المطلق والمقيد
حمد بن حمدي الصاعدي
مقدمة
مقدمة ... شكر وتقدير الحمد لله رب العالمين، الذي بيده كل عون وتوفيق، أحمده وأشكره على نعمه التي لا تعد ولا تحصى. أما بعد: فكثيرون هم الذين أسهموا في إبراز هذه الرسالة حتى وصلت إلى المرحلة التي يشاهدها القارئ بين يديه. وأنا - قبل القارئ - مدين لهم بالشكر والتقدير، لما أبدوه من اقتراحات مفيدة. وما بذلوه من مساعدات علمية مشكورة. وأخص منهم بالذكر أستاذي وشيخي فضيلة الدكتور (محمد عبد الرحمن مندور) المشرف على الرسالة، الذي لم يتوان في تقديم التوجيه السديد، والملاحظة الدقيقة النافعة، مما كان له الفضل - بعد الله تعالى - في إخراج هذه الرسالة إلى حيز الوجود؛ حيث كان يرعاها ويتعهدها بتوجيهاته المفيدة، منذ كانت فكرة حتى نضجت وكملت، كما لا أنسى أن أنوه بالروح العلمية العالية التي لمستها من القائمين على شؤون الدراسات العليا، التي فتحت أمامي مجالات وآفاقاً واسعة سطرت آثارها على هذا البحث شكلاً ومضموناً. فهذه الرسالة بحق ثمرة التجاوب والتعاون العلمي المفيد الذي وجدته من جميع أسرة الجامعة. وهنا لا بد أن أنوه - أيضاً - بالعون العلمي والمادي الذي تبذله حكومتنا الرشيدة لطلاب العلم، ممثلة في الجامعة الإسلامية التي وفرت وما زالت توفر جميع ما من شأنه نجاح البحث العلمي النافع؛ فمكتباتها بما
تحويه من نفائس الكتب ونوادر المخطوطات غير محجوبة، وأبوابها دائماً مفتوحة للطلاب المستفيدين، فالله أسأل أن يجزي الجميع عني خير الجزاء، وأن يهدينا وإياهم إلى ما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب.
المقدمة وتشتمل على: 1 - كلمة في نشأة علم أصول الفقه وأهميته. 2 - أهمية الموضوع وسبب اختياره. 3 - طريقة كتابة البحث وتخطيطه.
تستمد منه أحكام الفقه الإسلامي، وقد تضمنا من المبادئ والقواعد والتوجيهات العامة ما يهدي إلى سواء السبيل. وبمجهودات الصحابة - رضوان الله عليهم - وما نقلوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم من شرح وتوضيح وتوجيه، ثم بمجهودات أئمة الأجيال التي أعقبت الصحابة - رضي الله عنهم - جاء البيان التام لمصادر الشريعة الإسلامية، واتضحت المناهج التي يمكن بها استمداد الأحكام التي تحدد مسار الخلق، وترسم لهم الطريق الذي يقودهم إلى بلوغ مصالحهم في الدنيا والآخرة. فبهذه المجهودات المتواصلة تَكَوَّن عِلْمٌ ذو شأن عظيم، وأهمية بالغة هو: علم أصول الفقه الإسلامي. وما دمنا بصدد الحديث عن أهمية أصول الفقه، فلعل مما يفيد في
هذا المقام ما أورده الأسنوي1 في كتاب التمهيد حيث يقول: "وبعد: فإن علم أصول الفقه، علم عَظُمَ نفعه وقدره، وعلا شرفه وفخره؛ إذ هو مثار الأحكام الشرعية، ومنار الفتاوى الفرعية التي بها صلاح المكلفين معاشاً ومعاداً، ثم إنه العمدة في الاجتهاد، وأهم ما يتوقف عليه من المواد2"3. وقد ظل علم أصول الفقه محط اهتمام المسلمين على مر العصور، وظل في مقدمة العلوم التي يندفع الدارسون لتلقيها وتدريسها.
والسبب في ذلك يعود إلى أن علم أصول الفقه يتمتع بخاصية تميزه عن سائر العلوم. فهو غزير في مادته، يشبع نهم المقبلين عليه، ويخاطب عقولهم، ويحث فيهم جذوة التفكير - بجانب أهميته ومكانته الرفيعة، فإذا أدرك الباحث أبعاد هذا العلم يجده متصلاً بجميع العلوم الشرعية، والعربية بمواده المتنوعة، فلا يتمكن منه دارس إلاَّ وقد حصلت له ملكة استنباط الأحكام الشرعية. فعلم الأصول على هذا ليس كما يتصوره بعضهم، علماً محصوراً في تعريفات ومناقشات لفظية، جافاً غير آخاذ، بل هو على العكس من ذلك تماماً، يدرك ذلك علماء الأصول الذين عايشوه دراسة وتدريساً، ومما يدل على ذلك أيضاً أن العالم بالفقه والأصول يقدم على غيره في الوظائف المهمة؛ لخطورة وأهمية ما يحمله، فهو الذي يولّى أخطر منصب في الدولة الإسلامية، ألا وهو منصب القضاء؛ فالفقهاء الملمون بالأصول مقدمون على غيرهم في تولي هذا المنصب، ويفضل - من هؤلاء - العارفون بحياة الناس الاجتماعية وعاداتهم المرعية. ومع هذه المكانة العالية لأصول الفقه، والجهود التي بذلت فيه على مر العصور إلا أن التأليف فيه قد جاء متسماً بصفة العموم والإجمال في بعض النواحي والإحالات على المواضيع التي يشبه بعضها بعضاً. أضف إلى ذلك أن أسلوب التأليف في القديم يختلفُ عنه في الوقت
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أضاء الكون بنور الإسلام، وأنزل القرآن على خير الأنام، الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل الحكيم العلاَّم، الرسالة الخالدة، والخالية من الأخطاء والأوهام، المتصف بالتآلف والوئام. والصلاة والسلام على خير البرية، ومعلم البشرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أفضل بني آدم خلقاً وسجية، بعث بالحنيفية والأخلاق المرضية، وفسر القرآن بسنته القولية والفعلية، وبيّن الأحكام الشرعية بالكلمات القدسية، وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به واتبعوا هديه المبين، وتمسكوا بدينه واعتصموا بحبله المتين، ودافعوا عن شريعته بكل غال وثمين، وشددوا النكير على النزاع والخلاف بين المؤمنين، ورفعوا راية الإسلام في المشارق والمغارب قاصدين بذلك رضا رب العالمين. وعلى من اتبع هديه إلى يوم الدين من أمته المجتهدين المخلصين الذين صرفوا أعمارهم في خدمة الشريعة وأحكامها، فوفقوا بين نصوصها، ودفعوا التخالف عنها، وأعملوا راجحها وأولوا مرجوحها؛ فجعلوا لكل مسألة حكمها، ولكل مشكلة حلها، ولكل قضية مسارها، ولكل معارضة جمعها وتوفيقها، فبذلك كونوا ثروة فقهية عظيمة، كانت وما زالت مصدر كل باحث، ومعين كل تشريع.
1 - أهمية أصول الفقه: قد يكون من نافلة القول الحديث عن مكانة وأهمية أصول الفقه - باعتباره قواعد وضوابط كلية - تبين وتفسر نصوص الأحكام من الكتاب والسنة؛ اللذين إليهما مرد الشريعة الإسلامية في مصادرها الأصلية والتبعية؛ فالكتاب وهو كلى الشريعة وأصل أصولها تناول الأحكام بطريقة يزينها طابع الإجمال والعموم في الغالب. وتليه السنة التي كانت ترجمانه وتفصيله، وطريقة الوصول إلى هدايته وتفسيره، قال الله - تعالى -: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1، فكان بيان ما أجمل من القرآن بطريق السنة، والكل وحي من الله - تعالى - إلى رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله - تعالى -: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 2، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه ... "3 الحديث؛ فالقرآن الكريم والسنة المطهرة هما الأساس الذي
الحاضر، وقلما تجدُ قارئاً لا يجدُ صعوبةً في دراسةِ الأصول، وفهم الأساليب التي كتبت بها. لهذا كله كان من الواجب على الباحثين في الدراسات الأصولية - وخاصة أصحاب رسائل الماجستير والدكتوراه - أن يهتموا بتلك النواحي التي لم تشبع بحثاً وتنقيباً، فيختاروها مواضيع لرسائلهم، وبهذا العمل يحققون أكثر من هدف لأنهم: أولاً: قد أكملوا تلك المواضيع التي لم يتناولها القدماء بالتفصيل. ثانياً: فإن كتابة رسائلهم ستكون متمشية مع أسلوب العصر، وفي ذلك تسهيل وتبسيط لفهم جانب كبير من تراثنا الإسلامي العريق.
2 - أهمية الموضوع وأسباب اختياره: إن أهمية الموضوع تنبع من أهمية أصول الفقه نفسه، ومع هذا فإن مواضيع الأصول تتفاوت لمزايا خاصة بها، ولعل موضوعَ معرفة دلالة الألفاظ العربية من ناحية العموم والخصوص - ومنْ ناحية الإطلاق والتقييد من المواضيع الجديرة بالدراسة والبحث؛ لأن معظم أدلة الشرع غالبها العمومات والإطلاقات، فعلى من أراد فَهْم الأحكامِ الشَّرعية المستمَدَّة من نصوص الكتاب والسنة أن يكونَ مدركاً لأحكام الخطاب العام وعلاقته بالخاص، ولأحكام الخطاب المطلق وعلاقته بالمقيَّد، ومقاصد ذلك في اللسان العربي والعرف الشرعي. وقد اهتم الأصوليون - قديماً وحديثاً - بمباحث العام وتخصيصه، وأحكام كل منهما وعنوا بهما عناية فائقة تظهر بإلقاء نظرة على مؤلفاتهم في هذا الفن، كما أفرده بعضهم بمؤلفات ورسائل خاصة1. لكن المطلق حيث كان قريب الشبه بالعام اكتفى بعض الأصوليين من الجمهور بذكره عقب العام وأحكام التخصيص، ثم أحالوا من أراد
معرفة أحكام المطلق وتقييده على ما ذكروه في باب التخصيص، مكتفين بقولهم: "إن كلَّ ما يخصص العام يقيد به المطلق، وكل ما لا يجوز أن يخصص به العام لا يجوز أن يقيد به المطلق". وبالتالي لم تحظ أحكام المطلق بالتفصيل الذي حظيت به أحكام العموم. وهذا النقص والإجمال جدير أن يكون موضوعاً لرسالة علمية؛ لأن للمطلق ماهيته التي كانت مثار نقاش طويل لدى العلماء من حيث تحديدها، والفرق بينها وبين ماهية النكرة، ثم بينها وبين ماهية العام، وهل المطلق من قبيل العام أو الخاص؟ وإذا كان من أنواع الخاص فما تفسير قول العلماء: العام المطلق والفعل المطلق؟ ثم إن للمطلق دلالتَه التي لم يتفق الأصوليون على تصنيفها، أهي قطعيةٌ أم ظنيةٌ؟ ثم ما صلة المطلق بالمقيد؟ وهل يحمل المطلق على المقيد أولاً؟ وإذا كان المطلق يحمل على المقيد فما معنى ذلك، وما سببه؟ وما شروطه؟ وفي أي الحالات يكون حمل المطلق على المقيد وفي أيها يمتنع الحمل؟ ثم ما حكم حمل المطلق على المقيد إذا ما تعدد القيد؟ وما سبب الخلاف في الحالات التي لم يتفق الأصوليون على حمل المطلق على المقيد فيها، وما علاقة اختلافهم هذا بالقول بمفهوم المخالفة، وبالزيادة على النص، وما أثر هذا الخلاف على الفروع الفقهية؟ وأخيراً ما معني التقييد؟ وما الفرق بينه وبين التخصيص وبينه وبين النسخ؟ ثم بأي شيء يكون
تقييد المطلق؟ كل هذه التساؤلات وغيرها كانت سبباً مباشراً؛ لأن يكون موضوع بحثي الذي أتقدم به لنيل درجة الماجستير في قسم أصول الفقه في الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية، هو: (المطلق والمقيد وأثرهما في اختلاف الفقهاء) . يضاف إلى ذلك سببٌ آخر شدَّني إلى الكتابة في هذا الموضوع وحملني على امتطاء عبابه، ألاَ وهو: بيان أن أدلةَ الشرعِ متآلفة لا متنافرة، متوافقة لا متعارضة، ليس بينها خلاف في نفس الأمر في المدلولات، ولا تباين في المفهومات، متى كان الدليلان متفقاً على صحتهما، وأخذ الأحكام عن طريقهما، لقوله - تعالى -: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً} 1، مفهوم الآية: نفي الاختلاف عن القرآن في نفس الأمر، غير أنه في بادئ النظر قد يجد المرء أن هناك تنافياً بين دليلين منطوقاً أو مفهوماً، وذلك راجع لنقص في علمه، أو خلل في فهمه وإدراكه للأصول والقواعد التي تنظم العلاقة بين أدلة الشريعة الإسلامية. فمثل هذا يجب أن يبصر ويعلم؛ ولا يكون إلا بمراجعة الكتب والرسائل التي تعالج هذه المواضيع بأسلوب علمي سهل.
- وأيضاً - فإن الكتابة في تلك المواضيع ستقوم بلا شك بوظيفة تقريب شقة الخلاف بين المذاهب الإسلامية، وإزالة الشكوك التي تساور النفوس الضعيفة، فتقول: إذا كان القرآن واحداً ونبي الإسلام واحداً، فَلِمَ هذا الاختلاف؟ ولماذا لم تتفق كلمة الفقهاء في الفروع، وما هي أسباب تلك الخلافات؟ إلى غير ذلك من التشكيك والأسئلة التي أساسها إما الجهل، أو عدم التَّحري في النقل عن المذاهب، أو عدم الدِّقِّة في الفهم والنظر، لهذا كله استخرت الله تعالى في الكتابة في هذا الموضوع، راجياً منه التوفيق والسداد.
3 - طريقة البحث وتخطيطه: البحث، أو الرسالة الجامعية العالية عبارة عن قسمين: أحدهما: رئيس ويسمى (صلب الموضوع) ، وتبدأ كتابته بأعلى الصفحات ويحتل في الغالب ثلث الصفحة. والقسم الآخر: تابع للأول ومكمل له، ويسمى (بالهوامش أو التعليقات) ومكانه أسفل صفحات الرسالة، ويفصل بين القسمين خط أفقي. وطريقة بحثي في القسم الأول: (صلب الرسالة) تتلخص في الآتي: أولاً: عند التعريف بالمفهوم الاصطلاحي، أو القاعدة الأصولية. إذا كان المفهوم أو القاعدة منضبطاً وقابلاً للتحديد اللغوي والاصطلاحي، فإني أبدأ أولاً بتعريفه في اللغة، ثم في الاصطلاح، وأشرح التعريف وأبيِّن محترزاته أحياناً. أما إذا كان الأمر بخلاف ذلك فإنَّ تعريفه يكون بتصويره وتقريبه بالأمثلة التي تبين المراد منه. ثانياً: عند عرض آراء الفقهاء في القواعد والمسائل الأصولية: 1 - أبدأ بذكر أقوال العلماء في المسألة أو القاعدة، فإذا كانت الآراء حول القاعدة وأدلتها أو المسألة قليلة، فإني أذكر عقب كل رأي دليله ومناقشته، وإذا كان هناك ملاحظات أو إضافات أضفتها ولا
أؤخر ذلك كما يفعل بعضُ الباحثين؛ لأن تأخيرَه يشتِّت الفكرَ، ويحول دون تسلسله. 2 - أما إذا كانت الآراء حول المسألة أو أدلتها كثيرة، فإني أذكر الأقوال مجملة أولاً، ثم أتبع ذلك بأدلة كل مذهب على حدة، وغالباً ما يكون المذهب الراجح هو الأخير إلا ما صرَّحْتُ فيه بوجهة نظري. 3 - إذا كان الدليلُ عليه اعترض، فإني أذكر الاعتراض والرد عليه عقب الدليل مباشرة ولا أؤخر ذلك خشية تشتيت الذهن وعدم ترابط الأفكار. ثالثاً: أقارن بين الأدلة واستعرض مناقشات كل فريق لأدلة الفريق الآخر، فإذا كانت عندي ملحوظة أو إضافة فإني أذكرها، ثم أرجح ما يطمئن إليه قلبي وأعضد ذلك بوجهات نظري التي استنتجتها من الأدلة والمقاصد العامة للشريعة الإسلامية. رابعاً: أذكر مثالاً أو أكثر لكل مسألة أو قاعدة تعرضت لبحثها، إذا وجدت من مَثَّلَ لها، وإن لم أجد اجتهد وأمثل من عندي إلا إذا لم أتمكن فأكون معذوراً في عدم التمثيل. وقد أشرتُ عقب كل قاعدة إلى أثر الخلاف في الفروع، ثم خصصت فصلاً كاملاً لأثر الخلاف بيَّنت فيه أثر الاختلاف في القواعد الأصولية العامة في باب المطلق والمقيد على الفروع الفقهية إيماناً مني أن
المهم في دراسة الأصول هو ربط القاعدة العامة بالفروع التي تفرعت عن الاختلاف في تلك القاعدة العامة. خامساً: عند عرض المسألة الفرعية التطبيقية: أرجع إلى كتب الفقه المشهورة واعتمد في كل مذهب على كتبه الخاصة بغية التأكد من صحة ما نسب إلى كل إمام، ولا أنقل مسألة إلا من كتب أصحابها المعتمدة ما وجدت إلى ذلك سبيلاً، وتارة اعتمد على كتب الأحكام المقارنة المشهود لها بالدقة والأمانة، كنيل الأوطار وسبل السلام، وما شاكلها، ثم أبين أن الخلاف فيها ناشئ عن الخلاف في القاعدة الأصولية التي تفرعت عنها، ولا اكتفي بسرد وجهات النظر حول المسألة الفرعية، بل أقوم أحياناً بالترجيح حسب الأدلة التي ذكرتها، وبذلك يمكن أن يستفاد من البحث من الناحية الفقهية بالإضافة إلى الناحية الأصولية. وأما طريقتي في هوامش الرسالة فهي تتلخص في الآتي: أولاً: النصوص الشرعية التي يودرها الأصوليون - سواء أكانت قرآناً أم سنة - لا اكتفي بنقلها عنهم، بل أرجع إلى مصادرها الأصلية، فأضبط الآية القرآنية من كتاب الله العزيز، وأتأكد من سلامتها من ناحية النقل، ثم أذكر رقم الآية واسم السورة. أما إذا كان النص حديثاً فإني أرجع إلى أمات كتب الحديث لأتأكد
من سلامة لفظه، فإن كان مخرجاً في صحيحي البخاري1 ومسلم2 أو أحدهما اكتفيت بذلك ذاكراً الكتاب والباب الذي وجد فيه اعتقاداً مني أن ذلك أسلم؛ لأن ذكر الجزء والصفحة يختلف تبعاً لاختلاف الطبعات، وأما إذا كان الحديث مخرجاً في غير الصحيحين، فإني أذكر من خرجه ودرجته من الصحة، أو الحسن أو الضعف، إذا وجدت من حكم عليه بذلك من الحفَّاظ وأهل الاختصاص، وإلا اكتفيت بتخريجه من كتب الحديث المعتمدة ما وجدت إلى ذلك سبيلاً. ثانياً: ذكرت في الهامش المراجع التي استقيت منها البحث، مشيراً إلى اسم الكتاب ومؤلفه، والجزء والصفحة، وعدد الطبعات، واسم
الطابع، وتاريخ الطبع، ومكانه، وهذا يجعلني أذكر كل كتاب وطبعته عند النقل منه، فإذا تكرر ذلك فعذري أنه لا توجد لدي جميع المراجع. ثالثاً: الأعلام التي ذكرت في صلب الرسالة، ترجمت لها في الهامش ترجمة موجزة، سواء كان المذكور صحابياً أو غيره، ليكون القارئ على بينة منه، ثم أحيل طالب الزيادة على المراجع التي ذكرت الترجمة بالتفصيل. رابعاً: شرحت المصطلحات والألفاظ الغريبة والأفكار التي وردت في أثناء البحث، وفيها إجمال، أما ما كان له تعلق بالموضوع فقد بينته في صلب الرسالة. فهذه جهودي المتواضعة في هذا البحث، وأرجو أن تكون قد كُلّلَت بالنجاح والتوفيق.
4 - تخطيط البحث وطريقة تنظيمه: خطة البحثِ أو طريقةُ تنظيمِه تعني في عرف الباحثين رسم صورة متكاملة عن الموضوع المراد بحثه، يحدد فيها الباحثُ المعالمَ التي توضحُ الهيكلَ العام للرسالة، ويكون كلُّ عنصر فيها مكمِّلاً لجانب من جوانب البحث، وحلقة اتصال تربط ما بعدها بما قبلها، ومتى كانت الطريقةُ التي صيغت بها الخطة محكمةً ودقيقةً، فإنها تضفي صورة من الجمال والوضوح التام على الموضوع، وقد جرت العادةُ أن تكون النِّسَبُ التي تربط بين عناصر الخطة متدرجة من الأعلى إلى الأدنى. ولهذا حاولت أن تكون خطةُ بحثي مشتملةً على مقدمة، وتمهيد، وثلاثة أبواب تقفوها خاتمة البحث، وهي في النتائج التي توصلت إليها خلال معايشتي الطويلة لموضوع المطلق والمقيد: فالمقدمة: اشتملت على أهمية البحث وأسباب اختياره، ثم طريقة الكتابة فيه وتخطيطه. وأما التمهيد: فهو في تقسيم اللفظ المفيد إلى عام وخاص. وفيه أربعة مباحث: الأول: في تعريف العام، وألفاظه.
الثاني: في تعريف الخاص وصيغه. الثالث: في الفرق بين دلالة العام والخاص. الرابع: في أنواع الخاص. وفيه مطلبان: الأول: في تعريف الأمر، وصيغه المشهورة وحكم الصيغة المجردة. والثاني: في تعريف النَّهْي وصيغه المشهورة وحكم الصيغة المجردة. الباب الأول في التعريف بالمطلق والمقيد وفيه فصلان: الأول: في تعريفهما. الثاني: في دلالتهما. الفصل الأول: في التعريف بحقيقة المطلق والمقيد. وفيه: تمهيد في تقسيم اللفظ باعتبار الحال الملابسة له، ومبحثان: الأول: في تعريف المطلق لغة واصطلاحاً. الثاني: في تعريف المقيد لغة واصطلاحاً. الفصل الثاني: في دلالة المطلق والمقيد: وفيه خمسة مباحث: الأول: في الفرق بين المطلق والنكرة.
الثاني: في الفرق بين المطلق والعام. الثالث: في المعهود الذهني بين الإطلاق والتقييد. الرابع: في عروض الإطلاق والتقييد للأفعال والأسماء الشخصية. الخامس: في حكم المطلق والمقيد، إذا لم يردا في موضوع آخر مطلقين أو مقيدين. الباب الثاني في حمل المطلق على المقيد وفيه ثلاثة فصول: الأول: في حكم حمل المطلَق على المقيَّد. الثاني: في تحرير محل النزاع وأسباب الخلاف. الثالث: في أثر الخلاف في حمل المطلق على المقيد. الفصل الأول: في حمل المطلق على المقيد: وفيه ثلاثة مباحث: الأول: في المقصود بحمل المطلق على المقيد وسببه. الثاني: في شروط الحمل. الثالث: في أحوال المطلق والمقيد وحكم الحمل في كل حالة. وفيه ثلاثة مطالب: الأول: في محل الاتفاق.
الثاني: في محل الاختلاف. الثالث: في حكم حمل المطلق على المقيد إذا تعدد القيد. الفصل الثاني: في تحرير النزاع وأسبابه: وتحته مبحثان: الأول: حكم التقييد بالمتأخر. الثاني: في أسباب الاختلاف. وفيه مطلبان: الأول: في الاختلاف في حجية مفهوم المخالفة. الثاني: في الاختلاف في الزيادة على النص. الفصل الثالث: في أثر الخلاف في حمل المطلق على المقيد: وفي ثلاثة مباحث: الأول: في مسائل الطهارة والصلاة. الثاني: في مسائل الحدود والكفارات. الثالث: في مسائل متفرقة. الباب الثالث في مقيدات المطلق وفيه تمهيد وفصلان: التمهيد: يحتوي على النقاط التالية:
1 - العلاقة بين مخصصات العام ومقيدات المطلق. 2 - معنى التقييد لغة واصطلاحاً. 3 - المقيد باسم الفاعل ما هو؟ 4 - الفرق بين التقييد والتخصيص. 5 - الفرق بين التقييد والنسخ. الفصل الأول: في تقسيم المقيدات، وحكم المتصل منها: الفصل الثاني: في المقيدات المنفصلة: وتحته مبحثان: الأول: في المتفق عليه. الثاني: في المختلف فيه. ثم خاتمة البحث، وفيها النتائج التي توصلت إليه من خلال البحث.
التمهيد وهو في (تقسيم اللفظ المفيد إلى عام وخاص) ويشتمل على تقديم وأربعة مباحث: الأول: في تعريف العام وألفاظه. الثاني: في تعريف الخاص وصيغه. الثالث: في الفرق بين دلالة العام والخاص. الرابع: في أنواع الخاص.
تمهيد
تمهيد: في تقسيم اللفظ المفيد إلى عام وخاص ألفاظ اللغة العربية ذات دلالات متنوعة1.
فمنها: ما يدل على فرد واحد، أو أفراد كثيرة محصورة بعدد معين فيسمى خاصاً. ومنها: ما يدل على أفراد كثيرة لا حصر لها من ذات اللفظ، بل كلها تنضوي تحت هذا اللفظ الواحد إذا أطلق فيسمى عاماً. والقرآن الكريم الذي هو مصدر الأحكام الشرعية نزل باللغة العربية واستعمل ألفاظها بمختلف أنواعها، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 1، وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} 2، وكذلك كل ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول فهو: عربي مبين؛ لأنه أفصح من نطق بالضاد3. لهذا كله كان بدهياً أن يعني علماء الأصول - وهم المختصون بوضع المناهج والخطط لفهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واستنباط الأحكام منها -. أقول: لقد كان بدهياً أن يعنوا بدراسة الألفاظ العربية من هذه الناحية، أي: (ناحية الخصوص والعموم) ويضعوا القواعد والضوابط التي
تحدد المسار الذي يسلكه كل من أراد معرفة الأحكام الشرعية، من الكتاب والسنة، وقد فعلوا ذلك بكل أمانة، وإخلاص، وبمعايير بلغت الغاية في الدقة، وكان من البداهة أن يقع بينهم بعض الاختلاف، في تلك القواعد والضوابط الكلية، ولا سيما ما يتعلق منها بمباحث العموم المتشعبة التي دارت حولها أقوال علماء الأصول، واختلفت نظرتهم فيها من حيث ماهية العموم1، وقوة دلالة العام، ومدى قابليته للتخصيص2 الذي يحد من استغراقه للأفراد الداخلة تحت عمومه من حيث الظاهر حيث أخذت هذه المباحث قسطاً كبيراً من اهتمامات الأصوليين، والسبب في تشعب
مباحث العموم يعود إلى عدة أسباب نجملها فيها يلي: السبب الأول: اختلاف نظرة العلماء في ماهية العموم. 1 - فمن العلماء من لا يشترط لتحقق هذه الماهية إلا انتظام اللفظ العام جمعاً من المسميات سواء كان الانتظام لهذه المسميات من طريق اللفظ أو المعنى1. 2 - ومنهم من يشترط لتحقق تلك الماهية استغراق اللفظ الموضوع وضعاً واحداً جميع ما يصلح له دفعة واحدة2، بحيث لا يخرج شيء مما يصدق عليه معنى اللفظ، ولهذا السبب اختلفت تعاريف العام عند الأصوليين. السبب الثاني: منهج القرآن الكريم في تشريعه للأحكام، حيث أتى على نحو كلِّي وعام في الغالب، مما يستدعي البيان والتفصيل. السبب الثالث: مدى قابلية اللَّفظ العام للتخصيص الذي يحد من تناوله للأفراد ويقصره على بعضها، وإذا كان اللفظ العام يحتمل التخصيص فهل كل دليل أو قرينة صالح؛ لأن يصرف العام عن ظاهره؟
بقطع النظر عن قوة الدليل أو القرينة، أو لا بد من أن يكون الدليل المخصص للعام في قوة العام ثبوتاً ودلالة؟ ولا عبرة للاحتمال الذي لم ينشأ عن دليل مساو للعام في ثبوته ودلالته1. السبب الرابع: هل قبول العام للتخصيص كقبول الخاص للتأويل2 أو هو أكثر منه؟ ولا ريب أن كثرة قابلية اللفظ للحد من تناوله للأفراد والقاصر له على بعضها تورث شبهة في معناه؛ فلا يقوى على معارضة3، ما هو أقل قابلية لها منه. تلك هي أهم الأسباب التي حملت الأصوليين على الإفاضة في مباحث العموم، ولا يخفى ما لذلك كله من أثر بالغ في تبين مراد الشارع من العموميات والتنسيق بينها وبين ما يعارضها من أدلة خاصة، وما قد
ينعكس على الفروع الفقهية "المستنبطة" من تلك القواعد التي كان منشأ الاختلاف فيها هو الاختلاف في تلك القواعد والضوابط الكلية العامة. وهذا لا يعني أن علماء الأصول لم يعنوا بدلالات الألفاظ من ناحية الخصوص، ووضع القواعد والأسس التي تنير الطريق لكل من أراد معرفة الأحكام واستنباطها من الألفاظ الخاصة، فإن الخاص له ميدان واسع في تفسير النصوص الشرعية وأهمية واضحة يرى أثرها في عناية علماء الأصول وجهودهم في مباحث الخاص، ذلك أن الخاص في ماهيته ودلالته وأنواعه له علاقة بمسالك الأئمة في الاستنباط وما نشأ عن ذلك من الاختلاف في الفروع والأحكام، فهو يقابل العام كما أنه قطعي في دلالته، ولكنه مع ذلك يحتمل التأويل إذا وجد الدليل، ولكن هل احتماله للتأويل كاحتمال العام للتخصيص أو أقل. ذلك ما اختلفت فيه أنظار العلماء، ولأهمية تلك النقاط السابقة سنتناولها في المباحث التالية.
المبحث الأول: في العام لقد بات من المعروف بداهة لدى كل باحث في الشريعة الإسلامية التي نزلت أحكامها باللغة العربية - سواء أكان يريد تحديد مفهوم حقيقة ما من الحقائق التي لها صلة بأحكام الشرع، أم كان يريد تبيين مفهوم نص من نصوصه - المشتملة على تلك الأحكام، أقول: لقد بات من الأمور المسلمة لدى كل باحث في الدراسات الإسلامية أن عليه معرفة مفردات اللغة العربية وتراكيبها، وما ذاك إلا لأن معرفته هي الأصل والأساس الذي يبنى عليه معرفة أحكام الشريعة، ولا يمكن معرفة مفردات اللغة وتراكيبها في الوقت الحاضر إلا بمراجعة المعاجم اللغوية التي حفظت لنا الاستعمالات العربية. ومن خلال البحث والتنقيب في خلايا تلك المعاجم يوقف على الأوضاع اللغوية، والاستعمالات المختلفة للفظ، وعلى ضوء ذلك يحدد المفهوم اللغوي للحقيقة المراد تعريفها، وغالباً ما يكون المفهوم اللغوي أعم من المفهوم الاصطلاحي1.
ولهذا يزاد بعض القيود والأوصاف التي تحد من المفهوم اللغوي إذا أريد تعريف حقيقة ما من الحقائق التي للشرع فيها عُرْفٌ أخص من العرف اللغوي العام، وعلى هذا يكون لكل حقيقة من الحقائق التي يبحثها علماء الشريعة تعريفان: الأول: تحديد المفهوم اللغوي العام. والثاني: تحديد المفهوم في اصطلاح أهل الفن المراد بحث الحقيقة فيه: أ - فالعام في اللغة اسم فاعل من (عم) بمعنى: شمل، مأخوذ من العموم وهو الشمول، يقال: مَطَرٌ عام أي: شامل للأمكنة كلها، وخصْب عام، إذا وسع البلاد وشملها، وعَمَّ القوم بالعطية، إذا شملهم بها، والقرابة إذا زادت بحيث جاوزت الأبوة انتهت إلى صفة العمومة. من خلال هذه الاستعمالات للفظ العام يمكن أن نعرف العموم في اللغة بعبارة وجيزة، ومن تعريف يتضح معنى العام، فنقول: (العموم في اللغة تناول أمر لمتعدد سواء كان لفظاً أو معنى) 1.
ب - العام في الاصطلاح: أشرنا فيما سبق إلى اختلاف العلماء فيما تتحقق به ماهية العام، ورأيناهم يتَّجهون في القدر الذي يتحقق به مفهوم العموم إلى اتجاهين: الأول: من يرى اشتراط الاستغراق في العام، ومعنى ذلك أن يتناول اللفظ كل ما يصدق عليه معناه دفعة واحدة، بدون حصر بالنسبة للفظ العام من حيث هو. ولأصحاب هذا الاتجاه عدة أقوال في تعريف العام، لم تسلم من الاعتراض ولكنها ليست بمتساوية؛ لأن بعض الاعتراضات الواردة عليها يمكن دفعها بسهولة، وبعضها من الصعب أن يوجد له دافع، ولذا سنختار التعريف الآتي: وهو أن العام: (كلمة تستغرق الصالح لها بلا حصر) 1.
الاتجاه الثاني: من يكتفي في تحقق ماهية العموم بانتظام اللفظ جمعاً من المسميات سواء كان انتظامه لها بطريق اللفظ أو المعنى، ويقصد بانتظام اللفظ للمسميات أن يكون دالاً عليها من جهة (الصيغة) مثل: رجال وزيدون، ويراد بانتظام المعنى لها: أن يكون عمومه باعتبار معناه، لا صيغته كـ (القوم والرهط والجن) ؛ فإن هذه الألفاظ عامة من جهة المعنى حيث تناولت جمعاً من المسميات وليست صيغتها صيغة الجمع. وأصحاب هذه الاتجاه لا يشترطون في العام الاستغراق، ويعرفونه بأنه: (لفظ ينتظم جمعاً من المسميات لفظاً أو معنى) 1. أ - شرح التعرف الأول: وهو أن العام: (كلمة تستغرق الصالح لها بلا حصر) : 1 - كلمة: جنس أو كالجنس في التعريف يشمل العام وغيره، والجنس في الأصل: مفهوم كلي مقول على كثيرين مختلفين في الحقائق في جواب ما هو؟ كقولنا في السؤال عن حقيقة الحيوان في ذاته؟ الذي ينطبق على زيد والفرس باعتباره جسماً نامياً حساساً2، ثم اصطلح على إطلاقه على أول ما يذكر في التعاريف، ويرجع قولنا: جنس أو كالجنس بالترديد
إلى اختلاف العلماء في العلوم الاصطلاحية هل لها حقائق خارجية أو لا؟ فمن ذهب إلى الأول عبر بالجنس، ومن ذهب إلى الثاني عبر بكـ (الجنس) 1. والتعبير بالكلمة في تعريف العام أولى من التعبير بـ (لفظ) ؛ لأن اللفظ يطلق على المهمل والمستعمل والكلمة خاصة بالمستعمل. 2 - تستغرق: أي شأنها ذلك، ومعنى استغراق الكلمة أن تتناول كل ما يصدق عليه معناها دفعة دون حصر من ذات اللفظ والمراد بالاستغراق - هنا - معناه اللغوي؛ فلا يكون مرادفاً للعام2، وبهذا القيد أي: الاستغراق تخرج النكرة في الإثبات إذا لم يقترن بها ما يفيد العموم؛ لأنها تتناول فرداً مبهماً كقولك: (أكرم رجلاً) الصادق بإكرام أي رجل كان. 3 - الصالح لها: معنى كون الشيء صالحاً للكلمة أن يكون مقصوداً منها في اللغة3 مثل: (مَنْ) الصالح لمن يعقل و (ما) الصالحة لغير العاقل، وهذا القيد وهو (الصالح لها) لبيان الواقع؛ لأن الكلمة لا تستغرق ما لا
يصلح لها، وفيه فائدة التنبيه على أن العموم شمول اللفظ لما يصدق عليه من معنى. 4 - بلا حصر: أي: من ذات اللفظ ودلالة العبارة، لا في الواقع؛ لأن أفراد العام مهما كثرت فهي محصورة في الخارج، ولكن اللفظ العام لا يدل على ذلك الانحصار، ويدخل في هذا التعريف للعام اللفظ المشترك1 إذا استعمل في أفراد معنى واحد من معانيه، كقولك: (العين يصح منها الوضوء) ؛ لأن المشترك مع القرينة الدالة على استعماله في أفراد المعنى الواحد من معانيه لا يصلح لغيرها. ب - شرح التعريف الثاني، وبيان محترزاته: وهو أن العام: (لفظ ينتظم جمعاً من المسميات لفظاً أو معنى) . 1 - لفظ: جنس، أو كالجنس في التعريف والتعبير بالكلمة أولى منه كما سبق، وفيه إشارة إلى أن العموم من عوارض الألفاظ دون المعاني2.
2 - ينتظم: أي: يشتمل ومفهوم الاشتمال يتحقق بتناول أمر واحد لمتعدد فيكون أعم من الاستغراق في اصطلاح الأصوليين؛ لأن الاستغراق في اصطلاحهم، تناول اللفظ ما يصلح له دفعة واحدة بدون حصر، وبهذا القيد يحترز عن المشترك؛ لأنه لا يشمل معنيين فأكثر، بل يحتمل المعاني الموضوعة لها على السواء، وكذلك تخرج النكرة في سياق الإثبات إذا لم يقترن بها ما يفيد العموم؛ لأنها لا تنتظم جمعاً من المسميات، بل فرداً مبهماً غير معيَّن في الخارج. 3 - جمعاً من المسميات: الجمع في اللغة ضم الشيء إلى غيره ولكن العُرْفَ قصره على الثلاثة فما فوق، فيكون من شرط اللفظ العام عند أصحاب هذا التعريف أن ينتظم من المسميات ما يصح تسميتها بالجمع، وهذا القيد ينتظم الاستغراق وغيره1. وإنما احترز به عن المعاني؛ لأن اللفظ الواحد لا ينتظم جمعاً من المعاني.
4 - لفظاً: أي عمومه مستفاد من جهة صيغته كـ (رجال وزيدون) . 5 - أو معنى: أي عمومه باعتبار معناه دون صيغته مثل: القوم والرَّهط والجن، فإنها ألفاظٌ عامة من جهة المعنى حيث تناولت جمعاً من المسميات وليس صيغتها صيغة الجمع1.
وقد أورد على هذا التعريف اعتراض وهو أنه غير جامع، لأن النكرة المنفية عامة، ولم يتناولها، حيث إنها لا تنتظم جمعاً من المسميات. ودفع هذا الاعتراض: بأوجه منها: أولاً: أن التعريف المذكور لبيان العام الحقيقي، والنكرة المنفية عمومها من جهة القرينة فتكون مجازاً في العموم. ثانياً: سلمنا أن عمومَ النكرة المنفية حقيقيَّ ولكن التعريف المذكور لبيان العام (الصيغي) وليس المراد منه حصر العام الحقيقي وعليه فإيراد الاعتراض غير وارد. ثالثاً: الوضع ليس شرطاً في العام؛ فيجري لفظ العام على إطلاقه وحينئذ يشمل التعريف المذكور عموم النكرة المنفية؛ لأنها تنتظم جمعاً من المسميات معنى1. وقبل أن نودع هذا المبحث نتساءل هل هناك فرق بين تعريف الجمهور والحنفية، وما هي ثمرة الخلاف إذا وجدت؟ وللجواب على هذا التساؤل نقول: نعم، هناك فرق بين التعريفين ولهذا الفرق ثمرة تظهر فيما يلي:
أولاً: أن الجمعَ المعهود والمنكر من قبيل العام عند من عرَّفه بالتعريف الثاني وهم الحنفية لانتظام كل منهما جمعاً من المسميات، وليس الأمر كذلك عند من عرفه بالتعريف الأول الذي أخذ به معظم الأصوليين؛ لأن شرط الاستغراق منتف فيهما. ثانياً: العام الذي خص منه بعض أفراده هل يبقى حقيقة1 في الباقي، أو هو مجاز2 بعد التخصيص؟
يقول علاء الدين البخاري1 شارح أصول البزودي مشيراً إلى ذلك: وفائدة الخلاف بين التعريفين تظهر في العام الذي خص منه، فعلى رأي الجمهور لا يجوز التمسك بعمومه حقيقة؛ لأنه لم يبق عاماً، وعندنا - يعني الحنفية - يجوز التمسك بعمومه حقيقة لبقاء العموم باعتبار الجمعية2. وفي قوله: لا يجوز التَّمسك بعمومه حقيقة إشارة إلى (محط الخلاف) وأنه راجع إلى أن استعمال العام في بعض الأفراد، يجوز عند الحنفية على سبيل الحقيقة، وعلى رأي الجمهور لا يصح استعمال اللفظ العام في بعض أفراده حقيقة، ويصح مجازاً ذلك أن اللفظ موضوع للاستغراق على رأي الجمهور، وبعد تخصيصه ببعض الأفراد خرج الوضع الذي يصح التمسك به من أيدينا فلم يبق إلا المجاز. ويرى بعض الأصوليين أن العام إذا خص بما لا يستقل - كالاستثناء والشرط - أو خص بالعقل يبقى حقيقة في الباقي؛ لأن ما لا يستقل بتمام
الفائدة هو ولفظ العام بمنزلة الكلام الواحد، وإذا خص بمنفصل يصير مجازاً في الباقي، وهناك آراء أخرى في هذه المسألة تراجع في المطولات. ولعل الراجحَ منها هو مذهب الجمهور الذي ذكرناه فيما سبق، وخاصة إذا علمنا أن الجمهور مع غيرهم يجوزون الاحتجاج به على تناول الأفراد الباقية بعد التخصيص باعتباره دليلاً محتملاً أي: أن دلالته على الباقي ظنية. ثالثاً: الاختلاف في صيغ العموم فهي عند الجمهور لابد أن تكون مستغرقة بوضعها اللغوي، وعند بعض الحنفية يكفي أن تكون منتظمة جمعاً من المسميات1.
2 - ألفاظ العام: العموم من المعاني التي تدعو إليها حاجة التخاطب وفهم مرادات الخطاب، ولهذا كان من المستبعد أن يغفل الواضع عن وضع الألفاظ الدالة على العموم مع توفر ما يدعو إلى ذلك1. من أجل ذلك كان من المتفق عليه لدى الأصوليين أن للعموم صيغاً في اللغة، لكن تعيين تلك الصيغ وحصرها محل خلاف بين الأصوليين، نظراً لاختلافهم في ماهية العموم كما سبق. فمن يشترط في ماهية العموم الاستغراق ينبغي أن تكون الألفاظ الدالة على العموم عنده مستغرقة بوضعها اللغوي. ومن يكتفي بالاجتماع لا يرى ذلك شرطاً، وإذا أضفنا إلى ذلك أن الوضع ليس شرطاً عند بعض الأصوليين، وأن مطلق العموم كاف، ولو كان بقرينة خارجة عن دلالة اللفظ لغة، اتضح لنا السبب في تفاوت أنظار الأصوليين في صيغ العموم، ولكن مع ذلك كله فليس هناك ما يمنع من أن تتقارب وجهات النظر بين الأصوليين ويتفقوا على طائفة من الصيغ الدالة على العموم فتشترك في ذكرها جميع الكتب الأصولية؛ لأنها
بمثابة المتفق عليه، لشهرتها وهذا ما سنقتصر على ذكره في هذا المبحث، ومن تلك الصيغ: 1 - الجمع المحلى بأل المفيدة للاستغراق: كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} 1، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} 2،فلفظ (المؤمنون) في الآية الأولى، والذنوب في الآية الثانية، كل منهما معرف (بأل) الاستغراقية، فيكون شاملاً لكل مؤمن ولكل ذنب، ومثل ذلك في إفادة الاستغراق: الجمع المضاف إلى معرفة كقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} 3، فلفظ (أولادكم) في هذه الآية الكريمة جمع مضاف إلى ما ذكر فيكون شاملاً لجميع الأولاد، إلا ما خص الدليل. وتقييدنا (أل) بكونها استغراقية احترازاً من (أل) العهدية4، فإن
الجمع المحلى (بأل) العهدية لا يكون عاماً، وكذلك يشترط في إضافة الجمع أن تكون لغير معهود1وإلا كان الجمع حينئذ غير عام. 2- المفرد المعرف بأل الاستغراقية أو الإضافة: ويمثل للأول بقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 2، ويمثل للثاني بقوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} 3. فلفظ الإنسان في الآية الأولى مفرد معرف (بأل) المفيدة للاستغراق، فيدل على استغراقه لكل فرد من أفراد الإنسان، إلا ما استثني، وكذلك لفظ (نعمة الله) في الآية الثانية: مفرد معرف بالإضافة، فيفيد عموم نعم الله سبحانه وتعالى، وإذا قام دليل على أن (أل) الداخلة على المفرد ليست للاستغراق كقولهم: الرجل خير من المرأة؛ فلا يكون المفرد المعرف بالألف واللام حينئذ عاماً؛ لأن التفضيل وقع في المثال السابق بحسب
الجنس لا باعتبار الأفراد، وكذلك إذا كانت الإضافة عهدية؛ فإن المفرد المعرف بها لا يعم كقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً} 1. فإن الرسول الثاني المحلى بـ (أل) هو الرسول المعهود في أول الآية: فلا يعم. 3 - الأسماء الموصولة: كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} 2، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 3. فإن لفظ {الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} : في الآية الأولى اسم موصول يشمل كل آكل لمال اليتيم بدون حق، وكذلك لفظ {الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ}
في الآية الثانية اسم موصول يشمل كل متوفى سواء كان قبل الدخول أو بعده، فإن العدة تلزم زوجته في الحالين، لهذا العموم، إلا أن يرد عليه مخصص، ولكن يشترط في عموم الاسم الموصول أن لا تكون صلته عهدية، فإن كانت صلة الموصول عهدية فلا يعم. 4 - أسماء الشرط: مثل قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 1، فإن لفظ (مَنْ) في الآية الكريمة شرطية تفيد أن مَنْ شَهِدَ شَهْر رَمَضَانَ من المسلمين وَجَب عليه الصيام، وكذلك قَول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلاً فله سَلَبه"2 يفيد أن كُلَّ من قتل قتيلاً استحق سلبه3.
5 - أسماء الاستفهام وأدواته: كقوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا} 1، وقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 2، فإن لفظ (مَنْ) في الآية الأولى اسم استفهام يفيد أن كل منن يقرض الله قرضاً حسناً يضاعفه له، ويفيد الاستفهام في الآية الثانية، عدم وجود خالق بحق غير الله سبحانه وتعالى. 6 - النكرة في سياق النفي أو النهي: مثال النفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا وصيةَ لوارث"3؛ فإن (الوصية)
في هذا الحديث نكرة واقعة في سياق النفي، فتدل على العموم، وأن كُلَّ وصيةٍ لوارث منهيٌ عنها بهذا الحديث إلا ما خصه الدليل. ومثال النَّهي: قوله تعالى: {لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} 1، فإن قوله تعالى: {لاَ يَسْخَرْ} واقع في موقع نكرة في سياق النهي فيشمل جميع أنواع السخرية.
7 - لفظ كل وجميع: فإنهما يدلان على العموم فيما يضافان إليه مثل قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} 1، وقوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 2. ومثال: جميع قولك: (جميعُ طلبة الجامعة مسلمون) ، غير أن الفرق بينهما أن العموم في كل يوجب شمول الأفراد على الإحاطة، وفي جميع يوجبه على جهة الاجتماع3.
المبحث الثاني: في الخاص 1 - تعريفه: أ - الخاص في اللغة: المنفرد، مأخوذ من قولهم: اختص فلان بكذا؛ إذا انفرد به دون غيره، وخصني بكذا أفرده لي، وكل اسم لمسمى معلوم على الانفراد يقال له: خاص، والحاصل أن الخصوص في اللغة الانفراد وانقطاع المشاركة1. ب - وأما الخاص في الاصطلاح: فلا يبدو أن هناك ابتعاداً في تعريفه اصطلاحاً عن معناه اللغوي؛ إذ المناسبة بين المعنيين موجودة؛ ولهذا اتفق الأصوليون على أن المراد من الخاص اصطلاحاً: ما يوجب الانفراد ويقطع الاشتراك، وإن اختلفوا في التعبير الموصل إلى تلك الحقيقة، فقد عرفه فخر الإسلام البزدوي2 بأنه:
(كل لفظ وضع لمعنى واحد على الانفراد وانقطاع المشاركة، وكل اسم لمسمى معلوم على الانفراد) 1، وبنحو هذا التعريف عرفه شمس الأئمة السرخسي2 حيث يقول: (الخاص كل لفظ موضوع لمعنى معلوم مع
الانفراد، وكل اسم لمسمى معلوم على الانفراد) 1، وبالجملة: الخاص ما ليس بعام كما حققه بعض الأصوليين2. ويبدو أن العلماء يعنون بالمعنى الواحد ما يتناول الحقيقي والاعتباري؛ لأن الخاص قد يكون واحداً بالشخص كزيد وعمر، وسائر أسماء الأعلام. وقد يكون واحداً بالنوع3، مثل: رجل، امرأة، منزل، سيارة. أو واحداً بالجنس4 مثل: إنسان، حيوان، وكما يوضع الخاص
للأعيان كما في الأمثلة السابقة؛ فإنه يكون موضوعاً للمعاني، كالذكاء والعِلْم والعقد، والحوالة، وسائر المشتقات المجردة من (أل) الاستغراقية كاسم الفاعل، واسم المفعول، وصيغتي الأمر والنهي1، وحروف المعاني2 مثل: واو العطف، وهمزة الاستفهام. وإنما كان اللفظ الموضوع للنوع أو الجنس من قبيل الخاص - مع أن للنوع أفراداً كثيرة في الخارج وللجنس أنواعاً عدة - نظراً إلى الحقيقة التي وضع لها اللفظ؛ إذ هي واحدة لا تعدد فيها، فرجل موضوع لإنسان ذكر، وحيوان موضوع لجسم نام حساس. وما دام أن المعتبر في الخاص الوحدة عند الواضع - سواء كانت حقيقية كما في خاص العين، أو اعتبارية كما في خاص النوع والجنس فمن الممكن إدخال أسماء العدد والمثنيات في الخاص3 أيضاًَ؛ لأنهما أي: اسم العدد والمثنيات، وإن دل كل منهما على متعدد، فهما موضوعات في
اللغة لوحدة اعتبارية -؛ إذ لم يلاحظ عند الوضع كل فرد من أفراد المثنى واسم العدد على حده. وعلى ضوء ما سبق يمكن أن نعرف الخاص أخذاً من كلام الأكثرين بأنه: (لفظ وضع لمعنى واحد على الانفراد أو لكثير محصور) 1، وبقولنا: أو لكثير محصور نكون قد كشفنا عن المعنى الواحد الاعتباري فيشمله التَّعريف إلى جانب المعنى الحقيقي. شرح التعريف: (لفظ وضع لمعنى واحد على الانفراد، أو لكثير محصور) 1 - اللفظ: كالجنس يشمل الخاص وغيره، والتعبير به هنا متعين تفادياً لتكرار الوضع، لأنه يريد أن يصف المعنى بالواحد، فلو قال: (كلمة وضعت لمعنى واحد ... الخ) لتكرر الوضع في التعريف لأن الكلمة في الاصطلاح لفظ وضع لمعنى بخلاف اللفظ، وتفادياً لذلك لجأ إلى التعريف بالجنس البعيد للحاجة؛ فلا يرد عليه بأن التعريف بالجنس القريب أولى. 2 - وضع: الوضع جعل الألفاظ دليلاً على المعاني2، وهذا القيد
كالفصل يخرج ما لم تكن دلالته وضعية، كدلالة اللفظ المهمل على حياة لا فظة. 3 - لمعنى: المراد به هنا مدلول اللفظ الوضعي1: وهو بمعنى المفهوم فيشمل الذات كزيد، والمعنى كالعلم، والذكاء. 4 - واحد: الواحد صفة للمعنى وبه خرج المشترك؛ لأنه موضوع لمعنيين فأكثر على سبيل البدل، ويخرج به المطلق على رأي من لم يجعله خاصاً ولا عاماً؛ لأن الوحدة والكثرة من الصفات، والمطلق ملحوظ فيه الذات دون الصفات2. 5 - على الانفراد: يراد بهذا القيد كون اللفظ متناولاً لمعنى واحد من حيث إنه واحد مع قطع النظر عن أن يكون له في الخارج أفرادٌ أو لم تكن3، وبه يخرج العام؛ لأنه وإن كان موضوعاً لمعنى واحد تشترك فيه أفراد العام منظور فيه عند الوضع شمولُه لما تناوله من أفراد. 6 - أو لكثير محصور: يراد من هذا القيد إدخال الخاص الاعتباري، وهو ما كان انحصاره مستفاداً من نفس اللفظ كالمثنى وأسماء العدد؛ لأنهما
وإن دل كل منهما على متعدد موضوعان في اللغة لوحدة اعتبارية وهي: المجموع في أسماء العدد والتثنية في المثنيات - ولم يلاحظ عند الوضع كل فرد على حدة في المثنيات، ولا كل جزء من أجزاء العدد على حدة. كما لم يلاحظ ذلك عند وضع لفظ زيد اسماً لشخص آخر مثلاً. وقد أورد على تعريف البزدوي والسرخسي للخاص اعتراض. وهو أن كلمة (كل) في قوله: (الخاص كل لفظ وضع لمعنى واحد ... الخ) لم تقع موقعها؛ لأنها لإحاطة الأفراد والتعريف للحقائق1. ودفع هذا الاعتراض بأوجه منها: أولاً: أن كلمة (كل) الغرض منها بيان التسمية وتطبيقها على الأفراد؛ فلا استبعاد؛ لأن التسمية للأفراد دون الحقائق. ثانياً: أن كلمة (كل) شائعة في الحدود على طريقة الأدباء؛ لأنها أقرب إلى إفهام المتعلمين، فكأنه قال: (الخاص كل لفظ أريد به كذا الخ) وحينئذ يحصل المقصود من الحد مع تقريب الفهم وضبط المحدود. ثالثاً: أن كلمة (كل) ليست من الحد، وإنما دخلت عليه بعد تركيبه2 إشارة إلى ضبط المراد من الخاص.
2 - صيغ الخاص: يراد بصيغ الخاص: الألفاظ التي دل الاستقراء على أنها وضعت لتدل على معنى واحد على الانفراد، أو لكثير محصور، وسبق القول بأن العلماء يعنون بالواحد ما يتناول المعنى الحقيقي والاعتباري، وأمثلة كل من النوعين كثيرة، ذكرنا فيما سبق ما يمكن أن يكون داخلاً تحت القسمين ونكتفي هنا بذكر بعضها1، فمن تلك الصيغ: 1 - أسماء الأشخاص: كزيد وعمرو ونحو ذلك. 2 - ما يطلق على النوع أو الجنس، وكان خاصاً به: مثل رجل، إنسان، حيوان. 3 - ما وضع لمعنى واحد: مثل: العلم، الذكاء، العقد الحوالة، الكفالة ... الخ. 4 - ما وضع لواحد اعتباري: كالمثنى وأسماء العدد، مثل: عشرة، ومائة وألف ونحوها. 5 - صيغ الأمر والنهي: وسيأتي الكلام عليها في مبحث مستقل. 6 - النكرة في سياق الإثبات: إذا لم يقترن بها ما يفيد العموم، وهي نفس المطلق عند بعض الأصوليين، كرجل ورجال، فإنها نكرة في
سياق الإثبات فتدل على الوحدة الحقيقية، إذا كانت مفردة، وتدل على ما فوقها في الوحدة الاعتبارية، كالمثنى وأسماء العدد، والجمع المنكر، فلو قلت مثلاً: أكرمت رجلين، وتصدقت بدراهم، تكون صادقاً بإكرامك رجلين، وبتصدقك بثلاثة دراهم أيّ ثلاثة. 7 - حروف المعاني: وهي تتناول الآتي: أ - حروف العطف1: مثل: واو العطف، وثم، وبل، ولكن ... الخ. ب - حروف الجر2: مثل: على، حتى، في، عن، من ... الخ. جـ - أسماء الظروف3: مثل: قبل، وبعد، وعند ... الخ. د - كلمات الشرط4: مثل: إن، ولو، وإذ ما، ومتى ... الخ. وقد أطلق عليها كلها لفظ الحرف تغليباً لكثرة الحروف فيها، وسميت بحروف المعاني لوضعها لمعان خاصة، وتمييزاًَ لها عن حروف المباني وهي الحروف التي تتركب منها بنية الكلمة؛ فالهمزة المفتوحة مثلاً إذا قصد بها الاستفهام أو النداء كانت من حروف المعاني، وفي أحمد وأكرم من حروف البناء5 التي تتركب منها بنية الكلمة، وقد أفاض الأصوليون
في بيان هذه الحروف وما يترتب على ذلك من أحكام وفروع فقهية كثيرة، فمن يريد الزيادة فعليه مراجعة الكتب المطولة1.
تكملة في تقسيمات اللفظ الموضوع أشرنا في تمهيدنا للبحث إلى أن ألفاظ اللغة العربية ذات دلالات متنوعة، وذكرنا هناك ما نظنه راجحاً، وهو انقسام اللفظ المفيد إلى عام وخاص، وسبق الكلام على ماهيتهما، وما لهما من الصيغ مفصلاً، وإكمالاً للفائدة نزيد هنا آراء الأصوليين فيما وضع له اللفظ. فنقول: لم يتفق الأصوليون على تقسيم خاص بما وضع له اللفظ، فقد قسمه البزدوي إلى عام، وخاص ومشترك، ومؤول، وجعل الجمع المنكر من العام بناء على أن الاستغراق ليس شرطاً في العموم عنده1. وتابعه في ذلك صدر الشريعة2 وغيره من
الأصوليين1 إلا أن صدر الشريعة استدرك على البزدوي إيراده المؤول في الموضوع له اللفظ، فقال بعد أن ذكر الأقسام الثلاثة الأولى: (وإنما لم أورد المؤول؛ لأنه ليس باعتبار الوضع، بل باعتبار رأي المجتهد2، وزاد عليها جعل الجمع المنكر قسماً مستقلاً وعرفه بأنه: (لفظ وضع وضعاً واحداً لكثير غير محصور وغير مستغرق) . ولكن ابن الهمام3 من الحنفية كان له رأي فيما وضع اللفظ له، خالف فيه أكثر الأصوليين، إذ قسم اللفظ الموضوع تقسيماً أولياً باعتبار اتحاد الوضع وتعدده. إلى: مفرد: وهو اللفظ الموضوع لمعنى واحد لا غير.4
وإلى: مشترك: وهو لفظ وضع لمعنيين فأكثر بأوضاع متعددة على أن يستعمل في كل معنى على سبيل البدل لا الاجتماع، مثل: لفظ العين الموضوع ليدل على العين الباصرة، وعلى العين الجارية والجاسوس والذهب، بمعنى: أنه وضع لكل معنى من هذه المعاني على حدة على أن يستعمل في أحدها بعينه، فهو بالنسبة لهذه المعاني مشترك وقد يكون بالنسبة إلى أحدها عاماًَ - إذا ورد بصيغة العموم - كقولك: (عوقب العيون أشد العقاب) ؛ فإنه يستغرق كل عين بمعنى الجاسوس، وكذا لو قيل: امتلأت العيون بالماء؛ فإنه يكون عاماً لاستغراقه لكل عين جارية، وبناء على ذلك يكون للمشترك نظران. الأول: النظر إليه من حيث المعاني التي وضع لها، وهو بالنسبة لهذه المعاني مشترك. الثاني: النظر إليه من جهة الأفراد الداخلة تحت كل معنى من تلك المعاني، وفي هذه الحال قد يكون خاصاً وقد يكون عاماً حسب الصيغة التي يرد بها، فقولك: شربت من عين خاص، وإذا قيل: العيون عذبة الماء كان عاماً، وبعد التقسيم السابق حصر ابن الهمام ما وضع له اللفظ في العام والخاص؛ لأن المشترك كما عرفنا مبني على حسب الصيغة التي يرد بها، فإذا ورد بصيغة خاصة كان من قبيل الخاص، وإذا ورد بصيغة عامة كان من قبيل العام، فلا وجه لإخراجه عن العام، أو الخاص. أما الجمع المنكر، فإن ابن الهمام يراه من الخاص لعدم استغراقه؛ إذ
قال: (لا وجه لإخراج الجمع المنكر عن العام أو الخاص، سواء اشترط الاستغراق أو لم يشترط؛ ذلك أن الجمع المنكر يكون داخلاً في العام عند من لا يشترط الاستغراق، وعند من يقول باشتراط الاستغراق في العموم يكون الجمع المنكر داخلاً في الخاص لعدم استغراقه. ولأن رجالاً في الجمع المنكر مطلق، كرجل في المفرد، والمطلق مندرج تحت الخاص - كما سبق - والاختلاف فيما صدق عليه رجل وهو كل فرد على سبيل البدل، وما صدق عليه لفظ رجال وهو كل جماعة جماعة لا أثر له في الإطلاق والتقييد1. لكن على الرأي الراجح من أن الاستغراق شرط في العموم لا يكون الجمع المنكر عاماً لعدم قبوله أحكام العام الاستغراقي -كالاستثناء والتخصيص والتوكيد باللفظ العام؛ إذ لا يستقيم في اللغة (أكرم رجالاً إلا زيداً) على أن زيداً مستثنى من رجال؛ لكون الاستثناء إخراج ما لولاه لوجب دخوله في اللفظ المستثنى منه، وزيد لم يتعين دخوله في مفهوم لفظ رجال حتى يكون إخراجه منهم إخراجاً صحيحاً؛ ذلك أن المأمور بالإكرام في المثال السابق، يكون ممتثلاً وخارجاً عن عهدة الأمر بإكرامه لثلاثة رجال أي ثلاثة كانوا سواء أكان منهم زيد أم لم يكن، وكذا لا يستقيم لغة في المثال السابق (أكرم رجالاً ولا تكرم زيداً) على أن زيداً
مخصص من لفظ رجال، لعدم عمومه الاستغراقي، بل إنما يصح ذلك على الاستئناف وهو أن يجعل قوله: (ولا تكرم زيداً) 1 كلاماً مستقلاً لا صلة له بما قبله. ثم إن الجمع المنكر لا يقبل التوكيد باللفظ العام، إذ لا يقال: سافر طلاب جميعهم، ويصح سافر الطلاب جميعهم. وبهذا تبين مفارقة الجمع المنكر للعام الاستغراقي، لعدم قبوله أحكام العام كما عرفنا في الأمثلة الآنفة، لكن بقي أن يقال: إذا لم يكن الجمع المنكر من العام فهل يصح جعله قسماً مستقلاً؟ أي: وسطاً بين العام والخاص. والذي يظهر أنه من قبيل الخاص. يقول الشوكاني2: (الراجح أن الجمع المنكر من قبيل الخاص؛ لأن دلالته على أقل الجمع قطعية، كدلالة المفرد على الواحد) 3، ويؤيد ذلك
أن جمعاً من الأصوليين ذكروا أن المطلق من الخاص، ولا أحد يشك في أن الجمع المنكر مطلق؛ لأن لفظ رجل مطلق باتفاق، ولا فرق بينه وبين لفظ رجال في الدلالة؛ إذ كل واحد منهما يدل على شائع في جنسه، والاختلاف بالعدد وعدمه لا أثر له في الإطلاق والتقييد - كما سبق، وإذا كان المطلق من الخاص كما هو الراجح عند جمهور الأصوليين والجمع المنكر من قبيل المطلق بناء على المناقشة السابقة يكون الجمع المنكر من الخاص ضرورة؛ لأن الحكم على الأعم حكم على كل جزئي من جزئياته، والجمع المنكر من جزئيات المطلق. وبهذا التوضيح لما وضع له اللفظ بعد تقسيمه تقسيماً أولياً باعتبار اتحاد الوضع وتعدده إلى المفرد والمشترك، يظهر أن ما ذهب إليه الكمال من تقسيم اللفظ الموضوع للدلالة على المعنى إلى العام والخاص، هو الأحق بالاتباع لسهولته وتبادره إلى الذهن، وسلامته من الاعتراض.
المبحث الثالث: دلالة الخاص والعام بين القطعية والظنية أولاً: دلالة الخاص: يقصد بالخاص - هنا - ما تقدم تعريفه، وهو: لفظ وُضِعَ لمعنى واحد على الانفراد أو لكثير محصور، ولم يقترن به ما يصرفه عن حقيقة وضعه اللغوي. ويراد بالدلالة هنا: دلالة اللفظ الوضعية، وهي: كون اللفظ إذا أُطْلِقَ فهم منه المعنى1 أو هي فَهْم المعنى المراد من وضع اللفظ متى أُطْلِقَ بالنسبة للعام بالوضع2، فمتى كانت دلالة اللفظ على المعنى لا تحتمل غيره سميت قطعية، وإن احتملت مع المعنى الموضوع له اللفظ معنى آخر سميت ظنية، فعلى هذا يكون القطع والظن من صفات دلالة اللفظ على المعنى، لكن القطع يطلق ويراد به أحد معنيين. الأول: أن لا يكون هناك احتمال أصلاً: مثل قطعية المتواتر من الأخبار في ثبوته3 والمحكم4 من الآيات في معانيها وهذا النوع: يفيد علم
اليقين في ما يثبت له، فيسمى القطع بالمعنى الأخص. النوع الثاني: أن لا يكون هناك احتمال ناشئ عن دليل مثل: قطعية الحديث المشهور1 في ثبوته، وقطعية النص2 والمفسر3 من الألفاظ في المعنى الظاهر منهما، وهذا النوع من القطع يفيد علم الطمأنينة أي: اطمئنان القلب وميله إلى صحة الخبر، وعدم احتمال اللفظ للصرف عن
الظاهر ويسمى القطع بالمعنى الأعم. بقي أن يقال: من أي النوعين دلالة الخاص؟ الذي يظهر أنها من النوع الثاني أي: أن القطع في دلالة الخاص بالمعنى الأعم وهو عدم الاحتمال الناشئ عن دليل لا عدم الاحتمال أصلاً، ذلك أن القطع بمعناه الخاص كما يكون للمتواتر يكون لغيره، وغير المتواتر الاحتمال فيه قائم، كما أن الخاص محتمل للمجاز باتفاق العلماء لصحة توكيده مثل: جاء زيد نفسه، أو عينه، أي: لا رسوله: فمجيء التوكيد بعد اللفظ الخاص دليل على احتماله للصرف عن الظاهر المتبادر، إذا وجدت القرينة الصارفة، قال الكمال ابن الهمام: (الاتفاق على إطلاق وصف قطعي الدلالة على الخاص، وعلى احتماله المجاز واقع) 1، قال الشارح2 للتحرير بعد ذكر العبارة السابقة: (وعدل عن اتفقوا على أن الخاص قطعي الدلالة إلى قوله: (الاتفاق ... الخ) مع كون التعبير باتفقوا أخصر وأظهر في المراد؛ لأن الأئمة لم يصرحوا بذلك، وإنما فهمت قطعية دلالة الخاص من إطلاقاتهم3، ويلزم من الاتفاق على احتمال الخاص المجاز أن يراد بالقطع في دلالة الخاص
المعنى الأعم؛ لأن نفي الاحتمال مطلقاً ينفي وجود المجاز في ضمنه. على أنه لا خلاف بين جمهور العلماء في إطلاق وصف القطعية على دلالة الخاص، وإنما الخلاف بينهم في ناحية أخرى وهي: هل الخاص باعتباره قطعي الدلالة بيِّنٌ في نفسه لا يحتمل البيان، أو أنه رغم قطعية دلالته يحتمل أن يصرف إلى غير المعنى الموضوع له اللفظ لغة؟ لعلماء الأصول في ذلك مذهبان: الأول: القول بمنع احتمال الخاص للبيان وبه قال جمهور الأصوليين من الحنفية. واستدلوا على ذلك بأن حقيقة البيان الظهور وإزالة الخفاء لازمة له، ومن شرط اللفظ القابل للبيان أن يكون مجملاً1، أو مشكلاً2،
وكلاهما غير متحقق في الخاص، لأن الخاص قد وضع لمعنى واحد على الانفراد، فهر بيِّنٌ ظاهر بموجب الوضع اللغوي، فلو احتمل التصرف فيه ببيان آخر لكان في ذلك تحصيل الحاصل، وهو محال1، قال البزدوي بعد أن بيَّن حكم دلالة الخاص من حيث القطعية، وأنه يتناول المخصوص قطعاً ويقيناً بلا شبهة لما أريد به من الحكم، قال: (لكن لا يحتمل التصرف فيه بطريق البيان لكون بيناً لما وضع له) 2. القول الثاني: أن الخاص يحتمل البيان وبه قال الشافعية ومن وافقهم. واستدلوا على ذلك بأن الخاص وإن كان قطعي الدلالة على ما وضع له، إلا أنه يحتمل التصرف فيه عن أصل وضعه إذا وجد الدليل الصارف بدليل أن الاتفاق واقع على احتمال الخاص للمجاز، والمجاز بيان للمراد من اللفظ.
فليكن مناط احتمال الخاص للبيان هو وجود الدليل الصارف عن أصل الوضع، وإلا كان القول باحتمال الخاص المجاز، وعدم احتماله للبيان متناقضاً، لما سبق أن المجاز بيان للمراد من اللفظ والمسألة مفروضة على الإطلاق1 كما ترى. أضف إلى ذلك أن بعض العلماء قد خالف في المجاز المصطلح عليه عند علماء البلاغة مثل: مجاز2 الإسناد والاستعارة وسمى ذلك
إيجازاً1، وحيث كان الخاص محتملاً للنوعين (الإيجاز والمجاز) . ولم يعهد أن خالف أحد في احتمال الخاص للإيجاز وبيان الخاص الموجز يظهر أن ما ذهب إليه الشافعية ومن وافقهم هو الأرجح. نقول: هذا على فرض أن الخلاف بين الفريقين قد ورد على محل واحد، مع أن المدقق في ذلك يجد أن النفي والإثبات لم يتواردا على محل واحد، لأن الحنفية عندما نفوا احتمال الخاص للبيان نظروا إلى أصل الوضع وحال الواضع، عندما أراد أن يجعل اللفظ دليلاً على المعنى، ولا شك أن دلالة اللفظ الخاص بالنسبة للواضع قطعية كما يقول الحنفية. وغيرهم نظر إلى أن اللفظ بعد الاستعمال وطريان الإجمال عليه بسبب كثرة المعاني التي استعمل فيها، أو بسبب قلة استعماله في المعنى الموضوع له، مما يجعله غير مألوف لدى أكثر أهل اللغة2.
ثانياً: دلالة العام: عَرَّفنا العامّ فيما سلف بأنه: (كلمة تستغرق الصالح لها بلا حصر) ، كما عرفنا أيضاً الدلالة بأنها تعني، فهم المعنى من اللفظ متى أطلق. وهنا نقول: لا خلاف بين العلماء في قطعية دلالة العام الذي اقترن به ما يدل على العموم قطعاً، كقوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} 1، والعموم في هذه الآية الكريمة جاء من أن (دابة) نكرة في سياق النفي، والنكرة المنفية من صيغ العموم - كما تقدم - فتعم كل دابة، وأما القرينة الدالة على أن الآية عامة قطعاً فهي أن تجويز التخصيص فيها يؤدي إلى وجود شريك مع الله تعالى يرزق بعض الدواب، وهذا محال؛ بل إن اعتقاد ذلك يؤدي بصاحبه إلى الكفر والعياذ بالله. وكذا لا خلاف بين جمهور العلماء أن العام إذا خص2 منه بعض
أفراده بدليل صحيح أن دلالته على الباقي تبقى ظنية، كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} 1، بعد أن خرج من عمومه المستأمن بقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} 2؛ ذلك أن العام الذي خصص قد يكون مخصصه معللاً بعلة يمكن تحققها في الأفراد الباقية، ومع هذا الاحتمال لا تبقى دلالة العام المخصوص قطعية، وإنما وقع الخلاف في دلالة العام المجرد من القرينة التي تدل على عمومه قطعاً. ولم يثبت أن خص منه بعض الأفراد بدليل مسلَّم به لدى جميع الأصوليين. آراء العلماء في دلالة العام المطلق: اتفق جمهور3 علماء الأصول على أن العام شامل لجميع أفراد
معناه، وأن الحكم الثابت للعام ثابتٌ لكلِّ فردٍ من أفرادِه، كما اتفقوا أيضاً على وجوبِ إجراءِ العام على عمومه والعمل به، ما لم يظهر دليل يخصص العام، ثم اختلفوا في صفة دلالة العام المطلق على شمول أفراده أقطعية هي أم ظنية؟ أ - فذهب معظم الحنفية إلى أن دلالة العام المطلق على كل فرد من أفراده قطعية1، ووافقهم على ذلك الشاطبي2 من المالكية وبعض من كتبوا في الأصول حديثاً3.
ب - وذهب جمهور الأصوليين ومنهم الشافعية إلى أن دلالة العام المطلق ظنية1. واستدل الحنفية ومن وافقهم على قطعية دلالة العام المطلق بأدلة منها: 1 - قالوا: إن العموم مما تدعو الحاجة إلى التعبير عنه بالألفاظ فوضعت له العرب ألفاظاً تدل عليه، واللفظ متى كان موضوعاً للدلالة على المعنى يكون ذلك المعنى ثابتاً به قطعاً، سواء أكان اللفظ الموضوع عاماً أم خاصاً، حتى يرد الدليل بخلاف ذلك2. 2 - وقالوا أيضاً: إن اللفظ العام بمنزلة الخاص في كون دلالة كل منهما ثابتة بطريق الوضع، وحيث إن الاتفاق قائم على أن الخاص يدل على معناه قطعاً، ولا يؤثر في قطعية دلالته احتماله للمجاز، فكذلك تكون دلالة العام المطلق قطعية، ولا يؤثر فيها احتماله للتخصيص؛ لأن الكل احتمال؛ ولأن التفريق بين العام والخاص في كون دلالة الخاص لا تتأثر باحتماله للمجاز حتى تكون ظنية وتتأثر دلالة العام باحتماله للتخصيص حتى تكون بسبب ذلك ظنية تفريق بين متماثلين في الوضع
بدون دليل يقتضي التفريق. واعترض الجمهور على هذا الدليل، فقالوا: إن قياس دلالة العام على دلالة الخاص في حيز المنع؛ لأنه وإن صح لغة إلا أنه قياس مع الفارق في الدلالة الشرعية. ووجه الفرق: أن دلالة الخاص اللغوية مرادة للشارع في الكثير الغالب، بينما ثبت في العام ما يصح اعتباره عرفاً شرعياً، وهو قصر العام على بعض أفراده، ومن المتفق عليه أن عرف الشرع وهو استعماله اللفظ لمعنى يقصده قاضٍ على معناه اللغوي في ميدان استنباط الأحكام، وبهذا يفترق العام عن الخاص، ومع افتراقهما لا يصح قياس دلالة العام على الخاص في القطعية. وأضاف الشاطبي إلى الدليلين السابقين ما يمكن اعتباره دليلاً ثالثاً، وهو: 3 - أن مذهب القائلين بظنية دلالة العام يؤدي إلى إبطال الكليات القرآنية، وذلك يتنافى مع ما هو معلوم من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد بعث بجوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً"1
وقد قرر الشاطبي أن رأس هذه الجوامع هي العموميات، فإذا فُرِضَ أنها ليست موجودةً، أو أن الموجودَ منها مفتقرٌ إلى مخصص، فقد خرجت تلك العمومات من أن تكون جوامع مختصرة، وفي ذلك توهين للأدلة الشرعية، وتضعيف للاستناد إليها إلا بجهة من التساهل وحسن الظن1.
ب - واستدل الجمهور على أن دلالة العام المطلق ظنية بعدة أدلة منها: أولاً: قالوا: إن دلالة العام المطلق من قبيل الظاهر1، والظاهر يفهم على ظاهره، ولا يُنفى الاحتمال عن غير ما ظهر منه، وما كانت دلالته كذلك فدلالته ظنية2. ثانياً: وقالوا - أيضاً -: ثبت بالاستقراء والتتبع لموارد العام في الشريعة قصره على بعض أفراده إلا في القليل النادر حتى شاع بين العلماء
قولهم: (ما من عام إلا وقد خص منه البعض) 1 ومثل: ذلك يورث شُبْهةً في دلالة العام سواء ظهر المخصص أو لم يظهر، ومع هذا الاحتمال لا يصح القول بقطعية العام2. وقد اعترض الحنفية على هذا الدليل وهو كثرة التخصيص للعام وشيوع تلك الكثرة بين العلماء وقالوا: إنها في حيز المنع وفي ذلك يقول صدر الشريعة: (لا نسلم أن التخصيص الذي يورث شبهة شائع في العام، بل هو
في غاية القلة) 1، لأن التخصيص عندنا إنما يكون بكلام مستقل موصول بالعام2 مساوٍ له في القوة، وهذا النوع ليس شائعاًَ؛ بل هو في غاية القلة، أضف إلى ذلك أن القطع الذي أثبتناه للعام مرادنا به المعنى الأعم، وهو عدم الاحتمال الناشئ عن دليل، وما اعتبره غيرُنا دليلاً صالحاً، وهو: كثرة تخصيص العام وشيوع تلك الكثرة بين العلماء غير مسلّم لما سبق أن تخصيص العام إنما يكون عندنا بكلام مستقل مقارن للعام مساو له في القوة، وهذا النوع نادر، وليس شائعاً كما يدعي الطرف المنازع. ويبدو أن هذا الاعتراض من الحنفية لا يفيد، لأنه مبني على اصطلاح الحنفية في المخصص؛ فلا يرد على الجمهور ما لم يسلموا لهم به. ومع هذا فقد دفع الجمهور هذا الاعتراض، وقالوا: إن قولنا: بظنية العام لم يكن بدون دليل، وإنما كان ذلك بناء على وفرة التخصيص، وإذا وقع الخلاف في مسمى التخصيص بماذا يكون. فلنا أن نقول: إن المؤثر في دلالة العام هو كثرة قصره على بعض أفراده، سواء كان ذلك بالدليل الذي لم يستقل بنفسه - كالاستثناء والشرط - أم كان القصر بالدليل المستقل الذي لم يتأخر التخصيص به عن وقت العمل بالعام. ولا شك في كثرة قصر العام بهذا المعنى سواء سمي تخصيصاً في
الاصطلاح أم سمي قصراً؛ إذ لا دخل للتسمية في دلالة اللفظ1. وأما تخوف الشاطبي على إبطال الكليات القرآنية فلا مبرر له، إذا علمنا أن العدول إلى التخصيص لا يكون إلا بعد وجود الدليل، وأن الأمر ليس متروكاً بدون ضوابط أو قيود، كما أنه ليس هناك أي تناف بين القول بظنية العام المطلق، وثبوت جوامع الكلم للرسول صلى الله عليه وسلم، ما دمنا نعتبر العام على عمومه، ونعمل بما ظهر لنا منه، ولا نلجأ إلى التخصيص حتى يوجد الدليل المخصص فعلاً، وبهذا فإن الخلاف في هذه المسألة يظل نظرياً لا ثمرة له، حتى يوجد الدليل المخصص، فإذا وجد الدليل فعلاً2 اختلفت أنظار العلماء في تقويمه، ومدى معارضته للعام؛ فالقائل بظنية العام لا يرى مانعاً من جواز تخصيصه بكل دليل معتبر شرعاً بشرط أن يظهر كونه مخصصاً قبل العمل بالعام.
والذي يرى أن دلالة العام المطلق قطعية يحكم بالتعارض بين العام وبين الدليل الذي يساويه في القوة، ولا يرى التخصيص بالدليل الظني، كأخبار الآحاد ونحوها؛ لأن التخصيص إنما يكون بدليل مساو للعام في قوته، وأخبار الآحاد ليست كذلك مع عام القرآن والسنة المتواترة أو المشهورة، وكذلك القياس لا يخصص العام من القرآن والسنة المتواترة ابتداءً ما لم يخص قبله بقطعي.
المبحث الرابع أنواع الخاص يتنوع الخاص باعتبار صيغته والحال الملابسة له -كما سبق- فتارة يتعدد باعتبار الصيغة، وتارة باعتبار الحالة الملابسة له، فهو باعتبار الصيغة يتنوع إلى الأمر والنهي الموضوعين للدلالة على طلب الفعل أو الكف عنه، وباعتبار الحالة التي تلابسه ينقسم إلى المطلق والمقيَّد: وسيأتي الكلام عليهما بالتفصيل، لأنهما موضوع الرسالة. وقد اهتم الأصوليون بمباحث الأمر والنهي؛ لأن مدار التكاليف عليهما وبمعرفتهما تستبين الأحكام، وعليهما تتوقف معرفة الحلال من الحرام. ولذلك بدأ أصحاب الأصول كتبهم بمباحث الأمر والنهي، وبينوا السبب الذي دعاهم إلى ذلك حيث يقول السرخسي: (فأحق ما يبدأ في البيان الأمر والنهي؛ لأن معظم الابتلاء بهما، وبمعرفتهما تتم معرفة الأحكام ويتميز الحلال من الحرام) 1، وفي هذا ما يقوي الصلة بين أنواع الخاص باعتبار صيغته والحالة الملابسة له، فيجدر
بنا أن نسترشد بكلام السرخسي السابق فنجعل الكلام على ماهية الأمر والنهي وصيغهما المشهورة وحكمهما مفتاحاً لموضوع بحثنا، وخاصة إذا علمنا أن الإطلاق والتقييد مما يعرض للخاص أمراً كان أو نهياً أو غيرهما، وفيما يلي كلمة مختصرة توضح تلك النقاط السابقة من مباحث الأمر والنهي الكثيرة اقتصرنا فيها على ما يخص بحثنا، ولنبدأ بالأمر أولاً في نقاطه الثلاث: 1- تعريفه. 2- صيغه المشهورة. 3- حكمه.
المطلب الأول: في الأمر: تعريف الأمر: أ- الأمر في الأصل مصدر للفعل الثلاثي (أَمَر) ثم جعله أهل اللسان العربي اسماً لقول القائل لغيره: (افعل كذا) ولكن عرف علماء اللغة خصه بالقول الدال على طلب الفعل طلباً جازماً، مع قطع النظر عن خصوص مادة الأمر، بل المعتبر فيه عند علماء اللغة القول الموضوع لطلب الفعل طلباً جازماً سواء أكان من مادة الأمر أم غيرها، وعلى ذلك يمكن تعريف الأمر في اصطلاح علماء اللغة. بالقول الموضوع لطلب الفعل طلباً جازماً1. وأما عامة علماء الأصول، فحيث كان بحثهم في نوع خاص من الأمر وهو ما كان صادراً عن طريق الشارع، فقد أضافوا إلى التعريف
اللغوي قيد الاستعلاء1، وهو ألا يكون الطلب على جهة التذلل، بياناً منهم أن المقصودَ بالتعريف الأمر الإلهي وليخرجوا من دائرة الأمر في الاصطلاح الأصولي الالتماس (وهو الطلب من المساوي) والدعاء: وهو الطلب من الأعلى، وعرفوه بناء على ذلك2. ب- بأنه: القول الدال بالذات على طلب الفعل على جهة الاستعلاء3. شرح التعريف: 1- القول: كالجنس في التعريف يشمل الأمر وغيره، والتعبير به أوْلى من التعبير باللفظ أو الكلمة، أو الكلام، أما أولوية القول على اللفظ؛ فلأن اللفظ جنس بعيد لاستعماله في المهمل والمستعمل، والقول خاص بالمستعمل فكان التعبير به أولى؛ لكونه جنساً قريباً، وأما أولوية التعبير بالقول على (الكلمة) والكلام؛ فلأن كلاً منهما أخص من القول؛
لأن الكلمة تختص بالمفرد، والكلام يختص بالمركب، بينما القول يجمعهما ويشملهما، فكان تعريف الأمر به أولى. 2- الدال بالذات: يقصد بالدلالة هنا الدلالة الوضعية، ولهذا اكتفى بها عن كون الطلب حازماً؛ لأن دلالة اللفظ الوضعي لازمة له، وبهذا القيد يخرج ما كانت دلالته بغير الوضع - كدلالة اللفظ المهمل على حياة لا فظه. 3- على طلب الفعل: هذا أهم عنصر في تعريف الأمر، وبه يحترز عن النهي؛ لأنه طلب هو الكف عن المنهي عنه كما سيأتي. 4- على جهة الاستعلاء: الاستعلاء كما تقدم هو ألا يكون الطلب على وجه التذلل وبه يخرج عن حد الأمر الدعاء1 والالتماس2، إذ المفروض فيهما عدم التعالي. 2- الصيغ المشهورة لطلب الفعل: هي: الألفاظ التي وضعها العرب للدلالة على طلب الفعل طلباً جازماً، ثم جاء على وفق ذلك نصوص الشرع، أو كانت من الألفاظ التي استعملها الشارع ابتداء من الطلب الجازم، وهي كثيرة تتنوع حسب
أسلوب القرآن والسنة في طلب الفعل، منها: 1- فعل الأمر: كقوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} 1، فالله سبحانه وتعالى قد طلب في هذه الآية الكريمة ثلاثة أفعال هي: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والاعتصام بالله، بصيغة فعل الأمر: (أقيموا) و (آتوا) و (اعتصموا بالله) . 2- صيغة فعل المضارع المقرون بلام الأمر: كقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 2، فالله سبحانه وتعالى قد طلب في هذه الآية الكريمة فعلاً، هو (الصيام) بصيغة الفعل المضارع المقرون بـ (لام الأمر) ، وهو قوله تعالى: (فليصمه) ، فإن (يصم) فعل مضارع مجزوم، واللام الداخلة عليه (لام الأمر) . 3- الجملة الخبرية المقصود بها الطلب: مثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} 3، فجملة (والمطلقات يتربصن) جملة خبرية مكونة من مبتدأ، هو (المطلقات) وخبر
وهو (يتربصن) ، وليس المقصود منها الإخبار بتربص المطلقات هذه المدة، وإنما المقصود طلب التربص منهن هذه المدة؛ والتقدير (ليتربص المطلقات ثلاثة قروء) وفي العدول عن صيغة الطلب الأصلية تأكيد إيقاع الفعل والحث عليه، حتى أصبح بمنزلة الفعل الواقع المخبر عنه. 4- صيغ المصدر النائب عن فعل الأمر: كقوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} 1، ففي هذه الآية طلب فعل هو ضرب الرقاب، بالمصدر النائب عن فعل الأمر، وهو (ضرب الرقاب) ، والأصل: (فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا رقابهم) . 5- اسم فعل الأمر 2: ويقصد به اسم بمعنى فعل (الأمر) مثل: قول المؤذن (حيَّ على الصلاة) ؛ فإن المؤذن يقصد طلب فعل: هو (الإقبال على الصلاة بواسطة اسم فعل الأمر: (حيّ) ؛ لأن (حي) معناها أقبل على الصلاة. 3- حكم صيغة الأمر ونحوها مما يدل على الطلب الجازم: ذهب جمهور الأصوليين إلى أن (صيغة الأمر) المجردة من القرائن
ونحوها مما يدل على الطلب الجازم، حقيقة في الوجوب1، بمعنى أنها موضوعة للدلالة على وجوب فعل المأمور به، ولا تصرف عن ذلك إلا إذا وجدت قرينة تدل على عدم الوجوب، حتى ذهب بعض الأصوليين إلى أن الوجوب ملازم لهذه الصيغة2، ولا يمكن استفادته بدونها، بدليل أن الأفعال الواجبة لم يكتف فيها بمجرد الفعل، بل قرنت بصيغة الأمر الدال على وجوبها، كقوله صلى الله عليه وسلم في شأن تعليم أفعال الصلاة: "صلوا كما رأيتموني أصلي"3، وفي شأن تعليم أفعال الحج: "خذوا عني
مناسككم"1، فلم يكتف بالفعل فقط، بل قرن الفعل بالقول.
المطلب الثاني: في النهي وبحثنا في هذا المطلب يقتصر على ثلاثة أمور: لها علاقة وصلة بموضوع بحثنا (المطلق والمقيد) ، وهذه الأمور الثلاثة هي: 1- تعريف النهي. 2- صيغه المشهورة. 3- حكم الصيغة المجردة. 1- تعريف النهي: أ- النهي في اللغة: المنع، يقال: نهاه عن كذا إذا منعه عنه، وسمي العقل نهية؛ لأنه يمنع صاحبه عن الوقوع فيما يخالف الصواب1، وتجمع النهية على (نهى) قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} 2، أي عظات وعبر لأصحاب العقول. ب- والنهي في الاصطلاح: القول الدال بالذات على طلب الكف عن الفعل على جهة الاستعلاء3 وبما ذكرناه في شرح تعريف الأمر يستغني به عن شرح
تعريف النهي لأن معظم ألفاظ تعريف النهي قد ذكرت في تعريف الأمر. والفرق بين التعريفين يكمن في أن الأمر طلب الفعل، والنهي طلب الكف عن الفعل بما يدل على الكف عنه. 2- صيغ النهي: يراد بصيغ النهي: الألفاظ الموضوعة لغة لتدل على الكف عن الفعل، ثم جاء على وفق ذلك نصوص الشارع؛ أو كانت من الألفاظ التي استعملها الشرع ابتداء للدلالة على المنع من الفعل على وجه الحتم واللزوم، وهي كثيرة تتنوع حسب أسلوب القرآن والسنة في كيفية طلب الكف عن الفعل، ومنها: 1- صيغة النهي: وهي: الفعل المضارع المقرون بـ (لا) الناهية، كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} 1؛ فالله سبحانه وتعالى قد طلب في هذه الآية الكريمة الكف والامتناع عن فعل هو قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، كالقصاص والردة، نعوذ بالله من الارتداد عن الدين
واستعمل في طلب الكف عن القتل صيغة المضارع المقرون بـ (لا) الناهية فقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ} . 2- مادة النهي في سياق الإثبات وما اشتق منها: مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 1، ففي هذه الآية الكريمة طلب كف عن ثلاثة أفعال هي: الفحشاء، والمنكر، والبغي، بصيغة فعل المضارع المشتق من مادة النهي وهو قوله تعالى: {وَيَنْهَى} وكذلك الحكم إذا كان طلب الكف باسم فاعل مُشْتَقاً من النهي أو مصدراً لفعل النهي بشرط كونه في سياق الإثبات. 3- الجملة الخبرية المثبتة: التي استعملت فيها مادة التحريم كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ ... } 2 الآية، ففي هذه الآية الكريمة طلب الكف عن نكاح الأمهات وما ذكر معهن من المحرمات
بجملة خبرية مثبتة، مشتقة من مادة التحريم وهي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} الآية. 4- نفي الحِلِّ: مثل قوله تعالى في شأن المنع من أخذ شيء مما أعطاه الزوج لزوجته بقوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1، ففي هذه الآية الكريمة إخبار من الله سبحانه وتعالى بنفي الحِّل عن أخذ شيء مما أعطاه الزوج لزوجته، وفي ذلك تأكيد لطلب الكف عن الفعل. 5- فعل الأمر الدال على الكف عن الفعل: كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 2، فالله سبحانه وتعال قد طلب في هذه الآية الكريمة الكف عن فعل هو البيع بعد نداء الجمعة بصيغة فعل الأمر الدال
على طلب الترك والكف عن الفعل وهو قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} ، أي اتركوا الاشتغال بتحصيله وقت نداء الجمعة. 3- حكم النهي المجرد: ذهب جمهور الأصوليين إلى أن النهي المجرد من القرائن (المطلق) يدل على تحريم المنهي عنه حقيقة، ولا يصرف عن ذلك إلا بقرينة تدل على عدم التحريم1. واستدلوا على ذلك بجملة أدلة منها: 1- قوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} 2 حيث تدل هذه الآية على أن ما نهى عنه يجب الانتهاء عن فعله؛ لأن قوله تعالى: {فَانتَهُوا} فعل أمر وتقدم لنا أنه يفيد وجوب ترك المنهي عنه. ومنها أن الصحابة رضي الله عنهم قد فهموا التحريم من النهي المجرد، واستدلوا به على تحريم فعل المنهي عنه. 3- ومنها تبادر التحريم من الصيغة المجردة، والتبادر بدون قرينة أمارة الحقيقة، وهذان الدليلان الأخيران يصلحان للاستدلال بهما على أن
الأمر المطلق يدل على الوجوب حقيقة، وهناك أدلة أخرى، فمن يريد الوقوف عليها فعليه بمراجعة الكتب الأصولية المطولة.
الباب الأول: في التعريف بالمطلق والمقيد ودلالتهما
الباب الأول: في التعريف بالمطلق والمقيد ودلالتهما الفصل الأول: التعريف بحقيقة المطلق والمقيد المبحث الأول: في تعريف المطلق والمقيد في اللغة ... التمهيد: تقسيم اللفظ الخاص باعتبار الحالة الملابسة له إلى المطلق والمقيد في بداية الكلام على أنواع الخاص أشرنا إلى أن من أنواعه باعتبار الحالة الملابسة له المطلق والمقيد1، ووعدنا ببسط الكلام عليهما؛ لأنهما موضوع الرسالة، وقد آن الأوان للوفاء بالوعد فنقول: من خلال استقراء النصوص في الكتاب والسنة تبين للباحثين عن استنباط الأحكام الشرعية، أن اللفظ قد يرد خالياً عن أي قيد لفظي،
فيكون مدلوله شائعاً بين أفراده، لأنه وضع للمعنى المشترك بين أفراد الحقيقة الواحدة من حيث هو - بقطع النظر عن اعتبار الوحدة، أو الجمع أو الوصف في مفهومه الوضعي، فيسمى حينئذ مطلقاً. وقد يرد مقيداً بوصف أو شرط أو نحوهما، فيكون مدلوله محدود الشيوع قاصراً على بعض الأفراد التي كان يتناولها بطريق البدل، فيسمى عندئذ مقيداً. كما تبين من خلال المقارنة لموارد النصوص التي يكون فيها لفظ مطلق وآخر مقيد، أنه قد يكون بينهما شيء من اللقاء في سبب الحكم، أو في الحكم نفسه، أو فيهما معاً، مما يقتضي وجود قواعد وضوابط تنظم العلاقة بين المطلق والمقيد وتبين مدى تأثير أحدهما على الآخر. وحينما عمد المجتهدون إلى ارساء هذه القواعد، اختلفوا في بعضها وسوف نورد - بعد التعريف بماهية المطلق والمقيد، ودلالتهما وبيان الأحوال التي تعرض لهما، والشروط التي اشترطها من يقول بحمل المطلق على المقيد - أهم القواعد التي اختلف فيها علماء الأصول في هذا الباب، ثم نتبع ذلك ببعض الأمثلة التي توضح أثر الاختلاف في تلك القواعد على الفروع الفقهية.
المبحث الأول: في تعريف المطلق والمقيد في اللغة المطلق في اللغة: اسم مفعول، مأخوذ من مادة يدور معناها في وجوه تصاريفها المختلفة على معنى الانفكاك والتخلية1. يقال: أطلق الأسير إذا خلى سبيله، وأطلق الطير إذا فتح قفصه وأطلق القوم مواشيهم إذا سرحوها وأرسلوها إلى المرعى، وأطلق يده بخير فتحها به، وأطلق الرجل امرأته وطلقها بمعنى خلاها من قيد الزواج، وأطلق الرجل البلاد فارقها، وأطلق المتكلم في كلامه أي عمّ ولم يقيد. والمطلق في الألفاظ ضد المقيد، ومن الخيل ما لا تحجيل في إحدى قوائمه، لكن هذا المعنى أعني (الانفكاك والتخلية) يكثر استعماله في الأجسام المحسوسة مما جعل بعض العلماء يقول: إن الإطلاق والتقييد في الألفاظ مستعاران من المحسوسات، يقال: رجل أو حيوان مطلق؛ إذا خلا من قيد، ومقيد إذا كان في رجله قيد ونحوه من موانع الحركة الاختيارية التي ينتشر بها بين أفراد جنسه، فإذا ورد في ألفاظ الشارع لفظ مطلق، مثل (أعتق رقبة) كانت هذه الرقبة شائعة في جنسها شيوع الحيوان المطلق
بحركته الاختيارية يتحرك إلى أي جهة شاء. وإذا قال الشارع: (أعتق رقبة مؤمنة) كانت هذه الصفة وهي مؤمنة بالنسبة للرقبة كالقيد المانع للحيوان من الحركة الاختيارية1. وبناء على ذلك تكون نسبة الإطلاق والتقييد إلى اللفظ بحسب ما له من دلالة على المعنى، أي: أنهما وصفان للفظ باعتبار المعنى. والظاهر أنه ليس للأصوليين اصطلاح خاص في المطلق والمقيد بعيد عن المعنى اللغوي، بل هما مستعملان بما لهما من معنى في اللغة. لأن المطلق مأخوذ من الإطلاق، وهو الإرسال والشيوع، ويقابله التقييد2، قال ابن فارس3 في كتابه (الصاحبي) تحت عنوان (الخطاب المطلق والمقيد) : (أما الإطلاق: فأن يذكر الشيء باسمه لا يقرن به وصف، ولا شرط، ولا زمان ولا عدد، ولا شيء مما يشبه ذلك. والتقييد: أن يذكر بقرين من بعض ما ذكرناه، فيكون ذلك القرين
زائداً في المعنى1. وضابط ذلك كما يقول القرافي2: (أن تقتصر على مسمى اللفظة المفردة نحو: (رقبة) - إنسان - حيوان ونحو ذلك من الألفاظ المفردة فهذه كلها مطلقات، ومتى زدت على مدلول اللفظة المفردة مدلولاً آخر، بلفظ أو بغير لفظ، صار اللفظ مقيداً كقولك: (رقبة مؤمنة) ورجل صالح، وحيوان ناطق. وتلك المطلقات السابقة هي في أنفسها مقيدات إذا أخذت مسمياتها بالنسبة إلى ألفاظ أخر، فإن الرقبة هي إنسان مملوك، وهذا مقيد، والإنسان حيوان ناطق، وهذا مقيد، والحيوان جسم حساس، وهذا مقيد أيضاً، فصار التقييد والإطلاق أمرين نسبين، غاية الأمر أن إظلاق كل شيء بحسبه وما يليق به فرب مطلق مقيد ورب مقيد مطلق3.
المبحث الثاني: تعريف المطلق في الإصطلاح
المبحث الثاني: تعريف المطلق في الاصطلاح وأما تعريف المطلق في الاصطلاح فإن لعلماء الأصول فيه اتجاهين دارت حولهما التعاريف المتعددة. الاتجاه الأول: النظر إلى المطلق من حيث الدلالة على الأفراد الموجودة في الخارج1. والثاني: النظر إليه من حيث الدلالة على الماهية التي تعد من المفهومات العقلية، وسبب هذا الاختلاف يعود إلى أمرين: الأول: اختلافهم فيما يراد بالمطلق، هل هو الماهية المتحدة مع الأفراد وتسمى (الماهية بشرط) أي بشرط اتحادها مع أفرادها، وهذا أقرب إلى اصطلاح الأصوليين؛ لأن بحثهم في الأحكام الشرعية المتعلقة بالأفراد، أو أن المراد من المطلق الماهية المجردة، (وتسمى الماهية بدون شرط) ، وهذا الاتجاه يشبه اصطلاح المناطقة الذين يبحثون عن المفهومات العقلية. والسبب الثاني: اختلاف العلماء فيما هو المعتبر عند الواضع: أهي الصور المتخيلة في الذهن، أم الأفراد المحسوسة في الخارج؟ أو
هما معاً؟ أي الصور مع الأفراد المحسوسة في الخارج1، وحيث إن هذا الاعتبار الأخير يؤدي إلى الاشتراك، والأصل عدمه، فقد انحصرت وجهات النظر في الاعتبارين الأولين، أي: أن المعتبر عند الواضع إما الأفراد أو الصور، فأصحاب الاتجاه الأول: ومنهم الآمدي وابن الحاجب يرون أن المطلق موضوع للدلالة على الأفراد الخارجية لتبادرها من اللفظ عند إطلاقه والتبادر بدون قرينة أمارة الحقيقة. ولهذا عرفوا المطلق بتعاريف متعددة تلتقي عند دلالته على الفرد الشائع في جنسه: إذ عرفه الآمدي بأنه: (النكرة في سياق الأثبات) 2 وبنحو منه تعريف صاحب مسلم الثبوت3، بأنه ما دل على فرد ما منتشر4. ومعنى هذا التعريف أن المطلق اللفظ الذي يتناول فرداً غير معين، بمعنى أن ذلك الفرد المتناول بالمطلق فرد منتشر شائع في جنسه.
وشيوع المدلول في جنسه يعني كونه فرداً محتملاً لأفراد كثيرة على سبيل البدل أي: أنه يمكن أن يصدق على كل فرد منها من غير أن يستغرقها أو يعين واحداً منها، فمثلاً: قولنا (رجل) لفظ يتناول شخصاً واحداً ليكن زيداً مثلاً، ولكن تناوله له ليس معناه أن ذلك الفرد متعين أن يكون مدلولاً له لا يحتمل أن يصدق على غيره، بل هو ممكن أن يصدق على عمرو بدل زيد وعلى بكر بدلهما، فتناوله لزيد أو عمرو تناول بدلي تناوبي باعتبار حقيقة شاملة لهما وهي: (الإنسان الذكر) 1. 2 - وذهب أصحاب الاتجاه الثاني وهم أكثر الأصوليين: إلى أن المطلق موضوع للدلالة على الماهية من حيث هي، والفرد الذي يتحقق به مفهوم الماهية إنما يلزم عن طريق الضرورة؛ إذ لا وجود للماهية في الخارج بأقل من فرد من أفرادها، وهؤلاء عرفوا المطلق: بأنه اللفظ الدال على الماهية بلا قيد2.
ومعنى هذا التعريف أن المطلق هو اللفظ الذي يدل على الحقيقة من حيث هي بدون اعتبار أي قيد، من وحدة، أو شرط، أو وصف، أو زمان، أو مكان، فمثلاً: قولنا (فرس) : لفظ يدل على حقيقة وما هية هي الحيوان الصاهل، ولم يعتبر في هذا اللفظ أي قيد من القيود التي تقلل من شيوعه وانتشاره بين أفراد جنسه، حيث لم يوصف بوصف ما، كما لم يشترط فيه أن يكون في زمان أو مكان ما، أو غير ذلك من القيود التي تحد من انتشاره وتضيق من دائرة انطباقه على أفراد جنسه. وقد أيد كل فريق رأيه بأدلة نذكر منها ما يلي: أ - فمن أدلة1 الفريق الأول ما يلي: 1 - قالوا: إن القول بأن المطلق موضوع للدلالة على الأفراد هو الموافق لأسلوب العرب ومتعارفهم؛ لأن المطلق عندهم عبارة عن النكرة في سياق الإثبات. 2 - إن تعريف المطلق بما يدل على الأفراد هو الأوفق بأسلوب الأصوليين، لأن بحثهم في أحكام المكلفين، والتكليف إنما يتعلق بالأفراد دون المفهومات. 3 - قالوا: إن القول بأن المطلق موضوع للماهية ينافيه اتفاق
الفريقين على أن من أمثلته (رقبة) في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 1؛ إذ لا شك أنها فرد محسوس في الخارج2. 4 - ومن أدلتهم أيضاً: أن القائل بأن المطلق موضوع للماهية يلزمه القول بأن وجودها وتعلق الأحكام بها إنما يكون باعتبار اتحادها مع أفرادها، وليس كذلك القول بأن المطلق موضوع للدلالة على الفرد الشائع؛ فإنه لا يترتب عليه هذا المحظور؛ إذ يمكن توجيه الخطاب إليه أصالة بدون لوازم. ب - ومن أدلة الفريق الثاني3: 1 - أن الأصل في الوضع أن يكون للصور المتخلية في الذهن، بدليل أننا لو رأينا شبحاً بعيداً ولم نميزه، فلا نزال نطلق عليه الأسماء المختلفة حسبما نتصوره في أذهاننا. 2 - أن اللفظ ظاهر الدلالة على الحقيقة، بدليل تسميته بالمطلق المقابل للمقيد، أما الأفراد فلا يمكن ادعاء الإطلاق فيها، لأنها حينما توجد تقارنها القيود المختلفة، إذ لا بد أن تكون في زمان ما ومكان ما
ومتصفه بصفة ما1. 3 - قالوا: إن تعريف المطلق بما يدل على الماهية فيه التفريق بين المطلق والنكرة وهذا مما ينبغي مراعاته عند تعريفهما. والظاهر أنه ليس هناك فرق جوهري بين التعريفين، لقيامه على أمور اعتبارية، فحيث اعتبرت الحقيقة مجردة عن القيود سميت مطلقاً واسم جنس كما سيأتي. وإذا أخذت متحدة مع الأفراد سميت نكرة، وسيأتي لهذا البحث مزيد من التوضيح في الفرق بين المطلق والنكرة عند من يرى الفرق بينهما، وعلى ضوء ما سبق فمن الممكن تعريف المطلق بما يجمع الأمرين جميعاً. فيقال: المطلق هو اللفظ المتناول لواحد غير معين باعتبار حقيقة شاملة لجنسه2. شرح التعريف: 1 - اللفظ المتناول: يراد بالتناول - هنا - التناول البدلي، وهو أن
يكون اللفظ صالحاً للدلالة على أفراد كثيرة غير محصورة وغير معينة من ذات اللفظ، ولكن مفهومه يتحقق بواحد منها، أي واحد كان. مثل قولنا: (أكرم رجلاً) : المتناول لجميع رجال الدنيا بدون تعيين، ولكن مفهومه يصدق بإكرامك واحداً منهم أيا كان هو، وبهذا القيد يخرج عن حد المطلق العام؛ لأنه يتناول أفراداً كثيرة دفعة واحدة. 2 - لواحد غير معين: الوحدة - هنا - أعم من الوحدة الحقيقية فيشمل التعريف الجمع والمثنى إذا كانا نكرتين، وبهذا القيد تخرج المعارف لما فيها من التعيين وأسماء العدد لدلالتها على أكثر من واحد، والمقيد لأن فيه بعض التعيين. 3 - باعتبار حقيقة شاملة لجنسه: يعني أن تناول اللفظ المطلق منظور فيه إلى مفهوم مشترك بين الأفراد، وهذا المفهوم يسمى حقيقة، وبهذا القيد يخرج المشترك؛ لأنه وإن تناول أكثر من واحد لا بحسب الحقيقة، بل بحسب الوضع.
المبحث الثالث: تعريف المقيد اصطلاحا
المبحث الثالث تعريف المقيد اصطلاحا المطلق والمقيد متقابلان، ولما وجد لعلماء الأصول في تعريف المطلق اتجاهان كان من البداهة أن يوجد هذان الاتجهان في تعريف المقيد نظراً للتقابل الحاصل بين المطلق والمقيد. 1 - فمن يرى من الأصوليين أن المطلق اللفظ الدال على شائع في جنسه1 يعرف المقيد: بأنه اللفظ الذي يدل لا على شائع في جنسه 2. فيدخل في تعريف المقيد عند هذا الفريق المعارف وجميع العمومات لدلالتها على غير شائع في جنسها، ولكن إطلاق المقيد على ما يشمل المعارف والعمومات ليس بالاصطلاح الشائع، وإنما هو للتقابل بين المطلق والمقيد. 2 - ومن يرى أن المطلق هو: اللفظ الدال على الماهية بلا قيد3. يعرف المقيد: بأنه اللفظ الدال على الماهية مع قيد من قيودها 4.
أو هو اللفظ الدالة على مدلول المطلق مع صفة زائدة1: مثل: قولنا: رجل كريم؛ فإنه يدل على ماهية الرجل وهي: (الإنسان الذكر) مع قيد زائد عليها وهو (الكرم) ؛ لأنها لا تتضمنه في أصل الوضع. والواقع أن المقيد على هذا التعريف ما هو إلا مطلق لحقه قيد فأخرجه عن الإطلاق إلى التقييد، وبناء على ذلك فالمطلق الذي له أوصاف، أو قيود كثيرة إذا وصف، أو قيد بواحد منها كان مقيداً بالنسبة إلى ذلك الوصف أو القيد، أما بالنسبة إلى ما عدا ذلك من الأوصاف فيبقى على إطلاقه، فمثلاً قولنا: (رقبة) مطلق، وقولنا: (رقبة مؤمنة) قُيّد فيه المطلق بقيد الإيمان، فهذا التقييد لا يمنع من بقاء المطلق على إطلاقه بالنسبة لأوصافه الأخرى ككونها عربية أو غير عربية، سليمة أو معيبة. وعلى ضوء ذلك يمكن تعريف المقيد: بأنه: (اللفظ المطلق الذي اقترن به ما يقلل من شيوعه وانتشاره) 2.
شرح التعريف: 1 - اللفظ المطلق: سبق شرحه. 2 - الذي اقترن به ما يقلل من شيوعه: يقصد بالاقتران - هنا - ما هو أعم من التقييد اللفظي، فيشمل التقييد باللفظ وغيره كالتقييد بالنية والعادة مثلاً، فمثال التقييد باللفظ. قولنا: (رجل صالح) ، ومثال التقييد بالنية قولك: (لله علي أن أحج) ، وأردت هذا العام مثلاً: ومثال التقييد بالعادة قول السيد لعبده: اشتر لنا لحماً، ومن عادتهم شراء لحم الضأن؛ فإنه يتقيد بما هو متعارف بين السيد وعبده، وفي قولنا: ما يقلل من شيوعه: إشارة إلى أنه يكفي في تقييد المطلق خروجه من الشيوع بأي وجه كان، وليس شرطاً في التقييد أن لا يبقى للمطلق صفة الإطلاق أصلاً، بل قد يكون مطلقاً من وجه ومقيداً من وجه آخر. والمراد بالشيوع: الشيوع البدلي كما سبق إيضاح ذلك، فقول الله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} 1، مطلق يتناول الرقاب الموجودة في الدنيا - سواء أكانت مؤمنة أم كافرة - وللمكلف أن يعتق واحدة منها، وبذلك يخرج من عهدة التكليف.
لكن في قوله - تعالى -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} 1، قد جاء المطلق مقترناً بما يقلل من ذلك الشيوع؛ لأن المأمور به تحرير رقبة مؤمنة لا يجدي تحرير غيرها للخروج من عهدة التكليف، بينما كان المطلق قبل التقييد مجزئاً بإعتاق أي رقبة. وهكذا نرى أن قيد الإيمان قد جاء مقللاً من شيوع المطلق وقاصراً له على بعض الأفراد التي كان يتناولها قبل التقييد، لكنه مع ذلاك بقيت الرقبة مطلقة بالنسبة لما عدا الإيمان من الأوصاف، ككونها عربية أو فارسية سليمة أو معيبة، إذ لم يتعرض التقييد في هذا النص لغير وصف الإيمان وبذلك يتحقق ما سبق أن الإطلاق والتقييد من الأمور النسبية فرب مطلق مقيد ورب مقيد مطلق2، ولا تناف في ذلك بعد ما تبين لنا المراد من المطلق والمقيد.
الفصل الثاني: في دلالة المطلق والمقيد
الفصل الثاني: في دلالة المطلق والمقيد المبحث الأول: في الفرق بين المطلق والنكرة ... المبحث الأول: في الفرق بين المطلق والنكرة. سلف أن بعض1 أصحاب الأصول يعرف المطلق بالنكرة في سياق الإثبات، وهذا الاتجاه يتفق وما ذهب إليه عامة النحاة من تقسيم الاسم إلى نكرة ومعرفة. ويصنفون المطلق من قسم النكرة؛ لأنهم لا يرون فرقاً بينهما، بل يذهب فريق من النحاة إلى إعطاء الأفعال والظروف حكم النكرة؛ لوقوعهما صفة لها، والصفة تابعة للموصوف، ولدلالة كل من الفعل والظرف في الغالب على غير معين، والنكرة كذلك، لكنهم لا يقصدون من النكرة المساوية للمطلق كل نكرة، بل النكرة المساوية للمطلق عندهم هي النكرة في سياق الإثبات، وهي المعروفة بالنكرة المحضة المتوغلة في الإبهام؛ حيث لم يقترن بها ما يخرجها عن الإبهام بوجه من الوجوه. يقول القرافي: "كل شيء يقول فيه الأصوليون: إنه مطلق يقول النحاة: إنه نكرة، وكل شيء يقول النحاة: إنه نكرة يقول الأصوليون: إنه مطلق، وأن الأمر به يتأدى بفرد منه؛ فكل نكرة في سياق الإثبات مطلق عند الأصوليين، فما أعلم موضعاً ولا لفظاً من ألفاظ النكرات يختلف فيه النحاة والأصوليون، بل أسماء الأجناس كلها في سياق الثبوت هي نكرات
عند النحاة ومطلقات عند الأصوليين"1. ثم يقول: "والتعرض للفرق بين الاصطلاحين عسر باعتبار الواقع، أما باعتبار الفرض والتصوير فممكن، غير أن البحث إنما وقع في هذا المكان عن الواقع من الاصطلاحين ما هو؟ وقريب من ذلك ما ذكره صاحب2 النحو الوافي حيث يقول: "ذهب جمهرة كبيرة من النحاة إلى أنه لا يوجد فرق بين النكرة واسم الجنس "المطلق"؛ فإن كان لمعين فهو النكرة المقصودة3، وإن كان لغير معين فهو: النكرة غير المقصودة4، وفي هذا الرأي يعني "اتحاد المطلق
والنكرة" تخفيف وتيسير فيحسن الأخذ به"1، وما ذهب إليه هذان العالمان من اتحاد النكرة والمطلق أيده كثير من الأصوليين منهم صاحب التحرير إلا أنه قصر مساواة المطلق للنكرة في سياق الإثبات والمعرف لفظاً2، حيث يقول بعد أن ذكر الأدلة على أن المطلق موضوع ليدل على الأفراد الخارجية: "فلا دليل على وضع اللفظ للماهية من حيث هي إلا علم الجنس3، إن قلنا: بالفرق بينه وبين اسم الجنس النكرة، وهو الأوجه أي: الفرق بينهما، هو الأوجه المختار؛ لأن اختلاف أحكام اللفظين يؤذن بفرق في المعنى، وإلا فقد ساوى المطلق النكرة ما لم يدخلها عموم والمعرف لفظاً"4.
وفسر الشارح ذلك فقال: "والمراد بمساواته لهما أن ما صدق عليه أحدهما يصدق عليه الآخر؛ فبين المطلق والنكرة عموم من وجه"، لصدقهما في نحو: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ، وانفراد النكرة عنه إذا كانت عامة كما لو وقعت في سياق النفي، وانفراد المطلق عنها في نحو: "اشتر اللحم"، ثم يقول الكمال بن الهمام: "ولو سلم عدم الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس فقد استقل تبادر الأفراد من اللفظ المطلق بنفي وضعه للماهية من حيث هي: فالحق الأول - يعني أن لا وضع للماهية من حيث هي إلا علم الجنس إن قلنا: بالفرق بينه وبين اسم الجنس"1. 2 - وذهب فريق آخر: إلى أن المطلق مغاير للنكرة؛ فالمطلق عند أصحاب هذا الاتجاه ما وضع للمعنى الذهني المجرد، وهو المسمى "بالماهية من حيث هي"، مثل:
قولك: "الرجل خير من المرأة" أي: حقيقة الرجل خير من حقيقة المرأة، بقطع النظر عن أفرادهما. والنكرة هي: مدلول اللفظ الخارجي الذي ينطبق عليه فعلاً، قال صاحب النحو الوافي بعد أن ذكر التعريفين السابقين: "وهذا حاصل الفرق بينهما عند من يراه وهو فرق فلسفي متعِبٌ في تصوره، وليس وراءه فائدة عملية"1، إذ لا يوجد له في خارج الذهن، بل المطلق والنكرة في الخارج متحدان في المدلول، وهو الفرد الشائع، وحيث علمنا عدم فائدة الفرق، وأنه يرجع إلى أمور اعتبارية فقط، يكون الخلاف في ذلك خلافاً في الاصطلاح، اللهم إلا أن يقال: الفرق بين المطلق والنكرة يبدو في حال الإخبار عن الماضي، إذ قال بعض الأصوليين2: إن الإطلاق لا يتصور في غير الأمر وخبر الثبوت، فنحو قولك: رأيت رجلاً مثلاً،
متعين بإسناد الرؤية إليك ومع التعيين يبعد الإطلاق، لكن هذا المثال لا يسلم من الاعتراض؛ لأنه يمكن أن يقال: إن رجلاً في قولك: "رأيت رجلاً" مطلق؛ لأنه لا يعرف هل هو مسلم أو غير مسلم، طويل أو قصير؟ فعلى فرض صحة المثال يكون المطلق مفارقاً للنكرة في حال الإخبار عن الماضي وسيأتي لهذا مزيد من الإيضاح في مبحث دخول الإطلاق على الأفعال. ورغم ما سبق من عدم فائدة الفرق بين المطلق والنكرة إلا أن أكثر الأصوليين والفقهاء ذكروا لذلك فائدة تظهر في قول الرجل لزوجته: "إن كان حملك ذكراً فأنت طالق"، ولم ينو عدداً معيناً ثم ولدت ذكرين، فعلى القول بأن المطلق يفارق النكرة، وأنه يفيد ماهية الشيء تطلق للجنس، وإلى هذا الفرق يشير صاحب1 مراقي السعود، فيقول:
عليه طالق إذا كان ذكرا ... فولدت لاثنين عند ذي نظر وذكروا في الفروع أيضاً أن من دفع إلى وكيل له ثوباً ليخيطه ولم يعين الموكل أحد الخياطين ثم تلف الثوب، فإن الوكيل يضمن لتفريطه بخلاف ما لو عين الموكل أحد الخياطين، فإن الوكيل لا يضمن حينئذ لعدم تفريطه1.
المبحث الثاني: في الفرق بين المطلق والعام
المبحث الثاني: في الفرق1 بين المطلق والعام المطلق والعام يشتركان في ثبوت الحكم، لكل فرد من الأفراد الداخلة تحت مدلولهما، ولذلك يسمي بعض العلماء المطلق عاماً2 فهل العموم في المطلق والعام بمعنى واحدٍ أو بينهما فرق؟ وإن كان هناك فرق فما السبب في تسمية المطلق عاماً؟ والذي عليه المحققون أن العموم في المطلق يراد به معنى غير المصطلح عليه في لفظ العام الذي سبق تعريفه بأنه: "اللفظ المستغرق لما يصلح له بلا حصر"، يقول العلائي3 في كتابه تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم:
"العموم يقع على قسمين: عموم الشمول، وعموم الصلاحية، وإن كان العموم في الأول أقوى منه في الثاني، وعموم الصلاحية هو: المطلق، وتسميته عاماً بسبب أن موارده غير منحصرة، لا أنه في نفسه عام، فإن قوله - تعالى -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} مطلق، والمقصود بها القدر المشترك في أي مورد شاء من أنواع الرقاب، غير أن المكلف لما كان له أن يعين هذا المفهوم المشترك في أي مورد شاء من أنواع الرقاب كان "لفظ"1 الرقبة عاماً بهذا الاعتبار، ويقال له: عموم البدل أيضاً، فلا يجب على المكلف أن يعتق كل ما يسمى رقبة، بخلاف عموم الشمول، فإنه يلزمه تتبع الأفراد الداخلة تحت اللفظ العام2، فمثل قوله - تعالى -: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} لا يمكن للمكلف أن يقصر حكمه على فرد واحد من أفراد المشركين، بل يلزمه تتبع الأفراد حيث وجدها، فلو قتل مشركاً ثم وجد آخر وجب
عليه قتله امتثالاًُ للأمر الأول، بينما نجد أن المكلف بالمطلق له أن يختار أي فرد شاء مما يصدق عليه اللفظ المطلق وبفعله ذلك يخرج عن عهدة التكليف، فمثلاً: قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يجوز للمكلف أن يعتق أي رقبة شاء سواء أكانت طويلة أم قصيرة وسواء أكانت سوداء أم بيضاء، أو كانت على غير ذلك من الصفات والهيئات"، ومن هنا أخذ الأصوليون القول بأن شمول المطلق من حيث الصفات وشمول العام من حيث الأفراد، وحتى يتضح الفرق أكثر نعقد المقارنة التالية بين المطلق والعام وهي من ناحيتين: الأولى: في أوجه الشبه بين العام والمطلق. ويتلخص ذلك في النقاط التالية: 1 - فمن حيث العمل: يجب على المكلف أن يعمل بما يتبادر له من اللفظ العام، أو المطلق حتى يرد الدليل الذي يصرف اللفظ عما يتبادر منه1.
2 - ومن جهة جواز تأويل اللفظ وصرفه على ظاهره1. يجوز في كل من العام والمطلق أن يصرف اللفظ عن ظاهره إذا قام الدليل على ذلك. 3 - من جهة اتصاف كل منهما بالشمول: يوجد في كل من العام والمطلق عموم، لكنه يختلف تسمية ومضموناً، وهذا هو جوهر الفرق الآتي: الناحية الثانية: أوجه الفرق بين المطلق والعام. يشترك المطلق والعام في الأمور الثلاثة السابقة ويفترقان فيما يلي: 1 - في متعلق العموم في كل منهما: حيث يتعلق العموم الموجود في المطلق بالصفات وفي العام يتعلق بالأفراد. 2 - فيما يخرج به المكلف عن عهدة التكليف: فبينما المكلف بالمطلق يخرج عن عهدة التكليف بفعله أي فرد شاء من الأفراد التي ينطبق عليها مدلول اللفظ المطلق، نجد أنه لا يكون ممتثلاً
في العام إلا إذا فعل جميع الأفراد التي يشملها اللفظ العام. 3 - في تسمية العموم في كل منها: حيث يسمى في المطلق عموم الصلاحية أو عموم البدل، ويسمى في العام عموم الشمول، والفرق بينهما كما يقول الشوكاني: "إن عموم الشمول كلي يحكم على كل فرد فرد، وعموم البدل كلي من حيث لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، لكن لا يحكم فيه على كل فرد فرد بل على فرد شائع في أفراده يتناولها على سبيل البدل، ولا يتناول أكثر من واحد دفعة"1. ومعنى ذلك: أنهما يشتركان في ثبوت الحكم لكل فرد من الأفراد، ويفترقان في أن العموم الشمولي يدل على ذلك في حال اجتماع كل فرد مع الآخر وحال انفراده، والبدلي إنما يدل على ثبوت الحكم لواحد غير معين أما المجموع من حيث هو فلا يتعرض له2.
المبحث الثالث: المعهود الذهني بين الإطلاق والتقييد
المبحث الثالث المعهود الذهني بين الإطلاق والتقييد فيما مضى ذكرنا أن الاسم المفرد والجمع المحلى "بأل" الاستغراقية من صيغ العام، وهنا نضيف أن "أل" المعرِّفة لها أربعة معان، هي: الجنس والاستغراق، والعهد الخارجي، والعهد الذهني، لكن تعيين واحد من هذه المعاني موقوف على وجود القرينة، فإذا لم توجد القرينة التي تعيِّن أحد معاني اللام المذكورة، فقد اختلف العلماء في الأولى بالتقديم من تلك المعاني. والذي ترجح لدى الباحثين في هذه المسألة، هو تقديم العهد الخارجي، ثم الاستغراق، ثم الجنس، وهو مساو للمعهود الذهني عند الكمال حيث يقول: "ولا شك أن تعريف الجنس الذي استدل على ثبوته بإطباق العرب على إرادة الجنس من قولهم: فلان "يلبس البرود ويركب الخيل، ويخدمه العبيد"، هو المراد من تعريف المعهود الذهني، إذ هو الإشارة إلى الحقيقة باعتبارها بعض الأفراد غير معينة للعهدية الذهنية لجنسها"1، ومعنى هذا التعريف: أنه يشار باللام إلى الحقيقة من حيث تحققها في ضمن فرد ما، لا من حيث هي هي، ولا من حيث
تحققها في ضمن فرد معين، أو ضمن كل فرد، بل يشار إليها باللام للعهدية الذهنية، لا الخارجية، حيث لم يعهد بين المتكلم والمخاطب ذكر فرد معين من تلك الحقيقة، إلا أن الطبيعة الكلية من حيث تحققها في ضمن فرد ما، أمر معلوم معهود في الأذهان، فباللام يشار إليها باعتبار أنها معلومةٌ معهودة في ذهن المخاطب1. ومن أمثله المعهود الذهني أيضاً: قولك: أكلت الخبز وشربت الماء ونحو قول السيد لخادمه: ادخل السوق واشتر اللحم. فالخبز والماء، والسوق واللحم، يرى بعض الأصوليين2 أنها من قبيل المطلق؛ لأن "أل" الداخلة عليها ليست للاستغراق، لتعذر الحمل عليه وليست للعهد الخارجي، حيث لم يسبق ذكر بعض أفراد المحلى بها بين المتكلم والمخاطب، فتعين كونها للجنس وهو معنى المعهود الذهني كما مر، فإن قيل: إن الحضور الذهني قَيَّد تلك الألفاظ فهي مقيدة وليست مطلقة، أجيب: أن ذلك القيد لم يذكر في الكلام، وإنما هو قيد اعتباري يتوقف تأثيره على القرائن، ومن هنا اختلف الأصوليون في المعهود الذهني، هل هو مطلق أو مقيد؟ وكان لهم في ذلك مذهبان.
مبنى الخلاف فيهما تفسير النفي في قول الأصوليين: "المطلق الدال على الماهية بلا قيد"1 هل المقدر فيه، بلا قيد لفظي، أو المقدر بلا اعتبار قيد، وعندئذ يصح التقييد بالنية مثلاً. 1 - فمن يرى أن الاعتبار هو الذي يضفي على اللفظ صفة الإطلاق والتقييد سواء كان مع اللفظ المطلق قيد لفظي - كذكر الحجور في قوله - تعالى -: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم} - ولكنه لم يعتبر، أو لم يوجد معه قيد فعلاً، كقول الحالف "لا آكل الرؤوس" وأراد بها رؤوس معهودة، يقول: إن المعهود الذهني مقيد 2 لأن قيد الحضور معتبر فيه، وذلك مانع من الإطلاق. 2 - ومن يرى أن المنفي في المطلق هو وجود القيد اللفظي معه، لا اعتباره يقول: إن المعهود الذهني من المطلق 3، لعدم وجود قيد لفظي معه، وأيضاً فإن المعهود الذهني يدل على شائع في جنسه والمطلق كذلك
فيكون المعهود الذهني من المطلق1؛ لدلالته على شائع في جنسه. كما أن المعهود الذهني في الحقيقة نكرة، وإن كان معرفاً لفظاً2، بدليل أن العلماء جوزوا وصفه بالنكرة باعتبار معناه، ووصفه بالمعرفة باعتبار لفظه واعتبار المعنى أولى، لأنه الأصل. ومن أمثلة ذلك قول الله - تعالى -: {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} 3، فقد جوز المعربون للقرآن أن تكون جملة "نسلخ" صفة لليل باعتبار معناه وحالاً منه باعتبار لفظه. ولكن مع هذا كله يظهر أن المعهود الذهني من قبيل المقيد للأمور التالية: 1 - أن المعهود الذهني متعين عند المتكلم والمخاطب، والعبرة بمن يجري بينهم التخاطب لا بمن يسمع، ولا عهد له بما يريد المتخاطبان. 2 - أن العرب استعملت "ال" العهدية للدلالة على الأمر المعهود في الذهن المتعين لدى المخاطب، ومع التعيين يبعد الإطلاق. 3 - أن السيد لو أمر خادمه فقال له اشتر اللحم والمعهود بينهما لحم الضأن، فاشترى لحم بقر أو جمل، لا يعد ممتثلاً لأمر سيده، ولا عذر
له في أن اللحم يطلق على لحم البقر والجمل وغيرهما؛ لأن العهد قَيَّده، فالراجح أن المعهود الذهني من المقيد.
المبحث الرابع: عروض الإطلاق والتقييد للأفعال والأسماء الشخصية
المبحث الرابع: عروض الإطلاق والتقييد للأفعال والأسماء الشخصية. الإطلاق والتقييد وصفان للفظ باعتبار المعنى، ومن هنا يقول بعض الأصوليين إنهما اسمان للفظ دون المعنى1، ولا شك أن الألفاظ المفردة يجري فيها الإطلاق والتقييد، وتوصف بهما فيقال: لفظ مطلق ولفظ مقيد، وقد مثل الأصوليون للمطلق بالنكرة في سياق الإثبات نحو قولك: أكرم رجلاً: وللمقيد بقولهم: "أعتق رقبة مؤمنة"، واكتب بقلم أزرق، وطائر أبيض على الشجرة2 لكن هل الإطلاق والتقييد خاصان بالألفاظ المفردة كما يظهر من كلام الأصوليين، أو أن الأفعال والأسماء الشخصية يصح أن توصف بالإطلاق والتقييد. الظاهر أن الإطلاق والتقييد يصح أن يوصف بهما الأفعال والأسماء الشخصية، كما توصف بهما الألفاظ المفردة، يقول ابن قدامة3 المقدسي:
"يسمى الفعل مطلقاً نظراً إلى ما هو من ضرورته من الزمان والمكان والمصدر والمفعول له، والآلة فيما يفتقر إلى الآلة والمحل للأفعال المتعدية وقد يقيد بأحد دون بقيتها"1. وقد زاد هذا المبحث إيضاحاً المظفر في أصوله:2 حيث يقول: "الإطلاق لا يختص بالمفردات كما يظهر من كلام الأصوليين، بل يكون في الجمل أيضاً، فإن إطلاق صيغة "افعل" الذي يقتضي استفادة الوجوب إنما هو من قبيل إطلاق الجملة، وكذلك إطلاق الجملة الشرطية في استفادة الانحصار في الشرط، من قبيل إطلاق الجمل ولكن محل بحث الأصوليين في هذا الباب إنما هو خصوص الألفاظ، ولعل عدم شمول البحث عندهم للجمل باعتبار أنه ليس هناك ضابط كلي لمطلقاتها، وإن كان الأصح أن بحث شروط إمكان الإطلاق يشملها"3، كذلك عندما نعرف العلم الشخصي والمعرف بلام العهد لا يسميان مطلقين باعتبار معناهما، لأنه لا شيوع ولا إرسال في شخص معين.
لكن لا ينبغي أن نظن أنه لا يجوز أن يسمى العلم الشخصي مطلقاً، لأنه إذا قال الآمر: "اكرم محمداً" وعلمنا أن لمحمد أحوالاً مختلفة ولم يقيد الحكم بحال منها نستطيع أن نقول: إن لفظ محمد أو هذا الكلام بمجموعه يصح أن يوصف بالإطلاق والتقييد، إذا لوحظت فيه الأحوال المختلفة، وإن لم يكن له شيوع باعتبار معناه الموضوع له، وبناء على ذلك فللأعلام الشخصية والأفعال إطلاق فلا يختص المطلق بما له معنى شائع في جنسه، كما هو اصطلاح أكثر الأصوليين1 2 - ولكن يرى بعض الأصوليين أن الفعل لا يكون مطلقاً ولا مقيداً، لأن المطلق لفظ مُنَكّرٌ2، وليس الفعل كذلك، وهذا الفريق نظر إلى صيغة الفعل: ولا شك أن الفعل من جهة الصيغة لا يوصف بالإطلاق أو التقييد، لأن المطلق نكرة في سياق الإثبات، ولا يوصف الفعل من حيث صيغته بأنه نكرة، لكن يتأتى إمكان وصفه بالإطلاق أو التقييد باعتبار مصدره إذا كان في سياق الإثبات كقولك: "قم" فإنه يقتضي مصدراً أي قم قياماً، فيكون الثابت بمقتضى هذه الصيغة ما هو نكرة في سياق الإثبات، وهو: "قياماً" وعندئذ يصح أن يوصف بالإطلاق بهذا
الاعتبار1، أما إذا كان الفعل في سياق النفي فإن مصدره يكون عاماً، لأن النكرة المنفية من ألفاظ العموم، وفي شرح الروضة للطوفي2: "يقال: فعل مقيد أو مطلق باعتبار اختصاصه ببعض مفاعيله من ظرف أو مكان أو نحوهما من المفاعيل، فقولك: "اضرب" مثلاً مطلق بالنسبة إلى الزمان والمكان والآلة، لا دلالة له على شيء منها بعينه، وقد يقيد ببعض مفاعيله دون يعض فيكون مقيداً بالإضافة، كقولك "صم يوم الاثنين" الصوم مقيد من جهة ظرف الزمان، ومطلق من جهة ظرف المكان، ولو قيل: "صم في مكة يومين" لكان على العكس من ذلك3. والذي يجمع بين هذه الآراء أن المطلق له معنيان عام وخاص،
فالمطلق بمعناه الخاص: اللفظ الدال على شائع في جنسه، أو هو اللفظ الدال على الماهية بدون قيد من قيودها، وهذا اصطلاح الأصوليين. والمطلق بالمعنى العام: اللفظ المجرد عن القيود سواء أكان له معنى شائع أم لم يكن له ذلك، وعلى هذا الاصطلاح ليس هناك واسطة بين المطلق والمقيد، بل اللفظ إما أن يكون مطلقاً أو مقيداً1.
المبحث الخامس: في حكم المطلق والمقيد
المبحث الخامس في حكم المطلق والمقيد فيما مر من المباحث ذكرنا أن دلالة اللفظ، أو حكمه يعني قوة دلالته على المعنى الموضوع له - من حيث القطعية، أو الظنية. لكن علماء الأصول يقصدون بحكم المطلق والمقيد ما هو أعم من ذلك1، إذ هو عندهم يتناول حالتين. الأولى: حكم المطلق والمقيد في حال انفراد كل منهما عن الآخر. والثانية: حكم المطلق والمقيد في حال اجتماعهما معاً. والحق أن المراد بالحكم أو الدلالة في الحال الأولى يختلف عن المراد به في الحال الثانية؛ لأنه في الحال الأولى يعني مدى قوة دلالة اللفظ على المعنى الموضوع له من حيث القطعية أو الظنية وموقف المفسر حال تبيينه وتوضيحه للنص المطلق أو المقيد. وأما في الحال الثانية: فإن المقصود بحكم المطلق والمقيد مدى تأثير المقيد على المطلق أيقوى على تفسيره وبيانه أم لا؟
والكلام على هذه الحال - سيأتي - في الباب الثاني، ولكن قبل أن نذكر حكم المطلق والمقيد في حال انفراد كل منهما عن الآخر، نذكر الشروط التي إذا توفرت في اللفظ المطلق وجب إجراؤه على إطلاقه وهي كثيرة منها: 1 - أن لا يكون هناك إجماع1 على خلاف الحكم الذي يفيده المطلق بإطلاقه، فإن وجد إجماع يخالف المطلق فيما دل عليه وجب تقييد المطلق بما يتفق وحكم الإجماع - سواء عرف دليل الإجماع أم لم يعرف، لأن الإجماع أقوى في دلالته على الحكم من اللفظ المطلق، لعدم احتمال الإجماع للنسخ2.
2 - الشرط الثاني: أن لا يوجد دليل مسلم بحجيته يخالف المطلق فيما دل عليه، فإن وجد الدليل المخالف، وجب التوفيق بينه وبين المطلق؛ لأن نصوص الشرع لا تعارض بينها إلا في الظاهر، والتعارض الظاهري ممكن دفعه بوجه من الوجوه التي ذكرها العلماء للتوفيق بين الأدلة المتعارضة. 3 - الشرط الثالث: أن لا يرد اللفظ المطلق نفسه مقيداً في موضع آخر، فإن ورد مقيداً في موضع آخر، فالحكم سيأتي بالتفصيل في الباب الثاني. وبعد أن عرفنا أهم الشروط التي إذا توفرت في اللفظ المطلق وجب إجراؤه على إطلاقه نذكر أقوال العلماء في حكم المطلق والمقيد، وكيفية دلالة كل منهما على المعنى الموضوع له، ونبدأ أولاً: أ - بحكم المطلق أو كيفية دلالته على معناه: يتحدد1 حكم المطلق، وموقف المفسر حياله في الآتي: إذا ورد لفظ مطلق في نص من النصوص الشرعية، وتوفرت فيه شروط الإطلاق السابقة، فقد اتفق علماء الأصول أنه يجب العلم به على إطلاقه، وليس من حق المفسر أن يقيده أو يضيق من دائرة اتساعه بدون
دليل1، كما اتفقوا أيضاًَ على أن اللفظ المطلق يحتمل التأويل، والصرف عن ظاهره المتبادر منه إذا قام الدليل على ذلك، يستوي في ذلك من يجعل للمطلق حكم الخاص2، ومن يجعله في قوة العام3؛ لأن صرف اللفظ الخاص بالدليل متفق عليه4. لكن الخلاف بين الأصوليين جار في كيفية دلالة المطلق على معناه
أهي قطعية أم ظنية؟ أ - فذهب معظم الحنفية إلى أن دلالة المطلق على المعنى الموضوع له قطعية1. ب - وذهب جمهور الأصوليين - ومنهم الشافعية - إلى أن دلالة المطلق كدلالة العام2. وهذا الخلاف يشبه اختلافهم في دلالة العام المطلق. وحيث ذكرنا هنالك أدلة كل فريق ووجه الدلالة منها نكتفي هنا بالأدلة الخاصة بحكم المطلق: 1 - حيث أضاف الحنفية إلى أدلتهم السابقة دليلاً آخر خاصاً بحكم المطلق، وهو مأخوذ بطريق الإلزام، إذ قالوا: لما كان الاتفاق قائماً على أن دلالة الخاص قطعية3، والمطلق من الخاص - كما هو
الراجح1 عند أكثر الأصوليين، فتكون دلالته قطعية كذلك؛ لأن الحكم على العام حكم على كل فرد من أفراده، والمطلق من أفراد الخاص فيشمله حكمه2. ولكن الجمهور لم يسلموا لهم هذا الدليل وناقشوهم فيه، حيث قالوا: إن الحكم على اللفظ بأنه خاص، أو عام إنما هو بالنظر إلى أصل المعنى الموضوع له، ولا خلاف بين الأصوليين على أن دلالة اللفظ على أصل المعنى الذي يستقيم به الوضع قطعية - سواء كان اللفظ عاماً أو خاصاً3. وإنما الخلاف بينهم في جواز قصر اللفظ على بعض مدلوله المتعدد4، وحيث إن المطلق يشبه العام لاسترساله على الأفراد على سبيل البدل، فيجوز قصره على بعضها إذا قام الدليل على ذلك، كما جاز قصر العام على بعض أفراده بالدليل المخصص؛ لأن الفرق بينهما كما سبق إنما هو في كيفية تناول اللفظ للأفراد حيث أن المطلق يتناولها بدلاً، والعام يتناولها دفعة واحدة، وهذا الفرق لا أثر له في دلالة اللفظ من حيث
القطعية والظنية. على أن الجمع بين الرأيين ممكن؛ لأن العلماء كما مضى مختلفون فيما وضع له اللفظ المطلق. 1 - فمن يرى أنه موضوع للماهية من حيث هي يقول: إن دلالته قطعية1، لأن الماهية تتحقق بأقل ما يطلق عليه اللفظ، وهو المقصود بأصل المعنى فيما سبق. 2 - ومن يقول: إن المطلق موضوع للدلالة على البعض المنتشر على سبيل2 البدل يقول: إن دلالته ظنية لجواز قصره على بعض أفراده. وفي ذلك يقول صاحب مسلم الثبوت: "إذا كان المدعى هذا النحو من الدلالة فالنزاع ليس إلا في اللفظ"3، وقد تفرع على القول بقطعية المطلق على معناه، وعلى القول بأن الظني لا يقاوم القطعي أمران نذكرهما فيما يلي كأثر لهذا الخلاف. فالأمر الأول: الاختلاف في جواز تقييد المطلق من الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة بالدليل الظني ابتداء.
1 - فالذي يرى أن دلالة المطلق قطعية لا يجوز عنده تقييده بالدليل الظني كالقياس وخبر الآحاد؛ لأن تقييد المطلق في نظر هذا الفريق مبني على التعارض بين المطلق والمقيد والظني لا يعارض القطعي1 وهذا
مذهب الحنفية. 2 - ومن يرى أن دلالة المطلق ظنية يجوز عنده تقييد المطلق بالدليل القطعي وغيره؛ لن تقييد المطلق من قبيل البيان، والبيان لا يتوقف على قوة الدليل، ولو فرض استواء المبين مع ما يبينه في القوة لجاز تبين المطلق بالقياس، وأخبار الآحاد؛ لاستوائهما في الظنية عند هذا الفريق"1. الأمر الثاني: الخلاف في وجود التعارض بين مطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة وبين مقيد أخبار الآحاد. 1 - فالذي يرى قطعية دلالة المطلق لا يقول بالتعارض بين مطلق الكتاب والسنة المتواترة وبين مقيد أخبار الآحاد والقياس؛ لأن التعارض مبناه على التساوي في نظر هذا الفريق، وأخبار الآحاد لا تساوي مطلق الكتاب والسنة المتواترة، لأنها من قبيل الظني الثبوت وإن كانت دلالتها قطعية أحياناً، وكذلك القياس؛ فإنه في مرتبة أخبار الآحاد؛ لأنه لا يفيد إلا الظن.
2 - والذي يرى أن دلالة المطلق ظنية سواء كان من قبيل مطلق الكتاب أو غيره، يقول لا مانع من وجود التعارض الظاهري بين مطلق الكتاب والسنة المتواترة، ومقيد أخبار الآحاد، وإذا حصل ذلك فيلزم المجتهد التوفيق بينهما بوجه من الوجوه التي ذكرها العلماء لدفع التعارض بين الأدلة الشرعية ومنها حمل المطلق على المقيد، كما سيأتي تفصيل ذلك. بقي أن نذكر مثالاً للمطلق الذي توفرت فيه شروط الإطلاق السابقة، ووجب العمل به على إطلاقه. ومثاله قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 1، فلفظ: "أزواجاً" في هذه الآية الكريمة جمع منكر مفرد زوج، والجمع المنكر من المطلق كما سلف، ولم يذكر في الآية كون الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن مدخولاً بهن أو غير مدخول بهن، كما لم يقم دليل يخالف هذا الإطلاق فيما دل عليه، ولا ورد هو نفسه في موضع آخر مقيداً بوصف الدخول أو عدمه، ولهذا كان الحكم أن تعتد الزوجة المتوفى عنها زوجها هذه المدة المقررة في الآية لعدة الوفاة،
سواء كانت مدخولاً بها أو لم تكن مدخولاً بها1. تطبيقاً لقاعدة المطلق يعمل به على إطلاقه ما لم يقم دليل على تقييده2. ب - حكم المقيد أو كيفية دلالته على معناه: الذي يبدو أن علماء الأصول متفقون على أن حكم المقيد من حيث الدلالة حكم الخاص، ومع أن الاتفاق واقع على أن الخاص قطعي الدلالة لكن سنفصل القول في حكم المقيد فيما يلي فنقول: لما كان الأصل في المطلق أن يجري على إطلاقه حتى يقوم الدليل على أن إطلاقه غير مراد، كان الأصل في المقيد أن يعمل به مع قيده حتى يقوم الدليل على أن ما ذكر معه من قيد لا مفهوم له في بيان تشريع الحكم، وإجراء لهذه القاعدة، فإذا ورد اللفظ مقيداً في موضع ولم يرد نفسه مطلقاً في موضع آخر، ولا قام دليل على إلغاء مفهوم القيد، فإن الحكم فيه أن يعمل به مع قيده، ولا يحق لأحد أن يلغي القيد بدون دليل3، وبناء على ذلك يكون القيد معتبراً في دلالة اللفظ المقيد على
الأحكام واستنباطها منه حتى يقوم الدليل على إلغائه وعدم اعتباره في بيان تطبيق الحكم. وإليك أمثلة تبين المراد: 1 - فمن أمثلة المقيد الذي بقي على تقييده: لعدم قيام الدليل على إلغاء القيد فيه قوله تعالى، في كفارة الظهار: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتمَاسَّا} 1. فقد ورد صيام الشهرين في هذه الآية الكريمة مقيداً بالتتابع، وبكونه قبل التماس، أي: الاختلاط بالزوجة المظاهر منها، ولم يرد الدليل على إلغاء هذين القيدين فيعمل بهما عند تطبيق الحكم، وعليه فلا يجزئ في حق من وجبت عليه كفارة الظهار بالصوم أن يصوم شهرين على التفريق، وكذلك لا يجزيه صيام أشهر بعد الاستمتاع بمن ظاهر منها، وإن كان
الصوم متتابعاً1. 2 - ومن أمثلة المقيد الذي قام الدليل على أن القيد فيه ملغى، وغير معتبر، قوله - تعالى -: في آية المحرمات من النساء: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} 2، فإن لفظ "ربائبكم" في الآية مطلق3 قد ورد تقييده فيها بقيدين. الأول: كون الربيبة4 في حجر زوج الأم. والثاني: كون أم الربيبة مدخولاً بها. وهذا القيد الأخير باق على معناه، لعدم الدليل الصارف له، فيعمل به عند استنباط الحكم وعلى ذلك فلا تحرم الربيبة إلا إذا كان الزوج قد
دخل بأمها. وأما القيد الأول: وهو كون الربائب في الحجور، أي: في رعاية زوج الأم وكفالته، فقد دل الدليل على عدم اعتباره، وأنه من القيود التي لم تعتبر في التحريم، وإنما جاء ذكره في الآية جرياً على ما هو الغالب والمعروف عادة من كون الربيبة تكون في حضانة أمها، وعلى ذلك فلا تحرم الربيبة على زوج أمها سواء كانت في حجره ورعايته أو لم تكن حتى يدخل بأمها. والدليل على إلغاء هذا القيد وأنه غير معتبر في التحريم أن الله سبحانه وتعالى اكتفى في مقام التحليل بنفي القيد الثاني فقط، فقال تعالى: {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ، فلو كان القيد الأول معتبراً في التحريم لما اكتفى بنفي الدخول في معرض الإحلال. ولقال: "فإن لم يكن في حجوركم ولم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم"1، والله أعلم. بقي حكم المقيد الذي ورد مطلقاً في موضوع آخر وسيأتي الكلام عليه مفصلاً في الباب الثاني.
الباب الثاني: في حمل المطلق على المقيد
الباب الثاني: في حمل المطلق على المقيد الفصل الأول: في حكم حمل المطلق على المقيد المبحث الأول: في المقصود بحمل المطلق على المقيد وبيان سبب الحمل ... المبحث الأول: في المقصود بحمل المطلق على المقيد وبيان سبب الحمل. اختلف الأصوليون في معنى حمل المطلق على المقيد على مذهبين: أ - المذهب الأول: يرى جمهور الأصوليين ومنهم الشافعية - أن معنى حمل المطلق على المقيد هو تفسير المطلق بكونه مراداً به المقيد ابتداء أي: منذ نزول المطلق، فكأن النصين - المطلق والمقيد - بمنزلة نص واحد1، فهو يشبه نوعاً من أنواع المجاز يسمى عند علماء البلاغة بإطلاق الجزء وإرادة الكل2، أو
العكس كقوله: "أعتق رقبة" مراداً بها جميع الإنسان، والرقية في الحقيقة اسم لجزء من الإنسان، وإنما جاز إطلاق الرقبة على جميع أجزاء الإنسان؛
لأنها أعظم جزء فيه، وبهلاكها لا وجود له، فهي بمنزلة السبب لوجوده وبقاء حياته، وهكذا الأمر في حمل المطلق على المقيد أو بيانه بواسطته يراد به عند الجمهور أن مدلول اللفظ المطلق بعد أن كان قبل التقييد حكماً في فرد منتشر يصبح مدلوله بعد الحمل حكماً في فرد مقيد، لأن القيد الذي ورد عليه قلل من شيوعه وحصر انطباق حكمه على بعض الأفراد التي كانت صالحة لتناوله على سبيل البدل. فمثلاً: عندما يطلب الشارع (عتق رقبة) ؛ فإن هذا اللفظ بإطلاقه يفيد أنه يجزئ في تحقيق المطلوب عتق أي رقبة، لأن الرقبة اسم مبهم يتحقق مدلوله في الخارج بواحد غير معين من أفراد جنسه، ولكن عندما نحمل هذا اللفظ المطلق على المقيد الذي وصفت فيه الرقبة بقيد الإيمان في نص آخر، لا يجزئ في تحقيق المطلوب إلا إعتاق رقبة توفر فيها ذلك الوصف، وهو الإيمان. فكأن وصف الرقبة بالإيمان عند الجمهور كان منوياً عند نزول المطلق، ولكن لم يصرح به اعتماداً على فهمه من النص المقيد، أو أن العمل بالمطلق على إطلاقه لم يكن مرادا للشارع؛ وإنما مراد الشارع في العمل ما تضمنه القيد؛ فلو تقدم المطلق في النزول على المقيد لم يضر إلا عندما يستلزم ذلك تأخير البيان عن وقت العمل. ثم استدل الجمهور على أن معنى حمل المطلق على المقيد هو تفسير
المطلق وبيانه بواسطة المقيد بعدة أدلة منها1: أولاً: قالوا: إن حمل المطلق على المقيد بطريق البيان هو الذي يتفق وغالب الأحكام الشرعية التي وردت (مجملة) في أول الأمر ثم (فصلت) وبينت بالتدريج على حسب ما يستجد من الحوادث والحاجات، كما هو الحال في (المجمل والمفسر) فكان حمل المطلق على المقيد بطريق البيان أولى، لاتفاقه وغالب أحكام الشرع. ومنها: أن المطلق يشبه العام - بل هو قسم منه - على رأي بعض الأصوليين وقد دل الاستقراء التام لنصوص الشرع أن العموم في العام غير مراد للشارع في أغلب الأحيان، وأن عرف الشرع قد صرف العام إلى بعض أفراده في الكثير الغالب حتى أصبح قولهم: "ما من عام إلا وقد خصص"، قاعدة، وهذه قرينة تورث في العام احتمالاً، فيجوز صرفه على ظاهره بالدليل وحيث إن المطلق يشبه العام أو هو قسم منه - فتورث هذه الشبهة فيه احتمالاً، وعندئذ يجوز تقييده وصرفه عن إطلاقه بالدليل المقيد. ووجه الشبه بين تخصيص العام وتقييد المطلق، أن في كل منهما
قصراً لما شمله اللفظ العام ظاهراً، ولما تناوله المطلق بدلاً، فالمخصص فيه قصر العام على بعض أفراده، والمقيد فيه قصر وتضييق لدائرة الحكم الذي أفاده المطلق، وحيث إن تخصيص العام بيان، فكذلك تقييد المطلق يكون بياناً لقوة الشبه بينهما. ومن أدلتهم أيضاً أن في حمل المطلق على المقيد بطريق البيان جمعاً1
بين الأدلة المتعارضة في الظاهر، والجمع أو خطوة يخطوها المجتهد للتوفيق بين الدليلين المتعارضين، ووجه الجمع هنا أن بيان المطلق بواسطة المقيد لا يلغيه بالكلية، وإنما يجعل تطبيق الحكم منحصراً في دائرة المقيد، ومن القواعد المقررة في الأصول أن العمل بالدليلين، ولو من وجه خير من إهمالهما معاً أو إعمال أحدهما وإهمال الآخر1. ب - وأما الحنفية: فقد اختلفت الروايات عندهم في معنى حمل المطلق على المقيد، وكان السبب في ذلك يعود إلى وقت ورود المقيد وتساويه مع المطلق. أ - فالمحققون منهم يرون أن معنى حمل المطلق على المقيد يكون بياناً في حالتين: الأولى: إذا ورد المطلق والمقيد معاً، أي: إذا اقترنا في النزول. الحالة الثانية: إذا جهل التاريخ بينهما؛ فإنه يحمل المطلق على المقيد
بطريق البيان تقديماً له على النسخ الذي لا يثبت بدون معرفة التاريخ1، وهذا الرأي يتفق مع مذهب الجمهور، إلا أنه يختلف معه في تحديد الصور والحالات التي يكون حمل المطلق على المقيد فيها بياناً. ب - ويرى بعض الأحناف أن معنى حمل المطلق على المقيد، نسخ المطلق2 بواسطة المقيد، وهذا ما يعبر عنه بالزيادة على النص، إلا أن من شرط حمل المطلق على المقيد عند هؤلاء تساويهما في الثبوت والدلالة. جـ - وذهب فريق آخر3 من الحنفية إلى أن معنى حمل المطلق على المقيد في الصور التي قالوا فيها بحمل المطلق على المقيد يختلف عن المراد به لدى الجمهور، وفي ذلك يقول شارح مسلم الثبوت: "الأظهر المطابق لأصولنا أن هذا "يعني" حمل المطلق على المقيد من قبيل العمل بالمقيد والتوقف فيما عداه من أفراد المطلق لمعارضة وجوب القيد إجزاءه4 فيحتاط في العمل، فيعمل بما يخرج عن العهدة بيقين، وهو
المقيد - وهذا مراد مشايخنا بحمل المطلق على المقيد وبالحمل على المقارنة، لا كما يحمل الشافعية، فإنه من قبيل المجاز وليس قرينة عليه"1.
وهذا الاتجاه تؤيده الشروط التي اشترطها الحنفية لحمل المطلق على المقيد، وتعليلاتهم وردودهم على المخالفين لهم - كما سيأتي - لكن بالتأمل في هذا الرأي يبدو أن معنى حمل المطلق على المقيد عند هذا الفريق يعود إلى نوع من أنواع التوفيق بين الأدلة المتعارضة يسمى الترجيح1. ويعرفونه بأنه إظهار المجتهد مزية معتبرة في أحد الطرفين المتعارضين تقتضي تقديمه على الآخر2، أو هو فضل أحد المتساويين وصفاً3 كما ذكر ذلك السرخسي حيث قال بعد تفصيل في المعنى اللغوي للترجيح. وكذا الترجيح في الشريعة: (عبارة عن زيادة تكون وصفاً لا أصلاً) ، وإنما يكون الترجيح بما لا يصلح علة موجبة للحكم لو انفردت، فهذان التعريفان الأخيران يؤيدان ما ذهب إليه شارح مسلم الثبوت من أن معنى حمل المطلق على المقيد هو العمل بالمقيد والتوقف فيما عداه من أفراد المطلق، أو هو ترجيح العمل بالمقيد على العمل بالمطلق في الأفراد4
المشمولة بالوصف، كما يسميه بعضهم، ووجه ذلك أن المطلق والمقيد متساويان في القوة عند الحنفية؛ لأنهما من قبيل الخاص، ودلالة الخاص على معناه قطعية فيتساوى فيها كل فرد أو جزء1 من أجزاء الخاص، ولكن المقيد هنا اقترن به وصف لا يستقل بالحجية لو انفرد وهو مفهوم القيد - كما سيأتي - فاقتران المقيد بالوصف يجعله راجحاً في نظرهم؛ لأن الوصف لو انفرد لم يوجب حكماً بذاته. ومع هذا التوجيه لمذهب الحنفية إلا أن تسميتهم ذلك حملاً للمطلق على المقيد فيه تسامح؛ لأن الترجيح عند الجمهور ليس خاصاً بالمطلق والمقيد، كما يظهر ذلك من التعريف الأول للترجيح، إذ يقتضي الترجيح لكل طرفين متعارضين لأحدهما فضل على الآخر. وقد استدل هذا الفريق على وجهة نظره في معنى حمل المطلق على المقيد بالآتي: 1 - حيث قال: إن الأصل التزام ما جاء عن الشارع في دلالات ألفاظه على الأحكام، فكل نص من نصوص الشرع دليل مستقل بنفسه
في إفادة الحكم، وحجة قائمة بذاتها في إثبات الحكم، سواء كان النص عاماً أم خاصاً، مطلقاً أو مقيداً، حتى يرد الدليل الصارف عن ذلك الأصل، وبناء على ما هو الأصل في المطلق والمقيد، لا يلزم حمل المطلق على المقيد إلا إذا كان الأخذ بكل منهما على حدة مدعاة للتناقض، وذلك عندما يكون تناف بين الإطلاق والتقييد فحينئذ يعمل بالمقيد احتياطاً لما فيه من الخروج عن العهدة بيقين1. ونوقش هذا الدليل من قبل الجمهور، بأن الدليل الصارف موجود، وهو إما قولهم: "ما من عام إلا وقد خصص منه البعض"، أو كون ذلك أسلوباً من أساليب اللغة التي جاء القرآن موافقاً لها في جميع استعمالاتها. 2 - ومن أدلتهم أيضاً: أن المطلق والمقيد من أنواع الخاص على الرأي الراجح2. وقد تقدم أن الخاص لا يحتمل البيان عند الحنفية وعلى ذلك يكون ترجيح المقيد على المطلق والعمل به احتياطاً متعيناً عند الجهل بالتأريخ، لاستوائهما في الدلالة وامتياز المقيد على المطلق بما حواه من القيد الذي لا يستقل بالحجية لو انفرد. وقد تقدم جواب الجمهور عن ذلك في دلالة الخاص، وأنه لا فرق
بين احتمال الخاص للمجاز واحتماله للبيان إذا وجد الدليل، وبعد أن عرفنا المراد من حمل المطلق على المقيد لدى جمهور الأصوليين وبعض الحنفية، والأدلة التي تمسك بها كل فريق على وجهة نظره، ومعاضدة رأيه يحسن بنا أن نذكر السبب في هذا الاختلاف. والحقيقة إن الخلاف في معنى حمل المطلق على المقيد يعود إلى أكثر من سبب، فهو من جهة يرجع إلى اختلاف الجمهور مع الحنفية في سبب الحمل ما هو؟ ومن جهة أخرى يعود إلى اختلاف الفريقين في المقصود من التعارض1
بين الأدلة، ومحله منها1
وشروط1 تحققه فيها، وكيفية2 دفعه عنها إذا وجد. 2 - تعليل حمل المطلق على المقيد عند بعض الأحناف. لو رجعنا إلى دليل الحنفية الأول لوجدنا أن هذا الفريق من الحنفية يجعل سبب حمل المطلق على المقيد دخول التنافي بينهما في باب تعارض الأدلة، بدليل اشتراطهم في الترجيح (فضل أحد المتساوين وصفاً3،
وهذا يتحقق في باب المطلق والمقيد كما سبق، وعندئذ فإن التنافي الموجود بين المطلق والمقيد يكون خاضعاً لقواعد الجمع والترجيح بين الأدلة المتعارضة) 1، ومعروف أن باب التعارض من الأبواب التي جال العلماء فيها كثيراً وكان بينهم خلاف طويل في مسائله المتشعبة والتي كان من بينها اختلافهم في وجود التعارض وعدمه في أحوال المطلق والمقيد الآتية، وكيفية التوفيق بينهما إذا وجد التعارض. على أن المهم هو اتفاق الجميع على وجوب دفع التعارض بين المطلق والمقيد سواء سمي ذلك جمعاً وبياناً، كما يقول جمهور الأصوليين، أو سمي ترجيحاً وتقديماً كما يراه بعض الأحناف؛ لأن الاختلاف في الاصطلاحات أسهل من بقاء التعارض بين الأدلة الشرعية المنزهة عن التناقض والتضاد2، ذلك أن مرجع الخلاف في الاصطلاحات يكون عائداً إلى المقصود منها عند المصطلحين، بخلاف بقاء التعارض بين الأدلة؛ فإنه لا يكون مقصوداً.
فإن قيل: فما الفرق بين رأي الجمهور وبعض الأحناف؟ إذا كان حمل المطلق على المقيد يؤدي في النهاية إلى العمل بالمقيد على كلا المذهبين. والجواب أن ذلك مسلم، لكن الفرق بينهما يظهر في التعليل والتطبيق والشروط كما سيأتي.
المبحث الثاني: في شروط حمل المطلق على المقيد
المبحث الثاني في شروط حمل المطلق على المقيد لما كان حمل المطلق على المقيد عند كل من الجمهور والحنفية يعتمد على نوع من تأويل اللفظ وصرفه عن ظاهره المتبادر منه، فقد احتاط كل فريق لمذهبه، واشترط شروطاً لا بد من توفرها، عند إرادة حمل المطلق على المقيد. حيث أفرد الجمهور لهذه الشروط مبحثاً خاصاً في كتبهم، ومن ذلك الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول1 وغيره من الذين كتبوا على طريقة الجمهور حديثاً2. وأما الحنفية فما اطلعت عليه من كتبهم - لم أعثر فيه على مبحث خاص بحمل المطلق على المقيد، ولا على مبحث مستقل بشروط الحمل3، ولعل ذلك يعود إلى أن حمل المطلق على المقيد عند الحنفية من قبيل تعارض الأدلة كما تقدم - فاكتفوا بذكر شروط التعارض في باب تعارض الأدلة، ولم يخصوا حمل المطلق على المقيد وشروط الحمل بمبحث
خاص خشية التكرار - للمباحث المتشابهة، لكن هذا لا يمنع من أخذ شروط حمل المطلق على المقيد عند الحنفية من تعريفهم لمعنى الحمل، ومن مناقشتهم للجمهور في المسائل التي خالفوهم فيها ومن تعليلاتهم للمسائل التي قالوا فيها بحمل المطلق على المقيد وما كان من تلك الشروط مخالفاًَ لما اشترطه جمهور الأصوليين، فإن السبب فيه يعود إلى أمرين: أولهما: الخلاف في شروط التعارض 1. حيث يشترط الحنفية لتحقق التعارض شروطاً كثيرة، - والجمهور يخالفونهم في بعض تلك الشروط، كالمساواة2 بين المتعارضين وسيأتي
لهذه المسألة توضيح أكثر في الشروط المختلف فيها: وثانيهما: الخلاف في مفهوم النسخ 1 وشروط تحققه، ذلك أن
مسائل المطلق والمقيد دائرة في نظر الحنفية بين بابي التعارض والنسخ، فما قالوا فيه بالحمل يرجع إلى تعارض المطلق مع المقيد، ثم يرجح جانب المقيد لامتيازه على المطلق بالوصف الذي لا يستقل بالحجية لو انفرد، وما لم يقولوا فيه بالحمل؛ فإنه يعود إلى باب النسخ، أو تخلف شرط المعارضة فيبقى المطلق على إطلاقه كما هو الأصل. والآن نذكر الشروط التي هي محل اتفاق لدى أكثر الأصوليين، وأغلبها مأخوذ من إرشاد الفحول للشوكاني، ثم نتبع ذلك بالشروط المختلف فيها لنرى الفرق بينهما:
أ - الشروط المتفق عليها عند أكثر الأصوليين: اشترط جمهور الأصوليين لحمل المطلق على المقيد عدة شروط منها: أولاً: أن يكون المقيد من باب الصفات مع ثبوت الذوات في الموضعين ومقتضى هذا الشرط أنه إذا كان المراد بحمل المطلق على المقيد إثبات أصل الحكم من زيادة أو عدد فإن حمل المطلق على المقيد والحالة هذه لا يصح مثل: إيجاب غسل الأعضاء الأربعة1 في الوضوء لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} 2 مع الاقتصار على عضوين في التيمم لقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم} 3 لأن الإجماع منعقد كما يقول الشوكاني: "على أنه لا يحمل إطلاق التيمم على تقييد الوضوء، حتى يلزم التيمم في الأعضاء الأربعة، وذلك لما يقتضيه حمل المطلق على المقيد والحالة هذه من إثبات حكم لم يذكر في أحد الموضعين، وهو (وجوب مسح الرؤوس والأرجل) في
التيمم، وحمل المطلق على المقيد يختص بالصفات، لكن نقل الماوردي1 كما يقول الشوكاني عن ابن خيران2 من الشافعية: إن المطلق يحمل على المقيد في الذات، أي: في إثبات أصل الحكم، ثم قال الشوكاني: وهذا باطل3 - يعني حمل المطلق على المقيد في الذات: وذكر ابن اللحام4 الحنبلي أن ظاهر كلام أصحاب الإمام أحمد حمل المطلق على المقيد في الأصل، كما يحمل عليه في الوصف، بدليل أنهم حكوا في كفارة القتل في
وجوب الإطعام روايتين - الوجوب إلحاقاً لكفارة القتل بكفارة الظهار، كما حكوا روايتين في اشتراط وصف الإيمان في كفارة الظهار. والاشتراط إلحاقاً لكفارة الظهار بكفارة القتل، فدل هذا من كلامهم.. على أنه لا فرق في حمل المطلق على المقيد بين الأصل والوصف1، لكن الظاهر أن إلحاق الإطعام في كفارة القتل بالإطعام في كفارة الظهار ليس هو من باب حمل المطلق على المقيد؛ لأن كفارة القتل خطأ لا توصف بالإطلاق، من حيث أنه لم يرد فيها نص بالتكفير بالإطعام، وليس كل حكم يسكت عنه الشارع يكون مطلقاً، بل لا بد في الإطلاق من ثبوت ذات أولاً، ثم تقيد بأحد الأوصاف الواردة عليها، أو تبقى على إطلاقها، وكفارة القتل ليست من هذا القبيل، وبناء على ذلك يكون الراجح أن حمل المطلق على المقيد إنما يجري في الوصف دون الأصل، لما يلزم من جريانه في الأصل من إثبات حكم لم يشرع، كما ظهر ذلك من انعقاد الإجماع على عدم إلحاق التيمم بالوضوء في بقية الأعضاء2. ثانياً: أن لا يكون للمطلق إلا أصل واحد، كاشتراط العدالة في الشهود على الرجعة والوصية، وإطلاق الشهادة في البيوع وغيرها
من العقود. والعدالة شرط في الجميع، وكذا تقييد ميراث الزوجين بقوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 1 وإطلاق بقية المواريث عن ذلك القيد فإن ما أطلق من المواريث يكون مقيداً بكونه بعد تنفيذ الوصية وقضاء الدين، وأما إذا كان المطلق دائراً بين قيدين متضادين نظر في سبب الحكم، فإن كان السبب الذي شرع لأجله الحكم مختلفاً لم يحمل المطلق على أحدهما إلا بدليل2، وسيأتي مزيد من الإيضاح في مطلب تعدد القيد. الشرط الثالث: أن يكون المطلق والمقيد في سياق الإثبات، أما إذا كان في سياق النفي أو النهي، فإن المطلق لا يحمل على المقيد والحالة هذه مثال ذلك في النهي، أن يقال: (إذا جنيتهم فلا تكفروا بالعتق) ويقال في موضع آخر: (إذا جنيتم فلا تكفروا بعتق كافر) ، ومثاله في النفي أن يقال في موضع: (لا يجزئ عتق مكاتب) ويقال في موضع آخر: (لا يجزئ عتق
مكاتب كافر) ؛ فإن المطلق والمقيد في هذين المثالين قد وردا في سياق النهي في المثال الأول، ووردا في المثال الثاني في سياق النفي، ومن ثم فلا يحمل المطلق على المقيد فيهما؛ بل يجب إجراء المطلق على إطلاقه في المنع من العتق فلا يعتق في المثالين لا كافر ولا مؤمن لما يترتب على العتق من الإخلال باللفظ المطلق وهو غير سائغ، ضرورة عموم النكرة المنفية1، وقد ذكر هذا الشرط الآمدي2 وابن الحاجب3، وقالا: لا خلاف في العمل بمدلولهما والجمع بينهما لعدم التعذر، ومرادهما أنه يلزم من نفي
المطلق نفي المقيد، فيمكن الجمع بينهما بأن لا يعتق في المثال المذكور لا مؤمنة ولا كافرة1. وهذا القول منهما عند التحقيق توقف عن الحكم الذي أفاده المطلق والمقيد، وطلب الدليل من خارج محل النزاع وتسميتهما له جمعاً فيه تسامح إلا إن كانا يقصدان بالجمع هنا المعنى العام، فلا بأس، لكن كان ينبغي عليهما أن ينبها إلى ذلك. ولهذا نازع في دعوى العمل بهما هنا شارح مسلم الثبوت وقال: (إن العمل بهما في هذه الحال غير ممكن، فلا بد من القول بحمل المطلق على المقيد أو النسخ على رأيه) 2.
لكن فخر الدين الرازي1 صرح بأنه لا فرق في حمل المطلق على المقيد بين الأمر والنهي، فإن قال لا تعتق مكاتباً، ثم قال: لا تعتق مكاتباً كافراً، فإنا نحمل الأول على الثاني، ويكون المنهي عنه هو إعتاق المكاتب الكافر دون غيره2. قال الزركشي3: قد يقال: إنه لا يتصور توارد المطلق والمقيد في جانب النفي والنهي، وما ذكروه من المثال: إنما هو من قبيل إفراد بعض مدلول العام، وفيه خلاف، فلا وجه لذكره هنا. قلت: ذكر ابن اللحام أن ذلك مسلم فيما إذا كان فرد العام لا
مفهوم له كاللقب1 أما إذا كان له مفهوم معتبر، فالقائل بأن المفهوم حجة يخصصه به، وعندئذ يكون الخلاف في التسمية فقط، لا في العمل؛ لأن القائلَ بالمفهوم يخصص به العام، ولكن لا يسميه تقييداً ضرورة عموم النكرة في سياق النفي أو النهي. قال الشوكاني: الحق عدم حمل المطلق على المقيد في النفي والنهي2، والذي يبدو لي أن المسألة ليست على إطلاقها، بل لا بد من التفصيل، فإذا كان النفي نصاً3 في الحكم، فإن الراجح عدم حمل المطلق على المقيَّد، كما هو مذهب أكثر الأصوليين: بمعنى أن الحكم الذي وردت عليه أداة نفي موضوعة للتنصيص على نفي الحكم لا يحمل فيه المطلق على المقيد بطريق التقييد المصطلح عليه لدى الأصوليين، وإن كان
لا مانع من تخصيص الحكم المنفي باعتباره عاماً1، وأما إذا كان النفي ظاهراً فالأمر محتمل؛ لأن النفي كما سيأتي لنفي الجنس نصاً يأتي لنفي الوحدة، بدليل ما نقل عن سيبويه2 من قول العرب: لا رجل في الدار، بل رجلان، فأتى النفي لغير الجنس، والنفي إذا كان ظاهراً يجوز صرفه بالدليل كما في المثال السابق ونحوه3. الشرط الرابع لحمل المطلق على المقيد: أن لا يكون الحكم في جانب الإباحة، قال أبو البركات4: (وإذا كانا إباحتين فهما في معنى
النهيين، وكذلك إذا كانا كراهتين، أي: أنهما في معنى النهيين لفظاً ومعنى، فلا يحمل المطلق على المقيد في جانب الإباحة؛ لأنه لا تعارض بينهما والحمل إنما يكون عند التعارض. ونقل الشوكاني عن ابن دقيق العيد1 أن المطلق لا يحمل على المقيد في جانب الإباحة وعلل ذلك بعدم وجود تعارض بينهما أيضاً2، وقد تقدم الخلاف في حكم النهي ومن قال: بأنه يمكن الجمع بينهما في النفي والنهي، وذلك بالكف عنهما، وما ورد عليه من الاعتراض3.
الشرط الخامس: أن لا يمكن الجمع بينهما إلا بالحمل، فإن أمكن بغيره فإنه أولى من تعطيل بعض ما دل عليه أحدهما1. الشرط السادس: أن لا يكون المقيد ذكر معه قدر زائد يمكن أن يكون القيد لأجل ذلك القدر الزائد، فلا يحمل المطلق على المقيد ههنا قطعاً2، لأنه يلزم من حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة أن يكون القدر الزائد مع المقيد لغواً، وهو لا يليق بكلام العقلاء فضلاً عن كلام أحكم الحاكمين. الشرط السابع: أن لا يقوم دليل يمنع من التقييد، فإن قام دليل على منع حمل المطلق على المقيد فلا حمل3، والحالة هذه. ويمكن أن نمثل لذلك بالإطلاق في كفارة الظهار الوارد في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فقد تقرر عند الجمهور حمل المطلق على المقيد في هذا المسألة، فالواجب تحرير رقبة مؤمنة في كفارة الظهار، قياساً لها على كفارة القتل الخطأ، كما يأتي بيان ذلك، ولكن لو فرض أنه ورد نص آخر في كفارة الظهار يفيد إجزاء
الكافرة نحو: فتحرير رقبة مؤمنة أو كافرة، لكان ذلك دليلاً مانعاً من حمل إطلاق كفارة الظهار على تقييد كفارة القتل الخطأ، وعندئذ لا يجوز الحمل لوجود الدليل المانع. الشرط الثامن: أن لا يستلزم حمل المطلق على المقيد تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن استلزم ذلك بقي المطلق على إطلاقه، ومثال ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة في بيان ما يلبس المحرم: "من لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين" 1. وقوله في عرفات: "من لم يجد نعلين فليلبس خفين" 2، فقد قيد لبس الخف بالقطع أسفل من الكعبين، وهو بالمدينة ثم أطلق لبسهما في عرفة، وكان الإطلاق متأخراً عن التقييد فقد كان الإطلاق في عرفة حيث
حضر معه خلق كثير لم يسمعوا خطبته في المدينة - وهم في أمسِّ الحاجة إلى البيان - فلو قلنا في هذه المسألة: بأن المطلق محمول على المقيد، وأنه لا يجوز لبس الخف إلا مع القطع، لكان في ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو لا يجوز، ومن هنا قال الإمام أحمد1 ومن تابعه أن القطع المأمور به في المدينة منسوخ بإطلاق اللبس بدون قطع في عرفات2، وهذا الشرط وإن لم يذكره الشوكاني إلا أنه متفق عليه، لأن حمل المطلق على المقيد بيان عند الجمهور والبيان لا يحوز تأخيره عن وقت العمل، وأما على مذهب الحنفية، فلأنه عند العلم بتأخر أحدهما يكون المتأخر ناسخاً للمتقدم إذا تساوى معه في قوة الدلالة والثبوت.
ب - الشروط التي هي محل خلاف: اختلف الحنفية مع الجمهور في بعض الشروط التي يجب توفرها لحمل المطلق على المقيد، بناء على أن ذلك شرط لتعارض الأدلة، أم ليس هو بشرط فيها حيث يفهم من تعليلات الحنفية أن كل ما هو شرط في تعارض الأدلة فهو شرط لحمل المطلق على المقيد، ضرورة أن التنافي الواقع بين المطلق والمقيد نوع من التعارض الواقع بين الأدلة الشرعية، وكان أهم الشروط التي اختلف الحنفية مع الجمهور فيها ما يلي: 1 - المساواة بين الدليلين المتعارضين: قد ذهب إلى اشتراط المساواة بين الدليلين المتعارضين جماعة من الأصوليين ومنهم جمهور الحنفية - كالبخاري1 والفناري2
والسرخسي1 وفي حكم المتساويين عند الحنفية كل دليلين وجد بينهما تعارض وكان لأحدهما مزية على الآخر بوصف تابع، مثل: تعارض خبر الواحد2 الذي يرويه عدل فقيه مع آخر يرويه عدل لم يشتهر بالفقه، ومثل: تعارض الحديث المشهور مع المتواتر3 وقد أشار إلى مذهب الحنفية هذا سعد الدين التفتازاني4 في كتابه التلويح على التوضيح لصدر الشريعة حيث قال: "إذا دل دليل على ثبوت شيء والآخر على انتفائه، فإما أن يتساويا في القوة أم لا وعلى الثاني إما أن تكون زيادة أحدهما عن الآخر
بما هو بمنزلة التابع أولاً، ففي الصورة الأولى: وهي (تساوي الدليلين في القوة) تعارض ولا ترجيح، وفي الصورة الثانية ويعنى بها: (إذا كان لأحدهما فضل على الآخر بما هو بمنزلة التابع) معارضة مع ترجيح1، وفي الصورة الثالثة: (وهي التي لم يتساو فيها الدليلان في القوة، ولم يكن لأحدهما فضل على الآخر بما هو بمنزلة التابع) لا معارضة ولا ترجيح، لابتنائه على التعارض المنبئ عن التماثل2، وهنا نقول: إن التساوي يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أنواع: الأول: التساوي في الثبوت وذلك بأن يكون الدليلان المتعارضان قطعيين سنداً كالمتواترين أو ظنيين سنداً كالمشهورين والأحاديين. فعلى أن التساوي في الثبوت شرط في التعارض، لا يتصور وجود تعارض بين الآيات القرآنية والسنة المشهورة، أو الآحادية، لعدم التساوي في الثبوت، لأن القرآن ثبت بالطريق المتواتر، والسنة المشهورة أو الأحادية ثبتت بطريق الظن. الثاني: التساوي في الدلالة، مثل: أن يكون الدليلان المتعارضان قطعيين
دلالة، كالنصين أو ظنيين دلالة كالظاهرين، فعلى أن ذلك شرط لا تعارض بين النص والظاهر، ولا بين العام والخاص بناء على القول بظنية دلالة العام، لعدم تساوي الظاهر مع النص في الدلالة. الثالث: التساوي في العدد، وذلك بأن يكون كل من المتعارضين واحداً مع واحد، أو اثنين مع اثنين الخ، وبناء على اشتراط التساوي في العدد لا تعارض بين آيتين توافق إحداهما آية أخرى أو حديثاً أو إجماعاً ولا بين حديثين يوافق أحدهما آية، أو قياساً. وقد ذهب جمهور الأصوليين إلى اشتراط التساوي في الثبوت والدلالة لإمكان التعارض، ومنهم أكثر أصولي الحنفية، أما التساوي في العدد فقد اشترطه الشافعية لبقاء التعارض، فيرجح عندهم الخبران على خبر واحد، وخالف في ذلك الحنفية وبعض المحدثين فذهبوا إلى عدم الترجيح بكثرة الأدلة1. لكن يرى عامة العلماء أن التساوي في أصله ليس شرطاً في تعارض الأدلة الشرعية، وأن وجود مطلق التنافي بينها كاف للقول بالتعارض، وذلك ما يفهم من صنيع جمهور المحدثين، والمفسرين والأصوليين، وهو
اختيار الكمال ابن الهمام وابن أمير الحاج1 من الحنفية2. أضف إلى ذلك أن عمل العلماء سلفاً وخلفاً يعاضد هذا الرأي ويسانده، فقد عارضوا بين القوي والضعيف، وأطلقوا اسم التعارض على وجود مطلق التنافي الظاهري بين الآية والسنة، مشهورة كانت أو أحادية. والأصل في الإطلاق الحقيقة3، ومن تتبع كتب الخلاف وجد من ذلك الشيء الكثير، حتى أن المشترطين المساواة بين المتعارضين عقدوا في كتبهم الأصولية أبواباً ومباحث للتوفيق بين أنواع من الأدلة، لا يتحقق فيها شرط المساواة، فدل ذلك منهم على أن المساواة ليست شرطاً في وجود التعارض، وإنما هي شرط لبقاء المعارضة وعدم اندفاعها، يوضح ذلك أيضاً أن المذهب المختار دخول الدليل الراجح والمرجوح في باب
التعارض، والقول باشتراط المساواة ينافي ذلك إلا على نوع من التسامح، كما أن القول باشتراط المساواة يحصر1 الترجيح على صورة واحدة كما هو مذهب الحنفية.
والأحسن من ذلك أن يحمل القول بالاشتراط على المساواة في الحجية فقط، فيؤول الأمر إلى الاتفاق، أو يحمل التعارض على معناه الخاص عند المشترطين للمساواة ويكون مقصودهم بالتعارض التناقض والتضاد، ويحمل القول بعدم الاشتراط على المعنى العام للتعارض، أو نقول: إن المساواة شرط لبقاء المعارضة لا في وجودها كما قال الشافعية قبل قليل. الشرط الثاني: أن لا يعلم تأخر أحد الدليلين المتعارضين عن الآخر، وهذا الشرط في الحقيقة مرتبط بالشرط السابق، كثمرة له، وهدف من أهدافه؛ ذلك أن الحنفية عندما اشترطوا المساواة بين المتعارضين أرادوا أن يُضَمِّنُوا ذلك أمرين: أولهما: تضييق دائرة التعارض بين الأدلة في أقل صورة ممكنة كما سبق حصر ذلك في صورتين فقط. ثانيهما: القول بنسخ المتقدم من الدليلين المتعارضين بالمتأخر منهما إذا تساويا في قوة الثبوت والدلالة، ومن هنا كان بدهياً أن يشترط الحنفية هذا الشرط في حمل المطلق على المقيد، وقد وجد ذلك منهم فعلاً حيث قالوا: (إذا علم تأخر المطلق أو المقيد كان المتأخر منهما ناسخاً، بشرط أن
تتوفر في الدليلين بقية شروط النسخ) 1، ولذا خالف الحنفية طردَ هذه القاعدة، بحجة أن الدليل - وإن كان متأخراً - لا يصلح ناسخاً، كخبر الآحاد والقياس2. 2 - ويرى جمهور الأصوليين أن مجرد العلم بتأخر أحد الدليلين ليس كافياً للقول بالنسخ وإن تساوى الدليلان في قوة السند والدلالة؛ لأن حمل المطلق على المقيد من قبيل البيان، والبيان يجوز تأخيره إلى وقت الحاجة - كما هو الحال في غالب أحكام الشرع، ثم ناقش الجمهور الحنفية فيما استدلوا به على الاشتراط، وكان من الأدلة التي استدل بها الحنفية ما يلي:
أ - قالوا: إن القول بنسخ المتقدم من الدليلين المتعارضين إذا علم التاريخ بينهما يتفق، وقاعدة دفع التعارض بين الأدلة والتي هي عند الحنفية تقديم النسخ أولاً: ثم الترجيح ثانياً، ثم الجمع؛ فإذا لم يمكن الجمع سقط الاستدلال بالدليلين، وطلب الحكم من غيرهما. وقد نوقش هذا الاستدلال من قبل الجمهور، حيث قالوا: إن القول بتقديم النسخ في دفع التعارض بين الأدلة إذا علم تأخر أحد الدليلين وإن قال به أكثر أصولي الحنفية، إلا أنه خلاف الأولى، لأن القاعدة التي يكاد أن يجمع عليها العلماء في دفع التعارض بين الأدلة المتعارضة هي: تقديم الجمع ثم الترجيح ثم النسخ إذا علم التاريخ، والسبب في تقديم الجمع على غيره، أن التوفيق بين الأدلة المتعارضة بواسطته يجعل التعارض كأن لم يكن، إذ يحمل كل من الدليلين على حال تخالف الأخرى، ومن القواعد المقررة في الأصول، أن الأصل في الأدلة الأعمال، فإذا أمكن فلا يجوز العدول عنه إلى غيره، لأن أعمال الدليلين ولو من وجه خير من أهمالهما معاً، كما هو الحال في القول بسقوط الاستدلال بهما، وخير من أعمال أحدهما وسقوط الآخر بالكلية كما هو الحال في القول بترجيح أحدهما على الآخر أو نسخه به، وفي القول بحمل المطلق على المقيد عن طريق بيانه بواسطته، جمع بين الدليلين فكان أولى من القول بالنسخ أو الترجيح.
ب - واستدل الحنفية أيضاً: بأن المطلق والمقيد من الألفاظ المعلومة المعنى، فيجب على المكلف اعتقاد معناهما والعمل بهما حين سماعهما من الشارع، فإذا كان الشارع يريد من المكلف غير المعنى المعلوم من اللفظ عند إطلاقه، ولم يُنَصِّبْ على مراده دليلاً حين نزول المطلق فقد أوقع المطلق في محظور وهو اعتقاد غير المراد من اللفظ، وذلك لا يجوز إلاَّ على القول بالتكليف بالمحال1، فكان تأخر المطلق أو المقيد قرينة صارفة عن هذا المحظور، ودليلاً على أن الشارع أراد من المكلف اعتقاد المعنى الظاهر من اللفظ عند نزوله ثم نسخ ذلك بالدليل المتأخر2، وقد نوقش هذا الدليل من قبل الجمهور من عدة أوجه:
الوجه الأول: إن القول بأن المطلق معلوم المعنى فيجب على المكلف اعتقاد معناه والعمل به حين سماعه من الشارع في حيز المنع. وذلك لأن المطلق ظاهر في الإطلاق، كظهور العام في العموم، فيجوز صرفه عن الظاهر بالدليل، وفي هذا الصدد يقول الغزالي1: إن في قوله - تعالى -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ليس هو نصاً في إجزاء الكافرة، بل هو عام يعتقد عمومه مع تجويز قيام الدليل على خصوصه، أما أن يعتقد عمومه (قطعاً) فهذا خطأ في اللغة"2.
وقد فسر الغزالي مراده بالاعتقاد هنا فقال: هو أن يأتي بالبحث الممكن عن المخصص أي: (المقيد) إلى حد يعلم أن بحثه بعد ذلك سعي ضائع، ويحس من نفسه بالعجز يقيناً فيكون العجز عن العثور عن الدليل المقيد في حقه يقيناً، وانتفاء الدليل في نفسه مظنوناً، وقال في موضع آخر جواباً عن هذه الشبهة، "قلنا: الجهل من جهة المكلف إن اعتقد عموم المطلق جزماً، بل ينبغي أن يعتقد أن ظاهره العموم، وهو محتمل للخصوص، وعلى المكلف أن يطلب دليل الخصوص إلى أن يبلغه أو يظهر له انتفاؤه؛ لأن المكلف إن اعتقد أنه عام قطعاً، أو خاص قطعاً أو لا عام ولا خص، أو هو عام وخاص معاً فكل ذلك جهل، فإذا بطل الكل لم يبق إلا اعتقاد أنه ظاهر في العموم محتمل للخصوص1 اهـ الوجه الثاني: أن قولكم: ولم ينصب عليه دليلاً حين نزول المطلق في حيز المنع
أيضاً لأن القرينة موجودة، وهي إما كون المطلق ظاهراً في الإطلاق في عرف أهل اللغة، أو هي ما سبق من قول الجمهور: "ما من علم إلا وقد خص منه البعض، والمطلق عام على سبيل البدل"، فيكون صرفه عن ظاهره من قبيل العرف الشرعي كما سبق في العام. الوجه الثالث: أن العلم بتأخر الدليل لا يكفي للقول بالنسخ؛ لأن النسخ لا يثبت مع الاحتمال، بل لا بد فيه مع العلم بتأخير أحد الدليلين من دليل آخر يعين الناسخ والمنسوخ، كأن ينقل أحد الصحابة - رضي الله عنهم - ذلك نقلاً صحيحاً وصريحاً لا مجال للاحتمال فيه، أو يكون اللفظ المتأخر فيه ما يدل على نسخ المتقدم - كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" 1، وكل ذلك خلاف المفروض في المسألة. الوجه الرابع: إن ما ادعوه من محظور موجود في النسخ، حيث يعتقد المكلف أن الحكم الذي أفاده الدليل المنسوخ على الدوام؛ لأن الأصل في الأحكام البقاء، فإذا ورد الناسخ تبين أن ما اعتقده من دوام الحكم واستمراره غير
مراد للشارع، ومع ذلك فتأخير الناسخ مجمع عليه فما هو جوابكم عن هذا المحظور، فهو جواب لنا عن تأخير بيان المراد من اللفظ المطلق أو المقيد. الوجه الخامس: إن القول بتكليف المحال1 قال به بعض العلماء، وما ادعوه من عدم فائدة التكليف بالمحال غير مسلم؛ لأن فائدته حينئذ تكون (ابتلاء المكلف واختباره) هل يعزم على فعل ما أمر به فيكون من جملة المطيعين لربهم المنقادين لأحكامه، أو يمتنع عن العزم على الإتيان بما هو في مقدوره بحجة عدم القدرة على تنفيذ الفعل؛ فيكون قد أوقع نفسه في عداد المكابرين لنصوص الشرع الطالبين لأحكامه عللاً وأغراضاً، وفي ذلك معارضة
صريحة لقوله - تعالى -: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 1. الشرط الثالث: من الشروط المختلف فيها: أن لا يكون الإطلاق والتقييد داخلين على سبب الحكم. 1 - وقد ذهب جمهور الحنفية إلى أن ذلك شرط في حمل المطلق على المقيد. وحجتهم في ذلك: أن حمل المطلق على المقيد لا يلزم بدون وجود التنافي بين الإطلاق والتقييد، ومع جريان الإطلاق والتقييد في سبب الحكم، لا يوجد التنافي؛ لأن الشيء الواحد يجوز أن يكون له أسباب متعددة يثبت بكل واحد منها على سبيل البدل، مثل: ثبوت الملك للمال، فإنه شيء واحد له أسباب كثيرة يثبت بها على سبيل البدل، كالبيع والميراث والهبة والوصية. 2 - ويرى جمهور الأصوليين أن ذلك ليس شرطاً في حمل المطلق على المقيد، بل يكفي للقول بحمل المطلق على المقيد اتحادهما في الحكم. وحجة الجمهور: أن الحكم متى كان متحداً بين المطلق والمقيد والحادثة موضوع الحكم واحدة؛ فإن الإطلاق والتقييد عندئذ يكونان قد دخلا على شيء واحد، والشيء الواحد لا يجوز أن يكون مطلقاً ومقيداً في آن واحد للتنافي بينهما، ودفعاً لذلك التنافي يحمل المطلق على المقيد،
وإن كان السبب مختلفاً، وسيأتي لهذه المسألة مزيد من الإيضاح في الحال الخامسة من أحوال المطلق والمقيد الآتية.
المبحث الثالث: في أحوال المطلق والمقيد وحكم الحمل في كل منها
المبحث الثالث: في أحوال المطلق والمقيد وحكم الحمل في كل منها المطلب الأول: في محل الإتفاق ... أحوال المطلق والمقيد: بعد أن اشترط الأصوليون لحمل المطلق على المقيد الشروط الآنفة الذكر، استقرؤوا النصوص الشرعية التي فيها لفظ مطلق وآخر مقيد دون ما يدل على لزوم العمل بأحدهما، فظهر أن أحوالهما من حيث الاتحاد في الحكم والسبب الذي من أجله شرع الحكم، ومن حيث الاختلاف في ذلك أربعة أحوال. كما تبين من الاستقراء أن الإطلاق والتقييد تارة يكونان داخلين على الحكم نفسه، وتارة أخرى يكونان داخلين على سبب الحكم ومن هنا يتصور للمطلق والمقيد ثمانية أحوال. لأن المطلق والمقيد إما أن يتحدا في الحكم والسبب، أو يختلفا في الحكم والسبب معاً، أو يتحدا في الحكم ويختلفا في السبب أو بالعكس، أي: يتحدا في السبب ويختلفا في الحكم، فهذه أربع صور، وفي كل حال إما أن يدخل الإطلاق والتقييد على الحكم، أو على السبب، فلو بسط الكلام على كل حال على حدة مع اعتبار جريان الإطلاق والتقييد تارة في الحكم وأخرى في السبب لكان الجميع ثماني صور، ولكن لما كان الحكم واحداً في كل حال يكون الإطلاق والتقييد فيها داخلين على الحكم نفسه، وكذلك يكون الحكم واحداً في كل حال يدخل الإطلاق والتقييد فيها على سبب الحكم، اكتفى الأصوليون بذكر الأحوال والصور التالية خشية التكرار والتطويل المملّ.
أ - فالصورة الأولى إذا كان الإطلاق والتقييد في الحكم: ويشتمل على الأحوال التالية: الحال الأولى: أن يتحد المطلق والمقيد في الحكم والسبب. الحال الثانية: أن يختلفا في الحكم والسبب معاً. الحال الثالثة: أن يختلفا في الحكم، ويتحدا في السبب. الحال الرابعة: أن يتحدا في الحكم ويختلفا في السبب. ب - الصورة الثانية: إذا كان الإطلاق والتقييد داخلين على السبب وتحته حالة واحدة. وهي أن يتحد المطلق والمقيد في الحكم والسبب، ويجري الإطلاق والتقييد في السبب، والعلماء بادئ ذي بدء متفقون على جواز حمل المطلق على المقيد، لكن اختلفت أنظارهم في الحالات التي يصح فيها الحمل، والحالات التي لا يصح فيها بناء على اختلافهم السابق في مفهوم الحمل، والسبب الداعي للحمل، فأدى ذلك إلى الاختلاف في الأحكام الفرعية؛ لأن التفاوت في الأصول ينبني عليه الاختلاف فيما يتفرع عنها من أحكام، من هنا سيكون كلامنا على الأحوال السابقة للمطلق والمقيد في ثلاثة مطالب.
المطلب الأول: في محل الاتفاق. ونعني بمحل الاتفاق - هنا - أحوال المطلق والمقيد التي اتفق الأصوليون على حكمها، أو كان الخلاف نادراً فدخل تحت هذا المطلق من أحوال المطلق السابقة ما اتفق العلماء فيه على الحمل، وما اتفقوا فيه على عدم الحمل، وما كان الخلاف فيه قليلاً أو نادراً. وبناء على ذلك فإن هذا المطلب يتضمن الصور والحالات التالية: أ - إذا كان الإطلاق والتقييد في الحكم: ويدخل تحتها الأحوال التالية: الحال الأولى: إذا اتحد المطلق والمقيد في الحكم والسبب. ومثال هذه الحال: مما يجري به الاستدلال: صيام شهرين عن كفارة الفطر في رمضان لمن عجز عن إعتاق رقبة، فقد روي عن أبي هريرة1 - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في رجل وقع على أهله
في رمضان: "اعتق رقبة، قال: ما أجدها، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: لا أستطيع، قال: فأطعم ستين مسكيناً"1. وروي عنه أيضاً: "بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: مالك؟ قال: واقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل
تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا ... الحديث1. ففي هاتين الروايتين لصيام الشهرين - في حق من أفطر في رمضان - نجد أن الصيام ورد مطلقاً عن التتابع في الحديث الأول، وورد مقيداً بالتتابع في الحديث الثاني. والحكم في المطلق والمقيد واحد: وهو الأمر بصيام الشهرين لمن عجز عن إعتاق رقبة، وكان مستطيعاً للصيام، وكذلك السبب فيهما واحد وهو الإفطار2 أو الوقاع في نهار رمضان متعمداً، وقد جرى
الإطلاق والتقييد في الحكم نفسه، حيث يدل الحديث الأول بإطلاقه على إجزاء صيام الشهرين سواء أكان متتابعاً أم متفرقاً، ويدل الحديث الثاني على عدم إجزاء الصيام غير المتتابع نظراً لمفهوم قيد التتابع. وليس هناك ما يعين الحكم الذي أفاده الحديث المطلق، أو المقيد. فوقع التعارض بينهما في الصيام الذي لم يتابع فيه، حيث يفيد الحديث المطلق إجزاءه، ويدل الحديث المقيد على عدم إجزائه، ودفعاً لهذا
التعارص الظاهري، فقد اتفق العلماء على أنه يحمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحالة1، إذا توفرت فيه بقية الشروط التي اشترطت لحمل المطلق على المقيد عند الفريقين2، يقول الغزالي بصدد هذه الحال: "وإن اتحدت الواقعتان فهو مقول به بإجماع"3، ويقول الآمدي: "لا أعرف خلافاً في حمل المطلق على المقيد ههنا"4. وذكر علاء الدين البخاري صاحب كشف الأسرار على أصول البزدوي: "أن الاتفاق قائم بين أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي على حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة"5.
وقال في إرشاد الفحول للشوكاني: "اختلف أصحاب أبي حنيفة في هذا القسم، فذهب بعضهم إلى أنه لا يحمل المطلق على المقيد، والصحيح من مذهبهم أنه يحمل، ثم قال: ونقل أبو منصور الماتريدي1 عن أبي حنيفة2 القول بالحمل في هذه الصورة، وحكى الطرطوسي3 الخلاف
عن المالكية1 وبعض الحنابلة. قال الشوكاني: "وفي هذا النقل عن المالكية نظر؛ لأن من جملة من نقل الاتفاق القاضي عبد الوهاب2، وهو من المالكية، لكن البزدوي عندما قال في أصوله: "وعندنا لا يحمل مطلق على مقيد أبداً" توهم بعض العلماء3 أن هذه العبارة تفيد أن الأحناف لا يحملون المطلق على المقيد
في جميع الأحوال، مما اضطر الباحثين إلى تأويل عبارته السابقة وصرفها عن ظاهرها لتتفق مع مذهب جمهور الحنفية، وفي بيان ذلك يقول علاء الدين البخاري شارح أصول البزدوي عند شرحه للعبارة الآنفة وهي قول
البزدوي: "وعندنا لا يحمل مطلق على مقيد أبداً": يعني لا في حادثتين ولا في حادثة واحدة بعد أن يكونا حكمين، ولا تلتفت إلى ما توهمه البعض أن المراد في نفي الحمل بالكلية، وإن كان القيد والإطلاق في حكم واحد وحادثة واحدة، فإن ذلك مخالف للروايات أجمع، ثم قال: وذكر في الأسرار فإن قيل: إنك لا تحمل المطلق على المقيد. قلنا: نعم، إذا كانا غيرين حكمين أو شرطين أو علتين، فأما الواحد إذا ثبت بوصف فدونه لا يكون ثابتاً لا محالة ضرورة1. وبهذا يتبين أن الحنفية يقولون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحال كبقية العلماء، فلا خلاف إذاً في حمل المطلق على المقيد في حال اتحاد الحكم والسبب وجريان الإطلاق والتقييد في الحكم. وإن وقع خلاف عند تطبيق الفروع على القاعدة، فذلك راجع إلى وجود سبب خارج عن أصل القاعدة، كتخلف شرط من شروط الحمل عند أحد الفريقين، أو وجود مانع يمنع من حمل المطلق على المقيد، وذلك غير قادح في أصل القاعدة، ومع أن حمل المطلق على المقيد في هذه الحال متفق عليه بين العلماء، إلا أنهم ذكروا لذلك أدلة تؤيد أن المطلق هو الذي يحمل على المقيد دون العكس2.
ومن أدلتهم على ذلك ما يلي: أولاً: قالوا: إن المطلق ساكت عن القيد، إذ هو لا يثبته ولا ينفيه1، والمقيد ناطق به ومبين له، وإذا تقابل السكوت والنطق كان الناطق حرياً بأن يجعل أصلاً، ويبنى عليه الساكت، إذ هو كالمفسر له، فكان المقيد أولى بأن يبنى عليه المطلق ويكون مفسراً للمراد منه2. فإن قيل: بطريق الشبهة أن المقيد لم يفد حكم المطلق حتى يلزم التنافي بين مدلوليهما ثم يحمل أحدهما على الآخر، بل أفاد المقيد استحباب الإتيان بالمقيد، أو أنه عزيمة والمطلق رخصة، بدليل أنه نص عليه بعد دخوله تحت الاسم المطلق، فدل ذلك على أهميته وشرفه، لا أنه لا يجزئ غيره3.
والجواب عن هذه الشبهة من وجهين: أولاً: أن القول بأن المقيد يفيد الاستحباب خارج محل النزاع، لأن محل الحمل كما سبق إنما يكون إذا كان الحكم الوجوب، ولو سلم دخول الحكم المستحب في باب محل حمل المطلق على المقيد لكان إثبات الوجوب بالمقيد أولى؛ لأنه أقوى في دلالته على الوجوب من المطلق، والحكم الواجب آكد من الحكم المستحب، فإثباته بالدليل الأقوى أولى للتناسب بين الحكم ودليله1. وثانياً: إن وجوب المقيد كما ينافي الجواز المستفاد من المطلق عند صاحب هذا الرأي ينافي التخيير الذي يرى حمل المطلق عليه؛ لأن معنى التخيير أن المكلف لو أتى بالمطلق أجزأه ذلك، ومعنى وجوب المقيد أن المكلف لو فعل غير المقيد لا يكون فعله مجزئاً لانتفاء شرط التقييد فيه، أضف إلى ذلك أن المخالف ينكر مشروعية المطلق، ويقول: إن المراد به المقيد ابتداء. فليس الإطلاق مراداً أصلاً عند الجمهور حتى يصح التمسك به. الدليل الثاني: قالوا: لو حمل المقيد على المطلق هنا لترتب على ذلك إلغاء القيد المنصوص عليه وإسقاطه بالكلية، وفي حمل المطلق على المقيد يبقى المطلق
معمولاً به في بعض صوره؛ لأن المطلق جزء من المقيد والعامل بالكل عامل بجزئه، بخلاف العكس، وقد مر بنا أكثر من مرة أن إعمال الأدلة هو الأصل وأن العمل بالدليل ولو من وجه خير من إهماله بالكلية1. واستدلوا ثالثاً: فقالوا: إن الحكيم إنما يزيد في الكلام لزيادة في البيان والقيد في المقيد زيادة على المطلق، فلا يحسن إلغاء تلك الزيادة، بل يجعل كأنه قالهما معاً2، ويكون المقيد مبيِّناً للمراد من المطلق، صوناً لكلام الشارع عن العبث واللغو. ومن أدلتهم وهو الرابع: قالوا: إن في العمل بالمقيد خروج المكلف عن عهدة التكليف بيقين، سواء كان المطلوب الإتيان بالمطلق أو المقيد؛ لأنه إذا كان المطلوب الإتيان بالمطلق كان العمل بالمقيد مجزئاً؛ لكونه فرداً من الأفراد التي يتحقق فيها مفهوم المطلق عن طريق البدل، وإن كان المطلوب المقيد يكون الإتيان به مجزئاً أيضاً، لأنه المطلوب نفسه، بخلاف العمل بالمطلق، فإنه يحتمل عدم الخروج عن العهدة بيقين؛ لأن المطلق كما ذكرنا يتحقق مدلوله بأي فرد كان سواء أكان الفرد المقيد أم غيره، فلربما يأتي المكلف بذلك الغير،
ويكون المطلوب الفرد المقيد، وحينئذ فخروجه عن العهدة ليس متيقناً1. الدليل الخامس: قالوا: لو لم يحمل المطلق على المقيد في حال اتحاد الحكم والسبب، لكان السبب الواحد موجباً للمتنافيين في آن واحد، وهما الإطلاق والتقييد. بيان ذلك أن المطلق في المثال السابق يوجب إجزاء الصيام غير المتتابع لموافقته المأمور به، والمقيَّد يوجب عدم إجزائه لمخالفته المأمور به، والحكم الواحد يستحيل اتصافه بالوصفين معاً بطريق الوجوب لما يلزم عنه من اجتماع المتنافيين في وقت واحد2، ودفعاً لهذا التنافي في الظاهر
يحمل المطلق من الصوم عن التتابع على الصيام المقيد بالتتابع لما بيَّنَّا من المرجحات، وحينئذ تجتمع الأدلة وتتفق ولا تختلف. الحال الثانية: الاختلاف في الحكم والسبب: هذه هي الصورة الثانية التي جرى الاتفاق على حكمها بين الأصوليين، ولكن لا على حمل المطلق على المقيد فيها، بل على عدم حمله عليه. ومثالها: قوله - تعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1، مع قوله تعالى في شأن الوضوء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 2. فقد ورد لفظ الأيدي مطلقاً في الآية الأولى، وورد مقيداً بكونها إلى المرافق في الآية الثانية، والحكم فيهما مختلف؛ إذ هو في الآية
الأولى الأمر بقطع اليد، وفي الآية الثانية الأمر بغسلها، كما أن السبب فيهما مختلف أيضاً؛ لأنه في الآية الأولى السرقة، وفي الثانية إرادة أداء الصلاة أو القيام لها. ففي هذه الحال وأمثالها - اتفق العلماء على أنه لا يحمل المطلق على المقيد، بل يبقى المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده1، وفي ذلك يقول الغزالي: "إن تباعدت الحادثتان من كل وجه فهو ممنوع بالإجماع"2. ويقول الآمدي: "لا خلاف في امتناع حمل أحدهما على الآخر) 3. وقد استدل على عدم حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحال بأدلة منها: أولاً: عدم المنافاة بين المطلق والمقيد، والحمل إنما يكون لدفع المنافاة بينهما، فإذا كانت المنافاة معدومةً كما هنا يبقى المطلق على إطلاقه والمقيَّد على تقييده؛ لأن الأصل في الأدلة أن تكون مستقلةً بذاتها وغير
محتاجة إلى غيرها في بيان المراد منها1. واستدلوا ثانياً: فقالوا: إن فائدة حمل المطلق على المقيَّد هو اتحاد الحكم والتخلص من تعدده وتعارضه اللذين هما على خلاف الأصل؛ فإذا كان حكمهما مختلفاً بالنص كما في هذه الحال انتفت الفائدة المذكورة وامتنع الإلحاق2. لكن يلاحظ على هذه الحال أمران: الأول: أن الأيدي في آية السرقة ورد تقييدها بالسنة العملية والقولية بأن القطع يكون من الرسغ3، ولهذا فهي تقيد بالدليل المذكور،
وإذا وجد الدليل كان ذلك خارجاً عن محل حمل المطلق على المقيد، لما سبق أن حمل المطلق على المقيد مفروض عند عدم وجود الدليل الذي يعين المراد. الأمر الثاني: إذا اقتضت الضرورة حمل المطلق على المقيد، كما لو قال المظاهر لآخر "أعتق عني رقبة"، ثم قال: "لا تملكني إلا مؤمنة"؛ فإنه يحمل المطلق على المقيد في هذه الصورة، لأن النهي عن تمليك غير المؤمنة يستلزم نفي إعتاقها عنه، وذلك يوجب تقييد الرقبة بالإيمان ضرورة1، إذا لا إعتاق بدون ملك، وقد نهاه عن تمليكه غير المؤمنة. الحال الثالثة: أن يختلف المطلق والمقيد حكماً ويتحدا سبباً. ومن أمثلتهما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 2، مع قوله تعالى في شأن التيمم: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ
عَفُوًّا غَفُورًا} 1. فقد ورد لفظ الأيدي مقيداً في الآية الأولى بكونها إلى المرافق، وورد في الآية الثانية مطلقاً عن ذلك القيد والحكم فيهما مختلف، إذ هو في الآية الأولى الأمر بغسل الأيدي2، وفي الآية الثانية الأمر بمسحها.
وأما السبب: فهو متحد فيهما، لأنه في الآيتين القيام إلى الصلاة أو إرادتها، وفي مثل هذه الحال وأمثالها اتفق العلماء دون خلاف يعتد به على أن المطلق لا يحمل على المقيد، بل يبقى المطلق على إطلاقه إلا إذا قيده دليل آخر، ويبقى المقيد على تقييده ما لم يرد دليل غير المطلق يدل على عدم اعتبار القيد الذي وجد معه وإلغائه1، وممن نقل هذا الاتفاق من المحققين الآمدي2، وابن الحاجب3، وعلاء الدين المرداوي4،
والشوكاني1. ولم يفرق الأصوليون بين حال الاتحاد في السبب وحال اختلافه، بل جعلوا مناط منع الحمل هو الاختلاف في الحكم، فمتى كان الحكم مختلفاً، امتنع الحمل سواء اتحد السبب كما في هذه الحالة أو اختلف كما في الحال السابقة. ولعل أدلة الأصوليين على عدم حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة هي الأدلة التي استدلوا بها على منع الحمل في حال اختلاف الحكم والسبب، من عدم وجود التنافي بين المطلق والمقيد، لاختلاف الحكم فيهما، والحمل إنما يكون عند وجود التنافي2، ولأن فائدة الحمل هي التخلص من تعدد الحكم وتعارضه، وإذا كان الحكم مختلفاً بالنص كما في هذه الحالة انتفت تلك الفائدة، وامتنع الحمل3، أضف إلى ذلك أن منع السبب الواحد للمتنافيين مشروط بكونه في وقت واحد وحالة واحدة، أما عند اختلاف الحالات كما هنا فلا مانع من ذلك، لأن السبب وإن
اتحد في ذاته إلا أنه يختلف باعتبار حالته. لكن هذا الحال كما سبقت الإشارة إليها في شروط الحمل خالف في عدم حمل المطلق على المقيد فيها بعض الأصوليين، حيث نقل القرافي عن كثير من الشافعية القول بحمل المطلق على المقيد لاتحاد السبب بينهما وإن اختلف الحكم1. وجعل ابن السبكي2 وشارحه المحلي3 هذه الحال من الأحوال المختلف في حكمها، وذكر فيها الخلاف الجاري في حال اتحاد الحكم
واختلاف السبب1 الآتية، والذي يبدو لي أن مذهب الجمهور الذي يقتضي عدم حمل المطلق على المقيد حال اتحاد السبب واختلاف الحكم هو المختار، إذ لا تعارض بين النصين إذا اختلف الحكم فيهما بالنص، لإمكان العمل بكل منهما في الموضع الذي ورد فيه، وليس في ذلك أيّ منافاة. الملاحظة الأخرى: أن هذه القاعدة - أعني عدم حمل المطلق على المقيد عند اختلاف الحكم - وإن كانت تقتضي بقاء الأيدي في التيمم على إطلاقها، فإن ذلك الإطلاق إنما هو بالنسبة إلى آية الوضوء، نظراً لاختلاف الحكم فيهما، أما تقييد الأيدي بأدلة أخرى غير آية الوضوء، فإن القاعدة لا تمعنه؛ لأن حمل المطلق على المقيد قائم على فرض انتفاء وجود الدليل من خارج النص المطلق أو المقيد، ولهذا فإن المذاهب المتفقة على منع تقييد الأيدي بالمرافق في آية التيمم حملاً لها على المقيد في آية الوضوء، قد قيد بعضهم2 الأيدي
في التيمم بالكفين، وذلك لما صح عنده من السنة، وهو ما رواه عمار بن ياسر1 رضي الله عنه قال: "أجنبت فتمعكت في الصعيد وصليت، ثم ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما كان يكفيك هكذا، وضرب النبي بكفيه الأرض، ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه"2، وقيدها البعض الآخر بالمرفقين3، وذلك لما صح عنده من السنة، وهو ما رواه ابن عمر عن جابر - رضي الله عنهما - من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين"4، فكل من الفريقين
قيد إطلاق آية التيمم بما صح عنده من السنة، لا بآية الوضوء، ذلك أن وضع آية التيمم مع السنة الشريفة يختلف عن وضعها مع آية الوضوء، إذ
إنها مع آية الوضوء تدخل في حال اختلاف الحكم واتحاد السبب المتفق لدى جمهور العلماء على عدم حمل المطلق على المقيد فيها، وأما مع السنة المذكورة فهي تدخل ضمن حال اتحاد الحكم والسبب المتفق على حمل المطلق على المقيد فيها، ذلك أن آية التيمم الكريمة وحديث عمار أو حديث ابن عمر قد اتحد فيها السبب وهو القيام إلى الصلاة أو إرادتها، واتحد فيهما الحكم أيضاً وهو وجوب المسح1.
المطلب الثاني: في محل الإختلاف
المطلب الثاني: في محل الاختلاف ونعني بمحل الاختلاف هنا أحوال المطلق والمقيد التي اختلف الأصوليون في حكم حمل المطلق على المقيد فيها، فيتضمن هذا المطلب الصور والحالات الآتية: الحال الأولى: الاتحاد حكماً والاختلاف سبباً: ومن أمثلة هذه الحال قوله -تعالى- في كفارة القتل الخطأ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} 1، مع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 2. فقد ورد لفظ الرقبة في الآية الأولى مقيداً بالإيمان، وورد في الآية الثانية مطلقاً عن ذلك القيد، والحكم فيهما واحد، وهو الأمر بتحرير رقبة، والسبب فيهما مختلف؛ إذ هو في الآية الأولى القتل الخطأ، وفي الآية
الثانية الظهار1 مع إرادة العود2 لما قال. وقد اختلف علماء الأصول في حكم حمل المطلق على المقيد في هذه الحال وأمثالها: 1- فمن يرى أن بين المطلق والمقيَّد تعارضاً لاتحاد الحكم فيهما يقول: يدفع هذا التعارض بطريق حمل المطلق على المقيد، وهذا هو مذهب جمهور الأصوليين الذين يرون أن اتحاد الحكم يكون كافياً لوجود التعارض بينهما، ومن ثم القول بحمل المطلق على المقيد فيهما. 2- ومن لا يرى أن بينهما تعارضاً، لاختلاف السبب فيهما يقول: بمنع حمل المطلق على المقيد هنا؛ لأن من شرط حمل المطلق على المقيد وجود التنافي بين المطلق والمقيد، ومع الاختلاف في السبب لا يتحقق التنافي فيعمل بكل من المطلق والمقيد في الموضع الذي ورد فيه، فالمطلق يعمل به على إطلاقه، والمقيد يعمل به مع قيده، حتى يرد الدليل الصارف عن ذلك من خارج اللفظ المطلق أو المقيد، وهذا هو مذهب الحنفية، لكن
الجمهور الذين قالوا بحمل المطلق على المقيد في هذه الحال، اختلفوا في موجب الحمل ما هو؟ أهو اتحاد المطلق والمقيد في اللفظ فيكون حملاً من طريق اللغة، أم أن موجب الحمل وجود علة جامعة بين المطلق والمقيد؟ فيكون الحمل في هذه الحال وأمثالها عن طريق القياس. وبناء على هذا التفصيل للجمهور يكون لعلماء الأصول في حكم هذه الحال ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: القول بمنع حمل المطلق على المقيد مطلقاً، أي: سواء أكان بطريق اللغة أم القياس، وبه قال جمهور الحنفية1 وحكي عن بعض علماء المالكية2
والحنابلة1. المذهب الثاني: القول بحمل المطلق على المقيد مطلقاً، ومرادهم أنه لا يشترط فيه تحقق علة جامعة بين المطلق والمقيد، وإنما الشرط وجود مطلق ومقيد لغويين في الكتاب والسنة، وبه قال كثير من الشافعية2،
وبعض المالكية1 والحنابلة2.
المذهب الثالث: القول بحمل المطلق على المقيد بطريق القياس المستجمع لشروطه وأركانه، وهو قول المحققين من الشافعية1
والمالكية1 والحنابلة2.
أدلة المذاهب: أولاً: أدلة القائلين بالمنع مطلقاً. استدل القائلون بمنع حمل المطلق على المقيد في حال اتحاد الحكم واختلاف السبب بعدة أدلة منها1: 1- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} 2. ووجه الدلالة من الآية أن المطلق ساكت عن القيد وفي الرجوع إلى المقيد ليعرف منه حكم المطلق إقدام على هذا المنهي3.
وقالوا أيضاً: إن معنى هذه الآية هو ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" 1. وأجاب الجمهور عن ذلك بأن قالوا: لا دلالة في الآية والحديث على منع حمل المطلق على المقيد؛ لأن الآية الكريمة والحديث الشريف وردا حثاً للمسلمين على التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت السؤال، ونهياً لهم عن أن يسألوا عما ترك الرسول تفصيل حكمه، لئلا يودي سؤالهم إلى نزول تكاليف تشق عليهم وتعنتهم2، ولم يكن هناك مقيد شرعه الشارع رجعوا إليه ليعرفوا منه حكم المطلق، وإنما سألوا عن تقييد الحكم ابتداء كما في قصة الرجل الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن فريضة الحج، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"يا أيها الناس
قد فرض الله عليكم الحج فحجوا" فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: "ذروني ما تركتكم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه". وقد ذكر ابن كثير1 هذه الحادثة سبباً لنزول الآية السابقة2 فمثل: هذه الأسئلة هي التي ورد النهي عنها، أما الرجوع إلى المقيد ليعلم منه حكم المطلق، لما بينهما من علاقة بعد أن تم الدين وانقطع الوحي فلا يتجه إليه النهي، بل هو التفقه في الدين حسب قواعد استنباط الأحكام، وقد أمرنا الله بسؤال العلماء عما خفي علينا حُكْمُه قال -تعالى-: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} 3، فهذه الآية صريحة في وجوب السؤال عما
خفي حكمه، فلا يكون منهياً عنه، كما ادعى هذا الفريق. واستدلوا ثانياً: وقالوا: لو حمل المطلق على المقيد عند اتحاد الحكم واختلاف السبب للزم من ذلك أمران محظوران. أولهما: مخالفة ما هو الأصل في المطلق والمقيد من غير حاجة، وبيان ذلك أن حمل المطلق على المقيد لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن العمل بكل منهما مستقلاً، وذلك عندما يكون بينهما تناف، ويكون العمل بكل واحد منهما على حدة مدعاة إلى التناقض، وهذه الحال بمأمن من ذلك، لأن السبب فيهما مختلف1، ومع اختلاف السبب لا يوجد التنافي والتضاد، بل قد يكون الداعي إلى الإطلاق والتقييد هو اختلاف السب فيهما2، وبناء على ذلك يكون حمل المطلق على المقيد في هذه الحال حملاً من غير حاجة، فلا يجوز لمخالفته لما هو الأصل فيهما، وهو بقاء المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده.
الأمر الثاني: أن حمل المطلق على المقيد في هذه الحال وأمثالها يؤدي إلى التضييق والحرج وكلاهما مناف للشريعة السمحة، بيان ذلك أن المطلق فيه توسعة على المكلف حيث يقتضي خروجه عن العهدة بالإتيان بالفرد الذي توفر فيه القيد أو غيره، وفي إلزامه بالفرد المقيد الذي يتضمنه حمل المطلق على المقيد تضييق وحرج، وهذا ينافي مبدأ التسامح والتيسير في الشرع، فلا يصار إليه، لقوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 1. وقد أجيب عن الأمر الأول: بأن ما يقتضي حمل المطلق على المقيد متحقق وموجود في هذه الحال، وهو مطلق التنافي، ذلك أن المطلق والمقيد قد وردا في حكم واحد، والحكم الواحد لا يكون مطلقاً ومقيداً في آن واحد للتنافي بينهما، وهذا يستدعي جعل المقيد أصلاً يبنى عليه المطلق، ويبين بواسطته، لسكوت المطلق عن القيد، ونطق المقيد به، وهذا ما يجعل القيد ذا فائدة متوخاة. علماً أن الجامع المقتضى للقياس الصحيح موجود في هذه المسألة، وهو في كفارة الظهار والقتل الخطأ التكفير بتحرير رقبة واجبة.
وأما الاعتراض الثاني: وهو لزوم الحمل التضييق والحرج. فإنما يتجه على مذهب القائلين بالحمل مطلقاً أي: لمجرد وجود مطلق ومقيد لغويين في الكتاب والسنة، وهذا الاتجاه على مذهبهم لا يضر الجمهور؛ لأن مذهب القائلين بالحمل عن طريق اللغة مردود كما سيأتي. وأما على رأي المحققين من الجمهور الذين يقولون إن حمل المطلق على المقيد في هذه الحال موقوف على وجود الدليل؛ فلا يرد عليهم القول بأن في حمل المطلق على المقيد في هذه الصورة تضييقاً بدون أمر الشارع، وذلك لما نقل الإمام الرازي عنهم: "أنهم لا يدعون وجوب الحمل في مثل هذه الحال مطلقاً، بل يقولون: إذا توفر القياس الصحيح وكانت علته ثابتة، بطريق مقطوع به -كالنص والإجماع، جاز أن يحمل المطلق على المقيد وإلاَّ فلا. وعليه فليس هناك أي تناف بين الدليل الذي يقتضي حمل المطلق على المقيد، وقاعدة نفي الحرج عن الشرع، لأن الجمع بينهما ممكن وميسور، ذلك أن القواعد الكلية في الشريعة، غالباً ما يرد عليها التخصيص والاستثناء، فيكون دليل جواز الحمل في هذه الصورة مخصصاً لتلك القاعدة العامة". يقول الشوكاني -مؤيداً لرأي الجمهور وراداً على القول بالحمل عن طريق اللغة: "ولا يخفاك أن اتحاد الحكم بين المطلق والمقيد يقتضي حصول التناسب بينهما بجهة الحمل، ولا نحتاج في مثل ذلك إلى هذا الاستدلال
البعيد، فالحق ما ذهب إليه القائلون بالحمل"1 أي قياساً. ثم رد الحنفية أدلة القائلين بالحمل من طريق القياس كما سيأتي. فقالوا: إن من شروط القياس التي لا يوجد بدونها عدم معارضة نص له، وفي هذه المسألة قد عارض القياسَ النَّصُ المُطلقُ؛ فإنه يدل على إجزاء المقيد وغيره؛ فلا يجوز أن يثبت بالقياس عدم إجزاء غير المقيد لانتفاء صحة القياس2. ودفع هذا الاعتراض: بأن معارضة القياس للنص في حيز المنع، ذلك أن المعدى هو وجوب القيد المنطوق به في كفارة القتل الخطأ، وهو الإيمان والمقيس عليه، وهو المطلق ليس نصاً في إجزاء الكافرة، بل هو ساكت عن القيد، يتناول الكفارة بوصف الإطلاق مع احتمال إرادة التقييد، فالنص في كفارة الظهار يدل على وجوب المطلق أعم من كونه في ضمن المقيد أو غيره، وليس ذلك كالتنصيص على إجزاء الكافرة، فنكون قد قسنا ما سكت عن الإيمان فيه على ما نطق فيه بالإيمان، وليس في هذا القياس معارضة للنص المطلق كما يدعى؛ لأن المطلق ساكت عن القيد، إذ هو لا يثبته ولا ينفيه3.
وقالوا أيضاً: إن الحكم في هذه المسألة مما لا يعرف بالقياس بالإجماع، لأنه يرجع إلى إثبات قدر الكفارة، ذلك أن زيادة التقييد بالإيمان في حكم القدر؛ فلا يجوز إثباته بالقياس كما لا يجوز إثبات القدر به1. والجواب عن ذلك يتم من وجهين: الأول: إن دعوى الإجماع غير صحيحة؛ لأن مذهب الإمام أحمد بن حنبل والشافعي2 جواز جريان القياس في الكفارات والمقدرات إذا علم علة
ذلك ولم يمنع منه مانع1، قال أبو الحسين2 البصري: "ويبعد أن تظهر في التقديرات والأعداد علة، وأما الكفارات فلا يبعد أن تظهر علتها، فيقاس عليها غيرها بتلك العلة"3. ثم إن قوله إن الوصف زيادة معنى كالقدر غير مسلم، لأن كون الوصف زيادة معنى لا يجعله كالقدر، لأن الوصف في الغالب منضبط ومعقول العلة بخلاف القدر؛ فإنه لا ينضبط في الغالب وقلما تدرك علته.
الوجه الثاني: أن يقال: للحنفية: إنكم أوجبتم الكفارة على من أكل في نهار رمضان، قياساً على الواطئ فيه، وهذا يخالف قاعدتكم أنه لا يجوز أن تثبت الكفارات بالقياس، فإن قالوا: إنا لم نثبت ذلك بالقياس، وإنما أثبتناه بطريق الدلالة1 وهي ترجع إلى النص؛ لأن العلة في إيجاب الكفارة على الصائم الذي أفسد صومه في رمضان ليس الوطء، وإنما هي: "الجناية على الصوم بإفساد ركنه، وهو الإمساك عن شهوة البطن والفرج". وهذه العلة يفهمها كل من كان عارفاً باللغة، ولا تحتاج في
استخراجها إلى بحث واستنباط، فلا تكون من القياس الذي مبناه على استنباط العلة، ثم إن هذا المعنى الذي وجبت الكفارة على الصائم من أجله موجود في الأكل بلا نقصان فأوجبنا الكفارة على الآكل لتحقق المعنى الذي وجبت الكفارة لأجله فيه. والجواب عن ذلك أن يُقال: أولاً: لا فرق بين إثبات علة الكفارة على من أكل وشرب في نهار رمضان بطريق دلالة النص، وقول المحققين من جمهور الأصوليين الذين يقولون بجواز حمل المطلق على المقيد بالقياس الصحيح الذي ثبتت علته بطريق مقطوع به، كالنص والإجماع1، إلا في التسمية والاصطلاح، وذلك لا يضر؛ لأن دلالة النص عند الحنفية والقياس المقطوع بعلته شيء واحد عند التحقيق2. ثانياً: سلمنا أن دلالة النص غير القياس، ولكن ذلك مشروط بنوع خاص من الدلالة، وهو ما كانت العلة فيه مقطوعاً بها، قال عبد العزيز البخاري في كشف الأسرار: "ثم إن كان المعنى المقصود معلوماً قطعاً كما
في تحريم التأفيف فالدلالة قطعية، وإن احتمل أن يكون غيره هو المقصود كما في إيجاب الكفارة على المفطر بالأكل والشرب فهي ظنية"1. وحيث كان أهم عنصر اعتمد عليه القائلون بالفرق بين الدلالة والقياس أن العلة في دلالة النص قطعية، يفهمها كل من كان عارفاً باللغة، ولا تحتاج إلى اجتهاد واستنباط2، وفي القياس ظنية وخفية تحتاج إلى بحث واستنباط وشروط لا تتوفر إلا فيمن كان من أهل الاجتهاد. أقول: وحيث إن العلة في مسألتنا كما يقول صاحب كشف الأسرار "ظنية" لاختلاف العلماء في فهمها، فلا تكون من قبيل الدلالة التي ترجع إلى النص لغة، وإنما هي من قبيل القياس لظنيتها واختلاف العلماء في فهمها، وبناء على ذلك يبطل قول الحنفية بأن الكفارة لا تثبت بطريق القياس، حتى ولو سلم أن دلالة النص القطعية ليست من قبيل القياس، ذلك أن مسألة إيجاب الكفارة على من أكل أو شرب في رمضان ليست من قبيل الدلالة القطعية، بل من قبيل دلالة النص الظنية، وهذه الدلالة والقياس سيان3.
وقالوا ثالثاً: إن إثبات القيد في اللفظ المطلق بالقياس زيادة على النص يلزم منها رفع ما اقتضاه المطلق، وهو في مسألتنا إجزاء المؤمنة والكافرة، فيكون نسخاً، ونسخ ما هو ثابت بطريق قطعي لا يجوز بالقياس1 وسيأتي الجواب عن ذلك في مسألة الزيادة على النص. ومن اعتراضاتهم أيضاً: أن قياس كفارة الظهار وكفارة اليمين على كفارة القتل الخطأ قياس مع الفارق، ووجه الفرق أن حكم القتل الخطأ وجوب التحرير والصوم على الترتيب مقتصراً عليهما، وحكم الظهار وجوب التحرير والصوم والإطعام، وهذا فيه مفارقة لحكم القتل الخطأ؛ لأنه لا مدخل للإطعام في كفارة القتل، وكذلك حكم اليمين وجوب البر، ثم الكفارة بأحد الأشياء الثلاثة، ثم صوم ثلاثة أيام وهو مفارق لحكم القتل أيضاً، ففي كل من كفارة الظهار واليمين ضرب من التيسير وليس هذا النوع من التيسير موجوداً في القتل، فلا يقاس ما فيه تخفيف على ما فيه تغليظ2.
ثانياً: أدلة القائلين بالحمل المطلق: استدل القائلون بحمل المطلق على المقيد بطريق اللغة بأدلة منها: 1- قالوا: إن القرآن كالكلمة الواحدة، فلا يختلف بالإطلاق والتقييد، بل يفسر بعضه بعضاً، لأنه في حكم الخطاب الواحد، وحيث كان الخطاب الواحد يترتب فيه المطلق على المقيد، بمعنى أنه إذا نص على تقييد شيء منه بقيد ما، كان ذلك تنصيصاً على تقييده به في سائر
الصور، كذلك المطلق والمقيد في كتاب الله، لأنه في حكم الخطاب الواحد. يبين صحة ذلك أن الصحابة - رضوان الله عليهم - جعلوا القرآن بمنزلة الآية الواحدة، يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - 1 أنه قال للخوارج2 لما احتجوا عليه بآية من القرآن قال لهم:
من فاتحته إلى خاتمته ومعناه يجب أن يلتزم جميع ما فيه1. وقد أجيب عن هذا الدليل: أن ذلك مسلم، ولكنه مشروط بوجود الدليل أما أن يكون الحمل
لمجرد الورود فقط من غير حاجة إلى دليل، فغير صحيح، ثم إن هذا الدليل خارج عن محل النزاع لأن كون القرآن كالكلمة الواحدة لا يستلزم حمل المطلق على المقيد مطلقاً، لأن معنى كونه كلاماً واحداً يفسر بعضه بعضاً أنه لا يتناقض، وإلا لو أريدت الوحدة المطلقة، لورد عليه المطلق والمقيد اللذان اختلف حكمهما وسببهما وقد بينا فيما سبق اتفاق العلماء ومنهم المستدلون بهذا الدليل على عدم حمل المطلق على المقيد في تلك الحال وهي حالة لو أخذ الدليل على عمومه لاندرجت فيه ومقتضى ذلك حمل المطلق على المقيد فيها. أضف إلى ذلك أن الإطلاق والتقييد لا ينافي وحدة الكلام؛ لأنه مبني على اختلاف تعلقات الكلام، واختلاف التعلقات لا بد منه، نظراً لاختلاف المتعلقات وعلى هذا فإن الإطلاق والتقييد لا يؤدي إلى التناقض الذي يقدح في وحدة الكلام1، ثم إن هذا الدليل لو تم، لأدى إلى نفي النسخ مطلقاً؛ لأن نفي الاختلاف عموماً يؤدي إلى نفي النسخ في ضمنه فيكون باطلاً؛ لأن وجود النسخ من المسَلَّمَات في الشريعة، والناسخ يختلف عن المنسوخ؛ فيكون هذا الدليل على عمومه غير مسلم، وخاصة
إذا علمنا أن الكلام ما هو إلا الألفاظ الدالة على المعاني، ولا خفاء في تكثرها وتعددها. وكذلك القرآن والسنة فيهما الأحكام المختلفة ففيهما المنفي والمثبت والأمر والنهي وغير ذلك ومع العلم بهذا كله فقد لا يقبل حمل خطاباته المختلفة على حكم واحد1. واستدلوا أيضاً: فقالوا: إن حمل المطلق على المقيد يتمشى مع سنن العرب في كلامها، حيث تطلق الحُكْمَ في موضعٍ وتقيِّدُه في موضع آخر، ومرادها بالمطلق المقيد، ويكون ذلك من جنس المحذوف الذي دل الكلام على تقديره. قال الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما عند ... ك راض والرأي مختلف2
ففي هذا البيت كلاماً محذوفاً في قوله: (نحن بما عندنا) وتقديره راضون1، وقد دل على هذا التقدير قوله: (وأنت بما عندك راض) . وقول الآخر: وما أدري إذا يممت أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني2 فإن في البيت الأول كلاماً محذوفاً بعد قوله: (أريد الخير) تقدير. (وأتوقى الشر) وقد أهمل الشاعر ذكره اكتفاء بدلالة التقابل عليه في قوله: (أريد الخير) في الشطر الثاني من البيت الأول، وكذلك قوله في البيت الثاني:
الثاني: (أم الشر) دليل آخر على تقدير المحذوف وتعينه. ثم قالوا: إن القرآن نزل باللغة العربية موافقاً لقوانين العرب في كلامها. وقد علمنا من كلامهم أنهم يطلقون اللفظ في موضع ويقيدونه في موضع آخر، ويكون المراد من المطلق المقيد وقد وجد هذا الأسلوب في القرآن فعلاً1، قال تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} 2، والتقدير والحافظات فروجهن والذاكرات الله كثيراً. وقال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} 3، والتقدير: وعن اليمين قعيد. والجواب أن ذلك كله مُسَلَّم، ولكن بعد إقامة الدليل على إرادة التقييد ونصب القرينة التي تعين المحذوف، وما ذكر من الآيات القرآنية ومن الأمثلة الشرعية، قد قام الدليل على إرادة المحذوف وتعينه فيها، فهو في البيت الأول العطف حيث عطف (وأنت بما عندك راضي) على قوله، نحن بما عندنا، فدل ذلك على أن التقدير: (نحن بما عندنا راضوان) .
وكذلك الشأن في البيت الثاني: دل (الضمير المثنى) في قوله: (أريد الخير أيهما يليني) على أنه عائد إلى شيئين، ولم يتقدمه في اللفظ إلا شيء واحد، وهو قوله: (أريد الخير) ، فدل على أن الشيء الآخر محذوف فسره في البيت الثاني بقوله: (أم الشر) ، وهذا دليل على أن المحذوف يقدر (وأتوقى الشر) كما بينا ذلك فيما سبق. وأما الآيات: فدلالة العطف فيها صريحة وظاهرة في اعتبار وتعيين المحذوف. وعليه فلا دلالة لهم فيها على حمل المطلق على المقيد لمجرد الورود فقط. ثم لو سلمنا أن الأمثلة التي ذكروها ينطبق عليها تعريف المطلق والمقيد اصطلاحاً؛ فإنها تختلف عن المسألة التي نحن بصدد الحديث عنها، لأن ما ادعى فيه الإطلاق والتقييد من تلك الأمثلة الشعرية والآيات قد ورد فيه المطلق والمقيد في كلام واحد لا يستقل أحدهما عن الآخر فيه، بتمام الفائدة، بخلاف كفارة القتل الخطأ والظهار، فقد ورد كل من المطلق والمقيد في نصين يستقل أحدهما عن الآخر بتمام الفائدة، فلا يقاس ما هو مستقل بنفسه على ما ليس بمستقل في ذاته. بقي أن نقول: إن الدليل على التقييد إما أن يكون مذكوراً في اللفظ كما في الأمثلة التي سبقت حيث دل العطف والإضمار على تقدير
المحذوف وتعينه، وهذا غير حاصل في كفارة الظهار والقتل، وإما أن يكون من جهة الحكم بأن يتفق الحكمان في علة التقييد، وهذا حمل عن طريق القياس، وليس كلامنا فيه الآن يؤيد ذلك ما نقل الغزالي عن الشافعي من أن الحمل في هذه الحال موقوف على الدليل، حيث ذكر الغزالي في المستصفى قول الشافعي: "إن قام دليل حمل المطلق على المقيد، ولم يكن فيه إلا تخصيص العموم"1، ومفهوم ذلك أنه إذا لم يكن بينهما علاقة لا يحمل المطلق على المقيد كما لو كانا جنسين2. قال أبو الخطاب3 الحنبلي: "وارتكاب هذا المنع"، يعني عدم حمل المطلق على المقيد لمجرد الورود (الفقه باللغة) 4، ويقول الغزالي في الرد على القول بحمل المطلق على المقيد لمجرد الورود من غير حاجة إلى دليل:
"وهذا تحكم محض يخالف وضع اللغة"1، إذ ليس بأن يقيد به أولى من أن لا يقيد به، وكما يجوز أن تكون المصلحة فيهما التقيد يجوز أن تكون المصلحة فيهما أيضاً أن يبقى أحدهما مطلقاً والآخر مقيداً. ومن أدلتهم أيضاً: أن الله سبحانه وتعالى: لما قيد الشهادة باشتراط العدالة في الشهود في الوصية والرجعة، وأطلق في مواضع أخرى، كانت العدالة شرطاً في الجميع، وإنما حملت الشهادة المطلقة على المقيدة لاشتراكهما في اسم الشهادة، فكذا يكون الحكم في كفارة الظهار مع كفارة القتل الخطأ، لأن الكل كفارة بتحرير رقبة واجبة. وقد أجيب عن هذا الدليل: بأن تقييد الشهادة بالعدالة في بقية المواضع، لم يكن لمجرد الاشتراك في الاسم، بل كان لدليل قام على ذلك وفيه يقول الرازي: (وإنما قيدناه بالإجماع) 2، علماً أنه قد ورد النص برد شهادة الفاسق قال الله تعالى: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 3، فلا يقبل في الشهادة إلا عدل لهذا
النص1، ثم إن المعنى في الشهادة ضبط الحقوق وحفظها من الضياع، وذلك لا يكون إلا بشهادة عدل في جميع الشهادات. ومن أدلتهم أيضاً: الأدلة الأربعة التي ذكرناها في حال اتحاد الحكم والسبب، وهي أدلة مسلمة ولكن الحمل فيها لم يكن لمجرد الورود، بل لدليل آخر، وإذا وجد الدليل خرجت المسألة عن محل النزاع2. ثالثاً: أدلة القائلين بالحمل قياساً: استدل القائلون بحمل المطلق على المقيد بطريق القياس بعدة أدلة منها: 1 - ما روى عن معاوية بن الحكم السلمي3 قال: "كانت لي جارية ترعى غنماً قبل أُحُد، والجوانية4، فاطلعت ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون،
لكني صككتها صكة، فعظم عليّ ذلك فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت له: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها، فأتيته بها فقال لها: أين الله، قالت: في السماء، قال: من أنا، قالت: أنت رسول الله، قال: " أعتقها فإنها مؤمنة" 1. ووجه الدلالة من هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم علل جواز إعتاقها في التكفير عن لطمته إياها بأنها مؤمنة، فدل ذلك على أنه لا يجزئه في التكفير عن لطمته إلا أن تكون مؤمنة2، وإذا كان الأمر كذلك في تكفير لطمة، فمن باب أولى أن لا يجزئه في الكفارات الواجبة، كالظهار واليمين إلا رقبة مؤمنة.
وقد اعترض الحنفية على هذا الاستدلال: وقالوا: هذا الحديث لا يعرف تاريخ وروده، ولا يجوز أن يكون مقارناً لنزول المطلق، لأنه لو كان مقارناً له لنقله إلينا من نقل النص المطلق؛ لأن الظاهر أنه بيان للمراد من المطلق، وبيان المطلق لا يجوز تأخيره عندنا، وعندئذ فيحتمل أن يكون ورد قبل المطلق فيكون منسوخاً به، ويحتمل أن يكون متأخراً، فيكون زيادة على النص المطلق، والزيادة على النص نسخ عندنا، وهي لا تجوز بأخبار الآحاد. وحاصل الاعتراض أنه تعارض النص المطلق مع المقيد، وجهل التأريخ بينهما فيقدم العمل بالمطلق، لأنه متواتر. ودفع هذا الاعتراض بما يلي: أولاً: إن منعكم جواز تأخير بيان المطلق غير مسلم، لما تقدم من جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة. ثانياً: إن قولكم: الزيادة على النص نسخ، وهي لا تجوز بأخبار الآحاد أيضاً في حيز المنع، وسيأتي لذلك مزيد من الإيضاح في مبحث الزيادة. 2 - واستدلوا أيضاً: بأن تقييد المطلق كتخصيص العام؛ لأن المطلق عام على سبيل البدل، وتخصيص العام بالقياس جائز، فكذلك تقييد المطلق
يجوز به، لعدم الفرق1. وقد اعترض هذا الدليل صدر الشريعة الحنفي، وقال: إن جواز تخصيص العام بالقياس لا يجوز عندنا إلا إذا خص العام أولاً، بدليل قطعي، والمطلق هنا لم يقيد بدليل قطعي أولاً حتى يجوز تقييده بالقياس ثانياً. والخلاف في جواز تقييد المطلق بالقياس ابتداء، فلا يكون تقييد المطلق كتخصيص العام2 على الإطلاق. ودفع هذا الاعتراض من قبل الجمهور، بأنه إذا جاز أن يخص بالقياس العام الذي دخله التخصيص جاز أن يخص به ما لم يدخله التخصيص؛ لأن العموم والإطلاق وإن خصا فمعناهما معقول، كما أن جواز تخصيص العام بالقياس ثانياً، إنما جاز لمنافاة ما بقي بعد التخصيص الأول، للدليل المخصص ثانياً، وهذا المعنى، وهو: المنافاة بين الدليل المخصص والعام، موجود في المطلق والعام قبل تخصيصهما، فيجب أن يكون ما دخله التخصيص وما لم يدخله في الحكم سواء3، لاشتراكهما
في علة التخصيص. 3 - واستدلوا ثالثاً: فقالوا: إنه متى توفر قياس صحيح بين المطلق والمقيد وجبت التسوية بينهما في الحكم الذي يقتضيه القياس1؛ لأن القياس دليل شرعي يجب العمل بمقتضاه وبخصوص مسألتنا، فقد توفر جامع صحيح بين كفارة الظهار والقتل، وهو أن كلاً منهما يقتضي تكفيراً بعتق رقبة واجبة2، فيجب حمل الإطلاق في كفارة الظهار على التقييد في كفارة القتل الخطأ، وعندئذ فلا يجزئ إلا عتق رقبة مؤمنة في كفارة الظهار قياساً لها على كفارة القتل الخطأ3، وذلك لما يلي: أولاً: أن في حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحال جمعاً بين الأدلة وعملاً بها جميعاً، وفي عدم الحمل إعمال لدليل واحد وترك لدليلين، وبيان ذلك: أن القياس إذا اقتضى حمل المطلق على المقيد ثم عمل بمقتضى هذا القياس، فقد عمل بالقياس والدليل المطلق والمقيد، وفي عدم الحمل ترك لمقتضى القياس وترك لمفهوم القيد، وقد علم أن إعمال الأدلة جميعاً أولى من إعمال بعضها وترك بعضها الآخر4.
ثانياً: وبخصوص مسألتنا قد وجد ما يرجح العمل بالقياس، وهو أن الجميع كفارة، والعتق صدقة على العبد المعتق نفسه، ومن شروط القابض للقربات الواجبة الإيمان، كالزكاة فإنها لا تجزئ إلا بدفها لمؤمن، وهذه علة اعتبار الإيمان في كفارة القتل الخطأ، وذلك موجود بعينه في كفارة الظهار، فوجب اعتبار الإيمان فيها1. وحيث سبقت اعتراضات الحنفية على الحمل بطريق القياس ورد الجمهور عليهم فلا داعي لذكرها مرة أخرى. ومما يستأنس به لمذهب الجمهور قوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} 2، ولا خبث أشد من الكفر، وقوله تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} 3. وإعتاق الكافر ينافي الغلظة المطلوبة في هذه الآية. الترجيح: بعد أن عرضنا لأقوال العلماء في حكم حمل المطلق على المقيد في حال اتحاد الحكم واختلاف السبب، هناك آراء لبعض أصحاب
الأصول في بيان الراجح، فهم وإن اتفقوا في الجملة على منع الحمل بطريق اللغة، إلا أنه لم يظهر لبعضهم وجه الترجيح، فتوقف وسلك بعضهم التفصيل، وإتماماً للفائدة سأذكر آراءهم فيما يلي ثم أتبعه بما أراه أقرب للصواب. المذهب الأول: 1 - من توقف في حكم الحمل لتقابل الأدلة، ومن هؤلاء الجويني1 من الشافعية، والطوفي من الحنابلة حيث يقول: "والبحث متقابل من الطرفين"2. المذهب الثاني: ما اختاره الآمدي وابن الحاجب وهو أنه يجب تقييد المطلق، إذا كان الوصف الجامع بينهما مؤثراً أي: ثابتاً بنص أو إجماع، وإن كان مستنبطاً من الحكم فلا يجوز التقييد3.
المذهب الثالث: ما رآه الغزالي: وهو أن رأيه في هذه المسألة كرأيه في تخصيص العموم بالقياس1، والمختار عنده في تخصيص العام بالقياس أن العموم يفيد ظناً، والقياس يفيد ظناً أيضاً، وقد يكون أحدهما أقوى من الآخر في نفس المجتهد فيلزمه اتباع الأقوى، والعموم تارة يضعف فلا يقوى على معارضة القياس، وتارة يقوى فيقدم على القياس، فلا يبعد أن يكون قياس أقوى وأغلب على الظن من عموم ضعيف أو عموم قوي أغلب على الظن من قياس ضعيف، فيقدم الأقوى2، والذي يبدو من كلام الغزالي اختيار القول بتقييد المطلق بالقياس في هذه المسألة، لأن إطلاق الرقبة ضعيف في دلالته على إجزاء الكافرة فيقدم القياس عليه. والذي يترجح عندي هو القول بحمل المطلق على المقيد بطريق القياس الصحيح، بناء على العرض السابق لأقوال العلماء ومناقشة أدلتهم وذلك لما يلي: 1 - إن أدلة القائلين بالحمل بطريق القياس أقوى من غيرها، ولم يأت الفريق الآخر بما يصلح أن يكون معارضاً لها.
2 - إن اتحاد الحكم بين المطلق والمقيد يقتضي حصول التناسب بينهما، كما أن وحدة الكلام مهما قيل في شأنها فهي بمعنى تجانس الأحكام وتقاربها وعدم المنافاة بينها.
ب - دخول الإطلاق والتقييد على السبب: وهذه الصورة تحتها حالة واحدة، وهي: إذا اتحد المطلق والمقيد حكماً وسبباً وكان الإطلاق داخلاً على السبب ومن أمثلتها: ما روي عن ابن عمر1 - رضي الله عنهما - قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين. وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة"2.
وورد في رواية أخرى عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر أو قال رمضان، على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير وقال: فعدل الناس بها إلى نصف صاع من بر على الصغير والكبير". فالنص الأول والثاني وردا متحدين في الواقعة، وهي صدقة الفطر واتحد فيهما الحكم وهو وجوب صدقة الفطر، لكن سبب الحكم وهو من يمونه المزكي ورد في النص الأول مقيداً بكونه من المسلمين أي: أنه جعل سبب الوجوب رأساً يمونه المسلم، وله عليه ولاية بشرط كونه من المسلمين، بينما النص الثاني جعل السبب في وجوب الزكاة رأساً يمونه المزكي مطلقاً. ولا خلاف بين العلماء في أن صدقة الفطر تجب على المسلم عن نفسه وعن من يلي أمره من المسلمين. لكن الخلاف جار فيما لو وجد كافر تلزم المسلم مؤنته كرقيقه
مثلاً: هل تجب على المسلم صدقة الفطر عن عبده الكافر، نظراً للإطلاق الوارد في الرواية الثانية؟ أو أنها لا تجب عليه لكونه كافراً عملاً بمفهوم القيد الوارد في النص الأول، وهو قوله: (من المسلمين) . اختلف العلماء في هذه المسألة: 1 - فذهب الجمهور: إلى أنه لا تجب صدقة الفطر على المسلم عمن تلزمه مؤونته من غير المسلمين، نظراً للقيد الوارد في النص الأول، وهو قوله: (من المسلمين) ويحملون المطلق على المقيد في هذه الحال وأمثالها لاتحاد الحكم والواقعة فيها1. 2 - وذهب الحنفية: إلى وجوب صدقة الفطر على الشخص المسلم عن كل من تلزم مؤونته - ولو كافراً - نظراً للإطلاق الوارد في الحديث الثاني، وقالوا: بعدم حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحالة، بل يبقى المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده لانتفاء التعارض بينهما2.
واستدل الجمهور: على حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة، بالأدلة الأربعة التي سبق أن استدلوا بها في حال اتحاد الحكم والسبب. 1 - من كون المطلق ساكتاً عن القيد، والمقيد ناطقاً به، وإذا تعارض النطق والسكوت كان الناطق أولى بالقبول. 2 - وكون الحكيم إنما يزيد في الكلام لزيادة في البيان، فكانت زيادة القيد بياناً للمراد من المطلق على التفصيل الذي سبق1. ثم أضافوا إلى ذلك التعليل التالي: حيث قالوا: إن الحكم متى كان واحداً والحادثة موضوعه واحدة،
فإن الإطلاق والتقييد عندئذ يكونان قد وردا على شيء واحد، والشيء الواحد لا يجوز أن يكون مطلقاً ومقيداً في آن واحد، للتنافي بينهما. ودفعاً لهذا التنافي الظاهري يحمل المطلق على المقيد. ب - وأما الحنفية: فقد استدلوا على عدم حمل المطلق على المقيد هنا بأدلة منها: 1 - إن التقييد والإطلاق وردا في سبب الحكم فأحد النصين جعل مؤونة الرأس مطلقاً، سواء كان مؤمناً أو كافراً سبباً لوجوب صدقة الفطر، والنص الآخر جعل السبب مؤونة الرأس المسلم فيكون الإطلاق والتقييد قد دخلا على السبب، ولا مزاحمة في الأسباب؛ لجواز أن يكون للحكم الواحد عدة أسباب على سبيل البدل عند المانعين من تعدد العلة أو على سبيل الاجتماع عند القائلين بتجزئتها. مثال ذلك: ملك المال، فإنه شيء واحد وله عدة أسباب يثبت بكل منها على سبيل البدل كالإرث والهبة، والبيع والشراء، وإذا انتفت المزاحمة بين المطلق والمقيد وجب العمل بكل منهما على مقتضاه1، وقد اعترض هذا الدليل بأن المنافاة بين سببية المطلق والمقيد متصورة؛ لأن معنى كون كل منهما سبباً أن يكون سبباً تاماً في وجوب صدقة الفطر، وتمامية
السبب تقتضي عدم الحاجة إلى سبب آخر، وبناء على ذلك فلو كان المطلق سبباً تاماً في الوجوب لمنع الاحتياج إلى سببية المقيد، ولكنه لم يمنع ذلك، ومن هنا ظهرت المنافاة بين تمامية السبب المطلق مع تمامية السبب المقيد، ودفعاً لتلك المنافاة ينبغي حمل المطلق على المقيد1. 2 - واستدلوا ثانياً: بأن في إبقاء المطلق على إطلاقه في هذه الحال احتياطاً، ومراعاة الاحتياط في الأحكام الشرعية أحوط، ووجه الاحتياط أنه عند إبقاء المطلق على إطلاقه تجب صدقة الفطر مع السبب المطلق ومع السبب المقيد، وأما عند الحمل فلا تجب إلا مع السبب المقيد فقط ووجوب الصدقة في الحالين أقرب إلى الاحتياط من وجوبها في حال واحدة. ويمكن أن يدفع هذه الدليل بأن ذلك مسلم لو لم يكن هناك دليل على التقييد من قبل الشارع، وأما عند وجود الدليل، وهو هنا اتحاد الحكم والحادثة ومساندة الأدلة السابقة لذلك، فلا مجال لاعتبار الاحتياط مع وجود الدليل. 3 - ويمكن أن يستدل للحنفية بما يعتبره بعض الأصوليين مذهباً ثالثاً في المسألة، وهو أن المقيد هو الذي يحمل على المطلق في هذه الحال، غير
أنهم لا يعنون به أن المقيد يراد به المطلق، إذ لو عنوا به ذلك لأدى قولهم إلى إلغاء القيد، وهو ممتنع1، بل يريدون أن سببية المقيد منتزعة من سببية المطلق، لأن المطلق سبب حقيقة، والمقيد مشتمل على السبب الحقيقي، لكون المطلق جزءاً من المقيد كما سبق فسببية المقيد جاءت من اشتماله على السب الحقيقي وهو المطلق، وإطلاق السبب على ما هو مشتمل علي السبب الحقيقي شائع، وفي ذلك يقول صاحب مسلم الثبوت: "فالحق أن يحمل ههنا المقيد على المطلق، لا بمعنى أن المراد منه ذلك، بل بمعنى أن المقيد سبب؛ لأن المطلق سبب وبينهما بون". ثم قال شارح المسلم معللاً لذلك: إن الأول "يعني حمل المقيد على المطلق بمعنى أنه يراد منه المطلق من قبيل المجاز، وهو ذكر المقيد وإرادة المطلق، بخلاف الحمل بالمعنى الثاني، فإنه حقيقة إلا أن الحكم على المقيد لاشتماله على المطلق، ثم قال الشارح: إن ذلك كلام وجيه، ويمكن حمل كلام الحنفية عليه، فإن إطلاق السبب على ما هو مشتمل على السبب شائع، كما يقال: هذه الدعامة سبب لبقاء السقف وبناء على هذا التوجيه، فلا يكون في المسألة إلا مذهبان لأن ما ادعاه بعض أصحاب الأصول مذهباً ثالثاً هو في الحقيقة يلتقي مع مذهب الحنفية في إبقاء المطلق
على إطلاقه وإن كان يختلف عنه في التعبير والتعليل". الترجيح: والذي نميل إليه هو حمل المطلق على المقيد دون ما حاجة إلى دليل كما في الحالة الأولى، لوجود التنافي بين النصين - المطلق والمقيد - ووجه ما اخترناه أن الزكاة بمقتضى النص المقيد لا تجب عمن يمونه المسلم إلا إذا كان مسلماً على حين يوجبها النص المطلق عن جميع من يمونهم الشخص المسلم، ولو كفاراً، وحسبنا هذا دليلاً على التنافي بين النصين أن المسلم مطالب على أحدهما بإخراج زكاة الفطر عن الكافر إذا كان يمونه، وليس مطالباً على النص الآخر بإخراج هذه الزكاة عنه1، وخاصة إذا علمنا أن أكثر ما عول عليه الحنفية في عدم حمل المطلق على المقيد هنا هو أن الإطلاق والتقييد داخلان على السبب ولا مزاحمة في الأسباب. وهذه القاعدة لم يلتزموا بها عند التطبيق في بعض النصوص، فهم وإن كانوا قد التزموها في صدقة الفطر وأجروا المطلق على إطلاقه حتى أوجبوا صدقة الفطر على المسلم عن كل من يمونه سواء كان مسلماً أو غير مسلم، إلا أنهم خالفوها في كثير من التطبيقات ومن ذلك وجوب الزكاة في الغنم. حيث روي في إيجاب الزكاة فيها عدد من النصوص، كان فيها
اختلاف في الإطلاق والتقييد، فقد جاءت النعم في بعض النصوص مطلقة عن أي قيد وجاءت في بعضها الآخر مقيدة بصفة السوم. فمثال النص المطلق قوله صلى الله عليه وسلم: "في خمس من الإبل شاة" 1، وروى "في خمس من الإبل السائمة شاة" 2. وكلتا الروايتين في الصحيح، وواضح أن الإطلاق والتقييد قد جاءا في سبب الحكم والموضوع واحد وهو الزكاة، فحمل الشافعية المطلق على المقيد، وأوجبوا الزكاة في السائمة فقط، ووافقهم على ذلك الحنفية حيث أوجبوا الزكاة في السائمة دون المعلوفة والعاملة. وكان مقتضى قاعدتهم السابقة أن يوجبوا الزكاة في السائمة
والمعلوفة على حد سواء، ويعتبروا كلا منهما سبباً للحكم كما قالوا في زكاة الفطر1. وما أجيب به عن الحنفية من أن مأخذهم إيجاب الزكاة في السائمة دون المعلوفة، لم يكن من طريق حمل المطلق على المقيد، وإنما كان بطريق النسخ، حيث يدعون أن النص المقيد جاء متأخراً عن النص المطلق، فكان ناسخاً له في غير السائمة، إنما يتم هذا جواباً لو كان الحنفية يأخذون بمفهوم الوصف الذي ورد في المقيد حتى يكون حينئذ بين النصين تعارض، ويكون المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم، إذا لم يمكن الجمع وعرف التاريخ، وفي مسألتنا الجمع ممكن، والحنفية لا يقولون بمفهوم القيد؛ فلا يكون هناك تعارض بين النصين، وإذا لم يوجد التعارض امتنع النسخ2. ثم إن جواب الحنفية السابق لا يجدي ولو سلم؛ لأن المنطوق أقوى دلالة من المفهوم فيعمل به، ويكون السبب مطلق ملك النعم3، وهكذا نرى أن الحنفية قد اتفقوا مع الشافعية في هذا الحكم، وكان المفروض لو أن الحنفية التزموا قاعدة عدم حمل المطلق على المقيد عندما يكون الإطلاق والتقييد داخلين على السبب أن يكون مذهبهم موافقاً لمذهب المالكية، وهو
وجوب الزكاة في السوائم وغيرها1، وإن كان لهم أن يجيبوا بأن الأصل عدم الزكاة. ثم جعل الرسول الزكاة في السوائم فالتزمنا بهديه صلى الله عليه وسلم2. ومن الفروع التي خالف فيها الحنفية هذه القاعدة تحريم الدم، فقد وردت فيه آيتان الأولى تفيد أن الدم المطلق حرام لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 3، والثانية تفيد أن الدم المحرم هو الدم المسفوح فقط، قال تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} 4، والإطلاق والتقييد دخلاً على السبب وهو الدم، فكان مقتضى قاعدة الحنفية أن يحرم الدم المطلق بالنص المطلق والمسفوح بالنص المقيد، ولكنهم مع الجمهور يقولون: إن المحرم من الدم هو المسفوح فقط، ولعل عذرهم في ذلك أن الدم الذي لا يمكن الاحتراز منه مثل: ما يبقى في العروق والرغوة التي تعلو اللحم عند طبخه معفو عنه بمقتضى قاعدة وضع الحرج والتيسير في الشريعة5.
المطلب الثالث: في حكم الحمل إذا تعدد القيد
المطلب الثالث: في حكم الحمل إذا تعدد القيد كان الكلام فيما سق إذا أطلق اللفظ في موضع وقيد في موضع آخر بقيد واحد وموضوع هذا المبحث عن حكم حمل المطلق على المقيد إذا قيد اللفظ المطلق في أكثر من موضع بقيدين متنافيين، وفي قولنا: بقيدين متنافيين إشارة إلى أن القيود الواردة على المطلق يمكن تقسيمها إلى نوعين. الأول: ما يمكن اجتماعها معاً، كوصف الرقبة بالكتابة بعد وصفها بالإيمان. وحكم الحمل في هذا النوع من القيود حكم الحكم إذا كان القيد واحداً على التفصيل الذي سبق الكلام عليه فيما إذا كان القيد واحداً ومن أمثلة هذا النوع ما لو ورد نص بتقييد الرقبة المطلقة في كفارة الظهار بكونها رقبة كاتبة، فإن هذا القيد لا يتعارض مع كونها مؤمنة، إذ يمكن أن تكون مؤمنة وكاتبة في آن واحد فَتُقَيَّد الرقبة بقيد الكتابة فضلاً عن تقييدها بقيد الإيمان. النوع الثاني: قيود لا يمكن اجتماعها معاً: وذلك عندما يكون بين القيدين أو القيود تعارض وتضاد، وهذا النوع من القيود هو المقصود في هذا المبحث، حيث جرى الخلاف بين الجمهور أنفسهم لا علاقة
للحنفية به1. وذلك لأنها مسألة تفرعت على كيفية الحمل في المسألتين السابقتين، فالذي يرى من الجمهور أن حمل المطلق على المقيد فيهما عن طريق اللغة لا يحمل المطلق على المقيد هنا؛ لأن حمله على أحد القيدين دون الآخر يكون حملاً بدون دليل2، وفي ذلك يقول أبو البركات: "لا خلاف أنه لا يلحق بواحد منهما لغة"3. ومن يرى أن الحمل في المسألتين السابقتين ثابت بطريق القياس، يقول في هذه المسألة يحمل اللفظ المطلق على المقيد الذي له به شبه فإن لم يكن بين المطلق وأحد المقيدين شبه يبقى المطلق على إطلاقه، لانتفاء العلة التي تجمع بينهما، وهناك أمثلة كثيرة لورود قيدين متنافيين على مطلق واحد، منها ما حمل فيه المطلق على أحد المقيدين قياساً، لوجود الشبه بينهما، ومنها ما لم يحمل فيه المطلق على أحد القيدين لعدم قيام جامع بينهما يصح به القياس.. وفي ما يلي أمثلة توضح ذلك. فمثال: ما حمل فيه المطلق على أحد القيدين لكونه شبيهاً به: صوم
كفارة اليمين الذي قال الله تعالى فيه: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} 1. فقد ورد هذا النص مطلقاً وورد مقيداً بالتتابع في صوم كفارة الظهار، قال تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} 2، وورد مقيداً بالتفريق في صوم التمتع في الحج قال الله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 3 فيحمل المطلق في كفارة اليمين على المقيد في كفارة الظهار لكونه أشبه4، لأن كلا منهما تكفير بصيام فيجب التتابع في صوم كفارة اليمين بناء على هذا القياس بخلاف صيام التمتع في الحج، فإنه لا يحمل عليه المطلق في كفارة اليمين حتى يصح الصيام متفرقاً؛ لعدم وجود جامع بين كفارة اليمين وصوم التمتع في الحج، حيث إن الصوم في اليمين كفارة وفي الحج نسك، ومن هنا افترقا.
ولكن أورد الطوفي على كون صيام كفارة اليمين مطلقاً إشكالاً بناء على العمل بقراءة ابن مسعود: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتابِعَات} ، وهذه القراءة إما أن تكون قرآناً، أو خبراً1 عن ابن مسعود فيتقيد المطلق في قراءة الجمهور بموجبها ولا حاجة لقياسه على كفارة الظهار. ويجاب عن ذلك بأن إيرادها في التمثيل بناء على قول من لا يرى التتابع فيها بطريق القراءة غير المتواترة، وإنما هو بطريق القياس، وضرب الأمثلة في الأصول لا يختص بمذهب، والله أعلم. ومثال المطلق الذي بقي على إطلاقه لعدم وجود شبه بينه وبين أحد المقيدين: صوم قضاء رمضان، الذي قال الله في شأنه: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 2، فقد ورد النص فيه مطلقاً كما ترى. وورد الصيام في كفارة الظهار مقيداً بالتتابع كما سبق، {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} وورد الصيام مقيداً بالتفريق في التمتع بالحج إلى العمرة.
والحكم هنا بقاء المطلق على إطلاقه وعدم حمله على أحد القيدين لعدم وجود شبه بينه وبين أحد القيدين، لأن الصوم في النص المطلق صيام قضاء، وفي الظهار صيام كفارة، وفي التمتع صيام نسك، فلعدم الجامع بين المطلق وأحد القيدين يبقى المطلق على إطلاقه، فلا يجب في صوم قضاء رمضان تتابع ولا تفريق1، والله أعلم.
الفصل الثاني: في تحرير محل النزاع في حمل المطلق على المقيد وأسبابه
الفصل الثاني: في تحرير محل النزاع في حمل المطلق على المقيد وأسبابه المبحث الأول: في تحرير الصور المختلف فيها ... المبحث الأول: في تحرير الصور المختلف فيها. ذكرنا فيما سلف صورتين من أحوال المطلق والمقيد وقد اختلف الأصوليون في حكم حمل المطلق على المقيد فيهما، وكانت الصورة الأولى إذا اتحد المطلق والمقيد في الحكم واختلفا في السبب، كما هو الحال في كفارة الظهار مع كفارة القتل الخطأ. والصورة الثانية: إذا اتحد المطلق والمقيد في الحكم والحادثة، وجرى الإطلاق والتقييد في السبب كما هو الحال في زكاة الفطر، وقد سبق الكلام على هاتين الصورتين بالتفصيل. إلا أن السبب الذي من أجله منع الحنفية الحمل فيهما كان يعود في نظرهم إلى انتفاء التعارض بين المطلق والمقيد، لاختلاف السبب في الحالة الأولى، ودخول الإطلاق والتقييد على السبب أيضاً في الحالة الثانية. والأسباب لا تزاحم بينها، لإمكان تعددها. بينما يرى جمهور الأصوليين أن مطلق التنافي موجود في هاتين الصورتين، وإن كان السبب مختلفاً في الحالة الأولى، ودخل الإطلاق والتقييد على السبب في الحالة الثانية، ذلك أن سببية المقيد تدل على وجود الحكم عند وجود القيد وعلى انتفائه عند انتفاء القيد، والمطلق يُجَوّز وجود الحكم بدون القيد، ومن هنا ظهر التنافي بين سببية المطلق وسببية المقيد، ودفعا لهذا التعارض قال الجمهور: يحمل المطلق على المقيد
في الحالتين السابقتين. والحق أن الخلاف في وجود التعارض وعدمه في الحالتين السابقتين مبني على خلاف آخر، وله صلة قوية باختلاف الجمهور مع الحنفية في حجية مفهوم1 المخالفة الذي سيأتي في مبحث الأسباب، وسنرى هناك - إن شاء الله - توضيحاً أكثر لسبب الاختلاف. لكن بقي صورة ثالثة، جرى فيها الخلاف بين الجمهور والحنفية: وهي إذا تأخر المطلق أو المقيد، ولم يستلزم ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولما كان الخلاف في هذه الصورة لا يختص بحال دون حال من أحوال المطلق والمقيد السابقة، أفردتها بمبحث خاص، كما أن سبب الخلاف فيها أيضاً يختلف عن سبب الخلاف في الحالتين السابقتين، إذ هو يعود إلى وقت نزول أو ورود المطلق أو المقيد، وجعلتها تحت عنوان: حكم التقييد بالمتأخر: وقبل أن نتكلم عن حكم التقييد بالمتأخر أو (كيفية دفع التعارض بين المطلق والمقيد) ينبغي أن نعلم أن منشأ الخلاف في هذه الصورة له علاقة وصلة وثيقة بالاختلاف في معنى الحمل. فالجمهور الذين يرون أن معنى حمل المطلق على المقيد هو بيان المطلق بواسطة المقيد، وتفسيره به لا مانع عندهم من جواز التقييد بالمتأخر
الذي لم يستلزم تأخيرُهُ تأخيرَ البيان عن وقت العمل. وأما الحنفية، فلأن معنى الحمل عندهم يختلف تبعاً لنزول أو ورود المطلق والمقيَّد؛ فإن الحكم يختلف حسب اختلاف الظروف والأحوال التي تعرض للمطلق والمقيَّد، إلا أن الحكم في هذه الصورة لا يخلو عن واحد من أربعة أحوال. لأن المطلق والمقيد إما أن يعلم أنهما وردا معاً أي مقترنين في النزول، أو يجهل التاريخ بينهما، أو يعلم تأخر المطلق عن المقيد أو يعلم تأخر المقيد عن المطلق فهذه أربعة أحوال، يختلف حكم حمل المطلق على المقيَّد فيها من حال إلى أخرى عند الحنفية، وذلك يعود إلى اختلاف الحنفية أنفسهم فيما يراد بحمل المطلق على المقيد، أهو بيان المطلق بواسطة المقيد، كما يقول الجمهور1؟ والمحقون من الحنفية2، (في الصور التي قالوا فيها بحمل المطلق على المقيد) أم أن المراد بحمل المطلق على المقيد نسخ المطلق بالمقيد؟ كما يراه فريق من الأحناف3 أم أن حمل المطلق على المقيد يعني ترجيح العمل بالمقيد على العمل بالمطلق؟ كما يراه صاحب
مسلم الثبوت1. والجواب عن هذه التساؤلات يتطلب منا القول بالتفصيل عن كل صورة من الصور الأربع السابقة على حدة ليعلم الفرق بين مذهب الجمهور والحنفية فيها. فالصورة الأولى: أن يردا معاً: إذا علم أن كلا من المطلق والمقيد قد وردا معاً أي مقترنين في النزول، فإن المطلق يحمل على المقيد عند الجمهور والحنفية، إذا توفرت فيه شروط الحمل السابقة، ويكون المقيد بياناً للمطلق عند الجمهور، وكذلك عند المحققين من الحنفية2؛ لأن نزولهما معاً قرينة البيان، ويرى بعض3 الحنفية أن ذلك من باب ترجيح العمل بالمقيد على العمل بالمطلق فيما تعارضا فيه، وقد بينا وجهة نظر هذا الفريق فيما سلف. ومَثَّل الحنفية لهذه الصورة بصوم كفارة اليمين، حيث ورد النص بها مطلقاً في قراءة الجمهور {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} 4 ومقيداً بالتتابع في قراءة ابن
مسعود {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتابِعَات} 1. فحمل الحنفية المطلق في قراءة الجمهور على المقيد في قراءة ابن مسعود وأوجبوا التتابع في صوم كفارة اليمين وعللوا ذلك: أولاً: بأن السبب الواحد لا يوجب المتنافيين في وقت واحد. وثانياً: بأن قراءة ابن مسعود مشهورة يصح بها تقييد مطلق الكتاب، ولكن الشافعية لم يحملوا المطلق على المقيد هنا؛ لأنهم وإن كانوا مع الحنفية في عدم إيجاب السبب الواحد للمتنافيين في وقت واحد، إلا أن قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه - لم تصح مقيدة عندهم؛ لأن القرآن لا يقبل فيه إلا المتواتر. الصورة الثانية: أن يجهل التاريخ بين المطلق والمقيد، بحيث لا يعلم هل وردا معاً أو تأخر أحدهما عن الآخر؟ وعندئذ يرى بعض الحنفية وجوب التوقف حتى يتبين المتأخر منهما؛ فإن لم يمكن معرفة ذلك، ولم
يوجد ما يرجح أحدهما على الآخر، تساقطا، وطلب الدليل من غيرهما، وهذا القول جار على طريقة الحنفية في الجمع بين المتعارضين إذا جهل التاريخ بينهما1. لكن رأى المحققين من الحنفية في هذه الصورة هو حمل المطلق على المقيد عن طريق البيان لا النسخ، حملاً لهما على المعية وتقديماً للبيان على النسخ عند التردد؛ لكون البيان أغلب وقوعاً من النسخ، ولأن النسخ لا يثبت بالاحتمال2، ومما يقوي ذلك قول الحنفية في باب تعارض الأدلة: (أن الدليلين إذا تعارضا ولم يعلم التاريخ يجمع بينهما) 3، فهذا يدل على أن حمل المطلق على المقيد عند الحنفية إذا جهل التاريخ يكون بياناً، قال ابن الهمام: "وهو الأوجه عندي"4، وتبعه في ذلك صاحب مسلم الثبوت5 وفي كشف الأسرار: "إن الحادثة إذا كانت واحدة، وورد فيها نصان مقيد ومطلق في الحكم، وهو من باب الواجب أن المطلق يقيد إذا
لم يعرف التاريخ؛ لأن الشرع متى أوجب الحكم بوصف لا بد من اعتبار الوصف فيكون بياناً للمطلق أن المراد منه المقيد1. ويرى الجمهور ومنهم الشافعية حمل المطلق على المقيد إذا جهل التاريخ بطريق البيان بلا خلاف بينهم2. الصورة الثالثة: أن يتأخر المطلق. وفي هذه الحال يرى الحنفية أن المطلق ناسخ للمقيد، كالعام المتأخر عن الخاص، فإنه ينسخ الخاص عندهم3، ولم يفرقوا بين التأخر عن وقت العمل والتأخير الذي لا يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، بل قالوا: إذا علم تأخر المطلق كان ناسخاً للمقيد، ونسب إلى بعضهم القول بأن المقيد المتقدم بيان للمراد من المطلق المتأخر، ووجهة هذا الفريق أن تقدم المقيد قرينة البيان4، ولكن هذا الرأي (يخالف الأصول المتبعة) عند الحنفية كما يقول شارح مسلم الثبوت: (فلا يقبل) 5، وبناء على ذلك يكون القول الراجح عند الحنفية أن المطلق المتأخر ينسخ المقيد السابق متى
توفرت فيه شروط النسخ. ويرى الجمهور في هذه الصورة وأمثالها أن المطلق المتأخر يراد به المقيد السابق بطريق البيان، وتقدم القيد قرينة على البيان ما لم يتأخر المطلق عن وقت العمل بالمقيد، فإذا تأخر عن وقت العمل بالمقيد السابق فإنه يكون ناسخاً؛ لاعتبار القيد في النص المقيد، وذلك لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة. ونسب المرداوي إلى الجمهور القول بأن المطلق المتأخر يراد به المقيد المتقدم عليه، وإن تأخر عن وقت العمل1، لكن الراجح هو المذهب الأول، وتقدم ما يصلح مثالاً لذلك في الشرط الثامن من شروط حمل المطلق على المقيد. الصورة الرابعة: أن يعلم تأخر المقيد: وفيه هذه الحال يرى الحنفية أن المقيد المتأخر ناسخ للمطلق فيما تعارض فيه كالخاص المتأخر عن العام؛ فإنه ينسخ من العام بقدره عندهم2، ولم يفرقوا بين مجيء المقيد قبل العمل بالمطلق أو بعد وقت العمل به، بل قالوا: إن تأخر المقيد عن الخطاب المطلق نسخ الإطلاق؛
لأن بيان المراد من المطلق لا يجوز تأخيره عن الخطاب بالمطلق عندهم، وذلك لأن الإطلاق مما يريده الشارع قطعاً، وحيث ثبت غيرَ مقرون بما ينفيه وجب اعتباره. والتقييد بعد ذلك يرفع الإطلاق، فيكون ناسخاً له. وتقدم جواب الجمهور عند ذلك في الشرط الثاني من الشروط المختلف فيها. وأما رأي الجمهور في هذه الحال، فالظاهر أنهم يفرقون بين تأخر المقيد عن الخطاب بالمطلق، وبين تأخره عن وقت العمل به، فهم في الحال الأولى يحملون المطلق على المقيد على أنه بيان له، لا نسخ بدون خلاف بينهم. وأما إذا تأخر المقيد عن وقت العمل بالمطلق، فالذي يبدو من إطلاقهم القول بأن المقيد بيان للمطلق سواء تقدم عليه المطلق أو تأخر عنه، أن المقيد بيان للمطلق في جميع الأحوال، وإن تأخر عن وقت العمل1 كما سبقت الإشارة إلى ذلك في تأخر المطلق، لكن صرح ابن السبكي2 وغيره من المحققين3 أن المقيد إذا تأخر عن وقت العمل يكون
ناسخاً للمطلق؛ لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الاحتياج إليه. بقي أن نشير هنا إلى أن ابن السبكي حكى في جمع الجوامع قولاً آخر في مسألة تأخر المقيد، وهو: أن المقيد هو الذي يحمل على المطلق وذلك بأن يلغى القيد؛ لأن ذكر المقيد ذكر لجزئين من المطلق؛ فلا يقيده كما أن ذكر فرد من العام لا يخصصه1، وهذا القول ضعيف كما يرى الأنصاري2 وغيره، إذ يجيب عنه الأنصاري بقوله: "قلنا: الفرق بينهما أن مفهوم القيد حجة - عند الجمهور - بخلاف مفهوم اللقب الذي ذكر فرد من أفراد العام منه". الترجيح: بعد أن عرضنا أقوال العلماء في هذه المسألة يتضح ما يلي: أولاً: يرى المحققون من الحنفية أن حمل المطلق على المقيد لا يتحقق إلا في صورتين:
الأولى: إذا وردا معاً أي مقترنين في النزول أو الورود. الثانية: إذا جهل التاريخ بينهما. كما يرى المحققون منهم أن معنى حمل المطلق على المقيد في هاتين الصورتين بيان لا نسخ، وفيما عدا ذلك يكون المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم، إذا توفرت فيه شروط النسخ1. ثانياً: يرى جمهور الأصوليين أن المطلق يحمل على المقيد في الصور الأربع إذا توفرت فيه شروط الحمل، ويكون ذلك بطريق البيان، إلا إذا استلزم الحمل تأخيرَ البيان عن وقت الحاجة فعندئذ يكون المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم؛ لأن البيان من شرطه عدم التأخر عن وقت العمل. وهذا هو الذي أراه راجحاً في هذه المسألة. فإن قيل: فما الفرق بين القول بالنسخ والبيان؟ قلت: حقيقة الفرق بينهما تظهر في الزيادة على النص المطلق إذا تأخرت عن زمن الخطاب دون وقت العمل. فالجمهور الذين يقولون إن حمل المطلق على المقيد في هذه الحال بيان يجوز عندهم أن يقيد المطلق من الكتاب والسنة المتواترة أو المشهورة بأخبار الآحاد والقياس؛ لأن البيان لا يشترط فيه مساواة المبين للمبين على
القول الراجح. والحنفية الذين يرون أن الزيادة في هذه الحال نسخ للمطلق يشترطون فيها ما يشترط في النسخ، ومن ذلك أن يكون الناسخ في قوة المنسوخ، ومن أجل ذلك لم يجوز الحنفية الزيادة على النص المطلق بأخبار الآحاد والقياس، فكان هذا الخلاف من أهم الأسباب المؤثرة في الاختلاف في الفروع الفقهية، وسيأتي لذلك مزيد من التوضيح في السبب الثاني من أسباب الاختلاف في حمل المطلق على المقيد الآتي، وعند الكلام على أثر الخلاف في فروع المذاهب.
المبحث الثاني: أسباب اختلاف العلماء في حمل المطلق على المقيد
المبحث الثاني: أسباب اختلاف العلماء في حمل المطلق على المقيد المطلب الأول: اختلاف العلماء في دلالة مفهوم المخالفة ... أسباب اختلاف العلماء في حمل المطلق على المقيد من يستقصي أقوال العلماء ومناقشاتهم في باب حمل المطلق على المقيد يتبين له أن الأسباب التي أدت إلى اختلاف العلماء في حكم حمل المطلق على المقيَّد في بعض الصور كثيرة. فهي من ناحية تعود إلى اختلاف الجمهور مع الحنفية في معنى حمل المطلق على المقيد، ومن ناحية أخرى ترجع إلى الاختلاف في دلالة المطلق، ومدى تعارضها مع دلالة المقيد، بالإضافة إلى الخلاف في كيفية دفع التعارض بين الأدلة، وشروط تحقق ذلك التعارض. وحيث سبقت الإشارة إلى هذه الأسباب إجمالاً، نكتفي بالكلام هنا على سببين أفردهما الأصوليون بالبحث باعتبار أنهما من أهم الأسباب التي أدت إلى الخلاف في هذا الباب، وسيكون كلامنا عنهما في مطلبين: الأول: في اختلاف العلماء في حجية المفهوم المخالف. الثاني: في اختلاف العلماء في الزيادة على النص.
المطلب الأول: اختلاف العلماء في دلالة مفهوم المخالفة حتى يكون مفهوم المخالفة واضحاً أمامنا، لا بد من الإشارة إلى كيفية دلالة اللفظ على المعنى، ذلك أن الألفاظ قوالب للمعاني المستفادة منها، وهي في دلالتها على تلك المعاني تختلف؛ فتارة تدل على المعنى من جهة النطق تصريحاً، وتارة أخرى تدل عليه من جهة النطق تلويحاً1. فاصطلح على تسمية دلالة اللفظ على المعنى من جهة النطق تصريحاً بالمنطوق، وعلى تسمية دلالته على المعنى من جهة النطق تلويحاً بالمفهوم: وهذه الطريقة أعني (تقسيم الدلالة إلى منطوق ومفهوم) ، قال بها ابن الحاجب وغيره من محققي الشافعية، وعرفوا المنطوق: بأنه ما دل عليه اللفظ في محل النطق، أي: أنه المعنى المستفاد من اللفظ من حيث النطق به2.
ومثاله: وجوب الزكاة في الغنم السائمة، الذي دل عليه حديث "في سائمة الغنم الزكاة"1، فإن دلالة هذا الحديث على وجوب الزكاة في الغنم السائمة قد استفيدت من منطوق الحديث أي: لفظه. وأما المفهوم: فهو اسم مفعول مأخوذ من الفهم، وهو في الأصل اسم لكل ما فهم سواء أكان من النطق أم غيره. وفي الاصطلاح: ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق2، ومعنى ذلك أن المفهوم دلالة اللفظ على حكم شيء لم يذكره المتكلم في كلامه ولم ينطق به3، والتعبير بـ (لا في محل النطق) يشار به إلى أن الدلالة في المفهوم انتقالية؛ لأن الذهن ينتقل من تحريم التأفيف مثلاً: إلى تحريم الضرب بطريق التنبيه بالأول على الثاني، وسمي مفهوماً نظراً لكونه مجرداً عن اللفظ، وإلا فما دل عليه المنطوق يسمى مفهوماً أيضاًَ؛ لأن المعنى لا
ينطبق به، وإنما ينطبق بالدال عليه، ولكن لما كان المعنى في المنطوق مستنداً إلى لفظ مذكور في الكلام سمي منطوقاً، وغيره مفهوماً، وإن كانت استفادته قد جاءت بواسطة اللفظ، ثم إن الحكم الذي يستفاد من طريق المفهوم قد يكون موافقاً للحكم المنطوق به وقد يكون مخالفاً له. فالأول مفهوم موافقة. والثاني مفهوم مخالفة. فمفهوم الموافقة: حيث يكون الحكم المسكوت عنه موافقاً للمنطوق، ويسمى فحوى الخطاب ولحنه، سواء كان الحكم المسكوت عنه أولى من حكم المنطوق به أو مساوياً له. فالأول: وهو ما كان حكم المسكوت عنه أولى من المنطوق به مثل: دلالة تحريم التأفيف في قوله - تعالى -: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} 1 على تحريم الضرب؛ إذ إنه أشد من التأفيف فكان النهي عنه أولى. والثاني وهو ما كان مساوياً للحكم المنطوق به مثاله: دلالة تحريم أكل مال اليتيم المستفاد من قوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} 2 على تحريم إحراق مال
اليتيم بطريق المفهوم؛ لأن الإحراق مساوٍ للأكل في إتلاف المال، ومن الأصوليين من يفرق بين فحوى الخطاب ولحن الخطاب، فيجعل الفحوى لما كان المسكوت عنه أولى من المنطوق، ولحن الخطاب لما كان المسكوت فيه مساوياً للمنطوق؛ ولكن عامة الأصوليين على عدم التفرقة. ولا خلاف بين العلماء في أن كلاً من المنطوق ومفهوم الموافقة حجة صالحة لإثبات الأحكام الشرعية؛ وإنما يظهر التفاوت بين المنطوق ومفهوم الموافقة عند التعارض، حيث يقدم ما يدل بالمنطوق الصريح1، على ما يدل بالمنطوق غير الصريح2، ويقدم مفهوم الموافقة على مفهوم
المخالفة عند القائلين بحجية مفهوم المخالفة، كما سيأتي بيان ذلك، ولكن وقع الخلاف بين الجمهور والحنفية في المفهوم المخالف هل هو حجة لإثبات الحكم أو لا؟ ولعلاقة هذه المسألة بالخلاف في حمل المطلق على المقيد سوف أتناولها بالبحث في النقاط التالية، وسيتبين لنا من اختلافهم في حجية مفهوم المخالفة، اختلافهم بالتالي في حمل المطلق على المقيد أو عدم حمله عليه في الصور المتنازع فيها؛ فالذي يرى أن مفهوم القيد حجة جعله سبباً للحمل، ومن لا يرى حجية المفهوم نفي السببية التي أوجبت الحمل عند غيره.
نقاط البحث في مفهوم المخالفة: 1 - تعريفه. 2 - مذاهب العلماء في حكم الاحتجاج به. 3 - شرط حجيته عند القائل بها. 4 - الفرق بين القيد والعلة. 5 - أثر الخلاف.
أولاً: تعريف مفهوم المخالفة من تعريف مفهوم الموافقة السابق تتضح حقيقة مفهوم المخالفة، وأنه ما كان الحكم المسكوت عنه مخالفاً للحكم المنطوق به، ويسمى أيضاً دليل الخطاب؛ لأن الدلالة على الحكم المخالف تحصل باعتبارات موجودة في الخطاب نفسه، كالوصف والشرط والغاية وغيرها من القيود التي لها مفهوم مخالف، وبناء على ذلك يمكن تعريفه في اصطلاح القائلين بحجيته. بأنه: دلالة اللفظ على ثبوت نقيض الحكم المنطوق به لانتفاء قيد معتبر في تشريعه1. ومثال ذلك: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "في الغنم السائمة زكاة"2؛ فهذا الحديث عند من يقول بالمفهوم المخالف يدل على حكمين: الأول: وجوب الزكاة في الغنم السائمة، وهذا الحكم منطوق به في الحديث صراحة. الثاني: عدم إيجاب الزكاة في الغنم غير السائمة، وهذا الحكم على نقيض من الحكم الأول، كما ترى بدل عليه التقييد بوصف السوم، فمن
حيث إن استفادة هذا الحكم لم تستند إلى لفظ منطوق به في الكلام سمي مفهوماً؛ ومن حيث إنه كان مخالفاً للحكم المنطوق به سمي مخالفاً فقيل: مفهوم المخالفة أو المفهوم المخالف. ولكن من لا يرى حجية مفهوم المخالفة يقول: إن عدم إيجاب الزكاة في الغنم المعلوفة لم يتعين منشؤه؛ فلا يدرى أهو دلالة التقييد بوصف السوم أم للعدم الأصلي؟ الذي هو براءة الذمة من التكاليف حتى يدل دليل على انشغالها؟ ذلك أننا قد وجدنا بالاستقراء لجزئيات كثيرة وردت بها نصوص شرعية مقيد حكم كل منها بقيد، وثبت انتفاء حكم الواقعة المنصوص عليه عند انتفاء القيد، وكان ذلك الانتفاء موافقاً للعدم الأصلي1، ومن
هنا وقع الشك في انتفاء الحكم عن الحادثة التي انتفى القيد عنها، ومع الاحتمال والتردد لا تنهض الحجية؛ إذ يجب الاحتياط في تقرير المناهج الأصولية لاستنباط الأحكام الشرعية، حتى لا ينسب إلى الشرع ما ليس منه1. ويرد على ذلك بأن الجمهور القائلين بحجية المفهوم المخالف لا ينفون الاحتمال في منشأ الحكم، ولهذا يقولون: إن دلالة مفهوم المخالفة ليست قطعية، لكنهم يرجحون احتمال كون منشأ انتفاء الحكم وثبوت نقيضه مستنداً إلى دلالة القيد لا للعدم الأصلي، وذلك للأدلة المرجحة لهذا القول، والظن الراجح كاف في وجوب العمل به في الأحكام العملية وأدلتها.
ثانياً: مذاهب العلماء في حجية مفهوم المخالفة وأدلتهم: يقصد بحجية مفهوم المخالفة أن يكون طريقاً صالحاً لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، مثل: استفادة عدم وجوب الزكاة في الغنم المعلوفة من حديث: "في سائمة الغنم زكاة"، لعدم تحقق صفة السوم فيها. ويقصد بعدم حجيته أنه لا يكون منهجاً أصولياً تستنبط الأحكام الشرعية عن طريقه، ذلك أن المحل المخالف للمنطوق، وقع الشك في نفي الحكم عنه، أهو لانتفاء القيد الموجود في المنطوق، فيكون من قبيل دلالة النص؟ أم أن ذلك يرجع إلى عدم الحكم الشرعي أم هو يعود إلى أدلة أخرى، فلا يكون مأخوذاً من النص المقترن بالقيد؟ إذا علم ذلك فنقول: اتفق الأصوليون على أن مفهوم المخالفة حجة يجب العمل بمقتضاها في المؤلفات العلمية، وعقود الناس وتصرفاتهم القولية وسائر معاملاتهم، لأن عرف الناس واصطلاحهم في التعبير عن مقاصدهم يدل على ذلك، وإلا كان الإتيان بالقيد في عرفهم عبثاً1. ولهذا شاع بين الحنفية مع نفيهم لحجية المفهوم في كلام الشارع:
قولهم: (مفاهيم الكتب حجة) 1، وبناء على ذلك فقول الواقف جعلت ربع مالي لأقاربي الفقراء، يفيد بمنطوقه استحقاق أقربائه الفقراء لربع ماله، ويفيد بمفهومه المخالف عدم استحقاق أقاربه غير الفقراء لربع ماله، ونصه حجة على الحكمين إلا إذا دلت قرينة على أن القيد ليس للتخصيص2، فعندئذ يؤخذ بما توجبه القرينة3. ثم وقع الخلاف بين الجمهور والحنفية في الاحتجاج بمفهوم المخالفة في نصوص الشرع: أ - فذهب الحنفية ومن وافقهم إلى أن مفهوم المخالفة ليس بحجة في نصوص الشرع4. ب - وذهب جمهور الأصوليين من المالكية والشافعية والحنابلة فيما
عدا مفهوم اللقب1 إلى أن المفهوم المخالف حجة شرعية صالحة لأخذ الأحكام بواسطتها.
ثالثا: شرط حجيته عند القائل بها. وقبل أن نذكر أدلة المذاهب نشير هنا إلى أن الجمهور قد احتاطوا للأخذ بمفهوم المخالفة فاشترطوا للقول به شروطاً لا بد من توفرها حتى يكون حجة شرعية، وتلك الشروط إذا روعيت فيها تقريب لوجهات النظر المختلفة بعضها من بعض، كما أنها تخفف من حدة الاختلاف بين مسالك العلماء، وفيها أيضاً جواب عن كثير من الاعتراضات التي يمكن أن تورد على القائلين بالحجية، وهي شروط كثيرة، ولكن بالاستقراء يمكن تلخيصها في شرطين: الأول: أن لا يعارض المفهوم المخالف ما هو أقوى منه1، ومفاد هذا الشرط أن يقدم العمل بالمنطوق ومفهوم الموافقة عند تعارضهما مع المفهوم المخالف. أما تقديم المنطوق فهو ظاهر لقوته واتفاق العلماء على الاحتجاج به، وأما تقديم مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة عند التعارض؛ فلأمرين: أولهما: ما سبق في تعريف المفهوم الموافق أن من شرط الحكم
الثابت به أن يكون أولى من المنطوق أو مساوياً له، وهذا يقتضي تقديم العمل بمفهوم الموافقة عند تعارضه مع مفهوم المخالفة لمساواة مفهوم الموافقة للمنطوق على أقل تقدير. ثانياً: أن الحكم الثابت بالمفهوم الموافق، ثابت بطريق النص نفسه لوضوح علته، والوقوف عليها وتعلقها بمجرد سماع المنطوق بخلاف مفهوم المخالفة فهو وإن كان ثابتاً بطريق اللفظ عند القائل به، لكنه يحتاج إلى تأمل وروية، فعلى هذا يقدم عند التعارض مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة لقوته ووضوحه. وخاصة إذا علمنا أن بعض الباحثين يرى أن تقسم الدلالات إلى قسمين: 1 - منطوق ويتضمن أغلب أنواع الدلالات1 بما فيها مفهوم الموافقة، لأن العلة فيه تفهم بمجرد ذكر النص. 2 - ومفهوم: ويراد به هنا: ما يقابل المنطوق وهو منحصر في مفهوم المخالفة عند صاحب هذا الاتجاه: وعليه فاعتبار مفهوم الموافقة
خارجاً عن المنطوق فيه نظر. الشرط الثاني: أن لا يكون للقيد الذي خص بالذكر1 فائدة أخرى غير تخصيص الحكم بالذكر. وهذا شرط جامع كما ترى، إلا أنه لما كان يعسر الوقوف على نفي الفوائد الأخرى نظراً لاشتمال الأحكام الشرعية على أسرار وحِكَم لا يحيط بها إلا مُشَرِّعُهَا العليم الحكيم2. أقول: من أجل ذلك اعترض المخالفون في حجية المفهوم على هذا الدليل، وقالوا: إن هذا الشرط يدفع القول بحجية المفهوم، لعدم إمكان الاطلاع على نفي الفائدة. وكان رد الجمهور على ذلك ما سبقت الإشارة إليه من أن الظن الراجح كاف للقول بوجوب العمل بالمفهوم المخالف، ومعنى ذلك أن المجتهد إذا بحث في النصوص المشتملة على قيد من القيود ثم غلب على ظنه أن ما ورد فيها من قيد هو لبيان نفي الحكم عند انتفاء القيد عن الواقعة، لزمه العمل بمقتضى ما ترجح له، وهذا هو مراد القائلين بالحجية، أي: أنه دليل راجح يجب العمل به على هذا الأساس.
أدلة الفريقين: أ - أدلة الحنفية ومن وافقهم 1: استدل الحنفية ومن وافقهم على منع الاحتجاج بمفهوم المخالفة في نصوص الشرع، بعدة أدلة، أظهرها ما يلي: 1 - قالوا: إن دلالة التقييد على نفي الحكم عن غير المتصف بالقيد ينبغي أن تثبت بما تثبت به الأوضاع اللغوية لمساس علاقة هذه الدلالة باللغة، وطريق إثبات الأوضاع اللغوية إما أن يكون بدليل عقلي، أو بدليل نقلي، ولا سبيل إلى إثباتها بطريق العقل؛ لأنه لا مجال له في اللغات، ولا دخل له في وضع الألفاظ. والنقلي إما متواتر أو آحاد، ولا سبيل للقول بالأول، وهو المتواتر، لأن المتواتر لو كان موجوداً، لما وقع الاختلاف بين العلماء في حجية مفهوم المخالفة، نظراً إلى أن المتواتر لا يدع مجالاً للاختلاف، وحيث إن الاختلاف واقع في هذه المسألة؛ فإنه يدل على عدم توفر الدليل النقلي المتواتر فيها. بقي الدليل النقلي الأحادي وهو لا يفيد في هذه المسألة؛ لأنه يفيد
الظن، ولا اعتبار بالظن في إثبات الأصول اللغوية، وحيث إن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم يجري عليهما ما يجري على اللغة؛ فلا اعتبار فيهما لمفهوم المخالفة، لأنه لم يثبت بالنقل المتواتر1. وقد أجيب عن هذا الدليل بما يلي: أولاً: إن عدم إفادة أخبار الآحاد لمثل هذه المسألة غير مسلم، لأن عدم قبول الآحاد فيها، واشتراط ثبوتها بالطريق المتواتر يؤدي إلى امتناع العمل بأكثر أدلة الشرع، لعدم توفر التواتر في مفرداتها. وثانياً: إن معظم قواعد اللغة وأساليبها ما وصل إلينا إلا بطريق النقل الأحادي كالنقل عن الخليل، وسيبويه، والأصمعي2، فلو اشترطنا
لقبول ذلك التواتر لضاع كثير من قواعد اللغة. وثالثاً: وجدنا العلماء في شتى البلاد ومختلف العصور مكتفين بالنقل الآحادي في فهم معنى الألفاظ وأساليب اللغة، وهذا دليل منهم على أن التواتر ليس شرطاً لمعرفة القواعد اللغوية. 2 - واستدلوا أيضاً: فقالوا: إن التعليق بالوصف لو كان دالاً على نفي الحكم عند عدمه للزم أن لا يثبت عند انتفاء القيد؛ لأن ثبوته عندئذ يكون مخالفاً للدليل. ولكن الحكم المعلق على الوصف قد يثبت عند عدمه، ويدل على ذلك قوله - تعالى -: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم خَشْيَةَ إمْلاَقٍ} 1؛ فإن النهي عن قتل الأولاد قيد بحال خشية الإملاق، مع أن الحكم وهو تحريم القتل ثابت
في حال عدم خشية الإملاق، وهو الفقر، أو كان القتل مع خشية الإملاق. وأجيب عن هذا الدليل بما تقدم في شروط حجية مفهوم المخالفة، وهو أن لا يكون الحكم المسكوت عنه أولى من المنطوق به، وفي هذه الحال حكم تحريم قتل الأولاد في حال عدم خشية الإملاق أولى بالتحريم من حال خشية الإملاق، فلا يدل التقييد على نفي الحكم في هذه الصورة، لتخلف شرط حجيته، وهو أن لا يعارضه ما هو أقوى منه، وفي هذه الحال قد عارضه مفهوم الموافقة، فيقدم العمل به لقوته ووضوحه، على العمل بالمفهوم المخالف. 3 - ومن أدلتهم أيضاً: قياس ما عدا اللقب من المفاهيم على اللقب بجامع أن كلاً منهما يميز ما تعلق به، ويحد من دائرة شموله، وحيث كان مفهوم اللقب ليس بحجة باتفاق أكثر العلماء، فكذلك غيره من المفاهيم لا يكون حجة لاشتراكهما في العلة، وهي التمييز في كل. وأجيب عن ذلك بأن قياس غير اللقب من المفاهيم على اللقب قياس مع الفارق، ووجه الفرق أن غير اللقب من المفاهيم فيه الإشعار بالعلية، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، بخلاف اللقب، فإنه لا دلالة له على علة الحكم، فعدمت المساواة بينهما، ثم إن ذلك منقوض بالغاية، فإن المقصود منها التمييز.
مع أنها تدل على أن ما بعدها مخالف لم قبلها في الحكم، فلو كان كل ما هو موضوع للتمييز لا يدل على نفي الحكم عند انتفائه لما دلت الغاية على ذلك1، وكل هذا مع التسليم بصحة القياس في اللغة، مع أن الراجح عدم جريان القياس فيها. 4 - ويمكن لنفاة الاحتجاج بمفهوم المخالفة أن يؤيدوا وجهة نظرهم بمبدأ تعليل الأحكام؛ لأن أغلبها معلل في نظر الجمهور من العلماء2، وحيث كان الأمر كذلك، فإنها تتعدى إلى غير موضع النص لاتحاد المناط، وعلى ذلك لا يكون المحل المسكوت عنه خالياً من الحكم حتى نعطيه نقيض الحكم المنطوق به في النص المقيد، وهذا المبدأ لا يدع مجالاً للأخذ بمفهوم المخالفة؛ لأن احتمال وجود العلة في غير المنصوص قائم، فيكون من غير المعقول أن نثبت فيه نقيض الحكم بمفهوم المخالفة3. ويجاب عن هذا الدليل بأنه خارج عن محل النزاع، لما سبق في شروط الاحتجاج بالمفهوم التي منها عدم وجود دليل على الحكم المسكوت عنه، وحيث إن القياس دليل من الأدلة التي تثبت بها الأحكام،
لا يكون المحل خالياً عن الدليل، فلا يصح الاحتجاج عليه بالمفهوم المخالف علماً أن تعارض القياس والمفهوم فيه خلاف بين العلماء، فبعضهم يقدم مفهوم المخالفة لاستناده إلى النص، ولا قياس مع النص. وبعضهم يقدم القياس، لاتفاق أكثر العلماء على حجية القياس، بخلاف المفهوم المخالف فقد خالف في الاحتجاج به كثير من العلماء، والذي يترجح عندي أن يفرق بين القياس المنصوص العلة، وما كانت علته مستنبطة فالأول يعارض مفهوم المخالفة ويقدم عليها؛ لأنه في الحقيقة مفهوم الموافقة الذي سبق الكلام عليه. وأما ما كانت العلة فيه مستنبطة فهو محتمل، وللمجتهد دوره في الترجيح عند التعارض بين هذا النوع من القياس وبين مفهوم المخالفة. ب - أدلة الجمهور على أن مفهوم المخالفة حجة: استدل جمهور الأصوليين على أن مفهوم المخالفة حجة شرعية يصلح لاستنباط الأحكام الشرعية بواسطته بأدلة منها: أولاً: عرف أهل اللغة: فقد روي عن الإمام الشافعي وأبي عبيد القاسم بن سلام1 أنهما
حينما سمعا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته" 1، قالا: هذا يدل على أن مطل غير الغني ليس بظلم2. فدل ذلك على أن انتفاء الحكم عن الواقعة التي ورد بها النص عند انتفاء القيد، وثبوت نقيضه هو المتبادر من فهم أئمة اللغة. والتبادر بدون قرينة أمارة الحقيقة، وعرف أهل اللغة حجة وإلا لم يكونوا أئمة فيها. ثم إن الظاهر أن عرفهم يستند إلى أصل لغوي، إذ لا مجال للاجتهاد بالرأي في إثبات الأوضاع اللغوية3، وقد نقل هذا الفهم عنهم نقلاً
مستفيضاً عبر القرون، فدل ذلك على أن ما يفيده أسلوب مفهوم المخالفة مدلول لغوي للنص نفسه1، فكان حجة؛ إذ كل ما كان من مدلول النص يجب الأخذ به ولا يجوز تركه. وعورض هذا الفهم بفهم الأخفش وغيره2 من أئمة اللغة الذين لا
يقرون مفهوم المخالفة. وقد دفعت هذه المعارضة بأن منزلة الأخفش في اللغة دون الإمام الشافعي وأبي عبيد، كيف وقد قال بذلك الإمام الشافعي وهو من أئمة اللغة الذين يحتج بقولهم فيها؛ فالأصمعي قد احتج بقوله وصحح عليه دواوين الهذليين، ثم هناك قاعدة في المعارضة والترجيح تقضي بأنه إذا تعارض المثبت والنافي كان المثبت أولى بالقبول؛ لأن المثبت معه زيادة علم لم يطلع عليها النافي، ذلك أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود إلا ظناً1، لكن الوجدان يدل على الوجود قطعاً، ولا شك أن القطعي أولى بالقبول من الظني. واستدلوا أيضاً: بأن الرسول صلى الله عليه وسلم نقل عنه هذا الفهم، كما نقل عن الصحابة - رضي الله عنهم - مثل ذلك، بدليل أن يعلى2 بن أمية لما سمع قول الله - تعالى -:
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} 1، قال لعمر - رضي الله عنه -: ما بالنا نقصر وقد أَمِنّا2، فقد فهم من تعليق جواز قصر الصلاة على الخوف عدم جوازه حالة الأمن، فأقره عمر على هذا الفهم، بدليل قول عمر جواباً ليعلى: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" 3. فعمر - رضي الله عنه - قد فهم من هذه الآية كما فهم يعلى، وسأل رسول الله عن ذلك، فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على فهمه، ولكنه بين له أن القصر في حال الأمن تشريع مبتدأ تخفيفاً من الله على عباده، ولو كان ما فهمه عمر من هذا الأسلوب لا تدل علية الآية الكريمة، لما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على فهمه، ولبين له أن ما فهمه من الآية كان خطأ؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
3 - واستدل الجمهور أيضاً: فقالوا: إن القيود التي ترد في النصوص الشرعية لا بد أن تكون لحكمة، لأن الشارع لا يقيد بوصف أو شرط أو غاية عبثاً، وأظهر ما يتبادر إلى الفهم أن تكون هذه الحكمة تخصيص الحكم بما يوجد فيه القيد1، والتخصيص يقتضي نفي الحكم عما لم يوجد فيه القيد، فإذا عري القيد بعد البحث والتمحيص عن أغلب الاحتمالات والفوائد التي تتوخى منه عادة إلا عن تخصيص الحكم بالمذكور وجب حمله على ذلك؛ لئلا يكون القيد خالياً عن الفائدة، وهو ما ينبغي أن يصان عنه كلام العقلاء، فضلاً عن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد سبق اعتراض الحنفية على هذا الاستدلال، وجواب الجمهور عن ذلك. 4 - ومن أدلة الجمهور أيضاً: أن ربط الحكم بالوصف يومئ إلى علية ذلك الوصف، ومعلوم أنه إذا انتفت العلة انتفى المعلول؛ فكان انتفاء الوصف دليلاً على انتفاء الحكم، وهذا الدليل يرجع إلى اعتبار لغوي في النص وهو القيد، كما أنه يعود إلى اعتبار عقلي أيضاً، وهو ارتباط المسبب بالسبب عقلاً؛ فإن العقل يحكم بأنه حيثما توجد العلة يوجد الحكم، وبهذا يكون الاعتبار اللغوي
والشرعي قد تأيدا بالاعتبار العقلي في حجية المفهوم، وقد اعترض على هذا الدليل بعدة اعتراضات منها: أولاً: أن انتفاء الحكم عند انتفاء العلة غير مسلّم به، لجواز علة أخرى يثبت بها الحكم، ذلك أن الحكم الواحد قد يكون له عدة أسباب يثبت بكل واحد منها على سبيل البدل1. ويدفع هذا الاعتراض بأن الدليل مفروض فيما لم يوجد فيه إلا علة واحدة، واعترض عليه ثانياً بأن قياس الوصف (القيد) على علة الحكم قياس مع الفارق ووجه الفرق ما سوف نذكره في الفقرة التالية. اللهم إلا أن يراد أن الوصف (القيد) يشبه العلة من حيث دوران الحكم معها وجوداً وعدماً، فهذا مسلم به، ولكن ذلك لا يقتضي أن يكون الوصف علة للحكم؛ لأن دوران الحكم مع القيد حينئذ قد يكون بسبب أن ذلك القيد شرط مقارن لعلة الحكم2.
رابعاً: الفرق بين القيد والعلة: ذكرنا قبل قليل أن القيد يشبه العلة عند القائلين بحجية مفهوم المخالفة من حيث دوران الحكم معه وجوداً وعدماً، فهل هما شيء واحد أم بينهما فرق؟ وللجواب على هذا التساؤل: نذكر تعريف كل منهما وبه يتضح الفرق عند من يرى ذلك. فالعلة قد عرفت بتعاريف متعددة أقل هذه التعاريف اعتراضاً القول بأنها: الوصف المعرف للحكم1، ومعنى تعريف الوصف للحكم أنه علامة على وجوده، كالإسكار فإنه علامة على حرمة المسكر بقطع النظر عن ذات المسكر، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام"، وفي لفظ آخر: " كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام" 2.
وأما القيد: فليس هو الوصف المعرف للحكم، ولكنه حالة من أحواله أو ظرف من ظروفه، أو شرط مقارن لعلته، يحدد مجال تطبيق الحكم فيجعله قاصراً على بعض الأحوال دون سواها، وهذا يتضح بالمثال. فزكاة الأموال العلة فيها هي المال النامي حقيقة أو تقديراً وقد حددت زكاة الزروع بمقدار: (عشر المحصول) 1 إذا سقيت بماء السماء، أو الأنهار والعيون، ونحوها مما لا كلفة فيه. وأما في حال السقي بالآلات أو بما فيه تكاليف (فنصف العشر) 2،
فكل من الحالين إذن ليس هو العلة، بل العلة هي المال النامي نفسه وهاتان الحالتان هما قيدان، أو شرطان مقارنان لعلة الحكم لتحديد المقدار الواجب لاعتبارات تتعلق بالعدل في توزيع التكاليف، وهكذا حق مطالبة الدائن مدينه سببه ومناطه هو الدين؛ إذ هو الذي خَوّل الدائن حق المطالبة1، ولكن هذا الحق حددت ممارسته بحال اليسر حتى إذا انتفت ثبت عكسه، وهو عدم جواز المطالبة في حال الإعسار، مع أن العلة قائمة في الحالتين، وهي (الدين) ولكن (الإعسار) حال دون اقتضاء العلة لحكمها لاعتبارات تتعلق بالمصلحة والعدل، وتوثيق عرى التعاون بين أفراد المجتمع، وبهذا يظهر أن القيد إذا كان له مفهوم يكون ذا أثر في أمرين: الأول: تحديد مدى تطبيق الحكم.
الثاني: تحديد مقدار الحكم إذا كان من المقدرات. فإذا لم يكن للقيد مفهوم مخالف، وذلك بأن كان مجيئه لغرض آخر، فلا يكون للقيد حينئذ أثر في الحكم لا ثبوتاً ولا نفياً، فيطبق الحكم على إطلاقه؛ لأن القيد لا مفهوم له في بيان الحكم. وقد التفت إلى أصل التفرقة بين القيد والعلة بعض1 أصحاب الأصول إلا أنه يرى أن القيد جزء متمم للعلة، ومعنى ذلك أنه إذا انتفى الوصف أي: القيد انتفت العلة؛ فلا تعمل عملها لانتفاء الجزء المتمم لها، وإليك نص كلامه: (والفرق بين العلة والوصف) أن الوصف قد يكون علة كالإسكار، وقد لا يكون علة بل متمماً لها (كالسوم) ، فإن وجوب الزكاة في الغنم السائمة العلة فيه هي الغنم والسوم متمم لها. وهذا التوجيه اعترض عليه بأن أصل التفرقة مسلم به، ولكن كون الوصف متمماً للعلة في حيز المنع، بل الوصف هنا بمثابة الشرط المقارن للعلة، فالعلة تامة، ولكنها لم تعمل عملها لفقدان شرطها المقارن لها2.
وبعد هذا نصل إلى الفقرة الأخيرة من هذا المبحث، وهي ثمرة الخلاف في حجية مفهوم المخالفة.
خامساً: أثر الخلاف في حجية مفهوم المخالفة: لما كان مفهوم المخالفة حجة شرعية لدى جمهور الأصوليين، دل عليها النص لغة وشرعاً، فيعتبر ما يستنبط عن طريقه حكماً شرعياً ثابتاً بالنص نفسه كالحكم الثابت بالمنطوق، وبالتالي تجري عليه الأحكام التي تجري على الحكم المستفاد من المنطوق، فيجري التعارض بينه وبين الحكم المنطوق على اعتبار أنهما ثابتان بالنص كما يجوز نسخه والقياس عليه. وأما على رأي الأحناف ومن وافقهم، الذين يرون أن انتفاء الحكم عند انتفاء القيد الثابت بالعدم الأصلي في بعض الحالات، فلا يكون الحكم الثابت للمحل المسكوت عنه في كل الحالات حكماً شرعياً، بل مجرد حكم عقلي، وحينئذ فلا يستفاد من النص الذي ورد معه القيد إلا حكم واحد هو المنطوق به، والشارع ساكت عن غيره لم يتعرض له بنفي أو إثبات فيبقى على العدم الأصلي عارياً عن الحكم الشرعي حتى يرد دليل من الشارع ينتهض بحكمه، ولا مجال للقول بمفهوم المخالفة في إثبات الحكم فيه، لأن مفهوم المخالفة ليس بحجة شرعية عند الأحناف، وهذا يتضح بالأمثلة الآتية: 1 - فمثال تعارض المفهوم مع المنطوق، قوله تعالى في شأن ميراث بنات المتوفى: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} 1، مع قول الرسول
صلى الله عليه وسلم لأخي سعد بن الربيع1 "أعط ابنتي سعد الثلثين وزوجته الثمن، وما بقي فهو لك"2، فعلى مذهب الجمهور يوجد تعارض بين مفهوم المخالفة في قوله تعالى: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} ، حيث يدل على أن الواحدة أو الاثنتين لا يرثان الثلثين، وبين منطوق الحديث الذي يفيد أن الاثنتين يرثان الثلثين بقوله: "أعط ابنتي سعد الثلثين"، وقد نسب إلى ابن عباس - رضي الله عنه - أنه فهم ما تقتضيه هذه القاعدة فلم يورث البنتين
الثلثين، ولكن الجمهور قالوا: إن البنتين يرثان الثلثين، بمنطوق الحديث، وبأدلة أخرى1، ومفهوم المخالفة لا يقوى على معارضة منطوق الحديث لما سبق أن من شرط حجيته أن لا يعارضه منطوق، وهنا قد عارضه المنطوق فلا يصح التمسك به في مقابلته. وأما على رأي الأحناف فلا توجد معارضة أصلاً، لأن الحديث بين حكم واقعة مسكوت عنها في آية المواريث. 2 - ومثال نسخ المفهوم عند القائلين به: ما نقل من اتفاق الصحابة - رضي الله عنهم - أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" 2، ناسخ لقوله صلى الله عليه وسلم "الماء من الماء" 3، ولولا أن قوله:
"الماء من الماء" يدل على نفي الغسل من غير إنزال لما كان ناسخاً له، وقد نوقش هذا المثال من قبل المخالفين، حيث قالوا: إن اتفاق الصحابة على النسخ ليس مرده إلى المفهوم، بل لمدلول العموم والحصر، لأن (أل) في الماء، للجنس وفيها معنى حصر المبتدأ في الخبر، وهذا خارج عن محل النزاع. 3 - ومثال القياس على الحكم المأخوذ بطريق المفهوم: ما تقدم في كفارة القتل من أن الآية الكريمة قد اشترطت بمنطوقها الإيمان في كفارة القتل، ودلت بمفهومها المخالف على أن غير المؤمنة لا تجزئ، فقاس الجمهور على كفارة القتل الخطأ كفارة الظهار فاشترطوا فيها أن تكون مؤمنة بناء على صحة هذا القياس، وكان رد الحنفية عليهم بأن أصل القياس ليس حكماً شرعياً، بل عدماً أصلياً؛ فلا يصح هذا القياس، لأن العدم ليس بحكم شرعي، ودفع هذا الاعتراض من قبل الجمهور بأن المعدي وجوب القيد، وهو حكم شرعي ثابت بمنطوق النص، وبهذا المثال تبين أن الخلاف في حمل المطلق على المقيد له صلة قوية بالخلاف في حجية مفهوم المخالفة كما سبق أن أشرنا إلى ذلك1.
الترجيح: يبدو أن الرأي الراجح هو القول بحجية مفهوم المخالفة، وذلك لموافقته للمنقول والمعقول. أما المنقول: فلأن هناك نصوصاً من الكتاب والسنة يؤخذ منها بوضوح أن تقييد النص يدل على أن الثابت عند انتفاء القيد هو نقيض الحكم الثابت عند وجوده، ومن هذه النصوص قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} 1، فقد اتفق جميع العلماء باستثناء الظاهرية على عدم حرمة الربيبة إذا انتفى قيد الدخول بأمها، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "في الغنم السائمة الزكاة" حيث اتفق العلماء باستثناء مالك2
والليث1 بن سعد على الأخذ بمفهوم المخالفة. فقالوا بعدم وجوب الزكاة في المعلوفة2. وأما المعقول: فلأن الذي يتفق مع المنطق البياني السليم هو أن القيد من شرط أو وصف أو غاية أو غير ذلك، لا يمكن أن يكون عبثاً، بل هو لفائدة وسبب، فإذا لم تكن هناك مقاصد بيانية أخرى من وراء ذكر القيد من ترغيب أو ترهيب أو نحوها، ولم يقم دليل خاص على حكم المسكوت غير أخذه من القيد يجب عندئذ الأخذ بهذا الطريق من الدلالة، فإذا كان الحل مقيداً بقيد ما فالتحريم يكون عند تخلف هذا القيد والعكس بالعكس.
المطلب الثاني: في اختلاف العلماء في الزيادة على النص
المطلب الثاني: في اختلاف العلماء في الزيادة على النص. خلال حديثنا المستفيض عن أحوال المطلق والمقيد ذكرنا أن من الأسباب التي أدت إلى اختلاف الأصوليين في حكم حمل المطلق على المقيد في بعض الصور1، هو اختلافهم في الزيادة على النص، أهي بيان أو نسخ؟ وحتى يكون الكلام على حقيقة الخلاف مبنياً على أساس متين، ووافياً بالغرض المقصود، نخص هذه النقطة الأخيرة وهي الزيادة على النص بين النسخ والبيان، بمزيد من البحث والتفصيل وليكن الكلام عنها في النقاط التالية: 1 - المراد بالبيان. 2 - المراد بالنسخ. 3 - تعريف النص والمقصود به في هذا المبحث. 4 - تحرير محل النزاع في الزيادة على النص. 5 - أقوال العلماء في حكم الزيادة على النص وأدلتهم. 6 - ثمرة الخلاف في الزيادة على النص.
1 - المقصود بالبيان: يراد بالبيان أن الحكم الذي يتناوله النص بظاهره لم يرد منا الشرع أن نعمل به على إطلاقه وشموله، وإنما المقصود منه هو العمل بمقتضى ما جاءت به الزيادة. 2 - ويراد بالنسخ: أن الحكم الذي يتناوله النص بظاهره كان مراداً للشارع على الإطلاق ثم جاءت الزيادة ناسخة لذلك الإطلاق، ومقيدة للحكم ببعض محاله التي كان يتحقق فيها قبل مجيء الزيادة. وبناء على ذلك يتفق البيان والنسخ على أن الحكم الذي يجب العمل به بعد مجيء الزيادة هو ما تضمنته الزيادة نفسها، ويختلفان في أن ذلك الحكم هل هو المشروع ابتداء لم يطرأ عليه أي تغيير؟ وعندئذ تكون الزيادة قد أظهرت وبينت ما هو مشروع ابتداء فقط، وهذا المعنى هو المراد بالبيان، أو أن المشروع ابتداء هو ما يفيده النص على إطلاقه، والزيادة جاءت قاصرة له على بعض ما كان يتناوله، وحينئذ تكون الزيادة قد غيرت وأزالت بعض ما كان مراداً للشارع في ابتداء التشريع، وقصرت الحكم فيما يستقبل من الزمان على بعض ما كان قد تناوله النص، فتكون نسخاً بهذا الاعتبار بذلك قال الحنفية، كما سيأتي. 3 - تعريف النص والمراد به هنا: أ - النص في اللغة: يأتي بمعنى الظهور والارتفاع، تقول العرب:
نصت الظبية رأسها، إذا أظهرته ورفعته، ونص فلان الحديث إلى فلان، إذا رفعه إليه، ونص كل شيء منتهاه1، ومن النص بمعنى الظهور والارتفاع سمي الكرسي الذي تجلس عليه العروس منصة؛ لأنها تكون مرفوعة وظاهره على غيرها، ومنه أيضا قول الفقهاء: (نص الكتاب ونص السنة) أي: ما دل عليه ظاهرها من الأحكام2. ب - والنص في الاصطلاح: يختلف تعريفه باعتبار ما يراد منه3،
والذي يهمنا من ذلك هو تعريف النص باعتباره شاملاً لنصوص الكتاب والسنة، حيث يعرَّف والحالة هذه بأنه: اللفظ الذي يفهم منه معنى عند النطق به1، وسواء أكان ذلك المعنى مقطوعاً به أم غير مقطوع به، وهذا التعريف أقرب معاني النص لما يراد منه في هذا المبحث؛ لأن علماء الأصول يعنون بالزيادة على النص أن يوجد نص شرعي يفيد حكماً، وقبل وقت العمل به يأتي نص آخر أو ما في حكمه2 مفيداً نفس الحكم السابق للواقعة مع زيادة لم يتضمنها النص الأول، أو يضيف إلى حكم الواقعة الذي تناوله النص الأول بظاهره زيادة فقط. كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 3 مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحاح: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" 4.
فالنص الأول: وهو الآية الكريمة أفاد حكماً شرعياً هو وجوب جلد الزاني مائة جلدة، وجاء الحديث الشريف فزاد على جلد المائة تغريب عام، فجلد المائة هو المزيد عليه، وتغريب عام هو المزيد، أو الزيادة على النص. ولكن الحنفية عندما اشترطوا في النص الذي تكون الزيادة عليه نسخاً كونه مقطوعاً به ثبوتاً ودلالة، قد قصروا النص على نوع خاص من ألفاظ الكتاب والسنة، وهو ما ثبت وصوله إلينا بالطريق المتواتر، أو المشهور، وكانت دلالته على الحكم لا يتطرق إليها احتمال مقبول. فبالشرط الأول: يكون النص شاملاً لجميع ألفاظ القرآن الكريم، وكذلك السنة المتواترة أو المشهورة، أما شموله للقرآن الكريم؛ فلأنه قد وصل إلينا كله بالطريق المتواتر، وكذا السنة المتواترة، وأما المشهورة فألحقت بالمتواترة حكماً عند الحنفية. وبالشرط الثاني: يخرج اللفظ الذي في دلالته أو ثبوته احتمال، كالعام الذي دخله التخصيص والسنة الأحادية؛ لأنها لم تصل إلينا بالطريق
المتواتر أو المشهور. والحاصل أن ما ثبت له الحكم بطريق قطعي لا يزول عنه بطريق ظني عند الحنفية؛ لأن الزوال بعد الثبوت في الأحكام الشرعية يكون نسخاً في الغالب، ونسخ القطعي بالظني غير جائز1. ويرى الجمهور أن تغيير الظاهر قبل وقت العمل لا يسمى نسخاً؛ لأنه وقع في زمن البيان، والبيان أكثر وقوعاً في الشريعة من النسخ، فيحمل التغيير في هذه المدة على البيان؛ لأنه الغالب على أحكام الشرع إلا إذا قام دليل قاطع على النسخ، كالتصريح في الزيادة على نسخ ما أفاده الظاهر، فإنه يكون حينئذ نسخاً لهذه القرينة، وليس لتعارض الزيادة مع النص. 4 - تحرير محل النزاع في الزيادة على النص: لكي يكون النزاع2 في محل الزيادة على النص واضحاً أمامنا لا بد من الإشارة إلى أن الزيادة عند الأصوليين تنقسم إلى قسمين. زيادة مستقلة بنفسها، بمعنى أن المزيد ليس جزءاً أو شرطاً لشيء آخر، وهذا النوع من الزيادة يتنوع بدوره إلى نوعين:
الأول: أن يكون المزيد مخالفاً لجنس المزيد عليه مثل: زيادة الزكاة على الصلاة، فإن كلاً منهما جنس يختلف عن الآخر، والمزيد وهو الزكاة مستقل عن المزيد عليه؛ إذ الزكاة لا تتعلق بالصلاة تعلق الجزء بالكل أو الشرط بالمشروط. والنوع الثاني: من الزيادة المستقلة أن يكون المزيد من جنس المزيد عليه، كزيادة صلاة سادسة على الصلوات الخمس مثلاً، فإن كلا من الزيادة والمزيد عليه جنس واحد كما هو الظاهر، والمزيد وهو الصلاة السادسة مستقل بنفسه عن المزيد عليه، لعدم تعلق الصلاة السادسة بما قبلها من الصلوات. وهذا القسم من الزيادة بنوعيه الاتفاق قائم بين العلماء دون خلاف يعتد به على أن الزيادة ليست نسخاً لحكم المزيد عليه؛ لأنها زيادة حكم في الشرع دون تغيير الحكم الأول، فمثلاً: وجوب الصلاة لم يتغير بعد زيادة وجوب الزكاة في الشرع، بل ظلت الصلاة واجبة بعد مشروعية الزكاة، كما كانت واجبة قبل مشروعيتها، وكذلك الحال بالنسبة لزيادة صلاة سادسة على الصلوات الخمس. القسم الثاني: زيادة غير مستقلة، بمعنى أن المزيد لا يستقل عن المزيد عليه في إفادة تمام الحكم، لأن الحكم مكون من مجموع الأمرين الزيادة والمزيد عليه، ومن أمثلة هذا القسم زيادة تغريب عام على الجلد في حد الزاني غير
المحصن، إذ إن الحكم بعد زيادة التغريب أصبح مكوناً من جزئين جلد مائة، وتغريب عام، ومثل زيادة وصف الرقبة بالإيمان في كفارة الظهار قياساً لها على كفارة القتل، فقد أصبح الحكم بعد زيادة اشتراط الإيمان إعتاق رقبة مؤمنة لا يجزئ غيرها. وهذا النوع من الزيادة له حالتان: الأولى: أن تكون الزيادة مقارنة للمزيد عليه في نزوله إن كان قرآناً، أو في وروده إن كان سنة، بحيث لا تتأخر عنه مدة يمكن القول بنسخ الحكم فيها، ومن أمثلة هذه الحال رد شهادة القاذف؛ فإنها وردت متصلة بالجلد في قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 1. وقد اتفق العلماء على أن هذا النوع من الزيادة غير المستقلة لا يكون نسخاً لفقدان شرط النسخ فيه، وهو التأخر عن المنسوخ بمقدار عقد القلب والعزم على تنفيذ الحكم عند الحنفية، وعند غيرهم شرط النسخ التأخر عن وقت العمل، وكلا الشرطين لم يتحققا في هذا النوع من الزيادة.
الحال الثانية: أن تكون الزيادة غير المستقلة قد تأخرت عن المزيد عليه مدة1 يمكن نسخ الحكم فيها، وفي هذه الحال من الزيادة اختلفت أنظار العلماء، وكانت لهم في حكمها مذاهب أهمها ما يلي: المذهب الأول: الزيادة على النص نسخ مطلقاً2 وهذا مذهب جمهور الحنفية، قال الإمام السرخسي: (الزيادة على النص بيان صورة ونسخ معنى
عندنا) 1، وأشار بقوله: معنى إلى أن الزيادة إنما كانت نسخاً عند الحنفية لتحقق معنى النسخ فيها، وإن كان ذلك لا يمنع من تسميتها بياناً في الصورة كما هو مصرح به في كتب الحنفية. المذهب الثاني: الزيادة ليست نسخاً مطلقاً2، وإليه ذهب جمهور الأصوليين، ومنهم الشافعية. وإذا لم تكن الزيادة نسخاً فهي بيان؛ لأن الأقوال منحصرة في الأمرين. المذهب الثالث: القول بالتفصيل على النحو التالي: أ - الزيادة على النص تكون نسخاً إذا أفادت خلاف ما أفاده مفهوم المخالفة - كإيجاب الزكاة في الغنم المعلوفة، فإنه خلاف ما أفاده قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "في الغنم السائمة الزكاة"، الذي يدل على نفي الزكاة عن المعلوفة بمفهومه المخالف - وإن لم تفد خلاف ما أفاده المفهوم المخالف فليست بنسخ.
ب - وقال جماعة من الأصوليين: إن غيرت الزيادة المزيد عليه في المستقبل، بحيث لو فعل بانفراده لا يعتد به ويجب استئنافه؛ كزيادة ركعة ثالثة في الفجر فهي نسخ، وإلا فليست بنسخ، مثل زيادة التغريب على الجلد؛ فإن السلطان لو جلد ثم استفتى فأفتى بالتغريب لا يجب عليه استئناف الجلد مرة أخرى، ونسب هذا القول إلى الكرخي1 من الحنفية وأبي عبد الله البصري2. جـ - وقال آخرون: إن اتحدت الزيادة مع المزيد عليه اتحاداً يرفع التعدد والانفصال فهي نسخ، وفيما عدا ذلك لا تكون الزيادة نسخاً، ونسب هذا القول إلى الغزالي من الشافعية3، مثل: زيادة ركعتين في
صلاة الصبح فرضاً، إذ لم يثبت ذلك. د - واختار بعض المحققين 1: أن الزيادة إن رفعت حكماً شرعياً بدليل شرعي متأخر فهي نسخ لوجود حقيقة النسخ فيها عندئذ، وما عدا ذلك فليست الزيادة فيه نسخاً، كأن يكون الحكم المرفوع مثلاً: ليس حكماً شرعياً، بل عدماً أصلياً، أو كانت الزيادة غير متأخرة عن المزيد عليه مدة يمكن النسخ فيها. أو كان ثبوت الزيادة بدليل غير شرعي في نظر بعض الأصوليين، مثل: الزيادة بمفهوم المخالفة عند الحنفية، فالزيادة في هذه الصور الثلاث لا تكون نسخاً؛ لأن حقيقة النسخ لم توجد فيها، لتخلف شرط من شروط النسخ الثلاثة السابقة فينتفي النسخ بانتفاء كل واحد منها. قال الفناري من الحنفية: "وهذا الرأي أقرب؛ لأنه مبني على حقيقة النسخ، وهو مآل مذهبنا وإن اختلف في بعض الأمثلة لأصل آخر"2.
5 - أدلة المذاهب: أولاً: أدلة الحنفية: استدل الحنفية على أن الزيادة نسخ بعدة أدلة منها: 1 - قالوا: إن المزيد عليه كان قبل الزيادة مجزئاً بدون تلك الزيادة وبعدها لم يكن كذلك، والإجزاء حكم شرعي، وقد ارتفع بعد مجيء الزيادة فتحقق بذلك معنى النسخ الذي هو رفع الحكم الشرعي1. وأجيب عن هذا الاستدلال من قبل الجمهور بأن إجزاء المزيد عليه بدون الزيادة يدل على أمرين: الأول: الامتثال بفعل المزيد عليه. والثاني: عدم توقفه على شيء آخر. والأمر الأول حكم شرعي، ولكنه لم يرتفع بالزيادة، بل بقي الامتثال بفعله بعدها، كما لو جلد الزاني البكر مائة جلدة؛ فإن السلطان لا يعيد الجلد مرة أخرى، ويبقى عليه التغريب الذي أفادته الزيادة. والأمر الثاني: قد ارتفع؛ لأن المزيد عليه أصبح بعد الزيادة متوقفاً على شيء آخر، هو ضم الزيادة إلى المزيد عليه في الحكم، ولكن ارتفاعه لا يمثل النسخ؛ لأنه مستند إلى البراءة الأصلية، ورفع البراءة الأصلية لا يعتبر نسخاً، بدليل أن العبادة إذا وجبت ابتداء؛ فإن وجوبها رافع للحكم
العقلي، وهو براءة الذمة من التكاليف، وليس ذلك نسخاً بإجماع1. 2 - واستدل الحنفية على خصوص مسألة زيادة المقيد على المطلق. فقالوا: إن الإطلاق حكم يريده الشارع، وكذلك التقييد حكم يريده الشارع2 أيضاً، وهما ضدان، فمن ضرورة ثبوت صفة التقييد في محل انعدام صفة الإطلاق فيه، وحيث كانت صفة الإطلاق منتهية بحلول صفة التقييد محلها أصبح معنى النسخ متحققاً في زيادة المقيد على المطلق؛ لأن حقيقة النسخ كما سبق بيان انتهاء الحكم الشرعي بدليل شرعي، فكانت زيادة المقيد على المطلق نسخاً من هذا الوجه أيضاً3. وهذا الدليل يمكن أن يجاب عنه بوجهين: الأول: منع كون صفة الإطلاق منافية لصفة التقييد بالكلية، لما تقدم في تعريف المطلق والمقيد أنها من الأمور النسبية، فقد يكون اللفظ مطلقاً ومقيداً في آن واحد كالرقبة الموصوفة بالإيمان؛ فإنها مقيدة بتلك الصفة ومطلقة عن غيرها من الصفات الوجه الثاني: أن حلول صفة التقييد على صفة الإطلاق لا يعدمها
بالكلية كما هو المدعى، بل يخصصها ببعض المحال التي كانت تتحقق في ضمنها، ويضيق من دائرة انتشارها قبل التقييد، وذلك لا يسمى نسخاً، بل هو قصر لصفة الإطلاق على بعض المحال التي كانت صالحة لها قبل ورود التقييد عليها، وحيث أن حكم المطلق لم ينته بالكلية بعد زيادة المقيد عليه، بل ظل معمولاً به في بعض أحواله لم يتحقق معنى النسخ المصطلح عليه، اللهم إلا إن كان صاحب هذا الدليل يريد بالنسخ هنا النسخ الجزئي؛ فإن كان مراده ذلك فصياغة الدليل لا تساعده، لقوله: (وهما ضدان) ثم إن حمل النسخ في هذا المبحث على النسخ الجزئي يجعل الخلاف لفظياً، لأن الجمهور يقرون بهذا النوع من التغيير، ولكن لا يسمونه نسخاً إلا إذا تأخر عن وقت العمل بالمطلق1. ويمكن أن يجاب عنه بجواب ثالث: فيقال: سلمنا أن الإطلاق والتقييد لا يجتمعان، ولكن ذلك في الإطلاق والتقييد بالمعنى العام، وكلامنا هنا في الإطلاق والتقييد عند الأصوليين وحينئذ يكون الدليل خارجاً عن محل النزاع. 3 - ومن أدلتهم أيضاً: أن شرط النسخ قد وجد في زيادة المقيد على المطلق وهو ثبوت التعارض بين الدليلين، إذا جهل التاريخ، وهذا الشرط متحقق في زيادة
المقيد على المطلق، فإنه لو جهل تاريخ كل من النص المطلق والمقيد لثبت التعارض بينهما، فدل ذلك على أنه عند معرفة التاريخ يكون المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم1. والجواب عن هذا الدليل أن يقال: التعارض له معنيان: عام، وخاص، فأي المعنيين تريدون؟ فإن كان مرادكم بالتعارض معناه العام الذي هو مطلق وجود التنافي بين الدليلين فهذا مسلّم به، ولكنه لا يوجب القول بالنسخ؛ لأن الجمع بين المطلق والمقيد ممكن، ومع إمكان الجمع بين المتعارضين لا يعدل عنه إلى القول بالنسخ؛ لأن العمل بالأدلة ولو من وجه أولى من العمل ببعضها وإهمال بعضها الآخر. وإن كنتم تعنون بالتعارض معناه الخاص، وهو وجود التناقض والتضاد بين الأدلة، بحيث لا يمكن الجمع بينها فهذا غير موجود في الشريعة، وعلى فرض وجوده فمن شرطه تساوي الدليلين في الدلالة والثبوت، وقد مر بنا أن دلالة المطلق على الأفراد الشائعة مثل دلالة العام، فهي محل خلاف بين الأصوليين، فلا تعارض دلالة المقيد التي هي محل وفاق بينهم. ومن هنا لم يتحقق في المطلق والمقيد شرط المعارضة الخاصة التي
تقتضي النسخ عند القائلين بوجودها في الشرع، وحينئذ فلا يكون مطلق التعارض بين المطلق والمقيد عند الجهل بالتاريخ مقتضياً للقول بالنسخ كما هو المدعى. ثانياً: أدلة الجمهور: لما كانت دعوى الحنفية ذات شقين: الأول: أن الزيادة على النص نسخ مطلقاً. والثاني: إن نسخ القطعي بالظني لا يجوز، فقد سار الجمهور عند عرضهم لأدلة مذهبهم في اتجاهين أيضاً. الاتجاه الأول: إثبات أن الزيادة ليست نسخاً مطلقاً. والثاني: على فرض أن الزيادة على النص نسخ فلم لا تجوز بالدليل الظني؟ وخاصة إذا علم تأخر الظني عن القطعي، فإنه يكون للنقاش مجال واسع عندئذ. أ - أدلة الجمهور على أن الزيادة ليست بنسخ: استدل جمهور الأصوليين على أن الزيادة على النص ليست بنسخ مطلقاً بعدة أدلة منها: إن حقيقة النسخ لم توجد في هذه الزيادة؛ لأن حقيقته رفع وتبديل الحكم الشرعي بدليل شرعي، وهذه الزيادة تقرير للحكم الشرعي الذي أفاده المزيد عليه قبل مجيء الزيادة وتثبيت له، ذلك أن ضم شيء إلى آخر يثبت المضموم إليه ويقرره نظراً إلى أن الانضمام صفة لا بد لها من محل
تقوم به، ولهذا نرى حكم المزيد عليه لم يرتفع بعد إلحاق الزيادة به فشأن هذه الزيادة في حقوق الله شأن الأمر بالصوم بعد الأمر بالصلاة. والعلماء متفقون على أن زيادة الأمر بالصوم بعد الأمر بالصلاة لم تكن نسخاً للصلاة فكذلك هذه الزيادة1. ونظيرها في حقوق العباد، من ادعى على آخر بألف وخمسمائة ريال، ثم شهد له شاهدان بألف، وآخران بألف وخمسمائة، فإن شهادتهم تقبل عند الجمهور، ويكون الألف مقضياً له به بشهادة الجميع، لأن إلحاق الخمسمائة ريال بالألف بشهادة الآخرين قد قررت الألف لاتفاق الجميع عليه، ولو كانت الزيادة نسخاً مطلقاً لما صحت شهادة الأولين على الألف، لأن الزيادة وهي إلحاق الخمسمائة بشهادة الآخرين تكون ناسخة لشهادة الأوليين. وقد اعترض الحنفية على هذا الدليل بعدة اعتراضات منها: 1 - قالوا: لا نسلم أن هذه الزيادة تقرير للأصل الذي أفاده المزيد عليه، وضم حكم آخر إليه، بل هي نسخ للمزيد عليه، إذ كيف تكون تقريراً وهي ترفع أحكاماً شرعية كثيرة، واحداً منها يكفي للقول بالنسخ
فضلاً عن جميعها فمن تلك الأحكام الشرعية التي ارتفعت بعد مجيء الزيادة ما يلي: الإجزاء بدون تلك الزيادة الذي يستفاد من الأصل بمقتضى إطلاقه حيث كان مطلق الرقبة مثلاً، مجزئاً في كفارة الظهار، ولما زيد عليها وصف الإيمان انتسخ هذا الإجزاء، لأن وصف الإيمان أصبح بعد الزيادة شرطاً في إجزاء الرقبة، وحيث ارتفع حكم شرعي دل عليه النص المطلق بدليل شرعي هو تلك الزيادة فقد تحقق معنى النسخ الذي هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي في هذا النوع من الزيادة، فتكون نسخاً لا تقريراً. وقد تقدم الجواب عن ذلك في الدليل الأول للحنفية. وثاني الأحكام التي ترفعها الزيادة حرمة التعدي والزيادة على الحكم الذي أفاده المزيد عليه فمثلاً: زيادة التغريب على حد الزاني غير المحصن، كانت محرمة بمقتضى النص المطلق، وبعمومات أخرى مثل: قوله - تعالى -: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" 2، وقد ارتفعت هذه الحرمة بعد ورود الزيادة بالتغريب؛ لأن
الزيادة أصبحت الآن غير محرمة والتحريم من الأحكام الشرعية، فرفعه يكون نسخاً. وثالث الأحكام التي ترفعها الزيادة إباحة الاقتصار على المزيد عليه، مثل: إباحة الطواف بدون طهارة بمقتضى قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 1، والطواف يتحقق بمجرد الدوران حول البيت، ولا يشترط في مفهومه اللغوي الطهارة، ومثل: إباحة تحرير الرقبة بدون اشتراط وصف الإيمان فيها الذي يدل عليه النص المطلق، وبعد اشتراط الطهارة في الطواف، والإيمان في الرقبة قد ارتفعت هذه الإباحة، فرفعها بعد ثبوتها هو حقيقة النسخ، لأنها من الأحكام الشرعية2. كما اعترض الحنفية دليل الجمهور السابق بالنسبة لما ذكروه من التنظير للزيادة بحقوق العباد، وقالوا: إنه خارج عن محل النزاع؛ لأن نظير هذه الزيادة الاختلاف في مقدار الثمن والإجارة3، وفيهما لا تقبل
الشهادة الزائدة على الأصل، إذا كانت مساوية أو أقل، والفرق بين ما ذكره الجمهور من التنظير وما ذكره الحنفية أن مثال الجمهور من قبيل الدين وهو يقبل الوصف بالتجزئي بخلاف مقدار الثمن والإجارة، فإن كلا منهما علة وسبباً لانعقاد البيع والإجارة والعلة لا تتجزأ في نظر الحنفية، إذ لا يمكن أن يكون البيع قد انعقد بألف وبألف وخمسمائة في آن واحد، وكذلك الإجارة لا يمكن أن تكون قد وقعت بالسبعمائة وبالثمانمائة في وقت واحد، مثلاً: فعند الاختلاف في مقدار الثمن والإجارة، لا تقبل الشهادة المثبتة للزيادة إذا كانت مساوية أو أقل من الشهادة الأولى، فلو شهد شاهدان على أن مقدار الثمن ألف ريال، وآخران على أن مقداره ألف وخمسمائة ريال، لا تقبل شهادة الآخرين على الألف، لأنها زيادة مساوية للأصل، فتسقط، وكذلك لو كان الشاهد على إلحاق الخمسمائة شخص واحد لا تقبل شهادته؛ لأنها أقل من شهادة الاثنين فلا ترفع شهادتهما. فالزيادة هنا في نظر الحنفية بمنزلة بعض العلة، وبعض العلة لا يوجب شيئاً من الحكم الثابت بالعلة، فكانت الزيادة نسخاً من هذا الوجه أيضاً، وبذلك فارقت هذه الزيادة حقوق العباد التي تحتمل الوصف بالتجزئي؛ فإنه يمكن إلحاق الزيادة بها تقريراً للمزيد عليه كما في الدين بخلاف ما لا يحتمل الوصف بالتجزيئ من حقوق العباد، فإن الحكم فيه
جار على وفق الحكم في هذه الزيادة، التي نبحثها كما سبق في الاختلاف في مقدار الثمن والإجارة، وهكذا الشأن عند الحنفية في كل ما يجب حقاً لله تعالى من عبادة، أو عقوبة أو كفارة؛ فإن هذه الأمور لا تحتمل الوصف بالتجزيئ وليس للبعض منها حكم الكل بوجه من الوجوه، ولذا قالوا: إذا صام المظاهر شهراً، ثم عجز فأطعم ثلاثين مسكيناً لم يكن مكفراً لا بالصوم ولا بالإطعام، وكذلك القاذف إذا جلد تسعة وسبعين سوطاً لا تسقط شهادته عند الحنفية؛ لأن رد الشهادة متعلق عندهم بالحد لا ببعضه، وبعض الحد لا يكون حداً عندهم. ودفعت هذه الاعتراضات من قبل الجمهور بجوابين أحدهما مجمل والآخر مفصل. أما الجواب المجمل: فقالوا: بينوا لنا ما تعنون بالنسخ الذي تضمنته الزيادة عندكم، أتعنون به أن حكم المزيد عليه من الإيجاب والتحريم والإباحة قد ارتفع بالكلية؟ أم تقصدون به تغيير وصف المزيد عليه بزيادة شيء آخر؟ من شرط أو قيد، أم تريدون بالنسخ ما هو أعم من الأمرين جميعاً، لأن النسخ يطلق على هذه المعاني جميعاً في اللغة. فإذا أردتم بالنسخ معناه العام الذي هو رفع الظاهر بتخصيص، أو تقييد، أو شرط، وبالجملة تغيير وصف الحكم بزيادة شيء آخر عليه، فهذا مسلم به ولكن لا يلزم من الزيادة، حينئذ بطلان حكم المزيد عليه
ولا رفعه ولا معارضته1، بل غاية هذه الزيادة مع المزيد عليه أن تكون عندئذ كزيادة الشروط والموانع والمخصصات، وشيء من ذلك لا يكون نسخاً اصطلاحاً، وإن كان كثير من السلف يسمي ذلك نسخاً لغة حتى سمى الاستثناء نسخاً بهذا الاعتبار، فإن كنتم تقصدون هذا المعنى العام للنسخ فلا مشاحة في الاسم، ولكن ذلك لا يُسَوِّغُ رد السنن الزائدة على مطلق القرآن، لأن أحداً لا ينكر نسخ القرآن بالسنة بهذا المعنى العام. وإنما النزاع في جواز نسخ القرآن بالسنة الأحادية، النسخ المصطلح عليه عند الأصوليين، وهو رفع أصل الحكم وجملته بحيث يبقى بعد نزول الناسخ بمنزلة ما لم يشرع، وهذا المعنى الخاص للنسخ لا ريب أن الزيادة لا تتضمنه فلا تكون نسخاً اصطلاحاً؛ لأن المزيد عليه لم يرتفع حكمه بالكلية. وإن أردتم بالنسخ الذي تضمنته الزيادة ما هو أعم من القسمين فقد جمعتم في كلامكم بين مقبول ومردود، فسموا الزيادة ما شئتم، ولكن إبطال السنن الصحيحة بهذا الاسم مما لا سبيل إليه2.
وأما الجواب المفصل: فقالوا: إن نسخ الزيادة للمزيد عليه إما أن تكون لوجوبه، أو لإجزائه، أو لعدم وجوب غيره، أو لأمر رابع، وهذا يتضح بالمثال، فزيادة التغريب على المائة جلدة في حد الزاني غير المحصن، لا يجوز أن تكون ناسخة لوجوب المائة جلدة؛ لأن وجوبها باق بعد زيادة التغريب لم يرتفع، ولا يمكن أن تكون الزيادة ناسخة لإجزاء المائة أيضاً؛ لأن المائة مجزئة عن نفسها حتى بعد ورود الزيادة، ولا يمكن أن تكون رافعة لعدم وجوب الزائد؛ لأنه حكم عقلي وهو براءة الذمة من التكاليف حتى يقوم ما يشغلها، فلو كان رفع البراءة الأصلية نسخاً لكان كلما أوجب الله شيئاً بعد الشهادتين نسخ به ما قبله، وذلك ممنوع بإجماع العلماء. والأمر الرابع: غير متصور فلا يمكن الحكم عليه. فإن قيل: بل هناك أمر رابع معقول، وهو جواز الاقتصار على المزيد عليه، وقد ارتفع هذا الحكم بعد الزيادة، وهو غير الأقسام الثلاثة السابقة، فرفعه يكون نسخاً، والجواب عن ذلك أن يقال: لا معنى للاقتصار على المزيد عليه إلا عدم وجوب غيره، وكونه جميع الواجب، وهذا هو القسم الثالث بعينه، غيرتم التعبير وكسوتموه عبارة أخرى1. ثم أجاب الجمهور عن كل اعتراض على حدة، فقالوا: إن إجزاء
المزيد عليه بدون الزيادة قد تقدم جوابه في أدلة الحنفية. وأما حرمة الزيادة: فلا يخلو الحال فيها من أحد أمرين: الأول: أن تكون ثابتة بغير الأصل الذي هو المزيد عليه، وحينئذ تكون خارجة عن محل النزاع. والثاني: أن تكون ثابتة بالأصل المزيد عليه، وهذا في حيز المنع عند الجمهور؛ لأن الأصل لم يتعرض للزيادة بأي وجه، اللهم إلا إذا كان له مفهوم مخالف والحنفية لا يقولون به، فكيف يستدلون به هنا على حرمة الزيادة، وعلى فرض التسليم بالمفهوم، فإنما يكون رفعه نسخاً إذا استقر الحكم مدة يتمكن المكلف فيها من العمل، أو يكون قد حصل العمل به، وهذا خارج عن محل الخلاف أيضاً، لأن تاريخ الزيادة لا يعرف في كثير من المواضع، ثم إن رفع المفهوم كتخصيص العموم؛ لأنه رفع لبعض مقتضى اللفظ فيجوز بخبر الواحد، كما جاز التخصيص به، فزال المحظور الذي من أجله ادعى أن الزيادة على النص نسخ ونسخ القطعي بالظني لا يجوز. أما الجواب عن الاعتراض الثالث، فقد تقدم قبل قليل، وهو: أنه تابع لكونه لم يجب عليه شيء، وكونه لو يجب عليه شيء إشارة إلى نفي الحكم الشرعي وبراءة الذمة من التكاليف، وذلك حكم عقلي، والتابع للعقلي عقلي مثله، فلا يكون رفعه نسخاً1.
ثم أجاب الجمهور على الاعتراض الذي أورده الحنفية على نظير هذه الزيادة بحقوق العباد، وقولهم: إن ذلك بمنزلة العلة، والعلة لا تتجزأ، وليس للبعض منها حكم الكل، فقالوا: إن ذلك غير مسلم؛ لجواز التجزئي في العلة عند الجمهور، مثل: علة القصاص؛ فإنها مكونة من عدة أوصاف هي القتل العمد العدوان. 2 - واستدل الجمهور أيضاً على أن الزيادة ليست بنسخ مطلقاً. فقالوا: إن اللفظ المطلق عن الزيادة يشبه العام، والعام لا يوجب العلم يقيناً، بل يجوز أن يراد به بعض ما يتناوله لغة، وإن كان ذلك مشروطاً بوجود الدليل الصارف لظاهر العام، إلا أن مساواة الدليل الصارف للعام في القوة غير معتبرة، لكون صرف العام عن ظاهره من قبيل التخصيص، وهو نوع من البيان، ولا يشترط في البيان مساواة المبيِّن للمبيَّن. وحيث كان اللفظ المطلق عن الزيادة يشبه العام، فيكون صرفه إلى ما وجد فيه القيد بياناً، وقصراً له على بعض محاله التي كان يتحقق فيها قبل مجيء الزيادة، وليس نسخاً. ووجه الشبه بين العام والمطلق أن الرقبة وهي من قبيل المطلق اسم عام على سبيل البدل، يتناول المؤمنة والكافرة، والزمنة وغيرها، فإخراج الكافرة من لفظ (رقبة) بعد اشتراط قيد الإيمان يكون قصراً لا نسخاً كإخراج أهل الذمة من لفظ (المشركين) ، وكإخراج الزمنة والعمياء عن
الصلاحية للتكفير. وهذا الدليل اعترضه الحنفية فقالوا: التخصيص لا يكون إلا للدال على الأعيان، والمطلق لا يدل على غير الماهية من حيث هي، وما دام أن لا دلالة للمطلق على الأفراد، فلا يثبت له حكم التخصيص، لكونه فرع الدلالة على الأفراد. ودفع الجمهور هذا الاعتراض من وجهين: الأول: إن المراد بالتخصيص هنا مطلق القصر، ومطلق القصر متحقق بالنسبة للمطلق في هذا المقام؛ ذلك أن ما يدل عليه المطلق من الماهية أو القدر المشترك، كان قبل الزيادة صالحاً لأن يتحقق ضمن الأفراد المجردة عن الزيادة، والأفراد التي ثبت لها الزيادة، وبعد مجيء الزيادة انحصر تحققه ضمن النوع الثاني1. الوجه الثاني: قالوا: كون المطلق لا دلالة له على الأفراد في حيز المنع، لأننا لو سلمنا أن لا دلالة له عليها بالمطابقة، ولكن لا نسلم فقدان دلالته عليها بطريق التضمن أو الالتزام، وقد سبق في تعريف المطلق أن فريقاً من الأصوليين ذهبوا إلى أنه موضوع للدلالة على الأفراد لتبادرها منه عند الإطلاق، بدون قرينة وذلك أمارة الحقيقة، ثم أجاب الحنفية
عن التعليل الثاني فقالوا: إن عدم جواز إعتاق العمياء والزمنة ونظائرهما، ليس تخصيصاً للرقبة، بل لكون هذه الرقاب مستهلكة من وجه، وفائت المنفعة لا يسمى رقبة؛ لأن المطلق يتناول الكامل، وهذه الرقاب ليست كاملة المنافع. وقال الأحناف أيضاً، ولو قيل: إن بين صفة الكفر والإيمان تضاد1، فإذا جوزنا إعتاق المؤمنة في كفارة الظهار امتنع جواز الكافرة، أجبنا بأن جواز المؤمنة عندنا، لأنها رقبة لا لصفة الإيمان، لأن الوصف فيها غير معتبر لعدم الدليل الناهض على اشتراطه وما ادعيتموه من دليل على الاشتراط لا يثبت بالزيادة عندنا؛ لأنه من قبيل أخبار الآحاد أو القياس، ومثل ذلك لا تجوز به الزيادة على النص؛ لأنها نسخ، والناسخ لا بد وأن يكون في قوة المنسوخ. ويدفع هذا الاعتراض بما يذكره الجمهور في الاتجاه الثاني من أدلتهم. 3 - واستدل الجمهور على أن الزيادة ليست نسخاً مطلقاً أيضاً. فقالوا: إن النسخ أمر ثبت للضرورة، لأن الأصل في أحكام الشرع البقاء والقول بالتخصيص أو التقييد، وإن كان يوجب تغيير العام من الحقيقة إلى المجاز ومن الظاهر إلى خلافه، إلا أنه متعارف في اللغة فكان
الحمل عليه أولى من الحمل على النسخ1. وقد اعترض الحنفية على هذا الدليل باعتراضين: أولهما: قالوا: إن المجاز لو سلم، فإنه مشروط بوجود القرينة عند العدول عن الحقيقة إلى المجاز، والفرض عدمها عند نزول المطلق. وتقدم جواب الجمهور عن ذلك في شروط حمل المطلق على المقيد2. ثانيهما: قالوا: لا نسلم أن المطلق من العام، بل هو من الخاص المتفق على أنه قطعي الدلالة، وذلك ينفي احتمال التصرف فيه بغير النسخ، وقد تقدم جواب الجمهور عن ذلك في دلالة المطلق3. والدليل الرابع للجمهور: قالوا: لو كانت الزيادة على النص نسخاً مطلقاً لكان القياس باطلاً، لأن القياس إلحاق غير المنصوص عليه بالمنصوص وزيادة حكم لم يوجبه النص بصيغته، وحيث كان القياس جائزاً شرعاً ودليلاً من أدلة الأحكام يعلم أن الزيادة ليست نسخاً مطلقاً.
وقد أجاب الحنفية عن هذا الدليل: بأن قالوا: لا نسلم أن كل زيادة على النص تكون نسخاً، بل الزيادة التي ترفع الحكم الشرعي بعد ثبوته بدليل شرعي تكون نسخاً والقياس لم يكن كذلك، لأنه لا يفيد رفع حكم المقيس عليه1. ب - الزيادة على النص بأخبار الآحاد وما في حكمها: عرفنا فيما سلف أن المقصود بالنص في مبحث الزيادة أخص من الظاهر، كما عرفنا أن تعيين ما يندرج تحت مفهوم النص من الأدلة والألفاظ لم يتفق العلماء على تحديد أنواعه. ولكن لما كانت الزيادة على النص نسخاً في نظر الحنفية منعوا أن تثبت الزيادة بأخبار الآحاد، وما في حكمها من الأدلة الظنية كالقياس، والعام الذي دخله التخصيص، وعللوا ذلك المنع بأن ثبوت الزيادة على النص بهذه الطرق يقتضي نسخ القطعي بالظني وهو غير جائز. 2 - ويرى جمهور العلماء عدا الحنفية أن ثبوت الزيادة على النص بأخبار الأحاد وما في حكمها من الأدلة الظنية جائز، ثم اختلفوا في التوجيه والتعليل لهذا الجواز: أ - فذهب أكثر الأصوليين إلى أن ذلك يعود إلى كون الزيادة على النص بياناً، والبيان لا يشترط فيه مساواة المبيِّن للمبيَّن، وهؤلاء متفقون
مع الحنفية على منع نسخ القطعي بالظني، كما ترى، ولكنهم يجوزون الزيادة على النص بالدليل الظني بناء على أن الزيادة من قبيل البيان، والبيان لا يشترط فيه المساواة بين الدليلين. ب - وذهب الظاهرية وأكثر المحدثين إلى أن جواز الزيادة على النص بالدليل الظني لا يعود أولاً إلى كون الزيادة بياناً كما يقول بذلك الجمهور. وثانياً: لو فرض أن الزيادة نسخ، فنسخ القطعي بالظني جائز وواقع شرعاً فما ادعاه الحنفية من المحظور في حيز المنع. واستدل من منع نسخ القطعي بالظني بعدة أدلة منها1: 1 - قالوا: إننا استقرينا الأدلة الشرعية، وتتبعناها فما وجدنا دليلاً قطعياً قد نسخ بدليل ظني نسخاً ضمنياً قائماً2 على التعارض بين مدلول
القطعي والظني، وهذا يدل على عدم الوقوع. ومنها ثانياً: أن الدليل القطعي من قبيل المتواتر والظني من قبيل الآحاد، والآحاد أضعف من المتواتر، وحيث انعدمت المساواة، فلا نسخ1، وهذا الدليل نوقش من عدة أوجه نذكر بعضها في تقييد المطلق بأخبار الآحاد. واستدل الظاهرية ومن معهم على جواز نسخ القطعي بالظني ووقوعه شرعاً بعدة أدلة منها2. 1 - قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} 3. ووجه الدلالة أن هذه الآية الكريمة قد حصرت المحرم من المطعومات في الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله؛ فيكون ما عدا ذلك من المطعومات باقياً على الحل والإباحة الأصلية، ولكن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير"4.
والنهي يقتضي التحريم، فاقتضى ذلك أن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير حرام، وهذا رافع للإباحة التي أشارت إليها الآية الكريمة، ولا معنى للنسخ إلا هذا، والحديث ليس متواتراً وإنما هو أحاد فيكون القطعي قد نسخ بالظني فثبت المطلوب. وأجيب عن ذلك بوجهين: الوجه الأول: قال المخالفون في نسخ القطعي بالظني: لا نسلم أن الآية فيها حصر للمحرمات بالنسبة للماضي والحاضر والمستقبل، بل أقصى ما تدل عليه الآية أن المحرمات إلى وقت نزولها هذه الأشياء المذكورة، وذلك لا يمنع من تحريم أشياء أخرى في المستقبل، والدليل على عدم الحصر بالنسبة إلى المستقبل أن الفعل في قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ} حقيقة في الحال، فيحمل الكلام عليه؛ لأن الأصل في الكلام الحقيقة، وحيث انعدم النسخ هنا لعدم وجود حقيقته يكون الكلام من قبيل التخصيص، وتخصيص المتواتر بالآحاد جائز. الوجه الثاني: قالوا: سلمنا أن الآية فيها حصر للمحرمات في المذكورات بالنسبة للماضي والحاضر والمستقبل، ولكن نمنع أن يكون ما رفعه الحديث من قبيل النسخ1؛ لأن الحديث إنما رفع الإباحة الأصلية، ورفع الإباحة الأصلية
ليس نسخاً، لأنها ليست حكماً شرعياً، والنسخ خاص برفع الأحكام الشرعية. ومن أدلتهم أيضاً: أن التوجه إلى بيت المقدس في الصلاة كان ثابتاً بالسنة المتواترة، وبينما كان أهل قباء يصلون ذات يوم متوجهين إلى بيت المقدس أتاهم آت يخبرهم أن القبلة قد تحولت إلى الكعبة فاستجابوا له وقبلوا خبره1، وظاهر هذه القصة يدل على أن من أخبرهم لم يبلغ حد التواتر فدل ذلك على نسخ القطعي بالظني. وهذا الدليل أجيب عنه، بأن محل النزاع، إنما هو في وقوع نسخ القطعي بخبر الواحد المجرد عن القرائن، والخبر المذكور قد انضم إليه ما يفيد العلم، كـ (قربهم) من مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وترقبهم تحول القبلة في
أي وقت1. وللظاهرية أدلة أخرى لم تسلم من الاعتراض. ويبدو أن عصر الرسول خارج عن محل النزاع لسببين: الأول: أن اصطلاح المتواتر والآحاد أمر حادث بعد زمن الرسول صلى الله عليه وسلم اقتضته الحيطة والاهتمام بالعلوم الشرعية حتى لا ينسب إلى الدين ما ليس منه، أما في عصر الرسول فلا يعلم أن أحداً اعترض على شيء من أخباره صلى الله عليه وسلم بأن هذا خبر أحاد لا يفيد العلم، وذاك خبر متواتر يفيد العلم ويجوز النسخ به، بل الكل عندهم سواء في وجوب العلم والعمل. السبب الثاني: أن عصر الرسول كان زمن الوحي وذلك وازع للرواة على تحري الصدق خوفاً من أن يكشف الوحي خفاياهم وأسرارهم، وبعد انقضاء الوحي بموت الرسول صلى الله عليه وسلم قد زال هذا الوازع. وبناء على ذلك، تكون مسألة نسخ القطعي بالظني مفروضة في حق مجتهد بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم تعارض لديه دليلان أحدهما مقطوع به ثبوتاً ودلالة، والآخر محتمل فهل يعمل بالدليل المقطوع به وإن كان متقدماً
على معارضه نظراً لقوته، ويترك العمل بالدليل الظني، وإن كان متأخراً عن معارضه نظراً لضعفه، أم لا بد من الجمع بينهما؟ ومن طرق الجمع كما هو معروف نسخ المتقدم بالمتأخر1، هذا هو محط الخلاف في النسخ القطعي بالظني كما تصوره كتب الأصول القديمة، وإذا علمنا أن زمن النسخ هو زمن نزول الوحي، وفيه يجوز نسخ القرآن بالسنة لاستوائها معه في أن كلاً منهما وحي من الله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 2. وعلمنا أيضاً أن جمهور الأصوليين متفقون مع الحنفية على عدم وقوع نسخ القطعي بالظني، لم يبق أمام الفريقين إلا أن يصطلحوا ويسلموا أن النسخ الذي تضمنته الزيادة على النص في نظر الحنفية، والبيان الذي يقول به الجمهور شيء واحد تعددت أسماؤه واتحد مدلوله. وهذا الاختيار لم يكن عارياً عن الأدلة التي تعضده، بل هناك اعتبارات بعضها سبق وبعضها سيأتي تساند هذا الرأي، كما أنه يتفق وما انتهى إليه البحث في هذه المسألة عند كثير من الباحثين3. فمن الاعتبارات التي سبقت: 1 - أن حمل المطلق على المقيد بيان على رأي الجمهور، وقد
وجدنا الحنفية يسمونه تارة بالزيادة على النص، (وهي نسخ عندهم) وتارة بالترجيح أو بتقديم العمل بالمقيد احتياطاً، كما هو مختار شارح مسلم الثبوت. وهذا يدل على أن مدلول الترجيح والنسخ الذي تضمنته الزيادة شيء واحد عند الحنفية، وإلا لم يجز إطلاقها على مسمى واحد بدون قرينة. 2 - وفي مبحث تحرير محل النزاع في الزيادة على النص تبين أن للزيادة ثلاث حالات. الأولى: أن تكون مقارنة للنص في نزوله، وهذه بيان اتفاقاً. والحال الثانية: أن تتأخر عن وقت العمل، وهذه نسخ اتفاقاً. بقي الحال الثالثة: وهي إذا تأخرت الزيادة عن النص مدة يمكن القول بالنسخ فيها، ولكنها لم تتأخر عن وقت العمل وفي هذه الحالة وقع النزاع. 1 - فالحنفية بناء على إيجابهم وصل مبين النص الذي له ظاهر يمكن العمل به (كالعام والمطلق) وتسميتهم رفع مقتضى الظاهر بالدليل الذي لم يقارن الظاهر حين نزوله نسخاً حكموا على هذا النوع من الزيادة بالنسخ لتحقق شرط النسخ فيها، وهو مضى فترة يتمكن المكلف فيها من عقد القلب والعزم على الفعل. وكان رأي الجمهور في ذلك أن هذا التقدير ليس شرطاً لازماً
للحكم بالنسخ، لجواز تأخير البيان إلى وقت العمل، وما حصل من نسخ الحكم قبل العمل مسلم به، لكنه يرجع إلى قرينة في الدليل الناسخ تدل على أن الشارع أراد من المكلفين العمل بالحكم المنسوخ على إطلاقه ثم اقتضت حكمته عز وجل رفع ذلك الحكم أو بعضه قبل العمل به لمصالح وحِكَم تعجز عن الإحاطة بها عقول البشر. وبهذا التحرير لمحل الخلاف يتبين أن دائرة النزاع في الزيادة على النص محصورة في جواز نسخ الحكم قبل العمل، والجمهور يسلمون بذلك، ولكنهم يمنعون التفريع عليه؛ لأن أمثلة النسخ قبل العمل قليلة ونادرة، وما كان من الأحكام قليل الوقوع يمتنع التفريع عليه، وحينئذ لا بد للفروع الفقهية المنسوبة إلى الخلاف في قاعدة الزيادة على النص من أصل آخر تقوم عليه. وقد توصل إلى ذلك الأصل كثير من الباحثين وقرروا أن السبب في الفروع المنسوبة إلى الخلاف في قاعدة الزيادة على النص هل هي نسخ أو بيان يعود إلى اختلاف الجمهور من الحنفية في شروط العمل بخبر الواحد. وفي هذا الصدد يقول أحدهم1: "وعندي أن الفروع التي ذكروها يعني بها الفروع المنسوبة إلى الخلاف في الزيادة على النص، تدل على أن فقهاء العراق ما كانوا يأخذون بحديث الواحد ما أمكن عمل النص
القرآني وما ثبتت دلالته، ذلك هو المنهاج الذي ذكره العلماء عنهم؛ فهم يأخذون بدلالات القرآن، ومفهوم عباراته وإشاراته، ويتركون حديث الآحاد عند ذلك احتياطاً في قبول الرواية. وترجيحاً لنص قرآني لا شك في صدقه على رواية حديث يحتمل الصدق في وقت راج فيه الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم". وهذا على فرض أن أبا حنيفة عندما قرر هذه الفروع كان يعلم بالأحاديث الواردة في بابها. وإني أشك في أنه كان يعلم بهذه الأحاديث عندما قرر هذه الأحكام؛ إذ أكثرها يتعلق بالعبادات، وأبو حنيفة كان يحتاط في العبادات، كما أن الأحاديث المروية وإن كانت أحاديث تحتمل الآيات الاجتماع معها وإعمال نصها مع ما تدل عليه، كما أعمل أبو يوسف1 حديث الاطمئنان في الركوع والسجود مع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2.
وبالتأمل قليلاً نجد أن أقصى ما تدل عليه التعليلات والأسباب السابقة أن إحجام الحنفية عن قبول خبر الواحد الزائد على ظاهر القرآن إنما كان لرواج الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتمال خبر الواحد الانقطاع، وذلك يزول بزوال سببه وهو الوقوف على صحة الحديث، ومن هنا يتبين أن تعميم الحكم على أحاديث الآحاد فيه نظر، لأن ميزان القبول أو الرفض عندئذ ينبغي أن يكون صحة الحديث أو عدم صحته، لا توهينه واعتباره لا يقول على بيان المراد من الدليل القطعي لمجرد كونه خبر أحاد. والوقوف على صحة الحديث وإن كان فيه مشقة وصعوبة في زمن الإمام أبي حنيفة رحمه الله، لعدم تدوين السنة كاملة في وقته، وأيضاً فقواعد الجرح والتعديل لم تنضج بعد، إلا أنه بعد تدوين السنة ونضوج علم الجرح والتعديل من السهل الوقوف على صحة الحديث، وذلك يكون بعرضه على القواعد والضوابط التي وضعها علماؤنا الكرام لتمييز الخبيث من الطيب وبيان الصحيح من غيره، وهي قواعد أمينة ودقيقة انفردت بها أمتنا عن أمم الأرض قاطبة، وما أحسب الباحث إلا سيجد نماذج صالحة للتطبيق كالذي رأيناه من أبي يوسف حيث أعمل حديث المسيء صلاته مع الآية الكريمة، وحكم بفريضة الطمأنينة في الصلاة مع أن الحديث من أخبار الآحاد.
الفصل الثالث: في أثر الخلاف في حمل المطلق على المقيد
الفصل الثالث: في أثر الخلاف في حمل المطلق على المقيد المبحث الأول: في مسائل متعلقة بالصلاة والطهارة والطواف ... أثر الخلاف على المذاهب الفقهية: في أثناء كلامنا على نوع دلالة الخاص، ذكرنا أنه لا يحتمل البيان عند الحنفية، كما أشرنا إلى أنه تفرع على ذلك الخلاف في مسائل فرعية كثيرة ذكرها بعض أصولي الحنفية عقب الحديث عن دلالة الخاص، وذكرها صدر الشريعة في باب البيان بالزيادة على النص. وهنا نقول: لقد كان لاختلاف العلماء في أن الخاص يحتمل البيان أو لا يحتمله، ولاختلافهم في كون الزيادة على النص نسخاً أو بياناً، ولاختلافهم في الأحوال التي يحمل فيها المطلق على المقيد أثر كبير في الاختلاف في الفروع حيث ترتب على تلك الأسباب منفردة ومجتمعة اختلاف الفقهاء في مسائل فرعية كثيرة1، نذكر فيما يلي بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر، وذلك في ثلاثة مباحث: المبحث الأول في مسائل متعلقة بالصلاة والطهارة والطواف: 1 - حكم الطمأنينة في الصلاة. 2 - اشتراط الطهارة في الطواف.
3 - الخلاف في فرضية قراءة الفاتحة في الصلاة. 4 - الخلاف في فرضية الترتيب في أعضاء الوضوء. 5 - الخلاف في فرضية أو شرطية الترتيب في الطواف. المبحث الثاني: في مسائل متعلقة بالحدود والكفارات: 1 - ضم التغريب إلى الجلد في حكم الزاني. 2 - اشتراط الإيمان في كفارة الظهار. 3 - قطع يد السارق من المفصل. المبحث الثالث: في مسائل متفرقة: 1 - آيتا المشيئة. 2 - آيتا الردة. 3 - حكم مدافعة المار بين يدي المصلي، وأنه مقيد بوجود السترة. 4 - حكم طاعة الأمير وأنه مقيد بما لم يكن معصية.
المبحث الأول في مسائل متعلقة بالصلاة والطهارة والطواف: 1 - حكم الطمأنينة في الصلاة: أ - ذهب أبو حنيفة ومحمد1 رحمهما الله إلى أن الطمأنينة ليست من فرائض الصلاة، بل هي واجبة على رواية، وسنة على رواية أخرى2، والفرض إنما هو الركوع والسجود3. ب - وذهب الجمهور وأبو يوسف من الحنفية إلى أن الطمأنينة فرض من فروض الصلاة تبطل الصلاة بتركها4. وكان من الأسباب التي أدت إلى هذا الخلاف ذكر الركوع والسجود مطلقاً في قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا
وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1 وجاء في حديث شريف اشتهر بحديث الأعرابي المسيء صلاته، ما يفيد أن الرجوع والسجود لا بد فيهما من الاطمئنان، حيث قال له الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث: "ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" 2. فالحنفية بناء على قاعدتهم في أن الخاص لا يحتمل البيان، وأن الزيادة على النص نسخ له، ونسخ القطعي بالظني غير جائز، قالوا بعدم فرضية الطمأنينة في الصلاة. واستدلوا على ذلك بأدلة منها: أولاً: ما ذكره البزدوي في أصوله حيث يقول: (ومن الخاص الذي لا يحتمل التصرف فيه بطريق البيان قوله - تعالى -: {وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} 3 والركوع اسم معلوم، وهو الميلان عن الاستواء بما يقطع اسم الاستواء، فلا يكون إلحاق التعديل به على سبيل الفرض حتى تفسد الصلاة بتركه بياناً صحيحاً؛ لأنه بَيّنٌ في نفسه، بل يكون إلحاق التعديل
على سبيل الفرض رفعاً لحكم الكتاب بخبر الواحد"1. وذلك لا يجوز، ويزيد ذلك توضيحاً كلام شارح البزدوي؛ إذ يقول: (لا يكون إلحاق التعديل على وجه الفرض؛ لأن من شرط التحاق خبر الواحد بياناً للكتاب أن يكون فيما التحق به إجمال؛ لأنه لو لم يكن كذلك يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد، وقد عدم هنا؛ لأنه بين بنفسه فلم يصد لعدم شرطه"2. واستدلوا أيضاً: بحديث المسيء صلاته الذي هو عمدة الجمهور في الفرضية، حيث قالوا قد جاء في بعض روايات الحديث: "فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك، وما انتقصته من هذا فإنما انتقصته من صلاتك"3. ووجه الاستدلال بهذه الرواية من ناحيتين: الأولى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى ما صنعه الأعرابي صلاة حيث قال: "وما انتقصته من هذا شيئاً فإنما انتقصته من صلاتك".
والثانية: ترك الرسول صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته بعد أول ركعة حتى أتم، ولو كان عدم الطمأنينة مفسداً للصلاة لفسدت الصلاة بأول ركعة، وبعد الفساد لا يحل المضي في الصلاة، فتقرير الرسول له دليل على عدم بطلان صلاته. ثم أجاب الحنفية عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ارجع فصل فإنك لم تصل على الصلاة الخالية من الإثم أو على الصلاة المسنونة" 1. وأما الجمهور: فلأن الزيادة عندهم ليست بنسخ، والخاص يحتمل البيان كما يحتمل التأويل بالمجاز قالوا: إن الآية التي ذكر فيها الركوع والسجود مطلقة وحديث الأعرابي مبين لهذا الإطلاق، ولا مانع من بيان القطعي بأخبار الآحاد؛ لأن البيان لا يشترط فيه المساواة. وأيضاً فإن المقصود بالركوع والسجود المعنى الشرعي لهما، ولا شك أن الحقائق الشرعية لا تعرف إلا بطريق الشرع، وحيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين المراد بالركوع والسجود بقوله وفعله، يجب الرجوع إلى بيانه صلى الله عليه وسلم2. واستدل الجمهور أيضاً: فقالوا: قد ذكر في حديث الأعرابي الأفعال والأقوال التي يجب
الإتيان بها في كل ركعة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". وسكت الحديث عن السنن والمستحبات التي تركها لا تبطل به الصلاة، وحيث إن الطمأنينة قد ذكرت بجانب الواجبات فهي واجبة وليست سنة. 3 - ومن أدلتهم على فرضية الطمأنينة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود" 1، وهذا نص في محل النزاع كما ترى. والذي يظهر أن الطمأنينة من فروض الصلاة؛ لأن الركوع والسجود وغيرها من أبعاض الصلاة حقائق شرعية، وهي محمولة على عرف الشارع، لا على عرف غيره؛ لأن الرسول بعث لتعريف الشرعيات لا لتعريف الموضوعات اللغوية، فينبغي الوقوف والاقتصار على ما جاء به الشارع من بيان لهذه الحقائق"2.
2 - اشتراط الطهارة في الطواف: أ - ذهب الحنفية وابن حزم1 إلى أن الطَّهَارةَ ليست بشرط في صحة الطواف، بل هي واجبة على أصح الروايات عند الحنفية، وقيل: سنة، فمن طاف طواف القدوم محدثاً فعليه صدقة؛ ولو طاف طواف الإفاضة محدثاً فعليه شاة، ومن كان جنباً فعليه بدنة، ويؤمر بإعادة الطواف ما دام بمكة استحباباً في الحدث، ووجوباً في الجنابة ولا شيء عليه إذا أعاد. ب - وذهب الشافعية والمالكية وأحمد في المشهور إلى أن الطهارة من الحدثين الأصغر والأكبر شرط من شروط الطواف لا يصح إلا بها. واستدل الحنفية: بأن الله سبحانه وتعالى أمر بالطواف في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، والطواف هو الدوران حول الكعبة من غير قيد الطهارة، فيكون اشتراط قيد الطهارة زيادة على النص القرآني
بخبر الواحد وهو لا يصح ناسخاً1. قال في المبسوط: "وحجتنا في ذلك أن المأمور به بالنص هو الطواف: قال الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وهو اسم للدوران حول البيت، وذلك يتحقق من المحدث والطاهر، واشتراط الطهارة فيه زيادة على النص، ومثل هذه الزيادة لا تثبت بخبر الواحد، ولا بالقياس؛ لأن الركنية لا تثبت إلا بالنص، فأما الوجوب فيثبت بخبر الواحد؛ لأنه يوجب العمل ولا يوجب اليقين2. واستدل الجمهور: على اشتراط الطهارة في الطواف، بأمور منها: 1 - أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا عني مناسككم" 3، وقد ورد في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أن أول شيء بدأ به الرسول حين قدم مكة، أنه توضأ ثم طاف بالبيت، فكان هذا الفعل بياناً لقوله - تعالى -: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} .
2 - ومنها: ما رواه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه" 1. ومن شروط الصلاة الطهارة، فكذلك الطواف يشترط فيه الطهارة؛ لأنه صلاة بنص الحديث. ورد هذا الاستدلال من قبل الحنفية بأن المشبه لا يلزم أن يكون مثل المشبه به من كل وجه، ومعلوم أن قوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة" تشبيه الطواف بالصلاة، وقد نبه على الفرق بينهما بقوله صلى الله عليه وسلم "إلا أن الله أحل فيه الكلام"، فالطواف يجوز فيه ما لا يجوز في الصلاة، فلا يشترط فيه كل ما يشترط في الصلاة، فلا تشترط فيها الطهارة2. ودفع هذا الاعتراض بالآتي: أ - أن الأصل في الإطلاق الحقيقة، وقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم على الطواف اسم الصلاة فيكون صلاة حقيقة، وهي حقيقة شرعية، ويكون لفظ الصلاة مشتركاً لفظياً بين الصلاة المعهودة وبين الطواف. ب - وأما قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم نبه على الفرق بين الطواف والصلاة
بأن الكلام فيه مباح، فالجواب أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أنه صلاة، فثبت له جميع أحكام الصلاة، إلا ما استثنى من هذه الأحكام كإباحة المشي في الطواف، والاستثناء معيار العموم1. 3 - ومن أدلة الجمهور أيضاً: ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها حينما طمثت في الحج: "افعلي كما يفعل الحاج، غير ألاّ تطوفي بالبيت حتى تطهري" 2، فقد رتب منع الطواف على فقدان الطهارة، وهذا حكم وسبب، والظاهر أن الحكم يتعلق بالسبب، فيكون المنع لعدم الطهارة لا لعدم دخول الحائض المسجد3. وأجاب الحنفية بأنه ليس كل عبادة تمنع منها الحائض تشترط فيها الطهارة، فالصيام لا يشترط فيه الطهارة والحائض ممنوعة من فعله؛ فالعلة
غير مطردة1.
3 - الخلاف في فرضية قراءة الفاتحة في الصلاة للقادر: اختلف العلماء في القراءة الواجبة في الصلاة على قولين: القول الأول: إن ركن القراءة الواجبة في الصلاة هي الفاتحة. وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة.1 القول الثاني: أن الفرض هو القراءة المطلقة، والفاتحة زيادة. وهو قول الحنفية،2 وليست ركناً من أركان الصلاة، بل هي واجب من واجباتها.3 وتراجع أدلة الأقوال ومناقشتها في المراجع المذكورة في الحاشية.
4 - الخلاف في فرضية الترتيب في أعضاء الوضوء: اختلف العلماء في ترتيب أعضاء الوضوء على قولين مشهورين: القول الأول: أن الترتيب فرض من فروض الوضوء؛ أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم: " ابدؤوا بما بدأ الله به" 1 الشامل للوضوء، وهو وإن ورد في الحج إلا أنه عام، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ومن فعله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يتوضأ إلا مرتباً، ولو لم يجب لتركه في وقت، أو دلّ عليه بياناً للجواز.2 وهذا مذهب الجمهور ومنهم الإمام الشافعي والإمام أحمد.3 القول الثاني: وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وهو أن الترتيب سنة من سنن الوضوء؛ جرياً على أصلهم من أن الزيادة على النص نسخ، فيشترط أن يكون الناسخ متساوياً مع المنسوخ؛ إذ القرآن لم يأمر إلا
بتطهير أربعة أعضاء. وتطهيرها حاصل بدون الترتيب.1
5 - الخلاف في فرضية أو شرطية الترتيب في الطواف: وهذه المسألة مثل مسألة الترتيب في أعضاء الوضوء، والتعليل قريباً من بعض، وهو أن الوارد في القرآن الأمر بالطواف، وهو يتحقق بما يُسمى طوافاً، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار، إلا أن الزيادة على المرة الواحدة إلى أكثر الأشواط ثابت بدليل آخر وهو الإجماع، ولا إجماع في الزيادة على أكثر الأشواط، وإنما ثبت ذلك بالسنة الأحادية، وهي لا توجب أكثر من الوجوب، فيثبت بها الوجوب دون الفرض في الزائد على أكثر الأشواط والترتيب؛ لأنه لم يرد فيه نص قطعي.1
المبحث الثاني: في مسائل متعلقة بالحدود والكفارات
المبحث الثاني في مسائل متعلقة بالحدود والكفارات: 1 - التغريب على الزاني البكر: اتفق المسلمون على أن الزاني البكر والزانية البكر يجلدان مائة جلدة لقوله - تعالى -: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 1. واختلف الفقهاء: في ضم التغريب إلى الجلد في حق الزاني البكر أيعتبر جزءاً من الحد أم لا يعتبر جزءاً منه؟ أ - فذهب الحنفية إلى أن الحد هو الجلد مائة فقط، وليس التغريب جزءاً منه، بل هو من باب التعزير الموكول إلى نظر الإمام إن رأى مصلحة غرب تعزيراً لا حداً2. ب - وذهب الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة إلى أن التغريب جزء من الحد3. وكان من الأسباب التي أدت إلى هذا الخلاف ورود الجلد مطلقاً
عن قيد التغريب في القرآن، وورود التغريب في السنة الأحادية1. فالحنفية بناء على قاعدتهم في أن الزيادة على النص نسخ له قالوا: بعدم التغريب؛ لأن هذه الزيادة لم تثبت بطريق صالحة لنسخ مطلق الكتاب. وأما الجمهور؛ فلأن الزيادة عندهم بيان قالوا: بوجوب التغريب ولو كان طريق ثبوته بأخبار الآحاد؛ لأن البيان لا يشترط فيه مساواة المبين للمبين. وقد مال إلى مذهب الحنفية في هذه المسألة الدكتور مصطفى الزلمي في رسالته أسباب اختلاف الفقهاء، معللاً ذلك بأن قوله - تعالى -: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} ، نص قطعي الدلالة والثبوت، والمراد منه بين في نفسه، فلا إجمال فيه حتى يبينه الحديث.
ثم قال: إن التغريب عقوبة تبعية، وليست من أصل الحد، غير أن تعليل الحنفية ذلك بأنه زيادة على النص وهي نسخ؛ فلا تجوز بخبر الواحد تعليل غير سليم بالإضافة إلى أنه منقوص بكثير من تطبيقاتهم الفقهية المبنية على الزيادة على النص، كنقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة1 وغيرها. وهذا التعليل مدفوع: بأن الجمهور لا يقولون: إن الحديث بَيَّن المراد من الآية، بل هو بيان أن الحد مجموع الأمرين، والآية لم تتعرض له، وإنما ذكرت أن الزاني يجلد مائة جلدة، وهذا مسلم به. قال الشوكاني: "إن النبي صلى الله عليه وسلم هو المبيِّن لمراد الله تعالى، وقد أقسم في الحديث الذي وردت فيه الزيادة على أن الجمع بين الجلد والتغريب قضاء2 بكتاب الله، ثم خطب بذلك عمر رضي الله عنه على رؤوس
المنابر وعمل به الخلفاء الراشدون، ولم ينكره أحد فكان إجماعاً"، وبالنسبة1 لقوة الحديث، يقول الشوكاني في هذا الصدد: "إن أحاديث التغريب قد جاوزت حد الشهرة عند الحنفية، فيما ورد من السنن زائداً على القرآن، فليس لهم معذرة عنها بذلك، وقد عملوا بما هو دونها بمراحل مع أنه زيادة على ما في القرآن، وأيضاً فليست هذه الزيادة مما يخرج بها المزيد عليه عن أن يكون مجزئاًَ حتى تتجه دعوى النسخ"2.
2 - اشتراط الإيمان في كفارة الظهار: 1 - ذهب الحنفية ومن وافقهم إلى أن الإيمان في كفارة الظهار ليس شرطاً وأن الرقبة الكافرة تجزئ1. واستدلوا على ذلك فقالوا: إن المنصوص في آية الظهار هو اسم الرقبة وليس فيها ما ينبئ عن صفة الإيمان أو الكفر، فالتقييد بصفة الإيمان مثلاً: يكون زيادة على النص القرآني وهي لا تثبت بخبر الآحاد أو القياس. 2 - وذهب الجمهور إلى اشتراط الإيمان، وقالوا: إن غير المؤمنة لا تجزئ لقوله - تعالى -: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} 2، ولا خبث أشد من الكفر، وبما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم برقبة سوداء، وقال: علي رقبة أفتجزئ عني، فامتحنها الرسول بالإيمان فوجدها مؤمنة فقال له: أعتقها فإنها مؤمنة"؛ فامتحانه إياها بالإيمان دليل على أن الواجب لا يتأدي بغير المؤمنة؛ ولأن ذلك تحرير في تكفير، فلا يجزئ فيه غير المؤمنة كما في كفارة القتل الخطأ3.
3 - قطع يد السارق من المفصل: يطلق القطع على الإبانة، وعلى الجرح - أي شق العضو من غير إبانة له بالكلية - ولما كان الأصل في الإطلاق الحقيقة فيكون مشتركاً لفظياً بينهما. ولا قرينة ترجح أحدهما على الآخر فيكون مجملاً. والمجمل لا يُعمل به إلا بعد البيان، وقد بيّنت السنة الفعلية بأن القطع من مفصل الكوع، فكان ذلك تفصيلاً للمعنى الإجمالي للآية؛ إذ روي عن عمرو بن شعيب أنه قال: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسارق فقطع يده من مفصل الكف".1 وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "كانت السنة في القطع الكفين".2 فمن يرى أن الأمر بالقطع من الخاص الذي لا يحتمل البيان يشترط في السنة أن تكون متواترة أو مشهورة حتى تقوى على بيان قطعي الكتاب.
ومن لا يرى ذلك ويجوز بيان الكتاب بالسنة ولو كانت أحادية، يجوز عنده بيان قطعي الكتاب بظني السنة؛ لأنه لا يشترط في المبيِّن مساواته للمبيَّن.1
المبحث الثالث: في مسائل متفرقة
المبحث الثالث: في مسائل متفرقة 1 - آيتا المشيئة، وسميتا بذلك لذكر المشيئة فيهما مرة مطلقة ومرة مقيدة: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} 1، ناسخ لقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا} 2، وهذا على التحقيق من باب تقييد المطلق؛ لأن قوله: {نُؤتِهِ مِنْهَا} مطلق ومعناه مقيد بالمشيئة وإلا فهو إخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ، والسبب الذي دعا ابن عباس إلى تسمية ذلك نسخاً هو: أن السَّلَف كانوا يسمون التخصيص والتقييد والبيان نسخاً، لأن المعنى اللغوي متحقق في ذلك، وهو مطلق التغيير المتبادر من اللفظ الأول بعد مجيء اللفظ الثاني.
2 - اختلاف الإمامين مالك والشافعي - رحمهما الله - فيمن ارتد والعياذ بالله: ذهب مالك - رحمه الله - إلى أن عمل المرتد يبطل بمجرد ردته لقول تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1. وقال الشافعي -رحمه الله -لا يبطل عمله إلا بالوفاة على الكفر، لأن المطلق هنا محمول على المقيد في قوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 2. واعترض مالك دليل الشافعي هذا وقال: إن الآية الثانية ليست مقيدة للآية الأولى؛ لأنه قد ترتب فيها مشروطان، وهما الحبوط والخلود على شرطين، هما الردة والوفاة على الكفر، وإذا رتب مشروطان على شرطين أمكن التوزيع، فيكون الحبوط لمطلق الردة، والخلود لأجل الوفاة على الكفر، وحينئذ يبقى المطلق على إطلاقه لعدم التعارض، فتكون الآيتان خارجتين عن باب حمل المطلق على المقيد. ودفع هذا الاعتراض بأن قوله: إذا رتب مشروطان على شرطين
وأمكن التوزيع عمل به صحيح، ولكنه مشروط بأن يصح استقلال كل من المشروطين عن الآخر، أما إذا لم يصح الاستقلال فلا، والمشروطان في هذه المسألة من النوع الثاني الذي لا يصح فيه الاستقلال؛ لأنهما سبب ومسبب، والسبب لا يستغني عن مسببه، وكذلك المسبب لا يستغني عن سببه، فمال قاله الشافعي أوجه1.
3 - حكم مدافعة المار بين يدي المصلي، وأنه مقيد بوجود السترة: ورد في شأن هذه المسألة حديثان صحيحان: الأول: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يدي المصلي". وهذا حديث مطلق؛ حيث لم يذكر فيه أن المصلي له سترة أو لا. والثاني: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبي فليقاتله، فإنما هو شيطان". وهذا الحديث مقيد بما إذا صلى إلى شيء يستره. ولهذا قال في تيسير العلام شرح عمدة الأحكام: "ما ورد من دفع المار ومقاتلته، وعدم الضمان في ذلك، لمن جعل أمامه سترة. فأما من لم يجعل سترة، فليس له حرمة؛ لأنه المفرط في ذلك، كما هو مفهوم الحديث".1
4 - حكم طاعة الأمير، وأنه مقيد بما لم يكن معصية: قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} 1، والمراد بأولي الأمر كل من له ولاية شرعية، سواء كان الأمير العام، أو العالم الشرعي، أو الأمير أو الرئيس الخاص بالإنسان، وهذه الآية الكريمة قد أوجبت طاعة أولي الأمر، وهذا الأمر في الآية قد جاء مطلقاً، لكن هذا الإطلاق قد جاء تقييده في نصوص أخرى، منها حديث: "إنما الطاعة في المعروف"2، وحديث: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"3، وغير ذلك من النصوص التي تدل على اشتراط أن تكون الطاعة في غير معصية الله تعالى.4
الباب الثالث: في مقيدات المطلق
الباب الثالث: في مقيدات المطلق الفصل الأول: في تقسيم المقيدات وحكم المتصل منها ... تمهيد في العلاقة بين مخصصات العام ومقيدات المطلق جرت عادة جمهور الأصوليين أن يتكلموا عن العام والخاص قبل الكلام على المطلق والمقيد، وقد أفاض الأصوليون في الكلام على تخصيص العام والمخصصات التي يقع بها التخصيص. وحيث كان هناك شبه بين مخصصات العام ومقيدات المطلق، اكتفى الأصوليون عن تفصيل القول في مقيدات المطلق بما قالوه في باب التخصيص والمخصصات، ثم أحالوا من أراد الاستزادة على ذلك، يقول الآمدي في أحكامه بعد أن عرف المطلق والمقيد: "وإذا عرف معنى المطلق والمقيد فكل ما ذكرناه في مخصصات العموم فهو بعينه جار في مقيدات المطلق، فعليك باعتباره ونقله إلى هنا"1. ويقول الشوكاني في إرشاد الفحول: "اعلم أن ما ذكر في التخصيص للعام فهو جار في تقييد المطلق فارجع في تفاصيل ذلك إلى ما تقدم في باب التخصيص"2. لكن بعض3 شراح الكتب الأصولية خطا خطوة في البيان عن
مقيدات المطلق فلم يكتف بالإحالة كما فعل غيره، فخص بعض المقيدات بالذكر، ومن هؤلاء الأنصاري في غاية الوصول حيث ذكر أن ما يخص به العام يقيد به المطلق، وما لا يخص العام لا يقيد به المطلق، وعلل ذلك بأن المطلق عام من حيث المعنى، ثم فرع على هاتين القاعدتين فقال: "يجوز تقييد الكتاب به وبالسنة والسنة بها وبالكتاب، ويجوز تقييدهما بالقياس، والمفهومين، وفعل الرسول وتقريره بخلاف مذهب الراوي وذكر بعض جزئيات المطلق على الأصح في غير مفهوم الموافقة"1. وذكر البناني في حاشيته على شرح المحلى وجمع الجوامع مثل ما ذكره الأنصاري، وكذلك صاحب الكوكب المنير2. وهذا يعني أن الكلام على مقيدات المطلق وأحكام التقييد والتمثيل لها فيه شيء من الصعوبة، لقلة من كتبوا فيه بالتفصيل، وبناء على إرشادات الأصوليين الآنفة الذكر، فإن منهجي في بحث مقيدات المطلق يعتمد على الرجوع إلى ما كتبه الأصوليون في مخصصات العام، واعتبار ذلك في مقيدات المطلق، وحيث تكون الحاجة ماسة إلى ذكر أقوال
العلماء في القاعدة والتمثيل لها، فإني أذكر ما قيل في التخصيص والمخصصات ليكون دليلاً على مرادهم في تقييد المطلق. ولكن إذا كان الحكم لا ينطبق على المطلق لما سبق من الفرق بينه وبين العام، فإني أُبيِّن ذلك، اعتقاداً مني أن الاختلاف في الذات يبنى عليه الاختلاف في الأحكام، وهذا يقتضي أن أعرض ما قيل في مخصصات العام على أحكام المطلق وخصائصه السابقة، فما لا يتعارض معها جاز التقييد به، وما كان منها متعارضاًَ مع تلك الخصائص والأحكام منعنا التقييد به وبينا السبب في ذلك. وقبل أن نبدأ في تفصيل الكلام على مقيدات المطلق ينبغي أن نعرف معنى التقييد والمقيد باسم الفاعل والفرق بين التقييد والتخصيص وبينهما وبين النسخ، فنقول: 1 - التقييد: تفعيل، مأخوذ من الفعل الرباعي: "قَيَّدَ" يقال: قَيّد الحيوان تقييداً؛ إذا جعل في رجله قيداً ونحوه من موانع الحركة. وفي الاصطلاح: إضافة قيد إلى اللفظ المطلق واعتبار ذلك في مدلوله، وحيث عرفنا المُقَيّد باسم المفعول فيما سلف بأنه اللفظ الذي اقترن به ما يحد من شيوعه وانتشاره بين أفراد جنسه. يمكن تعريف التقييد بأنه: "تحديد شيوع اللفظ المطلق بقيد يقلل من
انتشاره بين أفراد جنسه"1. 2 - أما المُقَيِّدُ باسم الفاعل: فقد اختلف العلماء في المراد به، وكان لهم في ذلك رأيان: الأول: أن المقيد إرادة المتكلم، والدليل كاشف عن تلك الإدارة، واختار هذا القول، كما يقول الشوكاني: ابن برهان2 وفخر الدين الرازي. الثاني: أن المقيد هو الدليل الذي وقع به التقييد، والحق أن المقيِّد حقيقة هو المتكلم لكن لما كان المتكلم يقيد بالإرادة أسند التقييد إلى إرادته فجعلت مُقَيَّدة، ثم جعل ما دل على إرادة المتكلم وهو الدليل مقيداً في الاصطلاح والمراد: - هنا - إنّما هو الدليل الذي يحصل به التقييد3.
3 - الفرق بين التقييد والتخصيص: أ - ذهب جمهور الأصوليين - ومنهم الشافعية والمالكية والحنابلة - إلى عدم التفريق بين التقييد والتخصيص، حيث يطلقون على كل منهما قصراً أو تخصيصاً على سبيل الترادف، وذلك؛ لأن التخصيص عندهم هو: قصر شمول العام على بعض أفراده بدليل1، أو هو إخراج بعض ما كان داخلاً تحت العموم على تقدير عدم المخصص2 والمطلق عندهم نوع من العام فيسمى تقييده قصراً أو تخصيصاً. ب - وذهب الحنفية إلى التفرقة بين التخصيص والتقييد فقالوا: إن التقييد نوع من قصر العام على أفراده، ولكنه لا يسمى تخصيصاً في الاصطلاح، لعدم استقلال الدليل الذي يكون به التقييد عن اللفظ العام في المعنى. وأما التخصيص: فهو "قصر العام بدليل مستقل مقارن للعام في نزوله ومساوٍ له في قوته" 3.
فأساس التفرقة يقوم على أن مفهوم التخصيص عند الحنفية أخص منه لدى الجمهور؛ إذ يشترط الحنفية في المخصص للعام ابتداءً إذا كان كلاماً1 أن تتوفر فيه ثلاثة شروط لا يرى الجمهور اشتراطها في المخصص. الأول: استقلال المخصص في المعنى؛ بحيث يكون نصاً مفيداً تام المعنى في ذاته. الثاني: أن يكون مقارناً للعام في زمن تشريعه. الثالث: مساواته للعام في الدلالة والثبوت، فإذا كان الدليل غير مستقل في معناه فهو عند الحنفية يسمى قصراً لا تخصيصاً، ومرادهم من هذا الدليل غير المستقل المخصصات المتصلة، كالصفة والشرط والغاية ونحوها؛ فإن كلاً من هذه القيود لو فصل عما قبله لم يفدْ شيئاً؛ إذ هي ليست مستقلة في معناها، بل هي تابعة للكلام السابق2، على أن الحنفية يجوزون إطلاق لفظ القصر على التخصيص دون العكس، وبذلك يكون القصر عندهم أعم، فكل تخصيص قصر وليس كل قصر تخصيصاً3.
وحيث عرفنا معنى التقييد والتخصيص عند الجمهور والحنفية نلخص الفروق بينهما في النقاط التالية على رأي الحنفية مع التنبيه إلى أنه يمكن إرجاع تلك الفروق إلى الاختلاف بين العام والمطلق الذي سبق الكلام عليه في أثناء حديثنا عن دلالة المطلق فنقول: 1 - يؤخذ من تعريف التقييد أنه إخراج ما كان صالحاً لتناول اللفظ المطلق عن طريق البدل لولا ورود المقيد. كما يؤخذ من تعريف التخصيص أنه إخراج لبعض الأفراد التي استغرقها اللفظ العام بوضعه اللغوي على تقدير عدم المخصص. 2 - التقييد تصرف فيما سكت عنه اللفظ المطلق، وأما التخصيص فهو تصرف فيما تناوله اللفظ العام ظاهراً، فلو قلت: "أعط الرجل الفقير درهماً بعد قولك: "أعط الرجل درهماً" لكان التقييد بالصفة - وهي الفقر هنا - تصرفاً فيما سكت عنه لفظ "الرجل" في وضعه اللغوي وبياناً له؛ لأن لفظ الرجل في وضعه اللغوي إنما يدل على خلاف المرأة، وهو كما ترى لا يدل على غني أو فقير، بل هو ساكت عن ذلك، فجاء التقييد إذاً تصرفاً فيما سكت عنه اللفظ في الوضع اللغوي ومبيناً لما لم يتناوله لغة بخلاف التخصيص؛ فإنه تصرف فيما تناوله اللفظ ظاهراً؛ لأنه لو قيل في العام: "عاقب المذنبين" ثم قيل: "لا تعاقب الأطفال منهم"، لكان القسم الأول من الكلام وهو "عاقب المذنبين" متناولاً للقسم الثاني بوضعه اللغوي، وعملاً بدلالة العموم، فجاء الشطر الثاني من الكلام متصرفاً فيما
تناوله الشطر الأول لغة ومبيناً عدم شموله للأطفال المذنبين. 3 - التقييد من حيث هو يقتضي إيجاب شيء زائد، فلو قال الشارع: "اعتق رقبة" أجزأ المأمور بالعتق إعتاق أيّ رقبة كانت، سواء كانت مؤمنة أو كافرة، ولكن إذا قيدها بالإيمان فقال: "أعتق رقبة مؤمنة" وجب على المأمور إعتاق رقبة مؤمنة، ولا يجزئه غيرها، فالتقييد إذاً زيادة قيد على اللفظ المطلق واعتبار ذلك في مدلوله وفيه نوع مشقة1. أما التخصيص فهو في حقيقته لا يقتضي الإيجاب، وإنما يقتضي الدفع لبعض ما تناوله الحكم العام، وذلك نقصان في الحكم وتخفيف عن المكلف2. 4 - التقييد مفرد والتخصيص جملة، ومراد الأصوليين بالمفرد هنا ما لا يستقل بنفسه عن إفادة تمام المعنى، وبالجملة ما كان مستقلاً بذاته في إفادة المعنى. 5 - التقييد أعم من التخصيص؛ لأنه يدخل على الخاص، وقد
يدخل على العام، بخلاف التخصيص؛ فإنه لا يدخل إلا على العام1. 4 - الفرق بين التقييد والنسخ: عرفنا معنى التقييد ولبيان الفرق بينه وبين النسخ لا بد من تحديد مفهوم النسخ عند المتقدمين والمتأخرين. النسخ في لسان السلف يطلق ويراد به رفع الحكم تارة، ورفع ما اقتضاه اللفظ العام والمطلق تارة أخرى، وبيان المراد من اللفظ المجمل والمبهم تارة ثالثة، حتى إنهم كانوا يسمون الإخراج بالاستثناء والصفة نسخاً، لتضمن ذلك كله رفع الظاهر من اللفظ، وبيان أن مراد الشارع في التكليف والعمل هو ما دل عليه الناسخ حقيقة، وما دل عليه المخصص والمقيد ظاهراً2، وهذا المفهوم للنسخ أعم من المفهوم المصطلح عليه لدى علماء الأصول، حيث خصوا اسم النسخ بالنوع الأول، وعرفوه بناء على ذلك بأنه: "رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متراخ عنه" 3، فعلى اصطلاح الأصوليين تظهر الفروق بين التقييد والنسخ في المقارنة التالية، وهي من ناحيتين:
الأولى: في أوجه الاتفاق بين التقييد والنسخ: 1 - حيث يتفق التقييد والنسخ في أن كلا منهما بيان للمطلوب من المكلف ومعنى ذلك: أنه بعد مجيء المخصص والمقيد والمبين قد أصبح حكم اللفظ العام والمطلق والمجمل مشابهاً لحكم اللفظ المنسوخ في الظاهر من حيث العمل فيما يستقبل من الزمان. ووجه الشبه: أن في كل منها تركاً لما أفاده اللفظ الأول ظاهراً، إما حقيقة كما في اللفظ المنسوخ وإما ظاهراً كما في العام المخصوص والمطلق المقيد، والمجمل المبين، إذا كان إجماله من وجه أو على القول، بأنه ما تساوت فيه الدلالة، ولهذا استسهل السلف إطلاق اسم النسخ على المراد من هذه الألفاظ لاشتراكها في معنى واحد1، وهو تغيير اللفظ الأول بعد مجيء الثاني. 2 - أن كلا منهما قائم على التعارض بين النصين، وإن كان التعارض بين المطلق والمقيد لا يعد تعارضا إذا قيس بالتعارض الذي يقوم عليه النسخ؛ لأن التقييد فيه عمل بالدليلين، بخلاف النسخ الكلي؛ فإن فيه عملاً بالدليل الناسخ، وإهداراً للدليل المنسوخ. 3 - ذكر بعض أصحاب الأصول أن في كل من التقييد والنسخ
تركاً للمطلق، والدليل المنسوخ وعملاً بالمقيد والدليل الناسخ، وهذا لا يطرد إلا في النسخ الكلي؛ فإنه يعمل فيه بالدليل الناسخ فقط، وأما المطلق فإننا عندما ضيقنا دائرته بالقيد الذي ورد عليه لم نهمله بالكلية، بل عملنا به في بعض أحواله1، وهذا هو مراد الشارع منه، بخلاف النسخ فقد نسخ مراد الشارع من الحكم. الناحية الثانية: في أوجه الفرق بين التقييد والنسخ: يفترق التقييد والنسخ في الأوجه التالية: 1 - أن النص المطلق لم يرتفع حكمه، وإنما ضاقت دائرته بالقيد الذي ورد عليه، أما المنسوخ فقد رفع حكمه بالدليل الناسخ. 2 - المطلق ما زال كما هو دليلاً على الحكم مع مراعاة القيد عند العمل. أما المنسوخ: فلا يمكن أن يعتبر دليلاً بعد نسخه، فالتقييد على هذا وصف للنص المطلق يقلل من مدلوله، والنسخ ليس كذلك؛ لأنه إهدار للدليل المنسوخ، هذا إذا كان النسخ كلياً، أما عند من يرى النسخ الجزئيَّ؛ فلا مانع من أن يكون الحكم المنسوخ بعضه معمولاً به باعتبار البعض الذي لم يدخله النسخ.
3 - التقيد مفرد، لأنه وصف للمطلق في المعنى كما سبق، والأصل في الوصف أن يكون بلفظ مفرد، ومن ثم فهو غير مستقل بنفسه عن الموصوف. أما النسخ: فهو جملة تامة في معناها، لأن من شرطه التأخر عن المنسوخ والاستقلال في المعنى لازم له. 4 - التقييد يقع بالسابق والمقارن واللاحق الذي لم يتأخر عن وقت العمل عند جمهور الأصوليين. أما النسخ: فلا يكون إلا باللاحق أي بالمتأخر في نزوله عن المنسوخ، ومذهب الحنفية في التقييد بالمتأخر كالتخصيص به، يعتبرون كليهما نسخاً1، فعلى هذا التقييد وإن كان نسخاً فهو أعم من النسخ المتعارف، من حيث ما يثبت به أو من حيث طريقه. 5 - التقييد: قد يدخل على الأوامر والأخبار وغيرهما إذا اشتملت على حكم شرعي2. أما النسخ: فلا يدخل إلا على الأحكام الشرعية، وعليه فالتقييد أعم من حيث المحل.
الفصل الأول في تقسيم المقيدات وحكم المتصل منها
أولاً: تقسيم المقيدات: تقدم لنا معنى التقييد وأنه تحديد شيوع اللفظ المطلق بما يقلل من انتشاره بين أفراد جنسه. وكلامنا في هذا الفصل في بيان بأي شيء يكون التقييد؟ ونظراً إلى التشابه الموجود بين العام والمطلق، فإن مقيدات المطلق تختلف تبعاً لاختلاف المذاهب في مخصصات العموم، وشروط المخصص ولكنها في الجملة: 1 - إما أن تكون كلاماً. 2 - أو غير كلام، ويراد بغير الكلام هنا التخصيص بالعقل والحس 1 ونحوهما. والمقيدات الكلامية تنقسم إلى قسمين أيضاً:
أ - مقيدات متصلة: وهي ما كانت غير مستقلة بنفسها، بل تابعة للمطلق في تمام الفائدة مثل: التقييد بالشرط والصفة ونحوهما. ب - ومقيدات منفصلة: وهي ما كانت مستقلة بنفسها عن اللفظ بتمام الفائدة، وهذا القسم يتنوع إلى نوعين: 1 - مستقل مقارن للمطلق في نزوله إن كان قرآناً أو في وروده إن كان سنة. 2 - ومستقل متأخر عن اللفظ المطلق كما سيأتي. وتقسيم المقيدات إلى متصلة ومنفصلة إنما هو على رأي الجمهور ومنهم الشافعية 1، وخالف في ذلك الحنفية حيث قصروا المقيدات على ما كان منفصلاً مقارناً دون المتصل والمستقل المتأخر؛ فلا يسمى كل منهما مقيداً عند الحنفية. أما المتصل: فقد منعوا 2 التقييد به لأمرين: الأول: ما سبق أن شرط المقيد عندهم أن يكون مستقلاً بتمام
الفائدة عن اللفظ المطلق، والمقيدات المتصلة في نظرهم ليست كذلك؛ لأنها أجزاء من الكلام المتصلة به، لا غنى لها عنه، ولا استقلال لها بدونه 1. والثاني: أن التقييد عندهم لا بد فيه من معنى المعارضة، والتقييد بالصفة والشرط ونحوهما من المقيدات المتصلة لا يتصور إلا مع القول بمفهوم المخالفة وهم لا يقولون به، كما سلف. وأما إذا كان الدليل مستقلاً ومتأخراً عن المطلق مدة يصح القول فيها بالنسخ؛ فإنه يكون ناسخاً 2 لا مقيداً عند الحنفية إن تساوى مع المطلق في قوة الثبوت والدلالة.
ثانياً: أقوال العلماء في المقيدات المتصلة: سلف أن عرّفنا المقيدات المتصلة بأنها: ما لا يستقل بنفسه عن اللفظ المطلق، بل يكون تابعاً للمطلق في تمام معناه 1. مثل قوله - تعالى -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} ؛ فإن لفظ مؤمنة غير مستقل في الدلالة؛ لأن دلالتها لا تستفاد بدون اتصالها بالمطلق الموصوف بها. وكما اختلف الحنفية مع الجمهور في تسميتها مقيدات، اختلف الجمهور أنفسهم في عددها، وفيما يعتبر منها مقيداً للمطلق، ولمعرفة أقوالهم في هذه المسألة نورد أقوالهم في تخصيص العام بها. وهي ثلاثة أقوال: الأول: القول بأن المخصصات المتصلة أربعة هي: 1 - الاستثناء: كقوله - تعالى -: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 2. 2 - الشرط: كقوله - تعالى -: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ} 3.
3 - الغاية: كقوله - تعالى-: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 1. 4 - الصفة مثل قوله - صلى الله عليه وسلم: "في الغنم السائمة زكاة" 2. القول الثاني: إن المخصصات المتصلة خمسة: وزاد على الأربعة السابقة بدل البعض كقوله - تعالى -: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 3. وبه قال ابن الحاجب 4 وتابعه السبكي 5. وقد اعترض على هذا الرأي بأن المبدل منه مستعمل في معنى البدل والمقصود بالحكم إنما هو البدل، ولكن نسب إلى المبدل منه بقصد توطئة النسبة إلى البدل ليفيد فضل توكيد، فعلى هذا ليس بدل البعض من المخصصات 6
القول الثالث: إن المخصصات المتصلة اثنا عشر مخصصاً الخمسة التي تقدمت وسبعة أخرى: 6 - الحال، 7 - وظرف الزمان، 8 - وظرف المكان، 9 - والجار مع المجرور، 10 - والتمييز، 11 - والمفعول معه، 12 - والمفعول لأجله، وبه قال الشوكاني حكاية عن القرافي 1. هذه خلاصة أقوال العلماء في ما يعتبر من مخصصات العام المتصلة، وحيث إن كل ما ذكر في تخصيص العام جار في تقييد المطلق كما نقلنا ذلك عن أكثر الأصوليين، ومنهم الشوكاني الذي حكى هذه الأقوال وأمر بنقلها إلى باب المطلق والمقيد، فكان معنى كلامه أن تكون هذه الأقوال نفسها جارية على مقيدات المطلق المتصلة، ولكن لما كان للمطلق ميزات وخصائص يختلف بها عن العام، فسوف نعرض لهذه المقيدات مقتصرين على الخمسة الأولى، لأن السبعة الباقية تدخل في الحقيقة تحت الصفة، ومن ثم نرى ما يمكن تقييد المطلق به، وما لا يمكن على ضوء الفروق والميزات التي ذكرناها. في الفرق بين العام والمطلق. ولكن نبادر إلى القول بأن الاستثناء وبدل البعض لا يمكن أن يكونا
من مقيدات المطلق. 1 -أما الاستثناء؛ فلأنه معيار العموم الذي يختبر به عموم اللفظ، فكل لفظ صح الاستثناء منه مما لا حصر فيه فهو عام وليس بمطلق، وأيضاً فإن حقيقة الاستثناء على القول الراجح إخراج ما لولاه لوجب دخوله في اللفظ المستثنى منه، والمطلق ليس كذلك، لأنه عبارة عن النكرة في سياق الإثبات على قول، وهي غير مستغرقة، وحيث كان إخراج بعض مفهومات اللفظ، فرع العلم باندراجه تحته من حيث الإرادة ولا علم بذلك فيما لا استغراق فيه 1، كان الأصح عدم جواز الاستثناء من النكرة في سياق الإثبات؛ لأنك لو قلت: "أكرم رجالاً إلا زيدا" لم يصح الاستثناء؛ لأن زيداً لم يتعين دخوله في مفهوم لفظ رجال حتى يكون إخراجه منهم تقييداً. نقول: هذا مع الاعتراف بجواز الاستثناء من النكرة إذا كانت جارية مجرى العموم، مثل: اشتريت عبداً إلا ربعه وداراً إلا سقفها، لكن استثناء ربع العبد وسقف الدار ليس بتقييد للمطلق؛ لأنهما أجزاء من كل والمطلق إنما هو كلي يقيد بجزئيه لا بجزئه 2. 2 - وكذلك لا يكون بدل البعض مقيداً للمطلق لوجهين:
الأول: أن بدل البعض لا يكون إلا من كل، والمطلق كلي وليس بكل عند بعض العلماء 1. الثاني: أن يدل البعض في نحو أكلت الرغيف ثلثه هو جزء من كل وتقييد المطلق لا يكون إلا بجزئيه لا بجزئه فلهذا لا يكون بدل البعض من مقيدات المطلق.
3 - حكم التقييد بالشرط: الشرط لغة: العلامة. وسمي ما علق به الجزاء شرطاً؛ لأنه علامة على حصوله 1. وفي الاصطلاح: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته 2. فالقيد الأول: "ما يلزم من عدمه العدم" احتراز عن المانع، فإنه لا يلزم من عدمه شيء عند الأكثر. والقيد الثاني: "ولا يلزم من وجوده وجود" احتراز عن السبب، فإنه يلوم من وجوده الوجود. والقيد الثالث: احتراز عن مقارنة الشرط وجود السبب، فيلزم الوجود كالحول مع النصاب، ومقارنة الشرط قيام المانع فيلزم العدم، لكن ذلك ليس لذات الشرط، يل لوجود السبب أو المانع 3. وإذا كان علماء الأصول قد اصطلحوا على أن الشرط ما يتوقف عليه الشيء، ولا يكون داخلاً في ماهيته ولا مؤثراً فيه، فإن لعلماء النحو
اصطلاحاً خاصاً في تعريف الشرط اللغوي المقصود بهذا المبحث، حيث يعنون به ما دخل عليه أحد الحرفين "إن" أو "إذا" أو ما يقوم مقامهما مما يدل على سببية الأول ومسببية الثاني نحو: "أعتق رقبة إن كانت مؤمنة" فإن تقدير هذا الكلام في اللسان العربي إذا كانت الرقبة مؤمنة فأعتقها، ولازمه إذا لم تكن كذلك فلا تعتقها، فلو أعتق المأمور بهذا الأمر رقبة غير مؤمنة لم يكن ممتثلاً للأمر السابق، ولهذا 1 اعتبر الشرط من مقيدات المطلق عند جميع العلماء. وقد يشترط في الحكم الواحد شروط متعددة إما على سبيل البدل أو على الجمع 2. 1 - فمثال ما كان على سبيل البدل: "أعتق رقبة إن كانت مؤمنة أو كاتبة، فأي الشرطين حصل كانت الرقبة مستحقة للإعتاق. 2 - ومثال ما يكون على الجمع: قولك: "أعتق رقبة إذا كانت مؤمنة وكاتبة"، فلا تستحق الرقبة العتق إلا إذا حصل الأمران جميعاً، فكان الشرط الثاني زيادة قيد، إذ لو اقتصر على الأول لاستحقت الإعتاق بكونها مؤمنة فقط، ولكن بعد ذكر القيد الثاني لا تستحق الإعتاق إذا
كانت مؤمنة ولم تكن كاتبة؛ لأن حصول الإعتاق متوقف على تحقق الشرطين، وهكذا كلما تعدد الشرط. وإذا ذكرت أشياء متعددة وذكر بعدها شرط فقد اختلف العلماء فيما يعود إليه الشرط. أ - فذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة إلى أن الشرط يعود إلى الجميع 1. ب - وحكى الرازي عن بعض الأدباء أن الشرط يختص بالجملة التي تليه، فإن كان متأخراً اختص بالأخيرة وإن كان متقدماً اختص بالجملة الأولى 2. ومثال ذلك: قولك: "أكرم علماء وأعط شعراء إن أقاموا عندك"، فعند الجمهور الشرط يعود إلى الجميع، فيجب على المأمور إكرام عدد من العلماء وإعطاء عدد آخر من الشعراء، إن أقاموا عند المخاطب. وعلى الرأي الآخر الذي نقله الرازي عن بعض الأدباء يكون الواجب إكرام عدد من العلماء على الإطلاق بدون شرط الإقامة عند المخاطب، ولا يعطي الشعراء إلا إذا أقاموا عنده.
والراجح رأي الجمهور عند عدم القرينة، للأمور التالية: أولاً: أن المراد بالشرط هنا الشرط اللغوي، وهو بمعنى السبب الجعلي والسبب مظنة الحكمة والمصلحة فناسب فيه التعميم، لأن فيه تكثير المصلحة 1. وثانياً: لأن الشرط وإن كان متأخراً لفظاً فهو متقدم في الرتبة. وثالثاً: للأسباب التي سنذكرها في عود الصفة إلى الجميع كما سيأتي.
4 - حكم التقييد بالغاية: الغاية في اللغة مدى الشيء، ومنتهاه وأقصاه 1. واصطلاحاً: نهاية الشيء المقتضية مخالفة حكم ما بعدها لما قبلها 2. ولها لفظان: هما: "حتى" و"إلى" 3، وحكمها في التعدد حكم الشرط. وتقييد المطلق بها متصور، وذلك إذا كان الإطلاق في جانب الأفعال نحو: "سرحتي الكوفة"، و"نم حتى طلوع الفجر"، و"صلّ إلى منتصف الليل"؛ فإن كل فعل من هذه الأفعال يقدر بمصدره فيكون نكرة في سياق الإثبات وهي حقيقة المطلق، وقد قيد في الأمثلة المذكورة بالغاية. وهذا على رأي من لا يشترط في الغاية المخصصة تقدم العموم عليها، وأما على مذهب من يشترط ذلك، فلا تكون الغاية عنده من مقيدات المطلق؛ لأن المطلق المتقدم على الغاية لا يدل على الشمول كالعام، وإنما يتناولها بطريق البدل، فإذا كانت الغاية من جزئيات المطلق، صح التقييد بها وإلا بأن كانت جزءاً مثلاً، فلا يصح تقييد الكلي بها، لما سبق أن المطلق يقيد بجزئيه لا بجزئه.
5 - حكم التقييد بالصفة: يقصد بالصفة هنا الصفة المعنوية، وهي: مطلق القيد غير الشرط والغاية والعدد، ولا يقتصر بها على النعت النحوي الذي: "هو التابع المكمل لمتبوعه ببيان صفة من صفاته أو صفات ما تعلق به" 1، بل يعني بها الأصوليون معنى أعم من ذلك يتناوله وغيره، وهو كما قلنا: مطلق القيد الآنف الذكر سواء كان نعتاً نحوياً أو لم يكن 2. ومثال المطلق الذي قيد بالصفة قولك: "أعتق رقبة"؛ فإن الرقبة مطلقة أي شائعة في جنس الرقاب تتناولها على سبيل البدل، فيجزئ المأمور إعتاق أي رقبة سواء كانت مؤمنة أو كافرة، ولكن إذا قيدت الرقبة بوصف الإيمان فقيل: "أعتق رقبة مؤمنة"؛ فإن وصفها بالإيمان يحد من انتشارها، فيجب اعتباره عند إرادة العتق، بحيث لا يجزئ المأمور إلا إعتاق رقبة مؤمنة، وهكذا كلما زادت صفة زاد التقييد وضاقت دائرة المطلق. ولا خلاف بين العلماء في جواز قصر شيوع المطلق بالصفة، وإنما الخلاف جار بينهم فيما تعود إليه الصفة المذكورة بعد شيئين فصاعداً عطف أحدهما على الآخر بالواو، ولم تكن هناك قرينة تعين ما تعود إليه
الصفة أيجوز أن تعود إلى جميع ما قبلها أم تختص بما يليها فقط؟ 1 - ذهب الحنفية إلى أنها تعود إلى الأخير 1. 2 - وذهب الجمهور ومنهم الشافعية والمالكية والحنابلة إلى أنها تعود إلى الجميع 2. 3 - وذهب جماعة من الأصوليين إلى التوقف، إلا أن منهم من توقف للاشتراك كالمرتضى 3 من المعتزلة، ومنهم من توقف لعدم العلم بمدلوله في اللغة كالقاضي من المالكية والغزالي من الشافعية 4. قال العضد 5 بعد أن ذكر القول بالاشتراك والقول بالتوقف لعدم
معرفة مدلوله في اللغة: "وهذان القولان موافقان لقول الحنفية، وإن خالفاه في المأخذ" 1، ومعنى ذلك: أن من توقف للاشتراك ومن قال بالتوقف لعدم معرفة مدلوله في اللغة موافقان لمذهب الحنفية في أن الصفة إنما تعود إلى الأخيرة خاصة لظهور تناولها للأخيرة عند الحنفية، وعدم العلم بعودها إلى ما قبل الأخيرة عند غيرهم، فيلزم عودها إلى الأخيرة ضرورة عدم استقلالها 2. أدلة المذاهب: أولاً: أدلة من قال بالتوقف. الذي قال بالتوقف إما أنه توقف للاشتراك، أو لعدم العلم بمدلوله لغة، واستدل من قال بالتوقف للاشتراك بما يلي: 1 - قالوا: إنه يحسن الاستفهام عن عود الصفة إلى ما يليها أو إلى الجميع ولو كان عودها إلى ما يليها أو إلى الجميع حقيقة في أحد هذه المحامل دون غيره لما حسن الاستفهام وذلك يدل على الاشتراك 3. والجواب أن حسن الاستفهام لا يدل على الاشتراك؛ لجواز أن يكون الاستفهام لدفع احتمال بعيد أو للحصول على اليقين وهذا يكفي
في جواز الاستفهام 1. 2 - واستدلوا أيضاً: بصحة إطلاق الصفة وإرادة عودها إلى الأخير أو الجميع أو إلى البعض دون البعض بإجماع أهل اللغة، والأصل في الإطلاق الحقيقة. والمعاني مختلفة وذلك هو الاشتراك 2. والجواب عن ذلك أن يقال: إن الأصل عدم الاشتراك، وما ورد فيه عود الصفة إلى معين إنما كان لدليل، والعطف هنا قرينة تدل على عود الصفة إلى الجميع حيث لم يمنع من ذلك مانع، فيجب القول بعود الصفة إلى الجميع للقرينة المذكورة 3. 3 - واستدلوا ثالثاً: بأن الصفة لا تستقل بنفسها فكان احتمال عودها إلى الجميع أو الأخير متساوياً وهذا هو الاشتراك، فيجب التوقف حتى يقوم دليل يعين ما تعود إليه الصفة. والجواب عن ذلك منع المساواة في عودها إلى الأخير أو الجميع، لأن الواو العاطفة قرينة مرجحة لعودها إلى الجميع.
واحتج من قال بالتوقف لعدم العلم بمدلوله في اللغة بالدليل التالي، حيث قال: إن الصفة وردت عائدة إلى كل ما تقدم عليها وإلى ما يليها خاصة. ولا يعلم أيهما الحقيقة وأيهما المجاز، فنتوقف في الحكم بعودها إلى الجميع أو الأخيرة خاصة حتى يقوم الدليل الذي يعين عود الصفة 1. ويجاب عن هذا الدليل بأن عود الصفة إلى بعض ما تقدم عليها تارة، وإلى الجميع تارة أخرى، لا يلزم منه الاشتراك ولا المجاز، بل هذه حالات مختلفة تبعاً لسياق الكلام وما يشتمل عليه من قرائن 2، والعطف هنا قرينة على العود إلى الجميع حيث لم يمنع من ذلك مانع. ثانياً: أدلة الحنفية: استدل الحنفية على أن الصفة تعود إلى ما يليها خاصة بعدة أدلة منها: 1 - قالوا: إن الصفة لا تستقل بنفسها في إفادة الحكم، ولهذا وجب تعليقها بغيرها ضرورة، وحيث إنه لا خلاف في عودها إلى ما يليها فتعلق به، وبهذا القدر تندفع الضرورة، فيكتفي بذلك، ولا تتعلق بغيره، لأن الضرورة تقدر بقدرها 3.
والجواب عن ذلك أننا لا نسلم أن الصفة لا تعود إلا إلى القدر الذي تستقل به في الإفادة، بل الصفة إذا وردت بعد شيء واحد عادت إليه، وإن وردت بعد متعدد عادت إلى الجميع، ولا تقيد بالأخير كما لو دل الدليل على عودها إلى الجميع؛ فإنها تعود إليه إجماعاً، ومع جواز عودها لا يتم ما ذكرتم 1 كما أن هذا الاستدلال منقوض بالشرط والاستثناء بالمشيئة؛ فإن كلا منهما غير مستقل بنفسه، ومع ذلك تعلق بجميع ما تقدمه حتى عند الحنفية فلتكن الصفة كذلك والجامع بينهما عدم الاستقلال في المعنى. 2 - واستدلوا أيضاً: فقالوا: إن الكلام الأول مطلق، والأصل أن يبقى على إطلاقه، حتى يقوم دليل على تقييده، وحيث لا يوجد دليل في مسألتنا على عود الصفة إليه فيبقى على إطلاقه 2. وجواب ذلك أن العطف بالواو ظاهر في عود الصفة إلى الجميع، لأنه يجعل المتعدد في حكم الشيء الواحد فهو قرينة قوية على عود الصفة إلى الجميع.
3 - ومن أدلتهم: أن المطلق الأخير حائل بين الصفة والمطلق الأول، فيكون مانعاً من العود إليه 1، وجواب ذلك أنهما مع العطف كالشيء الواحد فلا يتم ما ذكرتم. ثم هو منقوض بالشرط، إذ لا فرق بينهما، والشرط يعود إلى الجميع اتفاقاً 2. ثالثاً: أدلة القائلين بعود الصفة إلى الجميع: استدل جمهور الأصوليين على عود الصفة إلى جميع ما تقدمها عند عدم القرينة المانعة بعدة أدلة منها: 1 - قالوا: إن العطف يجعل المتعدد كالشيء الواحد، وما دام أن الصفة بعد الواحد تعود إليه بالاتفاق، فكذلك يكون الحكم في المتعدد؛ لأنه بعد العطف لا فرق بينهما 3. 2 - قالوا: إن الشرط يعود إلى الجميع، فكذلك الصفة 4، لاشتراكهما في عدم الاستقلال بالمعنى.
3 - قالوا: إن تكرار الصفة بعد كل واحد من الموصوفات مستهجن لغة، وتجنباً لذلك اكتفى بذكرها بعد الأخير لوجود ما يرجح ذلك. وهو أن المتكلم إذا أراد أن يعيد الصفة إلى الجميع لم يكن أمامه إلا طريقان: الأول: أن يكرر الصفة عقب كل موصوف وهذا مستهجن لغة. الثاني: أن يذكر الصفة بعد الموصوف الأخير، فإذا كان غرضه منها أن تعود إلى الجميع ولم نجوز له ذلك لم يبق أمامه طريق لعود الصفة إلى الجميع، فكان ذكرها بعد الأخير متعيناً، وهذا مرجح آخر بجانب العطف لعود الصفة إلى الجميع. ومن أدلتهم أيضاً: أن الصفة صالحة إلى أن تعود إلى كل واحد من الموصوفات، وليس بعضها أولى من بعض كما هو "الفرض" فوجب عودها إلى الجميع لعدم المرجح 1. الراجح: بعد عرض أقوال العلماء وأدلتهم في هذه المسألة، وبناء على المناقشة السابقة، يظهر أن ما ذهب إليه الجمهور من عود الصفة إلى جميع ما تقدم
عليها حيث لم يمنع من ذلك مانع هو القول المختار. وأما ما بقي من المخصصات المتصلة، وهي السبعة التي ذكرها الشوكاني وغيره، فقد تقدم أنها داخلة تحت الصفة؛ لأن المراد منها الصفة المعنوية فتأخذ حكم الصفة الذي تقدم الكلام عليه بالتفصيل. وتقييد المطلق بها هو القول الراجح، إلا الحال فإن عليه ملاحظة نذكرها بعد التمثيل لهذه المقيدات. وحيث سبق التمثيل لظرفي الزمان والمكان، والجار والمجرور في مبحث دخول الإطلاق والتقييد على الأفعال، فنكتفي هنا بالتمثيل لتقييد المطلق بالمفعول به، والمفعول لأجله، والتمييز. 1 - فمثال: تقييد المطلق بالمفعول له والمفعول معه: قولك: "أعطه إكراماً واكسه وزيداً" فقد قيد الفعل في الجملة الأولى بكون للإكرام، وقيدت الكسوة في الجملة الثانية بمعية زيد وصحبته، فإن الواو هنا للمعية وليست عاطفة، وذلك جائز إذا كان الإطلاق في جانب الأفعال، لأن المفعول له معناه التصريح العلة التي لأجلها وقع الفعل، والمفعول معه، معناه تقييد الفعل بتلك المعية. 2 - ومثال تقييد المطلق بالتمييز: قولك عندي له رطل ذهباً: فالتمييز في هذا المثال هو لفظ "ذهباًَ" وقد جاء مقيداً للمطلق، وهو "رطل"؛ لأنه قبل التمييز كان صالحاً لكل ما يوزن وبعد التمييز أصبح الرطل مقيداً بكونه ذهباً، ومن أمثلة ذلك
أيضاً بيت ابن مالك في ألفيته حيث يقول: كشبرٍ أرضا وقفيز بُرا ... ومَنَويَن عسلاً وتمرا فقد ذكر في هذا النظم ألفاظاً مطلقة هي: شبر قفيز، منوين، ثم قيدها بالتمييز فقال: "كشبر أرضاً" "وقفيز بُرا، ومنوين عسلا وتمرا" وإذا جاء التمييز عقب متعدد، فإنه يعود إلى الجميع 1 كما يشير إلى ذلك كلام البيضاوي في المنهاج 2. وأما حكم التقييد بالحال: فهو متوقف على صاحب الحال؛ لأن الحال لا تقيد إلا صاحبها، والمطلق عبارة عن النكرة في سياق الإثبات عند بعضهم، والنحويون مختلفون في مجيء الحال من النكرة، إلا أن الراجح جواز ذلك بمسوغ 3. والمسوغات كثيرة منها: أن يكون صاحب الحال موصوفاً، ومنها تقدم الجار والمجرور على صاحب الحال نحو: "في الدار جالساً رجل"، فصاحب الحال في هذا المثال لفظ "رجل" وقد تقدم الخبر، وهو جار ومجرور "في الدار" وجاء منه الحال وهو لفظ "جالسا" وعلى ذلك يجوز تقيد المطلق بالحال إذا كان صاحبها نكرة.
وأما إذا كان صاحب الحال معرفة فلا نقيده حينئذ بالحال، لأنه ليس مطلقاً 1.
الفصل الثاني: في المقيدات المنفصلة
الفصل الثاني: في المقيدات المنفصلة المبحث الأول: في تعريف المقيدات المنفصلة وتقسيماتها ... المبحث الأول: في تعريف المقيدات المنفصلة وتقسيماتها: 1 - تعريفها: هي ما يستقل بنفسه عن لفظ المطلق بتمام الفائدة، وتنقسم باعتبار ورودها إلى قسمين: الأول: ما يقارن المطلق حين نزوله وهذا النوع اتفق العلماء على جواز تقييد المطلق به، إذا تساوى معه من حيث القطعية والظنية، كما اتفقوا على أن تقييد المطلق بهذا النوع: "المستقل المقارن" يكون بياناً لا نسخاً لما يلي: 1 - أن المعية قرينة البيان. 2 - أن من شرط الناسخ التأخر عن المنسوخ، وهذا النوع لم يتأخر عن المطلق. وإنما قيدنا الاتفاق بتساوي الدليلين بناء على اشتراط المعارضة عند الحنفية بين المطلق والمقيد، وهي لا تحقق إلا بتساوي الدليلين، وقد سبق أن ذلك ليس شرطاً، لوجود التعارض بين النصوص الشرعية؛ وإنما هو شرط في بقاء المعارضة وعدم رفعها والتوفيق بين المتعارضين. القسم الثاني: ما يتأخر عن المطلق مدة يمكن نسخ الحكم فيها، وفي هذا النوع
جرى الخلاف بين الجمهور والحنفية. 1 - حيث يرى الحنفية أن الدليل "المستقل" الذي يتأخر عن المطلق مدة يمكن النسخ فيها يكون ناسخاً لا مقيداً؛ لأنه لا معنى لتأخره عندهم إلا أن يكون ناسخاً، ولكنهم لا يحكمون بالنسخ حتى يتساوى مع المطلق في القوة. 2 - ويرى جمهور الأصوليين أن تأخر الدليل لا يكفي للقول بالنسخ، ما لم يتأخر عن وقت العمل، كما أنهم لا يشترطون في التقييد المساواة بين المطلق والمقيد؛ لأن تقييد المطلق من قبيل البيان، والبيان لا يشترط فيه مساواة الدليلين على الراجح. وبناء على اشتراط المساواة وعدم اشتراطها وشروط المخصص اختلفت المذاهب في عدد المقيدات المنفصلة، وحكم التقييد بها فذكر القرافي في تنقيح الفصول أن مخصصات العام عند مالك خمسة عشرة1،
وذكر الغزالي أن المخصصات عشرة1. وعدها محب الدين بن عبد الشكور في مسلم الثبوت خمسة عشرة نوعاً2، إلا أنه ناقشها تبعاً لمذهب الحنفية فقبل بعضاً، ورد بعضاً. وحيث إن كل ما يخصص به العام يقيد به المطلق إلا ما أخرجه الدليل تكون هذه المخصصات هي مقيدات للمطلق، وبالتالي يجري فيها
الخلاف الحاصل في باب التخصيص، لكنها في الجملة تنقسم إلى قسمين: أ - مقيدات موضع اتفاق في الجملة. ب - ومقيدات موضع خلاف. وسيكون كلامنا عنها حسب الترتيب التالي: ما كان منها موضع خلاف فسوف نبحثه بالتفصيل. فالمبحث الأول: المقيدات التي هي موضع اتفاق في الجملة، وهي أربعة: أولها: تقييد الكتاب بالكتاب، اتفق العلماء على جواز تقييد الكتاب بالكتاب، كل حسب شروطه1 التي اشترطها في المقيد، ومثال ذلك قوله - تعالى -: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} 2 مع قوله - تعالى -: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} 3. حيث ورد الدم مطلقاً في الآية الأولى، ومقيداً بكونه مسفوحاً في الآية الثانية.
وقد اتفق الفقهاء في جميع المذاهب على حمل المطلق على المقيد ههنا1، فلا يحرم إلا ما كان مسفوحاً، دون ما بقي في العروق واللحم من الدم الذي لا يمكن التحرز عنه. ونسب إلى بعض الطوائف الخلاف في جواز تقييد الكتاب بالكتاب2، مستدلين على ذلك بقوله - تعالى -: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 3، حيث فوض سبحانه وتعالى بيان ما أنزل إلى رسوله، فيجب أن لا يحصل البيان إلا بقوله صلى الله عليه وسلم4. ورد هذا الدليل من وجهين: الأول: أن إضافة البيان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليس فيه ما يمنع من كونه مبيناً للكتاب بالكتاب، إذ الكل وارد على لسانه، فذكر الآية المقيدة بيان منه ويجب حمل وصفه بالبيان على أن البيان وارد على لسانه سواء كان الوارد على لسانه متلوا وهو الكتاب أو غير متلو وهو السنة، فالكل وحي من عند الله تعالى5.
الوجه الثاني: أن هذا القول معارض بما هو أوضح منه دلالة على هذه المسألة، وهو قوله - تعالى -: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} 1، والقرآن شيء فيكون مبيناً لنفسه، وهذا هو المطلوب، وعليه فليس هناك تعارض بين هذه الآية، وآية: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2. 2 - تقييد الكتاب بالسنة المتواترة: اتفق العلماء على جواز تقييد الكتاب بالسنة المتواترة3، لأن السنة المتواترة في منزلة الكتاب من حيث القوة وتقدم أن تقييد الكتاب بالكتاب جائز بالاتفاق مع إطراح قول المخالف لضعفه. قال الآمدي في تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة: "لا أعرف فيه خلافاً" 4، وحكى ابن الحاجب الاتفاق على ذلك أيضاً5.
وقال الشوكاني: "يجوز تخصيص الكتاب بالسنة، المتواترة إجماعاً"1 والتقييد يجري مجرى التخصيص. وفي حكم السنة المتواترة السنة المشهورة عند الحنفية، فيجوز تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة بها عند الأحناف2، وتقدم ما يصلح مثالاً لذلك في كفارة اليمين حيث وردت مطلقة في قراءة الجمهور {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} ، ومقيدة بالتتابع في قراءة ابن مسعود: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتابِعات} ، هذا الكلام في السنة القولية، وأما الفعلية فسيأتي الكلام عليها. 3 - تقييد السنة بالسنة المتواترة: يجوز تقييد السنة بالسنة المتواترة حكاه الشوكاني إجماعاً3، لأن التقييد ما هو إلا بيان المراد بالمطلق، وما دامت النصوص في منزلة واحدة من الصحة والثبوت، فإن بعضها يصح أن يكون مبيناً للآخر، وحكي عن داود الظاهري4 وطائفة أن السنة لا تقيد
السنة1، لأن السنة إنما تكون مبينة لا محتاجة إلى البيان لقوله - تعالى -: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2، وترد هذه الحجة بأن كون الرسول مبيناً للكتاب بالسنة لا يمنع من أن يبين سنته، فلا وجه للخلاف3. 4 - تقييد السنة بالكتاب: وذلك بأن يأتي لفظ مطلق في حديث، ويأتي مقيداً في آية من كتاب الله فهل يقيد الإطلاق الوارد في الحديث بالقيد الوارد في الآية الكريمة؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: 1 - ذهب أكثر العلماء إلى أن تقييد السنة بالكتاب جائز4 وسواء
في ذلك السنة المتواترة وغيرها. 2 - وذهبت طائفة إلى عدم جواز تقييد السنة بالكتاب، وهم بعض الشافعية وبعض المتكلمين1 ورواية لأحمد2. وحجة هذه الطائفة ما تقدم في الآية السابقة من قوله - تعالى -: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} . ووجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى أضاف البيان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت السنة مبينة للقرآن، فلو جعل القرآن مبيناً لها لتنافى ذلك مع كونها مبينة، ولأن المبين تابع للمبين، فلو قيدنا السنة بالكتاب صار تابعاً لها3، ورد الجمهور على ذلك، بما تقدم من أن إضافة البيان إلى الرسول لا يلزم امتناع كونه مبيناً للسنة بما يرد على لسانه من القرآن؛ إذ تلاوته للآية المقيدة بيان منه، والقرآن والسنة كل منهما وحي من عند الله سبحانه كما قال - تعالى -: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 4، غير أن الوحي منه ما يتلى فيسمى قرآناً، ومنه ما ليس كذلك فيسمى سنة.
وبيان أحد الوحيين بالآخر غير ممتنع، ثم إن قولهم: هذا معارض بما وصف الله به كتابه في قوله - تعالى -: {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} ، والسنة شيء فتكون داخلة في هذا العموم، ويكون الكتاب مبيناً لها1. قال الآمدي: "وما ذكروه من المعنى فغير صحيح؛ فإن القرآن لا بد أن يكون مبيناً لشيء ضرورة قوله - تعالى -: {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} ، وأي شيء قدر كون القرآن مبيناً له، فليس القرآن تابعاً له ولا ذلك الشيء متبوعاً، وأيضاً فإن الدليل القطعي قد يبين مراد الدليل الظني، وليس القرآن منحطاً عن رتبة الظن، فيكون القرآن مبيناً للسنة لتساويه معها في قوة الدلالة على أقل التقادير. وعلى ذلك يكون القول بمنع بيان الكتاب للسنة غير واضح. 5 - التقييد بالإجماع: التقييد بالإجماع موضع اتفاق وسواء كان المقيد به كتاباً أو سنة، قال الآمدي في تخصيص الكتاب والسنة بالإجماع: "لا أعرف فيه خلافاً" 2.
وحكى الشوكاني الإجماع على جواز التخصيص به1. والتقييد له حكم التخصيص. والحجة في ذلك أن الإجماع دليل قاطع، فإذا وردت آية مطلقة أو حديث، ورأينا أهل الإجماع قاضين بما يخالف النص المطلق في بعض صوره علمنا أنهم ما قضوا بذلك إلا وقد اطلعوا على دليل مقيد2، وإنما الخلاف جار بين العلماء في أن الإجماع هل هو مقيد أو معرف بوجود دليل التقييد؟ والتحقيق أن الإجماع ليس بمقيد بذاته، وإنما هو معرف بوجود دليل التقييد، ويمكن أن نمثل للتقييد بالإجماع بما لو انعقد إجماع على أنه لا يجزئ في الكفارات إلا عتق رقبة مؤمنة، فإن هذا الإجماع يكون مقيداً للإطلاق الوارد في قوله تعالى في كفارة الظهار: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 3.
المبحث الثاني: في المقيدات المنفصلة التي هي موضع خلاف
المبحث الثاني: في المقيدات المنفصلة التي هي موضع خلاف ... 1 - التقييد بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وتقريره: لقد ذكر الأصوليون أن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وتقريراته من مخصصات العام، كما ذكر بعض شراح الكتب المتأخرون أن ذلك من مقيدات المطلق1. ولكن يبدو لي أن فعل الرسول وتقريره لا يصلحان لتقييد المطلق لعدم تصور التقييد بهما، ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو أعتق رقبة مؤمنة في ظهار لم يكن ذلك دليلاً على تقييد الرقبة المطلقة في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} ، لأنه صلى الله عليه وسلم بفعله هذا يكون ممتثلاً للأمر المطلق؛ إذ إن الرقبة المؤمنة إحدى الرقاب المدلول عليها بقوله - تعالى -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ؛ فلا يكون ذلك تقييداً. وكذا لو أعتق أحد رقبة مؤمنة في كفارة الظهار، وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك لا يكون التقرير دليلاً على تقييد الرقبة المطلقة في آية الظهار، وهذا بخلاف التخصيص بفعله صلى الله عليه وسلم، فإنه متصور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إما أن يفعل فعلاً مما نهى عنه بلفظ عام أو يترك فعلاً قد وجب بأمر عام، فيكون ذلك تخصيصاً لما تناوله النهي أو الأمر من أفراد العام.
وليس التقييد كذلك، لما سبق أن بينا من الفرق بين العموم الشمولي والعموم البدلي التناوبي، الذي يتناول كل فرد فرد على سبيل البدل، ويتحقق مدلوله بواحد غير معين. وما ذكره بعض شراح الكتب المتأخرين من أن أفعال الرسول وتقريراته تكون مقيدة للمطلق، إنما كان ذلك منهم إجراء للتقييد مجرى التخصيص، ولا يسلم لهم ذلك بإطلاق؛ لأن الفرق قائم بين ما يجري فيه التخصيص وما يجري فيه التقييد، كما ذكرنا ذلك في الفروق بين المطلق والعام. نعم، قد يقال: إن لنا في رسول الله أسوة حسنة، فيلزمنا أن نقتدي به، فيما فعل، والجواب أن ذلك مسلم، ولكن غاية ما يدل عليه الأمر حينئذ أن يكون فعل ذلك هو الأولى والأفضل، ولكن لا يوجب تقييد المطلق ... والله أعلم.
2 - تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة بخبر الآحاد: سلف أنه لا خلاف في تقييد الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة كل منها بالآخر، كما لا خلاف في تقييد مطلق الكتاب والسنة بالإجماع، وكذلك تقييدهما بخبر الواحد المحفوف بالقرائن المقوية له. ولكن محل النزاع بين الأصوليين في تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة بخبر الواحد المجرد عن القرائن. حيث اختلفت وجهات النظر في حكم التقييد به لمطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة إلى عدة أقوال أهمها ما يلي: القول الأول: ذهب الحنفية جرياً على قاعدتهم في أن دلالة المطلق قطعية إلى أن خبر الآحاد لا يقيد المطلق من الكتاب والسنة المتواترة أو المشهورة ما لم يقيد المطلق فيها قبله بدليل مقطوع به، وحكي هذا القول عن أبي حنيفة نفسه1.
واستدلوا على ذلك: بأن المطلق من الكتاب والسنة المتواترة قطعي الدلالة والثبوت؛ لأن المعنى الموضوع له اللفظ يفيده قطعاً عندهم، وخبر الواحد، وإن كان قطعي الدلالة إلا أنه ظني الثبوت، أي: أن خبر الواحد دون مطلق الكتاب والسنة المتواترة في قوة الثبوت؛ فلا يقوى على معارضة ما هو مقطوع به، وذلك أن التقييد عند الأحناف بطريق المعارضة، والظني لا يعارض القطعي؛ لأن من شرط التعارض تساوي الدليلين في الرتبة، وحيث لم يستو خبر الآحاد مع مطلق الكتاب والسنة المتواترة فلا معارضة بينهما، بل يقدم العمل بالأقوى، وهو الدليل المقطوع به1. ويجاب عن هذا الدليل، بأن المقطوع به في المطلق من الكتاب والسنة المتواترة، إنما هو أصل الحكم، كإعتاق الرقبة في نحو: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ولسنا نرفع بالتقييد هذا الأصل، وإنما نقيد شيوعه المحتمل، فهو ظني بهذا الاعتبار وإن كان قطعي الثبوت. وخبر الواحد وإن كان ظني الثبوت إلا أنه قد يكون قطعي الدلالة،
وبهذا تحصل المساواة بينهما؛ لأن كلا منهما فيه جهة قوة وجهة ضعف، فيتعارضان في الظاهر، ولدفع هذا التعارض يحمل المطلق على المقيد؛ لأن فيه جمعاً بين الدليلين، وأيضاً فإن في العمل بالمقيد خروجاً عن العهدة بيقين، وليس كذلك العمل بالمطلق كما سبق بيان ذلك1، أضف إلى ذلك أن دلالة المطلق على جميع محاله ليست محل اتفاق، بل هي ظنية على رأي الجمهور، فالدليل غير مسلم به. 2 - القول الثاني: المنع مطلقاً، أي سواء قيد مطلق الكتاب والسنة المتواترة، قبل خبر الواحد أم لم يقيدا، وإليه ذهب بعض الحنابلة والمتكلمين وبعض الفقهاء2. واستدل هذا الفريق بأدلة منها: 1 - قالوا: أجمع الصحابة - رضي الله عنهم - على عدم التخصيص بخير الواحد لعام القرآن والسنة المتواترة، بدليل أن عمر3 رضي الله عنه
قد رد خبر فاطمة بنت قيس1 الذي روته عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة" 2، حين طلقها زوجها فبت طلاقها المخصص لعموم قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} 3 وقال في رده لخبرها: كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري أحفظت أن نسيت؟ ولم ينكر ذلك عليه أحد فكان إجماعاً4، والتقييد
يجري مجرى التخصيص. وأجيب عن هذا الدليل بأوجه منها: أولاً: قالوا: إن انعقاد الإجماع غير مسلم لعدم توفر النقل له. ثانياً: على فرض التسليم بسكوت الصحابة عليه، فليس فيه ما يفيد إثبات المدعى؛ لأن الكلام في خبر الآحاد الصحيح المتحققة فيه شروط القبول، ورد عمر - رضي الله عنه - لخبر فاطمة بنت قيس ليس من هذا القبيل؛ لأن عدم فبول عمر لخبرها يدل على اتهامه لها بالغفلة وعدم الضبط، بدليل قوله "أحفظت أم نسيت"، بل ظاهر الحديث يدل على عدم مدعاهم؛ لأن ظاهره عدم الرد لو لم تكن متهمة في حفظها. واستدلوا ثانياً: بأن المتواتر مقطوع به وخبر الآحاد مظنون، والمظنون يترك بالمقطوع لعدم مقاومة المظنون للمقطوع والمتروك لا يخص به فلا يجوز تخصيص المتواتر بخبر الواحد1. ويناقش هذا الاستدلال: أولاً: بعدم التسليم بالتفاوت بين خبر الواحد والمتواتر من الكتاب والسنة وذلك أن كلا منهما مقطوع به من جهة ومظنون به من جهة
أخرى.. فمطلق الكتاب والسنة المتواترة مقطوع به متناً ومظنون دلالة وخبر الواحد بالعكس فتساويا، كما أنهما متساويان في وجوب العمل بكل منهما، أما المتواتر فبالاتفاق، وأما خبر الواحد فللأدلة القاطعة على وجوب العمل به، فمتى صدق القلب بصدق الراوي وجب العمل بخبره سواء كان متن الحديث متواتراً أم غير متواتر، فلا فرق بين المتواتر والآحاد في وجوب العمل. وثانياً: أن ترك المظنون بالمقطوع غير مسلم به على الإطلاق، بل قد يترك أحياناً المقطوع بالمظنون أيضاً، فالبراءة الأصلية متيقنة ومع ذلك فيجوز تركها بخبر الواحد بالاتفاق. وثالثاً: أن تقييد خبر الواحد لمطلق الكتاب والسنة ليس فيه ترك لهما بالكلية بل ذلك من قبيل الجمع بين الأدلة المتعارضة وبيان المحتمل بالدليل الظني جائز. ومن أدلة هذا الفريق أيضاً: قياس عدم التقييد بخبر الواحد على عدم النسخ به، حيث قالوا: لو جاز تقييد الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد، لجاز النسخ به لهما، لأن النسخ تخصيص في الأزمان، والتقييد تخصيص في الأعيان، لكن النسخ به باطل فكذلك التقييد.
ويجاب عن ذلك: بالفرق بين النسخ والتقييد، فالنسخ رفع، والتقييد بيان، والرفع أصعب من البيان، فيحتاط في رفع الحكم ما لا يحتاط في بيانه؛ فلا يلزم من عدم جواز النسخ بخبر الواحد عدم جواز التقييد به، ولا من جواز التقييد جواز النسخ1، والله أعلم. القول الثالث: ذهب القاضي أبو بكر من الشافعية إلى التوقف. واستدل على ذلك: بأن كلا من مطلق الكتاب والسنة المتواترة وخبر الآحاد قد ثبت حجيته قطعاً، وهما متساويان أيضاً في الدلالة، لأن المطلق من الكتاب والسنة المتواترة قطعي الثبوت وظني الدلالة أحياناً، وخبر الواحد ظني الثبوت وقطعي الدلالة أحياناً، فيمكن أن يقع التعارض بينهما، وعند تعارض المتساويين يجب التوقف لعدم جواز الترجيح بدون مرجح. ويجاب عن ذلك: بمنع الترجيح بدون مرجح؛ لأن الأصل في الأدلة الإعمال، وما دام الإعمال ممكناً، فلا يصار إلى الإهمال، وهنا الإعمال ممكن؛ لأن حمل
المطلق على المقيد فيه جمع بين الدليلين، فكان أولى1 للأدلة التي ذكرنا فيها تقديم حمل المطلق على المقيد. القول الرابع: جواز التقييد بخبر الآحاد مطلقاً، أي: سواء قيد المطلق قبل تقييده بخبر الواحد بدليل مقطوع به أو لم يقيد، وإليه ذهب جمهور الأصوليين، من مالكية وشافعية وحنابلة وظاهرية وكذلك المحدثون2. واستدلوا على ذلك بأدلة أهمها ما يلي: 1 - قالوا: إن كلا من مطلق الكتاب والسنة المتواترة أو خبر الآحاد الصحيح دليل واجب الأتباع باتفاق أطراف النزاع في هذا الموضوع، فيجب اتباعه، ويجب أيضاً دفع ما يتصور من التعارض بينهما، لأن مطلق الكتاب والسنة يجوزان الإتيان بأي فرد كان من الأفراد الصالحة لتناول المطلق والمقيد يوجب الإتيان بالفرد الذي وجد فيه القيد، ولا يمكن العمل بكل منهما، لعدم جواز اجتماع النفي والإثبات في حكم واحد، ولا ترك كل منهما؛ لأنه يؤدي إلى خلو المسألة من الحكم، ولا
يمكن العمل بأحدهما بدون مرجح، فلم يبق إلا الجمع بينهما بقدر الإمكان، ثم إن عملت بالمطلق يلزم إلغاء القيد في المقيد وهذا لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون القيد عبثاً وبدون فائدة. وإن حملنا المطلق على المقيد نكون قد عملنا بالدليلين معاً، وهذا هو معنى التقييد فيتعين المصير إليه1. 2 - واستدلوا أيضاً: فقالوا: إن كلا من مطلق الكتاب والسنة المتواترة وخبر الآحاد قطعي من جهة، وظني من جهة ثانية، فالمطلق المتواتر قطعي من جهة السند وظني من جهة الدلالة، ومقيد خبر الآحاد الخاص، ظني من جهة السند وقطعي من جهة الدلالة فيتعادلان ويتعارضان، ثم يجمع بينهما بالتقييد2 لتعيين المصير إليه كما سبق في الدليل الأول. ومن أدلتهم أيضاً على هذه المسألة: 3 - قالوا: إن إجماع الصحابة قائم على جواز تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد.
والدليل على ذلك تخصيص الصحابة - رضي الله عنهم - عموم قوله - تعالى -: {اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} بحديث عبد الرحمن بن عوف1 عن النبي صلى الله عليه وسلم "سنوا بهم أي المجوس - سنة أهل الكتاب"2 حيث تقتضي الآية الكريمة قتل جميع المشركين، ويقتضي هذا الحديث جواز الإبقاء على المجوس وأخذ الجزية منهم فيتعارضان، وقد جمع الصحابة - رضي الله عنهم - بتخصيص عموم الآية الكريمة بالخبر، وقالوا: إن الآية يراد بها قتال الكفار من غير المجوس3، ونقل هذا التخصيص عنهم ولم ينكره أحد فكان إجماعاً منهم على جواز تخصيص العموم بخبر الواحد، والتقييد له حكم التخصيص، كما سلف ذلك.
وقد اعترض الحنفية على هذا الدليل: فقالوا: إن التخصيص بخبر الواحد في المثال المذكور في حيز المنع؛ لأن المخصص فيه هو الإجماع، وعلى فرض أن المخصص هو الخبر المذكور لا نسلم كونه خبر آحاد، بل هو مشهور بدليل اتفاقهم على العمل به، ومن ثم يكون نسخاً لا تخصيصاً، والنسخ بالخبر المشهور جائز عندنا. ودفع هذا الاعتراض: بأنه لا فرق بين المشهور وخبر الآحاد عند أكثر العلماء، فكل منهما من قبيل الآحاد، وعلى فرض أن المثال من قبيل النسخ، فإذا جاز النسخ بخبر الآحاد، وهو أقوى في الاحتياط من التخصيص والتقييد فمن باب أولى أن يجوز التقييد به ويكون حينئذ بياناً لا تبديلاً1. الترجيح: بعد عرض أقوال العلماء حول التقييد بخبر الواحد، ومناقشة أدلتهم السابقة، يبدو أن ما ذهب إليه الجمهور من جواز تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة بمقيد أخبار الآحاد هو الأرجح، وذلك لقوة أدلتهم وعدم وجود ما يصلح معارضاً لها.
3 - تقييد الكتاب والسنة المتواترة بالقياس: إن تقييد الكتاب والسنة المتواترة بالقياس، وبخبر الواحد كما تقدم من المباحث الهامة التي اختلفت فيها المذاهب وتجلي فيها مقدار الرأي في الفقه الإسلامي. وحيث إن القياس وخبر الواحد يستويان في أن كلا منهما دليل ظني فالحكم في تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة بالقياس، كالحكم في تقييدهما بخبر الآحاد المتقدم، والأقوال هي الأقوال والأدلة هي الأدلة، إلا أننا نذكر هنا المذاهب إجمالاً ومن قال بها، ثم نتبع ذلك بما نراه راجحاً حسب المناقشة التي سبقت بخبر الواحد. فالمذهب الأول: جواز التقييد بالقياس لمطلق الكتاب والسنة المتواترة وبه قال الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد1.
والمذهب الثاني: منع التقييد بالقياس مطلقاً، وبه قال طائفة من المعتزلة كالجبائي1 وبعض الفقهاء2. لأن القياس فرع النصوص، ولا يقدم الفرع على الأصل عند التعارض3. ويجاب عن هذا بأن النص الذي يقيد بالقياس غير النص الذي هو أصل للقياس فلا منافاة4.
المذهب الثالث: التوقف في تقييد المطلق من الكتاب والسنة المتواترة بالقياس، وبه قال القاضي أبو بكر والجويني من الشافعية1 قياساً على عدم جواز تخصيص العام به عندهما. القول الرابع: التفصيل على النحو الآتي: أ - ذهب الحنفية إلى أن القياس لا يقيد مطلق الكتاب والسنة المتواترة ما لم يسبق تقييدهما بدليل قاطع، فإذا سبق تقييدهما بدليل قاطع فإن القياس حينئذ يصلح أن يكون مقيداً لهما2. وحجتهم في ذلك أن مطلق الكتاب والسنة المتواترة مقطوع به ثبوتاً ودلالة، لأن الحنفية يرون أن كل لفظ وضع لمعنى فهو دليل قاطع عليه قبل صرفه عن ذلك، والقياس ظني فلا يعارض القطعي، فإذا قيد مطلق الكتاب والسنة المتواترة بدليل قاطع أصبحا محتملين، فيجوز تقييدهما عندئذ بالقياس3. ب - وذهب جماعة من الأصوليين منهم الآمدي وابن الحاجب إلى
تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة بالقياس إذا كانت علته منصوصة كما قالوا بذلك في تخصيص العام1. جـ - وذهب جماعة أخرى ومنهم ابن سريج من الشافعية وبعض الحنابلة كالطوفي إلى جواز التقييد بالقياس الجلي دون الخفي2. وهذا المذهب الأخير يلتقي في النتيجة مع المذهب الذي قبله؛ لأن القياس المنصوص على علته والقياس الجلي، ومفهوم الموافقة كما سبق شيء واحد. وإنما الاختلاف في التعبير والاصطلاح، وهذا لا تأثير له على التحقيق.
4 - التقييد بالعرف: العرف لغة: المعروف وسمي بذلك لأن النفوس تسكن إليه1. واصطلاحاً: ما استقرت عليه نفوس الناس، وتلقته طباعهم السليمة بالقبول وصار عندهم شائعاً، في جميع البلاد أو بعضها قولاً كان أو فعلاً2. وينقسم إلى: عُرْفٌ عام: وهو ما تعارفه الناس جميعاً، كدخول الحمَّام دون تحديد كمية المياه المستهلكة، ودون تقدير مدة المكث فيه. وإلى عُرْفٍ خاص: وهو ما تعارف عليه جماعةٌ من الناس، كالعرف التِّجاري أو الزراعي، وهذا القسم ليس له قوة النوع الأول، ولكنه مما تختلف فيه الفتوى والأحكام في المجال التطبيقي. وعلى كل حال فالعرف إما صحيح وهو ما لا يتصادم مع
الأصول الثابتة في الشريعة الإسلامية، وإما فاسد وهو ما يتعارض مع تلك الأصول. والعرف الذي هو مجال بحثنا إنما هو العرف الصحيح المنقسم إلى قولي وفعلي، وأما العرف الفاسد فهو ساقط لا اعتداد به. فالعُرْف القولي: أن تجري عادة قوم على استعمال لفظٍ أو جملة استعمالاً شائعاً مطرداً أو غالباً في معنى غير المعنى الذي وضع له اللفظ أصلاً، بحيث يتبادر ذلك المعنى المتعارف عليه عند سماعه، دون قرينة1، مثل تعارف الناس إطلاق لفظ (الولد) على الذكر دون الأنثى مع أنه موضوع لكليهما وتعارفهم إطلاق لفظ (الدابة) على ذوات الأربع مع أنه في أصل الوضع اسم لكل ما يدب على الأرض. ومعنى تقييد المطلق بهذا النوع من العرف أنه إذا ورد لفظ الدابة مثلاً: في نص شرعي فهل يحمل على المعنى اللغوي، وهو كل ما يدب على الأرض، أو على ذوات الأربع التي جرت العادة بإطلاقه عليها؟ اتفق الأصوليون على أن العرف القولي يقضى به على النص العام فيخصصه، وعلى النص الشرعي المطلق، فيقيده بشرط أن يكون ذلك
العرف مقارناً لنزول النص أو سابقاً عليه واستمر حتى نزوله1 حتى ادعى المالكية الإجماع على ذلك2. يقول القرافي: "القاعدة أن من له عرف وعادة في لفظ، إنما يحمل لفظه على عرفه، فإذا كان المتكلم هو المشرع حملنا لفظه على عرفه وخصصنا لفظه في ذلك العرف إن اقتضى العرف تخصيصاً وبالجملة دلالة العرف مقدمة على دلالة اللغة؛ لأن العرف ناسخ للغة والناسخ مقدم على المنسوخ"3. وأما العُرْفُ العَمَلي: فهو ما تعارف عليه الناس في أفعالهم دون أقوالهم، مثل: تعارف الناس البيع بالمعاطاة من غير صيغة، وتعارفهم على أن الزوجة لا تزف إلى زوجها إلا بعد أن تقبض جزءاً من مهرها4. وهذا النوع من العرف اختلف العلماء في تقييد المطلق به
كاختلافهم في تخصيص العام بذلك. فذهب الحنفية والمالكية إلى أنه لا فرق بين العرف القولي والعملي فكلاهما يخصص العام ويقيد المطلق1، وخالفهم في ذلك الشافعية والحنابلة فقالوا: إن العرف العملي لا يقوى على تقييد المطلق قياساً على عدم التخصيص به للعام2 عندهما. واحتج من قال بجواز التقييد بالعرف العملي، فقال: إذا أطلق لفظ طعام وكان عادة الناس تناول طعام معين كالبر مثلاً، فإن الذي يتبادر إلى الذهن انصراف ذلك اللفظ المطلق إلى ما تعارفه الناس وهو البر، فيتقيد به اللفظ المطلق كما في العرف القولي3. وأجيب عن ذلك: بأن العادة الفعلية إنما هي مطردة في تناول طعام مخصوص لا في تقييد اسم الطعام، وبذلك الطعام المخصوص، فلا يكون التناول الفعلي قاضياً على ما اقتضاه اللفظ في أصل وضعه، بخلاف العادة القولية،4 لكن
مع هذا قد تابع الحنفية بعض الشافعية والحنابلة فأجازوا تقييد المطلق بالعرف العملي، وإن لم يخصصوا العام به، فلو قيل اشتر لحماً، والعادة تناول لحم الضأن لم يفهم سواه، لأن لحماً مطلقاً في هذا القول، وقد حمل على المقيد بقرينة ميلهم إلى المعتاد، وليس في ذلك ترك للمطلق1، بل حكي الاتفاق على التقييد بالعرف العملي بعض الباحثين في الأصول حديثاً2، وقصر الخلاف على التخصيص وحده لهذا المعنى وهو عدم الإخلال بالمطلق.
5 - التقييد بمذهب الصحابي 1: اختلف الأصوليون في سياق هذه المسألة، فبعضهم جعلها خاصة بمذهب الراوي وحده، وبعضهم جعلها شاملة للراوي وغيره من الصحابة، كما ألحق بعضهم تفسيرهما بما يقيد النص المطلق2. وصورة ذلك: أن يرد لفظ مطلق في دليل شرعي كأمره صلى الله عليه وسلم: من وطئ في رمضان أن يعتق رقبة3، ثم يقول أحد الصحابة - رضي الله عنهم - سواء كان الراوي أو غيره: يلزم من وطئ في نهار رمضان أن يعتق رقبة مؤمنة، فهل تقيد الرقبة المطلقة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً بالقيد الوارد في قول الصحابي؟ وقبل أن نذكر أقوال العلماء في هذه المسألة ... نشير إلى أن الخلاف فيهما مبني على الخلاف في حجية قول الصحابي، فمن يرى أنه حجة قيد به، ومن لا يرى حجيته لم يقيد به، ومن يشترط في ذلك انتشار قوله بين الصحابة وأن لا يعرف له مخالف قيد به بهذا الشرط، وأيضاً فإن محل
الخلاف في قول الصحابي الذي يحتمل الاجتهاد أما إذا كان قوله مما ليس للرأي فيه مجال فهو في حكم المرفوع فيقيد به، إذا عرفنا ذلك فنقول: اختلف الأصوليون في حكم التقييد بمذهب الصحابي على قولين: الأول: لا يجوز التقييد بمذهب الصحابي ... وهو قول الجمهور1. وحجتهم في ذلك أن الحجة إنما هي في قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ورد فيه اللفظ مطلقاً، وأما مذهب الصحابي فليس بحجة؛ لأن مذهبه قد يكون مجرد اجتهاد منه، يحتمل الخطأ والصواب، فلا يقضى به على النص المطلق، بل يبقى المطلق على إطلاقه حتى يرد ما يقيده2. أما قول الصحابي فلا يصح مقيداً. القول الثاني: جواز التقييد بمذهب الصحابي نص عليه أحمد3 وهو مذهب الحنفية4.
واستدلوا على ذلك فقالوا: إن عمل الصحابي أو فتواه بما يخالف اللفظ المطلق دليل على اطلاعه على ما يقيد ذلك المطلق، لأن الصحابي العدل العالم لا يترك العمل بالمطلق إلا وقد اطلع على دليل يمكن التقييد به1. وإذا كان هو الراوي، وخالف ما رواه دل ذلك على أنه اطلع على قرائن حالية أو مقالية توجب تقييد ذلك المطلق2. وقد اشترط بعض3 الأصوليين لجواز التقييد بمذهب الصحابي أن يكون ما ذهب إليه منتشراً وأن لا يعرف له مخالف4، وإن كان غير الراوي للحديث اشترط فيه أن يكون عالماً بالنص المطلق5، وهذا الشرط الأخير وجيه، أما الأول فخارج عن محل النزاع؛ لأنه يرجع إلى إجماع سكوتي حينئذ.
6 - حكم التقييد بذكر بعض جزئيات المطلق: وصورته: أن يرد اللفظ مطلقاً في نص شرعي نحو: إذا حلفت (فأعتق رقبة) ثم يذكر في نص آخر جزئياً من جزئيات المطلق نحو: "إذا حلفت فأعتق رقبة مؤمنة أو أعتق زيداً". وذكرنا هذين المثالين لأن الجزئيَّ إما أن يكون صفة كما في المثال الأول، أو لقباً كما في المثال الثاني. فهل يقيد النص المطلق في المثال السابق بجزئيه في المثال الثاني أو لا يقيد؟ إذا كان جزئيُّ المطلق لقباً؛ فإنه لا يتقيد به؛ لأن اللقب لا مفهوم له، وإذا كان الجزئي صفة، نحو أعتق رقبة مؤمنة، بعد قوله: "أعتق رقبة" فإن المطلق يتقيد به؛ لأن الجزئي هنا صفة ومفهوم الوصف حجة يقيد بها على الصحيح كما تقدم. وقد وهم من أطلق القول بعدم جواز تقييد المطلق بذكر بعض جزئياته بناء منه على أن ذكر فرد من أفراد العام لا يخصصه1. لأن الصحيح في ذلك التفصيل، فإذا كان جزئيُّ المطلق لقباً لم يتقيد به المطلق؛ لأنه عندئذ يكون بدلاً والبدل لا يقيد المطلق كما تقدم.
أما إذا كان جزئيُّ المطلق صفةً، وكان لها مفهوم، فإن المطلق يقيد به بالشروط السابقة في حجية مفهوم المخالفة. وهنا نشير إلى أن إطلاق القول بأن ذكر فرد من أفراد العام لا يخصصه محمول على الغالب، وإلا فإن فرد العام قد يكون صفة فيخصص العام عند القائلين بحجية المفهوم المخالف، كما لو قيل: إذا حلفت فلا تُكَفِّر بالعبد ثم قيل: إذا حلفت فكفر بالعبد المؤمن؛ فإنه يخصص العام السابق عند من يرى حجية المفهوم المخالف1.
الخاتمة خاتمة المطاف بعد هذه الرحلة الشاقة في أثناء العمل فيها الممتعة بما تحقق منها: التي طوفت من خلالها على مباحث المطلق والمقيد وحرصت فيها على استكمال جوانب الموضوع واستقصاء مسائله بقدر الطاقة. فإني أحمد الله على أن وفقني لإكمال الموضوع واجتياز مباحثه، فإن كان الصواب حليفي فأشكر الله على ذلك، وإن كان غير ذلك فالكمال لله وحده، وحسبي أن بذلت جهدي ولكل مجتهد نصيب. ولقد رأيت أنه من المناسب وأنا أختتم هذا الموضوع أن أشير إلى أهم القواعد والنتائج التي توصلت إليها من خلال معايشتي الطويلة لهذا البحث، آملاً أن يكون الاطلاع على تلك النتائج سبيلاً سهلاً لمن أراد الوقوف على مضمون هذا البحث المتواضع، ومن أهم تلك النتائج ما يلي: 1 - إن معرفة اللغة العربية وتنوع أساليبها، واختلاف دلالة اللفظ الواحد فيها ضرورية لكل باحث في علوم الشريعة، وخاصة الباحثين عن استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة. 2 - إن كل ميزة تمتاز بها اللغة العربية فالقرآن أولى بها لنزوله بلسان عربي مبين، وكذا كل ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول فهو عربي مبين؛ لأنه أفصح من نطق بالضاد.
3 - إن اللفظ من حيث دلالته على المعنى الموضوع له ينقسم إلى عام وخاص، ذلك أن اللفظ إذا وضع وضعاً واحداً ليدل على استغراق الأفراد الداخلة تحته دفعة واحدة بلا حصر فهو العام. وإذا كان موضوعاً ليدل على معنى واحد على الانفراد سواء كان بالشخص أو النوع أو الجنس، أو كان موضوعاً لكثير محصور فهو الخاص، وهذا التقسيم هو الأولى بالاتباع لسهولته وتبادره وعدم الاعتراض عليه. 4 - الأصل أن يفسر القرآن والسنة باللغة التي وردا بها، ما لم يكن هناك عرف خاص لصاحب الشرع؛ فإن كان للشرع عرف خاص فتفسير اللفظ على مقتضاه أولى. 5 - إن الخلاف في تحديد ماهية اللفظ أو تصنيفه في دائرة العموم أو الخصوص يؤدي إلى الاختلاف في الأحكام الثابتة لكل من العام والخاص. ومن هنا كانت عناية علماء الأصول بوضع المناهج والخطط التي بواسطتها يمكن التوصل إلى تصنيف اللفظ إلى عام وخاص، ومن ثم أجراء أحكام العموم والخصوص عليه ضرورة حتمية لما يترتب على ذلك من استخراج الأحكام من أدلتها ورد الفروع إلى أصولها. 6 - إن العموم من المعاني التي تدعو إليها حاجة التخاطب، ولهذا
كان من المتفق عليه أن للعموم صيغاً في اللغة وإن كان تحديد تلك الصيغ محل خلاف. 7 - أولى تعريف للعام عند جمهور الأصوليين أنه (كلمة تستغرق الصالح لها بلا حصر) ، وعند الحنفية (لفظ ينتظم جمعاً من المسميات لفظاً أو معنى. 8 - إن الاختلاف في تحديد ماهية العموم أدى إلا الاختلاف في تحديد صيغ العام، فمن يشترط في تحقيق ماهية العام الاستغراق، لا بد في الألفاظ الدالة عليه أن تكو مستغرقة بوضعها اللغوي أو العرف الشرعي ومن لا يرى ذلك شرطاً يكفي عنده للحكم على عموم اللفظ أن ينتظم جمعاً من المسميات لفظاً أو معنى، ومن هنا اختلفت الأحكام المترتبة على عموم اللفظ تبعاً للاختلاف في تحديد ماهيته. 9 - إن الاختلاف في اشتراط الاستغراق وعدمه في مفهوم العام أدى إلى الاختلاف في العام الذي خص منه البعض، هل يصح التمسك به على سبيل الحقيقة أو لا؟ فمن يرى الاستغراق شرطاً لتحقيق ماهية العام يرى أن العام الذي خص منه البعض مجاز، لأن اللفظ موضوع للاستغراق وبعد التخصيص لم يبق اللفظ مستغرقاً ومن يكتفي بانتظام اللفظ جمعاً من المسميات لفظاً أو معنى يصح عنده التمسك بالعام
المخصوص ما دام الباقي من الأفراد يصح إطلاق اسم الجمع عليها. 10 - اللفظ المشترك، وهو الموضوع لمعنيين فأكثر بأوضاع متعددة لا يخرج عن تقسيم اللفظ إلى العام والخاص؛ لأن المشترك مبني على حسب الصيغة التي يرد بها، فهو عام إذا ورد بصيغة عامة، وخاص إذا كانت صيغته صيغة الخصوص. وكذا الجمع المنكر لا يخرج عن ذلك التقسيم سواء اشترط في العام الاستغراق أو لم يشترط، لكن الذي يترجح عندي أن الجمع المنكر غير عام لعدم قبوله أحكام العام الاستغراقي. 11 - إن الجمعَ المنكر من المطلق، لأنه لا فرق بين رجل ورجال إلا في كون ما صدق عليه رجل كل فرد فرد، وما صدق عليه رجال كل جماعة جماعة، وذلك لا أثر له في الإطلاق والتقييد، والمطلق مندرج تحت الخاص على القول الراجح، فيكون الجمع المنكر من الخاص، (وليس بعام) . 12 - يتكرر لفظ الوضع في مباحث الأصول، والمراد به جعل اللفظ دليلاً على المعنى، بحيث إذا سمع العالم بالوضع ذلك اللفظ، فهم منه المعنى بدون واسطة، وهذا هو المقصود بالتبادر لغة. 13 - إذا كانت دلالة اللفظ لا تحتمل غير المعنى الموضوع له تسمى
قطعية، وإن احتملت غيره فهي ظنية. 14 - إن الوقوف على نوع دلالة اللفظ يساعد على التنسيق بين أحكام الألفاظ عند التعارض. 15 - الاتفاق على وصف دلالة الخاص بالقطعية، وعلى احتماله للمجاز واقع لكن القطع له معنيان، خاص وعام. فالقطع بالمعنى الخاص: أن لا يحتمل اللفظ غير المعنى الذي وضع له أصلاً سواء كان عدم الاحتمال ناشئاً من دليل آخر انضم إلى أصل وضع اللفظ كالتأبيد مثلاً، أم كان اللفظ في أصل وضعه لا يحتمل غير المعنى الموضوع له. والقطع بالمعنى العام: هو عدم الاحتمال الناشئ عن دليل، وعلى هذا إذا كان الاحتمال ناشئاً عن دليل فهو لا يسلب عن دلالة اللفظ الوصف بالقطعية بمعناها الأعم، بدليل أن الاتفاق واقع على إطلاق قطعي لدلالة على الخاص مع احتماله المجاز، مع أن القطع بالمعنى الخاص ينافي احتمال اللفظ المجاز، فدل هذا على أن القطع في دلالة الخاص بالمعنى الأعم، وهو عدم الاحتمال الناشئ عن دليل. 16 - إن الخلاف في احتمال الخاص للبيان لفظي؛ لأن النفي والإثبات لم يتواردا على محل واحد، فالذي يرى احتمال الخاص للبيان ينظر إليه بعد الاستعمال وطريان الإجمال عليه
بسبب كثرة المعاني التي استعمل فيها أو بسبب قلة الاستعمال في المعنى الموضوع له اللفظ مما يجعله غير مألوف لدى أكثر أهل اللغة، والذي يرى أنه لا يحتمل البيان ينظر إليه باعتبار أصل المعنى، وحال الواضع عندما أراد أن يجعل اللفظ دليلاً على المعنى، ولا شك أن دلالة الخاص بالنسبة للواضع قطعية. 17 - إن دلالة العام المجرد عن القرائن على أصل المعنى قطعية، وعلى كل فرد من أفراد العام محل خلاف. فالجمهور يرون أن دلالة العام المطلق على كل فرد ظنية، لكثرة تخصيص العموم في الشرع حتى أصبح قولهم: (ما من عام لا وقد خص منه البعض) مثلاً. ويرى الحنفية أن دلالة العام المجرد عن القرائن كدلالة الخاص لاشتراكهما في الطريق الذي ثبتا به وهو الوضع. 18 - لما كانت دلالة العام على أفراده ظنية عند الجمهور قالوا: إن العام لا يعمل به قبل البحث عن المخصص. 19 - تخصيص العام عند الجمهور بيان أن المراد من اللفظ العام بعض أفراده، أو هو قصر العام على بعض أفراده بدليل. وعند الحنفية يراد به قصر العام على بعض أفراده بالدليل المستقل بالدلالة عن لفظ العام، والمقارن له في نزوله
والمساوي له في قوة الثبوت والدلالة. 20 - الاتفاق على احتمال العام للتخصيص وعلى أن دلالته على الباقي بعد تخصيصه بالدليل المساوي له في القوة ظنية واقع، وذلك، لأن الدليل المخصص قد يكون معللاً بعلة، فيحتمل وجودها في بعض الأفراد الباقية بعد التخصيص، ومع الاحتمال لا يثبت القطع، أما إذا كان المخصص غير قابل للتعليل كدليل النسخ أو كان إخراج بعض أفراد العام بدليل متصل وغير مستقل بتمام الفائدة عن اللفظ العام، (كالاستثناء والصفة) ، فإن الحنفية يرون أن إخراج بعض أفراد العام في مثل هذه الحال لا يسلب عن دلالة العام صفة القطعية، لعدم قبول دليل النسخ للتعليل، ولأن الاستثناء ونحوه هو والعام كلام واحد لا يستقل أحدهما عن الآخر بتمام الفائدة. 21 - إن الاختلاف في قطعية دلالة العام وفي مفهوم التخصيص عند الفريقين قد أدى إلى الخلاف في مخصصات العام، فمن يرى أن دلالة العام قطعية يشترط في الدليل المخصص للعام ابتداءً أن يكون مساوياً له في قوة الثبوت والدلالة، ومن يرى أن دلالة العام المجرد ظنية لا يشترط في الدليل المخصص مساواته للعام، لأن التخصيص من قبيل البيان والمبين لا
يشترط فيه مساواته للمبين، ومن ثم كان خبر الآحاد والقياس لا يخصصان عام القرآن والسنة المتواترة أو المشهورة عند الحنفية إلا إذا سبق تخصيص العموم فيهما بدليل مقطوع به. 22 - اللفظ الخاص ينقسم باعتبار الصيغة التي يرد بها إلى الأمر والنهي وباعتبار الحالة التي تلابسه إلى المطلق والمقيد. 23 - أولى تعريف للأمر اصطلاحاً: أنه القول الدال بالذات على طلب الفعل على جهة الاستعلاء. 24 - صيغ الأمر: هي الألفاظ الموضوعة للدلالة على طلب الفعل على وجه الحتم واللزوم سواء كانت الدلالة مستفادة من قبل اللغة أو الشرع. 25 - الأمر المجرد عن القرائن: يدل على وجوب الفعل، لتبادر الوجوب لغة، ولأدلة أخرى شرعية. 26 - النهي في الاصطلاح: القول الدال بالذات على طلب الكف عن الفعل على جهة الاستعلاء. 27 - صيغ النهي: هي الألفاظ الموضوعة للدلالة على طلب الكف عن الفعل على وجه الحتم واللزوم، سواء كانت الدلالة على ذلك من جهة اللغة أو الشرع. 28 - النهي المجرد عن القرائن يدل على وجوب ترك المنهي عنه لغة
وشرعاً. 29 - إن الاختلاف في وجود الماهيات في خارج الذهن أدى إلى الخلاف في تعريف المطلق اصطلاحاً. فهو عند المناطقة وأكثر الأصوليين ما يدل على الماهية بلا قيد، وعند علماء اللغة ما دل على شائع في جنسه، أو هو النكرة في سياق الإثبات، فالنكرة أعم من المطلق، ويساويها ما لم تقيد أو يدخل عليها ما يفيد عمومها. 30 -يوصف المطلق بالشيوع، لأن موارده غير منحصره فعمومه بدلي -تناوبي ويوصف العام بالاستغراق، فعمومه شمولي. 31 - أن العموم في المطلق من ناحية الصفات، وفي العام من ناحية الأفراد. 32 - المقيد هو اللفظ الدال على وصف مدلوله المطلق بصفة زائدة عليه، أو اللفظ الدال على الماهية مع قيد من قيودها. 33 - توصف الأفعال والأسماء الشخصية بالإطلاق والتقييد باعتبار الأحوال التي تعرض لها، وعلى ذلك فوصف الاطلاق والتقييد غير مختص بالألفاظ المفردة كما يوهم ذلك صنيع الأصوليين. 34 - الإطلاق والتقييد لهما معنيان خاص وعام. فالمطلق بالمعنى الخاص: اللفظ الدال على شائع في جنسه أو هو ما يدل على
الماهية بدون قيد. والمطلق بالمعنى العام: اللفظ المجرد عن القيود سواء كان له معنى شائع أو لا، وعلى هذا الاصطلاح ليس هناك واسطة بين المطلق والمقيد، بل اللفظ الموضوع للدلالة على المعنى إما أن يكون مطلقاً أو مقيداً. 35 - المطلق والمقيد من أقسام الخاص على القول الراجح، لكن لما كانت للمطلق موارد غير منحصرة يتحقق مفهومه في واحد منها على سبيل البدل، أشبه العام، ولهذا كانت دلالة المطلق عند جمهور الأصوليين ظنية، ويرى الحنفية أن دلالة المطلق قطعية كالعام عندهم. 36 - يعمل بالمطلق على إطلاقه حتى يوجد الدليل الذي يقيده، ويعمل بالمقيد مع قيده حتى يدل الدليل على أن ما ذكر معه من قيد لا مفهوم له في تشريع الحكم. 37 - كل ما قيل في معنى تخصيص العام ونوع دلالته وشروط مخصصه، فهو جار في تقييد المطلق عند الفريقين. 38 - حمل المطلق على المقيد بيان عند الجمهور، وعند الحنفية يختلف بحسب ورود المقيد ومساواته للمطلق، فهو بيان عند محققي الحنفية كما يقول الجمهور إذا وردا معاً أو جهل التاريخ، ونسخ إذا علم تأخر أحدهما عن الآخر وكانا مستويين في القوة، وترجيح أو تقديم للعمل بالمقيد على
العمل بالمطلق إذا كانت المسألة محل احتياط. 39 - سبب حمل المطلق على المقيد عند الجمهور العرف اللغوي والشرعي بالإضافة إلى وجود مطلق التنافي الذي يزول بحمل المطلق على المقيد. وعند الأحناف دخول التنافي بين المطلق والمقيد في باب تعارض الأدلة. 40 - الاختلاف في مفهوم التعارض وشروط تحققه ومحله من الأدلة وكيفية دفعه عنها من أعم الأسباب في الخلاف في حمل المطلق على المقيد في بعض الصور. 41 - لا يحمل المطلق على المقيد عند الفريقين إلا إذا توفرت فيه شروط خاصة من أهمها الاتحاد في الحكم المثبت وكونه من باب الواجب وأن يكون الإطلاق والتقييد من حيث الصفات مع ثبوت الذوات في الموضعين، وبالجملة فكل ما هو شرط في تعارض الأدلة، فهو شرط في حمل المطلق على المقيد، عند الحنفية. 42 - إذا اتحد المطلق والمقيد في الحكم واختلفا في السبب، حمل المطلق على المقيد قياساً عند الجمهور، ولا يحمل عند الحنفية، وكذلك الحكم إذا اتحدا في الحكم والحادثة وكان الإطلاق والتقييد واردين على السبب، لأن الأسباب لا تزاحم بينها في نظر الأحناف.
43 - إذا ورد مقيدان متنافيان على مطلق واحد حمل على الأقيس منهما، وإلا بقي المطلق على إطلاقه. 44 - إذا تعارض المطلق والمقيد فإما أن يعلم تاريخ النزول بينهما أو يجهل، وفي حال العلم بذلك إما أن يعلما أنهم وردا معا أو يعلم تأخر المطلق وتقدم المقيد أو العكس، فهذه أربعة أحوال يحمل فيها المطلق على المقيد عن الجمهور بطريق البيان ما لم يستلزم ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن استلزم حملُ المطلق على المقيد تأخيرَ البيان عن وقت الحاجة كان المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم، وعند محققي الحنفية يحمل المطلق على المقيد بطريق البيان في حالتين فقط، وهما إذا وردا معاً أو جهل التاريخ بينهما وفيما عدا ذلك يكون المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم إذا تساوى معه في الثبوت والدلالة. 45 - الاختلاف في نوع دلالة المطلق وفي معنى حمله على المقيد أدى إلى الاختلاف في الصور التي يحمل فيها المطلق على المقيد، وفي مقيدات المطلق فالذي يرى أن دلالته قطعية يحكم بالتعارض بينه وبين المقيد وينسخ المتقدم منهما بالمتأخر، ومن ثم لم ير الحنفية نسخ مطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة بخبر الآحاد أو القياس؛ لأنهما من قبيل الظني والظني لا يعارض القطعي.
46 - الاختلاف في حجية مفهوم المخالفة من أهم الأسباب التي أدت إلى وجود التعارض وعدمه في بعض أحوال المطلق والمقيد. 47 - الاتفاق على حجية مفهوم المخالفة في المصنفات العلمية وأقوال الناس ومصطلحات الفقهاء واقع، حتى شاع لدى الحنفية قولهم: (مفاهيم الكتب حجة) وفي خطابات الشرع خلاف. 48 - يرى جمهور العلماء فيما عدا مفهوم اللقب - أن مفهوم المخالفة بجميع أنواعه حجة شرعية يعمل به فيما يثبت بطريق الظن، بشروط أهمها ألا يعارضه ما هو أقوى منه، وألا يكون للقيد فائدة أخرى غير تشريع الحكم، ويرى الحنفية أن مفهوم المخالفة بجميع أنواعه ليس حجة شرعية في خطابات الشرع، وحكم المحل المسكوت عنه باق على العدم الأصلي، وهو براءة الذمة من التكاليف حتى يرد ما يشغلها. 49 - اشتهر بين الأصوليين الخلاف في الزيادة على النص هل هو نسخ أو بيان، وقد اتضح لي (بعد تحرير محل النزاع) أن الخلاف في هذه المسألة قليل الأثر على الفروع الفقهية، لأنه يعود إلى جواز النسخ قبل العمل، وهذا النوع من النسخ قليل الوقوع، وما كان من الأحكام قليل الوقوع لا يصح
التفريع عليه، فكان لا بد للفروع المنسوب الاختلاف فيها إلى هذه القاعدة من سبب آخر غير الزيادة، وقد توصل الباحثون في هذه المسألة إلى أن الخلاف في تلك الفروع يعود إلى الاختلاف في شروط العمل بخبر الواحد عند الجمهور والحنفية، حيث يشترط الحنفية للعمل به شروطاً من أهمها ألا يعارضه ما هو أقوى منه. 50 - إن مقيدات المطلق منها متصل وهو ما لا يستقل عن اللفظ المطلق بتمام الفائدة، ومنها منفصل، وهو ما يستقل عن اللفظ المطلق بتمام الفائدة. 51 - لا يجوز تقييد المطلق بالاستثناء؛ لأن الاستثناء معيار العموم. 52 - لا يجوز تقييد المطلق ببدل البعض، ولا الحال إلا إذا كان صاحبها نكرة. 53 - يجوز تقييد المطلق بالشرط والصفة والغاية، والظرف والجار والمجرور والتمييز والمفعول لأجله والمفعول معه وذلك إذا كان الإطلاق والتقييد في جانب الأفعال. 54 - إن الصفة إذا وردت بعد جمل، وإن جاز رجوعها إلى جميع الجمل أو الأخيرة فقط، إلا أن الظاهر رجوعها إلى جميع الجمل وعدم اختصاصها بالأخيرة. 55 - إن الشرط في تعقبه للجمل حكمه حكم الصفة وكذا الغاية
تشترك معهما في هذا الحكم. 56 - يجوز تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة، كل منهما بالآخر، كما يجوز تقييد ذلك بالإجماع والقياس وخير الواحد والعرف ومذهب الصحابي، وذكر بعض جزئيات المطلق الذي له مفهوم مخالف. 57 - لا يتصور تقييد مطلق الكتاب والسنة بفعل الرسول وتقريره لعدم منافاة ذلك لمدلول المطلق.
مصادر ومراجع
مصادر ومراجع ... فهرس المراجع 1 - علوم القرآن الكريم 1 - الإتقان في علوم القرآن, لجلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911هـ، ط المشهد الحسيني بيروت. 2 - أحكام القرآن، للشافعي محمد بن إدريس، المتوفى سنة 204هـ - الناشر دار الكتب العلمية بيروت. 3 - أحكام القرآن، لابن العربي، أبي بكر بن عبد الله المتوفى سنة 543هـ، تحقيق علي محمد البجاوي، الناشر عيسى البابي الحلبي. 4 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، تأليف الأمين محمد المختار الجكني الشنقيطي، ط عالم الكتب بيروت. 5 - الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، لأبي بكر محمد بن موسى الحازمي المتوفى سنة 584هـ مطبوع بحيدر آباد سنة 1319هـ. 6 - البرهان في علوم القرآن، للزركشي محمد بن بهادر أبي عبد الله الملقب ببدر الدين المتوفى سنة 794هـ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 2 عيسى البابي الحلبي.
7 - تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة عبد الله بن مسلم المتوفى سنة 276هـ، ط عيسى البابي الحلبي 1373هـ. 8 - تفسير ابن جرير الطبري المسمى: "جامع البيان عن تأويل القرآن"، ط 3 دار المعرفة للطباعة والنشر، وأعيدت بالأوفست سنة 1398هـ. 9 - تفسير ابن كثير المسمى: "تفسير القرآن العظيم"، للحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي المتوفى 774هـ، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي. 10 - تفسير القرطبي المسمى: "الجامع لأحكام القرآن"، لمحمد بن أحمد القرطبي ت 671هـ دار الكتب المصرية، ودار الشعب. 11 - روائع البيان في تفسير آيات الأحكام، للشيخ محمد علي الصابوني، دار القرآن الكريم بالكويت، ط أولى 1391. 12 - فتح القدير الجامع الرواية والدراية من علم التفسير، محمد ابن علي الشوكاني مطيعة مصطفى البابي الحلبي. 13 - فتح المنان في تفسير القرآن، للشيخ علي حسن العريض، مطلعة الخانجي. 14 - مع القرآن، د. شعبان محمد إسماعيل، دار الإتحاد العربي
للطباعة 1398هـ. 15 - معاني القرآن لأبي زكريا يحيى بن زياد القراء، المتوفى سنة 207هـ، ط 2 1400هـ عالم الكتب بيروت. 16 - مناهل العرفان في علوم القرآن، للزرقاني، ط عيسى البابي الحلبي. 17 - الناسخ والمنسوخ، لابن حزم، مطبوع في هامش الجلالين ط الاستقامة. 2 - الحديث الشريف (أ) 18 - أحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، لابن دقيق العيد المتوفى سنة 702هـ، ط دار الكتب العلمية بيروت. 19 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للألباني، ط أولى المكتب الإسلامي بيروت سنة 1399هـ. (ت) 20 - تلخيص الحبير في تخريج الرافع الكبير لابن حجر، تحقيق محمد إسماعيل ط مكتبة الكليات الأزهرية، 1379هـ.
(س) 21 - سبل السلام شرح بلوغ المرام، لمحمد بن إسماعيل الصنعاني، ط 4 دار إحياء التراث العربي 1379 22 - سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة، يكنى أبا عيسى، توفي رحمه الله سنة 279هـ، م المدني تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف. 23 - سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى سنة 275هـ، ط إحياء السنة المحمدية تعليق محمد محي الدين عبد الحميد. 24 - سنن ابن ماجه، أبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه المتوفى 273هـ، تعليق محمد فؤاد عبد الباقي، عيسى البابي الحلبي. 25 - السنن الكبرى، لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، ط أولى الهند سنة 1352هـ. 26 - سنن النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب الخراساني المتوفى سنة 303هـ، مع شرح الحافظ جلال الدين السيوطي وحاشية السندي - دار إحياء التراث. (ص) 27 - صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل المتوفى سنة
256هـ، ط دار إحياء التراث العربي، ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي. 28 - صحيح مسلم، أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري المتوفى سنة 261هـ، ط دار إحياء التراث العربي، تحقيق وترتيب محمد فؤاد عبد الباقي. 29 - طرح التثريب في شرح التقريب، لزين الدين العراقي المتوفى سنة 806هـ، وهو شرح على المتن المسمى:"تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد" وقد أكمل هذا الشرح ابنه أبي زرعة المتوفى سنة 826هـ الناشر دار المعارف السورية - حلب. 30 - عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي، للحافظ ابن العربي المالكي، المتوفى سنة 543هـ دار العلم للجميع مكتبة المعارف - بيروت. 31 - علوم الحديث ومصطلحه، للدكتور صبحي الصالح، دار العلم للملايين، ط 1401هـ الثانية عشرة. 32 - عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح الحافظ بن القيم القسطلاني، الناشر محمد عبد المحسن صاحب المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
33 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ أحمد بن علي ابن حجر المتوفى سنة 852هـ، المطبعة السلفية، قرأ أصله عبد العزيز بن باز ورقم أحاديثه محمد فؤاد عبد الباقي. 34 - الكفاية في علم الرواية، للخطيب أبو بكر أحمد بن علي المتوفى سنة 460هـ ط أولى م السعادة. 35 - المستدرك على الصحيحين، لأبي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري، المتوفى سنة 405 هـ مطابع النصر الحديثة بالرياض. 36 - مسند الإمام أحمد بن حنبل، ط 2 المكتب الإسلامي 1398هـ. 37 - المنتقى من أخبار المصطفى، لمجد الدين أبي البركات عبد السلام بن تيمية الحراني، بتعليقات محمد حامد القفي، ط الثانية 1398 الناشر دار المعارف. 38 - موطأ الإمام مالك بن أنس، المتوفى سنة 179هـ مع شرح الزرقاني لمحمد ابن عبد الباقي بن يوسف المتوفى سنة 1122هـ دار الفكر. 39 - نصب الراية في تخريج أحاديث الهادية، تأليف العلامة جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الحنفي الزيلعي، المتوفى
سنة 762هـ، مطبوعات المجلس العلمي، ط 2 الناشر المكتبة الإسلامية 1393هـ. 40 - النهاية في غريب الحديث والأثر، لمحي الدين أبي السعادات المبارك المعروف بابن الأثير، تحقيق محمود محمد الطناحي، الناشر المكتبة الإسلامية لصاحبها رياض الشيخ. 41 - النووي شرح صحيح مسلم، لأبي زكريا يحى بن شرف الدين النووي المتوفى 676هـ، المطبعة المصرية ومكتبتها. 42 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، تأليف محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250هـ، مصطفى البابي الحلبي وأولاده. 3 - أصول الفقه المطبوع (أ) 43 - الآيات البينات، للعلامة أحمد بن قاسم العبادي م بولاق 1389هـ. 44 - الإبهاج شرح المنهاج، لتاج الدين السبكي، م التوفيق. 45 - أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء، د. سعيد مصطفى الخن، مؤسسة الرسالة 1392هـ.
46 - الأحكام في أصول الأحكام، تأليف سيف الدين الآمدي المتوفى 631هـ م محمد علي صبيح، والنسخة الثانية بتعليق عبد الرزاق عفيفي ط أولى مؤسسة النور بالرياض. 47 - الأحكام في أصول الأحكام، تأليف محمد علي بن حزم الظاهري، ت 456هـ، م العاصمة بالقاهرة، الناشر زكريا علي يوسف. 48 - أدلة التشريع المتعارضة، تأليف الدكتور بدران أبو العينين بدران، مؤسسة شباب الجامعة 1374هـ. 49 - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، تأليف محمد بن علي الشوكاني ت 1255هـ، م دار الفكر العربي. 50 - أسباب اختلاف الفقهاء، د. مصطفى الزلمي، رسالة دكتوراه، ط أولى الدار العربية للطباعة والنشر في بغداد سنة 1396هـ. 51 - الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف، تأليف ولي الله الدهلوي ط 1382، دار النفائس بيروت. 52 - الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجب الاختلاف بين المسلمين، لابن السيد البطليوسي، تحقيق الدكتور محمد
رضوان الداية، ط أولى سنة 1394، دار الفكر. 53 - أصول الأحكام وطرق الاستنباط في التشريع الإسلامي، د. حمد عبيد الكبيسي ط أولى، دار الحرية بغداد 1395هـ. 54 - أصول الأحكام، للشيخ منصور محمد الشيخ، م السعادة. 55 - أصول البزدوي، تأليف فخر الإسلام البزدوي ت 483، ط جديدة بالأوفست على نفقة دار الكتاب بيروت سنة 1394هـ. 56 - أصول التشريع الإسلامي، للأستاذ علي حسب الله، ط أولى، م المعارف بمصر سنة 1371هـ. 57 - أصول السرخسي، تأليف شمس الأئمة محمد بن أحمد السرخسي ت 483، تحقيق أبو الوفاء الأفغاني، دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت. 58 - أصول الفقه، تأليف محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي. 59 - أصول الفقه، لمحمد أبي النور زهير، دار الاتحاد العربي للطباعة. 60 - أصول الفقه الإسلامي، د. محمد سلام مدكور، ط أولى دار النهضة بالقاهرة 1396هـ. 61 - أصول الفقه، د. بدران أبو العينين بدران، م كليات
الإسكندرية محمد محمود سعيد، توزيع مؤسسة شباب الجامعة. 62 - أصول الفقه، د. حسين حامد حسان، دار النهضة العربية بالقاهرة، سنة 1391هـ. 63 - أصول الفقه، للخضري بك، ط 6 توزيع المكتبة التجارية الكبرى، بمصر 1389هـ. 64 - أصول مذهب الإمام أحمد، د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، "رسالة دكتوراه" ط 2، مكتبة الرياض الحديثة 1397. 65 - أصول الفقه، لشاكر الحنبلي، ط أولى مطبعة الجامعة السورية سنة 1368هـ. 66 - أصول الفقه، للشيخ محمد رضا المظفر، ط 3 طبع مطابع النعمان بالنجف. 67 - أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاف، ط 13، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع بالكويت، 1398. 68 - إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل للنشر والتوزيع بيروت. 69 - أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام، د. سليمان الأشقر،
مكتبة المنار الإسلامية الكويت، د أولى سنة 1398هـ. (ب) 70 - بيان النصوص التشريعية طرقه وأنواعه، د. بدران أبو العينين بدران، ط م ك الإسكندرية محمد محمود مسعد، الناشر منشأة المعارف. 71 - البلبل في أصول الفقه، تأليف سليمان عبد القوي الطوفي، ت 716، وهو مختصر لروضة الناظر لابن قدامة، ط بمؤسسة النور بالرياض. 72 - بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية، مصور عن طبعة الطباعة المنيرية، الناشر دار الكتاب العربي، بيروت لبنان. (ت) 73 - التبصرة في أصول الفقه، للشيرازي. 74 - التحرير في أصول الفقه، للكمال بن الهمام المتوفى سنة 861، طبع بمطابع مصطفى البابي الحلبي سنة 1350هـ ومعه شرحه تيسير التحرير. 75 - تخريج الفروع على الأصول، للإمام محمود بن أحمد الزنجاني ت 656هـ، تحقيق الأستاذ محمد أديب صالح، الطبعة الأولى، مطبعة جامعة دمشق عام 1382هـ.
76 - تسهيل الوصول إلى علم الأصول، للمحلاوي، ط الحلبي بمصر 1341هـ. 77 - التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية، د. عبد اللطيف عبد الله عزيز البرزنجي "رسالة ماجستير" ط أولى 1397هـ مطبعة العاني بغداد. 78 - تفسير النصوص، د. محمد أديب الصالح، ط 2 الناشر المكتب الإسلامي - بيروت. 79 - التقرير والتحبير شرح التحرير لابن أمير الحاج، المكتبة التجارية الكبرى ببولاق سنة 1316هـ. 80 - تقرير الشربيني على شرح المحلى وحاشية البناني على جمع الجوامع، وبحاشية العطار، وقد طبع في هامش كل من الحاشيتين، المكتبة التجارية الكبرى بمصر. 81 - التلويح شرح التوضيح على التنقيح، لسعد الدين التفتازاني ت 791هـ، طبع مطبعة محمد علي صبيح وأولاده بالقاهرة. 82 - التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، تأليف جمال الدين الأسنوي ت 772هـ، ط أولى 1400هـ طبع في مؤسسة الرسالة، حققه وعلق عليه محمد حسن هيتو.
83 - تنقيح الفصول مع شرحه، وكلاهما للإمام شهاب الدين القرافي ت 684، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة. 84 - التوضيح على التنقيح، لصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود الحنفي، ت 747هـ، طبع محمد علي صبيح وأولاده بالقاهرة. 85 - تيسير التحرير، للعلامة محمد أمين المعروف بأمير بادشاه الحسيني الحنفي، طبع مصطفى البابي الحلبي 1350هـ. (ج) 86 - جمع الجوامع، لتاج الدين عبد الوهاب بن السبكي ت 771هـ مع شرح المحلى وحاشية البناني ط أولى المطبعة العلمية بمصر سنة 1316هـ. (ح) 87 - حاشية الأزميري على المرآة، للعلامة سليمان الآزميري ت 1102هـ المطبعة العامرة العثمانية، سنة 1302هـ الأستانة. 88 - حاشية سعد الدين التفتازاني على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب، مراجعة وتصحيح شعبان محمد إسماعيل، الناشر
مكتبة الكليات الأزهرية 1393هـ. 89 - حاشية العطار على شرح المحلى على جمع الجوامع، للشيخ حسن بن العطار، ت 1250هـ، طبع مصطفى محمد. 90 - حصول المأمول من علم الأصول، للسيد محمد صديق خان، م مصطفى محمد سنة 1357هـ. (د) 91 - دراسات في أصول الفقه، د. عبد الفتاح حسيني الشيخ، ط 2، دار الاتحاد العربي للطباعة. 92 - دراسات في التعارض والترجيح، د. السيد صالح عوض، ط أولى دار الطباعة المحمدية بمصر 1400هـ. 93 - روضة الناظر وجنة المناظر مع شرحها، لبدران، موفق الدين ابن قدامة المقدسي المتوفى سنة 620هـ، المطبعة السلفية بمصر سنة 1342هـ. (س) 94 - سلم الوصول إلى علم الأصول، عمر عبد الله، ط 2 مؤسسة المطبوعات الحديثة 1379هـ. (ش) 95 - شرح ابن ملك على المنار، للعلامة عبد اللطيف بن عبد
العزيز الشهير بابن ملك ت سنة 885هـ طبع المطابع العثمانية سنة 1315هـ. 96 - شرح البدخشي على المنهاج المسمى منهاج العقول، للإمام محمد بن الحسن البدخشي، طبع بحاشية شرح الأسنوي على المناهج للبيضاوي، بمطبعة محمد علي صبيح وأولاده بالأزهر بمصر. 97 - شرح العضد على مختصر المنتهى، للعلامة عبد الرحمن بن أحمد الإيجي الملقب بعضد الدين ت سنة 756هـ طبع عام 1393هـ. 98 - شرح الكوكب المنير، تأليف أبي البقاء محمد بن شهاب الدين الفتوحي الشهير بابن النجار، ت سنة 972هـ، تحقيق محمد حامد الفقي ط أولى سنة 1372 م المحمدية. 99 - شرح المحلي على جمع الجوامع، تأليف أحمد بن محمد المحلي الشافعي، ت سنة 864هـ، ط مصطفى البابي الحلبي. 100 - شرح الورقات للعبادي، مطبوع مع إرشاد الفحول، ط أولى مصطفى البابي الحلبي 1356هـ. (ع) 101 - العدة في أصول الفقه، للقاضي أبي يعلى الحنبلي المتوفى سنة
458هـ، تحقيق سير المباركي، ط أولى مؤسسة الرسالة سنة 1400هـ. 102 - العرف والعادة في رأي الفقهاء، لأحمد فهمي أبو سنة، مطبعة الأزهر بالقاهرة. (غ) 103 - غاية الوصول شرح لب الأصول، وكلاهما لشيخ الإسلام أبي يحيى زكريا الأنصاري المتوفى سنة 926هـ، شركة مكتبة أحمد بن سعد بن بهار أندونيسيا. (ف) 104 - الفروق، لشهاب الدين القرافي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت. 105 - فصول البدائع في أصول الشرائع، تأليف محمد بن حمزة الأنصاري، ت 834، طبع بمطبعة الأستانة، عام 1289هـ. 106 - فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، تأليف عبد العلي محمد بن نظام الدين اللكنوي الأنصاري، ت 1180هـ، طبع في حاشية المستصفى، أعيد طبعه بالأوفست، مكتبة المثنى ببغداد عن الطبعة الأميرية ببولاق.
(ق) 107 - القواعد والفوائد الأصولية، تأليف علاء الدين علي بن عباس الحنبلي المعروف بابن اللحام، ت سنة 803هـ، تحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية عام 1375هـ. (ك) 108 - كتاب الحدود في الأصول، للحافظ أبي الوليد سليمان بن خلف التميمي الأندلسي ت سنة 474هـ، تحقيق د. نزيه حماد، الناشر مطبعة الزغبي ط أولى 1392هـ. 109 - كشف الأسرار، وهو شرح على أصول البزدوي، تأليف علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري ت 730هـ، دار الكتاب العربي بالأوفست عام 1394هـ. (ل) 110 - اللمع في أصول الفقه، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي ت 476هـ، ط 3 ملتزم الطبع مصطفى البابي الحلبي وأولاده، بمصر 1377هـ. 111 - المختارات الفتحية في أصول الفقه وتاريخ التشريع، للأستاذ أحمد أبو الفتوح، ط 4 مطبعة النهضة بمصر سنة 1343هـ. 112 - مختصر المنتهى، لجمال الدين بن الحاجب المتوفى سنة 646هـ،
نشر مكتبة الكليات الأزهرية، راجعه وصححه شعبان محمد إسماعيل 1393هـ. 113 - المدخل إلى مذهب الإمام أحمد، تأليف الشيخ عبد القادر بن أحمد المعروف بابن بدران، طبع بالمطابع المنيرية بمصر. 114 - المدخل إلى علم أصول الفقه، للأستاذ معروف الدواليبي، ط 5 بمطابع دار العلم للملايين 1385هـ. 115 - مذكرة أصول الفقه، للشنقيطي، وهو شرح لروضة الناظر، طبع بمطابع الأصفهاني بجدة على نفقة الجامعة الإسلامية. 116 - المرآة في الأصول شرح مرقاة الأصول، وكلاهما للشيخ محمد الحنفي الشهير بملاخسرو، وهذا الكتاب مطبوع مع حاشية الأزميري. 117 - المستصفى، لأبي حامد الغزالي المتوفى سن 505هـ، تحقيق مصطفى أبو العلا، ط شركة الطباعة الفنية المتحدة بمصر سنة 1391هـ. 118 - مسلم الثبوت، تأليف محب الدين بن عبد الشكور الهندي، المتوفى سنة 1119هـ، طبع مع شرح فواتح الرحموت بحاشية المستصفى، أعادت طبع الكتابين مكتبة المثنى ببغداد عن طبعة بولاق.
119 - المسودة في أصول الفقه، لثلاثة من آل تيمية، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، م المدني بالقاهرة عام 1384هـ. 120 - مشكاة الأنوار المسماة بـ (فتح الغفار شرح المنار) ، لابن نجيم، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1355هـ. 121 - مصادر التشريع فيما لا نص فيه، للشيخ عبد الوهاب خلاف ط 3، دار القلم بالكويت 1392هـ. 122 - المعتمد في أصول الفقه، تأليف أبي الحسين محمد بن علي البصري المتوفى سنة 436هـ، تحقيق محمد حميد الله، طبعة أولى، المعهد الفرنسي للدراسات العربية دمشق 1384هـ. 123 - مفتاح الوصول إلى علم الأصول، تأليف أبي عبد الله محمد ابن أحمد الشريف التلمساني، المتوفى سنة 771هـ، مكتبة الوحدة العربية الدار البيضاء، المغرب. 124 - المنخول من علم الأصول، تأليف أبي حامد الغزالي، تحقيق محمد حسن هيتو، دار الفكر. 125 - المنار، تأليف عبد الله بن أحمد النسفي المتوفى سنة 710?، طبع المطبعة العثمانية 1325. 126 - المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي، للدكتور فتحي الدريني، ط أولى دار الرشيد بدمشق 1396هـ.
127 - منهاج الوصول إلى علم الأصول، تأليف القاضي البيضاوي، المتوفى سنة 658هـ، طبع بمطبعة علي صبيح وأولاده بمصر. 128 - موسوعة الفقه الإسلامي، إصدار الشئون الإسلامية بمصر. 129 - الموافقات في أصول الشريعة، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي ت سنة 790هـ، ط دار المعرفة للطباعة والنشر بتعليق عبد الله دراز. (ن) 130 - النسخ بين النفي والإثبات، د. محمد محمود فرغلي، ط دار الكتاب الجامعي سيد محمود وشركاه 1396هـ. 131 - النسخ في القرآن، د. مصطفى زيد، ط أولى 1383هـ الناشر دار الفكر. 132 - نشر البنود وشرح مراقي السعود، لسيدي عبد الله إبراهيم الشنقيطي، طبع صندوق إحياء التراث الإسلامي المشترك بين المغرب ودولة الإمارات المتحدة. 133 - نظرية النسخ، د. شعبان محمد إسماعيل، مطابع الرجوى. القاهرة. (و) 134 - الوجيز في أصول الفقه، د. عبد الكريم زيدان ط م سليمان الأعظمي بغداد 1387هـ.
(أصول الفقه المخطوطة) (أ) 135 - إتحاف الأنس في العلمين واسم الجنس، تأليف شمس الدين محمد الأمير المالكي الأزهري، والمشتهر بالأمير الكبير المتوفى سنة 1232هـ، وهو رسالة تبحث في تعريف كل من العلم الشخصي، وعلم الجنس، واسم الجنس وبيان الفرق بين هذه المصطلحات النحوية، وعدد صفحات المخطوط الموجود بمكتبة عارف حكمت بالمدينة تحت رقم 901 والمكتوب سنة 1312هـ 8 صفحات1. 136 - البرهان في أصول الفقه، لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني، المتوفى سنة 478هـ، رقم فيلم المخطوط بدار الكتب المصرية (225) ورقم مخطوط الأزهر 715، 716 أصول2.
137 - البحر المحيط في الأصول، لبدر الدين الزركشي، المتوفى سنة 794هـ، رقم المخطوط بالأزهر 20/722. 138 - التحرير في أصول الفقه، لعلاء الدين علي بن سليمان المرداوي، مخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم 431/86، وتوجد منه نسخة بالمكتبة السعودية بالرياض. 139 - التعارض والترجيح، لأبي بكر عبد الله دكوري، (رسالة ماجستير) بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية. 140 - تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم، تأليف خليل بن كيكدى بن عبد الله العلائي، الدمشقي الشافعي صلاح الدين أبو سعيد، مخطوط توجد منه صورة بالمكتبة العامة بالجامعة الإسلامية. 141 - التمهيد في أصول الفقه، تأليف أبي الخطاب محفوظ الكلوذاني المتوفى سنة 510هـ، مخطوط المكتبة الظاهرية بدمشق رقم المخطوط 2801. 142 - شرح مختصر الروضة للطوفي، مخطوط في المكتبة الظاهرية بدمشق وتوجد منه نسخة مخرومة في مكتبة الحرم المكي رقم مخطوط دمشق 2894 أصول. 143 - العقد المنظوم في الخصوص والعموم، تأليف شهاب الدين
أحمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة 684هـ مخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم (1) أصول. 144 - قواطع الأدلة، تأليف أبي المظفر منصور بن محمد السمعاني الشافعي المتوفى 489هـ، فيلم معهد المخطوطات العربية مصور عن مخطوط بمكتبة فيض الله برقم 627. 145 - مباحث التخصيص، د. عمر عبد العزيز الملا، (رسالة دكتوراه) . 146 - المحصول في أصول الفقه، لفخر الدين الرازي المتوفي سنة 606هـ، فيلم معهد المخطوطات العربية مصور عن مكتبة الأحمدية رقم المخطوط (416) ورقم المخطوط بدار الكتب المصرية (297) 1. 147 - الواضح في الأصول تأليف أبي الوفاء علي بن عقيل البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 513هـ، مخطوط بالمكتبة الظاهرية بدمشق تحت رقم 2873 وهو كتاب ضخم، وفيه بعض الخروم.
4 - كتب الفقه اٌلإسلامي (أ) 148 - الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، تصحيح محمد زهدي النجار، دار المعرفة للطباعة والنشر. (ب) 149 - البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، تأليف أحمد ابن يحيى بن المرتضى المتوفى سنة 840هـ، مؤسسة الرسالة بيروت سنة 1394هـ. 150 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، تأليف علاء الدين الكاساني الحنفي، المتوفى سنة 587هـ، ط الإمام كريم القلعجي، الناشر زكريا علي يوسف. 151 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد، للقاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد المتوفى سنة 595هـ، ط 3 البابي الحلبي. 152 - التشريع الجنائي للأستاذ عبد القادر عودة، ط دار الكتاب العربي ببيروت. (د) 153 - الدسوقي على جانب الدردير، تأليف محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المتوفى سنة 1230هـ، ط دار الفكر العربي
ببيروت. 154 - الذخيرة للقرافي، مطبعة كلية الشريعة بالأزهر 1381هـ. (ر) 155 - رد المختار على الدر المختار، المعروف بحاشية ابن عابدين، ت 1252هـ، ط 2 مصطفى البابي الحلبي وإخوانه 1386هـ. 156 - الفتاوى الكبرى لابن تيمية، ط دار الكتب الحديثة بتعليق توفيق عفيفي للكمال بن الهمام 861هـ. 157 - فتح القدير شرح الهداية مع التكملة (نتائج الأفكار لقاضي زادة وبهامشه شرح العناية على الهداية لأكمل الدين البابرتي المتوفى سنة 786هـ، مع حاشية سعدي حلبي 945هـ على هذا الشرح ط أولى 1389 مصطفى البابي الحلبي. 158 - القوانين الفقهية، تأليف محمد بن أحمد بن جزئ الغرناطي المتوفى سنة 741هـ، ط جديدة مطبعة دار العلم بالملايين سنة 1399هـ. 159 - المبسوط، تأليف شمس الأئمة السرخسي الطبعة الأولى م السعادة بمصر 1324هـ. 160 - المحلى لابن حزم الظاهري، المتوفى سنة 456هـ، طبع بتحقيق أحمد شاكر، توزيع دار المعرفة.
161 - المجموع للنووي 676هـ، شرح المهذب، لم يكمل المطبعة المنيرية القاهرة. 162 - مواهب الجليل شرح مختصر خليل، لمحمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربي المعروف بالحطاب، وبهامشه التاج والإكليل للموافى مطبعة السعادة سنة 1328هـ. 163 - المدونة الكبرى رواية سحنون عن مالك م الاستقامة بالقاهرة سنة 1323هـ. 164 - المغني لابن قدامة المقدسي مع الشرح الكبير، مكتبة الرياض الحديثة 1400هـ. 165 - المهذب للشيرازي تأليف أبو إسحاق الشيرازي المتوفي سنة 476هـ، مطبعة عيسى البابي الحلبي القاهرة. 5 - الكتب العامة 166 - الأحكام السلطانية، للقاضي أبي يعلى الحنبلي، مصطفى البابي الحلبي 1356هـ. 167 - الاستيعاب في أسماء الصحاب لابن عبد البر مطبوع بهامش الإصابة في م مصطفى محمد 1358هـ. 168 - الأصمعي عبد الملك بن قريب، حياته وآثاره، د. عبد الجبار الجومرد، ط مطابع الكشاف.