذا (¬3). لأن قوله كسوتك هذا الثوب يصلح للهبة ويصلح للعارية، فإن قال: لم أرد الهبة صدق. والقاعدة في جنس هذه المسائل هي أته إذا كانت الألفاظ التي قيلت من المملك تفيد تمليك الرقبة فالعقد هبة، وإذا كانت تفيد تمليك المنفعة فهي عارية، وإذا كانت تحتمل المعنيين نظر إلى قرائن الحال، كما ينظر إلى جنس الموهوب، فإن كان الموهوب مما بنتفع به بإتلاف عينه كالدراهم والطعام واللبن فهو هبة، وإن كان مما ينتفع به، وهو قائم العين فقد يكون عارية، والله أعلم (¬4). ¬
المبحث الثالث في انعقاد الهبة بالمعاطاة
المبحث الثالث في انعقاد الهبة بالمعاطاة ما عده الناس بيعًا أو هبة أو إجارة فهو كذلك. الإيجاب والقبول لا يطلقان إلا على الصيغة القولية فقط عند الجمهور، وأما الصيغة الفعلية فهم يسمونها اصطلاحا بـ (المعاطاة) ولا يطلقون عليها الإيجاب والقبول، وهذا اصطلاح عرفي، لا علاقة له باللغة (¬1). [م - 1825] وقد اختلف الفقهاء في انعقاد الهبة بالتعاطي. ¬
القول الأول
القول الأول: الهبة كغيرها من بيع وإجارة لا تفتقر إلى صيغة، بل تثبت بالمعاطاة، إذا دلت القرينة على إرادة الهبة بهذا الفعل، وهذا قول الجمهور، ورجحه النووي وجماعة من الشافعية، منهم المتولي والبغوي وابن الصباغ. وسواء كانت المعاطاة من الطرفين، أو كانت الهبة بالقول من أحدهما، والمعاطاة من الآخر، وكل من قال بجواز المعاطاة في عقد البيع فإنه يجريه في الهبة (¬1). جاء في أسنى المطالب: "وخلاف المعاطاة في البيع يجري في الإجارة، والرهن، والهبة، ونحوها. قال في الذخائر: وصورة المعاطاة: أن يتفقا على ثمن ومثمن ويعطيا من غير إيجاب ولا قبول، وقد يوجد لفظ من أحدهما" (¬2). ولم يعتبر الحنفية المعاطاة من أحدهما من قبيل المعاطاة ما لم تكن من الجانبين؛ لأن المعاطاة مفاعلة كالمخاصمة، والمضاربة لا تكون من طرف واحد. وقد بسطت ذلك في عقد البيع، فارجع إليه غير مأمور. جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "كما تنعقد الهبة بالإيجاب والقبول تنعقد أيضًا بالتعاطي أي بإعطاء الواهب وقبض الموهوب له" (¬3). ¬
القول الثاني
وقال العمراني: "قال ابن الصباغ: لا تفتقر الهبة، والهدية، وصدقة التطوع إلى الإيجاب والقبول، بل إذا وجد منه ما يدل على التمليك صح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يهدى إليه، فيقبضه، ويتصرف فيه، ولم ينقل في شيء من ذلك أن الرسول أوجب له، ولا أنه قبل. وكذلك: أهدى إلى النجاشي، وكان في أرض الحبشة، وما نقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالإيجاب والقبول، وكذلك الناس يدفعون صدقات التطوع، فيقبضها المدفوع إليهم، ويتصرفون فيها من غير إيجاب وقبول، ولم ينكر هذا منكر، فدل على أنه إجماع" (¬1). ويقصد بالإجماع هنا الإجماع العملي. وجاء في الإنصاف: "وتحصل الهبة بما يتعارفه الناس هبة، من الإيجاب والقبول والمعاطاة المقترنة يما يدل عليها. هذا المذهب ... حتى إن ابن عقيل، وغيره: صححوا الهبة بالمعاطاة، ولم يذكروا فيها الخلاف الذي في بيع المعاطاة ... قال في التلخيص: وهل يقوم الفعل مقام اللفظ؟ يخرج على الرواية في البيع بالمعاطاة، وأولى بالصحة" (¬2). القول الثاني: لا تصح الهبة ولا الهدية بالمعاطاة كالبيع بل يشترط اللفظ من القادر عليه، وهذا قول في مذهب الشافعية (¬3). ¬
القول الثالث
جاء في حاشية الشرواني: "وإيجاب وقبول لفظا من الناطق مع التواصل المعتاد كالبيع" (¬1). القول الثالث: أن هبة المحقرات تصح فيها المعاطاة دون غيرها، اختاره ابن سريج من الشافعية (¬2). القول الرابع: يشترط الإيجاب والقبول لفظًا في الهبة، ولا يشترطان في الهدية على الصحيح من مذهب الشافعية، بل يكفي البعث من هذا، والقبض من ذاك (¬3). قال النووي: "أما الهبة فلا بد فيها من الإيجاب، والقبول باللفظ، كالبيع وسائر التمليكات. وأما الهدية، ففيها وجهان: أحدهما: يشترط فيها الإيجاب والقبول كالبيع والوصية، وهذا ظاهر كلام الشيخ أبي حامد، والمتلقين عنه. والثاني: لا حاجة فيها إلى إيجاب وقبول باللفظ، بل يكفي القبض ويملك به، وهذا هو الصحيح الذي عليه قرار المذهب، ونقله الأثبات من متأخري الأصحاب، وبه قطع المتولي والبغوي، واعتمده الروياني وغيرهم، واحتجوا بأن الهدايا كانت تحمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقبلها، ولا لفظ هناك، وعلى ذلك ¬
جرى الناس في الأعصار، ولذلك كانوا يبعثون بها على أيدي الصبيان الذين لا عبارة لهم. فإن قيل: هذا كان إباحة لا هدية وتمليكًا. فجوابه: أنه لو كان إباحة لما تصرفوا فيه تصرف الملاك، ومعلوم أن ما قبله النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتصرف فيه ويملكه غيره، ويمكن أن يحمل كلام من اعتبر الإيجاب، والقبول على الأمر المشعر بالرضا دون اللفظ، ويقال: الإشعار بالرضا قد يكون لفظًا، وقد يكون فعلاً" (¬1). وقد تكلمت على أدلة هذه المسألة في عقد البيع، عند الكلام على البيع بالمعاطاة، وأدلة المسألتين واحدة، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، والراجح أن الهبة والهدية لا يشترط لها لفظ معين، فتصح بالقول كما تصح بالفعل الدال عليه. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يهدى إليه، فيقبضه، ويتصرف فيه، ولم ينقل أن من أهدى قدم إيجابًا لفظيًا، ولا من قبل قدم قبولاً لفظيًا. (ح -1107) وقد روى البخاري من طريق محمد بن زياد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتي بطعام سأل عنه: أهدية أم صدقة؟، فإن قيل صدقة، قال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل، وإن قيل هدية، ضرب بيده - صلى الله عليه وسلم - فأكل معهم (¬2). (ح -1108) وقد روى البخاري من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها -: ¬
"أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة، يبتغون بها أو يبتغون بذلك مرضاة - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولو كان الإيجاب والقبول شرطا لنقل ذلك نقلاً مشتهرًا فلما لم ينقل دل على أنه إجماع منهم. والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في انعقاد الهبة بالإشارة
المبحث الرابع في انعقاد الهبة بالإشارة الإشارة المفهمة المعتادة معتبرة. إشارة الأخرس المفهمة بمنزلة النطق. كتابة الأخرس كإشارته. الكتاب كالخطاب. الهبة بالإشارة تعتبر من الهبة بالمعاطاة؛ لأن الإشارة ليست كلامًا في وضع الشارع. قال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: 29] مع قوله سبحانه: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]. وكان للإشارة أثر في التحريم والتحليل، من ذلك (ح 1109) ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي قتادة، وفيه، قالوا: يا رسول الله، إنا كنا أحرمنا، وقد كان أبو قتادة لم يحرم، فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة، فعقر منها أتانا، فنزلنا، فأكلنا من لحمها، ثم قلنا: أنأكل لحم صيد، ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحمها، قال: أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها. قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمها (¬1). ¬
القول الأول
[م - 1826] وهل تصح الهبة بالإشارة من القادر على الكلام؟ اختلف فيها الفقهاء على قولين: القول الأول: لا يعتد بالإشارة من القادر على الكلام، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة. القول الثاني: أن الإشارة المفهمة المعتادة معتبرة، ولو كانت من قادر على الكلام، وهذا مذهب المالكية، واختيار ابن تيمية، وابن القيم. وقد وثقت ذلك، وذكرت حجة كل فريق في عقد البيع من المجلد الأول، فارجع إليه إن شئت. [م - 1827] وأما الإشارة من الأخرس: فإن كانت غير معتادة، ولا مفهمة فإنه لا حكم لهلا، في بيع، ولا هبة، ولا إقرار ولا غيرها (¬1). وإن كانت مفهومة ومعهودة يعهدها كل من يقف عليها، كالتحريك برأسه طولًا للموافقة، وعرضًا للرفض، وكان خرسه أصليًا، فإن إشارته صحيحة، وكذا سائر عقوده بلا خلاف. قال ابن نجيم: "الإشارة من الأخرس معتبرة، وقائمة مقام العبارة في كل شيء: من بيع، وإجارة، وهبة، ورهن، ونكاح، وطلاق، وعتاق، وإبراء، وإقرار، وقصاص، إلا في الحدود" (¬2). ¬
القول الأول
قال النووي: "قال أصحابنا: يصح بيع الأخرس وشراؤه بالإشارة المفهومة، وبالكتابة بلا خلاف للضرورة، قال أصحابنا: ويصح بها جميع عقوده" (¬1). وقال السيوطي: "الإشارة من الأخرس معتبرة، وقائمة مقام عبارة الناطق، في جميع العقود، كالبيع والإجارة، والهبة، والرهن، والنكاح، والرجعة، والظهار. والحلول: كالطلاق، والعتاق، والإبراء، وغيرهما، كالأقارير، والدعاوى، واللعان، والقذف والإِسلام" (¬2). وجاء في الموسوعة الكويتية: "اتفق الفقهاء على أن إشارة الأخرس المعهودة والمفهومة معتبرة شرعاً، فينعقد بها جميع العقود كالبيع، والإجارة، والرهن، والنكاح، ونحوها" (¬3). واعتبر الشافعية في الأصح أن الكتابة من الأخرس كناية، فتصح إن نوى، ولم يشر (¬4). [م - 1828] وهل يشترط في قبول إشارة الأخرس أن يكون غير قادر على التعبير عن إرادته بطريق الكتابة. توجه لهذه المسألة الحنفية، ولهم فيها قولان: القول الأول: هو المعتمد في المذهب أن وصيته بالإشارة صحيحة، وإن كان قادرًا على الكتابة؛ لأن النطق هو الأصل، فإذا عجز عنه رخص له في غيره. ¬
القول الثاني
قال ابن نجيم كما في غمز عيون البصائر: "واختلفوا في أن عدم القدرة على الكتابة شرط للعمل بالإشارة، أو لا، والمعتمد: لا" (¬1). وقال في الهداية شرح البداية: "الإشارة معتبرة وإن كان قادرًا على الكتابة، بخلاف ما توهمه بعض أصحابنا رحمهم الله، أنه لا تعتبر الإشارة مع القدرة على الكتابة" (¬2). القول الثاني: أن الكتابة أقوى من الإشارة في الدلالة على الإرادة، فلا يصار إلى الإشارة مع قدرته على الكتابة (¬3). قال ابن عابدين نقلاً من كافي الحاكم الشهيد: "فإن كان الأخرس لا يكتب، وكان له إشارة تعرف في طلاقه، ونكاحه، وشرائه، وبيعه فهو جائز فقد رتب جواز الإشارة على عجزه عن الكتابة، فيفيد أنه إن كان يحسن الكتابة لا تجوز إشارته" (¬4). وقال ابن الهمام نقلاً من الأصل: "وإن كان الأخرس لا يكتب، وكانت له إشارة تعرف في نكاحه وطلاقه وشرائه وبيعه فهو جائز، فيعلم من إشارة رواية الأصل أن الإشارة من الأخرس لا تعتبر مع القدرة على الكتابة" (¬5). ورده ابن الهمام، وحمله على استواء الإشارة والكتابة من الأخرس، وهذا هو الراجح. ¬
المبحث الخامس في تعليق الهبة وإضافتها إلى المستقبل
المبحث الخامس في تعليق الهبة وإضافتها إلى المستقبل المعلق على شرط عند حصول الشرط كالمنجز. عقود التمليك تقبل التعليق. تردد العقد بين الإمضاء والفسخ لا يعتبر قمارًا كشرط الخيار. وقيل: عقود التمليك لا تقبل التعليق. تعريف التعليق اصطلاحًا (¬1): وربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى بأداة من أدوات الشرط (¬2). مثاله: أن يقول الرجل: وهبتك هذا المال إن قدم زيد، أو هذا لك إن نجحت في الامتحان، أو يعلق الهبة على رضا فلان، أو على موافقة زيد من الناس. ومعنى كون الهبة مضافة إلى المستقبل: أي أن آثار الهبة لا يسري مفعولها إلا في المستقبل المضاف إليه، كأن يقول: وهبتك هذا الشيء غدًا، أو في شهر رمضان، أو عند قدوم الحجاج، ونحو ذلك. ¬
القول الأول
[م - 1829] وقد اختلف الفقهاء في تعليق الهبة وإضافتها إلى المستقبل على قولين: القول الأول: أن الهبة لا تحتمل التعليق، ولا الإضافة إلى المستقبل، وهذا مذهب الجمهور (¬1). واستثنى الحنفية والشافعية التعليق الصوري، بأن كان المعلق عليه محققا وقت التكلم كما لو قال: إن كان هذا الشيء ملكي فقد وهبته لك، وهو في الواقع ملكه؛ لأن هذه في الحقيقة صيغة منجزة في صورة معلقة. ولأن هذا تصريح بمقتضى العقد، فإن الإنسان لا يهب إلا ما يملك، فذكره من باب التوكيد. واستتثى الشافعية التعليق بصورة: وهبتك إن شئت. واستثنى الحنابلة ما إذا علق الإيجاب على مشيئة الله، كما لو قال: وهبتك إن شاء الله. وقد ذكرت هذه الصورة في تعليق عقد البيع. القول الثاني: يصح تعليق الهبة بالشرط، وإضافتها إلى المستقبل، وهذا مذهب المالكية، وبه قال الحارثي من الحنابلة، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم (¬2). ¬
القول الثالث
كما صحح المالكية وابن تيمية وابن القيم تعليق الوقف بالشرط، والوقف من عقود التبرع (¬1). قال ابن القيم: "الهبة يجوز تعليقها بالشرط، كما ثبت ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك" (¬2). القول الثالث: تصح الهبة، ويبطل الشرط بناء على أن الشروط الفاسدة لا تبطل العقد، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3). دليل من أبطل الهبة بالتعليق: الدليل الأول: أن الهبة عقد تمليك، وعقود التمليك لا تقبل التعليق كالبيع، فالتمليكات المالية عدا الوصية سواء كانت واردة على الأعيان كالبيع، والإبراء، أم على المنافع كالإجارة، والإعارة بطريق المعاوضة أم بطريق التبرع كالهبة، لا يصح ¬
ويجاب عن ذلك
تعليقها على شرط متردد بين الوجود والعدم؛ لأن المليكة لا بد أن تكون مستقرة جازمة، لا تردد فيها، وإلا شابهت القمار. ويجاب عن ذلك: بأن التعليق يختلف عن القمار، فالقمار يتردد فيه المقامر بين الغنم والغرم، بخلاف التعليق، وإنما يشبه عقد البيع بشرط الخيار، وهو جائز بالإجماع، مع أن العقد يتردد فيه بين الإمضاء، والفسخ. الدليل الثاني: أن الهبة عقد يبطل بالجهالة، فلم يصح تعليقه على شرط مستقبل كالبيع (¬1). ويجاب من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن هناك فرقًا بين عقود التبرع وعقود المعاوضات، فالجهالة تؤثر في عقود المعاوضات؛ لأنها قائمة على المغابنة، بخلاف الهبات، فإنها قائمة على الإحسان والرفق. الوجه الثاني:. القول بأن التعليق ينطوي على جهالة غير مسلم؛ لأن الأمر يؤول فيه إلى العلم، فإن تحقق الشرط فقد تمت الهبة، وإن لم يتحقق لم يتم، وتحققه من عدمه معلوم، وليس بمجهول. ¬
الوجه الثالث
الوجه الثالث: لا نسلم أن البيع لا يصح تعليقه، وإذا كان الأصل المقيس عليه مختلفًا فيه لم يكن حجة على المخالف. دليل من قال: يصح تعليق الهبة: الدليل الأول: لا يوجد دليل يمنع من صحة الهبة إذا علقت على الشرط، والأصل في المعاملات الصحة والجواز. الدليل الثاني: (ح -1110) ما رواه البخاري من طريق روح بن القاسم، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لي: لو قد جاءنا مال البحرين قد أعطيتك هكذا، وهكذا، وهكذا. فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاء مال البحرين، قال أبو بكر: من كانت له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدة فليأتني، فأتيته فقلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان قال لي: لو قد جاءنا مال البحرين لأعطيتك هكذا، وهكذا، وهكذا. فقال لي: احثه، فحثوت حثية، فقال لي: عدها، فعددتها فإذا هي خمس مائة، فأعطاني ألفا وخمس مائة (¬1). الدليل الثالث: (ح1111) ما رواه الإمام أحمد من طريق مسلم بن خالد، عن موسى بن عقبة، عن أمه أم كلثوم قالت: لما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة قال لها: إني قد ¬
أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي من مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى إلا هديتي مردودة علي، فإن ردت علي فهي لك، قال: وكان كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وردت عليه هديته، فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية مسك، وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علق الهبة على رجوعها من النجاشي. وأجيب بجوابين: الأول: أن الحديث ضعيف. الثاني: أن هذا وعد بالهبة، وليس هبة. ورد هذا: بأن قوله: (فهو لك) هبة، وليس وعدًا، وعلى فرض أن يكون وعدًا فإن كل هبة معلقة بشرط هي وعد، فلماذا منعتوها. وهناك أدلة أخرى في المسألة قد استوفيتها في عقد الوقف، ورجحت جواز تعليق العقود، ومنها عقد التبرع، وأجبت عن أدلة المانعين فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، ولله الحمد. الراجح: صحة تعليق الهبة بالشرط، ولا يوجد محذور شرعي يمنع من تعليق العقود بالشروط، وإذا صحت الوصية وهي من عقود التمليك القائم على التبرع، والملك فيها معلق على الموت، صح غيرها قياسًا عليها، وكما يصح تعليق الوقف بالشرط على الصحيح، وقد تم بحث هذه المسألة في عقد الوقف، ورجحت جوازه، وأجبت عن أدلة المانعين، فلله الحمد.
المبحث السادس في حكم الوعد بالهبة
المبحث السادس في حكم الوعد بالهبة الهبة لا تملك إلا بالقبض فالوعد بها من باب أولى. [م - 1830] الوعد بالعقد إن كان وعدًا بالبيع لم يلزم قولاً واحدًا عند الفقهاء المتقدمين، وإن قال بلزومه بعض المعاصرين استحسانًا منهم، وهذا خلاف لإجماعهم، وخلافهم لا يخرق الإجماع، وسبق بحث هذه المسألة عند الكلام على صيغة المرابحة للآمر بالشراء في المجلد الثاني عشر. لأن البيع إذا كان منجزًا لا يكون لازمًا قبل التفرق من المجلس على الصحيح، فما بالك بالوعد بالبيع قبل وقوعه كيف يكون لازمًا؟ [م - 1831] وأما الوعد بالهبة، وهو ما يسمى (الوعد بالمعروف)، فهل يكون لازمًا بمجرد الوعد به، أو لا يلزم إلا بالقبض؟ في ذلك خلاف بين العلماء: القول الأول: ذهب الشافعية، والحنابلة، وابن حزم من الظاهرية، واختاره بعض المالكية إلى أن الوفاء بالوعد بالمعروف مستحب، وليس بواجب (¬1). ¬
واستدلوا على ذلك بأدلة، منها
واستدلوا على ذلك بأدلة، منها: الدليل الأول: قالوا: إجماع العلماء على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع بقية الغرماء، ولو كان الوعد مستحقًا لشارك الموعود بقية الغرماء. الدليل الثاني: ذكروا بأن العدة إن كانت في عارية لم يجب الوفاء بها؛ لأنها منافع لم تقبض، وفي غير العارية أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض، فلم تلزم؛ لأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض على الصحيح، ولصاحبها الرجوع فيها. الدليل الثالث: (ث 263) ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقًا من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلى غنى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقًا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث ... (¬1). [إسناده صحيح]. فهذا الصديق الخليفة الراشد وعد ابنته، ولما لم تقبضه في حال صحته لم ير لزومه، ولو كان مجرد الوعد يجب الوفاء به، لكان دينًا في ذمته، ووجب عليه سدداه. ¬
القول الثاني
القول الثاني: ذهب الإمام مالك في المشهور من مذهبه إلى أنه يجب الوفاء بالوعد إن خرج على سبب، ودخل الموعود له بسببه في كلفة، أما إذا لم يباشر الموعود السبب فلا شيء على الواعد. وقال أصبغ: يجب الوفاء بالعدة إذا كانت مرتبطة بسبب، سواء دخل الموعود بسببه في كلفة أولم يدخل فيه. مثاله: كما لو قال له: اهدم دارك، وأنا أعدك أن أقرضك ما يعينك على بنائه، أو قال له تزوج: وأنا أقرضك المهر، فعلى قول مالك لا يجب الوفاء إلا إذا باشر الهدم أو دخل في كلفة الزوج. وعلى قول أصبغ: يجب الوفاء ولو لم يباشر الهدم أو يدخل في كلفة الزواج (¬1). وجه قول المالكية: أن مذهب المالكية مبني على عدم وجوب الوفاء بالوعد، إذ لو كان الوفاء بالوعد لازمًا لم يكن ثمة فرق بين أن يكون الوعد مرتبطًا بسبب، أو ليس مرتبطًا به، ولكنه قضى به؛ لأنه تسبب له في إنفاق مال قد لا يتحمله، ولا يقدر عليه، دفعًا للضرر عن الموعود المغرر به، وتقريرًا لمبدأ تحمل التبعة لمن ورطه في ذلك، وقد نبه على ذلك العلامة محمَّد العزيز جعيط (¬2). ¬
القول الثالث
وقال مصطفى الزرقاء في بيان وجه قول المالكية: "وهذا وجيه جدًا؛ فإنه يبني الإلزام بالوعد على فكرة دفع الضرر الحاصل فعلاً للموعود من تغرير الواعد" (¬1). القول الثالث: ذهب الحنفية إلى أن الوعد لا يكون لازمًا إلا إذا كان معلقاً (¬2). مثاله: أن يقول رجل لأخر: بيع هذا الشيء على فلان، وإذا لم يعطك ثمنه، فأنا أعطيك إياه. فإذا لم يعطه المشتري الثمن لزم الواعد أداء الثمن المذكور. أما إذا كان الوعد وعدًا مجردًا، أي غير مقترن بصورة من صور التعاليق، فلا يكون لازمًا. مثال ذلك: لو باع شخص مالا من آخر بثمن المثل، أو بغبن يسير، وبعد أن تم البيع، وعد المشتري البائع بإقالته من البيع، إذا رد له الثمن، فلو أراد البائع استرداد المبيع، وطلب إلى المشتري أخذ الثمن، وإقالته من البيع، فلا يكون المشتري مجبرًا على إقالة البيع، بناء على ذلك الوعد؛ لأنه وعد مجرد. كذلك، لو قال شخص لآخر: ادفع ديني من مالك، والرجل وعده بذلك، ثم امتنع عن الأداء، فلا يلزم بوعده هذا أن يؤدي عنه دينه. ¬
وجه قول الحنفية
وجه قول الحنفية: قالوا: إذا كان الوعد معلقًا يظهر منه معنى الالتزام، كما في قوله: إن شفيت أحج، فشفي، ولو أقال: أحج لم يلزمه بمجرده (¬1). الفرق بين قول الحنفية وبين قول أصبغ: أن ما ذهب إليه الحنفية مرتبط ارتباط الشرط بمشروطه، بخلاف ما ذهب إليه أصبغ: يتضح ذلك من خلال المثال الآتي، لو قال رجل: أريد أن أتزوج، فهل تسلفني، فقال: نعم، لزم الوفاء على قول أصبغ؛ لأن الوعد ارتبط بسبب، ولم يلزم على قول الحنفية لأن الوعد لم يرتبط بالتعليق. القول الرابع: ذهب القاضي سعيد بن أشوع الكوفي، وابن شبرمة، واختاره بعض المالكية إلى وجوب الوفاء بالعدة، وأنه يقضى بها مطلقا (¬2). وقد استدلوا بأدلة منها: الدليل الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3]. ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: أن الواعد إذا لم يف بوعده، فقد قال ما لم يفعل، فدخل في مقت الله، وهو أشد البغض، وهذا يقتضي أنه كبيرة، وليس الأمر مقتصراً على التحريم فقط. ونوقش: بأن المقصود في الآية: الذين يقولون ما لا يفعلون في الأمور الواجبة كالجهاد والزكاة، وأداء الحقوق، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77]. وأجيب: بأن العقاب إنما كان على إخلافهم الوعد نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه، وأما الواجبات فهي واجبة قبل الوعد، ولا يزيدها الوعد إلا توكيدًا. الدليل الثاني: (ح 1112) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: آية المنافق ثلاث: إذا حدث عذب، وإذا واعد أخلف، وإذا اؤتمن خان. متفق عليه (¬1). ونوقش الاستدلال بالحديث: المقصود بالحديث: إخلاف الوعد بأمرٍ واجبٍ، كأداء الحقوق، بدليل أن ¬
وأجيب
إخلاف الوعد ليس مذموماً مطلقًا؛ لأن من وعد بمحرم، فإنه لا يحل له الوفاء به. وأجيب: أن الحديث فيه ذم إخلاف الوعد من حيث هو وعد، أيًّا كان الموعود به، أما الواعد بمحرم فلا يجوز له الوفاء به، لا من حيث إن الوعد لا يجب الوفاء به، ولكن لأن الموعود به محرم. القول الخامس: اختار تقي الدين السبكي الشافعي، إلى أن العدة يجب الوفاء بها ديانة لا قضاء، ورجحه فضيلة الشيخ محمَّد الأمين الشنقيطي. قال تقي الدين السبكي الشافعي: "ولا أقول يبقى دينًا في ذمته حتى يقضى من تركته، وإنما أقول: يجب الوفاء تحقيقًا للصدق، وعدم الإخلاف" (¬1). قال السخاوي: "ونظير ذلك نفقة القريب، فإنها إذا مضت مدة يأثم بعدم الدفع، ولا يلزم به، ونحوه قولهم: في فائدة القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة: تضعيف العذاب عليهم في الآخرة مع عدم إلزامهم بالإتيان بها". وقال الشنقيطي: "والذي يظهر لي أن إخلاف الوعد لا يجوز ... ولا يجبر به؛ لأنه وعد بمعروف محض" (¬2). ¬
الراجح
الراجح: أن الوعد بمجرده ليس له صفة الإلزام؛ لأن الإلزام هي صفة للعقود اللازمة، فإذا ألزمنا بالوعد فقد حولناه إلى عقد، وإذا كان البيع لو انعقد لم يكن لازمًا إلا بالتفرق، فكيف يكون الوعد لازمًا بالبيع، وهم يتفقون على أنه لم ينعقد. والوعد في التبرعات كذلك، فإذا كانت الهبة الجازمة لا تلزم إلا بالقبض، ولا تنعقد على الصحيح بمجرد الهبة حتى يقبضها الموهوب له، فكيف يمكن أن يقال: إن الوعد بالهبة أصبح لازمًا بمجرد العقد. وقول المالكية في الإلزام إذا أدخله في نحو كلفة ليس لأن الوعد عندهم لازم، إذ لو كان الوفاء بالوعد لازمًا لم يكن ثمة فرق بين أن يكون الوعد مرتبطًا بسبب، أو ليس مرتبطًا به، ولكنه قضى به؛ لأنه تسبب له في إنفاق مال قد لا يتحمله، ولا يقدر عليه، دفعًا للضرر عن الموعود المغرر به، وتقريرًا لمبدأ تحمل التبعة لمن ورطه في ذلك. والله أعلم.
الباب الثاني في شروط الهبة
الباب الثاني في شروط الهبة الفصل الأول في شروط الواهب الشرط الأول أن يكون الواهب من أهل التبرع من صح تبرعه صحت هبته. [م - 1832] يشترط في الواهب: أن يكون أهلًا للتبرع. والواهب لا يتصف بهذه الأهلية إلا إذا كان لا حجر عليه بوجه من الوجوه (¬1). وأما المحجور عليه: فلا يملك التبرع، سواء كان محجورًا عليه لحظ نفسه، كالمجنون، والصبي، والسفيه، وهذا بالاتفاق. أو كان محجورًا عليه لحظ غيره، كالمفلس الذي أحاط الدين بجميع ماله عند من يرى جواز هذا الحجر، وهم جمهور الفقهاء خلافًا لأبي حنيفة. فأهلية التبرع: يملكها العاقل البالغ الحر الرشيد غير المحجور عليه. ¬
فأما الصبي والمجنون والسفيه، والمحجور عليه لفلس فهم فاقدون لأهلية التبرع. وكذا لا يملك الولي والأب، والوصي وناظر الوقف ونحوهم لا يملكون التبرع من مال الصغير، ومن مال الوقف. وفي الشريك والمضارب خلاف في أهليتهما للتبرع يأتي إن شاء الله تعالى بحثه في مبحث مستقل.
الفرع الأول في هبة الصبي والمجنون
الفرع الأول في هبة الصبي والمجنون جاء في تبيين الحقائق في ذكر شروط الهبة: "أن يكون الواهب عاقلاً بالغًا حرًا" (¬1). والعقل والبلوغ والحرية هي صفات الأهلية الكاملة للتبرع. قال ابن نجيم: "فلا تصح هبة المجنون، والصغير" (¬2). قال الكاساني: "لأنهما لا يملكان التبرع؛ لكونه ضررًا محضًا، لا يقابله نفع دنيوي فلا يملكها الصبي والمجنون" (¬3). فالمجنون فاقد للأهلية الكاملة. والصغير: يشمل المميز وغيره، فالأول أهليته ناقصة، والثاني معدومة، والشرط أن تكون أهليته كاملة. وقال القرافي: "الواهب شرطه أهلية التبرع، وعدم الحجر" (¬4). وجاء في نهاية المحتاج: "ويشترط في الواهب كونه أهلاً للتبرع" (¬5). ¬
وقال ابن قدامة: "فأما الهبة من الصبي لغيره، فلا تصح، سواء أذن فيها الولي أو لم يأذن؛ لأنه محجور عليه لحظ نفسه، فلم يصح تبرعه، كالسفيه" (¬1). ¬
الفرع الثاني في هبة المحجور عليه لفلس
الفرع الثاني في هبة المحجور عليه لفلس المحجور عليه لفلس: هو الذي قد أحاط الدين بجميع ماله. [م - 1833] فإذا أحاط الدين بمال المدين، وطلب الغرماء الحجر عليه وجب على القاضي الحكم بتفليسه، وهذا مذهب جمهور أهل العلم، وبه قال صاحبا أبي حنفية، خلافًا لإمامهم. فإذا حجر عليه تعلق حق الغرماء بالمال نظير تعلق حق الراهن بالمرهون، فإذا تصرف في ماله بعد الحجر فإن كان تصرفًا نافعًا للغرماء كقبول التبرعات والصدقات فهذه لا يمنع منها. وإن كان تصرفه ضارًا بالغرماء، كالهبة والوقف، والإبراء، والإقرار على المال فهذه لا تصح منه عند الجمهور. وقيل: يقع التصرف صحيحًا موقوفًا على موافقة رب الدين، وهذا مذهب المالكية، وقول عند الشافعية في مقابل الأظهر عندهم، ولما كان الحجر له باب مستقل رغبت في ترك تفصيل هذه المسألة إلى حين بلوغنا ذلك الباب، أسأل الله الوهاب أن يبلغني ذلك بمنه وكرمه.
الفرع الثالث في هبة السكران
الفرع الثالث في هبة السكران العقل مناط التكليف. السكر من محرم كالسكر من مباح. وقيل: السكر من محرم كالصاحي. [م - 1834] إذا كان الفقهاء لا يختلفون في اشتراط العقل والبلوغ في صحة الهبة، فهل السكران يلحق بالمجنون، أو يلحق بالعاقل في صحة هبته؟ وللجواب على ذلك نقول: إن كان السكران غير معتد في سكره، كما لو كان السكر نتيجة تعاطيه البنج للتداوي، أو سكر نتيجة خطأ، أو لدفع غصة ونحوها، فإنه بمنزلة المجنون، لا تصح هبته (¬1). [م - 1835] واختلفوا في صحة هبة المعتدي في سكره على ثلاثة أقوال: القول الأول: تصح هبة السكران، وسائر تصرفاته، وهذا مذهب الحنفية والشافعية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬2). ¬
القول الثاني
قال في المجموع: "وأما السكران فالمذهب صحة بيعه وشرائه، وسائر عقوده التي تضره والتي تنفع" (¬1). القول الثاني: لا يصح شيء من تصرفات السكران، ومنه الهبة، وهذا قول أبي يوسف، وأبي الحسن الكرخي، وأبي جعفر الطحاوي من الحنفية (¬2)، ومحمد بن عبد الحكم من المالكية (¬3)، وقول في مذهب الشافعية (¬4)، وقول في مذهب الحنابلة (¬5)، واختيار ابن حزم (¬6). القول الثالث: تلزمه الجنايات، والعتق، والطلاق، ولا تلزمه الإقرارات، والعقود من بيع، وإجارة، وهبة وصدقة، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬7). القول الرابع: تلزمه الأفعال، ولا تلزمه الأقوال فيقتل بمن قتل ويحد في الزنا، والسرقة، ولا يحد في القذف، ولا يلزمه طلاق ولا عتق، وهو قول الليث (¬8). ¬
وقد سبق ذكر أدلة هذه المسألة في عقد البيع في المجلد الثاني عند الكلام على خلاف العلماء في بيع السكران، وأرى أن الراجح هو التفصيل: وأن الذي لا يتأثر بالسكر مطلقًا لكونه قد شرب قليلاً منه، أو لكونه قد اعتاد شربه حتى أصبح لا يؤثر في عقله، فهذا لا فرق بينه وبين الصاحي؛ لأن الحكم يدور مع علته، فالعلة هي الخوف من تأثير السكر على العقل، فإذا انتفى التأثير انتفى الحكم. ولذلك قال تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فجعل غاية النهي هي إدراك ما يقول. وأما من أثر فيه السكر، ولو لم يذهب عقله بالكلية فإنه داخل في الخلاف، فإنه معروف أن من يشرب الخمرة فقد تدفعه إلى الإقدام على الصفقة من غير إدراك لعواقبها، وإن كان لا يزال معه بقية من عقله، وقد تحول البخيل إلى كريم، والجبان إلى شجاع كما قال حسان: ونشربها فتتركنا ملوكًا ... وأسدًا ما ينهنهنا اللقاء وقال آخر: فإذا شربت فإنني رب الخورنق والسدير ... وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير وأما الاحتجاج بالآية في قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وأن السكران لو كان عقله قد ذهب بالكلية لما صح أن يوجه له أمر ونهي، فكيف ينهى عن قربان الصلاة؟ فهذا استدلال ببعض الآية وترك لبعضها، فالآية تقول: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وهو دليل على أن السكران قد يعلم وقد لا يعلم ما يقول هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الآية نزلت في وقت كان شرب الخمر مأذونًا
فيه، وهي تنهى من يريد شرب الخمر عن شربه في أوقات الصلوات؛ لأن شربه الخمر سيكون سبباً في تركه للصلاة، فهو خطاب للمسلم قبل سكره، لهذا كان بعض الصحابة بعد نزول هذه الآية لا يشرب الخمر إلا بعد صلاة العشاء فلا يصبح إلا وقد ذهب عنه السكر.
الفرع الرابع في هبة الأب والوصي من مال الصغير
الفرع الرابع في هبة الأب والوصي من مال الصغير كل متصرف عن الغير فعليه أن يتصرف بالمصلحة. [م - 1836] إذا كان يشترط في الواهب أن يكون أهلًا للتبرع، فهل يتمتع الأب والوصي بهذه الأهلية في مال الصغير؛ أو أن تصرفهما يكون مقيداً بالمصلحة، ولا مصلحة بالتبرع؛ إذ هو ضرر محض؟ وللجواب نقول: إن كانت الهبة بلا عوض فلا يملكانها قولاً واحدًا (¬1). جاء في غمز عيون البصائر: "التبرع غير داخل تحت ولاية الأب" (¬2). وجاء في بدائع الصنائع: "الأب لا يملك هبة مال الصغير من غير شرط العوض بلا خلاف ... لأنه لا يقابله نفع دنيوي وقد قال الله عز شأنه {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]. ولأنه إذا لم يقابله عوض دنيوي كان التبرع ضررا محضا ... فلا يدخل تحت ولاية الولي" (¬3). وفي الذخيرة نقلاً من الكتاب: "تمنع هبة الأب من مال ابنه الصغير؛ لأن الله ¬
تعالى منع التصرف إلا بالتي هي أحسن" (¬1). وجاء في الشرح الكبير على المقنع: "وليس لوليهما -يعني الصبي والمجنون- التصرف في مالهما إلا على وجه الحظ لهما، وما لاحظ فيه ليس له التصرف به كالعتق، والهبة، والتبرعات، والمحاباة، لقول الله - سبحانه وتعالى -: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]. وقوله عليه الصلاة والسلام: لا ضرر ولا ضرار. رواه الإمام أحمد، وهذا فيه إضرار فإن فعل شيئًا من ذلك، أو زاد على النفقة عليهما، أو على من تلزمهما مؤنته بالمعروف ضمن؛ لأنه مفرط، فضمن كتصرفه في مال غيرهما" (¬2). وإذا منع الأب والوصي من إقراض مال الصغير، مع أنه مضمون برد مثله، فهو ممنوع من الهبة التي لا يقابلها عوض من باب أولى. قال في بدائع الصنائع وهو يتكلم عن شروط القرض: "وأما الذي يرجع إلى المقرض فهو أهليته للتبرع، فلا يملكه من لا يملك التبرع من الأب، والوصي، والصبي، والعبد المأذون، والمكاتب؛ لأن القرض للمال تبرع، ألا ترى أنه لا يقابله عوض للحال، فكان تبرعًا للحال، فلا يجوز إلا ممن يجوز منه التبرع، وهؤلاء ليسوا من أهل التبرع، فلا يملكون القرض " (¬3). ¬
القول الأول
وجاء في مطالب أولي النهى: "وشرط كون مقرض يصح تبرعه، فلا يقرض نحو ولي يتيم من ماله" (¬1). وسبق الكلام على إقراض مال الصغير في عقد القرض، ولله الحمد. [م - 1837] أما إذا وهب الأب مال ابنه مقابل عوض معلوم ففي المسألة قولان: القول الأول: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف (¬2). حجة هذا القول: أن الهبة بشرط العوض هي هبة ابتداء، وبيع انتهاء بشرط اتصال القبض بالبدلين، ولا تفيد الملك قبل القبض، ولو كانت بيعًا ابتداء لما توقف الملك فيها على القبض؛ لأن البيع يفيد الملك بنفسه، وإذا كانت هبة ابتداء لم تصح؛ لأن هؤلاء لا يملكون التبرع؛ وإذا فسد ابتداؤها فسد انتهاؤها. القول الثاني: تصح الهبة بشرط العوض، وهو قول زفر محمَّد بن الحسن (¬3). وجه هذا القول: أن الهبة بشرط العوض بيع، وليست هبة؛ لأن العبرة في العقود بمعانيها، وليس بألفاظها، وإذا كانت بيعًا فإن هؤلاء يملكون بيع مال الصغير. ¬
الراجح
جاء في تحفة الفقهاء: "ولو وهب بشرط العوض، وقبل الآخر العوض لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمَّد: يجوز، فأبو حنيفة اعتبر نفس الهبة، وهي من باب التبرع، ولا يملك الأب ذلك. ومحمد يقول: هذا بمعنى البيع" (¬1). الراجح: أن الهبة بشرط العوض لها أحكام البيع، والأب والوصي يملكون ذلك. ¬
الفرع الخامس في هبة الشريك من مال شريكه
الفرع الخامس في هبة الشريك من مال شريكه الإذن إذا اختص بشيء لم يتجازه (¬1). كل تصرف لا يتضمنه الإذن المطلق، ولا العرف الجاري، ولا فيه مصلحة للشركة فإن الشريك ممنوع منه (¬2). [م - 1838] تكلمنا في السابق عن أهلية الصبي والمجنون والمحجور عليه لفلس، والأب والوصي للتبرع، وخلصنا أن هؤلاء لا يملكون التبرع. ونبحث في هذا أهلية الشريك للتبرع من مال الشركة: وقد اختلف العلماء في تصرفات الشريك إذا كانت على وجه التبرع: القول الأول: جوز الحنفية والمالكية وأحمد في رواية نقلها عنه حنبل التبرع إذا كان في ذلك مصلحة للشركة، كترغيب الناس في الشراء؛ لأن الشريك مأذون له بالتصرف في كل ما هو من مصلحة الشركة. أو كان التبرع يسيرًا، ولو لم يكن في ذلك مصلحة للشركة؛ لأن التبرع اليسير مأذون له فيه عرفًا. وأجاز بعض الحنابلة القرض لمصلحة الشركة، والقرض نوع من التبرع؛ لأنه لا يراد للتكسب، ولا يملكه إلا من يصح تبرعه. ¬
إذا علم هذا فإليك النصوص الدالة على هذا القول. جاء في الاختيار لتعليل المختار: "ويهدي القليل من الطعام، ويضيف معامليه؛ لأنه من صنيع التجار، وفيه استمالة قلوب المعاملين، وقد صح أنه - عليه السلام - قبل هدية سلمان الفارسي، وكان عبداً. وقال محمَّد: يتصدق بالرغيف ونحوه، ولم يقدر محمَّد الضيافة اليسيرة، وقيل: ذلك على قدر مال التجارة" (¬1). وفي الفتاوى الهندية: له "أن يهدي من مال المفاوضة، ويتخذ دعوة منه ولم يقدر بشيء والصحيح أن ذلك منصرف إلى المتعارف، وهو ما لا يعده التجار سرفًا، كذا في الغياثية" (¬2). وجاء في شرح الخرشي لقول خليل: "وله أن يتبرع إن استألف به، أو خف". قال الخرشي: "يعني أن أحد شريكي المفاوضة يجوز له من غير إذن شريكه أن يتبرع بشيء من مال الشركة من هبة، ونحوها بشرط أن يفعل ذلك استئلافًا للشركة؛ ليرغب الناس في الشراء منه، وكذلك يجوز له أن يتبرع بشيء خفيف من مال الشركة، ولو كان بغير استئلاف كإعارة آلة، كماعون، ودفع كسرة لسائل، أو شربة ماء، أو غلام لسقي دابة، والكثرة والقلة بالنسبة لمال الشركة" (¬3). ¬
القول الثاني
وجاء في شرح منتهى الإرادات: "ولا أن يهب من مال الشركة إلا بإذن، ونقل حنبل: يتبرع ببعض الثمن لمصلحة" (¬1). هذه النصوص في الهبة، وأما القرض، فجاء في الإنصاف: "قوله (ولا يقرض) هذا المذهب. وعليه جماهير الأصحاب. وقطع به أكثر الأصحاب. قال ابن عقيل: يجوز للمصلحة. يعني: على سبيل القرض. صرح به في التلخيص وغيره (¬2) وجواز القرض مقيد بأن يكون ذلك أصلح للشركة كان يخاف على مال الشركة، ويكون المستقرض معروفًا بالأمانة ولا يخاف منه الجحود، ومليئًا في حال طلب منه السداد؛ لأن الشريك إذا كان له إيداع المال كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فالإقراض أولى من الإيداع؛ لأن الإيداع غير مضمون على المودع إذا هلك المال بغير تعد منه ولا تفريط بخلاف القرض، خاصة إذا أخذ على القرض رهنًا. وقد ذكر الفقهاء أن ولي اليتيم إذا خاف على ماله من السرقة فإن الأفضل في حقه أن يقرضه شخصًا أمينًا مليئًا على أن يودعه لدى شخص أمين؛ لأنه في حال القرض يكون المال مضمونًا على المقترض بخلاف الوديعة فإنها ليست مضمونة. القول الثاني: لا يصح التبرع مطلقًا، ولو كان يسيرًا إلا بإذن شريكه، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، واختاره بعض الحنفية. ¬
سبب الخلاف
جاء في أسنى المطالب: "ليس للعامل التصدق من مال القراض، ولو بكسرة؛ لأن العقد لم يتناوله" (¬1). وجاء في بدائع الصنائع: "وليس لأحدهما أن يهب، ولا أن يقرض على شريكه؛ لأن كل واحد منهما تبرع. أما الهبة فلا شك فيها. وأما القرض فلأنه لا عوض له في الحال، فكان تبرعًا في الحال، وهو لا يملك التبرع عن شريكه، وسواء قال: اعمل برأيك أو لم يقل، إلا أن ينص عليه بعينه؛ لأن قوله: اعمل برأيك تفويض الرأي إليه فيما هو من التجارة، وهذا ليس من التجارة ... وليس له أن يكاتب عبداً من تجارتهما، ولا أن يعتق على مال؛ لأن الشركة تنعقد على التجارة، والكتابة والعتق ليس من التجارة" (¬2). وقال ابن قدامة: "وليس له أن يكاتب الرقيق ولا يعتق على مال، ولا غيره ... لأن الشركة تنعقد على التجارة وليست هذه الأنواع تجارة ... وليس له أن يقرض، ولا يحابي؛ لأنه تبرع. وليس له التبرع" (¬3). وجاء في شرح منتهى الإرادات: "ولا أن يهب من مال الشركة إلا بإذن" (¬4). سبب الخلاف: أن إطلاق التصرف للشريك بالتصرف محكوم بثلاثة أمور: أحدها: العقد المتضمن الإذن بالتصرف صراحة أو عرفًا. ¬
الراجح
الثاني: العرف الجاري بين التجار في عقود الشركات. الثالث: التصرف بما فيه مصلحة للشركة. فكل تصرف لا يتضمنه الإذن المطلق، ولا العرف الجاري، ولا فيه مصلحة للشركة فإن الشريك ممنوع منه. ولهذا نص جمهور الفقهاء بأن الشريك ممنوع من التبرع من مال الشركة إلا بإذن شريكه، فمنعوا الشريك من الهبة، والقرض، والصدقة، والحط من قيمة السلعة بغير عيب؛ لأن كل هذه التصرفات من قبيل التبرع، وهو لا يملك التبرع على شريكه إلا بإذنه، والمقصود بالإذن الإذن الصريح، فلو قال له شريكه: اعمل برأيك لم يكن إذنًا؛ لأن قوله هذا يعني تفويض الرأي إليه فيما هو من أعمال التجارة، وهذه التصرفات ليست منها؛ ولأن الربح هو المقصود من الشركة، ولا يحصل الربح بهذه التصرفات. الراجح: ما ذهب إليه الجمهور، وهو أن التبرع: إن كان يسيرًا صح مطلقًا. وإن لم يكن يسيرًا كان ذلك سائغًا إذا كان فيه مصلحة للشركة؛ لأن تفويت مصلحة المحافظة على قدر من مال الشركة يصح إذا كان في ذلك جلب مصلحة أكبر للشركة، على قاعدة: تفويت المصلحة الصغرى لجلب مصلحة أكبر، وارتكاب المفسدة الصغرى لدفع مفسدة أكبر، والله أعلم.
الفرع السادس في هبة المريض مرض الموت
الفرع السادس في هبة المريض مرض الموت المسألة الأولى في تعريف مرض الموت اختلف العلماء في تعريف مرض الموت. القول الأول: كل مرض يكون الغالب منه الموت، وهذا مذهب الجمهور. جاء في الفتاوى الهندية: "المختار للفتوى: أنه إن كان الغالب منه الموت، كان مرض الموت، سواء كان صاحب فراش أم لم يكن" (¬1). وقال القرافي: "والمخوف: كل ما لا يؤمن فيه الموت" (¬2). وعرفه الخرشي: ما حكم الأطباء بكثرة الموت به (¬3). وعرفه الإمام الشافعي: "كل مرض كان الأغلب منه أن الموت مخوف منه" (¬4). وقال إمام الحرمين: المرض الذي يخاف منه التلف غالبًا، وقد يرجى البرء منه" (¬5). ¬
القول الثاني
القول الثاني: ما يكثر حصول الموت منه، وإن لم يكن غالبًا، وهذا تعريف للحنابلة. وعرفه بعضهم: بأنه كل مرض اتصل بالموت، وكان مخوفًا. ويفهم منه: أن المرض المخوف إذا لم يتصل بالموت فعطيته كصحيح (¬1). قال ابن تيمية: "ليس معنى المرض المخوف الذي يغلب على القلب الموت منه، أو يتساوى في الظن جانب البقاء والموت؛ لأن أصحابنا جعلوا ضرب المخاض من الأمراض المخوفة، وليس الهلاك غالبًا، ولا مساويًا للسلامة، وإنما الغرض أن يكون سببًا صالحًا للموت، فيضاف إليه، ويجوز حدوثه عنده، وأقرب ما يقال: ما يكثر حصول الموت منه، فلا عبرة بما يندر وجود الموت منه، ولا يجب أن يكون الموت منه أكثر من السلامة لكن يبقى ما ليس مخوفًا عند أكثر الناس والمريض قد يخاف منه، أو هو مخوف والرجل لم يلتفت إلى ذلك، فيخلط ما هو مخوف للمتبرع وإن لم يكن مخوفا عند جمهور الناس" (¬2). وألحق به الجمهور: من ركب البحر، وقد هاج، أو قدم للقتل، والحامل إذا أخذها الطلق (¬3). وإذا التقى الصفان، قال تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143]. ¬
وأما ما أشكل أمره من الأمراض
وأما ما أشكل أمره من الأمراض: فقال الشافعية والحنابلة: ما أشكل أمره من الأمراض يرجع فيه إلى قول الأطباء؛ لأنهم أهل المعرفة. ولا يقبل إلا قول طبيبين مسلمين ثقتين بالغين؛ لأن ذلك يتعلق به حق الوارث، وحق أهل العطايا والوصايا، فلم يقبل فيه إلا ذلك. فلا يثبت بنسوة، ولا برجل وامرأتين؛ لأنها شهادة على غير المال، وإن كان المقصود المال (¬1). قال ابن قدامة: قياس قول الخرقي: أنه يقبل قول الطبيب العدل إذا لم يقدر على طبيبين (¬2). الراجح: أن المرض الذي يكون سببًا في الحجر على المريض في تصرفه في ماله إلا بحدود الثلث، ولغير وارث أن يتوفر فيه وصفان: أحدهما: أن يكون المرض سببًا للموت غالبًا، إما بالاستفاضة، أو بشهادة الأطباء. الثاني: أن يتصل المرض بالموت، والله أعلم. ¬
المسألة الثانية خلاف العلماء في هبة المريض
المسألة الثانية خلاف العلماء في هبة المريض تصرف المريض مرض الموت في الحكم كالمضاف إلى ما بعد الموت. تصرف المريض فيما يكون فيه إيصال النفع إلى وارثه باطل. الوقف في مرض الموت بمنزلة الوصية في اعتباره من ثلث المال لأنه تبرع. كل تبرع ناجز صدر من صاحبه التام الأهلية في حال صحته لغير ولده فهو نافذ كله لا يتقيد بثلث ولا بغيره. [م - 1839] إذا مرض الرجل مرضا مخوفا، ثم وهب شيئًا من ماله، فإن برئ من مرضه فهباته صحيحة بالاتفاق. قال ابن رشد: "ولا خلاف بينهم أنه إذا صح من مرضه أن الهبة صحيحة" (¬1). وإن اتصل المرض بالموت، فإما أن تكون هبته لوارث، أو لغير وارث، فإن كانت هبته لوارث لم تصح إلا أن يجيز الورثة، وهل ذلك هبة مبتدأة من الورثة، أو هي هبة من المريض، في ذلك خلاف سبق الكلام عليه في عقد الوصية (¬2). (ث -264) لما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقًا من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: والله يا بنية ما من الناس أحد. ¬
القول الأول
أحب إلى غنى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقًا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث ... " (¬1). [إسناده صحيح]. جاء في المدونة: "فلم ير أبو بكر قبضها في المرض جائزًا لها، ولم ير أن يسعه أن يدفع ذلك إليها إذا لم تقبضها في صحة منه" (¬2). [م - 1840] وإن كانت هبته لغير وارث فقد اختلف الفقهاء فيها على أقوال: القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن تبرعات المريض ليست وصية؛ لأنها منجزة في الحال، ولكن لها حكم الوصية، بحيث تنفذ من الثلث، وما زاد على الثلث يحجر عليه فيه، فإن أجاز الورثة أو برئ صح تبرعه (¬3). قال الزيلعي: "لأن الوصية إيجاب بعد الموت، وهذه التصرفات منجزة في ¬
الحال، وإنما اعتبرت من الثلث؛ لتعلق حق الورثة بماله، فصار محجورًا عليه في حق الزائد على الثلث" (¬1). وقال ابن الهمام تعليقًا على قول بعضهم: الهبة في المرض في حكم الوصية، قال: "إن أراد أن الهبة في المرض في حكم الوصية من كل الوجوه فهو ممنوع، ألا يرى أن الهبة عقد منجز، والوصية في المرض عقد معلق بالموت" (¬2). وجاء في الذخيرة نقلاً من الجواهر: "كل تبرع في المرض المخوف فهو محسوب في الثلث، وإن كان منجزًا" (¬3). فقوله: (وإن كان منجزًا) هذا هو الفارق الجوهري بين الهبة في المرض، وبين الوصية. ولما ذكر الخرشي التفصيل في هبة المريض، قال: "ليس من تبرعه الذي فيه التفصيل الوصية" (¬4). وجاء في حاشيتي قليوبي وعميرة عن هبة المريض: "ليس وصية وإن كان له حكمها" (¬5). وذكر الحنابلة خمسة فروق بين هبة المريض وبين وصيته: أحدها: أن العطايا إذا عجز الثلث عن جميعها بدئ بالأول فالأول؛ لوقوعها ¬
دليل من قال: له حكم الوصية
لازمة، فلو شاركتها الثانية لمنع ذلك لزومها في حق المعطي؛ لأن ذلك يعني أنه يملك الرجوع عن بعضها بعطية أخرى، وهذا غير ممكن، والوصية يسوى بين متقدمها ومتأخرها؛ لأنها تبرع بعد الموت، فوجد دفعة واحدة. الثاني: لا يصح الرجوع في الهبة بعد القبض؛ لأنها لازمة في حق الواهب، ولو كثرت، وإنما منع من التبرع بزيادة على الثلث لحق الورثة بخلاف الوصية، فإنه يملك الرجوع فيها؛ لأن التبرع فيها مشروط بالموت فيملك الرجوع قبله. الثالث: أن قبولها على الفور في حال حياة المعطي وكذلك ردها، والوصايا لا حكم لقبولها ولا ردها إلا بعد الموت. الرابع: أن الملك يثبت في العطية من حينها بشروطها؛ من العلم، وكونها لا يصح تعليقها على شرط، والوصية بخلافه. الخامس: أن الواهب إذا مات قبل تقبيضه الهبة المنجزة، كانت الخيرة للورثة، إن شاؤوا قبضوا، وإن شاؤوا منعوا، والوصية تلزم بالقبول بعد الموت بغير رضاهم (¬1). دليل من قال: له حكم الوصية: الدليل الأول: (ح -1113) ما رواه مسلم من طريق إسماعيل وهو ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، أن رجلاً أعتق ستة ¬
ونوقش هذا الحديث من وجهين
مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجزأهم أثلاثًا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة، وقال له قولا شديدًا (¬1). وليس في الحديث ما يدل على تخصيص الحكم بالعتق دون سائر التبرعات، بل هذا من الجمود على الظاهر. قال ابن عبد البر: "أجمع الجمهور من العلماء الذين هم حجة على من خالفهم أن هبات المريض، وصدقاته، وسائر عطاياه ... لا ينفذ منها إلا ما حمل ثلثه" (¬2). ونوقش هذا الحديث من وجهين: الوجه الأول: أن المعتبر في الثلث هو القيمة، وليس العدد، سواء كان الحاصل من ذلك اثنين منهم، أو أقل، أو أكثر. ويجاب: بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جزأهم ثلاثة أجزاء، وهذا يدل على أنه أقامهم وعدلهم بالقيمة، ويحتمل أن قيمهم متساوية. قال الخطابي في معالم السنن: "عبيد أهل الحجاز إنما هم الزنوج والحبش، والقيم قد تتساوى فيها غالبًا أو تتقارب" (¬3). ¬
الوجه الثاني
ولا أحب لطالب العلم أن يعترض على النص الشرعي بالفهم والفقه، بل إن مصدر الفقه والفهم هو التسليم للنص. الوجه الثاني: يرى الحنفية أن هذا الحديث مخالف للأصول حسب فهمهم، لهذا ذهبوا إلى أنه يعتق من كل عبد ثلثه، ويسعى كل واحد في ثلثي قيمته حتى يؤدوه إلى الورثة؛ لأن السيد قد أوجب لكل واحد منهم العتق، فلو كان له مال لنفذ العتق في الجميع بالإجماع، وإذا لم يكن له مال وجب أن ينفذ لكل واحد منهم بقدر الثلث الجائز تصرف السيد فيه، ويسعى كل واحد في ثلثي قيمتة للورثة (¬1). وخالفهم في ذلك مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وجماعة من أهل الحديث (¬2)، فقالوا بمقتضى الحديث، وأما السعاية فهي وردت في معسر أعتق حصته من عبد بينه وبين آخر: (ح -1114) لما رواه البخاري من طريق مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أعتق شركًا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق (¬3). ¬
الدليل الثاني
ولا يجوز أن ترد سنة بمعنى ما في أخرى إذا أمكن استعمال كل واحدة منهما بوجه مختلف عن الأخرى. والأخذ بالسعاية يجب ألا يدخل ضررًا على الغير، وقد أدخلتم الضرر على الورثة، وعلى العبيد المعتقين. قال الشوكاني نقلاً عن ابن رسلان: "وفيه ضرر كثير؛ لأن الورثة لا يحصل لهم شيء في الحال أصلاً، وقد لا يحصل من السعاية شيء أو يحصل في الشهر خمسة دراهم أو أقل، وفيه ضرر على العبيد لإلزامهم السعاية من غير اختيارهم" (¬1). الدليل الثاني: (ح -1115) ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن عامر بن سعد بن مالك، عن أبيه، قال: عادني النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع من مرض أشفيت منه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قال: فأتصدق بشطره؟ قال: الثلث يا سعد، والثلث كثير؛ إنك أن تذر ذريتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ولست بنافق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا آجرك الله بها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك ... الحديث (¬2). وجه الاستدلال: قوله: (أفأتصدق بثلثي مالي) فدل الحديث على أن تبرعات المريض ناجزة، وأنها من الثلث، وليست من رأس ماله. ¬
وأجيب
قال الطحاوي: "فقيل هذا الحديث جعل صدقته في مرضه من الثلث، كوصاياه من الثلث من بعد موته" (¬1). وأجيب: (ح -1116) قد روى الحديث البخاري من طريق سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد به، وفيه: مرضت فعادني النبي - صلى الله عليه وسلم - ... قلت: أريد أن أوصي، وإنما لي ابنة، قلت: أوصي بالنصف، قال: النصف كثير، قالت: فالثلث، قال: (الثلث والثلث كثير ... (¬2). ورواه البخاري من طريق عائشة بنت سعد، أن أباها قال: تشكيت بمكة، وفيه: فأوصي بثلثي مالي، وأترك الثلث؟ (¬3). قال الحافظ: "التعبير بقوله (أفأتصدق) فيحتمل التنجيز والتعليق، بخلاف أفأوصي، لكن المخرج متحد، فيحمل على التعليق للجمع بين الروايتين" (¬4). الدليل الثالث: (ح -1117) ما رواه ابن ماجه من طريق وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم، زيادة لكم في أعمالكم (¬5). ¬
وجه الاستدلال
[إسناده ضعيف جدًا، وله شواهد كلها ضعيفة، ويرجى أن يقوي بعضها بعضًا] (¬1). وجه الاستدلال: أن الحديث يدل بطرقه أن الله - سبحانه وتعالى - تصدق على الإنسان المشرف على الموت التصرف بثلث ماله زيادة في عمله. ونوقش من وجهين: الوجه الأول: أن الحديث ضعيف، والضعيف لا حجة فيه. الوجه الثاني: أن الحديث لو صح فهو في الوصية، وليس في هبة المريض؛ لأن الحديث يذكر صدقة الوفاة، وليس فيه أي ذكر للمرض، فلا يصح الاستدلال. الدليل الرابع: (ث -265) ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقًا من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلى غنى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقًا، فلو كلنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث ... (¬2). [إسناده صحيح]. ¬
وجه الاستدلال
وجه الاستدلال: فالهبة كانت في حال الصحة إلا أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، فلما مرض خليفة رسول الله قبل القبض أصبحت الهبة في حكم هبة المريض، ولما كانت هبة المريض في حكم الوصية، والوصية للوارث لا تصح، بطلت الهبة، ولو كانت هذه الهبة لغير وارث لنفذت بقدر الثلث، والله أعلم. القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن هبة المريض فيه تفصيل: إن كان ماله مأمونًا، كالأرض، وما اتصل بها من بناء أو شجر، فإن هبته، وعتقه ووقفه، وصدقته تنفذ من الثلث عاجلاً. وإن كان ماله غير مأمون فإنه يوقف، ولو كان دون الثلث، حتى يقوم في ثلثه بعد موته إن وسعه، أو ما وسع منه، وإن برئ مضى جميع تبرعه (¬1). قال الخرشي في شرحه: "المريض مرضًا مخوفًا إذا تبوع في مرضه بشيء من ماله، بأن أعتق، أو تصدق، أو وقف، فإن ذلك يوقف حتى يقوم في ثلثه بعد موته، إن وسعه، أو ما وسع منه، وإن لم يمت بأن صَحّ مضى جميع تبرعه، وهذا إذا كان ماله غير مأمون. وأما لو كان ماله مأمونًا، وهو الأرض وما اتصل بها من بناء، أو شجر، فإن ما بتله من عتق، أو تصدق به، وما أشبهه لا يوقف وينفذ ما حمله ثلثه عاجلًا" (¬2). ¬
حجة هذا القول
حجة هذا القول: دليل هذا القول هي أدلة القول السابق، ولا يختلف عن القول السابق، إلا في مسألتين: الأولى: القول السابق اشترط القبض للزوم الهبة، وأما المالكية فلم يشترطوا ذلك، إلا أنه إذا قبضها قبل الموت، وكانت أمواله مأمونة نفذت في الثلث. وسوف نناقش هذه المسألة تحت عنوان مستقل إن شاء الله تعالى. الثانية: التفريق بين الأموال المأمونة وغيرها راجع إلى تقدير الهبة من ثلث مال الواهب. قال ابن عبد البر: "هبة المريض موقوفة؛ ليعلم هل تخرج من ثلثه أم لا، إلا أن يكون له أموال مأمونة، فتكون الهبة إذا علم بخروجها من الثلث نافذة لمن وهبت له إذا قبضها. وإن قبضت الهبة، وصح الواهب كانت في رأس ماله. وما تبعه من الهبات في مرضه، ثم مات منه كانت في ثلثه، قبضت أو لم تقبض إن احتملها الثلث وإلا فما حمله الثلث منها. وإن صح نفذت كلها من رأس ماله، ولو وهبت في صحته، فتأخر إقباضه إياها حتى مات أو مرض رجعت ميراثًا بين ورثته، ولم تكن في ثلث، ولا في غيره، سواء كانت لوارث أو لاجنبي". القول الثالث: فرق الظاهرية بين عتق المريض وبين هباته وصدقاته وما يعطيه، فقالوا في
حجة هذا القول
عتق المريض: ينفذ منه الثلث، وأما هباته وصدفاته وما يهديه وهو حي فنافذ ذلك كله (¬1). حجة هذا القول: الدليل الأول: قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. وجه الاستدلال: أن الأمر في الآية مطلق، فلم يخص - عز وجل - صحيحًا من مريض، ولا حاملاً من حائل، ولا آمنا من خائف، ولا مقيمًا من مسافر {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]. ولو أراد الله تعالى تخصيص شيء من ذلك لبينه على لسان رسول عليه الصلاة والسلام. الدليل الثاني: أن المريض لو أنفق ماله في ملاذه وشهواته اعتبر ذلك من رأس ماله، فأولى أن يكون من رأس ماله ما يتقرب به من عتقه وهباته ومحاباته. الدليل الثالث: استصحاب الحال: وذلك أنهم لما اتفقوا على جواز هبته في الصحة وجب استصحاب حكم الإجماع في المرض إلا أن يدل الدليل من كتاب أو سنة بينة، ولا دليل في التفريق بين حال الصحة وحال المرض. ¬
الراجح
الراجح: أن عطية المريض مرض الموت إذا اتصل بالموت، وكان الموهوب له قد قبض الهبة فإنها نافذة في الثلث، فهي تأخذ حكم الهبة من حيث لزومها بالقبض، وبقيت شروط الهبة، ولها حكم الوصية من حيث نفوذ تصرف الواهب في ماله حيث يكون محجورًا عليه أن يتصرف في ماله تصرفًا يحرم الوارث من هذا المال، ولهذا لو طلق زوجته في مرض موته لم تحرم من الميراث لاتهامه بحرمانها، والله أعلم.
المسألة الثالثة في هبة المريض إذا لم يكن له وارث
المسألة الثالثة في هبة المريض إذا لم يكن له وارث [م - 1841] إذا وهب الرجل المريض ماله لآخر، وقبض الهبة، ولم يكن له وارث، فهل تصح الهبة بجميع ماله، أو تصح بمقدار الثلث فقط؟ اختلف العلماء في ذلك: القول الأول: إذا لم يترك الواهب وارثًا فإن الهبة صحيحة نافذة، ولو كانت أكثر من الثلث، بل ولو استغرقت كل ماله. وهذا مذهب الحنفية، وبه قال الحنابلة والمالكية في أحد القولين في الوصية، والهبة في المرض في التنفيذ معتبرة بالوصية (¬1). جاء في مجلة الأحكام العدلية: "إذا وهب من لا وارث له جميع أمواله لأحد في مرض موته وسلمها تصح وبعد وفاته ليس لأمين بيت المال المداخلة في تركته" (¬2). القول الثاني: إن وهب أكثر من الثلث، ولا وارث له صح في الثلث فقط، وهذا مذهب المالكية، والشافعية، ورواية في مذهب الحنابلة (¬3). ¬
وقد ذكرنا أدلتهم في عقد الوصية، والهبة في المرض معتبرة بالوصية، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، ولله الحمد. ¬
المسألة الرابعة في اشتراط القبض في هبة المريض
المسألة الرابعة في اشتراط القبض في هبة المريض [م - 1842] إذا وهب الرجل شيئًا من ماله فلم تقبض الهبة حتى مات، فإن كان الواهب صحيحًا بطلت الهبة في قول عامة أهل العلم. وإن كان الواهب مريضًا فاختلف العلماء في بطلان الهبة بفوات القبض على ثلاثة أقوال: القول الأول: يشترط القبض في هبة المريض كالهبة من الصحيح، وهذا مذهب الجمهور، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). قال السرخسي: "ولا يجوز هبة المريض، ولا صدقته إلا مقبوضة، فإذا قبضت جازت" (¬2). وجاء في الحاوي: "إذا وهب لأجنبي في مرضه الذي مات منه هبة، فإن لم يقبضها حتى مات فالهبة باطلة؛ لأنها لا تتم إلا بالقبض. وإن أقبضه قبل الموت صحت الهبة، وكانت من الثلث تمضي إن احتملها الثلث، ويرد منها ما عجز الثلث عنه" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: إذا مات الواهب المريض قبل إقباض الهبة، فالهبة صحيحة، وتأخذ حكم الوصية، وبه قال ابن أبي ليلى، وهو مذهب المالكية (¬1). قال أبو عبد الله الفاسي: "إذا تصدق وهو مريض مرضًا مخوفًا، واستمر مريضاً إلى أن مات، فإن الصدقة تبطل لحق الورثة في المال، وتصير وصية تخرج من الثلث بعد أن كانت من رأس المال، وتجري عليها أحكام الوصية فإن كانت بالثلث فأقل لغير وارث نفذت، ولا تفتقر لحوز" (¬2). القول الثالث: أن الوارث بالخيار بين إمضائها بالعقد الماضي أو المنع، وهذا أحد القولين في مذهب الشافعية، ومذهب الحنابلة (¬3). جاء في الحاوي: "لو مات الواهب قبل القبض ففيها قولان: أحدهما: أن وارثه بالخيار بين إقباضها بالعقد الماضي أو المنع ... " (¬4). وجاء في المغني: "الواهب إذا مات قبل تقبيضه الهبة المنجزة، كانت الخيرة للورثة، إن شاؤوا قبضوا، وإن شاؤوا منعوا، والوصية تلزم بالقبول بعد الموت بغير رضاهم" (¬5). ¬
سبب الخلاف
سبب الخلاف: الهبة في مرض الموت مترددة بين الوصية وبين الهبة، فكونها ناجزة في الحال، فهي هبة، وكونها لا تصح للوارث، وتصح لغيره بقدر الثلث فأقل إلا أن يجيز الورثة فهي وصية، فالجمهور غلبوا جانب الهبة، فاشترطوا القبض؛ لأنها ناجزة في الحال، وليست متوقفة على موت الواهب، والمالكية غلبوا جانب الوصية لكونها لا تصح لوارث، وتخرج من الثلث، وأرى أن قول الجمهور أقوى؛ لأن الصيغة هبة منجزة، وكونها لا تنفذ إلا بحدود الثلث ليس لأنها وصية، وإنما لردع الواهب حتى لا يحرم الوارث قبل موته. وأما وجه من قال: إن الوارث بالخيار إن شاء أمضاها بالعقد الماضي، وإن شاء ردها، فلعله رأى أن في هذا شبهًا في تصرف الفضولي الموقوف على إجازة المالك، والمالك الحقيقي هو الوارث، فكان الخيار له، والله أعلم.
الفرع السابع في هبة الحامل
الفرع السابع في هبة الحامل [م - 1843] اختلف الفقهاء في حكم هبة الحامل على خمسة أقوال: القول الأول: هبة الحامل من رأس المال ما لم يضربها المخاض، فإذا ضربها المخاض فعطيتها من الثلث، وهو مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة (¬1). جاء في البناية: "والحامل إذا ضربها المخاض، وهو الطلق يكون تبرعها من الثلث" (¬2). وفي الأم: "والحامل يجوز ما صنعت في مالها، ما لم يحدث لها مرض مع حملها، أو يضربها الطلق فإن ذلك مرض مخوف" (¬3). وجه من قال: إذا ضربها الطلق صار مخوفًا: أن المرأة لا تخاف الموت من مجرد الحمل، والآلام منه لا تكون مخوفة حتى يضربها الطلق، فأشبهت صاحب الأمراض الممتدة قبل أن يصير صاحب فراش. ¬
القول الثاني
القول الثاني: الحامل إذا صار لها ستة أشهر فعطيتها من الثلث، وهذا مذهب مالك، وهو رواية عن أحمد. وقال إسحاق: إذا أثقلت لا يجوز لها إلا الثلث، ولم يحد (¬1). حجة هذا القول: أن المرأة الحامل أول حملها بشر وسرور، وليس بمرض، ولا خوف؛ لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71]. وقال {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 189] فالمرأة الحامل إذا أثقلت لم يجز لها قضاء إلا في ثلثها، فأول الإتمام ستة أشهر، قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]. وقال {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] فإذا مضت للحامل ستة أشهر من يوم حملت لم يجز لها قضاء في مالها إلا في الثلث (¬2). ولأن ستة الأشهر وقت يمكن الولادة فيه، وهي من أسباب التلف. القول الثالث: هبة الحامل كالصحيح، وبه قال الحسن، والزهري، وهو القول الثاني ¬
حجة هذا القول
للشافعي، ورجحه ابن حزم (¬1). وقال به بعض الشافعية في النساء التي توالت ولادتها من كبار السن، لسهولة ذلك عليهن؛ لاعتيادهن، وأن الأغلب سلامتهن (¬2). جاء في المهذب: "وإن ضرب الحامل الطلق فهو مخوف لأنه يخاف منه الموت. وفيه قول آخر: أنه غير مخوف لأن السلامة منه أكثر" (¬3). حجة هذا القول: الدليل الأول: قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. وجه الاستدلال: أن الأمر في الآية مطلق، فلم يخص - عز وجل - صحيحًا من مريض، ولا حاملًا من حائل، ولا آمنًا من خائف، ولا مقيمًا من مسافر {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]. ولو أراد الله تعالى تخصيص شيء من ذلك لبينه على لسان رسول عليه الصلاة والسلام. الدليل الثاني: أن الغالب على الحامل السلامة وليس الهلاك. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: ولأن الحامل لو أنفقت مالها في ملاذها وشهواتها اعتبر ذلك من رأس مالها، فأولى أن يكون من رأس مالها ما تتقرب به من الهبات والصدقات. الدليل الرابع: استصحاب الحال: وذلك أنهم لما اتفقوا على جواز هبتها في الصحة وجب استصحاب حكم الإجماع في حالة الحمل إلا أن يدل دليل من كتاب أو سنة بينة، ولا دليل في التفريق بين الحامل وغيرها. القول الرابع: الحمل مخوف من ابتدائه، وهذا قول ابن المسيب (¬1). حجة هذا القول: قال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف: 15]. فسوى الله - سبحانه وتعالى - بين آلام الوضع، وآلام الحمل. (ث -266) وروى عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج قال: قال لي عطاء: ما صنعت الحامل في حملها فهو وصية قلت: أرأي؟ قال: بل سمعنا (¬2). [إسناده صحيح]. (ث -267) وروى عبد الرزاق، قال: عن معمر، عن قتادة قال: ما صنعت ¬
الراجح
الحامل في حملها فهو وصية. قال معمر: وأخبرني من سمع عكرمة يقول مثل ذلك (¬1). [صحيح عن قتادة]. الراجح: أن المرأة الحامل إن كانت في السابق تتعرض للموت لقلة الرعاية الصحية، وعدم توفر الإمكانيات للقيام بالعمليات القيصرية، فهي الآن وبفضل الله - سبحانه وتعالى -، ثم فضل تقدم الرعاية في كثير من البلاد الإِسلامية لم يعد الحمل يشكل سببًا غالبًا للموت، نعم لو كان ذلك في بلاد لا تتوفر فيها الرعاية الصحية، ويشكل الوفيات في الولادة مرضًا مخوفا فإنه يمكن أن نعتبر هبات المرأة إذا ضربها الطلق من الثلث، والله أعلم. ¬
الفرع الثامن في هبة المرتد
الفرع الثامن في هبة المرتد وجوب قتل المرتد لا يمنع من صحة تصرفاته كالحربي. وقيل: ما كان سببًا لزوال عصمة الدم كان سببًا لزوال عصمة المال. [م - 1844] اختلف العلماء في بطلان هبة المرتد، وخلافهم راجع إلى اختلافهم في حكم تصرفه في ماله بعد ردته: فمن قال: إن ملك المرتد لماله يزول بردته أبطل هبته، وسائر تصرفاته. ومن قال: إن ملكه لا يزول عنه بردته، فاختلفوا: فقيل: لا تبطل هبته؛ لأن وجوب قتله لا يمنع من صحة هبته كالحربي. وقيل: تصرفه في ماله حال ردته موقوف، فإن مات على ردته بطلت، وإن رجع إلى الإِسلام قبل موته نفذت هبته، وسائر تصرفاته، هذا هو الخلاف في الجملة، وإليك تفصيل ما أجمل. القول الأول: أن تصرف المرتد في أمواله حال ردته موقوف، فإن أسلم صحت عقوده، وإن مات أو قتل، أولحق بدار الحرب بطلت. وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة، وبه قال أبو حنيفة في المرتد فقط دون المرتدة، والفرق عنده راجع إلى أن المرتد يجب قتله إلا أن يرجع إلى الإِسلام بخلاف المرتدة (¬1). ¬
جاء في فتح القدير: "وما باعه، أو اشتراه، أو أعتقه، أو وهبه، أو رهنه، أو تصرف فيه من أمواله في حال ردته فهو موقوف، فإن أسلم صحت عقوده، وإن مات، أو قتل، أو لحق بدار الحرب بطلت. وهذا عند أبي حنيفة" (¬1). قال الكاساني: "وأما المرتدة فلا يزول ملكها عن أموالها بلا خلاف، فتجوز تصرفاتها في مالها بالإجماع؛ لأنها لا تقتل، فلم تكن ردتها سبباً لزوال ملكها عن أموالها بلا خلاف، فتجوز تصرفاتها" (¬2). جاء في حاشية الجمل: "والمعتمد أن وصيته موقوفة كسائر تصرفات" (¬3). وقال النووي: "وفي زوال ملكه عن ماله بها أقوال، أظهرها: إن هلك مرتدًا بان زواله بها، وإن أسلم بان أنه لم يزل ... وإذا وقفنا ملكه فتصرفه إن احتمل الوقف، كعتق، وتدبير، ووصية موقوف إن أسلم نفذ وإلا فلا" (¬4). وقال في الإنصاف: "ومن ارتد عن الإِسلام لبم يزل ملكه بل يكون موقوفًا، وتصرفاته موقوفة، فإن أسلم: ثبت ملكه وتصرفاته، وإلا بطلت" (¬5). وفي كشاف القناع: "ويكون ملكه موقوفًا، فإن أسلم ثبت ملكه، وإن قتل أو مات كان ماله فيئًا" (¬6). وقال أبو الخطاب الحنبلي: "ولا يزول ملك المرتد عن ماله بنفس الردة، بل ¬
وجه كون تصرفه موقوفا
يكون موقوفًا، وإن تصرف وقع تصرفه موقوفًا، فإن عاد إلى الإِسلام نفذ تصرفه، وإن قتل على كفره لم ينفذ تصرفه" (¬1). وجه كون تصرفه موقوفًا: أن الواجب في المرتد أن يستتاب، فقد يتوب، وقد يصر على ردته، لهذا لم يكن القول بزوال الملك بمجرد الردة حتى يتبين لنا أنه مصر على ردته إلى حين إنفاذ حد الردة فيه، فإن رجع وتاب رجع إليه ملكه، ونفذت هبته، وإن أصر على ردته حتى قتل تبين لنا زوال ملكه بالردة، فبطلت هبته. ولأن ملكه قد تعلق به حق غيره مع بقاء ملكه فيه، فكان تصرفه موقوفًا كتبرع المريض. وأما الدليل على التفريق بين الرجل والمرأة في الردة عند الحنفية فقد ذكرنا أدلتهم وتمت مناقشتها في وصية المرتد، فانظرها هناك. القول الثاني: أن هبة المرتد باطلة، وهذا مذهب المالكية، وقول في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). جاء في حاشية العدوي: "أما هبة الصغير" والسفيه، والمرتد فباطلة" (¬3). ¬
حجة هذا القول
وقال الصاوي: "أما بطلانها في المرتد فلزوال ملكه حال الردة" (¬1). حجة هذا القول: إذا كانت الردة سببًا لزوال عصمة الدم، حيث توجب الردة قتل المرتد، فهي سبب لزوال عصمة المال؛ لأن المال تبع لعصمة النفس. القول الثالث: هبة المرتد صحيحة، وبه قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية، واختاره المزني من الشافعية (¬2)، إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى يقول ينفذ كما ينفذ من الصحيح حتى يعتبر تبرعاته من جميع المال، وعند محمَّد رحمه الله تعالى ينفذ كما ينفذ من المريض؛ لأنه مشرف على الهلاك. وحجتهما في صحة هبته: الحجة الأولى: القياس على الحربي، حيث هبة الحربي صحيحة، فكذلك المرتد. الحجة الثانية: أن الصحة تعتمد على الأهلية، والنفاذ يعتمد على الملك. والأهلية قائمة لكونه مخاطبًا، ألا ترى أن القتل يحسب عليه بارتداده. والملكية صحيحة؛ لقيام صفة الحرية، وملكه باق على ماله كسائر تصرفاته، ¬
القول الرابع
ويقضى من ماله ديونه، وكسبه بعد ردته كسب صحيح، ولا يشترط للملكية أن يكون مسلما، فالكفار يتمتعون بحق الملكية لأموالهم، نعم ما يتوقف على الإِسلام كالنكاح والإرث، والذبح يبطل منه لاشتراط الإِسلام بخلاف ما يتعلق بالمال فلا يبطل، والملكية لا تنعدم بالردة، وإنما تأثير ردته في إباحة دمه، وذلك لا يؤثر على ملكيته، كالمقضى عليه بالرجم والقصاص، إلا أن محمدًا رحمه الله تعالى قال: هو مشرف على الهلاك فيكون بمنزلة المريض في التصرف (¬1). القول الرابع: إن تصرف بعد الحجر عليه لم يصح تصرفه كالسفيه، وإن تصرف قبل الحجر عليه فعلى الخلاف السابق، وهذا قول في مذهب الحنابلة. جاء في المغني: "وتصرفات المرتد في ردته بالبيع، والهبة، والعتق، والتدبير والوصية، ونحو ذلك موقوف؛ إن أسلم تبينا أن تصرفه كان صحيحًا، وإن قتل أو مات على ردته، كان باطلا. وهذا قول أبي حنيفة. وعلى قول أبي بكر، تصرفه باطل؛ لأن ملكه قد زال بردته. وهذا أحد أقوال الشافعي. وقال في الآخر: إن تصرف قبل الحجر عليه، انبنى على الأقوال الثلاثة، وإن تصرف بعد الحجر عليه، لم يصح تصرفه كالسفيه" (¬2). ¬
الراجح
الراجح: أن الهبة تختلف عن الوصية، وذلك أن الوصية لا تنفذ إلا بعد الموت، وإذا مات مرتدًا لم يكن له حكم الإِسلام، وإنما له حكم الملة التي انتقل إليها، بخلاف الهبة فإنها تصرف في الحياة، فإن وهب قبل عرضه على القضاء، وإصدار حد الردة عليه كانت هبته لها حكم هبة الرجل الصحيح، سواء كان مسلمًا أو مرتدًا، وإن صدرت هبته بعد الحكم عليه بالقتل، وإصراره على ردته فهبته هبة الرجل المريض مرضًا مخوفًا، والله أعلم. وبهذا المبحث أكون قد انتهيت من بحث غالب المسائل المتعلقة باشتراط أن يكون الواهب من أهل التبرع، سواء كانت هذه المسائل متفقًا عليها، أو مختلفًا فيها، ونأتي على الشرط الثاني إن شاء الله تعالى في المبحث الثاني.
الشرط الثاني أن يكون الواهب مالكا أو مأذونا له في التبرع
الشرط الثاني أن يكون الواهب مالكًا أو مأذونا له في التبرع المبحث الأولى في هبة المباحات قبل تملكها المباح إنما يملك بالإحراز. المباحات لا توهب قبل إحرازها. [م - 1845] يشترط أن يكون الواهب مالكًا للموهوب، وهذا الشرط يعني أمرين: الأول: لا تصح هبة المباحات قبل تملكها؛ لأن الهبة تمليك، وهذه أموال لا مالك لها. الثاني: في حكم هبة الفضولي ملك غيره، فهاتان مسألتان. أما تمليك المباحات فنص الحنفية على أنه لا يصح تمليكها، وهي مباحة. جاء في بدائع الصنائع: "أن يكون مملوكًا في نفسه، فلا تجوز هبة المباحات؛ لأن الهبة تمليك، وتمليك ما ليس بممولك محال" (¬1). وقال ابن نجيم: وشرائط صحتها في الواهب: العقل، والبلوغ، والملك، فلا تصح هبة المجنون ... وغير المالك" (¬2). ¬
وفي الفتاوى الهندية: "وأما ما يرجع إلى الواهب، فهو أن يكون من أهل الهبة، وكونه من أهلها: أن يكون حرًا عاقلاً بالغًا مالكًا للموهوب" (¬1). وقال ابن شاس المالكي: "الركن الثاني: الموهوب: وهو كل مملوك يقبل النقل" (¬2). وقال ابن رشد: "أما الواهب فإنهم اتفقوا على أنه تجوز هبته إذا كان مالكًا للموهوب صحيح الملك" (¬3). وجاء في الحاوي: "وأما الواهب فهو كل مالك جائز التصرف، فإن كان غير مالك كالغاصب لم يجز" (¬4). وجاء في زاد المستقنع في تعريف الهبة بقوله: "وهي -يعني الهبة- التبرع بتمليك ماله المعلوم الموجود في حياته غيره" (¬5). فقوله: (بتمليك ماله) خرج به كل مال لا يملكه سواء كان مباحًا أو كان مملوكًا لغيره؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يتبرع بشيء لا يملكه. ¬
المبحث الثاني في صحة هبة الفضولي
المبحث الثاني في صحة هبة الفضولي تصرف الفضولي موقوف على الإجازة. تعريف الفضولي في الاصطلاح (¬1): هو من لم يكن وليًا، ولا أصيلاً، ولا وكيلًا في العقد (¬2). والخلاف في هبة الفضولي كالخلاف في بيعه؛ فإن من منع بيعه سوف يمنع هبته من باب أولى؛ ذلك أن البيع يقابله عوض، وقد يكون فيه حظ وغبطة للمالك بخلاف الهبة، فإنها تبرع بلا مقابل، ولهذا كثير من الفقهاء يبحثون أحكام الفضولي تحت عنوان تصرف الفضولي ليدخل في ذلك بيعه وشراؤه، وهبته، وصدقته، ووقفه، ونحو ذلك. جاء في مغني المحتاج: "فبيع الفضولي: وهو البائع مال غيره بغير إذنه، ولا ولاية باطل ... وكذا سائر تصرفاته القابلة للنيابة، كما لو زوج أمة غيره، أو ¬
القول الأول
ابنته، أو طلق منكوحته، أو أعتق عبده، أو أجر داره، أو وقفها، أو وهبها، أو اشترى له بعين ماله؛ لأنه ليس بمالك، ولا ولي، ولا وكيل، فلو عبر المصنف بالتصرف بدل البيع لشمل الصور التي ذكرتها" (¬1). وخالف المالكية وحدهم ففرقوا بين بيع الفضولي وبين هبته، فصححوا البيع موقوفًا على إجازة المالك ومنعوا هبة الفضولي، وسيأتي وجه التفريق عندهم. [م - 1846] إذا علم ذلك فقد اختلف العلماء في هبة الفضولي على أقوال: القول الأول: أن هبة الفضولي كبيعه، موقوف على إجازة المالك، فإن أجازها نفذ، وإن ردها بطل، وهذا مذهب الحنفية، وقول عند المالكية، والقديم من قولي الشافعي، ورواية عن أحمد، وبه قال ابن حزم (¬2). جاء في حاشية الدسوقي: قوله" (صحت في كل مملوك) فظاهره أن غير المملوك: وقفه وهبته باطل، ولو أجازه المالك. وذكر بعضهم: أن وقفه، وهبته، وصدقته، وعتقه كبيعه، في أن كلاً صحيح غير لازم، فإن أمضاه المالك مضى، وإن رده رد، واختاره شيخنا العدوي؛ لأن المالك إذا أجازه كان في الحقيقة صادرًا منه" (¬3). ¬
القول الثاني
القول الثاني: أن هبة الفضولي كبيعه باطلة، وهو قول الشافعي في الجديد، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). القول الثالث: التفريق بين بيع الفضولي وبين هبته، فيصح بيعه موقوفًا على إجازة المالك، ولا تصح هبته، وهذا مذهب المالكية (¬2). وجه الفرق بين البيع والهبة: أن البيع تمليك في نظير عوض، فصحت موقوفة على إجازة المالك، أما الهبة فالتمليك فيها مجانًا، لهذا بطلت. قال الدسوقي في حاشيته: "حاصله أن هبة الفضولي باطلة بخلاف بيعه فإنه صحيح، وإن كان غير لازم، فيجوز للمشتري التصرف في المبيع قبل إمضاء المالك البيع؛ لأن صحة العقد ترتب أثره عليه من جواز التصرف في المعقود عليه، والفرق بين بيع الفضولي وهبته ما قاله الشارح: من أن بيعه في نظير عوض يعود على المالك بخلاف هبته، ومثلها وقفه، وصدقته، وعتقه فمتى صدر واحد من هذه الأربعة من فضولي كان باطلاً، ولو أجازه المالك" (¬3). ¬
وراجع أدلة هذه المسألة في عقد البيع عند الكلام على بيع الفضولي، فقد جمعت أدلتهم هناك، وناقشتها، وبينت الراجح منها، فلله الحمد وحده.
الشرط الثالث أن يكون الواهب راضيا
الشرط الثالث أن يكون الواهب راضيا المكره لا يلزمه شيء من العقود. [م - 1847] يشترط في الواهب أن يكون راضيًا مختارًا؛ لأن الهبة عقد من عقود التبرع، وقد نص القرآن والسنة على اشتراط الرضا في عقود الهبات: قال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" (¬1). وإذا كان الرضا شرطًا في العقود المالية نأتي على حكم الهبة من المكره، والهازل، والمخطئ. جاء في المبسوط: "الهبة من المكره لا تصح؛ لأن يشترط الهبة تمام الرضا، والإكراه يعدم الرضا" (¬2). وجاء في المدونة: "قلت: أرأيت المستكره أيجوز عتقه في قول مالك؟ قال: لا، قلت: ولا يجوز على المستكره شيء من الأشياء في قول مالك لا عتق ولا بيع ولا شراء ولا نكاح ولا وصية ولا غير ذلك؟ ¬
قال: قال مالك: لا يجوز على المستكره شيء من الأشياء لا عتق، ولا طلاق، ولا نكاح، ولا بيع، ولا شراء، وأما الوصية فلم أسمعها من مالك، وهي لا تجوز وصية المستكره" (¬1). وجاء في الشرح الكبير: "الإكراه على الطلاق ... ونحوه كالبيع والشراء، وسائر العقود لا تلزم بالإكراه" (¬2). قال الونشريسي: المكره لا يلزمه شيء من العقود (¬3). وقال الخطيب في مغني المحتاج: "ولا أثر لقول المكره بغير حق إلا في الصلاة فتبطل به في الأصح ... " (¬4). وجاء في منار السبيل: "وشروطها -يعني الهبة- ثمانية: ... كونه مختارًا غير هازل، فلا تصح من مكره، ولا هازل" (¬5). وقال ابن القيم: "من تدبر مصادر الشرع وموارده تبين له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها، بل جرت على غير قصد منه، كالنائم، والناسي، والسكران، والجاهل، والمكره، والمخطئ ... " (¬6). ¬
المبحث الأول في هبة الهازل
المبحث الأول في هبة الهازل هبة الهازل والمكره والمخطئ لا تصح لفوات الرضا. [م - 1848] اختلف الفقهاء في هبة الهازل على قولين: القول الأول: هبة الهازل هبة صحيحة، وهذا مذهب الحنفية. قال ابن نجيم: لو وهب مازحًا صحت كما في البزازية" (¬1). وجاء في مرقاة المفاتيح: "لو طلق، أو نكح، أو راجع، وقال: كنت فيه لاعبًا وهازلًا، لا ينفعه، وكذا البيع، والهبة وجميع التصرفات" (¬2). القول الثاني: لا تصح هبة الهازل، وهذا مذهب الحنابلة. جاء في مطالب أولي النهى: "يصح عد شروط هبة أحد عشر: كونها من جائز تصرف، فلا تصح من محجور عليه. (مختار) فلا تصح من مكره. (جاد) فلا تصح من هازل" (¬3). ¬
وفي دليل الطالب: "وشروطها -يعني الهبة- ثمانية: كونها من جائز التصرف كونه مختارًا غير هازل" (¬1). وهذا هو القول الراجح. ¬
المبحث الثاني في هبة التلجئة
المبحث الثاني في هبة التلجئة الوسائل لها أحكام المقاصد. تعريف التلجئة: أن يتواضعا على إظهار صورة عقد عند الناس لكن بلا قصد (¬1). ويقول ابن قدامة: "ومعنى بيع التلجئة: أن يخاف أن يأخذ السلطان أو غيره ملكه، فيواطئ رجلاً على أن يظهر أنه اشتراه منه؛ ليحتمي بذلك، ولا يريدان بيعًا حقيقيًا" (¬2). ويختلف الحكم بحسب الغرض من الفعل، فإن كان الحامل على الهبة الصورية حماية ماله من تسلط بعض الظلمة عليه بغير حق كان فعله مباحًا؛ لأن الإنسان من حقه أن يدافع عن ماله المعصوم، وإن كان الحامل عليه عملاً غير مشروع، كما لو كان الرجل مدينًا، فيلجأ إلى العقود الصورية ليبعد أمواله عن متناول دائنيه، بأن يتظاهر بإبرام تصرفات من شأنها إخراج هذه الأموال من ذمته، ليدعي الإعسار، وقد يخفي الطرفان عقد البيع تحت ستار عقد هبة صوري ليسقط حق الشفعة لشريكه، فهذا الفعل يكون محرمًا؛ لأنه يتضمن إسقاط حق الغير بغير حق. [م - 1849] وقد تكلم الحنابلة عن هبة التلجئة بالنص: ¬
القول الأول
جاء في مطالب أولي النهى: "ولا تصح الهبة هزلاً، ولا تلجئة: بأن لا تراد الهبة باطناً: كان توهب في الظاهر، وتقبض مع اتفاف الواهب والموهوب له على أنه ينزعه منه متى شاء، أو توهب لخوف من الموهوب له أو غيره؛ فلا تصح، وللواهب استرجاعها إذا زال ما يخاف، أو جعلت الهبة طريقا إلى منع وارث حقه أو منع غريم حقه فهي باطلة؛ لأن الوسائل لها حكم المقاصد" (¬1). وفي كشاف القناع: "وهبة التلجئة باطلة بحيث توهب في الظاهر، وتقبض مع اتفاق الواهب والموهوب له على أنه ينزعه منه إذا شاء، ونحو ذلك من الحيل التي تجعل طريقا إلى منع الوارث أو الغريم حقوقهم؛ لأن الوسائل لها حكم المقاصد" (¬2). وتكلم بقية الفقهاء عن بيع التلجئة، وأعتقد أن من لم يصحح بيع التلجئة فإنه لن يصحح هبة التلجئة من باب أولى. القول الأول: البيع باطل. وهذا القول هو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف ومحمد (¬3)، والمشهور في مذهب الحنابلة (¬4). ¬
القول الثاني
القول الثاني: أن البيع صحيح، رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة (¬1)، وهو مذهب الشافعية (¬2)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬3). القول الثالث: أن البيع موقوف، إن أجازاه معًا صح، وإن رداه بطل، وإن أجازه أحدهما لم ينعقد، وهو قول في مذهب الحنفية (¬4). سبب الخلاف في هذه المسألة: الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى مسألة أخرى: وهي إذا تعارضت الإرادة الباطنة والإرادة الظاهرة، فما هو المقدم منهما؟ أو بعبارة أخرى، هل المعتبر في العقود المعاني أو الألفاظ. وقد أشار النووي إلى هذا حين تكلم عن بيع التلجئة، فقال: "والصحيح صحته؛ لأن الاعتبار عندنا بظاهر العقود، لا بما ينويه العاقدان" (¬5). وقد تناولت أدلة هذه المسألة في عقد البيع فأغنى ذلك عن إعادة البحث هنا، ¬
ولله الحمد، ورجحت فيها أن العبرة بما نوياه، لا بما أظهراه؛ لأن العبرة بالمعاني دون الألفاظ، والله أعلم.
الفصل الثاني في شروط الموهوب له
الفصل الثاني في شروط الموهوب له الشرط الأول أن يكون الموهوب له أهلاً للتملك الهبة لمن لا يملك تعني الصرف على مصالحه كالوقف عليه. [م - 1850]، يشترط في الموهوب له أهلية التملك، فلا تصح الهبة لمن لا يصح تملكه، كالهبة للحيوان إذا قصد تمليكه، وكالهبة للملَك بفتح اللام واحد الملائكة؛ لأنهم ليسوا أهلاً للتملك. جاء في الشرح الصغير، عن شروط الموهوب به: "أن يكون أهلاً لأن يملك ما وهب له" (¬1). قال الحطاب المالكي: "الركن الرابع: وهو الموهوب له، وشرطه قبول الملك" (¬2). وجاء في حاشية قليوبي: "يشترط في الواهب أهلية التبرع، وفي الموهوب له أهلية التملك" (¬3). وفي الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: "ويشترط في الموهوب له أن يكون ¬
فيه أهلية الملك لما يوهب له، من مكلف وغيره، وغير المكلف يقبل له وليه، فلا تصح لحمل، ولا لبهيمة، ولا لرقيق نفسه، فإن أطلق الهبة له فهي لسيده" (¬1). وقال ابن مفلح: "الموهوب له: كل آدمى موجود. وفي الترغيب وغيره: الموهوب له يعتبر كونه أهلًا للملك في الجملة، فلا يصح لجدار، ولا بهيمة، ويصح لعبد" (¬2). وقال في كشاف القناع: "ولا تصح الوصية لمَلَك بفتح اللام أحد الملائكة، ولا لميت، ولا لجني، ولا لبهيمة إن قصد تمليكها؛ لأنه تمليك، فلم يصح لهم كالهبة" (¬3). والذي أميل إليه أن الهبة تصح لكل من ينتفع بالهبة إذا كان حيوانًا محترمًا، ومن باب أولى أن تكون الهبة صحيحة لحيوانات حبست للجهاد والمنافع العامة. ومن النصوص السابقة يتبين أنه لا يشترط في الموهوب له الرشد، فتصح الهبة للصبي والمجنون، والسفيه، فإن كان للموهوب له أهلية التملك والقبول باشر القبول بنفسه، كما لو كان الموهوب له بالغًا عاقلاً. وإن كان الموهوب له يتمتع بأهلية التملك، وليس أهلاً للقبول، كالمجنون، والصبي الذي لا يعقل، فإنه يقبل عنه وليه، ومثله الوصي والقيم. ¬
القول الأول
[م - 1851] وأما الصبي المميز فهل يصح قبوله ورده للهبة؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: الحنفية يرون أن له أن يباشر القبول بنفسه؛ لأنه في التصرف النافع يلحق بالبالغ العاقل. جاء في البحر الرائق: "من وهب لصغير يعبر عن نفسه شيئًا فرده يصح، كما يصح قبوله" (¬1). وجاء في تبيين الحقائق: "في التصرف النافع الذي لا يحتمل غيره ألحق بالبالغ العاقل استحسانًا، والقياس أن لا يجوز؛ لأنه لا معتبر بعقله قبل البلوغ، ولهذا يجوز قبض غيره له حتى الأجنبي إذا كان في عياله، ولو اعتبر بعقله وجعل له ولاية التصرف لما نفذ عليه تصرف غيره ... وجه الاستحسان: ... إذا كان التصرف نافعاً محضا تعين النظر في نفوذه فينفذ نظرًا له؛ لأن الرد في الضار لأجله، والتوقف في المتردد بين النفع والضرر لأجله، حتى يجيزه الولي إن رأى فيه مصلحة، فكذا وجب أن ينفذ تصرفه النافع نظرًا له، وجاز تصرف الولي أو الأجنبي عليه في هذه الحالة نظرًا له أيضا، حتى ينفتح له سبب تحصيل النفع بطريقين، وليس من الحكمة أن تثبت عليه الولاية لغيره نظراً له، ثم يرد منه مثل هذا النفع المحض، ولا من الفقه مع أنه من أهله بالتمييز والاختيار" (¬2). ¬
ويناقش
ويناقش: هذا التعليل جيد في اعتبار قبول الصبي المميز للهبة لكونه تصرفًا نافعًا، ولكن كيف يستقيم هذا التعليل في تصحيح الرد من الصبي المميز، أليس الرد في هذه الحالة يعتبر ضررًا محضًا، فكيف صحح الحنفية رد الهبة من الصبي المميز؟ نعم إن كان تصحيح الرد مقيدًا فيما لو كان الرد فيه نفع ظاهر للصبي، وكان القبول يحمِّل الصبي نفقات تفوق قيمة الهبة صح الرد من الصبي وإلا فلا، والله أعلم. القول الثاني: ذهب الجمهور إلى أن الصبي يقوم وليه مقامه في القبول، ومثله الوصي والقيم. جاء في بداية المجتهد: "ومن شرط الموهوب له: أن يكون ممن يصح قبوله وقبضه" (¬1). وقوله: (ممن يصح قبوله) يعني سواء كان ذلك بنفسه كما في حق المكلف، أو قام الولي بالقبول نيابة عنه كما في حق المجنون والصبي. ولهذا قال بعد ذلك: "وجمهور فقهاء الأمصار على أن الأب يحوز لابنه الصغير الذي في ولاية نظره" (¬2). ¬
وجه كون القبول من الصبي لا يعتد به
وجاء في حاشية الشرواني: "سئل شيخنا م ر عن شخص بالغ تصدق على ولد مميز بصدقة، فهل يملكها الولد بوقوعها في يده، كم لو احتطب أو احتش، أم لا يملكها؛ لأن القبض غير صحيح؟ فأجاب بأنه لا يملك الصبي ما تصدق به عليه إلا بقبض وليه" (¬1). وجه كون القبول من الصبي لا يعتد به: أن الأسباب الفعلية تصح من السفيه المحجور عليه دون القولية فيملك المحجور عليه جميع ما يصطاده، أو يحتشه، أو يحتطبه، أو يستقيه؛ لترتب الملك له على هذه الأسباب الفعلية، بخلاف ما لو اشترى، أو قبل الهبة، أو الصدقة، أو قارض أو غير ذلك من الأسباب القولية فإنه لا يترتب له عليه ملك: بسبب أن الأسباب الفعلية غالبها خير محض من غير خسارة، ولا غبن، ولا ضرر، فلا أثر لسفهه فيها، فجعلها الشرع معتبرة في حقه تحصيلًا للمصالح بتلك الأسباب، فإنها لا تقع إلا نافعة مفيدة غالبًا. وأما القولية فإنها موضع المماكسة، والمغابنة، ولا بد فيها من آخر ينازعه ويجاذبه إلى الغبن، وضعف عقله في ذلك يخشى عليه منه ضياع مصلحته عليه، فلم يعتبرها الشرع منه لعدم تعين مصلحتها بخلاف الفعلية (¬2). [م - 1852] وإذا امتنع الولي عن القبول فهل يأثم وينعزل بذلك؟ قال الحطاب في مواهب الجليل: "إذا وهب للصغير، أو تصدق به عليه، أو أوصى له، هل لوليه رد ذلك أم لا؟ ¬
الراجح
لم أقف على نص في ذلك، والظاهر أن للأب والوصي النظر في ذلك؛ لأن المال قد يكون حرامًا، وقد يكون فيه منة على الوالد أو ولده، ولا يجب ذلك، ولا كلام أن له الرد إذا كان يطلب عوضًا عن ذلك من مال الولد" (¬1). وجاء في مغني المحتاج: ويقبل الهبة للصغير ونحوه ممن ليس أهلاً للقبول الولي، فإن لم يقبل انعزل الوصي، ومثله القيم، وأثما لتركهما الأحظ بخلاف الأب والجد لكمال شفقتهما" (¬2). الراجح: لو قيل القبول من الصبي معتبر، والرد والقبض غير معتبرين لكان لذلك وجه؛ لأن القبول نفع محض فيصح، وأما الرد والقبض فليس له الأهلية لذلك؛ لأنه محجور عليه، والله أعلم. ¬
الشرط الثاني في اشتراط وجود الموهوب له
الشرط الثاني في اشتراط وجود الموهوب له الهبة للمعدوم في حكم الهبة المعلقة أو المضافة. [م - 1853] اختلف الفقهاء في اشتراط أن يكون الموهوب له موجودًا على قولين: القول الأول: يشترط في ألموهوب له أن يكون موجودًا تحقيقًا وقت الهبة، فلو قال: وهبت هذا المال لابن فلان، ولم يوجد لفلان ولد وقت الهبة فإن الهبة باطلة، وهذا مذهب الجمهور (¬1). وإذا كان هؤلاء قد منعوا الهبة للجمل كما سيأتي إن شاء الله تعالى في المبحث التالي مع كونه موجودًا ومنعوا الوصية للمعدوم مع أنها على التراخي، فمن باب أولى أن يمنعوا الهبة المنجزة للمعدوم. وجه القول بعدم الصحة: الوجه الأول: أن الهبة تمليك، وتمليك المعدوم ممتنع. ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: قياس الهبة على الميراث، فالميراث لا يثبت إلا لمن كان موجودًا وقت موت المورث، فكذلك الهبة. ونوقش هذا: بأن القياس غير صحيح لوجود الفرق بين الملك بالميراث والملك بالهبة، منها: أن الميراث يملك قهرًا بدون اختيار، والهبة لا تملك إلا بقبول الموصى له، ويتفرع على هذا أن الهبة من باب التبرعات فيتسامح فيها ما لا يتسامح في غيرها، وليس الميراث كذلك فليس لأحد إسقاطه، والملك بالهبة أوسع من الملك بالميراث، فتصح الهبة للذمي، ولمن لا يملك كالمسجد بخلاف الميراث. القول الثاني: تصح الهبة لمن سيوجد، فإذا وجد الملتزم له، وكان المتلزم حيًا لم يفلس، والملتزم بيده لم يفوته، صحت الهبة له، وهذا مذهب المالكية. جاء في فتح العلي المالك: "ومن التزم لمن سيوجد بشيء صح الالتزام إذا وجد الملتزم له، والملتزم حي لم يفلس، وكان الشيء الملتزم به بيده لم يفوته، كما لو قال شخص إن ظهر لفلان ولد فهذه الدار له، أو هذا العبد أو هذا الثوب ونحو ذلك فإن أراد الملتزم تفويته ببيع أو غيره قبل وجود الملتزم له فالظاهر من قول مالك أن ذلك له" (¬1). ¬
دليل من قال: تصح الهبة للمعدوم
دليل من قال: تصح الهبة للمعدوم: الدليل الأول: قياس الهبة على الوقف، فإذا صح الوقف على من سيولد من آل فلان، وهو معدوم، صحت الهبة للمعدوم. الدليل الثاني: أن الشارع اعتبر المعدوم كالموجود في بعض الأحكام، فيلحق بها الهبة، من ذلك: دية القتيل تورث عنه، وهي لا تجب إلا بموته، والتركة لا تورث عن الإنسان إلا إذا دخلت في ملكه قبل موته، فيقدر دخولها قبل موته. ومنها أن الجنين تنفخ فيه الروح بعد ستة أسابيع على حديث جابر في مسلم، أو بعد ستة عشر أسبوعًا على حديث اين مسعود في الصحيحين، وقبل ذلك لا توجد فيه روح، ومع ذلك يعتبر الجنين بحكم الحي في الوصية له، والوقف عليه ولو كان نطفة إذا انفصل حيًا وإن كان حين الوصية له والوقف عليه لا يوصف بالحياة البشرية، أو أن حياته كحياة النبات؛ لعدم نفخ الروح فيه. الراجح: باب الهبات أوسع من عقود المعاوضات، فأرى أنه لا حرج في الهبة للمعدوم، وإذا وجد، وأمكن إقباضه، أو إقباض وليه مضت، وإلا بطلت، والله أعلم.
مبحث في الهبة للحمل
مبحث في الهبة للحمل الهبة للحمل معلقة على خروجه حيًا. [م - 1854] اختلفوا في الهبة للجنين على قولين: القول الأول: لا تصح الهبة للحمل، وتصح الوصية له، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والشافعية، والحنابلة (¬1). وجه القول بعدم الصحة: تعليل الحنفية: بأن الهبة تمليك منجز، يشترط لها القبول والقبض، ولا يتصور ذلك من الجنين، ولا يلي عليه أحد حتى يقبض عنه، بخلاف الوصية، فإن الوصية استخلاف من وجه؛ لأنه يجعله خليفة في بعض ماله، والجنين يصلح خليفة في الإرث فكذا في الوصية لأنها أخته إلا أنها ترتد بالرد لما فيها من معنى التمليك (¬2). جاء في غمز عيون البصائر: ولا تصح الهبة للحمل؛ لأن الهبة من شرطها القبول والقبض، ولا يتصور ذلك من الجنين، ولا يلي عليه أحد حتى يقبض عنه، فصار كالبيع. ¬
تعليل الشافعية
قلت - القائل أبو العباس الحموي: فقد أفاد - رحمه الله - أنه لا ولاية على الجنين لأحد أصلاً، وبه ظهر خطأ من أفتى أن الوصي يملك التصرف في المال الموقوف للحمل والله أعلم (انتهى") (¬1). جاء في حاشية ابن عابدين: "ولا تصح الهبة للحمل؛ لعدم قبضه، ولا ولاية لأحد عليه ليقبض عنه" (¬2). تعليل الشافعية: جاء في حاشية الشرواني: "قوله: لأنها تمليك .. إلخ يؤخذ منه امتناع الهبة للحمل وهو ظاهر؛ لأنه لا يمكن تملكه، ولا تمليك الولي له لعدم تحققه" (¬3). تعليل الحنابلة: بأن الوصية للحمل هبة معلقة على خروجه حيًا، والهبة لا تقبل التعليق، جاء في مطالب أولي النهى: ولا تصح الهبة لحمل؛ لأن تمليكه تعليق على خروجه حيًا، والهبة لا تقبل التعليق" (¬4). القول الثاني: تصح الهبة للحمل، فإن ولد حيًا وعاش كان ذلك له، وإن استهل صارخًا، ¬
الراجح
ثم مات كانت لورثته، وإن خرج ميتًا كانت الهبة على ملك صاحبها، وهذا مذهب المالكية، وقول ابن عقيل من الحنابلة. جاء في فتح العلي المالك: "يصح الالتزام للحمل، ولمن سيوجد كما تصح الصدقة عليه، والهبة " (¬1). وجاء في قواعد ابن رجب عن استحقاق الحمل من الوقف: "قال ابن عقيل: يثبت له استحقاق الوقف في حال كونه حملاً، حتى صحح الوقف على الحمل ابتداء، وقياس قوله في الهبة كذلك؛ إذ تمليك الحمل عنده تمليك منجز لا معلق" (¬2). الراجح: صحة الهبة للحمل؛ إلا أنه لا يثبت له الملك إلا إذا استهل صارخًا، والله أعلم. ¬
الشرط الثالث في اشتراط أن يكون الموهوب له معينا
الشرط الثالث في اشتراط أن يكون الموهوب له معينا يصح الإبهام في الهبة إذا قام الواهب بالبيان. [م - 1855] يشترط في الموهوب له أن يكون معينًا، فإن كان الموهوب له غير معين، كما إذا قال الواهب: وهبت داري لفلان، أو أخيه ففي ذلك خلاف في صحة الهبة. القول الأول: أن الهبة باطلة. وجه القول بالبطلان: أن الهبة تمليك العين في الحال، والمبهم لا يمكن تمليكه لا بنفسه، ولا بوليه (¬1). وجاء في مطالب أولي النهى: "ولا تصح البراءة مع إبهام المحل الوارد عليه الإبراء كأبرأت أحد غريمي، أو أبرأت غريمي هذا من أحد ديني، كوهبتك أحد هذين العبدين أو كفلت أحد الدينين" (¬2). القول الثاني: تصح الهبة، ويطالب بالتعيين. جاء في الأسئلة والأجوبة الفقهية: يصح الإبراء ... ويطالب بالبيان (¬3). ¬
وجاء في المحيط البرهاني في الفقه النعماني: "رجل له على رجل ألف درهم ... وألف درهم غلة فقال: وهبت منك إحدى هذين الألفين يجوز، والبيان إليه" (¬1). وإذا صح التخيير في الموهوب صح التخيير في الموهوب له؛ لأنه أحد أركان الهبة، والله أعلم. وهذا عندي أصح، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في شروط الموهوب
الفصل الثالث في شروط الموهوب الشرط الأول في اشتراط كون الموهوب مالاً كل ما يقبل الاختصاص ويباح الانتفاع به فهبته صحيحة. يصح في التبرع ما لا يصح في المعاوضة. تناولنا خلاف العلماء في حقيقة المال في عقد البيع، وبينا الخلاف بين الجمهور والحنفية في حقيقته، فالمنافع والديون لا تعتبر مالاً عند الحنفية خلافًا للجمهور، ولا يشترط لمالية الأعيان طهوريتها عند الحنفية، فالسرجين النجس مال عندهم، يجوز بيعه، خلافًا للجمهور، والكلب مال متقوم عند الحنفية مطلقًا معلمًا كان أو غير معلم، وليس مالاً عند الشافعية والحنابلة مطلقًا، ويفرق المالكية بين المعلم وغيره. لهذا ونحن نبحث اشتراط مالية الموهوب ينبغي أن نتصور كل هذا الخلافات بين الفقهاء. [م - 1856] ولما كان في عقد البيع تشترط مالية العوضين؛ لأن البيع قائم على مبادلة المال بمثله، فهل تشترط المالية في عقود التبرعات كالهبة والوصية؟ أو أن عقود التبرع أوسع من عقود المعاوضة، فإذا وهب ما ليس مالاً، كما لو تبرع بالدم على القول بنجاسته، أو وهب كلبًا، أو وهب ما لا يصح بيعه
القول الأول
كالمجهول، والمعدوم، وما لا يقدر على تسليمه، أو وهب منفعة غير مالية، كضراب الفحل، كانت الهبة صحيحة. والخلاف في الهبة كالخلاف في الوصية بجامع أن كلاً منهما عقد تبرع، إلا أن الوصية تبرع مضاف إلى ما بعد الموت، والهبة تبرع ناجز. ولهذا قال ابن قدامة: "تجوز هبة الكلب، وما يباح الانتفاع به من النجاسات؛ لأنه تبرع، فجاز في ذلك، كالوصية" (¬1). فقاس ابن قدامة الهبة على الوصية. وقال الغزالي: "وفي هبة الكلب وجهان: أحدهما الجواز كالوصية" (¬2). إذا علم ذلك نأتي على خلاف العلماء في اشتراط المالية للموهوب، وهل تقاس الهبة على البيع فتشترط في الموهوب المالية، أو تقاس الهبة على الوصية فلا تشترط المالية، في ذلك خلاف بين العلماء: القول الأول: يشترط في الموهوب أن يكون مالاً، وهذا مذهب الحنفية، والأصح في مذهب الشافعية، ورجحه إمام الحرمين، وأحد القولين في مذهب الحنابلة (¬3). قال الكاساني في ذكر شروط الموهوب: "ومنها: أن يكون مالًا متقومًا، فلا تجوز هبة ما ليس بمال أصلاً، كالحر، والميتة، والدم، وصيد الحرم، ¬
والإحرام، والخنزير، وغير ذلك على ما ذكرنا في البيوع، ولا هبة ما ليس بمال مطلق، كأم الولد، والمدبر المطلق، والمكاتب؛ لكونهم أحرارًا من وجه، ولهذا لم يجز بيع هؤلاء، ولا هبة ما ليس بمتقوم، كالخمر ولهذا لم يجز بيعها" (¬1). قال النووي في روضة الطالبين: "يجري الوجهان في هبة الكلب، وجلد الميتة قبل الدباغ، والخمر المحترمة، والأصح من الوجهين في هذه الصور كلها البطلان، قياسًا على البيع. والثاني: الصحة؛ لأنها أخف من البيع. قال الإمام: من صحح فيها، فحقه تصحيحها في المجهول والآبق كالوصية" (¬2). وفي أسنى المطالب: "قال الجرجاني: حكم الهبة في الاستتباع حكم البيع، فما تبع فيه تبع فيها" (¬3). وقال إمام الحرمين: "تردد الأصحاب في أمور نرسلها، ثم ننبه على حقيقتها: فذكر بعضهم في صحة هبة الكلب خلافًا، وأورد الشيخ أبو علي هذا، ونحوا بالهبة في الكلب نحو الوصية به، وهذا بعيد جدًا، وحق هذا الإنسان أن يطرد هذا الخلاف في المجاهيل وغيرها، مما تصح الوصية به، ويمتنع بيعه، ولا شك أنهم يلزمون طرد هذا في الجلد قبل الدباغ، والخمر المحترمة، وكل ما ¬
القول الثاني
يثبت فيه حق الاختصاص إذا صحت الوصية؛ فإن الهبة تبرع ناجز والوصية تبرع مضاف إلى ما بعد الموت وكان شيخي لا يعرف هذا، وينزل الهبة منزلة البيع" (¬1). وجاء في الإنصاف: "وقوله: (وكل ما يجوز بيعه) يعني: تصح هبته. وهذا صحيح، ونص عليه، ومفهومه: أن ما لا يجوز بيعه لا تجوز هبته. وهو المذهب" (¬2). القول الثاني: لا تشترط المالية، فكل ما يختص به مستحقه من الانتفاع به، وإن لم يكن مالاً يجوز نقل اليد فيه بالهبة، وهو مذهب المالكية، وأحد القولين في مذهب الشافعية، وجزم به المتولي منهم، ومذهب الحنابلة (¬3). ونقصد بالاختصاص ما عرفه ابن رجب بقوله: "هو عبارة عمّا يختص مستحقه بالانتفاع به، ولا يملك أحدٌ مزاحمته، وهو غير قابل للشمول والمعاوضات" (¬4). وقال العلائي: الاختصاص ضربان: اختصاص فيما لا يقبل الملك: كالجلد النجس قبل الدباغ، والكلاب ونحوها. ¬
وثانيهما: اختصاص فيما يقبل الملك كالاختصاص في إحياء الموات بالتحجير" (¬1). فالاختصاص أوسع من الملك ولهذا يثبت فيما لا يُملك من النجاسات كالكلب، والزيت النجس، وجلد الميتة ونحوه. جاء في شرح ميارة نقلاً من الجواهر: "تصح الوصية بكل مملوك يقبل النقل" (¬2). وهذا النص وإن كان في الوصية فالهبة مقيسة عليها كما تقدم. وما يقبل النقل أعم من كونه مالاً، فكل ما يقبل الاختصاص، ويباح الانتفاع به فتجوز هبته، وإن كان قد لا يصح بيعه، فالمالية شرط لصحة البيع، وأما الهبة فمدار جوازها على الاختصاص وإباحة الانتفاع، والانتفاع أوسع من البيع، وسواء قلنا: إن الهبة تمليك أو نقل لليد، فالعبرة بالمعنى وليس اللفظ، فهي إن كانت تمليكًا فهي بلا عوض، والأعيان التي لا يصح بيعها إنما حرم أخذ الثمن عليها، وهذا غير موجود في الهبة، وإذا أذن الشارع باقتناء الكلب المعلم بشرطه، ونهى عن بيعه فإنه لا سبيل إلى الحصول على الكلب لمن احتاج إليه إلا عن طريق التبرع، ومثله لمن احتاج إلى التبرع بالدم، فإن الشارع نهى عن ثمن الدم، فلا طريق للحصول عليه إلا عن طريق التبرع به، ومثله هبة الفحل للضراب، فإذا منع الشارع المعاوضة على عسب الفحل فلا سبيل إلى قضاء حاجة الناس إلا بالتبرع. ¬
الراجح
وإن قلنا: إن الهبة نقل لليد، وانتقال للاختصاص من الواهب للموهوب له، فالمعنى غير بعيد. جاء في أسنى المطالب: "أما هبة الكلب ونحوه على إرادة نقل اليد، لا التمليك فجائزة" (¬1). وجاء في الشرح الكبير على المقنع: "وتصح هبة الكلب، وما يباح الانتفاع به من النجاسات لأنه تبرع فجاز في ذلك كالوصية" (¬2). وجاء في الإنصاف: "وقيل: تصح هبة ما يباح الانتفاع به من النجاسات، جزم به الحارثي، وتصح هبة الكلب. جزم به في المغني، والكافي، والشرح. واختاره الحارثي ... لأن نقل اليد في هذه الأعيان جائز، كالوصية ... ونقل حنبل فيمن أهدى إلى رجل كلب صيد ترى أن يثيب عليه؟ قال: هذا خلاف الثمن. هذا عوض من شيء. فأما الثمن: فلا. وقيل: تصح أيضًا هبة جلد الميتة. وقال الشيخ تقي الدين - رحمه الله -: ويظهر لي صحة هبة الصوف على الظهر قولاً واحدًا" (¬3). الراجح: صحة هبة ما يباح الانتفاع به وإن كان لا يجوز بيعه، فالهبات أوسع من المعاوضات، والله أعلم. ¬
الشرط الثاني أن الموهوب موجودا
الشرط الثاني أن الموهوب موجودًا التصرف في المعدوم معلق على وجوده. تصح هبة المجهول والمعدوم إذا كان متوقع الوجود. [م - 1857] اختلف العلماء في اشتراط أن يكون الموهوب موجودًا وقت الهبة على قولين: القول الأول: يشترط أن يكون الموهوب موجودًا وقت الهبة، وهذا مذهب الجمهور، واختيار ابن حزم (¬1). قال الكاساني، وهبى يذكر شروط الموهوب: "أن يكون موجودًا وقت الهبة، فلا تجوز هبة ما ليس بموجود وقت العقد، بأن وهب ما يثمر نخله العام، وما تلد أغنامه السنة، ونحو ذلك، بخلاف الوصية. ¬
دليل من قال: لا تصح هبة المعدوم
والفرق: أن الهبة تمليك للحال، وتمليك المعدوم محال. والوصية تمليك مضاف إلى ما بعد الموت، والإضافة لا تمنع جوازها" (¬1). وجاء في قواعد الأحكام: "الشرع منع من بيع المعدوم وإجارته، وهبته لما في ذلك من الغرر، وعدم الحاجة" (¬2). وقال ابن قدامة: "ولا تصح هبة المعدوم كالذي تثمر شجرته، أو تحمل أمته؛ لأن الهبة عقد تمليك لم تصح في هذا كله كالبيع" (¬3). وقال ابن حزم: "لا تجوز هبة إلا في موجود معلوم، معروف القدر والصفات والقيمة، وإلا فهي باطل مردودة" (¬4). دليل من قال: لا تصح هبة المعدوم: الدليل الأول: أن الهبة تمليك ناجز، ولا تمليك للمعدوم. ويناقش: بأن هذا القول دعوى في محل النزاع، فلم تثبت، والهبة تمليك في الحياة، وقد تكون ناجزة، وقد تكون معلقة، وإذا علقت الهبة على الوجود صح هبة المعدوم. الدليل الثاني: كل ما لا يصح بيعه لا تصح هبته، وبيع المعدوم باطل، فكذلك هبته. ¬
ويناقش من وجهين
ويناقش من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم قياس الهبة على عقد البيع، فعقود التبرع أوسع من عقود المعاوضات. الوجه الثاني: لو صح القياس فلا نسلم أن بيع المعدوم باطل، بل فيه خلاف بين أهل العلم، وقد عرضت الخلاف فيه في عقد البيع، ورجحت صحته إذا سلم من الغرر، وهو قول ابن تيمية وابن القيم. قال ابن القيم: "ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا في كلام أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز لا بلفظ عام، ولا بمعنى عام وإنما في السنة النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة، كما فيها النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة؛ فليست العلة في المنع لا العدم ولا الوجود بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر وهو: ما لا يقدر على تسليمه سواء كان موجودًا أو معدومًا، كبيع العبد الآبق، والبعير الشارد إن كان موجودًا؛ إذ موجب البيع تسليم المبيع فإذا كان البائع عاجزًا عن تسلميه فهو غرر، ومخاطرة، وقمار، فإنه لا يباع إلا بوكس، فإن أمكن المشتري تسلمه كان قد قمر البائع، وإن لم يمكنه ذلك قمره البائع وهكذا المعدوم الذي هو غرر نهي عنه للغرر لا للعدم، كما إذا باعه ما تحمل هذه الأمة، أو هذه الشجرة؛ فالبيع لا يعرف وجوده ولا قدره ولا صفته؛ وهذا من الميسر الذي حرمه الله ورسوله" (¬1). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن التصرف يستدعي متصرفًا فيه، ولم يوجد. ويناقش من وجهين: الوجه الأول: التصرف في المعدوم معلق على الوجود، فإذا وجد الموهوب تم التصرف، وهذا بحد ذاته لا يبطل الهبة على الصحيح؛ لأن التعليق في الهبة، بل وفي سائر العقود لا يفسدها على الصحيح، والله أعلم. الوجه الثاني: أن عقد السلم والاستصناع والمزارعة تصرف في أشياء لم توجد، فالهبة مثلها. الدليل الرابع: أن هبة المعدوم تنطوي على غرر، والغرر ممنوع: ويناقش: إذا كان الغرر في المعدوم هو في عدم الحصول عليه، فهذا لا غرر فيه؛ لأن الموهوب له إذا فاته الموهوب لم يقع عليه ضرر؛ لأنه يأخذ الهبة بلا عوض فالموهوب له إما غانم وإما سالم، فليس هذا من باب الميسر الدائر بين الغرم والغنم، بل بين الغنم والسلامة، فإذا وهبه ما تنتج هذه الأرض قبل نتاجها، فإن وجد الموهوب أخذه الموهوب له وحصل على ما يريد؛ وإن لم يوجد فلا ضرر عليه، بخلاف الغرر في عقود المعاوضات.
القول الثاني
وإن كان الغرر في هبة المعدوم هو في مقداره فهذا إنما يقع في هبة المجهول، وليس في هبة المعدوم؛ لأن المعدوم قد يعرف مقداره، لكنه لا يقدر على تسليمه وقت الهبة إلى حين وجوده، وهذا لا غرر فيه. القول الثاني: يصح هبة المعدوم وقت الهبة إذا كان متوقع الوجود، وهذا مذهب المالكية، واختيار ابن تيمية من الحنابلة (¬1). قال ابن رشد: "ولا خلاف في المذهب في جواز هبة المجهول والمعدوم المتوقع الوجود" (¬2). وقال ابن تيمية: "وتصح هبة المعدوم كالثمر واللبن بالسنة، واشتراط القدرة على التسليم فيه نظر" (¬3). حجة القول بجواز هبة المعدوم: هناك فرق بين عقود المعاوضات وعقود التبرع؛ إذ يتوسع في عقود التبرعات ما لا يتوسع في عقود المعاوضات؛ وذلك لأن عقود المعاوضات المقصود منها تنمية المال واستثماره؛ لهذا منع فيه الغرر والجهالة، بخلاف عقود التبرعات فهي لا تقوم على تنمية المال بل على بذله، حيث لا عوض فيها، لهذا اغتفر فيها الغرر والجهالة. ¬
الراجح
قال ابن رشد: "إنما نهينا عن بيع الغرر، والهبة إنما هي على وجه المعروف والتبرر، لا يقصد بها تقامرًا ولا تغابنا" (¬1). ولأن هبة المعدوم يكون الموهوب له دائرًا بين الغنم والسلامة، فلا ضرر على الموهوب له فيما لو فاته الموهوب، كما سبق بيانه. الراجح: صحة هبة المعدوم، وتكون الهبة معلقة على وجوده، فإن وجد، ولم يرجع الواهب، وقبض الموهوب له الهبة فقد تمت، وإلا بطلت، والله أعلم. ¬
الشرط الثالث في اشتراط العلم بالموهوب
الشرط الثالث في اشتراط العلم بالموهوب الغرر لا يضر في التبرعات. العقد إذا لم يتضمن عوضًا لم تؤثر فيه الجهالة والغرر. اختلف العلماء، هل يشترط العلم بالموهوب قدرًا وصفة، أو تصح الهبة ولو كان الموهوب مجهولاً، كما لو وهب رجل نصيبه من الميراث قبل وقوفه على مقداره؟ والخلاف فيه راجع إلى الخلاف في تأثير الغرر على عقد الهبة: فمن قال: إن الغرر يؤثر في صحة الهبة، منع من هبة المجهول، كما منع من هبة المعدوم، والتي سبق مناقشتها في الفصل السابق. ومن قال: إن الغرر لا تأثير له في عقود التبرع لم يمنع من هبة المجهول، كما لم يمنع من هبة المعدوم. [م - 1858] إذا علم ذلك نأتي على الخلاف في هبة المجهول: القول الأول: لا تصح هبة المجهول، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والشافعية، والحنابلة (¬1). ¬
وقيد الحنابلة المنع بالمجهول الذي لا يتعذر علمه، فأما ما تعذر علمه فتصح هبته على الصحيح من المذهب. قال السرخسي: "وإن قال أحد الشريكين لرجل: قد وهبت لك نصيبي من هذا العبد فاقبضه، ولم يسمه له، ولم يعلمه إياه: لم يجز؛ لجهالة الموهوب، وهذه الجهالة تفضي إلى المنازعة بينه وبين الشريك الآخر، ولأن المجهول لا يجوز تمليكه بشيء من العقود قصدًا" (¬1). وجاء في مجلة الأحكام العدلية: "يلزم أن يكون الموهوب معلومًا معينًا، بناء عليه لو قال الواهب لا على التعيين: قد وهبت شيئًا من مالي، أو وهبت أحد هاتين الفرسين لا يصح ... " (¬2). وجاء في الحاوي: "وأما الشيء الموهوب: فهو كل شيء صح بيعه جازت هبته، وذلك ما اجتمعت عليه أربعة أوصاف: أن يكون مملوكًا ... وأن يكون معلومًا ... فإن كان مجهولًا لم يجز" (¬3). وقال ابن قدامة: "قال أحمد، في رواية أبي داود، وحرب: لا تصح هبة المجهول. وقال في رواية حرب: إذا قال: شاة من غنمي. يعني: وهبتها لك. لم يجز. وبه قال الشافعي. ويحتمل أن الجهل إذا كان في حق الواهب، منع الصحة؛ لأنه غرر في حقه. ¬
القول الثاني
وإن كان من الموهوب له، لم يمنعها؛ لأنه لا غرر في حقه، فلم يعتبر في حقه العلم بما يوهب له، كالموصى له" (¬1). وهذا يمكن أن يكون قولاً ثالثًا في المسألة لو أن ذلك كان قولاً منسوباً، وإنما ذكره ابن قدامة احتمالاً، فإن قيل به، فهو أقوى من القول بالمنع مطلقًا. القول الثاني: تصح هبة المجهول، وهذا مذهب المالكية، واختيار ابن تيمية من الحنابلة، ورجحه ابن حزم (¬2). قال ابن رشد: "ولا خلاف في المذهب في جواز هبة المجهول والمعدوم المتوقع الوجود" (¬3). وقال ابن تيمية: "وتصح هبة المجهول، كقوله: ما أخذت من مالي فهو لك، أو من وجد شيئًا من مالي فهو له. وفي جميع هذه الصور يحصل الملك بالقبض ونحوه" (¬4). وذكر في مجموع الفتاوى نزاع العلماء في هبة المجهول، ثم قال: "ومذهب مالك في هذا أرجح" (¬5). ¬
حجة من قال: لا تصح هبة المجهول
حجة من قال: لا تصح هبة المجهول: الوقوع في الغرر، وذلك أن الواهب إذا كان لا يعرف مقدار ما وهب كان ذلك غررًا في حقه، والغرر باطل. والقاعدة: أن كل ما لا يصح بيعه لا تصح هبته، والمجهول لا يصح بيعه، فكذلك هبته. ولأن الهبة من عقود التمليك، والجهالة في عقود التمليك مؤثرة. ويناقش: بأن النهي عن الغرر ورد في البيوع، ولم يرد النهي عنه في التبرعات، وسوف نذكر في أدلة المالكية وجه كون الغرر في عقود التبرع مغتفرًا، فانظره في أدلة القول الثاني. دليل من قال: تصح هبة المجهول: الدليل الأول: أجمع أهل العلم أن من أوصى بجزء من ماله، الثلث فدونه، وهو لا يعرف مبلغه من الوزن والقدر، أنه جائز ماض (¬1). قلت: وإذا صح هذا في الوصية فالهبة قياس عليها، بجامع أن كلًا منهما من عقود التبرع. الدليل الثاني: (ح -1118) ما رواه أحمد من طريق محمد بن إسحاق، قال: حدثني ¬
وجه الاستدلال
عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو: أن وفد هوازن أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالجعرانة، وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا، من الله عليك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم، أم أموالكم؟ قالوا: يا رسول الله، خيرتنا بين أحسابنا وبين أموالنا، بل ترد علينا نساؤنا وأبناؤنا، فهو أحب إلينا، فقال لهم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ... الحديث (¬1). [حسن] (¬2). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاهم ما كان له ولبني عبد المطلب، ولم يقف على مقداره، وهو دليل على صحة هبة المجهول. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (ح -1119) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يقتسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا، ما تركت بعد نفقة نسائي، ومئونة عاملي فهو صدقة (¬1). وجه الاستدلال: قال ابن رشد: "ولا خلاف بين الناس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي، فهو صدقة، وهو شيء لا تعلم حقيقته؛ لأن نفقة النساء تريد وتنقص، وكذلك مؤونة العامل قد تكثر في عام، وتقل في آخر؛ وهذا في فدك وخيبر وبني النضير" (¬2). ويجاب: قد يقال: بأن هذا ليس هبة مبتدأة حتى يقال: هذه هبة مجهولة، وإنما هو بيان لمصرف مال الوقف، والموقوف معلوم. الدليل الرابع: (ح -1120) ما رواه البخاري من طريق روح بن القاسم، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لي: لو قد جاءنا مال البحرين قد أعطيتك هكذا، وهكذا، وهكذا. فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاء مال البحرين، قال أبو بكر: من كانت له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدة فليأتني، فأتيته فقلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان قال لي: ¬
الدليل الخامس
لو قد جاءنا مال البحرين لأعطيتك هكذا، وهكذا، وهكذا. فقال لي: احثه، فحثوت حثية، فقال لي: عدها، فعددتها فإذا هي خمس مائة، فأعطاني ألفا وخمس مائة (¬1). الدليل الخامس: التصرفات نوعان: منها ما هو معاوضة صرفة، يقصد منه تنمية المال واستثماره، فهذا إذا ما فات شيء منه بالغرر والجهالة ضاع المبذول في مقابلته، فاقتضت حكمة الشرع منع الجهالة فيه. ومنها ما هو إحسان محض، لا يقصد منه تنمية المال كالصدقة، والهبة، والإبراء، فهذا إذا ما فات منه شيء على الموهوب لا يقع عليه ضرر؛ لأنه لم يبذل شيئًا في مقابل الحصول عليه، فاقتضت حكمة الشرع التوسعة فيه بكل طريق بالمعلوم والمجهول، فإن ذلك سبب لكثرة وقوعه، وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله. قال ابن رشد: "إنما نهينا عن بيع الغرر، والهبة إنما هي على وجه المعروف والتبرر، لا يقصد بها تقامرًا ولا تغابنا" (¬2). الراجح: أن الجهالة لا تؤثر في عقود التبرعات، بخلاف عقود المعاوضات القائمة على تنمية المال واستثماره، والله أعلم. ¬
مبحث في هبة المرهون
مبحث في هبة المرهون التصرف في عين تعلق بها حق للغير كتصرف الفضولي وهبة المرهون ينعقد موقوفًا على إجازة ذلك الغير. [م - 1859] إذا وهب الراهن الرهن، فهل تصح هبته باعتبار أن الرهن مملوك للراهن، أولا تصح الهبة لتعلق حق المرتهن في هذا المال في حال عجز الراهن عن السداد؟ وللجواب على ذلك نقول: تصرف الراهن ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون تصرفه قبل أن يقبض المرتهن الرهن، ففي هذا خلاف بين العلماء. سبب الخلاف: يرجع سبب الخلاف إلى اختلافهم في الرهن، هل يلزم بالعقد كالبيع، فيجبر على دفع الرهن كما يجبر البائع على دفع ما باع إذا قبض الثمن، أو لا يلزم الرهن إلا بالقبض، ولا يجبر الراهن على دفع الرهن، وله أن يمتنع عن ذلك؟ القول الأول: ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وعليه فلو تصرف الراهن في الرهن قبل قبض المرتهن فإن تصرفه صحيح ونافذ، ولو لم يأذن المرتهن (¬1). ¬
حجة هذا القول
حجة هذا القول: قال تعالى: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. فقوله: (مقبوضة) وصف لازم كقولك: ساحة واصعة، فإن الاتساع وصف لازم، فوجب بلزومه أن يكون كالشرط فيها، وهذا يقتضي أن الرهن لا يكون إلا مقبوضًا، ألا ترى أن قوله تعالى: {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] يقتضي أن العتق في هذه الكفارة لا يجزئ إلا بشرط الإيمان في الرقبة، فكذلك الرهن (¬1). القول الثاني: أن الرهن يلزم بالعقد، ويتم بالقبض، ويجبر الراهن على دفع الرهن إن امتنع من ذلك، وهذا مذهب المالكية، قياسًا على البيع (¬2). وحجتهم: أن الرهن كسائر العقود تلزم بالقول. وأما قوله تعالى: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فإما أن تكون الآية خبرًا وإما أن تكون أمراً. فإن كانت خبرًا كان القبض شرطًا لامتناع أن يقع الخبر بخلاف المخبر. وإن كانت أمراً فهو على وجوبه، والدليل على صحة قولنا: قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. ¬
القول الأول
ومع قول المالكية: إن الرهن يلزم بالعقد، فلهم تفصيل في تصرف الراهن بالرهن قبل القبض، وتفصيله كالتالي: إن كان المرتهن قد فرط في طلب الرهن حتى تصرف فيه الراهن فإن تصرفه نافذ، ويصير دينه بلا رهن. قال ابن القصار وغيره: العلة في إمضاء بيع الرهن لرهنه تفريطه في قبضه، وتوانيه في طلبه، مع علمه أنه باق على ملك الراهن، وتحت يده، والمالك يتصرف في ملكه متى شاء، فصار المرتهن كالآذن له في بيع الرهن، ولو لم يكن من المرتهن توان، ولا تفريط في قبض الرهن لكان له مقال في رد البيع (¬1). وإن لم يفرط في الطلب، وكان جادًا في المطالبة ففي مذهب المالكية قولان: القول الأول: أن للمرتهن إبطال هذا التصرف إن أراد ما لم يفت. وهذا قول ابن القصار من المالكية. القول الثاني: أن التصرف نافذ، وهذا القول لابن أبي زيد القيرواني وابن رشد، إلا أنهم اختلفا فيما إذا كان للمرهون بدل، كما لو كان التصرف بالبيع. فقال ابن أبي زيد القيرواني: يؤخذ ثمنه رهنًا مكانه، فات الرهن أو لا. ¬
وجه قول ابن رشد
وقال ابن رشد: يمضي البيع مطلقًا فرط أم لا، ويخير المرتهن في بيعه الأول، بين فسخه وأخذ سلعته،، أو إمضائه وإبقاء دينه بلا رهن (¬1). وجه قول ابن رشد: أنه لما باعه على رهن بعينه، فلما فوته الراهن لم يجبر الراهن على دفع سلعة أخرى؛ لأن العقد وقع على رهن بعينه، فتعلق الحق بذاته، كما لو باع رجل سلعة معينة، فاستحقت، فإنه لا يلزمه دفع سلعة أخرى بدلًا مما استحق، وكان المرتهن أحق بسلعته إن كانت قائمة، أو قيمتها إن كانت فاتت، إلا أن يرضى أن يبقى دينه بلا رهن. القسم الثاني: أن يكون تصرف الراهن بعد أن قبض المرتهن الرهن، ففي تصرف الراهن بالرهن خلاف بين العلماء على قولين: القول الأول: لا يجوز تصرف الراهن بدون إذن المرتهن، فإن تصرف فيه بالهبة أو بالبيع، كان تصرفه موقوفًا على إجازة المرتهن، وهذا مذهب الحنفية (¬2). جاء في تحفة الفقهاء: "لا يجوز للراهن أن يتصرف فيه تصرفًا يبطل حق المرتهن، من البيع، والإجارة، والهبة وغيرها" (¬3). ¬
حجة الحنفية على كون العقد موقوفا على الإجازة
وجاء في العناية شرح الهداية: "اختلف عبارة محمَّد - رحمه الله - فيه. في موضع قال: بيع المرهون فاسد. وفي موضع قال: جائز. والصحيح أنه جائز موقوف. وقوله فاسد محمول على ما لم يجز، فإن القاضي يفسده إذا خوصم إليه" (¬1). جاء في بدائع الصنائع: "وليس له أن يهبه من غيره، أو يتصدق به على غيره بغير إذنه ... ولو فعل توقف على إجازة المرتهن، إن رده بطل، وله أن يعيده رهنًا، وإن أجازه، جازت الإجازة؛ لما قلنا، وبطل عقد الرهن؛؛ لأنه زال عن ملكه لا إلى خلف" (¬2). حجة الحنفية على كون العقد موقوفًا على الإجازة: الراهن مالك للمرهون، إلا أن المرهون قد تعلق به حق للمرتهن، فكان القياس أن يراعى حق المالك، وحق المرتهن، فيبقى موقوفًا على إجازة المرتهن قياسًا على تصرف الفضولي. ولأن الهبة تتوقف على التسليم، والواهب لا يقدر على تسليم الرهن، وهو في يد المرتهن إلا بإذنه وإجازته. القول الثاني: ليس للراهن التصرف في الرهن بغير إذن المرتهن، فإن تصرف كان تصرفه باطلاً، فإن تصرف بإذن الراهن كان تصرفه نافذًا، ومبطلًا لحقه، وهذا مذهب الحنابلة (¬3). ¬
وجه القول بعدم الصحة
قال ابن قدامة: "وإن تصرف الراهن بغير العتق، كالبيع، والإجارة، والهبة، والوقف، والرهن، وغيره فتصرفه باطل؛ لأنه تصرف يبطل حق المرتهن من الوثيقة غير مبني على التغليب والسراية فلم يصح بغير إذن المرتهن، كفسخ الرهن، فإن أذن فيه المرتهن صح، وبطل الرهن؛ لأنه أذن فيما ينافي حقه فيبطل بفعله كالعتق" (¬1). وجه القول بعدم الصحة: أن هذا التصرف يسقط حق المرتهن في الاستيفاء عند عجز الراهن عن السداد، وهذا لا يجوز إلا بإذن صاحب الحق. القول الثالث: ذهب المالكية إلى أن من رهن رهنًا في دين عليه، ثم وهبه لأجنبي: فإن رضي المرتهن صحت الهبة مطلقا، قبل قبض البرهن وبعده، موسرًا كان الراهن أو معسرًا، وسواء كان الدين مما يقبل التعجيل، أو لا. وإن لم يرض المرتهن بالهبة فإن كان الراهن معسرًا كانت باطلة مطلقًا، قبل القبض أو بعده، وسواء كان الدين مما يعجل أم لا. وإن كان الراهن موسرًا فإن وقعت الهبة قبل قبض الرهن فهي صحيحة. وإن وقعت الهبة بعد القبض، فإن كان الدين مما يعجل قضي على الراهن بفك الرهن وتعجيل الدين، ودفع الرهن للموهوب له. ¬
حجة هذا القول
وإن كان مما لا يعجل بقي الرهن للأجل، فإذا قضي الدين بعده، دفع الرهن للموهوب له، وإلا أخذه المرتهن وبطلت الهبة (¬1). حجة هذا القول: كون الهبة صحت لأجنبي إذا رضي المرتهن؛ لأن الحق حقه وقد أسقطه. وكونها صحت قبل القبض ولو لم يرض المرتهن؛ لأن عدم القبض مظنة تفريطه في قبضه. وكون الهبة صحت بعد القبض، إذا كان الراهن موسرًا، وكان الدين مما يقبل التعجيل؛ لأنه في هذه الحالة لن يذهب حق المرتهن؛ بل سوف يعجل له حقه. وأما إذا كان الدين لا يقبل التعجيل، أو كان الراهن معسرًا فإنه ينتظر حتى يحل الأجل، فإذا قضى الدين وفك الرهن أخذ الموهوب له الهبة، وإن لم يقضه لعسر طرأ عليه كان المرتهن أحق به في دينه، وبطلت الهبة (¬2). الراجح: أن الراهن إذا تصرف في الرهن بيعًا، أو إجارة، أوهبة، أو إعارة، أو رهنًا إلى غير ذلك من التصرفات القابلة للفسخ، فإن صحة هذه التصرفات موقوفة على رضا المرتهن، فإن أجازه المرتهن، أو قام بفك الرهن فإن هذه التصرفات صحيحة، وقد يقال: في صورة بيع الرهن ينفذ البيع، ويؤخذ الثمن رهنًا مقام ¬
العين إن كان الرهن معينًا، وإن كان الرهن دينًا كما لو كان موصوفًا في الذمة كان مطالبًا بدفع رهن آخر؛ لأن الدين لا يفوت، وهذا القول يحفظ حق المرتهن وحق المشتري، وذلك لأن البدل في البيع في مقابلة المبيع نفسه فيقوم مقامه عند المرتهن لاستوائهما في المالية، إلا أن هذا التفصيل مبني على صحة رهن الدين، وفي خلاف، سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه في عقد الركن، بلغني الله ذلك بمنه وكرمه، والله أعلم.
الشرط الرابع في اشتراط أن يكون الموهوب مقسوما غير مشاع
الشرط الرابع في اشتراط أن يكون الموهوب مقسوما غير مشاع تصح هبة المشاع كبيعه. [م - 1860] الملك المشاع ملك صحيح، إلا أنه غير مقسوم، وبيعه صحيح بالاتفاق، وفي هبة المشاع منه ما هو صحيح بالاتفاق، كما لو كان المشاع مما لا يقبل القسمة، كما لو وهب نصف حيوانه مثلاً. ومنه ما هو محل خلاف، كما لو كان المشاع مما يقبل القسمة، وقد وهبه صاحبه قبل فرزه وقسمته. وسبب الخلاف في هبته راجع إلى مسألة قبضه، هل يتأتى قبض المشاع قبل قسمته، أو لا يمكن قبضه إلا بعد فرزه وقسمته: فالحنفية يرون أن القبض في الهبة شرط، والشيوع يمنع القبض. والجمهور يرون أن قبض كل شيء بحسبه، والشيوع لا يمنع من القبض، بل يحم الموهوب له محل الواهب في ملك الجزء الموهوب بصفته شريكًا، فإذا كان الشيوع لا يمنع من نقل الملك في البيع، وهو صحيح بالاتفاق، لم يمنع من نقل الملك في الهبة. إذا عرفنا ذلك إجمالاً نأتي إلى ذكر الأقوال على سبيل التفصيل: القول الأول: لا تصح هبة المشاع مما يقبل القسمة، وهذا قول الحنفية على خلاف بينهم
القول الثاني
هل هي هبة فاسدة، أو غير تامة، ورجح السرخسي والعيني وابن عابدين الثاني (¬1). قال الكرابيسي في الفروق: "وهبة المشاع لا تجوز فيما يقسم، وتجوز فيما لا يقسم" (¬2). وجاء في حاشية ابن عابدين: "وقع الاختلاف في هبة المشاع المحتمل للقسمة، هل هي فاسدة أو غير تامة؟ والأصح كما في البناية أنها غير تامة" (¬3). القول الثاني: تصح هبة المشاع مطلقًا، من شريكه ومن غيره، منقولًا كان أو غيره، ينقسم أولاً، وهذا مذهب الجمهور، واختيار ابن حزم (¬4). قال القرافي: "تجوز -يعني الهبة- في نصف دار، أو عبد، ويحل محلك ودكون ذلك حوزًا" (¬5). ¬
دليل الحنفية على أن هبة المشاع لا تصح
وقال الماوردي: "ولا فرق بين المحوز والمشاع، سواء كان مما ينقسم ولا ينقسم" (¬1). وجاء في الإقناع في فقه الإمام أحمد: "وتصح هبة المشاع من شريكه ومن غيره، منقولًا كان أو غيره، ينقسم أولاً" (¬2). دليل الحنفية على أن هبة المشاع لا تصح: الدليل الأول: استدل الحنفية بما يروى عن النبي أنه قال: لا تجوز الهبة إلا مقبوضة (¬3). ويجاب من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: قال ابن حجر في الدراية: لم أجده (¬4). وقال الزيلعي في نصب الراية: غريب (¬5)، وهذا يعني أنه لا أصل له، وهو مصطلح له في نصب الراية. وقال العيني: "هذا حديث منكر لا أصل له ... بل هذا الذي ذكره المصنف قول إبراهيم النخعي، رواه عبد الرزاق في مصنفه وقال: أخبرنا سفيان الثوري، ¬
الوجه الثاني
عن منصور، عن إبراهيم، قال: لا تجوز الهبة حتى تقبض والصدقة تجوز قبل أن تقبض" (¬1). الوجه الثاني: أن الحديث يقول: لا تجوز الهبة إلا مقبوضة، فظاهره أن القبض شرط في جوازها، والحنفية لا يقولون: إن القبض شرط في الجواز. قال السرخسي: "الجواز ثابت قبل القبض بالاتفاق" (¬2). الوجه الثالث: على التسليم بصحة الحديث، فإن قبض كل شيء بحسبه، والشيوع لا يمنع من القبض كما سيأتي بيانه في صفة قبض المشاع، وإذا صحت هبة المشاع مما لا يقبل القسمة، ولم يكن الشيوع مانعًا من القبض، لم يمنع الشيوع من قبض ما يمكن قسمته، وإذا صح بيع المشاع بالاتفاق، فإن القبض في الهبة كالقبض في البيع، والملك يحصل بالهبة ما يحصل بالبيع. الدليل الثاني: (ث -268) ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقًا من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلى غنى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتك ¬
وجه الاستدلال
جاد عشرين وسقًا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث ... (¬1). [إسناده صحيح]. وجه الاستدلال: قول أبي بكر: (فلو كنت احتزتيه لكان لك) فدل على أن الحيازة شرط، وأن الشيوع يمنع الهبة. قال الكاساني: "الحيازة في اللغة: جمع الشيء المفرق في حيز، وهذا معنى القسمة؛ لأن الأنصباء الشائعة قبل القسمة كانت متفرقة، والقسمة تجمع كل نصيب في حيز" (¬2). ويجاب: الأثر فيه دليل على صحة هبة المشاع؛ إذ لو كانت هبة المشاع غير جائزة ما وهبه أبو بكر حتى يقسمه، فلما وهبه قبل القسمة دل على صحة هبة المشاع، ولكن الهبة لا تلزم إلا بالقبض لا فرق فيها بين المشاع وغيره، وقبض كل مال بحسبه، والمشاع إذا خلى بينه وبين الموهوب له فقد تم قبضه، وحل الموهوب له محل الواهب. الدليل الثالث: (ث -269) ما رواه مالك من طريق ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن ¬
الدليل الرابع
عبد الرحمن بن عبد القاري، أن عمر بن الخطاب قال: ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلاً، ثم يمسكونها، فإن مات ابن أحدهم، قال: ما لي بيدي، لم أعطه أحدًا، وإن مات هو، قال: هو لابني قد كنت أعطيته إياه. من نحل نحلة، فلم يحزها الذي نحلها، حتى يكون إن مات لورثته، فهي باطل (¬1). وجه الاستدلال من هذا الأثر كالاستدلال من الأثر السابق. ويجاب عنه بما أجيب به الأثر السابق؛ لأن قوله من نحل نحلة، فـ (نحلة) نكرة في سياق الشرط، تعم كل نحلة، وسواء أكانت النحلة مشاعة أم مقسومة، وسواء أكانت عقارًا أم منقولًا، فالأثر دليل على صحة الهبة المشاعة وغير المشاعة وإنما القبض شرط للزومها، وليس لصحتها، والشيوع لا يمنع من القبض كما تقدم، ويكون قبض كل مال شائع بحسبه، من عقار ومنقول. الدليل الرابع: أن القبض إذا أطلق فإنما يراد به القبض الكامل، والقبض في المشاع ليس كاملاً، بل هو موجود في وجه دون وجه، وتمام القبض لا يحصل إلا بالقسمة؛ لأن الأنصباء تتميز، وتجتمع، وما لم يجتمع لا يصير محرزًا، أو يكون إحرازًا ناقصًا، فلا يكفي لإفادة الملك. وأجيب بأجوبة منها: الوجه الأول: أن القبض في الأموال ليس واحدًا بل يختلف من مال لآخر: ¬
الوجه الثاني
فما ينقل يكون قبضه بنقله، وما لا ينقل من العقارات يكون قبضه بتخليته، وقبض النقود بقبضها باليد، أو تحويلها إلى حساب المستفيد. وأما المشاعات فإن كانت من الأموال المنقولة فيكون بقبض جميعها بإذن الشريك، ويكون بعضه مقبوضًا تملكًا، وبعضه مما هو من نصيب الشريك يكون قبضه بالوكالة أمانة، وإن لم يأذن الشريك بأن يقبضه الموهوب له، وكل الموهوب له شريكه الواهب بقبضه، فيكون قبض الشريك إقباضًا للموهوب له؛ لأن الوكيل نائب مناب الموكل، وإن كان المشاع مما لا ينقل يكون قبضه بتخليته، ووضع اليد على الكل لمصلحة القابض والشريك، وقبض الغلات غير المفصولة من أصولها يكون قبضها بقبض تلك الأصول، فالقبض ليس له حقيقة شرعية، وإنما حقيقته عرفية، ولهذا منه ما هو قبض حقيقي، ومنه ما هو قبض حكمي، والجميع يحصل به المراد (¬1). الوجه الثاني: إذا أمكن قبض المشاع في البيع، ولم يكن الشيوع مانعًا من قبضه في البيع، لم يكن الشيوع مانعًا من قبضه في الهبة، والملك يحصل بكل منهما. قال ابن حزم: "وما نعلم لهم شغبًا موهوا به، إلا إن قالوا: قبض المشاع لا يمكن. فقلنا لهم: كذبتم، بل هو ممكن، وهبك أنه غير ممكن، فلم أجزتم بيعه، والبيع عندكم يحتاج فيه إلى القبض، ولم أجزتم إصداقه، والصداق واجب فيه الإقباض قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]. ¬
الدليل الخامس
وقال تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229]، ولم أجزتم الوصية به؟ ولم أجزتم إجارة المشاع من الشريك، ومنعتم الرهن فيه من الشريك، ومنعتم الهبة من الشريك، وأقرب ذلك، لم أجزتم هبة المشاع فيما لا ينقسم والعلة واحدة" (¬1). الدليل الخامس: قال الكاساني: "الهبة عقد تبرع فلو صحت في مشاع يحتمل القسمة لصار عقد ضمان؛ لأن الموهوب له يملك مطالبة الواهب بالقسمة، فيلزمه ضمان القسمة فيؤدي إلى تغيير المشروع، ولهذا توقف الملك في الهبة على القبض، لما أنه لو ملكه بنفس العقد لثبتت له ولاية المطالبة بالتسليم، فيؤدي إلى إيجاب الضمان في عقد التبرع، وفيه تغيير المشروع، وكذا هذا، بخلاف مشاع لا يحتمل القسمة؛ لأن هناك لا يتصور إيجاب الضمان على المتبرع؛ لأن الضمان ضمان القسمة، والمحل لا يحتمل القسمة فهو الفرق" (¬2). ويناقش من وجوه: الوجه الأول: قولكم: لو ملكه بنفس العقد لثبتت له ولاية المطالبة بالتسليم ليس بصواب مع قولكم بأن الهبة لا تملك بالعقد حتى ولو كان الموهوب مقسومًا، نعم لو قلتم: إن الهبة تملك بالعقد كان يمكن أن يتوجه القول بأنه لو ملكه بالعقد ثبتت له حق ولاية المطالبة بالتسليم. ¬
° دليل من قال: تصح هبة المشاع مطلقا
الوجه الثاني: أن القبض لا يتوقف على القسمة كما بينا، فما يعتبر قبضًا في البيع يعتبر قبضًا في الهبة، فلا يصح أن يقال: إنه لو صح هبة المشاع لصار للموهوب له أن يطالب الواهب بالقسمة؛ لأننا نقول: قد يبقى المال مشتركًا، ويحل الموهوب له محل الواهب ولو لم يقسم المال. الوجه الثالث: إذا طالب الموهوب له بالقسمة فإنما يطالب بقية الشركاء، فإن كان الواهب قد خرج من المال، ولم يبق له شيء فيه لم يتحمل شيئًا، ولا يطلب منه شيئًا، ولم يبق له سلطة على المال، وإن كان بقي له من المال ما يجعله شريكًا، فإن للموهوب له أن يطالبه كما يطالب بقية شركائه، إذا أراد أن يقسم، وليس هذا مبنيًّا على هبة المشاع، وإنما لكونه حقًّا لكل شريك، فيملك الشريك المطالبة بالقسمة، ومؤنة القسمة على جميع الشركاء بما فيهم الموهوب له، باعتباره مالكًا معهم، كما في أي شركة ملك، والله أعلم. ° دليل من قال: تصح هبة المشاع مطلقًا: الدليل الأول: قال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237]. وجه الاستدلال: العفو عن نصف المفروض في الطلاق قبل الدخول مطلق من غير فرق بين مشاع ومقسوم، فدل على جواز هبة المشاع.
الدليل الثاني
ونوقش: العفو في الآية: يعني الإسقاط، والإسقاط إنما يكون في الديون، وليس في الأعيان. ورد هذا: العفو هو الترك، يقال: عفوت عن فلان إذا تركته، والترك يكون في الديون وفي الأعيان، فتخصيص العفو في الديون دون الأعيان تخصيص لمطلق الآية بلا مخصص. الدليل الثاني: (ح-1121) ما رواه أحمد من طريق محمد بن إسحاق، قال: حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو: أن وفد هوازن أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالجعرانة، وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا، من الله عليك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبناوكم ونساؤكم أحب إليكم، أم أموالكم؟ قالوا: يا رسول الله، خيرتنا بين أحسابنا وبين أموالنا، بل ترد علينا نساؤنا وأبناؤنا، فهو أحب إلينا، فقال لهم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ... الحديث (¬1). [حسن] (¬2). ¬
الدليل الثالث
وجه الاستدلال: أن الرسول وهب نصيبه ونصيب بني عبد المطلب من الغنيمة، وهو مشاع مجهول. الدليل الثالث: (ح- 1122) ما رواه البخاري ومسلم من طريق محارب بن دثار، عن جابر بن عبد الله، قال: كان لي على النبي - صلى الله عليه وسلم - دين، فقضاني وزادني (¬1). وجه الاستدلال: أن هذه الزيادة غير متميزة عن الثمن، فهي هبة مشاعة. ويناقش: بأن الثمن كان دينًا ولم يكن عينًا، وعندما حول الثمن إلى عين مع الزيادة لم يكن هناك شيوع في الثمن مفتقر إلى القسمة، بل أصبح الثمن كله مع زيادته ملكًا للبائع فأين الشيوع المتوقف على القسمة في الهبة. الدليل الرابع: (ح- 1123) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بشراب، فشرب وعن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: إن أذنت لي أعطيت هؤلاء، فقال: ما كنت لأوثر بنصيبي منك يا رسول الله أحدا، فتله في يده (¬2). ¬
الدليل الخامس
وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل الغلام أن يهب نصيبه للأشياخ، وسماه الغلام نصيبي، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه نصيبه، وكان نصيبه مشاعًا غير مقسوم. الدليل الخامس: أجاز الحنفية اجتماع القرض مع الشركة، فقد جاء في المبسوط: "لو دفع ألف درهم إلى رجل، على أن يكون نصفها قرضًا عليه، ويعمل في النصف الآخر بشركته: يجوز ذلك" (¬1). والقرض هو تبرع ابتداء، والقبض شرط لانتقال الملك فيه، ولم تشترط القسمة لصحة التبرع، فدل على أن الشيوع لا يبطل التبرع. ° الراجح: صحة هبة المشاع مطلقًا سواء كان يقبل القسمة أو لا يقبلها، وقبض المشاع يكون كما بينا فالمشاع في العقار قبضه بتخليته، والمشاع في المنقول قبضه بقبض جميعه، ما كان ملكًا للموهوب له، وما كان ملكًا لشريكه، فإن أبى الشريك وكله الموهوب له بقبضه، وقبض الوكيل كقبض الموكل، والله أعلم. ¬
الباب الثالث في أحكام الهبة
الباب الثالث في أحكام الهبة الفصل الأول في هبة الثواب المبحث الأول تعريف هبة الثواب تعريف هبة الثواب: هبة الثواب: هي الهبة يدفعها الرجل يلتمس أفضل منها (¬1). وعرفها المالكية بقولهم: هبة الثواب عطية قصد بها عوض مالي (¬2). فالواهب لا يخلو في هبته من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يريد بها وجه الله تعالى ويبتغي عليها الثواب منه، فله ذلك عند الله بفضله ورحمته، قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39]. ¬
والثاني: أن يريد بها وجوه الناس رياء وسمعة، ليحمدوه عليها، ويثنوا عليه من أجلها، فهذا لا ثواب له في الدنيا، ولا أجر له في الآخرة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة: 264]. والثالث: أن يريد بها الثواب من الموهوب له، فهذا له ما أراد من هبته (¬1). (ح-1124) وقد روى الشيخان من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما جاهر إليه (¬2). (ح-1125) وقد روى البخاري من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنهما -، قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويثيب عليها" (¬3). (ح-1126) وقد روى الحميدي في مسنده، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، أن رجلًا من أهل البادية أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة، فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثًا، فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثًا، فرضي بالتسع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقد هممت أن لا أتهب هبة إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دوسي. قال سفيان: وقال غير ابن عجلان: قال أبو هريرة: لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا القول التفت، فرآني، فاستحى، فقال: أو دوسي (¬4). ¬
[صحيح وهذا إسناد حسن] (¬1). ¬
المبحث الثاني في اشتراط العوض في الهبة
المبحث الثاني في اشتراط العوض في الهبة الفرع الأول أن يكون العوض معلوما هبة الثواب بمنزلة البيع. العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني. [م - 1861] إذا وهب الرجل عينًا، وشرط عليها ثوابًا معلومًا، كما لو قال: وهبتك هذا البستان بشرط أن تكافأني عليه بعقارك الفلاني، فقد اختلف الفقهاء في هذه الهبة على قولين: القول الأول: تصح الهبة، وتعطى حكم البيع، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة، والأظهر عند الشافعية (¬1). على خلاف بينهم هل تأخذ هذه الهبة حكم البيع قبل القبض، فلا يتوقف ¬
الملك فيها على القبض، بل تلزم بالعقد، ولا تبطل بموت الواهب، ويدخلها الخيار، وترد بالعيب، وتنزع بالشفعة، وإذا وهبه ذهبًا وأثابه من جنسه اشترط التماثل والتقابض، وإذا أثابه عنه فضة اشترط التقابض في المجلس، ويصح بالعروض مع التفرق والتفاضل، وهذا مذهب الجمهور، وقول زفر من الحنفية (¬1). أو أن هذه المعاملة قبل القبض لها أحكام الهبة، ولها حكم البيع بعد التقابض: فتنزع بالشفعة، وترد بالعيب، وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه (¬2). وهو قول في مذهب الشافعية في مقابل الأظهر، قال النووي: "وهل تثبت عقب العقد، أم عقب القبض؟ قولان: أظهرهما: الأول" (¬3). إذا علمت ذلك فإليك التدليل عليه من أقوال هؤلاء الفقهاء. قال ابن القاسم من المالكية: إذا وهبه دراهم أو دنانير بشرط العوض، فيثاب عرضًا أو طعامًا. وجاء في التاج والإكليل عن المدونة: "قال مالك: لا ثواب في هبة الدنانير والدراهم، وإن وهبها فقير لغني، وما علمته من عمل الناس. قال ابن القاسم: إلا أن يشترط الثواب فيثاب عرضًا أو طعامًا" (¬4). ¬
قال السبكي: " إذا وهب بشرط ثواب معلوم كان بيعًا على الصحيح اعتبارًا بالمعنى" (¬1). وقال إمام الحرمين: "الثواب إما أن يكون مقدرًا، وإما أن يكون مبهمًا، فإن كان مقدرًا، فالأصح الصحة" (¬2). وقال النووي: "المقيدة بالثواب، وهو إما معلوم، وإما مجهول. فالحالة الأولى: المعلوم، فيصح العقد على الأظهر، ويبطل على قول. فإن صححنا، فهو بيع على الصحيح" (¬3). وقال ابن قدامة: "والهبة المطلقة لا تقتضي ثوابًا، سواء كانت من مماثل، أو أعلى، أو أدنى؛ لأنها عطية على وجه التبرع فلم تقتض ذلك كالصدقة، وإن شرط ثوابًا معلومًا صح" (¬4). القول الثاني: لا تصح الهبة، وهو قول في مذهب الشافعية (¬5). جاء في البيان للعمراني: "إن شرط ثوابًا معلومًا، فهل تصح الهبة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تصح الهبة؛ لأنه شرط ينافي مقتضاها، فلم تصح، كما لو عقد النكاح بلفظ الهبة. ¬
فعلى هذا: إذا قبضه كان حكمه حكم البيع الفاسد. والثاني: تصح الهبة، ويلزم الموهوب الثواب المشروط ... قال الخراسانيون: هل حكمه على هذا القول حكم البيع، أو حكم الهبة؟ فيه قولان: أحدهما: حكمه حكم البيع اعتبارا بالمعنى؛ لوجود العوض فيه. والثاني: حكمه حكم الهبة اعتبارا باللفظ" (¬1). ° سبب الخلاف في المسألة: يرجع الخلاف في هبة الثواب إلى الخلاف في مسألة أخرى حررتها في عقد البيع: هل العبرة في العقود بالمعاني أو بالألفاظ: فلو أعار رجلًا شيئًا، وشرط عوضًا، فهل يعتبر العقد إعارة، أو إجارة. ولو قال: بعتك هذا الثوب بلا ثمن، فهل ينعقد هبة، أو بيعًا؟ فإن نظرنا إلى اللفظ، فإن الإيجاب صادر بلفظ البيع، وإذا نظرنا إلى المعنى، وكون التمليك بدون عوض فهو يدل على أن العقد من عقود التبرعات. ولو قال العاقد: وهبتك هذه الدابة بألف، فهل ذكر العوض يجعل العقد من عقود المعاوضات، فيكون بيعًا، أو نعتبر اللفظ، ونفسد العقد؛ لأن عقود التبرعات لا عوض فيها؟ ¬
° دليل من قال: الهبة بشرط العوض بيع اعتبارًا بالمعنى: الدليل الأول: (ح-1127) ما رواه البخاري من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على المنبر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه (¬1). وجه الاستدلال: أن الواهب إذا شرط عوضًا فقد نوى البيع، والعبرة بما نوى، وليس الاعتبار للفظ. الدليل الثاني: (ح-1128) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالكم، وهذا هدية. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك -إن كنت صادقًا- ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم، وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته، والله لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل ¬
بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر ثم رفع يده حتى رئي بياض إبطه، يقول: اللهم هل بلغت، بصر عيني وسمع أذني، ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ينظر إلى لفظ المعطي، وإنما نظر إلى قصده ونيته، فلما كان الحال يدل على أن المعطي إنما أعطى نظرًا لولاية المعطى؛ لينتفعوا منه تخفيفًا عنهم، أو تقديمًا لهم على غيرهم، أو لغيرها من الأسباب لم يعتبر ذلك هدية، وكان هذا الحديث أصلًا في اعتبار المقاصد ودلالات الحال في العقود (¬2). الدليل الثالث: النية لها أثر في صحة العقد وفساده، وفي حله وحرمته، وفي الثواب والعقاب، بل لها أثر في الفعل الذي ليس بعقد، فيصير حلالًا تارةً، وحرامًا تارة، باختلاف النية والقصد، فالحيوان حلال أكله إذا ذبح لله، ويحرم إذا ذبح لغير الله وكذلك الحلال يصيد الصيد للمحرم فيحرم عليه، ويصيده للحلال فلا يحرم على المحرم وكذلك الرجل يشتري الجارية ينوي أن تكون لموكله فتحرم على المشتري، وينوي أنها له فتحل له، وصورة العقد واحدة، وإنما اختلفت النية والقصد، وكذلك صورة القرض وبيع الدرهم بالدرهم إلى أجل صورتهما واحدة، وهذا قربة صحيحة، وهذا معصية باطلة بالقصد، وكذلك عصر العنب بنية أن يكون خمرًا معصية، ملعون فاعله على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعصره بنية ¬
أن يكون خلا أو دبسًا جائز، وصورة الفعل واحدة ... وكذلك قول الرجل لزوجه: "أنت عندي مثل أمي" ينوي به الظهار فتحرم عليه، وينوي به أنها مثلها في الكرامة فلا تحرم عليه ... والأمثلة كثيرة، وهي غير محصورة (¬1). الدليل الرابع: "الألفاظ مقصودة لغيرها، ومعاني العقود هي التي تراد لأجلها، فإذا ألغيت، واعتبرت الألفاظ التي لا تراد لنفسها، كان هذا إلغاء لما يجب اعتباره، واعتبارًا لما قد يسوغ إلغاؤه، وكيف يقدم اعتبار اللفظ الذي قد ظهر كل الظهور أن المراد خلافه" (¬2). قال ابن القيم: " ... الألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان، عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة أو كتابة أو بإيماءة، أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة له مطردة لا يخل بها" (¬3). الدليل الخامس: (ح-1129) روى البخاري من طريق عن هشام، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويثيب عليها (¬4). ¬
الدليل السادس: (ح -1130) وقد روى الحميدي في مسنده من طريق ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، أن رجلًا من أهل البادية أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة، فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثًا، فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثًا، فرضي بالتسع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقد هممت أن لا أتهب هبة إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دوسي. قال سفيان: وقال غير ابن عجلان: قال أبو هريرة: لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا القول التفت، فرآني، فاستحيى، فقال: أو دوسي (¬1). [صحيح، وهذا إسناد حسن] (¬2). الدليل السابع: (ث-270) ما رواه مالك في الموطأ، عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان بن طريف المري، أن عمر بن الخطاب قال: من وهب هبة لصلة رحم، أو على وجه صدفة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها (¬3). [صحيح، وهذا إسناد حسن] (¬4). ¬
الدليل الثامن: (ث-271) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: هو أحق بها ما لم يرض منها (¬1). [إسناده صحيح]. الدليل التاسع: (ث-272) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن القاسم، عن ابن أبزى، عن علي، قال: الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها (¬2). [ضعيف جدًّا] (¬3). ¬
° دليل من قال: يقدم اللفظ. الدليل الأول: اعتبار المعنى يؤدي إلى إهمال اللفظ، وهذا لا يصح؛ لأن ألفاظ اللغة لا يعدل بها عما وضعت له في اللغة، فيطلق اللفظ لغة على ما وضع له، فكذا ألفاظ العقود. ويجاب عن ذلك: بأن القول بأن ألفاظ اللغة لا يعدل بها عما وضعت له في اللغة، هذه دعوى في محل النزاع، فأين الدليل على ذلك، بل قد ذكرنا في أدلة القول الأول تقديم النية على اللفظ في أحكام متفرقة، وكيف كانت النية مؤثرة في التحليل والتحريم والصحة والفساد، والثواب والعقاب. الدليل الثاني: العقود تفسد باقتران شرط مفسد، ففسادها بتغير مقتضاها أولى. ويجاب: بأن الشرط مؤثر في صحة العقد، فقد يشترط ما يخالف الشرع، وقد يشترط ما ينافي مقتضى العقد، بخلاف اللفظ فلا يشترط له لفظ معين، وإنما اللفظ وسيلة لمعرفة حصول الرضا من العاقدين، فإذا تحقق الرضا بأي لفظ كان فقد حصل المقصود. الدليل الثالث: الأصل حمل الكلام على ظاهره، ولو حملنا الكلام على غير ظاهره بطلت فائدة اللغة وفائدة التخاطب.
ويجاب: نعم الأصل حمل الكلام على ظاهره إلا إذا تعذر ذلك لقرينة حالية أو عرفية، فكما أن الأصل حمل الأمر على الوجوب والنهي على الكراهة إلا لقرينة صارفة، فكذلك هنا، فنحن لم نترك ظاهر اللفظ إلا عند تعذره، وكنا بين أمرين إما أن نأخذ بهذا الظاهر والذي تيقنا أنه غير مراد للعاقدين، وبالتالي نبطل العقد، وإما أن نترك هذا الظاهر لقرينة صارفة، ونعمل بالمعنى الذي أراده العاقدان، ولا شك أن إمضاء العقود خير من إبطالها بسبب لفظ ظاهر غير مراد، وإعمال الكلام خير من إهماله. ° الراجح: أنه إذا شرط ثوابًا معلومًا فإنه بيع صحيح، له أحكام البيع، وليس له شيء من أحكام الهبة، وتركيب العقد من البيع والهبة مع اختلاف أحكامهما ليس قولًا صائبًا فأحكام الهبة تختلف عن أحكام البيع، وعقد واحد لا يحتمل أن يوصف بأنه عقدان مختلفان، والله أعلم.
الفرع الثاني أن يشترط عوضا مجهولا
الفرع الثاني أن يشترط عوضًا مجهولا تعيين الثواب في هبة الثواب غير لازم قياسًا على نكاح التفويض. [م - 1862] سبق لنا خلاف العلماء في الهبة إذا اشترط الواهب عوضًا معلومًا، أما إذا اشترط عوضًا مجهولًا، كما لو قال: وهبتك على أن تثيبني، أو تعوضني، أو تكافئني، ولم يذكر مقدار الثواب، فقد اختلف فيها الفقهاء على النحو التالي: القول الأول: إذا اشترط العوض وكان مجهولًا صح العقد، وهذا مذهب الحنفية والمالكية، وقول مرجوح في مذهب الشافعية مقابل الأظهر، ورواية عن أحمد، رجح الحارثي أن تكون المذهب، ومال إليها أبو الخطاب من الحنابلة (¬1). على اختلاف بينهم في مسألتين: المسألة الأولى: الخلاف بين الحنفية وغيرهم في توصيف العقد كما بيناه في المبحث السابق، فالحنفية يعتبرون العقد هبة ما لم يقبض، فإذا قبض أخذ أحكام البيع. ¬
ويرى غيرهم أنه في حكم البيع ابتداء وانتهاء. المسألة الثانية: الخلاف في تقدير العوض، هل يقدر العوض بالرجوع إلى قيمة الموهوب، أو ما يرضى به الواهب قليلًا كان أو كثيرًا، أو ما يعد مثله لمثله في العادة. جاء في شرح الجامع الصغير: "الهبة بشرط العوض ينعقد تبرعًا عندنا، حتى لا يتم إلا بالتقابض، وتبطل بالشيوع، ولا يجب به الشفعة في العقار، وإذا اتصل القبض صار بيعًا فحينئذ يجب به الشفعة في العقار، ويرد بالعيب ... وتفسير التعويض أن يأتي الموهوب له بلفظ يعلم الواهب أنه عوض هبته، بأن يقول: هذا عوض هبتك، أو مكافآت هبتك، أو ثواب هبتك، أو بدل هبتك، أو جزاء هبتك، أما إذا وهب الواهب شيئًا، وهو لم يعلم بأن هذا عوض هبته، فلكل واحد أن يرجع في هبته" (¬1). فقوله: أن يأتي الموهوب بلفظ يعلم الواهب أنه عوض هبته صريح بأن الواهب لا يعرف ما هو عوض هبته، وإنما اشترط العوض، وترك للموهوب له تقديره. وجاء في تهذيب المدونة: "وما وهبت لقرابتك أو ذوي رحمك وعلم أنك أردت ثوابًا، فذلك لك، إن أثابوك، وإلا رجعت فيها" (¬2). وقال ابن رشد: "وأما هبة الثواب، فاختلفوا فيها، فأجازها مالك وأبو حنيفة؛ ومنعها الشافعي، وبه قال داود وأبو ثور. ¬
وسبب الخلاف: هل هي بيع مجهول الثمن، أو ليس بيعًا مجهول الثمن؟ فمن رآه بيعًا مجهول الثمن، قال: هو من بيوع الغرر التي لا تجوز. ومن لم ير أنها بيع مجهول، قال: يجوز وكأن مالكا جعل العرف فيها بمنزلة الشرط وهو ثواب مثلها، ولذلك اختلف القول عندهم إذا لم يرض الواهب بالثواب ما الحكم؟ فقيل تلزمه الهبة إذا أعطاه الموهوب القيمة، وقيل لا تلزمه إلا أن يرضيه، وهو قول عمر" (¬1). وقال ابن جزي: "هبة الثواب على أن يكافئه الموهوب له، وهي جائزة خلافًا للشافعي، والموهوب له مخير بين قبولها أو ردها، فإن قبلها فيجب أن يكافئه بقيمة الموهوب، ولا يلزمه الزيادة عليها، ولا يلزم الواهب قبول ما دونها" (¬2). وجاء في الإنصاف: "وعنه: أنه قال: يرضيه بشيء فيصح. وذكرها الشيخ تقي الدين - رحمه الله - ظاهر المذهب. قال الحارثي: هذا المذهب. نص عليه من رواية ابن الحكم، وإسماعيل بن سعيد. وإليه ميل أبي الخطاب. وصحح هذه الرواية في الرعاية الصغرى. فقال: فإن شرطه مجهولًا: صحت في الأصح. قال في الرعاية الكبرى: وهو أولى. فعلى هذه الرواية: يرضيه. فإن لم يرضى فله الرجوع فيها" (¬3). ¬
والقول الثاني: لا يصح، وهو قول في مذهب المالكية في مقابل المعتمد، والأصح في مذهب الشافعية، والأظهر عند الحنابلة (¬1). جاء في حاشية الدسوقي: "فتعيينه -يعني الثواب- غير لازم قياسًا على نكاح التفويض، وهذا هو المعتمد. وقيل: إن اشترط العوض في عقدها فلا بد من تعيينه قياسًا على البيع" (¬2). وجاء في المبدع: "وإن شرط ثوابًا مجهولًا لم يصح" (¬3). ° سبب الخلاف: أما من لا يرى هبة الثواب مطلقًا فهذا واضح حيث يرى أن الهبة لا تقتضي عوضًا، واشتراط العوض يبطلها. وهذا واضح. وأما سبب الخلاف عند من يرى صحة هبة الثواب إذا كان العوض معلومًا فإن الخلاف يرجع إلى مسألة أخرى ذكرتها في عقد البيع، هل يصح البيع بدون ذكر الثمن، أو لا يصح؟ فمن يرى أن البيع يمكن أن يصح، ولو لم يسم الثمن قياسًا على النكاح حيث يصح ولو لم يسم قدر المهر، ولها مهر مثلها فإنه يرى صحة هبة الثواب ولو لم يسم العوض. ¬
ومن قال: إن البيع لا يصح إلا إذا كان الثمن معلومًا، فإنه يجعل حكم الهبة حكم البيع، فيبطلها مع جهالة العوض، إلا أن المالكية أبطلوا البيع مع جهالة الثمن، وصححوا هبة الثواب مع جهالة العوض (¬1). والفارق عندهم: أن هبة الثواب، وإن دخلها العوض، فمقصودها أيضًا المكارمة، والوداد، فلم تتمحض للمعاوضة، والمكايسة، والعرف يشهد لذلك فلذلك جاز فيها مثل هذه الجهالة والغرر (¬2). إذا عرفنا الأقوال، وسبب الخلاف، نأتي على ذكر أدلة كل فريق. ° دليل من صحح الهبة مع جهالة العوض: الدليل الأول: (ح-1131) ما رواه البخاري من طريق سفيان، حدثنا عمرو، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر، فكان يغلبني، فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر، ويرده، ثم يتقدم، فيزجره عمر ويرده، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: بعنيه. قال: هو لك يا رسول الله. قال: بعنيه، فباعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت (¬3). ¬
وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى من عمر بعيره، ووهبه لعبد الله بن عمر، دون ذكر للثمن. الدليل الثاني: (ح-1132) وقد روى الحميدي في مسنده من طريق ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، أن رجلًا من أهل البادية أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة، فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثًا، فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثًا، فرضي بالتسع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقد هممت أن لا أتهب هبة إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دوسي. قال سفيان: وقال غير ابن عجلان: قال أبو هريرة: لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا القول التفت، فرآني، فاستحى، فقال: أو دوسي (¬1). [صحيح، وهذا إسناد حسن] (¬2). وجه الاستدلال: أن هذا العربي أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - طلبًا للثواب، ولم يبين مقداره، لهذا أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يرض، فأعطاه فلم يرض حتى أعطاه ثلاثًا، فدل على صحة هبة الثواب، ولم لم يبين العوض. الدليل الثالث: (ث-273) ما رواه مالك في الموطأ، عن داود بن الحصين، عن ¬
أبي غطفان بن طريف المري، أن عمر بن الخطاب قال: من وهب هبة لصلة رحم، أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها (¬1). [صحيح، وهذا إسناد حسن] (¬2). الدليل الرابع: (ث-274) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: هو أحق بها ما لم يرض منها (¬3). [إسناده صحيح]. الدليل الخامس: إذا كان الشارع قد جوز النكاح بدون تسمية المهر، قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]. قال ابن العربي: "لما قسم الله تعالى حال المطلقة إلى قسمين: مطلقة سمي لها فرض، ومطلقة لم يسم لها فرض، دل على أن نكاح التفويض جائز، وهو كل نكاح عُقِدَ من غير ذكر الصداق، ولا خلاف فيه" (¬4). ¬
ولها مهر مثلها، فكون البيع والهبة يجوزان بثمن المثل من باب أولى؛ لأن المبيع والموهوب يوجد مثلهما كثيرًا، بخلاف المرأة، فإن وجود مثلها من نسائها في صفاتها المقصودة من كل وجه قد يتعذر. ويجاب: بأن النكاح لا يشبه المعاوضات، قال ابن حزم: "ما ندري في أي وجه يشبه النكاح البيوع، بل هو خلافه جملة؛ لأن البيع نقل ملك وليس في النكاح ملك أصلًا ... والخيار جائز عندهم في البيع مدة مسماة، ولا يجوز في النكاح، والبيع بترك رؤية المبيع، وترك وصفه باطل لا يجوز أصلًا، والنكاح بترك رؤية المنكوحة وترك وصفها جائز ... فبطل تشبيه النكاح بالبيع جملة" (¬1). الدليل السادس: أجاز عامة الفقهاء أن يقول الرجل: اعتق عبدك عني، وعلي ثمنه، وهذه معاوضة بثمن المثل. كما أجاز كثير من الفقهاء عقد الإجارة بأجرة المثل، وهي بيع منافع. ° دليل من قال: لا تصح الهبة مع جهالة الثمن: الدليل الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. فاشترطت الآية الرضا، والرضا لا يتعلق إلا بمعلوم. ¬
الدليل الثاني؟ الهبة بشرط العوض، يلحقها بالمعاوضات، وعقود المعاوضات يؤثر فيها الغرر، وهو أصل متفق عليه عليه في الجملة. (ح-1133) لما رواه مسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - رضي الله عنه - عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر (¬1). وكون العوض مجهولًا داخل في الغرر المنهي عنه. ° الراجح: صحة الهبة إذا اشترط فيها عوضًا مجهولًا، ويكون للواهب قيمة مثلها؛ لأن المتعاقدين لما لم يذكرا العوض قد تراضيا بالرجوع إلى قيمة المثل، فإن تراضيا على ذلك مضت الهبة، وإن لم يحصل الرضا بقيمة المثل فلكل واحد منهما حق الفسخ، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في هبة الثواب إذا لم يشترط فيها العوض
المبحث الثالث في هبة الثواب إذا لم يشترط فيها العوض إذا ادعى الواهب أنه أراد الثواب في الهبة المطلقة حمل على العرف. [م - 1863] اختلف العلماء في الهبة المطلقة، هل تقتضي عوضًا مع أنه لم يشترط في الصيغة؟ على قولين: القول الأول: الهبة المطلقة لا تقتضي عوضًا، ولكن العوض يسقط حق الرجوع فيها، فإن عوض الواهب عنها أصبحت لازمة، وسقط حق الواهب في الرجوع في هبته، وإن لم يعوض عنها فإن لصاحبها حق الرجوع فيها، ولو بعد القبض، ولا بد من التصريح بأن ما يدفعه الواهب عوض عن الهبة، كان يقول: هذا عوض، أو بدل هبتك، ونحو ذلك، ويكون العوض مع ذلك له حكم الهبة، وليس حكم العوض، فيصح بما تصح به الهبة، ويبطل بما تبطل به، فأما إذا لم يضف العوض إلى الهبة الأولى فإنها تكون هبة مبتدأة، ويثبت حق الرجوع في الهبتين جميعًا؛ وذلك لأن التمليك المطلق يحتمل الابتداء، ويحتمل المجازاة، فلا يبطل حق الرجوع بالشك، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وحق الرجوع في الهبة بعد القبض سيكون محل بحث في فصل مستقل، وهناك أستوفى إن شاء الله تعالى أدلة الحنفية على تلك المسألة. ¬
القول الثاني: إذا قال الواهب: إنه أراد الثواب من هديته صدق في ذلك، ما لم يشهد العرف ضده، كأن يهب لذوي رحم فقير، وهو غني، أو أن يهب غني لفقير أجنبي (¬1). وقال الشافعي في القديم: إن الهبة من الأدنى للأعلى يلزمه الثواب عليها (¬2). جاء في التهذيب في اختصار المدونة: "وما وهبت لقرابتك، أو ذوي رحمك وعلم أنك أردت ثوابًا، فذلك لك، إن أثابوك، وإلا رجعت فيها. وما علم أنه ليس للثواب، كصلتك لفقيرهم، وأنت غني، فلا ثواب لك ولا تصدق أنك أردته ... وكذلك هبة غني لأجنبي فقير، أو فقير لفقير، ثم يدعي أنه أراد الثواب، فلا يصدق إذا لم يشترط في أصل الهبة ثوابًا، ولا رجعة له في هبته، وأما إن وهب فقير لغني، أو غني لغني، فهو مصدق أنه أراد الثواب، فإن أثابوه وإلا رجع في هبته ... " (¬3). وقال ابن عبد البر: "ومن وهب هبة مطلقه، ثم ادعى أنه وهبها للثواب، نظر في ذلك، وحمل على العرف فيه، فإن كان مثله يطلب الثواب على هبته، فالقول قوله مع يمينه، وإن لم يكن فالقول قول الموهوب له مع يمينه، فإن أشكل ذلك، واحتمل الوجهين جميعًا فالقول قول الواهب مع يمينه" (¬4). ¬
وقال ابن رشد:"والهبة للثواب لا تخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يهب على ثواب يرجوه، ولا يسميه، ولا يشترطه. والثاني: أن يهب على ثواب يشترطه، ولا يسميه. والثالث: أن يهب على ثواب يسميه، ولا يشترطه. فأما الوجه الأول: وهو أن يهب على ثواب يرجوه، ولا يسميه، ولا يشترطه فهو على مذهب ابن القاسم كنكاح التفويض، يكون الموهوب له مخيرًا ما كانت الهبة قائمة لم تفت: بين أن يثيبه ما يكون فيه وفاء بقيمة الهبة، أو يردها عليه؛ ولا تجب عليه القيمة إلا بالفوت ... " (¬1). وقال العمراني في البيان: "الواهبون على ثلاثة أضرب: أحدها: هبة الأعلى للأدنى، مثل: أن يهب السلطان لبعض الرعية، أو يهب الغني للفقير ... أو يهب الأستاذ لغلامه، فهذه لا تقتضي الثواب؛ لأن القصد من هذه الهبة القربة إلى الله تعالى، دون المجازاة. والثاني: هبة النظير للنظير، كهبة السلطان لمثله، أو الغني لمثله، فهذه لا تقتضي الثواب أيضًا؛ لأن القصد بهذه الهبة الوصلة والمحبة. والثالث: هبة الأدنى للأعلى، مثل: أن يهب بعض الرعية للسلطان شيئًا، أو يهب الفقير للغني، أو يهب الغلام لأستاذه .. ففيه قولان: قال في القديم: يلزمه أن يثيبه ... وقال في الجديد: لا يلزمه أن يثيبه" (¬2). ¬
° دليل من قال: إذا زعم الواهب أنه وهب للثواب صدق. الدليل الأول: (ح-1134) وقد روى الحميدي في مسنده من طريق ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، أن رجلًا من أهل البادية أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة، فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثًا، فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثًا، فرضي بالتسع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقد هممت أن لا أتهب هبة إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دوسي. قال سفيان: وقال غير ابن عجلان: قال أبو هريرة: لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا القول التفت، فرآني، فاستحيى، فقال: أو دوسي (¬1). [صحيح، وهذا إسناد حسن] (¬2). الدليل الثاني: (ث-275) ما رواه مالك في الموطأ، عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان بن طريف المري، أن عمر بن الخطاب قال: من وهب هبة لصلة رحم، أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه انما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها (¬3). [صحيح، وهذا إسناد حسن] (¬4). ¬
الدليل الثالث: أن المعروف كالمشروط، والهبة من الأدنى للأعلى معروف أنه لا يريد بذلك وجه الله، وإنما يلتمس من هبته أن ينال أكثر منها. القول الثالث: أن الهبة المطلقة لا تقتضي ثوابًا، وهو القول الجديد للشافعي، وهو الأظهر في مذهبه، والمذهب عند الحنابلة (¬1). قال النووي: "القسم الثاني: وهي المطلقة، فينظر: إن وهب الأعلى للأدنى، فلا ثواب، وفي عكسه قولان. أظهرهما عند الجمهور: لا ثواب. والثاني: يجب الثواب" (¬2). قال في كشاف القناع: "ولا تقتضى الهبة عوضًا، ولو مع عرف، كأن يعطيه أي يعطي الأدنى أعلى منه ليعاوضه، أو يقضي له حاجة" (¬3). وقال ابن قدامة: "والهبة المطلقة لا تقتضي ثوابًا، سواء كانت من مماثل أو أعلى أو أدنى؛ لأنها عطية على وجه التبرع، فلم تقتض ذلك كالصدقة" (¬4). استدل أصحاب هذا القول: الدليل الأول: أن الهبة المطلقة عطية على وجه التبرع، فلا تقتضي عوضًا. ¬
ونوقش هذا: إن قصدتم أن كل هبة موضوعها التبرع فهو مصادرة على محل النزاع، لاندراجها في هذه الكلية، وإن أردتم أن بعض الهبات كذلك فمسلم، ولا يضر ذلك؛ لأن المخالف يرى أن هبة الأدنى للأعلى موضوعة للعوض، والأعلى للأدنى للتبرع بشهادة العرف (¬1). الدليل الثاني: أن كل عقد اقتضى عوضًا غير مسمى، لا يفترق فيه الأعلى مع الأدنى، كالنكاح في التفويض، فلو اقتضته الهبة لاستوى الفريقان. ويناقش: بأن هناك فرقًا بين النكاح والهبة، فالعوض في النكاح لازم شرعًا، لا يتمكنان من إسقاطه، فلذلك اطرد في جميع الصورة، بخلاف الهبة، فإن اقترن بها ما يدل على اعتبار العوض لزم، وإلا سقط. الدليل الثالث: إنما أوجبنا العوض إذا اشترط، تقديمًا للمعنى على اللفظ، فلفظ الهبة يقتضي التبرع، وشرط العوض يجعلها بيعًا معنى، فإذا لم يشرط العوض بقيت الهبة على أصل العقد، وهو التبرع المحض. ويجاب عنه بما أجيب به عن الدليل الأول، بأن القول بأن الهبة لا تقتضي عوضًا، هذه دعوى في محل النزاع. ¬
الدليل الرابع: قياس الهبة على الوصية فالوصية لا تقتضي العوض، فكذلك الهبة بجامع التبرع. ويناقش. بأن هناك فرقًا بين الوصية والهبة، فالوصية لا يريد منها الموصي العوض؛ لأنها تقع بعد موته، وغالبًا ما يراد منها الأجرة لذلك لم تقتض أعواض الدنيا كالصدقة (¬1). ° الراجح: أن الهبة إذا دل العرف على قصد الثواب فهو معتبر، ولها حكم البيع، خاصة إذا كان الواهب لا يعرف الموهوب له، وكان الهبة من الأدنى للأعلى، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني منزلة القبض في عقد الهبة
الفصل الثاني منزلة القبض في عقد الهبة القبض في الهبة شرط للزوم العقد لا لانعقاده. هل القبض في الهبة، ركن، أو شرط للصحة، أو أنه شرط للزوم العقد، لا لانعقاده؟ في ذلك خلاف بين العلماء: القول الأول: القبض ركن من أركان العقد، وهو قول بعض الحنفية، وبعض الحنابلة (¬1). جاء في الإنصاف: "صرح ابن عقيل: أن القبض ركن من أركان الهبة كالإيجاب في غيرها، وكلام الخرقي يدل عليه أيضًا" (¬2). ° وجه القول بأن القبض ركن: أن الهبة تصرف لا يظهر أثرها إلا بالقبض، لهذا كان القبض ركنًا في الهبة. ويناقش: إذا كان القبض في عقود المعاوضات الربوية لا يعتبر ركنًا في العقد، وإن كان القبض شرطًا في لزومها واستمرارها على الصحة، فالهبة من باب أولى ألا يكون القبض ركنًا، وإن توقف ثبوت الملك على القبض. ¬
القول الثاني: أن القبض شرط لصحة العقد، اختاره بعض الحنابلة. قال ابن رجب وهو يتكلم عن القبض في القعود: "ومن الأصحاب من جعل القبض فيها شرطًا للصحة، وممن صرح بذلك صاحب المحرر فيه في الصرف، والسلم، والهبة" (¬1). القول الثالث: الهبة تملك بالعقد، لا بالقبض، وهذا مذهب المالكية، وسوف يأتينا إن شاء الله تعالى بحث مستقل بما تملك به الهبة، وننقل نصوص المالكية في ذلك، وإنما الكلام هنا على منزلة القبض في عقد الهبة. القول الرابع: قال الحنفية: الهبة لا تملك إلا بالقبض، وقال الشافعية والحنابلة في المشهور: لا تلزم ولا تملك إلا بالقبض (¬2). ¬
قال الزيلعي: "وأما القبض فلا بد منه لثبوت الملك" (¬1). وجاء في البحر الرائق: "لا بد من القبض فيها لثبوت الملك" (¬2). وفي حاشية ابن عابدين: "قوله: (أن يكون مقبوضًا) فلا يثبت الملك للموهوب له قبل القبض كما قدمنا. وفي الزيلعي: وأما القبض فلا بد منه لثبوت الملك؛ إذ الجواز ثابت قبل القبض بالاتفاق" (¬3). وجاء في مغني المحتاج: "ولا يملك موهوب بالهبة الصحيحة ... إلا بقبض، فلا يملك بالعقد" (¬4). وجاء في إعانة الطالبين: "ظاهره أن الهبة تملك بالعقد، ولا تلزم إلا بالقبض، وليس كذلك، بل لا تملك، ولا تلزم إلا بالقبض" (¬5). وجاء في المحرر: "ولا تلزم الهبة ولا تملك إلا مقبوضة بإذن الواهب" (¬6). وفي الإنصاف: "قال في الكبرى: تلزم الهبة، وتملك بالقبض إن اعتبر. وهو المذهب عند ابن أبي موسى، وغيره" (¬7). ¬
القول الخامس: لا تصح الهبة إلا بالقبض إذا كان الموهوب مما يكال أو يوزن، أو يعد أو يذرع، وكما لو كان الموهوب غير معين، وهذا قول في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في الإنصاف:"ظاهر كلام الخرقي، وطائفة: أن ما يكال ويوزن لا يصح إلا مقبوضًا. قال الخرقي: ولا تصح الهبة والصدقة، فيما يكال ويوزن، إلا بقبضه. قال في الانتصار، في البيع بالصفة: القبض ركن في غير المتعين، لا يلزم العقد بدونه. نقله الزركشي. وصححه الحارثي" (¬2). ° الراجح: أن القبض مطلقًا ليس شرطًا في صحة العقد، لا في عقد الربا، ولا في عقد السلم، ولا غيره من العقود، ومنه الهبة. (ح-1135) والأصل في مسألة القبض ما أخرجه الشيخان من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه (¬3). (ح-1136) وما رواه الشيخان من طريق ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه. قال ابن عباس: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام (¬4). ¬
فدلت هذه النصوص أن القبض في البيع ليس هو من تمام العقد، بل الملك يحصل للمشتري قبل القبض وذلك بالإيجاب والقبول، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - من ابتاع طعامًا، فلا يبعه حتى يقبضه، فأثبت صحة البيع قبل القبض، ولكن منعه من التصرف فيه بالبيع قبل قبضه، والمنع من التصرف أخص من ثبوت الملك، فأثر القبض له تعلق في صحة التصرف في المبيع، وكذلك القبض له تعلق في الضمان إذا تلف قبل القبض وبعده. وقال ابن تيمية: "القبض في البيع ليس هو من تمام العقد، كما هو في الرهن، بل الملك يحصل قبل القبض للمشتري تابعًا، ويكون نماء المبيع له بلا نزاع، وإن كان في يد البائع، ولكن أثر القبض إما في الضمان، وإما في جواز التصرف" (¬1). والقبض بالعقد له حالان: الحال الأول: أن يكون القبض أثرًا من آثار العقد، وواحدًا من موجباته. كما هو الحال في البيع اللازم، والرهن اللازم، ولا يلزم من تأخر القبض الوقوع في أي محذور شرعي، فإذا تم انعقاد هذه العقود وأمثالها وجب على البائع تسليم المبيع إلى المشتري. ويلحظ هنا أن العقد تم بإيجاب وقبول، تولد عنهما التزام يوجب الإقباض. الحال الثاني: أن يكون القبض من تمام العقد، كقبض الثمن في السلم، والتقابض يدًا بيد ¬
في الأموال الربوية، فإذا تفرق العاقدان بدون القبض بطل العقد؛ لأن تأخير القبض يوقع في محذور شرير لا يمكن دفعه إلا بالقبض. ويثور جدل فقهي حول القبض هنا في البيوع الربوية، هل القبض فيها شرط لزوم العقد، واستمراره، أو أنه شرط انعقاد العقد، وإنشائه. والمختار: أن القبض شرط لزوم العقد واستمراره، وهو ليس ركنًا فيه؛ لأن العقد ينعقد بالتراضي في نظر الشرع، وهو يتم بالإيجاب والقبول، لكنه عقد غير لازم يفتقر إلى القبض. قال ابن رجب في القواعد "واعلم أن كثيرًا من الأصحاب يجعل القبض في هذه العقود معتبرًا للزومها، واستمرارها، لا لانعقادها وإنشائها، وممن صرح بذلك صاحب المغني، وأبو الخطاب في انتصاره، وصاحب التلخيص وغيرهم. ومن الأصحاب من جعل القبض فيها شرطًا للصحة ... " (¬1). وجاء في شرح الزرقاني على الموطأ: "قال الأبي: المناجزة قبض العوضين عقب العقد، وهي شرط في تمام الصرف، لا في عقده، فليس لأحدهما أن يرجع، وصرح بأنها شرط المازري، وابن محرز، واختار شيخنا يعني ابن عرفة: أنها ركن، لتوقف حقيقته عليها، وليست بخارجة، وظاهر كلام ابن القصار أنها ليست بركن، ولا شرط، وإنما التأخير مانع من تمام العقد، فإن قيل: لا يصح أنها شرط؛ لأن الشرط عقليًّا كالحياة للعلم، أو شرعيًّا كالوضوء للصلاة: شرطه أن يوجد دون المشروط، والمناجزة لا توجد دون عقد الصرف، فما صورة ¬
تأخيرها؟ أجيب: بأنها إنما هي شرط في الصرف الصحيح، وهو متأخر عنها" (¬1). ولأن المعنى الشرعي للعقد: هو ارتباط الإيجاب بالقبول على وجه يظهر أثره الشرعي في محله، وهذا المعنى للعقد يتحقق بالإيجاب والقبول، فالقبض ليس ركنًا في العقد، وإلا لكان ركنًا في العقد مطلقًا في كل بيع، وليس في بعض العقود خاصة، وإنما القبض أثر من آثار العقد، على اختلاف بين عقد وعقد، وحيث يكون تأخر القبض في بعض العقود محرمًا؛ لأنه يوقع العاقد في محذور شرعي، فيحرم تأخيره لذلك، كما يوقع تأخير القبض في عقد السلم في الوقوع في بيع الدين بالدين، ويوقع تأخير القبض في الأموال الربوية إلى الوقوع في ربا النسيئة كما في عقد الصرف، فدفعًا لهذه المحاذير، نقول: إذا تفرق العاقدان قبل القبض يكون العقد لاغيًا لافتقاره إلى شرط لزومه واستمراره، أو لافتقاره إلى شرط صحته، ولا يقال: إن العقد لم ينعقد أصلًا (¬2). وقد تكلمت عن الخلاف والراجح في منزلة القبض في عقد البيع، فارجع إليه غير مأمور. ¬
الفصل الثالث في توصيف عقد الهبة
الفصل الثالث في توصيف عقد الهبة المبحث الأول في لزوم الهبة تكلمنا في المبحث السابق عن منزلة القبض في الهبة، هل هو ركن، أو شرط للصحة، وسنتكلم في هذا الفصل، عن عقد الهبة، هل هو عقد جائز، أو عقد لازم، وإذا كان لازمًا فمتى يلزم، هل يلزم بالعقد، أو يلزم بالقبض؟ وللجواب على ذلك نقول: [م - 1864] اتفق العلماء على أن الملك يثبت بالإيجاب والقبول والقبض. واختلفوا هل تلزم الهبة بإيجاب وقبول خال من القبض؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: الهبة عقد جائز لا تلزم بالقبض، وإن كان القبض يحصل به الملك للموهوب له ملكًا غير لازم، ولا تلزم الهبة إلا بأمرين: الأول: أن يُعوَّض الواهب عن هبته، فإذا عوض عنها سقط حقه بالرجوع فيها، وإذا لم يعوض عنها صاحبها فإن الواهب يملك حق الرجوع فيها، ولو بعد القبض، ولا بد من التصريح بأن ما يدفعه عوض عن الهبة، كأن يقول: هذا عوض، أو بدل هبتك، ونحو ذلك، ويكون العوض مع ذلك هبة يصح بما تصح به الهبة، ويبطل بما تبطل به، فأما إذا لم يضف العوض إلى الهبة
الأولى فإنها تكون هبة مبتدأة، ويثبت حق الرجوع في الهبتين جميعًا؛ وذلك لأن التمليك المطلق يحتمل الابتداء، ويحتمل المجازاة، فلا يبطل حق الرجوع بالشك. الثاني: أن يوجد ما يمنع من الرجوع كاستهلاك الموهوب، وزيادته زيادة متصلة، وتصرف الموهوب فيه بإخراجه عن ملكه، أو موت أحدهما، ونحو ذلك فإذا وجد مثل ذلك لزمت الهبة، فلا يملك الواهب حق الرجوع فيها. وهذا مذهب الحنفية (¬1). قال الشلبي: "حكم الهبة وقوع الملك للموهوب له ملكًا غير لازم، وفائدته صحة الرجوع" (¬2). قال الزيلعي: "إذا وهب لشخص هبة، وقبضها، وليس فيه ما يمنع الرجوع من زيادة، وموت أحدهما، وعوض، وخروج عن الملك، وزوجية، وقرابة محرمة للنكاح، وهلاك الموهوب، جاز الرجوع في الهبة" (¬3). وقال السرخسي: "إذا وهب لأجنبي شيئًا، فله أن يرجع في الهبة عندنا -ما لم يعوض منها في الحكم- وإن كان لا يستحب له ذلك بطريق الديانة" (¬4). ¬
القول الثاني: أن الهبة عقد لازم، وهذا مذهب المالكية، والشافعية والحنابلة، على خلاف بينهم: هل تلزم الهبة بمجرد العقد بحيث يطالب الموهوب له الواهب قضاء بالتسليم إذا تم الإيجاب والقبول؟ أو لا تلزم الهبة، ولا تملك إلا بالقبض، ويحق للواهب الرجوع عن الهبة قبل التقابض؟ أو يفرق بين هبة الدين وبين هبة العين. أو تكون موقوفة؟ على خمسة أقوال بينهم، هذا تفصيلها: القول الأول: الهبة تلزم بمجرد العقد، ولا يحق له الرجوع بالهبة ويحكم عليه بها ولو لم يقبضها، ولا تتم إلا بالحيازة، وهذا مذهب المالكية (¬1). وذهب أبو ثور وابن أبي ليلى والإمام أحمد في رواية اختارها جماعة من أصحابه، إلى أن الهبة تملك بالعقد، ولا تفتقر إلى القبض مطلقًا (¬2). قال ابن عبد البر: "وقال أبو ثور وأحمد بن حنبل: تصح الهبة والصدقة غير مقبوضة" (¬3). ¬
وقال ابن رشد: "الذي ذهب إليه مالك - رحمه الله - وجميع أصحابه، أنها تلزم بالقول، وتجب به، وتفتقر إلى الحيازة، فيحكم على الواهب، أو المتصدق بدفعها ما لم يمرض أو يفلس" (¬1). وجاء في بداية المجتهد: "قال مالك: ينعقد بالقبول، ويجبر على القبض كالبيع سواء، فإن تأنى الموهوب له عن طلب القبض حتى أفلس الواهب، أو مرض، بطلت الهبة" (¬2). القول الثاني: لا تلزم الهبة، ولا تملك إلا بالقبض، وله الرجوع فيها قبل التقابض، وهذا مذهب الشافعية وإحدى الروايتين عن الحنابلة (¬3). قال في الحاوي: "أما القبض فهو من تمام الهبة لا تملك إلا به، وهو قول أهل العراق" (¬4). وفي البيان في مذهب الإمام الشافعي: "ولا تلزم الهبة إلا بالقبض: فإذا وهب لغيره عينًا فالواهب بالخيار: إن شاء أقبض الموهوب له، وإن شاء لم يقبضه" (¬5). ¬
وجاء في إعانة الطالبين: "ظاهره أن الهبة تملك بالعقد، ولا تلزم إلا بالقبض، وليس كذلك، بل لا تملك، ولا تلزم إلا بالقبض" (¬1). وجاء في الإنصاف: "قوله: (وتلزم بالقبض) يعني: ولا تلزم قبله. وهذا إحدى الروايتين. وهو المذهب مطلقا. جزم به في الوجيز، وغيره ... " (¬2). وجاء في المحرر: "ولا تلزم الهبة، ولا تملك إلا مقبوضة بإذن الواهب" (¬3). القول الثالث: التفريق بين هبة ما يتعلق به حق استيفاء من كيل أو وزن، أو عد أو ذرع، وبين هبة المتميز، فالأولى لا تصح إلا بالقبض، كما لو أهداه كيلًا معلومًا من صبرة من طعام، وأما هبة المتميز ففيها قولان: أحدهما: تلزم بالعقد، والثاني: تلزم بالقبض. وفسر ابن قدامة نفي الصحة باللزوم، وإلا فهي صحيحة قبل القبض. جاء في الإنصاف: "ظاهر كلام الخرقي، وطائفة: أن ما يكال ويوزن لا يصح إلا مقبوضًا. قال الخرقي: ولا تصح الهبة والصدقة، فيما يكال ويوزن، إلا بقبضه. قال في الانتصار، في البيع بالصفة: القبض ركن في غير المتعين، لا يلزم العقد بدونه. نقله الزركشي. وصححه الحارثي" (¬4). ¬
قال ابن قدامة: "وقول الخرقي (لا يصح). يحتمل أن يريد: لا يلزم. ويحتمل أن يريد: لا يثبت بها الملك قبل القبض، فإن حكم الملك حكم الهبة، والصحة اعتبار الشيء في حق حكمه. وأما الصحة بمعنى انعقاد اللفظ بحيث إذا انضم إليه القبض اعتبر وثبت حكمه، فلا يصح حمل لفظه على نفيه، لعدم الخلاف فيه" (¬1). وجاء في قواعد ابن رجب: "أما الرهن والهبة، فهل يعتبر القبض فيهما في جميع الأعيان، أو في المبهم غير المتميز، كقفيز من صبرة؟ على روايتين" (¬2). وفي الإنصاف "قال الزركشي: لا يفتقر المعين إلى القبض عند القاضي وعامة أصحابه، وقدمه في المغني، وابن رزين في شرحه، وأطلقهما في الكافي، والشرح، والتلخيص والهداية، والمستوعب" (¬3). وجاء فيه أيضًا: "وعنه -يعني عن الإمام أحمد- تلزم في متميز بالعقد" (¬4). القول الرابع: أن الملك فيها يقع مراعى، فإن وجد القبض تبينا أنه كان للموهوب بقبوله وإلا فهو للواهب. وهذا أحد القولين في مذهب الشافعية، ووجه ثالث عند الحنابلة حكي عن ابن حامد (¬5). ¬
ويتفرع على هذا الخلاف: الملك في الزيادة الحادثة بين العقد والقبض لمن تكون. فعلى هذا القول يكون الملك فيها للموهوب له، وعلى القول بأن الهبة لا تلزم ولا تملك إلا بالقبض يكون الملك في الزيادة المنفصلة للواهب، ومثله في تحمل النفقات. جاء في الحاوي الكبير: "لو وهب رجل لرجل عبدًا قبل شوال، ثم أقبضه العبد بعد شوال، في زكاة فطره قولان مبنيان على اختلاف قوليه في الهبة متى تملك؟ فأحد قوليه: تملك بالقبض، فعلى هذا زكاة فطره على الواهب؛ لأنه كان في ملكه حتى أهل شوال. والقول الثاني: أنه يملك بالعقد ملكًا موقوفًا على القبض، فعلى هذا زكاة الفطر على الموهوب له؛ لأنه كان على ملكه حين أهل شوال" (¬1). القول الخامس: التفريق بين الهبة والصدقة، فالصدقة تلزم بالقول بخلاف الهبة، فإنها لا تلزم إلا بالقبض، وهذا قول في مذهب الشافعية. هذه هي الأقوال في المسألة، وملخصها كالتالي: الأول: الهبة عقد جائز، لا تلزم بالقبض، وإنما تلزم بأمور منها: التعويض عنها، أو التصريف فيها. وهذا مذهب الحنفية. ¬
الثاني: الهية تلزم بالعقد، وهذا مذهب المالكية، وقول في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة. الثالث: الهبة لا تملك، ولا تلزم إلا بالقبض، وهذا مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة. الرابع: الهبة تلزم بالعقد إلا إذا تعلق في الموهوب حق استيفاء من كيل، أو وزن، أو عد، أو ذرع. وإذا عرفنا الأقوال نأتي على ذكر أدلة كل قول إن شاء الله تعالى: ° أدلة الحنفية على أن الهبة عقد غير لازم وله الرجوع فيها: مسألة حكم الرجوع في الهبة بعد القبض سيكون محل بحث في فصل مستقل، وهناك أستوفي إن شاء الله تعالى أدلة الحنفية على تلك المسألة. ° دليل من قال: الهبة تلزم بالعقد: الدليل الأول: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. وجه الاستدلال: العقد في اللغة وفي الإصطلاح: هو الإيجاب والقبول، فإذا تم الإيجاب والقبول في الهبة فقد تم العقد، وأمر الله بالوفاء به، ولا يتوقف الأمر على قبض ونحوه، (والعقود) جمع يشمل كل عقد تم بين متعاقدين، لا فرق بين عقد وآخر.
ونوقش هذا: أن المراد بالآية لازم العقود، حتى البيع قبل لزومه لا يجب الوفاء به كما لو كان فيه خيار شرط ونحوه، فكذلك عقد الهبة لا يجب الوفاء به قبل لزومه، وهو لا يلزم إلا إذا قبض، بدليل ما فهمه الصحابة - رضي الله عنهم -؛ لأنهم أقرب إلى فهم النصوص، لقربهم من التنزيل، وأخذهم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ورد هذا: القول بأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض استدلال في محل النزاع، وفهم الصحابة دليل على أن عقد الهبة يفتقر إلى الحيازة، وهذا لا يعني أنه لم ينعقد، فالهبة كغيرها من العقود تنعقد بالإيجاب والقبول، واستثناء الهبة من سائر العقود يحتاج إلى دليل، وإذا كانت العقود الربوية تنعقد بالإيجاب والقبول، وإن كان القبض شرطًا في استمرارها على الصحة، فالهبة من باب أولى؛ لأن تأخر القبض في الهبة لا يمنع من استمرار انعقادها، وإنما كانت الحيازة من شرط تمام الهبة والصدقة. لأنهما لو أجيزا دون حيازة، لكان ذلك ذريعة إلى أن ينتفع الإنسان بماله طول حياته، ثم يخرجه عن ورثته بعد وفاته، وذلك ممنوع؛ لأن الله تعالى فرض الفرائض لأهلها، وتوعد على تعديها فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، وهذا هو ما فهمه الصحابة - رضي الله عنهم -. (ث-276) فقد روى مالك من طريق ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أن عمر بن الخطاب قال: ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلًا، ثم يمسكونها، فإن مات ابن أحدهم، قال: ما لي بيدي، لم
أعطه أحدًا، وإن مات هو، قال: هو لابني قد كنت أعطيته إياه. من نحل نحلة، فلم يحزها الذي نحلها، حتى يكون إن مات لورثته، فهي باطل (¬1). [صحيح]. الدليل الثاني: (ح-1137) ما رواه البخاري من طريق ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه (¬2). ° ووجه الدلالة منه: أن الحديث دال على تحريم الرجوع في الهبة، وهي تشمل المقبوضة وغيرها؛ لأن تسميتها هبة لا يتوقف على قبضها، فدل على أن القبض غير معتبر في لزوم الهبة. ونوقش: بأن الحديث وعيد على العائد في هبته، والعود لا يصدق إلا على ما خرج من يد الواهب ثم عاد إليه، فصار الحديث وإلا على أن اللزوم لا يتم إلا بالقبض. ورد هذا: بأن العود في اللغة: هو الرجوع، كذا في القاموس المحيط (¬3). ¬
وقال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28]، ومن قال: إنه لا يسمى عائدًا في هبته حتى تخرج الهبة منه، ثم تعود عليه فقد ادعى شيئًا لا تدل عليه اللغة، فمن عاد عن البيع بعد انعقاده صح أن يقال: قد عاد عن بيعه، وإن كان المبيع في يده. الدليل الثالث: قياس الهبة على سائر العقود حيث لم يتوقف انعقادها على القبض. ونوقش: بأن الأدلة قد صحت في اعتبار القبض في الهبة كما سيأتي في أدلة القول الثاني، فلم يصح القياس. ورد هذا: بأن القبض في الهبة ليس من شروط الانعقاد، وإنما هو شرط لإتمامها، وبينهما فرق، ولن يكون اعتبار القبض في الهبة بأكثر من اعتباره في العقود الربوية، والتي جاءت النصوص الصحيحة الصريحة بوجوبه يدًا بيد قبل التفرق، ومع ذلك لا يتوقف الانعقاد فيها على القبض، فهي تنعقد بالإيجاب والقبول، والقبض شرط لاستمرار انعقادها على الصحة. الدليل الرابع: أن الهبة تمليك عين في حال الحياة، فوجب أن يلزم بمجرد الإيجاب والقبول كالبيع. وأجيب: لا يصح القياس على البيع من وجهين:
أحدها: أن القبض في البيع أثر من آثار العقد، وليس شرطًا للزوم البيع، ولا لإتمامه، فخالف الهبة. الثاني: أن البيع من عقود المعاوضات، والهبة من عقود التبرع. الدليل الخامس: (ث-277) ما رواه مالك في الموطأ، عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان بن طريف المري، أن عمر بن الخطاب قال: من وهب هبة لصلة رحم، أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها (¬1). [صحيح, وسبق تخريجه] (¬2). الدليل السابع: أن الهبة إزالة ملك بغير عوض فأشبه الوصية والوقف. ونوقش هذا: بأنه لا يصح القياس على الوقف والوصية؛ لأن الوقف إخراج ملك إلى الله تعالى، فخالف التمليكات، والوصية تلزم في حق الوارث، ولا تلزم الهبة الوارث إذا لم تقبض في حياة الواهب. ° دليل من قال: لا تلزم الهبة، ولا تملك إلا بالقبض: الدليل الأول: (ث-278) ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، ¬
عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقًا من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلى غنى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقًا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث ... (¬1). وجه الاستدلال: وهذا الأثر نص في اشتراط القبض للزوم الهبة، حيث وهبها في صحته، ولم تقبضها حتى مرض، والإقباض في مرض الموت كالعطية، والعطية للوارث لا تصح. ويجاب من وجوه: الوجه الأول: أن أبا بكر - رضي الله عنه - قد سماها هبة، حيث يقول: (كنت نحلتك) , وهذا دليل على انعقادها بذلك، ولو كانت لا تنعقد حتى تقبض لما أطلق عليها هذا الاسم، والقبض شرط للزوم العقد، وليس لانعقاده. الوجه الثاني: يحتمل أن هبة أبي بكر لم تنفذ لأنها لم تكن معينة، فهي من هبة المكيل قبل كيله، وهذا لا يصح إلا مقبوضًا, ولهذا ردها أبو بكر - رضي الله عنه -، لا لأنها لم تقبض؛ لأن قوله: جاد عشرين وسقًا: أي وهبتك عشرين مجدودة من هذه الثمار، فهي ¬
من قبيل هبة المكيل قبل كيله، وليس من هبة العين، كما لو وهبه قفيز بر من هذه الصبرة، فلا بد فيه من القبض لصحته، ولا يصح التصرف فيه قبل قبضه. الوجه الثالث: أن الرد بسبب جهالة الهبة، لقوله: إني نحلتك جداد عشرين وسقًا؛ ولو باع رجل جداد عشرين وسقًا من نخل له لم يجز فيه البيع؛ لأن ذلك مجهول. الوجه الرابع: انظره في الجواب عن الدليل التالي. الدليل الثاني: (ث-279) روى مالك من طريق مالك، ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أن عمر بن الخطاب قال: ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلًا، ثم يمسكونها، فإن مات ابن أحدهم، قال: ما لي بيدي، لم أعطه أحدًا، وإن مات هو، قال: هو لابني قد كنت أعطيته إياه. من نحل نحلة، فلم يحزها الذي نحلها، حتى يكون إن مات لورثته، فهي باطل (¬1). [صحيح]. ويجاب عن هذا وعن أثر أبي بكر السابق: أن الحيازة إنما كانت شرطًا لإتمام الهبة والصدقة؛ لأنهما لو أجيزا دون حيازة، لكان ذلك ذريعة إلى أن ينتفع الإنسان بماله طول حياته، ثم يخرجه عن ورثته بعد وفاته، فلم يمنع عمر - رضي الله عنه - من انعقاد الهبة بالإيجاب والقبول، ¬
ولكنه كان يمنع من الاحتفاظ بالهبة إلى الموت، والانتفاع بها، واعتبار ذلك حيلة لمنع الورثة؛ وذلك ممنوع؛ لأن الله تعالى فرض الفرائض لأهلها، وتوعد على تعديها فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، وهذا هو ما فهمه أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - وقد تقدم نقل ذلك. الدليل الثالث: (ح-1138) ما يروى عن النبي أنه قال: لا تجوز الهبة إلا مقبوضة (¬1). وجه الاستدلال: أن معنى لا تجوز الهبة: أي لا يثبت الحكم وهو الملك؛ إذ الجواز ثابت قبل القبض باتفاق. ويجاب عن الحديث: بأن الحديث لا أصل له. قال ابن حجر في الدراية: لم أجده (¬2). وقال الزيلعي في نصب الراية: غريب (¬3)، وهذا يعني أنه لا أصل له، وهو مصطلح له في نصب الراية. وقال العيني: "هذا حديث منكر لا أصل له ... " (¬4). ¬
الدليل الرابع: قال المروزي في اختلاف العلماء: "اتفق أبو بكر وعمر وعثمان على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة" (¬1). ولم يعرف لهؤلاء مخالف فيكون إجماعًا. ويناقش من وجهين: الوجه الأول: أما أثر أبي بكر وعمر فقد سبق الجواب عنهما، فلا يحتاج إلى إعادة ذلك. (ث-280) وأما أثر عثمان فقد رواه ابن أبي شيبة من طريق الزهري، عن سعيد قال: شكي ذلك إلى عثمان أن الولد إذا كان صغيرًا لا يحوز، فرأى أن أباه إذا وهب له وأشهد حاز (¬2). [صحيح]. ورد هذا: بأن أثر أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - لا حجة فيه؛ لأن الأثر لا يتكلم على أن الهبة عقد جائز لا يلزم إلا بالقبض، والذي هو موضع النزاع، وإنما تناول أن الملك في الهبة لا يتم إلا بالحيازة، وبينهما فرق، وأن الواهب إذا كان وليًّا لم يكن الملك متوقفًا على حيازة الصغير, فإذا أشهد على الهبة كانت يد الولي كيد الصغير في إتمام الملك، وليس في لزوم الهبة. فكون الملك يتم بالحيازة لا ¬
يجعل العقد ليس لازمًا قبله، والقول بأن الهبة الناجزة لا تختلف عن الوعد بالهبة إن شاء أمضاها، وإن شاء رجع فيها لا دليل عليه، بل غاية الأدلة تدل على أن الملك يتم بالحيازة، وهذا أمر مختلف. الوجه الثاني: على التسليم بأن رأي أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - يدل على أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، فإن الصحابة قد وقع بينهم خلاف في المسألة، وإذا وقع خلاف لم يكن قول الصحابي حجة بمفرده، بل يطلب الترجيح من أدلة أخرى. (ث-281) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: نا همام، عن قتادة، عن الحسن، عن النضر بن أنس، قال: نحلني أبي نصف داره، فقال أبو بردة: إن سرك أن تحوز ذلك فاقبضه فإن عمر بن الخطاب "قضى في الأنحال أن ما قبض منه فهو جائز، وما لم يقبض منه فهو ميراث (¬1). [أثر أنس صحيح متصل، وأما أثر عمر فلا يضره الانقطاع، بين أبي بردة وعمر؛ لأن أثر عمر قد ثبت عنه ذلك بسند صحيح في الموطأ، وسبق تخريجه]. وجه الاستدلال: أن أنسًا - رضي الله عنه - ير أن الهبة نافذة، ولو لم تقبض، ولهذا قال ما قاله أبو بردة رضي الله عن رأي عمر، فإن حملنا رأي عمر على أنه يرى أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، فقد خالف قول أنس قولَ عمر - رضي الله عنه - مما يدل على أن المسألة ليست إجماعًا بين الصحابة، مع أن رأي عمر قد تم الجواب. عنه في الأدلة السابقة، وأنه ليس صريحًا في الباب، والله أعلم. ¬
الدليل الخامس: أن عقد التبرع ضعيف في نفسه، ولهذا لا يتعلق به صفة اللزوم، والملك الثابت للواهب أقوى فلا يزول بالسبب الضعيف حتى ينضم إليه ما يتأيد به، وهو القبض في الهبة، والموت في الوصية (¬1). ويناقش: لو عكس هذا لكان أصح، فإن عقد التبرع عقد إرفاق وإحسان، والتوسعة فيه أن لا يشتدد في عقده قبض أو لم يقبض؛ لأنه لا يقابله عوض، بخلاف عقود المعاوضات فإن البائع إنما بذل المبيع مقابل عوض، فكونه لا يلزم إلا إذا تقابضا، لو قيل هذا في عقود المعاوضات لكان أولى من عقود التبرع القائم على المسامحة والإحسان. ° دليل من قال: هبة المكيل والموزون لا تلزم فيه إلا بالقبض: الدليل الأول: قياس الهبة على البيع، فالمبيع إذا لم يكن فيه حق توفية فإنه يكون من ضمان المشتري إذا هلك عند البائع بدون تعد أو تفريط، ويصح تصرف المشتري فيه بالبيع، ولو لم يقبضه، وإذا كان فيه حق توفية من كيل أو وزن، أو عد، أو ذرع فإن ضمانه من مال البائع، وليس للمشتري حق التصرف فيه قبل قبضه، والهبة قياس عليه، وقد ذكرنا أدلة كثيرة على هذه المسألة عند الكلام على التصرف في المبيع قبل قبضه، فارجع إلى أدلة المسألة هناك غير مأمور. ¬
الدليل الثاني: (ث-282) ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقًا من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلى غنى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقًا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث ... " (¬1). وجه الاستدلال: أن قوله: (نحلتك جاد عشرين وسقًا): أي وهبتك عشرين مجدودة من هذه الثمار، فهي من قبيل هبة ما يحتاج إلى كيل، وليس من هبة العين، كما لو وهبه قفيز بر من هذه الصبرة، فلابد فيه من القبض لصحته، ولا يصح التصرف فيه قبل قبضه. ° دليل من فرق بين الهبة والصدقة: (ث-283) ما رواه عبد الرزاق في المصنف عن الثوري، عن جابر، عن القاسم بن عبد الرحمن، أن عليًّا، وابن مسعود كانا يجيزان الصدقة وإن لم تقبض ... (¬2). [ضعيف] (¬3). ¬
° دليل من قال: إن تم القبض تبين أن الملك من العقد، وإلا بطل: لعل هذا القول يرى أن الملك يحصل بالإيجاب والقبول، والقبض شرط فيه، فإن تحقق الشرط كان الملك ثابتًا من حين صدور القبول مطابقًا للإيجاب، وإن لم يتم القبض يكون هذا إبطالًا لما تم انعقاده، وليس لأن الملك لا يتم إلا بالقبض. ° الراجح: أرى أن الخلاف في المسألة خلاف قوي، وأن مذهب المالكية ربما كان أقرب، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في اشتراط إذن الواهب في القبض
المبحث الثاني في اشتراط إذن الواهب في القبض إيجاب الواهب إذن بالقبض دلالة. [م - 1865] عرفنا اختلاف العلماء في عقد الهبة، وهل يلزم بالعقد أو بالقبض؟ فإذا حصل القبض، فهل يشترط أن يكون ذلك بإذن الواهب ورضاه، أو يصح القبض، ولو لم يأذن الواهب بذلك؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: إذا أذن الواهب في القبض صريحًا صح القبض في المجلس وبعده، وإذا نهاه عن القبض لم يصح القبض لا في المجلس ولا بعده، وإن كان لم يأذن له في القبض، ولم ينهه عنه، فإن قبض في المجلس صح القبض استحسانًا، وإن قبضها بعد الافتراق لم يصح إلا أن يأذن له الواهب في القبض. وهذا مذهب الحنفية (¬1). ° حجة الحنفية في التفريق بين المجلس وغيره: قالوا: إن القبض بمنزلة القبول في عقد البيع، والقبول في عقد البيع إذا صدر في المجلس تم العقد، وإذا لم يقبل حتى افترقا لم ينعقد العقد، فكذلك القبض ¬
في الهبة إن تم المجلس كان نافعًا، ولو لم يكن بإذن الواهب ما لم ينه عنه؛ لأن الإيجاب من الواهب تسليط على القبض في المجلس دلالة. جاء في مجلة الأحكام العدلية: إيجاب الواهب إذن دلالة بالقبض (¬1). وإذا افترقا من المجلس قبل القبض، ثم قبض الهبة لم يكن له تأثير إلا بإذن صريح من الواهب؛ لأنه بمنزلة عقد مستأنف. جاء في اللباب في شرح الكتاب: " (فإن قبض الموهوب له) الهبة (في المجلس بغير أمر الواهب) ولم ينهه (جاز) استحسانًا؛ لأن الإيجاب إذن له بالقبض دلالة (وإن قبض بعد الافتراق لم تصح) الهبة؛ لأن القبض في الهبة منزل منزلة القبول، والقبول مختص بالمجلس، فكذا ما هو بمنزلته بالأولى، (إلا أن يأذن له الواهب في القبض)؛ لأنه بمنزلة عقد مستأنف. قيدنا بعدم نهيه؛ لأنه لو نهاه عن القبض لم يصح قبضه، سواء كان في المجلس أو بعده؛ لأن الصريح أقوى من الدلالة" (¬2). القول الثاني: يشترط لصحة القبض إذن الواهب، ولو بعد التفرق من مجلس العقد. وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة (¬3). ¬
والإذن نوعان: صريح، ودلالة. أما الصريح: فنحو أن يقول له: اقبض الهبة، أو أذنت لك بقبضها، ونحو ذلك. وأما الإذن دلالة: كالمناولة، والتخلية، ومثله أن يقبض الموهوب له الهبة فيسكت الواهب، ولا ينهاه (¬1). قال الشافعي في الأم: "ولو وهب رجل لرجل هبة، والهبة في يدي الموهوبة له فقبلها تمت لأنه قابض لها بعد الهبة. ولو لم تكن الهبة في يدي الموهوبة له فقبضها بغير إذن الواهب لم يكن ذلك له، وذلك أن الهبة لا تملك إلا بقول وقبض، وإذا كان القول لا يكون إلا من الواهب فكذلك لا يكون القبض إلا بإذن الواهب لأنه المالك، ولا يملك عنه إلا بما أتم ملكه، ويكون للواهب الخيار أبدا حتى يسلم ما وهب" (¬2). قال العمراني في البيان: "الموهوب ليس له أن يقبض إلا بإذن الواهب، فإن قبض بغير إذنه لم يصح القبض" (¬3). وقال إمام الحرمين: "لو ابتدر المتهب، وقبض من غير إقباض، ولا إذن، لم يحصل الملك" (¬4). وقال ابن قدامة: "ولا يجوز القبض إلا بإذنه؛ لأنه غير مستحق عليه، فإن ¬
قبض بغير إذنه، لم تتم الهبة. وإن أذن، ثم رجع قبل القبض، أو مات بطل الإذن" (¬1). ° حجة هذا القول: أن الواهب بالخيار قبل إقباضه للهبة، إن شاء رجع عن هبته، وإن شاء أمضاها بالقبض، وذلك لأن القبض غير مستحق عليه بمجرد العقد، وإذا كان الخيار له، كان القبض بإذنه؛ لأن القبض مزيل لملكه في الهبة. ويجاب: ألا يكفي الإيجاب إذنًا بالقبض، خاصة أنه لا يوجد ما يدل على رجوعه عنه، فاستصحاب الإيجاب كاف في الإذن بالقبض دلالة حتى يوجد ما يدل على رجوعه صراحة أو دلالة. القول الثاني: لا يجوز القبض بعد الافتراق من المجلس، ولو كان بإذن الواهب، وهو قول زفر من الحنفية (¬2). ° حجة قول زفر: أن القبض عنده ركن بمنزلة القبول على أحد قوليه، فلا يصح بعد الافتراق عن المجلس، كما لا يصح القبول عنده بعد الافتراق، وإن كان بإذن الواهب كالقبول في باب البيع (¬3). ¬
ويناقش: بأن قول زفر عليه رحمة الله قول ضعيف حتى لو سلمنا له أن القبول ركن، فإنه إذا أذن بالقبض بعد المجلس كانت هبة مستأنفة. القول الثالث: ذهب المالكية وابن حزم من الظاهرية إلى أن الإذن ليس شرطًا في القبض؛ لأن الهبة تلزم عندهم بالعقد، وتملك به. فلا يتوقف الملك على القبض (¬1). جاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن وهبت هبة لرجل، فقبضها بغير أمري، أيجوز قبضه؟ قال: نعم في قول مالك؛ لأنك لو منعته، ثم قام عليك، كان له أن يقبضها منك إذا كانت لغير الثواب" (¬2). ° حجة المالكية: تقدم ذكر أدلتهم في أن الهبة تملك بالعقد، وليس للواهب منع الموهوب من القبض، وإذا امتنع الواهب عن التسليم فإنه يقضى عليه بذلك، ويجبر على التسليم، فإذا قبض الهبة صح ذلك، ولو كان بغير إذنه. قال الباجي: "ومعنى القبض: أن يقبض المعطي العطية وتصير في يده، وإن ¬
كان ذلك بغير علم المعطي، ولا إذنه، فمات المعطي قبل أن يعلم، ويرضى، فذلك حوز عند ابن المواز قال: لأنه لو منعه قضى عليه بذلك. ووجه ذلك: أن القبض حوز للمعطى ليس للمعطي منعه منه، فصح بغير إذنه كما لو امتنع من ذلك فقضي به عليه" (¬1). وقال الخرشي: "الشيء الموهوب يحاز عن واهبه، ولو لم يأذن في ذلك، فإن أبى الواهب فإنه يجبر على حيازته للموهوب؛ لأن الهبة تملك بالقول على المشهور" (¬2). ° الراجح من الخلاف: هذه المسألة مبنية على المسألة التي قبلها، وهي هل تملك الهبة بالعقد، أو تملك بالقبض. فمن قال: إن الهبة تملك بالعقد، رأى أن من حق الموهوب قبض الهبة، وليس من حق الواهب منعه من ذلك، فإذا قبضها فقد قبض ما هو مملوك له. ومن قال: إن الهبة لا تملك ولا تلزم إلا بالقبض، وللواهب الرجوع عن هبته رأى أن قبض الهبة بدون إذن الواهب يسقط حقه بالخيار في الرجوع عن الهبة، فلا يكون القبض صحيحًا. وقد سبق ذكر الأدلة على هذه المسألة، وأرى أنه حتى على القول بأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض لا أرى أنه يشترط إذن الواهب للقبض؛ لأنه لا يوجد في الأدلة ¬
ما ينص على اشتراط الإذن عند القبض بعد تمام الهبة، ولأن الهبة تمت بالإيجاب والقبول، ولم يوجد ما يدل على رجوع الواهب، فكان القبض صحيحًا استصحابًا للعقد، ودعوى أن الواهب قد يرجع عن هبته هذا خلاف الأصل، بل الأصل أن الواهب على إيجابه حتى يوجد ما يدل صراحة على رجوعه قبل القبض، فإذا لم يوجد فقد لزمت الهبة، والله أعلم.
المبحث الثالث إذا كان الموهوب في يد المتهب
المبحث الثالث إذا كان الموهوب في يد المتهب [م - 1866] لو كان الشيء الموهوب مقبوضًا قبل الهبة، كما لو وهب المودع الوديعة، والمعير العارية، فهل يكون قبضها يغني عن الإذن بالقبض؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: إذا كان الموهوب مقبوضًا للموهوب له، لزمت الهبة بالعقد، ولا حاجة إلى تجديد القبض مطلقًا، وسواء كانت يد القابض يد ضمان، أم يد أمانة، ولا يشترط الإذن بالقبض، ولا مضي زمان يتأتى فيه القبض. وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة (¬1). ° وجه القول بذلك: أن المراد بالقبض: إثبات اليد، والتمكن من التصرف في المقبوض، فإذا تحقق هذا الأمر فقد وجد القبض، ولا علاقة لكون المقبوض مضمونًا، أو أمانة في حقيقة القبض، ولا يوجد دليل على أنه ينبغي أن يقع القبض ابتداء بعد العقد. ¬
واتفق الحنفية مع المالكية والحنابلة في أن القبض الموجود قبل الهبة ينوب عن قبض الهبة، وإن كانوا يفرقون بين قبض الضمان وقبض الأمانة: وجه ذلك: أن العين في يد الموهوب له لا تخرج عن حالتين: الحالة الأولى: أن يكون قبضه لها قبض أمانة، فينوب عن الهبة؛ لأن القبضين متماثلان. الحالة الثانية: أن يكون قبضه لها قبض ضمان، فهو أقوى من قبض الهبة، والأقوى ينوب عن الأدنى. بخلاف ما لو باع عليه ما كان مودعًا عنده أو مستعارًا فإن قبضه عندهم لا ينوب عن قبض البيع؛ لأن قبض الوديعة والعارية أمانة، وقبض المبيع قبض ضمان، فلا ينوب قبض الأضعف عن الأقوى. هذا ملخص مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: ذهب أن القبض السابق ينوب مناب القبض اللاحق بشرطين: أحدهما: أن يأذن الواهب بالقبض. الثاني: أن يمضي زمن يتأتي فيه القبض إذا كان الشيء غائبًا عن مجلس العقد، وهذا مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). ¬
القول الثالث: إن كانت حين الهبة في يد المتهب لم يعتبر إذن الواهب، وإنما يعتبر مضي مدة يتأتى فيه قبضها، وهذا قول ثالث في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في المحرر: "فإن كانت في يد المتهب لزمت عقيب العقد. وعنه لا تلزم حتى يمضي زمن يتأتى فيه. وعنه لا تلزم إلا بإذن الواهب في القبض، ومضى زمن يتأتى فيه قبضها. وعنه أن هبة المعين تلزم بمجرد العقد بكل حال" (¬2). ° الراجح: أن هبة المقبوض تلزم بالعقد؛ لأن المراد بالقبض: إثبات اليد، والتمكن من التصرف في المقبوض، فإذا تحقق هذا الأمر فقد وجد القبض من غير فرق بين قبض الضمان وقبض الأمانة، ولا حاجة لاشتراط أن يمضي زمن يمكنه أن يقبضه؛ لأن مضي الزمن ليس من توابع القبض، وليس له مدخل في حقيقته، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في قبض الموهوب المشغول بمتاع الواهب
المبحث الرابع في قبض الموهوب المشغول بمتاع الواهب [م - 1867] اختلف الفقهاء في اشتراط كون المقبوض غير مشغول بحق غيره على ثلاثة أقوال: القول الأول: يشترط لصحة القبض أن يكون المقبوض غير مشغول بما ليس بموهوب، فإذا وهب دارًا فيها متاع للواهب، وسلمها فإن القبض لا يصح حتى يسلمها فارغة، وهذا مذهب الحنفية والشافعية (¬1). واشترط بعض الحنفية حتى لا يؤثر على القبض وجود المتاع في الدار، أن يأذن له البائع بقبضه مع الدار، ليكون وديعة عنده. جاء في مجمع الأنهر "وعن الوبري: المتاع لغير البائع لا يمنع، فلو أذن له بقبض المتاع، والبيت، صح، وصار المتاع وديعة عنده" (¬2). وجاء في حاشية ابن عابدين: "فإن كان الموهوب مشغولًا بحق الواهب لم يجز" (¬3). ¬
وجاء في فتح العزيز: "يشترط كونه فارغًا عن أمتعة البائع، فلو باع دارًا فيها أمتعة للبائع توقف التسليم على تفريغها، وكذا لو باع سفينة مشحونة بأمتعة لكون البائع مستعملًا للمبيع منتفعًا به، ولو جمع البائع متاعه في بيت من الدار وخلى بين المشترى وبين الدار حصل القبض فيما عدا ذلك البيت" (¬1). ° حجة هذا القول: أن التسليم في العرف موقوف على ذلك. ويجاب: إذا كان مرد ذلك على العرف، فإن العرف غير ثابت، فليكن المرجع إلى العرف، فيقال: إن كان العرف يقتضي أن قبض المشغول لا يكون قبضًا في العرف لم يعتبر، وإذا كان يعتبر قبضًا لم يكن ذلك شرطًا. القول الثاني: لا يشترط في صحة القبض أن يكون المقبوض غير مشغول بحق غيره، وهذا مذهب المالكية والحنابلة، واستثنى المالكية دار السكنى، فيشترط لصحة قبضها إخلاؤها (¬2). قال في الشرح الكبير للدردير: "وقبض العقار، وهو الأرض، وما اتصل بها من بناء، وشجر بالتخلية بينه وبين المشتري، وتمكنه من التصرف فيه بتسليم ¬
المفاتيح إن وجدت، وإن لم يخل البائع متاعه منها، إن لم تكن دار سكنى، فإن قبضها بالإخلاء، ولا يكفي التخلية" (¬1). وجاء في مجلة الأحكام الحنبلية: "قبض الدار والمتاع بالتخلية، ولو كان فيها متاع البائع، وبتسليم مفتاح الدار، أو فتح بابها للمشتري" (¬2). وهذا هو القول الصحيح؛ لأن القبض هو تمكنه من التصرف فيه، وكونه مشغولًا بمتاع الواهب لا يمنع من التصرف في الهبة، ويصبح المتاع أمانة في يد الموهوب. ° الراجح: أن القبض مرده إلى العرف، فكل ما عده الناس قبضًا فهو قبض، والمراد من القبض أن يمكنه من التصرف في الموهوب، فإذا كان وجود المتاع لا يمنع الموهوب من التصرف في الهبة لم يمنع وجود المتاع في الدار، وإن كان يمنعه من التصرف في الهبة كان ذلك مانعًا حصول القبض، وهذا التفصيل إنما هو على قول من يشترط القبض للزوم العقد، أما من قال: إن الهبة تلزم بالعقد فلا يحتاج إلى هذا التفصيل، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع في التصرف في الهبة والصدقة قبل قبضها
الفصل الرابع في التصرف في الهبة والصدقة قبل قبضها [م - 1868] إذا تصرف الموهوب له في الهبة من بيع، أو هبة، أو غيرهما قبل قبضها، فما حكم هذا التصرف؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: لا يصح تصرفه إلا إذا قبضها؛ لأن الموهوب لا يملك الهبة إلا إذا قبضها، ولأن الواهب قبل القبض بالخيار إن شاء أمضاها، وإن شاء رجع عنها، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن الموهوب له إذا باع الهبة قبل القبض، أو أعتق، أو وهب فإن تصرفه ماض، وفعله ذلك حوز له، بشرط أن يشهد على ذلك ويعلن بما فعله. وكذلك لو تبرع بصدقة ودفعه لمن يفرقه على الفقراء والمساكين، فإن أشهد على ذلك حين دفع المال فإن الصدقة لا تبطل بموت الواهب، وترجع للفقراء ¬
والمساكين، وإن لم يشهد على ذلك، واستمر المال عنده حتى مات الواهب، فإن الصدقة تبطل، وترجع إلى ورثة الواهب (¬1). قال الخرشي: "الهبة إذا أعتقها الموهوب له أو باعها قبل أن يقبضها أو وهبها فإنها تكون ماضية ويعد فعله ذلك حوزا لها إذا أشهد على ذلك وأعلن بما فعله" (¬2). القول الثالث: إن كانت الهبة تحتاج إلى كيل، أو وزن لم يصح للموهوب أن يتصرف فيها قبل قبضها؛ لأن مثل هذه لا تصح هبتها إلا بالقبض، وإن كانت متميزة صح تصرف الموهوب له قبل قبضها؛ لأن مثل هذه تلزم بالعقد، ولا تفتقر إلى قبض. وهو رواية عن الإمام أحمد (¬3). ° الراجح: أن الخلاف في هذه المسألة راجع إلى مسألة أخرى سبق بحثها، هل تلزم الهبة بالعقد، أو تملك بالقبض، وقد سبق تحرير هذا الخلاف، وقد ذكرنا أدلة كل قول فيما سبق بحثه تحت عنوان: توصيف الهبة فارجع إليه إن شئت. ¬
الفصل الخامس في هبة الدين
الفصل الخامس في هبة الدين المبحث الأول في هبة الدين لمن هو عليه هبة الدين لمن هو عليه كبيعه. الإبراء من الدين، هل هو إسقاط أو تمليك. الإبراء لا يتوقف على القبول. [م - 1869] إذا وهب الدائن الدين لمن هو عليه فذلك جائز كبيعه عليه؛ لأنه بمثابة تمليك للمدين أو إسقاط للدين عنه، ولا حاجة لقبض جديد، ولم يختلف العلماء في جوازه (¬1). وإنما اختلفوا هل يشترط قبول المدين على ثلاثة أقوال: وسبب الخلاف: هل هو تمليك فيحتاج إلى قبول، أو إسقاط، فلا يفتقر إلى قبول كالعتق، وقد جرى الخلاف على النحو التالي. القول الأول: يشترط قبوله، وهو الراجح في مذهب المالكية، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). ¬
جاء في شرح الخرشي: "تجوز هبة الدين الشرعي لمن هو عليه ولغيره، لكن إن وهب لمن هو عليه فهو إبراء، فلا بد من قبوله؛ لأن الإبراء يحتاج إلى قبول" (¬1). وقال الصاوي: "قوله: (فلا بد من القبول): أي بناء على أنه نقل للملك. وحاصله: أنه اختلف في الإبراء، فقيل: إنه نقل للملك، فيكون من قبيل الهبة، وهو الراجح. وقيل: إنه إسقاط للحق. فعلى الأول يحتاج لقبول، وعلى الثاني فلا يحتاج له كالطلاق، والعتق، فإنهما من قبيل الاسقاط فلا تحتاج المرأة لقبول فض العصمة ولا العبد لقبول الحرية" (¬2). القول الثاني: لا يشترط قبول المدين، وعليه عامة مشايخ الحنفية، وهو قول في مذهب المالكية في مقابل الراجح، ومذهب الشافعية، ومذهب الحنابلة، قال في الإنصاف: على الصحيح من المذهب (¬3). إلا أن الحنفية قالوا: لما كانت هبة الدين تمليكًا من وجه، فإنها ترتد بالرد، ولما كانت هبة الدين إسقاطًا من وجه فلا تتوقف على القبول. ¬
جاء في الفتاوى الهندية: "هبة الدين ممن عليه الدين وإبراؤه يتم عن غير قبول عن المديون، ويرتد برده، ذكره عامة المشايخ رحمهم الله، وهو المختار" (¬1). وفي الجوهرة النيرة: إذا كان له على رجل دين، فوهبه له لم يكن له أن يرجع فيه؛ لأن هبة الدين ممن هو عليه إسقاط له، وبراءة منه، فلم يبق هناك عين يمكن الرجوع فيها، وإن قال الموهوب له مجيبًا له: لا أقبلها، فالدين بحاله؛ لأنه رد للهبة" (¬2). جاء في مغني المحتاج: "هبة الدين للمدين إبراء له منه، لا يحتاج قبولًا" (¬3). جاء في المحرر: "وتصح البراءة من الدين بلفظ الإبراء، والإسقاط، والهبة، والعفو، والصدقة، والتحليل، سواء قبله المبرأ أو رده" (¬4). واحتجوا بقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]. فأباح الله له الأكل مما وهب، عن غير شرط القبول. القول الثالث: التفصيل: إن كان بلفظ الهبة اشترط قبول المدين، وإن كان بلفظ الإبراء لم يشترط القبول، وتبطل بالرد، اختاره بعض الحنفية. ¬
وجه التفريق: أن الهبة تمليك، والتمليك يفتقر إلى القبول، والإبراء: إسقاط، والإسقاط لا يفتقر إلى قبول. ولم يفرق زفر بين الإبراء والهبة؛ لأن ما في الذمة ليس بمحل للتمليك. قال السرخسي: "والحاصل: أن هبة الدين ممن عليه الدين لا تتم إلا بالقبول، والإبراء يتم من غير قبول، ولكن للمديون حق الرد قبل موته إن شاء الله. وعن زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يسوي بينهما، وقال: تتم الهبة والإبراء قبل القبول" (¬1). ° الراجح: قد دل الكتاب والسنة والإجماع على صحة هبة الدين لمن هو عليه. أما القرآن فقال تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92]. فأطلق على الإبراء لفظ الصدقة. وقال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]. ولا أرى أن ذلك يتوقف على قبوله؛ لأنه يتم بإرادة منفردة، ولكن لو رد ذلك يجب أن يرتد؛ لأنه لا أحد يجبر على قبول هبة أو إبراء أو صدقة، أو عطية؛ لما فيه من الضرر عليه بتحمل المنة التي تأباها قلوب ذوي المروءات، وقد يؤذى بالتحدث عن ذلك، والله أعلم. ¬
فرع في إبراء المدين من دين مجهول
فرع في إبراء المدين من دين مجهول الإبراء إسقاط حق لا توثر فيه الجهالة والغرر. علمنا في المبحث السابق أن إبراء المدين من دين معلوم جائز بلا خلاف بين أئمة الفقهاء. [م - 1870) واختلفوا في إبراء المدين من دين مجهول: ° وسبب الخلاف في هذه المسألة: اختلافهم: هل الإبراء إسقاط محض كالإعتاق، أو تمليك للمديون ما في ذمته، فإذا ملكه سقط. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ورد النهي عن الغرر، وعن بيع المجهول، فمن العلماء من عممه في جميع التصرفات، فمنع من الجهالة في الهبة، والصدقة، والإبراء، والخلع، والصلح كالشافعية. ومنهم من فصل فمنع من الغرر والجهالة في باب المعاوضات الصرفة، والتي يقصد فيها تنمية المال، ولم يمنع من الغرر والجهالة في باب ما هو إحسان صرف، لا يقصد به تنمية المال، كالصدقة، والهبة، والإبراء كالحنفية، والمالكية. إذا علم ذلك نأتي على تفصيل الأقوال: القول الأول: يصح الإبراء من المجهول، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والقديم من
قولي الشافعي، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). قال ابن رجب في القواعد: "ومنها: البراءة من المجهول، وأشهر الروايات صحتها مطلقًا، سواء جهل المبرئ قدره، ووصفه، أو جهلهما معًا، وسواء عرفه المبرئ أو لم يعرفه" (¬2). وجاء في كشاف القناع: "وإن أبرأ غريم غريمه من دينه صح ... ولو كان الدين المبرأ منه مجهولًا لهما: أي: لرب الدين والمدين، أو كان مجهولًا لأحدهما، وسواء جهلا قدره، أو جهلا وصفه، أو جهلاهما، أي: القدر والوصف، ويصح الإبراء من المجهول، ولو لم يتعذر علمه؛ لأنه إسقاط حق فينفذ مع العلم والجهل كالعتق والطلاق" (¬3). ° دليل من قال بالصحة: الدليل الأول: أن ابن عمر - رضي الله عنهما - باع بشرط البراءة كما في موطأ مالك وغيره (¬4). [صحيح, ولم ينكر عليه عثمان، وإنما رأى أن البراءة مع العلم بالعيب لا تنفع]. ¬
الدليل الثاني: أن الإبراء إسقاط حق، فصح مجهولًا ومعلومًا. الدليل الثالث: أن الجهالة في الإسقاط لا تؤدي إلى المنازعة، وإنما كانت الجهالة مبطلة في التمليكات؛ لأنها تفوت التسليم الواجب بالعقد، وهذا لا يتصور في الإسقاط، فلا تكون الجهالة مبطلة له. الدليل الرابع: أن ما لا يفتقر إلى التسليم يصح مع الجهالة، وما يفتقر إلى التسليم لا يصح مع الجهالة كالبيع (¬1). القول الثاني: لا يصح الإبراء من المجهول، وهو القول الجديد للشافعي، والأصح في مذهبه، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). ¬
جاء في المنهاج: "والإبراء من المجهول باطل في الجديد" (¬1). وقال السيوطي: الإبراء هل هو إسقاط أو تمليك قولان، والترجيح مختلف في الفروع، فمنها: الإبراء مما يجهله المبرئ، والأصح فيها التمليك، فلا يصح" (¬2). وقال النووي في الروضة: أظهرهما المنع (¬3). ° وجه القول بالبطلان: الوجه الأول: أن الإبراء إزالة ملك لا يجوز تعليقه على شرط، فلم يصح مع الجهل به. ويناقش: قولكم: الإبراء إزالة ملك فلا يصح مع الجهل هذا احتجاج بمحل النزاع، فأين الدليل عليه. الوجه الثاني: القياس على هبة المجهول، فكما لا تصح هبة المجهول لا يصح الإبراء منه. ويناقش: أما هبة المجهول، وتعليق الإبراء على شرط فهما محل خلاف، فلا يصح الاحتجاج بها على المخالف، وسبق بحث هبة المجهول وتعليقه، وقد رجحت الجواز. ¬
القول الثالث: لا تصح البراءة من المجهول إلا إذا لم يكن لهم سبيل إلى معرفته، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). ° حجة هذا القول: الدليل الأول: (ح-1139) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق أسامة بن زيد الليثي، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت: جاء رجلان من الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يختصمان في مواريث بينهما قد درست، ليس لهما بينة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنكم تختصمون إليَّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار، يأتي بها إسطامًا في عنقه يوم القيامة، قالت: فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما إذ فعلتما فاذهبا واقتسما، وتوخيا الحق، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه (¬2). [إسناده حسن] (¬3). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وتوخيا الحق، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه) فيه دليل ¬
على جواز الإبراء من المجهول الذي يتعذر علمه؛ لأن التوخي لا يكون من المعلوم. ويجاب: بأن الأثر دليل على صحة البراءة من المجهول الذي يتعذر علمه، وليس فيه دليل على حصر الجواز به، فأين الدليل من الأثر على أن الإبراء من المجهول الذي لا يتعذر علمه لا تصح البراءة منه. الدليل الثاني: الحاجة داعية إلى تبرئة الذمة، ولا سبيل إلى العلم فيها، فلو وقفت صحة البراءة على العلم لكان سدًّا لباب عفو الإنسان عن أخيه المسلم، وتبرئة ذمته، فلم يجز ذلك. القول الرابع: تصح البراءة مع جهل المبرئ إلا أن يعرفه المبرأ، زاد في المحرر: وظن المبرئ جهله به. وهذا قول في مذهب الحنابلة؛ لأنه غار له (¬1). ° وجه القول بهذا: إذا كان من عليه الحق يعلم مقداره، ويكتمه المستحق خوفًا من أنه إذا علمه لم يسمح بإبرائه منه، فينبغي ألا تصح البراءة فيه؛ لأن فيه تغريرًا بالمشتري، وقد أمكن التحرز منه (¬2). ¬
° الراجح: جواز الإبراء من الدين مطلقًا، سواء علمه المبرئ أم لم يعلمه، لكن لا يجوز لمن عليه الحق إذا كان يعلم مقداره أن يكتمه عن المبرئ. خوفًا ألا يسامحه لو علم بمقداره؛ لأن ذلك نوع من التغرير، فيعامل بنقيض قصده، والله أعلم.
المبحث الثاني في هبة الدين لغير من هو عليه
المبحث الثاني في هبة الدين لغير من هو عليه هبة الدين للغير صحيحة كالحوالة عليه. [م - 1871] هبة الدين لغير من هو عليه اختلف فيها الفقهاء فيه على قولين: القول الأول: تصح، وهو مذهب المالكية، وقول في مقابل الأصح في مذهب الشافعية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). واشترط الحنفية أن يأذن له بالقبض، وأن يتم قبضه (¬3). وذكر المالكية في صفة قبض الدين الموهوب شرطين: أحدهما: أن يشهد الواهب على الدين لفلان، ويدفع وثيقة بذلك للموهوب له. الثاني: أن يجمع بين الموهوب له ومن عليه الدين. وهل ذلك شرط كمال، أو شرط صحة، قولان في مذهب المالكية، والمعتمد في الأول أنه شرط صحة، وفي الثاني شرط كمال (¬4). ¬
° وجه القول بالصحة: إذا صحت الحوالة بالدين، صحت هبة الدين من باب أولى، والحوالة بالدين هو نقل للدين إلى المحال، والهبة نقل للدين إلى الموهوب من غير فرق، اللهم إلا أن الهبة على قول لا تلزم إلا بالقبض، والحوالة تلزم بالرضا, ولو لم يقبض، وهذا فرق غير مؤثر، والله أعلم. القول الثاني: لا تصح هبة الدين لغير من هو عليه، وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). جاء في الإنصاف: "لا تصح هبة الدين لغير من هو في ذمته على الصحيح من المذهب" (¬2). وعلل الشافعية عدم الصحة؛ لأنه غير مقدور على تسليمه؛ لأن ما يقبض من المدين عين فهي غير ما وهب، لا دين (¬3). وهذا التعليل مستغرب، فإن الدائن يقبض من مدينه عينًا، وهو غير ما وجب له في ذمة المدين، ومع ذلك يصح قبضه، ويبرأ من دينه. والغريب أن الشافعية يصححون بيع الدين على غير من هو عليه بشرطه كما يصححون بيع الموصوف، ويمنعون في الأصح هبة الدين لغير من هو عليه، وهبة الموصوف مع أن عقود التبرعات ينبغي أن تكون أخف من عقود المعاوضات. ¬
وقد ذكر الشافعية وجه التفريق بين صحة بيعه وعدم صحة هبته: "بأن بيع ما في الذمة التزام لتحصيل المبيع في مقابلة الثمن الذي استحقه، والالتزام فيها صحيح، بخلاف هبته، فإنها لا تتضمن الالتزام؛ إذ لا مقابل فيها فكانت بالوعد أشبه فلم تصح" (¬1). ولماذا لا يعكس، فيقال: إن البيع يدور بين الغنم والغرم، والحصول على الدين غير مضمون، فإن حصل المشتري على الدين فقد غنم، وإن لم يحصل عليه فقد غرم، وأما الهبة فهي تبرع، والموهوب لا يخسر شيئًا, فهو إما غانم وإما سالم، ثم هب أن هبة الدين من قبيل الوعد بالهبة فماذا في ذاك، فلماذا يكون الوعد بالهبة باطلة، لماذا لا يصحح ذلك، ويكون عقدًا جائزًا، فإن قبضه لزم، وإن لم يقبضه لم يلزم. ° الراجح: أن هبة الدين لغير من هو عليه هبة صحيحة، وهل تنقل الملك إلى الموهوب له بمجرد العقد، أو تحتاج إلى قبض الدين من المدين، قولان كالخلاف في هبة العين، وقد ذكرنا هذا الخلاف في الكلام على توصيف عقد الهبة، والله أعلم. ¬
الفصل السادس في استحقاق الهبة
الفصل السادس في استحقاق الهبة [م - 1872] إذا استحقت الهبة وهي تالفة، وكانت خالية من الثواب، فإن الفقهاء قد اختلفوا: هل يرجع المستحق على الواهب، أو على الموهوب له. القول الأول: لو استحقت العين الموهوبة وقد هلكت في يد الموهوب له، فإن المستحق يرجع على الموهوب له دون الواهب، ويضمنه قيمتها, ولا يرجع الموهوب له على الواهب بشيء. وهذا مذهب الحنفية (¬1). جاء في المحيط البرهاني: "الموهوب له عند الاستحقاق لا يرجع على الواهب بشيء" (¬2). "قال الأتقاني: وهذا إذا لم يعوضه، فإذا كان ثمة عوض رجع بكل العوض إذا استحق جميع الهبة، وبقدر المستحق من الهبة إذا استحق البعض" (¬3). ° وجه القول بذلك: أن الواهب لم يوجب للموهوب له سلامة العين الموهوبة، ولأنه حصل له ¬
ملكها بغير عوض، فإذا استحقت لم يرجع على من ملكه، كما لو ورث مالًا فاستحق لم يرجع في مال الوارث بقيمتها، فكذلك هنا، وكذا المستعير لا يرجع على المعير بشيء؛ لأنه عقد تبرع، فلا يستحق فيه السلامة. القول الثاني: يخير المستحق بين الرجوع على الواهب لكونه السبب في إتلاف ماله، أو على الموهوب له لكونه المباشر لهذا الإتلاف، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة. فإن رجع المستحق على الواهب، فلا يحق للواهب الرجوع على الموهوب له. وإن رجع على الموهوب له، فهل يرجع الموهوب له على الواهب، في ذلك قولان: أحدهما: يرجع على الواهب، وهذا قول في مذهب الشافعية، وقول واحد في مذهب الحنابلة. قال ابن رجب في القواعد: "اليد التاسعة القابضة تملكًا لا بعوض، إما للعين بمنافعها، بالهبة، والوقف، والصدقة، والوصية، أو للمنفعة كالموصى له بالمنافع فالمشهور أنها ترجع بما ضمنته بكل حال؛ لأنها دخلت على أنها غير ضامنة لشيء فهي مغرورة" (¬1). الثاني: لا يرجع على الواهب؛ لأن الواهب لم يأخذ منه عوضًا، فيرجع بعوضه، وقد كان له ألا يقبل الهبة، وهو القول الثاني في مذهب الشافعية (¬2). ¬
جاء في الأم: "وإذا وهب الرجل للرجل طعامًا فأكله الموهوب له، أو ثوبًا فلبسه حتى أبلاه وذهب؛ ثم استحقه رجل على الواهب، فالمستحق بالخيار في أن يأخذ الواهب؛ لأنه سبب إتلاف ماله، فإن أخذه بمثل طعامه أو قيمة ثوبه فلا شيء للواهب على الموهوب له إذا كانت هبته إياه لغير ثواب، ويأخذ الموهوب له بمثل طعامه وقيمة ثوبه؛ لأنه هو المستهلك له، فإن أخذه به فقد اختلف في أن يرجع الموهوب له على الواهب. وقيل: لا يرجع على الواهب؛ لأن الواهب لم يأخذ منه عوضًا فيرجع بعوضه، وإنما هو رجل غره من أمْرٍ قد كان له أن لا يقبله" (¬1). القول الثالث: ذهب المالكية إلى أن الهبة إذا استهلكلت في يد الموهوب له، ثم ظهر مستحق، فإنه يرجع على الواهب إن كان مليًّا، وإن كان معدمًا أو لا يقدر عليه رجع على الموهوب له، وليس للموهوب له الرجوع على الواهب؛ لأن الهبة لا عهدة لها (¬2). ° الراجح: أن الموهوب له لا يضمن شيئًا؛ لأن فعله ترتب على مأذون، وما ترتب على مأذون فهو غير مضمون إلا أن تكون العين الموهوبة قائمة، فإن الحق قد تعلق بعين المال، فبان أن الهبة لم تصح، فيرجع المستحق على العين فيأخذها، أما ¬
إذا استهلكت، فلا يجب عليه في ذمة الموهوب له شيئًا؛ لأنه تصرف فيما كان يعتقد أنه يستحقه، فيرجع على الواهب فقط، والله أعلم.
الفصل السابع في الرجوع عن الهبة
الفصل السابع في الرجوع عن الهبة المبحث الأول في رجوع الواهب الأجنبي في هبته [م - 1873] الهبة إن أراد بها الواهب وجه الله، وهي ما تسمى بالصدقة فذهب الجمهور أنه لا رجوع فيها مطلقًا، من غير فرق بين أن يكون الواهب أجنبيًّا أو والدًا. واختار الشافعية في الراجح جواز رجوع الأب في صدقة التطوع على الولد (¬1). وأما الخلاف في رجوع الواهب الأجنبي قبل القبض، فهو يرجع إلى مسألة سبق بحثها، هل تلزم الهبة بمجرد العقد، أو تلزم بالقبض؟ فالمالكية يرون أن الهبة تلزم بالعقد خلافًا للجمهور. أما الرجوع من الواهب الأجنبي عن الهبة بعد القبض، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: ¬
القول الأول: الهبة عند الحنفية عقد جائز يجوز الرجوع فيها ولو بعد القبض، ويتم الرجوع إما بالتراضي، أو عن طريق حكم قضائي؛ لأن الرجوع فسخ للعقد بعد تمامه، فلا يصح إلا بالتراضي أو بحكم القاضي (¬1). قال الشلبي: "حكم الهبة وقوع الملك للموهوب له ملكًا غير لازم، وفائدته صحة الرجوع" (¬2). قال الزيلعي: "إذا وهب لشخص هبة، وقبضها, وليس فيه ما يمنع الرجوع من زيادة، وموت أحدهما، وعوض، وخروج عن الملك، وزوجية، وقرابة محرمة للنكاح، وهلاك الموهوب، جاز الرجوع في الهبة" (¬3). وقال السرخسي: "إذا وهب لأجنبي شيئًا، فله أن يرجع في الهبة عندنا -ما لم يعوض منها في الحكم- وإن كان لا يستحب له ذلك بطريق الديانة" (¬4). ويمتنع الرجوع عن الهبة عند الحنفية في الحالات التالية: الحال الأول: أن يُعوَّض الواهب عن هبته، بشرط أن يصرح الموهوب له بأن يقول: خذ ¬
هذا عوض هبتك، أو بدلًا عنها، أو في مقابلتها، فإذا عوض عنها سقط حقه بالرجوع فيها؛ لأن المقصود من الهبة قد تم. واستدلوا على لزوم العقد بالتعويض: الدليل الأول: (ح 1140) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا وكيع، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن عمرو بن دينار، عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها (¬1). [ضعيف] (¬2). الدليل الثاني: (ح-1141) ما رواه الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثني أبي، قال: وجدت في كتاب أبي، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من وهب هبة ¬
فهو أحق بهبته ما لم يثب منها، فإن رجع في هبته فهو كالذي يقيء ويأكل قيئه (¬1). [ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: (ث-284) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: هو أحق بها ما لم يرض منها (¬3). [إسناده صحيح]. الدليل الرابع: (ث-285) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا وكيع، عن ¬
سفيان، عن جابر، عن القاسم، عن ابن أبزى، عن علي، قال: الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها (¬1). [ضعيف جدًّا] (¬2). الحال الثانية: أن يزداد الموهوب زيادة متصلة؛ لأن تلك الزيادة لم تتناولها الهبة، ولا يتأتى الرجوع في الأصل بدون الزيادة المتصلة. الحال الثالثة: أن يخرج الموهوب عن ملك الموهوب له؛ لأن تبدل الملك كتبدل العين. الحال الرابعة: موت أحدهما، فإن مات الواهب فليس لوارثه الرجوع؛ لأن التمليك بعقد الهبة لم يكن منه، فلا يخلف مورثه فيما لم يكن على ملكه عند موته. وإن مات الموهوب له لم يحق للواهب الرجوع؛ لأن الملك انتقل من الموهوب له إلى وارثه. الحال الخامسة: أن تكون الهبة لذي رحم محرم فلا يجوز الرجوع فيها، وكذا ما وهب أحد الزوجين للآخر. ¬
° دليل المنع من الرجوع إذا كانت الهبة لذي رحم: الدليل الأول: (ث-286) ما رواه مالك في الموطأ، عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان بن طريف المري، أن عمر بن الخطاب قال: من وهب هبة لصلة رحم، أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها (¬1). [صحيح, وسبق تخريجه] (¬2). ويناقش: بأن عمر - رضي الله عنه - قسم الهبة إلى قسمين: قسم أراد به الثواب، فلها حكم البيع. وقسم أراد به الإحسان فلا يرجع فيها، ومثل لها بالهبة لذي الرحم، والفقير. الدليل الثاني: (ح-1142) ما رواه الدارقطني من طريق عبد الله بن جعفر، عن عبد الله بن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع فيها. قال الدارقطني: انفرد به عبد الله بن جعفر (¬3). هذه الحالات التي يمتنع فيها الرجوع عن الهبة عند الحنفية، وأدلتهم على ذلك. ¬
القول الثاني: إذا وهب الرجل هبته لأجنبي فلا يجوز الرجوع في الهبة مطلقًا قبل القبض وبعده، وهذا مذهب المالكية، وقول في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). وهذا القول مبني على أن الهبة تلزم بالعقد، وتملك به، وقد سقنا الأدلة على لزوم الهبة بالعقد عند الكلام على توصيف عقد الهبة، فارجع إليه غير مأمور. القول الثالث: إذا وهب الرجل هبته لأجنبي جاز له الرجوع قبل القبض، ولا يجوز له الرجوع بعد القبض، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية، والحنابلة (¬2). وهذا القول مبني على أن الهبة لا تلزم ولا تملك إلا بالقبض، وقد سقت ¬
الأدلة على لزوم الهبة بالقبض عند الكلام على توصيف عقد الهبة فارجع إليه إن شئت. ° الراجح: أنه لا يجوز الرجوع في الهبة سواء قلنا: يحرم الرجوع بعد العقد، أو بعد القبض ومذهب الحنفية قول ضعيف. (ح-1143) لما رواه البخاري من طريق مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، يقول: حملت على فرس في سبيل الله، فابتاعه أو فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، وظننت أنه بائعه برخص، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: لا تشتره وإن بدرهم، فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه (¬1). فإذا كان الواهب ممنوعًا من شراء ما وهبه، فما بالك بالرجوع في هبته. وقد رواه الشيخان بلفظ: (العائد في صدقته)، وفي مسلم: لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك. ولأن الغالب أنك إذا اشتريت الهبة فسوف يخفض لك السعر ويستحي أن يماكسك وأنت قد أحسنت عليه. وإذا كان شراء الواهب ما وهبه ممنوعًا منه فما بالك بالرجوع في هبته إلا أن ذلك بشرط ألا يكون قد أهدى للثواب، فإن أهدى للثواب فله الرجوع إذا لم يعوض منها، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في رجوع الأب في هبته
المبحث الثاني في رجوع الأب في هبته [م - 1874] اختلف العلماء في رجوع الأب فيما وهبه لولده إلى أقوال: القول الأول: يجوز للأجنبي الرجوع بالهبة، ولا يجوز للأب الرجوع في هبته، وهذا مذهب الحنفية. وعن الإمام أحمد رواية أن الأب ليس له الرجوع في هبته إذا لزمت (¬1). ° دليل الحنفية في التفريق بين الأب والأجنبي: (ث-287) بما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر، قال: من وهب هبة لذي رحم فهي جائزة، ومن وهب هبة لغير ذي رحم فهو أحق بها ما لم يثب منها (¬2). [صحيح من قول عمر وسبق تخريجه] (¬3). القول الثاني: لا يجوز للأجنبي، ويجوز للأب الرجوع فيما وهبه لولده، وهذا مذهب الجمهور (¬4). ¬
° أدلة الجمهور على تحريم رجوع الأجنبي وجواز رجوع الأب: الدليل الأول: (ح-1144) بما رواه البخاري من طريق ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس - رضي الله عنه -، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه (¬1). فهذا دليل على تحريم رجوع الأجنبي. الدليل الثاني: (ح-1145) ما رواه أحمد من طريق حسين بن ذكوان يعني المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن طاوس، أن ابن عمر، وابن عباس رفعاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا يحل لرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها، كمثل الكلب أكل حتى إذا شبع قاء ثم رجع في قيئه. [اختلف في وصله وإرساله، والمحفوظ في لفظ الحديث: (العائد في هبته كالكلب ...) دون زيادة إلا الوالد فيما يعطي، فإنه قد تفرد بها عمرو بن شعيب، عن طاوس] (¬2). وهذا دليل على جواز رجوع الأب في هبته. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث: (ح-1146) ما رواه الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية، ويعلى، قالا: حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه (¬1). [صحيح] (¬2). ¬
ولفظ سعيد بن منصور من طريق أبي معاوية: أولادكم من كسبكم، فكلوا من أموال أولادكم (¬1). وهذا عندي محمول على النفقة، وليس في الرجوع عن الهبة. الدليل الرابع: صح رجوع النعمان في هبته لولده: ¬
(ح-1147) فقد روى البخاري من طريق ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، ومحمد بن النعمان بن بشير، أنهما حدثاه، عن النعمان بن بشير، أن أباه أتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما، فقال: أكل ولدك نحلت مثله، قال: لا، قال: فارجعه (¬1). ويمنع الرجوع في الهبة عند الحنابلة: زيادة متصلة، واستهلاك العين، وكذا بيعها أو هبتها، أو وقفها، فلو عادت إليه بسبب جديد كبيع، أو إرث، أو وصية لم يملك الأب الرجوع. وكذلك يمنع الرجوع رهن الهبة ما لم تنفك. ° الراجح: لم تثبت عندي زيادة (إلا الوالد فيما يعطى ولده) وحديث (العائد في هبته) حديث متفق على صحته، لا يمكن أن يخصص بحديث شاذ، فأرى أن الأب لا يرجع في هبته إذا وهب ولده، إلا فيما كان منهيًّا عنه كما لو كان فيها تفضيل لبعضهم على بعض، وأما حديث (أنت ومالك لأبيك) على فرض صحته فإنه لا يعني الملكية كما أن الابن غير مملوك لأبيه، وهو حر، فكذلك ماله، لا يملكه أبوه، وإنما يدل على أن الأب إن احتاج إلى الأكل وما يقيم بدنه وجب على الولد الإنفاق على أبيه، حتى لو كانت نفقته عليه من هبته له؛ لأن هذا سبب متجدد مختلف، فهو لم يرجع في هبته، وإنما ملكها بسبب مختلف كما لو ورثها، والله أعلم. ¬
فرع في شروط رجوع الأب
فرع في شروط رجوع الأب [م - 1875] شروط رجوع الأب عند القائلين به تختلف من مذهب لآخر: ° فشروط رجوع الأب عند المالكية: اشترط المالكية للرجوع: أن تكون الهبة قائمة لم يحدث فيها عيب، ولم يتعلق بها حق لغريم، وألا يكون الولد قد عقد النكاح أو تداين لأجل الهبة، وكذلك يمتنع الرجوع بمرض الولد الموهوب له مرضًا مخوفًا لتعلق حق ورثته بالهبة، أو بمرض الواهب؛ لأن الرجوع صار لغيره، وهو وارث إلا أن يهبه على هذه الأحوال، فلا فتكون مانعة من الرجوع في الهبة، فلو وهبه وهو مريض، أو متزوج، أو مداين لم يمنع ذلك من الرجوع في الهبة (¬1). ° شروط رجوع الأب عند الشافعية: يشترط للرجوع بقاء الموهوب في سلطة المتهب، فإن تلف، أو زال ملكه عنه ببيع، أو وقف، أو عتق، أو هبة لازمة، أو رهن لازم بأن يكون قد تم القبض في الهبة والرهن، فلا رجوع له، ولا يمتنع الرجوع بالهبة والرهن إذا لم يقبضا, ولا بالإيجار على المذهب، وتبقى الإجارة بحالها (¬2). ° واشترط الحنابلة للرجوع ثلاثة شروط: أحدها: أن تكون العين باقية في ملك الابن أو بعضها, فلا رجوع فيما أبرأه ¬
من الدين، ولا في منفعة استوفاها، كسكنى دار ونحوها, ولا فيما خرجت عن ملكه ببيع أو هبة لازمة، أو وقف أو بغير ذلك، فإن عادت إليه بسبب جديد كبيع أو هبة أو وصية أو إرث أو نحوه لم يملك الرجوع، وإن عادت بفسخ المبيع بعيب أو إقالة، أو فلس المشتري، أو بفسخ خيار الشرط، أو المجلس ملك الرجوع ... الثاني: أن تكون العين باقية في تصرف الولد فإن تلفت فلا رجوع في قيمتها، وإن رهن العين، أو أفلس وحجر عليه، فكذلك، فإن زال المانع ملك الرجوع. الثالث: ألا يزيد زيادة متصلة تزيد في قيمتها، كالسمن، والكبر، والحمل، وتعلم صنعة، أو كتابة، أو قرآن، وإن زاد ببرئه من مرض، أو صمم منع الرجوع (¬1). جاء في الإنصاف: "إذا نقصت العين لم يمنع من الرجوع بلا نزاع، وكذا إذا زادت زيادة منفصلة. على الصحيح من المذهب. وعليه الأصحاب. قال المصنف، والشارح: لا نعلم فيه خلافًا. وفي الموجز رواية: أنها تمنع" (¬2). الرابع: أن الأب لو أسقط حقه من الرجوع فله الرجوع؛ لأنه حق ثبت له بالشرع، فلم يسقط بإسقاطه، وقال في مطالب أولي النهى: إن أسقط حقه فلا رجوع له (¬3). ¬
المبحث الثالث في رجوع الأم والجد والجدة
المبحث الثالث في رجوع الأم والجد والجدة ذكرنا خلاف العلماء في رجوع الأب في هبته، فمنعها الحنفية وأجازها الجمهور، وذكرنا أدلتهم في المسألة السابقة. [م - 1876] واختلف القائلون بجواز رجوع الأب هل هذا خاص بالأب، أو يلحق به سائر الأصول من أم وجد وجدة؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب المالكية إلى أن الجد والجدة ليس لهما حق الرجوع في الهبة مطلقًا. وأما الأم فيجوز لها الرجوع في الهبة بشرطين: أحدهما: ألا تريد بالهبة الأجر؛ لأنها تكون حينئذ صدقة، والصدقة لا يجوز الرجوع فيها عندهم. الثاني: أن تكون الهبة على ولد كبير مطلقًا، أو على صغير ليس باليتيم، بحيث يكون والده حيًّا, ولو كان الأب مجنونًا, ولها الرجوع حتى لو طرأ عليه اليتم بعد الهبة؛ لأن الهبة حينئذ لا تكون بمعنى الصدقة حيث كان له أب حين الهبة، أما إن كان الولد الصغير حين الهبة يتيمًا، فليس لها أن ترجع؛ لأنها تكون بمعنى الصدقة. هذا ملخص مذهب المالكية (¬1). ¬
جاء في التهذيب في اختصار المدونة: "وليس لغير الأبوين أن يعتصر هبة، لا جد، ولا جدة، ولا غيرهما، إلا الأبوان من الولد" (¬1). استدلال من ألحق الأم بالأب في الرجوع بأدلة منها: الدليل الأول: حديث: (إلا الوالد فيما يعطي ولده) وسبق تخريجه (¬2). والأم أحد الوالدين. الدليل الثاني: وقوله في حديث النعمان: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) (¬3). فيدخل في هذا الحديث الأم، لكونها مأمورة بالتسوية والعدل، وقد يتعين الرجوع في الهبة طريقًا للتسوية بين الأولاد في العطية. الدليل الثالث: أن الأم لما ساوت الأب في تحريم التفضيل، وكلهم والد فيه البعضية وفضل الحنو فينبغي أن تساويه في التمكن من الرجوع تخليصًا لها من الإثم، وإزالته للتفضيل المحرم. ¬
الدليل الرابع: أن الأم منعت من الرجوع في هبتها لولدها اليتيم؛ لأن الهبة له بمعنى الصدقة يراد بها وجه الله، وما أريد به وجه الله لا يجوز الرجوع فيه. واستدلوا على منع الجد والجدة من الرجوع في الهبة: بأن الحديث ورد في رجوع الوالد، وهذا يختص بالأب، والجد لا يطلق عليه والد. ولأن الأصل تحريم الرجوع في الهبة، والأب هو المتيقن دخوله في الحديث. القول الثاني: ذهب الشافعية إلى أنه لا فرق بين الأب والجد، وبين الأم والجدة على المشهور، ولا رجوع لغير الأصول كالإخوة والأعمام، وغيرهم من الأقارب (¬1). جاء في منهاج الطالبين: "وللأب الرجوع في هبة ولده، وكذا لسائر الأصول على المشهور" (¬2). قال في الحاوي: "وإذا ثبت أن ليس لغير الوالد أن يرجع فيما وهب لولده فلا فرق بين الأب والأم ... لأن كلهم والد فيه بعضية" (¬3). ° وحجة الشافعية: أن لفظ (الوالد) يشمل كل الأصول إن حمل اللفظ على حقيقته ومجازه، وإلا ¬
ألحق به بقية الأصول بجامع أن لكلٍ ولادة، وكما ألحق به في النفقة، وحصول العتق، وسقوط القود. القول الثالث: اختار الخرسانيون من الشافعية أن الأجداد من قبل الأب لهم حق الرجوع، وأما الجدات فلا يحق لهن الرجوع مطلقًا، وأما الأجداد من قبل الأم، ففي رجوعهم قولان. ° وجه القول بعدم الرجوع: أنهم لما كانوا لا يملكون التصرف في مال الولد بأنفسهم، فليس لهم الرجوع في هبتهم (¬1). القول الرابع: قال أبو العباس ابن سريج من الشافعية: إنما يرجع الأب في هبته لولده إذا قال: إنما قصدت بالهبة ليزيد في بري، أو يترك عقوقي، ولم يفعل. فأما إذا أطلق الهبة. فإنه لا يرجع فيها (¬2). القول الخامس: وذهب الحنابلة في المشهور أن الجد ليس له الرجوع في هبته، واختلفوا في الأم (¬3). ¬
وفي قول للشافعية في مقابل المشهور: لا رجوع لغير الأب (¬1). ° وجه القول بذلك: أن الخبر يتناول الوالد حقيقة، وليس الجد في معناه؛ لأنه يدلي بواسطة، وسقط بالأب. وأما الأم فاختلف الحنابلة في إلحاقها بالأب على قولين: القول الأول: وهو المنصوص عن أحمد أن هبة الأم لازمة، ليس لها حق الرجوع فيها. قال أحمد: هي عندي ليست كالأب؛ لأن للأب أن يأخذ من مال ولده، والأم لا تأخذ، ولأن للأب الولاية دونها (¬2). القول الثاني: أن الأم كالأب في الرجوع عن الهبة؛ لأن الأم داخلة في قوله: (إلا الوالد فيما يعطي ولده) (¬3)، وفي قوله (سووا بين أولادكم) ولأن رجوع الأم عن هبتها قد يكون طريقًا إلى التسوية بين الأولاد، وقد لا تملك طريقًا غيره كما رجع النعمان في هبته لولده. ولأنها ساوت الأب في تحريم تفضيل بعض ولدها، فينبغي أن تساويه في التمكن من الرجوع فيما فضلته به، تخليصًا لها من الإثم، وإزالة التفضيل ¬
المحرم كالأب، قال ابن قدامة: ظاهر كلام الخرقي أن الأم كالأب في الرجوع (¬1). ° الراجح: رجحت فيما سبق أن الوالد لا يصح له الرجوع فيما وهب إلا أن يحتاج إلى مال ولده للنفقة عليه، ولو قلنا بالقول المرجوح، فإن الحديث الوارد لم يأت بلفظ الأب حتى تخرج الأم، وإنما جاء بلفظ (الوالد) والوالد يعم الوالدة. قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233]، والله أعلم. ¬
الفصل الثامن في التسوية بين الأولاد في العطية
الفصل الثامن في التسوية بين الأولاد في العطية [م - 1877] اتفق العلماء على مشروعية العدل بين الأولاد في العطية، فلا يخص أحدهم أو بعضهم بشيء دون الآخر. قال ابن قدامة في المغني: "ولا خلاف بين أهل العلم في استحباب التسوية وكراهة التفضيل، قال إبراهيم: كانوا يستحبون أن يسووا بينهم حتى في القبل" (¬1). ونص الحنفية على أنه لا بأس بتفضيل بعض الأولاد على بعض في المحبة؛ لأنها عمل القلب. جاء في الدر المختار نقلًا من الخانية "لا بأس بتفضيل بعض الأولاد في المحبة لأنها عمل القلب" (¬2). وإن كان الإنسان قد لا يؤاخذ على عمل القلب، إلا أنه يؤخذ على إظهار ذلك، وقد دل القرآن على أن إظهار حب بعض الأولاد على بعض قد يكون سببًا في ارتكاب الكبائر. قال تعالى: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9]. وأجاز المالكية التفضيل بالشيء القليل بلا كراهة (¬3). ¬
واختلفوا في حكم التفضيل بالشيء الكثير على قولين: القول الأول: التسوية مستحبة، ويكره التفضيل، وهذا مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). وترتفع الكراهة عند الحنفية والمالكية إذا كان التفضيل لزيادة حاجة. ولا بأس بالتفضيل عند أبي يوسف إذا لم يقصد بالتفضيل الإضرار. ومحل الكراهة عند الشافعية والمالكية وبعض الحنابلة عند الاستواء في الحاجة وعدمها، فإن كان التفضيل لزيادة حاجة لم تكره عندهم. ومنع مالك التصدق بجميع ماله كله لولده، وليس هذا خاصًّا بالولد؛ لأنه بمنزلة من تصدق بماله كله، فإنه ينهى عنه. وإليك النصوص عنهم في هذا: جاء في حاشية ابن عابدين نقلًا من الخانية: "ولو وهب شيئًا لأولاده في الصحة، وأراد تفضيل البعض على البعض روي عن أبي حنيفة لا بأس به إذا كان التفضيل لزيادة فضل في الدين، وإن كانوا سواء يكره. ¬
وروى المعلى عن أبي يوسف أنه لا بأس به إذا لم يقصد الإضرار، وإلا سوى بينهم، وعليه الفتوى" (¬1). وقال الباجي: "قال القاضي أبو الوليد: وعندي أنه إذا أعطى البعض على سبيل الإيثار أنه مكروه، وإنما يجوز ذلك ويعرى من الكراهية إذا أعطى البعض لوجه ما من جهة يختص بها أحدهم، أو غرامة تلزمه، أو خير يظهر منه، فيخص بذلك خيرهم على مثله" (¬2). وقال النووي: "ينبغي للوالد أن يعدل بين أولاده في العطية، فإن لم يعدل فعل مكروهًا، لكن تصح الهبة" (¬3). وجاء في تحفة المحتاج: " (ويسن للوالد) أي: الأصل وإن علا (العدل في عطية أولاده) ... سواء أكانت تلك العطية هبة، أم هدية، أم صدقة، أم وقفًا، أم تبرعًا آخر، فإن لم يعدل لغير عذر كره عند أكثر العلماء وقال جمع: يحرم" (¬4). وقال الخطيب في مغني المحتاج: "محل الكراهة عند الاستواء في الحاجة أو عدمها، وإلا فلا كراهة، وعلى ذلك يحمل تفضيل الصحابة" (¬5). وقال ابن قدامة في المغني: "والمستحب أن يقسم الوقف على أولاده، على حسب قسمة الله تعالى الميراث بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين. ¬
وقال القاضي: المستحب التسوية بين الذكر والأنثى ... فإن خالف، فسوى بين الذكر والأنثى، أو فضلها عليه، أو فضل بعض البنين أو بعض البنات على بعض، أو خص بعضهم بالوقف دون بعض، فقال أحمد، في رواية محمَّد بن الحكم: إن كان على طريق الأثرة، فأكرهه، وإن كان على أن بعضهم له عيال، وبه حاجة. يعني فلا بأس به ... وعلى قياس قول أحمد، لو خص المشتغلين بالعلم من أولاده بوقفه، تحريضًا لهم على طلب العلم، أو ذا الدين دون الفساق، أو المريض، أو من له فضل من أجل فضيلته، فلا بأس" (¬1). ° حجة الجمهور على أن التفضيل غير محرم: الدليل الأول: (ث-288) ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقًا من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلى غنى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقًا، فلو كنت جددنيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث ... (¬2). [إسناده صحيح]. قال الشافعي: وفضل عمر عاصم بن عمر بشيء أعطاه إياه، وفضل ¬
عبد الرحمن بن عوف ولد أم كلثوم (¬1). ونسبه البيهقي للشافعي، ولم أقف على إسناد لهذين الأثرين (¬2). وأجيب بأكثر من جواب: الوجه الأول: قول الصحابي - رضي الله عنه - لا يعارض به السنة المرفوعة، وإنما تفهم السنة من خلال فهم عمل الصحابة، لا أن تطرح السنة بفعل بعضهم. الوجه الثاني: جاء في الفتح: "أجاب عروة عن قصة عائشة بأن إخوتها كانوا راضين بذلك ويجاب بمثل ذلك عن قصة عمر" (¬3). الوجه الثالث: يحتمل أنه فضلها لحاجتها أو لفضلها، فلا يدخل في التحريم. الدليل الثاني: مما احتج به الشافعي وغيره: أن العلماء قد أجمعوا على جواز عطية الرجل ماله لأجنبي، وإخراج جميع أولاده من ماله، فإذا جاز أن يخرج جميع ولده عن ماله جاز له أن يخرج بعضهم. ويناقش: بأن هذا قياس في مقابل النص، ولأن تفضيل الأجنبي ليس فيه تفضيل لبعض ¬
الأولاد على بعض، فلا يؤثر البغضاء بين الأولاد. القول الثاني: يحرم التفضيل، وتجب التسوية، وبه قال طاوس وأحمد وإسحاق وداود (¬1). فإن فعل فعليه التسوية بأحد أمرين: إما رد عطية الأول، أو إعطاء الآخر مثله. قال ابن قدامة: "يجب على الإنسان التسوية بين أولاده في العطية، وإذا لم يختص أحدهم بمعنى يبيح التفضيل، فإن خص بعضهم بعطيته، أو فاضل بينهم ففيها إثم, ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين؛ إما رد ما فضل به البعض، وإما إتمام نصيب الآخر. قال طاوس: لا يجوز ذلك، ولا رغيف محترق، وبه قال ابن المبارك" (¬2). ° حجة الحنابلة على تحريم التفضيل: (ح-1148) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن, ومحمد بن النعمان بن بشير، أنهما حدثاه، عن النعمان بن بشير، أن أباه أتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا، فقال: أكل ولدك نحلت مثله، قال: لا، قال: فارجعه (¬3). وفي رواية للبخاري: (لا أشهد على جور) (¬4). ¬
ولفظ مسلم: (فلا تشهدني إذًا، فإني لا أشهد على جور) (¬1). وفي رواية للبخاري ومسلم: (فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) (¬2). وجه الاستدلال: أن التفضيل مناف للتقوى، وهو من الظلم لتسميته جورًا, ولقوله: اعدلوا بين أولادكم، ولأن التفضيل سبب في الوقوع في العقوق، والعقوق محرم، وما كان سببًا في محرم، فهو محرم. وأجيب الجمهور عن هذا الحديث بعدة أجوبة: الوجه الأول: أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده، ولذلك منعه، وهو بمنزلة التصدق بجميع المال، فليس فيه حجة على منع التفضيل. ورد هذا الجواب بأمرين: الأمر الأول: أن الرد لو كان بسبب أن الموهوب كان جميع المال لما كان لقوله - صلى الله عليه وسلم -: أكل ولدك نحلت مثله معنى. الأمر الثاني: أن في بعض ألفاظه في الصحيحين: (سألت أمي بعض الموهبة لي من ماله) (¬3). ¬
وقال القرطبي: ومن أبعد التأويلات أن النهي إنما يتناول من وهب جميع ماله لبعض ولده كما ذهب إليه سحنون، وكأنه لم يسمع في نفس هذا الحديث أن الموهوب كان غلامًا، وأنه وهبه له لما سألته الأم الهبة من بعض ماله، قال: وهذا يعلم منه على القطع أنه كان له مال غيره. الوجه الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان أمره لبشير بالرد قبل إنفاذ بشير الصدقة؛ لأن بشيرًا إنما جاء يستشير الرسول - صلى الله عليه وسلم - فأشار عليه بأن لا يفعل، فترك (¬1). ويجاب: بأن أكثر طرق الحديث تخالف هذا التأويل. الوجه الثالث: أن النعمان كان كبيرًا, ولم يكن قبض الموهوب فجاز لأبيه الرجوع ذكره الطحاوي. ورد هذا الجواب: أنه ورد في مسلم (قال النعمان فأخذ أبي بيدي وأنا يومئذ غلام ...) (¬2). هذا خلاف ما في أكثر طرق الحديث أيضًا خصوصا قوله ارجعه، فإنه يدل على تقدم وقوع القبض والذي تضافرت عليه الروايات أنه كان صغيرًا، وكان أبوه قابضًا له لصغره، فأمر برد العطية المذكورة بعد ما كانت في حكم المقبوض. ¬
الوجه الرابع: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أرجعه) دليل على صحة الهبة؛ لأن الهبة لو كانت باطلة لم يحتج الأمر إلى إرجاعه، وإنما أمره بالرجوع؛ لأن للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده، ومن أجل استحباب التسوية رجح الرجوع على لزوم الهبة. ورد هذا الجواب: الذي يظهر أن معنى قوله: (أرجعه) أي لا تمض الهبة المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة. الجواب الخامس: أن قوله (أشهد على هذا غيري) يدل على صحة الهبة؛ لأنه لم يأمره بردها، وإنما أمره بتأكيدها بإشهاد غيره عليها، وإنما لم يشهد - عليه السلام - عليها؛ لتطلبه الأفضل (¬1). وربما امتنع من الإشهاد لكونه الإمام، وكأنه قال: لا أشهد؛ لأن الإمام ليس من شأنه أن يشهد، وإنما من شأنه أن يحكم حكاه الطحاوي وارتضاه ابن القصار (¬2). ورد هذا الجواب: أن الصيغة وإن كان ظاهرها الإذن إلا أنها مشعرة بالتنفير الشديد عن ذلك الفعل، حيث امتنع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المباشرة لهذه الشهادة، معللا بأنها جور، ¬
فتخرج الصيغة عن ظاهر الإذن بهذه القرائن. وقد استعملوا مثل هذا اللفظ في مقصود التنفير. ومما يستدل به على المنع أيضًا: قوله (اتقوا الله) فإنه يؤذن بأن خلاف التسوية ليس بتقوى، وأن التسوية تقوى، وفي رواية: لا أشهد إلا على حق، وما لم يكن حقًّا فهو باطل، ولا يلزم من كون الإمام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة ولا من أدائها إذا تعينت عليه، ولأن ما لا يجوز لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشهد فيه لا يجوز لغيره أن يشهد فيه (¬1). واعترض على هذا الرد: بأن الجور: هو الميل عن الاستواء والاعتدال، وكل ما خرج عن الاعتدال فهو جور، سواء كان حرامًا أو مكروهًا وقد وضح بما قدمناه أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: أشهد على هذا غيري يدل على أنه ليس بحرام فيجب تأويل الجور على أنه مكروه كراهة تنزيه (¬2). والأول أصح. ° الراجح: تحريم التفضيل بين الأولاد إلا أن يكون التفضيل بالوصف، وليس بالعين، كأن يقول: من يطلب العلم فله كذا، ومن يحفظ القرآن يستحق كذا، فهذا التفضيل ليس للشخص، وإنما هو للوصف، والله أعلم. ¬
مبحث في صفة التسوية
مبحث في صفة التسوية [م - 1878] اختلف العلماء في صفة التسوية: القول الأول: العدل هو بالتسوية بين الذكر والأنثى بلا تفضيل، وهو قول أبي يوسف من الحنفية، ومذهب الشافعية، واختاره القاضي أبو يعلى من الحنابلة (¬1). القول الثاني: العدل رعاية قسمة الميراث بأن يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا قول محمَّد بن الحسن من الحنفية، والمشهور من مذهب الحنابلة، وقول في مذهب الشافعية (¬2). وقال ابن عبد البر: "لا أحفظ لمالك في هذه المسألة قولًا" (¬3). قلت: أما أصحابه فانقسموا على القولين (¬4). وقد ذكرت أدلة هذه المسألة في عقد الوقف، فانظره هناك مشكورًا. ¬
الباب الرابع في العمرى والرقبى
الباب الرابع في العمرى والرقبى الفصل الأول: في العمرى المبحث الأول في تعريف العمرى تعريف العمرى الاصطلاحي (¬1): لا يختلف التعريف الاصطلاحي عن التعريف اللغوي: جاء في الاختيار لتعليل المختار: "أن يجعل داره له عمره" (¬2). وقال العيني: "أن يقول: أعمرتك داري هذه، أو هي لك عمرى، أو ما عشت، أو مدة حياتك، أو ما حييت, فإذا مت فهي رد علي، أو نحو هذا، ¬
سميت عمرى لتقييدها بالعمر" (¬1). وعرفها المالكية: "العمرى: هبة منافع الملك مدة عمر الموهوب له، أو مدة عمره، وعمر عقبه، فسميت عمرى لتعلقها بالعمر" (¬2). وقال الماوردي: "جعلت داري هذه لك عمري، أو يقول: قد جعلتها لك عمرك أو مدة حياتك" (¬3). قال ابن قدامة: "وصورة العمرى أن يقول الرجل: أعمرتك داري هذه، أو هي لك عمري، أو ما عاشت، أو مدة حياتك، أو ما حييت، أو نحو هذا. سميت عمرى لتقييدها بالعمر" (¬4). وتأتي العمرى على ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يقول: أعمرتك هذه الدار، ولعقبك من بعدك. فهذه صورة صحيحة عند عامة العلماء، وذكر النووي: أنه لا خلاف في صحتها، وإنما الخلاف: هل يملك الرقبة، أو المنفعة. الصورة الثانية: أن يقول: أعمرتك هذه الدار، أو هذه الدار لك عمرى، ويطلق، ولا يشترط أن ترجع إليه بعد موته. ¬
الصورة الثالثة: أن يقول: أعمرتك هذه الدار، فإذا من رجعت إلى إن كنت حيًّا، أو إلى ورثتي إن كنت ميتًا (¬1). هذه أهم صور العمرى في الجملة، وبعضهم يزيد فيها، كأن يقول: جعلتها لك عمرى من غير أن يقدر ذلك بعمر أحد (¬2). ¬
المبحث الثاني في حكم العمرى التكليفي
المبحث الثاني في حكم العمرى التكليفي [م - 1879] اختلف الفقهاء في حكم العمرى على قولين: القول الأول: أن العمرى جائزة، وهو قول الجمهور، والقول الجديد للشافعي، وبه قال ابن حزم (¬1). قال السرخسي: "وإذا قال الرجل لغيره: قد أعمرتك هذه الدار، وسلمها إليه: فهي هبة صحيحة" (¬2). وجاء في الشرح الصغير: "وجازت العمرى، والمراد بالجواز: الإذن فيها شرعًا، فهي مندوبة؛ لأنها من المعروف" (¬3). وقال العمراني في البيان: "العمرى: نوع من الهبة، تفتقر إلى الإيجاب والقبول، ولا تلزم إلا بالقبض، ولا يصح القبض فيها إلا بإذن الواهب" (¬4). ¬
وجاء في مسائل الإمام أحمد رواية أبي الفضل: "وسألته: ما قولك في العمرى؟ قال: جائزة، هي لمن أعمرها ولورثته" (¬1). ° دليل من قال: بالجواز: الدليل الأول: (ح-1149) ما رواه البخاري من طريق يحيى، عن أبي سلمة، عن جابر - رضي الله عنه -، قال: "قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمرى، أنها لمن وهبت له (¬2). الدليل الثاني: (ح-1150) ما رواه البخاري من طريق همام، حدثنا قتادة، قال: حدثني النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: العمرى جائزة (¬3). ورواه مسلم من طريق شعبة، عن قتادة (¬4). وهناك أدلة أخرى تركناها اقتصارًا على ما ذكر، ولعلي أذكرها عند الكلام على الحكم الوضعي للعمرى. القول الثاني: أن العمرى باطلة، حكاه الماوردي وغيره عن داود الظاهري، وهو القول القديم للشافعي، قال الغزالي: وهو الأقيس؛ لأنه هبة مؤقتة، فيضاهي البيع المؤقت (¬5). ¬
وقال الحارثي من الحنابلة: "العمرى المشروعة أن يقول: هي لك ولعقبك من بعدك، لا غير" (¬1). ° حجة من قال: إن العمرى لا تجوز: الدليل الأول: (ح-1151) ما رواه مسلم من طريق أبي خيثمة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيًّا وميتًا, ولعقبه (¬2). وجه الاستدلال: الحديث يأمر بإمساك الأموال، وينهى عن إفسادها بالعمرى، والأصل في الأمر الوجوب، والأصل في النهي التحريم. ويجاب بجوابين: الوجه الأول: أن المنهي عنه فعل الجاهلية، وهو توقيت الهبة، فإن من وقت الهبة مدة عمر الموهوب له، فإن ملكه سوف يزول، ويبطل الشرط، فلا يحصل له شرطه، ولا يبقى له ماله، وهذا وجه إفسادها, ولذلك صححها بقوله: فإن من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيًّا وميتًا ولعقبه، وبهذا الجمع لا تتعارض الأحاديث الصحيحة بجواز العمرى، مع مثل هذه الأحاديث، والله أعلم. ¬
الوجه الثاني: قال ابن حبان في صحيحه: "زجر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عن النذر والعمرى والرقبى كان لعلة معلومة، وهي إبقاؤه - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين في أموالهم، لا أن استعمال هذه الأشياء الثلاث غير جائز -إذا كان طاعة لا معصية- وذاك أن الصحابة قطنوا المدينة، ولا مال لهم بها، فكره - صلى الله عليه وسلم - لهم الرقبى والعمرى إبقاء على أموالهم؛ للضرورة الواقعة التي كانت بهم، لا أنهما لا يجوز استعمالهما" (¬1). ويناقش: بأن المهاجرين لم يكن لهم مال حتى يعمروها، وإنما كان ذلك من الأنصار - رضي الله عنهم -، كما تدل عليه بعض الروايات. الدليل الثاني: (ث-289) ما رواه النسائي من طريق يعلى، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: لا تحل الرقبى، ولا العمرى، فمن أعمر شيئًا فهو له، ومن أرقب شيئًا فهو له (¬2). [رجاله ثقات إلا أبا الزبير فإنه صدوق، وقد اختلف في إرساله، ووقفه، ورفعه مع اختلاف بين في لفظه، مما يجعلني أميل إلى الحكم عليه بالإضطرب، وليست علته كما قال بعض العلماء عنعنة أبي الزبير فإن اتهامه بالتدليس لا يثبت] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ويناقش: بأن قوله: (لا تحل) أي مؤقتة بدليل قوله: (فهي لمن أعمرها)، جوازها في حال كونها مؤبدة، وهذا يعني صحة الهبة وإبطال الشرط. الدليل الثالث: (ح-1152) ما رواه النسائي من طريق إسرائيل، عن عبد الكريم، عن عطاء، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العمرى والرقبى (¬1). [رجاله ثقات إلا أنه مرسل]. ويجاب: بأنه المرسل من قبيل الضعيف. (ح-1153) وقد أخرجه النسائي من طريق عبد الله بن المبارك، عن ¬
عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعطى شيئًا حياته فهو له حياته وموته (¬1)، فيكون النهي عن حكم الجاهلية بأن تكون مؤقتة، والله أعلم. الدليل الرابع: أن العمرى إن اعتبرناها هبة فهي مخالفة لمقتضى العقد، فإن الهبة تنقل الملك في الرقبة والمنفعة، وإذا كان لا يصح توقيت البيع، فكلذلك لا يصح توقيت الهبة. ويجاب: بأن توقيت الهبة هي عارية، فإن العارية نوع من الهبة، وهي من هبة المنافع، فكذلك العمرى، ولا يؤثر فيها الغرر، فإنه لا يشترط توقيت العارية، فمتى ما أراد صاحبها استرجعها, ولا يصح قياس العارية على البيع، فإن البيع ينقل ملك الرقبة بخلاف العارية، والله أعلم. ° الراجح: القول بالجواز، وأن القول بالتحريم قول ضعيف، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في توصيف العمرى
المبحث الثالث في توصيف العمرى الفرع الأول في العمرى له ولعقبه من بعده [م - 1880] إذا قال الواهب: أعمرتك هذه الدار، ولعقبك من بعدك. فهذه صورة صحيحة عند عامة العلماء، وذكر النووي: أنه لا خلاف في صحتها (¬1). قلت: إنما الخلاف هل يملك الرقبة، أو المنفعة على قولين: القول الأول: أن لها حكم الهبة، وتفيد ملك الرقبة والمنفعة، وإذا مات كانت لورثته، وإن لم يكن له ورثة فهي لبيت مال المسلمين، ولا ترجع إلى الواهب مطلقًا. وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والشافعية، والحنابلة (¬2). ¬
واحتج الجمهور بأدلة منها: الدليل الأول: (ح-1154) ما رواه مسلم من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه للذي أعطيها, لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث. ويجاب عن الحديث بجوابين: الوجه الأول: أن التعليل في قوله: (لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) مدرجة في الحديث من لفظ أبي سلمة (¬1). ¬
الوجه الثاني: أن هذا اللفظ حجة عليهم، وذلك أن المعمر إذا أعمر زيدًا وعقبه، فليس له أن يرجع فيما أعطى زيدًا، فكذلك فيما أعطى عقبه، والجمهور خالفوا هذا الحديث، ولم يقولوا بظاهره؛ لأنهم يقولون: إن للمعمر بيع الشيء الذي أعمره، ومنع ورثته منه، وهذا خلاف شرط المعمر؛ لأنه أعطى عقبه كما أعطاه، وليس هو بأولى بالعطية من عقبه، وهو معنى قول أبي سلمة: (لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث)، يعني التداول للمنفعة لا ميراث الرقبة. وقد قال تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب: 27] فلم يملكوها بالمواريث التي فرض الله، وإنما أخذوا منهم ما كان في أيديهم، ¬
فكذلك العقب في العمرى يأخذ ما كان في يد أبيه بعطية الواهب، لا بموجب ملك أبيه (¬1). القول الثاني: أن له منفعتها, ولعقبه من بعده، فإذا هلك عقبه رجعت إلى الواهب، أو إلى ورثته، وهذا مذهب المالكية (¬2). ° حجة المالكية على أن العمرى مؤقتة مطلقًا: الدليل الأول: أن حقيقة العمرى تمليك للمنافع، لا تمليك للرقبة مدة عمر الموهوب له، أو مدة عمره، وعمر عقبه، وإنما سميت عمرى لتعلقها بالعمر، وللمالك أن ينقل منفعة الشيء الذي يملك إلى غيره مدة معلومة أو مجهولة، إذا كان ذلك على غير عوض؛ لأن ذلك فعل خير ومعروف، ولا يجوز أن يخرج شيء عن ملك مالكه إلا بيقين ودليل على صحته (¬3). الدليل الثاني: أن العمرى له ولعقبه معناه: أن الواهب يعمر الأب، ويعمر العقب إلا أن تعمير العقب يأتي بعد تعمير الأب، وهو ما يفيده لفظ (العقب) أي عقبه، ولو كانت للأب ملكًا لم يكن هناك معنى لتعمير العقب من قبل الواهب، وإذا كانت العمرى مقيدة بالأب والعقب، فإن التعمير ينتهي بانتهاء العقب؛ لأن هذا معنى العمرى، أي مدة عمرك وعمر عقبك. ¬
° الراجح: اللفظ اللغوي يؤيد ما يقوله مالك، إلا أن النص النبوي يؤيد ما ذهب إليه الجمهور، ولا أستطيع تجاوز النص النبوي بالفهم اللغوي، والله أعلم.
الفرع الثاني: العمرى المطلقة
الفرع الثاني: العمرى المطلقة صورتها: أن يقول: أعمرتك هذه الدار، أو هذه الدار لك عمرى، ويطلق، والمقصود بالإطلاق: ألا يشترط رجوعها بعد موته، ولا يثبت ولا ينفي العمرى لعقبه. [م - 1881] اختلف العلماء في هذه الصورة على قولين: القول الأول: أنها تمليك للرقبة والمنفعة، وهذا مذهب الحنفية، والقول الجديد للشافعي، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). جاء في الهداية: "والعمرى جائزة للمعمر له حال حياته ولورثته من بعده ... ومعناه: أن يجعل داره له عمره. وإذا مات ترد عليه، فيصح التمليك، ويبطل الشرط ... وقد بينا أن الهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة" (¬2). استدل الجمهور بأدلة منها: الدليل الأول: (ح-1155) ما رواه مسلم من طريق أبي خيثمة، عن أب الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها، فإنه من ¬
أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيًّا وميتًا, ولعقبه (¬1). الدليل الثاني: (ح-1156) ما رواه مسلم من طريق سعيد، عن قتادة، عن عطاء، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: العمرى ميراث لأهلها (¬2). الدليل الثالث: (ح-1157) ما رواه مسلم من طريق ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، عن جابر، قال: أعمرت امرأة بالمدينة حائطًا لها ابنًا لها، ثم توفي، وتوفيت بعده، وتركت ولدًا وله إخوة بنون للمعمرة، فقال ولد المعمرة: رجع الحائط إلينا، وقال: بنو المعمر، بل كان لأبينا حياته وموته، فاختصموا إلى طارق مولى عثمان، فدعا جابرًا، فشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرى لصاحبها، فقضى بذلك طارق، ثم كتب إلى عبد الملك، فأخبره ذلك، وأخبره بشهادة جابر، فقال عبد الملك: صدق جابر، فأمضى ذلك طارق، فإن ذلك الحائط لبني المعمر حتى اليوم (¬3). القول الثاني: أن العمرى صحيحة، وتفيد الملك للمنفعة دون الرقبة، وترجع بعد موت الموهوب إلى الواهب، وهذا مذهب المالكية، وقول ضعيف للشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). ¬
جاء في الذخيرة: "من أعمرته دارك حياته رجعت بعد موته إليك. قال صاحب الاستذكار: هذا مذهب مالك وأصحابه، وكذلك إذا قال: لك ولعقبك، ترجع له ولمن يرثه، وإنما يملك عند مالك وأصحابه بلفظ العمرى، والسكن، والاعتمار، والاستغلال، والإعمار بالمنافع دون الرقاب" (¬1). واستدل المالكية على ذلك: الدليل الأول: (ث-290) روى مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم أنه سمع مكحولا الدمشقي، يسأل القاسم بن محمَّد، عن العمرى وما يقول الناس فيها؟ فقال القاسم بن محمَّد: ما أدركت الناس، إلا وهم على شروطهم في أموالهم. وفيما أعطوا (¬2). ويناقش: بأن الشرط الذي يخالف النص فإنه شرط باطل غير معتبر، وقد جاء في الصحيح كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط. والشرط في العمرى صح عن رسول الله أنه باطل. ¬
الدليل الثاني: (ح-1158) وقال - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيب نفس منه (¬1). وإذا كان الرضا شرطًا في العقود المالية، فإن المعمر لم يهب المال مطلقًا، وإنما وهبه مقيدًا، وهذا هو معنى العمرى، وهو أن يقول الرجل للرجل: هو لك ما عشت، أي مدة عمرك، فكيف نخالف شرط الواهب، ونقول: قد خرجت العين من ملكك، حتى ولو كان قصدك أن يكون ذلك مؤقتًا، ولا عبرة بشرطك، ولا رضاك، مع أن المحكم في المعاملات المالية المفاسد والمعاني وليست الألفاظ والمباني، فإذا أعار المالك عينًا بلفظ (العمرى) مدة معينة، أو مدة حياته، كان المعتبر قصده وما أراد؛ لأنه مالك للعين، متبرع بها, لا نتجاوز قصده وإرادته. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن العمرى لا تقتضى نقل الملك عن الرقبة بدليل أنه لو قال: بعتك شهرًا، أو تصدقت بها عليك شهرًا، وأراد نقل ملك الرقبة بهذا اللفظ لم يصح، كذلك إذا قال: أعمرتكه شهرًا؛ أو مدة عمرك؛ لأنه علقه بوقت مقيد. "قال إبراهيم بن إسحاق الحربي عن ابن الأعرابي: لم يختلف العرب في العمرى والرقبى، والإقفار والإحبال والمنيحة، والعرية، والعارية، والسكنى، والإطراق أنها على ملك أربابها ومنافعها لمن جعلت له" (¬2). ¬
ويناقش. ليس المحكم حقيقة العمرى عند العرب، وإنما المحكم حقيقة العمرى عند الشرع، فإذا نقلها الشرع إلى تمليك الرقبة بطل حكم العرب، كما نقل الشرع الصلاة والدعاء، والزكاة وغيرها من الحقيقة اللغوية إلى الحقيقة الشرعية، والله أعلم. ورد هذا: بأن الخصم يدعي بأن الشرع نقل العمرى إلى التمليك المؤبد، والأصل عدم النقل؛ لأن تمليك الرقاب متى اشترط فيه التأقيت فسد كالبيع، وههنا لم يفسد، فيصرف إلى المنافع؛ لأنه لا يفسدها التاقيت، والخصم يدعي أن الشرع أبطل التأقيت تصحيحًا للملك، ونحن ندعي أن الشرع اعتبره، والإبطال على خلاف الدليل. ° الراجح: اللفظ يؤيد ما يقوله مالك، إلا أن النص يؤيد ما ذهب إليه الجمهور، ولا أستطيع تجاوز النص بالفهم اللغوي، لكن لو ادعى الواهب أنه يجهل الحكم الشرعي، فإن له الخيار بالرجوع في الهبة، أو إمضائها تمليكًا، والله أعلم.
الفرع الثالث أن يشترط رجوعها له بعد موته
الفرع الثالث أن يشترط رجوعها له بعد موته ° صورة هذه المسألة: أن يقول: أعمرتك هذه الدار، فإذا من رجعت إلى إن كنت حيًّا، أو إلى ورثتي إن كنت ميتًا. [م - 1882] وقد اختلف العلماء في هذه الصورة على قولين: القول الأول: تصح الهبة، ويبطل الشرط، وهذا مذهب الحنفية، والجديد من قول الشافعي، والمشهور من مذهب الحنابلة، واختاره ابن حزم (¬1). قال ابن حزم: "العمرى، والرقبى: هبة صحيحة تامة, يملكها المعمر والمرقب، كسائر ماله، يبيعها إن شاء، وتورث عنه، ولا ترجع إلى المعمر ولا إلى ورثته، سواء اشترط أن ترجع إليه أو لم يشترط، وشرطه لذلك ليس بشيء" (¬2). ° حجة الجمهور: الدليل الأول: (ح-1159) ما رواه مسلم من طريق أبي خيثمة، عن أبي الزبير, عن جابر، ¬
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيًّا وميتًا, ولعقبه (¬1). الدليل الثاني: (ح-1160) ما رواه البخاري من طريق يحيى، عن أبي سلمة، عن جابر - رضي الله عنه -، قال: قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمرى، أنها لمن وهبت له (¬2). الدليل الثالث: (ح-1161) ما رواه أحمد من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: لا عمرى، فمن أعمر شيئًا فهو له (¬3). [تفرد به محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، قد رواه يحيى بن أبي كثير، والزهري، عن أبي سلمة، عن جابر، وهو الصواب] (¬4). ¬
القول الثاني: أن الشرط صحيح، وترجع إليه بعد موته، وهذا مذهب المالكية، ورواية عن الإمام أحمد رجحها ابن تيمية (¬1). قال في الاختيارات: "وتصح العمرى، ويكون للمعمر ولورثته، إلا أن يشترط المعمر عودها إليه فيصح الشرط، وهو قول طائفة من العلماء ورواية عن أحمد" (¬2). ° حجة هذا القول: (ح-1162) ما رواه مسلم من طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر، قال: إنما العمرى التي أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها، قال معمر: وكان الزهري يفتي به (¬3). ° الراجح: العمرى المطلقة، أو العمرى له ولعقبه تفيد الملك للرقبة والمنفعة، هذا ما تدل عليه الأحاديث السابقة، وإن شرط رجوعه إليه إن مات فهو الرقبى، وإن شرط رجوعه إليه أو إلى ورثته فلة شرطه؛ لأن الأصل في الشروط الصحة والجواز، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني: في الرقبى
الفصل الثاني: في الرقبى المبحث الأول في تعريف الرقبى تعريف الرقبى: الرقبى: على وزن (حبلى) من المراقبة؛ لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه (¬1). وفي مختار الصحاح: "أرقبه دارًا، أو أرضًا: أعطاه إياها وقال: هي للباقي منا والاسم منه: الرقبى, وهي من المراقبة؛ لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه" (¬2). (ث-291) روى عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: الرقبى، أن يقول: هي للآخر مني ومنك موتًا (¬3). (ث-292) وروى أبو داود، قال: حدثنا عبد الله بن الجراح، عن عبيد الله بن موسى، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قال: العمرى أن يقول الرجل: للرجل هو لك ما عشت، فإذا قال ذلك فهو له ولورثته، والرقبى هو أن يقول الإنسان هو للآخر مني ومنك. [حسن] (¬4). ¬
° صور الرقبى: ذكر الفقهاء للرقبى ثلاث صور: الصورة الأولى: قال ابن جزي: وأما الرقبى: فهو أن يقول الرجل للآخر: إن مت قبلك فداري لك، وإن مت قبلي فدارك لي" (¬1). ومثلها لو كانت دارًا أو دارين لرجلين، فاتفقا على أن من مات أولًا فنصيبه حبس على الآخر (¬2). جاء في المدونة: "قلت: أرأيت الرقبى هل يعرفها مالك؟ قال: سأله بعض أصحابنا, ولم أسمعه أنا منه عن الرقبى، فقال: لا أعرفها. ففسرت له فقال: لا خير فيها. قلت: وكيف سألوه عن الوقت؟ قال: قالوا له: الرجلان تكون بينهما الدار، فيحبسانها على أيهما مات، فنصيبه للحي حبسًا عليه قال: فقال لهم مالك: لا خير فيه" (¬3). فهذه هي صورة الرقبى عند المالكية، ولا يذكرون صورة غيرها. وهي إحدى صورتي الرقبى عند الشافعية، ويتفق الشافعية والمالكية على منع هذه الصورة؛ وعلل الشافعية البطلان بأن هذا الشرط مناف للملك (¬4). ¬
وتعليل البطلان عند المالكية: أن قول الرجل: إن مت قبلك فداري لك، وإن من قبلي فدارك لي، كأن كل واحد منهما قصد إلى عوض لا يدرى، هل يحصل له، ويتمنى كل واحد منهما موت صاحبه، وليس كذلك العمرى؛ لأن المعمر لا يقصد عوضًا عن الذي أخرج عن يده. والحقيقة أن هذه الصورة ليست من عقود التبرع، وإنما هي من عقود المعاوضات، وتعليقها على أمر مجهول، لهذا لا ينبغي أن يخالف أحد في منع هذه الصورة. الصورة الثانية: أن يقول الواهب: داري لك رقبى فقط، ومعناه: إن مت رجعت الرقبة لي، وإن مت أنا فهي لك، كأن كل واحد منهما يرقب موت الآخر (¬1). فهذه الصورة من عقود التبرع؛ لأنها خالية من العوض، وهذه الصورة هي الصورة المشهورة للرقبى عند أئمة اللغة (¬2)، وعند أكثر الفقهاء، وهي التي جرى فيها خلاف بين الحنفية من جهة، وبين الشافعية والحنابلة من جهة أخرى. ° والفرق بين العمرى والرقبى: قال أبو هلال العسكري: العمرى: هي أن يقول الرجل للرجل: هذه الدار لك عمرك أو عمري. ¬
والرقبى: أن يقول: إن مت قبلي رجعت إلي، وإن مت قبلك فهي لك، وذلك أن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه (¬1). الصورة الثالثة: ذكر بعضهم صورة ثالثة للرقبى، وهي أن تجعل المنزل لفلان يسكنه، فإن مات سكنه فلان، فكل واحد منهما يرقب موت صاحبه (¬2). الصورة الرابعة: قال اللحياني: أرقبه الدار: جعلها له رقى، ولعقبه بعده، بمنزلة الوقف (¬3). والصورة الثانية هي المشهورة، وسوف نبحثها في المبحث التالي. ¬
المبحث الثاني في حكم الرقبى
المبحث الثاني في حكم الرقبى [م - 1883] اختلف العلماء في حكم الرقبى على قولين: القول الأول: ذهب أبو حنيفة ومحمد بن الحسن، والإمام مالك، والقول القديم للشافعي، وقول في مذهب الحنابلة إلى أن الرقبى باطلة (¬1). وبه قال داود الظاهري وطائفة من أهل الحديث (¬2). على خلاف بين المالكية وغيرهم في صورة الرقبى كما تقدم في تعريف الرقبى. الدليل على البطلان: ° تعليل البطلان عند الحنفية: أن قوله: إن مت قبلك فهو لك وإن مت قبلي رجعت إلي، هذا تعليق للتمليك بالخطر المتردد بين الوقوع وعدمه، والتمليكات لا تقبل التعليق، وجعلوها كالعارية، ولم يوجبوا بها ملكًا للمرقب. ¬
° وتعليل البطلان عند المالكية: أن قول للرجل: إن مت قبلك فداري لك، وإن مت قبلي فدارك لي، كأن كل واحد منهما قصد إلى عوض لا يدرى، هل يحصل له، ويتمنى كل واحد منهما موت صاحبه، وليس كذلك العمرى؛ لأن المعمر لا يقصد عوضًا عن الذي أخرج عن يده. قال القرافي: "تفسد إذا كانت المراقبة من الجهتين لكونها ... معاوضة فاسد" (¬1). القول الثاني: الرقبى كالعمرى جائزة لمن أرقبها, ولا ترجع إلى المرقب، ويلغو الشرط، وهذا قول أبي يوسف من الحنفية، ومذهب الشافعية، والحنابلة (¬2). وترجم البخاري في صحيحه، فقال: باب ما قيل في العمرى والرقبى، ثم ذكر الأحاديث الواردة في العمرى، مما يدل على أنه يرى أن الحكم في العمرى كالحكم في الرقبى (¬3). وقال الترمذي: "قال أحمد وإسحاق: الرقبى مثل العمرى، وهي لمن أعطيها, ولا ترجع إلى الأول" (¬4). ¬
° دليل من قال: بالجواز: الدليل الأول: (ح-1163) ما رواه أبو يعلى من طريق يزيد بن هارون، أخبرنا داود بن أبي هند، عن أبي الزبير، عن جابر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: العمرى جائزة لمن أعمرها، والرقبى جائزة لمن أرقبها (¬1). [اختلف على أبي الزبير بذكر الرقبى، وأصحاب أبي الزبير رووه عنه بذكر العمرى فقط، وهو المحفوظ] (¬2). ¬
وفي الباب عن ابن عمر عند أحمد وغيره (¬1)، وعن زيد بن ثابت عند أحمد وغيره أيضًا (¬2). الدليل الثاني: (ث-293) ما رواه النسائي من طريق يعلى، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: لا تحل الرقبى، ولا العمرى، فمن أعمر شيئًا فهو له، ومن أرقب شيئًا فهو له (¬3). [رجاله ثقات إلا أبا الزبير فإنه صدوق، وقد اضطرب فيه أبو الزبير، واختلف عليه في إرساله، ووقفه، ورفعه مع اختلاف في لفظه] (¬4). الدليل الثالث: أن قول الرجل: (داري لك) تمليك، وقوله: (رقبى) شرط مناقض للتمليك، لأن التمليك لا يؤقت، فيكون شرطًا فاسدًا، فيلغو الشرط، ويصح التمليك، كما أن التمليك في البيع لا يؤقت، فكذلك التمليك في الهبة لا يؤقت. ويناقش: لا يصح التأويل إذا علمنا أن قوله (داري لك رقبى) أن (داري) مبتدأ، وقوله: (رقبى) خبر، وقوله: (لك) جار ومجرور متعلق بقوله: (رقبى)، وإنما يصح التأويل لو كان قوله (داري لك) مبتدأ وخبر، وتكون كلمة (رقبى) فضلة في الكلام، وليست عمدة، والله أعلم. ¬
الدليل الرابع: كل الأحاديث التي ذكرناها في العمرى، وأنها لمن أعمرها، تصلح دليلًا في مسألة الرقبى، فهي لمن أرقبها, لا تعود للواهب. ° الراجح: القول في الرقبى كالقول في العمرى، وقد ذكرت صور العمرى، وحكم كل صورة فارجع إليه إن شئت، والله أعلم. هذه آخر المسائل المختارة من عقد الهبة، ولله الحمد والمنة.
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد التاسع عشر
ح دبيان بن محمَّد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمَّد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة / دبيان محمَّد الدبيان - الرياض، 1432 هـ 512 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجموعة) ج 19 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ. العنوان ديوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (19)
مقدمة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين, وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد. فهذا هو المجلد التاسع عشر من المعاملات المادية، وقد اشتمل على العقد الخامس والسادس من عقود التبرع، وهما عقد الوديعة واللقطة، وقد جمعت هذين البابين في مجلد واحد؛ لأن هذين البابين مختلفان عن عقود التبرع السابقة، فالوقف والوصية والقرض والهبة من عقود التبرع بينها قاسم مشترك، وهو إخراج المال على وجه التبرع والإرفاق، بينما عقد الوديعة واللقطة من عقود التبرع يتشابهان بأنهما من عقود الأمانات، والتبرع فيهما هو حفظ المال لمصلحة صاحبه، إلا أن الوديعة عقد بين طرفين، واللقطة تصرف من طرف واحد، وليست عقدًا، ومع كونهما من عقود التبرع فهما من عقود الأمانة، بل الأمانة أصيلة فيهما، والله أعلم.
خطة البحث يشتمل البحث على تمهيد، وأبواب، وفصول ومباحث، وفروع، ومسائل على النحو التالي: التمهيد: ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في تعريف الوديعة. المبحث الثاني: في توصيف عقد الوديعة. الفرع الأول: الإيداع عقد وليس إذنًا في الحفظ. الفرع الثاني: الوديعة من عقود الأمانات. مسألة: زوائد الوديعة أمانة كأصلها. الفرع الثالث: الوديعة من العقود الجائزة. الفرع الرابع: الوديعة من عقود التبرع. المبحث الثالث: في حكم الوديعة. الفرع الأول: حكم الوديعة الوضعي. الفرع الثاني: حكم الوديعة التكليفي. الباب الأول: في أركان الوديعة. الفصل الأول: خلاف العلماء في أركان الوديعة. الفصل الثاني: في انعقاد الوديعة بالمعاطاة. الفصل الثالث: في انعقاد الإيداع بالإشارة.
الفصل الرابع: الاعتماد على الخط في الإيداع. الفصل الخامس: في تعليق الوديعة وإضافتها إلى المستقبل. الباب الثاني: في شروط الوديعة. الفصل الأول: في شروط الوديع والمودع. الشرط الأول: في اشتراط توفر الأهلية فيهما. المبحث الأول: في إيداع الصبي غير المميز والمجنون. المبحث الثاني: في الدل الصبي المميز. المبحث الثالث: في إيداع المال لدى الصبي المميز. الشرط الثاني: أن يكون المودِع له ولاية في المال المودع. الشرط الثالث: أن يكون المودَع ممن يصح قبضه للوديعة. الشرط الرابع: في اشتراط أن يكون المستودع معينًا. الشرط الخامس: في اشتراط ألا يكون المودع محجورًا عليه لمصلحة غيره. الفصل الثاني: في شروط الأعيان المودعة. المبحث الأول: في اشتراط مالية العين المودعة. الشرط الثاني: كون الوديعة قابلة لإثبات اليد عليها. الشرط الثالث: في اشتراط العلم بالوديعة. الشرط الرابع: في اشتراط كون الوديعة منقولة. الباب الثالث: في أحكام الوديعة.
الفصل الأول: في آثار عقد الوديعة. المبحث الأول: وجوب الحفظ على المودع. الفرع الأول: في صفة حفظ الوديعة. المسألة الأولى: ألا يعين المالك موضع الحفظ. المسألة الثانية: أن يعين المالك موضع الحفظ. المسألة الثالثة: في دفع الوديعة لمن يحفظ ماله. المطلب الأول: في بيان الأقارب الذين يحفظون مال قريبهم. المطلب الثاني: إذا شرط عليه أن يحفظ الوديعة بنفسه. المسألة الرابعة: في استعانة الوديع بغيره في حفظ الوديعة. المطلب الأول: أن يستعين بالأجنبي بدون عذر. المطلب الثاني: أن يودع الوديع الأجنبي لعذر. الأمر الأول: أن يكون العذر حاجته إلى السفر. الأمر الثاني: أن يودع مال غيره خوفًا من حريق أو غرق. المبحث الثاني: يجب رد الوديعة متى طلبها صاحبها. المبحث الثالث: الوديعة أمانة في يد المودَع. الفرع الأول: في النفقة تجب في مال المالك. الفرع الثاني: في صفة الإنفاق. الفرع الثالث: الوديعة لا تضمن إلا بالتعدي أو بالتفريط.
الفرع الرابع: في إتلاف المودع الوديعة. المسألة الأولى: في الحكم التكليفي. المسألة الثانية: الحكم الوضعي لتعدي الوديع. المسألة الثالثة: في ارتفاع الضمان برجوعه عن التعدي. المسألة الرابعة: في ضمان الوديع إذا نوى التعدي ولم يفعل. الفرع الخامس: في اشتراط الضمان على الوديع. الفصل الثاني: في تصرفات الوديع بالوديعة. المبحث الأول: في خلط الوديعة بغيرها. الفرع الأول: أن يكون الخلط بغير فعل الوديع. الفرع الثاني: أن يكون الخلط بإذن صاحبها. الفرع الثالث: أن يكون الخلط بدون إذن صاحبها. المسألة الأولى: في خلط الوديعة بمال آخر مع إمكان التمييز. المسألة الثانية: في خلط الوديع الوديعة بمال نفسه بما لا يتميز. المسألة الثالثة: إذا خلط الوديعة بمال لصاحبها. المبحث الثاني: في اقتراض المودع من الوديعة. الفرع الأول: إذا اقترض من الوديعة ثم تراجع عن الاقتراض. الفرع الثاني: إذا اقترض من الوديعة ثم رد بدله. المسألة الأولى: أن يكون البدل متميزًا عن باقي الوديعة.
المسألة الثانية: أن يكون البدل غير متميز عن باقي الوديعة. المبحث الثالث: في رهن المودِع للوديعة. المبحث الرابع: في الاتجار بالوديعة. الفرع الأول: في الاتجار بها دون إذن من المالك. المسألة الأولى: الحكم التكليفي في اتجار الوديع بالوديعة. المسألة الثانية: في استحقاق الربح إذا اتجر بالوديعة بدون تفويض. المبحث الخامس: في تأجير الوديعة. المبحث السادس: في السفر بالوديعة. الفصل الثالث: في الاختلاف بين المالك والوديع. المبحث الأول: إذا أنكر أصل الإيداع. المبحث الثاني: إذا اختلفا في الرد. المبحث الثالث: إذا اختلفا في التعدي والتفريط. المبحث الرابع: في مطالبة الوديع باليمين إذا ادعى التلف. المبحث الخامس: إذا اختلفا في الأمر بالتصرف في الوديعة. المبحث السادس: إذا تنازع الوديعة رجلان. الفصل الرابع: في جحد الوديعة معاملة بالمثل. الفصل الخامس: في تجهيل الوديعة. مبحث: في التصرف في الودائع المجهول أصحابها.
الفصل السادس: في تعدد الوديع. الفصل السابع: في الوديع يكره على تسليم الوديعة. الباب الرابع: في الودائع المصرفية. الفصل الأول: في تعريف الودائع المصرفية. الفصل الثاني: خصائص الودائع النقدية المصرفية. الفصل الثالث: في توصيف الودائع المصرفية الجارية. الفصل الرابع: إيجار الخزائن الحديدية للإيداع. المبحث الأول: تعريف الخزائن الحديدية. المبحث الثاني: في التوصيف الفقهي لتأجير الخزائن الحديدية. الباب الرابع: في انتهاء عقد الإيداع. الفصل الأول: انتهاء عقد الوديعة بالرد. المبحث الأول: في مؤنة حمل الوديعة وردها. المبحث الثاني: في امتناع الوديع من رد الوديعة. المبحث الثالث: في رد الوديعة إلى عيال المالك. المبحث الرابع: في كيفية رد الوديعة المشتركة. الفصل الثاني: انتهاء الوديعة بالفسخ. الفصل الثالث: انتهاء عقد الوديعة بالموت. المبحث الأول: في الضمان بتأخير الرد إلى وارث المالك.
المبحث الثاني: في الضمان بتأخير ورثة الوديع الرد إلى المالك. الفصل الرابع: انتهاء عقد الوديعة بالعزل. المبحث الأول: انتهاء عقد الوديعة بعزل المالك للوديع. المبحث الثاني: في عزل الوديع نفسه. الفصل الخامس: انتهاء عقد الوديعة بالتعدي أو بالتفريط. الفصل السادس: انتهاء عقد الوديعة بزوال الأهلية. الفصل السابع: انتهاء عقد الوديعة بالجحود. هذه هي آخر المسائل المختارة من عقد الوديعة، فلله الحمد على توفيقه وتسديده، وأرجو أن أكون قد أتيت على أهم المسائل في عقد الوديعة، وأسأل الله - عَزَّ وَجَلَّ - أن يجعله خالصًا لوجهه، وأن يمنَّ عليَّ في إكمال بقية المشروع.
خطة البحث في أحكام اللقطة تشتمل خطة البحث في أحكام اللقطة على تمهيد، وأربعة أبواب، والأبواب تشتمل على فصول ومباحث وفروع ومسائل على النحو التالي: تمهيد، وفيه مبحثان: المبحث الأول: في تعريف اللقطة. المبحث الثاني: الفرق بين اللقطة والضالة. المبحث الثالث: في أركان اللقطة. الباب الأول: في أحكام الالتقاط. الفصل الأول: في التقاط غير الحيوان. الفصل الثاني: في التقاط الحيوان. المبحث الأول: في التقاط ما يمتنع من السباع ويقوى على ورود الماء. المبحث الثاني: في التقاط الغنم وما لا يمتنع من صغار السباع. المبحث الثالث: في الالتقاط في طريق غير مسلوك. المبحث الرابع: في لقطة الحرم. الباب الثاني: في أحكام اللقطة. الفصل الأول: في وجوب تعريف اللقطة. المبحث الأول: في صفة اللقطة التي يجب تعريفها. المبحث الثاني: في معرفة اللقطة قبل تعريفها.
المبحث الثالث: في وجوب التعريف على الملتقط. المبحث الرابع: في مدة التعريف. الفرع الأول: في تعريف ما يسرع إليه الفساد. الفرع الثاني: في تعريف ما لا يتطرق إليه الفساد. المبحث الخامس: في وجوب الفورية في التعريف. المبحث السادس: في ضمان الملتقط إذا أخر التعريف. المبحث السابع: في سقوط التعريف إذا أخره. المبحث الثامن: في وجوب الموالاة في التعريف. المبحث التاسع: في مؤنة التعريف. المبحث العاشر: في مكان تعريف اللقطة. المبحث الحادي عشر: في تكرار التعريف. المبحث الثاني عشر: في ذكر جنس اللقطة في التعريف. المبحث الثالث عشر: في ضمان الملتقط إذا عرفها بجميع صفاتها. الفصل الثالث: في الإشهاد على اللقطة. الفصل الرابع: في تملك اللقطة. المبحث الأول: في تملك اللقطة إذا قام بتعريفها. المبحث الثاني: في وقوف التملك على نية الملتقط أو لفظه. المبحث الثالث: إذا جاء صاحبها بعد التعريف.
الفصل الخامس: في نماء الضالة. الفصل السادس: في ضمان اللقطة. المبحث الأول: في ضمان اللقطة قبل تملكها. الفرع الأول: في ضمانها إذا التقطها للتعريف أو للحفظ. الفرع الثاني: في ضمان اللقطة إذا أخذها لنفسه. الفرع الثالث: إذا أخذها بنية الأمانة ثم طرأ قصد الخيانة. المبحث الثاني: في ضمان اللقطة بعد تعريفها وتملكها. المبحث الثالث: في ضمان اللقطة إذا ردها إلى موضعها. الباب الثالث: في أحكام الملتقط. الفصل الأول: في اشتراط العدالة في الملتقط. الفصل الثاني: في التقاط الكافر. الفصل الثالث: في التقاط غيرِ المكلف. المبحث الأول: في التقاط المجنون والصبي غير المميز. المبحث الثاني: في صحة التقاط الصبي المميز. الفصل الرابع: في تعدد الملتقط. الفصل الخامس: إذا ادعى اللقطة اثنان. الفصل السادس: في الاتجار في اللقطة. الفصل السابع: في النفقة على اللقطة.
الفصل الثامن: في الجعل على رد اللقطة. الفصل التاسع: في زكاة المال الملتقط. المبحث الأول: في زكاة المال الملتقط قبل التعريف. المبحث الثاني: في زكاة المال الملتقط بعد التعريف. الباب الرابع: في استرداد اللقطة. الفصل الأول: في اشتراط البينة لاسترداد اللقطة. الفصل الثاني: في استرداد اللقطة بمعرفة بعض صفاتها. هذه هي آخر مسألة من المسائل المختارة في عقد الالتقاط، وأرجو أن أكون قد أتيت على أهم المسائل المقصودة، والله أعلم.
عقد الوديعة
عقد الوديعة
التمهيد
التمهيد المبحث الأول في تعريف الوديعة تعريف الوديعة اصطلاحًا (¬1): أطلق بعض الفقهاء الوديعة على العين المودعة، وعلى الإيداع. جاء في إعانة الطالبين في تعريف الوديعة: "العقد المقتضي للاستحفاظ، أو ¬
العين المستحفظة، فهي حقيقة فيهما" (¬1). وجاء في كتب الشافعية: "تقال -يعني الوديعة- على الإيداع، وعلى العين المودعة" (¬2). وانتقد كثير من الفقهاء إطلاق الوديعة على الإيداع: قال ابن الهمام: "الظاهر أن الوديعة في الشريعة أيضًا: هي المال المودع الذي يترك عند الأمين، لا نفس التسليط على حفظ المال، وأن التسليط على حفظ المال هو الإيداع" (¬3). ففرق بين الوديعة والإيداع. وانتقد العدوي المالكي إطلاق الوديعة على الإيداع، وقال: الوديعة لا تطلق إلا على الذات المودعة، لا على الإيداع، لا لغة، ولا اصطلاحًا (¬4). قال النفرواي في تعريف الوديعة: "مال وكل على حفظه. وأما بالمعنى المصدري فقال خليل: الإيداع توكيل بحفظ مال" (¬5). وهو ما فعله الحجاوي الحنبلي، فقال في الإقناع: "الوديعة: اسم للمال المودع، والإيداع: توكيل في حفظه تبرعًا" (¬6). إذا عرفنا هذا نأتي على تعريف الوديعة بمعنى العين المودعة. ¬
تعريف الوديعة بالعين المودعة: عرفها الحنفية بقولهم: ما يترك عند الأمين للحفظ فقط (¬1). فقوله: (ما يترك عند الأمين) لما كانت الوديعة تترك عند المودع للحفظ دون الانتفاع، صار الناس لا يودعون عادة إلا عند من يعرف بالأمانة والديانة. وقوله: (للحفظ فقط) إشارة إلى أنه لا حظ للمودع في الوديعة، فخرج بهذا القيد العارية؛ لأنها تترك للحفظ والانتفاع. وخرج بذلك أيضًا الإيصاء والوكالة؛ لأنهما يرادان للحفظ والتصرف (¬2). وعرف المالكية الوديعة بقولهم: مال موكل على حفظه (¬3). فهنا نص المالكية على أن الوديعة في الأموال خاصة ومن أجل حفظها فقط، فخرج بذلك ما لو استحفظ أحد ولده الصغير عند جاره لم يطلق على ذلك وديعة؛ لأن الولد ليس مالًا. وكذلك خرج إيداع الوثائق التي توثق الحقوق فإنها ليست مالًا، كما خرج بذلك التوكيل على البيع والشراء، والاقتضاء، والإيصاء فإنها توكيل على الحفظ والتصرف. ¬
وعرفها بعض الشافعية بأنها: "اسم لعين يضعها مالكها أو نائبه عند آخر ليحفظها" (¬1). وعرفها بعض الحنابلة بأنها: مال أو مختص مدفوع من جائز التصرف إلى مثله لحفظه بلا عوض (¬2)، وقال آخرون: ولو بعوض (¬3). فخرج بقيد المدفوع: ما ألقته الريح عليك، والعين في يد الملتقط. وخرج بقيد (جائز التصرف إلى مثله) ما دفع أو أخذ إلى من ليس كذلك كالسفيه، والصبي فإنه لا يصح إيداعهما. وخرج بقيد الحفظ: العارية، والإيصاء، والتوكيل ونحو ذلك فإنها ليست للحفظ فقط، فالعارية للحفظ والانتفاع، والإيصاء والتوكيل للتصرف. وخرج باشتراط أن يكون ذلك بلا عوض الأجير على حفظ المال. واشتراط أن يكون الحفظ تبرعًا مسألة خلافية سيأتي التعرض لها إن شاء الله تعالى. هذه تعريفات الفقهاء للوديعة بمعنى العين المودعة، وهي تعريفات متقاربة في المعنى، والخلاف فيها في أمرين: أحدهما: في اشتراط مالية العين المودعة. الثاني: في اشتراط أن يكون الحفظ تبرعًا. وسوف نعقد لكل مسألة مبحثًا مستقلًا إن شاء الله تعالى. ¬
تعريف الوديعة بمعنى الإيداع: عرف بعض الفقهاء الوديعة بمعنى الإيداع: أي الاستنابة في حفظ المال، من ذلك: قال بعض الحنفية: "الوديعة في الاصطلاح: هي التسليط على الحفظ" (¬1). وعرفها بعض المالكية بقولهم: "استنابة في حفظ المال" (¬2). وقال بعض الشافعية: "توكيل في حفظ مملوك أو محترم مختص على وجه مخصوص" (¬3). فدخل في ذلك صحة إيداع ما ليس بمال كإيداع الخمر المحترمة، وجلد ميتة يطهر بالدباغ، وزبل، وكلب معلم. وخرج بمختص: ما لا اختصاص فيه كالكلب الذي لا يقتنى. وخرج بقوله: (توكيل): العين في يد الملتقط، والثوب إذا ألقته عليه الريح ونحوه؛ لأنه في يده بلا توكيل، بل هو مال ضائع مغاير لحكم الوديعة (¬4). ¬
وعرفها بعض الحنابلة بقولهم: "الوديعة عبارة عن توكل لحفظ مال غيره تبرعًا بغير تصرف" (¬1). وهذه التعريفات كلها تشير إلى أن الوديعة عقد وليس إذنًا في الحفظ، وسنتكلم عن هذه المسألة إن شاء الله عند الكلام على خصائص عقد الوديعة. ¬
المبحث الثاني توصيف عقد الوديعة
المبحث الثاني توصيف عقد الوديعة الفرع الأول الإيداع عقد وليس إذنًا في الحفظ الأمانة إن قامت على الإيجاب والقبول كانت عقدًا كالوديعة، وإن قامت على تصرف منفرد كالالتقاط كانت إذنًا في الحفظ. [م - 1884] اختلف الفقهاء في الوديعة، هل هي عقد، أو مجرد إذن في الحفظ؟ على قولين: القول الأول: أن الوديعة عقد يقوم على حفظ المال فقظ دون التصرف، فهو وكالة مقيدة، وهذا قول الجمهور (¬1). وعلى هذا يشترط في المودَع أهلية التوكل، وفي المودع أهلية التوكيل. قال في العناية: "الإيداع: عقد استحفاظ" (¬2). وقال الخرشي: "ظاهر كلام المؤلف أن من جاز له أن يوكل جاز له أن ¬
يودع، ومن جاز له أن يتوكل جاز له أن يقبل الوديعة" (¬1). وقال الشيرازي في المهذب: "تنعقد الوديعة بما تنعقد به الوكالة ... لأنه وكالة في الحفظ، فكان كالوكالة في العقد والفسخ" (¬2). وقال ابن مفلح: "وهي -يعني الوديعة- وكالة في الحفظ، فيعتبر أركانها، وينفسخ بموت وجنون وعزل كوكالة" (¬3). القول الثاني: أن الوديعة ليست عقدًا، بل مجرد إذن في حفظ المال، فيضاهي إباحة الأكل للضيف، وهو ظاهر كلام ابن عرفة من المالكية، ووجه في مقابل الأصح في مذهب الشافعية (¬4). قال ابن عرفة في تعريف الوديعة: "نقل مجرد حفظ ملك ينقل" (¬5). وقال النووي: "الوديعة عقد برأسه أم إذن مجرد؟ ... والموافق لإطلاق الجمهور كون الوديعة عقدًا" (¬6). وقال الأنصاري: "الإيداع عقد وهو الأصح ... وقيل: إذن مجرد في الحفظ" (¬7). ¬
ثمرة الخلاف بين القولين: أنكر إمام الحرمين أن يكون للخلاف أي أثر فقهي، فقال في نهاية المطلب: "وتردد فقهاؤنا في تسميته عقدًا -يعني الإيداع- وهذا الاختلاف سببه أن القبول ليس شرطا من المودع وفاقا ... وليس للاختلاف في أن الإيداع عقد فائدة فقهية" (¬1). وخالفه غيره، فقالوا: تظهر ثمرة الخلاف في مسائل منها: أحدها: إذا أودع ماله عند سفيه وصبي وعبد فتلف، فهل يضمن؟ قولان: إن قلنا عقد لم يضمنه هؤلاء ولم يتعلق برقبة العبد لنقصان الأهلية. وإن قلنا: إذن ضمنوه. الثاني: نتاج البهيمة المودعة، إن قلنا: الوديعة عقد فالولد وديعة كالأم، وإلا فليس بوديعة، بل أمانة شرعية في يده يجب ردها في الحال حتى لو لم يؤد مع التمكن ضمن على الأصح. الثالث: المودع إذا عزل نفسه، هل ينفسخ العقد؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه عقد جائز، فيبقى المال في يده أمانة شرعية كالثوب إذا طرحته الريح إلى داره، ويلزمه الرد وإن لم يطلب منه، فإن أخر بلا عذر ضمن (¬2). ¬
والثاني: لا؛ لأنه تسليط مجرد فيضاهي إباحة الأكل للضيف فلا معنى للفسخ فيه (¬1). الرابع: إذا أكره صاحب المال شخصًا على قبول الوديعة، فإن قلنا: عقد لم يثبت حكم الإيداع، وإن قلنا: مجرد إذن بالحفظ ثبت حكمها (¬2). ¬
الفرع الثاني الوديعة من عقود الأمانات
الفرع الثاني الوديعة من عقود الأمانات كل وديعة أمانة، وليس كل أمانة وديعة. يد الأمانة قد يكون بإذن من الشارع كمال السفيه في يد الولي، وقد يكون بإذن من المالك كيد الوديع والوكيل والشريك والمستعير والمضارب ونحو ذلك. [م - 1885] الوديعة من عقود الأمانات، وهذه مذهب الأئمة الأربعة. وقد عرف الحنفية الأمانة: بأنها هي الشيء الموجود عند الأمين، سواء أجعل أمانة بقصد الاستحفاظ كالوديعة، أم كان أمانة ضمن عقد كالمأجور والمستعار، أو صار أمانة في يد شخص بدون عقد ولا قصد كما لو ألقت الريح في دار أحد مال جاره فحيث كان ذلك بدون عقد فلا يكون وديعة بل أمانة فقط (¬1). فمن خلال هذا التعريف يتبين أن الأمين قسمان: القسم الأول: أمين بعقد: وهذا على نوعين أيضًا. الأول: ما كانت الأمانة أصالة في العقد كالوديعة. الثاني: ما كانت الأمانة فيه تابعة للعقد، وليست أصيلة فيه، كالعين المؤجرة في يد المستأجر، ومال الموكل في يد وكيله، ومال القاصر في يد وصيه، ومال الشريك في يد شريكه، والعين المرهونة في يد المرتهن، ونحو ذلك. ¬
القسم الثاني: أمين بلا عقد، كتصرفات الملتقط في اللقطة، وتصرفات الأب والجد في مال ولده الصغير والمجنون. الثمرة من كون الوديعة من عقود الأمانات أمران: الأول: أن الودائع لا تودع إلا عند من هو معروف بالأمانة، فغير الثقة ليس أهلًا أن يكون محلًا لإيداع الأمانات فقد يخون فيما ائتمن فيه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]. وقال تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283]. {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75]. جاء في فيض القدير: "وحفظ الأمانة أثر كمال الإيمان، فإذا نقص الإيمان نقصت الأمانة في الناس، وإذا زاد زادت" (¬1). الثاني: أن الأمانات لا تضمن عند التلف إلا بالتعدي والتقصير، وهذا محل اتفاق بين الفقهاء في الجملة كما سيأتي بحثه إن شاء الله تعالى. وقد قسم الفقهاء المال في اليد إلى قسمين: يد أمانة، ويد ضمان. والمراد باليد: هو حيازة الشيء فإذا حاز الإنسان مالًا كان تحت يده. ويد الأمانة: هي اليد التي حصل المال في حوزتها بإذن من الشارع، كمال السفيه في يد الولي، أو بإذن من المالك، كيد الوديع، والوكيل، ¬
والشريك، وعامل المضاربة، ويد المستعير، والمستأجر، وناظر الوقف، والوصي. ويد الضمان: حيازة المال للتملك كقبض المبيع، والقابض على سوم الشراء، أو لمصلحة الحائز وحده كالمقترض، وكذا كل يد لم تستند في حيازتها إلى إذن الشارع، أو إذن المالك كيد الغاصب والسارق. وحكم يد الأمانة: أنها لا تضمن ما هو تحت يدها، إلا بالتعدي بأن يفعل ما ليس له فعله، أو بالتقصير: بأن يترك ما يجب عليه فعله. وحكم يد الضمان: أنه يضمن المال بالتلف في كل حال (¬1). إذا عرفنا هذا تبينت لنا العلاقة بين الأمانة والوديعة: فالأمانة: جنس يعم الوديعة وغيرها، فالوديعة أخص من الأمانة، فكل وديعة أمانة، وليس كل أمانة وديعة. وإذا كانت الوديعة أمانة تبين بهذا التوصيف لمن تكون زوائدها وعلى من تكون نفقتها، وهذا ما سوف نفصله في المباحث التالية. ¬
مسألة زوائد الوديعة أمانة كأصلها
مسألة زوائد الوديعة أمانة كأصلها حكم النماء حكم الأصل. من ثبتت له العين ثبت له نماؤها. التابع لا يفرد بالحكم. [م - 1886] ذكرنا في المبحث السابق كلام العلماء بأن الوديعة أمانة في يد الوديع، وأنها ملك لصاحبها، فهل نماء الوديعة الحادث بعد الإيداع يكون وديعة كأصله، فلا يجب رده إلا عند الطلب، أو لا يأخذ حكم الوديعة، فيجب رده في الحال، في ذلك خلاف بين العلماء: القول الأول: أن نماء الوديعة يأخذ حكم أصله، فهو وديعة مثله. وهذا أحد الوجهين في مذهب الشافعية، والحنابلة (¬1). القول الثاني: أنها في يده أمانة، وليست وديعة، فهي كالثوب تلقيه الريح في يده، فالأمانة أعم من الوديعة، وذلك أن الأمانة نوعان: أمانة بعقد كالوديعة، وأمانة بلا عقد كاللقطة في يد الملتقط، وهذا وجه آخر عند الشافعية والحنابلة. ¬
قال إمام الحرمين: "ولو أودع رجل بهيمة عند رجل أو جارية، فولدت في يد المودع، ففي المسألة وجهان: أحدهما: أنه وديعة بمثابة الأم. والثاني: أنه ليس بوديعة. وهذا القائل يقول: ليس مضمونا، بل هو كالثوب تهب به الريح، فتلقيه في دار إنسان. وأثر هذا الخلاف أنا إن لم نجعله وديعة، فلا بد فيه من إذن جديد، وإلا لا تجوز إدامة اليد عليه، كمسألة الثوب والريح، وإذا قلنا: هو وديعة استمر المودع، ولم يستأذن، وسبيله سبيل الأم" (¬1). وجاء في المنثور في القواعد: "ولو أودع بهيمة فولدت فهو وديعة كالأم إن قلنا: إن الوديعة عقد، قاله البغوي. وقال الإمام: إن جعلناه وديعة فلا بد من إذن جديد، وإلا لم تجز إدامة اليد عليه" (¬2). وقال ابن رجب: "ومنها الوديعة: هل يكون نماؤها وديعة، أو أمانة محضة كالثوب المطار إلى داره؟ على وجهين أيضًا" (¬3). وهل للخلاف فائدة، سواء قلنا: المال وديعة أو أمانة، فإنه في الحالين هو ملك لصاحبه؛ لأنه نماء ماله؟ جاء في درر الحكام في شرح مجلة الأحكام: "المنافع المتولدة من الوديعة تكون لصاحبها؛ لأن المنافع المذكورة نماء ملك صاحبها، يعني المودِع" (¬4). ¬
وجاء في أسنى المطالب: عن "القاضي والإمام: لا فائدة للخلاف. قلت: وقد يقال: بل له فائدة: وهي أن العين يجب ردها على الثاني حالًا -يعني على القول بأنها ليست وديعة- وعلى الأول إنما يجب بعد الطلب" (¬1). فإن خاف على النماء من الفساد، كما لو كانت ثمارًا أو لبنًا، فإن كان يمكنه أن يدفعه إلى مالكه أو يستأذنه بالبيع فعل. جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "فإذا تجمع مقدار من لبن الحيوان المودع، أو من ثمار الكرم والبستان المودع، وخيف من فساده فباعه المستودع بدون إذن صاحبه يضمن بصفته غاصبًا" (¬2). وهذا ظاهر؛ لأنه تصرف في ملك غيره بما لم يفوض فيه، فهو موكل بالحفظ، وليس موكلًا بالبيع. وإن كان صاحبها غائبًا، وخاف عليه من الفساد: فقال الحنفية: يبيعها لصاحبها بإذن الحاكم إن كان بوسعه الوصول إلى الحاكم، فإن لم يرفع حتى فسدت لم يضمن، وإن باعها دون الرجوع إلى القاضي مع تمكنه من الوصول إليه ضمن، وإن كان لا يمكنه الوصول إلى القاضي، فباعها لصاحبها لم يضمن؛ لأن في هذا حفظها من الفساد (¬3). جاء في قرة عين الأخيار لتكملة رد المحتار نقلًا من فتاوى أبي الليث: "إذا ¬
كانت الوديعة شيئًا يخاف عليه الفساد، وصاحب الوديعة غائب: فإن رفع الأمر إلى القاضي حتى يبيعه جاز وهو الأولى، وإن لم يرفع حتى فسدت لا ضمان عليه؛ لأنه حفظ الوديعة على ما أمر به، كذا في المحيط. وإن لم يكن في البلد قاض باعها وحفظ ثمنها لصاحبها" (¬1). وقال ابن المنذر في الإشراف: "وإن اجتمع من ألبان الماشية شيء، فباعه بغير إذن الحاكم فالبيع فاسد في قول الشافعي والكوفي. وقال قائل: البيع جائز؛ لأن ذلك حال ضرورة، والواجب عليه أن يمنع مال أخيه من التلف. وفي قول مالك: يبيع السلطان ذلك، ويعطي المنفق نفقته" (¬2). ¬
الفرع الثالث الوديعة من العقود الجائزة
الفرع الثالث الوديعة من العقود الجائزة العقود الجائزة يجوز لكل واحد فسخها متى شاء. العقود الجائزة إذا اقتضى فسخها ضررًا على الآخر امتنع وصارت لازمة. [م - 1887] ذهب الفقهاء إلى أن الوديعة عقد جائز من الطرفين. والجائز يطلق في مقابلة اللازم. فاللازم من العقود: ما لا يقبل الفسخ إلا بالتراضي، والجائز: عكسه: يجوز فسخه بدون رضا الآخر (¬1). وقد سبق في عقد البيع بيان أن العقود ثلاثة أقسام: الأول: عقد لازم من الطرفين: كالبيع، والإجارة، فحكم هذا العقد أنه لا يقبل الفسخ إلا بالتراضي. الثاني: لازم من أحدهما، جائز من الآخر كالرهن، والضمان، والكفالة، وحكم هذا النوع من العقود أنه يسوغ لمن هو جائز في حقه فسخه متى شاء، ولو لم يرض الآخر، وأما اللازم في حقه فلا يجوز له الفسخ إلا برضا صاحبه. الثالث: جائز من الطرفين كالوديعة، والوكالة، والعارية. وحكم هذه العقود: أنه يجوز لكل واحد فسخها متى شاء، ولا يشترط ¬
لفسخها رضا الطرف الآخر، وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة الأربعة في الجملة (¬1). في تحول عقد الوديعة إلى عقد لازم: يكون الإيداع عقدًا لازما عند الحنفية في مسألة واحدة. وهي: ما إذا كان الحفظ في مقابل أجرة حيث يكون المستودع أجيرًا مشتركًا، ويصير العقد المذكور عقد إجارة، وليس لأحد الطرفين أن يفسخه قبل تمام المدة (¬2). واعترض بعضهم بأن هذا عقد إجارة، وليس من عقود الإيداع، وسيأتي مناقشة هذا في المبحث التالي فانظره هناك. ويكون الإيداع عقدًا لازمًا عن الشافعية في حالتين: ¬
الحالة الأولى: يكون الوديعة عقد لازمًا إذا كان قبول الوديعة واجبًا، ويكون الفسخ خلاف الأولى إذا كان القبول مندوبًا. قال الرملي: "ولو طالب المودع المالك بأخذ وديعته لزمه أخذها؛ لأن قبول الوديعة لا يجب، فكذا استدامة حفظها، ومنه يؤخذ أنه لو كان في حالة يجب فيها القبول، يجوز للمالك الامتناع" (¬1). وفي تحفة المحتاج: "ولهما، يعني للمالك الاسترداد، وللوديع الرد في كل وقت، لجوازها من الجانبين. نعم، يحرم الرد حيث وجب القبول، ويكون خلاف الأولى حيث ندب، ولم يرضه المالك" (¬2). فلو دفع الرجل ما له وديعة، وخاف المودَع إن لم يقبل أن يتسلط عليه ظالم فيغصبها وجب عليه القبول، ولو طالب المالك المودَع رد الوديعة فله الامتناع من الرد. الحالة الثانية: يمتنع الفسخ في العقود الجائزة وتصير لازمة إذا اقتضى فسخها ضررًا على الآخر، ووافقهم بعض الحنابلة على ذلك. جاء في أسنى المطالب: "العقود الجائزة إذا اقتضى فسخها ضررًا على الآخر امتنع وصارت لازمة ... " (¬3). ¬
وقال ابن رجب: "التفاسخ في العقود الجائزة متى تضمن ضررًا على أحد المتعاقدين أو غيرهما ممن له تعلق بالعقد لم يجز، ولم ينفذ، إلا أن يمكن استدراك الضرر بضمان أو نحوه فيجوز على ذلك الوجه" (¬1). ¬
الفرع الرابع الوديعة من عقود التبرع
الفرع الرابع الوديعة من عقود التبرع الوديعة وكالة في الحفظ، والتوكيل يجوز اشتراط الأجرة فيه فكذلك الوديعة. [م - 1888] الأصل في عقد الوديعة أنه من عقود التبرع، فإن اشترط العوض في عقد الوديعة فقد اختلف الفقهاء في صحة هذا الشرط على ثلاثة أقوال: القول الأول: يجوز اشتراط العوض على حفظ الوديعة، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في الفتاوى الهندية: "المودع إذا شرط الأجرة للمودع على حفظ الوديعة صح، ولزم عليه" (¬2). وفي مغني المحتاج: "وأصلها -يعني الوديعة- الأمانة ... سواء أكانت بجعل أم لا كالوكالة" (¬3). وجاء في مطالب أولي النهى: "ويتجه حفظ المال المودع ولو بعوض يؤخذ على حفظه، وعليه يدخل الأجير لحفظ المال" (¬4). ¬
° وجه القول بجواز اشتراط الأجرة: أن الوديعة وكالة في الحفظ، والتوكيل يجوز اشتراط الأجرة فيه فكذلك الوديعة. القول الثاني: لا يجوز اشتراط العوض في عقد الوديعة مطلقًا، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). ° وجه القول بالمنع: أن المودع إذا أخذ أجرة على حفظه لم يكن مودعًا، وإنما يكون أجيرًا على حفظ المال تطبق عليه أحكام الأجير، وليس أحكام الوديعة، فالمودع في الفقه: هو من قبض المال لمصلحة مالكه، والأجير: هو من قبض المال لمصلحتهما. ويناقش: بأن المودع بأجر يخالف الأجير المشترك، وإن شرط عليه الضمان؛ لأن المعقود عليه في الأجير المشترك هو العمل، والحفظ واجب تبعًا بخلاف المودع بأجر فإن المعقود عليه هو الحفظ، والأجرة في مقابل الحفظ، ولا يوجد عمل، والله أعلم. القول الثالث: التفريق بين أخذ الأجرة على مكان الحفظ فيجوز إن كان مثله تؤخذ أجرته، وبين أخذ الأجرة على الحفظ فلا يجوز إلا أن يشترطه في العقد، أو يجري به ¬
عرف؛ لأن عادة الناس أنهم لا يأخذون لحفظ الودائع أجرة فإذا اشترطه أو جرى به عرف جاز أخذ الأجرة. وهذا مذهب المالكية (¬1). وبه قال الشافعية في الوديعة إذا وجب عليه قبولها. لأن ما وجب عليه في الشرع لا يجوز أخذ العوض عليه، ويجوز أخذ أجرة مكانها (¬2). ° وجه قول المالكية: قول المالكية لا يختلف عن مذهب الحنفية والشافعية بجواز اشتراط أخذ العوض على الوديعة، أما بدون شرط ولا عرف فلا يأخذ أجرة على الحفظ، وذلك أن حفظ الوديعة نوع من الجاه، وهو لا يؤخذ أجرة عليه بلا اشتراط ولا عرف، بخلاف أجرة المكان فإن الإنسان إذا بذل مكانًا لحفظ مال غيره استحق أجرته. ° الراجح: أرى أنه لا يجوز ما يمنع من اشتراط الأجرة على الحفظ؛ لأن الحفظ عمل، والعمل يجوز المعاوضة عليه، وقد يسمى عقد حراسة. ¬
المبحث الثالث في حكم الوديعة
المبحث الثالث في حكم الوديعة الفرع الأول حكم الوديعة الوضعي [م - 1889] الوديعة مشروعة، والأصل فيها الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. أما الدليل من الكتاب: قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. وقال تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283]. ونوقش هذا الاستدلال: هذا الاستدلال لا يستقل بمجرده؛ لأن قصارى ما فيه الأمر برد الوديعة، وردها غير قبولها، ويصح أن يؤمر برد ما قبوله حرامًا. ورد هذا: بأنه لو كان هناك نهي عن الإيداع لم يكن رد الوديعة دليلًا على صحة الإيداع، أما إذا لم يأت نهي من الشرع عن الإيداع فإن الرد دليل على صحة الإيداع؛ لأن الرد فرع عن الإيداع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هناك دليلًا من القرآن على صحة الإيداع.
قال سبحانه: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75]. وأما الدليل من السنة: (ح-1164) فقد روى البخاري من طريق نافع بن مالك بن أبي عامر أبو سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان (¬1). (ح-1165) وروى الإمام أحمد من طريق علي بن زيد، عن أبي حرة الرقاشي، عن عمه، قال: كنت آخذًا بزمام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أوسط أيام التشريق، أذود عنه الناس، فقال: .... وفيه: من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وبسط يديه، فقال: ألا هل بلغت؟ قالها ثلاثًا، ثم قال: ليبلغ الشاهد الغائب ... (¬2). [ضعيف] (¬3). ¬
(ح-1166) وروى الدينوري في المجالسة وجواهر العلم من طريق محمَّد بن عبد الرحمن مولى بني هاشم، أخبرنا أبي، أخبرنا رواد بن الجراح، أخبرنا محمد بن مسلم، عن عبد الله بن الحسن، عن أم سلمة؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من كانت فيه واحدة من ثلاث زوجه الله من الحور العين: من كانت عنده أمانة خفية شهية فأداها من مخافة الله - عَزَّ وَجَلَّ -، أو رجل عفى عن قاتله، أو رجل قرأ: قل هو الله أحد الإخلاص دبر كل صلاة (¬1). [ضعيف] (¬2). (ح-1167) وروى الإمام أحمد من طريق حميد، عن رجل من أهل مكة، ¬
يقال له: يوسف، قال: كنت أنا ورجل من قريش نلي مال أيتام، قال: وكان رجل قد ذهب مني بألف درهم، قال: فوقعت له في يدي ألف درهم، قال: فقلت للقرشي إنه قد ذهب لي بألف درهم، وقد أصبت له ألف درهم، قال: فقال القرشي: حدثني أبي، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك. [هذا إسناده ضعيف لإبهام ابن الصحابي الذي روى عنه يوسف وله شواهد ضعيفة، قال أحمد: لا أعرفه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه صحيح] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأما الدليل من الإجماع: قال العمراني في البيان: "الأمة أجمعت على جواز الإيداع" (¬1). وقال ابن قدامة: "أجمع علماء كل عصر على جواز الإيداع والاستيداع" (¬2). وقال ابن هبيرة: "واتفقوا على أن الوديعة أمانة، وأنها من القرب المندوب إليها، وأن في حفظها ثوابًا ... " (¬3). وأما الدليل من القياس: فإنه يمكن قياس الوديعة على العارية، فالعارية: بذل لمنافع المال من غير ¬
بدل، والوديعة: بذل لمنافع البدن من غير بدل، فلما استحق الرجل الثناء على بذل منافع ماله كأن أولى بالثناء إذا بذل منافع بدنه؛ إذ النفس أعز من المال (¬1). كما يمكن قياس الوديعة على عقد الوكالة، فإن عقد الوديعة توكيل في الحفظ، فهي وكالة مقيدة، كما أن المال في يد الوكيل يعتبر وديعة باعتباره أمينًا في الحفظ. وأما الدليل من النظر: فإن بالناس حاجة إلى الوديعة بل ضرورة إليها فإنه يتعذر على جميعهم حفظ أموالهم بأنفسهم، ويحتاجون إلى من يحفظ لهم مالهم (¬2). ¬
الفرع الثاني حكم الوديعة التكليفي
الفرع الثاني حكم الوديعة التكليفي [م - 1890] اختلف الفقهاء في حكم الوديعة على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن الإيداع في حق المودِع مباح؛ لأنه تصرف من المالك في ملكه، وقد يحتاج إليه. وأما قبول الوديعة من المودع فهو عمل مندوب؛ لأنه من الإعانة على البر والتقوى. {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. ولأن فيها حفظًا للمال من الضياع، وهو مطلوب شرعًا (¬1). وقيد الحنابلة الاستحباب لمن علم من نفسه أنه ثقة، وقادر على حفظها، فإن لم يكن كذلك كره له قبول الوديعة إلا برضا ربها بعد إخباره بذلك (¬2). ¬
القول الثاني: فصل الشافعية الحكم في قبول الوديعة إلى أربعة أحوال: الأول: يستحب قبول الوديعة لمن قدر على حفظها، ووثق بأمانة نفسه، وهذا يتفق مع مذهب الحنابلة. الثاني: يجب عليه قبول الوديعة إذا لم يكن هناك غيره يصلح لذلك، وخاف إن لم يقبل أن يهلك المال. قال الشيرازي: "يستحب لمن قدر على حفظ الوديعة وأداء الأمانة فيها أن يقبلها؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ... فإن لم يكن من يصلح لذلك غيره، وخاف إن لم يقبل أن تهلك تعين عليه قبولها؛ لأن حرمة المال كحرمة النفس" (¬1). الثالث: إذا كان واثقًا من أمانته إلا أنه عاجز عن حفظها فإنه يحرم عليه القبول؛ لأنه يعرض الوديعة للتلف. قال ابن الرفعة: ومحله إذا لم يعلم المالك بحاله، وإلا فلا تحريم. وتعقبه الزركشي قائلًا: وفيه نظر، والأوجه تحريمه عليهما، أما على المالك فلإضاعته ماله، وأما على المودَع فلإعانته على ذلك، وعلم المالك بعجزه لا يبيح له القبول، ومع ذلك فالإيداع صحيح، وأثر التحريم مقصور على الإثم (¬2). ¬
الرابعة: أن يكون قادرًا على الحفظ ولكن لا يثق بأمانة نفسه، فهل يحرم قبولها، أو يكره؟ وجهان في مذهب الشافعية، والمعتمد الكراهة. جاء في منهاج الطالبين: "من عجز عن حفظها حرم عليه قبولها ومن قدر ولم يثق بأمانته كره، فإن وثق استحب" (¬1). القول الثالث: ذهب المالكية إلى أن الأصل في الإيداع أنه مباح في حق المودِع والقابل. وقد يعرض له ما يوجبه في حق المالك إذا خاف على ماله من الضياع إن لم يودعه مع وجود قابل له يقدر على حفظه. وقد يعرض له ما يحرمه في حق المالك: إذا كان المال مسروقًا أو مغصوبًا ولا يقدر القابل على جحدها ليردها إلى ربها، أو للفقراء، أو كان المودع محجورًا عليه لفلس، وأراد من الإيداع منع الغرماء من الوصول إلى المال. هذا في حق المودِع كذلك في حق القابل الأصل فيه الإباحة: ولا يجب قبولها ولو لم يوجد غيره إلا لتخليص مستهلك، كما يقع في أيام النهب من إيداع الناس عند ذوي البيوت المحترمة. وقد يعرض لها ما يحرمها إذا كانت الوديعة مغصوبة أو مسروقة، ولا يستطيع المودَع رد المال إلى مالكه. وقد يستحب قبول الوديعة إذا خشى ما يوجبها دون تحقق. ¬
وقد يكره قبولها إذا خشى ما يحرمها دون تحقق (¬1). ¬
الباب الأول: أركان الوديعة
الباب الأول: أركان الوديعة الفصل الأول خلاف العلماء في أركان الوديعة [م - 1891] تقدم لنا أن الوديعة عقد، وإذا كان عقدًا فلا بد له من أركان يقوم عليها كسائر العقود: وقد اتفقوا على أن الصيغة: (الإيجاب والقبول) من أركان الوديعة، واختلفوا فيما زاد على ذلك: القول الأول: أن أركان الوديعة الصيغة فقط وهي الإيجاب صريحًا أو كناية، والقبول من المودَع صريحًا أو دلالة، وهذا مذهب الحنفية (¬1). قال الكاساني: "أما ركنه: فهو الإيجاب والقبول، وهو: أن يقول لغيره: أودعتك هذا الشيء، أو احفظ هذا الشيء لي، أو خذ هذا الشيء وديعة عندك، وما يجري مجراه، ويقبله الآخر، فإذا وجد ذلك؛ فقد تم عقد الوديعة" (¬2). القول الثاني: ذهب الجمهور إلى أن أركان الوديعة أربعة: ¬
الصيغة (الإيجاب والقبول). المودِع بالكسر. والمودَع بالفتح. والمحل أي العين المودعة (¬1). وسبب الخلاف: أن الحنفية يرون أن الركن: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءًا داخلًا في حقيقته، وهذا خاص في الإيجاب والقبول، أما العاقدان والمعقود ¬
عليه فهي من لوازم العقد، وليست جزءًا من حقيقة العقد، وإن كان يتوقف عليها وجوده. بينما الجمهور يرون أن الركن: ما توقف عليه وجود الشيء وتصوره عقلًا، سواء أكان جزءًا من حقيقته أم لم يكن، ووجود العقد يتوقف على العاقدين والمعقود عليه، وإن لم يكن هؤلاء جزءًا من حقيقته. ومذهب الحنفية أجود، وأدق، والجمهور لا يطَّردون في تحديد الأركان، فاللوازم تارة يعتبرونها من الأركان، وتارة لا يدخلونها، فهم يجعلون الفاعل ركنًا في مثل عقد البيع والنكاح، ولا يجعلونه ركنًا في العبادات كالصلاة والحج، وإن كان لا يتصور قيام الحج والصلاة بدون فاعل. قال في المصباح المنير: "والفرق عسر ... " (¬1). ¬
الفصل الثاني في انعقاد الوديعة بالمعاطاة
الفصل الثاني في انعقاد الوديعة بالمعاطاة تنعقد الوديعة بكل ما يدل على الإيداع من قرينة لفظية أو فعلية. [م - 1892] تكلمنا في المبحث السابق عن أركان الوديعة، وبينا أن الصيغة من أهم أركان الوديعة، ونعني بالصيغة: ارتباط الإيجاب بالقبول على وجه يظهر أثره الشرعي في محله. فالإيجاب: هو اللفظ الصادر من المودِع بالكسر. والقبول: هو اللفظ الصادر من المودَع بالفتح. وهذا عند الجمهور (¬1). واختار الحنفية أن الإيجاب: هو ما يذكر أولًا من كلام المتعاقدين، سواء كان من المودِع أو المودَع. والقبول: ما يذكر ثانيًا من الآخر، وهذا مذهب الحنفية (¬2). [م - 1893] وقد اختلف الفقهاء في الصيغة، هل يشترط فيها الإيجاب والقبول باللفظ، أو تصح بالفعل الدال على الإيداع؟ على قولين لأهل العلم: ¬
القول الأول: يصح الإيداع بالقول صريحًا أو كناية، وبالفعل الدال عليه، ولا يشترط اللفظ، وهذا مذهب الحنفية والمالكية (¬1). جاء في البحر الرائق: "وركنها الإيجاب قولًا صريحًا أو كناية، أو فعلًا. والقبول من المودع صريحا أو دلالة ... وإنما قلنا في الإيجاب: (أو فعلًا) ليشمل ما لو وضع ثوبه بين يدي رجل ولم يقل شيئًا فهو إيداع. وإنما قلنا في القبول: (أو دلالة) ليشمل سكوته عند وضعه بين يديه فإنه قبول ¬
دلالة ... ولهذا قال في الخلاصة: لو وضع كتابه عند قوم فذهبوا وتركوه ضمنوا إذا ضاع ... " (¬1). وقال الدردير: "لا يشترط فيه -يعني الإيداع- إيجاب وقبول ... فمن وضع مالًا عند شخص، ولم يقل له: احفظه، أو نحوه ففرط فيه، كأن تركه، وذهب فضاع المال ضمن؛ لأن سكوته حين وضعه يدل على قبول حفظه" (¬2). وقال الخرشي: "من ترك متاعه عند جالس فسكت فضاع كان ضامنا لأن سكوته حين وضعه ربه رضا بالإيداع" (¬3). ° حجة هذا القول: الدليل الأول: الأصل في العقود الإباحة إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، فلو كان اللفظ شرطًا لصحة الوديعة لبينه الشرع بيانًا عامًّا, ولو بينه لنقل، فلما لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه علمنا أنه ليس بشرط. الدليل الثاني: شرط صحة الوديعة وجود الرضا بين المتعاقدين، فإذا وجد ما يدل عليه من قرينة حالية أو فعلية قام مقام الألفاظ، وأجزأ ذلك، لعدم التعبد فيه. ¬
الدليل الثالث: جاء الشرع بجواز الإيداع، ولم يبين كيفيته، فكل ما يدل على الإيداع من قرينة لفظية أو فعليه فإنه يصح به الإيداع. القول الثاني: التفريق بين الإيجاب والقبول، فالإيجاب لا يصح إلا بلفظ دال على الاستنابة في الحفظ. وأما القبول فيصح باللفظ والفعل الدال عليه، وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية والحنابلة (¬1). بل إن إمام الحرمين رأى أن القبول ليس شرطًا بالاتفاق عند الشافعية. قال في نهاية المطلب: "القبول ليس شرطا من المودع وفاقا، وإنما اختلف الأصحاب في التوكيل بالعقود وما في معناها، والأصح أنه لا يشترط القبول في الوكالة على أي وجه فرضت" (¬2). وجاء في مغني المحتاج: "ويشترط صيغة المودع الناطق باللفظ، وهي إما صريح كاستودعتك هذا، أو أودعتك أو هو وديعة عندك ... وإما كناية وتنعقد بها مع النية ..... والأصح أنه لا يشترط في الوديع القبول للوديعة لفظًا، ويكفي القبض لها كما في الوكالة بل أولى" (¬3). ¬
وجاء في مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الحنابلة: "ينعقد الإيداع بإيجاب وقبول بلفظ الإيداع، وكل قول دل على الاستنابة في الحفظ، كقوله: احفظ هذا، أو أمنتك على هذا، ونحو ذلك". وجاء في الإقناع: "ويكفي القبض قبولًا للوديعة كالوكالة" (¬1). ° وجه هذا القول: أن الرضا شرط في صحة جميع التصرفات: ففي البيع، قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وفي التبرع قال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]. والرضا عمل قلبي لا يعلمه إلا الله، فهو أمر خفي فلا بد من لفظ يدل عليه، ويناط به الحكم، سواء كان مما يستقل به الإنسان كالطلاق، والعتاق، والعفو والإبراء، أو غيره مما لا يستقل به وحده كالبيع، والإجارة، والنكاح والوديعة، وإذا كان الشأن كذلك فلا بد للإيجاب من لفظ يدل على قصد الإيداع من المالك. ولأن دفع المال إلى المودع بدون إيجاب لفظي لا يدل على الإيداع؛ لكونه يحتمل وجوهًا مختلفة، فقد يراد به القرض، وقد يراد به الهبة، وقد يراد به الوديعة فكان لا بد من لفظ صريح أو كناية يدل على الإيداع. أما القبول فهو يأتي عطفًا على الإيجاب ومكملًا له وفرعًا عنه، فلا يشترط اللفظ له، فإذا دل لفظ الإيجاب على الإيداع، كان القبض من المودَع قبولًا دالًا على الإيداع وحده من غير التباس. ¬
ويناقش: بأن الإعطاء إذا كان يحتمل القرض والهبة والوديعة فإنه يحمل على الأدنى منها، فإن الهبة تمليك للمال بلا عوض، والقرض تمليك له أيضًا برد البدل، والوديعة ليس فيها تمليك، والمال باق على ملك صاحبه، فتحمل عليه. قال في البحر الرائق: "الإعطاء يحتمل الهبة والوديعة، الوديعة أدنى وهو متيقن فصار كناية" (¬1). هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإننا إذا قلنا: إن العقود تصح بالمعاطاة فلا بد من قرائن حالية تدل على المراد، فالمعاطاة من رجل يعرض سلعًا للبيع تدل على البيع، ودفع المال من الغني للفقير يدل على إرادة الصدقة، وهكذا سائر العقود، والله أعلم. القول الثالث: يشترط اللفظ في الإيجاب والقبول، وهذا قول للشافعية في مقابل الأصح (¬2). القول الرابع: يشترط عبارة أحدهما مع فعل الآخر، فإذا ناوله المودع المال، وقال الوديع: قبلتها وديعة صحت، اختاره الأذرعي من الشافعية (¬3). جاء في مغني المحتاج: "قال الأذرعي: ولم يبعد أن يقال: الشرط وجود ¬
اللفظ من أحد الجانبين، والفعل من الآخر للعلم بحصول المقصود بذلك، فلو قال: الوديع أودعنيه مثلًا فدفعه له ساكتًا كفى كالعارية، وعليه فالشرط اللفظ من أحدهما، وهو حسن" (¬1). ° الراجح: صحة المعاطاة إذا كان هناك قرائن تدل على إرادة الإيداع، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في انعقاد الإيداع بالإشارة
الفصل الثالث في انعقاد الإيداع بالإشارة إشارة الأخرس المفهمة كالنطق. كتابة الأخرس كإشارته. [م - 1894] الإيداع بالإشارة تعتبر من الإيداع بالمعاطاة؛ لأن الإشارة ليست كلامًا في وضع الشارع. قال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: 29] مع قوله سبحانه: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]. فإن كانت الإشارة من أخرس، فإن كانت غير معتادة ولا مفهومة فإنه لا حكم لها لا في بيع، ولا هبة، ولا إقرار ولا غيرها من العقود (¬1). وإن كانت مفهومة ومعتادة يعهدها كل من يقف عليها كالتحريك برأسه طولًا للموافقة، وعرضًا للرفض، وكان خرسه أصليًّا فإن إشارته صحيحة وكذا سائر عقوده بلا خلاف. قال ابن نجيم: "الإشارة من الأخرس معتبرة، وقائمة مقام العبارة في كل شيء من بيع، وإجارة، وهبة، ورهن، ونكاح، وطلاق، وعتاق، وإبراء، وإقرار، وقصاص إلا في الحدود" (¬2). ¬
وقال النووي: "قال أصحابنا: يصح بيع الأخرس، وشراؤه بالإشارة المفهومة، وبالكتابة بلا خلاف للضرورة. قال أصحابنا: ويصح بها جميع عقوده" (¬1). [م - 1895] وهل يصح الإيداع بالإشارة من القادر على الكلام؟ اختلف الفقهاء فيها على قولين: القول الأول: لا يعتد بالإشارة من القادر على الكلام، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة. القول الثاني: أن الإشارة المفهمة المعتادة معتبرة، ولو كانت من قادر على الكلام، وهذا مذهب المالكية، واختيار ابن تيمية، وابن القيم. وقد وثقت ذلك، وذكرت حجة كل فريق في عقد البيع من المجلد الأول، فارجع إليه إن شئت. ¬
الفصل الرابع الاعتماد على الخط في الإيداع
الفصل الرابع الاعتماد على الخط في الإيداع الكتاب كالخطاب. البيان بالكتاب بمنزلة البيان باللسان. [م - 1896] إذا وجد الورثة في تركة الميت صندوقًا فيه كيس من النقود مكتوبًا عليه: هذا وديعه لفلان، فهل يعمل بالخط، ويكون ذلك وديعة، أو لا يمكن الاعتماد على الخط بمجرده، فلا بد من بينة على الوديعة؟ في تلك خلاف بين العلماء: القول الأول: يجب العمل بالخط، ويكون ذلك المال وديعة، وهذا ما قررته مجلة الأحكام العدلية، ومذهب المالكية، والأصح في مذهب الحنابلة (¬1). ¬
واشترط المالكية أن يثبت بالبينة أن الكتابة بخط صاحب الوديعة، أو بخط الميت. جاء في مجلة الأحكام العدلية: "إذا ظهر كيس مملوء بالنقود في تركة متوف ملصق عليه بطاقة محرر فيها بخط المتوفى أن هذا الكيس مال فلان، وهو عندي أمانة يأخذه ذلك الرجل من التركة، ولا يحتاج إلى إثبات بوجه آخر" (¬1). قال ابن رشد: "والمشهور في المذهب أن الشهادة على الخط في ذلك جائزة عاملة لم يختلف في ذلك قول مالك ولا قول أحد من أصحابه فيما علمت" (¬2). ¬
وقال الدسوقي في حاشيته: "من مات وعنده وديعة مكتوب عليها هذه وديعة فلان بن فلان، فإن صاحبها يأخذها بشروط: أن يثبت بالبينة أن الكتابة بخط صاحب الوديعة، أو بخط الميت ... " (¬1). وقال ابن مفلح في الفروع: "ويعمل بخط أبيه على كيس لفلان في الأصح كخطه بدين له" (¬2). وجاء في الإنصاف: "وإن وجد خط موروثه: لفلان عندي وديعة، وعلى كيس: هذا لفلان عمل به وجوبًا على الصحيح من المذهب" (¬3). القول الثاني: إن كان الخط ليس خط الميت ولا المالك لم يعمل بالخط باتفاق المالكية، وإن كان الخط خط الميت اعتبرت وديعة باتفاق المالكية، وإن كان الخط خط المودَع، فقال ابن القاسم من المالكية: لا يأخذها، خشية أن يكون بعض الورثة قد أخرجها له، فكتب عليها اسمه (¬4). قال ابن رشد: "ولا اختلاف في أنه لا يُقضى له بها إذا وجد عليه اسمه ولا يُدرى من كتبه" (¬5). وقال أيضًا: "وسمعته يسأل عن رجل توفي ففتح تابوت له فإذا فيه كيس ¬
مكتوب عليه لفلان بن فلان، وفيه مال، فطلب ذلك الرجل الكيس، فقال: أرى إن شهد له أنه خط الميت المستودع وكتابه بيده رأيت أن يدفع إليه، وإن لم يشهد على ذلك لم يدفع إليه إلا ببينة. وإنما هو بمنزلة القرطاس يوجد عنده فيه حساب لفلان عندي كذا وكذا، فإن شهد أنه خط الميت رأيت ذلك له، وإلا لم يكن له شيء" (¬1). وجاء في منح الجليل: "قال ابن القاسم يأخذها إن وجد عليها خط الميت لا خط المودع. قال ابن دحون: خشية أن يكون بعض الورثة أخرجها له فكتب عليها اسمه ..... وقال ابن رشد: لا يقضي لمن وجد عليها اسمه إن لم تكن بخطه ولا بخط المودِع، فإن كانت بخط المتوفى الذي وجدت عنده فهي لمن وجد اسمه عليها اتفاقًا إلا على رأي من لا يرى الشهادة على الخط، وإن كان بخط مدعي الوديعة فقال أصبغ أنه يقضي له بها ... " (¬2). القول الثالث: لا يعمل بالخط، وهذا مذهب الشافعية، واختاره بعض الحنابلة (¬3). قال العمراني في البيان: "وإن مات، فوجد بخطه أن الكيس الفلاني لفلان، أو وجد على الكيس اسم رجل لم يحكم له به؛ لأنه قد يودعه غيره شيئًا، ثم يتملكه، أو يشتري كيسًا عليه اسم رجل" (¬4). ¬
وقال المرداوي في تصحيح الفروع: "إذا وجد خط أبيه بدين عليه فهل يعمل بهذا الخط أم لا؟ أطلق الخلاف: أحدهما: لا يعمل به، ويكون تركة مقسومة، اختاره القاضي في المجرد، وجزم به في الفصول والمذهب، وقدمه في المغني والشرح" (¬1). وقال ابن قدامة: "ولا تثبت الوديعة إلا لإقرار من الميت أو ورثته، أو ببينة تشهد بها، وإن وجد عليها مكتوبًا وديعة، لم يكن حجة عليهم، لجواز أن يكون الظرف كانت فيه وديعة قبل هذا، أو كان وديعة لموروثهم عند غيره، أو كانت وديعة فابتاعها، وكذلك لو وجد في رزمانج أبيه، أن لفلان عندي وديعة لم يلزمه بذلك؛ لجواز أن يكون قد ردها ونسي الضرب على ما كتب، أو غير ذلك" (¬2). وانظر أدلة المسألة على الاعتماد على الخط في عقد الوصية، وكذا في عقد الوقف، فقد فصلت أدلة المسألة هناك فأغنى ذلك عن إعادته هنا, ولله الحمد. ¬
الفصل الخامس في تعليق الوديعة وإضافتها إلى المستقبل
الفصل الخامس في تعليق الوديعة وإضافتها إلى المستقبل المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز (¬1). تكلمنا فيما سبق عن كلام الفقهاء في تعليق العقود، فمنع الجمهور التعليق في عقود التمليك، سواء كان التمليك بعوض كالبيع والإجارة، ونحوهما، أو كان التمليك في عقود التبرع كالهبة، والصدقة، ورجحت صحة التعليق فيها. وأما ما كان من قبيل الإسقاط كالعتق، والتدبير، والطلاق والظهار، والخلع فهذا يقبل التعليق. وأما عقد الوديعة فهو ليس من عقود التمليك، بل فيه شبه بعقد الوكالة؛ لأنه توكيل بالحفظ دون التصرف، فهو توكيل مقيد، فهل يجوز تعليق الإيداع كأن يقول: إذا قدم زيد فمالي وديعة عندك. [م - 1897] وهل يصح إضافة عقد الوديعة إلى المستقبل، كأن يقول: أودعك هذا المال بعد شهر؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: يصح تعليق الوديعة، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة وقطع به الروياني من الشافعية (¬2). ¬
قال القرافي في الذخيرة: "لو قال: ... إن جاء متاعي غدًا فاقبضه صح إجماعًا مع التعليق على أمر مستقبل اتفاقًا، فيجوز هاهنا" (¬1). وقال النووي: "ولو قال: إذا جاء رأس الشهر، فقد أودعتك هذا، فقطع الروياني في الحلية بالجواز، والقياس تخريجه على الخلاف في تعليق الوكالة" (¬2). وجاء في قواعد ابن رجب: "لو صرح بالتعليق فقال كلما خنت ثم عدت فأنت أمين فإنه يصح لصحة تعليق الإيداع على الشرط كالوكالة صرح به القاضي" (¬3). ° دليل من قال بالصحة: الدليل الأول: لا يوجد دليل يمنع من صحة الوديعة إذا علقت على الشرط، أو أضيفت إلى المستقبل، والأصل في المعاملات الصحة والجواز. الدليل الثاني: أن الوديعة توكيل بالحفظ، والوكالة تقبل التعليق (¬4). ¬
(ح-1168) فقد روى البخاري في صحيحه من طريق عبد الله بن سعيد، عن نافع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة (¬1). القول الثاني: لا يصح تعليق الوديعة، وهو الأظهر في مذهب الشافعية (¬2). جاء في تحفة المحتاج: "ولو علقها كأن قال إذا جاء رأس الشهر فقد أودعتك هذا لم يصح كالوكالة كما بحثه في أصل الروضة وجرى عليه ابن المقري" (¬3). ° حجة من قال: لا يصح تعليق الوديعة: قياس الوديعة على الوكالة، وتعليق الوكالة على شرط مستقبل لا يصح عندهم؛ لأنه عقد تؤثر الجهالة في إبطاله، فلم يصح تعليقه على شرط كالبيع، والإجارة. ويجاب: قد ناقشت حكم تعليق البيع والإجارة، وبينت صحة تعليق العقود وإضافتها إلى المستقبل في مبحث مستقل، فأغنى ذلك عن إعادته هنا, ولله الحمد. ¬
القول الثالث: لا يصح التعليق، وتصح إضافة الوديعة إلى المستقبل، وهو قول في مذهب الشافعية (¬1). ° الراجح: أرى أن القول الراجح صحة تعليق الوديعة على شرط وكذا إضافتها إلى المستقبل، وإذا كان الأصح في عقود التمليك أنه يصح تعليقها كما جاءت الآثار في ذلك: (ث-294) فقد روى البخاري في صحيحه معلقًا بصيغة الجزم. قال البخاري: عامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا. [منقطع، وقد جاء من طريق آخر مرسلًا، قال الحافظ: فيتقوى أحدهما بالآخر] (¬2). ¬
وإذا جاز التعليق في عقود المعاوضات فيجوز التعليق في عقود التبرع من باب أولى. (ح-1169) وروى البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة بنت الزبير، فقال لها: لعلك أردت الحج؟ قالت: والله لا أجدني إلا وجعة، فقال لها: حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني، وكانت تحت المقداد بن الأسود (¬1). وإذا صح تعليق العبادات صح تعليق المعاملات، والله أعلم. ¬
الباب الثاني في شروط الوديعة
الباب الثاني في شروط الوديعة الفصل الأول في شروط الوديع والمودع الشرط الأول يشترط توفر الأهلية فيهما المبحث الأول في إيداع الصبي غير المميز والمجنون إذا انعدم العقل والتمييز انعدم القصد والرضا وهما شرطان في صحة العقود. يصح قبول الوديعة من الصبي إذا كان بنية تخليص المال من الهلاك. [م - 1898] المودِع بالكسر: هو من يدفع ماله إلى الوديع ليحفظه له، ويشترط فيه أن يكون جائز التصرف، فلو أودع صبي أو مجنون مالًا لم يصح الإيداع، وهذا قول الأئمة الأربعة في الجملة (¬1). ¬
وعللوا ذلك: بأن عبارتهما ملغاة لا اعتداد بها شرعًا، فلا تحح بها عبادة، ولا ينعقد معها تصرف، حتى تلك العبادات التي تصح من الصبي غير المميز كالحج والعمرة، لا تصح منه النية، وإنما ينوي عنه وليه؛ لأن التمييز والعقل إذا فقدا انعدم أمران: القصد، والرضا، وهما شرطان في صحة التصرفات المالية، لهذا كانت الأهلية في الصبي غير المميز والمجنون معدومة بالكامل. فإن دفع الصبي أو المجنون ماله لرجل وديعة فقبله فإنه يضمنه، ولا يبرأ إلا بتسليمه إلى وليه. واستثنى المالكية، والشافعية في أحد الوجهين، والحنابلة في الأصح ما لو كان الدافع من قبول الوديعة من المحجور عليه الخوف من هلاك المال في يده، أو من تسلط الظلمة عليه، فإذا أخذ المال حسبة صونًا له عن الضياع، فتلف في يده فإنه لا يضمنه. وفي وجه آخر للشافعية والحنابلة يضمن مطلقًا. إذا علم ذلك فإليك توثيق هذه الأقوال من نصوص الفقهاء: قال في بدائع الصنائع: "وأما شرائط الركن فأنواع منها: عقل المودع، فلا يصح الإيداع من المجنون والصبي الذي لا يعقل؛ لأن العقل شرط أهلية التصرف" (¬1). وجاء في الفواكه الدواني: "وأما الصبي والسفيه فلا يودعان، ولا يستودعان، ¬
لكن إن أودعاك شيئًا وجب عليك يا رشيد حفظه" (¬1). وجاء في مواهب الجليل: "قال ابن عرفة: المودع: من له التصرف في الوديعة بملك أو تفويض أو ولاية كالقاضي في مال اليتيم والغائب والمجنون. والمودَع: من يظن حفظه، والأظهر أن شرطها باعتبار جواز فعلها وقبولها حاجة الفاعل، وظن صونها من القابل، فتجوز من الصبي الخائف عليها إن بقيت بيده، وكذا العبد المحجور عليه. ويجوز أن يودعا ما خيف تلفه بيد مودعه إن ظن صونه بيد أحدهما لاحترامهما وثقتهما كأولاد المحترمين، وعبيدهم عند نزول بعض الظلمة ببعض البلاد، ولقاء الأعراب القوافل، والأصل في هذه النصوص الرأفة على حفظ المال والنهي عن إضاعته قال اللخمي: في البخاري ومسلم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال انتهى" (¬2). وجاء في الحاوي الكبير: "إذا أودع صبي رجلًا وديعة لم يكن للرجل أن يقبلها منه؛ لأن الصبي لا نظر له في مال نفسه، فإن قبلها الرجل منه ضمنها حتى يسلمها إلى وليه، أو الحاكم، فإن ردها على الصبي لم يسقط الضمان عنه، فلو كان عند أخذ الوديعة من الصبي خائفًا عليها من أن يستهلكها، فأخذها ليدفعها إلى وليه، أو إلى الحاكم، فهلكت في يده ففي ضمانه لها وجهان: أحدهما: لا يضمنها؛ لأنه قصد خلاصها. ¬
والوجه الثاني: يضمنها؛ لأن يده عليها بغير حق، وهذان الوجهان من اختلاف قوليه في المحْرِم إذا خلص طائرًا من جارح، أو حية، فتلف، ففي ضمانه بالجزاء قولان، والله أعلم بالصواب" (¬1). وجاء في الإنصاف: "وإن أودعه صبي وديعة ضمنها, ولم يبرأ إلا بالتسليم إلى وليه ... لو أخذ الوديعة من الصبي تخليصا لها من الهلاك، على وجه الحسبة. فقال في التلخيص: يحتمل أن لا يضمن كالملك الضائع إذا حفظه لصاحبه، وهو الأصح. ويحتمل أن يضمن؛ لأنه لا ولاية له عليه. قال: وهكذا يخرج إذا أخذ المال من الغاصب تخليصا، ليرده إلى مالكه" (¬2). وفي كشاف القناع: "وإن أخذه أي المال إنسان من المحجور عليه؛ ليحفظه من الضياع لم يضمنه بذلك إن لم يفرط كمغصوب أخذه ليحفظه لربه فلا يضمنه؛ لأن في ذلك إعانة على رد الحق إلى مستحقه" (¬3). ° الراجح: يصح قبول الوديعة من المحجور عليه إذا كان تلك بنية حفظ وتخليصه من الهلاك. ¬
المبحث الثاني في إيداع الصبي المميز
المبحث الثاني في إيداع الصبي المميز كل من جاز له أن يوكل جاز له أن يودِع ومن جاز له أن يتوكل جاز له أن يودَع. [م - 1899] إذا أودع الصبي المميز مالًا، فإن كان غير مأذون له لم يصح إيداعه؛ لأنه محجور عليه في ماله. قال القرافي في الذخيرة: "ينبغي أن يكون ذلك متفقًا عليه" (¬1). قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]. وقال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. وجه الاستدلال: أن الله - عَزَّ وَجَلَّ - نهى أن نؤتي السفيه أموالنا، ثم بين الله - عَزَّ وَجَلَّ - في الآية التي بعدها متى ندفع الأموال إليهم {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ففهم من الآية أن أموالهم لا تدفع إليهم قبل تحقق الشرطين: البلوغ، والرشد، فإذا كنا ممنوعين من دفع المال إليهم كان المنع من تصرفهم في هذا المال من باب أولى. [م - 1900] أما إذا كان الصبي المميز مأذونًا له في التصرف فاختلف العلماء في صحة إيداعه على قولين: ¬
القول الأول: يصح إيداع الصبي بشرطين أن يكون مميزًا، وأن يكون مأذونًا له، وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة (¬1). قال الكاساني: "وأما شرائط الركن فأنواع منها عقل المودِع ... وأما بلوغه فليس بشرط عندنا، حتى يصح الإيداع من الصبي المأذون؛ لأن ذلك مما يحتاج إليه التاجر؛ فكان من توابع التجارة، فيملكه الصبي المأذون، كما يملك التجارة" (¬2). وقال ابن قدامة: "فإن كان الصبي مميزًا، صح إيداعه لما أذن له في التصرف فيه؛ لأنه كالبالغ بالنسبة إلى ذلك" (¬3). وجاء في مجلة الأحكام العدلية: "يشترط في صحة عقد الوديعة أن يكون المودع والمستودع مميزين، ولا يشترط كونهما بالغين ... " (¬4). ° حجة هذا القول: قال تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2]. وقال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. ¬
وجه الاستدلال: في الآية الأولى أمر الله بدفع أموال اليتامى إليهم، فلولا أن تصرفه معتبر شرعًا لما كان للأمر بدفع الأموال فائدة؛ لأن دفع المال إليهم يمكنهم من التصرف فيه، وذلك إنما يكون عند الاختبار. وسماهم يتامى، واليتيم: اسم للصغير الذي لم يبلغ. وفي الآية الثانية: أمرنا بابتلائهم وهم أيتام، ومعنى الآية: اختبروهم لتعلموا رشدهم، وإنما يتحقق ذلك بتفويض التصرف إليهم في البيع والشراء، ولوازمهما, ولما أمر الله باختبارهم مد هذا إلى غاية، وهي البلوغ، قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] فدل على أن الاختبار إنما هو قبل البلوغ، وهذا الاختبار إنما يحصل إذا أذن لهم في التصرف بيعًا وشراء، وإذا أذن لهم بالتجارة كان ذلك إذنًا في توابع التجارة، ومنها الإيداع. القول الثاني: ذهب المالكية والشافعية إلى أن الإيداع توكيل، ولا يصح إلا من البالغ العاقل (¬1). جاء في حاشية الدسوقي: "كل من جاز له أن يوكل: وهو البالغ العاقل الرشيد جاز له أن يودع" (¬2). ¬
وقال في كفاية الطالب: "من صح منه أن يوكل غيره، صح منه أن يودع غيره ... قال العدوي في حاشيته عليه: والذي يصح منه أن يوكل العاقل البالغ الرشيد إلا الصغيرة في لوازم العصمة" (¬1). وجاء في الحاوي الكبير: "وإذا أودع صبي رجلًا وديعة لم يكن للرجل أن يقبلها منه؛ لأن الصبي لا نظر له في مال نفسه، فإن قبلها الرجل منه ضمنها حتى يسلمها إلى وليه أو الحاكم، فإن ردها على الصبي لم يسقط الضمان عنه ... " (¬2). بل إن الشافعية وحدهم خلافًا للجمهور أبطلوا جميع تصرفات الصبي المالية حتى منعوا بيع الصبي مطلقًا، سواء كان الصبي مميزًا أو غير مميز، باشر بإذن الولي أو بغير إذنه، حتى بيع الاختبار لا يجوز أن يتولى الصبي فيه البيع، وإنما يفوض إليه الاستيام، وتدبير العقل، فإذا انتهى الأمر إلى اللفظ أتى به الولي (¬3). وقد ذكرت حجتهم في بيع الصبي وناقشتها، وبينت أن قول الجمهور أولى بالصواب فأغنى ذلك عن إعادته هنا, ولله الحمد. ° الراجح: أن أهلية التصرف تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أهلية كاملة: هي في حق البالغ الحر الرشيد غير المحجور عليه، فمن اتصف ¬
بهذه الصفات تحققت له أهلية الأداء الكاملة، ويكون حرا طليقًا في تصرفاته إلا بما نهى عنه الشرع أو قيده. أهلية معدومة: وهي في حق الصبي غير المميز، والمجنون ونحوهما، فهذا لا تصح تصرفاته مطلقًا أذن له وليه أو لم يأذن. وأهلية ناقصة: وهي في حق الصبي المميز، والنقص في أهليته تنجبر بالإذن له من وليه، فمن قارب البلوغ، وكان مأذونًا له بالتصرف فإنه تصرفه صحيح، إذا صح بيعه على الصحيح، وهو ينقل الملك في المال فالإيداع من باب أولى أن يصح؛ لأنه مجرد حفظ للمال، ولا ينقل الملك.
المبحث الثالث في إيداع المال لدى الصبي المميز
المبحث الثالث في إيداع المال لدى الصبي المميز الإيداع استنابة في الحفظ فاقتضى البلوغ والرشد. من لم يباشر حفظ ماله لم يصح أن يباشر حفظ مال غيره. كل من ضمن الوديعة بالإتلاف ضمنها بالتفريط إلا الصبي المميز فإنه يضمنها بالإتلاف ولا يضمنها بالتفريط. هل الإذن للصبي بالتجارة إذن في توابعها، ومنها الإيداع؟ [م - 1901] إذا أودع الرجل ماله صبيًّا مميزًا هل تصح الوديعة؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: يصح أن يودع الرجل ماله عند صبي مميز بشرط أن يكون مأذونًا له في التجارة، أو يكون الولي قد أذن له في قبول الوديعة، فإن كان لم يؤذن له فلا يصح قبول الوديعة منه؛ لأنه محجور عليه، وهذا مذهب الحنفية (¬1). جاء في بدائع الصنائع: "يصح قبول الوديعة من الصبي المأذون؛ لأنه من أهل الحفظ، ألا ترى أنه أذن له الولي، ولو لم يكن من أهل الحفظ لكان الإذن له سفهًا" (¬2). ¬
هذا في صحة الوديعة، أما في ضمان الوديعة: فإن قبل الصبي المحجور عليه الوديعة، فتلفت لم يضمنها، وإن استهلكها، فإن كانت عبدًا أو أمة ضمن بالاتفاق. ° وجه القول بالضمان: أن هذا الضمان ليس من قبيل ضمان المال، وإنما هو من قبيل ضمان الدم، فالقتل يوجب الضمان مطلقًا. وإن كانت الوديعة ليست آدميًّا فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة ومحمد بن الحسن. ° وجه القول بعدم الضمان: أن إيداع الصبي المحجور عليه إهلاك للمال معنى، فلما وضع المال في يد المحجور عليه فقد وضعه في يد من لا يحفظه عادة، ولا يجب عليه الحفظ شرعًا؛ ولو كان من أهل حفظ المال لدفع إليه ماله، قال تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. وقال أبو يوسف يجب عليه الضمان: ° وجه قول أبي يوسف: كون الوديعة لا تصح للصبي المحجور عليه يجعلها كأن لم تكن، فصار الحال بعد الوديعة كالحال قبل الوديعة، واستهلاك الوديعة قبل الإيداع يوجب الضمان فكذلك بعد الإيداع. وإن كان الصبي مأذونًا له، سواء كان إذنًا عامًّا كما لو أذن له في التجارة، أو
كان إذنًا خاصًّا كما لو أذن الولي له في قبول الوديعة، فإن تلفت الوصية لم يضمن؛ لأنها أمانة في يده. وإن استهلك الوديعة فإنه يجب عليه الضمان؛ لأن الصبي المأذون له يحفظ المال عادة، ألا ترى أنه دفع إليه ماله، ولو لم يوجد منه الحفظ عادة لكان الدفع إليه سفهًا (¬1). جاء في حاشية ابن عابدين: "أودع صبيًّا وديعة فهلكت منه لا ضمان عليه بالإجماع (¬2). فإن استهلكها: إن كان مأذونا في التجارة ضمنها إجماعًا، وإن كان محجورًا عليه إن قبضها بإذن وليه ضمن أيضًا إجماعًا، وإن قبضها بغير إذن وليه لا ضمان عليه عندهما لا في الحال، ولا بعد الإدراك، وقال أبو يوسف يضمن في الحال" (¬3). القول الثاني: يصح الإيداع لدى الصبي المميز، وبه قال ابن رشد من المالكية، وحكى عليه الاتفاق. ¬
جاء في حاشية الدسوقي: "كل من جاز له أن يوكل ... جاز له أن يودع، ومن جاز له أن يتوكل جاز له أن يقبل الوديعة، والذي يجوز له أن يتوكل: هو المميز على ما قاله ابن رشد، وحكى عليه الاتفاق، وخالفه اللخمي وقال لا بد أن يكون بالغًا رشيدًا ووافقه القرافي وابن الحاجب وابن عبد السلام والمصنف في التوضيح قال ابن عرفة وعليه عمل أهل بلدنا" (¬1). القول الثالث: لا يصح الإيداع، وإن أذن له وليه وبه قال أكثر المالكية، والأظهر في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). قال الغزالي: "أما المودِع والمودَع فلا يعتبر فيهما إلا ما يعتبر في الوكيل والموكل؛ لأن الإيداع استنابة في الحفظ، فلا يستدعي إلا التكليف من الجانبين" (¬3). وقال إمام الحرمين: "الصبي ليس من أهل أن يؤتمن، ويده لا تصلح لحفظ الودائع" (¬4). ¬
وإذا أودع فأتلف الصبي فلا ضمان عليه عند أكثر المالكية، والصحيح من مذهب الحنابلة. واستثنى المالكية من عدم الضمان ما لو صرفه الصبي أو السفيه فيما لا بد لهما منه، ولهما مال فيرجع عليهما بالأقل مما أتلفاه أو مما صونا من مالهما (¬1). قال ابن شاس المالكي: "من أودع عند صبي شيئًا بإذن أهله أو بغير إذنهم، فأتلفه الصبي أو ضيعه لم يضمن؛ لأنه سلطه عليه، كما لو أقرضه أو باعه، وكذلك السفيه" (¬2). وفي التاج والإكليل أن هذا القول قول ابن القاسم (¬3). وفي الإنصاف: "وإن أودع الصبي وديعة، فتلفت بتفريطه لم يضمن، وكذلك المعتوه. وهذا هو الصحيح من المذهب" (¬4). وقال ابن قدامة: "فإن أودع رجل عند صبي أو معتوه وديعة، فتلفت، لم يضمنها، سواء حفظها أو فرط في حفظها" (¬5). وقسم الشافعية التلف إلى ثلاثة أقسام: جاء في الحاوي الكبير: "وإذا دفع الرجل وديعة إلى صبي استودعه إياها كان ¬
مغررا بماله؛ لأن الصبي لا يباشر حفاظ ماله فكيف مال غيره، فإن تلفت في يد الصبي لم يخل تلفها من ثلاثة أقسام: أحدها: أن تتلف بغير تفريط ولا جناية فلا ضمان عليه فيها؛ لأن البالغ لا يضمنها. والثاني: أن تتلف بتفريط منه فلا ضمان عليه، وإن ضمنها البالغ؛ لأن حفظها لا يلزمه لأن صاحبها هو المفرط دونه. والقسم الثالث: أن تتلف بجنايته، ففي وجوب ضمانها في ماله وجهان: أحدهما: أنها غير مضمونة عليه؛ لأن مالكها هو الذي سلطه على استهلاكها فصار كما لو باعه شيئًا فاستهلكه لم يضمنه. والوجه الثاني: أنها مضمونة في ماله؛ لأن الائتمان عليها ليس بإذن في استهلاكها ... " (¬1). وقد بين السيوطي القاعدة في ذلك، فقال: "كل من ضمن الوديعة بالإتلاف ضمنها بالتفريط إلا الصبي المميز فإنه يضمنها بالإتلاف على الأظهر، ولا يضمنها بالتفريط قطعًا؛ لأن المفرط هو الذي أودعه" (¬2). ° الراجح: مسألة الإيداع والضمان ترجع إلى مسألتين: الأولى: هل يدفع المال إلى الصبي للاختبار قبل البلوغ، حتى إذا بلغ كان ¬
الولي على معرفة بأهلية الصبي لدفع المال، أو لا يدفع المال إليه، وإنما يختبر عن طريق السوم، والمفاوضة، والقبول يترك للولي، والأول مذهب الجمهور، والثاني مذهب الشافعية، وقد بينت في عقد البيع أن الراجح أن بعض المال لا كله يدفع إلى الصبي إذا راهق البلوغ. الثانية: هل الإذن له بالتجارة يستلزم الإذن له بالإيداع، والاستيداع، أو لا يستلزم ذلك. فمن الفقهاء من قال: الإذن بالتجارة يعني الإذن في توابعها، ومنها الإيداع والاستيداع كالحنفية. ومن الفقهاء من رأى أن دفع بعض المال للاختبار لا يجعل من يد الصبي كيد البالغ الرشيد في حفظ الأموال، وتقبل الأمانات؛ لأن ذلك ليس إلا للرجل المكلف الرشيد، واختباره لا يعني دفع جميع ماله له، وإنما يدفع جزء قليل من ماله لمصلحته، حتى لو نجح في الاختبار لم يدفع إليه ماله كله حتى يبلغ، وإذا كانت يده ليست صالحة لقبض جميع ماله فكيف تكون يده صالحة لأن تكون حافظة لمال غيره من الناس. قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. وهذا ما عليه أكثر المالكية، والحنابلة، وهو الذي أميل إليه، والله أعلم.
الشرط الثاني أن يكون المودع له ولاية في المال المودع
الشرط الثاني أن يكون المودِع له ولاية في المال المودع [م - 1902] يشترط في المودع أن تكون له ولاية تصرف على الوديعة بملك، أو إذن. وقولنا: بإذن يشمل إذن الشارع وإذن المالك. فالأول: يدخل فيه إيداع الأب مال المحجور عليه، فإن ولايته مستمدة من الشرع. والثاني: يدخل فيه إيداع الوكيل والشريك والمضارب ونحو ذلك. فإن لم يكن الوديع مالكًا للعين المودعة، ولا مأذونًا له في الإيداع، فهل يصح إيداعه؟ هذا التصرف داخل ضمن مباحث تصرف الفضولي، وقد سبق بحث تصرفات الفضولي في عقد البيع، فأغنى ذلك عن ذكر الأقوال وأدلتها. فمن لم يبطل بيعه، وجعله موقوفًا على إجازة المالك كالحنفية والمالكية فإن الإيداع أولى أن يكون موقوفًا على الإجازة؛ لأن الإيداع يراد للحفظ، وهو مصلحة محضة للمالك، والبيع ناقل للملك، وقد يرغب المالك بالاحتفاظ بالسلعة لحاجته (¬1). ¬
وأما من أبطل تصرف الفضولي (¬1)، فهل يبطل إيداعه مطلقًا، أو يبطل في حال ما إذا كان يمكنه الرجوع إلى المالك أو الحاكم ولم يرجع؟ وقال ابن رجب في القواعد: "التصرفات للغير بدون إذنه، هل تقف على إجازته أم لا؟ ويعبر عنها بتصرف الفضولي، وتحتها أقسام: القسم الأول: أن تدعو الحاجة إلى التصرف في مال الغير أو حقه ويتعذر استئذانه، إما للجهل بعينه، أو لغيبته ومشقة انتظاره، فهذا التصرف مباح جائز موقوف على الإجازة، وهو في الأموال غير مختلف فيه في المذهب، وغير محتاج إلى إذن حاكم على الصحيح .... القسم الثالث: أن لا تدعو الحاجة إلى ذلك ابتداء ولا دوامًا، فهذا القسم في بطلان التصرف من أصله، ووقوفه على إجازة المالك وتنفيذه روايتان معروفتان" (¬2). ¬
الشرط الثالث أن يكون المودع ممن يصح قبضه للوديعة
الشرط الثالث أن يكون المودَع ممن يصح قبضه للوديعة [م - 1903] نص الشافعية على أنه يشترط أن يكون المودَع ممن يصح قبضه للوديعة، فلا يودع كافر مصحفًا، ولا عبدًا مسلمًا, ولا يودع محرم صيدًا (¬1). جاء في حاشية الرملي على أسنى المطالب: "قوله: وهي توكيل بالحفظ" علم منه أنه لا يجوز استيداع المحْرِم صيدًا صرح به القاضي الحسين هناك، وكذا يمتنع استيداع المصحف، وكتب العلم عند الكافر" (¬2). واختار الرملي من الشافعية صحة العقد، وينوب عن الكافر مسلم في قبض المصحف، وعن المحرم رجل حلال (¬3). وهذا أقرب. وقد يقال: هناك فرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي، فلا يجوز إيداع مصحف لكافر، والعقد إذا وقع يقع صحيحًا؛ لأن كلا من العاقدين فيه أهلية التوكل والتوكيل، والله أعلم. ¬
الشرط الرابع في اشتراط أن يكون المستودع معينا
الشرط الرابع في اشتراط أن يكون المستودَع معينًا [م - 1904] لو قال الرجل لجماعة: ليحفظ لي أحدكم هذه الوديعة، وتركها عندهم، فهل يصح العقد؟ اختلف الفقهاء في صحة الوديعة على قولين: القول الأول: يصح الإيداع، وهذا مذهب الحنفية (¬1). جاء في حاشية ابن عابدين: "لو وضع كتابه عند قوم، فذهبوا وتركوه ضمنوا إذا ضاع، وإن قاموا واحدًا بعد واحد ضمن الأخير؛ لأنه تعين للحفظ فتعين للضمان" (¬2). القول الثاني: لا يصح، وهذا مذهب الحنابلة. جاء في مجلة الأحكام الشرعية الحنبلية: "يشترط أن يكون الوديع معينًا، فلو قال لجماعة: أودعت أحدكم هذا، أو ليحفظ لي أحدكم هذا لم يصح العقد (¬3). ¬
° الراجح: أن الرجل إذا قال: ليحفظ لي أحدكم هذه الوديعة، وتركها عندهم، فإن لم يقبل أحدهم هذا الإيجاب، خرج من العهدة، ولم يلزمه الحفظ، وسكوتهم دليل على قبولهم، ويحفظ الوديعة أحدهم بالتراضي، ويكون الضمان عليه وحده، فإذا تركوها كلهم، فإن ذهبوا جميعًا ضمنوه إذا ضاع، وإن قاموا واحدًا بعد واحد، فإذا بقي رجلان منهما، ثم قام أحدهما تاركًا الوديعة للأخير، فإن سكت فقد قبل أن يحفظ الوديعة وحده، ويكون الضمان عليه، وإن لم يقبل وطالبه بأخذ الوديعة ولم يتفقا على من تكون في يده حتى ضاعت اشتركا في الضمان، والله أعلم.
الشرط الخامس في اشتراط ألا يكون المودع محجورا عليه لمصلحة غيره
الشرط الخامس في اشتراط ألا يكون المودِع محجورًا عليه لمصلحة غيره [م - 1905] إذا حجر على الرجل لفلس منع من كل تصرف مالي ينقل الملك، كالبيع، والهبة، والقرض ونحوها، فإن أودع وديعة: فإن كان إيداعه قبل أن يحجر عليه: فاختار الشافعية إلى أن المودِع إذا أفلس، سلمت الوديعة للحاكم، وعللوا ذلك بأن يد المالك لا أهلية فيها بالنسبة لأعيان الأموال خوف إتلافه لها (¬1). واختار الحنابلة إلى أن للمفلس استرداد وديعة أودعها قبل الحجر عليه. جاء في مطالب أولي النهى: "ويصح من مفلس تصرف غير مستأنف؛ كإمضاء خيار، وفسخ لعيب، فيما اشتراه قبل الحجر؛ لأنه إتمام لتصرف سابق على حجره، فلم يمنع منه، كاسترداد وديعة أودعها قبل حجره ولو لم يكن في إمضائه حظ لما ذكرنا. ويتجه باحتمال قوي لا مع ضرر غرمائه بهذا الإمضاء؛ فلا يصح. وهو متجه" (¬2). وإن كان إيداعه بعد أن حجر عليه. فاختار المالكية إلى أن تصرف المحجور عليه موقوف على نظر الحاكم إن شاء أمضاه وإن شاء رده. ¬
وقيل: بل على نظر الغرماء. وقيل: على نظر الحاكم إن اختلف الغرماء، أو على نظر الغرماء إن اتفقوا (¬1). وقال القاضي عياض: من قبل وديعة من مستغرق ذمته، ثم ردها له يضمنها للفقراء (¬2). يقصد بمستغرق الذمة بالتبعات والمظالم إذا أفلس. وأما الشافعية فإنهم يرون أن الوديعة ترتفع بإفلاس المودع، ويسلمها الوديع للحاكم إذا أراد رد الوديعة، فإن يد المالك لا أهلية فيها بالنسبة لأعيان الأموال خوف إتلافه لها (¬3). وإذا كان هذا حكمهم في وديعة أودعها قبل إفلاسه، فمن باب أولى أن يمنع من إيداع ماله بعد إفلاسه؛ لأن الإيداع تصرف في عين المال، وهو ممنوع من التصرف في عين ماله. ولو قيل: إن كان الباعث على الإيداع هو إخفاء المال عن الغرماء لم يصح الإيداع؛ لأن المحجور عليه ممنوع من التصرف بما يضر الغرماء. وإن كان الباعث على الإيداع خوفًا على المال من السرقة أو الضياع، وقصد بذلك حفظ المال للغرماء، فينبغي ألا يمنع منه؛ لأن مثل هذا التصرف لا يفوت به حق الغرماء، بل يحفظه لهم، وللغرماء استرداده من الوديع، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني في شروط الأعيان المودعة
الفصل الثاني في شروط الأعيان المودعة المبحث الأول في اشتراط مالية العين المودعة كل شيء محترم يختص به الإنسان يجوز إيداعه ولو لم يكن مالًا. [م - 1906] لم يختلف الفقهاء في اشتراط مالية العوضين في عقود المعاوضات، فما ليس بمال لا يجوز بذل المال فيه. أما عقود التبرع، ومنه عقد الوديعة فهل تشترط فيه مالية العين؟ وقد سبق لنا خلاف الفقهاء في اشتراط مالية العين الموهوبة والموصى بها، وهما من عقود التبرع، والخلاف نفسه يجري في عقد الوديعة، والمسألة فيها قولان لأهل العلم: القول الأول: يشترط كون العين المودعة مالًا، وهو مذهب الحنفية والمالكية (¬1). ولهذا عرف الحنفية الإيداع: بأنه تسليط الغير على حفظ ماله (¬2). ¬
وجاء في الشرح الكبير: "الإيداع توكيل بحفظ مال" (¬1). وذكر المالكية في احترازات التعريف أن قوله: (بحفظ مال) خرج به ما ليس بمال، كإيداع الأب ولده، كما خرج به الإيصاء والوكالة؛ لأنهما على الحفظ والتصرف (¬2). ودخل في التعريف إيداع الصكوك والوثائق المتعلقة بالحقوق؛ لأن الوثيقة متمول يراد حفظها لأجل ما فيها (¬3). ° وحجة الحنفية: أن الإيداع في كتب اللغة وفي الشرع مختص بالمال، يقال: أودعته مالًا أي دفعته إليه ليكون وديعة، فلو لم يكن الإيداع مختصًّا بالمال لما أطبق أرباب اللغة على ذكر المال في بيان معناه. جاء في فتح القدير نقلًا من صاحب الكافي والكفاية: "الإيداع لغة تسليط الغير على حفظ أي شيء كان مالًا أو غير مال .... وشريعة تسليط الغير على حفظ المال، انتهى .... ومحصول ذلك أن معنى الإيداع لغة أعم من معناه شريعة لاختصاص الثاني بالمال، وتناول الأول المال وغيره، ولكن المفهوم من معتبرات كتب اللغة كالصحاح، والقاموس، والمغرب وغيرها اختصاص الأول أيضًا بالمال؛ لأن المذكور فيها عند بيان معناه، يقال: أودعته مالًا، أي: دفعته إليه ليكون وديعة ¬
عنده، فلو لم يكن له اختصاص بالمال في اللغة أيضًا لما أطبق أرباب اللغة على ذكر المال في بيان معناه، بل وإن اللائق بهم أن يقولوا: أودعته شيئًا أو دفعته إليه ليكون وديعة عنده ... " (¬1). القول الثاني: لا تشترط مالية العين المودعة، فتصح الوديعة في كل شيء محترم يختص به الإنسان، ولو لم يكن مالًا، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، وبعض الحنفية. جاء في مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر: "والوديعة: ما يترك عند الأمين للحفظ، مالًا كان أو غيره" (¬2). وقال بعض الشافعية: "توكيل في حفظ مملوك أو محترم مختص على وجه مخصوص" (¬3). فدخل في ذلك صحة إيداع ما ليس بمال كإيداع الخمر المحترمة، وجلد ميتة يطهر بالدباغ، وزبل، وكلب معلم إلا أن ذلك ليس بمضمون إذا تلف بتعد أو تفريط بخلاف المال. وخرج بمختص: ما لا اختصاص فيه كالكلب الذي لا يقتنى (¬4). وقال ابن مفلح الصغير في تعريف الوديعة: "توكيل في حفظ مملوك، أو محترم مختص على وجه مخصوص" (¬5). ¬
وصحح الحنفية وبعض المالكية صحة إيداع الصكوك والوثائق المتعلقة بالمال، وإن لم تكن مالًا بنفسها (¬1). قال ابن عرفة المالكي في تعريف الوديعة: "نقل مجرد حفظ ملك ينقل" (¬2). قال الحطاب: "فيدخل إيداع الوثائق بذكر الحقوق" (¬3). قال البناني: "قد يجاب عن ذكر الحقوق بأنه لكونه قد يتضمن المال، ويحفظ لأجله كان مالًا مجازًا، فصح دخوله" (¬4). وسبق لنا قول الدسوقي: "الوثيقة متمول يراد حفظه لأجل ما فيه" (¬5). كما صحح الشافعية صحة إيداع الصكوك والوثائق، إلا أنهم لم ينظروا إلى محتواها في الضمان، بل اعتبروا قيمتها كورقة مكتوبة وأجرة الكتابة إذا تلفت. جاء في نهاية المحتاج: "ولو أودعه ورقة مكتوبة بإقرار أو نحوه وتلفت بتقصيره ضمن قيمتها مكتوبة وأجرة الكتابة" (¬6). وهذا قول ضعيف، فإن الصكوك والوثائق ليست قيمتها بذاتها كورقة مكتوبة وأجرة الكتابة، بل قيمتها بما تمثله من حقوق، فربما أدى تلفها إلى ضياع ما ¬
تثبته من تلك الحقوق، كما أن الأسهم في سوق البورصة لا تقدر قيمتها بالورق التي تثبتها، بل تعتبر قيمة السهم بما يمثله من مال مثلي، أو قيمي، أو منقول. ° الراجح: أن الإيداع يدور على حفظ الأشياء التي لم ينه الشارع عن اقتنائها، سواء أكانت من الأموال أم من غيرها، إلا أن الأعيان المودعة إن كانت مالًا فإنها تضمن بالتعدي أو بالتفريط، وإذا لم تكن مالًا كالكلب المعلم، والسرجين النجس, ونحو ذلك فإن تلفه غير مضمون؛ لأنه ليس له قيمة شرعًا، والله أعلم.
الشرط الثاني كون الوديعة قابلة لإثبات اليد عليها
الشرط الثاني كون الوديعة قابلة لإثبات اليد عليها [م - 1907] اختلف الفقهاء في اشتراط القبض للوديعة: القول الأول: مذهب الحنفية. اشترط الحنفية قبض الوديعة لوجوب حفظها، وعللوا ذلك: بأن الإيداع عقد استحفاظ، وحفظ الشيء بدون إثبات اليد عليه محال، فإيداع الطير في الهواء، والمال الضال، والساقط في البحر غير صحيح (¬1). جاء في البحر الرائق: "وشرطها: كون المال قابلًا لإثبات اليد عليه حتى لو أودع الآبق، أو الطير الذي في الهواء، والمال الساقط في البحر لا يصح" (¬2). وجاء في شرح مجلة الأحكام: "يشترط أن تكون الوديعة وقت الإيداع قابلة؛ لأن يضع المستودع يده عليها وأن تكون صالحة وقابلة للقبض؛ لأن الوديعة عقد استحفاظ فلا يمكن حفظها قبل أن يثبت المستودع يده عليها يعني قبل أن يقبضها وعبارة (صالحة للقبض) عطف تفسيري لعبارة (قابلة لوضع اليد) (¬3). بناء عليه إيداع الطير في الهواء والمال المستحيل إخراجه من البحر والحيوان ¬
الآبق غير صحيح؛ لأن هذه غير قابلة لوضع اليد وقت الإيداع. فلذلك إذا فقد الطير لا يحكم على المستودع بالضمان بحجة أنه لم يحافظ عليه. وهل الشرط وضع اليد فعلًا، أو القابلية لوضع اليد فقط؟ قولان في مذهب الحنفية: القول الأول: اختار الزيلعي وبعض الحنفية إلى أن وضع اليد فعلًا شرط. قال الزيلعي: "ثم شرط الوديعة إثبات اليد عليها عند الاستحفاظ" (¬1). وقال في درر الحكام شرح غرر الحكام: "قوله: (وشرطها: كون المال قابلًا لإثبات اليد عليه) أقول فيه تسامح، المراد إثبات اليد بالفعل، ولا يكفي قبول الإثبات، كما أشار إليه بعد بقوله: وحفظ شيء بدون إثبات اليد عليه محال" (¬2). القول الثاني: ذهب البعض الآخر إلى أن القابلية لوضع اليد كافية وليس وضع اليد فعلًا شرطًا، وهذا ما اختارته مجلة الأحكام العدلية (¬3). جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "هل الشرط وضع اليد فعلًا، أو القابلية لوضع اليد فقط؟ إن البعض من الفقهاء، والزيلعي من جملتهم، قالوا بأن وضع اليد فعلًا شرط. ¬
وذهب البعض الآخر إلى أن القابلية لوضع اليد كافية وليس وضع اليد فعلًا شرطًا. ويفهم من المثال الثاني، والثالث في المادة (773) من المجلة، ومن ظاهر عبارة هذه المادة أيضًا أن المجلة اختارت القول الثاني" (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية. ذهب المالكية إلى أنه يجب على الوديع حفظ الوديعة بمجرد قبولها. قال ابن رشد في المقدمات: "فإذا قبلها وجب عليه حفظها وصيانتها" (¬2). وفي الشرح الكبير: "من وضع مالًا عند شخص، ولم يقل له: احفظه، أو نحوه، ففرط فيه، كأن تركه، وذهب فضاع المال ضمن؛ لأن سكوته حين وضعه يدل على قبول حفظه" (¬3). القول الثالث: اختلف الشافعية في اشتراط القبض في الوديعة: فاختار المسعودي والمتولي أنها لا تكون وديعة حتى يقبضها خلافًا لأكثر الشافعية. جاء في البيان في مذهب الإمام الشافعي نقلًا عن المسعودي: "ولا يلزم المودع حفظ الوديعة حتى يقبضها" (¬4). ¬
وفي روضة الطالبين: "فإن قال: هذا وديعتي عندك، أو احفظه، ووضعه بين يديه ... فإن قال: قبلت، أو ضعه، فوضعه، كان إيداعا، كما لو قبضه بيده، كذا قال البغوي. وقال المتولي: لا يكون وديعة ما لم يقبضه" (¬1). وقال الخطيب في مغني المحتاج: "لو قال: هذا وديعتي عندك أو احفظه، فقال: قبلت أو ضعه موضعه كان إيداعا كما لو قبضه بيده. وصححه الرافعي في الشرح الصغير, ونقل الأذرعي عن فتاوى القفال ما يوافقه، وهذا هو الظاهر، وإن قال المتولي: لا حتى يقبضه" (¬2). فخلصنا من هذا أن المسألة فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: يشترط قبض الوديعة لوجوب الحفظ، وهذا اختاره بعض الحنفية، والمسعودي والمتولي من الشافعية. القول الثاني: يشترط قابلية العين لإثبات اليد عليها، وإن لم يقبضها فعلًا، اختاره بعض الحنفية، وهو ما رجحته مجلة الأحكام العدلية. القول الثالث: يكفي قبول الوديعة لوجوب الحفظ، ولو لم يقبضها، وهذا القول اختاره ابن رشد من المالكية، وعليه أكثر الشافعية. ¬
° الراجح: أن عقد الوديعة ينعقد بالإيجاب والقبول، ولزوم الحفظ يجب بالقبض، وذلك أن عقد الوديعة يقوم على الحفظ، فلا بد من القبض، سواء كان القبض حقيقة بأن استلمها بيده، أو يكون القبض حكمًا بأن وضعها أمامه وبين يديه بعد قبوله للوديعة، فالذين قالوا: إنه يجب الحفظ بالقبول هذا القول إشارة إلى أن عقد الإيداع ينعقد بالإيجاب والقبول، والذين قالوا: يجب الحفظ بالقبض، هذا بالنسبة للزوم الحفظ، وليس لانعقاد الوديعة، ولذلك فرق المالكية بين البصير والأعمى، فقالوا: إذا وضع شخص متاعه عند جالس رشيد، بصير، ساكت، وذهب الواضع لحاجته فإنه يجب على الموضوع عنده المتاع حفظه بحيث يضمنه إن فرط في حفظه حتى ضاع؛ لأن سكوته رضا منه بالإيداع عنده، وأما الأعمى فلا بد أن يضع يده عليها حتى يضمن، والله أعلم" (¬1). وجاء في مرشد الحيران: "إنما يتم الإيداع في حق وجوب الحفظ بالإيجاب والقبول صريحًا جمع تسليم العين تسليمًا حقيقيًّا أو حكميًّا -بأن يضعها بين يديه- أو بالإيجاب والقبول دلالة، بأن وضع العين بين يدي آخر، ولم يقل شيئًا، وسكت الآخر عند وضعه، فإنه يجب عليه حفظها" (¬2). ¬
الشرط الثالث في اشتراط العلم بالوديعة
الشرط الثالث في اشتراط العلم بالوديعة يصح الإيداع ولو لم يعلم الوديع بما في الوديعة. [م - 1908] نص جمهور الفقهاء على أنه لا يشترط في الوديعة علم الوديع بما فيها، فلو أودعه صندوقًا مقفلًا، وهو لا يعلم بما فيه صح الإيداع. وذلك أن العلم إنما يشترط في باب المعاوضات دفعًا للغرر المؤثر في العقد، وعقد الوديعة يقوم على حفظ الوديعة، وهذا لا يستلزم العلم بما فيها. جاء في المحيط البرهاني: "إذا كان أودع عند رجل دراهم في كيس، ولم يزن على المودع، ثم ادعى أنه أكثر من ذلك، وقال المودع: قد قبضت الكيس، ولا أدري كم كان فيه فلا ضمان عليه .... " (¬1). جاء في مغني المحتاج: "قال الماوردي وغيره: ولا تفتقر الوديعة إلى علم الوديع بما فيها بخلاف اللقطة لما يلزمه من تعريفها" (¬2). وهذا هو الصواب، وقد كان الخلفاء الراشدون يكتبون إلى ولاتهم الأحكام التي تتضمن أحكامًا في الدماء والفروج والأموال، يبعثون بها مختومة، لا يعلم حاملها بما فيها، وهي في أيدي الرسل أمانة. وجاء في الكافي في فقه الإمام أحمد: "وإن أودعه دراهم في كيس مشدود، ¬
فحله أو خرق ما تحت الشد، أو كسر الختم ضمن ما فيه؛ لأنه هتك الحرز لغير عذر" (¬1). ¬
الشرط الرابع في اشتراط كون الوديعة منقولة
الشرط الرابع في اشتراط كون الوديعة منقولة كل ما يمكن حفظه يصح إيداعه من عقار ومنقول ومختص. قسم الفقهاء الأموال بالنظر إلى إمكان نقله، وتحويله إلى قسمين: عقار، ومنقول. والفقهاء متفقون على أن ما لا يمكن نقله، وتحويله من مكان إلى آخر يسمى عقارًا، وأن ما يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر مع بقاء صورته وهيئته منقول. واختلفوا فيما يمكن نقله مع تغيير صورته عند النقل، كالبناء، والشجر، هل هو عقار، أو منقول؟ على قولين، وقد سبق تحرير الخلاف في عقد الوقف فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقد اشترط ابن عرفة من المالكية في الوديعة أن تكون مما يمكن نقله حسًّا. قال في تعريفه للوديعة: "نقل مجرد حفظ ملك ينقل" (¬1). فعلى هذا التعريف لا يصح إيداع العقار عنده؛ لأنه لا يمكن نقله، وهذا خلاف المشهور من مذهب المالكية، وخلاف ما عليه الأئمة. وانتقد ذلك فقهاء المالكية، جاء في الفواكه الدواني: "وقوله: (ينقل) تقتضي إخراج الربع ونحوه من أنواع العقار التي لا تقبل النقل حسًّا، مع أن ظاهر ¬
المدونة أن الإيداع لا يتقيد بما ينقل حسًّا، فيكون الإيداع فيه ليحفظه المودع بالفتح ممن يتسور عليه" (¬1). وقال في تعريف الشيء المودع: "وهو كل ما يحتاج إلى من يحفظه ولو عقارًا" (¬2). وقال في منح الجليل: "لم يذكر أحد إخراج العقار من حكم الوديعة" (¬3). ونص الحنفية والشافعية على صحة إيداع العقار (¬4). ومذهب الحنابلة لا يدفع إيداع العقار، فقد صححوا إيداع ما ليس بمال فضلًا عن العقار. جاء في تعريف الوديعة عند الحنابلة: بأنها مال أو مختص مدفوع من جائز التصرف إلى مثله لحفظه بلا عوض (¬5). ¬
الباب الثالث في أحكام الوديعة
الباب الثالث في أحكام الوديعة الفصل الأول في آثار عقد الوديعة المبحث الأول وجوب الحفظ على الوديع عقد الوديعة وارد على الحفظ والقبول التزام بذلك. الإيداع من جانب المالك استحفاظ، ومن جانب المودع التزام الحفظ. [م - 1909] إذا قبل الوديع الوديعة، نتج عن ذلك أثر للعقد، من ذلك: وجوب حفظ الوديعة على الوديع بما يحفظ به ماله حتى يؤديها إلى صاحبها؛ وذلك أن عقد الوديعة استحفاظ من المالك، وائتمان له. ومن جانب الوديع: التزام بالحفظ (¬1). وهذا إجماع لا خلاف فيه، قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن على المودع إحراز الوديعة وحفظها" (¬2). ¬
ولأن المقصود من عقد الإيداع هو حفظ الوديعة، والوديع في قبوله الوديعة قد التزم ذلك، فإذا لم يحفظها لم يفعل ما التزمه. قال الكاساني: "فحكمه -يعني الإيداع- لزوم الحفظ للمالك؛ لأن الإيداع من جانب المالك استحفاظ، ومن جانب المودع التزام الحفظ، وهو من أهل الالتزام فيلزمه؛ لقوله: عليه الصلاة والسلام: المسلمون عند شروطهم" (¬1). وقال ابن رشد: "فإذا قبلها وجب عليه حفظها وصيانتها" (¬2). وجاء في شرح منتهى الإرادات: "ويلزمه أي الوديع حفظها: أي الوديعة في حرز مثلها عرفًا؛ لقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] ولا يمكن أداؤها بدون حفظها. ولأن المقصود من الإيداع الحفظ، والاستيداع التزام ذلك، فإذا لم يحفظها لم يفعل ما التزمه" (¬3). وقال ابن حزم: "فرض على من أودعت عنده وديعة حفظها، وردها إلى صاحبها إذا طلبها منه" (¬4). ¬
الفرع الأول في صفة حفظ الوديعة
الفرع الأول في صفة حفظ الوديعة المسألة الأولى ألا يعين المالك موضع الحفظ الشيء إذا لم يكن محدودًا في الشرع كان الرجوع فيه إلى العادة. الإيداع يقتضي الحفظ، فإذا أطلق حمل على المتعارف، وهو حرز المثل. الضابط في الحرز: ما لا يعد الواضع فيه مضيعًا لماله. [م - 1910] ذكرنا في المبحث السابق وجوب حفظ الوديعة على المودَع، ونريد أن نبين في هذا المبحث صفة الحفظ، فنقول: إذا أودعه وديعة، ولم يعين المالك موضع الحرز فإن الأئمة الأربعة يرون أنه يلزمه حفظها في حرز مثلها. ° وجه القول بذلك: أن الإيداع يقتضي الحفظ، فإذا أطلق حمل على المتعارف، وهو حرز المثل. والحرز: هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس كالدار، والحانوت، وهو يختلف بحسب نفاسة الأموال وحقارتها، وكثرتها وقلتها، كما يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، والأقاليم والحواضر والبوادي، فالنقود والجواهر تحفظ في خزائن خاصة، وفي مكان خاص، لا في فناء الدار. والدواب تحفظ في اصطبل الدواب، وهكذا (¬1). ¬
والمرجع في تحديد الحرز إلى العرف والعادة. وجاء في مجلة الأحكام العدلية: "يلزم حفظ الوديعة في حرز مثلها، بناء عليه: وضْعُ مثل النقود والمجوهرات في اصطبل الدواب أو التبن تقصير في الحفظ، وبهذه الحال إذا ضاعت الوديعة أو هلكت لزم الضمان" (¬1). وقال الشافعي: "وإذا استودع الرجل الرجل الوديعة، فوضعها في موضع من داره يحرز فيه ماله، ويرى الناس مثله حرزًا -وإن كان غيره أحرز منه- فهلكت لم يضمن. وإن وضعها في موضع من داره لا يراه الناس حرزًا, ولا يحرز فيه مثل الوديعة، فهلكت، ضمن" (¬2). وقال العمراني في البيان: "وإذا أودعه وديعة فلا يخلو: إما أن يطلق المودع الحرز، أو يعين له الحرز. فإن أطلق المودع الحرز فعلى المودع أن بحفظها في حرز مثلها، كداره، ودكانه؛ لأن الإطلاق يقتضي حرز المثل" (¬3). وفي مجلة الأحكام الحنبلية: "يلزم الوديع حفظ الوديعة في حرز مثلها، والحرز في كل حالة بحسبها" (¬4). ¬
وللعلماء في الضابط في الحرز قولان: أحدهما: أن الضابط في الحرز: ما لا يعد الواضع فيه مضيعًا لماله. جاء في نهاية المحتاج: "ما لا ينسب المودع بوضع الوديعة فيه إلى تقصير" (¬1). الثاني: ذكر بعض الشافعية وبعض الحنابلة أن الضابط في الحرز هو الضابط في باب القطع في السرقة. جاء في تحفة المحتاج: "ضابط الحرز هنا كما فصلوه في السرقة بالنسبة لأنواع المال والمحال، ذكره في الأنوار. قال غيره: وهو مقتضى كلامهم" (¬2). وقال ابن قدامة: "إذا لم يحفظها كما يحفظ ماله، وهو أن يحرزها بحرز مثلها، فإنه يضمنها. وحرز مثلها يذكر في باب القطع في السرقة" (¬3). ونوقش هذا: انتقد ابن عابدين أن يكون الضابط في الحرز في باب الوديعة هو الضابط في باب السرقة، وبين أن هناك اختلافًا بين مفهوم الحرز في الوديعة وبين مفهوم الحرز في السرقة. قال ابن عابدين: "المعتبر في قطع السارق هتك الحرز، وذلك يتفاوت باعتبار المحرزات. والمعتبر في ضمان المودع التعدي والتقصير في الحفظ، ألا ترى أنه لو وضعها في داره الحصينة فخرج، وكانت زوجته غير أمينة يضمن، ¬
مع أنه لو سرقها سارق يقطع؛ لأن الدار حرز وإنما ضمنها لتقصيره في الحفظ، ولو وضعها في الدار وخرج، والباب مفتوح، ولم يكن في الدار أحد من عياله، أو في الحمام أو المسجد أو الطريق أو نحو ذلك، وغاب عنها يضمن، مع أنه لا يقطع سارقها، فلو اعتبرنا في الوديعة الحرز المعتبر في السرقة لزم أن لا يضمن في هذه المسائل ونحوها، فيلزم مخالفة ما أطبقوا عليه في هذا الباب من أن المدار على التقصير في الحفظ، ومعلوم أن وضع الوديعة فيما لا يوضع فيه أمثالها تقصير في الحفظ ..... فالمراد بالحرز هنا حرز كل شيء بحسبه، وإن كان المراد به في السرقة خلافه، ولا يقاس أحد البابين على الآخر بلا نقل، مع أن النقل الصريح يخالفه كما علمت" (¬1). ¬
المسألة الثانية أن يعين المالك موضع الحفظ
المسألة الثانية أن يعين المالك موضع الحفظ كل شرط مفيد والعمل به ممكن إذا خالفه الوديع ضمن. [م - 1911] إذا أودع الرجل وديعة، وطلب من المودَع أن يحفظها في مكان معين، فإما أن يحفظها فيه وإما أن يخالف المالك. فإن حفظها فيه فلا ضمان عليه، وإن كان دون حرز مثلها؛ لأنه ممتثل غير مفرط. قال ابن قدامة: "إن عين له -يعني ما يحفظها فيه- لزمه حفظها فيما أمره به، سواء كان حرز مثلها أو لم يكن" (¬1). واستثنى المالكية وابن حزم من الظاهرية ما لو كان ذلك المكان الذي عينه مالكها فيه يقين هلاكها فإن له أن يخالف صاحبها؛ لأنه يجب عليه حفظها، ولو شرط المودِع خلافه؛ لأنه شرط مناقض لحقيقتها، وكل شرط يناقض مقتضى العقد فإنه لا يلزم. قال ابن حزم: "وصفة حفظها هو أن يفعل فيها من الحفظ ما يفعل بماله، وأن لا يخالف فيها ما حدَّ له صاحبها إلا أن يكون فيما حد له يقين هلاكها" (¬2). وجاء في شرح الزرقاني: "وقد ذكر ابن رشد في مذهبه أنه إذا جعلها في بيته من غير قفل، وله أهل قد عرف خيانتهم أنه يضمن لمخالفته العرف. اهـ ¬
وظاهره، ولو علم ربها بذلك لما مر من وجوب حفظها, ولو شرط المودع بالكسر خلافه؛ لأنه شرط مناقض لحقيقتها" (¬1). وإن خالف المالك فهذا له ثلاثة أحوال: الحال الأولى: [م - 1912] أن يعين له مكانًا فيحفظها بما دونه فإنه يضمن إلا أن يخاف عليه من حرق أو غرق. وهذا بالاتفاق (¬2). ° وجه القول بالضمان: الوجه الأول: أن المودع قد رضي بالحرز الذي عينه، ومن رضي بحرز لم يرض بما الوجه الثاني: أن هذا التصرف يعتبر مخالفة للمودع في حفظ ماله بلا سبب، فيعتبر تفريطًا يوجب الضمان. قال ابن قدامة: "وجملة ذلك أن رب الوديعة إذا أمر المستودع بحفظها في مكان عينه، فحفظها فيه، ولم يخش عليها، فلا ضمان عليه بغير خلاف؛ لأنه ممتثل لأمره، غير مفرط في ماله. وإن خاف عليها سيلًا وتوًى، يعني هلاكًا، ¬
فأخرجها منه إلى حرزها، فتلفت، فلا ضمان عليه. بغير خلاف أيضًا؛ لأن نقلها في هذه الحال تعين حفظا لها، وهو مأمور بحفظها. وإن تركها مع الخوف فتلفت، ضمنها، سواء تلفت بالأمر المخوف أو بغيره؛ لأنه فرط في حفظها؛ لأن حفظها نقلها، وتركها تضييع لها. وإن لم يخف عليها فنقلها عن الحرز إلى دونه، ضمنها؛ لأنه خالفه في الحفظ المأمور به. وإن نقلها إلى دونه عند الخوف عليها، نظرنا؛ فإن أمكنه إحرازها بمثله، أو أعلى منه، ضمنها أيضًا؛ لتفريطه، وإن لم يمكنه إحرازها إلا بما دونه، لم يضمنها؛ لأن إحرازها بذلك أحفظ لها من تركه، وليس في وسعه سواه" (¬1). الحال الثانية: [م - 1913] أن يعين له مكانًا فيحفظها في أحرز منه، ففي ضمانها قولان: القول الأول: لا يضمن، وهو مذهب الأئمة الأربعة؛ لأن من رضي حرزًا رضي بما هو أحرز منه، ولأنه بفعله هذا قد زاده، ولم ينقصه (¬2). واستثنى المالكية من عدم الضمان إذا حفظها بما هو أحرز منه، فتلفت بالوجه الذي قصد الاحتراز من أجله، فلو قال المودِع بكسر الدال للمودَع بفتحها: اجعل الوديعة في كمك، فجعلها في يده فضاعت، أو أخذها منه غاصب، فإنه لا ضمان عليه؛ لأن اليد أحفظ من الكم، إلا أن يكون أراد ¬
إخفاءها عن عين الغاصب، فرآها لما جعلها في يده فيضمن كما قاله ابن شاس (¬1). ومثله لو قال المودِع: اجعلها في صندوقك، ولا تقفل عليها، فخالف، وقفل عليها، ثم سرقت بعد ذلك فإنه يضمن، وإن كان القفل أحرز لها؛ لأنه سلط السارق عليها؛ لأنه إذا رأى القفل طمع في أخذها, ولا يضمن غير السرقة فلو تلفت بحريق لم يضمن عند ابن القاسم؛ لقوله: لا يضمن إلا إذا تلفت بالوجه الذي قصد الاحتراز من أجله (¬2). وجاء في المهذب: "وإن عين له الحرز، فقال: احفظها في هذا البيت. فنقلها إلى ما دونه ضمن .... وإن نقلها إلى مثله، أو إلى ما هو أحرز منه لم يضمن؛ لأن من رضي حرزًا رضي بمثله وبما هو أحرز منه" (¬3). القول الثاني: يضمن إذا فعل ذلك من غير حاجة، وهو ظاهر كلام الخرقي؛ لأنه خالف أمره، فأشبه ما لو نهاه عن حفظه بهذا المكان (¬4). جاء في الكافي لابن قدامة: "فإن عين له الحرز، فقال: أحرزها في هذا البيت، فتركها فيما دونه ضمن؛ لأنه لم يرضه، وإن تركها في مثله، أو أحرز منه، فقال القاضي: لا يضمن ... وظاهر كلام الخرقي أنه يضمن؛ لأنه خالف ¬
أمره لغير حاجة، فأشبه ما لو نهاه" (¬1). وقال في الإنصاف: "وقيل: يضمن فيهما -يعني في مثل حرزه أو أعلى منه- إلا أن يفعله لحاجة، ذكره الآمدي، وأبو حكيم، وهو رواية التبصرة، قال المصنف: وهو ظاهر كلام الخرقي، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية حرب، وجزم به في المنور، وقدمه في المحرر" (¬2). ° وجه القول بالضمان: أن حفظ الوديعة في غير ما عينه له مالكها يعد مخالفة لأمره من غير حاجة، فكان ذلك موجبًا للضمان أشبه ما لو نهاه عن إحرازها بغيره. ويناقش: بأن المقصود من الإيداع هو الحفظ، فإذا حفظها بما هو أكثر حفظًا فقد زاد مالكها، وتحقق المقصود من العقد. الحال الثالثة: [م - 1914] أن يعين له مكان الحرز، فيحفظها في مثله، فهذا له صورتان: الصورة الأولى: أن يعين له مكان الحرز، ولا ينهاه عن النقل، فالعلماء مختلفون في الضمان في هذه الحالة على ثلاثة أقوال: ¬
القول الأول: لا يضمن، وهو مذهب الجمهور (¬1). جاء في بدائع الصنائع: "ولو قال له: احفظ الوديعة في دارك هذه، فحفظها في دار له أخرى، فإن كانت الداران في الحرز سواء، أو كانت الثانية أحرز، لا تدخل في ضمانه؛ لأن التقييد غير مفيد" (¬2). وجاء في مجمع الضمانات: "ولو قال: لا تضعها في الحانوت فوضعها فسرقت ليلا إن لم يكن بيته أحرز من الحانوت أو لم يكن له مكان آخر أحرز منه لا يضمن، وإلا ضمن" (¬3). وقال الخرشي في شرحه: "وكذا لا ضمان إذا جعلها -يعني الوديعة- في مثل ما أمره به" (¬4). وفي حاشية الدسوقي: "وكذا -يعني لا ضمان عليه- لو وضعها في مثل ما أمر به في الإحراز، كما لو قال له ربها: اجعلها في هذا الصندوق، أو في هذا السطل، فخالف، وجعلها في مثله، كما نقله أبو الحسن عن اللخمي" (¬5). ¬
وجاء في الإنصاف: "وإن أحرزها بمثله، أو فوقه لم يضمن، هذا الصحيح من المذهب، اختاره القاضي وابن عقيل، وجزم به في الوجيز والكافي وغيرهما ... " (¬1). ° وجه القول بعدم الضمان: الوجه الأول: أن المودع قد رضي الحرز الذي عينه، ومن رضي حرزًا رضي مثله. الوجه الثاني: أن تقييد المودع بالحرز المعين يقتضي ما هو مثله، كمن اكترى أرضًا لزرع حنطة فله زرعها، وزرع مثلها في الضرر. الوجه الثالث: أن إحرازه في مثل حرزها لا يعد تعديًا, ولا تفريطًا، فيملكه المودع، ولا يضمن. ويناقش هذا: بأن إحرازها في مثل حرزها وإن لم يكن تعديًا ولا تفريطًا فإنه يعد مخالفة لأمر مالكها بلا حاجة. القول الثاني: يضمن مطلقًا إذا خالف، سواء أحرزها بمثله أو أعلى منه، إلا أن يفعله لحاجة، وهذا قول في مذهب الحنابلة (¬2). ¬
° وجه القول بالضمان: إذا خالف الوديع أمر المودِع من غير حاجة ضمن؛ لأنه لما عين له المالك حرزها فيه تعين عليه الحفظ فيه، ولا تسوغ مخالفته بلا حاجة، وقياسًا على ما لو نهاه المالك عن حفظها بمكان معين فخالف فحفظها فيه، فإنه يضمن إذا تلفت لتعديه. ويناقش هذا: بأنه وإن كان مخالفًا لظاهر لفظه إلا أنه موافق لقصده من الإيداع؛ لأن مقتضى عقد الوديعة ومقصود المودع من الإيداع هو الحفظ، وهو حاصل بحفظها بمثل حرزها المسمى. القول الثالث: يضمن إن أحرزها بمثله، ولا يضمن إن أحرزها بأعلى، وهو قول في مذهب الحنفية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في مجمع الضمانات: "فلو عين بيتًا من دار، فحفظ في بيت آخر منها. قيل: لو أكد بالنهي كقوله: لا تحفظ إلا في هذا البيت ضمن ... وقيل: لا يضمن، لو أحرز، وسواء أكد أو لا" (¬2). ° وجه هذا القول: أن مخالفة المالك لا تسوغ إلا لفائدة أو حاجة، ولا فائدة إلا إذا كان الانتقال إلى مكان أحرز من المكان الذي عينه المالك. والله أعلم. ¬
° الراجح: أن المودع إذا حفظ الوديعة في حرز مثل حرزها المعين أو أحفظ، لا ضمان عليه، إلا أن يكون المالك قد نهاه عن نقلها من المكان الذي عينه؛ لأن المقصود من الإيداع الحفظ، وهو متحقق في حفظها في مثل حرزها، والله أعلم. الصورة الثانية: أن يعين له مكان الحرز، وينهاه عن النقل، فإذا خالف وأخرجها، ففي ضمانه خلاف. القول الأول: يضمن إن نقلها من غير ضرورة لصريح المخالفة من غير حاجة، فإن دعت الضرورة لنقلها، وترك نقلها ضمن إلا أن يقول له: لا تنقلها ولو حدثت ضرورة، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، وقول في مذهب الحنفية (¬1). جاء في روضة الطالبين: "وإن نهاه فقال: احفظ في هذا البيت ولا تنقلها، فإن نقلها من غير ضرورة، ضمن؛ لصريح المخالفة من غير حاجة، سواء كان المنقول إليه أحرز أو لم يكن ... وإن نقل لضرورة غارة، أو غرق، أو حريق، أو غلبة لصوص، لم يضمن، وإن كان المنقول إليه حرزا لمثلها. ولا بأس بكونه دون الأول إذا لم يجد أحرز منه. ولو ترك النقل والحالة هذه، ضمن على الأصح؛ لأن الظاهر أنه أراد بالنهي تحصيل الاحتياط. ولو قال: لا تنقلها وإن حدثت ضرورة، فإن لم ينقلها, لم يضمن على ¬
الصحيح، كما لو قال: أتلف مالي، فأتلفه، لا يضمن، وإن نقل لم يضمن على الأصح؛ لأنه قصد الصيانة" (¬1). وجاء في الإنصاف: "وإن نهاه عن إخراجها، فأخرجها لغشيان شيء الغالب فيه التوى لم يضمن. هذا المذهب، وعليه الأصحاب، ولا أعلم فيه خلافًا ... وإن تركها فتلفت ضمن، هذا المذهب؛ لأنه يلزمه إخراجها والحالة هذه ... قال في الفروع: لزمه إخراجها في الأصح ... وقيل: لا يضمن؛ لأنه امتثل أمر ربها ... وإن أخرجها لغير خوف ضمن، هذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب. قال في الفروع: ويحرم إخراجها لغير خوف في الأصح ... وإن قال: لا تخرجها وإن خفت عليها فأخرجها عند الخوف أو تركها لم يضمن" (¬2). وجاء في مجمع الضمانات: "لو أكد بالنهي، كقوله: لا تحفظ إلا في هذا البيت ضمن، لا لو لم يؤكد" (¬3). يعني إذا خالف. القول الثاني: لا يضمن إن كان نقلها إلى مثله أو أحرز، ولو لم يكن هناك ضرورة للنقل، وهو اختيار الإصطخري من الشافعية، والقاضي من الحنابلة (¬4). جاء في روضة الطالبين: "قال الإصطخري: إن كان أحرز من الأول أو مثله، لم يضمن، والصحيح الأول" (¬5). ¬
القول الثالث: يضمن إذا كان الشرط مفيدًا، والعمل به ممكنًا, ولا يضمن إذا كان الشرط لا يفيد، أو كان مفيدًا إلا أن العمل فيه غير ممكن. فلو أمره بالحفظ بهذا البيت، ونهاه عن الحفظ في هذا البيت، فخالف لم يضمن؛ لأن الدار واحدة، والحرز واحد، فهذا النهي غير مفيد. ولو أمره بالحفظ في هذه الدار، ونهاه عن الحفظ في تلك الدار، فخالف ضمن؛ لأن الحرز في الدارين يختلف، فكان الشرط مفيدًا، وهذا مذهب الحنفية (¬1). قال في العناية: "والأصل فيه أن الشرط إذا كان مفيدًا، والعمل به ممكنًا وجب مراعاته، والمخالفة فيه توجب الضمان. وإذا لم يكن مفيدًا، أو كان، ولم يمكن العمل به ... يلغو، وعلى هذا إذا نهي عن الدفع إلى امرأته، وله امرأة أخرى أمينة، أو عن الحفظ في الدار، وله أخرى فخالف فهلك ضمن، وإذا نهي عن الحفظ في بيت من دار، فحفظ في غيره، وليس في الذي نهي عنه عورة ظاهرة، أو نهى عن الدفع إلى امرأته، وليس له سواها، أو عن الحفظ في دار ليس له غيرها، فخالف لم يضمن؛ لأن الأول غير مفيد والثاني غير مقدور العمل به" (¬2). ¬
وجاء في مجمع الضمانات: "وإذا شرط المودع شرطًا مفيدًا من كل وجه يتقيد به، أكد بالنهي أو لا، فلو قال: احفظها في هذه الدار فحفظها في دار أخرى ضمن؛ لأن الدارين يتفاوتان في الحرز فيتقيد بالشرط ذكره في الهداية، وفي الفصولين. وقيل: لا يضمن لو أحرز، سواء أكد بالنهي، أو لا. وقيل: يضمن لو لم يحتج في وضعها دارًا أخرى، لا لو احتاج؛ إذ التعيين يلغو حينئذ، إذ لا يطلب منه حفظ ماله بطريق لا يقدر عليه" (¬1). ° الراجح: أنه إن خالفه لحاجة، وكان حفظها في حرز مثلها أو أحرز لم يضمن، والله أعلم. ¬
المسألة الثالثة في دفع الوديعة لمن يحفظ ماله
المسألة الثالثة في دفع الوديعة لمن يحفظ ماله يحفظ الوديع الوديعة بما يحفظ به ماله حرزًا ويدًا. [م - 1915] ذهب الجمهور إلى أن للمستودَع أن يحفظ الوديعة بنفسه، أو بمن يحفظ ماله من زوج، وولد، وهو ظاهر ما في المدونة لمالك (¬1). وقيد بعض المالكية عدم الضمان فيما إذا كان من عادة الوديع أن يأتمنهم على ماله، ومشى عليه خليل في مختصره، وتابعه شراح المختصر (¬2). جاء في الاختيار لتعليل المختار: "بحفظها -يعني الوديعة- بما يحفظ به ماله، وذلك بالحرز واليد: ¬
أما الحرز فداره ومنزله وحانوته، سواء كان ملكًا له، أو إجارة، أو إعارة. وأما اليد: فيده، وزوجته، وزوجها، وأمته، وعبده، وأجيره الخاص، وولده الكبير إن كان في عياله على ما مر في الرهن؛ ولأن المودع رضي بذلك؛ لأنه يعلم أن المودع لا بد له من الخروج لمعاشه وأداء فرائضه، ولا يمكنه استصحاب الوديعة معه فيتركها في منزله عند من في عياله فلم يكن له بد من ذلك" (¬1). وقال ابن القاسم كما في المدونة: "إن استودع امرأته، أو خادمه ليرفعاها في بيته، فإن هذا لا بد للرجل منه، ومن يرفع له إلا امرأته، أو خادمه، وما أشبههما إذا رفعوها له على وجه ما وصفت لك فلا ضمان عليه، ألا ترى أن مالكا قد جعل له إذا خاف فاستودعها غيره أنه لا يضمن، فكذلك امرأته وخادمه اللتان يرفعان له أنه لا ضمان عليه إذا دفعها إليهما ليرفعاها له في بيته. قال: وأما العبد والأجير فهما مثل ما أخبرتك. وقد يلغني أن مالكا سئل عن رجل استودع مالًا فدفعه إلى امرأته ترفعه له فضاع فلم ير عليه ضمانا، وأما الصندوق والبيت فإني أرى إن رفعه فيه أو في مثله فلا ضمان عليه في قول مالك" (¬2). وقال ابن رشد: "فإذا قبلها -أي الوديع- وجب عليه حفظها وصيانتها، فإن ضيعها أو تعدى أمر صاحبها فيها، فهو ضامن لها. وله أن يستدفع ما أودع عند عياله الذين يأمنهم على ماله، وهو تحت غلقه من زوج أو والد أو أمة أو والدة ومن أشبههم" (¬3). ¬
وجاء في منح الجليل: "فإن أودعها لزوجته أو أمته فضاعت فلا يضمنها عند الإمام مالك. زاد ابن القاسم - رضي الله تعالى عنهما - (إن اعتيدا) أي الزوجة والأمة بالإيداع عندهما من الزوج والسيد وحفظهما له ما أودعهما إياه، وحمله أكثر الشيوخ على التفسير والتقييد لقول الإمام وأقلهم على خلافه. ومفهوم الشرط الضمان إن أودع زوجة أو أمة لم يعتد إيداعه عندها فضاعت بأن أودعها عقب تزوجها أو تملكها أو لم يأتمنها على ماله، وشمل غير الزوجة والأمة أجير الخدمة والعبد اللذين في عياله وجعلهما في المدونة كالزوجة والأمة، وعليه درج صاحب الشامل" (¬1). وجاء في مجلة الأحكام الحنبلية: "يلزم الوديع حفظ الوديعة بنفسه أو وكيله أو من يحفظ ماله عادة كزوجته، وعبده، وخادمه، فله أن يدفع الدابة لسائس دوابه، والأمتعة لخانه، والحلي لزوجته، لقيامهم مقامه في الحفظ" (¬2). ° حجة هذا القول: الدليل الأول: أن المطلوب من الوديع أن يحفظ الوديعة بما يحفظ به ماله، وهو يحفظ ماله، بنفسه تارة، وبعامله، وبأهله، وبعياله تارة أخرى، فكان الحفظ بأيديهم داخلًا تحت العقد دلالة. الدليل الثاني: أن المالك قد رضي بذلك؛ لأنه يعلم أن الوديع لا يمكنه ملازمة بيته، ولا بد ¬
له من الخروج لمعاشه وأداء فرائضه، ولا يمكنه استصحاب الوديعة معه كلما خرج، فكان دفع الوديعة إلى الزوج والعيال مما لا بد له منه، وإذا رضي المالك بذلك صح الفعل كما لو رضي له بأن يدفعها إلى أجنبي. الدليل الثالث: أن دفع الوديعة إلى الأهل والعامل يصح قياسًا على دفع الماشية إلى الراعي، والبهيمة إلى الغلام ليسقيها. القول الثاني: إذا دفع الوديعة لغيره من عبد أو خادم، أو أجير ممن في عياله أو في غير عياله فهو ضامن، وهذا قول أشهب من المالكية، ومذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في النوادر والزيادات: "قال أشهب في كتبه: إذا أودعه الوديعة لغيره من عبد أو خادم، أو أجير ممن في عياله أو في غير عياله فهو ضامن، وأما في وضعه إياها في بيته، أو صندوقه، أو غير ذلك من بيته أو بيت غيره إذا لم يأمنه عليه، ويخل بينه وبينها فإنه لا يضمن" (¬2). وجاء في روضة الطالبين: "أنها أمانة، فلا يضمن إلا عند التقصير، وأسباب التقصير تسعة: ¬
أحدها: أن يودعها المودع عند غيره بلا عذر من غير إذن المالك، فيضمن، سواء أودع عند عبده وزوجته وابنه أو أجنبي" (¬1). وجاء في الإنصاف: "وإن دفع الوديعة إلى من يحفظ ماله، كزوجته، وعبده: لم يضمن، وكذا خادمه. وهذا المذهب بلا ريب. ونص عليه. وعليه جماهير الأصحاب ... وقيل: يضمن. ذكره ابن أبي موسى. قال الحارثي: وأورده السامري عن ابن أبي موسى وجهًا, ولم أجده في الإرشاد" (¬2). ° حجة هذا القول: أن المالك رضي بأمانة الوديع، ولم يرض غيره من زوجة، أو ولد، أو أجير، فإذا دفعها إلى أهله، أو ولده بلا إذن من مالكها فهو بمنزلة ما لو دفعها إلى رجل أجنبي من غير عذر، فيكون ضامنًا. ويناقش: بأن هذا قياس مع الفارق؛ لأن دفعها إلى أجنبي لا يعد حفظًا منه بخلاف حفظها بمن يحفظ ماله في العادة من زوج وعيال، والله أعلم. القول الثالث: العمل بالعرف والعادة، فإن كان العرف والعادة في البلد أن يأتمن الناس أهليهم على أموالهم صح دفع الوديعة إليهم، وإن كان العرف والعادة ألا يأتمن ¬
الرجل أهله وعياله على ماله، فلا يصح دفع الوديعة إليهم. وهذا قول ثالث في مذهب المالكية (¬1). ° الراجح: أن للمودع أن يحفظ الوديعة بمن يستعين به ممن يحفظ ماله من زوج أو ولد، أو أجير خاص بشرط أن يعلم أمانتهم، فإن كان يعلم أن زوجته ليست أهلًا للحفظ، لعجز، أو خيانة، أو تقصير، فلا يجوز دفع المال إليها، فإن دفع ضمن بذلك، والله أعلم. ¬
المطلب الأول في بيان الأقارب الذين يحفظون مال قريبهم
المطلب الأول في بيان الأقارب الذين يحفظون مال قريبهم [م - 1916] اختلف العلماء في الأقارب الذين يحفظون مال قريبهم، والذين يحق للوديع أن يدفع الوديعة إليهم: القول الأول: مذهب الحنفية. في مذهب الحنفية ثلاثة أقوال: أحدهما: للوديع أن يحفظها بنفسه، ويصح أن يدفعها إلى غيره بشرط أن يكونوا في عياله. والضابط في العيال: من يسكن معه حقيقة أو حكمًا، لا من يمونه، والولد الكبير والوالد إن كانوا في عياله، فدفعها إليهما لم يضمن، وإلا ضمن. قال ابن نجيم: "والمراد بالعيال من يسكن معه حقيقة أو حكما، لا من يمونه، فدخل فيهم الزوجة ... وخرج الأجير الذي لا يسكن معه وإنما قلنا: أو حكما؛ لأنه لو دفعها إلى ولده الصغير, وزوجته، وهما في محلة والزوج يسكن في محلة أخرى لا يضمن، ولو كان لا يجيء إليهما, ولا ينفق عليهما، لكن يشترط في الصغير أن يكون قادرًا على الحفظ كذا في الخلاصة" (¬1). جاء في البناية نقلًا من الكافي: "العبرة في هذا الباب للمساكنة، لا للنفقة" (¬2). ¬
وجاء في العناية: "المراد به من يساكنه، لا الذي يكون في نفقة المودع فحسب" (¬1). وجاء في الاختيار لتعليل المختار: "وولده الكبير إن كان في عياله على ما مر في الرهن" (¬2). وجاء في الفتاوى الهندية: "المودع إذا دفعها .... إلى ابنه الكبير في عياله، أو أبيه الذي في عياله لا يضمن، كذا في الفتاوى العتابية. والابن الكبير إذا لم يكن في عياله، فدفع إليه ضمن، كذا في المحيط. والأبوان كالأجنبي حتى يشترط كونهما في عياله، كذا في الخلاصة" (¬3). القول الثاني: اختار العيني: أن العبرة فيها المساكنة والنفقة (¬4). القول الثالث: أن العبرة أن يحفظ الوديعة بيده، أو بيد من كان ماله في يده، ولو لم يكن من عياله، فيدخل في ذلك شريك العنان والمفاوضة، وبهذا قال محمَّد بن الحسن، وعليه الفتوى. جاء في تبيين الحقائق: "وعن محمَّد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المودع إذا دفع الوديعة إلى وكيله، وليس في عياله، أو دفع إلى أمين من أمنائه ممن يثق به في ماله، وليس في عياله لا يضمن؛ لأنه حفظه مثل ما يحفظ ماله، وجعله مثله ولا يجب عليه أكثر من ذلك، ذكره في النهاية، ثم قال: وعليه الفتوى وعزاه إلى التمرتاشي، ¬
وهو إلى الحلواني، ثم قال، وعن هذا لم يشترط في التحفة في حفظ الوديعة بالعيال، فقال: ويلزم المودع حفظه إذا قبل الوديعة على الوجه الذي يحفظ به ماله، وذكر فيه أشياء حتى ذكر أن له أن يحفظ بشريك العنان والمفاوضة، وعبده المأذون له الذي في يده ماله، ثم قال: وبهذا يعلم أن العيال ليس بشرط في حفظ الوديعة" (¬1). وجاء في تحفة الفقهاء: "فيجب عليه أن يحفظ على الوجه الذي يحفظ ماله بحرزه وبيده، وبيد من كان ماله في يده. نعني (بحرزه): الذي هو ملكه، أو يستأجره، أو يستعيره وليس الشرط أن يحفظة في الحرز الذي يحفظ فيه ماله. ونعني (بيد من كان ماله في يده): كل من كان في عياله، حتى المستأجر الذي استأجره مشاهرة بنفقته وكسوته، دون الذي استأجره بالدراهم أو المستأجر مياومة. ويدخل فيه العبد المأذون الذي في يده ماله، وشريك المفاوضة والعنان وإن لم يكونوا في عياله" (¬2). قال العيني: "لم يشترط في التحفة الحفظ بالعيال، بل قال يحفظه على الوجه الذي يحفظ مال نفسه بحرز من كان ماله في يده. ثم قال: يعني به الأجير مشاهرة بنفقته وكسوته، والعبد المأذون الذي في يده مال، والشريك المفاوض، والعنان، وإن لم يكونوا في عياله" (¬3). ¬
القول الثاني: مذهب المالكية: ذكر الدسوقي في حاشيته من يحق للوديع أن يحفظ الوديعة عندهم، وهم خمسة: الزوجة، والأمة، والابن، والعبد، والأجير إذا اعتيدوا لذلك، بأن طالت إقامتهم عنده، ووثق بهم، فإذا دفعها إليهم فلا ضمان عليه إذا تلفت (¬1). واختلف المالكية في دفع الزوجة الوديعة لزوجها، وكذا في دفع الوديعة للأب والأم على قولين: أحدهما: لا يدفعها لهم، فإن فعل فعليه الضمان، وهو المشهور من المذهب. جاء في حاشية الصاوي: "والحاصل أن المستفاد من المتن والشرح أن الضمان لا ينتفي عنه إلا إذا وضعها عند زوجة، أو أمة، أو خادم، أو مملوك، أو ابن، اعتيد هؤلاء الخمسة لذلك، مع التجربة وطول الزمان، فإن لم يعتد هؤلاء الخمسة، أو وضعها عند خيرهم من أب، أو أم، أو وضعت الزوجة عند زوجها، أو عند أجانب فإنه يضمن اعتيد من ذكر للوضع أم لا" (¬2). الثاني: للزوجة أن تدفع الوديعة إلى زوجها، وكذا الأب والأم، ولا ضمان عليه (¬3). جاء في مواهب الجليل: "قال عياض: كان أبو جعفر يفتي بعدم ضمانها - ¬
يعني الزوجة- إذا ضاعت عنده -أي عند الزوج- كما لا يضمن هو ما ضاع عندها" (¬1). وقال ابن رشد: "وله أن يستدفع ما أودع عند عياله الذين يأمنهم على ماله، وهو تحت غلقه من زوج، أو والد، أو أمة، أو والدة، ومن أشبههم" (¬2). القول الثالث: مذهب الحنابلة. جاء في مجلة الأحكام الحنبلية: "يلزم الوديع حفظ الوديعة بنفسه، أو وكيله، أو من يحفظ ماله عادة، كزوجته، وعبده، وخادمه، فله أن يدفع الدابة لسائس دوابه، والأمتعة لخانه، والحلي لزوجته، لقيامهم مقامه في الحفظ" (¬3). وهذا أقرب الأقوال، وأن الإنسان تارة بحفظ ماله بنفسه، وتارة يحفظ ماله بوكيله، ويد الوكيل كيد الموكل، وتارة يحفظ ماله عن طريق عامله الخاص، وقد يدفع الوديعة لمن يسكن معه من زوج ووالد وولد، والله أعلم. ¬
المطلب الثاني إذا شرط عليه أن الوديعة بنفسه
المطلب الثاني إذا شرط عليه أن الوديعة بنفسه [م - 1917] تكلمنا في المسألة السابقة عن دفع الوديع الوديعة لمن يحفظ ماله من زوج أو عامل، أو وكيل، فإذا نهاه المالك عن دفع الوديعة لزوجه أو ولده، واشترط عليه أن يحفظها بنفسه، فهل يجب التزام هذا الشرط؟ أما أشهب من المالكية، وكذلك الشافعية الذين يقولون: ليس للوديع أن يدفع الوديعة إلى غيره من زوج أو خادم إلا بإذن المالك فهذا الشرط يجب اعتباره عندهم بمقتضى العقد، ولو بلا شرط، فكيف إذا اشترطه المالك، فليس للوديع أن يخالف المالك، فإن خالف فإنه يضمن لو تلفت الوديعة (¬1). وأما الجمهور الذين قالوا: للوديع أن يحفظ الوديعة بنفسه، أو بمن يحفظ ماله من زوج، وولد ووكيل، وأجير خاص، فإذا اشترط عليه أن يحفظ الوديعة بنفسه، ولا يدفعها إلى غيره، فهل يجب التزام شرطه؟ وإذا خالف شرطه فتلفت فهل يضمن؟ على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن المودع إذا نهاه عن الدفع إلى عياله مطلقًا، أو نهاه عن الدفع إلى كل زوجاته لم يجب التزام شرطه. ويجب التزام شرطه في ثلاث صور: ¬
الصورة الأولى: إذا نهاه عن الدفع إلى معين من عياله، وله عيال آخرون يستطيع أن يحفظ الوديعة بهم، فإذا خالف فإنه يضمن. جاء في الاختيار لتعليل المختار: "لو قال: لا تدفعها إلى شخص عينه من عياله ممن لا بد له منه، فإن لم يكن له عيال سواه لم يضمن، وإن كان له سواه يضمن لأن من العيال من لا يؤتمن على المال" (¬1). الصورة الثانية: إذا نهاه عن الدفع إلى زوجه أو غلامه، وكانت الوديعة مما لا تحفظها الزوجة والغلام، فلو كانت الوديعة فرسًا، ونهاه عن الدفع إلى زوجته، فدفعه إليها ضمن، أو كانت الوديعة عقد جوهر فمنعه من الدفع إلى غلامه، فإنه يضمن بدفعها إليه. الصورة الثالثة: أن تكون الوديعة شيئًا خفيفًا يمكن للوديع أن يحفظه بنفسه كالخاتم، فإنه يضمن بدفعه إلى عياله (¬2). والضابط لهذه المسألة: أن ما كان لاشتراطه فائدة، وكان يمكنه العمل به فإنه يجب عليه التزام هذا الشرط. وإن كان هذا الشرط لا فائدة فيه، أو كان فيه فائدة ولا يمكنه العمل به لم يجب التزامه. قال في العناية: "والأصل فيه أن الشرط إذا كان مفيدًا، والعمل به ممكنًا وجب مراعاته، والمخالفة فيه توجب الضمان. ¬
وإذا لم يكن مفيدًا، أو كان، ولم يمكن العمل به ... يلغو، وعلى هذا إذا نهي عن الدفع إلى امرأته، وله امرأة أخرى أمينة، أو عن الحفظ في الدار، وله أخرى فخالف فهلك ضمن، وإذا نهي عن الحفظ في بيت من دار، فحفظ في غيره، وليس في الذي نهي عنه عورة ظاهرة، أو نهى عن الدفع إلى امرأته، وليس له سواها، أو عن الحفظ في دار ليس له غيرها، فخالف لم يضمن؛ لأن الأول غير مفيد والثاني غير مقدور العمل به" (¬1). القول الثاني: يتخرج على قواعد المالكية والحنابلة أنه إذا اشترط عليه أن يحفظه بنفسه، فخالف من غير ضرورة فإنه يضمن. لأن الأيدي تختلف في الأمانة، فقد يرضى المالك أمانة الوديع، ولا يرضى غيره من عياله. ولأن الأصل في الشروط الجواز والصحة، فإذا قبل الوديع الشرط وجب عليه التزامه. وكما أن المالك لو قال له: ادفع الوديعة إلى فلان، فدفعها لم يضمن، كذلك إذا قال له: لا تدفع الوديعة إلى فلان، فدفعها ضمن. وكما قال الحنابلة في الوديعة إذا نهاه المالك عن إخراجها من حرزها، فأخرجها من غير ضرورة فإنه يضمن، وسبق النقل عنهم في مسألة سابقة، ولله الحمد. ¬
° الراجح: أرى أن القول بشرط المالك أرجح، فإذا خالفه فإن كان لضرورة لم يضمن، وإن كان لغير ضرورة فإن هذا نوع من التعدي يوجب الضمان، والله أعلم.
المسألة الرابعة في استعانة الوديع بغيره في حفظ الوديعة
المسألة الرابعة في استعانة الوديع بغيره في حفظ الوديعة المطلب الأول أن يستعين بالأجنبي بدون عذر [م - 1918] علمنا خلاف الفقهاء في حق الوديع في دفع الوديعة لمن يحفظ ماله من زوج وعيال، وخازن، فهل يملك الوديع أن يدفع الوديعة بلا حاجة إلى أجنبي لا يحفظ ماله؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أن الوديع لا يملك الإيداع بلا عذر، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). جاء في الهداية: "وللمودَع أن يحفظها بنفسه وبمن في عياله ... فإن حفظها ¬
بغيرهم أو أودعها غيرهم ضمن" (¬1). وقال الدردير: "وضمن بإيداعها عند أمين؛ لأن ربها لم يأتمن غيره" (¬2). وجاء في حاشية العدوي: "ومحل الضمان على المودع إذا أودعها لغير زوجته، أو أمته" (¬3). وقال النووي: "وأصلها الأمانة، وقد تفسير مضمونة بعوارض منها أن يودع غيره بلا إذن ولا عذر فيضمن" (¬4). ° حجة هذا القول: الدليل الأول: أن المودِع قد رضي أمانته، ولم يرض أمانة غيره، والأيدي تتفاوت في الأمانة، فإذا أودعها لأجنبي بلا إذن كان ذلك تعديًا منه، لخروجه عن حفظها على الوجة المأوذن، فيكون ضامنًا. الدليل الثاني: أن الوديعة توكيل في الحفظ، والوكيل لا يملك التوكيل في الأصح؛ لأنه غير مفوض في ذلك، فكذلك الوديع. القول الثاني: أن الوديع يملك الإيداع للغير، ولو لم يأذن له المودِع، وهو قول ¬
ابن أبي ليلى، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). قال في المبسوط: "قال ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ... للمودع أن يودع غيره؛ لأنه يحفظ الوديعة على الوجه الذي يحفظ ماله، وقد يودع الإنسان مال نفسه من أجنبي، فكذلك له أن يودع الوديعة من غيره؛ فلا يصير ضامنًا بالدفع إلى غيره ليحفظ، أو يرد كما في حق من في عياله" (¬2). قال ابن مفلح: "ويتوجه تخريج رواية من توكيل الوكيل له الإيداع بلا عذر" (¬3). القول الثالث: إن أودع القاضي لم يضمن، وإن أودع غيره ضمن، وهو قول في مذهب الشافعية (¬4). ° وجه هذا القول: أن أمانة القاضي أظهر من أمانة الوديع، ولأنه نائب الشرع. ° الراجح: أن المودع لا يملك الإيداع للأجنبي إلا من عذر، والعقد لا يعطيه هذا الحق؛ لأن الإيداع عقد على أن يقوم بالحفظ بنفسه، وبمن يحفظ ماله، والأجنبي لا يحفظ ماله، ولو أراد صاحبه غيره لأودعه إياه، فإذا أراد أن يودع أجنبيًّا فليرجع إلى صاحبها، ويأخذ منه إذن في ذلك، والله أعلم. ¬
المطلب الثاني أن يودع الوديع الأجنبي لعذر
المطلب الثاني أن يودع الوديع الأجنبي لعذر الأمر الأول أن يكون العذر حاجته إلى السفر [م - 1919] إذا كان عند الإنسان وديعة، فأراد السفر، فهل يملك إيداعها لأجنبي؟ فإن كان المالك موجودًا فلا يجوز إيداعه لأجنبي إلا بإذنه، فإن أذن، وإلا ردها عليه. وإن لم يكن المالك موجودًا وكان له وكيل فوكيله يقوم مقام المالك؛ لأن يد الوكيل كيد الموكل، وبهذا قال الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة (¬1). جاء في التاج والإكليل: "إن أراد سفرًا، أو خاف عورة، وربها غائب فليودعها ثقة" (¬2). ¬
فإن قوله: (وربها غائب) يفهم منه أن مالكها لو كان حاضرًا لم يصح الإيداع إلا بعد الرجوع إليه. وقال الشافعي في الأم: "وإذا استودع الرجل الرجل الوديعة، فأراد المستودَع السفر فإن كان المستودِع حاضرًا، أو وكيل له لم يكن له أن يسافر حتى يردها إليه، أو إلى وكيله، أو يأذنا له أن يودعها من رأى" (¬1). ° حجة هذا القول: أنه لا يوجد ضرورة في دفع الوديعة إلى أجنبي مع حضور مالكها، فاعتبر إيداعها لأجنبي تصرفًا في ملك غيره، وتعديًا يوجب الضمان. ولأن المالك إنما رضي أمانته ولم يرض أمانة غيره، فصارت يد من ائتمنه عليها يدًا غير مأذون فيها، فصارت متعدية، فلزم الضمان. [م - 1920] وأما إذا عجز الوديع عن الرد أو أخذ الإذن بأن كان صاحبها غير موجود ولا وكيله، فاختلف الفقهاء في حق الوديع في إيداعها لأجنبي من أجل السفر على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يعتبر السفر عذرًا، فلو أودع مال غيره لأجنبي بسبب السفر ضمن، وهذا مذهب الحنفية (¬2). ¬
فإن أودعها فضاعت في يد الثاني، فالضمان على الأول، ولا ضمان على الثاني عند أبي حنيفة. وعند أبي يوسف ومحمد: المالك بالخيار إن شاء ضمن الأول، وإن شاء ضمن الثاني. فإن ضمن الأول لا يرجع بالضمان على الثاني. وإن ضمن الثاني رجع به على الأول. جاء في بدائع الصنائع: "فلو أراد السفر؛ فليس له أن يودع؛ لأن السفر ليس بعذر، ولو أودعها عند من ليس له أن يودعه، فضاعت في يد الثاني فالضمان على الأول، لا على الثاني عند أبي حنيفة. وعند أبي يوسف، ومحمد: المالك بالخيار، إن شاء ضمن الأول وإن شاء ضمن الثاني، فإن ضمن الأول لا يرجع بالضمان على الثاني، وإن ضمن الثاني يرجع به على الأول" (¬1). ° حجة الحنفية: أن السفر ليس عذرًا في دفع الوديعة. ويناقش: بأن القول بأن السفر ليس عذرًا استدلال في محل النزاع. (ح-1170) وقد روى الشيخان من طريق مالك، عن سمي، عن أبي صالح، ¬
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته، فليعجل إلى أهله (¬1). فإذا كان يمنع كمال الطعام والشراب والنوم وهي أركان الحياة مع ما فيه من المشقة والتعب، ومقاساة الحر والبرد والخوف، وخشونة العيش، وكل هذه الأمور تؤثر على قدرة الوديع في حفظ الوديعة، ويتعرض فيها للخطر، ومنه السرقة. القول الثاني: يعتبر السفر عذرًا، فإذا أراد الوديع السفر، ولم يجد صاحبها, ولا وكيله فله أن يدفع الوديعة إلى ثقة. وهذا مذهب المالكية، وأحد القولين في مذهب الشافعية، نص عليه الإمام الشافعي في الأم، وبه قال المزني في مختصره، وأبو إسحاق المروزي، واختاره أبو حامد، وهو رواية عن الإمام أحمد، وبها أخذ بعض أصحابه (¬2). جاء في التهذيب في اختصار المدونة: "وإن أراد سفرًا، أو خاف عورة منزله، ولم يكن صاحبها حاضرًا، فيردها عليه، فليودعها ثقة، ولا يُعرِّضها للتلف، ثم لا يضمن" (¬3). ¬
وقال الشافعي في الأم: "وإذا استودع الرجل الرجل الوديعة، فأراد المستودَع السفر فإن كان المستودِع حاضرًا، أو وكيل له لم يكن له أن يسافر حتى يردها إليه، أو إلى وكيله، أو يأذنا له أن يودعها من رأى، فإن فعل فأودعها من شاء فهلكت ضمن إذا لم يأذنا له، وإن كان غائبًا، فأودعها من يودع ماله ممن يكون أمينًا على ذلك فهلكت لم يضمن" (¬1). قال المزني في مختصره: "وإذا أودعها غيره -يعني الوديع- وصاحبها حاضر عند سفره ضمن، فإن لم يكن حاضرًا، فأودعها أمينًا يودعه ماله لم يضمن" (¬2). ° حجة هذا القول: الدليل الأول: (ح-1171) روى البيهقي من طريق محمَّد بن إسحاق قال: أخبرني محمَّد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة قال: حدثني رجال قومي من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث في خروج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال فيه: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ثلاث ليال وأيامها؛ حتى أدى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الودائع التي كانت عنده للناس، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [قال الحافظ: إسناده قوي] (¬3). ¬
ويناقش: قد يكون علي وكيلًا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويد الوكيل كيد الموكل، فهو نائب عنه، وهو الظاهر؛ لأنه وكله في رد الودائع، وليس الخلاف في دفع الوديعة إلى وكيله ليردها إلى صاحبها، وإنما الخلاف في إيداع الوديعة إلى أجنبي من أجل حفظها، وكون هذا الأجنبي ليس نائبًا عن المودَع. الدليل الثاني: من النظر فإن الوديع لا يمكنه رد الوديعة إلى صاحبها وهو لا يعلم مكان وجوده، ولا يمكننا منعه من السفر؛ لأن هذا حجر عليه، وهو متبرع بالحفظ، ولا يمكنه السفر بها؛ لأن في هذا تعريضًا لها للهلاك، فلم يبق له إلا إيداعها عند ثقة على الوجه الذي يحفظ به ماله لو أراد إيداعه فلا يصير ضامنًا بالدفع إلى غيره في هذه الحالة، والله أعلم. القول الثالث: ذهب الشافعية في المذهب، والحنابلة في المشهور إلى أن الوديع إذا أراد سفرًا، ولم يكن المالك ولا وكيله موجودًا، فإن كان في الموضع حاكم سلم ¬
الوديعة إليه، فإن لم يجد حاكمًا، أو كان موجودًا إلا أنه غير مأمون أودعها ثقة (¬1). قال العمراني في البيان: "فإن دفعها إلى أمين مع وجود الحاكم فقد قال الشافعي: فإذا سافر بها، فأودعها أمينا يودعه ماله لم يضمن. واختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق: لا يضمن؛ لأن الشافعي لم يفرق .... واختاره الشيخ أبو حامد؛ لأنه أودعها أمينا لعذر السفر، فهو كما لو كان الحاكم معدومًا في البلد. وقال أبو سعيد الإصطخري، وأبو علي بن خيران: يجب عليه الضمان؛ لأن الشافعي قال في الرهن: وإذا وضع الرهن على يدي عدل، ثم غاب المتراهنان، أو أحدهما، وأراد العدل السفر دفعه إلى الحاكم. فدل على: أن الدفع إلى غيره لا يجوز، ولأن أمانة الحاكم مقطوع بها، وأمانة الأمين مجتهد فيها، فلم يجز ترك المقطوع به إلى المجتهد فيه، كما لا يجوز ترك النص إلى القياس. ومن قال بالأول حمل نص الشافعي في الرهن إذا تشاح المتراهنان في العدل فإنهما يرفعانه إلى الحاكم ليضعه عند عدل" (¬2). ¬
الراجح: ° أرى أن دفعها إلى القاضي أسلم لصاحبها، فالقاضي له ولاية في أموال الغائبين مستمدة من الشرع، وهي أقوى من الولاية المستمدة من التفويض، والله أعلم.
الأمر الثاني أن يودع مال غيره خوفا من حريق أو غرق
الأمر الثاني أن يودع مال غيره خوفًا من حريق أو غرق [م - 1921] تكلمنا في المبحث السابق في سفر الوديع، وهل يعتبر عذرًا لإيداعه الأمانات التي عنده للناس إلى أجنبي، وفي هذا المبحث نبحث في حق الوديع في الإيداع إذا خاف على الوديعة من حريق أو غرق، فهل يعد هذا عذرًا لإيداعه ملك غيره؟ وكما قلنا في مسألة سفر الوديع، أن المالك إن كان موجودًا فلا يجوز إيداعه لأجنبي إلا بإذنه، فإن أذن، وإلا ردها عليه. وإن لم يكن المالك موجودًا وكان له وكيل فوكيله يقوم مقام المالك؛ لأن يد الوكيل كيد الموكل، وبهذا قال الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة (¬1). أما إذا لم يمكنه الوصول إلى مالكها, ولا وكيله، فقد اختلف العلماء في اعتبار الحريق والغرق عذرًا على قولين: القول الأول: إذا خاف على الوديعة من الحريق والغرق فله أن يودعها لأجنبي، وبهذا قال ¬
الحنفية، والمالكية، والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وألحق المالكية بالخوف على الوديعة: إذا صار بيته عورة يخاف فيه طرق السراق فله أن يودعها من يشق به (¬2). بل إن المالكية أطلقوا الخوف على الوديعة، وجعلوه سببًا في جواز إيداعها لثقة، قال ابن القاسم كما في المدونة: "ألا ترى أن مالكًا قد جعل له إذا خاف، فاستودعها غيره أنه لا يضمن" (¬3). وقال النووي: "وكما يجوز الإيداع بعذر السفر كما تبين، فكذا سائر الأعذار، كما إذا وقع في البقعة حريق، أو نهب، أو غارة، أو خاف الغرق، وليكن في معناها إذا أشرف الحرز على الخراب، ولم يجد حرزًا ينقلها إليه" (¬4). ¬
وإشراف الحرز على الخراب هو معنى ما ذكره المالكية بقولهم: إذا خاف عورة منزله. ° حجة هذا القول: أن الإيداع في حالة الحريق والغرق والخوف تعين طريقًا للحفظ، وهو المقصود من العقد. القول الثاني: أن المودع لا يملك أن يودع غيره مطلقًا، يعني سواء أكان لعذر أم لغير عذر، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). يمكن الاحتجاج لهذا القول: بأن الوديعة توكيل في الحفظ فقط، ولا يتضمن العقد حق التصرف، وإيداع مال الغير تصرف زائد على الحفظ، فلا يملكه بموجب العقد، والوديع إنما رضي أمانته، ولم يرض أمانة غيره. ويجاب: بأن المقصود من العقد هو المحافظة على المال من التلف، فإذا خاف على المال من الهلاك كان له أن يتصرف بما يحفظ به المال، وهو تصرف تمليه الضرورة، والضرورة حالة استثناء، وإذا كان للإنسان أن ينقذ مال غيره من الهلاك، ولو لم يكن مودَعًا، كما لو رأى مالًا يحترق أو يغرق فاجتهد في إنقاذه، ويعتبر محسنًا بذلك، فكذلك إذا خاف على ما في يده من الودائع كان له أن يودعها ثقة، ويكون المقصود إنقاذ المال لا غير، والله أعلم. ¬
° الراجح: جواز الإيداع عند الخوف، والله أعلم.
المبحث الثاني يجب رد الوديعة متى طلبها صاحبها
المبحث الثاني يجب رد الوديعة متى طلبها صاحبها الأمانات مؤداة إلى أربابها: الأبرار منهم والفجار. [م - 1922] تكلمنا في المبحث الأول من آثار عقد الوديعة عن وجوب حفظ الوديعة، ومن يستعين بهم الوديع في الحفظ من أهله وعياله، وحكم الاستعانة في الحفظ بأجنبي، ومتى يكون ذلك سائغًا، ومتى يكون ذلك تعديًا، ونتكلم في هذا المبحث عن آثر آخر من آثار عقد الوديعة، وهو حكم رد الوديعة إذا طلبها صاحبها. وقد ذكر الفقهاء بالاتفاق أنه يجب على المودَع رد الوديعة إلى صاحبها إذا طلبها المودع (¬1). وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، والإجماع، والمعقول. أما الدلالة من الكتاب فلقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. ¬
(ح-1172) وأما الدلالة من السنة فلما روى الإمام أحمد من طريق حميد، عن رجل من أهل مكة، يقال له: يوسف، قال: كنت أنا ورجل من قريش نلي مال أيتام، قال: وكان رجل قد ذهب مني بألف درهم، قال: فوقعت له في يدي ألف درهم، قال: فقلت للقرشي إنه قد ذهب لي بألف درهم، وقد أصبت له ألف درهم، قال: فقال القرشي: حدثني أبي، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك. [هذا إسناده ضعيف؛ لإبهام ابن الصحابي الذي روى عنه يوسف وله شواهد ضعيفة، قال أحمد: لا أعرفه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه صحيح] (¬1). وأما الدلالة من الإجماع فقد قال ابن قدامة: "لا خلاف في وجوب رد الوديعة إلى مالكها إذا طلبها" (¬2). وقال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن الأمانات مؤداة إلى أربابها: الأبرار منهم والفجار" (¬3). ومن النظر: فإن عقد الوديعة عقد جائز من الطرفين، فإذا طلب المالك الوديعة فإن هذا يعني فسخ عقد الإيداع، وهو حق ثابت له، لعدم لزوم العقد في حق كل واحد من الطرفين. قال الكاساني: "ويتعلق بكونها -أي الوديعة- أمانة أحكام، منها: وجوب الرد عند طلب المالك" (¬4). ¬
وقال ابن شاس المالكي: "للوديعة عاقبتان: ضمان عند التلف، ورد عند البقاء، أما الضمان فلا يجب إلا عند التقصير، وللتقصير سبعة أسباب ... ثم ذكرها. العاقبة الثانية في الوديعة: رد العين عند بقائها، وهي واجبة مهما طلب المالك، وانتفى العذر ... " (¬1). وقال ابن حزم: "فرض على من أودعت عنده وديعة حفظها، وردها إلى صاحبها إذا طلبها منه ... " (¬2). ¬
المبحث الثالث الوديعة أمانة في يد المودع
المبحث الثالث الوديعة أمانة في يد المودَع [م - 1923] ذهب الأئمة الأربعة الحنفية، والمالكية، والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة إلى أن الوديعة أمانة في يد الوديع (¬1). قال ابن نجيم الحنفي، وابن رشد المالكي، والشيرازي الشافعي، وابن قدامة الحنبلي: "الوديعة أمانة" (¬2). وإنما كانت الوديعة أمانة؛ لأن صاحبها ائتمن المودع على حفظها، فاطمأن له. واستدل الفقهاء بأن الوديعة أمانة بالسنة، والإجماع، وأقوال الصحابة، ومن النظر. (ح-1173) أما السنة، ما رواه ابن ماجه من طريق أيوب بن سويد، عن المثنى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أوع وديعة فلا ضمان عليه (¬3). ¬
[ضعيف] (¬1). ¬
وجه الاستدلال: دل الحديث على نفي الضمان عن الوديع؛ فدل ذلك على أنها أمانة في يده، وهكذا سائر الأمانات لا تضمن إلا بالتعدي أو بالتفريط. الدليل الثاني: (ح-1174) ما رواه الدارقطني من طريق عمرو بن عبد الجبار، عن عبيدة بن حسان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان. قال الدارقطني: عمرو وعبيدة ضعيفان، إنما يروى عن شريح القاضي غير مرفوع (¬1). قلت: هو في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عن شريح من قوله (¬2). وجه الاستدلال: وجه الاستدلال بهذا الحديث كالاستدلال بالحديث السابق، وأن نفي الضمان على الوديع دليل على أن الوديعة في يده أمانة، والله أعلم. الدليل الثالث: (ث-295) ما رواه البيهقي من طريق حجاج بن أرطأة، عن أبي الزبير، عن ¬
جابر، أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قضى في وديعة كانت في جراب، فضاعت من خرق الجراب ألا ضمان فيها (¬1). [ضعيف، لضعف حجاج بن أرطأة]. الدليل الرابع: (ث-296) روى البيهقي من طريق عبد الله بن الوليد، ثنا سفيان، عن جابر، عن القاسم بن عبد الرحمن، أن عليًّا وابن مسعود - رضي الله عنه - قالا: ليس على مؤتمن ضمان (¬2). [ضعيف من أجل جابر الجعفي]. وجه الاستدلال من الأثرين السابقين أن نفي الضمان على الوديع دليل على أنها في يده أمانة، والأمانات غير مضمونة. الدليل الخامس: من الإجماع، قال أبو إسحاق الشيرازي: "الوديعة أمانة في يد المودَع، فإن تلفت من غير تفريط لم يضمن ... وهو إجماع فقهاء الأمصار" (¬3). وقال الوزير ابن هبيرة: "واتفقوا على أن الوديعة أمانة ... وأن الضمان لا يجب على المودع إلا بالتعدي" (¬4). ¬
الدليل السادس: من النظر، وهو أن الوديع قبض المال لمصلحة مالكها، وهو منه معروف وإحسان، فلا ضمان عليه، فلو ضمن مطلقًا لزهد الناس في قبولها. القول الثاني: أن الوديعة أمانة في يد المودع إلا أن تلفت وحدها من بين ماله فإنه يضمن، وإن لم يتعد ولم يفرط، وبه قضى عمر بن الخطاب (¬1)، وهو رواية عن أحمد، وقال به إسحاق (¬2). قال الزركشي: ينبغي أن يكون محل الرواية إذا ادعى التلف، أما إن ثبت التلف -يعني بلا تعد ولا تفريط- فإنه ينبغي انتفاء الضمان رواية واحدة (¬3). وسوف يأتي إن شاء الله تعالى مناقشة هذا القول في ضمان الوديعة، وإنما البحث هنا مخصص لبيان أن الوديعة أمانة، والضمان أثر مرتب على هذا التوصيف، فإذا قيل بالضمان ولو لم يتعد أو يفرط خرج العقد في هذه الصورة من كونه أمانة. والله أعلم. ¬
الفرع الأول في الإنفاق على الوديعة
الفرع الأول في الإنفاق على الوديعة الإنفاق تبع للملك. من كان الشيء له كانت نفقته عليه. وقيل: قبول الوديعة يعني حفظها من التلف، ومنه الإنفاق عليها. [م - 1924] إذا كانت الوديعة في يد الوديع أمانة، وكانت الوديعة من النوع الذي يحتاج إلى نفقة، فإن نفقتها تجب على مالكها, ولا يجب على الوديع شيء من النفقة، وهذا ظاهر؛ لأن من ملك شيئًا استأثر بغنمه، واختص بغرمه. فإن أنفق عليها مالكها وهي في يد الوديع فذاك، وإن لم ينفق عليها فللوديعة ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يأمره بالإنفاق عليها. فإذا أمره مالكها بالإنفاق عليها، فهل يلزم الوديع النفقة عليها بمجرد أمر صاحبها، أو لا بد من قبول الوديع، في المسألة قولان: القول الأول: يلزمه الإنفاق عليها مطلقًا، وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة (¬1). ¬
قال العمراني في البيان: "إذا أودعه بهيمة، أو غيرها من الحيوان، ففيها ثلاث مسائل: إحداهن: أن يأمره بعلفها وسقيها، فيجب على المودع أن يعلفها ويسقيها؛ لأن للبهيمة حرمتين: حرمة بنفسها، بدليل: أن من ملك بهيمة يجب عليه علفها وسقيها، وحرمة لمالكها، وقد اجتمعتا. فإذا علفها وسقاها رجع على المالك بما أنفق عليها؛ لأنه أخرجها بإذنه" (¬1). ° حجة هذا القول: أن قبول الوديعة يتضمن قبول الإنفاق عليها؛ لأنه مأمور بحفظها، واستدامتها, ولا يتم ذلك إلا بالإنفاق عليها، فقبول الوديعة يعني قبول الإنفاق عليها، وقد تأكد ذلك بأمر صاحبها له بالإنفاق فوجب عليه حرمة للحيوان، وحرمة لمالكها. القول الثاني: قبول الوديعة لا يعني لزوم الإنفاق عليها, ولو أمره صاحبها بذلك إلا إذا قبل الوديع الإنفاق عليها، وهو ظاهر مذهب الحنفية، وذكره ابن قدامة في المغني احتمالًا (¬2). ¬
جاء في الإنصاف: "لو أمره بعلفها: لزمه ذلك مطلقًا، على الصحيح من المذهب. وقيل: لا يلزمه إلا مع قبوله. وهو احتمال في المغني" (¬1). ° وجه القول بذلك: أن قبول الوديعة لا يعني قبول الإنفاق عليها؛ فالوديعة توكيل بالحفظ، وحفظ الوديعة شيء وقبول الإنفاق عليها شيء آخر، فلا بد من قبول الإنفاق عليها صريحًا، فإذا لم يقبل لم يلزمه الإنفاق عليها. ولأن هذا تبرع منه، فلا يلزمه بمجرد أمر صاحبها، كغير الوديعة. جاء في درر الحكام في شرح مجلة الأحكام: "تعود نفقة الوديعة التي تحتاج إلى نفقة كالفرس، والبقرة على صاحبها أي على المودِع ... وعلى هذا التقدير إذا هلكت الوديعة لعدم إنفاق المستودع من ماله، أو لعدم ترك المودِع نفقتها للمستودَع لا يلزم ضمان على المستودع" (¬2). قال ابن قدامة في المغني: "وإذا أودع بهيمة، فأمره صاحبها بعلفها وسقيها، لزمه ذلك لوجهين: أحدهما: لحرمة صاحبها؛ لأنه أخذها منه على ذلك. والثاني: لحرمة البهيمة، فإن الحيوان يجب إحياؤه بالعلف والسقي. ويحتمل أن لا يلزمه علفها إلا أن يقبل ذلك؛ لأن هذا تبرع منه، فلا يلزمه بمجرد أمر صاحبها، كغير الوديعة" (¬3). ¬
° الراجح: أرى أن المالك إذا أودعه وأمره بالإنفاق عليها، وقبل الوديع الوديعة أن ذلك يعني قبوله بالإنفاق عليها؛ لأن قبوله الوديعة، وعدم رفض الإنفاق عليها صراحة يعني قبوله للإنفاق عليها, ولو شاء الوديع لرفض الإنفاق عليها، فلما قبل الوديعة، ولم يرفض أمره بالإنفاق عليها كان هذا قبولًا للأمرين، المحافظة على الوديعة والإنفاق عليها، فإذا ترك الإنفاق ضمن، والله أعلم. الحالة الثانية: أن ينهاه عن الإنفاق عليها، وهذا بمنزلة ما لو أمره المالك بإتلاف ماله، فهل يمتثل أمره، وإذا امتثل أمره فهل يضمن, في تلك خلاف بين العلماء: القول الأول: إذا نهاه عن الإنفاق لم ينفق، ولا ضمان عليه، وهذا مقتضى مذهب الحنفية؛ لأنهم إذا كانوا يقولون: لا يضمن إذا ترك الإنفاق ولو كان في حال لم يأمره به ولم ينهه عنه، فمن باب أولى لا ينفق ولا يضمن إذا نهاه عن الإنفاق (¬1). جاء في درر الحكام في شرح مجلة الأحكام: "تعود نفقة الوديعة التي تحتاج إلى نفقة كالفرس، والبقرة على صاحبها أي على المودِع ... وعلى هذا التقدير إذا هلكت الوديعة لعدم إنفاق المستودع من ماله، أو لعدم ترك المودِع نفقتها للمستودَع لا يلزم ضمان على المستودع" (¬2). ° وجه القول بأنه لا ينفق ولا يضمن: الوديعة معقودة من أجل حفظ العين، وليس على الإنفاق عليه، والنفقة تجب ¬
على مالكها، فمنزلة الوديع في النفقة على الوديعة كمنزلة الرجل الأجنبي لا يجب عليه الإنفاق على مال غيره حتى ولو لم ينهه، فإذا أكد ذلك بالنهي عن الإنفاق فتلفت كان هو المتلف لماله، فلا ضمان على المودَع. القول الثاني: ذهب المالكية، والإصطخري من الشافعية وصححه الماوردي في الحاوي إلى أنه يحرم عليه امتثال أمره، وإذا فعل فإنه يضمن (¬1). جاء في حاشية الدسوقي: "لا يجوز للمودع إتلاف الوديعة، ولو أذن له ربها في إتلافها، فإن أتلفها ضمنها لوجوب حفظ المال" (¬2). جاء في الحاوي: "أن ينهاه عن علفها فلا يجوز له في حق الله تعالى أن يدع علفها ... وإن تركها فلم يعلفها حتى هلكت فالمحكي عن جمهور أصحابنا أنه لا يضمن ... وقال أبو سعيد الإصطخري: يضمن، وهو الأصح عندي؛ لأنه شرط قد منع الشرع منه فكان مطرحًا" (¬3). الدليل على تحريم الامتثال: الدليل الأول: أن إتلاف المال في غير منفعة دينية أو دنيوية محرم، وهو من تبذير المال، وقد قال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27]. ¬
الدليل الثاني: إتلاف المال إضاعة له، وقد نهى الشارع عن إضاعته. (ح-1175) فقد روى البخاري من طريق الشعبي، قال: حدثني كاتب المغيرة بن شعبة، قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: أن اكتب إلي بشيء سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكتب إليه: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال (¬1). الدليل الثالث: أن الوديعة إذا كانت حيوانًا فنهى المالك الوديع عن إعلافها كان ذلك تعذيبًا للحيوان، وهو محرم؛ لأنها نفس محترمة. وأما الدليل على وجوب الضمان: الدليل الأول: (ح-1176) ما رواه مسلم من طريق القاسم بن محمَّد، قال: أخبرتني عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (¬2). الدليل الثاني: أن هذا الشرط مخالف للشرع، وكل شرط يخالف الشرع فهو باطل غير معتبر. (ح-1177) فقد روى البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن ¬
عائشة - رضي الله عنها - في قصة شراء بريرة، وفي الحديث: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق, وشرط الله أوثق ... الحديث (¬1). الدليل الثالث: أن الوديعة بإيداعها وجب عليه حفظها، فصار إذنه في إتلافها شرطًا مناقضًا لمقتضى العقد، فيلغى (¬2). ولأن العقد إذا كان على الحفظ، فهو كما يشمل حفظ العين يشمل المحافظة عليها من التلف، فيدخل فيه الإنفاق. القول الثالث: ذهب جمهور الشافعية والحنابلة إلى أنه يحرم عليه امتثال أمره، وإذا فعل لم يضمن (¬3). الدليل على تحريم الامتثال: سبق ذكر الأدلة في القول السابق. ¬
والدليل على أنه لا يضمن: أن الوديع ممتثل أمر مالكها فهو كما لو أمره بقتلها، فلا يستحق عليه الضمان، وذلك أن المسألة يتعلق بها حقان: التحريم وهو تعذيب الحيوان، وهذا الحق لله تعالى، وحق الضمان وهو حق للآدمي، وقد رضي بإسقاطه، فلا يلزم من التحريم وجوب الضمان. ° الراجح: أرى أن مذهب الشافعية والحنابلة هو الأقوى. الحال الثالثة: أن يسكت، فلا يأمره بالإنفاق ولا ينهاه عن الإنفاق. وفي هذه الحالة للوديع مراجعته أو مراجعة وكيله، والمطالبة بالإنفاق عليها، أو ردها، أو الإذن له بالإنفاق، والرجوع عليه بها (¬1). جاء في الإقناع: "وإن قدر المستودع على صاحبها أو وكيله طالبه بالإنفاق عليها أو بردها عليه أو يأذن له في الإنفاق عليها ليرجع به" (¬2). [م - 1925] وإن كان غائبًا، فهل يلزمه الإنفاق عليها؟ في المسألة خلاف بين العلماء: القول الأول: لا يلزمه الإنفاق عليها، وهذا مذهب الحنفية (¬3). ¬
جاء في درر الحكام في شرح مجلة الأحكام: "تعود نفقة الوديعة التي تحتاج إلى نفقة كالفرس، والبقرة على صاحبها أي على المودِع ... وعلى هذا التقدير إذا هلكت الوديعة لعدم إنفاق المستودع من ماله، أو لعدم ترك المودع نفقتها للمستودع لا يلزم ضمان على المستودع" (¬1). ° وجه القول بأنه لا يلزمه الإنفاق عليها: أن العقد هو على الحفظ، وليس على الإنفاق، والنفقة على مالكها، فإذا لم ينفق عليها كان هو المفرط في ماله. القول الثاني: يلزمه الإنفاق عليها, ولو ترك الإنفاق ضمن، وهو قول في مذهب الحنفية، والمذهب عند المالكية، والشافعية، والحنابلة (¬2). ¬
جاء في قرة عين الأخيار: "ولو أنفق عليها بلا أمر قاض فهو متبرع، ولو لم ينفق عليها المودع حتى هلكت يضمن" (¬1). وجاء في الإشراف للقاضي عبد الوهاب: "إذا أودع عنده بهيمة، ولم يأمره أن يعلفها, لزم المودع أن يعلفها أو يرفعها إلى الحاكم، فيتداين على صاحبها في علفها أو يبيعها عليه إن كان قد غاب، فإن تركها ولم يعلفها فتلفت ضمن. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه علفها. فدليلنا أن المودع مأمور بحفظ الوديعة ... " (¬2). وجاء في نهاية المطلب: "إذا أودع عند إنسان دابة، ولم يتعرض لعلفها وسقيها، وغاب، فليس للمودع أن يعطلها، ويقطع عنها ما تحتاج إليه، خلافا لأبي حنيفة، ومعتمد المذهب أن قبول الوديعة يتضمن القيام بحفظها واستدامتها, وليس من استدامتها أن تعطل حتى تهلك، وهذا يعتضد بالعرف أيضًا، فإن الدواب لا تقبل لتقتل وتترك حتى تموت وتهلك ضياعًا وجوعًا" (¬3). وجاء في المغني: "وإن أطلق، ولم يأمره بعلفها لزمه ذلك أيضًا، وبهذا قال الشافعي. ويحتمل ألا يلزمه ذلك، وبه قال أبو حنيفة ... ولنا أنه لا يجوز إتلافها، والتفريط فيها، فإذا أمره بحفظها تضمن ذلك علفها، وسقيها ... " (¬4). ¬
° وجه القول بوجوب علفها: أن قبول الوديعة يعني حفظها واستدامتها، فإذا ترك علفها فقد عرضها للهلاك فيضمن أشبه ما لو لم يحرزها. وهذا هو القول الراجح؛ لأن الله نهى عن إضاعة المال، والله أعلم. هذا ما يخص الكلام في الضمان إذا ترك الإنفاق عليها، وأما كيفية الإنفاق عليها، وهل يلزم أن يكون الإنفاق عليها من مال الوديع أو من غيره، وهل يلزم أن يرجع إلى القاضي حتى يأذن له بالإنفاق، أو في تأجيرها والإنفاق عليها من غلتها، أو في بيعها وحبس ثمنها لصاحبها فهذا ما سوف نكشفه في المبحث التالي إن شاء الله تعالى.
الفرع الثاني في صفة الإنفاق
الفرع الثاني في صفة الإنفاق [م - 1926] تكلمت في المبحث السابق هل يلزم الوديع الإنفاق على الوديعة، أو لا يلزمه؟ وفي حال ترك الإنفاق عليها، هل يضمن الوديعة، أو لا يضمن؟ ونريد أن نتكلم في هذا المبحث عن طريقة الإنفاق على الوديعة، فإذا قلنا: إن قبول الوديعة يعني المحافظة عليها، ومن المحافظة عليها الإنفاق عليها، فكيف ينفق على ملك غيره؟ القول الأول: يرى الحنفية أن على المودع أن يرفع الأمر إلى القاضي، فإذا أقام البينة على أن العين وديعة عنده، وأن صاحبها غائب، فإن أمكن تأجير الوديعة، والإنفاق عليها من غلتها أمره القاضي بذلك، وإلا فللقاضي أن يأمره بالإنفاق عليها اليوم واليومين والثلاثة رجاء أن يحضر صاحبها, ولا يأمره بالإنفاق أكثر من ذلك، بشرط ألا يتجاوز ما صرفه الثلاثة أيام قيمة العين المودعة إلا أن تكون عبدًا، فإذا لم يحضر أمره بالبيع وإمساك الثمن، وما أنفقه عليها في الثلاثة أيام يرجع به على صاحبها. وإن أنفق عليها بدون الرجوع إلى القاضي كان متبرعًا. هذا ملخص مذهب الحنفية (¬1). ¬
جاء في الفتاوى الهندية: "لو أنفق على الوديعة حال غيبة المالك بغير أمر القاضي كان متبرعًا ... وإن رفع الأمر إلى القاضي سأله القاضي البينة على كون العين الوديعة عنده، وعلى كون المالك غائبًا، فإذا أقام بينة على ذلك، فإن كانت الوديعة شيئًا يمكن أن يؤاجر، وينفق عليه من غلتها أمره القاضي بذلك، وإن كانت الوديعة شيئًا لا يمكن أن يؤاجر فالقاضي يأمره بأن ينفق عليها من ماله يومًا أو يومين، أو ثلاثة رجاء أن يحضر المالك، ولا يأمره بالإنفاق عليها زيادة على ذلك، بل يأمره بالبيع وإمساك الثمن والحاصل أن القاضي يفعل بالوديعة ما هو أصلح وانظر في حق صاحبها، وإن كان القاضي أمره بالبيع في أول الوهلة كان جائزا وما أنفق المودع على الوديعة بأمر القاضي فهو دين على صاحبها يرجع به عليه إذا حضر غير أن في الدابة يرجع بقدر قيمة الدابة لا بزيادة على ذلك، وفي العبد يرجع بالزيادة على قيمته، كذا في المحيط" (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن الوديعة إن احتاجت إلى نفقة، وقام المودَع بذلك فإنه يرجع على صاحبها بما أنفق عليها مطلقًا، حتى ولو كان ذلك بدون إذن المالك، ولا إذن القاضي. قال ابن عبد البر: "وما أنفق المودع على الوديعة فعلى ربها، سواء أذن له أو لم يأذن له إذا احتاجت إلى ذلك" (¬2). ¬
القول الثالث: قسم الشافعية حال الوديعة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: إذا أمره بالإنفاق عليها، فلا يخلو حاله في الإذن من أحد أمرين: إما أن يشترط له الرجوع، أو لا: فإن اشترط له الرجوع ففي وجوب تقديره للنفقة وجهان: أحدهما: يجب تقدير النفقة لتنتفي الجهالة عن ضمانها, وليزول الخلف بينهما في قدرها، فإن أنفق عليها من غير تقدير النفقة كان متطوعًا لا يرجع بنفقته، وإن قدر له قدرًا رجع به، وإن زاد عليه كان متطوعًا. الوجه الثاني: لا يجب تقديرها؛ فإذا أذن له بالنفقة عليها كان له أن يتولاها المستودع بنفسه، ويقبل قوله في قدرها إذا لم يدع سرفًا؛ لأنه أمين. وإن لم يشترط له الرجوع بالنفقة حين أمره بالنفقة، ففي رجوعه على المالك وجهان: أحدهما: يرجع اعتبارًا بالأغلب من حال الإذن؛ ولأنه أخرجها بإذنه فلم يكن متطوعًا. والثاني: لا يرجع؛ لأن الإذن لم يتضمن اشتراط الرجوع. القسم الثاني: إذا أودعه ونهاه عن الإنفاق عليها، فعليه أن يأتي الحاكم حتى يجبر المالك على علفها إن كان حاضرًا، أو يأذن له القاضي في علفها إن كان غائبًا، فإن علفها من غير حكم حاكم لم يرجع.
القسم الثالث: إذا أودعه ولم يأمره بالإنفاق، ولم ينهه عن النفقة، فإنه يرجع إليه أو إلى وكيله ليستردها، أو يعطي علفها، فإن لم يظفر بهما، رفع الأمر إلى الحاكم ليقترض على المالك، أو يؤجرها، ويصرف الأجرة في مؤنتها، أو يبيع جزءًا منها أو جميعها إن رآه كما لو خاف أن ينفق عليها أكثر من قيمتها. فإن رأى الحاكم أن يأذن للمستودع في النفقة عليها، فهل يلزمه تقديرها له أم لا؟ على ما ذكرنا من الوجهين في المالك لو كان هو الآذن. وهل يجوز أن يتولى النفقة عليها بنفسه، أو ينصب له أمينا يأخذها منه؟ على وجهين. فإن أنفق بغير إذن الحاكم، فإن أمكنه الحاكم، أو لم يمكنه ولم يشهد على النفقة فلا رجوع. وإن لم يقدر على الحاكم، فإن لم ينو الرجوع، ولم يشهد لم يرجع؛ لأن الظاهر أنه متطوع. وإن أشهد على الإنفاق ليرجع، فهل له أن يرجع؟ فيه وجهان: أحدهما: يرجع؛ لأنه موضع ضرورة. والثاني: لا يرجع؛ لأنه لا ولاية له عليه. فإن تعذر الإشهاد، قال ابن الصباغ: ينوي الرجوع، فأقام نية الرجوع مقام الإشهاد عند تعذر الإشهاد. والمعتمد أنه لا يكفي نية الرجوع إن تعذر الإشهاد؛ لأنه عذر نادر. قال أبو إسحاق المروزي: فإذا قلنا: له أن يرجع بما أنفق بنفسه فله أن يبيع
البهيمة، ويحفظ ثمنها لمالكها، أو يبيع جزءًا منها، أو يؤجرها مما يرى المصلحة في ذلك؛ لأنا قد أقمناه مقام الحاكم في ذلك (¬1). هذا تحرير مذهب الشافعية في المسألة، والله أعلم. القول الرابع: ذهب الحنابلة إلى أن المستودع إن قدر على صاحبها أو وكيله طالبه بالإنفاق عليها أو بردها عليه، أو أن يأذن له في الإنفاق عليها ليرجع به. فإن عجز عن صاحبها ووكيله رفع الأمر إلى الحاكم، فإن وجد لصاحبها مالًا أنفق عليها منه، وإن لم يجد فعل ما يرى فيه الحظ لصاحبها من بيعها، أو بيع بعضها وإنفاقه عليها، أو إجارتها، أو الاستدانة على صاحبها فيدفعه إلى المودع أو غيره فينفق عليها، ويجوز أن يأذن للمودع أن ينفق عليها من ماله، ويكون المودع قابضًا من نفسه لنفسه، ويكل ذلك إلى اجتهاده في قدر ما ينفق ويرجع به على صاحبها ... وإذا أنفق عليها بإذن حاكم رجع به قولًا واحدًا. وإن كان بغير إذنه مع تعذره، وأشهد على الإنفاق رجع به. قال الحارثي: رواية واحدة حكاه الأصحاب. وإن كان مع إمكان إذن الحاكم، ولم يستأذنه، بل نوى الرجوع لم يرجع على الصحيح من المذهب. ¬
وقيل: يرجع؛ لأنه مأذون فيه عرفًا، اختاره جمع من الحنابلة (¬1). هذا هو تحرير المذاهب في مسألة كيفية النفقة، وملخصه ما يلي: القول الأول: يرى جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة في المشهور أنه لا ينفق عليها حتى يرجع إلى القاضي مع إمكان الرجوع، فإن أنفق عليها مع إمكان الرجوع إلى القاضي فليس له الرجوع على صاحبها بما أنفقه عليها؛ بل يكون متبرعًا بما أنفقه. ° وجه القول بوجوب الرجوع إلى القاضي: أن القاضي له ولاية النظر في أموال الغائبين، فهو ينوب عن أصحابها، فإذا أمره بالإنفاق كان كما لو أمره صاحبها بذلك، ولأن القاضي وحده الذي له النظر في تقدير الأصلح في حق صاحبها من الإنفاق أو البيع، أو التأجير والإنفاق عليها من غلتها. فإذا ترك الرجوع إلى القاضي مع إمكانه فإن ذلك يعني أنه متطوع بما أنفق؛ فهو بمنزلة ما لو كان بإمكانه الرجوع إلى صاحبها واستئذانه، فأنفق عليها بدون الرجوع إلى صاحبها لم يستحق شيئًا، فكذلك إذا ترك الرجوع إلى القاضي مع إمكانه. القول الثاني: له الرجوع على صاحبها بما أنفق عليها، سواء رجع إلى القاضي أو لم يرجع، وسواء أذن له صاحبها أو لم يأذن، وهذا مذهب المالكية. ¬
° وجه القول بذلك: أن المودع مأمور بحفظها، ومن حفظها الإنفاق عليها، وهو مؤتمن، والأمين مصدق إذا ادعى ما يشبه في النفقة عليها. القول الثالث: يرجع به إذا أشهد، ونوى الرجوع، ولو لم يرجع إلى الحاكم، وهذا قول في مذهب الحنابلة. وجهه: قاسه الحنابلة على ما إذا قضى دين غيره بنية الرجوع على صاحبه فله الرجوع بل هذه أولى؛ لأن للحيوان حرمة في نفسه توجب تقديمه على قضاء الدين. وإذا أنفق عليها مع تعذر الرجوع إلى القاضي: فقيل: له الرجوع إن نوى الرجوع، وأشهد على ذلك، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة. لأنه لما تعذر الرجوع إلى المالك والقاضي قام المودع مقام القاضي بالنظر في مال الغائب للضرورة. وقيل: له الرجوع إذا نوى الرجوع، ولو لم يشهد، وهو قول في مذهب الحنابلة بناء على أنه مأمور بالحفظ، ومؤتمن عليه. وأما مذهب المالكية فقد تقدم أن له الرجوع مطلقًا، سواء رجع إلى الحاكم أو لم يرجع، والله أعلم.
الفرع الثالث الوديعة لا تضمن إلا بالتعدي أو بالتفريط
الفرع الثالث الوديعة لا تضمن إلا بالتعدي أو بالتفريط الوديعة أمانة في يد المودَع، فإن تلفت من غير تفريط لم يضمن. هلاك الأمانة في يد الأمين كهلاكها في يد صاحبها. [م - 1927] إذا كانت الوديعة أمانة من الأمانات، ترتب على هذا التوصيف ألا ضمان على المودع إذا تلفت من غير تعد منه ولا تفريط. والتعدي: بأن يفعل ما ليس له فعله. والتفريط: بأن يترك ما يجب عليه فعله. وهذه المسألة منها ما هو محل وفاق، ومنها ما هو محل خلاف: أما ما هو محل وفاق: فإن الوديعة إذا تلفت بتعديه وتفريطه ضمن بلا خلاف (¬1). وكذلك لو تلفت مع ماله من غير تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه بلا نزاع (¬2). وعليه يحمل الإجماعات المنقولة في دواوين الفقه. قال أبو إسحاق الشيرازي: "الوديعة أمانة في يد المودَع، فإن تلفت من غير تفريط لم يضمن .... وهو إجماع فقهاء الأمصار" (¬3). ¬
وقال الوزير ابن هبيرة: "واتفقوا على أن الوديعة أمانة ... وأن الضمان لا يجب على المودع إلا بالتعدي" (¬1). وقال ابن المنذر: "أجمع أكثر أهل العلم على أن المودع إذا أحرز الوديعة، ثم تلفت من غير جنايته أن لا ضمان عليه" (¬2). فالتعبير بأنه إجماع أكثر أهل العلم يشير إلى أن في المسألة خلافًا وإن كان في بعض الصور. وقال ابن رشد: "اتفقوا على أنها أمانة لا مضمونة إلا ما حكي عن عمر بن الخطاب" (¬3). [م - 1928] واختلفوا في الوديعة إذا تلفت وحدها من بين مال الوديع، وإن لم يتعد أو يفرط على قولين: القول الأول: لا ضمان عليه، وهي أمانة في يده مطلقًا من غير فرق بين ما إذا كان الحفظ بأجرة أو بدون أجرة. وهو مذهب المالكية، والشافعية. ووافقهم الحنابلة على أنها أمانة، غير مضمونة إلا أنهم منعوا أخذ الأجرة على حفظ الوديعة" (¬4). ¬
وقد سبق بحث أخذ الأجرة على الوديعة في مسألة مستقلة. ° دليل من قال: لا ضمان: الدليل الأول: قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]. وجه الاستدلال: المودع إذا حفظ الوديعة فإنه يقوم بذلك لمصلحة مالكه، لا لمصلحته، وهو بذلك محسن بما يقوم به، فإذا تلفت الوديعة بلا تعد ولا تفريط فلا سبيل عليه، وإلزامه بالضمان نوع من السبيل. قال الشيخ السعدي: "ويستدل بهذه الآية على قاعدة وهي: أن من أحسن على غيره، في نفسه، أو في ماله، ونحو ذلك، ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف، أنه غير ضامن؛ لأنه محسن، ولا سبيل على المحسنين، كما أنه يدل على أن غير المحسن -وهو المسيء- كالمفرط، أن عليه الضمان" (¬1). وفي تفسير القاسمي: "يدل على أن المستودع والوصيّ والملتقط لا ضمان عليهم مع عدم التفريط، وأنه لا يجب عليهم الرد" (¬2). ¬
الدليل الثاني: قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. قال ابن نجيم الحنفي، وابن رشد المالكي، والشيرازي الشافعي، وابن قدامة الحنبلي: "الوديعة أمانة" (¬1). وإنما كانت الوديعة أمانة؛ لأن صاحبها ائتمن المودع على حفظها، فاطمأن عليه، وإذا كانت الوديعة أمانة فإن الأمانات لا تضمن إلا بالتعدي. الدليل الثالث: الأصل عدم الضمان، وهذا كاف في الاستدلال، فمن قال: عليه الضمان هو المطالب بالدليل. قال الشوكاني: "الأصل الشرعي عدم الضمان؛ لأن مال الوديع معصوم بعصمة الإسلام، فلا يلزم منه شيء إلا بأمر الشرع، ولا يحتاج مع هذا الأصل إلى الاستدلال على عدم الضمان بما لم يثبت" (¬2). (ح-1178) والدليل على عصمة مال الوديع ما رواه الشيخان من حديث أبي بكرة، وفيه: فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب ... (¬3). ¬
الدليل الرابع: (ح-1179) ما رواه ابن ماجه من طريق أيوب بن سويد، عن المثنى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أودع وديعة فلا ضمان عليه (¬1). [ضعيف] (¬2). الدليل الخامس: (ح-1180) ما رواه الدارقطني من طريق عمرو بن عبد الجبار، عن عبيدة بن حسان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان. [ضعيف جدًّا] (¬3). الدليل السادس: (ث-297) ما رواه عبد الرزاق، قال: أخبرنا قيس بن الربيع، عن الحجاج، عن هلال، عن عبد الله بن عكيم الجهني قال: قال عمر بن الخطاب: "العارية بمنزلة الوديعة، ولا ضمان فيها إلا أن يتعدى (¬4). [ضعيف] (¬5). ¬
الدليل السابع: المودع يقبض الوديعة لمصلحة مالكها، فلو لزمه الضمان لامتنع الناس من قبول الوديعة، وهذا مضر لما في الناس من الحاجة إليها لحفظ أموالهم. القول الثاني: إن تلفت وحدها من بين ماله ضمن، وإن لم يتعد ولم يفرط، وبه قضى عمر بن الخطاب (¬1)، وهو رواية عن أحمد، وقال به إسحاق (¬2). قال الزركشي: ينبغي أن يكون محل الرواية إذا ادعى التلف، أما إن ثبت التلف -يعني بلا تعد ولا تفريط- فإنه ينبغي انتفاء الضمان رواية واحدة (¬3). ° حجة هذا القول: (ث-298) ما رواه ابن الجعد في مسنده" قال: أخبرنا شعبة، عن قتادة، عن النظر بن أنس، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن عمر ضمنه وديعة سرقت من بين ماله (¬4). [صحيح] (¬5). ¬
القول الثالث: أن الوديعة إذا هلكت بما لا يمكن التحرز منه كحريق وغرق غالبين فلا ضمان على الوديع مطلقًا سواء أكانت بأجر أم بدون أجر. وأما إن هلكت بما يمكن التحرز منه، فينظر: إن كانت بغير أجر، فلا ضمان على الوديع؛ لأنها هلكت بدون تعد ولا تفريط. وإن كان الحفظ بأجر فإن عليه الضمان. وهذا مذهب الحنفية (¬1). جاء في مجمع الضمانات: "الوديعة ما يترك عند الأمين، وهي أمانة في يد المودَع إذا هلكت لا يضمنها كما في الهداية وغيرها. ¬
قال في الأشباه: الوديعة أمانة إلا إذا كانت بأجر فمضمونة، ذكره الزيلعي انتهى" (¬1). جاء في مجلة الأحكام العدلية: "الوديعة أمانة في يد الوديع. بناء عليه: إذا هلكت بلا صنع المستودع أو تعديه، أو تقصيره في الحفظ فلا يلزمه الضمان، إلا إذا كان الإيداع بأجرة على حفظ الوديعة، فهلكت، أو ضاعت بسبب يمكن التحرز منه لزم المستودع ضمانها" (¬2). ° وجه القول بالضمان: أن الحفظ إذا كان في مقابل أجر يصبح مستحقًا على الوديع؛ إذ الأجر في مقابل الحفظ، فإذا تلفت بأمر يمكنه التحرز منه كان ضامنًا حيث لم يقم بالعمل الواجب عليه. ° الراجح: أرى أن قول الجمهور أقوى، والوديعة أمانة سواء كانت بأجرة أو بغير أجرة، أرأيت العين المستأجرة قد قبضت في مقابل عوض، ومع ذلك هي أمانة في يد المستأجر، وأما القول بأنها إذا هلكت من بين ماله فإنه يضمن هذا القول أرى أن الخلاف فيه لا يدخل تحت مسألة، هل الوديعة أمانة، أو مضمونة؛ لأن التضمين في هذه المسألة إنما هو للتهمة، كما أن القول بتضمين المودع إذا تعدى أو فرط لا يخرج الوديعة عن عقود الأمانات فكذلك هنا, ولذلك عبر ابن المنذر بقوله: وقال أحمد وإسحاق: لا يضمن صاحب الوديعة إلا أن يتهم ¬
بريبة، كما ضمن عمر أنسًا (¬1)، والتهمة هنا: هو مظنة التفريط، حيث حفظ ماله دون الوديعة. وقال معمر كما في مصنف عبد الرزاق: لأن عمر اتهمه يقول: كيف ذهبت من بين مالك؟! والله أعلم. ¬
الفرع الرابع في إتلاف المودع الوديعة
الفرع الرابع في إتلاف المودع الوديعة المسألة الأولى في الحكم التكليفي [م - 1929] إذا فعل المودع بالوديعة ما يؤدي إلى إتلافها وذلك بتعريضها للضياع كأن يلقيها الوديع في مفازة، أو يحفظها في غير حرز مثلها، أو يقوم بإحراقها، أو باستهلاكها أو نحو ذلك، فما حكم هذا التصرف؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أن ذلك الفعل محرم على المستودع في حال السعة والاختيار، وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم (¬1). وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، والإجماع، والنظر. أما الكتاب فلقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. وقوله تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]. والأمر بأداء الأمانة أمر بالمحافظة عليها، وعدم إتلافها. ¬
وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. وقد قام عقد الوديعة على التزام الوديع بالمحافظة على الوديعة بما يحفظ به ماله، فإتلافها خيانة للمودِع، وترك لما وجب عليه من القيام بحفظها. (ح-1181) وأما من السنة، فالدليل على عصمة مال المودِع ما رواه الشيخان من حديث أبي بكرة، وفيه: فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب ... (¬1). وقد نهى الشرع عن إضاعة المال، وإتلاف مال المودِع إضاعة له. (ح-1182) فقد روى البخاري من طريق الشعبي، قال: حدثني كاتب المغيرة بن شعبة، قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: أن اكتب إلي بشيء سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكتب إليه: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السوال (¬2). فإطلاق النهي عن إضاعة المال يشمل الأمانات التي يجب حفظها إن لم يكن دخولها فيه دخولًا أوليًّا؛ لأن إتلافه فيه مخالفتان، أحدهما: إتلاف مال معصوم، والثاني: ترك الحفظ الواجب بالعقد. وأما الإجماع، فقد قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن المودع ممنوع من استعمال الوديعة، ومن إتلافها" (¬3). ¬
ومن النظر: فإن المقصود من الإيداع هو حفظ العين لصاحبها، فإذا أتلفها المودِع كان هذا مناقضًا لمقصود العقد. القول الثاني: ذهب ابن عبد البر إلى أن التعدي على مال المودع محرم إلا أن يكون له مال مأمون يرجع إليه إن تلفت الوديعة بتعديه، فله استهلاكه، وترك التعدي أفضل. قال في الكافي: "ولا يجب لأحد أن يتعدى في وديعة عنده فيتلفها إلا أن يكون له مال مأمون يرجع إليه إن تلفت الوديعة بتعديه، وترك التعدي في الوديعة أفضل" (¬1). ° الراجح: أرى أن القول الأول هو الراجح، ووجوب الضمان لا يعني إباحة التعدي، ولو قيل بقول ابن عبد البر يرحمه الله لكان ذلك يعني إباحة الاعتداء على أموال الناس إذا كان الإنسان قادرًا على ضمانها, ولا يقول بذلك أحد، والله أعلم. ¬
المسألة الثانية الحكم الوضعي لتعدي الوديع
المسألة الثانية الحكم الوضعي لتعدي الوديع الأمانات تضمن بالتعدي. [م - 1930] إذا تعدى الوديع على الوديعة أو فرط في حفظها حتى ضاعت فإنه ضامن لصاحبها، وهذا بالاتفاق (¬1). جاء في الهداية: "الأمانات تضمن بالتعدي" (¬2). وقال الماوردي الشافعي: "الأمانات تضمن بالتعدي" (¬3). وقال ابن قدامة: "الأمين لا يضمن ما لم يوجد منه تفريط أو عدوان" (¬4). ولأن الوديعة ملك لصاحبها بالاتفاق، فإذا أتلفها الوديع أو تسبب في إتلافها فقد أتلف مال غيره، وإتلاف مال الغير بدون إذنه موجب للضمان باتفاق أهل العلم. وأنواع التعدي والتفريط كثيرة لا تنحصر، والمرجع عند الفقهاء في معرفة ذلك إلى عرف الناس، وهو يختلف باختلاف الأموال، والأزمنة، والأمكنة، ¬
وسوف نعرض إن شاء الله تعالى لبعض الأفعال التي تعتبر تعديًا في الفصل الثاني من هذا الباب، وما لم يذكر فإنه مقيس على ما ذكر.
المسألة الثالثة في ارتفاع الضمان برجوعه عن التعدي
المسألة الثالثة في ارتفاع الضمان برجوعه عن التعدي الأمانة المحضة تبطل بالتعدي. [م - 1931] إذا تعدى الوديع أو فرط، ثم رد بدلها فهل تعود له الأمانة، أو يبقى ضامنًا حتى يدفع الوديعة إلى صاحبها؟ في ذلك خلاف بين العلماء: القول الأول: إذا زال التعدي زال الضمان، وهذا مذهب الحنفية (¬1). قال ابن نجيم: "تعدى في الوديعة: بأن كانت دابة فركبها، أو ثوبًا فلبسه، أو عبدًا فاستخدمه، أو أودعها غيره، ثم أزال التعدي فردها إلى يده بريء عن الضمان؛ لأنه مأمور بالحفظ في كل الأوقات، فإذا خالف في البعض ثم رجع أتى بالمأمور به، كما إذا استأجره للحفظ شهرًا فترك الحفظ في بعضه، ثم حفظ في الباقي استحق الأجرة بقدره. وقد قدمنا في باب الجنايات على الإحرام عن الظهيرية أنه يزول الضمان عنه بشرط أنه لا يعزم على العود إلى التعدي، حتى لو نزع ثوب الوديعة ليلًا ومن عزمه أن يلبسه نهارًا، ثم سرق ليلًا لا يبرأ عن الضمان" (¬2). وقال سبط ابن الجوزي: "المودع إذا خالف في الوديعة، ثم عاد إلى الوفاق بريء من الضمان، وهو قول مالك. ¬
وقال زفر: لا يبرأ، وهو قول الشافعي وأحمد" (¬1). القول الثاني: إذا تعدى ثم أزال التعدي فإنه ضامن حتى يردها إلى صاحبها، وهو مذهب الشافعية والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). قال ابن رجب: "إذا تعدى في الوديعة بطلت، ولم يجز له الإمساك، ووجب الرد على الفور؛ لأنها أمانة محضة، وقد زالت بالتعدي، فلا تعود بدون عقد متجدد. هذا هو المشهور" (¬3). ° وجه هذا القول: أن الوديعة تضمن بالتعدي تارة، وبالجحود أخرى، فلما كان لو ضمنها بالجحود، ثم اعترف لم يسقط عنه الضمان، وجب إذا ضمنها بالتعدي، ثم كف أن لا يسقط عنه الضمان، ولأن الوديعة مال وجب ضمانه بهتك الحرز، فوجب ألا يسقط ضمانه بعوده إلى الحرز (¬4). القول الثالث: ذهب المالكية إلى التفريق بين الوديعة المثلية، وبين الوديعة القيمية: فإن تعدى على وديعة مثلية كالدراهم والدنانير، أو كانت الوديعة طعامًا مكيلًا ¬
أو موزونًا، فتعدى فيه، فرد مثله مكانه فلا شيء عليه بعد ذلك إن تلف بدون تعديه أو تفريطه. وإن كانت الوديعة عروضًا قيمية فهو ضامن لها من ساعة إتلافها، سواء رد بدلها إلى مكانها أم لا, ولا يبرأ من تلك القيمة إلا إذا أشهد على ردها لربها (¬1). ° وجه القول بالتفريق: أن المال المثلي يجب على المودِع أن يرد مثله، فإذا رد مثله فقد بريء من الضمان، ورجعت إليه الأمانة. وأما المال القيمي فإنه يجب عليه قيمته، فإذا استهلك ثيابًا وجب عليه قيمتها؛ فإذا أخرج ثيايًا مكان القيمة لم يبرأ بذلك. فقول المالكية يتفق مع الحنفية أن التعدي إذا أمكن إزالته رجع إلى الأمانة، لكن إزالة التعدي لا يكون إلا برد ما وجب بالإتلاف، فإن أتلف مالًا مثليًّا وجب عليه مال مثلي، وإن أتلف مال قيميًّا لم يرتفع التعدي برد مثل ما أتلف بل برد القيمة. والله أعلم. وللخروج من الخلاف على المودِع أن يرد الوديعة، ثم يعقد عليها عقدًا جديدًا فترجع إليه الأمانة باتفاقهم، والله أعلم. ¬
المسألة الرابعة في ضمان الوديع إذا نوى التعدي ولم يفعل
المسألة الرابعة في ضمان الوديع إذا نوى التعدي ولم يفعل الحكم إذا علق بفعل لم يثبت بمجرد النية. النية المجردة معفو عنها. [م - 1932] اختلف الفقهاء في الوديع ينوي التعدي على الوديعة إلا أنه لم يفعل، فهل إذا تلفت بعد ذلك يكون ضامنًا بسبب نية الخيانة، أو لا يكون ضامنًا لعدم الفعل؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: نية التعدي لا تجعل الوديع ضامنًا إذا تلفت الوديعة ولم يتعد، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية في الأصح، ومذهب الحنابلة. واستثنى الشافعية ما لو اتصل بالنية نقل من الحرز فيضمن. والقول بعدم الضمان هو مقتضى مذهب المالكية حيث لم يجعلوه ضامنًا إذا تعدى، ثم رجع عن تعديه، فمن باب أولى إذا نوى التعدي ولم يتعد (¬1). ¬
جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "نية التعدي المجردة بلا فعل ليست موجبة للضمان" (¬1). وجاء في الإنصاف: "لا يضمن بمجرد نية التعدي، بل لا بد من فعل، أو قول، وهو صحيح، وهو المقطوع به عند الأصحاب" (¬2). ° دليل من قال بعدم الضمان: الدليل الأول: (ح-1183) ما رواه البخاري من طريق قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم (¬3). الدليل الثاني: لا يصير الإنسان متعديًا بمجرد النية، كما لا يصير غاصبًا بمجرد نية الغصب، ولا يصير بائعًا بمجرد نية البيع، ولا يصير مطلقًا بمجرد نية الطلاق. القول الثاني: إذا نوى التعدي، ثم تلفت بعد ذلك ضمن، وهذا وجه في مذهب الشافعية، ¬
حكاه العراقيون، ورجحه ابن سريج من الشافعية، وهو وجه في مذهب الحنابلة حكاه القاضي أبو يعلى (¬1). قال إمام الحرمين: "حكى العراقيون والشيخ أبو علي وجها غريبا أن مجرد النية يتضمن التضمين، كما أن مجرد نية الاقتناء تقطع حول التجارة" (¬2). ° وجه القول بالضمان: القياس على الملتقط إذا أخذها بنية التملك فإنه يضمنها فكذلك الوديعة. ونوقش هذا من وجهين: الوجه الأول: الكلام على النية الطارئة، أما لو أخذ الوديعة بنية الخيانة من الابتداء فإنه يضمن، وكذلك اللقطة إذا أخذها بنية حفظها لصاحبها، ثم نوى الخيانة فإن الخلاف يجري فيها كما يجري في الوديعة. قال ابن قدامة: "وفارق الملتقط بقصد التملك فإنه عمل فيها بأخذها ناويًا للخيانة فيها، فوجب الضمان بفعله المنوي، لا بمجرد النية، ولو التقطها قاصدًا لتعريفها، ثم نوى بعد ذلك إمساكها لنفسه، كانت كمسألتنا" (¬3). ¬
الوجه الثاني: الفرق بين عقد الوديعة واللقطة وذلك أن الوديعة عقد، والنية ضعيفة فيه فلا تؤثر بخلاف الالتقاط. ° الراجح: أرى أن قول الجمهور أقوى، وأن النية بمجردها لا توجب الضمان، والله أعلم.
الفرع الخامس في اشتراط الضمان على الوديع
الفرع الخامس في اشتراط الضمان على الوديع اشتراط الضمان على الأمين باطل. كل ما كان أمانة لا يصير مضمونًا بشرطه، وما كان مضمونًا لا ينتفي ضمانه بشرطه. [م - 1933] اختلف الفقهاء في اشتراط الضمان على المودِع، وهذه المسألة فرع من مسائل كثيرة، وهي هل الأمانات يصح اشتراط الضمان فيها؟ ونستطيع أن نقسم الأمانات إلى قسمين: ما كان من عقود المعاوضات كضمان رأس مال المضاربة، وضمان العين المستأجرة، فهذه المسائل سبق تحرير الخلاف فيها, ولا أرى صحة اشتراط الضمان فيها بحال، وذلك أن التزام الضمان فيها يجعل الضمان جزءًا من المعاملة: ففي ضمان رأس مال المضاربة يوقع الضمان في الربا، حيث يتحول رأس المال إلى ما يشبه القرض، ويتحول الربح إن وجد إلى فائدة للقرض. وفي ضمان العين المستأجرة يوقع المستأجر في الغرر، حيث إن الضمان جزء من الإجارة، ولا يعلم مقدار ما سوف يغرم بسبب التلف، وجهالة الأجرة مفسدة للعقد. وراجع بحث المسألتين في عقد المضاربة، وعقد الإجارة فقد استوفيت ذكر الأدلة مما يغني ذلك عن إعادته هنا. أما الأمانات القائمة على التبرع، كالعارية، والوديعة ونحوهما، فهل يصح اشتراط الضمان أو لا يصح؟
في ذلك خلاف بين العلماء على قولين: القول الأول: لا يصح اشتراط الضمان على الوديع، وبهذا قال الحنفية (¬1)، والمالكية في المشهور، والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة، وقال به الثوري، وإسحاق، وغيرهم، على خلاف بينهم: هل يفسد العقد لبطلان الشرط أو يفسد الشرط وحده، ويصح العقد (¬2). قال ابن المنذر: "وإذا شرط المودع على المودَع أنه ضامن للوديعة فلا ضمان عليه، كذلك قال الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ويشبه ذلك مذهب مالك ... " (¬3). وقد صاغ الفقهاء على اختلاف مذاهبهم قواعد وضوابط فقهية لبيان أن التزام الضمان لا يصح. ففي مذهب الحنفية، قالوا: "اشتراط الضمان على الأمين باطل" (¬4). ¬
وفي مذهب الشافعي: "الشيء إذا كان حكمه في الأصل على الأمانة فإن الشرط لا يغيره عن حكم أصله" (¬1). وجاء في المذهب الحنبلي: "كل ما كان أمانة لا يصير مضمونًا بشرطه، وما كان مضمونًا لا ينتفي ضمانه بشرطه (¬2). واحتج الجمهور على بطلان الشرط: الدليل الأول: أن اشتراط الضمان على الأمين شرط ليس في كتاب الله: أي في حكمه. (ح-1184) وقد روى البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا في قصة عتق بريرة من حديث طويل، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق, وشرط الله أوثق (¬3). وفي رواية: من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن شرط مائة شرط (¬4). ونوقش هذا: بأنه لم يثبت دليل من الكتاب أو السنة على تحريم اشتراط الضمان في الأمانات، وإذا لم يثبت فإن التزام مثل هذا الشرط لا يكون حرامًا؛ لأن الأصل في الشروط الصحة والجواز. ¬
الدليل الثاني: يد الوديع يد أمانة، واشتراط الضمان على الأمين باطل؛ لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، واشتراط ما ينافي مقتضى العقد يفسده تمامًا كما لو اشترط عليه في البيع ألا يتصرف فيه، وفي النكاح ألا يدخل بها. ويناقش من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم بأن اشتراط الضمان على الوديع ينافي مقتضى العقد، نعم يصح أن يقال: إنه مخالف لمقتضى العقد، وبينهما فرق، فاشتراط ما ينافي مقتضى العقد لا يصح بحال، كالبيع عليه بشرط ألا يستعمله، ولا يتصرف فيه. وأما اشتراط ما يخالف مقتضى العقد فإنه لا مانع منه إذا كان الباعث عليه غرضًا صحيحًا، كما لو باع عليه، واشترط عليه ألا يبيعه، وقصد من هذا الشرط نفع المشتري، أو نفع السلعة، فمثال الأول: كما لو كان المشتري إذا ملك شيئًا باعه ولم يحسن التصرف في ثمنه، وأراد البائع أن ينتفع المشتري من المبيع. ومثال الثاني كما لو باعه حيوانًا، وعلم أن المشتري يرفق به، ولم يرغب في بيعه لغيره فلا مانع من اشتراط مثل ذلك على الصحيح، وإن كان شرطًا يخالف مقتضى العقد، وسبق بحث هذه المسألة في عقد البيع، والله أعلم. الوجه الثاني: نسلم لكم أن عقود الأمانات المطلقة الأصل فيها عدم الضمان، ولكن إذا التزم الشخص الضمان بالشرط فإنه يلزمه؛ لأنه قد أوجب على نفسه بالشرط ما لا يجب عليه بدونه، والأصل في الشروط الصحة والجواز.
القول الثاني: يصح اشتراط الضمان على الأمين، وهو قول عبيد الله بن الحسن العنبري (¬1)، وهو مخرج من كلام عام في صحة التزام ضمان الأمانات على وجه العموم، وهو قول في مذهب المالكية، ورواية عن الإمام أحمد. جاء في شرح ميارة، تحت عنوان: فصل في العارية والوديعة والأمناء نقلًا عن ابن الحاجب: "وإذا اشترط إسقاط الضمان فيما يضمن، أو إثباته فيما لا يضمن، ففي إفادته قولان" (¬2). وجاء في الإنصاف عند الكلام على ضمان العارية، قال: "وكل ما كان أمانة لا يصير مضمونًا بشرطه، هذا المذهب، وعليه الأصحاب ... وعنه المسلمون على شروطهم كما تقدم" (¬3). وفي قول للحنفية صححوا اشتراط الضمان في العارية (¬4). ° دليل من قال: يصح اشتراط الضمان: الدليل الأول: لم يثبت دليل من الكتاب أو من السنة على تحريم اشتراط الضمان في رد الوديعة، وإذا لم يثبت فإن التزام مثل هذا الشرط لا يكون حرامًا؛ لأن الأصل في الشروط الصحة والجواز. ¬
نعم نقل الإجماع في تحريم اشتراط ضمان رأس مال المضاربة؛ مع كونه أمانة في يد العامل؛ لأن ذلك يؤدي إلى الوقوع في الربا كما بينت في مدخل هذه المسألة، ويلحق به اشتراط ضمان العين المستأجرة؛ لأن ذلك يؤدي إلى الوقوع في الغرر، باعتبار أن الضمان في عقود المعاوضات سيكون جزءًا من الأجرة، وهو مجهول، بخلاف الضمان في عقود التبرع، حيث لا يوقع في غرر، وعلى فرض أنه أوقع فيه؛ فإن الغرر في عقود التبرع مغتفر، وقد تبرع به المودع فلا حرج في اشتراطه، والله أعلم. الدليل الثاني: (ح-1185) ما رواه الإمام أحمد، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا شريك، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أمية بن صفوان بن أمية، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعار منه يوم خيبر أدرعًا، فقال: أغصبا يا محمَّد؟ فقال: بل عارية مضمونة، قال: فضاع بعضها فعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضمنها له فقال: أنا اليوم يا رسول الله في الإِسلام أرغب (¬1). وجه الاستدلال: قياس الوديعة على العارية، وذلك أن العاربة ليست مضمونة على الصحيح، بل هي أمانة في يد صاحبها لا تضمن إلا بالتعدي أو بالتفريط، وقد ضمنها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشرط، فدل على أن الأمانات تضمن بالشرط. وأجيب بعدة أجوبة: الجواب الأول: أن الحديث مضطرب من مسند صفوان. ¬
ورد هذا: بأن الحديث وإن كان مضطربًا من مسند صفوان، فإنه حسن من مسند جابر - رضي الله عنه - (¬1). الجواب الثاني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ العارية بدون رضا صاحبها، وإذا أخذ شيء بدون رضا صاحبه صح اشتراط الضمان فيه، بخلاف الوديعة فإن المودَع قد دفع الشيء لمصلحته هو، وليس لمصلحة الوديع. جاء في تبيين الحقائق: "وحديث صفوان كان بغير إذنه لحاجة المسلمين، ولهذا قال "أغصبًا يا محمَّد." وعند الحاجة يرخص تناول مال الغير بغير إذنه بشرط الضمان كحالة المخمصة ... " (¬2). الجواب الثالث: من الشروط الأساسية لصحة القياس أن يكون الأصل المقيس عليه ثابتًا بالنص أو بالإجماع، والعارية قد اختلف العلماء، هل هي مضمونة مطلقًا، أو أمانة في يد صاحبها لا تضمن إلا بالتعدي أو بالتفريط، فإذا كان الأصل مختلفًا فيه فكيف يحتج علينا بالقياس عليه، فقد يقول من يرى أن الأصل في العارية الضمان: إن هذا الحديث دليل على ضمان العواري ولو بدون شرط. الجواب الرابع: لو صح الاستدلال بالحديث لكان هناك فرق بين العارية والوديعة، فالعارية ¬
يقبضها المستعير لمصلحته، وما قبضه لمصلحتة صح اشتراط الضمان عليه، بخلاف الوديعة فإن الوديع يقبضها لمصلحة مالكها، فافترقا. وعندي أن هذه الأجوبة لا تقوم على رد الاستدلال، فالعارية على الصحيح ليست مضمونة، وإذا صح اشتراط ضمانها، فهو دليل على صحة اشتراط الضمان في عقود الأمانات لكن يشترط في الأمانة المضمونة أن تكون من عقود التبرع، كالوديعة والعارية، ولا يصح الاستدلال بهذا الحديث على صحة اشتراط الضمان في جميع الأمانات كضمان رأس مال المضاربة، أو ضمان العين المستأجرة لما بينا سابقًا، والله أعلم. القول الثالث: حكى ابن حبيب عن مطرف في ذلك تفصيلًا: وهو أنه إن كان شرط عليه الضمان لأمر خافه من طريق مخوفة، أو لصوص، أو ما أشبه ذلك، فيلزمه الشرط إن تلف في ذلك المعنى الذي خافه، وإن تلف في سواه، لم يلزمه الشرط (¬1). ولم أقف على دليل على هذا التفصيل، ويمكن التماسه بأن اشتراط الضمان مطلقًا لا يصح لما سبق، واشتراط الضمان من أمر خاص كان المالك يحذره من طريق مخوفة أو لصوص فإذا قبله الوديع لزمه الضمان؛ لأن قبول اشتراط الضمان يعني تعهد الوديع للمالك بعدم حدوث ذلك، فإذا حدث هذا المخوف فكأن الوديع قد غرر بالمالك، فلزمه الضمان، والله أعلم. ¬
° الراجح من الخلاف: أرى أن القول باشتراط الضمان في عقود التبرع كالعارية والوديعة لا مانع منه، وإذا التزم الوديع والمستعير بالضمان لزمه، والله أعلم.
الفصل الثاني في تصرفات الوديع بالوديعة
الفصل الثاني في تصرفات الوديع بالوديعة المبحث الأول في خلط الوديعة بغيرها الفرع الأول أن يكون الخلط بغير فعل الوديع [م - 1934] إذا اختلطت الوديعة بغيرها بغير تعد من الوديع، ولا تفريط منه فلا ضمان عليه، وهذا لا ينبغي الخلاف فيه؛ لأن الوديعة إذا تلفت بغير جناية الوديع، ولا تفريطه لم يضمن فالخلط من باب أولى. وأصبح شريكًا بقدر ملكه لصاحبها؛ لاختلاط الملكين (¬1). جاء في فتح القدير: "وإن اختلطت بماله من غير فعله فهو شريك لصاحبها، كما إذا انشق الكيسان فاختلطا؛ لأنه لا يضمنها لعدم الصنع منه، فيشتركان، وهذا بالاتفاق" (¬2). وقال في بدائع الصنائع: "ولو اختلطت بماله بنفسها من غير صنعه؛ لا يضمن ¬
وهو شريك لصاحبها أما عدم وجوب الضمان، فلانعدام الإتلاف منه، بل تلفت بنفسها؛ لانعدام الفعل من جهته؛ وأما كونه شريكًا لصاحبها، فلوجود معنى الشركة؛ وهو اختلاط الملكين" (¬1). وقال ابن قدامة. "وإن اختلطت هي بغير تفريط منه، فلا ضمان عليه؛ لأنها لو تلفت بذلك لم يضمن، فخلطها أولى. وإن خلطها غيره، فالضمان على من خلطها؛ لأن العدوان منه، فالضمان عليه، كما لو أتلفها" (¬2). ¬
الفرع الثاني أن يكون الخلط بإذن صاحبها
الفرع الثاني أن يكون الخلط بإذن صاحبها [م - 1935] إذا خلط الوديع الوديعة بمال نفسه فإن كان الخلط بإذن صاحبها فلا ضمان عليه؛ لأنه فعل ما فوضه المالك بفعله، فكان نائبًا عنه، ولأن ما ترتب على المأذون فهو غير مضمون. ويكون المال بينهما شركة ملك على قدر أملاكهما؛ لأن الخلط لو كان بدون فعل المودع كانا شريكين بالاتفاق، فكذلك إذا اختلط بإذن صاحبه وهذا قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن والمذهب عند الحنابلة (¬1). جاء في الهداية شرح البداية: "وإن اختلطت بماله من غير فعله فهو شريك لصاحبها كما إذا انشق الكيسان فاختلطا؛ لأنه لا يضمنها لعدم الصنع منه، فيشتركان، وهذا بالاتفاق" (¬2). وقال ابن قدامة: "وإن أمره صاحبها بخلطها بماله أو بغيره ففعل ذلك فلا ضمان عليه؛ لأنه فعل ما أمر به، فكان نائبًا عن المالك فيه" (¬3). [م - 1936] وإن خلط الوديع الوديعة بدون إذنه، ثم أبرأه: فقيل: لا شيء للمودِع، ويكون المال كله للوديع، وهذا قول أبي حنيفة. ¬
وقيل: يبرأ من الضمان، ويكون شريكًا في الملك، وهذا قول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن. ° وجه قول أبي حنيفة: أنه بالخلط ملك الوديع المخلوط، واستقر الضمان دينًا في ذمته وذلك برد مثله، فإذا أبرأه فقد سقط بإبرائه ما وجب عليه في ذمته. وجه قولهما: أنه إذا أبرأه توجه ذلك إلى الضمان، وعين الوديعة موجودة فلم تكن دينًا، بل ملكًا مشتركًا. جاء في الاختيار لتعليل المختار: "فلو أبرأ المودِع الخالط بريء أصلًا وعندهما يبرأ من الضمان، فتتعين الشركة في المخلوط" (¬1). وقال الزيلعي: "ولو أبرأ المودِع الخالط، لا سبيل للمودع على المخلوط عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن حقه في الدين لا غير، وقد سقط لإبرائه، وعندهما يسقط الخيار (¬2)، وتتعين الشركة في المخلوط" (¬3). وهذا هو الصواب. ¬
الفرع الثالث أن يكون الخلط بدون إذن صاحبها
الفرع الثالث أن يكون الخلط بدون إذن صاحبها المسألة الأولى في خلط الوديعة بمال آخر مع إمكان التمييز [م - 1937] إذا خلط الوديع الوديعة بمال آخر وكان يمكن تمييزها وتفريقها، كما لو خلط دراهم بدنانير، أو خلط ذهبًا بفضة، فاختلف العلماء هل هذا الخلط يوجب الضمان؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يوجب الضمان مطلقًا، سواء كان هذا الخلط بإذن صاحبها أو بدون إذنه، وسواء كان هذا الخلط بماله أو بمال غيره. وهذا هو مذهب الجمهور، والأصح في مذهب الحنابلة (¬1). قال ابن جزي: "فإن خلطها بما تنفصل عنه، كذهب بفضة لم يضمن" (¬2). ¬
° وجه القول بعدم الضمان: أن الوديع لا يعجز عن ردها إذا طلبها صاحبها، أشبه ما لو تركها بصندوق فيه أكياس له. ولأن هذا الخلط هو خلط مجاورة، وليس من خلط الممازجة، فلا يوجب الضمان بل قد يكون أرفق وأحرز للوديعة من توزيع المال على حرزين. القول الثاني: يضمن مطلقًا، وهو رواية في مذهب الحنابلة، وبه قال إسحاق (¬1). جاء في مسائل الإمام أحمد وإسحاق رواية الكوسج: "سئل سفيان عن رجل استودع رجلًا دراهم بيضًا فخلطها بسود، فهلكت أيضمن؟ قال: لا. قال أحمد: هذا رجل قد خلط ماله، بمال غيره. قلت: ترى عليه ضمانًا؟ قال: إي والله. قال إسحاق: كما قال أحمد" (¬2). ° وجه القول بالضمان: أن هذا الفعل تصرف من الوديع لم يأذن به صاحبه، فالوديعة توكيل بالحفظ، وليس له حق التصرف، والخلط نوع من التصرف فيضمن. ¬
وحمل بعض الحنابلة هذه الرواية على ما إذا نقصت بالخلط، كما لو خلط بيضًا بسود، وكانت السود تؤثر في البيض، والله أعلم. القول الثالث: لا يضمن إلا إذا حصل بالوديعة نقص بسبب الخلط، وهذا مذهب الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد (¬1). جاء في أسنى المطالب: "إذا تميزت كأن كانت دراهم فخلطها بدنانير فلا ضمان، إلا أن يحصل نقص بالخلط فيضمن" (¬2). ° الراجح: أرى أن مذهب الشافعية وسط بين الأقوال، فهو أعدلها، والله أعلم. ¬
المسألة الثانية في خلط الوديع الوديعة بمال نفسه بما لا يتميز
المسألة الثانية في خلط الوديع الوديعة بمال نفسه بما لا يتميز الخلط بما لا يتميز بمنزلة الإتلاف. [م - 1938] إذا خلط الوديع الوديعة بمال نفسه بما لا يتميز الخليطان، كما لو خلط النقود بمثلها، أو الزيت بمثله، أو خلطها بما يعسر معه التمييز، كما لو خلط القمح بالشعير، فهل يعتبر الخلط بمنزلة الاستهلاك فيضمن بالخلط، كما لو تلفت الوديعة، ويكون المخلوط ملكًا للمودَع، أو يكون شريكًا بقدر ملكه؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على أربعة أقوال: القول الأول: أن الوديع يضمن إذا خلطها بما لا تتميز أو بما يعسر معه التمييز، سواء خلط الجنس بمثله، كالحنطة بمثلها، والدراهم بمثلها، والمائع بمثله، أو خلط الجنس بغيره كالحنطة بالشعير. وهذا قول أبي حنيفة، ومذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). جاء في المبسوط: "الخلط أنواع ثلاثة: خلط يتعذر التمييز بعده، كخلط ¬
الشيء بجنسه، فهذا موجب للضمان؛ لأنه يتعذر به على المالك الوصول إلى عين ملكه. وخلط يتيسر معه التمييز كخلط السود بالبيض، والدراهم بالدنانير، فهذا لا يكون موجبًا للضمان؛ لتمكن المالك من الوصول إلى عين ملكه، فهذه مجاورة ليس بخلط. وخلط يتعسر معه التمييز كخلط الحنطة بالشعير فهو موجب للضمان؛ لأنه يتعذر على المالك الوصول إلى عين ملكه، إلا بحرج، والمتعسر كالمتعذر" (¬1). ° وجه القول بوجوب الضمان: الوجه الأول: أن المالك عاجز عن الوصول إلى عين حقه بسبب الخلط، فيكون الخلط بمنزلة الاستهلاك، والاستهلاك يوجب الضمان، فكذلك الخلط. الوجه الثاني: أن العقد قائم على حفظ العين، والخلط تصرف من الوديع بالوديعة بما لم يؤذن له فيه، لذا وجب الضمان. القول الثاني: خلط المال المثلي بمثله لا يوجب الضمان إذا وقع ذلك على وجه الإحراز والرفق، كما لو خلط الدنانير بمثلها، أو خلط الذهب بمثله، أو الحنطة بمثلها. ¬
وإن خلط الجنس بغير جنسه، كما لو خلط الحنطة بالشعير ونحوه فإنه يضمن بالخلط. وهذا هو مذهب المالكية (¬1). جاء في تهذيب المدونة: "ومن أودعته دنانير ودراهم فخلطها بمثلها ثم ضاع المال كله، لم يضمن، وإن ضاع بعضه كان ما ضاع وما بقي بينكما؛ لأن دراهمك لا تعرف من دراهمه، ولو عرفت بعينها كانت مصيبة دراهم كل واحد منه، ولا يغيرها الخلط. وإن أودعته حنطة فخلطها بحنطة، فإن كانت مثلها وفعل ذلك بها على الإحراز لها والرفع، فهلك الجميع لم يضمن، وإن كانت مختلفة ضمن، وكذلك إن خلط حنطتك بشعير ثم ضاع الجميع، فهو ضامن؛ لأنه قد أفاتها بالخلط قبل هلاكها" (¬2). ° وجه قول المالكية: إذا خلط الجنس بجنس آخر فقد يتعذر وصول المالك إلى عين ماله كما لو قام بخلط السمن بزيت، وقد يتعسر كما لو قام بخلط الحنطة بالشعير، والمتعسر كالمتعذر، لذا وجب عليه الضمان. وأما إذا خلط المال المثلي بمثله، كما لو خلط الحنطة بمثلها، والدنانير بمثلها فإن المالك قادر للوصول إلى ماله، فلا يوجب هذا الخلط الضمان، ¬
خاصة إذا كان الباعث على الخلط هو مصلحة الوديعة حيث يكون خلطها بماله أحرز لها وأرفق به مما لو أفردها. القول الثالث: إن خلط الجنس بجنس مختلف كما لو خلط القمح بالشعير فعليه الضمان، وهذا باتفاق الحنفية، وسبق ذكر الأدلة في القول الأول. وإن خلط الجنس بمثله كالشعير بالشعير، والحنطة بمثلها، فقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: يخير المالك إن شاء شاركه فيها، وإن شاء ضمنه. وإن خلط مائعًا بجنسه، فقال محمد بن الحسن: يخير كما لو خلط الشعير بمثله. وقال أبو يوسف: يجعل الأقل تبعًا للأكثر (¬1). ° وجه قولهما: إذا خلط الحنطة بمثلها، فإن الوصول إلى عين حقه وإن تعذر صورة، إلا أنه غير متعذر معنى، لإمكان قسمته على قدر أملاكهما؛ فهو استهلاك من وجه دون وجه، فإن شاء ضمنه لتعذر الوصول إلى عين ماله صورة، وإن شاء اقتسمه معه لإمكان الوصول إلى حقه معنى. ولم يفرق محمَّد بن الحسن بين خلط الشعير بمثله، وبين خلط المائع بمثله؛ عملًا بالقاعدة عنده: وهو أن الجنس عنده لا يغلب الجنس. وفرق بينهما أبو يوسف اعتبارًا بالغالب. والله أعلم. ¬
القول الرابع: لا يضمن بخلط النقود بمثلها، ويضمن بخلط غيرها. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد (¬1). قال ابن رجب: لو خلط الوديعة وهي دراهم بماله، ولم تتميز فالمشهور الضمان لعدوانه حيث فوت تحصيلها. وعنه رواية أخرى لا ضمان عليه؛ لأن النقود لا يتعلق الغرض بأعيانها بل بمقدارها، وربما كان خلطها مع ماله أحفظ لها" (¬2). إلا أن هذا التعليل يجب أن يجري في كل مال مثلي، فإن المال المثلي آحاده متساوية كالنقود فلا معنى لتخصيصه بالنقود، وهو ظاهرية من أصحاب الإمام أحمد عليهم رحمة الله. ° الراجح: أرى أن مذهب المالكية أقرب الأقوال، والله أعلم. ¬
المسألة الثالثة إذا خلط الوديعة بمال لصاحبها
المسألة الثالثة إذا خلط الوديعة بمال لصاحبها [م - 1939] إذا أودع الرجل وديعتين، فقام المودَع بخلطهما، فإن كان خلطهما بما يتميز كما لو خلط دراهم بدنانير لم يضمن عند الجمهور، قال الشافعية: إلا أن يكون خلط الدراهم بالدنانير قد عاد بالنقص على الدنانير فإنه يضمن قدر النقصان (¬1). والخلاف فيها لا يختلف عن الخلاف فيما لو خلط الوديعة بمال الوديع أو مال رجل أجنبي، وسبق بحث المسألة. وإن كانت الوديعتان يتعذر التمييز بينهما، كما لو خلط دراهم بدراهم، ففي ذلك خلاف في وجوب الضمان بسبب الخلط. القول الأول: أنه يضمن، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة، قال المرداوي في تصحيح الفروع: وهو ظاهر كلام أكثر الأصحاب (¬2). ° وجه القول بالضمان: أن مالكها لما ميزهما لم يرض بخلطهما، فكان قيامه بذلك يعتبر تعديًا، فوجب عليه الضمان. ¬
الوجه الثاني: لا يضمن؛ وهو وجه في مذهب الشافعية في مقابل الأصح، ووجه في مذهب الحنابلة (¬1). ° وجه القول بعدم الضمان: أن المال كله له، ولم يلحقه نقص بخلطهما, ولم يتعذر عليه الوصول إلى عين ماله بسبب الخلط فكان كما لو خلطهما بما يتميز. وهذا أقرب عندي إلا أن يكون أحدهما جيدًا والآخر رديئًا فإن عليه ضمان ما نقص، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في اقتراض المودع من الوديعة
المبحث الثاني في اقتراض المودع من الوديعة الاقتراض عقد تمليك لا يصح بلا إذن المقرض ورضاه. الوديع لا يملك ولاية التصرف في الوديعة إلا بإذن المالك. الإقراض من الوديع إن كان رفقًا بالمالك صح أو كان إرفاقًا بالمقترض لم يصح. [م - 1940] إذا اقترض الوديع مال الوديعة فإن كان ذلك بإذن صاحبها فإن كانت مالًا مثليًّا جاز الاقتراض بالاتفاق. وإن كانت مالًا قيميًّا، كان الخلاف في جوازها راجعًا إلى الخلاف في جواز اقتراض المال القيمي: فمن اشترط في القرض أن يكون المال مثليًّا كالحنفية فإنه سوف يمنعه، والجمهور على جوازه. وسبق بحث هذه المسألة في عقد القرض، فأغنى ذلك عن إعادته هنا, ولله الحمد. وإن اقترض الوديع من الوديعة بدون إذن صاحبها وجب عليه ضمانها بالاتفاق. [م - 1941] واختلفوا في حكم فعله، هل يحرم عليه الاقتراض، أو يكره، أو يباح؟ على قولين:
القول الأول: يحرم عليه الاقتراض من الوديعة بدون إذن صاحبها، وبهذا قال الحنفية، والشافعية، والحنابلة (¬1). وجعل ابن تيمية العلم برضا صاحبها بمنزلة الإذن. قال ابن تيمية: "إن علم المودع علمًا اطمأن إليه قلبه أن صاحب المال راض بذلك فلا بأس بذلك، وهذا إنما يعرف من رجل اختبرته خبرة تامة، وعلمت منزلتك عنده كما نقل مثل ذلك عن غير واحد، وكما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل في بيوت بعض أصحابه ... ومتى وقع في ذلك شك لم يجز الاقتراض" (¬2). ° وجه القول بالتحريم: أن المالك ائتمنه على الحفظ، فاقتراض الوديعة بدون إذن صاحبها يعتبر تعديًا، وخيانة للأمانة، واغتصابًا لمال الغير بدون إذن المالك. القول الثاني: أن الاقتراض من الوديعة بدون إذن صاحبها ليس حرامًا إذا تحقق شرطان: أن يكون المال مثليًّا، وأن يكون المتصرف مليئًا. فالمالكية يرون أنه يحرم على الوديع أن يستلف من الوديعة إن كان فقيرًا، ¬
سواء أكانت الوديعة من القيميات أم من المثليات، وذلك لتضرر مالكها بعدم الوفاء نظرًا لإعدامه. وأما إن كان موسرًا، فإن كانت الوديعة عرضًا قيميًّا فيحرم على الوديع اقتراضها؛ لانعدام المثل هنا. وإن كانت الوديعة مثلية، فإن كانت نقودًا، فيكره على الوديع اقتراضها؛ لأن المثل هنا يقوم مقام العين. وقيل يجوز بلا كراهة. وعلل بعض المالكية عدم التحريم بتعليلات منها: التعليل الأول: أن المودِع قد ترك الانتفاع بها مع القدرة عليه فجاز للمودَع الانتفاع بها، ويجري ذلك مجرى الانتفاع بظل حائطه، وضوء سراجه. التعليل الثاني: أن المودَع لم يبطل على المودِع غرضه؛ لأنه إنما أمر بحفظها، وهذا حاصل. التعليل الثالث: أن الدراهم لا تتعين بالتعيين، ولذلك كان للمودَع أن يرد مثلها، ويتمسك بها مع بقاء عينها (¬1). وإن كانت الوديعة المثلية ليست نقودًا، فإن كانت مما يكثر اختلافه، ولا ¬
يتحصل أمثاله، فيحرم اقتراضها كالقيميات، وإلا فيجوز تسلفها كالدراهم والدنانير في ظاهر المدونة (¬1). ° الراجح: أرى أنه لا يجوز الاقتراض من الوديعة مطلقًا، حتى ولو كانت الوديعة مثلية كالدراهم، وسواء كان المقترض معسرًا أو كان موسرًا؛ لأن يد المودع يد أمانة، وقد وضعت على هذا المال للحفظ، وليس لشيء آخر، واقتراضها بدون إذن صاحبها يحوله إلى رجل غير أمين، فالإيداع عقد على حفظ العين، فهي تتعين بالتعيين، ولو كانت من الدراهم. ¬
نعم يجوز إقراض الوديعة إذا كان ذلك رفقًا بالمالك، كما لو أقرض الوصي والولي مال الصغير إذا خاف عليه من السرقة فيجوز إقراضه لمن كان موسرًا، وأخذ رهنًا بذلك. وكما يجوز للوديع إذا خاف على الوديعة أن يقرضها للبنوك، باعتبار أن ودائع البنوك قروض على الصحيح وإن سماها الناس ودائع، والله أعلم.
الفرع الأول إذا اقترض من الوديعة ثم تراجع عن الاقتراض
الفرع الأول إذا اقترض من الوديعة ثم تراجع عن الاقتراض الأمانة المحضة تبطل بالتعدي. إذا رفع التعدي هل يزول الضمان. الضمان يجب بالإتلاف، والأخذ بمجرده هل يعد إتلافًا. نية الإتلاف ليست بإتلاف إلا إذا اقترنت النية بالفعل. [م - 1942] إذا اقترض من الوديعة لينفقها، ثم ندم على ذلك، فرده، ولم ينفقها، فتلفت الوديعة، فهل يضمن ما أخذه ثم رده، أو لا يضمن؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم على أربعة أقوال: القول الأول: لا ضمان عليه، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). جاء في بدائع الصنائع: "ولو أخذ بعض دراهم الوديعة؛ لينفقها فلم ينفقها، ¬
ثم ردها إلى موضعها بعد أيام؛ فضاعت لا ضمان عليه عندنا" (¬1). ° وجه القول بعدم الضمان: أنه بالرد زال التعدي، وإذا زال التعدي زال الضمان لزوال سببه، أصل المسألة أن المودع إذا خالف في الوديعة ثم عاد إلى الوفاق فقد بريء من الضمان. ولأن الضمان إنما يجب بالإتلاف، والأخذ بمجرده لا يعد إتلافًا، ونية الإتلاف ليست بإتلاف فلا توجب الضمان. القول الثاني: يضمن ما أخذه وحده، ولا يرتفع الضمان بالرد، وهذا مذهب الحنابلة، وبه قال الشافعية: بشرط أن يتميز المردود عنها (¬2). جاء في الأم: "ولو أودعه عشرة دراهم فتعدى منها في درهم، فأخرجه فأنفقه، ثم أخذه فرده بعينه، ثم هلكت الوديعة ضمن الدرهم، ولا يضمن التسعة؛ لأنه تعدى بالدرهم، ولم يتعد بالتسعة ... قال الربيع: قول الشافعي إن كان الدرهم الذي أخذه، ثم وضع غيره معروفًا من الدراهم ضمن الدرهم، ولم يضمن التسعة، وإن كان لا يتميز ضمن العشرة" (¬3). ¬
وجاء في الإنصاف: "وإن أخذ درهمًا، ثم رده، فضاع الكل: ضمنه وحده، هذا الصحيح من المذهب" (¬1). ° وجه القول بالضمان وإن رد ما أخذ: أن الأمين لما أخذ من الوديعة تعلق الضمان بذمته بالأخذ، بدليل أنه لو تلف في يده قبل رده ضمنه، فلا يزول إلا برده إلى صاحبه كالمغصوب، وضمنه وحده دون بقية الوديعة؛ لأنه تعدى فيه وحده، فلم يضمن غيره. واشترط الشافعية أن يتميز المردود عن باقي الوديعة؛ لأنه إن لم يتميز فقد خلط مضمونًا بغير مضمون، فصار بذلك متعديًا، فضمن الجميع. القول الثالث: يضمن الجميع، وهو وجه في مذهب الشافعية، ورواية في مذهب الإمام أحمد (¬2). ° وجه القول بضمان الجميع: أن التعدي على الوديعة ثبت بالأخذ، ومن تعدى على الوديعة فقد ثبت عليه ضمانها إن تلفت، ولا يتجزأ التعدي؛ لأنها وديعة واحدة. القول الرابع: يضمن ما أخذه وحده إن لم يفتح الوديعة، فإن فتح الوديعة ضمنها كلها، وهو قول في مذهب الشافعية والحنابلة (¬3). ¬
° وجه القول بذلك: أن الفتح هتك للحرز فيثبت الضمان بمجرده، ولو لم يأخذ شيئًا.
الفرع الثاني إذا اقترض من الوديعة ثم رد بدله
الفرع الثاني إذا اقترض من الوديعة ثم رد بدله المسألة الأولى أن يكون البدل متميزًا عن باقي الوديعة [م - 1943] إذا اقترض الوديع من الوديعة كان ضامنًا ما أخذه بالاتفاق، فإذا استهلكه، ورد بدل ما اقترضه، فإن كان هذا البدل متميزًا عن باقي الوديعة، ولم يختلط بالوديعة خلطًا لا يتميز عنها، ثم تلفت الوديعة، فهل يضمن الجميع، أو يضمن مقدار ما تعدى به، وهو مقدار ما اقترضه؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم على ثلاثة أقوال: القول الأول: إذا اقترض من الوديعة فلم يرد ما أخذ، ثم تلفت الوديعة بغير تعد منه ولا تفريط لم يضمن إلا ما أخذ. فإن رد بدل ما أخذ، وخلطه بالوديعة، وكان الذي رده متميزًا عن باقي الوديعة لم يضمن إلا مقدار ما اقترضه، وهذا هو مذهب الحنفية، وبه قال الشافعية والحنابلة بشرط أن يكون قد أخذ الدراهم من كيس غير مشدود ولا مختوم؛ لأنه إذا كان الكيس مختومًا أو مشدودًا فهتك الحرز ضمن عند الشافعية والحنابلة حتى ولو لم يأخذ من الكيس شيئًا (¬1). ¬
جاء في مجمع الضمانات:"الوديعة إذا كانت دراهم أو دنانير أو شيئًا مما يكال أو يوزن، فأنفق المودِع طائفة منها ضمن ما أنفق، ولا يضمن الباقي إن هلك، فإن جاء المودع بمثل ما أنفق فخلطه بالباقي كان ضامنا للكل؛ لأن ما جاء به ماله، فصار خالطًا ماله بالوديعة اهـ. قال في الفصولين: هذا إذا لم يتميز ما خلط، أما لو يتميز بعلامة أو شده بخرقة لم يضمن إلا ما أنفق" (¬1). وعليه فلو لم يرد البدل حتى تلفت الوديعة فلا يضمن إلا ما أنفق؛ لأن الضمان يجب بقدر الخيانة، وقد خان في البعض دون البعض، وإن رد بدل ما أخذ، فإن كان لا يتميز ضمن الجميع بسبب الخلط؛ وليس بسبب الأخذ؛ لأنه خلط ماله بالوديعة، وإن كان متميزًا لم يضمن إلا ما أخذ حيث لم يوجد خلط. وقال الشافعي في الأم: "وإذا استودع الرجل الرجل دنانير أو دراهم فأخذ منها دينارا أو درهما، ثم رد مكانه بدله فإن كان الذي رد مكانه يتميز من دنانيره ودراهمه فضاعت الدنانير كلها ضمن ما تسلف فقط، وإن كان الذي وضع بدلا مما أخذ لا يتميز، ولا يعرف فتلفت الدنانير ضمنها كلها" (¬2). وقال الشيرازي في المهذب: "وإن أودعه دراهم في كيس مشدودة، فحله، أو خرق ما تحت الشد ضمن ما فيه؛ لأنه هتك الحرز من غير عذر" (¬3). ¬
° وجه القول بأنه لا يضمن إلا ما اقترض: أما المقدار الذي اقترضه فقد تعدى فيه فيجب عليه ضمانه، ولا يبرأ من الضمان برد البدل؛ لأن الضمان متعلق بالذمة، والبدل يكون ملكًا للوديع، وإنما يبرأ برد البدل إلى المودِع وهذا ما لم يحصل، لهذا استقر عليه ضمان ما أخذه. وأما باقي الوديعة فلا ضمان عليه فيها حيث إن التعدي لم يتطرق إليها، ورد ماله إلى الوديعة لم يوجب ضمان الباقي؛ لأن المال المردود كان متميزًا عن باقي الوديعة، فلم يتعد الضمان إلى باقي الوديعة، أما لو خلط بدل القرض خلطًا لا يتميز، فقد خلط ماله بمال الوديعة، وخلط ماله بمال الوديعة بدون إذن المالك يوجب الضمان إذا لم يتميز. القول الثاني: الاقتراض من الوديعة عند المالكية له حالان: التحريم وعدمه. فالتحريم، كما لو كانت الوديعة قيمية، أو كان المودع معسرًا. وعدم التحريم كما لو كانت الوديعة مثلية يكثر توفر مثلها في السوق، وكان الوديع موسرًا. وسبق التفصيل في مذهب المالكية في المبحث السابق. فإذا تسلف ما لا يحرم تسلفه، ثم رد بدله قبل تلف الوديعة لم يضمن (¬1). ¬
جاء في تهذيب المدونة: "ومن أودعته دراهم، أو حنطة، أو ما يكال، أو يوزن، فاستهلك بعضها، ثم هلك بقيته ,لم يضمن إلا ما استهلك أولًا. ولو كان قد ردّ ما استهلك، لم يضمن شيئًا، وهو مصدق أنه رد فيها ما أخذ، كما يصدق في ردها إليك وفي تلفها. وكذلك إن تسلف جميعها، ثم رد مثلها مكانها لبريء، كان أخذه إياها على السلف أو على غيره، فلا شيء عليه إن هلكت بعد أن ردها" (¬1). دليل المالكية على عدم الضمان: أن الاقتراض يوجب ضمان البدل إذا لم يكن الاقتراض محرمًا، فإذا رد بدله فقد قام بالضمان الذي عليه، ولا يجب عليه ضمان آخر؛ لأنه لم يتعد بالاقتراض. وقد ذكرت أدلتهم في عدم تحريم الاقتراض، وناقشته في المسألة السابقة، وهو قول مرجوح، وما بني على قول مرجوح فهو مرجوح مثله، والله أعلم. القول الثالث: أنه يضمن الجميع، سواء رده أو لم يرده، وسواء اختلط أو لم يختلط. وهذا رواية في مذهب الحنابلة (¬2). ° وجه القول بالضمان: بأن هذه الوديعة قد تعدى فيها، فضمنها كما لو أخذ الجميع. ¬
° الراجح: لو قيل: إذا كان ما أخذه من الوديعة مالًا مثليًّا، فيحرم عليه الاقتراض، فإذا أخذه ثم رد بدله، كما لو أخذ درهمًا، فرد بدله درهمًا فإنه يبرأ بالرد، فلو تلفت الوديعة بعد ذلك لم يضمن، سواء كان الخلط متميزًا أو غير متميز؛ لأنه قد رجع وتاب عن الاعتداء قبل التلف، وصحح ذلك، والمال المثلي آحاده متساوية، وقد انتقل ما وجب في ذمته إلى التعيين بالرد. وإن كان ما أخذه من الوديعة قيميًّا، فقد وجبت قيمته، فإذا رد بدله لم يبرأ حتى يرده إلى صاحبه، ويرضى بقيمة ما رده؛ لأن المال القيمي يختلف الناس بتقييمه، والمودَع غاصب فوجب أن يعامل معاملة الأشد، فلا يرضى بتقييمه هو، بل لا بد من رضا المالك بقيمة ما أخذ، لهذا كان الواجب رده على صاحبه، فلم يبرأ بالرد إلى الوديعة، والله أعلم.
المسألة الثانية أن يكون البدل غير متميز عن باقي الوديعة
المسألة الثانية أن يكون البدل غير متميز عن باقي الوديعة [م - 1944] إذا اقترض من الوديعة، ثم رد بدل ما اقترضه، وقام بخلطه بباقي الوديعة بحيث لا يتميز البدل عن باقي الوديعة، ثم تلفت الوديعة، فهل يضمن الجميع، أو يضمن مقدار ما تعدى به؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: إذا اقترض من الوديعة فلم يرد ما أخذ، ثم تلفت الوديعة بغير تعد منه، ولا تفريط لم يضمن إلا ما أخذ. فإن رد بدل ما أخذ وخلطه بالوديعة، وكان الذي رده لا يتميز عن الوديعة ضمن الجميع، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، وبه قال الحنابلة بشرط أن يكون قد أخذ الدراهم من كيس غير مشدود ولا مختوم؛ لأنه إذا كان الكيس مختومًا أو مشدودًا فهتك الحرز ضمن عند الحنابلة وكذا عند الشافعية في أحد الوجهين حتى ولو لم يأخذ من الكيس شيئًا (¬1). جاء في المحيط البرهاني: "إذا كانت الوديعة دراهم، أو دنانير، أو شيئًا من ¬
المكيل، والموزون، فأنفق المودع طائفة منها في حاجة نفسه؛ كان ضامنًا لما أنفق منها, ولم يصر ضامنًا لما بقي منها، فإن جاء بمثل ما أنفق، وخلطه صار ضامنًا لجميع ما أنفق بالإتلاف، وما بقي من الخلط قالوا: وهذا إذا لم يجعل على ماله علامة حين خلط بمال الوديعة، أما إذا جعل لا يضمن إلا ما أنفق" (¬1). فجعل وضْعَ علامة يتميز ماله من مال الوديعة سببًا في عدم ضمان الجميع، فدل على أنه لا يضمن الجميع إلا بالخلط الذي لا يتميز. وجاء في الإنصاف: "قوله: (وإن كان غير متميز: ضمن الجميع) هو المذهب ... " (¬2). وقال في المغني: "وجملته أن من أودع شيئًا، فأخذ بعضه، لزمه ضمان ما أخذ، فإن رده أو مثله، لم يزل الضمان عنه ... فأما سائر الوديعة، فينظر فيه؛ فإن كان في كيس مختوم أو مشدود، فكسر الختم أو حل الشد، ضمن، سواء أخرج منه أو لم يخرج؛ لأنه هتك الحرز بفعل تعدى به. وإن خرق الكيس فوق الشد، فعليه ضمان ما خرق خاصة؛ لأنه ما هتك الحرز. وإن لم تكن الدراهم في كيس، أو كانت في كيس غير مشدود، أو كانت ثيابا فأخذ منها واحدا ثم رده بعينه، لم يضمن غيره؛ لأنه لم يتعد في غيره. وإن رد بدله وكان متميزًا، لم يضمن غيره لذلك، وإن لم يكن متميزًا، فظاهر كلام الخرقي ها هنا أنه لا يضمن غيره ... ¬
وقال القاضي: يضمن الكل. وهو قول الشافعي؛ لأنه خلط الوديعة بما لا يتميز منها، فضمن الكل، كما لو خلطها بغير البدل" (¬1). القول الثاني: إذا تسلف ما لا يحرم تسلفه، ثم رد بدله قبل تلف الوديعة فلا ضمان عليه (¬2). جاء في تهذيب المدونة: "ومن أودعته دراهم، أو حنطة، أو ما يكال، أو يوزن، فاستهلك بعضها، ثم هلك بقيته, لم يضمن إلا ما استهلك أولاً. ولو كان قد ردّ ما استهلك، لم يضمن شيئًا، وهو مصدق أنه رد فيها ما أخذ، كما يصدق في ردها إليك وفي تلفها. وكذلك إن تسلف جميعها، ثم رد مثلها مكانها لبرئ، كان أخذه إياها على السلف أو على غيره، فلا شيء عليه إن هلكت بعد أن ردها" (¬3). وسبق تفصيل هذا القول وأدلته ومناقشتها في المسألة, السابقة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا, ولله الحمد. القول الثالث: لا يضمن إلا ما أخذ، وهو رواية في مذهب الحنابلة، اختاره الخرقي من الحنابلة (¬4). ¬
° وجه هذا القول: أن التعدي اختص به، فيختص الضمان به، وخلط المردود بغيره لا يقتضي الضمان؛ لأنه يجب رده معها، فلم يفوت على نفسه إمكان ردها، بخلاف ما إذا خلطه بغيره. ° الراجح: أرى أن هناك حكمين حكمًا تكليفيًّا وحكمًا وضعيًّا، فالحكم التكليفي وهو تحريم الاقتراض من الوديعة بدون إذن صاحبها، وهذا مخالف لمقتضى العقد، فإن المالك قد ائتمنه على الحفظ، ولم يأذن في الاقتراض، وهذا واضح بالنسبة لي خلاف ما قاله المالكية. وأما الحكم الوضعي وهو الضمان، فيجب أن يكون مرده إلى طبيعة المال، هل هو مال مثلي أو قيمي، وليس إلى الخلط المتميز وعدم التميز، فإن كانت الوديعة مالًا مثليًّا، ورد بدله بريء من الضمان. وإن كان المال قيميًّا لم يبرأ من الضمان، وقد وجهت هذا التفصيل عند الكلام على الترجيح في المسألة السابقة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا, ولله الحمد.
المبحث الثالث في رهن المودع للوديعة
المبحث الثالث في رهن المودِع للوديعة كل ارتباط عقدي ينشئه الوديع بالعين المودعة فإنه لا يجوز إلا بإذن صاحبها. الوديع لا يملك ولاية التصرف في الوديعة إلا بإذن المالك. [م - 1945] إذا استدان المودَع، فأراد أن يدفع الوديعة رهنًا بدينه، فإن كان ذلك بإذن صاحبه جاز ذلك بلا خلاف. جاء في مجلة الأحكام العدلية: "كما أنه يسوغ للمستودع استعمال الوديعة بإذن صاحبها، فله أن يؤجرها أو يعيرها لآخر وأن يرهنها أيضًا .. " (¬1). وقياسًا على رهن العارية، فإنه يجوز رهنها بإذن صاحبها بلا خلاف. وهكذا كل ارتباط عقدي ينشئه الوديع، ويكون محله الوديعة فإنه لا يجوز إلا بإذن صاحبها، كالبيع، والإجارة، والإعارة، والإقراض، والإيداع، هذا هو الحكم التكليفي. أما الحكم الوضعي، فإذا تصرف الوديع مثل هذه التصرفات بدون إذن صاحبه، فهل يصح مثل هذا التصرف، في ذلك خلاف بين العلماء على قولين: القول الأول: أن الرهن باطل، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية والحنابلة (¬2). ¬
جاء في مجمع الضمانات: "الوديعة لا تودع، ولا تعار، ولا تؤجر، ولا ترهن، فإن فعل شيئًا منها ضمن" (¬1). وصرح الحنابلة بأن رهن الوديعة كغصب (¬2). كما اشترط الشافعية والحنابلة وابن حزم من الظاهرية أن يكون الراهن له ولاية التصرف بأن يكون مالكًا للعين المرهونة أو مأذونًا له فيها، وعليه فلا يصح رهن الوديعة بلا إذن مالكها؛ لأن الوديع لا يملك ولاية التصرف في الوديعة (¬3). ولأن قبض المرتهن للعين المرهونة شرط، سواء أكان شرطًا للزومه أم شرطًا لصحته، وإذا اعتبرنا أن دفع الرهن للمرتهن يجري مجرى الإيداع، فالمودَع لا يملك الإيداع للغير؛ لأن إيداع الغير من غير ضرورة يعتبر اعتداء، مع أن المرتهن يقبض الرهن لمصلحته، وليس لمصلحة الوديع. ولأن المقصود من الرهن: الاستيفاء من ماليته وذلك عن طريق بيعه إذا تعذر الوفاء، وليس للوديع أن يوفي دينه من مال غيره. ولهذا قال المالكية والشافعية: ما صح بيعه صح رهنه، وما لا فلا (¬4). ولا يعترض على هذه القاعدة بالثمرة قبل بدو صلاحها، فإنه يصح رهنها، ¬
ولا يصح بيعها، فيقال: بل يصح بيعها بشرط قطعها في الحال، ولأنها تؤول إلى صحة البيع. القول الثاني: لو قيل: إن الرهن ينعقد موقوفًا على إجازة المالك تخريجًا على تصرفات الغاصب (¬1). جاء في المنثور في القواعد للزركشي: "لو غصب أموالًا وتصرف في أثمانها مرة بعد أخرى فطريقان: أصحهما: أنه على القولين الآتيين في تصرف الفضولي. والثانية: القطع بالصحة" (¬2). وإذا كان الحنابلة يرون أن رهن الوديعة كغصب (¬3). وقد قال ابن قدامة: "وتصرفات الغاصب كتصرفات الفضولي على ما ذكرنا من الروايتين: إحداهما: بطلانها. والثانية: صحتها، ووقوفها على إجازة؛ المالك. وذكر أبو الخطاب أن في تصرفات الغاصب الحكمية رواية أنها تقع صحيحة، وسواء في ذلك العبادات كالطهارة، والصلاة، والزكاة، والحج، أو العقود كالبيع، والإجارة، والنكاح" (¬4). ¬
فإذا صحت هذه العقود في إحدى الروايتين من الغاصب صحت من المودَع قياسًا عليه؛ لأنه بمنزلته، والله أعلم. وقد يقال: لا يصح تخريجها على تصرف الفضولي؛ لأن الفضولي يتصرف في مال غيره لا لمصلحته، وإنما لمصلحة المالك، فإذا باع ملك غيره لمصلحة مالكه كما لو رأى أن في هذا غبطة لمالكه، فباع ملكه بلا تفويض من المالك فهذا هو تصرف الفضولي، وأما الوديع فهو يتصرف لنفسه، وليس للمالك، فهو غاصب، وليس فضوليًّا، وإنما يكون فضوليًّا لو رهن الوديعة في دين على المالك بلا إذنه. وعلى كل حال، فإذا اطلع المالك، وأجاز هذا التصرف بريء من الضمان بكل حال، ويبقى الكلام في صحة عقد الرهن، فإن قلنا: العقد صحيح بالإجازة فالحمد لله، وإلا جدد العقد، وزال المحذور، والله أعلم.
المبحث الرابع في الاتجار بالوديعة
المبحث الرابع في الاتجار بالوديعة الفرع الأول في الاتجار بها دون إذن من المالك المسألة الأولى الحكم التكليفي في اتجار الوديع بالوديعة [م - 1946] لا خلاف بين الفقهاء أن الوديع إذا اتجر بالوديعة بلا إذن صاحبها أنه يضمنها لصاحبها إذا تلفت؛ لأن هذا الفعل يعتبر تعديًا منه، والتعدي في الوديعة يوجب الضمان. وأما الحكم التكليفي في الاتجار بالوديعة، هل يحرم، أو لا يحرم فالحكم فيه يرجع إلى مسألتين سبق بحثهما: المسألة الأولى: هل يحرم التعدي في الوديعة مطلقًا، وهو قول الجمهور، أو يحرم إن كان الوديع فقيرًا، وأما إذا كان له مال يرجع إليه إن استهلك الوديعة بتعديه فلا يحرم التعدي، وإن كان ترك التعدي أفضل. قال ابن عبد البر: "ولا يجب لأحد أن يتعدى في وديعة عنده فيتلفها إلا أن يكون له مال مأمون يرجع إليه إن تلفت الوديعة بتعديه، وترك التعدي في الوديعة أفضل" (¬1). ¬
وسبق بحث هذه المسألة وبيان الراجح منها. المسألة الثانية: في حكم الاقتراض من الوديعة، وسبق بحث هذه المسألة أيضًا، وبيان الخلاف فيها بين المالكية والجمهور. فمن قال: يحرم الاقتراض من الوديعة مطلقًا كما هو قول الجمهور، فهو سيحرم بكل حال الاتجار فيها؛ لأن الاتجار في الوديعة إن كان لنفسه فهو اقترض منه للوديعة. وإن كان الاتجار لصاحبها، فهو من تصرف الفضولي، وإن دخل بذلك على أنه مضارب، بحيث يكون الربح بينهما، فهو شريك عند من يرى أن عقد المضاربة من عقود الشركات. وتصرف الفضولي سبق بحثه في عقد البيع، وكذا أحكام المضاربة قد عقد له كتاب خاص. وأما المالكية ففيه تفصيل في الاتجار في الوديعة يرجع إلى نفس التفصيل في الاقتراض منها: فإن كانت الوديعة مالًا متقومًا مما تختلف الأغراض في عينه، ولا يقوم مثله مقامه، فلا تجوز الاتجارة فيه من قبل المودع. ومثله لو كان الوديع معسرًا فلا يجوز له الاتجار في الوديعة. وإذا كانت الوديعة مالًا مثليًّا كالنقد، ومثله المكيل والموزون، والوديع مليًّا، فتكره له التجارة في الوديعة، وإذا اتجر فإنه ضامن للوديعة (¬1). وقد جعل خليل حكلم السلف للوديع حكم الاتجار في الوديعة، فقال في ¬
مختصره: "وحرم سلف مقوم ومعدوم، وكره النقد والمثلي كالتجارة" (¬1). فقوله: (كالتجارة) اختلف المالكية في هذا التشبيه، هل هو تشبيه تام بحيث يحرم الاتجار في الوديعة القيمية ومن المعدوم، وتكره في المثلي ومن الموسر. أو تشبيه التجارة في الكراهة فقط، فتكره التجارة في مال الوديعة مطلقًا سواء كانت مثلية أو قيمية، وسواء أكان الوديع موسرًا أم معسرًا. قال الدردير عن قوله: " (كالتجارة) تشبيه تام على الأظهر، فتحرم في المقوم، وعلى المعدوم، وتكره في المثلي للعلة المتقدمة. وقيل: تشبيه في الكراهة فقط في الجميع" (¬2). إذا علم ذلك نأتي على بعض النصوص الفقهية المتعلقة بالمسألة، والله أعلم: جاء في مجمع الضمانات: "الوديعة لا تودع، ولا تعار، ولا تؤجر، ولا ترهن، فإن فعل شيئًا منها ضمن" (¬3). وحرم الشافعية الاتجار في الوديعة، ولو كان بنية الاتجار لصاحبها. قال في الحاوي الكبير: "الولي مندوب لحفظ ماله كالمودع المندوب لحفظ ما أودع، فلما لم يجز للمودع أن يتجر بالوديعة طلبًا لربح يعود على مالكها، فلم يجز للولي أن يتجر بمال اليتيم طلبا لربح يعود عليه" (¬4). ¬
وقال الباجي في المنتقى شرحًا لقول مالك في الموطأ: "قال يحيى: سمعت مالكاً يقول: إذا استودع الرجل مالًا فابتاع به لنفسه، وربح فيه، فإن ذلك الربح له؛ لأنه ضامن للمال حتى يؤديه إلى صاحبه. اهـ قال الباجي: وهذا على حسب ما قال: إن من اتجر بمال استودعه فربح فيه، فإن الربح له، وقد اختلف قول مالك في جواز السلف من الوديعة بغير إذن المودع، فحكى القاضي أبو محمد في معونته: أن ذلك مكروه. وقد روى أشهب عن مالك في العتبية أنه قال: ترك ذلك أحب إلي، وقد أجازه بعض الناس، فروجع في ذلك فقال: إن كان له مال فيه وفاء، وأشهد، فأرجو أن لا بأس به. ووجه الكراهة: ما احتج به القاضي أبو محمد؛ لأن صاحبها إنما دفعها إليه لا لينتفع بها, ولا ليصرفها، فليس له أن يخرجها عما قبضها عليه ... " (¬1). فقد وصف الباجي في المتتقى أن الاتجار بالوديعة لصالح الوديع اقتراض لنفسه منها، فرجع حكم المسألة إلى حكم الاقتراض من الوديعة، وقد سبق بحثها, ولله الحمد. وقال في الإنصاف: "لو اتجر بالوديعة، فالربح للمالك على الصحيح من المذهب، ونص عليه في رواية الجماعة، ونقل حنبل ليس لواحد منهما، ويتصدق به، قال الحارثي: وهذا من الإمام أحمد مقتض لبطلان العقد، وذلك وفق المذهب المختار في تصرف الغاصب، وهو أقوى. انتهى ... " (¬2). ¬
المسألة الثانية في استحقاق الربح إذا اتجر بالوديعة بدون تفويض
المسألة الثانية في استحقاق الربح إذا اتجر بالوديعة بدون تفويض الخراج بالضمان. [م - 1947] عرفنا في المبحث السابق حكم الاتجار بالوديعة بدون إذن صاحبها، وأن الجمهور يحرمون عليه ذلك خلافًا للمالكية، فلهم تفصيل بين الوديعة المثلية وبين غيرها، وبين الوديع الموسر وبين الوديع المعدوم، فإذا اتجر الوديع بالوديعة، وخسر فإنه ضامن بالاتفاق، ولا يختلفون على ذلك. وأما إذا ربح في الوديعة، فهل يستحق الربح المالك وحده، أو الوديع وحده، أو لا يستحق أحد منهما الربح، بل يجب أن يتصدق به؟ في ذلك خلاف بين العلماء على خمسة أقوال: القول الأول: يتصدق به، وهذا مذهب الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد (¬1). ° حجة هذا القول: أن هذا الربح هو كسب لمال مغتصب، فيكون خبيثًا، وسبيله: هو التخلص منه بالصدقة. القول الثاني: أن الربح يكون للوديع إذا أدى الضمان، أو سلم عينها بأن باعها، ثم ¬
اشتراها، ودفعها إلى مالكها، وإلا فإنه يتصدق به، اختاره أبو يوسف من الحنفية (¬1). جاء في مجمع الأنهر: " (ولو تصرف فيها) أي الوديعة (فربح يتصدق به) أي بالربح عند الطرفين (وعند أبي يوسف يطيب له) الربح إذا أدى الضمان أو سلم عينها بأن باعها، ثم اشتراها ودفع إلى مالكها" (¬2). وانظر حجة هذا القول في القول التالي. القول الثالث: الربح للوديع مطلقًا، وهذا مذهب المالكية (¬3). قال ابن الجلاب: "ومن استودع مالا، فاتجر فيه، ضمنه، والربح له دون رب المال" (¬4). ° حجة المالكية بأن الربح للوديع: إذا كان ضمان هذه الوديعة على الوديع، فإن له ربحه، وعليه خسارته، ولا يمكن أن أحمله الخسارة، ولا يستحق الربح. ¬
القول الرابع: أن الوديع إذا اتجر بالوديعة فباع واشترى بها، فهو غاصب، وأما حكم تصرفه: فبيع الأعيان المودعة باطل مطلقًا، والبيع منقوض وإن تعددت، وهي مستردة ما دامت الأعيان قائمة، والأعيان المأخوذة في مقابلتها مردودة على ملاكها. وإن اشترى الوديع بالوديعة، فإن كان الشراء بأعيانها فالشراء باطل كذلك. وإن كان الوديع يشتري بذمته، ثم يؤدي الثمن من الوديعة، فالشراء ثابت له، فإذا ملك السلع، ثم ربح فيها، فله الربح، وما كان من خسارة فعليه، وعليه مثل الدراهم والدنانير التي غصبها، وهذا آخر قولي الشافعي، وعليه أكثر أصحابه (¬1). وهو رواية في مذهب الحنابلة في التعامل مع الغاصب (¬2). قال ابن المنذر: "وإذا تعدى المودع في الوديعة واشترى بها شيئا نظر، فإن اشترى السلعة بعين المال فالشراء فاسد، ولم يملك السلعة، فإن اشترى السلعة بغير عينها فالشراء صحيح، ويضمن مثل المال الذي أتلف والربح له" (¬3). ¬
° حجة هذا القول: أن العقد إذا وقع على هذه الأعيان، كان باطلاً؛ لأن من شروط صحة العقد أن يكون العاقد مالكًا للمعقود عليه أو مأذونًا له فيه، وهذا الوديع لا يملك التصرف في الوديعة بدون إذن صاحبها، أما إذا وقع العقد في الذمة فالعقد صحيح؛ لأن الوديع يملك أهلية التعاقد، فذمته صالحة لتحمل الحقوق، فإذا أدى ما وجب عليه في ذمته من الوديعة، كان هذا تعديًا يوجب الضمان، ولا يبطل العقد. القول الخامس: أن الربح يكون للمالك، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وامتلاك المالك للربح فرع عن صحة تصرف الوديع، فكيف صح تصرف الوديع، وهو بمنزلة الغاصب؟ اختلف الحنابلة في تخريج القول بالصحة على أربعة أقوال: فقيل: بناء على القول بوقف تصرف الغاصب على الإجازة. وقيل: إن هذا محمول على ما لو اشترى في ذمته ثم نقد الثمن من العين المغصوبة، وهي طريقة القاضي. وقيل: إن القول بالصحة مخرج على رواية عدم تعيين النقود بالتعيين في العقد، فيبقى كالشراء في الذمة سواء. وقيل: إن الصحة مختصة بالتصرف الكثير مما لا يدركه المالك، ولا يقدر على استرجاعه فيصح التصرف للضرورة. ¬
قال في الإنصاف: "لو اتجر في الوديعة فالربح للمالك على الصحيح من المذهب" (¬1). جاء في القواعد لابن رجب: "إذا غصب نقودًا واتجر فيها وربح فإن نصوص أحمد متفقة على أن الربح للمالك فمن الأصحاب من بناه على القول بوقف تصرف الغاصب على الإجازة كابن عقيل وصاحب المغني. ومنهم من بناه على أن تصرفات الغاصب صحيحة بدون إجازة؛ لأنه مدة تطول فيشق استدراكها، وفي القضاء ببطلانها ضرر عليه وعلى المالك بتفويته الربح، وهي طريقة صاحب التلخيص، والصحة عنده مختصة بالتصرف الكثير وأشار إليه صاحب المغني، وأن ما لم يدركه المالك ولم يقدر على استرجاعه يصح التصرف فيه بدون إنكاره لهذا المعنى. ومن الأصحاب من نزله على أن الغاصب اشترى في ذمته ثم نقد الثمن وهي طريقة القاضي في بعض كتبه وابن عقيل في موضع آخر ويشهد لهذا أن المروذي نقل عن أحمد التفرقة بين الشراء بعين الغصب والشراء في الذمة فتنزل نصوصه المطلقة على هذا المقيد، وإنما كان الربح للمالك مع أن الشراء وقع للغاصب؛ لأنه نتيجة ملك المغصوب منه وفائدته فهو كالمتولد من عينه. ويحتمل أن يخرج ذلك على رواية عدم تعيين النقود بالتعيين في العقد فيبقى كالشراء في الذمة سواء" (¬2). ¬
° الراجح: أرى أن مذهب المالكية يتفق مع القواعد، وأن الخراج بالضمان، فمن ضمن مالًا كان له غنمه، وعليه غرمه، وكون الربح له لا يعني أنه لا يستحق الإثم بالغصب، فيحتاج منه توبة لتعديه، والله أعلم.
المبحث الخامس في تأجير الوديعة
المبحث الخامس في تأجير الوديعة الوديع لا يملك ولاية التصرف في الوديعة. [م - 1948] إذا قام الوديع بتأجير الوديعة، فإن كان بإذن صاحبها فذلك جائز، ويكون الوديع وكيلًا عن صاحبها، نائبًا عنه في ذلك (¬1). جاء في مجلة الأحكام العدلية: " ... للمستودع أن يستعمل الوديعة بإذن صاحبها فله أيضا أن يؤجرها ويعيرها ويرهنها" (¬2). [م - 1949] وإن قام بذلك بدون إذن صاحبها، فهل يملك ذلك، ولمن تكون الأجرة؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ليس للوديع أن يؤجر العين المستأجرة، وإذا فعل ذلك ضمن، وهذا مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة. وإذا تلفت العين المودعة، فقال الحنفية المالك بالخيار إن شاء ضمن الوديع، وإن شاء ضمن المستأجر، وأما الأجرة فهي للوديع في مقابل الضمان (¬3). ¬
جاء في المبسوط: "ولو أكرى -يعني الوديع- الإبل إلى مكة، وأخذ الكراء كان الكراء له؛ لأنه وجب بعقده، وليست الغلة كالولد ولا كالصوف واللبن؛ فإن ذاك يتولد من الأصل فيملك بملك الأصل، وهذا غير متولد من الأصل، بل هو واجب بالعقد؛ فيكون للعاقد" (¬1). وجاء في مجمع الضمانات: "الوديعة لا تودع، ولا تعار، ولا تؤجر، ولا ترهن، فإن فعل شيئًا منها ضمن" (¬2). وهذا هو الظاهر من مذهب الشافعية والحنابلة حيث جعلوا حكم الوديع إذا أجر الوديعة بدون إذن صاحبها أنه في حكم الغاصب (¬3). وجاء في مجلة الأحكام الحنبلية: "ليس للوديع تأجير الوديعة ولا إعارتها ولا قرضها ولا الانتفاع بها إلا لإذن المالك فإن فعل ذلك كان متعديا ضامنًا" (¬4). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن المالك مخير بين أن يسترد العين المستأجرة، ويأخذ أجرتها، وعليه نفقتها، وبين أن يتركها للوديع، ويضمنه قيمتها يوم كرائه؛ لأنه يوم التعدي، ولا شيء له من أجرتها. وهذا هو المشهور من مذهب المالكية. ¬
واختار بعض المالكية أن الوديعة إن كانت للقنية فليس لربها إلا كراؤها، وإن كانت للتجارة فيخير ربها بين أخذ الأجرة وبين الضمان (¬1). ° وجه التخيير بين الأجرة وبين الضمان: هذه صورة من الصور التي لا يجوز الجمع فيها بين الأجرة والضمان، وقد صاغ بعض الفقهاء قاعدة فقهية قالوا فيها: الأجرة والضمان لا يجتمعان. والقول بأنهما لا يجتمعان في هذه الصورة: أن الضمان مرتبط بالاعتداء، والأجرة تستحق بالعقد. فإن أخذ المالك الأجرة فإن هذا يعني إجازة العقد، وإذا أجيز العقد فلا معنى لوجوب الضمان. وأما إذا اختار المالك الضمان فإن هذا يعني عدم إجازة عقد الإجارة، وعليه فلا يصح للمالك الجمع بين أخذ الأجرة وبين الضمان، والله أعلم. ° الراجح: أرى أن قول الجمهور أقوى، والله أعلم. ¬
المبحث السادس في السفر بالوديعة
المبحث السادس في السفر بالوديعة [م - 1950] إذا كان عند الرجل وديعة، فأراد سفرًا، فإن أذن له صاحبها بالسفر بها فلا خلاف في جوازه، ولا يعتبر متعديًا. وكذا إذا نهاه المالك عن السفر بالوديعة صراحة، فليس له السفر بها. وقد اعتبر جمهور الفقهاء أن إيداع المسافر حال سفره إذن ضمني له أن يسافر بها؛ لأن علم المالك بحاله رضا ضمني بجواز السفر بها (¬1). أما إذا لم ينهه مالكها عن السفر، ولم يأذن له فيه، فهل يعتبر السفر بالوديعة تعديًا يوجب الضمان؟ اختلف الفقهاء في ذلك على أقوال خمسة: القول الأول: ذهب الحنفية، والشافعية في أحد القولين أن للمستودع السفر بالوديعة، ولا ضمان عليه بذلك، ما لم ينهه صاحبها عن السفر بها، أو يعين له مكان حفظها، أو يكن الطريق مخوفًا، وإلا كان ضامنا بسفره بها، فيما عدا حالة الضرورة (¬2). جاء في مرشد الحيران: "يجوز للمستودع السفر بالوديعة برًّا وإن كان لها ¬
حمل، ما لم ينهه صاحبها عن السفر بها، أو يعين مكان حفظها نصًّا، أو يكن الطريق مخوفًا" (¬1). ° وجه قول الحنفية: الوجه الأول: أن الأمر بالحفظ صدر مطلقًا فلا يتقيد بالمكان كما لا يتقيد بالزمان إلا بدليل، والمفازة محل للحفظ إذا كان الطريق آمنًا. ونوقش: بأن المطلق ينصرف إلى المتعارف، وهو الحفظ في الأمصار عادة. الوجه الثاني: قياس الوديع على الأب والوصي، فإذا كان الأب والوصي يملك السفر في مال الصغير مع أن تصرفهما مقيد بالأصلح، لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]. فلولا أنه من الأحسن لما جاز ذلك لهما، فإذا جاز لهما جاز للوديع قياسًا عليهما؛ لأن يد الجميع يد أمانة، والله أعلم. ويناقش: بأن هناك خلافًا في حق الأب والوصي في السفر بمال الصغير, هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هناك فرقًا بين الأب والوصي وبين الوديع، ذلك أن ¬
الأب والوصي يملكان الاتجار بمال الصغير, ولا يملك ذلك الوديع، ومن لوازم الاتجار السفر بالمال طلبًا للربح، والله أعلم. القول الثاني: يملك الوديع أن يسافر بالوديعة إلا أن يكون لها حمل ومؤونة، وهذا قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬1). ° وجه قولهما: أن السفر بالوديعة إذا كان لحملها مؤونة فيه ضرر بالمالك لجواز أن يموت الوديع في السفر، فيحتاج المالك لاسترداد وديعته إلى النفقة، وقد لا يمكنه ذلك بخلاف ما إذا كانت الوديعة لا حمل لها ولا مؤونة، والله أعلم. القول الثالث: ذهب المالكية إلى أن سفر الوديع بالوديعة من غير عذر تعد موجب للضمان، فإن هلكت ضمن، وإن رجع بها سالمة في ذاتها، وصفتها، وسوقها، ثم تلفت لم يضمن (¬2). جاء في المدونة: "قلت: فلو أن رجلا استودعني وديعة، فحضر مسيري إلى بعض البلدان، فخفت عليها، فحملتها معي، فضاعت، أأضمن في قول ¬
مالك؟ قال: نعم. قلت وكيف أصنع بها؟ قال: تستودعها في قول مالك ولا تعرضها للتلف" (¬1). وقال ابن شاس: "لو سافر بها مع القدرة على إيداعها عند أمين لضمن، فإن سافر بها عند العجز عن ذلك، كما لو كان في قرية مثلًا لم يضمن" (¬2). ° دليل من قال: إن سافر بها ضمن: (ح-1186) روى الشيخان من طريق مالك، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته، فليعجل إلى أهله (¬3). فإذا كان يمنع كمال الطعام والشراب والنوم وهي أركان الحياة مع ما فيه من المشقة والتعب، ومقاساة الحر والبرد والخوف، وخشونة العيش، وكل هذه الأمور تؤثر على قدرة الوديع في حفظ الوديعة، ويتعرض فيها للخطر، ومنه السرقة، لهذا كان السفر بها من غير ضرورة، ولا إذن من المالك تعريض للوديعة لخطر الضياع والسرقة، فيوجب ذلك ضمانها إذا تلفت. القول الرابع: ذهب الشافعية إلى أن الوديع إذا سافر بالوديعة مع القدرة على ردها لمالكها أو وكيله، أو إلى الحاكم إن لم يقدر عليهما، أو إلى أمين، إن لم يقدر على ¬
الحاكم، فإنه يضمنها (¬1). فإن قدر الوديع على صاحبها أو وكيله ردها إليه، أو أخذ الإذن منه بالسفر بها وبريء من الضمان. فإن لم يقدر على أحد منهما، وقدر على الحاكم قام الحاكم مقام الغائب؛ لأن له ولاية النظر في أموال الغائبين. فإذا لم يقدر على الحاكم، وقدر على الإيداع عند رجل أمين فإن هذا عذر يسمح له بإيداع الوديعة لأجنبي؛ لأنه لما تعذر رد الوديعة إلى صاحبها لأنه لا يعلم مكان وجوده، ولا يمكننا منعه من السفر؛ لأن هذا حجر عليه، وهو متبرع بالحفظ، ولا يمكنه السفر بها؛ لأن في السفر بها تعريضًا لها للهلاك، ولم يأذن له مالكها، فلم يبق له إلا إيداعها لثقة على الوجه الذي يحفظ به ماله لو أراد إيداعه، فلا يصير ضامنًا بالدفع إلى غيره في هذه الحالة، والله أعلم. واستدل الشافعية على جواز إيداعها لأجنبي: (ح-1187) بما رواه البيهقي من طريق محمد بن إسحاق قال: أخبرني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة قال: حدثني رجال قومي من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث في خروج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال فيه: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ¬
ثلاث ليال وأيامها؛ حتى أدى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الودائع التي كانت عنده للناس، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [قال الحافظ: إسناده قوي] (¬1). وقد يقال: إن علي وكيل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويد الوكيل كيد الموكل. القول الخامس: ذهب الحنابلة إلى أنه لا ضمان على الوديع إن سافر بها مع حضور مالكها، إذا لم يخف عليها من السفر، أو كان السفر أحفظ لها من إبقائها, ولم ينهه صاحبها عنه، وإلا اعتبر متعديًا ضامنًا ما لم يكن له عذر بذلك، أو اضطرار. وقول الحنابلة قريب من قول الحنفية، وقد سبق ذكره، فأغنى ذلك عن إعادته، ولله الحمد. ° الراجح: لا شك أن السفر في هذا العصر يختلف عن السفر في العصور السابقة، فالسفر في الطائرة، والسيارة لا يشبه السفر بالجمال وعن طريق الصحراء، وإذا كان كذلك فإن السفر بالوديعة اليوم أكثر أمنًا من السفر فيها في العصور السابقة، ومع ذلك إذا كان البلد المسافر إليها لا يتوفر فيها الأمن, ويكثر فيها السرقات كان الوديع ممنوعًا من السفر بالوديعة، فله أن يودعها عند القاضي، أو يودعها عند ثقة، ولا يعتبر ذلك تعديًا، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في الاختلاف بين المالك والوديع
الفصل الثالث في الاختلاف بين المالك والوديع المبحث الأولى إذا أنكر أصل الإيداع الوديعة تصير غصبًا بالجحود. [م - 1951] إذا طلب المالك الوديعة، فأنكر الوديع أن يكون عنده له وديعة، فالقول قول الوديع بيمنه؛ لأن المالك يدعي الإيداع، والوديع: ينكر، والقاعدة الفقهية تقول: البينة على المدعي، فإن لم يقم بينة على دعواه، فإن القول قول المدعى عليه مع يمينه (¬1). (ح- 1188) لما رواه مسلم من طريق ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه (¬2). قال أبو إسحاق الشيرازي: "إذا اختلف المودع والمودع فقال: أودعتك وديعة وأنكرها المودع فالقول قوله ... ثم ذكر حديث ابن عباس المتقدم، وقال: ولأن الأصل أنه لم يودعه فكان القول قوله" (¬3). ¬
وقال العمراني في البيان: "وإن ادعى على رجل أنه أودعه وديعة معلومة، فقال المدعى عليه: ما أودعتني، ولا بينة للمدعي فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه. ولأن الأصل عدم الإيداع" (¬1). وقال ابن قدامة: "فإن طولب بالوديعة فأنكرها، فالقول قوله؛ لأن الأصل عدمها" (¬2). فإن نكل الوديع عن اليمين، أو أقام المالك البينة عليها، أو رجع الوديع واعترف بالوديعة، فإنه يصير بجحوده خائنًا ضامنًا، لخروجه به عن كونه أمينًا، فتنقلب يده إلى يد غاصب، فلا يبرأ إلا بردها إلى صاحبها (¬3). قال الكساني: "ومنها -أي ما يجعل الوديعة مضمونة- جحود الوديعة في وجه المالك عند طلبه، حتى لو قامت البينة على الإيداع، أو نكل المودع عن اليمين، أو أقر به، دخلت في ضمانه؛ لأن العقد لما ظهر بالحجة؛ فقد ظهر ¬
ارتفاعه بالجحود، أو عنده؛ لأن المالك لما طلب منه الوديعة، فقد عزله عن الحفظ، والمودع لما جحد الوديعة حال حضرة المالك، فقد عزل نفسه عن الحفظ؛ فانفسخ العقد، فبقي مال الغير في يده بغير إذنه؛ فيكون مضمونا عليه، فإذا هلك تقرر الضمان" (¬1). وقال القرافي في الذخيرة: "إذا جحدك وشهدت البينة ضمن؛ لأنه بالجحد صار غاصبًا" (¬2). وقال الماوردي: "رجل أودع رجلًا وديعة، ثم طالبه بها، فجحدها وقال: لم تودعني شيئًا، ثم عاد فاعترف بها وقال: قد كنت استودعتها وتلفت، أو قامت بها البينة عليه فادعى بتلفها لم يقبل منه، لأمرين: أحدهما: أنه قد صار بالجحد متعديًا فضمنها، ومن ضمن وديعة لم يسقط عنه الغرم بتلفها. والثاني: أنه بالإنكار الأول قد أكذب نفسه بادعاء التلف" (¬3). وقال ابن قدامة: "إذا ادعى على رجل وديعة، فقال: ما أودعتني. ثم ثبت أنه أودعه، فقال: أودعتني، وهلكت من حرزي، لم يقبل قوله، ولزمه ضمانها. وبهذا قال مالك، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق وأصحاب الرأي؛ لأنه مكذب لإنكاره الأول ومعترف على نفسه بالكذب المنافي للأمانة" (¬4). ¬
فهذه نصوص مختلفة عن أصحاب الأئمة الأربعة تتفق على أن الوديع إذا قال: ما أودعتني، ثم قامت البينة على الإيداع، أو نكل الوديع عن اليمين، أو أقر بالوديعة بعد الاعتراف أنه يكون ضامنًا بذلك حتى يردها إلى صاحبها. وهذا الكلام في الجملة، ولهم تفصيلات قد يتفقون عليها وقد يختلفون فيها، أذكر أهمها: المسألة الأولى: من المسائل محل الوفاق بين الأئمة الأربعة أن الوديع لو قال: ما عندي لك وديعة، ثم ادعى الهلاك، فإنه يسمع؛ لأن هناك فرقًا بين قوله: ما أودعتني، وبين قوله: ما عندي لك وديعة، فالأول ينفي أصل الإيداع. والثاني ينفي وجود الوديعة أو استحقاقها حال طلب صاحبها، وهذا لا يتناقض مع دعوى الرد أو الهلاك (¬1). جاء في الفتاوى الهندية: "ولو طلب الوديعة، فقال: ما أودعتني، ثم ادعى الرد أو الهلاك لا يصدق، ولو قال: ليس له علي، ثم ادعى الرد أو الهلاك يسمع، هذا في خزانة المفتين" (¬2). وقال ابن نجيم: "رجل ادعى على آخر ألفًا وديعة، فأنكر، فلما أقام البينة على الإيداع ادعى المدعى عليه الرد أو الهلاك، إن قال أولًا: ليس لك علي شيء يسمع. وإن قال: ما أودعتني أصلًا لا يسمع" (¬3). ¬
وقال النووي: "من أنكر وديعة ادعيت، صدق بيمينه، فلو أقام المدعي بينة بالإيداع، أو اعترف بها المدعى عليه، طولب بها. فإن ادعى ردها أو تلفها قبل الجحود أو بعده، نظر في صيغة جحوده، فإن أنكر أصل الإيداع، لم تقبل دعواه الرد؛ لتناقض كلامه وظهور خيانته .... وإن كانت صيغة جحوده: لا يلزمني تسليم شيء إليك، أو ما لك عندي وديعة أو شيء، صدق في دعوى الرد والتلف؛ لأنها لا تناقض كلامه الأول" (¬1). وجاء في المغني: "وإذا طالبه الوديعة، فقال: ما أودعتني. ثم قال: ضاعت من حرز، كان ضامنًا؛ لأنه خرج من حال الأمانة. ولو قال: ما لك عندي شيء، ثم قال: ضاعت من حرز، كان القول قوله ... . مع يمينه، ولا ضمان عليه؛ لأن قوله لا ينافي ما شهدت به البينة، ولا يكذبها، فإن من تلفت الوديعة من حرزه بغير تفريطه، فلا شيء لمالكها عنده، ولا يستحق عليه شيئًا" (¬2). المسألة الثانية: لا يضمن إذا كان الهدف من جحود الوديعة الستر والخفاء، أو جحد الوديعة لوجود عدو يخافه عليها من التلف؛ لأن هذا الجحود لمصلحة المالك ومصلحة الوديعة، وهذا قد نص عليه الحنفية والشافعية، خلافًا لزفر (¬3). جاء في فتح القدير: "ولو جحدها عند غير صاحبها لا يضمنها عند ¬
أبي يوسف خلافًا لزفر؛ لأن الجحود عند غيره من باب الحفظ؛ لأن فيه قطع طمع الطامعين" (¬1). وقال النووي: "إذا قال المودع: لا وديعة لأحد عندي، إما ابتداء، وإما جوابًا لسؤال غير المالك، فلا ضمان، سواء جرى ذلك بحضرة المالك أو في غيبته؛ لأن إخفاءها أبلغ في حفظها. وإن طلبها المالك فجحدها، فهو خائن ضامن" (¬2). وجه قول زفر: أن ما هو سبب وجوب الضمان لا يختلف بالحضرة، والغيبة كسائر الأسباب (¬3). المسألة الثالثة: إذا جحد الوديعة، ثم هلكت قبل نقلها، فهل يضمن؟ قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا ضمان عليه، ولهذا لو كانت الوديعة عقارًا لم يضمنها بالجحود؛ لأن العقار لا يمكن نقله عن مكانه (¬4). قال ابن نجيم: "المودع إذا جحدها ضمنها إلا إذا هلكت قبل النقل كما في الأجناس" (¬5). وفي الفتاوى الهندية: "في الأجناس: الوديعة إنما تضمن بالجحود إذا نقلها ¬
من موضعها الذي كانت فيه حال إنكاره وهلكت، فإن لم ينقلها وهلكت لا يضمن" (¬1). ° وجه اشتراط النقل عند الحنفية: أن الوديع إذا جحد الوديعة صار غاصبًا، والغصب لا يتصور إلا حيث يتصور النقل. ونص الشافعية والحنابلة ومحمد بن الحسن بأن الوديع يضمن بالجحود، نقلها أو لم ينقلها (¬2). قال ابن رجب: "يصير المودع ضامنًا بمجرد جحود الوديعة من غير نقل، ولا إزالة يد" (¬3). وهذا هو الراجح، ولهذا لو جلس على بساط الغير مغتصبًا ضمن، ولو لم يكن هناك نقل. المسألة الرابعة: إذا أقام الوديع البينة على هلاكها، فهذا له ثلاث صور. الصورة الأولى: أن يقيم البينة على الهلاك بعد الجحود. فذهب الحنفية والشافعية، ورجحه ابن قدامة في المغني، وصوبه في الإنصاف: أن البينة لا تنفعه، وأن الضمان واجب عليه (¬4). ¬
° وجه القول بوجوب الضمان: لأن الوديع بالجحود صار ضامنًا، وهلاك المضمون في يد الضامن يوجب عليه الضمان، فلم تنفعه البينة. جاء في المبسوط: "فإن أقام رب الوديعة البينة بعد جحود المودع أنه استودعه، ثم أقام المستودع البينة أنها ضاعت، فهو ضامن؛ لأنه بالجحود صار ضامنًا، وهلاك المضمون في يد الضامن يقرر عليه الضمان" (¬1). وجاء في الحاوي الكبير: "لو أقام بينة على تلفها، فهذا على ضربين: أحدهما: أن تشهد له البينة بتلفها بعد الجحود، فلا تسمع، والغرم واجب عليه؛ لأنها تلفت بعد الضمان" (¬2). القول الثاني: أن البينة تنفعه؛ لأنه ليس بمكذب لها، وهذا هو الأصح في مذهب الحنابلة (¬3). جاء في الإنصاف: "وأما إن ادعى الرد، أو التلف بعد جحوده بها، بأن يدعي عليه يوم الجمعة، فينكر، ثم يقر، وتقوم البينة به، فيقيم بينته بتلفها أو ردها يوم السبت، أو بعده مثلا، فهذا تقبل فيه البينة بالرد قولًا واحدًا، وتقبل في التلف على الصحيح من المذهب" (¬4). ¬
الصورة الثانية: أن يقيم البينة على أنها هلكت قبل جحوده، ففيها خلاف: القول الأول: لا يقبل منه؛ وعليه الضمان، إلا أن يصدقه المالك بذلك، وهذا مذهب الحنفية، وقول في مذهب المالكية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقال الشافعية: يصدق في دعوى التلف، لكنه كالغاصب، فيضمن (¬2). قال السرخسي: "جحوده أصل الإيداع يمنعه من دعوى الهلاك قبله" (¬3). وقال في تحفة الفقهاء: "فإن أقر بالوديعة وأقام المودع البينة على أنها هلكت قبل جحوده الوديعة لا يقبل؛ لأنه بالجحود أكذب بينته" (¬4). وفي التاج والإكليل: "قال ابن القاسم، وأشهب، ومطرف، وابن الماجشون، وأصبغ: من استودع وديعة ببينة فجحدها، ثم أقر أنه ردها، وأقام البينة بردها فإنه ضامن؛ لأنه أكذب بينته إذ قال: لم أجدها يريد أو قال ما أودعتني شيئا" (¬5). ° وجه القول بالضمان: أنه بالجحود أكذب بينته، فلا تقبل، وعليه الضمان. ¬
القول الثاني: تسمع بينته، ولا ضمان عليه؛ لأن الهلاك لما ثبت بالبينة فقد ظهر انتهاء العقد قبل الجحود، فلا يرتفع بالجحود. وهذا قول في مذهب الحنفية، والمشهور في مذهب المالكية (¬1). جاء في منح الجليل: "تحصل فيمن أنكر أمانة ثم ادعى ضياعها أو ردها ثلاثة أقوال: الأول لمالك من سماع ابن القاسم يقبل قوله فيهما. الثاني لمالك أيضًا: لا يقبل قوله فيهما. الثالث لابن القاسم: يقبل قوله في الضياع دون الرد. المشهور أنه إن قامت بينة على ضياعه أو رده فإنها تنفعه بعد إنكاره" (¬2). وجاء في بدائع الصنائع: "وإن أقام البينة على أنها هلكت قبل الجحود تسمع بينته، ولا ضمان عليه؛ لأن الهلاك قبل الجحود لما ثبت بالبينة فقد ظهر انتهاء العقد قبل الجحود، فلا يرتفع بالجحود، فظهر أن الوديعة هلكت من غير صنعة، فلا يضمن" (¬3). ولعل الجمع بين هذا القول والقول السابق، أن الوديع إذا جحد الوديعة، ثم أقام البينة على هلاكها قبل الجحود، فإن قال: ليس لك عندي وديعة قبلت بينته، ويبرأ عن الضمان. وإن قال: لم تستودعني، ثم ادعى الهلاك قبل الجحود لم يقبل" (¬4). ¬
الصورة الثالثة: أن يدعي الهلاك قبل الجحود، ولا بينة لأحد منهما. فاختار الحنفية أن القاضي يطلب اليمين من المالك أنه ما يعلم أنها هلكت قبل جحوده، فإن حلف، قضى بالضمان، وإن نكل المالك قضى بالبراءة. جاء في الدر المختار: "ولو ادعى هلاكها قبل جحوده حلف المالك ما يعلم ذلك فإن حلف ضمنه، وإن نكل بريء" (¬1). ¬
المبحث الثاني إذا اختلفا في الرد
المبحث الثاني إذا اختلفا في الرد الأمين يصدق بيمينه في براءة ذمته. كل أمين ادعى رد الأمانة إلى مستحقها، فالقول قوله مع يمينه. [م - 1952] إذا ادعى الوديع رد الوديعة إلى ربها، وكذبه المالك، فهل يقبل قوله: القول الأول: أن القول قول الوديع بيمينه، وهذا قول جمهور الفقهاء (¬1). قال السرخسي: "وإذا طلب المودع الوديعة فقال المستودع: قد رددتها عليك فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أمين والقول قول الأمين مع اليمين؛ لإنكاره السبب الموجب للضمان، وإخباره بما هو مسلط عليه، وهو رد الوديعة على صاحبها، والمودع هو الذي سلطه على ذلك، فيجعل قوله كقول المسلط إلا أنه يستحلف لنفي التهمة عنه" (¬2). ¬
° وجه أن القول قول الوديع: الوجه الأول: أن كل أمين ادعى رد الأمانة إلى مستحقها فالقول قوله بيمينه, لأن الأصل براءة الذمة وعدم التعدي والتقصير. الوجه الثاني: أن قول الوديع أنما اعتبر مع أنه يدعي خلاف الظاهر بقوله: رددت؛ لأنه وإن كان مدعيًّا صورة، فإنه منكر من حيث المعنى، فالمالك يدعي الضمان بدعوى عدم الرد، والوديع منكر للضمان، والقاعدة الفقهية تقول: البينة على المدعي، واليمين على المنكر، فكان القول قول الوديع مع يمينه؛ لأنه منكر (¬1). قال ابن حزم: "والقول في هلاك الوديعة، أو في ردها إلى صاحبها، أو في دفعها إلى من أمره صاحبها بدفعها إليه قول الذي أودعت عنده مع يمينه، سواء دفعت إليه ببينة أو بغير بينة؛ لأن ماله محرم كما ذكرنا فهو مدعى عليه وجوب غرامة، وقد حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن اليمين على من ادعى عليه" (¬2). القول الثاني: أن المالك إن دفع الوديعة بدون بينة فللوديع ردها بدون بينة، والقول قوله في الرد، وأما إذا أشهد المالك على دفع الوديعة لزم الوديع إعادتها ببينة، فإن ادعى ¬
الرد بدون بينة لم يقبل منه، وهذا مذهب المالكية، وهو رواية عن أحمد نص عليه في رواية طالب وابن منصور (¬1). جاء في التهذيب في اختصار المدونة: "ومن بيده وديعة أو قراض لرجل، فقال له: رددت ذلك إليك، فهو مصدق، إلا أن يكون قبض ذلك ببينة، فلا يبرأ إلا ببينة" (¬2). وقال ابن رجب: "نقل أبو طالب وابن منصور عن أحمد أن الوديعة إذا ثبتت ببينة لم تقبل دعوى الرد بدون بينة، وخرجها ابن عقيل على أن الإشهاد على دفع الحقوق الثابتة بالبينة واجب فيكون تركه تفريطا فيجب فيه الضمان وكذلك خرج طائفة من الأصحاب في وصي اليتيم أنه لا يقبل قوله في الرد بدون بينة، وعزاه القاضي في خلافه إلى قول الخرقي وهو متوجه على هذا المأخذ؛ لأن الإشهاد بالدفع إلى اليتيم مأمور به بنص القرآن، وقد صرح أبو الخطاب في انتصاره باشتراطه الإشهاد عليه كالنكاح" (¬3). ° وجه القول بأن ما دفعه ببينة لا يقبل قوله بالرد إلا ببينة: قال ابن رشد: "الأمانة التي تكون بين المخلوقين أمرهم الله فيها بالتقوى والأداء، ولم يأمرهم بالإشهاد كما فعل في ولي اليتيم، فدل ذلك على أنهم ¬
مؤتمنون في الرد إلى من ائتمنهم دون إشهاد، فوجب أن يصدق المستودع في دعواه رد الوديعة مع يمينه إن أكذبه المودع ... . إلا أن يكون دفعها إليه بإشهاد، فيتبين أنه إنما ائتمنه على حفظها, ولم يأتمنه على ردها، فيصدق في الضياع الذي ائتمنه عليه، ولا يصدق في الرد الذي استوثق منه فيه، ولم يأتمنه عليه" (¬1). ¬
المبحث الثالث إذا اختلفا في التعدي والتفريط
المبحث الثالث إذا اختلفا في التعدي والتفريط [م - 1953] سبق لنا أن الوديعة أمانة في يد الوديع، فلا تضمن إلا إذا كان هلاكها بتعديه أو بتفريطه. فإذا ادعى الوديع هلاك الوديعة أو ضياعها، فإن أقر بتعديه أو تفريطه ضمن، وسبق بحث هذه المسألة. وإن ادعى براءته من التعدي والتفريط، فإن صدقه المالك فلا ضمان عليه قولًا واحدًا؛ لأنه أمين، والأمين لا يضمن إلا بالتعدي والتفريط. وإن كذبه المالك، فهل يقبل قوله في نفي التعدي والتفريط، أو يطالب بالبينة على ذلك، وللجواب على ذلك نقول: إن كان يدعي التلف بسبب خفي كالسرقة والضياع فهذا محل اتفاق بين الفقهاء أن القول قوله، ولا يطالب بالبينة، ونقل الإجماع على ذلك ابن المنذر (¬1). وإن كان يدعي التلف بسبب ظاهر كالحريق، والسيل الجارف، والعسكر ونحو ذلك فهل يطالب بالبينة على حدوث الحريق، والسيل الجارف، في ذلك خلاف بين العلماء: القول الأول: يقبل قوله مطلقًا، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، وابن حزم من الظاهرية (¬2). ¬
° دليل من قال: يقبل قوله مطلقًا: الدليل الأول: من الإجماع، قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المودع إذا أحرز الوديعة، ثم ذكر أنها ضاعت، أن القول قوله، وقال أكثرهم: إن القول قوله مع يمينه" (¬1). الدليل الثاني: أن الوديع يدعي براعة ذمته من الضمان، والمالك يدعي شغل ذمته، وذلك خلاف الأصل؛ إذ الأصل براءة ذمته. الدليل الثالث: من النظر، وذلك أن الوديعة أمانة في يده، والوديع مؤتمن عليها، وهذا بالاتفاق، وإذا كان أمينًا فلا بد من قبول قول الأمناء في التلف؛ إذ لا معنى للأمانة إلا انتفاء الضمان، ومن لوازمه قبول قوله في التلف، ولو طالبناه بالبينة لم يكن أمينًا. القول الثاني: إن ادعى التلف بسبب ظاهر كحريق، وغرق لم يقبل قوله إلا ببينة، فإن أقام ¬
بينة على حصول الحريق أو الغرق قبل قوله بلا بينة أن الوديعة هلكت فيه، وإن لم يقم بينة على حصول الحريق أو الغرق فإنه ضامن. وإن ادعى التلف ولم يذكر سببًا، أو ذكر سببًا خفيًّا كالسرقة، والضياع، فالقول قوله في الهلاك والتضييع. وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة (¬1). ° وجه القول بالفريق: أن الوديع إذا ادعى تلفها بسبب خفي كالسرقة والضياع فالقول قوله؛ ولا يطالب بالبينة؛ لأن إقامة البينة على سبب خفي متعذر. وإن ادعى تلفها بسبب ظاهر، كالسيل، والعسكر، والنهب، والحريق لم يقبل قوله حتى يقيم البينة على حدوث ذلك السبب؛ لأنه يمكنه إقامة البينة عليه؛ لأنه لا يخفى على أحد، وكما يقال فيمن قال لامرأته: إن ولدت فأنت طالق، فادعت أنها ولدت لم يقبل قولها من غير بينة، ولو قال: إذا حضت فأنت طالق، فادعت أنها حاضت قبل قولها مع يمينها. ° الراجح: أرى أن التفصيل الذي قاله الشافعية والحنابلة أقوى، وهو ولا يخرج المسألة عن كون الوديع أمينًا، وذلك أنه لا يطالب بالبينة على تلف الوديعة في الحريق أو في السيل الجارف، وإنما الوديع يدعى حدوث أمر ظاهر لا يخفى على ¬
أحد، والمالك يكذبه، فيطالب بالبينة على حدوث الحريق والسيل الجارف فقط، فلو أن المالك أقر بحدوث الحريق، أو حصول السيل لكان القول قول الوديع، ولم يطالب بالبينة على تلف الوديعة في ذلك الحدث.
المبحث الرابع في مطالبة الوديع باليمين إذا ادعى التلف
المبحث الرابع في مطالبة الوديع باليمين إذا ادعى التلف [م - 1954] عرفنا في المبحث السابق أن الوديع إذا ادعى التلف أن القول قوله؛ فهل يطالب باليمين، أو يكتفى بقوله دون يمينه؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن القول قوله مع يمينه، وهذا قول جمهور الفقهاء من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وقول في مذهب المالكية (¬1). وقال ابن المنذر: هو قول الأكثر. قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المودع إذا أحرز الوديعة، ثم ذكر أنها ضاعت، أن القول قوله، وقال أكثرهم: إن القول قوله مع يمينه" (¬2). ¬
° دليل من قال: القول قوله مع يمينه: أن المالك يدعي على الوديع التعدي والتفريط، والوديع مدعى عليه، واليمين في حق المدعى عليه. (ح-1189) لما رواه مسلم من طريق ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه (¬1). القول الثاني: أن القول قوله، ولا يطالب باليمين، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد (¬2). لأن الوديع أمين، والأمين مصدق فيما يقول، وهذا يقتضي ألا يحلف؛ لأن اليمين لدفع التهمة، وهو ليس متهمًا. القول الثالث: لا يمين عليه إلا أن يتهم، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬3). والمتهم عند المالكية: هو من يشار إليه بالتساهل في حفظ الوديعة، وقيل: هو من ليس من أهل الصلاح (¬4). ¬
° وجه التفريق: بين المتهم وغير المتهم: أن غير المتهم مصدق فيما يقول؛ لكونه أمينًا، وأما المتهم بالتساهل في الحفظ أو بكونه ليس صالحًا فإن اليمين لدفع تهمة التساهل أو الكذب، فإن نكل حلف المالك، وضمن المودَع فإن لم يحلف صدق الوديع. ° الراجح: القول بأن عليه اليمين سواء كان متهمًا أو غير متهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب اليمين على المدعى عليه من غير فرق بين متهم وغيره، والله أعلم. وبهذه المسألة أكون قد انتهيت من بيان آثار عقد الوديعة ابتداء من وجوب حفظها، إلى بيان صفة الحفظ، ومن يحفظ الوديعة، ومن تجب عليه النفقة على الوديعة، وصفة الإنفاق، ووجوب رد الوديعة عند طلب صاحبها، وفي ضمانه إذا امتنع من الرد بدون عذر، وكون الوديعة أمانة لا تضمن إلا بالتعدي أو بالتفريط.
المبحث الخامس إذا اختلفا في الأمر بالتصرف في الوديعة
المبحث الخامس إذا اختلفا في الأمر بالتصرف في الوديعة الأصل عدم الإذن بالتصرف. [م - 1955] إذا اختلف المالك والوديع، بأن قال الوديع أمرتني أن أنفق الوديعة على عيالك، أو أمرتني بأن أدفعها إلى فلان، فقال: لم أمرك بذلك، فمن المقدم قوله؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: أن القول قول المالك مع يمينه، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية (¬1). جاء في المبسوط: "وإن ادعى المستودع أنه أنفق الوديعة على عيال المودع بأمره، وصدقه عياله في ذلك، وقال رب الوديعة: لم آمرك بذلك، فالقول قول رب الوديعة مع يمينه" (¬2). وجاء في المدونة: "أرأيت إن استودعني رجل وديعة فجاء يطلبها فقلت له: ¬
إنك أمرتني أن أدفعها إلى فلان وقد دفعتها إليه، وقال رب الوديعة: ما أمرتك بذلك؟ قال: هو ضامن إلا أن يكون له بينة أنه أمره بذلك" (¬1). وقال الشافعي في الأم: " ... المستودَع قال: أمرتني أن أدفعها إلى فلان، فدفعتها، وقال المستودع: لم آمرك، فالقول قول المستودِع، وعلى المستودَع البينة" (¬2). ° وجه من قال: إن القول قول المالك: الوجه الأول: الأصل عدم الإذن بالتصرف، فإذا ادعى الوديع الإذن فعليه البينة. الوجه الثاني: الوديع يدعي الرد على من لم يأتمنه فضمنها فكان كما لو أودعها إلى أجنبي، ولهذا نقول: إذا ادعى الوصي رد مال الطفل عليه بعد بلوغه لم نكتف بقول الوصي ويمينه، فإنه وإن كان أمينا، فقد ادعى الرد على من لم يأتمنه، وهو الطفل الذي بلغ، وقد شهد بذلك نص القرآن، فإنه عز من قائل قال: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] والأمر بالتأكيد بالشهود يشعر بأن الراد لا يصدق في دعوى الرد. ¬
القول الثاني: أن القول قول الوديع، وهذا قول ابن أبي ليلى من الحنفية، ومذهب الحنابلة، وقول ابن حزم من الظاهرية (¬1). ° وجه من قال: إن القول قول الوديع: الوجه الأول: أن الوديع يدعى دفعًا يبرأ به من الوديعة فكان القول قوله فيه كما لو ادعى ردها إلى مالكها. الوجه الثاني: أن التفريق بين أن يدعي الرد على مالكها فيقبل قوله، وبين أن يدعي أن المالك قد أذن له بالرد إلى فلان فلا يقبل تفريق بلا دليل، ولم يأت بالفرق قرآن ولا سنة. ويناقش: بأن هناك فرقًا، فإذا ردها إلى من ائتمنه فيقبل؛ ولا معنى لائتمانه إذا لم يقبل قوله في الرد إليه، أما الرد إلى أجنبي فلا يقبل قوله؛ لأنه رد إلى شخص لم يأتمنه، فكان عليه أن يشهد في الرد عليه، كما قدمنا من طلب الإشهاد عند دفع المال إلى اليتيم إذا بلغ؛ لأن اليتيم لم يأتمن الوصي، والله أعلم. ¬
المبحث السادس إذا تنازع الوديعة رجلان
المبحث السادس إذا تنازع الوديعة رجلان [م - 1956] إذا كان في يده وديعة فادَّعها رجلان، فقال الوديع: أودعني أحدكما, ولست أدري أيكما هو؟ فاختلف الفقهاء في الحكم في هذه المسألة على النحو التالي: القول الأول: مذهب الحنفية: إن اصطلح الرجلان على أن تكون الوديعة بينهما فليس للوديع أن يمتنع عن تسليم الوديعة إليهما, وليس لهما أن يستحلفا الوديع بعد الصلح. وإن لم يصطلحا، فعلى الوديع أن يحلف لكل واحد منهما أنه ما أودعه هذه الوديعة بعينها؛ لأن كل واحد من الاثنين مدع، ودعواه محتملة للصدق، والوديع منكر، واليمين على المنكر، فإن حلف لهما فلا شيء لهما لعدم الحجة، وانقطاع الخصومة إلى وقت إقامة البينة كما في سائر الأحكام. وإن نكل لهما قضي بالوديعة بينهما نصفين، وضمن مثلها بينهما؛ لأن كل واحد منهما يدعي أن الوديعة كاملة له، ولأن التجهيل من الوديع موجب للضمان عليه، وقد صار مجهلًا في حق كل واحد منهما، فيصير ضامنًا، ثم بنكوله صار مقرًّا لكل واحد منهما أنه أخذ جميعها منه، وإنما رد على كل واحد منهما نصفها، فيصير ضامنا لكل واحد منهما ما بقي من حقه. وإن نكل لأحدهما وحلف للآخر قضي بالوديعة للذي نكل له، ولا شيء
للذي حلف له؛ لأن النكول حجة من نكل له، لا حجة من حلف له. هذا ملخص مذهب الحنفية (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية: في مذهب المالكية قولان: أحدهما: إذا تنازع الوديعة رجلان، فقال الوديع: لا أدري لمن هي منهما، أنهما يقتسمانها جميعًا بينهما إن حلفا أو نكلا؛ لعدم وجود المرجح بينهما. وتكون للحالف منهما إن نكل أحدهما عن اليمين. لأن الأمين لا يلزمه رد أكثر من الوديعة، فيقتسمانها بينهما, ولا يغرم أكثر من ذلك. الثاني: يضمن لكل واحد منهما وديعة كاملة إن حلفا أو نكلا, لأنه بالتجهيل قد ضمن الوديعة، وكل واحد منهما تحتمل دعواه الصدق (¬2). جاء في بداية المجتهد: "ويختلف في المذهب في ضمانها بالنسيان ... أو يدعيها رجلان، فقيل: يحلفان وتقسم بينهما. وقيل: إنه يضمن لكل واحد منهما" (¬3). ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية: إذا ادعى رجلان وديعة، فقال المودع: لا أدري لأيكما هو، وقد علمت أنه لأحدكما. فإن لم يدعيا علمه، فلا كلام لهما معه؛ فإنه ليس متعديا باتفاقهما، ونسيانه لا يلحقه بالمتعدين وفاقًا، فإذا لم يكن ضامنًا, ولم يدع عليه علم، انقطعت الطلبة عنه. هذا ما ذكره الأصحاب. وإن ادعيا عليه العلم طلب منه اليمين أنه لا يدري من المستحق منهما، وتنقطع الطلبة عنه. وإن نكل عن اليمين رد اليمين على المدعين، فإما أن يحلفا، أو ينكلا جميعًا، أو ينكل أحدهما. فإن نكلا جميعًا لم يدفع المال إليهما, ولكن يوقف كما يوقف كل مال بين جماعة أشكل مستحقه منهم حتى يقيم أحدهما بينة على ما يدعي. وإن اصطلاحا وتراضيا فهو إليهما. واختار بعض الشافعية أنهما إذا لم يحلفا قسمت الوديعة بينهما قهرًا. وأما إذا حلفا: فقيل: تقسم الوديعة بينهما. وقيل: إذا تحالفا سقطت يمينهما لتعارضها وتضادها، ويلتحقا بما إذا نكلا (¬1). ¬
القول الرابع: مذهب الحنابلة: ذهب الحنابلة إلى أن الوديع إذا قال: هي لأحدكما, ولا أعرف عينه، فإن صدقاه فلا يمين عليه، وعليه التسليم لأحدهما بالقرعة مع يمينه. وإن كذباه، أو أحدهما، حلف لهما يمينًا واحدة أنه لا يعلم؛ لأنه منكر، فإن نكل قضي عليه بالنكول، وألزم تعيين صاحبها، فإن أبى أجبر على دفع القيمة مع العين فيقترعان عليهما أو يتفقان، هذه طريقة صاحب المحرر وجماعة، وقدمها الحارثي، وقال: في كلام المحرر ما يقتضي الاقتراع على العين، فمن أخذها تعينت القيمة للآخر، قال: وهو أولى؛ لأن كلًّا منهما يستحق ما يدعيه في هذه الحالة، أو بدله عند التعذر، والتعذر لا يتحقق بدون الأخذ، فتعين الاقتراع. اهـ فمن خرجت له القرعة حلف أنها له؛ لاحتمال عدمه، وأخذها بمقتضى القرعة، ثم إن قامت بينة بالعين لآخذ القيمة سلمت إليه العين للبينة، وتقديمها على القرعة، وردت القيمة إلى الوديع ولا شيء للقارع على الوديع لأنه لم يفوت عليه شيئًا، بل المفوت البينة (¬1). هذه أقوال المذاهب في هذه المسألة، والله أعلم بالصواب. ¬
الفصل الرابع إذا جحد الوديعة معاملة بالمثل
الفصل الرابع إذا جحد الوديعة معاملة بالمثل [م - 1957] إذا جحد الوديع الوديعة، ثم أودع عند المالك وديعة، فهل يجوز أن يجحد منها مقدار حقه؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال، منها: القول الأول: يجوز إن كانت الوديعة من جنس حقه، فإن كانت الوديعة من غير جنس حقه لم يكن له أن يأخذ حقه منها، وهذا مذهب الحنفية، وبه قال الثوري (¬1). ° حجة الحنفية في المنع إن اختلف الجنس: الأخذ من جنس الحق يعتبر استيفاء، ولصاحب الحق أن ينفرد بالاستيفاء، وأما الأخذ من غير الجنس فهو من باب المعاوضة كالبيع، وهذا لا يصح أن ينفرد به أحد المتعاوضين، بل لا بد من رضا المتبادلين، لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. القول الثاني: لا يجوز استيفاء حقه من الوديعة مطلقًا، سواء أكانت من جنس حقه أم من ¬
غير جنسه، وهذا القول هو رواية ابن القاسم عن مالك، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). واشترط الشافعية في أحد الوجهين: ألا تكون له بينة، فإن كانت له بينة لم يجز له أخذه؛ لأنه يمكنه أخذه عن طريق القاضي (¬2). ° دليل من قال: لا تجوز: (ح-1190) روى الإمام أحمد من طريق حميد، عن رجل من أهل مكة، يقال له: يوسف، قال: كنت أنا ورجل من قريش نلي مال أيتام، قال: وكان رجل قد ذهب مني بألف درهم، قال: فوقعت له في يدي ألف درهم، قال: فقلت للقرشي إنه قد ذهب لي بألف درهم، وقد أصبت له ألف درهم، قال: فقال القرشي: حدثني أبي، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك. [هذا إسناده ضعيف لإبهام ابن الصحابي الذي روى عنه يوسف وله شواهد ضعيفة، قال أحمد: لا أعرفه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه صحيح] (¬3). ¬
ويناقش: بأن الحجة في القدر المرفوع من الحديث، وليست الحجة في فهم أحد رواته، فالحديث ينهى عن مقابلة الخيانة بمثلها، وأخذ حقك ممن ظلمك لا يعتبر خيانة منك له، بل يعتبر إبراء لذمته من المطالبة به يوم القيامة. قال تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41]. وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]. القول الثالث: يجوز له أن يأخذ من الوديعة بقدر حقه، من غير فرق بين جنس ماله وغيره، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية. وقالت الشافعية: إن قدر على الجنس فلا يأخذ من غيره، فإن لم يجد إلا غير الجنس جاز الأخذ منه، وهو ورواية عن أحمد (¬1). قال الدردير: "المذهب أن له الأخذ منها بقدر حقه إن أمن العقوبة، والرذيلة وربها ملد، أو منكر، أو ظالم ... ولا فرق بين أخذ العين، والمثل، والقيمة على المذهب" (¬2). ¬
° حجة القائلين بجواز الأخذ: الدليل الأول: من القرآن الكريم، قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. الدليل الثاني: (ح- 1191) ما رواه البخاري من طريق هشام، قال: أخبرني أبي، عن عائشة، أن هند بنت عتبة، قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: خذي ما يكفيك وولدك، بالمعروف (¬1). القول الرابع: يجوز للوديع أن يأخذ بقدر حقه من وديعته بشرط ألا يكون عليه دين لغيره، فإن كان عليه دين فإنه يحاصصه، وهذا رواية ابن وهب عن مالك (¬2). ° وجه هذا القول: أنه إذا كان عليه دين آخر فإنما يتحاصان في ماله إذا أفلس، فلا يصح أن ينفرد بالأخذ عنه بخلاف ما إذا لم يكن عليه دين آخر. ويناقش: بأن هذا في حق المفلس، ولكن هذا ليس مفلسًا بل مماطلًا فلا يصح القياس عليه. ¬
القول الخامس: أن هذا فرض عليه، وهو اختيار ابن حزم. قال في المحلى: "كل من ظفر لظالم بمال ففرض عليه أخذه وإنصاف المظلوم منه" (¬1). ° حجة ابن حزم على القول بالوجوب: الدليل الأول: احتج ابن حزم بجملة من الآيات القرآنية بعضها فيها الأمر بالمعاقبة بالمثل، والأصل في الأمر الوجوب. وبعضها فيها الإذن بالمجازاة بالمثل، من ذلك: قول الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]. وقوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41]. وقوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى:42]. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39]. وقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]. وقوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194]. وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. ¬
وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء: 227]. الدليل الثاني: واحتج من السنة بحديث عائشة في قصة هند مع أبي سفيان، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لها: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف (¬1). (ح-1192) وبما رواه مسلم من طريق ليث، عن بكير، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري، قال: أصيب رجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك (¬2). قال ابن حزم: وهذا إطلاق منه - صلى الله عليه وسلم - لصاحب الحق على ما وجد للذي له عليه الحق. وأما قولنا: إن لم يفعل فهو عاص لله تعالى، فلقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فمن ظفر بمثل ما ظلم فيه هو، أو مسلم، أو ذمي، فلم يزله عن يد الظالم ويرد إلى المظلوم حقه فهو أحد الظالمين، لم يعن علي البر والتقوى بل أعان على الإثم والعدوان، هذا أمر يعلم ضرورة. ¬
وكذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع (¬1). فمن قدر على كف الظلم وقطعه، وإعطاء كل ذي حق حقه فلم يفعل فقد قدر على إنكار المنكر فلم يفعل فقد عصى الله عز وجل، وخالف أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يحلله من حق نفسه فقد أحسن بلا خلاف، والدلائل على هذا تكثر جدًّا. القول السادس: يستحب له أخذ حقه من وديعته، وهذا قول ابن الماجشون من المالكية (¬2). القول السابع: يجوز له الأخذ إن كان سبب الحق ظاهرًا لا يحتاج إلى إثبات، مثل استحقاق النفقة بسبب النكاح أو القرابة، وحق الضيف، ونحو ذلك، أما إذا كان سبب الاستحقاق خفيًّا يتطلب إثباتًا، وينسب الآخر إلى خيانة أمانته بحيث يتهم بالأخذ، وينسب في الظاهر إلى الخيانة لم يكن له الأخذ، وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة (¬3). ° حجة هذا القول: الدليل الأول: (ح-1193) ما رواه البخاري من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، أنه قال: قلنا: يا رسول الله، إنك تبعثنا، فننزل بقوم ¬
فلا يقروننا، فما ترى؟ فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم (¬1). الدليل الثاني: أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لهند أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها ويكفي ولدها بالمعروف. وسبق تخريج الحديث. ولأنه يشق على الزوجة أن ترفع الأمر إلى الحاكم، فيلزمه بالإنفاق أو الفراق، وفي ذلك مضرة عليها مع تمكنها من أخذ حقها. ولأن حقها يتجدد كل يوم فليس هو حقًّا واحدًا مستقرًا يمكن أن تستدين عليه، أو ترفعه إلى الحاكم بخلاف حق الدين (¬2). فهذه الأحاديث كلها دليل على أن الحق إذا كان سببه ظاهرًا كالنكاح والقرابة، وحق الضيف جاز للمستحق الأخذ بقدر حقه، وإن كان سبب الحق خفيًّا، بحيث يتهم بالأخذ، وينسب إلى الخيانة ظاهرًا، لم يكن له الأخذ وتعريض نفسه للتهمة والخيانة، وإن كان في الباطن آخذًا حقه كما أنه ليس له أن يتعرض للتهمة التي تسلط الناس على عرضه، وإن ادَّعى أنه محق غير متهم. قال ابن القيم: "وهذا القول أصح الأقوال وأسدُّها، وأوفقها لقواعد الشريعة وأصولها، وبه تجتمع الأحاديث" (¬3). ¬
الفصل الخامس في تجهيل الوديعة
الفصل الخامس في تجهيل الوديعة تجهيل الوديعة موجب للضمان لتعريضها للتلف. [م - 1958] إذا مات الوديع ولم يبين ما عنده من وديعة، فإن كانت الوديعة معروفة بعينها فهي أمانة في يد الورثة، ويجب عليهم ردها لمالكها بلا خلاف بين الفقهاء. (ح-1194) لما رواه البخاري من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن عمر بن عبد العزيز، أخبره أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أخبره، أنه، سمع أبا هريرة - رضي الله عنه -، يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره (¬1). فالحديث نص أن لصاحب المتاع الرجوع بعين ماله إذا وجده عند رجل قد أفلس، وإن كان المفلس قد ملكه عن طريق المعاوضة، فالمودع أولى بهذا الحكم من غيره؛ لأن الوديعة هي على ملك صاحبها لم تنتقل إلى ملك الوديع. وأما إن مات الوديع مجهلًا حال الوديعة، فلم يبين حالها, ولم يوص بها، فإنه يضمنها بالتجهيل؛ وتصير دينًا واجب الأداء من تركته كباقي الديون، ويشارك المودِع سائر غرماء الوديع فيها، وهذا باتفاق الأئمة الأربعة في الجملة على خلاف بينهم بالتفصيل (¬2). ¬
واشترط الحنفية للضمان عدم معرفة الوارث بالوديعة (¬1). واشترط المالكية ألا تتقادم كعشر سنين من يوم الإيداع؛ إذ لا ضمان عليه حينئذ؛ لأنه يحمل على أنه ردها لربها إلا أن تكون الوديعة ثابتة بإشهاد قصد به التوثيق فلا يسقط الضمان بطول الزمان، فإن أوصى بها ثم لم توجد فإنه لا يضمنها كما لو تلفت بلا تعد ولا تفريط (¬2). ¬
وقال الشافعية: من كانت عنده وديعة، وهو في حال الصحة واستمرار السلامة، فلو مات فجأة، أو قتل غيلة، ولم يتمكن من الإيصاء، فلا ضمان؛ لأنه لا ينسب إلى التقصير، وإن كان أدب الدين يقضي ألا يبيت المسلم ليلة إلا ووصيته مكتوبة عنده، ولكن ترك الأولى لا يوجب الضمان. ولو مرض الرجل مرضًا مخوفًا، أو حبس ليقتل، وتمكن من الإيصاء، ثم تركه، فإن ذلك موجب للضمان؛ لأنه بإعراضه وتركه الدلالة على الوديعة مع ظهور شواهد الموت يعد مضيعًا للوديعة، والتضييع من أسباب الضمان. ويشترط الإشهاد على ما فعله من ذلك صونًا له عن الإنكار، ولا بد في الإيصاء أن يعين الوصية بإشارة إليها، أو يصفها بما تتميز به، فلو لم يبين الجنس، بل قال: عندي وديعة، فهو كما لو لم يوص (¬1). هذا ما يخص الأقوال، وأما النصوص الدالة على ذلك، فاخترت منها: جاء في مجلة الأحكام العدلية: "إذا مات المستودع بدون أن يبين حال الوديعة، يكون مجهلًا، فتؤخذ الوديعة من تركته كسائر ديونه" (¬2). وجاء في التاج والإكليل: "من هلك وقِبَله قراض وودائع لم توجد، ولم ¬
يوص بها فذلك في ماله، ويحاص بذلك غرماؤه ... وهذا صحيح لا أعلم فيه خلافًا" (¬1). وقال النووي: "إذا مرض المودع مرضًا مخوفًا، أو حبس للقتل، لزمه أن يوصي بها، فإن سكت عنها، ضمن؛ لأنه عرضها للفوات؛ إذ الوارث يعتمد ظاهر اليد ويدعيها لنفسه" (¬2). وقال أيضًا: "أن يبين الوديعة ويميزها عن غيرها بإشارة إليها، أو ببيان جنسها وصفتها، فلو لم يبين الجنس، بل قال: عندي وديعة، فهو كما لو لم يوص ... لو ذكر الجنس فقال: عندي ثوب لفلان، نظر إن لم يوجد في تركته ثوب، فهل يضمن؟ وجهان: أصحهما عند جماهير الأصحاب: يضمن؛ لتقصيره في البيان ... وإن وجد في تركته أثواب، ضمن قطعًا؛ لأنه إذا لم يميز، فكأنه خلط الوديعة ... قال الإمام: إذا لم يوص أصلًا، فادعى صاحب الوديعة أنه قصر، وقال الورثة: لعلها تلفت قبل أن ينسب إلى التقصير، فالظاهر براءة الذمة ... جميع ما ذكرناه إذا تمكن من الإيداع، أو الوصية، فإن لم يتمكن، بأن قتل غيلة، أو مات فجأة، فلا ضمان" (¬3). وجاء في مجلة الأحكام الشرعية: "يضمن الوديع إذا مات مجهلا للوديعة فلم ¬
يعلم حالها, ولم توجد في تركته، وتغرمها التركة كسائر الديون من غير تفصيل" (¬1). ° وجه القول بالضمان بالتجهيل: الوجه الأول: أن الوديع بالتجهيل عرض الوديعة للفوات على صاحبها، وهذا موجب للضمان. الوجه الثاني: أن في تركه بيان الوديعة قد أدى ذلك إلى اختلاط الوديعة بماله خلطًا لا تتميز، والخلط موجب للضمان كما سبق بحثه. الوجه الثالث: أنه بتجهيل الوديعة صار ممتلكًا لها، حيث سلط غرماءه وورثته على أخذها والوديع بالتملك يصير ضامنًا. ¬
مبحث في التصرف في الودائع المجهول أصحابها
مبحث في التصرف في الودائع المجهول أصحابها [م - 1959] إذا غاب رب الوديعة، فلا يعلم أحي هو أم ميت، فما الواجب عمله في هذا المال؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال: القول الأول: يمسكها حتى يعلم بموته، وهذا مذهب الحنفية (¬1). ° وجه القول بذلك: أن الوديع قد التزم بحفظها لصاحبها، فعليه الوفاء بما التزم. قال السرخسي: "وأما إذا غاب رب الوديعة، ولا يدرى: أحي هو أو ميت، فعليه أن يمسكها حتى يعلم بموته؛ لأنه التزم حفظها له، فعليه الوفاء بما التزم" (¬2). القول الثاني: إذا طال زمن غيابه، أو أيس منه، ولا وارث له تصدق بها عنه، وهذا مذهب المالكية (¬3). ¬
جاء في المدونة: "قلت: أرأيت لو أن رجلًا استودعني وديعة، ثم كتاب، فلم أدر، أحي هو أم ميت، ولا أعلم له موضعا ولا أعرف ورثته؟ قال: قال مالك: إذا طال زمانه فأيس منه تصدق بها عنه" (¬1). القول الثالث: الودائع المجهولة أمرها لبيت المال يتصرف فيها الحاكم إلا أن يكون جائرًا فأمرها لمن هي في يده، وهذا مذهب الشافعية (¬2). ° وجه القول بذلك: أن الحاكم له ولاية في أموال الغائبين، وهو موضع أمانات المسلمين. القول الرابع: هو مخير بين أن يتصدق بها بدون إذن الحاكم بشرط ضمانها له، وبين أن يدفعها إلى الحاكم، ويلزم الحاكم قبول الودائع، والغصوب، ودين الغائب، والمال الضائع. على الصحيح من المذهب، وهذا مذهب الحنابلة (¬3). ° وجه القول بالتخيير: أن هذا المال سقط وجوب رده إلى صاحبه أو إلى ورثته لتعذر الوصول إليهم، وقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. ¬
فصار المال في حكم المال الذي لا مالك له، والمال الذي لا مالك له يصرف في مصالح المسلمين، والصدقة من أعظم مصالح المسلمين. قال ابن تيمية: "المال الذي لا نعرف مالكه يسقط عنا وجوب رده إليه فيصرف في مصالح المسلمين والصدقة من أعظم مصالح المسلمين، وهذا أصل عام في كل مال جهل مالكه بحيث يتعذر رده إليه. كالمغصوب والعواري والودائع تصرف في مصالح المسلمين على مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم" (¬1). وقيل: ليس له الصدقة بها إلا إذا تعذر إذن الحاكم، ذكره القاضي الحنبلي، وفي الإنصاف ذكره احتمالًا (¬2). ° وجه هذا القول: أن المال الذي لا مالك له يصبح ملكًا لعموم المسلمين، والقاضي نائب عنهم، والله أعلم. ¬
الفصل السادس في تعدد الوديع
الفصل السادس في تعدد الوديع [م - 1960] إذا أودع الرجل وديعته عند رجلين، فمن يتولى الحفظ؟ اختلف العلماء في هذه المسألة: القول الأول: إن كانت الوديعة تقبل القسمة حفظ كل واحد منهما نصيبه، وإن كانت الوديعة لا تقبل القسمة حفظه أحدهما بأمر الآخر. وهذا قول أبي حنفية (¬1). جاء في الاختيار لتعليل المختار: "ولو أودع عند رجلين شيئا مما يقسم اقتسماه، وحفظ كل منهما نصفه، وإن كان لا يقسم حفظه أحدهما بأمر الآخر" (¬2). ° وجه هذا القول: أن الوديع يلتزم الحفظ بحسب إمكانه، ومعلوم أنهما لا يقدران على أن يتركا جميع أشغالهما، ويجتمعا في مكان واحد لحفظ الوديعة، والمالك لما أودعهما مع علمه بذلك فقد صار راضيًا بقسمة الوديعة بينهما مع إمكانه، فيحفظ كل واحد منهما للنصف دلالة، والثابت بالدلالة كالثابت بالنص، فإن دفع أحدهما ¬
نصيبه إلى الآخر من غير رضا المالك ضمن الدافع، ولا يضمن القابض؛ لأن المالك إنما رضي بحفظهما, ولم يرض بحفظ أحدهما، وهذا لا يتحقق إلا بالقسمة، بخلاف ما لا يقسم فإنه يمكن أن يحفظه أحدهما بأمر الآخر؛ لأن المالك لما أودعهما مع علمه أنهما لا يجتمعان على حفظه آناء الليل والنهار فقد صار راضيًا بحفظ كل واحد منهما لجميعه، ألا ترى أنهما يتهايآن في الحفظ، وفي مدة المهايأة يتركه كل واحد منهما عند صاحبه في نوبته (¬1). القول الثاني: بحفظ أحد الوديعين المال بإذن الآخر مطلقًا، أي سواء أكانت الوديعة تقبل القسمة أم لا، وهذا قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن (¬2). ° وجه قولهما: أن الوديع قد رضي بأمانتهما، فكان لكل واحد منهما أن يسلم إلى الآخر ولا يضمنه كما فيما لا يقسم. القول الثالث: إذا أودع رجل اثنين جعلت الوديعة بيد الأعدل منهما، فإن كانوا في العدالة سواء، فإن كان ربها حاضرًا فالكلام له، وإن كان غائبًا، وتساويا في العدالة، فقيل: تقسم بينهما إن قبلت القسمة، وإلا فالقرعة (¬3). ¬
وقيل: ينظر السلطان في ذلك، فيدفع المال إلى أحرزهما، وأكفاهما كالقول في الوصيين (¬1). وقيل: تجعل في محل بقفلين، ويأخذ كل واحد مفتاحًا (¬2). وفي الذخيرة نقلًا من التنبيهات: "لو اقتسماها لم يضمناها في ظاهر قول ابن القاسم، والخلع عند عدم العدالة مختص بالوصيين؛ لأن الإيداع مشروع عند البر والفاجر، ولا يوصى الفاجر" (¬3). وقال ابن حبيب: يضمن كل وصي ما سلم بالتسليم؛ لأن الموصي لم يرضهما إلا جميعًا (¬4). والوديعان قياس على الوصيين. القول الرابع: يجوز أن يقتسماها، ويجوز أن تكون عند أحدهما، وهذا قول أشهب من المالكية. جاء في الذخيرة: "قال أشهب من المالكية: إن اقتسماها، أو كانت عند أدناهما عدالة ما لم يكن بيّن الفجور فلا ضمان على واحد منهما" (¬5). وإنما لم يشترط أعدلهما؛ لأن الإيداع كما سبق لا تشترط له العدالة عند المالكية. ¬
° الراجح: أرى أن الوديعة إذا أودعت لاثنين، فإن كان المال ينقسم قسم بينهما، وإن كان المال لا ينقسم، فإن أمكن مراجعة المالك فالقول قوله فيمن تكون يده على الوديعة، فإن كان غائبًا فإنهما يتهايآن في الحفظ، وإن اضطر أحدهما للتصرف في الوديعة رجع إلى الآخر، ولا ينفرد بذلك، والله أعلم.
الفصل السابع في الوديع يكره على تسليم الوديعة
الفصل السابع في الوديع يكره على تسليم الوديعة [م - 1961] اختلف الفقهاء في الوديع يكره على تسليم الوديعة لغير صاحبها، هل يضمنها؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يضمن، وهذا مذهب الحنفية، وقول في مقابل الأصح في مذهب الشافعية، والمذهب عند الحنابلة (¬1). واشترط الحنفية بأن يكون الإكراه ملجئًا: هو أن يكرهه بأمر يخاف على نفسه، أو على عضو من أعضائه، وبه قال ابن الزاغوني من الحنابلة (¬2). جاء في مرشد الحيران: " إذا حصل تهديد أو وعيد للمستودع على دفع الوديعة، فإن خاف تلف نفسه، أو عضو من أعضائه، أو ضياع ماله كله فدفع لا ضمان عليه، وإن فرط في الوديعة بدون عذر من هذه الأعذار فعليه ضمانها" (¬3). ¬
جاء في القواعد: "وعن ابن الزاغوني أنه إن أكره على التسليم بالتهديد والوعيد فعليه الضمان ولا إثم، وإن ناله العذاب فلا إثم ولا ضمان (¬1). ° وجه القول بعدم الضمان: الوجه الأول: أن التسليم مع الإكراه لا يعتبر إتلافًا، فلا يجب عليه الضمان فرقًا بينه وبين الإكراه على القتل فإن الإكراه على القتل لا يعذر فيه، بخلاف هذا. وقد علل بذلك القاضي من الحنابلة. الوجه الثاني: أن الإكراه عذر يسقط الضمان عن الوديع كما لو أخذت من يده بغير فعل من جهته. واشترط الحنفية أن يكون الإكراه ملجئًا؛ بحيث يخاف على نفسه، أو على تلف عضو من أعضائه؛ لأن مثل هذا الإكراه ينافي الرضا كما ينافي الاختيار، فإذا وقع تصرفه تحت هذا النوع من الإكراه فلا ضمان عليه. وأما الإكراه القاصر، وهو ما دون ذلك كأن يكون معه تهديد بالحبس أو القيد، فهذا ينافي الرضا, ولكنه لا ينافي الاختيار، فالوديع إذا أكره إكراهًا غير ملجيء، فالوديع مختار لما فعله، قاصد إياه؛ فهو قد اختار أهون الشرين عليه، إلا أنه قصده لا عن رضا به، بل لدفع الشر عن نفسه، فيضمن (¬2). ¬
القول الثاني: إذا أكره على تسليم الوديعة لغير صاحبها فللمالك الخيار إن شاء ضمن الوديع، وإن شاء ضمن الظالم، فإن ضمن الوديع رجع الوديع على الظالم، وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية (¬1). ° وجه قول الشافعية: الوجه الأول: إنما جاز تضمين الوديع لمباشرته للتسليم، ثم للوديع أن يرجع على الظالم لاستيلائه. الوجه الثاني: أن الضمان يستوي فيه الاختيار والاضطرار. القول الثالث: لا يضمن إذا أكره على التسليم، ويضمن إذا أكره على الإتلاف، ذكره بعض الحنابلة احتمالًا (¬2). ° وجه القول بالتفريق: قال ابن اللحام: "وقد يقال: إنه لا يضمن إذا أكره على التسليم، ويضمن إذا أكره على الإتلاف، بأن هذا إكراه على سبب، وذاك إكراه على مباشرة، يؤيده ¬
نص الإمام أحمد في رواية ابن ثواب على أن حافر البئر عدوانًا إذا أكرهه السلطان على الحفر لم يضمن ... " (¬1). ¬
الباب الرابع في الودائع المصرفية
الباب الرابع في الودائع المصرفية الفصل الأول في تعريف الودائع المصرفية تعريف الودائع المصرفية: الودائع المصرفية هي كلمة مركبة من كلمتين: أحدهما كلمة (الودائع) والثانية (المصرفية). وسبب إطلاق الودائع على الودائع المصرفية أن وظيفة البنوك كانت في مرحلة من تاريخها مقتصرة على قبول الودائع من معادن ثمينة، وعملات مقابل حصولها على عمولة لقيامها بالحراسة، والمحافظة على الوديعة، ولكن البنوك قد تغيرت وظيفتها فلم تعد تتقبل الودائع من الناس من أجل حفظها، وإنما أصبحت تتملك تلك الودائع، وتتصرف فيها وذلك حين رأى أصحاب المصارف أن نسبة ضئيلة من المودعين هي التي تسترد ودائعها كاملة في آن واحد، وأن لديهم حصيلة كبيرة من نقود الودائع عاطلة، وأن من المفيد لهم إقراضها بفائدة، فأصبحوا يقرضون ما أودع الناس لديهم بعد تقديم ضمانات كافية، وتوسعوا في ذلك حتى أصبحت تلك المصارف تقرض من نقود ليس لها وجود، أي أنها تخلق هذه النقود خلقًا، ومع تغير وظيفة المصارف من حفظ الودائع إلى اقتراضها وإقراضها بفائدة لم تغير تسميتها، فأبقت على التسمية
الأولى، وهي اسم الوديعة لكل ما تتلقاه من الجمهور (¬1). إذا علمنا ذلك نأتي إلى تعريف الوديعة المصرفية: عرفها بعضهم: بأنها عقد بمقتضاه يسلم أفراد أو هيئات مبلغًا من النقود إلى مصرف (بنك) على أن يتعهد الأخير برده، أو برد مبلغ مماثل دفعة واحدة أو على دفعات لدى الطلب، أو بالشروط المتفق عليها، ويكون للمصرف حق استعمال هذه النقود واستثمارها (¬2). وعرفها الصدر بقوله: "هي مبلغ من النقود يودع لدى البنوك بوسيلة من وسائل الإيداع، فينشيء وديعة تحت الطلب، أو لأجل محدد اتفاقًا، ويترتب عليه من ناحية البنك الالتزام بدفع مبلغ معين من وحدات النقد القانونية للمودع أو لأمره، أو لدى الطلب، أو بعد أجل" (¬3). وعرفها ثالث بأنها: "المبالغ التي يضعها صاحبها في المصرف، ويحق له سحبها في أي وقت شاء، سواء كان السحب نقدًا، أو عن طريق استعمال الشيكات، أو أوامر التحويلات المصرفية لعملاء آخرين" (¬4). والتعريفات متقاربة. ¬
الفصل الثاني خصائص الودائع النقدية المصرفية
الفصل الثاني خصائص الودائع النقدية المصرفية [م - 1962] تختص الودائع المصرفية بخصائص منها: الأول: أنها مختصة بالنقود، بينما الوديعة العادية تشمل النقود وتشمل غيرها من الأموال والوثائق وغيرهما. الثاني: أن المصرف يتملكها ويتصرف بها، ويتكسب منها، ويخلطها بأمواله عمدًا، ويرد بدلها، بينما الوديعة العادية لا يملك المودع التصرف بها، وإنما هو موكل بحفظها، وحراستها، ونماؤها لصاحبها. الثالث: أنها مضمونة مطلقًا، بينما الوديعة العادية لا تضمن إلا في حالتي التعدي والتفريط؛ لأنها أمانة في يد المودع.
الفصل الثالث في توصيف الودائع المصرفية الجارية
الفصل الثالث في توصيف الودائع المصرفية الجارية [م - 1963] إذا نص في عقد الإيداع بأن الحساب الجاري قرض يأخذه البنك من عميله المقرض فإنه لا خلاف بأن النص يقضي على الخلاف الدائر بين المعاصرين في تكييف الودائع المصرفية الجارية، لذلك كثير من البنوك الإسلامية تورد في عقد فتح الحساب النص التالي: "الحساب الجاري هو قرض تحت الطلب، لا يستحق المتعامل مع المصرف بمقتضاه أية أرباح، كما لا يتحمل أية خسارة، ويلتزم المصرف بناء على ذلك بدفع الرصيد كاملًا عند طلبه من المتعامل". أما إذا لم ينص على ذلك في العقد الموقع بين البنك وبين العميل، أو نص على أنه وديعة، أو على أي تكييف آخر غير القرض، فما حكم هذا التكييف إذا علمنا أن البنك يتملك الحساب الجاري، ويخلطه بأمواله، ويتصرف فيه، ويستأثر بأرباحه، ولا يرد عين ما أخذ بل يرد بدله، فهل ننظر إلى ظاهر اللفظ، أو ننظر إلى المعنى، هذا محل اختلاف بين الباحثين المعاصرين. القول الأول: أن الودائع الجارية قرض، وتسميتها بالودائع تسمية تاريخية حيث كانت في بدايتها كذلك. وبهذا صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (¬1)، ¬
والهيئة الشرعية في شركة الراجحي المصرفية (¬1)، والباحثين في ندوة البركة (¬2)، وأكثر العلماء المعاصرين (¬3). القول الثاني: الحسابات الجارية تأخذ حكم الوديعة الفقهية على خلاف بينهم: ¬
هل أخذت حكم الوديعة لأنها مأذون باستعمالها، من جهة أن المودع يعلم أن المصرف سوف يتصرف فيها وفق العرف المصرفي، كما رجحه الأستاذ الدكتور حمد الكبيسي (¬1). أو أخذت حكم الوديعة؛ لأنه لا يوجد إذن بالاستعمال كما هو نص النظام الأساسي لبنك دبي الإسلامي (¬2)، واختيار فضيلة الدكتور عيسى عبده (¬3)، وحسن الأمين (¬4). القول الثالث: عقد وديعة ناقصة أو شاذة (¬5). وهذا التوصيف قانوني، لا يسأل عنه الفقه الإسلامي، ولولا أن الباحثين المعاصرين ذكروه لما ذكرته. ¬
القول الرابع: أنها عقد مستقل بذاته، يدخل ضمن العقود غير المسماة في الفقه الإسلامي (¬1). القول الخامس: الوديعة الجارية إن أخذ عليها فوائد فهي عقد بيع، وإلا كانت قرضًا (¬2). هذه هي ملخص الأقوال، وقد ذكرت أدلة في المجلد الثاني عشر عند ذكر أهم المعاملات المصرفية، فلله الحمد، وإنما اقتضى التذكير بها في عقد الوديعة. ¬
الفصل الرابع إيجار الخزائن الحديدية للإيداع
الفصل الرابع إيجار الخزائن الحديدية للإيداع المبحث الأول تعريف الخزائن الحديدية تعريف الخزائن الحديدية: بأنه عقد يتعهد بمقتضاه مصرف مقابل أجرة بوضع خزانة معينة تحت تصرف المستأجر للانتفاع بها مدة محدودة (¬1). ويعتبر تأجير الخزائن الحديدية للإيداع فيها من عقود المعاملات المصرفية، وللبنك والعميل فوائد من هذه الخزائن: أما الفوائد التي تعود على البنك: يعتبر البنك هذه الصناديق من عوامل اجتذاب العملاء حيث إن الأجرة التي يأخذها على تأجير مثل هذه الخزائن لا تتناسب مع تكاليف إنشاء هذه الخزائن، ولا مع المسؤولية في الحفاظ عليها بعد استئجارها. وأما الفوائد التي تعود على العميل: فالعميل يستفيد من هذه الصناديق فوائد منها: (1) أن ودائع العميل في هذه الصناديق لا يمتلكها البنك كالودائع الجارية، ¬
ولا يستثمرها لحسابه, لأنها تحفظ بأعيانها، وبالتالي لا يكون المودع فيها معينًا للبنوك التقليدية في إقراضها في عقود ربوية. (2) الاستفادة من القدرات التي تمتلكها المصارف حيث يعتبر إنشاء مثل هذه الخزائن والقيام على حراستها مكلف جدًّا لا يستطيع الأفراد تحمله. (3) أن بعض الودائع في هذه الصناديق لا تصلح أن تكون ودائع جارية؛ لأنها ليست نقودًا، كالصكوك والجواهر وغيرها من الأموال التي ليست مثلية فيضطر العميل للاستفادة من قدرات البنك على حراسة أمواله بأن يودعها في مثل هذه الصناديق. (3) المحافظة على سرية هذه الودائع حيث يكون مفتاح الخزانة بيد العميل وحده، وهو الوحيد الذي يحق له فتح مثل هذه الخزانة، وتوجد فواصل خاصة بين الخزائن تضمن للعميل سرية الإطلاع المنفرد على ما بداخل خزانته. وإذا عرفنا فوائد البنك والعميل، فإن العقد يلزم البنك والعميل بالتزامات متبادلة، من ذلك: التزامات البنك: (1) - يتعهد البنك بالمحافظة على الخزانة وصيانتها، والتأكد من صلاحيتها للحفظ. (2) يتعهد البنك بحراسة الخزانة عن جميع الأسباب التي قد تؤدي إلى سرقتها، والعمل على تأمين سلامتها من الحرائق ونحوها. (3) تمكين المستأجر من الانتفاع بالخزانة. (4) المحافظة على أن يكون انتفاع العميل بها سريًّا.
(5) تنظيم عملية فتح وإغلاق الخزانة والتحقق من شخصية العميل قبل السماح له بدخول صالة الخزائن. (6) احتفاظ البنك بنسخة أخرى للخزانة يستعمله في حال الضرورة. (7) تحصيل الإيجار من العملاء، ومراقبة تاريخ ابتداء وانتهاء العقد، وتجديده. (8) التأكد من شخصية العميل، وأنه معروف بالاستقامة والنزاهة، وحسن السيرة، وأنه لا يوجد عليه أي تحفظ من أي نوع كان سواء كان سياسيًّا أو تجاريًّا، وعدم استخدام هذه الخزائن استعمالات غير مشروعة. التزامات العميل: (1) دفعه الأجرة المتفق عليها في عقد الإجارة. (2) المحافظة على مفتاح الخزانة، ورده عند انتهاء العقد. (3) القيام بإبلاغ البنك في حال فقده مفتاح الخزانة؛ ليتمكن البنك من منع الدخول إليها نهائيًّا. (4) احترامه للائحة تأجير الخزائن وتقيده بمواعيد الزيارة. (5) ألا يضع في الخزانة ما يهدد سلامة الخزانة أو البنك نفسه (¬1). ¬
المبحث الثاني في التوصيف الفقهي لتأجير الخزائن الحديدية
المبحث الثاني في التوصيف الفقهي لتأجير الخزائن الحديدية [م - 1964] اختلف العلماء في توصيف عقد تأجير الخزائن، هل هو عقد إجارة، أو عقد وديعة، أو هو عقد مركب منهما. القول الأول: أن هذا العقد عقد إجارة حيث يمتلك البنك هذه الخزائن الحديدية، وينفرد العميل بمنفعة هذه الخزائن، حيث يعطيه البنك حق استخدامها وحده بأجرة معينة، ولمدة محدودة، وينفرد المستأجر بوضع ما يريده فيها بسرية تامة، وكون البنك يقوم بحراستها فهو يقوم بحراسة عقار البنك، وهو ملك للبنك وحده (¬1). ويشكل على هذا التوصيف: أن الخزانة وما تحتويه من ممتلكات العميل تعتبر في عهدة البنك وحراسته، بينما عقد الإجارة تكون الحيازة للمستأجر وحده. القول الثاني: أن عقد الخزانة هو عقد وديعة، حيث تعتبر الخزانة وما تحتويه من ممتلكات العميل في عهدة البنك وحراسته، وهذا حقيقة الوديعة (¬2). ¬
ويشكل على هذا التوصيف: أن عقد الوديعة يجعل العين المودعة في يد الوديع، بينما الخزانة يستخدمها المستأجر وحده، ويعطيه البنك حق المحافظة على سرية ما بداخلها. القول الثالث: أن عقد استخدام هذه الخزائن ذو طبيعة خاصة يسمى عقد الحراسة (¬1). ونوقش هذا: قال الدكتور علي البارودي: "مثل هذا الرأي لا يحل الإشكال القائم إذ يبقى بيان الآثار الخاصة التي يمكن أن تترتب على هذا العقد الجديد، والواقع أن في هذا العقد نوعًا من الحيازة المشتركة لا تتوافر في عقد الوديعة، حيث تكون الحيازة للمودع لديه وحده، ولا في عقد لإيجار حيث تكون الحيازة للمستأجر وحده، ففي عقد إيجار الخزانة يحوز البنك الخزانة ويحوز العميل ما بداخلها، فلو أن الخزانة ذاتها ملك للعميل لما كان هناك شك في أن العقد يكون وديعة تماما كمن يودع حقيبة مغلقة لدى شخص آخر لا يعلم ما بداخل الحقيبة، فملكية البنك للخزانة هي التي تمنع القول بأن العقد عقد وديعة" (¬2). القول الرابع: الذي أراه أنه عقد إيداع لعين مستأجرة، والأجرة المأخوذة روعي فيها الأمران معًا: منفعة الخزانة، والقيام على حفظها، فلو أن الخزانة كانت ملكًا للعميل لما كان هناك خلاف في أنها وديعة، فهو كمن يودع صندوقًا مقفلًا، أو ¬
كيسًا مختومًا، فإذا استأجر العميل الخزنة فقد ملك منفعتها مدة الإجارة، وصارت يده على الخزانة كيد المستأجر، وإذا كان المستأجر يملك تأجير العين المستأجرة فهو يملك إيداعها من باب أولى، وكونه يراجع الوديع كل ما أراد ويطلع على وديعته ويزيدها وينقصها فهذا لا يفسد عقد الإيداع. وأما أخذ الأجرة على الوديعة فهو محل خلاف بين الفقهاء، فالحنفية والشافعية وقول في مذهب الحنابلة يجيزونه مطلقًا (¬1). وأما المالكية فيجيزونه إن كان مكان الحفظ أجرة، ولا شك أن الخزائن الحديدية تشغل من العقار مكانًا له قيمة كبيرة عدا أن إنشاء مثل هذه الخزائن يكلف ماليًّا قد لا يكون بمقدور كثير من الأفراد تحمله (¬2). وعليه فأخذ الأجرة على الوديعة جائز عند الحنفية والمالكية والشافعية. وقيل: لا يجوز مطلقًا، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). والراجح الجواز؛ لأن الوديعة وكالة في الحفظ، والتوكيل يجوز اشتراط الأجرة فيه فكذلك الوديعة. وقد سبق بحث هذه المسألة وذكرنا أدلتهم في مسألة مستقلة. ¬
وكون الوديعة تكون مضمونة مع أنها من الأمانات، فهذا أيضًا محل خلاف بين الفقهاء. فالحنفية يرون أن الوديعة إذا هلكت بما لا يمكن التحرز مثله كحريق وغرق غالبين فلا ضمان على الوديع مطلقًا سواء أكانت بأجر أم بدون أجر. وأما إن هلكت بما يمكن التحرز منه، فينظر: إن كانت بغير أجر، فلا ضمان على الوديع؛ لأنها هلكت بدون تعد ولا تفريط، وإن كان الحفظ بأجر فإن عليه الضمان (¬1). ¬
وعليه فيجوز أن تكون هذه الصناديق مضمونة بمقتضى مذهب الحنفية؛ لأن الحفظ في مقابل الأجرة. إذا علمت ذلك، فقد جاء في أبحاث هيئة كبار العلماء الرسميين بالسعودية: "يظهر والله أعلم أن للعقد جانبين، جانب استئجار يبدو في تأجير البنك عميله الخزانة الحديدية بأجرة معينة لمدة محدودة يتمكن فيها من استخدام الخزانة في غرضه الذي استأجرها لأجله، هذا الجانب يمكن اعتباره عقدًا مستقلًا تثبت له أحكام الإجارة، وجانب إيداع يبدو في التزام البنك بالحفاظ على الخزانة وبذل الأسباب العادية في حمايتها وسلامتها من أي ضرر يلحق بها مما يستطيع دفعه، ونظرا إلى أن البنك مسؤول مسؤولية ضمان عن هذه الخزينة المستأجرة وحماية محتوياتها من الأسباب الموجبة لهلاكها أو تلفها فيمكن أن تعتبر بيده وديعة مضمونة، ولا يؤثر على اعتبارها وديعة أن البنك يملكها، فإن العميل قد استأجرها منه، فانتفى حقه في الانتفاع بها مدة الإجارة، وأصبح الانتفاع بها من حق العميل وحده فكأنها ملكه" (¬1). ¬
الباب الخامس في انتهاء عقد الإيداع
الباب الخامس في انتهاء عقد الإيداع الفصل الأول انتهاء عقد الوديعة بالرد [م - 1965] لا خلاف بين الفقهاء أن عقد الوديعة ينتهي بالرد, لأن عقد الوديعة عقد جائز من الطرفين يحق لكل واحد المطالبة بالرد، فالمودع يملك ذلك؛ لأن المال ماله، والوديع يملك ذلك أيضًا؛ لأنه متبرع بالحفظ، فإذا وصلت الوديعة إلى صاحبها سواء كان ذلك بطلب صاحبها، أم بطلب الوديع فقد انتهى عقد الإيداع، فالرد حق ثابت لهما، لعدم لزوم العقد في حق كل واحد من الطرفين، ولا يشترط للرد رضا الطرف الآخر (¬1). واستثنى الشافعية وبعض الحنابلة حق الفسخ بالرد إذا تضمن الفسخ ضررًا على أحدهما؛ لأن العقود الجائزة تصير لازمة إذا اقتضى فسخها ضررًا على الآخر. ¬
جاء في أسنى المطالب: "العقود الجائزة إذا اقتضى فسخها ضررًا على الآخر امتنع وصارت لازمة ... " (¬1). وقال ابن رجب: "التفاسخ في العقود الجائزة متى تضمن ضررًا على أحد المتعاقدين أو غيرهما ممن له تعلق بالعقد لم يجز، ولم ينفذ، إلا أن يمكن استدراك الضرر بضمان أو نحوه فيجوز على ذلك للوجه" (¬2). كما استثنى الشافعية أيضًا من القول بجواز رد الوديعة حتى حق المودَع ما إذا كان قبولها واجبًا في حقه. قال الرملي: "ولو طالب المودع المالك بأخذ وديعته لزمه أخذها؛ لأن قبول الوديعة لا يجب، فكذا استدامة حفظها، ومنه يؤخذ أنه لو كان في حالة يجب فيها القبول، يجوز للمالك الامتناع" (¬3). وفي تحفة المحتاج: "ولهما، يعني للمالك الاسترداد، وللوديع الرد في كل وقت، لجوازها من الجانبين. نعم، يحرم الرد حيث وجب القبول، ويكون خلاف الأولى حيث ندب، ولم يرضه المالك" (¬4). فلو دفع الرجل ماله وديعة، وخاف المودع إن لم يقبل أن يتسلط عليه ظالم فيغصبها وجب عليه القبول، ولو طالب المودع المالك رد الوديعة فله الامتناع من الرد. ¬
المبحث الأول في مؤنة حمل الوديعة وردها
المبحث الأول في مؤنة حمل الوديعة وردها [م - 1966] يحصل رد الوديعة بالتخلية بينها وبين صاحبها على وجه يجعله متمكنا من رقبتها دون مانع، وذلك في نفس المكان الذي وقع فيه الإيداع، وأما الوديع فليس عليه إلا أن يخلي بين الوديعة وبين مالكها، وهذا بالاتفاق. وبناء عليه فلو طلبه المالك أن ينقلها إلى بيته، وامتنع الوديع، وكان لهذا الفعل مؤنة قلَّت أو كثرت، ثم تلفت الوديعة فإن الوديع لا يضمن. جاء في درر الحكام: "إذا طلب المودع حمل الوديعة إليه، يعني نقلها إلى داره مثلا, ولم ينقلها المستودع، يعني إذا امتنع عن نقلها، وهلكت بعده بيده، لا يلزم الضمان, لأن مؤونة الرد على المالك ولا يترتب على المستودع شيء سوى التخلية" (¬1). جاء في الفتاوى الهندية: "مؤنة رد الوديعة على المالك، لا على المودَع كذا في السراجية: إن نقلها في بلدة من محلة إلى محلة كانت مؤنة الرد على صاحبها بالاتفاق" (¬2). وجاء في مغني المحتاج: "وليس المراد برد الوديعة حملها إلى مالكها بل ¬
يحصل بأن يخلي بينه وبينها فقط" (¬1). وقال ابن قدامة: "وليس على المستودع مؤنة الرد وحملها إلى ربها إذا كانت مما لحمله مؤنة، قلت المؤنة أو كثرت, لأنه قبض العين لمنفعة مالكها على الخصوص، فلم تلزمه الغرامة عليها، كما لو وكله في حفظها في ملك صاحبها وإنما عليه التمكين من أخذها" (¬2). ¬
المبحث الثاني في امتناع الوديع من رد الوديعة
المبحث الثاني في امتناع الوديع من رد الوديعة [م - 1967] إذا طلب المالك رد الوديعة فامتنع الوديع من الرد، فإن امتنع من الرد بلا عذر ضمن، وهذا بالاتفاق؛ لأن الامتناع تعد؛ والأمانات تضمن بالتعدي، ووجه التعدي: أنه بامتناعه قد فعل ما ليس له فعله. وهذا بالاتفاق (¬1). ولأن الوديعة حق لمالكها لم يتعلق بها حق لغيره، فلزم أداؤها إليه، كالمغصوب، والدين الحال. فإن امتنع من دفعها في هذه الحال، فتلفت. ضمنها؛ لأنه صار غاصبًا، لكونه أمسك مال غيره بغير إذنه بفعل محرم، فأشبه الغاصب. [م - 1968] وإن كان الامتناع من الرد لعذر ففي ضمانه خلاف بين الفقهاء على قولين: ¬
القول الأول: لا يضمن، وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). جاء في الهداية: "فإن طلبها صاحبها، فمنعها، وهو يقدر على تسليمها ضمنها؛ لأنه متعد بالمنع؛ لأنه لما طالبه لم يكن راضيًا بإمساكه بعده، فيضمنه بحبسه عنه" (¬2). "وقال ابن القاسم فيمن طلب وديعة فاعتذر له المودع بشغل فلم يقبل، وتشاحا، فحلف لا يعطيه الليلة، فلما كان في غد قال: قد ذهبت، فإن قال: ذهبت قبل أن تلقاني ضمن؛ لأنه أقر بها. وإن قال: لا أدري متى ذهبت حلف، ولا ضمان عليه ..... وإن قال: ذهبت بعدما حلفت وفارقتك ضمنها؛ لأنه منعه إياها إلا أن يكون كان على أمر لا يستطيع فيه أن يرجع، أو يكون عليه فيه ضرر فلا يضمن" (¬3). وقال النووي في الروضة: "فإذا كانت الوديعة باقية لزم المودع ردها إذا طلبها المالك، فإن أخر من غير عذر دخلت الوديعة في ضمانه" (¬4). وقال ابن مفلح: "ومن أخر ردها بعد طلبها بلا عذر ضمن، ويمهل لأكل، ونوم، وهضم طعام ونحوه بقدره ... " (¬5). ¬
° وجه عدم القول بالضمان: لم يجب الضمان إذا كان الامتناع من الرد لعذر استصحابًا ليد الأمانة، ولانتفاء موجب التضمين حيث إنه لا يعد بذلك متعديًا، والأمين إذا لم يتعد ولم يفرط فلا ضمان عليه. القول الثاني: إن كان التأخر لتعذر الوصول إلى الوديعة فلا ضمان، وإن كان التأخير لعسر يلحقه، أو غرض يفوته فعليه الضمان، وهذا اختيار الغزالي من الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). قال الغزالي في الوسيط: "وإن كان في جنح الليل، وتعذر عليه الوصول إليه لم يضمن، وإن كان في جماع، أو على طعام لم يعص بالتأخير في هذا القدر، ولكنه جائز بشرط سلامة العاقبة، فإن تلف بهذا التأخير ضمن" (¬2). وجاء في الإنصاف نقلًا من الترغيب والتلخيص: "إن أخر لكونه في حمام، أو على طعام إلى قضاء غرضه ضمن، وإن لم يأثم على وجه. واختاره الأزجي فقال: يجب الرد بحسب العادة، إلا أن يكون تأخيره لعذر ويكون سببًا للتلف فلم أر نصًّا، ويقوى عندي أنه يضمن؛ لأن التأخير إنما جاز بشرط سلامة العاقبة. انتهى" (¬3). ¬
° وجه القول بالضمان: أن التأخير إنما جاز بشرط سلامة العاقبة، فلما كان التأخير سببًا في الإتلاف، وهو لا يملك التأخير ضمن. الراجح: أن التأخير إذا كان لعذر فإنه لا يوجب الضمان، وإن كان بلا عذر، أو أخره لعذر ولكن زال العذر، ولم يشتغل بالرد فإنه يضمن. والأعذار المعتبرة لا يمكن حصرها، وإن كان الفقهاء يضربون لها أمثلة فليس الغرض من ذلك الحصر، ويمكن تلمس الضابط لهذه الأمثلة: أن تأخير الرد إن كان بسبب العجز أو الخوف، أو كان في مصلحة فخشي فواتها بالتسليم فأخر الرد لم يضمن (¬1). فالعجز يشمل العجز الحسي كما لو كانت الوديعة في مكان ناء. ويشمل العجز الشرعي كما لو كان في صلاة. والخوف يشمل خوفه على نفسه أو على ماله، أو خشي من ظلم المالك له أو لغيره، أو خشي بالتسليم ضياع حق من الحقوق. أو كان في مصلحة فخشي فواتها بالتسليم: كما لو كان على طعام، أو في حمام، أو ملازمة غريم يخاف هربه. إذا علم هذا نأتي على ذكر الأمثلة. فذكر الحنفية من الأعذار الموجبة للتأخير: ¬
أن تكون الوديعة سيفًا، فأراد المودع أن يأخذه من المودع ليضرب به رجلًا ظلمًا، فإنه لا يدفعه إليه. ولو أودع الزوجة كتابًا وكان فيه إقرار منها للزوج بمال، أو بقبض مهرها من الزوج فللمودع ألا يدفع الكتاب إليها إذا خاف ذهاب حق الزوج (¬1). ومن الأعذار لو طلب ردها، وكان في موضع ناء لا يقدر في الحال على ردها فإنه لا يضمنها (¬2). ومثله لو طلب ردها وقت الفتنة، وخاف على نفسه أو على ماله بأن كانت الوديعة مدفونة مع ماله، وخشي عليه من الغصب أو السرقة. ومن الأعذار عند الشافعية: جاء في كفاية الأخيار: "العذر مثل كونه بالليل، ولم يتأت فتح الحرز حينئذ، أو كان في صلاة، أو قضاء حاجة، أو طهارة، أو أكل، أو حمام، أو ملازمة غريم يخاف هربه، أو يخشى المطر والوديعة في موضع آخر، ونحو ذلك، فالتأخير جائز. قال الأصحاب: ولا يضمن وطردوه في كل يد أمانة والله أعلم" (¬3). ومن الأعذار ما لو كان يبيع ويشتري في السوق، فقال: حتى أرجع إلى البيت، أو كان مريضًا، فقال: لا أحب أن يتولى إخراجها غيري؛ لأني قد ¬
أحرزتها، أو كان المال في الصندوق، وقد ضاع مفتاحه، فإنه لا يجبر على كسر القفل، فيعطى مهلة لكي يحصل على المفتاح (¬1). ومن الأعذار عند الحنابلة، ما ذكره في مجلة الأحكام الشرعية: "يلزم الوديع رد الوديعة حين طلب ربها، ويمهل لعذر، كطهارة وصلاة، ونوم، وطعام، ومطر كثير، وبعد عنها، أو عجز عن حملها، ونحو ذلك إلى زواله، ولا يعد بذلك متعديًا ولا مماطلًا" (¬2). ¬
المبحث الثالث في رد الوديعة إلى عيال المالك
المبحث الثالث في رد الوديعة إلى عيال المالك [م - 1969] في مبحث سابق تكلمنا عن حق الوديع في دفع الوديعة إلى من يحفظ ماله من ولد وزوجة وخازن، وهذا في حفظ الوديعة، أما إذا أراد الوديع رد الوديعة فهل يجب عليه أن يدفع الوديعة إلى المالك فقط , أو يجوز أن يرد الوديعة إلى عيال المالك وأهله؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: يجب الرد إلى المالك فقط، فإن رد الوديعة إلى أهله ضمن، وهذا أحد القولين في مذهب الحنفية، وحكاه ابن أبي موسى وجهًا في مذهب الحنابلة، وصححه الحارثي (¬1). قال الكاساني: "ومنها وجوب الأداء إلى المالك؛ لأن الله أمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وأهلها مالكها، حتى لو ردها إلى منزل المالك، فجعلها فيه، أو دفعها إلى من هو في عيال المالك، دخلت في ضمانه، حتى لو ضاعت؛ يضمن" (¬2). ¬
° وجه القول بوجوب الرد إلى المالك فقط: أن المالك لو أرد أن يدفع ماله إلى عياله وأهله لما أودع الوديعة عند رجل أجنبي. جاء في الاختيار لتعليل المختار: "ولو رد الوديعة إلى دار مالكها ولم يسلمها إليه ضمن: لأن المالك ما رضي بدفعها إلى داره، ولا إلى من في عياله ظاهرًا؛ إذ لو رضي بهم لما أودعها" (¬1). القول الثاني: إذا رد على عيال المالك لم يضمن، وهذا قول آخر في مذهب الحنفية، والمذهب عند الحنابلة (¬2). وصحح الشافعية الرد إلى وكيل المالك بقبض الودائع والحقوق إذا لم يكن المالك حاضرًا (¬3). جاء في الإنصاف: "لو رد الوديعة إلى من جرت العادة بأن يحفظ مال المودع بكسر الدال كزوجته، وأمته، وعبده، فتلفت: لم يضمن. نص عليه" (¬4). ¬
° وجه القول بأنه لا يضمن: أن يد الوكيل بقبض الودائع كيد المالك، هذه حجة الشافعية، وأما الحنابلة فيرون أن دفع الوديعة إلى من جرت العادة أن يحفظ مال الرجل كدفعه إليه. القول الثالث: ذهب المالكية إلى أن الوديع لا يدفع الوديعة إلا إلى ربها، أو وكيله، أو رسوله، فإن دفع الوديعة إلى غير من ائتمنه على حفظها من وكيل أو رسول وجب عليه الإشهاد، وإلا ضمن (¬1). قال ابن عبد البر: "ومن دفع إليه رجل شيئًا ليوصله إلى آخر أو أبضع معه مالًا ليوصله إلى عياله أو إلى غيره فزعم أنه قد دفعه، وأنكر المبعوث إليه فهو ضامن إلا أن تكون له بينة على الدفع" (¬2). وجاء في حاشية الدسوقي: "المودع لا يبرأ إلا بوصول المال لربه، أو لرسول ربه ببينة، أو إقرار" (¬3). وقال ابن رشد: "وأما من دفعها إلى غير اليد التي دفعتها إليه، فعليه ما على ولي اليتيم من الإشهاد عند مالك وإلا ضمن، يريد قول الله عز وجل: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] فإن أنكر القابض القبض فلا يصدق المستودع في الدفع عند مالك وأصحابه إلا ببينة" (¬4). ¬
المبحث الرابع في كيفية رد الوديعة المشتركة
المبحث الرابع في كيفية رد الوديعة المشتركة [م - 1970] إذا أودع رجلان مالًا مشتركًا بينهما، ثم جاء أحدهما يطالب برد الوديعة. فإن كان مفوضًا من شريكه باستلام المال، فهذا لا إشكال في تسليمه كامل الوديعة، فهو يملك المطالبة برد نصيبه باعتباره مالكًا، وبرد نصيب شريكه باعتباره وكيلًا عنه. أما إذا لم يكن مفوضًا، فهل له أن يطالب برد الوديعة مع غيبة الآخر، أو ليس له ذلك؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال: القول الأول: لا يدفع الوديعة لأحدهما إلا بحضور الآخر، سواء أكانت الوديعة مثلية أم قيمية، وهذا قول أبي حنيفة (¬1). جاء في الهداية: "وإذا أودع رجلان عند رجل وديعة فحضر أحدهما وطلب نصيبه منها لم يدفع إليه حتى يحضر الآخر عند أبي حنيفة، وقالا: يدفع إليه نصيبه" (¬2). ¬
° وجه قول أبي حنفية: أن المال ما دام مشتركًا فهو ملك شائع بين الشريكين، ولا يتميز نصيب كل واحد منهما إلا بالقسمة، والوديع لا يملك القسمة بينهما، كما أن القسمة على الغائب غير جائزة. القول الثاني: إن كانت الوديعة من المثليات التي لا تنقص بالقسمة، كالدراهم والدنانير، والمكيلات والموزونات، جاز للوديع أن يعطي الشريك نصيبه ولو مع غيبة الآخر، وإن كانت الوديعة من القيميات فليس له أن يعطي الشريك نصيبه إلا بحضور صاحبه، وبهذا قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية، والمذهب عند الحنابلة (¬1). جاء في مجمع الأنهر: "وإن أودع اثنان من واحد شيئًا لا يدفع الواحد إلى أحدهما ... حصته بغيبة الآخر، فإن دفع ضمن نصفه إن هلك عند الإمام (يعني أبا حنيفة)، سواء كان مثليًّا أو غير مثلي في المختار ... خلافًا لهما في المثلي؛ لأن معنى الإفراز فيه غالب، كما أن معنى المبادلة في غير المثلي غالب، ولذا لا يجوز له الدفع فيه ويجوز في المثلي" (¬2). جاء في العناية شرح الهداية: "إذا كانت الوديعة من الثياب والدواب والعبيد لم يكن له أن يأخذ نصيبه بالإجماع" (¬3). ¬
وجاء في مجلة الأحكام العدلية: "إذا أودع رجلان مالًا مشتركًا لهما عند شخص، ثم جاء أحد الشريكين في غيبة الآخر، وطلب حصته من المستودع فإن كانت الوديعة من المثليات أعطاه المستودع حصته، وإن كانت من القيميات لا يعطه إياها" (¬1). ° حجة هذا القول: أن القسمة في المال المثلي هي قسمة إجبار، لا تتوقف على رضا الشريك، ويجوز للشريك أن يأخذ حصته في غياب الآخر، وبدون إذنه، وأما القسمة في المال القيمي فهي قسمة تراض، تأخذ حكم البيع، وليس للوديع أن يبيع على المودع الغائب؛ ولأن قسمة ذلك لا يؤمن فيها الغبن، فاشترط حضور الشريك لاشتراط رضاه بالقسمة، والله أعلم. القول الثالث: يرفع الأمر إلى الحاكم ليتولى قسمة المال بينهما، ويعطي الحاضر نصيبه. وهذا مذهب الشافعية (¬2). جاء في روضة الطالبين: "أودعه جماعة مالًا، وذكر أنه مشترك بينهم، ثم جاء بعضهم يطلبه، لم يكن للمودع القسمة ولا تسليم الجميع، بل يرفع الأمر إلى الحاكم ليقسمه ويدفع إليه نصيبه" (¬3). ¬
° حجة هذا القول: أن الوديع لا يملك قسمة المال بين الشركاء، ومنع الشريك من ماله حجر عليه، فكان الحاكم هو الذي يملك قسمة المال بينهما, ولأن له ولاية على مال الغائب، والله أعلم. وهذا القول أقوى الأقوال وأبعدها عن النزاع، والله أعلم.
الفصل الثاني انتهاء الوديعة بالفسخ
الفصل الثاني انتهاء الوديعة بالفسخ [م - 1971] عقد الوديعة عقد جائز، يجوز لكل واحد فسخها متى شاء، ولا يشترط لفسخها رضا الطرف الآخر أو قبوله، وبذلك تنتهي الوديعة بمبادرة أحد العاقدين بفسخ العقد والتحلل منه. وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة الأربعة في الجملة (¬1). إلا أنه وقع الخلاف فيه في مسألتين: الأولى: هل تنفسخ الوديعة بالقول، أو لا تنفسخ إلا بالرد، وسيأتي بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى في مبحث مستقل تحت عنوان: في عزل الوديع نفسه. ¬
المسألة الثانية: أن الفسخ في عقد الوديعة فيما إذا كان العقد جائزًا، أما إذا كان العقد لازمًا فلا يملك فسخ العقد، وقد سبق لنا أن الحنفية قالوا: يكون الإيداع عقدًا لازمًا في مسألة واحدة. وهي: ما إذا كان الحفظ في مقابل أجرة حيث يكون المستودع أجيرًا مشتركًا، ويصير العقد المذكور عقد إجارة، وليس لأحد الطرفين أن يفسخه قبل تمام المدة (¬1). وقال الشافعية وبعض الحنابلة: يمتنع الفسخ في العقود الجائزة وتصير لازمة إذا اقتضى فسخها ضررًا على الآخر (¬2). واستثنى الشافعية أيضًا من القول بجواز رد الوديعة في حق المودَع ما إذا كان قبولها واجبًا أو مندوبًا في حقه (¬3). وقد نقلت نصوص الفقهاء الدالة على هذه الأحكام الفقهية عند الكلام على توصيف عقد الوديعة، في الفرع الثالث منه، فأغنى ذلك عن إعادته هنا, ولله الحمد. ¬
الفصل الثالث انتهاء عقد الوديعة بالموت
الفصل الثالث انتهاء عقد الوديعة بالموت [م - 1972] عند الكلام على تعريف الوديعة بينا أن عقد الوديعة وكالة في الحفظ، وإذا كانت الوديعة وكالة مقيدة بالحفظ دون التصرف، فإنها تنتهي بما تنهي به عقد الوكالة بما في ذلك انتهاء عقد الوديعة بموت أحد المتعاقدين: فإذا مات المالك فقد انتقل ملكه إلى ورثته أو دائنيه، وهؤلاء لم يأتمنوه على حفظها (¬1). وإن لم يكن له وارث، فإن كان بيت المال منتظمًا، صرفه إليه؛ لأن مصرف كل مال لا مالك له، وإن لم يكن بيت المال منتظمًا قام الوديع بصرفها في المصارف العامة، ومنها الصدقة على فقراء المسلمين. جاء في مرشد الحيران: "إذا مات صاحب الوديعة ترد وديعته إلى ورثته ما لم تكن التركة مستغرقة بالدين .... " (¬2). وجاء في تحفة المحتاج: "وترتفع الوديعة: أي ينتهي حكمها بما ترتفع به الوكالة مما مر فترتفع بموت المودع أو المودع ... " (¬3). فإن لم يكن له وارث، اختار الحلواني من الحنفية ألا يرد الوديعة لبيت المال في زمانه؛ لأن بيت المال غير منتظم. ¬
جاء في حاشية ابن عابدين: "قال الإمام الحلواني إذا كان عنده وديعة فمات المودع بلا وارث له أن يصرف الوديعة إلى نفسه في زماننا هذا؛ لأنه لو أعطاها لبيت المال لضاع؛ لأنهم لا يصرفون مصارفه فإذا كان من أهله صرفه إلى نفسه وإن لم يكن من المصارف صرفه إلى المصرف" (¬1). وإذا مات الوديع فأهليته للحفظ قد زالت بموته، وورثته لم يأتمنهم المالك على حفظها، فيجب ردها على صاحبها (¬2). جاء في مرشد الحيران: "إذا مات المستودَع، ووجدت الوديعة عينًا في تركته، فهي أمانة في يد الوارث واجب عليه أداؤها لصاحبها" (¬3). وجاء في أسنى المطالب: "وإن مات الوديع فعلى وارثه ردها إلى مالكها" (¬4). وجاء في مجلة الأحكام الشرعية الحنبلية: "إذا بطل عقد الإيداع بموت الوديع، فالوديعة أمانة محضة في يد الورثة ... " (¬5). وقال ابن قدامة: "وإن مات وعنده وديعة معلومة بعينها، فعلى ورثته تمكين صاحبها من أخذها ... وليس لهم إمساكها قبل أن يعلم بها ربها؛ لأنه لم يأتمنهم عليها، وإنما حصل مال غيرهم في أيديهم بمنزلة من أطارت الريح إلى داره ثوبًا، وعلم به، فعليه إعلام صاحبه به، فإن أخر ذلك مع الإمكان ضمن" (¬6). ¬
المبحث الأول في الضمان بتأخير الرد إلى وارث المالك
المبحث الأول في الضمان بتأخير الرد إلى وارث المالك [م - 1973] علمنا في المبحث السابق انتهاء عقد الوديعة بالموت، فإذا مات المالك انتقل ملكه إلى الورثة بما في ذلك مال الوديعة، ووجب على الوديع رد الوديعة إلى الورثة؛ لأنهم لم يأتمنوه على حفظها، فإذا أخر الوديع الرد حتى تلفت الوديعة فهل يضمن بهذا التأخير؟ في ذلك خلاف بين العلماء: القول الأول: إذا مات المالك، لم يلزمه ردها قبل الطلب، وإن كانت التركة مستغرقة بالدين لم يسلمها إلى الورثة، فإن سلمها إليهم ضمن (¬1). جاء في مرشد الحيران: "إذا مات صاحب الوديعة ترد وديعته إلى ورثته ما لم تكن التركة مستغرقة بالدين، فإن كانت كذلك فلا تسلم للوارث إذا كان يخاف عليها منه إلا بإذن الحاكم، وإن سلمت إليه بلا إذنه، وهلكت أو ضاعت فعلى المستودع ضمانها" (¬2). القول الثاني: ذهب الشافعية إلى أن المالك إذا مات وجب على الوديع الرد على وارثه ¬
حالًا؛ لأن الوديعة بالموت صارت ملكًا للوارث، والوارث لم يأتمنه عليها. فإن تلفت في يده قبل التمكن من الرد لم يضمن، وإن تلفت في يده بعده ضمن على الأصح. فإن لم يجد الورثة رد إلى الحاكم حتى يأمره فيها بما يراه حظًّا لمالكها من إحرازها في يده، أو نقلها إلى غيره، فإن لم يُعلم الحاكم بها ويستأذنه فيها ضمن. وقيد بعض الشافعية وجوب الرد بما إذا لم تعلم الورثة بالوديعة، فأما إذا علموا فلا يجب الرد إليهم إلا بعد الطلب (¬1). وفسر إمام الحرمين أن المقصود بقول الأصحاب: إن تمكن من الرد: أي تمكن من الإعلام فلم يُعْلِم، ولم يرد الأصحاب أنه يلزمه تعاطي الرد بنفسه حتى إن كانت هناك مؤنة في الرد وجب عليه التزامها، فهذا ما لا قائل به من الأصحاب (¬2). جاء في الحاوي الكبير: "لو مات رب الوديعة بطل العقد، ولزم المستودع ردها على وارثه, لأنها صارت بالموت ملكا للوارث والوارث لم يأتمنه عليها، فإن لم يفعل ضمن إلا أن يستأنف الوارث إيداعها عنده فتصير وديعة مبتدأة" (¬3). وقال النووي في الروضة: "إذا مات المالك، لزم المودع الرد على ورثته ¬
حتى لو تلف في يده بعد التمكن من الرد، ضمن على الأصح، فإن لم يجد الورثة، رد إلى الحاكم، وقيد في العدة هذا الجواب بما إذا لم تعلم الورثة بالوديعة، أما إذ علموا، فلا يجب الرد إلا بعد طلبهم" (¬1). القول الثالث: ذهب كثير من الحنابلة إلى أن المالك إذا مات وجبت المبادرة إلى رد المال إلى الوارث مع العلم به والتمكن منه. وقال بعض الحنابلة الواجب الرد إليه أو إعلامه بذلك لزوال الائتمان؛ لأن مؤنة الرد واجبة على الوارث، فإن تلف المال قبل التمكن من الرد أو الإعلام فهدر، وإن تلفت بعده فوجهان (¬2). قال ابن رجب: "الأمانات الحاصلة في يده بدون رضا أصحابها فيجب المبادرة إلى ردها مع العلم بمستحقها، والتمكن منه، ولا يجوز التأخير مع القدرة ... ثم إن كثيرًا من الأصحاب قالوا ها هنا: الواجب الرد، وصرح كثير منهم بأن الواجب أحد شيئين: إما الرد أو الإعلام، كما في المغني والمحرر والمستوعب ونحوه ذكره ابن عقيل، وهو مراد غيرهم؛ لأن مؤنة الرد لا تجب عليه، وإنما الواجب التمكين من الأخذ" (¬3). ° وجه القول بوجوب الضمان بتأخير الرد: أن الائتمان القائم بين المالك والوديع قد انتهى بموت المالك، وقد انتقل ¬
الملك إلى الورثة، والورثة لم يأتمنوه على حفظها، فتأخير الرد موجب للضمان؛ لكونه قد أمسك مال غيره بغير إذنه، فيكون متعديًا بترك التسليم. ° الراجح: لا خلاف في أن عقد الإيداع ينتهي بموت المالك، ولكن بقاء المال أمانة في يد الوديع لا ينتهي؛ لأن الأمانة نوعان: أمانة بحكم العقد، وهذا ينتهي بالموت، وأمانة بحكم الشرع، وهذا لا ينتهي إلا برد المال، فيكون المطلوب أن يقوم الوديع بإخبار الورثة بوجود الوديعة، ولا يلزمه أكثر من ذلك، فإن طلب الورثة مالهم وجب تمكينهم من قبضه، فإن تأخر الوديع بلا عذر ضمنه، وإن طالب الوديع الورثة باستلام المال وجب على الورثة استلامه بدون تأخير، فإن تأخروا بلا عذر، ثم تلف المال لم يضمن الوديع، وكذا إذا لم يطلب الورثة المال، فتلف لم يضمن الوديع؛ لأن ترك المطالبة بالمال بعد علمهم به رضا ببقاء المال في يد الوديع، والله أعلم.
المبحث الثاني في الضمان بتأخير ورثة الوديع الرد إلى المالك
المبحث الثاني في الضمان بتأخير ورثة الوديع الرد إلى المالك [م - 1974] علمنا في المبحث السابق حكم ما إذا مات المالك ثم أخر الوديع الرد حتى تلفت الوديعة، ونريد أن نناقش في هذا المبحث حكم ما إذا مات الوديع، ثم أخر ورثته رد الوديعة إلى المالك حتى تلفت الوديعة فهل يضمنون بهذا التأخير؟ القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن الوديع إذا مات، ووجدت الوديعة بعينها في تركته تكون أمانة في يد وارثه، فيردها لصاحبها (¬1). القول الثاني: ذهب الشافعية إلى أن المستودع إذا مات بطل عقد الإيداع، فإن كان مالكها حاضرًا وجب على الوارث ردها إليه، فإن لم يفعل ضمن، وإن كان مالكها غائبًا لزم الوارث إعلام الحاكم، فإن لم يعلم الحاكم ضمن (¬2). جاء في الحاوي الكبير: "وأما موت المستودع فمبطل لعقد الوديعة؛ لأن مالكها لم يأتمن وارثه عليها، فإن كان مالكها حاضرًا وجب على الوارث ردها عليه، فإن لم يفعل ضمن، وإن كان مالكها غائبًا لزم الوارث إعلام الحاكم بها ¬
حتى يأمره فيها بما يراه حظًّا لمالكها من إحرازها في يد الوارث، أو نقلها إلى غيره، فإن لم يعلم الحاكم بها ويستأذنه فيها ضمن" (¬1). قال إمام الحرمين: "معنى قول الأصحاب: إن تلفت الوديعة قبل الإمكان، لم يضمن، وإن تلفت بعد إمكان الرد، ضمنها، والمراد: إن تمكن من الإعلام، فلم يعلم، ولم يرد الأصحاب أن الوارث يلزمه تعاطي الرد بنفسه، حتى إن كانت مؤنة في الرد، وجب عليه التزامها، هذا ما لا قائل به من الأصحاب" (¬2). القول الثالث: أنه لا ضمان على الورثة إذا تأخروا في رد الوديعة، وهو قول في مذهب الشافعية (¬3). وجهه: أن الوارث ليس مودعًا من جهة المالك، وموت الوديع لا ينقل حق الحفظ في الوديعة إلى الورثة، كما أن موت الوكيل لا يورث وارثه حق التصرف الذي كان مفوضًا إلى الوكيل، ولم يكن أمينا من جهة المالك، فلا وجه لوجوب تضمينه بمجرد التأخير (¬4). القول الرابع: ذهب الحنابلة إلى أن وارث الوديع لا يجوز له إمساك الوديعة بدون إذن ¬
المالك، فإن تلفت عند الوارث قبل تمكنه من الرد فلا ضمان عليه. وإن تلفت بعد تمكنه من الرد ضمنها في أحد الوجهين، وهو المذهب. وقال كثير من الحنابلة: الواجب الرد. وصرح كثير منهم: أن الواجب الرد أو الإعلام بها؛ لأن مؤنة الرد لا تجب عليه (¬1). ونوقش بأن الإعلام بها حاصل للمالك، حيث لا يتصور نسيانه إلا أن يكون المقصود بالإعلام الإعلام بموته لا بالوديعة. قال في الإنصاف: "وإن تلفت عند الوارث قبل إمكان ردها لم يضمنها بلا نزاع، وبعده يضمنها في أحد الوجهين وهو المذهب ... قال في القاعدة الثالثة والأربعين: والمشهور الضمان ... والوجه الثاني: لا يضمنها. قال الحارثي: وهذا لا أعلم أحدا ذكره إلا المصنف" (¬2). وجاء في كشاف القناع: "إذا مات المؤتمن وانتقلت إلى وارثه، وجب على من هي بيده المبادرة إلى الرد مع العلم بصاحبها والتمكن منه، أو إعلامه؛ لزوال الائتمان .. قال في القواعد الفقهية: وظاهر كلامه أي القاضي أنه يجب فعل الرد فإن العلم هنا حاصل للمالك انتهى قلت: وفيه نظر؛ لأن مؤنة الرد لا تجب عليه ... وإن تلفت الوديعة أو نحوها عند الوارث قبل إمكان ردها لم يضمنها؛ لأنه لم يفرط" (¬3). ¬
وجاء في القواعد لابن رجب: "إذا مات المؤتمن وانتقلت إلى وارثه فإنه لا يجوز الإمساك بدون إذن؛ لأن المالك لم يرض به ... ثم إن كثيرًا من الأصحاب قالوا ههنا: الواجب الرد، وصرح كثير منهم بأن الواجب أحد شيئين: إما الرد أو الإعلام كما في المغني والمحرر والمستوعب ونحوه ذكره ابن عقيل وهو مراد غيرهم؛ لأن مؤنة الرد لا تجب عليه وإنما الواجب التمكين من الأخذ" (¬1). ° الراجح: لا خلاف في أن عقد الإيداع ينتهي بموت الوديع، ولكن بقاء المال أمانة في يد الورثة لا ينتهي؛ لأن الأمانة نوعان: أمانة بحكم العقد، وهذا ينتهي بالموت، وأمانة بحكم الشرع، وهذا لا ينتهي إلا برد المال، فيكون المطلوب أن يقوم الوارث بإخبار المالك بموت الوديع، ولا يلزمه أكثر من ذلك، فإن طلب المالك ماله وجب تمكينه من قبضه، فإن تأخر الوارث بلا عذر ضمنه، وإن طالب الوارث المالك بقبض المال وجب على المالك استلامه بدون تأخير، فإن تأخر بلا عذر، ثم تلف المال لم يضمن الوارث؛ وكذا إذا لم يطلب المالك المال، فتلف لم يضمن الوارث؛ لأن ترك المطالبة بالمال رضا ببقاء المال في يد الوارث، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع انتهاء عقد الوديعة بالعزل
الفصل الرابع انتهاء عقد الوديعة بالعزل المبحث الأول انتهاء عقد الوديعة بعزل المالك للوديع [م - 1975] ذهب الفقهاء بأن الوديعة تنتهي بعزل المالك للوديع إذا بلغه الخبر. واعتبر الحنفية من العزل أن يطلب المالك وديعته. جاء في بدائع الصنائع: "المالك لما طلب منه الوديعة فقد عزله عن الحفظ" (¬1). وجاء في المحيط البرهاني:" العزل لا يصح من غير علم المعزول" (¬2). وجاء في أسنى المطالب: " ولو عزل المودِع المودَع لم ينعزل حتى يبلغه الخبر، والفرق بينه وبين الوكيل أن المودع أمين، والوكيل متصرف، والعزل يمنع صحة التصرف" (¬3). وجاء في مجلة الأحكام الحنبلية:" ويبطل العقد بعزل المودع مع علم الوديع بالعزل، أما قبل علمه فلا ينعزل" (¬4). ¬
المبحث الثاني في عزل الوديع نفسه
المبحث الثاني في عزل الوديع نفسه الأمانات هل تنفسخ بالقول؟ [م - 1976] هل تنفسخ الوديعة بعزل الوديع نفسه، أو يشترط الرد إلى المالك؟ القول الأول: مذهب الحنفية للوديع عزل نفسه بشرط أن يكون ذلك بحضرة المالك (¬1). جاء في فتح القدير:" المودَع ينفرد بعزل نفسه بمحضر من المستودِع، كالوكيل يملك عزل نفسه بحضرة الموكل، وإذا ارتفع لا يعود إلا بالتجديد" (¬2). وفي الهداية: "لا يملك عزل نفسه بغير محضر منه -أي من المالك- أو طلبه" (¬3). القول الثاني: مذهب الشافعية. قال النووي: "إذا فسخ المستودع الوديعة من غير حضور مالكها ففي صحة الفسخ وجهان حكاهما الروياني هنا: أحدهما: لا يصح؛ لأن الأمانة لا تنفسخ بالقول، ولهذا لو قال: فسخت الأمانة كان على الأمانة ما لم يردها حتى لو هلكت قبل إمكان الرد لا ضمان. ¬
والثاني: يصح، ويرتفع حكم عقد الوديعة، ويبقى حكم الأمانة كالثوب إذا ألقته الريح في دار إنسان يكون أمانة ولا يكون وديعة، فيلزمه أن يعلم صاحبه بذلك" (¬1). وفرق الزركشي بين أمين المالك، والذي هو أمين بحكم العقد، وبين الأمانات التي هي أمانة بحكم الشرع. فأمين المالك إذا عزل نفسه، فهل ينعزل في مذهب الشافعية وجهان: إن قلنا: إن الوديعة عقد فله عزل نفسه، وتبقى الوديعة أمانة شرعية في يده كالثوب يلقيه الريح في يده. وإن قلنا: إن الوديعة إذن مجرد بالحفظ فلا ينعزل؛ لأن ابتداءه يكون بالفعل، فكذا رفعه لا يرتفع إلا بالرد. أما الأمانات التي هي بحكم الشرع، فلا تنفسخ بالقول بالاتفاق عندهم، وإنما تنفسخ بالرد؛ لأنها ليست عقدًا. قال الزركشي: "لو عزل المودع نفسه فوجهان، إن قلنا: الوديعة عقد ارتفعت، أو مجرد إذن فالعزل لغو، كما لو أذن في تناول طعامه للضيفان، فقال بعضهم عزلت نفسي فيلغو قوله. قال الزركشي: وهذا الخلاف في أمين المالك، أما الأمانات الشرعية فلا تقبل الفسخ بالاتفاق، كما يقتضيه كلام الروياني، فلو قال: فسخت الأمانة كان على الأمانة، فمتى لم يرد حتى هلكت قبل القدرة على ردها لا ضمان" (¬2). ¬
وقال السبكي في الأشباه والنظائر: "ومنها: بانعزال المودع بعزلة نفسه في غيبة المودع وجهان: إن قلنا: الوديعة عقد انعزل وتبقى أمانة، وإن قلنا: ليست بعقد فلا ينعزل؛ لأن ابتداءه بالفعل، فكذا رفعه (¬1). القول الثالث: مذهب الحنابلة. جاء في مجلة الأحكام الشرعية:" يبطل العقد بعزل الوديع نفسه، والعين أمانة بيده، يجب ردها حالا إلى مالكها، كحكم ثوب أطارته الريح إلى داره" (¬2). وفرق ابن رجب بين المالك وبين الوديع، فالأول يملك فسخ العقد بالقول، والثاني: لا يملك الفسخ إلا بالرد. قال ابن رجب: "ذكر القاضي في مواضع كثيرة من خلافه أن للمودِع فسخها بالقول في غيبة المودَع، وتنفسخ قبل علم المودَع بالفسخ، وتبقى في يده أمانة، كمن أطارت الريح إلى بيته ثوبا لغيره، ثم إنه ذكر في مسألة الوكالة أن الوديعة لا يلحقها الفسخ بالقول، وإنما تنفسخ بالرد إلى صاحبها أو بأن يتعدى المودَع فيها، فلو قال المودَع بمحضر من رب الوديعة أو في غيبته: فسخت الوديعة، أو أزلت نفسها عنها لم تنفسخ قبل أن يصل إلى صاحبها، ولم يضمنها. ¬
فإما أن يكون هذا تفريقًا بين فسخ المودِع والمودَع، أو يكون اختلافًا منه في المسألة، والأول أشبه؛ لأن فسخ المودِع إخراج للمودع عن الاستحفاظ، وهو يملكه، وأما المودَع فليس له فيها تصرف سوى الإمساك والحفظ، فلا يصح أن يرفعه مع وجوده" (¬1). ¬
الفصل الخامس انتهاء عقد الوديعة بالتعدي أو بالتفريط
الفصل الخامس انتهاء عقد الوديعة بالتعدي أو بالتفريط [م - 1977] اختلف الفقهاء هل ينتهي عقد الوديعة بالاعتداء على الوديعة أو بالتفريط فيها، بحيث لا يصح له إمساكها بعد التعدي عليها إلا بعقد إيداع جديد، أو يجوز له إمساكها إذا أزال التعدي، وقام بحفظها على الوجه المطلوب، ويرجع إلى الأمانة بذلك حتى لو تلفت بعد ذلك بغير تعد منه أو تفريط لم يضمن؟ في ذلك خلاف بين العلماء: القول الأول: إذا زال التعدي زال الضمان، وهذا مذهب الحنفية (¬1). قال ابن نجيم: "تعدى في الوديعة: بأن كانت دابة فركبها، أو ثوبًا فلبسه، أو عبدًا فاستخدمه، أو أودعها غيره، ثم أزال التعدي فردها إلى يده بريء عن الضمان؛ لأنه مأمور بالحفظ في كل الأوقات، فإذا خالف في البعض ثم رجع أتى بالمأمور به، كما إذا استأجره للحفظ شهرًا فترك الحفظ في بعضه، ثم حفظ في الباقي استحق الأجرة بقدره. وقد قدمنا في باب الجنايات على الإحرام عن الظهيرية أنه يزول الضمان عنه بشرط أنه لا يعزم على العود إلى التعدي، حتى لو نزع ثوب الوديعة ليلًا ومن عزمه أن يلبسه نهارًا، ثم سرق ليلًا لا يبرأ عن الضمان" (¬2). ¬
القول الثاني: إذا تعدى ثم أزال التعدي فإنه ضامن حتى يردها إلى صاحبها، وهو مذهب الشافعية والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). قال ابن رجب أيضًا: "عقود الأمانات، هل تنفسخ بمجرد التعدي فيها أم لا؟ المذهب أن الأمانة المحضة تبطل بالتعدي، والأمانة المتضمنة لأمر آخر لا تبطل على الصحيح. ويتخرج على ذلك مسائل (منها) إذا تعدى في الوديعة بطلت، ولم يجز له الإمساك، ووجب الرد على الفور, لأنها أمانة محضة، وقد زالت بالتعدي، فلا تعود بدون عقد متجدد. هذا هو المشهور" (¬2). القول الثالث: ذهب المالكية إلى التفريق بين تعد وآخر، وبين التفريق بين الوديعة المثلية، وبين الوديعة القيمية. فإن كان التعدي بمجرد الركوب، ولبس الثوب، فإذا ترك ذلك عاد إلى الأمانة. وإن كان التعدي بالاستهلاك، فإن تعدى على وديعة مثلية كالدراهم والدنانير، أو كانت الوديعة طعامًا مكيلًا أو موزونًا، فتعدى فيه، فرد مثله مكانها فلا شيء عليه بعد ذلك إن تلف بدون تعديه أو تفريطه. وإن كانت الوديعة عروضًا قيمية فهو ضامن لها من ساعة إتلافها، سواء رد ¬
بدلها إلى مكانها أم لا, ولا يبرأ من تلك القيمة إلا إذا أشهد على ردها لربها (¬1). وقد ذكرت أدلة هذه المسألة في مبحث سابق، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وإنما أعيد ذكر المسألة هنا تحت مبحث جديد، وهو انتهاء عقد الوديعة في الاعتداء، فأشرت إلى الأقوال، وتركت التفصيل في ذكر الأدلة. ¬
الفصل السادس انتهاء عقد الوديعة بزوال الأهلية
الفصل السادس انتهاء عقد الوديعة بزوال الأهلية [م - 1978] يشترط في العقود أهلية التصرف، وهذا الشرط كما هو شرط في ابتداء العقد، فهو شرط في استمراره، فإذا فقدت الأهلية فقد انتهى عقد الإيداع. فالأهلية تزول بالجنون عند جمهور الفقهاء، فإذا جن المالك بعد عقد الإيداع بطل عقده؛ لأنه لم يعد ولي نفسه، بل يلي ماله غيره من ولي أو وصي. وإذا جن الوديع لم يعد أهلًا للحفظ، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية والحنابلة (¬1). وأما المالكية فلم أقف لهم على نص في المسألة، ويمكن تخريج عقد الإيداع على عقد الوكالة، فإنهم عرفوا الإيداع: بأنه توكيل بحفظ المال (¬2). والمذهب عندهم في الوكالة أن جنون الوكيل لا يوجب عزله إن برأ، وكذا جنون الموكل، فإن طال نظر السلطان في أمره (¬3). قال الدسوقي في حاشيته: "لا ينعزل الوكيل بجنونه، أو جنون موكله إلا أن يطول جنون الموكل جدًّا فينظر له الحاكم" (¬4). ¬
وأما فقد الأهلية بالإغماء ففيه وجهان في مذهب الشافعية، الأصح أن الأهلية تزول بالإغماء عندهم (¬1). هذا ما يخص الأقوال، وأما نصوص الفقهاء في هذه المسألة فإليك بعض ما وقفت عليه منهم: جاء في درر الحكام: "إذا عرض للمستودع حال جنة بدرجة أن انقطع الرجاء من شفائه: أي أنه صار بدرجة الجنون المطبق ... وحصل يأس من صحوه وإفاقته، فإن كانت الوديعة موجودة، وأثبت صاحب الوديعة في مواجهة ولي المجنون أو وصيه بالبينة أن الوديعة التي أخذها المجنون قبل الجنة عينًا هي وديعته هذه ترد إلى صاحبها .. " (¬2). وقال السيوطي: "يبطل بالجنون كل عقد جائز، كالوكالة إلا في رمي الجمار، والإيداع ... وفي الإغماء وجهان: أصحهما كالمجنون" (¬3). وقال الشيرازي في المهذب: "وتنفسخ -يعني الوديعة- بما تنفسخ به الوكالة من العزل والجنون والإغماء كما تنفسخ به الوكالة؛ لأنه وكالة في الحفظ، فكان كالوكالة، في العقد والفسخ" (¬4). وقال ابن مفلح: "وتنفسخ -أي الوديعة- بموت وجنون وعزل مع علمه" (¬5). ¬
الفصل السابع انتهاء عقد الوديعة بالجحود
الفصل السابع انتهاء عقد الوديعة بالجحود [م - 1979] تنتهي عقد الوديعة بالجحود؛ لأنه لا يخلو حال الجاحد من أمرين: أحدها: ألا يكون هناك بينة للمالك على وديعته، فالقول قول الوديع مع يمينه بأنه ليس عنده وديعة للمالك، فإذا حلف فقد انتهى الأمر، ولم يبق مطالبًا بها. الثاني: أن يقيم المالك البينة على الإيداع، أو يقر بها فيصير بجحوده خائنًا ضامنًا، لخروجه بذلك عن كونه أمينًا، فتنقلب يده إلى يد غاصب، فلا يبرأ إلا بردها إلى صاحبها، وعلى كلا الحالين فإن الوديعة تكون قد انتهت بذلك (¬1). قال الكساني: "ومنها -أي ما يجعل الوديعة مضمونة- جحود الوديعة في وجه المالك عند طلبه، حتى لو قامت البينة على الإيداع، أو نكل المودع عن اليمين، أو أقر به، دخلت في ضمانه؛ لأن العقد لما ظهر بالحجة؛ فقد ظهر ارتفاعه بالجحود، أو عنده؛ لأن المالك لما طلب منه الوديعة، فقد عزله عن الحفظ، والمودع لما جحد الوديعة حال حضرة المالك، فقد عزل نفسه عن الحفظ؛ فانفسخ العقد، فبقي مال الغير في يده بغير إذنه؛ فيكون مضمونا عليه، ¬
فإذا هلك تقرر الضمان" (¬1). وقال القرافي في الذخيرة: "إذا جحدك وشهدت البينة ضمن؛ لأنه بالجحد صار غاصبًا" (¬2). وقال الماوردي: "رجل أودع رجلًا وديعة، ثم طالبه بها، فجحدها وقال: لم تودعني شيئًا، ثم عاد فاعترف بها وقال: قد كنت استودعتها وتلفت، أو قامت بها البينة عليه فادعى بتلفها لم يقبل منه، لأمرين: أحدهما: أنه قد صار بالجحد متعديًا فضمنها، ومن ضمن وديعة لم يسقط عنه الغرم بتلفها. والثاني: أنه بالإنكار الأول قد أكذب نفسه بادعاء التلف" (¬3). وقال ابن قدامة: "إذا ادعى على رجل وديعة، فقال: ما أودعتني. ثم ثبت أنه أودعه، فقال: أودعتني، وهلكت من حرزي، لم يقبل قوله، ولزمه ضمانها. وبهذا قال مالك، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق وأصحاب الرأي؛ لأنه مكذب لإنكاره الأول ومعترف على نفسه بالكذب المنافي للأمانة" (¬4). فهذه نصوص مختلفة عن أصحاب الأئمة الأربعة تتفق على أن الإيداع ينتهي بالجحود، والله أعلم. وبهذه المسألة أكون قد انتهيت من بحث المسائل المختارة في عقد الوديعة، فالحمد لله أولًا وآخرًا. ¬
عقد اللقطة
عقد اللقطة
تمهيد
تمهيد المبحث الأول في تعريف اللقطة تعريف اللقطة اصطلاحًا (¬1): تعريف الحنفية: جاء في البحر الرائق نقلًا من التتارخانية "مال يوجد ولا يعرف له مالك، وليس بمباح" (¬2). فقوله: (مال) خرج ما ليس بمال، فلا يعتبر لقطة عند الحنفية. وقوله: (ولا يعرف له مالك) خرج به ما عرف مالكه فإنه وإن كان أمانة، إلا أنه ليس لقطة. ¬
قوله: (وليس بمباح) خرج به المباحات قبل تملكها كالاحتطاب فإن هذا لا يعتبر لقطة، بل هو مباح تملكه للجميع بحيازته. وفي تعريف آخر للحنفية: جاء في مجمع الأنهر شرح متلقى الأبحر: "رفع شيء ضائع للحفظ على الغير لا لتمليك" (¬1). فقوله: (رفع شيء) لفظ شيء عام، وهو أعم من كلمة (مال). (ضائع) يقصد به ضائعًا مخصوصًا، وهو الضائع الذي لا يعرف مالكه، كما قال في التعريف السابق: لا يعرف له مالك. وقوله: (للحفظ لا لتمليك) هذه مسألة خلافية، هل تكون اللقطة ملكًا لواجدها إذا قام بتعريفها مدة معينة، أو لا يملكها، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحرير الخلاف فيها، وبيان الراجح بعون الله وتوفيقه. تعريف المالكية: قال ابن عرفة في تعريف اللقطة: "مال وجد بغير حرز محترمًا ليس حيوانًا ناطقًا, ولا نعمًا" (¬2). فقوله: (مال) أخرج غير المال فلا يعتبر لقطة عندهم، كالأشياء النجسة التي يجوز أن يختص بها الإنسان لا تدخل في اللقطة عندهم، هذا مفهوم قيد المال. وقوله: (وجد بغير حرز) لأنه إذا كان محرزًا لم يكن مالًا ضائعًا. ¬
وقوله: (محترمًا) أخرج ما ليس بمحترم إما لتحريمه كالخمر، وإما لقلته كالتمرة ونحوها. وقوله: (ليس حيوانًا) لأنه إذا كان حيوانًا، فهو ضالة، وليس لقطة، وللحيوان حكم خاص تفريقًا بين الإبل والغنم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه أثناء الكلام على أحكام اللقطة. تعريف الشافعية: عرفها الشافعية بأنها: ما وجد في موضع غير مملوك من مال أو مختص ضائع من مستحقه لسقوط أو غفلة، أو نحوها لغير حربي ليس بمحرز، ولا ممتنع بقوة، ولا يعرف الواجد مستحقه (¬1). شرح التعريف: قوله: (ما وجد في موضع غير مملوك) لأنه إذا وجد في موضع مملوك فهو لمالك ذلك الموضع؛ لأن يده ثابتة على الموضع، وعلى ما فيه. قوله: (من مال أو مختص) فاللقطة تشمل نوعين: أحدهما: الأموال، والثاني: ما يختص به الإنسان مما يحل الانتفاع به وإن لم يكن مالًا كنجاسة يحل الانتفاع بها، وخمرة الخلال، ونحو ذلك. وقوله: (ضائع من مستحقه) أخرج المال الذي سيبه صاحبه زهدًا فيه، فلا يسمى لقطة. وقوله: (بسقوط أو غفلة) خرج بذلك ما لو ألقت الريح ثوبًا في حجره، أو ¬
ألقى في حجره هارب كيسًا ولم يعرفه، فهو مال ضائع يحفظه، ولا يتملكه، وليس لقطة. والتفريق بين المال الضائع واللقطة هو تفريق اصطلاحي للشافعية، وإلا فإن اللقطة تعتبر مالًا ضائعًا. وقوله: (لغير حربي) خرج بذلك ما وجد بدار الحرب، وليس بها مسلم؛ فهو غنيمة يخمس، وليس لقطة. وقوله: (ليس بمحرز) لأنه إذا كان محرزًا لم يكن لقطة ضائعة. وقوله: (ولا يعرف الواجد مستحقه) لأنه إذا كان يعرف صاحبه لم يكن لقطة (¬1). تعريف الحنابلة: جاء في الإقناع: "وهي اسم لما يلتقط: من مال أو مختص ضائع وما في معناه لغير حربي يلتقطه غير ربه" (¬2). فقوله: (من مال أو مختص) هذا موافق لمذهب الشافعية يكون اللقطة لا تختص بالمال وحده، وإنما تختص بكل ما يختص به الإنسان مما يباح الانتفاع به، وإن لم يكن مالًا كخمرة الخلال، والسرجين النجس, وقد تقدم التنبيه عليه في مذهب الشافعية. وقوله: (ضائع وما في معناه) الضائع معلوم، أما الذي في معنى الضائع فهو يشمل المتروك لمعنى يقتضيه، ويشمل المدفون المنسي. وقوله: (لغير حربي) فإن كان المال لحربي فهو لآخذه عند الحنابلة (¬3). ¬
المبحث الثاني الفرق بين اللقطة والضالة
المبحث الثاني الفرق بين اللقطة والضالة الضالة لا تقع إلا على الحيوان وما سواه يقال له لقطة. [م - 1980] اختلف العلماء في الفرق بين اللقطة والضالة على قولين: القول الأول: التفريق بين اللقطة والضالة، فالضالة لا تكون إلا في الحيوان، واللقطة في غير الحيوان. وهذا قول جماعة من اللغويين كالقاسم بن سلام، والأزهري، وجمهور الفقهاء. قال أبو عبيد القاسم بن سلام: إنما الضوال ما ضل بنفسه، وكان يقول: لا ينبغي لأحد أن يدع اللقطة، ولا يجوز له أخذ الضالة. وقال الأزهري وغيره: لا يقع اسم الضالة إلا على الحيوان ... وأما الأمتعة وما سوى الحيوان فيقال لها: لقطة، ولا يقال: ضالة (¬1). وقال الخطابي في معالم السنن: "اسم الضالة لا يقع على الدرهم والدنانير والمتاع ونحوها، وإنما الضالة اسم للحيوان" (¬2). ¬
وقال ابن حجر: "قال العلماء الضالة لا تقع إلا على الحيوان وما سواه يقال له لقطة ويقال للضوال أيضا الهوامي والهوافي بالميم والفاء والهوامل" (¬1). ° دليل من فرق بين الضالة واللقطة: (ح-1195) ما رواه الإمام أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا حميد يعني الطويل، حدثنا الحسن، عن مطرف، عن أبيه، أن رجلا قال: يا رسول الله، هوام الإبل نصيبها؟ قال: ضالة المسلم حرق النار (¬2). [اختلف في إرساله ووصله، والراجح وصله، ورجاله ثقات] (¬3). ¬
وأجيب: بأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ضالة المؤمن حرق النار) إنما قال ذلك؛ لأنهم أرادوها للركوب والانتفاع لا للحفظ على صاحبها، حيث جاء في رواية الطحاوي: قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من بني عامر، فقال لنا: ألا أحملكم، فقلت: إنا نجد في الطريق هوامي الإبل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن ضالة المسلم حرق النار (¬1). القول الثاني: أن اللقطة والضالة سواء في المعنى، والحكم فيهما سواء، وممن ذهب إلى هذا أبو جعفر الطحاوي، وأنكر قول أبي عبيد الضالة ما ضل بنفسه وقال هذا غلط؛ لأنه قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الإفك قوله للمسلمين (إن أمكم ضلت قلادتها) فأطلق ذلك على القلادة (¬2). قلت: يجاب عن حديث (ضلت قلادتها) بجوابين: الجواب الأول: أنه قد تفرد بهذه اللفظ أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، عن عمه عبد الله بن وهب، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة. ¬
وأحمد بن عبد الرحمن متكلم فيه، وابن لهيعة ضعيف الحديث مطلقًا، من رواية العبادلة ومن رواية غيرهم على التحقيق. وحديث عائشة في الصحيحين وفي غيرهما ليس فيه هذه اللفظة. الجواب الثاني: أن الفاعل قد يكون ضميرًا مستترًا يعود على أمنا عائشة - رضي الله عنها - وعن أبيها، وليست القلادة، وإنما يكون شاهدًا لو تعين أن يكون الفاعل هو القلادة، والله أعلم.
المبحث الثالث في أركان اللقطة
المبحث الثالث في أركان اللقطة ركن الشيء ما يتوقف عليه وجوده، وكان جزءًا من الماهية. [م - 1981] عند الكلام على الأركان نقف على قولين: أحدها: قول الحنفية الذي يرى أن ركن الشيء: هو ما يتوقف عليه وجوده، وكان جزءًا داخلًا في حقيقته، وعلى هذا الركن في اللقطة هو الالتقاط فقط، وأما الملتقط واللقطة فهي من لوازم اللقطة وليست جزءًا من حقيقة اللقطة، وإن كان يتوقف عليها وجوده. والثاني: قول الجمهور الذي يرى أن الركن: هو ما توقف عليه وجود الشيء وتصوره عقلًا، سواء أكان جزءًا من حقيقته أم لم يكن. وعلى هذا يكون الأركان هي: الالتقاط، والملتقط، واللقطة (¬1). ومذهب الحنفية أجود، وأدق في الجملة، والجمهور لا يطردون في تحديد الأركان، فاللوازم تارة يعتبرونها من الأركان، وتارة لا يدخلونها، فهم يجعلون الفاعل ركنًا في مثل عقد الوصية وعقد البيع والنكاح، ولا يجعلونه ركنًا في العبادات كالصلاة والحج، وإن كان لا يتصور قيام الحج والصلاة بدون فاعل. هذا بيان لسبب الخلاف بين الحنفية والجمهور في ركن الشيء. ¬
الباب الأول في حكم الالتقاط
الباب الأول في حكم الالتقاط الفصل الأول في التقاط غير الحيوان الخيانة في الالتقاط بمنزلة الاغتصاب. اللقطة أمانة فلم يجب أخذها كالوديعة. [م - 1982] اختلف الفقهاء في حكم أخذ اللقطة على أقوال، ونظرًا لاختلاف الحكم باختلاف حال الملتقط ومكان اللقطة رأيت أن أحرر أقوال كل مذهب على حدة، ثم أجملها بعد ذلك مع ذكر الأدلة: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أنه يحرم رفع اللقطة إن أخذها لنفسه، ويندب رفعها إن أمن الملتقط على نفسه، وإلا فالترك أولى من الرفع. وإن خاف عليها من الضياع فرفعها واجب، وقال في البدائع: يستحب (¬1). ¬
جاء في الاختيار لتعليل المختار: "وأخذها أفضل، وإن خاف ضياعها فواجب" (¬1). وقال الكاساني في بدائع الصنائع عن حكم أخذ اللقطة: "قد يكون مندوب الأخذ، وقد يكون مباح الأخذ، وقد يكون حرام الأخذ: أما حالة الندب: فهو أن يخاف عليها الضيعة لو تركها فأخذها لصاحبها أفضل من تركها؛ لأنه إذا خاف عليها الضيعة كان أخذها لصاحبها إحياء لمال المسلم معنى فكان مستحبًا، والله تعالى أعلم. وأما حالة الإباحة: فهو أن لا يخاف عليها الضيعة فيأخذها لصاحبها ... وأما حالة الحرمة: فهو أن يأخذها لنفسه لا لصاحبها" (¬2). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن المتلقط إما أن يعلم أمانة نفسه، أو خيانتها، أو يشك فيها، وفي كلٍّ إما أن يخاف الخونة على اللقطة لو ترك الأخذ، أو لا. فيجب الأخذ بشرطين: "إن خاف الخونة على اللقطة، ولم يعلم خيانة نفسه بأن علم أمانتها أو شك فيها. فإن علم خيانة نفسه حرم الأخذ خاف الخونة أم لا. وإن لم يخف الخونة كره الالتقاط علم أمانة نفسه أو شك فيها. هذا هو تحرير مذهب المالكية. ¬
واختار بعض المالكية: أن المتلقط إن وثق بأمانة نفسه، ولم يخف عليها ففيها ثلاثة أقوال: الأول: الاستحباب مطلقًا. الثاني: الاستحباب فيما له بال فقط. الثالث: الكراهة (¬1). جاء في حاشية الصاوي على الشرح الصغير: "حاصل هذا المبحث أن مريد الالتقاط إما أن يعلم أمانة نفسه أو خيانتها أو يشك فيها، وفي كل إما أن يخاف الخائن لو ترك الأخذ أو لا: فيجب الأخذ بشرطين إن خاف الخائن ولم يعلم خيانة نفسه: بأن علم أمانتها أو شك فيها. فإن علم خيانة نفسه حرم الأخذ خاف الخائن أم لا. وإن لم يخف الخائن كره علم أمانة نفسه أو شك فيها ... هذا حاصل ما يؤخذ من الشارح وهو التحرير ... واعلم أنه إذا لم يخف خائنًا، وعلم أمانة نفسه، فثلاثة أقوال: الاستحباب، والكراهة، والتفصيل: يستحب فيما له بال، ويكره في غيره، ¬
واختار التونسي من هذه الأقوال الكراهة مطلقًا، وأما إذا لم يخف خائنًا وشك في أمانة نفسه فالكراهة اتفاقًا" (¬1). وقال ابن شاس: "وليس بواجب -يعني الالتقاط- إلا أن يكون بين قوم غير مأمونين، والإمام غير عدل، لكن إن وثق بأمانة نفسه، فالأخذ مستحب له. وروي تخصيص الاستحباب بما له بال، فإن علم الخيانة من نفسه فالأخذ محرم عليه، وإن خافها كره الأخذ" (¬2). وجاء في منح الجليل: "وما أحسن قول ابن الحاجب تابعًا لابن شاس: والالتقاط حرام على من علم خيانة نفسه، ومكروه للخائف، وفي المأمون: الاستحباب، والكراهة، والاستحباب فيما له بال، والوجوب إن خاف عليها الخونة" (¬3). وقال الباجي: "فأما جواز أخذها فقد روى نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يمر باللقطة فلا يأخذها. وفي العتبية من سماع ابن القاسم عن مالك أنه قال: لا أحب أن يأخذها من وجدها إلا أن يكون لها قدر. وقال في موضع آخر أو لذي رحمه: وأما الشيء الذي له بال فأرى له أخذه. وروى عنه أشهب: أما الدنانير وشيء له بال فأحب إلى أن يأخذه، وليس كالدرهم، وما لا بال له لا أحب له أن يأخذ الدرهم ومعنى ذلك أن الشيء ¬
الكثير الذي له بال يخاف عليه الضياع إن تركه فأخذه له على وجه التعريف به والحفظ له إلى أن يجده صاحبه من أعمال البر" (¬1). القول الثالث: مذهب الشافعية: نقل عن الشافعي نصان في المسألة: أحدهما: قال في مختصر المزني: "لا أحب لأحد ترك لقطة وجدها إذا كان أمينًا عليها" (¬2). وقال في الأم: "لا يجوز لأحد ترك لقطة وجدها إذا كان من أهل الأمانة" (¬3). واختلف أصحابه لذلك، فمنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: يستحب الالتقاط لواثق بأمانة نفسه، ويكره تركها لئلا تقع في يد خائن، وإنما لم يجب الالتقاط لأنها أمانة أو كسب وكل منهما لا يجب ابتداء. الثاني: يجب عليه الالتقاط صيانة للمال عن الضياع. واختار أبو العباس وأبو إسحاق حمل النصين على حالين مختلفين: فالموضع الذي قال: يستحب له أخذها إذا كان لا يخاف عليها من الضياع كما لو كانت في موضع يعلم أمانة أهلها. والموضع الذي قال: يجب عليه أخذها إذا كانت في موضع يخاف عليها من الضياع، واختار هذا التفصيل السبكي. ¬
ولا يستحب الالتقاط لغير واثق بأمانة نفسه، ويكره لفاسق لئلا تدعوه نفسه إلى الخيانة (¬1). جاء في المهذب: "روى المزني أنه قال: لا أحب تركها. وقال في الأم: لا يجوز تركها، فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما لا يجب لأنها أمانة فلم يجب أخذها كالوديعة والثاني يجب ... وقال أبو العباس وأبو إسحاق وغيرهما: إن كانت في موضع لا يخاف عليها لأمانة أهله لم يجب عليه؛ لأن غيره يقوم مقامه في حفظها، وإن كان في موضع يخاف عليها لقلة أمانة أهله وجب؛ لأن غيره لا يقوم مقامه، فتعين عليه، وحمل القولين على هذين الحالين، فإن تركها ولم يأخذها لم يضمن؛ لأن المال إنما يضمن باليد أو بالإتلاف ولم يوجد شيء من ذلك، ولهذا لا يضمن الوديعة إذا ترك أخذها فكذلك اللقطة" (¬2). القول الرابع: ذهب الحنابلة إلى أن الملتقط إن أمن نفسه عليها، وقوي على تعريفها، فله أخذها، والأفضل تركها. وقال أبو الخطاب: أخذها أفضل إذا وجدها بمضيعة، وأمن نفسه عليها (¬3). ¬
جاء في الإقناع: "ومن أمن نفسه عليها وقوى على تعريفها فله أخذها، والأفضل تركها, ولو وجدها بمضيعة، وإن عجز عن تعريفها فليس له آخذها" (¬1). إذا علمت تحرير حكم المسألة في كل مذهب من المذاهب الفقهية، نأتي إلى إجمالها مع ذكر الأدلة، فأقول اللقطة لها ثلاثة أحوال: الحال الأول: أن يعلم من نفسه الخيانة، فهنا يحرم عليه الالتقاط؛ لأنه بمنزلة الغاصب، ولأن في أخذها تضييعًا لمال غيره فيحرم كإتلافه، وكما لو نوى كتمانها، أو نوى تملكها في الحال. (ح-1196) روى مسلم من طريق عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة، عن أبي سالم الجيشاني، عن زيد بن خالد الجهني، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من آوى ضالة فهو ضال، ما لم يعرفها (¬2). [هذا الحديث بهذا اللفظ من أفراد مسلم، وحديث زيد بن خالد في الصحيحين بغير هذا اللفظ، وأبو سالم الجيشاني لم يوثقه إلا ابن حبان والعجلي، وقيل له صحبة] (¬3). ¬
الحال الثانية: أن يثق بأمانة نفسه، ولا يخشى على اللقطة، فهنا أخذها لا يحرم، والخلاف في الأفضل، وقد اختلفوا فيه على أقوال: القول الأول: يستحب أخذها، وهو مذهب الحنفية، والشافعية، واختيار بعض المالكية. ° دليل من قال بالاستحباب: الدليل الأول: (ح-1197) رواه البخاري من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني: أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة، فقال: عرفها سنة، ثم اعرف وكلاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها إليه قال: يا رسول الله، فضالة الغنم؟ قال: خذها، فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب. قال: يا رسول الله، فضالة الإبل؟ قال: فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى احمرت وجنتاه -أو احمر وجهه- ثم قال: ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، حتى يلقاها ربها (¬1). فقد دل الحديث على استحباب الالتقاط من وجهين: الوجه الأول: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بأخذ الشاة، بقوله (خذها، فإنما هي لك أو لأخيك، أو ¬
للذئب) ومعلوم أن اللقطة مثلها بجامع أن كلًّا منهما لا يمتنع على من أراده بهلاك أو فساد. الوجه الثاني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمره بتعريفها, ولم يقل له كما قال في الإبل: دعها حتى يلقاها فدل هذا على أن الأفضل أخذها وتعريفها. ويناقش: أما الأمر بأخذ الشاة فهو ليس للندب لأنه قاله جوابًا على سؤال السائل، فيحمل على الإرشاد، نعم يكون الأصل للوجوب أو للندب لو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بأخذها ابتداء دون أن يكون ذلك مرتبًا على سؤال السائل، والله أعلم. أما كون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه السائل عن أخذها كما نهاه في ضالة الإبل فهو دليل على جواز الالتقاط، ولا يمكن أن يكون ترك النهي دليلًا على الاستحباب، بل يطلب الاستحباب من دليل آخر. الدليل الثاني: أن أخذ اللقطة إذا وثق بأمانة نفسه فيه صيانة لمال الغير من الضياع، وإنما لم يجب؛ لأنه في مكان لا يخاف عليها؛ لأن صاحبها سوف يفتش عنها في المحل الذي فقدها، ويجدها، ويظفر بماله. القول الثاني: يستحب أخذ اللقطة إن كان لها بال. وهو قول في مذهب المالكية. واحتج أصحاب هذا القول: بأن اللقطة إذا لم يكن لها بال لم يطلبها صاحبها, ولا تشح بها النفوس.
(ح-1198) روى البخاري من طريق منصور، عن طلحة، عن أنس - رضي الله عنه -، قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمرة في الطريق، قال: لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها (¬1). فلم يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم التمرة حكم اللقطة، وهكذا سائر المحقرات من الأموال لا يكون لها حكم اللقطة، وسوف نناقش إن شاء الله تعالى حكم يسير اللقطة في مبحث مستقل. القول الثالث: يكره أخذها، وهو مذهب المالكية. القول الرابع: الأفضل تركها، وهو مذهب الحنابلة. ° وحجة هذين القولين: الدليل الأول: (ح-1199) رواه الإمام أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا حميد يعني الطويل، حدثنا الحسن، عن مطرف، عن أبيه، أن رجلا قال: يا رسول الله، هوام الإبل نصيبها؟ قال: ضالة المسلم حرق النار (¬2). [اختلف في إرساله ووصله، والراجح وصله، ورجاله ثقات] (¬3). ¬
ويناقش: بأن الحديث في هوام الإبل، وقد ورد النهي عن أخذ ضالة الإبل لكونها تمتنع بنفسها عن السباع، وترد الماء، ولا يمكن أن يقال: إن العبرة بعموم اللفظ؛ لأنه قد ورد الأمر بأخذ ضالة الغنم، وعلل ذلك بأن تركها يعرضها للتلف بأن يأكلها الذئب، وأذن في أخذ اللقطة من غير الحيوان بشرط أن يعرفها. الدليل الثاني: (ث-299) ما رواه مالك، عن نافع، أن رجلا وجد لقطة فجاء إلى عبد الله بن عمر، فقال له: إني وجدت لقطة فماذا ترى فيها؟ فقال له عبد الله بن عمر: عرفها، قال: قد فعلت؟ قال: زد، قال: قد فعلت، فقال عبد الله: لا آمرك أن تأكلها, ولو شئت لم تأخذها (¬1). وروى ابن أبي شيبة في المصنف من طريق عبد الله بن دينار، قال: قلت لابن عمر: وجدت لقطة، قال: ولم أخذتها (¬2). [صحيح] (¬3). الدليل الثاني: (ث-300) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن قابوس بن أبي ظبيان، ¬
[عن أبيه] (¬1)، عن ابن عباس، كان يقول: لا ترفع اللقطة لست منها في شيء، وقال: تركها خير من أخذها (¬2). [ضعيف قابوس بن أبي ظبيان متكلم فيه]. قال ابن المنذر: "اختلف أهل العلم في أخذ اللقطة، فكرهت طائفة أخذها، روينا هذا القول عن ابن عمر، وابن عباس ... " (¬3). وقال ابن قدامة: "الأفضل ترك الالتقاط روي معنى ذلك عن ابن عباس وابن عمر ... ولا نعرف لهما مخالفًا في الصحابة". الدليل الثالث: أن في الالتقاط تعريضًا لنفسه للوقوع في الإثم، فقد يأكلها قبل أن يقوم بحقها، وقد يقصر بما يجب لها من تعريفها، وأداء الأمانة فيها، فكان تركه أولى وأسلم كولاية مال اليتيم. ° الراجح: أن الأخذ مع الأمن على اللقطة يدور على معنين: أحدهما: الوصول إلى صاحبها، عن طريق تعريفها، وفي هذا حفظ المال لصاحبه، وهو مطلوب. ¬
الثاني: اكتساب اللقطة عن طريق تعريفها، والاكتساب الأصل فيه الإباحة، لهذا نقول: إن أخذها بنية حفظها لصاحبها كان ذلك مستحبًا، وإن أخذها رغبة في تملكها بعد القيام بتعريفها كان ذلك مباحًا، والله أعلم. الحال الثالثة: أن يخاف على اللقطة من الخونة، فاختلفوا في وجوب أخذها: فقيل: يجب أخذها، وهو مذهب الحنفية، والمالكية، وأحد القولين في مذهب الشافعية، واختاره بعض الحنابلة. وقيل: لا يجب أخذها، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، واختاره الكاساني من الحنفية. واختلف الحنابلة في الأفضل: فقيل: الأفضل تركها لأثر ابن عمر وابن عباس المتقدمين ولا مخالف لهما من الصحابة، وهذا هو المشهور من المذهب. وقيل: الأفضل أخذها، اختاره بعضهم لما في ذلك من حفظ مال أخيك المسلم. ° دليل من قال بوجوب الالتقاط إذا خاف عليها: الدليل الأول: قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]. فإذا كان وليه وجب عليه حفظ ماله.
ونوقش هذا: بأن المراد بهذه الآية النصرة وولاية الدين بدلالة أنه قال: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [التوبة: 71]. الدليل الثاني: أن في تركها تضييعًا لها، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال. (ح-1200) لما رواه مسلم من طريق الشعبي، عن وراد، مولى المغيرة بن شعبة، عن المغيرة بن شعبة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله عز وجل حرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات. وكره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال (¬1). ونوقش هذا: بأن الترك لا يكون تضييعًا بل هو امتناع من حفظ مال لم يلزمه حفظه، ولم يلتزمه، والامتناع من ذلك لا يكون تضييعا كالامتناع عن قبول الوديعة. الدليل الثالث: القياس على ضالة الغنم، فإنها لما كان يخاف عليها من الذئب أمر الشارع الملتقط أن يأخذها. (ح- 1201) لما رواه البخاري من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني: أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة، فقال: عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن ¬
جاء ربها فأدها إليه قال: يا رسول الله، فضالة الغنم؟ قال: خذها، فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب. قال: يا رسول الله، فضالة الإبل؟ قال: فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى احمرت وجنتاه -أو احمر وجهه- ثم قال: ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، حتى يلقاها ربها (¬1). ففرق بين الضالة التي يخاف عليها وبين الضالة التي لا يخاف عليها، واللقطة مقيسة عليهما، فإن كان في مكان يخاف عليها من الفسقة كان مأمورًا بأخذها حفظًا لها، وإلا كان له تركها. ويناقش: بأن قوله: (خذها) جاء جوابًا على سؤال، فيكون للإرشاد والإباحة، وليس للوجوب، كما لو قلت: أين طريق مكة، فقال لك: اذهب من هنا، لم يكن أمره إلزامًا بالذهاب، والله أعلم. الدليل الرابع: القياس على حراسة نفس المسلم، فإذا وجب على المسلم حراسة نفس أخيه المسلم وجب عليه حراسة ماله، فإن حرمة المال كحرمة النفس. ° دليل من قال: لا يجب الالتقاط مطلقًا: الأصل في حقيقة اللقطة أن فيها معنى الكسب من جهة أن الملتقط يتملكها إن أراد بشرط أن يقوم بما يجب لها، وفيها معنى الأمانة من جهة أنها لو تلفت في يد الملتقط في مدة التعريف أو قبل الاشتغال بها فإنها لا تكون مضمونة على الملتقط، وكلاهما (الكسب أو الأمانة) لا معنى لوجوبه. ¬
° الراجح: أن الالتقاط لا يجب، وإنما هو مباح، وقد يستحب بشروط، أن يعلم أمانة نفسه، وأن يقوى على تعريفها، والقدرة على حفظها، وأن يكون الباعث على أخذها حفظ حق صاحبها؛ لأنه إن أخذها رغبة في تملكها كان الاكتساب هو الباعث على أخذها، والاكتساب الأصل فيه الإباحة، والله أعلم.
الفصل الثاني في التقاط الحيوان
الفصل الثاني في التقاط الحيوان المبحث الأول في التقاط ما يمتنع من السباع ويقوى على ورود الماء الالتقاط شرع لمصلحة المالك لهذا نهي عن التقاط ضالة الإبل. [م - 1983] اختلف العلماء في ضالة الإبل، وكذا كل حيوان يمتنع من السباع ويقوى على ورود الماء على قولين: القول الأول: يجوز التقاط الإبل وغيرها من الحيوانات، والأفضل أن يأخذها ويعرفها كغيرها, ولا يتركها تضيع، وهذا مذهب الحنفية، وقيده بعض المالكية فيما إذا خاف عليها من أخذ خائن كما لو كان في فساد من الزمان، وعليه حمل فعل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (¬1). جاء في الاختيار لتعليل المختار: "ويجوز التقاط الإبل والبقر والغنم وسائر الحيوانات" (¬2). ¬
جاء في حاشية الدسوقي: " أما في الزمن الذي فسد فالحكم فيه أن تؤخذ وتعرف، فإن لم تعرف بيعت ووقف ثمثها لربها، فإذا أيس منه تصدق به كما فعل عثمان لما دخل الناس في زمنه الفساد وقد روي ذلك عن مالك" (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن الاختيار في ضالة الإبل تركها، فإن أخذها وجب تعريفها، فإن لم تعرف ردت حيث وجدت (¬2). وهذا حكم ضالة الإبل في جميع الأزمنة في مشهور المذهب، وقيل: إنما هو في زمان العدل، وأن الأفضل في زمان غير العدل التقاطها (¬3). وروى ابن وهب، قال: سمعت مالكًا والليث يقولان في ضالة الإبل: من وجدها في القرى أخذها، وعرفها، ومن وجدها في الصحارى فلا يقربها (¬4). جاء في بداية المجتهد: "القسم الثالث: فهو كالإبل، أعني أن الاختيار عنده فيه الترك للنص الوارد في ذلك، فإن أخذها وجب تعريفها، والاختيار تركها. وقيل في المذهب: هو عام في جميع الأزمنة. وقيل: إنما هو في زمان العدل، وأن الأفضل في زمان غير العدل التقاطها" (¬5). ¬
وجاء في حاشية الدسوقي: "المعتمد من مذهب مالك تركها مطلقًا قال في المقدمات بعد أن ذكر عدم التقاط الإبل، قيل: إن ذلك في جميع الزمان، وهو ظاهر قول مالك في المدونة والعتبية. وقيل: هو خاص بزمن العدل، وصلاح الناس، وأما في الزمن الذي فسد فالحكم فيه أن تؤخذ وتعرف، فإن لم تعرف بيعت ووقف ثمنها لربها فإذا أيس منه تصدق به كما فعل عثمان لما دخل الناس في زمنه الفساد وقد روي ذلك عن مالك أيضًا" (¬1). القول الثالث: ذهب الشافعية إلى أن ضالة الإبل، وكذا كل حيوان يدفع عن نفسه صغار السباع إما بقوة جسمه كالخيل والبقر والحمير، وإما بعدوه كالغزال، والأرنب أو بجناحه كالطير، فهذا النوع إن وجد في الصحراء الآمنة فلا يجوز التقاطها للتملك. هذا حكم التقاطها للتملك، وأما حكم التقاطها للحفظ؟ فإن كان الواجد هو السلطان جاز؛ لأن للسلطان ولاية في حفظ مال الغائب من المسلمين. وإن كان الواجد لها من الرعية ففيه وجهان: أصحهما يجوز؛ لأنه يأخذها للحفظ على صاحبها فجاز كالسلطان، وهو المنصوص لئلا يأخذها خائن فتضيع. ¬
فإن أخذها للتملك ضمنها؛ لأنه تعدى بأخذها فضمنها كالغاصب، ولا يبرأ عن الضمان بالرد إلى ذلك الموضع. وإن دفعها إلى السلطان ففيه وجهان أصحهما أنه يبرأ وهو المذهب؛ لأن للسلطان ولاية على الغائب في حفظ ما يخاف عليه من ماله، ولهذا لو وجدها السلطان جاز له أخذها للحفظ على مالكها، فإذا أخذها غيره وسلمها إليه بريء من الضمان. وإن وجدها في صحراء غير آمنة بأن كان الزمن زمن نهب جاز التقاطه للحفظ والتملك. وإن وجدها في بلدة أو قرية، أو في موضع قريب منها فوجهان، أو قولان: أحدهما: لا يجوز التقاطها للتملك كالمفازة. وأصحهما: جوازه؛ لأنها في العمارة تضيع بتسلط الخونة، هذا تفصيل مذهب الشافعية (¬1). وملخصه: جواز التقاطها للحفظ مطلقًا في الصحراء والمصر. ولا يجوز التقاطها للتملك في الصحراء الآمنة، ويجوز للحفظ في الأصح. ويجوز في الأصح التقاطها في المصر مطلقًا للتملك أو للحفظ، ومثله في الصحراء إذا لم تكن آمنة كما لو كان الزمن زمن نهب. ¬
جاء في روضة الطالبين: "ما يمتنع من صغار السباع بفضل قوته، كالإبل، والخيل، والبغال، والحمير، أو بشدة عدوه كالأرانب، والظباء المملوكة، أو بطيرانه كالحمام، فإن وجدها في مفازة، فللحاكم ونوابه أخذها للحفظ. وفي جواز أخذها للآحاد للحفظ وجهان: أصحهما عند الشيخ أبي حامد، والمتولي، وغيرهما: جوازه، وهو المنصوص، لئلا يأخذها خائن فتضيع. وأما أخذها للتملك، فلا يجوز لأحد، فمن أخذها للتملك ضمنها, ولا يبرأ عن الضمان بالرد إلى ذلك الموضع. فإن دفعها إلى القاضي، بريء على الأصح. وإن وجدها في بلدة أو قرية، أو في موضع قريب منها، فوجهان أو قولان. أحدهما: لا يجوز التقاطها للتملك كالمفازة. وأصحهما: جوازه؛ لأنها في العمارة تضيع بتسلط الخونة. وقيل: يجوز قطعًا. وقيل: لا يجوز قطعا. فإن منعنا، فالتقاطها بقصد التملك كما ذكرنا في التقاطها من الصحراء ... هذا كله إذا كان زمان أمن. فأما في زمن النهب، والفساد، فيجوز التقاطها قطعًا، وسواء وجدت في الصحراء أو العمران" (¬1). القول الرابع: ذهب الحنابلة إلى أن ما يمتنع من صغار السباع كالإبل والبقر والخيل والبغال ¬
لا يجوز التقاطه بلا نزاع، ويجوز للإمام أو نائبه أخذه وحفظه لربه، ولا يلزمه تعريفه، ولا يجوز لغيرهما أخذ شيء من ذلك لحفظه لربه على الصحيح من المذهب. واختار ابن قدامة ومن تبعه جواز أخذها إذا خيف عليها كما لو كانت في أرض مسبعة، أو قريبًا من دار حرب، أو بموضع يستحل أهله أموال المسلمين، أو في صحراء لا ماء فيها ولا مرعى، ولا ضمان على آخذها؛ لأنه إنقاذ لها من الهلاك. قال المرداوي: ولو قيل بوجوب أخذها والحالة هذه لكان له وجه (¬1). هذا تحرير المسألة في كل مذهب من المذاهب المشهورة، وملخص الأقوال: القول الأول: أن ضالة الإبل كغيرها يجوز التقاطها للتملك، وهذا مذهب الحنفية. القول الثاني: ضالة الإبل تترك مطلقًا في الصحراء والبنيان، سواء قلنا: إن الترك هو الأفضل كما في مذهب المالكية، أو قلنا: إن الترك واجب كما هو مذهب الحنابلة. القول الثالث: التفريق بين الصحراء الآمنة وبين العصر، وبين التقاطها للتملك وبين التقاطها للحفظ. ¬
فيجوز التقاطها للحفظ مطلقًا في الصحراء والمصر. ويجوز في الأصح التقاطها في المصر مطلقًا للتملك والحفظ. ولا يجوز التقاطها للتملك في الصحراء الآمنة، ويجوز للحفظ في الأصح. وهذا مذهب الشافعية. وأجاز مالك في رواية, وهو قول الليث التقاطها للتعريف في المصر دون الصحراء. القول الرابع: يجوز للإمام أو نائبه أخذها وحفظها لربها، وبه قال الشافعية والحنابلة. القول الخامس: يجوز أخذها إذا خيف عليها, ولو كانت في الصحراء وهو مذهب الشافعية، واختاره ابن قدامة من الحنابلة. لأنه إنقاذ لها من الهلاك. ° دليل من قال: ضالة الإبل كغيرها يجوز التقاطها: (ث - 301) ما رواه مالك، يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، أن ثابت بن الضحاك الأنصاري أخبره، أنه وجد بعيرًا بالحرة فعقله، ثم ذكره لعمر بن الخطاب، فأمره عمر أن يعرفه ثلاث مرات، فقال له ثابت: إنه قد شغلني عن ضيعتي، فقال له عمر: أرسله حيث وجدته (¬1). [صحيح] (¬2). ¬
وجه الاستدلال: قال الطحاوي: "ثابت بن الضحاك هو رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أخذ البعير الضال ليعرفه، ووقف عمر على ذلك منه، فلم ينكره عليه، ولم يعنفه في أخذه إياه، فدل ذلك في أمر الضوال من الإبل على ما ذكرنا وأحكام الضوال عندنا كأحكام اللقطة سواء" (¬1). ويناقش من وجهين: الوجه الأول: أن هذا الحكم من عمر مخالف للمرفوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا حجة في قول الصحابي إذا كان مخالفًا للسنة المرفوعة. الوجه الثاني: لو كانت ضالة الإبل في حكم اللقطة لما قال عمر (أرسله حيث وجدته) لأن من أخذ لقطة فعرفها لم يطلب منه إرسالها إذا لم يجد صاحبها، فلما طلب عمر أن يرسلها حيث وجدها دل على اختلاف ضالة الإبل عن غيرها من أحكام اللقطة، نعم قد يكون حجة للمالكية على أن النهي عن أخذ ضالة الإبل للتعريف ليس للتحريم، ولكن إن أخذها لم يملكها بالتعريف بخلاف غيرها، فإن وجد ¬
صاحبها وإلا أرسلها خلافًا للحنابلة الذين قالوا: إن النهي للتحريم، والله أعلم. ° دليل المالكية على أن المختار تركها، فإن أخذها عرفها ولم يملكها: (ح - 1202) استدلوا على أن المختار تركها بما رواه البخاري من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني: أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة، فقال: عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها إليه قال: يا رسول الله، فضالة الغنم؟ قال: خذها، فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب. قال: يا رسول الله، فضالة الإبل؟ قال: فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى احمرت وجنتاه -أو احمر وجهه- ثم قال: ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، حتى يلقاها ربها (¬1). فاشتمل الحديث على نوعين من اللقطة: أحدها: المال من غير الحيوان، وحكمه أن يعرفه سنة، ثم يتصرف فيه. الثاني: الحيوان، هو على نوعين: أحدهما: ضالة الغنم، ومثله كل حيوان لا يمتنع بنفسه عن صغار السباع، فهذا النوع مأمور بتملكها في الحال، وعلل ذلك بأنه إن لم يأخذها أكلها الذئب، وفي هذا ضياع للمال بلا فائدة ترجع لصاحبها. الثاني: ضالة الإبل، فنهى عن أخذها، وعلل ذلك بأن معها حذاءها وسقاءها، حتى يلقاها ربها، وهذا النهي ليس على سبيل التحريم لفهم عمر بن ¬
الخطاب وعثمان بن عفان، وهما خليفتان راشدان، وقد أمرنا باتباع سنتهما، وليس تصرفهما مخالفًا للسنة المرفوعة، وإنما هو مبين لها. فإن أخذها لم يتملكها بالحال كالغنم، ولا يملك التصرف فيها بعد التعريف كما يتملك لقطة المال من غير الحيوان. (ث-302) فقد روى مالك في الموطأ من طريق سليمان بن يسار، أن ثابت بن الضحاك الأنصاري أخبره، أنه وجد بعيرًا بالحرة فعقله، ثم ذكره لعمر بن الخطاب، فأمره عمر أن يعرفه ثلاث مرات، فقال له ثابت: إنه قد شغلني عن ضيعتي، فقال له عمر: أرسله حيث وجدته (¬1). فدل هذا الأثر على أنه يجوز أخذها وإحرازها لصاحبها، وحفظها لمالكها، فليست كالغنم يتملكها بمجرد أخذها, وليست كالذهب والفضة يتصرف فيها بعد القيام بتعريفها، فالنهي في الحديث محمول على من أخذها ليتملكها بالتعريف، فنهاه عن ذلك. وقد باع عثمان ضوال الإبل وحبس أثمانها على أربابها، فدل على جواز أخذها لأربابها. (ث-303) فقد روى مالك، أنه سمع ابن شهاب يقول: كانت ضوال الإبل في زمان عمر بن الخطاب إبلا مؤبلة تَنَاتَج، لا يمسها أحد، حتى إذا كان زمان عثمان بن عفان، أمر بتعريفها، ثم تباع، فإذا جاء صاحبها. أعطي ثمنها (¬2). ¬
[منقطع، الزهري لم يدرك عمر ولا عثمان]. ويجاب عن ذلك بأكثر من وجه: الوجه الأول: أن الأثر ضعيف. الوجه الثاني: أن عثمان هو الإِمام، والإمام نائب عن آحاد المسلمين في حفظ أموالهم، والقيام على مصالحهم، وما أقامه المسلمون إمامًا إلا من أجل مصالحهم في الدين والدنيا، ومنها حفظ المال الضال لصاحبه، فكان كيد الوكيل بالنسبة للموكل بخلاف آحاد الرعية فلا يأخذ ضالة الإبل. الوجه الثالث: أن عثمان رأى أن الناس قد دبَّ إليهم فساد الأخلاق والذمم، وامتدت أيديهم إلى الحرام، فأخذ بالمقصود الشرعي من التفريق بين ضالة الإبل وبين ضالة الغنم، فالحديث واضح في أنَّ الفرق بين الغنم وبين الإبل عدم الأمن على الأولى، والأمن على الثانية، والحكم المُعلَّلُ بعلة يتغير إذا تغيرت تلك العلة، فكان معنى الحديث: لا تلتقط الإبل الضالة ما دمت آمنة، ومفهومه، التقطها إذا كانت غير آمنة أو غير مأمونة. ° دليل من قال: لا يجيز التقاط ضالة الإبل مطلقًا: (ح - 1203) استدلوا بحديث زيد بن خالد الجهني المتقدم: أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ضالة الغنم؟ قال: خذها، فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب. قال: يا رسول الله، فضالة الإبل؟ قال: فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى احمرت وجنتاه -أو احمر وجهه- ثم قال: ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، حتى يلقاها ربها (¬1). ¬
وجه الاستدلال: أن غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - واحمرار وجهه كل ذلك يدل على أن النهي للتحريم، وليس للكراهة. ° دليل من فرق بين الصحراء الآمنة وبين المصر: استدلوا بحديث زيد بن خالد - رضي الله عنه - في الصحيح: أن أعرابيًّا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة، والضالة، وفيه: وسأله عن ضالة الإبل؟ فتمعر وجهه، وقال: ما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء، وتأكل الشجر، دعها حتى يجدها ربها، وسأله عن ضالة الغنم؟ فقال: "هي لك أو لأخيك أو للذئب" (¬1). وجه الاستدلال: أن قوله - صلى الله عليه وسلم - في ضوال الإبل معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر يختص بالبادية التي يكون فيها الماء والشجر دون العصر، وهي تمنع صغار السباع عن أنفسها في البادية ولا تقدر على منع الناس في المصر. والشاة تؤكل في البادية؛ لأن الذئب يأكلها، وهو لا يأكلها في المصر فاختلف معناهما في البادية والمصر فاختلف حكمهما (¬2). ° دليل القائلين بأن أخذها للحفظ لا للتملك جائز مطلقًا: أن أخذ مال الغير بنية إحرازه وحفظه لصاحبه من باب التعاون على البر والتقوى، وإنما فارقت ضالة الإبل غيرها كالغنم والدراهم، فإن الغنم له أن ¬
يتملكها، وكذا الدراهم إذا قام بتعريفها، بخلاف الإبل فإنه لما كان لا خوف عليها من السباع والعطش لم تلحق بالغنم والدراهم، ونهي عن أخذها بنية أكلها أو التصرف فيها. ° دليل من قال: إذا خاف على الإبل جاز التقاطها: حديث زيد بن خالد الجهني المتقدم واضح في أنَّ الفرق بين الغنم وبين الإبل عدم الأمن على الأولى، والأمن على الثانية، والحكم المُعلَّلَ بعلة يتغير إذا تغيرت تلك العلة، فكان معنى الحديث: لا تلتقط الإبل الضالة ما دمت آمنة، ومفهومه، التقطها إذا كانت غير آمنة أو غير مأمونة، ولأن الشارع لما أمر بترك الإبل كان مقصوده وصولها إلى ربها، وقد كان في ترك الإبل في ذلك الوقت سبيل لرجوع المال إلى صاحبه، فإذا تغير الزمان، وصار تركها طريقًا لتلفها كان الالتقاط هو المتعين لتحقق مقصود الشارع به، وهو وصوله إلى ربه، وأقصى ما في حديث زيد بن خالد الجهني أن يكون عامًّا في كل الأوقات خص منه بعض الوقت بضرورة العقل. هذا ما وقفت عليه من الأقوال وأدلتها، والله أعلم. ° الراجح: أخذ لقطة الإبل وغيرها من الحيوانات التي ترد الماء، ولا يخاف عليها من الجوع منهي عنه بالأحاديث الصحيحة، وإذا كان هناك عارض يدعو لأخذها خوفًا عليها من الهلاك أو السرقة جاز أخذها لمصلحة ربها، إلا أن ذلك لا يعني أنه يتملكها بالتعريف، والله أعلم.
المبحث الثاني فى التقاط الغنم وما لا يمتنع من صغار السباع
المبحث الثاني فى التقاط الغنم وما لا يمتنع من صغار السباع ما يظن هلاكه من الحيوان بتركه يشرع التقاطه بلا تعريف. [م - 1984] اختلفت أقوال العلماء في كيفية التصرف في الحيوان الضال إذا كان لا يمتنع من صغار السباع كالشاة ونحوها، وهذا تفصيل أقوالهم في المسألة: القول الأول: يجوز التقاط ضالة الحيوان من غير فرق بين الإبل والغنم، والأفضل أن يأخذها ويعرفها كغيرها، ولا يتركها تضيع، وهذا مذهب الحنفية (¬1). جاء في الاختيار لتعليل المختار: "ويجوز التقاط الإبل والبقر والغنم وسائر الحيوانات" (¬2). دليل الحنفية: أن هذه الضالة يتوهم ضياعها، فيستحب أخذها وتعريفها صيانة لأموال الناس. القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن الشاة إذا وجدها في الصحراء، ولم يتيسر حملها ولا سوقها للعمران، فله أكلها, ولا يعرفها, ولا ضمان عليه. ¬
فإن تيسر حملها أو سوقها للعمران حملت، أو سيقت وعرفها وجوبًا, وليس له أكلها، فإن أكلها ضمنها، فإن حملها مذبوحة فربها أحق بها إن علم به قبل أكلها، وعليه أجرة حملها، وإن وجد الشاة فيما قرب من العمران وجب عليه تعريفها هذا هو المعتمد في المذهب (¬1). وقيل: يجوز أكلها في الصحراء ولو تيسر سوقها للعمران، وهو ظاهر المدونة (¬2). وقال سحنون: إذا أكلها يضمن قيمتها لربها إذا علم به بعد ذلك (¬3). قال الدردير: في الشرح الكبير: "وله أكل شاة وجدها بفيفاء، ولم يتيسر حملها للعمران، ولا ضمان، فإن حملها للعمران ولو مذبوحة فربها أحق بها إن علم، وعليه أجرة حملها، ووجب تعريفها إن حملها حية كما لو وجدها بقرب العمران، أو اختلطت بغنمه في المرعى" (¬4). وقال الخرشي: "من وجد شاة بالنفيفاء فذبحها فيها وأكلها فإنه لا ضمان عليه على المشهور، وسواء أكلها في الصحراء أو في العمران، لكن إن حملها أو الطعام إلى العمران ووجده ربه فهو أحق به، وليدفع له أجرة حمله، فإن أتى بها ¬
حية إلى العمران فعليه تعريفها أو يدفعها لمن يشق به يعرفها؛ لأنها صارت كاللقطة" (¬1). وجاء في المدونة: "قلت -أي سحنون- أرأيت من التقط شاة في فيافي الأرض أو بين المنازل؟ قال -أي ابن القاسم- سألت مالكا عن ضالة الغنم يصيبها الرجل؟ قال: قال مالك: أما ما كان قرب القرى فلا يأكلها, وليضمها إلى أقرب القرى إليها يعرفها فيها. قال: وأما ما كان في فلوات الأرض والمهامه، فإن تلك يأكلها ولا يعرفها. فإن جاء صاحبها فليس له عليه من ثمنها قليل ولا كثير. وكذلك قال مالك، قال: ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث: هي لك أو لأخيك أو للذئب" (¬2). دليل المالكية على التفريق بين الصحراء والعمران: أن قوله في ضالة الغنم: (هي لك أو لأخيك أو للذئب) إشارة إلى أن هذا حكمها إذا كان يخشى عليها الذئب، وفي العمران لا يخشى عليها من الذئب فيكون حكمها حكم اللقطة، من أخذها وجب عليه تعريفها كسائر الأموال. القول الثالث: ذهب الشافعية إلى أن ضالة الغنم وكذا كل حيوان مأكول لا يمتنع بنفسه عن صغار السباع إن وجده في الصحراء كان الواجد مخيرًا بين ثلاثة أشياء: ¬
أحدها: أن يمسكها، ويعرفها، ثم يتملكها. الثاني: أن يبيعها ويستقل واجدها بالبيع إن لم يجد حاكمًا، وإن وجده استأذنه في البيع، ويحفظ ثمنها، ويعرفها، ثم يتملك الثمن. الثالث: أن يأكلها إن كانت مأكولة ويغرم قيمتها. والخصلة الأولى أولى من الثانية؛ لأنه يحفظ العين على صاحبها، والثانية أولى من الثالثة؛ لأنه إذا أكلها استباحها قبل الحول، وإذا باع لم يملك الثمن إلا بعد الحول. وإن وجده في العمران، فله الإمساك مع التعريف والتملك، وله البيع والتعريف وتملك الثمن. وفي الأكل قولان، أظهرهما عند الأكثرين: المنع؛ لأن البيع في العمران أسهل هذا إذا كانت مأكولة. فأما الجحش وصغار ما لا يؤكل فله فيه خصلتان: الأولى: أن يمسكها، ويعرفها، ثم يتملكها. الثاني: أن يبيعها، ويحفظ ثمنها، ويعرفها، ثم يتملك الثمن. وفي جواز تملكها في الحال، وجهان، أصحهما: لا يجوز تملكها حتى تعرف سنة كغيرها (¬1). قال النووي في منهاج الطالبين: "وما لا يمتنع منها كشاة يجوز التقاطه لتملك ¬
في القرية والمفازة ويتخير آخذه من مفازة، فإن شاء عرفه وتملكه -أو باعه وحفظ ثمنه وعرفها ثم تملكه- أو أكله وغرم قيمته إن ظهر مالكه، فإن أخذ من العمران فله الخصلتان الأوليان لا الثالثة في الأصح" (¬1). دليل الشافعية على جواز تملكها في الحال بالقيمة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (هي لك أو لأخيك أو للذئب) فقوله: (هي لك) دليل على إباحة تملكها في الحال، والخبر محمول على أنه أراد: بعوضها؛ لأن هذا الحيوان ملك لغيره فلم يكن له تملكه بغير عوض. ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيب نفس منه (¬2). ولأنها لقطة يلزمه ردها مع بقائها فوجب أن يلزمه غرمها عند استهلاكها قياسًا على اللقطة في الأموال. ولأنها ضالة فوجب أن تضمن بالاستهلاك كالإبل. وأما دليلهم على جواز إمساكها، وتعريفها، ثم تملكها: أنه يجوز أن يجري في ضالة الغنم ونحوها حكم اللقطة، فإذا جاز إمساك الأموال من غير الحيوان، وتعريفها، ثم تملكها جاز ذلك في للحيوان بشرط أن ¬
يتطوع بالنفقة عليها؛ لأن الرجوع بالنفقة عليها مضر بصاحبها؛ لأنه قد ينفق عليها أكثر من ثمنها. (ح - 1204) ولما رواه زيد بن خالد الجهني: أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة، فقال: عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها إليه (¬1). وأما الدليل على جواز بيعها وحفظ ثمنها، ويعرفها، ثم يتملك الثمن. فالقياس، فإذا جاز أن يتملكها في الحال بدون تعريف، جاز من باب أولى أن يبيعها، ويعرفها، ثم يتملك الثمن. القول الرابع: مذهب الحنابلة. في مذهب الحنابلة قولان: أحدهما: وهو المشهور أنه يلزم الملتقط للشاة ونحوها فعل الأحظ من أكلها وعليه قيمتها، أو بيعها وحفظ ثمنها لصاحبها, ولا يحتاج إلى إذن الإمام في الأكل والبيع، ويلزمه حفظ صفتها فيهما، أو حفظها والإنفاق عليها من ماله، ولا يملكه فإذا جاء صاحبه استلمه، ويرجع الملتقط بما أنفق على الحيوان إن نوى الرجوع، ما لم يتعد بأن التقطه لا ليعرفه، أو بنية تملكه في الحال (¬2)، فإن استوت الثلاثة خير بينها. قال الحارثي: وأولى الأمور الحفظ مع الإنفاق، ثم البيع وحفظ الثمن، ثم الأكل وغرم القيمة (¬3). ¬
° وحجة هذا القول: أما الدليل على جواز أكلها، فلقوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن ضالة الغنم: هي لك، أو لأخيك، أو للذئب، فجعلها له في الحال, لأنه سوى بينه وبين الذئب، والذئب لا يستأني بأكلها؛ ولأن في أكل الحيوان في الحال إغناء عن الإنفاق عليه؛ وحراسة لماليته على صاحبه إذا جاء، وإذا أراد أكله حفظ صفته، فمتى جاء ربه فوصفه؛ غرم له قيمته بكمالها. وأما الدليل على جواز بيعه: فلأنه إذا جاز أكله فبيعه لصاحبه أولى بالجواز، ويجب حفظ ثمنه لصاحبه. وأما الدليل على أنه لا يملك بالتقاطه ولو بثمن المثل: فقياسًا على ولي اليتم لا يبيع من نفسه. وأما الدليل على جواز حفظها لصاحبها: فلأن هذا هو الأصل باعتبار أنه مال مملوك للغير. وأما الدليل على الرجوع بالنفقة إذا أنفق بنية الرجوع: فلأنه أنفق على اللقطة لحفظها ولمصلحة مالكها، فكان من مال صاحبها، وكل من أنفق على مال غيره من أجل حفظه فإن له الرجوع بالنفقة على المذهب بشرط أن يكون قد أنفق عليها بنية الرجوع، فإن أنفق متبرعًا لم يرجع. ¬
الرواية الثانية في مذهب الحنابلة: لا يجوز التقاط الشاة ونحوها مما لا يمتنع من صغار السباع إلا للإمام (¬1). ° ودليل هذه الرواية: (ح - 1205) ما رواه الإمام أحمد، قال: حدثنا يحيى بن زكريا -وهو ابن أبي زائدة- حدثنا أبو حيان التيمي، عن الضحاك بن المنذر، عن منذر بن جرير، عن جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يؤوي الضالة إلا ضال. [ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني: (ث - 304) روى عبد الرزاق في المصنف، قال: عن معمر، عن قتادة، عن ¬
ابن المسيب، أن عمر بن الخطاب قال: لا يضم الضوال إلا ضال (¬1). [صحيح] (¬2). ¬
ويجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن المقصود لا يضم الضالة إلا ضال أي يضمها لملكه بدون القيام بحقها من التعريف: (ح - 1206) فقد روى مسلم من طريق عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة، عن أبي سالم الجيشاني، عن زيد بن خالد الجهني، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من آوى ضالة فهو ضال، ما لم يعرفها (¬1). (ث - 305) وروى ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن عبد الرحمن بن شريح، قال: حدثني أبو قبيل، عن عبد الله بن عمرو أن رجلًا قال: التقطت دينارًا، فقال: لا يأوي الضالة إلا الضال، قال: فأهوى به الرجل ليرمي به، فقال: لا تفعل، قال: فما أصنع به؟ قال: تعرفه، فإن جاء صاحبه فرده إليه، وإلا فتصدق به (¬2). [حسن]. ¬
الجواب الثاني: أن إطلاقه معارض للمرفوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمرفوع مقدم عليه، فإما أن نرده لذلك، وإما أن نحمله على الضالة المنهي عن أخذها، وهي ضالة الإبل كما حمله على ذلك يحيى بن سعيد الأنصاري في مصنف عبد الرزاق (¬1). ¬
المبحث الثالث في الالتقاط في طريق غير مسلوك
المبحث الثالث في الالتقاط في طريق غير مسلوك [م - 1985] إذا وجد لقطة في طريق غير مسلوك، فهل تعتبر لقطة يجب تعريفها، أو تأخذ حكم الركاز، بحيث يملكها واجدها دون تعريف، ويجب عليه فيها الخمس؟ نص على هذه المسألة الحنابلة، ولهم فيها قولان: القول الأول: أنها لقطة يجب تعريفها على الصحيح من مذهب الحنابلة، وأحد القولين عن ابن تيمية (¬1). قال في الإنصاف: "لو وجد لقطة في غير طريق مأتي: فهي لقطة. على الصحيح من المذهب. قدمه في الفائق .. " (¬2). وفي كشاف القناع: "وإن وجد لقطة في غير طريق مأتي، أي: مسلوك فهي لقطة تعرف، كالتي في الطريق المسلوك" (¬3). وفي مجموع الفتاوى: "وسئل: عن رجل لقي لقطة في وسط فلاة، وقد أنشد عليها إلى حيث دخل إلى بلده. فهل هي حلال؟ أم لا؟ ¬
فأجاب: يعرفها سنة قريبا من المكان الذي وجدها فيه فإن لم يجد بعد سنة صاحبها فله أن يتصرف فيها وله أن يتصدق بها. والله أعلم" (¬1). القول الثاني: ذهب بعض الحنابلة واختاره ابن تيمية في أحد قوليه أنه في حكم الركاز. جاء في الإنصاف: "اختار الشيخ تقي الدين - رضي الله عنه -: أنه كالركاز، واختاره في الفائق. وجعله في الفروع: توجيها له" (¬2). قال في الفروع: "ويتوجه جعل لقطة موضع غير مأتي كركاز" (¬3). ° ودليل هذا القول: (ح - 1207) ما رواه النسائي من طريق عبد الله بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة؟ فقال: ما كان في طريق مأتي أو في قرية عامرة فعرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا ذلك، وما لم يكن في طريق مأتي ولا في قرية عامرة ففيه وفي الركاز الخمس (¬4). ° الراجح: إذا ثبت حديث عمرو بن شعيب، فإنه حجة في الباب، وإن كان ما ينفرد به ¬
عمرو بن شعيب في النفس منه شيء، وقد رواه عنه جماعة كثيرون، يزيد بعضهم على بعض مما يدل على عدم ضبط الحديث، والله أعلم، وسوف يأتي تخريجه عند الكلام على ذكر العدد في اللقطة. قد رجح شيخنا محمَّد بن عثيمين أن هذه اللقطة كسائر الأموال التي لا يرجى وجود أصحابها، كالعواري، والودائع، والغصوب، وغيرها، وقد ذكر الأصحاب: أنه يتصدق بها عن صاحبها مضمونة، وأن أحمد نص على جواز بيعها والتصدق بثمنها، أي: إذا لم تكن أثمانًا، وأنه لا يجوز لمن هي في يده الأكل منها، وإن كان محتاجًا. غير أن ابن رجب ذكر في القواعد، عن القاضي تخريجًا بجواز أكله إذا كان فقيرًا على الروايتين في جواز شراء الوكيل من نفسه، وأفتى به الشيخ تقي الدين في الغاصب إذا تاب. فعلى هذا: يكون حكم هذه اللقطة حكم تلك الأموال على الخلاف المذكور، وقول القاضي: ليس ببعيد، وربما يستأنس له بحديث المجامع في نهار رمضان؛ على أحد الاحتمالين في الحديث، وهو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطاه كفارة نفسه، وأما على الاحتمال الثاني -وهو سقوطها عنه، لفقره، وهو أقرب- فلا شاهد فيه، ولكن تؤخذ من نصوص أخرى. ويفرق بينها وبين مسألة المجامع: أن كفارة المجامع عن نفسه بخلاف ذاك، والله أعلم" (¬1). ¬
المبحث الرابع في لقطة مكة
المبحث الرابع في لقطة مكة [م - 1986] اختلف العلماء في لقطة مكة على قولين: القول الأول: حكم لقطة مكة كحكم لقطة سائر البلدان من حيث جواز الالتقاط، والتعريف لمدة سنة، وجواز التملك بعد التعريف، وهذا مذهب الجمهور، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬1). جاء في الهداية شرح البداية: "ولقطة الحل والحرم سواء، وقال الشافعي: يجب التعريف في لقطة الحرم إلى أن يجيء صاحبها ... " (¬2). وجاء في التاج والإكليل: "قال عياض: قول مالك وأصحابه أن لقطة مكة كغيرها، وكذلك قال المازري وابن القصار" (¬3). ¬
وقال الخرشي: "ولا فرق على المشهور بين لقطة مكة وغيرها من الأقطار" (¬1). القول الثاني: أن لقطة الحرم لا يحل أخذها للتملك، وإنما تؤخذ للتعريف أبدًا إلى أن يجيء صاحبها فيدفعها إليه، اختار هذا الباجي وابن رشد وابن العربي من المالكية، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد، رجحها ابن تيمية (¬2). قال ابن دقيق العيد: "ذهب الشافعي إلى أن لقطة الحرم لا تؤخذ للتملك، وإنما تؤخذ للتعريف لا غير" (¬3). وقال النووي: "في لقطة مكة وحرمها وجهان: الصحيح أنه لا يجوز أخذها للتملك، وإنما تؤخذ للحفظ أبدًا. والثاني: أنها كلقطة سائر البقاع" (¬4). ¬
وقال ابن حزم: "ولا تحل لقطة في حرم مكة، ولا لقطة من أحرم بحج أو عمرة مذ يحرم إلى أن يتم جميع عمل حجه إلا لمن ينشدها أبدًا، لا يحد تعريفها بعام، ولا بأكثر، ولا بأقل، فإن يئس من معرفة صاحبها قطعًا متيقنًا حلت حينئذ لواجدها، بخلاف سائر اللقطات التي تحل له بعد العام" (¬1). ° دليل من قال: لقطة الحرم كغيرها: الدليل الأول: عموم الأحاديث الواردة في اللقطة، كحديث زيد بن خالد في الصحيحين، وحديث أبي بن كعب فيهما، فإنها لم تفرق بين الحل والحرم. ويناقش: بأن الأحاديث المطلقة أو العامة تقبل التقييد والتخصيص، وقد ورد دليل خاص في لقطة مكة (لا يحل لقطتها إلا لمنشد) كما سيأتي في أدلة القول الثاني، والخاص والمقيد مقدم على العام والمطلق. الدليل الثاني: أن حرم مكة أحد الحرمين، فأشبه حرم المدينة، ولا يختلف الناس في أن لقطة المدينة لا تختلف في الحكم عن سائر البلدان، فكذلك مكة. ويناقش: بأن هذا نظر في مقابل النص، فيكون نظرًا فاسدًا على أن هناك قول يقول: لقطة المدينة كلقطة مكة. ¬
الدليل الثالث: ولأن اللقطة أمانة فلم يختلف حكمها في الحل والحرم كالوديعة. والجواب عنه كالجواب عن الدليل السابق. ° دليل من قال: لقلة الحرم لا تحل إلا لمنشد: الدليل الأول: (ح - 1208) ما رواه البخاري ومسلم من طريق يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: حدثني أبو هريرة - رضي الله عنه -، قال: لما فتح الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مكة قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، فإنها لا تحل لأحد كان قبلي، وإنها أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لا تحل لأحد بعدي، فلا ينفر صيدها, ولا يختلى شوكها, ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ... الحديث (¬1). الدليل الثاني: (ح - 1209) ما رواه البخاري من طريق خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنه -, عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: حرم الله مكة فلم تحل لأحد قبلي، ولا لأحد بعدي، أحلت لي ساعة من نهار، لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها, ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف. فقال العباس - رضي الله عنه -: إلا الإذخر لصاغتنا وقبورنا؟ فقال: إلا الإذخر، ورواه مسلم (¬2). ¬
الدليل الثالث: (ح - 1210) ما رواه مسلم من طريق عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لقطة الحاج (¬1). وجه الاستدلال بهذه الأدلة: في هذه الأحاديث دليل على أن لقطة الحرم لا تملك بحال، وأنها لا تلتقط إلا للتعريف لا للتمليك، وإلا لم يكن لتخصيص مكة بذلك فائدة أصلًا. ونوقش هذا: بأن الحاج لما كان يرجع إلى بلده وقد لا يعود فاحتاج الملتقط بها إلى المبالغة في التعريف، ولأن الغالب أن لقطة مكة ييئس ملتقطها من صاحبها، وييئس صاحبها من وجدانها؛ لتفرق الخلق إلى الآفاق البعيدة فربما داخل الملتقط الطمع في تملكها من أول وهلة فلا يعرفها، فنهى الشارع عن ذلك، وأمر أن لا يأخذها إلا من يقوم بتعريفها. ولأن الحديث نفى الحل واستثنى المنشد فدل على أن الحل ثابت للمنشد؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، ويلزم على هذا أن مكة وغيرها. سواء (¬2). ورد هذا النقاش: بأن لقطة مكة لو كان حكمها حكم غيرها؛ ما كان لقوله: (لا تحل لقطتها إلا ¬
لمنشد) معنى تختص به مكة كما تختص بسائر ما ذكر في هذا الحديث؛ لأن لقطة غيرها كذلك يحل لمنشدها بعد الحول الانتفاع بها، فدل مساق هذا الحديث كله على تخصيص مكة ومخالفة لقطتها لغيرها من البلدان، كما خالفتها في كل ما ذكر في الحديث من أنها حرام لا تحل لأحد ساعة من نهار بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا ينفر صيدها, ولا يختلي خلاها وغير ذلك مما خصت به من أنه لم يستبح دماءهم ولا أموالهم (¬1). الدليل الرابع: خصت مكة بهذا الحكم من بين سائر الآفاق أن الناس يتفرقون عنها إلى الأقطار المختلفة، فلا يتمكن صاحب الضالة من طلبها والسؤال عنها، بخلاف غيرها من البلاد، قاله ابن تيمية (¬2). ولعل التخصيص لهذا ولمعان أخرى، فإن لقطة المدينة كغيرها، مع أن المعنى الموجود في مكة موجود في المدينة، وكذا يقال في اللقطة في عرفة فإن الصحيح أن اللقطة فيها كغيرها من الأماكن، والناس يتفرقون عنها إلى الأقطار المختلفة كتفرقهم عن مكة، وقد خصت في الحديث بأحكام أخرى تحريم الصيد والاحتشاش ونحو ذلك لشرفها وفضلها، والله أعلم. القول الثالث: ذهب جرير الرازي وإسحاق بن راهوية بأنه لا يحل أخذها للتعريف، ولو كان ¬
مؤبدًا، بل لا يحل أخذها إلا إذا كان قد سمع صاحبها ينشدها قبل ذلك، فيرفعها ليردها, ليعرفها (¬1). وهذا قول ثالث في المسألة؛ لأنه أضيق من مذهب الشافعي، ومن وافقه، وإن كان يتفق معه في كون لقطة الحرم لا تملك (¬2). وقال ابن الملقن في شرحه للبخاري: "وفيها قول ثالث، قاله جرير بن عبد الحميد، قوله: (إلا لمنشد) يعني إلا من سمع ناشدًا يقول: من أصاب كذا فحيئنذ يجوز للملتقط أن يرفعها إذا رآها لكي يردها على صاحبها. ومال إسحاق بن راهوية إلى هذا القول، وقاله النضر بن شميل" (¬3). ° وحجة هذا القول: (ح - 1211) ما رواه الطحاوي من طريق يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعًا، وفيه: (ولا يرفع لقطتها إلا لمنشديها) (¬4). [ضعيف] (¬5). ¬
ويرد تفسير الإِمام إسحاق - رحمه الله - ما رواه الشيخان من حديث ابن عباس بلفظ: (ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف) وسبق تخريجه. وقد جاء في البدر المنير: "في المنشد قولان: أحدهما: قول أبي عبيد أنه صاحبها الطالب، والناشد هو الواجد، أي لا يحل أن يعطيها أحدًا إلا مالكها. والثاني: قول الشافعي: إن المنشد الواجد، والناشد المالك، أي ولا تحل إلا لمعرف يعرفها ولا يتملكها" (¬1). القول الرابع: أن لقطة مكة لا تحل إلا لربها الذي يطلبها، قال أبو عبيد: وهو جيد في المعنى، ولكن لا يجوز في العربية أن يقال للطالب: منشد، وإنما المنشد المعرف، والطالب هو الناشد، يدل على ذلك أنه - عليه السلام - سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد، فقال: أيها الناشد غير الواجد" (¬2). ° الراجح: أرى أن مذهب الشافعية هو الراجح، وأن لقطة الحرم لها خصوصية ليست كغيرها، وأنها لا تلتقط للتملك، وإنما للتعريف خاصة؛ لأن الحديث كله في سياق ما خص الله - سبحان الله وتعالى - مكة عن غيرها من البلاد، والله أعلم. ¬
الباب الثاني في أحكام اللقطة
الباب الثاني في أحكام اللقطة الفصل الأول في وجوب تعريف اللقطة المبحث الأول في صفة اللقطة التي يجب تعريفها [م - 1987] قسم العلماء اللقطة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: [م - 1988] اليسير الذي لا يتمول، ولا قيمة له، ولا يطلبه صاحبه فهذا لا يجب تعريفه، وحكي إجماعًا. [م - 1988] القسم الثاني: الكثير الذي له قيمة يجب تعريفه قولًا واحدًا إن أخذ للتملك (¬1). جاء في القوانين الفقهية في أقسام اللقطة: "الأول اليسير جدًّا كالتمرة فلا يعرف، ولواجده أن يأكله أو يتصدق به ... ¬
الثالث: الكثير الذي له بال فيجب تعريفه سنة باتفاق" (¬1). وقال الشيرازي: "وإن كانت اللقطة مما لا يطلب كالتمرة واللقمة لم تعرَّف" (¬2). وفي الشرح الكبير على المقنع: "ولا نعلم خلافًا بين أهل العلم في إباحة اليسير والانتفاع به ... قال شيخنا وليس عن أحمد تحديد اليسير الذي يباح" (¬3). (ح - 1212) والأصل في ذلك ما رواه البخاري ومسلم من طريق منصور، عن طلحة، عن أنس - رضي الله عنه -، قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم -، بتمرة مسقوطة فقال: لولا أن تكون من صدقة لأكلتها (¬4). قال ابن بطال: "دل هذا الحديث على إباحة الشيء التافه الملتقط، وأنه معفو عنه، وخارج من حكم اللقطة؛ لأن صاحبه لا يطلبه، فلذلك استحل النبي - عليه السلام - أكل التمرة لولا شبهة الصدقة. وقد روى عبد الرزاق أن علي بن أبي طالب التقط حبة أو حبتين من رمان من الأرض فأكلها (¬5). ¬
وعن ابن عمر أنه وجد تمرة في الطريق فأخذها فأكل نصفها، ثم لقيه مسكين فأعطاه النصف الآخر" (¬1). القسم الثالث: [م - 1990] القليل الذي له قيمة مما يطلبه صاحبه، وهذا فيه خلاف على قولين: القول الأول: يعرف القليل والكثير، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية واختاره الخرقي من الحنابلة، على خلاف بينهم في مدة تعريف المال القليل (¬2). جاء في الهداية: "فإن كانت أقل من عشرة دراهم عرفها أيامًا، وإن كانت عشرة فصاعدًا عرفها حولًا, قال العبد الضعيف: وهذه رواية عن أبي حنيفة. ¬
وقوله أيامًا معناه على حسب ما يرى، وقدره محمد في الأصل بالحول من غير تفصيل بين القليل والكثير، وهو قول مالك والشافعي" (¬1). وقوله: (وهذه رواية عن أبي حنيفة) قال في العناية شرح الهداية: "يشير إلى أنها ليست ظاهر الرواية، فإن الطحاوي - رحمه الله - قال: وإذا التقط لقطة فإنه يعرفها سنة سواء كان الشيء نفيسا أو خسيسا في ظاهر الرواية" (¬2). فصار الخلاف عند الحنفية ليس في وجوب تعريف القليل، ولكن في مدة تعريفه، وظاهر الرواية أنه يعرف حولًا من غير فرق بين القليل والكثير (¬3). وجاء في الاستذكار: "روى مالك وابن القاسم أن اللقطة تعرف سنة ولم يفرق بين قليلها وكثيرها" (¬4). وقال ابن عبد البر: "ومن التقط شيئًا غير الحيوان ذهبًا أو فضة أو ثوبًا أو غير ذلك من العروض كلها، والطعام الذي له بقاء، وسائر الأموال غير الحيوان ولو درهمًا واحدًا فإنه يلزمه تعريف ذلك سنة كاملة ... وقد قيل: إن الدرهم والدرهمين ونحو ذلك يعرف أياما ويعرف الدينار شهرًا ونحوه وهذا عندي لا وجه له؛ لأن السنة الواردة بتعريف اللقطة لم تفرق بين القليل والكثير" (¬5). ¬
جاء في القوانين الفقهية في أقسام اللقطة: "الأول اليسير جدًّا كالتمرة فلا يعرف، ولواجده أن يأكله أو يتصدق به. الثاني: اليسير الذي ينتفع به، ويمكن أن يطلبه صاحبه فيجب أن يعرف اتفاقًا" (¬1). وقال ابن رشد: "الثاني: أن يكون يسيرًا إلا أن له قدرًا ومنفعة وقد يشح به صاحبه ويطلبه، فإن هذا لا اختلاف في وجوب تعريفه؛ إلا أنه يختلف في حده: فقيل سنة كالذي له بال، وهو ظاهر ما حكى ابن القاسم عن مالك في المدونة، وروى عيسى عن ابن وهب في العتبية أنه يعرفه إياها وهو قول ابن القاسم من رأيه في المدونة. والثالث: أن يكون كثيرًا له بال، فإن هذا لا اختلاف في وجوب تعريفه حولًا كاملًا" (¬2). وقال النووي: "وأما الشيء الحقير فيجب تعريفه زمنا يظن أن فاقده لا يطلبه في العادة أكثر من ذلك الزمان" (¬3). وجاء في مختصر المزني: "وسواء قليل اللقطة وكثيرها" (¬4). وفي شرح جلال الدين المحلي على منهاج الطالبين: "والأصح أن الحقير: أي القليل المتمول لا يعرف سنة، بل زمنا يظن أن فاقده يعرض عنه غالبًا" (¬5). ¬
وقال النووي في الروضة: "إنما يجب تعريف اللقطة إذا جمعت وصفين: أحدهما: كون الملتقط كثيرًا، فإن كان قليلًا، نظر، إن انتهت قلته إلى حد يسقط تموله كحبة الحنطة، والزبيبة، فلا تعريف، ولواجده الاستبداد به، وإن كان متمولًا مع قلته، وجب تعريفه ... الوصف الثاني: أن يكون شيئًا لا يفسد. أما ما يفسد، فضربان: أحدهما: ألا يمكن إبقاؤه كالهريسة، والرطب الذي لا يتتمر، والبقول. فإن وجده في برية، فهو بالخيار بين أن يبيعه ويأخذ ثمنه، وبين أن يتملكه في الحال فيأكله ويغرم قيمته. وإن وجده في بلدة، أو قرية، فطريقان: أحدهما: على قولين: أحدهما: ليس له الأكل، بل يبيعه ويأخذ ثمنه لمالكه, لأن البيع متيسر في العمران. والثاني وهو المشهور: أنه كما لو وجد في برية" (¬1). قال ابن قدامة: "لم يفرق الخرقي بين يسير اللقطة وكثيرها. وهو ظاهر المذهب، إلا في اليسير الذي لا تتبعه النفس، كالتمرة والكسرة والخرقة، وما لا خطر له، فإنه لا بأس بأخذه والانتفاع به من غير تعريف" (¬2). وقال الزركشي: "وظاهر كلام الخرقي أنه يعرف القليل والكثير، وهو ظاهر إطلاق الحديث، ويستثنى من ذلك اليسير، الذي لا تتبعه النفس، كالتمرة، ¬
والكسرة، والسوط، ونحو ذلك، فإنه لا يجب تعريفه، ولواجده الانتفاع به" (¬1). القول الثاني: ذهب الحنابلة في المشهور من المذهب إلى تقسيم اللقطة إلى قسمين: أحدهما: ما لا تتبعه همة أوساط الناس، ولو كثر، فهذا يملكة آخذه، ولا يجب عليه تعريفه. وهذا هو المذهب. وعليه جماهير الأصحاب. وقد مثل ابن قدامة لهذا القسم في المقنع: بالسوط والشسع والرغيف (¬2). ومثل له في المغني بالعصا والحبل وما قيمته كقيمة ذلك (¬3). ومثل له أكثر الحنابلة بالتمرة والكسرة، وشسع النعل (أحد سيور النعل الذي يدخل بين الأصبعين). قال الحارثي: ما لا تتبعه الهمة نص الإِمام أحمد - رحمه الله - في رواية عبد الله، وحنبل: أنه ما كان مثل التمرة، والكسرة، والخرقة، وما لا خطر له. فلا بأس. وقال في رواية ابن منصور: الذي يعرف من اللقطة: كل شيء، إلا ما لا قيمة له. قال الحارثي: فكلام الإِمام أحمد - رحمه الله -: لا يوافق ما قال في المغني. ولا شك أن الحبل، والسوط، والرغيف: يزيد على التمرة، والكسرة. قال: وسائر ¬
الأصحاب، على ما قال الإمام أحمد - رحمه الله - في ذلك كله. ولا أعلم أحدا وافق المصنف، إلا أبا الخطاب في الشسع فقط (¬1). وممكن رخص من السلف بالسوط والعصى عطاء بن أبي رباح، وإبراهيم النخعي (¬2)، وروي ذلك عن عائشة (¬3). الثاني: كثير، فهذا يجوز أخذه لمن أمن نفسه، وقوي على تعريفها. جاء في المبدع: "ليس عن أحمد تحديد اليسير الذي يباح، والمعروف في المذهب تقييده بما لا تتبعه همة أوساط الناس ولو كثر" (¬4). وفي الإقناع: "اللقطة: وهي اسم لما يلتقط ... وينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما لا تتبعه همة أوساط الناس: كالسوط والشسع والرغيف والكسرة والثمرة والعصا ونحو ذلك، وما قيمته كقيمة ذلك، فيملك بأخذه وينتفع به آخذه ¬
بلا تعريف، والأفضل أن يتصدق به، ولا يلزمه دفع بدله إن وجد ربه ولعل المراد إذا تلف فأما إن كان موجودا ووجد ربه فيلزمه دفعه إليه ... الثالث: سائر الأموال: كالأثمان والمتاع ... فمن لا يأمن نفسه عليها لا يجوز له أخذها ... ومن أمن نفسه عليها وقوى على تعريفها فله أخذها والأفضل تركها" (¬1). ° دليل من قال: يعرف القليل والكثير: (ح - 1213) ما رواه البخاري من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني: أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة، فقال: عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها إليه ... الحديث (¬2). وجه الاستدلال: قوله: (عرفها سنة) هذا مطلق، يشمل قليل اللقطة وكثيرها. قال ابن المنذر كما في شرح صحيح البخاري لابن بطال: "ولا أعلم شيئًا استثنى من جملة هذا الخبر إلا التمرة التي منعه من أكلها خشية أن تكون من الصدقة، فما له بقاء مما زاد على التمرة وله قيمة يجب تعريفه" (¬3). ¬
الدليل الثاني: (ح - 1214) ما رواه الإِمام أحمد، قال: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا إسرائيل بن يونس، حدثني عمر بن عبد الله بن يعلى، عن جدته حكيمة، عن أبيها يعلى قال يزيد: فيما يروي يعلى بن مرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من التقط لقطة يسيرة، درهما أو حبلا أو شبه ذلك، فليعرفه ثلاثة أيام، فإن كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام (¬1). [ضعيف جدًّا] (¬2). ¬
الدليل الثالث: (ث - 306) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن عقبة بن عبيد الله، قال: حدثني ميسرة بن عميرة، أنه لقي أبا هريرة، فقال: ما تقول في اللقطة؟: الحبل والزمام ونحو هذا، قال: تعرفه، فإن وجدت صاحبه رددته عليه، وإلا استمتعت به (¬1). [ضعيف، تفرد بذكر الحبل والزمام فيه عقبة بن عبيد الله، عن ميسرة بن عميرة، ولم أقف على ما يكشف حالهما، والمعروف من أثر أبي هريرة ما رواه سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، وليس فيه ذكر الحبل والزمام] (¬2). ¬
° دليل من فرق بين اليسير والكثير: الدليل الأول: (ح - 1215) ما رواه أبو داود من طريق محمد بن شعيب، عن المغيرة بن زياد، عن أبي الزبير المكي، أنه حدثه، عن جابر بن عبد الله، قال: رخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به. قال أبو داود: رواه النعمان بن عبد السلام، عن المغيرة أبي سلمة، بإسناده. ورواه شبابة، عن مغيرة بن مسلم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: كانوا لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). [ضعيف، واختلف في وقفه ورفعه] (¬2). ¬
الدليل الثاني: (ث - 307) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا شريك، عن زهير بن أبي ثابت، عن سلمى، ولا أراها إلا ابنة كعب، قالت: وجدت خاتمًا في طريق مكة فسألت عائشة، فقالت: تمتعي به (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الثالث: قال البخاري: باب إذا وجد خشبة في البحر أو سوطًا أو نحوه. ثم ذكر البخاري حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -, عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر رجلًا من بني إسرائيل، وساق الحديث: فخرج ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا هو بالخشبة، فأخذها لأهله حطبا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة (¬1). وجه الاستدلال: قال ابن حجر في الفتح: "أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت في شرعنا ما يخالفه، ولا سيما إذا ساقه الشارع مساق الثناء على فاعله فبهذا التقدير تم المراد من جواز أخذ الخشبة من البحر" (¬2). وألحق البخاري السوط بالخشبة، وإن لم يكن في الأثر دليل على السوط. الدليل الرابع: (ح - 1216) ما رواه البخاري ومسلم من طريق منصور، عن طلحة، عن أنس - رضي الله عنه -، قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم -، بتمرة مسقوطة فقال: لولا أن تكون من صدقة لأكلتها (¬3). ويناقش: بأن الفقهاء لم يختلفوا في مثل التمرة والكسرة يجدها في الطريق أنه يأخذها، ¬
وهذه الأشياء لا قيمة لها, ولا تتمول، قال الحارثي: لا شك أن الحبل، والسوط، والرغيف: يزيد على التمرة، والكسرة (¬1). وكان ابن عمر - رضي الله عنه - ممن يرى ترك اللقطة ومع ذلك كان يأخذ التمرة فيأكلها، وسبق تخريج كل ذلك عنه فيما سبق. ° الراجح: أن ما لا قيمة له، أو كانت قيمته يسيرة يجوز التقاطه، ولا يجب تعريفه كالتمرة، والسوط ونحوهما، قولنا: لا يجب تعريفه لا يعني المنع من التعريف، وإنما يعني نفي الوجوب فقط، وعلى هذا إذا أراد الملتقط تعريفها فله ذلك، وأن ما له قيمة مقصودة يشح بها صاحبها، فإذا يجب تعريفه على من أخذه، والله أعلم. ¬
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة تَقْدِيم أصْحَاب المَعَالي الشيخ: د. عَبْدُ اللهِ بْن عَبد المُحْسِن التّركيّ الشيخ: د. صَالِحُ بن عَبد الله بْن حَميد الشيخ: مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِر العَبُّودِي الشيخ: صَالِحُ بْن عَبْد العَزِيزِ آلَ الشَّيْخِ تأليف دُبْيَانِ بْنِ مُحَمَّد الدُّبْيَانِ المجلد العشرون
ح دبيان بن محمَّد الدبيان، 1432 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الدبيان، دبيان محمَّد المعاملات المالية أصالة ومعاصرة / دبيان محمَّد الدبيان - الرياض، 1432 هـ 616 ص؛ 17 × 24 سم. ردمك: 8 - 7480 - 00 - 603 - 978 (مجموعة) ج 20 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ. العنوان ديوي 253 ... 4706/ 1432 حُقُوقُ الطّبع مَحْفُوظَةٌ لِلْمؤلِّفْ 1434 هـ الطبعة الثانية للطلب الاتصال بالأستاذ/ فهد بن عبد العزيز الجوعي ت/ 00966504881194
المُعَامَلَاتُ المَالِيَّةُ أَصَالَة وَمُعَاصَرَة (20)
مُقَدِّمْة بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحاط بكل شيء علمًا، ولا يحيط العبد بشيء من علمه سبحانه إلا بما شاء، لا علم لنا إلا ما علمنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد،،، فهذا هو المجلد العشرون، ولله الحمد وحده، وهو خاتمة عقود التبرع، وقد تضمن هذا الكتاب تتمة أحكام المسائل المتبقية في عقد اللقطة، كما اشتمل على أحكام اللقيط وأحكام العارية، ولما كنت قد عرضت على القاريء الكريم خطة البحث في عقد اللقطة في المجلد السابق لم أكن مضطرًا إلى إعادة ذكر ما تبقى منها في هذه المقدمة، وبقي علي أن أعرض خطة البحث في أحكام اللقيط، وأحكام العارية على ما تعارف عليه الباحثون في هذا العصر، فكانت خطة البحث في عقد اللقطة مشتملة على تمهيد، وثلاثة أبواب، والأبواب مقسمة إلى فصول، ومباحث، وفروع على النحو التالي:
خطة البحث في عقد اللقيط التمهيد: وفيه مبحثان: المبحث الأول: في تعريف اللقيط. المبحث الثاني: في أركان الالتقاط. الباب الأول: في حكم نبذ الطفل والتقاطه. الفصل الأول: في حكم نبذ الطفل. الفصل الثاني: في حكم التقاط الصبي. الباب الثاني: في أحكام الملتقط. الفصل الأول: في شروط الملتقط. الشرط الأول: في اشتراط إسلام الملتقط. الشرط الثاني: في اشتراط التكليف في الملتقط. الشرط الثالث: في اشتراط العدالة في الملتقط. المبحث الأول: في التقاط الفاسق. المبحث الثاني: في اشتراط العدالة الباطنة. الشرط الرابع: في اشتراط الرشد. الشرط الخامس: في اشتراط الغنى في الملتقط. الشرط السادس: في اشتراط الذكورة.
الفصل الثاني: في ولاية الملتقط على اللقيط. المبحث الأول: في الولاية على اللقيط نفسه. المبحث الثاني: في ولاية الملتقط على مال اللقيط. الفصل الثالث: في حق الملتقط بالسفر باللقيط. المبحث الأول: في سفر الملتقط المستور الحال باللقيط. المبحث الثاني: السفر باللقيط إذا نبذ في البادية. الفرع الأول: الانتقال باللقيط من البادية إلى مثلها. الفرع الثاني: الانتقال باللقيط من البادية إلى الحاضرة أو الحلة. المبحث الثالث: السفر باللقيط إذا نبذ في الحاضرة. الفرع الأول: الانتقال باللقيط من الحاضرة إلى مثلها. الفرع الثاني: الانتقال باللقيط من الحاضرة إلى البادية. الفصل الرابع: في الاشتراك في الالتقاط. المبحث الأول: أن يكون الملتقطان متساويين في الصفات. المبحث الثاني: أن يستويا في الأهلية ويتفاضلا في الصفات. الفرع الأول: إذا تفاضل اللقيطان في الديانة. الفرع الثاني: في تقديم العدل على مستور الحال. الفرع الثالث: في تقديم الغني على الفقير. الفرع الرابع: في تقديم المقيم على المسافر.
الفرع الخامس: في تقديم المرأة على الرجل في حضانة اللقيط. الفصل الخامس: في التنازع على الالتقاط. المبحث الأول: في التنازع على الالتقاط ولا بينة لأحدهما. الفرع الأول: أن يكون اللقيط في يد أحدهما. الفرع الثاني: أن يكون اللقيط في يديهما معا. الفرع الثالث: ألا يكون اللقيط في يد واحد منهما. المبحث الثاني: إذا تنازع في الالتقاط مع قيام البينة. الفصل السادس: في إشهاد الملتقط على الالتقاط. الباب الثالث: في أحكام اللقيط. الفصل الأول: في التقاط المميز. الفصل الثاني: في إسلام اللقيط. الفصل الثالث: في نسب اللقيط. المبحث الأول: في دعوى الحر المسلم نسب اللقيط. المبحث الثاني: في دعوى المرأة الحرة نسب اللقيط. المبحث الثالث: دعوى الكافر نسب اللقيط. المبحث الرابع: في التنازع على نسب اللقيط. الفرع الأول: ادعاه رجلان ولا بينة لهما وكان لأحدهما. المسألة الأولى: الترجيح بإسلام أحد المتنازعين.
المسألة الثانية: الترجيح بذكر وصف خفي. المسألة الثالثة: الترجيح بوضع اليد. المسألة الرابعة: ترجيح السابق على غيره في دعوى النسب. الفرع الثاني: إذا ادعاه رجلان ولم يكن هناك مرجح. الفصل الرابع: في تملك اللقيط للمال الموجود معه. المبحث الأول: ملكيته للمال الموصول به. المبحث الثاني: في ملكية اللقيط للمال المنفصل عنه. المبحث الثالث: في ملكيته للمال المدفون تحته. الفصل الخامس: في النفقة على اللقيط. المبحث الأول: في الجهة التي تجب عليها نفقة اللقيط. المبحث الثاني: في تعذر النفقة على اللقيط من بيت المال. المبحث الثالث: في الرجوع في نفقة اللقيط. الفصل السادس: في ميراث اللقيط. هذه أهم المسائل التي وقع عليها الاختيار في عقد اللقيط حسب الاجتهاد، وقد اقتصرت عليها اختصارًا، أسأل الله وحده العون والتوفيق، إنه ولي ذلك سبحانه، والقادر عليه. وسيكون البحث في عقد العارية إن شاء الله تعالى مكونًا من أربعة أبواب، والأبواب مقسمة إلى فصول، ومباحث، وفروع وفق الخريطة التالية:
خطة البحث في عقد العارية التمهيد: وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: في تعريف العارية. المبحث الثاني: الأدلة على مشروعية العارية. المبحث الثالث: في حكم العارية. المبحث الرابع: في توصيف عقد العارية. الباب الأول: في أركان العارية. الفصل الأول: في الألفاظ التي تنعقد بها العارية. الفصل الثاني: في اشتراط اللفظ في صيغة الإعارة الفصل الثالث: في انقسام ألفاظ العارية إلى صريح وكناية. الفصل الرابع: في تعليق الإعارة وإضافتها إلى المستقبل. الباب الثاني: في شروط الإعارة. الفصل الأول: في شروط المعير. الشرط الأول: أن يكون المعير ممن يصح تبرعه. المبحث الأول: في إعارة المحجور عليه للغير. الشرط الثاني: أن يكون المعير مالكًا أو مأذونًا له بالإعارة. المبحث الأول: في إعارة الفضولي.
المبحث الثاني: في إعارة الولي والوصي ونحوهما من مال الصغير. المبحث الثالث: في إعارة المستأجر. المبحث الرابع: في إعارة المستعير. الشرط الثالث: أن يكون المعير راضيًا مختارًا. الفصل الثاني: في شروط المستعير. الشرط الأول: في اشتراط الأهلية في المستعير. المبحث الأول: في حكم استعارة الصبي والمجنون. المبحث الثاني: في إعارة المسلم للذمي. الشرط الثاني: في اشتراط أن يكون المستعير معينًا. الفصل الثالث: في أحكام المعار. المبحث الأول: في شروط العين المستعارة. الشرط الأول: أن تشتمل العين المعارة على منفعة مباحة. الشرط الثاني: في اشتراط تعيين المعار. الشرط الثالث: في اشتراط قبض العين المعارة. الشرط الرابع: أن يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها. المبحث الثاني: في إعارة النقود. المبحث الثالث: في إعارة المشاع. المبحث الرابع: في إعارة الحائط لوضع الخشب عليه.
المبحث الخامس: في إعارة الأرض. الفرع الأول: إعارة الأرض للزرع. الفرع الثاني: في إعارة الأرض للبناء والغرس. المبحث السادس: في إعارة المركوب. المبحث السابع: في إعارة ما يتزين به. المبحث الثامن: في إعارة الكتب لطلبة العلم. المبحث التاسع: في نفقة العارية. المبحث العاشر: في مؤنة رد العارية. الباب الثالث: في ضمان العارية. الفصل الأول: في ضمان المستعير بمقتضى العقد. الفصل الثاني: في اشترط الضمان على المستعير. الباب الرابع: في انتهاء عقد العارية. الفصل الأول: انتهاء العارية بانتهاء مدتها. الفصل الثاني: تنتهي الإعارة برجوع المعير أو رد المستعير. الفصل الثالث: تنتهي الإعارة بجنون أو موت أحد المتعاقدين. الفصل الرابع: انتهاء العارية بهلاك العين المعارة. الفصل الخامس: انتهاء العارية باستحقاق العين المعارة.
هذه أهم المسائل التي رأيت أن أتعرض لها بالبحث، وقد تركت مسائل أخرى من عقد العارية، تركتها اقتصارًا واختصارًا، أسأل الله -سبحانه وتعالى- عونه وتوفيقه، وأن يجعله خالصًا لوجهه، مقربًا إليه.
تتمة مباحث اللقطة
المبحث الثاني في معرفة اللقطة قبل تعريفها
المبحث الثاني في معرفة اللقطة قبل تعريفها اختلف العلماء في الرجل يأخذ اللقطة، هل عليه أن يقوم بتعريفها أولًا أو يقوم بمعرفتها أولًا ثم تعريفها؟ القول الأول: يتعرف عليها قبل أن يقوم بتعريفها، وعليه أكثر رواة حديث زيد بن خالد (¬1). • وجه هذا القول: أن الملتقط يتعرف على اللقطة قبل تعريفها حتى يمكنه التعريف بها، ومن أجل أن صاحبها إذا جاء فنعتها أثناء التعريف استطاع أن يعلم صدق واصفها من كذبه. القول الثاني: يتعرف عليها مرتين، فيتعرفها أول ما يلتقطها حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها، ولئلا تختلط وتشتبه، فإذا عرفها سنة وأراد تملكها استحب له أن يتعرفها أيضا مرة أخرى تعرفًا وافيًا محققًا ليعلم قدرها وصفتها فيردها إلى صاحبها إذا جاء بعد تملكها وتلفها، ورجحه النووي (¬2). ¬
• وجه القول بذلك: أما التعرف عليها قبل تعريفها فقد عرفنا وجهه في القول الأول، وأما التعرف عليها مرة أخرى بعد تملكها؛ فلأن العادة جارية لإلقاء الوكاء والوعاء إذا فرغ من النفقة، فأمر معرفتها وحفظها لذلك، وحتى إذا ما جاء صاحبها بعد استنفاقها دفع إليه بدلها. القول الثالث: المطلوب أن يقع التعرف والتعريف، مع قطع النظر عن أيهما أسبق، وهذا قول ابن قدامة، واختيار ابن حجر في الفتح (¬1). قال ابن قدامة: "وإن أخر معرفة ذلك -إشارة إلى وعائها ووكائها- إلى حين مجيء باغيها جاز؛ لأن المقصود يحصل بمعرفتها حينئذ ... " (¬2). • وجه القول بذلك: أن الغرض أن يقع التعرف والتعريف، فسواء سبق هذا أو ذاك فإذا قام الملتقط بهما فقد تحققت المصلحة، بصرف النظر عن السابق منهما. • وسبب الخلاف في المسألة: أن الحديث جاء مرة صريحًا بأنه يتعرف عليها قبل تعريفها، رواه البخاري ومسلم بلفظ: (اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة). ¬
وجاء أيضًا عند البخاري ومسلم بلفظ: (عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها). وإذا أردنا أن نقف على طرق هذا الحديث، والموقف من اختلاف ألفاظه، فإننا نقول: الحديث رواه يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ورواه عن يزيد ربيعة بن أبي عبد الرحمن، واختلف على ربيعة: فرواه مالك كما في صحيح البخاري ومسلم وأكتفي بالصحيحين عن غيرهما (¬1). وسليمان بن بلال كما في صحيح البخاري، وأكتفي بالبخاري عن غيره (¬2). وعمرو بن الحارث، كما في صحيح ابن حبان (¬3). وأيوب بن موسى، كما في معجم الطبراني في الأوسط وفي الكبير (¬4)، كلهم رووه عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن بتقديم معرفتها على تعريفها، بلفظ: (اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة). فأمر الرسول بمعرفتها أولًا ثم تعريفها. ¬
وخالفهم كل من: إسماعيل بن جعفر، كما في صحيح البخاري (¬1) وأكتفي بالصحيحين عن غيرهما. سفيان الثوري، كما في صحيح البخاري (¬2)، فروياه بلفظ: (عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها). والفرق بين رواية مالك ومن تابعه وبين هذه الرواية أن رواية مالك أمره بمعرفتها قبل تعريفها، ورواية إسماعيل وسفيان فيها الأمر بتعريفها، ثم معرفتها. هذا وجه الاختلاف على ربيعة: وكما اختلف على ربيعة اختلف على يزيد مولى المنبعث: فقد رواه يحيى بن سعيد الأنصاري، عن يزيد مولى المنبعث به بمعرفتها قبل تعريفها، رواه البخاري، مسلم (¬3)، بلفظ: (اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة). وهذه متابعة لربيعة بن أبي عبد الرحمن من رواية مالك وسليمان بن بلال وعمرو بن الحارث وأيوب بن موسى عنه. وخالف في ذلك عبد الله بن يزيد كما في مشيخة ابن طهمان (¬4)، وسنن ¬
أبي داود (¬1)، والسنن الكبرى للنسائي (¬2)، وسنن البيهقي (¬3)، فرواه عن أبيه يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني بلفظ: (تعرفها حولًا فإن جاء صاحبها دفعتها إليه، وإلا عرفت وكاءها وعفاصها، ثم أفضها في مالك). وعبد الله بن يزيد يعتبر به (¬4). وتابعه بسر بن سعيد عن زيد بن خالد الجهني عند مسلم (¬5)، بلفظ: "عرفها سنة، فإن لم تعترف، فاعرف عفاصها ووكاءها، ثم كلها .. ". هذا هو بيان الاختلاف في حديث زيد بن خالد، هل المعرفة تتقدم على التعريف، أو التعريف يتقدم على المعرفة، والحديث واحد، ولا يحتمل تعدد القصة. والسبيل إما أن نرجح أو نجمع: ° أما سبيل الترجيح: فإن الحديث مدني، وإذا كان كذلك فإن أحفظ وأجل من روى عن ربيعة هو إمام أهل المدينة الإِمام مالك - رحمه الله -، لهذا أرى أن كل من خالف مالكًا في لفظ الحديث إن لم يكن حمله على الرواية بالمعنى فرواية مالك مقدمة عليه خاصة أن ¬
مالكًا لم يختلف عليه فيه في ألفاظه، وقد تابعه جماعة في تقديم معرفتها على تعريفها، وهو الأولى من جهة النظر، فإن الإنسان يتعرف عليها، ثم يعرفها، حتى إذا جاء من يدعيها، سأله عن مال يعرف صفته ليتبين صدقه من كذبه. هذا سبيل الترجيح. ° وأما سبيل الجمع فهناك طريقان: الطريق الأول: أن كلمة (ثم) قد تأتي أحيانًا في اللغة ولا يقصد بها الترتيب، قال تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} فـ (ثم) في الآية لا يراد بها الترتيب الزماني، فإن زمن موسى متقدم على تلاوة الرسول محمَّد - صلى الله عليه وسلم - هذا الكتاب. قال ابن حجر: "يحتمل أن تكون ثم في الروايتين بمعنى الواو فلا تقتضي ترتيبًا, ولا تقتضي تخالفا يحتاج إلى الجمع ويقويه كون المخرج واحدًا والقصة واحدة" (¬1). وجاء في الشعر: إن من ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده. الطريق الثاني للجمع: قال النووي: "عرفها سنة ثم اعرف وكاءها وعفاصها ... هذا ربما أوهم أن معرفة الوكاء والعفاص تتأخر على تعريفها سنة، وباقي الروايات صريحة في ¬
تقديم المعرفة على التعريف فيجاب عن هذه الرواية: أن هذه معرفة أخرى ويكون مأمورًا بمعرفتين، فيتعرفها أول ما يلتقطها حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها, ولئلا تختلط وتشتبه، فإذا عرفها سنة وأراد تملكها استحب له أن يتعرفها أيضًا مرة أخرى تعرفًا وافيًّا محققًا ليعلم قدرها وصفتها فيردها إلى صاحبها إذا جاء بعد تملكها وتلفها" (¬1). ونوقش هذا: قال ابن حجر: "إنما يحسن ما تقدم أن لو كان المخرج مختلفا فيحمل على تعدد القصة وليس الغرض إلا أن يقع التعرف والتعريف مع قطع النظر عن أيهما أسبق" (¬2). ¬
المبحث الثالث في وجوب التعريف على الملتقط
المبحث الثالث في وجوب التعريف على الملتقط تعريف اللقطة حق لصاحبها سواء أخذها للتملك أو للحفظ. [م - 1992] تكلمنا في خلاف العلماء في تعريف اللقطة اليسيرة والكبيرة، كما تكلمنا في حكم تعريف ضالة الإبل وما يمتنع من صغار السباع، وحكم تعريف ضالة الغنم وما لا يمتنع من صغار السباع، والسؤال، هل هذا التعريف واجب مطلقًا، أو يجب في حال أراد تملكها؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يجب تعريفها سواء أراد قصد تملكها أو حفظها لصاحبها، وهذا مذهب الجمهور، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية، وصححه الغزالي، وقواه النووي في الروضة (¬1). قال ابن جزي: "الثالث الكثير الذي له بال فيجب تعريفه ... " (¬2). ¬
وجاء في أسنى المطالب: "وجوب التعريف فيما إذا التقط للحفظ هو ما صححه الإمام الغزالي، وجعله في الروضة الأقوى والمختار، وصححه في شرح مسلم، والذي أورده الأكثرون عدم وجوبه؛ لأنه إنما يجب لتحقق شرط التملك، والأوجه الأول، وهو ما أورده الماوردي والفوراني" (¬1). ° حجة من قال يجب تعريفها: الدليل الأول: (ح - 1217) ما رواه البخاري من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني: أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة، فقال: عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها إليه (¬2). الدليل الثاني: (ح - 1218) روى مسلم من طريق عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة، عن أبي سالم الجيشاني، عن زيد بن خالد الجهني، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من آوى ضالة فهو ضال، ما لم يعرفها (¬3). [هذا الحديث بهذا اللفظ من أفراد مسلم، وحديث زيد بن خالد في الصحيحين بغير هذا اللفظ، وأبو سالم الجيشاني لم يوثقه إلا ابن حبان ¬
والعجلي، وقيل له صحبة] (¬1). الدليل الثالث: ورد في السنة ما يدل على تحريم أخذ اللقطة بنية التملك، من ذلك: (ح - 1219) ما رواه الإمام أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا حميد يعني الطويل، حدثنا الحسن، عن مطرف، عن أبيه، أن رجلًا قال: يا رسول الله، هوام الإبل نصيبها؟ قال: ضالة المسلم حرق النار (¬2). [اختلف في إرساله ووصله، والراجح وصله، ورجاله ثقات] (¬3). ويناقش: بأن الحديث في هوام الإبل، وقد ورد النهي عن أخذ ضالة الإبل لكونها تمتنع بنفسها عن السباع، وترد الماء. الدليل الرابع: الإجماع على وجوب تعريف اللقطة. قال النووي: "وأما تعريف سنة، فقد أجمع المسلمون على وجوبه إذا كانت اللقطة ليست تافهة، ولا في معنى التافهة، ولم يرد حفظها على صاحبها بل أراد تملكها، ولا بد من تعريفها سنة بالإجماع" (¬4). ¬
الدليل الخامس: أن الملتقط إنما يأخذها حفظًا على صاحبها، ألا ترى أن ما استقل من الضوال لا يجوز أخذه؛ لأن الحفظ في تركه، والحفظ إنما يحصل بالتعريف فيهدى إليها، ويعرف مكانها فيطلبها، وإذا لم يعرف لم يحصل له ذلك المعنى. القول الثاني: إن أراد أن يتملكها وجب عليه تعريفها قولًا واحدًا، وإن أراد أن يحفظها لصاحبها، فهل يجب عليه تعريفها، فيه وجهان في مذهب الشافعية، المشهور أنه لا يجب عليه تعريفها (¬1). جاء في المهذب: "إن أخذها وأراد الحفظ على صاحبها لم يلزمه التعريف؛ لأن التعريف للتملك، فإذا لم يرد التملك لم يجب التعريف، فإن أراد أن يتملكها نظرت، فإن كان مالًا له قد يرجع من ضاع منه في طلبه لزمه أن يعرفه سنة" (¬2). وقال العمراني في البيان: "إذا أخذ اللقطة بنية أن يحفظها على صاحبها أبدا، فهل يلزمه تعريفها؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري: ¬
أحدهما: لا يلزمه، وهو المشهور, لأن التعريف يراد للتملك وإباحة أكلها، ولا نية له في ذلك. والثاني: يلزمه التعريف؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: عرفها سنة. ولأن صاحبها لا يعلم بها إلا بالتعريف. وإن أراد أن يتملكها عرفها" (¬1). ° الراجح: الخلاف يرجع في التعريف هل شرع من أجل إيصال المال إلى صاحبه، أو شرع من أجل أنه طريق للتملك، أو من أجلهما معًا، والذي أميل إليه هو الثالث، وهو أن التعريف شرع لأمرين لإيصال المال إلى صاحبه عن طريق التعريف، ومن أجل التملك إذا لم يعرف صاحبها, لهذا أرى أنه يجب عليه تعريفها مطلقًا سواء أراد تملكها أو حفظها لصاحبها، فإذا لم يعرفها لم يتملكها، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في مدة التعريف
المبحث الرابع في مدة التعريف الفرع الأول في تعريف ما يسرع إليه الفساد [م - 1993] علمنا أن اللقطة تعرف سنة كاملة إن كانت مما يبقى مدة طويلة، فإن كانت اللقطة يتسارع إليها الفساد، فقد اختلف الفقهاء في وجوب تعريفها، وفي مدته على النحو التالي: القول الأول: إذا كانت اللقطة مما لا يبقى فإنه يعرفها مدة حتى يخاف فسادها، ثم يتصدق بها، وهذا مذهب الحنفية (¬1). دليل الحنفية: أما وجوب تعريفها مدة لا يخاف منها فساد اللقطة: فلأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بتعريف اللقطة سنة، فإذا كانت لا تستطيع البقاء لمدة سنة كان الواجب تعريفها مدة لا تفسد فيها عملًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (¬2). ¬
ولأن المقصود من التعريف إيصالها إلى صاحبها، فتقيد مدة التعريف بالوقت الذي لا تفسد فيه؛ لأنه بعد الفساد لا فائدة لصاحبها في إيصالها إليه. وأما الدليل على أن اللقطة لا تملك وأنه يجب عليه التصدق بها بعد تعريفها فقد سبق ذكر أدلتهم، عند الكلام على حكم تملك اللقطة بعد تعريفها، وعمدتهم آثار عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة، وقد سبق تخريجها هناك، وهذه الآثار لا يمكن أن يعارض بها السنة المرفوعة، وغايتها أنها ترشد إلى التصدق بها, ولا تمنع غيره مما دلت عليه السنة المرفوعة، فإذا كان التصدق بها هو أحد الخيارات المتاحة للملتقط، وهو أرفعها، فربما كانت هذه الآثار تدله على ما هو الأفضل له، وهو لا ينافي صحة التملك باعتبار اللقطة مالًا لا مالك له بعد أن قام بتعريفه فلم يعرف. القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن الملتقط إذا أخذ ما يخشى فساده، ولا يبقى في أيد الناس لا يجب عليه تعريفه، ويجوز له أن يأكله ولو وجده في العمران، ولا ضمان عليه في أكله، وظاهره سواء كان له ثمن أو كان تافهًا لا ثمن له. وقال ابن رشد: إن كان له ثمن بيع ووقف ثمنه. وقال في المجموع: له أكل ما يفسد وضمن ما له ثمن (¬1). دليل المالكية على أنه لا يجب تعريفه، ولا يضمنه إن أكله: القياس على لقطة الغنم، فقوله في ضالة الغنم: (هي لك أو لأخيك أو ¬
للذئب) دليل على جواز تملكها في الحال بدون تعريف وعلل ذلك بإنه إن لم يأخذها أكلها الذئب، وفي هذا ضياع للمال بلا فائدة ترجع لصاحبها, ولم يذكر في الحديث ضمانًا فعلى هذا إذا أكلها في الصحراء التي يخشى عليها من الذئب لم تكن مضمونة، وكان خوف الفساد كخوف الذئب يحل أكلها بلا ضمان. القول الثالث: ذهب الشافعية إلى أن الرجل إذا التقط ما يخشى فساده خير بين أمرين: الأول: أن يبيعه بإذن الحاكم، فإن لم يجد الحاكم باعه استقلالًا، ثم يعرفه بعد بيعه ليتملك ثمنه بعد التعريف. الثاني: أن يتملكه في الحال ويأكله، ويغرم قيمته مطلقا أي سواء وجده في مفازة، أو عمران وسواء أكان في زمن أمن أم غيره، وإنما جاز أكله في العمران؛ لأنه مما يسرع فساده بخلاف الغنم في العمران. وقيل: إن وجده في عمران وجب البيع، وامتنع الأكل كالغنم، والأول هو المشهور (¬1). القول الرابع: ما يخشى فساده، فإن كان مما لا يمكن تجفيفه كالفاكهة والخضروات فيلزمه فعل الأحظ من أكله، وعليه قيمته، أو بيعه بلا حاكم وحفظ ثمنه، وقيد بعضهم الخيار بين الأكل والبيع بعد تعريفه مدة لا يفسد فيها. وهذا مذهب الحنابلة (¬2). ¬
جاء في الإنصاف: "ما يخشى فساده، فيخير بين بيعه وأكله. يعني: إذا استويا، وإلا فعل الأحظ كما تقدم ... قال الحارثي: ما لا يبقى قال المصنف فيه، والقاضي، وابن عقيل: يتخير بين بيعه وأكله، كذا أوردوا مطلقًا، وقيد أبو الخطاب بما بعد التعريف. فإنه قال: عرفه بقدر ما يخاف فساده، ثم هو بالخيار. قال: وقوله: (بقدر ما يخاف فساده) وهم، وإنما هو بقدر ما لا يخاف" (¬1). وقول الحنابلة قريب من قول الشافعية، والفرق بينهما في أمرين: أحدها: أن الحنابلة أجازوا بيعها دون الرجوع إلى الحاكم، واشترطه الشافعية مع إمكانه. الثاني: أن الشافعية أجازوا تعريفها بعد بيعها، ثم تملك الثمن، ومنع منه الحنابلة في المشهور، حيث جعلوا التملك خاصًّا بلقطة الدراهم والدنانير دون العروض. دليل الشافعية والحنابلة على جواز تملكها في الحال بالقيمة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (هي لك أو لأخيك أو للذئب) فقوله: (هي لك) دليل على إباحة تملكها في الحال، والخبر محمول على أنه أراد: بعوضها؛ لأن هذا الحيوان ملك لغيره فلم يكن له تملكه بغير عوض. ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيب نفس منه. ولأنها لقطة يلزمه ردها مع بقائها فوجب أن يلزمه غرمها عند استهلاكها قياسًا على اللقطة في الأموال. ¬
ولأنها ضالة فوجب أن تضمن بالاستهلاك كالإبل. وأما الدليل على جواز بيعها وحفظ ثمنها: فالقياس، فإذا جاز أن يتملكها في الحال بدون تعريف، جاز من باب أولى أن يبيعها, لكن قال الشافعية: يعرفها، ثم يتملك الثمن، ولم ير ذلك الحنابلة لأنهم لا يرون تملك اللقطة إذا كانت من العروض، والله أعلم. ° الراجح: أرى أن مذهب الشافعية هو أقرب الأقوال: وهو أن له تملكها في الحال، ويضمن مثلها أو قيمتها، أو يبيعها، ويعرفها، ثم يتملك قيمتها، وقول المالكية بأن له أكلها ولا يضمنها مخالف للقواعد. وقول الحنفية بأنه يجب التصدق بها اعتمادًا على بعض الآثار التي جاءت بالإرشاد بالتصدق، فإن القول بالتصدق لا يمنع ما ثبت بالسنة من جواز التملك، وقول الحنابلة بأنه لا يتملك إلا الدراهم والدنانير قول ضعيف أيضًا، فصار قول الشافعية هو أقواها، والله أعلم.
الفرع الثاني في تعريف ما لا يتطرق إليه الفساد
الفرع الثاني في تعريف ما لا يتطرق إليه الفساد [م - 1994] اختلف العلماء في مدة تعريف ما لا يتطرق إليه الفساد: القول الأول: التعريف حولًا كاملًا من غير فرق بين القليل والكثير. وهو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة، وقول محمد بن الحسن، وحكاه ابن القاسم عن مالك في المدونة، وهو قول ابن القاسم من رأيه في المدونة، والأصح عند العراقيين من الشافعية. قال الطحاوي كما في العناية شرح الهداية: "وإذا التقط لقطة فإنه يعرفها سنة سواء كان الشيء نفيسا أو خسيسا في ظاهر الرواية" (¬1). وجاء في الهداية: "وقدره محمد في الأصل بالحول من غير تفصيل بين القليل والكثير" (¬2). وجاء في الاستذكار: "روى مالك وابن القاسم أن اللقطة تعرف سنة ولم يفرق بين قليلها وكثيرها" (¬3). وقال ابن عبد البر: "ومن التقط شيئًا غير الحيوان ذهبًا أو فضة أو ثوبًا أو غير ¬
ذلك من العروض كلها، والطعام الذي له بقاء، وسائر الأموال غير الحيوان ولو درهمًا واحدًا فإنه يلزمه تعريف ذلك سنة كاملة ... " (¬1). وقال ابن رشد: "الثاني: أن يكون يسيرًا إلا أن له قدرًا ومنفعة وقد يشح به صاحبه ويطلبه، فإن هذا لا اختلاف في وجوب تعريفه؛ إلا أنه يختلف في حده: فقيل سنة كالذي له بال، وهو ظاهر ما حكى ابن القاسم عن مالك في المدونة، وروى عيسى عن ابن وهب في العتبية أنه يعرفه إياها وهو قول ابن القاسم من رأيه في المدونة. والثالث: أن يكون كثيرًا له بال، فإن هذا لا اختلاف في وجوب تعريفه حولًا كاملًا. (¬2). وقال النووي: "وإن كان متمولًا مع قلته، وجب تعريفه، وفي قدر تعريفه وجهان، أصحهما عند العراقيين: سنة كالكثير" (¬3). القول الثاني: أنه يعرف القليل والكثير مدة يغلب على رأيه أن صاحبه لا يطلبه، وبه قال السرخسي من الحنفية، وصححه في الهداية وغيرها، وعليه الفتوى، وهو خلاف ظاهر الرواية (¬4). جاء في حاشية ابن عابدين: "قوله: (إلى أن علم أن صاحبها لا يطلبها) لم ¬
يجعل للتعريف مدة اتباعًا للسرخسي، فإنه بني الحكم على غالب الرأي، فيعرف القليل والكثير إلى أن يغلب على رأيه أن صاحبه لا يطلبه، وصححه في الهداية وفي المضمرات والجوهرة، وعليه الفتوى، وهو خلاف ظاهر الرواية من التقدير بالحول في القليل والكثير" (¬1). القول الثالث: أنه يعرف ثلاثة أعوام، وهو مروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. القول الرابع: أن أدنى ما يكون من التعريف أن يشهد عند الأخذ، ويقول: أخذتها لأردها، فيكون المراد بالتعريف هو الإشهاد (¬2). جاء في فتح القدير لابن الهمام: "قال الحلواني: أدنى ما يكون من التعريف أن يشهد عند الأخذ ويقول: أخذتها لأردها، فإن فعل ذلك، ولم يعرفها بعد ذلك كفى فجعل التعريف إشهادًا ... فاقتضى هذا الكلام أن يكون الاشهاد الذي أمر به في الحديث هو التعريف، وقوله عليه الصلاة والسلام: من أصاب ضالة فليشهد، معناه فليعرفها" (¬3). ويناقش: بأن الإشهاد غير التعريف، إذا الإشهاد يحصل الامتثال به مرة واحدة، بينما التعريف يستمر لمدة عام كامل، فدل على أن الإشهاد غير التعريف. ¬
القول الخامس: التفريق بين اللقطة القليلة وبين الكثيرة في مدة التعريف، فكلما قل المال قلت مدة تعريفه، وكلما زاد زادت مدة تعريفه إلى أن يبلغ حد المال الكثير، فإذا بلغ حد المال الكثير وجب تعريفه سنة، وهذا القول رواية عن أبي حنيفة، وقول في مذهب المالكية، وعليه أكثر الشافعية، على خلاف بين هؤلاء في تقدير القليل، هل هو معدود أو محدود. فقيل: إن كانت أقل من عشرة دراهم عرفها أيامًا، وإن كانت عشرة فصاعدًا عرفها حولًا، وهو رواية عن أبي حنيفة (¬1). جاء في بدائع الصنائع: "أما مدة التعريف: فيختلف قدر المدة لاختلاف قدر اللقطة إن كان شيئًا له قيمة تبلغ عشرة دراهم فصاعدا يعرفه حولًا، وإن كان شيئًا قيمته أقل من عشرة يعرفه أيامًا على قدر ما يرى. وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال التعريف على خطر المال إن كان مائة ونحوها عرفها سنة، وإن كان عشرة ونحوها عرفها شهرًا، وإن كان ثلاثة ونحوها عرفها جمعة أو قال عشرة، وإن كان درهمًا ونحوه عرفه ثلاثة أيام، وإن كان دانقًا ونحوه عرفه يومًا، وإن كان تمرة أو كسرة تصدق بها" (¬2). وقال ابن شاس: "ولا تتحدد عدد الأيام بعدد معين بل بحسب ما يظن أن مثله يطلب فيها، وهذا كالمخلاة والحبل، والدلو" (¬3). ¬
وقال النووي في الروضة: "وإن كان متمولا مع قلته، وجب تعريفه، وفي قدر تعريفه وجهان: أشبههما باختيار معظم الأصحاب: لا يجب سنة. فعلى هذا أوجه: أحدها: يكفي مرة. والثاني: ثلاثة أيام. وأصحها: مدة يظن في مثلها طلب فاقده له، فإذا غلب على الظن إعراضه سقط، ويختلف ذلك باختلاف المال، قال الروياني: فدانق الفضة يعرف في الحال، ودانق الذهب يعرف يوما، أو يومين، أو ثلاثة. وأما الفرق بين القليل والمتمول والكثير، ففيه أوجه: أصحها: لا يتقدر، بل ما غلب على الظن أن فاقده لا يكثر أسفه عليه، ولا يطول طلبه له غالبا، فقليل، قاله الشيخ أبو محمد، وغيره، وصححه الغزالي، والمتولي. والثاني: القليل: ما دون نصاب السرقة. والثالث: الدينار قليل. والرابع: ما دون الدرهم قليل، والدرهم كثير" (¬1). وقال النووي أيضًا: "وأما الشيء الحقير فيجب تعريفه زمنا يظن أن فاقده لا يطلبه في العادة أكثر من ذلك الزمان" (¬2). هذا ما وقفت عليه من الأقوال في المسألة، وملخصها ما يأتي: ¬
القول الأول: التعريف حولًا كاملًا من غير فوق بين القليل والكثير. القول الثاني: التعريف ثلاثة أعوام. القول الثالث: يعرف القليل والكثير مدة يغلب على رأيه أن صاحبه لا يطلبه من غير تقدير ذلك بمدة معينة. القول الرابع: أدنى ما يكون من التعريف أن يشهد عند أخذها. القول الخامس: التفريق في مدة التعريف بين المال القليل والكثير، فالكثير يجب تعريفه حولًا كاملًا، بخلاف المال القليل، وكلما قل المال قلت مدة تعريفه، وقيل: القليل لا يتقدر، بل ما غلب على الظن أن فاقده لا يكثر أسفه عليه، ولا يطول طلبه له غالبا. إذا وقفت على الأقوال نأتي على ذكر الأدلة: ° دليل من قال: التعريف حولًا كاملًا للقليل والكثير: (ح - 1220) ما رواه البخاري من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني: أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن
اللقطة، فقال: عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها إليه (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (عرفها سنة) ولم يفرق بين القليل والكثير. ° دليل من قال: تعرف ثلاثة أعوام: (ح - 1221) ما رواه البخاري ومسلم من طريق غندر، حدثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، قال: سمعت سويد بن غفلة، عن أبي بن كعب، قال: إني وجدت سورة فيها مائة دينار على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيت بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: عرفها حولًا، قال: فعرفتها فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته، فقال: عرفها حولًا، فعرفتها، فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته، فقال: عرفها حولًا، فعرفتها فلم أجد من يعرفها، فقال: احفظ عددها، ووعاءها، ووكاءها، فإن جاء صاحبها وإلا، فاستمتع بها، فاستمتعت بها، فلقيته بعد ذلك بمكة، فقال: لا أدري بثلاثة أحوال أو حول واحد. واللفظ لمسلم، وفيه قصة لسلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان مع سويد بن غفلة. ورواه مسلم من طريق بهز عن شعبة، به، وفيها: قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول: عرفها عاما واحدًا (¬2). [تعريف اللقطة ثلاث سنين خطأ من سلمة بن كهيل، حيث لم يحفظ مدة التعريف، فهو تارة يجزم بالتعريف ثلاث سنين، وتارة أنه أمره بتعريفها ثلاث ¬
مرار، قال: فلا أدري قال له ذلك في سنة، أو في ثلاث سنين، ورواه آخر ما رواه بالتعريف سنة جزمًا بلا شك، هكذا سمعه منه شعبة بعد عشر سنوات من سماعه القديم، فكأنه تثبت واستذكر]. ولا شك أن مثل هذا الاختلاف إما أن نسلك فيها سبيل الترجيح أو مسلك الجمع: وسبيل الترجيح له طريقان: الطريق الأول: أن يقال: إن حديث أبي بن كعب ورد فيه ثلاثة ألفاظ: التعريف حولًا واحدًا، والتعريف ثلاثة أحوال، والشك. فرواية الشك مطروحة؛ لأن الأحكام لا تبنى على الشك، ويبقى النظر في الترجيح بين التعريف حولًا واحدًا أو ثلاثة أحوال، ولا شك أن الترجيح بتعريفها حولًا واحدًا أقوى لثلاثة أسباب: السبب الأول: أن التعريف حولًا واحدًا موافق لبقية الأحاديث كحديث زيد بن خالد الجهني، وحديث عبد الله بن عمرو. السبب الثاني: لو كان الواجب تعريف اللقطة ثلاث سنوات، لأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - منذ البداية بتعريفها ثلاثة أحوال، ولكن في كل أحاديث اللقطة يأتي الأمر بتعريفها حولًا حتى في حديث أبي بن كعب، إلا أنه في حديث أبي لما أتاه مرة أخرى أمره بتعريفها حولًا، ثم عاد له في الثالثة فأمره بتعريفها حولًا، ولا يعرف فائدة فقهية من أمره له بتعريفها هو، إذا كان الواجب هو تعريفها
ثلاثة أحوال، فإما أن يكون تكراره خطأ، ولهذا شك الراوي هل أمره بحول أو بثلاثة أحوال. أو يكون تكراره كما قال ابن الجوزي: يحتمل أن يكون التعريف لم يقع على الوجه الذي ينبغي فأمر أبيًّا وإعادة التعريف كما قال للمسيء صلاته ارجع فصل فإنك لم تصل. أو يكون الزائد على الحول ليس على سبيل الوجوب، وإنما هو على سبيل الاستحباب، وحديث زيد بن خالد وغيره على سبيل الوجوب. والوجهان الأخيران يصحان أن يقالا عند الكلام على سبيل الجمع بين الرويات، وليس على سبيل الترجيح، لكن اقتضى ذكرهما هنا لمناسبة الكلام. السبب الثالث: أن التعريف حولًا واحدًا موافق للجانب العملي، فهو قول عامة الفقهاء. جاء في الفتح: "قال المنذري: لم يقل أحد من أئمة الفتوى أن اللقطة تعرف ثلاثة أعوام إلا شيء جاء عن عمر انتهى وقد حكاه الماوردي عن شواذ من الفقهاء" (¬1). وقال ابن بطال: "وهذا الشك يوجب سقوط التعريف ثلاثة أحوال، ولا يحفظ عن أحد قال ذلك. إلا رواية جاءت عن عمر بن الخطاب ... وقد روى عن عمر بن الخطاب أن اللقطة تعرف سنة مثل قول الجماعة، وممن روى عنه أنها تعرف سنة: علي بن أبي طالب، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، ¬
والشعبى، وإليه ذهب مالك، والكوفيون، والشافعي، وأحمد بن حنبل، واحتجوا بحديث زيد بن خالد الجهني" (¬1). الطريق الثاني للترجيح: أن يقال: إن سلمة لم يحفظ مدة التعريف لدخول الشك في روايته، فلا تكون روايته حجة في مدة التعريف، ويؤخذ الحكم في مدة التعريف من غيره من الأحاديث التي لم تختلف في مدة التعريف، فإن الحديث الذي لم يتطرق إليه شك ولا اختلاف أولى بالعمل من الحديث الذي تطرق إليه شك واختلاف. وأما سبيل الجمع، فله ثلاثة أجوبة: الأول: أن يكون حديث أبي على سبيل الورع والمبالغة في التعفف عن اللقطة، وحديث زيد بن خالد على ما لا بد منه. الثاني: حديث زيد بن خالد كان السائل أعرابيًّا فاكتفى بالتعريف حولًا واحدًا نظرًا لحاجة الأعرابي، واستغناء أبي بن كعب. الثالث: أن يكون - عليه السلام - علم أنه لم يقع تعريفها كما ينبغي، فلم يحتسب له بالتعريف الأول (¬2). الدليل الثاني: (ث - 308) ما رواه عبد الرزاق، قال: عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: وجد سفيان بن عبد الله الثقفي عيبة فيها مال عظيم فجاء بها عمر بن الخطاب ¬
فأخبره خبرها، فقال عمر: هي لك، فقال: يا أمير المؤمنين، لا حاجة لي فيها، غيري أحوج إليها مني، قال: فعرفها سنة، ففعل، ثم جاءه بها، فقال عمر: هي لك، فقال مثل قوله الأول. فقال عمر: عرفها سنة، ففعل ثم جاءه بها فقال عمر: هي لك فقال سفيان مثل قوله الأول فقال عمر: عرفها سنة ففعل، ثم جاءه بها، فقال عمر: هي لك، فقال مثل قوله الأول فقال عمر: عرفها سنة ففعل فلما أبى سفيان جعلها عمر في بيت مال المسلمين (¬1). [منقطع مجاهد لم يسمع من سفيان، ورواه غيره عن سفيان على التعريف سنة مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬2). وقد ورد عن عمر في تعريف اللقطة أربعة أقوال سيأتى ذكرها إن شاء الله تعالى عند الكلام على أدلة من قال: إن مدة التعريف تختلف بحسب كثرة المال وقلته. ° دليل من قال: الكثير يعرف سنة، والقليل بحسبه: ورد عن عمر - رضي الله عنه - في تعريف اللقطة أربعة أقوال: ¬
أحدها: أنه يعرفها ثلاثة أعوام، وسبق تخريجها. الثاني: أنه يذكرها ثلاثة أيام، ثم يعرفها سنة. لثالث: أنها يعرفها سنة. الرابع: أنه يعرفها ثلاثة أشهر (¬1). ¬
وزاد ابن حزم عن عمر قولًا خامسًا: أنه يعرفها أربعة أشهر. قال ابن حجر: "ويحمل ذلك على عظم اللقطة وحقارتها". ° دليل من قال: يعرف القليل والكثير مدة يغلب على الظن أن صاحبه لا يطلبه من غير تقدير ذلك بمدة معينة. ربما يحتج صاحب هذا القول بأن الأمر بتعريفها سنة في حديث زيد بن خالد لم يكن على سبيل بيان مدة التعريف اللازمة لكل مال، ولهذا في حديث أبي أمر بتعريفها ثلاثة أحوال، وورد عن عمر خمسة أقوال في التعريف، كل هذا يدل على أن الواجب تعريفها مدة يغلب على الظن أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك. ° دليل من قال: التعريف أن يشهد عند أخذها: (ح - 1222) ما رواه الإمام أحمد، قال: حدثنا هشيم، أخبرنا خالد، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن أخيه مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عياض بن حمار، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من وجد لقطة، فليشهد ذوي عدل، ¬
وليحفظ عفاصها، ووكاءها، فإن جاء صاحبها، فلا يكتم، وهو أحق بها، وإن لم يجيء صاحبها، فإنه مال الله يوتيه من يشاء (¬1). [صحيح] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر في هذا الحديث بالإشهاد، ولم يأمر بالتعريف، فدل على أن المقصود بالإشهاد هو التعريف، فإن تعريف اللقطة يلزم منه الإشهاد عليها، وإذا أشهدت عليها فقد عرفتها، وهذا أدنى درجات التعريف، وإذا كان ليس للتعريف لفظ يجب اتباعه، وإنما الغرض شهر الأمر وإظهار القصة، فهذا يحصل بالإشهاد، والله أعلم. ويناقش: بأن الإشهاد أخص من التعريف، فالتعريف من أجل الوصول إلى صاحبها، ولتملكها بعد التعريف، والإشهاد من أجل الامتناع به من الخيانة، ولأنه قد يموت فجأة قبل استحقاق تملكها فإذا لم يشهد فاتت على مالكها، والله أعلم. ¬
المبحث الخامس في وجوب الفورية في التعريف
المبحث الخامس في وجوب الفورية في التعريف الأمر بالفعل يقتضي الفور إلا بقرينة. [م - 1995] إذا وجب تعريف اللقطة، فهل يجب فور التقاطها، أم المطلوب تعريفها سنة متى أراد؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال، وسبب الخلاف يرجع إلى مسألة أصولية، هل الأمر يقتضي الفور أم لا؟ القول الأول: أن التعريف واجب على الفور، وهو مذهب المالكية، ووجه في مقابل الأصح عند الشافعية، وقال به القاضي أبو الطيب منهم، واعتمده الغزالي، والمذهب عند الحنابلة (¬1). قال العدوي المالكي: "متى أخر تعريفها وتلفت فإنه يضمنها" (¬2). وجاء في مواهب الجليل: "يجب التعريف عقب الالتقاط، قال ابن الحاجب: ويجب تعريفها سنة عقيبه" (¬3). ¬
وجاء في تحفة المحتاج: "لا تجب المبادرة للتعريف، وهو ما صححاه لكن خالف فيه القاضي أبو الطيب، فقال: يجب فورًا واعتمده الغزالي" (¬1). وقال القاضي أبو يعلى الحنبلي كما في القواعد لابن اللحام: "لا خلاف أن التعريف معتبر عقيب التقاطها" (¬2). ° حجة القول بأنه يجب على الفور: الحجة الأولى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بتعريفها حين سئل عنها، والأمر بالفعل يقتضي الفورية، ولهذا ذم الله إبليس على عدم الفور بقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} الآية [الأعراف: 12]. (ح - 1223) وروى البخاري من حديث المسور بن مخرمة ومروان، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال لأصحابه في صلح الحديبية: قوموا فانحروا ثم احلقوا، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس (¬3). فلو لم يكن الأصل في الأمر الفورية لم يغضب النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحجة الثانية: التأخير في تعريفها يفوت معرفة المالك؛ إذ الغالب على الناس أنهم يجدُّون ¬
في البحث عن أموالهم بعد ضياعها، فإذا ذهب عام على فقدها بدا صاحبها يسلو عنها، وييئس من الحصول عليها، ويترك طلبها. القول الثاني: لا يجب أن يكون التعريف على الفور، بل المطلوب تعريفها سنة متى أراد، وهذا هو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬1). قال النووي: "وفي وجوب المبادرة بالتعريف على الفور وجهان: الأصح الذي يقتضية كلام الجمهور: لا يجب، بل المعتبر تعريف سنة متى كان" (¬2). وفي أسنى المطالب: "ولا يشترط الفور للتعريف، بل المطلوب التعريف سنة متى كان" (¬3). ° حجة هذا القول: أن الحديث فيه الأمر بتعريقها، وصيغة (عرفها) طلب للتعريف في الزمن المستقبل، فإذا عرفها في أي وقت كان المأمور ممتثلًا للأمر، والأمر بالفعل لا يدل إلا على مجرد طلب الفعل فقط، وكونه على الفور أو على التراخي خارج عن مدلوله، وإنما يفهم ذلك بالقرائن، وليس في صيغة الأمر ما يدل على طلب الفورية لا بلفظه، ولا بمعناه. ¬
القول الثالث: لا يجوز تأخيره عن زمن تطلب فيه عادة، ويختلف ذلك بقلتها وكثرتها، اختاره الأذرعي من الشافعية، وبه قال البلقيني والسبكي (¬1). جاء في حاشية الجمل: "والأوجه ما توسطه الأذرعي، وهو عدم جواز تأخيره عن زمن تطلب فيه عادة، ويختلف بقلتها وكثرتها، ووافقه السبكي فقال: يجوز التأخير ما لم يغلب على ظنه فوات معرفة المالك به" (¬2). وقال الرملي: "ولا يشترط الفور محله ما لم يغلب على ظن الملتقط أن التأخير يفوت معرفة المالك، وإلا وجب البدار" (¬3). ° الراجح: أن الأمر بالفعل يقتضي الفور إلا بقرينة تدل على جواز التأخير، والله أعلم. ¬
المبحث السادس فى ضمان إذا أخر التعريف
المبحث السادس فى ضمان إذا أخر التعريف [م - 1996] إذا قلنا: إن التعريف ليس على الفور كما هو الأصح في مذهب الشافعية فلن يضمن إذا أخره؛ وهذا بين. وإذا قلنا: إن التعريف على الفور، فلا إشكال في استحقاق الإثم واللوم بتأخيره. وهل يضمن اللقطة إذا ضاعت؟ في ذلك خلاف بين العلماء على قولين: القول الأول: يضمن مطلقًا، وهو قول في مذهب المالكية، والمذهب عند الحنابلة (¬1). قال العدوي المالكي: "متى أخر تعريفها وتلفت فإنه يضمنها" (¬2). وقال ابن اللحام الحنبلي: "فلو أخر مع الإمكان فلا إشكال في الإثم واستقرار الضمان، ذكره في التلخيص وغيره" (¬3). ° وجه القول بالضمان: أن اللقطة أمانة في يد الملتقط، وقد وجب عليه تعريفها بالتقاطه إياها فترك حقها تفريط موجب للضمان. ¬
القول الثاني: يضمن إن أخر التعريف سنة كاملة، وهو أحد القولين في مذهب المالكية (¬1). قال الدردير في الشرح الكبير: "فإن آخره سنة، ثم عرفه فهلك ضمن" (¬2). وعلق الدسوقي في حاشيته: "إنما قيد بالسنة؛ لأن الضمان إذا ضاعت حال التعريف إنما يكون إذا آخره سنة وأما إن آخره أقل من سنة، ثم شرع فيه فضاعت فلا ضمان" (¬3). والقول الأول أحوط، والله أعلم. ¬
المبحث السابع في سقوط التعريف إذا آخره
المبحث السابع في سقوط التعريف إذا آخره [م - 1997] إذا أخر التعريف، فإن قلنا: إن التعريف ليس على الفور كما هو الأصح في مذهب الشافعية فلن يسقط التعريف إذا آخره؛ وهذا واضح. وإن قلنا: يجب التعريف فورًا فهل يسقط التعريف إذا آخره؟ فيه خلاف بين أهل العلم على قولين: القول الأول: لا يسقط التعريف، وهو ظاهر مذهب المالكية، ووجه في مذهب الحنابلة صححه الحارثي (¬1). قال ابن اللحام: "فلو أخر مع الإمكان فلا إشكال في الأثم ... وهل يسقط التعريف؟ ذكر القاضي أبو يعلى وأبو محمد أنه يسقط في ظاهر كلام أحمد. ولنا وجه: بانتفاء السقوط، قال الحارثي: وهو الصحيح" (¬2). ° وجه القول بعدم السقوط: أن التعريف واجب، والواجب لا يسقط بتأخيره كالعبادات وسائر الواجبات. ¬
ويناقش: بأن القياس على العبادات قياس غير صحيح من وجهين: الأول: أن العبادات مختلف في صحة القضاء إذا تركها الإنسان عمدًا حتى خرج وقتها، وما اختلف فيه لا يكون القياس عليه حجة. الوجه الثاني: على القول بأن القضاء في العبادات لازم فإن هناك فرقًا بين العبادات وبين تعريف اللقطة، فتعريف اللقطة واجب على الملتقط حقًّا لصاحبها من أجل الوصول إليه، وهو في السنة الأولى أقرب من غيره من الأعوام بخلاف العبادات فإنها واجبة لحق الله تعالى على عباده. القول الثاني: يسقط التعريف إذا أخره عن السنة الأولى، وهو المذهب عند الحنابلة (¬1). قال ابن قدامة: "ويسقط التعريف بتأخيره عن الحول الأول في المنصوص عن أحمد؛ لأن حكمة التعريف لا تحصل بعد الحول الأول، وإن تركه في بعض الحول عرف بقيته. ويتخرج ألا يسقط التعريف لتأخره؛ لأنه واجب فلا يسقط بتأخيره عن وقته كالعبادات وسائر الواجبات" (¬2). وجاء في الإنصاف: "لو أخر التعريف عن الحول الأول، مع إمكانه: أثم. وسقط التعريف على الصحيح من المذهب، نص عليه، وعليه الأصحاب. ¬
وخرج عدم السقوط من نصه على تعريف ما يوجد من دفن المسلمين. وهو وجه ذكره في المغني. قاله الحارثي: وهو الصحيح فيأتي به في الحول الثاني، أو يكمله إن أخل ببعض الأول. وعلى كلا القولين: لا يملكها بالتعريف فيما عدا الحول الأول، وكذا لو ترك التعريف في بعض الحول الأول لا يملكها بالتعريف بعده" (¬1). لأن شرط الملك التعريف في الحول ولم يوجد، وكذا لو قطع التعريف في الأول، وأكمله في الثاني لا يملك بذلك عند الحنابلة. وإن أخر التعريف لحبس أو مرض فوجهان عند الحنابلة: أحدهما: أن حكمها حكم ما لو ترك تعريفها مع إمكانه. والثاني: يعرفها في الحول الثاني، ويملكها بعد ذلك (¬2). ¬
المبحث الثامن في وجوب الموالاة في التعريف
المبحث الثامن في وجوب الموالاة في التعريف [م - 1998] اختلف العلماء في وجوب الموالاة في السنة أثناء التعريف، أما الذين يقولون إنه على الفور فإنهم يوجبون الموالاة في التعريف، وهذا واضح. وأما الشافعية الذين قالوا: إنه لا تجب الفورية في التعريف، فقد اختلفوا في وجوب الموالاة في التعريف على قولين: أحدها: لا تجب المولاة، صححه النووي، وقال به العراقيون من الشافعية. الثاني: تجب الموالاة في السنة. جاء في كفاية الأخيار: "وقول الشيخ عرفها سنة يقتضي إطلاقه أنه لا يجب الترتيب في السنة، حتى لو عرف شهرين أو أقل أو أكثر في كل سنة كفى، وهو كذلك على الأصح عند النووي. وقيل: يجب الترتيب؛ لأن المقصود أن يبلغ الخبر المالك، والتفريق لا يحصل هذا المقصود، وهذا هو الأحسن في المحرر، وصححه الإمام، وما صححة النووي صححه العراقيون" (¬1). ¬
المبحث التاسع في مؤنة التعريف
المبحث التاسع في مؤنة التعريف [م - 1999] اختلف العلماء فيمن يتحمل مؤنة التعريف على ثلاثة أقوال: القول الأول: يتحمل الملتقط مؤنة التعريف، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة (¬1). واستثنى الحنفية ما لو قال القاضي: أنفق لترجع فإن له الرجوع على المالك. جاء في حاشية ابن عابدين. "وهو في الإنفاق على اللقيط واللقطة متبرع؛ لقصور ولايته، إلا إذا قال له قاض: أنفق لترجع، فلو لم يذكر الرجوع لم يكن دينًا في الأصح" (¬2)؛ لأن الأمر متردد بين الحسبة والرجوع فلا يكون دينًا بالشك (¬3). وجاء في الهداية: وإن أنفق بأمره -أي بأمر القاضي- كان ذلك دينا على صاحبها؛ لأن للقاضي ولاية في مال الغائب" (¬4). فالنفقة على اللقطة يشمل نفقة التعريف ويشمل غيرها من النفقات. وجاء في كشاف القناع: "وأجرة المنادي على الملتقط ... ولا يرجع ¬
الملتقط بها أي: بأجرة المنادي على رب اللقطة ولو قصد حفظها لمالكها خلافا لأبي الخطاب؛ لأن التعريف واجب على الملتقط فأجرته عليه" (¬1). ولأن ملتقط اللقطة متطوع بحفظها، فلا يرجع بشيء من ذلك على صاحب اللقطة. القول الثاني: مؤنة التعريف وغيرها مما أنفقه الملتقط على اللقطة فالمالك مخير بين أن يفتك اللقطة فيدفع ما أنفقه عليها وبين أن يترك اللقطة لمن التقطها في نفقته التي أنفق عليها، سواء أنفق بأمر السلطان أو بدونه، وسواء تجاوزت قيمته النفقة أم لا، وهذا مذهب المالكية (¬2). جاء في المدونة: "قال مالك في المتاع يلتقطه الرجل فيحمله إلى موضع من المواضع ليعرفه فيعرفه ربه، قال مالك: هو لصاحبه، ويدفع إليه هذا الكراء الذي حمله، فكذلك الغنم والبقر إذا التقطها رجل فأنفق عليها، ثم أتى ربها فإنه يغرم ما أنفق عليها الملتقط إلا أن يشاء ربها أن يسلمها. قلت: أرأيت ما أنفق هذا الملتقط على هذه الأشياء التي التقطها بغير أمر السلطان، أيكون ذلك على رب هذه الأشياء إن أراد أخذها في قول مالك؟ قال: نعم، إن أراد ربها أخذها لم يكن له أن يأخذها حتى يغرم لهذا ما أنفق عليها، بأمر السلطان أو بغير أمر السلطان" (¬3). ¬
° وجه هذا القول: النفقة تتعلق في ذات اللقطة لا في ذمة مالكها كالجناية في رقبة العبد إن أسلمه المالك لا شيء عليه، وإن أراد أخذه غرم أرش الجناية. القول الثالث: إن قصد بأخذها حفظها لصاحبها لم تلزمه مؤنة التعريف، ويجعلها القاضي من بيت المال قرضًا، أو يبيع قسمًا منها لنفقة تعريفها، وإن أخذها بنية تملكها بعد تعريفها، فإن لم يظهر صاحبها فمؤنة التعريف على الملتقط قولًا واحدًا، وإن ظهر المالك فوجهان: أصحهما أنها على الملتقط. وهذا مذهب الشافعية (¬1). وقال أبو الخطاب من الحنابلة: ما لا يملك بالتعريف وما أخذه بقصد حفظه لمالكه فإنه يرجع على مالكها بالنفقة، وهذا نحو مذهب الشافعية (¬2). ° وجه هذا القول: أن اللقطة إذا أخذها للحفظ كانت المنفعة لصاحبها، فكانت النفقة عليه، وإن أخذها للتملك كان الالتقاط لمصلحة الملتقط، فكانت النفقة عليه. وهذا أقرب الأقوال، والله أعلم. ¬
المبحث العاشر في مكان تعريف اللقطة
المبحث العاشر في مكان تعريف اللقطة [م - 2000] ذهب العلماء إلى أن اللقطة يعرفها ملتقطها في المكان الذي وجدها فيه، وفي الأسواق، وأبواب المساجد، ومواضع اجتماع الناس (¬1). قال ابن الهمام في فتح القدير: "وينبغي أن يعرفها في الموضع الذي أصابها فيه وفي الجامع: يعني الأسواق وأبواب المساجد فينادي من ضاع له شيء فليطلبه عندي" (¬2). قال ابن عبد البر: "التعريف عند جماعة الفقهاء فيما علمت لا يكون إلا في الأسواق وأبواب المساجد ومواضع العامة واجتماع الناس" (¬3). قال النووي: "قال أصحابنا والتعريف أن ينشدها في الموضع الذي وجدها فيه وفي الأسواق وأبواب المساجد ومواضع اجتماع الناس" (¬4). ¬
وجاء في المبدع: "ويعرف الجميع بالنداء عليه في مجامع الناس كالأسواق وأبواب المساجد في أوقات الصلوات حولًا كاملًا" (¬1). ° وجه القول بتعريفها في هذه الأمكنة: أما تعريفها في المكان الذي وجدت فيه؛ فلأن صاحبها يطلبها في ذلك الموضع غالبًا. وأما تعريفها في مجامع الناس فلأن المقصود إيصالها إلى صاحبها، ومجامع الناس مظنة وجود صاحبها بينهم فإن لم يكن بينهم فإن الناس سوف يتحدثون فيشتهر الخبر فيصل ذلك إلى صاحبها. ¬
المبحث الحادي عشر في تكرار التعريف
المبحث الحادي عشر في تكرار التعريف إذا أمرنا بشيء ولم يبين لنا صفته كان متروكًا لعادة الناس. [م - 2001] جاء الحديث المتفق على صحته بتعريف اللقطة سنة، وهذا يقتضي تكرار التعريف؛ لأن السنة كلها ظرف للتعريف بحيث يفعله وقتًا بعد وقت، وقد اختلف العلماء في تكرار التعريف على النحو التالي: القول الأول: مذهب الحنفية: في مذهب الحنفية ثلاثة أقوال: أحدها: يعرفها كل جمعة. وقال بعضهم: كل شهر. وقال آخرون: كل ستة أشهر (¬1). القول الثاني: ذكر خليل في مختصره وابن شاس وابن الحاجب والقرافي وغيرهم بأنه يعرفها في كل يومين أو ثلاثة مرة (¬2). قال بعض شراح خليل تعليقًا: " (قوله: في كل يومين، أو ثلاثة مرة إلخ) هذا ¬
في غير أول زمان التعريف، أما في أوله فينبغي أن يكون أكثر من ذلك ففي كل يوم مرتين، ثم في كل يوم مرة، ثم في كل يومين مرة، ثم في كل ثلاثة أيام مرة، ثم في كل أسبوع مرة كما ذكره شارح الموطأ" (¬1). وقال ابن شاس: "يعرفها كل يومين أو ثلاثة، وكلما تفرغ، لا يجب عليه أن يدع التصرف في حوائجه" يعني من أجل التعريف (¬2). القول الثالث: ذهب الشافعية إلى أنه ينادي كل يوم مرتين في طرفيه في الابتداء للتعريف، ثم في كل يوم مرة، ثم في كل أسبوع مرتين، أو مرة، ثم في كل شهر كذلك بحيث لا ينسى أنه تكرار لما مضى (¬3). وسكت في الروضة وأصلها عن بيان المدة لهذا التقسيم، وفي مذهب الشافعية قولان: الأول: يعرف كل يوم مرتين طرفي النهار أسبوعًا، ثم كل يوم مرة إلى أن يتم أسبوع آخر، ثم كل أسبوع مرة أو مرتين إلى أن يتم سبعة أسابيع أخذًا مما قبله، ثم في كل شهر مرة. ¬
الثانى: يعرف كل يوم مرتين ثلاثة أشهر، وفي مثلها كل يوم مرة, وفي مثلها كل أسبوع مرة، وفي مثلها كل شهر مرة (¬1). والأقرب أن هذا التحديد كله للاستحباب لا الوجوب كما يفهمه ما يأتي أنه تكفي سنة مفرقة على أي وجه كان التفريق (¬2). القول الرابع: في مذهب الحنابلة قولان في صفة تكرار التعريف: الأول: يعرفها في الأسبوع الأول كل يوم مرة، ولا يجب فيما بعد ذلك متواليًا، بل يعرفها على عادة الناس في ذلك، وعلى هذا أكثر الأصحاب. الثاني: أن التعريف في الأسبوع الأول مرة كل يوم، ثم مرة في كل أسبوع لمدة شهر، ثم مرة فى كل شهر (¬3). ° الراجح: الأحاديث جاءت بتعريف اللقطة حولًا كاملًا، ولم يبين في هذه الأحاديث صفة التعريف، وتقدير التكرار يحتاج إلى توقيف، فكان هذا متروكًا لعادة الناس في التعريف، والأقوال متفقة على أن تعريفها في الأيام الأولى أكثر من غيرها، وهذا معقول المعنى؛ لأن صاحبها يطلبها في هذه المدة أكثر من غيرها، والله أعلم. ¬
قال شيخنا ابن عثيمين عليه رحمة الله: "بيَّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنها تُعَرَّف سنة، ونعلم علم اليقين أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يريد أن يبقى ليلًا ونهارًا يعرِّف، فيرجع في ذلك إلى العرف، وقد اجتهد بعض العلماء فقال: يُعَرِّفها في الأسبوع الأول كل يوم، ثم كل أسبوع مرة لمدة شهر، ثم في كل شهر مرة، وهذا التقدير اجتهاد ليس عليه دليل، ولكن الأولى أن يرجع في ذلك إلى العرف" (¬1). ¬
المبحث الثاني عشر في ذكر جنس اللقطة في التعريف
المبحث الثاني عشر في ذكر جنس اللقطة في التعريف [م - 2002] اختلف العلماء في ذكر جنس اللقطة في التعريف. القول الأول: لا يذكر الجنس في تعريف اللقطة، وهذا مذهب الحنفية، والمختار في مذهب المالكية (¬1). جاء في المبسوط: "ولا يضره ألا يسمي جنسها, ولا صفتها في التعريف؛ لأنه إنما امتنع من ذلك لتحقيق الحفظ على المالك كي لا يسمع إنسان ذلك منه فيدعيها لنفسه" (¬2). وفي كفاية الطالب: "وإذا عرفها لا يذكر جنسها بل يقول: من ضاع له شيء" (¬3). وقال القرافي: "قال اللخمي اختلف عن مالك في ذكر جنسها إذا عرفها، قال: وعدم تسمية الجنس أحسن" (¬4). ¬
° وجه القول بعدم ذكر الجنس: قوله - صلى الله عليه وسلم -: اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة. ولم يقل ثم عرف بذلك, ولا أبرزها وأظهرها, ولو جاز له أن يذكر صفتها لما احتاج إلى حفظ العفاص والوكاء، ولأغنى عن ذلك إظهارها والله أعلم وأحكم (¬1). القول الثاني: الأفضل أن يذكر المعرف جنس اللقطة، وهو أحد القولين في مذهب المالكية، ومذهب الحنابلة، واختاره بعض الشافعية (¬2). قال ابن شاس: "وفي ذكر الجنس في التعريف خلاف" (¬3). وجاء في حاشية الدسوقي: "ولا يذكر المعرف وجوبا جنسها: أي مثل حيوان، أو عين ... على المختار: أي على ما اختاره اللخمي من الخلاف. والقول الثاني يجوز للمعرف أن يذكر جنس اللقطة وعبارة اللخمي: وأن لا يذكر جنسها أحسن أي والقول بعدم ذكر جنسها أحسن من مقابله" (¬4). قال الماوردي: "فأما صفة التعريف فهو مخير بين أحد أمرين: إما أن يقول من ضاع من شيء، ولا يذكر جنسه، وهذا أولى الأمرين. وإما أن يذكر ¬
الجنس, فيقول: من ضاعت منه دراهم، أو من ضاعت منه دنانير ولا يصفها بجميع أوصافها فينازع فيها" (¬1). وقال ابن قدامة: "كيفية التعريف: وهو أن يذكر جنسها لا غير، فيقول: من ضاع منه ذهب، أو فضة، أو دنانير، أو ثياب, ونحو ذلك" (¬2). جاء في كشاف القناع: "اتفقوا على أنه لا يصفها؛ لأنه لا يؤمن أن يدعيها بعض من سمع صفتها فتضيع على مالكها" (¬3). القول الثالث: الأفضل أن يذكر جنسها وبعض أوصافها، ويحرم عليه استيعاب صفاتها؛ لأن ذلك أقرب إلى الظفر بالمالك، وهذا مذهب الشافعية (¬4). جاء في مغني المحتاج: "ويذكر ندبًا بعض أوصافها، كما يذكر جنسها, فيقول: من ضاع له دنانير ... لأنه أقرب إلى الظفر بالمالك" (¬5). فصارت الأقوال ثلاثة: أحدها: لا يذكر جنس اللقطة. الثاني: يذكر جنسها. الثالث: يذكر جنسها وبعض صفاتها. ¬
وهؤلاء متفقون على أنه لا يستوعب صفاتها؛ لأنه إذا استوعب صفاتها فقد يدعيها من لا يملكها, ولم يبق وصفها من قبل المالك دليلًا على ملكه لها. وأقربها عندي أن يذكر الجنس فقط، فيقول: من ضاعت له الدابة، أو من ضاع له الدراهم، ولا يذكر شيئًا من صفاتها، وحديث زيد بن خالد طلب منه حفظ صفاتها، اعرف عفاصها ووكاءها، ولم يقل: احفظ جنسها، والله أعلم.
المبحث الثالث عشر في ضمان الملتقط إذا عرفها بجميع صفاتها
المبحث الثالث عشر في ضمان الملتقط إِذا عرفها بجميع صفاتها [م - 2003] إذا استوعب الملتقط صفاتها في التعريف، حتى كان ذلك سببًا لأن يدعيها غير مالكها، فهل يضمن؟ في المسألة قولان، هما وجهان في مذهب الشافعية: أحدهما: لا يضمن؛ لأن دفع اللقطة لا يتوقف على معرفة الصفة، بل: لا بد من تقديم البينة على أنه ربها (¬1). والثاني: يضمن؛ وهو المذهب عند الشافعية، صححه في الروضة؛ والمذهب عند الحنابلة (¬2). جاء في مغني المحتاج: "ويذكر ندبا بعض أوصافها ... ولا يستوفيها؛ لئلا يعتمدها كاذب، فإن استوفاها حرم عليه كما جزم به الأذرعي وضمن؛ لأنه قد يرفعه إلى من يلزمه الدفع بالصفات" (¬3). وقال ابن مفلح الصغير: "وفي المغني والشرح يذكر جنسها، فيقول: من ضاع منه ذهب، أو فضة، ومقتضاه أنه إذا أطنب في الصفات فهو ضامن" (¬4). ¬
° وجه القول بالضمان: الوجه الأول: أنه لا يؤمن أن يحفظ ذلك رجل، ثم يرافعه إلى حاكم يوجب دفع اللقطة بذكر صفتها. الوجه الثاني: القياس على ضمان الوديع إذا دل على الوديعة من يسرقها. جاء في كشاف القناع: "ومقتضى قولهم: لا يصفها أنه لو وصفها فأخذها غير مالكها بالوصف ضمنها الملتقط لمالكها كما لو دل الوديع على الوديعة من سرقها" (¬1). ¬
الفصل الثالث في الإشهاد على اللقطة
الفصل الثالث (*) في الإشهاد على اللقطة الإشهاد على اللقطة لا يجب كسائر الأمانات. [م - 2004] إذا وجد اللقطة ولم يشهد عليها، فضاعت، فهل يضمن اللقطة؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن الإشهاد على أخذ اللقطة واجب، فإن ترك الإشهاد مع تمكنه منه، فإن أقر بأنه أخذها لنفسه ضمن باتفاق الحنفية إن هلكت في يده؛ لأنه متعد، وإن قال: إنما أخذها لصاحبها، فإن صدقه المالك لم يضمن باتفاق الحنفية؛ لأن تصادقهما كالبينة، وإن كذبه المالك فعليه الضمان عند أبي حنيفة ومحمد خلافًا لأبي يوسف (¬1). والقول بوجوب الإشهاد هو قول ثان في مقابل الأصح في مذهب الشافعية، وفي مقابل المذهب عند الحنابلة، إلا أنهم لا يرتبون على تركه الضمان كالحنفية (¬2). جاء في مجمع الضمانات: "اللقطة أمانة في يد الملتقط ... إذا أشهد ¬
الملتقط حين الأخذ أنه يأخذها ليحفظها ويردها على صاحبها ... وإن لم يشهد عليه وقال: أخذتها للرد على المالك يضمن عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا يضمن، والقول قوله في أنه أخذ للرد. وإن أقر أنه أخذها لنفسه يضمن بالإجماع ذكره في الهداية، ثم الخلاف على ما ذكره في الإيضاح عن المبسوط ويشير إليه قاضي خان فيما إذا ترك الإشهاد مع التمكن منه أما عند عدمه بأن لم يجد أحدًا يشهده عند الرفع، أو خاف أنه لو أشهد عند الرفع يأخذها منه ظالم لا يكون ضامنا بالاتفاق" (¬1). دليل الحنفية على وجوب الإشهاد: (ح - 1244) ما رواه الإِمام أحمد، قال: حدثنا هشيم، أخبرنا خالد، عن يزيد بنا عبد الله بن الشخير، عن أخيه مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عياض بن حمار، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من وجد لقطة، فليشهد ذوي عدل، وليحفظ عفاصها، ووكاءها، فإن جاء صاحبها، فلا يكتم، وهو أحق بها، وإن لم يجيء صاحبها، فإنه مال الله يؤتيه من يشاء (¬2). [صحيح، وسبق تخريجه]. ويجاب عن هذا الحديث: بأن الحديث فيه الأمر بالإشهاد، وليس فيه وجوب الضمان بترك الإشهاد، وبينهما فرق. ¬
وليس الأمر بالإشهاد من أجل خوف كتمانها، بل من أجل هذا ومن أجل مصالح أخرى منها الخوف على ضياعها بموت أو نسيان، ولهذا أمر الله بالإشهاد بالبيع، ولم يكن ذلك واجبًا، قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]. قال ابن عبد البر: معنى هذا الحديث عندي والله أعلم أن ملتقط اللقطة إذا عرفها وسلك فيها سنتها ولم يكن مغيبًا ولا كاتمًا، وكان معلنًا معرفًا وحصل بفعله ذلك، أمينًا لا يضمن إلا بما يضمن به الأمانات، وإذا لم يعرفها, ولم يسلك بها سنتها، وغيب، وكتم، ولم يعلم الناس أن عنده لقطة، ثم قامت عليه البينة بأنه وجد لقطة ذكروها، وضمها إلى بيته، ثم ادعى تلفها ضمن؛ لأنه بذلك الفعل خارج عن حدود الأمانة" (¬1). ولأنه قد يشهد الملتقط احتياطًا لنفسه، ويضمر التقاطها لنفسه لا لتعريفها، فلا يكون الإشهاد مانعًا من الغصب، ولأن الإشهاد على أصل اللقطة لا على جميع صفاتها، فجميع صفاتها لا تعلم إلا من جهته، وهذا يدل على أن ترك الإشهاد لا يخرج اللقطة عن سبيل الأمانات. الدليل الثاني: أخذ مال الغير يوجب الضمان, ولا يخرجه عن ذلك إلا أحد أمرين، إما أن يشهد أنه أخذها لصاحبها، أو يصدقه المالك أنه أخذها لمصلحة ربها، وليس لنفسه، أما دعواه أنه أخذها لصاحبها إذا لم يصدقه المالك فهي دعوى تحتاج إلى بينة، فلا يسقط عنه الضمان بمجرد الدعوى. ¬
ونوقش هذا: القول بأن أخذ مال الغير يوجب الضمان ليس على إطلاقه، نعم يوجب الضمان لو أخذه على وجه الاعتداء، أما إذا أخذه في حال ضياعه فلا يوجب الضمان؛ لأن أخذه قد يكون واجبًا عليه إذا خشي عليه الهلاك أو الاعتداء، إلا أن تقوم بينة على أنه أخذه لنفسه فيكون بمنزلة الغاصب، ودعوى المالك بأن الملتقط أخذ المال لنفسه لا يقبل إلا ببينة؛ لأنه يدعي ما يوجب الضمان على الملتقط، والأصل عدمه، والملتقط منكر، فإذا لم يقم البينة على صحة دعواه فالقول قول المنكر. ولأن هذا الأمر لا يمكن معرفته إلا من قبل الملتقط؛ فإذا أخبر بأنه أخذها ليعرفها قبل مثله ذلك. ولأن الأصل حمل فعل المسلم (الملتقط) على الحسبة والصلاح وليس على المعصية والاعتداء والفساد. جاء في تبيين الحقائق: "إن لم يشهد عند الالتقاط، وادعى أنه أخذها للرد، وادعى صاحبها أنه أخذها لنفسه، فالقول لصاحبها ويضمن الملتقط قيمتها عندهما. وقال أبو يوسف: القول قول الملتقط فلا يضمن؛ لأن أخذها لصاحبها حسبة ولنفسه معصية، فكان حمل فعله على الصلاح أولى من حمله على الفساد. ولأن الملتقط منكر، والمالك مدع للضمان، فالقول قول المنكر. ولهما أنه أخذ مال الغير بغير إذنه، وهو سبب الضمان فيضمن" (¬1). ¬
القول الثاني: يستحب الإشهاد، ولا يجب كسائر الأمانات، وإذا ضاعت ولم يشهد فلا ضمان عليه، وهذا مذهب الجمهور، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية، واختاره أبو يوسف من الحنفية (¬1). دليل الجمهور على أن الإشهاد ليس واجبًا: الدليل الأول: (ح - 1225) ما رواه البخاري من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني: أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة، فقال: عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها إليه (¬2)، وفي الباب حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه -. وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن الواجب في اللقطة، فأمره بتعريفها وحفظ عفاصها ¬
ووكائها كما في حديث زيد بن خالد الجهني وحديث أبي بن كعب، ولم يأمره بالإشهاد عليها، ولو كان الإشهاد واجبًا لبينه ق؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فتعين حمل الأمر في حديث عياض على الاستحباب. الدليل الثاني: أن الالتقاط لا يخرج عن كونه إما أمانة إن قصد به الحفظ، أو كسبًا إن نوى بتعريفها تملكها، وكلاهما لا يجب الإشهاد عليهما. الدليل الثالث: قال ابن عبد البر: "إجماع العلماء بأن المغصوبات لو أشهد الغاصب على نفسه أنه غصبها لم يدخلها إشهاده ذلك في حكم الأمانات، فكذلك ترك الإشهاد على الأمانات لا يدخلها في حكم المضمونات" (¬1). ° الراجح: أن الإشهاد مستحب، وتركه لا يوجب الضمان؛ لأن تعريفها واجب عليه، وهو أبلغ من الإشهاد؛ لأنه إشهاد متكرر على مدار العام، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع في تملك اللقطة
الفصل الرابع في تملك اللقطة المبحث الأول في تملك اللقطة إذا قام بتعريفها اللقطة بعد التعريف مال لا مالك له وواجده أحق به ما لم يظهر صاحبه. [م - 2005] اختلف العلماء في اللقطة إذا عرفها الملتقط ومضى عليها حول هل يمتلكها بالتعريف؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال: القول الأول: أن اللقطة لا تملك بالتعريف مطلقًا عرضًا كانت أو أثمانًا، لكن له أكلها إن كان فقيرًا، وإن كان غنيًّا كان مخيرًا بين حفظها لصاحبها، وبين التصدق بها بشرط الضمان. وهذا مذهب الحنفية (¬1)، ورواه حنبل عن أحمد، وأنكره الخلال، وقال: ليس هذا مذهبًا لأحمد (¬2). ¬
جاء في النتف في الفتاوى: "قال أبو حنيفة وأصحابه يعرفها، فإن لم يجد من يعرفها يتصدق بها، وإن كان فقيرًا فأكلها جاز، فإن جاء صاحبها خيره بين الضمان والأجر" (¬1). القول الثاني: كل ما جاز التقاطه فإن له أن يملكه إذا قام بتعريفه عرضًا كان أو أثمانًا، وهو مذهب المالكية والشافعية، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وهو ظاهر كلام الخرقي، ورجحه ابن قدامة، وهو المشهور عند المتأخرين من الحنابلة (¬2). جاء في الشرح الكبير للدردير: "وله حبسها بعده: أي بعد تعريفها السنة، أو التصدق بها عن ربها أو نفسه، والتملك: بأن ينوي تملكها للملتقط هذه الأمور الثلاثة" (¬3). وكره مالك استنفاقها كراهة تنزيهية، قال ابن جزي: "ذا عرف بها سنة فلم يأت صاحبها فهو مخير بين ثلاثة أشياء أن يمسكها في يده أمانة أو يتصدق بها ويضمنها أو يتملكها وينتفع بها ويضمنها على كراهة لذلك" (¬4). ¬
فصرح ابن جزي أن تملكها والانتفاع بها أن ذلك يجعله ضامنًا لها، وقوله: (على كراهة لذلك) يعني أن مالكًا يكره تملك اللقطة، ويفضل عليه حفظها لصاحبها أو التصدق بها وذلك خوفًا من أن يعوزه ضمانها إذا ظهر صاحبها. قال في التاج والإكليل: "إنما كره له أكلها بعد التعريف مخافة أن يأتي صاحبها فيجده عديمًا لا شيء له، ولو علم أنه لا يجد صاحبها أبدا لما كره له أكلها" (¬1). وقال النووي: "يجوز تملك اللقطة بعد التعريف، سواء كان الملتقط غنيًّا أو فقيرًا" (¬2). قال ابن قدامة في المغني: "وكل ما جاز التقاطه ملك بالتعريف عند تمامه، أثمانا كانت أو غيرها، هذا كلام الخرقي، فإن لفظه عام في كل لقطة. وقد نقل ذلك عن أحمد" (¬3). ¬
وجاء في كشاف القناع: "ولو كانت اللقطة عروضًا فهي كالأثمان؛ لعموم الأحاديث التي في اللقطة جميعها" (¬1). القول الثالث: أن اللقطة لا تملك إلا إذا كانت من الأثمان كالدراهم والدنانير، فإن كانت عروضًا أو ضالة لم يملكها, ولا يجوز له الانتفاع بها غنيًّا كان أو فقيرًا. وهذا هو مذهب الحنابلة (¬2). قال في المقنع شرح مختصر الخرقي: "والمذهب أنها لا تملك إلا إذا كانت أثمانًا" (¬3). قال في الإنصاف: "وعن الإِمام أحمد: لا يملك إلا الأثمان، وهي ظاهر المذهب" (¬4). وقال ابن قدامة: "قال أكثر أصحابنا: لا يملك غير الأثمان؛ لأن الخبر ورد فيها، ومثلها لا يقوم مقامها من كل وجه؛ لعدم تعلق الغرض بعينها، فلا يقاس عليها غيرها (¬5). ¬
وقال العكبري في رؤوس المسائل: إذا وجد لقطة فعرفها. ولم يجيء صاحبها، فإن كانت دراهم أو دنانير ملكها، وجاز الانتفاع بها، غنيًّا كان أو فقيرًا، وإن كانت عروضًا أو حليًّا، أو ضالة لم يملكها, ولم يجز له الانتفاع بها غنيًّا كان أو فقيرًا" (¬1). وذكر ابن قدامة بأن هذا القول للإمام أحمد قول قديم، وقد رجع عنه (¬2). ° دليل من قال: لا تملك اللقطة بالتعريف مطلقًا: الدليل الأول: (ث - 309) ما رواه عبد الرزاق عن الثوري، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة، عن عمر بن الخطاب، قال في اللقطة: يعرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا تصدق بها، فإن جاء صاحبها بعدما يتصدق بها، خيره، فإن اختار الأجر، كان له، وإن اختار المال، كان له ماله (¬3). [صحيح موقوفًا]. ويجاب من وجهين: الوجه الأول: أن هذا موقوف، والموقف لا يعارض السنة المرفوعة في الصحيحين وفي غيرهما. ¬
الوجه الثاني: أن عمر قد جاء عنه مرفوعًا وموقوفًا أنه يملكها بالتعريف، وسوف يأتي ذكر ذلك في أدلة القول الثاني إن شاء الله تعالى. الدليل الثاني: (ث - 310) ما رواه الطحاوي من طريق شعبة، عن أبي إسحاق الهمداني، عن عاصم بن ضمرة قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فقال: إني وجدت صرة من دراهم، فعرفتها، فلم أجد أحدا يعرفها، فقال: تصدق بها, فإن جاء صاحبها ورضي كان له الأجر. وإلا غرمتها، وكان لك الأجر (¬1). [حسن] (¬2). الدليل الثالث: (ث - 311) ما رواه الطحاوي من طريق علي بن معبد، حدثنا عبيدة بن ¬
حميد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة في الرجل يجد اللقطة قال: يعرفها، فإن لم يجد صاحبها تصدق بها، فإن جاء صاحبها خيره، فإن شاء كان له الأجر، وإن شاء أعطاه الثمن، وكان له الأجر (¬1). [حسن]. والجواب عن الأثرين كالجواب عن الدليل الأول، ويضاف بأن التصدق لا ينكر أنه أحد الخيارات المتاحة للملتقط، وهو أرفعها، فربما كانت هذه الآثار تدله على ما هو الأفضل له، وهو لا ينافي صحة التملك باعتبار اللقطة مالًا لا مالك له بعد أن عرفت فلم تعرف. ° دليل من قال: تملك اللقطة بالتعريف عرضًا كانت أو أثمانًا: الدليل الأول: (ح - 1226) ما رواه البخاري ومسلم من طريق مالك، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأله عن اللقطة، فقال: اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها ... (¬2). وفي رواية للبخاري ومسلم من طريق إسماعيل بن جعفر، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن به: بلفظ: عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها، فأدها إليه (¬3). ¬
وكذا رواه البخاري من طريق سفيان، عن ربيعة (¬1). ورواه مسلم من طريق بسر بن سعيد، عن زيد بن خالد الجهني، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة، فقال: عرفها سنة، فإن لم تعترف، فاعرف عفاصها ووكاءها، ثم كلها، فإن جاء صاحبها، فأدها إليه (¬2). ورواه أبو داود في السنن من طريق عبد الله بن يزيد، عن أبيه يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني، وفيه: فإن جاء صاحبها دفعتها إليه، وإلا عرفت وكاءها وعفاصها، ثم أفضها في مالك، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه (¬3). وعبد الله بن يزيد يعتبر به، وقد سبقت ترجمته. قال الخطابي في معالم السنن: "ثم افضها في مالك معناه ألقها في مالك واخلطها به، من قولك: فاض الأمر والحديث إذا انتشر وشاع" (¬4). والاختلاف في هذه الألفاظ كلها من الرواية بالمعنى، فالاستمتاع بها، أو استنفاقها، أو إفاضتها في المال، أو الأمر بأكلها، كلها هذه الروايات بمعنى ما رواه مالك من قوله: فشأنك بها. الدليل الثاني: (ح - 1227) ما رواه البخاري ومسلم عن محمد بن بشار، عن محمد بن ¬
جعفر، عن شعبة، عن سلمة، سمعت سويد بن غفلة، قال: لقيت أبي بن كعب - رضي الله عنه -، فقال: أخذت صرة مائة دينار، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: فقال: احفظ وعاءها، وعددها، ووكاءها، فإن جاء صاحبها، وإلا فاستمتع بها (¬1). وجه الاستدلال: قال الخطابي: "وفي قوله: (فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها) دليل على أن له أن يتملكها بعد السنة ويأكلها بعد السنة إن شاء غنيًّا كان الملتقط لها أو فقيرًا" (¬2). الدليل الثالث: (ح - 1228) ما رواه الإمام أحمد، قال: حدثنا هشيم، أخبرنا خالد، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن أخيه مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عياض بن حمار، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من وجد لقطة، فليشهد ذوي عدل، وليحفظ عفاصها، ووكائها، فإن جاء صاحبها، فلا يكتم، وهو أحق بها، وإن لم يجيء صاحبها، فإنه مال الله يوتيه من يشاء (¬3). [صحيح، وسبق تخريجه]. قوله: (من وجد لقطة) من ألفاظ العموم، فيشمل العروض والأثمان. الدليل الرابع: (ح - 1229) ما رواه أحمد من طريق محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت رجلًا من مزينة يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ¬
وفيه: قال: يا رسول الله، اللقطة نجدها في سبيل العامرة؟ قال: عرفها حولًا، فإن وجد باغيها، فأدها إليه، وإلا فهي لك ... الحديث (¬1). [حسن في الجملة] (¬2). وجه الاستدلال: أن السؤال كان عن اللقطة توجد في السبيل العامرة، فشمل بهذا الأثمان وغيرها، والله أعلم. الدليل الخامس: (ح - 1230) ما أخرجه النسائي في الكبرى من طريق الوليد بن كثير، عن عمرو بن شعيب، عن عمرو وعاصم ابني سفيان بن عبد الله، عن أبيهما سفيان بن عبد الله الثقفي أنه التقط عيبة، فلقي بها عمر، فقال لي: عرفها حولًا، فلما كان عند قرن الحول لقيته بها، فقلت: إني قد عرفتها، فلم تعترف، فقال: هي لك، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بذلك، قلت: لا حاجة لي بها، فأمر بها فألقيت في بيت المال (¬3). [عمرو وعاصم ابنا سفيان لم يوثقهما إلا ابن حبان لكنه شاهد صالح للأحاديث السابقة] (¬4). ¬
الدليل السادس: ولأن الالتقاط اكتساب أباحه الشرع فوجب أن يستوي فيه الأغنياء والفقراء كالاحتشاش والاحتطاب. الدليل السابع: إذا جاز للملتقط أن يتصدق باللقطة جاز له أن يأكلها كالفقير. ° دليل من قال: لا يملك من اللقطة إلا الأثمان: (ح - 1231) ما رواه البخاري ومسلم عن محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سلمة، سمعت سويد بن غفلة، قال: لقيت أبي بن كعب - رضي الله عنه -، فقال: أخذت صرة مائة دينار، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: فقال: احفظ وعاءها، وعددها، ووكائها، فإن جاء صاحبها، وإلا فاستمتع بها (¬1). وجه الاستدلال: بأن الخبر ورد في الأثمان، وغيرها لا يساويها؛ لعدم الغرض المتعلق بعينها، بخلاف غيرها. ويناقش من وجهين: الوجه الأول: بأن حديث زيد بن خالد وحديث عياض بن حمار وغيرهما من الأحاديث عامة في اللقطة فتشمل الأثمان وغيرها. ¬
الوجه الثاني: أن حديث أبي بن كعب وإن كان وقع في الأثمان فهو فرد من أفراد العام، أو المطلق، فإذا ورد حديث مطلق أو عام، ثم ورد حديث في فرد من أفراد العام أو المطلق لم يقتض ذلك تخصيصًا للعام أو تقييدًا للمطلق؛ لأن حكم الجزء موافق لحكم الكل، فالله تعالى حين قال {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] لم يقتض ذكر الوسطى تخصيص المحافظة عليها دون بقية الصلوات المفروضة، والله أعلم. كما لو قلت: أكرم الطلبة، ثم قلت: أكرم زيدًا وكان من الطلبة لم يقتض ذلك تخصيص الإكرام يزيد، والله أعلم. الدليل الثاني: أنها لقطة لا تملك في الحرم فلا تملك في غيره. ويناقش هذا الاستدلال من وجوه: الوجه الأول: على القول بالتفريق بين لقطة الحرم وغيره فإن الأثمان لا تملك في الحرم أيضًا فكيف صح تملكها في غيره؟ الوجه الثاني: لو اختص الخبر بالأثمان، لوجب أن يقاس عليها ما كان في معناها، كسائر النصوص التي عقل معناها ووجد في غيرها، وها هنا قد وجد المعنى، فيجب قياسه على المنصوص عليه.
الوجه الثالث: إذا صح تملك التقاط الشاة بالالتقاط، وهي ليست من الأثمان لقوله - صلى الله عليه وسلم -: هي لك أو لأخيك أو للذئب صح التقاط غيرها. الوجه الرابع: القول بعدم تملكها بالتعريف يؤدي إلى أحد أمرين: إما أن يلتقطها وينادي عليها دائمًا بانتظار صاحبها، وهذا يؤدي إلى تعطيل ماليتها وبالتالي هلاكها على صاحبها، وعلى ملتقطها، فإذا أبيح له تملكها بعد تعريفها أدى ذلك إلى الانتفاع بها، وحفظ ماليتها على صاحبها وذلك بدفع قيمتها إليه عند العثور عليه. وإما أن يتركها فيؤدي ذلك إلى ضياعها، وقد نهى الشرع عن إضاعة المال؛ لأن المسلم إذا علم أنه لن يملكها بالتقاطها، وسوف يتحمل بالتقاطها تعريفها الدائم كان في التقاطها مشقة وكلفة من غير نفع يصل إليه فيؤدي إلى أن لا يلتقطها أحد لتعريفها فتضيع، بخلاف ما إذا قيل للملتقط: إذا عرفتها، فلم يأت صاحبها فهي لك، كان في ذلك حث على التقاطها وحفظها وتعريفها لكونه وسيلة إلى الملك المقصود للآدمي. ° الراجح: أن الملتقط مخير بين ثلاثة أشياء، تملكها، أو التصدق بها بشرط ضمانها، أو حفظها لصاحبها، والله أعلم.
المبحث الثاني في وقوف تملك اللقطة على نية الملتقط أو لفظه
المبحث الثاني في وقوف تملك اللقطة على نية الملتقط أو لفظه النية في اللقطة مؤثرة، فإن أخذها بنية تعريفها جاز، وإن أخذها بنية تملكها مباشرة حرم. الملك نوعان: متلقى من الشرع كالإرث فلا يفتقر إلى نية، واكتساب من العبد فلا يملك إلا بالنية. [م - 2006] هذه المسألة لا تتنزل على مذهب الحنفية القائلين بأن اللقطة لا يمتلكها بالتعريف، وأما القائلون بأن اللقطة تملك بالتعريف فقد اختلفوا في صفة دخول اللقطة ملك الملتقط على أقوال أربعة: القول الأول: يشترط التلفظ بالتملك، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية (¬1). قال النووي في الروضة: "يجوز تملك اللقطة بعد التعريف، سواء كان الملتقط غنيًّا أو فقيرًا ومتى تملك؟ فيه أوجه: أصحها: لا تملك إلا بلفظ، كقوله: تملكت ونحوه" (¬2). ¬
° حجة هذا القول: الدليل الأول: أن التملك في اللقطة يعتبر تملك مال ببدل أي بشرط دفع بدله عند وجود صاحبه فيفتقر إلى لفظ كالتملك بالشراء. ويناقش من وجهين: الوجه الأول: أن البيع والشراء عقد بين طرفين قائم على الإيجاب والقبول، وتملك اللقطة ليس عقدًا. الوجه الثاني: لو كانت تملك اللقطة شراءً لاشترط في صحته معرفتها حتى لو جهلت لم يصح التملك، مع أن معرفتها إنما هو شرط لاستهلاكها ليعلم ما يرده إلى مالكها, وليس شرطًا في صحة تملكها، والله أعلم. الدليل الثاني: أن نية التملك لا يستفاد منها الملك، كما أن نية الطلاق أو البيع لا يقع بها طلاق، ولا بيع، فلا بد من لفظ لحصول الملك. ويناقش: بأن النية في اللقطة مؤثرة في الحكم، فإن أخذها الملتقط بنية تعريفها جاز له التقاطها، وإن أخدها بنية تملكها مباشرة حرم عليه ذلك وكان بمنزلة الغاصب، فلو تلفت ضمنها مطلقًا ولو لم يتعد أو يفرط، فإذا كانت النية مؤثرة في حكم الالتقاط كانت النية مؤثرة في تملكها من باب أولى، والله أعلم.
القول الثاني: يحصل الملك بنية التملك، وإن لم يتلفظ بها، وهذا مذهب المالكية، وقول في مذهب الشافعية (¬1). قال الدردير: "وله حبسها بعده: أي بعد تعريفها السنة، أو التصدق بها عن ربها أو نفسه، أو التملك: بأن ينوي تملكها، فللملتقط هذه الأمور الثلاثة" (¬2). وقال ابن شاس: "فإن اختار تملكها ثبت ملكه عليها" (¬3). ° حجة هذا القول: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث زيد بن خالد الجهني: (فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها). فالحديث ظاهر في التخيير بين التملك وتركه. القول الثالث: يحصل الملك بثلاثة أشياء: بمضي السنة، ولفظ التملك، والتصرف الذي يزيل الملك، وهذا قول في مذهب الشافعية (¬4). ¬
° وجه هذا القول: أما اعتبار اللفظ فقد سبق بيان وجه اعتباره، وأما اعتبار التصرف فقد خرجوه على قاعدة القرض؛ فإن اللقطة تملك ملك القروض، والقرض عند الشافعية يجب رده بعينه ما دام باقيًا، فإذا استهلكه وجب رد بدله، فكان رد البدل متوقفًا على التصرف في عينه، فكذلك اللقطة لا تملك إلا بالتصرف فيها الموجب لرد بدلها، وقد سبق بيانه في عقد القرض. القول الثالث: تدخل ملكه بمضي السنة بعد التعريف حكمًا، وهذا مذهب الحنابلة، واختاره أبو سعيد الاصطخري من الشافعية (¬1). قال ابن قدامة: "فإن لم تعرف دخلت في ملك الملتقط عند الحول حكمًا كالميراث" (¬2). دليل الحنابلة على دخولها في ملكه من غير اختيار: الدليل الأول: (ح - 1232) ما رواه مسلم من طريق وكيع، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة، عن أبي بن كعب، وفيه: فإن جاء أحد يخبرك بعددها ¬
ووعائها ووكائها فأعطها إياه، وإلا فهي كسبيل مالك (¬1). الدليل الثاني: أن تملك اللقطة من باب الاكتساب الذي أباحه الشرع فلا يعتبر فيه اختيار التمليك والقبول كالصيد والاحتشاش، والاحتطاب، والركاز. ° الراجح: الخلاف له ثمرة، وذلك أنه إذا قام بتعريفها، فإن قلنا: لا يملكها إلا بالنية، فتلفت قبل أن ينوي تملكها بلا تعد منه ولا تفريط لم يضمنها؛ لأنها أمانة في يده، وإن قلنا: إنه يملكها قهرًا بغير اختيار، فإذا تلفت بعد السنة تلفت من ماله؛ لدخولها في ملكه فيجب عليه ضمانها حتى ولو لم يتعد أو يفرط، إذا علم ذلك نقول: إن قياس ملك اللقطة على ملك الإرث قياس مع الفارق فالملك في الميراث متلقى في الشرع، فلا يمكن دفعه، والملك في اللقطة إذا قلنا: إنه اكتساب فهو ملك متلقى بفعل الملتقط، فإذا كان الملتقط لا يريد هذا الملك لم يجبر عليه، فلا تدخل اللقطة في ملكه إلا بإرادته، فإن أراد حفظها لصاحبها كانت بمنزلة الوديعة في يده، وإن أراد التصدق بها فله ذلك بشرط ضمانها إن وجد مالكها، وإن أراد تملكها كان له ذلك، والفعل الأول والثالث لا يتميز إلا بالنية، فإن قال: أردت حبسها لصاحبها لم تدخل ضمانه، وإن قال: أردت تملكها والانتفاع بها ضمن بدلها لصاحبها إذا تلفت، فكان كل ذلك متوقف على النية، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث إذا جاء صاحبها بعد التعريف
المبحث الثالث إذا جاء صاحبها بعد التعريف تعريف اللقطة لا ينفي حق مالكها إذا أتى يطلبها. مالك اللقطة أحق بها من واجدها قبل التعريف وبعده. [م - 2007] إذا جاء مالك اللقطة بعد تعريفها حولًا كاملًا، فهل يجب على الملتقط أن يردها إليه؟ اختلف العلماء في ذلك، وسبب الخلاف: هل تعريف اللقطة ينقل الملك نقلًا مطلقًا من صاحبها إلى واجدها، بحيث تنقطع علاقة مالكها بهذا المال بعد تعريفها، أو أن الملك انتقل إلى الواجد بشرط عدم ظهور صاحبها، فكان الملتقط أحق بهذا المال من غيره لعثوره عليه، ولقيامه بتعريفه، فإذا ظهر مالكه لم يكن لأحد أن ينازعه في ملكية ماله كامرأة المفقود إذا تزوجت، ثم رجع زوجها الأول. في هذه المسألة اختلف العلماء على قولين: القول الأول: يجب رد العين إن كانت موجودة، أو رد بدلها إن كان قد تصرف فيها، وهذا قول الجمهور، واختيار ابن حزم من الظاهرية (¬1). ¬
جاء في النتف في الفتاوى: "قال أبو حنيفة وأصحابه يعرفها، فإن لم يجد من يعرفها يتصدق بها، وإن كان فقيرًا فأكلها جاز، فإن جاء صاحبها خيره بين الضمان والأجر" (¬1). وقال الباجي في المنتقى: "جواز الاستنفاق على معنى الاستسلاف لها، وأنه متى أتى صاحبها كان له أخذها ... ومن استنفقها بعد الاجتهاد في التعريف على ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا إثم عليه، ومتى أتى صاحبها أداها إليه" (¬2). وجاء في الحاوي: "فإن جاء صاحبها، وإلا فهي له بعد سنة على أنه متى جاء صاحبها في حياته أو بعد موته فهو غريم إن كان استهلكها" (¬3). جاء في الإنصاف: "لو أدركها ربها بعد الحول مبيعة أو موهوبة فليس له إلا البدل كما في التلف" (¬4). قال ابن حزم: "فإن لم يأت أحد يصدق في صفته بما ذكرنا, ولا بينة فهو عند تمام السنة مال من مال الواجد غنيًّا كان أو فقيرًا يفعل فيه ما شاء، ويورث عنه، إلا أنه متى قدم من يقيم فيه بينة أو يصف شيئًا مما ذكرنا فيصدق ضمنه له إن كان حيًّا، أو ضمنة له الورثة إن كان الواجد له ميتًا" (¬5). ¬
دليل الجمهور على ضمان اللقطة إذا جاء صاحبها: الدليل الأول: (ح - 1233) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى ق، فسأله عن اللقطة، فقال: اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها (¬1). وجه الاستدلال: قوله: (فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها)، وفي رواية: فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها). فالكلام فيه حذف وتقدير: فإن جاء صاحبها فادفعها إليه، وإن لم يأت صاحبها فشأنك بها، أو فاستمتع بها على الرواية الأخرى، فكان الاستمتاع بها مشروطًا بأن لا يأتي صاحبها، فإن أتى صاحبها وجب دفعها إليه. قال ابن مالك في توضيحه: "تضمَّن هذا الحديث حذف جواب (إنْ) الأولى وحذف شرط (إنْ) الثانية، وحذف الفاء من جوابها، فإن الأصل: فإنْ جاء، صاحبُها أخذها وإلا يجيء فاسْتمتعْ بها" (¬2). ويناقش: بأن الحديث تضمن جملًا، منها: ¬
أولًا: معرفة عفاصها ووكائها. ثانيًا: القيام بتعريفها، فإن جاء صاحبها دفعها إليه. ثالثًا: إذا عرفها فلم يأت صاحبها ملكها. وسكت عن حالة ما لو أتى صاحبها بعد تعريفها. ويجاب: على التسليم بأنه سكت عن ملكيته لها بعد تعريفها فإن الحديث لم ينف ملكية صاحبها لها، وقد ثبت حق المالك لماله قبل التعريف وأثناء التعريف، فيستصحب ذلك حتى يأتي ما ينقل ملكيته لماله بعد التعريف، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن ملكية الملتقط مشروطة بشرطين: الأول: التعريف. والثاني: ألا يأتي صاحبها، فإذا جاء صاحبها لم يتحقق شرط انتقال ملكيتها إلى الملتقط، وإذا كان صاحبها أحق بها قبل استهلاكها فكذلك إذا جاء بعد استهلاكها؛ لأنه لا يمكن أن يكون الاستهلاك سببًا في إسقاط ملكية صاحبها لماله، والله أعلم. الدليل الثاني: (ح - 1234) ما رواه مسلم حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، حدثنا سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن يزيد مولى المنبعث، أنه سمع زيد بن خالد الجهني صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة الذهب أو الورق، فقال: اعرف وكاءها، وعفاصها، ثم عرفها سنة، فإن لم
تعرف فاستنفقها, ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه ... الحديث (¬1). وجه الاستدلال: قوله: (فلتكن وديعة عندك) وقوله: (فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه) كل هذا يدل على أن اللقطة تمتلك بشرط ضمانها. والبخارى وإن لم يخرج هذه اللفظة إلا أنه قد ترجم لها في صحيحه بقوله: باب إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردها عليه؛ لأنها وديعة. قال ابن الجوزي: قوله: " (فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه) رد صريح لمذهب داود، فإن عنده إذا جاء صاحبها بعد الحول لم يغرم له" (¬2). ونوقش من وجهين: الوجه الأول: أن جملتي: (فلتكن وديعة عندك) وجملة (فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه) انفرد فيها سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن يزيد مولى المنبعث، وقد رواه ربيعة الرأي عن يزيد كما في الصحيحين، ولم يذكر ما ذكره سليمان بن بلال عن يحيى، والقصة واحدة، كما أن سليمان بن بلال قد اختلف عليه في ذكرها، فقد رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد به، ولفظه: (اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، يقول يزيد: إن لم تعرف استنفق بها صاحبها، وكانت ¬
وديعة عنده، قال يحيى: فهذا الذي لا أدري أفي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو، أم شيء من عنده؟ فالتفرد والشك هل هي من الحديث أم من قول يزيد يجعل العبارة غير محفوظة من حديث زيد بن خالد الجهني. كما خالف سليمان بن بلال كل من حماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة، فقد روياه عن يحيى بن سعيد الأنصاري، ولم يذكرا ما ذكره سليمان بن بلال: فرواه مسلم من طريق حماد بن سلمة، حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني، وفيه: (فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها، ووكاءها فأعطه إياءها، وإلا فهي لك) (¬1). كما رواه سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد كما في صحيح البخاري (¬2)، بلفظ: اعرف وكاءها وعفاصها وعرفها سنة، فإن جاء من يعرفها وإلا فاخلطها بمالك، فلم يذكرا في رواية يحيى بن سعيد (فلتكن وديعة عندك) ولا قوله (فإن جاء يومًا من الدهر) إلا أن ابن عيينة رواه عن يحيى بن سعيد، عن يزيد مولى المنبعث مرسلًا، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر زيد بن خالد (¬3). ¬
وأما قوله: (فإن جاء صاحبها يومًا من الدهر فأدها إليه) فلعله من الرواية بالمعنى، حيث لم يقل أحد ممن روى حديث زيد بن خالد لفظة (يومًا من الدهر) إلا يحيى بن سعيد، تفرد بذلك عنه سليمان بن بلال على اختلاف عليه فيه، والذي يرجح ذلك أن الحديث لا يحتمل تعدد القصة، فإذا كانت القصة واحدة، وانفرد راو عن بقية الثقات بلفظة كان الحكم للأحفظ والأكثر عددًا، ويحيى بن سعيد تارة يرسله، وتارة يوصله، كل هذا يجعل رواية سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد مما انفرد فيه يوجب التوقف فيه، والله أعلم. وفي المتواري على أبواب البخاري "في بعض طرقه أنها وديعة من رواية سليمان بن بلال لكن شك يحيى بن سعيد عن يزيد: هل الزيادة من الراوي، أو من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فأسقطها البخاري من الترجمة لفظًا، وضمنها معنى في صيغة التعليل بقوله: (لأنها وديعة) إذ ردها إلى صاحبها أو عرفها له إن استنفقها يدل على بقاء ملكه، خلافا لمن أباحها بعد الحول، بلا ضمان" (¬1). الوجه الثاني: أن هناك فرقًا بين الوديعة واللقطة، فالوديعة عقد يقوم على الحفظ فقط، وليس للمودع حق التصرف في عينها, وليست مضمونة إلا بالتعدي أو التفريط، وإذا تصرف فيها كانت دينًا في ذمته، والوديعة تتعلق بالأعيان وليست بالديون، بينما اللقطة ليست عقدًا، ويملك الملتقط العين بعد التعريف، ويتصرف فيها كما يتصرف في أمواله، وتصرفه فيها بإذن الشرع، وإذن الشرع في التصرف فيها لا يمنع من ضمانها متى ما ظهر مالكها؛ وإذا استهلكها صارت دينًا في ذمته، ¬
والوديعة لا تتعلق بالديون، لهذا لا يمكن أن يقال: إن اللقطة وديعة عند الملتقط، وهذا الوصف الفقهي يؤيد أن قوله: (فلتكن وديعة عندك) مدرجة من قول الراوي، وليست من قول المعصوم ق. ورد هذا: بأن "قوله (ولتكن وديعة عندك) يحتمل أن يراد بذلك: بعد الاستنفاق ويكون قوله: (ولتكن وديعة عندك) فيه مجاز في لفظ الوديعة فإنها تدل على الأعيان، وإذا استنفق اللقطة لم تكن عينا فتجوَّز بلفظ الوديعة ... . ويحتمل أن يكون قوله (ولتكن) الواو فيه بمعنى (أو) فيكون حكمها حكم الأمانات والودائع فإنه إذا لم يتملكها بقيت عنده على حكم الأمانة، فهي كالوديعة" (¬1). الدليل الثالث: (ح - 1235) ما رواه النسائي في الكبرى من طريق عمرو بن الحارث، وهشام بن سعد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رجلًا، أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: كيف فيما وجد في الطريق الميتاء أو في القرية المسكونة؟ قال: عرف سنة، فإن جاء باغية فادفعه إليه وإلا فشأنك به، قال: فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه، وما كان في الطريق غير الميتاء، وفي القرية غير المسكونة ففيه، وفي الركاز الخمس (¬2). ¬
[إسناده حسن في الجملة] (¬1). الدليل الرابع: (ح - 1236) ما رواه مسلم من طريق عبد الله بن وهب، حدثني الضحاك بن عثمان، عن أبي النضر، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن خالد الجهني، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة، فقال: عرفها سنة، فإن لم تعترف، فاعرف عفاصها ووكاءها، ثم كلها، فإن جاء صاحبها، فأدها إليه (¬2). وجه الاستدلال: قال ابن حجر في الفتح: "ظاهر قوله (فإن جاء صاحبها ...) إلخ بعد قوله: (كلها) يقتضي وجوب ردها بعد أكلها، فيحمل على رد البدل. ويحتمل: أن يكون في الكلام حذف يدل عليه بقية الروايات والتقدير: فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها إن لم يجيء صاحبها، فإن جاء صاحبها فأدها إليه. وأصرح من ذلك رواية أبي داود من هذا الوجه بلفظ: (فإن جاء باغيها فأدها إليه، وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها فإن جاء باغيها فأدها إليه) (¬3)، فأمر بأدائها إليه قبل الإذن في أكلها وبعده وهي أقوى حجة للجمهور" (¬4). ¬
ويناقش: بأن هذا اللفظ هو أحد ألفاظ حديث زيد بن خالد الجهني، والأمر بأكلها من حديث زيد بن خالد الجهني قد تفرد به بسر بن سعيد، وقد رواه عن زيد بن خالد يزيد مولى المنبعث في الصحيحين، ولم يذكر الأكل، فلعل ذلك من الرواية بالمعنى لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فشأنك بها)، هذا لفظ مالك، عن ربيعة، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد. الدليل الخامس: (ح -1237) ما رواه أبو داود من طريق عبد الله بن يزيد، عن أبيه يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني، وفيه: تعرفها حولًا، فإن جاء صاحبها دفعتها إليه، وإلا عرفت وكاءها وعفاصها، ثم أفضها في مالك، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه (¬1). [إسناده صالح في المتابعات في الجملة، وهذا اللفظ هو أحد ألفاظ حديث زيد بن خالد الجهني، إلا أن قوله: (فإن جاء صاحبها) مرتين: مرة بعد التعريف، ومرة بعد التملك مخالف لرواية الثقات الحفاظ كرواية مالك، وإسماعيل بن جعفر، والثوري وغيرهم في روايتهم عن ربيعة الرأي، كما أنه مخالف لرواية يحيى بن سعيد الأنصاري، كلاهما (ربيعة ويحيى بن سعيد) روياه عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد وليس فيه (فإن جاء صاحبها) إلا مرة واحدة، وقد سبق تخريج كل ذلك فيما سبق فأغنى ذلك عن تفصيله، والله أعلم] (¬2). ¬
الدليل السادس: حكى بعض العلماء الإجماع على أن لصاحبها الحق في المطالبة باللقطة. قال ابن بطال: "أجمع أئمة الفتوى على أن اللقطة إذا عرفها سنة وانتفع بها وأنفقها بعد السنة ثم جاء صاحبها أنه يرد عليها قيمتها ويضمنها له، وليس قوله: (فشأنك بها) يبيح له أخذها ويسقط عنه ضمانها؛ لما ثبت عنه - عليه السلام - في اللقطة: (فإن جاء صاحبها بعد السنة أدها إليه؛ لأنها وديعة عند ملتقطها) ... وخرق الإجماع رجل نُسب إلى العلم يعرف بداود بن علي، فقال: إذا جاء صاحبها بعد السنة لم يضمنها ملتقطها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلقه على ملكها بقوله: (فشأنك بها) فلا ضمان عليه، ولا سلف له في ذلك إلا اتباع الهوى والجرأة على مخالفة الجماعة التي لا يجوز عليها تحريف التأويل ولا الخطأ فيه، أعاذنا الله من اتباع الهوى والابتداع في دينه مما لم يأذن فيه - عَزَّ وَجَلَّ -" (¬1). وقال ابن عبد البر: "وهذا معناه عند الجميع انطلاق يد الملتقط عليها بعد الحول بما شاء من الأكل لها واستنفاقها أو الصدقة بها ولكنه يضمنها إن جاء صاحبها بإجماع المسلمين" (¬2). وقال أيضًا: "أجمعوا أن اللقطة ما لم تكن تافها يسيرا أو شيئًا لا بقاء له فإنها تعرف حولًا كاملا وأجمعوا على أن صاحبها إذا جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها وأجمعوا أن ملتقطها إن أكلها بعد الحول وأراد صاحبها أن يضمنه فإن ذلك له، وإن تصدق بها فصاحبها غير بين التضمين وبين أن ينزل ¬
على أجرها فأي ذلك تخير كان ذلك له بإجماع" (¬1). والحق أن خلاف داود الظاهري وغيره من أهل العلم يخرق الإجماع؛ وإنما الإجماع ما أجمع عليه المسلمون، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]، وداود - رحمه الله - من جملة المسلمين، فإذا خالف في مسألة فقهية، لم يكن ذلك سبيلًا مجمعًا عليه، وجزم ابن بطال بأن داود قال ذلك اتباعًا للهوى فيه ضيق وتعصب لا يحمد صاحبه، وما أدراك أنه قال ذلك اتباعًا للهوى، ولا يطلع على ذلك من داود إلا الله - سبحانه وتعالى -، ولا يزال هذا الضيق والتعصب يتوارث بين أهل العلم وغيرهم إلا من رحم ربي، من ذلك العصر إلى عصرنا هذا، والحق لا يعرف بكثرة أتباعه، وإنما يعرف بدليله، فالله المستعان. القول الثاني: لا يجب ردها بعد تعريفها، اختاره الكرابيسي من الشافعية (¬2). قال النووي في الروضة: "قال الكرابيسي من أصحابنا: لا يطالب بالقيمة، ولا برد العين عند بقائها" (¬3). ¬
وفي تكملة المجموع: "وقال الكرابيسي: لا يلزمه ردها, ولا ضمان بدلها" (¬1). ° وجه قول الكرابيسي: أن الملتقط إذا قام بتعريفها سنة، ولم يأت صاحبها أثناء التعريف فقد اكتسب هذا المال، وصار من جملة أمواله، لقوله: (فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) وقوله: (وإلا فهي لك). ولأن اللقطة تملك كالركاز، فلما ملك الركاز بغير بدل كذلك يملك اللقطة بغير بدل. القول الثالث: يجب الرد مع بقاء العين ولا يجب عليه رد بدلها إذا استنفقت، وهذا قول داود الظاهري، وهو رواية عن أحمد (¬2). جاء في قواعد ابن رجب: "اللقطة إذا قدم المالك بعد الحول والتملك، وقد ¬
تلفت، فالمشهور أنه يجب ضمانها للمالك، وذكر ابن أبى موسى رواية أخرى أنه لا يجب الضمان مع التلف، وإنما يجب الرد مع بقاء العين" (¬1). ° وجه هذا القول: إن كانت العين قائمة فهو أحق بها؛ لأنها عين ماله، وإن كان قد تصرف فيها لم يجب عليه بدلها لأن الشرع قد أذن في استنفاقها، والتصرف فيها، وما كان مأذونًا له فيه فإنه غير مضمون عليه، وليس في الأحاديث ما يدل على وجوب البدل. ° الراجح: أن مالك اللقطة أحق باللقطة من واجدها متى ما ظهر، فإن كانت العين قائمة كان له استردادها، وإن استهلكت، أو تصدق الواجد بها فعليه ضمانها، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس في نماء الضالة
الفصل الخامس في نماء الضالة النماء تبع للضمان. اللقطة قبل التملك غير مضمونة فكان نفاؤه لمالكها، وبعده مضمونة على الملتقط فكان نماؤها له. [م - 2008] إذا كانت اللقطة أو الضالة لها نماء، وهذا النماء قد يكون متصلًا كالسمن، والتعليم، وقد يكون منفصلًا كالثمرة والولد، فمن يستحق هذا النماء، هل يستحقه الواجد؟ أو هو تبع للملك؟ هذا السؤال لا يوجه لمذهب الحنفية؛ لأن اللقطة ونماءها لا يملكهما الملتقط بالتعريف، وإنما يتوجه لمذهب الجمهور القائل بأن اللقطة تملك بالتعريف، إذا علم ذلك نأتي لبحث المسألة: القول الأول: ذهب المالكية إلى أن الغلة تنقسم إلى أقسام: أحدها: الغلة التي جاءت عن طريق كراء الدابة ونحوها فله أن يكريها كراء مأمونًا (¬1)، لا يخشى عليه منه؛ لأجل علفها والنفقة عليها، وإنما جاز له الكراء ¬
مع أن ربها لم يوكله فيه؛ لأن البقر ونحوها لا بد لها من النفقة عليها فكان ذلك أصلح لربها، وما زاد من كرائها على علفها فهو لربها. الثاني: اللبن والزبد والجبن والسمن، فلهم فيها قولان: أحدهما: أنه للملتقط وإن زاد على قيامه عليها وعلى علفها. القول الثاني: اختار ابن رشد وغيره أن له من الغلة بقدر علفها وقيامه عليها. الثالث: الصوف والوبر والنسل فله حكم اللقطة: أي أنه لصاحبها (¬1). جاء في الفواكه الدواني: "وله كراء بقر ونحوها في علفها كراء مضمونًا أي مأمونًا ... وللملتقط غلاتها من لبن وجبن، لا صوفها ولا نسلها ولا كراؤها الزائد على علفها فإنه لصاحبها" (¬2). جاء في الشرح الصغير: "وله غلتها من لبن وسمن وإن زاد على علفها, لا: أي ليس له نسلها، وصوفها وشعرها" (¬3). وعلق الصاوي في حاشيته، فقال: "قوله: (وإن زاد على علفها): أي وهو الموافق لرواية ابن نافع خلافا لظاهر نقل ابن رشد وسماع القرينين من أن له من ¬
الغلة بقدر علفه والزائد عليه لقطة معها. قال في الحاشية وفي كلام الأجهوري ميل لترجيح ما نقله ابن رشد" (¬1). القول الثاني: ذهب الشافعية والمشهور من مذهب الحنابلة إلى أن النماء المتصل كالسمن، فهذا لمالكها إذا استردها؛ لأنه لا يمكن انفصالها عنه؛ ولأنه يتبع في العقود والفسوخ بلا يمين ولا بينة. ولعموم لقوله - صلى الله عليه وسلم - فإن جاء صاحبها نادها إليه. وأما النماء المنفصل فإن حدث قبل التملك، كما لو حدث أثناء التعريف فهي للمالك، ولأن يد الملتقط قبل التملك يد أمانة، فلو هلكت بلا تعد ولا تفريط لم يضمن، فلا يملك شيئًا من العين ولا من نمائها. وإن كان النماء حدث بعد التعريف والتملك فهو للملتقط لا للمالك؛ لأنه نماء حصل في ملكه فيكون له، ولأن العين بعد التملك مضمونة على الملتقط مطلقًا حتى لو هلكلت بلا تعد ولا تفريط، وإذا كانت مضمونة عليه فإن الخراج بالضمان (¬2). قال النووي: "قال أصحابنا: إذا عرفها فجاء صاحبها في أثناء مدة التعريف أو بعد انقضائها وقبل أن يتملكها الملتقط فأثبت أنه صاحبها أخذها بزيادتها ¬
المتصلة والمنفصلة، فالمتصلة كالسمن في الحيوان وتعليم صنعة ونحو ذلك، والمنفصلة كالولد واللبن والصوف واكتساب العبد ونحو ذلك ... وإن جاء صاحبها بعد تملكها أخذها بزيادتها المتصلة دون المنفصلة" (¬1). وقال ابن قدامة: "وإن جاء صاحبها، أخذها بزيادتها المتصلة والمنفصلة؛ لأنها ملكه، وإن جاء بعد تملكها أخذها؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه" ويأخذها بزيادتها المتصلة؛ لأنها تتبع في الفسوخ، وزيادتها المنفصلة بعد تملكها لملتقطها؛ لأنها حدثت على ملكه، فأشبه نماء المبيع في يد المشترى" (¬2). القول الثالث: أن النماء للمالك مطلقًا، من غير فرق بين كونه حدث قبل التملك أو بعده، وهذا قول في مذهب الحنابلة (¬3). ° وجه هذا القول: أن التملك كان مستندًا إلى أن هذا المال لا مالك له، وقد تبين خطؤه بظهور صاحبها؛ لهذا نزعت منه، فكانت العين ونماؤها لصاحبها, وليس للواجد منها شيء. جاء في القواعد لابن رجب: "اللقطة إذا جاء مالكها وقد نمت نماء منفصلًا فهل يسترده معها؟ ¬
على وجهين خرجهما القاضي وابن عقيل من المفلس، وفرق بينهما صاحب المغني. ويحتمل الرجوع هنا بالزيادة المنفصلة وجهًا واحدًا؛ لأن تملكها إنما كان مستندًا إلى فقد ربها في الظاهر، وقد تبين خلافه، فانفسخ الملك من أصله لظهور الخطأ في مستنده، ووجب الرجوع بما وجده منها قائمًا، وهذا هو الذي ذكره ابن أبي موسى وذكر أصلا من كلام أحمد في طيرة فرخت عند قوم أنهم يردون فراخها" (¬1). ° الراجح: ملك نماء اللقطة بعد التعريف تبع للضمان، فإن قلنا: هي مضمونة عليه إذا ملكها الملتقط بعد التعريف فإن الخراج بالضمان، وأرى أنه في هذه الحالة لا فرق بين النماء المنفصل والمتصل خاصة إذا كان هذا النماء جاء ثمرة لجهود الملتقط، كالتسمين نتيجة التعليف ومثله التعليم، ويكون الملتقط شريكًا للمالك بقدر ما حصل له من زيادة في قيمة اللقطة، فإذا قيل: إن السلعة زادت بقدر الخمس، كان الواجد يملك من اللقطة خمسها ملكًا مشتركًا، وإن كانت الزيادة منفصلة استحقها كلها. وإن قلنا: إنه لا يضمن إذا تملك اللقطة، كانت العين بزوائدها لمالكها، ومسألة الضمان هي محل بحث في فصل مستقل، والله أعلم. ¬
الفصل السادس في ضمان اللقطة
الفصل السادس في ضمان اللقطة المبحث الأول في ضمان اللقطة قبل تملكها الفرع الأول في ضمانها إذا التقطها للتعريف أو للحفظ [م - 2009] إذا أخذ الملتقط اللقطة سواء أخذها لتعريفها عند القائلين بوجوب التعريف، وهم الجمهور (¬1). أو أخذها بنية الحفظ لصاحبها على القول بأن التعريف لا يجب إلا إذا أخذها بنية التملك بعد التعريف وهم الشافعية (¬2)، فإن اللقطة أمانة في يده غير ¬
مضمونة عليه أثناء القيام بتعريفها أو أثناء حفظها لصاحبها، وهو قول الأئمة الأربعة على خلاف بينهم فيما إذا ادعى الملتقط أنه أخذها للحفظ، وكذبه المالك. فذهب أبو حنيفة ومحمد بن الحسن إلى أن المالك إذا كذب الملتقط صار ضامنًا إلا أن يشهد عند أخذ اللقطة فلا ضمان عليه خلافًا لأبي يوسف. وعند الجمهور تعرف نية الملتقط من جهته، فإذا قال الملتقط: إنه أخذها لا لنفسه، وإنما أخذها بنية تعريفها أو حفظها لصاحبها فالقول قوله؛ لأن نيته لا تعلم إلا من جهته، وسبق بحث هذه المسألة. جاء في الهداية: "اللقطة أمانة إذا أشهد الملتقط أنه يأخذها ليحفظها ويردها على صاحبها ... وكذلك إذا تصادقا أنه أخذها للمالك؛ لأن تصادقهما حجة في حقهما فصار كالبينة ... وإن لم يشهد الشهود عليه وقال الآخذ: أخذته للمالك، وكذبه المالك يضمن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف - رحمه الله -: لا يضمن والقول قوله" (¬1). وقال ابن جزي: "وإن أخذها ليحفظها لمالكها، أو ليتأملها فهو أمين، ولا ضمان عليه" (¬2). وقال القرافي: "إذا أخذ اللقطة صارت في يده أمانة كالوديعة" (¬3). ¬
وقال ابن رشد: "العلماء اتفقوا على أن من التقطها وأشهد على التقاطها فهلكت عنده أنه غير ضامن، واختلفوا إذا لم يشهد: فقال مالك، والشافعي، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن: لا ضمان عليه إن لم يضيع، وإن لم يشهد. وقال أبو حنيفة، وزفر: يضمنها إن هلكت ولم يشهد. واستدل مالك والشافعي بأن اللقطة وديعة فلا ينقلها ترك الإشهاد من الأمانة إلى الضمان" (¬1). وجاء في البيان في مذهب الإمام الشافعي: "وإذا التقط الرجل لقطة بنية التملك بعد التعريف، أو بنية الحفظ على صاحبها فإن اللقطة أمانة في يده مدة التعريف؛ لأن الحظ في التعريف لصاحبها، فهي كالوديعة. فإن تلفت في يده، أو نقصت من غير تفريط فلا ضمان عليه" (¬2). وقال إمام الحرمين: "الملتقط وإن قصد التملك بعد السنة، فاللقطة أمانة في يده إذا لم يتعد" (¬3). وقال ابن قدامة: "واللقطة مع الملتقط قبل تملكلها أمانة، عليه حفظها بما يحفظ به الوديعة" (¬4). وبهذه النصوص عن الأئمة الأربعة علمنا أن اللقطة أمانة، إلا أنها أمانة بلا عقد من المالك، وإنما كان أمينًا بإذن الشارع له بأخذ المال، وذلك أن ¬
الأمانات على قسمين: القسم الأول: أمانة بعقد: وهذا على نوعين أيضًا. الأول: ما كانت الأمانة أصالة في العقد كالوديعة. الثاني: ما كانت الأمانة فيه متابعة للعقد، وليست أصيلة فيه، كالعين المؤجرة في يد المستأجر، ومال الموكل في يد وكيله، ومال القاصر في يد وصيه، ومال الشريك في يد شريكه، والعين المرهونة في يد المرتهن، ونحو ذلك. القسم الثاني: أمانة بلا عقد، كاللقطة في يد الملتقط، والأب والجد إذا وليا مال الصغير، فهو أمين، وأمانته بإذن من الشرع، وما كان بإذن الشارع فهو أقوى من إذن المالك؛ لأن تصرف المالك في ملكه متوقف على إذن الشارع. وإذا خلصنا بأن اللقطة أمانة في يد الملتقط فإن الأمين لا يضمن إلا بالتعدي: بأن يفعل ما ليس له فعله، أو يفرط: بأن يترك ما يجب عليه فعله. والدليل على هذا: قال ابن بطال: "ولا خلاف أن الملتقط أمين لا يضمن إلا بما تضمن به الأمانات من التعدي والتضييع" (¬1). وقال ابن عبد البر: "لا خلاف أن الملتقط أمين لا ضمان عليه إلا بما تضمن به الأمانات من التعدي والتضييع والاستهلاك" (¬2). ولأن الأمين لو ضمن مطلقًا لامتنع الناس من قبول الأمانات، وهذا فيه مضرة بالناس. ¬
الفرع الثاني في ضمان اللقطة إذا أخذها نفسه
الفرع الثاني في ضمان اللقطة إذا أخذها نفسه أخذ اللقطة للتملك بلا تعريف بمنزلة الغصب. [م - 2010] إذا أقر الملتقط أنه أخذ اللقطة لنفسه، لا لتعريفها, ولا لحفظها لصاحبها فإنه يضمنها لصاحبها مطلقًا حتى ولو لم يتعد أو يفرط، وهذا بالاتفاق؛ لأنه اجتمع في هذا القصد المحرم والفعل المقارن له (¬1). قال في الهداية: "ولو أقر أنه أخذها لنفسه يضمن بالإجماع؛ لأنه أخذ مال غيره بغير إذنه، وبغير إذن الشرع" (¬2). وقال ابن جزي: "أخذها -يعني اللقطة- على ثلاثة أوجه: إن أخذها واجدها على وجه الالتقاط لزمه حفظها وتعريفها .... وإن أخذها على وجه الاغتيال فهو غاصب ضامن، وإن أخذها ليحفظها لمالكها أو ليتأملها فهو أمين ولا ضمان عليه" (¬3). وقال الخرشي: "الملتقط لما رأى اللقطة فقبل أن يضع يده عليها نوى أن يأكلها، فلما وضع يده عليها وحازها تلفت من عنده بغصب أو بغيره فإنه يكون ¬
ضامنًا لها بتلك النية؛ لأنه صار كالغاصب حين وضع يده عليها بتلك النية، ومن باب أولى الضمان لها إذا حدث له نية أكلها قبل السنة بعد أن وضع يده عليها" (¬1). وقال ابن قدامة: "إذا التقط لقطة عازمًا على تملكها بغير تعريف، فقد فعل محرمًا, ولا يحل له أخذها بهذه النية، فإذا أخذها لزمه ضمانها، سواء تلفت بتفريط أو بغير تفريط" (¬2). ¬
الفرع الثالث إذا أخذها بنية الأمانة ثم طرأ قصد الخيانة
الفرع الثالث إذا أخذها بنية الأمانة ثم طرأ قصد الخيانة [م - 2011] إذا أخذ اللقطة بنية الأمانة، ثم نوى الخيانة، فهل يضمن بمجرد النية، فيه خلاف بين العلماء على قولين: القول الأول: لا يضمن بمجرد القصد حتى يكون معه فعل من استعمال أو نقل كالوديع، واختاره ابن عبد السلام من المالكية، والأصح في مذهب الشافعية, والمشهور من مذهب الحنابلة، ورجحه ابن قدامة (¬1). قال النووي: "وإذا قصد الأمانة، ثم قصد الخيانة، فالأصح أنه لا يصير مضمونًا عليه بمجرد القصد، كالمودع لا يضمن بنية الخيانة على المذهب. والثاني: يصير, لأنه لم يسلطه المالك" (¬2). ° وجه القول بعدم الضمان: القياس على الوديعة، كما أن المودع إذا نوى الخيانة في الوديعة بالجحود والاستعمال ولم يفعل لم يصر ضامنًا؛ لأنه لم يحدث في الوديعة قولًا, ولا فعلًا، فلا يضمن كما لو لم ينو. ¬
جاء في حاشية الدسوقي: "لا ضمان عليه عند ابن عبد السلام نظرًا إلى أن نية الاغتيال مجردة عن مصاحبة فعل؛ إذ غاية الأمر أن النية تبدلت مع بقاء اليد" (¬1). القول الثاني: يضمن بذلك، وبه قال ابن عرفة من المالكية، ورجحه الحطاب منهم، وهو أحد القولين في مذهب الشافعية، ووجه في مذهب الحنابلة (¬2). قال في الإنصاف نقلًا عن التلخيص: وهو الأشبه بقول أصحابنا في التضمين بمجرد اعتقاد الكتمان (¬3). ° وجه القول بوجوب الضمان: أن نية الخيانة موجبة للضمان كما لو أخذها بنية الخيانة ابتداء، ويخالف المودع فإنه مسلط من جهة المالك. "ونظرا إلى أن نية الاغتيال قد صاحبها فعل وهو الكف عن التعريف" (¬4). ° الراجح من الخلاف: أن الملتقط إذا طرأ على نيته الخيانة، وترك تعريفها الواجب عليه فإنه ¬
يضمنها, لأن ترك التعريف وحده موجب للضمان، إذا رجحنا وجوب التعريف على أخذها، وهو قول الجمهور، فكيف إذا انضم إلى ذلك القصد المحوم، وهو تملكها قبل تمام تعريفها، والله أعلم.
المبحث الثاني في ضمان اللقطة تعريفها وتملكها
المبحث الثاني في ضمان اللقطة تعريفها وتملكها تملك اللقطة بعد تعريفها بمنزلة اقتراضها والقرض مضمون. [م - 2012] هذه المسألة لا تتنزل على مذهب الحنفية الذين يقولون: إن اللقطة لا يمكن تملكها، وإنما يمكن بحثها على مذهب الجمهور القائلين بأن اللقطة يمكن تملكها بعد القيام بتعريفها، فإذا تملكها، ثم تلقت بغير تعد ولا تفريط، فهل يكون ضامنًا لصاحبها إذا ظهر؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين، وهما يرجعان إلى مسألة قد تقدم بحثها، وهي: هل يجب رد اللقطة إلى صاحبها بعد أن قام بتعريفها سنة كاملة، فالذين يقولون: إذا جاء صاحبها بعد التعريف لا يجب ردها إليه، لا يقولون بوجوب ضمانها؛ لأن ما لا يجب رده لم يجب ضمانه، وهذا ظاهر، وبه قال الكرابيسي من الشافعية (¬1)، وكذا داود الظاهري الذي يقول: لا يجب رد اللقطة بعد تعريفها إذا لم تكن عينها قائمة، وهو رواية عن أحمد (¬2). ¬
وقد ذكرنا أدلتهم ومناقشتها في مسألة سابقة. أما الذين يقولون: إن اللقطة تملك بالتعريف، فقد اتفقوا على عدم ضمانها أثناء التعريف، واتفقوا على ضمانها إذا تملكها، سواء قلنا: إن التملك يحصل بمجرد مضي السنة كمذهب الحنابلة، أو قلنا: إن التملك يحصل بنية التملك كمذهب المالكية وأحد الأقوال في مذهب الشافعية، أو قلنا: إن التملك لا يحصل إلا باللفظ كالقول الأصح في مذهب الشافعية، أو قلنا: إن التملك لا يتم إلا بالتصرف فيها، وهو قول في مذهب الشافعية، وسبق بحث هذه المسألة. فإذا تملكها فإن الملتقط يكون ضامنًا لها إذا تلفت أو حصل فيها أي نقص حتى ولو كان ذلك بلا تعد ولا تفريط (¬1). ° وجه القول بالضمان مطلقًا: الوجه الأول: أن تملك اللقطة ينقل اللقطة من الأمانة إلى الاقتراض، ذلك أن عقد الأمانة عقد يقصد به حفظ العين، وليس تملك العين، فإذا تملكها كان ذلك بمنزلة الاقتراض لها، والقرض مضمون مطلقًا، فإذا تلفت بعد تملكها ضمنها إن ظهر مالكها. ¬
جاء في الحاوي: "أن يتملكها إما باختيار تملكها أو بنقل عينها، فقد انتقل حق مالكها من عينها إلى بدلها" (¬1). الوجه الثاني: أن اللقطة إذا تلفت بعد تملكها فقد تلفت من مال الملتقط، ولم تتلف من مال المالك، وإذا كان استهلاكها أو التصدق بها يوجب الضمان، فكذلك تملكها يوجب الضمان إذا ظهر صاحبها، نعم لو أبقاها في يده بعد التعريف حفظًا لصاحبها, ولم يتملكها كانت أمانة لم تضن بالتلف إلا بالتعدي أو بالتفريط. قال ابن جزي: إذا عرف بها سنة فلم يأت صاحبها فهو مخير بين ثلاثة أشياء أن يمسكها في يده أمانة أو يتصدق بها ويضمنها أو يتملكها وينتفع بها ويضمنها على كراهة لذلك" (¬2). فصرح ابن جزي أن تملكها والانتفاع بها أن ذلك يجعله ضامنًا لها، وقوله: (على كراهة لذلك) يعني أن مالكًا يكره تملك اللقطة، ويفضل عليه حفظها لصاحبها أو التصدق بها وذلك خوفًا من أن يعوزه ضمانها إذا ظهر صاحبها. قال في التاج والإكليل: "إنما كره له أكلها بعد التعريف مخافة أن يأتي صاحبها فيجده عديمًا لا شيء له، ولو علم أنه لا يجد صاحبها أبدًا لما كره له أكلها" (¬3). وفي أسنى المطالب: "إذا تملكها فليست أمانة بل يضمنها كالقرض" (¬4). ¬
وقال الغزالي: "إن التقط على قصد أن يحفظه لمالكه أبدًا فهو أمانة في يده أبدًا، وإن قصد أن يختزل في الحال فهو مضمون عليه أبدًا. وإن قصد أن يتملكها بعد السنة فهو في السنة أمانة لو تلف لا ضمان، فإذا مضت السنة فهو مضمون عليه، وإن لم يتملك لأنه صار ممسكًا لنفسه بالقصد السابق فهو كالمأخوذ على جهة السوم" (¬1). وقال الماوردي في الإقناع: "وإن لم يأت صاحبها حتى استكمل حولًا في تعريفها كان مخيرًا بين تركها في يده أمانة؛ لئلا يضمنها بالعدوان وبين أن يمتلكها بأن يختار تملكها، فتصير مضمونة عليه لمالكها إن أتى" (¬2). فجعل تملكها يجعلها مضمونة عليه مطلقًا حتى ولو لم يتعد أو يفرط. وقال في الإنصاف: "وإن تلفت، أو نقصت قبل الحول: لم يضمنها مراده: إذا لم يفرط فيها؛ لأنها أمانة في يده. وإن كان بعده ضمنها ولو لم يفرط، هذا المذهب، وعليه الأصحاب، ونصروه. وعنه: لا يضمنها إذا تلفت حكى ابن أبي موسى عن الإمام أحمد - رحمه الله -: أنه لوح في موضع: إذا أنفقها بعد الحول والتعريف لم يضمنها" (¬3). وهذا كقول داود الظاهري أنه لا يجب ردها إلا إذا كانت عينها قائمة، وقد ذكرت ذلك فيما سبق. ¬
وقال ابن قدامة: "أن اللقطة في الحول أمانة في يد الملتقط، إن تلفت بغير تفريطه أو نقصت، فلا ضمان عليه، كالوديعة ... وإن تلفت بعد الحول، ثبت في ذمته مثلها أو قيمتها بكل حال؛ لأنها دخلت في ملكه، وتلفت من ماله، وسواء فرط في حفظها أو لم يفرط. وإن وجد العين ناقصة، وكان نقصها بعد الحول، أخذ العين وأرش نقصها؛ لأن جميعها مضمون إذا تلفت, فكذلك إذا نقصت. وهذا قول أكثر الفقهاء الذين حكموا بملكه لها بمضي حول التعريف، وأما من قال: لا يملكها حتى يتملكها لم يضمنة إياها حتى يتملكها، وحكمها قبل تملكه إياها حكمها قبل مضي حول التعريف. ومن قال: لا تملك اللقطة بحال لم يضمنه إياها. وبهذا قال الحسن، والنخعي، وأبو مجلز والحارث العكلي، ومالك، وأبو يوسف، قالوا: لا يضمن، وإن ضاعت بعد الحول" (¬1). ° الراجح: أن اللقطة أثناء التعريف ضمانها كضمان الأمانات، لا تضمن إلا بالتعدي أو بالتفريط، وبعد امتلاكها هي مضمونة مطلقًا، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في ضمان اللقطة إذا ردها إلى موضعها
المبحث الثالث في ضمان اللقطة إذا ردها إلى موضعها [م - 2013] إذا أخذ الرجل اللقطة بنية التقاطها، ثم بدا له أن يردها فإن ردها إلى غير الموضع الذي أخذها منه ضمن بالاتفاق، وإن ردها إلى الموضع الذي أخذها منه، فهل يضمنها بذلك، أو يصح ردها؟ في ذلك خلاف بين العلماء على قولين: القول الأول: إن أخذ اللقطة ليعرفها ثم ردها إلى موضعها فلا ضمان عليه، وإن أخذها ليأكلها، ثم ردها إلى موضعها ضمنها، وهو ظاهر الرواية في مذهب الحنفية، ونص عليه محمد بن الحسن، واختاره أشهب من المالكية (¬1). وحمل بعض الحنفية ظاهر الرواية على أن المقصود إن ردها قبل أن يبرح من مكانه، أما إذا ذهب بها، ثم رجع إليه فردها فإنه يضمن (¬2). قال في بدائع الصنائع: "ولو أخذ اللقطة، ثم ردها إلى مكانها الذي أخذها منه لا ضمان عليه في ظاهر الرواية, وكذا نص عليه محمد في الموطأ، وبعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: هذا الجواب فيما إذا رفعها ولم يبرح عن ذلك ¬
المكان حتى وضعها في موضعها، فأما إذا ذهب بها عن ذلك المكان، ثم ردها إلى مكانها يضمن، وجواب ظاهر الرواية مطلق عن هذا التفصيل مستغن عن هذا التأويل" (¬1). وفي مجمع الضمانات: "رجل التقط لقطة ليعرفها، ثم أعادها، إلى المكان الذي وجدها فيه ذكر في الكتاب أنه يبرأ عن الضمان، ولم يفصل بين ما إذا تحول عن ذلك المكان ثم أعادها إليه وبين ما إذا أعادها قبل أن يتحول، قال الفقيه أبو جعفر: إنما يبرأ إذا أعادها قبل التحويل فإذا أعادها بعدما تحول يكون ضامنا وإليه أشار الحاكم الشهيد في المختصر ..... هذا إذا أخذ اللقطة ليعرفها فإن كان أخذها ليأكلها لم يبرأ عن الضمان ما لم يدفعها إلى صاحبها؛ لأنه إذا أخذها ليأكلها يصير غاصبا والغاصب لا يبرأ إلا بالرد على المالك من كل وجه" (¬2). ° وجه القول بعدم الضمان: أنه إذا أخذها ليعرفها أو ليحفظها لصاحبها فإنه محتسب متبرع، فإذا ردها إلى مكانها فقد فسخ التبرع من الأصل، فصار كأنه لم يأخذها أصلًا، وإن أخذها ليأكلها ثم ردها إلى موضعها لم يبرأ عن الضمان ما لم يدفعها إلى صاحبها؛ لأنه صار غاصبًا، والغاصب لا يبرأ إلا بالرد. القول الثاني: إنْ رد اللقطة بعد أن أخذها بنية التقاطها أو حفظها فإن ذلك موجب ¬
لضمانها، وهو مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة (¬1). واستثنى المالكية ما لو أخذ المال وهو يظنه قد سقط من قوم بين يديه فدفعه إليهم فلم يعرفوه، فإذا رد المال إلى موضعه فورًا لم يضمنه؛ لأنه لم يأخذ المال بنية الالتقاط فيجب عليه حفظه وتعريفه، ولا بنية الخيانة، فيضمنه مطلقًا. قال الشافعي في الأم: "ومن التقط لقطة فاللقطة مباحه فإن هلكت منه بلا تعد فليس بضامن لها، والقول قوله مع يمينه، وإذا التقطها ثم ردها في موضعها فضاعت فهو ضامن لها، وإن رآها فلم يأخذها فليس بضامن لها" (¬2). ° وجه القول بالضمان: أن الملتقط لما أخذها فقد التزم حفظها، فإذا تركها في الموضع الذي وجدها فيه بعد التزام حفظها فقد ضيعها، وتضييع الأمانة موجب لضمانها. ويناقش: بأن القول بأنه قد التزم بالحفظ غير صحيح، وإنما تبرع به، وفي ردها إلى مكانها فسخ لهذا التبرع، فكأنه لم يكن. ¬
الباب الثالث في أحكام الملتقط
الباب الثالث في أحكام الملتقط الفصل الأول في اشتراط العدالة في الملتقط ما كان أهلًا للاكتساب كان أهلًا للالتقاط. [م - 2014] اختلف الفقهاء في اشتراط العدالة في الملتقط على قولين: القول الأول: لا تشترط العدالة في الملتقط، والفاسق أهل للالتقاط، وهذا مذهب الجمهور، إلا أن الحنابلة في أصح الوجهين، والشافعية في أحد القولين قالوا: يضم إليه أمين (¬1). جاء في البحر الرائق: "وأما إسلام الملتقط فليس بشرط ... " (¬2). وقال ابن عابدين: "ولا يشترط كونه مسلما عدلا رشيدا لما سيأتي من أن التقاط الكافر صحيح، والفاسق أولى" (¬3). ¬
وفي الإنصاف: "ولا فرق بين كون الملتقط غنيًّا أو فقيرًا، مسلمًا كان أو كافرًا، عدلًا أو فاسقًا يأمن نفسه عليها. وهذا المذهب ... " (¬1). ° دليل من قال بالصحة: الدليل الأول: عموم أحاديث اللقطة، فإنها مطلقة لم تشترط العدالة، من ذلك: (ح-1238) ما رواه البخاري من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني: أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة، فقال: عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها إليه ... (¬2). فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أمره بتعريفها، ولم يشترط أن يكون الآخذ عدلًا، فصح التقاط الفاسق، ومن اشترط عدالة الملتقط فعليه الدليل. الدليل الثاني: أن التقاط المال طريق لكسب المال؛ لذلك صح من الفاسق كالاصطياد والاحتشاش. الدليل الثالث: القياس على الوديعة، فإذا صح إيداع الفاسق، صح التقاطه , وقد سبق بحث الإيداع لدى الفاسق، والله أعلم. ¬
القول الثاني: ذهب الشافعية في الأصح إلى أن التقاط الفاسق صحيح إلا أنها لا تقر في يده، بل ينتزعها القاضي، ويسلمها إلى أمين (¬1). ° وجه القول بذلك: أن اللقطة في الحول الأول أمانة في يد الملتقط، والفاسق ليس من أهل الأمانة. قال الشيرازي: "وإن وجد الفاسق لقطة لم يأخذها؛ لأنه لا يؤمن أن لا يؤدي الأمانة فيها، فإن التقطها ففيه قولان: أحدهما لا تقر في يده، وهو الصحيح؛ لأن الملتقط قبل الحول كالولي في حق الصغير، والفاسق ليس من أهل الولاية في المال. والثاني: تقر في يده؛ لأنه كسب بفعل، فأقر في يده كالصيد فعلى هذا يضم إليه من يشرف عليه" (¬2). وقال النووي: "الفاسق أهل للالتقاط على المذهب، وبه قطع الجمهور، وهو ظاهر النص. وعن القفال، تخريجه على الأصل المذكور، إن غلبنا الاكتساب، فنعم، أو الأمانة، فلا، وما يأخذه مغصوب، فعلى المذهب، هل يقر المال في يده؟ ¬
قولان. أظهرهما: لا، بل ينتزع منه ويوضع عند عدل. والثاني: نعم، ويضم إليه عدل يشرف عليه. وعن ابن القطان وجه: أنه لا يضم إليه أحد" (¬1). ° الراجح: بعد استعراض الخلاف أجد أن القول بأن التقاط الفاسق صحيح، هو الأقوى، وإذا خيف أن يقصر في تعريفها فللقاضي أن يضم إليه أمينًا يشرف على ذلك، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني في التقاط الكافر
الفصل الثاني في التقاط الكافر ما كان أهلًا للاكتساب كان أهلًا للالتقاط. [م - 2015] اختلف العلماء في صحة التقاط الكافر على قولين: القول الأول: يصح التقاط الكافر، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والأصح في مذهب الشافعية، ومذهب الحنابلة (¬1). جاء في البحر الرائق: "وأما إسلام الملتقط فليس بشرط بدليل ما في الكافي للحاكم لو أقام مدعيها شهودا كفارا على ملتقط كافر قبلت اهـ. فدل على صحة التقاط الكافر وعلى هذا تثبت الأحكام من التعريف والتصديق بعده أو الانتفاع ولم أره صريحًا ... والظاهر أن مشايخنا إنما لم يقيدوا الملتقط بشيء لإطلاقه عندنا" (¬2). قال النووي: "يُمكَّن الذمي من الالتقاط في دار الإسلام على الأصح. وقيل: قطعًا، كالاصطياد، والاحتطاب" (¬3). ¬
القول الثاني: لا يصح التقاط الذمي، وهو قول ابن رشد من المالكية، وأحد القولين في مذهب الشافعية. جاء في بداية المجتهد: "فأما الملتقط فهو كل حر مسلم بالغ لأنها ولاية" (¬1). وقال العمراني في البيان: "واختلف أصحابنا في الذمي إذا التقط لقطة في دار الإِسلام: فمنهم من قال: لا يصح التقاطه؛ لأن الالتقاط أمانة بولاية، والذمي ليس من أهلها, ولأنه لا يملك بالإحياء في دار الإسلام، فلا يملك بالالتقاط فيه. ومنهم من قال: يصح التقاطه؛ لأن له ذمة صحيحة ويملك بالقرض، فصح التقاطه. فإذا قلنا: يصح التقاطه .. فهل تقر في يده، ويصح تعريفه بنفسه، أو ينزعها الحاكم منه، ويضم من يعرفها معه؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالفاسق. ومنهم من قال: تقر في يده، وينفرد بالتعريف قولا واحدا؛ لأنه وإن كان كافرًا، فهو مقر على دينه، كما أنا نقول: لا يصح إنكاح الفاسق، ويصح إنكاح الذمي" (¬2). ° الراجح: صحة التقاطه، وأنه يتملك اللقطة إذا قام بحقها من التعريف ونحوه، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في التقاط غير المكلف
الفصل الثالث في التقاط غير المكلف المبحث الأول في التقاط المجنون والصبي غير المميز ما كان أهلًا للاكتساب كان أهلًا للالتقاط. [م - 2016] إذا اجتمع في شخص أربع صفات: الإسلام، والحرية، والأمانة، والتكليف، فله أن يلتقط ويعرف ويتملك بلا خلاف؛ لأنه أهل للأمانة والولاية والاكتساب. ومن فقد شيئًا من هذه الصفات ففي صحة التقاطه خلاف بين أهل العلم، إذا علم ذلك من حيث الجملة نقول: [م - 2017] إذا أخذ اللقطة مجنون أو صبي غير، مميز, فهل يصح التقاطه؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين. ° وسبب الخلاف: أن اللقطة فيها معنى الأمانة والولاية وفيها معنى الاكتساب، فالأمانة والولاية أولًا، والاكتساب يأتي آخرًا بعد القيام بتعريفها. وهل المغلب الأمانة والولاية, أو الاكتساب؟ فيه خلاف: فمن غلب الأمانة والولاية؛ فلأن ذلك ناجز متحقق، والاكتساب منتظر، وقد يكون، وقد لا يكون، وهذا يعني منع لقطة الصبي والفاسق والكافر.
ومن غلب في اللقطة معنى الاكتساب؛ فلأنه هو المقصود من اللقطة، ومآل الأمر وعاقبته، والنظر في الأشياء إلى عواقبها, ولأن الملتقط ينفرد في الالتقاط، وهذا شأن الاكتساب بخلاف الأمانات فإنها تقوم على أمين يأتمنه غيره، وهذا هو الأصل. إذا علم ذلك نأتي إلى ذكر الأقوال: القول الأول: أن التقاطه غير صحيح، وهذا مذهب الحنفية، ونص عليه ابن رشد من المالكية، وقول في مذهب الشافعية (¬1). جاء في درر الحكام في شرح مجلة الأحكام: "إذا كان الملتقط غير عاقل فالتقاطه غير صحيح، بناء عليه التقاط المجنون والسكران والمعتوه والمنهوش غير صحيح" (¬2). والصبي غير المميز ملحق بالمجنون حيث عبارته ملغاة، ولا قصد له صحيح. وفي البحر الرائق: "وأما الملتقط فلم أر من بين شرائطه، ولا يشترط بلوغه بدليل ما في المجتبى التعريف إلى ولي الصبي والوارث اهـ فدل على صحة التقاطه" (¬3). ¬
وجاء في الدر المختار: "وصح التقاط صبي وعبد، لا مجنون" (¬1). قال ابن عابدين تعليقًا في حاشيته: " (قوله: لا مجنون إلخ) مأخوذ من قوله في النهر ينبغي أن لا يتردد في اشتراط كونه عاقلًا صاحيًا فلا يصح التقاط المجنون إلخ، لكن الشارح زاد عليه المعتوه، وقدمنا أول باب المرتد أن حكمه حكم الصبي العاقل" (¬2). فلما اشترط العقل في الصبي علمنا أنه أراد الصبي المميز؛ لأن العقل هو مصدر التمييز وصحة القصد، والله أعلم. وجاء في حاشية الشرواني: "وشرط الإمام في صحة التقاط الصبي التمييز قال الأذرعي ومثله المجنون" (¬3). ومعناه: إذا لم يكن لهما نوع تمييز لم يصح التقاطهما. القول الثاني: ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه يصح التقاط الصبي غير المميز والمجنون، ويقوم وليهما بتعريفها، فإذا عرفها فهي لواجدها، وقال الشافعية: يعرفها إن رأى المصلحة في تملكه للصبي والمجنون، فإن تركها الولي بيد المجنون والصبي بعد علمه حتى أتلفها ضمنها الولي (¬4). ¬
جاء في البيان للعمراني: "إذا وجد الصبي أو المجنون أو المحجور عليه للسفه لقطة فالتقطها صح التقاطه؛ لعموم الأخبار؛ ولأن هذا كسب، فصح منهم، كالاصطياد والاحتشاش" (¬1). وفي الإقناع في حل ألفاظ أي شجاع: "وتصح من صبي ومجنون وينزع اللقطة منهما وليهما ويعرفها ويتملكها لهما إن رآه حيث يجوز الاقتراض لهما لأن التمليك في معنى الاقتراض فإن لم يره حفظها وسلمها للقاضي" (¬2). وقال ابن قدامة: "فإن التقطها صبي أو مجنون أو سفيه، صح التقاطه؛ لأنه كسب بفعل، فصح منه كالصيد، فإن تلفت في يده بغير تفريط لم يضمنها؛ لأنه أخذ ماله، وإن تلفت بتفريط ضمنها" (¬3). ° الراجح: صحة التقاط الصبي والمجنون بشرطين: الأول: أن يتبرع الولي بحفظها والقيام بتعريفها، ثم تمليك الصبي إذا قام بحق التعريف. الثاني: أن يكون ذلك في مصلحة الصبي والمجنون، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في صحة التقاط الصبي المميز
المبحث الثاني في صحة التقاط الصبي المميز ما كان أهلًا للاكتساب كان أهلًا للالتقاط. [م - 2018] اختلف الفقهاء في صحة التقاط الصبي المميز على قولين: القول الأول: يصح التقاطه، وهو مذهب الجمهور من الحنفية، والأصح عند الشافعية، ومذهب الحنابلة (¬1). جاء في درر الحكام في شرح مجلة الأحكام: "أخذ الصبي المميز اللقطة جائز" (¬2). القول الثاني: لا يصح التقاطه، قاله ابن رشد من المالكية، وقول في مذهب الشافعية. جاء في بداية المجتهد: "فأما الملتقط فهو كل حر مسلم بالغ لأنها ولاية" (¬3). ¬
وقال إمام الحرمين: "فأما الصبي المميز إذا التقط، فهو مخرج على القولين. فإن قلنا: الغالب على اللقطة معنى الأمانة، فليس الصبي من أهلها؛ فإنه ليس ممن يؤتمن، وكيف يؤتمن من يتردد بين غباوة يمتنع معها الاستقلال بالأمر، وبين فطنة تطلعه على أنه غير معاقب أو متبع. وإن قلنا: الغالب على الالتقاط معنى الاكتساب، فهو من أهله؛ إذ يتصور منه الاكتساب الذي يتعلق بالأفعال كالاحتشاش والاحتطاب، وما في معناهما" (¬1). وقد سبق أدلة المسألة في المسألة السابقة في صحة التقاط الصبي غير المميز، فارجع إليها إن شئت. والراجح صحة التقاطه، وتكون بيد وليه، ويقوم وليه عنها بتعريفها، وإن قام بتعريفها وأحسن ذلك صح منه كصحة بيعه وسائر تصرفاته إذا أذن له وليه، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع في تعدد الملتقط
الفصل الرابع في تعدد الملتقط [م - 2019] نص الشافعية والحنابلة على أن اللقطة إذا وجدها اثنان وأخذاها معًا كانت بينهما، كما لو أخذا صيدًا كان بينهما. فإن أقاما معرفًا واحدًا عرفها سنة لهما، وإن عرفاها بنفسيهما، فهل يعرفها كل منهما سنة، أو يعرفها نصف سنة، قولان في المسألة. وإن رآها اثنان فهي لمن رفعها , لا لمن رآها. وإن قال أحدهما لصاحبه: ناولني فأخذها الآخر، فإن أخذها لنفسه فهو أحق بها، وإن نوى المناولة: فقيل: تصح بناء على جواز التوكيل في الاصطياد ونحوه، وهذا لا يخالف ما ذكره الشافعية في الوكالة من عدم صحتها في الالتقاط؛ لأن ذلك في عموم الالتقاط، وهذا في خصوص لقطة وجدت، فالأمر بأخذها استعانة مجردة على تناول شيء معين. ويحتمل ألا تصح باعتبار أن الوكالة إنابة فيما يملكه، وهو لا يملك اللقطة حتى يملك التفويض في رفعها. وإن أخذها اثنان فترك أحدهما حقه منها للآخر لم يسقط؛ لأنه ليس له نقل حقه إلى الآخر (¬1). ¬
قال في المهذب: "وإن أخذها اثنان كانت بينهما، كما لو أخذا صيدًا كان بينهما، فإن أخذها واحد وضاعت منه، ووجدها غيره وجب عليه ردها إلى الأول؛ لأنه سبق إليها فقدم كما لو سبق إلى موات فتحجره" (¬1). وقال العمراني في البيان: "وإذا وجد رجلان لقطة، فأخذها معًا كانت بينهما بعد التعريف، كما إذا أثبتا صيدًا. وإن رأياها معا فبادر أحدهما وأخذها كانت لمن أخذها؛ لأن استحقاق اللقطة بالأخذ دون الرؤية، كما قلنا في الاصطياد. فإن رآها أحدهما، فقال لصاحبه: أعطنيها، فأخذها الآخر؛ فإن أخذها لنفسه كان أحق بها؛ لأن استحقاقها بالأخذ دون الرؤية، وإن أخذها لصاحبه الذي أمره بأخذها، فهل تكون للآمر؟ فيه وجهان، بناء على القولين في التوكيل في الاصطياد والاحتشاش. وإن أخذ رجل اللقطة فضاعت منه، ووجدها آخر فإن الثاني يعرفها، فإن جاء مالكها، وأقام البينة عليها وجب عليه ردها إليه؛ لأنه هو المالك لها. وإن لم يجد مالكها ولكن جاء الملتقط الأول، وأقام البينة على التقاطه لها وجب على الثاني ردها إليه؛ لأن الأول قد ثبت له عليها حق بالالتقاط، فوجب ردها إليه كما لو تحجر مواتًا" (¬2). وقال ابن قدامة: "إن وجد اللقطة اثنان، فهي بينهما؛ لأنهما اشتركا في السبب، فاشتركا في الحكم، وإن ضاعت من واجدها، فوجدها آخر ردها على ¬
الأول؛ لأنه قد ثبت له الحق فيها، فوجب ردها إليه كالملك". وإن رآها اثنان، فرفعها أحدهما فهي له؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو له) (¬1). وإن رآها أحدهما فقال للآخر: ارفعها ففعل، فهي لرافعها؛ لأنه مما لا يصح التوكيل فيه" (¬2). قال في الإنصاف: "لو رأى اللقطة اثنان. فقال أحدهما للآخر: هاتها، فأخذها لنفسه. فهي للآخذ، وإن أخذها للآمر، فهي له أعني للآمر كما في التوكيل في الاصطياد. ذكر ذلك المصنف وغيره" (¬3). وفي شرح منتهى الإرادات: "فإن قال أحدهما لصاحبه: ناولني فأخذه الآخر، فإن نوى أخذه لنفسه فهو أحق به، كما لو لم يأمره الآخر، وإن نوى المناولة فهو للآمر لفعله ذلك بنية النيابة عنه إن صحت الوكالة في الالتقاط" (¬4). ¬
وفي أسنى المطالب: "لو التقط اثنان لقطة عرف كل منهما سنة قال ابن الرفعة وهو الأشبه؛ لأنه في النصف كملتقط واحد. وقال السبكي: بل الأشبه أن كلا منهما يعرفها نصف سنة؛ لأنهما لقطة واحدة، والتعريف من كل منهما لكلها لا لنصفها، وإنما تقسم بينهما عند التملك. قال الأذرعي: وهذا ظاهر، وقد قالوا: يبني الوارث على تعريف مورثه، نعم لو أقاما معرفا واحدا، أو أذن أحدهما للآخر فلا تردد فيما رآه" (¬1). ¬
الفصل الخامس إذا ادعى اللقطة اثنان
الفصل الخامس إذا ادعى اللقطة اثنان [م - 2020] إذا ادعى ملكية اللقطة اثنان فأكثر، ووصفوها، فمن قال: إن الدفع يتوقف على إقامة البينة لم ير دفعها إلى أي واحد منهم، وهذا مذهب الحنفية والشافعية (¬1). جاء في فتح القدير: "لو ادعى اثنان عينا في يد ثالث وذكر أحدهما علامة لا يفيد شيئا، وكذا في دعوى اللقطة لا يجب الدفع بالوصف؛ لأن سبب الاستحقاق هناك ليس مجرد الدعوى بل البينة، فلو قضى له لكان إثبات الاستحقاق ابتداء بالعلامة، وذلك لا يجوز، إنما حال العلامة ترجيح أحد السببين على الآخر" (¬2). وفي مغني المحتاج: "أما إذا وصفها جماعة، فقال القاضي أبو الطيب: أجمعنا على أنها لا تسلم إليهم" (¬3). ومن قال: إن الدفع يكون لمن وصفها، فإذا وصفاها فقد اختلفوا على قولين: القول الأول: تحالفا وقسمت بينهما، ويقضى للحالف على الناكل، وهذا مذهب المالكية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة. ¬
وقال المالكية: وكذا لو نكلا (¬1). جاء في شرح الخرشي: "اللقطة إذا وصفها شخص وصفًا يستحقها به، وقبضها, ولم ينفصل بها انفصالًا يمكن معه إشاعة الخبر، ثم جاء شخص آخر فوصفها مثل وصف الأول، فإن كل واحد منهما يحلف أنها له، وتقسم بينهما، وكذا لو نكلا ويقضى للحالف على الناكل" (¬2). القول الثاني: يقرع بينهما، فمن قرع صاحبه حلف، وأخذها، وهو أحد الوجهين في مذهب الحنابلة، قال في الإنصاف: وهو المذهب (¬3). قال ابن رجب في القواعد: "اللقطة يجب دفعها إلى واصفها نص عليه، وإن وصفها اثنان فهي لهما، وقيل: يقرع بينهما" (¬4). ¬
الفصل السادس في الاتجار في اللقطة
الفصل السادس في الاتجار في اللقطة [م - 2021] الاتجار في اللقطة بعد أن يقوم بتعريفها سنة كاملة يرجع الخلاف فيها إلى الخلاف في حكم تملك اللقطة. فالحنفية إن كان الملتقط غنيًّا وجب عليه إما حفظها لصاحبها، أو التصدق بها عنه بشرط ضمانها، وإن كان فقيرًا صح له أن ينتفع بها. والجمهور على جواز تملكها. وسبق بحث هذه المسألة في مبحث مستقل. وأما الاتجار بها قبل أن تنتهي السنة الأولى فالفقهاء بالاتفاق يرون أن يد الملتقط على اللقطة يد أمانة وحفظ خلال الحول، وإذا اتجر فيها خلال هذه المدة فهو ضامن لها بالاتفاق؛ لأن في ذلك تعريضا لها للهلاك أو الضياع أو النقص بفعل من الملتقط عن قصد، إذ التجارة تحتمل الربح والخسارة، والملتقط ممنوع من تعريض ما التقطه للهلاك أو الضياع أو النقصان قبل تملكه. واختلفوا في مسألتين منه: المسألة الأولى: هل فعله محرم أو مكروه. والمسألة الثانية: إذا اتجر فيها وربحت خلال الحول وجاء صاحبها وقد ربحت، فهل يملك الربح أو يكون الربح لمالكها؟ والخلاف فيها كالخلاف في الاتجار في الوديعة بدون إذن صاحبها، فإن كلًّا من الوديعة وكذا اللقطة في السنة الأولى خلال التعريف أمانة للحفظ دون التصرف.
جاء في المدونة: "أرأيت رجلًا حرًّا وجد لقطة ... أيتجر بها في السنة التي يعرفها في قول مالك؟ قال: قال مالك في الوديعة: لا يتجر فيها، فأرى اللقطة بمنزلة الوديعة في السنة التي يعرفها فيها أنه لا يتجر بها, ولا بعد السنة أيضا؛ لأن مالكًا قال: إذا مضت السنة لم آمره بأكلها" (¬1). وإذا كان الخلاف فيها كالخلاف في الوديعة، فسوف نعرض لحكم الوديعة في المسألتين، وينزل الخلاف في الوديعة على الخلاف في اللقطة: المسألة الأولى: حكم الاتجار في الوديعة: [م - 2022] اختلف الفقهاء في حكم الاتجار في الوديعة على قولين: القول الأول: ذهب المالكية إلى أن الاقتراض من الوديعة بدون إذن صاحبها ليس حرامًا إذا تحقق شرطان: أن يكون المال مثليًّا، وأن يكون المتصرف مليئًا. فالمالكية يرون أنه يحرم على الوديع أن يستلف من الوديعة إن كان فقيرًا، سواء أكانت الوديعة من القيميات أم من المثليات، وذلك لتضرر مالكها بعدم الوفاء نظرًا لإعدامه. وأما إن كان موسرًا، فإن كانت الوديعة عرضًا قيميًّا فيحرم على الوديع اقتراضها؛ لانعدام المثل هنا. وإن كانت الوديعة مثلية، فإن كانت نقودًا، فيكره على الوديع اقتراضها؛ لأن المثل هنا يقوم مقام العين. ¬
وقيل يجوز بلا كراهة (¬1). وإن كانت الوديعة المثلية ليست نقودًا، فإن كانت مما يكثر اختلافه، ولا يتحصل أمثاله، فيحرم اقتراضها كالقيميات، وإلا فيجوز تسلفها كالدراهم والدنانير في ظاهر المدونة (¬2). القول الثاني: يحرم عليه الاقتراض من الوديعة بدون إذن صاحبها، وبهذا قال الحنفية، والشافعية، والحنابلة (¬3). ¬
وسبق ذكر أدلة المسألة في عقد الوديعة عند الكلام على حكم الاقتراض من الوديعة. وقد ترجح لي في المسألة: أنه لا يجوز الاقتراض من الوديعة مطلقًا حتى ولو كانت الوديعة مثلية كالدراهم، وسواء كان المقترض معسرًا أو كان موسرًا، لأن يد المودع يد أمانة، وقد وضعت على هذا المال للحفظ، وليس لشيء آخر، واقتراضها بدون إذن صاحبها يحوله إلى رجل غير أمين، فالإيداع عقد على حفظ العين، فهي تتعين بالتعيين، ولو كانت من الدراهم. نعم يجوز إقراض الوديعة إذا كان رفقًا بالمالك، كما لو أقرض الوصي والولي مال الصغير إذا خاف عليه من السرقة فيجوز إقراضه لمن كان موسرًا، وأخذ رهنًا بذلك. وكما يجوز للوديع إذا خاف على الوديعة أن يقرضها للبنوك، باعتبار أن ودائع البنوك قروض على الصحيح وإن سماها الناس ودائع. وإذا كان هذا هو الراجح والله أعلم كان الاتجار في اللقطة لا يجوز في السنة الأولى خلال التعريف؛ لأن حكمها حكم الوديعة. المسألة الثانية: إذا اتجر فيها وربح، فلمن يكون هذا الربح؟ [م - 2023] وإذا كانت الاتجار في اللقطة يأخذ حكم الاتجار في الوديعة، فإن في ذلك خلافًا أيضًا كالخلاف الواقع في الوديعة. ¬
القول الأول: الربح لملتقط اللقطة؛ لأنه ضامن لها. وهذا مذهب المالكية. وقال الباجي في المنتقى شرحًا لقول مالك في الموطأ: "قال يحيى: سمعت مالكًا يقول: إذا استودع الرجل مالًا فابتاع به لنفسه، وربح فيه، فإن ذلك الربح له؛ لأنه ضامن للمال حتى يؤديه إلى صاحبه. اهـ قال الباجي: وهذا على حسب ما قال: إن من اتجر بمال استودعه فربح فيه، فإن الربح له ... " (¬1). القول الثاني: يتصدق به، وهذا مذهب الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد (¬2). القول الثالث: أن الملتقط إذا اتجر فباع واشترى بها، فهو غاصب، وأما حكم تصرفه: فبيع الأعيان باطل مطلقًا، والبيع منقوض وإن تعددت، وهي مستردة ما دامت الأعيان قائمة، والأعيان المأخوذة في مقابلتها مردودة على ملاكها. وإن اشترى باللقطة، فإن كان الشراء بأعيانها فالشراء باطل كذلك. وإن كان يشتري بذمته، ثم يؤدي الثمن من اللقطة، فالشراء ثابت له، فإذا ملك السلع، ثم ربح فيها، فله الربح، وما كان من خسارة فعليه، وعليه مثل الدراهم والدنانير التي غصبها، وهذا آخر قولي الشافعي، وعليه أكثر أصحابه (¬3). ¬
وهي رواية في مذهب الحنابلة في التعامل مع الغاصب (¬1). قال ابن المنذر: "وإذا تعدى المودع في الوديعة واشترى بها شيئًا نظر، فإن اشترى السلعة بعين المال فالشراء فاسد، ولم يملك السلعة، فإن اشترى السلعة بغير عينها فالشراء صحيح، ويضمن مثل المال الذي أتلف والربح له" (¬2). القول الرابع: أن الربح للمالك، وهذا مذهب الحنابلة. قال في الإنصاف: "لو اتجر الوديعة، فالربح للمالك على الصحيح من المذهب، ونص عليه في رواية الجماعة، ونقل حنبل ليس لواحد منهما، ويتصدق به، قال الحارثي: وهذا من الإمام أحمد مقتض لبطلان العقد، وذلك وفق المذهب المختار في تصرف الغاصب، وهو أقوى. انتهى .. " (¬3). وقد سبق أن تكلمنا على أدلة هذه الأقوال في عقد الوديعة، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا. ¬
الفصل السابع في النفقة على اللقطة
الفصل السابع في النفقة على اللقطة [م - 2024] اختلف العلماء في الرجل ينفق على اللقطة، فيأتي صاحبها، هل يرجع بما أنفقه عليها؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم: القول الأول: إذا أنفق الملتقط بغير إذن الحاكم فهو متبرع، وإن قال له القاضي: أنفق لترجع رجع على المالك بما أنفق، وإن أمره القاضي بالإنفاق ولم يذكر الرجوع لم يكن دينًا في الأصح. وإذا رفع ذلك إلى الحاكم نظر فيه: فإن كان للبهيمة منفعة آجرها وأنفق عليها من أجرتها؛ وإن لم تكن لها منفعة باعها إن كان أصلح, وإن كان الأصلح الإنفاق عليها أذن في ذلك وجعل النفقة دينا على مالكها وللقاضي أن يأمره بالنفقة اليومين والثلاثة رجاء أن يظهر مالكها فإذا لم يظهر يأمر ببيعها لئلا تستأصلها النفقة، فلا نظر في الإنفاق مدة مديدة. فإن جاء صاحبها فله حبسها حتى يعطيه النفقة (¬1). هذا ملخص مذهب الحنفية في النفقة والرجوع. جاء في حاشية ابن عابدين: "وهو في الإنفاق على اللقيط واللقطة متبرع؛ ¬
لقصور ولايته، إلا إذا قال له قاض: أنفق لترجع، فلو لم يذكر الرجوع لم يكن دينًا في الأصح" (¬1)؛ لأن الأمر متردد بين الحسبة والرجوع فلا يكون دينًا بالشك (¬2). وجاء في الهداية: وإن أنفق بأمره -أي بأمر القاضي- كان ذلك دينا على صاحبها؛ لأن للقاضي ولاية في مال الغائب" (¬3). ° وجه هذا القول: أن الملتقط إذا أنفق بلا إذن من الحاكم كان متبرعًا لقصور ولايته فصار كما لو قضى دين غيره بغير أمره. وإذا أنفق بإذن القاضي كان ذلك دينًا على مالكها؛ لأن للقاضي ولاية في مال الغائب نظرًا له، وقد يكون النظر للمالك يقتضي الإنفاق. وصورة إذن القاضي: أن يقول له: أنفق على أن ترجع، فلو أمره بالنفقة، ولم يذكر الرجوع لم يكن دينًا في الأصح؛ لأن الأمر متردد بين الحسبة والرجوع فلا يكون دينًا بالشك. وإذا كان للحيوان منفعة آجرها بإذن الحاكم؛ لأن في ذلك إبقاء للعين على مالكها من غير إلزام الدين عليه. وإن لم يكن لها منفعة وكان الأصلح في بيعها أمره القاضي ببيعها؛ لأنه إذا ¬
تعذر إبقاء عين المال لم يتعذر حفظ قيمته، وحفظ قيمته إبقاء للمال معنى عند تعذر إبقائه صورة. القول الثاني: ما أنفقه الملتقط على اللقطة فالمالك مخير بين أن يفتك اللقطة فيدفع ما أنفقه عليها وبين أن يترك اللقطة لمن التقطها في نفقته التي أنفق عليها، سواء أنفق يأمر السلطان أو بدونه، وسواء تجاوزت قيمته النفقة أم لا. وله أن يكري الدابة ونحوها كراء مأمونًا (¬1)، لا يخشى عليه منه؛ لأجل علفها والنفقة عليها. هذا ملخص مذهب المالكية (¬2). جاء في المدونة: "قال مالك في المتاع يلتقطه الرجل فيحمله إلى موضع من المواضع ليعرفه فيعرفه ربه، قال مالك: هو لصاحبه , ويدفع إليه هذا الكراء الذي حمله، فكذلك الغنم والبقر إذا التقطها رجل فأنفق عليها, ثم أتى ربها فإنه يغرم ما أنفق عليها الملتقط إلا أن شاء ربها أن يسلمها. قلت: أرأيت ما أنفق هذا الملتقط على هذه الأشياء التي التقطها بغير أمر السلطان، أيكون ذلك على رب هذه الأشياء إن أراد أخذها في قول مالك؟ ¬
قال: نعم، إن أراد ربها أخذها لم يكن له أن يأخذها حتى يغرم لهذا ما أنفق عليها، بأمر السلطان أو بغير أمر السلطان" (¬1). ° وجه هذا القول: النفقة تتعلق في ذات اللقطة لا في ذمة مالكها كالجناية في رقبة العبد إن أسلمه المالك لا شيء عليه، وإن أراد أخذه غرم أرش الجناية. وجاز له الكراء مع أن ربها لم يوكله فيه؛ لأن الدواب ونحوها لا بد لها من النفقة عليها، فكان ذلك أصلح لربها، وما زاد من كرائها على علفها فهو لربها. القول الثالث: ذهب الشافعية إلى أن من أنفق على اللقطة فهو متطوع بالنفقة لا يرجع على صاحبها بشيء، وإذا أراد الرجوع فلينفق بإذن الحاكم، فإن لم يجده أشهد (¬2). قال النووي في الروضة: "إذا أمسكها وتبرع بالإنفاق فذاك. وإن أراد الرجوع، فلينفق بإذن الحاكم، فإن لم يجد حاكمًا، أشهد" (¬3). ° وجه القول: أن الحاكم يقوم مقام الغائب في النظر في ماله، فإذا أنفق ولم يرجع إلى الحاكم مع إمكان الرجوع إليه فهو متبرع بالنفقة، وقد تكون المصلحة في غير ¬
الإنفاق كما لو كانت المصلحة في البيع، وحفظ الثمن، فإذا لم يكن هناك قاض، أشهد على النفقة، ورجع بها. القول الرابع: ذهب الحنابلة إلى أن الملتقط يرجع بما أنفق على الحيوان إن كانت النفقة بإذن حاكم، وإن لم تكن بإذنه ففيه روايتان، الصحيح من المذهب أن له الرجوع بما أنفقه إن نوى الرجوع، ما لم يتعد بأن التقطه لا ليعرفه، أو بنية تملكه في الحال (¬1). ° وجه هذا القول: أن الإنفاق على مال الغير إنقاذ له من التلف، فكان جائزًا، كذبح الحيوان المأكول إذا خيف موته، ولا يضمن ما نقص بذبحه. وقال ابن القيم: "ولأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض في الشفقة والنصيحة والحفظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولهذا جاز لأحدهم ضم اللقطة ورد الآبق وحفظ الضالة، حتى إنه يحسب ما ينفقه على الضالة والآبق واللقطة وينزل إنفاقه عليها منزلة إنفاقه لحاجة نفسه لما كان حفظًا لمال أخيه وإحسانًا إليه؛ فلو علم المتصرف لحفظ مال أخيه أن نفقته تضيع، وأن إحسانه يذهب باطلًا في حكم الشرع لما أقدم على ذلك، ولضاعت مصالح ¬
الناس، ورغبوا عن حفظ أموال بعضهم بعضًا، وتعطلت حقوق كثيرة، وفسدت أموال عظيمة، ومعلوم أن شريعة من بهرت شريعته العقول وفاقت كل شريعة واشتملت على كل مصلحة وعطلت كل مفسدة تأبى ذلك كل الإباء" (¬1). وهذا هو الراجح بشرط أن يكون ما يدعيه من النفقة قريبًا من نفقة مثله؛ لأنه أمين، والقول قوله في مقدار النفقة، والله أعلم. ¬
الفصل الثامن في الجعل على رد اللقطة
الفصل الثامن في الجعل على رد اللقطة [م - 2025] إذا التقط الرجل اللقطة، أو وجد ضالة في غير العبد الآبق فإن كان مالكها لم يجعل جعلا لمن وجدها لم يستحق شيئًا (¬1). قال ابن قدامة: "ومن رد لقطة أو ضالة، أو عمل لغيره عملًا غير رد الآبق بغير جعل لم يستحق عوضًا، لا نعلم في هذا خلافًا؛ لأنه عمل يستحق به العوض مع المعاوضة فلا يستحق مع عدمها كالعمل في الإجارة" (¬2). وأما في رد العبد الآبق، فهل يستحق الجعل بدون شرط، فيه ثلاثة أقوال: فقيل: لا يستحق العامل شيئًا مطلقًا، لا في الضال ولا في الآبق، وهذا مذهب الشافعية. وقيل: لا يستحق شيئًا في الضال، ويستحق في رد الآبق مطلقًا، سواء أكان معروفًا برد الإباق أم لا، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة. وقيل بالتفصيل: إن كان منتصبًا للعمل استحق جعل مثله، في الضال والإباق، وإن لم يكن منتصبًا للعمل استحق النفقة فقط، وهذا مذهب المالكية، وهذا كله سبق بحثه في عقد الجعالة فأغنى ذلك عن إعادته. وإن كان المالك قد جعل جعلًا فإن كان قد التقطها قبل أن يبلغه الجعل لم يستحق شيئًا كذلك. ¬
وإن كان قد التقطها من أجل الجعل، فإن كان ذلك في رد الآبق فقد اتفق الأئمة الأربعة على جواز الجعالة على رده، قال ابن قدامة: "لا نعلم فيه مخالفًا" (¬1). ولم يخالف في ذلك إلا ابن حزم. ° وجه المنع عند ابن حزم: يرى ابن حزم أن الجعالة ليست عقدًا، وإنما هي مجرد وعد، ويستحب له الوفاء. قال ابن حزم: "لا يجوز الحكم بالجعل على أحد، فمن قال لآخر: إن جئتني بعبدي الآبق ذلك دينار، أو قال: إن فعلت كذا وكذا علي درهم، أو ما أشبه هذا، فجاءه بذلك لم يقض عليه بشيء، ويستحب لو وفى بوعده ... إلا أن يستأجره على طلبه مدة معروفة، أو ليأتيه به من مكان معروف، فيجب له ما استأجره به" (¬2). وإن كان ذلك في غير رد الآبق كما في اللقطة والضالة من الدواب ونحوهما فقد اختلف الفقهاء في صحة الجعالة على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية إلى منع الجعالة في غير الآبق، وأجازوها في الآبق استحسانًا، صيانة للمال من الضياع (¬3). ¬
جاء في حاشية ابن عابدين: "رجل ضل له شيء، فقال: من دلني على كذا فله كذا، فهو على وجهين: إن قال ذلك على سبيل العموم، بأن قال: من دلني، فالإجارة باطلة؛ لأن الدلالة والإشارة ليست بعمل يستحق به الأجر. وإن قال على سبيل الخصوص، بأن قال لرجل بعينه: إن دللتني على كذا فلك كذا، إن مشى له فدله فله أجر المثل للمشي لأجله؛ لأن ذلك عمل يستحق بعقد الإجارة، إلا أنه غير مقدر بقدر، فيجب أجر المثل، وإن دله بغير مشي، فهو والأول سواء" (¬1). أي لا يستحق شيئًا. القول الثاني: ذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة إلى جواز الجعل مطلقًا في الآبق وغيره (¬2). وسبق ذكر أدلة المسألة في عقد الجعالة في المجلد العاشر، ورجحت جواز عقد الجعالة في الآبق وغيره، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا, ولله الحمد. ¬
الفصل التاسع في زكاة المال الملتقط
الفصل التاسع في زكاة المال الملتقط المبحث الأول زكاة المال الملتقط قبل التعريف [م - 2026] المال الملتقط قبل التعريف لا زكاة فيه على الملتقط؛ لأنه لم يدخل ملكه، والمال أمانة عنده إلا أن يلتقطها لنفسه، لا ليعرفها (¬1). وفي وجوبها على المالك إذا وجدها الخلاف في المال المغصوب والضال، وفيه ثلاثة أقوال: القول الأول: لا زكاة فيها لما مضى، بل يستأنف فيه حولًا جديدًا، وهو مذهب الحنفية، وقول في مذهب المالكية، والقول القديم للإمام الشافعي، ورواية في مذهب الحنابلة، رجحها ابن تيمية (¬2). ¬
القول الثاني: يزكيها لحول واحد، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬1). جاء في البيان والتحصيل: "وإذا وجد لقطة له سقطت منه، فوجدها بعد سنين، فليس عليه إلا زكاة واحدة ... " (¬2). القول الثالث: يزكيها لما مضى، اختاره سحنون من المالكية، وهو القول الجديد للإمام الشافعي، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). واستثنى سحنون ما إذا ضمنها الملتقط فإنه لا يزكيها مالكها إلا سنة واحدة , كما لو تسلفها؛ لأنها تكون في حكم الدين (¬4). قال الزركشي في شرحه على مختصر الخرقي: "لو لم يملكها الملتقط بعد الحول زكاها مالكها لجميع الأحوال على المذهب" (¬5). وذكر صاحب الإنصاف أن الزكاة في المال الضائع كالدين على المليء، ¬
فتجب الزكاة فيه إذا قبضه لما مضى، وهو الصحيح من المذهب، وقال في الفروع: اختاره الأكثر (¬1). جاء في فتح العزيز: "اللقطة في السنة الأولى باقية على ملك المالك فلا زكاة فيها على الملتقط، وفي وجوبها علي المالك الخلاف المذكور في المغصوب والضال" (¬2). وجاء في المهذب: "وأما المال المغصوب والضال فلا تلزمه زكاته قبل أن يرجع إليه، فإن رجع إليه من غير نماء ففيه قولان: قال في القديم: لا تجب؛ لأنه خرج عن يده وتصرفه، فلم تجب عليه زكاته كالمال الذي في يد مكاتبه. وقال في الجديد: تجب عليه؛ لأنه مال له يملك المطالبة به، ويجبر على التسليم إليه فوجبت فيه الزكاة كالمال الذي في وكيله" (¬3). وقال ابن قدامة: "وفي المغصوب والضالّ والدين على من لا يمكن استيفاؤه منه لإعسار أو جحد أو مطل روايتان: إحداهما: لا زكاة فيه؛ لأنه خارج عن يده وتصرفه، أشبه دين الكتابة، ولأنه غير تام أشبه الحلي. والثانية: فية الزكاة؛ لأن الملك فيه مستقر، ويملك المطالبة به فوجبت الزكاة فيه كالدين على مليء" (¬4). ¬
° الراجح: أرى أن القول بأنه يزكيه لسنة واحدة أعدل الأقوال، فهو كالثمرة تحصل في يده، والقول بوجوب زكاتها لما مضى مع عدم تمكنه من هذا المال فيه إجحاف له، والقول بأنه يستأنف حولًا جديدًا في إجحاف في حق الفقير، فالتوسط عدل، والله أعلم.
المبحث الثاني زكاة المال الملتقط بعد التعريف
المبحث الثاني زكاة المال الملتقط بعد التعريف [م - 2027] إذا قام واجد اللقطة بالتعريف سنة، فمن قال: إن اللقطة لا تملك كالحنفية فإنه لا زكاة على الواجد مطلقًا؛ لأنه لا سبيل له إلى تملك اللقطة، فهو إن كان غنيًّا وجب عليه أحد أمرين: حفظها لصاحبها، أو التصدق بها، وإن كان فقيرًا جاز له أكلها؛ لأنه من أهل الصدقة. وأما من قال بجواز تملكها، وهم الجمهور، سواء قلنا: تدخل في ملكه تلقائيًّا إذا عرفها سنة، أو قلنا: لا يملكها إلا إذا نوى تملكها، أو قلنا: يملكها إذا تلفظ بذلك، أو قلنا: يملكها إذا تصرف فيها، وكلها أقوال في المسألة، وسبق بحث هذه المسألة مع ذكر أدلة كل قول. فإذا تملك الواجد اللقطة، فهل تجب عليه زكاته، في المسألة قولان: القول الأول: تجب عليه الزكاة إذا حال عليها الحول من تملكه لها، وهذا هو مذهب المالكية، والأصح في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). قال الدردير: "وضائعة سقطت من ربها ثم وجدها بعد أعوام فتزكى لعام واحد ولو التقطت، ما لم ينو الملتقط تملكها ثم يمر عليها عام من يوم نوى ¬
التملك فإنها تجب على الملتقط وتسقط عن ربها" (¬1). قال الدسوقي تعليقًا: "إن كان عنده ما يجعل في مقابلتها، وإلا لم تجب عليه" (¬2). وجاء في المجموع: "إذا تملكها الملتقط فلا تجب زكاتها على المالك لخروجها عن ملكه ... ثم الملتقط مديون بالقيمة فإن لم يملك غيرها ففي وجوب الزكاة عليه الخلاف الذي سنذكره إن شاء الله تعالى أن الدين هل يمنع وجوب الزكاة أم لا؟ وإن ملك غيرها شيئًا يفي بالزكاة، فوجهان مشهوران: الصحيح باتفاق الأصحاب وجوب الزكاة إذا مضى عليه حول من حين ملك اللقطة؛ لأنه ملك مضى عليه حول في يد مالكه. والثاني: لا تجب لضعفه لتوقع مجيء المالك. قال أصحابنا: هما مبنيان على أن المالك إما ظفر باللقطة بعد أن تملكها الملتقط، هل له الرجوع في عينها، أم ليس له إلا القيمة؟ فيه وجهان مشهوران، فإن قلنا: يرجع في عينها فملك الملتقط ضعيف؛ لعدم استقراره فلا زكاة، وإلا وجبت. أما إذا قلنا لا يملك الملتقط إلا بالتصرف فلم يتصرف كما إذا لم يتملك وقلنا لا يملك إلا به، والله أعلم" (¬3). ¬
وقال في الإنصاف: "إذا ملك الملتقط اللقطة بعد الحول استقبل بها حولًا، وزكاها على الصحيح من المذهب، نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب ... " (¬1). وقال ابن قدامة: "وإذا حصل الضال في يد الملتقط فهو في حول التعريف على ما ذكرناه، وفيما بعده يملكه الملتقط فزكاته عليه دون ربه. ويحتمل أن لا تلزمه زكاته، ذكره ابن عقيل؛ لأن ملكه غير مستقر؛ إذ لمالكه انتزاعه منه عند مجيئه، والأول أصح؛ لأن الزكاة تجب في الصداق قبل الدخول، وفي المال الموهوب للابن مع جواز الاسترجاع" (¬2). القول الثاني: لا يلزمه زكاتها، وهذا مذهب الحنفية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). جاء في المحيط البرهاني نقلًا عن محمد: "رجل له ألف درهم التقط لقطة ألف درهم، وعرفها سنة، ثم تصدق بها، ففي القياس لا زكاة عليه في ألف؛ لأن صاحب اللقطة إن شاء ضمنها إياه، ولكن يستحسن بأن يزكها قال: وبه نأخذ" (¬4). ¬
° وجه القول بعدم زكاتها: اختلفوا في توجيه القول بعدم زكاتها على قولين: أحدها: أنه إذا تصرف فيها كانت مضمونة عليه بمثلها، أو بقيمتها، فتكون دينًا عليه في الحقيقة. حكاه القاضي أبو يعلى من الحنابلة، وهو مذهب الشافعي. ويناقش: بأنه على القول بأن الدين يمنع الزكاة، وفيه خلاف مشهور، فإن الدين إنما يمنع إذا نقص به النصاب. التوجيه الثاني: اختار ابن عقيل أن عدم الزكاة فيها؛ لأن ملكه لها غير مستقر لاحتمال ظهور صاحبها (¬1). ° الراجح: وجوب الزكاة على الملتقط إذا مضى عليها حول كامل من تملكها له، وأما قبل تملكه لها فلا تجب عليه زكاتها، والله أعلم. ¬
الباب الرابع في استرداد اللقطة
الباب الرابع في استرداد اللقطة الفصل الأول في اشتراط البينة لاسترداد اللقطة [م - 2028] إذا جاء طالب اللقطة، فأعطى علامة العفاص والوكاء فهل تدفع إليه بذلك، أو لا بد من البينة؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يستحق اللقطة بوصفها وليس عليه أن يقيم البينة، ويجبر الملتقط على دفعها إليه، وهذا مذهب المالكية، والحنابلة (¬1). واختلف المالكية هل تدفع إليه باليمين؟ فقال ابن القاسم: لا يحلف، وقال أشهب: وسحنون: يحلف. ¬
قال القرافي: "إذا وصف عفاصها ووكاءها وعدتها أخذها وجوبا السلطان على ذلك" (¬1). وقال ابن جزي: "وإن عرف عفاصها ووكاءها وعددها دفعت إليه وليس عليه أن يقيم البينة عليها" (¬2). قال ابن رشد: "هذا قول مالك رحمه الله، وجميع أصحابنا، لا اختلاف بينهم فيه" (¬3). وقال ابن قدامة: "فإن جاء ربها فوصفها له، دفعت إليه بلا بينة، يعني إذا وصفها بصفاتها المذكورة، دفعها إليه، سواء غلب على ظنه صدقه أو لم يغلب، وبهذا قال مالك ... وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجبر على ذلك إلا ببينة" (¬4). وجاء في الإنصاف: "فمتى جاء طالبها، فوصفها , لزمه دفعها إليه، يعني: من غير بينة ولا يمين بلا نزاع، وسواء غلب على ظنه صدقه، أو لا على الصحيح من المذهب نص عليه" (¬5). القول الثاني: إن وقع في نفسه صدقه جاز أن يدفعها إليه بالصفة، ولا يجبر على ذلك قضاء ¬
إلا ببينة، وهذا مذهب الحنفية والشافعية (¬1). قال الحنفية: إذا دفعها بالعلامة أخذ منه كفيلًا استيثاقًا (¬2). جاء في الهداية: "وإذا حضر رجل فادعى اللقطة لم تدفع إليه حتى يقيم البينة، فإن أعطى علامتها حل للملتقط أن يدفعها إليه ولا يجبر على ذلك في القضاء ... ويأخذ منه كفيلًا إذا كان يدفعها إليه استيثاقًا، وهذا بلا خلاف" (¬3). وفي الاختيار لتعليل المختار: "ومن ادعى اللقطة يحتاج إلى البينة؛ لأنها دعوى، فإن أعطى علامتها جاز له أن يدفعها إليه، ولا يجبر؛ لجواز أنه عرفها من صاحبها أو رآها عنده" (¬4). وفي الدر المختار: "وله أخذ كفيل إلا مع البينة في الأصح" (¬5). وقال الإمام الشافعي في الأم: "إذا عرف رجل العفاص والوكاء والعدد والوزن ووقع في نفسه أنه لم يدع باطلا أن يعطيه، ولا أجبره في الحكم إلا ببينة تقوم عليها كما تقوم على الحقوق" (¬6). ¬
القول الثالث: ذهب بعض متأخري الشافعية إلى قول ثالث، حيث قالوا: يجب الدفع لمن أصاب الوصف إذا كان ذلك قبل التملك؛ لأنه حينئذ مال ضائع لم يتعلق به حق ثان، بخلاف ما بعد التملك فإنه حينئذ يحتاج المدعي إلى البينة لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - البينة على المدعي (¬1). وكأن هذا القول حاول أن يجمع بين حديث اللقطة، وحديث البينة على المدعي. ° دليل من قال: إذا وصفها دفعت إليه: الدليل الأول: من القرآن الكريم، قال ابن رشد: "ومما يعتبر به في دفع اللقطة إلى صاحبها بالصفة قول الله عز وجل: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (¬2) [يوسف: 26، 27]. وجه الاستدلال: حيث جعل صفة الخرق في القميص دليلًا على الإدانة والبراءة، ولم يتوقف ذلك على البينة، فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم. ¬
الدليل الثاني: (ح-1239) ما رواه البخاري في قصة المتلاعنين، وفيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انظروا فإن جاءت به أسحم، أدعج العينين، عظيم الأليتين، خدلج الساقين، فلا أحسب عويمرًا إلا قد صدق عليها، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة، فلا أحسب عويمرًا إلا قد كذب عليها، فجاءت به على النعت الذي نعت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تصديق عويمر، فكان بعد ينسب إلى أمه (¬1). (ح-1240) وفي البخاري أيضًا في قصة تلاعن هلال بن أمية في قذفه لامرأته، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين، فهو لشريك بن سحماء، فجاءت به كذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن (¬2). فهذا دليل على العمل بالأمارات، ومنها الأخذ بالعلامة والوصف. الدليل الثالث: (ح- 1241) ما رواه مسلم من طريق حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة الرأي، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني مرفوعًا: وفيه: فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها، وعددها ووكاءها، فأعطها إياه وإلا فهي لك (¬3). ¬
وأجيب عن الحديث بجوابين: الجواب الأول: قال النووي في شرح مسلم: "المراد أنه إذا صدقه جاز له الدفع إليه ولا يجب، فالأمر بدفعها بمجرد تصديقه ليس للوجوب والله أعلم" (¬1). ويجاب: بأن الحديث فيه الأمر بدفعها إليه بمجرد وصفها، والأصل في الأمر الوجوب. الجواب الثاني: أن حماد بن سلمة قد تفرد بزيادة: (فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه، وإلا فهي لك). وهذا ما ذهب إليه أبو داود في سننه، قال: "وهذه الزيادة التي زادها حماد بن سلمة ... (إن جاء صاحبها فعرف عفاصها ووكاءها فادفعها إليه) ليست بمحفوظة فعرف عفاصها ووكاءها ... " (¬2). قلت: قد تابعه سفيان الثوري عن ربيعة، إلا أن سفيان قد اختلف عليه فيه (¬3). ¬
وقد رواه جمع عن ربيعة الرأي: منه مالك، وإسماعيل بن جعفر، وسليمان بن بلال، وعمرو بن الحارث، وأيوب بن موسى ولم يقل أحد منهم ما ذكره حماد: (فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها ووكاءها فأعطها إياه) (¬1)، إلا ما قاله سفيان على اختلاف عليه في لفظه، فأعتقد أن من قال: فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها ووكاءها إنما رواه بالمعنى؛ إذ يبعد أن يكون الجميع لفظًا ¬
محفوظًا في الحديث، والقصة واحدة ثم يتفق هذا العدد الكثير على عدم ذكر ما ذكره حماد إلا ما اختلف فيه على سفيان، والله أعلم. هذا بالنسبة للاختلاف على رواية ربيعة عن يزيد مولى المنبعث، أما رواية يحيى بن سعيد الأنصاري، عن يزيد مولى المنبعث. فرواه حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد كما سبق بذكر (فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها). وخالفه سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، رواه البخاري ومسلم (¬1)، بلفظ: (فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه) هذا لفظ مسلم. وكما أن حماد بن سلمة، وكذا رواية سفيان الثوري من رواية محمد بن يوسف عنه جاء فيه من حديث زيد بن خالد الجهني: (فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها ووكاءه) جاء ذلك أيضًا من رواية حماد بن سلمة والثوري وزيد بن أبي أنيسة من مسند أبي بن كعب، فإن كان محفوظًا فذاك، وإلا حمل على أحد أمرين: أحدهما: أن يكون هذا من رواية الحديث بالمعنى. الثاني: أن يكون دخل لفظ حديث زيد بن خالد على لفظ حديث أبي بن كعب، وإن كان هذا الاحتمال لا يقال إلا بقرينة، وقرينة ذلك أن يقال: إن من تفرد بذكر ذلك من حديث زيد بن خالد هو من تفرد بذكر هذا من حديث أبي بن كعب إلا ما كان من زيد بن أبي أنيسة فهو لم يرو حديث زيد بن خالد (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ومن أجل هذا الاختلاف في لفظ الحديث اختلف الفقهاء في الغاية من الأمر النبوي الكريم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اعرف عفاصها ووكاءها): فقيل: فائدة ذكر عفاصها ووكائها حتى إذا جاء من يذكر صفتها دفعت إليه بلا بينة، وهذا مذهب المالكية والحنابلة. وأما من قال: إن اللقطة لا يجب دفعها إلا بالبينة، فقال: أن الفائدة من حفظ عفاصها ووكائها أمور منها: الأول: من أجل أن تتميز عن ماله فلا تختلط به. الثاني: أن العادة جارية بإلقاء الوكاء والوعاء إذا استنفقها، فأمره بمعرفتها وحفظها حتى إذا ما جاء صاحبها بعد استنفاقها أمكنه أن يدفع إليه بدلها. الثالث: أمره بحفظ وعائها ووكائها حتى تكون الدعوى فيها معلومة؛ لأن الدعوى المبهمة لا تقبل. الدليل الثاني: لا يقدر كل أحد أن يقيم بينة على كل ما يملك من مال، فلو كانت اللقطة لا ترد إلا على من يملك بينة على ملكه لها فإن هذا يعني أن يذهب أكثر الأموال الضائعة على أصحابها، فلا تكاد تجد أحدًا يستطيع أن يقدم ببينة على ملكه لآحاد ماله، فإذا وصف ماله وصفًا مطابقًا, ولم يوجد ما يعارض ذلك كان ذلك قرينة على صدقه، فجاز دفعه إليه. قال ابن بطال: "لو لم يجب عليه دفعها إلى من يأتي بصفتها لم يكن لمعرفة
صفتها معنى، ولو كلف البينة لتعذر عليه, لأنه لا يعلم متى تسقط فيشهد عليها من أجل ذلك" (¬1). ° دليل من قال: لا يجبر على دفع اللقطة إلا ببينة: (ح-1242) ما رواه مسلم من طريق أبي الأحوص، عن سماك، عن علقمة بن وائل عن أبيه، في قصة الحضرمي والكندي اللذين اختلفا في الأرض، وفيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للحضرمي: ألك بينة، قال: لا. قال: ذلك يمينه ... الحديث (¬2). (ح-1243) ولما روى البخاري ومسلم من طريق ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه (¬3). فهذا الرجل يدعي ملك اللقطة، فهو مدع، والدعوى لا تثبت إلا ببينة. ويجاب عن هذين الحديثين بأجوبة، منها: الجواب الأول: أن يقال: إن حديث البينة على المدعي هذا حديث عام في اللقطة وغيرها، وحديث: إذا جاء صاحبها فعرف عفاصها ووكاءها فأعطها إياه) حديث خاص، والحديث الخاص مقدم على الحديث العام، فيكون حديث البينة على المدعي خص منه مدعي اللقطة، والله أعلم. ¬
الجواب الثاني: أن البينة تطلب في مسألة يكون فيها مدع ومنكر، واللقطة فيها مدع، وليس فيها منكر، ولهذا لو أخذنا بظاهر الحديث لقلنا: لا يجوز دفعها بالصفة مطلقًا حتى ولو غلب على ظنه صدقه، وقد أجاز الحنفية والشافعية جواز الدفع إليه بالوصف إلا أنهم لم يوجبوه، فلما جوزوا الدفع بلا بينة فقد خالفوا حديث البينة على المدعي. قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: "اللقطة إذا جاء من وصفها، فإنها تدفع إليه بغير بينة بالاتفاق، لكن منهم من يقول: يجوز الدفع إذا غلب على الظن صدقه، ولا يجب، كقول الشافعي وأبي حنيفة، ومنهم من يقول: يجب دفعها بذكر الوصف المطابق، كقول مالك وأحمد" (¬1). الجواب الثالث: أن البينة في الشرع: هو ما أبان الحق وأظهره، ووصفها هو بينتها، وهذه قاعدة عامة في كل الأحوال التي يدعيها أحد، ولا يكون له فيها منازع، فيكتفى بوصفه إياها، كالأموال المنهوبة والمغصوبة, والمسروقة إذا وجدت مع اللصوص وقطاع الطريق ونحوهم، فيكتفى فيها بالصفة (¬2). ° الراجح: أن اللقطة تدفع لمن وصفها وصفًا مطابقًا إذا ذكر أكثر صفاتها, ولا ضمان على دافعها ولو ظهر لها مالك آخر بعد دفعه لها، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني في استرداد اللقطة بمعرفة بعض صفاتها
الفصل الثاني في استرداد اللقطة بمعرفة بعض صفاتها [م - 2029] إذا ادعى اللقطة فعرف بعض صفاتها كعفاصها وجنسها وجهل عددها ووزنها، فهل تدفع إليه؟ أما من قال: لا يجب دفع اللقطة بذكر العلامات وحدها إذا لم يكن هناك بينة كمذهب الحنفية والشافعية فهذا المسألة لا تتنزل على مذهبهم (¬1). وأما من قال: تدفع اللقطة بذكر علاماتها، فقد اختلفوا على قولين: القول الأول: لا بد من ذكر الوكاء والعفاص والعدد إن كانت دراهم أو دنانير، وهو قول ابن القاسم وأشهب (¬2). قال الباجي في المنتقى: "والمراعى فيما يصف من ذلك صفة العفاص والوكاء والعدد إن كانت دراهم أو دنانير، قاله ابن القاسم وأشهب، وعند أصبغ: العفاص والوكاء" (¬3). قال ابن حجر في الفتح: "وقول بن القاسم أقوى؛ لثبوت ذكر العدد في ¬
الرواية الأخرى وزيادة الحافظ حجة" (¬1). وفي مواهب الجليل: "اعتبار عدد الدنانير والدراهم قولان، قال في التوضيح القول الأول باعتباره لابن القاسم والأخير لأصبغ والأول أظهر ... " (¬2). القول الثاني: لا يشترط معرفة العدد إذا عرف العفاص والوكاء، وهو قول أصبغ وابن رشد من المالكية، وابن عبد البر، وهو المشهور (¬3). جاء في التاج والإكليل: قال "ابن رشد: أما جهله بالعدد فلا يضره إذا عرف العفاص والوكاء" (¬4). قال ابن عبد البر: "وتدفع اللقطة إلى متعرفها إن عرف عفاصها ووكاءها، وإن لم يعرف عدد دنانيرها ودراهمها, ولا صفة سكتها" (¬5). ويرجع الخلاف في اشتراط ذكر العدد، أنه قد اختلف في ذكره في رواية زيد بن خالد، وجاء ذكر العدد في رواية أبي بن كعب، فمن رأى أن ذكر العدد في رواية زيد بن خالد زيادة من حافظ، وقد تأكد ذلك في رواية أبي بن كعب ذهب إلى اعتبار اشتراط ذكر العدد في ذكر صفات اللقطة. ¬
ومن رأى أن أكثر الرواة في حديث زيد بن خالد قد اكتفوا بذكر العفاص والوكاء، وأن العدد تارة يذكر في صفاتها، وتارة لا يذكر أخذ من ذلك أنه لا يشترط استقصاء جميع الصفات، فإذا جاء ببعض صفاتها دفعت إليه. إذا علم ذلك نأتي لتخريج رواية ذكر العدد في الحديثين ليعلم ما هو المحفوظ ن الشاذ. جاء ذكر العدد في حديث زيد بن خالد: (ح-1244) رواه مسلم وغيره من طريق أبي بكر الحنفي، عن الضحاك بن عثمان، عن أبي النظر، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن خالد الجهني قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة، فقال: عرفها سنة فإن اعترفت فأدها، وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها وعددها، ثم كلها، فإن جاء صاحبها فأدها إليه (¬1). اختلف فيه على الضحاك بن عثمان: فرواه مسلم وغيره من طريق عبد الله بن وهب، حدثني الضحاك بن عثمان به، ولم يذكر العدد. وتابعه ابن أبي فديك عند أحمد (¬2)، وأبي داود (¬3)، فرواه عن الضحاك به، ولم يذكر العدد. وخالفهما في ذلك أبو بكر الحنفي، عند مسلم (¬4)، فرواه عن الضحاك بن عثمان بذكر العدد. ¬
وعبد الله بن وهب أرجح من أبي بكر الحنفي، وقد توبع عبد الله بن وهب في ذا الإسناد. كما جاء ذكر العدد من طريق حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة الرأي، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني، رواه مسلم بلفظ: (فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها، وعددها ووكاءها، فأعطها إياه وإلا فهي لك). وقد خالف حمادًا جمع من الرواة ممن رووه عن ربيعة الرأي، ويحيى بن سعيد الأنصاري فلم يذكروا العدد، منهم: الأول: مالك كما في صحيح البخاري ومسلم وأكتفي بالصحيحين عن غيرهما (¬1). الثاني: إسماعيل بن جعفر، كما في صحيح البخاري ومسلم (¬2) وأكتفي بالصحيحين عن غيرهما. الثالث: سفيان الثوري، كما في صحيح البخاري (¬3). الرابع: سليمان بن بلال كما في صحيح البخاري، وأكتفي بالبخاري عن غيره (¬4). الخامس: عمرو بن الحارث، كما في صحيح ابن حبان (¬5). ¬
السادس: أيوب بن موسى، كما في معجم الطبراني في الأوسط وفي الكبير (¬1)، كلهم رووه عن ربيعة، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني، بدون ذكر العدد. ومالك وحده أو الثوري وحده مقدم على حماد بن سلمة، فكيف بهؤلاء الجماعة. أما من رواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري مخالفًا لحماد: فقد رواه البخاري ومسلم (¬2)، من طريق سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد الأنصاري به بدون ذكر العدد موافقًا لرواية الجماعة عن ربيعة الرأي. لهذا أستطيع أن أقول إن المحفوظ من حديث زيد بن خالد الجهني ذكر العفاص والوكاء بدون ذكر العدد، والذي ذكرها كالضحاك بن عثمان قد اختلف عليه فيه، ومن رواها عنه بدون ذكر العدد أكثر وأتقن حفظًا ممن ذكرها، وأما رواية حماد بن سلمة فإنها لا تقوى على مخالفة الأئمة من مثل مالك والثوري ومن تابعهما، والله أعلم. ويبقى ذكر العدد قد جاء من رواية أبي بن كعب: (ح-1245) فقد روى البخاري ومسلم من طريق غندر، حدثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، قال: سمعت سويد بن غفلة، عن أبي بن كعب، قال: إني وجدت صرة فيها مائة دينار على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيت بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: عرفها حولًا، قال: فعرفتها فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته، فقال: عرفها ¬
حولًا، فعرفتها، فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته، فقال: عرفها حولًا، فعرفتها فلم أجد من يعرفها، فقال: احفظ عددها، ووعاءها، ووكاءها، فإن جاء صاحبها وإلا، فاستمتع بها، فاستمتعت بها, فلقيته بعد ذلك بمكة، فقال: لا أدري بثلاثة أحوال أو حول واحد. واللفظ لمسلم، وفيه قصة لسلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان مع سويد بن غفلة. ورواه مسلم من طريق بهز عن شعبة، به، وفيها: قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول: عرفها عامًا واحدًا (¬1). وجاء ذكر العدد من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده إلا أنه قد اختلف فيه على عمرو في ذكر العدد. فأخرجه الطوسي في مستخرجه على جامع الترمذي (¬2) من طريق حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمرو، عن عمرو بن شعيب به، بلفظ: (اعرف عددها ووعاءها وعفاصها، ثم عرفها عامًا، فإن جاء صاحبها فعرف عددها ووعاءها وعفاصها فادفعها إليه، وإلا فهي لك). وعلقه أبو داود في سننه (¬3). وانفرد حماد بن سلمة بذكر العدد، فقد رواه ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد، وأبو داود من طريق محمد بن إسحاق (¬4). ¬
ورواه أحمد من طريق عبد الرحمن بن الحارث (¬1). ورواه ابن أبي شيبة أيضًا من طريق هشام بن سعد (¬2). ورواه النسائي من طريق عبيد الله بن الأخنس (¬3). ورواه أبو داود النسائي والبيهقي من طريق ابن عجلان (¬4). ورواه ابن الجارود في المنتقى والنسائي في الكبرى, والطحاوي وابن خزيمة من طريق عمرو بن الحارث وهشام بن سعد (¬5). ورواه الطبراني في الأوسط, والدارقطني في السنن من طريق أيوب السختياني (¬6). ورواه الشافعي في مسنده, والحميدي في مسنده, والطبراني في الأوسط, والدارقطني في السنن, والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الكبرى من طريق يعقوب بن عطاء (¬7). ورواه الشافعي في مسنده، والحميدي في مسنده, والحاكم في المستدرك، ¬
والبيهقي في السنن الكبرى من طريق داود بن شابور (¬1). ورواه البيهقي من طريق الوليد بن كثير (¬2). ورواه الطبراني في الأوسط من طريق سفيان بن حسين الواسطي (¬3). كلهم رووه عن عمرو بن شعيب بدون ذكر العدد مخالفين لرواية حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر، عن عمرو بن شعيب، وأعتقد أنه دخل على حماد بن سلمة حديث زيد بن خالد بحديث عبد الله بن عمرو، وهو قد روى الحديثين كما أسلفنا في التخريج، والله أعلم. فذكر العدد محفوظ من حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه -، فالفقه أن يقال: إن عدم ذكره في رواية زيد بن خالد الجهني دليل على أن الرجل إذا ذكر بعض صفاتها جاز الدفع إليه، ولو لم يأت على جميع صفاتها، والله أعلم. وبهذا أكون قد انتهيت من بحث المسائل المختارة من عقد اللقطة، وبهم تم المجلد التاسع عشر، فلله الحمد والمنة. ¬
عقد اللقيط
عقد اللقيط
التمهيد
التمهيد المبحث الأول في تعريف اللقيط تعريف اللقيط اصطلاحًا (¬1): تعريف الحنفية: قال السرخسي: "اسم لحي مولود طرحه أهله خوفا من العيلة أو فرارا من تهمة الريبة" (¬2). قوله: (اسم لحي) أخرج الميت، قال ابن عابدين: "وهو غير ظاهر؛ لأن ¬
الميت كذلك فيما يظهر حتى يحكم بإسلامه تبعا للدار، فيغسل، ويصلى عليه، ولو وجد قتيلا في محلة تجب فيه الدية والقسامة" (¬1). وقوله: (طرحه أهله) احترازًا من الضائع، فلا يسمى لقيطًا عندهم. وقوله: (خوفًا من العيلة) بيان للباعث على الطرح، وقد قسمه إلى قسمين: الخوف من الفقر. والثاني ما ذكره بقوله: (أو فرارًا من تهمة الريبة) والمقصود الزنا. تعريف المالكية: عرفه ابن عرفة بأنه: "صغير آدمي لم يعلم أبوه ولا رقة" (¬2). فقوله: (صغير) يشمل الذكر والأنثى، والمميز وغيره، وخرج به البالغ؛ لأنه قادر على القيام بمصالح نفسه من نفقة ونحوها. وقوله: (آدمي) خرج به غير الآدمي، فإن كان حيوانًا فهو ضالة، وإن كان جمادًا فهو لقطة. قوله: (لم يعلم أبوه) لأن من علم أبوه فلا يسمى لقيطًا، للوقوف على نسبه، وكذا خرج ولد الزنا؛ لأنه قد علم أحد أبويه، وهو الأم، وهي بمنزلة الأب، فعليها القيام به. وقوله: (ولا رقه) لأنه إن علم رقه فإن كان صغيرًا فهو لقطة، وليس لقيطًا، وإن كان كبيرًا فهو آبق. ¬
تعريف آخر: عرفه بعض المالكية بأنه صغير آدمي لم يعرف أبواه، وجد في غير حرز، يخاف عليه من الهلاك. تعريف الشافعية: عرفه الشافعية بقوله: صغير ضائع لا يعلم له كافل (¬1). فقوله: (صغير) أي ولو مميزًا في أحد القولين عند الشافعية، لحاجته إلى التعهد، ويقاس عليه البالغ المجنون لحاجته إلى التعهد، وإنما ذكروا الصغير؛ لأنه الغالب، قاله السبكي وغيره. وخرج به البالغ لاستغنائه عن الحفظ. وقوله: (ضائع) الضائع هو الطفل إذا ضل عن أهله، فهل يعتبر لقيطًا إذا كان لا كافل له، وإن لم يطرح قصدًا. قال ابن شاس في تعريف اللقيط: كل صبي ضائع لا كافل له (¬2). وقال النووي: يقال للصبي الملقى الضائع لقيط (¬3). فهذا الطفل الضائع هل يؤخذ على أنه لقيط لا يعرف نسبه، أو نقول: يجب أن يبحث عن أهل هذا الطفل، فإن أهله لم ينبذوه، فيشبه اللقطة الواجب تعريفها حتى يوجد أهلها؟ هذا هو الظاهر، ورجحه شيخنا ابن عثيمين رحمه اللهُ. ¬
تعريف الحنابلة: جاء في الإقناع: "طفل لا يعرف نسبه ولا رقه نبذ أو ضل إلى سن التمييز، وقيل: والمميز إلى سن البلوغ وعليه الأكثر" (¬1). ومحترزات التعريف قد سبق التطرق لها في التعريفات السابقة، فأغنى ذلك عن إعادتها، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في أركان الالتقاط
المبحث الثاني في أركان الالتقاط [م - 2030] عند الكلام على الأركان نقف على اجتهادين: الاجتهاد الأول: مدرسة الحنفية التي ترى أن ركن الشيء: هو ما يتوقف عليه وجوده، وكان جزءًا داخلًا في حقيقته، ففي البيع والإجارة والنكاح ونحوها: هو الإيجاب والقبول فقط، وأما العاقد والمعقود عليه فليست أركانًا. وكذا في عقد الوقف الركن هو الصيغة فقط، وأما الواقف والموقوف عليه، والعين الموقوفة فليست أركانًا (¬1). وعلى هذا الركن في اللقيط هو اللقط فقط، وأما اللقيط، والملتقط فهي من لوازم الشيء، وليست جزءًا من حقيقته، وإن كان يتوقف عليها وجوده. والثاني: مدرسة الجمهور التي ترى أن الركن: هو ما توقف عليه وجود الشيء وتصوره عقلًا، سواء أكان جزءًا من حقيقته أم لم يكن، فأركان العقد عندهم تشمل الصيغة والعاقد والمعقود عليه، وإذا كان كذلك فإن أركان اللقيط عندهم ثلاثة: اللقيط، واللقط، واللاقط (¬2). ¬
ومذهب الحنفية أجود، وأدق في الجملة، والجمهور لا يطردون في تحديد الأركان، فاللوازم تارة يعتبرونها من الأركان، وتارة لا يدخلونها، فهم يجعلون الفاعل ركنًا في مثل عقد الوصية وعقد البيع والنكاح، ولا يجعلونه ركنًا في العبادات كالصلاة والحج، وإن كان لا يتصور قيام الحج والصلاة بدون فاعل. هذا بيان لسبب الخلاف بين الحنفية والجمهور في ركن الشيء. ¬
الباب الأول في حكم نبذ الطفل والتقاطه
الباب الأول في حكم نبذ الطفل والتقاطه الفصل الأول في حكم نبذ الطفل [م - 2031] نص الحنابلة على أن نبذ الطفل لا يجوز؛ لأنه تعريض له للتلف. جاء في كشاف القناع: "ويحرم النبذ؛ لأنه تعريض للمنبوذ للتلف" (¬1). ولأن في طرح الطفل تركًا لحقه في حضانة أمه، والقيام برعايته، والنفقة عليه، وثبوت نسبه، وتعريضًا له لليتم، بل إنه أشد يتمًا ممن يعرف نسبه، ذلك أن اليتيم في الشرع هو من فقد والده، وقد يكون في حضانة أمه، وقد يجد قريبًا يلجأ إليه عند الضرورة، ولا يلحقه آذى معنوي من اليتم، بل هو سبب جالب للعطف بخلاف المنبوذ فإنه فاقد لأمه وأبيه، لا يعرف نسبه، مع ما يجد من نظرة المجتمع إليه في ذنب ليس مسئولًا عنه. وقد تعرض يوسف عليه السلام لما تعرض له من الاسترقاق والسجن والتعرض لفتنة النساء إلى غير ذلك من الابتلاء حين ألقاه إخوته في غيابة الجب، فالتقطه بعض السيارة، وقد استغفر يوسف لإخوته عن فعلتهم به. والقول بالتحريم لا ينبغي الخلاف فيه مهما كان سبب النبذ إلا أن يكون من ¬
فعل هذا فعله من أجل مصلحة الطفل، كأن يخاف على الطفل من قتل محقق فإن نبذه جائز ارتكابًا لأدنى المفسدتين، حيث يجوز دفع الضرر المتحقق بالضرر المشكوك فيه، كما فعلت أم موسى حين خافت على موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص: 7]. وكما خرج موسى إلى مدين عندما خاف القتل مع عدم علمه بالطريق ولم يكن له دليل يهديه. قال السعدي رحمه اللهُ: "عند تزاحم المفسدتين، إذا كان لا بد من ارتكاب إحداهما أنه يرتكب الأخف منهما والأسلم، كما أن موسى، لما دار الأمر بين بقائه في مصر ولكنه يقتل، أو يذهب إلى بعض البلدان البعيدة، التي لا يعرف الطريق إليها, وليس معه دليل يدله غير ربه، ولكن هذه الحالة أقرب للسلامة من الأولى، فتبعها موسى" (¬1). قال تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22]. (ث-312) روى الطبري في تفسيره عن ابن عباس أنه قال: خرج موسى ولا علم له بالطريق إلا حسن ظن بربه (¬2). [صحيح]. ¬
الفصل الثاني في حكم التقاط الصبي
الفصل الثاني في حكم التقاط الصبي [م - 2032] إذا خيف على اللقيط الهلاك كما لو وجده في صحراء لا أحد فيها، أو كان بين يدي سبع كان التقاطه فرض عين إذا لم يعلم به غيره؛ وعلى الكفاية إن علم به أكثر من واحد؛ لأن في تركه تعريضًا له للتلف، وفي إنقاذه إنقاذًا لنفس معصومة، وكما يجب إنقاذ الغريق وبذل الطعام للجائع، وتنبيه الأعمى إذا أوشك على الوقوع في البئر. ولأننا إذا كنا مأمورين بحفظ الأموال فحفظ النفوس أولى؛ لأنها أعظم حرمة عند الله تعالى. قال تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. وقد حكى بعض أهل العلم الإجماع على وجوب التقاطه. جاء في فتح القدير: "هذا الحكم وهو إلزام التقاطه إذا خيف هلاكه مجمع عليه" (¬1). وقال العيني: "إذا خاف هلاكه، فحينئذ فرض عين؛ لإجماع الأمة، كمن رأى أعمى يقع في البئر يفرض عليه حفظه عن الوقوع" (¬2). وفي الدر المختار: "التقاطه فرض كفاية إن غلب على ظنه هلاكه لو لم يرفعه، ولو لم يعلم به غيره ففرض عين" (¬3). ¬
وقال ابن رشد: "يلزم أن يؤخذ اللقيط، ولا يترك؛ لأنه إن ترك ضاع وهلك، ولا خلاف بين أهل العلم في هذا، وإنما اختلفوا في لقطة المال" (¬1). وقال الدسوقي في حاشيته: "محل الكفاية إن لم يخف عليه، وإلا وجب عينًا" (¬2). وفي حاشية الجمل: "ومحل كونه فرض كفاية إذا علم به أكثر من واحد، وإلا كان فرض عين، ولا يخفى أن هذا شأن كل فرض كفاية" (¬3). قلت: أقل الواجب أن يأخذه لا لنية تربيته، وإنما ليرفعه إلى الحاكم. [م - 2033] وإن وجده في مكان لا يخاف عليه فيه من الهلاك لكثرة الناس فيه، ويوقن أن الناس سوف يسارعون إلى أخذه وإنقاذه، فاختلف العلماء في حكم التقاطه على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن التقاطه مندوب، وهذا مذهب الحنفية (¬4). جاء في الهداية شرح البداية: "والالتقاط مندوب إليه لما فيه من إحيائه، وإن غلب على ظنه ضياعه فواجب (¬5). ¬
° دليل من قال: إنه مندوب إليه: الدليل الأول: قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. وقوله سبحانه: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. ولا شك أن أخذ هذا الصغير وكفالته وتربيته والإحسان عليه من التعاون على البر والتقوى، وفعل ذلك بمنزلة كفالة اليتيم أو هو أفضل، وإذا كان كذلك فهو داخل في مطلق الآيتين، وأقل الأمر في هذا العمل الصالح أن يكون أخذ اللقيط مندوبًا إلى فعله. الدليل الثاني: لا يوجد دليل يدل على وجوب أخذ الطفل قبل الخوف عليه من الهلاك، وأما إذا خيف عليه من الهلاك فإن الإجماع على وجوب أخذه. قال ابن الهمام: "قول الشافعي وباقي الأئمة الثلاثة فرض كفاية، إلا إذا خاف هلاكه ففرض عين يحتاج إلى دليل الوجوب قبل الخوف، نعم إذا غلب على الظن ضياعه أو هلاكه فكما قالوا" (¬1). الدليل الثالث: (ح-1246) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سفيان، حدثنا ابن أبي نجيح، عن عبيد الله بن عامر، عن عبد الله بن عمرو، يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: من لم يرحم ¬
صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا (¬1). [صحيح] (¬2). القول الثاني: ذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة إلى أن الالتقاط فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وإلا أثموا جميعًا (¬3). قال الخرشي: "من وجد طفلًا منبوذًا ذكرًا أو أنثى فإنه يجب عليه لقطه، وهو فرض كفاية" (¬4). وقال العمراني في البيان: "التقاطه فرض على الكفاية إذا قام به بعض الناس سقط عن الباقين، وإن تركوه أثم جميع من علم به" (¬5). ¬
° الدليل على أنه من فروض الكفايات: الدليل الأول: قال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. وجه الاستدلال: أخذ اللقيط وإحرازه إحياء لنفسه، وذلك بدفع سبب الهلاك عنه، وتركه سبب لهلاكه، وهذا واجب على جميع من علم به، فإذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين. الدليل الثاني: أن التقاطه داخل في الأحكام الداعية الدالة على وجوب حفظ النفس المجمع عليها في سائر الملل، وهي من الضرورات الخمس، وقياسًا على إنقاذ الغريق، وإطعام المضطر، وهذا مطلوب من الجميع إلا أنه يتحقق القصد الشرعي بفعل البعض، فلو كان واجبًا عينيًّا لما سقط بفعل البعض، ولأن الشرع لم يقصد بالالتقاط ذات الفاعل، وإنما قصد تحقيق الفعل، وهو أخذ اللقيط من غير نظر إلى الفاعل، وهذا شأن فروض الكفايات. القول الثالث: أن أخذه فرض عين، وهذا اختيار ابن حزم (¬1). ¬
° دليل ابن حزم على أن أخذ اللقيط فرض عين: قال في المحلى: "إن وجد صغير منبوذ ففرض على من بحضرته أن يقوم به ولا بد، لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. ولقول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. ولا إثم أعظم من إثم من أضاع نسمة مولودة على الإِسلام، صغيرة لا ذنب لها حتى تموت جوعًا وبردًا، أو تأكله الكلاب، هو قاتل نفس عمدًا بلا شك، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من لا يرحم الناس لا يرحمه الله" (¬1). وجه الاستدلال بالآيتين: أن الله أمر بالتعاون على البر والتقوى، والأصل في الأمر الوجوب، كما نهى عن التعاون على الإثم والعدوان، والأصل في النهي التحريم. وأما الآية الثانية فقد ذكر أن قتل النفس بمنزلة قتل الناس جميعًا، وأن إحياءها بمنزلة إحياء الناس جميعًا، فكان الأخذ واجبًا عينيًّا لأن في الأخذ حياة لها، وفي تركها قتلًا لها، والأول واجب، والثاني محرم. ويناقش: الجواب عن قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. بأن الأمر بالتعاون على البر والتقوى أمر مشترك يشمل الواجب بنوعيه العين ¬
والكفاية، كما يشمل المندوب، فما كان البر فيه مستحبًّا كان الأمر بالتعاون عليه مستحبًّا، وما كان البر فيه واجبًا كان الأمر بالتعاون عليه واجبًا، سواء كان الوجوب عينيًّا أو على الكفاية، ويطلب الدلالة على الوجوب من دليل آخر، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - صلوا كما رأيتموني أصلي وقوله - صلى الله عليه وسلم -: خذوا عني مناسككم فإن الأمر في هذين الحديثين لا يمكن حمله على الوجوب في جميع أفعال الصلاة وجميع أفعال المناسك، بل يطلب حكم أفعالهما من دليل آخر، فقد يكون ركنًا، وقد يكون واجبًا، وقد يكون مستحبًّا، وإذا تبين هذا فإن حمل الآية على الواجب العيني لا يظهر من الآية. وهذا فيما يخص الجواب عن الآية الأولى. وأما الجواب عن قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. فيقال: أولًا: هذه الآية تدل على فضل وأجر من أحيى النفس البشرية، وهو ليس محل خلاف، وعظم الفضل لا يدل على الوجوب فضلًا أن يدل على الوجوب العيني. ثانيًا: سلمنا أن الآية تدل على الوجوب فهي تتكلم عن الأخذ الذي يكون سببًا في إنقاذ النفس من الهلكة، وفي تركها قتل لها، فهو يدخل في اللقطة التي تكون في مفازة، ويكون تركها سببًا في هلاكها، وهذا قد ذكرنا الإجماع على وجوب أخذ اللقطة في هذه الحال، والله أعلم. ° الراجح: أرى أن القول بأنه فرض كفاية هو الأقوى، والله أعلم.
الباب الثاني في أحكام الملتقط
الباب الثاني في أحكام الملتقط الفصل الأول في شروط الملتقط الشرط الأول في اشتراط إسلام الملتقط [م - 2034] إذا حكم بكفر اللقيط كما لو وجد في بلاد الكفار، أو وجد منبوذًا في كنائسهم ودور العبادة الخاصة بهم، وعليه زي الكفار، لم يشترط إسلام الملتقط، وهذا بالاتفاق (¬1). لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73]. قال الدردير: "وإن وجد في قرية من قرى الشرك التي ليس فيها بيت من بيوت المسلمين فهو مشرك، وإن التقطه مسلم تغليبًا للدار" (¬2). ¬
ويشترط أن يكون الكافر عدلًا في دينه (¬1) , لأنه إذا منع المسلم الفاسق من الالتقاط عند الجمهور فالكافر أولى أن تشترط فيه العدالة. وسيأتي إن شاء الله تعالى بحث اشتراط العدالة في الملتقط. [م - 2035] أما إذا وجد في بلاد المسلمين، أو في المواضع الخاصة بهم كالمساجد، ففي هذه الحالة يحكم بإسلام اللقيط، وإذا حكم بإسلامه، فهل يشترط في ملتقطه أن يكون مسلمًا، اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: إذا حكم بإسلام اللقيط اشترط في ملتقطه أن يكون مسلمًا، فإن أخذه غير مسلم نزع من يده، ولا يجوز إقراره بيده، وهذا مذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة (¬2). قال الخرشي: "اللقيط المحكوم بإسلامه بأن وجد في بلاد الإسلام على ما ¬
مر ينزع من ملتقطه الغير المسلم ويقر تحت يد المسلمين" (¬1). وقال الشيرازي: "إن التقطه كافر، نظرت: فإن كان اللقيط محكومًا بإسلامه لم يقر في يده" (¬2). وقال ابن قدامة: "وليس لكافر التقاط مسلم؛ لأنه لا ولاية لكافر على مسلم" (¬3). ° الدليل على تحريم التقاط الكافر لمن حكم بإسلامه: الدليل الأول: أن القيام بأمر اللقيط ولاية، ولا ولاية للكافر على المسلم، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]. الدليل الثاني: أن الكافر غير مؤمن على المسلم فقد يفتنه في دينه، وقد يسترق بدنه، وقد يتلف ماله؛ لأن عداوة الدين تبعث على ذلك كله. القول الثاني: لم يختلف الحنفية في صحة التقاط الكافر، وإنما اختلفوا في حكم إسلام الطفل إذا التقطه كافر من مكان مختص للمسلمين، فمنهم من جعل الحكم للمكان، فيحكم بإسلام الطفل، وهو ظاهر الرواية, فيترك الطفل في يد الكافر ¬
ما لم يعقل الأديان فينزع من يده دفعًا للضرر عن اللقيط، كما قالوا في الحضانة إذا كانت أمه المطلقة كافرة، فهي أحق به للشفقة عليه ما لم يعقل الأديان فينزع من يدها دفعًا للضرر (¬1). ومنهم من جعل الحكم للواجد؛ لقوة اليد، فحكموا بكفر اللقيط. قال ابن عابدين: "ولا يشترط كونه مسلمًا عدلًا رشيدًا لما سيأتي من أن التقاط الكافر صحيح، والفاسق أولى" (¬2). وجاء في المبسوط: "الثالث: أن يجده كافر في مكان المسلمين. والرابع: أن يجده مسلم في مكان الكفار، ففي هذين الفصلين اختلفت الرواية ففي كتاب اللقيط يقول: العبرة للمكان في الفصلين جميعًا، وفي رواية ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى، قال: العبرة للواجد في الفصلين جميعًا" (¬3). وفي مجمع الأنهر ذكر مثله، وزاد: "وفي رواية: أيهما كان موجبًا لإسلامه فهو المعتبر؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وهو أنفع له كما في أكثر المعتبرات" (¬4). ¬
° دليل الحنفية على صحة التقاط الكافر: أن الشرط في الملتقط أن يكون أهلًا للحفظ، والكافر في هذا كالمسلم، فإذا سبقت يد الكافر إلى اللقيط لم يكن لأحد أن ينزعه منه؛ لقوة اليد، نعم إذا حكمنا بإسلام اللقيط نزع من الكافر إذا بلغ اللقيط عمرًا يعقل فيه الدين حتى لا يفسد عليه دينه، والله أعلم. ° الراجح: أن حضانة الكافر للقيط ولاية يخشى على اللقيط فيها من تعيين الدين، فلا يقر بيده، بل يجب أخذه منه، ودفعه لأمين مسلم، والله أعلم.
الشرط الثاني في اشتراط التكليف في الملتقط
الشرط الثاني في اشتراط التكليف في الملتقط [م - 2036] يشترط في الملتقط أن يكون مكلفًا، والمكلف: هو البالغ العاقل، فلا يصح التقاط الصبي والمجنون (¬1). جاء في البحر الرائق: "يشترط في الملتقط كونه مكلفًا، فلا يصح التقاط الصبي والمجنون" (¬2). وقال النووي: "الركن الثالث: الملتقط، ويشترط فيه أمور، أحدها: التكليف، فلا يصح التقاط الصبي والمجنون" (¬3). وفي الإنصاف: "يشترط في الملتقط أيضا: أن يكون مكلفا. فلا يقر بيد صبي، ولا مجنون" (¬4). وأما المالكية فالنصوص عنهم عزيزة في اشتراط التكليف، إلا أن ابن رشد في بداية المجتهد قد عرف الملتقط في باب اللقيط بقوله: "والملتقط: هو كل حر عدل رشيد" (¬5). ¬
فقوله: (رشيد) فالرشد: هو في مقابل السفه، والصبي والمجنون لا شك أنهما من جملة السفهاء، وإن كان الرجل قد يبلغ ولا يؤنس منه الرشد، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] فدلت الآية على أن الرشد قد يتخلف عن البلوغ. وعرف ابن رشد الملتقط في باب اللقطة، فقال: "فأما الملتقط فهو كل حر مسلم بالغ؛ لأنها ولاية" (¬1). فصرح في باب التقاط المال إلى اشتراط البلوغ، وفي باب التقاط الآدمي استبدل بالبلوغ الرشد، والله أعلم. ° تعليل الفقهاء لاشتراط التكليف: أن غير المكلف من الصبي والمجنون لا يلي أمر نفسه فلا يلي أمر غيره، ولأن حضانة اللقيط تتطلب المحافظة عليه، والقيام بمصالحه البدنية والمالية، ودفع كل ما يؤذيه، ويلحق الضرر به، والصبي والمجنون يحتاج إلى من يحافظ عليه، ويقوم بمصالحه؛ لأنه إما عادم للأهلية كالمجنون، وإما أهليته قاصرة كالصبي. ¬
الشرط الثالث في اشتراط العدالة في الملتقط
الشرط الثالث في اشتراط العدالة في الملتقط [م - 2037] بعض الفقهاء نص على اشترط العدالة، وهم الأكثر (¬1). قال ابن رشد: "والملتقط: هو كل حر عدل رشيد" (¬2). وقال الغزالي: "وأهلية الالتقاط ثابتة لكل حر، مكلف، مسلم، عدل، رشيد" (¬3). وقال النووي: "الركن الثالث: الملتقط، ويشترط فيه أمور ... الرابع: العدالة، فليس للفاسق الالتقاط" (¬4). وجاء في الإنصاف: "يشترط في الملتقط أن يكون عدلًا" (¬5). وبعض فقهاء الشافعية وأكثر الحنابلة يشترطون في الملتقط أن يكون أمينًا، وعبارة بعضهم أن يكون ثقة. كالماوردي، قال في الحاوي: "إذا كان ملتقط المنبوذ غير مأمون خوفًا من ¬
استرقاقه، ولا على ماله خوفًا من استهلاكه نزعه الحاكم من يده" (¬1). وفي مختصر المزني: "وإن كان ملتقطه غير ثقة نزعه الحاكم منه" (¬2). وقال ابن قدامة: "فإن كان الملتقط أمينًا حرًّا مسلمًا أقر في يده" (¬3). فهل قصدوا باشتراط الأمانة والثقة العدالة، أو أن هناك فرقًا بين اشتراط العدالة واشتراط الأمانة؟ بعض الفقهاء عبارته صريحة بأنه لا فرق بينهما. جاء في الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: "لا يترك اللقيط إلا في يد أمين: وهو الحر الرشيد العدل" (¬4). وفي الإنصاف: "قال في الفائق: وتشترط العدالة في أصح الروايتين، وجزم باشتراط الأمانة في الملتقط في الهداية والمذهب والمستوعب، والخلاصة وغيرهم، وقطع في الوجيز والمحرر وغيرهما: أنه لا يقر بيد فاسق" (¬5). وبعض الفقهاء عبارته صريحة بوجود الفرق بينهما: قال الماوردي: "وليس تراعى فيه العدالة، فيكون جرحه في شيء جرحًا في ¬
كل شيء، وإنما يراعى فيه الأمانة، وقد يكون أمينًا في شيء، وإن كان غير مؤتمن في غيره" (¬1). فعلى هذا يكون الملتقط أمينًا على بدن اللقيط، وغير أمين على ماله، وقد يكون العكس، وقد يكون أمينًا فيهما, وليس أمينًا في غيرهما. وهذا هو فعل الحنفية حيث صححوا التقاط الكافر، ويقر اللقيط المسلم في يده، إلى أن يبلغ اللقيط عمرًا يعقل به الدين، فيؤخذ منه خوفًا على دينه. كما صححوا التقاط الفاسق، فإن خيف منه الفجور باللقيط نزع منه قبيل حد الاشتهاء (¬2). والصحيح أن الأمانة أخص من العدالة هذا من جهة اللفظ، فكل عدل أمين، وليس كل أمين عدلًا؛ لأن الأمانة تتجزأ، بخلاف العدالة، كما هو قول الماوردي، وأنا أميل إليه، فينظر إلى اشتراط الأمانة فيما يتعلق باللقيط، وأما الأمانة في شيء لا تتعلق في اللقط فلا تشترط، والله أعلم. ¬
المبحث الأول في التقاط الفاسق
المبحث الأول في التقاط الفاسق [م - 2038] اختلف العلماء في صحة التقاط الفاسق، على قولين: القول الأول: يصح التقاط الفاسق، وهذا مذهب الحنفية، فإن خيف منه الفجور باللقيط نزع منه قبيل حد الاشتهاء (¬1). أي قبيل أن يصبح اللقيط محلًا للشهوة حماية له، وأما قبل ذلك فإنه يقر اللقيط في يد الفاسق كما قالوا في التقاط الكافر، يصح منه، وينزع منه قبل أن يعقل الدين حتى لا يفسد عليه دينه. قال ابن عابدين: "ولا يشترط كونه مسلمًا عدلًا رشيدًا لما سيأتي من أن التقاط الكافر صحيح، والفاسق أولى" (¬2). ° وجه قول الحنفية على صحة التقاط الفاسق: الوجه الأول: القياس على التقاط الكافر، فإذا صح التقاط الكافر صح التقاط الفاسق من باب أولى. ¬
ويناقش: بأن التقاط الكافر مختلف فيه إلا إذا كان اللقيط محكومًا بكفره، فلا نسلم لكم هذا القياس. الوجه الثاني: أن الشرط في الملتقط أن يكون أهلًا للحفظ، والفاسق في هذا كالمسلم، فإذا سبقت يد الفاسق إلى اللقيط لم يكن لأحد أن ينزعه منه؛ لقوة اليد، والله أعلم. الوجه الثالث: القياس على لقطة المال، فإذا أقرت لقطة المال في يده، وصح التقاطه لها صح التقاط الآدمي. ويناقش: بأن اللقطة اكتساب فجاز أن يستوي فيها الأمين وغيره، والتقاط المنبوذ ولاية، فاختلف فيها الأمين وغيره، ولأن شأن اللقيط أخطر من شأن اللقطة؛ لأن النفس أخطر من المال. القول الثاني: لا يصح التقاط الفاسق، وهذا مذهب الجمهور، من المالكية، والشافعية، والحنابلة (¬1). ¬
° دليل الجمهور على اشتراط العدالة في الملتقط: الدليل الأول: (ث-313) ما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب، عن سنين أبي جميلة رجل من بني سليم، أنه وجد منبوذا في زمان عمر بن الخطاب، قال: فجئت به إلى عمر بن الخطاب، فقال: "ما حملك على أخذ هذه النسمة"؟ فقال: وجدتها ضائعة فأخذتها، فقال له عريفه: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح، فقال له عمر: أكذلك؟ قال: نعم، فقال عمر بن الخطاب: "اذهب فهو حر ولك، ولاؤه وعلينا نفقته (¬1). [صحيح، وسنين أبو جميلة معدود في الصحابة]. وجه الاستدل: أن عمر أقر أبا جميلة على أخذ اللقطة حين قال له عريفه: إنه رجل صالح. الدليل الثاني: أن الالتقاط أمانة محضة صادرة من ائتمان الشرع، والشرع لا يأتمن الفاسق، فلا يؤمن على ماله خوفًا من استهلاكه، ولا يؤمن على بدنه خوفًا من استرقاقه، وإن كان الأخير ربما كان مخوفًا في العصور السابقة، وأما الآن فلم يعد الاسترقاق موجودًا. ¬
الدليل الثالث: رأى بعض العلماء أن القيام بأمر اللقيط ولاية، والفاسق ليس من أهل الولاية (¬1). قال ابن القيم: "لو سأله عن فاسق التقط لقطة أو لقيطًا، هل يقر في يده؟ فجوابه التفصيل: تقر اللقطة دون اللقيط؛ لأنها كسب، فلا يمنع منه الملتقط، وثبوت يده على اللقيط ولاية، وليس من أهلها" (¬2). الدليل الرابع: أنه لا حظ للمنبوذ في تركه في يد الفاسق من حيث تربيته، وتعليمه ما ينفعه. ° الراجح: أننا نظر في موجب الفسق، فإن كان يعود إلى الالتقاط، كان مؤثرًا, ولا يصح التقاطه، وإن كان فسقه لا يعود إلى الالتقاط صح ذلك، كما قلنا في اشتراط الأمانة، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في اشتراط العدالة الباطنة
المبحث الثاني في اشتراط العدالة الباطنة [م - 2039] تكلمنا فيما سبق في خلاف العلماء في اشتراط العدالة، فالحنفية لا يشترطون العدالة. وأما الجمهور الذين يشترطون العدالة، فهل تشترط العدالة الباطنة، أو تكفي العدالة الظاهرة، وهو ما يسمى بالمستور؟ فقال أكثرهم: يصح التقاط مستور الحال، وهذا اختيار الشافعية والحنابلة (¬1). قال ابن قدامة: "وإذا التقط اللقيط من هو مستور الحال، لم تعرف منه حقيقة العدالة ولا الخيانة أقر اللقيط في يديه؛ لأن حكمه حكم العدل في لقطة المال والولاية في النكاح والشهادة فيه، وفي أكثر الأحكام، ولأن الأصل في المسلم العدالة" (¬2). وقال بعض الشافعية: يصح التقاط مستور الحال بشرط أن يشهد (¬3). جاء في نهاية المطلب: "القول الثالث: أن الملتقط إن كان ظاهر العدالة، لم نكلفه أن يشهد، وإن كان مستور الحال نكلفه أن يشهد، حتى يصير الإشهاد قرينة تغلب على الظن الثقة كالعدالة إذا ظهرت". ¬
والإشهاد على الالتقاط سبق بحثه في مسألة مستقلة. ° الراجح: أن مستور الحال يصح التقاطه، وأن المسلم على العدالة حتى يثبت ما ينقله عنها، والله أعلم.
الشرط الرابع في اشتراط الرشد
الشرط الرابع في اشتراط الرشد [م - 2040] الرشد في الاصطلاح (¬1). اختلف العلماء في تعريفه على قولين: فمنهم من عرف الرشد: بالصلاح في المال، وهذا مذهب الحنفية (¬2) والمالكية (¬3)، والحنابلة (¬4). ومنهم من عرف الرشد: بالصلاح في الدين والمال، وهو مذهب الشافعية (¬5). ¬
والمراد بالصلاح في الدين: أن لا يرتكب محرمًا يسقط العدالة، وفي المال ألا يبذر (¬1). والصحيح أن الرشد يختلف من مقام لآخر. فالرشد في ولي النكاح مثلًا: معرفته بالكفء، ومصالح النكاح، وليس له علاقة بحفظ المال. والرشد في المال: هو حفظه وإصلاحه، ولا يدخل فيه الرشد في الدين، ولو كان صلاح الدين شرطًا في الرشد لوجب الحجر على المنافقين والمبتدعة، بل يجب الحجر على كل من اغتاب مسلمًا ولم يتب من هذه المعصية وذلك لارتكابه كبيرة من كبائر الذنوب، ويجب الحجر على كل من كذب في بيعه، أو غش فيه. [م - 2041] إذا عرفنا معنى الرشد لدى الفقهاء فقد اختلف العلماء في اشتراط الرشد في الملتقط على قولين: القول الأول: لا يشترط في اللقيط أن يكون رشيدًا، وهذا مذهب الحنفية. قال ابن عابدين: "ولا يشترط كونه مسلمًا عدلًا رشيدًا لما سيأتي من أن التقاط الكافر صحيح، والفاسق أولى" (¬2). ¬
القول الثاني: أن ذلك شرط، وهو مذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). قال ابن رشد: "والملتقط: هو كل حر عدل رشيد" (¬2). ° وجه القول باشتراط أن يكون الملتقط رشيدًا: اشترطنا في الملتقط أن يكون رشيدًا؛ لأن المحجور عليه لسفه لا ولاية له على نفسه فأولى ألا يكون وليًّا على غيره. ° الراجح: أن الرشد يختلف من مقام لآخر، وأن الرشد في باب الالتقاط: أن يكون أهلًا للأمانة والتربية، فإذا توفر في الملتقط هذان الوصفان صار رشيدًا، وصح التقاطه، ولو فرض أن الملتقط ليس رشيدًا في المال، وهو رشيد في الحفظ والتربية صح التقاطه، وكان مال اللقيط في يد غيره، والله أعلم. ¬
الشرط الخامس في اشتراط الغنى في الملتقط
الشرط الخامس في اشتراط الغنى في الملتقط [م - 2042] تعرض بعض الفقهاء إلى غنى الملتقط، وهل يشترط أن يكون غنيًّا؟ واختلفوا في المسألة على قولين: القول الأول: لا يشترط في الملتقط أن يكون غنيًّا، وهو مذهب المالكية، والأصح في مذهب الشافعية (¬1). جاء في بداية المجتهد: "وليس من شرط الملتقط الغنى، ولا تلزم نفقة الملتقط على من التقطه" (¬2). وقال النووي: "لا يشترط في الملتقط المذكورة قطعًا, ولا الغنى" (¬3). وفي كفاية الأخيار: "ولا يشترط في الالتقاط المذكورة بلا خلاف، ولا الغني على الصحيح؛ لأنه لا يلزمه نفقته، نعم يجب عليه رعايته بما يحفظه والله أعلم" (¬4). ¬
واحتج أصحاب هذا القول: الحجة الأولى: أن النفقة لا تجب في مال الملتقط حتى يشترط الغنى، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه، فلم يكن هناك فرق بين الفقير والغني. الحجة الثانية: أن حضانة اللقيط ولاية، والمعسر من أهل الولاية. الحجة الثالثة: أن الرزق قد تكفل الله به للجميع، فهو يجري بضمان الله وكفالته، قال تعالى: {مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، فالأسباب الضرورية للحياة التي ينشأ عليها أبناء الفقراء مألوفة عندهم ويشبون عليها وتبنى فيها أجسامهم كأقوى ما تبنى الأجسام، وقد رأينا بالحس والمشاهدة ما يتمتع به أبناء الفقراء من مناعة ضد الأمراض مع الكفاف في العيش، وذلك من رعاية الله تعالى لخلقه (¬1). الحجة الرابعة: أن صفة الغنى وصفة الفقر صفتان متقلبتان، فقد يمسي الرجل غنيًّا، ويصبح فقيرًا، وقد يصبح فقيرًا ويمسي غنيًّا. القول الثاني: أن الغنى شرط في الملتقط، فإن التقطه فقير لم يقر في يده، وهو وجه في مذهب الشافعية في مقابل الأصح. ¬
قال الشيرازي: "وإن التقطه فقير ففيه وجهان: أحدهما: لا يقر في يده؛ لأنه لا يقدر على القيام بحضانته، وفي ذلك إضرار باللقيط. والثاني: يقر في يده؛ لأن الله تعالى يقوم بكفاية الجميع" (¬1). ° وجه القول بأن الغنى شرط: أن الفقر غالبًا ما يشغل الفقير بجمع قوته عن القيام بحق الحضانة، ولهذا تعوذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الفقر. القول الثالث: يعتبر الغنى صفة تفضيل، كما لو تزاحم فيه اثنان، وليس الغنى شرطًا للالتقاط، وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة (¬2). جاء في البحر الرائق: "فإن تنازع فيه ملتقطان ... فإن استويا قدم الغني وظاهر العدالة على فقير ومستور" (¬3). وقال ابن قدامة: "الثالث: أن يكون كل واحد منهما ممن يقر في يده لو انفرد، إلا أن أحدهما أحظ للقيط من الآخر، مثل أن يكون أحدهما موسرًا والآخر معسرًا، فالموسر أحق" (¬4). ¬
وجاء في الإنصاف: "وإن التقطه اثنان، قدم الموسر منهما على المعسر ... لا أعلم فيه خلافًا" (¬1). وهذا القول في الحقيقة يرجع إلى القول الأول والذي لا يعتبر الغنى شرطًا، حيث جعلوه صفة تفضيل عند التزاحم، ولكن حين لم يتكلم الحنفية عن التقاط الفقير على الانفراد كان مقتضى الدقة في عزو القول أن يجعل هذا قسمًا ثالثًا، والله أعلم. ° الراجح: أن الفقير من أهل الأمانة والتربية، فيصح التقاطه، والله أعلم. ¬
الشرط السادس في اشتراط الذكورة
الشرط السادس في اشتراط الذكورة [م - 2043] تكلم بعض الفقهاء عن صحة التقاط المرأة، ولا أعلم فيه خلافًا (¬1). قال المالكية: وينبغي أن يقيد بما إذا لم يكن لها زوج وقت إرادتها الأخذ، أو لها وأذن لها فيه، وإلا فلا يجب عليها؛ لأن له منعها، فإن أخذته بغير إذنه كان له رده لمحل مأمون يمكن أخذه منه" (¬2). وقال النووي: "لا يشترط في الملتقط الذكورة قطعًا" (¬3). وفي كفاية الأخيار: "ولا يشترط في الالتقاط الذكورة بلا خلاف" (¬4). ° وجه القول بصحة التقاط المرأة: أن المرأة أهل لحضانة اللقيط، بل هي أولى من الذكر، خاصة إذا كان الطفل لم يبلغ سن التمييز، فهي تختص بمزيد شفقة، ويتأتى منها الاحتضان ما لا يتأتى ¬
من الأب نفسه، فضلًا عن الملتقط، وقد تقوم بإرضاعه، وأما إذا بلغ اللقيط سن التمييز فإن الرجل أقدر من المرأة على تأديب الطفل وتعليمه، والله أعلم.
الفصل الثاني في ولاية الملتقط على اللقيط
الفصل الثاني في ولاية الملتقط على اللقيط المبحث الأول في الولاية على اللقيط نفسه [م - 2044] اختلف العلماء في تصرفات الملتقط على اللقيط، هل تصرفه بحكم الولاية كولاية اليتيم، أو بحكم الأمانة كالوديعة القائمة على الحفظ؟ والفرق بينهما: أن الولاية أقوى من الأمانة، فالأولى: متلقاة من الشرع، والثانية من العبد، وإذا قلنا: تصرف الملتقط بموجب الولاية جاز له عقد نكاحه، والاتجار بماله بيعًا وشراء, وتأجيره، وكل تصرف يكون فيه مصلحة للقيط، ولا تصح هذه الأفعال بحكم الأمانة القائمة على الحفظ فقط. إذا علم ذلك نقول: اختلف العلماء في ولاية الملتقط على اللقيط على قولين: القول الأول: لا ولاية للملتقط على اللقيط لا في نفسه ولا في ماله، والولاية عليه للقاضي؛ لأنه ولي من لا ولي له، وهذا مذهب الحنفية والمالكية، والشافعية (¬1). ¬
قال السرخسي: "ولا ولاية للملتقط على اللقيط، وإنما له حق الحفظ والتربية؛ لكونه منفعة محضة في حقه، وبهذا السبب لا تثبت الولاية" (¬1). وجاء في تبيين الحقائق: "ولا يصح للملتقط عليه نكاح، وبيع، وإجارة؛ لأن ولاية التزويج على الغير تستحق بقرابة، أو ملك، أو سلطنة ولم يوجد شيء منها، والتصرف في المال لا يجوز إلا بكمال الرأي ووفور الشفقة وذلك يوجد في الأب والجد لا غير، ولهذا لا تملكه الأم مع أنها تملك الإنكاح فذا أولى، وهذا لأن في كل منهما لم يوجد إلا شطر العلة، وهي كمال الشفقة فيها، وكمال الرأي فيه فصار كالعم، والإجارة، لا يملكها من لا يملك إتلاف منافعه بالاستخدام بلا عوض، والملتقط لا يملكه، فلا يملك أن يؤجره كالعم بخلاف الأم فإنها تملكه على ما عرف في موضعه. وذكر القدوري أن له أن يؤجره؛ لأنه يرجع إلى تثقيفه والأول أصح وهو رواية الجامع الصغير" (¬2). وقال الماوردي: "لا ولاء على اللقيط لملتقطه، ولا لغيره من المسلمين ما لم يثبت عليه رق" (¬3). القول الثاني: أن للملتقط ولاية على اللقيط، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية، ¬
والمذهب عند الحنابلة (¬1). جاء في مطالب أولي النهى: "وله أي لواجده ... حفظ ماله أي اللقيط بلا حكم حاكم؛ لأنه وليه؛ لقول عمر: ولك ولاؤه ... ولواجده المتصف بما تقدم الإنفاق عليه أي اللقيط مما وجد معه بلا إذن حاكم، لولايته عليه كما لو وصي" (¬2). (ث-314) واستدل هؤلاء بما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب، عن سنين أبي جميلة رجل من بني سليم، أنه وجد منبوذا في زمان عمر بن الخطاب، قال: فجئت به إلى عمر بن الخطاب، فقال: "ما حملك على أخذ هذه النسمة"؟ فقال: وجدتها ضائعة فأخذتها، فقال له عريفه: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح، فقال له عمر: أكذلك؟ قال: نعم، فقال عمر بن الخطاب: "اذهب فهو حر ولك، ولاؤه وعلينا نفقته (¬3). [صحيح، وسنين أبو جميلة معدود في الصحابة]. وجه الاستدلال: قال الباجي: "تأول مالك قول عمر لك ولاؤه أي قد جعلت لك أن تتولى تربيته والقيام بأمره وأنت أحق به من غيرك" (¬4). ¬
وقال ابن قدامة: "يحتمل أن عمر - رضي الله عنه - عنى بقوله: ولك ولاؤه: أي لك ولايته، والقيام به، وحفظه؛ لذلك ذكره عقيب قول عريفه: إنه رجل صالح. وهذا يقتضي تفويض الولاية إليه، لكونه مأمونًا عليه دون الميراث" (¬1). ¬
المبحث الثاني في ولاية الملتقط على مال اللقيط
المبحث الثاني في ولاية الملتقط على مال اللقيط [م - 2045] الخلاف في ولاية الملتقط على مال اللقيط ترجع إلى المسألة المتقدمة في توصيف تصرف الملتقط، هل هو يتصرف بموجب الولاية، أو بموجب الأمانة؟ فمن قال: إن له ولاية على اللقيط كالحنابلة جعلوه بمنزلة الوصي، وولي اليتيم، وعليه فله أن يتصرف بماله بما يعود عليه بالمصلحة. ومن قال: ليس له ولاية مطلقة كالحنفية والشافعية، جعلوه بمنزلة الأم لها ولاية الحضانة والحفظ فقط، وعليه فيمنع الملتقط من التصرف في ماله بيعًا وشراء، وإجارة، وتزويجًا. وأما ولاية الإنفاق عليه من ماله أو من بيت المال فالفقهاء متفقون على أن الملتقط يملك ولاية الإنفاق عليه؛ لأنه مأمور بالمحافظة عليه، ولا بقاء له بدون الإنفاق عليه، على خلاف بينهم، هل يشترط إذن القاضي في النفقة، أو ينفق عليه ولو لم يستأذن الحاكم على قولين: القول الأول: ينفق عليه بأمر القاضي، فإن لم يكن هناك قاض أشهد على الإنفاق، وهذا هو أحد القولين في مذهب الحنفية، والمذهب عند الشافعية، وهو رواية في مذهب الحنابلة (¬1). ¬
وقال الشافعية: للملتقط أن يستقل بحفظ المال على الأصح، ولا ينفق عليه إلا بإذن الحاكم إذ أمكن مراجعته. جاء في الاختيار لتعليل المختار: "وإذا كان على اللقيط مال مشدود فهو له عملًا بالظاهر، وينفق عليه منه بأمر القاضي، لعموم ولايته ويصدق عليه في نفقة مثله. وقيل: لا يحتاج إلى أمر القاضي؛ لأن المال له فينفق عليه منه، وله ولاية ذلك فيشتري له ما يحتاج إليه من الكسوة والطعام وغيرهما" (¬1). وفي النتف للسغدي: "وليس للمتلقط أن يشتري له، ولا أن يبيع عليه إلا ما تدفع إليه الضرورة، من طعام، أو كسوة، وله أن يقبل له الصدقة فينفق عليه ذلك، وكذلك لا يجوز له أن يزوجه غلامًا كان أو جارية، فإن أمره القاضي بذلك كله جاز حينئذ" (¬2). وقال النووي: "إذا كان للقيط مال، هل يستقل الملتقط بحفظه؟ وجهان، أحدهما: لا، بل يحتاج إلى إذن القاضي، إذ لا ولاية للملتقط. وأرجحهما على ما يقتضيه كلام البغوي: الاستقلال ... ولو ظهر منازع في المال ¬
المخصوص باللقيط، فليس للملتقط مخاصمته على الأصح، وسواء قلنا: له الاستقلال بالحفظ أم لا، فليس له إنفاقه على اللقيط إلا بإذن القاضي إذا أمكن مراجعته. فإن أنفق، ضمن، ولم يكن له الرجوع على اللقيط كمن في يده مال وديعة ليتيم أنفقها عليه. وحكى ابن كج وجها أنه لا يضمن وهو شاذ" (¬1). وقال العمراني في البيان: "إن كان في البلد حاكم لم يجز للملتقط أن ينفق على اللقيط من ماله بغير إذن الحاكم؛ لأن الملتقط لا ولاية له على مال اللقيط، وإنما له الولاية على حضانته، فإن خالف وأنفق عليه من ماله بغير إذن الحاكم .. لزمه الضمان؛ لأنه تعدى بذلك" (¬2). واحتج أصحاب هذا القول: الحجة الأولى: أن ولاية التصرف في المال لا تثبت إلا للأب أو الجد، أو الوصي، أو الحاكم، والملتقط ليس واحدًا من هؤلاء. الحجة الثانية: أن اللقيط له ولاية الحضانة، وهي لا تعطيه الولاية على ماله كالأم، فاحتاج الأمر إلى مراجعة القاضي؛ لأنه ولي من لا ولي له. الحجة الثالثة: القياس على من أودع مالًا، وغاب، وله ولد، فلا ينفق الوديع على ولده من ¬
الوديعة عليه؛ لأنه لا ولاية له، فكذلك الملتقط لا ولاية له على مال اللقيط، فلا ينفق عليه حتى يأمره الحاكم بالإنفاق عليه. القول الثاني: للملتقط أن ينفق على اللقيط ولو بدون أمر القاضي، وهو أحد القولين في مذهب الحنفية، ووجه مرجوح في مذهب الشافعية، والمذهب عند الحنابلة (¬1). (ث-315) واستدل الحنابلة بما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب، عن سنين أبي جميلة رجل من بني سليم، أنه وجد منبوذا في زمان عمر بن الخطاب، قال: فجئت به إلى عمر بن الخطاب، فقال: "ما حملك على أخذ هذه النسمة"؟ فقال: وجدتها ضائعة فأخذتها، فقال له عريفه: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح، فقال له عمر: أكذلك؟ قال: نعم، فقال عمر بن الخطاب: "اذهب فهو حر ولك، ولاؤه وعلينا نفقته (¬2). [صحيح، وسنين أبو جميلة معدود في الصحابة]. وجه الاستدلال: قول عمر: (لك ولاؤه)، أي ولايته، فأثبت له الولاية. ¬
الدليل الثاني: القياس على الوصي بجامع أن كلًّا منهما يلي حضانة الصغير لا من أجل القرابة، فكان له النظر في الإنفاق عليه بدون الرجوع إلى الحاكم. الدليل الثالث: إذا كان أمينًا في القيام بمصالح اللقيط من الحضانة والتربية، والتعليم، والحفظ كان أمينًا في الإنفاق عليه من باب أولى؛ لأن حفظ البدن أخطر من حفظ المال، فكيف يكون أمينًا على حفظ بدنه، ولا يكون أمينًا على الإنفاق من ماله. ° الراجح: أرى أن الملتقط له ولاية الإنفاق على اللقيط دون إذن من القاضي، وإن رجع كان أفضل، والله أعلم.
الفصل الثالث في حق الملتقط بالسفر باللقيط
الفصل الثالث في حق الملتقط بالسفر باللقيط المبحث الأول في سفر الملتقط المستور الحال باللقيط [م - 2046] الفقهاء جعلوا حكم السافر باللقيط راجع إلى عدالة الملتقط، والناس في العدالة ثلاثة أقسام: العدل: من اشتهرت عدالته ظاهرًا وباطنًا فهذا له حق السفر باللقيط متى كان السفر جائزًا وهذا بالاتفاق، وسيأتي إن شاء الله بيان السفر الجائز من الممنوع. والمجهول: وهو من جهلت عدالته ظاهرًا وباطنًا، وهذا لا يجوز له الالتقاط عند الجمهور الذين يشترطون العدالة في الملتقط خلافًا للحنفية، وسبق بحث هذه المسألة، ولله الحمد. ومستور الحال: من علمت عدالته الظاهرة، وجهلت عدالته الباطنة، وسبق لنا أن الجمهور من الحنفية، والشافعية، والحنابلة على صحة التقاط مستور الحال، إلا أنهم اختلفوا في حكم سفره باللقيط على قولين: القول الأول: لا يجوز السفر باللقيط من مستور الحال، وينزع منه عند إرادته السفر، وهذا
مذهب الشافعية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬1). قال إمام الحرمين: "إذا أراد ملتقط المنبوذ أن يسافر به، قال الشافعي: إن كان أمينًا، وظهرت الثقة به، وعرفت أمانته، مكن منه، وإلا، فلا يمكن؛ مخافة أن يسترقه" (¬2). وقال ابن قدامة: "وإذا التقط اللقيط من هو مستور الحال، لم تعرف منه حقيقة العدالة ولا الخيانة، أقر اللقيط في يديه ... فإن أراد السفر بلقطته، ففيه وجهان: أحدهما: لا يقر في يديه، وهذا مذهب الشافعي؛ لأنه لم يتحقق أمانته، فلم تؤمن الخيانة منه. والثاني يقر في يديه؛ لأنه يقر في يديه في الحضر من غير مشرف يضم إليه، فأشبه العدل، ولأن الظاهر الستر والصيانة" (¬3). وقال الحنابلة: وحيث قلنا بانتزاع اللقيط من الملتقط فإنما ذلك الانتزاع عند وجود الأولى به من الملتقط فأما إذا لم يوجد أولى منه فإقراره في يده أولى كيف كان لرجحانه بالسبق إليه (¬4). ¬
° وجه القول بأنه لا يسافر به: أن مستور الحال لم تتحق أمانته، فلا تؤمن خيانته، لا في بدنه، فقد يسترقه إذا غاب، ولا في ماله فقد يعتدي عليه. القول الثاني: يجوز لمستور الحال أن يسافر باللقيط حيث كان السفر جائزًا، وهو أحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬1). وقيدنا القول بالجواز حيث كان السفر جائزًا؛ لأنه سوف يأتينا أقسام السفر الممنوع والجائز في مباحث تالية إن شاء الله تعالى. واحتج الحنابلة للجواز: الدليل الأول: الأصل في مستور الحال أنه على العدالة والسلامة، حيث لم يثبت ما يجرح عدالته، فتؤمن خيانته. الدليل الثاني: أن مستور الحال أشبه العدل في إقراره بيده في الحضر من غير مشرف يضم إليه، فكذا إذا أراد أن يسافر به. ¬
° الراجح: جواز السفر للملتقط إذا كان مستور الحال، ولم يثبت ما يجرح عدالته، والله أعلم.
المبحث الثاني السفر باللقيط إذا نبذ في البادية
المبحث الثاني السفر باللقيط إذا نبذ في البادية الفرع الأول الانتقال باللقيط من البادية إلى مثلها [م - 2047] إذا عثر على اللقيط في البادية، وأراد ملتقطه أن ينتقل به في البوادي طلبًا للماء والكلأ، كما هو حال البدو الرحل، فهل يحق له التنقل به بالبوادي، أو ينزع منه ويعطى لرجل مقيم يتولى حفظه وتربيته؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ليس له التنقل به في البوادي إذا وجد من يدفع إليه من أهل القرى والمدن، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة، رجحه المتأخرون منهم، قال في الإنصاف: وهو المذهب (¬1). جاء في شرح منتهى الإرادات: "ولا يقر بيد ملتقطه إن كان بدويًّا ينتقل في المواضع؛ لأن فيه أتعابًا للقيط، فيؤخذ منه، ويدفع لمن يقر به؛ لأنه أخف عليه" (¬2). ¬
وقال ابن قدامة: "كل موضع قلنا: ينزع من ملتقطه فإنما يكون ذلك إذا وجد من يدفع إليه ممن هو أولى به، فإن لم يوجد من يقوم به أقر في يد ملتقطه" (¬1). ° وجه هذا القول: الوجه الأول: أن التنقل مضر باللقيط؛ لأن فيه مشقة عليه وإتعابًا له، فإذا وجد من يدفع إليه ممن هو مستقر في حلة دفع إليه. ويناقش: بأن أهل البادية يألفون هذه الحياة، ولا يجدون فيها مشقة، وقد ولد بينهم، فهو منهم. الوجه الثاني: أن في تنقله تعريضًا لنسبه للضياع؛ لأن بقاءه في المكان الذي نبذ فيه يحتمل ظهور نسبه؛ لأن الغالب أنه ابن بدويين، أما إذا نأت المسافات وتباعدت الديار فالمسافة البعيدة حائلة عن الوصول إلى نسب اللقيط، والله أعلم. ويناقش: هذه المصلحة قد تكون في انتقاله قبل انتشار خبره بين الناس، أما إذا شاع خبره وذاع بين الناس فالسفر به لا يكون سببًا لضياع نسبه، بل ربما يكون أصلح له حيث ينتقل إلى مكان لا يعرف، فلا يعير بهذا، والله أعلم. ¬
القول الثاني: يقر في يده، ولا ينزع منه، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة، وصوبه في الإنصاف (¬1). قال العمراني في البيان: "وإن كان ينتقل في طلب الماء والكلأ .. ففيه وجهان: أحدهما: يقر بيده؛ لأنه هو الواجد له، وهو من أهل الولاية. والثاني: لا يقر في يده؛ لأن على اللقيط مشقة في التنقل" (¬2). جاء في نهاية المحتاج: "وقيل إن كانوا ينتقلون للنجعة بضم فسكون: أي لطلب الرعي أو غيره لم يقر بيده؛ لأن فيه تضييعًا لنسبه، والأصح أنه يقر لأن أطراف البادية من البلدة" (¬3). ° وجه هذا القول: الوجه الأول: أن التنقل على هذه الصفة هو الغالب على أهل البادية، فلا يكون هذا مانعًا من الالتقاط. الوجه الثاني: أن التنقل به في البادية كالتنقل به في أطراف البلدة الواحدة بالنسبة للبدو. ¬
الوجه الثالث: أن التنقل به بين أماكن البدو أرجى لكشف نسبه وظهور أهله؛ لأن ظاهر حاله أنه ابن بدويين، وقد عرف أن اعتناء القبائل في الأنساب والبحث فيها أكثر من اعتناء الحاضرة، فلا يشكل التنقل ضررًا على اللقيط من حيث ظهور نسبه، والله أعلم. ° الراجح: أن البادي إذا التقطه، واستقر في يده، وشاع خبره بين الناس فله التنقل فيه بين البادية، أما عند ابتداء الالتقاط فلو تزاحم فيه اثنان أحدهما مستقر في مكانه، لا يتنقل فيه، وآخر يتنقل بين البوادي طلبًا للماء والكلأ قدم المستقر على المتنقل، كصفة تفضيل، والله أعلم.
الفرع الثاني الانتقال باللقيط من البادية إلى الحاضرة أو الحلة
الفرع الثاني الانتقال باللقيط من البادية إلى الحاضرة أو الحلة [م - 2048] إذا كان اللقيط في البدو، وأراد الملتقط أن يخرج به إلى أهل الحضر، أو إلى حلة (¬1)، نظر: فإن كان في مهلكة وجب نقله، وإن لم يكن في مهلكة جاز نقله، ولا يجوز انتزاعه منه بسبب ذلك، نص على هذا الشافعية والحنابلة (¬2). وما يتوقع من انقطاع ظهور نسبه في نقله من البادية حيث نبذ لا يعادل مصلحة نقله إلى المدينة حيث الأمن ورغد، العيش، وتعلم الدين والصنعة، والرعاية الصحية، فلا تترك مصلحة متيقنة لمصلحة متوهمة. جاء في المهذب: "وإن كان الملتقَط في بدو، فإن كان الملتقِط من أهل الحضر، وأراد أن يخرج به إلى الحضر جاز؛ لأن الحضر أرفق به وأنفع له، وإن كان من البادية، فإن كانت حلته في مكان لا ينتقل عنه أقر في يده؛ لأن الحلة كالقرية" (¬3). ¬
وقال ابن قدامة: "وإن التقطه من البادية فله نقله إلى الحضر؛ لأنه ينقله من أرض البؤس والشقاء إلى الرفاهية والدعة، والدين" (¬1). وأشار النووي إلى احتمال وجود خلاف في المسألة. قال النووي في الروضة: "ومن قال في اللقطة: يعرفها في أقرب البلاد يشبه أن يقول: لا يذهب به إلى مقصده رعاية للنسب" (¬2). ¬
المبحث الثالث السفر باللقيط إذا نبذ في الحاضرة
المبحث الثالث السفر باللقيط إذا نبذ في الحاضرة الفرع الأول الانتقال باللقيط من الحاضرة إلى مثلها [م - 2049] إذا نبذ اللقيط في الحاضرة، فأراد أن يسافر به الملتقط إلى بلد آخر، وكان البلدان متشابهين في المعيشة، والتعليم، فقد اختلف العلماء في حكم السفر باللقيط على قولين: القول الأول: لا يسافر الملتقط باللقيط من البلد الذي وجد فيه، فإن أراد السفر انتزع منه، وهو قول في مذهب الشافعية، والصحيح من مذهب الحنابلة، واستثنى الحنابلة ما إذا كان السفر لمصلحة اللقيط كما لو كان البلد وبيئًا، فإن له أن يسافر فيه (¬1). ° وجه القول بالمنع: أن بقاءه في بلده أرجى لظهور نسبه، وقياسًا على المتنقل به إلى البادية. القول الثاني: لا يمنع الملتقط أن يسافر به إلى بلد آخر، وهو الأصح في مذهب الشافعية، ¬
وبه قال جمهورهم، وأحد القولين في مذهب الحنابلة (¬1). قال الشافعية: ومحل جواز نقله عند أمن الطرق وتواصل الأخبار، فإن كان مخوفًا، أو انقطعت الأخبار بينهما لم يقول اللقيط في يده قطعًا. جاء في تحفة المحتاج: "والأصح أن له نقله من بلد وجد فيه إلى بلد آخر ولو للنقلة لعدم المحذور السابق لكن يشترط تواصل الأخبار وأمن الطريق، وإلا امتنع ولو لدون مسافة القصر" (¬2). ° وجه القول بالجواز: أن ولاية الملتقط على اللقيط ثابتة، والبلد الثاني كالأول في الرفاهية، فيقر في يده، كما لو انتقل من أحد جانبي البلد إلى الجانب الآخر، وفارق المنتقل به إلى البادية؛ لأنه يضر به بتفويت الرفاهية عليه. ° الراجح: جواز الانتقال به إلى البلد الآخر بشرط أن يمضي مدة على التقاطه وانتشار خبره بين أهل البلد وأن ييئس من ظهور أحد يمكن أن يدعي نسبه، وأن يعلم أهل بلده بمكان انتقاله حتى إذا وجد من يدعي نسبه يمكن الوصول إلى من التقطه، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني الانتقال باللقيط من الحاضرة إلى البادية
الفرع الثاني الانتقال باللقيط من الحاضرة إلى البادية [م - 2050] إذا أراد الملتقط أن يسافر باللقيط من الحاضرة إلى البادية، فقد نص الشافعية والحنابلة على أنه إلى لا يجوز نقله إليها (¬1). جاء في أسنى المطالب: "لا يجوز نقله -يعني اللقيط- من قرية أو بلد إلى بادية، وإن قربت، ولا من بلد إلى قرية كذلك؛ لخشونة عيشهما، وفوات العلم بالدين والصنعة فيهما، نعم لو قربتا بحيث يسهل المراد منهما جاز النقل إليهما لانتفاء العلة صرح به في الأصل" (¬2). وفي شرح منتهى الإرادات: "ولا يقر بيد من وجده في الحضر فأراد نقله إلى البادية: لأن مقامه في الحضر أصلح له في دينه ودنياه، وبقاؤه فيه أرجى لكشف نسبه وظهور أهله. فإن الظاهر حيث وجده به أنه ولد فيه" (¬3). ¬
الفصل الرابع في الاشتراك في الالتقاط
الفصل الرابع في الاشتراك في الالتقاط المبحث الأول أن يكون الملتقطان متساويين في الصفات [م - 2051] إذا رأى اللقيط اثنان فبادر أحدهما إلى وضع يده عليه قبل الآخر كان هو الأحق؛ لأن استحقاق اللقطة إنما هو بالأخذ دون الرؤية أو القيام عليه. قال في الإنصاف: "الشركة في الالتقاط أن يأخذاه جميعًا, ولا اعتبار بالقيام المجرد عنده؛ لأن الالتقاط حقيقة الأخذ، فلا يوجد بدونه ... " (¬1). [م - 2052] فإن تساويا في وضع اليد، قدم الأصلح لحفظه والقيام عليه، وسوف يأتينا إن شاء الله تعالى صفات التفضيل الذي يترجح فيها أحدهما على الآخر في المبحث التالي. فإن استويا في الصفات كالإسلام والحرية، والعدالة، والغنى، والإقامة وغيرها من صفات التفضيل، ولا مرجح لأحدهما على الآخر، فإن رضي أحدهما بإسقاط حقه، وتسليمه إلى الآخر جاز؛ لأن الحق له، وقد أسقطه. [م - 2053] وإن تزاحما في أخذه فقد اختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول: يرجع الأمر فيه إلى نظر القاضي واجتهاده، فيدفعه إلى الأصلح في نظره، ¬
وهذا مذهب الحنفية، واختيار بعض الشافعية (¬1). قال ابن نجيم: "الملتقط إذا كان متعددا فإن أمكن الترجيح اختص به الراجح، ولم أر حكم ما إذا استويا، وينبغي أن يكون الرأي فيه إلى القاضي" (¬2). ° حجة هذا القول: لما كان الملتقط لا ولاية له على اللقيط عند الحنفية، وكان القاضي يعتبر واليًا لمن لا ولي له كان الفصل في هذا عند التساوي إلى القاضي، فيتحرى الأصلح في نظره واجتهاده. القول الثاني: أنه يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة دفع إليه، وهذا مذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة (¬3). قال الشافعي: "ولو وجده رجلان فتشاحاه أقرعت بينهما، فمن خرج سهمه دفعته إليه" (¬4). ¬
وفي الإقناع في فقه الإمام أحمد: "فإن تساويا وتشاحا أقرع بينهما" (¬1). ° حجة الجمهور على تحكيم القرعة: الحجة الأولى: لما استوى حقهما في الالتقاط، ولا مرجح لأحدهما، فليس أحدهما بأولى من الآخر، كانت القرعة هي الحكم عند تساوي الحقوق. قال تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]. وقوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141]. الحجة الثانية: (ح-1247) من السنة ما رواه مسلم من حديث عمران بن حصين أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته، ولم يكن له مال غيرهم فدعا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجزأهم أثلاثًا، ثم أقرع بينهم، فاعتق اثنين، وأرق أربعة (¬2). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر أقرع بين نسائه. الحجة الثالثة: أنه لا يمكن أن يخير الصبي بينهما لعدم ميله إلى أحدهما بطبعه كما في تخيير الطفل بين أبويه لوجود الميل الناشيء عن الولادة، ولا يمكن أن يسلم اللقيط إلى غيرهما؛ لأنه قد ثبت لهما حق الالتقاط، فلا يجوز إخراجه عنهما, ولا يتصور قيامهما بحضانته على الاجتماع، ولا يمكن المهايأة بينهما، بأن يجعل عند كل ¬
واحد يومًا فأكثر لما في ذلك من الإضرار بالطفل، لاختلاف الإلف والأنس فلم يبق إلا القرعة، والله أعلم. ° الراجح: بعد استعراض الأدلة أجد أن القول بتحكيم القرعة أقوى من القول بالرجوع إلى القاضي، والله أعلم.
المبحث الثاني أن يستويا في الأهلية ويتفاضلا في الصفات
المبحث الثاني أن يستويا في الأهلية ويتفاضلا في الصفات الفرع الأول إذا تفاضل اللقيطان في الديانة [م - 2054] إذا كان كل من الملتقطين أهلًا للكفالة، بحيث لو انفرد أحدهما في الالتقاط لم ينزع منه اللقيط، ولكن يوجد بعض صفات التفضيل عند أحدهما ترجحه على الآخر، فهل يسلم للأصلح منهما لكون ذلك أنفع للقيط؟ هذا ما سنقف عليه من خلال هذا المبحث والمباحث التي تليه، ولما كانت صفات التفاضل كثيرة، اخترت أن أبحث أهمها مما وقع فيه خلاف. [م - 2055] فإذا كان اللقيط محكومًا بكفره، واشترك المسلم والذمي في التقاطه، فهل يقدم المسلم على الكافر؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يفضل المسلم على الكافر، وهذا مذهب الحنفية، وقول في مذهب الشافعية، ورجحه ابن قدامة من الحنابلة، وقال الحارثي: وهو الصحيح بلا تردد (¬1). جاء في الدر المختار: "لو وجده مسلم وكافر فتنازعا قضي به للمسلم؛ لأنه ¬
أنفع للقيط خانية" (¬1). وقال ابن قدامة: "وإن التقط مسلم وكافر طفلًا محكومًا بكفره، فالمسلم أحق" (¬2). ° وجه تقديم المسلم على الذمي في حضانة اللقيط: أن تقديم المسلم أنفع للقيط، حيث ينشأ على الإسلام، ويتعلم أحكام الدين، وهذا أهم ما يحصله العبد في حياته، بل هو الغاية التي خلق من أجلها، وهو مولود على الفطرة، فإذا التقطه كافر بدل فطرته التي فطره الله عليها، وهل هناك جرم أكبر من أن يكون المربي سببًا في كفر من تحت يده. القول الثاني: لا يفضل المسلم على الذمي، وبه قال بعض الحنفية، وهو مذهب الشافعية، ¬
ومذهب الحنابلة (¬1). قال النووي: "ويتساوى المسلم، والذمي في اللقيط المحكوم بكفره، وقيل: يقدم المسلم" (¬2). وجاء في الإقناع: "لو التقط الكافرَ مسلم وكافر فهما سواء، وقيل: المسلم أحق اختاره جمع" (¬3). وجاء في المغني: "قال أصحابنا، وأصحاب الشافعي: هما سواء؛ لأن للكافر ولاية على الكافر، ويقر في يده إذا انفرد بالتقاطه، فساوى المسلم في ذلك" (¬4). ° وجه القول بأن المسلم والذمي في التقاط الكافر سواء: إذا كان اللقيط كافرًا أصبحت المقارنة بين المسلم والذمي إنما هو في الالتقاط لا في اللقيط، وهما في الالتقاط قد اشتركا, ولا مرجح لأحدهما في الفعل؛ وإنما لم يكن هناك مرجع من جهة اللقيط؛ لأن اللقيط محكوم بكفره، والملتقط الكافر له ولاية عليه، ويقر في يده إذا انفرد، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 8]. ¬
قال ابن عابدين: "ظاهر تعليل الخانية بأنه أنفع للقيط عدم اختصاص الترجيح بالإسلام" (¬1). ° الراجح: أرى أن مذهب الجمهور هو الصواب قطعًا؛ لأنهما وإن اشتركا في الالتقاط؛ إلا أن المسلم أنفع للقيط، وإذا كنا تقدم الغني على الموسر، والمقيم على المتنقل، فكيف لا تقدم المسلم على غيره من الكفار!! والله أعلم. ¬
الفرع الثاني في تقديم العدل على مستور الحال
الفرع الثاني في تقديم العدل على مستور الحال [م - 2056] إذا تزاحم اثنان، وكل منهما أهل للالتقاط، إلا أن أحدهما ظاهر العدالة، والآخر مستور الحال، فهل يقدم ظاهر العدالة على المستور، أو يستويان في الالتقاط؟ أما الحنفية الذين لا يرون العدالة شرطًا في صحة الالتقاط فلا يفرقون بين الفاسق والعدل فضلًا عن التفاضل بين العدل ومستور الحال. وأما غيرهم ممن يشترط العدالة في الملتقط فقد اختلفوا في تقديم العدل على المستور على قولين: القول الأول: يقدم العدل على مستور الحال، وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). قال النووي: "من ظهرت عدالته بالاختبار، يقدم على المستور على الأصح" (¬2). وقال ابن قدامة: "فإن كان أحدهما مستور الحال، والآخر ظاهر العدالة ¬
احتمل أن يرجح العدل؛ لأن المانع من الالتقاط منتف في حقه بغير شك، والآخر مشكوك فيه" (¬1). القول الثاني: أن العدل ومستور الحال سواء، وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة، وقول في مقابل الأصح في مذهب الشافعية (¬2). ° وجه القول بأنهما سواء: الوجه الأول: إذا كان احتمال وجود المانع لا يؤثر في صحة التقاطه عند انفراده، لم يكن احتمال وجود المانع مؤثرًا في الترجيح. الوجه الثاني: أن الرجل ربما كانت حاله مستورة لا بسبب منه، وإنما قصور في من جهة الباحث في عدالته وتقصي حاله، فلا يعاقب بفعل غيره. ° الراجح: أرى أن تقديم مصلحة اللقيط مقدمة على مصلحة الملتقط، فليس اللقيط مالًا يكتسب بالالتقاط يجعل العدل ومستور الحال على درجة سواء في التكسب، وإنما هذه حضانة آدمي تجعلنا ننظر في الأصلح له، ولا شك أن من ظهرت عدالته أفضل من مستور الحال، لهذا وجب تقديمه، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث في تقديم الغني على الفقير
الفرع الثالث في تقديم الغني على الفقير [م - 2057] لو تزاحم اثنان في أخذه، وكان أحدهما غنيًّا، والآخر فقيرًا، فهل يعتبر الغنى مرجحًا لأحدهما على الآخر؟ أما إذا كانا غنيين، وكان أحدهما أكثر غنى لم يكن هناك ما يدعو لترجيح الأكثر غنى، ما دامت صفة الغنى موجودة في كل واحد منهما على الأصح. فإن كان أحدهما غنيًّا، والآخر فقيرًا، فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يقدم الغني على الفقير، نص عليه ابن عابدين من الحنفية، وهو الأصح في مذهب الشافعية، والمذهب عند الحنابلة (¬1). قال ابن عابدين في حاشيته: "وينبغي أن يرجح ما هو أنفع للقيط نهر، بأن يقدم العدل على الفاسق والغني على الفقير" (¬2). وجاء في تحفة المحتاج: "وإن التقطاه معًا، وهما أهل لحفظه، وحفظ ماله ¬
فالأصح أن يقدم غني ... على فقير؛ لأنه أرفق به غالبًا، وقد يواسيه بماله" (¬1). وقال النووي: "والصفات المقدمة أربع: إحداها: الغنى، فإذا كان أحدهما غنيًّا والآخر فقيرًا، فقيل: يستويان. والأصح تقديم الغني وعلى هذا لو تفاوتا في الغنى، فهل يقدم أكثرهما مالًا؟ وجهان. قلت: الأصح لا يقدم. والله أعلم" (¬2). وجاء في الإنصاف: "وإن التقطه اثنان، قدم الموسر منهما على المعسر ... لا أعلم فيه خلافًا" (¬3). ° وجه القول بقديم الغني على الفقير: أنه أرفق باللقيط، وقد يواسيه بماله، ولأن الفقير قد يشغله طلب القوت عن القيام بواجبات الحضانة. قلت: مقتضى التعليل أن الفقير لو كان أنفع للقيط قدم على الغني كما لو كان الغني محرومًا والفقير كريمًا. قال ابن قاسم العبادي في حاشيته: "لو علم شح الغني شحًّا مفرطًا قدم الفقير الذي ليس كذلك؛ لأن الحظ حينئذ عند الفقير أكثر" (¬4). ¬
القول الثاني: يستوي الغني والفقير في الالتقاط، وهو قول في مذهب الشافعية (¬1). ° وجه القول بالاستواء: أن النفقة ليست على الملتقط، وإنما نفقته من ماله إن كان له مال، أو من بيت المال إن لم يكن له مال، وإذا كان كذلك لم يكن للغنى والفقر صفة ترجيح , فهما سواء في الالتقاط. ° الراجح: أرى أن تقديم الغني على الفقير أنفع للقيط إذا استويا في الصفات الأخرى، وكان الغني باذلًا كريمًا. ¬
الفرع الرابع في تقديم المقيم على المسافر
الفرع الرابع في تقديم المقيم على المسافر [م - 2058] نص الشافعية والحنابلة على تقديم المقيم في البلدة أو القرية على المسافر (¬1). جاء في تحفة المحتاج: "ويقدم مقيم على ظاعن" (¬2). وفي حاشيتي قليوبي وعميرة: "يقدم المقيم مطلقًا على المسافر، والبلدي المقيم على الظاعن" (¬3). وجاء في الإنصاف: "وإن التقطه اثنان، قدم الموسر منهما على المعسر، والمقيم على المسافر. لا أعلم فيه خلافًا" (¬4). ¬
الفرع الخامس في تقديم المرأة على الرجل في حضانة اللقيط
الفرع الخامس في تقديم المرأة على الرجل في حضانة اللقيط [م - 2059] لم يختلف الفقهاء في تقديم الأم على الأب في حضانة الطفل، إلا أنهم في اللقيط لم يقدموا المرأة باعتبار أن الرجل والمرأة أجنبيان عن اللقيط، ومشتركان في الالتقاط، والرجل إنما يحضنه بأجنبية فاستويا. قال العمراني في البيان: "قال الشافعي في الأم: (ولا فرق بين أن يكونا رجلين أو امرأتين، أو رجلا وامرأة؛ لأنهما من أهل الحضانة والتربية). فإن قيل: أليس لو افترق الزوجان، ولهما ولد له دون سبع سنين، فإن الأم أولى بحضانة الولد، فهلا قلتم: إن المرأة ها هنا أولى بالحضانة؟ قلنا: الفرق بينهما: أن الولد هناك خلق من ماء الزوجين، وللأم مزية بحمله ورضاعه، وشفقتها عليه أكثر، فلذلك قدمت على الأب. وها هنا إنما ثبت لهما الحق بالالتقاط، وهما متساويان فيه، فلم يقدم أحدهما على الآخر، ولأنا إذا جعلنا الحضانة للأم فإن حق الأب لا ينقطع منه؛ لأن التأديب والتعليم إليه، وذلك جمع بين الحقين، وليس كذلك ها هنا، فإنا إذا جعلنا الحضانة للمرأة انقطع حق الرجل عنه (¬1). وقال الماوردي: "ولو التقطه رجل وامرأة كانا في كفالته سواء، فيقترعان، ولا تقدم المرأة كتقديم الأم على الأب في الحضانة؛ لأن في الالتقاط ولاية إن ¬
لم يكن الرجل أحق لها لم يكن أنقص حضانة الأبوين" (¬1). واستثنى الأذرعي من الشافعية تقديم المرضعة على الرجل في لقيط رضيع (¬2). وقال ابن قدامة: "الرجل والمرأة في هذا سواء؛ لأن المرأة أجنبية، والرجل يحضنه بأجنبية، فهما سواء" (¬3). ¬
الفصل الخامس في التنازع على الالتقاط
الفصل الخامس في التنازع على الالتقاط [م - 2060] الالتقاط إما أن ينفرد أحد به، فيكون أحق من غيره، وهذا واضح، لا نقاش فيه. وإما أن يشتركا فيه، بحيث يضع كل واحد منهما يده عليه في وقت واحد على سبيل الاشتراك، ولا يدعي أحد منهما انفراده بالالتقاط. وهذا قد سبق بحثه على وجه التفصيل في مبحث سابق، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وإما أن يتنازعا فيه بحيث يدعي كل واحد منهما سبقه إلى الالتقاط، وأنه الأحق به دون غيره، وهذا هو ما نريد أن نتكلم فيه في المباحث التالية. وكما قلنا في الاشتراك، لا يقع التنازع على اللقيط قبل أخذه حقيقة, لأنه لا حق للمتنازعين فيه قبل أخذه، لعدم التقاطهما له، ولا اعتبار بالسبق بالرؤية، ولا بالقيام المجرد عنده؛ لأن الالتقاط حقيقة الأخذ، فلا يوجد بدونه ... (¬1). والحكم في هذه الحالة يكون للقاضي فهو ولي من لا ولي له، وقد بينا ذلك عند الكلام على الاشتراك في اللقيط. أما إذا ادعى كل واحد منهما أنه قد سبق غيره بوضع يده على اللقيط، فهذا يدخل في التنازع على الالتقاط، وهو على أقسام: إما أن يكون هذا التنازع خلوًا من البينة، أو تكون البينة لأحدهما، أو تقوم ¬
البينة لكل واحد منهما، لا يتصور قسمة رابعة. وسوف نفصل الكلام إن شاء الله تعالى على كل قسم من هذه الأقسام في المباحث التالية، أسأل الله وحده العون والتوفيق.
المبحث الأول في التنازع على الالتقاط ولا بينة لأحدهما
المبحث الأول في التنازع على الالتقاط ولا بينة لأحدهما الفرع الأول أن يكون اللقيط في يد أحدهما [م - 2061] إذا تنازع رجلان على اللقيط، وكان اللقيط في يد أحدهما, ولم يكن لأحدهما بينة، فإن القول لصاحب اليد (¬1). ° وجه القول بذلك: الوجه الأول: أن حق الحضانة يثبت بالالتقاط، واليد دلالة عليه. الوجه الثاني: أن اليد تفيد الملك، فأولى أن تفيد الاختصاص. إلا أنهم اختلفوا: هل القول لصاحب اليد مع يمينه، أو يقبل قوله بلا يمين؟ على قولين: ¬
القول الأول: أنه يقضى له بيمينه، وهو مذهب الشافعية، والصحيح من مذهب الحنابلة (¬1). قال العمراني الشافعي: " إذا تداعى رجلان من أهل الحضانة لقيطًا فقال كل واحد منهما: أنا التقطته، فلي حق حضانته، فإن لم يكن لأحدهما عليه يد فإن الحاكم يأخذه ويقره في يد من يرى منهما، أو من غيرهما؛ لأنه لا يد لأحدهما عليه. وإن كان في يد أحدهما كان صاحب اليد أحق به؛ لأن له يدًا تدل على الالتقاط. فإن قال الآخر: أنا التقطته أولا، وإنما غصبه الآخر مني فالقول قول صاحب اليد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الغصب" (¬2). ° وجه من قال: القول قول صاحب اليد بيمينه: أن من كان اللقيط بيده كان مدعى عليه، فيطالب المدعي بالبينة، فإن لم يكن بينة لم يكن له إلا يمين المدعى عليه. (ح-1248) لما رواه مسلم من طريق ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه (¬3). ¬
القول الثاني: يقضى لصاحب اليد بلا يمين، وهو وجه في مذهب الحنابلة. قال ابن قدامة: "فإن اختلفا في الملتقط، وهو في يد أحدهما، فالقول قوله، وهل يستحلف؟ فيه وجهان" (¬1). وفي المغني: "فإن اختلفا فقال كل واحد منهما أنا التقطته، ولا بينة لأحدهما وكان في يد أحدهما فالقول قوله مع يمينه ... وقال القاضي: قياس المذهب أنه لا يحلف كما في الطلاق والنكاح" (¬2). ° الراجح: أرى أن من قال: إن القول لصاحب اليد مع يمينه أرجح وأقوى من القول الآخر، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني أن يكون اللقيط في يديهما معا
الفرع الثاني أن يكون اللقيط في يديهما معا [م - 2062] إذا تنازع الرجلان على اللقيط، ولم يكن لأحدهما بينة، وقد وضعا يديهما على اللقيط معًا، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة دفع إليه، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، إلا أن الشافعية قالوا: يقرع بينهما بعد أن يتحالفا أو ينكلا معًا، وإن حلف أحدهما خص به. وفي مذهب الحنابلة وجهان باستحلافه، الصحيح من المذهب: أن من خرجت له القرعة سلم إليه مع يمينه. واختار الشيخ أبو حامد وابن الصباغ من الشافعية والقاضي من الحنابلة الإقراع بينهما بلا تحالف (¬1). قال الشيرازي في المهذب: "وإن كان في يدهما تحالفا، أو نكلا صار كالملتقطين يقرع بينهما على المذهب" (¬2). وجاء في الإنصاف: "فإن كان في أيديهما أقرع بينهما، فمن قرع سلم إليه مع يمينه على الصحيح من المذهب. قاله في المغني، والشرح، وقالا: وعلى قول ¬
القاضي لا تشرع اليمين هنا، ويسلم إليه بمجرد وقوع القرعة له، وأطلقهما في الكافي" (¬1). ° وجه قول الشافعية بأن القرعة بعد أن يحلفا أو ينكلا: أن كل واحد منهما يدعي أنه هو الملتقط أولا، وأن الآخر أدخل يده معه، فتحالفا كالمختلفين في الملك (¬2). ° وجه قول الحنابلة بأن اليمين على من خرجت له القرعة: أن اليمين تكون في جانب من كان القول قوله، وقد جعلت القرعة القول لأحدهما، فكانت اليمين في حقه خاصة. القول الثاني: ذهب بعض الشافعية إلى أن الحكم للقاضي يقره في يده من يرى أنه أنفع وأحظ للقيط (¬3). ° وجه هذا القول: أنهما لما تساويا تساقطا، فرجع الأمر إلى القاضي؛ لأنه ولي من لا ولي له. والأول أرجح، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث ألا يكون اللقيط في يد واحد منهما
الفرع الثالث ألا يكون اللقيط في يد واحد منهما [م - 2063] إذا تنازع الرجلان على اللقيط، وكل واحد يدعي أنه التقطه قبل الآخر، ولم يكن لأحدهما بينة، ولم يكن اللقيط في يد واحد منهما فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على النحو التالي: القول الأول: إن وصف أحدهما علامة مستورة في جسده، قدم بذلك، وحكم له، فإن استويا في الوصف أو في عدمه أقرع بينهما، وهذا مذهب الحنابلة. ويمكن تخريجه على قول الحنفية فيما لو ادعى نسبه اثنان فذكر أحدهما علامة في جسده فإنه يقضي له بذلك (¬1). جاء في الهداية: "وإن ادعاه اثنان، ووصف أحدهما علامة في جسده فهو أولى به؛ لأن الظاهر شاهد له لموافقة العلامة" (¬2). وجاء في كشاف القناع: "وإن لم يكن لهما يد فوصفه أحدهما بعلامة مستورة في جسده، بأن يقول: بظهره أو بطنه أو كتفه أو فخذه شامة أو أثر جرح أو نار، ونحوه فكشف، ووجد كما ذكر قدم على من لم يصفه به؛ لأن ¬
هذا نوع من اللقطة فقدم بوصفها كلقطة المال؛ ولأنه يدل على سبق يده عليه فإن وصفاه جميعا بما تقدم أقرع بينهما؛ لانتفاء المرجح لأحدهما على الآخر" (¬1). ° وجه القول بتقديم صاحب العلامة: الوجه الأول: القياس على لقطة المال، فإن اللقيط نوع من اللقطة، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قضى في اللقطة لمن عرف وعاءها وعفاصها، فهذا مثله، وقد قدمنا في باب اللقطة الخلاف في دفعها بالعلامة دون البينة، وذكرنا أدلتهم هناك، فأغنى عن إعادتها هنا، والله أعلم. الوجه الثاني: أن وصف العلامة المستورة دليل على سبق يده عليه، والله أعلم. القول الثاني: اختار بعض الحنابلة إلى عدم الترجيح بالوصف. ° وجه هذا القول: القياس على ما إذا ادعيا عينًا، ووصف أحدهما فيها علامات خفية (¬2). ونوقش هذا: بأن قياس اللقيط على اللقطة أولى من قياس اللقيط على غيره من الأعيان، ¬
على أن مدعي العين إذا وصفها وصفًا مطابقًا، وأخفق الآخر في وصفها كان ذلك قرينة على صدق الوصف، والله أعلم. القول الثالث: إن تنازعاه، ولم يكن في يد واحد منهما فهو كما لو وجداه معًا، وتشاحا في حفظه، فيجعله الحاكم عند من يراه منهما، أو من غيرهما، وهذا مذهب الشافعية (¬1). ° وجه هذا القول: أن الالتقاط لا يثبت إلا بالأخذ باليد، وإذا لم يكن اللقيط في يد واحد منهما لم يثبت الالتقاط لواحد منهما، فيضعه القاضى حيث يراه أنفع وأحظ للقيط، والله أعلم. ° الراجح: أن القضاء بالعلامات تدل على صدق دعوى أن اللقيط كان في يده قبل أن ينزع منه، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني إذا تنازعا في الالتقاط مع قيام البينة
المبحث الثاني إذا تنازعا في الالتقاط مع قيام البينة [م - 2064] إذا تنازع رجلان على اللقيط، وكان النزاع مع وجود البينة فإن النزاع لا يخلو إما أن تكون البينة لأحدهما، أو لكليهما. فإن كانت البينة لأحدهما قدم صاحب البينة على غيره، بصرف النظر هل يده على اللقيط أو يد غيره عليه, لأن البينة أقوى من اليد ومن الدعوى (¬1). جاء في المهذب: "فإن كان لأحدهما بينة قضى له؛ لأن البينة أقوى من اليد والدعوى" (¬2). وفي المبدع: "وإن اختلفا في الملتقط قدم منهما من له بينة؛ لأنها أقوى" (¬3). وإن كان لكل واحد منهما بينة، فهذه لها صورتان: الصورة الأولى: أن تكون إحدى البينتين أقدم تاريخًا، ففي هذه الحالة يقدم الأسبق تاريخًا، حتى ولو لم تكن يده على اللقيط؛ لأن سبق تاريخ البينة دليل على ثبوت سبق الالتقاط. قال الإسنوي في التمهيد في تخريج الفروع على الأصول: "إذا كانت إحداهما متقدمة التاريخ فإنها تقدم" (¬4). ¬
وجاء في المهذب: "فإن كانت بينة أحدهما أقدم تاريخًا قضى له لأنه قد ثبت له السبق إلى الالتقاط" (¬1). وفي المبدع: "فإن كان لكل منهما بينة قدم أسبقهما تاريخيا" (¬2). الصورة الثانية: أن يستوي تاريخ البينتين، أو تكون كل واحدة منهما مطلقة، أو أرخت إحدى البينتين وأطلقت الأخرى، فهنا البينتان متعارضتان: [م - 2065] وقد اختلف العلماء في الحكم إذا تعارضت البينتان على قولين: القول الأول: أنهما يسقطان لتعارضهما، فيصير الحكم كمن لا بينة لهما، وهذا أحد الوجهين في مذهب الشافعية والحنابلة. وقد تقدم الحكم إذا لم يكن لهما بينة. قال الإسنوي في تخريج الفروع على الأصول: "إذا تنازع رجلان في طفل، فقال كل منهما: أنا التقطته دون ذاك، وهو في يدهما أو لا يد لأحدهما عليه، وأقاما بينتين مطلقتين، أو مقيدتين بوقت واحد، أو إحداهما مطلقة والأخرى مقيدة فقد تعارضت البينتان وتساقطتا وحينئذ فيجعله الحاكم عند من يرى منهما أو من غيرهما" (¬3). القول الثاني: أنهما يستعملان، وإذا استعملت البينتان، فيرى الحنابلة: أنه يقرع بينها. ¬
وذهب الشافعية إلى أن الأقوال ثلاثة: القسمة، والثاني: القرعة، والثالث: الوقف، وهذا الحكم في عموم التنازع، وأما في اللقيط فلا يبقى إلا القرعة لتعذر القسمة، والتضرر في التوقف. جاء في المهذب: "وإن لم تكن بينة أحدهما أقدم تاريخًا فقد تعارضت البينتان، ففي أحد القولين تسقطان فيصيران كما لو لم تكن بينة، وقد بيناه وفي القول الثاني تستعملان وفي الاستعمال ثلاثة أقوال: أحدها: القسمة. والثاني: القرعة. والثالث: الوقف، ولا يجيء ها هنا إلا القرعة؛ لأنه لا يمكن اللقيط بينهما، ولا يمكن الوقف؛ لأن فيه إضرارًا باللقيط، فوجبت القرعة" (¬1). ¬
الفصل السادس في إشهاد الملتقط على الالتقاط
الفصل السادس في إشهاد الملتقط على الالتقاط [م - 2066] سبق لنا أن تكلمنا في أحكام اللقطة عن حكم الإشهاد عليها، واللقيط قسم من اللقطة ولذلك كانا متقاربين لفظًا ومعنى، إلا أن اللقيط خص بابن آدم، واللقطة لغيره للتمييز بينهما. قال ابن رشد: "والخلاف فيه مبني على الاختلاف في الإشهاد على اللقطة" (¬1). وقال الغزالي: "وفي وجوب الإشهاد عليه خلاف مرتب على الإشهاد على اللقطة" (¬2). والفرق بينهما: أن لقطة المال يجب تعريفها من أجل تملكها بخلاف لقطة الآدمي، فلا يجب تعريفها؛ لأنها لا تملك. كما أن الغرض من الإشهاد في لقطة المال حفظ حق المالك فيها خوفًا من التعدي عليها، وأما الغرض من الإشهاد على اللقيط فإنما هو لحفظ نسبه وحريته. إذا علم ذلك نقول: اختلف العلماء في الإشهاد على اللقيط على قولين: ¬
القول الأول: أن الإشهاد مستحب، وليس بواجب. وهو قول في مذهب الشافعية في مقابل الأصح، والصحيح في مذهب الحنابلة (¬1). وأما الحنفية فقد نصوا على وجوب الإشهاد على اللقطة، ولم يذكروا الإشهاد على اللقيط (¬2). جاء في الإنصاف: "يستحب للملتقط الإشهاد عليه وعلى ما معه على الصحيح من المذهب" (¬3). ° دليل من قال: يستحب الإشهاد: الدليل الأول: لا يوجد دليل من كتاب أو سنة، أو إجماع، أو قول صاحب لا مخالف له يوجب الإشهاد على الالتقاط، وإذا لم يوجد الدليل المقتضي للإيجاب فالأصل براءة الذمة. ¬
الدليل الثاني: إذا لم يجب الإشهاد على اللقطة لم يجب الإشهاد على اللقيط، وقد تقدم قول الغزالي وابن رشد بأن الخلاف في وجوب الإشهاد على الالتقاط مرتب على الإشهاد على اللقطة (¬1). وإذا كان ذلك كذلك فقد ذكرنا أدلة الجمهور في أن اللقطة لا يجب الإشهاد عليها في أحكام اللقطة، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا. ونوقش هذا: بأن هناك فارقًا بين اللقيط واللقطة؛ ذلك أن القصد من الإشهاد في اللقطة حفظ المال فلم يجب كالبيع، بخلاف الإشهاد على اللقيط فإن الإشهاد عليه من أجل حفظ حريته عن الاسترقاق وحفظ نسبه، والشارع يحتاط للأنساب ما لا يحتاط لغيرها, ولهذا أوجب الله في النكاح الشهادة والصداق والولي دون عقد البيع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن أخذ اللقطة يقضي بوجوب تعريفها، وفي ذلك إشهار لها، وهو أبلغ من الإشهاد عليها، أما اللقيط فلا يجب تعريفه لهذا وجب الإشهاد عليه ليقوم مقام التعريف، والله أعلم. القول الثاني: يجب الإشهاد على اللقيط؛ اختاره بعض المالكية، وهو الأصح في مذهب الشافعية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬2). ¬
قال ابن شاس المالكي: "من أخذ لقيطًا فليشهد عليه خوف الاسترقاق" (¬1). قال في منح الجليل: "وظاهره وجوب الإشهاد، واستظهره ابن عبد السلام" (¬2). وانتقده ابن عرفة حيث قال: لم أعرفه نصًّا إلا للغزالي (¬3). وقال النووي: "ومن أخذ لقيطًا لزمه الإشهاد عليه على المذهب لئلا يضيع نسبه. وقيل: في وجوبه قولان أو وجهان كاللقطة ... وإذا أشهد، فليشهد على اللقيط وما معه، نص عليه" (¬4). وفي تحفة المحتاج: "ويجب الإشهاد عليه: أي الالتقاط، وإن كان الملتقط مشهور العدالة في الأصح" (¬5). ° دليل من قال: يجب الإشهاد: الدليل الأول: (ح-1249) ما رواه الإمام أحمد، قال: حدثنا هشيم، أخبرنا خالد، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن أخيه مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عياض بن حمار، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من وجد لقطة، فليشهد ذوي عدل، ¬
وليحفظ عفاصها، ووكاءها، فإن جاء صاحبها، فلا يكتم، وهو أحق بها، وإن لم يجيء صاحبها، فإنه مال الله يؤتيه من يشاء (¬1). [صحيح، وسبق تخريجه]. وجه الاستدلال: إذا وجب الإشهاد على اللقيطة وجب الإشهاد على اللقيط من باب أولى. الدليل الثاني: أن المقصود من الإشهاد على اللقيط حفظ النسب والحرية، فاختص بوجوب الشهادة كالنكاح، وفارق اللقطة؛ لأن القصد بالإشهاد حفظ المال فلم يجب الإشهاد فيها كالبيع. القول الثالث: ينبغي الإشهاد إلا أن يخاف من نفسه خيانة كان يدعيه، أو يسترقه فيجب الإشهاد إذا تحقق أو غلب على ظنه وقوع ذلك منه، وهذا مذهب المالكية (¬2). وهذا القول في الحقيقة يرجع إلى القول باستحباب الإشهاد؛ لأن وجوبه إذا علم من نفسه الخيانة أو غلب على ظنه لا من أجل الإشهاد، ولكن دفعًا للاعتداء، وسدًّا لطرق الحرام؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ¬
القول الرابع: أن الملتقط إن كان ظاهر العدالة لم يلزمه الإشهاد، وإن كان مستورها لزمه، وهذا قول في مذهب الشافعية (¬1). ° وجه هذا القول: من كان ظاهر العدالة فإنه أمين، والأمين لا يلزمه الإشهاد، ومن كان مستورها فإنه لا تعلم أمانته، لهذا وجب منه الإشهاد احتياطًا للقيط ولماله، والله أعلم. ° الراجح: أن الإشهاد مستحب، والخوف من الاسترقاق ليس قائمًا في مثل عصرنا، والله أعلم. ¬
الباب الثالث في أحكام اللقيط
الباب الثالث في أحكام اللقيط الفصل الأول في التقاط المميز [م - 2067] لم يختلف الفقهاء على أن من كان دون سن التمييز تجري عليه أحكام اللقيط، وذلك لعجزه عن القيام بمصالحه. [م - 2068] واختلفوا في الطفل إذا بلغ سن التمييز هل تجري عليه أحكام الالتقاط؟ على قولين: القول الأول: أن المميز تجري عليه أحكام اللقيط، وهذا مذهب المالكية، والأصح في مذهب الشافعية، وعليه أكثر الحنابلة (¬1). قال في بداية المجتهد: "واللقيط: هو الصبي الصغير غير البالغ" (¬2). وفي تحفة المحتاج: "الأصح أن المميز، والبالغ المجنون يلتقطان؛ لاحتياجهما إلى التعهد" (¬3). ¬
وجاء في الإقناع في تعريف اللقيط: "طفل لا يعرف نسبه ولا رقه نبذ أو ضل إلى سن التمييز، وقيل: والمميز إلى سن البلوغ وعليه الأكثر" (¬1). وفي الإنصاف: "والمختار عند أصحابنا: أن المميز يكون لقيطًا؛ لأنهم قالوا: إذا التقط رجل وامرأة معا من له أكثر من سبع سنين أقرع بينهما, ولم يخير، بخلاف الأبوين" (¬2). ° وجه هذا القول: أن التمييز لا يجعله مستقلًا بأمره، فهو لو كان عند والديه لكان محجورًا عليه لسفهه، وإذا كان كذلك فهو بحاجة إلى ولي يقوم على مصالحه. القول الثاني: أن المميز لا يلتقط، ولا تجري عليه أحكام الالتقاط، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة، وفي مذهب الشافعية تردد (¬3). جاء في حاشيتي قليوبي وعميرة: "الطفل يصدق بالمميز، وفي التقاطه، تردد للإمام والأوفق لكلام الأصحاب أنه يلتقط وعلى مقابله يلي أمره الحاكم" (¬4). وقال إمام الحرمين: "لو صادفنا صبيًّا بالغًا مبلغ التمييز، وكان في حكم اللقيط، على معنى أنه ليس يتبين له أب ولا أم، فهل يثبت له لمن يبتدره حق الاحتضان، كما يثبت في اللقيط الذي لم يبلغ مبلغ التمييز؟ ¬
هذا فيه تردد عندي، واحتمال: يجوز أن يقال: لا يثبت لآحاد الناس فيه حق الاحتضان، وهو مميز، بل يتولى الحاكم أمره لا غيره، ويختص به منصوب القاضي ... " (¬1). ولعل هذا القول نظر إلى أن التمييز يجعل له قدرة على القيام بالمصالح الضرورية الخاصة بالأكل والشرب واللبس، ونحوها. ° الراجح: القول الأول لقوة حجته، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني في إسلام اللقيط
الفصل الثاني في إسلام اللقيط [م - 2069] الصبي الذي لا يميز والمجنون لا يتصور إسلامهما إلا تبعًا، والتبعية تارة تكون للأبوين، وتارة تكون للدار، ولما كان اللقيط لا يعرف أبواه، أصبح البحث في الحكم بإسلامه أو بكفره إما يعود للدار أو يعود للملتقط، وهذا ما سوف نكشف عنه في هذا الفصل إن شاء الله تعالى من خلال استعراض أقوال المذاهب الفقهية. القول الأول: تحرير مذهب الحنفية: اتفق الحنفية في حكم ديانة اللقيط في حالتين واختلفوا في حالتين، وإليك بيانها: الحال الأولى: أن يلتقطه مسلم في بلاد المسلمين أو في مكان خاص بهم، كالمساجد، فهذا يحكم بإسلامه، قولًا واحدًا في مذهب الحنفية (¬1). الحال الثانية: أن يلتقطه كافر في بلاد الكفار، أو في مكان خاص بهم كالكنائس والبيع، فهذا يحكم بكفره عند الحنفية قولًا واحدًا (¬2). ¬
الحال الثالثة: أن يلتقطه مسلم في بلاد الكفار، أو في مكان خاص بهم. الحال الرابعة: أن يلتقطه كافر في بلاد المسلمين أو في مكان خاص بهم. فالحكم في هاتين الحالتين موضع خلاف عند الحنفية على أربع روايات أسوقها حسب شهرتها وقوتها في مذهب الحنفية: الرواية الأولى: أن الحكم للمكان، وهو ظاهر الرواية في مذهب الحنفية، ورجحه الكاساني في بدائع الصنائع (¬1). وعليه: فإن وجد في بلاد المسلمين أو في مكان خاص بهم حكم بإسلامه، أو وجد في بلاد الكفار أو في مكان خاص بهم حكم بكفره، سواء كان الملتقط مسلمًا أو كافرًا. ° وجه هذه الرواية: الوجه الأول: أن الظاهر أن أولاد المسلمين لا يكونون في مواضع أهل الذمة وكذلك العكس. ¬
الوجه الثاني. أن المكان سابق لوضع اليد، فكان هو المعتبر. الرواية الثانية: أن الحكم للواجد، فإن التقطه مسلم كان مسلمًا, ولو كان في مكان خاص بالكفار، وإن التقطه كافر حكم بكفره، وإن كان في مكان خاص بالمسلمين؛ لقوة اليد (¬1). جاء في المبسوط: "الثالث: أن يجده كافر في مكان المسلمين. والرابع: أن يجده مسلم في مكان الكفار، ففي هذين الفصلين اختلفت الرواية ففي كتاب اللقيط يقول: العبرة للمكان في الفصلين جميعًا، وفي رواية ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى، قال: العبرة للواجد في الفصلين جميعًا" (¬2). الرواية الثالثة: من الحنفية من جعل المعتبر ما يوجب الإسلام من المكان أو الواجد؛ لأنه أنفع للقيط، ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. جاء في مجمع الأنهر: "أيهما كان موجبًا لإسلامه فهو المعتبر؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وهو أنفع له كما في أكثر المعتبرات" (¬3). ¬
الرواية الرابعة: من الحنفية من اعتبر العمل بالسيما والزي، فمن كان عليه لباس المسلمين كان مسلمًا، ومن كان عليه ملابس الكفار وزيهم حكم بكفره (¬1). قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح: 29]. وقال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41]. القول الثاني: تحرير مذهب المالكية. ذهب المالكية إلى أن اللقيط له حالات، منها: الحالة الأولى: أن يوجد في بلاد المسلمين فهذا يحكم لإسلامه مطلقًا سواء كان الملتقط مسلمًا أو كافرًا تغليبًا للدار (¬2). الحال الثانية: أن يوجد في بلاد الكفار فإنه يحكم بكفره سواء التقطه مسلم أو كافر تغليبًا للدار. وقال أشهب: إن التقطه مسلم فهو مسلم. ¬
° وجه قول أشهب: أن للدار تأثيرًا, وللملتقط تأثيرًا، فوجب أن يغلب حكم الإسلام (¬1). الحال الثالثة: أن يوجد في قرية ليس فيها من المسلمين سوى ثلاثة بيوت فأقل، فالحكم باعتبار لاقطه، فيحكم بإسلامه إن التقطه مسلم، وإن التقطه كافر حكم بكفره على المشهور. ° وجه هذا القول: القياس على إسلام المسبي تبعًا لإسلام سابيه. وقال أشهب: حكمه الإسلام مطلقًا، التقطه مسلم أو ذمي؛ لاحتمال أن يكون لمن فيها من المسلمين، كما أجعله حرًّا، وإن كنت لا أعلم أحر هو أم عبد؛ لاحتمال الحرية؛ لأن الشرع رجح جانبيها (¬2). جاء في المدونة: "قلت -القائل سحنون- أرأيت إن التقطت لقيطًا في مدينة من مدائن المسلمين، أو في قرية من قرى أهل الشرك في أرض أو كنيسة، أو في بيعة، أو التقطته وعليه زي الإسلام أو عليه زي النصارى أو اليهود، أي شيء تجعله أمسلمًا، أو نصرانيًّا، أو يهوديًّا في قول مالك؟ وكيف إن كان قد التقطه الذي التقطه في بعض هذه المواضع التي ذكرت لك مسلم أو مشرك ما حاله في قول مالك؟ ¬
قال -أي ابن القاسم-: ما سمعت من مالك فيه شيئًا، وأنا أرى إن كان في قرى الإسلام ومدائنهم وحيث هم فأراه مسلمًا، وإن كان في مدائن أهل الشرك وأهل الذمة ومواضعهم فأراه مشركًا, ولا يعرض له، وإن كان وجده في قرية فيها مسلمون ونصارى نظر، فإن كان إنما مع النصارى الاثنان والثلاثة من المسلمين وما أشبه ذلك من المسلمين فهو للنصارى، ولا يعرض له إلا أن يلتقطه مسلم فيجعله على دينه" (¬1). الحال الرابعة: أن يوجد في قرية فيها من المسلمين أربعة بيوت فأكثر، فهذا يحكم بإسلامه، سواء كان الملتقط مسلمًا أو ذميًّا. وقيل: إذا اجتمع في القرية مسلمون وكفار فيحكم بإسلامه مطلقا إذا تساوى المسلمون مع الكفار، وأولى إذا كان المسلمون أكثر فإذا كان الكفار أكثر، فإن كانا متقاربين فكذلك، وإلا كان الحكم للملتقط، فإن التقطه مسلم فهو مسلم، وإن التقطه كافر فكافر. اختاره بعض المالكية (¬2). هذا تفصيل اللقيط بالنسبة لأصحاب مالك: وقال أشهب: هو مسلم أبدًا لأني أجعله مسلمًا على كل حال، كما أجعله حرًّا على كل حال (¬3). القول الثالث: تحرير مذهب الشافعية والحنابلة. ¬
ذهب الشافعية في تفصيل مذهبهم إلى الحكم للدار، وعلى هذا قسموا الدار إلى دار إسلام ودار كفر. الحال الأولى: دار الإسلام، وقسموها إلى ثلاثة أضرب: أحدها: دار يسكنها المسلمون، فاللقيط الموجود فيها مسلم وإن كان فيها أهل ذمة، تغليبًا للإسلام. الثاني. دار فتحها المسلمون، وأقروها في يد الكفار بجزية، فقد ملكوها، أو صالحوهم ولم يملكوها، فاللقيط فيها مسلم إن كان فيها مسلم واحد فأكثر، وإلا، فكافر على الصحيح. وقيل: مسلم، لاحتمال أنه ولد من يكتم إسلامه منهم. الثالث: دار كان المسلمون يسكنونها، ثم جلوا عنها وغلب عليها الكفار، فإن لم يكن فيها من يعرف بالإسلام، فهو كافر على الصحيح. وقال أبو إسحاق: مسلم، لاحتمال أن فيها كاتم إسلامه. وإن كان فيها معروف بالإسلام، فهو مسلم. الحال الثانية: دار الكفر، وهي على ثلاثة أضرب: ما كان من بلادهم التي ليس فيها مسلم، فاللقيط الموجود فيها محكوم بكفره. الضرب الثاني: ما كان من بلاد الشرك التي فيها مسلمون تجار، كبلاد الروم، فهل يحكم بكفره تبعا للدار، أو بإسلامه تغليبا للإسلام؟ وجهان في مذهب الشافعية. أصحهما الحكم بإسلامه.
الضرب الثالث: ما كان من بلاد الإِسلام التي غلب عليها المشركون حتى صارت دار شرك كبلاد الأندلس، فإذا التقط المنبوذ فيها نظر فإن كان فيها أحد من المسلمين ولو واحدًا جرى على الملقوط فيها حكم الإسلام. وإن لم يكن فيها أحد من المسلمين أجري عليه حكم الشرك في الظاهر لبعد المسلمين عنها وامتناع حكمهم فيها. وإذا كانت البقعة أصحاب ملل مختلفة، فالقياس أن يجعل من أصونهم دينا. ولا أثر لعابري السبيل من المسلمين، ولا للمحبوسين في المطامير (¬1). هذا ملخص مذهب الشافعية، ومذهب الحنابلة قريب منه. قال ابن قدامة: "ولا يخلو اللقيط من أن يوجد في دار الإِسلام، أو في دار الكفر، فأما دار الإسلام فضربان؛ أحدهما: دار اختطها المسلمون، كبغداد والبصرة والكوفة، فلقيط هذه محكوم بإسلامه، وإن كان فيها أهل الذمة تغليبًا للإسلام ولظاهر الدار. ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. الثاني: دار فتحها المسلمون، كمدائن الشام، فهذه إن كان فيها مسلم واحد حكم لإسلام لقيطها؛ لأنه يحتمل أن يكون لذلك المسلم، تغليبا للإسلام. وإن لم يكن فيها مسلم، بل كل أهلها ذمة حكم بكفره؛ لأن تغليب حكم الإسلام إنما يكون مع الاحتمال. ¬
وأما بلد الكفار فضربان أيضًا: أحدهما: بلد كان للمسلمين، فغلب الكفار عليه، كالساحل، فهذا كالقسم الذي قبله، إن كان فيه مسلم واحد حكم بإسلام لقيطه، وإن لم يكن فيه مسلم فهو كافر. وقال القاضي: يحكم بإسلامه أيضا؛ لأنه يحتمل أن يكون فيه مؤمن يكتم إبمانه، بخلاف الذي قبله، فإنه لا حاجة به إلى كتم إيمانه في دار الإسلام. وإن كان في بلد كان للمسلمين، ثم غلب عليه المشركون، ثم ظهر عليه المسلمون، وأقروا فيه أهله بالجزية، فهذا كالقسم الثاني من دار الإسلام. الثاني دار لم تكن للمسلمين أصلا. كبلاد الهند والروم، فإن لم يكن فيها مسلم، فلقيطها كافر؛ لأن الدار لهم وأهلها منهم، وإن كان فيها مسلمون كالتجار وغيرهم، احتمل أن يحكم بإسلامه، تغليبا للإسلام، واحتمل أن يحكم بكفره، تغليبا للدار والأكثر" (¬1). القول الخامس: تعرض ابن حزم في دعوى اللقيط، فيصدق إذا ادعاه مسلم، ولا يصدق إذا ادعاه كافر. وفهم من كلامه أن اللقيط محكوم له بالإسلام مطلقًا بناء على أنه على فطرته التي فطره الله عليها, ولا يصرفه عن ذلك إلا الشياطين أو الآباء إن كانوا على ¬
غير ملة الإسلام، وحيث إن اللقيط لا يعرف له أبوان، فإنه يبقى على فطرته التي فطره الله عليها. يقول ابن حزم: "كل مولود يولد على الفطرة وعلى الملة" وقوله - عليه السلام - عن ربه تعالى في حديث عياض بن حمار المجاشعي: "خلقت عبادي حنفاء كلهم". ولقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]. فإن ادعاه كافر لم يصدق؛ لأن في تصديقه إخراجه عما قد صح له من الإسلام، ولا يجوز ذلك إلا حيث أجازه النص ممن ولد على فراش كافر من كافرة فقط" (¬1). وقول ابن حزم يشبه قول أشهب من المالكية حيث حكم له بالإِسلام مطلقاً، والله أعلم. ° الراجح: بعد أن عرفنا تحرير المسألة في كل مذهب من المذاهب الأربعة، أجد أن هناك مسائل متفق عليها، ومسائل مختلف فيها: فإذا وجد اللقيط في بلد الكفار التي لا يوجد فيها مسلم، والتقطه كافر أن اللقيط يحكم بكفره. وما عداه فأجد أن الحكم بإسلامه هو أصوب الأقوال، قال في الإنصاف: ¬
"ويحكم بإسلامه بلا نزاع إلا أن يوجد في بلد الكفار، ولا مسلم فيها، فيكون كافرًا" (¬1). ¬
الفصل الثالث في نسب اللقيط
الفصل الثالث في نسب اللقيط [م - 2070] عرفنا في الفصل السابق الحكم في ديانة اللقيط، وعلمنا أنها تدور على أمرين: الحكم للدار، أو الحكم للملتقط. ونبحث في هذا الفصل قضية هامة للقيط، وهي الحكم بنسب اللقيط، ومعلوم أن النسب للقيط إنما هو تبع لوالديه، والوالدان مجهولان، وعليه فلا يمكن التوصل إلى نسب اللقيط إلا إذا تقدم أحد يدعي نسبه، وعلى هذا سيكون البحث في دعوى نسب اللقيط، فقد يدعيه واحد، وقد يتنازعه أكثر من واحد، وقد تدعيه امرأة وقد يدعيه كافر، وهذا ما سوف نكشف عنه في المباحث التالية إن شاء الله تعالى.
المبحث الأول في دعوى الحر المسلم نسب اللقيط
المبحث الأول في دعوى الحر المسلم نسب اللقيط [م - 2071] اختلف العلماء في الرجل الحر المسلم يدعي نسب اللقيط، سواء كان هذا الحر هو الذي التقطه أو كان غيره، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وأشهب من المالكية بأنه يلحق به بمجرد الدعوى ولا يطالب بالبينة، ولا فرق في ذلك بين الملتقط وغيره (¬1). واشترط الحنفية أن يكون اللقيط حيًّا، فإن كان ميتًا فلا يصدق إلا بحجة (¬2). وقال النووي: "نسب اللقيط، وهو كسائر المجهولين، فإذا استلحقه حر مسلم، لحقه ... ولا فرق في ذلك بين الملتقط وغيره" (¬3). ¬
وقال في الإنصاف: "وإن أقر إنسان أنه ولده: ألحق به، مسلمًا كان أو كافرًا، رجلا كان أو امرأة، حيًّا كان اللقيط أو ميتا" (¬1). ° دليل من قال: يثبت النسب بمجرد الدعوى. الدليل الأول: أشار إمام الحرمين إلى وجود إجماع في المسألة، وسوف أنقل عبارته في الدليل التالي إن شاء الله تعالى، كما حكاه غيره من الشافعية (¬2). وقال ابن قدامة: "أن يدعيه واحد ينفرد بدعواه، فينظرة فإن كان المدعي رجلًا مسلمًا حرًّا، لحق نسبه به، بغير خلاف بين أهل العلم، إذا أمكن أن يكون منه" (¬3). الدليل الثاني: أن إقامة البينة على النسب عسير، فلو لم يحصل بالدعوى لضاعت الأنساب. قال إمام الحرمين: "وهذا مع كونه مجمعًا عليه مستند إلى طرف من المعنى، وهو أن الإشهاد على النسب وسببه عسر، فلو لم يحصل بالدعوى، لضاعت الأنساب" (¬4). ويناقش: بأن الإجماع لا يثبت مع مخالفة المالكية كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ¬
الوجه الثالث: أن الإقرار بالنسب فيه نفع محض للطفل لاتصال نسبه، ولا مضرة على غيره فيه، فكان كما لو أقر له بمال، والله أعلم. الوجه الرابع: ذكر الحنفية أن النسب أثبتوه بمجرد الدعوى لا من جهة القياس، ولكن من جهة الاستحسان. فالقياس لا يثبت النسب سواء كان المدعي هو الملتقط أو كان أجنبيًّا: ° وجه القياس إن كان مدعي النسب رجلًا أجنبيًّا: أن قوله يتضمن إبطال حق الملتقط، لأن يده ثابتة عليه وسابقة له، حتى لو أراد غيره أن ينزعه منه ليحفظه لم يصح. ووجه الاستحسان: أنه إقرار للصبي بما ينفعه؛ لأنه يتشرف بالنسب ويعير بعدمه. ° وأما وجه القياس إن كان المدعي هو الملتقط: هو تناقض كلامه بأنه لما زعم أنه لقيط كان نافيًا نسبه؛ لأن ابنه لا يكون لقيطًا في يده، ثم ادعى أنه ابنه فكان متناقضًا، والتناقض في الدعوى يبطلها. وأما وجه الاستحسان: أن اللقيط بحاجة إلى نسب يتشرف به، وتقوم به حوائجه، ولأن سببه خفي، فربما اشتبه عليه الأمر في الابتداء فظن أنه لقيط، ثم تبين له أنه ولده.
القول الثاني: إن استلحقه الملتقط أو غيره فلا يلحق إلا ببينة أو يكون لدعواه وجه، كرجل عرف أنه لا يعيش له ولد، فزعم أنه رماه، لأنه سمع أنه إذا طرحه عاش، ونحو ذلك مما يدل على صدقه. فإذا شهدت البينة لحقه النسب مطلقًا سواء كان مسلمًا أو كافرًا، وسواء كان اللقيط محكومًا بإسلامه أو كفره، وسواء كان من استلحقه الملتقط أو غيره. وأما إذا كان لدعواه وجه، فقيل: إنها بمنزلة البينة، وهو قول ابن عرفة والنسائي، وعبد الرحمن الأجهوري. وقيل: إن كان لدعواه وجه، فإن كان المستلحق مسلمًا صح، سواء كان هو الملتقط أو غيره، وسواء كان اللقيط محكومًا بإسلامه أو كفره، وأما إذا استلحقه كافر فلا بد من البينة (¬1). هذا ملخص مذهب المالكية. وعمدتهم في هذا: أن دعوى النسب كغيرها من الدعاوى لا تثبت إلا ببينة، وصدقت دعواه إذا كان لها وجه، وإن لم يكن هناك بينة عملًا بالقرائن، وقياسًا على اللقطة، حيث اعتبرت العلامات، وهي دون البينة. ويناقش: بأن البينة مطلوبة إذا كان هناك منازع، وهذا لا منازع له في دعوى النسب، ورده إضرار بالصبي حيث يبقى مجهول النسب. ¬
المبحث الثاني في دعوى المرأة الحرة نسب اللقيط
المبحث الثاني في دعوى المرأة الحرة نسب اللقيط [م - 2072] اختلف العلماء في دعوى المرأة الحرة نسب اللقيط على ثلاثة أقوال: القول الأول: إذا ادعته المرأة لم تصدق إلا ببينة، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية في الأصح، ورواية في مذهب الحنابلة (¬1). قال الحنفية: إلا أن يصدقها زوجها، أو تشهد لها القابلة (¬2). قال ابن نجيم: "المدعي لو كان امرأة ادعت أنه ابنها فإن صدقها زوجها، أو شهدت لها القابلة، أو قامت البينة صحت دعوتها وإلا فلا" (¬3). وفي تحفة المحتاج: "وإن استلحقته امرأة لم يلحقها في الأصح؛ لإمكان إقامة البينة بمشاهدة الولادة بخلاف الرجل، وإذا أقامتها لحقها" (¬4). ¬
° دليل هذا القول: الدليل الأول: حكي بعض أهل العلم الإجماع على أن دعوى المرأة لا تقبل إلا ببينة، قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن المرأة لو ادعت أنه ابنها لم يقبل قولها" (¬1). وفي دعوى الإجماع نظر كبير. الدليل الثاني: أن هناك فرقًا بين دعوى الرجل والمرأة، فالرجل تقبل منه الدعوى بلا بينة ذلك أن النسب في جانب الرجل مما لا يدرك موجبه ومقتضيه، فمست الحاجة إلى إثباته بمجرد الدعوى، وأما المرأة فهي قادرة على إثبات الولادة بالبينة وذلك عن طريق مشاهدة الحمل والولادة ولو عن طريق القابلة، فردت إلى قاعدة القياس، ولم يثبت الانتساب إليها بالولادة لمجرد دعواها. الدليل الثالث: أن الزوج قد يتضرر بهذه الدعوى، فلا يقبل قولها فيما يلحق الضرر لغيرها إلا ببينة تشهد لها. القول الثاني: إذا ادعته المرأة الحرة، فينظر فإن كانت المرأة ذات زوج لم تقبل دعواها إلا ببينة، وإن كانت خالية من الزوج قبلت دعواها، وهو وجه في مذهب الشافعية، ورواية في مذهب الحنابلة. ¬
وألحق الحنابلة بذات الزوج في وجوب البينة المرأة إذا كان لها إخوة ونسب معروف، فإنها لا تصدق إلا ببينة (¬1). ° حجة هذا القول: أن المرأة إذا لم تكن ذات زوج قبلت دعواها بلا بينة كالرجل؛ حيث لا ضرر يقع على زوجها، ولأنها قد تلد حيث لا يشهدها نسوة معتمدات من أهل قبول الشهادة، وأما إن كانت ذات زوج لم تقبل دعواها بلا بينة أو رضا الزوج؛ لأن في ذلك إضرارًا بالزوج بكون امرأته قد وطئت بزنا أو شبهة. القول الثالث: إذا ادعته المرأة الحرة قبلت دعواها، ولحقه نسبها، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة، ووجه في مذهب الشافعية، وقول ابن حزم من الظاهرية (¬2). قال في الإنصاف: "وإن أقرت به امرأة ألحق بها هذا المذهب، وعليه الأصحاب. قال الحارثي: هذا المذهب عند الأصحاب" (¬3). فعلى هذه الرواية يلحق بها دون زوجها، لأنه لا يجوز أن يلحقه نسب ولد لم يقربه. ° وجه هذا القول: أن المرأة أحد الأبوين، فيثبت النسب بدعواها، كالأب، ولأنه يمكن أن ¬
يكون منها، كما يمكن أن يكون ولد الرجل، بل أكثرة لأنها تأتي به من زوج، ووطء بشبهة، ويلحقها ولدها من الزنا دون الرجل .... (1). ° الراجح: أميل إلى أن الإقرار من المرأة يلزمها، ولا يلزم زوجها، فإن أهلية المرأة كاملة لقبول إقرارها على نفسها، والله أعلم.
المبحث الثالث في دعوى الكافر نسب اللقيط
المبحث الثالث في دعوى الكافر نسب اللقيط [م - 2073] إذا ادعى الكافر نسب اللقيط، فإن كان له بينة على دعواه لحقه نسبه بالإجماع. وإن لم تكن له بينة فهل يحكم له بمجرد الدعوى؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم: القول الأول: تقبل دعواه، ويلحقه اللقيط نسبًا، فإن كان محكومًا بإسلامه لم يلحقة في الدين، وإن كان محكومًا بكفره لحقه فيه أيضًا، استحسنه الحنفية (¬1)، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة (¬2). إلا أن الحنفية قالوا: أن يدعيه في حياته، أما إذا ادعاه بعد وفاته لم يصدق؛ لأن المقصود من ثبوت النسب الشرف، وذلك لا يتحقق بعد الموت (¬3). ¬
وقال الشافعية في المشهور: إن ادعى نسبه ولم يقم بينة لحقه نسبه دون ديانته، وإن أقام على ذلك بينة كان لحقه نسبه، وتبعه في الكفر (¬1). جاء في الاختيار لتعليل المختار: "وإن ادعاه ذمي فهو ابنه وهو مسلم، إلا أن يلتقطه من بيعة أو كنيسة أو قرية من قراهم فيكون ذميًّا" (¬2). قال النووي: "اللقيط الموجود في دار الإسلام، لو ادعى ذمي نسبه، وأقام عليه بينة، لحقه وتبعه في الكفر ... وإن اقتصر على مجرد الدعوى، فالمذهب أنه مسلم، وهو المنصوص، وبه قطع أبو إسحاق وغيره، وصححه الأكثرون. وقيل: قولان. ثانيهما: يحكم بكفره؛ لأنه يلحقه بالاستحقاق" (¬3) واحتجوا على إلحاقه بالنسب: الحجة الأولى: موجب الدعوى شيئان أحدهما ثبوت نسبه منه، وذلك ينفعه، فيقبل والآخر كفره، وذلك يضره فلا يقبل. الحجة الثانية: أن المسلم والكافر سواء في مجال الدعاوى، فكما يقبل إقرار المسلم مجردًا عن البينة، فكذلك الكافر. ¬
القول الثاني: لا تقبل الدعوى إلا ببينة، وهو مذهب المالكية، ورواية في مذهب الحنابلة، وبه قال ابن حزم من الظاهرية (¬1). ° حجة هذا القول: الحجة الأولى: أن دعوى النسب كغيرها من الدعاوى لا تثبت إلا ببينة. الحجة الثانية: يحتمل أن يكون اللقيط من امرأة مسلمة بوطء بشبهة ونحوها. ° الراجح: يقبل إقرار المرء على نفسه من اعترافه بنسبه، وأما دعواه كفر اللقيط فهي دعوى، وليست إقرارًا، فلا تثبت إلا ببينة، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في التنازع على نسب اللقيط
المبحث الرابع في التنازع على نسب اللقيط الفرع الأول ادعاه رجلان ولا بينة لهما وكان لأحدهما مرجح المسأله الأولى الترجيح بإسلام أحد المتنازعين [م - 2074] إذا ادعى نسب اللقيط رجلان، فإن كان لأحدهما بينة قدم صاحب البينة على الآخر، وهذا بالاتفاق. وإن لم يكن لأحدهما بينة، وكان أحدهما مسلمًا، والآخر ذميًّا، أو كان أحدهما حرًّا، والآخر عبدًا، فهل يقدم المسلم والحر على ضدهما؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يقدم المسلم على الكافر والحر على العبد، وهذا مذهب الحنفية، وابن حزم من الظاهرية (¬1). ¬
جاء في بدائع الصنائع: "ولو ادعاه رجلان أنه ابنهما، ولا بينة لهما، فإن كان أحدهما مسلمًا والآخر ذميًّا فالمسلم أولى، لأنه أنفع للقيط، وكذلك إذا كان أحدهما حرًّا والآخر عبدًا فالحر أولى، لأنه أنفع له" (¬1). ° وجه القول بتقديم المسلم والحر على ضدهما: أن كلًّا من المتداعيين لا بينة له، فلم يكن هناك مرجح من قبل المتداعيين، فنظرنا إلى ما هو أنفع للقيط فوجدنا أن الإسلام والحرية أنفع للقيط فرجحناهما على غيرهما، والله أعلم. القول الثاني: لا يرجح أحدهما على الآخر، لأنهما متساويان في الدعوي، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة (¬2). جاء في أسنى المطالب: "وإن استلحقه مسلم وكافر أو حر وعبد تساويا؛ لأن كلا منهما أهل للاستلحاق لو انفرد فلا مزية" (¬3). وقال ابن قدامة: "إذا ادعاه مسلم وكافر، أو حر وعبد، فهما سواء. وبهذا قال الشافعي" (¬4). ¬
وسوف يأتينا إن شاء الله الحكم فيما لو تساوى المتداعيان بلا مرجح. ° حجة القول بأنهما متساويان: أن المسلم والذمي متساويان في الدعوى، لأن هذه حقوق، لا يكون الترجيح فيها بالإسلام. الوجه الثاني: أن كل واحد منهما لو انفرد لصحت دعواه، ولحقه نسب اللقيط، فإذا تنازعوا فقد تساووا في الدعوى. ° الراجح: أرى أن مذهب الحنفية هو الراجح، وأن الترجيح لم يكن بسبب الدعوى، فهما متساويان فيها، وإنما قدم المسلم والحر على غيرهما من باب النظر للقيط وتقديم الأنفع له، كما لو تنازع في التقاطه الغني والفقير، والمقيم والمتنقل، والله أعلم.
المسألة الثانية الترجيح بذكر وصف خفي
المسألة الثانية الترجيح بذكر وصف خفي [م - 2075] إذا ادعى نسب اللقيط رجلان، ولم يكن لأحدهما بينة، وقام أحدهما بذكر علامة خفية في جسده فطابق وصفه، ولم يصفه الآخر، فهل يقدم واصف العلامة على غيره؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: إذا وصف أحدهما علامة مستورة في جسده، قدم بذلك، وحكم له، وهذا مذهب الحنفية (¬1). جاء في الهداية: "وإن ادعاه اثنان، ووصف أحدهما علامة في جسده فهو أولى به؛ لأن الظاهر شاهد له لموافقة العلامة" (¬2). القول الثاني: لا ترجيح بينهما في دعوى النسب بذكر علامة خفية في جسده، وعليه يكونان متساويين في الدعوى، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬3). ¬
إلا أن الحنابلة قالوا: إن تنازعا في الالتقاط قدم صاحب العلامة وإن تنازعا في دعوى النسب لم يقدم صاحب العلامة (¬1). قال النووي: "وصف أحد المتداعيين أثر جراحة، أو نحوه، أو بظهره، أو بعض أعضائه الباطنة، وأصاب، لا يقدم" (¬2). وقال ابن قدامة: "وإذا لم توجد قافة، أو أشكل الأمر عليها، أو تعارضت أقوالهما، أو وجد من لا يوثق بقوله، لم يرجح أحدهما بذكر علامة في جسده؛ لأن ذلك لا يرجح به في سائر الدعاوى، سوى الالتقاط في المال، ويضيع نسبه، هذا قول أبي بكر" (¬3). وإذا كانا متساويين في الدعوى فسوف يأتينا إن شاء الله كيفية العمل عند التساوي في الدعاوى، ولا مرجح. ° وجه هذا القول: أن التحاكم في سائر الدعاوى إلى البينات، قال الحنابلة: إلا ما ورد في اللقطة، حيث اعتبر العلامة دليلًا على ملك صاحبها لها. والصحيح أن الحكم إلى كل شيء يبين الحق، ومنها العمل بالقرائن، والعلامات. وليس العمل بالعلامات خاصًّا بالتنازع بالالتقاط بل هو عام في كل شيء. ¬
قال ابن رشد: "ومما يعتبر به في دفع اللقطة إلى صاحبها بالصفة قول الله -عز وجل-: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (¬1) [يوسف:26، 27]. وجه الاستدلال: حيث جعل صفة الخرق في القميص دليلًا على الإدانة والبراءة، ولم يتوقف ذلك على البينة، فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم. (ح-1250) ولما رواه البخاري في قصة المتلاعنين، وفيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انظروا فإن جاءت به أسحم، أدعج العينين، عظيم الأليتين، خدلج الساقين، فلا أحسب عويمرًا إلا قد صدق عليها، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة، فلا أحسب عويمرًا إلا قد كذب عليها، فجاءت به على النعت الذي نعت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تصديق عويمر، فكان بعد ينسب إلى أمه (¬2). (ح- 1251) وفي البخاري أيضًا في قصة تلاعن هلال بن أمية في قذفه لامرأته، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين، فهو لشريك بن سحماء، فجاءت به كذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن (¬3). فهذه الأدلة كلها دليل على العمل بالأمارات، ومنها الأخذ بالعلامة والوصف. ¬
المسألة الثالثة الترجيح بوضع اليد
المسألة الثالثة الترجيح بوضع اليد [م - 2076] إذا ادعى نسب اللقيط رجلان، وكانا متساويين في وجود البينة أو عدمها، وكان أحدهما هو الملتقط، واللقيط في يده، فهل يقدم صاحب اليد على غيره؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: تقديم الملتقط على غيره في دعوى النسب، قال به الحنفية استحسانًا، وإن كان القياس ألا يقبل قول الملتقط في دعوى النسب (¬1). ° وجه القول بتقديم صاحب اليد: أنهما تساويا في عدم البينة أو في وجودها، فيرجح صاحب اليد لقوة يده، وهذا من قبيل الاستحسان. وإن كان القياس ألا يقبل كلام الملتقط، لأنه لما زعم أنه لقيط كان نافيًا نسبه، لأن ابنه لا يمكن أن يكون لقيطًا في يده، ثم لما ادعى أنه ابنه كان متناقضًا، والتناقض في الدعوى يبطلها، إلا أننا قدمنا الاستحسان على القياس باعتبار أن سبب النسب خفي، فربما اشتبه عليه الأمر في الابتداء فظن أنه لقيط، ثم تبين له أنه ولده. ¬
القول الثاني: لا يقدم الملتقط على غيره؛ لأنهما متساويان في الدعوى، وهذا مذهب الشافعية (¬1). قال النووي في الروضة: "ادعى نسب اللقيط اثنان، ففيه صور: ... الثالثة: اختص أحدهما بيد، نظر، فإن كان صاحب اليد هو الملتقط لم يقدم، لأن اليد لا تدل على النسب" (¬2). ° وجه قول الشافعية: أن التنازع لو كان في الحضانة أو في الملك دلت اليد على الترجيح، وأما التنازع في النسب فلا يدل وضع اليد على ثبوت النسب. القول الثالث: إذا ادعاه رجلان، وكان اللقيط في يد أحدهما، فإن أقام أحدهما بينة قدم ذو البينة، وإن أقاما بينتين قدمت بينة الخارج على الداخل، والداخل هو من كان اللقيط في يده قياسًا على المال. لأن الخارج هو المدعي، ومن في يده اللقيط هو المدعى عليه، ولا ينظر إلى حجة المدعى عليه إذا أقام المدعي بينة على دعواه. فإن تساويا بالبينة، وكان اللقيط في أيديهما، أو تساويا في عدمها عرض ¬
اللقيط على القافة، فأيهم حكمت له ألحق به، هذا مذهب الحنابلة (¬1). وهذا القول هو الراجح، والله أعلم. ¬
المسألة الرابعة ترجيح السابق على غيره في دعوى النسب
المسألة الرابعة ترجيح السابق على غيره في دعوى النسب [م - 2077] إذا ادعى نسب اللقيط رجلان، وكان أحدهما قد سبق الآخر في دعوى نسب اللقيط، فهل يقدم على المتأخر؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يقدم السابق على المتأخر، سواء كانا ملتقطين، أو كان أحدهما ملتقطًا. وهذا مذهب الحنفية (¬1). ° وجه قول الحنفية: إذا ادعى الرجل منفردًا نسب اللقيط لحقه، وثبت له ذلك، فإذا جاء أحد بعد ذلك يدعي نسبه لم يزاحمه؛ لأنه الحق ثبت للمتقدم في زمن لا منازع له فيه، فيكون أحق به إلا أن يقدم المتأخر بينة، فالحكم للبينة. القول الثاني: ذهب الشافعية إلى أنه إنما يقدم السابق إن استلحقه، وحكم له به قبل الآخر، وكان اللقيط في يده، ويده لم تكن بسبب التقاط، لأن يد الالتقاط لا يثبت بها ¬
النسب، فإذا اجتمع ذلك فإنه يقدم لاعتضاده باليد، فتكون مرجحة لدعواه (¬1). قال النووي: "وإن كان صاحب اليد غير الملتقط، فإن كان استلحقه وحكم له بالنسب، ثم جاء آخر وادعى نسبه لم يتلفت إليه" (¬2). وهذا أقرب الأقوال، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني إذا ادعاه رجلان ولم يكن هناك مرجح
الفرع الثاني إذا ادعاه رجلان ولم يكن هناك مرجح [م - 2078] بحثنا في المباحث السابقة ما إذا تنازع اللقيط رجلان، وكان لأحدهما مرجح من يد، أو علامة، أو سبق، وذكرنا خلاف العلماء في هذه المسائل، فإذا لم يكن لأحدهما مرجح، بأن استويا بوجود البينة، أو بعدمها إلى غير ذلك من علامات الترجيح السابقة، فقد اختلف الفقهاء في كيفية إلحاق اللقيط على قولين: القول الأول: يلحق اللقيط بهما جميعًا، وهذا مذهب الحنفية (¬1). ° وجه قول الحنفية: إذا ادعاه اثنان، ولم يوجد مرجح، فقد استويا في الدعوى، فيثبت النسب لهما جميعًا؛ لأن كل واحد منهما قد اعترف بما فيه منفعة للقيط، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فيلحق اللقيط بهما جميعًا. ¬
القول الثاني: إذا تساوى المتداعيان في نسب اللقيط عرض اللقيط على القافة، فمن حكمت له القافة حكم له، وألحق به نسبه، فإن أشكل على القافة أو نفته عنهما أو لم يوجد قائف فيوقف الأمر إلى بلوغ الطفل، ثم يؤمر بالانتساب إلى أحدهما حسب ميله الجبلي، لا بالتشهي، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬1). قال النووي: "تساويا ولا بينة، عرض الولد على القائف، فبأيهما ألحقه لحق. فإن لم يؤجد قائف، أو تحير، أو ألحقه بهما، أو نفاه عنهما، ترك حتى يبلغ، فإذا بلغ، أمر بالانتساب إلى أحدهما، ولا ينسب بالتشهي، بل يعول فيه على ميل الطبع الذي يجده الولد إلى الوالد، والقريب إلى القريب بحكم الجبلة. وقيل: لا يشترط البلوغ، بل يخير إذا بلغ سن التمييز كالتخيير بين الأبوين في الحضانة. والصحيح اشتراطه" (¬2). وقال ابن قدامة: "إذا لم تكن به بينة، أو تعارضت به بينتان، وسقطتا، فإنا نريه القافة معهما، أو مع عصبتهما عند فقدهما، فنلحقه بمن ألحقته به منهما ... وقال أصحاب الرأي: لا حكم للقافة، ويلحق بالمدعيين جميعًا" (¬3). ° دليل الرجوع إلى القافة: (ح-1252) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن عروة، عن ¬
عائشة - رضي الله عنه - قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل علي مسرورًا، تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مجززًا نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض (¬1). ¬
الفصل الرابع في تملك اللقيط للمال الموجود معه
الفصل الرابع في تملك اللقيط للمال الموجود معه المبحث الأول في ملكيته للمال الموصول به [م - 2079] سبق لنا أن اللقيط حر، وهذا يعني أنه يتمتع بأهلية التملك، فإذا وجد معه مال متصل به أو مشدود عليه، من دراهم وغيرها، كذهب، وحلي، وثياب ملفوفة عليه، ومفروشة تحته، ودابة مشدودة في وسطه، أو كان اللقيط على دابة، فإن اللقيط يملكه بحكم اليد، فهو كما لو وجد في يد بالغ؛ وذلك لأن الطفل يملك، بدليل أنه يرث، ويورث، ويصح أن يشتري له وليه، ويبيع، ومن له ملك صحيح فله يد صحيحه كالبالغ، ولأن الظاهر أن الذي نبذه أراد أن يرغب في أخذه لينفق عليه من هذا المال، وهذا كله لا خلاف فيه بين أهل العلم (¬1). جاء في فتح القدير: "وإذا وجد مع اللقيط مال مشدود عليه أو دابة هو مشدود ¬
عليها فالكل له بلا خلاف اعتبارًا للظاهر" (¬1). وفي منح الجليل: "إن وجد على فراش، أو ثوب أو دابة أو معه مال مشدود فهو له. ابن شاس وأما المال المدفون في الأرض تحته فليس هو له إلا أن توجد معه رقعة مكتوبة بأنه له فيكون له حينئذ" (¬2). وقال النووي: "ومن الأموال التي يستحقها ما يوجد تحت يده واختصاصه، فإن للصغير يدًا واختصاصًا كالبالغ، والأصل الحرية ما لم يعرف غيرها، وذلك كثيابه التي هو لابسها، والمفروشة تحته، والملفوفة عليه، وما غطي به من لحاف وغيره، وما شد عليه، وعلى ثوبه، أو جعل في جيبه من حلي، ودراهم، وغيرها، وكذا الدابة التي عنانها بيده، أو هي مشدودة في وسطه، أو ثيابه، والمهد الذي هو فيه، وكذا الدنانير المنثورة فوقه والمصبوبة تحته وتحت فراشه" (¬3). وقال إمام الحرمين: "ما تحقق اتصاله به على ما يعتاد في مثله، فهو تحت يده" (¬4). وفي الإنصاف: "وما وجد معه من فراش تحته، أو ثياب، أو مال في جيبه، أو تحت فراشه، أو حيوان مشدود ببابه: فهو له وهذا بلا نزاع" (¬5). ¬
المبحث الثاني في ملكية اللقيط للمال المنفصل عنه
المبحث الثاني في ملكية اللقيط للمال المنفصل عنه [م - 2080] إذا كان المال المنفصل عن اللقيط بعيدًا عن اللقيط، فإن كان حيوانًا فهو في حكم الضالة، وإن كان غير حيوان فهو لقطة، ولا يحكم بهذا المال للقيط. والمرجع في تحديد البعد والقرب إلى العرف. وهذا محل اتفاق بين الفقهاء. وإن كان قريبًا عرفًا، فقد اختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول: لا يملكه اللقيط، وهذا مذهب الحنفية، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية، ووجه في مذهب الحنابلة (¬1). قال ابن نجيم: "لو كان المال موضوع بقربه لم يحكموا له به، ويكون لقطة" (¬2). وقال النووي في الروضة: "ولو كان بقربه ثياب وأمتعة موضوعة، أو دابة، فوجهان، أصحهما: لا تجعل له كما لو كانت بعيدة" (¬3). ¬
° وجه هذا القول: أن الملك في مال اللقيط تبع لليد، وهذا لم تثبت يد اللقيط عليه، حيث لم يتصل به. القول الثاني: أنه ملك للقيط، وهو المذهب عند الحنابلة، ووجه في مقابل الأصح عند الشافعية (¬1). قال ابن قدامة: "وإن كان قريبًا منه، كثوب موضوع إلى جانبه، ففيه وجهان، أحدهما: ليس هو له، لأنه منفصل عنه، فهو كالبعيد. والثاني: هو له. وهو أصح، لأن الظاهر أنه ترك له، فهو له بمنزلة ما هو تحته، ولأن القريب من البالغ يكون في يده، ألا ترى أن الرجل يقعد في السوق ومتاعه بقربه، ويحكم بأنه في يده، والحمال إذا جلس للاستراحة، ترك حمله قريبًا منه" (¬2). ° الراجح: أن ما قرب يعطى حكم ما اتصل إلا أن يدعي أحد أنه له. ¬
المبحث الثالث في ملكيته للمال المدفون تحته
المبحث الثالث في ملكيته للمال المدفون تحته [م - 2081] إذا وجد تحت اللقيط مال تحته مدفون معه، فهل يحكم له به؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن هذا المال ليس له، وبه قال الحنفية، والشافعية، ووجه عند الحنابلة (¬1). قال النووي: "والمال المدفون تحت اللقيط لا يجعل له؛ لأنه لا يقصد بالدفن الضم إلى الطفل، بخلاف ما يلف عليه ويوضع بقربه" (¬2). ° وجه هذا القول: دفن المال تحت الأرض إخفاء له، ولو كان للقيط لما دفن تحت الأرض؛ لأن دفنه سبب في ضياعه فكان هذا قرينة على أن المال ليس للقيط. القول الثاني: إن وجد مع اللقيط ورقة بالمال المدفون تحته، فهو له، وإلا فلا، وهذا ¬
مذهب المالكية، واختاره الغزالي من الشافعية (¬1). جاء في شرح الخرشي: "وجدنا تحته مالًا مدفونًا، ومعه رقعة مكتوب فيها: إن المال للطفل، فإن لم تكن معه رقعة فإن المال لا يكون له" (¬2). ° وجه هذا القول: أن إخفاء المال بالدفن ظاهر في أن المال لا علاقة له باللقيط، وإلا لما أخفاه بالدفن، فإذا وجد معه مكتوب بأن تحت اللقيط مال مدفون، وأن المال للقيط، فوجدنا المال كما هو مذكور في الكتاب لم نشك أن واضع هذا المال هو الذي نبذ الطفل، وأنه أراد بدفن المال حتى لا يضيع المال، أو تذهب به الريح، ونحو ذلك. القول الثالث: إن كان الحفر طريًّا، كان المال له، وإن كان قدمًا لم يكن له، وهذا مذهب الحنابلة (¬3). ° وجه هذا القول: أن الحفر إذا كان طريًّا فإن الظاهر أن واضع اللقيط هو الذي وضع المال، بخلاف الحفر إذا كان قديمًا فإنه قرينة على أنه لا علاقة باللقيط بهذا المال. ¬
° الراجح: أرى أن مذهب المالكية أقوى الأقوال، والله أعلم.
الفصل الخامس في النفقة على اللقيط
الفصل الخامس في النفقة على اللقيط المبحث الأول في الجهة التي تجب عليها نفقة اللقيط [م - 2082] نص الفقهاء على أن نفقة اللقيط تكون في ماله إن وجد معه مال، أو وهب له، أو كان مستحقا في مال عام كالأموال الموقوفة على اللقطاء أو الموصى بها لهم على خلاف بين الفقهاء هل يتولى الملتقط الإنفاق بنفسه مع القدرة على مراجعة الحاكم، أو لا بد من مراجعة الحاكم في النفقة؛ لأنه ليس له ولاية على اللقيط، والخلاف فيها كالخلاف في الإنفاق على اللقطة، وقد تقدم (¬1). ° وجه وجوب النفقة عليه في ماله: إنما وجبت عليه النفقة في ماله إذا كان له مال قياسًا على نفقة الطفل إذا كان له مال، فإنها تجب في ماله دون مال أبيه، فهذا أولى. [م - 2083] وإذا لم يكن له مال عام ولا خاص، فلا تجب النفقة على الملتقط، وحكي الإجماع على ذلك، قال ابن المنذر: ¬
"أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن نفقة اللقيط غير واجبة على الملتقط كوجوب نفقة ولد إن كان له" (¬1). ولأن أسباب وجوب النفقة من القرابة، والزوجية والملك، والولاء، متتفية، والالتقاط إنما هو تخليص له من الهلاك، وتبرع بحفظه، فلا يوجب ذلك النفقة. [م - 2084] وقد اختلف العلماء في الجهة التي يجب أن تنفق على اللقيط على قولين: القول الأول: أنه ينفق عليه من بيت المال، وهو مذهب الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية في أظهر القولين، والحنابلة (¬2). قال بعض الشافعية: ولو كان محكومًا بكفره (¬3). جاء في مغني المحتاج: "فإن لم يعرف له أي اللقيط مال عام ولا خاص فالأظهر أنه ينفق عليه من بيت المال من سهم المصالح بلا رجوع كما صرح به ¬
في الروضة" (¬1). وفي الإنصاف: "وينفق عليه من بيت المال إن لم يكن معه ما ينفق عليه بلا نزاع" (¬2). ° دليل من قال: نفقته من بيت المال: الدليل الأول: (ث-316) ما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب، عن سنين أبي جميلة رجل من بني سليم، أنه وجد منبوذا في زمان عمر بن الخطاب، قال: فجئت به إلى عمر بن الخطاب، فقال: ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ فقال: وجدتها ضائعة فأخذتها، فقال له عريفه: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح، فقال له عمر: أكذلك؟ قال: نعم، فقال عمر بن الخطاب: "اذهب فهو حر، ولك ولاؤه وعلينا نفقته (¬3). [صحيح، وسنين أبو جميلة معدود في الصحابة]. الدليل الثاني: أن البالغ المعسر تجب نفقته من بيت المال فهذا أولى؛ لأنه لا مال له، ولا قرابة، وهو آدمي له حرمة يخشى هلاكه، فوجب على السلطان القيام بحفظه. ¬
الدليل الثالث: أن ميراث اللقيط لبيت المال على الصحيح، فتكون نفقته عليه، لأن الغنم بالغرم، وسوف يأتي بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى. الدليل الرابع: أن بيت المال معد لحوائج المسلمين، واللقيط أشدهم حاجة. القول الثاني: ذهب الشافعية في أحد القولين إلى أنه لا يجب أن ينفق على اللقيط من بيت المال؛ لأن مال بيت المال لا يصرف إلا فيما لا وجه له غيره، واللقيط يجوز أن يكون عبدًا فنفقته على مولاه، أو حرًّا له مال، أو فقيرًا له من تلزمه نفقته فلم يلزم من بيت المال، فعلى هذا يجب على الإمام أن يقترض له ما ينفق عليه من بيت المال أو من رجل ثري من المسلمين (¬1). وهذا القول ظاهر الضعف، مخالف لقضاء عمر - رضي الله عنه -، والذي لم يخالف فيه أحد من الصحابة، فكان كالإجماع، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في تعذر النفقة على اللقيط من بيت المال
المبحث الثاني في تعذر النفقة على اللقيط من بيت المال [م - 2085] علمنا في المبحث السابق أن نفقة اللقيط على بيت مال المسلمين في قول عامة أهل العلم، فإن تعذر الإنفاق عليه من بيت مال المسلمين لسبب من الأسباب كما لو لم يوجد في مال، أو لم يكن منتظمًا، أو كان معدومًا أو لغيره من الأسباب، فمن يتحمل النفقة على اللقيط؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن النفقة على الملتقط حتى يبلغ ويستغني إن كان ذكرًا، أو حتى تتزوج الأنثى ويدخل بها زوجها، وهذا مذهب المالكية (¬1). ° وجه القول بذلك: أنه إذا أخذ اللقيط بنية الالتقاط، فقد لزمه أمره وحفظه. القول الثاني: أن النفقة تجب على جماعة المسلمين، فعلى الحاكم أن يجمع ذوي الغنى واليسار من أهل بلده، ويقسط عليهم النفقة، فإن تعذر استيعابهم لكثرتهم قسط الحاكم النفقة على من يراه منه باجتهاده. وبهذا قال الشافعية، وإذا جمع له ¬
الحاكم النفقة فهل تعد تبرعًا منهم، أو تكون قرضًا على اللقيط، قولان، أظهرهما أنها تعد قرضًا (¬1). القول الثالث: إن تعذر الإنفاق عليه من بيت المال اقترض الحاكم له على بيت مال المسلمين، وظاهره ولو مع وجود متبرع بها، وينفق عليه منه، فإن تعذر، أو كان في مكان لا حاكم فيه فنفقته فرض كفاية على من علم حاله من المسلمين، وإلا أثم الكل، وهذا مذهب الحنابلة (¬2). ° وجه القول بذلك: أنه أمكن الإنفاق عليه بدون منة تلحقه في المستقبل، أشبه الأخذ له من بيت المال. ¬
المبحث الثالث في الرجوع في نفقة اللقيط
المبحث الثالث في الرجوع في نفقة اللقيط [م - 2086] إذا أنفق الملتقط على اللقيط، فإما أن ينفق متبرعًا، أو ينفق بنية الرجوع، أو لا ينو شيئًا. فإن أنفق على اللقيط متبرعًا لم يكن له الرجوع بما أنفق، وهذا بالاتفاق؛ لأنه إن نوى التبرع فهو هبة، أو نوى الاحتساب فهو صدقة، وكلاهما لا يجوز الرجوع فيها إذا مضت، وخرجت. [م - 2087] وإن أنفق ولم ينو شيئًا أو نوى الرجوع بالنفقة، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: لا رجوع للملتقط على اللقيط إلا أن يكون للقيط أموال فيسلفه حتى يبيع عروضه، أو يظهر للقيط أب وتقوم البينة على أنه ابنه، فيكون له الرجوع على والد اللقيط بشروط أربعة: (1) أن يطرحه أبوه عمدًا. (2) أن يثبت ذلك بإقرار أو بينة فلا رجوع بمجرد دعوى ملتقطه أنه طرحه عمدًا. (3) أن يكون الأب موسرًا وقت الإنفاق. (4) ألا يكون الملتقط أنفق حسبة لله تعالى، أي أن محل رجوع أن ينوي
الرجوع. هذا هو مذهب المالكية (¬1). جاء في التاج والإكليل: "قال ابن القاسم: ومن التقط لقيطًا فأنفق عليه، فأتى رجل أقام البينة أنه ابنه، فليتبعه بما أنفق، إن كان الأب موسرا حين النفقة، لأنه ممن تلزمه نفقته. هذا إن تعمد الأب طرحه وإن لم يكن هو طرحه فلا شيء عليه. وقال أشهب: لا شيء على الأب بحال لأن المنفق محتسب. قال اللخمي: قول ابن القاسم أبين؛ لأنه يقول: لو علمت له من تلزمه نفقته لم أنفق عليه" (¬2). القول الثاني: ذهب الحنفية إلى أن الملتقط لا يرجع بما أنفقه إلا إذا قال له القاضي: أنفق لترجع، فلو قال له: أنفق ولم يذكر الرجوع لم يكن له الرجوع بالنفقة. جاء في حاشية ابن عابدين: "وهو في الإنفاق على اللقيط واللقطة متبرع؛ لقصور ولايته، إلا إذا قال له قاض: أنفق لترجع، فلو لم يذكر الرجوع لم يكن ¬
دينًا في الأصح" (¬1)، لأن الأمر متردد بين الحسبة والرجوع فلا يكون دينًا بالشك (¬2). وقال الشافعية لا يرجع بما أنفقه على اللقيط إلا أن يكون الإنفاق بإذن الحاكم، فإن لم يوجد أشهد وأنفق بنية الرجوع وإلا لم يرجع (¬3). وذهب الحنابلة أن الملتقط إذا أنفق على اللقيط نفقة المثل بنية الرجوع، وكان ذلك بإذن الحاكم فإن له أن يرجع على اللقيط، وإن أنفق بغير أمر الحاكم بنية الرجوع، قال أحمد: يرجع على بيت المال. قال ابن قدامة: "ومن أنفق عليه متبرعًا، فلا شيء له، سواء كان الملتقط أو غيره. وإن لم يتبرع بالإنفاق عليه، فأنفق عليه الملتقط أو غيره محتسبا بالرجوع عليه إذا أيسر، وكان ذلك بأمر الحاكم، لزم اللقيط ذلك إذا كانت النفقة قصدا بالمعروف ... وإن أنفق بغير أمر الحاكم، محتسبا بالرجوع عليه، فقال أحمد: تؤدى النفقة من بيت المال ... " (¬4). وجاء في الإنصاف: "قال الناظم: إن نوى الرجوع، واستأذن الحاكم رجع على الطفل بعد الرشد، وإلا رجع على بيت المال" (¬5). ¬
القول الثالث: يرجع إذا نوى الرجوع، ولو لم يستأذن الحاكم، خرجها بعض أصحاب الحنابلة على الروايتين فيمن أدى حقًا واجبًا عن غيره بنية الرجوع (¬1). قال ابن رجب في القواعد: "ومنها: نفقة اللقيط خرجها بعض الأصحاب على الروايتين -فيمن أدى حقًّا واجبًا عن غيره بنية الرجوع- ومنهم من قال: يرجع ههنا قولًا واحدًا، وإليه ميل صاحب المغني، لأن له ولاية على الملتقط، ونص أحمد أنه يرجع بما أنفقه على بيت المال" (¬2). والصواب: أنه يرجع بما أنفقه على اللقيط بشرطين: ألا تكون نفقته من فروض الكفاية؛ لأن النفقة إذا كانت واجبة عليه لم يرجع بها. الثاني: أن ينوي الرجوع بما أنفق، والله أعلم. ¬
الفصل السادس في ميراث اللقيط
الفصل السادس في ميراث اللقيط [م - 2088] إذا مات اللقيط فقد اختلف العلماء فيمن يرثه على ثلاثة أقوال: القول الأول: اللقيط حر يرثه بيت المال، إلا أن يوالي أحدًا بعد ما أدرك فإن إرثه يكون لمن والاه، ولا يكون ولاء اللقيط للذي التقطه إلا أن يواليه، بشرط ألا يكون قد تأكد ولاؤه لبيت المال قبل الموالاة، وذلك بأن يعقل عنه بيت المال جناية، فإن عقل عنه قبل موالاته أحدًا فإنه لا يملك أن يوالي أحدًا، وهذا مذهب الحنفية (¬1). جاء في البناية: "واللقيط حر، جنايته على بيت المال، وميراثه لبيت المال، فإذا أدرك كان له أن يوالي من شاء، إلا إذا عقل عنه بيت المال فميراثه لبيت المال، وليس له أن يوالي أحدًا" (¬2). ° دليل الحنفية على ثبوت الإرث بالموالاة: الدليل الأول: قال تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ (33)} [النساء: 33]. ¬
وجه الاستدلال: أن الله -سبحانه وتعالى- جعل عقد الموالاة من أسباب الإرث، حيث أمر بإعطائهم نصيبهم. ونوقش: بأن هذا كان في أول الإسلام، ثم نسخ. (ث-317) فقد روى البخاري من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، {{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء: 33] [النساء: 33]، قال: ورثة. {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}، كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فلما نزلت: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء: 33] نسخت، ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث، ويوصي له (¬1). وروى أبو داود من طريق علي بن حسين، عن أبيه -يعني حسين بن واقد- عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنه -، قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33]، كان الرجل يحالف الرجل، ليس بينهما نسب، فيرث أحدهما الآخر، فنسخ ذلك الأنفال، فقال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأحزاب: 6] (¬2). [ضعيف، والمعروف أنه من قول عكرمة، ويكفي الأثر السابق] (¬3). ¬
الدليل الثاني: (ث-318) روى ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، عن علي قال: المنبوذ حر فإن أحب أن يوالي الذي التقطه والاه، وإن أحب أن يوالي غيره والاه (¬1). [منقطع، محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لم يلق الإمام علي بن أبي طالب]. ¬
القول الثاني: ذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة إلى أن ميراث اللقيط لبيت مال المسلمين (¬1). جاء في المدونة: "أرأيت اللقيط أيكون ولاؤه لمن التقطه؟ قال: قال مالك: يكون ولاؤه للمسلمين كلهم ولا يكون لمن التقطه ولاؤه. قلت: وميراثه للمسلمين؟ قال: نعم، وهذا قول مالك" (¬2). وفي الاستذكار: "قال يحيى: سمعت مالكًا يقول: الأمر عندنا في المنبوذ أنه حر، وأن ولاءه للمسلمين، هم يرثونه، ويعقلون عنه" (¬3). وفي الإنصاف: "وميراث اللقيط، وديته إن قتل لبيت المال، هذا المذهب، وعليه الأصحاب، وقطع به كثير منهم" (¬4). ¬
° دليل الجمهور على أن ميراثه لبيت المال: الدليل الأول: أن أسباب الميراث الشرعي ثلاثة: النكاح، والولاء بالعتق، والنسب، والالتقاط ليس واحدًا منها. وقد أخرج الشيخان من حديث عائشة في قصة بريرة، وفيه: إنما الولاء لمن أعتق (¬1). واللقيط لم يعتق، وإنما التقط، وهو حر. الدليل الثاني: أن نفقته على بيت مال المسلمين، فكذلك ميراثه له؛ لأن الغنم بالغرم. (ث-319) روى مالك في الموطأ عن ابن شهاب، عن سنين أبي جميلة رجل من بني سليم، أنه وجد منبوذا في زمان عمر بن الخطاب، قال: فجئت به إلى عمر بن الخطاب، فقال: "ما حملك على أخذ هذه النسمة"؟ فقال: وجدتها ضائعة فأخذتها، فقال له عريفه: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح، فقال له عمر: أكذلك؟ قال: نعم، فقال عمر بن الخطاب: "اذهب فهو حر ولك، ولاؤه وعلينا نفقته (¬2). [صحيح، وسنين أبو جميلة معدود في الصحابة]. ¬
قال الباجي: "تأول مالك قول عمر لك ولاؤه أي قد جعلت لك أن تتولى تربيته والقيام بأمره وأنت أحق به من غيرك" (¬1). وقال ابن قدامة: "يحتمل أن عمر - رضي الله عنه - عنى بقوله: ولك ولاؤه: أي لك ولايته، والقيام به، وحفظه. لذلك ذكره عقيب قول عريفه: إنه رجل صالح. وهذا يقتضي تفويض الولاية إليه، لكونه مأمونًا عليه دون الميراث" (¬2). الدليل الثالث: أن بيت المال يملك كل مال لا مالك له ولا وارث، وإن لم يكن لقيطًا، ومال اللقيط إذا مات كذلك. القول الثالث: أن ميراث اللقيط لملتقطه، وبه قال سفيان وإسحاق، وهو رواية عن أحمد، اختارها ابن تيمية (¬3). ° دليل من قال: يرثه ملتقطه: الدليل الأول: (ث-320) روى مالك في الموطأ عن ابن شهاب، عن سنين أبي جميلة رجل من بني سليم، أنه وجد منبوذا في زمان عمر بن الخطاب، قال: فجئت به إلى عمر بن الخطاب، فقال: "ما حملك على أخذ هذه النسمة"؟ فقال: وجدتها ¬
ضائعة فأخذتها، فقال له عريفه: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح، فقال له عمر: أكذلك؟ قال: نعم، فقال عمر بن الخطاب: "اذهب فهو حر ولك، ولاؤه وعلينا نفقته" (¬1). [صحيح، وسنين أبو جميلة معدود في الصحابة]. وجه الاستدلال: فقوله: (لك ولاؤه) على ظاهره. ويناقش: بأن معنى الأثر أنت الذي تتولى تربيته والقيام بأمره وهذه ولاية الإسلام لا ولاية العتق، واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الولاء لمن أعتق) وهذا ينفى أن يكون الولاء للملتقط. ولأن أصل الناس الحرية، وليس يخلو اللقيط من أحد أمرين إما أن يكون حرًّا فلا رق عليه، أو يكون ابن أمة قوم فليس لمن التقطه أن يسترقه وبهذا كتب عمر بن عبد العزيز. وقد نزل الله آية المواريث وسمَّى الوارثين، فدل أنه لا وارث غير من ذكر الله في كتابه وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثاني: (ح-1253) أخرج الشيخان من حديث عائشة في قصة بريرة، وفيه: إنما الولاء لمن أعتق (¬2). ¬
وجه الاستدلال: أن إنعام الملتقط على اللقيط بتربيته والقيام عليه، والإحسان إليه ليس بدون إنعام المعتق على العبد بعتقه، فإذا كان الإنعام بالعتق سببًا لميراث المعتق مع أنه لا نسب بينهما، فكيف يستبعد أن يكون الإنعام بالالتقاط سببًا له مع أنه قد يكون أعظم موقعًا وأتم نعمة. وأيضًا فقد ساوى هذا الملتقط المسلمين في مال اللقيط، وامتاز عنهم بتربية اللقيط، والقيام بمصالحه، وإحيائه من الهلكة، فمن محاسن الشرع ومصلحته وحكمته أن يكون أحق بميراثه، وإذا تدبرت هذا وجدته أصح من كثير من القياسات التي يبنون عليها الأحكام، والعقول أشد قبولا له. ويناقش: قد سمى الله سبحانه وتعالى الوارثين في آية الموارث، ولم يأت دليل صحيح أن الملتقط يرث لقيطه، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم: 64] ولا يصح القياس على العتق، فإن العتق يستدعير سبق ملك، واللقيط من دار الإسلام لا يملكه الملتقط، وهذا فارق جوهري، ولو كانت النعمة سببًا من أسباب الإرث لكانت نعمة الإسلام أولى النعم، ومع ذلك فلو أن رجلًا كان سببًا في إسلام أحد من الناس لم يكن هذا سببًا في التوارث بينهما، ولكان الإنقاذ من الحريق والغرق سببًا في الإرث، ولم يثبت ذلك، ولو كان الملتقط وارثًا لوجبت عليه نفقته، قال تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]، والنفقة لا تجب على الملتقط، وإنما نفقته على بيت مال المسلمين في قول عامة المسلمين إلا في وجه مرجوح عند الشافعية، وقد قال عمر - رضي الله عنه -، (وعلينا نفقته) فلما أعفي من حق النفقة ولو احتاج اللقيط لم يكن له حق في مال اللقيط، وقد تقدم بحث ذلك.
الدليل الثالث: (ث- 321) روى ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا حماد بن خالد، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، أن عمر بن الخطاب أعطى ميراث المنبوذ للذي كفله (¬1). [منقطع الزهري لم يدرك عمر بن الخطاب]. الدليل الرابع: (ح-1254) ما رواه الإمام أحمد من طريق محمد بن حرب الخولاني، قال: حدثني عمر بن رؤبة التغلبي، عن عبد الواحد بن عبد الله النصري، عن واثلة بن الأسقع الليثي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المرأة تحوز ثلاث مواريث، عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه (¬2). [ضعيف، تفرد به عمر بن رؤبة، وهو أصل في الباب، وقد أنكروا عليه أحاديثه عن عبد الواحد النصري] (¬3). ¬
° الراجح: أرى أن القول بأن ميراثه لبيت المال أقعد، وإن كان يمكن له أن يوصي لملتقطه إذا أراد تقديمه على بيت المال، والله أعلم. ¬
عقد العارية
عقد العارية
التمهيد
التمهيد المبحث الأولى في تعريف العارية تعريف العارية اصطلاحًا (¬1): تعريفها عند الحنفية: عرفها عامة الحنفية والمالكية بقولهم: تمليك المنافع بغير عوض (¬2). قوله: (تمليك) انتقد بعض الحنفية التعبير بالتمليك، وقال: إنها إباحة، وليست تمليكًا؛ وعلل ذلك بأن العارية لا يشترط فيها ضرب المدة، والتمليك ¬
لا يصح مع الجهالة، ولأن من ملك شيئًا ملك التصرف فيها، والمستعير لا يملك إجارة ما استعار، ولا إعارتها للغير على الصحيح، بخلاف المستأجر الذي يملك المنفعة، فهو يملك إجارتها وإعارتها للغير كمن أبيح له الطعام ليس له أن يبيحه لغيره (¬1). والفرق بين التمليك والإباحة: أن التمليك يستفيد به التصرف في الشيء كما يستفيده من عقد المعاوضة. والإباحة: رفع الحرج من تناول ما ليس مملوكًا له. فمن قال: إن العارية هبة منفعة أجاز للمستعير أن يعير، ومن قال: هي إباحة منفعة لم يجوِّز للمستعير أن يعير، وهو الصواب. وعلى القول بأن العارية تمليك فإنها من باب تمليك الانتفاع، وليس من قبيل تمليك المنفعة، وبينهما فرق. فتمليك الانتفاع: هو أن يباشر بنفسه الانتفاع فقط. وتمليك المنفعة: أعم وأشمل، فيباشر بنفسه، وله أن يمكن غيره من الانتفاع بعوض كالإجارة، وبغير عوض كالعارية، ونحوها. ومسألة تصرف المستعير بالمنفعة محل خلاف بين الفقهاء سيأتي إن شاء الله بحثها في مسألة مستقلة. وقوله: (تمليك المنافع) أخرج البيع والهبة، لأنها من باب تمليك الأعيان. ¬
تعريف الشافعية: عرف الشافعية الإعارة بقولهم: إباحة الانتفاع بما يحل الانتفاع به مع بقاء عينه. زاد بعضهم: ليرده (¬1). فقولهم: (إباحة): يخرج التمليك. وقولهم: (الانتفاع) يخرج البيع والهبة، لأنه من قبيل تمليك الأعيان. وقولهم: (من أهل التبرع) يخرج المحجور عليه، سواء كان محجورًا عليه لسفه أو لحظ الغير، كما يخرج المجنون. وقوله، (بما يحل الانتفاع به) يخرج ما لا يحل الانتفاع به، كالآت اللهو، ونحوها مما يحرم الانتفاع بها. وقولهم: (مع بقاء عينه) لأن ما تستهلك عينه لا يعتبر عارية، بل يعتبر قرضًا. وقولهم: (ليرده) أخرج بذلك هبة المنافع فإنها لا ترد بالرد. تعريف الحنابلة: عرفها ابن مفلح بقوله: إباحة الانتفاع بالشيء مع بقاء عينه ليرده على مالكه (¬2). وهذا التعريف بمعنى ما سبق. فقوله: (إباحة): الإباحة: رفع الحرج عن تناول ما ليس مملوكًا له. وقوله: (مع بقاء عينه) خرج بذلك ما لا ينتفع به إلا مع تلف عينه، كالأطعمة ¬
والأشربة والدراهم فإن إعطاء هذه الأشياء إن كان بلا عوض فهي هبة، وإن كان بعوض فإن كان ليرد مثلها فهي قرض، وإلا كان بيعًا. قال الكاساني: "إعارة كل ما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه كالمكيلات والموزونات يكون قرضًا لا إعارة لما ذكرنا أن محل حكم الإعارة المنفعة لا العين إلا إذا كان ملحقًا بالمنفعة عرفًا وعادة، كما إذا منح شاة أو ناقة لينتفع بلبنها ووبرها مدة، ثم يردها على صاحبها؛ لأن ذلك معدود من المنافع عرفًا وعادة" (¬1). قلت: حصر المنافع بالعرض الذي يقوم بالعين كالسكنى والركوب هذا اصطلاح فقهي، وإلا فالمنافع لغة تشمل كل ما يمكن استفادته من الأعيان عرضًا كان مثل سكنى الدار، وركوب السيارة والدواب، ولبس الثياب وقراءة الكتب. أو عينًا: مثل ثمر الأشجار، وحليب الأنعام ونحوها (¬2). فيصح إعارة الدابة من أجل لبنها، والشجرة من أجل ثمرتها، وتسمى عارية لغة، وليست عرفًا؛ لأن هذه الأشياء من قبيل هبة المنافع، وإن كانت المنفعة عينًا. والله أعلم. ¬
المبحث الثاني الأدلة على مشروعية العارية
المبحث الثاني الأدلة على مشروعية العارية [م - 2089] العارية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع والقياس. أما الكتاب، فلقوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]. ولا شك أن العارية من المعروف. وقال تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]. وقد اختلف المفسرون بالماعون على أقوال، منها (ث-322) ما رواه أبو داود من طريق عاصم بن أبي النجود، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: كنا نعد الماعون على عهد رسول الله عارية الدلو والقدر (¬1). [حسن] (¬2). وأما الدليل من السنة: (ح-1255) فما رواه البخاري من طريق شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أنسًا يقول: كان فزع بالمدينة، فاستعار النبي - صلى الله عليه وسلم - فرسًا لأبي طلحة يقال له: المندوب، فركبه، فلما رجع قال: ما رأينا من شيء وإن وجدناه لبحرًا. ¬
(ح-1256) ومنها ما رواه الإمام أحمد، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا شريك، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أمية بن صفوان بن أمية، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعار منه يوم خيبر أدرعًا، فقال: أغصبا يا محمد؟ فقال: بل عارية مضمونة. قال: فضاع بعضها فعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضمنها له فقال: أنا اليوم يا رسول الله في الإسلام أرغب (¬1). [سبق تخريجه] (¬2). (ح-1257) ومنها: ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، قال: حدثنا إسماعيل ابن عياش، قال: حدثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني، سمع أبا أمامة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الدين مقضي، والعارية مؤداة، والمنحة مردودة، والزعيم غارم (¬3). [حسن] (¬4). ¬
(ث-323) ومن الآثار ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا ابن مهدي، عن سفيان. وغندر عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن عياض، عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا: الماعون: منع الفاس والقدر، والدلو (¬1). [صحيح]. وأما الإجماع، فقد أجمع المسلمون على جواز العارية (¬2). وأما القياس فلأنه إذا جازت هبة الأعيان جازت هبة المنافع، ولا فرق ولذلك صحت الوصية بالمنافع كما صحت في الأعيان (¬3). ¬
المبحث الثالث في حكم العارية
المبحث الثالث في حكم العارية [م - 2090] اختلف العلماء في حكم العارية بعد إجماعهم على مشروعيتها: القول الأول: ذهب أكثر أهل العلم من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة إلى أن الأصل في العارية أنها مندوبة إليها، وليست واجبة (¬1). قال ابن قدامة: العارية مندوب إليها وليست واجبة في قول أكثر أهل العلم" (¬2). وقد يعرض للعارية الأحكام التكليفية الخمسة، وهذا متفق عليه عند الجمهور إن كانت الأمثلة قد تختلف من مذهب لآخر: فقد تكون العارية واجبة كإعارة سكين لذبح مأكول يخشى موته، وإعارة المضطر إلى ما يستر عورته إذا لم يكن قادرًا على الاستئجار. وقد تكون محرمة: كإعارة ما يعين على المعصية، ومثل له بعض الفقهاء بإعارة الأمة لأجنبي لا يؤمن على وطئها، وإعارة دار لمن يتخذها كنيسة، أو يشرب فيها مسكرًا. ¬
وقد تكون مستحبة كما لو كان يستعين بها على أمر مشروع، كاستعارة الكتب النافعة. وقد تكون مكروهة: كإعارة ما يعين على الوقوع في المكروه. وقد تكون مباحة كإعارة من له ثوب مستغن عنه لمن له ثياب كثيرة (¬1). القول الثاني: ذهب بعض أهل العلم إلى أن العارية واجبة، قاله بعض الحنفية، وقال ابن تيمية: تجب العارية مع غنى المالك، وهو أحد القولين في مذهب أحمد (¬2). جاء في مجمع الأنهر: "وهي -يعني العارية- مشروعة بالكتاب والسنة، والإجماع، وإنما اختلفوا في كونها مستحبة، وهو قول الأكثر، أو واجبة، وهو قول البعض" (¬3). ° دليل من قال: العارية مستحبة: الدليل الأول: (ح-1258) ما رواه البخاري من طريق مالك بن أنس، عن عمه أبي سهيل بن ¬
مالك، عن أبيه، أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ثائر الرأس، يسمع دوي صوته، ولا يفقه ما يقول حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، وفيه: وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال: فأدبر الرجل، وهو يقول: والله لا أزيد على هذا، ولا أنقص، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفلح إن صدق (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أنه لا يجب على الإنسان شيء في ماله إلا الزكاة فلو كانت العارية واجبة لذكرها. الدليل الثاني: (ح-1259) ما رواه الترمذي من طريق دراج، عن ابن حجيرة، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك (¬2). [تفرد به دراج، والأكثر على ضعفه وله شاهد حسن من حديث جابر] (¬3). ¬
الدليل الثالث: (ح-1260) ما رواه ابن ماجه حدثنا علي بن محمد، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن أبي حمزة، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس أنها سمعت يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليس في المال حق سوى الزكاة (¬1). [هذا حديث ضعيف، والمعروف أن لفظه: إن في المال لحقًّا سوى الزكاة، فلا دليل فيه] (¬2). ¬
الدليل الرابع: (ح- 1261) قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه (¬1). ¬
الدليل الخامس: الإعارة فيها شبه بالقرض، فالقرض تمليك للأعيان، والإعارة تمليك للانتفاع، وكلاهما يراد بهما الإرفاق والإحسان، ويرتدان بالرد، وإذا كان القرض لا يجب فكذلك العارية. ° دليل من قال: العارية واجبة: الدليل الأول: (ث-324) ما رواه أبو داود من طريق عاصم بن أبي النجود، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: كنا نعد الماعون على عهد رسول الله عارية الدلو والقدر (¬1). [حسن وسبق تخريجه] (¬2). وجه الاستدلال: أن الله -سبحانه وتعالى- توعد مانعي الماعون بالويل، فدل على أن إعارة الماعون واجبة. ونوقش: بأن الماعون قد فسر بالزكاة، فإن الماعون بلغة قريش هو المال، وحق المال إنما هو في الزكاة، وعلى فرض أن يكون المراد به العارية فليس المراد به مطلق العارية، وإنما يراد به العارية الواجبة، كإعارة الثوب للمضطر. ¬
الدليل الثاني: (ح-1262) ما رواه مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من صاحب إبل ولا بقر لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر، تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن. قلنا: يا رسول الله وما حقها؟ قال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنيحتها، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله ... الحديث (¬1). (ث-325) وقد روى الإمام أحمد من طريق أبي عمر الغداني، عن أبي هريرة موقوفًا عليه: قال العامري: وما حق الإبل يا أبا هريرة؟ قال: أن تعطي الكريمة، وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر، وتسقي اللبن، وتطرق الفحل (¬2). [حسن لغيره] (¬3). ° الراجح: أن الأصل في العارية الندب، وقد يعرض لها الأحكام التكليفية الخمسة. ¬
المبحث الرابع في توصيف عقد العارية
المبحث الرابع في توصيف عقد العارية تقدم لنا في مقدمة الكتاب الكلام على تقسيم العقود من حيث اللزوم والجواز إلى ثلاثة أقسام: لازم من الطرفين كالبيع والإجارة، وجائز من الطرفين كالوكالة، ولازم من طرف، وجائز من الآخر كالرهن. والسؤال: أين يقع عقد العارية من هذا التقسيم؟ [م - 2091] وللجواب على ذلك نقول: أما العارية في حق المستعير فلم يختلف الفقهاء أن له رد العارية متى شاء. قال ابن قدامة: "يجوز للمستعير الرد متى شاء بغير خلاف نعلمه، لأنه إباحة، فكان لمن أبيح له تركه كإباحة الطعام" (¬1). [م - 2092] وأما العارية في حق المعير فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على: القول الأول: للمعير أن يرجع متى شاء، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة (¬2). ° وجه القول بالرجوع: أن المنافع المستقبلة لم تحصل في يد المستعير فكان للمعير الرجوع فيها، ¬
كما لو لم يقبض العين. وبهذا قال الشافعية إلا في صورتين: الصورة الأولى: إذا أعار لدفن ميت، فله الرجوع قبل دفن الميت، فإن دفن لم يكن له الرجوع ونبش القبر إلى أن يندرس أثر المدفون، ولا يستحق المعير أجرة برجوعه؛ لأن الميت لا مال له، والعرف غير قاض به. الصورة الثانية: إذا أعاره جدارًا لوضع الجذوع، ففي جواز الرجوع وجهان، فإن جوزناه، فهل فائدته طلب الأجرة في المستقبل، أم التخيير بينه وبين القلع وضمان أرش النقص وجهان (¬1). وقال الحنفية والشافعية والحنابلة: متى تضمن الرجوع ضررًا بالمستعير لم يجز له الرجوع إلا أن الحنفية والشافعية قالوا: له أجرة المثل (¬2). جاء في البحر الرائق: "رجل استعار من رجل أمة لترضع ابنًا له، فأرضعته، فلما صار الصبي لا يأخذ إلا منها قال المعير: اردد علي خادمي، قال أبو يوسف: ليس له ذلك، وله مثل أجر خادمه إلى أن تفطم الصبي، وكذا لو استعار من رجل فرسًا ليغزو عليه فأعاره الفرس أربعة أشهر، ثم لقيه بعد شهرين في بلاد المسلمين فأراد أخذ الفرس كان له ذلك، وإن لقيه في بلاد الشرك في موضع لا يقدر على الكراء والشراء كان للمستعير ألا يدفعه إليه، لأن هذا ضرر ¬
بين، وعلى المستعير أجر مثل الفرس من الموضع الذي طلب صاحبه إلى أدنى المواضع الذي يجد فيه شراء أو كراء" (¬1). ومثل له الحنابلة: بأن يعيره لوحًا يرقع به سفينته، فرقعها به، وولج بها في البحر، فلا يجوز له الرجوع ما دامت في البحر، وله الرجوع قبل دخولها البحر، وبعد الخروج منه لعدم الضرر فيه. ومثل له الشافعية بأمثلة منها: أن يعيره سفينة، فيضع المستعير فيها متاعًا، ثم يطلبها المعير في اللجة لم يجب لذلك، قال الشافعية: وامتناع الرجوع من أجل الضرر، لا للزومها. وقال ابن الرفعة: ويظهر أن له الأجرة من حين الرجوع كما لو أعاره أرضًا لزرع فرجع قبل انتهائه. ومنها: أن يعيره دابة أو سلاحًا للغزو، فليس له الرجوع في ذلك إذا التقى الصفان حتى ينكشف القتال، قاله الخفاف في الخصال. ومنها: لو أراد الصلاة المفروضة، فأعاره ثوبًا ليستر به عورته، أو ليفرشه في مكان نجس، ففعل، وكان الرجوع مؤديًا إلى بطلان الصلاة، قال الإسنوي: فيحتمل منعه، وهو متجه، ويحتمل الجواز، وتكون فائدته طلب الأجرة. وهذه الأمثلة لا تعبر عن لزوم العارية عند الشافعية في هذه الصور لأنهم إذا أثبتوا الأجرة فقد حكموا بالرجوع عن عقد العارية، وإن كان لا يلزم من الرجوع عن العارية رد العين. ¬
وقد كانت قواعد مذهب الشافعية أن العقود الجائزة متى تضمن الرجوع فيها إلى ضرر على أحد العاقدين فإنها تلزم، وكان مقتضى لزومها أن يبقى عقد العارية، لا أن ينتقل منه إلى عقد الإجارة، مع أن عقد الإجارة من عقود المعاوضات والذي يشترط فيه الرضا في ابتداء العقد، لا أن يعطى المستعير العين عارية حتى إذا شرع فيها وأصبح في وضع لا يتمكن من رد العارية إلا بالضرر طالبه المعير بالرد، ليحصل منه على معاوضة ما كان ليعقدها لو كان ذلك في ابتداء العقد، فإن هذا من التغرير الذي لا يسوغ، ولم يكن ينفعه أن يشترط في العارية مدة معلومة، لأن التوقيت وعد لا يلزم على مذهب الجمهور عدا المالكية كما سيأتي. إذا علمت ذلك نأتي على بعض النصوص الشاهدة لما أجملناه من كلام الفقهاء. جاء في تبيين الحقائق: "ويرجع المعير متى شاء، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: المنيحة مردودة، والعارية مؤادة، ولأن المنافع تحدث شيئًا فشيئًا، ويثبت الملك فيها بحسب حدوثه، فرجوعه امتناع عن تمليك ما لم يحدث فله ذلك" (¬1). وجاء في شرح المحلى على المنهاج: "لكل منهما: أي المستعير والمعير رد العارية متى شاء، سواء في ذلك المطلقة والمؤقتة، ورد المعير بمعنى رجوعه ... إلا إذا أعار لدفن، وفعل، فلا يرجع في موضعه حتى يندرس أثر المدفون، محافظة على حرمة الميت، وله الرجوع قبل وضعه فيه، قال المتولي: وكذا بعد الوضع ما لم يواره التراب" (¬2). ¬
قال قليوبي في حاشيته تعليقًا: "قد يمتنع الرجوع في العين مع صحة الرجوع في العقد لأجل أنه قد يستحق الأجرة من وقت رجوعه كمتاع في سفينة في اللجة، وثوب للصلاة مطلقًا، أو صلاة نفل، أو لحر أو برد، أو محل لسكنى معتدة، أو سكين لذبح، أو سيف لقتال" (¬1). وقال ابن قدامة: "وللمعير الرجوع في العارية أي وقت شاء، سواء كانت مطلقة أو مؤقتة ما لم يأذن في شغله بشيء يتضرر بالرجوع فيه ... فإن أعاره شيئًا لينتفع به انتفاعًا يلزم من الرجوع في العارية في أثنائه ضرر بالمستعير لم يجز له الرجوع؛ لأن الرجوع يضر بالمستعير، فلم يجز له الإضرار به، مثل أن يعيره لوحًا يرقع به سفينته، فرقعها به، ولج بها في البحر، لم يجز الرجوع ما دامت في البحر، وله الرجوع قبل دخوله في البحر، وبعد الخروج منه لعدم الضرر فيه، وإن أعاره أرضًا ليدفن فله الرجوع ما لم يدفن فيها، فإذا دفن لم يكن له الرجوع، ما لم يبل الميت. وإن أعاره حائطا ليضع عليه أطراف خشبه جاز، كما تجوز إعارة الأرض للبناء والغراس، وله الرجوع ما لم يضعه، وبعد وضعه ما لم يبن عليه؛ لأنه لا ضرر فيه، فإن بنى عليه، لم يجز الرجوع، لما في ذلك من هدم البناء. وإن قال: أنا أدفع إليك أرش ما نقص بالقلع. لم يلزم المستعير ذلك، لأنه إذا قلعه انقلع ما في ملك المستعير منه. ولا يجب على المستعير قلع شيء من ملكه بضمان القيمة. ¬
وإن انهدم الحائط وزال الخشب عنه، أو أزاله المستعير باختياره، لم يملك إعادته، سواء بنى الحائط بآلته أو بغيرها؛ لأن العارية لا تلزم" (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن الإعارة إن قيدت بعمل كزراعة أرض بطنًا فأكثر مما لا يخلف كقمح، أو مما يخلف كقصب، أو قيد بأجل كسكنى الدار شهرًا مثلًا، فإنها تكون لازمة إلى انقضاء ذلك العمل أو الأجل، ولا يجوز له الرجوع قبل انتهاء العمل أو الأجل مطلقًا، وقد وافق الشافعية في قول، والحنابلة في رواية إلى لزوم الإعارة إذا كانت مؤقتة. وإن كانت الإعارة مطلقة لم تقيد بعمل أو أجل فللمالكية ثلاثة أقوال: الأول: وهو المعتمد أن الإعارة لا تلزم، ولربها أخذها متى شاء، ولا يلزم قدر ما تراد لمثله عادة، وهو قول ابن القاسم وأشهب. الثاني: يلزم بقاؤها في يد المستعير قدر ما تراد لمثلها عادة. الثالث: إن كانت الإعارة لغير البناء والغرس، كإعارة الدابة للركوب، والثوب للبس، أو كانت الإعارة لهما، ولم يحصلا لم يلزم قدر المعتاد، وإن كانت الإعارة للبناء والغرس، وحصلا فيلزم المعير بقاؤها قدر ما تراد لمثله عادة إلا أن يعطيه قال مرة: ما أنفق فيها. وقال أخرى: قيمة ما أنفق، وإن لم يعطه ذلك تركه إلى مثل ما يرى الناس أنه إعارة إلى مثله من الأمد. ¬
وقد اختلف الشارحون: في الجمع بين الأمر بدفع ما أنفق، أو بدفع قيمة ما أنفق على ثلاثة أوجه: الأول: يدفع قيمة ما أنفق إن لم يشتره، بأن كان ما بنى به أو غرسه من عنده، ويدفع ما أنفق إن اشتراه بثمن. والثاني: يدفع قيمة ما أنفق إن طال الزمان على البناء والغرس قبل إخراجه لتغيره، ويدفع ما أنفق إذا كان بالقرب جدًّا. والثالث: يدفع قيمة ما أنفق إن كان اشتراه بغبن كثير، ويدفع ما أنفق إن اشتراه بلا غبن، أو غبن يسير. هذا ملخص مذهب المالكية (¬1). وجاء في تحفة المحتاج: "والعارية المؤقتة كالمطلقة -يعني في جواز الرجوع فيها- لأن التأقيت وعد لا يلزم، وقيل: لا يجوز له الرجوع حينئذ وإلا لم يكن للتأقيت فائدة" (¬2). وجاء في الإنصاف: "وعنه: إن عين مدة تعينت، قال الحارثي: وهو الأقوى، وعنه: لا يملك الرجوع قبل انتفاعه بها مع الإطلاق. قال القاضي: قياس المذهب يقتضيه" (¬3). ¬
° الراجح: أن عقد العارية عقد جائز إلا أنه إذا تضمن فسخ العقد الجائز ضررًا فإنه يلزم، ولا أجرة للمعير. وكان هذا كما قلت: هو مقتضى قواعد مذهب الشافعية والحنابلة وإن خالف الشافعية ذلك في عقد العارية، وقالوا بالانتقال إلى أجرة المثل، حيث صححوا الرجوع عن العقد، وأبقوا العين في يد المستعير بأجرة المثل. جاء في المنثور في القواعد الفقهية: "العقود الجائزة إذا اقتضى فسخها ضررًا على الآخرين امتنع وصارت لازمة" (¬1). وقال ابن رجب: "التفاسخ في العقود الجائزة متى تضمن ضررًا على أحد المتعاقدين أو غيرهما ممن له تعلق بالعقد لم يجز، ولم ينفذ إلا أن يمكن استدراك الضرر بضمان ونحوه، فيجوز على ذلك الوجه" (¬2). ¬
الباب الأول في أركان العارية
الباب الأول في أركان العارية [م - 2093] اختلف العلماء في أركان العارية على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن ركن العارية هو الإيجاب من المعير، وأما القبول من المستعير فليس بركن استحسانًا، والقياس أن يكون ركنًا، وهو قول زفر (¬1). لأن العارية من قبيل هبة الانتفاع إلا أنها هبة مؤقتة، ولهذا صار الكلام في أركان العارية كالكلام في أركان الهبة، وقد قال ابن الهمام: "أكثر الشراح ها هنا على أن الهبة تتم بالإيجاب وحده" (¬2). إلا أن القبض في الهبة والعارية جار مجرى الركن فصار كالقبول (¬3). جاء في بدائع الصنائع: "أما ركنها: فهو الإيجاب من المعير، وأما القبول من المستعير فليس بركن عند أصحابنا الثلاثة استحسانا، والقياس أن يكون ركنا وهو قول زفر" (¬4). وجه الاستحسان: أن العارية في اللغة عبارة عن مجرد إيجاب المالك من غير شريطة القبول، ¬
وإنما القبول والقبض لثبوت حكمها، لا لوجودها في نفسها، فإذا أوجب فقد أتى بالعارية، فترتب عليها الأحكام، كما قالوا ذلك في الهبة (¬1). فالحنفية يقسمون التصرفات إلى قسمين: عقود، والركن فيها هو الصيغة فقط (الإيجاب والقبول). وتصرف منفرد كالهبة والعارية يتم بالإيجاب وحده، فصار الركن في العارية الإيجاب فقط، والقبض فيها جار مجرى الركن، فصار كالقبول. وأما أطراف العقد فليست من الأركان باتفاق الحنفية، لا في العقود ولا في التصرفات، فلا يعتبرون البائع والمشتري والعين المبيعة في عقد البيع من الأركان، كما لا يعتبرون المعير والمستعير والعين المعارة من أركان العارية. وذلك أن الحنفية يرون أن الركن: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءًا داخلًا في حقيقته، وهذا خاص في الصيغة فقط، وهي الإيجاب والقبول في العقود، أو الإيجاب وحده في التصرفات كالإبراء والعتق، وأما أطراف العقد فهي من لوازم العقد، وليست جزءًا من حقيقته، وإن كان يتوقف عليها وجوده. وقد استدل الحنفية على مذهبهم بالآتي: الدليل الأول: أن من حلف أن يعير فلانًا، فأعاره ولم يقبل فقد بر في يمينه؛ لأن الإعارة ¬
تتم بالإيجاب وحده، ولو حلف أن يبيع فلانًا، فباعه، فلم يقبل فقد حنث؛ لأن البيع لا يتم بالإيجاب وحده. وهذا يصح أن يكون أثرًا للقول أكثر من كونه دليلًا على المسألة. الدليل الثاني: أن العارية تبرع بالمنفعة، والتبرع ليس عقدًا يفتقر إلى الإيجاب والقبول، بل هو من جنس التصرف كالإبراء، فيتم بالإرادة المنفردة، ويكون ركنه الإيجاب فقط. الدليل الثالث: كل دليل ذكرناه للحنفية على وقوع الهبة بالإيجاب وحده يصح دليلًا هنا؛ لأن العارية من قبيل هبة المنافع، وقد استوعبنا أدلة الحنفية في عقد الهبة، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، ولله الحمد. القول الثاني: أن أركان العارية أربعة: الصيغة (الإيجاب والقبول) والمعير، والمستعير، والعين المعارة، وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة (¬1). وذلك أن الجمهور يرون أن الركن: هو ما توقف عليه وجود الشيء وتصوره عقلًا، سواء أكان جزءًا من حقيقته أم لم يكن، ووجود العارية متوقف على وجود المعير والمستعير، والعين المعارة، وإن لم تكن هذه الأشياء جزءًا من حقيقته. ¬
ومذهب الحنفية أجود، وأدق، والجمهور لا يطردون في تحديد الأركان، فاللوازم تارة يعتبرونها من الأركان، وتارة لا يدخلونها، فهم يجعلون الفاعل ركنًا في مثل عقد البيع والنكاح، ولا يجعلونه ركنًا في العبادات كالصلاة والحج، وإن كان لا يتصور قيام الحج والصلاة بدون فاعل. قال في المصباح المنير: "والفرق عسر، ويمكن أن يقال: الفرق أن الفاعل علة لفعله، والعلة غير المعلول، فالماهية معلولة، فحيث كان الفاعل متحدًا استقل بإيجاد الفعل كما في العبادات، وأعطي حكم العلة العقلية، ولم يجعل ركنًا، وحيث كان الفاعل متعددًا لم يستقل كل واحد بإيجاد الفعل، بل يفتقر إلى غيره، لأن كل واحد من العاقدين غير عاقد بل العاقد اثنان، فكل واحد من المتبايعين مثلًا غير مستقل، فَبَعُد بهذا الاعتبار عن شبه العلة، وأشبه جزء الماهية في افتقاره إلى ما يقومه، فناسب أن يجعل ركنًا" (¬1). ولا حاجة إلى هذا الفارق العسر كما وصفه، بل يقال: مذهب الحنفية أقوى، ومطرد في تحديد أركان الشيء من عبادات ومعاملات. ¬
الفصل الأول في الألفاظ التي تنعقد بها العارية
الفصل الأول في الألفاظ التي تنعقد بها العارية [م - 2094] لا يوجد لفظ مخصوص لا تنعقد العارية إلا به، بل تنعقد العارية بكل ما يدل على تمليك المنفعة بغير عوض، وهذا مذهب عامة أهل العلم (¬1). قال الحنفية: لو قال: أقرضتك ثوبي لتلبسه يومًا واحدًا كان عارية. وقال ابن رشد: "وأما صيغة الإعارة فهي كل لفظ يدل على الإذن" (¬2). وقال الدردير: "ليس لها صيغة مخصوصة، بل كل ما دل على تمليك المنفعة بغير عوض" (¬3). وقال النووي: "الركن الرابع الصيغة واللفظ المعتد به في الباب ما يدل على الإذن في الانتفاع كقوله أعرتك أو خذه لتنتفع به وما أشبههما" (¬4). وجاء في كشاف القناع: "وتنعقد الإعارة بكل قول أو فعل يدل عليها كقوله: أعرتك هذا الشيء أو أبحتك الانتفاع به، أو يقول المستعير: أعرني هذا أو أعطنيه أركبه، أو أحمل عليه فيسلمه المعير إليه ونحوه" (¬5). ¬
الفصل الثاني في اشتراط اللفظ في صيغة الإعارة
الفصل الثاني في اشتراط اللفظ في صيغة الإعارة [م - 2095] اختلف الفقهاء في اشتراط اللفظ في صيغة الإعارة على قولين: القول الأول: لا يشترط اللفظ في صيغة الإعارة بل تصح الإعارة بالفعل من الجانبين إذا دلت القرينة على إرادة الإعارة، كما لو رأى رجل شخصًا حافيًا فأعطاه نعلًا، ولبس الحافي النعل، أو رأى أحدًا يريد أن يصلي ففرش له مصلى، وهذا مذهب الجمهور، واختاره المتولي من الشافعية. جاء في مجلة الأحكام العدلية: "الإعارة تنعقد بالإيجاب والقبول وبالتعاطي" (¬1). وجاء في شرح الخرشي: "العارية تنعقد بما يدل عليها من قول أو فعل أو إشارة، وتكفي المعاطاة فيها، فلا يشترط فيها صيغة مخصوصة كالبيع، بل كل ما يدل على تمليك المنفعة بلا عوض" (¬2). وجاء في روضة الطالبيين: "قال المتولي: لا يعتبر اللفظ في واحد منهما -يعني من المعير أو المستعير- حتى لو رآه عاريًا فأعطاه قميصًا فلبسه تمت العارية وكذا لو فرش لضيفه فراشًا أو بساطًا أو مصلى أو ألقى له وسادة، فجلس ¬
عليها كان ذلك إعارة بخلاف ما لو دخل فجلس على الفرش المبسوطة لأنه لم يقصد بها انتفاع شخص بعينه" (¬1). وجاء في كشاف القناع: "وتنعقد الإعارة بكل قول أو فعل يدل عليها ... كدفعه الدابة لرفيقه عند تعبه، وتغطيته بكسائه إذا رآه برد، لأنها من البر فصحت بمجرد الدفع كدفع الصدقة، ومتى ركب الدابة أو استبقى الكساء عليه كان ذلك قبولًا" (¬2). القول الثاني: ذهب الشافعية في الأصح إلى أنه يشترط اللفظ في الصيغة من الناطق، ويكفي اللفظ من أحدهما والفعل من الآخر. واختار بعض الحنفية إلى أنه يصح القبول بالتعاطي، ولا يصح الإيجاب به. جاء في الدر المختار في تعريف الإعارة اصطلاحًا: "تمليك المنافع مجانًا. أفاد بالتمليك لزوم الإيجاب والقبول ولو فعلًا" (¬3). قال ابن عابدين تعليقًا في رد المحتار "قوله: (ولو فعلًا) أي كالتعاطي، في القهستاني: وهذا مبالغة على القبول، وأما الإيجاب فلا يصح به" (¬4). وجاء في حاشيتي قليوبي وعميرة: "والأصح اشتراط لفظ كأعرتك أو أعرني، ويكفي لفظ أحدهما مع فعل الآخر كما في إباحة الطعام، ومقابل ¬
الأصح ما ذكره المتولي أنه لا يشترط لفظ حتى لو أعطى عاريا قميصا فلبسه تمت الإعارة" (¬1). ° دليل الشافعية على اشتراط اللفظ: الدليل الأول: أن الانتفاع بمال الغير يعتبر رضاه، والرضا عمل قلبي، لا يعلمه إلا الله، فهو أمر خفي فلا بد من لفظ يدل عليه، ويناط به الحكم، وهذا في جميع التعاملات، سواء كان مما يستقل به الإنسان كالإعارة، والطلاق والعتاق والعفو والإبراء، أو من غيره مما لا يستقل به وحده كالبيع والإجارة والنكاح ونحوها. الدليل الثاني: القياس على عقد النكاح، فإنه لا ينعقد إلا باللفظ (¬2)، وقد اتفقوا على اشتراط الصيغ فيه، حتى لا يعلم أنه وجد لأحد من العلماء قول بالمعاطاة البتة، وإنما اختلفوا هل ينعقد بغير لفظ التزويج والنكاح أو لا ينعقد إلا بخصوص لفظهما (¬3). وأجيب: بأن هناك فرقًا بين عقد النكاح والإعارة، فالشهادة في النكاح آكد منها في غيرها، ويشرع الإعلان في النكاح، ولا يشرع في الإعارة، ولأن الأصل في ¬
العارية الإباحة، والأصل في الفروج التحريم حتى يعقد عليهن بملك أو نكاح إلى غيره من الفروقات (¬1). الدليل الثالث: المعاطاة قد يراد بها الإعارة، وقد يراد بها البيع، وقد يراد بها الهبة، وقد يراد بها الإجارة، وقد يراد بها الرهن، وقد يدعي شخص أنه لم يرد به العقد مطلقًا، وعليه فلا يصلح أن يكون الإعطاء سببًا في التملك لكونه جنسًا يشمل أنواعًا مختلفة من العقود، وكل عقد يختلف آثاره عن العقد الآخر، فلا بد للتعامل أن يكون بالقول الدال على تحديد كل عقد بعينه، وإلا أدى ذلك إلى وقوع النزاع بين المتعاقدين، وعدم معرفة الرضا الكامل الذي أناط الله به الجواز. وأجيب: إذا احتملت المعاطاة غير الإعارة لم تصح المعاطاة، وإنما الكلام فيما إذا كانت المعاطاة لا تحتمل إلا الإعارة بدلالة قرائن الحال، أو كانت دائرة بين الهبة وبين الإعارة لأن بذل الشيء بدون عوض لا يحتمل إلا الهبة أو الإعارة، فيحمل على أدناهما وهو الإعارة حتى نتيقن أنه أراد الهبة، والله أعلم. ° الراجح: صحة العارية بالقول والفعل، وبكل ما يدل على تمليك الانتفاع بلا عوض، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في انقسام ألفاظ العارية إلى صريح وكناية
الفصل الثالث في انقسام ألفاظ العارية إلى صريح وكناية [م - 2096] قال السيوطي: "اعلم أن الصريح وقع في الأبواب كلها وكذا الكناية، إلا في الخطبة فلم يذكروا فيها كناية بل ذكروا التعريض، ولا في النكاح فلم يذكروها للاتفاق على عدم انعقاده بالكناية. ووقع الصريح والكناية والتعريض جميعًا في القذف" (¬1). ومع وقوع ألفاظ الكناية في جميع الأبواب إلا أن الناس في الجانب التطبيقي أكثروا من ذكر الكنايات في بعض الأبواب دون بعض لهذا كان تناول الفقهاء لألفاظ الكنايات تبعًا لاستعمال الناس، لهذا نشط الفقهاء في التعرض للصريح والكناية في باب الطلاق أكثر منه في باب العارية؛ لأن الناس أكثروا من الكنايات في الطلاق دون العارية، وإن كانت العارية كغيرها تقبل الصريح والكناية، إذا علم ذلك نقول: اختلف الفقهاء في قبول العارية لألفاظ الكناية على قولين: القول الأول: ذهب عامة الفقهاء إلى تقسيم ألفاظ العقود والتصرفات إلى صريح وكناية، ومنها العارية (¬2). ¬
جاء في العناية شرح الهداية: "وتصح بقوله: أعرتك؛ لأنه صريح فيه" (¬1). وقال الكاساني: "أما لفظ الإعارة فصريح في بابها ... " (¬2). فقوله: (في بابها) يفهم منه أن لفظ العارية وإن كان صريحًا في بابه فقد تكون من ألفاظ الكنايات في غير باب العارية إذا لم يجد نفاذا في موضوعه، فلفظ العتق صريح في بابه، ولا نفاذ له إذا استعمل في الزوجة، فكان كناية عن طلاقها. جاء في تحفة المحتاج: "ويظهر فيما اشتهر من استعمال لفظ العارية هنا أنه فيما لا تصح إعارته كناية؛ لأنه لم يجد نفاذا في موضوعه وفي غيره ليس كناية؛ لأنه صريح في بابه ووجد نفاذا في موضوعه" (¬3). أما إذا وجد الصريح نفاذًا في بابه فلا يكون كناية عن غيره. قال الزركشي في القواعد: "الصريح في إذا وجد نفاذًا في موضوعه لا يكون كناية في غيره، ومعنى وجد نفاذًا: أي أمكن تنفيذه ... وهذا كالطلاق لا يكون ظهارًا وفسخًا بالنية، وبالعكس، فلو قال: وهبت منك، ونوى الوصية، لا تكون وصية في الأصح؛ لأنه أمكن تنفيذه في موضوعه الصريح: وهو التمليك الناجز" (¬4). ¬
مثال ذلك: لو قال: أعرني دراهمك لأنفقها كانت قرضًا؛ لأن العبرة في العقود بمعانيها، وليست بألفاظها. قال ابن الهمام في فتح القدير: "في عارية الدراهم والدنانير والمكيل والموزون والمعدود، إذ قد صرحوا في صدر كتاب العارية بأن من شرطها كون المستعار قابلا للانتفاع به مع بقاء عينه، وأن الأشياء المذكورة لا يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها فتعذر حقيقة الإعارة فيها فجعلناها كناية عن القرض" (¬1). وجاء في الإنصاف: "قال في الانتصار: لفظ العارية في الأثمان قرض، وقال في المغني والشرح: وإن استعارهما للنفقة فقرض" (¬2). وفي قواعد ابن رجب: "لو أعاره شيئا وشرط عليه العوض فهل يصح أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يصح ويكون كناية عن القرض ... وفي التلخيص إذا أعاره عبده على أن يعيره الآخر فرسه فهي إجارة فاسدة غير مضمونة فهذا رجوع إلى أنها كناية في عقد آخر والفساد إما أن يكون لاشتراط عقد في عقد آخر، وإما لعدم تقدير المنفعتين" (¬3). فصارت العارية وإن كانت صريحة في بابها إلا أنها في غير بابها تكون من الكنايات إذا لم يصح حملها على موضوعها، فصارت مرة كناية عن القرض، ومرة كناية في عقد الإجارة. وفي المنثور في القواعد الفقهية: "قال: أعرتك حماري لتعير لي فرسك ¬
فإجارة فاسدة غير مضمونة، وهذا تصريح بأن الإعارة كناية في عقد الإجارة، والفساد جاء من اشتراط العارية في العقد" (¬1). وإذا كانت الإعارة كناية في غير بابها، فإن القرض إذا استعمل في غير بابه كان كناية في العارية. فإذا قال: أقرضتك هذا الثوب تلبسه يومًا واحدًا، أو أقرضتك هذه الدار تسكنها سنة، فالقرض صريح في باب القرض، لكنه إذا لم يجد نفاذًا في موضوعه كان كناية في غيره، فيكون هنا كناية في العارية، فدل على قبول العارية ألفاظ الكناية (¬2). القول الثاني: ذهب بعض الشافعية إلى أنه لا كناية للعارية لفظًا (¬3). ذكره في تحفة المحتاج، ولم يقبله، جاء فيه: "ظاهر كلامهم أن هذه الألفاظ كلها ونحوها صرائح، وأنه لا كناية للعارية لفظًا وفيه وقفة، ولو قيل: إن نحو خذه، أو ارتفق به كناية -يعني في العارية- لم يبعد ولا يضر صلاحية خذه للكناية في غير ذلك" (¬4). وهذا هو المتعين، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع في تعليق الإعارة وإضافتها إلى المستقبل
الفصل الرابع في تعليق الإعارة وإضافتها إلى المستقبل [م - 2097] اختلف الفقهاء في جواز تعليق الإعارة وإضافتها للمستقبل. تعريف التعليق: ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى بأداة من أدوات الشرط (¬1). مثال التعليق أن تقول: إذا جاء غدًا فقد أعرتك، ومثال الإضافة أن تقول: أعيرك إياها غدًا. والفرق بين التعليق والإضافة: تعليق العارية بالشرط: هو ربط حصول العارية بواقعة تحتمل الحدوث في المستقبل، كأن يقول: إذا قدم زيد فقد أعرتك سيارتي، أو إذا ملكت هذه الأرض فقد أعرتك إياها لتزرعها (¬2). فالصيغة المعلقة على شرط لا تنشيء العارية إلا بعد تحقق هذا الشرط. ويختلف تعليق العارية بالشرط عن إضافتها إلى الزمن المستقبل: فتعليق العارية: تعليق إنشاء العارية على حصول أمر آخر، فإن حصل انعقدت العارية، وإن لم يحصل فالعارية لم تنعقد أصلًا، كأن يقول: إن رضي شريكي فقد أعرتك، فقبل رضا الشريك لم تنعقد العارية. ¬
وأما إضافة العارية إلى المستقبل، فالعارية تنعقد في الحال، وأثرها لا يوجد إلا في الوقت الذي أضيفت إليه، كأن يقول: سيارتي عارية بعد شهر، فالنص ليس فيه تعليق، فالعارية منعقدة في الحال، وتنفيذ العارية يتأخر إلى الوقت الذي أضيف إليه. وقد اختلف العلماء في العارية هل تقبل التعليق والإضافة إلى المستقبل أو لا؟ والخلاف فيها كالخلاف في الهبة، منعًا وجوازًا، لأن العارية تبرع بالمنفعة، لهذا سيخرج الخلاف في العارية على الخلاف في الهبة إذا لم نجد نصًّا في العارية. إذا علم ذلك نقول اختلف العلماء في صحة تعليق العارية وإضافتها إلى المستقبل على أقوال: القول الأول: لا يجوز إضافة العارية، ولا تعليقها، وهو مذهب الحنفية، والحنابلة (¬1). واستثنى الحنفية والشافعية التعليق الصوري، بأن كان المعلق عليه محققًا وقت التكلم كما لو قال: إن كان هذا الشيء ملكي فقد أعرته لك، وهو في الواقع ملكه؛ لأن هذه في الحقيقة صيغة منجزة في صورة معلقة. ولأن هذا تصريح بمقتضى العقد، فإن الإنسان لا يهب إلا ما يملك، فذكره من باب التوكيد. واستثنى الشافعية التعليق بصورة: أعرتك إن شئت. ¬
واستثنى الحنابلة ما إذا علق الإيجاب على مشيئة الله، كما لو قال: أعرتك إن شاء الله. وقد ذكرت هذه الصورة في تعليق عقد البيع. القول الثاني: تصح إضافة العارية دون تعليقها، وهو قول في مذهب الحنفية (¬1). جاء في حاشية ابن عابدين: "تبطل إضافة الإعارة، بأن قال: إذا جاء غد فقد أعرتك؛ لأنها تمليك المنفعة، وقيل تجوز، ولو قال أعرتك غدًا تصح" (¬2). فالمثال الأول: تعليق، لهذا أبطله، والمثال الثاني: إضافة، لهذا صححه. القول الثالث: صحة تعليق العارية، وهو قول في مذهب الحنفية، ويمكن تخريجه على صحة تعليق الوقف عند المالكية؛ لأن الوقف من عقود الهبات خاصة إذا كان على معين، ولهذا لم يشترط فيه البر، وقال بعض الشافعية بصحة تعليق الإعارة، وصحح الحارثي وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة تعليق الهبة وإضافتها إلى المستقبل، وإذا صح ذلك في الهبة صح في العارية، لأن كلًّا منهما تمليك بلا عوض، إلا أن الهبة في الأعيان والعارية في المنافع، وهذا لا يشكل فرقًا (¬3). ¬
ولأن الذين منعوا من التعليق في عقود المعاوضات فلأن العقد يكون دائرًا بين الوجود والعدم، وهذا يوقع في الغرر، والمالكية يجيزون الغرر في عقود التبرعات، كما سبق بحثه في عقد الهبة، فكان مقتضى مذهبهم جواز التعليق في عقود التبرعات. جاء في حاشية ابن عابدين نقلًا من جامع الفصولين: "قال: إذا جاء غد فقد أعرتك تبطل؛ لأنها تمليك المنفعة، وقيل: تجوز كالإجارة، وقيل: تبطل الإجارة. ولو قال: أعرتك غدًا تصح العارية" (¬1). وجاء في مغني المحتاج: "يجوز تعليق الإعارة، وتأخير القبول، ففي الروضة وأصلها: أنه لو رهنه أرضًا، وأذن له في غراسها بعد شهر، فهي بعد الشهر عارية، غرس أم لا، وقبله أمانة حتى لو غرس قبله قلع" (¬2). والمثال يصح على صحة إضافة الإعارة، لا تعليقها، نعم يصح تعليقًا لو قال: إذا دخل الشهر فقد أذنت لك في غراسها، والله أعلم. وفي أسنى المطالب: "هل يصح تعليق الإباحة؟ قال الروياني في آخر كتاب الوكالة من البحر، لو قال: إذا جاء رأس الشهر فقد أبحت لك، فيه وجهان: قال الزركشي في قواعده: ويشبه ترجيح الجواز؛ إذ لا تمليك فيها. اهـ بل هو الأصح" (¬3). ¬
القول الرابع: تصح العارية، ويبطل الشرط بناء على أن الشروط الفاسدة لا تبطل العقد، وهو قول في مذهب الحنابلة في عقد الهبة (¬1). وقد سبق أن ناقشت تعليق العقود، سواء منها ما كان من عقود المعاوضات كالبيع والإجارة أو كان من عقود التبرع كالوقف والوصية والهبة، وذكرنا أدلة المسألة هنالك فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، ولله الحمد. ¬
الباب الثاني في شروط الإعارة
الباب الثاني في شروط الإعارة الفصل الأول في شروط المعير الشرط الأول أن يكون المعير ممن يصح تبرعه [م - 2098] العارية: تبرع بالمنفعة، فمن صح تبرعه صحت إعارته، ومن لا يصح تبرعه لم تصح الإعارة منه. وبعضهم يعبر عن ذلك بقوله: أن يكون المعير جائز التصرف، والتبرع نوع من التصرف، فمن منع من التصرف فقد منع من التبرع. قال ابن قدامة: "ولا تصح العارية إلا من جائز التصرف" (¬1). ولأن الممنوع من التصرف إما ممنوع منه؛ لأنه غير مأذون له فيه، كإعارة الولي والوصي وناظر الوقف. أو ممنوع من التصرف لانعدام الأهلية، كتصرف المحجور عليه من صبي وسفيه. والعقل والبلوغ والحرية هي صفات الأهلية الكاملة للتبرع. ¬
جاء في حاشيتي قليوبي وعميرة: "شرط المعير صحة تبرعه؛ لأن الإعارة تبرع بإباحة المنفعة" (¬1). وفي كشاف القناع: "ويعتبر أيضًا كون المعير أهلًا للتبرع شرعًا، لأن الإعارة نوع من التبرع؛ لأنها إباحة منفعة" (¬2). ولا يوجد خلاف على اعتبار هذا الشرط في الجملة، وإنما الخلاف في بعض الأشخاص هل هو ممن يصح تبرعه، أو لا؟ فالمجنون والصبي غير المميز لا يصح تبرعهما قولًا واحدًا. قال الكاساني: "لا تصح الإعارة من المجنون والصبي الذي لا يعقل" (¬3). ولأن المجنون والصبي الذي لا يعقل محجور عليه، لا تصح تصرفاته في ماله، وعبارته ملغاة. ولا قصد له صحيح، ومن شروط التبرع أن يكون جائز التصرف. قال ابن قدامة: "ولا تصح العارية إلا من جائز التصرف" (¬4). ولأن التبرع ضرر محض، لا يقابله نفع دنيوي، فلا يملكه المجنون، ولا فاقد التمييز. [م - 2099] واختلفوا في الصبي المميز، هل تصح إعارته؟ على قولين: ¬
القول الأول: تصح الإعارة من الصبي المأذون له، وهذا مذهب الحنفية (¬1). ° وجه القول بالجواز: قال الكاساني: "وأما البلوغ فليس بشرط عندنا حتى تصح الإعارة من الصبي المأذون؛ لأنها من توابع التجارة، وأنه يملك التجارة، فيملك ما هو من توابعها" (¬2). ويناقش: بأن الإعارة تبرع، والولي لا يملك التبرع من مال الصبي فلم يكن داخلًا في الإذن فيها، وقد منعتم القرض من الصبي المميز، ولو كان مأذونًا له فيه؛ وعللتم ذلك بأن الولي لا يملك التبرع. جاء في بدائع الصنائع وهو يتكلم عن شروط القرض: "وأما الذي يرجع إلى المقرض فهو أهليته للتبرع فلا يملكه من لا يملك التبرع من الأب والوصي والصبي ... لأن القرض للمال تبرع، ألا ترى أنه لا يقابله عوض للحال، فكان تبرعًا للحال، فلا يجوز إلا ممن يجوز منه التبرع، وهؤلاء ليسوا من أهل التبرع" (¬3). وإذا كان كذلك فالعارية من جنس القرض؛ إلا أنه إقراض للمنافع، ولهذا ¬
سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - القرض منيحة، فقال: (أو منيحة ذهب أو منيحة ورق)، فأطلق على القرض ما يطلق على العارية. وقد سبق تخريجه في عقد القرض عند الكلام على مشروعية القرض. القول الثاني: اتفق المالكية والحنابلة والشافعية في أن إعارة الصبي المميز لا تصح وإن كان مأذونًا له، وإن اختلفوا في بيعه إذا كان مأذونًا له بالبيع حيث منعه الشافعية، وصححه المالكية والحنابلة كما سبق بيان ذلك في عقد البيع (¬1). جاء في شرح الخرشي: "مالك المنفعة بلا حجر يصح منه الإعارة ... وقوله (بلا حجر شرعي) كالصبي والعبد، ولو مأذونًا له في التجارة؛ لأنه إنما أذن له في التصرف بالأعواض ولم يؤذن له في نحو العارية" (¬2). فقوله: (كالصبي) مطلق، فيشمل المميز وغيره، والمأذون له وغيره. وفي المهذب للشيرازي: "ولا تصح الإعارة إلا من جائز التصرف في المال، فأما من لا يملك التصرف في المال كالصبي والسفيه فلا تصح منه لأنه تصرف في المال، فلا يملكه الصبي والسفيه كالبيع" (¬3). وقال ابن قدامة: "فأما الهبة من الصبي لغيره فلا تصح، سواء أذن فيها ¬
الولي، أو لم يأذن؛ لأنه محجور عليه لحظ نفسه، فلم يصح تبرعه كالسفيه" (¬1). والعارية هبة إلا أنها من هبات المنافع لا الأعيان. ° وجه القول بعدم الجواز: أن الإذن من الولي إنما هو في التصرف في البيع، امتحانًا لمعرفة رشد الصبي، وهذا يملكه الولي عند المالكية والحنابلة؛ ولأن الولي يملك بيع مال الصبي، فيملك الإذن للصبي فيه، ولا يملك الولي التبرع من مال الصبي، فلا يملك الإذن فيه. ولأن الإعارة تصرف لا يقابله عوض، فالمحجور عليه ممنوع منه؛ لأنه ضرر محض، ووليه لا يملك التبرع من مال المحجور عليه، ومن لا يملك الشيء لم يملك الإذن فيه. ¬
مبحث في إعارة المحجور علية للغير
مبحث في إعارة المحجور علية للغير [م - 2100] المحجور عليه للغير: هو الذي أحاط الدين بجميع ماله، فإذا أحاط الدين بمال المدين وطلب الغرماء الحجو عليه وجب على القاضي الحكم بتفليسه، وهذا مذهب الجمهور، وبه قال صاحبا أبي حنيفة خلافًا لإمامهما. والكلام في إعارة المحجور عليه لفلس كالكلام في هبته سواء؛ لأن التبرع إن كان لتمليك العين والمنفعة سمي هبة اصطلاحًا، وإن كان التبرع لتمليك المنفعة دون العين سمي عارية، وكلاهما تصرف قائم على التبرع. إذا علم ذلك نقول: إذا حجر عليه تعلق حق الغرماء بالمال نظير تعلق حق الراهن بالمرهون، فإذا تصرف في ماله بعد الحجر فإن كان تصرفًا نافعًا للغرماء كقبول التبرعات والصدقات فهذه لا يمنع منها. وإن كان تصرفه ضارًّا بالغرماء كالهبة والعارية، والوقف، والإبراء فقد اختلف العلماء فيها على قولين: القول الأول: أنها لا تصح منه، وهذا قول الجمهور. القول الثاني: يقع التصرف صحيحًا موقوفًا على موافقة رب الدين، وهذا مذهب المالكية، وقول عند الشافعية في مقابل الأظهر عندهم. وقال الخطيب: "قضية كلامهم أن المفلس لا يعير العين. قال الإسنوي:
والمتجه جوازه إذا لم يكن في الإعارة تعطيل للنداء عليها، كإعارة الدار يومًا. وهو ظاهر كما قاله بعض المتأخرين إذا لم تكن المنفعة تقابل بأجرة، وإلا فيمتنع" (¬1). وسوف نتكلم على هذه المسألة بأدلتها إن شاء الله تعالى في باب الحجر، فانظرها هناك. ¬
الشرط الثاني أن يكون المعير مالكا أو مأذونا له بالإعارة
الشرط الثاني أن يكون المعير مالكًا أو مأذونًا له بالإعارة [م - 2101] لا يذكر الفقهاء أحيانًا كل شروط المعير اكتفاء بذكرها في شروط الواهب في عقد الهبة، باعتبار أن الإعارة هبة للمنفعة، لهذا إذا لم أجد نصًّا في الإعارة فسوف أستعين بالنصوص المتوفرة في عقد الهبة. إذا علم ذلك نقول: يشترط في المعير أن يكون مالكًا لمنفعة العين المعارة، أو مأذونًا له بذلك؛ لأن الإعارة من جنس الهبة إلا أنهي من قبيل هبات المنافع، ومن شرط الهبة صحة الملك (¬1). قال القرافي في الذخيرة: "العارية تبرع" (¬2). وفي كشاف القناع: "الإعارة نوع من التبرع لأنها إباحة منفعة" (¬3). قال ابن نجيم: "لا تصح هبة المجنون ... وغير المالك" (¬4). وفي الفتاوى الهندية: "وأما ما يرجع إلى الواهب فهو أن يكون من أهل الهبة، وكونه من أهلها أن يكون حرًّا عاقلًا ... مالكًا للموهوب" (¬5). ولما كان ¬
الموهوب هو المنفعة، فالمشترط أن يكون مالكًا للمنفعة، ولو لم يملك العين، كالمستأجر يهب منفعة العين المستأجرة مدة العقد. وقال ابن رشد: "وأما المعير فلا يعتبر فيه إلا كونه مالكًا للعارية إما لرقبتها، وإما لمنفعتها" (¬1). وجاء في أسنى المطالب: "ويشترط فيه ملكه المنفعة، ولو بوصية، أو وقف، وإن لم يملك العين؛ لأن الإعارة ترد على المنفعة دون العين" (¬2). وفي كشاف القناع: "ويعتبر أيضًا كون المعير أهلا للتبرع شرعًا؛ لأن الإعارة نوع من التبرع لأنها إباحة منفعة فلا يعير مكاتب ولا ناظر وقف، ولا ولي يتيم من ماله" (¬3). ¬
المبحث الأول في إعارة الفضولي
المبحث الأول في إعارة الفضولي الفضولي: يتصرف لما يظنه مصلحة للمالك، سواء في عقود المعاوضات، أو في غيرها من التصرفات كالتبرعات، فإن تصرف لمصلحته هو فهو غاصب، وقد كشفت عن ذلك في عقد البيع عند الكلام عن بيع الفضولي فارجع إليه إن شئت. وجمهور الفقهاء يرون الخلاف في إعارة الفضولي كالخلاف في بيع الفضولي، ولهذا كثير من الفقهاء يبحثون أحكام الفضولي تحت عنوان تصرف الفضولي ليدخل في ذلك بيعه وشراؤه، وهبته، وصدقته، ووقفه، وإعارته خلافًا للمالكية الذين فرقوا بين بيع الفضولي وبين تبرعه كهبته وإعارته، ووقفه ونحو ذلك. وقد سبق لنا تحرير الخلاف في هبة الفضولي والإعارة من جنس الهبة، إلا أنها هبة منفعة، لذا لن يختلف كلام الفقهاء في إعارة الفضولي عنه في هبته. قال العدوي في حاشيته: "إعارة الفضولي ملك الغير باطلة كهبته، ووقفه، وسائر ما أخرجه على غير عوض" (¬1). إذا علم ذلك نقول: [م - 2102] اختلف العلماء في إعارة الفضولي على قولين: ¬
القول الأول: أن إعارة الفضولي كبيعه، موقوف على إجازة المالك، فإن أجازها نفذ، وإن ردها بطلت، وهذا مذهب الحنفية، وقول عند المالكية، والقديم من قولي الشافعي، ورواية عن أحمد، وبه قال ابن حزم (¬1). جاء في حاشية الدسوقي "ذكر بعضهم أن وقفه وصدقته وعتقه كبيعه في أن كلًّا صحيح غير لازم، فإن أمضاه المالك مضى، وإن رده رده، واختاره شيخنا العدوي؛ لأن المالك إذا أجازه كان في الحقيقة صادرًا عنه" (¬2). القول الثاني: الفرق بين بيع الفضولي وبين تبرعه من إعارة وهبة، وصدقة، ووقف، فيصح البيع موقوفًا على إجازة المالك، ولا يصح تبرع الفضولي. وهذا مذهب المالكية (¬3). جاء في حاشية الدسوقي: "خرج بقوله (مالك) الفضولي، فإعارته لملك الغير غير صحيحة: أي غير منعقدة كهبته، ووقفه، وسائر ما أخرجه بغير عوض، أما ما أخرجه بعوض كبيعه فإنه صحيح منعقد لكن يتوقف لزومه على رضا مالكه" (¬4). ¬
° وجه التفريق بين التبرع والمعاوضة: أن المعاوضة تمليك بعوض فصحت موقوفة على إجازة المالك، أما التبرع، ومنه الإعارة فالتمليك فيها بلا مقابل لهذا بطلت. القول الثالث: أن هبة الفضولي كبيعه باطلة، وهو قول الشافعي في الجديد، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقد ذكرنا أدلة المسألة في عقد البيع عند الكلام على بيع الفضولي فقد جمعت أدلتهم هناك، وتمت مناقشتها، فأغنى ذلك عن ذكرها هنا، ولله الحمد. ¬
المبحث الثاني في إعارة الولي والوصي ونحوهما من مال الصغير
المبحث الثاني في إعارة الولي والوصي ونحوهما من مال الصغير إذا كانت حقيقة العارية هي تبرعًا بالمنفعة، واشترط في المعير أن يكون أهلًا للتبرع، فهل يتمتع الأب والوصي بهذه الأهلية في مال الصغير فتصح منهما إعارة مال الصغير لأجنبي، أو يقال: إن تصرفهما مقيد بالمصلحة، ولا مصلحة بالتبرع؟ [م - 2103] وللجواب على ذلك نقول: إن كانت العارية بعوض، فهي إجارة، وقد تكلمت في عقد الوصية عن حق الأب والوصي في تأجير مال الصغير، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. [م - 2104] وإن كانت العارية بلا عوض، فهي تبرع بالمنفعة، وقد اختلف العلماء في حق الأب والوصي في التبرع بمال الصغير على قولين: القول الأول: لا يملك الأب ولا الوصي التبرع بإعارة مال الصغير للغير، وهو مذهب الجمهور وأحد القولين في مذهب الحنفية (¬1). ¬
جاء في حاشية ابن عابدين: "ليس للأب إعارة مال طفله لعدم البدل وكذا القاضي والوصي" (¬1). وقال ابن نجيم: "واختلفوا في إعارة الأب مال ولده الصغير، وفي الصحيح لا" (¬2). وجاء في روضة الطالبين نقلًا عن صاحب العدة: "ليس للأب أن يعير ولده الصغير لمن يخدمه؛ لأن ذلك هبة لمنافعه، فأشبه إعارة ماله. وهذا الذي قاله ينبغي أن يحمل على خدمة تقابل أجرة، أما ما كان محقرًا بحيث لا يقابل بأجرة فالظاهر الذي يقتضيه أفعال السلف أنه لا منع منه إذا لم يضر بالصبي" (¬3). وفي نهاية المحتاج: "ولا تجوز مطلقًا إعارة الإمام أموال بيت المال كالولي في مال طفله" (¬4). وفي كشاف القناع: "ويعتبر أيضًا كون المعير أهلا للتبرع شرعًا؛ لأن الإعارة نوع من التبرع لأنها إباحة منفعة فلا يعير مكاتب، ولا ناظر وقف، ولا ولي يتيم من ماله" (¬5). القول الثاني: اختار بعض المتأخرين من الحنفية أن للأب أن يعير مال ولده الصغير. جاء في المحيط البرهاني: "ذكر شمس الأئمة الحلواني في أول شرح ¬
الوكالة: أن للأب أن يعير ولده الصغير، وذكر شمس الأئمة الحلواني، وهل له أن يعير مال ولده الصغير؟ بعض المتأخرين من مشايخنا قالوا: له ذلك، وعامة المشايخ على أنه ليس له ذلك" (¬1). ولعلهم قاسوا إعارة ماله على جواز إعارة الولد، وفيه نظر، وإنما جوز الحنفية إعارة الولد لما فيه من مصلحة الولد، كإعارة الولد للمعلم ليتعلم منه، وإعارة الولد للحرفي ليتعلم منه حرفة وصنعة، ويؤيده قصة أنس وخدمته للرسول - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح. قال ابن عابدين نقلًا من جامع الفصولين: "للأب أن يعير ولده الصغير ليخدم أستاذه لتعليم الحرفة وللأب أو الجد أو الوصي استعماله بلا عوض بطريق التهذيب والرياضة" (¬2). القول الثالث: ذهب بعض الحنابلة إلى أن إعارة مال الصغير كإقراضه. جاء في مطالب أولي النهى: "قالوا بجواز إعارة مال اليتيم إذا كان لمصلحته، أو لدفع مضرة عنه" (¬3). قال في الفروع: "يعتبر كون المعير أهلًا لنتبرع شرعًا، وأهلية مستعير للتبرع له، ويتوجه في مال صغير كقرضه" (¬4). ¬
وقد تقدم لنا أن الحنابلة في إقراض مال الصغير ينظرون إلى الباعث على العقد، فإن كان الحامل على إقراض مال الصغير الإرفاق بالمقترض فهذا غير جائز، وإن كان الحامل عليه مصلحة الصغير جاز إقراضه. والعارية مثله، فإن كان الباعث على إعارة مال الصغير الخوف على مال الصغير من الاعتداء، وأراد من إعارته وضعه في يد رجل أمين قادر على حفظه كانت إعارته إرفاقًا بالصغير، وليس بالمستعير، فتكون إعارته جائزة، إلا فلا. جاء في المغني: "فأما إقراض مال اليتيم فإذا لم يكن فيه حظ له لم يجز قرضه ... قال أحمد: لا يقرض مال اليتيم لأحد يريد مكافأته ومودته، ويقرض على النظر والشفقة كما صنع ابن عمر ... وقيل لأحمد: إن عمر استقرض مال اليتيم؟ قال: إنما استقرض نظرًا لليتيم واحتياطًا إن أصابه بشيء غرمه. قال القاضي: ومعنى الحظ أن يكون لليتيم مال في بلده، فيريد نقله إلى بلد آخر، فيقرضه من رجل في ذلك البلد ليقضيه بدله في بلده، يقصد بذلك حفظه من الغرر في نقله، أو يخاف عليه الهلاك من نهب، أو غرق، أو نحوهما، أو يكون مما يتلف بتطاول مدته، أو حديثه خير من قديمه، كالحنطة ونحوها، فيقرضه خوفًا من أن يسوس، أو تنقص قيمته، وأشباه هذا فيجوز القرض؛ لأنه مما لليتيم فيه حظ فجاز كالتجارة به. وإن لم يكن فيه حظ وإنما قصد إرفاق المقترض، وقضاء حاجته فهذا غير جائز؛ لأنه تبرع بمال اليتيم، فلم يجز كهبته" (¬1). ¬
المبحث الثالث في إعارة المستأجر
المبحث الثالث في إعارة المستأجر [م - 2105] من شروط المعير أن يكون مالكًا للمنفعة المعارة، والمستأجر يملك منفعة العين المستأجرة، فهل يجوز له إعارتها؟ فإن اشترط المؤجر على المستأجر ألا تخرج العين من يده إلى غيره لم يملك المستأجر إعارة ما استأجره وفاء للشرط. وإن كان عقد الإجارة مطلقًا، فإن المستأجر يملك بعقد الإجارة منفعة العين المستأجرة مدة الإجارة، ومن ملك شيئًا ملك التصرف فيه. وإذا كان جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية، والشافعية، والمعتمد عند الحنابلة قد أجازوا للمستأجر تأجير العين المستأجرة، فجواز إعارتها من باب أولى (¬1). ¬
قال ابن نجيم: "وأما المستأجر فيؤجر ويعير ما لا يختلف باختلاف المستعمل" (¬1). وجاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "لا يشترط أن يكون المعير مالكًا لرقبة المستعير، ويكفي في صحة الإعارة أن يكون المعير مالكًا لمنفعته، وعليه فكما أن للمستأجر أن يعير آخر المأجور الذي لا يختلف باختلاف المستعملين، فللمستعير أيضًا على ما جاء في المادتين 819، 820 أن يعير المستعار لآخر" (¬2). جاء في مواهب الجليل: "وتصح -يعني العارية- من كل مالك للمنفعة، وإن كان ملكه لها بإجارة، أو عارية، ما لم يحجر عليه ذلك" (¬3). وقال النووي في الروضة: "يجوز للمستأجر أن يعير؛ لأنه يملك المنفعة" (¬4). ¬
وفي الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع في ذكره شروط المعير: "أن يكون مالكًا لمنفعة المعار، وإن لم يكن مالكا للعين؛ لأن الإعارة إنما ترد على المنفعة دون العين، فتصح من مكتر لا من مستعير؛ لأنه غير مالك للمنفعة، وإنما أبيح له الانتفاع فلا يملك نقل الإباحة" (¬1). وقال ابن مفلح في الفروع: "وله -يعني المستأجر- الإعارة لقائم مقامه" (¬2). وفي كشاف القناع: "وللمستأجر استيفاء المنفعة بنفسه وبمثله بإعارة أو غيرها؛ لأنه ملك المنفعة بالعقد، فكان له التسلط على استيفائها بنفسه ونائبه" (¬3). ¬
المبحث الرابع في إعارة المستعير
المبحث الرابع في إعارة المستعير [م - 2106] إن أعار المستعير العين بإذن المعير صحت بلا خلاف، لأنه لو أذن له في بيعها لجاز فكذا إعارتها (¬1). وإن أعارها بدون إذن المعير، فهل يملك ذلك؟ اختلف العلماء على قولين: القول الأول: يملك المستعير إعارة العين المستعارة كالمستأجر، وهذا هو المختار من مذهب الحنفية، والمذهب عند المالكية، وفي مقابل الأصح عند الشافعية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬2). جاء في تبيين الحقائق: "يعير المستعير العارية مما لا يختلف باختلاف المستعمل" (¬3). ¬
جاء في مواهب الجليل: "وتصح -يعني العارية- من كل مالك للمنفعة، وإن كان ملكه لها بإجارة، أو عارية، ما لم يحجر عليه ذلك" (¬1). وقال الماوردي في الحاوي: "في جواز إعارتها وجهان: أحدهما: يجوز أن يعير كما يجوز للمستأجر أن يؤجر. والوجه الثاني: لا يجوز أن يعير وهو الصحيح؛ لأنه مخصوص بإباحة المنفعة فلم يجز أن يبيحها لغيره كما لو أبيح أكل لم يجز أن يبيحه لغيره" (¬2). وجاء في الشرح الكبير على المقنع: "وليس للمستعير أن يعير، وهذا أحد الوجهين ... وفي الآخر له ذلك، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه يملكه على حسب ما ملكه، فجاز كإجارة المستأجر" (¬3). القول الثاني: لا يملك المستعير إعارة ما استعاره، اختاره بعض الحنفية، وهو الأصح في مذهب الشافعية، ومذهب الحنابلة" (¬4). جاء في أسنى المطالب "تصح الإعارة من المستأجر؛ لأنه مالك المنفعة لا من المستعير؛ لأنه غير مالك لها" (¬5). وقال النووي في الروضة: "وليس للمستعير أن يعير على الصحيح ولكن له أن ¬
يستوفي المنفعة لنفسه بوكيله" (¬1). وقال الشيرازي: "وللمستعير أن يستوفي المنافع بوكيله ... وهل له أن يعير؟ فيه وجهان: أظهرهما المنع؛ لأن الإذن مخصوص به، فهو كالضيف" (¬2). جاء في كشاف القناع: "المستعير لا يملك الإعارة ولا الإجارة ... لأنه لا يملك المنفعة بل الانتفاع" (¬3). ° سبب الخلاف في المسألة: يرجع الخلاف في المسألة إلى أن المستعير هل يملك المنفعة، أو يملك الانتفاع؟ فتمليك الانتفاع: حق شخصي يباشره صاحبه بنفسه فقط، وليس له أن يمكن غيره من تلك المنفعة، فالنكاح مثلًا من باب تمليك الانتفاع لا تمليك المنفعة؛ إذ ليس له أن يمكن غيره من تلك المنفعة. ومثله حق الجلوس في الطرقات والمساجد وإجراء الماء في أرض غيره إن احتاج إليه دون الإضرار به. وتمليك المنفعة: أعم وأشمل، فهو يعطي صاحبه حق التصرف في المنفعة تصرف الملاك في أملاكهم ضمن حدود العقد الذي ملك به المنفعة، فيحق له تمليك المنفعة التي ملكها لغيره بأجرة، أو هبة، أو عارية، ولا يقيد في تصرفه إلا بشيء واحد، وهو المماثلة لما ملكه من المنفعة في وجه الانتفاع. ¬
فمن اشترى كتابًا مثلًا فهو قد ملك الانتفاع بهذا الكتاب فقط (الوعاء المادي أصالة، وما قد تضمنه تبعًا) ولم يملك منفعته (مادة الكتاب)، ولهذا لو تلف الكتاب الذي اشتراه ليس له الحق في نسخة أخرى؛ لأن حقه تعلق في هذا الغلاف بعينه، وبه يتبين أن عقد الشراء لم يقع في الأصل على جوهر الحق الذي هو ملك للمؤلف، وإنما وقع العقد على نسخة من الكتاب ينتفع بها قراءة، وهبة، ولم ينتزع حق تلك الأفكار من مبدعها الذي لا تزال تنسب إليه شرعًا، ولم يجعل المشتري من نفسه بدلًا من المؤلف أو المبتكر، فليس للمشتري الحق في غير النسخة التي اشتراها، وليس له أن ينسخ عليها نسخًا أخرى، وهذا واضح بين. وإذا طبقنا هذا على العارية، فأرى أن المعير قد بذل ماله للمستعير بلا مقابل، فكانت عينه مقصودة في بذل هذا المال، وإذا دار الأمر، هل العارية ملك للمنفعة، أو ملك للانتفاع فقط، فإننا نحمل الأمر على أدناهما احتياطًا للملكية، كما أن الأمر إذا احتمل العارية والهبة حملناه على العارية؛ لأنها أدنى الأمرين، وهي المتيقن. والله أعلم (¬1). ¬
الشرط الثالث أن يكون المعير راضيا مختارا
الشرط الثالث أن يكون المعير راضيًا مختارًا [م - 2107] يشترط في المعير ألا يكون مكرهًا على الإعارة؛ لأن الإعارة عقد من عقود التبرع، وشرط صحة التبرع الرضا. قال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه (¬1). وحرمة مال المسلم من الضرورات الخمس المجمع على تحريمها (¬2). جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام في بيان شروط صحة الإعارة: "كون المعير غير مكره، كما يشترط ذلك في كل عقد كالبيع، والإجارة، والإيداع" (¬3). وقال أيضًا: "إذا كان المعير مكرهًا فلا تكون الإعارة صحيحة، ويكون المستعير غاصبًا" (¬4). وقال الونشريسي: "المكره لا يلزمه شيء من العقود" (¬5). وفي الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: "أن يكون مختارًا فلا تصح من مكره" (¬6). ¬
وقال ابن القيم: "من تدبر مصادر الشرع وموارده تبين له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها، بل جرت على غير قصد منه كالنائم، والناسي، والسكران، والجاهل، والمكره، والمخطيء" (¬1). فإن كان الإكراه بحق صحت الإعارة، قال في إعانة الطالبين: "لو أكره على إعارة واجبة عليه، فتصح" (¬2). ¬
الفصل الثاني في شروط المستعير
الفصل الثاني في شروط المستعير الشرط الأول في اشتراط الأهلية في المستعير المبحث الأول في حكم استعارة الصبي والمجنون [م - 2108] يشترط في المستعير أهلية القبول لملك المنفعة. ويدخل تحت هذا الشرط مسألتان: الأولى: حكم استعارة الصبي والمجنون. والثاني: حكم إعارة المسلم والمصحف للذمي. فأما المسألة الأولى: وهو كون المستعير صبيًّا أو مجنونًا: فقد جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "يشترط في صحة الإعارة كون المعير والمستعير عاقلين" (¬1). وفي القوانين الفقهية: "المستعير، وهو من كان أهلًا للتبرع عليه" (¬2). ¬
وقال الغزالي: "الثاني: المستعير: ولا يعتبر فيه إلا أن يكون أهلًا للتبرع عليه" (¬1). وقال النووي: "المستعير: ويشترط فيه كونه أهلًا للتبرع عليه بعقد يشتمل على إيجاب وقبول بقول أو فعل، فلا تصح الإعارة للصبي كما لا يوهب له" (¬2). وجاء في الفروع لابن مفلح: "يعتبر كون المعير أهلًا للتبرع شرعًا، وأهلية المستعير للتبرع له" (¬3). وانتقد ابن عرفه قول الفقهاء يشترط في المستعير أن يكون أهلًا للتبرع عليه، بأن الكافر يملك أهلية التبرع عليه، ومع ذلك لا يصح إعارة المسلم والمصحف له، والولد من أهل التبرع، ولا يصح إعارة الوالد لولده، وفضل أن يكون التعبير أن يكون المستعير قابل ملك المنفعة (¬4). ومقصود الفقهاء بأهلية المستعير للتبرع عليه بأن يكون من أهل التملك، والصبي غير المميز، والمجنون يتمتعان بأهلية التملك دون أهلية التمليك إلا أن الولي والوصي يقومان مقامهما في القبول لهما. جاء في الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: "ويشترط في الموهوب له أن يكون فيه أهلية الملك لما يوهب له من مكلف وغيره، وغير المكلف يقبل له وليه" (¬5). ¬
والموهوب له تارة يملك العين والمنفعة، وتارة يملك المنفعة فقط، وهي العارية. فالفقهاء عندما قالوا: يشترط أن يكون أهلًا للتبرع عليه، يريدون أن يخرجوا بهذا القيد ما ليس أهلًا للتملك كما لو قصد تمليك البهيمة لا صاحبها، أو تمليك ملك من الملائكة، ونحو ذلك، ولا يريدون أن يخرجوا من ذلك الصبي والمجنون، فلا يشترط في المستعير الرشد، فتصح إعارة الصبي والمجنون والسفيه، فإن كان المستعير يتمتع بأهلية التملك والقبول باشر القبول بنفسه، كما لو كان المستعير عاقلًا مميزًا. وإن كان الموهوب له يتمتع بأهلية التملك، وليس أهلًا للقبول كالمجنون والصبي الذي لا يميز فإنه يقبل عنه وليه، ومثله الوصي والقيم، والله أعلم. [م - 2109] وتصح الاستعارة من الصبي المميز خاصة إذا كان مأذونًا له؛ لأنها نفع محض له، والحجر إنما كان نظرًا له، وفي رد الاستعارة منه ضرر عليه. قال الزيلعي: "التصرف على الصغير على ثلاثة أنوع: نوع هو نفع محض فيملكه كل من هو في يده وليًّا كان، أو لم يكن وليًّا، كقبول الهبة، والصدقة، ويملكه الصبي بنفسه إذا كان مميزًا. ونوع هو ضرر محض: كالعتاق والطلاق فلا يملكه عليه أحد. ونوع هو متردد، يحتمل أن يكون نفعًا، ويحتمل أن يكون ضررًا، وذلك مثل البيع والإجارة للاسترباح فلا يملكه إلا الأب والجد ووصيهما" (¬1). ¬
المبحث الثاني في إعارة المسلم للذمي
المبحث الثاني في إعارة المسلم للذمي [م - 2110] اختلف الفقهاء في إعارة المسلم للكافر على أقوال: القول الأول: لا يجوز إعارة المسلم للكافر للخدمة، وأما إجارته في الذمة فتجوز، وهذا مذهب المالكية، والحنابلة في المشهور، وأحد القولين في مذهب الشافعية (¬1). قال الخرشي: "المسلم لا تجوز إعارته -يعني للذمي- لما فيه من إذلال المسلم، وقد قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، فهو مثال: أي لا منفعة غير مباحة، كإعارة ذمي مسلمًا أي لمنفعته أي لخدمته الذمي؛ لأن الكلام في المنفعة غير المباحة، وأما إعارة الذمي منفعة المسلم حيث كانت غير محرمة كأن يخيط له مثلًا فينبغي فيه الجواز، كما في الإجارة" (¬2). وقال العمراني في البيان: "ولا يجوز إعارة العبد المسلم من الكافر؛ لأنه لا يجوز له استخدامه" (¬3). ¬
وقال الشيرازي: "ولا تجوز إعارة العبد المسلم من الكافر؛ لأنه لا يجوز له أن يخدمه" (¬1). وجاء في كشاف القناع: "وتحرم إعارة عبد مسلم لكافر لخدمته خاصة ... فإن أعاره أو أجره لعمل في الذمة غير الخدمة صحتا، وتقدم في الإجارة" (¬2). وانتقد الحارثي الحنبلي تخريجها على الإجارة، وقال: لا يتخرج هنا من الخلاف مثل الإجارة؛ لأن الإجارة معاوضة، فتدخل في جنس البياعات، وهنا بخلافه" (¬3). وقال ابن قدامة: "ولا تجوز إعارة العبد المسلم لكافر؛ لأنه لا يجوز تمكينه من استخدامه، فلم تجز إعارته لذلك" (¬4). القول الثاني: تكره إعارة العبد المسلم لكافر، وهذا مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬5). جاء في أسنى المطالب: "قد تجب -يعني الإعارة- كإعارة الثوب لدفع حر أو برد ... وقد تحرم كإعارة الصيد من المحرم، والأمة من الأجنبي، وقد ¬
تكره، كإعارة العبد المسلم من كافر" (¬1). وفي تحفة المحتاج: "ويكره إعارة عبد مسلم لكافر واستعارته، لأن فيها نوع امتهان، ولم تحرم خلافًا لجمع؛ لأنه ليس فيها تمليك لشيء من منافعه فليس فيها تمام استذلال، ولا استهانة" (¬2). وقال النووي في الروضة: "ويجوز إعارة العبد المسلم لكافر قطعًا" (¬3). وفي حاشية الجمل: "هذا يفيد جواز خدمة المسلم للكافر؛ لأن المتبادر من الإعارة أنه يستخدمه فيما يريده، سواء كان فيه مباشرة لخدمته كصب ماء على يديه، وتقديم نعل له، أو لغير ذلك كإرساله في حوائجه وتقدم في البيع عند الكلام على قول المصنف وشرط العاقد الرشد إلخ أنه تجوز إجارة المسلم للكافر، ويؤمر بإزالة يده عنه بأنه يؤجره لغيره، ولا يمكن من استخدامه، وهو يفيد حرمة خدمة المسلم للكافر، وعليه فقد يفرق بين الإجارة والعارية بأن الإذلال في الإجارة أقوى منه في العارية للزومها فلم يمكن مع بقاء يده عليه في الإجارة، ويجعل تحتها في العارية لاحتمال التخلص منه في كل وقت برجوع المعير لكن يرد على هذا أن في مجرد خدمة المسلم للكافر تعظيما له، وهو حرام، وقد يقال لا يلزم من جواز الإعارة جعله تحت يده، وخدمته له لجواز أن يعيره لمسلم بإذن من المالك أو يستنيب مسلما في استخدامه فيما تعود منفعته عليه فليتأمل ذلك كله، وليراجع، وفي عبارة المحلي ما يصرح بحرمة خدمته ¬
حيث قال وعلل في المهذب عدم الجواز بأنه لا يجوز أن يخدمه، وقوله: عدم الجواز أي للعارية اهـ. ع ش على م ر، وفي ق ل على الجلال. واعلم أن الخلاف في الكراهة والحرمة هو بالنسبة للعقد، وأما خدمة المسلم للكافر فحرام مطلقا سواء بعقد أو بغير عقد كما صرحوا بها في باب الجزية اهـ" (¬1). وهذه محاولة للجمع بين القولين في مذهب الشافعية، والله أعلم. القول الثالث: تصح استعارة العبد المسلم للذمي، وتباع تلك المنفعة على المستعير، وهو قول في مذهب المالكية. جاء في حاشية العدوي على كافية الطالب الرباني: "فلا تصح إعارة المسلم: أي إعارة الغلام المسلم لخدمة الذمي ... وقيل: بالصحة، وتباع تلك المنفعة على المستعير" (¬2). ولم أقف على نص للحنفية، وهل يمكن تخريجه على قولهم في صحه إيصاء الكافر على المسلم، حيث نصوا على صحته، وأن على القاضي أن يخرجه من الوصاية، ويعين بدله وصيًّا مسلمًا، ولو تصرف قبل إخراجه منه صح تصرفه، فإن أسلم لم يخرج منها؛ لزوال ما يوجب العزل؛ باعتبار أن الوصاية ولاية، فإذا صحت الولاية صحت الإعارة، ذلك أن الولاية أبلغ من الإعارة، فالإعارة عقد غير لازم بخلاف الولاية، والله أعلم، فإن صح التخريج نقول: تصح ¬
الإعارة، ويؤمر بإخراج المنفعة إلى غيره بموافقة المعير؛ لأنه يملك الانتفاع ولا يملك المنفعة، والله أعلم. جاء في العناية: "ومن أوصى إلى عبد غيره، أو كافر ذمي أو مستأمن أو حربي ... أخرجهم القاضي عن الوصية ونصب غيرهم، وهذا اللفظ وهو لفظ القدوري، يشير إلى صحة الوصية؛ لأن الإخراج يكون بعد الصحة. وذكر محمد في الصور الثلاث أن الوصية باطلة. ثم اختلف المشايخ في أنه باطل أصلًا، أو معناه: سيبطل. قال الفقيه أبو الليث: وإليه ذهب القدوري وفخر الإسلام البزدوي وعامة مشايخنا أن معناه سيبطل ... " (¬1). وجاء في البحر الرائق: "قال رحمه الله: (وإلي عبد وكافر وفاسق بدل بغيرهم): أي إذا أوصى إلى هؤلاء المذكورين أخرجهم القاضي ويستبدل غيرهم مكانهم، وأشار المصنف إلى شروط الولاية فالأول: الحرية، والثاني: الإسلام، والثالث: العدالة، فلو ولى من ذكر صح ويستبدل بغيره" (¬2). وذهب المالكية في أحد القولين إلى صحة الوصاية إلى الكافر إذا كان قريبًا كالأخ والخال ويجعل معه غيره، ويكون المال بيد المجعول معه بخلاف أباعد القرابة. وقيل: إن مالكًا رجع عنه (¬3). ¬
وجاء في الإنصاف: "ذكر المجد في شرحه: أن القاضي ذكر في تعليقه ما يدل أنه اختار صحة الوصية، نقله الحارثي" (¬1). والله أعلم. وقد تكلمت على مسألة إيصاء الكافر على المسلم في عقد الوصية، فلله الحمد، فارجع إليه إن شئت. ° الراجح: أرى جواز الإعارة في غير الخدمة ونحوها، فإن في الخدمة إذلالًا لا يليق بالمسلم. ¬
الشرط الثاني في اشتراط أن يكون المستعير معينا
الشرط الثاني في اشتراط أن يكون المستعير معينًا [م - 2111] نص الحنفية والشافعية على أنه يشترط أن يكون المستعير معينًا (¬1). جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "إذا لم يكن المستعير معينًا فلا تصح الإعارة بناء عليه، لو قال المعير خطابًا لشخصين: وقد أعرف هذا المال لأحدكما، فلا تصح الإعارة" (¬2). وجاء في تحفة المحتاج: "ويشترط تعيينه -يعني المستعير- فلو فرش بساطه لمن يجلس عليه، ولو بالقرينة كما على دكاكين البزازين بالنسبة لمريد الشراء منهم لم يكن عارية بل مجرد إباحة" (¬3). وجاء في فتوحات الوهاب: "وشرط في المستعير تعيين" وعلق على ذلك الجمل في حاشيته، فقال: " (قوله: تعيين) سكت عن هذا في المعير، وقضيته أنه لا يشترط فيه التعيين كالمعار، فلو قال لاثنين ليعرني أحدكما كذا فدفعه له من غير لفظ صح، وعليه فيمكن أن يفرق بينه وبين المستعير بأن الدفع من واحد منهما رضا بإتلاف منفعة متاعه، ويحتمل أنه كالمستعير فلا يصح والأقرب الأول" (¬4). ¬
الفصل الثالث في أحكام المعار
الفصل الثالث في أحكام المعار المبحث الأول في شروط العين المستعارة الشرط الأول أن تشتمل العين المعارة على منفعة مباحة [م - 2112] يشترط في العين المعارة أن تشتمل على منفعة مباحة، والمنفعة تشمل شيئين: الأول: الأعراض التي تقوم بالعين، كسنى الدار، وركوب المعار. الثاني: الأعيان التي تكون ثمارًا لأصولها، كما في إعارة شجر للانتفاع بثمرتها، وإعارة حيوان من أجل دره ونسله. وقولنا: أن تكون المنفعة مباحة: بأن يكون استعمال المعار مباحًا، وإن لم يكن بيعه مباحًا كالكلب، فإن الصحيح أنه لا يجوز بيعه مطلقًا معلمًا كان أو غير معلم، وتباح منفعته للحاجة كصيد وحراسة، ونحوها، وقد تكلمت عن الخلاف في بيع الكلب في عقد البيع. فكل عين تجوز إجارتها فإن إعارتها جائزة، ولا يصح العكس، فليس كل عين جازت إعارتها جازت إجارتها، فإن الكلب على الصحيح تجوز إعارته،
ولا يصح إجارته على الصحيح، والفحل تجوز إعارته للضراب، ولا تجوز إجارته للضراب على الصحيح. وقد بحثت مسألة ضراب الفحل في عقد البيع. ولا يكفي أن تكون المنفعة مباحة بذاتها، بل لا بد أن تكون المنفعة مباحة للمستعير، فلا تجوز إعارة العبد المسلم للكافر ليخدمه، وإن كانت الخدمة مباحة بذاتها، ولكنها للمستعير ليست مباحة، ولا إعارة المرأة الجميلة لرجل غير محرمها إن كان يخلو بها؛ لأنه لا يؤمن عليها، وتجوز إعارتها لامرأة، ولذي محرمها، ولا تجوز إعارة الدار لمن يشرب فيها الخمر، أو يبيعه فيها، ونحو ذلك، وإن كانت منفعة الدار مباحة. قال في الإنصاف: "وهذا التحريم لعارض" (¬1). وخرج باشتراط أن تكون المنفعة مباحة شيئان: الأول: ما لا منفعة فيه، فهذا لا تصح إعارته؛ لأن الإعارة دائرة على بذل المنفعة دون الرقبة، وما لا منفعة فيه في حكم المعدوم في باب العارية. جاء في الدر المختار: "وشرطها: قابلية المستعار للانتفاع" (¬2). وجاء في مجلة الأحكام العدلية: "يشترط أن يكون الشيء المستعار صالحًا للانتفاع به، بناء عليه لا تصح إعارة الحيوان الفار، ولا استعارته" (¬3). وجاء في الشرح الصغير: "الثالث: المستعار: وهو ذو منفعة مباحة" (¬4). ¬
وجاء في شرح منهج الطلاب: "وشرط في المعار انتفاع به بأن يستفيد المستعير منفعته، وهو الأكثر، أو عينًا منه، كما لو استعار شاة مثلًا ليأخذ درها، ونسلها، أو شجرة ليأخذ ثمرها، فلا يعار ما لا ينتفع به، كحمار زمن" (¬1). قال الجمل في حاشيته تعليقًا: "وشرط في المعار انتفاع به: أي ولو مآلا كجحش صغير إن كانت العارية مطلقة، أو مؤقتة بزمن يمكن الانتفاع به فيه" (¬2). وقال ابن قدامة: "تجوز إعارة كل عين ينتفع بها منفعة مباحة مع بقائها على الدوام، كالدور، والعقار، والعبيد، والجواري، والدواب، والثياب، والحلي للبس، والفحل للضراب، والكلب للصيد، وغير ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعار أدرعا، وذكر إعارة دلوها وفحلها. وذكر ابن مسعود عارية القدر والميزان، فيثبت الحكم في هذه الأشياء، وما عداها مقيس عليها إذا كان في معناها، ولأن ما جاز للمالك استيفاؤه من المنافع، ملك إباحته إذا لم يمنع منه مانع كالثياب، ولأنها أعيان تجوز إجارتها، فجازت إعارتها، كالثياب" (¬3). الثاني: خرج بقيد الإباحة ما فيه منفعة، ولكنها محرمة، فهذا أيضًا لا تصح إعارته؛ لأن النفع المحرم وجوده كعدمه. جاء في منح الجليل: "ومن شروط المستعار كون الانتفاع به مباحًا، فلا تعار الجواري للتمتع بها" (¬4). ¬
وفي أسنى المطالب: "المعار، وشرطه: وجود الانتفاع المباح، فلا يعار ما لا ينتفع به كحمار زمن، ولا ما ينتفع به انتفاعًا محرمًا كجارية للتمتع، وآلات اللهو" (¬1). وقال ابن قدامة: "لا تجوز إعارة العبد المسلم لكافر؛ لأنه لا يجوز تمكينه من استخدامه، فلم تجز إعارته لذلك، ولا إعارة الصيد لمحرم؛ لأنه لا يجوز له إمساكه، ولا إعارة المرأة الجميلة لرجل غير محرمها، إن كان يخلو بها، أو ينظر إليها؛ لأنه لا يؤمن عليها. وتجوز إعارتها لامرأة ولذي محرمها. ولا تجوز إعارة العين لنفع محرم، كإعارة الدار لمن يشرب فيها الخمر، أو يبيعه فيها، أو يعصي الله تعالى فيها، ولا إعارة عبده للزمر، أو ليسقيه الخمر، أو يحملها له، أو يعصرها، أو نحو ذلك" (¬2). ¬
الشرط الثاني في اشتراط تعيين المعار
الشرط الثاني في اشتراط تعيين المعار [م - 2113] جاء في مجلة الأحكام العدلية: "يلزم تعيين المستعار، وبناء عليه إذا أعار شخص إحدى دابتين بدون تعيين ولا تخيير لا تصح الإعارة، بل يلزم أن يعين المعير الدابة التي يريد إعارتها منهما، لكن إذا خيره قائلًا: خذ أيهما شئت عارية صحت العارية" (¬1). وجاء في أسنى المطالب: "لو قال: أعرني دابة، فقال: خذ إحدى دوابي صحت: أي العارية، فلا يشترط تعيين المعار عند الإعارة؛ وخالف الإجارة؛ لأنها معاوضة، والغرر لا يحتمل فيها" (¬2). ¬
الشرط الثالث في اشتراط قبض العين المعارة
الشرط الثالث في اشتراط قبض العين المعارة [م - 2114] اختلف العلماء في اشتراط القبض لثبوت العارية، وكما اختلفوا في اشتراط القبض للزوم الهبة اختلفوا في العارية، بل إن الخلاف في العارية أشد؛ لأن الذين قالوا: إن الهبة لا تلزم إلا بالقبض قد اختلفوا في العارية لسببين: أولًا: أن العارية عقد جائز، والهبة عقد لازم إذا قبضت. والثاني: اختلافهم في العارية هل هي تمليك للمنفعة، أو إباحة، فمن رأى أنها تمليك جعلها بمنزلة الهبة، ومن رأى أنها إباحة لم ير أنها تملك أصلًا. إذا علم ذلك نأتي على كلام أهل العلم في المسألة، والخلاف فيها كالتالي: القول الأول: يشترط القبض، وهو مذهب الجمهور، وقول في مقابل المشهور عند المالكية" (¬1). قال في بدائع الصنائع: "ومنها القبض من المستعير؛ لأن الإعارة عقد تبرع، فلا يفيد الحكم بنفسه بدون القبض كالهبة" (¬2). ¬
وفي مجلة الأحكام العدلية: "القبض شرط في العارية فلا حكم لها قبل القبض" (¬1). وقال الزركشي في القواعد الفقهية: "وأما العارية فيتجه أن يقال: إنها هبة للمنافع فلا تملك بدون القبض، وإن قلنا: إباحة فلا تملك كطعام الضيف" (¬2). وقال ابن رجب في القواعد: "وأما العارية فلا تملك بدون القبض، إن قيل: إنها هبة منفعة. وخرج القاضي فيها رواية أخرى أنها تملك بمجرد العقد كهبة الأعيان، وتلزم إذا كانت مؤقتة. وإن قيل: هي إباحة فلا يحصل الملك فيها بحال بل يستوفى على ملك المالك كطعام الضيف. قال الشيخ تقي الدين: التحقيق أن يقال في هذه العقود: إذا لم يحصل القبض فلا عقد، وإن كان بعض الفقهاء يقول بطل العقد فكما يقال إذا لم يقبل المخاطب بطل الإيجاب فهذا بطلان ما لم يتم لا بطلان ما تم انتهى" (¬3). القول الثاني: أن العارية تملك بمجرد القول، وهذا مذهب المالكية، وقول في مذهب الحنابلة" (¬4). ¬
وطرد المالكية ذلك في جميع الهبات على اختلاف أنواعها، كالنحلة: وهي العطية، والمنحة: هبة لبن الشاة، والعرية: هبة ثمر النخيل، والإسكان: هبة منافع الدار مدة من الزمن، والإفقار: عارية الظهر المركوب، والعدة من الوعد، والإخدام: إعطاء خادم، غلام أو جارية، والرهن، كل ذلك يلزم بمجرد القول (¬1). جاء في المدونة: "سألت مالكا عن الرجل يعير الرجل المسكن، أو يخدمه الخادم عشر سنين فيموت قبل أن يتمها؟ قال: قال مالك: ورثته مكانه. قلت: وإن لم يقبض؟ قال: وإن لم يقبض" (¬2). وجاء في منح الجليل: "قال ابن عرفة: الوفاء بالإعارة لازم، ففيها: من ألزم نفسه معروفًا لزمه ... وظاهره لزومها بمجرد القول، وهو أحد القولين، وهو المشهور" (¬3). ¬
الشرط الرابع أن يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها
الشرط الرابع أن يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها [م - 2115] يشترط في العين المعارة أن يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، كإعارة الثوب للبس، والسكين للذبح، ويدخل في ذلك أيضًا الأعيان التي ينتفع بها مع بقاء أصولها فإنها تجري مجرى المنافع وإن كانت أعيانًا مستهلكة، كثمر الشجر، ولبن الآدميات، والصوف والماء العذب، فإنه كلما خلق من هذه شيء فأخذ، خلق الله بدله مع بقاء الأصل كالمنافع سواء. (ح-1263) وقد روى البخاري في صحيحه من طريق حسان بن عطية، عن أبي كبشة السلولي. سمعت عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها، وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة (¬1). قال ابن بطال: "المنيحة هى الناقة والشاة ذات الدر تعار للبنها، ثم ترد إلى أهلها، والمنحة عند العرب كالإفقار، والعمرى، والعارية، وهي تمليك المنافع لا تمليك الرقاب، ألا ترى قوله في حديث أنس: فلما فتح الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - غنائم خيبر رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم وثمارهم. وقوله في حديث جابر: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه)، إنما يريد يهبه الانتفاع بها ولا يكريها منه بأجر، يبين ذلك قوله في حديث ابن عباس: (أما إنه لو منحها ¬
إياه لكان خيرًا له من أن يأخذ عليها أجرًا ... فدل أن المنحة غير إعطاء الرقاب؛ لأن إعطاء الرقاب قد تضمنته الزكاة، فدلت هذه الآثار على أن المنيحة التي حض النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته عليها من الأرض والثمار والأنعام، هى تمليك المنافع لا تمليك الرقاب" (¬1). وأما إعارة الطعام فلا يصح أن يكون بذله من باب الإعارة؛ ذلك أن منفعته في أكله، فلا تبقى عينه، فإذا قال: أعرتك هذا الطعام كان ذلك كناية عن قرضه؛ لأنه يأكله ويرد بدله، وهذا حقيقة القرض، وإذا قال: منحتك إياه كان هبة؛ لأن لفظ المنيحة يصح استعماله في الإعارة وفي الهبة، فإن أضافه إلى ما تبقى عينه بعد استعماله كان عارية، وإن استعمله فيما يستهلك كان هبة. جاء في الجوهرة النيرة: "ومن شرطها: أن تكون العين قابلة للانتفاع بها مع بقاء عينها، حتى لا تكون عارية الدراهم الدنانير والفلوس إلا قرضًا" (¬2). وفي تبيين الحقائق: "إذا قال: منحتك، إن كان مضافًا إلى ما يمكن الانتفاع به مع بقاء العين يكون إعارة، وإن أضاف إلى ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدراهم، والطعام يكون هبة" (¬3). وقال الخرشي: "شرط صحة العارية الانتفاع بها مع بقاء عينها" (¬4). ¬
وجاء في حاشيتي قليوبي وعميرة: "وشرط المستعار كونه منتفعًا به مع بقاء عينه" (¬1). وقال ابن مفلح في الفروع: "تجوز إعارة ذي نفع جائز ينتفع به مع بقاء عينه" (¬2). ° وجه اشتراط بقاء العين في العارية: أن الإعارة تستلزم رد العين بعد الانتفاع، وما يستهلك بالانتفاع به كالطعام لا يمكن رده فيكون قرضًا. ¬
المبحث الثاني في إعارة النقود
المبحث الثاني في إعارة النقود [م - 2116] تقدم لنا أن فقهاء الأئمة الأربعة يشترطون في العين المعارة أن يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، والسؤال: إذا أعاره نقودًا كما لو أعاره دراهم أو دنانير، فهل تصح أو لا، وإذا صحت هل تكون عارية؟ وللجواب على ذلك نقول: نص الحنفية، والشافعية، والحنابلة على أنه إن أعاره الدراهم والدنانير ليزن بها جازت إعارتها كالثياب؛ لأنه أمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، وذكرها ابن قدامة، ولم يحك فيها خلافًا، وعليه فليس للمستعير استهلاكها، والانتفاع بها بغير الصورة المعينة (¬1). وقال المرداوي: "ذكر الأزجي خلافًا في صحة إعارة دراهم ودنانير للتجمل والزينة" (¬2). وإن استعارها لينفقها فقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: تصح إعارة الدراهم والدنانير، ويكون لفظ الإعارة كناية في القرض؛ وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة في المشهور (¬3). ¬
° وجه القول بذلك: الوجه الأول: أن الإعارة إذن في الانتفاع، ولا يتأتى الانتفاع بهذه الأشياء إلا باستهلاك عينها، ولا يملك استهلاكها إلا إذا ملكها، فاقتضت تمليك عينها ضرورة، وذلك بالهبة أو بالقرض، والقرض أدناهما ضررًا لكونه يوجب رد المثل، وهو يقوم مقام العين، ولذلك حكم به في حال التلف. جاء في المبسوط: "وعارية الدراهم والدنانير والفلوس قرض؛ لأن العارية إذن في الانتفاع، ولا يتأتى الانتفاع بالنقود إلا باستهلاك عينها، فيصير مأذونًا في ذلك، وفيه طريقان: إما الهبة، أو القرض، فيثبت الأقل لكونه متيقنًا به، ولأن المستعير يلتزم رد العين بعد الانتفاع، ويتعذر هنا رد العين فيقام رد المثل مقام رد العين" (¬1). وفي التاج والإكليل نقلًا من المدونة: "من استعار عينًا، أو فلوسًا، فهو سلف مضمون، لا عارية" (¬2). الوجه الثاني: أن العبرة في العقود بمعانيها لا بألفاظها، فإذا قال: وهبت هذا الثوب بعشرة، فهذا بيع، وإن كان بلفظ الهبة، وإذا قال: أعرتك هذه النقود فهذا قرض، وإن كان بلفظ العارية، ولو قال: أعرتك هذا البيت شهرًا بكذا، كان ¬
إجارة. وقد تقدم لنا بحث مستقل في عقد البيع وبينت فيه أن المعتبر في العقود المعاني، وليس الألفاظ والمباني. القول الثاني: لا تجوز إعارة الدراهم والدنانير، وليس له أن يشتري بها شيئًا، وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). قال النووي في الروضة: "الركن الثالث: المستعار، وله شرطان، أحدهما: كونه منتفعًا به مع بقاء عينه، كالعبد والثوب ... فلا يجوز إعارة الطعام قطعًا، ولا الدراهم والدنانير على الأصح" (¬2). وفي أسنى المطالب: "ولا يعار النقدان إذ منفعة التزين بهما والضرب على طبعهما منفعة ضعيفة قلما تقصد، ومعظم منفعتهما في الإنفاق والإخراج، إلا للتزين أو الضرب على طبعهما فيما يظهر بأن صرح بإعارتهما لذلك، أو نواها فيما يظهر فتصح لاتخاذه هذه المنفعة مقصدا، وإن ضعفت" (¬3). ° دليل الشافعية على اعتبار اللفظ في العقود: الدليل الأول: قواعد مذهب الشافعية أن العبرة في العقود هو اللفظ دون النظر إلى المعنى (¬4). ¬
واللفظ المستعمل هو العارية، وهو صريح في بابه، والعارية: هو بذل للمنفعة مع بقاء العين، والنقود ليس لها منفعة إلا باستهلاكها، فتبطل العارية، ولا نحمل اللفظ على معنى القرض، ونخالف اللفظ الصريح. الدليل الثاني: أن حمل العارية على القرض اعتبار بالمعنى، واعتبار المعنى هنا يؤدي إلى إهمال اللفظ وهذا لا يصح؛ لأن ألفاظ اللغة لا يعدل بها عما وضعت له في اللغة، فيطلق اللفظ لغة على ما وضع له، فكذا ألفاظ العقود. ويجاب عن ذلك: بأن القول بأن ألفاظ اللغة لا يعدل بها عما وضعت له في اللغة، هذه دعوى في محل النزاع، فأين الدليل على ذلك. الدليل الثالث: العقود تفسد باقتران شرط مفسد، ففسادها بتغير مقتضاها أولى. ويجاب: بأن الشرط مؤثر في صحة العقد، فقد يشترط ما يخالف الشرع، وقد يشترط ما ينافي مقتضى العقد، بخلاف اللفظ فلا يشترط له لفظ معين، وإنما اللفظ وسيلة لمعرفة حصول الرضا من العاقدين، فإذا تحقق الرضا بأي لفظ كان فقد حصل المقصود. ¬
الدليل الرابع: الأصل حمل الكلام على ظاهره، ولو حملنا الكلام على غير ظاهره بطلت فائدة اللغة وفائدة التخاطب. ويجاب: نعم الأصل حمل الكلام على ظاهره إلا إذا تعذر ذلك لقرينة حالية أو عرفية، فكما أن الأصل حمل الأمر على الوجوب والنهي على التحريم إلا لقرينة صارفة، فكذلك هنا، فنحن لم نترك ظاهر اللفظ إلا عند تعذره، وكنا بين أمرين إما أن نأخذ بهذا الظاهر والذي تيقنا أنه غير مراد للعاقدين، وبالتالي نبطل العقد، إما أن نترك هذا الظاهر لقرينة صارفة، ونعمل بالمعنى الذي أراده العاقدان، ولا شك أن إمضاء العقود خير من إبطالها بسبب لفظ ظاهر غير مراد، وإعمال الكلام خير من إهماله. القول الثالث: إذا دفع النقود أو الطعام بلفظ الإعارة، فيحتمل أن يكون إباحة الانتفاع على وجه الإتلاف. اختاره ابن عقيل من الحنابلة. ° وجه هذا القول: أن الإعارة هو الانتفاع بالعين المعارة، فإذا بقيت وجب ردها، وإن كانت تتلف بالاستعمال وأعطاها بلفظ الإعارة، كان هذا إباحة في إتلافها، والله أعلم. جاء في شرح منتهى الإرادات عن ابن عقيل في الأشياء التي لا ينتفع بها إلا مع تلف عينها، كأطعمة، وأشربة، "إن أعطاها بلفظ إعارة، فقال ابن عقيل
يحتمل أن يكون إباحة الانتفاع على وجه الإتلاف، نقله المجد في شرحه، واقتصر عليه" (¬1). ° الراجح: أرى أن إعارة الدراهم إن كان ذلك للتزين فهو إعارة حقيقية، وإن كان للاستهلاك فهي كناية عن القرض، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في إعارة المشاع
المبحث الثالث في إعارة المشاع [م - 2117] نص الحنفية على جواز إعارة المشاع، سواء أكان قابلًا للقسمة أم لا، وسواء كان الجزء المشاع مع شريك أو مع أجنبي، وسواء أكانت العارية من واحد أم من أكثر (¬1). ونص الشافعية على جواز إعارة المشاع في عقد المساقاة (¬2). ولم أقف على نص في مذهب المالكية والحنابلة لكن يمكن تخريجها على مسألة إجارة المشاع، حيث نص المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، وأحمد في رواية صوبها في الإنصاف (¬5)، على جواز إجارة المشاع. فإذا جاز بذل منفعة المشاع في عقد الإجارة مقابل عوض معين، جاز بذل ذلك بلا عوض في عقد الإعارة من باب أولى، لأن الإعارة أوسع من عقد الإجارة، فكل ما جازت إجارته جازت إعارته، ولا ينعكس، فهناك أشياء تجوز إعارتها، ولا تقبل الإجارة، كالكلب المعلم على الصحيح، والفحل للضراب، ونحوها. ¬
المبحث الرابع في إعارة الحائط لوضع الخشب عليه
المبحث الرابع في إعارة الحائط لوضع الخشب عليه [م - 2118] إذا احتاج الجار إلى وضع خشبه على جدار جاره، ولم يكن ذلك مضرًّا بالجار، فهل تجب إعارته، أو له أن يمنعه من ذلك، وله أن يأخذ أجرة في مقابل ذلك؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: ذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والجديد من قول الشافعي (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4)، إلى أن الجار ليس له أن يضع خشبة على جدار جاره إلا بإذنه، وإن امتنع لم يجبر، وله أن يأخذ عوضًا ماليًّا عن استخدام جداره. القول الثاني: ذهب الشافعي في أحد قوليه (¬5)، والحنابلة في المشهور عندهم (¬6)، وأهل ¬
الحديث (¬1)، إلى أنه لا يحق للجار أن يمنع جاره من ذلك. وقد بحثت أدلة المسألة في عقد البيع عند الكلام على حق الجوار، فارجع إليه إن شئت، وقد رجحت وجوب بذل الجدار للجار إذا احتاج الجار إليه، ولم يكن في ذلك ضرر على صاحب الجدار، والله أعلم. ¬
المبحث الخامس في إعارة الأرض
المبحث الخامس في إعارة الأرض الفرع الأول إعارة الأرض للزرع [م - 2119] اختلف العلماء في المعير يعير الأرض ليزرع فيها، ثم يريد الرجوع في عاريته، فهل له ذلك؟ القول الأول: إذا أعارها للزراعة فقال الحنفية ليس للمعير الرجوع مطلقًا سواء كانت مطلقة أو مقيدة، بل تبقى في يده بأجرة المثل (¬1). وبه قال الحنابلة في المشهور إلا أنهم قالوا: إن كان الزرع مما يحصد قصيلًا كالبرسيم فله الرجوع في وقت إمكان حصاده (¬2). واختار المجد في المحرر أنه لا أجرة له؛ لأنه دخل على الانتفاع بغير عوض (¬3). وقال الشافعية في أصح الوجهين: ليس له الرجوع في الإعارة المطلقة إن ¬
نقص الزرع بالقلع؛ لأنه محترم، وله أمد ينتهي إليه، ويبقى بأجرة المثل، وإن لم ينقص بالقلع لزمه قلعه (¬1). جاء في الاختيار لتعليل المختار: "إن أعارها؛ للزراعة فليس له أخذها قبل حصده، وإن لم يوقت فتبقى بالأجرة؛ لأن فيه مراعاة الجانبين ودفع الضرر عن المستعير ومراعاة حق المعير؛ لأن بقاءه مدة قليلة بخلاف الغرس والبناء؛ لأنه لا نهاية لهما فيقلع دفعا لضرر المعير" (¬2). وجاء في نهاية المحتاج: "وإذا أعار أرضًا لزراعة مطلقًا، ورجع قبل إدراك الزرع، فالصحيح أن عليه الإبقاء إلى الحصاد إن نقص بالقلع قبله؛ لأنه محترم، وله أمد ينتظر إليه بخلاف البناء والغراس ... أما إذا لم ينقص بالقلع وإن لم يعتد قطعه، أو اعتيد قطعه لكونه قصيلًا فإنه يكلف ذلك كما بحثه ابن الرفعة لانتفاء الضرر، والصحيح أن له الأجرة أي أجرة مدة الإبقاء من وقت رجوعه إلى حصاده لانقطاع الإباحة به، فأشبه ما لو أعاره دابة، ثم رجع في أثناء الطريق، فإن عليه نقل متاعه إلى مأمن بأجرة المثل كما مر. والثاني: لا أجرة له؛ لأن منفعة الأرض إلى الحصاد كالمستوفاة بالزرع" (¬3). وفي روضة الطالبين: "أعار للزرع، فرجع قبل إدراك الزرع، فإن كان مما يعتاد قطعه كلف قطعه، وإلا فأوجه ... الثالث: وهو الصحيح ... يلزم المعير إبقاؤه إلى أوان حصاده، وهل له الأجرة، وجهان: ¬
أحدهما: لا، وهو منقول عن المزني، واختاره الروياني ... وأصحهما: نعم؛ لأنه إنما أباح له المنفعة إلى وقت الرجوع، فأشبه من أعار دابة إلى بلد، ثم رجع في الطريق، فإن عليه نقل متاعه إلى مأمن بأجرة المثل" (¬1). وجاء في المحرر: "وإن أعاره أرضًا للزرع، فرجع، وهو مما يحصد قصيلًا حصد، وإلا لزمه تركه إلى الحصاد بلا أجرة عندي، وقال: أصحابنا: له الأجرة من وقت الرجوع" (¬2). وقال ابن رجب: "من زرع في أرض غيره بإذن غير لازم كالإعارة، ثم رجع المالك، فالزرع مبقى لمن زرعه إلى أوان حصاده بغير خلاف، لكن هل تجب عليه الأجرة من حين الرجوع أم لا؟ على وجهين: أشهرهما الوجوب، وهو قول القاضي وأصحابه. والثاني: انتفاءٌ؛ لأنه دخل على الانتفاع بغير عوض، وهو اختيار صاحب المحرر، وظاهر كلام الإمام أحمد في رواية صالح يشهد له" (¬3). القول الثاني: لم يفرق المالكية بين الإعارة للزرع والإعارة للغرس والبناء كما فعل الجمهور، وملخص المذهب المالكي: ذهب المالكية إلى أن الإعارة إن قيدت بعمل كزراعة أرض بطنًا فأكثر مما لا ¬
يخلف كقمح، أو مما يخلف كقصب فإنها تكون لازمة إلى انقضاء ذلك العمل أو الأجل، ولا يجوز له الرجوع قبل انتهاء العمل أو الأجل مطلقًا. وإن كانت الإعارة مطلقة لم تقيد بعمل أو أجل فللمالكية ثلاثة أقوال: الأول: وهو المعتمد أن الإعارة لا تلزم، ولربها أخذها متى شاء، ولا يلزم قدر ما تراد لمثله عادة، وهو قول ابن القاسم وأشهب. الثاني: يلزم بقاؤها في يد المستعير قدر ما تراد لمثله عادة. الثالث: إن كانت الإعارة للبناء والغرس، وحصلا فيلزم المعير بقاؤها قدر ما تراد لمثله عادة إلا أن يعطيه قال مرة: ما أنفق فيها. وقال أخرى: قيمة ما أنفق، وإن لم يعطيه ذلك تركه إلى مثل ما يرى الناس أنه إعارة إلى مثله من الأمد. وقد اختلف الشارحون: في الجمع بين الأمر بدفع ما أنفق، أو بدفع قيمة ما أنفق على ثلاثة أوجه ذكرتها في المسألة السابقة، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، ولله الحمد (¬1). القول الثالث: إذا أعاره أرضًا ليزرع فيها، ثم رجع قبل إدراك الزرع، فللمعير أن يقلع، ويغرم أرش النقص، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬2). ¬
القول الرابع: إذا رجع المعير قبل إدراك الزرع فللمعير أن يتملكه بالقيمة، اختاره القاضي أبو الطيب من الشافعية (¬1). هذه هي الأقوال في المسألة، ورأى أن الراجح منها: أن الإعارة لازمة إن كانت مؤقتة، أو كانت الإعارة للزرع، وقد باشر المستعير الزرع، فإنه مبقى إلى الحصاد، وبلا عوض، والله أعلم بالصواب. ¬
الفرع الثاني في إعارة الأرض للبناء والغرس
الفرع الثاني في إعارة الأرض للبناء والغرس [م - 2120] سبق لنا في المبحث السابق خلاف العلماء في إعارة الأرض للزرع إذا أراد المعير الرجوع في عاريته قبل بلوغ الزرع الحصاد، وأناقش في هذا المبحث الخلاف في المعير يعير الأرض للغراس والبناء فيها، ثم يريد الرجوع في عاريته، فهل له ذلك؟ اختلف العلماء في ذلك: القول الأول: إذا أعار أرضه للبناء والغرس، وأراد المعير أن يرجع فله الرجوع، ولا يضمن المعير مطلقًا، سواء كانت العارية مطلقة أو مؤقتة، وهذا قول زفر من الحنفية. ° وجه قوله ذلك: أن العارية عقد جائز، والتوقيت فيها غير ملزم؛ لأنه مجرد وعد، فإذا كان لا يضمن في العارية المطلقة، لم يضمن في العارية المؤقتة. القول الثاني: ذهب الحنفية إلى التفصيل، إن كانت الإعارة مطلقة فله أن يرجع فيها متى شاء، ويكلف المستعير بتفريغ الأرض من البناء والغرس، ولا يضمن المعير شيئًا. وإن كانت العارية مؤقتة بأجل معين ثم أخرجه قبل الوقت فهو ضامن.
للمستعير قيمة بنائه وغرسه (¬1). القول الثالث: لم يفرق المالكية بين الإعارة للزرع والإعارة للغرس والبناء كما فعل الجمهور، وملخص المذهب المالكي: أن الإعارة إن قيدت بعمل أو أجل فإنها تكون لازمة إلى انقضاء ذلك العمل أو الأجل، ولا يجوز له الرجوع قبل انتهاء العمل أو الأجل مطلقًا. وإن كانت الإعارة مطلقة لم تقيد بعمل أو أجل فللمالكية ثلاثة أقوال: الأول: وهو المعتمد أن الإعارة لا تلزم، ولربها أخذها متى شاء، ولا يلزم قدر ما تراد لمثله عادة، وهو قول ابن القاسم وأشهب. الثاني: يلزم بقاؤها في يد المستعير قدر ما تراد لمثله عادة. الثالث: إن كانت الإعارة للبناء والغرس، وحصلا فيلزم المعير بقاؤها قدر ما تراد لمثله عادة إلا أن يعطيه قال مرة: ما أنفق فيها. وقال أخرى: قيمة ما أنفق، وإن لم يعطه ذلك تركه إلى مثل ما يرى الناس أنه إعارة إلى مثله من الأمد. وقد اختلف الشارحون: في الجمع بين الأمر بدفع ما أنفق، أو بدفع قيمة ما أنفق على ثلاثة أوجه ذكرتها في المسألة ما قبل السابقة، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، ولله الحمد (¬2). ¬
القول الرابع: ذهب الحنابلة إلى أن المعير إذا أعار الأرض للغرس أو للبناء، فإن شرط المعير على المستعير القلع في وقت بعينه، أو شرط القلع متى رجع عن عاريته، لزم المستعير قلع ما غرسه وهدم ما بناه عند الوقت الذي عينه، أو عند رجوع المعير، ولم يلزم رب الأرض نقص الغراس والبناء، ولا يلزم المستعير تسوية الأرض إلا بشرط. ° وجه القول بذلك: أن المستعير قد دخل في العارية راضيًا بالتزام الضرر الذي دخل عليه، وقد شرط عليه القلع، والمؤمنون عند شروطهم. وإن لم يشترط المعير على المستعير القلع لم يلزم المستعير القلع إلا أن يضمن له المعير التقص، ولو قلع المستعير غرسه وهدم بناءه باختياره لزمه تسوية الحفر؛ لأنها حصلت بفعله لتخليص ماله من ملك غيره من غير إلجاء. ° وجه القول بذلك: قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ليس لعرق ظالم حق. والمستعير ليس ظالمًا فكان له حق، وإنما حصل له غراسه أو بناؤه في الأرض بإذن مالكه، ولم يشترط عليه قلعه، فلم يلزمه لدخول الضرر عليه بنقص قيمته. ولأن العارية عقد إرفاق ومعونة، وإلزامه بالقلع مجانًا يخرجه إلى حكم العدوان والضرر (¬1). هذه هي الأقوال في المسألة، وأقربها الله أعلم مذهب الحنابلة. ¬
المبحث السادس في إعارة المركوب
المبحث السادس في إعارة المركوب الفرع الأول في صفة إعارة المركوب [م - 2121] ناقش الفقهاء في عصرهم إعارة الدواب؛ لأنها هي المركوب في عصرهم، وخلافهم يجري على وسائل النقل في عصرنا. قال السرخسي: "لا يشترط إعلام المدة، أو المكان في الإعارة؛ لأن اشتراط ذلك في المعاوضات لقطع المنازعة، وذلك لا يوجد في العارية؛ لأنه لا يكن بينهما منازعة إذا أراد المعير الاسترداد، ولأن المعاوضات يتعلق بها صفة اللزوم، وذلك لا يتحقق في غير المعلوم، فأما العارية فلا يتعلق بها صفة اللزوم؛ فلهذا لا يشترط إعلام المكان، ولا إعلام المدة، ولا إعلام ما يحمل على الدابة، وعند إطلاق العقد للمستعير أن ينتفع بالدابة من حيث الحمل والركوب كما ينتفع بدابة نفسه في قليل المدة وكثيرها ما لم يطالبه المالك بالرد" (¬1) وفي بدائع الصنائع: "الجهالة في باب العارية لا تفضي إلى المنازعة؛ لأنها عقد جائز غير لازم" (¬2). ¬
وقال الكاساني أيضًا: "عقد الإعارة لا يخلو من أحد وجهين: إما إن كان مطلقًا، وإما إن كان مقيدًا، فإن كان مطلقا بأن أعار دابته إنسانا ولم يسم مكانًا ولا زمانًا ولا الركوب ولا الحمل، فله أن يستعملها في أي مكان وزمان شاء. وله أن يركب أو يحمل؛ لأن الأصل في المطلق أن يجري على إطلاقه، وقد ملكه منافع العارية مطلقًا، فكان له أن يستوفيها على الوجه الذي ملكها، إلا أنه لا يحمل عليها ما يعلم أن مثلها لا يطيق بمثل هذا الحمل، ولا يستعملها ليلًا ونهارًا ما لا يستعمل مثلها من الدواب لذلك عادة، حتى لو فعل فعطبت يضمن؛ لأن العقد وإن خرج مخرج الإطلاق، لكن المطلق يتقيد بالعرف والعادة دلالة، كما يتقيد نصًّا" (¬1). وإذا كانت الإعارة مقيدة لم يخالفها المستعير إلى ما هو أشد من المأذون. جاء في مجلة الأحكام العدلية: "إذا كانت الإعارة مقيدة بزمان أو مكان يعتبر ذلك القيد، فليس للمستعير مخالفته مثلا إذا استعار دابة ليركبها أربع ساعات وكذلك استعار فرسًا ليركبه إلى محل فليس له أن يركبه إلى محل غيره. إذا قيدت الإعارة بنوع من أنواع الانتفاع فليس للمستعير أن يتجاوز ذلك النوع المأذون به إلى ما فوقه لكن له أن يخالف باستعمال العارية بما هو مساو لنوع الاستعمال الذي قيدت به أو بنوع أخف منه. مثلا لو استعار دابة ليحملها حنطة فليس له أن يحمل عليها حديدًا أو حجارة، وإنما له أن يحملها شيئًا مساويًا للحنطة، أو أخف منها، وكذا لو استعار دابة ¬
للركوب فليس له أن يحملها حملًا. وأما الدابة المستعارة للحمل فإنها تركب" (¬1). وقال السرخسي: "وإن استعار الدابة يومًا إلى الليل، ولم يسم ما يحمل عليها لم يضمن إذا هلكت؛ لأنه قبضها بإذن صحيح، ولكن إن أمسكها بعد مضي اليوم فهو ضامن لها" (¬2). فإن خالف المستعير ما أذن له، فإما أن تهلك، وإما أن تسلم، فإن هلكت فإنه ضامن بالاتفاق (¬3). جاء في شرح الخرشي: "المستعير يفعل بالعارية ما أذن له في فعله، ويفعل بها أيضًا مثل ما استعارها له، ودونه، ولا يجوز له أن يفعل بها أضر مما استعارها له، فإنه يضمنها حينئذ إذا عطبت" (¬4). وجاء في التاج والإكليل: "من استعار دابة ليحمل عليها حنطة فجعل عليها حجارة، فكل ما حمل مما هو أضر بها مما استعارها له فعطبت به فهو ضامن، وإن كان مثله في الضرر لم يضمن كحمله عدسًا في مكان حنطة، أو كتانًا أو قطنا في مكان بر" (¬5). وجاء في البيان للعمراني: "وإن استعار دابة لتركبها امرأته زينب، فهل له أن ¬
يركبها عمرة؟ ينظر فيه: فإن كانت عمرة أثقل منها لم يكن له ذلك؛ لأن ذلك انتفاع غير مأذون فيه، وإن كانت عمرة مثلها، أو أخف منها .. ففيه وجهان، حكاهما الطبري: أحدهما: يجوز، وبه قال أبو حنيفة، كما قلنا في الإجارة. والثاني: لا يجوز؛ لأنه انتفاع غير مأذون فيه، فلم يجز، كما لو كانت أثقل منها" (¬1). ¬
الفرع الثاني في كيفية ضمان العارية المركوبة
الفرع الثاني في كيفية ضمان العارية المركوبة [م - 2122] اختلف العلماء في كيفية ضمان المركوب مع اتفاقهم على القول به إذا تعدى المستعير، أو فرط على ثلاثة أقوال: القول الأول: إن تلفت الدابة بسبب تعديه ضمن قيمتها، وإن ردها إلى صاحبها سالمة فليس عليه شيء. وهذا مذهب الحنفية. جاء في الجوهرة النيرة: "إذا استعار دابة إلى موضع سماه فجاوز بها ذلك الموضع فعطبت ضمن قيمتها؛ لأن الإذن لم يتناول ذلك الموضع فصار بركونه فيه غاصبًا فلهذا ضمن، فإن رجع بها إلى الموضع الذي استعارها إليه فعطبت لم يبرأ من الضمان" (¬1). وجاء في درر الحكام شرح غرر الأحكام: "لو استعار دابة إلى مكان مسمى، فجاوز بها المستعير المكان المسمى، ثم عاد إليه فهو ضامن إلى أن يردها على المالك. قيل: هذا إذا استعارها ذاهبًا لا جائيًا، أما إذا استعارها ذاهبا وجائيا يبرأ وهذا القائل يسوي بين المودع والمستعير والمستأجر إذ خالفوا ثم عادوا إلى الوفاق برئوا عن الضمان إذا كانت مدة الإيداع والإعارة باقية. ¬
ومن المشايخ من قال في العارية: لا يبرأ عن الضمان ما لم يردها على الملك سواء استعارها ذاهبًا، أو ذاهبا وجائيًا وهذا القائل يقول: إن المستعير والمستأجر إذا خالفا ثم عادا إلى الوفاق لا يبرآن من الضمان بخلاف المودع إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق حيث يبرأ، والقول الأول أشبه وإليه مال شيخ الإسلام جواهر زاده" (¬1). وفي مجمع الضمانات: "استعار دابة وعين جهة الانتفاع ثم خالف فهو على ثلاثة أوجه: أن يخالف في المعنى مع اتحاد الجنس، أو يخالف في الجنس، أو يخالف في القدر. أما الأول: وهو المخالفة في المعنى مع اتحاد الجنس بأن استعار دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم من هذا البر فحمل عليها عشرة مخاتيم من بر آخر لم يضمن، وكذا لو استعارها ليحمل عليها من بره فحمل عليها مثله من بر غيره؛ لأن مثل هذا التقييد غير مفيد. وأما الثاني: وهو المخالفة في الجنس بأن استعار دابة ليحمل عليها عشرة أقفزة بر فحمل عشرة أقفزة شعير يضمن قياسًا إذ خالف في الجنس لا استحسانا؛ لأنه أخف فخالف إلى خير حتى لو سمى مقدارًا من البر وزنا فحمل عليها مثل ذلك الوزن من الشعير ضمن إذ يأخذ من ظهر الدابة أكثر مما يأخذ البر، وكذا لو استعارها ليحمل عليها برا فحمل حطبًا أو قطنًا أو تبنًا بذلك الوزن ضمن لما مر، وكذا لو حمل حديدًا أو آجرا أو حجارة بوزن البر ضمن؛ لأنه مما يدق ظهرها فيكون أضر. ¬
وأما الثالث: وهو المخالفة في القدر بأن استعارها ليحمل عليها عشرة مخاتيم بر فحمل خمسة عشر مختومًا، فلو علم أنها لا تطيق حمل هذا القدر ضمن كل قيمتها للإتلاف، ولو علم أنها تطيق ضمن ثلثها توزيعا للضمان على قدر ما أذن وغيره من الفصولين" (¬1). وفي درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "لو استعار دابة لركوبه، فأردف شخصًا آخر معه، وتلفت الدابة ضمن المستعير نصف قيمة الدابة إذا كانت تطيق حمل الاثنين؛ لأن التلف الواقف ناشئ عن الفعل المأذون به، والفعل غير المأذون فيه، فتنقسم القيمة على الفعلين، وما يصيب الفعل المأذون فيه فهو هدر، أما إذا كانت الدابة لا تطيق حمل الاثنين ضمن المستعير كل القيمة" (¬2). القول الثاني: طريقة الضمان عند المالكية إن عطبت الدابة فإن المعير يخير بين أخذ كراء ما زاده، وبين أن يضمنه قيمة الدابة يوم تعديه، دون أخذ كراء المسافة التي تعدى فيها، ولا يحق للمالك أن يجمع بين كراء ما زاده وقيمة الدابة. وإن سلمت الدابة فليس له إلا كراء الزائد فقط (¬3). جاء في المدونة: "أرأيت إن استعرت من رجل دابة لأركبها إلى موضع من المواضع، فركبتها وحملت خلفي، رديفًا فعطبت الدابة ما علي؟ ¬
قال: ربها مخير في أن يأخذ منك كراء الرديف، ولا شيء له عليك غير ذلك، وفي أن يضمنك قيمتها يوم حملت عليها رديفًا. قلت: أجميع قيمتها أو نصف قيمتها؟ قال: جميع قيمتها" (¬1). وجاء في شرح مختصر خليل: "من استعار دابة ليحمل عليها شيئًا معلوما فزاد عليها غير ذلك قدرا تعطب بمثله فعطبت منه فربها مخير حينئذ بين أن يضمن المستعير قيمتها يوم التعدي، ولا شيء له غير ذلك، وبين أن يأخذ كراء الزائد المتعدي فيه فقط؛ لأن خيرته تنفي ضرره ومعرفة ذلك أن يقال كم يساوي كراؤها فيما استعارها له فإن قيل عشرة قيل وكم يساوي كراؤها فيما حمل عليها فإذا قيل خمسة عشرة دفع إليه الخمسة الزائدة على كراء ما استعارها له، وإن كان ما حملها به لا تعطب في مثله فليس له إلا كراء الزيادة لأن عطبها من أمر الله ليس من أجل الزيادة فقوله ما تعطب به أي وعطبت فالواو محذوفة مع ما عطفت ولم يتعرض المؤلف هنا لزيادة المسافة وقد ذكرها هنا في المدونة وحاصلها أنها إذا عطبت بذلك فلا فرق بين أن يكون مما تعطب به أم لا بخلاف زيادة الحمل ومعنى العطب هنا التلف وأما إذا تعيبت تعييبًا مفيتًا للمقصود أو غير مفيت له فإنه يجري عليه حكم التعدي المذكور فيه من التخيير حيث أفات المقصود منه بين أن يأخذه مع نقصه أو يأخذ قيمته، وبين لزوم النقص فقط حيث لم يفته" (¬2). ¬
القول الثالث: وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الدابة إن تلفت ضمن قيمتها يوم تعديه، وأن سلمت كان له أجرة ما تعدى فيه (¬1). جاء في البيان للعمراني: "وإن استعار دابة ليركبها إلى بلد، فركبها إلى تلك البلد، وجاوز بها إلى بلد أخرى، فقبل أن يجاوز بها البلد المأذون له بالركوب إليه هي مضمونة عليه ضمان العارية، ولا أجرة عليه لذلك، فإذا جاوز بها صارت من حين المجاوزة مضمونة عليه ضمان الغاصب، ويجب عليه أرش ما نقصت بعد ذلك، وأجرة منافعها، فإن ماتت وجب عليه قيمتها أكثر ما كانت حين المجاوزة؛ لأنه صار متعديًا بالمجاوزة، فإن رجع بها إلى البلد المأذون بالركوب إليه .. لم يزل عنه الضمان ... دليلنا: أنها صارت مضمونة عليه، فلم يبرأ بالرد إلى غير يد المالك، أو وكيله، كالمغصوب" (¬2). وجاء في أسنى المطالب: "وإن جاوز المستعير المكان بالدابة التي استعارها ليركبها إليه ضمن أجرة ذهاب المجاوزة: أي مجاوزتها عنه، وإيابها إليه؛ لتعديه، ثم هل له الإياب بها منه إلى المكان الذي استعارها منه أو لا؟ وجهان: أحدهما: لا؛ لأن الإذن قد انقطع بالمجاوزة. وثانيهما: نعم. ¬
قال الرافعي؛ لأنه مأذون فيه من جهة المالك ... فإن قلنا: لا إياب له بها سلمها إلى حاكم البلد الذي استعار إليه فإن خالف ضمن" (¬1). وقال ابن قدامة: "وإذا استعار دابة ليركبها جاز ... فإذا استعارها إلى طبرية، فتجاوز إلى القدس فعليه أجرة ما بين طبرية والقدس خاصة" (¬2). وفي مطالب أولي النهى: "يلزم المستعير أجرة مثل لقدر زائد على مدة أو مسافة فقط؛ لحصول التعدي في الزائد، دون ما قبله" (¬3). ومذهب الشافعية والحنابلة أقرب للصواب، والله أعلم. ¬
المبحث السابع في إعارة ما يتزين به
المبحث السابع في إعارة ما يتزين به [م - 2123] تصح إعارة ما يتزين به إذا كان ذلك لا يؤدي إلى استهلاك العين كالحلي، من أساور وقلائد ونحو ذلك. (ح-1264) فقد روى البخاري ومسلم من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناسًا من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة، فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - شكوا ذلك إليه، فنزلت آية التيمم فقال: أسيد بن حضير: جزاك الله خيرًا، فوالله ما نزل بك أمر قط، إلا جعل الله لك منه مخرجًا، وجعل للمسلمين فيه بركة (¬1). جاء في بدائع الصنائع: "لو استعار حليًّا ليتجمل به صح؛ لأنه يمكن الانتفاع به من غير استهلاك بالتجمل" (¬2). وقال ابن قدامة: "وتجوز إعارة كل عين ينتفع بها منفعة مباحة مع بقائها على الدوام، كالدور، والعقار، والعبيد، والجواري، والدواب، والثياب، والحلي للبس" (¬3). ¬
وفيه قول في مذهب الحنابلة بوجوب إعارة الحلي، وهذا القول راجع إلى الخلاف في حكم العارية، وقد بينت أن هناك قولًا بالوجوب. جاء في قواعد ابن رجب: "ومنها إعارة الحلي، ظاهر كلام أحمد وجماعة من الأصحاب وجوبه، وصرح به بعض المتأخرين" (¬1). وانظر الخلاف في حكم العارية. ¬
المبحث الثامن في إعارة الكتب لطلبة العلم
المبحث الثامن في إعارة الكتب لطلبة العلم [م - 2124] ذهب الفقهاء إلى استحباب إعارة الكتب لأهلها (¬1). قال حسين بن السري: سمعت وكيعًا يقول: أول بركة الحديث إعارة الكتب (¬2). وذهب بعض الشافعية والحنابلة إلى وجوب إعارة المصحف. جاء في تحفة المحتاج: "وقد تجب -يعني الإعارة- كإعارة نحو ثوب لدفع مؤذ كحر، ومصحف أو ثوب توقفت صحة الصلاة عليه أي حيث لا أجرة له لقلة الزمن وإلا لم يلزمه بذله بلا أجرة فيما يظهر، ثم رأيت الأذرعي ذكره حيث قال: والظاهر من حيث الفقه وجوب إعارة كل ما فيه إحياء مهجة محترمة لا أجرة لمثله، وكذا إعارة سكين لذبح مأكول يخشى موته، وكإعارة ما كتب صاحب كتاب الحديث بنفسه أو مأذونه فيه سماع غيره أو روايته لينسخه منه كما صوبه المصنف وغيره" (¬3). وجاء في أسنى المطالب: "وكعارية المصحف لمن دخل عليه وقت الصلاة، ولم يجد من يعلمه، وهو يحسن القراءة. قال شيخنا: الوجوب مسلم من جهة المستعير إذا وجد من يعيره أما على المالك فلا" (¬4). ¬
وقال الحنابلة: تجب إعارة المصحف لمحتاج لقراءة فيه ولم يجد غيره، وهذا إذا لم يكن مالكه محتاجًا إليه (¬1). وجاء في قواعد ابن رجب: "ومنها المصحف تجب عليه إعارته لمن احتاج إلى القراءة فيه، ولم يجد مصحفًا غيره نقله القاضي في الجامع الكبير، وذكر ابن عقيل في كلام مفرد له: أن الأصحاب عللوا قولهم: لا يقطع لسرقة المصحف، فإن له فيه حق النظر لاستخراج أحكام الشرع إذا خفيت عليه، وعلى صاحبه بذله كذلك. قال ابن عقيل: وهذا تعليل يقتضي التسوية بين سرقته وسرقة كتب السنن فإنها مضمنة من الأحكام أمثال ذلك، والحاجة داعية إليها، وبذلها من المحاويج إليها من القضاة والحكام وأهل الفتاوى واجب على مالكها انتهى (¬2). وقال ابن جماعة: "ويستحب إعارة الكتب لمن لا ضرر عليه فيها ممن لا ضرر منه عليها" (¬3). وهذا ضابط جيد في حكم المسألة، فإن كنت بحاجة للكتاب، فأنت أولى، وإذا كان يخشى من المستعير أن يضيع الكتاب، أو أن يعبث فيه فلا حرج على من منع كتبه من هذا الصنف، وإن كنت أفضل في الكتب إباحتها على إعارتها، فمن أراد أن ينتفع من كتاب فليدخل المكتبة، وليأخذ حاجته، ويدع الكتاب في مكانه. ¬
وقد كره قوم إعارة الكتاب، جاء في أدب الإملاء والاستملاء: لأجل حبس الكتب المستعارة امتنع غير واحد من إعارتها (¬1). قال القرطبي: من الغلول حبس الكتب عن أصحابها، ويدخل غيرها في معناها. قال الزهري: إياك وغلول الكتب، فقيل له: وما غلول الكتب؟ قال: حبسها عن أصحابها (¬2). ¬
المبحث التاسع في نفقة العارية
المبحث التاسع في نفقة العارية [م - 2125] اختلف الفقهاء في نفقة العارية، هل هي على المعير، أو على المستعير؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: نفقة العارية على المستعير، سواء كانت مطلقة أو مقيدة، وهذا مذهب الحنفية، وقول في مقابل المعتمد عند المالكية، واختاره القاضي حسين من الشافعية، ومال إليه ابن تيمية من الحنابلة (¬1). جاء في البحر الرائق: "علف الدابة على المستعير مطلقة كانت أو مقيدة، وكذا نفقة العبد، أما كسوته فعلى المعير" (¬2). وفي الفتاوى الهندية: "قال محمَّد رحمه الله تعالى في الكتاب: نفقة المستعار على المستعير، قال القاضي أبو علي النسفي حاكيا عن أستاذه: إن المستعير لا يجبر على الإنفاق على العارية؛ لأنه لا لزوم في العارية، ولكن يقال للمستعير: أنت أحق بالمنافع , فإن شئت فأنفق ليحصل لك المنفعة، وإن شئت ¬
فخل يدك عنه، أما أن يجبر على الإنفاق فلا، كذا في الذخيرة" (¬1). وفي أسنى المطالب: "نفقة المعار على مالكه، لا على المستعير ... وهو الأصح؛ لأنها من حقوق الملك خلافًا للقاضي الحسين" (¬2). جاء في المستدرك على مجموع الفتاوى: "قال أبو العباس في قديم خطه: نفقة العين المعارة هل تجب على المالك، أو على المستعير؟ لا أعرف فيها نقلًا؛ إلا أن قياس المذهب على ما يظهر لي أنها تجب على المستعير؛ لأنهم قالوا: إنه يجب عليه مؤنة ردها، وضمانها إذا تلفت، وهذا دليل على أنه يجب عليه ردها إلى صاحبها كما أخذها منه سوى نقص المنافع المأذون له فيها. ثم إنه خطر لي أنها تخرج على الأوجه في نفقة الجارية الموصى يعتقها فقط. أحدها: أنه يجب على المالك؛ لكن فيه نظر. وثانيها: على المالك للنفع. وثالثها: نفقتها في كسبها. فإن قيل: هناك المنفعة مستحقة وليس ذلك هنا؛ فإن مالك الرقبة هو مالك المنفعة، غير أن المستعير ينتفع بها بطريق الإباحة وهذا يقوي وجوبها على المعير. والأصل الأول يقوي وجوبها على المستعير. ثم أقول: هذا لا تأثير له في مسألتنا؛ فإن المنفعة حاصلة في الأصل والفرع. ¬
ثم كونه يملك انتزاع المنفعة من يده غير مؤثر، بدليل ما لو كان واهب المنفعة أبا، وكان المثيب ابنه وهذا في غير صورة الوصية" (¬1). القول الثاني: ذهب المالكية في المعتمد، والشافعية، والحنابلة إلى أحسن نفقة العارية التي بها بقاؤها كالطعام على المالك (¬2). جاء في حاشية الدسوقي: "المعتمد من القولين أن علفها على ربها بخلاف العبد المخدم فإن مؤنته على مخدَمه بالفتح كما أفاده شيخنا العدوي" (¬3). وقال الماوردي: "وإذا صحت إعارة البهائم دون إجارتها فعلفها، ومؤنتها على المالك دون المستعير والمستأجر؛ لأن ذلك من حقوق الملك" (¬4). ° وجه هذا القول: لو كانت النفقة على المستعير لتحول العقد من عارية إلى كراء، وربما يكون علفها أكثر من كرائها في زمن الغلاء، فينتفي المعروف وتصير كراء. ¬
القول الثالث: ذهب بعض المالكية إلى أن النفقة على المستعير في المدة القصيرة كالليلة والليلتين، وعلى المعير في المدة الطويلة (¬1). * الراجح: أن العارية بذل للمنفعة بلا مقابل، وتحمل النفقة يجعل العارية ليست بلا عوض، لكن إن بذلها المستعير فإن كان ذلك بلا شرط كان هذا على سبيل المكافأة لمالكها، وإن اشترطت كانت إجارة، وهل تصح أو لا؟ فيه خلاف ذكرناه في عقد الإجارة، والصحيح صحة الإجارة كإجارة الظئر بطعامها وكسوتها، والله أعلم. ¬
المبحث العاشر في مؤنة رد العارية
المبحث العاشر في مؤنة رد العارية [م - 2126] اختلف العلماء في مؤنة رد العارية، هل تكون على المعير، أو على المستعير؟ على قولين: القول الأول: ذهب الأئمة الثلاثة، والأظهر عند المالكية إلى أن مؤنة رد العارية على المستعير (¬1). جاء في الهداية: "وأجرة رد العارية على المستعير؛ لأن الرد واجب عليه لما أنه قبضه لمنفعة نفسه، والأجرة مؤنة الرد فتكون عليه" (¬2). وفي التاج والإكليل: "واختلف في أجرة ردها، فقيل: على المستعير، وهو الأظهر" (¬3). وفي الإنصاف: "وعلى المستعير مؤنة رد العارية، هذا المذهب، وعليه ¬
جماهير الأصحاب" (¬1). ° دليل من قال المؤنة على المستعير: الدليل الأول: (ح-1265) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: على اليد ما أخذت حتى تؤديه (¬2). [رجاله ثقات إلا أن في سماع الحسن من سمرة خلافًا] (¬3). الدليل الثاني: (ح-1266) ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده, قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، قال: حدثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني، سمع أبا أمامة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الدين مقضي، والعارية مؤداة، والمنحة مردودة، والزعيم غارم. [حسن] (¬4). الدليل الثالث: ولأن العارية معروف من المعير فلا يكلف أجرة معروف صنعه، فلو لم تجعل مؤنة الرد على المستعير لامتنع الناس من الإعارة، وقياسًا على تكلفة القرض من وزن وكيل فإنها على المقترض، كما سبق في عقد القرض. ¬
القول الثاني: أن مؤنة ردها على المالك، وهو قول في مقابل الأظهر عند المالكية، وقول في مذهب الحنابلة (¬1). ولعل دليلهم القياس على النفقة باعتبار أن ذلك من حقوق الملك، والأول هو المتعين، والله أعلم. ¬
الباب الثالث في ضمان العارية
الباب الثالث في ضمان العارية الفصل الأول في ضمان المستعير بمقتضى العقد [م - 2127] اختلف العلماء في العارية، هل هي أمانة لا تضمن إلا بالتعدي والتفريط، أو أنها مضمونة مطلقًا على قولين: القول الأول: أنها أمانة لا تضمن إلا بالتعدي والتفريط، وهذا مذهب الحنفية، وقول مرجوح في مذهب الشافعية، واختيار ابن تيمية من الحنابلة (¬1). جاء في الهداية شرح البداية: "والعارية أمانة إن هلكت من غير تعد لم يضمن" (¬2). وجاء في العناية: "إن هلكت العارية، فإن كان بتعد كحمل الدابة ما لا يحمله مثلها أو استعمالها استعمالًا لا يستعمل مثلها من الدواب أوجب الضمان ¬
بالإجماع، وإن كان بغيره لم يضمن" (¬1). وقال ابن القيم في أعلام الموقعين: "والقول بعدم الضمان قوي متجه، وإن كنا لا نقبل قوله في دعوى التلف؛ لأنه ليس بأمينه، لكن إذا صدقه المالك في التلف بأمر لا ينسب فيه إلى تفريط فعدم التضمين أقوى" (¬2). قلت: بل هو أمينه، فقد رضي أن يضع ماله في يده، وأذن له في الانتفاع به دون استهلاكه، فكيف لا يكون أمينه؟ ° دليل الحنفية على أن العارية غير مضمونة: الدليل الأول: (ح-1267) ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده, قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، قال: حدثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني، سمع أبا أمامة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الدين مقضي، والعارية مؤداة، والمنحة مردودة، والزعيم غارم. [حسن] (¬3). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (العارية مؤداة) دليل على أنها من سائر الأمانات، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. ¬
ونوقش: الحديث يأمر بأداء العارية، وهو أمر متفق عليه، ولم يتعرض للضمان، وليس كل ما وجب أداؤه سقط ضمانه، فالقرض يجب رده أو رد بدله، وهو مضمون. الدليل الثاني: (ح- 1268) ما رواه الدارقطني من طريق عمرو بن عبد الجبار، عن عبيدة بن حسان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان. قال الدارقطني: عمرو وعبيدة ضعيفان، إنما يروى عن شريح القاضي غير مرفوع (¬1). قلت: هو في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عن شريح من قوله (¬2). الدليل الثالث: (ث-326) ما رواه عبد الرزاق في المصنف، قال: أخبرنا قيس بن الربيع، عن الحجاج، عن هلال، عن عبد الله بن عكيم، قال: قال عمر بن الخطاب: العارية بمنزلة الوديعة، ولا ضمان فيها إلا أن يتعدى (¬3). [ضعيف، فيه حجاج بن أرطأة]. ¬
الدليل الرابع: (ث-327) روى عبد الرزاق في المصنف، قال: أخبرنا حميد، عن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة، أن علي بن أبي طالب قال: ليس على صاحب العارية ضمان (¬1). [ضعيف، فيه حجاج بن أرطأة]. الدليل الخامس: العارية في يد المستعير كالعين المستأجرة في يد المستأجر، كلاهما مسلط على المنفعة دون الرقبة، إلا أن الأول بلا عوض، والثاني بعوض، فإذا كان المستأجر لا يضمن لم يضمن المستعير. قال الطحاوي: "العارية مقبوضة من ربها بطيب نفسه بذلك، لا بعوض يعوضه على ما أباح منها، وقد وجدنا الأشياء المستأجرات مقبوضة من أربابها بأعواض يجب على مستأجريها إياها منهم لهم، وكانت ملك الأشياء المستعملة على ذلك غير مضمونة، وإذا كانت مع وجوب الأعواض في استعمالها غير مضمونة، كانت في استعمالها على غير وجوب الأعواض في ذلك أحرى أن لا تكون مضمونة" (¬2). وفي مقدمات ابن رشد: "إذا كان المقبوض لاستيفاء المنفعة بإذن مالكه ببدل مضمون، وسبب مؤثر في وجوب الضمان، لا يوجب ضمان العين، فما لم ¬
يقبض ببدل أولى ألا يكون مضمونا" (¬1). الدليل السادس: لما كان المضارب قد قبض المال بإذن صاحبه لم يضمن وإن كان المضارب له مصلحة في قبض مال المضاربة، فالمستعير مثله، قد قبض المال بإذن صاحبه، فيده يد أمانة ما لم يتعد أو يفرط. القول الثاني: أنها مضمونة مطلقًا، وهذا أحد قولي الإِمام مالك، واختاره أشهب من المالكية، ومذهب الشافعية والحنابلة (¬2). وهذان القولان متقابلان. جاء في الأم: "أخبرنا الربيع، قال: أخبرنا الشافعي، قال: العارية كلها مضمونة، والدواب، والرقيق، والدور، والثياب، لا فرق بين شيء منها، فمن استعار شيئًا فتلف في يده بفعله، أو بغير فعله فهو ضامن له" (¬3). وقال ابن قدامة: "العارية مضمونة, وإن لم يتعد فيها المستعير" (¬4). ¬
° دليل من قال: العارية مضمونة مطلقًا: الدليل الأول: (ح-1269) ما رواه الإِمام أحمد، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا شريك، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أمية بن صفوان بن أمية، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعار منه يوم خيبر أدرعًا، فقال: أغصبا يا محمَّد؟ فقال: بل عارية مضمونة. قال: فضاع بعضها فعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضمنها له فقال: أنا اليوم يا رسول الله في الإِسلام أرغب (¬1). [الحديث مضطرب من مسند صفوان، حسن من حديث جابر - رضي الله عنه -] (¬2). ويجاب عن هذا الحديث بعدة أجوبة: الجواب الأول: أن هذا الحديث دليل على صحة اشتراط الضمان في عقد العارية، وليس دليلًا على صحة ضمانها مطلقًا. قال ابن عبد الهادي في التنقيح: "وهذا الحديث لا حجة فيه على أن العارية مضمونة بكل حال، بل الظاهر أن ضمانها إنما كان بالشرط، وقد جاء التصريح بأن العارية مقسمة إلى: عارية مؤداة؛ وعارية مضمونة. وذلك فيما رواه النسائي، قال: أخبرنا إبراهيم بن المستمر ثنا حبان بن هلال ثنا همام بن يحيى ثنا قتادة عن عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه قال: ¬
قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعا، وثلاثين مغفرًا. قلت: يا رسول الله، أعارية مضمونة، أو عارية مؤداة؟ قال: بل عارية مؤداة. رواته كلهم ثقات، لكنه معلل، وقد رواه أبو داود عن إبراهيم بن المستمر. اهـ (¬1). ¬
الجواب الثاني: يحتمل عندي أن العارية إذا قسمت إلى قسمين: عارية مضمونة، وعارية مؤداة، أن العارية المضمونة: هو أخذ العارية على وجه القرض، والعارية المؤداة هو أخذها على سبيل الأمانة حيث لا يمتلك المستعير العين، فتؤدى بعينها إلى مالكها، وتكون العارية من ألفاظ الكناية في عقد القرض، كما قلناه في الرجل يقول: أعرتك هذه الدراهم، أن لفظ: (أعرتك) كناية في القرض، وكما أن المالكية إذا قالوا: هذا كراء مضمون، قصدوا بذلك الإجارة في الذمة، وإذا قالوا: كراء غير مضمون، قصدوا بذلك إجارة الأعيان، فالعارية المضمونة: هي العارية المتعلقة بالذمة، وهذا لا يكون إلا باستهلاك العارية، وهو كناية عن القرض، والله أعلم. الجواب الثالث: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ العارية بدون رضا صاحبها، وإذا أخذ شيء بدون رضا صاحبه صح أخذه على وجه الضمان فيه. جاء في تبيين الحقائق: "وحديث صفوان كان بغير إذنه لحاجة المسلمين، ولهذا قال "أغصبًا يا محمد" وعند الحاجة يرخص تناول مال الغير بغير إذنه ¬
بشرط الضمان كحالة المخمصة ... " (¬1). الجواب الرابع: يحتمل أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: عارية مضمونة، أي أضمن لك ردها؛ وليس أضمن لك رد بدلها إذا تلفت. قال ابن القيم في زاد المعاد: "ومأخذ المسألة أن قوله - صلى الله عليه وسلم - لصفوان: بل عارية مضمونة، هل أراد به أنها مضمونة بالرد أو بالتلف؟ أي أضمنها إن تلفت أو أضمن لك ردها، وهو يحتمل الأمرين، وهو في ضمان الرد أظهر لثلاثة أوجه: أحدها: أن في اللفظ الآخر: (بل عارية مؤداة) فهذا يبين أن قوله: (مضمونة) المراد به المضمونة بالأداء. الثاني: أنه لم يسأله عن تلفها، وإنما سأله هل تأخذها مني أخذ غصب تحول بيني وبينها؟ فقال: "لا بل أخذ عارية أؤديها إليك". ولو كان سأله عن تلفها، وقال: أخاف أن تذهب لناسب أن يقول: أنا ضامن لها إن تلفت. الثالث: أنه جعل الضمان صفة لها نفسها؛ ولو كان ضمان تلف لكان الضمان لبدلها، فلما وقع الضمان على ذاتها، دل على أنه ضمان أداء. فإن قيل: ففي القصة أن بعض الدروع ضاع، فعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يضمنها، فقال: أنا اليوم في الإِسلام أرغب، قيل: هل عرض عليه أمرًا واجبًا، أو أمرًا جائزًا مستحبًّا الأولى فعله، وهو من مكارم الأخلاق والشيم، ومن ¬
محاسن الشريعة؟ وقد يترجح الثاني بأنه عرض عليه الضمان، ولو كان الضمان واجبًا، لم يعرضه عليه؛ بل كان يفي له به، ويقول: هذا حقك، كما لو كان الذاهب بعينه موجودًا، فإنه لم يكن ليعرض عليه رده فتأمله" (¬1). الجواب الخامس: اختار بعض الحنفية بمقتضى قواعد المذهب أن صفوان كان يومئذ حربيًّا، ويجوز بين المسلم والحربي من الشرائط ما لا يجوز بين المسلمين، كما قالوا: في جواز الربا مع الحربي دون الذمي (¬2). وهذا أضعفها، والله أعلم. الدليل الثاني: (ح-1270) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: على اليد ما أخذت حتى تؤديه (¬3). [رجاله ثقات إلا أن في سماع الحسن من سمرة خلافًا] (¬4). ونوقش هذا: بأن الحديث قد ضعف، ولو صح فليس فيه إلا الأداء، والأداء غير الضمان في اللغة والحكم، ويلزم المحتج بهذا الحديث أن يضمنوا بذلك المرهون والودائع؛ لأنها مما قبضت اليد، ولذلك قال الحسن الذي روى هذا الحديث: أمينك لا ضمان عليه مما يدل على أن الأداء غير الضمان ولم يخالف الحسن ¬
الحديث ولم ينس كما توهم الراوي؛ لأن الحديث ليس فيه دلالة على الضمان (¬1). جاء في مقدمات ابن رشد: "قوله - صلى الله عليه وسلم -: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)، إنما تفيد مع بقاء العين، فأما مع تلفها فلا يصح ولا يجوز حمله على القيمة، لأنه لم يجر لها ذكر، ولأنه إنما أوجب أداء ما أخذت اليد - واليد لم تأخذ القيمة" (¬2). الدليل الثالث: أن الشيء المعار مال لغيره أخذه لمنفعة نفسه، لا على وجه الحفظ فضمنها كالمقبوض على وجه السوم، والمغصوب. ولأن العارية فيها شبه من القرض، فهي من إقراض المنافع، والقرض مضمون فكذلك العارية، وإنما ضمن المقترض لأنه أخذ مال غيره لمنفعة نفسه، والمستعير كذلك بخلاف المودع فقد أخذه لمنفعة مالكه فلم يضمنه. القول الثالث: ذهب مالك في المشهور عنه إلى التفصيل: فقال: يضمن فيما يغاب عليه إذا لم يكن على التلف بينة، ولا يضمن فيما لا يغاب عليه، ولا فيما قامت البينة على تلفه (¬3). ¬
وهذا واضح أن ضمان العارية عند المالكية ضمان تهمة لا ضمان أصالة ينتفي لإقامة البينة على أن الهلاك بلا تعد ولا تفريط، أو كانت العارية مما لا يمكن إخفاؤها، وهذا دليل على أنها أمانة، ولكن إن كانت مما يغاب عليه لم تقبل دعواه بعدم تعديه ولا تفريطه إلا ببينة. قال ابن عبد البر: "العارية أمانة غير مضمونة في الحيوان كله من الرقيق والدواب، وكذلك الدور، وكل شيء ظاهر لا يغاب عليه لا يضمن شيء من ذلك كله إلا ما تضمن به الأمانات من التعدي والتضييع، والخلاف لما استعير له إلى ما هو أضر عليه، وأما الحلي، والثياب، والآنية، والسلاح، والمتاع كله الذي يخفى هلاكه فإنه لا يقبل قول المستعير فيما يدعيه من ذهابه وهو ضامن له إلا أن تقوم له بينة على هلاكه من غير تفريط ولا تضيع ولا تعد" (¬1). وقال ابن رشد: "ومنهم من قال: يضمن فيما يغاب عليه إذا لم يقم على التلف بينة، ولا يضمن فيما لا يغاب عليه، ولا فيما قامت البينة على تلفه من غير ضيعة، وهذا هو المشهور من قول مالك، وهو مذهب ابن القاسم، وأكثر أصحاب مالك، وأصح الأقوال وأولاها بالصواب لاستعمال جميع الآثار وصحته في النظر والاعتبار" (¬2). ° دليل المالكية على التفريق بين ما يغاب عليه وبين غيره: رأى ابن رشد من المالكية أن هذا القول به تجتمع الأدلة والآثار, فهو يجمع بين أدلة القول الأول، وأدلة القول الثاني، فما روي عنه من وجوب ضمان ¬
العارية فهو فيما يغاب عليه إذا لم يعلم هلاكه، وما روي من أدلة تدل على سقوط الضمان في العارية فهو فيما لا يغاب عليه، وفيما يغاب عليه إذا علم هلاكه. ويناقش: بأن مذهب المالكية يصدق عليه أنه من أضعف الأقوال فهم يعتبرون العين المستعارة أمانة، بينما المستعير متهم، عليه إقامة البينة فيما لا يعلم هلاكه، فإن كانت العارية أمانة فهي قد اكتسبت هذه الصفة من يد المستعير، وإذا كان أمينًا قبل قوله فيما يغاب عليه وفي غيره، وإن لم يكن أمينًا لم تكن العارية من الأمانات، وبالتالي فهو مطالب بالضمان مطلقًا حتى ولو علم الهلاك، وتيقنا أنه لم يتعد ولم يفرط، فلماذا نطلب منه البينة على أن الهلاك حصل بغير فعله؛ فإذا أثبت لنا ذلك أسقطنا عنه الضمان بحجة أنه أمين، مع أن الأمين لا يضمن إلا بالتعدي والتفريط، فكان مقتضى كونه أمينًا أن نقبل قوله بلا بينة، هذا وجه التناقض في مذهب المالكية في فهمي المحدود. القول الرابع: أنه لا ضمان على المستعير إلا أن يشترط عليه الضمان، حكى هذا القول ابن شعبان من المالكية، وعابه، وهو رواية عن أحمد (¬1). وسوف نذكر أدلتهم في مسألة مستقلة لأهمية هذا القول، هل اشتراط الضمان في عقود الأمانات معتبر، ولا محذور فيه، فانظره في المسألة التالية. ¬
القول الخامس: إن شرط نفي ضمانها لم يضمن، وإن أطلق ضمن، اختاره بعض المالكية، وهو رواية عن الإِمام أحمد (¬1). ¬
جاء في فتح العلي المالك: "تقدم في كلام اللخمي في مسألة الرهن أن ابن القاسم وأشهب اتفقا على أنه لا ضمان على المستعير إذا شرط نفي الضمان وتقدم في كلام التوضيح عن المازري نحوه. وقال اللخمي في كتاب العارية: واختلف إذا شرط، المستعير أنه مصدق في تلف الثياب وما أشبهها فقال ابن القاسم وأشهب: له شرطه ولا شيء عليه" (¬1). قال ابن القيم في أعلام الموقعين: "اختلف الناس في العارية: هل توجب الضمان إذا لم يفرط المستعير؟ على أربعة أقوال: ... الرابع: أنه إن شرط نفي ضمانها لم يضمن، وإن أطلق ضمن، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد" (¬2). ° وجه هذا القول: أما أدلتهم على وجوب الضمان إذا كان العقد مطلقًا فقد تقدم، فلا حاجة إلى إعادته، وأما سقوط الضمان بالشرط، فلأن العارية معروف وإحسان، وإسقاط الضمان معروف ثان، فهي زيادة في الإرفاق به والإحسان عليه فتصح، وليس بمنزلة ما كان أصلًا عن معاوضة كالرهن وإجارة الصناع (¬3). ° الراجح: أرى أن القول الراجح أن العارية من عقود الأمانات، لا تضمن إلا بالتعدي ¬
أو بالتفريط، وأن اشتراط الضمان في عقود الأمانات إذا كانت من عقود التبرع أنه شرط معتبر وصحيح، وانظر الأدلة عليه في المسألة التالية.
الفصل الثاني في اشترط الضمان على المستعير
الفصل الثاني في اشترط الضمان على المستعير [م - 2128] أما من يرى أن العارية مضمونة بمقتضى العقد كالشافعية والحنابلة فهذا الشرط يكون مؤكدًا لما يقتضيه العقد، فهو شرط صحيح؛ لأن الضمان مستقر في العارية اشترط أو لم يشترط. وأما من يرى أن العارية ليست مضمونة، وأنها أمانة كالحنفية، ورواية عند الحنابلة فإن هذا الشرط فيه مجال للبحث، هل اشتراط الضمان يجعل العارية مضمونة بالشرط، أو لا؟ القول الأول: لا يصح اشتراط الضمان على المستعير، وهذا هو مذهب الحنفية. جاء في مجمع الضمانات: "العارية أمانة إن هلكت من غير تعد لم يضمن المستعير .... واشتراط الضمان على المستعير باطل" (¬1). كما جاء تنقيح الفتاوى الحامدية جوابًا على سؤال رجل دفع حماره عارية، واشترط عليه ضمانه، فسرق الحمال، فهل لا ضمان عليه، ولو صدر الشرط؟ فقال: نعم قال في وديعة التنوير واشتراط الضمان على الأمين باطل به يفتى. اهـ. وفي العمادية قال أبو جعفر الشرط وغير الشرط سواء؛ لأن اشتراط الضمان ¬
على الأمين باطل وبه نأخذ. اهـ. وفي جامع الفتاوى ولا تضمن العارية وإن التزم الضمان عند الهلاك" (¬1). كما صاغ الحنفية قاعدة فقهية لبيان أن التزام الضمان لا يصح. فقالوا: "اشتراط الضمان على الأمين باطل" (¬2). القول الثاني: أن اشتراط الضمان في عقد العارية شرط صحيح، وهو قول في مذهب الحنفية (¬3)، واختاره بعض المالكية. جاء في تبيين الحقائق: "العارية إذا اشترط فيها الضمان تضمن عندنا في رواية" (¬4). جاء في شرح ميارة، تحت عنوان: فصل في العارية والوديعة والأمناء نقلًا عن ابن الحاجب: "وإذا اشترط إسقاط الضمان فيما يضمن، أو إثباته فيما لا يضمن، ففي إفادته قولان" (¬5). وجاء في الإنصاف عند الكلام على ضمان العارية، قال: "وكل ما كان أمانة لا يصير مضمونًا بشرطه، هذا المذهب، وعليه الأصحاب ... وعنه المسلمون ¬
على شروطهم كما تقدم" (¬1). وقد ذكرنا أدلة هذه المسألة في عقد الوديعة عند الكلام على اشتراط الضمان على المستودع، وانتهيت إلى أن الأمانات قسمان: ما كان من عقود المعاوضات كضمان رأس مال المضاربة، وضمان العين المستأجرة، فهذه المسائل سبق تحرير الخلاف فيها, ولا أرى صحة اشتراط الضمان فيها بحال، وذلك أن التزام الضمان فيها يجعل الضمان جزءًا من المعاملة: ففي ضمان رأس مال المضاربة يوقع الضمان في الربا، حيث يتحول رأس المال إلى ما يشبه القرض، ويتحول الربح إن وجد إلى فائدة للقرض. وفي ضمان العين المستأجرة يوقع المستأجر في الغرر، حيث إن الضمان جزء من الإجارة، ولا يعلم مقدار ما سوف يغرم بسبب التلف، وجهالة الأجرة مفسدة للعقد. وراجع بحث المسألتين في عقد المضاربة، وعقد الإجارة فقد استوفيت ذكر الأدلة مما يغني ذلك عن إعادته هنا. القسم الثاني: ما كانت الأمانات من عقود التبرع، كالوديعة والعارية فهذا يصح اشتراط الضمان على الأمين؛ حيث لا يوقع اشتراطه لا في ربا, ولا في غرر، وعلى فرض أنه أوقع في غرر، فإن الغرر في عقود التبرع مغتفر، وقد تبرع به المستعير فلا حرج في اشتراطه. ولم يثبت دليل من الكتاب أو من السنة على تحريم اشتراط الضمان في رد العارية، وإذا لم يثبت فإن التزام مثل هذا الشرط لا يكون حرامًا؛ لأن الأصل في الشروط الصحة والجواز. ¬
وقد دل على صحة اشتراط الضمان في عقود الأمانات إذا كانت قائمة على التبرع حديث استعارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صفوان بن أمية، فقال له: أغصبًا يا محمَّد، فقال: بل عارية مضمونة، وقد سبق تخريجه، على القول بأنه دليل على اشتراط الضمان، وقد سبقت مناقشته في المسألة السابقة، والله أعلم.
الباب الرابع في انتهاء عقد العارية
الباب الرابع في انتهاء عقد العارية الفصل الأول انتهاء العارية بانتهاء مدتها [م - 2129] مر معنا أن العارية قد تكون مطلقة، وقد تكون مقيدة فإذا قيدت العارية بعمل كزراعة أرض مثلًا، أو قيدت بأجل معين فإنها تنتهي بانقضاء ذلك العمل أو بلوغ ذلك الأجل، حتى لو حبس العارية بعد انقضاء مدتها فإنه يضمن؛ لأنه صار بحبس العارية عن أهلها بمنزلة الغاصب (¬1). جاء في تبيين الحقائق: "لو كانت العارية مؤقتة، فأمسكها بعد مضي الوقت، ولم يردها حتى هلكت ضمن" (¬2). وجاء في مجلة الأحكام العدلية: "العارية الموقتة نصًّا أو دلالة يلزم ردها للمعير في ختام المدة، لكن المكث المعتاد معفو. مثلًا لو استعارت امرأة حليًّا على أن تستعمله إلى عصر اليوم الفلاني لزم رد الحلي المستعار في حلول ذلك الوقت، وكذلك لو استعارت حليًّا على أن تلبسه ¬
في عرس فلان لزم إعادته في ختام ذلك العرس، لكن يجب مرور الوقت المعتاد للرد والإعارة" (¬1). وجاء في شرح الخرشي: من أعار شخصًا أرضه ليبني فيها، أو يغرس غرسًا إلى مدة معلومة، ثم انقضت مدة البناء أو الغرس المشترطة، أو المعتادة فإن المستعير يصير حكمه حكم الغاصب" (¬2). وجاء في شرح منتهى الإرادات: "يجب رد عارية بطلب مالك، وبانقضاء الغرض منها، وبانتهاء التأقيت ... " (¬3). وفي كشاف القناع: "وإن وقتها المعير فله أي المستعير أن ينتفع بها أي بالعارية ما لم يرجع المعير أو ... ينقضي الوقت فلا ينتفع إلا بإذن؛ لانتهاء الإعارة، فإن كان المعار أرضًا وانقضت مدة الإعارة لم يكن له أي المستعير أن يغرس ولا يبني ولا يزرع بعد الوقت الذي حدث به الإعارة ... فإن فعل شيئًا من ذلك بأن غرس، أو بنى أو زرع بعد الوقت أو الرجوع فكغاصب" (¬4). ¬
الفصل الثاني تنتهي الإعارة برجوع المعير أو رد المستعير
الفصل الثاني تنتهي الإعارة برجوع المعير أو رد المستعير [م - 2130] تنتهي العارية برد المستعير العين المعارة، وهذا محل اتفاق بين الفقهاء. قال ابن قدامة: "يجوز للمستعير الرد متى شاء بغير خلاف نعلمه؛ لأنه إباحة، فكان لمن أبيح له تركه كإباحة الطعام" (¬1). وأما المعير فهل يملك الرجوع عن العارية؟ اختلف العلماء في هذا على قولين: القول الأول: أن له الرجوع مطلقًا سواء كانت العارية مطلقة أو مقيدة، وهذا قول الجمهور في الجملة، إلا إذا تضمن الرجوع ضررًا على المستعير، على خلاف بينهم هل تبقى بلا مقابل، أو تبقى بأجرة المثل. جاء في مجلة الأحكام العدلية: "متى طلب المعير العارية لزم المستعير ردها إليه فورًا، وإذا أوقفها، وأخرها بلا عذر فتلفت العارية أو نقصت قيمتها ضمن" (¬2). القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن الإعارة إن قيدت بوقت أو أجل فإنه لا يحق للمعير ¬
الرجوع إلى انقضاء ذلك العمل أو الأجل، وقد وافق الشافعية في قول، والحنابلة في رواية إلى لزوم الإعارة إذا كانت مؤقتة. وإن كانت الإعارة مطلقة لم تقيد بعمل أو أجل فللمالكية ثلاثة أقوال، المعتمد في المذهب أن الإعارة لا تلزم، ولربها أخذها متى شاء، ولا يلزم قدر ما تراد لمثله عادة، وهو قول ابن القاسم وأشهب (¬1). وجاء في تحفة المحتاج: "والعارية المؤقتة كالمطلقة -يعني في جواز الرجوع فيها- لأن التأقيت وعد لا يلزم، وقيل: لا يجوز له الرجوع حينئذ وإلا لم يكن للتأقيت فائدة" (¬2). وجاء في الإنصاف: "وعنه: إن عين مدة تعينت، قال الحارثي: وهو الأقوى، وعنه: لا يملك الرجوع قبل انتفاعه بها مع الإطلاق. قال القاضي: قياس المذهب يقتضيه" (¬3). وقد فصلت ذلك فيما سبق عند الكلام على توصيف عقد العارية، هل هو عقد جائز، أو عقد لازم، فارجع إليه إن شئت، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث تنتهي الإعارة بجنون أو موت أحد المتعاقدين
الفصل الثالث تنتهي الإعارة بجنون أو موت أحد المتعاقدين [م - 2131] إذا حسن أو مات أحد المتعاقدين، فهل تنتهي الإعارة، في ذلك خلاف راجع إلى مسألة سابقة، هل العارية من العقود الجائزة، أو من العقود اللازمة. القول الأول: الجمهور يرى أن عقد العارية من العقود الجائزة، ولهذا تنتهي بالموت أو الجنون. جاء في بدائع الصنائع: "والعارية تبطل بموت المعير" (¬1). قال السيوطي: "يبطل بالجنون كل عقد جائز، كالوكالة إلا في رمي الجمار، والإيداع، والعارية ... " (¬2). وفي أسنى المطالب: "وتنفسخ العارية بموت واحد من العاقدين وجنون، وإغماء، وحجر سفه من واحد منهما كسائر العقود الجائزة" (¬3). وفي كشاف القناع: "ويجب الرد أيضًا بانقضاء الغرض من العين المعارة ... وبموت المعير أو المستعير؛ لبطلان العارية بذلك؛ لأنها عقد جائز من الطرفين" (¬4). ¬
° وجه انفساخ العارية بالموت والجنون: أن المستعير إذا مات بطلت العارية؛ لأن المعير أباح منافع ملكه له، ولم يبحها للوارث. وأما بطلانها بموت المعير أو جنونه، فلأن العارية عقد جائز، ومنافع العارية متجددة تحدث شيئًا فشيئًا، فإذا مات فقد انتقل المال إلى الوارث، فكانت منافع العارية الحادثة بعد الموت حادثة على ملك الورثة، وهم لم يبيحوا العارية للمستعير، فبطلت، وفي الجنون فقد أهلية التبرع، والولي لا يملك التبرع، فبطلت. القول الثاني: يرى أن عقد العارية إن كان مطلقًا، فهو عقد جائز، وإن كان مقيدًا فهو عقد لازم، وفي حال لزوم العقد فإن مات المستعير انتقل الحق إلى وارثه. وهذا مذهب المالكية. جاء في المدونة: "سألت مالكا عن الرجل يعير الرجل المسكن، أو يخدمه الخادم عشر سنين فيموت قبل أن يتمها؟ قال: قال مالك: ورثته مكانه. قلت: وإن لم يقبض؟ قال: وإن لم يقبض. قلت: فإن مات الذي أعاره قبل أن يقبض المعار عاريته؟ قال: لا شيء له في قول مالك. قلت: فإن كان قد قبض ثم مات رب الأرض؟
قال: فلا شيء لورثة رب الأرض حتى يتم هذا سكناه, لأنه قد قبض وهذا قول مالك. وكذلك العارية والهبة والصدقة" (¬1). ¬
الفصل الرابع انتهاء العارية بهلاك العين المعارة
الفصل الرابع انتهاء العارية بهلاك العين المعارة [م - 2132] المعقود عليه تارة يكون في الذمة، وتارة يكون على معين. فما كان في الذمة لا يبطل بتلف المال كالدين والقرض (¬1). وما كان من الأعيان فإذا تلف بغير تعد ولا تفريط فإنه يفوت. فالتلف يكون سببًا لانتهاء بعض العقود إذا كان واقعًا على الأعيان، سواء كان من عقود التبرع كالعارية والوديعة؛ لأنه يتعذر استمرار العقد مع فوات محل العقد (¬2). أو كان من عقود المعاوضات كعقد الإجارة، فالإجارة إن كانت على عين وتلفت فقد انتهى عقد الإجارة، بخلاف الإجارة في الذمة فإنه لا يلحقها تلف، فلو أنك استأجرت منه دابة صفتها كذا وكذا, ولم تعين الدابة، فتلفت جميع دوابه فإن العقد لا يبطل , لأن العقد كان في الذمة، وما كان في الذمة لا يلحقه تلف، وقد سبق بيانه في عقد الإجارة. ¬
الفصل الخامس انتهاء العارية باستحقاق العين المعارة
الفصل الخامس انتهاء العارية باستحقاق العين المعارة [م - 2133] إذا استحقت العين المستعارة، فظهر مالك للعين المعارة فقد انتهى عقد العارية؛ لأن المعير ظهر أنه لا يملك العين المعارة، وإذا كان لا يملكها لم يملك إباحة منافعها. فإن تلفت العين المستعارة عند المستعير أو نقصت، فقد اختلف الفقهاء في الضمان على من يستقر؟ على قولين: القول الأول: إن ضمن المالك المستعير لم يكن له الرجوع بما ضمن على المعير، بخلاف عقود المعاوضات كالبيع والإجارة فله ذلك، وهذا مذهب الحنفية والمالكية (¬1). ° وجه القول بعدم الرجوع: الإعارة عقد تبرع، والمعير لم يضمن للمستعير سلامة العين المعارة، ولأن المستعير قد حصل على منفعة العين المعارة بغير عوض، فإذا استحقت لم يرجع على من تبرع له بذلك، كما لو ورثها فاستحقت، لم يرجع في مال الوارث بقيمتها، كذا هذا. ¬
جاء في مجمع الضمانات: "هلكت في يد المستعير، ثم استحقت، للمالك أن يضمن أيهما شاء، ولا يرجع أحدهما على صاحبه" (¬1). جاء في المدونة: "أرأيت إن استعرت من رجل ثوبا شهرين لألبسه، فلبسته شهرين فنقصه لبسي، فأتى رجل فاستحق الثوب، والذي أعارني الثوب عديم لا شيء له، أيكون للذي استحقه أن يضمنني ما نقص لبسي الثوب؟ قال: نعم في رأيي، مثل ما قال مالك في الاشتراء. قلت: فإن ضمنني، أيكون لي أن أرجع بذلك على الذي أعارني في قول مالك؟ قال: لا أرى لك أن ترجع عليه بشيء, لأن الهبة معروف، ولأنه لم يأخذ لهبته ثوابا فيرجع عليه بالثواب" (¬2). القول الثاني: الرجوع على المعير أو المستعير، وهو قول الشافعية والحنابلة على خلاف بينهم في الذي يكون عليه قرار الضمان. فاختار الشافعية أنه إن ضمنه المستعير لم يرجع على من أعاره؛ لأن التلف أو النقص كان من فعله. وإن ضمنه المعير فمن اعتبر العارية مضمونة قال: للمعير أن يرجع على المستعير؛ لأنه كان ضامنًا. ¬
ومن اعتبر العارية غير مضمونة لم يجعل له أن يرجع عليه بشيء؛ لأنه سلطه على الاستعمال. وقال الحنابلة: إن ضمن المستعير رجع على المعير بما غرم؛ لأنه غره وغرمه، ما لم يكن المستعير عالمًا بالحال فيستقر عليه الضمان؛ لأنه دخل على بصيرة، وإن ضمن المالك المعير الأجرة لم يرجع بها على أحد إن لم يكن المستعير عالمًا، وإلا رجع عليه (¬1). جاء في الأم للشافعي: "وإذا استعار الرجل من الرجل ثوبا شهرا أو شهرين فلبسه فأخلقه ثم استحقه رجل آخر أخذه وقيمة ما نقصه اللبس من يوم أخذه منه، وهو بالخيار في أن يأخذ ذلك من المستعير اللابس أو من الآخذ لثوبه. فإن أخذه من المستعير اللابس، وكان النقص كله في يده لم يرجع به على من أعاره من قبل أن النقص كان من فعله، ولم يغر من ماله بشيء فيرجع به، وإن ضمنه المعير غير اللابس فمن زعم أن العارية مضمونة، قال: للمعير أن يرجع به على المستعير؛ لأنه كان ضامنا، ومن زعم أن العارية غير مضمونة لم يجعل له أن يرجع عليه بشيء؛ لأنه سلطه على اللبس" (¬2). وقال ابن قدامة: "ومن استعار شيئًا، فانتفع به، ثم ظهر مستحق فلمالكه أجر مثله، يطالب به من شاء منهما، فإن ضمن المستعير، رجع على المعير بما غرم؛ لأنه غره بذلك وغرمه؛ لأنه دخل على أن لا أجر عليه. وإن رجع على المعير، ¬
لم يرجع على أحد، فإن الضمان استقر عليه" (¬1). وهذا هو الأقرب، والله أعلم. وبهذه المسألة أكون قد انتهيت بفضل من الله سبحانه وتعالى من عقود التبرع، والتي قد انتظمت في ثمانية عقود، ابتدأتها بعقد الوقف، ثم الوصية، ثم القرض، ثم الهبة، ثم الوديعة، ثم اللقطة، ثم اللقيط، وكان آخرها عقد العارية، فلله الحمد أولًا وآخرًا، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} اللهم كما أنعمت علينا بفضلك، فارزقنا شكرها قولًا وعملًا برحمتك، وأسألك اللهم أن ترزقني إتمام هذه العمل طلبًا لمرضاتك، ومحبة لمعرفة شرعك وأحكامك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. ¬